
بسم الله الرّحمن الرّحيم
نحمدك اللهمّ ـ يا
مبدئ يا معيد ـ والحمد من نعمائك ، ونشكرك ـ يا فعّالا لما يريد ـ والشكر من آلائك
؛ تعاليت من قدّوس لم تصل أيدي الأوهام إلى ذيل عزّتك ، وتقدّست من سبّوح لم تجعل
للأفهام سبيلا إلى معرفتك ، إلّا بالعجز عن معرفتك.
تركت قلوب
الطالبين في بيداء كبريائك والهة حيرى ، ولم تجعل لمرقى أقدام العقول إلى حريم
عظمتك مجرى ؛ هيهات! ـ ما لأذلّاء أسر العبوديّة وإدراك سبحات جلال الربوبيّة؟!
وأنّى لاسراء ذلّ الناسوت ونيل سرادقات جمال اللاهوت؟! سبحانك سبحانك ، لا نحصي
ثناء عليك ؛ أنت كما أثنيت على نفسك وفوق ما يقول القائلون.
صلّ وسلّم على
المقرّبين لديك ، الهادين إليك ؛ خصوصا أقربهم منك منزلة ، وأعزّهم عليك ، محمد
وأهل بيته ؛ منتجبيك ومصطفيك.
أمّا بعد ـ فيقول
خادم العلوم الدينيّة ، وراصد المعارف اليقينيّة ، محمد بن مرتضى ـ المدعوّ بمحسن
أحسن الله عواقبه ـ :
هذا ـ يا إخواني ـ
كتاب «علم اليقين في اصول الدين» ؛ آتاني الله ـ عزوجل ـ من فضله ببركة متابعة كتابه المبين ، والاستضاءة بمشكاة
أنوار سيّد المرسلين ، والاقتفاء لآثار أهل بيته الطاهرين ، وعترته المعصومين ـ عليه
وعليهم أفضل صلوات المصلّين ـ والاستفادة من مصنّفات العلماء الصالحين.
يتلو عليكم كلمات
ربّانيّة ، وإشارات فرقانيّة ، وآيات عقلانيّة وهدايات رحمانيّة ، وتنبيهات نبويّة
، وتلويحات ولويّة ؛ تشهد بها الطباع السليمة ، والأذواق المستقيمة ، ويصدّقها نور
الإيمان وصحّة الوجدان ، ويراها أهل العرفان ببصيرة الإيقان.
هدى للمتّقين
الذين يؤمنون بالله ، وتذكرة للموقنين الذين يشاهدون آيات الله ؛ قد أخرجه الله ـ سبحانه
تعالى ـ على لساني من سرادقات الغيب ، ليطهّر به طائفة منكم من رجز الريب ، وليربط
به على قلوبكم ، ويثبّت به الأقدام ، ويزيد في انشراح صدوركم ، ويغنيكم عن ورودكم
فيما لا يعنيكم وصدوركم ـ أعني جدالكم في الدين ، وتصحيح عقائدكم بمبتدعات
المتكلّمين ، وتعلّمكم الألفاظ المخترعة المصطلحة للمتجادلين ـ فإنّها من وساوس
الشياطين ، وتلبيسات إبليس اللعين ـ وهي تبعدكم عن الله جلّ جلاله ـ غاية التبعيد ـ
وتربوا في شبهكم وشكوككم وتزيد.
وما مثلكم ومثل من
يعلّمكم ذلك إلّا ـ كما قيل : ـ مثل رجل كان بين يديه شمعة مضيئة ـ إضاءة باهرة ـ فأخذها
استاذه من بين يديه ، وأبعدها عنه مسافة بعيدة ، كثيرة الحوائل والموانع من النظر
إلى تلك الشمعة ، وقال له : «تجهّز للسفر بالزاد والرفقاء ، والعدّة والأدلّاء ،
حتّى تصل إلى
معرفة تلك الشمعة ، وتنظر حقيقة ما هي عليه من الضياء» .
فقبل ذلك الغرّ
المتعرّف ، من ذلك الاستاذ المتكلّف ، وسافر مدّة من الأوقات ، فتارة يرى جبالا
وعقبات ، فلا يظهر له من حديث الشمعة كثير ولا قليل ، وتارة يرى ضوء ، فيقول : «لعلّه
ضوء تلك الشمعة» ، ويستنجد بمساعدة الرفيق والدليل ؛ فإن عجز من تمام المسافة وقطع
الطريق ، بما يرى فيه من العقبات والتطويل والتضييق ، هلك المسكين ورجع خاسرا
للدنيا والدين.
فإيّاكم إخواني ـ هداكم
الله طريق الرشد ـ والخوض في طريقة أهل الكلام ؛ فإنّها لكما وصفت ؛ ولقد ذمّها
أولو البصائر والنهى ، حتّى جماعة من أهلها ، المشتغلين بها. وإنّما ذلك شغل من
فرغ من فروض الله المتعيّنة المتضيّقة عليه ، ويريد أن يخدم الله عزوجل خالصا لوجهه بالردّ على أهل الضلال ـ من الامم الحائلة بين
عباده وبين المعرفة والوصول إليه ـ ويكون حامل ، هذا العلم العريض العميق ، لازما
سبيل التوفيق ، ويناظر مخالفيه مناظرة الرحيم الشفيق ، حتّى يسلم من خطر الطريق ؛
وإلّا فهو هالك على التحقيق.
فعليكم بمتابعة
ظواهر الكتاب والسنّة ، وملازمة التقوى والشريعة ، لعلّ الله يرزقكم ببركة ذلك
علما آخر من لدنه ، وكشفا أتمّ من لديه ، فإنّ الله عزوجل يقول : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ
يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً
__________________
وَيَرْزُقْهُ
مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) [٦٥ / ٢٣] (وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) [٢ / ٢٨٢] (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا
لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) [٢٩ / ٦٩].
فإن لم تهتدوا إلى
كيفيّة استنباط عقائدكم من الكتاب والسنّة ، فعليكم بمطالعة هذا الكتاب ، فإنّه
يهديكم ـ إن شاء الله ـ إلى ذلك ويرشدكم إلى طريق الصواب.
وهو مخّ الشرع
الشريف ، ولباب الدين الحنيف ، وليس هو الأخذ بالتقليد في شيء ـ كلّا ـ بل هو
تنبيه على التحقيق ، وإرشاد إلى البراهين الحقيقة بالتصديق ، بتعليم صاحب الشرع ،
على ما يناسب أكثر الأفهام ويليق ، فاقتدوا بهداياته ، واهتدوا بإشاراته ، لعلّكم
تنجون من الجهل وعماياته ، ومن الجدال في الدين وغواياته.
إنّه ليس ككتب
الغاغة والمتفلسفين ـ أصحاب الظنّ والتخمين ـ الذين هم بين مقلّد كالحيارى ، أو
مجادل كالسكارى ؛ كلّما دخلت منهم أمّة لعنت اختها ـ كلّا ـ بل هو ذكر لآيات
بيّنات فى صدور الّذين اوتوا العلم (يَهْدِي بِهِ اللهُ
مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى
النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [٥ / ١٦]
__________________
مقدّمة
اعلم أنّ العلم
والعبادة جوهران لأجلهما كان كلّ ما ترى وتسمع من تصنيف المصنّفين وتعليم
المعلّمين ، ووعظ الواعظين ونظر الناظرين ؛ بل لأجلهما انزلت الكتب وارسلت الرسل ؛
بل لأجلهما خلقت السماوات والأرض وما فيهما من الخلق.
وناهيك لشرف العلم
قول الله عزوجل : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ
سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ
لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ
بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) [٦٥ / ١٢] ؛ ولشرف
العبادة قوله سبحانه : (وَما خَلَقْتُ
الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [٥١ / ٥٦].
فحقّ للعبد أن لا
يشتغل إلّا بهما ، ولا يتعب إلّا لهما ، ولا ينظر إلّا فيهما ؛ فإنّ ما سواهما من
الامور باطل لا خير فيه ، ولغو لا حاصل له.
وأشرف الجوهرين
العلم ؛ ففي الحديث النبوي صلىاللهعليهوآلهوسلم : «فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم».
__________________
وفيه : «نظرة إلى العالم أحبّ إليّ من عبادة سنة ـ صيامها
وقيامها».
وفيه : «ألا أدلّكم على أشرف أهل الجنّة»؟ قالوا : «بلى يا رسول
الله». قال : «هم علماء أمّتي».
وفي الصحيح عن
مولانا الباقر عليهالسلام ـ قال ـ : «عالم ينتفع بعلمه
أفضل من سبعين ألف عابد».
لكن لا بدّ معه من
العبادة ؛ وهذا معنى الانتفاع به ، وإلّا لكان هباء منثورا ، فإنّ العلم بمنزلة
الشجرة والعبادة بمنزلة ثمرة من ثمراتها ، فالشرف للشجرة ـ إذ هي الأصل ـ لكن
الانتفاع بثمرتها. فاذن لا بدّ للعبد أن يكون له من كلي الأمرين حظّ ونصيب .
__________________
وصل [١]
والمراد بالعلم
علم الدين ـ أعني معرفة الله سبحانه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. قال الله
ـ جلّ جلاله ـ : (آمَنَ الرَّسُولُ
بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ
وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) [٢ / ٢٨٥]. وقال
جلّ وعزّ ـ : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى
رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ
وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً
بَعِيداً) [٤ / ١٣٦].
ومرجع الإيمان إلى
العلم ؛ وذلك : لأنّ الإيمان هو التصديق بالشيء على ما هو عليه ، ولا محالة هو
مستلزم لتصوّر ذلك الشيء كذلك بحسب الطاقة ، وهما معنى العلم.
والكفر ما يقابله
ـ وهو بمعنى الستر والغطاء ـ ومرجعه إلى الجهل ؛ وقد خصّ الإيمان في الشرع
بالتصديق بهذه الخمسة ـ ولو إجمالا ـ فالعلم بها لا بدّ منه.
وإليه الإشارة
بقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «طلب العلم فريضة على كلّ مسلم ومسلمة».
__________________
ولكن لكل إنسان
بحسب طاقته ووسعه (لا يُكَلِّفُ اللهُ
نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) [٢ / ٢٨٦] فإنّ
للعلم والإيمان درجات مترتّبة في القوّة والضعف والزيادة والنقصان ؛ بعضها فوق
بعض.
قال مولانا الصادق
عليهالسلام : «الإيمان حالات ، ودرجات ، وطبقات ومنازل ؛ فمنه التامّ
المنتهى تمامه ، ومنه الناقص البيّن نقصانه ، ومنه الراجح الزائد رجحانه».
وقال أيضا : «لو علم الناس كيف خلق الله [تبارك وتعالى] هذا الخلق لم يلم أحد أحدا».
قيل : «وكيف ذاك»؟
فقال : «إنّ الله
ـ تعالى ـ خلق أجزاء بلغ بها تسعة وأربعين جزء ، ثمّ جعل الأجزاء أعشارا ، فجعل
الجزء عشرة أعشار ، ثمّ قسّمه بين الخلق ، فجعل في رجل عشر جزء وفي آخر عشري جزء ،
حتّى بلغ به جزء تامّا ، وفي آخر جزء وعشر جزء ، وآخر جزء وعشري جزء ، وآخر جزء
وثلاثة أعشار جزء ، حتّى بلغ به جزءين تامّين ـ ثمّ بحساب ذلك ـ حتّى بلغ بأرفعهم
تسعة وأربعين جزء.
فمن لم يجعل فيه
إلا عشر جزء لم يقدر على أن يكون مثل صاحب العشرين [وكذلك صاحب العشرين] لا يكون مثل صاحب الثلاثة الأعشار ، وكذلك من تمّ له جزء
لا يقدر على أن يكون مثل صاحب
__________________
الجزءين ؛ ولو علم
الناس أنّ الله تعالى خلق هذا الخلق على هذا لم يلم أحد أحدا».
وعن أبيه مولانا
الباقر عليهالسلام : «إنّ المؤمنين على منازل : منهم على واحدة ، ومنهم على
اثنتين ، ومنهم على ثلاث ، ومنهم على أربع ، ومنهم على خمس ، ومنهم على ستّ ،
ومنهم على سبع ؛ فلو ذهبت تحمل على صاحب الواحدة ثنتين لم يقو ، وعلى صاحب الثنتين
ثلاثا لم يقو».
ـ وساق الحديث ثمّ
قال : ـ «وعلى هذه الدرجات».
وصل [٢]
وذلك لأنّ الإيمان
إنّما يكون بقدر العلم الذي به حياة القلب ، وهو نور يحصل في القلب بسبب ارتفاع
الحجاب بينه وبين الله جلّ جلاله :
(اللهُ وَلِيُّ
الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) [٢ / ٢٥٧] (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ
وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي
الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) [٦ / ١٢٢].
«ليس العلم بكثرة
التعلّم ، إنّما هو نور يقذفه الله في قلب من يريد الله أن يهديه».
__________________
وهذا النور قابل
للقوّة والضعف ، والاشتداد والنقص ، كسائر الأنوار (وَإِذا تُلِيَتْ
عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً) [٨ / ٢].
(وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي
عِلْماً) [٢٠ / ١١٤].
كلّما ارتفع حجاب
ازداد نور ، فيقوي الإيمان ويتكامل ، إلى أن ينبسط نوره فينشرح صدره ، ويطّلع على
حقائق الأشياء ، ويتجلى له الغيوب ، ويعرف كلّ شيء في موضعه ، فيظهر له صدق
الأنبياء عليهمالسلام في جميع ما أخبروا عنه إجمالا وتفصيلا على حسب نوره ،
وبمقدار انشراح صدره ، وينبعث من قلبه داعية العمل بكلّ مأمور ، والاجتناب عن كلّ
مخطور ، فيضاف إلى نور معرفته أنوار الأخلاق الفاضلة والملكات الحميدة :
(نُورُهُمْ يَسْعى
بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) [٦٦ / ٨].
(نُورٌ عَلى نُورٍ) [٢٤ / ٣٥].
وكلّ عبادة تقع
على وجهها تورث في القلب صفاء يجعله مستعدّا لحصول نور فيه ، وانشراح ومعرفة ويقين
، ثمّ ذلك النور والمعرفة واليقين يحمله على عبادة اخرى ، وإخلاص آخر فيها يوجب
نورا آخر ، وانشراحا أتمّ ، ومعرفة اخرى ويقينا أقوى ـ وهكذا إلى ما شاء الله جلّ
جلاله.
ومثل ذلك مثل من
يمشي بسراج في ظلمة ، فكلّما أضاء له من الطريق قطعة مشى فيها ، فيصير ذلك المشي
سببا لإضاءة قطعة اخرى منه ـ وهكذا.
وفي الحديث النبوي
صلىاللهعليهوآلهوسلم : «من علم وعمل بما علم ، ورّثه الله علم ما لم يعلم».
وفيه : «ما من عبد إلّا ولقلبه عينان ، وهما غيب يدرك بهما
الغيب ، فإذا أراد الله بعبد خيرا فتح عيني قلبه ، فيرى ما هو غائب عن بصره».
__________________
وفي كلام مولانا
أمير المؤمنين عليهالسلام : «إنّ من أحبّ عباد الله إليه عبدا أعانه الله على نفسه ،
فاستشعر الحزن ، وتجلبب الخوف ، فزهر مصباح الهدى في قلبه» ـ إلى أن قال : ـ «قد
خلع سرابيل الشهوات ، وتخلّى من الهموم ـ إلّا همّا واحدا انفرد به ـ فخرج من صفة
العمى ومشاركة أهل الهوى ، وصار من مفاتيح أبواب الهدى ومغاليق أبواب الردى ، قد
أبصر طريقه وسلك سبيله ، وعرف مناره وقطع غماره ، واستمسك من العرى بأوثقها ومن
الحباب أمتنها ، فهو من اليقين على مثل ضوء الشمس».
وفي كلام آخر له عليهالسلام : «قد أحيى قلبه وأمات نفسه ، حتّى دقّ جليله ولطف غليظه ،
وبرق له لامع كثير البرق ، فأبان له الطريق ، وسلك به السبيل ، وتدافعته الأبواب
إلى باب السلامة ودار الإقامة ، وثبتت رجلاه لطمأنينة بدنه في قرار الأمن والراحة
؛ بما استعمل قلبه وأرضى ربّه».
__________________
فصل [٣]
أوائل درجات
الإيمان تصديقات
مشوبة بالشكوك والشبه ـ على اختلاف مراتبها ـ ويمكن معها الشرك (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ
إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) [١٢ / ١٠٦].
وعنها يعبّر ب «الإسلام»
في الأكثر : (قالَتِ الْأَعْرابُ
آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ
الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) [٤٩ / ١٤].
وعن مولانا الصادق
عليهالسلام : «الإيمان أرفع من الإسلام بدرجة ؛ إنّ الإيمان يشارك
الإسلام في الظاهر ، والإسلام لا يشارك الإيمان في الباطن ، وإن اجتمعا في القول والصفة».
وأواسطها تصديقات
لا يشوبها شكّ ولا شبهة : (الَّذِينَ آمَنُوا
بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا) [٤٩ / ١٥]. وأكثر
إطلاق الإيمان عليها خاصّة : (إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ
عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [٨ / ٢].
وأواخرها تصديقات
كذلك مع كشف وشهود وذوق وعيان ، ومحبّة كاملة لله سبحانه ، وشوق تامّ إلى حضرته
المقدّسة : (يُحِبُّهُمْ
وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ
[يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ
__________________
و] (لا يَخافُونَ
لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) [٥ / ٥٤].
وعنها العبارة
تارة ب «الإحسان» : «الإحسان أن تعبد الله كأنّك تراه» . واخرى ب «الإيقان» : (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ
يُوقِنُونَ) [٢ / ٤].
وإلى المراتب الثلاث
الإشارة بقوله عزوجل : (لَيْسَ عَلَى
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا
اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ
اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [٥ / ٩٣].
وإلى مقابلاتها
التي هي مراتب الكفر ، الإشارة بقوله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً
لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً) [٤ / ١٣٧].
__________________
فنسبة الإحسان
واليقين إلى الإيمان ، كنسبة الإيمان إلى الإسلام.
قال مولانا الصادق
عليهالسلام : «إنّ الإيمان أفضل من الإسلام ، وإنّ اليقين أفضل من
الإيمان ، وما من شيء أعزّ من اليقين».
وصل [٤]
ولليقين ثلاث مراتب
: علم اليقين ، وعين اليقين ، وحق اليقين : (كَلَّا لَوْ
تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ* لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ* ثُمَّ لَتَرَوُنَّها
عَيْنَ الْيَقِينِ) [١٠٢ / ٥ ـ ٧] (إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) [٥٦ / ٩٥].
والفرق بينهما
إنّما ينكشف بمثال : فعلم اليقين بالنار ـ مثلا ـ هو مشاهدة المرئيّات بتوسّط
نورها. وعين اليقين بها هو معاينة جرمها. وحقّ اليقين بها الاحتراق فيها ، وانمحاء
الهويّة بها ، والصيرورة نارا صرفا ـ وليس وراء هذا غاية ، ولا هو قابل للزيادة.
«لو كشف الغطاء ما
ازددت يقينا» .
__________________
فصل [٥]
واعلم أنّ تحصيل
العلم مقدّم على العبادة ؛ وذلك لأنّ من لم يعرف المعبود ، ولا كيفية العبادة ،
ولا ثمرتها : لم يتأتّ له العبادة.
وأيضا : فإنّ
العلم النافع يثمر خشية الله ومهابته : (إِنَّما يَخْشَى
اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) [٣٥ / ٢٨].
وذلك أنّ من لم
يعرفه حقّ معرفته لم يهبه حقّ مهابته ، ولم يعظّمه حقّ تعظيمه وحرمته.
فصار العلم يثمر
الطاعة كلّها ، ويحجز عن المعصية كلّها ـ بتوفيق الله [سبحانه] ـ وليس وراء هذين
مقصد للعبد في عبادة الله جلّ جلاله.
ولذلك قال النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : «العلم إمام العمل ، والعمل تابعه».
__________________
فصل [٦]
العبادة قسمان :
أحدهما العبادة
الظاهرة ، التي هي من تقوى الجوارح والأبدان كفعل الطاعات الظاهرة ـ من الصلاة ،
والزكاة ، والصوم ، والحجّ وغير ذلك ـ وترك المعاصي الواضحة الفاضحة ـ كالزنا ،
وأكل الربا ، وشرب الخمر ، ونحو ذلك ـ ويسمّى العلم المتعلّق بذلك : «علم الشريعة»
و «علم الفقه».
والثاني : العبادة
الباطنة ، التي هي من تقوى القلوب والأرواح كالتخلّق بالأخلاق الحميدة ـ من التوبة
، والصبر ، والشكر ، والتوكّل ، والتفويض وغير ذلك ـ والتجنّب عن الملكات الرذيلة
ـ من الحسد والكبر ، والعجب ، والغرور ، والريا ، ونحوها ـ ويسمّى العلم المتعلّق
بذلك : «علم السرّ» و «علم الأخلاق».
وكلتا العبادتين
فريضة ، لورود الأمر بهما جميعا في الكتاب والسنّة ، فإنّ الله عزوجل يقول : (تُوبُوا إِلَى اللهِ
جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [٢٤ / ٣١] ، (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [٣ / ٢٠٠] ، (وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ
إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [٢ / ١٧٢] ، (وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ
كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [٥ / ٢٣]. إلى غير
ذلك من الأمر بالأخلاق الفاضلة كما أنّه عزوجل يقول : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ
وَآتُوا الزَّكاةَ) [٢ / ١١٠] ، و (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) [٢ / ١٨٣] ، و (لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) [٣ / ٩٧] ـ وغير
ذلك.
ويقول الله سبحانه
في المعاصي : (وَذَرُوا ظاهِرَ
الْإِثْمِ وَباطِنَهُ) [٦ / ١٢٠] ، (وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ
مِنْها وَما بَطَنَ) [٦ / ١٥١] ـ إلى
غير ذلك ـ.
ولكنّ التكليف
بكلتيهما إنّما هو بقدر الوسع والطاقة .
ولكلّ منهما درجات
في الكمال والنقص ، وزيادة القرب من الحقّ وقلّته بحسب تفاوت درجات الناس في
احتمالها والعمل بها ، و «الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق».
فصل [٧]
[فهرس أبواب الكتاب]
واعلم أنّ معرفة
كيفيّة العبادتين داخلة في العلم بالكتب ، كما أنّ معرفة أوصياء الرسل وخلفائهم عليهمالسلام داخلة في العلم بالرسل ، ومعرفة صفات الله العليا وأسمائه
الحسنى وأفعاله وآثار رحمته ـ جلّ جلاله ـ داخلة في العلم بالله ، ومعرفة الشيطان
وجنوده داخلة في العلم بالملائكة ، ومعرفة النفس الإنسانيّة وترقّياتها في أطوارها
ـ من لدن كونها جنينا إلى أن تلقى الله سبحانه ـ داخلة في العلم باليوم الآخر.
فلم يخرج شيء من
العلوم المهمّة الدينيّة عن هذه الاصول الخمسة.
ولمّا كان لعلم
الأخلاق مباحث عميقة طويلة الأذيال ، ولعلم الفقه
__________________
مسائل كثيرة كثرت
فيه القيل والقال ـ وقد أفرد علماء الدين ـ شكّر الله مساعيهم ـ لكلّ منهما كتبا
مفردة ، وسمّوا كلّا منهما باسم على حدة : لم يحسن أن يجعلا من توابع بعض مباحث
علم آخر ؛ فلذلك أفردنا لملخّص كلّ منهما كتابا على حدة .
ولتقارب مسائل
الكتب والرسل واشتراك بعضها جمعناهما في
__________________
مقصد واحد ؛ فصارت
مقاصد هذا الكتاب أربعة :
العلم بالله.
العلم بالملائكة.
العلم بالكتب
والرسل.
العلم باليوم
الآخر.
فرتّبت كلّا منها
على أبواب ، وجعلت الأبواب على فصول ؛ فصار مجموع ما في الأربعة خمسين بابا ذوات
فصول ، في خمسين مطلبا ، بهذا التفصيل :
أمّا العلم بالله
، ففيه ثمانية أبواب :
١ : في وجوده
تعالى.
٢ : في توحيده عزوجل.
٣ : في تنزيهه
سبحانه.
٤ : في صفاته
العليا تبارك وتعالى.
٥ : في نبذ من
نعوته جلّ ذكره.
٦ : في أسمائه
الحسنى تقدّس وتعالى.
٧ : في أفعاله جلّ
اسمه وقضائه وقدره.
٨ : في نبذ من
آثار رحمته وآيات عظمته جلّ جلاله.
وأما العلم
بالملائكة ففيه ثمانية أبواب :
١ : في الملائكة
المقرّبين.
٢ : في الملائكة
المدبّرين.
٣ : في الأرواح
البشريّة.
٤ : في المعقّبات
والشياطين.
٥ : في ملائكة
الأعمال والكرام الكاتبين.
٦ : في أصناف
الملائكة.
٧ : في كثرة
الملائكة.
٨ : في أوصاف
الملائكة وبدائع خلقهم.
وأما العلم بالكتب
والرسل عليهمالسلام ففيه ستّة عشر بابا :
١ : في الاضطرار
إلى الرسل والشرائع ، وأسرار التكاليف.
٢ : في صفات
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم واصول المعجزات.
٣ : في صفة نزول
الوحي ، والفرق بينه وبين الإلهام وغيره.
٤ : في الفرق بين
الرسول والنبيّ ، والإمام والولي.
٥ : في الاضطرار
إلى الإمام وذكر صفاته.
٦ : في تفاصيل
الأنبياء والأوصياء ـ صلوات الله عليهم ـ.
٧ : في أخذ ميثاق
النبيّين عليهمالسلام لنبيّنا صلىاللهعليهوآلهوسلم والبشارة به قبل ظهوره.
٨ : في أخلاق
نبيّنا صلىاللهعليهوآلهوسلم وأوصافه وأسمائه وخصائصه.
٩ : في معجزات
نبيّنا صلىاللهعليهوآلهوسلم وآيات صدقه.
١٠ : في معراج
نبيّنا صلىاللهعليهوآلهوسلم.
١١ : في معنى
الكتاب والكلام والفرق بينهما وتفاصيل كتب الله ـ جلّ وعزّ ـ.
١٢ : في نبذ من
فضائل القرآن المجيد.
١٣ : في نبذ من
فضائل أهل البيت عليهمالسلام.
١٤ : في الاختلاف
الواقع بعد نبيّنا صلىاللهعليهوآلهوسلم.
١٥ : في اصول
العقائد الدينيّة على الإجمال.
١٦ : في غيبة
إمامنا عليهالسلام ، وعلامات ظهوره ، وأشراط الساعة.
وامّا العلم
باليوم الآخر ففيه ثمانية عشر بابا :
١ : في الموت.
٢ : في البرزخ
وعذاب القبر وسؤاله.
٣ : في نفخ الصور
والبعث والحشر.
٤ : في طول يوم
القيامة وأهواله.
٥ : في الخصماء
والمظالم.
٦ : في المساءلة
والشهداء.
٧ : في تطائر
الكتب ونشرها.
٨ : في الميزان
والحساب.
٩ : في السياق
والصراط.
١٠ : في الشفاعة.
١١ : في الحوض.
١٢ : في الوسيلة
واللواء.
١٣ : في محل
الجنّة والنار والأعراف ، وأنّها موجودة الآن.
١٤ : في صفة
الجنّة وأهلها.
١٥ : في صفة النار
وأهلها.
١٦ : في مذنبي أهل
التوحيد والناقصين.
١٧ : في أصناف
اللذّات والآلام وأربابهما في الآخرة.
١٨ : في خلود
الفريقين .
ولنشرع في المقصود
، ومن الله ـ سبحانه ـ التأييد :
* * *
__________________
المقصد الاول
في العلم بالله جلّ جلاله
(هُوَ اللهُ الَّذِي
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ*
هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ
الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ
عَمَّا يُشْرِكُونَ* هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ
الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [الحشر / ٢٢ ـ ٢٤]
[١]
باب
وجوده تعالى
(أَفِي اللهِ شَكٌّ
فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [١٤ / ١٠]
فصل [١]
إنّ في الآفاق
والأنفس وما خلق الله من شيء ، لآيات مبيّنات ودلائل واضحات على وجوده ـ سبحانه ـ ووحدته
وإلهيّته ، وسائر صفاته ، من وجوه مختلفة وطرق شتّى ؛ وقد وقعت الإشارة إلى نبذ
منها في القرآن المجيد ، للتنبيه والإرشاد :
منها قوله ـ تعالى
ـ في سورة البقرة : (إِنَّ فِي خَلْقِ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي
تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ
مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ
دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ
وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [٣ / ١٦٤].
__________________
ومنها قوله ـ سبحانه
ـ في سورة الأنعام : (إِنَّ اللهَ فالِقُ
الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ
الْحَيِّ ذلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ* فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ
سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ
الْعَلِيمِ* وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي
ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ*
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ
قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ* وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ
السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ
خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها
قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ
مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ
وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [٦ / ٩٥ ـ ٩٩] .
ومنها قوله ـ عزوجل ـ في سورة يونس : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ
الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ
السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ
الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ* إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما
خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) [١٠ / ٥ ـ ٦].
ومنها قوله ـ عزّ
اسمه ـ في سورة الرعد : (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ
الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ [جَعَلَ
فِيها
__________________
زَوْجَيْنِ
اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ
فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ* وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ
وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى
بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [١٣ / ٣ ـ ٤].
ومنها قوله ـ جلّ
ذكره ـ في سورة النحل : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي
الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ
وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ* وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ
وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآيَةً) لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ* وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ
أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ*
ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ
مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [١٦ / ٦٦ ـ ٦٩].
ومنها قوله ـ جلّ
وعزّ ـ في هذه السورة أيضا : (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى
الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللهُ إِنَّ
فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [١٦ / ٧٩].
ومنها قوله ـ عزّ
ذكره ـ في سورة الروم : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ
خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ* وَمِنْ آياتِهِ
أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ
بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي
__________________
ذلِكَ
لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ* وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ
لِلْعالِمِينَ* وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ
وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ*
وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ
ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ
يَعْقِلُونَ* وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ
إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) [٣٠ / ٢٠ ـ ٢٥].
ومنها قوله ـ سبحانه
ـ في سورة الجاثية : (إِنَّ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ* وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ
مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ* وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما
أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ
مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [٤٥ / ٣ ـ ٥].
إلى غير ذلك من
الآيات ـ وهي كثيرة وسنشير ـ إلى ما يفسّر بعضها فيما بعد ـ إن شاء الله ـ .
__________________
فصل [٢]
[بم عرفت ربك؟]
سئل مولانا أمير
المؤمنين عليهالسلام : «بما ذا عرفت ربّك»؟ قال :
«بفسخ العزائم
ونقض الهمم ؛ لمّا هممت فحيل بيني وبين همّي ، وعزمت فخالف القضاء والقدر عزمي ،
علمت أنّ المدبّر غيري».
ومثله عن مولانا
الصادق عليهالسلام ، رواهما الشيخ الصدوق ـ أبو جعفر محمد بن علي بن بابويه
القمّي ـ رحمهالله ـ في كتاب التوحيد.
وسئل عارف : «بم
عرفت ربّك»؟ فقال : «بواردات ترد على القلوب ، فتعجز النفس عن تكذيبها».
وسئل أعرابيّ عن
مثل ذلك ، فقال : «البعرة تدلّ على
البعير ، وأثر الأقدام على المسير ، فالسماء ذات أبراج ، والأرض ذات فجاج أما
تدلّان على الصانع الخبير»؟.
__________________
فصل [٣]
قال السيد الجليل
رضي الدين أبو القاسم عليّ بن موسى بن طاوس ـ رحمهالله ـ في وصاياه لابنه :
«إنّني وجدت كثيرا
ممن رأيته وسمعت به من علماء الإسلام ، قد ضيّقوا على الأنام ما كان سهّله الله ـ جلّ
جلاله ـ ورسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم من معرفة مولاهم ومالك دنياهم واخراهم ؛ فإنّك تجد كتب
الله ـ جلّ جلاله ـ السالفة ، والقرآن الشريف ، مملوّا من التنبيهات على الدلالات
على معرفة محدث الحادثات ، ومغيّر المتغيّرات ، ومقلّب الأوقات ، وترى علوم سيّدنا
خاتم الأنبياء وعلوم من سلف من الأنبياء ـ صلوات الله عليه وعليهم ـ على سبيل كتب
الله ـ جلّ جلاله ـ المنزلة عليهم ، في التنبيه اللطيف ، والتشريف بالتكليف ؛ ومضى
على ذلك الصدر الأوّل من علماء المسلمين ، إلى أواخر [أيّام] من كان ظاهرا من الأئمّة المعصومين ـ صلوات الله عليهم
أجمعين ـ
فإنّك تجد من نفسك
ـ بغير إشكال ـ أنّك لم تخلق جسدك ، ولا روحك ، ولا حياتك ، ولا عقلك ، ولا ما خرج
من اختيارك من الآمال والأحوال والآجال ، ولا خلق ذلك
__________________
أبوك ، ولا أمّك ،
ولا من تقلّبت بينهم من الآباء والامّهات ، لأنّك تعلم يقينا أنّهم كانوا عاجزين
عن هذه المقامات ، ولو كان لهم قدرة على تلك المهمّات ، ما كان قد حيل بينهم وبين
المرادات ، وصاروا من الأموات.
فلم يبق مندوحة
أبدا ، عن واحد منزّه عن إمكان المتجدّدات ، خلق هذه الموجودات ، وإنّما تحتاج أن
تعلم ما هو عليه ـ جلّ جلاله ـ من الصفات.
ولأجل شهادة
العقول الصريحة والأفهام الصحيحة بالتصديق بالصانع ، أطبقوا جميعا على فاطر وخالق
؛ وإنّما اختلفوا في ماهيّته ، وحقيقة ذاته ، وفي صفاته بحسب اختلاف الطرائق».
ـ قال : ـ «وإنّي
وجدت قد جعل الله ـ جلّ جلاله ـ في جملتي حكما أدركته عقول العقلاء ، فجعلني من
جواهر وأعراض ، وعقل روحاني ، ونفس وروح ؛
فلو سألت ـ بلسان
الحال ـ الجواهر التي في صورتي : «هل كان لها نصيب في خلقي وفطرتي»؟ لوجدتها تشهد بالعجز والافتقار ، وأنّها لو كانت
قادرة على هذا المقدار ما اختلفت عليها الحادثات والتغيّرات والتقلّبات ، ووجدتها
معترفة أنّها ما كانت لها حديث في تلك التدبيرات ، وأنّها ما تعلم كيفيّة
__________________
ما فيها من
التركيبات ، ولا عدد ولا وزن ما جمع فيها من المفردات.
ولو سألت بلسان
الحال الأعراض ، لقالت : «أنا أضعف من الجواهر ، لأنّني فرع عليها ؛ فأنا أفقر
منها ، لحاجتي إليها».
ولو سألت بلسان
الحال عقلي ، وروحي ، ونفسي ، لقالوا جميعا : «أنت تعلم أنّ الضعف يدخل على بعضنا
بالنسيان ، وبعضنا بالموت ، وبعضنا بالذلّ والهوان ، وأنّنا تحت حكم غيرنا ممن
يقلّبنا كما يريد من نقص إلى تمام ، ومن تمام إلى نقصان ، ويقلّبنا
كما يشاء مع تقلّبات الأزمان».
فإذا رأيت تحقيق
هذا من لسان الحال ، وعرفت تساوي الجواهر والأعراض ، وتساوي معنى العقول والأرواح
والنفوس في سائر الموجودات والأشكال : تحقّقت أنّ لنا جميعا فاطرا وخالقا ، منزّها
عن عجزنا وافتقارنا وتغييراتنا وانتقالاتنا وتقلّباتنا ؛ ولو دخل عليه نقصان في
كمال أو زوال ، كان محتاجا ومفتقرا ـ مثلنا ـ إلى غيره بغير إشكال.
__________________
فصل [٤]
وروى الشيخ الصدوق
ـ رحمهالله ـ في كتاب التوحيد عن مولانا الصادق عليهالسلام أنّه سأله أبو شاكر الديصاني : «ما الدليل على حدث العالم»؟
فقال الصادق عليهالسلام : «نستدلّ عليه بأقرب الأشياء».
قال : «وما هو»؟
فدعا عليهالسلام ببيضة ، فوضعها على راحته ، فقال : «هذا حصن ملموم داخله غرقئ رقيق نظيف ، به فضّة سائلة ، وذهبة مائعة ، ثمّ تنفلق عن
مثل الطاوس ؛ أدخلها شيء؟».
قال : «لا».
قال : «فهذا
الدليل على حدث العالم».
__________________
قال : «أخبرت
فأوجزت ، وقلت فأحسنت ؛ وقد علمت أنّا لا نقبل إلّا ما أدركناه بأبصارنا ، أو
سمعناه بآذاننا ، أو شممناه بمناخرنا ، أو ذقناه بأفواهنا ، أو لمسناه بأكفّنا ،
أو تصوّر في القلوب بيانا ، أو استنبطه الرويّات إيقانا».
قال عليهالسلام : «ذكرت الحواسّ الخمس ، وهي لا تنفع شيئا بغير دليل كما
لا تقطع الظلمة بغير مصباح».
وبإسناده إلى مولانا الرضا عليهالسلام أنّه دخل عليه رجل فقال : «يا بن رسول الله ، ما الدليل
على حدث العالم؟».
قال : «أنت لم تكن
ثمّ كنت ، وقد علمت أنّك لم تكوّن نفسك ، ولا كوّنك من هو مثلك».
قال الشيخ الصدوق
ـ طاب ثراه ـ :
«ومن الدليل على
حدوث العالم : أنّا وجدنا أنفسنا وسائر أجسام العالم ، لا ينفكّ ممّا يحدث فيها من
الزيادة والنقص ، ويجري عليها من الصنعة والتدبير ، ويعتورها من الصور والهيئات ؛
وقد علمنا ضرورة : أنّا لم نصنعها ، ولا من هو من
__________________
جنسنا وفي مثل حالنا
صنعها ؛ وليس يجوز في عقل ولا يتصوّر في وهم أن يكون ما لم ينفكّ من الحوادث ولم
يسبقها : قديما ؛ ولا أن يوجد هذه الأشياء ـ على ما نشاهدها عليه من التدبير ،
ونعاينه فيها من اختلاف التقدير ـ لا من صانع ، أو يحدث لا بمدبّر.
ولو جاز أن يكون
العالم ـ بما فيه من إتقان الصنعة ، وتعلّق بعضه ببعض ، وحاجة بعضه إلى بعض ـ لا
بصانع صنعه ، ويحدث لا بموجد أوجده : لكان ما هو دونه ـ في الإحكام والإتقان ـ أحقّ
بالجواز وأولى بالتصوّر والإمكان ، وكان يجوز على هذا الوضع وجود كتابة لا كاتب
لها ، ودار مبنيّة لا باني لها ، وصورة محكمة لا مصوّر لها ، ولأمكن في القياس : أن
تأتلف سفينة ـ على أحكم نظم ، وتجتمع على أتقن صنع ـ لا بصانع صنعها أو جامع
جمعها.
فلمّا كان ركوب
هذا وإجازته خروجا عن النهى والعقول كان الأوّل مثله ؛
بل ركوبه في غير
ما ذكرناه من العالم ـ وما فيه من حركة أفلاكه واختلاف أوقاته ، وشمسه وقمره ،
وطلوعهما وغروبهما ، ومجيء برده وقيظه في أوقاتهما ، واختلاف ثماره وتنوّع أشجاره
ومجيء ما يحتاج إليه منها في إبّانه ووقته ـ أشدّ مكابرة ، وأوضح معاندة.
وهذا واضح بحمد
الله».
.........
__________________
فصل [٥]
ومن الدلائل التي
قيلت في إنيّة الصانع للكلّ أنّه لو لم يوجد الغنيّ الواجب بالذات ، لم يوجد
المستغني الواجب بالغير ، فلم يوجد موجود أصلا ؛ لأنّ ذلك الغير ـ على هذا التقدير
ـ مستغن بالغير ، فإمّا أن يتسلسل ، أو يدور ؛ وعلى التقديرين ، جاز انتفاء الكلّ
بأن لا يوجد شيء منها أصلا ؛ فلا بدّ من مرجّح يرجّح وجودها ؛ وهو الله الغنيّ
بالذات (وَاللهُ الْغَنِيُّ
وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) [٤٧ / ٣٨].
فصل [٦]
الحقّ الحقيق
بالتصديق أنّ التصديق بوجوده تعالى أمر فطريّ ولذا ترى الناس عند الوقوع في الأهوال وصعاب الأحوال يتوكّلون
بحسب الجبلّة على الله ، ويتوجّهون ـ توجّها غريزيّا ـ إلى مسبّب الأسباب ، ومسهّل
الامور الصعاب ، وإن لم يتفطّنوا لذلك ؛ ويشهد لهذا قول الله ـ عزوجل ـ : (وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [٣١ / ٢٥].
(قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ
إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ
إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ
إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ) [٦ / ٤٠ ـ ٤١].
__________________
وفي تفسير مولانا
العسكري عليهالسلام أنّه سئل مولانا الصادق عليهالسلام عن الله ، فقال للسائل : يا عبد الله ، هل ركبت سفينة قطّ؟
قال : بلى.
قال : فهل كسرت بك
حيث لا سفينة تنجيك ولا سباحة تغنيك؟
قال : بلى.
قال : فهل تعلّق
قلبك هناك أنّ شيئا من الأشياء قادر على أن يخلصك من ورطتك؟ قال : بلى.
قال الصادق عليهالسلام : فذلك الشيء هو الله القادر على الإنجاء حين لا منجي وعلى
الإغاثة حين لا مغيث.
قيل : «في قوله ـ سبحانه
ـ : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) [٧ / ١٧٢] إشارة
لطيفة إلى ذلك ، فإنّه ـ سبحانه ـ استفهم منهم الإقرار بربوبيّته ، لا بوجوده ،
تنبيها على أنّهم كانوا مقرّين بوجوده في بداية عقولهم ، وفطر نفوسهم».
وروى الشيخ الصدوق
بإسناده الصحيح عن زرارة ، عن أبي جعفر عليهالسلام ـ قال : ـ سألته عن قول الله ـ عزوجل ـ (حُنَفاءَ لِلَّهِ
غَيْرَ
__________________
مُشْرِكِينَ
بِهِ) [٢٢ / ٣١] وعن الحنيفيّة؟
فقال : «هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، لا تبديل لخلق الله». ـ قال : ـ «فطرهم
الله على المعرفة».
قال زرارة : «وسألته
عن قول الله ـ عزوجل ـ : (وَإِذْ أَخَذَ
رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) ـ الآية ـ [٧ / ١٧٢]»؟
قال : «أخرج من
ظهر آدم ذرّيته إلى يوم القيامة ؛ فخرجوا كالذرّ ؛ فعرّفهم وأراهم صنعه ، ولو لا
ذلك لم يعرف أحد ربّه».
وقال : «قال رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «كلّ مولود يولد على الفطرة» ، يعني على المعرفة بأنّ
الله ـ عزوجل ـ خالقه ، فذلك قوله : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ
مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [٣١ / ٢٥]».
وفي روايات اخر بأسانيده المستفيضة : إنّ الفطرة هي التوحيد.
وبإسناده عن ابن عمر ـ قال : ـ قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لا تضربوا أطفالكم على بكائهم ، فإنّ بكائهم أربعة أشهر
شهادة أن لا إله إلّا الله ، وأربعة أشهر الصلاة على النبيّ وآله ، وأربعة أشهر
الدعاء لوالديه».
وفي الكافي ما
يقرب منه .
ولعلّ السرّ في
ذلك : أنّ الطفل أربعة أشهر لا يعرف سوى الله
__________________
عزوجل ، الذي فطر على معرفته وتوحيده ، فبكاؤه توسّل إليه ،
والتجاء به ـ سبحانه ـ خاصّة ، دون غيره ، فهو شهادة له بالتوحيد.
وأربعة اخرى يعرف
أمّه من حيث أنّها وسيلة إلى اغتذائه فقطّ ، لا من حيث أنّها أمّه ، ولهذا يأخذ
اللبن من غيرها أيضا في هذه المدّة غالبا ، فلا يعرف فيها بعد الله إلّا من هو
وسيلة بين الله وبينه في ارتزاقه الذي هو مكلّف به ـ تكليفا طبيعيّا ـ من حيث
أنّها وسيلة لا غير ـ وهذا معنى الرسالة ـ فبكاؤه في هذه المدّة بالحقيقة شهادة
بالرسالة.
وأربعة اخرى يعرف
أبويه وكونه محتاجا إليهما في الرزق ، فبكاؤه توسّل إليهما والتجاء بهما ، فبكاؤه
فيها دعاء لهما بالسلامة والبقاء في الحقيقة.
وقد ظهر من هذه
الكلمات أنّ «كلّ مولود يولد على الفطرة ، وأبواه يهوّدانه وينصّرانه ويمجّسانه»
كما ورد في الحديث النبوي صلىاللهعليهوآلهوسلم .
ولهذا جعلت الناس
معذورين في تركهم اكتساب المعرفة بالله ـ عزوجل ـ متروكين على ما فطروا عليه ، مرضيّا عنهم بمجرّد الإقرار
بالقول ، ولم يكلّفوا الاستدلالات العلميّة في ذلك.
__________________
قال نبيّنا صلىاللهعليهوآلهوسلم : «امرت أن اقاتل الناس حتّى يقولوا لا إله إلّا الله» .
وإنّما التعمّق
والاستدلال لزيادة البصيرة ، ولطائفة مخصوصة ، وللردّ على أهل الضلال ؛ ولهذا أيضا
امرت الأنبياء ـ صلوات الله عليهم ـ بقتل من أنكر وجود الصانع فجأة بلا استتابة
ولا عتاب ، لأنّه ينكر ما هو من ضروريات الامور.
__________________
سئل بعض أهل
المعرفة والتوحيد عن الدليل على إثبات الصانع فقال : «لقد أغنى الصباح عن المصباح».
واعلم أن أفهام
الناس وعقولهم متفاوتة في قبول مراتب العرفان وتحصيل الاطمينان ، كمّا وكيفا ،
شدّة وضعفا ، سرعة وبطءا ، حالا وعلما ، وكشفا وعيانا ، وإن كان أصل المعرفة
فطريّا ضروريّا ، أو يهتدى إليه بأدنى تنبيه.
فلكلّ طريقة هداه
الله ـ عزوجل ـ إليها إن كان من أهل الهداية ، و «الطرق إلى الله بعدد
أنفاس الخلائق» ، و (هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ
اللهِ) [٣ / ١٦٣] و (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا
مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) [٥٨ / ١١].
__________________
فصل [٧]
قال بعض العلماء
:
اعلم أنّ أظهر
الموجودات وأجلاها هو الله عزوجل ، فكان هذا يقتضي أن تكون معرفته أوّل المعارف وأسبقها إلى
الأفهام ، وأسهلها على العقول ، ونرى الأمر بالضدّ من ذلك ؛ فلا بدّ من بيان السبب
فيه.
وإنّما قلنا : «إنّ
أظهر الموجودات وأجلاها هو الله تعالى» لمعنى لا تفهمه إلّا بمثال : وهو أنّا إذا
رأينا إنسانا يكتب أو يخيط ـ مثلا ـ كان كونه حيّا من أظهر الموجودات ، فحياته
وعلمه وقدرته للخياطة ، أجلى عندنا من سائر صفاته الظاهرة والباطنة ؛ إذ صفاته
الباطنة ـ كشهوته وغضبه وخلقه وصحّته ومرضه ، وكلّ ذلك لا نعرفه ، وصفاته الظاهرة
لا نعرف بعضها ، وبعضها نشكّ فيه ـ كمقدار طوله ، واختلاف لون بشرته ، وغير ذلك من
صفاته ـ ؛ أمّا حياته وقدرته وإرادته وعلمه وكونه حيوانا ، فإنّه جليّ عندنا من
غير أن يتعلّق حسّ البصر بحياته وقدرته وإرادته ، فإنّ هذه الصفات لا تحسّ بشيء من
الحواسّ الخمس.
__________________
ثمّ لا يمكن أن
يعرف حياته وقدرته وإرادته ، إلّا بخياطته وحركته ؛ فلو نظرنا إلى كلّ ما في
العالم سواه لم نعرف به صفاته ، فما عليه إلّا دليل واحد ، وهو مع ذلك جليّ واضح ؛
ووجود الله وقدرته وعلمه وسائر صفاته ، يشهد له بالضرورة : كلّ ما نشاهده وندركه
بالحواسّ الظاهرة والباطنة ـ من حجر ومدر ، ونبات وشجر وحيوان ، وسماء وأرض وكوكب
، وبرّ وبحر ، ونار وهواء ، وجوهر وعرض ـ بل أوّل شاهد عليه أنفسنا وأجسامنا
وأصنافنا ، وتقلّب أحوالنا ، وتغيّر قلوبنا ، وجميع أطوارنا في
حركاتنا وسكناتنا ؛ وأظهر الأشياء في علمنا أنفسنا ، ثمّ محسوساتنا بالحواسّ الخمس
، ثمّ مدركاتنا بالبصيرة والعقل ، وكلّ واحد من هذه المدركات له مدرك واحد وشاهد
واحد ودليل واحد ، وجميع ما في العالم شواهد ناطقة ، وأدلّة شاهدة بوجود خالقها
ومدبّرها ومصرّفها ومحرّكها ، ودالّة على علمه وقدرته ولطفه وحكمته ، والموجودات
المدركة لا حصر لها.
فإن كان حياة
الكاتب ظاهرة عندنا وليس يشهد له إلّا شاهد واحد ـ وهو ما أحسسنا من حركة يده ـ فكيف لا يظهر عندنا من لا يتصوّر في الوجود
شيء داخل نفوسنا وخارجها إلّا وهو شاهد عليه وعلى عظمته وجلاله ، إذ كلّ ذرّة
فإنّها تنادي بلسان حالها أنّه ليس وجودها بنفسها ، ولا حركتها بذاتها ؛ وإنّما
تحتاج إلى موجد ومحرّك لها.
__________________
يشهد بذلك أولا
تركيب أعضائنا وائتلاف عظامنا ولحومنا وأعصابنا ونبات شعورنا وتشكّل أطرافنا وسائر
أجزائنا الظاهرة والباطنة ، فإنّا نعلم أنّها لم تأتلف بنفسها ، كما نعلم أنّ يد
الكاتب لم تتحرّك بنفسها.
ولكن لمّا لم يبق
في الوجود مدرك ومحسوس ومعقول وحاضر وغائب إلّا وهو شاهد عليه ومعرّف له ، عظم
ظهوره ؛ فانبهرت العقول ، ودهشت عن إدراكه.
فإذن ما يقصر عن
فهمه عقولنا ، له سببان :
أحدهما خفاؤه في
نفسه وغموضه ـ وذلك لا يخفى مثاله.
والآخر ما يتناهى
وضوحه ، وهذا كما أنّ الخفّاش يبصر بالليل ، ولا يبصر بالنهار ـ لا لخفاء النهار
واستتاره ، ولكن لشدّة ظهوره ، فإنّ بصر الخفّاش ضعيف ، يبهره نور الشمس إذا أشرق
، فيكون قوّة ظهوره مع ضعف بصره سببا لامتناع إبصاره ، فلا يرى شيئا إلّا إذا
امتزج الظلام بالضوء وضعف ظهوره ؛
فكذلك عقولنا
ضعيفة ، وجمال الحضرة الإلهيّة في نهاية الإشراق والاستنارة ، وفي غاية الاستغراق
والشمول ، حتّى لا يشذّ عن ظهوره ذرّة من ملكوت السماوات والأرض ، فصار
__________________
ظهوره سبب خفائه.
فسبحان من احتجب بإشراق نوره ، واختفى عن البصائر والأبصار بظهوره .
ولا يتعجّب من اختفاء
ذلك بسبب الظهور ، فإنّ الأشياء تستبان بأضدادها ، وما عمّ وجوده ـ حتّى [أنّه] لا ضدّ له ـ عسر إدراكه ؛ فلو اختلف الأشياء ، فدلّ بعضها
دون البعض ، ادرك التفرقة على قرب ، ولمّا اشتركت في الدلالة على نسق واحد ، أشكل
الأمر.
ومثاله نور الشمس
المشرق على الأرض : فإنّا نعلم أنّه عرض من الأعراض يحدث في الأرض ، ويزول عند
غيبة الشمس ، فلو كانت الشمس دائمة الإشراق ـ لا غروب لها ـ لكنّا نظنّ أن لا هيئة
في الأجسام إلّا ألوانها ، وهي السواد والبياض وغيرهما ؛ فإنّا لا نشاهد في الأسود
إلّا السواد ، وفي الأبيض إلّا البياض ؛ فأمّا الضوء فلا ندركه وحده ، لكن لمّا
غابت الشمس وأظلمت المواضع ، ادركت تفرقة بين الحالتين ؛ فعلمنا أنّ الأجسام كانت
قد استضاءت بضوء ، واتّصفت بصفة فارقتها عند الغروب ، فعرفنا وجود النور بعدمه ،
وما كنّا نطّلع عليه ـ لو لا عدمه ـ إلّا بعسر شديد ؛ وذلك لمشاهدتنا الأجسام
متشابهة غير مختلفة في الظلام والنور.
هذا مع أنّ النور
أظهر المحسوسات ـ إذ به يدرك سائر
__________________
المحسوسات ـ فما
هو ظاهر في نفسه وهو مظهر لغيره ، انظر كيف تصوّر استبهام أمره بسبب ظهوره ـ لو لا
طريان ضدّه ـ.
فإذن الربّ ـ تعالى
ـ هو أظهر الامور ، وبه ظهرت الأشياء كلّها ، ولو كان له عدم أو غيبة أو تغيّر ،
لانهدّت السماوات والأرض ، وبطل الملك والملكوت ، ولادركت التفرقة بين الحالتين ؛
ولو كان بعض الأشياء موجودا به وبعضها موجودا بغيره ، لادركت التفرقة بين الشيئين
في الدلالة ؛ ولكن دلالته عامّة في الأشياء على نسق واحد ، ووجوده دائم في الأحوال
يستحيل خلافه ، فلا جرم أورث شدّة الظهور خفاء.
فهذا هو السبب في قصور
الأفهام.
وأمّا من قويت
بصيرته ، ولم تضعف منّته ، فإنّه في حال اعتدال أمره لا يرى إلّا الله وأفعاله ؛ وأفعاله أثر من آثار قدرته ، فهي تابعة له ، فلا وجود
لها بالحقيقة ، وإنّما الوجود للواحد الحقّ الذي به وجود الأفعال كلّها.
ومن هذا حاله فلا
ينظر في شيء من الأفعال إلّا ويرى فيه الفاعل ، ويذهل عن الفعل من حيث أنّه سماء
وأرض ، وحيوان وشجر ؛ بل ينظر فيه من حيث أنّه صنع ، فلا يكون نظره مجاوزا له إلى غيره ؛ كمن نظر في شعر
إنسان ، أو خطّه ، أو
__________________
تصنيفه ، ورأى فيه
الشاعر والمصنّف ، ورأى آثاره من حيث هو آثاره ، لا من حيث أنّه حبر وعفص وزاج
مرقوم على بياض ، فلا يكون قد نظر إلى غير المصنّف.
فكلّ العالم تصنيف
الله ـ تعالى ـ فمن نظر إليها من حيث أنّها فعل الله ، وعرفها من حيث أنّها فعل
الله ، وأحبّها من حيث أنّها فعل الله ، لم يكن ناظرا إلّا في الله ، ولا عارفا
إلّا بالله ، ولا محبّا إلّا لله ؛ وكان هو الموحّد الحقّ الذي لا يرى إلّا الله ،
بل لا ينظر إلى نفسه من حيث نفسه ؛ بل من حيث هو عبد الله .
فهذا هو الذي يقال
فيه : «إنّه فنى في التوحيد ، وإنّه فنى من نفسه» ؛ وإليه الإشارة بقول من قال : «كنّا
بنا ، ففنينا عنّا ، فبقينا بلا نحن».
فهذه امور معلومة
عند ذوي البصائر أشكلت لضعف الأفهام عن دركها ، وقصور قدرة العلماء عن إيضاحها
وبيانها بعبارة مفهمة موصلة للغرض إلى الأفهام ، أو لاشتغالهم بأنفسهم ، واعتقادهم
أنّ بيان ذلك لغيرهم مما لا يعنيهم.
فهذا هو السبب في قصور الأفهام عن معرفة
الله ـ تعالى ـ.
وانضمّ إليه أنّ
المدركات كلّها التي هي شاهدة على الله إنّما يدركها الإنسان في الصبى ، عند فقد
العقل قليلا قليلا ، وهو
__________________
مستغرق الهمّ
بشهواته ، وقد أنس بمدركاته ومحسوساته وألفها ، فسقط وقعها عن قلبه بطول الانس ،
ولذلك إذا رأى على طريق الفجأة حيوانا غريبا ، أو فعلا من أفعال الله خارقا للعادة
عجيبا : انطلق لسانه بالمعرفة طبعا ، فقال : «سبحان الله» ؛ وهو يرى طول النهار
نفسه وأعضاءه وسائر الحيوانات المألوفة ـ وكلّها شواهد قاطعة ـ ولا يحسّ بشهادتها
لطول الانس بها.
ولو فرض أكمه بلغ
عاقلا ، ثمّ انقشعت غشاوة عن عينه ، فامتدّ بصره إلى السماء والأرض ، والأشجار
والنبات والحيوان ـ دفعة واحدة ، على سبيل الفجأة ـ يخاف على عقله أن ينبهر ، لعظم
تعجّبه من شهادة هذه العجائب على خالقها.
فهذا وأمثاله من
الأسباب ، مع الانهماك في الشهوات هي التي سدّت على الخلق سبيل الاستضاءة بأنوار
المعرفة والسباحة في بحارها الواسعة ، والجليّات إذا صارت مطلوبة صارت معتاصة.
فهذا سرّ الأمر ، فليتحقّق ، ولذلك قيل :
لقد ظهرت فلا
تخفى على أحد
|
|
إلّا على أكمه
لا يعرف القمرا
|
لكن بطنت بما
أظهرت محتجبا
|
|
وكيف يعرف من
بالعرف استترا
|
انتهى كلامه .
__________________
وفي كتاب التوحيد
، بإسناده ، عن مولانا الكاظم عليهالسلام : «ليس بينه وبين خلقه حجاب غير خلقه ، احتجب بغير حجاب
محجوب ، واستتر بغير ستر مستور» .
وفي كلام مولانا
أمير المؤمنين عليهالسلام ما يقرب منه .
وعنه عليهالسلام : «إنّ الله تجلّى لعباده من غير أن رأوه ، وأراهم نفسه من
غير أن يتجلّى لهم».
وفي كلام مولانا
الحسين بن عليّ عليهماالسلام في بعض دعواته : «كيف يستدلّ عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك؟ أيكون
لغيرك من الظهور
__________________
ما ليس لك ، حتّى
يكون هو المظهر لك؟! متى غبت حتّى تحتاج إلى دليل يدلّ عليك؟! ومتى بعدت حتّى تكون
الآثار هي التي توصل إليك؟! عميت عين لا تراك عليها رقيبا ، وخسرت صفقة عبد لم
تجعل له من حبّك نصيبا».
وقال أيضا : «تعرّفت لكلّ شيء فما جهلك شيء».
وقال : «تعرّفت
إليّ في كلّ شيء ، فرأيتك ظاهرا في كلّ شيء ، فأنت الظاهر لكلّ شيء».
فصل [٨]
اعلم أنّه لا يعرف
الله حقّ معرفته إلا الله ـ سبحانه ـ لأنّ الخلق كلهم لم يعرفوا إلا احتياج العالم
المنظوم المحكم إلى صانع مدبّر ، حيّ ، عالم ، سميع ، بصير ، قادر ؛ وهذه المعرفة
لها طرفان :
أحدهما يتعلّق
بالعالم ؛ ومعلومه احتياجه إلى مدبّر.
والآخر يتعلّق
بالله ؛ ومعلومه أسام مشتقّة من صفات غير داخلة في حقيقة الذات وماهيّته ؛ وقد ثبت
أنّه إذا أشار المشير إلى شيء وقال : «ما هو؟» لم يكن ذكر الأسماء المشتقّة جوابا
أصلا ؛ فلو أشار شخص إلى حيوان فقال : «ما هو؟» ، فقال : «طويل» أو «أبيض» أو «بصير» ؛ أو
أشار إلى ماء فقال : «ما هو؟» ، فأجاب بأنّه «بارد» ؛ أو إلى نار ، فقال : «حارّ»
: فكلّ ذلك ليس بجواب عن الماهيّة البتّة.
__________________
والمعرفة بالشيء
هي معرفة حقيقته وماهيّته ، لا معرفة الأسامي المشتقّة ؛ فإنّ قولنا : «حارّ» ،
معناه : شيء مبهم له وصف الحرارة ؛ وكذلك قولنا : «قادر» و «عالم» ، معناه :
شيء مبهم له وصف العلم والقدرة.
وأمّا قولنا : «إنّه
واجب الوجود» ، فهو عبارة عن استغنائه عن الفاعل ، وهذا يرجع إلى سلب السلب عنه ؛
وقولنا : «إنّه يوجد عنه كلّ موجود» ، يرجع إلى إضافة الأفعال إليه ؛ وإذا قيل له
: «ما هذا الشيء؟» ، فقلنا : «هو الفاعل» ؛ لم يكن جوابا. فكيف قولنا : «هو الذي
لا سبب له» ؛ لأنّ كلّ ذلك إخبار عن غير ذاته ، وعن إضافة له إلى ذاته ، إمّا بنفي
أو إثبات ؛ وكلّ ذلك في أسماء وصفات وإضافات.
فنهاية معرفة
العارفين عجزهم عن المعرفة ، ومعرفتهم بالحقيقة أنّهم لا يعرفونه ، وأنّه لا
يمكنهم ـ البتّة ـ معرفته ، وأنّه يستحيل أن يعرف الله ـ المعرفة الحقيقية المحيطة
بكنه صفات الربوبيّة ـ إلا الله
__________________
تعالى ؛ فإذا
انكشف لهم ذلك انكشافا برهانيّا ـ كما ذكرناه ـ فقد عرفوه ، أي بلغوا المنتهى الذي
يمكن في حقّ الخلق من معرفته ؛ وهو الذي أشار إليه من قال : «العجز عن درك الإدراك
إدراك».
بل هو الذي عناه
سيّد البشر ـ صلوات الله عليه ـ حيث قال : «لا احصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك». ولم يرد
به أنّه عرف منه ما لا يطاوعه لسانه في العبارة عنه ، بل معناه : أنّي لا أحيط
بمحامدك وصفات إلهيّتك ، وإنّما أنت المحيط به وحدك.
وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «إنّ الله احتجب عن العقول كما احتجب عن الأبصار ، وأنّ
الملأ الأعلى يطلبونه كما تطلبونه أنتم» .
__________________
فإذن لا يحظى
مخلوق من ملاحظة حقيقة ذاته إلا بالحيرة والدهشة ، وأما اتّساع المعرفة ، فإنّما
يكون في معرفة أسمائه وصفاته ، وبها تتفاوت درجات الملائكة والأنبياء والأولياء في
معرفة الله ـ عزوجل ـ فليس من يعلم أنّه عالم قادر ـ على الجملة ـ كمن شاهد
عجائب آياته في ملكوت السماوات والأرض ، وخلق الأرواح والأجساد ، واطّلع على بدائع
المملكة ، وغرائب الصنعة ، ممعنا في التفصيل ، ومستقصيا دقائق الحكم ، ومستوفيا
لطائف التدبير ، ومتّصفا بجميع صفات الملكيّة ، المقرّبة من الله ـ تعالى ـ نائلا
لتلك الصفات نيل اتّصاف بها ؛
بل بينهما من
البون البعيد ما لا يكاد يحصى ؛ وفي تفاصيل ذلك ومقاديره تتفاوت الدرجات.
هذا ملخّص ما
أفاده بعض العلماء ـ قدّس الله أسرارهم ـ وسيأتي فيما بعد ما يؤكّده ويحقّقه ؛
وسيّما في كلام مولانا أمير المؤمنين عليهالسلام ـ إن شاء الله تعالى.
[٢]
باب
توحيده عزوجل
(اللهُ لا إِلهَ
إِلَّا هُوَ)
[٢ / ٢٥٥]
(كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ
إِلَّا وَجْهَهُ)
[٢٨ / ٨٨]
فصل [١]
روي في كتاب
التوحيد بإسناده عن تشريح بن هاني قال : إنّ أعرابيّا قام يوم الجمل إلى أمير المؤمنين عليهالسلام فقال : «يا أمير المؤمنين أتقول أنّ الله واحد»؟
__________________
ـ قال : ـ فحمل
الناس عليه ، وقالوا : «يا أعرابي ، أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسّم القلب»؟
فقال أمير
المؤمنين عليهالسلام : «دعوه ، فإنّ الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من
القوم».
ـ ثمّ قال : ـ «يا
أعرابي ، إنّ القول في أنّ الله واحد ، على أربعة أقسام : فوجهان منها لا يجوزان
على الله ـ عزوجل ـ ووجهان يثبتان.
فأمّا الذان لا
يجوزان عليه ، فقول القائل : «واحد» يقصد به باب الأعداد ؛ فهذا ما لا يجوز ، لأنّ ما لا ثاني له لا يدخل في باب
الأعداد ؛ أما ترى أنّه كفر من قال : «إنّه ثالث ثلاثة»؟ وقول القائل : «هو واحد
من الناس» يريد به النوع من الجنس ؛ فهذا ما لا يجوز عليه ، لأنّه تشبيه ، وجلّ
ربّنا وتعالى عن ذلك.
وأمّا الوجهان
اللذان يثبتان فيه ، فقول القائل : «هو واحد ليس له في الأشياء شبه» ـ كذلك ربّنا
ـ وقول القائل : «إنّه ربّنا ـ عزوجل ـ أحديّ المعنى» يعني به أنّه لا ينقسم في وجود ولا عقل
ولا وهم ، كذلك ربّنا عزوجل» .
__________________
فصل [٢]
الدليل على أنّ
الله ـ سبحانه ـ واحد بالمعنيين من جهة النقل من الكتاب والسنة كثير.
ومن جهة العقل : أنّه ـ عزوجل ـ لو كان منقسما في وجود أو عقل أو وهم لكان محتاجا ؛ لأنّ
كلّ ذي جزء فإنّما هو بجزئه يتقوّم ، وبتحقّقه يتحقّق وإليه يفتقر ، وهو الله ـ سبحانه
ـ غنيّ عن العالمين.
وأيضا : لو كان ذا
جزء لكان جزؤه متقدّما عليه وأوّلا له ، فيكون الجزء أولى بأن يكون إلها منه ـ سبحانه
ـ.
ومن هنا يظهر أنّ
وجوده ـ عزوجل ـ ليس معنى وراء ذاته جلّ وعزّ زائدا عليها ؛ بل هو عين
الوجود البحت الغير المنقسم ـ لا وهما ولا عقلا ولا عينا ـ.
وإذا كان كذلك كان
واحدا بالمعنى الآخر أيضا ، ولا شريك له ولا نظير ، إذ لا تعدّد في صرف شيء ؛ ونعم
ما قيل : «صرف الوجود ـ الذي لا أتمّ منه ـ كلّ ما فرضته ثانيا ،
فإذا نظرت فهو هو ، إذ لا ميز في صرف شيء». فإذن : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) [٣ / ١٨].
__________________
قال بعض العلماء :
المتفرّد بالوجود
هو الله ـ سبحانه ـ إذ ليس موجود معه سواه ، فإنّ ما سواه أثر من آثار قدرته لا
قوام له بذاته ، بل هو قائم به ، فلم يكن موجودا معه ، لأنّ المعيّة توجب المساواة
في الرتبة ، والمساواة في الرتبة نقصان في الكمال ، بل الكمال لمن لا نظير له في
رتبته.
وكما أنّ إشراق
نور الشمس في أقطار الآفاق ليس نقصا في الشمس ـ بل هو من جملة كماله [ا] ـ وإنّما
نقصان الشمس بوجود شمس اخرى تساويها في الرتبة ... ، فكذلك وجود كلّ ما في العالم
يرجع إلى إشراق أنوار القدرة فيكون تابعا ...
فإذن معنى
الربوبيّة التفرّد بالوجود ـ وهو كمال ـ.
فصل
[٣]
ومن الدلائل التي
قيلت : أنّه لو اقتضى ذاته ـ من حيث هو ولأنّه غنيّ بذاته ـ أن يكون هذا بعينه ،
فلا يصحّ أن يكون غيره ؛ وإن كان بسبب ما صار هذا ، فيكون هذا فقيرا ـ تعالى الله
عن ذلك ـ
فإذن : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ).
__________________
وأيضا لو تعدّد
فلا يمتاز أحدهما عن الآخر بنفس ما اشتركا فيه ، ولا بلازمه ـ وهو ظاهر ـ ولا
بعارض غريب ، إذ ليس ورائهما مخصّص ؛ وإن خصّص أحدهما نفسه أو صاحبه ، فيكونان قبل
التخصّص متعيّنين لا بالمخصّص ؛ هذا محال ف (لَمْ يَكُنْ لَهُ
كُفُواً أَحَدٌ) [١١٢ / ٤].
وأيضا إمّا أن
يقتضي ذاته الوحدة ، فلا يكون إلّا واحدا ؛ أو التعدّد ، فلا يوجد في واحد ، وإذ
لا واحد ، فلا متعدّد ؛ أو لا ذا ولا ذاك ، فيتساوى نسبة مراتب الأعداد إليه ،
فالتعيّن إمّا لمرجّح : فيفتقر إليه ؛ أو لا لمرجّح : فيلزم الترجيح بلا مرجّح ؛
فلا ندّ له.
وأيضا لو تعدّد ،
فإمّا أن يفتقر كلّ منهما أو أحدهما إلى الآخر ، فلا يكون غنيّا مطلقا ولا وجودا
تامّا ؛ أو يستغني عنه ، فيكون المستغنى عنه عادما لكمال ما هو فقر كلّ شيء إليه ،
ومفتقرا في تحصيله إلى غيره ، ولزم المحذور أيضا ؛ ف (لا تَتَّخِذُوا
إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) [١٦ / ٥١].
وأيضا يلزم أن
يكون أثر أحدهما بعينه ممكنا أن يكون أثر الآخر ، لاتّفاقهما في الحقيقة ـ أعني
الوجود الأتمّ ـ فاستناده إلى أحدهما دون الآخر يوجب ترجّحا بلا مرجّح ، وصدوره
عنهما جميعا يوجب صدور أمر واحد بالشخص عن متعدّد ـ وكلاهما محال ـ فإذن لو كان في
السماوات والأرض (آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ
لَفَسَدَتا) [٢١ / ٢٢] ولم توجدا.
فصل [٤]
قيل : وكما أنّ ائتلاف أعضاء الشخص الواحد الإنساني منتظمة في
رباط واحد ، منتفعة بعضها عن بعض مع اختلافها وامتيازها عن بعض : يدلّ على أنّ
مدبّرها وممسكها عن الانحلال قوّة واحدة ومبدأ واحد : فكذلك ارتباط الموجودات
بعضها ببعض على الرصف الحقيقي والنظم الحكمي دليل على أنّ مبدعها ومدبّرها وممسك
رباطها أن ينفصم واحد حقيقيّ (يُمْسِكُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) [٣٥ / ٤١] إذ لو
كان معه من إله لتميّز صنع بعضهم عن بعض ، فينقطع الارتباط ، ويختلّ النظام (إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ
وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) [٢٣ / ٩١].
وسئل مولانا
الصادق عليهالسلام : «ما الدليل على أنّ الله واحد»؟ قال : «اتّصال التدبير وتمام الصنع ؛ كما قال ـ عزوجل ـ : (لَوْ كانَ فِيهِما
آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [٢١ / ٢٢]».
وقال مولانا أمير
المؤمنين ـ عليه الصلاة والسلام ـ في وصاياه لابنه الحسن عليهالسلام : «واعلم يا بنيّ أنّه لو كان لربّك شريك لأتتك رسله ،
ولرأيت آثار ملكه وسلطانه ، ولعرفت أفعاله وصفاته ، ولكنّه إله واحد كما وصف نفسه
، لا يضادّه في ملكه أحد ولا يزول أبدا».
__________________
[٣]
باب
تنزيهه سبحانه
(سُبْحانَهُ وَتَعالى
عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً)
[١٧ / ٤٣]
فصل [١]
رويا في كتابي
الكافي والتوحيد بإسنادهما عن مولانا الصادق عليهالسلام ـ قال : ـ «إنّ الله عظيم رفيع لا يقدر العباد على صفته ،
ولا يبلغون كنه عظمته ، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ، وهو اللطيف الخبير ،
ولا يوصف بكيف ولا أين وحيث.
وكيف أصفه بالكيف؟
وهو الذي كيّف الكيف حتّى صار كيفا فعرفت الكيف بما كيّف لنا من الكيف.
أم كيف أصفه بأين؟
وهو الذي أيّن الأين حتّى صار أينا ، فعرفت الأين بما أيّن لنا من الأين.
__________________
أم كيف أصفه بحيث؟
وهو الذي حيّث الحيث حتّى صار حيثا ، فعرفت الحيث بما حيّث لنا من الحيث.
فالله تعالى داخل
في كلّ مكان وخارج من كلّ شيء (لا تُدْرِكُهُ
الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) [٦ / ١٠٣] ، لا
إله إلّا (هُوَ الْعَلِيُّ
الْعَظِيمُ) [٢ / ٢٥٥] ، (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [٦ / ١٠٣]» .
وبإسنادهما الصحيح
عنه عليهالسلام ـ قال : ـ «إنّ الله ـ تعالى ـ خلو من خلقه ، وخلقه خلو
منه ، وكلّ ما وقع عليه اسم شيء ـ ما خلا الله ـ فهو مخلوق ، والله خالق كلّ شيء».
وبإسنادهما عن أبيه الباقر عليهماالسلام أنّه سئل : «أيجوز أن يقال : إنّ الله شيء»؟ قال : «نعم ؛
تخرجه من الحدّين : حدّ التعطيل ، وحدّ التشبيه» .
__________________
أقول : ويصدّق هذا
الحديث قوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ
أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ) [٦ / ١٩].
وبإسنادهما عنه عليهالسلام أنّه سئل عمّا يروون : «إنّ الله ـ عزوجل ـ خلق آدم على صورته»؟ فقال : «هي صورة محدثة مخلوقة ،
اصطفاها الله واختارها على سائر الصور المختلفة ، فأضافها إلى نفسه ، كما أضاف
الكعبة إلى نفسه ، والروح إلى نفسه فقال : (بَيْتِيَ) [٢ / ١٢٥] ، وقال
: (وَنَفَخْتُ
فِيهِ مِنْ رُوحِي) [١٥ / ٢٩].
وبإسنادهما عن يعقوب السراج قال : قلت لأبي عبد الله عليهالسلام «إنّ بعض أصحابنا
يزعم أنّ لله صورة مثل صورة الإنسان ، وقال آخر «إنّه في صورة أمرد جعد قطط ». فخرّ أبو عبد الله عليهالسلام ساجدا ، ثمّ رفع رأسه فقال : «سبحان الله الذي (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [٤٢ / ١١] ،
__________________
و (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) [٦ / ١٠٣] ولا
يحيط به علم ؛ (لَمْ يَلِدْ) ـ لأنّ الولد يشبه أباه ـ (وَلَمْ يُولَدْ) ـ فيشبه من كان قبله ـ (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ) ـ من خلقه ـ (كُفُواً أَحَدٌ) تعالى عن صفة من سواه علوّا كبيرا».
وبإسنادهما عن إبراهيم بن محمد الخزّار ومحمد بن الحسين ـ قالا ـ : دخلنا على أبي الحسن الرضا عليهالسلام فحكينا له أنّ محمّدا رأى ربّه في صورة الشابّ الموفّق ، في سنّ أبناء ثلاثين سنة ؛ وقلنا : هشام بن سالم وصاحب الطاق
__________________
والميثمي يقولون : «إنّه أجوف إلى السرّة ، والبقيّة صمد» . فخرّ عليهالسلام ساجدا لله ثمّ قال :
«سبحانك ـ ما
عرفوك ولا وحّدوك ، فمن أجل ذلك وصفوك ؛ سبحانك ـ لو عرفوك لوصفوك بما وصفت به
نفسك ؛ سبحانك ـ كيف طاوعتهم أنفسهم أن يشبّهوك بغيرك ؛! اللهم لا أصفك إلّا بما
وصفت به نفسك ، ولا أشبّهك بخلقك ؛ أنت أهل لكلّ خير فلا تجعلني من القوم الظالمين».
ثمّ التفت إلينا
فقال : «ما توهّمتم من شيء فتوهّموا الله غيره» .
__________________
ثمّ قال : «نحن ـ آل
محمّد ـ النمط الأوسط ، الذي لا يدركنا الغالي ولا يسبقنا التالي ؛
يا محمّد ، إنّ
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم حين نظر إلى عظمة ربّه ، كان في هيئة الشابّ الموفّق ،
وسنّ أبناء ثلاثين سنة.
يا محمّد ، عظم
ربّي وجلّ أن يكون في صفة المخلوقين».
ـ قال : ـ قلت : «جعلت
فداك ، من كانت رجلاه في خضرة»؟
قال : «ذلك محمّد
، كان إذا نظر إلى ربّه بقلبه ، جعله في نور ، مثل نور الحجب ، حتّى يستبين له ما
في الحجب ؛ إنّ نور الله منه أخضر ومنه أحمر ومنه أبيض ومنه غير ذلك.
يا محمّد ، ما شهد
به الكتاب والسنّة ، فنحن القائلون به».
وبإسنادهما الصحيح عن مولانا الصادق عليهالسلام أنّه سئل عمّا يروون من الرؤية. فقال :
«الشمس جزء من
سبعين جزء من نور الكرسي ، والكرسي جزء من سبعين جزء من نور العرش ، والعرش جزء من
سبعين جزء من نور الحجاب ، والحجاب جزء من سبعين جزء من نور الستر ، فإن كانوا
صادقين فليملئوا أعينهم من الشمس ، ليس دونها سحاب».
__________________
وبإسنادهما عن أحمد بن إسحاق ، قال : كتبت إلى أبي الحسن الثالثعليهماالسلام أسأله عن الرؤية وما اختلف فيه الناس؟ فكتب : «لا يجوز
الرؤية ما لم يكن بين الرائي والمرئي هواء ينفذه البصر ، فإذا انقطع الهواء عن
الرائي والمرئي لم تصحّ الرؤية ، وكان في ذلك الاشتباه ، لأنّ الرائي متى ساوى المرئي في السبب الموجب بينهما في
الرؤية وجب الاشتباه ، وكان ذلك التشبيه ، لأنّ الأسباب لا بدّ له من اتّصالها
بالمسبّبات» .
__________________
أقول : الرؤية
الممتنعة على الله ـ جلّ جلاله ـ إنّما هي رؤية العين ، وأمّا رؤية القلب فليست
بممتنعة عليه ـ جلّ وعزّ ـ وعليه تحمل الآيات والأخبار الدالّة على جوازها.
يدلّ على ذلك ما
رواه في كتاب التوحيد بسند حسن ، عن مرازم ، عن مولانا الصادق عليهالسلام ـ قال : ـ سمعته يقول : «رأى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ربّه ـ عزوجل بقلبه ».
وفي رواية اخرى
رواها بإسناده فيه عنه عليهالسلام : «أما سمعت الله ـ عزوجل ـ يقول : (ما كَذَبَ الْفُؤادُ
ما رَأى) [٥٣ / ١١]؟ لم يره
بالبصر ، ولكن رآه بالفؤاد».
وبإسناده عن أبي بصير ، عنه عليهالسلام ـ قال : ـ قلت له : «أخبرني
__________________
عن الله ـ عزوجل ـ هل يراه المؤمنون يوم القيامة»؟
قال : «نعم ، وقد
رأوه قبل يوم القيامة».
فقلت : «متى»؟ قال
: «حين قال لهم : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ
قالُوا بَلى) [٧ / ١٧٢] ـ ثمّ
سكت ساعة ، ثمّ قال : ـ «وإنّ المؤمنين ليرونه في الدّنيا قبل يوم القيامة ؛ ألست
تراه في وقتك هذا»؟.
قال أبو بصير : «فقلت
له : ـ جعلت فداك ـ فاحدّث بهذا عنك»؟
فقال : «لا ؛
فإنّك إذا حدّثت به فأنكره منكر جاهل بمعنى ما تقول ـ ثمّ قدّر أنّ ذلك تشبيه كفر
ـ وليست الرؤية بالقلب كالرؤية بالعين ـ تعالى الله عمّا يصفه المشبّهون والملحدون».
وعن أمير المؤمنين
عليهالسلام : رأيته فعرفته فعبدته ؛ لم أعبد ربّا لم أره.
وعنه عليهالسلام : «ما رأيت شيئا إلّا ورأيت الله قبله».
__________________
فصل [٢]
[التنزيه والتشبيه]
قد دلّت العقول
السليمة والأفهام المستقيمة على تنزيهه ـ تعالى ـ عمّا لا يليق بجنابه المقدّس ؛
مثل الجسميّة والصورة والحركة والانتقال والحلول والاتّحاد ، وكونه محلّا للحوادث
، أو في جهة أو مكان أو زمان ، وكونه مرئيّا بالبصر ، أو مدركا بشيء من الحواسّ ،
أو مكتنها بشيء من العقول ـ وغير ذلك من النقائص التي هي من صفات الممكنات
والمعلولات.
وما في الكتاب
والسنّة ممّا يدلّ على ذلك ممّا ذكرناه وما لم نذكره ، أكثر من أن يحصى ، وأشهر من
أن يخفى.
ولكن بإزائها ممّا
يدلّ بظاهره على التشبيه ـ أيضا ـ كثير ، كما هو متواتر منهما ؛ فمن الناس من أخذ
بالأوّل ، وأوّل الثاني ، ومنهم من عكس.
ولا تنافي في
الواقع وعند المحقّق ، إذ لا تشبيه ولا تعطيل ؛ ولكن لمّا كانت أفهامهم قاصرة عن
إدراك ما هو الحقّ فيه ، وإنّما كلّمهم الأنبياء ـ صلوات الله عليهم ـ على قدر
عقولهم : يرون الألفاظ متناقضة في الظاهر ، ويتيهون فيه كالعميان والفيل ـ
__________________
والقصّة مشهورة .
روي في كتاب
التوحيد بإسناده عن محمد بن عبيد ، قال : دخلت على الرضاعليهالسلام فقال لي :
«قل للعباسي : يكفّ عن الكلام في التوحيد وغيره ، ويكلّم الناس بما
يعرفون ، ويكفّ عمّا ينكرون. وإذا سألوك عن التوحيد ، فقل كما قال الله عزوجل : (قُلْ هُوَ اللهُ
أَحَدٌ* اللهُ الصَّمَدُ* لَمْ يَلِدْ
__________________
وَلَمْ
يُولَدْ* وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) [١١٢ / ١ ـ ٤] ؛
وإذا سألوك عن الكيفيّة ، فقل كما قال الله ـ عزوجل ـ : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ) [٤٢ / ١١] ؛ وإذا
سألوك عن السمع ، فقل كما قال الله ـ عزوجل ـ : (هُوَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ) [٢ / ١٣٧] ؛ كلّم
الناس بما يعرفون».
وفي تفسير عليّ بن
إبراهيم ، عن أبيه ، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر ، عن عليّ بن موسى الرضا عليهالسلام ـ قال : ـ قال لي : «يا أحمد ، ما الخلاف بينكم وبين أصحاب
هشام بن الحكم في التوحيد»؟
فقلت : «جعلت فداك
ـ قلنا نحن بالصورة ، للحديث الذي روي أنّ رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم رأى ربّه في صورة شابّ ، وقال هشام بن الحكم بالجسم ».
فقال : «يا أحمد ـ
إنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لمّا اسري به إلى السماء وبلغ عند سدرة المنتهى ، خرق له
في الحجب مثل سمّ الإبرة ، فرأى من نور العظمة ما شاء الله أن يرى ؛ وأردتم أنتم
التشبيه ؛ دع هذا ـ يا أحمد ـ لا ينفتح عليك أمر عظيم ».
__________________
وقد يقال : إن
السرّ في ذلك أنّ ذاته ـ سبحانه ـ من حيث هي منزّه عن التنزيه والتشبيه جميعا ،
ومن حيث مراتب أسمائه وصفاته ومعيّته بالأشياء يتّصف بالأمرين من غير فرق ؛ كما
ورد في الحديث القدسيّ الصحيح المتفق عليه : «لا يزال العبد يتقرّب إليّ بالنوافل ، حتّى احبّه ،
فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده الذي يبطش بها ...»
ـ الحديث.
وفي كتاب التوحيد بإسناده عن مولانا الصادق عليهالسلام في قوله ـ عزوجل ـ : (فَلَمَّا آسَفُونا
انْتَقَمْنا مِنْهُمْ) [٤٣ / ٥٥] :
«إنّ الله ـ سبحانه
ـ لا يأسف كأسفنا ، ولكنّه خلق أولياء لنفسه يأسفون ويرضون ، وهم مخلوقون مربوبون ، فجعل رضاهم رضا نفسه وسخطهم سخط نفسه ، لأنّه جعلهم
الدعاة إليه ، والأدلّاء عليه ، فلذلك صاروا كذلك ، وليس ذلك يصل إلى الله كما يصل إلى خلقه ، لكن هذا معنى ما قال من
ذلك. وقد قال : «من أهان لي وليّا فقد بارزني بالمحاربة ودعاني إليها». وقال أيضا
: (مَنْ يُطِعِ
الرَّسُولَ فَقَدْ
__________________
أَطاعَ
اللهَ) [٤ / ٨٠]. وقال : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما
يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) [٤٨ / ١٠]. فكلّ
هذا وشبهه على ما ذكرت لك ، وهكذا الرضا والغضب وغيرهما من الأشياء ، مما يشاكل
ذلك.
ولو كان يصل إلى
المكوّن الأسف والضجر ـ وهو الذي أحدثهما وأنشأهما ـ لجاز لقائل أن يقول : إنّ
المكوّن يبيد يوما ، لأنّه إذا دخله الضجر والغضب دخله التغيير ، وإذا دخله
التغيير لم يؤمن عليه الإبادة ، ولو كان ذلك كذلك ، لم يعرف المكوّن من المكوّن ،
ولا القادر من المقدور ، ولا الخالق من المخلوق ـ تعالى الله عن هذا القول علوّا
كبيرا ـ.
هو الخالق للأشياء
لا لحاجة ، فإذا كان لا لحاجة استحال الحدّ والكيف فيه ـ فافهم ذلك إن شاء الله».
فصل [٣]
[الله تعالى قديم]
لا يجوز على الله
ـ عزوجل ـ العدم بوجه من الوجوه ، وإلّا لما كان وجوده واجبا ، ولا
أزليّا ؛ فيكون محتاجا ـ تعالى الله عن ذلك ـ.
وأيضا : الشيء لا
يقتضي عدم نفسه ، وإلّا لما تحقّق.
وهو ـ جلّ جلاله ـ
وحدانيّ لا شرط له في ذاته ، وما سواه تابع ؛ وإذ لا شرط له ولا مضادّ له ، فلا
مبطل له ؛
فهو إذن قيّوم
دائم. لا يقال له : «متى؟» ، ولا يضرب له أمد ب «حتّى».
سئل مولانا الباقر
عليهالسلام عن الله : «متى كان؟».
فقال : «متى لم
يكن ، حتّى اخبرك : متى كان؟ سبحان من لم يزل ولا يزال فردا ، صمدا ، لم يتّخذ
صاحبة ولا ولدا».
وعن مولانا أمير
المؤمنين عليهالسلام : «إنّما يقال : «متى كان؟» لما لم يكن ؛ فأمّا ما كان ،
فلا يقال : «متى كان؟» ؛ كان قبل القبل بلا قبل. وبعد البعد بلا بعد ، ولا منتهى
غاية لتنتهي غايته».
وقال أيضا : «سبق الأوقات كونه ، والعدم وجوده ، والابتداء أزله».
__________________
فصل [٤]
وإذ ليست له ـ جلّ
جلاله ـ جهة فقر أصلا ، فلا أغنى منه ، ولا أتمّ ، ولا أشدّ ولا أقدم ؛ بل هو غير
متناه فى الغناء والتماميّة والشدّة والتقدّم . إذ لو كان متناهيا في شيء من ذلك ، لكان تتصوّر مرتبة
فوقه ، يكون فاقدا لها ، مفتقرا إليها ـ تعالى عنه وتقدّس ـ فلا يحدّه حدّ ، ولا
يضبطه رسم ، (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ
عِلْماً* وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) [٢٠ / ١١٠ ـ ١١١].
فصل [٥]
وإذ ليس سبحانه
فاقدا لشيء فهو (بِكُلِّ شَيْءٍ
مُحِيطٌ) [٤١ / ٥٤] (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا
هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ
وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ) [٥٨ / ٧] (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) [٥٧ / ٤] (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي
فَإِنِّي قَرِيبٌ) [٢ / ١٨٦] (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ) [٥٦ / ٨٥] (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ
الْوَرِيدِ) [٥٠ / ١٦] (أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ
لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) [٤١ / ٥٤].
__________________
«لو أنّكم أدليتم
بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على الله» .
و : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ
اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ) [٢ / ١١٥].
وفي كتاب التوحيد ، بإسناده عن أمير المؤمنين عليهالسلام : أنّه سئل عن وجه الربّ ـ تبارك وتعالى ، فدعا بنار وحطب
، فأضرمه ، فلمّا اشتعلت ، قال : «أين وجه النّار»؟
قال السائل : «هي
وجه من جميع حدودها».
قال : «هذه النار
مدبّرة مصنوعة ، لا يعرف وجهها ؛ وخالقها لا يشبهها (وَلِلَّهِ
الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) [٢ / ١١٥] ؛ لا
يخفى على ربّنا خافية».
وفيه وفي الكافي بإسناديهما ، عن مولانا الصادق عليهالسلام : أنّه قال رجل عنده : «الله أكبر».
فقال عليهالسلام : «الله أكبر من أيّ شيء»؟
فقال : «من كلّ
شيء».
فقال الصادق عليهالسلام : «حدّدته».
فقال الرجل : «كيف
أقول»؟
__________________
قال : «قل : الله
أكبر ، أكبر من أن يوصف» .
وفي رواية اخرى : «وكان ثمّة شيء ، فيكون أكبر منه».
واعلم أنّ معيّته
ـ سبحانه ـ للأشياء ليست بممازجة ، ولا مداخلة ، ولا حلول ، ولا اتّحاد ، ولا
معيّة في درجة الوجود ، ولا في الزمان ، ولا في الإشارة ، ولا ما يشبه هذه ـ تعالى
الله عن ذلك كلّه علوّا كبيرا .
* * *
__________________
[٤]
باب
صفاته العليا تبارك
وتعالى
(سُبْحانَ رَبِّكَ
رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ)
[٣٧ / ١٨٠]
فصل [١]
[إنّه تعالى كامل
بالذات ومصدر كل كمال]
قال بعض أهل
التحقيق : إنّ كل كمال لموجود بما هو موجود ، فلا بدّ وأن ينتهي إلى كامل بالذّات في ذلك الكمال ،
وكلّ كامل بالذات ـ في كمال ما ـ يجب أن يكون غنيّا بالذات في ذاته إذ لو افتقر في
ذاته إلى الغير لافتقر في كماله أيضا إلى ذلك الغير ـ وهو ظاهر ـ.
__________________
وقد ثبت أنّ
الغنيّ بالذّات في ذاته واحد ، فجميع الكمالات ينتهي إليه. فله ـ سبحانه ـ من كلّ
متقابلين للموجود ـ بما هو موجود ـ أشرفهما ـ على وجه يليق بجلاله ـ وكلّ متقابلين
يكونان كلاهما صفة كمال للموجود ـ بما هو موجود ـ فكلاهما ثابتان له ـ عزوجل ـ على الوجه الأكمل ، كالنعوت الجلاليّة والجماليّة ،
المعبّر عنهما في القرآن المجيد بقوله ـ عزّ اسمه ـ : (ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) [٥٥ / ٢٧] وذلك
مثل اللطف والقهر ، والرحمة والغضب ، والرضا والسخط ـ وغير ذلك ـ ولا يكاد أن
يخلوان عن اشتراك ما ؛ فإنّ تحت كلّ جمال جلالا ـ كالهيمان الحاصل من الجمال
الإلهي من انقهار العقل منه وتحيّره فيه ـ وتحت كلّ جلال جمالا ـ كاللطف المستور
في القهر الإلهي ؛ كما قال ـ عزوجل ـ (وَلَكُمْ فِي
الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ) [٢ / ١٧٩].
وقال مولانا أمير
المؤمنين عليهالسلام : «سبحان من اتّسعت رحمته لأوليائه ، في شدّة نقمته ،
واشتدّت نقمته لأعدائه فى سعة رحمته».
ومن هنا يعلم سرّ
قول نبيّنا صلىاللهعليهوآلهوسلم : «حفّت الجنّة بالمكاره وحفّت النار بالشهوات».
__________________
وصل [٢]
[اتّصافه ـ سبحانه ـ بصفات الجلال
والجمال]
ليس اتّصافه ـ سبحانه
ـ بكلتي المتقابلتين بالذّات ؛ كيف وهما متنافيتان ، وهو الله ـ جلّ جلاله ـ أحديّ
الذات ، بسيط الحقيقة.
بل اتّصافه بالذات
ليس إلا بالصفات الجماليّة ؛ وأمّا الجلاليّة فإنّما يتّصف بها بالإضافة ، فإنّ
للموجودات درجات بعضها فوق بعض ؛ فكلّ ما هو أقرب إليه جلّ جلاله ، فآثار صفات
الجمال عليه أغلب ، وظهورها فيه أكثر ؛ وكلّ ما هو أبعد منه فهو بخلاف ذلك.
فالمغضوب عليه
إنّما هو مغضوب عليه بالإضافة إلى ما درجته أعلى منه ، وليس بمغضوب عليه على
الإطلاق ، كيف ـ ورحمته ـ عزوجل ـ وسعت كلّ شيء ، فإنّ أصل الوجود رحمته.
وكذلك القهر
والبغض والكراهة ـ ونظائرها ـ فإنّها ليست بالنسبة إلى موجود ما ـ على الإطلاق ـ لأن
الوجود كلّه محبوب ومراد ، وهو خير كلّه. وأمّا سرّ هذا الاختلاف : فلتفاوت درجات
المستحقّين بحسب استعداداتهم الذاتيّة ـ كما يأتي تحقيقه ـ.
قال مولانا الباقر
عليهالسلام : «إنّ الله الحليم
العليم إنّما غضبه على من لم يقبل منه رضاه ، وإنّما يمنع من لم يقبل منه عطاه ،
وإنّما يضلّ من لم يقبل منه هداه ... ـ الحديث».
__________________
(ما أَصابَكَ مِنْ
حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) [٤ / ٧٩] (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ كانُوا
أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [١٦ / ٣٣].
ومن هنا يظهر سرّ
قول النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم» : «سبقت رحمته غضبه».
فصل [٣]
[كمالاته تعالى عين ذاته]
ولمّا كانت
كمالاته ـ عزوجل ـ ذاتيّة ، فهي جميعا حاصلة له بالفعل دائما ، وإلا لافتقر
إلى مخرج لها من القوّة إلى الفعل ـ فلم تكن ذاتيّة ـ وللزم التركّب في ذاته ـ عزوجل ـ من جهتي قوّة وفعل ؛ تعالى عنه.
ويجب أن يكون جميعا
عين ذاته وجودا وعينا وفعلا وتأثيرا ؛ بمعنى أنّ ذاته تعالى بذاته يترتّب عليه
آثار جميع الكمالات ، ويكون هو من حيث ذاته مبدءا لانتزاعها منه ، ومصداقا لحملها
عليه ، وإن كانت
__________________
هي غيره من حيث
المفهوم والمعنى ؛ وذلك لجواز أن توجد الأشياء المختلفة والحقائق المتباينة بوجود
واحد.
وإنّما قلنا بوجوب
كونها عينه ـ تعالى ـ بهذا المعنى لأنّها لو كانت زائدة على ذاته ـ تعالى ـ وجودا
لافتقر إليها في حدّ ذاته ، فلا يكون غنيّا بالذات من جميع الجهات ـ تقدّس ربّنا عن
ذلك ـ.
وأيضا : لو كانت
زائدة على ذاته ، لزم أن يكون في حدّ ذاته ناقصا ، فلا يكون غير متناه في
التماميّة ـ تعالى عنه.
وأيضا : لو كانت
زائدة على ذاته ، فلا تخلو إمّا أن تكون مستندة إلى غيره ـ كيف ، وليس ورائه شيء؟!
ـ أو إلى ذاته ـ كيف ، ومفيض الكمال لا يكون قاصرا عنه؟! ـ.
وأيضا : فيضانها
من ذاته على ذاته ، تستدعى جهة أشرف ممّا عليه ذاته ، فيكون ذاته أشرف من ذاته ـ وهذا
محال ـ ... كذا قيل .
أقول : ويلزم أن
يكون ذاته من حيث هو بلا كمال أشرف منه من حيث هو كامل ، لأنّه بالاعتبار الأوّل
مفيض وبالاعتبار الثاني مستفيض ـ وهذا أشنع! ونزيدك في الإيضاح فاسمع :
__________________
فصل [٤]
[الواجب تعالى واجد كل كمال ومفيضه]
قال بعض المحقّقين
ما حاصله أنّه : كما أنّ مفيض الوجود ليس مسلوب الوجود في مرتبة ، فكذلك واهب
الكمال لا يجوز أن يكون ممنوّا في حدّ ذاته ، إذ المفيض لا محالة أكرم وأعلى وأمجد
من المفاض عليه.
فكما أنّ في
الوجود وجودا قائما بالذات ، غير متناه في التأكّد ـ وإلّا لم يتحقّق وجود بالغير
ـ فكذلك يجب أن يكون في العلم علم متأكّد قائم بذاته ، وفي الاختيار اختيار قائم
بذاته ، وفي القدرة قدرة قائمة بذاتها ، وفي الإرادة إرادة قائمة بذاتها ، وفي
الحياة حياة قائمة بذاتها ؛ حتّى يصحّ أن يكون هذه الأشياء في شيء لا بذواتها ـ بل
بغيرها ـ .
فإذن : فوق كلّ ذي
علم عليم بذاته ، وفوق كلّ ذي قدرة قدير بذاته ، وفوق كلّ ذي سمع سميع بذاته ،
وفوق كلّ ذي بصر بصير بذاته ـ إلى غير ذلك من صفات الكمال.
ويجب أن يكون جميع
ذلك واحدا حقيقيّا بالوجود ـ لامتناع تعدّد الغنيّ بالذات ـ فهو الله ـ عزوجل ـ كما قيل : «وجود كلّه ،
__________________
علم كلّه ، وجوب
كلّه ، قدرة كلّه ، حياة كلّه ؛ لا أنّ شيئا منه علم ، وشيئا آخر قدرة ـ ليلزم
التركّب في ذاته ـ ولا أنّ شيئا فيه علم وشيئا آخر فيه قدرة ، ليلزم التكثّر في
صفاته الحقيقيّة ـ».
يعنى أنّ ذاته
بذاته ـ من حيث هو هو ، مع كمال فرديّته ـ منشأ لهذه الصفات ، ومستحقّ لهذه
الأسماء ، لا بحيثيّة اخرى وراء حيثيّة ذاته. وليس هو لأجل اتّصافه بها ذا معان
متميّزة ، متخصّصة بأسماء متعدّدة ؛ بل كما أنّا نقول لكلّ واحد من موجودات
العالم: «إنّه معلومه ، ومقدوره ، ومراده» من غير أن نثبت فيه معان شتّى : فكذلك
نصف موجده بالعلم ، والقدرة ، والإرادة ، مع كونه أحديّا فردا ، بل كلّ صفة من
صفاته عين صفته الاخرى ، وما ندركه بصفة ، يدركه بجميع الصفات ، إذ لا اختلاف
هناك. ونعم ما قيل :
عباراتنا شتّى
وحسنك واحد
|
|
وكلّ إلى ذاك
الجمال يشير
|
* * *
روي في كتاب نهج
البلاغة عن مولانا أمير المؤمنين عليهالسلام أنّه قال : «وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه ، لشهادة كلّ
صفة أنّها غير الموصوف ، وشهادة كلّ موصوف أنّه غير الصفة. فمن وصف الله غير
الموصوف ، وشهادة كلّ موصوف أنّه غير الصفة. فمن وصف الله ـ سبحانه ـ فقد قرنه ،
ومن قرنه فقد ثنّاه ، ومن ثنّاه فقد جزّأه ، ومن جزّأه فقد جهله ...».
ـ الحديث ، ويأتي
تمامه فيما بعد إن شاء الله تعالى ـ.
__________________
وفي كتاب التوحيد : بإسناده الصحيح ، عن هشام بن سالم ، قال : دخلت على أبي
عبد الله عليهالسلام ، فقال لي : «أتنعت الله»؟
قلت : «نعم».
قال : «هات».
فقلت : «هو السميع
البصير».
قال : «هذه صفة
يشترك فيها المخلوقون».
قلت : «فكيف تنعته»؟
فقال : «هو نور لا
ظلمة فيه ، وحياة لا موت فيه ، وعلم لا جهل فيه ، وحق لا باطل فيه».
فخرجت من عنده
وأنا أعلم الناس بالتوحيد.
وبإسناده عن
مولانا الصادق عليهالسلام ـ قال : ـ «هو نور ليس فيه ظلمة ، وصدق ليس فيه كذب ، وعدل
ليس فيه جور ، وحق ليس فيه باطل ؛ كذلك لم يزل ولا يزال ، أبد الآبدين ، وكذلك كان
إذ لم يكن أرض ولا سماء ، ولا ليل ولا نهار ، ولا شمس ولا قمر ولا نجوم ، ولا سحاب
ولا مطر ولا رياح.
وبإسناده عن
مولانا الكاظم عليهالسلام ـ قال : ـ «علم الله لا يوصف منه بأين ، ولا يوصف العلم من
الله بكيف ، ولا يفرد العلم من الله ، ولا يبان الله منه ، وليس بين الله وبين
علمه حدّ».
__________________
وبإسناده عن محمد بن عروة ـ قال : ـ قلت للرضا عليهالسلام : «خلق الله الأشياء بقدرة ، أم بغير قدرة »؟ فقال : «لا يجوز أن يكون خلق الأشياء بالقدرة ، لأنّك
إذا قلت : «خلق الأشياء بالقدرة» فكأنّك قد جعلت القدرة شيئا غيره ، وجعلتها آلة
له بها خلق الأشياء ، وهذا شرك ؛ وإذا قلت : «خلق الأشياء بقدرة» فإنّما تصفه أنّه
جعلها باقتدار عليها وقدرة ، ولكن ليس هو بضعيف ولا عاجز ولا محتاج إلى غيره».
وبإسناده عن
مولانا الباقر عليهالسلام أنّه قال : «سميع بصير ؛ يسمع بما يبصر ، ويبصر بما يسمع».
وقال : «واحد [أحد صمد] أحديّ المعنى ، ليس بمعان كثيرة مختلفة».
وبإسناده عن
مولانا الصادق عليهالسلام : «هو سميع بصير ؛ سميع بغير جارحة ، وبصير بغير آلة ؛ بل
سميع لنفسه ، وبصير لنفسه. وليس قولي :
__________________
«يسمع لنفسه» أنّه
شيء والنفس شيء آخر ولكن أردت عبارة عن نفسى ـ إذ كنت مسئولا ـ وإفهاما لك ـ إذ
كنت سائلا ـ فأقول : يسمع بكلّه ، لا أنّ كلّه له بعض ؛ ولكن أردت إفهامك والتعبير
عن نفسي ، وليس مرجعي في ذلك إلّا أنه السميع البصير ، العالم الخبير ، بلا اختلاف الذات ولا اختلاف معنى».
وبإسناده عنه عليهالسلام : ـ إنّه قيل له : «إنّ رجلا ينتحل موالاتكم أهل البيت ،
يقول : إنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ لم يزل سميعا بسمع ، وبصيرا ببصر ، وعليما بعلم
، وقادرا بقدرة» ؛ فغضب عليهالسلام ثمّ قال : ـ «من قال بذلك ودان به ، فهو مشرك ، وليس من
ولايتنا على شيء ، إنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ ذات علّامة ، سميعة ، بصيرة ، قادرة».
وفى رواية اخرى عن
مولانا الرضا عليهالسلام : «من قال ذلك ودان به ، فقد اتّخذ مع الله آلهة اخرى ،
وليس من ولايتنا على شيء» ـ ثمّ قال عليهالسلام : ـ «لم يزل الله ـ عزوجل ـ عليما ، قادرا ، حيّا ، قديما سميعا ، بصيرا لذاته ـ تعالى
عمّا يقول المشركون والمشبّهون علوّا كبيرا».
__________________
فصل
[٥]
[رجوع الإضافات والسلوب فيه تعالى إلى
إضافة وسلب واحد]
وكذلك لا يجوز أن
يلحقه سبحانه إضافات مختلفة توجب اختلاف حيثيّات فيه ، بل له إضافة واحدة ـ وهي
المبدئيّة ـ تصحّح جميع الإضافات ، كالرزاقيّة والمصوّريّة ونحوهما.
ولا سلوب كذلك ،
بل له سلب واحد يتبعه جميعها ، وهو سلب الفقر ؛ فإنّه يدخل تحته سلب الجسميّة
والعرضيّة وغيرهما ؛ كما يدخل تحت سلب الجماديّة من الإنسان سلب الحجريّة
والمدريّة عنه.
فصل
[٦]
[نسبته تعالى إلى جميع ما سواه نسبة
واحدة]
ثمّ إنّ نسبة ذاته
ـ سبحانه ـ وأسمائه الحسنى إلى ما سواه من الفاقرات ، تمتنع أن تختلف المعيّة
واللامعيّة ، والإفاضة واللاإفاضة ؛ وإلّا فيكون بالفعل مع بعض ، وبالقوّة مع
آخرين ؛ فتتركّب ذاته من جهتي فعل وقوّة ، وتتغيّر صفاته حسب تغيّر المتجدّدات
والمتعاقبات ـ تعالى عن ذلك ـ
بل نسبة ذاته ـ التي
هي فعليّة صرفة وغناء محض من جميع
__________________
الوجوه ـ إلى
الجميع ـ وإن كان من الحوادث الزمانيّة ـ نسبة واحدة إيجابيّة ، ومعيّة قيّوميّة
ثابتة غير زمانيّة ولا متغيّرة أصلا ؛ والكلّ عنده واجبات ، وبغنائه بقدر
استعداداتها مستغنيات ، كلّ في وقته ومحلّه وعلى حسب طاقته ؛ وإنّما إمكانها
وفقرها بالقياس إلى ذواتها وقوابل ذواتها ، وليس هناك إمكان وقوّة البتة.
فالمكان
والمكانيّات بأسرها ـ بالنسبة إليه سبحانه ـ كنقطة واحدة في معيّة الوجود (وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) [٣٩ / ٦٧] والزمان
والزمانيّات ـ بآزالها وآبادها ـ كآن واحد عنده في ذلك.
«جفّ القلم بما هو
كائن» .
__________________
«ما من نسمة كائنة
إلّا وهي كائنة» .
والموجودات كلّها
ـ شهاديّاتها وغيبيّاتها ـ كموجود واحد في الفيضان عنه (ما خَلْقُكُمْ وَلا
بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) [٣١ / ٢٨]. وإنّما
التقدّم والتأخّر ، والتجدّد والتصرّم ، والحضور والغيبة ، في هذه كلّها بقياس
بعضها إلى بعض وفي مدارك المحبوسين في مطمورة الزمان ، المسجونين في سجن المكان ـ لا
غير ـ وإن كان هذا لممّا يستغربه الأوهام ، ويشمئزّ عنه قاصروا الأفهام.
وأمّا قوله عزوجل : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ
فِي شَأْنٍ) [٥٥ / ٢٩] فهو كما
قاله بعض أهل العلم : «إنّها شئون يبديها ، لا شئون يبتديها» ـ فافهم.
فصل [٧]
روي في كتاب
التوحيد ـ بإسناده الصحيح ـ عن مولانا الصادق عليهالسلام أنّه سئل عن قول الله عزوجل : (الرَّحْمنُ عَلَى
الْعَرْشِ
__________________
اسْتَوى) [٢٠ / ٥] قال : «استوى
من كلّ شيء فليس شيء أقرب إليه من شيء ؛ لم يبعد منه بعيد ، ولم يقرب منه قريب ؛
استوى من كلّ شيء».
وفي الكافي
بإسناده مثله .
وفيه بإسناده عن
مولانا الهادي النقي عليهالسلام قال : «الأشياء كلّها له سواء ، علما وقدرة وملكا وإحاطة».
فصل
[٨]
[نسبة علمه تعالى إلى الحاضر والغائب
سواء]
قد ظهر ممّا ذكر
أنّ إلهيّته جلّ وعزّ ثابتة له في الأزل ، وهو تامّ الفاعليّة فيه ؛ وكذلك
عالميّته وسمعه وبصره وغير ذلك من الصفات.
فإنّه سبحانه أدرك
الأشياء جميعا إدراكا تامّا ، وأحاط بها إحاطة كاملة ، فهو عالم بأنّ أيّ حادث
يوجد في أيّ زمان من الأزمنة ، وكم يكون بينه وبين الحادث الذي بعده أو قبله من
المدّة ، ولا يحكم بالعدم على شيء من ذلك ؛ بل بدل ما نحكم بأنّ الماضي ليس موجودا
في الحال ، يحكم هو بأنّ كلّ موجود في زمان معيّن لا يكون موجودا في غير ذلك
الزمان ، من الأزمنة التي تكون قبله أو بعده.
__________________
وهو عالم بأنّ كلّ
شخص في أيّ جزء يوجد من المكان ، وأيّ نسبة تكون بينه وبين ما عداه ، ممّا يقع في
جميع جهاته ، وكم الأبعاد بينهما على الوجه المطابق للحكم.
ولا يحكم على شيء
بأنّه موجود الآن أو معدوم ، أو موجود هناك أو معدوم ، أو حاضر أو غائب ؛ لأنّه عزوجل ليس بزمانيّ ولا مكانيّ ، بل بكلّ شيء محيط أزلا وأبدا (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما
خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ) [٢ / ٢٥٥].
فصل [٩]
قال مولانا أمير
المؤمنين عليهالسلام : «لم تسبق له حال حالا ، فيكون أوّلا قبل أن يكون آخرا ،
ويكون ظاهرا قبل أن يكون باطنا».
وقال عليهالسلام : «علمه بالأموات الماضين ، كعلمه بالأحياء الباقين ،
وعلمه بما في السماوات العلى كعلمه بما في الأرضين السفلى».
وعن مولانا الباقر
عليهالسلام : «كان الله ولا شيء غيره ، ولم يزل عالما بما يكون ،
فعلمه به قبل كونه ، كعلمه به بعد كونه».
__________________
وعن مولانا الرضا عليهالسلام : «له معنى الربوبيّة إذ لا مربوب ، وحقيقة الإلهيّة إذ لا
مألوه ، ومعنى العالم ولا معلوم ، ومعنى الخالق ولا مخلوق ، وتأويل السمع ولا
مسموع ؛ ليس منذ خلق استحقّ معنى الخالق ، ولا بإحداثه البرايا استفاد معنى
البرائيّة ؛ كيف ولا تعيّنه «مذ» ولا تدنيه «قد»
، ولا تحجبه «لعلّ» ، ولا توقته «متى» ولا تشمله «حين» ولا تقارنه «مع» ...» ـ الحديث
ـ .
وعن مولانا الصادق
عليهالسلام ـ قال ـ : «لم يزل الله ـ جلّ وعزّ
__________________
ربّنا ـ والعلم
ذاته ولا معلوم ، والسمع ذاته ولا مسموع ، والبصر ذاته ولا مبصر ، والقدرة ذاته
ولا مقدور ؛ فلمّا أحدث الأشياء ـ وكان المعلوم ـ وقع العلم منه على المعلوم ،
والسمع على المسموع ، والبصر على المبصر ، والقدرة على المقدور».
فصل
[[١٠
[صفاته تعالى ذاتية]
وإذ ثبت أنّ
كمالاته سبحانه ليست بأمر زائد على ذاته ، وأنّها ثابتة له في الأزل ، ظهر أنّ
مجده وعلوّه تعالى في الفاعليّة والعالميّة والقادريّة ـ ونحوها من صفات الكمال ـ ليس
بالمعنى الإضافي الذي هو متأخّر عن ذاته ، وعن وجود ما أضيفت هي إليه ؛
بل علوّه ومجده في
هذه الصفات إنّما هو بمبادئ تلك الإضافات ، المتقدّمة على وجود ما تعلّقت هي به ـ وهي
كونه في ذاته بحيث تنشأ منه هذه الصفات ـ وهو سبحانه إنّما هو كذلك بنفس ذاته.
فإذن : علوّه
ومجده في صفاته العليا ليس إلّا بذاته ـ لا غير.
* * *
__________________
فصل [١١]
[علمه تعالى بذاته]
وإذ هو سبحانه
بسيط الحقيقة منزّه الذات عن الموضوع والمادّة والعوارض وسائر ما يجعل الذات بحال
زائدة ، ويريها على غير ما هي عليه : فلا ليس له ، فهو صراح ، وذاته غير محتجبة عن ذاته ؛
فهو ظاهر بذاته
على ذاته ،
فهو يدرك ذاته
أشدّ إدراك ، ويعلمها أتمّ علم ، لظهورها له أشدّ ظهور.
بل لا نسبة لعلمه
بذاته إلى علوم من سواه بذواتهم ، كما لا نسبة بين وجوده ووجودات الأشياء ، حيث هو
وراء ما لا يتناهى ، بما لا يتناهى .
__________________
فصل [١٢]
[علمه تعالى بغيره]
ولمّا كان ذاته
تعالى فاعلا تامّا لجميع ما عداه ، ومبدأ لفيضان كلّ إدراك ـ حسيّا كان أو عقليّا
ـ ومنشأ لكلّ ظهور ـ عينيّا كان أو ذهنيّا ـ إمّا بدون واسطة أو بواسطة هي منه ،
وفاعليّته عين ذاته ، إذ هي من الكمالات ، والعلم التامّ بالفاعل التامّ للشيء من
حيث حقيقته التي بها فاعل يستلزم العلم بكونه فاعلا لذلك الشيء ، وهو مستلزم للعلم
بذلك الشيء :
فهو سبحانه عالم
بجميع الموجودات قاطبة ،
(لا يَعْزُبُ عَنْهُ
مِثْقالُ ذَرَّةٍ) [٣٤ / ٣] في الارض
ولا في السماء ،
(وَما تَخْرُجُ مِنْ
ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا
بِعِلْمِهِ) [٤١ / ٤٧] ،
(وَما تَسْقُطُ مِنْ
وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها) [٦ / ٥٩] ،
(أَلا يَعْلَمُ مَنْ
خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [٦٧ / ١٤].
* * *
__________________
فصل
[١٣]
[علمه تعالى بالمحسوسات]
ولمّا ثبت علمه
سبحانه بالجزئيّات على ما هي عليه ـ ومن جملتها المسموعات ، من الحروف والأصوات ،
والمبصرات ، ذوات الأضواء والألوان ـ فهو سبحانه يدركها لا محالة ـ بلا آلة وجارحة
ـ ولكن إدراكا حقّا بنفس ذاته النوري ، الذي يظهر ويتنوّر به جميع الأشياء ، كما
يدرك سائر المحسوسات كذلك.
فذاته سبحانه ـ بهذا
الاعتبار ـ سمعه وبصره (وَهُوَ السَّمِيعُ
الْبَصِيرُ) [١٧ / ١].
وأمّا عدم ورود
توصيفه تعالى بالشام والذائق واللامس ـ مع علمه سبحانه بالمشمومات والمذوقات
والملموسات ـ فلإيهامه التجسّم ـ تعالى عنه ربّنا وتقدّس.
سئل مولانا الجواد
عليهالسلام : «كيف يسمّى ربّنا سميعا»؟
__________________
قال : «لأنّه لا
يخفى عليه ما يدرك بالأسماع ، ولم نصفه بالسمع المعقول في الرأس ، وكذلك سمّيناه
بصيرا لأنّه لا يخفى عليه ما يدرك بالأبصار من لون وشخص وغير ذلك ـ ولم نصفه بنظر
لحظ العين ».
فصل [١٤]
[إنّه تعالى مختار]
وإذ ثبت أنّ
الوجود كلّه فعله سبحانه ، لا مدخل لغيره فيه ، وقد صدر عنه على وفق علمه ـ صدورا
غير مستكره ولا مقهور ولا مغلوب ولا مضرور ـ
فبان أنّه سبحانه
على كلّ شيء قدير وبكلّ شيء بصير ؛
وأنّه سبحانه
مختار في فعله اختيارا أجلّ وأعلى من اختيارنا ، لأنّ الاختيار فينا ناقص مشوب
بنحو من الاضطرار ، وذلك لتجدّد الأغراض ، واختلاف الدواعي ، وتفنّن الإرادات ،
وسنوح الحالات فينا ، والمرجّح إنّما يرد علينا من خارج ـ كما يأتي تحقيقه ـ بخلافه جلّ جلاله ، فإنّ صفاته جميعا نفس ذاته المقدّسة
عن التغيّر والحدثان.
* * *
__________________
فصل [١٥]
[إرادته تعالى]
وأمّا إرادته
سبحانه : فهي من حيث نسبتها إليه سبحانه عين ذاته جلّ وعزّ ، وأمّا من حيث إضافتها
إلى المراد فإنّها محدثة ، إلّا أنّها ليست كإرادتنا مقدّمة على الفعل ، بل هي
هناك نفس الفعل والإيجاد.
قال مولانا الكاظم
عليهالسلام : «الإرادة من المخلوق الضمير وما يبدو له بعد ذلك من
الفعل ، وأمّا من الله ـ عزوجل ـ فإرادته إحداثه لا غير ذلك ، لأنّه لا يروّي ولا يهمّ
ولا يتفكّر ، وهذه الصفات منفيّة عنه ، وهي من صفات الخلق ، فإرادة الله ـ تعالى ـ
هي الفعل ، لا غير ؛ يقول له : «كن» فيكون ، بلا لفظ ولا نطق بلسان ولا همّة ولا
تفكّر ، ولا كيف لذلك ؛ كما أنّه بلا كيف» ـ رواه في كتاب التوحيد ـ.
قال الله ـ عزوجل ـ : (إِنَّما أَمْرُهُ
إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [٣٦ / ٨٢].
__________________
فصل [١٦]
[قدرته تعالى وكيفيّة نسبة الخير والشر
إليه]
فقدرته تعالى
عبارة عن كون ذاته بذاته بحيث تصدر عنه الموجودات لأجل علمه بنظام الخير ـ الذي هو
عين ذاته ـ. ولا يعتبر في القدرة إلّا تعيّن الفعل بالمشيّة ، سواء كانت المشيّة
يصحّ عليها التغيّر ، أو لا.
فالقادر من إن شاء
فعل ، وإن لم يشأ لم يفعل ـ سواء شاء ففعل دائما ، أو لم يشأ فلم يفعل ـ والشرطيّة
غير معلّقة الصحّة بصدق كلّ من طرفيها ، بل قد يصحّ أن يكون أحد طرفيها ، أو
كلاهما ممّا يكذب ـ كما حقّق في محلّه ـ.
وإرادته تعالى
بالنسبة إليه سبحانه عبارة عن كون ذاته بذاته داعيا الصدور الموجودات عنه على وجه
الخير والصلاح ، لأجل علمه بالنظام الأوفق.
فإذا نسبت إليه
الموجودات من حيث أنّها صادرة عن علمه : كان علمه بهذا الاعتبار «قدرة».
وإذا نسبت إليه من
حيث أنّ علمه كاف في صدورها : كان علمه بهذا الاعتبار «إرادة».
__________________
وعدم إرادته
سبحانه الشرور مع إحاطة علمه بكلّ شيء لا تنافي كون إرادته الخير عين علمه ـ عزوجل ـ فإنّ وزان إرادته بالنسبة إلى صفة العلم ، وزان السمع
والبصر بعينه ؛ فكما أنّ السمع سمع لكلّ مسموع ـ لا لكلّ شيء ـ والبصر بصر بالقياس
إلى كلّ مبصر ـ لا كلّ شيء ـ فكذلك إرادته الحقّة ؛
فذاته سبحانه علم
بكلّ شيء ممكن ، وإرادة لكلّ خير ممكن ، وسمع لكلّ شيء مسموع ، وبصر لكلّ شيء مبصر
، وقدرة على كلّ شيء مقدور عليه.
مع أنّ الشرور
أيضا مرادة ومقتضية بالعرض ، أي بما هي لوازم للخيرات الغالبة عليها ـ وإن لم تكن
مرادة بالذات ، أي بما هي شرور ـ وهي من حيث تبعيّتها للخيرات خيرات ومرادة ، كما
أنّها معلومة ، فلم تخرج عن إحاطة الإرادة بها ، كما أنّها لم تخرج عن إحاطة العلم
بها.
* * *
فصل [١٧]
[شمول إرادته تعالى]
ولمّا كانت إرادته
سبحانه بالنسبة إلى المراد نفس الإيجاد ، فكلّما أراد شيئا وجد ، فقدرته عامّة
وسعت كلّ شيء.
وأمّا الممتنع
فليس بشيء حتّى يسعه القدرة ، فعدم دخوله تحت الوجود ليس نقضا على ذلك ، ولا نقصا
على الله سبحانه وتعالى .
روي في كتاب
التوحيد بإسناده عن مولانا الصادق عليهالسلام ، قال : قيل لأمير المؤمنين عليهالسلام : «هل يقدر ربّك أن يدخل الدنيا في بيضة من غير أن يصغر
الدنيا ، أو يكبر البيضة»؟
قال : «إنّ الله
تبارك وتعالى لا ينسب إلى العجز ، والذي سألتني لا يكون».
__________________
وبإسناده عنه عليهالسلام ـ قال ـ : جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليهالسلام فقال : «أيقدر الله أن يدخل الأرض في بيضة ولا يصغر الأرض
ولا يكبر البيضة»؟ فقال له : «ويلك ، إنّ الله لا يوصف بالعجز ، من أقدر ممّن
يلطّف الأرض ، ويعظّم البيضة»؟
وبإسناده عن
مولانا الرضا عليهالسلام أنّه سئل : «هل يقدر ربّك أن يجعل السماوات والأرض وما
بينهما في بيضة»؟ قال : «نعم ، وفي أصغر من البيضة ؛ قد جعلها في عينك وهي أقلّ من
البيضة ، لأنّك إذا فتحتها عاينت السماء والأرض ، وما بينهما ، ولو شاء لأعماك
عنها».
أقول : وقد صدر
مثل هذا الجواب عن مولانا الصادق عليهالسلام أيضا ـ كما روي فيه وفي الكافي ـ ولكنّه جواب جدليّ مسكت ، ناسب فهم السائل ، وإنّما صدر
من محلّ الخلافة النبويّة ، امتثالا لقوله سبحانه : (وَجادِلْهُمْ
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [١٦ / ١٢٥].
وأمّا الجواب
الحقّ فهو الجواب الأوّل ، الصادر عن مولانا أمير المؤمنين عليهالسلام واختلاف الأجوبة ، إنّما تكون لاختلاف أفهام السائلين ـ والعلم
عند الله ـ.
__________________
فصل [١٨]
[حياته تعالى]
حياته سبحانه
عبارة عن نوريّته المحضة ، المستلزمة للإدراك والفعل ، فإنّ الحيّ هو الدرّاك
الفعّال ، ولمّا كانت الصفتان عين ذاته تعالى ، فذاته بذاته حياته ، وكلّ حياة
غيرها فإنّما هي رشحة من حياته ، وهو الحيّ بالحقيقة ـ لا إله إلّا هو.
فصل [١٩]
[تكلّمه سبحانه]
تكلّمه ـ سبحانه ـ
عبارة عن كون ذاته تعالى بحيث يقتضي إلقاء الكلام الدالّ على المعنى المراد ،
لإفاضته ما في قضائه السابق ، من مكنونات علمه على من يشاء من عباده ، فإنّ
المتكلّم عبارة عن موجد الكلام ، والتكلّم فينا ملكة قائمة بذواتنا ، بها نتمكّن
من إفاضة مخزوناتنا العلميّة على غيرنا ، وفيه ـ سبحانه ـ عين ذاته ، إلّا أنّه
باعتبار كونه من صفات الفعل متأخّر عن ذاته.
قال مولانا الصادق
عليهالسلام : «إنّ الكلام صفة محدثة ليست بأزليّة ؛ كان الله ـ عزوجل ـ ولا متكلّم».
__________________
أقول : وهذا مثل
قولهم عليهالسلام : «كان الله ولم يكن معه شيء».
وتمام الكلام في
كلامه ـ عزوجل ـ يأتي في مباحث الكتب والرسل ـ إن شاء الله.
فصل [٢٠]
[محبّته سبحانه للعبد ومحبّة العبد له]
محبّته سبحانه
للعبد عبارة عن كشفه الحجاب عن قلبه ـ حتّى يراه بقلبه ـ وعن تمكينه إيّاه من
القرب إليه ، وإرادته ذلك به في الأزل.
فحبّه لمن أحبّه
أزليّ مهما اضيف إليه الإرادة الأزليّة التي اقتضت ذلك ، وإذا اضيف إلى فعله الذي
يكشف به الحجاب عن قلب عبده : فهو حادث يحدث بحدوث السبب المقتضي له ، كما قال
تعالى : «لا يزال العبد يتقرّب إليّ بالنوافل حتّى احبّه». فيكون تقرّبه بالنوافل
سببا لصفاء باطنه ، وارتفاع الحجاب عن قلبه ، وحصوله في درجة القرب من ربّه.
ومحبّة العبد لله
تعالى ميله إلى درك هذا الكمال ، الذي هو مفلس
__________________
عنه ، فاقد له ؛
فلا جرم يشتاق إلى ما فاته منه ، وإذا أدرك منه شيئا يلتذّ به. والشوق والمحبّة ـ بهذا
المعنى ـ محال على الله تعالى.
فصل [٢١]
[اختلاف مفهوم الكلمة عند إطلاقه عليه
تعالى وعلى غيره]
كلّ ما يطلق عليه
سبحانه وعلى غيره ، فإنّما يطلق عليهما بمعنيين مختلفين ليسا في درجة واحدة ، حتّى
أنّ «الوجود» الذي هو أعمّ الأشياء اشتراكا ، لا يشمله وغيره على نهج واحد ؛ بل
كلّ ما سواه وجوداتها ظلال وأشباح محاكية لوجوده سبحانه.
وهكذا في سائر
صفاته ـ كالعلم والقدرة والإرادة والمحبّة والرحمة والغضب والحياء وغيرها ـ فكلّ
ذلك لا يشبه فيه الخالق الخلق ، بل هو في حقّ الخلق يصحبه نقص وشين ؛ بخلافه في
حقّ الخالق ، فإنّه مقدّس عن القصورات والنقائص ؛ وإنّما يطلق في حقّه ـ تعالى ـ باعتبار
غاياتها التي هي الكمالات ـ دون مبادئها التي هي النقائص.
وواضع اللغات
إنّما وضع هذه الأسامي أولا للخلق ، لأنّها أسبق إلى العقول والأفهام ؛ وفهم
معانيها في حقّه تعالى عسر جدّا ، وبيانها أعسر منه ، بل كلّ ما قيل في تقريبه إلى
الأفهام فهو تبعيد له من وجه.
ولعلّ إلى هذا
المعنى أشار من قال : «من عرف الله كلّ لسانه» .
__________________
فصل [٢٢]
[استحالة معرفة كنه صفاته تعالى]
بل الحقّ أنّه كما
لا يجوز لغيره سبحانه الإحاطة بمعرفة كنه ذاته تعالى ، فكذلك لا يجوز له الإحاطة
بمعرفة كنه صفاته عزوجل ، وكلّ ما وصفه به العقلاء فإنّما هو على قدر أفهامهم
وبحسب وسعهم ، فإنّهم إنّما يصفونه بالصفات التي ألفوها وشاهدوها في أنفسهم ، مع
سلب النقائص الناشئة من انتسابها إليهم بنوع من المقايسة ، ولو ذكر لهم من صفاته عزوجل ما ليس لهم ما يناسبه بعض المناسبة ، لم يفهموه ؛ فتوصيفهم
إيّاه سبحانه إنّما هو على قدرهم ، لا على قدره ؛ وبحسبهم ، ليس بحسبه ؛ جلّ جلاله
عمّا يصفون ، وتعالى شأنه عمّا يقولون ، (وَما قَدَرُوا اللهَ
حَقَّ قَدْرِهِ).
كيف ، وقد قال
سيّدنا ونبيّنا سيّد الخلائق وأشرف النبيّين ـ صلوات الله عليه وعليهم أجمعين ـ : «لا احصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك». وما أحسن
ما قال مولانا الباقر عليهالسلام : «هل سمّي
__________________
عالما وقادرا إلّا
لأنّه وهب العلم للعلماء والقدرة للقادرين؟ وكلّ ما ميّزتموه بأوهامكم في أدقّ
معانيه مخلوق مصنوع مثلكم ، مردود إليكم ، والباري تعالى واهب الحياة ومقدّر الموت
؛ ولعلّ النمل الصغار تتوهّم أنّ لله تعالى زبانيتين ـ فإنّهما كمالها ـ وتتصوّر
أنّ عدمهما نقصان لمن لا يكونان له ؛ هكذا حال العقلاء فيما يصفون الله تعالى به
فيما أحسب ، وإلى الله المفزع» . ـ انتهى كلامه صلوات الله عليه.
وعن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : «إنّ الله لا يشبه شيئا ولا يشبهه شيء ، وكلّ ما وقع في
الوهم فهو بخلافه» .
فسبحانه سبحانه ،
ما أعلى شأنه ، وأبهر برهانه ، وأعظم امتنانه.
__________________
[٥]
باب
نبذ من نعوته جلّ
ذكره
(لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ)
[٤٢ / ١١]
فصل [١]
قد ورد في القرآن
المجيد وأحاديث أهل البيت عليهمالسلام من نعت الله ـ سبحانه ـ وتوحيده وتقديسه وتمجيده كلمات
وعبارات تحتوى من الأسرار والمعارف ما لا يصل كلّ أحد إليه ، ولا يمكن المزيد عليه
ـ سيّما عن مولانا أمير المؤمنين وسيّد الموحّدين ـ صلوات الله عليه ـ فإنّ كلامه
في التوحيد والعدل ويتضمّن ـ مع عجائب البلاغة وغرائب الفصاحة ـ من الإشارات
والتنبيهات على أسرار العلوم ، ما هو بلال كلّ غلّة وجلاء كلّ شبهة .
فأردنا أن نورد
نبذا من ذلك تأييدا لما أسلفناه ، وتشييدا لما أصّلناه ، وليزداد الطالب بصيرة في
معرفة الله وآياته.
__________________
وليعلم أنّ جلّ ما
أدركته العقول مقتبس من أنوار الشرع ومرموزاته بل لا يمكن المزيد على ما جاءت به
الشرائع ؛ خصوصا شرع نبيّنا صلىاللهعليهوآلهوسلم فانه لا أتمّ منه ولا أحكم.
رويا في كتابي
الكافي والتوحيد بإسناديهما ، عن عاصم بن حميد ـ قال ـ : سئل على بن الحسين
عليهماالسلام عن التوحيد ، فقال :
«إنّ الله ـ عزوجل ـ علم أنّه يكون في آخر الزمان أقوام متعمّقون ، فأنزل
الله : (قُلْ هُوَ اللهُ
أَحَدٌ) والآيات من سورة الحديد إلى قوله : (عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) فمن رام وراء ذلك ، فقد هلك».
ونبدأ أولا بكلام
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم المرويّ في كتاب التوحيد ، ثمّ كلام أمير المؤمنين عليهالسلام المرويّ فيه وفي الكافي ، ثمّ سائر كلماته ـ صلوات الله
عليه وآله ـ المنقولة من نهج البلاغة ، إلّا ما نضيفه إلى غيره. وأمّا كلمات سائر
أهل البيت ـ عليهمالسلام ـ فقد أوردناها في مواضعها متفرّقة ، وكذا بعض الآيات
القرآنيّة ، مع أنّها مستغنية عن الذكر.
__________________
فصل [٢]
قال النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
:
«الحمد لله الذي
كان في أوّليّته وحدانيّا ، وفي أزليّته متعظّما بالإلهيّة ، متكبّرا بكبريائه
وجبروته ؛
ابتدأ ما ابتدع ،
وأنشأ ما خلق على غير مثال كان سبق لشيء ممّا خلق ، ربّنا القديم بلطف ربوبيّته
وبعلم خبره فتق ، وبإحكام قدرته خلق جميع ما خلق ، وبنور الإصباح فلق ؛
فلا مبدّل لخلقه ،
ولا مغيّر لصنعه ، ولا معقّب لحكمه ، ولا رادّ لأمره ولا مستزاح عن دعوته ، ولا
زوال لملكه ، ولا انقطاع لمدّته ؛ وهو الكينون أوّلا ، والديموم أبدا.
المحتجب بنوره ـ دون
خلقه ـ في الافق الطامح ، والعزّ الشامخ ، والملك الباذخ ، فوق كلّ شيء علا ومن كلّ شيء دنا ، فتجلّى لخلقه من غير
أن يكون يرى ، وهو بالمنظر الأعلى.
فأحبّ الاختصاص
بالتوحيد إذ احتجب بنوره ، وسما في علوّه واستتر عن خلقه ، وبعث إليهم الرسل ،
ليكون له الحجّة البالغة على
__________________
خلقه ، ويكون رسله
إليهم شهداء عليهم ، وانبعث فيهم النبيّين مبشّرين ومنذرين ، ليهلك من هلك عن بيّنة ،
ويحيى من حيّ عن بيّنة ، وليعقل العباد عن ربّهم ما جهلوه ، فيعرفوه بربوبيّته بعد
ما أنكروا ، ويوحّدوه بالإلهيّة بعد ما عندوا».
فصل [٣]
وقال مولانا أمير المؤمنين عليهالسلام
:
«الحمد لله الواحد
الأحد الصمد المتفرّد ، الذي لا من شيء كان ولا من شيء خلق ما كان ؛
قدرة بان بها من الأشياء وبانت الأشياء منه ، فليست له صفة تنال
، ولا حدّ تضرب له فيه الأمثال ؛
كلّ دون صفاته
تحبير اللغات ، وضلّ هناك تصاريف الصفات ، وحار في ملكوته عميقات مذاهب التفكير ،
وانقطع دون الرسوخ في علمه جوامع التفسير ، وحال دون غيبه المكنون حجب من الغيوب ،
__________________
تاهت في أدنى
أدانيها طامحات العقول في لطيفات الامور.
فتبارك الذي لا يبلغه بعد الهمم ولا يناله غوص الفطن ، وتعالى
الذي ليس له وقت معدود ولا أجل ممدود ولا نعت محدود ، وسبحان الذي ليس له أوّل
مبتدأ ، ولا غاية منتهى ، ولا آخر يفنى ؛
سبحانه ، هو كما
وصف نفسه ، والواصفون لا يبلغون نعته.
حدّ الأشياء كلّها
عند خلقه إبانة لها من شبهه ، وإبانة له من شبهها ؛
فلم يحلل فيها
فيقال : «هو فيها كائن» ؛
ولم ينأ عنها
فيقال : «هو منها بائن» ؛
ولم يخل منها
فيقال له : «أين»؟ ؛
لكنّه ـ سبحانه ـ أحاط
بها علمه ، وأتقنها صنعه ، وأحصاها حفظه.
لم يعزب عنه
خفيّات غيوب الهواء ، ولا غوامض مكنون ظلم الدجى ، ولا ما في السماوات العلى إلى
الأرضين السفلى ؛ لكلّ شيء منها حافظ ورقيب ، وكلّ شيء منها بشيء محيط ،
والمحيط بما أحاط
منها الواحد الأحد الصمد ، الذي لا يغيّره صروف الأزمان ، ولا يتكادّه صنع شيء كان
؛ إنّما قال لما شاء : «كن» ، فكان.
ابتدع ما خلق بلا
مثال سبق ، ولا تعب ولا نصب ؛
__________________
وكلّ صانع شيء فمن
شيء صنع ، والله لا من شيء صنع ما خلق ؛ وكلّ عالم فمن بعد جهل تعلّم ، والله لم
يجهل ولم يتعلّم.
أحاط بالأشياء
علما قبل كونها ، فلم يزدد بكونها علما ، علمه بها قبل أن يكوّنها كعلمه بعد
تكوينها ؛
لم يكوّنها لتشديد
سلطان ، ولا خوف من زوال ولا نقصان ، ولا استعانة على ضدّ مناو ولا ندّ مكاثر ولا
شريك مكابر ؛ لكن خلائق مربوبون ، وعباد داخرون.
فسبحان الذي لا
يؤده خلق ما ابتدع ولا تدبير ما برأ ، ولا من عجز ولا من فترة بما خلق اكتفى ؛
علم ما خلق ، وخلق
ما علم ؛ لا بالتفكير في علم حادث أصاب ما خلق ، ولا شبهة دخلت عليه فيما لم يخلق ؛
لكن قضاء مبرم ،
وعلم محكم ، وأمر متقن.
توحّد بالربوبيّة
وخصّ نفسه بالوحدانيّة ، واستخلص بالمجد والثناء ، وتفرّد بالتوحيد والمجد
والسّناء ؛ وتوحّد بالتحميد ، وتمجّد بالتمجيد ، وعلا عن اتّخاذ الأبناء ، وتطهّر وتقدّس عن ملامسة
النساء ، وعزوجل عن مجاورة الشركاء ؛
فليس له فيما خلق
ضدّ ، ولا له فيما ملك ندّ ؛ ولم يشركه في ملكه أحد ، الواحد الأحد الصمد المبيد للأبد ، والوارث للأمد ، الذي
__________________
لم يزل ولا يزال
وحدانيّا أزليّا قبل بدء الدهور ، وبعد صرف الامور ، الذي لا يبيد ولا ينفد.
بذلك أصف ربّي ،
فلا إله إلّا الله ، من عظيم ما أعظمه! ومن جليل ما أجلّه! وعزيز ما أعزّه ،
وتعالى عمّا يقول الظّالمون علوّا كبيرا».
* * *
قال ثقة الإسلام
أبو جعفر محمّد بن يعقوب الكليني ـ رحمهالله ـ بعد نقل الخطبة المذكورة :
«وهذه الخطبة من
مشهورات خطبه عليهالسلام حتّى لقد ابتذلها العامّة ، وهي كافية لمن طلب علم التوحيد
إذا تدبّرها وفهم ما فيها ؛ فلو اجتمع ألسنة الجنّ والإنس ـ ليس فيها لسان نبيّ ـ على
أن يبيّنوا التوحيد بمثل ما أتى به عليهالسلام ـ بأبي وأمّي ـ ما قدروا عليه ؛ ولو لا إبانته عليهالسلام ما علم الناس كيف يسلكون سبيل التوحيد.
ألا ترون إلى قوله
: «لا من شيء كان ، ولا من شيء خلق ما كان» ؛
فنفى بقوله : «لا
من شيء كان» معنى الحدوث ؛
وكيف أوقع على ما
أحدثه صفة الخلق والاختراع بلا أصل ولا مثال ، نفيا لقول من قال : «إنّ الأشياء
كلّها محدثة ، بعضها من بعض» ، وإبطالا لقول الثنويّة ـ الذين زعموا أنّه لا يحدث
__________________
شيئا إلا من أصل ،
ولا يدبّر إلّا باحتذاء مثال.
فدفع عليهالسلام بقوله : «لا من شيء خلق ما كان» جميع حجج الثنويّة وشبههم
؛ لأنّ أكثر ما يعتمد الثنويّة في حدوث العالم أن يقولوا «لا يخلو من أن يكون
الخالق خلق الأشياء من شيء ، أو من لا شيء» ؛ فقولهم : «من شيء» خطأ ، وقولهم : «من
لا شيء» مناقضة وإحالة ؛ لأنّ «من» توجب شيئا ، و «لا شيء» تنفيه ؛ فأخرج أمير
المؤمنين عليهالسلام هذه اللفظة على أبلغ الألفاظ وأصحّها ، فقال عليهالسلام : «لا من شيء خلق ما كان» فنفى «من» إذ كانت توجب شيئا ،
ونفى «الشيء» إذ كان كلّ شيء مخلوقا محدثا لا من أصل أحدثه الخالق ، كما قالت
الثنويّة : «أنّه خلق من أصل قديم ، فلا يكون تدبير إلّا باحتذاء مثال».
ثمّ قوله عليهالسلام : «ليست له صفة تنال ، ولا حدّ تضرب له فيه الأمثال ، كلّ
دون صفاته تحبير اللغات» ، فنفى عليهالسلام أقاويل المشبّهة ، حين شبّهوه بالسبيكة والبلّورة ، وغير
ذلك من أقاويلهم من الطول والاستواء ، وقولهم : «متى ما لم تعقد القلوب منه على
كيفيّة ولم ترجع إلى إثبات هيئة ، لم تعقل شيئا ، فلم تثبت صانعا» ؛ ففسّر أمير
المؤمنين عليهالسلام أنّه واحد بلا كيفيّة ، وأنّ القلوب تعرفه بلا تصوير ولا
إحاطة.
ثمّ قوله عليهالسلام : «الذي لا تبلغه بعد الهمم ، ولا تناله غوص الفطن ،
وتعالى الذي ليس له وقت معدود ولا أجل ممدود ولا نعت محدود» ، ثمّ قوله عليهالسلام : «لم يحلل في الأشياء ، فيقال : هو فيها كائن ، ولم ينأ
عنها ، فيقال : هو منها بائن». فنفى عليهالسلام
بهاتين الكلمتين
صفة الأعراض والأجسام ، لأن من صفة الأجسام التباعد والمباينة ، ومن صفة الأعراض
الكون في الأجسام بالحلول على غير مماسّة ، ومباينة الأجسام على تراخى المسافة.
ثمّ قال : «لكن
أحاط بها علمه ، وأتقنها صنعه» ، أي هو في الأشياء بالإحاطة والتدبير ، وعلى غير
ملامسة».
ـ انتهى كلامه ـ.
فصل [٤]
وقال مولانا أمير المؤمنين عليهالسلام
:
«أوّل الدين
معرفته ، وكمال معرفته التصديق به ، وكمال التصديق به توحيده ، وكمال توحيده
الإخلاص له ، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه ؛ لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف
، وشهادة كلّ موصوف أنّه غير الصفة ؛ فمن وصف الله ـ سبحانه ـ فقد قرنه ، ومن قرنه
فقد ثنّاه ، ومن ثنّاه فقد جزّأه ، ومن جزّأه فقد جهله [ومن جهله فقد أشار إليه] ومن أشار إليه فقد حدّه ، ومن حدّه فقد عدّه ؛ ومن قال : «فيم»
فقد ضمّنه ، ومن قال : «علام» فقد أخلى منه.
كائن لا عن حدث ،
موجود لا عن عدم ؛ مع كلّ شيء لا بمقارنة
__________________
وغير كلّ شيء لا
بمزايلة ؛ فاعل لا بمعنى الحركات والآلة ، بصير إذ لا منظور إليه من خلقه ، متوحّد
إذ لا سكن يستأنس به ولا يستوحش لفقده.
أنشأ الخلق إنشاء
، وابتدأ ابتداء ، بلا رويّة أجالها ، ولا تجربة استفادها ، ولا حركة أحدثها ، ولا
همامة نفس اضطرب فيها ؛ أحال الأشياء لأوقاتها ، ولاءم بين مختلفاتها ، وغرّز
غرائزها ، وألزمها أشباحها ؛ عالما بها قبل ابتدائها ، محيطا بحدودها وانتهائها ؛
عارفا بقرائنها وأحنائها».
فصل [٥]
وقال عليهالسلام
:
«ما وحّده من
كيّفه ، ولا حقيقته أصاب من مثّله ، ولا إيّاه عنى من شبّهه ، ولا صمده من أشار إليه وتوهّمه ؛
كلّ معروف بنفسه
مصنوع ، وكلّ قائم في سواه معلول ؛
فاعل لا باضطراب
آلة ، مقدّر لا بجول فكرة ، غنيّ لا باستفادة ؛ لا تصحبه الأوقات ، ولا ترفده الأدوات ؛
سبق الأوقات كونه
، والعدم وجوده ، والابتداء أزله ؛
__________________
بتشعيره المشاعر
عرف أن لا مشعر له ، وبمضادّته بين الامور عرف أن لا ضدّ له ، وبمقارنته بين
الأشياء عرف أن لا قرين له ؛
ضادّ النور
بالظلمة ، والوضوح بالبهمة ، والجمود بالبلل ، والحرور بالصرد ؛
مؤلّف بين
متعادياتها ، مقارن بين متبايناتها ، مقرّب بين متباعداتها ، مفرّق بين متدانياتها
؛
لا يشمل بحدّ ،
ولا يحسب بعدّ ، وإنّما تحدّ الأدوات أنفسها ، وتشير الآلة إلى نظائرها ؛
منعتها «منذ»
القدمة ، وحمتها «قد» الأزليّة ، وجنّبتها «لو لا» التكملة ؛
بها تجلّى صانعها
للعقول ، وبها امتنع عن نظر العيون.
لا يجري عليه
السكون والحركة ؛ وكيف يجري عليه ما هو أجراه؟ ويعود فيه ما هو أبداه؟ ويحدث فيه
ما هو أحدثه؟ إذا لتفاوتت ذاته ، ولتجزّأ كنهه ، ولامتنع من الأزل معناه ، ولكان
له وراء ـ إذ وجد له أمام ـ ولالتمس التمام ـ إذ لزمه النقصان ـ واذا لقامت آية
المصنوع فيه ، ولتحوّل دليلا بعد أن كان مدلولا عليه.
وخرج بسلطان الامتناع من أن يؤثّر فيه ما يؤثّر في غيره.
الذي لا يحول ولا
يزول ، ولا يجوز عليه الافول ؛
__________________
(لَمْ يَلِدْ) فيكون مولودا ، و (لَمْ يُولَدْ) فيصير محدودا ؛ جلّ عن اتّخاذ الأبناء ، وطهر عن ملامسة
النساء ؛
لا تناله الأوهام
فتقدّره ، ولا تتوهّمه الفطن فتصوّره ، ولا تدركه الحواسّ فتحسّه ، ولا تلمسه
الأيدي فتمسّه ؛
لا يتغيّر بحال ،
ولا يتبدّل بالأحوال ، ولا تبليه الليالي والأيّام ، ولا يغيّره الضياء والظلام ،
ولا يوصف بشيء من الأجزاء ، ولا بالجوارح والأعضاء ، ولا بعرض من الأعراض ولا
بالغيريّة والأبعاض ؛ ولا يقال له حدّ ولا نهاية ، ولا انقطاع ولا غاية ، ولا أنّ
الأشياء تحويه ، فتقلّه أو تهويه ، أو أنّ شيئا يحمله فيميله أو يعدله.
ليس في الأشياء
بوالج ولا عنها بخارج ؛ يخبر لا بلسان ولهوات ، ويسمع لا بخروق وأدوات ؛ يقول ولا
يلفظ ، ويحفظ ولا يتحفّظ ، ويريد ولا يضمر ، ويحبّ ويرضى من غير رقّة ، ويبغض
ويغضب من غير مشقّة ؛
يقول لما أراد
كونه : «كن» فيكون ـ لا بصوت يقرع ولا بنداء يسمع ؛ وإنّما كلامه سبحانه فعل منه
أنشأه ، ومثله لم يكن من قبل ذلك كائنا ، ولو كان قديما لكان إلها ثانيا.
لا يقال : «كان
بعد أن لم يكن» ، فتجري عليه الصفات المحدثات ؛ ولا يكون بينه وبينها فصل ولا له
عليها فضل ، فيستوي الصانع والمصنوع ، ويتكافأ المبدع والبديع.
خلق الخلائق على
غير مثال خلا من غيره ، ولم يستعن على خلقها بأحد من خلقه ؛ وأنشأ الأرض فأمسكها
من غير اشتغال ، وأرساها على غير قرار ، وأقامها بغير قوائم ، ورفعها بغير دعائم ،
وحصّنها من
الأود والاعوجاج ،
ومنعها من التهافت والانفراج ؛ أرسى أوتادها ، وضرب أسدادها ، واستفاض عيونها ،
وخدّ أوديتها ؛
فلم يهن ما بناه ،
ولا ضعف ما قوّاه ؛
هو الظاهر عليها
بسلطانه وعظمته ، وهو الباطن لها بعلمه ومعرفته ، والعالي على كل شيء منها بجلاله
وعزّته ؛
لا يعجزه منها شيء
فيطلبه ، ولا يمتنع عليه فيغلبه ، ولا يفوته السريع منها فيسبقه ، ولا يحتاج إلى
ذي مال فيرزقه ؛
خضعت الأشياء له
وذلّت مستكينة لعظمته ، لا تسطيع الهرب من سلطانه إلى غيره ، فتمتنع من نفعه وضرّه
؛
ولا كفؤ له
فيكافئه ، ولا نظير له فيساويه ؛
هو المفني لها بعد
وجودها ، حتّى يصير موجودها كمفقودها.
وليس فناء الدنيا
بعد ابتداعها بأعجب من إنشائها واختراعها ؛ وكيف ولو اجتمع جميع حيوانها ـ من
طيرها وبهائهما ، وما كان من مراحها وسائمها ، وأصناف أسناخها وأجناسها ، ومتبلّدة
اممها وأكياسها ـ على إحداث بعوضة ، ما قدرت على إحداثها ، ولا عرفت كيف
السبيل إلى إيجادها ، ولتحيّرت عقولها في علم ذلك وتاهت ، وعجزت قواها وتناهت ،
ورجعت خاسئة حسيرة ، عارفة بأنّها مقهورة ، مقرّة بالعجز عن إنشائها ، مذعنة
بالضعف عن إفنائها.
وإنّه ـ سبحانه ـ يعود
بعد فناء الدنيا وحده لا شيء معه ؛ كما كان قبل ابتدائها ، كذلك يكون بعد فنائها ؛
بلا وقت ولا مكان ،
__________________
ولا حين ولا زمان
، عدمت عند ذلك الآجال والأوقات ، وزالت السنون والساعات ؛ فلا شيء إلا الله
الواحد القهّار ، الذي إليه مصير جميع الامور ، بلا قدرة منها كان قبل ابتداء
خلقها ، وبغير امتناع منها كان فناؤها ، ولو قدرت على الامتناع لدام بقاؤها.
لم يتكأدّه صنع شيء منها إذ صنعه ، ولم يؤده منها خلق ما برأه وخلقه ،
ولم يكوّنها لتشديد سلطان ولا تخوّف من زوال ونقصان ، ولا للاستعانة بها على ندّ
مكاثر ، ولا للاحتراز بها من ضدّ مثاور ، ولا للازدياد بها في ملكه ، ولا لمكاثرة شريك في شركه ،
ولا لوحشة كانت منه فأراد أن يستأنس إليها.
ثمّ هو يفنيها بعد
تكوينها ، لا لسأم دخل عليه في تصريفها وتدبيرها ، ولا لراحة واصلة إليه ، ولا
لثقل شيء منها عليه.
لا يملّه طول
بقائها فيدعوه إلى سرعة إفنائها ، لكنّه سبحانه دبّرها بلطفه وأمسكها بأمره ،
وأتقنها بقدرته ؛
ثمّ يعيدها بعد
الفناء من غير حاجة منه إليها ولا لاستعانة بشيء منها عليها ، ولا لانصراف من حال
وحشة إلى حال استئناس ، ولا من حال جهل وعمى إلى علم والتماس ، ولا من فقر وحاجة
إلى غنى وكثرة ، ولا من ذلّ وضعة إلى عزّ وقدرة».
__________________
فصل [٦]
ومن كلماته عليهالسلام
:
«الذي لم تسبق له
حال حالا ، فيكون أوّلا قبل أن يكون آخرا ، ويكون ظاهرا قبل أن يكون باطنا ؛
كلّ مسمّى بالوحدة
غيره قليل ، وكلّ عزيز غيره ذليل ، وكلّ قويّ غيره ضعيف ، وكلّ مالك غيره مملوك ،
وكلّ عالم غيره متعلّم ، وكلّ قادر غيره يقدر ويعجز ، وكلّ سميع غيره يصمّ عن لطيف
الأصوات ويصمّه كبيرها ، ويذهب عنه ما بعد منها ، وكلّ بصير غيره يعمى عن خفيّ
الألوان ولطيف الأجسام ، وكلّ ظاهر غيره غير باطن ، وكلّ باطن غيره غير ظاهر».
ومنها :
«لا يشغله غضب عن
رحمة ، ولا تولّهه رحمة عن عقاب ، ولا تجنّه البطون عن ظهور ، ولا يقطعه الظهور عن
البطون ، قرب فنأى ، وعلا فدنا ، وظهر فبطن ، وبطن فعلن ، ودان ولم يدن ، لم يذرأ
الخلق باحتيال ، ولا استعان بهم لكلال».
__________________
ومنها :
«لم تحط به
الأوهام ؛ بل تجلّى لها بها ، وبها امتنع منها ، وإليها حاكمها ؛
ليس بذي كبر
امتدّت به النهايات فكبّرته تجسيما ، ولا بذي عظم تناهت به الغايات فعظّمته تجسيدا
، بل كبر شأنا وعظم سلطانا».
ومنها :
«الذي بطن خفيّات
الامور ، ودلّت عليه أعلام الظهور ، وامتنع على عين البصير ، فلا عين من لم يره
تنكره ، ولا قلب من أثبته يبصره ؛
سبق في العلوّ فلا
شيء أعلى منه ، وقرب في الدنوّ فلا شيء أقرب منه ، فلا استعلاؤه باعده عن شيء من
خلقه ، ولا قربه ساواهم في المكان به ؛
لم يطلع العقول
على تحديد صفته ، ولم يحجبها عن واجب معرفته ، فهو الذي تشهد له أعلام الوجود على
إقرار قلب ذي الجحود ، تعالى الله عمّا يقول المشبّهون به والجاحدون له علوّا
كبيرا».
__________________
فصل [٧]
ومن كلامه عليهالسلام
:
«كلّ شيء خاشع له
وكلّ شيء قائم به ؛ غنى كلّ فقير ، وعزّ كلّ ذليل ، وقوّة كلّ ضعيف ، ومفزع كلّ
ملهوف ؛
من تكلّم سمع نطقه
، ومن سكت علم سرّه ، ومن عاش فعليه رزقه ، ومن مات فإليه منقلبه.
لم ترك العيون فتخبر عنك ، بل كنت قبل الواصفين من خلقك ؛ لم تخلق
الخلائق لوحشة ، ولا استعملتهم لمنفعة ، ولا يسبقك من طلبت ، ولا يفلتك من أخذت ، ولا ينقص سلطانك من عصاك ، ولا يزيد في ملكك من
أطاعك ، ولا يردّ أمرك من سخط قضاك ، ولا يستغني عنك من تولّى عن أمرك ؛
كلّ سرّ عندك
علانية ، وكلّ غيب عندك شهادة ؛
أنت الأبد فلا أمد
لك وأنت المنتهى لا محيص عنك ، وأنت الموعد لا منجى منك ، [إلّا إليك] ؛ بيدك ناصية كلّ دابّة ، وإليك مصير كلّ نسمة».
__________________
فصل [٨]
ومن كلامه ـ صلوات الله عليه ـ
:
«الدالّ على وجوده
بخلقه وبمحدث خلقه على أزليّته وباشتباههم على أن لا شبه له.
لا تستلمه المشاعر
ولا تحجبه السواتر ؛ لافتراق الصانع والمصنوع والحادّ والمحدود ، والربّ والمربوب
؛
الأحد لا بتأويل
عدد ، والخالق لا بمعنى حركة ونصب ، والسميع لا بأداة ، والبصير لا بتفريق آلة ،
والشاهد لا بمماسّة ، والبائن لا بتراخي مسافة ، والظاهر لا برؤية ، والباطن لا
بلطافة.
بان من الأشياء
بالقهر لها والقدرة عليها ، وبانت الأشياء منه بالخضوع له والرجوع إليه.
من وصفه فقد حدّه
، ومن حدّه فقد عدّه ، ومن عدّه فقد أبطل أزله ، ومن قال : «كيف؟» فقد استوصفه ، ومن
قال : «أين؟» فقد حيّزه.
عالم إذ لا معلوم
، وربّ إذ لا مربوب ، وقادر إذ لا مقدور».
__________________
فصل [٩]
ومن كلامه عليهالسلام
قاله لذعلب اليماني ـ وقد سأله : «هل رأيت ربّك يا أمير المؤمنين»؟ ـ
فقال عليهالسلام : «أفأعبد ما لا أرى»؟ قال : «وكيف تراه»؟
فقال : «لا تدركه
العيون بمشاهدة العيان ، ولكن تدركه الأبصار بحقائق الإيمان ، قريب من الأشياء غير ملامس ، بعيد منها
غير مباين ، متكلّم بلا رويّة ، مريد بلا همّة ، صانع لا بجارحة ، لطيف لا يوصف بالخفاء ، كبير لا يوصف
بالجفاء ، بصير لا يوصف بالحاسّة ، رحيم لا يوصف بالرقّة ، تعنو الوجوه لعظمته ،
وتجلّ القلوب من مخافته».
وفي رواية اخرى
رواها في كتاب التوحيد : «ويلك يا ذعلب! إنّ ربّي لا يوصف بالبعد ، ولا بالحركة
ولا السكون ، ولا بالقيام ـ قيام
__________________
انتصاب ـ ولا
بجيئة ولا بذهاب ؛ لطيف اللطافة لا يوصف باللطف ، عظيم العظمة لا يوصف بالعظم ،
كبير الكبرياء لا يوصف بالكبر ، جليل الجلالة لا يوصف بالغلظ ، رءوف الرحمة لا
يوصف بالرقّة ؛ مؤمن لا بعبادة ، مدرك لا بمجسّة ، قائل لا بلفظ ، هو في الأشياء على غير ممازجة ، خارج منها على غير
مباينة ، فوق كلّ شيء ولا يقال «شيء فوقه» ، وأمام كلّ شيء ولا يقال «له أمام» ،
داخل في الأشياء لا كشيء في شيء داخل ، وخارج منها ، لا كشيء من شيء خارج». فخرّ
ذعلب مغشيّا عليه.
وفي رواية اخرى في
الكتاب المذكور ـ بعد كلام طويل قد مضى أكثره لفظا أو معنى ـ : «كان ربّا
ولا مربوب ، وإلها ولا مألوه ، وعالما إذ لا معلوم ، وسميعا إذ لا مسموع» ـ ثمّ
أنشأ يقول : ـ
ولم يزل سيّدي بالعلم معروفا
|
|
ولم يزل سيّدي
بالجود موصوفا
|
وكنت إذ ليس نور
يستضاء به
|
|
ولا ظلام على
الآفاق معكوفا
|
وربّنا بخلاف
الخلق كلّهم
|
|
وكلّ ما كان في
الأوهام موصوفا
|
__________________
ومن يرده على
التشبيه ممتثلا
|
|
يرجع أخا حصر
بالعجز مكتوفا
|
وفي المعارج
يلقى موج قدرته
|
|
موجا يعارض طرف
الروح مكفوفا
|
فاترك أخا جدل
في الدين منعمقا
|
|
قد باشر الشكّ
فيه الرأي مأووفا
|
واصحب أخا ثقة
حبّا لسيّده
|
|
وبالكرامات
مزمولا ومحفوفا
|
أمسى دليل الهدى
في الأرض منتشرا
|
|
وفي السماء جميل
الحال معروفا
|
فصل [١٠]
ومن كلماته ـ صلوات الله عليه :
«كان حيّا بلا كيف
، ولم يكن له كان ، ولا كان لكونه كيف ، ولا كان له أين ، ولا كان في شيء ، ولا
كان على شيء ، ولا ابتدع لمكانه مكانا ، ولا قوي بعد ما كوّن الأشياء ، ولا كان
ضعيفا قبل أن يكوّن شيئا ، ولا كان مستوحشا قبل أن يبتدئ شيئا ، ولا يشبه شيئا
مذكورا ، ولا كان خلوا من الملك قبل إنشائه ، ولا يكون منه خلوا بعد ذهابه ؛
كان إلها حيّا بلا
حياة ، ومالكا قبل أن ينشئ شيئا ، ومالكا بعد
__________________
إنشائه للكون ؛
وليس يكون لله كيف ولا أين ولا حدّ يعرف ، ولا شيء يشبهه ، ولا يهرم لطول بقائه ،
ولا يصعق لذعره ، ولا يخاف كما يخاف خليقته من شيء ؛ ولكن سميع بغير سمع ، وبصير
بغير بصر ، وقويّ بغير قوّة من خلقه ؛
لا تدركه حدق
الناظرين ، ولا يحيط بسمعه سمع السامعين ؛
إذا أراد شيئا كان
بلا مشورة ولا مظاهرة ولا مخابرة ، ولا يسأل أحدا عن شيء من خلقه أراده ؛ (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ
يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [٦ / ١٠٣].
رواه في الكافي .
فصل [١١]
ومن كلامه عليهالسلام
:
«الذي لا من شيء
كان ، ولا من شيء كوّن ما قد كان ؛
مستشهد بحدوث
الأشياء على أزليّته ، وبما وسمها به ـ من العجز ـ على قدرته ، وبما اضطرّها إليه
ـ من الفناء ـ على دوامه ؛
__________________
لم يخل منه مكان
فيدرك بأينيّته ، ولا له شبح مثال فيوصف بكيفيّته ، ولم يغب عن شيء فيعلم بحينيّته ؛
مباين لجميع ما
أحدث في الصفات وممتنع عن الإدراك بما ابتدع من تصريف الذوات ، وخارج بالكبرياء
والعظمة من جميع تصرّف الحالات ؛ محرّم على بوارع ثاقبات الفطن تحديده ، وعلى
عوامق ناقبات الفكر تكييفه ، وعلى غوائص سابحات الفطر تصويره ؛
لا تحويه الأماكن
لعظمته ، ولا تذرعه المقادير لجلاله ، ولا تقطعه المقاييس لكبريائه ؛ ممتنع عن
الأوهام أن تكتنهه ، وعن الأفهام أن تستغرقه ، وعن الأذهان أن تمثّله ؛
قد يئست من
استنباط الإحاطة به طوامح العقول ، ونضبت عن الإشارة إليه بالاكتناه بحار العلوم ،
ورجعت بالصغر عن السموّ إلى وصف قدرته لطائف الخصوم ؛
واحد لا من عدد ،
ودائم بلا أمد وقائم لا بعمد ، ليس بجنس فتعادله الأجناس ، ولا بشبح
فتضارعه الأشباح ، ولا كالأشياء فتقع عليه الصفات ؛
قد ضلّت العقول في
أمواج تيّار إدراكه ، وتحيّرت الأوهام عن
__________________
إحاطة ذكر أزليّته
، وحصرت الأفهام عن استشعار وصف قدرته ، وغرقت الأذهان في لجج أفلاك ملكوته ؛
مقتدر بالآلاء
وممتنع بالكبرياء ، ومتملّك على الأشياء ؛ فلا دهر يخلقه ، ولا وصف يحيط به ؛ قد
خضعت له رواتب الصعاب في محلّ تخوم قرارها ، وأذعنت له رواصن الأسباب في منتهى
شواهق أقطارها ؛
مستشهد بكلّيّة
الأجناس على ربوبيّته ، وبعجزها على قدرته ، وبفطورها على قدمته ، وبزوالها على
بقائه ؛ فلا لها محيص عن إدراكه إيّاها ، ولا خروج من إحاطته بها ، ولا احتجاب عن
إحصائه لها ، ولا امتناع من قدرته عليها ؛
كفى بإتقان الصنع
لها آية ، وبمركّب الطبع عليها دلالة ، وبحدوث الفطر عليها قدمة ، وبإحكام الصنعة
لها عبرة ؛ فلا إليه حدّ منسوب ، ولا له مثل مضروب ، ولا شيء عنه بمحجوب ـ تعالى عن ضرب الأمثال والصفات المخلوقة علوّا كبيرا».
رواه في كتاب
التوحيد ، بإسناده عن مولانا الرضا عن آبائه ، عن جدّه عليهالسلام.
__________________
فصل [١٢]
ومن كلامه الشريف
ـ صلوات الله عليه ـ :
«الحمد لله الذي
لا يفره المنع ولا يكديه الإعطاء ، إذ كلّ معط منتقص سواه ؛ المليء
بفوائد النعم وعوائد المزيد ، وبجوده ضمن عيالة الخلق ، فأنهج سبيل الطلب للراغبين
إليه ؛ فليس بما سئل بأجود منه بما لم يسأل.
ما اختلف عليه دهر
فيختلف منه الحال ؛ ولو وهب ما تنفّست عنه معادن الجبال ، وضحكت عنه أصداف البحار
ـ من فلذ اللجين وسبائك العقيان ونضائد المرجان ـ لبعض عبيده ، لما أثّر
ذلك في جوده ، ولا أنفد سعة ما عنده ، ولكان عنده من ذخائر الإفضال ما لا ينفده
مطالب السؤّال ، ولا يخطر لكثرته على بال ؛ لأنّه الجواد الذي لا تنقصه
المواهب ، ولا ينحله إلحاح الملحّين ، و (إِنَّما أَمْرُهُ
إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)] [٣٦ / ٨٢].
__________________
الذي عجزت
الملائكة ـ على قربهم من كرسيّ كرامته ، وطول ولههم إليه وتعظيم جلال عزّه ،
وقربهم من غيب ملكوته ـ أن يعلموا من أمره إلّا ما أعلمهم ؛ وهم ـ من ملكوت القدس
ـ بحيث هم في معرفته على ما فطرهم عليه أن قالوا : (سُبْحانَكَ لا عِلْمَ
لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) [٢ / ٣٢].
فما ظنّك ـ أيّها
السائل ـ بمن هو كذا؟ سبحانه وبحمده ؛ لم يحدث فيمكن فيه التغيّر والانتقال ، ولم
يتصرّف في ذاته بكرور الأحوال ، ولم يختلف عليه حقب الليالي والأيّام.
الذي ابتدع الخلق
على غير مثال امتثله ، ولا مقدار احتذى عليه من معبود كان قبله ؛ ولم تحط به
الصفات ، فيكون بإدراكها إيّاه بالحدود متناهيا ، وما زال ـ (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) ـ عن صفة المخلوقين متعاليا ؛ وانحسرت الأبصار عن أن تناله
فيكون بالعيان موصوفا ، وبالذات التي لا يعلمها إلّا هو عند خلقه معروفا ؛ وفات ـ لعلوّه
على أعلى الأشياء ـ مواقع وهم المتوهّمين ، وارتفع عن أن تحوي كنه عظمته فهاهة رويّات المتفكّرين.
فليس له مثل فيكون
ما يخلق مشبها به ، وما زال ـ عند أهل المعرفة به ـ عن الأشباه والأضداد منزّها ؛
كذب العادلون بالله إذ شبّهوه بمثل أصنامهم ، وحلّوه حلية المخلوقين بأوهامهم ،
وجزّءوه بتقدير منتج من خواطر هممهم ، وقدّروه على الخلق المختلفة القوى بقرائح
عقولهم.
وكيف يكون من لا
يقدّر قدره مقدّرا في رويّات الأوهام؟ وقد
__________________
ضلّت في إدراك
كنهه هواجس الأحلام؟! لأنّه أجلّ من أن تحدّه ألباب البشر بالتفكير ، أو تحيط به
الملائكة ـ على قربهم من ملكوت عزّته ـ بتقدير.
تعالى عن أن يكون
له كفؤ فتشبّه به ؛ لأنّه اللطيف الذي إذا أرادت الأوهام أن تقع عليه في
عميقات غيوب ملكه ، وحاولت الفكر المبرّأة من خطر الوسواس إدراك علم ذاته ،
وتولّهت القلوب إليه لتحوي منه مكيّفا في صفاته ، وغمضت مداخل العقول في حيث لا تبلغه الصفات لتنال علم إلهيّته :
ردعت خاسئة ـ وهي تجوب مهاوي سدف الغيوب متخلّصة إليه سبحانه.
رجعت ـ إذ جبهت ـ معترفة
بأنّه لا ينال بجور الاعتساف كنه معرفته ، ولا تخطر ببال اولي الرويّات خاطرة من
تقدير جلال عزّته ، لبعده من أن يكون في قوى المحدودين ، لأنّه خلاف خلقه ، فلا
شبه له في المخلوقين ، وإنّما يشبه الشيء بعديله ؛ فأمّا ما لا عديل له فكيف يشبه
بغير مثاله؟!.
وهو البديء الذي
لم يكن شيء قبله ، والآخر الذي ليس شيء بعده ؛
لا تناله الأبصار
من مجد جبروته ـ إذ حجبها بحجب لا تنفذ في ثخن كثافته ، ولا تخرق إلى ذي العرش
متانة خصائص ستره ؛ إنّه
__________________
الذي صدرت الامور
عن مشيّته ، وتصاغرت عزّة المتجبّرين دون جلال عظمته ، وخضعت له الرقاب ، وعنت
الوجوه من مخافته ، وظهرت في بدائع الذي أحدثها آثار حكمته ، وصار كلّ شيء خلق حجة
له ومنتسبا إليه ؛ وإن كان خلقا صامتا فحجّته بالتدبير ناطقة فيه.
فقدّر ما خلق ،
فأحكم تقديره ووضع كلّ شيء بلطف تدبيره موضعه ، ووجّهه بجهة فلم يبلغ منه شيء حدود منزلته ، ولم يقصر دون الانتهاء إلى
مشيّته ، ولم يستصعب إذ أمره بالمضيّ إلى إرادته ـ بلا معاناة للغوب مسّه ، ولا
مكابدة لمخالف له على أمره ـ فتمّ خلقه ، وأذعن لطاعته ، ووافى الوقت الذي أخرجه
إليه إجابة ؛ لم يعترض دونها ريث المبطئ ، ولا أناة المتلكّئ ؛
وأقام من الأشياء
أودها وتهيء معالم حدودها ، ولاءم بقدرته بين متضادّاتها ، ووصل أسباب
قرائنها ، وخالف بين ألوانها ، وفرّقها أجناسا مختلفات في الأقدار والغرائز
والهيئات.
بدايا خلائق أحكم صنعها ، وفطرها على ما أراد إذ ابتدعها ؛ انتظم
علمه صنوف ذرئها ، وأدرك تدبيره حسن تقديرها.
أيّها السائل ـ اعلم
أنّ من شبّه ربّنا الجليل بتباين أعضاء خلقه ، وبتلاحم أحقاق مفاصلهم المحتجبة
بتدبير حكمته : إنّه لم يعقد غيب
__________________
ضميره على معرفته
، ولم يشاهد قلبه اليقين بأنّه لا ندّ له ؛ وكانّه لم يسمع بتبرّي التابعين من
المتبوعين وهم يقولون : (تَاللهِ إِنْ كُنَّا
لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ* إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) [٢٦ / ٩٧ ـ ٩٨].
فمن ساوى ربّنا
بشيء فقد عدل به ، والعادل به كافر بما تنزّلت به محكمات آياته ، ونطقت به شواهد حجج بيّناته ؛ لأنّه
الله الذي لم يتناه في العقول فيكون في مهبّ فكرها مكيّفا ، وفي حواصل رويّات همم
النفوس محدودا مسرّفا ؛ المنشئ أصناف الأشياء بلا رويّة احتاج إليها ، ولا قريحة
غريزة أضمر عليها ، ولا تجربة أفادها من مرّ حوادث الدهور ، ولا شريك أعانه على
ابتداع عجائب الامور.
الذي لمّا شبّهه
العادلون بالخلق المنغصّ المحدود في صفاته ، ذي الأقطار والنواحي المختلفة في
طبقاته ـ وكان عزوجل الموجود بنفسه لا بآياته ـ انتفى أن يكون قدّروه حقّ قدره
، فقال تنزيها لنفسه عن مشاركة الأنداد ، وارتفاعا عن قياس المقدّرين له بالحدود
من كفرة العباد : (وَما قَدَرُوا اللهَ
حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ
مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [٣٩ / ٦٧].
فما دلّك القرآن
عليه من صفته ، فاتّبعه ليوصل بينك وبين معرفته وأتمّ به ، واستضئ بنور هدايته ،
فإنّها نعمة وحكمة اوتيتها ، فخذ ما اوتيت وكن من الشاكرين.
__________________
وما دلّك الشيطان
عليه ـ ممّا ليس في القرآن عليك فرضه ، ولا في سنّة الرسول وأئمّة الهدى أثره ـ فكل
علمه إلى الله عزوجل ؛ فإنّ ذلك منتهى حقّ الله عليك.
واعلم أنّ
الراسخين في العلم هم الذين أغناهم الله عن الاقتحام في السدد المضروبة دون الغيوب ، فلزموا الإقرار بجملة ما
جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب ، فقالوا : (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ
مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) [٣ / ٧] ؛ فمدح
الله ـ عزوجل ـ اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علما ، وسمّى
تركهم التعمّق ـ فيما لم يكلّفهم البحث عنه منهم ـ : رسوخا ؛ فاقتصر على ذلك ، ولا
تقدّر عظمة الله على قدر عقلك ، فتكون من الهالكين ...».
رواه في كتاب
التوحيد ، وبعضه مذكور في نهج البلاغة بأدنى تغيير في اللفظ.
__________________
قال شارحه
البحراني ـ رحمهالله ـ :
«واعلم أنّ في
إحالته عليهالسلام لطالب المعرفة على الكتاب والسنّة وبيان الأئمّة دلالة على
أنّ مقصوده ليس أن يقتصر على ظاهر الشريعة فقط ، بل يتّبع أنوار القرآن والسنّة
وآثار أئمّة الهدى.
وقد ورد في القرآن
الكريم والسنّة وكلام الأئمّة من الإشارات والتنبيهات على منازل السلوك ووجوب
الانتقال في درجاتها ، ما لا يحصى كثرة ، ونبّهوا على كلّ مقام أهله ، وأخفوه عن
غير أهله ، إذ كانوا أطبّاء النفوس.
وكما أنّ الطبيب
يرى أنّ بعض الأدوية لبعض المرضى ترياق وشفاء ، وذلك الدواء ـ بعينه ـ لشخص آخر
سمّ وهلاك : كذلك كتاب الله والموضحون لمقاصده من الأنبياء والأولياء يرون أنّ بعض
الأسرار الإلهيّة شفاء لبعض الصدور ، فيلقونها إليهم ؛ وربما كانت تلك الأسرار ـ بأعيانها
ـ لغير أهلها سببا لضلالهم وكفرهم إذا القيت إليهم.
فإذن مقصوده عليهالسلام قصر كلّ عقل على ما هو الأولى به ، وما يحتمله ؛ والجمع
العظيم هم أصحاب الظاهر ، الذين يجب قصرهم عليه» ـ انتهى ـ.
ولنقتصر من كلماته
عليهالسلام في التوحيد على هذا القدر ، فإنّه مشتمل على مجامعها ، ولم
يخرج عنه ـ ممّا وصل إليّ ـ من جهة المعنى إلّا أشياء متفرّقة ، ذكرناها في
مواضعها الأنسب بها ـ ولله الحمد.
__________________
فصل [١٣]
روي عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّه قال : «تفكّروا في آلاء الله ، ولا تفكّروا في الله ، فإنّكم
لن تقدّروا قدره».
وفي الكافي
بإسناده عن مولانا الباقر عليهالسلام : «تكلّموا في خلق الله ، ولا تتكلّموا في الله ، فإنّ
الكلام في الله لا يزداد صاحبه إلّا تحيّرا».
وفي رواية اخرى : «تكلّموا في كلّ شيء ، ولا تتكلّموا في ذات الله».
وبإسناده الصحيح
عن مولانا الصادق عليهالسلام ـ قال : ـ «إنّ الله عزوجل يقول : (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ
الْمُنْتَهى) [٥٣ / ٤٢] ، فإذا
انتهى الكلام إلى الله ، فامسكوا».
__________________
وبإسناده عنه عليهالسلام : «ابن آدم ـ لو أكل قلبك طائر لم يشبعه ، وبصرك ، لو وضع
عليه خرق إبرة تغطّاه ؛ تريد أن تعرف بهما ملكوت السماوات والأرض؟! إن كنت صادقا ،
فهذه الشمس ـ خلق من خلق الله ـ فإن قدرت أن تملأ عينيك منها فهو كما تقول».
قال بعض العارفين : «إذا أدرك الإنسان صورته في المرآة يعلم قطعا أنّه أدرك
صورته بوجه ، وأنّه ما أدرك صورته بوجه ، لما يراه في غاية الصغر ـ لصغر جرم
المرآة ـ أو الكبر ـ لعظمه ـ ولا يقدر أن ينكر أنّه رأى صورته ، ويعلم أنّه ليس في
المرآة ـ صورته ، ولا هي بينه وبين المرآة ؛ فليس بصادق ولا كاذب في قوله : «رأى
صورته» ، و : «ما رأى صورته». فما تلك الصورة المرئيّة؟ وما محلّها؟ وما شأنها؟
فهي منفيّة ثابتة ، موجودة معدومة ، معلومة مجهولة ؛ أظهر سبحانه هذه الحقيقة ضرب
المثال ، ليعلم ويتحقّق أنّه إذا عجز وحار في درك حقيقة هذا ـ وهو من العالم ـ ولم
يحصّل علما بحقيقته : فهو بخالقها إذن أعجز وأجهل ، وأشد حيرة». ـ انتهى كلامه ـ
وأنشد بعضهم :
اعتصام الورى
بمغفرتك
|
|
عجز الواصفون عن
صفتك
|
تب علينا فإنّنا
بشر
|
|
ما عرفناك حقّ
معرفتك
|
__________________
[٦]
باب
أسمائه الحسنى تبارك
وتعالى
(وَلِلَّهِ
الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها)
[٧ / ١٨٠]
فصل [١]
[الاسم وإطلاقاته]
الاسم ما دلّ على
الذات الموصوفة بصفة معيّنة ، كلفظ «الرحمن» ، فإنّه يدلّ على ذات متّصفة بالرحمة ، و
«القهّار» فإنّه يدلّ على ذات لها القهر ـ إلى غير ذلك.
وقد يطلق الاسم
على نفس الذات باعتبار اتّصافها بالصفة ، وعلى
__________________
هذا هو عين
المسمّى باعتبار الهويّة والوجود ، وإن كان غيره باعتبار المعنى والمفهوم ـ حيث
أنّ أحدهما مقيّد والآخر غير مقيّد ـ وهذا كما أنّ صفاته عزوجل عين ذاته المقدّسة وغيرها ـ بالاعتبارين ـ.
والأسماء الملفوظة
بالإطلاق الثاني هي أسماء الأسماء.
وسئل مولانا الرضا
عليهالسلام عن الاسم : ما هو؟
قال : «صفة لموصوف».
وهذا اللفظ يحتمل
المعنيين ، وإن كان في الثاني أظهر.
وقد يطلق الاسم
على ما يفهم من اللفظ ـ أي المعنى الذهني ـ وعليه ورد ما روي في الكافي ، بسند حسن ، عن هشام بن الحكم ، أنّه سأل مولانا الصادق عليهالسلام عن أسماء الله واشتقاقها : «الله ، ممّا هو مشتق»؟
ـ قال : ـ فقال لي
: «يا هشام «الله» مشتقّ من «إله» والإله يقتضي
__________________
مألوها ، والاسم غير المسمّى ، فمن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر
ولم يعبد شيئا ، ومن عبد الاسم والمعنى فقد كفر وعبد اثنين ومن عبد المعنى دون الاسم فذلك التوحيد ـ أفهمت يا هشام»؟
ـ قال : ـ فقلت : «زدني».
قال : «إنّ لله
تسعة وتسعين اسما ، فلو كان الاسم هو المسمّى لكان كلّ اسم منها إلها ، ولكنّ الله
معنى يدلّ عليه بهذه الأسماء ـ وكلّها غيره.
يا هشام ـ الخبز
اسم للمأكول ، والماء اسم للمشروب ، والثوب اسم للملبوس ، والنار اسم للمحرق ؛ أفهمت
يا هشام ـ فهما تدفع به وتناضل به أعدائنا والمتّخذين مع الله ـ تعالى ـ غيره؟».
__________________
قلت : «نعم».
ـ قال : ـ فقال : «نفعك
الله به وثبّتك ـ يا هشام»؟.
قال هشام : «فو
الله ما قهرني أحد في التوحيد ، حتّى قمت مقامي هذا».
وما روي فيه وفي
كتاب التوحيد بإسنادهما عنه عليهالسلام ـ قال : ـ «من عبد الله بالتوهّم فقد كفر ومن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر ، ومن عبد الاسم والمعنى
فقد أشرك ، ومن عبد المعنى بإيقاع الأسماء عليه بصفاته التي وصف بها نفسه ، فعقد
عليه قلبه ، ونطق به لسانه في سرّ أمره وعلانيته ، فاولئك هم المؤمنون حقّا».
وفي لفظ آخر : «فاولئك أصحاب أمير المؤمنين حقا».
فالمراد ب «الاسم»
ـ في الخبرين ـ ما يفهم من اللفظ ، وب «المعنى»
__________________
ما يصدق عليه
اللفظ. فالاسم أمر ذهنيّ ، والمعنى أمر خارجيّ ، وهو المسمّى ، والاسم غير المسمّى
، لأنّ الإنسان ـ مثلا ـ في الذهن ليس بإنسان ، ولا له جسميّة ولا حياة ، ولا حسّ
، ولا حركة ، ولا نطق ، ولا شيء من خواصّ الإنسانيّة.
فتدبّر فيه تفهم
معنى الحديث ـ ومن الله الإعانة.
فصل [٢]
[الأسماء الحسنى واندراجها تحت لفظ
الجلالة].
روى في كتاب
التوحيد بإسناده عن مولانا الصادق عليهالسلام عن أبيه محمّد بن عليّ ، عن أبيه عليّ بن الحسين ، عن أبيه
الحسين بن عليّ ، عن أبيه عليّ بن أبي طالبعليهالسلام ـ قال : ـ قال رسول الله صلىاللهعليهوآله :
«إنّ لله ـ تبارك
وتعالى ـ تسعة وتسعين اسما ـ مائة إلّا واحدا ـ من أحصاها دخل الجنّة ، وهي : الله ، الواحد ، الأحد ، الصمد ، الأوّل ، الآخر ، السميع ،
البصير ، القدير ، القاهر ، العلىّ ، الأعلى ، الباقي ، البديع ، البارئ ، الأكرم
، الظاهر ، الباطن ، الحيّ ، الحكيم ،
__________________
العليم ، الحليم ،
الحفيظ ، الحقّ ، الحسيب ، الحميد ، الحفيّ ، الربّ ، الرحمن ، الرحيم ، الذارئ ،
الرزّاق ، الرقيب ، الرءوف ، الرائي ، السلام ، المؤمن ، المهيمن ، العزيز ،
الجبّار ، المتكبّر ، السيّد ، السبّوح ، الشهيد ، الصادق ، الصانع ، الطاهر ،
العدل ، العفوّ ، الغفور ، الغنيّ ، الغياث ، الفاطر ، الفرد ، الفتّاح ، الفالق ،
القديم ، الملك ، القدّوس ، القويّ ، القريب ، القيّوم ، القابض ، الباسط ، قاضي
الحاجات ، المجيد ، المولى ، المنّان ، المحيط ، المبين ، المقيت ، المصوّر ،
الكريم ، الكبير ، الكافي ، كاشف الضرّ ، الوتر ، النور ، الوهّاب ، الناصر ،
الواسع ، الودود ، الهادي ، الوفيّ ، الوكيل ، الوارث ، البرّ ، الباعث ، التوّاب
، الجليل ، الجواد ، الخبير ، الخالق ، خير الناصرين ، الدّيان ، الشكور ، العظيم
، اللطيف ، الشافي».
وبإسناده عن مولانا الرضا ، عن أبيه ، عن آبائه عن عليّ عليهالسلام ـ قال : ـ قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : «لله ـ عزوجل ـ تسعة وتسعون اسما ، من دعا الله بها استجاب له ، ومن
أحصاها دخل الجنّة «. ورواها العامّة أيضا بأسانيد متعدّدة ، باختلاف بعضها في اللفظ ، واستبدال بعض من الأسماء مكان
بعض ـ فيما تضمّن التفصيل منها ـ.
__________________
وزاد في بعضها : «انّ الله وتر يحبّ الوتر».
وإنّما خصّ هذا
العدد بالذكر ـ مع أنّ أسماء الله ـ سبحانه ـ أزيد من ذلك ، بما لا يدخل تحت الضبط
، كما يستفاد من تتبّع الكتاب والسنّة ـ إمّا لاختصاص هذه بما رتّب عليه من دخول
الجنّة بإحصائها واستجابة الدعوة ، أو لامتيازها من سائر الأسماء بمزيد فضل ،
لجمعها أنواعا من المعاني المنبئة عن الجلال ما لا يجمع غيرها.
ولا بدّ أن يكون
تحت كلّ منها معنى ليس في الآخر ، ولو باشتماله على زيادة دلالة لا يدلّ عليها
الآخر ، كالغنىّ والملك ، فانّ الغنيّ هو الذي لا يحتاج إلى شيء ، والملك هو الذي
لا يحتاج إلى شيء ويحتاج إليه كلّ شيء ، فيكون الملك مفيدا معنى الغنيّ وزيادة ؛
وكذلك العليم والخبير : فإنّ العليم يدلّ على العلم فقط ، والخبير يدلّ على علم
بالامور الباطنة.
وربما عجزنا عن
التنصيص على خصوص ما به الافتراق بين اثنين منها ـ وإن كنّا لا نشكّ في أصل
الافتراق ـ كالعظيم والكبير ، فإنّه لا يستعمل أحدهما مكان الآخر في لغة العرب ،
فلا يقال : «فلان أعظم سنّا» مكان قولهم : «أكبر سنّا» ؛ وفي الحديث القدسيّ : «العظمة
__________________
إزاري ، والكبرياء
ردائي» ، ففرّق بينهما فرقا يدلّ على التفاوت ـ وإن كنّا لا نعرفه بعينه ـ.
وإنّما قلنا بوجوب
الافتراق ، لأنّ الأسامي لا تراد لحروفها ، ومخارج أصواتها ، بل لمفهوماتها
ومعانيها ، فلا يجوز أن تكون مترادفة محضة ، حيث دخل تحت الضبط في عدد مخصوص ، وإن
كانت أسماء الله ـ كلّها يندرج بعضها في بعض بالمعنى ، كاندراج «النافع» تحت «اللطيف»
، و «المانع» تحت «القهار» ـ إلى غير ذلك ـ.
ويندرج الكلّ تحت «الله»
لاشتماله على جميع الصفات الإلهيّة ، والأعظم مستور فيها إلّا على أهله ، ولها خواصّ عجيبة ، وآثار غريبة ، ومناسبات للنفوس
، وتأثيرات فيها ، ذكرا وكتابة ووفقا واستصحابا ، بشرائط مخصوصة ذكرها جماعة من أهل هذا الفنّ
في كتبهم ومصنّفاتهم.
__________________
فصل [٣]
[تحقيق معنى إحصاء الأسماء]
قال الشيخ الفقيه
الصدوق محمّد بن عليّ بن بابويه القمّي ـ رحمهالله ـ : «إحصاؤها هو الإحاطة بها ، والوقوف على معانيها ؛ وليس
معنى الإحصاء عدّها».
وقال السيّد فضل
الله الراوندي ـ في شرح الشهاب :
«الإحصاء بمعنى
الإطاقة ، كما قال عليهالسلام : «استقيموا ولن تحصوا». وقال تعالى : (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) [٧٣ / ٢٠] أي لن
تطيقوه. وفي الحديث : «إنّ لله تسعة وتسعين اسما ، من
__________________
أحصاها دخل الجنّة».
ومعناه : من أطاق أن يقتدر بها قدر ما يطيق دخل الجنّة».
وقال بعض أهل المعرفة
:
«إحصاؤها أن
يجعلها أسماء لنفسه بتحصيل معانيها فيها بقدر الإمكان ؛ وهذا كقوله عليهالسلام : «تخلّقوا بأخلاق الله» ؛ وإلّا فلو أنّ أحدا أحصى ألف
ألف اسم من أسمائه العظام بمجرّد اللسان ، من غير أن ينطبع في طبعه ، وينتقش في
نفسه تلك المعاني المدلول عليها بتلك الأسامي ، فمثله (كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا
يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً) [٢ / ١٧١]».
أراد بذلك أن يثبت
للعبد من هذه الصفات امور [ا] تناسبها على الجملة وتشاركها في الاسم ، وإن لم
تماثلها مماثلة تامّة».
وقال بعض العلماء :
«اعلم أنّ من لم
يكن له حظ من معانى أسماء الله ـ تعالى ـ إلّا أن يسمع لفظه ويفهم في اللغة تفسيره
ووضعه ، ويشهد
__________________
بالقلب وجوده
ومعناه لله ـ تعالى ـ فهو مبخوس الحظّ نازل الدرجة ، ليس يحسن أن يتبجّح بما ناله.
فإنّ سماع الألفاظ
لا يستدعي إلّا سلامة حاسّة السمع ، التي بها تدرك الأصوات ، وهذه رتبة تشارك
البهيمة فيها.
وأمّا فهم وضعه في
اللغة ، فلا يستدعي إلّا معرفة العربيّة ، وهذه رتبة يشارك فيها الأديب اللغويّ ،
بل الغوي البدويّ.
وأمّا اعتقاد ثبوت
معناه لله تعالى ـ من غير كشف ـ فلا يستدعي إلّا فهم معاني تلك الألفاظ ، والتصديق
بها ؛ وهذه رتبة يشارك فيها العاميّ ، بل الصبيّ ؛ فإنّه بعد فهم الكلام إذا القي
هذه المعاني إليه تلقّاها وتلقّنها واعتقدها بقلبه ، وصمّم عليها. وهذه درجات أكثر
العلماء ـ فضلا من غيرهم ـ ولا ينكر فضل هؤلاء بالإضافة إلى من لم يشاركهم في هذه
الدرجات الثلاث ، ولكنّه نقص ظاهر بالإضافة إلى ذروة الكمال ، فإنّ حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين ؛
بل حظوظ المقرّبين من
معاني أسماء الله ـ تعالى ـ ثلاثة :
الأوّل
: معرفة هذه المعاني
على سبيل المكاشفة والمشاهدة ، حتّى تتّضح لهم حقائقها بالبرهان الذي لا يجوز فيه
الخطاء ، وينكشف لهم اتّصاف الله تعالى بها انكشافا يجرى في الوضوح والبيان مجرى
اليقين ، الحاصل للإنسان بصفاته الباطنة التى
__________________
يدركها بمشاهدة
باطنة ، لا بإحساس ظاهر ؛ وكم بين هذا وبين الاعتقاد المأخوذ من الآباء والمعلّمين
تقليدا ، والتصميم عليه ، وإن كان مقرونا بأدلّة جدليّة كلاميّة.
الحظّ الثاني من حظوظهم : استعظامهم ما ينكشف لهم من صفات الجلال على وجه ينبعث من
الاستعظام شوقهم إلى الاتّصاف بما يمكنهم من تلك الصفات ، ليقربوا بها من الحقّ
قربا بالصفة ـ لا بالمكان ـ فيأخذوا من الاتّصاف بها شبها بالملائكة المقرّبين عند
الله ـ تعالى ـ ولن يتصوّر أن يمتلأ القلب باستعظام صفة واستشرافها عليه ، إلّا
ويتبعه شوق إلى تلك الصفة ، وعشق لذلك الكمال والجمال ، وحرص على التحلّى بذلك
الوصف ، إن كان ذلك ممكنا للمستعظم بكماله ؛ وإن لم يمكن بكماله فينبعث الشوق إلى
القدر الممكن منه لا محالة.
ولا يخلو عن هذا
الشوق أحد إلّا لأحد أمرين :
إمّا لضعف المعرفة
واليقين بكون الوصف المعلوم من أوصاف الجلال والكمال.
وإمّا كون القلب
ممتلئا بشوق آخر ، مستغرقا به ؛ فالتلميذ إذا شاهد كمال استاده في العلم ، انبعث
شوقه إلى التشبّه به والاقتداء به ، إلّا إذا كان ممنوعا بالجوع ـ مثلا ـ فإنّ
استغراق باطنه بشوق القوت ربما منع انبعاث شوق العلم.
ولهذا ينبغي أن
يكون الناظر في صفات الله ـ تعالى ـ خاليا بقلبه عن إرادة ما سوى الله ـ عزوجل ـ فإنّ المعرفة بذر الشوق ، ولكن مهما صادف [ت] قلبا خاليا
عن حسكة
الشهوات ، فإن لم
يكن خاليا لم يكن البذر منجحا.
الحظّ الثالث : السعي في اكتساب الممكن من تلك الصفات والتخلّق بها ،
والتحلّي بمحاسنها ، وبه يصير العبد ربّانيّا ـ أي قريبا من الربّ ـ تعالى ـ وبه
يصير رفيقا للملإ الأعلى من الملائكة ، فإنّهم على بساط القرب فمن صرف [همّته] إلى
شبه من صفاتهم نال شيئا من قربهم بقدر ما نال من أوصافهم المقرّبة لهم إلى الحقّ ـ
تعالى ـ».
ـ ثمّ قال : ـ
«فإن قلت : فظاهر
هذا الكلام يشير إلى إثبات مشابهة بين العبد وبين الله ـ تعالى ـ لأنّه إذا تخلّق
بأخلاق الله كان شبها له ، ومعلوم شرعا وعقلا أنّ الله تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [٤٢ / ١١] ولا
يشبه شيئا ولا يشبهه شيء.
فأقول : مهما عرفت
معنى المماثلة المنفيّة عن الله ـ تعالى ـ عرفت أنّه لا مثل له ؛ ولا ينبغي أن
يظنّ أنّ المشاركة في كلّ وصف توجب المماثلة ؛ أفترى أنّ الضدّين يماثلان ـ وبينهما
غاية البعد الذي لا يتصوّر أن يكون بعد فوقه ـ وهما متشاركان في أوصاف كثيرة ، إذ
السواد يشارك البياض في كونه عرضا ، وفي كونه لونا ، وفي كونه مدركا بالبصر ـ وامور
اخر سواه ـ أفترى أنّ من قال : «إنّ الله ـ تعالى ـ موجود لا في محلّ ؛ وإنّه سميع
، بصير ، عالم ، مريد ، متكلّم ، حيّ ، قادر ، فاعل ؛ وإنّ الملك أو نفس الإنسان ـ
أيضا ـ كذلك» فقد شبّه وأثبت المثل؟
هيهات ـ ليس الأمر
كذلك ، ولو كان كذلك ، لكان الخلق
كلّهم مشبّهة ، إذ
لا أقلّ من إثبات المشاركة في الوجود ، وهو موهم للمشابهة ؛
بل المماثلة عبارة
عن المشاركة في النوع والماهيّة ؛ والفرس وإن كان بالغا في الكياسة لا يكون مثلا
للإنسان ، لأنّه مخالف له بالنوع وإنّما شابهه بالكياسة التي هي عارض [ة] خارج [ة]
من الخاصيّة المقوّمة لذات الإنسانيّة ؛ والخاصيّة الإلهيّة : أنّه الموجود الواجب
الوجود بذاته ، الذي عنه يوجد كلّ ما في الإمكان وجوده على أحسن وجوه النظام
والكمال.
وهذه الخاصيّة ،
لا تتصوّر فيها مشاركة البتّة ؛ والمماثلة بها تحصل ؛ فكون العبد رحيما صبورا
شكورا لا يوجب المماثلة ؛ ككونه سميعا ، بصيرا عالما ، قادرا ، حيّا ، فاعلا.
بل أقول :
الخاصيّة الإلهيّة ليست إلّا لله تعالى ، ولا يعرفها إلّا الله ، ولا يتصوّر أن
يعرفها إلّا هو ، أو من هو مثله ، وإذ لم يكن له مثل فلا يعرفها غيره ، فإذن الحقّ
ما قيل : «لا يعرف الله إلّا الله» ، ولذلك لم يعط أجلّ خلقه إلّا
اسما حجبه به ، فقال : (سَبِّحِ اسْمَ
رَبِّكَ الْأَعْلَى) [٨٧ / ١].
والله ما عرف الله
غير الله في الدنيا والآخرة».
ثمّ شرع في شرح
معاني أسماء الله ـ سبحانه ـ وبيان حظّ العبد منها واحدا واحدا ، ولنورد ملخّص ما
ذكره ـ ومن الله التأييد ـ :
__________________
الله
اسم للموجود الحقّ
الجامع لصفات الإلهيّة ، المنعوت بنعت الربوبيّة ، المتفرّد بالوجود الحقيقي ؛
فإنّ كلّ موجود سواه غير مستحقّ للوجود بذاته ، وإنّما استفاد الوجود منه ، فهو من
حيث ذاته هالك ، ومن [ال] جهة التي تليه موجود.
وهو أخصّ الأسماء
وأعظمها ، لجمعه الصفات الإلهيّة كلّها ـ وسائر الأسماء لا يدلّ إلّا على آحاد
المعاني ، من علم أو قدرة أو فعل ـ ولعدم انطلاقه على غيره ـ لا حقيقة ولا مجازا ـ
لعدم اتّصاف غيره بشوب منه ، كسائر الأسماء ؛ ولهذا يعرف سائر الأسماء بالإضافة
إليه ، فيقال : «الجبّار من أسماء الله» ؛ ولا يقال : «الله من أسماء الجبّار».
وحظّ العبد من هذا
الاسم التألّه ، بأن يكون مستغرق القلب والهمّة بالله ، لا يرى غيره ، ولا يلتفت
إلى سواه ، ولا يرجو ولا يخاف إلّا إيّاه. وكيف لا يكون كذلك؟! وقد فهم من هذا
الاسم أنّه الموجود الحقيقي الحقّ ، وكلّ ما سواه فان وهالك وباطل إلّا به ؛ فيرى
أوّلا نفسه أوّل هالك وباطل ، كما رآه رسول الله صلىاللهعليهوآله حيث قال : «أصدق شعر
__________________
قاله شاعر قول
لبيد :
ألا كلّ شيء ما
خلا الله باطل
|
|
[................... ]
|
الرحمن الرحيم
مشتقّان من «الرحمة»
وهي إفاضة الخير على المحتاجين عناية بهم ورحمة الله ـ تعالى ـ تامّة وعامّة
وكاملة.
أمّا تمامها : فمن
حيث أراد قضاء حاجات المحتاجين وقضاها عناية بهم. وأمّا عمومها : فمن حيث شمل
المستحقّ وغير المستحقّ ، وعمّ الدنيا والآخرة ، وتناول الضرورات وغيرها. وأمّا
كمالها : فلخلوّها عن الرقّة المؤلمة التي تعتري الرحيم ، فتحرّكه إلى قضاء حاجة
المرحوم ؛ فإنّ تلك الرقّة يكاد صاحبه [ا] يقصد بفعله دفع الألم عن نفسه ، فيكون
نظر لنفسه ، وسعى لغرض نفسه ـ لا للمرحوم لأجل المرحوم ـ وذلك نقصان عن كمال معنى
الرحمة.
وليعلم أنّ تلك
الرقّة لا مدخل لها في تحقّق معنى الرحمة ، وإنّما
__________________
تحصل الرحمة بحصول
ثمرتها ، ولا حظّ للمرحوم في تألّم الراحم وتفجّعه ، وإنّما تألّمه لضعف نفسه
ونقصانها ، ولا يزيد ذلك في غرض المحتاج شيئا.
والرحمن أخصّ من
الرحيم ؛ ولهذا لا يسمّى به غير الله ، فبالحريّ أن يكون المفهوم منه نوعا من
الرحمة هي أبعد من مقدورات العباد ، وهي ما يتعلّق بالسعادة الاخرويّة.
أقول : وفي أخبار أهل البيت عليهمالسلام : «إنّ الرحمن هو بجميع العالم والرحيم بالمؤمنين خاصّة».
وحظّ العبد من اسم
«الرحمن» أن يرحم عباد الله الغافلين ، فيصرفهم عن طريق الغفلة إلى الله ـ تعالى ـ
بالوعظ والنصح ، بطريق اللطف ـ دون العنف ـ وأن ينظر إلى العصاة بعين الرحمة ، لا
بعين الإزراء ، وأن يكون كلّ معصية تجري في العالم كمصيبة له في نفسه ،
فلا يألو جهدا في إزالتها بقدر وسعه ، رحمة لذلك العاصي أن يتعرّض لسخط الله تعالى
ويستحقّ البعد عن جواره.
__________________
وحظّه من اسم «الرحيم»
أن لا يدع فاقة لمحتاج إلّا يسدّها بقدر طاقته ، ولا يترك فقيرا في جواره إلّا
ويقوم بتعهّده ورفع فقره ، إمّا بماله أو جاهه أو السعي في حقّه بالشفاعة إلى غيره
، فإن عجز عن جميع ذلك فيعينه بالدعاء له وإظهار الحزن بسبب حاجته ، رقّة عليه
وعطفا ، حتّى كأنّه مساهم له في ضرره وحاجته.
سؤال وجواب :
لعلّك تقول : ما
معنى كونه تعالى رحيما ، وكونه أرحم الراحمين؟ والرحيم لا يرى مبتلى ومضرورا
ومعدما ومريضا ـ وهو يقدر على إماطة ما بهم ـ إلّا ويبادر إلى إماطته ؛ والربّ ـ تعالى
ـ قادر على كفاية كلّ بليّة ، ودفع كلّ فقر ، وإماطة كلّ مرض ، وإزالة كلّ ضرر ، والدنيا
طافحة بالأمراض والمحن والبلايا ، وهو قادر على إزالة جميعها ، وتارك عباده ممتحنين
بالرزايا والمحن؟
فجوابك : أنّ
الطفل الصغير قد ترقّ له أمّه فتمنعه من الحجامة ، والأب العاقل يحمله عليها قهرا
، والجاهل يظنّ أنّ الرحيم هي الامّ ـ دون الأب ـ والعاقل يعلم أنّ إيلام الأب
إيّاه بالحجامة من كمال رحمته وعطفه وتمام شفقته ، وأنّ الامّ له عدوّ في صورة
صديق ؛ وأنّ الألم القليل إذا كان سببا للّذة الكثيرة لم يكن شرّا ـ بل كان خيرا ـ
والرحيم يريد الخير للمرحوم لا محالة ، وليس في الوجود شر إلّا وفي ضمنه
__________________
خير ، لو رفع ذلك
الشرّ لبطل الخير الذي في ضمنه ، وحصل ببطلانه شر أعظم من الشرّ الذي يتضمّنه.
فالخير مراد لذاته ، والشرّ مراد لغيره ؛ والمراد لذاته قبل المراد لغيره ، ولهذا
قال تعالى : «سبقت رحمتي غضبي».
فغضبه إرادته
للشرّ بالعرض ، ورحمته إرادته للخير بالذات ؛ فالآن إن خطر لك نوع من الشرّ لا ترى
تحته خيرا ، أو خطر لك أنّه كان تحصيل ذلك الخير ممكنا ـ لا في ضمن الشرّ ـ فاتّهم
عقلك القاصر في أحد الخاطرين :
إمّا في قولك : «إنّ
هذا الشرّ لا خير تحته» ؛ فإنّ هذا ممّا تقصر العقول عن معرفته ، ولعلّك فيه مثل
الصبيّ الذي يرى الحجامة شرّا محضا ، أو مثل الغبيّ الذي يرى القصاص شرّا محضا ،
لأنّه ينظر إلى خصوص شخص المقتول ويراه في حقّه شرّا محضا ، ويذهل عن الخير العامّ
الحاصل للناس كافّة ، ولا يدرى أنّ التوسّل بالشرّ الخاصّ إلى الخير العامّ خير
محض لا ينبغي للخيّر أن يهمله.
أو اتّهم عقلك في
الخاطر الثاني ، وهو قولك : «إنّ تحصيل ذلك لا في ضمن ذلك الشرّ ممكن» فإنّ هذا
أيضا دقيق غامض ؛ فليس كلّ ممكن ومحال ممّا يدرك استحالته وإمكانه بالبديهة ، ولا بالنظر
القريب ، بل ربما عرف بنظر دقيق غامض يقصر عنه الأكثرون.
فاتّهم عقلك في
هذين الخاطرين ، ولا تشكّن أصلا في أنه أرحم الراحمين ، وأنّه «سبقت رحمته غضبه».
__________________
الملك
هو الذي يستغني في
ذاته وصفاته عن كلّ موجود ، ويحتاج إليه كلّ موجود ؛ بل لا يستغني عنه شيء في شيء
ـ لا في ذاته ولا في صفاته ولا في وجوده ولا في بقائه ـ بل كلّ شيء فوجوده منه أو
ممّا هو منه ، فكلّ شيء سواه فهو له مملوك في ذاته وصفاته ، وهو مستغن عن كل شيء.
فهذا هو الملك
المطلق ؛ والعبد لا يتصوّر أن يكون كذلك ، فإنّه أبدا فقير إلى الله ، ولكن يتصور
أن يستغني عن بعض الأشياء ولا يستغني عنه بعض الأشياء. فيكون له شوب من الملك.
فالملك من العباد
هو الذي لا يملكه إلّا الله ـ تعالى ـ بل يستغني عن كلّ شيء سوى الله ، وهو مع ذلك
يملك مملكته بحيث يطيعه فيها جنوده ورعاياه ؛ وإنّما مملكته الخاصّة به قلبه
وقالبه ، وجنده شهوته وغضبه وهواه ، ورعيّته لسانه وعيناه ويداه وسائر أعضائه.
فإذا ملكها ـ ولم تملكه ـ وأطاعته ـ ولم يطعها ـ فقد نال درجة الملك في عالمه ،
فإن انضمّ إليه استغناؤه عن كلّ الناس ، واحتياج الناس كلّهم إليه في حياتهم
العاجلة والآجلة ، فهو الملك في العالم الأرضي.
وذلك رتبة
الأنبياء ـ صلوات الله عليهم ـ فإنّهم استغنوا في الهداية إلى الحياة الاخرويّة ،
عن كل أحد سوى الله تعالى ، واحتاج إليهم كلّ أحد. ويليهم في هذا الملك العلماء ،
الذين هم ورثة الأنبياء وإنّما ملكهم بقدر قدرتهم على إرشاد العباد واستغنائهم عن
الاسترشاد.
القدّوس
هو المنزّه عن كلّ
وصف يدركه حس أو يتصوّره خيال ، أو يسبق إليه وهم ، أو يختلج به ضمير ، أو يفضي به
فكر.
لست أقول : «منزّه
عن العيوب والنقائص» ، فإنّ ذكر ذلك يكاد يقرب من ترك الأدب ، فليس من الأدب أن
يقول القائل : «ملك البلد ليس بحائك ولا حجّام» ، فإنّ النفي يكاد يوهم الإمكان ،
وفي ذلك الإيهام نقص.
بل أقول : القدّوس
هو المنزّه عن كل وصف من أوصاف الكمال الذي يظنّه أكثر الخلق ، لأنّ الخلق إنّما
يصفونه بما هو كمال في حقّهم ، والله تعالى منزّه عن أوصاف كمالهم ، كما أنّه
منزّه عن أوصاف نقصهم ؛
بل كلّ صفة تتصوّر
للخلق ، فهو مقدّس عنها وعمّا يشبهها ويماثلها ؛ ولو لا ورود الرخصة والإذن
بإطلاقها ، لم يجز إطلاق أكثرها.
وقدس العبد في أن
ينزّه علمه وإرادته :
أمّا علمه :
فينزّهه عن المتخيّلات والمحسوسات والموهومات وكلّ ما تشارك فيها البهائم من
الإدراكات ؛ بل يكون تردّد نظره وتطواف علمه حول الامور الشريفة الكليّة الإلهيّة
، المتعلقة بالمعلومات الأزليّة الأبديّة ؛ دون الشخصيّات المتغيّرة المستحيلة.
وأمّا إرادته :
فينزّهها عن أن تدور حول الحظوظ البشريّة التي ترجع إلى لذّة الشهوة والغضب ،
ومتعة المطعم والمنكح والملبس
والمنظر ، وما لا
يصل إليه من اللذّات ، إلّا بواسطة الحسّ والقالب ؛ بل لا يريد إلّا الله تعالى ،
ولا يبقى له حظّ إلّا فيه ، ولا يكون له شوق إلّا إلى لقائه ، ولا فرح إلّا بالقرب
منه ؛ ولو عرضت عليه الجنّة وما فيها من النعيم ، لم يلتفت همّته إليها ولم يبتغ
من الدار إلّا ربّ الدار.
وعلى الجملة ـ الإدراكات
الحسيّة والخياليّة تشارك البهائم فيها ، فينبغي أن يترقّى عنها إلى ما هو من
خواصّ الإنسانيّة ؛ والحظوظ البشريّة الشهوانيّة تزاحم البهائم أيضا فيها ، فينبغي
أن ينزّه عنها ؛
فجلالة المريد على
قدر جلالة مراده ، ومن همّته ما يدخل في بطنه فقيمته ما يخرج منه ، ومن لم يكن
همّته سوى الله ، فدرجته على قدر همّته ، ومن ترقى علمه عن درجة المتخيّلات
والمحسوسات وقدس إرادته عن مقتضى الشهوات ، فقد نزل بحبوحة حظيرة القدس .
السّلام
هو الذي يسلم ذاته
عن العيب والنقص ، وصفاته عن النقص ، وأفعاله عن الشرّ ، حتّى إذا كان كذلك لم يكن في الوجود
سلامة إلّا وكانت معزوّة إليه ، صادرة منه. وقد فهمت أنّ أفعاله تعالى سالمة عن
الشرّ المراد لذاته ـ لا لخير حاصل في ضمنه أعظم منه ـ
__________________
وكلّ عبد سلم من
الغشّ والحقد والحسد وإرادة الشرّ قلبه ، وسلم عن الآثام والمحظورات جوارحه ، وسلم
عن الانتكاس والانعكاس صفاته : فهو الذي يأتي الله بقلب سليم ، وهو السلام من
العباد ، القريب في وصفه من السلام المطلق الحقّ ، الذي لا مشوبة في صفته.
وأعني بالانتكاس
في صفاته أن يكون عقله أسير شهوته وغضبه ـ إذ الحقّ عكسه ، وهو أن يكون الشهوة
والغضب أسير العقل وطوعه.
المؤمن
هو الذي يعزى إليه
الأمن والأمان ، بإفادته أسبابه وسدّه طرق المخاوف كلّها ؛
وهو الله ـ سبحانه
ـ إذ لا أمن ولا أمان في الدنيا من الآفات والأمراض والمهلكات ، ولا في الآخرة من
العذاب والنقمات ، إلّا وهو مستفاد من الله بأسباب هو متفرّد بخلقها ، والهداية
إلى استعمالها.
ولا يمنع ذلك خلقه
لأسباب الخوف أيضا ، كما لا يمنع كونه «مذلّا» كونه «معزّا» ، ولا كونه «خافضا»
كونه «رافعا» ؛ لكن «المؤمن» ورد التوقيف به دون «المخوّف».
وحظّ العبد من هذا
الوصف : أن يأمن الخلق كلّهم جانبه ؛ بل يرجو كلّ خائف الاعتضاد به في دفع الهلاك
عن نفسه في دينه ودنياه.
وفي الحديث : «المؤمن من آمن جاره بوائقه » .
وأحقّ العباد بهذا
الاسم من كان سببا لأمن الخلق من عذاب الله بالهداية والإرشاد ، وهم الأنبياء
والعلماء ؛ ولذلك قال نبيّنا صلىاللهعليهوآله : «إنّكم تتهافتون في النار ، وأنا آخذ بحجزكم ».
أقول : وللمؤمن
معنى آخر ، وهو المصدّق بالأشياء على ما هي عليها ، وعليه دلّ كلام مولانا أمير
المؤمنين عليهالسلام حيث قال في حديث ذعلب : «مؤمن لا بعبادة» ولا شكّ أنّه سبحانه مصدّق بجميع
الامور ـ معدوما وموجودا ـ تصديقا على أقصى رتب ما يمكن.
__________________
المهيمن
معناه في حقّ الله
ـ تعالى ـ أنّه القائم على خلقه بأعمالهم وأرزاقهم وآجالهم ، باطلاعه واستيلاعه
وحفظه ، وكلّ مشرف على كنه الامور مستول عليه ، حافظ له ، فهو مهيمن عليه .
ولن يجتمع ذلك على
الإطلاق والكمال إلّا لله تعالى ، ولذلك قيل : «إنّه من أسماء الله في الكتب
القديمة».
وكلّ عبد راقب
قلبه حتّى أشرف على أغواره وأسراره ، واستولى مع ذلك على تقويم أحواله وأوصافه ،
وقام بحفظه على الدوام على مقتضى تقويمه ، فهو مهيمن بالإضافة إلى قلبه ، فإن
اتّسع إشرافه واستيلاؤه حتّى قام بحفظ بعض عباد الله على نهج السداد ، بعد اطّلاعه
على بواطنهم وأسرارهم بطريق التفرّس والاستدلال بظواهرهم ، كان نصيبه من هذا
المعنى أوفر وحظّه أتمّ.
العزيز
الخطير الذي يقلّ
وجود مثله ، وتشتدّ الحاجة إليه ، ويصعب الوصول إليه ؛ فمن يستحيل مثله ويحتاج
إليه كلّ شيء في كلّ شيء ، ويستحيل الوصول إليه على معنى الإحاطة بكنهه ، أحق بهذا
الاسم ممّن ليس كذلك.
__________________
ومن العباد من
يحتاج إليه الخلق في أهمّ امورهم ـ وهي السعادة الأبديّة.
الجبّار
هو الذي ينفذ
مشيّته على سبيل الإجبار في كلّ أحد ، ولا ينفذ فيه مشيّة أحد ، الذي لا يخرج أحد
عن قبضته ، وتقصر الأيدي دون حمى حضرته.
ومن العباد من
ارتفع عن الاتّباع ، ونال درجة الاستتباع ، بحيث يجبر الخلق بهيئته وصورته على
الاقتداء به ، كما قال نبيّنا صلىاللهعليهوآله : «لو كان موسى حيّا ما وسعه إلّا اتّباعي».
المتكبّر
هو الذي يرى الكلّ
حقيرا بالإضافة إلى ذاته ، ولا يرى العظمة والكبرياء إلّا لنفسه ، فينظر إلى غيره
نظر الملوك إلى العبيد ؛ فإن كانت هذه الرؤية صادقة كان التكبّر حقّا ؛ وليس ذلك
إلّا لله ـ سبحانه ـ.
ومن العباد من
استحقر الدنيا والآخرة مترفّعا عن أن يشغله شيء منهما عن الله ـ جلّ جلاله.
__________________
الخالق البارئ
المصوّر
كلّ ما يخرج من
العدم إلى الوجود ، فيفتقر إلى تقدير أوّلا ، وإلى الإيجاد على وفق التقدير ثانيا
، وإلى التصوير بعد الإيجاد ثالثا. فالله ـ سبحانه ـ هو الخالق البارئ المصوّر
بالاعتبارات الثلاث.
وحظّ العبد من
المصوّر ، أن يحصّل في نفسه صورة الوجود كلّه ، على ما هو عليه بهيئته ونظامه ،
حتّى يحيط بها كأنّه ينظر إليها ؛ والخلق والإيجاد يرجع إلى استعمال القدرة بموجب
العلم ؛ فإذا بلغ في مجاهدة نفسه بالرياضة ، وفي سياستها وسياسة الخلق مبلغا ينفرد
فيها باستنباط امور لم يسبق إليه ، ويقدر مع ذلك على فعلها والترغيب فيها : كان
كالمخترع لما لم يكن له وجود من قبل ، فينطلق عليه اللفظان ـ ولو بنوع من المجاز
البعيد.
الغفّار
هو الذي أظهر
الجميل وستر القبيح. والغفر : هو الستر.
وقد ستر الله ـ سبحانه
ـ على العبد مقابح بدنه التي يستقبحها الأعين ، وغطّاه بجمال ظاهره ـ أوّلا.
ثمّ خواطره
المذمومة وإراداته القبيحة المخطرة بباله في مجاري وساوسه وما ينطوي عليه ضميره ـ من
الغشّ والخيانة وسوء الظنّ بالناس ـ التي لو انكشف شيء منها لهم لمقتوه وأهلكوه ـ ثانيا.
ثمّ ذنوبه التي
يستحقّ الفضيحة بها على ملأ الخلق ، بإسبال الستر
عليها في الدنيا ،
والتجاوز عن عقوبتها في الآخرة ـ ثالثا ـ
وقد وعد أن يبدّل
سيئاته حسنات ، لتستر مقابح ذنوبه بثواب حسناته مهما مات على الإيمان.
وحظّ العبد من هذا
أن يستر من غيره ما يحبّ أن يستر عنه ؛ ففي الحديث : «من ستر على مؤمن عورته ، ستر الله عليه عورته يوم
القيامة».
القهّار
هو الذي يقصم ظهور
الجبابرة من أعدائه ، فيقهرهم بالإماتة والإذلال ، بل الذي لا موجود إلّا وهو مسخّر
تحت قهره وقدرته ، عاجز في قبضته.
ومن العباد من قهر
أعداءه ؛ وأعدى عدوّه نفسه التي بين جنبيه ، وهي أعدى له من الشيطان الذي قد حذّر
عداوته ، ومهما قهر شهوات
__________________
نفسه فقد قهر
الشيطان ، لأنّه أخذ السلاح من يده ؛ بل قهر الناس كافّة فلم يقدر عليه أحد ، إذ
غاية أعدائه السعي في إهلاك بدنه ، وذلك إحياء لروحه ، فإنّ من مات عن شهواته في
حياته ، عاش في مماته.
الوهّاب
الكثير الإعطاء من
غير عوض ولا غرض ـ من عين أو ثناء أو فرح أو صيت أو استكمال أو تخلّص من ذمّ أو
توصّل إلى أن يكون على الأحسن أو على ما ينبغي ـ وكذا «الجواد».
ولن يتصوّر ذلك
حقيقة إلّا من الله ـ سبحانه ـ فإنّ العبد ما لم يكن الفعل أولى به من الترك لم
يقدم عليه ، فيكون إقدامه لغرض نفسه ؛ ولكنّ الذي يبذل جميع ما يملكه ـ حتّى الروح
ـ لوجه الله فقط ـ لا للوصول إلى نعيم الجنّة أو الحذر من عذاب النار ، أو لحظّ
عاجل أو آجل ـ فهو جدير بأن يسمّى وهّابا وجوادا ؛ ودونه الذي يجود لينال نعيم
الجنّة ، ودونه من يجود لينال حسن الا حدوثة.
الرزّاق
هو الذي خلق
الأرزاق والمرتزقة ، وأو صلها إليهم ، وخلق لهم أسباب التمتّع بها.
والرزق رزقان :
ظاهر جسمانيّ للأبدان ـ وهي الأطعمة ـ وباطن روحانيّ للقلوب ـ وهي العلوم والأسرار
ـ وهو أشرفهما إذ به حياة الأبد ، وبالأوّل حياة الجسد إلى مدّة قريبة الأمد ؛
ويمنع كلّ بموت
أهله ، ولهذا وصف
الجهّال بالأموات في قوله ـ عزوجل ـ : (وَما يَسْتَوِي
الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ) [٣٥ / ٢٢].
والمتولّي للرزقين
، هو الله ـ سبحانه ـ ولكنّه (يَبْسُطُ الرِّزْقَ
لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) [١٣ / ٢٦].
وحظّ العبد منه :
أن يكون واسطة بين الله ـ تعالى ـ وبين العباد في وصول الأرزاق إليهم من العلوم
والطعوم ، ففي الحديث : «الخازن الذي يعطي ما امر به طيّبة به نفسه أحد المتصدّقين
».
وأيدي العباد
خزائن الله ، فمن جعلت يده خزانة أرزاق الأبدان ، ولسانه خزانة أرزاق القلوب ، فقد
اكرم بشوب من هذه الصفة.
وليكن حظّه منه
أيضا أن يعرف حقيقة هذا الوصف ، وأنّه لا يستحقّه إلّا الله ، ولا ينتظر الرزق
إلّا منه ، ولا يتوكّل فيه إلّا عليه.
الفتّاح
هو الذي ينفتح
بعنايته كلّ منغلق ، وينكشف بهدايته كلّ مشكل ؛ فتارة يفتح الممالك لأنبيائه ،
ويخرجها من أيدي أعدائه ، ويقول : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ
فَتْحاً مُبِيناً) [٤٨ / ١] ، وتارة يرفع الحجاب من قلوب أوليائه ، ويفتح لهم
الأبواب إلى ملكوت سمائه وجمال كبريائه و
__________________
يقول : (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ
رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ) [٣٥ / ٢].
ومن بيده مفاتيح
الغيب ومفاتيح الرزق ، فبالحريّ أن يكون فتّاحا.
ومن العباد من
يكون بحيث ينفتح بلسانه مغاليق المشكلات الإلهيّة ، ويتيسّر بمعونته ما تعسّر على
الخلق من الامور الدينيّة والدنيويّة.
العليم
معناه ظاهر ،
وكماله أن يحيط علما بكلّ شيء ـ ظاهره وباطنه ، دقيقه وجليله ، أوّله وآخره ،
عاقبته وفاتحته ـ ويكون علمه من حيث الوضوح والكشف على أتمّ ما يمكن ، بحيث لا
يتصوّر مشاهدة وكشف أظهر منه ، ولا يكون مستفادا من المعلومات ، بل تكون المعلومات
مستفادة منه.
وحظّ العبد منه لا
يكاد يخفى ، ولكن يفارق علمه علم الله ـ تعالى ـ في الامور الثلاثة ، فإنّ
معلوماته ـ وإن اتّسعت ـ فهي محصورة في قلبه ، وهي وإن اتّضحت له ، فلا يبلغ
الغاية ، بل كأنّه يراها من وراء ستر رقيق ، وعلمه بها تابع لها ، حاصل بها.
القابض الباسط
هو الذي يقبض
الأرواح عن الأشباح عند الممات ، ويبسط
الأرواح في
الأجساد عند الحياة ؛ ويقبض الصدقات عن الأغنياء ، ويبسط الأرزاق للضعفاء ؛ يبسط
الرزق على الأغنياء حتّى لا تبقى فاقة ، ويقبضه عن الفقراء حتّى لا تبقى طاقة ،
ويقبض القلوب فيضيّقها بما يكشف لها من تعاليه وجلاله ، ويبسطها بما يتعرّف إليها
من لطفه وجماله.
ومن العباد من
الهم به بدائع الحكم ، واوتي جوامع الكلم ، فتارة يبسط قلوب العباد بما يذكّرهم من
آلاء الله ونعمائه ، وتارة يقبضها بما يحذّرهم من فنون عذابه وبلائه.
الخافض الرافع
هو الذي يخفض
الكفّار إلى دركات ، ويرفع الّذين آمنوا (وَالَّذِينَ أُوتُوا
الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) [٥٨ / ١١] ؛ يخفض
أعدائه بالإبعاد ، ويرفع أوليائه بالتقريب والإسعاد ؛ يخفض من قصر مشاهدته على
المحسوسات وهمّته على الشهوات إلى أسفل سافلين ، ويرفع من نزّه فكره عن المحسوسات
والمتخيّلات وإرادته عن رسم الشهوات إلى افق الملائكة المقرّبين.
ومن العباد من
يخفض الباطل ويرفع الحقّ ، بزجر المبطل ونصر المحقّ فيعادي أعداء الله ليخفضهم ،
ويوالي أولياء الله ليرفعهم.
المعزّ المذلّ
هو الذي يؤتي
الملك من يشاء ، وينزعه ممّن يشاء.
والملك الحقيقي في
الخلاص من ذلّ الحاجة وقهر الشهوة ووصمة الجهل ، فمن رفع الحجاب عن قلبه حتّى شاهد
جمال حضرته ، ورزقه القناعة حتّى استغنى بها عن خلقه ، وأمدّه بالقوّة والتأييد
حتّى استولى بها على صفات نفسه : فقد أعزّه وآتاه الملك عاجلا ، وسيعزّه في الآخرة
بالتقريب ويناديه : (يا أَيَّتُهَا
النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ* ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً*
فَادْخُلِي فِي عِبادِي* وَادْخُلِي جَنَّتِي) [٨٩ / ٢٧ ـ ٣٠].
ومن مدّ عينه إلى الخلق
حتّى احتاج إليهم ، وسلّط عليه الحرص حتّى لم يقنع بالكفاية ، ـ واستدرجه بمكره
حتّى اغترّ بنفسه ، وبقي في ظلمة الجهل : فقد أذلّه وسلبه الملك ، وسيخاطب ويقال
له : (وَلكِنَّكُمْ
فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ
حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ* فَالْيَوْمَ لا
يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ) [٥٧ / ١٤ ـ ١٥].
وهذا غاية الذلّ ،
فهو المعزّ المذلّ ، يعزّ من يشاء ويذلّ من يشاء.
وكلّ عبد استعمل
في تيسّر أسباب العزّ على يده فهو ذو حظّ من هذا الوصف.
السميع
هو الذي لا يعزب
عن إدراكه مسموع ـ وإن خفى ـ فيسمع السرّ والنجوى ، بل ما هو أدقّ من ذلك وأخفى ،
ويدرك دبيب النملة السوداء على الصخرة الصمّاء في الليلة الظلماء ، ويسمع حمد
الحامدين فيجازيهم ، ودعاء الداعين فيستجيب لهم ، ويسمع بغير أصمخة وآذان ، كما يفعل
بغير جارحة ويتكلّم بغير لسان ؛ وسمعه منزّه عن أن يطرق إليه الحدثان.
البصير
هو الذي يشاهد
ويرى حتّى لا يعزب عنه ما تحت الثرى ، وإبصاره أيضا منزّه عن أن يكون بحدقة وأجفان
، ومقدّس عن التغيّر والحدثان.
وحظّ العبد من
الاسمين من حيث الحسّ الظاهر ، ولكنّه ضعيف قاصر ، إذ لا يدرك جميع المسموعات
والمبصرات ، بل ما قرب منهما وظهر ، فليكن حظّه منهما أن يعلم أنّ الله سميع ،
فيحفظ لسانه ؛ ويعلم أنّه بصير فلا يستهين بنظره إليه واطّلاعه عليه ؛ ويعلم أنّه
لم يخلق له السمع إلّا ليسمع كلام الله ـ تعالى ـ وكتابه الذي أنزله ، فيستفيد به
الهداية ؛ وأنّه لم يخلق له البصر إلّا لينظر إلى الآيات وعجائب الملكوت والسماوات
فلا يكون نظره إلّا عبرة.
الحكم
هو الحاكم المحكم
والقاضي المسلّم ، الذي لا رادّ لحكمه ولا معقّب لقضائه ، ومن حكمه في حقّ العباد (أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما
سَعى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) ، [٥٣ / ٣٩ ـ ٤٠] فإنّ (الْأَبْرارَ لَفِي
نَعِيمٍ* وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) [٨٢ / ١٤ ـ ١٥].
ومعنى حكمه للبرّ والفاجر بالسعادة والشقاوة أنّه جعل البرّ والفجور سببا يسوق
صاحبها إلى السعادة والشقاوة ، كما جعل الأدوية والسموم أسبابا تسوق متناولها إلى
الشفاء والهلاك ، وإذ كان معنى حكمه ترتيب الأسباب وتوجيهها إلى المسبّبات ، كان
حكما مطلقا ، لأنّه مسبّب كلّ الأسباب ـ جملتها وتفصيلها.
وحظّ العبد من
الحكم ما إليه في تدبير الرياضات والمجاهدات ، وتقدير السياسات التي تفضي إلى
مصالح الدين والدنيا ، ولذلك استخلف الله عباده في الأرض ، واستعمرهم فيها ، لينظر
كيف يعملون.
وليكن حظّه منه ـ أيضا
ـ أن يعلم أنّ الأمر مفروغ منه ، وأنّ المقدور كائن ، وأنّ الهمّ فضل ؛ فيكون في رزقه مجملا في الطلب
مطمئنّ النفس ، غير مضطرب القلب ، وهذا حظّه الدينيّ منه.
العدل
معناه العادل ،
وهو الذي يصدر منه فعل العدل المضادّ للجور والظلم ؛ أعني : وضع كلّ شيء فى موضعه
كما ينبغي وعلى ما ينبغي.
ولن يعرف عدالة
الله ـ سبحانه ـ من لم يحط علما بأفعاله جلّ وعزّ ـ من أعلى ملكوت السماوات إلى
منتهى الثرى ـ حتّى إذا لم ير في خلق الرحمن من تفاوت ، ثمّ يرجع البصر فما رأى من
فطور ، ثمّ يرجع مرّة اخرى فانقلب إليه البصر خاسئا وهو حسير ، قد بهره جمال الحضرة الربوبيّة ، وحيّره اعتدالها
وانتظامها ، فعند ذلك يعبق بفهمه شيء من معاني عدل الله تعالى.
وشرح ذلك يفتقر
إلى مجلّدات ، وكذا شرح معنى كلّ اسم ، فإنّ
__________________
الأسامي المشتقّة
من الأفعال لا يفهم إلّا بعد فهم الأفعال ، وكلّ ما في الوجود من أفعال الله ـ تعالى
ـ ومن لم يحط علما بتفصيلها ولا بجملتها فلا يكون معه إلّا محض التفسير واللغة.
ولا مطمع في العلم
بتفصيلها ، فإنّه لا نهاية له ؛ وأمّا الجملة فللعبد طريق إلى معرفته ، وبقدر
اتّساع معرفته فيها يكون حظّه من معرفة الأسماء ، وذلك يستغرق العلوم كلّها.
أقول : وسنذكر
نبذا من آثار رحمة الله وآيات عظمته وحكمته ولطفه وعدالته في أواخر هذا المقصد ـ إن
شاء الله تعالى ـ.
وحظّ العبد من
العدل لا يخفى ؛ فأوّل ما عليه من العدل في صفات نفسه ، وهو أن يجعل الشهوة والغضب
أسيرا تحت إشارة العقل والدين ، ومهما جعل العقل خادما للشهوة والغضب فقد ظلم.
وهذا جملة ،
وتفصيله مراعاة حدود الشرع كلّه.
وعدله في كلّ عضو
أن يستعمله على الوجه الذي أذن الشرع فيه.
وأمّا عدله في
أهله وذريّته ثمّ في رعيّته ـ إن كان من أهل الولاية ـ فلا يخفى.
وليكن حظّه من
الإيمان بعدالة الله ـ سبحانه ـ أن لا يعترض عليه في تدبيره وحكمه وسائر أفعاله ـ وافق
مراده أو لم يوافق ـ وأن لا يسبّ الدهر ولا ينسب الأشياء إلى الفلك ، ولا يعترض
عليه ـ كما جرت به العادة ـ بل يعلم أنّ كلّ ذلك أسباب مسخّرة ، وأنّها رتّبت
ووجّهت إلى المسبّبات ـ أحسن ترتيب وتوجيه ، بأقصى وجوه العدل واللطف.
اللطيف
هو العالم بدقائق
المصالح وغوامضها ، السالك في إيصالها إلى المستصلح سبيل الرفق ـ دون العنف ـ ولا
يتصوّر كمال ذلك في العلم والفعل إلّا لله ـ تعالى ـ ولن يعرف اللطف في فعله
سبحانه إلّا من عرف تفاصيل أفعاله ، وعرف دقائق الرفق فيها ، وبقدر اتّساع المعرفة
فيها يتّسع المعرفة بمعنى اسم اللطيف. وشرح ذلك أيضا يستدعى تطويلا ، ثمّ لا
يتصوّر أن يفي مجلّدات بعشر عشيره.
أقول
: وسنشير إلى جمل من
ذلك فيما بعد ـ إن شاء الله ـ.
وحظّ العبد من هذا
الوصف ، الرفق بعباد الله واللطف بهم في الدعوة إلى الله والهداية إلى سعادة الأبد
، من غير أذى وعنف ، ومن غير تعصّب وخصام ؛ وأحسن وجوه اللطف فيه الجذب إلى قبول
الحقّ بالشمائل والسيرة المرضيّة ، والأعمال الصالحة ، فإنّها أوقع وألطف من
الألفاظ المرتّبة.
أقول
: وإنّما سمّي فعل
ما يقرّب العباد إلى الله ـ تعالى ـ ويبعّدهم عن المعاصي لطفا بهم لأنّ ذلك تلطيف
لهم عن كثافة التجسّم ، وتجريد إيّاهم عن المواد الجسمانيّة ؛ وعلى هذا فإطلاق «اللطيف»
على الله تعالى بمعنى فاعل اللطف.
وحظّ العبد منه
إرشاد العباد إلى ما يقرّبهم إلى الله ـ تعالى ـ ويبعّدهم عن النشأة الفانية.
الخبير
هو الذي لا يعزب
عنه الأخبار الباطنة ، فلا يجري في الملك والملكوت شيء ولا تتحرّك ذرّة ولا تسكن
ولا تضطرب نفس ولا تطمئنّ إلّا ويكون عنده خبره.
وهو بمعنى العليم
، ولكن العلم إذا اضيف إلى الخفايا الباطنة سمّي «خبرة» ، وسمّي صاحبها «خبيرا».
وحظّ العبد منه أن
يكون خبيرا بما يجري في عالمه ، وعالمه قلبه وبدنه ، والخفايا التي يتّصف القلب
بها من الغشّ والخيانة ، والتطواف حول العاجلة ، واضمار الشرّ وإظهار الخير.
والتجمّل بإظهار
الإخلاص والإفلاس عنه لا يعرفها إلّا ذو خبرة بالغة ، قد خبّر نفسه ومارسها ، وعرف
مكرها وتلبيسها ، فحاذرها وتشمّر لمعاداتها.
الحليم
هو الذي يشاهد
معصية العباد ويرى مخالفة الأمر ، ثمّ لا يستفزّه غضب ولا يعتريه غيظ ، ولا يحمله
على المسارعة إلى الانتقام ـ مع غاية الاقتدار ـ عجلة وطيش. كما قال تعالى : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ
بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ) [١٦ / ٦١].
وحظّ العبد منه
ظاهر.
العظيم
في أوّل الوضع
إنّما اطلق على الأجسام ، ثمّ استعمل في مدركات البصائر ؛ وكما أنّ ما يحيط البصر
بأطرافه من الأجسام ـ كالجبل ـ إنّما هو عظيم بالإضافة إلى ما دونه ـ وإنّما
العظيم المطلق ما لا يحيط البصر بأطرافه كالسماء ـ فكذلك العظيم المطلق في مدركات
العقول ما جاوز جميع حدود العقول حتّى لم يتصوّر الإحاطة بكنهه لعقل ما ؛ وذلك هو
الله ـ سبحانه ـ.
ومن العباد :
الأنبياء والعلماء ، والذين إذا عرف العقلاء شيئا من صفاتهم امتلأ بالهيبة صدورهم
، حتّى لا يبقى فيهم متّسع.
وعظم كلّ منهم
إنّما يظهر بالإضافة ـ لا مطلقا ـ فعظمتهم ناقصة ، بخلاف عظمة الله ـ جلّ جلاله ـ.
الغفور
هو بمعنى الغفّار
، ولكنّه ينبئ عن نوع مبالغة لا ينبئ عنه «الغفّار» فإنّ الغفّار مبالغة في
المغفرة بالإضافة إلى مغفرة متكرّرة ، مرّة بعد اخرى ، و «الغفور» مبالغة فيها
بالنسبة إلى تمامها وشمولها وكمالها ، حتّى يبلغ أقصى درجاتها ، وقد مضى الكلام
فيه.
الشّكور
هو الذي يجازي
بيسير الطاعات كثير الدرجات ، ويعطي بالعمل
في أيّام معدودة
نعما في الآخرة غير محدودة ؛ ومن جازى الحسنة بأضعافها يقال : إنّه شكر تلك الحسنة
؛ ومن أثنى على المحسن ـ أيضا ـ فيقال ـ أيضا ـ : إنّه شكر ؛ فإن نظرت إلى معنى
الزيادة في المجازاة ، لم يكن الشكور المطلق إلّا الله تعالى ، لأنّ زيادته في
المجازاة غير محصورة ولا محدودة ، فإنّ نعيم الجنّة لا آخر لها ، والله ـ تعالى ـ يقول
: (كُلُوا وَاشْرَبُوا
هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) [٦٩ / ٢٤].
وإن نظرت إلى معنى
«الثناء» فثناء كل مثن على غيره ؛ والربّ ـ تعالى ـ إذا أثنى على أعمال عبده ، فقد
أثنى على فعل نفسه ، لأنّ أعماله إنّما تتمّ بتوفيقه .
والعبد يتصوّر أن
يكون شاكرا في حقّ عبد آخر مرّة بالثناء عليه بإحسانه إليه ، واخرى بمجازاته بأكثر
ممّا صنعه إليه ، وذلك من الخصال الحميدة.
ففي الحديث : «من لم يشكر الناس لم يشكر الله».
وأمّا شكره لله
فلا يكون إلّا بنوع من المجاز والتوسّع ، فإنّه إن أثنى
__________________
فثناؤه قاصر ،
لأنّه لا يحصى ثناء عليه ، وإن أطاع فطاعته نعمة اخرى من الله سبحانه ، بل عين
شكره نعمة اخرى وراء النعمة المشكورة. وإنّما أحسن وجوه الشكر لنعم الله ـ تعالى ـ
أن لا يستعملها في معاصيه ، بل في طاعته ، وذلك أيضا بتوفيق الله وتيسيره في كون
العبد شاكرا لربّه.
العليّ
هو الذي لا رتبة
فوق رتبته ، وجميع المراتب منحطّة عنه ، لاشتقاقه من العلوّ المأخوذ من العلو ،
المقابل للسفل ، والتدريجات العقليّة مفهومه كالتدريجات الحسيّة ، ولا يمكن قسمة
الموجودات إلى درجات متفاوتة في العقل إلّا ويكون الحقّ تعالى في الدرجة العليّة
من درجات أقسامها ، حتّى لا يتصوّر أن يكون فوقه درجة ، إذ هو مسبّب الأسباب ،
ومعلّل العلل ، وجاعل الثواني والاوّل ، ومكمّل الكاملين والفاعل في القابلين ؛
فهو العليّ المطلق ، وكلّ ما سواه فإنّما هو عليّ بالإضافة إلى ما دونه ، ويكون
دنيّا أو سافلا بالإضافة إلى ما فوقه.
وحظّ العبد منه أن
ينال درجة لا يكون في جنس الإنس من يفوقه ، وهي درجة نبيّناصلىاللهعليهوآله.
أقول
: وبعده درجة وصيّه
ـ صلوات الله عليه ـ (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ
الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) [٤٣ / ٤].
الكبير
هو الذي له
الكبرياء ، والكبرياء عبارة عن كمال الذات ، الذي
يرجع إلى دوامها
أزلا وأبدا ، وكونها بحيث يصدر عنها وجود كلّ موجود ، فكلّ وجود مقطوع بعدم سابق
أو لاحق فهو ناقص ، ولذلك يقال للإنسان إذا طالت مدّة وجوده : «إنّه كبير» ـ أي
كبير السنّ ، طويل مدّة البقاء ـ ولا يقال : «عظيم السنّ» ـ
فالكبر يستعمل
فيما لا يستعمل فيها العظم ـ وكذلك من لا يسري كماله إلى غيره فليس بكبير.
وحظّ العبد : أن
لا يجالسه أحد إلّا ويفيض عليه شيء من كماله ؛ وكمال العبد في عقله وورعه وعلمه.
فالكبير هو العالم
التقيّ المرشد للخلق ، الصالح لأن يكون قدوة يقتبس من أنواره وعلومه ، ولذلك قال
عيسى ـ على نبيّنا وعليهالسلام ـ : «من علم وعمل وعلّم فذلك يدعى عظيما في ملكوت السماء».
الحفيظ
هو الحافظ جدّا
بإدامة وجود الموجودات وإبقائها ، وصيانة المتعاديات والمتضادّات بعض عن بعض ؛
كالحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة ، التي جمع الله بينها في إهاب الإنسان وساير
الحيوانات والنباتات.
ولو لا حفظه
إيّاها بتعديل قواها ـ مرّة ـ وبإمداد المغلوب منها
__________________
ثانيا : لتنافرت
وتباعدت ، وبطل امتزاجها ، واضمحلّ تركيبها ، وبطل المعنى الذي صار مستعدّا لقبوله
التركيب والمزاج. وكحفظه الحيوانات من أسباب خارجة لهلاكها ـ كسباع ضارية ، وأعداء منازعة ـ بآلات
وأدوات هيّأها لها ، من الجواسيس المنذرة بقرب العدوّ كالعين والاذن ، ومن اليد
الباطشة والأسلحة الدافعة كالدرع والترس ، والقاصدة كالسيف والسكّين ـ إلى غير ذلك
ـ ؛ وحفظه لباب النباتات بقشره الصلب ، وطراوته بالرطوبة ، وما لا ينحفظ بمجرّد
القشر حفظه بالشوك النابت منه ليدفع به بعض الحيوانات المتلفة. بل كلّ قطرة من ماء
، فلها حافظ يحفظها عن الهواء المضادّ لها ، وقد ورد في الخبر : «إنّه لا تنزل قطرة من المطر إلّا ومعها ملك يحفظها إلى
أن تصل إلى مستقرّها من الأرض». والكلام في شرح حفظ الله السماوات والأرض وما
بينهما طويل ـ كما في سائر الأفعال.
وحظّ العبد منه :
أن يحفظ جوارحه وقلبه ، ويحفظ دينه عن سوطة الغضب وخلابة الشهوة وخداع النفس وغرور الشيطان ؛ فإنّه على شفا جرف هار ، وقد
اكتنفه هذه المهلكات المفضية إلى البوار.
__________________
المقيت
معناه : خالق
الأقوات وموصله إلى الأبدان ـ وهي الأطعمة ـ وإلى القلوب ـ وهي المعرفة ـ فيكون
بمعنى الرازق ، إلّا أنّه أخصّ منه إذ الرزق يتناول القوت وغير القوت ، والقوت
ما يكتفى به في قوام البدن. وإمّا أن يكون معناه المستولي على الشيء ، القادر عليه
، ويرجع إلى العلم والقدرة معا ، وعليه يدلّ قوله تعالى : (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ
مُقِيتاً) [٤ / ٨٥] أي :
مطّلعا قادرا.
الحسيب
هو الكافي ، وهو
الذي من كان له [كان] حسبه ، والله ـ تعالى ـ حسب كلّ أحد وكافيه وحده ، ولا
يتصوّر حقيقة هذا الوصف لغيره ، فإنّ الكفاية إنّما يحتاج إليه المكفي لوجوده
ولدوام وجوده ولكمال وجوده ، وليس في الوجود شيء هو وحده كاف لشيء إلّا الله ـ تعالى
ـ بل الأشياء يتعلّق بعضها بالبعض ، وكلّها يتعلّق بقدرة الله ـ تعالى ـ. فليكن
حظّ العبد منه أن يكون الله وحده حسبه بالإضافة إلى همّته وإرادته أي لا يريد إلّا
الله ، فلا يريد الجنّة ، ولا يشغل قلبه بالنار ليحذر منها ، بل يكون مستغرق الهمّ
بالله وحده.
__________________
الجليل
هو الموصوف بنعوت
الجلال من الغناء والملك والتقدّس والعلم والقدرة وغيرها.
وكأنّ «الكبير»
يرجع إلى كمال الذات ، و «الجليل» إلى كمال الصفات ، والعظم إلى كمال الذات
والصفات جميعا منسوبا إلى إدراك البصيرة إذا كان بحيث يستغرق البصيرة ولا تستغرقه
البصيرة ؛ وصفات الجلال إذا نسبت إلى البصيرة المدركة لها سمّي «جمالا» ، وسمّي
المتّصف به «جميلا» .
والجميل الحقّ
المطلق هو الله سبحانه ، لأنّ كلّ ما في العالم من جمال وكمال وبهاء وحسن ، فهو من
أنوار ذاته وآثار صفاته ، وكلّ جميل فهو محبوب عند مدرك جماله ، فلذلك كان الله
محبوبا عند العارفين ؛ (يُحِبُّهُمْ
وَيُحِبُّونَهُ) [٥ / ٥٤].
والجليل الجميل من
العباد : من حسنت صفاته الباطنة التي تستلذّها القلوب البصيرة ، فأمّا جمال الظاهر
فنازل القدر.
الكريم
هو الذي إذا قدر
عفا ، وإذا وعد وفى وإذا أعطى زاد على منتهى الرجاء ، ولا يبالي كم أعطى ولمن أعطى
، وإن وقعت حاجة إلى
__________________
غيره لا يرضى ،
وإذا جفي عاتب وما استقصى ، ولا يضيع من لاذ به والتجأ ، ويغنيه عن الوسائل
والشفعاء.
فمن اجتمع له جميع
ذلك ـ لا بالتكلّف ـ فهو الكريم المطلق ، وهو الله تعالى فقط.
وقد يتمحّل العبد
اكتسابها ـ ولكن في بعض الامور ومع نوع من التكلّف ـ فلذلك قد يوصف بالكرم ؛ وفي
الحديث : «لا تقولوا لشجرة العنب الكرم ، وإنّما الكرم الرجل
المسلم».
الرقيب
هو الحفيظ العليم
، فمن راعى الشيء حتّى لم يغفل عنه ، ولاحظه ملاحظة دائمة لازمة ـ لزوما لو عرفه
الممنوع عنه لما أقدم عليه ـ سمّي
__________________
رقيبا. وكأنّه
يرجع إلى العلم والحفظ ، لكن باعتبار كونه لازما دائما ، وبالإضافة إلى ممنوع عنه
محروس عن التناول.
وحظّ العبد منه :
أن يعلم أنّ الله ـ تعالى ـ رقيبه وشاهده في كلّ حال ، ويعلم أنّ نفسه عدوّ له ،
والشيطان عدوّ له ، وإنّما ينتهزان منه الفرص حتّى يحملانه على الغفلة والمخالفة ؛
فياخذ منهما حذره ، بأنّ يلاحظ مكامنهما وتلبيسهما ومواضع انبعاثهما ، حتّى يسدّ
عليهما المنافذ والمجاري ؛ فهذه مراقبته.
المجيب
هو الذي يقابل
مسئلة السائل بالإسعاف ، ودعاء الداعين بالإجابة وضرورة المضطرّين بالكفاية ؛ بل
ينعم قبل النداء ، ويتفضّل قبل الدعاء.
وليس ذلك إلّا
الله ـ تعالى ـ فإنّه يعلم حاجة المحتاجين قبل سؤالهم ، وقد علمها في الأزل ودبّر
كفاية الحاجات بخلق الأطعمة والأقوات وتيسير الأسباب والآلات الموصولة
إلى جميع المهمّات.
والعبد ينبغي أن
يكون مجيبا أوّلا لربّه فيما أمره به ونهاه ، وفيما ندبه إليه ودعاه ؛ ثمّ لعباده
فيما أنعم الله عليه بالاقتدار عليه ، وفي إسعاف كلّ سائل بما يسأله ـ إن قدر عليه
ـ وفي لطف الجواب إن عجز عنه ؛ قال الله تعالى : (وَأَمَّا السَّائِلَ
فَلا تَنْهَرْ) [٩٣ / ١٠].
__________________
وفي الحديث النبوي
: «لو دعيت إلى كراع لأجبت ولو اهدي إليّ ذراع لقبلت».
الواسع
مشتقّ من السعة ؛
والسعة تضاف مرّة إلى العلم ، إذا اتّسع وأحاط بالمعلومات الكثيرة ، واخرى إلى
الإحسان وبسط النعم ، وكيف ما قدّر وعلى أىّ شيء نزل. فالواسع المطلق هو الله ، إذ
لا ساحل لبحر معلوماته ، ولا نهاية لسعة مقدوراته ، بل تنفد البحار لو كانت مدادا
لكلماته ؛ وكلّ سعة ـ وإن عظمت ـ فتنتهي إلى طرف ، وتتصوّر الزيادة عليها ، وهي
ضيّق بالإضافة إلى ما هو أوسع منها ؛ غير سعته تعالى.
__________________
وسعة العبد في
معارفه وأخلاقه ، فإن كثرت علومه فهو واسع بقدر سعة علمه ، وإن اتّسعت أخلاقه ـ حتّى
لا يضيّقه خوف الفقر وغيظ الحسود وغلبة الحرص ، وسائر الصفات ـ فهو واسع بقدر
اتّساعه.
الحكيم
ذو الحكمة ؛
والحكمة عبارة عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم ، وأجلّ الأشياء هو الله ـ تعالى
ـ وقد ثبت أنّه لا يعرفه كنه معرفته غيره بالعلم الأزلىّ الدائم ، الذي لا يتصوّر
زواله ، المطابق للمعلوم مطابقة لا يتطرّق إليه خفاء وشبهة ؛ فهو الحكيم الحقّ.
وقد يقال لمن يحسن
دقائق الصناعات ويحكمها ويتقن صنعها «حكيما» وكمال ذلك ـ أيضا ـ ليس إلّا لله جلّ
جلاله.
ومن عرف جميع
الأشياء ولم يعرف الله ، لم يستحقّ أن يسمّى حكيما ، لأنّه لم يعرف أجلّ الأشياء
وأفضلها ؛ ومن عرف الله فهو حكيم وإن كان ضعيف المنّة في سائر العلوم الرسميّة ،
كليل اللسان ، قاصر البيان فيها ؛ ومن عرف الله كان كلامه مخالفا لكلام غيره ،
فإنّه قلّما يتعرّض للجزئيّات ، بل يكون كلماته كلّها كلّية ، ولا يتعرّض لمصالح
العاجلة ، بل يتعرّض لما ينفع في العاقبة.
ولمّا كان ذلك
أظهر عند الناس من أحوال الحكيم ـ من معرفته بالله ـ ربما أطلق الناس اسم الحكمة
على مثل تلك الكلمات الكليّة ، ويقال للناطق بها «حكيم».
وذلك مثل قول سيّد
الأنبياء ـ صلوات الله عليه وآله ـ : «رأس الحكمة مخافة الله».
«الكيّس من دان
نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من اتّبع نفسه هواها وتمنّى على الله ـ تعالى ـ»
.
«ما قلّ وكفى ،
خير ممّا كثر وألهى» .
«كن ورعا تكن أعبد
الناس ، وكن قنعا تكن أشكر الناس» .
__________________
«القناعة كنز لا
ينفد» .
«الصبر نصف
الإيمان ، اليقين الإيمان كلّه» .
فهذه الكلمات
وأمثالها تسمّى «حكمة» ، وصاحبها يسمّى «حكيما».
الودود
هو الذي يحبّ
الخير لجميع الخلق ، فيحسن إليهم ويثني عليهم ، وهو قريب من معنى «الرحيم» ، لكن
أفعال الرحيم تستدعي مرحوما ضعيفا ، وأفعال المودّة لا تستدعي ذلك ، بل الإنعام
على سبيل الابتداء من نتائج الودّ.
وكما أنّ معنى
رحمته تعالى إرادته الخير للمرحوم وكفايته له من غير رقّة ، فكذلك ودّه إرادته
الكرامة والنعمة من غير ميل ، فإنّهما لا يرادان إلّا لثمرتهما وفائدتهما ، دون
الرقّة والميل.
والودود من عباد
الله : من يريد لخلق الله كلّ ما يريد [ه] لنفسه ، وأعلى من ذلك من يؤثرهم على
نفسه ، كمن قال منهم «اريد أن أكون جسرا على جهنّم يعبر عليّ الخلق ولا يتأذّون».
وكمال ذلك أن لا
يمنعه من الإيثار والإحسان الغضب والحقد وما
__________________
ناله من الأذى ،
كما قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم حيث كسرت رباعيّته وضرب «اللهم أهد قومي
فإنّهم لا يعلمون». فلم يمنعه سوء صنيعهم عن إرادة الخير بهم.
المجيد
هو الشريف ذاته ،
الجميل أفعاله ، الجزيل عطاؤه ونواله ، فكأنّ شرف الذات إذا قارنه حسن الفعال سمّي
«مجدا».
وهو «الماجد» أيضا
، ولكن أحدهما أدلّ على المبالغة. وكأنّه يجمع معنى اسم «الجليل» و «الوهّاب» و «الكريم»
؛ وقد سبق الكلام فيها.
الباعث
هو الذي يحيي
الخلق يوم النشور ، ويبعث ما في القبور ، ويحصّل ما في الصدور ؛ والبعث هو النشأة
الآخرة ، وللإنسان نشئات كثيرة من لدن كونه نطفة ، إلى أن يلقى الله سبحانه ،
والانتقال من كلّ منها بعث. ولن يعرف حقيقة هذا الاسم إلّا من عرف حقيقة البعث ،
وذلك من أغمض المعارف ـ وشرحه طويل.
أقول : وسنورد في
المقصد الآخر من هذا الكتاب ، بيان معنى البعث والنشآت ـ إن شاء الله.
__________________
والباعث من العباد
: من رقّى غيره من موت الجهل إلى حياة العلم ، ودعاهم إلى الله ، فإنّه أنشأ نشأة
اخرى وأحيا حياة طيّبة.
الشهيد
يرجع معناه إلى
العليم ، مع خصوص إضافة ، فإنّه ـ تعالى ـ عالم الغيب والشهادة ، و «الغيب» عبارة
عمّا بطن ، و «الشهادة» عمّا ظهر ، وهو الذي يشاهد ، فإذا اعتبر العلم مطلقا فهو «العليم»
، وإذا اضيف إلى الغيب والامور الباطنة فهو «الخبير» ، وإذا اضيف إلى الامور
الظاهرة فهو «الشهيد».
وقد يعتبر مع هذا
أن يشهد على الخلق يوم القيامة بما علم وشاهد منهم ، والكلام في هذا الاسم يقرب من
الكلام في العليم والخبير ، فلا نعيده.
الحق
فى مقابلة الباطل
، والأشياء قد تستبان بأضدادها.
وكلّ ما يخبر عنه
فإمّا باطل مطلقا ، وإمّا حقّ مطلقا ، وإمّا حقّ من وجه باطل من وجه ؛ فالممتنع
بذاته هو الباطل مطلقا ، والواجب بذاته هو الحقّ مطلقا ، والممكن بذاته الواجب
بغيره ، هو حقّ من وجه ، باطل من وجه ؛ فهو من حيث ذاته لا وجود له فهو باطل ؛ ومن
جهة غيره مستفيد للوجود ، فهو من الوجه الذي يلي مفيد الوجود موجود فهو من ذلك
الوجه حقّ ، ومن جهة نفسه باطل ؛ فلذلك (كُلُ
شَيْءٍ
هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [٢٨ / ٨٨] ؛ وهو
كذلك أزلا وأبدا ، ليس كذلك في حال دون حال ، لأنّ كلّ شيء سواه ـ أزلا وأبدا ـ من
حيث ذاته لا يستحقّ الوجود ، ومن جهته يستحقّ ، فهو باطل بذاته ، حقّ بغيره.
وعند هذا يعرف أنّ
الحقّ المطلق هو الموجود الحقيقي بذاته ، الذي منه يأخذ كلّ حقّ حقيقته.
وقد يقال ـ أيضا ـ
للمعقول الذي صادف به العقل «الموجود» ، حتّى ظنّ طائفة أنّه حقّ ، فهو من حيث
ذاته يسمّى موجودا ، ومن حيث إضافته إلى العقل الذي أدركه على ما هو عليه ، يسمّى
حقّا ؛ فإذن أحقّ الموجودات بأن يسمّى «حقّا» هو الله ـ تعالى ـ وأحقّ المعارف بأن
يكون حقا هو معرفة الله وإنّه حقّ في نفسه ، أي مطابق للمعلوم ـ أزلا وأبدا ـ
وقد يطلق على
الأقوال فيقال : «قول حقّ» و «قول باطل» ، وعلى ذلك فأحقّ الأقوال قول «لا إله
إلّا الله» ، لأنّه صادق أبدا وأزلا ، لذاته لا لغيره.
وحظّ العبد من هذا
أن يرى نفسه باطلا ، ولا يرى غير الله حقّا.
الوكيل
هو الموكول إليه
الامور ، فإن كان مستحقّا لأن يوكّل إليه الامور كلّها بذاته لا بالتوكيل والتفويض
، مليّا بالقيام بها ، وفيّا بإتمامها : فهو الوكيل المطلق ـ وليس إلّا الله
سبحانه.
وحظّ العبد منه
بقدر مدخله فيه.
القويّ المتين
القوّة تدلّ على
القدرة التامّة ؛ والمتانة تدلّ على شدّة القوّة ؛ والله ـ تعالى ـ من حيث أنّه
قادر بالغ بتمامها «قويّ» ، ومن حيث
أنّه شديد القوّة «متين» ؛ وذلك يرجع إلى معنى القدرة ـ وسيأتي.
الوليّ
هو المحبّ الناصر
، ومعنى ودّه ومحبّته قد سبق ، ومعنى نصرته ظاهر ، فإنّه يقمع أعداء الدين ، وينصر
أولياءه. قال ـ تعالى ـ : (اللهُ وَلِيُّ
الَّذِينَ آمَنُوا) [٢ / ٢٥٧]. وقال :
(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ
مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) [٤٧ / ١١] ـ أي لا
ناصر لهم ـ. وقال تعالى : (كَتَبَ اللهُ
لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) [٥٨ / ٢١].
ومن العباد : من يحبّ
الله ويحبّ أولياءه وينصرهم ، ويقهر أعداءه ؛ ومن أعداء الله ـ تعالى ـ النفس
والشيطان ، فمن خذلهما ونصر أمر الله ووالى أولياء الله ، وعادى أعداءه ، فهو
الوليّ.
الحميد
هو المحمود المثنى
عليه ، والله تعالى هو الحميد ؛ يحمد لنفسه أزلا وأبدا ، ويحمده عباده أبدا ؛
ويرجع هذا إلى صفات الجلال والعلوّ
__________________
والكمال منسوبا
إلى ذكر الذاكرين له ، فإنّ الحمد هو ذكر أوصاف الكمال من حيث هو كمال. ومن العباد
من حمدت عقائده وأخلاقه وأعماله كلّها من غير مشوبة ، وذلك محمّدصلىاللهعليهوآلهوسلم ومن يقرب منه من الأنبياء ومن عداهم من الأولياء والعلماء
؛ كلّ منهم بقدر مدخله فيه.
المحصي
هو العالم ، ولكن
إذا اضيف العلم إلى المعلومات من حيث يحصي المعلومات ويعدّها ويحيط بها ، سمّي
إحصاء. والمحصي المطلق هو الذي ينكشف في علمه حدّ كلّ معلوم وعدده ومبلغه.
والعبد ـ وإن
أمكنه أن يحصي بعلمه بعض المعلومات ـ فإنّه يعجز عن حصر أكثرها ، فمدخله من هذا
الاسم ضعيف ، كمدخله في أصل صفة العلم.
المبدئ المعيد
معناه الموجد ،
لكنّ الإيجاد إذا لم يكن مسبوقا بمثله سمّي إبداء ، وإذا كان مسبوقا بمثله سمّي
إعادة ، والله ـ تعالى ـ أبدأ خلق الناس ، ثمّ هو يعيدهم ـ أي يحشرهم ـ والأشياء
كلّها منه بدت وإليه تعود ، وبه بدت وبه تعود.
المحيي المميت
هذا أيضا يرجع إلى
الإيجاد ، ولكن الوجود إذا كان هو الحياة ،
سمّي فعله إحياء ،
وإذا كان هو الموت ، سمّي فعله إماتة ، ولا خالق للموت والحياة إلّا الله ـ تعالى
ـ فلا مميت ولا محيي إلّا الله.
وقد سبقت الإشارة
إلى معنى الحياة في الاسم «الباعث».
الحيّ
هو الفعّال
الدرّاك ، حتّى أنّ من لا فعل له أصلا ولا إدراك فهو ميّت ؛ وأقلّ درجات الإدراك
أن يشعر المدرك بنفسه ، فما لا يشعر بنفسه ، فهو الجماد الميّت ، فالحيّ الكامل المطلق الذي يندرج جميع المدركات تحت
إدراكه ، وجميع الموجودات تحت فعله ، حتّى لا يشذّ عن علمه مدرك ولا عن فعله مفعول
؛
وذلك الله ـ تعالى
ـ فهو الحيّ المطلق ، وكلّ ما سواه فحياته بقدر إدراكه وفعله ، وكلّ ذلك محصور في
قلّته. ثمّ إنّ الأحياء يتفاوتون فيه ، فمراتبهم بقدر تفاوتهم.
القيّوم
اعلم أنّ الأشياء
تنقسم إلى ما يفتقر إلى محل ، كالأعراض والأوصاف ، فيقال فيها : «إنّها ليست قائمة
بأنفسها» ؛ وإلى ما لا يحتاج إلى محلّ ـ فيقال : «إنّه قائم بنفسه» كالجوهر ؛ إلّا
أنّ الجوهر وإن قام بنفسه مستغنيا عن محلّ يقوم به ، فليس مستغنيا عن امور لا بدّ
منها
__________________
لوجوده ، ويكون
شرطا في وجوده ، فلا يكون قائما بنفسه ، لأنّه يحتاج في قوامه إلى وجود غيره. وإن
لم يحتج إلى محلّ ، فإن كان في الوجود موجود تكتفي ذاته بذاته ولا قوام له بغيره
ولا يشترط في دوام وجوده وجود غيره : فهو القائم بنفسه مطلقا ؛ فإن كان مع ذلك
يقوم به كلّ موجود ، حتّى لا يتصوّر للأشياء وجود ولا دوام وجود إلّا به فهو «القيّوم»
، لأنّ قوامه بذاته ، وقوام كلّ شيء به ؛
وليس ذلك إلّا الله
ـ تعالى ـ.
ومدخل العبد في
هذا الوصف بقدر استغنائه عمّا سوى الله.
الواجد
هو الذي لا يعوزه
شيء ، وهو في مقابلة «الفاقد» ؛ فلعلّ من فاته ما لا حاجة به إلى وجوده لا يسمّى
فاقدا ؛ والذي يحضره ما لا تعلّق له بذاته ولا بكمال ذاته لا يسمّى واجدا ؛ بل
الواجد ما لا يعوزه شيء ممّا لا بدّ منه ، وكلّ ما لا بدّ له منه من صفات الإلهيّة
وكمالها فهو موجود لله ـ تعالى ـ فهو بهذا الاعتبار واجد ، وهو الواجد المطلق.
ومن عداه إن كان
واجدا لشيء من صفات الكمال وأسبابه ، فهو فاقد لأشياء ، فلا يكون واجدا إلّا
بالإضافة.
الماجد
بمعنى «المجيد» ،
كالعالم بمعنى العليم ، لكنّ الفعيل أكثر مبالغة ؛ وقد سبق معناه.
الواحد
هو الذي لا يتجزّء
ولا يتثنّى.
أمّا الذي لا
يتجزّء فكالجوهر الواحد الذي لا ينقسم ، فيقال أنّه واحد ، بمعنى أنّه لا جزء له ،
وكذا النقطة طرف لا جزء له ؛ والله تعالى واحد بمعنى أنّه يستحيل تقدير الانقسام
في ذاته.
وأمّا الذي لا
يتثنّى فهو الذي لا نظير له ، كالشمس ـ مثلا ـ فإنّها وإن كانت قابلة للقسمة
بالوهم ، متجزّئة في ذاتها ـ لأنّها من قبيل الأجسام ـ فهي لا نظير لها ، إلّا
أنّه يمكن أن يكون لها نظير.
فإن كان في الوجود
موجود يتفرّد بخصوص وجوده ـ تفرّدا لا يتصوّر أن يشاركه فيه غيره أصلا ـ فهو
الواحد المطلق أزلا وأبدا.
والعبد إنّما يكون
واحدا إذا لم يكن له في أبناء جنسه نظير في خصلة من خصال الخير ، وذلك بالإضافة
إلى أبناء جنسه وبالإضافة إلى الوقت ـ إذ يمكن أن يظهر في وقت آخر مثله ـ وبالإضافة
إلى بعض الخصال دون الجميع ؛ فلا وحدة على الإطلاق إلّا لله ـ تعالى ـ.
الصمد
هو الذي يصمد إليه
في الحوائج ، ويقصد إليه في الرغائب ، إذ ينتهي إليه منتهى السؤدد.
ومن جعله الله
تعالى مقصد عباده في مهمّات دينهم ودنياهم ، وأجرى على لسانه ويده حوائج خلقه ،
فقد أنعم عليه بحظّ من معنى
هذا الوصف ؛ لكنّ
الصمد المطلق هو الذي يقصد إليه في جميع الحوائج ، وهو الله ـ تعالى ـ.
أقول : وللصمد
معنى آخر ، وهو الذي لا جوف له ، وهو بهذا المعنى لا يجوز إطلاقه على الله تعالى
إلّا مجازا ، لأنّه صفة للأجسام ، والله يتعالى عنها.
قال
بعض المحقّقين
:
«لمّا كان كلّ
ممكن فوجوده أمر زائد على أصل ذاته ومقتضى ذاته ، وباطنه العدم واللاشيء ، فهو
يشبه الأجوف ، كالحقّة الخالية عن شيء ، والكرة المفرّغة ، لأنّ باطنه ـ الذي هو ذاته ـ لا شيء محض ، والوجود الذي
يحيط به ويحدّده هو غيره ؛ وأمّا الذي ذاته الوجود والوجوب من غير شائبة عدم وفرجة
خلل فيستعار له الصمد».
أقول
: وحظّ العبد من هذا
الوصف أن يقوّي وجوده ويحصّل من صفات الوجود ـ بما هو وجود ـ حظّا وافرا ، حتّى
يقرب منه ويبعد عن العدم.
القادر المقتدر
معناهما ذو القدرة
؛ ولكنّ المقتدر أكثر مبالغة ،
والقدرة عبارة عن
المعنى الذي به يوجد الشيء متقدّرا بتقدير الإرادة والعلم ، واقفا على وفقهما.
__________________
والقادر المطلق هو
الذي يخترع كلّ موجود اختراعا يتفرّد به ، ويستغني فيه عن معاونة غيره وهو الله ـ تعالى
ـ.
فأمّا العبد فله
قدرة على الجملة ، ولكنّها ناقصة ، إذ لا يتناول إلّا بعض الممكنات ، ولا يصلح
للاختراع.
المقدّم المؤخّر
هو الذي يقرّب
ويبعّد ، ومن قرّبه فقد قدّمه ، أي جعله قدّام غيره في الرتبة بالإضافة إلى نفسه ؛
ومن أبعده فقد أخّره وجعله متأخّرا عن غيره ؛ وقد قدّم أنبياءه وأولياءه بتقرّبهم
وهدايتهم وحملهم على التوقير بالعبادة والعلم بإثارة دواعيهم ، وأخّر آخرين بصرف
دواعيهم عن ذلك ، كما قال : (وَلَوْ شِئْنا
لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ
جَهَنَّمَ) [٣٢ / ١٣].
وقال : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا
الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) [٢١ / ١٠١].
وحظّ العبد من
صفات الأفعال ظاهر ، فلذلك قد لا نشتغل بإعادة كلّ اسم حذرا من التطويل.
الأوّل الآخر
هما مضافان
متناقضان ، فلا يتصوّر أن يكون الشيء الواحد من وجه بالإضافة إلى شيء واحد أوّلا
وآخرا جميعا.
بل إذا نظرت إلى
ترتيب الوجود ، ولاحظت سلسلة الموجودات
المترتّبة ، فالله
تعالى بالإضافة إليها أوّل ؛ إذ الموجودات كلّها استفادت الوجود منه ، وأمّا هو
فموجود بذاته ، وما استفاد الوجود من غيره.
ومهما نظرت إلى
ترتيب السلوك ، ولاحظت مراتب منازل السائرين إليه ، فهو آخر بالإضافة ، إذ هو آخر
ما يرتقي إليه درجات العارفين ، وكلّ معرفة تحصل قبل معرفته فهو مرقاة إلى معرفته
، والمنزل الأقصى هو معرفة الله ـ تعالى ـ.
فهو آخر بالإضافة
إلى السلوك ، أوّل بالإضافة إلى الموجود ؛ فمنه المبدأ أوّلا ، وإليه المرجع
والمصير آخرا.
الظاهر الباطن
هما أيضا مضافتان
متناقضان لا يجتمعان من وجه واحد ، وإنّما يكون بالإضافة إلى الإدراكات ؛ فالله ـ تعالى
ـ باطن إن طلب من إدراك الحواسّ وخزانة الخيال ، ظاهر إن طلب من خزانة العقل بطريق
الاستدلال ؛ وإنّما خفي على أكثر العقول مع ظهوره لشدّة ظهوره ، فإنّ ظهوره سبب
بطونه ، ونوره هو حجاب نوره ، وكلّ ما جاوز حدّه ، انعكس إلى ضدّه.
ـ
أقول : وقد مضى بيان ذلك
وشرحه فيما سبق ، فلا نعيده ـ.
ولا تتعجّبنّ من
هذا في صفات الله ـ تعالى ـ فإنّ المعنى الذي به الإنسان إنسان ظاهر باطن ؛ فإنّه
ظاهر إن استدلّ عليه بأفعاله المرئيّة المحكمة ، باطن إن طلب من إدراك الحسّ ؛
فإنّ الحسّ إنّما يتعلّق بظاهر بشرته ، وليس الإنسان إنسانا بالبشرة المرئيّة منه
؛ بل لو تبدّلت تلك
البشرة ـ بل سائر
أجزائه ـ فهو هو ، والأجزاء متبدّلة ؛ ولعلّ أجزاء كلّ إنسان بعد كبره غير الأجزاء
التي كانت فيه عند صغره ، فإنّها تحلّلت بطول الزمان ، وتبدّلت بأمثالها بطريق
الاغتذاء ، وهويّته لم تتبدّل ؛ فتلك الهويّة باطنة عن الحواسّ ، ظاهرة للعقل
بطريق الاستدلال بآثارها وأفعالها.
الوالي
هو الذي دبّر امور
الخلق وولّاها ـ أي تولّاها ـ وكان مليّا بولايتها ؛ وكأنّ الولاية تشعر
بالتدبير والقدرة والفعل ، وما لم يجتمع جميع ذلك لم يطلق اسم الوالي ؛ ولا والي
للامور إلّا الله ـ تعالى ـ فإنّه المتفرّد بتدبيرها أوّلا ، والمنفّذ للتدبير ـ بالتحقيق
ـ ثانيا ، والقائم عليها بالإدامة والإبقاء ثالثا.
المتعالي
بمعنى العليّ مع
نوع من المبالغة ؛ وقد سبق معناه.
البرّ
هو المحسن ؛
والبرّ المطلق هو الذي منه كلّ مبرّة وإحسان.
والعبد إنّما يكون
برّا بقدر ما يتعاطاه من البرّ ، لا سيّما بوالديه واستاده وشيوخه.
__________________
التوّاب
هو الذي يرجع إلى
تيسير أسباب التوبة لعباده مرّة بعد اخرى بما يظهر لهم من آياته ويسوق إليهم من
تنبيهاته ويطلعهم عليها من تخويفاته وتحذيراته ، حتّى إذا اطّلعوا بتعريفه على
غوائل الذنوب ، استشعروا الخوف بتخويفه ، فرجعوا إلى التوبة ، فرجع إليهم فضل الله
ـ تعالى ـ بالقبول. ومن العباد : من قبل معاذير المجرمين من رعاياه وأصدقائه
ومعارفه مرّة بعد اخرى ، فقد تخلّق بهذا الخلق وأخذ منه نصيبا.
المنتقم
هو الذي يقصم
ظهوره العتاة ، وينكل بالجناة ، ويشدّد العقاب على الطغاة ؛ وذلك بعد الإعذار
والإنذار ، وبعد التمكين والإمهال ؛ وهو أشدّ من المعاجلة بالعقوبة ، فإنّه إذا
عوجل بالعقوبة لم يمعن في المعصية ، فلم يستوجب عليه النكال في العقوبة.
والمحمود من
انتقام العبد أن ينتقم من أعداء الله ، وأعدى الأعداء نفسه ، وحقّه أن ينتقم منها
، مهما قارف معصية أو أخلّ بعبادة.
العفوّ
هو الذي يمحو
السيّئات ، ويتجاوز عن المعاصي ، وهو قريب من «الغفور» ولكنّه أبلغ منه ، فإنّ
الغفران ينبئ عن الستر ، والعفو ينبئ عن المحو ، والمحو أبلغ من الستر.
وحظّ العبد منه :
أن يعفو عن كلّ من ظلمه ، بل يحسن إليه كما يحسن الله إلى العصاة والكفرة ويتوب
عليهم بمحو سيّئاتهم ، إذ «التائب من الذنب كمن لا ذنب له».
الرءوف
ذو الرأفة ؛
والرأفة شدّة الرحمة ، فهو بمعنى الرحيم مع المبالغة فيه.
مالك الملك
هو الذي ينفذ
مشيّته في مملكته كيف شاء وكما شاء ، إيجادا وإعداما ، وإبقاء وإفناء ؛ و «الملك»
هنا بمعنى المملكة ، و «المالك» بمعنى القادر التامّ القدرة ، والموجودات كأنّها
مملكة واحدة هو مالكها وقادر عليها لارتباط بعضها ببعض ، كارتباط أجزاء بدن الإنسان
وتعاونها على مقصود واحد ، وهو إتمام غاية الخير الممكن وجوده على ما اقتضاه الجود
الإلهي.
ومملكة كلّ عبد
بدنه خاصّة ، فإذا نفّذت مشيّته في صفات قلبه وجوارحه فهو مالك مملكة نفسه بقدر ما
اعطي من القدرة عليها.
__________________
ذو الجلال
والإكرام
هو الذي لا جلال
ولا كمال إلّا وهو له ، ولا كرامة ولا مكرمة إلّا وهي صادرة منه ، والجلال له في
ذاته ، والكرامة فائضة منه على خلقه ، وفنون إكرامه خلقه لا تكاد تنحصر وتتناهى ،
وعليه دلّ قوله تعالى : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا
بَنِي آدَمَ) [١٧ / ٧٠].
المقسط
هو الذي ينتصف
للمظلوم من الظالم ، وكماله أن يضيف إلى إرضاء المظلوم إرضاء الظالم ، بإثابة المظلوم
ـ بعفوه عن الظالم ـ ما يصغّر في جنبه العفو عنه ، ـ كما ورد في الخبر ـ وذلك غاية العدل والإنصاف ؛ ولا يقدر عليه إلّا الله ـ تعالى
ـ.
__________________
وأوفر العبيد حظّا
من هذا الاسم من ينتصف أوّلا من نفسه ، ثمّ لغيره من غيره ، ولا ينتصف لنفسه من
غيره.
الجامع
هو المؤلّف بين
المتماثلات والمتباينات والمتضادّات ، كجمعه الخلق الكثير من الإنس على ظهر الأرض
، وجمعه أجناس الموجودات في العالم ، وجمعه الكيفيّات المتضادّة في أمزجة
الحيوانات ـ إلى غير ذلك ممّا يطول شرحه.
ومن العباد من جمع
بين الآداب الظاهرة في الجوارح والحقائق الباطنة في القلوب ، فمن كملت معرفته
وحسنت سيرته فهو الجامع. ولذلك قيل : «الكامل من لا يطفئ نور معرفته نور ورعه».
وذلك لتعسّر الجمع بين الصبر والبصيرة ، فكم من صبور على الزهد والورع لا بصيرة له
، وبالعكس.
الغنيّ المغني
الغنيّ هو الذي لا
تعلّق له بغيره ـ لا في ذاته ولا في صفات ذاته ـ بل يكون منزّها عن العلاقة مع
الأغيار ؛ ولا يتصوّر ذلك إلّا لله تعالى.
وهو المغني أيضا ،
ولكنّ الذي أغناه لا يتصوّر أن يصير بإغنائه غنيّا مطلقا ، فإنّه في أقلّ اموره
محتاج إلى المغني ؛ فلا يكون غنيّا ، بل يستغني عن غير الله بأن يمدّه [ب] ما
يحتاج إليه ، لا بأن يقطع عنه أصل الحاجة.
وهو غاية ما يدخل
في الإمكان في حقّ غير الله ، بأن لم يبق له حاجة إلّا إلى الله ـ تعالى ـ.
المانع
هو الذي يردّ
أسباب الهلاك والنقصان في الأبدان والأديان بما يخلقه من الأسباب المعدّة للحفظ ،
وقد سبق معنى «الحفيظ» ، وكلّ حفظ فمن ضرورته منع ودفع ، فمن فهم معنى «الحفيظ»
فهم معنى «المانع».
والمنع إضافة إلى
سبب المهلك ، والحفظ إضافة إلى المحروس عن الهلاك ، وهو مقصود المنع وغايته ، إذ
المنع يراد للحفظ ، والحفظ لا يراد للمنع ؛ وكلّ حافظ دافع مانع ، وليس كلّ مانع حافظا إلّا إذا كان مانعا مطلقا لجميع
أسباب الهلاك والنقص ، حتّى يحصل الحفظ من ضرورته.
الضارّ النافع
هو الذي يصدر منه
الخير والشرّ ، والنفع والضرّ ، وإن كان أحدهما بالعرض ، سواء كان بواسطة أو بغير
واسطة ؛ والوسائط كلّها مسخّرات بأمره ، كالقلم في يد الكاتب.
__________________
النور
هو الظاهر الذي به
كلّ ظهور ، ومهما قوبل الوجود بالعدم كان الظهور لا محالة للوجود ، ولا ظلام أظلم
من العدم ، فالبريء عن ظلمة العدم ـ بل عن إمكان العدم ـ المخرج كلّ الأشياء من
ظلمة العدم إلى ظهور الوجود ، جدير بأن يسمّى «نورا». والوجود نور فائز على
الأشياء كلّها من نور ذاته ، فهو (نُورُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) [٢٤ / ٣٥]. وكما
أنّه لا ذرّة من نور الشمس إلّا وهي دالّة على وجود الشمس المنوّرة ، فلا ذرّة من
موجودات السماوات والأرض وما بينهما إلّا وهي بجواز وجودها دالّة على وجوب وجود
موجدها.
الهادي
هو الذي هدى خوّاص
عباده أوّلا إلى معرفة ذاته ، حتّى استشهدوا على الأشياء به ؛ وهدى عوامّ عباده
إلى مخلوقاته ، حتّى استشهدوا بها على ذاته ؛ وهدى كلّ مخلوق إلى ما لا بدّ له منه
في قضاء حاجته ، فهدى الطفل إلى التقام الثدي عند انفصاله ، والفرخ إلى التقاط
الحبّ وقت خروجه ، والنحل إلى بناء بيته على شكل التسديس ـ لكونه أوفق الأشكال إلى
بدنه وأحواها وأبعدها عن أن تتخلّلها فرج ضايعة ـ وشرح ذلك ممّا يطول.
وعنه عبّر قوله
تعالى : (الَّذِي أَعْطى كُلَّ
شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) [٢٠ / ٥٠]. وقوله
: (الَّذِي قَدَّرَ
فَهَدى) [٨٧ / ٣].
والهداة من العباد
الأنبياء والعلماء ، الذين أرشدوا الخلق إلى السعادة الاخرويّة ، وهدوهم إلى صراط
الله المستقيم ؛ بل الله الهادي بهم وعلى ألسنتهم ، وهم مسخّرون تحت قدرته
وتدبيره.
البديع
هو الذي لا عهد
بمثله ، فإن لم يكن بمثله عهد ـ لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله ولا في كلّ
أمر راجع إليه ـ فهو البديع المطلق ، وإن كان شيء من ذلك معهودا فليس ببديع مطلق ،
ولا يليق هذا الاسم مطلقا إلّا بالله تعالى ، فإنّه ليس له قبل ـ فيكون مثله
معهودا قبله ـ وكلّ موجود بعده فحاصل بإيجاده ، وهو غير مناسب لوجوده ؛ فهو بديع أزلا وأبدا.
وكلّ عبد اختصّ
بخاصيّة في النبوّة والولاية والعلم ، لم يعهد مثلها ـ إمّا في سائر الأوقات ، أو
في عصره ـ فهو بديع بالإضافة إلى ما هو متفرّد به وفي الوقت الذي هو متفرّد به .
الباقي
هو الموجود الواجب
وجوده بذاته ، ولكنّه إذا اضيف في الذهن إلى الماضي سمّي «قديما» ، وإذا اضيف إلى
الاستقبال سمّي «باقيا».
__________________
والباقي المطلق هو
الذي لا ينتهي تقدير وجوده في الاستقبال إلى آخر ، ويعبّر عنه بأنّه «أبديّ» ؛
والقديم المطلق هو الذي لا ينتهي تمادي وجوده في الماضي إلى أوّل ، ويعبّر عنه
بأنّه «أزليّ».
وقولك : «واجب
الوجود بذاته» متضمّن لجميع ذلك ، وإنّما هذه الأسامي بحسب إضافة هذا الوجود في
الذهن إلى الماضي والمستقبل ، وإنّما يدخل في الماضي والمستقبل المتغيّرات ،
لأنّهما عبارتان عن الزمان ، ولا يدخل في الزمان إلّا التغيّر والحركة ، إذ الحركة
بذاتها تنقسم إلى ماض ومستقبل ؛ والمتغيّر يدخل في الزمان بواسطة التغيّر ؛ فما
جلّ عن التغيّر بالحركة فليس في زمان ، فليس فيه ماض ومستقبل.
والحقّ تعالى قبل
الزمان ، وحيث خلق الزمان لم يتغيّر من ذاته شيء ؛ وقبل خلق الزمان لم يكن للزمان
عليه جريان ، وبقي بعد خلق الزمان على ما عليه كان.
الوارث
هو الذي إليه ترجع
الأملاك بعد فناء الملّاك ، وذلك هو الله ـ سبحانه ـ إذ هو الباقي بعد فناء خلقه ،
وإليه مرجع كلّ شيء ومصيره ، وهو القائل إذ ذاك (لِمَنِ الْمُلْكُ
الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) [٤٠ / ١٦].
وهذا بحسب ظنّ
الأكثرين ، إذ يظنّون لأنفسهم ملكا وملكا ، فتنكشف لهم ذلك اليوم حقيقة الحال ؛ وهذا النداء عبارة
عن حقيقة ما ينكشف لهم في ذلك الوقت.
__________________
وأمّا أرباب
البصائر ، فإنّهم أبدا شاهدون بمعنى هذا النداء ، سامعون له من غير صوت ولا حرف ،
موقنون بأنّ الملك لله الواحد القهّار ـ في كلّ يوم وفي كلّ ساعة وفي كلّ لحظة ؛
وكذلك كان أزلا وأبدا.
وهذا إنّما يدركه
من أدرك حقيقة التوحيد في الفعل ، وعلم أنّ المتفرّد في الملك والملكوت واحد.
الرشيد
هو الذي تنساق
تدبيراته إلى غاياتها ، على سنن السداد ، من غير إشارة مشير وتسديد مسدّد وإرشاد
مرشد ، وهو الله ـ سبحانه ـ.
ورشد كلّ عبد بقدر
هدايته في تدابيره إلى إصابة شاكلة الصواب من مقاصده في دينه ودنياه.
الصبور
هو الذي لا تحمله
العجلة على المسارعة إلى الفعل قبل أوانه ، بل ينزّل الامور بقدر معلوم ، ويجريها
على سنن محدودة ، لا يؤخّرها عن آجالها المقدّرة لها ـ تأخير متكاسل ـ ولا يقدّمها
على أوقاتها ـ تقديم مستعجل ـ بل يودع كلّ شيء في أوانه ، على الوجه الذي يجب أن
يكون ، وكما ينبغي ، وكلّ ذلك من غير مقاساة داع على مضادّة الإرادة.
__________________
وصبر العبد لا
يخلو من مقاساة ، لأنّه دفع لداعي الشهوة والغضب في مقابلة داعي الدين أو العقل ،
وميل إلى باعث التأخير.
* * *
هذا آخر كلام شارح
الأسماء مع اقتصار وتلخيص.
وكلّ ما يوهم نقصا
فلا يجوز إطلاقه على الله ـ سبحانه ـ مثل «العارف» و «العاقل» و «الفطن» و «الذكيّ»
؛ لأنّ المعرفة تشعر بسبق فكر ، والعقل هو المنع عمّا لا يليق ، والفطنة والذكاء
تشعران بسرعة الإدراك لما غاب عن المدرك ؛ وكذا «المستهزئ» و «الماكر» ـ وإن وردا
في الشرع ـ ولكن على نحو آخر غير موهم للنقص ، فلا يجوز التعدّي عن مورده.
وقد يقال لا ينبغي
لمن وفّق بحسن الأدب بين يدى الله ـ سبحانه ـ أن يفرد أحد الاسمين المتقابلين عن
الآخر ـ كالقابض والباسط ، والمعزّ والمذلّ ، والخافض والرافع ، ونظائر ذلك ـ لأنّ
مقارنتهما أدلّ على الحكمة ، وأنبأ عن القدرة ؛ فالإفراد مفوّت للغرض.
* * *
__________________
فصل [٤]
[الموجودات مظاهر الأسماء الحسنى ، بل
عينها]
لكلّ اسم من
الأسماء الإلهيّة مظهر من الموجودات ، باعتبار غلبة ظهور الصفة التي اشتمل عليها
ذلك الاسم فيه ، فإنّ الله ـ سبحانه ـ إنّما يخلق ويدبّر كلّ نوع من أنواع الخلائق
باسم من أسمائه ، وذلك الاسم هو ربّ ذلك النوع ، والله ـ سبحانه ـ ربّ الأرباب.
وأعني بالاسم هنا
إطلاقه الثاني من اطلاقيه المشار إليهما فيما سبق .
وإلى هذا اشير في
كلام أهل البيت عليهمالسلام في أدعيتهم بقولهم : «وبالاسم الذي خلقت به العرش ، وبالاسم الذي خلقت به
الكرسيّ ، وبالاسم الذي خلقت به الأرواح» ـ إلى غير ذلك من هذا النمط ـ.
وعن مولانا الصادق
عليهالسلام : «نحن والله الأسماء الحسنى التي لا يقبل الله من العباد
عملا إلّا بمعرفتنا».
__________________
وذلك لأنّهم عليهمالسلام وسائل معرفة ذاته ووسائط ظهور صفاته ، وأرباب أنواع
مخلوقاته.
ولك أن تقول : إنّ
حقائق الموجودات بأسرها هي بعينها أسماء الله ـ تعالى ـ لأنها تدلّ على الله ـ سبحانه
ـ دلالة الاسم على المسمّى ـ فإنّ الدلالة كما تكون بالألفاظ ، كذلك تكون بالذوات
، من غير فرق بينهما فيما يئول إلى المعنى ؛
بل كلّ موجود
بمنزلة كلام صادر عنه تعالى دالّ على توحيده ، وتمجيده ؛
بل كلّ منها عند
اولي البصائر لسان ناطق بوحدانيّته ، يسبّح بحمده ويقدّسه عمّا لا يليق بجنابه ، كما قال تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ
إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) [١٧ / ٤٤] ؛
بل كلّ من
الموجودات ذكر وتسبيح له تعالى ، إذ يفهم منه وحدانيّته وعلمه ، واتّصافه بسائر
صفات الكمال ، وتقدّسه عن صفات النقص والزوال ؛ فإنّ البراهين قائمة ـ بل العقول
السليمة قاضية ـ بوجوب انتهاء كلّ طلب إلى مطلوب ، وكلّ فقر إلى غناء ، وكلّ نقصان
إلى تمام ؛ كما أنّها قاضية بوجوب رجوع كل مخلوق إلى خالق ، وكلّ مصنوع إلى صانع ،
وكلّ مربوب إلى ربّ ؛ فنقصانات الخلائق
__________________
دلائل كمالات
الخالق ـ جلّ ذكره ـ وكثراتها واختلافاتها شواهد وحدانيّته ونفي الشريك عنه والضدّ
والندّ ـ جلّ جلاله ـ.
كما قال أمير
المؤمنين عليهالسلام : «بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له ، وبتجهيره الجواهر
عرف أن لا جوهر له ، وبمضادّته بين الأشياء عرف أن لا ضدّ له ، وبمقارنته بين
الأشياء عرف أن لا قرين له»
ـ إلى أن قال ـ : «ففرّق
بين قبل وبعد ، ليعلم أن لا قبل له ولا بعد ؛ شاهدة بغرائزها أن لا غريزة لمغرّزها
، مخبرة بتوقيتها أن لا وقت لموقّتها ، حجب بعضها عن بعض ليعلم أن لا حجاب بينه
وبين خلقه ...» ـ الحديث ـ
وقال بعض الحكماء في هذا المعنى ـ وهو يصف النرجس ـ :
عيون في جفون في
فنون
|
|
بدت فأجاد
صنعتها المليك
|
بأبصار التغنّج
طامحات
|
|
كأنّ حداقها ذهب
سبيك
|
على قصب الزمرّد مخبرات
|
|
بأنّ الله ليس
له شريك
|
__________________
فصل [٥]
[يسأله سبحانه من في السماوات والأرض]
كلّ موجود من
الموجودات يطلب من الله ـ سبحانه ـ بلسان استعداده الكمال الذي يستعدّ له ؛
واستعداده لذلك الكمال ـ أيضا ـ من نعمه سبحانه ، وإليه اشير في الأدعية المأثورة
بقولهم : «يا مبتدأ بالنعم قبل استحقاقها».
وإعطاؤه ـ سبحانه
ـ الاستعداد دعاء منه إلى الطلب ، فالطلب بهذا الاعتبار إجابة لدعوة الحقّ (أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ) [٤٦ / ٣١]. وهو
باعتبار آخر سؤال منه سبحانه : (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [٥٥ / ٢٩].
وهذا السؤال إنّما
هو بلسان الحاجة والافتقار ، وعلى وجه الذلّ والاضطرار ، وإنّما هو باسم من أسمائه
ـ جلّ جلاله ـ مناسب لحاجة السائل ، فالفقير ـ مثلا ـ إنّما يدعوه بالاسم «المغني»
، والمريض بالاسم
__________________
«الشافي» ،
والمظلوم بالاسم «المنتقم» ـ وعلى هذا القياس ـ فكلّ ذرّة من ذرّات العالم تدعو
الله اضطرارا ـ بلسان حالها ـ باسم من أسمائه تعالى ، وهو سبحانه يجيب دعوتها في
حضرة ذلك الاسم الذي دعاه به ، كما قال : (أَمَّنْ يُجِيبُ
الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ) [٢٧ / ٦٢].
وذلك الاسم هو
صورة إجابته تعالى لدعوة ذلك المضطرّ من وجه ، وهو ربّ ذلك المضطرّ بإذن الله من
وجه آخر ؛ ومطالب الكلّ على حسب مسئولاتهم مبذولة دائما ، وحوائجهم مقضيّة أبدا ،
لا يخيب منه أحد قطّ ، إلّا من كان على بصيرته غشاوة من استعداده ، فأخذ يدعو الله
بلسان المقام ، خلاف ما يدعوه بلسان الحال ؛ فذلك يخيب قولا ، وإن استجيب حالا ؛
وهو قوله عزوجل : (وَما دُعاءُ
الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) [١٣ / ١٤]. وسائر
أفعاله عزوجل يرجع إلى هذه الإجابة لدعوة المضطرّين ، وهي ترجع إلى
إفاضة الوجود ، وإنّما تختلف أساميها باختلاف الاعتبارات.
روي في كتاب
التوحيد بإسناده ، عن يحيى الخزاعي ، قال :
__________________
دخلت مع أبي عبد
الله عليهالسلام على بعض مواليه نعوده ، فرأيت الرجل يكثر من قول : «آه».
فقلت له : «يا أخي ـ اذكر ربّك ، واستغث به».
فقال أبو عبد الله
عليهالسلام : «إنّ «آه» اسم من أسماء الله ـ تعالى ـ فمن قال : «آه» ،
فقد استغاث بالله ـ تبارك وتعالى».
أقول : وسرّ هذا
الحديث ما بحنا لك به ـ ولله الحمد ـ.
__________________
[٧]
باب
أفعاله وقضائه وقدره
جلّ ذكره
(إِنَّ رَبَّكُمُ
اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى
عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ
تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) [٧ / ٥٤]
فصل
[١]
إنّ الله ـ سبحانه
ـ خلق ـ أوّل ما خلق ـ جوهرة شريفة ملكوتيّة روحانيّة وحدانيّة ، له وجوه متعدّدة
وجهات مختلفة ؛ كان له بكلّ وجه وجهة اسم من الأسماء.
ولهذا اختلفت ألفاظ
الشرع في تسميته :
فسمّي ب «العقل»
في قول النبي صلىاللهعليهوآله : «إنّ أوّل ما خلق الله
__________________
العقل» وذلك لأنّه محلّ علم الله ـ سبحانه ـ كما قال : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا
خَزائِنُهُ) [١٥ / ٢١].
وب «القلم» في
قوله صلىاللهعليهوآله : «إنّ أوّل ما خلق الله القلم». لإفاضة الله الصور
العلميّة على ألواح النفوس بتوسّطه ، وسيّما على النفس الكليّة التي هي اللوح
الأعظم ، كما قال ـ تعالى ـ : (اقْرَأْ وَرَبُّكَ
الْأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) [٩٦ / ٣ ـ ٥].
وسئل مولانا
الصادق عليهالسلام عن اللوح والقلم؟ فقال : «هما ملكان».
وب «الروح» في
قوله صلىاللهعليهوآله : «أوّل ما خلق الله روحي» ؛ لإفاضة الله عزوجل ـ الحياة على كلّ حيّ بتوسّطه ، وإنّما أضافه إلى
__________________
نفسه ، لأنّه
المبعوث إلى مقام الروح الأوّل ، كما قال عزّ اسمه : (يَوْمَ يَقُومُ
الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ) [٧٨ / ٣٨].
وسئل مولانا
الصادق عليهالسلام عن قوله تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا
إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) [٤٢ / ٥٢] قال : «خلق من خلق الله ، أعظم من جبرئيل وميكائيل ، كان مع
رسول الله صلىاللهعليهوآله يخبره ويسدّده ؛ وهو مع الأئمّة من بعده».
وزاد في رواية
اخرى : «وهو من الملكوت».
وفي اخرى : «إنّه لم يكن مع أحد ممّن مضى غير محمّد صلىاللهعليهوآله ، وهو مع الأئمّةعليهمالسلام يوفّقهم ويسدّدهم».
__________________
وفي اخرى : «ليس كلّما طلب وجد».
وفي اخرى : «منذ أنزل الله ذلك الروح على محمّد صلىاللهعليهوآله ما صعد إلى السماء ، وإنّه لفينا».
وفي اخرى : قيل له «أليس الروح جبرئيل»؟ فقال : «جبرئيل من الملائكة
، والروح خلق أعظم من الملائكة ؛ أليس الله يقول : (تَنَزَّلُ
الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ) [٩٧ / ٤]»؟
كلّ ذلك مروىّ في
كتاب بصائر الدرجات لمحمد بن الحسن الصفّار ـ رحمهالله ـ بالأسانيد المتّصلة.
__________________
ومن جهة كثرته قال
صلىاللهعليهوآله :
«أوّل ما خلق الله
أرواحنا ، ثمّ خلق الملائكة».
وقال صلىاللهعليهوآله : «خلق الله الأرواح قبل الأجساد».
وعن مولانا أمير
المؤمنين عليهالسلام : «انّ الروح ملك من الملائكة ، له سبعون ألف وجه ، في كلّ
وجه سبعون ألف لسان ، في كلّ لسان سبعون ألف لغة ، يسبّح الله بتلك اللغات كلّها ،
ويخلق بكلّ تسبيحة ملك يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة».
__________________
وسمّي ب «النور»
في قوله صلىاللهعليهوآله : «أوّل ما خلق الله نوري» ، إذ به تنوّرت السماوات
والأرض. ووجه الإضافة ما سبق.
وب «الاسم» في
قوله ـ عزوجل ـ : (سَبِّحِ اسْمَ
رَبِّكَ الْأَعْلَى) [٨٧ / ١] ، وقوله
ـ عزوجل ـ : (تَبارَكَ اسْمُ
رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) [٥٥ / ٧٨]. لأنّه
مظهر أسمائه الحسنى المشتمل عليها كلّها ، بل هو اسمه الأعظم الأعظم ، الأجلّ
الأكرم.
وب «اليمين» في
قوله ـ عزّ اسمه ـ : (وَالسَّماواتُ
مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) [٣٩ / ٦٧]. لشرفه
وقوّته بالإضافة إلى الجسمانيّات.
وب «اليد» في قوله
ـ عزّ ذكره ـ : (يَدُ اللهِ فَوْقَ
أَيْدِيهِمْ) [٤٨ / ١٠] لكونه
بمنزلة اليد في خلق العالم ؛ وباعتبار كثرته قال : (وَالسَّماءَ
بَنَيْناها بِأَيْدٍ) [٥١ / ٤٧]. وقال :
(أَنَّا خَلَقْنا
لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً) [٣٦ / ٧١]. فله
سبحانه أيد ليست بجوارح جسمانيّة ، بل ذوات عاقلة روحانيّة عمّالة بأمره.
__________________
وب «الحجب
النوريّة» في قول النبيّ صلىاللهعليهوآله : «إنّ لله سبعا وسبعين حجابا من نور ، لو كشفها لأحرقت
سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره». وهذا بالنظر إلى كثرته.
وفي رواية : «من نور وظلمة» ؛ وهي إشارة إلى جهاته المختلفة مع ما
خلق منه ولأجله من الأجسام والجسمانيّات.
ولعلّ تسميته ب «الحجب»
ما سبق من أنّ الخلق حجاب للربّ ؛ كما قال مولانا الكاظم عليهالسلام : «ليس بينه وبين خلقه حجاب غير خلقه».
وب «العرش» و «الكرسي»
كما يأتي في الحديث .
__________________
وأمّا ما ورد من : «أوّل ما خلق الله الماء» فاريد به أوّل ما خلق من عالم
الأجسام ، واريد بالماء مادّة الأجسام ، وما به قوامها.
وعن النبي صلىاللهعليهوآله : «أوّل ما خلق الله جوهرة ، فنظر إليها بعين الهيبة ،
فذابت أجزاؤه فصارت ماء ؛ فتحرّك الماء وطفى فوقه زبد ، وارتفع منه دخان ، فخلق
السماوات من ذلك الدخان والأرضين من ذلك الزبد».
وفي الكافي عن مولانا الباقر عليهالسلام ما يقرب منه ؛ وهو إشارة إلى كيفيّة تكثّره ـ ويأتي الكلام
فيه.
ولعلّ تسمية ما
ذاب منه ب «الماء» إنّما هي لسيلانه وقبوله التشكّلات المختلفة بسهولة ، فإنّ
المخلوقات الجسمانيّة ـ كلّها ـ إنّما خلقت به وبواسطته .
__________________
وفي كتاب التوحيد
بإسناده عن مولانا الباقر عليهالسلام : «أوّل شيء خلقه من خلقه الشيء الذي جميع الأشياء منه ؛
وهو الماء».
__________________
قيل : «فالشيء ،
خلقه من شيء ، أو من لا شيء»؟ فقال عليهالسلام : «خلق الشيء لا من شيء كان قبله ؛ ولو خلق الشيء من شيء
إذا لم يكن له انقطاع أبدا ؛ لم يزل الله إذا ومعه شيء. ولكن كان الله ولا شيء ،
فخلق الشيء الذي جميع الأشياء منه ـ وهو الماء ـ»
فصل [٢]
[العرش والكرسي والحجب]
روي في كتاب
التوحيد بإسناده عن أبي الصلت الهروي قال :
__________________
سأل المأمون أبا
الحسن علي بن موسى الرضا عليهالسلام عن قول الله عزوجل : (وَهُوَ الَّذِي
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى
الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [١١ / ٧] فقال : «إنّ
الله ـ تبارك وتعالى ـ خلق العرش والماء والملائكة قبل خلق السماوات والأرض ،
فكانت الملائكة تستدلّ بأنفسها وبالعرش والماء على الله ـ عزوجل ـ ثمّ جعل عرشه على الماء ليظهر بذلك قدرته للملائكة ،
فيعلموا أنّه على كلّ شيء قدير ؛ ثمّ رفع العرش بقدرته ونقله ، فجعله فوق السماوات
السبع ، وخلق السماوات والأرض في ستّة أيّام وهو مستول على عرشه ؛ وكان قادرا على أن
يخلقها في طرفة عين ، ولكنّه ـ عزوجل ـ خلقها في ستّة أيّام ليظهر للملائكة ما يخلقه منها شيئا
بعد شيء ، فيستدلّ بحدوث ما يحدث على الله ـ تعالى ـ ذكره ـ مرّة بعد مرّة ؛ ولم
يخلق الله العرش لحاجة به إليه ، لأنّه غنيّ عن العرش ، وعن جميع ما خلق ؛ لا يوصف
بالكون على العرش ، لأنّه ليس بجسم ـ تعالى الله عن صفة خلقه علوّا كبيرا ...» ـ الحديث
ـ
وبإسناده عن أبي جعفر ، عن أبيه عليّ بن الحسين عليهمالسلام قال : إنّ الله عزوجل ـ خلق العرش أرباعا ، لم يخلق قبله إلّا ثلاثة أشياء : الهواء
، والقلم ، والنور ؛ ثمّ خلقه من أنوار مختلفة ، فمن ذلك النور ،
__________________
نور أخضر اخضرّت
منه الخضرة ، ونور أصفر اصفرّت منه الصفرة ، ونور أحمر احمرّت منه الحمرة ، ونور
أبيض وهو نور الأنوار ومنه ضوء النهار ؛ ثمّ جعله سبعين ألف طبق ، غلظ كلّ طبق
كأوّل العرش إلى أسفل السافلين ، ليس من ذلك طبق إلّا يسبّح بحمد ربّه ويقدّسه
بأصوات مختلفة ، وألسنة غير مشتبهة ، ولو اذن للسان منها فاسمع شيئا ممّا تحته
لهدم الجبال والمدائن والحصون ، ولخسفت البحار ولأهلك ما دونه .
له ثمانية أركان ،
على كلّ ركن منها من الملائكة ما لا يحصي عددهم إلّا الله ـ عزوجل ـ يسبّحون الليل والنهار لا يفترون ، ولو حسّ شيء ممّا
فوقه ما قام لذلك طرفة عين ، بينه وبين الإحساس : الجبروت ، والكبرياء والعظمة ،
والقدس ، والرحمة ، ثمّ العلم ؛ وليس وراء هذا مقال ».
وبإسناده عن
مولانا الصادق عليهالسلام ـ في قول الله ـ عزوجل : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [٢ / ٢٥٥] ـ قال :
«علمه».
__________________
وفي رواية اخرى ،
قال : «السماوات والأرض وما بينهما في الكرسي ، والعرش هو العلم الذي لا يقدّر
أحد قدره».
وفي رواية اخرى : «والعرش وكلّ شيء في الكرسي».
وعنه عليهالسلام ـ أنّه سئل عن العرش والكرسى ، ما هما؟ فقال : ـ «العرش في
وجه هو جملة الخلق ، والكرسيّ وعاؤه ، وفي وجه آخر العرش هو العلم الذي أطلع الله
عليه أنبياءه ورسله وحججه عليهمالسلام ؛ والكرسيّ هو العلم الذي لم يطلع عليه أحدا من أنبيائه
ورسله وحججه عليهمالسلام».
وعن مولانا سيّد
العابدين عليهالسلام : «إنّ في العرش تمثال جميع ما خلق الله من البرّ والبحر»
ـ قال : ـ «وهذا تأويل قوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ
إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) [١٥ / ٢١] ـ
وإنّ بين القائمة
من قوائم العرش والقائمة الثانية خفقان الطير المسرع مسير ألف عام ، والعرش يكسى كلّ يوم سبعين ألف لون من نور ، لا يستطيع
أن ينظر إليه خلق من خلق الله. والأشياء كلّها في
__________________
العرش كحلقة في
فلاة» .
__________________
وبإسناده إلى زيد بن وهب ، أنّه قال : سئل أمير المؤمنين عليهالسلام عن الحجب؟ فقال : «أوّل الحجب سبعة ، غلظ كلّ حجاب منها
__________________
مسيرة خمسمائة عام
، بين كلّ حجابين مسيرة خمسمائة عام. والحجاب الثاني سبعون حجابا ، بين كلّ حجابين
منها مسيرة خمسمائة عام ، وطوله خمسمائة عالم ، حجبة كلّ حجاب منها سبعون ألف ملك
، قوّة كلّ ملك منها قوّة الثقلين ؛ منها ظلمة ، ومنها نور ، ومنها نار ، ومنها
دخان ، ومنها سحاب ، ومنها برق ، ومنها مطر ، ومنها رعد ، ومنها ضوء ، ومنها رمل ،
ومنها جبل ، ومنها عجاج ، ومنها ماء ، ومنها أنهار وهي حجب مختلفة ، غلظ كلّ حجاب
مسيرة سبعين ألف عام.
ثمّ سرادقات
الجلال ، وهى سبعون سرادقا ، في كلّ سرادق سبعون ألف ملك ، بين كلّ سرادق وسرادق
مسيرة خمسمائة عام ، ثمّ سرادق العزّ ، ثمّ سرادق الكبرياء ، ثمّ سرادق العظمة ،
ثمّ سرادق القدس ، ثمّ سرادق الجبروت ، ثمّ سرادق الفخر ، ثمّ سرادق النور الأبيض
، ثمّ سرادق الوحدانيّة ، وهو مسيرة سبعين ألف عام في سبعين ألف عام ، ثمّ الحجاب
الأعلى».
وانقضى كلامه عليهالسلام وسكت. فقال له عمر : «لا بقيت ليوم لا أراك فيه يا أبا
الحسن».
قال ابن الفارسي : «إنّما هذه الحجب مضروبة على العظمة العليا
__________________
من خلق الله التي
لا يقدّر قدرها ، وليست مضروبة على الله ـ تعالى ـ لأنّه تعالى لا يوصف بمكان ،
ولا أنّه مستتر بحجاب».
فصل [٣]
اعلم أنّ صور جميع
ما أوجده الله ـ سبحانه ـ من ابتداء العالم إلى آخره منتقشة في العالم العقلي ـ أي
الخلق الأوّل ـ نقشا لا يشاهد بهذه العين ، بل حاصلة فيه على وجه بسيط عقلي ،
مقدّس عن شائبة كثرة وتفصيل ، وهو صورة القضاء الإلهي ، وكأنّه إليه اشير بقوله عزوجل : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ
إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) [١٥ / ٢١].
وبقول مولانا زين
العابدين عليهالسلام :
«إنّ في العرش
تمثال جميع ما خلق الله».
وهو بهذا الاعتبار
، يسمّى ب «أمّ الكتاب» ، كما قال تعالى : (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ
الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) [٤٣ / ٤]. ومنه
ينتقش في لوح
__________________
النفوس الكليّة
السماويّة ، كما ينتسخ بالقلم في اللوح صور معلومة مضبوطة ، منوطة بعللها وأسبابها
ـ على وجه كلّيّ ـ وهي قدره تعالى ، كما قال : (وَما نُنَزِّلُهُ
إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) [١٥ / ٢١].
ومن هذه النفوس
الكلّية ينتقش في قواها المنطبعة الخياليّة ، نقوش جزئيّة ، متشخّصة بأشكال وهيئات
معيّنة ، على طبق ما يظهر في الخارج.
وهذا العالم هو
لوح القدر ، كما أنّ عالم النفوس الكليّة هو لوح القضاء ؛ وكلّ منها ـ بهذا
الاعتبار «كتاب مبين» : (وَلا حَبَّةٍ فِي
ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [٦ / ٥٩]. (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ
إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي
كِتابٍ مُبِينٍ) [١١ / ٦]. (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ
وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) [٥٧ / ٢٢]. (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) [١٣ / ٣٨].
إلّا أنّ الأوّل
محفوظ من المحو والإثبات : (وَإِنَّا لَهُ
لَحافِظُونَ) [١٥ / ٩]. (فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) [٨٥ / ٢٢]
والثاني كتاب
المحو والإثبات : (يَمْحُوا اللهُ ما
يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) [١٣ / ٣٩] ـ يعني اللوح المحفوظ.
والثاني ـ أيضا ـ هو
السماء الدنيا ، التي تنزل إليها الكائنات أوّلا من غيب الغيوب ثمّ تظهر في عالم
الشهادة ؛ كما ورد في الخبر وهو عالم
__________________
الملكوت العمّالة
بإذن الله ، المسخّرة بأمره ، المدبّرة لامور العالم بإعداد الموادّ ، وتهيئة
الأسباب ، ومنه ينزل الشيء المعيّن الخارجي الضروريّ الوجود عند تحقّق وقته : (وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ
مَعْلُومٍ) [١٥ / ٢١].
فمنه تنزّل
الشرائع والصحف والكتب على الأنبياء والرسل صلىاللهعليهوآله نجوما. ولما فيه من المحو والإثبات يصحّ البداء منه سبحانه
، والتردّد في الأمر ـ كما ورد في الأحاديث الصحيحة المستفيضة.
[المحو والإثبات
والبداء]
فإن قلت
:
ما السبب في المحو
والإثبات؟ وما الحكمة فيهما؟ وكيف تصحّ نسبة البداء والتردّد وإجابة الدعاء ونحو
ذلك إلى الله ـ سبحانه ـ مع إحاطة علمه بكلّ شيء أزلا وأبدا ـ على ما هو عليه في
نفس الأمر ـ وتقدّسه عمّا يوجب التغيّر والسنوح ونحوهما؟
فاعلم : أنّ القوى المنطبعة الفلكيّة لم تحط بتفاصيل ما سيقع من
الامور دفعة واحدة ـ لعدم تناهيها ـ بل إنّما تنتقش فيها الحوادث شيئا فشيئا ،
وجملة فجملة ، مع أسبابها وعللها ، على نهج مستمرّ ، ونظام مستقرّ ؛ فإنّ ما يحدث
في عالم الكون والفساد إنّما هو من لوازم حركات الأفلاك المسخّرة لله ـ تعالى ـ ونتائج
بركاتها ، فهي تعلم أنّه كلّما كان كذا ، كان كذا ؛ فمهما حصل لها العلم بأسباب
حدوث أمر ما في هذا العالم حكمت بوقوعه فيه ، فينتقش فيها ذلك الحكم ، وربّما
تأخّر بعض
__________________
الأسباب الموجب
لوقوع الحادث على خلاف ما يوجبه بقيّة الأسباب ـ لو لا ذلك السبب ـ ولم يحصل لها
العلم بذلك السبب بعد ، لعدم اطلاعها على سبب ذلك السبب ، ثمّ لمّا جاء أوانه
واطلعت عليه حكمت بخلاف الحكم الأوّل ، فيمحى عنها نقش الحكم السابق ، ويثبت الحكم
الآخر.
مثلا : لمّا حصل
لها العلم بموت زيد ، بمرض كذا ، في ليلة كذا ، لأسباب تقتضي ذلك ؛ ولم يحصل لها
العلم بتصدّقه الذي يأتي به قبيل ذلك الوقت ـ لعدم اطلاعها على أسباب التصدّق بعد
ـ ثمّ علمت به ـ وكان موته بتلك الأسباب مشروطا بأن لا يتصدّق ـ فتحكم أوّلا
بالموت ، وثانيا بالبرء. وإذا كانت الأسباب لوقوع أمر ولا وقوعه متكافئة ، ولم
يحصل لها العلم برجحان أحدهما بعد ـ لعدم مجيء أوان سبب ذلك الرجحان بعد ـ كان له
التردّد في وقوع ذلك الأمر ولا وقوعه ، فينتقش فيها الوقوع ـ تارة ـ واللّاوقوع
اخرى ؛ فهذا هو السبب في المحو والإثبات والحكمة فيهما.
* * *
وأمّا صحّة نسبة
البداء والتردّد وأمثالهما إلى الله ـ سبحانه ـ مع إحاطة علمه ـ عزوجل ـ بالكليّات والجزئيّات جميعا ـ أزلا وأبدا ـ على ما هي
عليها في الواقع ، من غير تطرّق تغيّر وسنوح في ذاته ـ عزّ وعلا ـ فالوجه فيه ما
ذكره بعض المحقّقين ـ قدسسره ـ قال:
__________________
«لمّا كان ما يجري
في العالم الملكوتي إنّما يجري بإرادة الله سبحانه ، بل فعلهم بعينه فعل الله
تعالى ، حيث أنّهم (لا يَعْصُونَ اللهَ
ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) [٦٦ / ٦] ، إذ لا
داعي لهم على الفعل إلّا إرادة الله ـ جلّ وعزّ ـ لاستهلاك إرادتهم في إرادته ـ تعالى
ـ ومثلهم كمثل الحواسّ للإنسان : كلّما همّ بأمر محسوس امتثلت الحاسّة لما همّ به
وأرادته دفعة ، فكلّ كتابة تكون في هذه الألواح والصحف فهو أيضا مكتوب الله ـ عزوجل ـ بعد قضائه السابق المكتوب بقلمه الأوّل.
فيصحّ أن يصف الله
عزوجل نفسه بالنسخ والبداء والتردّد وإجابة الدعاء والابتلاء
ونحوها بهذا الاعتبار ، وإن كان مثل هذه الامور يشعر بالتغيّر والسنوح ، وهو ـ سبحانه
ـ منزّه عنه ، فإنّ كلّ ما وجد أو سيوجد فهو غير خارج عن عالم ربوبيّته. كما ورد
في الحديث :
«إنّ الله لا يأسف
كأسفنا ، إلّا أنّه خلق أولياء لنفسه.
يأسفون ويرضون ـ وهم
مخلوقون مربوبون ـ فجعل رضاهم رضا نفسه ، وسخطهم سخط نفسه».
ـ قال : ـ
ولو لم يكن الأمر
كذلك ـ من توسيط هذه النفوس القابلة
__________________
لتعاقب الصور
الإراديّة منها ، على حسب توارد الأرقام القلميّة عليها ـ لكانت الامور كلّها حتما
مقضيّا ، وكان الفيض الإلهي مقصورا على عدد معيّن غير متجاوز عن حدود الإبداع ،
وكان قد انسدّ طرق الاهتداء للسالكين ، وإجابة الدعاء للداعين.
أقول : ليس حكم النسخ حكم البداء ، إلّا إذا كان عبارة عن رفع
الحكم السابق ، وأمّا إذا كان عبارة عن انتهاء مدّة الحكم ـ كما هو التحقيق ـ فلا
مدخل للمحو والإثبات فيه أصلا.
والدعاء ـ أيضا ـ يجرى
فيه نظير الأمرين ، فليتدبّر.
* * *
وأمّا سبب الاطلاع
على البداء ونحوه : فهو اتّصال نفس النبيّ أو الوليّ بالملائكة العمّالة ـ بإذن
الله ـ وقراءتهم ما كتب في قلوبهم ؛ مما أوحى الله إليهم فيخبرون بما رأوه بأعين
قلوبهم ، أو شاهدوه بأنوار بصائرهم أو سمعوه بآذان قلوبهم من صرير أقلام اولئك
الكرام ، ثمّ إذ اتّصلت أنفسهم بها تارة اخرى. ورأوا في تلك الألواح غير ما رأوه
أوّلا ، وغير ما ناسبته الصور السابقة ، فيقال لمثل هذا الأمر : «البداء» وما
أشبهها.
فصل [٤]
[البداء في الروايات]
اعلم أنّ القول
بجواز البداء على الله ـ عزوجل ـ من خواصّ أهل البيت ـ صلوات الله عليهم ـ وشيعتهم ـ رضي
الله عنهم ـ :
روي في كتابي
الكافي والتوحيد بإسناده عن مولانا الصادق عليهالسلام أنّه قال : «ما عبد الله بشيء مثل البداء».
وفي رواية صحيحة
عنه عليهالسلام : «ما عظّم الله بمثل البداء».
وفي اخرى صحيحة ـ في هذه الآية : (يَمْحُوا اللهُ ما
يَشاءُ
__________________
وَيُثْبِتُ) [١٣ / ٣٩] قال ـ :
«وهل يمحي إلّا ما كان ، وهل يثبت إلّا ما لم يكن»؟.
وفي اخرى صحيحة قال : «ما بعث الله ـ عزوجل ـ نبيّا حتّى أخذ عليه ثلاث خصال : الإقرار بالعبوديّة ،
وخلع الأنداد ، وأنّ الله يقدّم ما يشاء ويؤخّر ما يشاء».
وقال : «لو يعلم الناس ما في القول بالبداء من الأجر ، ما فتروا
عن الكلام فيه».
وقال : «إنّ الله لم يبد له من جهل».
وفي رواية صحيحة : «ما بدا لله في شيء إلّا كان في علمه قبل أن يبدو له».
__________________
وفي الصحيح عن
مولانا الباقر عليهالسلام قال : «العلم علمان : فعلم عند الله مخزون لم يطلع عليه أحدا
من خلقه ، وعلم علّمه ملائكته ورسله ؛ فما علّمه ملائكته ورسله فإنّه سيكون لا
يكذّب نفسه ولا ملائكته ولا رسله ؛ وعلم عنده مخزون ، يقدّم منه ما يشاء ويؤخّر ما
يشاء ، ويثبت ما يشاء».
ومثله عن مولانا
الصادق وجدّهما.
وعن مولانا الرضا عليهالسلام في قول الله ـ عزوجل ـ : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ
فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ) [٥١ / ٥٤] ـ قال :
ـ «أراد إهلاكهم ، ثمّ بدا لله ، فقال : (وَ
__________________
ذَكِّرْ
فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) [٥١ / ٥٥]».
ثمّ قال عليهالسلام : «لقد أخبرني أبي عن آبائه ، عن رسول الله صلى الله عليهم
ـ قال ـ : «إنّ الله ـ عزوجل ـ أوحى إلى نبيّ من أنبيائه أن أخبر فلان الملك أنّي
متوفّيه إلى كذا وكذا ؛ فأتاه ذلك النبيّ فأخبره ؛ فدعا الله الملك ـ وهو على
سريره ـ حتّى سقط من السرير ، فقال : يا ربّ أجّلني حتّى يشبّ طفلي وأقضي أمري ؛
فأوحى الله إلى ذلك النبيّ أن ائت الملك فأعلمه أنّي قد أنسيت في أجله ، وزدت في
عمره خمس عشرة سنة. فقال ذلك النبيّ : «يا ربّ إنّك لتعلم أنّي لم اكذب قطّ».
فأوحى الله ـ عزوجل ـ : إنّما أنت عبد مأمور ، فأبلغه ذلك ، والله لا يسأل
عمّا يفعل».
أقول
: هذا الخبر لا
ينافي قول الباقر عليهالسلام ـ في الحديث السابق : ـ «فما علّمه ملائكته ورسله ، فإنّه
سيكون ، لا يكذّب نفسه ولا ملائكته ولا رسله» ؛ لأنّ مثل ذلك ليس فيه تكذيب في
الحقيقة ، فإنّ إخبارهم بالشيء قد يكون من اللوح المحفوظ ، فيكون حتما ، وقد يكون
من لوح المحو والإثبات ، فيكون موقوفا ، ولا يحكمون في الثاني على القطع ، إلّا
نادرا ؛ يدلّ على ذلك حديث أشراط الساعة ـ كما يأتي ذكره في بابه ـ إن شاء الله ـ.
والأخبار في
البداء عن أهل البيت ـ عليهمالسلام ـ كثيرة.
وأمّا نسبة
التردّد إلى الله ـ سبحانه ـ فمتّفق عليه بين الخاصّة والعامّة.
وقد ورد في الحديث
القدسيّ :
«ما تردّدت في شيء
أنا فاعله كتردّدي في قبض روح عبدي المؤمن ، يكره الموت ، وأكره مسائة له ، ولا
بدّ له منه».
مع أنّه قد قضي
عليه الموت قضي عليه الموت قضاء حتما ، قال تعالى : (ثُمَّ قَضى أَجَلاً
وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) [٦ / ٢] ـ وقال :
ـ (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ
أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) [٧ / ٣٤].
* * *
__________________
فصل [٥]
قال بعض العارفين
:
«ومن هذه الحقيقة
الإلهيّة التي كنّى عنها بالتردّد انبعث التردّدات الكونيّة ، والتحيّر في النفوس
، وذلك أنّا قد نتردّد في أمرنا ـ هل نفعله أم لا؟ ـ وما زلنا نتردّد حتّى يكون
أحد الامور المتردّد فيها. فذلك الأمر الواقع هو الثابت في اللوح من تلك الامور ؛
وذلك أنّ القلم الكاتب في اللوح القدريّ ، يكتب أمرا ما ، وزمان الخاطر ، ثمّ
يمحوه ، فيزول ذلك الخاطر ؛ لأنّ من هذا اللوح إلى النفوس رقائق ممتدّة إليها ،
تحدث بحدوث الكتابة وتنقطع بمحوها ، فإذا صار الأمر ممحوّا كتب غيره ، فتمتدّ منه
رقيقة إلى نفس هذا الشخص ـ الذي كتب هذا من أجله ـ فيخطر له خاطر نقيض الخاطر
الاوّل ؛ وهكذا إلى أن أراد الحقّ إثباته ، فلم يمحه ؛ فيفعله الشخص أو يتركه ـ حسب
ما ثبت في اللوح .
والموكّل بالمحو
ملك كريم ، والإملاء عليه من الصفة الإلهيّة. ولو لم يكن الأمر كذلك لكانت الامور
كلّها حتما مقضيّا ـ وهذا شأن الأقلام القدريّة ـ.
__________________
وأمّا القلم
الأعلى فأثبت في اللوح المحفوظ صورة كلّ شيء يجري من هذه الأقلام ـ من محو وإثبات
ـ ففيه إثبات المحو ، وإثبات الإثبات ، ومحو المحو ، ومحو الإثبات على وجه أرفع ؛
فصورته مقدّسة عن المحو والتغيّر ، لأنّ نسبة القلم الأعلى إلى هذه الأقلام كنسبة
قوّتنا العقليّة ، إلى مشاعرنا الخياليّة والحسيّة ، ونسبة اللوح المحفوظ إلى هذه
الألواح كنسبة الإرادة الكليّة لمطلوب نوعيّ ، إلى إرادات جزئيّة وقعت في طريق
تحصيله في ضمن واحد منه.
فصل [٦]
[الحكم ، التدبير ، القضاء ، القدر]
قد ظهر ممّا ذكرنا
معنى حكم الله ـ عزوجل ـ وقضائه وقدره :
فإنّ تدبيره أصل
وضع الأسباب وترتيبها ليتوجّه إلى المسبّبات حكمه ـ تعالى ـ.
ونصبه الأسباب
الكليّة الأصلية الثابتة المستقرّة ، التي لا تزول ولا تحول ـ كالأرض ، والسماوات
السبع والكواكب والأفلاك وحركاتها المتناسبة الدائمة التي لا تتغيّر ولا تنعدم ـ إلى
أن يبلغ الكتاب أجله :
قضاؤه ـ عزوجل ـ كما قال تعالى : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ
سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) [٤١ / ١٢].
وتوجيه هذه
الأسباب بحركاتها المتناسبة المحدودة المقدّرة المحسوبة إلى المسبّبات الحادثة
منها ـ لحظة بعد لحظة ـ قدره.
فالحكم هو التدبير
الأوّل الكلّي والأمر الاوّليّ الذي هو (كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) [٥٤ / ٥٠].
والقضاء هو الوضع
الكلّي للأسباب الكلّية الدائمة.
والقدر هو توجيه
الأسباب الكلّية بحركاتها المقدّرة المحسوبة ، إلى مسبّباتها المعدودة المحدودة
بقدر معلوم ، لا يزيد ولا ينقص ، ولذلك لا يخرج شيء عن قضائه وقدره.
والكلّ إنّما يوجد
بأمر (كُنْ) ؛ فإنّ الله ـ عزوجل ـ (إِذا قَضى أَمْراً
فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ) بلا حرف ولا صوت ، بل بالمعنى الذي يليق بجلاله (فَيَكُونُ) [٢ / ١١٧] كما
أراد.
فصل [٧]
قال بعض الحكماء
ما محصّله
:
«إنّ وجود العالم
عن الباري ـ جلّ شأنه ـ ليس كوجود الدار عن البنّاء ، ولا كوجود الكتابة عن الكاتب
ـ الثابتة العين ، المستقلّة بذاتها ، المستغنية عن الكاتب بعد فراغه ـ ولكن كوجود
الكلام عن المتكلّم ، إن سكت بطل الكلام ؛ بل كوجود ضوء الشمس في الجوّ المظلم
الذات ما دامت الشمس طالعة ، فإن غابت الشمس بطل الضوء من الجوّ ، لكنّ شمس الوجود
يمتنع عليه العدم لذاته.
__________________
وكما أنّ الكلام
ليس جزء المتكلّم ـ بل فعله وعمله ، أظهره بعد ما لم يكن ـ وكذا النور الذي يرى في
الجوّ ، ليس بجزء الشمس ، بل هو انبجاس وفيض منها. فهكذا الحكم في وجود العالم عن
الباري ـ جلّ ثناؤه ـ ليس بجزء من ذاته ، بل فضل وفيض يتفضّل به ويفيض.
إلّا أنّ الشمس لم
تقدر أن تمنع نورها وفيضها ، لأنّها مطبوعة على ذلك ؛ بخلافه ـ عزوجل ـ فإنّه مختار في أفعاله بنحو من الاختيار أجلّ وأرفع ممّا
يتصوّره الجهّال ، وأشدّ وأقوى من اختيار مثل المتكلّم القادر على الكلام ـ إن شاء
تكلّم وإن شاء سكت ـ فهو عزوجل إن شاء أفاض جوده وفضله وأظهر حكمته ، وإن شاء أمسك ؛ ولو
أمسك طرفة عين عن الإفاضة والتوجّه ، لتهافتت السماوات ، وبادت الأفلاك ، وتساقطت
الكواكب ، وعدمت الأركان ، وهلكت الخلائق ، ودثر العالم دفعة واحدة ، بلا زمان ؛
كما قال عزوجل : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ
أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ) [٣٥ / ٤١].
فصل [٨]
[المأثور في القدر وأعمال العباد]
روي في كتاب
التوحيد بإسناده عن مولانا الصادق عليهالسلام ـ في قول الله عزوجل : (وَقالَتِ الْيَهُودُ
يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) [٥ / ٦٤] ـ : «لم
يعنوا أنّه هكذا ، ولكنّهم قالوا : قد فرغ من الأمر ، فلا يزيد ولا ينقص ؛ فقال
الله ـ جلّ جلاله ـ تكذيبا لقولهم : (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ
وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) [٥ / ٦٤] ؛ ألم
تسمع الله عزوجل يقول : (يَمْحُوا اللهُ ما
يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) [١٣ / ٣٩]».
وبإسناده عن مولانا الرضا عن أبيه ، عن آبائه ، عن عليّ عليهالسلام ـ قال : ـ «قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : «إنّ الله ـ عزوجل ـ قدّر المقادير ودبّر التدابير قبل أن يخلق آدم بألفي عام»
ـ».
وفي رواية اخرى : «قدّر الله المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين
ألف سنة».
__________________
وبإسناده عن النبي صلىاللهعليهوآله ـ قال ـ : «لا يؤمن أحدكم حتّى يؤمن بالقدر ، خيره وشرّه ،
وحلوه ومرّه».
وبإسناده عن العالم عليهالسلام قال : «علم ، وشاء ، وأراد ، وقدّر ، وقضى ، وأبدا ؛ فأمضى ما قضى ، وقضى ما قدّر ، وقدّر ما أراد ؛ فبعلمه
كانت المشيّة ، وبمشيّته كانت الإرادة ، وبإرادته كان التقدير ، وبتقديره كان
القضاء ، وبقضائه كان الإمضاء.
فالعلم متقدّم
المشيّة ، والمشيّة ثانية ، والإرادة ثالثة ، والتقدير واقع على
القضاء بالإمضاء. فلله ـ تبارك وتعالى ـ البداء فيما علم متى
__________________
شاء ، وفيما أراد
لتقدير الأشياء ؛ فإذا وقع القضاء بالإمضاء فلا بداء.
فالعلم بالمعلوم
قبل كونه ، والمشيّة في المشاء قبل عينه ، والإرادة في المراد قبل قيامه ، والتقدير لهذه
المعلومات قبل تفصيلها وتوصيلها ـ عيانا وقياما ـ والقضاء بالإمضاء هو المبرم من المفعولات ذوات الأجسام
المدركات بالحواسّ ، من ذي لون وريح ، ووزن وكيل ، وما دبّ ودرج ـ من إنس وجنّ
وطير وسباع ـ وغير ذلك ممّا يدرك بالحواسّ ؛ فلله ـ تبارك وتعالى ـ فيه البداء ،
ممّا لا عين له ، فإذا وقع العين المفهوم المدرك فلا بداء ؛ والله يفعل ما يشاء.
وبالعلم علم
الأشياء قبل كونها ، وبالمشيّة عرف صفاتها وحدودها ، وأنشأها قبل إظهارها ،
وبالإرادة ميّز أنفسها في ألوانها وصفاتها ، وبالتقدير قدّر أقواتها وعرّف أوّلها وآخرها ، وبالقضاء
أبان للناس أماكنها ، ودلّهم عليها ، وبالإمضاء شرح عللها وأبان أمرها ، و (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) [٦ / ٩٦]».
* * *
__________________
فصل [٩]
اعلم أنّ القدر في
الأفعال وخلق الأعمال من الأسرار والغوامض التي تحيّرت فيها الأفهام ، واضطربت
فيها آراء الأنام ، ولم يرخّص في إفشائه بالكلام ؛ فلا يدوّن إلّا مرموزا ، ولا
يعلم إلّا مكنونا ، لما في إظهاره من إفساد العامّة وهلاكهم.
فقد روي عن النبيّ
صلىاللهعليهوآله : «القدر سرّ الله ، فلا تظهروا سرّ الله».
وعنه صلىاللهعليهوآله : «إذا ذكر القدر فامسكوا».
وسئل مولانا أمير
المؤمنين عليهالسلام عنه ، فقال : «إنّه طريق وعر ، فلا تسلكه» ـ
ثمّ قال : ـ «إنّه
صعود عسر ، فلا تتكلّفه».
__________________
وفي رواية اخرى
رواها في التوحيد بإسناده عن عبد الملك بن عنترة الشيباني عن أبيه ، عن جدّه ، قال : «جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليهالسلام ، فقال : «يا أمير المؤمنين ، أخبرني عن القدر»؟
قال : «بحر عميق ،
فلا تلجه».
قال : «يا أمير
المؤمنين ، أخبرني عن القدر»؟
فقال : «طريق مظلم
، فلا تسلكه».
قال : «يا أمير
المؤمنين أخبرني عن القدر»؟
قال : «سرّ الله ،
فلا تكلّفه».
قال : «يا أمير
المؤمنين أخبرني عن القدر»؟
فقال : له أمير
المؤمنين عليهالسلام : «أمّا إذا أبيت ، فإنّي سائلك : أخبرني أكانت رحمة الله
للعباد قبل أعمال العباد؟ أم كانت أعمال العباد قبل رحمة الله»؟
ـ قال : ـ فقال له
الرجل : «بل كانت رحمة الله للعباد قبل أعمال العباد».
فقال أمير
المؤمنين عليهالسلام : «قوموا فسلّموا على أخيكم ، فقد أسلم ، وقد كان كافرا».
__________________
قال : فانطلق
الرجل غير بعيد ، ثمّ انصرف إليه فقال له : «يا أمير المؤمنين ـ أبالمشيّة الاولى
نقوم ونقعد ، ونقبض ونبسط»؟
فقال له أمير
المؤمنين عليهالسلام : «وإنّك لبعد في المشيّة ؛ أمّا إنّي سائلك عن ثلاث ـ لا
يجعل الله لك في شيء منها مخرجا ـ : أخبرني أخلق الله العباد كما شاء ، أو كما
شاءوا»؟
فقال : «كما شاء».
قال : «فخلق الله
العباد لما شاء ، أو لما شاءوا»؟
فقال : «لما شاء».
قال : «يأتونه يوم
القيامة كما شاء ، أو كما شاءوا»؟
قال : «يأتونه كما
شاء».
قال : «قم ؛ فليس
إليك من المشيّة شيء».
وبإسناده عن الأصبغ بن نباتة ، قال : قال أمير المؤمنين عليهالسلام فى القدر :
«ألا إنّ القدر
سرّ من سرّ الله ، وستر من ستر الله ، وحرز من حرز الله ؛ مرفوع في حجاب الله ،
مطويّ عن خلق الله ، مختوم بخاتم الله ، سابق في علم الله ؛ وضع الله العباد عن
علمه ، ورفعه فوق شهاداتهم ومبلغ عقولهم ، لأنّهم لا ينالونه بحقيقة الربانيّة ،
ولا بقدرة الصمدانيّة ، ولا بعظمة النورانيّة ، ولا بعزّة الوحدانيّة ، لأنّه بحر
زاخر خالص لله
__________________
تعالى ؛ عمقه ما
بين السماء والأرض ، وعرضه ما بين المشرق والمغرب ، أسود كالليل الدامس ، كثير
الحيّات والحيتان ؛ تعلو مرّة وتسفل اخرى ، في قعرها شمس تضيء.
لا ينبغي أن يطّلع
عليها إلّا الله الواحد الفرد ؛ فمن اطّلع عليها فقد ضادّ الله عزوجل في حكمه ، ونازعه في سلطانه ، وكشف عن ستره وسرّه ، وباء
بغضب من الله ، ومأواه جهنّم وبئس المصير».
وبإسناده عن الزهري ـ قال : ـ قال رجل لعلي بن الحسين عليهماالسلام :
«جعلني الله فداك
ـ أبقدر يصيب الناس ما أصابهم ، أم بعمل»؟
فقال عليهالسلام : «إنّ القدر والعمل بمنزلة الروح والجسد ، فالروح بغير
جسد لا تحسّ ، والجسد بغير روح صورة لا حراك لها ؛ فإذا اجتمعا قويا وصلحا ؛ كذلك
العمل والقدر ، فلو لم يكن القدر واقعا على العمل لم يعرف الخالق من المخلوق ،
وكان القدر شيئا لا يحسّ ؛ ولو لم يكن العمل بموافقة من القدر لم يمض ولم يتمّ ؛
ولكنّهما باجتماعهما قويا ، ولله فيه العون لعباده الصالحين».
ثمّ قال عليهالسلام : «ألا ، [إنّ] من أجور الناس من رأى جوره عدلا ، وعدل المهتدي جورا ؛ ألا
ـ إنّ للعبد أربعة أعين : عينان يبصر بهما أمر
__________________
دنياه ، وعينان
يبصر بهما أمر آخرته ، فإذا أراد الله ـ عزوجل ـ بعبد خيرا ، فتح له العينين اللتين في قلبه ، فأبصر بهما
الغيب ؛ وإذا أراد غير ذلك ترك القلب بما فيه».
ثمّ التفت إلى
السائل عن القدر ، فقال : «هذا منه ، هذا منه».
وبإسناده عن مهزم ، عن مولانا الصادق عليهالسلام ـ قال : ـ قلت له : «أجبر الله العباد على المعاصي»؟
قال : «الله أقهر
لهم من ذلك».
ـ قال : ـ قلت : «ففوّض
إليهم»؟ قال : «الله أقدر عليهم من ذلك»
ـ قال : ـ قلت : «فأيّ
شيء هذا ـ أصلحك الله ـ»؟
ـ قال : ـ «فقلّب
يده ـ مرّتين أو ثلاثا ـ ثمّ قال : لو أجبتك فيه لكفرت».
وبإسناده عن معاذ بن جبل ـ قال : ـ قال رسول الله صلىاللهعليهوآله :
__________________
«سبق العلم وجفّ
القلم ، ومضى القدر بتحقيق الكتاب وتصديق الرسل ، وبالسعادة من الله ـ عزوجل ـ لمن آمن واتّقى ، وبالشقاء لمن كذّب وكفر ، وبولاية الله
المؤمنين وببراءته من المشركين».
ثمّ قال رسول الله
صلىاللهعليهوآله : «عن الله أروي حديثي ، إنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ يقول :
يا ابن آدم ، بمشيّتي كنت أنت الّذي تشاء لنفسك ما تشاء ، وبإرادتي كنت أنت الذي
تريد لنفسك ما تريد ، وبفضل نعمتي عليك قويت على معصيتي ، وبعصمتي وعوني وعافيتي
أدّيت إليّ فرائضي ، فأنا أولى بحسناتك منك ، وأنت أولى بسيّئاتك منّي ، فالخير
منّى إليك بما أوليت بداء ، والشرّ منّي إليك بما جنيت جزاء ؛ وبإحساني إليك قويت
على طاعتي ، وبسوء ظنّك بي قطنت من رحمتي ؛ فلي الحمد والحجّة عليك بالبيان ، ولي
السبيل عليك بالعصيان ، ولك جزاء الخير عندي بالإحسان ، لم أدع تحذيرك ، ولم آخذك
عند عزمك ، ولم اكلّفك فوق طاقتك ، ولم احمّلك من الأمانة إلّا بما قدّرت به على
نفسك ، رضيت لنفسي منك ما رضيت لنفسك منّي».
وبإسناده عن ابن
عمر ما يقرب منه ، وعن أهل البيت عليهمالسلام ما يقرب منهما.
وفي الكافي بإسناده عن مولانا الصادق عليهالسلام ـ قال : ـ «أمر الله ولم يشأ وشاء ولم يأمر ؛ أمر إبليس أن
يسجد لآدم وشاء أن لا يسجد ،
__________________
ولو شاء لسجد ؛
ونهى آدم عن أكل الشجرة ، وشاء أن يأكل منها ، ولو لم يشأ لم يأكل».
وبإسناده عن أبي الحسن عليهالسلام ـ قال : ـ «إنّ لله إرادتين ومشيّتين : إرادة حتم وإرادة
عزم ، ينهي وهو يشاء ، ويأمر وهو لا يشاء ؛ أو ما رأيت أنّه نهى آدم وزوجته أن
يأكلا من الشجرة ، وشاء ذلك ، ولو لم يشأ أن يأكلا لما غلبت مشيّتهما مشيّة الله» .
وبإسناده عن مولانا الصادق عليهالسلام ـ قال : ـ «شاء وأراد ، ولم يحبّ ولم يرض ؛ شاء أن لا يكون
شيء إلّا بعلمه ، وأراد مثل ذلك ؛ ولم يحبّ أن يقال : ثالث ثلاثة ، ولم يرض لعباده
الكفر».
وبإسناده عن أبي بصير ، عنه عليهالسلام ـ قال : ـ «قلت له : شاء وأراد وقدّر وقضى»؟ قال : «نعم».
__________________
قلت : «وأحبّ»؟
قال : «لا».
قلت : «وكيف شاء
وأراد وقدّر وقضى ، ولم يحبّ»؟!
قال : «هكذا خرج
إلينا».
وبإسناده عنه عليهالسلام ـ قال : ـ» لا يكون شيء في الأرض ولا في السماء إلّا بهذه
الخصال السبع : بمشيّة ، وإرادة ، وقدر ، وقضاء ، وإذن ، وكتاب ، وأجل ؛ فمن زعم
أنّه يقدر على نقض واحدة ، فقد كفر».
وفي لفظ آخر : «فمن زعم غير هذا فقد كذب على الله ، أو ردّ على الله [عزوجل]».
وبإسناده عنه عليهالسلام ـ قال : ـ «ما من قبض ولا بسط ، إلّا ولله فيه مشيّة وقضاء
وابتلاء».
وروي في الكافي
بإسناده مرفوعا إلى مولانا أمير المؤمنين عليهالسلام أنّه
__________________
كان جالسا بالكوفة
بعد منصرفه من صفّين ، إذ أقبل شيخ فجثا بين يديه ، ثمّ قال : «يا أمير المؤمنين ـ أخبرنا عن مسيرنا إلى أهل
الشام ، أبقضاء من الله وقدر»؟
فقال أمير
المؤمنين عليهالسلام : «أجل ـ يا شيخ ـ ما علوتم تلعة ولا هبطتم بطن واد إلّا بقضاء من الله وقدر».
فقال له الشيخ : «عند
الله أحتسب عنائي ـ يا أمير المؤمنين».
فقال له : «مه ـ يا
شيخ ـ فو الله لقد عظّم الله لكم الأجر في مسيركم وأنتم سائرون ، وفي مقامكم وأنتم
مقيمون ، وفي منصرفكم وأنتم منصرفون ، ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ، ولا
إليه مضطرّين».
فقال له الشيخ : «وكيف
لم نكن في شيء من حالاتنا مكرهين ولا إليه مضطرّين ، وكان بالقضاء والقدر مسيرنا
ومنقلبنا ومنصرفنا»؟
فقال له : «وتظنّ
أنّه كان قضاء حتما ، وقدرا لازما؟ إنّه لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب ، والأمر
والنهي والزجر من الله ، وسقط معنى الوعد والوعيد ، فلم تكن لائمة للمذنب ، ولا
محمدة للمحسن ؛ ولكان المذنب أولى بالإحسان من المحسن ، وكان المحسن أولى بالعقوبة
من المذنب ؛ تلك مقالة إخوان عبدة الأوثان وخصماء الرحمن وحزب الشيطان ، وقدريّة
هذه الامّة ومجوسها ؛ إنّ الله ـ تعالى ـ كلّف تخييرا ، ونهى تحذيرا ، وأعطى على
القليل كثيرا ، ولم يعص مغلوبا ، ولم يطع
__________________
مكرها ، ولم يملّك
مفوّضا ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلا ، ولم يبعث النبيّين ـ مبشّرين
ومنذرين ـ عبثا ، (ذلِكَ ظَنُّ
الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) [٣٨ / ٢٧]».
فأنشأ الشيخ يقول
:
أنت الإمام الذي
نرجوا بطاعته
|
|
يوم النجاة من
الرحمن غفرانا
|
أو ضحت من أمرنا
ما كان ملتبسا
|
|
جزاك ربّك
بالإحسان إحسانا
|
وفي رواية اخرى
رواها الصدوق في التوحيد مسندا ما يقرب منه ، وزاد :
فليس معذرة في
كلّ فاحشة
|
|
قد كنت راكبها
فسقا وعصيانا
|
لا ، لا ؛ ولا
قائلا : ناهيه أوقعه
|
|
فيها ؛ عبدت إذا
يا قوم شيطانا
|
ولا أحبّ ولا
شاء الفسوق ولا
|
|
قتل الوليّ له
ظلما وعدوانا
|
أنّى يحبّ وقد
صحّت عزيمته
|
|
ذو العرش أعلن
ذاك الله إعلانا
|
وفي رواية اخرى
فيه مسندا عن ابن عباس ـ رضى الله عنه ـ : فقال الشيخ : «يا أمير المؤمنين ـ فما
القضاء والقدر الذان ساقانا ، وما هبطنا واديا ، ولا علونا تلعة إلّا بهما»؟
__________________
فقال أمير
المؤمنين عليهالسلام : «الأمر من الله والحكم». ـ ثمّ تلا هذه الآية : ـ (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا
إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) [١٧ / ٢٣] أي أمر
ربّك ألّا تعبدوا إلّا إيّاه ، وبالوالدين إحسانا ».
وبإسناده الصحيح عن مولانا الصادق عليهالسلام ـ قال : ـ «إنّ الله ـ عزوجل ـ خلق الخلق فعلم ما هم صائرون إليه ، وأمرهم ونهاهم ، فما
أمرهم به من شيء ، فقد جعل لهم السبيل إلى الأخذ به ، وما نهاهم عنه من شيء ، فقد
جعل لهم السبيل إلى تركه ، ولا يكونوا آخذين ولا تاركين إلّا بإذن الله تعالى».
وبإسنادهما عنه عليهالسلام ، قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : «من زعم أنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ أمر بالسوء والفحشاء
فقد كذب على الله ، ومن زعم أنّ الخير والشرّ بغير مشيّة الله ، فقد أخرج الله من
سلطانه ، ومن زعم أنّ المعاصي بغير قوّة الله فقد كذب على الله ، ومن كذب على الله
أدخله النار».
__________________
يعني بالخير والشرّ الصحة والمرض ، وذلك قوله تعالى : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ
فِتْنَةً) [٢١ / ٣٥].
وبإسنادهما عنه وعن أبيه الباقر عليهماالسلام ـ قالا ـ : «إنّ الله ـ عزوجل ـ أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب ، ثمّ يعذّبهم
عليها ، والله أعزّ من أن يريد أمرا فلا يكون».
ـ قال : ـ فسئلا عليهالسلام : «هل بين الجبر والقدر منزلة ثالثة»؟
قالا : «نعم ،
أوسع ممّا بين السماء والأرض».
وبإسنادهما عنه عليهالسلام ـ قال : ـ «لا جبر ولا تفويض ، ولكن أمر بين أمرين». قيل :
«وما أمر بين أمرين»؟
قال : «مثل ذلك مثل رجل رأيته على معصية فنهيته ، فلم ينته ،
فتركته ، ففعل تلك المعصية ؛ فليس حيث لم يقبل منك فتركته كنت أنت الذي أمرته
بالمعصية».
__________________
وفي التوحيد بإسناده الصحيح ، عن مولانا الصادق عليهالسلام ـ قال : ـ «إنّ الناس في القدر على ثلاثة أوجه : رجل يزعم
أنّ الله تعالى أجبر الناس على المعاصي ، فهذا قد أظلم الله في حكمه ، فهو كافر ؛
ورجل يزعم أنّ الأمر مفوّض إليهم ، فهذا قد وهّن الله في سلطانه فهو كافر ؛ ورجل
يقول : إنّ الله كلّف العباد ما يطيقون ، ولم يكلّفهم ما لا يطيقون ، وإذا أحسن
حمد الله ، وإذا أساء استغفر الله ، فهو مسلم بالغ».
وبإسناده عنه عليهالسلام قال : «إنّ القدريّة مجوس هذه الامّة ، وهم الذين أرادوا أن
يصفوا الله بعدله ، فأخرجوه من سلطانه ، وفيهم نزلت هذه الآية : (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى
وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ* إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) [٥٤ / ٤٧ ـ ٤٨].
وبإسناده عن مولانا الرضا عليهالسلام أنّه ذكر عنده الجبر والتفويض ، فقال : «ألا اعطيكم في هذا
أصلا لا تختلفون فيه ، ولا تخاصمون عليه أحدا إلّا كسرتموه»؟ قيل : «إن رأيت ذلك».
فقال : ـ «إنّ
الله ـ عزوجل ـ لم يطع بإكراه ، ولم يعص بغلبة ، ولم يهمل العباد في
ملكه ، وهو المالك لما ملّكهم ، والقادر على ما أقدرهم عليه ، فإن ائتمر العباد
بطاعته لم يكن الله عنها صادّا ، ولا منها مانعا ،
__________________
وإن ائتمروا
بمعصيته فشاء أن يحول بينه وبين ذلك لفعل ، وإن لم يحل وفعلوه ، فليس هو الذي أدخلهم
فيه».
ثمّ قال عليهالسلام : «من يضبط حدود هذا الكلام ، فقد خصم من خالفه».
وفي كتاب الاحتجاج
للشيخ أحمد بن [على بن] أبي طالب الطبرسي ـ رحمهالله ـ عن مولانا الزكيّ العسكري عليهالسلام ـ فيما أجاب به في رسالته إلى الأهواز ، حين سألته عن
الجبر والتفويض ـ ما هو واف في هذا المعنى ، فمن أراده فليرجع إليه ، وفي آخره قال
الإمام :
«بذلك أخبر أمير
المؤمنين عليهالسلام لمّا سأله عبابة بن ربعي الأسدي عن الاستطاعة ، فقال أمير المؤمنين عليهالسلام : «تملكها من دون الله ، أو مع الله»؟ فسكت عبابة بن ربعي.
فقال له : «يا
عبابة ـ قل».
قال : «ما أقول يا
أمير المؤمنين»؟
قال : «تقول : تملكها
بالله الذي يملكها من دونك ؛ فإن تملّككها ، كان ذلك من عطائه ، وإن سلبكها ، كان
ذلك من بلائه ؛ هو المالك لما
__________________
ملّكك ، والمالك
لما عليه أقدرك ؛ أما سمعت الناس يسألون الحول والقوّة ، حيث يقولون : لا حول ولا
قوّة إلّا بالله»؟.
فقال الرجل : «ما
تأويلها ـ يا أمير المؤمنين»؟
قال : «لا حول بنا
عن معاصي الله إلّا بعصمة الله ، ولا قوّة لنا على طاعة الله ، إلّا بعون الله». ـ
قال : ـ فوثب الرجل وقبّل يديه ورجليه».
* * *
هذا ما ورد من
الأخبار في هذا المقام ، بعد كلام الله الملك العلّام ، وفيه بعد إجمال ، إذ الغور
فيه ممنوع منه ، إلّا أنّه يمكن الإشارة إلى لمعة منه لمن كان أهله ، بنقل المذاهب
وبيانها ؛ فإنّ الآراء أربعة :
اثنان فاسدان ـ وهما
الجبر والتفويض اللذان هلك بهما كثير من الناس ـ واثنان دائران حول التحقيق ،
ومرجعهما إلى الأمر بين الأمرين :
أحدهما أقرب إلى
الحقّ وأبعد من الأفهام ـ وهو طريقة أهل الكشف والشهود ـ والآخر بالعكس ـ وهو
طريقة أهل العقل والنظر.
وبيان الاوّل عسير
لغموضه جدّا ، فلا يناسب وضع هذا الكتاب ، وقد ذكرناه في غيره ونكتفي هنا بالثاني كما استفدناه من أهل التحقيق ـ ومن الله التأييد ـ فالق سمعك وأنت شهيد.
__________________
فصل [١٠]
[الإنسان مجبور على الاختيار]
قد دريت أنّ كلّ
ما يوجد في هذا العالم ، فقد قدّر بهيئته وزمانه في عالم آخر ـ فوق هذا العالم ـ قبل
وجوده ، وقد ثبت أنّ الله ـ عزوجل ـ قادر على جميع الممكنات ، ولم يخرج شيء من الأشياء عن
مصلحته وعلمه وقدرته وإيجاده ـ بواسطة أو بغير واسطة ـ وإلّا لم يصلح لمبدئيّة
الكلّ.
فالهداية والضلالة
، والإيمان والكفر ، والخير والشرّ ، والنفع والضرّ ، وسائر المتقابلات كلّها
منتهية إلى قدرته وتأثيره وعلمه وإرادته ومشيّته ؛ إمّا بالذات أو بالعرض.
فأعمالنا وأفعالنا
كسائر الموجودات وأفاعيلها ـ بقضائه وقدره ، وهي واجبة الصدور منّا بذلك ، ولكن
بتوسط أسباب وعلل من إدراكاتنا وإرادتنا وحركاتنا وسكناتنا ، وغير ذلك من الأسباب
العالية الغائبة عن علمنا وتدبيرنا ، الخارجة عن قدرتنا وتأثيرنا.
فاجتماع تلك
الامور ـ التي هي الأسباب والشرائط ـ مع ارتفاع الموانع علّة تامّة يجب عندها وجود
ذلك الأمر المدبّر ، والمقتضي المقدّر ؛ وعند تخلّف شيء منها أو حصول مانع ، بقي
وجوده في حيّز الامتناع ، ويكون ممكنا وقوعيّا بالقياس إلى كلّ واحد من الأسباب
الكونيّة.
ولمّا كان من جملة
الأسباب ـ وخصوصا القريبة منّا ـ إرادتنا وتفكّرنا وتخيّلنا ، وبالجملة ما نختار
به أحد طرفي الفعل والترك فالفعل
اختياريّ لنا ؛
فإنّ الله أعطانا القوّة والقدرة والاستطاعة ، ليبلونا أيّنا أحسن عملا ، مع إحاطة
علمه.
فوجوبه لا ينافي
إمكانه ، واضطراريّته لا تدافع كونه اختياريّا.
كيف ، وإنّه ما
وجب إلّا بالاختيار ، ولا شكّ أنّ القدرة والاختيار كسائر الأسباب ـ من الإدراك
والعلم ، والإرادة ، والتفكّر ، والتخيّل ، وقواها وآلاتها ـ كلّها بفعل الله ـ تعالى
ـ لا بفعلنا واختيارنا ـ وإلّا لتسلسلت القدر والإرادات إلى غير النهاية.
وذلك لأنّا وإن
كنّا بحيث إن شئنا فعلنا ، وإن لم نشأ لم نفعل ؛ لكنّا لسنا بحيث إن شئنا شئنا ،
وإن لم نشأ لم نشأ ؛ بل إذا شئنا فلم يتعلّق مشيّتنا بمشيّتنا ، بل بغير مشيّتنا ،
فليست المشيّة إلينا ، إذ لو كانت إلينا لاحتجنا إلى مشيّة اخرى سابقة ، وتسلسل
الأمر إلى غير النهاية.
ومع قطع النظر عن
استحالة التسلسل ، نقول : جملة مشيّاتنا الغير المتناهية ـ بحيث لا يشذّ عنها
مشيّة ـ لا تخلو : إمّا أن يكون وقوعها بسبب أمر خارج عن مشيّتنا ، أو بسبب
مشيّتنا.
والثاني باطل ،
لعدم إمكان مشيّة اخرى خارجة عن تلك الجملة.
والأوّل هو
المطلوب.
فقد ظهر أنّ
مشيّتنا ليست تحت قدرتنا ، كما قال الله عزوجل : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا
أَنْ يَشاءَ اللهُ) [٧٦ / ٣٠].
فإذن نحن في
مشيّتنا مضطرّون ، وإنّما تحدث المشيّة عقيب
الداعي ؛ وهو
تصوّر الشيء الملائم ـ تصوّرا ظنّيّا أو تخيّليّا أو علميّا ـ فإنّا إذا أدركنا
شيئا ، فإن وجدنا ملائمته أو منافرته لنا دفعة بالوهم أو ببديهة العقل ، انبعث
منّا شوق إلى جذبه أو دفعه ، وتأكّد هذا الشوق هو العزم الجازم المسمّى ب «الإرادة».
وإذا انضمّت إلى القدرة التى هي هيئة للقوّة الفاعلة ، انبعثت تلك القوّة لتحريك
الأعضاء الأدوية ـ من العضلات وغيرها ـ فيحصل الفعل.
فإذن إذا تحقّق
الداعي للفعل الذي تنبعث منه المشيّة ، تحقّقت المشيّة ؛ وإذا تحقّقت المشيّة التي
تصرف القدرة إلى مقدورها ، انصرفت القدرة لا محالة ولم يكن لها سبيل إلى المخالفة.
فالحركة لازمة
ضرورة بالقدرة ، والقدرة محرّكة ضرورة عند انجزام المشيّة ، والمشيّة تحدث ضرورة
في القلب عقيب الداعي.
فهذه ضروريّات
ترتّب بعضها على بعض ، وليس لنا أن ندفع وجود شيء منها عند تحقّق سابقه ، فليس
يمكن لنا أن ندفع المشيّة عند تحقّق الداعي للفعل ، ولا انصراف القدرة إلى المقدور
بعدها ؛ فنحن مضطرّون في الجميع ، فنحن في عين الاختيار مجبورون ؛
فنحن إذن مجبورون
على الاختيار
__________________
فصل [١١]
[كيف يستند الحوادث إليه تعالى]
قال بعض العلماء :
الحوادث كلّها
مستندة إلى القدرة الأزليّة ، ولكن بعضها مرتّب على البعض في الحدوث ـ ترتّب
المشروط على الشرط ـ فلا تصدر من القدرة الأزليّة والقضاء الإلهي إرادة حادثة ،
إلّا بعد علم ، ولا علم إلّا بعد حياة ، ولا حياة إلّا بعد محلّها ؛ ولكنّ بعض الشروط ممّا ظهر للعامّة وبعضها ممّا لم يظهر
إلّا للخواصّ المكاشفين بنور الحقّ.
فكلّ ما في عالم
الإمكان حادث على ترتيب واجب وحقّ لازم ، لا يتصوّر أن يكون إلّا كما يكون ، وعلى
الوجه الذي يكون ، فلا يسبق سابق إلّا بحقّ ولا يلحق لاحق إلّا بحقّ كما اشير إليه
بقوله سبحانه (ما خَلَقْناهُما
إِلَّا بِالْحَقِ) [٤٤ / ٣٩].
فما تأخّر متأخّر
إلّا لانتظار شرطه ، إذ وقوع المشروط قبل وقوع الشرط ممتنع ، والمحال لا يوصف
بكونه مقدورا ؛ فلا يتخلّف العلم عن النطفة إلّا لفقد شرطه ـ وهو الحياة ـ
__________________
ولا الإرادة عن
العلم إلّا لفقد شرطها ـ وهو القدرة ـ ولا الفعل عن القدرة إلّا لفقد شرطه ـ وهو
الإرادة ؛ وكلّ ذلك على المنهاج الواجب ، والترتيب الواجب ، ليس شيء منها ببخت
واتّفاق ؛ بل كله بحكمة وتدبير.
فصل [١٢]
[التوحيد الأفعالي ينفي الجبر والتفويض]
وإذا كان هذا هكذا
، فمن نظر إلى الأسباب القريبة للفعل ورآه مستقلّة ، قال بالقدر والتفويض ؛ أى
بكون أفاعيلنا واقعة بقدرتنا ، مفوّضة إلينا ـ والله سبحانه أحكم من أن يهمل عبده
، ويكله إلى نفسه ، وأعزّ من أن يكون في سلطانه ما لا يريد.
ومن نظر إلى السبب
الأوّل ـ وقطع النظر عن الأسباب القريبة مطلقا ـ قال بالجبر والاضطرار ، ولم يفرّق
بين أعمال الإنسان وأعمال الجمادات ؛ والله تعالى أعدل من أن يجبر خلقه ثمّ
يعذّبهم ، وأكرم من أن يكلّف الناس ما لا يطيقون ؛
فكلاهما أعور لا
يبصر بإحدى عينيه :
أمّا القدريّة
فبالعين اليمنى ، أي النظر الأقوى ، الذي به يدرك
__________________
الحقائق والأسباب
القصوى للأشياء ـ كالدجّال حيث يقول : «أنا ربّكم الأعلى».
وأمّا الجبريّة
فباليسرى ، أي الأضعف ، الذي به يدرك الظواهر والأسباب القريبة ، ـ كإبليس ، حيث
قال : (رَبِّ بِما
أَغْوَيْتَنِي) [١٥ / ٣٩].
وأمّا من نظر حقّ
النظر ، فقلبه ذو عينين ، يبصر الحقّ باليمنى ، فيضيف الأعمال كلّها إلى الله
سبحانه : (قُلْ كُلٌّ مِنْ
عِنْدِ اللهِ) [٤ / ٧٨] ؛
ويبصر الخلق
باليسرى فيثبت تأثيرهم في الأعمال ؛ (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ
يَداكَ) [٢٢ / ١٠] ؛ لكن بالله ـ عزوجل ـ لا بالاستقلال : «لا حول ولا قوّة إلّا بالله» ؛
فيتحقّق بمعنى قول
مولانا الصادق عليهالسلام : «لا جبر ولا تفويض ، بل أمر بين أمرين» فيتذهّب به ـ وذلك
الفوز الكبير.
* * *
__________________
فصل [١٣]
[سرّ نسبة الفعل إلى الفواعل المختلفة]
ولأجل هذا التطابق
بين الجبر والتفويض ، والتوافق بين الوجوب والإمكان ، نسب الله الأفعال في القرآن
تارة إلى نفسه ، ومرّة إلى الملائكة ، واخرى إلى العباد. فقال تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ
مَوْتِها) [٣٩ / ٤٢]. وقال :
(قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ
مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) [٣٢ / ١١].
وقال في نفخ الروح
في مريم ـ على نبيّنا وعليهاالسلام ـ : (فَنَفَخْنا فِيهِ
مِنْ رُوحِنا) [٦٦ / ١٢] ؛ وقال : (فَأَرْسَلْنا
إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) [١٩ / ١٧] ـ وفي
الحديث : «إنّ النافخ فيه جبرئيل»
وقال ـ عزوجل ـ في القتل : (قاتِلُوهُمْ
يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ) [٩ / ١٤] ، فأضاف
القتل إلى العباد والتعذيب إلى نفسه ، والتعذيب عين القتل هنا ؛ وقال : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ
قَتَلَهُمْ) [٨ / ١٧].
وقال في الرمي : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ
اللهَ رَمى) [٨ / ١٧] ، وهو
جمع بين النفي والإثبات ظاهرا ، ولكنّ معناه : «وما رميت بالمعنى الذي يكون العبد
به راميا ، إذ رميت بالمعنى الذي يكون الربّ به راميا» ، إذ هما معنيان مختلفان.
__________________
فصل [١٤]
[كيف يؤثر الدعاء]
وكما أنّ الأشياء
الداخلة في وجود الإنسان ـ كالعلم والقدرة والإرادة ـ من جملة أسباب الفعل ، فكذلك
الامور الخارجة ـ من الدعوات والطاعات والسعي والجدّ والتدبير والحذر والالتماس
والتكليف والوعد والوعيد والإرشاد والتهذيب والترغيب والترهيب وأمثال ذلك ـ
فإنّ ذلك كلّه
أسباب ووسائط ووسائل وروابط لوجود الأفعال ، ودواع إلى الخير ، ومهيّجات للأشواق ،
ومهيّئة للمطالب ، موصلة إلى الأرزاق ، مخرجة من القوّة إلى الفعل ؛ وكلّ ذلك ممّا
يقاوم القضاء لا من حيث أنّه فعل العبد ـ فإنّه من هذه الحيثيّة ممّا يتحكّم به
القضاء ، لأنّه لو لم يقض لم يوجد ـ بل من حيث أنّ الله ـ سبحانه ـ جعله من
الأسباب ، على حسب ما قدّر وقضى ، لربط وموافاة بينه وبين الفعل ؛ كما جعل شرب
الدواء سببا لحصول الصحّة في هذا المريض. فالسبب والمسبّب كلاهما ينبعثان من
القضاء ، ويستندان إلى الله ـ سبحانه ـ وإلى أمره ، أمرا ذاتيّا عقليّا. وقد يكون
بالأمر القوليّ السمعيّ ـ أيضا ـ كما فيما كلّفنا به من ذلك ، كالدعاء ـ مثلا ـ فإنّه
ـ سبحانه ـ أمرنا به وحثّنا عليه ؛ فقال : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ
لَكُمْ) [٤٠ / ٦٠] ، (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) [٢ / ١٨٦].
__________________
فالدعاء
والاستجابة كلاهما من أمر الله ، أمرا تكليفيّا ، كما أنّه من أمره الذاتي ؛ ولسان
العبد ترجمان الدعاء ، وكلّ من فعل شيئا بأمر أحد فيده يد الآمر في الحقيقة ، إلّا
أنّ بعض هذه الامور علل وموجبات ، وبعضها علامات ومعرّفات ، وبعضها ينقسم إلى
القسمين.
ولعلّ الدعاء من
القسم الثالث ؛ ولهذا اشتهر بين الداعين «إنّ الدعاء كالدواء ، بعضها يؤثّر بالطبع
، وبعضها بالخاصيّة». فالأوّل إشارة إلى الأوّل ، والثاني إلى الثانى.
فصل [١٥]
وأمّا الابتلاء من
الله ـ سبحانه ـ فهو إظهار ما كتب ـ لنا أو علينا ـ في القدر ، وإبراز ما أودع
فينا ، وغرّز في طباعنا بالقوّة ، بحيث يترتّب عليه الثواب والعقاب ، فإنّه ما لم
يخرج من القوّة إلى الفعل لم يوجد بعد ـ وإن كان معلوما لله سبحانه ـ فلا تحصل
ثمرته وتبعته اللازمتان.
ولهذا قال عزوجل : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ
حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا
أَخْبارَكُمْ) [٤٧ / ٣١] ـ وأمثال
ذلك من الآيات ـ أي نعلمهم موصوفين بهذه الصفة ، بحيث يترتّب عليها الجزاء ؛ وأمّا
قبل ذلك الابتلاء فإنّه علمهم مستعدّين للمجاهدة والصبر ، صائرين إليهما بعد حين.
__________________
فصل
[١٦]
وأمّا الثواب
والعقاب : فهما من لوازم الأفاعيل الواقعة منّا وثمراتها ، ولواحق الامور الموجودة
فينا وتبعاتها ، ليسا يردان علينا من خارج.
فالمجازاة أيضا هو
إظهار ما كتب لنا أو علينا في القدر ، وابراز ما اودع فينا وغرّز في طباعنا
بالقوّة ، كما قال سبحانه : (سَيَجْزِيهِمْ
وَصْفَهُمْ) [٦ / ١٣٩] (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ
بِالْكافِرِينَ) [٢٩ / ٥٤].
فمن أساء عمله
وأخطأ في اعتقاده ، فإنّما ظلم نفسه بظلمة جوهره وسوء استعداده ، فكان أهلا
للشقاوة في معاده ؛ وليس ذلك لأنّ الله سبحانه يستولى عليه الغضب ، ويحدث له
الانتقام ـ تعالى عن ذلك ـ.
وإنّما ورد أمثال
ذلك في الشرع على نحو من التجوّز.
فصل [١٧]
[لمّية تفاوت النفوس]
وأمّا تفاوت
النفوس في ذلك وعدم تساويها في الخيرات والشرور ، واختلافها في السعادة والشقاوة
فلاختلاف الاستعدادات
__________________
وتنوّع الحقائق ؛
فإنّ الموادّ السفليّة بحسب الخلقة والماهيّة ، ومتباينة في اللطافة والكثافة ،
وأمزجتها مختلفة في القرب والبعد من الاعتدال الحقيقي ؛ والأرواح الإنسيّة التي
بإزائها مختلفة بحسب الفطرة الاولى في الصفاء والكدورة ، والقوّة والضعف ، مترتّبة
في درجات القرب والبعد من الله ـ تعالى ـ لما تقرّر وتحقّق أنّ بإزاء كلّ مادّة ما
تناسبه من الصور ؛ فأجود الكمالات لأتمّ الاستعدادات ، وأخسّها لأنقصها ، كما اشير
إليه بقوله صلىاللهعليهوآله :
«الناس معادن كمعادن
الذهب والفضّة ، خيارهم في الجاهليّة خيارهم في الإسلام».
وفي الحديث النبوي
: «من وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلّا نفسه».
__________________
وفي كلام أمير
المؤمنين عليهالسلام : «ولا يحمد حامد إلّا ربّه ، ولا يلم لائم إلّا نفسه».
ووجه آخر : وهو أنّه قد علمت أنّ لله ـ عزوجل ـ صفات وأسماء متقابلة هي من أوصاف الكمال ونعوت الجلال ،
ولها مظاهر متباينة بها يظهر أثر تلك الأسماء ، فكلّ من الأسماء يوجب تعلّق إرادته
ـ سبحانه ـ وقدرته إلى ايجاد مخلوق يدلّ عليه ـ من حيث اتّصافه بتلك الصفة ـ فلذلك
اقتضت رحمة الله ـ جلّ وعزّ ـ إيجاد المخلوقات كلّها ، لتكون مظاهر لأسمائه الحسنى
، ومجالي لصفاته العليا.
ـ مثلا ـ لمّا كان
قهّارا ، أوجد المظاهر القهريّة التي لا يترتّب عليها إلّا أثر القهر ـ من الجحيم
وساكنيه ، والزقّوم ومتناوليه ـ ولمّا كان عفوّا غفورا ، أوجد مجالي للعفو
والغفران يظهر فيها آثار رحمته ، وقس على هذا.
فالملائكة ومن
ضاهاهم ـ من الأخيار وأهل الجنّة ـ مظاهر اللطف ، والشياطين ومن والاهم ـ من
الأشرار وأهل النار ـ مظاهر القهر.
ومنها يظهر
السعادة والشقاوة : (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ
وَسَعِيدٌ) [١١ / ١٠٥].
فظهر أن لا وجه
لإسناد الظلم والقبائح إلى الله ـ سبحانه ـ لأنّ
__________________
هذا الترتيب
والتمييز ـ من وقوع فريق في طريق اللطف ، وآخر في طريق القهر ـ من ضروريّات الوجود
والإيجاد ، ومن مقتضيات الحكمة والعدالة.
ومن هنا قال بعض
العلماء : «ليت شعري لم لا ينسب الظلم إلى الملك المجازي ـ حيث يجعل بعض من تحت
تصرّفه وزيرا قريبا ، وبعضهم كنّاسا بعيدا ؛ لأنّ كلا منهما من ضروريات مملكته ـ وينسب
الظلم إلى الله تعالى في تخصيص كلّ من عبيده بما خصّص ، مع أنّ كلا منهما ضرورىّ
في مقامه.
فصل
[١٨]
[ما ورد من الأخبار في السعادة والشقاوة]
روي في الكافي بإسناده عن مولانا الباقر عليهالسلام ـ قال : ـ» لو علم الناس كيف خلق الله [تبارك وتعالى] هذا الخلق ، لم يلم أحد أحدا».
وبإسناده عن مولانا الصادق عليهالسلام أنّه سئل : «من أين لحق الشقاء أهل المعصية حتّى حكم لهم
في علمه بالعذاب على عملهم»؟
__________________
فقال : «أيّها
السائل ـ حكم الله أن لا يقوم له أحد من خلقه بحقّه ، فلمّا حكم بذلك وهب لأهل محبّته
القوّة على معرفته ، ووضع عنهم ثقل العمل بحقيقة ما هم أهله ، ووهب لأهل المعصية
القوّة على معصيته ـ لسبق علمه فيهم ـ ومنعهم إطاقة القبول منه ؛ فواقعوا ما سبق لهم في علمه ولم يقدروا أن يأتوا حالا ينجيهم من عذابه ، لأنّ علمه أولى بحقيقة
التصديق ؛ وهو معنى «شاء ما شاء» ، وهو سرّه».
وبإسناده عنه عليهالسلام ـ قال : ـ «إنّ الله خلق السعادة والشقاء قبل أن يخلق خلقه
، فمن خلقه الله سعيدا لم يبغضه أبدا ، وإن عمل شرّا أبغض عمله ولم يبغضه ؛ وإن
كان شقيّا لم يحبّه أبدا ، وإن عمل صالحا أحبّ عمله ، وأبغضه لما
يصير إليه. فإذا أحبّ الله شيئا لم يبغضه أبدا ، وإذا أبغض شيئا لم يحبّه أبدا».
وبإسناده الصحيح عنه عليهالسلام ـ قال : ـ «إنّ ممّا أوحى الله إلى
__________________
موسى عليهالسلام وأنزل عليه في التوراة : إنّي أنا الله لا إله إلّا أنا ،
خلقت الخلق وخلقت الخير ، وأجريته على يدي من احبّ ، فطوبى لمن أجريته على يديه ؛
وأنا الله لا إله إلّا أنا ، خلقت الخلق وخلقت الشرّ ، وأجريته على يدي من اريده ،
فويل لمن أجريته على يديه».
وفي رواية اخرى : «وويل لمن يقول : كيف ذا ، وكيف ذا»؟
وعن النبيّ صلىاللهعليهوآله ـ قال : ـ «الشقيّ من شقي في بطن أمّه ، والسعيد من سعد في
بطن أمّه».
والأخبار في هذا
المعنى كثيرة.
فصل [١٩]
[القضاء والقدر في المأثور]
لمّا كانت الحكمة
الإلهيّة تقتضي أن يكون العبد معلّقا بين الرجاء والخوف ، الّذين بهما تتمّ
العبوديّة ، جعل الله كيفيّة علمه وقضائه وقدره وسائر الأسباب غائبة عن العقول ،
وجعل الدعوات والطاعات ـ
__________________
وما يجري مجرى ذلك
ـ مناط التكليف وملاك العبوديّة ليتمّ المقصود.
وهذا إحدى الطرق
في تصحيح القول بالتكاليف مطلقا ، مع الاعتراف بإحاطة علم الله ، وكون الأقدار
جارية والأقضية سابقة في الكلّ.
روي أنّه جاء
سراقة بن مالك إلى النبيّ صلىاللهعليهوآله فقال : «يا رسول
__________________
الله ـ بيّن لنا
ديننا كأنّا خلقنا الآن ، ففيم العمل اليوم؟ فيما جفّت به الأقلام وجرت به
المقادير؟ أم فيما يستقبل»؟
قال : «بل فيما
جفّت به الأقلام ، وجرت به المقادير».
قال : «ففيم العمل»؟
قال : «اعملوا ،
فكلّ ميسّر لما خلق له ، وكل عامل بعمله».
فعلّقنا بين
الأمرين : رهّبنا بسابق القدر ، ثمّ رغّبنا في العمل ، ولم يترك أحد الأمرين للآخر
، فقال : «كلّ ميسّر لما خلق له» ، يريد أنّه ميسّر في أيّام حياته للعمل الذي سبق
إليه القدر قبل وجوده ؛ ولم يقل «مسخّر» لكيلا يغرق في لجّة القضاء والقدر.
وسئل النبي صلىاللهعليهوآله : «أنحن في أمر فرغ منه أو أمر مستأنف»؟
قال : «في أمر فرغ
منه ، وفي أمر مستأنف».
وسئل : «هل يغيّر الدواء والرقية من قدر الله»؟
__________________
قال : «والدواء
والرقية ـ أيضا ـ من قدر الله».
ومثله عن مولانا
الصادق عليهالسلام رواه في التوحيد .
وبإسناده عن أمير المؤمنين عليهالسلام أنّه سئل عند انحرافه عن جدار يريد أن ينقضّ : «أتفرّ من
قضاء الله»؟
قال : «أفرّ من
قضائه إلى قدره».
وبإسناده عنه عليهالسلام ـ قال : «أوحى الله ـ عزوجل ـ إلى داود : «يا داود ، تريد واريد ، ولا يكون إلّا ما
اريد ؛ [فإن أسلمت لما اريد أعطيتك ما تريد] وإن لم تسلم لما اريد أتعبتك فيما تريد ، ثمّ لا يكون إلّا
ما اريد».
وفي الكافي بإسناده عن مولانا الصادق عليهالسلام قال : «كان أمير المؤمنين عليهالسلام كثيرا ما يقول : اعلموا علما يقينيّا أنّ الله ـ تعالى ـ لم
يجعل للعبد ـ وإن اشتدّ جهده ، وعظمت حيلته ، وكثرت مكابدته ـ أن يسبق ما سمّي له
في الذكر الحكيم ، ولم يحل بين العبد ـ في ضعفه وقلّة حيلته ـ أن يبلغ ما سمّي له
في الذكر الحكيم.
__________________
أيّها الناس ـ إنّه
لن يزداد امرؤ نقيرا بحذقه ، ولم ينقص امرؤ نقيرا بحمقه ؛ فالعالم بهذا ، العامل
به ، أعظم الناس راحة في منفعة ؛ والعالم بهذا ، التارك له ، أعظم الناس شغلا في
مضرّة ، وربّ منعم عليه مستدرج بالإحسان إليه ، وربّ مغرور في الناس مصنوع له.
فأفق أيّها الساعي
من سعيك ، واقصر من عجلتك ، وانتبه من سنة غفلتك ، وتفكّر فيما جاء عن الله ـ عزوجل ـ على لسان نبيّه ـ صلوات الله عليه ـ ...» ـ الحديث.
وبإسناده عن ثابت بن سعيد ـ قال : ـ قال أبو عبد الله عليهالسلام : «يا ثابت ـ ما لكم والناس؟ كفّوا عن الناس ، ولا تدعوا
أحدا إلى أمركم ، فو الله لو أنّ أهل السماوات وأهل الأرضين اجتمعوا على أن يهدوا
عبدا يريد الله ضلالته ما استطاعوا على أن يهدوه ، ولو أنّ أهل السماوات وأهل
الأرضين اجتمعوا على أن يضلّوا عبدا يريد الله هداه ، ما استطاعوا أن يضلّوه ؛
كفّوا عن الناس
ولا يقول أحد : عمّي وأخي وابن عمّي وجاري ؛
__________________
فإنّ الله إذا
أراد بعبد خيرا طيّب روحه ، فلا يسمع معروفا إلّا عرفه ، ولا منكرا إلّا أنكره ،
ثمّ يقذف الله في قلبه كلمة يجمع بها أمره».
وعن النبي صلىاللهعليهوآله : ـ «اعلم أنّ الامّة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء ، لم
ينفعوك إلّا بشيء كتبه الله لك ، ولو اجتمعوا على أن يضرّوك ، لم يضرّوك إلّا بشيء
كتبه الله عليك ؛ رفعت الأقلام وجفّت الصحف».
أقول : وتصديق ذلك
في كتاب الله ـ عزوجل ـ قوله سبحانه : (قُلْ لَنْ يُصِيبَنا
إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ
الْمُؤْمِنُونَ) [٩ / ١٥].
فصل
[٢٠]
[القضاء لا تتخلف]
قد تبيّن بما
ذكرنا أن لا رادّ لقضاء الله ، ولا معقّب لحكمه ، ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم
يكن ، لا ملجأ لعباده فيما قضى ، ولا حجّة لهم فيما ارتضى ، لم يقدروا على عمل ولا
معالجة ممّا أحدث في أبدانهم المخلوقة ، إلّا بربّهم ، فمن زعم أنّه يقوى على عمل
لم يرده الله عزوجل
__________________
فقد زعم أنّ
إرادته تغلب إرادة الله ـ تعالى عمّا يقولون ـ هذا.
وقد ثبت أنّ
الأجسام تحت قهر الطبائع ، والطبائع تحت قهر النفوس ، والنفوس تحت قهر العقول ،
والعقول تحت قهر كبرياء الأوّل ، وهو الله الواحد القهّار.
ومن وجه آخر : إنّ
الأرضيّات تحت تأثير السماوات ـ بإذن الله ـ والسماوات في ذلّ تسخير الملكوت ،
والملكوت في قيد أسر الجبروت ، والجبروت مقهور بأمر الجبّار ، وهو الغالب على أمره
، و (الْقاهِرُ فَوْقَ
عِبادِهِ) [٦ / ١٨] ؛ فلا
مؤثّر في الوجود سواه ، ولا فاعل غيره ؛ (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً
قَبْضَتُهُ [يَوْمَ الْقِيامَةِ] وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) [٣٩ / ٦٧] ، (وَالشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ) [٧ / ٥٤] و (ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ
بِناصِيَتِها) [١١ / ٥٦] ؛ أيدي
الكلّ مغلولة بيد قدرته (وَاللهُ خَلَقَكُمْ
وَما تَعْمَلُونَ) [٣٧ / ٩٦] ،
وأرجلهم معقولة بعقال مشيّته (هُوَ الَّذِي
يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) [١٠ / ٢٢] ،
وآمالهم منقطعة إلّا بحوله وقوّته (وَإِنْ يَمْسَسْكَ
اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ
لِفَضْلِهِ) [١٠ / ١٠٧] ، (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ
لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ) [٣ / ١٦٠] ؛ (فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ
كُلِّ شَيْءٍ) [٣٦ / ٨٣] و (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) [٦٧ / ١].
فصل [٢١]
اعلم : أنّ الله ـ
عزوجل ـ لا يفعل بعباده إلّا ما هو أصلح لهم ، لأنّه سبحانه لطيف
بعباده ، رءوف بهم ، وهو قادر حكيم.
روي في التوحيد بإسناده عن النبي صلىاللهعليهوآله ، عن جبرئيل عليهالسلام ، عن الله ـ تبارك وتعالى ـ : ـ قال ـ : «قال الله عزوجل : من أهان لي وليّا فقد بارزني بالمحاربة ، وما تردّدت في
شيء أنا فاعله ما تردّدت في قبض نفس المؤمن ؛ يكره الموت ، وأكره مساءته ـ ولا بدّ له
منه ـ
وما تقرّب إليّ
عبد بمثل أداء ما افترضت عليه ، ولا يزال عبدي يتنفّل لي حتّى احبّه ، ومتى أحببته
كنت له سمعا وبصرا ، ويدا ومؤيّدا ، إن دعاني أجبته ، وإن سألني أعطيته ؛
وإنّ من عبادي
المؤمنين لمن يريد الباب من العبادة فأكفّه عنه لئلّا يدخله عجب فيفسده ، وإنّ من
عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلّا بالفقر ، ولو أغنيته لأفسده ؛ وإنّ من
عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلّا بالغناء ، ولو أفقرته لأفسده ذلك ؛ وإنّ
من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلّا بالسقم ، ولو صحّحت جسمه لأفسده ذلك ؛
وإنّ من
__________________
عبادي المؤمنين
لمن لا يصلح إيمانه إلّا بالصحّة ، ولو أسقمته لأفسده ذلك ؛ وإنّي ادبّر عبادي
بعلمي بقلوبهم ، فإنّي عليم خبير».
وبإسناده عنه صلىاللهعليهوآله ـ قال : ـ «ربّ أغبر أشعث ذى طمرين مدفّع بالأبواب لو أقسم على الله عزوجل لأبرّه».
وبإسناده عن مولانا الصادق ، عن أبيه ، عن جدّه عليهالسلام ـ قال : ـ «ضحك رسول الله صلىاللهعليهوآله ذات يوم حتّى بدت نواجذه ـ ثمّ قال : ـ لا تسألوني ممّ
ضحكت؟ قالوا : بلى يا رسول الله. قال : عجبت للمرء المسلم ، أنّه ليس من قضاء
يقضيه الله عزوجل له إلّا كان خيرا له في عاقبة أمره».
__________________
وبإسناده عنه عليهالسلام ـ قال : ـ «كان فيما أوحى الله ـ عزوجل ـ إلى موسى عليهالسلام أن يا موسى : ما خلقت خلقا أحبّ إليّ من عبدي المؤمن ؛
وإنّما ابتليته لما هو خير له واعافيه لما هو خير له ؛ وأنا أعلم بما يصلح عليه
أمر عبدي ، فليصبر على بلائي ، وليشكر نعمائي ، وليرض بقضائي ، اكتبه في الصدّيقين
عندي ، إذا عمل برضواني وأطاع أمري».
وبإسناده عنه عليهالسلام ـ أنّه قال : ـ «والذي بعث جدّي صلىاللهعليهوآله بالحقّ نبيّا ـ إنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ ليرزق العبد وعلى
قدر المروّة ، وإنّ المعونة تنزل من السماء على قدر المئونة ، وإنّ الصبر على قدر
شدّة البلاء».
والأخبار في هذه
المعاني كثيرة.
* * *
__________________
[٨]
باب نبذ من آثار
رحمته وآيات عظمته
ـ جلّ ذكره ـ
(فَانْظُرْ إِلى آثارِ
رَحْمَتِ اللهِ)
[٣٠ / ٥٠]
فصل [١]
[أقسام مخلوقاته تعالى والتفكر فيها]
أكثر ما نورده في
هذا الباب أخذناه من كلام بعض العلماء مع تلخيص له وتوشيح بآيات قرآنيّة وأخبار عن أهل البيت عليهمالسلام وكلمات نزرة عن غيرهم.
اعلم أنّ كلّ ما
في الوجود سوى الله ـ عزوجل ـ فهو فعل الله ـ جلّ جلاله ـ وخلقه ، وكلّ ذرّة من
الذرّات ـ من جوهر وعرض ، وصفة وموصوف ـ ففيها عجائب تظهر بها حكمة الله وقدرته ،
وجلاله وعظمته ؛ وإحصاء ذلك غير ممكن ، لأنّه (لَوْ كانَ الْبَحْرُ
مِداداً لِكَلِماتِ
__________________
رَبِّي
لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي) [١٨ / ١٠٩] ؛ بل
ولا عشر عشير من ذلك ؛ ولكنّا نشير إلى جمل ليكون ذلك كالمثال لما عداه ، فنقول :
الموجودات
المخلوقة منقسمة إلى ما لا نعرف أصلها ، فلا يمكننا التفكّر فيها ، وكم من
الموجودات التي لا نعلمها ، كما قال ـ عزوجل ـ : (سُبْحانَ الَّذِي
خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ
وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) [٣٦ / ٣٦] ؛ وقال
: (وَنُنْشِئَكُمْ فِي
ما لا تَعْلَمُونَ) [٥٦ / ٦١].
وإلي ما نعرف
أصلها وجملتها ، ولا نعرف تفصيلها ، فيمكننا أن نتفكّر في تفصيلها لنزداد معرفة
وبصيرة بخالقها ـ جلّ جلاله ـ
وهي منقسمة إلى ما
أدركناه بحسّ البصر ، وإلى ما لا ندركه بالبصر :
أمّا الذي لا
ندركه بالبصر فكالملائكة والجنّ والشياطين.
وأمّا المدركات
بحسّ البصر فهي السماوات السبع ، والأرضون ، وما بينهما. والسماوات مشاهدة
بكواكبها وشمسها وقمرها ، وحركاتها ودورانها في طلوعها وغروبها ؛ والأرض مشاهدة
بما فيها من جبالها ومعادنها وأنهارها وبحارها وحيوانها ونباتها ؛ وما بين السماء
والأرض ـ وهو الجوّ ـ مدرك بغيومها وأمطارها وثلوجها ورعدها وبرقها وصواعقها
وشهبها وعواصف رياحها.
فهذه هي الأجناس
المشاهدة من السماوات والأرض وما بينهما. وكلّ جنس منها ينقسم إلى أنواع ، وكلّ
نوع ينقسم إلى أقسام ، وينشعب
كلّ قسم إلى أصناف
؛ ولا نهاية لانشعاب ذلك وانقسامها في اختلاف صفاتها وهيئاتها ومعانيها الظاهرة
والباطنة ، وجميع ذلك مجال الفكر والتدبّر لتحصيل المعرفة والبصيرة.
فلا تتحرّك ذرّة
في السماوات والأرض ـ من جماد ونبات وحيوان وفلك وكوكب ـ إلّا ومحرّكها هو الله ـ عزوجل ـ وفي حركتها حكمة أو حكمتان أو عشر أو ألف حكمة ؛ كلّ ذلك
شاهد لله ـ تعالى ـ بالوحدانيّة ، ودالّ على جلاله وكبريائه ، وهي الآيات الدالّة
عليه.
وقد ورد القرآن
بالحثّ على التفكّر في هذه الآيات ، كما قال عزوجل : (الَّذِينَ ... إِنَّ
فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ) [٣ / ١٩٠].
وكما قال : (وَمِنْ آياتِهِ ... وَمِنْ آياتِهِ ...) [٣٠ / ٢٠ ـ ٢٥] من
أوّله إلى آخره.
فلنشر إلى طرف من
ذلك وكيفيّة التفكّر فيه في فصول :
__________________
فصل [٢]
[عجائب خلقة الإنسان]
فمن آياته الإنسان
المخلوق من النطفة :
فانظر يا أخي
أوّلا في نفسك وبدنك ، فإنّه أقرب شيء إليك ، وفيك من العجائب الدالّة على عظمة
الله ـ تعالى ـ ما تنقضي الأعمار في الوقوف على عشر عشيرها ، وأنت غافل عنها ؛ فيا
من هو غافل عن نفسه وجاهل بها ، كيف تطمع في معرفة غيرها ؟!
وقد أمرك الله ـ تعالى
ـ بالتدبّر في نفسك في كتابه العزيز ، فقال : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا
تُبْصِرُونَ) [٥١ / ٢١].
وذكر أنّك مخلوق
من نطفة قذرة ، فقال ـ تعالى ـ : (قُتِلَ الْإِنْسانُ
ما أَكْفَرَهُ* مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ* مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ*
ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ* ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ* ثُمَّ إِذا شاءَ
أَنْشَرَهُ) [٨٠ / ١٧ ـ ٢٢].
(أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً
مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى * ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى) [٧٥ / ٣٧ ـ ٣٨]. (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ*
فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ) [٧٧ / ٢٠ ـ ٢١]. (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا
خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) [٣٦ / ٧٧].
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ* ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً
__________________
فِي
قَرارٍ مَكِينٍ* ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ
مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ
أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [٢٣ / ١٢ ـ ١٤].
فانظر إلى النطفة
ـ وهي قطرة من الماء قذرة ، ولو تركت ساعة ليضربها الهواء فسدت وأنتنت ـ كيف
أخرجها ربّها ـ ربّ الأرباب ـ من الصلب والترائب؟ وكيف جمع بين الذكر والانثى ،
وألقى الإلف والمحبّة في قلبهما؟ وكيف قادهما بسلسلة المحبّة والشهوة إلى الاجتماع؟
وكيف استخرج النطفة عن الرجل بحركة الوقاع؟ وكيف استجلب دم الحيض من أعماق العروق
وجمعه في الأرحام؟ ثمّ كيف خلق المولود من النطفة وسقاه بماء الحيض ، وغذّاه وربّاه؟ وكيف جعل النطفة ـ وهي بيضاء مشرقة ـ علقة
حمراء؟ فشكّلها وأحسن تشكيلها وقدّرها فأحسن تقديرها ، وصوّرها فأحسن تصويرها؟!
وقسّم أجزائها المتشابهة إلى أجزاء مختلفة ، فأحكم العظام في أرجائها. وحسّن أشكال
أعضائها ، وزيّن ظاهرها وباطنها ، ورتّب عروقها وجعلها مجرى لغذائها ، ليكون ذلك
سببا لبقائها. وجعلها سميعا بصيرا عالما ناطقا.
فخلق لها الظهر
أساسا لبدنها ، حاويا لآلات غذائها ؛ والرأس جامعا لحواسّها.
ففتح العين ورتّب
طبقاتها ، وأحسن شكلها ولونها وهيئتها ، ثمّ
__________________
حماها بأجفان
لتسترها ، وتحفظها وتصقلها وتدفع الأقذاء عنها ؛ ثمّ أظهر في مقدار عدسة منها صورة
السماء مع اتّساع أكنافها وتباعد أقطارها ؛ فهو ينظر إليها.
وشقّ الاذن
وأودعها ما يحفظ سمعها ، ويدفع الهوامّ عنها ، وحوطها بصدفة الاذن لتجمع الصوت
فتردّه إلى صاحبها ، وليحسّ بدبيب الهوامّ إليها ، وجعل فيها تحريفات
واعوجاجات ، لتكثر حركة ما يدبّ فيها ، ويطول طريقها فينتبه عن النوم صاحبها إذا
قصدته الدابّة في نوم.
ثمّ رفع الأنف من
وسط الوجه وأحسن شكله ، وفتح منخريه ، وأودع فيها حاسّة الشمّ ، ليستدل باستنشاق
الروائح على مطاعمه وأغذيته ، وليتنشق بمنفذ المنخرين روح الهواء غذاء لقلبه ،
وترويحا لحرارة باطنه.
وفتح الفم وأودعه
اللسان ناطقا وترجمانا ومعربا عمّا في القلب ؛ وزيّن الفم بالأسنان ليكون آلة
للطحن والكسر والقطع ، فأحكم اصولها وحدّد رءوسها ، وحسّن لونها ، ورتّب صفوفها ،
متساوية الرءوس متناسقة الترتيب ، كأنّها الدرّ المنظوم.
وخلق الشفتين
وحسّن لونهما وشكلهما لتنطبقا على الفم ، وتسدّا منفذه ، وليتمّ بهما حروف الكلام.
ثمّ خلق الحنجرة
وهيأها لخروج الأصوات. وخلق للّسان قدرة
__________________
الحركات
والتقطيعات ، ليقطع الصوت في مخارج مختلفة تختلف بها الحروف ، ليتّسع طريق النطق
بكثرتها ؛ ثمّ خلق الحناجر مختلفة الأشكال في الضيق والسعة ، والخشونة والملاسة ،
وصلابة الجوهر ورخاوته ، والطول والقصر ، حتّى اختلفت بسببها الأصوات ؛ فلا تتشابه
صوتان ، بل يظهر بين كلّ صوتين فرقان ، حتّى يميّز السامع بعض الناس عن بعض بمجرّد
الصوت في الظلمة.
ثمّ زيّن الرأس
بالشعور والأصداغ ، وزيّن الوجه باللحية ، وزيّن الحاجبين بدقّة الشعر ، واستقواس
الشكل ، وزيّن العينين بالأهداب.
ثمّ خلق الأعضاء
الباطنة ، وسخّر كلّ واحد لفعل مخصوص :
فسخّر المعدة لنضج
الغذاء ، والكبد لإحالة الغذاء إلى الدم ، والطحال والمرارة والكلية لخدمة الكبد ؛
فالطحال يخدمه بجذب السوداء عنه ، والمرارة تخدمه بجذب الصفراء عنه ، والكلية
تخدمه بجذب المائيّة ، والمثانة تخدم الكلية بقبول الماء عنها ثمّ تخرجه عن طريق
الإحليل ، والعروق تخدم الكبد في إيصال الدم إلى سائر أطراف البدن.
ثمّ خلق اليدين
وطوّلهما لتمتدّ إلى المقاصد ، وعرّض الكفّ وقسّم الأصابع الخمس ، وقسّم كلّ إصبع
بثلاث أنامل ، ووضع الأربع في جانب والإبهام في جانب ، ليدور الإبهام على الجميع ؛
ولو اجتمع الأولون والآخرون على أن يستنبطوا بدقيق الفكر وجها آخر في وضع الأصابع
ـ سوى ما وضعت عليه من بعد الإبهام عن الأربع ، وتفاوت الأربع في الطول ، وترتيبها
في صفّ واحد ـ لم يقدروا عليه ؛ إذ بهذا الترتيب صلحت للقبض والإعطاء ، فإن بسطها
كانت له طبقا يضع
عليها ما يريد ،
وإن جمعها كانت آلة للضرب ، وإن ضمّها ـ ضمّا غير تامّ ـ كانت مغرفة له ، وإن
بسطها وضمّ أصابعها كانت مخرقة له.
ثمّ خلق الأظفار
على رءوسها زينة للأنامل ، وعمادا لها من وراءها حتّى لا تنقطع ، وليلتقط بها
الأشياء الدقيقة التي لا تتناولها الأنامل ، وليحكّ بها بدنه عند الحاجة ، فالظفر
الذي هو أخسّ الأعضاء لو عدمه الإنسان وظهرت به حكّة لكان أعجز الخلق وأضعفهم ،
ولم يقم شيء مقامه في حكّ بدنه ، ثمّ هدى اليد إلى موضع الحكّ حتّى يمتدّ إليه ـ ولو
في النوم والغفلة ـ من غير حاجة إلى طلب ، ولو استعان بغيره لم يعثر على موضع
الحكّ إلّا بعد تعب طويل.
ثمّ خلق هذا كلّه
في النطفة ، وهي في جوف الرحم في ظلمات ثلاث ، ولو كشف الغطاء وامتدّ البصر إليه
لكان يرى التخطيط والتصوير يظهر عليها شيئا [ف] شيئا ، ولا يرى المصوّر ولا آلته ؛
فهل رأيت مصوّرا [أو] فاعلا لا يمسّ آلته مصنوعه ولا يلاقيه ـ وهو يتصرّف فيها؟!
فسبحانه ، ما أعظم
شأنه وأظهر برهانه.
* * *
فصل [٣]
[مراحل خلق الإنسان]
ثمّ انظر مع كمال
قدرته إلى تمام رحمته ، فإنّه لمّا ضاق الرحم عن الصبيّ ـ لمّا كبر ـ كيف هداه
السبيل حتّى تنكّس وتحرّك ، وخرج من ذلك المضيق ، وطلب المنفذ كأنّه عاقل بصير بما
يحتاج إليه.
ثمّ لمّا خرج
واحتاج إلى الغذاء ، كيف هداه إلى التقام الثدي.
ثمّ لمّا كان بدنه
سخيفا ـ لا يحتمل الأغذية الكثيفة ـ كيف دبّر له في خلق اللبن اللطيف ، واستخرجه
من بين الفرث والدم خالصا صائغا ، وكيف خلق الثديين وجمع فيهما اللبن ، وأنبت
منهما الحلمة على قدر ما ينطبق عليه فم الصبيّ ، ثمّ فتح في حلمة الثدي ثقبا ضيّقة
جدّا ، حتّى لا يخرج اللبن إلّا بعد المصّ تدريجا ـ فإنّ الطفل لا يطيق منه إلّا
القليل ـ ثمّ كيف هداه إلى الامتصاص حتّى يستخرج من المضيق اللبن الكثير عند شدّة
الجوع به.
ثمّ انظر إلى عطفه
ورأفته كيف أخّر خلق الأسنان إلى تمام الحولين ، لأنّه في الحولين لا يتغذّى إلّا
باللبن ، فيستغنى عن السنّ ، وإذا كبر لم يوافقه اللبن السخيف ، ويحتاج إلى طعام
غليظ ، ويحتاج الطعام إلى المضغ والطحن ؛ فأنبت له الأسنان عند الحاجة ، لا قبلها
ولا بعدها.
فسبحانه كيف أخرج
تلك العظام الصلبة من اللثات الليّنة ، ثمّ
__________________
حنّن قلوب
الوالدين عليه للقيام بتدبيره في الوقت الذي كان عاجزا عن تدبير نفسه ؛
ثمّ انظر كيف رزقه
القدرة والتمييز والعقل والهداية تدريجا حتّى بلغ وتكامل ، فصار مراهقا ، ثمّ
شابّا ، ثمّ كهلا ، ثمّ شيخا ـ إمّا كفورا أو شكورا ، مطيعا أو عاصيا ، مؤمنا أو
كافرا ـ تصديقا لقوله تعالى : (هَلْ أَتى عَلَى
الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً* إِنَّا
خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً
بَصِيراً* إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) [٧٦ / ١ ـ ٣].
فانظر إلى اللطف
والكرم ثمّ إلى القدرة والحكمة ، تبهرك عجائب الحضرة الربوبيّة ؛ والعجب ـ كلّ
العجب ـ لمن يرى خطّا عجبا ، أو نقشا حسنا على حائط ، فيستحسنه ، فيصرف
جميع همّه إلى التفكّر في الخطّاط والنقّاش وأنّه كيف خطّه ونقّشه ، وكيف اقتدر
عليه ؛ ولا يزال يستعظمه ويقول : «ما أحذقه ، وما أجمل صنعته وأحسن قدرته» ، ثمّ
ينظر إلى هذه العجائب في نفسه وفي غيره ويغفل عن صانعه ومصوّره ، فلا تدهشه عظمته
ولا يحيّره جلاله وحكمته.
فهذه نبذة من عجائب
بدنك التي لا يمكن استقصاؤها ، وهي أقرب مجال تفكّرك وأجلى شاهد على عظمة خالقك ؛
ولو ذهبنا نصف ما في آحاد الأعضاء من العجائب والآيات لانقضت فيه الأعمار ؛ وما
فيما لا تدركه الحواسّ ـ من الروح والمعاني والصفات الإنسانيّة ـ أكثر وأعظم ؛
وسنشير إلى بعضها فيما بعد إن شاء الله.
__________________
فتبارك (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ
وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ* ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ
مِنْ ماءٍ مَهِينٍ* ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ
السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) [٣٢ / ٧ ـ ٩].
فصل [٤]
[رواية في بدء خلق الإنسان]
روي في الكافي
بأسناده الصحيح عن مولانا الباقر عليهالسلام ـ قال : ـ «إذا أراد الله أن يخلق النطفة التي هي ممّا أخذ
عليه الميثاق في صلب آدم أو ما يبدو له فيه ويجعلها في الرحم ، حرّك الرجل للجماع ، وأوحى إلى الرحم
أن افتحي بابك ، حتّى يلج فيك خلقي وقضائي النافذ وقدري ؛ فتفتح الرحم بابها ،
فتصل النطفة إلى الرحم ، فتردّد فيه أربعين يوما ، ثمّ تصير علقة أربعين يوما ،
ثمّ تصير مضغة أربعين يوما ، ثمّ تصير لحما ثمّ تجري فيه عروق مشتبكة.
ثمّ يبعث الله
ملكين خلّاقين ، يخلقان في الأرحام ما يشاء ، يقتحمان في بطن المرأة من فم المرأة
، فيصلان إلى الرحم ، وفيها الروح القديمة المنقولة في أصلاب الرجال وأرحام
النساء.
فينفخان فيها روح
الحياة والبقاء ، ويشقّان له السمع والبصر وجميع الجوارح وجميع ما في البطن ـ بإذن
الله تعالى ـ.
__________________
ثمّ يوحي الله إلى
الملكين : «اكتبا عليه قضائي وقدري ونافذ أمري ، واشترطا لي البداء فيما تكتبان».
فيقولان : «يا ربّ
ـ ما نكتب»؟
ـ قال : ـ فيوحي
الله إليهما : «أن ارفعا رءوسكما إلى رأس أمّه». فيرفعان رءوسهما ، فإذا اللوح
يقرع جبهة أمّه ، فينظران فيه ، فيجدان في اللوح صورته وزينته وأجله وميثاقه ـ شقيّا
أو سعيدا ـ وجميع شأنه.
ـ قال : ـ فيملي
أحدهما على صاحبه ، فيكتبان جميع ما في اللوح ، ويشترطان البداء فيما يكتبان ، ثمّ
يختمان الكتاب ويجعلانه بين عينيه ، ثمّ يقيمانه قائما في بطن أمّه.
ـ قال : ـ وربّما
عتى فانقلب ، ولا يكون ذلك إلّا في كلّ عات أو مارد.
فإذا بلغ أوان
خروج الولد ـ تامّا أو غير تامّ ـ أوحى الله إلى الرحم : «أن افتحي بابك ، حتّى
يخرج خلقي إلى أرضي وينفذ فيه أمري ، فقد بلغ أوان خروجه».
ـ قال : ـ ففتح
الرحم باب الولد ، فيبعث الله إليه ملكا يقال له : «زاجر» ، فيزجره زجرة ، فيفزع
منها الولد فينقلب ، فيصير رجلاه فوق رأسه ، ورأسه في أسفل البطن ، ليسهل الله على
المرأة وعلى الولد الخروج.
ـ قال : ـ فإذا
احتبس ، زجره الملك زجرة اخرى ، فيفزع منها ، فيسقط الولد إلى الأرض باكيا فزعا من
الزجرة.
فصل [٥]
[لست هذا البدن المحسوس]
ومن آياته العظام
نفسك وحقيقتك ؛ فارجع البصر إلى نفسك كرّتين ، فإنّك لست هذا البدن المحسوس ، بل
لك حقيقة اخرى غير هذا من عالم الملكوت ، وأنت في الحقيقة تلك الحقيقة ـ لا هذا
البدن ـ فاعرف نفسك ، تعرف ربّك ؛ فإنّ : «من عرف نفسه فقد عرف ربّه» و «أعرفكم بنفسه ،
أعرفكم بربّه» ـ كما ورد في الحديث ـ
فاعلم أنّ الله ـ سبحانه
ـ خلق في إهابك حيوانا آخر من عالم الغيب ، هو في الحقيقة يسمع ويرى ويشمّ ويذوق
ويلمس ويبطش ويمشي ، ولهذا تفعل هذه الأفاعيل وإن ركدت هذه القوى والحواسّ
__________________
البدنيّة منك ـ كما
في النوم والإغماء والسكر ـ فلك في ذاتك هذه المشاعر والقوى والآلات من غير عوز ،
إلّا أنّها ليست ثابتة في عالم الحسّ والشهادة ؛ وهذه المشاعر الظاهرة بمنزلة ظلال
لتلك ، وكذلك هذا البدن الظاهر بمنزلة قشر وغلاف وقالب لذلك البدن ، وإنّما حياة
هذه كلّها بذاك ، وهو الحيوان بالذات. وإليه الإشارة بقوله عزوجل : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ
خَلْقاً آخَرَ) [٢٣ / ١٤]. وقال
في حقّ آدم : (وَنَفَخْتُ فِيهِ
مِنْ رُوحِي) [١٥ / ٢٩]. وفي
حقّ عيسى : (وَكَلِمَتُهُ
أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) [٤ / ١٧١]. وهذه
الإضافة تؤذن على شرف الروح ، وكونها عريّة عن عالم الأجرام.
وقال تعالى : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ
الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) [٨٩ / ٢٧ ـ ٢٨]
والرجوع يدلّ على السابقة. وقال عزوجل : (وَلا تَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ
يُرْزَقُونَ* فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ) [٣ / ١٦٩ ـ ١٧٠]
وذلك لبقاء تلك الحقيقة بعد الموت ، إذ لا سبيل للموت إليها بوجه.
* * *
روى الشيخ الطبرسي
ـ رحمهالله ـ في كتاب الاحتجاج ، عن مولانا الصادق عليهالسلام إنّه قال : «الروح لا توصف بثقل ولا خفّة. وهي جسم رقيق قد
البس قالبا كثيفا ... فهي بمنزلة الريح في الزقّ فإذا نفخت فيه امتلأ الزقّ منها ،
فلا يزيد في وزن الزقّ ولوجها فيه ، ولا ينقصه خروجها منه. وكذلك الروح : ليس لها
وزن ولا ثقل ...»
__________________
قيل : «أفيتلاشى الروح بعد خروجه عن قالبه أم هو باق»؟ قال : «بل
هو باق إلى وقت ينفخ في الصور ، فعند ذلك تبطل الأشياء وتفني ، فلا حسّ ولا محسوس
، ثمّ اعيدت الأشياء كما بدأها مدبّرها ، وذلك أربعمائة سنة نسيت فيها الخلق ، وذلك بين النفختين».
وقال أيضا : «إنّ الروح مقيمة في مكانها ، روح المحسن في ضياء وفسحة
، وروح المسيء في ضيق وظلمة ، والبدن يصير ترابا ...» ـ الحديث ـ.
وروي أنّه قال : «وبها يؤمر البدن وينهى ، ويثاب ويعاقب ، وقد تفارقه
ويلبسها الله ـ سبحانه ـ غيره كما تقتضيه حكمته».
قوله عليهالسلام «وقد تفارقه
ويلبسها الله غيره» صريح في أنّها مجرّدة عن البدن مستقلّة ، وأن ليس المراد بها
الروح البخاريّة ؛ وأمّا إطلاق الجسم عليها : فلأنّ نشأة الملكوت ـ أيضا ـ جسمانيّة
من حيث الصورة ، وإن كانت روحانيّة من حيث المعنى ، وغير مدركة بهذه الحواسّ
الظاهرة.
روى محمّد بن
الحسن الصفّار في بصائر الدرجات بإسناده عنه
__________________
عليهالسلام ـ أنّه قال : ـ «مثل المؤمن وبدنه كجوهرة في صندوق ، إذا
اخرجت الجوهرة منه طرح الصندوق ولم يعبأ به».
ـ قال : ـ «إنّ
الأرواح لا تمازج البدن ولا تداخله ، إنّما هي كالكلل للبدن محيطة به».
وممّا يدلّ على
ذلك دلالة واضحة أنّ بدن الإنسان وأعضاءه دائم الذوبان والسيلان ، لعكوف الحرارة
الغريزيّة على التحليل والتنقيص ، وكذا غيرها من الأسباب ـ كالأمراض الحارّة ،
والمسهلات ـ وذاته منذ أوّل الصبى باقية ؛ فهو هو لا ببدنه.
ومن هذا يظهر أنّ
هذيّة البدن ـ من حيث هو بدن لهذه النفس ـ إنّما هي بهذه النفس ، وإن تبدّل تركيبه
؛ وكذا هذيّة الأعضاء ـ كهذه اليد ، وهذا الإصبع ـ إذ كلّها متحفّظ الهويّة تبعا
لهويّة النفس.
وإلى مثل هذا اشير
فيما روي عن مولانا الصادق عليهالسلام في قوله سبحانه : (كُلَّما نَضِجَتْ
جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) [٤ / ٥٦] حيث سئل
: «ما ذنب الغير»؟ قال : «ويحك ـ هي هي ، وهي غيرها» ـ فافهم واغتنم فسينفعك.
ومن الشواهد أنّك
ـ مع شواغلك ـ إذا فكرت في آلاء الله أو
__________________
سمعت آية تشير إلى
الامور الإلهيّة وأحوال المآب ، انظر كيف يقشعرّ جلدك ، ويقف شعرك ويهون عليك
حينئذ رفض البدن وقواه ، وهوسه وهواه ؛ وذلك لأجل نور قذف في قلبك من الجنبة
العالية ، وانعكس أثره إلى ظاهر جلدك من جهة الباطن ـ على عكس ما ينفعل الداخل من
الخارج ـ فباطنك غير ظاهرك.
وكذلك إذا أردت
إخلاص نيّة في التقرّب إلى الله ـ سبحانه ـ لم يتيسّر لك ذلك إلّا بمجاهدة تامّة ؛
فالجوهر النطقي منك من عالم آخر وقع غريبا في الجسد بيد الشهوة والغضب والوهم
وغيرها.
وتمام الكلام في
النفس يأتي فيما بعد إن شاء الله.
فصل
[٦]
[عجائب خلق الأرض]
إذا نظرت في بدنك
ونفسك وعرفت نبذا من عجائبها ، فانظر إلى الأرض التي هي مقرّك ، ثمّ في أنهارها
وبحارها وجبالها ومعادنها ونباتها وحيوانها ، ثمّ ارتفع منها إلى السماوات
والملكوت :
ومن آياته ـ عزوجل ـ أن خلق (الْأَرْضَ فِراشاً) [٢ / ٢٢] و (مِهاداً) [٧٨ / ٦] ، و (سَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً) [٢٠ / ٥٣] وجعلها
ذلولا لتمشوا في مناكبها .
__________________
ثمّ وسّع في
أكنافها حتّى عجز الآدميّون عن بلوغ جميع جوانبها ـ وإن طالت أعمارهم وكثر تطوافهم
ـ وجعلها وقورا لا تتحرّك ، وأرسى فيها الجبال أوتادا لها تمنعها من أن تميد : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً*
وَالْجِبالَ أَوْتاداً) [٧٨ / ٥ ـ ٦] (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ
تَمِيدَ بِكُمْ ... هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ
دُونِهِ) [٣١ / ١٠ ـ ١١].
فظهرها مقرّ
للأحياء ، وبطنها للأموات : (أَلَمْ نَجْعَلِ
الْأَرْضَ كِفاتاً* أَحْياءً وَأَمْواتاً) [٧٧ / ٢٥].
قال مولانا زين
العابدين عليهالسلام في قوله تعالى (الَّذِي جَعَلَ
لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً) [٢ / ٢٢] : «إنّه جعلها ملائمة لطبائعكم ، موافقة لأجسادكم
؛ لم يجعلها شديدة الحمى والحرارة فتحرقكم ، ولا شديدة البرودة فتجمدكم ، ولا
شديدة طيب الريح فتصدع هاماتكم ، ولا شديدة النتن فتعطبكم ، ولا شديدة اللين ـ كالماء
ـ فتغرقكم ، ولا شديدة الصلابة فتمتنع عليكم في دوركم وأبنيتكم وقبور موتاكم ؛
ولكنّه ـ عزوجل ـ جعل فيها من المتانة ما تنتفعون به ، وتتماسكون عليها ،
وتتماسك عليها أبدانكم وبنيانكم وجعل فيها ما ينقاد به لدوركم وقبوركم ، وكثير من
منافعكم» ـ رواه في التوحيد.
__________________
«فسبحان من أمسكها
بعد موجان مياهها ، وأجمدها بعد رطوبة أكنافها ، فجعلها لخلقه مهادا ، وبسطها لهم
فراشا ، فوق بحر لجّيّ راكد لا يجري ، وقائم لا يسري ، تكركره الرياح العواصف ، وتمخضه الغمام الذوارف» .
«أمسكها من غير
اشتغال ، وأرساها على غير قرار ، وأقامها بغير قوائم ، ورفعها بغير دعائم ،
وحصّنها من الأود والاعوجاج ، ومنعها من التهافت والانفراج ، أرسى أوتادها ، وضرب
أسدادها».
ـ كذا في كلام
أمير المؤمنين عليهالسلام .
فصل
[٧]
[آيات الله تعالى في خلق الجبال والنبات]
أما تأمّلت ـ يا
أخي ـ إلى آيات عظمته وآثار رحمته في الجبال الراسيات ، والشوامخ الصمّ الصلاب ؛
كيف اودعت المياه تحتها ، ففجرت العيون واسيلت الأنهار تجري على وجهها ، وإنّما
أخرج من الحجارة اليابسة ومن التراب الكدر ماء رقيقا عذبا صافيا زلالا ، وجعل به
كلّ شيء حيّا ، فأخرج به فنون الأشجار والنبات ـ من حبّ
__________________
وعنب وقضب وزيتون
ونخل ورمّان ، وفواكه كثيرة لا تحصى ـ مختلفة الأشكال والألوان والطعوم والصفات
والأراييح ، ففضّل بعضها على بعض في الأكل يسقى جميعا بماء واحد ، ويخرج من أرض
واحدة.
ثمّ [انظر] إلى
أراضي البوادي ، وفتّش ظاهرها وباطنها ، فترى بها ترابا متشابها ، فإذا أنزل (عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ
وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) [٢٢ / ٥] ، ألوانا
مختلفة ونباتا متشابها وغير متشابه ، لكلّ واحد طعم وريح ولون وشكل يخالف الآخر.
فانظر إلى كثرتها
واختلاف أصنافها وكثرة أشكالها ، ثمّ اختلاف طبائع النبات وكثرة منافعها ، وكيف
أودع العقاقير المنافع الغريبة.
فهذا النبات يغذّي
، وهذا يقوّي ، وهذا يحيي ، وهذا يقتل ، وهذا يبرد ، وهذا يسخّن ، وهذا إذا حصل في
المعدة قمع الصفراء من أعماق العروق ، وهذا يستحيل إلى الصفراء ، وهذا يقمع البلغم
والسوداء ، وهذا يستحيل إليهما ، وهذا يصفّي الدم ، وهذا يفرّح ، وهذا ينوّم ،
وهذا يقوي ، وهذا يضعّف ؛ فلم تنبت من الأرض ورقة ولا نبتة إلّا وفيها منافع لا
يقوي البشر على الوقوف على كنهها.
وكلّ واحد منها
يحتاج الفلّاح في تربيتها إلى عمل مخصوص ؛ فالنخيل يؤبر ، والكرم يقطع ، والزرع
ينقى منه الحشيش ؛ وبعضها يستنبت ببثّ البذر في الأرض ، وبعضها يغرس كالأغصان ،
وبعضها يركّب في الشجر.
ثمّ لمّا [لم] يجد
الجرم الصلب غذاء يتشبّه به دفعة بلا تدريج ، انظر كيف خلق الله في الأشجار الصلبة
لبّا يشبه المخّ في العظام ، عناية
من الله تعالى في
حقّها. وأمّا الأشجار الضعيفة القوام المتخلخلة ، فهي بمعزل عن ذلك لعدم حاجتها
إليه ؛ وما كان الغرض فيه أن يعظم حجمه ويطول قدسسره في مدّة قصيرة امتنع أن يكون صلبا ، لأنّ الصلب يحتاج إلى
مادّة عاصية وقوّة طابخة ، والتصرّف في مثلها يحتاج إلى مدّة طويلة.
ولو ذهبنا نذكر
أحوال النباتات وصفاتها ، واختلاف أجناسها ومنافعها وعجائبها ، لأنقضت الأيام في
وصفها ؛ فيكفيك من كلّ جنس نبذة يسيرة ، تدلّك على عظمة الله ولطيف صنعه ، وكمال
عدله وجوده.
فسبحان من (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً
فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ
مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ
وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ
مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ
لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [٦ / ٩٩].
(وَفِي الْأَرْضِ
قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ
وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي
الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [١٣ / ٤].
فصل [٨]
[الحكم والآيات في خلق المعادن]
ألم تر إلى آياته
في أصناف الجواهر المودّعة تحت الجبال ، والمعادن الحاصلة من الأرض ، ففي الأرض
قطع متجاورات مختلفة :
فانظر إلى الجبال
، كيف يخرج منها الجواهر النفيسة ـ من الذهب والفضّة والفيروزج واللعل وغيرها ـ بعضها
منطبعة تحت المطارق ـ كالذهب والنحاس والرصاص والحديد ـ وبعضها لا ينطبع ـ كالفيروزج
واللعل ـ وكيف هدى الله ـ عزوجل ـ الناس إلى استخراجها وتنقيتها واتّخاذ الأواني والآلات
والنقود والحلى منها؟
ثمّ انظر إلى
معادن الأرض ـ من النفط والكبريت والقار وغيرها ـ وأقلّها الملح ، ولا يحتاج إليه
إلّا لتطييب الطعام ، ولو خلت عنه بلدة لتسارع الهلاك عليها. فانظر إلى رحمة الله
، كيف خلق بعض الأراضي سبخة بجوهرها ، بحيث يجتمع فيها الماء الصافي من المطر ،
فيصير ملحا بحيث لا يمكن تناول مثقال منه ، ليكون ذلك تطييبا لطعامك إذا أكلته ، فيتهنّأ
عيشك. وما من جماد وحيوان ونبات إلّا وفيه حكمة وحكم من هذا الجنس ، ما خلق شيء
منها ضائعا ولا هزلا ، بل خلق الكلّ بالحقّ ، وكما ينبغي ، وعلى ما ينبغي ، وكما
يليق بجلاله وكرمه ولطفه ، ولذلك قال : (وَما خَلَقْنَا
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ* ما خَلَقْناهُما إِلَّا
بِالْحَقِ) [٤٤ / ٣٨ ـ ٣٩].
__________________
فصل
[٩]
[الحكم والآيات في خلق الحيوانات]
أو ما تدبّرت في
آيات حكمته وآثار رحمته في أصناف الحيوانات وانقسامها إلى ما يطير وإلى ما يمشي ؛
وانقسام ما يمشي إلى ما يمشي على بطنه ، وما يمشي على رجلين ، وما يمشي على أربع ،
وعلى عشر ، وعلى مائة ؛ واختلافها في الصور والأشكال والأخلاق والطبائع والمنافع ،
وفي إعداد الله عزوجل بلطيف صنعه وبلاغ حكمته ، لكلّ منها آلات وقوى لخاص
أفاعيلها وحاجات تناسبها ، وفيها من العجائب ما لا يشكّ معها في عظمة خالقها وقدرة
مقدّرها وحكمة مصوّرها ، ولا يمكن أن يستقصى ذلك.
وكيف ، ولو أردنا
أن نذكر عجائب البقّة أو النملة أو النحلة أو العنكبوت ـ وهي من صغار الحيوانات ـ في
بنائها بيتها ، وفي جمعها غذائها ، وفي إلفها لزوجها ، وفي ادّخارها لنفسها ، وفي
حذقها في هندسة بيتها ، وفي هدايتها إلى حاجاتها : لم نقدر.
فترى العنكبوت
يبني بيته على طرف نهر ، فيطلب أوّلا موضعين متقاربين بينهما فرجة بمقدار ذراع فما
دونها ، حتّى يمكنه أن يصل بالخيط بين طرفيه ، ثمّ يبتدئ فيلقي اللعاب ـ الذي هو
خيطه ـ على جانب ليلتصق به ، فيعدو إلى الجانب الآخر ، فيحكم الطرف الآخر من الخيط
ثمّ يحكم كذلك ـ ثانيا وثالثا ـ ويجعل بعد ما بينهما متناسبا ـ تناسبا
__________________
هندسيّا ـ حتّى
إذا أحكم معاقد القمط ورتّب الخيوط كاللحمة فيشتغل بالتسدية ، فيلتصق السدي إلى اللحمة ، ويحكم العقد على موضع التقاء
السدي باللحمة ، ويرعى في جميع ذلك تناسب الهندسة ، ويجعل ذلك شبكة يقع فيها البقّ
والذباب ، ويقعد في زاوية مترصّدا لوقوع الصيد في الشبكة ؛ فإذا وقع فيها بادر إلى
أخذه وأكله ، فإن عجز عن الصيد كذلك طلب لنفسه زاوية من حائط ، ووصل بين طرفي
الزاوية بخيطه ، ثمّ علّق نفسه منها بخيط آخر ، وبقي منكّسا في الهواء ينتظر ذبابة
تطير ، فاذا طارت ذبابة رمى بنفسه إليها ، فأخذها وأحكم خيطه على رجلها وأحكمها
ثمّ أكلها.
وما من حيوان ـ صغير
ولا كبير ـ إلّا وفيه من هذه العجائب ما لا يحصى ؛ أفترى أنّ شيئا منها تعلّم مثل
هذه الصنائع من نفسه ، أو تكوّن بنفسه ، أو كوّنه آدميّ ، أو علّمه ، أو لا هادي
له ولا معلّم ، (أَمْ خُلِقُوا مِنْ
غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) [٥٢ / ٣٥].
أيشكّ ذو بصيرة في
أنّه مسكين عاجز ضعيف ؛ بل الفيل العظيم شخصه ، الظاهر قوّته ، عاجز عن أمر نفسه ؛
فكيف بهذا الحيوان الضعيف.! أفلا يشهد هو ـ بنفسه وشكله وصورته وحركته وهدايته
وعجائب صنعته ـ لفاطره الحكيم ، وخالقه القادر العليم.
فالبصير يرى في
هذا الحيوان الصغير من عظمة الخالق المدبّر وجلاله وكمال قدرته وحكمته ، ما تتحيّر
فيه الألباب والعقول فضلا
__________________
عن ساير
الحيوانات. وهذا الباب أيضا لا حصر له ، فإنّ الحيوانات وأشكالها وأخلاقها وطباعها
غير محصورة ، وإنّما سقط تعجّب القلوب منها لانسها بكثرة المشاهدة.
نعم ، إذا رأى
حيوانا غريبا ـ ولو دودا ـ تجدّد تعجّبه وقال : «سبحان الله ما أعجبه» ، والإنسان
أعجب الحيوانات ، وليس يتعجّب من نفسه.
بل لو نظر إلى
الأنعام التي ألفها ، ونظر إلى أشكالها وصورها ، ثمّ إلى منافعها وفوائدها ـ من
جلودها وأصوافها وأوبارها وأشعارها الّتي جعلها لباسا لخلقه وأكنانا لهم في ظعنهم
وإقامتهم ، وآنية لأشربتهم ، وأوعية لأغذيتهم ، وصوانا لأموالهم ؛ وجعل ألبانها ولحومها أغذية لهم ؛ ثمّ جعل بعضها زينة
للركوب ، وبعضها حاملة للأثقال قاطعة للبراري والمفازات ، وإلى بلاد لم يكونوا
بالغيه إلّا بشقّ الأنفس ـ لأكثر الناظر التعجّب من حكمة خالقها ومصوّرها ، فإنّه
ما خلقها إلّا بعلم محيط بجميع منافعها ، سابق على خلقه إيّاها.
* * *
وفي كلام أمير
المؤمنين عليهالسلام : «ابتدعهم خلقا عجيبا من حيوان وموات ، وساكن وذي حركات ،
وأقام من شواهد البيّنات على لطيف صنعته وعظيم قدرته ما انقادت له العقول معترفة
به ومسلّمة له ، ونعقت في أسماعنا دلائله على وحدانيّته ، وما ذرأ من مختلف صور
__________________
الأطيار ، التي
أسكنها أخاديد الأرض وخروق فجاجها ، ورواسي أعلامها ـ من ذوات أجنحة مختلفة وهيئات متباينة مصرّفة في زمام
التسخير ، ومرفرفة بأجنحتها في مخارق الجوّ المنفسخ ، والفضاء المنفرج ـ كوّنها بعد أن لم تكن في عجائب صور
ظاهرة ، وركّبها في حقاق مفاصل محتجبة ، ومنع بعضها بعبالة خلقه أن يسمو في الهواء خفوفا ، وجعله يدفّ دفيفا ، ونسفها على اختلافها في الأصابيع بلطيف قدرته ودقيق صنعته ، فمنها
مغموس في قالب لون لا يشوبه غير لون ما غمس فيه ، و [منها] مغموس في لون صبغ
، قد طوّق بخلاف ما صبغ فيه .
ومن أعجبها خلقا
الطاوس ، الذي أقامه في أحكم تعديل ، ونضّد ألوانه في أحسن تنضيد ...»
ـ الحديث ـ وتمامه
مذكور في نهج البلاغة.
__________________
فصل [١٠]
وقال أمير
المؤمنين عليهالسلام في خطبة له يصف فيها عجيب خلق أصناف الحيوان : «ولو فكّروا في عظيم القدرة وجسيم النعمة ، لرجعوا إلى
الطريق ، وخافوا عذاب الحريق ، ولكن القلوب عليلة ، والأبصار مدخولة ، ألا تنظرون إلى صغير ما خلق ، كيف أحكم خلقه
وأتقن تركيبه ، وفلق له السمع والبصر ، وسوّى له العظم والبشر .
انظروا إلى النملة
في صغر جثّتها ولطافة تركيبها ـ لا تكاد تنال بلحظ البصر ، ولا بمستدرك الفكر ـ كيف دبّت
على أرضها ، وصبّت على رزقها ، تنقل الحبّة إلى حجرها ، وتعدّها في مستقرّها ،
تجمع في حرّها لبردها ، وفي وردها لصدرها ، مكفولة برزقها ، مرزوقة بوفقها ، لا يغفلها المنّان ولا يحرمها الديّان ، ولو في الصفا
اليابس والحجر الجامس ؛ ولو فكّرت في مجاري أكلها في علوها وسفلها ،
__________________
وما في الجوف من
شراسيف بطنها ، وما في الرأس من عينها واذنها ، لقضيت من خلقها عجبا ،
ولقيت من وصفها تعبا ؛ فتعالى الله الذي أقامها على قوائمها ، وبناها على دعائمها
، لم يشركه في فطرتها فاطر ، ولم يعنه على خلقها قادر.
ولو ضربت في مذاهب
فكرك لتبلغ غاياته ، ما دلّتك الدلالة إلّا على أنّ فاطر النملة هو فاطر النحلة ،
لدقيق تفصيل كل شيء ، وغامض اختلاف كلّ شيء ، وما الجليل واللطيف ، والثقيل والخفيف ، والقويّ والضعيف
ـ في خلقه ـ إلّا سواء.
وكذلك السماء
والهواء والرياح والماء ؛ فانظر إلى الشمس والقمر ، والنبات والشجر ، والماء
والحجر ، واختلاف هذا الليل والنهار ، وتفجّر هذه البحار ، وكثرة هذه الجبال ،
وطول هذه القلال ، وتفرّق هذه اللغات والألسن المختلفات ؛
فالويل لمن جحد
المقدّر وأنكر المدبّر.
وزعموا أنّهم
كالنبات ما لهم زارع ، ولا لاختلاف صورهم صانع ، ولم يلجئوا إلى حجّة فيما ادّعوا
، ولا تحقيق لما أوعوا. وهل يكون بناء من غير بان ، أو جناية من غير جان.
وإن شئت قلت في
الجرادة ؛ إذ خلق لها عينين حمراوين ، وأسرج لها حدقتين قمراوين ، وجعل لها السمع الخفيّ ، وفتح لها الفم
__________________
السويّ ، وجعل لها
الحسّ القويّ ، ونابين بهما تقرض ، ومنجلين بهما تقبض ، يرهبها الزرّاع في زرعهم ، ولا يستطيعون ذبّها ولو
أجلبوا بجمعهم ، حتّى ترد الحرث في نزواتها ، وتقضي منه شهواتها ، وخلقها كلّه لا يكون إصبعا مستدقّة.
فتبارك الله الذي
يسجد له من في السماوات والأرض طوعا وكرها ، ويعفّر له خدّا ووجها ، ويلقي إليه بالطاعة سلما وضعفا ، ويعطي له
القياد رهبة وخوفا ؛ فالطير مسخّرة لأمره ؛ أحصى عدد الريش منها والنفس ، وأرسى
قوائمها على الندى واليبس ؛ قدّر أقواتها وأحصى أجناسها.
فهذا غراب وهذا
عقاب ، وهذا حمام وهذا نعام ، دعا كلّ طائر باسمه ، وكفل له برزقه ، وأنشأ السحاب
الثقال ، فاهطل ديمها ، وعدّد قسمها ، فبلّ الأرض بعد جفوفها ، وأخرج نبتها بعد جدوبها.
__________________
فصل [٢١]
[حكم وجود الآلام وأكل الحيوانات جثث
الموتى]
ومن عناية الله ـ عزوجل ـ ولطفه أن جعل في جبلّة الحيوانات الآلام والأوجاع والجوع
والعطش ، حثّا لنفوسها على حفظ أجسادها من الآفات العارضة لها ، إذ كانت الأجساد
لا تقدر على جرّ منفعة ودفع مضرّة ، فلو لا ذلك لتهاونت النفوس بالأجساد ،
وأسلمتها إلى المهالك قبل فناء أعمارها وتقارب آجالها ، ولمّا علم أنّه لا يدوم
بقاؤها أبد الآبدين ، جعل لكلّ منها عمرا طبيعيّا أكثر ما يمكن ، ثمّ يجيئه الموت
الطبيعي ـ شاء أم أبى ـ.
وقد علم الله أنّه
يموت كلّ يوم منها ـ في البرّ والبحر ، والسهل والجبل ـ عدد لا يحصيه إلّا هو ،
فجعل بواجب حكمته جثث جيف موتاها غذاء لأحيائها ، ومادّة لبقائها ، لئلّا يضيع شيء
ممّا خلق بلا نفع وفائدة ، فكان في هذا منفعة للأحياء ، ولم يكن فيه ضرر على
الموتى ؛ وهذا أحد وجوه الحكمة في أكل بعض الحيوانات بعضا.
ومن جملة تلك
الوجوه : أنّه لو لم يكن الأحياء تأكل جثث الموتى لبقيت تلك الجثث واجتمع منها على
مرّ الأيام والدهور ما كاد يمتلئ بها وجه الأرض وقعر البحار ، وتفسد المياه وريحها
؛ فتصير تلك سبب هلاك الأحياء.
فالغرض الأصلي من
ذلك إنّما هو جلب المنفعة ودفع المضرّة ؛ وإن
__________________
كان ينال بعضها
الآلام والأوجاع عند الذبح والقتل والقبض ، فإنّ ذلك إنّما هو بالعرض.
ولنقتصر في هذا
النمط من الكلام في حيوان البرّ على ذلك فإنّه بحر لا ساحل له ، إذ بدائع حكم الله
ـ سبحانه ـ وعناياته في خلقه أكثر من أن تصل إلى صفته عمائق الفطن ، أو تبلغه
قرائح العقول ، أو تستنظم وصفه أقوال الواصفين.
فصل [١٢]
[الآيات في خلق البحار والماء]
أو لم تنظر إلى
آثار عظمة الله ـ عزوجل ـ وآياته في خلق البحار العميقة المكتنفة لأقطار الأرض ،
التي هي قطع من البحر الأخضر المحيط بجميع الأرض ، حتّى أنّ جميع المكشوف من البوادي
والجبال بالإضافة إلى الماء ، جزيرة صغيرة في بحر عظيم ؛ وبقيّة الأرض مستورة
بالماء.
قال النبيّ صلىاللهعليهوآله : «الأرض في البحر كالإصطبل في الأرض» فأنسب إصطبلا إلى
جميع الأرض.
واعلم أنّ الأرض
بالإضافة إلى البحر مثله ، قد شاهدت عجائب
__________________
الأرض والتي فيها
، فتأمّل عجائب البحر ، فإنّ عجائب ما فيها ـ من الحيوان والجواهر ـ أضعاف عجائب ما تشاهده على وجه
الأرض ، كما أنّ سعته أضعاف سعته [ا] ؛ ولعظم البحر كان فيه من الحيوانات العظام
ما يرى ظهورها في البحر فيظنّ أنّها جزيرة ، فينزل الركبان عليها ، فربما يحسّ بالنيران
إذا استعملت فيتحرّك ، فيعلم أنّها حيوان وما [من] صنف من أصناف حيوان البرّ ـ من فرس وطير وبقر
وإنسان ـ إلّا وفي البحر أمثالها وأصنافها ، وفيه أجناس لا يعهد
لها نظير في البرّ ، قد ذكرت أوصافها في مجلّدات ، وجمعها أقوام عنوا بركوب البحر
وجمع عجائبه.
ثمّ انظر كيف خلق
اللؤلؤ ودوّرها في صدفه تحت الماء ؛ وانظر كيف أنبتت المرجان من
صمّ الصخور تحت الماء ـ وإنّما هو نبات على هيئة شجرة تنبت من الحجر ـ.
ثمّ تأمّل ما عداه
من العنبر وأصناف النفائس التي يقذفها البحر ويستخرج منها ، كما قال عزوجل : (هُوَ الَّذِي سَخَّرَ
الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ
__________________
لَحْماً
طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ
مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [١٦ / ١٤].
(وَمِنْ آياتِهِ
الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ* إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ
فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) [٤٢ / ٣٢ ـ ٣٣].
فانظر إلى عجائب
السفن ، كيف أمسكها الله ـ عزوجل ـ على وجه الماء وسيّر فيها التجّار وطلّاب الأموال وسخّرها
لهم لتحمل أثقالهم ، ثمّ أرسل الرياح لتسوقها ، ثمّ عرّف الملّاحين موارد الرياح
ومهابّها ومواقيتها.
ولا يستقصى ـ على
الجملة ـ عجائب صنع الله في البحر في مجلّدات.
وأعجب من ذلك كلّه
ما هو أظهر من كلّ ظاهر ، وهو كيفيّة قطرة الماء ؛ وهو جسم رقيق لطيف سيّال مشف
متّصل الأجزاء كأنّه شيء واحد ، لطيف التركيب ، سريع القبول للتقطيع ، كأنّه منفصل
مسخّر للتصرّف ، وقابل للانفصال والاتّصال ، به حيات كلّ ما على وجه الأرض ـ من
حيوان ونبات ـ فلو احتاج العبد إلى شربة ومنع ، لبذل جميع خزائن الدنيا في تحصيلها
ـ لو ملك ذلك ـ ثمّ ـ إذا شربها ـ لو منع من اخراجها ، لبذل جميع خزائن الأرض في
إخراجها.
فصل [١٣]
[الآيات في خلق الهواء والسحاب]
أو ما تشاهد
الهواء اللطيف؟ المحبوس بين مقعّر السماء ومحدّب الأرض ، يدرك بحسّ اللمس عند هبوب
الريح جسمه ، ولا يرى بالعين شخصه ، وجملته مثل البحر الواحد ، والطيور مختلفة في
جوّ السماء ، سبّاحة فيها بأجنحتها كما تسبح حيوانات البحر في الماء ؛ قال تعالى :
(أَوَلَمْ يَرَوْا
إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا
الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ) [٦٧ / ١٩]. (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ
مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللهُ إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [١٦ / ٧٩].
أو ما ترى كيف
تضطرب جوانب الهواء وأمواجه عند هبوب الرياح ، كما تضطرب أمواج البحر ، فإذا حرّك
الله الهواء وجعله ريحا هابّة ؛ فإن شاء جعله بشرى بين يدي الرحمة ، كما قال : (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) [١٥ / ٢٢] فيصل
بحركته روح الهواء إلى الحيوانات والنباتات ، فيستعد للنماء.
وإن شاء جعله
عذابا على العصاة من خليقته ، كما قال : (إِنَّا أَرْسَلْنا
عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ* تَنْزِعُ النَّاسَ
كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) [٥٤ / ١٩ ـ ٢٠].
ثمّ انظر إلى لطف
الهواء ، ثمّ شدّته وقوّته مهما ضبط في الماء ،
__________________
فالزقّ المنفوخ
يتحامل عليه الرجل القويّ ليغمسه في الماء ، فيعجز عنه ؛ والحديد الصلب تضعه على
وجه الماء فيرسب فيه ، فانظر كيف ينقبض الهواء من الماء بقوّته مع
لطافته.
ولهذه الحكمة أمسك
الله ـ عزوجل ـ السفن على وجه الماء ، وكذلك كلّ مجوّف فيه هواء لا يغوص
في الماء ، لأنّ الهواء ينقبض عن الغوص في الماء ولا ينفصل عن السطح الداخل في
السفينة ، فتبقى السفينة الثقيلة مع قوّتها وصلابتها معلّقة في الهواء اللطيف ،
كالذي يقع في البئر فيتعلّق بذيل رجل قويّ يمتنع عن الهويّ في البئر ؛ والسفينة
بمقعّرها تتشبّث بأذيال الهواء لتقوى على أن تمتنع عن الهويّ والغوص في الماء ،
فسبحان من علّق المركب الثقيل من هواء لطيف من غير علاقة تشاهده ، وعقدة تشدّ.
ثمّ انظر إلى
عجائب الجوّ ، وما يظهر فيها من الغيوم والرعود والبروق والأمطار والثلوج والشهب
والصواعق ، فهي عجائب ما بين السماء والأرض ؛ وقد أشار القرآن إلى جملته في قوله عزوجل : (وَما خَلَقْنَا
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) [٤٤ / ٣٨].
وأشار إلى تفصيله
في مواضع شتّى حيث قال : (وَالسَّحابِ
الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) [٢ / ١٦٤] وحيث
تعرّض للرعد والبرق والسحاب والمطر.
فإذا لم يكن لك
حظّ من هذه الجملة إلّا أن ترى المطر بعينك ، وتسمع الرعد باذنك ، فالبهيمة تشاركك
في هذه المعرفة ، فارتفع من
__________________
حضيض عالم البهائم
إلى عالم الملأ الأعلى ، فقد فتحت عينك فأدركت ظاهرها ، فغمّض عينك الظاهرة ،
وانظر ببصيرتك الباطنة ، لترى عجائب باطنها ، وغرائب أسرارها. وهذا ـ أيضا ـ باب
يطول الفكر فيه ، ولا مطمع في استيفائه.
فتأمّل السحاب
الكثيف المظلم ، كيف تراه يجتمع في جوّ صاف لا كدورة فيه ، وكيف يخلقه الله ـ عزوجل ـ إذا شاء ومتى شاء؟ وهو مع رخاوته حامل للماء الثقيل ،
وممسك في جوّ السماء ، إلى أن يأذن الله ـ عزوجل ـ في إرساله الماء ، وتقطيع القطرات ، كلّ قطرة بالقدر
الذي أراده الله ـ عزوجل ـ وعلى الشكل الذي شاءه.
فترى السحاب يرشّ
الماء على الأرض ويرسله قطرات متفاصلة ، لا تدرك قطرة منها اخرى ، ولا تتصل واحدة
باخرى ، بل تنزل كلّ واحدة في الطريق الذي ترسم فيه ، لا تعدل عنه ، ولا يتقدّم
المتأخّر ، ولا يتأخّر المتقدّم ، حتّى يصيب الأرض قطرة قطرة.
فلو اجتمع
الأوّلون والآخرون على أن يخلقوا منها قطرة واحدة ، أو يعرفوا عدد ما ينزل منها في
بلدة واحدة ، أو قرية واحدة لعجز حسّاب الجنّ والإنس عنه ، فلا يعلم عددها إلّا
الذي أوجدها.
ثمّ كلّ قطرة منها
عيّنت لكلّ جزء من الأرض ، ولكلّ حيوان من طير ووحش ودود ، مكتوب على تلك القطرة
بخطّ إلهيّ لا يدرك بالبصر الظاهر : «إنّه رزق الدود الفلاني ، الذي هو في ناحية
الجبل الفلاني ، يصل إليه عند عطشه في الوقت الفلاني».
ـ هذا ـ مع ما في
انعقاد البرد الصلب من الماء اللطيف ، وفي تناثر الثلوج كالقطن المندوف ، ومن
العجائب التي لا تحصى ؛ كلّ ذلك
فضل من الجبّار
القادر ، وقهر من الخالق القاهر ؛ ما لأحد فيه شركة ومدخل ، بل ليس للمؤمن من خلقه
إلّا الاستكانة والخضوع تحت جلاله وعظمته ، ولا للعميان الجاحدين إلّا الجهل
بكيفيّته ورجم الظنّ بسببه وعلّته. فسبحان من (يُسَبِّحُ الرَّعْدُ
بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ) [١٣ / ١٣].
فصل [١٤]
[السماء وما فيها من الآيات]
أو ما ترفع رأسك
إلى السماء وتنظر فيها وفي تزيّنها بزينة الكواكب ، وتتدبّر في عدد كواكبها
وكثرتها واختلاف ألوانها وكيفيّة أشكالها المرتسمة من اجتماعها ، وفي دورانها
وطلوعها وغروبها ، وسيّما في شمسها وقمرها اللذين جعلهما الله ـ سبحانه ـ ضياء
ونورا ، وجعل أعظمهما سراجا وهّاجا ، وصيّرها رئيس السماء ، واهب الضياء ، فاعل النهار والليل
بالحضور والغيبة ، وجاعل الفصول الأربعة بالذهاب والأوبة ـ بأمر الله سبحانه
وطاعته ـ قرّة عين الدنيا ، وهادي سبيل العقبى ؛ ما ازدادت على الكواكب بمجرّد
المقدار والقرب ، بل بالشدّة ، فإنّ ما يتراءى من الكواكب بالليل مقدار مجموعها
أكبر من الشمس بما لا يتقايس ، ولا يضيء ضوؤها.
فسبحان من صوّرها
ونوّرها ، وفي عشق جماله دوّرها.
__________________
وفي الخمسة
المتحيّرة في جمال بارئها ، المعبّر عنها في القرآن المجيد : ب (بِالْخُنَّسِ* الْجَوارِ الْكُنَّسِ) [٨١ / ١٥ ـ ١٦]
وعن أعلاها ب (الطَّارِقِ* وَما
أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ* النَّجْمُ الثَّاقِبُ) [٨٦ / ١ ـ ٣] ثمّ
في اختلاف مشارقها ومغاربها ودءوبها في الحركة على الدوام من غير فتور في حركتها ،
ولا تغيّر في سيرها ؛ بل يجري جميعها في منازل مرتّبة بحساب مقدّر لا يزيد ولا
ينقص ، إلى أن يطويها الله ـ عزوجل ـ (كَطَيِّ السِّجِلِّ
لِلْكُتُبِ) [٢١ / ١٠٤] قال ـ عزوجل ـ : (الشَّمْسُ
وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) [٥٥ / ٥] (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها
ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ* وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى
عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ* لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ
الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [٣٦ / ٤٠].
فانظر إلى هذين النيّرين ولطيف عناية الله وجوده ورحمته فيهما ،
فإنّ الشمس مع كونها تسير في فلكها في مدّة سنة ، تطلع كلّ يوم وتغرب بسير آخر
سخّرها خالقها ، ولو لا طلوعها وغروبها لما اختلف الليل والنهار ، ولم تعرف
المواقيت ، وأطبق الظلام على الدوام ، أو الضياء على الدوام ، ولفسدت بإحراقها
موادّ الكائنات ، أو هلكت بالبرودة المفرطة وبقيت في وحشة شديدة وليل مظلم لا أوحش
منه ، ولم يكن محلّ سكن للحيوانات ، وكان لا يتميّز وقت المعاش عن وقت الاستراحة :
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ
إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ* قُلْ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ
__________________
النَّهارَ
سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ
تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ* وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ
وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ) [٢٨ / ٧١ ـ ٧٣].
فانظر كيف جعل (اللَّيْلَ لِباساً) [٧٨ / ١٠] و (النَّهارَ مَعاشاً) [٧٨ / ١١] وانظر
إلى إيلاجه الليل في النهار ، والنهار في الليل ، وإدخاله الزيادة والنقصان عليهما
على ترتيب مخصوص ، وإلى إمالته سير الشمس عن وسط السماء حتّى اختلف بسببه الزمان ،
وحصلت الفصول الأربعة التي بها يتمّ الكون والفساد ، وتنصلح أمزجة البقاع والبلاد
؛ فإذا انخفض عن وسط السماء مسيره برد الهواء فظهر الشتاء ، وإذا استوى في وسط
السماء اشتدّ القيظ ، وإن كان فيما بينهما اعتدل الزمان.
وعجائب السماوات
لا مطمع في إحصاء عشر عشير جزء من أجزائها.
وهذا تنبيه على
طريق التفكّر ، واعتقد على الجملة أنّه ما من كوكب من الكواكب إلّا ولله تعالى
حكمة كثيرة في خلقه ، ثمّ في مقداره ، ثمّ في شكله ، ثمّ في لونه ، ثمّ في وضعه في
السماء وقربه من وسط السماء وبعده عنه ، وقربه من الكواكب التي بجنبه وبعده عنها ،
وقس ذلك بما ذكرناه في أعضاء بدنك ، إذ ما من جزء إلّا وفيه حكمة ، بل حكم كثيرة ،
وأمر السماء أعظم :
(لَخَلْقُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [٤٠ / ٥٧] (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ
خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها* رَفَعَ
__________________
سَمْكَها
فَسَوَّاها* وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها* وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ
دَحاها) [٧٩ / ٢٧ ـ ٣٠].
بل لا نسبة لعالم
الأرض إلى عالم السماء ـ لا في كبر جسمه ولا في كثرة معانيه ـ وقس التفاوت الذي
بينهما في كثرة معانيه بما بينهما من التفاوت في الكبر ، مع أنّ كبر الأرض واتّساع
أطرافها بحيث أنّه لا يقدر آدميّ على أن يدور بجوانبها. وقد اتّفق الناظرون على أن
الشمس مثل الأرض مائة ونيّفا وستين مرّة ، وفي الأخبار ما يدلّ على عظمتها ، والكواكب التي تراها
أصغرها هي مثل الأرض ثماني مرّات ، وأكبرها ينتهي إلى قريب من مائة وعشرين مرّة
مثل الأرض ؛ وبهذا يعرف ارتفاعها وبعدها ؛ فللبعد صارت ترى صغارا ، ولذلك أشار
الله تعالى إلى بعدها فقال : (رَفَعَ سَمْكَها
فَسَوَّاها) [٧٩ / ٢٨].
وفي الأخبار : «إنّ بين كلّ سماء إلى اخرى مسيرة خمسمائة عام».
فإذا كان هذا
مقدار كوكب واحد من الأرض ، فانظر إلى كثرة الكواكب ، ثمّ انظر إلى السماء التي
الكوكب مركوز فيها ، وإلى عظمتها ،
__________________
ثمّ انظر إلى سرعة
حركتها ، وأنت لا تحسّ بحركتها ، فضلا من أن تدرك سرعتها ، لكن لا تشكّ في أنّه في
لحظة تسير مقدار عرض كوكب ، لأنّ الزمان من طلوع أوّل جزء من كوكب إلى تمامه يسير
، وذلك الكوكب هو مثل الأرض مائة مرّة وزيادة ، فقد دار الفلك في هذه اللحظة مثل
الأرض مائة مرّة ، وهكذا يدور على الدوام ، وأنت غافل عنه ، وانظر كيف عبّر جبرئيل
عليهالسلام عن سرعة حركته إذ قال له النبيّ صلىاللهعليهوآله : «هل زالت الشمس»؟ فقال : «لا ، نعم». فقال : «كيف تقول :
لا ، نعم»؟
فقال : «من حيث أن
قلت : «لا» ، إلى أن قلت : «نعم» ، سارت الشمس مسيرة خمسمائة عام».
فانظر إلى عظم
شخصها ، ثمّ إلى خفّة حركتها ، ثمّ انظر إلى قدرة الفاطر الحكيم ، كيف أثبت صورتها
ـ مع اتّساع أكنافها ـ في حدقة العين مع صغرها ، حتّى أنّك تجلس على الأرض وتفتح
عينيك نحوها فترى جميعها.
فهذه السماء
لعظمتها وكثرة كواكبها لا تنظر إليها ، بل انظر إلى بارئها ، كيف خلقها ، ثمّ
أمسكها من غير عمد ترونها ، ومن غير علاقة من فوقها متدل بها.
فكلّ العالم كبيت
واحد والسماء سقفه ، فالعجب منك أنّك تدخل في بيت غنيّ فتراه مزوّقا بالصبغ ،
مموّها بالذهب ، فلا تنقطع تعجّبك عنه ، ولا تزال تذكّره وتصف حسنه طول عمرك ؛
وأنت أبدا
__________________
تنظر إلى هذا
البيت العظيم ، وإلى أرضه ، وإلى سقفه ، وإلى هوائه ، وإلى عجائب أمتعته وغرائب
حيواناته وبدائع نقوشه ، ثمّ لا تتحدّث به ولا تلتفت بقلبك إليه ؛ فما هذا البيت
دون البيت الذي تصفه ، بل ذلك البيت هو ـ أيضا ـ جزء من الأرض التي هي أخسّ أجزاء
هذا البيت ، ومع هذا فلا تنظر إليه.
أو (فَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ
فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ* وَالْأَرْضَ
مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ
بَهِيجٍ* تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) [٥٠ / ٦ ـ ٨]. (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً
مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ) [٢١ / ٣٢]. (وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً) [٧٨ / ١٢] إشارة
إلى صلابتها وحفظها عن التغيّر إلى أن يبلغ الكتاب أجله.
وهذا بخلاف
الأرضيّات فإنّها متغيّرة على القرب ، ولهذا عظّم الله أمر السماوات والنجوم وأقسم
بها في غير موضع من كتابه كقوله : (وَالسَّماءِ ذاتِ
الْبُرُوجِ) [٨٥ / ١] (وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ) [٨٦ / ١] (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ) [٥١ / ٧] (وَالسَّماءِ وَما بَناها) [٩١ / ٥] (وَالشَّمْسِ وَضُحاها* وَالْقَمَرِ إِذا
تَلاها) [٩١ / ١ ـ ٢] (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) [٥٣ / ١] (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ* الْجَوارِ
الْكُنَّسِ) [٨١ / ١٥ ـ ١٦] (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ*
وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) [٥٦ / ٧٥ ـ ٧٦]
إلى غير ذلك.
وأحال الأرزاق
إليها : (وَفِي السَّماءِ
رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) [٥١ / ٢٢] ـ يعني
الجنّة ـ. « وجعلها موضعا لعرشه ، ومسكنا لملائكته ،
__________________
ومصعدا للكلم
الطيّب والعمل الصالح من خلقه ، وجعل نجومها أعلاما يستدلّ بها الحيران في مختلف
فجاج الأقطار ، لم تمتنع ضوء نورها ادلهام سجف الليل المظلم ، ولا استطاعت جلابيب سواد الحنادس أن تردّ ما شاع في السماوات من تلألؤ نور القمر».
« أمسكها من أن تمور في خرق الهواء بأيده ، وأمرها أن تقف
مستسلمة لأمره ، وجعل شمسها آية مبصرة لنهارها ، وقمرها آية ممحوّة من ليلها ،
وأجراهما في مناقل مجراهما ، وقدّر مسيرهما في مدارج درجهما ليميّز بين الليل
والنهار بهما ، وليعلم عدد السنين والحساب بمقاديرهما ؛ ثمّ علّق في جوّها فلكا ،
وناط بها زينتها من خفيّات دراريها ومصابيح كواكبها ، ورمى مسترقي السمع بثواقب
شهبها ، وأجراها على إذلال تسخيرها ، من ثبات ثابتها ، ومسير سائرها ، وهبوطها
وصعودها ، ونحوسها وسعودها».
وكلّ له قانتون ،
مقرّون بالربوبيّة مذعنون بالطواعية ، دعاهنّ فأجبن طائعات مذعنات غير متلكّيات
ولا مبطّئات ، حيث (فَقالَ لَها
وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ*
فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) [٤١ / ١١ ـ ١٢].
(خَلَقَ سَبْعَ
سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ
لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ
بِكُلِّ شَيْءٍ
__________________
عِلْماً) [٦٥ / ١٢]. (خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى
فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ*
ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً
وَهُوَ حَسِيرٌ) [٦٧ / ٣ ـ ٤].
فسبحان الله ربّ
السماوات السبع ، وربّ الأرضين السبع ، وما فيهنّ وما بينهنّ وربّ العرش العظيم.
فصل [١٥]
[الملكوت]
ثمّ أجل ـ يا أخي
فكرك في الملكوت ؛ وما أدراك ما الملكوت؟
الملكوت ما غاب عن
الأبصار ، كما أنّ الملك ما ظهر لها ، وهو عالم الغيب والباقى ، كما أنّ هذا
العالم عالم الشهادة والفاني (وَكَذلِكَ نُرِي
إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) [٦ / ٧٥].
(أَوَلَمْ يَنْظُرُوا
فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى
أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) [٧ / ١٨٥].
فانظر ـ يا أخي ـ في
الملكوت ، عسى أن تفتح لك أبواب السماء ، فترى من عجائب العزّ والجبروت ، ويضيء لك
من سناء برق اللاهوت.
والملكوت قسمان :
قسم لا تعلّق له
بهذا العالم أصلا ـ لا تعلّق الحلول ولا التدبير ـ وهم إمّا وسائط جود الله ـ سبحانه
ـ وفيضه ، وهم العقول والأرواح
ـ وقد مرّ ذكرهم ـ
وإمّا المستغرقون في ذكر الله ـ عزوجل ـ من الكرّوبيّين وغيرهم ، وسيأتي الكلام فيهما إن شاء
الله.
وقسم له تعلّق
بهذا العالم بالتصرّف والتدبير والتحريك ـ ويقال له : الروحانيّات ـ فمنهم ما
يتعلّق بالسماوات ـ ويقال له الملكوت الأعلى ـ ومنهم ما يتعلّق بالأرضيّات ـ ويقال
له : الملكوت الأسفل ـ ولكلّ منهما أجناس وطبقات كثيرة ، حسب تفاوت طبقات الأجسام.
فما من جسم ـ علويّ أو سفليّ ـ إلّا وله جوهر ملكوتيّ ، وقد أشرنا إلى ذلك في
الإنسان ، وسنتمّ الكلام فيه في المقاصد الآتية إن شاء الله.
(فَسُبْحانَ الَّذِي
بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ). [٣٦ / ٨٣].
فصل [١٦]
[وراء هذا العالم]
قال بعض الحكماء :
«من وراء هذا
العالم سماء وأرض وبحر وحيوان ونبات وناس سماويّون ، وكلّ من في ذلك العالم سماويّ
، وليس هناك شيء أرضيّ ، والروحانيّون الذين هناك ملائمون للإنس الذين هناك ، لا
ينفر بعضهم عن بعض ، وكل واحد لا ينافر صاحبه ولا يضادّه ؛ بل يستريح إليه».
__________________
وروى محمد بن
الحسن الصفّار ـ ره ـ في بصائر الدرجات بإسناده عن هشام الجواليقي ، عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «إنّ لله مدينة خلف البحر سعتها مسيرة أربعين يوما
للشمس ، فيها قوم لم يعصوا الله قطّ ، ولا يعرفون إبليس ، ولا يعلمون خلق إبليس ؛
نلقاهم في كل حين ، فيسألونا عمّا يحتاجون إليه ، ويسألون الدعاء فنعلّمهم ،
ويسألونا عن قائمنا : ـ متى يظهر؟ ـ وفيهم عبادة واجتهاد شديد.
لمدينتهم أبواب ما
بين المصراع إلى المصراع مائة فرسخ ؛ لهم تقديس واجتهاد شديد ، لو رأيتموهم
لاحتقرتم عملكم ، يصلّي الرجل منهم شهرا لا يرفع رأسه من سجوده ؛ طعامهم التسبيح ،
ولباسهم الورع ، ووجوههم مشرقة بالنور ؛ إذا رأوا منّا واحدا لحسوه واجتمعوا إليه وأخذوا من أثره من الأرض يتبرّكون به ؛ لهم
دويّ إذا صلّوا أشدّ من دويّ الريح العاصف ؛ فيهم جماعة لم يضعوا السلاح منذ كانوا
، ينتظرون قائمنا ، يدعون الله أن يريهم إيّاه ؛ وعمر أحدهم ألف سنة.
إذا رأيتهم رأيت
الخشوع والاستكانة ، وطلب ما يقرّبهم إليه ، إذا احتبسنا ظنّوا أنّ ذلك من سخط
الله ؛ يتعاهدون أوقاتنا التي نأتيهم فيها ، لا يسأمون ولا يفترون ، يتلون كتاب
الله كما علّمناهم ؛ وإنّ فيما نعلّمهم ما لو تلي على الناس لكفروا به ولأنكروه ؛
ويسألونا عن الشيء إذا ورد
__________________
عليهم من القرآن
لا يعرفونه ، فإذا أخبرناهم به انشرحت صدورهم لما يسمعون منّا ، وسألوا الله لنا
طول البقاء ، وأن لا يفقدونا ، ويعلمون أن المنّة من الله عليهم فيما نعلّمهم
عظيمة. ولهم خرجة مع الإمام إذا قاموا يسبقون فيها أصحاب السلاح منهم ويدعون الله
أن يجعلهم ممّن ينتصر به لدينه.
فيهم كهول وشبّان
، إذا رأى شابّ منهم الكهل جلس بين يديه جلسة العبد ، لا يقوم حتّى يأمره ، لهم
طريق هم أعلم به من الخلق إلى حيث يريد الإمام ، فإذا أمرهم الإمام بأمر قاموا
عليه أبدا ، حتّى يكون هو الذي يأمرهم بغيره.
لو أنّهم وردوا
على ما بين المشرق والمغرب من الخلق لأفنوهم في ساعة واحدة ، لا يختلّ الحديد فيهم
، ولهم سيوف من حديد غير هذا الحديد ، لو ضرب أحدهم بسيفه جبلا لقدّه حتّى يفصله ؛
يغزو بهم الإمام الهند والديلم والكرك والترك والروم وبربر ، وما بين جابرس إلى
جابلق ـ وهما مدينتان : واحدة بالمشرق واخرى بالمغرب ـ
لا يأتون على أهل
دين إلّا دعوهم إلى الله ، وإلى الإسلام ، وإلى الإقرار بمحمد صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ومن لم يقرّ بالإسلام ولم يسلم قتلوه حتّى لا يبقى بين
المشرق والمغرب وما دون الجبل أحد إلّا أقرّ» .
__________________
وبإسناده عن الحسن بن عليّ عليهماالسلام ـ قال : ـ «إنّ لله مدينتين إحداهما بالمشرق ، والاخرى
بالمغرب. عليهما سور من حديد ، وعلى كلّ مدينة منها سبعون ألف ألف مصراع من ذهب ،
وفيها سبعون ألف ألف لغة ، يتكلّم كلّ لغة بخلاف لغة صاحبه ، وأنا أعرف جميع
اللغات ، وما فيهما وما بينهما وما عليهما حجّة غيري وغير الحسين أخي».
وبإسناده عن أبي عبد الله ، عن أبيه ، عن علي بن الحسين عن أمير
المؤمنينعليهمالسلام ـ قال : ـ «إنّ لله بلدة خلف المغرب ، يقال لها جابلقا ،
وفي جابلقا سبعون ألف أمّة ، ليس منها أمّة إلّا مثل هذه الامّة ، فما عصوا الله
طرفة عين ، فما يعملون من عمل ولا يقولون قولا إلّا الدعاء على الأوّلين ، والبراءة
منهما ، والولاية لأهل بيت رسول الله».
وبإسناده عن أبي عبد الله عليهالسلام ـ قال : ـ «إنّ من وراء أرضكم هذه أرضا بيضاء ، ضوؤها منها
؛ فيها خلق يعبدون الله لا يشركون به شيئا ، يتبرّءون من فلان وفلان».
وبإسناده عن أبي جعفر عليهالسلام ـ قال : ـ «إنّ الله خلق جبلا محيطا بالدنيا من زبرجد خضر
ـ وإنّما خضرة السماء من خضرة ذلك الجبل ـ وخلق خلفه خلقا لم يفترض عليهم شيئا مما
افترض على خلقه من صلاة
__________________
وزكاة ، وكلّهم
يلعن رجلين من هذه الامّة» ـ وسمّاهما.
وبإسناده عن أبي عبد الله عليهالسلام ـ قال : ـ «إنّ من وراء عين شمسكم هذه أربعين عين شمس ، فيها
خلق كثير ؛ وإنّ من وراء قمركم أربعين قمرا ، فيها خلق كثير ، لا يدرون أنّ الله
خلق آدم أم لم يخلقه ، ألهموا إلهاما لعنة فلان وفلان».
وفي كتاب الكافي بإسناده عن أبي حمزة الثمالي ، عن أبي جعفر عليهماالسلام ـ قال : ـ قال في ليلة وأنا عنده ونظر إلى السماء فقال : «يا
[أ] با حمزة ، هذه قبّة أبينا آدم عليهالسلام وإنّ لله ـ تعالى ـ سواها تسعة وثلاثين قبّة ، فيها خلق ما
عصوا الله طرفة عين».
وروى الشيخ الصدوق
ـ محمد بن علي بن بابويه ـ في كتاب الخصال بإسناده عن جابر بن يزيد ، قال : سألت أبا جعفر عليهالسلام عن
__________________
قول الله ـ تعالى
ـ : (أَفَعَيِينا
بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) [٥٠ / ١٥] فقال :
«يا جابر ـ تأويل
ذلك أنّ الله ـ عزوجل ـ إذا أفنى هذا الخلق وهذا العالم ، وسكّن أهل الجنّة
الجنّة ، وأهل النار النار ، جدّد الله عزوجل عالما غير هذا العالم ، وجدّد خلقا من غير فحولة ولا اناث
، يعبدونه ويوحّدونه ، وخلق لهم أرضا غير هذه الأرض تحملهم ، وسماء غير هذه السماء
تظلّهم ؛ لعلّك ترى أنّ الله ـ عزوجل ـ إنّما خلق هذا العالم الواحد ، وترى أنّ الله ـ عزوجل ـ لم يخلق بشرا غيركم ؛ بلى ـ والله خلق ـ تبارك وتعالى ـ ألف
ألف عالم ، وألف ألف آدم ، أنت في آخر تلك العوالم واولئك الآدميّين».
وروى العامّة عن
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ما يقرب من بعض هذه ، والروايات في أمثال ذلك كثيرة.
* * *
وقال بعض أهل
المعرفة :
«في كلّ نفس خلق
الله فيها عوالم يسبّحون الليل والنهار لا يفترون ، وخلق الله من جملة عوالمها
عالما على صورنا إذا أبصرها العارف يشاهد نفسه فيها. وقد أشار إلى ذلك عبد الله بن
عبّاس فيما روي عنه في حديث : «هذه الكعبة ، وإنّها بيت واحد من أربعة عشر بيتا ،
وإنّ في كل أرض من الأرضين
__________________
السبع خلقا مثلنا
، حتّى أنّ فيهم ابن عبّاس ، مثلي».
وصدقت هذه الرواية
عند أهل الكشف ... وكلّ ما فيها حيّ ناطق ... وهي باقية لا تفنى ولا تتبدّل ...
وإذا دخلها العارفون إنّما يدخلون بأرواحهم لا بأجسامهم ، فيتركون هياكلهم في هذه
الأرض الدنيا ويتجرّدون ... وفيها مدائن لا تحصى ... بعضها يسمّى مدائن النور ـ لا
يدخلها من العارفين إلا كلّ مصطفى مختار ... وكلّ حديث وآية وردت عندنا فصرفها
العقل عن ظاهرها ، وجدناها على ظاهرها في هذه الأرض ، وكلّ جسد يتشكّل فيه
الروحاني من ملك وجنّ ، وكلّ صورة يرى الإنسان فيها نفسه في النوم فمن أجساد هذه
الأرض».
وقال الغزالي في
المقالة الحادية والثلاثين من كتاب سرّ العالمين :
__________________
«قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : «إنّ بالمغرب عنّا لأرضا بيضاء من وراء قاف ، لا تقطعها
الشمس في أربعين سنة».
قالوا : «يا رسول
الله ، أو فيها خلق»؟
قال : «نعم ؛ فيها
قوم مؤمنون لا يعصون الله طرفة عين ، لا يعرفون آدم ولا إبليس ، بينهم الملائكة
يعلّمونهم شريعتنا ، ويحكمون بينهم ويدرسونهم الكتاب العزيز».
قالوا : «يا رسول
الله ، زدنا من هذه الأعاجيب».
فقال : «إنّ لي
صدّيقة من مؤمني الجنّ غابت عنّي سنين ، فسألتها أين كنت؟ فقالت : كنت عند اختي من
وراء الأرض البيضاء التي من وراء قاف. فقلت : أوهم مؤمنون؟ فقالت : نعم ؛ قرأت
عليهم كتابك فآمن بذلك كلّهم ...... فقلت : أو تصعد الشمس في ذلك البلاد؟ قالت :
نعم .......
« وأمّا قصّة زعيم بن بلعام ، فهي عجيبة : فإنّه أراد أن
ينظر من أين منبع النيل ، فلم يزل يسير حتّى وجد الخضر عليهالسلام فقال له «ستدخل مواضع» ـ ثمّ أعطاه علائمها ـ فوصل إلى جبل
وفيه قبّة من ياقوت على أربعة أعمدة ، والنيل يخرج من تحتها ، وفيه فاكهة لا
تتغيّر.
ـ قال : ـ فرقيت
رأس الجبل ، فرأيت وراءه بساتين وقصورا ودورا وعالما غزيرا ، وكنت شيخا أبيض الشعر
فهبّ
__________________
عليّ نسيم سوّد
شعري وأعاد شبابي ، فنوديت من تلك القصور «إلينا يا زعيم ، إلينا ، فهذه دار
المتّقين» فجذبني الخضر ومنعني.
* * *
فهذا سرّ قوله صلىاللهعليهوآله : سبعة أنهار من الجنّة : جيحون ، وسيحون ، ودجلة ،
والفرات ، والنيل ، وعين ماليرون ، وبالمقدس عين سلوان
* * *
« وأعجب من هذا الحديث حديث بلوقيا وعفّان ؛
__________________
فحديثهما طويل ،
وإشارة منه كافية :
فقد بلغ من سفرهما
حتّى وصلا إلى المكان الذي فيه النبيّ سليمان عليهالسلام ، فتقدّم بلوقيا إلى سليمان ليأخذ الخاتم من إصبعه ، فنفخ
فيه التنين الموكّل معه فأحرقه ، فضربه عفّان بقاذورة فأحياه ، ثمّ مدّ يده ثانية
وثالثة فأحياه بعد ثلاث ، فمدّ يده رابعة ، فاحترق وهلك.
فخرج عفّان وهو
يقول : «أهلك الشيطان ، الشيطان».
فناداه التنين : «ادن
أنت وجرّد ، فهذا الخاتم لا يقع في يد أحد إلّا في يد محمّد إذا بعث ؛ فقل له :
إنّ الملأ الأعلى قد اختلفوا في فضلك وفضل الأنبياء قبلك فاختارك الله على
الأنبياء».
ـ قال عفّان : ـ ثمّ
أتيت فانتزعت خاتم سليمان ، فجئت بها إلى رسول اللهصلىاللهعليهوآله ؛ فأخذها رسول الله صلىاللهعليهوآله فأعطاه عليّا عليهالسلام ، فوضعه في إصبعه ، فحضر الطير والجان والناس يشاهدون
ويشهدون ...
فلمّا كانوا في
صلاة الظهر تصوّر جبرئيل بصورة سائل طائف بين الصفوف ، فبيناهم في الركوع ، إذ وقف
السائل من وراء عليّ طالبا ، فأشار عليّ بيده ، فطارت الخاتم إلى السائل ، فضجّت
الملائكة تعجّبا ، فجاء جبرئيل مهنّئا وهو يقول : «أنتم أهل بيت أنعم الله عليكم ،
الذين أذهب عنكم الرجس وطهّركم تطهيرا».
فأخبر النبيّ صلىاللهعليهوآله بذلك عليّا ، فقال عليّ عليهالسلام : «ما نصنع
بنعيم زائل ، وملك
حائل ، ودنيا [في] حلالها حساب ، و [في] حرامها عقاب» . ـ انتهى كلام الغزالي .
وأمثال هذه
الحكايات العجيبة والقصص الغريبة أكثر من أن تحصى ، سيّما عن أئمّتنا المعصومين ،
وخصوصا عن مولانا أمير المؤمنين عليهالسلام ، مثل حديث الغمامة وغيره ، وحديث صاحب الأمر عليهالسلام ومدنه ومملكته وأولاده مشهور .
__________________
فصل [١٧]
اعلم أنّه لو
استقصينا أعمارا طويلة لم نقدر على شرح ما تفضّل الله ـ عزوجل ـ علينا بمعرفته ، وكلّ ما عرفناه قليل نزر بالإضافة إلى
ما عرفه جملة الأولياء والعلماء ، وما عرفوه قليل بالإضافة إلى ما عرفه الأنبياء ،
والملائكة المقرّبون ـ كجبرئيل وإسرافيل وغيرهما ـ صلوات الله عليهم ـ.
ثمّ جميع علوم
الأنبياء والملائكة والجنّ والإنس إذا اضيف إلى علم الله ـ سبحانه وتعالى ـ لم
يستحقّ أن يسمّى علما ، بل هو إلى أن يسمّى دهشا وحيرة وقصورا وعجزا أقرب ؛ فسبحان
من عرّف عباده ما عرّف ، ثمّ قال مخاطبا جميعهم : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ
الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) [١٧ / ٨٥].
فهذا بيان معاقد
الجمل التي يجول فيها فكر المتفكّرين في خلق الله ـ عزوجل ـ وليس فيها فكر في ذات الله ، ولكن تستفاد من الفكر في
الخلق لا محالة معرفة الخالق ، وعظمته ، وجلاله وقدرته ، وكلّما استكثرت من معرفة
عجيب صنع الله كانت معرفتك بجلاله وعظمته أكثر.
وهذا كما أنّك إن
تعظّم عالما بسبب معرفتك بعلمه ، فلا تزال تطّلع على غريبة غريبة من تصنيفه أو
شعره ، فتزداد به معرفة ، وتزداد بحسبه له توقيرا وتعظيما واحتراما ، حتّى أنّ كلّ
كلمة من كلماته وكلّ بيت من أبيات شعره يزيده محلّا في قلبك ، ويستدعي التعظيم له
من نفسك.
فهكذا تأمّل في
خلق الله وتصنيفه وتأليفه ، وكلّ ما في الوجود من
خلق الله وتصنيفه
؛ فالنظر والفكر فيه لا يتناهى أبدا ، وإنّما لكلّ عبد منها بقدر ما رزق.
* * *
فسبحان بديع
السماوات والأرض ،
ما أعظم ما نرى من
خلقك ،
وما أصغر عظيمه في
جنب قدرتك ،
وما أهول ما نرى
من ملكوتك ،
وما أحقر ذلك فيما
غاب عنّا من سلطانك ،
وما أسبغ نعمك في
الدنيا
وما أصغرها في نعم
الآخرة.
* * *
هذا آخر الكلام في
العلم بالله ـ والحمد لله وحده.
* * *
المقصد الثاني
في العلم بالملائكة
(عِبادٌ مُكْرَمُونَ*
لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) [٢١ / ٢٦ ـ ٢٧] (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ
وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) [١٦ / ٥٠] (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا
يَفْتُرُونَ) [٢١ / ٢٠]
__________________
() : أي مقربون.
()
()
[١]
باب الملائكة
المقرّبين
(لَنْ يَسْتَنْكِفَ
الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) [٤ / ١٧٢]
فصل [١]
[الملائكة الكروبيون]
الملائكة المقرّبون
منهم الكروبيّون المهيّمون ، المستغرقون في بحار الأحديّة ، المتحيّرون في
عظمة ربّ العالمين ، المتواجدون في جلال أوّل الأوّلين ، المستهترون بذكر آلائه ،
المتواضعون لجبروته وكبريائه ؛ لا التفات لهم إلى ذواتهم المنوّرة بنور الحقّ ـ فضلا
عن غيرهم ـ لولههم وهيمانهم في جمال الحقّ ـ أبدا سرمدا ـ وكأنّه إليهم اشير في
الحديث حيث قيل : «إنّ لله ملائكة لا يعلمون أنّ الله خلق آدم وذريّته».
__________________
وروى محمّد بن
الحسن الصفّار بإسناده عن مولانا الصادق عليهالسلام أنّه قال : «إنّ الكرّوبيّين قوم من شيعتنا من الخلق
الأوّل ، جعلهم الله خلف العرش لو قسّم نور أحدهم على أهل الأرض لكفاهم».
ـ ثمّ قال : ـ «إنّ
موسى عليهالسلام لمّا أن سئل ربّه ما سأل ، أمر واحدا من الكرّوبيّين
فتجلّى للجبل فجعله دكّا».
أقول : لا منافاة
بين الحديثين عند اولى الألباب ، وإن حملنا الأوّل على الكرّوبيّين ، لأنّ التشيّع
لا يتوقّف على العلم بخلق آدم وذريّته ، كما يظهر عند تفسيرنا الشيعة ـ إن شاء
الله.
فصل [٢]
[الملائكة العقلية]
ومنهم الملائكة
العقليّة الذين أبدعهم الله عزوجل وسائط جوده ورحمته ، وحجب جلاله وعظمته ، وهم مبادئ سلسلة
الموجودات وغاياتها ، ومنتهى أشواق النفوس ونهاياتها.
وقد أشرنا إليهم
فيما سبق ، وذكرنا أنّهم أوّل ما خلق الله ، وأنّ لهم
__________________
أسام متعدّدة
باعتبارات مختلفة ، وأنّ لهم جهتي وحدة وكثرة ، وأنّ كثرتهم بإزاء كثرة المخلوقات
نوعا.
كما روينا عن مولانا زين العابدين عليهالسلام : «إنّ في العرش تمثال جميع ما خلق الله» ، وإنّه تأويل
قوله سبحانه : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ
إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) [١٥ / ٢١].
وكأنّه إليهم اشير
في حديث المعراج حيث قيل :
«أنزل الله العزيز
الجبّار عليه محملا من نور ، فيه أربعون نوعا من أنواع النور ، كانت محدقة حول
العرش ـ عرش الله ـ يغشي أبصار الناظرين ، أما واحد منها فأصفر ، فمن أجل ذلك
اصفرّت الصفرة ؛ وواحد منها أحمر ، فمن أجل ذلك احمرّت الحمرة ؛ وواحد منها أبيض ،
فمن أجل ذلك ابيضّ البياض ، والباقي على قدر ما خلق الله من الأنواع والألوان».
وكذا ما نقلناه عن
بعض الحكماء : «إنّ من وراء هذا العالم سماء وأرضا ...» ـ إلى آخر ما
قال ـ.
وإنّما خلق الله
سبحانه بسبب تراكيب جهاتها ومشاركتها ومناسبتها وهيئاتها النوريّة وأشعّتها العقليّة
ـ من المحبّة واللذّة ، والعزّ والذلّ ، والقهر والانقهار ، والاستغناء والافتقار
، وغير ذلك من المعاني والهيئات ـ امورا في هذا العالم تناسبها من عجائب الترتيبات
ولطائف
__________________
النسب وبدائع
النظم في السماوات والأرضين ، وما فيهما من الأجسام وتوابعها ، وفي عالم النفوس ـ من
العجائب الروحانيّة والغرائب الجسمانيّة من أحوال قواها وكيفيّة تعلقها بالأبدان
وغير ذلك ـ كما اشير إليه في حديث المعراج بقوله : «ومن أجل ذلك اصفرّت الصفرة ...
ومن أجل ذلك احمرّت الحمرة» ـ وما يشبه ذلك.
فصل [٣]
وإذ ليس للملائكة
المقرّبين حجاب ـ لبراءتهم من الغواشي ـ فذواتهم ظاهرة لأنفسهم ، معقولة لهم ؛
وكذا ذوات بعضهم لبعض ؛ وبهم ظهور من دونهم من الموجودات.
فهم إذن انوار
مجرّدة وأشعّة إلهيّة وأضواء قاهرة ؛ وكلّهم أحياء ناطقون ، عالمون ، وعالمهم عالم
القدرة ؛ وللعالي منهم قهر على السافل ، وإشراق وإحاطة ؛ وللسافل عشق إلى العالي ،
ومحبّة له ومشاهدة من دون إحاطة ، لانقهاره عنه (وَاللهُ مِنْ
وَرائِهِمْ مُحِيطٌ) [٨٥ / ٢٠] (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ
عِبادِهِ) [٦ / ٦١].
والكلّ مبتهجون
بالله ـ تعالى ـ وبذواتهم ، لا من حيث هم هم ، بل من حيث كونهم مبتهجين به ،
لأنّهم يعرفون أنفسهم به تعالى ، فلذّتهم ـ أيضا ـ بذاته سبحانه.
وأمّا لذّتهم
بأنفسهم فهي من حيث رأوا أنفسهم عبيدا وخدما له مسخّرين ، فهي ترجع إلى لذّتهم به
، فهم على الدوام في مطالعة ذلك الجمال ، لا يرتدّ إلى أنفسهم طرفهم طرفة عين ،
لاستهلاكهم في ذات الحبيب الأوّل ، لا فرق بينهم وبين حبيبهم ـ كذا قال بعض
المحققين.
[٢]
باب
الملائكة المدبّرين
(فَالْمُدَبِّراتِ
أَمْراً) [٧٩ / ٥]
فصل [١]
الملائكة المدبّرون
هم الروحانيّات المتعلّقة بعالم الأجسام ، على كثرة أجناسها وأنواعها ،
وطبقاتها المتخالفة المتفاوتة حسب تخالف طبقات الأجسام السماويّة والأرضيّة
وتفاوتها ـ كما مرّت الإشارة إليهم.
ونسبتهم إلى النفس
الكليّة ـ المسمّاة ب «اللوح» ـ كنسبة سائر العقول والأرواح إلى العقل الأوّل
المسمّى ب «القلم» ؛ وإليهم الإشارة في كلمات الأنبياء الماضين عليهمالسلام «إنّ لكلّ شيء
ملكا».
__________________
وعن النبي صلىاللهعليهوآله أنّه قال في كثرة ملائكة السماء : «أطّت السماء وحقّ لها أن تئطّ ، ما فيها موضع قدم إلّا وفيه ملك ساجد أو راكع».
وقال في كثرة
ملائكة الأرض : «ما من قطرة تنزل من السماء إلّا ومعها ملك ، حتّى يضعها
موضعها».
وقد يكون الواحد
منهم ذا قوى متعدّدة يفعل بكل قوّة فعلا من الأفاعيل ، وتلك القوى ملائكة اخرى مسخّرة
تحت سلطانه ـ كأنّها أجزاؤه وجوارحه وأجنحته ـ وهو جهة وحدتها والمشتمل عليها
كلّها.
وذلك لأنّ الملائكة كلّهم وحدانيّة الصفات ، ليس فيهم خلط
وتركيب ـ البتة ـ فلا يكون لكلّ واحد منهم بجهة واحدة وقوّة واحدة ـ إلّا فعل واحد
ـ كما اشير إلى ذلك بقوله سبحانه حكاية عنهم : (وَما مِنَّا إِلَّا
لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) [٣٧ / ١٦٤].
فلذلك ليس لهم
تنافس وتقابل ، بل مثال كلّ واحد في مرتبته
__________________
وفعله مثال
الحواسّ ، فإنّ البصر لا يزاحم السمع في إدراك الأصوات ، ولا الشمّ يزاحمهما ، ولا
هما يزاحمان الشمّ ، بل هي ـ أيضا ـ نوع منهم كما سنشير إليه.
وهذا بخلاف اليد
والرجل ، فإنّك قد تبطش بأصابع الرجل ـ بطشا ضعيفا ـ وقد تضرب غيرك برأسك ، فتزاحم
بذينك اليد التي هي آلة البطش والضرب ؛ وكذلك الإنسان الذي يتولّى بنفسه الأفاعيل
المختلفة ، فإنّ هذا نوع من العدول والاعوجاج عن العدل ، سببه اختلاف صفات الإنسان
واختلاف دواعيه ، فإنّه ليس وحدانيّ الصفة ، فلم يكن وحدانيّ الفعل ؛ فلذلك تراه
يطيع الله تارة ، ويعصيه اخرى ، لاختلاف دواعيه وصفاته.
وذلك غير ممكن في
طباع الملائكة ، بل هم مجبولون على الطاعة لا مجال للمعصية في حقّهم ، فلا جرم (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ
وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) [٦٦ / ٦] (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا
يَفْتُرُونَ) [٢١ / ٢٠] ،
والراكع منهم راكع أبدا ، والساجد منهم ساجد أبدا ، والقائم منهم قائم أبدا.
وطاعتهم لله ـ عزوجل ـ من حيث لا مجال للمخالفة فيهم يمكن أن يشبه بطاعة أطرافك
لك ، فإنّك مهما جزمت الإرادة بفتح الأجفان لم يكن للجفن الصحيح تردّد ولا اختلاف
في طاعتك مرّة ومعصيتك اخرى ، بل كأنّه منتظر لأمرك ونهيك ، ينفتح وينطبق متّصلا
بإشارتك ، فهذا يشبهه من وجه ، ولكن يخالفه من وجه ، إذ الجفن لا علم له بما يصدر
عنه من الحركة ـ فتحا وإطباقا ـ والملائكة أحياء عالمون بما يفعلون.
فصل [٢]
[الملائكة الموكلة بالإنسان]
لمّا كانت الأجسام
الأرضيّة منحصرة في الجماد والنبات والحيوان والإنسان وكلّ لاحق من الأربعة مشتمل
على سابقه وزيادة أمر ، فانّ النبات جماد مع زيادة معنى ـ لحفظه التركيب مع قوّة
نامية ـ والحيوان نبات مع زيادة معنى ـ لنموّه في الأقطار مع حسّ وحركة ـ والإنسان
حيوان مع زيادة معنى ـ لإحساسه وحركته مع نطق وإدراك امور كليّة ـ فالملائكة
الموكّلة بكلّ منها موجودة في الإنسان ، مطيعة إيّاه ، خاضعة له ، لاشتماله على
النفوس الأربع كلّها.
لست أقول : «إنّه
ذو أربع أنفس» ؛ بل أقول : «إنّ نفسه الواحدة تفعل أفاعيل الأنفس الأربع باستخدام
الملائكة ، لكمالها ولتماميّتها وشرفها وقوّتها بالإضافة إلى ما دونها».
فالملائكة
المدبّرة الحافظة لبينته : منها ما تعلّق به من حيث جسميّته ونموّه ويسمّى ب «القوى».
ومنها ما تعلّق به
من جهة حيوانيّته ، ويسمّى ب «الحواسّ».
ومنها ما تعلّق به
من حيث إنسانيّته ويسمّى ب «الأرواح البشريّة»
ومنها ما تعلّق به
من حيث أعماله وأخلاقه وخواطره ويسمّى ب «الكرام الكاتبين» و «الملكات» و «مبادئ
اللمم».
ومنها ما تعلّق به
من جهة حفظه عن الشرور والآفات ، ويسمّى ب «المعقّبات».
إلى غير ذلك من
الأنواع وأساميها ، ويتعدّد كلّ منها حسب تعدّد الأفاعيل المتعلّقة بذلك النوع.
وكذلك المدبّرة
للأجسام العلويّة وغيرها إنّما تعدّدها بتعداد الأفاعيل التي فيها ، لما دريت من
وحدة فعل الملائكة.
ولنشر إلى ما
يتعلّق بالنبات والحيوان والإنسان من الملائكة والشياطين إشارة مقنعة ـ ومن الله
التأييد ـ :
فصل
[٣]
[الملائكة الموكلة بالنبات]
أمّا النبات فلا
بدّ فيه من ملك يزيد في أقطاره الثلاثة على نسبة لائقة محفوظة ، إلى أن يبلغ إلى
كمال النشوء ، ومن ملك يقطع فضلة من مادّته ليكون مبدءا لشخص آخر ، ولمّا توقّف
فعل الأوّل على التغذّي فلا بدّ من سبعة أملاك اخر لا أقل يخدمونه في هذا الأمر.
أوّلهم عملا : ملك
لا بدّ منه لجذب الغذاء إلى جوار الجسم المتغذي وذلك لأنّ الغذاء لا يمكن أن يصل
بنفسه إلى جميع الأطراف ، لأنّه لا محالة إمّا أن يكون ثقيلا ، فلا يصل إلى
الأطراف العالية ، أو خفيفا فلا يصل إلى الأطراف السافلة.
والثاني لا بدّ
منه لإمساك الغذاء في جواره ، وذلك لأنّ الغذاء بعيد المشابهة ـ أوّلا ـ فلا بدّ
فيه من الاستحالة حتّى يحصل الشبه ،
__________________
والاستحالة حركة ،
والحركة إنّما تكون في زمان ، فلا بدّ من زمان في مثله تحصل الاستحالة والتشبّه.
والثالث لا بدّ
منه لنزع الصورة عن الغذاء وخلعها ، وذلك لأنّ تشبيه الغذاء بالعضو إنّما يحصل إذا
قرب استعداده لحصول الصورة العضويّة فلا بدّ من ملك يجعله قريب الاستعداد لذلك.
والرابع لا بدّ
منه ليكسو الغذاء صورة العضو ، فإنّ إفادة الصورة غير نزعها ، وكونها غير فسادها.
غير فسادها والخامس لا بدّ منه ليدفع ما لا يقبل المشابهة من الغذاء وإلّا لأدّى
إلى السداد وثقل البدن ، بل الفساد والإفساد سيّما في الحيوان.
والسادس لا بدّ
منه ليلصق ما اكتسب بصورة العضو بالعضو ، حتّى لا يكون منفصلا.
والسابع لا بدّ
منه ليراعى المقادير في الإلصاق ؛ ويسمّى هؤلاء الأملاك في عرف الجمهور بالقوى.
فالذي يزيد في
الأقطار يسمّى ب «القوّة النامية» ، والقاطع للفضلة ب «القوّة المولّدة» ،
والخوادم ب «الجاذبة» و «الماسكة» و «الهاضمة» و «الدافعة» وكلّها ب «الغاذية».
* * *
فصل
[٤]
[الملائكة الغاذية]
وهؤلاء الأملاك
دائما في شغلهم ، لا يمسكون عن أفعالهم طرفة عين ، فإنّ الشجر ـ مثلا ـ إذا سقى
الماء ، أو الحيوان أكل الغذاء فذلك ليس بغذاء ولا أكل على الحقيقة ، وإنّما مثلها
كمثل الجابي الجامع للمال في خزانته ـ وهي المعدة في الحيوان وما يجري مجراها في
النبات ـ فاذا اخترن ما فيهما وأمسكا عن السقي والأكل ، فحينئذ يتولّاه الملائكة
بالتدبير ، وتحيله من حال إلى حال ، وتغذيهما به في كلّ آن ونفس ؛ فهما لا يزالان
في غذاء دائم.
ولو لا ذلك لبطلت
الحكمة في نشأة كلّ متغذّ ؛ والله حكيم ، فإذا خلت الخزانة حرّكت الملائكة الجابي
إلى تحصيل ما يملؤها به ، فاذا لم يوجد غذاء يحلّلون الموادّ والفضلات التي في
البدن ؛ ولا يزال الأمر كذلك أبدا.
فهذه صورة الغذاء
في كلّ نفس ، فكلّ نفس اكلها دائم في هذه النشأة ـ أيضا ـ كما في الآخرة.
* * *
__________________
فصل
[٥]
[الملائكة المغيرة والمصورة]
ويخدم المولّد
ملكان : أحدهما يجعل فضلة الهضم الأخير منيّا أو ما يجرى مجراه من بيضة أو بذر ،
والثاني يهيّئ كلّ جزء من أجزاء تلك المادة لقبول صورة مخصوصة من واهب الصور ، وهو
إنّما يوجد في تلك المادّة المفروزة عند كونها في الرحم أو ما يجرى مجراه خاصّة ،
وهذان الملكان ربما اجتمعا في شخص واحد ـ كما في أكثر النباتات ـ وربما افترقا في شخصين
، ذكر وانثى ـ كما في أكثر الحيوانات ـ وإذا اجتمعا حصل التوليد.
ويسمّى الأوّل عند
الجمهور بالمغيّرة ، والثاني بالمصوّرة.
أمّا واهب الصور
فهو الله ـ سبحانه ـ بتوسّط الملك العقلي الذي هو ربّ نوع النفس النباتيّة المخدوم
لهذه الأملاك جميعا ، (هُوَ الَّذِي
يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) [٣ / ٦] (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ* أَأَنْتُمْ
تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ) [٥٦ / ٥٨ ـ ٥٩].
وعن النبي صلىاللهعليهوآله في وصف ملك الأرحام : «إنّه يدخل الرحم ، فيأخذ النطفة في يده ، ثمّ يصوّرها
جسدا ، فيقول يا ربّ ذكر أم انثى؟
__________________
سوىّ أم معوج؟
فيقول الله ما شاء ، ويخلق الملك».
وفي لفظ آخر : «ويصوّر
الملك ثمّ ينفخ فيها الروح بالسعادة أو بالشقاوة». وقد مرّ حديث آخر في هذا الباب
عن مولانا الباقر عليهالسلام.
فصل [٦]
[القوى المحركة والمدركة]
وأمّا الحيوان فلا
بدّ فيه من محرّك ومدرك.
والمحرّك : منه
باعث على الحركة ، ومنه فاعل لها ؛ والباعث : منه باعث على جلب النافع طلبا للذّة
، ومنه حامل على دفع الضارّ ـ طلبا للانتقام ـ.
والمدرك : منه
ظاهر مشهور ، ومنه باطن مستور.
أمّا الظاهر :
فلامس وذائق وشامّ وسامع وباصر.
وأمّا الباطن :
فمدرك للصور المحسوسة دفعة وحافظ لها ، ومدرك للمعاني الجزئيّة وحافظ لها ،
ومتصرّف في الأمرين بالتركيب والتحليل.
وبالأوّل يشاهد
النقطة الجوالة بسرعة دائرة ، والقطرة النازلة خطّا مستقيما ، مع أنّ المشاهدة
بالبصر ليست إلّا للمقابل ، وما قابل منهما إلّا نقطة وقطرة.
وبالثاني يحكم على
شيء شاهده ثمّ ذهل عنه ثمّ شاهده مرّة اخرى : بأنّه هو الذي شاهده من قبل.
وبالثالث يدرك
الصفات الغير المحسوسة الموجودة في المحسوسات ،
ويحكم أحكاما
جزئيّة ، كإدراك السنّور معنى في الفأر يحمله على الطلب ، وإدراك الفأر معنى في
السنّور يوجب الهرب ؛ وهذا في الإنسان ينازع عقله ، لأنّه قوّة جرمانيّة لا يعترف
بما يعترف به العقل ، ولهذا ينفر الإنسان من البيات في بيت فيه ميّت.
والرابع نسبته إلى
الثالث كنسبة الثاني إلى الأوّل.
وبالخامس يجمع
أجزاء أنواع مختلفة ، كجمعها حيوانا من رأس إنسان وعنق بعير وظهر فيل ـ مثلا ـ ويفرّق
أجزاء نوع واحد ـ كإنسان بلا رأس ولا يسكن عن فعله ـ لا نوما ولا يقظة ـ ويحاكي
للمدركات والهيئات المزاجيّة ، وينتقل من الشيء إلى ضدّه وشبيهه ، ويسمّى هؤلاء
كلّها ـ أيضا ـ ب «القوى».
ففاعل الحركة ب «القوّة
المحرّكة» والباعث على المنفعة ب «الشهويّة». والدافع للمضرّة ب «الغضبيّة».
والمدركات الظاهرة ب «اللامسة» ، و «الذائقة» ، و «الشامّة» ، و «السامعة» ، و «الباصرة».
والباطنة ب ـ «الحسّ المشترك» ، و «المصوّرة» ، و «الواهمة» ، و «الحافظة» و «المتصرّفة».
وربّما يقال
للمصوّرة : «الخيال» ، وللمتصرّفة عند استعمال النفس إيّاها بواسطة الواهمة : «المتخيّلة»
، وعند استعمالها إيّاها بواسطة القوّة العقليّة ـ الآتية ذكرها ـ : «المفكّرة».
وربّما يسمّى
الثلاث الأخيرة منها ب «المسترجعة» واولاها ب «الذاكرة» و «المتصرّفة» و «المتذكّرة»
، كأنّها يد روحانيّة للنفس ، كما أنّ الواهمة عين روحانيّة لها.
فسبحان خالق البشر
، وحمدا لواهب القوى والقدر.
فصل
[٧]
[العقل العملي والنظري]
وأمّا الإنسان بما
هو إنسان فله في ذاته ـ باعتبار ما يخصّه من القبول عمّا فوقه والفعل فيما دونه ـ ملكان
: علّام وفعّال.
فبالأوّل يدرك
التصوّرات والتصديقات ، ويعتقد الحقّ والباطل فيما يعقل ويدرك ، ويسمّى ب «العقل
النظري».
وبالثاني يستنبط
الصناعات الإنسانيّة ويعتقد الجميل والقبيح فيما يفعل ويترك ، ويسمّى ب «العقل
العملي» ، وهو الذي يستعمل الفكر والرويّة في الأفعال والصنائع مختارا للخير ـ أو
ما يظنّ خيرا ـ وله الجربزة والبلاهة والتوسّط بينهما المسمّى ب «الحكمة الخلقيّة».
وكلّ ما ورد في
الأخبار من مدح العقل والعاقل فهو راجع إليهما وإلى صاحبهما ، كقول مولانا الصادق عليهالسلام «العقل دليل
المؤمن».
وفي الحديث القدسي
: «ما خلقت خلقا أحسن منك ، إيّاك آمر وإيّاك أنهي ، وإيّاك اثيب وإيّاك
اعاقب».
وعن مولانا أمير
المؤمنين عليهالسلام : «بالعقل استخرج غور الحكمة ،
__________________
وبالحكمة استخرج
غور العقل ، وبحسن السياسة يكون الأدب الصالح».
وكان عليهالسلام يقول : «التفكّر حياة قلب البصير ، كما يمشي الماشي في الظلمات بالنور
بحسن التخلّص وقلّة التربّص».
ـ إلى غير ذلك من
الروايات.
فصل
[٨]
[النفوس أربعة]
روي عن كميل بن
زياد أنّه قال : سألت مولانا أمير المؤمنين عليّا عليه الصلاة والسلام ، فقلت : «يا
أمير المؤمنين اريد أن تعرّفني نفسي».
قال : «يا كميل ـ وأيّ
الأنفس تريد أن اعرّفك»؟
قلت : «يا مولاي ـ
هل هي إلّا نفس واحدة»؟
قال : «يا كميل ـ إنّما
هي أربعة : النامية النباتيّة ، والحسيّة
__________________
الحيوانيّة ،
والناطقة القدسيّة ، والكليّة الإلهيّة ؛ ولكلّ واحدة من هذه خمس قوى وخاصيتان:
فالناميّة
النباتيّة لها خمس قوى : ماسكة ، وجاذبة ، وهاضمة ، ودافعة ، ومربيّة. ولها
خاصيّتان : الزيادة والنقصان ؛ وانبعاثها من الكبد.
والحسيّة
الحيوانيّة لها خمس قوى : سمع ، وبصر ، وشمّ ، وذوق ، ولمس. ولها خاصيّتان : الرضا
والغضب ؛ وانبعاثها من القلب.
والناطقة القدسيّة
لها خمس قوى : فكر ، وذكر ، وعلم ، وحلم ، ونباهة. وليس لها انبعاث ، وهي أشبه
الأشياء بالنفوس الملكيّة ولها خاصيّتان : النزاهة والحكمة.
والكليّة الإلهيّة
لها خمس قوى : بقاء في فناء ، ونعيم في شقاء ، وعزّ في ذلّ ، وفقر في غناء ، وصبر
في بلاء ؛ ولها خاصيّتان : الرضا ، والتسليم ؛ وهذه التي هي مبدؤها من الله وإليه
تعود ، قال الله ـ تعالى ـ : (وَنَفَخْتُ فِيهِ
مِنْ رُوحِي) [١٥ / ٢٩] وقال ـ تعالى
ـ : (يا أَيَّتُهَا
النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ* ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً) [٨٩ / ٢٧ ـ ٢٨].
والعقل وسط الكلّ.
__________________
[٣]
باب
الأرواح البشريّة
(وَأَيَّدَهُمْ
بِرُوحٍ مِنْهُ) [٥٨ / ٢٢]
فصل
[١]
الأرواح البشريّة
هي الملائكة المدبّرة لبنية الإنسان ـ كما ذكرناه مفصّلا ـ وجملتها ما في حديث
كميل المذكور آنفا.
وإنّما سمّيت
بالأرواح لإعطائها الحياة ، فإنّ للإنسان بكلّ منها حياة غير حياته التى تكون
بالآخر ، وتسميتها بالأرواح إنّما تكون في الكتاب والسنّة ، ولا سيّما في كلمات
أهل البيت عليهمالسلام :
روى محمد بن الحسن
الصفّار رحمهالله في كتاب بصائر الدرجات بإسناده عن جابر ـ قال : ـ سألت أبا جعفر عليهالسلام عن الروح؟ قال :
__________________
«يا جابر ـ إنّ
الله خلق الخلق على ثلاث طبقات ، وأنزلهم ثلاث منازل ، وبيّن ذلك في كتابه حيث قال
: (فَأَصْحابُ
الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ* وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ
الْمَشْئَمَةِ* وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ* أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) [٥٦ / ٨ ـ ١١].
فأمّا ما ذكره من
أمر السابقين : فهم أنبياء مرسلون وغير مرسلين ، جعل الله فيهم خمسة أرواح : روح
القدس ، وروح الإيمان ، وروح القوّة ، وروح الشهوة ، وروح البدن ؛ وبيّن ذلك في
كتابه حيث قال : (تِلْكَ الرُّسُلُ
فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ
بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ
بِرُوحِ الْقُدُسِ) [٢ / ٢٥٣] ؛ ثمّ
قال في جميعهم : (وَأَيَّدَهُمْ
بِرُوحٍ مِنْهُ) [٥٨ / ٢٢].
فبروح القدس بعثوا
أنبياء مرسلين [وغير مرسلين] وبروح القدس علموا جميع الأشياء ، وبروح الإيمان عبدوا
الله ولم يشركوا به شيئا ، وبروح القوّة جاهدوا عدوّهم وعالجوا معايشهم ، وبروح
الشهوة أصابوا لذّة الطعام ونكحوا الحلال من النساء ، وبروح البدن يدبّ ويدرج.
وأمّا ما ذكره من
أصحاب الميمنة : فهم المؤمنون حقّا ، جعل فيهم أربعة أرواح : روح الإيمان ، وروح
القوّة ، وروح الشهوة ، وروح البدن ؛ ولا يزال العبد مستكملا هذه الأرواح الأربعة
حتّى يهمّ بالخطيئة ، فإذا همّ بالخطيئة زيّن له روح الشهوة ، وشجّعه روح القوّة ،
وقاده روح البدن حتّى يوقعه في تلك الخطيئة ؛ فاذا لامس الخطيئة
__________________
انتقص روح الإيمان
، وانتقص الإيمان منه ؛ فإن تاب ، الله عليه.
وقد تأتى على
العبد تارات ينتقص منه بعض هذه الأربعة ، وذلك قول الله : (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ
الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً) [١٦ / ٧٠] ؛
فينتقص منه روح القوّة ، ولا يستطيع مجاهدة العدوّ ولا معالجة المعيشة ، وينتقص
منه روح الشهوة ، فلو مرّت به أحسن بنات آدم لم يحن إليها ؛ ويبقى فيه روح الإيمان
وروح البدن ؛ فبروح الإيمان يعبد الله ، وبروح البدن يدبّ ويدرج ، حتّى يأتيه ملك
الموت.
وأمّا ما ذكره من
أصحاب المشئمة فهم أهل الكتاب ، قال الله تعالى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ
يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ
لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ* الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا
تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) [٢ / ١٤٦ ـ ١٤٧]
عرفوا رسول الله والوصيّ من بعده ، وكتموا ما عرفوا من الحقّ بغيا وحسدا ، فسلبهم
الله روح الإيمان ، وجعل لهم ثلاثة أرواح : روح القوّة ، وروح الشهوة ، وروح البدن
؛ ثمّ أضافهم إلى الأنعام فقال : (إِنْ هُمْ إِلَّا
كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) [٢٥ / ٤٤] ؛ لأنّ
الدابّة ـ يا جابر ـ إنّما تحمل بروح القوّة ، وتعتلف بروح الشهوة ، وتسير بروح
البدن».
وبإسناده عن امير
المؤمنين عليهالسلام ما يقرب من هذا الحديث .
__________________
ورواه ـ أيضا ـ محمد
بن يعقوب ـ رحمهالله ـ في الكافى عنه عليهالسلام
وفي رواية اخرى
لجابر : قال عليهالسلام في المقربين :
«فبروح القدس ـ يا
جابر ـ عرفوا ما تحت العرش إلى ما تحت الثرى ـ ثمّ قال : ـ يا جابر ، إنّ هذه
الأربعة الأرواح تصيبها الحدثان إلّا روح القدس ، فإنّها لا تلهو ولا تلعب».
وعن مولانا الصادق
عليهالسلام ما يقرب منه ، وفي آخره : «وروح الإيمان يلازم الجسد ما لم
يعمل بكبيرة ، فاذا عمل بكبيرة فارقه الروح ، وروح القدس من سكن فيه فإنّه لا يعمل
بكبيرة أبدا».
وفي الحديث النبوى
صلىاللهعليهوآله : «من قارف ذنبا فارقه عقل لم يعد إليه أبدا».
وفيه أيضا : «إذا زنا الرجل فارقه روح الإيمان». قال مولانا
__________________
الباقر عليهالسلام : «هو قوله تعالى : (وَأَيَّدَهُمْ
بِرُوحٍ مِنْهُ) [٥٨ / ٢٢] ، ذاك
الّذي يفارقه».
وعن مولانا الكاظم
عليهالسلام ـ قال ـ : «إنّ الله أيّد المؤمن بروح منه تحضره في كل وقت يحسن
فيه ويتّقي ، وتغيب عنه في كلّ وقت يذنب فيه ويعتدي ، فهي معه تهتزّ سرورا عند
إحسانه ، وتسيخ في الثرى عند إساءته ...» ـ الحديث. والروايات في هذا الباب كثيرة.
فصل [٢]
[الأوصياء محدّثون]
روي في بصائر
الدرجات بإسناده عن أبي جعفر الثاني عليهالسلام ، قال : قال أبو جعفر الباقر عليهالسلام : «إنّ الأوصياء محدّثون ، يحدّثهم روح القدس ولا يرونه ،
وكان عليّعليهالسلام يعرض على روح القدس ما يسأل عنه ، فيوجس في نفسه أن قد
اصيب بالجواب ، فيخبر فيكون كما قال».
وبإسناده عن مولانا الصادق عليهالسلام أنّه سئل : «بما تحكمون إذا حكمتم»؟ فقال : «بحكم الله ،
وحكم داود ، وحكم محمّد ؛ فاذا ورد علينا ما ليس في كتاب عليّ تلقّانا به روح
القدس أو ألهمنا الله إلهاما».
__________________
وبإسناده الصحيح عن أبي بصير ، ـ قال : ـ سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن قول الله ـ تبارك وتعالى ـ : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً
مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) [٤٢ / ٥٢] قال : «خلق
من خلق الله أعظم من جبرئيل وميكائيل ، كان مع رسول الله صلىاللهعليهوآله يخبره ويسدّده ، وهو مع الأئمّة من بعده».
وفى رواية اخرى ـ قال : ـ «ملك منذ أنزل الله ذلك الملك لم يصعد إلى
السماء ، كان مع رسول الله وهو مع الأئمّة ، يسدّدهم».
وفي رواية اخرى صحيحة عن أبي جعفر عليهالسلام ـ قال : ـ «لقد أنزل الله ذلك الروح على نبيّه وما صعد إلى
السماء منذ أنزل ، وإنّه لفينا».
وبإسناده الصحيح عن إبراهيم بن عمر ـ قال : ـ قلت لأبي
__________________
عبد الله عليهالسلام : «أخبرني عن العلم الذي تعلمونه؟ أهو شيء تعلمونه من
أفواه الرجال ـ بعضكم من بعض ـ أو شيء مكتوب عندكم من رسول الله صلىاللهعليهوآله»؟ ـ قال ـ :
فقال : «الأمر
أعظم من ذلك ، أما سمعت قول الله ـ عزوجل ـ في كتابه : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا
إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) [٤٢ / ٥٢]»؟
ـ قال : ـ قلت : «بلى».
قال : «فلمّا
أعطاه الله تلك الروح علم بها ، وكذلك هي إذا انتهت إلى عبد علم بها العلم والفهم»
ـ تعرّض بنفسه عليهالسلام ـ.
وفي رواية اخرى : «وهي الروح التي يعطيها الله من يشاء ، فإذا أعطاها الله
عبدا علّمه الفهم والعلم».
وبإسناده الصحيح عن هشام بن سالم ، قال : سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول (يَسْئَلُونَكَ عَنِ
الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) [١٧ / ٨٥] قال : «خلق
أعظم من جبرئيل وميكائيل ، لم يكن مع أحد ممّن مضى غير محمد صلىاللهعليهوآله ، وهو مع الأئمّة يوفّقهم ويسدّدهم ؛ وليس كلّما طلب وجد».
وفي رواية اخرى
صحيحة قال : «ملك أعظم من جبرئيل وميكائيل ...» ـ الحديث.
__________________
وفي لفظ آخر : «وهو من الملكوت».
وفي رواية اخرى في هذه الآية قال : «إنّ الله تبارك وتعالى أحد وصمد ،
والصمد: الذي ليس له جوف ؛ وإنّما الروح خلق من خلقه له بصر وقوّة وتأييد ، يجعله الله في قلوب الرسل والمؤمنين».
وبإسناده عن أبي بصير ، عن أبي جعفر عليهالسلام ـ قال : ـ سألته عن قول اللهعزوجل: (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ
بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) [١٦ / ٢] فقال :
«جبرئيل الذي نزل على الأنبياء ، والروح يكون معهم ومع الأوصياء لا يفارقهم ،
يفقّههم ويسدّدهم من عند الله ...». ـ الحديث.
وبإسناده عن أبي بصير ـ قال : ـ كنت مع أبي عبد الله عليهالسلام ، فذكر شيئا من أمر الإمام إذا ولد ، قال : «استوجب زيادة
الروح في ليلة القدر».
__________________
فقلت : «جعلت فداك
ـ أليس الروح جبرئيل»؟
فقال : «جبرئيل من
الملائكة ، والروح خلق أعظم من الملائكة ؛ أليس الله يقول : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ) [٩٧ / ٣]»؟
فصل [٣]
قال بعض العلماء في بيان مراتب الأرواح البشريّة النوريّة :
إنّ
الأول منها : الروح الحسّاس وهو الذي يتلقّى ما تورده الحواسّ الخمس ، وكأنّه أصل الروح
الحيواني وأوله ، إذ به يصير الحيوان حيوانا ، وهو موجود للصبيّ الرضيع.
الثاني
: الروح الخيالي ،
وهو الذي يستثبت ما أورده الحواسّ ويحفظ [ه] مخزونا عنده ، ليعرضه على الروح
العقلي الذي فوقه عند الحاجة إليه ، وهذا لا يوجد للصبيّ الرضيع في بداية نشوءه ،
ولذلك يولع بالشيء ليأخذه ، فإذا غاب عنه فينساه ولا تنازعه نفسه إليه ، إلى أن
يكبر قليلا فيصير بحيث إذا غيّب عنه بكى وطلب ، لبقاء صورته محفوظة في خياله.
وهذا قد وجد لبعض
الحيوانات دون بعض ، ولا يوجد للفراش المتهافت على النار ، لأنّه يقصد النار
فلشغفه بضياء النار ، فيظنّ أنّ السراج كوّة مفتوحة إلى موضع الضياء ، فيلقي نفسه
فيتأذّى به ، لكنّه إذا جاوزه وحصل في الظلمة عاوده مرّة
__________________
بعد مرّة ، ولو
كان له الروح الحافظ المستثبت لما أدّاه الحسّ إليه من الألم لما عاوده مرّة بعد
أن تضرّر مرّة به ؛ فالكلب إذا ضرب مرّة بخشبة ، فإذا رأى الخشبة بعد ذلك من بعد
هرب.
الثالث : الروح العقلي ، الذي تدرك به المعاني الخارجة عن الحسّ
والخيال وهو الجوهر الإنسي الخاصّ ، ولا يوجد للبهائم ولا للصبيان ومدركاته
المعارف الضروريّة الكليّة.
واعلم أنّ في قلب الإنسان عينا ، هذه صفة كمالها ، وهي [التي]
يعبّر عنها تارة ب «العقل» ، وتارة ب «الروح» ، وتارة ب «النفس الإنساني». ودع عنك
العبارات ... ونعني بها المعنى الذي يتميّز به العاقل عن الطفل الرضيع ، وعن
البهيمة وعن المجنون ....
فالعقل يدرك غيره
ويدرك نفسه ، ويدرك صفاته ، إذ يدرك نفسه عالما وقادرا ، ويدرك علم نفسه ، ويدرك
علمه بعلم نفسه ... إلى غير نهاية ؛ فهذه خاصيّة لا تتصوّر أن تدرك بآلة الأجسام
بل الحقائق كلّها لا تحتجب عن العقل ...
وأمّا حجاب العقل
ـ حيث يحجب من نفسه لنفسه بسبب صفات هي مقارنة له ـ تضاهي حجاب العين من نفسه عند
تغميض الأجفان ... وله حواسّ خمس في الظاهر جواسيسه وكلّها بأخسّ مراتبه لأنّ
المسموعات والمبصرات والمشمومات والمذوقات والملموسات ـ التي مدركات الحواسّ الخمس
__________________
الظاهرة ـ أعراض
الأجسام ، والأجسام أخسّ أقسام الموجودات ؛ وله في الباطن جواسيس سواها ـ من خيال
ووهم وذكر وفكر وحفظ.
فإن قلت : نرى العقلاء يغلطون في نظرهم؟
فاعلم أنّ فيهم
خيالات وأوهاما واعتقادات يظنّون أحكامها أحكام العقل ، فالغلط منسوب إليها ...
وأمّا العقل إذا تجرّد عن غشاوة الوهم والخيال لم يتصوّر أن يغلط ؛ بل رأى الأشياء
كما هي ، وفي تجريده عسر عظيم ؛ وإنّما يكمل تجرّده عن هذه النوازع بعد الموت ...
وعنده يقال (فَكَشَفْنا عَنْكَ
غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ...) [٥٠ / ٢٢].
الرابع
:
الروح الفكري وهو
الذي يأخذ المعارف العقليّة المحضة فيوقع بينها تأليفات وازدواجات ويستنتج منها
معارف شريفة ، ثمّ إذا استفاد نتيجتين ـ مثلا ـ ألّف بينهما مرّة اخرى واستفاد
نتيجة اخرى ، ولا يزال يتزايد كذلك إلى غير النهاية.
الخامس
: الروح القدسي ،
الذي يختصّ به الأنبياء وبعض الأولياء ، ومنه تتجلّى لوائح الغيب وأحكام الآخرة ،
وجملة من معارف ملكوت السماوات والأرض ، بل من المعارف الربانيّة التي يقصر دونها
الروح العقلي والفكري ، وإليه
__________________
الإشارة بقوله
تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا
إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ
وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) ـ الآية ـ [٤٢ / ٥٢].
ولا تبعد ـ أيها
العاكف في عالم العقل ـ أن يكون وراء العقل طورا آخر ، يظهر فيه ما لا يظهر في
عالم العقل ، كما لا يبعد كون العقل طورا وراء التمييز والإحساس ، تنكشف فيه غرائب
وعجائب يقصر عنها الإحساس والتمييز ـ ولا تجعل أقصى الكمال وقفا على نفسك.
وان أردت مثالا
مما نشاهده من جملة خواصّ بعض البشر ، فانظر إلى ذوق الشعر ، كيف يختصّ به قوم من
الناس ـ وهو نوع إحساس وإدراك ـ ويحرم عنه بعضهم ، حتّى لا تتميّز عندهم الألحان
الموزونة من المنزحفة . وانظر كيف عظمت قوّة الذوق في طائفة حتّى استخرجوا بها
الموسيقي والأغاني والأوتار وصنوف الدستانات ـ التي منها المحزن ، ومنها المطرب ،
ومنها المنوّم ، ومنها المضحك ، ومنها المجنّن ، ومنها القاتل ، ومنها الموجب
للغشي ؛ وإنّما تقوي هذه الآثار فيمن له أصل الذوق ، وأمّا العاطل عن خاصيّة الذوق
،
__________________
فيشارك في سماع
الصوت وتضعف فيه هذه الآثار ـ وهو يتعجّب من صاحب الوجد والغشي ـ ولو اجتمع
العقلاء كلّهم من أرباب الذوق على تفهيمه معنى الذوق لم يقدروا عليه.
فهذا مثال في أمر
خسيس ، لكنّه قريب إلى فهمك ، فقس به الذوق الخاصّ النبويّ ، واجتهد أن تصير من
أهل الذوق بشيء من ذلك الروح ، فإنّ للأولياء منه حظّا وافرا ؛ فإنّ لم تقدر
فاجتهد أن تصير ... من أهل العلم بها ، فإن لم تقدر فلا أقلّ من أن تكون من أهل
الإيمان بها. و (يَرْفَعِ اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) [٥٨ / ١١].
والعلم فوق
الإيمان ، والذوق فوق العلم ؛ فالذوق وجدان ، والعلم قياس وعرفان ، والإيمان قبول
مجرّد بالتقليد وحسن الظنّ بأهل الوجدان أو بأهل العرفان.
فإذا عرفت هذه
الأرواح الخمسة فاعلم أنّها بجملتها أنوار إذ بها تظهر أصناف الموجودات ، والحسّي
والخياليّ منها ، وإن كان يشارك البهائم في جنسها لكنّ الذي للإنسان منه نمط آخر
أشرف وأعلى ، وخلق الإنسان لأجل غرض أجلّ وأسمى ، وأمّا الحيوانات فلم يخلق لها
إلّا لتكون آلتها في طلب غذائها في تسخّرها للآدميّ ، وإنما خلق للآدميّ لتكون
شبكة له يقتنص بها من العالم الأسفل مبادئ المعارف الدينيّة الشريفة ، إذ الإنسان
إذا أدرك بالحسّ شخصا معيّنا اقتبس عقله منه معنى عامّا مطلقا».
[٤]
باب
المعقّبات والشياطين
(لَهُ مُعَقِّباتٌ
مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) [١٣ / ١١] وفي
قراءة أهل البيت عليهمالسلام : بأمر الله.
فصل [١]
قيل في تفسير المعقّبات : إنّها الملائكة تتعاقبون ، تعقّب
ملائكة الليل ملائكة النهار ، وملائكة النهار ملائكة الليل ؛ وهم الحفظة ، يحفظون
على العبد عمله.
وعن أئمّتنا عليهمالسلام : إنّهم أربعة أملاك ، يجتمعون عند صلاة الفجر ، وهو معنى
قوله تعالى : (إِنَّ قُرْآنَ
الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً)
[١٧ / ٧٨]».
__________________
وعن أمير المؤمنين
عليهالسلام : «إنّهم ملائكة يحفظونه من المهالك حتّى ينتهوا به إلى
المقادير ، فيخلّون بينه وبين المقادير».
قيل : «هم عشرة أملاك على كلّ آدميّ تحفظه».
وروى أبو إمامة عن النبيّ صلىاللهعليهوآله ـ إنّه قال : «وكّل بالمؤمن مائة وستّون ملكا يذبّون عنه ما لم يقدّر عليه ؛ من ذلك سبعة أملاك يذبّون
عنه كما يذبّ عن قصعة العسل الذي في اليوم الصائف. وما لو بدا
__________________
لكم لرأيتموه على
كل سهل وجبل ، كلّهم باسط يده ، فاغر فاه ؛ ولو وكلّ العبد إلى نفسه طرفة عين
لاختطفته الشياطين».
وعن كعب : «لو لا أنّ الله وكّل بكم ملائكة يذبّون عنكم في مطعمكم
ومشربكم وعوراتكم لتخطّفتكم الجنّ».
* * *
قال شارح نهج
البلاغة : «الحفظة منهم حفظة للعباد كما قال تعالى : (لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ
وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) [١٣ / ١١] ، ومنهم
حفظة على العباد كما قال تعالى : (وَيُرْسِلُ
عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) [٦ / ٦١]. والمراد
من الأوّلين حفظ العباد بأمر الله من الآفات التي تعرض لهم ، ومن الآخرين ضبط
الأعمال والأقوال من الطاعات والمعاصي كما قال : (كِراماً كاتِبِينَ*
يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) [٨٢ / ١١ ـ ١٢].
وكقوله : (ما يَلْفِظُ مِنْ
قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [٥٠ / ١٨].
ـ قال : ـ «ويحتمل
أن يكون تعدّدهما تعدّدا بحسب الذوات ، ويحتمل أن يكون بحسب الاعتبار» ـ انتهى ـ.
ويأتى الكلام في
الحفظة على العباد والكرام الكاتبين في باب آخر ـ إن شاء الله ـ.
__________________
فصل
[١]
[الإلهام والوسوسة]
والسرّ في ذلك
يتبيّن ممّا حقّقه بعض العلماء وملخّصه :
«إنّ الجوهر
النطقي من الإنسان ـ المسمّى بالقلب الحقيقي ـ مثاله مثال هدف تنصبّ إليه السهام
من الجوانب ، أو مثال مرآة منصوبة تجتاز عليها أصناف الصور ، فيتراءى فيها صورة
بعد صورة ، ولا يخلو عنها دائما ...
ومداخل هذه الآثار
المتجدّدة فيه إمّا من الظاهر ـ كالحواسّ الخمس ـ وإمّا من الباطن ـ كالخيال ،
والشهوة ، والغضب ، والأخلاق والصفات ؛ فإنّه مهما أدرك الإنسان بالحواسّ شيئا حصل
منها أثر في قلبه وكذلك إذا هاجت الشهوة أو الغضب ، حصل منها أثر في القلب ، وإن
كفّ عن الإحساس فالخيالات الحاصلة في النفس تبقى وتنقل المتخيّلة من شيء إلى شيء ،
وبحسب انتقالها ينتقل باطن الإنسان من حال إلى حال ؛ فباطنه إذن في التغيّر دائما
من هذه الأسباب.
وأحضر الأسباب
الحاصلة فيه هي الخواطر ـ أي الأفكار
__________________
والأذكار التي من
أنواع الإدراكات والعلوم ، إمّا على سبيل الورود التجدّدي ، وإمّا على سبيل
التذكّر من المحفوظات في الحافظة.
وهذه الخواطر هي
المحرّكات للإدراكات ، فإنّ النيّة والعزم والإرادة إنّما تكون بعد [خطور ] المنويّ بالبال ؛ فمبدأ الأحوال الخواطر ، ثمّ الخاطر
تحرّك الرغبة ، والرغبة تحرّك العزم ، و [العزم تحرّك] النيّة ، والنيّة تحرّك الأعضاء.
والخواطر المحرّكة
للرغبة : إمّا تدعوا إلى الخير ـ أعني ما ينفع في الدار الآخرة ـ وإمّا تدعوا إلى
الشرّ ـ أعني ما يضرّ في العاقبة ـ فهما خاطران مختلفان ، لهما سببان مختلفان ،
لأنّهما حادثان ، وكلّ حادث يفتقر إلى سبب ، والمعلولات المختلفة تستدعي عللا
مختلفة ، فيسمّى السبب الداعي إلى الخير ملكا وفعله إلهاما ، والآخر شيطانا ،
وفعله وسوسة ؛ وهما جواهران مسخّران لقدرة الله ـ سبحانه ـ في تقليب
القلوب.
ولعلّهما المراد
بقوله صلىاللهعليهوآله : «قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن ، يقلّبه كيف
يشاء» .
__________________
والقلب لصفاته
ولطافته صالح بأصل الفطرة لقبول آثار الملكيّة والشيطانيّة ـ صلاحا متساويا ـ وإنّما
يترجّح أحد الجانبين باتّباع الهوى والإكباب على الشهوات ، أو الإعراض عنها
ومخالفتها. فإن اتّبع الإنسان مقتضى شهوته وغضبه ظهر تسلّط الشيطان بواسطة اتّباع
الهوى والشهوات بالأوهام والخيالات الفاسدة الكاذبة ، وصار القلب عشّ الشيطان
ومعدنه ، لأنّ الهوى مرعى الشيطان ومرتعه ، لمناسبة ما بينهما ونحو من الاتّحاد.
وإن جاهد الشهوات ولم يسلّطها على نفسه ، وعارض بقوّة اليقين الظنون والأوهام
الكاذبة المستدعية للشهوات والركون إلى الدنيا وتشبّه بأخلاق الملائكة : صار قلبه
مستقرّ الملائكة ومهبطها.
ولمّا كان الإنسان
لا يخلو عن شهوة وغضب وحرص
__________________
وطمع وطول أمل ـ إلى
غير ذلك من الصفات البشريّة المنشعبة عن الهوى ، المتّبع للقوّة الوهميّة التي
شأنها إدراك الامور على غير وجهها ـ : فلا جرم لم يخل باطنه من جولان الشيطان فيه
بالوسوسة ـ إلّا من عصمه الله ـ
ولذلك قال النبي صلىاللهعليهوآله : : «ما منكم إلّا وله شيطان».
قالوا : «وأنت يا
رسول الله»؟
قال : «وأنا ؛
إلّا أنّ الله أعانني عليه فأسلم على يدي فلا يأمرني إلّا بخير».
فمهما غلب على
النفس ذكر الدنيا ومقتضيات الهوى والشهوات ، وجد الشيطان للتدرّع بها مجالا ،
فوسوس لها ؛ ومهما انصرفت النفس إلى ذكر الله ارتحل الشيطان وضاق مجاله فاقبل
الملك وألهم ؛ فالتطارد بين جندي الملائكة والشياطين في معركة النفس الإنسانيّة
دائم ، لهيولانيّة وجوده وقابليّتها للأمرين بتوسّط قوّتيه العقليّة والوهميّة ، إلى
أن ينفتح لأحدهما ويستوطن فيها ، ويكون اجتياز الثاني اختلاسا ...
وكما أنّ الشهوات
ممتزجة بلحم الآدميّ ودمه ، فسلطنة
__________________
الشيطان ـ أيضا ـ سارية
في لحمه ودمه ومحيطة بقلبه الذي هو منبع الدم ، المركب للروح البخاريّة الحاملة
للقوى الوهميّة والشهويّة والغضبيّة.
ومن هنا قال النبي
صلىاللهعليهوآله : «إنّ الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم ، فضيّقوا
مجاريه بالجوع».
ولأجل اكتناف
الشهوات للقلب من جوانبه ، قال الله ـ تعالى ـ حكاية عن إبليس : (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ
الْمُسْتَقِيمَ* ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ
أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) [٧ / ١٦].
هذا ملخّص ما ذكره
؛ ويصدّقه جملة ما رواه في الكافي بسند حسن عن مولانا الصادق عليهالسلام إنّه قال : «ما من قلب إلّا وله اذنان : على
__________________
إحداهما ملك مرشد
، وعلى الاخرى شيطان مفتّن ، هذا يأمره وهذا يزجره ؛ الشيطان يأمره بالمعاصي ،
والملك يزجره عنها ؛ وهو قول الله ـ تعالى ـ : (عَنِ الْيَمِينِ
وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ* ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [٥٠ / ١٧ ـ ١٨].
وعن النبي صلىاللهعليهوآله : «إنّ للشيطان لمّة بابن آدم ، وللملك لمّة ، أمّا لمّة الشيطان : فإيعاد بالشرّ وتكذيب بالحقّ ،
وأمّا لمّة الملك : فإيعاد بالخير وتصديق بالحقّ ، فمن وجد ذلك فليعلم أنّه من
الله فليحمد الله ، ومن وجد الاخرى فليتعوّذ بالله من الشيطان الرجيم» ـ ثمّ قرأ صلىاللهعليهوآله : (الشَّيْطانُ
يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ) [٢ / ٢٦٨].
فصل
[٣]
وكما أنّ في
الملائكة الذين يدبّرون امور الإنسان كثرة ، لاستدعاء تعدّد الأفعال والآثار نوعا
تعدّد الفواعل والمؤثرات ـ كما مضى بيانه ـ
__________________
فكذلك الشياطين
الموسوسين ، الداعين له إلى المعاصي ، جنود مجنّدة حسب تعدّد المعاصي ؛ وهم فروع
لشيطان واحد يخصّ بذلك الإنسان.
وهو المشار إليه
بقوله صلىاللهعليهوآله : «ما منكم إلّا وله شيطان».
قال بعض المفسّرين
: لإبليس خمسة من الأولاد ، قد جعل كلّ واحد منهم على شيء من أمره ؛ فذكر :
ثبر ، والأعور ، ومسوط ، وداسم ، و [زلنبور] .
فأمّا ثبر : فهو
صاحب المصائب ، الذي يأمر بالثبور وشقّ الجيوب ولطم الخدود ودعوى الجاهليّة. وأمّا
الأعور : فهو صاحب الرياء ، يأمر به ويزيّنه. وأمّا مسوط : فهو صاحب الكذب. وأمّا
داسم : فهو يدخل مع الرجل إلى أهله ويريه العيب فيهم ويغضبه عليهم. وأمّا [زلنبور]
: فهو صاحب السوق وبسببه لا يزالون متلطّمين .
__________________
وشيطان الصلاة
يسمّى «خنزب» ، وشيطان الوضوء : الولهان ؛ قيل : وقد ورد بذلك أخبار.
وقال يونس بن يزيد
: «بلغنا أنّه يولد مع أولاد الإنس من أولاد الجنّ ، ثمّ ينشئون معهم».
وقال جابر بن عبد
الله : إنّ آدم عليهالسلام لمّا اهبط إلى الأرض ، قال : «يا ربّ هذا العبد الذي جعلت
بينه وبيني عداوة إلّا تعنّي عليه لا أقو عليه». قال : «يا آدم ، لا يولد لك ولد إلّا
وكّل به ملك». قال : «يا ربّ زدني». قال : «بالسيّئة السيّئة ، وبالحسنة عشرا إلى ما اريد».
__________________
قال : «ربّ زدني».
قال : «باب التوبة مفتوح ما دام في الجسد الروح».
قال إبليس : «يا
ربّ هذا العبد الّذي كرّمته إلّا تعنّي عليه لا أقو عليه». قال : «لا يولد له ولا
ولد إلّا ويولد لك ولد». قال : «ربّ زدني». قال : «تجري منهم مجرى الدم ، وتتخذون
في صدورهم بيوتا». قال : «ربّ زدني». قال : «(أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ
بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ
وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) [١٧ / ٦٤] .
وشيطان كلّ إنسان
في المكر والحيلة على قدر عقله وذكائه ، وكذلك الملائكة الذابّون عنه ، الحافظون
له بأمر الله.
* * *
__________________
فصل [٤]
قال بعض أهل
المعرفة
:
«إنّ إلهام الملك
ووسوسة الشيطان تقع في النفوس على وجوه وعلامات :
أحدها
: كالعلم واليقين
الحاصلين من جانب يمين النفس ، ويقابله الهوى والشهوة الحاصل [ت] ين من جانب
الشمال.
وثانيها : كالنظر إلى الآفاق والأنفس ، على سبيل النظام والإحكام
المزيل للشكوك والأوهام ، والمحصّل للمعرفة والحكمة في القوّة العاقلة التي هي على
الجانب الأيمن من النفس ، ويقابله النظر إليها على سبيل الاشتباه والغفلة والإعراض
عنها ، الناشئة منهما الشبه والوسواس في الواهمة والمتخيّلة التي على الجانب
الأيسر منها ، فإنّ الآيات المحكمات بمنزلة الملائكة المقدّسة من العقول والنفوس
الكليّة ، لأنّها مبادئ العلوم اليقينيّة ؛ والمتشابهات الوهميّات بمنزلة الشياطين
والنفوس الوهمانيّة ، لأنّها مبادئ المقدّمات السفسطيّة.
وثالثها : كطاعة الرسول المختار والأئمّة الأطهار عليهمالسلام في مقابلة أهل الجحود والإنكار وأهل التعطيل والتشبيه من
__________________
الكفّار ؛ فكلّ من
سلك سبيل الهداية فهو بمنزلة الملائكة الملهمين للخير ، ومن سلك سبيل الضلال فهو
بمنزلة الشياطين المغوين بالشرّ.
ورابعها : كتحصيل العلوم والإدراكات التي هي في الموضوعات العالية
والأعيان الشريفة ، كالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، والبعث
وقيام الساعة ومثول الخلائق بين يدي الله ، وحضور الملائكة والنبيّين والشهداء
والصالحين ؛ في مقابلة تحصيل العلوم والإدراكات الّتي هي من باب الحيل والخديعة
والسفسطة ، والتأمّل في الأمور الدنياويّة الغير الخارجة عن دار المحسوسات.
فإنّ الأوّل يشبه
الملائكة الروحانية وجنود الرحمن ، الذين هم سكّان عالم الملكوت السماوي ؛ والثاني
: يشبه الأبالسة المطرودة عن باب الله ، الممنوعة من ولوج السماوات ، المحبوسة في
الظلمات ، المحرومة في الدنيا من الارتقاء ، والمحجوبة في الآخرة عن دار النعيم».
* * *
فصل
[٥]
[النفوس تصير شيطانا أو ملكا]
قال بعض الحكماء :
«إنّ النفوس
المتجسّدة الخيّرة ملائكة بالقوّة ، فإذا خرجت قوّتها إلى الفعل وفارقت أجسادها
صارت ملائكة بالفعل.
وكذلك النفوس
المتجسّدة الشريرة هي شياطين بالقوّة ، فإذا فارقت أجسادها كانت شياطين بالفعل.
فهذه النفوس
الشيطانيّة توسوس أهل الشيطنة بالقوّة ، لتخرجها من القوّة إلى الفعل ، كما قال ـ تعالى
ـ : (شَياطِينَ الْإِنْسِ
وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) [٦ / ١١٢].
وشياطين الإنس هي
النفوس المتجسّدة الشريرة ، آنست بالأجساد.
وشياطين الجنّ هي
النفوس الشريرة المفارقة للأجساد ، المستحجبة عن الأبصار.
ومثل وسوسة هذه
النفوس المفارقة ، لهذه النفوس المتجسّدة ، كمثل من قويت شهوته للطعام والشراب ،
__________________
وضعفت حرارته
الهاضمة عن نضجها ، فهو يشتهي ولا يستمرئ فعند ذلك يكون همّته أن يرى الطعام والآكلين له ، لينظر
إليهم فيستروح من ألم شهواته الممنوع عنها ، لضعف الآلة وبطلان فعل القوّة ؛ فهكذا
حكم تلك النفوس المفارقة ، كما اشير إليهم بقوله ـ تعالى ـ : (مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ*
الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ* مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) [١١٤ / ٤ ـ ٦]».
ـ قال ـ : «ولمّا كانت
الجنسيّة علّة الضمّ ، فالنفوس البشريّة الطاهرة النورانيّة تنضمّ إليها الأرواح
الطاهرة النورانيّة ، من النفوس الكاملة المفارقة للأبدان ، الواقعين في عالم الملكوت
مع الملائكة الذين هنالك ، فيعينونها على أعمالها التي هي من باب الخيرات
والمبرّات ، والنفوس الشريرة الخبيثة تنضمّ إليها الأرواح الخبيثة من النفوس
الشريرة المفارقة للأبدان ، الواقعين هنالك مع الشياطين ، فيعينونها على أعمالها
التي هي من باب الشرور والآثام ، والظلم والعدوان.
ويسمّى الأوّل :
إلهاما ، والثاني : وسوسة».
أقول : ويشهد لهذا
قول الله ـ عزوجل ـ : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ
قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ
رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ
لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ) [٦ / ١٢٨]. وقوله
__________________
سبحانه : (فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ*
وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ) [٢٦ / ٩٤].
قيل في التوراة : إنّ أهل الجنّة يمكثون في الجنّة خمسة عشر
ألف سنة ، ثمّ يصيرون ملائكة ، وإنّ أهل النار يمكثون في الجحيم كذا ، أو أزيد ،
ثمّ يصيرون شياطين.
وفي الإنجيل : إنّ
الناس يحشرون ملائكة لا يطعمون ولا يشربون ولا ينامون ولا يتوالدون.
فصل
[٦]
[الجن وأصنافها]
الجنّ من الاجتنان
ـ بمعنى الاختفاء ـ سمّيت به لاستتارهم عن الأبصار ؛
ولهذا سمّيت به
الملائكة ـ أيضا ـ في قوله سبحانه : (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ
وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) [٣٧ / ١٥٨].
والشياطين في قوله
ـ عزوجل ـ (كانَ مِنَ الْجِنِ) [١٨ ـ ٥٠].
وهي أجسام لطيفة
نفّاذة حيّة ، ذوات نفوس قويّة غالبة على أجسادها ، قادرة على التمدّد والانقباض ،
وعلى تشكيل أنفسها بأشكال مختلفة بعضها ممّا يوجب لها سهولة النفوذ في المنافذ
وعلى الأعمال الشاقّة.
__________________
قال الله عزوجل : في قصّة سليمان ـ على نبيّنا وعليهالسلام ـ : (وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ
يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ ...) ـ إلى أن قال ـ : (يَعْمَلُونَ لَهُ ما
يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ) [٣٤ / ١٢ ـ ١٣].
ولها علوم
وإدراكات من جنس علومنا وإدراكاتنا الوهميّة وأوائل العقليّات ، قال الله ـ جلّ
جلاله ـ : (وَإِذْ صَرَفْنا
إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ
قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) [٤٦ / ٢٩].
فمنهم مؤمن صالح ،
ومنهم كافر مارد ، قال الله تعالى حكاية عنهم : (أَنَّا مِنَّا
الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ) [٧٢ / ١٤]. وقال
أيضا عنهم : (إِنَّا سَمِعْنا
قُرْآناً عَجَباً* يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ
بِرَبِّنا أَحَداً) ـ إلى قوله : ـ (وَأَنَّهُ كانَ
يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً) [٧٢ / ١ ـ ٤].
قال مولانا الصادق
عليهالسلام : «الجنّ على ثلاثة أجزاء : فجزء مع الملائكة ، وجزء
يطيرون في الهواء ، وجزء كلاب وحيّات» رواه في الكافي .
وعن النبي صلىاللهعليهوآله : «خلق الله الجنّ ثلاثة أصناف : صنف حيّات
__________________
وعقارب و [خشاش] الأرض ، وصنف كالريح في الهواء ، وصنف عليهم الحساب
والعقاب. وخلق الله الإنس ثلاثة أصناف : صنف كالبهائم ، قال الله ـ عزوجل ـ : (لَهُمْ قُلُوبٌ لا
يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها) [٧ / ١٧٩] ـ الآية
ـ وصنف أجسادهم أجساد بني آدم ، وأرواحهم أرواح الشياطين ؛ وصنف كالملائكة في ظلّ
الله ـ يوم لا ظلّ إلّا ظلّه ـ.
فصل
[٧]
[الشيطان وتسلطه على الناس]
قال بعض أهل
التحقيق :
«إنّ أوّل من سلك
سبيل الغواية والضلالة ، وطرده الحقّ عن عالم رحمته ووقع عليه اسم «إبليس» هو جوهر
نطقيّ شرّير متولّد من طبقة دخانيّة ناريّة ، لها نفس ملكوتيّة ، شأنه الإغواء
وسبيله الإضلال ، كما في قوله ـ تعالى ـ حكاية عن اللعين : (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ
أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [٣٨ / ٨٢ ـ ٨٣].
وقوله : (فَبِما أَغْوَيْتَنِي
لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) [٧ / ١٦].
وذلك لأنّ له
سلطنة ـ بحسب الطبع ـ على الأجسام
__________________
الدخانيّة
والبخاريّة ونفوسها الجزئيّة والطبائع الوهمانيّة ، وتطيعها تلك النفوس والقوى
الوهمانيّة لمناسبة النقص والشرارة ، وكونه مجبولا على الإغواء والإفساد
والاستكبار.
وادّعاؤه العلوّ ـ
كما في قوله ـ سبحانه ـ : (أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ
كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ) [٣٨ / ٧٥] ـ إنّما هو بمقتضى طبعه الغالب عليه الناريّة
الموجبة للإهلاك والعلوّ.
ووجه تأثيره في
نفوس الآدميّين : أمّا من جانب المؤثّر : فللطافته وسرعة نفوذه في عروقهم ولطائف
أعضائهم وأخلاطهم ـ التي هى محالّ الشعور والاعتقاد ـ واقتداره على إغوائهم
بالوسوسة والإضلال.
وأمّا من جانب
القابل : فلقصور القوى الإدراكيّة لأكثر الإنسان وضعفها عن المعارضة والمجاهدة مع
جنوده وأعوانهم من القوى الغضبيّة والشهويّة وغيرهما ـ لا سيّما الوهميّة ـ إلّا
من عصمه الله من عباده المخلصين ، الذين أيّدهم الله بالعقل ، وهداهم إلى الصراط
المستقيم (أُولئِكَ حِزْبُ
اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [٥٨ / ٢٢].
أقول
: ويشبه أن يكون عن
هذا الملعون المطرود عبّر ب «الجهل» فيما رواه في الكافي بإسناده عن مولانا الصادق عليهالسلام ـ قال : ـ
«إنّ الله خلق
العقل ـ وهو أوّل خلق من الروحانيّين ـ عن يمين
__________________
العرش من نوره ،
فقال له : «أدبر» فأدبر. ثمّ قال له : «أقبل» فاقبل. فقال الله تعالى : «خلقتك
خلقا عظيما ، وكرّمتك على جميع خلقي».
ـ قال : ـ «ثمّ
خلق الجهل من البحر الاجاج ظلمانيّا ، فقال له : «أدبر» فأدبر. ثمّ قال له : «أقبل»
فلم يقبل. فقال له : «استكبرت» فلعنه.
ثمّ جعل للعقل
خمسة وسبعين جندا ، فلمّا رأى الجهل ما أكرم الله به العقل وما أعطاه ، أضمر له
العداوة ، فقال الجهل : «يا ربّ ـ هذا خلق مثلي ، خلقته وكرّمته وقوّيته ، وأنا
ضدّه ولا قوّة لي به ، فأعطني من الجند مثل ما أعطيته».
فقال : «نعم ؛ فإن
عصيت بعد ذلك أخرجتك وجندك من رحمتي».
قال : «رضيت».
فأعطاه خمسة وسبعين جندا»
ـ الحديث بطوله ـ.
فصل
[٨]
[حكمة خلق الشياطين]
قال بعض أهل
المعرفة والتحقيق :
«إنّ الإنسان كما
ينتفع من إلهام الملك كذلك ينتفع من وسوسة الشيطان بوجه ، وذلك لأنّ وجود الشياطين
من الله
__________________
ـ سبحانه ـ لا
محالة لحكمة ومصلحة ، وإلّا لم توجد ، لاستحالة العبث والتعطيل عليه تعالى ـ.
وذلك أنّ : أتباع
الشياطين كلّهم تبعة الوهم والخيال ، ولو لم يكن أوهام المعطّلين وخيالات
المتفلسفين والدهريّين وسائر أولياء الطاغوت ومراتب جربزتهم وفنون اعوجاجهم ، لما
انبعث أولياء الله في تحقيق الحقائق ، وتعليم العلوم ، وطلب البراهين لبيان
التوحيد وعلّة حدوث العالم بالكشف واليقين وغير ذلك.
وكذلك في الأخلاق
والأعمال ـ مثلا ـ لو لم يكن اغتياب المغتابين وتجسّس المتجسّسين لعيوب الناس لم
يتجنّب كلّ التجنّب من العيوب الخفيّة التي لا يراها أحبّاؤه ، وإنّما يظهر له
ثبوتها من تدقيقات أعدائه وتجسّسهم عيوبه وإظهارهم إيّاها.
فكم من عدوّ خبيث
الذات انتفع الإنسان من عداوته أكثر ممّا انتفع من محبّة صديقه ، فإنّ المحبّة
ممّا يورث الجهل بعيوب المحبوب والعمى والصمم عن معاينة معايبه وسماع مثالبه ؛ كما
قيل : «حبّك الشيء يعمي ويصمّ».
فظهر أنّ لوجود
الأعمال الشيطانيّة منافع عظيمة للناس ، وما لا نعلمه أكثر».
[٥]
باب
ملائكة الأعمال
والكرام الكاتبين
(وَإِنَّ عَلَيْكُمْ
لَحافِظِينَ* كِراماً كاتِبِينَ* يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) [٨٢ / ١١]
فصل
[١]
[الملك ، الشيطان ، الملكة]
قيل : كلّ هيئة وصفة ترسّخت في النفس وتأكّدت فيها من تكرّر
أفاعيله وأعماله يسمّى في الشرع «ملكا» إن كانت حسنة ، و «شيطانا» إن كانت سيّئة ،
وفي الحكمة كلتاهما «ملكة».
ويؤيّد هذا ما ورد
في الحديث «إنّ كلّ من عمل
حسنة يخلق الله منها ملكة يثاب به ، ومن اقترف سيّئة يخلق الله منها شيطانا يعذّب
به».
__________________
وفي حديث القبر : «... فإن كان لله وليّا أتاه أطيب الناس ريحا وأحبّهم
منظرا وأحسنهم رياشا ؛ فقال : أبشر بروح وريحان وجنّة نعيم ، ومقدمك خير مقدم.
فيقول له : من أنت؟ فيقول : أنا عملك الصالح ، ارتحل من الدنيا إلى الجنّة» ...
ـ قال : ـ «وإذا
كان لربّه عدوّا فإنّه يأتيه أقبح من خلق الله زيّا وأنتنه ريحا ، فيقول: أبشر
بنزل من حميم وتصلية جحيم».
فصل [٢]
[الملك والشيطان وارتباطهما مع الإنسان]
وفي الحديث : «من زار أخاه في الله ـ عزوجل ـ شيّعه سبعون ألف ملك ، يقولون : ألا طبت وطابت لك الجنّة».
وفيه : «من عطس ثمّ وضع يده على قصبة أنفه ثمّ قال : «الحمد
__________________
لله ربّ العالمين
كثيرا كما هو أهله ، وصلى الله على محمد النبيّ وآله وسلّم» خرج من منخره طائر
أصغر من الجراد وأكبر من الذباب ، حتى يصير تحت العرش ، يستغفر الله له إلى يوم
القيامة».
وأمثال ذلك من
الأخبار كثيرة.
وقد قيل : «إنّ من
البواطن والصدور وما ينزل فيه لزيارته كلّ يوم ألوف من الملائكة ـ لغاية صفائه ـ ومنها
ما يقع فيه كلّ يوم ألف وسواس وكذب وفحش وخصومة ومجادلة بين الناس فهو مرتع
للشياطين».
ويصدّقه قول الله
ـ عزوجل ـ : (إِنَّ الَّذِينَ
قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) [٤١ / ٣٠].
وفي مقابله : (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ
الشَّياطِينُ* تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) [٢٦ / ٢٢١ ـ ٢٢٢] (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ
ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) [٤٣ / ٣٦].
* * *
فصل
[٣]
[كتابة الأعمال والكرام الكاتبون]
قيل : إنّ الآثار الحاصلة من الأفعال والأقوال والعقائد في
النفوس ، بمنزلة النقوش الكتابيّة في الألواح ، كما قال الله ـ سبحانه ـ : (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ
الْإِيمانَ) [٥٨ / ٢٢].
وهذه الألواح
النفسيّة يقال لها «صحائف الأعمال». وهذه النقوش والصور كما تفتقر إلى قابل يقبلها
، كذلك تفتقر إلى ناقش ومصوّر ، فالمصوّرون والكتّاب هم «الكرام الكاتبون».
وهم طائفتان : «ملائكة
اليمين» و «ملائكة الشمال» ؛ قال الله تعالى : (إِذْ يَتَلَقَّى
الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ) [٥٠ / ١٧].
أقول : قد روي : «إنّ كلّ إنسان معه ملكان : أحدهما عن يمينه يكتب
الحسنات من غير شهادة صاحبه ، والآخر عن يساره يكتب السيّئات ولا يكتبها إلّا
بشهادة صاحبه ، وإن قعد فاحدهما عن يمينه والآخر عن يساره ، وإن مشى فأحدهما خلفه
والآخر أمامه ، وإن نام فأحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه».
__________________
وفي رواية اخرى : خمسة أملاك : ملكان لليل ، وملكان للنهار ، وملك لا
يفارقه في وقت من الأوقات.
وفي الكافي
بإسناده عن مولانا الصادق عليهالسلام أنّه قال : «إنّ العبد إذا همّ بالحسنة خرج نفسه طيّب
الريح ، فقال صاحب اليمين لصاحب الشمال : «قف ، فإنّه قد همّ بالحسنة» ؛ فإذا هو
عملها كان لسانه قلمه وريقه مداده ، فأثبتها له. واذا همّ بالسيّئة خرج نفسه منتن
الريح ، فيقول صاحب الشمال لصاحب اليمين : «قف ، فإنّه قد همّ بالسيّئة» ، فاذا هو
فعلها كان ريقه مداده ولسانه قلمه ، فأثبتها عليه».
وروى أيضا بأسانيد
متعدّدة عنه عليهالسلام : «إنّ العبد إذا عمل سيّئة وأراد صاحب الشمال أن يكتبها ،
قال له صاحب اليمين : «أمسك» ، فيمسك سبع ساعات ، فإن استغفر الله لم يكتب ، وإن
لم يستغفر كتب سيّئة واحدة».
وروى غيره مثل ذلك ، وفي آخره : «وإذا قبض العبد ووضع في قبره قال
الملكان: «يا ربّ وكّلتنا بعبدك نكتب عمله ، قد قبضت روح عبدك ، فأذن لنا نصعد إلى
السماء». فيقول الله ـ تعالى ـ : «السماء
__________________
مملوّ من الملائكة
يسبّحون ، فسبّحا على قبر عبدي وهلّلا ، واكتبا ذلك لعبدي حتّى أبعثه من قبره».
* * *
وقال الصدوق ـ رحمهالله ـ في اعتقاداته : «اعتقادنا في ذلك أنّه ما من عبد إلّا وله ملكان موكّلان
يكتبان جميع أعماله ، ومن همّ بحسنة ولم يعملها كتب له حسنة ، فإن عملها كتب له
عشر ، وإن همّ بسيّئة لم يكتب حتّى يعملها ، فإن عملها [اجّل سبع ساعات فإن تاب
قبلها لم يكتب عليه ، وإن لم يتب] كتب عليه سيّئة واحدة ؛ والملكان يكتبان على العبد كلّ شيء
حتّى النفخ في الرماد. وقال الله عزوجل : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ
لَحافِظِينَ* كِراماً كاتِبِينَ* يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) [٨٢ / ١٠ ـ ١٣].
ومرّ أمير
المؤمنين عليهالسلام برجل ـ وهو يتكلّم بفضول الكلام ـ فقال : «يا هذا ـ إنّك
تملي على ملكيك كتابا إلى ربّك ، فتكلّم بما يعنيك ، ودع ما لا يعنيك».
وقال عليهالسلام : «لا يزال الرجل المسلم يكتب محسنا ما دام ساكتا ، فإذا
تكلّم كتب إمّا محسنا وإمّا مسيئا».
وموضع الملكين من
ابن آدم : الترقوتان ، فإنّ صاحب اليمين يكتب الحسنات ، وصاحب الشمال يكتب
السيّئات ؛ وملكا النهار يكتبان عمل العبد بالنهار ، وملكا الليل يكتبان عمل العبد
بالليل».
ـ انتهى كلام
الصدوق ـ.
__________________
* * *
وقال المفسّرون :
فائدة ذلك أنّ المكلّف إذا علم أنّ الملائكة موكّلون به ، يحصرون عليه أعماله ،
ويكتبونها في صحائف تعرض على رءوس الأشهاد في موقف القيامة : كان ذلك أزجر له عن
القبائح.
قيل : ويشبه أن
يكون الإشارة بانتظار ملك اليسار ـ كاتب السيّئات ـ توبة العبد : إلى أنّه ما دامت
السيّئة حالة غير متمكّنة من جوهر نفس العبد فإنّ رحمة الله تسعه ، فإذا تاب من
تلك السيّئة لم تكتب في لوح نفسه ، وإن لم يتب حتّى صارت ملكة راسخة في نفسه كتبت
وعذّب بها يوم تقوم الساعة.
قيل : وإنّما
سمّوا : «كراما» لأنّهم إذا كتبوا حسنة يصعدون به إلى السماء ويعرضون على الله ـ تعالى
ـ ويشهدون على ذلك ، فيقولون : «إنّ عبدك فلان : ، عمل حسنة كذا وكذا» ، وإذا
كتبوا من العبد سيّئة يصعدون به إلى السماء مع الغمّ والحزن ، فيقول الله ـ تعالى
ـ : «ما فعل عبدي»؟ فيسكتون حتّى يسأل الله ثانيا ، وثالثا ، فيقولون : «إلهى ـ أنت
ستّار ، وأمرت عبادك أن يستر عيوبهم ، استر عيوبهم وأنت علّام الغيوب».
ولهذا يسمّون : «كراما
كاتبين».
[٦]
باب
أصناف الملائكة
(وَالصَّافَّاتِ
صَفًّا* فَالزَّاجِراتِ زَجْراً* فَالتَّالِياتِ ذِكْراً) [٣٧ / ١ ـ ٣]
(وَالنَّازِعاتِ
غَرْقاً* وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً* وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً* فَالسَّابِقاتِ
سَبْقاً* فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) [٧٩ / ١ ـ ٥]
(وَلِلَّهِ جُنُودُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [٤٨ / ٤]
فصل [١]
[أكابر الملائكة]
إنّ للملائكة ـ على
كثرة شعوبها وقبائلها وضروبها وطبقاتها ـ أنواعا شتّى وأجناسا مختلفة ، حتّى أنّه
لا يتفاوت ما يطلق عليه اسم من الأسماء ما يتفاوت ما يطلق عليه اسم «الملك» ،
ولنشر إلى ما ورد في الكتاب والسنّة من أصنافهم وبعض صفاتهم ـ على سبيل الإجمال ـ وإن
تداخل بعضها في بعض من وجه :
فمن أصنافهم الأكابر الأربعة المشهورون ، وهم : جبرئيل وميكائيل اللذان
تكرّر ذكرهما في القرآن المجيد ، وإسرافيل وعزرائيل اللذان تكرر ذكرهما في الحديث.
أمّا جبرئيل : فهو
صاحب الوحي ، وروح القدس ، وروح الأمين ؛ ينصر أولياء الله ويقهر أعداءه ، قال
الله ـ عزوجل ـ في شأنه : (إِنَّهُ لَقَوْلُ
رَسُولٍ كَرِيمٍ* ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ* مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) [٨١ / ١٩ ـ ٢١].
فرسالته أنّه رسول الله إلى جميع أنبيائه ؛ وكرمه على ربّه أنّه جعله واسطة بينه
وبين أشرف عباده ؛ وقوّته أنّه رفع مدائن قوم لوط إلى السماء وقلّبها ؛ ومكانته
عند الله أن جعله ثاني نفسه في قوله : (فَإِنَّ اللهَ هُوَ
مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ) [٦٦ / ٤] ؛ وكونه
مطاعا أنّه إمام الملائكة ومقتداهم ؛ وأمّا كونه أمينا فلأنّه ائتمنه الله على
الرسالة ، وائتمنه الأنبياء على ما نزل به إليهم .
__________________
قيل : وفعله
الخاصّ بالذات الوحي والتعليم وتأديه الكلام من الله سبحانه إلى عباده ؛ وسائر
أفعاله إنّما يصدر عنه بالعرض ، وله ارتباط مع القوّة النطقيّة ، ولو لم يكن هو لم
يستفد أحد معنى من المعاني بالبيان والقول ، ولم يقبل قلب أحد إلهام الحقّ وإلقاءه
في الروع.
وأمّا ميكائيل :
فهو صاحب الأرزاق والأغذية.
قيل : وفعله
الخاصّ بالذات إعطاؤه الرزق بالتغذية والتنمية على قدر لائق وميزان معلوم ؛ وله
ارتباط مع الحفظ والإمساك ؛ ولو لم يكن هو لم يحصل النشوء والنماء في الأبدان ،
ولا التطوّر في أطوار الملكوت في الأرواح ولا الأرزاق الحسّية للخلقة ، ولا العلوم
الجمّة الغفيرة للفطرة.
وأمّا إسرافيل :
فهو صاحب الصور ، قال الله ـ عزوجل ـ : (وَنُفِخَ فِي
الصُّورِ) [١٨ / ٩٩].
وفي الخبر : «إنّ
إسرافيل صاحب القرن» ـ ويأتي تمام الحديث ـ.
قيل : وفعله
الخاصّ بالذات نفخ الأرواح في قوالب الأجساد ، وإعطاء الحياة وقوّة الحسّ والحركة
لانبعاث الشوق والطلب ؛ وله ارتباط مع المفكّرة ، ولو لم يكن هو لم ينبعث الشوق
والحركة لتحصيل الكمال.
__________________
وأمّا عزرائيل :
فهو ملك الموت ، قال الله ـ عزوجل ـ : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ
مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) [٣٢ / ١١].
قيل : وفعله
الخاصّ بالذات نزع الصور من الموادّ ، وتجريد الأرواح عن الأجساد ، وإخراج النفوس
من الأبدان ، ونقلها من الدنيا إلى الآخرة. وله ارتباط مع المصوّرة ، ولو لم يكن
هو لم يمكن الاستحالات والانقلابات في الأجسام ولا الاستكمالات والانتقالات
الفكريّة في النفوس ، ولا الخروج من الدنيا والقيام عند الله للأرواح ؛ بل كانت
الأشياء كلّها واقفة في منزل واحد ومقام أوّل.
ولكلّ من هؤلاء
الأربعة جنود وأتباع لا يعلم عددها إلّا الله كما قال : (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا
هُوَ) [٧٤ / ٣١]
* * *
فصل [٢]
[حملة العرش]
ومن أصنافهم حملة
العرش والحافّين حوله ؛ قال الله عزوجل : (وَيَحْمِلُ عَرْشَ
رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) [٦٩ / ١٧] وقال
سبحانه : (وَتَرَى
الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ) [٣٩ / ٧٥]
والحملة في الدنيا
أربعة ، فيصيرون يوم القيامة ثمانية.
وعن مولانا أمير
المؤمنين عليهالسلام : «إنّ الذين يحملون العرش هم العلماء الذين حمّلهم الله
علمه ، وليس يخرج عن هذه الأربعة شيء ممّا خلق الله في ملكوته ، وهو الملكوت الّذي أراه
أصفياءه وأراه خليله ـ صلوات الله عليه ـ».
وعن مولانا الصادق
عليهالسلام : «حملة العرش ـ والعرش العلم ـ ثمانية : أربعة منّا ،
وأربعة ممّن شاء الله».
وفي الكافي عن مولانا الكاظم عليهالسلام : «إذا كان يوم القيامة كان
__________________
حملة العرش ثمانية
: أربعة من الأوّلين : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى. وأربعة من الآخرين : محمّد وعليّ
والحسن والحسين».
وعن مولانا الصادق
عليهالسلام : «إنّ حملة العرش أحدهم على صورة ابن آدم ، يسترزق الله
لولد آدم ، والثاني : على صورة الديك ، يسترزق الله للطير ، والثالث : على صورة
الديك ، يسترزق الله للطير ، والثالث : على صورة الأسد ، يسترزق الله للسباع ،
والرابع على صورة الثور ، يسترزق الله للبهائم ـ ونكس الثور رأسه منذ عبد بنو
إسرائيل العجل ـ فإذا كان يوم القيامة صاروا ثمانية».
وروي من طريق
العامّة : «إنّهم ثمانية صفوف لا يعلم عددهم إلّا الله ، لكلّ ملك
منهم أربعة وجوه ، لهم قرون كقرون الوعلة ، من اصول القرون إلى منتهاها مسيرة
خمسمائة عام ، والعرش على قرونهم وأقدامهم في الأرض السفلى ورءوسهم في السماء
العليا ، ودون العرش سبعون حجابا من نور».
وقال شيخنا الصدوق
ـ رحمهالله ـ في اعتقاداته :
«اعتقادنا في
العرش أنّه جملة جميع الخلق ؛ والعرش في وجه آخر هو العلم»
__________________
ـ ثمّ قال : ـ
«فأمّا العرش الذي
هو جملة جميع الخلق فحملته أربعة من الملائكة ، لكلّ منهم ثمانية أعين طباق الدنيا
، واحد منهم على صورة بني آدم ...» ـ إلى آخر الحديث الّذي ذكرناه آنفا بأدنى
تغيير في اللفظ ـ.
ـ قال : ـ
«وأمّا العرش الذي
هو العلم ، فحملته أربعة من الأوّلين وأربعة من الآخرين ؛ فأمّا الأربعة من
الأوّلين : فنوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهمالسلام. وأمّا الأربعة من الآخرين : محمد وعليّ والحسن والحسين ـ صلوات
الله عليهم ـ».
هكذا روي
بالأسانيد الصحيحة عن الأئمّة عليهمالسلام في العرش وحملته.
وإنّما صار هؤلاء
حملة العلم : لأنّ الأنبياء الذين كانوا قبل نبيّنا صلىاللهعليهوآله على شرايع الأربعة : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ؛ ومن قبل
هؤلاء صارت العلوم إليهم ، وكذلك صار العلم من بعد محمد وعليّ والحسن والحسين إلى
من بعد الحسين من الأئمّة عليهمالسلام.
وقال ابن ميثم
البحرانى في شرح نهج البلاغة :
«وأمّا حملة العرش
: فالأرواح الموكّلة بتدبير العرش ؛
__________________
وقيل : هم
الثمانية المذكورة في القرآن الكريم : (وَيَحْمِلُ عَرْشَ
رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) [٦٩ / ١٧] وهم رؤساء الملائكة المدبّرين للكرسي ،
والسماوات السبع. وذلك أنّ هذه الأجرام لها كالأبدان ، فهي بأبدانها أشخاص حاملون
للعرش فوقهم.
وأمّا الحافّون
حول العرش فقيل : هم صفوف ، وأقربهم إلى العرش هي الأرواح الحاملة للكرسيّ ، الموكّلة والمتصرّفة فيه.
فصل [٣]
[خزنة الجنان وزبانية النار]
ومنهم سكّان
الجنان وخزنتها ، قال في شرح النهج :
أمّا السكّان :
فهم الذين عند ربك (لا يَسْتَكْبِرُونَ
عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ* يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا
يَفْتُرُونَ) [٢١ / ١٩ ـ ٢٠] ،
وهم الذين يتلقّون عباد الله الصالحين بالشفقة والبشارة بالجنّة.
وذلك أنّ الإنسان
الطائع إذا كملت طاعته ، وبلغ النهاية في الصورة الإنسانيّة واستحقّ بأعماله
الصالحة وما اكتسبه من الأفعال الزكيّة صورة ملكيّة ورتبة سماويّة ، تلقّته
الملائكة الطيّبون بالرأفة والرحمة والشفقة ، وتقبّلوه بالروح والريحان ،
__________________
وقبلوه كما تقبل
القوابل والدايات أولاد الملوك بفاخر امور الدنيا وطيّبات روائحها ، من مناديل
السندس والاستبرق ، وبالفرح والسرور ، ومرّوا به إلى الجنّة ، فيعاين من البهجة
والسرور ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، ويبقى معهم عالما
درّاكا ما شاء ربّك عطاء غير مجذوذ ، ويتّصل بإخوانه المؤمنين في الدنيا أخباره
وأحواله ، ويتراءى لهم في مناماتهم بالبشارة والسعادة وحسن المنقلب ؛ وإذا كان يوم
القيامة الكبرى عرجت به ملائكة الرحمة إلى جنان النعيم والسرور المقيم ، (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا
الْمَوْتَةَ الْأُولى) [٤٤ / ٥٦] ، في (غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ
مَبْنِيَّةٌ) [٣٩ / ٢٠] (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) [١٠ / ٩] ، (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [١٠ / ١٠]».
قال :
«وأمّا الخزنة
للجنان فيشبه أن يكون هم السكّان لها أيضا باعتبار آخر ، وذلك أنّه لمّا كان
الخازن هو المتولّي لأحوال أبواب الخزانة بفتحها وتفريق ما فيها على مستحقّها ـ باذن
ربّ الخزانة ومالكها ـ وغلقها ومنعها عن غير مستحقّها ، وكانت الملائكة هم
المتولّون لإفاضة الكمالات ، وتفريق ضروب الإحسان والنعم على مستحقّها ، وحفظها
ومنعها من غير مستحقّها والمستعدّ بالطاعة لها ـ باذن الله وحكمته ـ
__________________
لا جرم صدق أنّهم
خزّان الجنان بهذا الاعتبار ، وهم الذين يدخلون على المؤمنين (مِنْ كُلِّ بابٍ* سَلامٌ عَلَيْكُمْ
بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) [١٣ / ٢٣ ـ ٢٤].
قال بعض الفضلاء :
إنّ العبد إذا راض نفسه حتّى استكمل مراتب القوّة النظريّة ومراتب القوّة العمليّة
، فإنّه يستعدّ بكلّ مرتبة من تلك المراتب لكمال خاصّ يفاض عليه من الله تعالى ،
ويأتيه الملائكة فيدخلون عليه من كلّ باب من تلك الأبواب بالسلام والتحيّة
والإكرام ، ثمّ إنّ الرضا بقضاء الله ـ من خير وشرّ ـ باب عظيم من تلك الأبواب ،
فالملك الذي يدخل على الإنسان منه برضاء الله ـ كما قال تعالى : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) [٥ / ١١٩] ـ هو
رضوان خازن الجنان ـ والله أعلم.
وأمّا ملائكة
النار : فقال بعض الفضلاء : هي تسعة عشر نوعا من الزبانية ، لا يعصون الله ما
أمرهم ؛ وهم الخمسة الذين ذكرنا أنّهم يوردون عليه الأخبار من خارج ، ورئيسهم ،
والخازنان ، والحاجب ، والملك المتصرّف بين يديه بإذن ربّه ، وملكا الغضب والشهوة
، والسبعة الموكّلون بأمر الغذاء.
وذلك أنّه إذا كان
يوم الطامّة الكبرى وكان الإنسان ممّن (طَغى * وَآثَرَ
الْحَياةَ الدُّنْيا) حتّى كانت (الْجَحِيمَ هِيَ
الْمَأْوى) [٧٩ / ٣٨ ـ ٣٩]
كانت اولئك التسعة عشر من الزبانية هم الناقلين له إلى الهاوية بسبب ما استكثر من
المشتهيات ، واقترف من السيّئات ، وأعرض عن قوله ـ تعالى ـ : (وَأَنْ لَيْسَ
لِلْإِنْسانِ
إِلَّا ما سَعى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى * ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ
الْأَوْفى * وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) [٥٣ / ٣٩ ـ ٤٢].
واعلم ـ وفّقك
الله ـ أنّ هؤلاء الذين ذكر هذا القائل أنّهم ملائكة النار ربّما كانوا ـ أيضا ـ مع
إنسان آخر من ملائكة الجنّة ، وذلك إذا استخدمهم ذلك الإنسان في دار الدنيا على
وفق أوامر الله ، وأوقفهم على طاعة الله دون أن يطلب منهم فوق ما خلقوا لأجله ،
وامروا به من طاعته ويعبر بهم إلى معصية الله وارتكاب نواهيه ومحارمه ـ وبالله
التوفيق ـ».
انتهى كلام شارح
النهج .
فصل [٤]
قال مولانا سيد
الساجدين وزين العابدين عليهالسلام في بعض أدعية الصحيفة الكاملة بعد تحميد الله ـ عزوجل ـ والثناء عليه والصلاة على سيد المرسلين وآله مصلّيا على
حملة العرش وأصناف من الملائكة ما هذا لفظه :
«اللهم ، وحملة
عرشك الذين لا يفترون من تسبيحك ، ولا يسأمون من تقديسك ، ولا يستحسرون من عبادتك
، ولا يؤثرون التقصير على الجدّ في أمرك ، ولا يغفلون عن الوله إليك.
__________________
وإسرافيل صاحب
الصّور الشاخص الذي ينتظر منك الإذن ، وحلول الأمر ، فينبّه بالنفخة صرعى رهائن
القبور ـ وميكائيل ذو الجاه عندك ، والمكان الرفيع من طاعتك ـ وجبريل الأمين على
وحيك ، المطاع في أهل سماواتك ، المكين لديك المقرّب عندك ـ
والروح الذي هو
على الملائكة الحجب ، والروح الذي هو من أمرك ـ
فصلّ عليهم وعلى
الملائكة الذين من دونهم من سكّان سماواتك ، وأهل الأمانة على رسالاتك ، والذين لا
تدخلهم سئمة من دءوب ، ولا إعياء من لغوب ولا فتور ، ولا تشغلهم عن تسبيحك الشهوات
، ولا يقطعهم عن تعظيمك سهو الغفلات ؛ الخشّع الأبصار ، فلا يرومون النظر إليك ،
النواكس الأذقان الذين قد طالت رغبتهم فيما لديك ، المستهترون بذكر آلائك ،
المتواضعون دون عظمتك وجلال كبريائك ، والذين يقولون إذا نظروا إلى جهنّم تزفر على
أهل معصيتك : «سبحانك ما عبدناك حقّ عبادتك» ؛
فصلّ عليهم وعلى
الروحانيّين من ملائكتك وأهل الزلفة عندك ، وحمّال الغيب إلى رسلك ، والمؤتمنين
على وحيك ، وقبائل الملائكة الذين اختصصتهم لنفسك ، وأغنيتهم عن الطعام والشراب
بتقديسك ، وأسكنتهم بطون أطباق سماواتك ، والذين هم على أرجائها إذا نزل الأمر
بتمام وعدك ، وخزّان المطر وزواجر السحاب ، والذي بصوت زجره يسمع
زجل الرعود ، وإذا
سبحت به حفيفة السحاب التمعت صواعق البروق ، ومشيّعي الثلج والبرد ، والهابطين مع
قطر المطر إذا نزل ، والقوّام على خزائن الرياح ، والموكّلين بالجبال فلا تزول ،
والذين عرّفتهم مثاقيل المياه ، وكيل ما تهويه لواعج الأمطار وعوالجها ، ورسلك من
الملائكة إلى أهل الأرض بمكروه ما ينزل من البلاء ومحبوب الرخاء ، والسفرة الكرام
البررة ، والحفظة الكرام الكاتبين ، وملك الموت وأعوانه ومنكر ونكير ومبشّر وبشير
، ورومان فتّان القبور ، والطائفين بالبيت المعمور ، ومالك والخزنة ، ورضوان وسدنة
الجنان ، والذين (لا يَعْصُونَ اللهَ
ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) [٦٦ / ٦] ، والذين
يقولون : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ
بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) [١٣ / ٢٤] ،
والزبانية الذين إذا قيل لهم (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ*
ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ) [٦٩ / ٣٠ ـ ٣١] ،
ابتدروه سراعا ولم ينظروه ، ومن أو همنا ذكره ، ولم نعلم مكانه منك ، وبأيّ أمر
وكّلته ، وسكّان الهواء والأرض والماء ، ومن منهم على الخلق.
فصلّ عليهم يوم
يأتي كلّ نفس معها سائق وشهيد» .
__________________
[٧]
باب
كثرة الملائكة
(وَما يَعْلَمُ
جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) [٧٤ / ٣١]
فصل [١]
قد ورد في الخبر : «إنّ بني آدم عشر الجنّ ، والجنّ وبني آدم عشر حيوانات
البرّ ، وهؤلاء كلّهم عشر حيوانات البحر ، وكلّهم عشر ملائكة البحر ، وكلّهم عشر
ملائكة الأرض الموكّلين بها ، وكلّ هؤلاء عشر ملائكة السماء الدنيا ، وكلّ هؤلاء
عشر ملائكة السماء الثانية ـ وعلى هذا الترتيب إلى ملائكة السماء السابعة ـ ثمّ
الكلّ في مقابلة ملائكة الكرسي نزر قليل.
ثمّ كلّ هؤلاء عشر
ملائكة السرادق الواحد من سرادقات العرش ـ التي [عددها] ستّمائة ألف ، طول كلّ سرادق وعرضه وسمكه إذا
__________________
قوبلت بها
السماوات والأرضون وما فيهما وما بينهما ، فإنّها كلّها تكون شيئا يسيرا وقدرا
صغيرا ؛ وما من مقدار موضع قدم إلّا وفيها ملك ساجد أو راكع أو قائم ، لهم زجل
بالتسبيح والتقديس.
ثمّ كلّ هؤلاء في
مقابلة الملائكة الذين يحومون حول العرش كالقطرة في البحر ، ولا يعرف عددهم إلّا
الله تعالى ، ثمّ هؤلاء مع ملائكة اللوح الذين هم أشياع إسرافيل والملائكة الذين
هم جنود جبرئيل عليهالسلام ـ كلّهم ـ سامعون مطيعون لأمر الله لا يفترون ، مشتغلون
بعبادة الله ، مطاب الألسنة بذكره وتعظيمه ، يتسابقون بذلك مذ خلقهم لا يستكبرون
عن عبادته آناء الليل والنهار لا يسأمون ، لا تحصى أجناسهم ولا مدّة أعمارهم
وكيفيّة عباداتهم».
فصل [٢]
وعن مولانا الصادق
عليهالسلام : «ليس خلق أكثر من الملائكة ، إنّه لينزل كلّ ليلة من
السماء سبعون ألف ملك ، فيطوفون بالبيت الحرام ليلتهم ، وكذلك في كلّ يوم».
وسأله رجل ـ فقال
ـ : «الملائكة أكثر ، أم بنو آدم»؟
__________________
فقال عليهالسلام : «والذي نفسي بيده ـ لملائكة الله في السماوات أكثر من
عدد التراب في الأرض ، وما في السماء موضع قدم إلّا وفيه ملك يسبّح له ويقدّسه ،
ولا في الأرض شجرة ولا عودة إلّا وفيها ملك موكّل يأتي الله في كلّ يوم بعملها ، الله أعلم بها ؛ وما منهم أحد إلّا ويتقرّب إلى الله
بولايتنا أهل البيت ، ويستغفر لمحبّينا ، ويلعن أعدائنا ، ويسأل الله أن يرسل
عليهم من العذاب إرسالا».
رواه في بصائر
الدرجات .
وفيه وفي الكافي بإسناديهما عن مولانا الباقر عليهالسلام : «والله ـ إنّ في السماء لسبعين صنفا من الملائكة ، لو
اجتمع أهل الأرض كلّهم يحصون عدد كلّ صنف منهم ما أحصوهم ، وإنّهم ليدينون
بولايتنا».
وعنه عليهالسلام قال : «إنّ في الجنّة نهرا يغتمس فيه جبرئيل عليهالسلام كلّ غداة ، ثمّ يخرج منه فينتقض ، فيخلق الله ـ تعالى ـ من
كلّ قطرة يقطر منه ملكا».
__________________
وروي «إنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله ـ حين عرج به ـ رأى ملائكة في موضع بمنزلة سوق ، بعضهم
يمشي تجاه بعض. فسأل رسول الله عليهالسلام : «إلى أين يذهبون»؟ قال جبرئيل : «لا أدري ؛ إلّا أنّي
أراهم منذ خلقت ، ولا أرى واحدا منهم قد رأيت قبل ذلك».
ثمّ سألوا واحدا
وقيل له : «منذ كم خلقت»؟
قال : «لا أدري ،
غير أنّ الله يخلق كوكبا في كلّ أربعمائة ألف سنة ، فخلق مثل ذلك الكوكب منذ خلقني
أربعمائة ألف مرّة».
* * *
__________________
[٨]
باب
أصناف الملائكة
وبدائع خلقهم
(جاعِلِ الْمَلائِكَةِ
رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما
يَشاءُ) [٣٥ / ١]
فصل [١]
[صفات الملائكة]
إنّ للملائكة صفات
عجيبة ونعوتا غريبة في لسان الشرع ، تدلّ على شيء من عظمة الله ـ جلّ جلاله ـ وبديع
خلقه ؛ فلنذكر جملة منها في فصول :
فمن أوصافهم
الواردة في الشرع كونهم رسل الله اولي أجنحة ـ كما في الآية المذكورة.
__________________
وعن النبي صلىاللهعليهوآله أنّه قال : «الملائكة على ثلاثة أجزاء : جزء له جناحان ، وجزء له
ثلاثة أجنحة ، وجزء له أربعة أجنحة».
رواه في الكافي.
وفي بعض الأخبار : «إنّ جبرئيل له ستّمائة جناح» .
ومنها : قربهم من
الله بالشرف والكرامة : (وَمَنْ عِنْدَهُ لا
يَسْتَكْبِرُونَ) [٢١ / ١٩] (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) [٢١ / ٢٦].
ومنها : عصمتهم عن
الذنوب والمعاصي : (لا يَعْصُونَ اللهَ
ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) [٦٦ / ٦] ، وذلك
لأنّ المعصية في الحقيقة
__________________
عبارة عن مخالفة
القوّة السافلة للقوّة العالية فيما لها أن يفعل للغرض الأعلى عند تخالف الأغراض
والدواعي ، وذلك إنّما يتصوّر فيما يتقوّم ذاته ووجوده من تركيب قوى وطبائع
متضادّة ، والملائكة ـ سيّما العليّون ـ منزّهون عن ذلك.
ومنها : مواظبتهم
على العبادة (يُسَبِّحُونَ
اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) [٢١ / ٢٠] ، (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ
وَنُقَدِّسُ لَكَ) [٢ / ٣٠] ، (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ*
وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) [٣٧ / ١٦٦].
ومنها : مبادرتهم
إلى امتثال أمر الله ـ تعظيما له ـ : (فَسَجَدَ
الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) [١٥ / ٣٠].
ومنها : أنّهم لا
يفعلون إلّا بوحيه وأمره : (لا يَسْبِقُونَهُ
بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) [٢١ / ٢٧].
ومنها : كونهم مع
كثرة عباداتهم وعدم إقدامهم على المعاصي والزلّات خائفين وجلين ، كأنّ عباداتهم
معاصي ـ تذلّلا لعظمته ، وحياء من قهّاريّته (يَخافُونَ رَبَّهُمْ
مِنْ فَوْقِهِمْ) [١٦ / ٥٠] (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) [٢١ / ٢٨] (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ
قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَ) [٣٤ / ٢٣].
روي في بعض
التفاسير : «إنّ الله ـ سبحانه ـ إذا تكلّم بالوحي سمعه أهل
السماوات مثل صوت الصلصلة على الصفوان ففزعوا ، فاذا
__________________
انقضى الوحي قال
بعضهم لبعضهم : ما ذا قال ربّكم؟ قالوا : الحقّ وهو العليّ الكبير».
وروى البيهقي في
شعب الإيمان ، عن ابن عبّاس ـ رضى الله عنه ـ قال : «بينما رسول الله صلىاللهعليهوآله بناحية ومعه جبرئيل عليهالسلام ، إذا انشقّ افق السماء فأقبل جبرئيل يتضاءل ويدخل بعضه في
بعض ويدنو من الأرض ؛ فإذا الملك مثل بين يدي رسول اللهصلىاللهعليهوآله ، فقال: «يا محمّد ـ إنّ ربّك يقرئك السلام ، ويخيّرك بين
أن تكون نبيّنا ملكا ، وبين أن تكون نبيّا عبدا»؟
ـ قال النبيّ صلىاللهعليهوآله : ـ فأشار جبرئيل عليهالسلام بيده أن تواضع ؛ فعرفت أنّه لي ناصح ، فقلت : «عبدا نبيّا».
فعرج ذلك الملك إلى السماء. فقلت : «يا جبرئيل قد كنت أردت أن أسألك عن هذا؟ فرأيت
من حالك ما شغلني عن المسألة ، فمن هذا يا جبرئيل»؟
فقال : «هذا
إسرافيل ، خلقه الله يوم خلقه بين يديه صافّا قدميه لا يرفع طرفه ، وبين الربّ
وبينه سبعون نورا ، ما منها نور يدنو منه إلّا احترق ؛ بين يديه اللوح المحفوظ ،
فاذا أذن الله في شيء من السماء والأرض ارتقم ما في ذلك إلى جبينه فيه ، فإن كان من عملي أمرني
__________________
به ، وإن كان من
عمل ميكائيل أمره به ، وإن كان من عمل عزرائيل أمره به». قلت : «يا جبرئيل ـ على
أي شيء أنت»؟
قال : «على الرياح
والحياة».
قلت : «وعلى أي
شيء ميكائيل»؟ فقال : «على النبات».
قلت : «على أي شيء
ملك الموت»؟ قال : «على قبض الأنفس. وما ظننت أنّه هبط إلّا لقيام الساعة ، وما
ذلك الذي رأيت منّي إلّا خوفا من قيام الساعة».
* * *
ومنها شدّة قوّتهم
؛ فإنّ ثمانية منهم يحملون العرش ، المشتمل على الكرسي ـ الذي وسع السماوات والأرض
ـ وينزلون من العرش في لحظة واحدة ، مع أنّ علوّ العرش لا يحيط به الفهم (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ
إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) [٧٠ / ٤]. وجبرئيل
بلغ من قوّته : إلى أن حمل جبال آل لوط وبلادهم دفعة واحدة ، وصاحب الصور بلغ في
القوّة إلى حيث أنّ بنفخة واحدة منه يصعق من في السماوات ومن في الأرض ، وبالنفخة
الثانية منه يعودون أحياء.
وفي الخبر : أنّ إسرافيل صاحب القرن ، وخلق الله ـ تعالى ـ اللوح
المحفوظ من درّة بيضاء ما بين السماء والأرض سبع مرّات ، وعلّقه بالعرش ، مكتوب
فيها ما هو كائن إلى يوم القيامة.
ولإسرافيل أربعة
أجنحة : جناح بالمشرق وجناح بالمغرب
__________________
وجناح ليستر عليه
ويغطّى به رأسه ووجهه من خشية الله الجبّار ، وناكس رأسه نحو العرش ، وأحد قوائم
العرش على كاهله ، ولا يحمل العرش إلّا بقدرة الله ، فإنّه يصغر من خشية الله مثل
العصفور.
وإذا قضى الله
بشيء في اللوح فيكشف الغطاء عن وجهه وينظر إلى ما قضى الله من حكم وأمر. وليس من
الملائكة أقرب مكانا من العرش من إسرافيل ، بينه وبين العرش سبعة حجب ، من الحجاب
إلى الحجاب مسيرة خمسمائة عام. وبين جبرئيل وإسرافيل سبعون حجابا وأنّه قائم قد
وضع الصور على فخذه الأيمن ورأس الصور على فمه ، فينتظر متى يؤمر فينفخ فيه ، فاذا
قضت مدّة الدنيا يدنو الصور إلى جهة إسرافيل ، فيضمّ إسرافيل أجنحته الأربعة ، ثمّ
ينفخ في الصور ، ويجعل ملك الموت إحدى كفّيه تحت الأرض السابعة ، فيأخذ أرواح أهل
السماوات والأرض ، ولا يبقى في الأرض إلّا إبليس ، وفي السماء فيبقى جبرئيل
وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل ، وهم الذين استثنى الله ـ تعالى ـ في قوله : (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) [٢٧ / ٨٧].
وعن مولانا سيّد
العابدين عليهالسلام : «إنّ لله ملكا يقال له خرقائيل ، له ثمانية عشر ألف جناح
، ما بين الجناح إلى الجناح خمسمائة عام ، فخطر له خاطر : «هل فوق العرش شيء»؟
فزاده الله ـ تعالى ـ مثلها أجنحة اخرى ، فكان له ستّ وثلاثون ألف جناح ، ما بين
الجناح
__________________
إلى الجناح
خمسمائة عام ؛ ثمّ أوحى الله إليه : «أيّها الملك طر» ؛ فطار مقدار عشرين ألف عام
، لم ينل رأس قائمة من قوائم العرش ؛ ثمّ ضاعف الله له في الجناح والقوّة ، وأمره
أن يطير ، فطار مقدار ثلاثين ألف عام ، لم ينل ـ أيضا ـ. فأوحى الله : «أيّها
الملك ـ لو طرت إلى نفخ الصور مع أجنحتك وقوّتك لم تبلغ إلى ساق عرشي».
فقال الملك : «سبحان
ربّي الأعلى».
فقال النبيّ صلىاللهعليهوآله : «اجعلوها في سجودكم».
فصل [٢]
وفي كتاب نهج
البلاغة عن مولانا أمير المؤمنين عليهالسلام أنّه قال في بعض خطبه في وصف الملائكة ما هذا لفظه :
«ثمّ خلق سبحانه
لإسكان سماواته وعمارة الصفيح الأعلى من ملكوته خلقا بديعا من ملائكته ، فملأ بهم
فروج فجاجها ، وحشا بهم فتوق أجوائها ، وبين فجوات تلك الفروج زجل المسبّحين منهم في حظائر القدس ، وسترات الحجب ، وسرادقات
المجد ، ووراء ذلك الضجيج الذي تستكّ منه الأسماع ؛ سبحات نور تردع الأبصار عن
__________________
بلوغها ، فتقف
خائبة على حدودها. أنشأهم على صور مختلفات ، وأقدار متفاوتات ، اولي أجنحة تسبّح
جلال عزّته ، لا ينتحلون ما ظهر في الخلق من صنعه ، ولا يدّعون أنّهم يخلقون شيئا
ممّا انفرد به ؛ (بَلْ عِبادٌ
مُكْرَمُونَ* لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) [٢١ / ٢٦ ـ ٢٧].
جعلهم الله فيما
هنالك أهل الأمانة على وحيه ، وحمّلهم إلى المرسلين ودائع أمره ونهيه ، وعصمهم من
ريب الشبهات ، فما منهم زائغ عن سبيل مرضاته ، وأيّدهم بفوائد المعونة ، وأشعر قلوبهم تواضع إخبات السكينة ، وفتح
لهم أبوابا ذللا إلى تماجيده ، ونصب منارا واضحة على أعلام توحيده.
لم تثقلهم موصرات
الآثام ولم ترتحلهم عقب الليالي والأيّام ، ولم ترم الشكوك بنوازغها عزيمة إيمانهم ، ولم تعترك الظنون على معاقد يقينهم ، ولا
قدحت قادحة الإحن فيما بينهم ، ولا سلبتهم الحيرة ما لاق من معرفته بضمائرهم ،
وسكن من عظمته وهيبة جلاله في أثناء صدورهم ، ولم تطمع فيهم الوساوس فتقترع برينها
على فكرهم.
منهم من هو في خلق
الغمام الدّلّح ، وفي عظم الجبال الشمّخ ، وفي قترة الظلام الأيهم ، ومنهم
من قد خرقت أقدامهم تخوم الأرض
__________________
السفلى ، فهي
كرايات بيض قد نفذت في مخارق الهواء ، وتحتها ريح هفّافة ، تحبسها على حيث انتهت من الحدود المتناهية ، قد
استفرغتهم أشغال عبادته ، ووسلت حقائق الإيمان بينهم وبين معرفته ، وقطعهم الإيقان به إلى
الوله إليه ، ولم تجاوز رغباتهم ما عنده إلى ما عند غيره.
قد ذاقوا حلاوة
معرفته ، وشربوا بالكأس الرويّة من محبّته ، وتمكّنت من سويداء قلوبهم وشيجة خيفته
، فحنوا بطول الطاعة اعتدال ظهورهم ، ولم ينفد طول الرغبة إليه مادّة تضرّعهم
، ولا أطلق عنهم عظيم الزلفة ربق خشوعهم ، ولم يتولّهم الإعجاب فيستكثروا ما سلف منهم ، ولا
تركت لهم استكانة الإجلال نصيبا في تعظيم حسناتهم ، ولم تجر الفترات فيهم على طول
دءوبهم ، ولم تغض رغباتهم فتخالفوا عن رجاء ربّهم ، ولم تجفّ لطول المناجاة أسلات ألسنتهم ولا ملكتهم الأشغال فتنقطع بهمس الحنين إليه أصواتهم ، ولم تختلف في مقادم الطاعة مناكبهم ، ولم يثنوا إلى راحة التقصير في أمره
رقابهم ، ولا تعدوا على عزيمة جدّهم بلادة الغفلات ، ولا تنتضل في هممهم خدائع
__________________
الشهوات ، قد
اتّخذوا ذا العرش ذخيرة ليوم فاقتهم ، ويمّموه عند انقطاع الخلق إلى المخلوقين برغبتهم ؛ لا يقطعون أمد
غاية عبادته ، ولا يرجع بهم الاستهتار بلزوم طاعته ، إلّا إلى موادّ من قلوبهم غير منقطعة من
رجائه ومخافته.
لم تنقطع أسباب
الشفقة منهم ، فينوا في جدّهم ، ولم تأسرهم الأطماع فيؤثروا وشيك السعي على اجتهادهم ، ولم يستعظموا ما مضى من أعمالهم ؛ ولو استعظموا ذلك لنسخ
الرجاء منهم شفقات وجلهم ، ولم يختلفوا في ربّهم باستحواذ الشيطان عليهم ، ولم
يفرّقهم سوء التقاطع ، ولا تولّاهم غلّ التحاسد ، ولا أشعبتهم مصارف الريب ، ولا
اقتسمتهم أخياف الهمم ، فهم اسراء إيمان لم يفكّهم من ربقته زيغ ، ولا عدول ولا
ونىّ ولا فتور ، وليس في أطباق السماء موضع إهاب إلّا وعليه ملك ساجد ، أو ساع حافد ؛ يزدادون على طول
الطاعة بربّهم علما ، وتزداد عزّة ربّهم في قلوبهم عظما.
__________________
فصل [٣]
وفي الكتاب
المذكور عنه عليهالسلام أيضا أنّه قال في خطبة اخرى في وصفهم :
ثمّ فتق ما بين
السماوات العلى ، فملأهنّ أطوارا من ملائكته ، منهم سجود لا يركعون ، ومنهم ركوع
لا ينتصبون ، وصافّون لا يتزايلون ، ومسبّحون لا يسأمون ، لا يغشاهم نوم العيون ،
ولا سهو العقول ، ولا فترة الأبدان ، ولا غفلة النسيان.
ومنهم أمناء على
وحيه ، وألسنة إلى رسله ، ومختلفون بقضائه وأمره ، ومنهم الحفظة لعباده ، والسدنة
لأبواب جنانه.
ومنهم الثابتة في
الأرضين السفلى أقدامهم ، والمارقة من السماء العليا أعناقهم ، والخارجة من
الأقطار أركانهم ، والمناسبة لقوائم العرش أكتافهم ، ناكسة دونه أبصارهم ،
متلفّعون تحته بأجنحتهم ، مضروبة بينهم وبين من دونهم حجب العزّة
وأستار القدرة ؛
لا يتوهّمون ربّهم
بالتصوير ، ولا يجرون عليه صفات المصنوعين ، ولا يحدّونه بالأماكن ، ولا يشيرون
إليه بالنظائر.
__________________
فصل [٤]
وفي كتاب التوحيد عنه عليهالسلام إنّه قال في بعض خطبه ـ بعد أن سئل عن قدرة الله ـ جلّت
عظمته ـ :
«إنّ لله ـ تبارك
وتعالى ـ ملائكة لو أنّ ملكا منهم هبط إلى الأرض ما وسعته ـ لعظم خلقه وكثرة
أجنحته ـ ومنهم من لو كلّفت الجنّ والإنس أن يصفوه ما وصفوه ـ لبعد ما بين مفاصله
وحسن تركيب صورته ـ وكيف يوصف من ملائكته من سبعمائة عام ما بين منكبيه وشحمة
اذنيه.
ومنهم من يسدّ
الافق بجناح من أجنحته ، دون عظم بدنه.
ومنهم من السماوات
إلى حجزته .
ومنهم من قدمه على
غير قرار في جوّ الهواء الأسفل ، والأرضون إلى ركبتيه.
ومنهم من لو القي
في نقرة إبهامه جميع المياه لوسعتها.
ومنهم من لو القيت
السفن في دموع عينيه لجرت دهر الداهرين
ـ فتبارك الله
أحسن الخالقين ـ».
__________________
فصل [٥]
وفي الكتاب
المذكور بإسناده عن ابن عبّاس عن النبيّ صلىاللهعليهوآله ـ أنّه قال : ـ
«إنّ لله ـ تبارك
وتعالى ـ ديكا رجلاه في تخوم الأرض السابعة ، ورأسه عند العرش ، ثاني عنقه تحت
العرش.
وهو ملك من ملائكة
الله ـ عزوجل ـ خلقه الله ـ تبارك وتعالى ـ ورجلاه في تخوم الأرض
السابعة السفلى ، مضى مصعدا فيها مدّ الأرضين ، حتّى خرج منها إلى افق السماء ، ثمّ
مضى فيها مصعدا حتّى انتهى قرنه إلى العرش ؛ وهو يقول : «سبحانك ربّي».
وإنّ لذلك الديك
جناحين إذا نشرهما جاوز المشرق والمغرب ؛ فاذا كان في آخر الليل نشر جناحيه وخفق
بهما وصرخ بالتسبيح يقول : «سبحان الملك القدّوس ، سبحان الكبير المتعال القدّوس ،
لا إله إلّا الله الحيّ القيّوم» ؛ فإذا فعل ذلك سبّحت ديكة الأرض كلّها ، وخفقت
بأجنحتها ، وأخذت في الصراخ ؛ فاذا سكن ذلك الديك في السماء سكنت الديكة في الأرض
؛ فإذا كان في بعض السحر [نشر جناحيه] فجاوز [ا] المشرق والمغرب وخفق بهما ، وصرخ بالتسبيح : «سبحان
الله العظيم ، سبحان الله العزيز القهّار ، سبحان الله ذي العرش المجيد ،
__________________
سبحان الله ربّ
العرش الرفيع» ، فإذا فعل ذلك سبّحت ديكة الأرض فاذا هاج هاجت الديكة في الأرض
تجاوبه بالتسبيح والتقديس لله ـ عزوجل ـ.
ولذلك الديك ريش
أبيض ـ كأشدّ بياض رأيته قطّ ـ وله زغب أخضر تحت ريشه الأبيض ـ كأشدّ خضرة رأيتها قطّ ـ فما زلت مشتاقا
إلى أن أنظر إلى خضرة ريش ذلك الديك».
وبهذا الإسناد عن النبيّ صلىاللهعليهوآله ـ قال : ـ «إنّ لله ـ تبارك وتعالى ـ ملكا من الملائكة نصف
جسده الأعلى نار ، ونصفه الأسفل ثلج ؛ فلا النار تذيب الثلج ، ولا الثلج يطفئ
النار ؛ وهو قائم ينادي بصوت له رفيع : «سبحان الذي كفّ حرّ هذه النار فلا يذيب
هذا الثلج ، وكفّ برد هذا الثلج فلا يطفئ حرّ النار ، اللهمّ مؤلّف بين الثلج
والنار ، ألّف بين قلوب عبادك المؤمنين على طاعتك».
وبهذا الإسناد عن النبيّ صلىاللهعليهوآله : «إنّ لله ـ تبارك وتعالى ـ ملائكة ليس شيء من أطباق
أجسادهم إلّا وهو يسبّح لله ـ عزوجل ـ ويحمده من ناحية بأصوات مختلفة ، لا يرفعون رءوسهم إلى
السماء ولا يخفضونها إلى أقدامهم من البكاء والخشية لله ـ عزوجل ـ».
__________________
فصل [٦]
وفي الكتاب
المذكور بإسناده إلى أصبغ بن نباتة ، قال : جاء ابن الكوّاء إلى أمير المؤمنين عليهالسلام فقال :
«يا أمير المؤمنين
ـ والله إنّ في كتاب الله ـ عزوجل ـ لآية قد أفسدت عليّ قلبى وشكّكتني في ديني».
فقال له عليّ عليهالسلام «ثكلتك أمّك
وعدمتك ، وما تلك الآية»؟
قال : «قول الله ـ
عزوجل ـ (وَالطَّيْرُ
صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) [٢٤ / ٤١]».
فقال له أمير
المؤمنين عليهالسلام : «يا ابن الكوّاء ـ إنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ
__________________
خلق الملائكة في
صور شتّى ، إلا أنّ لله ملكا في صورة ديك أبحّ أشهب ، براثنه في الأرض السابعة السفلى ، وعرفه مثنّى تحت العرش
؛ له جناحان : جناح في المشرق ، وجناح في المغرب ؛ واحد من نار ، والآخر من ثلج ؛
فاذا حضر وقت الصلاة قام على براثنه ، ثمّ رفع عنقه من تحت العرش ، ثمّ صفّق
بجناحيه ، ثمّ تصفّق الديوك في منازلكم ؛ فلا الذي من النار تذيب الثلج ، ولا
الّذي من الثلج يطفئ النار ؛ فينادي : أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ،
وأشهد أنّ محمّدا سيّد النبيّين ، وأنّ وصيّه سيّد الوصيّين ، وأنّ الله سبّوح
قدّوس ربّ الملائكة والروح».
ـ قال : ـ فقال : «فتخفق
الديكة بأجنحتها في منازلكم فتجيبه عن قوله ؛ وهو قوله عزوجل : (وَالطَّيْرُ
صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) [٢٤ / ٤١] ـ من
الديكة في الأرض» انتهى كلامه صلوات الله عليه.
فسبحان من يسبّح
الرعد بحمده ، والملائكة من خيفته ،
قدّوس سبّوح ، ربّ
الملائكة والروح.
هذا آخر الكلام في
العلم بالملائكة
والحمد لله وحده.
* * *
__________________
المقصد الثالث
العلم بالكتب والرسل
(صلوات الله عليهم)
(لَقَدْ أَرْسَلْنا
رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ
النَّاسُ بِالْقِسْطِ) [٥٧ / ٢٥]
[١]
باب الاضطرار إلى
الرسل والشرائع
وأسرار التكاليف
(وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ
إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) [٣٥ / ٢٤]
فصل [١]
[الاضطرار إلى الشرع والشارع]
اعلم أنّ الدنيا
منزل من منازل السائرين إلى الله ـ عزوجل ـ والبدن مركب ، ومن ذهل عن تدبير المنزل والمركب لم يتمّ
سفره ، وما لم ينتظم أمر المعاش في الدنيا لا يتمّ أمر التبتّل والانقطاع إلى الله
، الذي هو السلوك ، ولا يتمّ ذلك حتّى يبقى بدنه سالما ، ونسله دائما ، وإنّما
يتمّ كلاهما بأسباب الحفظ لوجودهما ، وأسباب الدفع لمفسداتهما ومهلكاتهما.
__________________
أمّا أسباب الحفظ
لوجودهما : فالأكل والشرب ـ وذلك لبقاء البدن ـ والمناكحة ـ وذلك لبقاء النسل ـ وقد
خلق الله الغذاء سببا للحياة ، والاناث محلا للحراثة ؛ إلّا أنّه ليس يختصّ
المأكول والمنكوح ببعض الآكلين والناكحين بحكم الفطرة ، مع أنّهم محتاجون إلى
تمدّن واجتماع وتعاون ، إذ لا يمكن لكلّ منهم أن يعيش وحده ، يتولّى تدبيراته
المتكثّرة المختلفة من غير شريك يعاونه على ضروريّات حاجاته ؛
بل لا بدّ ـ مثلا
ـ لأن ينقل هذا لهذا ، ويطحن هذا لهذا ، ويخبز هذا لهذا ـ وعلى هذا القياس ـ
فافترقت أعداد ،
واختلفت أحزاب ، وانعقدت ضياع وبلاد ، فاضطرّوا في معاملاتهم ومناكحاتهم وجناياتهم
إلى قانون مرجوع إليه بين كافّتهم ، يحكمون به بالعدل ، وإلّا لتهارشوا وتقاتلوا ،
بل شغلهم ذلك عن السلوك للطريق ، بل أفضى بهم إلى الهلاك ، وانقطع النسل ، واختلّ
النظام ، لما جبّل عليه كلّ أحد من أنّه يشتهي لما يحتاج إليه ويغضب على من يزاحمه
فيه.
وذلك القانون هو
الشرع.
وذلك القانون هو
الشرع.
ولا بدّ من شارع
يعيّن لهم ذلك القانون والمنهج ، لينتظم به معيشتهم في الدنيا ، ويسنّ لهم طريقا
يصلون به إلى الله ـ عزوجل ـ بأن يفرض عليهم ما يذكّرهم أمر الآخرة والرحيل إلى ربّهم
، وينذرهم يوم ينادون فيه (مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) [٥٠ / ٤١] ،
وينشقّ (الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً) [٥٠ / ٤٤] ،
(وَيَهْدِيهِمْ إِلى
صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [٥ / ١٦] ،
لئلّا ينسوا ذكر
ربّهم ويذهلوا بدنياهم عن عقباهم التي هي الغاية القصوى والمقصد الأقصى .
فصل [٢]
وبوجه آخر : لمّا
كان الإنسان في أوّل أمره ومبدأ نشوءه خاليا عن كماله الذي خلق له ، قاصرا عن
الغاية التي ندب إليها ـ كما قال تعالى : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ
مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) [١٦ / ٧٨] ـ قابلا
إيّاه بفطرته التي فطر عليها ، يمكن له الوصول إليه بما اوتي من أسبابه ، وهيّئ له
من شرائطه ـ كما قال : (وَجَعَلَ لَكُمُ
السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [١٦ / ٧٨] وقال : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ
لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [٣ / ١٠٣] ـ
ـ لكنّه ممنوع
بمقتضيات نشأته التي جبّل عليها ـ لو خلّي وشأنه ـ لتشاكله على ما يقتضيه مزاجه
وطبيعته بحسب الغالب من قواه ، وموجب طينته وهواه ، ـ كما قال : (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) [١٧ / ٨٤] ـ إذ
كلّ مزاج يناسب قوّة دون اخرى ، ويسهل له فعل بعضها ممّا يلائم حالها دون بعض ؛
على ما عبّر عنه في القرآن مرّة بقوله : (خُلِقَ الْإِنْسانُ
مِنْ عَجَلٍ) ، [٢١ / ٣٧] واخرى : (كانَ الْإِنْسانُ
قَتُوراً) ، [١٧ / ١٠٠] (إِنَّ الْإِنْسانَ
خُلِقَ هَلُوعاً) ، [٧٠ / ١٩] (إِنَّهُ كانَ
ظَلُوماً جَهُولاً) [٣٣ / ٧٢].
__________________
فمن الواجب أن
يكون له سياسة تسوسه وتربّيه لصلاحيّته الكمال ، وتدبّره وتجريه في طريق الخير
والسعادة ؛ وإلّا لبقي في مرتبة البهائم ، وحيل بينه وبين النعيم الدائم.
فصل [٣]
[وجوب بعث الأنبياء]
وكما لا بدّ في
العناية الإلهيّة لنظام العالم من المطر ، ورحمة الله لم تقصر عن إرسال السماء
مدرارا لحاجة الخلق ؛ فنظام العالم لا يستغني عمّن يعرّفهم موجب صلاح الدنيا
والآخرة.
نعم ـ من لم يهمل
إنبات الشعر على الحاجبين للزينة ، وكذا تقعير الأخمص في القدمين ـ كيف أهمل وجود
رحمة للعالمين؟ مع ما في ذلك النفع العاجل السلامة في العقبى ، والخير الآجل؟ أم
من لم يترك الجوارح والحواسّ حتّى جعل لها رئيسا يصحّح لها الصحيح ، ويتيقّن به ما
شكّت فيه ـ وهو الروح ـ كيف يترك الخلائق كلّهم في حيرتهم وشكّهم وضلالتهم ، لا
يقيم لهم هاديا يردّون إليه شكّهم وحيرتهم؟!
روي في الكافي بإسناده عن مولانا الصادق عليهالسلام أنّه قال للزنديق
__________________
الّذي سأله : «من
اين أثبتّ الأنبياء والرسل»؟ :
«إنّا لمّا أثبتنا
أنّ لنا خالقا صانعا متعاليا عنّا وعن جميع ما خلق ، وكان ذلك الصانع حكيما
متعاليا ، لم يجز أن يشاهده خلقه ولا يلامسوه ، فيباشرهم ويباشروه ، ويحاجّهم
ويحاجّوه : ثبت أنّ له سفراء في خلقه يعبّرون عنه إلى خلقه وعباده ، ويدلّونهم على
مصالحهم ومنافعهم ، وما به بقاؤهم وفي تركه فناؤهم ؛ فثبت الآمرون والناهون عن
الحكيم العليم في خلقه ، والمعبّرون عنه جلّ وعزّ ؛ وهم الأنبياء وصفوته من خلقه ،
حكماء مؤدّبين بالحكمة ، مبعوثين بها ، غير مشاركين للناس ـ على مشاركتهم لهم في
الخلق والتركيب ـ في شيء من أحوالهم ، مؤيّدين عند الحكيم العليم بالحكمة. ثمّ ثبت ذلك في كلّ دهر وزمان
ممّا أتت به الرسل والأنبياء من الدلائل والبراهين ، لكيلا تخلوا أرض الله من حجّة
يكون معه علم يدلّ على صدق مقالته وجواز عدالته».
فصل [٤]
[النبي إنسان صاحب معجزة]
ويجب أن يكون ذلك
السانّ إنسانا ، لأنّ مباشرة الملك لتعليم الإنسان على هذا الوجه مستحيل ـ كما قال
الله عزوجل : (وَلَوْ جَعَلْناهُ
مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) [٦ / ٩] ودرجة
باقي الحيوانات أنزل.
__________________
ولا بدّ من تخصّصه
بآيات من الله ـ سبحانه ـ دالّة على أنّ شريعته من عند ربّهم العالم ، القادر ،
الغافر ، المنتقم ؛ ليخضعوا له ، ويلزم لمن وقف لها أن يقرّ بتقدّمه ورئاسته ؛ وهي
المعجزة ؛ وإليه الإشارة بقول الصادق عليهالسلام :
«يكون معه علم
يدلّ على صدق مقالته وجواز عدالته».
فصل [٥]
[ما يجب على النبي أن يقرره ويأتي به]
قال بعض أهل العلم
والحكمة :
«يجب على النبي أن
يسنّن للناس في امورهم سننا بإذن الله وأمره ووحيه ، وإنزاله الروح القدس عليه ؛
ويكون الأصل الأوّل فيما يسنّه تعريفه إيّاهم أنّ لهم صانعا واحدا قادرا ، وأنّه
عالم بالسرّ والعلانية ، وأنّه من حقّه أن يطاع بأمره ـ فإنّه يجب أن يكون الأمر
لمن له الخلق ـ وأنّه قد أعدّ لمن أطاعه النعيم ، ولمن عصاه الجحيم ، حتّى يتلقّوا
رسمه المنزل على لسانه من الله والملائكة بالسمع والطاعة.
ولا ينبغي له أن
يشغلهم بشيء من معرفة الله فوق معرفة أنّه واحد ، حقّ ، لا شبيه له ؛ لئلّا يعظم
عليهم الشغل ويشوّش
__________________
فيما بين أيديهم
الدين ، ويوقعهم فيما لا مخلص عنه ـ من الشكوك والشبه ـ إلّا لمن كان المعان
الموفّق ، الذي يشذّ وجوده ويندر كونه ؛ فإنّهم لا يمكنهم تصوّر ذلك على وجهه إلّا
بكدّ ، فيقعوا في تنازع وآراء مختلفة مخالفة لصلاح المدينة.
بل يجب أن يعرفهم
جلالة الله وعظمته برموز وأمثلة من الأشياء التى هي عندهم جليلة وعظيمة ، ويلقي
إليهم مع هذا أنّه لا نظير له ولا شريك ولا شبيه.
وكذلك يقرر لهم
أمر المعاد على وجه يتصوّرون كيفيّته ويسكن إليه نفوسهم ، ويضرب للسعادة والشقاوة
أمثالا مما يفهمونه ويتصوّرونه ، وإن اشتمل مع ذلك على رموز وإشارات يستدعي
المستدعين بالجبلّة للنظر إلى البحث الحكميّ فلا بأس».
فصل [٦]
[يلزم على النبي إيجاب العبادات]
ويجب أن يلزمهم
الطاعات والعبادات ليسوقهم بالتعويد عن مقام الحيوانيّة إلى مقام الملكيّة :
إمّا امورا
وجوديّة يخصّهم نفعها ـ كالصلوات والأذكار على هيئة الخشوع والخضوع ليحرّكهم
بالشوق إلى الله ـ أو يعمّ نفعها لهم ولغيرهم ـ كالصدقات والقرابين في هيكل
العبادات ـ
__________________
وإمّا امورا
عدميّة تزكّيهم ؛ إمّا تخصّهم كالصيام ؛ أو تعمّهم وغيرهم كالكفّ عن الكذب وإيلام
النوع والحبس ، والصمت.
وأن يسنّ عليهم
أسفارا ينزعجون فيها عن بيوتهم طالبين رضاء ربّهم ، ويتذكّرون يوما (مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ
يَنْسِلُونَ) [٣٦ / ٥١] ،
فيزورون الهياكل الإلهيّة ، والمشاهد النبويّة ونحوها.
ويشرع لهم عبادات
يجتمعون عليها ـ كالجمعة والجماعات ـ فيكسبون مع المثوبة التودّد والايتلاف
والمصافاة ؛ ويكرّر عليهم العبادات والأذكار في كل يوم لئلّا ينسوا ذكر ربّهم
فيهملوا.
فصل [٧]
[يلزم على النبي إيجاب قواعد مدنية]
ويجب أيضا : أن
يقنّن للناس قوانين الاختصاصات في الأموال وعلاماتها ، من عقود المعاوضات
والمداينات ، وقسمة المواريث والغنائم والصدقات ؛ ويعرّف كيفيّة التخصيص عند
الاستبهام بالأقارير والأيمان والشهادات.
ويقنّن قوانين
الاختصاص بالاناث وعلاماتها ، من أحكام النكاح والطلاق والرجعة والعدّة ، ومحرّمات
النسب والرضاع ، والمصاهرات وسائر المعاملات ؛ وأن يفرض في المعاملات المؤدّية إلى
الأخذ والإعطاء سننا تمنع وقوع الغرر والحيف ، وأن يحرّم المعاملات التي فيها غرر.
__________________
وأن يسنّ على
الناس معاونة الناس والذبّ عنهم ، ووقاية أموالهم وأنفسهم من غير أن يغرم متبرّع
فيما يلحق بتبرّعه.
وأن يحرّم البطالة
والتعطّل والصناعات التي تقع فيها انتقالات الأملاك والمنافع من غير مصالح تكون
بإزائها ، ولو منفعة أو ذكر جميل كالقمار ، وكذا الذي تدعوا إلى أضداد المصالح
والمنافع كالسرقة والقيادة والحرف التي تغني الناس عن تعلّم الصناعات الداخلة في
الشركة كالربا ، والأفعال التي تؤدّي إلى ضدّ ما عليه بناء التمدّن كالزنا
واللواطة المؤدّيين إلى الاستغناء عن التزويج ، الذي به يحصل التناسل الضروري لحفظ
النوع.
وأن يدعو إلى
التزويج ويحرّض عليه ، لأنّ في بقاء الأنواع دليل وجود الله ـ سبحانه ـ وعبادته
المطلوبة من الخلق.
وأن يؤكّد الامور
في ثبوت هذه الوصلة ، حتّى لا يقع بأدنى سبب فرقة ، فتؤدّي إلى تشتّت الشمل الجامع
للأولاد ووالديهم ، وإلى تجدّد احتياج كل إنسان إلى المزاوجة ـ وفي ذلك أنواع من
الضرر ـ.
وأن يكون إلى
الفرقة سبيل ما ، لأنّ من الطبائع ما لا يتئالف ، فكلّما اجتهد إلى الجمع زاد
الشرّ والنبوّ وتبغّضت المعايش ، وربّما كان الزوج غير كفؤ ولا حسن المذاهب في
العشرة ، فتدعوا الرغبة في غيره ، إذ الشهوة طبيعيّة فيؤدّى ذلك إلى وجوه من
الفساد ؛ وربّما كان المتزاوجان لا يتعاونان على النسل ، فاذا بدّلا بآخرين
تعاونا.
ويجب أن تكون
الفرقة مشدّدا فيها ، ولا تكون في يدي المرأة ، لأنّها واهية العقل ، مبادرة إلى
متابعة الهوى والغضب.
وأن يسنّن فيها
التستّر والتخدّر ، لأنّ من حقّها أن تصان ، لكثرة شهوتها وانخداعها وقلّة عقلها ،
وكون الاشتراك فيها ممّا يوقع أنفة وعارا عظيما ـ وهي من المضارّ المشهورة ـ بخلاف
الاشتراك في الرجل ، فإنّه لا يوقع عارا ، بل حسدا ، والحسد غير ملتفت إليه لأنّه
طاعة للشيطان ، ولذلك يجب أن يسنّ لها أن تكفى من جهة الرجل ، فيلزم الرجل نفقتها
، لكن الرجل يجب أن يعوّض من ذلك عوضا ، وهو أنّه يملكها ولا تملكه ، فلا يكون لها
أن تنكح غيره ، وأمّا الرجل فلا يحجر عليه في هذا الباب ، وإن حرّم عليه تجاوز عدد
لا يفي بإرضاء ما وراءه وعوله.
ويسنّ في الولد أن
يتولّاه كلّ واحد من الأبوين في التربية ، أمّا الوالدة فبما تحضنه ، وأمّا الوالد
فبالنفقة.
وكذلك الولد ـ أيضا
ـ يسنّ عليه خدمتهما وطاعتهما وإكبارهما وإجلالهما ، فهما سببا وجوده ، ومع ذلك
فقد احتمالا مئونته.
وأن يسنّ في
الأخلاق والعادات سننا تدعو إلى العدالة التي هي الوساطة لتزكية النفوس ولمصالح
دنيويّة ، فإنّ الرذائل الإفراطية ، تضرّ في المصالح الإنسانيّة ، والتفريطيّة
تضرّ في التمدّن.
وأن يسنّ مقاتلة
الكفّار وأهل البغي ـ بعد أن يدعوهم إلى الحقّ ـ دفعا لما يعرض من الجاحدين للحق
من تشويش أسباب الديانة والمعيشة ، اللتين بهما الوصول إلى الله.
وأن يباح أموالهم
وفروجهم ، لأنّها ليست عائدة بالمصلحة التي تطلب الأموال والفروج لها ، بل معينة
على الفساد والشرّ.
وإذ لا بدّ للناس
من الخدم فيجب أن يكون أمثال هؤلاء يجبرون على خدمة أهل الحقّ ، وكذا كلّ من كان
بعيدا عن تلقّن الفضيلة ممّن لم تكن له قريحة صحيحة ـ مثل الترك والزنج ـ
وإذا كانت لقوم
سنّة حميدة لم يتعرّض لهم ، إلّا أن يكون الوقت يوجب التصريح بأن لا سنّة غير
السنّة النازلة ، فحينئذ يؤدّب هؤلاء ـ أيضا ـ ويجاهدوا ـ لكن مجاهدة دون مجاهدة
أهل الضلال الصرف ـ أو يلزموا غرامة على ما يؤثرونه ، فيسالمون على فداء أو جزية.
وبالجملة يصحّح
عليهم أنّهم مبطلون ، وكيف لا يكونون مبطلين ، وقد امتنعوا من طاعة الشريعة التي
أنزلها الله تعالى؟!
ويجب عليه أن ينصب
خليفة يكون إماما للناس بعده ، يحفظ ويبقي سنّته وشرعه إلى بعثه نبيّ آخر ، لأنّ
النبيّ ليس ممّا يتكرّر وجود مثله في كلّ وقت ، ولا الناس يحتاجون إلى شريعة
متجدّدة في كلّ حين.
وأن لا يكون
الاستخلاف إلى التشعّب والتشاغب والاختلاف.
وأن يفرض على
الناس جميعا طاعة من يخلفه ، ويحكم في سنّته أنّ من خرج وادّعى خلافته بفضل قوّة
أو مال فعلى كافّتهم قتاله وقتله ، فإن قدروا ولم يفعلوا فقد عصوا الله وكفروا به
، ويحلّ دم من قعد عن ذلك وهو متمكّن بعد أن يصحّ على رأس الملأ ذلك منه.
ويجب أن يسنّ أن
لا قربة عند الله بعد الإيمان بالنبيّ أعظم من إتلاف هذا المتغلّب ، لينضبط
السياسة الدينيّة التي يتولّاها حارس السالكين وكافل المحقّين نائبا عن رسول الله
ربّ العالمين.
هذا ملخّص ما ذكره
بعض أهل العلم والحكمة في هذا الباب ، وقد ورد عن أهل البيت عليهمالسلام في علل الأحكام والشرائع أخبار ونصوص مفصّلة ، منعنا عن
إيرادها خوف الإطالة والإطناب ، فمن أراد الاطلاع عليها فليراجع إلى كتاب علل
الشرائع للصدوق ـ رحمهالله ـ وإلى كتاب عيون أخبار الرضا عليهالسلام له وإلى غير ذلك.
فصل [٨]
قد ذكر بعض
العلماء ضابطة يعلم بها كبائر المعاصى عن صغائرها ، بل مراتب
التكاليف الشرعيّة كلّها أو جلّها ، وملخّصها :
«إنّا نعلم بشواهد
الشرع وأنوار البصائر ـ جميعا ـ أنّ مقصود الشرائع ـ كلّها ـ سياقة الخلق إلى جوار
الله وسعادة لقائه ، وأنّه لا وصول لهم إلى ذلك إلّا بمعرفة الله ـ تعالى ـ ومعرفة
صفاته ورسله وكتبه ، وإليه الإشارة بقوله ـ عزوجل ـ (وَما خَلَقْتُ
الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [٥١ / ٥٦] أي
ليكونوا عبيدا ولا يكون العبد عبدا ما لم يعرف ربّه بالربوبيّة ونفسه بالعبوديّة ؛
فلا بدّ وأن يعرف نفسه وربّه.
فهذا هو المقصود
الأصلي ببعثة الأنبياء ؛ ولكن لا يتمّ هذا إلّا في الحياة الدنيا ، وهو المعنيّ
بقوله عليهالسلام :
__________________
«الدنيا مزرعة
الآخرة» .
فصار حفظ الدنيا ـ
أيضا ـ مقصودا تابعا للدين ، لأنّه وسيلة إليه ، والمتعلّق من الدنيا بالآخرة
شيئان : النفوس والأموال.
فكلّ ما يسدّ باب
معرفة الله ، فهو أكبر الكبائر ، ويليه ما يسدّ باب حياة النفوس ، ويلى ذلك ما
يسدّ باب المعايش التي بها حياة النفوس.
فهذه ثلاث مراتب :
فحفظ المعرفة على القلوب والحياة على الأبدان والأموال على الأشخاص ضروريّ في
مقصود الشرائع كلّها.
وهذه ثلاثة امور
لا يتصوّر أن يختلف فيها الملل ، فلا يجوز أن يبعث الله ـ تعالى ـ نبيّنا يريد
ببعثته إصلاح الخلق في دينهم ودنياهم ، ثمّ يأمرهم بما يمنعهم عن معرفته ومعرفة
رسله ، ويأمرهم بإهلاك النفوس وإهلاك الأموال ؛
فحصل من هذا أنّ
الكبائر على ثلاث مراتب :
الاولى
: ما يمنع من معرفة
الله ومعرفة رسله ـ وهو الكفر ـ
__________________
فلا كبيرة في
المعاصي فوق الكفر ، كما لا فضيلة فوق الإيمان ـ على مراتبه في قوّة المعرفة
وضعفها ـ لأنّ الحجاب بين العبد وبين الله هو الجهل ؛
ويتلو الجهل
بحقائق الإيمان ـ أعني الكفر ـ الأمن من مكر الله والقنوط من رحمته ، فانّ هذا باب
من الجهل بالله ـ بل عينه ـ فمن عرف الله لم يتصوّر أن يكون آمنا من مكره ، ولا
يكون آيسا من رحمته ؛
ويتلو هذه الرتبة
البدع ـ كلّها ـ المتعلّقة بذات الله وصفاته وأفعاله ـ وبعضها أشدّ من بعض ـ.
المرتبة
الثانية : قتل النفوس ، إذ
ببقائها تدوم الحياة وبدوامها تحصل المعرفة والإيمان بالله وآياته ؛ فهو لا محالة
من الكبائر ـ وإن كان دون الكفر ـ لانّه يصدم عن المقصود ، وهذا يصدم عن وسيلته ؛
ويتلو هذه الكبيرة
قطع الأطراف ، وكلّ ما يفضي إلى الهلاك ـ حتّى الضرب ـ وبعضها أكبر من بعض ؛
ويقع في هذه
الرتبة تحريم الزنا واللواطة ، لأنّه لو اجتمع الناس على الاكتفاء بالذكور لانقطع
النسل ، ودفع الوجود قريب من رفعه ؛ وأمّا الزنا فإنّه وإن لم يفوّت أصل الوجود ،
ولكن يشوّش الأنساب ويبطل التوارث والتناصر وما يتعلّق بهما ، من عدم انتظام العيش
، وتحريك أسباب تكاد تفضي إلى التقاتل.
المرتبة
الثالثة : تلف الأموال
لأنّها معايش الخلق ، فلا بدّ
من حفظها ؛ إلّا
أنّه إذا اخذت أمكن استردادها ، وإن اكلت أمكن تغريمها ؛ فليس يعظّم الأمر فيها ؛
نعم إذا اخذ بطريق يعسر التدارك له فينبغى أن يكون ذلك من الكبائر ، وذلك بطرق
خفيّة ـ كالسرقة ، وأكل الولي مال اليتيم وتفويته بشهادة الزور وباليمين الغموس ـ فإنّ
في هذه الطرق لا يمكن الاسترداد والتدارك ، ولا يجوز أن يختلف الشرائع في تحريمها
أصلا ؛ وبعضها أشدّ من بعض ، وكلّها دون الرتبة الثانية المتعلّقة بالنفوس.
وأمّا أكل الربا :
فلا يبعد أن يختلف فيه الشرائع ، إذ ليس فيه إلّا أكل مال الغير بالتراضي مع
الإخلال بشرط وضعه الشارع ، إلّا أنّ الشارع عظّم الزجر عنه وعدّه من الكبائر
لمصلحة يراها ، وإن لم يجعل الغصب ـ الذي هو أكل مال الغير بغير رضاه وبغير رضا الشرع
ـ منها ؛
والله أعلم.
* * *
فصل [٩]
وليعلم أنّ الغرض
الأصلي من إرسال الرسل ووضع الشرائع إنّما هو استخدام الغيب للشهادة ، وسياقة
الخلق إلى الله ، وخدمة الشهوات للعقول ، وإرجاع الدنيا إلى الآخرة ، والحثّ على
هذه الامور والزجر على عكسها ، لكي ينجو الخلائق من عذاب الآخرة والوبال ، ووخامة
العاقبة وسوء المآل ، ويفوزوا بالسعادة القصوى على قدر استعداداتهم ؛ وإلّا فيكفي
الإنسان ـ في أن يعيش ـ نوع من السياسة يحفظ اجتماعهم الضروري ، وإن كان ذلك منوطا
بتغلّب أو ما يجري مجراه ـ كما ترى من تعيّش سكّان أطراف العمارة بالسياسات
الضروريّة ـ
فالسياسة
الدنيويّة بالنسبة إلى النبي إنّما هو بالعرض ـ لا بالذات ـ مع أنّه لا شيء منها
إلّا وفيه حكمة اخرويّة ، إذا باشرها النبىّ أو نائبه ؛ فإنّك إذا تدبّرت في
الأحكام الشرعيّة لم تجد شيئا منها خاليا عن تقوية الجنبة العالية ـ وإن كان ممّا
يتعلّق بامور الدنيا ـ.
قال بعض الحكماء :
«إذا قام العدل خدمت الشهوات للعقول ، وإذا قام الجور خدمت العقول للشهوات» ؛ فطلب
الآخرة أصل كلّ سعادة ، وحبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة. وليلاحظ العاقل اللبيب هذا
الأصل في حكمة كلّ ما امر به او نهي عنه في الشريعة.
قيل : نسبة النبوّة إلى الشريعة كنسبة الروح إلى الجسد الذي
فيه الروح ؛ والسياسة المجرّدة عن الشرع كجسد لا روح فيه.
__________________
[٢]
باب
صفات النبي واصول
المعجزات
(يُلْقِي الرُّوحَ
مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) [٤٠ / ١٥]
فصل [١]
النبيّ من اطّلعه
الله من صفوة خلقه على ما يشاء من أحكام وحيه وأسرار غيبه وأمره ، تارة بالمشافهة
، وتارة بواسطة ملك ، وتارة بإلقاء ذلك في قلبه.
قال بعض المحقّقين
:
«ومن صفاته أن
يكون صافي النفس في قوّتها النظريّة ، صفاء تكون شديدة الشبه بالروح الأعظم ،
فيتّصل به متى أراد من غير كثير تعمّل وتفكّر ؛ حتّى يفيض عليه العلوم اللدنيّة من
غير توسّط تعليم بشري ، بل يكاد زيت عقله يضيء
__________________
ولو لم تمسسه نار
التعليم البشري ، بمقدحة الفكر وزند البحث والتكرار. فإنّ النفوس متفاوتة في درجات
الحدس والاتّصال بعالم النور. فمن محتاج إلى التعلّم في جلّ المقاصد ـ بل كلّها ـ ومن
غبيّ لا يفلح في فكره ولا يؤثر فيه التعليم أيضا ، حتّى خوطب النبيّ الهادي في
حقّه : (إِنَّكَ لا تَهْدِي
مَنْ أَحْبَبْتَ) [٢٨ / ٥٦] ولا
تسمع (مَنْ فِي الْقُبُورِ) [٣٥ / ٢٢] و (لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ
الصُّمَّ الدُّعاءَ) [٢٧ / ٨٠ و ٣٠ /
٥٢].
وذلك لعدم وصولهم
بعد إلى درجة استعداد الحياة العقليّة ؛ فلم يكن لهم سمع باطنيّ يسمع به الكلام
المعنوي والحديث الربّانيّ : (لَهُمْ قُلُوبٌ لا
يَفْقَهُونَ بِها [وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها]) وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها [٧ / ١٧٩].
ومن شديد الحدس
كثيره ـ كيفا وكمّا ـ سريع الاتّصال بعالم الملكوت ، يدرك بحدسه أكثر المعلومات في
زمان قليل إدراكا شريفا نوريّا سمّيت نفسا قدسيّة ، ينتهي بقوّة حدسه إلى آخر
المعقولات في زمان قصير من غير تعلّم ، فيدرك امورا يقصر عن دركها غيره من الناس
إلّا بتعب الفكر والرياضة في مدّة كثيرة ، فيقال له «نبيّ» ، أو «وليّ» ، وأنّ ذلك
منه أعلى ضروب المعجزة والكرامة ، وهو من الممكنات الأقليّة ، وبينهما مراتب
ودرجات.
وأن يكون قوّته
المتخيّلة قويّة ، بحيث يشاهد في اليقظة
__________________
عالم الغيب ،
وتتمثّل له الصور المثاليّة الغيبيّة ، ويسمع الأصوات الملكوتيّة ، ويتلقّى
المغيّبات والأخبار الجزئيّة من الملكوت ، فيطّلع على الحوادث الماضية والآتية.
وأن يكون قوّته
الحسّاسة والمحرّكة في القوّة بحيث تؤثّر في مادّة العالم بإزالة صورة وإلباس اخرى
؛ فيحيل الهواء إلى الغيم بإذن الله ، ويحدث الأمطار والزلازل لاستهلاكه أمّة فجرت
وعتت عن أمر ربّها ورسله ، ويسمع دعاؤها في الملك والملكوت لعزيمة قوّتة ، فيستشفي
المرضى ، ويستسقي العطشى ، ويخضع له الحيوانات.
فإنّ الأمزجة يجوز
أن تتأثّر عن الأوهام بإذن الله ـ إمّا عن أوهام عاميّة ، أو عن أوهام شديدة
التأثير في بدء الفطرة أو بالتعويد والاكتساب ـ فلا عجب من أن يكون لبعض النفوس
قوّة كماليّة مؤيّدة من عند الله ـ عزوجل ـ تؤثّر في غير بدنها تأثيرها في بدنها ، فتطيعها مادّة
العالم طاعة البدن للنفس ؛ فتؤثّر في إصلاحها وإهلاك ما يفسدها أو يضرّها ؛ كلّ
ذلك لمزيد قوّة شوقيّة واهتزاز علوىّ يوجب شفقة على خلق الله ، شفقة الوالد لولده.
وكيف لا يجوز ذلك
، وقد جاز في جانب الشرّ من النفوس الشريرة الدنيّة كالعين ؛ فجوازه في جانب الخير
من النفوس العظيمة الشديدة البطش ـ المستحقّة لمسجوديّة الملائكة وتعليمهم الأسماء
ـ أرجح وأولى.
والجمهور يعظّمون
هذه الخاصيّة أكثر من الأوّلين ، لغلبة
الجسمانيّة عليهم
، ثمّ يعظّمون أمر الإخبار عن الحوادث الجزئيّة أكثر من الاطلاع على المعارف
الحقيقيّة.
وأمّا اولى
الألباب : فافضل أجزاء النبوّة عندهم هو الضرب الأوّل ، ثمّ الثاني ، ثمّ الثالث ؛
ومجموع الامور الثلاثة على الوجه المذكور يختصّ بالأنبياء عليهمالسلام ، وكل جزء منها ربّما يوجد في غيرهم.
والأوّل لا يكون
إلّا خيرا وفضيلة ، وهو قد يوجد في الأولياء على وجه التابعيّة لهم ، وكلّ من
الآخرين ينقسم إلى الخير والشرّ ، فإنّ ضربا من الإخبار ببعض المغيّبات الجزئية من
الحوادث ربّما يوجد في أهل الكهانة والمستنطقين ، وكذا قوّة التأثير للنفس ،
المتعدّي من النفوس الشريرة.
فصل [٢]
[خوارق العادات والمعجزات]
قيل : الفرق بين
النبيّ والمتنبّي ، والمحقّ والمبطل ـ إذا صدر منهما الخوارق ـ أنّ صدورها عن
الأنبياء والأولياء إنّما هو لاتّصالهم التامّ بالملإ الأعلى ، بل بالمبدإ ـ تعالى
شأنه ـ وهذا الارتباط التامّ لا يحصل إلّا بعد أن كانت النفس منسلخة عن الرذائل ،
منطبعة على الفضائل.
فمن تحقّقته على
أنّه مرن على الصدق والصفا ، والوفاء بالعهد والاجتهاد في العبادة ، والورع عن
المحارم ، وغوث الملهوف ونصرة المظلوم ، وإجابة المضطرّ ، وحبّ المساكين ـ إلى غير
ذلك من صفات
الملائكة
المقرّبين ـ ثمّ ظهر منه خارق عادة : تحقّقت أنّه صدر منه ذلك لقربه من الله
وملائكته.
ومن عرفته على ضدّ
تلك الصفات ، عرفت أنّ صدور الخوارق منه لقربه من الشيطان وأوليائه.
ومن هنا يظهر فرق
آخر ، وهو أنّ ما يصدر من غير المؤمن ـ من خوارق العادات ـ لا يتجاوز عن مقدورات
الشياطين ، بخلاف المؤمن.
فصل [٣]
[الطرق المختلفة للهداية]
قال بعض العلماء
ما حاصله :
إنّ أشرف معجزات
الأنبياء وأفضلها العلم والحكمة ـ وهما للخواصّ ـ وخوارق العادات ـ للعوام البله ـ
وأمّا أهل الشعب والعناد منهم فلا ينفعهم إلّا السيف.
وإلى الثلاثة أشار
الله ـ سبحانه ـ بقوله : (لَقَدْ أَرْسَلْنا
رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ
النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) [٥٧ / ٢٥].
فأسرار الكتاب
والميزان ـ وهو البرهان العقلي بأقسامه ـ للخواصّ الذين لهم قريحة نافذة وفطنة
قويّة ، وقد خلى
__________________
باطنهم عن تقليد
وتعصّب لمذهب موروث ومسموع ، فإنّهم يؤمنون للنبيّ بميزان العلم والمعرفة والحكمة
على قرب ، ولا يحتاجون إلى خوارق العادات.
وأمّا الذين ليس
لهم فطنة لفهم الحقائق ، أو كان لهم ذلك ولكن ليست لهم داعية الطلب ، بل شغلهم
الصناعات والحرف ، وليس فيهم ـ أيضا ـ داعية الجدل وتحذلق المتكايسين في الخوض في
العلم ، مع قصور فهمهم عنه : فإنّهم يعالجون بالموعظة وإظهار المعجزات ، ثمّ
يحالون على ظواهر الكتاب ، ليس لهم التجاوز عنها إلى أسراره.
والحديد لأهل الجدل
والشغب ، الذين يتّبعون (ما تَشابَهَ) من الكتاب مع عدم أهليّتهم له (ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ) [٣ / ٧] فإنّهم
يتلطّف بهم أوّلا ويجادل معهم بالتي هي أحسن ، بأخذ الاصول المسلّمة عندهم
واستنتاج الحقّ منها بالميزان والقسط ، فإن لم ينفعهن ف (الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) [٥٧ / ٢٥]. وإلى
الثلاثة ـ أيضا ـ الإشارة بقوله ـ عزوجل ـ : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ
رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ
أَحْسَنُ) [١٦ / ١٢٥].
أقول
: قد عامل نبيّنا صلىاللهعليهوآله الناس بما امر به ، وبما يليق بحالهم ؛ فقوم أخذهم بالرفق
واللين ، لصفاء قلوبهم ورقّة أفئدتهم ، فانقادوا له عاجلا ، ودخلوا في شرعه سريعا
؛ والفريق الآخر أخذهم بالسنان والحسام ، والشدّة والقتال ، حتّى أدخلهم في دينه
قهرا وقادهم إليه
قسرا ، ثمّ
تألّفهم بإحسانه ، واستمالهم بموعظة لسانه ، حتّى طابت له نفوسهم ، وانشرحت صدورهم
؛ وذلك معنى قوله صلىاللهعليهوآله : «عجب ربّك من قوم يدخلون الجنّة في السلاسل» ، أي يدخلون
في الإسلام الذي هو سبب دخولهم الجنّة ـ
فجزاه الله عنّا
خير الجزاء بما بلّغ عن ربّه وصدع بأمره.
فصل [٤]
[اتصال النبي بالحق والخلق]
قال بعض المحقّقين
:
ومن صفات النبيّ
أن يكون جالسا في الحدّ المشترك بين عالم المعقول وعالم المحسوس ؛ فهو تارة مع
الحق بالحبّ له ، وتارة مع الخلق بالرحمة عليهم والشفقة لهم ؛ فاذا عاد إلى الخلق
كان كواحد منهم ، كأنّه لا يعرف الله وملكوته ، وإذا خلا بربّه مشتغلا بذكره
وخدمته فكأنّه لا يعرف الخلق ؛ يأخذ من الله ويتعلّم من لدنه ، ويعطي لعباده
ويعلّمهم ويهديهم ؛ فيسأل ويجاب ، ويسأل ويجيب ؛ ناظما للطرفين ، واسطة بين
العالمين ؛ سمعا من جانب ، ولسانا إلى جانب.
__________________
فلقلبه بابان
مفتوحان : أحدهما ـ وهو الباب الداخلاني ـ إلى مطالعة اللوح والذكر الحكيم ،
فيعلّمه علما يقينيّا لدنيّا ، من عجائب ما كان أو سيكون ، وأحوال العالم ـ ما مضى
وما سيقع ـ وأحوال القيامة والحشر والحساب ، ومآل الخلق إلى الجنّة أو النار ؛
وإنّما ينفتح هذا الباب لمن توجّه إلى عالم الغيب ، وأفرد ذكر الله على الدوام.
والثاني : إلى
مطالعة ما في الحواسّ ليطّلع على سوانح مهمّات الخلق ويهديهم إلى الخير ، ويردعهم
عن الشرّ ؛ فيكون قد استكملت ذاته في كلتي القوّتين ، آخذا بحظّ وافر من نصيب
الوجود والكمال من الله سبحانه بحيث يسع الجانبين ، ويوفي حقّ الطرفين ؛ وهذا أكمل
مراتب الإنسانيّة .
فصل [٥]
[صفات النبي]
ومن لوازم الخصائص
المذكورة اثنتا عشرة صفة مفطورة له ، عدّدها بعض المحقّقين وهي :
[١] أن يكون جيّد الفهم لكلّ ما يسمعه ويقال له على ما يقصده
القائل ، وعلى ما هو الأمر عليه ـ
__________________
وكيف لا؟ وهو في
غاية إشراق العقل ونوريّة النفس.
[٢] وأن يكون حفوظا لما يفهمه ويحسّه ، لا يكاد ينساه ـ وكيف لا؟
ونفسه متّصلة باللوح المحفوظ.
[٣] وأن يكون صحيح الفطرة والطبيعة ، معتدل المزاج ، تامّ
الخلقة ، قويّ الآلات على الأعمال التي من شأنه أن يفعلها ـ كالمناظرة في العلوم
مع أهل الجدال ، والمباشرة في الحروب مع الأبطال ـ لإعلاء كلمة الله ، وهدم كلمة
الكفر ، وطرد أولياء الطاغوت ، ليكون (الدِّينُ كُلُّهُ
لِلَّهِ) [٨ / ٣٩] (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [٩ / ٣٣] ؛ وكيف
لا؟ والكمال الأوفى إنّما يفيض على المزاج الأتمّ.
[٤] وأن يكون حسن العبارة ، يؤاتيه لسانه على إبانة كلّ ما
يضمره ـ إبانة تامّة ـ وكيف لا؟ وشأنه التعليم والإرشاد والهداية إلى طريق الخير
للعباد.
[٥] وأن يكون محبّا للعلم والحكمة ، لا يؤلمه التأمّل في
المعقولات ، ولا يؤذيه الكدّ الذي يناله منها ؛ وكيف لا؟ والملائم للشيء ملذّ
إدراكه ، لأنّه يتقوّى به.
[٦] وأن يكون بالطبع غير شره على الشهوات ، متجنّبا بالطبع عن
اللعب ، ومبغضا للّذات النفسانيّة ؛ وكيف لا؟ وهي حجاب عن عالم النور ، ووصلة
بعالم الغرور ، فيكون ممقوتا عند أهل الله ومجاوري عالم القدس.
[٧] وأن يكون كبير النفس محبّا للكرامة ، تكبر نفسه عن
كلّ ما يشين ويضع
من الامور ، وتسمو نفسه بالطبع إلى الأرفع منها ، ويختار من كلّ شيء عقيلته ،
ويجتنب عن سفساف الامور ، ويكره خداجها وسقطها ؛ اللهمّ إلّا لرياضة النفس
والاكتفاء بأيسر امور هذه الدار وأخفّها ، وذلك لأنّ فى الأشرف مزيد قرب من
العناية الاولى.
[٨] وأن يكون رءوفا عطوفا على خلق الله أجمع لا يعتريه الغضب
عند مشاهدة المنكر ، ولا يعطّل حدود الله من غير أن يهمّه التجسّس ؛ وكيف لا؟ وهو
شاهد بسرّ الله في لوازم القدر.
[٩] وأن يكون شجاع القلب غير خائف من الموت ؛ وكيف لا؟ والآخرة
خير له من الاولى ، فيكون قويّ العزيمة على ما يرى ينبغي أن يفعل ، جسورا مقداما
عليه ـ لا ضعيف النفس.
[١٠] وأن يكون جوادا ، لأنّه عارف بأنّ خزائن رحمة الله لا تبيد
ولا تنقص.
[١١] وأن يكون أهشّ خلق الله إذا خلا بربّه ، لأنّه عارف بالحقّ
وهو أجلّ الموجودات بهجة وبهاء.
[١٢] وأن يكون غير جموح ولا لجوج ، سلس القياد إذا دعي إلى العدل
، صعب القياد إذا دعي إلى الجور والقبيح.
والمفطور على هذه
الصفات لا يكون إلّا الآحاد كما قيل :
«جلّ جناب الحقّ
أن يكون شريعة لكلّ وارد أو يطّلع عليه إلّا واحد بعد واحد».
فصل [٦]
[نزاهة النبي وعصمته]
ويجب أن يكون
منزّها عن كلّ ما يدنّسه ويشينه ـ من الغلظة ، والفظاظة ، والحسد ، والبخل ،
ودناءة الآباء ، وعهر الامّهات ، والانوثة ، والخنوثة ، وما شابه ذلك.
وأن يكون معصوما
من الذنوب ، محفوظا عن الكبائر والصغائر ـ عمدا وسهوا.
كلّ ذلك لئلّا
تتنفّر عنه الطباع ، بل تطيعه طوعا ورغبة.
* * *
وروى الشيخ الفقيه
محمد بن عليّ بن بابويه القمّي ـ رحمهالله ـ في كتاب معاني الأخبار ، بإسناده عن محمد بن أبي عمير قال : ما سمعت وما استفدت
من هشام بن الحكم في طول صحبتي له شيئا أحسن من هذا الكلام في صفة عصمة الإمام.
فإني سألت يوما عن الإمام : «أهو معصوم»؟
__________________
فقال : «نعم».
قلت : «فما صفة
العصمة فيه ، وبأيّ شيء يعرف»؟
فقال : «إنّ جميع
الذنوب لها أربعة أوجه ـ ولا خامس لها ـ : الحرص والحسد والغضب والشهوة ؛ فهذه
منفيّة عنه :
لا يجوز أن يكون
حريصا على هذه الدنيا ؛ وهي تحت خاتمه ، لأنّه خازن المسلمين ـ فعلى ما ذا يحرص؟
ولا يجوز أن يكون
حسودا ، لأنّ الإنسان إنّما يحسد من فوقه ـ وليس فوقه أحد ـ فكيف يحسد من هو دونه؟
ولا يجوز أن يغضب
لشيء من امور الدنيا ، إلّا بأن يكون غضبه لله تعالى ؛ فإنّ الله عزوجل قد فرض عليه إقامة الحدود ، وأن لا يأخذه في الله لومة
لائم ولا رأفة في دينه ، حتّى يقيم حدود الله ـ عزوجل ـ.
ولا يجوز أن يتّبع
الشهوات ، ويؤثر الدنيا على الآخرة ، لأنّ الله ـ عزوجل ـ حبّب إليه الآخرة ـ كما حبّب إليه الدنيا ـ فهو ينظر إلى
الآخرة كما ينظر إلى الدنيا ؛ فهل رأيت أحدا يؤخّر وجها حسنا لوجه قبيح؟ وطعاما
طيّبا لطعام مرّ؟ وثوبا ليّنا لثوب خشن؟ ونعمة دائمة باقية لدنيا زائلة فانية؟».
وهذا الكلام وإن
ورد في عصمة الإمام ، ولكنّه يجري في عصمة النبي صلىاللهعليهوآله بطريق أولى لأنّه أخصّ.
وقال في الإشارات : «العارف شجاع ، وكيف لا؟ وهو بمعزل عن تقيّة الموت ؛
وجواد ، وكيف لا؟
وهو بمعزل عن محبّة الباطل ؛
وصفاح ، وكيف لا؟
ونفسه أكبر من أن يخرجها زلّة بشر.
ونسّاء للأحقاد ،
وكيف لا؟ وذكره مشغول بالحقّ».
وكلّ ما ورد في
القرآن والأخبار من نسبة الذنوب إلى الأنبياء والأئمّة عليهمالسلام فهو مأوّل ، وله محمل آخر غير ظاهره ، كما ورد عن أهل
البيت عليهمالسلام في نصوص مستفيضة ، وأنّهم عليهمالسلام لمّا كانوا مستغرقين في طاعة الله ـ عزوجل ـ فإذا اشتغلوا أحيانا عن ذلك ببعض المباحات ـ زيادة على
الضرورة ـ عدّ ذلك ذنبا في حقّهم عليهمالسلام ـ هكذا ينبغي أن يعتقد في المصطفين الأخيار ـ سلام الله
عليهم أجمعين ـ.
* * *
__________________
[٣]
باب
صفة نزول الوحي
والفرق بينه وبين
الإلهام
(وَما كانَ لِبَشَرٍ
أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ
رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ) [٤٢ / ٥١]
فصل [١]
[طرق تحصيل العلوم وموانعه]
قد أشرنا فيما سلف
إلى أنّ حقائق الأشياء كلّها مسطورة في اللوح المحفوظ بل في قلوب الملائكة
المقرّبين ، ومن هنالك يخرج إلى الوجود ، وقد نبّه القرآن على ذلك في غير موضع ؛
فالعلوم الحقّة كلها إنّما تفيض على قلوبنا من ذلك العالم بواسطة القلم العقلي
الكاتب في ألواح نفوسنا.
__________________
كما قال عزوجل : (أُولئِكَ كَتَبَ فِي
قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) [٥٨ / ٢٢] ، وقال
سبحانه: (عَلَّمَ بِالْقَلَمِ*
عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) [٩٦ / ٤ ـ ٥].
وقلب الإنسان صالح
لأن ينتقش فيها العلوم كلّها ، وهو كمرآة مستعدّة لأن يتجلّى فيها حقيقة الحقّ في
الامور كلّها من اللوح المحفوظ ، وإنّما خلا عمّا خلا عنه من العلوم :
إمّا لنقصان في
ذاته ، كقلب الصبيّ ـ وهو يشبه نقصان صورة المرآة ، كجوهر الحديد قبل أن يصقل ـ
أو لكثرة المعاصي
والخبث الذي تراكم عليه من كثرة الشهوات المانعة من صفائه وجلائه ـ وهذا يشبه خبث
المرآة وصدأها ـ
أو لعدوله عن جهة
الحقيقة المطلوبة ، لاستيعاب همّه بتهيئة أسباب المعيشة ، أو تفصيل الأعمال
والطاعات البدنيّة المانعة من التأمّل في الحضرة الربوبيّة ، والحقائق الخفيّة
الإلهيّة ؛ فلا ينكشف له إلّا ما هو متفكّر فيه ـ وهذا يشبه كون المرآة معدولا بها
عن جهة الصورة.
أو لحجاب بينه
وبين المطلوب من اعتقاد سبق إليه منذ الصبى على سبيل التقليد والقبول بحسن الظنّ ،
فإنّ ذلك يحول بينه وبين حقائق الحقّ ، ويمنع أن ينكشف في قلبه خلاف ما تلقفه من
ظاهر التقليد ـ وهذا يشبه الحجاب المرسل بين المرآة وبين الصورة المطلوبة رؤيتها.
أو لجهل بالجهة
التي يقع فيها العثور على المطلوب ، فإنّ طالب العلم ليس يمكنه أن يحصّل العلم
المطلوب إلّا بالتذكّر للعلوم التي تناسب مطلوبه ، حتّى إذا ذكرها ورتّبها في نفسه
ـ ترتيبا مخصوصا ـ حصل له المطلوب فإذا لم يكن عنده العلوم المناسبة لذلك لم يحصل
له المطلوب ـ وهذا يشبه الجهل بالجهة التي فيها الصورة المطلوبة.
فهذه هي الأسباب
المانعة من إدراك الحقائق.
ثمّ إنّ العلوم التي ليست ضروريّة إنّما تحصل في القلب
تارة بالاكتساب بطريق الاستدلال والتعلّم ـ ويسمّى «اعتبارا» و «استبصارا» ـ ويختصّ
به العلماء والحكماء.
وتارة بهجومه على
القلب ، كأنّه القي فيه من حيث لا يدري ؛
وهذا قد يكون مع
عدم الاطلاع على السبب الذي منه استفيد ذلك العلم ، وهو مشاهدة الملك الملقي في
القلب ـ ويسمّى «إلهاما» و «نفثا في الروع» ـ إن كان نكتا في القلب ـ و «حديث ملك»
، إن كان نقرا في السمع ـ ويختصّ بهما الأولياء والأئمّة ـ
وقد يكون مع
الاطلاع على ذلك ـ ويسمّى «وحيا» ـ ويختصّ به الأنبياء والرسل.
وكما أنّ الحجاب
بين المرآة والصورة يزال تارة بتعمّل اليد المتصرّفة ، وتارة بهبوب ريح تحرّكه ؛
فكذلك استفادة العلوم بالقلم الإلهي للإنسان ، قد تكون بقوّة فكرته المتصرّفة في
تجريد الصور عن الغواشي ، والانتقال من بعضها إلى بعض ، وقد تهبّ رياح الألطاف
الإلهيّة ، فتكشف الحجب والغواشي عن عين بصيرته ، فيتجلّى فيها بعض ما هو مثبت في
اللوح الأعلى ، فيكون تارة عند المنام ، فيظهر به ما سيكون في المستقبل ؛ وتمام
ارتفاع الحجاب يكون بالموت ـ وبه ينكشف الغطاء.
__________________
وتارة ينقشع
الحجاب بلطف خفيّ من الله ، فيلمع في القلب من وراء ستر الغيب شيء من غرائب أسرار
الملكوت في اليقظة ، فربّما يدوم ، وربّما يكون كالبرق الخاطف ـ ودوامه في غاية
الندور ـ
فلم يفارق الإلهام
وحديث الملك الاكتساب في العلم ولا في محلّه ولا في سببه ، ولكن يفارقه في طريقة
زوال الحجاب ، وجهته.
ولم يفارق الوحي
الإلهام والحديث في شيء من ذلك ، بل في شدّة الوضوح والنوريّة ومشاهدة الملك
المفيد للعلم.
والكلّ مشترك في
أنّه بواسطة الملك الذي هو القلم ، كما قال ـ عزوجل ـ (عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) [٩٦ / ٤].
ولعلّ الإشارة إلى
هذه المراتب الثلاث في قوله ـ سبحانه ـ : (وَما كانَ لِبَشَرٍ
أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ
رَسُولاً) [٤٢ / ٥١].
قال بعض العارفين :
«إذا كان الحقّ هو
المكلّم عبده في سرّه بارتفاع الوسائط ، فإنّ الفهم يستصحب كلامه ، فيكون عين
الكلام منه عين الفهم منك ، لا يتأخّر عنه ، فإن تأخّر عنه فليس هو كلام الله ،
ومن لم يجد هذا فليس عنده علم بكلام الله عباده ، فإذا كلّمه بالحجاب الصوري بلسان
نبيّ أو من شاء الله من العالم فقد يصحبه الفهم ، وقد يتأخّر».
__________________
أقول : وهذا فرق
آخر بين الاكتساب وبين الثلاثة ، ولعلّه أراد بارتفاع الوسائط ارتفاع الوسائط
البشريّة خاصّة ، لتوقّف الثلاثة ـ أيضا ـ على توسّط الملك كما دريت.
* * *
قال بعض العلماء في الفرق بين مقام الأنبياء والأولياء وبين مقام العلماء :
«إنّا لو فرضنا
حوضا محفورا في الأرض احتمل أن يساق إليه الماء من فوقه بأنهار يفتّح إليه ،
ويحتمل أن يحفر أسفل الحوض ويرفع منه التراب إلى أن يقرب من مستقرّ الماء الصافي ،
فينفجر الماء من أسفل الحوض ، ويكون ذلك أصفى وأدوم ، وقد يكون أغزر وأكثر.
فكذلك القلب مثل
الحوض ، والعلم مثل الماء ، والحواسّ الخمس مثل الأنهار ، ويمكن أن يساق العلوم
إلى القلب بواسطة أنهار الحواسّ والاعتبار بالمشاهدات ، حتّى يمتلئ علما ، ويمكن
أن يسدّ عنه هذه الأنهار بالخلوة والعزلة وغضّ البصر ، ويعمد إلى عمق القلب
بتطهيره ورفع طبقات الحجب عنه ، فينفجر ينبوع العلم من داخله.
وحديث أهل الصين
والروم في تصوير جانبي الصفّة المرخى بينهما سترا ـ بكدّ الروميّين وصبغهم
بالأصباغ الغريبة ، وتجلية
__________________
أهل الصين
وتصقيلهم من غير صبغ ـ مشهور ، وهو مثال حسن للفرق بين المقامين .
وإلى الفرق بينهما
ـ أيضا ـ أشار من قال : «أخذتم علمكم ميّتا عن ميّت ، وأخذنا علمنا عن الحيّ
الذي لا يموت».
__________________
فصل [٢]
[الوحي وكيفية أخذه]
قيل :
«السرّ في اطّلاع
النبيّ على الملك الموحي دون غيره أنّه لمّا صقل روحه بصقالة العقل للعبوديّة
التامّة ، وزالت عنه غشاوة الطبيعة ورين المعصية بالكلّيّة وكانت قدسيّة شديدة
القوى ، قويّة الإنارة لما تحتها ، لم يشغلها جهة فوقها عن جهة تحتها ، فيضبط الطرفين
ويسع الجانبين ، ولا يستغرقها حسّها الباطن عن حسّها الظاهر ؛ فإذا توجّهت إلى
الافق الأعلى ، وتلقّت أنوار المعلومات بلا تعليم بشريّ من الله ، يتعدّى تأثيرها
إلى قواها ، وتتمثّل صورة ما يشاهده لروحها البشري ، ومنها إلى ظاهر الكون ،
فتمثّل للحواسّ الظاهرة سيّما السمع والبصر ـ لكونهما أشرف الحواسّ الظاهرة
وألطفها ـ فيرى شخصا محسوسا ، ويسمع كلاما منظوما في غاية الجودة والفصاحة ، أو
صحيفة مكتوبة.
فالشخص هو الملك
النازل الحامل للوحي الإلهي ، والكلام هو كلام الله ، والكتاب كتابه ، وقد نزل كلّ
منها من عالم الأمر القول القضائي ، وذاته الحقيقيّة ، وصورته الأصليّة،
__________________
إلى عالم الخلق
الكتابي القدري في أحسن صورة وأجمل كسوة ؛ كتمثّل جبرئيل عليهالسلام لنبيّناصلىاللهعليهوآله في صورة دحية بن خليفة الكلبي الذي كان أجمل أهل زمانه .
وما رآه في صورته
الحقيقيّة إلّا مرّتين : وذلك أنّه صلىاللهعليهوآله سأله أن يريه نفسه على صورته ، فواعده ذلك بحراء ، فطلع له
جبرئيل عليهالسلام ، فسدّ الافق من المشرق إلى المغرب.
وفي رواية كان له
ستّمائة جناح.
ورآه مرّة اخرى
على صورته ليلة المعراج عند سدرة المنتهى.
ـ انتهى ـ.
* * *
__________________
وفي الخبر : «إنّ بين عيني إسرافيل لوح ، فإذا أراد الله أن يتكلّم
بالوحي ضرب اللوح جبين إسرافيل فنظر فيه ، فيقرأ ما فيه ، فيلقيه إلى ميكائيل ،
ويلقيه ميكائيل إلى جبرئيل ، ويلقيه جبرئيل إلى الأنبياء عليهمالسلام».
وربّما يعاشر
النبيّ الملائكة ويسمع صريف أقلامهم ؛ كما حكاه نبيّنا صلىاللهعليهوآله أنّه بلغ ليلة المعراج إلى مقام كان يسمع صريف أقلام
الملائكة.
وربّما يخاطبه
الله ـ عزوجل ـ بلا حجاب ، كما وقع له صلىاللهعليهوآلهوسلم في تلك الليلة ، فسمع كلام الله ـ سبحانه ـ من دون واسطة ؛
وكما وقع للكليم عليهالسلام.
* * *
ولضبطه الجانبين
واستعماله المشاعر الحسيّة وتشييعها في سبيل معرفة الله وطاعة الحق وانجذاب قوّة
الحسّ الظاهر إلى فوق : ربّما يقع لحواسّه الظاهرة شبه دهش ونوم ؛ ولنفسه شبه
الغشي ، ثمّ يرى ويسمع ، وبذلك يقع الإنباء.
روى في التوحيد بإسناده عن زرارة : أنّه سئل مولانا الصادق
__________________
عليهالسلام عن الغشية التي كانت تصيب رسول الله صلىاللهعليهوآله إذا نزل عليه الوحي؟ ـ قال : ـ
فقال : «ذاك إذا
لم يكن بينه وبين الله أحد ، ذاك إذا تجلّى الله له».
ـ قال : ـ ثمّ قال
: «تلك النبوّة ـ يا زرارة» ـ وأقبل يتخشّع ـ.
وفي رواية اخرى
رواها في إكمال الدين بإسناده عنه عليهالسلام : أنّه سئل عن الغشية التي كانت تأخذ النبيّ صلىاللهعليهوآله : «أكانت تكون عند هبوط جبرئيل عليهالسلام»؟
فقال : «لا ، إنّ
جبرئيل كان إذا أتى النبيّ عليهالسلام لم يدخل عليه حتّى يستأذنه ، فإذا دخل عليه قعد بين يديه
قعدة العبد ـ وإنّما ذلك عند مخاطبة الله ـ عزوجل ـ إيّاه بغير ترجمان وواسطة».
وروي أنّه سأل الحارث بن هشام رسول الله صلىاللهعليهوآله : «كيف يأتيك الوحي»؟
__________________
فقال : «أحيانا
مثل صلصلة الجرس ـ وهو أشدّه عليّ ، فيفصم عنّي وقد وعيت عنه ما قال ـ وأحيانا
يتمثّل لي الملك رجلا ، فيكلّمني فأعي ما يقول».
قيل : إنّما كان
يأتيه مثل صلصلة الجرس ـ وهو وقع بعض الحديد على بعض ، شبّه شدّة صوت الملك وقوّته
بذلك ـ فيشتغل بالوحي عن امور الدنيا ؛ والمعنى أنّ الوحي كان إذا ورد عليه
يتغشّاه كرب ـ وذلك لثقل ما يلقى إليه ـ قال تعالى : (إِنَّا سَنُلْقِي
عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) [٧٣ / ٥] (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى
جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً) [٥٩ / ٢١].
وقد اوحي إليه
مرّة وهو على فخذ بعض الصحابة ؛ قال : «فثقل عليّ فخذي نبيّ الله حتّى خشيت أن يرضّ فخذي».
ولذلك كان يعتريه مثل حال المهموم ، كان جبينه يتفصّد عرقا ، وذلك لبيان صبره
ولحسن تأدّبه ، فيرتاض لاحتمال ما كلّفه من أعباء الرسالة.
قيل : نزل جبرئيل
على عليهالسلام آدم اثنتي عشرة مرّة ، وعلى إدريس أربع مرّات ، وعلى نوح
خمسين مرّة ، وعلى إبراهيم اثنتين وأربعين مرّة ـ مرّتين في صغره وأربعين في كبره
ـ وعلى موسى أربعمائة مرّة ، وعلى عيسى عشر مرّات ـ ثلاث مرّات في صغره وسبع مرّات
في كبره ـ وعلى نبيّنا محمّد صلىاللهعليهوآله أربعا وعشرين ألف مرّة ـ صلوات الله عليهم ـ
__________________
[٤]
باب
الفرق بين الرسول
والنبيّ
والإمام والوليّ
(وَما أَرْسَلْنا مِنْ
قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍ) وفي قراءة أهل البيت : «ولا محدّث» ـ الآية [٢٢ / ٥٢]
فصل [١]
النبيّ : من اوحي
إليه بالعمل.
والرسول : من اوحي
إليه بالعمل والتبليغ.
والوليّ : من
حدّثه الملك ، أو الهم إلهاما بالعمل.
والإمام : من
حدّثه الملك بالعمل والتبليغ.
فكلّ رسول نبيّ
ولا عكس ، وكلّ رسول أو نبيّ أو إمام فهو وليّ ومحدّث ولا عكس ، وكلّ رسول إمام
ولا عكس.
ولا نبيّ إلّا
وولايته أقدم على نبوّته ، ولا رسول إلّا ونبوّته أقدم على رسالته ، ولا إمام إلّا
وولايته أقدم على إمامته.
والولاية باطن
النبوّة والإمامة ، والنبوّة باطن الرسالة ؛ وباطن كلّ شيء أشرف وأعظم من ظاهره ،
لأنّ الظاهر محتاج إلى الباطن ، والباطن مستغن عن الظاهر ؛ ولأنّ الباطن أقرب إلى
الحقّ ، فكلّ مرتبة من المراتب المذكورة أعظم من لاحقته وأشرف.
وأيضا فإنّ كلّا
من النبوّة والولاية صادرة عن الله ومتعلّقة بالله ، وكلّ من الرسالة والإمامة
صادرة عن الله ومتعلّقة بعباد الله ؛ فيكون الاوليان أفضل.
وأيضا كلّ من
الرسالة والإمامة متعلّق بمصلحة الوقت ، والنبوّة والولاية لا تعلّق لهما بوقت دون
وقت.
وقيل : بل
الأخيرتان أفضل ، لأنّ نفعهما متعدّ ، ونفع الاوليين مقصور على صاحبيهما ـ وله وجه
، إلّا أنّ التحقيق هو الأوّل.
وكيف ما كان فليس
يجب أن يكون الوليّ أعظم من النبيّ ، ولا من الرسول ، ولا من الإمام ؛ ولا النبيّ
أعظم من الرسول ؛ بل الأمر في الكلّ بالعكس في وليّ يتّبع نبيّا أو رسولا أو إماما
؛ أو نبيّ يتّبع رسولا ؛ لأنّ لكلّ من النبيّ والإمام مرتبتان ، وللرسول ثلاث
مراتب ، وللولي الواحدة.
فمن قال : «إنّ
الوليّ فوق النبيّ» فإنّما يعني بذلك في شخص واحد ، يعني أنّ النبيّ من حيث أنّه
وليّ أشرف منه من حيث أنّه نبيّ ورسول ؛ وكذا الإمام من حيث أنّه وليّ أشرف منه من
حيث أنّه إمام.
كيف يكون الوليّ
أفضل من النبيّ مطلقا ولا وليّ إلّا وهو تابع للنبيّ أو الإمام ، والتابع لا يدرك
المتبوع أبدا فيما هو تابع له فيه ؛ إذ
لو أدركه لم يكن
تابعا ؛ نعم ، قد يكون وليّ أفضل من نبيّ ، إذا لم يكن تابعا له ، كما كان أمير
المؤمنين عليهالسلام أعظم من جميع الأنبياء والأولياء ـ بعد نبيّنا صلىاللهعليهوآله ـ وكذا أولاده المعصومون عليهمالسلام .
فصل [٢]
روي في الكافي
والبصائر بإسنادهما الصحيح ، عن مولانا الباقر عليهالسلام أنّه سئل عن الرسول والنبيّ والمحدّث؟ ـ قال : ـ
«الرسول : الذي
يأتيه جبرئيل قبلا ، فيراه ويكلّمه ؛ فهذا الرسول.
وأمّا النبيّ : فهو
الذي يرى في منامه ، نحو رؤيا إبراهيم ، ونحو ما كان رأى رسول اللهصلىاللهعليهوآله من أسباب النبوّة قبل الوحي ، حتّى أتاه
__________________
جبرئيل عليهالسلام من عند الله بالرسالة ؛ وكان محمّد صلىاللهعليهوآله حين جمع له النبوّة وجاءته الرسالة من عند الله يجيئه بها
جبرئيل ويكلّمه بها قبلا ؛ ومن الأنبياء من جمع له النبوّة ويرى في منامه ويأتيه
الروح ويكلّمه ويحدّثه ، من غير أن يكون يرى في اليقظة.
وأمّا المحدّث فهو
الذي يحدّث فيسمع ، ولا يعاين ولا يرى في منامه».
وبإسنادهما الحسن عن الحسن بن العبّاس المعروفي أنّه كتب إلى الرضاعليهالسلام :
«جعلت فداك ـ أخبرني
ما الفرق بين الرسول والنبي والإمام؟».
ـ قال : ـ فكتب أو
قال ـ :
«الفرق بين الرسول
والنبيّ والإمام هو أنّ الرسول الذي نزل عليه جبرئيل ، فيراه ويسمع كلامه ، وينزل
عليه الوحي ، وربّما نبّئ في منامه ـ نحو رؤيا إبراهيم ـ ؛ والنبيّ ربّما يسمع
الكلام ، وربّما رأى الشخص ولم يسمع الكلام . والإمام هو الذي يسمع الكلام ولا يرى الشخص».
__________________
وفى البصائر بإسناده الصحيح عن مولانا الباقر عليهالسلام ـ قال : ـ «الأنبياء على خمسة أنواع : منهم من يسمع الصوت ـ مثل صوت السلسلة ـ فيعلم ما عني به
؛ ومنهم من ينبأ في منامه ـ مثل يوسف وإبراهيم ـ. ومنهم من يعاين. ومنهم من ينكت
في قلبه ، ويوقر في اذنه».
وبإسنادهما عنه وعن مولانا الصادق عليهالسلام : ـ قالا : ـ «الأنبياء والمرسلون على أربع طبقات :
فنبيّ منبّأ في
نفسه لا يعدو غيرها ؛
ونبيّ يرى في
النوم ويسمع الصوت ، ولا يعاين في اليقظة ولم يبعث إلى أحد ، وعليه إمام ـ مثل ما
كان إبراهيم على لوط ـ ؛
ونبيّ يرى في نومه
ويسمع الصوت ويعاين الملك ، وقد ارسل إلى طائفة ـ قلّوا أو كثروا ـ كما قال الله
ليونس : (وَأَرْسَلْناهُ إِلى
مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) [٣٧ / ١٤٧] ـ قال
: يزيدون ثلاثين ألفا ـ ؛
__________________
ونبيّ يرى في نومه
ويسمع ويصوّت ويعاين في اليقظة ، وهو إمام ، مثل اولي العزم ، وقد كان إبراهيم عليهالسلام نبيّا وليس بإمام حتّى قال الله ـ تعالى ـ : (إِنِّي جاعِلُكَ
لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [٢ / ١٢٤] أي من عبد
صنما أو وثنا» .
فصل [٣]
[المحدّث]
روي في بصائر
الدرجات بإسناده عن الحكم بن عتيبة ، قال : دخلت على عليّ بن الحسين عليهالسلام يوما ، فقال لي : «يا حكم ـ هل تدري ما الآية التي كان
عليّ بن أبي طالب عليهالسلام يعرف بها صاحب قتله ويعلم بها الامور العظام الذي كان
يحدّث بها الناس»؟
__________________
قال الحكم : «فقلت
في نفسي : قد وقعت على علم من علم عليّ بن الحسين ، أعلم بذلك تلك الامور العظام ـ
قال : ـ فقلت : لا والله ، لا أعلم الآية ، أخبرني بها يا ابن رسول الله».
قال : «هو والله
قول الله : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ
قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍ) ولا محدّث».
فقلت : «وكان عليّ
بن أبي طالب محدّثا»؟
قال : «نعم ، وكلّ
إمام منّا أهل البيت فهو محدّث».
وبإسناده عن حمران ، عنه عليهالسلام ـ قال : ـ قلت له : «أليس حدّثتني أنّ عليّاعليهالسلام كان محدّثا»؟
قال : «بلى». قلت
: «من يحدّثه»؟
قال : «ملك يحدّثه»؟
قلت : «أقول : إنّه نبيّ أو رسول»؟
قال : «لا ؛ ولكن
قل : بل مثل صاحب سليمان ، ومثل صاحب موسى ، ومثله مثل ذي القرنين».
وبإسناده عن مولانا الصادق عليهالسلام ـ قال : ـ «كان عليّ عليهالسلام محدّثا ، وكان سلمان محدّثا» ـ قال : ـ قلت : «وما آية
المحدّث»؟
__________________
قال : «يأتيه ملك
فينكت في قلبه كيت وكيت».
وفي رواية اخرى : «يبعث الله ملكا ، يوقر في اذنه كيت وكيت وكيت».
وفي رواية اخرى
عنه عليهالسلام «إنّ عليا عليهالسلام كان يوم بني قريظة وبني النضير ، كان جبرئيل عليهالسلام عن يمينه ، وميكائيل عن يساره يحدّثانه».
وفي اخرى صحيحة عن أبيه عليهالسلام ـ قال : ـ «كان رسول الله صلىاللهعليهوآله يملي على عليّ عليهالسلام ، فنام نومة ونعس نعسة ، فلمّا رجع نظر إلى الكتاب ، فمدّ
يده ، قال : من أملى عليك هذا؟ قال : أنت. قال : لا ، بل جبرئيل».
وبإسناده عنه عليهالسلام ـ قال : ـ قال رسول الله : «من أهل بيتي اثنا عشر محدّثا».
__________________
وبإسناده عن الحارث بن المغيرة النصري : قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : «جعلت فداك ـ الذي يسأل عنه الإمام ليس عنده فيه شيء ،
من أين يعلمه»؟
قال : «ينكت في
القلب نكتا ، أو ينقر في الاذن نقرا» .
وسأله غيره : «إنّا نسألك أحيانا فتسرع في الجواب ، وأحيانا تطرق ثمّ
تجيبنا»؟
قال : «نعم ـ إنّه
ينكت في آذاننا وقلوبنا ، فإذا نكت نطقنا ، وإذا امسك عنّا أمسكنا».
وفي رواية اخرى : «يكون سماعا ويكون إلهاما ويكونان معا».
وفي اخرى : «وحي كوحي أمّ موسى».
__________________
وفي اخرى : «وأيّ شيء المحدّث»؟ فقال : «ينكت في اذنه ، فيسمع طنينا
كطنين الطست ، او يقرع على قلبه ، فيسمع وقعا كوقع السلسلة على الطست».
فقلت : «إنّه نبيّ»؟
قال : «لا ، مثل الخضر ، ومثل ذي القرنين».
وبإسناده عنه عليهالسلام أنّه سئل عن مبلغ علمهم؟ فقال : «مبلغ علمنا ثلاثة وجوه :
ماض ، وغابر ، وحادث. فأمّا الماضي فمفسّر ؛ وأمّا الغابر فمزبور ؛ وأمّا الحادث
فقذف في القلوب ، ونقر في الأسماع ، وهو أفضل علمنا ؛ ولا نبيّ بعد نبيّنا».
وبإسناده عن محمّد بن الفضيل ـ قال : ـ قلت لأبي الحسن عليهالسلام : روينا عن أبي عبد الله عليهالسلام أنّه قال : «إنّ علمنا غابر ، ومزبور ، ونكت في القلب ،
ونقر في الأسماع»؟
__________________
قال : «أمّا
الغابر فما تقدّم من علمنا ؛ وأمّا المزبور فما يأتينا ؛ وأمّا النكت في القلوب
فإلهام ؛ وأمّا النقر في الأسماع فإنّه من الملك».
وروى زرارة مثل ذلك عن أبي عبد الله عليهالسلام ـ قال : ـ قلت : «كيف يعلم أنّه من الملك ، ولا يخاف أن
يكون من الشيطان ـ إذا كان لا يرى الشخص ـ»؟
قال : «إنّه يلقى
عليه السكينة ، فيعلم أنّه من الملك ؛ ولو كان من الشيطان اعتراه فزع ؛ وإن كان
الشيطان ـ يا زرارة ـ لا يتعرّض لصاحب هذا الأمر».
وبإسناده عن مولانا الباقر عليهالسلام ، أنّه سأله أبو بصير : «بما يعلم عالمكم ـ جعلت فداك»؟
قال : «يا أبا
محمّد ، إنّ عالمنا لا يعلم الغيب ، ولو وكّل الله عالمنا إلى نفسه ، كان كبعضكم ؛
ولكن يحدّث إليه ساعة بعد ساعة».
وبإسناده عن مولانا الصادق عليهالسلام : «إنّ عندنا صحف إبراهيم ، وألواح موسى».
__________________
فقال له أبو بصير : «إنّ هذا لهو العلم».
قال : «يا أبا
محمّد ، ليس هذا هو العلم ؛ إنّما هو الاثرة ؛ إنّما العلم ما يحدث بالليل والنهار ، يوم بيوم ، وساعة
بساعة».
وبإسناده الصحيح أنّه عليهالسلام سئل عن علم عالمهم : «أحكمة تقذف في صدره ، أو وراثة من
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، أو نكت ينكت في اذنه»؟
فقال أبو عبد الله
عليهالسلام : «ذاك وذاك» ثمّ قال : «وراثة من رسول الله ، ومن عليّ بن
أبي طالب عليهماالسلام علم يستغنى به عن الناس ، ولا يستغنى الناس عنه».
* * *
__________________
[٥]
باب
الاضطرار إلى الإمام
وذكر صفاته
(إِنَّما أَنْتَ
مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) [١٣ / ٧]
فصل [١]
[ضرورة وجود الإمام]
إنّ ما ذكر في
بيان الاضطرار إلى الرسل ، فهو بعينه جار في الاضطرار إلى أوصيائهم وخلفائهم ـ الأئمّة
من بعدهم إلى ظهور نبيّ آخر ـ لأنّ الاحتياج إليهم غير مختصّ بوقت دون آخر ، وفي
حالة دون اخرى ؛ ولا يكفي بقاء الكتب والشرائع من دون قيّم لها ، عالم بها ؛ ألا
ترى إلى الفرق المختلفة كيف تستندون في مذاهبهم كلّها إلى كتاب الله ـ عزوجل ـ لجهلهم بمعانيه وزيغ قلوبهم وتشتّت أهوائهم.
فظهر أنّه لا بدّ
لكلّ نبيّ مرسل بكتاب من عند الله ـ عزوجل ـ أن ينصب وصيّا يودع فيه أسرار نبوّته ، وأسرار الكتاب
المنزل عليه ، ويكشف له مبهمه ، ليكون ذلك الوصيّ هو حجّة ذلك النبيّ على قومه ،
ولئلّا تتصرّف الامّة في ذلك الكتاب بآرائها وعقولها ، فتختلف وتزيغ
قلوبها. كما أخبر
الله ـ عزوجل ـ به فقال : (هُوَ الَّذِي
أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ
وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ
ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ
تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ
كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) [٣ / ٧].
فالرسول والإمام
والكتاب هم الحجّة على الامّة (لِيَهْلِكَ مَنْ
هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) [٨ / ٤٢].
وأيضا وجود الإمام
لطف من الله ـ تعالى ـ بعبيده ، لأنّه بوجوده فيهم يجتمع شملهم ، ويتّصل حبلهم ،
وينتصف الضعيف من القويّ ، والفقير من الغنيّ ، ويرتدع الجاهل ، ويتيقّظ الغافل ؛
فإذا عدم بطل الشرع وأكثر أحكام الدين وأركان الإسلام ـ كالجهاد والأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر والقضايا ، ونحو ذلك ـ فتنتفي الفائدة المقصودة منها.
وأمّا غيبة بعض
الأئمّة في بعض الأحيان ، وتعطّل الأحكام في المدد المتطاولة : فإنّما ذلك من جهة
الرعيّة دون الإمام ، فليس ذلك نقصا على لطف الله ـ سبحانه ـ فإنّما على الله ـ عزوجل ـ إيجاد الإمام للرعيّة ليجمع به شملهم ، فإن لم يمكّنوه
من فعله ـ لعدم قابليّتهم وسوء استعدادهم ـ فما على الله من ذلك حجّة : (فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ
كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [٣٠ / ٩] ؛ وذلك
كما في سائر الكمالات والخيرات ، فإنّها إنّما تفيض على العباد بقدر قابليّتهم. مع
أنّ ما في الغيبة من الخيرات والحكم ـ من تضاعف مثوبات المؤمنين بها ، المصدّقين
بوجود الإمام في أعمالهم الصالحات ـ ما يسهل معها فوات إقامة الحدود ونحوها.
وسيأتي تمام الكلام في ذلك إن شاء الله.
فصل [٢]
[صفات الإمام]
ويجب أن يكون أفضل
الامّة ، وأقربهم إلى الله ـ سبحانه ـ وأن تجتمع فيه خصال الخير المفرّقة في غيره
ـ مثل العلم بكتاب الله وسنّة رسوله ، والفقه في دين الله ، والجهاد في سبيل الله
، والرغبة فيما عند الله ، والزهد فيما بيد خلق الله ، إلى غير ذلك من الخيرات ـ.
وأن يكون معصوما
من الزيغ والزلل والخطأ في القول والعمل ، منزّها عن أن يحكم بالهوى أو يميل إلى
الدنيا.
وقد مرّ حديث عصمة
الإمام .
وفي معاني الأخبار
بإسناده عن مولانا الكاظم ، عن أبيه ، عن أبيه ، عن السجّاد عليهمالسلام قال : «الإمام منّا لا يكون إلّا معصوما ؛ وليست العصمة في
ظاهر الخلق فيعرف بها ، ولذلك لا يكون إلّا منصوصا».
فقيل له : «يا ابن
رسول الله ، فما معنى المعصوم»؟
فقال : «هو
المعتصم بحبل الله ، وحبل الله هو القرآن ؛ لا يفترقان إلى يوم القيامة ؛ والإمام
يهدي إلى القرآن ، والقرآن يهدي إلى الإمام ؛ وذلك قول الله ـ عزوجل : (إِنَّ هذَا
الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [١٧ / ٩].
__________________
وبالجملة ، كلّ ما
اشترط في النبيّ من الصفات فهو شرط في الإمام ، ما خلا النبوّة.
قال مولانا الصادق
عليهالسلام : «كلّ ما كان لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فلنا مثله إلّا النبوّة والأزواج».
أقول : وذلك لما
دريت أنّ الغرض الأصلي من بعثة الأنبياء والرسل تقوية الجنبة العالية ، واستخدام
الغيب للشهادة ؛ لا مجرّد السياسة الحافظة للاجتماع الضروري ؛ ولأجل ذلك عبء
الأمانة ثقيل ، وخطبها جليل ، وأمرها عظيم ، وخطرها جسيم.
فصل [٣]
[الإنسان الكامل غرض الخلقة]
اعلم أنّ الغاية
القصوى والفائدة العظمى من إيجاد العالم الحسّي إنّما هي خلقة الإنسان ؛ وغاية
خلقة الإنسان بلوغه إلى أقصى درجة الكمال ، واتّصاله بالملإ الأعلى ، ومعرفته
للمعبود الحقّ ، والعبوديّة الكاملة له ـ عزوجل ـ كما قال سبحانه : (وَما خَلَقْتُ
الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [٥١ / ٥٦].
فخلقة سائر
الكائنات ـ من الجمادات والنباتات والحيوانات ـ إنّما هي لضرورة تعيّش الإنسان
واستخدامه إيّاها وانتفاعه بها ، ولئلّا يهمل
__________________
فضالة الموادّ
الّتي قد صرف صفوها وزبدتها في تكوّن الإنسان ؛ فإنّ الحكمة الإلهيّة والرحمة
الرحمانيّة تقتضي أن لا يفوت حقّ من الحقوق ؛ بل يصيب كلّ مخلوق من السعادة قدرا
يليق به ويحتمله ويستعدّ له.
والدليل على أنّ الإنسان هو الغرض الأصلي من بين الكائنات تسخير
الله ـ عزوجل ـ له كلّها كما قال ـ جلّ جلاله ـ : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ
وَما فِي الْأَرْضِ) [٤٥ / ١٣].
(وَسَخَّرَ لَكُمُ
اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ
بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ* وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي
الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) [١٦ / ١٢ ـ ١٣].
قال بعض المحقّقين
:
«التسخير على
ضربين : حقيقيّ ، وغير حقيقيّ. أمّا الغير الحقيقي فهو على ثلاثة أقسام :
أدناها الوضعيّ
العرضيّ ؛ كتسخير الله ـ سبحانه ـ للإنسان وجه الأرض وما فيها للحرث والزرع وغير
ذلك ، و (سَخَّرَ لَكُمْ ما
فِي الْأَرْضِ) [٢٢ / ٦٥] جميعا.
ومن ذلك تسخير
الجبال والمعادن : (جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا
خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ
سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) [١٦ / ٨١].
__________________
ومنه تسخير البحار
: (وَهُوَ الَّذِي
سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ
حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ
فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [١٦ / ١٤].
ومنه تسخير الفلك
: (وَسَخَّرَ لَكُمُ
الْفُلْكَ) [١٤ / ٣٢].
ومنه تسخير
الأشجار للغرس وأخذ الثمار وغيرها : (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ) [٦ / ١٤١] (كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ) [٢٠ / ٥٤] (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ
ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ* يُنْبِتُ لَكُمْ
بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ) [١٦ / ١٠ ـ ١١] (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً
حَسَناً) [١٦ / ٦٧] (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ
الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) [٣٦ / ٨٠].
ومنه تسخير
الدوابّ والأنعام للركوب والزينة وحمل الأثقال : (أَنَّا خَلَقْنا
لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ* وَذَلَّلْناها
لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ) [٣٦ / ٧١ ـ ٧٢] (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها
دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ* وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ
وَحِينَ تَسْرَحُونَ* وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا
بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ*
وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً) [١٦ / ٥ ـ ٨].
ومنه تسخير
النسوان والجواري للنسل والتوليد (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ
لَكُمْ) [٢ / ٢٢٣].
__________________
وأوسطها التسخير
الطبيعي : وهو تسخير جنود القوى النباتيّة ومواضعها له للتغذية والتنمية والتوليد
والجذب والإمساك والهضم والدفع والتصوير والتشكل.
وأعلاها التسخير
النفساني : وهو تسخير الحواسّ :
وهي على صنفين :
صنف من عالم الشهادة ، وصنف من عالم الغيب :
أمّا الأوّل فلا
يستطيعون له خلافا ، ولا عليه تمرّدا ، فإذا أمر العين بالانفتاح انفتحت ، وإذا
أمر اللسان بالتكلّم وجزم الحكم به تكلّم ، وإذا أمر الرجل بالحركة تحرّكت ـ وكذا
سائر الأعضاء الظاهرة.
وأمّا الثاني
فكذلك ، إلّا أنّ الوهم له شيطنة بحسب الفطرة ، يقبل إغواء الشيطان فيعارض العقل
في مقاصده البرهانيّة الإيمانيّة ، فيحتاج إلى تأييد جديد اخرويّ من جانب الله
ليقهره ويغلب عليه ويطرد ظلماته.
وأمّا التسخير
الحقيقي فهو عبارة عن تسخير الله المعاني العقليّة الإلهيّة للكامل من الإنسان ،
وجعله بقوّته الباطنيّة إيّاها صورا روحانيّة ، أو أمثلة غيبيّة موجودة في عالمه
العقلي والخيالي ، ونقله الأشياء من عالم الشهادة إلى عالم الغيب بانتزاعه من
الجزئيّات ، وقبضه الأرواح من موادّ الأجسام والأشباح بإمداد الله من اسمه «القابض»
، راجعا من عالم الدنيا إلى الآخرة ، ومنقلبا من حالة التفرقة والافتراق إلى حالة
الجمع والتلاق ـ انتهى كلامه ـ
[لا يخلو الأرض من خليفة الله تعالى]
ولمّا ثبت أنّ خلق
هذا العالم الجسماني إنّما هو لأجل الإنسان ، فالملائكة المدبّرون له كلّهم خادمون
له ، مسخّرون لأجله ، مطيعون إيّاه ، سماويين كانوا أم أرضيّين ، موكّلين به أم
بسائر ما خلق لأجله .
وبالجملة ـ فالغرض
الأصلي من خلق الموجودات مطلقا إنّما هو وجود الإنسان الكامل ، الذي هو خليفة الله
في أرضه ؛ كما اشير إليه في الحديث القدسي : «يا ابن آدم ، خلقت الأشياء لأجلك ، وخلقتك لأجلي».
وفي حديث آخر
مشهور ـ خطابا لنبيّنا صلىاللهعليهوآله ـ : «لولاك لما خلقت الأفلاك».
وعن أهل البيت عليهمالسلام : «نحن صنائع الله ، والناس بعد صنائع لنا ، مصنوعين
لأجلنا».
وعن النبيّ صلىاللهعليهوآله ـ في حديث طويل قاله لأمير المؤمنين عليهالسلام : «إنّ
__________________
الله ـ تبارك
وتعالى ـ فضّل أنبياءه المرسلين على ملائكته المقرّبين وفضّلني على جميع النبيّين
والمرسلين ، والفضل بعدي لك ـ يا علي ـ وللأئمة من بعدك ، وإنّ الملائكة لخدّامنا
وخدّام محبّينا.
يا علي : الذين
يحملون العرش ومن حوله يسبّحون بحمد ربّهم ويستغفرون للذين آمنوا بربّهم
وبولايتنا.
يا علي : لو لا
نحن ما خلق الله ـ تعالى ـ آدم ، ولا حوّاء ، ولا الجنّة ولا النار ، ولا السماء ،
ولا الأرض» ـ الحديث ـ
وسيأتي تمامه فيما
بعد.
وعن مولانا الصادق
عليهالسلام ، عن أبيه الباقر ، عن أبيه السجّاد عليهالسلام ، قال : «نحن أئمّة المسلمين ، وحجج الله على العالمين ،
وسادة المؤمنين ، وقادة الغرّ المحجّلين ، وموالي المؤمنين ، ونحن أمان لأهل الأرض
كما أنّ النجوم أمان لأهل السماء ، ونحن الذين بنا يمسك الله السماء أن تقع على
الأرض إلّا بإذنه ، وبنا يمسك الأرض أن تميد بأهلها ، وبنا ينزّل الغيث ، وتنشر
الرحمة ، ويخرج بركات الأرض ، ولو لا ما في الأرض منّا لساخت بأهلها».
ثمّ قال : «ولم
تخل الأرض منذ خلق الله آدم من حجة لله فيها ظاهر مشهور ، أو غائب مستور ، ولا
تخلو إلى أن تقوم الساعة من حجة لله فيها ، ولو لا ذلك لم يعبد الله».
ـ قال الراوي : ـ فقلت
للصادق عليهالسلام : «فكيف ينتفع الناس بالحجّة الغائب المستور»؟
قال : «كما ينتفعون
بالشمس إذا سترها سحاب».
رواهما الشيخ
الصدوق في إكمال الدين وإتمام النعمة ، والأخبار في هذا المعنى كثيرة.
وإذا ثبت ذلك ،
ثبت أنّه لا بدّ في كلّ زمان من وجود خليفة يقوم به الأمر ويدوم به النوع ، ويحفظ
به البلاد ، ويهتدي به العباد ، ويمسك به السماوات والأرضون ، وإلّا فيكون الكلّ
هباء وعبثا ، إذ لا ترجع إلى غاية ، ولا تؤول إلى عاقبة ، ففنيت إذن وخربت ، وساخت
الأرض بأهلها. كما في الحديث المذكور :
«فلو خلق الله
الخليقة خلوا من الخليفة لكان قد عرضهم للتلف»
ولهذا لمّا أراد
الله ـ عزوجل ـ خلق الناس قال : (إِنِّي جاعِلٌ فِي
الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [٢ / ٣٠]. فبدأ
بالخليفة قبل الخليقة ؛ والحكيم العليم يبدأ بالأهمّ دون الأعمّ.
وتصديق ذلك قول
مولانا الصادق عليهالسلام في الصحيح : «الحجّة قبل الخلق ، وبعد الخلق ، ومع الخلق».
__________________
وقال تعالى : (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ
وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) [٦ / ٨٩] ، دلّ
على أنّه لا يخلو كلّ زمان من حافظ للدين ، إمّا نبيّ أو إمام.
وقال عزوجل (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ
إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) [٣٥ / ٢٤]. وهذا
عامّ في سائر الامم ، وعمومه يقتضي أنّ في كلّ زمان ـ حصلت فيه أمّة مكلّفة ـ نذيرا
؛ ففي أزمنة الأنبياء عليهمالسلام هم النذر للامم ، وفي غيرها الأئمّة عليهمالسلام.
وقال سبحانه : (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ
شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) [١٦ / ٨٩] ، وقال
: (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا
مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) [٤ / ٤١].
وقال النبيّ صلىاللهعليهوآله ـ في طرق متعدّدة وألفاظ متكثّرة : ـ «في كلّ خلف من أمّتي عدل من أهل بيتي ، ينفون عن
الدين تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين».
ولنزد من الأخبار
تأكيدا وتشييدا.
__________________
فصل [٤]
[وجوب وجود الحجة بالنصوص]
روى كميل بن زياد
عن مولانا أمير المؤمنين عليهالسلام في حديث طويل مشهور : «إنّه لا تخلو الأرض من قائم لله بحجّة : إمّا ظاهر
مشهور ، وإمّا خائف مغمور».
وروى في إكمال
الدين ـ بإسناده ـ عن أبي حمزة الثمالي ، عن أبي
__________________
عبد الله عليهالسلام ـ قال : ـ قلت له : «أتبقى الأرض بغير إمام»؟
قال : «لو بقيت
الأرض بغير إمام ساعة لساخت».
وبإسناده عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «لو أنّ الإمام رفع من الأرض ساعة لماجت بأهلها كما يموج البحر بأهله».
وبإسناده عن أبي عبد الله عليهالسلام في حديث له في الحسين بن عليّ عليهالسلام إنّه قال في آخره : «ولو لا من على الأرض من حجج الله :
لنفضت الأرض ما فيها ، وألقت ما عليها ؛ إنّ الأرض لا تخلو ساعة
من الحجّة».
وبإسناده عن الحسن بن زياد ـ قال : ـ سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول : «إنّ الأرض لا تخلو من أن يكون فيها حجّة عالم ،
إنّ الأرض لا يصلحها إلّا ذلك ، ولا يصلح الناس إلّا ذلك».
__________________
وبإسناده عنه عليهالسلام ـ قال ـ : «إنّ الله تبارك وتعالى لم يدع الأرض إلّا وفيها
عالم يعلم الزيادة والنقصان ، فإذا زاد المؤمنون شيئا ردّهم ، وإذا نقصوا شيئا
أكمله لهم ، ولو لا ذلك لالتبست على المؤمنين امورهم».
وفي رواية : «ولو لا ذلك لما عرف الحقّ من الباطل».
وبإسناده عنه عليهالسلام ـ قال ـ : «لو لم يبق في الأرض إلّا اثنان لكان أحدهما
الحجّة».
وزاد في رواية : «ولو ذهب أحدهما بقي الحجّة». وفي لفظ آخر : «لو لم يكن في الدنيا إلّا اثنان لكان الإمام أحدهما».
وفي الكافي
بأسانيده إلى الصادق والكاظم والرضا عليهالسلام : «إنّ الحجّة لا تقوم لله تعالى على خلقه إلّا بإمام حتّى
يعرف» .
__________________
وفي الحديث
النبويّ المشهور المتّفق عليه بين الخاصّة والعامّة : «من مات ولم يعرف إمام زمانه فقد مات ميتة الجاهليّة».
__________________
وفي بصائر الدرجات
: بإسناده عنه عليهالسلام ـ أيضا ـ قال : «ما زالت الأرض إلّا ولله الحجّة ، يعرف
الحلال والحرام ، ويدعو إلى سبيل الله ، ولا ينقطع الحجّة من الأرض إلّا أربعين
يوما قبل يوم القيامة ، فإذا رفعت الحجة ، وغلق باب التوبة ف (لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ
تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ) [٦ / ١٥٨] أن يرفع
الحجّة ؛ اولئك شرار من خلق الله ، وهم الذين تقوم عليهم القيامة».
والأخبار في هذه
المعاني ـ في الكافي وغيره ـ كثيرة جدّا ،
ولنقتصر على ما
ذكرنا ، فإنّ فيه كفاية.
* * *
__________________
[٦]
باب
تفاصيل الأنبياء
والأولياء
ـ عليهم الصلاة
والسلام ـ وما يتبع ذلك
(تِلْكَ الرُّسُلُ
فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ
بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) [٢ / ٢٥٣]
فصل [١]
[عدد الأنبياء والرسل واولي العزم منهم]
قد روينا أنّ
الأنبياء والرسل والأئمّة عليهمالسلام من زمن آدم ـ على نبيّنا وعليهالسلام ـ إلى الخاتم صلىاللهعليهوآله على طبقاتهم مائة وأربعة وعشرون ألف نبيّا. منهم من جمع
إلى النبوّة الرسالة والإمامة ؛ كنبيّنا صلىاللهعليهوآله كما قال الله عزوجل : (وَلكِنْ رَسُولَ
اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) [٣٣ / ٤٠]. وكموسى
ـ على نبيّنا وعليهالسلام ـ كما قال الله تعالى في حقّه : (وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا) [١٩ / ٥١].
وكإبراهيم ـ على نبيّنا وعليهالسلام ـ قال الله تعالى فيه : (إِنِّي جاعِلُكَ
لِلنَّاسِ إِماماً) [٢ / ١٢٤].
وأولو العزم منهم
خمسة : نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، ومحمّد ـ صلوات الله عليهم ـ.
ومعنى اولي العزم
ما رواه في الكافي بإسناده عن سماعة ، عن مولانا الصادقعليهالسلام في قول الله ـ عزوجل ـ : (فَاصْبِرْ كَما
صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) [٤٦ / ٣٥]. فقال :
«نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمّد ـ صلوات الله عليهم». قلت : «كيف صاروا اولي
العزم»؟
فقال : «لأنّ نوحا
بعث بكتاب وشريعة ، وكلّ من جاء بعد نوح أخذ بكتاب نوح وشريعته ومنهاجه ، حتى جاء
إبراهيم عليهالسلام بالصحف وبعزيمة ترك كتاب نوح ـ لا كفرا به ـ فكلّ نبيّ جاء
بعد إبراهيم أخذ بشريعة إبراهيم ومنهاجه وبالصحف ، حتّى جاء موسى عليهالسلام بالتوراة وشريعته ومنهاجه ، وبعزيمة ترك الصحف ، وكلّ نبيّ
جاء بعد موسى أخذ بتوراته وشريعته ومنهاجه ، حتّى جاء المسيح عليهالسلام بالإنجيل وبعزيمة ترك شريعة موسى ومنهاجه ، وكل نبيّ جاء
بعد المسيح أخذ بشريعته ومنهاجه ، حتّى جاء محمّد صلىاللهعليهوآله فجاء بالقرآن وشريعته ومنهاجه ، فحلاله حلال إلى يوم
القيامة ، وحرامه حرام إلى يوم القيامة ، فهؤلاء أولو العزم من الرسل عليهمالسلام».
__________________
وبإسناده عن مولانا الباقر عليهالسلام : «وإنّما سمّوا أولو العزم لأنّه عهد إليهم في محمّد
والأوصياء من بعده والمهدى وسيرته ، فأجمع عزمهم أنّ ذلك كذلك ، والإقرار به» .
فصل [٢]
[أكابر الأنبياء ومعجزاتهم]
والأكابر الأشراف
من الأنبياء هم المشاهير الذين ذكرهم الله سبحانه في كتابه في مواضع :
منها قوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّا أَوْحَيْنا
إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا
إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى
وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً*
وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ
عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً* رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ
لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ
عَزِيزاً حَكِيماً) [٤ / ١٦٣ ـ ١٦٥].
ومنها قوله عزوجل : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا
آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ
__________________
نَرْفَعُ
دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ* وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ
وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ
داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي
الْمُحْسِنِينَ* وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ
الصَّالِحِينَ* وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا
عَلَى الْعالَمِينَ* وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ
وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ* ذلِكَ هُدَى اللهِ
يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما
كانُوا يَعْمَلُونَ* أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ
وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً
لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ* أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ
اقْتَدِهْ) [٦ / ٨٣ ـ ٨٩].
* * *
ولكلّ منهم آيات
ومعجزات تدلّ على صدقه وحقيّته وتناسبه وتناسب أهل زمانه ، فمن الناس من آمن به ،
ومنهم من صدّ عنه كما ذكر الله ـ عزوجل ـ تفصيل حكاياتهم وقصصهم في كتابه.
* * *
روى في الكافي :
بإسناده عن أبي يعقوب البغدادي ـ قال : ـ
__________________
قال ابن السكّيت لأبي الحسن عليهالسلام : «لما ذا بعث الله موسى بن عمران بالعصا ويده البيضا وآلة
السحر؟ وبعث عيسى بآلة الطبّ؟ وبعث محمدا ـ صلىاللهعليهوآله وعلى جميع الأنبياء ـ بالكلام والخطب»؟
فقال أبو الحسن عليهالسلام : «إنّ الله لمّا بعث موسى عليهالسلام كان الغالب على أهل عصره السحر ، فأتاهم من عند الله بما
لم يكن في وسعهم مثله ، وما أبطل به سحرهم ، وأثبت به الحجّة عليهم. وإنّ الله بعث
عيسى عليهالسلام في وقت قد ظهرت فيه الزمانات ، واحتاج الناس إلى الطبّ ، فأتاهم من عند الله بما لم يكن
عندهم مثله ـ بما أحيا لهم الموتى ، وأبرأ الأكمه والأبرص بإذن الله ، وأثبت به
الحجّة عليهم ـ.
وإنّ الله بعث
محمدا صلىاللهعليهوآله في وقت كان الغالب على أهل عصره الخطب والكلام ـ وأظنّه
قال : الشعر ـ فأتاهم من عند الله من مواعظه وحكمه ما أبطل به قولهم ، وأثبت به
الحجّة عليهم».
ـ قال : ـ فقال
ابن السكّيت : «تالله ـ ما رأيت مثلك قطّ ؛ فما الحجّة على الخلق اليوم»؟
ـ قال : ـ فقال عليهالسلام : «العقل ؛ يعرف به الصادق على الله ، فيصدّقه ، والكاذب
على الله فيكذّبه» ،
ـ قال : ـ فقال
ابن السكّيت : «هذا ـ والله ـ هو الجواب».
__________________
فصل [٣]
[اتصال الوصية]
روي في إكمال
الدين والفقيه ، بإسناده عن مولانا الصادق عليهالسلام ـ قال : ـ
قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : «أنا سيّد النبيّين ، ووصيّي سيّد الوصيّين ، وأوصياؤه
سادة الأوصياء ؛
إنّ آدم عليهالسلام سأل الله ـ عزوجل ـ أن يجعل له وصيّا صالحا ، فأوحى الله ـ عزوجل ـ إليه : إنّي أكرمت الأنبياء بالنبوّة ، ثمّ اخترت خلقا ، وجعلت خيارهم الأوصياء.
فقال آدم عليهالسلام : يا ربّ فاجعل وصيّي خير الأوصياء ؛
فأوحى الله عزوجل إليه : يا آدم ، أوص إلى شيث ـ وهو هبة الله بن آدم ـ.
فأوصى الله شيث ،
وأوصى شيث إلى ابنه شبّان ـ وهو ابن نزلة الحوراء التي أنزلها الله ـ عزوجل ـ على آدم من
__________________
الجنّة ، فزوّجها
شيث ـ وأوصى شبّان إلى ابنه مجليث وأوصى مجليث إلى محوق ، وأوصى محوق إلى عثميشا وأوصى عثميشا إلى اخنوخ ـ وهو إدريس النبيّ صلى الله عليه
ـ وأوصى إدريس إلى ناخور.
ودفعها ناخور إلى
نوح عليهالسلام ، وأوصى نوح إلى سام ، وأوصى سام إلى عثامر ، وأوصى عثامر
إلى برعيثاشا ، وأوصى برعيثاشا إلى يافث ، وأوصى يافث إلى برّه ، وأوصى برّه إلى
حسفية وأوصى حسفية إلى عمران.
ودفعها عمران إلى
إبراهيم الخليل عليهالسلام ، وأوصى إبراهيم إلى ابنه إسماعيل ، وأوصى إسماعيل إلى
إسحاق ، وأوصى إسحاق إلى يعقوب ، وأوصى يعقوب إلى يوسف ، وأوصى يوسف إلى بثريا ،
وأوصى بثريا إلى شعيب.
وأوصى شعيب إلى
موسى بن عمران عليهالسلام وأوصى موسى إلى يوشع بن نون ، وأوصى يوشع بن نون إلى داود
، وأوصى داود إلى سليمان ، وأوصى سليمان إلى آصف بن برخيا ، وأوصى آصف إلى زكريّا.
ودفعها زكريّا إلى
عيسى عليهالسلام ، وأوصى عيسى إلى شمعون بن حمون الصفا ، وأوصى شمعون إلى
يحيى بن زكريّا ، وأوصى
__________________
يحيى بن زكريّا
إلى منذر ، وأوصى منذر إلى سليمة ، وأوصى سليمة إلى بردة».
ثمّ قال رسول الله
صلىاللهعليهوآله : ودفعها إلى بردة ، وأنا أدفعها إليك ـ يا عليّ ـ ، وأنت
تدفعها إلى وصيّك ، ويدفعها وصيّك إلى أوصيائك من ولدك ، واحد بعد واحد ، حتّى
تدفع إلى خير أهل الأرض بعدك ؛ ولتكفرنّ بك الامّة ، ولتختلفنّ عليك اختلافا شديدا
؛ الثابت عليك كالمقيم معي ، والشاذّ عنك في النار ، والنار مثوى للكافرين».
* * *
وفي الإكمال بإسناده عن مولانا الباقر عليهالسلام ـ قال : ـ
«إنّ الله ـ تبارك
وتعالى ـ عهد إلى آدم عليهالسلام أن لا يقرب الشجرة ، فلمّا بلغ الوقت الذي كان في علم الله
ـ تبارك وتعالى ـ أن يأكل منها ، نسي فأكل منها ، وهو قول الله ـ تبارك وتعالى ـ :
(وَلَقَدْ عَهِدْنا
إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) [٢٠ / ١١٥].
فلمّا أكل آدم من
الشجرة ، اهبط إلى الأرض ، فولد له هابيل واخته توأم وولد له قابيل واخته توأم.
ثمّ إنّ آدم عليهالسلام أمر قابيل وهابيل أن يقرّبا قربانا ، وكان
__________________
هابيل صاحب غنم ،
وكان قابيل صاحب زرع ، فقرّب هابيل كبشا ، وقرّب قابيل من زرعه ما لم ينقّ ؛ وكان
كبش هابيل من أفضل غنمه ، وكان زرع قابيل غير منقّى ، فتقبّل قربان هابيل ، ولم
يتقبّل قربان قابيل ؛ وهو قول الله ـ عزوجل ـ : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ
نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ
أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ) ـ إلى آخر الآية ـ [٥ / ٧٢].
وكان القربان إذا
قبل تأكله النار ، فعمد قابيل فبنى لها بيتا ، وهو أوّل من بنى للنار البيوت ، وقال
لأعبدنّ هذه النار حتّى تقبل قرباني.
ثمّ إنّ عدوّ الله
ـ إبليس ـ قال لقابيل : «إنّه قد تقبّل قربان هابيل ، ولم يتقبّل قربانك ، وإن
تركته يكون له عقب يفتخرون على عقبك» ؛ فقتله قابيل ؛ فلمّا رجع إلى آدم عليهالسلام قال له : «يا قابيل ـ أين هابيل»؟ فقال : «ما أدري ؛ وما
بعثتني راعيا له». فانطلق آدم فوجد هابيل مقتولا ، فقال : «لعنت من أرض كما قبلت
دم هابيل». فبكى آدم على هابيل أربعين ليلة.
ثمّ إنّ آدم سأل
ربّه ـ عزوجل ـ أن يهب له ولدا ، فولد له غلام سمّاه «هبة الله» ، لأن
الله ـ عزوجل ـ وهبه له ، فأحبّه آدم حبّا شديدا ؛ فلمّا انقضت نبوّة
آدم واستكملت أيّامه أوحى الله ـ تعالى ـ إليه : «أن يا آدم قد انقضت نبوّتك
واستكملت أيّامك ، فاجعل العلم الذي عندك ، والإيمان
__________________
والاسم الأكبر ،
وميراث العلم وآثار النبوّة في العقب من ذرّيّتك عند ابنك هبة الله ، فإنّي لن
أقطع العلم والإيمان والاسم الأكبر وميراث العلم وآثار النبوّة من العقب من
ذرّيّتك إلى يوم القيامة ، ولن أدع الأرض إلّا وفيها عالم يعرف به ديني ، ويعرف به
طاعتي ، ويكون نجاة لمن يولد فيما بينك وبين نوح.
وذكر آدم عليهالسلام نوحا عليهالسلام وقال : «إنّ الله تعالى باعث نبيّا اسمه نوح ، وأنّه يدعو
إلى الله ـ عزوجل ـ فيكذّبونه ، فيقتلهم الله بالطوفان ، وكان بين آدم وبين
نوح عشرة آباء كلّهم أنبياء.
وأوصى آدم إلى هبة
الله أن «من أدركه منكم فليؤمن به وليتّبعه وليصدّق به ، فإنّه ينجو من الغرق».
ثمّ إنّ آدم عليهالسلام مرض المرضة التي قبض فيها ، فأرسل إلى هبة الله ، فقال :
إن لقيت جبرئيل أو من لقيت من الملائكة ، فاقرأه السلام ، وقل له : «يا جبرئيل ،
إنّ أبي يستهديك من ثمار الجنّة».
ففعل ؛ فقال له
جبرئيل : «يا هبة الله ـ إنّ أباك قد قبض ، وما نزلت إلّا للصلاة عليه ؛ فارجع».
فرجع ، فوجد أباه
وقد قبض ؛ فاراه جبرئيل عليهالسلام كيف يغسله ؛ فغسله ، حتّى إذا بلغ الصلاة عليه قال هبة الله
: «يا جبرئيل ـ تقدّم فصلّ على آدم». فقال له جبرئيل : «يا هبة الله إنّ الله
أمرنا أن نسجد لأبيك في الجنّة ، فليس لنا أن نؤمّ أحدا من ولده».
فتقدّم هبة الله
فصلّى على آدم ، وجبرئيل خلفه وحزب من الملائكة ، وكبّر عليه ثلاثين تكبيرة ؛ فأمر
جبرئيل فرفع من ذلك خمسا وعشرين تكبيرة ، والسنّة اليوم فينا خمس تكبيرات ، وقد كان يكبّر على أهل
بدر سبعا وتسعا .
* * *
ثمّ إنّ هبة الله
لمّا دفن آدم أتاه قابيل ، فقال له : «يا هبة الله إنّي قد رأيت آدم ـ أبي ـ قد
خصّك من العلم بما لم أخصّ به ، وهو العلم الذي دعا به أخوك هابيل فتقبّل قربانه ،
وإنّما قتلته لكيلا يكون له عقب فيفتخرون على عقبي ، فيقولون «نحن أبناء الذي
تقبّل قربانه ، وأنتم أبناء الذي لم يتقبّل قربانه» ؛ وإنّك إن أظهرت من العلم
الذي اختصّك به أبوك شيئا ، قتلتك كما قتلت أخاك هابيل».
فلبث هبة الله
والعقب منه مستخفين بما عندهم من العلم والإيمان والاسم الأكبر وميراث العلم وآثار
علم النبوّة ، حتّى بعث نوح وظهرت وصيّة هبة الله حين نظروا في وصيّة آدم ، فوجدوا
نوحا عليهالسلام قد بشّر به أبوهم آدم ، فآمنوا به واتّبعوه
__________________
وصدّقوه ؛ وقد كان
آدم عليهالسلام أوصى هبة الله أن يتعاهد هذه الوصيّة عند رأس كلّ سنة ،
فيكون يوم عيد لهم ، فيتعاهدون بعث نوح وزمانه الذي يخرج فيه .
وكذلك جرى وصيّة
كلّ نبيّ حتّى بعث الله ـ عزوجل ـ محمّدا صلىاللهعليهوآله.
وإنّما عرفوا نوحا
بالعلم الذي عندهم ، وهو قول الله ـ عزوجل ـ : (لَقَدْ أَرْسَلْنا
نُوحاً) [٧ / ٥٩] ـ إلى
آخر الآية ـ
وكان ما بين آدم
ونوح من الأنبياء مستخفين ومستعلنين ، ولذلك خفى ذكرهم في القرآن ، فلم يسمّوا كما
سمّي من استعلن من الأنبياء ، وهو قول الله تبارك وتعالى : (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ
مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) [٤ / ١٦٤] يعني :
من لم نسمّهم من المستخفين ، كما سمّى المستعلنين من الأنبياء. فمكث نوح عليهالسلام (فِيهِمْ أَلْفَ
سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) [٢٩ / ١٤] لم
يشاركه في نبوّته أحد ، ولكنّه قدم على قوم مكذّبين للأنبياء الذين كانوا بينه
وبين آدم وذلك قوله ـ عزوجل ـ : (كَذَّبَتْ قَوْمُ
نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) [٢٦ / ١٠٥] يعني
من كان بينه وبين آدم إلى أن انتهى إلى قوله : (وَإِنَّ رَبَّكَ
لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) [٢٦ / ١٢٢].
* * *
__________________
ثمّ إنّ نوحا لمّا
انقضت نبوّته واستكملت أيّامه ، أوحى الله إليه أنّه «يا نوح قد انقضت نبوّتك
واستكملت أيّامك ، فاجعل العلم الذي عندك والإيمان والاسم الأكبر وميراث العلم
وآثار علم النبوّة في العقب من ذرّيّتك عند سام ، فإنّي لم أقطعها من بيوتات
الأنبياء الذين بينك وبين آدم ، ولن أدع الأرض إلّا وفيها عالم يعرف به ديني ،
ويعرف به طاعتي ، ويكون نجاة لمن يولد فيما بين قبض النبيّ إلى خروج النبيّ الآخر».
وليس بعد سام إلّا هود ، وكان ما بين نوح وهود من الأنبياء مستخفين ومستعلنين.
وقال نوح : «إنّ
الله تبارك وتعالى باعث نبيّا يقال له هود وإنّه يدعو قومه إلى الله ـ عزوجل ـ فيكذّبونه ، وأنّ الله ـ عزوجل ـ يهلكهم ؛ فمن أدركه منكم فليؤمن به وليتّبعه ، فإنّ الله تبارك
وتعالي ينجيه من عذاب الريح».
وأمر نوح ابنه سام
أن يتعاهد هذه الوصيّة عند رأس كلّ سنة ، ويكون يوم عيد لهم ، فيتعاهدون فيه بعث
هود وزمانه الذي يخرج فيه.
* * *
فلمّا بعث الله ـ تبارك
وتعالى ـ هودا نظروا فيما عندهم من العلم ، والإيمان ، وميراث العلم ، والاسم
الأكبر ، وآثار علم النبوّة ، فوجدوا هودا نبيّا قد بشّرهم أبوهم نوح به ، فآمنوا
به
__________________
وصدّقوه واتّبعوه
، فنجوا من عذاب الريح ، وهو قول الله ـ عزوجل ـ : (وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ
هُوداً) [٧ / ٦٥]. وقوله :
(كَذَّبَتْ عادٌ
الْمُرْسَلِينَ* إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ) [٢٦ / ١٢٣ ـ ١٢٤]
، وقال عزوجل : (وَوَصَّى بِها
إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ) [٢ / ١٣٢]. وقوله : (وَوَهَبْنا لَهُ
إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا) لنجعلها في أهل بيته (وَنُوحاً هَدَيْنا
مِنْ قَبْلُ) [٦ / ٨٤] لنجعلها
في أهل بيته ، فآمن العقب من ذريّة الأنبياء من كان قبل إبراهيم لإبراهيم عليهالسلام.
وكان بين هود
وإبراهيم من الأنبياء عشرة أنبياء ، وهو قوله عزوجل : (وَما قَوْمُ لُوطٍ
مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) [١١ / ٨٩]. وقوله
: (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ
وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي) [٢٩ / ٢٦] سيهدين وقوله جلّ وعزّ : (وَإِبْراهِيمَ إِذْ
قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) [٢٩ / ١٦].
فجرى بين كلّ نبيّ
وبين نبيّ عشرة آباء وتسعة آباء وثمانية آباء كلّهم أنبياء ، وجرى لكلّ نبيّ ما جرى لنوح ، وكما جرى لآدم ، وهود ،
وصالح ، وشعيب ، وإبراهيم ، حتّى انتهى إلى يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.
__________________
ثمّ صارت بعد يوسف
في الأسباط إخوته ، حتّى انتهت إلى موسى بن عمران ـ صلى الله عليهم ـ وكان بين
يوسف وبين موسى عشرة من الأنبياء.
* * *
فأرسل الله ـ عزوجل ـ موسى وهارون إلى فرعون وهامان وقارون. ثمّ أرسل الله ـ عزوجل ـ الرسل (تَتْرا كُلَّ ما جاءَ
أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ
أَحادِيثَ) [٢٣ / ٤٤].
وكانت بنو إسرائيل
تقتل في يوم نبيّين وثلاثة وأربعة ، حتّى أنّه كان تقتل في اليوم الواحد سبعين
نبيّا ، فيقوم سوق قتلهم في آخر النهار.
فلمّا انزلت
التوراة على موسى بن عمران عليهالسلام بشّر بمحمّد صلىاللهعليهوآله ، وكان بين موسى ويوسف عليهماالسلام أنبياء وكان وصيّ موسى بن عمران يوشع بن نون ـ وهو فتاه الذي قال
الله تبارك وتعالى في كتابه ـ.
فلم تزل الأنبياء عليهمالسلام تبشّر بمحمّد صلىاللهعليهوآله ، وذلك قوله : (يَجِدُونَهُ) يعني اليهود والنصارى [(مَكْتُوباً)] يعني صفة
__________________
محمّد واسمه (عِنْدَهُمْ فِي
التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ
الْمُنْكَرِ) [٧ / ١٥٧]. وهو
قول الله ـ عزوجل ـ يحكي عن عيسى بن مريم عليهالسلام : (مُبَشِّراً بِرَسُولٍ
يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) [٦١ / ٦]. فبشّر
موسى وعيسى بمحمّد ، كما بشّرت الأنبياء بعضهم بعضا ، حتّى بلغت محمدا صلىاللهعليهوآله.
* * *
فلمّا قضى محمّد
نبوّته واستكملت أيّامه ، أوحى الله ـ عزوجل ـ إليه «أن يا محمّد ـ قد قضيت نبوّتك واستكملت أيّامك ،
فاجعل العلم الذي عندك والإيمان والاسم الأكبر وميراث العلم وآثار علم النبوّة عند
علي بن أبي طالب ، فإنّي لم أقطع العلم والإيمان والاسم الأكبر وميراث العلم وآثار
علم النبوّة من العقب من ذرّيّتك ، كما لم أقطعها من بيوتات الأنبياء الذين كانوا
بينك وبين أبيك آدم ، وذلك قوله عزوجل : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى
آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ* ذُرِّيَّةً
بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [٣ / ٣٤].
فإنّ الله ـ تبارك
وتعالى ـ لم يجعل العلم جهلا ، ولم يكل أمره إلى ملك مقرّب ، ولا نبيّ مرسل ،
ولكنّه أرسل رسولا من ملائكته إلى نبيّه ، فقال له كذا وكذا ، وأمره بما يحبّه ، ونهاه عمّا ينكر ، فقصّ عليه ما قبله وما خلفه بعلم ،
فعلم ذلك
__________________
العلم أنبياؤه
وأصفياؤه من الآباء والإخوان بالذريّة التي بعضها من بعض ، فذلك
قوله ـ عزوجل : (فَقَدْ آتَيْنا آلَ
إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) [٤ / ٥٤].
فأمّا الكتاب :
فالنبوّة. وأمّا الحكمة : فهم الحكماء من الصفوة ، وكلّ هؤلاء من الذريّة التي بعضها من بعض ، الذين جعل
الله ـ عزوجل ـ فيهم النبوّة ، وفيهم العاقبة ، وحفظ الميثاق حتّى تنقضي
الدنيا ؛ فهم العلماء وولاة الأمر و [أهل] استنباط العلم والهداة.
* * *
فهذا بيان الفضل
في الرسل والأنبياء والحكماء وأئمّة الهدى والخلفاء ، الذين هم ولاة أمر الله وأهل
استنباط علم الله ، وأهل آثار علم الله ، من الذرّيّة التى بعضها من بعض ، من
الصفوة بعد الأنبياء ، من الآل والإخوان والذريّة من بيوتات الأنبياء ، فمن عمل
بعلمهم وانتهى إلى أمرهم فجاء بنصرهم.
__________________
ومن وضع ولاية
الله وأهل استنباط علم الله في غير الصفوة من بيوتات الأنبياء ، فقد خالف أمر الله
ـ عزوجل ـ وجعل الجهّال ولاة أمر الله ، والمتكلّفين بغير هدى ،
وزعموا أنّهم أهل استنباط علم الله ، فكذبوا على الله ، وزاغوا عن وصيّة الله
وطاعته ، فلم يضعوا فضل الله حيث وضعه الله تبارك وتعالى ، فضلّوا واضلّوا أتباعهم
فلا يكون لهم يوم القيامة حجّة ، إنّما الحجّة في آل إبراهيم ، لقول الله ـ عزوجل ـ : (فَقَدْ آتَيْنا آلَ
إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) [٤ / ٥٤].
والحجّة الأنبياء
وأهل بيوتات الأنبياء حتّى تقوم الساعة لأنّ كتاب الله ينطق بذلك ، ووصيّة الله
جرت بذلك في العقب من البيوت التي رفعها الله ـ تبارك وتعالى ـ على الناس ، فقال :
(فِي بُيُوتٍ أَذِنَ
اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) [٢٤ / ٣٦]. وهي
بيوتات الأنبياء والرسل والحكماء وأئمّة الهدى.
فهذا بيان عروة
الإيمان التي بها نجا من نجا قبلكم ، وبها ينجو من اتّبع الأئمّة.
وقد ذكر الله ـ تبارك
وتعالى ـ في كتابه : (وَنُوحاً هَدَيْنا
مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ
وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى
وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ* وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ
وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ* وَمِنْ آبائِهِمْ
وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ
مُسْتَقِيمٍ* [ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ
وَلَوْ
أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) ] أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ
وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً
لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ [٦ / ٨٩].
فإنّه من وكّل
بالفضّل من أهل بيته من الأنبياء والإخوان والذرّيّة ، وهو قول الله ـ عزوجل ـ في كتابه : (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها) ـ أمّتك ـ (فَقَدْ وَكَّلْنا) أهل بيتك بالإيمان الذي أرسلتك به فلا يكفرون بها أبدا ،
ولا اضيّع الإيمان الذي أرسلتك به ، وجعلت أهل بيتك من بعدك علما أمّتك وولاة أمري بعدك ، وأهل استنباط علمي الذي ليس فيه كذب ولا
إثم ولا زور ولا بطر ولا رياء.
* * *
فهذا تبيان ما
بيّنه الله ـ عزوجل ـ من أمر هذه الامّة بعد نبيّها صلىاللهعليهوآله.
«إنّ الله طهّر
أهل بيت نبيّه ، وجعل لهم أجر المودّة ، وأجرى لهم الولاية وجعلهم أوصياءه
وأحبّاءه وأئمّته في أمّته من بعده. فاعتبروا أيّها الناس فيما قلت ، وتفكّروا حيث
وضع الله ـ عزوجل ـ ولايته ومودّته واستنباط علمه وحجّته ، فإيّاه فتعلّموا
، وبه فاستمسكوا تنجوا ، ويكون لكم به حجّة
__________________
يوم القيامة
والفوز ، فإنّهم صلة ما بينكم وبين ربّكم ، لا تصل الولاية إلى الله ـ عزوجل ـ إلّا بهم ، فمن فعل ذلك كان حقّا على الله ـ عزوجل ـ أن يكرمه ولا يعذّبه ، ومن يأتي الله بغير ما أمره كان
حقّا على الله أن يذلّه ويعذّبه .
* * *
وإنّ الأنبياء
بعثوا خاصّة وعامّة :
فأمّا نوح : فإنّه
ارسل إلى من في الأرض بنبوّة عامّة ورسالة عامّة.
وأمّا هود : فإنّه
ارسل إلى عاد ، بنبوّة خاصّة.
وأمّا صالح :
فإنّه ارسل إلى ثمود ، وهي قرية واحدة ولا تكمل أربعين بيتا على ساحل البحر صغيرة.
وأمّا شعيب :
فإنّه ارسل إلى مدين ، وهي لا تكمل أربعين بيتا.
وأمّا إبراهيم :
فكانت نبوّته بكوثى ربا ، وهي قرية من قرى السواد ، فيها مبدأ أوّل أمره ، ثمّ
هاجر منها ، وليست بهجرة قتال ، وذلك قوله ـ جلّ وعزّ ـ : (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ) [٣٧ / ٩٩] وكانت
هجرة إبراهيم بغير قتال.
__________________
وأمّا إسحاق :
فكانت نبوّته بعد إبراهيم.
وأمّا يعقوب :
فكانت نبوّته بأرض كنعان ، ثمّ هبط إلى أرض مصر فتوفّى فيها ، ثمّ حمل بعد ذلك
جسده حتّى دفن بأرض كنعان ، والرؤيا التي رأى يوسف ـ الأحد عشر كوكبا والشمس
والقمر له ساجدين ـ فكانت نبوّته في أرض مصر بدؤها.
ثمّ إنّ الله ـ تبارك
وتعالى ـ أرسل الأسباط اثنا عشر بعد يوسف. ثمّ موسى وهارون إلى فرعون وملئه إلى
مصر وحدها.
ثمّ أنّ الله ـ تبارك
وتعالى ـ أرسل يوشع بن نون إلى بني إسرائيل من بعد موسى ، فنبوّته بدؤها في
البريّة التي تاه فيها بنو إسرائيل.
ثمّ كانت أنبياء
كثيرة منهم من قصّه الله ـ عزوجل ـ على محمد صلىاللهعليهوآله ومنهم من لم يقصصه على محمّد.
ثمّ إن الله ـ عزوجل ـ أرسل عيسى عليهالسلام إلى بني إسرائيل خاصّة ، وكانت نبوّته ببيت المقدّس ، وكان
من بعد [ه] : الحواريين اثنا عشر ، فلم يزل الإيمان يستسرّ في بقية أهله منذ رفع
الله ـ عزوجل ـ عيسى عليهالسلام.
وأرسل الله ـ عزوجل ـ محمّدا صلىاللهعليهوآله إلى الجنّ والإنس عامّة ، وكان خاتم الأنبياء ، وكان من
بعده الاثنا عشر الأوصياء : منهم من أدركنا ومنهم من سبقنا ، ومنهم من بقى
__________________
ـ فهذا أمر
النبوّة والرسالة ـ. فكلّ نبيّ ارسل إلى بني إسرائيل ـ خاصّ أو عامّ ـ له وصيّ جرت
به السنّة ، وكان الأوصياء الذين بعد النبيّ صلىاللهعليهوآله على سنّة أوصياء عيسى عليهالسلام. وكان أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ على سنّة المسيح عليهالسلام.
فهذا تبيان السنّة
، وأمثال الأوصياء بعد الأنبياء عليهمالسلام».
* * *
وروي في الكافي ما يقرب منه إلى قوله : «كان حقّا علي الله أن يذلّه وأن
يعذّبه».
ويشبه أن يكون
المراد «بالعلم الذي عندك» معرفته بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، على
سبيل المشاهدة والعيان.
وب «الإيمان»
التصديق بهذه الامور مع الانقياد المقرون بالإيقان.
وب «الاسم الأكبر»
الكتب المنزلة على الأنبياء عليهمالسلام ، ولا سيّما الكتاب الذي يعلم به كلّ شيء الذي يكون معهم ـ
كما فسّر به في بعض الأخبار.
وب «ميراث العلم»
التخلّق بأخلاق الله.
وب «آثار علم
النبوّة» علم الشرائع والأحكام.
* * *
وفي بصائر الدرجات
بإسناده إلى مولانا الباقر عليهالسلام ـ قال : ـ قال رسول اللهصلىاللهعليهوآله :
__________________
«إنّ أوّل وصيّ
كان على وجه الأرض هبة الله بن آدم ، وما من نبيّ مضى إلّا وله وصيّ. وكان جميع
الأنبياء مائة ألف نبيّ وأربعة وعشرين ألف نبيّ. منهم خمسة أولو العزم : نوح ،
وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، ومحمد ـ صلوات الله عليهم ـ وإنّ علي بن أبي طالب كان
هبة الله لمحمّد ، ورث علم الأوصياء وعلم من كان قبله ، كما أنّ محمّدا ورث علم من
كان قبله من الأنبياء والمرسلين ؛ وعلى قائمة العرش مكتوب : «حمزة أسد الله وأسد
رسوله وسيّد الشهداء». وفي ذؤابة العرش عن يمين ربّها ـ وكلتا يدي ربّنا عزوجل يمين ـ : «عليّ أمير المؤمنين».
فهذه حجّتنا على
من أنكر حقّنا ، وجحدنا ميراثنا وما منعنا من الكلام ، وأمامنا اليقين ؛ فأيّ حجّة
تكون أبلغ من هذا؟».
وبإسناده عن أبي الحجار ، قال :
قال أمير المؤمنين
عليهالسلام : «إنّ رسول الله ختم مائة ألف نبيّ وأربعة وعشرين ألف
نبيّ ، وختمت أنا مائة ألف وصيّ وأربعة وعشرين ألف وصيّ ، وكلّفت ما كلّفت
الأوصياء قبلي ـ والله المستعان ـ فإنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله قال في مرضه : لست أخاف عليك أن تضلّ بعد الهدى ، ولكن
أخاف عليك فسّاق قريش وعاديتهم ـ حسبنا الله ونعم الوكيل ـ.
__________________
على أنّ ثلثي القرآن
فينا وفي شيعتنا ، فما كان من خير فلنا ولشيعتنا ، والثلث الباقي أشركنا فيه الناس
، فما كان فيه من شرّ فلعدوّنا.
ـ ثمّ قال : ـ (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ
وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) الآية ـ [٣٩ / ٩]. فنحن ـ أهل البيت ـ الذين يعلمون ،
وشيعتنا أولو الألباب ؛ والذين لا يعلمون عدوّنا ؛ وشيعتنا هم المهتدون».
فصل [٤]
[خلفاء رسول الله صلىاللهعليهوآله]
روى السيّد الجليل
الحسن بن أبي كبش بإسناده عن سلمان الفارسي رضي الله عنه ، قال : دخلت على
رسول الله صلىاللهعليهوآله فلمّا نظر إلى قال :
__________________
«يا سلمان إنّ
الله عزوجل لم يبعث نبيّنا ولا رسولا إلّا جعل له اثنا عشر نقيبا».
ـ قال : ـ قلت : «يا
رسول الله ـ قد عرفت هذا من الكتابين».
قال : «يا سلمان ـ
فهل علمت نقبائي الاثنا عشر ، الذين اختارهم الله للإمامة من بعدي؟». فقلت : «الله
ورسوله أعلم».
قال : «يا سلمان ـ
خلقني الله من صفاء نوره ، فدعاني فأطعته ؛ وخلق من نوري عليّا ، فدعاه إلى طاعته
فأطاعه ؛ وخلق من نوري ونور عليّ فاطمة ، فدعاها فأطاعته ؛ وخلق منّي ومن عليّ ومن
فاطمة : الحسن والحسين ، فدعاهما فأطاعاه ؛ فسمّانا الله ـ عزوجل ـ بخمسة أسماء من أسمائه : فالله المحمود ، وأنا محمّد ؛
والله العليّ ، وهذا عليّ ؛ والله فاطر ، وهذه فاطمة ؛ ولله الإحسان ، وهذا حسن ؛
والله المحسن ، وهذا الحسين. ثمّ خلق من نور الحسين تسعة أئمّة ، فدعاهم فاطاعوا
قبل أن يخلق الله سماء مبنيّة ، أو أرضا مدحيّة ، أو هواء أو ماء ، أو ملكا أو
بشرا ؛ وكنّا نعلمه أنوارا نسبّحه ونسمع له ونطيعه».
ـ فقال سلمان ـ :
قلت : «يا رسول الله بأبي أنت وأمّي ـ ما لمن عرف هؤلاء»؟
فقال : «يا سلمان
، من عرفهم ـ حقّ معرفتهم ـ واقتدى بهم وو الى وليّهم وتبرّأ من عدوّهم ؛ فهو
والله منّا ، يرد حيث نرد ويسكن حيث نسكن».
قلت : «يا رسول
الله ـ يكون إيمان بهم بغير معرفتهم بأسمائهم
__________________
وأنسابهم»؟ فقال :
«لا ـ يا سلمان».
فقلت : «يا رسول
الله ـ فأنّى لي بهم»؟
قال : «قد عرفت
إلى الحسين ؛ ثمّ زين العابدين عليّ بن الحسين ، ثمّ ابنه محمّد بن عليّ باقر علم
الأوّلين والآخرين من النبيّين والمرسلين ، ثمّ ابنه جعفر بن محمّد لسان الله
الصادق ، ثمّ موسى بن جعفر الكاظم غيظه صبرا في الله ، ثمّ عليّ بن موسى الرضا
لأمر الله ، ثمّ محمّد بن عليّ الجواد المختار من خلق الله ، ثمّ عليّ بن محمّد
الهادي إلى الله ، ثمّ الحسن بن عليّ الضامن الأمين العسكري ، ثمّ ابنه محمّد بن
الحسن المهدي الناطق القائم بحقّ الله».
قال سلمان : فسكتّ
، ثمّ قلت : «يا رسول الله ـ ادع لي بإدراكهم».
قال : «يا سلمان ـ
إنّك مدركهم وأمثالك ومن توالاهم بحقيقة المعرفة».
قال سلمان : فشكرت
الله كثيرا ، ثمّ قلت : «يا رسول الله ـ مؤجّل إلى عهدهم»؟.
فقال : «يا سلمان
اقرأ : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ
أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا
خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً* ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ
عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ
نَفِيراً) [١٧ / ٥ ـ ٦]».
قال سلمان :
فاشتدّ بكائي وشوقي ، وقلت : «يا رسول الله ـ بعهد منك»؟.
فقال : «إي والذي
أرسل محمّدا ـ إنّه لعهد منّي ولعليّ وفاطمة والحسن والحسين وتسعة أئمّة ، وكلّ من
هو منّا ومظلوم فينا ؛ إي والله
يا سلمان ـ ثمّ
لتحضرنّ إبليس وجنوده وكلّ من محض الإيمان محضا ومحض الكفر محضا ، حتّى يؤخذ
بالقصاص والأوتار والتراث (وَلا يَظْلِمُ
رَبُّكَ أَحَداً) [١٨ / ٤٩]. ونحن
نأول هذه الآية : (وَنُرِيدُ أَنْ
نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً
وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ* وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ
فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ) [٢٨ / ٦٥]».
قال سلمان : «فقمت
من بين يدي رسول الله صلىاللهعليهوآله ـ وما يبالي سلمان متى لقى الموت ، أو لقيه».
* * *
وروى الصدوق في
إكمال الدين بإسناده إلى جابر بن يزيد الجعفي قال : سمعت جابر بن عبد
الله الأنصاري يقول :
«لمّا أنزل الله ـ
عزوجل ـ على نبيّه محمّد صلىاللهعليهوآله : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ
مِنْكُمْ) [٤ / ٥٩] ، قلت : «يا
رسول الله ـ عرفنا الله ورسوله ، فمن اولي الأمر الذين قرن الله طاعتهم بطاعتك»؟
فقال صلىاللهعليهوآله : «هم خلفائي ـ يا جابر ـ وأئمّة المسلمين من بعدي ؛
أوّلهم عليّ بن أبي طالب ، ثمّ الحسن ، ثمّ الحسين ، ثمّ عليّ بن الحسين ، ثمّ
محمّد بن عليّ المعروف في التوراة بالباقر ـ وستدركه يا جابر ، فإذا
__________________
لقيته فاقرأه منّي
السلام ـ ثمّ الصادق جعفر بن محمّد ، ثمّ موسى بن جعفر ، ثمّ عليّ بن موسى ، ثمّ
محمّد بن عليّ ، ثمّ عليّ بن محمّد ، ثمّ الحسن بن عليّ ، ثمّ سميّي وكنيّي حجّة
الله في أرضه ، وبقيّته في عباده ابن الحسن بن عليّ ، ذاك الذي يفتح الله ـ تعالى
ذكره ـ على يديه مشارق الأرض ومغاربها ، ذاك الذي يغيب عن شيعته وأوليائه غيبة لا
يثبت فيها على القول بإمامته إلّا من امتحن الله قلبه للإيمان».
ـ قال جابر : ـ فقلت
له : «يا رسول الله ـ فهل ينتفع الشيعة به في غيبته»؟
فقال صلىاللهعليهوآله : «إي ـ والذي بعثني بالنبوّة ـ يستضيئون بنوره ، وينتفعون
بولايته في غيبته ، كانتفاع الناس بالشمس وإن تجلّلها سحاب. ـ يا جابر ـ هذا من مكنون
سرّ الله ومخزون علم الله ؛ فاكتمه إلّا عن أهله».
ـ قال جابر بن
يزيد : ـ فدخل جابر بن عبد الله على عليّ بن الحسين ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ فبينما
هو يحدّثه إذ خرج محمّد بن عليّ الباقر ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ من عند نسائه
وعلى رأسه ذؤابة وهو غلام ، فلمّا بصر به جابر ارتعدت فرائصه ، وقامت كلّ شعرة على بدنه ، ونظر إليه مليّا ، ثمّ قال له
: «يا غلام ، أقبل» فأقبل ؛ ثمّ قال له : «أدبر» فأدبر ؛ فقال جابر : «شمائل رسول
الله ـ وربّ الكعبة». ثمّ قام فدنا منه وقال له : «ما اسمك يا غلام»؟ فقال : «محمّد».
__________________
قال : «ابن من»؟
قال : «ابن عليّ بن الحسين».
قال : «يا بنيّ ـ فدتك
نفسي ؛ فأنت إذا الباقر». قال : «نعم».
قال ـ صلوات الله
عليه ـ : «فأبلغني ما حمّلك رسول الله صلىاللهعليهوآله».
فقال جابر : «يا
مولاى ـ إنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله بشّرني بالبقاء إلى أن ألقاك ، وقال لي :
«إذا لقيته فاقرأه
منّي السلام».
ـ فرسول الله ـ يا
مولاي ـ يقرأ عليك السلام».
فقال أبو جعفر ـ صلوات
الله عليه ـ : «يا جابر ـ على رسول الله السلام ما قامت السماوات والأرض ، وعليك ـ
يا جابر ـ كما بلّغت السلام».
فكان جابر بعد ذلك
يختلف إليه ويتعلّم منه ؛ فسأله محمّد بن عليّ ـ صلوات الله عليه ـ عن شيء ، فقال
جابر : «والله لا دخلت في نهي رسول الله صلىاللهعليهوآله ؛ فقد أخبرني أنّكم الأئمّة الهداة من أهل بيته من بعده ،
أحلم الناس صغارا وأعلم الناس كبارا ، وقال : لا تعلّموهم ، فهم أعلم منكم».
فقال أبو جعفر ـ صلوات
الله عليه ـ : «صدق جدّي رسول الله صلىاللهعليهوآله ، والله إنّي لأعلم منك بما سألتك عنه ، ولقد اوتيت الحكم
صبيّا ، كلّ ذلك بفضل الله علينا ورحمته لنا أهل البيت».
* * *
وبإسناده عن جابر بن عبد الله الأنصاري ـ قال : ـ «دخلت على فاطمة ـ
صلوات الله عليها ـ وبين يديها لوح فيه أسماء الأوصياء من ولدها ؛ فعددت اثنا عشر
، آخرهم القائم ؛ ثلاثة منهم محمّد ، وأربعة منهم عليّ ـ صلوات الله وسلامه عليهم
اجمعين ـ».
وبإسناده عن ثابت بن دينار ، عن سيّد العابدين عليّ بن الحسين ، عن سيّد الشهداء
الحسين بن عليّ ، عن سيّد الأوصياء أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ـ صلوات الله
عليهم ـ قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : «الأئمة بعدي اثنا عشر ، أوّلهم أنت ـ يا علي ـ وآخرهم
القائم الذي يفتح الله ـ عزوجل ـ على يديه مشارق الأرض ومغاربها».
وبإسناده عن مولانا الصادق عليهالسلام عن أبيه ، عن أمير المؤمنين عليهالسلام ، قال : ـ قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : «الأئمة اثنا عشر من أهل بيتي ، أعطاهم
__________________
الله فهمي وعلمي وحكمتي ، وخلقهم من طينتي ؛ فويل للمتكبّرين
عليهم بعدي ، القاطعين فيهم صلتي ؛ ما لهم ، لا أنا لهم الله شفاعتي».
ورواه العامّة
بأسانيد وألفاظ متعددة .
فصل [٥]
[نصوص على الأئمة الاثنا عشر]
روى الحافظ ابو
عبد الله محمد بن أبي نصر بن عبد الله الحميدي من العامة في الجمع بين الصحيحين المتّفق عليه ، عن جابر
بن سمرة ،
__________________
قال : سمعت النبي صلىاللهعليهوآله يقول : «يكون بعدي اثنا عشر أميرا» ـ فقال كلمة لم أسمعها ،
فقال أبي : إنّه قال : ـ «كلّهم من قريش».
وزاد في رواية : «وكلّهم لا يرى مثله».
وفي رواية أبي
عيينة ـ قال : ـ «لا يزال أمر الناس ماضيا ما ولّاهم اثنا عشر رجلا».
وفي رواية عامر بن
سعد بن أبى وقّاص : «لا يزال الدين قائما حتّى تقوم الساعة ، ويكون عليكم
اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش».
__________________
وفي رواية عامر
الشعبى : «لا يزال هذا الدين عزيزا منيعا إلى اثنا عشر خليفة».
وفي مسند أحمد بن
حنبل عن مسروق قال : كنّا مع عبد الله جلوسا في المسجد يقرأ بنا ، فأتاه
رجل فقال : «يا بن مسعود ـ هل حدّثكم نبيّكم كم يكون من بعده خليفة»؟
قال : «نعم ؛
كعدّة نقباء بنى إسرائيل».
وروى أبو عبد الله
جعفر بن محمد بن أحمد الدوريستي منهم مرفوعا عن ابن عباس ـ قال : ـ سألت رسول الله صلىاللهعليهوآله حين حضرته
__________________
الوفاة ، فقلت : «إذا
كان ما نعوذ بالله منه ، فإلى من»؟
فأشار إلى عليّ عليهالسلام فقال : «إلى هذا ، فإنّه مع الحقّ والحقّ معه ؛ ثمّ يكون
من بعده أحد عشر إماما مفترضة طاعتهم بطاعته ».
وعن عائشة أنها سئلت : «كم خليفة يكون لرسول الله صلىاللهعليهوآله»؟ فقالت : «أخبرني رسول الله صلىاللهعليهوآله أنّه يكون بعده اثنا عشر خليفة».
ـ قال : ـ فقلت
لها : «من هم»؟
فقالت : «أسماؤهم
عندي مكتوبة بإملاء رسول الله صلىاللهعليهوآله».
فقلت لها : «فأعرضيه».
فأبت.
وعن العباس بن عبد
المطلب أنّ النبي صلىاللهعليهوآله قال له : «يا عمّ ـ يملك من ولدي اثنا عشر خليفة ، ثمّ
يكون امور كريهة وشدائد عظيمة ؛ ثمّ يخرج المهدي من ولدي يصلح الله أمره في ليلة ،
فيملأ الأرض قسطا وعدلا ، كما ملئت جورا ، ويمكث في الأرض ما شاء الله ، ثمّ يخرج
الدجّال».
__________________
وقد استفاض هذا
النقل وأمثاله في كتب العامّة . وأمّا عندنا فقد بلغ حدّ التواتر بنصوص واضحة جليّة
مفصّلة لا شكّ فيها ، وقد نصّ كلّ منهم ـ صلوات الله عليهم ـ على لاحقه ،
وأخبر أصحابه بإمامته واسمه وصفته ، وقد ثبت طهارتهم وصدقهم جميعا عند معتبري أهل
الإسلام كافّة ، وهذا من أدلّ الدلائل على حجّيتهم دون غيرهم ممّن اختلف في فضله
وحاله ، وكذلك عصمتهم ثابتة عندنا ، وولايتهم لله ، وشرفهم وفضلهم وحجيّتهم معلومة
من التتبّع لآثارهم ومعارفهم بحيث لا يبقى للشك مجال.
* * *
قال الشيخ الصدوق
محمّد بن عليّ بن بابويه القمي ـ رحمهالله ـ في إكمال الدين وإتمام النعمة :
«ومن أوضح الأدلّة
على الإمامة أنّ الله عزوجل جعل آية النبيّ صلىاللهعليهوآله أنّه أتى بقصص الأنبياء الماضين عليهمالسلام وبكلّ علم توراة وإنجيل وزبور ، من غير أن يكون يعلم
الكتابة ظاهرا ، أو لقي نصرانيّا أو يهوديّا ، فكان ذلك أعظم آياته.
وقتل الحسين بن
عليّ عليهالسلام وخلّف علي بن الحسين عليهالسلام
__________________
متقارب السنّ ـ كانت
سنّة أقلّ من عشرين سنة ـ ثمّ انقبض عن الناس فلم يلق أحدا ولا كان يلقاه إلّا
خواصّ أصحابه ، وكان في نهاية العبادة ولم يخرج عنه من العلم إلّا يسيرا لصعوبة
الزمان وجور بني اميّة ـ.
ثمّ ظهر ابنه
محمّد بن عليّ المسمّى بالباقر عليهالسلام لفتقه العلم ، فأتى من علوم الدين والكتاب والسنّة والسير
والمغازي بأمر عظيم.
وأتى جعفر بن
محمّد عليهالسلام من بعده من ذلك بما كثر وظهر ، فلم يبق فنّ من فنون العلم
إلّا أتى فيه بأشياء كثيرة ، وفسّر القرآن والسنن ، ورويت عنه المغازي وأخبار
الأنبياء من غير أن يرى هو وأبوه ـ محمّد بن عليّ أو عليّ بن الحسين عليهالسلام عند أحد من رواة حديث العامّة أو فقهائهم يتعلّمون منهم
شيئا ، وفي ذلك أدلّ دليل على أنّهم إنّما أخذوا ذلك العلم عن النبي صلىاللهعليهوآله ، ثمّ عن عليّ عليهالسلام ، ثمّ عن واحد واحد من الأئمّة عليهمالسلام.
وكذلك جماعة
الأئمّة عليهمالسلام هذه سنّتهم في العلم ؛ يسألون عن الحلال والحرام فيجيبون
جوابات متّفقة ، من غير أن يتعلّموا ذلك من أحد من الناس.
فأيّ دليل أدلّ من
هذا على إمامتهم ، وأنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله نصبهم وعلّمهم وأودعهم علمه وعلوم الأنبياء عليهمالسلام قبله ؛ وهل رأينا في العادات من ظهر عنه مثل ما ظهر عن
محمّد بن علي وجعفر بن محمّد عليهالسلام من غير أن يتعلّموا ذلك من أحد من الناس»؟ ـ انتهى كلامه
ـ.
* * *
* وأمّا النصوص
الواردة في فضائلهم ومناقبهم ، فأكثر من أن تحصى وأشهر من أن تخفى ، وسنأتي بطرف
منها في باب على حدة إن شاء الله.
قال عليّ بن عيسى
الإربلي ـ رحمهالله ـ بعد نقل نبذ من أخبار خلافتهم :
«ولا يقدح في ذلك
كونهم ـ صلوات الله عليهم ـ منعوا من الخلافة ، وعزلوا عن المنصب الذي اختارهم
الله له ، واستبدّ به دونهم ، إذ لم يقدح في نبوّة الأنبياء تكذيب من كذّبهم ، ولا
وقع الشكّ فيهم لانحراف من انحرف عنهم ، ولاشوّه وجوه محاسنهم تقبيح من قبّحها ،
ولا نقّص شرفهم خلاف من عاندهم ونصب لهم العداوة ، وجاهرهم بالعصيان.
وقد قال أمير
المؤمنين عليهالسلام : «وما على المؤمن من غضاضة في دينه أن يكون مظلوما ـ ما
لم يكن شاكّا في دينه ، ولا مرتابا بيقينه».
وقال عمّار بن
ياسر ـ رضي الله عنه ـ في أيّام صفّين :
__________________
«والله ـ لو
ضربونا حتّى يبلغونا سعفات هجر ، لعلمنا أنّا على الحقّ ، وأنّهم على الباطل».
ـ وهذا واضح بحمد
الله لمن تأمّله».
وسيأتى له مزيد
تحقيق وتبيان إن شاء الله (
__________________
__________________
وفي كتاب إكمال
الدين وإتمام النعمة : «إنّ الرسل الذين تقدموا قبل عصر نبيّناصلىاللهعليهوآله كان اوصياؤهم أنبياء ، فكلّ وصيّ قام بوصيّة حجة تعدّمه ـ من
وفات آدم عليهالسلام إلى عصر نبيّنا صلىاللهعليهوآله ـ كان نبيّا ... وأوصياء نبيّنا صلىاللهعليهوآله لم يكونوا أنبياء ، لأنّ الله ـ عزوجل ـ جعل محمّدا خاتما لهذا الاسم كرامة له وتفضيلا».
__________________
[٧]
باب
أخذ ميثاق النبيّين
لنبيّنا
والبشارة به قبل
ظهوره صلىاللهعليهوآله
(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ
مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ
رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ
وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا
مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) [٣ / ٨١]
فصل [١]
[ما ذا اخذ عليه الميثاق]
إنّ الله عزوجل أخذ العهود على الأنبياء عليهمالسلام أنّ من أدرك محمّدا يؤمن به وينصره ، ومن لم يدركه فليخبر
قومه عن صفته ، ويلقي إليهم نعته ويأمرهم باتّباعه ونصره ، فإن لم يدركه أحد منهم
فليوص به من بعده ، كوصيّة من سبقه ، وهلم جرّا ـ كما مرّ بيانه مفصّلا في حديث
اتّصال الوصيّة ـ وذلك لئلا يقع لبس في أمره ، ولا يرتاب من أدرك نبوّته في صفته
وفي قوله ـ سبحانه ـ : (وَأَنَا مَعَكُمْ
مِنَ الشَّاهِدِينَ) تشديد للتأكيد من الله ـ تعالى ـ وتوثيق للميثاق والعهد
بعد إقرارهم.
قيل : «فأشهدوا» على
أنفسكم ، أو على اممكم ، «وأنا شاهد عليكم» ، أو لكم عليهم ، بتبليغكم وإقرارهم
على أنفسهم بقبول رسالتكم ؛ وهذا غاية التعظيم لشرفهصلىاللهعليهوآله ونهاية التشديد عليهم بتصريحه بشهادة نفسه الكريمة
المقدّسة على هذه المواثيق ومخاطبة أنبيائهم بهذا ، وكذا أخذ الميثاق منهم بولاية
علي بن أبي طالب عليهالسلام والأئمّة من ولده عليهمالسلام كما ورد في الأخبار المستفيضة :
ففي بصائر الدرجات
بإسناده عن مولانا الكاظم عليهالسلام ـ قال : ـ «ولاية عليّ مكتوبة في جميع صحف الأنبياء ، ولم
يبعث الله رسولا إلّا بنبوّة محمّد ، ووصيّة عليّ».
وبأسانيده المتعدّدة عنهم عليهمالسلام : «ما نبّئ نبيّ قطّ إلّا بمعرفة حقّنا وتفضيلنا على من سوانا».
وبأسانيده
المتعدّدة عنهم عليهمالسلام : «ولايتنا ولاية الله الّتي لم يبعث نبيّا قطّ إلّا بها».
__________________
وفي كتاب التوحيد بإسناده عن داود الرقّي قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن قوله ـ عزوجل ـ : (وَكانَ عَرْشُهُ
عَلَى الْماءِ) [١١ / ٧] فقال لي :
«ما يقولون في ذلك»؟
قلت : «يقولون :
إنّ العرش كان على الماء ، والربّ فوقه».
فقال : «كذبوا ؛
من زعم هذا فقد صيّر الله محمولا ، ووصفه بصفة المخلوقين ، ولزمه أنّ الشيء الذي
يحمله أقوى منه».
قلت : «بيّن لي ـ جعلت
فداك ـ».
فقال : «إنّ الله
ـ عزوجل ـ حمّل دينه وعلمه الماء ، قبل أن يكون أرض أو سماء ، أو
جنّ أو إنس ، أو شمس أو قمر ؛ فلمّا أراد أن يخلق الخلق نثرهم بين يديه ، فقال لهم
: «من ربّكم»؟ فكان أوّل من نطق رسول الله وأمير المؤمنين والأئمّة ـ صلوات الله
عليهم ـ فقالوا : «أنت ربّنا» ؛ فحمّلهم العلم والدين. ثمّ قال للملائكة : «هؤلاء
حملة علمي وديني ، وامنائي في خلقي ، وهم المسئولون». ثمّ قيل لبني آدم : «أقرّوا
لله بالربوبيّة ، ولهؤلاء النفر بالطاعة». فقالوا : «نعم ـ ربّنا أقررنا». فقال
للملائكة : «أشهدوا». فقالت الملائكة : «شهدنا على أن لا تقولوا : (إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ* أَوْ
تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً
__________________
مِنْ
بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) [٧ / ١٧٢ ـ ١٧٣] ؛
يا داود ، ولايتنا مؤكّدة عليهم في الميثاق».
وفي إكمال الدين بإسناده عن مولانا الصادق عليهالسلام :
«إنّ الله ـ تبارك
وتعالى ـ علّم آدم أسماء حجج الله كلّها (ثُمَّ عَرَضَهُمْ) وهم أرواح (عَلَى الْمَلائِكَةِ
فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) بأنّكم أحقّ بالخلافة في الأرض لتسبيحكم وتقديسكم من آدم ؛
(قالُوا سُبْحانَكَ لا
عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ* قالَ) الله ـ تبارك وتعالى ـ : (يا آدَمُ
أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) وقفوا على عظيم منزلتهم عند الله تعالى ذكره ، فعلموا
أنّهم أحقّ بأن يكونوا خلفاء الله في أرضه ، وحججه على بريّته ، ثمّ غيّبهم عن
أبصارهم واستعبدهم بولايتهم ومحبّتهم و (قالَ) لهم : (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ
إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما
كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) [٢ / ٣١ ـ ٣٣].
والأخبار في هذه
المعاني كثيرة جدّا.
* * *
__________________
فصل [٢]
[البشائر على النبيّ قبل ولادته وبعثته]
وقد جاءت الأخبار
في كتب الله المنزلة ممّا دلّ على شرف نبيّنا صلىاللهعليهوآله وعلوّ قدره والتنويه بأوصافه على ثبوت نبوّته ، إذا آن
ظهوره ليتحقّق أهل زمانه صحّة ما جاء به بما تعاقب واستفاض عندهم وتداولوه في
كتبهم ملّة بعد ملّة ، وقرنا بعد قرن ، و (لِيَسْتَيْقِنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) ـ وذلك كثير جدّا ـ
وقد ورد في بعض
الأقوال في تفسير قوله تعالى : (فَإِنْ كُنْتَ فِي
شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ
قَبْلِكَ) [١٠ / ٩٤] أنّ
معناه «إن كنت في شكّ ممّا شرّفناك به ، فاسألهم عن صفتك في الكتب وتشريفاتك».
أي أنّ الكتب
دالّة على علوّ مكانك عندنا ، وهي مشحونة بأوصافك الشاهدة بصدقك في دعوى نبوّتك
وعموم رسالتك.
وقال ـ عزوجل ـ : (وَإِذْ قالَ عِيسَى
ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً
لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ
بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) [٦١ / ٦].
وعن ابن عبّاس ـ قال
ـ : أوحى الله ـ تعالى ـ إلى عيسى بن مريم عليهالسلام : «يا عيسى ـ آمن بمحمّد ، وأمر من أدركه من أمّتك أن
يؤمنوا به ؛
__________________
فلولا محمّد ما
خلقت آدم ، ولو لا محمّد ما خلقت الجنّة والنار».
وقال تعالى : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ
النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي
التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) [٧ / ١٥٧].
وفي الدر النظيم :
فصل [٣]
في البشائر به صلىاللهعليهوآله
:
من ذلك بشائر موسى عليهالسلام في السفر الأوّل . وبشائر إبراهيم عليهالسلام
__________________
في السفر الثاني.
وفي السفر الخامس عشر ، وفي الثالث
والخمسين من مزامير داودعليهالسلام.
ومنها بشائر :
عويديا وحبقوق وحزقيل ودانيال وشعيا .
وقال داود في
زبوره : «اللهم ابعث مقيم السنّة بعد الفترة».
وقال عيسى عليهالسلام في الإنجيل : «إنّ البرّ ذاهب والبارقليطا جاء من بعده ، وهو يخفّف
الآصار ويفسّر لكم كلّ شيء ، ويشهد لي كما شهدت له ، أنا جئتكم بالأمثال ، وهو
يأتيكم بالتأويل».
وكان كعب بن لؤيّ
بن غالب يجتمع الناس إليه في كلّ جمعة وكانوا يسمّونها «عرّوبة» ،
فسمّاه كعب «يوم الجمعة» ؛ وكان يخطب
__________________
فيه بالناس ،
ويذكر خبر النبي صلىاللهعليهوآله ـ انتهى كلامه ـ.
قيل : وفي الفصل الحادي عشر من السفر الخامس من التوراة : «إنّ
الربّ إلهكم قال : إنّي اقيم لهم نبيّنا مثلك من أحبّهم ، وأجعل كلامي على فمه ،
وأيّما رجل لم يسمع كلماتي التي يرويها عنّي ذلك الرجل باسمي فإنّي انتقم منه».
وفي الإسرائيليّات
: أوحى الله ـ تعالى ـ إلى عيسى عليهالسلام : «اسمع قولي ، وأطع أمري ـ يا ابن الطاهرة البتول ـ فإنّي
خلقتك من غير فحل وجعلتك آية للعالمين ؛ فإيّاى فاعبد ، وعليّ فتوكّل ، وخذ الكتاب
بقوّة وبلّغ من بين يديك.
أخبرهم أنّي أنا
الله البديع الدائم الذي لا يزول ، صدّقوا النبيّ الاميّ الذي أبعث في آخر الزمان
، صاحب الجمل ، صاحب النسل والنسب ، الكثير الأزواج ، القليل الأولاد ؛ نسله من
المباركة التي مع
__________________
أمّك في الجنّة ،
له منها ابنة لها فرخان يستشهدان ، دينه الحنيفيّة ، وقبلته يمانيّة ، وهو رحمة
العرب والعجم ؛ له حوض أبعد من مكّة إلى أن تطلع الشمس ، فيه آنية عدد نجوم السماء
، له لون كلّ شراب في الجنّة ، وطعم كلّ ثمار الجنّة ، من شرب منه لم يظمأ أبدا ،
يصفّ لي قدميه كما تصفّ الملائكة ، ويخشع لي قلبه ، النور من صدره ، والحقّ على
لسانه ، تنام عيناه ولا ينام قلبه ، له تدّخر الشفاعة ، وعلى أمّته تقوم القيامة.
* * *
وفي إكمال الدين بإسناده إلى عبد الله بن سليمان ـ وكان قارئا للكتب ـ قال : «قرأت في الإنجيل : يا عيسى
جدّ في أمري ولا تهزل ، واسمع وأطع يا ابن الطاهرة الطهر البكر البتول ، أنت من
غير فحل ؛ أنا خلقتك آية للعالمين ، فإيّاي فاعبد ، وعليّ فتوكّل ؛ خذ الكتاب
بقوّة ، فسّر لأهل السوريا السريانيّة ، بلّغ من بين يديك : إنّي أنا الله الدائم
الذي لا أزول ، صدّقوا النبيّ الامّي صاحب الجمل والمدرعة والتاج ـ وهي العامة ـ والنعلين والهراوة ـ وهي القضيب ـ الأنجل العينين
__________________
الصلت الجبين ، الواضح الخدّين ، الأقنى الأنف ، مفلّج الثنايا كأنّ عنقه إبريق فضّة ، كأنّ الذهب يجري في تراقيه ، له
شعرات من صدره إلى سرّته ، ليس على بطنه ولا على صدره شعر ، أسمر اللون ، رقيق
المسربة ، شئن الكفّ والقدم ، إذ التفت التفت جميعا ، وإذا مشى فكأنّما ينقلع
من الصخر ، وينحدر من صبب ، وإذا جاء مع القوم بذّهم ؛ عرقه في وجهه كاللؤلؤ ،
وريح المسك تنفح منه ، لم ير قبله مثله ولا بعده ؛ طيّب الريح ، نكّاح النساء ، ذو
النسل القليل ؛ إنّما نسله من مباركة لها بيت في الجنّة ، لا صحب فيه ولا نصب ،
يكفّلها في آخر الزمان كما كفّل زكريّا أمّك ، لها فرخان مستشهدان ، كلامه القرآن
ودينه الإسلام ـ وأنا السلام ـ طوبى لمن أدرك زمانه وشهد أيّامه وسمع كلامه».
قال عيسى : «يا
ربّ وما طوبى»؟
قال : «شجرة في
الجنّة أنا غرستها بيدي ، تظلّ الجنان ، أصلها من رضوان ، ماؤها من تسنيم ، برده
برد الكافور ، وطعمه طعم الزنجبيل ؛ من يشرب من تلك العين شربة لا يظمأ بعدها أبدا».
فقال عيسى عليهالسلام : «اللهم اسقني منها»؟
__________________
قال : «حرام ـ يا
عيسى ـ على البشر أن يشربوا منها حتّى يشرب ذلك النبيّ ، وحرام على الامم أن تشرب
منها حتّى تشرب أمّة ذلك النبيّ ؛ أرفعك إليّ ، ثمّ أهبطك في آخر الزمان ، لترى من
أمّة ذلك النبيّ العجائب ، ولتعينهم على اللعين ـ الدجّال ـ أهبطك في وقت الصلاة
لتصلّي معهم ، إنّهم أمّة مرحومة».
وقال في كشف
الغمّة : «وفي التوراة ما حكاه لي بعض اليهود ورأيته ـ أنا ـ في
توراة معرّبة ، وقد نقله الرواة ـ أيضا ـ : «اسماعيل قبلت صلاته ، وباركت فيه
وأنميته وكثّرت عدده بمادماد ـ معناه : محمّد ـ وعدد حروفه اثنان وتسعون حرفا ، ساخرج اثنا عشر إماما ملكا من نسله ، واعطيه قوما كثير
العدد» ـ وأوّل هذا الفصل بالعبري : لا شموعيل شمعيتخو » ـ انتهى.
وعن وهب بن منبه قال : «قرأت في بعض الكتب المنزلة على بعض أنبياء بني
إسرائيل : «أن قم في قومك ؛ فقل : يا سماء اسمعي ، ويا أرض أنصتي ، لأنّ الله يريد
أن يقصّ على بني إسرائيل أنّي ربّيتهم
__________________
بنعمتي وآثرتهم
بكرامتي واخترتهم لنفسي ، وأنّ بني إسرائيل كانوا كالغنم الشاردة التي لا راعي لها
فرددت شاردها ، وجمعت ضالّتها ، وداويت مريضتها ، وجبرت كسيرها ، وحفظت سمينها ،
فلمّا فعلت ذلك لها بطرت ، فتناطح كباشها ، فقتل بعضها بعضا ؛ فويل لهذه الامّة
الخاطئة وويل لها وللقوم الظالمين.
إنّي قضيت يوم
خلقت السماوات والأرض قضاء حتما ، وجعلت لها أجلا مؤجّلا لا بدّ منه ، فإن كانوا
يعلمون الغيب فليخبروك متى حتمه وفي أيّ زمان يكون ذلك؟ فإنّي مظهره على الدين
كلّه ، وليخبروك متى يكون هذا؟ ومن القيّم به؟ ومن أعوانه وأنصاره؟ إن كانوا
يعلمون.
فإنّي باعث بذلك
رسولا من الاميّين ، ليس بفظّ ولا غليظ ، ولا صخّاب ، ولا عيّاب ولا مدّاح ، ولا
قوّال للفحش والخنا ، اسدّده لكلّ جميل ، وأهب له كلّ خلق كريم ، أجعل التقوى
شعاره ، والحكمة منطقه ، والصدق والوفاء طبيعته ، والعفو والمعروف خلقه ، والحقّ
شريعته ، والعدل سيرته ، والإسلام ملّته.
أرفع به من
الوضيعة ، واغني به من العيلة ، واهدي به من الضلالة ، وأؤلف به بين قلوب متفرّقة
وأهواء لي وإخلاصا لما جاء به رسولي الأعظم ، وألهمهم التسبيح والتقديس والتحميد
في مساجدهم وصلواتهم ومنقلبهم ومثواهم.
يخرجون من ديارهم
وأموالهم ابتغاء مرضاتي ، يقاتلون في سبيلي صفوفا ، ويصلّون لي قياما وركوعا
وسجودا ، ويكبّروني على كلّ شرف ؛ رهبان الليل ، اسد النهار ـ ذلك فضلي اوتيه من
أشاء وأنا ذو الفضل العظيم ـ».
وفي بعض مزامير
داود عليهالسلام : «إنّ الله مظهر من صهيون إكليلا محمودا». وصهيون :
العرب. والإكليل النبوّة ، ومحمود : محمّد صلىاللهعليهوآله.
وفي مزمور آخر : «تقلّد
ـ أيّها الجبّار ـ السيف ، فإنّ ناموسك وشرائعك مقرونة بهيبة يمينك ، وسهامك
مسنونة ، والامم يخرّون تحتك.
وفي مزمور آخر في
صفته : «إنّه يجوز من البحر إلى البحر ، ومن لدن الأنهار إلى منقطع الأرض ، وإنّه
يخرّ أهل الجزائر بين يديه على ركبهم ، وتلحسن أعداؤه التراب ، تأتيه الملوك
بالقرابين ، وتسجد وتدين له الامم بالطاعة والاعتقاد ، لأنّه يخلص البائس والمضطهد
ممّن هو أقوى منه ، وينقذ الضعيف الذي لا ناصر له ، ويرؤف بالضعفاء والمساكين ،
وإنّه يعطي من كلّ ذهب بلاد شيئا ويصلّى عليه ويبارك في كلّ يوم ، ويدوم ذكره إلى
الأبد».
* * *
وعن كعب الأحبار : إنّ سليمان ـ على نبيّنا وعليهالسلام ـ مرّ في مسيره إلى اليمن بمدينة طيّبة ، فقال لمن معه : «هذه
دار هجرة نبيّ في آخر الزمان ، طوبى لمن آمن به وطوبى لمن اتّبعه وطوبى لمن اقتدى
به».
وإنّه مرّ بمكّة
فقال : «هذه مخرج نبىّ عربيّ صفته كذا وكذا ، يعطي النصر على جميع من ناواه ،
القريب والبعيد عنده في الحقّ سواء ، لا تأخذه في الله لومة لائم».
فقالوا : «أيّ دين
يدين به»؟ فقال : «بدين الحنيفيّة».
__________________
قالوا : «كم بيننا
وبين ظهوره»؟ قال : «زهاء ألف عام ، فليبلّغ الشاهد الغائب ، فإنّه سيّد الأنبياء
وخاتم الرسل ، وأنّ اسمه مكتب في زمرة الأنبياء».
فلمّا فارق مكّة
بكى البيت ؛ فأوحى الله ـ تعالى ـ إليه : «ما يبكيك»؟ فقال : «يا ربّ أنت أعلم ،
هذا نبيّ من أنبيائك في قوم من أوليائك مرّوا بي ، فلم يهبطوا فيّ ، ولم يصلّوا
عندي ، ولم يذكروك بحضرتي ، والأصنام تعبد حولي».
فأوحى الله تعالى
إليه : إنّي سوف أملؤك وجوها سجّدا ، وانزل فيك قرآنا جديدا ، وابعث منك نبيّا في
آخر الزمان ـ أحبّ أنبيائي إليّ ـ وأجعل فيك عمّارا من خلقي يعبدونني ، وأفترض على
عبادي فريضة يزفّون إليك زفيف النسور إلى أوكارها ، ويحنّون إليك حنين الناقة إلى
ولدها والحمامة إلى بيضتها ، واطهّرك من الأوثان وعبدة الشيطان».
فصل [٤]
[من البشائر بالنبي صلىاللهعليهوآله]
وممّن بشّر به
العالم الحكيم قسّ بن ساعدة الأيادى فإنّه قال :
__________________
«يحلف قسّ يمينا
غير كاذبة ، أنّ لله دينا هو خير من الدين الذي أنتم عليه».
وقسّ هذا هو أوّل
من آمن بالبعث من أهل الجاهليّة ، وأوّل من توكّأ على عصا ؛ ويقال إنّه عاش
ستّمائة سنة.
وكان يعرف نبيّنا صلىاللهعليهوآله باسمه ونسبه ، ويبشّر الناس بخروجه ، وكان يستعمل التقيّة
ويأمر بها في خلال ما يعظ الناس ، وكان يتكلّم بما يخفى معناه على العوامّ ، ولا
يستدركه ألّا الخواصّ.
وترحّم عليه النبيّ
صلىاللهعليهوآله وقال : «إنّه يحشر يوم القيامة أمّة واحدة ».
* * *
ومنهم : تبّع
الملك . فإنّه بشّر به وانتظر لخروجه.
__________________
قال مولانا الصادق
عليهالسلام : إنّه قد أخبر أنّه «سيخرج من هذه ـ يعنى مكّة ـ نبيّ
يكون مهاجره يثرب» ، وقال : «أمّا أنا فلو أدركته لخدمته ولخرجت معه».
* * *
ومنهم سيف بن ذي
يزن ، فإنّه قال لعبد المطلب :
إذا ولد بتهامة ،
غلام بين كتفيه شامة ، كانت له الإمامة ، ولكم به الدعامة ، إلى يوم القيامة»
ثمّ قال : «هذا
حينه الذي يولد فيه ـ أو قد ولد ـ اسمه محمّد ؛ يموت أبوه وأمّه ، ويكفله جدّه وعمّه.
وقد ولّداه سرارا ، والله باعثه جهارا ، وجاعل له منّا أنصارا ، ليعزّ بهم أولياءه
، ويذلّ بهم أعداءه ، يضرب بهم الناس عن عرض ، ويستفتح بهم كرائم الأرض ، يكسر
الأوثان ويخمد النيران ، ويعبد الرحمن ويدحر الشيطان ؛ قوله فصل وحكمه عدل ، يأمر
بالمعروف ويفعله ، وينهى عن المنكر ويبطله».
* * *
__________________
فصل [٥]
[بشارة بحيرا وأبو المويهب]
وممّن عرفه بصفته
ونعته ونسبه واسمه قبل ظهوره بالنبوّة ، وكان من المنتظرين لخروجه : بحيراء الراهب
وأبو المويهب الراهب ، وغيرهما من أكابر الرهبان.
وقد بصر به بحيرا
في طريق الشام ، وكان صلىاللهعليهوآله قد خرج إليه مع عمّه أبي طالب للتجارة ، وقد ظلّلته الغمامة
، فاستقبلته صومعة بحيرا ، فنزل تحت شجرة عظيمة ، قليلة الأغصان ليس لها حمل ،
فاهتزّت وألقت أغصانها عليه وحملت من ثلاثة أنواع من الفاكهة ـ فاكهتان للصيف
وفاكهة للشتاء ـ.
فعرفه بحيرا
بعلاماته ، وأضافه بطعام قليل ، فشبع منه رجال كثير ، ثمّ سأله عن نومه ويقظته
وهيأته وجميع شأنه ، فأخبره صلىاللهعليهوآله بجميع ذلك ؛ فوافق ـ ما عند بحيرا من صفته ـ التي عنده.
فانكبّ عليه بحيرا
يقبّل رجله ويقول : «يا بنيّ ـ ما أطيبك وأطيب ريحك ، يا أكثر النبيّين أتباعا ،
يا من بهاء نور الدنيا من نوره ، يا من بذكره تعمر المساجد ، كأنّي بك قد قدت
الأجناد والخيل الجياد ،
__________________
وقد تبعك العرب
والعجم طوعا وكرها ، وكأنّي باللات والعزّى قد كسّرتهما ، وقد صار البيت العتيق لا
يملكه غيرك ، تضع مفاتيحه حيث تريد ، كم من بطل من قريش والعرب تصرعه ، معك مفاتيح
الجنان والنيران ، معك الذبح الأكبر وهلاك الأصنام ، أنت الذي لا تقوم الساعة حتّى
يدخل الملوك كلّها في دينك صاغرة قمئة ».
فلم يزل يقبّل
يديه مرّة ورجليه مرّة ، ويقول : «لئن أدركت زمانك لأضربنّ بين يديك بالسيف ضرب
الزند بالزند ؛ أنت سيّد ولد آدم ، وسيّد المرسلين وإمام المتّقين وخاتم النبيّين.
والله لقد ضحكت الأرض يوم ولدت فهي ضاحكة إلى يوم القيامة ـ فرحا بك ـ والله لقد
بكت البيع والأصنام والشياطين ، فهي باكية إلى يوم القيامة ؛ أنت دعوة إبراهيم ،
وبشرى عيسى ، أنت المقدّس المطهّر من أنجاس الجاهليّة».
ثمّ التفت إلى أبي
طالب فقال : «ما يكون هذا الغلام منك؟ فإنّي أراك لا تفارقه».
فقال أبو طالب : «هو
ابني».
فقال : ما هو
بابنك ، وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون والده الذي ولّده حيّا ولا أمّ».
فقال : «فإنّه ابن
أخي ، وقد مات أبوه وأمّه حامل [ة] به ، وماتت أمّه وهو ابن ستّ سنين».
فقال : «صدقت ـ هكذا
هو ـ ولكن أرى لك أن تردّه إلى بلدة عن هذا الوجه ، فإنّه ما بقي على ظهر الأرض
يهوديّ ولا نصرانيّ و
__________________
لا صاحب كتاب إلّا
وقد علم بمولد هذا الغلام ؛ ولئن رأوه وعرفوا منه ما قد عرفت أنا منه لابتغوه شرّا
، وأكثر ذلك هؤلاء اليهود».
فقال أبو طالب : «ولم
ذلك»؟
قال : «لأنّه كائن
لابن أخيك هذا النبوّة والرسالة ، ويأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى وعيسى».
فقال أبو طالب : «كلّا
ـ إن شاء الله لم يكن الله ليضيعه».
وفي رواية اخرى : ثم التفت إلى أبي طالب وقال :
«أمّا أنت يا عمّ
فارع فيه قرابتك الموصولة ، واحفظ فيه وصيّة أبيك ؛ فإنّ قريشا سيهجرك فيه ، فلا
تبال ؛ وإنّي أعلم أنّك لا تؤمن به ظاهرا ، ولكن ستؤمن به باطنا.
وولد تلده وسينصره
نصرا عزيزا ، اسمه في السماوات : البطل الهاصر والشجاع الأنزع ، منه الفرخين المستشهدين ، وهو سيّد العرب
وربانيها وذوقرنيها ؛ وهو في الكتب أعرف من أصحاب عيسى عليهالسلام».
فقال أبو طالب : «لقد
رأيت ـ والله كلّ ـ الذي وصفه بحيرا وأكثر».
* * *
__________________
وقال أبو المويهب
ـ لمّا رآه في الشام :
«هذا والله نبيّ
هذا الزمان ، سيخرج إلى قريب ، فيدعو الناس إلى شهادة أن لا إله إلّا الله ، فإذا
رأيتم ذلك فاتّبعوه».
ثمّ قال : «هل ولد
لعمّه أبي طالب ولد يقال له عليّ»؟
فقلنا : «لا».
قال : «إمّا أن
يكون قد ولد أو يولد في سنته ، هو أوّل من يؤمن به نعرفه ، وإنّا لنجد صفته عندنا
بالوصيّة ، كما نجد صفة محمّد صلىاللهعليهوآله بالنبوّة ، وإنّه سيّد العرب وربانيها وذوقرنيها. يعطى
السيف حقّه ، اسمه في الملأ الأعلى «عليّ» ، هو أعلى الخلائق يوم القيامة ـ بعد
الأنبياء ـ ذكرا وتسمّيه الملائكة «البطل الأزهر المفلح » ، لا يتوجّه إلى وجه إلّا أفلح وظفر ، والله لهو أعرف بين
أصحابه في السماوات من الشمس الطالعة».
* * *
ومنهم ابن حوّاش
الحبر ، الذي أقبل من الشام فقال :
«تركت الخمر
والخمير ، وجئت إلى البؤس والتمور ، لنبيّ يبعث ، هذا أوان خروجه ، يكون مخرجه
بمكّة ، وهذه دار هجرته ، وهو الضحوك القتّال ، يجتزي بالكسرة والتميرات ، ويركب
الحمار العارى ، في
__________________
عينه حمرة وبين
كتفيه خاتم النبوّة ، يضع سيفه على عاتقه ، لا يبالي بمن لاقى ، يبلغ سلطانه منقطع
الخفّ والحافر».
فصل [٦]
وممن كان يعرف
أمره وينتظر خروجه وخرج في طلبه طالبا للدين الحنيف : زيد بن عمرو بن نفيل ، وقد
قتل في الطريق .
وقال النبيّ صلىاللهعليهوآله : «إنّه يجيء يوم القيامة أمّة وحده».
* * *
ومنهم : سلمان
الفارسي ـ رضي الله عنه ـ وقصّته مشهورة .
* * *
ومنهم : عبد
المطّلب وأبو طالب. فإنّهما كانا من أعرف العلماء وأعلمهم بشأن النبيّصلىاللهعليهوآله ، وكانا يكتمان ذلك عن الجهّال وأهل الكفر والضلال ، وكانا
يعظّمانه غاية التعظيم والإجلال .
وكان عبد المطّلب
يقول : «والله إنّ له لشأنا عظيما ، إنّي أرى أنّه سيأتي عليكم يوم وهو سيّدكم ،
إنّي أرى غرّته غرّة تسود الناس». ثمّ
__________________
وصّى بحفظه وحسن
تربيته ومتابعته أبا طالب ، فقبل أبو طالب ذلك وأشهد الله عليه.
قال الصدوق في
إكمال الدين :
«إنّ أبا طالب كان
مؤمنا ولكنّه يظهر الشرك ويسرّ الإيمان ليكون أشدّ تمكّنا من نصرة رسول الله صلىاللهعليهوآله ».
وروى بإسناده عن
مولانا الصادق عليهالسلام قال : «إنّ أبا طالب أظهر الكفر وأسرّ الإيمان ، فلمّا حضرته
الوفاة أوحى الله ـ عزوجل ـ إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله : «اخرج منها ، فليس لك بها ناصر». فهاجر إلى المدينة».
وبإسناده إلى الأصبغ بن نباتة قال : سمعت أمير المؤمنين عليهالسلام
__________________
يقول : «والله ما
عبد أبي ولا جدّي عبد المطّلب ولا هاشم ولا عبد مناف صنما قطّ».
قيل : «فما كانوا
يعبدون»؟
قال : «كانوا
يصلّون إلى البيت على دين ابراهيم عليهالسلام متمسّكين به».
وفي درّ النظيم عن الصادق عليهالسلام : «نزل جبرئيل على النبي صلىاللهعليهوآله فقال : يا محمّد إنّ الله ـ عزوجل ـ يقرؤك السلام ويقول : إنّي قد حرّمت النار على صلب أنزلك
، وبطن حملك ، وحجر كفّلك».
يعني : عبد الله
وآمنة ، وأبا طالب ، وفاطمة بنت أسد.
وفي كتاب بشارة
المصطفى لشيعة المرتضى بإسناده عن مفضّل بن عمر ، عن أبي عبد الله ، عن آبائه عن
أمير المؤمنين عليهالسلام ـ قال ـ : «كان ذات يوم جالسا بالرحبة والناس حوله مجتمعون
، فقام إليه رجل ، فقال : «يا أمير المؤمنين إنّك بالمكان الذي أنزلك الله به ،
وأبوك يعذّب بالنار».
__________________
فقال له : «مه ـ فضّ
الله فاك ـ والذي بعث محمّدا بالحقّ لو شفّع أبي في كلّ مذنب على وجه الأرض لشفّعه
الله ـ تعالى ـ فيهم ؛ لأبي يعذّب بالنار وابنه قسيم النار»!؟
ثمّ قال : «والذي
بعث محمّدا بالحقّ إنّ نور أبي طالب يوم القيامة ليطفئ أنوار الخلق إلّا خمسة
أنوار : نور محمّد ونوري ونور فاطمة ونور الحسن والحسين ، ومن ولده من الأئمّة ،
لأنّ نورنا الذي خلقه الله ـ عزوجل ـ من قبل خلق آدم بألفي عام».
فصل [٧]
روي أنّ حسّان بن
ثابت قال : كنت على سطح في المدينة فسمعت يهوديّا يصرخ : «هذا كوكب
أحمد قد طلع ، وهو لا يطلع إلّا بالنبوّة ، ولم يبق من الأنبياء إلّا أحمد».
قال : وكان أبو
قيس ـ أحد بني عبد النجار ـ قد ترهّب ، فسمعه ، فقال : «صدق اليهوديّ ، هذا أوان
انتظار أحمد ، وهو الذي صنع بي ما صنع». فلمّا ظهر النبيّصلىاللهعليهوآله بمكّة ، آمن به أبو قيس بالمدينة ، ولم يقدر على الذهاب
إليه لكبر سنّه.
* * *
ورأى بعض اليهود
في ليلة ولادته صلىاللهعليهوآله النجوم وانفضاضها ،
__________________
فقال : «في هذه الليلة ولد نبيّ ، فإنّا نجد في كتبنا : أنّ
الشيطان تمنع من استراق السمع ، فترجم بالنجوم لذلك».
وفي رواية اخرى
أنّه قال : «ولد هذه الليلة نبي العرب ، بين منكبيه شامة عليها شعرات».
وحكي أنّ حبرا قال
لعبد المطّلب : «يا سيّد البطحاء إنّ المولود الذي كنت احدّثكم عنه ولد البارحة».
فقال له عبد
المطّلب : «لقد ولد لي البارحة غلام».
قال : «فما سمّيته»؟
قال : «محمّدا».
فقال : هذه ثلاثة
دلائل شاهدة بنبوّته : إحداها أنّ نجمه طلع البارحة. والثانية : أنّ اسمه محمد.
والثالثة : أنّه من صميم قومه ـ أي من أشرفهم ـ.
* * *
إلى غير ذلك من الأخبار
عن الأحبار ـ وهي كثيرة ـ.
وقصّة رؤيا
المؤبذان ، وانفاذ عمرو بن نفيلة إلى شقّ وسطيح
__________________
الكاهنين وإخبارهما بقرب أيّامه وظهوره مشهورة قد نقلها الرواة
وتداولها الأخباريون .
فصل [٨]
[ما رآه آمنة أمّ النبي صلىاللهعليهوآله]
روي أنّ آمنة أمّه لمّا حملت به فكانت تقول : «ما شعرت أنّي
حملت ، ولا وجدت ثقلا كما تجد النساء ، إلّا أنّني أنكرت رفع حيضتي ، وأتاني آت ـ وأنا
بين النائم واليقظان ـ فقال : «هل شعرت أنّك حملت»؟ ـ وكأنّي أقول : «لا أدري» ـ.
__________________
فقال : «إنّك حملت
بسيّد هذه الامّة ونبيّها».
ـ قالت : ـ ثمّ
أمهلني حتّى دنت ولادتي ، أتاني فقال : «قولي : اعيذه بالواحد من شرّ كلّ حاسد ؛
ثمّ سمّيه محمّدا».
ـ قالت : ـ «فذكرت
ذلك لنسائي ، فقلن : «علّقي في عضدك حديدة» ؛ فعلّقت فكان ينقطع مرارا ، فتركته».
وفي رواية أنّها قالت : «لمّا وضعته خرج معه نور أضاء له ما بين
المشرق والمغرب ، ثمّ وقع على الأرض ـ معتمدا على يديه ـ ثمّ أخذ قبضة من تراب
ورفع رأسه إلى السماء».
فاوّله بعض
الأحبار : بأنّه يملك الأرض وتصير في قبضته ، ويأتيه أمر من قبل السماء.
وروي : أنّه صلىاللهعليهوآله لمّا وضع رفع رأسه إلى السماء ثمّ خرّ ساجدا لله ـ تعالى
ـ.
وأنّه ولد مسرورا ـ أي مقطوع السرّة ـ مختونا ـ غير محتاج إلى علاج الداية
والطبيب ـ نظيفا ليس معه دم ولا شيء من أقذار النفاس المعتادة.
__________________
وفي بعض الأحاديث
المرفوعة أنّه قال : «من كرامتي على ربّي أنّي ولدت مختونا مسرورا ، ولم ير أحد
سوأتي».
وارتجّ إيوان كسرى
يوم ولادته ، وسقط منه أربع عشر شرفة ، وخمدت نيران فارس ـ ولم تخمد قبل ذلك منذ ألف سنة ـ وغاضت
بحيرة ساوة .
وصرفت الشياطين عن
خبر السماء ورجمت بالشهب لولادته ، وكانت قبل ذلك تصعد السماء ، ثمّ تجاوز سماء
الدنيا إلى غيرها ، فلمّا ولد عيسى عليهالسلام منعوا من مجاوزة سماء الدنيا وصاروا يسترقون منها السمع ،
فيستمع الجنّي الكلمة يتكلم بها الملك من أمر الله ، فيلقيها لوليّه من الإنس ،
فيخلط فيها الكذب ؛ حتّى ولد نبيّنا صلىاللهعليهوآله فمنعوا من التردّد إلى السماء إلّا قليلا ، حتّى بعث
النبيّ صلىاللهعليهوآله ، فمنعوا أصلا.
قال الله ـ تعالى
ـ حكاية عنهم : (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ
فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً* وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ
مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) [٧٢ / ٨ ـ ٩].
* * *
__________________
قيل : كان لكل قبيل من الجنّ مقعد من السماء يستمعون فيه ،
فلمّا ولد محمدصلىاللهعليهوآله رجموا بالكواكب ؛ فقال إبليس : «هذا أمر حدث في الأرض ،
ايتوني من كلّ أرض بتربة ، فكان يؤتى بالتربة فيشمّها ويلقيها ، حتّى اتي بأرض
تهامة فشمّها وقال : «من هاهنا الحدث».
إلى غير ذلك من
الآيات والشواهد
وهي كثيرة جدّا
وفيما ذكر كفاية ـ إن شاء الله ـ
فصلى الله عليه وسلم .
* * *
__________________
[٨]
باب
أخلاق نبيّنا صلىاللهعليهوآله
وأوصافه
وأسمائه وخصائصه
(وَإِنَّكَ لَعَلى
خُلُقٍ عَظِيمٍ) [٦٨ / ٤]
فصل [١]
[خلقه صلىاللهعليهوآله]
قال بعض العلماء :
«كان نبيّنا صلىاللهعليهوآله كثير الضراعة والابتهال ، دائم السؤال من الله تعالى أن
يزيّنه بمحاسن الآداب ومكارم الأخلاق ، فكان يقول في دعائه :
«اللهمّ حسّن خلقي
وخلقي»
ويقول : «اللهم
جنّبني منكرات الأخلاق» .
__________________
فاستجاب الله
دعاءه وأنزل عليه القرآن وأدّبه به ، فكان خلقه القرآن ، وأدّبه بمثل قوله ـ عزوجل ـ :
(خُذِ الْعَفْوَ
وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) [٧ / ١٩٩].
(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ
بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ
وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ) [١٦ / ٩٠].
(وَاصْبِرْ عَلى ما
أَصابَكَ) [٣١ / ١٧.
(فَاعْفُ عَنْهُمْ
وَاصْفَحْ) [٥ / ١٣].
(ادْفَعْ بِالَّتِي
هِيَ أَحْسَنُ) [٢٣ / ٩٦] ـ إلى
غير ذلك ـ.
ثمّ لمّا أكمل
الله خلقه وخلقه أثنى عليه وقال : (إِنَّكَ لَعَلى
خُلُقٍ عَظِيمٍ) [٦٨ / ٤] فانظر
إلى عميم فضل الله كيف أعطى ثمّ اثنى.
ثمّ بيّن رسول
الله صلىاللهعليهوآله للخلق : «إنّ الله يحبّ مكارم الأخلاق ، ويبغض سفسافها ». وقال : «بعثت لاتمّم مكارم الأخلاق».
ثمّ رغّب الخلق في
ذلك أشدّ ترغيب».
__________________
أقول : ولنشر إلى
جملة من محاسن أخلاقه التي جمعها بعض علماء العامّة والتقطها من الأخبار ملخّصا ـ ومن الله التأييد ـ.
فصل [٢]
[جمل من محاسن أخلاقه صلىاللهعليهوآله]
قال : كان رسول
الله صلىاللهعليهوآله أحلم الناس وأشجع الناس وأعدل الناس وأعفّ الناس ، لم تمسّ ـ قطّ ـ يده يد امرأة لا يملك رقّها
أو عصمة نكاحها أو تكون ذات محرم منه .
__________________
وكان أسخى الناس ، لا يبيت عنده دينار ولا درهم ، وإن فضل ولم يجد من يعطيه
ـ ويجيئه الليل ـ لم يأو إلى منزله حتّى يبرأ منه إلى من يحتاج إليه ، لا يأخذ ممّا آتاه الله إلّا قوت عامه فقط من أيسر ما يجد
من التمر والشعير ، ويضع سائر ذلك في سبيل الله ، لا يسأل شيئا إلّا أعطاه ثمّ يعود على قوت عامه فيؤثر منه ـ حتّى ربّما احتاج قبل
انقضاء العام إن لم يأته شيء ـ .
وكان يخصف النعل
ويرقّع الثوب ، ويخدم في مهنة أهله
__________________
ويقطع اللحم معهنّ
، أشدّ الناس حياء لا يثبت بصره في وجه أحد ، يجيب دعوة الحرّ والعبد ، ويقبل الهديّة ـ ولو أنّها جرعة لبن ـ ويكافئ عليها
ويأكلها
__________________
ولا يأكل الصدقة ، ولا يستكبر عن إجابة الأمة والمسكين .
يغضب لربّه ـ عزوجل ـ ولا يغضب لنفسه ، وينفذ الحقّ وإن عاد ذلك بالضرر عليه وعلى أصحابه ، عرض عليه الانتصار
بالمشركين على المشركين ـ وهو في قلّة وحاجة إلى إنسان واحد يزيده في عدد من معه ـ
فأبى وقال : «إنّا «لا نستنصر بمشرك ».
ووجد من فضلاء
أصحابه وخيارهم قتيلا بين اليهود فلم يحف عليهم ولم يزد على مرّ الخلق ، بل ودّاه
بمائة ناقة ـ وكان لأصحابه حاجة إلى بعير واحد يتقوّون به ـ وكان يعصب
الحجر على بطنه مرّة
__________________
من الجوع ومرّة يأكل ما حضر ولا يردّ ما وجد ، ولا يتورّع من مطعم
حلال .
إن وجد تمرا دون
خبز أكله ، وإن وجد شواء أكله ، وإن وجد خبز برّ أو شعير أكله ، وإن وجد حلوا أو عسلا
أكله ، وإن وجد لبنا دون خبز اكتفى به ، وإن وجد بطّيخا أو رطبا أكله .
__________________
لا يأكل متّكئا ولا على خوان ، لم يشبع من خبز ـ برّ ولا شعير ـ ثلاثة أيّام متوالية
حتّى لقى الله إيثارا على نفسه ـ لا فقرا ولا بخلا ـ
يجيب الوليمة ويعود المرضى ويشيّع الجنائز ، ويمشى وحده بين أعدائه بلا حارس .
__________________
أشدّ الناس تواضعا
وأسكنهم في غير كبر ، وأبلغهم من غير تطويل ، وأحسنهم بشرا . لا يهوله شيء من أمر الدنيا .
ويلبس ما وجد :
فمرّة شملة ، ومرّة برد حبرة يمانيّا ، ومرّة جبّة صوف ، ما وجد من المباح لبس ،
__________________
وخاتمه فضّة يلبسه
في خنصره الأيمن ، وربّما يلبس في الأيسر .
يردف خلفه عبده أو
غيره .
يركب ما أمكنه ـ مرّة
فرسا ومرّة بغلة شهباء ومرّة حمارا ـ ومرّة يمشي راجلا حافيا بلا رداء ولا عمامة
ولا قلنسوة .
يعود المرضى في
أقصى المدينة ، يحبّ الطيب ويكره الرائحة
__________________
الرديّة ، ويجالس الفقراء ويؤاكل المساكين ويكرم أهل الفضل في أخلاقهم ، ويتألف أهل الشرف بالبرّ لهم
، يصل ذوي رحمه من غير أن يؤثرهم على من هو أفضل منهم ، لا يجفو على أحد ، يقبل
معذرة المعتذر إليه.
يمزح ولا يقول
إلّا حقّا ، ويضحك من غير قهقهة ، يرى
__________________
اللعب المباح فلا
ينكره ، ويسابق أهله ، وترفع الأصوات عليه فيصبر.
وكان له لقاح وغنم
يتقوّت هو وأهله من ألبانها ، وكان له عبيد وإماء لا يرتفع عليهم في مأكل ولا ملبس
.
لا يمضي له وقت في
غير عمل الله أو فيما لا بدّ له من صلاح نفسه ، يخرج إلى بساتين أصحابه ، لا يحقّر
مسكينا لفقره وزمانه ، ولا يهاب ملكا لملكه ، يدعو هذا وهذا إلى الله دعاء واحدا.
قد جمع له الله
السيرة الفاضلة والسياسة التامّة وهو أمّي ـ لا يكتب ولا يقرأ ـ نشأ في بلاد الجهل
والصحاري في فقر وفي رعاية الغنم يتيما لا أب له ولا أمّ ، فعلّمه الله جميع محاسن
الأخلاق والطرق الحميدة وأخبار الأوّلين والآخرين ، وما فيه النجاة والفوز في
الآخرة ، والغبطة والصلاح والخلاص في الدنيا ، ولزوم الواجب وترك الفضول.
وفّقنا الله
لطاعته في أمره والتأسّي به في فعله.
أقول : ويأتي كلام آخر في معنى الامّي من طريق أهل البيت عليهمالسلام إن شاء الله.
__________________
فصل [٣]
قال : وفي رواية اخرى :
وكان من خلقه أن
يبدأ من لقيه بالسلام ، ومن قام معه بحاجة صابره حتّى يكون هو المنصرف ، وما أخذ
أحد بيده فيرسلها حتّى يكون يرسلها الآخذ ، وكان إذا لقي أحدا من أصحابه بدأه بالمصافحة ، ثمّ أخذ
يده فشابكه ، ثمّ شدّ قبضه عليها .
وكان لا يقوم ولا
يقعد إلّا على ذكر الله ، وكان لا يجلس إليه أحد وهو يصلّي إلّا خفّف صلاته وأقبل
عليه فقال : «ألك حاجة»؟ فإذا فرغ من حاجته عاد إلى صلاته.
وكان أكثر جلوسه
أن ينصب ساقيه جميعا ويمسك بيديه عليهما ـ
__________________
شبه الحبوة ـ ولم يعرف مجلسه من مجالس أصحابه ـ لأنّه كان حيث ما انتهى
به المجلس جلس ـ وما رئي قطّ مادّا رجليه بين أصحابه ـ حتّى يضيق بهما على
أصحابه ، إلّا أن يكون المكان واسعا لا ضيق فيه ، وكان أكثر ما يجلس مستقبل
القبلة.
وكان يكرم من يدخل
عليه ، حتّى ربّما بسط ثوبه لمن ليست بينه وبينه قرابة ولا رضاع ـ يجلسه عليه ـ وكان يؤثر الداخل عليه بالوسادة التي تكون تحته ، فإن أبى
أن يقبلها عزم عليه حتّى يفعل.
وما استصغاه أحد
إلّا ظنّ أنّه أكرم الناس عليه ، حتّى يعطي كلّ من جلس إليه نصيبه من وجهه ، حتّى
كان مجلسه وسمعه وحديثه ولطف مجلسه وتوجّهه للجالس إليه ؛ ومجلسه مع ذلك مجلس حياء
وتواضع وأمانة .
قال الله ـ تعالى
ـ : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ
اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ
حَوْلِكَ) [٣ / ١٥٩].
__________________
ولقد كان يدعو
أصحابه بكناهم ـ إكراما لهم واستمالة لقلوبهم ـ ويكنّي من لم تكن له كنية ؛ فكان
يدعى بما كنّاه به ، وكان يكنّي أيضا النساء اللاتي لهنّ أولاد ، واللاتي لم
يلدن يبتدئ لهنّ الكنى ، ويكنّي الصبيان فيستلين به قلوبهم.
وكان أبعد الناس
غضبا وأسرعهم رضا ، وكان أرقّ الناس بالناس وخير الناس للناس ، وأنفع الناس للناس
، ولم تكن ترفع في مجلسه الأصوات .
وكان إذا قام من
مجلسه قال : «سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلّا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك»
ـ ثمّ يقول : ـ «علّمنيهن جبرئيل عليهالسلام» .
* * *
__________________
فصل [٤]
قيل : كان صلىاللهعليهوآله أفصح الناس منطقا وأحلاهم كلاما ، ويقول : «أنا أفصح العرب» و «إنّ أهل الجنّة يتكلّمون فيها بلغة
محمّد».
وكان نزر الكلام
سمح المقالة إذا نطق ليس بمهذار ، وكان كلامه كخزرات النظم ، وكان أوجز الناس
كلاما ، وبذلك جاءه جبرئيل عليهالسلام.
وكان مع الإيجاز
يجمع كل ما أراد ، وكان يتكلّم بجوامع الكلم لا فضول ولا تقصير ، كلام يتبع بعضه ، بين كلامه توقّف يحفظه سامعه ويعيه.
وكان جهير الصوت
أحسن الناس نغمة .
وكان طويل السكوت
لا يتكلّم في غير حاجة .
__________________
ولا يقول في
المنكر ولا يقول في الرضا والغضب إلا الحق ، ويعرض عمّن تكلّم بغير جميل ، ويكنّى عمّا اضطرّه الكلام إليه ممّا يكره.
وكان إذا سكت
تكلّم جلساؤه ، ولا يتنازع عنده في الحديث ، ويعظ بالجدّ والنصيحة ، ويقول : «لا تضربوا القرآن بعضه ببعض ، فإنّه انزل على وجوه».
وكان أكثر الناس
تبسّما وضحكا في وجوه أصحابه ، وتعجّبا ممّا تحدّثوا به ، وخلطا لنفسه بهم .
__________________
ولربّما يضحك حتّى
تبدو نواجذه .
وكان لا يدعوه أحد من أصحابه إلّا قال : «لبّيك» ، وكانوا لا يقومون له ـ لما عرفوا من كراهته لذلك .
وكان يمرّ
بالصبيان فيسلّم عليهم ، واتي برجل فأرعد من هيبته فقال : «هوّن عليك ، فلست بملك ، إنّما أنا ابن امرأة من قريش
كانت تأكل القديد».
__________________
وكان يجلس بين
أصحابه مختلطا بهم ـ كانّه أحدهم ـ فيأتي الغريب فلا يدري أيّهم هو حتّى يسأل عنه
، حتّى طلبوا إليه أن يجلس مجلسا يعرفه الغريب ، فبنوا له دكّانا من طين ، فكان
يجلس عليه .
وكان يقول : «إنّما أنا عبد ،
آكل كما يأكل العبد ، وأجلس كما يجلس العبد».
وكان لا يأكل على
خوان ولا سكرّجة حتّى لحق بالله عزوجل .
فصل [٥]
وعن مولانا أمير
المؤمنين عليهالسلام أنّه إذا وصف النبي صلىاللهعليهوآله قال :
«كان أجود الناس ،
وأجرأ الناس صدرا ، وأصدق الناس لهجة ، وأوفاهم بذمّة ، وألينهم عريكة ، وأكرمهم عشيرة ؛ من رآه
__________________
بديهة هابه ، ومن
خالطه معرفة أحبّه ؛ يقول ناعته : لم أر قبله ولا بعده مثلهصلىاللهعليهوآله».
وما سئل شيئا ـ قطّ
ـ على الإسلام إلّا أعطاه ، وإنّ رجلا أتاه وسأله ، فأعطاه غنما بين جبلين ؛ فرجع
إلى قومه فقال : «أسلموا فإنّ محمّدا يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة » ، وما سئل شيئا ـ قطّ ـ فقال لا ». وعنه عليهالسلام : «لقد رأيتنا يوم بدر ونحن نلوذ بالنبي صلىاللهعليهوآله ، وهو أقربنا إلى العدوّ ، وكان من أشدّ الناس يومئذ بأسا».
وقال ـ أيضا ـ : «كنّا إذا أحمى البأس ، ولقى القوم القوم ، اتّقينا
برسول اللهصلىاللهعليهوآله ، فما يكون أحد أقرب إلى العدوّ منه».
قيل : «وكان البطل
الشجاع هو الذي يدنو منه وقت اشتداد الحرب حين وقوع الطعن والضرب» .
__________________
فصل [٦]
قيل : وكان صلىاللهعليهوآله أخشى الناس لربّه وأتقاهم له ، وأعلمهم به ، وأقواهم في
طاعته ، وأصبرهم على عبادته ، وأكثرهم حبّا لمولاه ، وأزهدهم فيما سواه. وكان يقوم
في صلاته حتّى ينشقّ بطون أقدامه من طول قنوته وقيامه ، ويسمع على الأرض لو كف دموعه حسّا كحسّ المطر من كثرة خضوعه. وكانت أوقاته لا
يخلو من الصيام ، وربّما يواصل الليالي بالأيّام.
* * *
وفي طريق أهل
البيت عليهمالسلام : «إنّه صلىاللهعليهوآله صام حتّى قيل : «إنّه ما يفطر» ، ثمّ إنّه أفطر حتّى قيل :
«إنّه ما يصوم» ، ثمّ إنّه كان يصوم الثلاثة الأيّام في الشهر ؛ وعليه قبض». وفيه : «إنه كان إذا قام إلى الصلاة يسمع من صدره أزيزا ـ كأزيز
المرجل».
__________________
فصل [٧]
وأمّا خلقته وصورته صلىاللهعليهوآله
فقال بعض علماء
العامّة :
«كان من صفة رسول
الله صلىاللهعليهوآله في قامته أنّه لم يكن بالطويل البائن ، ولا القصير
المتردّد ، بل كان ينسب إلى الربعة إذا مشى وحده ، ومع ذلك فلم يكن أحد يماشيه من الناس ـ ينسب
إلى الطول ـ إلّا طاله ، ولربّما يكتنفه الرجلان الطويلان ويطولهما ، فإذا فارقاه
نسبا إلى الطول ، ونسب هو إلى
__________________
الربعة ، ويقول صلىاللهعليهوآله : «جعل الخير كلّه في الربعة».
وأمّا لونه صلىاللهعليهوآله : فقد كان أزهر اللون ، ولم يكن بالآدم ولا الشديد البياض
ـ والأزهر : هو الأبيض الناصع الذي لا يشوبه صفرة ولا حمرة ولا شيء من الألوان
ـ. ونعته عمّه أبو طالب فقال :
وأبيض يستسقى
الغمام بوجهه
|
|
ثمال اليتامى
عصمة للأرامل
|
ونعته بعضهم بأنّه مشرب بحمرة ، فقال : «إنّما كان المشرب منه بالحمرة
ما ظهر للشمس والرياح ـ كالوجه والرقبة ـ والأزهر الصافي عن الحمرة هو ما تحت
الثياب منه».
وكان صلىاللهعليهوآله عرقه في وجهه كاللؤلؤ ، أطيب من المسك الأذفر .
وأمّا شعره : فقد
كان رجل الشعرة حسنها ، ليس بالسبط ولا الجعد القطط .
__________________
كان إذا مشطه
بالمشط يأتي كأنّه حبك الرمل
وكان شيبه في
الرأس واللحية سبع عشرة طاقة شعرة ـ ما زاد عليها .
وكان أحسن الناس
وجها وأنوره ، لم يصفه واصف إلّا شبّهه بالقمر ليلة البدر ، وكان يرى رضاه وغضبه في وجهه ـ لصفاء بشرته ـ.
وكان واسع الجبهة
أزجّ الحاجبين سابغهما ، وكان أبلج ما بين الحاجبين ـ كأنّ ما بينهما الفضّة
المخلّصة ـ.
وكانت عيناه
نجلاوين أدعجهما ، وكان في عينه مزج من
__________________
حمرة. وكان أهدب
الأشفار ـ حتّى كاد تلبس من كثرتها ـ .
وكان أقنى العرنين
ـ أي مستوى الأنف ـ .
وكان مفلج الأسنان
ـ أي متفرّقها ـ وكان إذا افترّ ضاحكا افترّ عن مثل سنا البرق إذا تلألأ. وكان من
أحسن عباد الله شفتين وألطفهم ختم فم .
وكان سهل الخدّين
صلتهما ، ليس بالطويل الوجه ولا المكلثم ، كثّ اللحية ، وكان يعفي لحيته ويأخذ شاربه .
وكان من أحسن
الناس عنقا ، لا ينسب إلى الطول ولا إلى القصر ؛ ما ظهر من عنقه للشمس والرياح
فكأنّه إبريق فضّة مشربا يتلألأ ذهبا في بياض الفضّة وفي حمرة الذهب .
__________________
وكان صلىاللهعليهوآله عريض الصدر لا يعدو لحم بعض بدنه بعضا ـ كالمرايا في استوائه ،
وكالقمر في بياضه ـ موصول ما بين لبّته وسرّته بشعر منقاد كالقضيب ، لم يكن في
صدره ولا بطنه شعر غيره . وكانت له عكن ثلاث : يغطّي الإزار منها واحدة وتظهر اثنتان.
وكان عظيم
المنكبين أشعرهما ، ضخم الكراديس ـ أي رءوس العظام من المنكبين والمرفقين والوركين ، وكان
واسع الظهر ، ما بين كتفيه خاتم النبوّة ، وهو مما يلي منكبه الأيمن ، فيه شامة
سوداء يضرب إلى الصفرة ، حولها شعرات متواليات ـ كانّها من عرف فرس ـ .
وكان عبل العضدين
والذراعين ، طويل الزندين ، رحب الراحتين ، سائل الأطراف ، وكان أصابعه قصبان الفضّة ، كأنّ كفّه كفّ عطّار طيبا ـ مسّها
بطيب أو لم يمسّها ـ يصافحها المصافح فيظلّ يومه يجد ريحها ، ويضع يده على رأس
الصبي
__________________
فيعرف من بين
الصبيان بريحها على رأسه .
وكان عبل ما تحت
الإزار من الفخذ والساق.
وكان معتدل الخلق
في السمن ، بدن في آخر زمانه .
وكان لحمه متماسكا
يكاد يكون على الخلق الأوّل لم يضرّه السنّ.
وأمّا مشيه صلىاللهعليهوآله : فكان يمشي كأنّما ينقلع من صخر وينحدر من صبب ، يخطو
تكفيا ويمشي الهوينا من غير تبختر ـ والهوينا : تقارب الخطا ـ.
وكان صلىاللهعليهوآله يقول : «أنا أشبه الناس بآدم عليهالسلام وكان أبي إبراهيم أشبه الناس بي خلقا وخلقا».
* * *
وإن أردت زيادة
على ما ذكر فى بيان خلقه وخلقه واموره صلىاللهعليهوآله ومن طريق أهل البيت عليهمالسلام فارجع إلى كتاب مكارم الأخلاق للطبرسي ـ رحمهالله ـ.
__________________
فصل [٨]
قيل في قوّة
حواسّه صلىاللهعليهوآله : إنّه كان لسمعه قوّة يسمع بها ما يخفي عن غيره حتّى كان
يسمع صرير الأقلام في تصاريف الأحكام.
ولبصره قوّة يبصر
بها الأشياء الدقيقة القاصية ، كما أخبر برؤية قصور الشام واليمن ، وجسد النجاشي ؛ بل كان لبصره نفوذ إلى الملأ الأعلى.
وقال : «إنّي لأجد
ريح الجنّة دون احد» ، و «إنّي أشمّ ريح الرحمن من قبل اليمن» ـ يخبر عن اويس ـ.
ويكفي في قوّة
حواسّه ثبوت سمعه وبصره وقلبه لسماع خطاب ربّ العالمين ومشاهدة آياته الكبرى.
__________________
فصل [٩]
وأمّا أسماؤه صلىاللهعليهوآله
:
فروي أنّه كان يقول
: «إنّ لي عند ربّي عشرة أسماء : أنا محمّد ، وأنا أحمد ، وأنا الماحي الذي
يمحو الله بي الكفر ، وأنا العاقب الّذي ليس بعده أحد ، وأنا الحاشر الذي يحشر
العباد على قدمي ، وأنا رسول الرحمة ، ورسول التوبة ، ورسول الملاحم ، والمقفي ـ قفيت
الناس ـ ، وأنا قثم».
__________________
قيل : القثم : الكامل الجامع. وقيل : الجواد.
وقيل ـ أيضا ـ في
أسمائه : الشاهد ؛ لأنّه يشهد في القيامة للأنبياء بالتبليغ ، وعلى الامم أنّهم
بلّغوا ـ كما ورد في القرآن ـ
والبشير ، والنذير
، والسراج المنير ، والضحوك ، والقتّال ، والمتوكّل ، والفاتح والأمين ـ وقد سمّي
بذلك قبل مبعثه لأمانته وصدق وعده ـ والخاتم ، والمصطفى ، والرسول ، والنبيّ ،
والامّي ـ لنسبته إلى أمّ القرى ـ
وقيل : لأنّه لم
يكتب ولم يقرأ كما قال تعالى : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا
مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ
الْمُبْطِلُونَ) [٢٩ / ٤٨] .
* * *
__________________
وفي بصائر الدرجات
عن جعفر بن محمد الصوفي قال : سألت أبا جعفر محمد بن على الرضا عليهماالسلام وقلت له : «يا ابن رسول الله ـ لم سمّي النبيّ : الامّي»؟
قال : «ما يقول الناس»؟
قلت : «يزعمون
أنّما سمّي النبيّ الامّي ، لأنّه لم يكتب».
فقال : «كذبوا ـ عليهم
لعنة الله ـ أنّى يكون ذلك ، والله تبارك وتعالى يقول في محكم كتابه : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ
رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ
الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) [٦٣ / ٢] فكيف
يعلّمهم ما لا يحسن؟ والله لقد كان رسول اللهصلىاللهعليهوآله يقرأ ويكتب باثنين وسبعين ـ أو : بثلاثة وسبعين ـ لسانا ؛ وإنّما سمّي الامّي لأنّه كان
من أهل مكّة ـ ومكّة من أمّهات القرى ـ وذلك قول الله في كتابه : (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ
حَوْلَها) [٦ / ٩٢]».
وفيه عن عبد الرحمن بن الحجّاج ـ قال : ـ قال أبو عبد الله : «إنّ النبيصلىاللهعليهوآله كان يقرأ ويكتب ، ويقرأ ما لم يكتب».
__________________
* * *
وسمّاه الله :
المزمّل ، والمدثّر ، والكريم ، والنور ، والعبد ، والرءوف ، والرحيم ، وطه ، ويس
، ومنذر ، ومذكّر .
* * *
وعن مولانا الباقر
عليهالسلام بإسناد الصدوق ـ رحمهالله ـ :
«إنّ اسم رسول
الله صلىاللهعليهوآله في صحف إبراهيم : الماحي ، وفي توراة موسى : الحاد ، وفي
إنجيل عيسى : أحمد. وفي الفرقان : محمّد».
قيل : «فما تأويل
الماحي»؟
فقال : «الماحي
صورة الأصنام ، وماحي الأوثان والأزلام ، وكلّ معبود دون الرحمن».
قيل : «فما تأويل
الحاد»؟
فقال : «الحاد من
حادّ لله ودينه ، قريبا كان أو بعيدا».
قيل : «فما تأويل
أحمد»؟
__________________
فقال : «حسن ثناء
الله تعالى عليه في الكتب بما حمد من أفعاله».
قيل : «فما تأويل
محمّد»؟
قال : «أنّ الله
وملائكته وجميع أنبيائه ورسله وجميع اممهم يحمدونه ويصلّون عليه ، وأنّ اسمه مكتوب
على العرش : محمّد رسول الله».
* * *
وعن كعب الأحبار
أنّه قال : «اسم النبي صلىاللهعليهوآله عند أهل الجنّة : عبد الكريم ، وعند أهل النار : عبد
الجبّار ، وعند أهل العرش : عبد المجيد ، وعند سائر الملائكة : عبد الحميد ، وعند
الأنبياء : عبد الوهّاب وعند الشياطين : عبد القهّار ، وعند الجنّ : عبد الرحيم ،
وفي الجبال : عبد الخالق ، وفي البرّ : عبد القادر ، وفي البحر : عبد المهيمن ،
وعند الحيتان : عبد القدّوس ، وعند الهوامّ : عبد الغياث ، وعند الوحوش : عبد
الرزّاق ، وعند السباع : عبد السلام ، وعند البهائم : عبد المؤمن ، وعند الطيور :
عبد الغفّار ، وفي التوراة : مودمود ، وفي الإنجيل : طاب طاب ، وفي الصحف : عاقب ،
وفي الزبور : فاروق ، وعند الله : طه ، ويس ، وعند المؤمنين : محمّد صلىاللهعليهوآله» ـ انتهى.
وقيل : «اسمه في التوراة بمادماد ، وصاحب الملحمة ـ والملحمة : الحرب
ـ وكنيته : أبو الأرامل ، واسمه في الإنجيل : الفارقليط. وقال : أنا الأوّل والآخر
ـ أوّل في النبوّة ، وآخر في البعثة ـ».
__________________
وكنيته : أبو القاسم.
وقيل : لمّا ولد له إبراهيم أتاه جبرئيل عليهالسلام فقال : «السلام عليك أبا إبراهيم» ـ أو ـ «يا أبا إبراهيم».
فصل [١٠]
[متعلقاته صلىاللهعليهوآله]
روى الصدوق ـ رحمهالله ـ بإسناده عن مولانا الباقر عليهالسلام أنّه قال : «وكان صلىاللهعليهوآله يلبس من القلانس اليمانيّة والبيضاء المضرّبة ذات الاذنين في الحرب.
__________________
وكانت له عنزة يتّكئ عليها ويخرجها في العيدين فيخطب بها.
وكان له قضيب يقال
له : الممشوق.
وكان له فسطاط
ويسمّى بالكنّ .
وكانت له قصعة
تسمّى المنيعة .
وكان له قعب يسمّى
الريّ.
وكان له فرسان ،
يقال لأحدهما : المرتجز ، وللآخر : السكب.
وكان له بغلتان ،
يقال لإحداهما : دلدل ، وللاخرى : الشهباء.
وكانت له ناقتان ،
يقال لإحداهما العضباء ، وللاخرى الجدعاء.
وكان له سيفان ،
يقال لأحدهما : ذو الفقار ، وللآخر : العون.
وكان له سيفان
آخران ، يقال لأحدهما : المخذم ، وللآخر : الرسوم.
وكان له حمار
يسمّى يعفور.
وكانت له عمامة تسمّى
السحاب.
وكان له درع يسمّى
ذات الفضول ؛ لها ثلاث حلقات فضّة ـ حلقة بين يديها وحلقتان خلفها.
وكانت له راية
تسمّى العقاب.
وكان له بعير يحمل
عليه يقال له الديباج.
__________________
وكان له لواء
تسمّى المعلوم.
وكان له مغفر يقال
له : الأسعد.
فسلّم ذلك كلّه
لعليّ عليهالسلام عند موته ، وأخرج خاتمه وجعله في إصبعه.
فذكر عليّ عليهالسلام أنّه وجد في قائمة سيف من سيوفه صحيفة فيها ثلاثة أحرف :
«صل من قطعك ، وقل الحقّ ولو على نفسك ، وأحسن إلى من أساء إليك».
ـ قال : ـ وقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : «خمس لا أدعهنّ حتّى الممات : الأكل على الحضيض مع العبيد ، وركوبي الحمار موكفا ، وحلبي العنز بيدي ، ولبس الصوف ، والتسليم على الصبيان ـ
ليكون سنّة من بعدي».
* * *
__________________
فصل [١١]
[خصائصه صلىاللهعليهوآله]
روى جابر بن عبد
الله الأنصاري عن النبي صلىاللهعليهوآله أنّه قال :
«اعطيت خمسا لم
يعطهنّ أحد قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، فأيّما
رجل من أمّتي أدركته الصلاة فليصلّ ، واحلّت لي الغنائم ـ ولم تحل لأحد قبلي ـ واعطيت الشفاعة ، وكان النبيّ يبعث إلى قومه خاصّة ،
وبعثت إلى الناس عامّة».
ومضمون هذا الحديث
مستفيض بين العامّة والخاصّة ، لكنّه يروى بألفاظ مختلفة : ففي بعضها : ستّ.
__________________
وفي آخر : «سبع».
وفي بعضها : «اعطيت جوامع الكلم».
وفي آخر : «الوسيلة».
وفي آخر : «واعطيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش ، لم
يعطهنّ نبيّ قبلي».
وفي آخر : «وختم بي النبيّون».
وفي آخر : «وفضّلت على الناس بثلاث ، وجعلت صفوفنا كصفوف الملائكة».
__________________
وفي حديث المعراج : «واعطي نبيّكم ثلاثا : اعطي الصلوات الخمس ، واعطي
خواتيم سورة البقرة ، وغفر ـ لمن لا يشرك بالله شيئا من أمّته ـ المقحمات». فهذه
اثنتا عشرة خصلة خصّ بها عن سائر الأنبياء ، وله غير ذلك منع من تتّبعها خوف
الإطالة.
* * *
وأمّا خصائصه التي
خصّ بها عن أمّته فكثيرة جدّا ، وفيها خلاف منتشر مشهور في كتب الفقه ، وقسّمها بعضهم إلى :
واجبات : كالتهجّد
، وقضاء دين الميّت المقرّ.
ومحرّمات : كأكل
الصدقة ، ونكاح الأمة ، وخائنة الأعين.
ومباحات :
كالزيادة على أربع زوجات ، ووصال صوم الأيّام بالليالي ، والشهادة والحكم لنفسه.
وإلى ما يرجع إلى
مجرّد تشريفه وعلوّ شأنه ورفعة مكانه : كسيادة ولد آدم وكون أمّته خير الامم ،
ورؤية ما وراء ظهره ، وعدم وقوع ظلّه على الأرض ، وابتلاع الأرض برازه ـ وغير ذلك
ـ.
* * *
وكما أنّه صلىاللهعليهوآله بعث إلى الناس كافّة ، كذلك بعث إلى الجنّ باتّفاق الامّة.
__________________
قيل : إنّه لم
يبعث نبيّ قبله إلى الإنس والجنّ جميعا .
قال البغوي في قوله ـ تعالى ـ : (وَإِذْ صَرَفْنا
إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) ـ إلى قوله : ـ (يا قَوْمَنا
أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ) [٤٦ / ٢٩ ـ ٣١] ـ قال
: ـ «يعنى محمدا صلىاللهعليهوآله».
ـ قال : ـ وقال
ابن عبّاس ـ رضي الله عنه ـ : «فاستجاب له نحوا من سبعين رجلا من الجنّ فوافقوا
النبيّ صلىاللهعليهوآله بالبطحاء ، فقرأ عليهم القرآن وأمرهم ونهاهم».
وفي تفسير علي بن
إبراهيم : «وكانوا يعودون إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله في كلّ وقت ، فأمر أمير المؤمنين عليهالسلام أن يعلّمهم ويفقّههم ، فهم مؤمنون وكافرون وناصبون ويهود
ونصارى ومجوس ، وهم ولد الجانّ».
* * *
__________________
فصل [١٢]
نبيّنا صلىاللهعليهوآله أفضل الأنبياء وأشرفهم وخاتمهم ـ بلا خلاف :
قال صلىاللهعليهوآله : «أنا سيّد ولد آدم ولا فخر».
وقال ـ أيضا ـ : «أنا سيّد ولد آدم يوم القيامة ، وأنا أوّل من تنشقّ عنه
الأرض ، وأوّل شافع وأوّل مشفّع».
وقال صلىاللهعليهوآله : «أنا أوّل الناس خروجا إذا بعثوا ، وأنا خطيبهم إذا
وفدوا ، وأنا مبشّرهم إذا يئسوا ، لواء الحمد بيدي ، وأنا أكرم ولد آدم على الله
وخاتم النبيّين».
__________________
وقال : «آدم فمن دونه تحت لوائي يوم القيامة».
وقال : «كنت نبيّا وآدم بين الماء والطين».
وقال : «أنا أوّل الأنبياء خلقا ، وآخرهم بعثا».
وقال : «نحن الآخرون السابقون».
__________________
قيل : يعنى
الآخرون زمانا ، السابقون بالفضائل والمناقب.
وقيل : الآخرون من
أهل الدنيا ، والسابقون يوم القيامة المقضيّ لهم قبل الخلائق.
أقول : وله وجوه
اخر ، وهي : الآخرون خلقا والأوّلون قصدا ؛ وهذا كما يقال : «أوّل الفكر آخر العمل».
أو الآخرون خلقا من
حيث الأبدان ، والأوّلون خلقا من حيث الأرواح.
أو الآخرون بحسب
الاستكمال والتعلّم من الملائكة في العالم السفلي وبحسب الظاهر ـ كما قال الله عزوجل : (عَلَّمَهُ شَدِيدُ
الْقُوى) [٥٣ / ٥] ـ والأوّلون
من حيث التكميل والتعليم لهم في العالم العلوي وبحسب الباطن.
كما قال مولانا
الصادق عليهالسلام ـ حين سأله مفضّل بن عمر «ما كنتم
__________________
قبل أن يخلق الله
السموات والأرض»؟ فقال ـ : «كنّا أنوارا نسبّح الله ونقدّسه حتّى خلق الله
الملائكة ، فقال لهم الله ـ عزوجل ـ : «سبّحوا» ؛ فقالوا : «إي ربّنا ، لا علم لنا». فقال
لنا : «سبّحوا» ، فسبّحنا ؛ فسبّحت الملائكة بتسبيحنا» ـ الحديث ، وسيأتي نظائره
ـ.
ووجه آخر ألطف
وأشرف ، وهو : الآخرون في سلسلة العود ، والأوّلون في سلسلة البدو ـ وهذا المعنى
لا يدركه إلّا الخواصّ ـ وقليل ما هم ـ.
* * *
قال بعض العلماء :
«إنّ مقصود فطرة
الآدميّين وكمالهم وغايتهم إدراكهم لسعادة القرب من الحضرة الإلهيّة ، ولم يمكن
ذلك إلّا بتعريف الأنبياء ، فكانت النبوّة مقصودة بالإيجاد ، والمقصود كمالها
وغايتها لا أوّلها ، وإنّما تكمل بحسب سنّة الله ـ تعالى ـ بالتدريج كما تكمل
عمارة الدار بالتدريج.
فتمهّد أصل النبوّة
بآدم عليهالسلام ولم يزل ينمو ويكمل حتّى بلغ الكمال بمحمّد صلىاللهعليهوآله ، وكان المقصود كمال النبوّة وغايتها ، وتمهيد أوائلها
وسيلة إليها كتأسيس البناء وتمهيد اصول الحيتان ، فإنّه وسيلة إلى كمال صورة
الدار.
ولهذا السرّ كان
خاتم النبيّين ، فإنّ الزيادة على الكمال
__________________
نقصان كالإصبع
الزائدة في الكفّ. وإليه الإشارة بقوله صلىاللهعليهوآله : «مثل النبوّة مثل دار معمورة لم يبق فيها إلّا موضع لبنة
، وكنت أنا تلك اللبنة» ـ أو لفظ هذا معناه ـ.
فهو إذن خاتم
النبيّين ـ ضرورة ـ إذ بلغ به الغاية والكمال ، والغاية أوّل في التقدير، آخر في
الوجود.
وقوله صلىاللهعليهوآله : «كنت نبيّا وآدم بين الماء والطين» ـ أيضا ـ إشارة إلى
ما ذكرناه ، وأنّه كان نبيّا في التقدير قبل تمام خلقة آدم ، لأنّه لم ينشأ خلقة
آدم إلّا لينتزع الصافى من ذريّته ، ولا يزال يستصفى تدريجا ـ إلى أن يبلغ كمال
الصفا ـ فيقبل الروح القدسيّ المحمّدي» ـ انتهى كلامه ـ
__________________
* * *
وعن النبي صلىاللهعليهوآله : «إنّ الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل ، واصطفى من ولد
إسماعيل كنانة ، واصطفى من بني كنانة قريشا ، واصطفى من قريش بني هاشم ، واصطفانى
من بني هاشم».
وروى الصدوق بإسناده عن ابن عبّاس ، عن النبي صلىاللهعليهوآله قال : «إنّ الله
خلق الخلائق قسمين ، فجعلني في خيرهما قسما ، وذلك قوله تعالى : (وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ... وَأَصْحابُ
الشِّمالِ) [٥٦ / ٢٧ ـ ٤١] ،
فأنا من أصحاب اليمين ، وأنا من خير أصحاب اليمين.
ثمّ جعل القسمين
أثلاثا ، فجعلني في خيرها ثلثا ، فذلك قوله : (فَأَصْحابُ
الْمَيْمَنَةِ ... وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ... وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) [٥٦ / ٨ ـ ١٠] ؛
فأنا من السابقين ، وأنا خير السابقين.
ثمّ جعل الأثلاث
قبائل ، فجعلني في خيرها قبيلة ، وذلك قوله تعالى : (وَجَعَلْناكُمْ
شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) [٤٩ / ١٣] ؛ فأنا
أتقى ولد آدم وأكرمهم على الله ـ ولا فخر ـ.
__________________
ثمّ جعل القبائل
بيوتا ، فجعلني فى خيرها بيتا ، وذلك قوله عزوجل : (إِنَّما يُرِيدُ
اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) [٣٣ / ٣٣] ، فأنا
وأهل بيتي مطهّرون من الذنوب».
وعنه صلىاللهعليهوآله : «لمّا خلق الله آدم أهبطني في صلبه إلى الأرض ، وجعلني
في صلب نوح في السفينة ، وقذف بي في النار في صلب إبراهيم ، ثمّ لم يزل تنقلني
الأصلاب الكريمة إلى الأرحام الطاهرة حتّى أخرجني من بين أبوي لم يلتقيا على سفاح
قطّ».
وفي درّ النظيم : عن عطا وعكرمة ، عن ابن عبّاس في قوله تعالى : (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) [٢٦ / ٢١٩] يعني :
يديرك من أصلاب الموحّدين ، من موحّد إلى موحّد ، حتّى أخرجك في هذه الامّة ، وما
زال رسول الله صلىاللهعليهوآله يتقلّب في أصلاب الأنبياء والصالحين حتّى ولدته آمنة».
وعن أمير المؤمنين
عليهالسلام : «إنّ النبي صلىاللهعليهوآله قال : خرجت من نكاح
__________________
ولم أخرج من سفاح
من لدن آدم إلى أن ولّدني أبي وأمّي ، ولم يصبني من سفاح الجاهليّة شيء».
وروى الصدوق بإسناده عن مولانا الصادق ، عن آبائه عليهمالسلام قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «إنّ الله ـ عزوجل ـ اختار من الأيّام الجمعة ، ومن الشهور شهر رمضان ، ومن
الليالي ليلة القدر ، واختارني على جميع الأنبياء ، واختار منّي عليّا وفضّله على
جميع الأوصياء ، واختار من عليّ الحسن والحسين ، واختار من الحسين الأوصياء من
ولده ؛ ينفون عن التنزيل تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الضالّين ، تاسعهم
قائمهم وهو ظاهرهم وهو باطنهم».
وروى سعد الإربلي
في كتابه الأربعين بإسناده عن سلمان الفارسي ـ رضي الله عنه ـ : قال : قال
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم :
«ما أنزل الله
كتابا ، ولا خلق خلقا إلّا جعل له سيّدا ، فالقرآن
__________________
سيّد الكتب
المنزلة ، وجبريل سيّد الملائكة ـ أو قال إسرافيل ـ وأنا سيّد الأنبياء ، وعليّ
سيّد الأوصياء ، لكلّ امرئ من عمله سيّد ، وحبّي وحبّ عليّ بن أبي طالب سيّد ما
تقرّب به المتقرّبون من طاعة ربّهم».
وفي كتاب المناقب عن سلمان الفارسي ـ رضي الله عنه ـ قال : سمعت حبيبي
المصطفى محمدا صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول : «كنت أنا وعليّ نورا بين يدي الله ـ عزوجل ـ مطيعا يسبّح الله ذلك النور ويقدّسه قبل أن يخلق آدم
بأربعة عشر ألف عام ، فلمّا خلق الله ـ تعالى ـ آدم ركّب ذلك النور في صلبه ، فلم
يزل في شيء واحد حتّى افترقنا في صلب عبد المطلّب ، فجزء أنا وجزء عليّ».
فصل [١٣]
وكما أنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم أفضل من سائر الأنبياء والمرسلين ، فكذلك هو أفضل من
الملائكة المقرّبين أجمعين ، لفضل الأنبياء المرسلين على الملائكة المقربين.
يدلّ على ذلك ما
رواه الصدوق ـ رحمهالله ـ في إكمال الدين بإسناده عن مولانا الرضا ، عن أبيه ، عن أبيه ، عن أبيه ،
عن أبيه ، عن أبيه ، عن أبيه عليّ بن أبي طالبعليهالسلام قال :
__________________
قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «والله ما خلق الله خلقا أفضل منّي ، ولا أكرم عليه
منّي».
ـ قال عليّ عليهالسلام : ـ فقلت : «يا رسول الله ـ فأنت أفضل أم جبرئيل عليهالسلام»؟
فقال : «يا عليّ ـ
إنّ الله تبارك وتعالى فضّل أنبياءه المرسلين على ملائكته المقرّبين ، وفضّلني على
جميع النبيّين والمرسلين ، والفضل بعدي لك ـ يا علي ـ وللأئمة من بعدك ؛ وإنّ
الملائكة لخدّامنا وخدّام محبّينا.
ـ يا عليّ ـ (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ
حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [وَيُؤْمِنُونَ بِهِ]
وَيَسْتَغْفِرُونَ
لِلَّذِينَ آمَنُوا) [٤٠ / ٧] بربّهم وبولايتنا.
يا عليّ ـ لو لا
نحن ما خلق الله ـ تعالى ـ آدم ولا حوّاء ، ولا الجنّة ولا النار ، ولا السماء ولا
الأرض.
وكيف لا نكون أفضل
من الملائكة ، وقد سبقناهم إلى التوحيد ، ومعرفة ربّنا ـ عزوجل ـ وتسبيحه وتقديسه وتهليله.
لأنّ أوّل ما خلق
الله تعالى أرواحنا فأنطقنا بتوحيده وتمجيده ، ثمّ خلق الملائكة ، فلمّا شاهدوا
أرواحنا نورا واحدا استعظموا امورنا فسبّحنا لتعلم الملائكة أنّا خلق مخلوقون ،
وأنّه منزّه عن صفاتنا. فسبّحت الملائكة لتسبيحنا ونزّهته عن صفاتنا.
فلمّا شاهدوا عظم
شأننا هلّلنا ، لتعلم الملائكة أن لا إله إلّا الله ،
__________________
وأنّا عبيد ،
ولسنا بآلهة نحبّ أن نعبد معه أو دونه ؛ فلمّا شاهدوا كبر محلّنا كبّرنا الله ، لتعلم الملائكة
أنّ الله أكبر من أن ينال ، وأنّه عظيم المحل.
فلمّا شاهدوا ما
جعله الله ـ عزوجل ـ لنا من العزّة والقوّة ، قلنا : «لا حول ولا قوّة إلّا
بالله العليّ العظيم» ، لتعلم الملائكة أن لا حول ولا قوّة إلّا بالله ؛ فقالت
الملائكة : «لا حول ولا قوّة إلّا بالله».
فلمّا شاهدوا ما
أنعم الله به علينا ، وأوجبه لنا من فرض الطاعة ، قلنا : «الحمد لله» ، لتعلم
الملائكة ما يحقّ لله ـ تعالى ذكره ـ علينا من الحمد على نعمه ؛ فقالت الملائكة:
«الحمد لله». فبنا اهتدوا إلى معرفة توحيد الله وتسبيحه وتهليله وتحميده وتمجيده.
ثمّ إنّ الله ـ تعالى
ـ خلق آدم عليهالسلام وأودعنا صلبه ، وأمر الملائكة بالسجود له ـ تعظيما لنا
وإكراما ـ وكان سجودهم لله ـ عزوجل ـ عبوديّة ولآدم إكراما وطاعة ـ لكوننا في صلبه ـ.
فكيف لا نكون أفضل
من الملائكة وقد سجدوا لآدم كلّهم أجمعون؟
* * *
وإنّه لمّا عرج بي
إلى السماء ، أذّن جبرئيل ـ مثنى مثنى ـ وأقام ـ مثنى مثنى ـ ثمّ قال لي : «تقدّم
ـ يا محمّد».
__________________
فقلت : «يا جبرئيل
ـ أتقدّم عليك»؟
فقال : «نعم ـ لأنّ
الله ـ تبارك وتعالى ـ فضّل أنبياءه على ملائكته أجمعين ، وفضّلك خاصّة».
فتقدّمت ، فصلّيت
بهم ـ ولا فخر ـ فلمّا انتهينا إلى حجب النور قال لي جبرئيلعليهالسلام : «تقدّم يا محمّد» وتخلّف عنّي.
فقلت : «يا جبرئيل
ـ في مثل هذا الموقع تفارقني»؟
فقال : «يا محمّد
ـ إنّ هذا انتهاء حدّي الذي وضعني الله ـ عزوجل ـ فيه إلى هذا المكان ، فإن تجاوزته احترقت أجنحتي لتعدّي
حدود ربّي ـ جلّ جلاله ـ».
فزجّ بي في النور
زجّة حتّى انتهيت إلى حيث ما شاء الله ـ عزوجل ـ من علوّ ملكوته.
فنوديت : «يا
محمّد».
فقلت : «لبّيك
ربّي وسعديك ، تباركت وتعاليت».
فنوديت : «يا
محمّد ـ أنت عبدي وأنا ربّك ، فإيّاي فاعبد ، وعليّ فتوكّل ، فإنّك نوري في عبادي
، ورسولي إلى خلقي ، وحجّتي في بريّتي ، لمن تبعك خلقت جنّتي ، ولمن خالفك خلقت
ناري ، ولأوصيائك أوجبت كرامتي ، ولشيعتهم أوجبت ثوابي».
فقلت : «يا ربّ ـ ومن
أوصيائي»؟.
فنوديت : «يا
محمّد ـ أوصياؤك المكتوبون على ساق عرشي».
فنظرت ـ وأنا بين
يدي ربّي ـ إلى ساق العرش ، فرأيت اثنى عشر نورا ، في كلّ نور سطر أخضر مكتوب عليه
اسم وصيّ من
أوصيائي ؛ أوّلهم
عليّ بن أبي طالب ، وآخرهم مهديّ أمّتي. فقلت : «يا ربّ ـ أهؤلاء أوصيائي من بعدي»؟
فنوديت : «يا
محمّد ـ هؤلاء أوليائي وأحبّائي وأصفيائي وحججي بعدك على بريّتي ؛ وهم أوصياؤك
وخلفاؤك ، وخير خلقي بعدك ؛ وعزّتي وجلالي لأظهرنّ بهم ديني ، ولاعلينّ بهم كلمتي
، ولاطهّرنّ الأرض بآخرهم من أعدائي ، ولاملّكنّه مشارق الأرض ومغاربها ،
ولاسخّرنّ له الرياح ، ولاذلّلنّ له الرقاب الصعاب ، ولارقينّه في الأسباب ،
ولأنصرنّه بجندي ، ولاؤيّدنّه بملائكتي ، حتّى يعلن دعوتي ، ويجمع الخلق على توحيدي ،
ثمّ لاديمنّ ملكه ، ولاداولنّ الأيّام بين أوليائي إلى يوم القيامة».
* * *
وبإسناده عن مولانا الرضا عن أبيه عن آبائه ـ صلوات الله عليهم ـ قال
:
قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : «أنا سيّد من خلق الله ـ عزوجل ـ وأنا خير من جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وحملة العرش وجميع
ملائكة الله المقرّبين وأنبياء الله المرسلين ، وأنا صاحب الشفاعة والحوض الشريف. وأنا
وعليّ أبوا هذه الامّة ، من عرفنا فقد عرف الله ـ عزوجل ـ ، ومن أنكرنا فقد أنكر الله ـ عزوجل ـ. ومن عليّ سبطا أمّتي وسيّدا
__________________
شباب أهل الجنّة :
الحسن والحسين ، ومن ولد الحسين أئمّة تسعة ، طاعتهم طاعتي ، ومعصيتهم معصيتي ،
تاسعهم قائمهم ومهديّهم».
وبإسناده عن مولانا الصادق عليهالسلام عن أبيه عن آبائه عن أمير المؤمنين عليهمالسلام ـ قال : ـ قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : «لمّا اسري بي إلى السماء أوحى إليّ ربّي ـ جلّ جلاله ـ فقال
: يا محمّد ـ إنّي اطّلعت إلى الأرض اطّلاعة ، فاخترتك منها ، فجعلتك نبيّا ،
وشققت لك من اسمي اسما ، فأنا المحمود ، وأنت محمّد ؛ ثمّ اطّلعت الثانية فاخترت
بها عليّا ، وجعلته وصيّك وخليفتك وزوج ابنتك وأبا ذرّيّتك ، وشققت له اسما من
أسمائي ، فأنا العليّ الأعلى ، وهو عليّ ؛ وخلقت فاطمة والحسن والحسين من نور كما
، ثمّ عرضت ولايتهم على الملائكة ، فمن قبلها كان عندي من المقرّبين.
يا محمّد ـ لو أنّ
عبدا عبدني حتّى ينقطع ويصير كالشنّ البالي ثمّ أتاني جاحدا لولايتهم : ما أسكنته
جنّتى ، ولا أظلّنّه تحت عرشى.
__________________
يا محمّد ـ تحبّ
أن تراهم؟ قلت : نعم يا ربّ.
فقال ـ عزوجل ـ : ارفع رأسك.
ـ فرفعت رأسي واذا
أنا بأنوار عليّ وفاطمة والحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمّد بن علي وجعفر بن
محمد وموسى بن جعفر وعلي بن موسى ومحمّد بن علي وعلي بن محمّد والحسن بن علي
ومحمّد بن الحسن القائم في وسطهم كأنّه كوكب درّي ـ
قلت : يا ربّ ـ ومن
هؤلاء؟
قال : هؤلاء
الأئمّة ، وهذا القائم الذي يحلّ حلالي ويحرّم حرامي ، وبه أنتقم من أعدائي ، وهو
راحة لأوليائي ، وهو الذي يشفي قلوب شيعتك من الظالمين والجاحدين والكافرين ؛
فيخرج اللات والعزّى طريّين ، فيحرقهما ؛ فلفتنة الناس يومئذ بهما أشدّ من فتنة
العجل والسامري».
وبإسناده عن مولانا الرضا عليهالسلام قال : «إنّ آدم عليهالسلام لمّا أكرمه الله بإسجاد ملائكته له وبإدخاله الجنّة قال في
نفسه : «هل خلق بشرا أفضل منّي»؟
فعلم الله ـ عزوجل ـ ما وقع في نفسه ؛ فناداه الله ـ عزوجل ـ : «ارفع رأسك ـ يا آدم ـ فانظر إلى ساق عرشي». فرفع آدم
رأسه ، فنظر إلى ساق العرش فوجد عليه مكتوبا : «لا إله إلّا الله ، محمّد
__________________
رسول الله ، عليّ
بن أبي طالب أمير المؤمنين ، وزوجته [فاطمة] سيّدة نساء العالمين ، والحسن والحسين سيّدا شباب أهل
الجنّة».
فقال آدم : «يا
ربّ ـ من هؤلاء»؟
فقال ـ عزوجل ـ : «هؤلاء من ذرّيّتك ، وهم خير منك ومن جميع خلقي ،
ولولاهم ما خلقتك ، ولا خلقت الجنّة والنار ، ولا السماء ولا الأرض ؛ فإيّاك أن
تنظر إليهم بعين الحسد ، فاخرجك عن جواري».
فنظر إليهم بعين
الحسد ، وتمنّى منزلتهم ، فتسلّط عليه الشيطان فأكل من الشجرة ...» ـ الحديث ـ.
* * *
وفي تفسير مولانا
العسكري عليهالسلام في حديث طويل عن النبي صلىاللهعليهوآله قال :
«لمّا زلّت من آدم
الخطيئة ، فاعتذر إلى ربّه ـ عزوجل ـ فقال : «يا ربّ تب عليّ ، واقبل معذرتي ، وأعدني إلى
مرتبتي ، وارفع لديك درجتي ، فلقد تبيّن نقص الخطيئة وذلّها بأعضائي وسائر بدني».
قال الله ـ تعالى
ـ : «يا آدم ـ أما تذكّر أمري إياك أن تدعوني بمحمّد وآله الطيّبين عند شدائدك
ودواهيك وفي النوازل تبهظك »؟
قال آدم : «يا ربّ
ـ بلى».
__________________
قال الله ـ عزوجل ـ : «فبهم ـ بمحمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين خصوصا ـ فادعني
، أجبك إلى ملتمسك ، وأزدك فوق مرادك».
فقال آدم : «يا
ربّ وإلهي ـ قد بلغ عندك من محلّهم أنّك بالتوسّل بهم تقبل توبتي ، وتغفر خطيئتي؟
وأنا الذي أسجدت له ملائكتك ، وأبحته جنّتك ، وزوّجته حوّاء أمتك ، وأخدمته كرام
ملائكتك».
قال الله : «يا
آدم ـ إنّما أمرت الملائكة بتعظيمك بالسجود ، إذ كنت وعاء لهذه الأنوار ، ولو كنت
سألتني بهم قبل خطيئتك أن أعصمك منها وأن افطّنك لدواعي إبليس حتّى تحترز منها :
لكنت قد فعلت ذلك ؛ ولكنّ المعلوم في سابق علمي يجري موافقا لعلمي. فالآن ، فبهم
فادعني لاجيبك».
فعند ذلك قال آدم
: «اللهمّ بجاه محمّد وآل محمد الطيّبين ، بجاه محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين
والطيّبين من آلهم لما تفضّلت بقبول توبتي ، وغفران زلّتي وإعادتي من كراماتك إلى
مرتبتي».
ثمّ قال الله ـ عزوجل ـ : «قد قبلت توبتك وأقبلت برضواني عليك ، وصرفت آلائي
ونعمائي إليك ، وأعدتك إلى مرتبتك من كراماتي ، ووفّرت نصيبك من رحماتي».
فذلك قول الله ـ عزوجل ـ : (فَتَلَقَّى آدَمُ
مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [٢ / ٣٧]».
* * *
وفي رواية اخرى :
قال آدم : «يا ربّ
ـ ما أعظم شأن محمّد وآل محمّد وخيار أصحابه»؟
فأوحى الله : «يا
آدم ـ إنّك لو عرفت جلال منزلة محمّد وآله عندي وخيار أصحابه ، لأحببته حبّا يكون
أفضل أعمالك عندي».
قال آدم : «يا ربّ
ـ عرّفني لأعرف».
قال الله ـ تعالى
ـ : «يا آدم ـ إنّ محمّدا لو وزن به جميع الخلق ـ النبيّين والمرسلين والملائكة
المقرّبين وسائر عبادي الصالحين من أوّل الدهر إلى آخره ، ومن الثرى إلى العرش ـ لرجح
بهم ؛ وإنّ رجلا من آل محمّد لو وزن به ـ بعد محمّد ـ خيار النبيّين وآل النبيّين
لرجح بهم ؛ وإنّ رجلا من خيار صحابة محمّد لو وزن به جميع أصحاب المرسلين : لرجح
بهم.
ـ يا آدم ـ لو
أحبّ رجل من الكفّار أو جميعهم رجلا من آل محمّد وأصحابه الخيّرين لكافأه الله ـ عزوجل ـ عن ذلك بأن يختم له بالخير والتوبة والإيمان ، ثمّ يدخله
الجنّة.
إنّ الله ليفيض
على كلّ واحد من محبّي محمّد وآل محمّد ما لو قسّمت على كلّ عدد ما خلق الله من
أوّل الدهر إلى آخره وكانوا كفّارا لكفاهم ولأدّاهم إلى عاقبة محمودة والإيمان
بالله ، حتّى يستحقّوا به الجنّة ؛
__________________
وإنّ رجلا ممّن
يبغض آل محمّد وأصحابه الخيّرين أو واحدا منهم يعذّبه الله عذابا لو قسّم على مثل
عدد خلق الله لأهلكهم أجمعين».
وعن مولانا أمير
المؤمنين عليهالسلام : «إنّ اليهود قبل ظهور نبيّنا صلىاللهعليهوآله كانوا يستفتحون على أعدائهم بذكره والصلاة عليه وعلى آله ،
وكان الله ـ عزوجل ـ يأمر اليهود في أيّام موسى وبعده ـ إذا دهمهم أمر ودهتهم
داهية ـ أن يدعوا الله ـ عزوجل ـ بمحمّد وآله الطيّبين ، وكانوا يستنصرون بهم ويفعلون ذلك
، حتّى كانت اليهود من أهل المدينة قبل ظهور محمّد بسنين كثيرة يفعلون ذلك.
فيكفّون البلاء والدهماء والداهية»
« وإنّ قضاء الحوائج وإجابة الدعاء ـ إذا سئل الله بمحمّد
وعليّ وآلهما ـ مشهور في الامم والزمان السالف ، حتّى أنّ من طال به البلاء قبل
هذا طال بلاؤه لنسيانه الدعاء لله بمحمّد وآله الطيّبين ...».
ـ الحديث ـ.
والأخبار في هذه
المعاني كثيرة جدّا ، ولنقتصر على ما ذكر ،
فإنّ فيه كفاية
لمن تدبّره. ـ والحمد لله ـ
* * *
__________________
فصل [١٤]
قيل : الحكمة في
كونه صلىاللهعليهوآله خاتم النبيّين وأمّته آخر الامم امور :
منها : أن يظهر
فضله وشرفه بنسخ شريعته لسائر الشرائع واستمرار حكمها إلى آخر الدهر.
ومنها : أخذ الله
العهد والميثاق على سائر الأنبياء بأنّ من أدركه اتّبعه ومن لم يدركه يأخذ العهد
على أمّته بذلك ، ليكون ذلك دليلا على صدقه في دعوى نبوّته ، وحجّة على من خالفه.
ومنها : أن يكون
هو وأمّته شهداء على الناس.
ومنها : أن يكون
لبثهم تحت الأرض أقلّ من لبث غيرهم ـ تكريما لهم.
ومنها : أنّ الله
قصّ أخبار الامم وعواقب امورهم على من بعدهم من الامم ، حتّى وصل علم ذلك إلينا ،
ولم يجعل بعد هذه الامّة أمّة تطّلع على أحوالهم ؛ بل سرائرهم موكولة إلى الله ـ تعالى
ـ سترا لهم لئلّا يطّلع على معايبهم ولا يفتضحوا بذكرها ـ إكراما لنبيّهمصلىاللهعليهوآله.
إلى غير ذلك من
الفوائد والحكم .
* * *
__________________
والحكمة في كونه صلىاللهعليهوآله يتيما : لئلّا يجب عليه طاعة لغير الله ، ولا يكون عليه
ولاية لغير مولاه ، ولا يتوجّه عليه حقّ لمخلوق ، ولا ينسب إلى مخالفة ولا قطيعة
ولا عقوق.
فصل [١٥]
وأمّا نسبه صلىاللهعليهوآله : فهو محمّد بن عبد الله بن عبد المطلّب ـ واسمه شيبة
الحمد ـ بن هاشم ـ واسمه عمرو ـ بن عبد مناف ـ واسمه المغيرة ـ بن قصيّ ـ واسمه
زيد ـ بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لوي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر ـ وهو قريش
ـ بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.
روي أنه صلىاللهعليهوآله قال : «إذا بلغ نسبي عدنان فأمسكوا». واتّصال نسبه بآدم أبي
البشر كثير موجود في كتب التواريخ والأنساب .
* * *
وأمّه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرّة.
* * *
__________________
وأرضعته ـ حتّى
شبّ ـ حليمة بنت عبد الله بن الحارث السعديّة من بني سعد بن بكر بن هوازن .
وأرضعته : ثويبة ـ مولاة أبي لهب ـ قبل قدوم حليمة أيّاما بلبن ابنها
مسروح.
* * *
وعن مولانا الباقر
عليهالسلام قال : قبض رسول الله صلىاللهعليهوآله وهو ابن ثلاث وستّين سنة ، في سنة عشر من الهجرة.
فكان مقامه بمكة
أربعين سنة ، ثمّ نزل عليه الوحي في تمام الأربعين ، وكان بمكّة ثلاثة عشر سنة ،
ثمّ هاجر إلى المدينة ـ وهو ابن ثلاث وخمسين سنة ـ فأقام بالمدينة عشر سنين.
وقبض في شهر ربيع
الأوّل ـ يوم الاثنين لليلتين خلتا منه ـ
صلىاللهعليهوآله ـ .
* * *
__________________
[٩]
باب
معجزات نبيّنا صلىاللهعليهوآله
وآيات صدقه
وما يتبع ذلك
(وَما كانَ لِرَسُولٍ
أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) [١٣ / ٣٨]
فصل [١]
[شواهد صدق رسول الله صلىاللهعليهوآله]
قال بعض العلماء :
إنّ من شاهد
أحواله وأصغى إلى سماع أخباره ـ الدالّة على أخلاقه وأفعاله وأحواله وآدابه وعاداته
وسجاياه وسياسته لأصناف الخلق وهدايته إلى ضبطهم وتألّفه أصناف الخلق وقوده إيّاهم
إلى طاعته ، مع ما يحكى من عجائب أجوبته في مضائق الأسئلة ، وبدائع تدبيراته في
مصالح الخلق ، ومحاسن
__________________
إشاراته في تفصيل
ظاهر الشرع الذي يعجز الفقهاء والعقلاء عن إدراك أوائل دقائقها في طول أعمارهم ـ لم
يبق له ريب ولا شكّ في أنّ ذلك لم يكن مكتسبا بحيلة تقوم بها القوّة البشريّة ، بل
لا يتصوّر ذلك إلّا بالاستمداد من تأييد سماويّ وقوّة إلهيّة ؛ وأنّ ذلك كلّه لا
يتصوّر لكذّاب ولا لملبّس ، بل كانت شمائله وأحواله شواهد قاطعة مصدّقة ؛ حتّى أنّ
العربيّ القحّ كان يراه فيقول : «والله ما هذا وجه كذّاب» فكان يشهد له بالصدق بمجرّد
شمائله.
فكيف بمن يشاهد
أخلاقه ويمارس في جميع مصادره وموارده ... وقد آتاه الله جميع ذلك ، وهو رجل أمّي
لم يمارس العلم ولم يطالع الكتب ، ولم يسافر قطّ في طلب العلم ، ولم يزل بين أظهر
الجهّال من الأعراب يتيما ضعيفا مستضعفا.
فمن أين حصل له ما
حصل من محاسن الأخلاق والآداب ومعرفة مصالح الفقه ـ مثلا ـ فقط ، دون غيره من
العلوم ؛ فضلا عن معرفته بالله وملائكته وكتبه ، وغير ذلك من خواصّ النبوّة! لو لا
صريح الوحي؟!
ومن أين لبشر
الاستقلال لذلك؟!
ولو لم يكن له
إلّا هذه الامور الظاهرة لكان فيه كفاية ، وقد ظهر من معجزاته وآياته ما لا يستريب
فيه محصّل».
* * *
أقول : ولنذكر من
جملتها ما ذكره بعض علماء العامّة ممّا استفاضت به الأخبار ، أو اشتملت عليه الكتب المعتبرة
، إشارة إلى مجامعها من غير تطويل بالتفصيل. ثمّ نذكر جملة ممّا استفاض نقله من
طريق أهل البيت عليهمالسلام ـ ومن الله التأييد ـ.
فصل [٢]
قال : قد خرق الله العادة على يده صلىاللهعليهوآله غير مرّة :
إذ شقّ له القمر
بمكّة لمّا سألته قريش آية .
وأطعم النفر
الكثير في منزل جابر ، وفي منزل أبي طلحة .
__________________
ويوم الخندق ـ مرّة
ـ أطعم ثمانين رجلا من أربعة أمداد شعير وعناق ـ وهو من أولاد المعز دون العتود ـ
ومرّة أكثر من
ثمانين من أقراص شعير حملها أنس في يده .
ومرّة أهل الجيش
من تمر يسير ساقته بنت بشر في يديها ؛ فأكلوا كلّهم حتّى شبعوا من ذلك وفضل لهم .
ونبع الماء من بين
أصابعه ، فشرب أهل العسكر كلّهم ـ وهم عطاش .
__________________
وتوضّأ من قدح صغير ضاق عن أن يبسط يده فيه .
وإهراق وضوئه صلىاللهعليهوآله في عين تبوك ـ ولا ماء فيها ـ فجرت بماء كثير .
ومرّة اخرى في بئر
الحديبيّة ، فجاشت بالماء ، فشرب من عين تبوك أهل الجيش ـ وهم ألوف ـ حتّى رووا ؛
قال لمعاذ : «إن طال بك حياة فسترى ما هاهنا قد ملأ خياما» ، فكان كذلك ، وشرب من
بئر الحديبيّة ألف وخمسمائة ولم يكن فيها قبل ذلك ماء.
وأمر بعض أصحابه
أن يزوّد أربعمائة راكب من تمر كان في اجتماعه كربضة البعير ـ وهو موضع بروكه ـ فزوّدهم
كلّهم منه ، وبقي بحسبه .
ورمى الجيش بقبضة
من تراب ، فعميت عيونهم ونزل بذلك القرآن في قوله تعالى : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ
اللهَ رَمى) [٨ / ١٧].
__________________
وابطل الكهانة
بمبعثه صلىاللهعليهوآله ، فعدمت ، وكانت ظاهرة موجودة .
وحنّ الجذع الذي
كان يخطب مستندا إليه ، لمّا عمل له المنبر ، حتّى سمعه جميع أصحابه ـ مثل صوت
الإبل ـ فضمّه إليه فسكن .
ودعا اليهود إلى
تمنّى الموت ، وأخبرهم بأنّهم لا يتمنّونه ، فحيل بينهم وبين النطق بذلك ، فعجزوا
عنه ؛ وهذه الآية مذكورة في سورة يقرأ بها في جميع جوامع أهل الإسلام ، من شرق
الأرض إلى غربها يوم الجمعة جهرا ـ تعظيما للآية التي فيها .
وأخبر صلىاللهعليهوآله بالغيوب :
وأخبر عمّارا
بأنّه تقتله الفئة الباغية .
وأنّ الحسن عليهالسلام يصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين .
__________________
وأخبر عن رجل قاتل
في سبيل الله أنّه من أهل النار ، فظهر ذلك بأن قتل ذلك الرجل نفسه .
وهذه الأشياء لا
تعرف البتّة بشيء من وجوه تقدّمه المعرفة ـ لا بنجوم ، ولا بكهن ، ولا بكتب ، ولا
بخطّ ، ولا بزجر ـ لكن بإعلام الله له ووحيه إليه.
وأتبعه سراقة بن
جعشم ، فساخت قدما فرسه في الأرض ، وأتبعه دخان حتّى استغاثه ؛ فدعا له فانطلقت
الفرس . وأنذره بأن سيوضع في ذراعيه سوارى كسرى ـ فكان ذلك ـ .
وأخبر بموت النجاشي
بأرض الحبشة ، وصلّى عليه في المدينة .
وأخبر بمقتل
الأسود العنسي الكذّاب ليلة قتله وهو بصنعاء اليمن وأخبر بمن قتله.
وخرج على مائة من
قريش ينتظرونه ، فوضع التراب على رءوسهم ـ ولم يروه ـ .
__________________
وشكا إليه البعير
بحضرة أصحابه وتذلّل له .
وقال لنفر من
أصحابه مجتمعين : «أحدكم في النار ضرسه مثل احد» ؛ فماتوا كلّهم على استقامة ،
وارتدّ واحد منهم فقتل مرتدّا .
وقال لآخرين منهم
: «آخركم موتا في النار» ؛ فسقط آخرهم موتا في النار ، فاحترق فيها فمات .
ودعا صلىاللهعليهوآله شجرتين ، فأتتاه فاجتمعا ، ثمّ أمرهما فافترقا .
ودعا صلىاللهعليهوآله النصارى إلى المباهلة فامتنعوا ، وأخبر أنّهم إن فعلوا ذلك
هلكوا ؛ فعلموا صحّة قوله ، فامتنعوا .
وأتاه عامر بن
الطفيل بن مالك ، وأربد بن قيس ـ فارسا العرب وفاتكاهم ـ عازمين على قتله ، فحيل
بينهما وبين ذلك ؛ ودعا عليهما ، فهلك عامر بغدّة ، وهلك أربد بصاعقة أحرقته .
وأخبر أنّه يقتل
ابيّ بن خلف الجمحي ، فخدشه يوم احد خدشا
__________________
لطيفا فكان منيّته
. واطعم صلىاللهعليهوآله السمّ ، فمات الذي أكله معه ، وعاش هو بعده أربع سنين وكلّمه الذراع المسموم .
وأخبر يوم بدر
بمصارع صناديد قريش ، ووقّفهم على مصارعهم ـ رجلا رجلا فلم يتعدّ واحد منهم ذلك
الموضع .
وأنذر صلىاللهعليهوآله بأنّ طوائف من أمّته يغزون في البحر ، فكان كذلك .
وزويت له الأرض ،
فاري مشارقها ومغاربها. وأخبر بأنّ ملك أمّته سيبلغ ما زوي له منها ـ فكان ذلك كما
أخبر ، فإنّ ملكهم من أوّل المشرق ـ من بلاد الترك ـ إلى آخر المغرب من بحر
الأندلس وبلاد البربر ولم يتّسعوا في الجنوب ولا في الشمال كما أخبر ، سواء بسواء
ـ .
وأخبر صلىاللهعليهوآله ابنته فاطمة أنّها أوّل أهله لحاقا به ، فكان كذلك .
وأخبر نسائه بأنّ
أطولهنّ يدا أسرعهنّ لحاقا به ، فكانت زينب بنت جحش الأسديّة أطولهنّ يدا بالصدقة
، وأوّلهنّ لحوقا به .
__________________
ومسح ضرع شاة حائل
لا لبن فيها ، فدرّت ، فكان ذلك سبب إسلام ابن مسعود .
وفعل ذلك مرّة
اخرى في خيمة أمّ معبد الخزاعيّة .
وندرت عين بعض أصحابه فسقطت ، فردّها صلىاللهعليهوآله بيده ، فكانت أصحّ عينيه وأحسنهما .
وتفل في عين عليّ صلىاللهعليهوآله ـ وهو أرمد ـ يوم خيبر ، فصحّ من وقته وبعثه بالراية .
وكانوا يستمعون
تسبيح الطعام من يديه صلىاللهعليهوآله .
واصيب عين رجل من أصحابه ، فمسحها بيده فبرأت من حينها.
__________________
وقلّ زاد جيش كان
معه فدعا بجميع ما بقي ، فاجتمع شيء يسير جدّا ، فدعا فيه بالبركة ، ثمّ أمرهم
فأخذوا ؛ فلم يبق وعاء في العسكر إلّا ملئ من ذلك .
وحكى الحكم بن أبي
العاص مشيه صلىاللهعليهوآله مستهزئا ؛ فقال صلىاللهعليهوآله : «كذلك فكن» ؛ فلم يزل يرتعش حتّى مات .
وخطب صلىاللهعليهوآله امرأة ، فقال أبوها : «إنّ بها برصا» ـ امتناعا من خطبته
واعتذارا ولم يكن بها برص ـ فقال صلىاللهعليهوآله : «فلتكن كذلك». فبرصت ؛ وهي : أمّ شبيب الذي يعرف ب «ابن
البرصاء» الشاعر .
إلى غير ذلك من
آياته ومعجزاته صلىاللهعليهوآله ،
وإنّما اقتصرنا
على المستفيض.
ـ وكذا ذكره بعض
العلماء ـ.
* * *
__________________
أقول : وممّا
استفاض نقله بطريق أهل البيت عليهمالسلام :
إخباره بشهادة
مولانا أمير المؤمنين عليهالسلام ، وأنّه يضرب على رأسه في شهر رمضان ، فتخضب بدمه لحيته
المباركة .
وبشهادة سبطيه
الحسن والحسين ، وأنّ مولانا الحسن عليهالسلام يسمّ ، ومولانا الحسين عليهالسلام يقتل بأرض كربلاء ، بعد شهادة أصحابه وحيدا غريبا .
وبأنّه يدفن بضعة
منه صلىاللهعليهوآله بطوس ، إشارة إلى مولانا الرضا عليهالسلام وبأنّ الأئمّة بعده اثنا عشر ، وتسميتهم بأسمائهم .
وبأنّ أمير
المؤمنين يقاتل بعده الناكثين والقاسطين والمارقين .
وأنّ بعض أزواجه
تبغي عليه وهي له ظالمة ، وأنّه تنبح عندها كلاب حوأب ، وبجميع الفتن التي وقعت
بعده .
وأنّ أبا ذر ـ رضي
الله عنه ـ يموت وحيدا غريبا .
__________________
وبأنّ آخر رزق
عمّار من الدنيا صاع من لبن .
ـ إلى غير ذلك من
الخصوصيّات ـ
ومن معجزاته صلىاللهعليهوآله : إطاعة الشمس له في التوقّف عن الغروب مرّة وفي الطلوع بعد الغروب اخرى .
وإطاعة الشجرة له
بالإتيان حتّى انقلعت من مكانها ، وخدّت الأرض جارّة عروقها مغبرة ، فوقفت بين
يديه وسلّمت عليه ؛ ثمّ رجعت بأمره إلى مكانها ـ كما هو مذكور في نهج البلاغة في
كلام أمير المؤمنين عليهالسلام . وتسليم الأحجار عليه .
وتضليل الغمامة
على رأسه دون القوم ـ حين رآه بحيراء في طريق الشام .
وتضليل الملكين
عليه حين رأته خديجة ونساؤها وعبدها ميسرة وتسبيح الحصى في كفّه المباركة .
__________________
وتأثير قدمه
الشريفة في الحجر ـ مع عدم تأثيره في الرمل ـ.
وظهور البركات
والآيات في بني سعد بإرضاع حليمة السعديّة إيّاه .
ونبات الشعر من
رءوس الأقرعين من الصبيان بإمرار يده الشريفة عليها .
وانفجار البئر
التي شكا أهلها ملوحتها بالماء الزلال ؛ وكانت غائرة.
وإعطائه رجلا
عرجونا في ليلة مظلمة ، فأضاء له .
وآخر قطعة من جريد
النخل الخضراء حين اشتكى انقطاع سيفه ، فصارت سيفا في يده .
وإلقاء بصاقه على
كفّ ابن عفراء المقطوعة فلصقت من ساعته .
ودعائه آية للدوسي
ليدعو قومه إلى الإسلام ، فوقع بين عينيه مثل المصباح ثمّ حوّل ذلك إلى رأس سوطه
لمّا خاف أن يظنّوا به المثلة .
وعصمة الله له
ممّن كان يؤذيه من المستهزئين وردّ كيدهم عليهم .
__________________
وحيلولة جبرئيل
بينه وبين أبي جهل في صورة فحل أو أسد قدر الفحل من الإبل ، حين أراد إلقاء الصخرة
عليه في سجوده .
وخلق الله ـ عزوجل ـ شجرة على فم الغار الذي اختفي فيه ، وإلهامه حمامتين
وحشيّتين لتعشّشا وتبيّضا عندها وتسخيره العنكبوت لينسج نسجا عظيما لا يمكن مثله
إلّا في سنين عديدة ، ليرجع عنه المشركون الذين كانوا في طلبه .
وإخباره بتأكّل
الصحيفة القاطعة الظالمة كلّها ، غير ما فيه من ذكر الله ـ تعالى ـ فكان كما أخبر .
وبالذي أضمره بنو
النضير ـ من إلقاء الصخرة عليه ـ .
وضربه الكدية التي
اعترضت يوم الخندق بالمعول ، حتّى صارت كثيبا مهيلا ـ مع ضعفه وجوعه مذ ثلاثة أيام
، وقيل إنه تفل في إناء ماء فنضح عليها ، فصارت كذلك ـ.
إلى غير ذلك من
الآيات ـ وهي كثيرة جدا ـ.
* * *
__________________
فصل [٣]
[شقّ صدر النبيّ صلىاللهعليهوآله
وغسل قلبه]
روي أنّه صلىاللهعليهوآله سئل : «ما أوّل ما رأيت من النبوّة»؟ فاستوى جالسا وقال :
«بينا أنا في صخرة
، وإذا بكلام فوق رأسي ، وإذا رجل من فوق رأسي يقول لآخر : «أهو هو؟» ، فاستقبلاني
بوجوه لم أرها على أحد ، فانطلقا يمشيان حتّى أخذ كلّ واحد منهما بعضدي ، لا أجد
لأخذه مسّا ، فأضجعاني بلا قسر ولا هسر .
فقال أحدهما : «أفلق
الصدر». ففلقه فيما أرى بلا دم ولا وجع.
فقال له : «أخرج
الغلّ والحسد». فأخرج شيئا كهيئة العلقة فطرحها.
فقال : «أدخل
الرأفة والرحمة». فإذا مثل الذي أدخل شبيه بالفضّة. ثمّ هزّ إبهام رجلي اليمنى ، وقال : «أعد
وأسلم» ، فرجعت بها أعدو رأفة على الصغير ورحمة على الكبير».
__________________
وفي رواية :
«بينا أنا مع أخ
لي م بني سعد بن بكر خلف بيوتنا ـ نرعي بهما لنا ـ إذ جاءني رجلان ـ وفي رواية : ثلاث رجال ـ بطست من الذهب مملوّا ثلجا ، فشقّا بطني من
نحري إلى مراق بطني ـ
ـ قال في غير هذه
الرواية : فاستخرجا قلبي فشقّاه ـ
ـ واستخرجا منه
علقة سوداء فقال : «هذا حظّ الشيطان
__________________
منك» ، ثمّ غسلا
قلبي وبطني بذلك الثلج ، حتّى أنقياه ؛ ثمّ تناول أحدهما شيئا ، فإذا بخاتم في يده
من نور يحار الناظر فيه أو دونه ، فختم به على قلبي ، فامتلأ إيمانا وحكمة ،
وأعاده مكانه ، وأمرّ الآخر يده على مفرق صدرى فالتأم ـ وإنّي لأجد برد الخاتم في
عروقي ـ».
وفي رواية : فقال جبرئيل : «قلب وكيع ـ أي شديد ـ فيه عينان تبصران ،
واذنان تسمعان». ثمّ قال لأحدهما : «زنه بألف من أمّته» ، فوزنني ، فرجحتهم ؛ فقال
: «دعه ، لو وزنته بامّته لرجحها» ؛ ثمّ ضمّوني إلى صدورهم وقبّلوا رأسي وبين عيني
، وقالوا : «يا حبيب الله ـ لن تراع ، إنّك لو تدري ما ذا يراد بك لأقرّت عيناك ،
ما أكرمك على الله ، إنّ الله وملائكته معك».
وهذا كان في
طفوليّته صلىاللهعليهوآله ، حين كان ابن أربع سنين ؛ ثمّ ورد مثلها في حال نبوّته ، كما روي عن أبي ذر ما معناه :
أنّه صلىاللهعليهوآله قال : «فرّج سقف بيتي ـ وأنا بمكّة ـ فنزل جبرئيل ففرّج
صدري ، ثمّ غسله من ماء زمزم ، ثمّ جاء بطست من ذهب ، ممتلئ حكمة وإيمانا ، فأفرغه
في صدري ، ثمّ أطبقه ، ثمّ أخذ بيدي فعرج بنا إلى السماء».
__________________
وعن أنس : لمّا اسري برسول الله صلىاللهعليهوآله من مسجد الكعبة ، إذ جاءه ثلاثة نفر ، قبل أن يوحى إليه ـ وهو
نائم في المسجد الحرام ـ. فقال أوّلهم : «إنّه هو» . فقال أوسطهم : «هو خيرهم». فقال آخرهم» «خذوا خيرهم».
فكانت تلك الليلة ؛ فلم يرهم حتّى أتوه ليلة اخرى ، فيما يرى قلبه وتنام عينه ولا
ينام قلبه ـ
ـ وكذلك الأنبياء
تنام أعينهم ولاتنام قلوبهم ـ
ـ فلم يكلّموه
حتّى احتملوه فوضعوه عند بئر زمزم ، فتولّاه منهم جبرئيل ، فشقّ جبرئيل ما بين
نحره إلى لبّته حتّى فرغ من صدره وجوفه ؛ فغسل من ماء زمزم بيده ، حتّى أنقى جوفه
، ثمّ أتى بطست من ذهب محشوّا إيمانا وحكمة ، فحشا به صدره ولغاديده بغير عروق خلقه ، ثمّ أطبقه ، ثمّ عرج به إلى السماء» ـ إلى آخر حديث
الإسراء ، وسنذكره في باب على حدة إن شاء الله ـ.
__________________
فصل [٤]
قيل : «من يستريب في انخراق العادة في يده صلىاللهعليهوآله ويزعم أنّ آحاد هذه الوقائع لم ينقل تواترا ـ بل المتواتر
هو القرآن فقط ـ كمن يستريب في شجاعة علي عليهالسلام وسخاوة حاتم ؛ ومعلوم أنّ آحاد هذه الوقائع غير متواترة ،
ولكن مجموع الوقائع تورث علما ضروريّا.
ثمّ لا يتمارى في
تواتر القرآن ، وهو المعجزة الكبرى الباقية بين الخلق ـ وليس لنبيّ معجزة باقية
سواه صلىاللهعليهوآله ـ إذ تحدّى بها بلغاء الخلق ، وفصحاء العرب ـ وجزيرة العرب
يومئذ مملوّة بآلاف منهم ، والفصاحة صنعتهم وبها منافستهم ومباهاتهم ـ وكان ينادي
بين أظهرهم : أن يأتوا بمثله ، أو بعشر سور مثله ، أو بسورة مثله ـ إن شكّوا ـ وقال لهم :
(قُلْ لَئِنِ
اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا
يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) [١٧ / ٨٨].
وقال ذلك تعجيزا
لهم ؛ فعجزوا عن ذلك وصرفوا عنه ، حتّى عرّضوا أنفسهم للقتل ، ونساءهم وذراريهم
للسبي ، وما استطاعوا أن يعارضوا ، ولا أن يقدحوا في جزالته وحسنه» ـ انتهى كلامه
ـ.
ولا يخفى أنّه لم
يزل صلىاللهعليهوآله يقرعهم أشدّ التقريع ، ويوبّخهم غاية التوبيخ ، ويسفّه
أحلامهم ويحطّ أعلامهم ويشتّت نظامهم ويذمّ آلهتهم
__________________
وآباءهم ، ويستفتح
أرضهم وبلادهم وديارهم ، وهم في كل هذا ناكصون عن معارضته ، مجمحون عن مماثلته ،
مخادعون أنفسهم بالتشعيث بالتكذيب ، والاغتراء بالافتراء ، وقولهم : (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) [٧٤ / ٢٤] ، و (سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) [٥٤ / ٢ ، و (إِفْكٌ افْتَراهُ) [٢٥ / ٤] ، و (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [٦ / ٢٥].
والمباهتة والرضاء
بالدنيّة كقولهم : (قُلُوبُنا فِي
أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا
وَبَيْنِكَ حِجابٌ) [٤١ / ٥] ، و (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ) [٤١ / ٢٦].
والادّعاء مع
العجز بقولهم : (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا
مِثْلَ هذا) [٨ / ٣١].
وقد قال لهم الله
: (وَلَنْ تَفْعَلُوا) [٢ / ٢٤] ، فما
فعلوا ولا قدروا ، بل ولّوا عنه مدبرين ، وأتوا مذعنين من بين مهتد وبين مفتون.
ولهذا لمّا سمع
الوليد بن المغيرة من النبيّ صلىاللهعليهوآله : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ
بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) [١٦ / ٩٠] ، قال : «والله إنّ له لحلاوة ، وإنّ عليه لطلاوة ، وإنّ أسفله
لمغدق ، وإنّ أعلاه لمثمر ، وما يقول هذا بشر».
__________________
وحكى الأصمعيّ
أنّه سمع كلام جارية ، فقال : قاتلك الله ـ ما أفصحك». فقالت : «أو يعدّ هذا فصاحة
بعد قوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى
أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ) [٢٨ / ٧]. فجمع في
آية بين أمرين ونهيين ، وخبرين وبشارتين».
قيل : إذا تأمّل
متأمّل قوله ـ عزوجل ـ : (وَلَكُمْ فِي
الْقِصاصِ حَياةٌ) [٢ / ١٧٩] (وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا) [٣٤ / ٥١] وقوله :
(ادْفَعْ بِالَّتِي
هِيَ أَحْسَنُ) [٢٣ / ٩٦] وقوله :
(وَقِيلَ يا أَرْضُ
ابْلَعِي ماءَكِ) [١١ / ٤٤] وقوله :
(فَكُلًّا أَخَذْنا
بِذَنْبِهِ) [٢٩ / ٤٠] ـ الآيات إلى آخرها ـ وأشباهها ، بل أكثر القرآن
تحقّق له إيجاز ألفاظها وكثرة معانيها وديباجة عباراتها ، وأنّ تحت كلّ لفظ منها
جملا كثيرة ، وفصولا جمّة ، وعلوما زواخر ملأت الدواوين من بعض ما استفيد منها ،
وكثرت المقالات في المستنبطات عنها.
فصل [٥]
[وجوه إعجاز القرآن]
قد عدّ العلماء من
وجوه إعجاز القرآن أشياء كثيرة :
فذكر الماوردي
منها : فصاحته وبيانه الذي منها بلاغة ألفاظه واستيفاء معانيه وحسن نظمه ، وإيجازه
، ونظم اسلوبه ، ووصف اعتداله الذي لا يدخل في نظم ولا نثر ولا رجز ولا شعر ولا
خطب ولا سجع ، مع كثرة معان في قلّة ألفاظ ، وما جمعه من العلوم التي لا يحيط بها
بشر ، ولا تجتمع في مخلوق.
ثمّ ما تضمّنه من
الحجج والبراهين على التوحيد والرجعة وإثبات النبوّة والرسالة وتقدير أحكام
الشريعة.
ثمّ ما تضمّنه من
أخبار الامم السالفة والقرون الخالية ، وما تعنّته أهل الكتاب من سؤالهم عن خفايا
الامور الماضية التي لا يعرفها إلّا خواصّ أحبارهم وأكابر علمائهم ـ كقصّة أهل
الكهف ، وشأن موسى والخضر ، وقصّة ذي القرنين ـ.
ثمّ ما أخبر به من
الأشياء من علم الغيب ، كقوله لليهود : (قُلْ إِنْ كانَتْ
لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ
فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ثمّ قال : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ
أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) [٢ / ٩٤ ـ ٩٥] فما
تمنّاه أحد منهم.
ثمّ ما فيه من
الإخبار بضمائر القلوب التي لا يطّلع عليها إلّا علّام الغيوب ؛ كقوله : (إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ
تَفْشَلا) [٣ / ١٢٢]. وقوله
: (وَتَوَدُّونَ أَنَّ
غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ) [٨ / ٧].
ثمّ من وجوه
إعجازه البواعث المعينة في الليالي على تلاوته ، ومنها هشاشة مخرجه وبهجة رونقه ،
وسلاسة نظمه وحسن قبوله ، وأنّ قاريه لا يكلّ وسامعه لا يملّ ، وهذا في غيره معدوم
، مع أنّه ينتقل في السورة الواحدة من وعد إلى وعيد ، ومن ترغيب إلى ترهيب ، ومن
ماض إلى مستقبل ، ومن خطاب إلى غيبة ، ومن قصص إلى مثل ، ومن حكم إلى جدل ـ فلا
ينبو ولا يتنافر.
* * *
وهذه الامور فى
غيره من الكتب مفصّلة :
فالتوراة خمسة
أسفار : سفر لبدء الخلق ، وسفر لخروج بني إسرائيل من مصر ، وسفر لأمر التوّابين ،
وسفر لإحياء موسى بني إسرائيل وما وقع بهم ، وسفر لتكرّر النواميس.
فاختلاف معانيها
موجب لتفاصيلها ، فأفضل ما فيها العشر كلمات الوصايا التي خوطب بها موسى ـ وبها
يستحلفون.
وأفضل ما في
الإنجيل : الصحف الأربعة المنسوبة لتلامذة عيسى الأربعة ، وهي المخصوصة بالقراءة
في الصلوات والأعياد.
وأفضل ما في
الزبور : ما اتّفق أهل الكتابين على اختياره ، وهو أدعية وتحاميد وتسابيح ينسب إلى
داود بما فيها ـ وليس كذلك ـ.
والقرآن كلّ سورة
منه مشتملة على أنواع مختلفة وعلوم متكاثرة ، فهي معجزة برأسها لاشتمالها على معان
باطنة وظاهرة.
ثمّ من وجوه إعجاز
القرآن تيسّره على جميع الألسنة ، حتّى يحفظه الأعجميّ الأبكم ، والصغير والألكن ؛
بخلاف غيره من الكتب ـ فلا يحفظ عن ظهر قلب كحفظه ـ قال تعالى : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ
لِلذِّكْرِ) [٥٤ / ١٧ و ٢٢ و ٣٢
و ٤٠].
ومنها أنّه مأمون
من الزيادة والنقص ، محفوظ من التغيير والتبديل :
قال تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ
وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [١٥ / ٩]
فصل [٦]
[إعجاز القرآن في التجدد الدائم]
أقول : إنّ أشرف
وجوه إعجاز القرآن وأقواها عند اولي البصائر هو اشتماله على العلوم والأسرار
وانطوائه على المعارف والأنوار وتضمّنه جوامع الكلم ولوامع الحكم الذي يعجز العقول
عن إدراكها ، بل كلّما تقلقل الإنسان في رياض فنونها وتعمّق في بحار عيونها انفتحت
له مسالك موصلة إلى مقفّلاتها ، واتّضحت له مدارك تبيّن جمل مشكلاتها ، وانكشفت له
معالم يدرك بها وجوه صوابها ، ولاحت له لوائح تذلّل له شدائد صعابها ، فيستخرج
بغوّاص عقله جواهر بحورها ، ويقدح بزناد فكره فيقتبس من أضواء نورها.
ويرى العلماء
والعارفين في كلّ وقت في ازدياد لا ينتهون إلى غاية في بلوغ المراد ، (إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ
نَفادٍ) ، وقد ملأت علوم الأقدمين الدفاتر ، وصدق من قال : «كم ترك
الأوّل للآخر».
ولذلك قال الله ـ عزوجل ـ : (وَيَرَى الَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَ) [٣٤ / ٦].
وعلى هذا : فهو من
المعجزات المتكرّرة التي تحدث بالتأمّل يوما فيوما وشيئا بعد شيء.
ومن هذا القبيل
الأحاديث النبويّة ، وكلماته الجامعة صلىاللهعليهوآله ، فإنّ العالم الذكيّ ، ذا اللبّ الصالح والذكاء القادح ،
إذا تأمّلها وبالغ في النظر فيها بصفاء القريحة ملاحظا لأنواع العلوم الدقيقة ،
ومستحضرا لحكم
أهل الحقيقة ، ظهر
له من مكنون أسرارها جمل متكاثرة ، وكشف من خفايا كنوزها عن تحف باطنة وظاهرة ،
وكلّما أعمل فكره في تحرير دقائقها واستعان بصفاء سرّه على تحقيق حقائقها : لاحت
له لوائح عوارفها ، وبدت له لطائف معارفها.
قال الله ـ عزوجل ـ : (وَما يَنْطِقُ عَنِ
الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) [٥٣ / ٥٤].
فالعلماء بعلم
الشرائع والأحكام لا يزالون من القرآن والحديث في فهم وإفهام ، وأرباب القلوب
والألباب دائما منها في ترقّ لمعالي الدرجات ، وتلقّ لتنزّل التحف والكرامات ،
لحسن اقتدائهم في اقتفائهم لآثار سيّد السادات ، وذلك من أجلّ المعجزات المتجدّدة
على تجدّد الأوقات.
فصل [٧]
قيل
: ومن المعجزات
المتكرّرة المتجدّدة العمل بأحكام الشريعة المطهّرة ، كالعبادات المقرّرة وفروع
المعاملات المنتشرة وامتثال الأوامر والنواهي ، وإظهار الشعائر المعتبرة.
وخصوصا كثرة
الصلوات والسلام عليه وآله في الصلاة وغيرها.
فإنّ المصلّي يقول
: «السلام عليك أيّها النّبيّ ورحمة الله وبركاته» ، ويصلّي عليه.
والدنيا لا تخلو
من مصلّ على رسول الله صلىاللهعليهوآله ليلا أو نهارا ، سرّا أو
جهرا ، في البرّ
والبحر ، في الشرق والغرب ، في الأرض والسماء.
قال الله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ اللهَ
وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ) [٣٣ / ٥٦].
وقد علمت كثرة
الملائكة وعظم عالمها وعدم فتورهم عن العبادة التي امروا بها ، فوجود الصلاة عليه
وآله منهم وتجدّدها من مصلّيهم كلّ وقت إذا تأمّله ذو النهى ظهر له أنّها معجزة له
صلىاللهعليهوآله ، وربّما كانت خاصّة بجنابه الشريف ، ومقامه المنيف ؛ ولا
يعلم أنّ الله أمر أمّة نبيّ بالصلاة على نبيّهم وآله إلّا نبيّنا صلىاللهعليهوآله.
قيل
: وكلّ كرامة ظهرت
على يد أحد من أمّة محمّد صلىاللهعليهوآله فهي معدودة من جملة معجزاته ، لأنّ ذلك إنّما يكون ببركة
متابعة له صلىاللهعليهوآله ، فإنّ أوفر الناس حظّا من القرب إلى الله أوفرهم حظّا من
متابعة الرسول ، فكرامات الأولياء من تتمّة معجزات الأنبياء.
أقول
: ومن معجزاته
الظاهرة المتكرّرة ، وبيّناته الباهرة المتجدّدة : أوصياؤه المعصومون وعترته
الطاهرون ، وظهورهم واحدا بعد واحد من ذريّته في كلّ حين إلى يوم الدين ، فإنّ
كلّا منهم ـ صلوات الله عليهم ـ حجّة قائمة على صدقه ، وآية بيّنة على حقيّتهصلىاللهعليهوآله كما يظهر من التتبّع لأحوالهم ، وملاحظة آثارهم والاطّلاع على
فضائلهم ومناقبهم والآيات الصادرة منهم ، والكرامات الظاهرة على أيديهم بسبب
متابعتهم إيّاه واقتدائهم بهداه ـ صلى الله عليه وعليهم ـ ولأنّ بهم يقضى حوائج
العباد ، وببركتهم يدفع الله أنواع البلاء عن البلاد ، وبدعائهم تنزل
الرحمة ، وبوجودهم
تصرف النقمة ـ إلى غير ذلك من بركات خيراتهم صلوات الله عليهم ـ.
فكما أنّ القرآن
معجزة لنبيّنا صلىاللهعليهوآله باقية إلى يوم الدين يظهر منه صدقه وحقّيّته شيئا فشيئا ،
ويوما فيوما ـ لمن تأمّله من اولي النهى ـ فكذلك كلّ من عترته المعصومين معجزة له
، باقية نوعه إلى يوم القيام ، دالّة على حقّيته لمن عرفهم بالولاية والحجّية من
الشيعة اولي الألباب ـ ولهذا قال صلىاللهعليهوآله :
«إنّي تارك فيكم
الثقلين كتاب الله وعترتي ، ولن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض».
* * *
وسنذكر لكلّ من
الثقلين وفضائله بابا على حدة ـ إن شاء الله ـ.
* * *
__________________
[١٠]
باب
معراج نبيّنا صلىاللهعليهوآله
(سُبْحانَ الَّذِي
أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ
الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا) [١٧ / ١]
فصل [١]
[المعراج في الروايات]
روى الشيخ الصدوق
ـ رحمهالله ـ في عرض المجالس بإسناده إلى عبد الرحمن بن غنم ـ قال ـ :
«جاء جبرئيل عليهالسلام إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله بدابّة دون البغل وفوق الحمار ، رجلاها أطول من يديها ،
خطوها مدّ البصر ، فلمّا أراد أن
__________________
يركب امتنعت ،
فقال جبرئيل : «إنّه محمّد» ، فتواضعت حتّى لصقت بالأرض».
ـ قال ـ : «فركب
فكلّما هبطت ارتفعت يداها وقصرت رجلاها وإذا صعدت ارتفعت رجلاها وقصرت يداها ؛
فمرّت به في ظلمة الليل على عير محمّلة ، فنفرت العير من دفيف البراق ؛ فنادى رجل
في آخر العير غلاما له في أوّل العير : «يا فلان ـ إنّ الإبل قد نفرت ، وإنّ فلانة
قد ألقت حملها وانكسر يدها» ـ وكانت العير لأبي سفيان ـ».
ـ قال ـ : ثمّ مضى
ـ حتّى إذا كانت ببطن البلقاء ـ قال : «يا جبرئيل ـ قد عطشت ، فتناول جبرئيل قصعة فيها
ماء ، فناوله ، فشرب ، ثمّ مضى ، فمرّ على قوم معلّقين بعراقيبهم بكلاليب من نار .
فقال : «ما هؤلاء
ـ يا جبرئيل»؟
فقال : «هؤلاء
الذين أغناهم الله بالحلال ، فيبغون الحرام».
ـ قال ـ : «ثمّ
مرّ على قوم تخاط جلودهم بمخائيط من نار ؛ فقال : «ما هؤلاء ـ يا جبرئيل»؟
فقال : «هؤلاء
الذين يأخذون عذرة النساء بغير حلّ».
ثمّ مضى ، فمرّ
على رجل يرفع حزمة من حطب ، كلّما لم يستطع أن يرفعها زاد فيها ؛ فقال : «من هذا ـ يا
جبرئيل»؟
__________________
فقال : «هذا صاحب
الدين ، يريد أن يقضي فاذا لم يستطع زاد عليه».
ثمّ مضى ، حتّى
إذا كان بالجبل الشرقي من بيت المقدّس ، وجد ريحا حارّة ، وسمع صوتا ؛ فقال : «ما
هذه الريح التي أجدها ، وهذا الصوت الّذي أسمع»؟
فقال : «هذه جهنّم»
؛ فقال النبي صلىاللهعليهوآله : «أعوذ بالله من جهنّم».
ثمّ وجد ريحا عن
يمينه طيّبة وسمع صوتا ؛ فقال : «ما هذه الريح الذي أجدها وهذا الصوت الذي أسمع»؟
قال : «هذه الجنّة».
فقال : «أسأل الله الجنّة» .
ـ قال : ـ «ثمّ
مضى حتّى انتهى إلى باب مدينة بيت المقدّس ـ وفيها هرقل ـ وكانت أبواب المدينة
تغلق كلّ ليلة ، ويؤتى بالمفاتيح ويوضع عند رأسه ، فلمّا كانت تلك الليلة امتنع
الباب أن ينغلق ؛ فأخبروه ، فقال : «ضاعفوا عليها من الحرس».
ـ قال ـ : «فجاء
رسول الله صلىاللهعليهوآله فدخل بيت المقدّس ؛ فجاء جبرئيل إلى الصخرة فرفعها ، فأخرج
من تحتها ثلاثة أقداح : قدحا من لبن ، وقدحا من عسل ، وقدحا من خمر ؛ فناوله قدح
اللبن فشرب ، ثمّ ناوله قدح العسل فشرب ، ثمّ ناوله قدح الخمر ؛ فقال : «قد رويت ـ
يا جبرئيل».
قال : «أمّا إنّك
لو شربته ضلّت أمّتك وتفرّقت عنك».
__________________
ثمّ أمّ رسول الله
صلىاللهعليهوآله في مسجد بيت المقدّس بسبعين نبيّا».
ـ قال ـ : «وهبط
مع جبرئيل عليهالسلام ملك لم يطأ الأرض قطّ ، معه مفاتيح خزائن الأرض ؛ فقال : «يا
محمّد ـ إنّ ربّك يقرؤك السلام ويقول : هذه مفاتيح خزائن الأرض ، فإن شئت فكن
نبيّا عبدا ، وإن شئت فكن نبيّا ملكا». فأشار إليه جبرئيل : أن تواضع ـ يا محمّد. فقال
: «بل أكون نبيّا عبدا».
ثمّ صعد إلى
السماء ؛ فلمّا انتهى إلى باب السماء استفتح جبرئيل عليهالسلام ؛ فقالوا : «من هذا»؟ قال : «محمّد». قالوا : «نعم المجيء
جاء».
فدخل ـ فما مرّ
على ملأ من الملائكة إلّا سلّموا عليه ودعوا له ، وشيّعه مقرّبوها. فمرّ على شيخ
قاعد تحت شجرة وحوله أطفال. فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : «من هذا الشيخ ـ يا جبرئيل»؟ قال : «هذا أبوك إبراهيم».
قال : «فما هؤلاء
الأطفال حوله»؟
قال : «أطفال
المؤمنين حوله ، يغذوهم».
ثمّ مضى ، فمرّ
على شيخ قاعد على كرسيّ ، إذا نظر عن يمينه ضحك وفرح وإذا نظر عن يساره حزن وبكى.
فقال «من هذا ـ يا جبرئيل»؟
قال : «أبوك آدم ،
إذا رأى من يدخل الجنّة من ذريّته ضحك وفرح ، وإذا رأى من يدخل النار من ذرّيّته
حزن وبكى».
ثمّ مضى فمرّ على
ملك قاعد على كرسيّ فسلّم عليه ، فلم ير منه من البشر ما رأى من الملائكة ؛ فقال :
«يا جبرئيل ما مررت بأحد من الملائكة إلّا رأيت منه ما احبّ إلّا هذا ، فمن هذا
الملك»؟
قال : «هذا مالك
خازن النار ، أمّا إنّه قد كان من أحسن الملائكة بشرا ، وأطلقهم وجها ، فلمّا جعل
خازن النار اطّلع فيها اطّلاعة ، فرأى ما أعدّ الله فيها لأهلها ، فلم يضحك بعد
ذلك».
ثمّ مضى حتّى إذا
انتهى ، فرضت عليه الصلاة ـ خمسون صلاة ـ
ـ قال : ـ فأقبل
فمرّ على موسى عليهالسلام ، قال : «يا محمّد ـ كم فرض على أمّتك»؟ قال : «خمسون صلاة».
قال : «ارجع إلى ربّك فسله أن يخفّف عن أمّتك».
ـ قال : ـ فرجع ،
ثمّ مرّ على موسى عليهالسلام ، قال : «كم فرض على أمّتك»؟ قال : «كذا وكذا». قال : «فإنّ
أمّتك أضعف الامم ، ارجع إلى ربّك فسله أن يخفّف عن أمّتك ، فإنّي كنت في بني
إسرائيل ، فلم يكونوا يطيقون إلّا دون هذا». فلم يزل يرجع إلى ربّه تعالى حتّى
جعلها خمس صلوات.
ـ قال : ـ ثمّ مرّ
على موسى عليهالسلام ، فقال : «كم فرض على أمّتك»؟
قال : «خمس صلوات».
قال : «ارجع فسله أن يخفّف عن أمّتك».
قال : «قد استحييت
من ربّي» ـ فما رجع إليه ـ.
ثمّ مضى فمرّ على
إبراهيم خليل الرحمن ، فناداه من خلفه فقال : «يا محمّد اقرأ أمّتك عنّي السلام ،
وأخبرهم أنّ الجنّة ماؤها عذب وتربتها طيّبة قيعان بيض ، غرسها : «سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله
والله أكبر ولا حول ولا قوّة إلّا بالله» ، فمر أمّتك فليكثروا من غرسها».
__________________
ثمّ مضى حتّى مرّ
بعير يقدمها جمل أورق ، ثمّ أتى أهل مكّة فأخبرهم بسيره ؛ وقد كان بمكّة قوم من
قريش ، قد أتوا بيت المقدّس ، فأخبرهم ، ثمّ قال : «آية ذلك أنّها تطلع عليكم
الساعة عير مع طلوع الشمس ، يقدمها جمل أورق».
ـ قال ـ : فنظروا
، فإذا هي قد طلعت. وأخبرهم أنّه مرّ بأبي سفيان ، وأنّ إبله نفرت في بعض الليل ،
وأنّه نادى غلاما له في أوّل العير : «يا فلان ، إنّ الإبل قد نفرت ، وإنّ فلانة
قد ألقت حملها ، وانكسر يدها». فسألوا عن الخبر فوجدوه كما قال النبيّصلىاللهعليهوآله».
* * *
وبإسناده الحسن عن مولانا الصادق عليهالسلام قال : «لمّا اسري برسول اللهصلىاللهعليهوآله إلى بيت المقدّس حمله جبرئيل على البراق ، فأتيا إلى بيت
المقدّس ، وعرض عليه محاريب الأنبياء وصلّى بها وردّه.
فمرّ رسول الله صلىاللهعليهوآله في رجوعه بعير لقريش ، وإذا لهم ماء في آنية ، وقد أضلّوا
بعيرا لهم وكانوا يطلبونه. فشرب رسول الله صلىاللهعليهوآله من ذلك الماء وأهرق باقيه.
فلمّا أصبح رسول
الله صلىاللهعليهوآله قال لقريش : «إنّ الله تعالى قد أسرى بي إلى بيت المقدّس ،
وأراني آثار الأنبياء ومنازلهم ، وإنّي مررت بعير في موضع كذا وكذا ـ وقد أضلّوا
بعيرا لهم ، فشربت من مائهم ، وأهرقت باقي ذلك».
__________________
فقال أبو جهل : «قد
أمكنتكم الفرصة منه ، فسلوه كم الأساطين فيها والقناديل». فقالوا : «يا محمّد ـ إنّ
هاهنا من قد دخل بيت المقدّس ، فصف لنا كم أساطينه وقناديله ، ومحاريبه»؟
فجاء جبرئيل عليهالسلام فعلّق صورة بيت المقدّس تجاه وجهه ، فجعل يخبرهم بما
يسألونه ، عنه ؛ فلمّا أخبرهم قالوا : «حتّى تجيء العير ، ونسألهم عمّا قلت». فقال
لهم رسول اللهصلىاللهعليهوآله : «تصديق ذلك أنّ العير تطلع عليكم مع طلوع الشمس ، يقدمها
جمل أورق».
فلمّا كان من الغد
أقبلوا ينظرون إلى العقبة ويقولون : «هذه الشمس تطلع الساعة» ، فبيناهم كذلك إذا
طلعت عليهم العير حين طلع القرص ، يقدمها جمل أورق ، فسألوهم عمّا قال رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فقالوا : «لقد كان هذا ، ضلّ جمل لنا في موضع كذا وكذا ،
ووضعنا ماء فأصبحنا وقد اهريق الماء» ـ فلم يزدهم ذلك إلّا عتوّا».
وفي رواية اخرى
رواها عليّ بن إبراهيم عن الصادق عليهالسلام ، عن النبي صلىاللهعليهوآله ، قال: «بينا أنا راقد بالأبطح ، وعليّ عن يميني ، وجعفر
عن يساري ، وحمزة بين يديّ ، وإذا أنا بحفيف أجنحة الملائكة ، وقائل يقول :
«إلى أيّهم بعثت ـ
يا جبرئيل»؟
فقال : «إلى هذا ـ
وأشار إليّ ـ وهو سيّد ولد آدم ، هذا وصيّه
__________________
ووزيره وختنه
وخليفته في أمّته ، وهذا عمّه سيّد الشهداء حمزة ، وهذا ابن عمّه جعفر ـ له جناحان
خضيبان يطير بهما في الجنّة مع الملائكة ـ دعه فلتنم عيناه وتسمع اذناه ويعي قلبه
، واضربوا له مثلا : «ملك بنى دارا ، واتّخذ مأدبة ، وبعث داعيا» ـ».
ـ فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : «الملك الله ، والدار الدنيا ، والمأدبة الجنّة ،
والداعى أنا» ـ.
ـ قال ـ : ثمّ
أركبه جبرئيل البراق وأسرى به إلى بيت المقدّس ، وعرض عليه محاريب الأنبياء وآيات
الأنبياء ، فصلّى وردّه من ليلته إلى مكّة ؛ فمرّ في رجوعه بعير لقريش ...».
ـ إلى آخر الحديث
بأدنى تفاوت في اللفظ ـ.
* * *
__________________
وبإسناد العامّة قال :
«بينما أنا في
الحطيم ـ وربّما قال : في الحجر ـ إذ أتاني آت فشقّ ما بين هذه إلى هذه» يعني من
ثغرة نحره إلى سرّته ـ قال ـ : «فاستخرج قلبي ، ثمّ أتى بطست من ذهب مملوّا إيمانا
فغسل قلبي ، ثمّ حشي ، ثمّ اعيد ، ثمّ اتيت بدابّة دون البغل وفوق الحمار أبيض يضع
حافره عند أقصى طرفه ...».
ـ إلى آخر الحديث
بأسانيدهم المتكثرة ، وألفاظهم المختلفة ـ .
وفى رواية أنّه
لمّا فرغ من بيت المقدّس أتى بالمعراج ، قال : «ولم أر شيئا قطّ أحسن منه ،
فأصعدنى فيه ...» ـ الحديث ـ .
وليس في رواياتهم
زيادة على ما مرّ ، وسيأتي بطريق أهل البيت عليهمالسلام ما له كثير فائدة.
__________________
فصل [٢]
[وصف المعراج في حديث تفسير القمي]
روى عليّ بن
إبراهيم ـ رحمهالله ـ في تفسيره ، عن أبيه ، عن محمّد بن أبي عمير ، عن هشام بن سالم ، عن
أبي عبد الله عليهالسلام قال :
جاء جبرئيل
وميكائيل وإسرافيل بالبراق إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فأخذ واحد باللجام ، وواحد بالركاب ، وسوّى الآخر عليه
ثيابه ، فتضعضعت البراق ، فلطمها جبرئيل ثمّ قال : «اسكني ـ يا براق ـ فما ركبك
نبيّ قبله ولا يركبك بعده مثله» ـ».
ـ قال : ـ «فرقت
به ورفعته ارتفاعا ليس بالكثير ، ومعه جبرئيل يريه الآيات من السماء والأرض.
ـ قال : ـ فبينا
أنا في مسيرتي إذ نادى مناد عن يميني : «يا محمّد» ، فلم أجبه ولم ألتفت إليه ،
ثمّ نادى مناد عن يساري : «يا محمّد» ، فلم أجبه ولم ألتفت إليه ؛ ثمّ استقبلني
امرأة كاشفة عن ذراعيها ، عليها من كلّ زينة الدنيا ، فقالت : «يا محمّد أتنظرني
حتّى اكلّمك»؟ فلم ألتفت إليها. ثمّ سرت فسمعت صوتا أفزعني فجاوبه .
__________________
فنزل بي جبرئيل
فقال : «صلّ» ؛ فصلّيت ، فقال : «تدري أين صلّيت»؟ فقلت : «لا». فقال : «صلّيت
بطيّبة ، وإليها مهاجرتك».
ثمّ ركبت ، فمضينا
ما شاء الله ؛ ثمّ قال لي : «انزل فصلّ» ، فنزلت وصلّيت ،
فقال لي : «أتدري
أين صلّيت»؟ فقلت : «لا».
فقال : «صلّيت
بطور سيناء ، حيث كلّم الله موسى تكليما».
ثمّ ركبت ، فمضينا
ما شاء الله ، ثمّ قال لي : «انزل فصلّ» ، فنزلت وصلّيت.
فقال لي : «أتدري
أين صلّيت»؟ فقلت : «لا».
قال : «صلّيت ببيت
لحم» ـ وبيت لحم بناحية بيت المقدّس حيث ولد عيسى بن مريم صلى الله عليه ـ.
ثمّ ركبت ، فمضينا
حيث انتهينا إلى بيت المقدّس فربطت البراق بالحلقة التي كانت الأنبياء يربطون بها
، فدخلت المسجد ، ومعي جبرئيل إلى جنبي ، فوجدنا إبراهيم وموسى وعيسى ومن شاء الله
من أنبياء الله ، فقد جمعوا إليّ واقيمت الصلاة ـ ولا أشكّ إلّا وجبرئيل سيتقدّمنا
ـ فلمّا استووا ، أخذ جبرئيل بعضدي فقدّمني ، وأمّمتهم ـ ولا فخر ـ.
ثمّ أتاني الخازن
بثلاثة أوان ـ : إناء فيه لبن ، وإناء فيه ماء ، واناء فيه خمر ـ وسمعت قائلا يقول
: «إن أخذ الماء غرق وغرقت أمّته ، وإن
__________________
أخذ الخمر غوي
وغوت أمّته ، وإن أخذ اللبن هدي وهديت أمّته» ـ
ـ قال : ـ فأخذت اللبن وشربت منه ، فقال
لي جبرئيل : «هديت ، وهديت أمّتك».
ثمّ قال لي : «ما
ذا رأيت في مسيرك»؟
فقلت : «ناداني
مناد عن يميني».
فقال لي : «أو
أجبته»؟
فقلت : «لا ، ولم
ألتفت إليه».
فقال : «ذلك داعي
اليهود ، ولو أجبته لتهوّدت أمّتك من بعدك».
ثمّ قال : «ما ذا
رأيت»؟
فقلت : «ناداني
مناد عن يساري».
فقال لي : «أو
أجبته»؟
فقلت : «لا ، ولم
ألتفت إليه».
فقال : «ذاك داعي
النصارى ، ولو أجبته لتنصّرت أمّتك من بعدك».
ثمّ قال : «ما ذا
استقبلك»؟
فقلت : «لقيت
امرأة كاشفة عن ذراعيها ، عليها من كلّ زينة الدنيا ، فقالت : يا محمّد ـ أتنظرني
حتّى اكلّمك»؟
فقال لي : «أفكلّمتها»؟
فقلت : «لم
اكلّمها ولم ألتفت إليها».
فقال : «تلك
الدنيا ، ولو كلّمتها لاختارت أمّتك الدنيا على الآخرة».
ثمّ سمعت صوتا
أفزعني ، فقال لي جبرئيل : «تسمع ـ يا محمّد»؟
قلت : «نعم».
قال : «هذه صخرة
قذفتها على شفير جهنّم منذ سبعين عاما ، فهذا حين استقرّت».
ـ قالوا : فما ضحك
رسول الله صلىاللهعليهوآله حتّى قبض ـ.
* * *
قال : فصعد جبرئيل
، وصعدت معه إلى السماء الدنيا ، وعليها ملك يقال له إسماعيل ـ وهو صاحب الخطفة
التي قال الله عزوجل : (إِلَّا مَنْ خَطِفَ
الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) [٣٧ / ١٠] وتحته
سبعون ألف ملك ، تحت كلّ ملك سبعون ألف ملك ـ فقال : «يا جبرئيل ـ من هذا معك»؟
فقال : «محمّد».
قال : «وقد بعث»؟
قال : «نعم».
ثمّ فتح الباب
فسلّمت عليه وسلّم عليّ ، واستغفرت له واستغفر لي ، وقال : «مرحبا بالأخ الصالح ،
والنبيّ الصالح».
وتلقّتني الملائكة
حتّى دخلت سماء الدنيا ، فما لقيني ملك إلّا ضاحك مستبشر ، حتّى لقيني ملك من
الملائكة لم أر أعظم خلقا منه ـ كريه المنظر ، ظاهر الغضب ـ فقال لي مثل ما قالوا
من الدعاء ، إلّا أنّه لم يضحك ولم أر فيه [من] الاستبشار ممّا رأيت ممّن ضحك من الملائكة. فقلت : «من هذا
ـ يا جبرئيل؟ فإنّي قد فزعت منه».
فقال : «يجوز أن
تفزع منه ، فكلّنا نفزع منه ، إنّ هذا مالك خازن النار ، لم يضحك قطّ ، ولم يزل
منذ ولّاه الله جهنّم ، يزداد كلّ يوم غضبا وغيضا على أعداء الله وأهل معصيته ،
فينتقم الله به منهم ، ولو ضحك إلى
__________________
أحد كان قبلك ، أو
كان ضاحكا إلى أحد بعدك ، لضحك إليك ، ولكنّه لا يضحك ، فسلّمت عليه ، فردّ السلام
عليّ وبشّرني بالجنّة».
فقلت لجبرئيل ـ وجبرئيل
بالمكان الذي وضعه الله : مطاع ثمّ أمين ـ : «ألا تأمره أن يريني النار»؟ فقال له
جبرئيل : «يا مالك ـ أر محمّدا النار». فكشف عنها غطاء ، وفتح بابا منها ؛ فخرج
منها لهب ساطع في السماء ، وفارت وارتفعت ، حتّى ظننت ليتنا ولني ممّا رأيت. فقلت
: «يا جبرئيل ـ قل له فليردّ عليها غطائها». فأمرها ، فقال : «ارجعي». فرجعت إلى
مكانها الذي خرجت منه.
* * *
ثمّ مضيت ، فرأيت
رجلا آدم جسيما فقلت : «من هذا يا جبرئيل»؟
فقال : «هذا أبوك
آدم». فإذا هو يعرض عليه ذريّته فيقول : «ريح طيّبة من جسد طيّب». ثمّ تلا رسول
الله صلىاللهعليهوآله سورة المطفّفين على رأس سبع عشرة آية : (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي
عِلِّيِّينَ* وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ* كِتابٌ مَرْقُومٌ* يَشْهَدُهُ
الْمُقَرَّبُونَ) [٨٣ / ١٨ ـ ٢١]
إلى آخرها.
ـ قال : ـ فسلّمت
على أبي آدم ، وسلّم عليّ ، واستغفرت له واستغفر لي وقال : «مرحبا بالابن الصالح ،
والنبيّ الصالح ، والمبعوث في الزمن الصالح». ثم مررت بملك من الملائكة جالس على
مجلس ، وإذا جميع الدنيا بين ركبتيه ، وإذا بيده لوح من نور ينظر فيه ، مكتوب فيه
كتابا ينظر فيه ، لا يلتفت يمينا ولا شمالا إلّا مقبلا عليه به كهيئة الحزين. فقلت : «من هذا ـ يا جبرئيل»؟
__________________
فقال : «هذا ملك
الموت ، دائب فى قبض الأرواح».
فقلت : «يا جبرئيل
ـ ادنني منه. فأدناني منه فسلّمت عليه». وقال له جبرئيل : «هذا نبيّ الرحمة ، الذي
أرسله الله إلى العباد». فرحّب بي ، وحيّاني بالسلام ، وقال : «ابشر ـ يا محمّد ـ فإنّي
أرى الخير كلّه في أمّتك».
فقلت : «الحمد لله
المنّان ، ذي النعم على عباده ، ذلك من فضل ربّي ورحمته عليّ».
فقال جبرئيل : «هو
أشدّ الملائكة عملا».
فقلت : «أكلّ من
مات أو هو ميّت فيما بعد ، هذا تقبض روحه»؟
فقال : «نعم».
قلت : «وتراهم حيث
كانوا ، وتشهدهم بنفسك»؟
فقال : «نعم». ـ فقال
ملك الموت : ـ «ما الدنيا كلّها عندي فيما سخّرها الله لي ومكّنني عليها إلّا
كالدرهم في كفّ الرجل ـ يقلّبه كيف يشاء ـ وما من دار إلّا وأنا اتصفّحه كلّ يوم
خمس مرّات ، وأقول إذا بكى أهل الميّت على ميّتهم : لا تبكوا عليه ، فإنّ لي فيكم
عودة وعودة ، حتّى لا يبقى منكم أحد».
فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : «كفى بالموت طامّة ـ يا جبرئيل».
فقال جبرئيل : «إنّ
ما بعد الموت أطمّ ، وأطمّ من الموت».
* * *
قال : ثمّ مضيت ،
فإذا أنا بقوم بين أيديهم موائد من لحم طيّب ، ولحم خبيث ، يأكلون اللحم الخبيث
ويدعون الطيّب. فقلت : «من هؤلاء ـ يا جبرئيل»؟
فقال : «هؤلاء
الذين يأكلون الحرام ، ويدعون الحلال ، وهم من أمّتك ـ يا محمّد».
فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : «ثمّ رأيت ملكا من الملائكة جعل الله أمره عجبا : نصف
جسده النار ، ونصفه الآخر ثلجا ـ فلا النار تذيب الثلج ولا الثلج يطفئ النار ـ وهو
ينادي بصوت رفيع ويقول : «سبحان الذي كفّ حرّ هذه النار ، فلا تذيب الثلج ، وكفّ
برد هذا الثلج ، فلا يطفئ حرّ هذه النار ، اللهم مؤلّف بين الثلج والنار ، ألّف
بين قلوب عبادك المؤمنين». فقلت : «من هذا ـ يا جبرئيل»؟
فقال : «هذا ملك
وكّله الله بأكناف السماء وأطراف الأرضين ، وهو أنصح ملائكة الله لأهل الأرضين من
عباده المؤمنين ، يدعو لهم بما تسمع منذ خلق».
وملكان يناديان في
السماء ، أحدهما يقول : «اللهم اعط كلّ منفق خلفا» ، والآخر يقول : «اللهم اعط كلّ
ممسك تلفا».
* * *
ثمّ مضيت ، فإذا
أنا بأقوام لهم مشافر كمشفر الإبل ، يقرض اللحم من جنوبهم ويلقى في أفواههم. فقلت : «من
هؤلاء ـ يا جبرئيل»؟
فقال : «هؤلاء الهمّازون
اللمّازون».
ثمّ مضيت ، فإذا
أنا بأقوام ترضخ رءوسهم بالصخر ، فقلت : «من هؤلاء ـ يا جبرئيل»؟
__________________
فقال : «هؤلاء
الذين ينامون عن صلاة العشاء».
ثمّ مضيت ، فإذا
أنا بأقوام تقذف النار في أفواههم وتخرج من أدبارهم. فقلت : «من هؤلاء ـ يا جبرئيل»؟
قال : «هؤلاء (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ
الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ
سَعِيراً)» [٤ / ١٠].
ثمّ مضيت ، فإذا
أنا بأقوام يريد أحدهم أن يقوم ، فلا يقدر من عظم بطنه. فقلت : «من هؤلاء ـ يا
جبرئيل»؟
قال : «هؤلاء (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا
يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ) [٢ / ٢٧٥] ، وإذا
هم بسبيل آل فرعون يعرضون على النار غدوّا وعشيّا ، يقولون : «ربّنا متى تقيم
الساعة»؟
قال : «ثمّ مضيت ،
فإذا أنا بنسوان معلّقات بثديهنّ». فقلت : «من هؤلاء ـ يا جبرئيل»؟
فقال : «هؤلاء
اللواتي يورثن أموال أزواجهنّ أولاد غيرهم».
ثمّ قال رسول الله
صلىاللهعليهوآله : «اشتدّ غضب الله على امرأة أدخلت على قوم في نسبهم من
ليس منهم ، فاطّلع على عوراتهم ، وأكل خزائنهم».
قال : «ثمّ مررنا
بملائكة من ملائكة الله ـ عزوجل ـ خلقهم الله كيف شاء ، ووضع وجوههم كيف شاء ؛ ليس شيء من
أطباق أجسادهم إلّا وهو يسبّح الله ويحمده من كلّ ناحية بأصوات مختلفة ؛ أصواتهم
مرتفعة بالتحميد والبكاء من خشية الله. فسألت جبرئيل عنهم.
فقال : «كما ترى
خلقوا ، إنّ الملك منهم إلى جنب صاحبه ، ما كلّمه قطّ ، ولا رفعوا رءوسهم إلى ما
فوقها ولا خفضوها إلى ما تحتها خوفا لله
وخشوعا». فسلّمت
عليهم ، فردّوا عليّ إيماء برءوسهم لا ينظرون إليّ من الخشوع».
فقال لهم جبرئيل :
«هذا محمّد نبيّ الرحمة ، أرسله الله إلى العباد رسولا ونبيّا ، وهو خاتم النبوّة
وسيّدهم ، أفلا تكلّموه»؟
ـ قال : ـ فلمّا
سمعوا ذلك من جبرئيل ، أقبلوا عليّ بالسلام ، وأكرموني وبشّروني بالخير لي
ولامّتي.
* * *
قال ثمّ صعدنا إلى
السماء الثانية ، فاذا فيها رجلان متشابهان ؛ فقلت : «من هذان ـ يا جبرئيل»؟
قال : «ابنا
الخالة : يحيى وعيسى عليهماالسلام ـ فسلّمت عليهما وسلّما عليّ ، واستغفرت لهما واستغفرا لي
، وقالا : «مرحبا بالأخ الصالح والنبيّ الصالح». وإذا فيها من الملائكة وعليهم
الخشوع ، قد وضع الله وجوههم كيف شاء ، ليس منهم ملك إلّا يسبّح الله ويحمده
بأصوات مختلفة».
* * *
ثمّ صعدنا إلى
السماء الثالثة ، فإذا فيها رجل فضل حسنه على سائر الخلق كفضل قمر ليلة البدر على
سائر النجوم. فقلت : «من هذا ـ يا جبرئيل»؟
فقال : «هذا أخوك
يوسف».
فسلّمت عليه وسلّم
عليّ ، واستغفرت له واستغفر لي ، وقال : «مرحبا بالنبيّ الصالح والأخ الصالح
والمبعوث في الزمن الصالح».
وإذا فيها ملائكة
عليهم من الخشوع مثل ما وصفت في السماء الاولى والثانية ، وقال لهم جبرئيل في أمرى
ما قال للآخرين وصنعوا فيّ مثل ما صنع الآخرون.
* * *
ثمّ صعدنا إلى
السماء الرابعة ، وإذا فيها رجل ، فقلت : «من هذا ـ يا جبرئيل»؟
فقال : «هذا إدريس
، رفعه الله مكانا عليّا». فسلّمت عليه وسلّم عليّ ، واستغفرت له واستغفر لي.
وإذا فيها من
الملائكة الخشوع مثل ما في السماوات ، فبشّروني بالخير لي ولامّتي.
ثمّ رأيت ملكا
جالسا على سرير ، تحت يده سبعون ألف ملك ، تحت كل ملك سبعون ألف ملك ـ
ـ فوقع في نفس
رسول الله صلىاللهعليهوآله أنّه هو ـ فصاح به جبرئيل ، فقال : «قم» ، فهو قائم إلى يوم
القيامة.
* * *
ثمّ صعدنا إلى
السماء الخامسة ، فإذا فيها رجل كهل عظيم العين ، لم أر كهلا أعظم منه ، حوله ثلّة
من أمّته ، فأعجبنى كثرتهم ؛ فقلت : «من هذا يا جبرئيل»؟
__________________
فقال : «هذا
المجيب لقومه هارون بن عمران» ، فسلّمت عليه وسلّم عليّ ، واستغفرت له واستغفر لي.
وإذا فيها من الملائكة الخشوع مثل ما في السماوات.
* * *
ثمّ صعدنا إلى
السماء السادسة ، وإذا فيها رجل آدم طويل. كأنّه من سمّرة لو أنّ عليه قميصين لنفذ شعره فيهما ، وسمعت يقول : «يزعم
بنو إسرائيل أنّي أكرم ولد آدم على الله ، وهذا رجل أكرم على الله منّي». فقلت : «من
هذا ـ يا جبرئيل»؟
فقال : «أخوك موسى
بن عمران». فسلّمت عليه وسلّم عليّ ، واستغفرت له واستغفر لي. وإذا فيها من
الملائكة الخشوع مثل ما في السماوات».
* * *
قال : «ثمّ صعدنا
إلى السماء السابعة ، فما مررت بملك من الملائكة إلّا قالوا : «يا محمّد احتجم ،
وأمر أمّتك بالحجامة».
وإذا فيها رجل
أشمط الرأس واللحية جالس على كرسيّ ، فقلت : «يا جبرئيل ـ من هذا الذي في السماء
السابعة على باب البيت المعمور في جوار الله»؟
فقال : «هذا ـ يا
محمّد أبوك إبراهيم ، وهذا محلّك ومحلّ من اتّقى من أمّتك» ـ ثمّ قرأ رسول الله صلىاللهعليهوآله : (إِنَّ أَوْلَى
النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ
آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) [٣ / ٦٨]. ـ
__________________
فسلّمت عليه وسلّم
عليّ وقال : «مرحبا بالنبيّ الصالح ، والابن الصالح ، والمبعوث في الزمن الصالح».
وإذا فيها من
الملائكة الخشوع مثل ما في السماوات ، فبشّروني بالخير لي ولامّتي».
قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : «ورأيت في السماء السابعة بحارا من نور يتلألأ ، يكاد
تلألؤها يخطف بالأبصار ، وفيها بحار مظلمة ، وبحار ثلج ترعد ، فلمّا فزعت ورأيت هؤلاء سألت جبرئيل؟ فقال : «ابشر ـ يا محمّد ـ واشكر
كرامة ربّك ، واشكر الله ما صنع إليك».
ـ قال : ـ فثبّتني
الله بقوّته وعونه ، حتّى كثر قولي لجبرئيل وتعجّبي. فقال جبرئيل : «يا محمّد ـ تعظّم
ما ترى؟ إنّما هذا خلق من خلق ربّك ، فكيف بالخالق الذي خلق ما ترى ، وما لا ترى
أعظم من هذا من خلق ربّك ، إنّ بين الله وبين خلقه تسعين ألف حجاب ، وأقرب الخلق
إلى الله أنا وإسرافيل ، وبيننا وبينه أربعة حجب : حجاب من نور ، وحجاب من ظلمة ،
وحجاب من الغمام ، وحجاب من ماء».
ـ قال : ـ «ورأيت
من العجائب ـ الذي خلق الله وسخّر على ما أراده ـ ديكا رجلاه في تخوم الأرضين
السابعة ، ورأسه عند العرش ، وملكا في ملائكة الله تعالى خلقه الله كما أراد ،
رجلاه في تخوم الأرضين السابعة ، ثمّ أقبل مصعّدا حتّى خرج في الهواء إلى السماء
السابعة ، وانتهى فيها مصعّدا حتّى انتهى قرنه إلى قرب العرش ، وهو يقول : «سبحان
ربّي حيث ما كنت ، لا تدري أين ربّك من عظم شأنه».
__________________
وله جناحان في منكبيه إذا نشرهما جاوز المشرق والمغرب ، فإذا
كان في السحر نشر جناحيه وخفق بهما وصرخ بالتسبيح ـ يقول : «سبحان الله الملك القدّوس
، سبحان الله الكبير المتعال ، لا إله إلّا الله الحيّ القيّوم».
وإذا قال ذلك
سبّحت ديك الأرض كلّها وخفقت بأجنحتها وأخذت بالصراخ ، وإذا سكت ذلك الديك فى
السماء سكت ديك الأرض كلّها ؛ ولذلك الديك زغب أخضر وريش أبيض كأشد بياض رأيته قطّ
، وله زغيب أخضر ـ أيضا ـ تحت الريش الأبيض كأشدّ خضرة رأيتها قطّ».
* * *
ـ قال : ـ «ثمّ
مضيت مع جبرئيل فدخلت البيت المعمور ، فصلّيت فيها ركعتين ومعي اناس من أصحابي ،
عليهم ثياب جدد ، وآخرين عليهم ثياب خلقان ، فدخل أصحاب الجدد وحبس أصحاب الخلقان.
ثمّ خرجت فانقاد لي نهران : نهر تسمّى الكوثر ، ونهر تسمّى الرحمة.
فشربت من الكوثر ،
واغتسلت من الرحمة ، ثمّ انقادا لي جميعا حتّى دخلت الجنّة ، وإذا على حافتيها
بيوتي وبيوت أزواجي ، وإذا ترابها كالمسك ، وإذا جارية تنغمس فى أنهار الجنّة ـ فقلت
: «لمن أنت ـ يا جارية»؟
فقالت : «لزيد بن
حارثة» ، فبشّرته بها حين أصبحت.
__________________
وإذا بطيرها
كالبخت ، وإذا رمّانها مثل الدليّ العظام ، وإذا شجرة لو أرسل طائر في أصلها ما دارها سبعمائة سنة ،
وليس في الجنّة منزل إلّا وفيها قتر منها.
فقلت : «ما هذه ـ يا
جبرئيل»؟
فقال : «هذه شجرة
طوبى» قال الله : (طُوبى لَهُمْ
وَحُسْنُ مَآبٍ) [١٣ / ٢٩].
قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : «فلمّا دخلت الجنّة رجعت إلى نفسي ، فسألت جبرئيل عن تلك
البحار وهولها وأعاجيبها. فقال : «هو سرادقات الحجب ، التي احتجب الله ـ تبارك
وتعالى ـ بها ، ولو لا تلك الحجب لتهتك نور العرش وكلّ شيء فيه».
* * *
وانتهيت إلى سدرة
المنتهى ، فإذا الورقة منها تظل أمّة من الامم ، فكنت منها كما قال الله ـ تعالى ـ
: (قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ
أَدْنى) [٥٣ / ٩]. فناداني
ربّي تبارك وتعالى : (آمَنَ الرَّسُولُ
بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) ، فقلت أنا مجيب عنّي وعن أمّتي : (وَالْمُؤْمِنُونَ
كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ
أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) فقلت (سَمِعْنا وَأَطَعْنا
غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ). فقال الله : (لا يُكَلِّفُ اللهُ
نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ). فقلت : (رَبَّنا لا
__________________
تُؤاخِذْنا
إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا). فقال الله : «لا أؤاخذك». فقلت : (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً
كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا). فقال الله : «لا أحملك». فقلت : (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ
لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا
عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) [٢ / ٢٨٦].
فقال الله ـ تبارك
وتعالى ـ : «قد أعطيتك ذلك لك ولامّتك».
ـ فقال الصادق عليهالسلام : «ما وفد إلى الله ـ تعالى وتبارك ـ أحد أكرم من رسول
الله حين سأله لامّته هذه الخصال» ـ.
فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : «يا ربّ ـ أعطيت أنبيائك فضائل ، فاعطني».
فقال الله : «وقد
أعطيتك ـ فيما أعطيتك ـ كلمتين من تحت عرشي : لا حول ولا قوّة إلّا بالله ، ولا
منجئ منك إلّا إليك».
قال : «وعلّمتني
الملائكة قولا أقوله إذا أصبحت وأمسيت : «اللهم إنّ ظلمي أصبح مستجيرا بعفوك ،
وذنبي مستجيرا بمغفرتك ، وذلّي مستجيرا بعزّتك ، وفقرى أصبح مستجيرا بغناك ، ووجهي
البالي أصبح مستجيرا بوجهك الباقي الذي لا يفنى». وأقول ذلك إذا أمسيت».
* * *
ثمّ سمعت الأذان ،
فإذا ملك يؤذّن لم ير في السماء قبل تلك الليلة.
فقال : «الله أكبر
، الله أكبر».
فقال الله : «صدق
عبدي ، أنا أكبر».
فقال : «أشهد أن
لا إله إلّا الله ، أشهد أن لا إله إلّا الله».
فقال الله : «صدق
عبدي ، أنا الله لا إله غيري».
فقال : «أشهد أنّ
محمّدا رسول الله ، أشهد أنّ محمّدا رسول الله».
فقال الله : «صدق
عبدي ، إنّ محمّدا عبدي ورسولي ، أنا بعثته وانتجبته».
فقال : «حيّ على
الصلاة».
فقال الله : «صدق
عبدي ، دعا إلى فريضتي ، فمن مشى إليها راغبا فيها محتسبا ، كانت كفّارة لما مضى
من ذنوبه».
فقال : «حيّ على الفلاح».
فقال الله : «هي
الصلاح والنجاح والفلاح».
ثمّ أمّمت
الملائكة في السماء ، كما أمّمت الأنبياء في بيت المقدّس».
* * *
قال : «ثمّ غشيتني
صبابة ، فخررت ساجدا ، فناداني ربّي : «إنّي قد فرضت على كلّ نبيّ كان قبلك خمسين
صلاة ، وفرضتها عليك وعلى أمّتك ، فقم بها أنت في أمّتك». ـ فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : ـ «فانحدرت حتّى مررت على إبراهيم ، فلم يسألنى عن شيء
حتّى انتهيت إلى موسى ، فقال : «ما صنعت ـ يا محمّد»؟
فقلت : «قال ربّي
: فرضت على كلّ نبيّ كان قبلك خمسين صلاة ، وفرضتها عليك وعلى أمّتك».
فقال موسى : «يا
محمّد ـ إنّ أمّتك آخر الامم وأضعفها ، وإنّ ربّك لا يردّه شيء ، وإنّ أمّتك لا
تستطيع أن تقوم بها ؛ فارجع إلى ربّك ، فسله التخفيف لامّتك».
فرجعت إلى ربّى
حتّى انتهيت إلى سدرة المنتهى ، فخررت ساجدا
ثمّ قلت : «فرضت
عليّ وعلى أمّتي خمسين صلاة ، ولا اطيق ذلك ولا أمّتي ؛ فخفّف عنّي». فوضع عنّي
عشرا ؛ فرجعت إلى موسى فأخبرته. فقال : «ارجع لا تطيق».
فرجعت إلى ربّي
فوضع عنّي عشرا.
فرجعت إلى موسى
فاخبرته ، فقال : «ارجع».
وفي كلّ رجعة أرجع
إليه أخرّ ساجدا ، حتّى رجع إلى عشر صلوات. فرجعت إلى موسى وأخبرته ، فقال : «لا
تطيق ارجع» ؛ فرجعت إلى ربّي فوضع عنّي خمسا ؛ فرجعت إلى موسى وأخبرته ، فقال : «لا
تطيق».
فقلت : «قد
استحييت من ربّي ولكن أصبر عليها» .
فناداني مناد : «كما
صبرت عليها ، فهذه الخمس بخمسين ، كلّ صلاة بعشر ، ومن همّ من أمّتك بحسنة يعملها
ـ فعملها ـ كتبت له عشرا ، وإن لم يعمل كتبت له واحدة. ومن همّ من أمّتك بسيّئة
فعملها ، كتبت عليه واحدة ، وإن لم يعملها لم أكتب عليه».
ـ فقال الصادق عليهالسلام : «جزى الله موسى عن هذه الامّة خيرا».
* * *
__________________
فصل [٣]
[تعليم الصلاة في المعراج]
وروى ثقة الإسلام
محمّد بن يعقوب الكليني ـ رحمهالله ـ في الكافي عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن ابن
اذينة ، عن أبي عبد الله عليهالسلام ـ قال ـ :
قال : «ما تروي
هذه الناصبة»؟
فقلت : «جعلت فداك
ـ في ما ذا»؟
فقال : «في أذانهم
وركوعهم وسجودهم».
فقلت : «إنّهم
يقولون : إنّ ابيّ بن كعب رآه في النوم».
فقال : «كذبوا ،
فإنّ دين الله أعزّ من أن يرى في النوم».
ـ قال ـ : «فقال
له سدير الصيرفي : «جعلت فداك ـ فأحدث لنا من ذلك ذكرا».
فقال أبو عبد الله
عليهالسلام : «إنّ الله ـ تعالى ـ لمّا عرّج بنبيّه صلىاللهعليهوآله إلى سماواته السبع ، أمّا أولادهنّ : فبارك عليه ،
والثانية : علّمه فرضه. فأنزل الله محملا من نور فيه أربعون نوعا من أنواع النور ،
كانت محدقة بعرش الله تغشي أبصار الناظرين.
__________________
أمّا واحد منها
فأصفر ـ فمن أجل ذلك اصفرّت الصفرة ، وواحد منها أحمر ـ فمن أجل ذلك احمرّت الحمرة
ـ وواحد منها أبيض ـ فمن أجل ذلك ابيضّ البياض ، والباقي على عدد سائر الخلق من
النور. فالألوان في ذلك المحمل حلق وسلاسل من فضّة.
ثمّ عرج به إلى
السماء ، فنفرت الملائكة إلى أطراف السماء وخرّت سجّدا وقالت : «سبّوح قدّوس ، ما
أشبه هذا النور بنور ربّنا».
فقال جبرئيل : «الله
اكبر ، الله اكبر».
ثمّ فتحت أبواب
السماء واجتمعت الملائكة فسلّمت على النبيّ صلىاللهعليهوآله أفواجا ، وقالت «يا محمّد ـ كيف أخوك؟ إذا نزلت فاقرأه
السلام».
قال النبيّ صلىاللهعليهوآله : «أفتعرفونه»؟
قالوا : «وكيف لا
نعرفه ، وقد أخذ ميثاقك وميثاقه منّا ، وميثاق شيعته إلى يوم القيامة علينا ،
وإنّا لنتصفّح وجوه شيعته كلّ يوم وليلة خمسا ـ يعنون في كلّ وقت صلاة ـ وإنّا
لنصلّي عليك وعليه».
ثمّ زادني ربّي
أربعين نوعا من أنواع النور لا يشبه نور الأوّل ، وزادني حلقا وسلاسل ، وعرج بي
إلى السماء الثانية ، فلمّا قربت من باب السماء الثانية نفرت الملائكة إلى أطراف
السماء وخرّت سجّدا وقالت : «سبّوح قدّوس ربّ الملائكة والروح ، ما أشبه هذا النور
بنور ربّنا».
فقال جبرئيل : «أشهد
أن لا إله إلّا الله ، أشهد أن لا إله إلّا الله».
فاجتمعت الملائكة
وقالت : «يا جبرئيل ـ من هذا معك»؟
قال : «هذا محمّد صلىاللهعليهوآله».
قالوا : «وقد بعث»؟
قال : «نعم».
ـ قال النبيّ صلىاللهعليهوآله ـ فخرجوا إلى شبه المعانيق ، فسلّموا عليّ وقالوا : «أقرئ
أخاك السلام».
قلت : «أتعرفونه»؟
قالوا : «وكيف لا
نعرفه ، وقد اخذ ميثاقك وميثاقه وميثاق شيعته إلى يوم القيامة علينا ، وإنّا
لنتصفّح وجوه شيعته في كلّ يوم وليلة خمسا» ـ يعنون في كلّ وقت الصلاة ـ.
ـ قال : ـ ثمّ
زادني ربّي أربعين نوعا من أنواع النور ـ لا يشبه الأنوار الاول ؛ ثمّ عرج بي إلى
السماء الثالثة ، فنفرت الملائكة وخرّت سجّدا وقالت : «سبّوح قدّوس ، ربّ الملائكة
والروح ، ما هذا النور الذي يشبه نور ربّنا»؟
فقال جبرئيل : «أشهد
أنّ محمّدا رسول الله ، أشهد أنّ محمّدا رسول الله».
فاجتمعت الملائكة
وقالت : «مرحبا بالأوّل ومرحبا بالآخر ، ومرحبا بالحاشر ومرحبا بالناشر ، محمّد
خير النبيّين ، وعليّ خير الوصيّين». ـ قال النبيّ صلىاللهعليهوآله : ـ ثمّ سلّموا عليّ وسألوني عن أخي. فقلت : «هو في الأرض
، أفتعرفونه»؟
فقالوا : «وكيف لا
نعرفه ، وقد نحجّ البيت المعمور كلّ سنة وعليه رقّ أبيض ، فيه اسم محمّد صلىاللهعليهوآله واسم عليّ والحسن
والحسين والأئمّة وشيعتهم إلى يوم القيامة ، وإنّا لنبارك عليهم في كلّ يوم وليلة
خمسا» ـ يعنون به وقت كلّ صلاة ـ ويمسحون رءوسهم بأيديهم.
قال : ثمّ زادني
ربّي أربعين نوعا من أنواع النور لا يشبه تلك الأنوار الاول ، ثمّ عرج بي حتّى
انتهيت إلى السماء الرابعة ؛ فلم تقل الملائكة شيئا ، وسمعت دويّا كأنّه في الصدور
، فاجتمعت الملائكة وفتحت أبواب السماء ، وخرجت إلى شبه المعانيق.
فقال جبرئيل عليهالسلام : «حيّ على الصلاة ، حيّ على الصلاة ؛ حيّ على الفلاح ،
حيّ على الفلاح».
فقالت الملائكة : «صوتان
مقرونان معروفان».
فقال جبرئيل عليهالسلام : «قد قامت الصلاة ، قد قامت الصلاة».
فقالت الملائكة : «هي
لشيعته إلى يوم القيامة».
ثمّ اجتمعت
الملائكة وقالت : «كيف تركت أخاك»؟
فقلت لهم : «وتعرفونه»؟
قالوا : «نعرفه
وشيعته وهم نور حول عرش الله ، وإنّ في البيت المعمور لرقّا من نور فيه كتاب من
نور ، فيه اسم محمّد وعليّ والحسن والحسين والأئمّة ـ صلوات الله عليهم ـ وشيعتهم
إلى يوم القيامة ، لا يزيد منهم رجل ، ولا ينقص منهم رجل ، وإنّه لميثاقنا ، وإنّه ليقرأ علينا
كلّ يوم جمعة».
* * *
ثمّ قيل لي : «ارفع
رأسك ـ يا محمّد» ، فرفعت رأسي ، فإذا أطباق السماء قد خرقت ، والحجب قد رفعت ؛
ثمّ قال لي : «طأطأ رأسك ،
__________________
انظر ما ذا ترى» ؛
فطأطأت رأسي فنظرت إلى بيت مثل بيتكم هذا ، وحرم مثل حرم هذا البيت ، لو القيت
شيئا من يدي لم يقع إلّا عليه. فقيل لي : «يا محمّد ـ هذا الحرم ، وأنت الحرام ،
ولكلّ مثل مثال».
ثمّ أوحى الله
إليّ : «يا محمّد ـ ادن من صاد ، فاغسل مساجدك وطهّرها ، وصلّ لربّك».
فدنى رسول الله صلىاللهعليهوآله من صاد ـ وهو ماء يسيل من ساق العرش الأيمن ، فتلقّى رسول
الله صلىاللهعليهوآله الماء بيده اليمنى ؛ فمن أجل ذلك صار الوضوء باليمين.
ثمّ أوحى الله
إليه أن «أغسل وجهك ، فإنّك تنظر إلى عظمتي ، ثمّ اغسل ذراعيك اليمنى واليسرى ،
فإنّك تلقي بيديك كلامي ـ ثمّ امسح رأسك بفضل ما بقي في يديك ـ من الماء ـ ورجليك
إلى كعبيك ، فإنّي ابارك عليك واوطئك موطئا لم يطأه أحد غيرك».
ـ فهذا علّة
الأذان والوضوء. ـ
ثمّ أوحى الله ـ تعالى
ـ إليه : «يا محمّد ـ استقبل الحجر الأسود ، وكبّرني على عدد حجبي» فمن أجل ذلك
صار التكبير سبعا ، لأنّ الحجب سبع ـ فافتتح عند انقطاع الحجب ، فمن أجل ذلك صار
الافتتاح سنّة ، والحجب متطابقة بينهنّ بحار النور ، وذلك النور النور الذي أنزله
الله ـ تعالى ـ على محمّد صلىاللهعليهوآله ، فمن أجل ذلك صار الافتتاح ثلاث مرّات لافتتاح الحجب ثلاث
مرّات ، فصار التكبير سبعا والافتتاح ثلاثا.
فلمّا فرغ من
التكبير والافتتاح ، أوحى الله إليه : «سمّ باسمي» ـ فمن أجل ذلك جعل (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) في أوّل السورة ـ.
ثمّ أوحى الله
إليه أن «أحمدني» ، فلمّا قال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعالَمِينَ) ، قال النبيّ صلىاللهعليهوآله في نفسه : «شكرا». فأوحى الله إليه : «قطعت حمدي ، فسمّ
باسمي» فمن أجل ذلك جعل في الحمد (الرَّحْمنِ
الرَّحِيمِ) مرّتين ؛ فلمّا بلغ : (وَلَا الضَّالِّينَ) ، قال النبيّ صلىاللهعليهوآله : «الحمد لله ربّ العالمين شكرا».
فأوحى الله إليه :
«قطعت ذكري ، فسمّ باسمي» ـ فمن أجل ذلك جعل (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ
الرَّحِيمِ) [في أول السورة] ؛ ثمّ أوحي الله إليه : «اقرأ ـ يا محمّد ـ نسبة ربّك : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ* اللهُ
الصَّمَدُ* لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ* وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) .
ثمّ امسك عنه
الوحي ، فقال رسول الله : «كذلك الله ، كذلك الله ربّنا» ، فلمّا قال ذلك ، أوحى
الله إليه : «اركع لربّك ـ يا محمّد». فركع ؛ فأوحى الله إليه وهو راكع ، قل : «سبحان
ربّي العظيم». ففعل ذلك ثلاثا.
ثمّ أوحى الله
إليه أن «ارفع رأسك ـ يا محمّد». ففعل رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فقام منتصبا. فأوحى الله ـ عزوجل ـ إليه : «أن اسجد لربّك ـ يا محمّد». فخرّ رسول الله
ساجدا. فأوحى الله ـ عزوجل ـ إليه ، قل : «سبحان ربّي الأعلى». ففعل ذلك ثلاثا.
ثمّ أوحى الله
إليه : «استو جالسا ـ يا محمّد». ففعل ؛ فلمّا رفع رأسه من سجوده واستوى جالسا ،
نظر إلى عظمة تجلّت له ، فخرّ
__________________
ساجدا من تلقاء
نفسه ـ لا لأمر امر به ـ فسبّح أيضا ثلاثا.
فأوحى الله إليه
انتصب قائما. ففعل فلم ير ما كان رأى من العظمة ، فمن أجل ذلك صارت الصلاة ركعة
وسجدتين.
ثمّ أوحى الله ـ تعالى
ـ إليه : «اقرأ بالحمد لله» ، فقرأها مثل ما قرأ أوّلا ، ثمّ أوحى الله إليه ،
اقرأ : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي
لَيْلَةِ الْقَدْرِ) ، فإنّها نسبتك ونسبة أهل بيتك إلى يوم القيامة ، وفعل فى
الركوع ما فعل في المرّة الاولى ، ثمّ سجد سجدة واحدة ، فلمّا رفع رأسه تجلّت له
العظمة ، فخرّ ساجدا من تلقاء نفسه ـ لا لأمر امر به ـ فسبّح أيضا.
ثمّ اوحي إليه : «ارفع
رأسك ـ يا محمّد ـ ثبّتك ربّك». فلمّا ذهب ليقوم ، قيل : «يا محمّد ـ اجلس» ، فجلس
؛ فأوحى الله إليه «يا محمّد ـ إذا ما أنعمت عليك فسمّ باسمي» ، فالهم أن قال : «بسم
الله وبالله ، ولا إله إلّا الله ، والأسماء الحسنى كلّها لله». ثمّ أوحى الله
إليه : «يا محمّد ـ صلّ على نفسك وعلى أهل بيتك». فقال : «صلى الله عليّ وعلى أهل
بيتي».
ثمّ التفت ، فإذا
بصفوف من الملائكة والمرسلين والنبيّين ، فقيل : «يا محمّد ـ سلّم عليهم». فقال : «السلام
عليكم ورحمة الله وبركاته». فأوحى الله إليه : «أنا السلام والتحيّة ، والرحمة
والبركات أنت وذريّتك».
ثمّ أوحى الله
إليه : «أن لا تلتفت يسارا» ، فأوّل آية سمعها بعد قل هو الله أحد وإنّا أنزلناه ،
آية : أصحاب اليمين وأصحاب الشمال ـ فمن أجل ذلك كان السلام واحدة تجاه القبلة ،
ومن أجل ذلك كان التكبير في السجود شكرا.
وقوله : «سمع الله
لمن حمده» ، لأنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله سمع ضجّة الملائكة
بالتسبيح والتحميد
والتهليل ـ ومن أجل ذلك قال : «سمع الله لمن حمده» ، ومن أجل ذلك صارت الركعتان
الأوليان كلّما احدث فيهما حدثا كان على صاحبهما إعادتهما.
فهذا الفرض الأوّل
، وهي صلاة الزوال ـ يعني صلاة الظهر ـ.
فصل [٤]
[مثال علي عليهالسلام
في المعراج]
وروى عليّ بن
إبراهيم في تفسيره ، بإسناده عن أبي بردة الأسلمي قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآله يقول لعليّ عليهالسلام : «يا علي ـ إنّ الله أشهدك معي في سبعة مواطن :
«أمّا أوّل ذلك
فليلة اسري بي إلى السماء ، قال لي جبرئيل : «أين أخوك»؟ قلت : «خلّفته ورائي».
قال : «ادع الله فليأتك به». فدعوت الله وإذا مثالك معى ، وإذا الملائكة وقوف صفوف
؛ فقلت : «يا جبرئيل ـ من هؤلاء»؟ قال : «هم الذين يباهيهم الله بك يوم القيامة».
فدنوت ، فنطقت بما كان ويكون إلى يوم القيامة.
__________________
والثاني : حين
اسري بي في المرّة الثانية ، فقال جبرئيل : «أين أخوك»؟ قلت : «خلّفته ورائي». قال
: «ادع الله فليأتك به». فدعوت الله ، فاذا مثالك معي ، فكشط لي عن سبع سماوات
حتّى رأيت سكّانها وعمّارها وموضع كلّ ملك منها.
والثالث : حين
بعثت إلى الجنّ ، فقال لي جبرئيل : «أين أخوك»؟ قلت : «خلّفته ورائي». فقال : «ادع
الله فليأتك به» ؛ فدعوت الله فإذا أنت معي ، فما قلت لهم شيئا إلّا سمعته.
الرابع : خصّصنا
بليلة القدر وليست لأحد غيرنا.
والخامس : دعوت
الله فيك ، وأعطاني فيك كلّ شيء إلّا النبوّة ، فإنّه قال : «خصصتك به وختمتها بك».
والسادس : لمّا
اسري بي إلى السماء جمع الله لي النبيّين فصلّيت بهم ومثالك خلفي.
والسابع : هلاك
الأحزاب بأيدينا».
وهذا الحديث كما
ترى يدلّ على أنّ الإسراء كانت مرّتين موافقا لما ذكره بعض العامّة ، وأنّ مثال
مولانا أمير المؤمنين عليهمالسلام كان معه في جميع الوقائع.
[خاطبني ربي بلغة
عليّ بن أبي طالب]
وروى ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآله ـ واسأل : «بأيّ
__________________
لغة خاطبك ربّك
ليلة المعراج»؟ ـ فقال : «خاطبني بلغة عليّ بن أبي طالب ، فالهمت أن قلت : يا ربّ
خاطبتني أم عليّ»؟
فقال : «يا أحمد ـ
أنا شيء ليس كالأشياء ، ولا اقاس بالناس ، ولا اوصف بالأشياء ، خلقتك من نوري ،
وخلقت عليّا من نورك ، فاطّلعت على سرائر قلبك فلم أجد إلى قلبك أحبّ من عليّ بن
أبي طالب ، فخاطبتك بلسانه كي يطمئنّ قلبك».
ـ كذا في كشف
الغمّة ـ.
فصل [٥]
[وصف البراق وسدرة المنتهى]
قيل في وصف البراق
: إنّها دابّة وجهها كوجه الإنسان ، وآذانها كآذان الفيلة ، وعرفها كعرف
الفرس ، وقوائمها كقوائم البعير ، وذنبها كذنب البقرة.
وقيل : إنّ في
فخذيه جناحين يحفّ بها رجليه ، سمّي ب «البراق» لبريق لونه ، أو لإشراق نوره ، أو
لسرعة ذهابه.
وقيل في سدرة المنتهى
: أنّه ينتهي إليها كلّ أحد من أمّته. وهي
__________________
شجرة يسير الراكب
في ظلّها سبعين عاما ، وأنّ ورقه مثل مظلّة الخلق يغشاها نور ، وغشيها الملائكة ، فذلك قوله
ـ تعالى ـ : (إِذْ يَغْشَى
السِّدْرَةَ ما يَغْشى) [٥٣ / ١٦].
وروى : أنّها من
أصل العرش ، وأنّها على رءوس حملته كأنّ ثمرها القلال ، يغشاها فراش من ذهب ، إذا غشيها من أمر الله ما غشى تغيّرت فما يستطيع أحد من
الخلق أن ينعتها من حسنها.
وقيل : إنّها تحمل
الحلى والحلل والثمار من جميع الألوان لأهل الجنّة ، على كلّ ورقة منها ملك يسبّح
الله تعالى ، لو أنّ ورقة منها وضعت في الأرض لأضاءت لأهل الأرض ، وأنّها هي شجرة
طوبى.
[وصف إبراهيم
وموسى وعيسى عليهمالسلام]
وروي أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآله وصف لأصحابه إبراهيم وموسى وعيسى ، فقال : «أمّا إبراهيم :
فلم أر بصاحبكم أشبه رجلا منه ، ولا صاحبكم أشبه به منه. وأمّا عيسى : فرجل أحمر بين الطويل والقصير ، سبط
__________________
الشعر كأنّه يخرج
من ديماس ، يخال رأسه يقطّر ماء ـ ليس به ماء ـ أشبه رجالكم به عروة بن مسعود
الثقفي ».
واختلف في الإسراء
: هل كان قبل الهجرة بسنة ، أم كان قبل البعثة؟
وهل كان في دار
أمّ هاني ، أم في المسجد ، أم في الأبطح؟
بروحه كان أم
بجسده؟
في اليقظة أو
المنام؟
وهل فقد تلك
الليلة جسده الشريف ، أم لا؟
وأنت يمكنك أن
تعرف الحقّ في الأخيرة ممّا أعطيناك من الاصول في تحقيق النفس الإنسانيّة والأرواح
المتعلقة بها وأحوال المعجزات وغير ذلك.
* * *
__________________
فصل [٦]
قيل : كان في
الإسراء برسول الله صلىاللهعليهوآله بلاء وتمحيص وأمر من الله تعالى في قدرته وسلطانه ، وحكمة
بالغة وعبرة لاولي الألباب ، وهدى ورحمة وثبات لمن آمن وصدّق وكان من أمر الله على
يقين.
فأسرى به كيف شاء
، وكما شاء ، ليريه من عجائب آياته ما أراد ، حتّى عاين ما عاين من غيوبه ، ومكنون
ملكوته ، وسلطانه العظيم ، وقدرته التي يصنع بها ما يريد.
وفي بعض الروايات :
إنّ الله جمع له
الأنبياء في بيت المقدّس ، فيهم إبراهيم وموسى وعيسى ، فصلّى بهم كما أمّ أهل
السماء ، ليتمّ له سيادة أهل السماوات والأرض والشرف عليهم.
وفي رواية :
إنّ الأنبياء
أثنوا على ربّهم ، وإنّ محمّدا أثنى على ربّه ، فقال : «الحمد لله الذي أرسلني
رحمة للعالمين وكافّة للناس ، بشيرا ونذيرا ، وأنزل عليّ القرآن فيه تبيان كلّ شيء
، وجعل أمّتي خير أمّة اخرجت
__________________
للناس ، وجعل
أمّتي أمّة وسطا ، وجعل أمّتي هم الأوّلون وهم الآخرون ، وشرح لي صدري ، ووضع عنّي
وزري ، ورفع لي ذكري ، وجعلني فاتحا وخاتما».
فقال إبراهيم : «بهذا
فضّلكم محمّد» .
وفي رواية : قال الله ـ تعالى ـ له : «سل».
قال : «إنّك
اتّخذت إبراهيم خليلا ، وأعطيت سليمان ملكا عظيما ـ سخّرت له الإنس والجنّ
والشياطين والرياح ، وأعطيته ملكا لا ينبغي لأحد من بعده ـ وعلّمت موسى التوراة ،
وعيسى الإنجيل ، وجعلته يبرئ الأكمه والأبرص ، وأعذته وأمّه من الشيطان الرجيم ،
فلم يكن له عليهما من سبيل».
فقال له ربّه : «قد
اتّخذتك حبيبا ، فهو مكتوب في التوراة : «محمّد حبيب الرحمن» ؛ وأرسلتك للناس
كافّة ، وجعلت أمّتك هم الأولون وهم الآخرون ، وجعلت أمّتك لا تجوز لهم خطبة حتّى
يشهدوا أنّك
__________________
عبدي ورسولي ،
وجعلتك أوّل النبيّين خلقا وآخرهم بعثا ، وأعطيتك سبعا من المثاني لم أعطها نبيّا
قبلك ، وأعطيتك خواتيم سورة البقرة من كنز تحت عرشي ، وجعلتك فاتحا وخاتما».
ـ رواه العامة ـ.
* * *
وقيل ـ في قوله عزوجل : (لَقَدْ رَأى مِنْ
آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) [٥٣ / ١٨] ـ :
إنّه رأى جبرئيل في صورته.
وقيل : رأى رفرفا أخضر
قد سدّ الافق.
وقيل : أراه الله
من غيوبه وأسراره ما لم يطلع عليه نبيّا قبله ، وأوحى إليه فيما أوحى إليه : أنّ
الجنّة محرّمة على الأنبياء حتّى تدخلها أنت ، وعلى الامم حتّى تدخلها أمّتك.
* * *
قيل : إنّ معجزة
الإسراء معجزة عظيمة لا يبلغها معجزة من معجزات سائر الأنبياء ، وإن كان لبعض
الأنبياء معاريج :
فمعراج نوح : في
السفينة حتى طافت في أقطار البرّ وظاهر البحر ، وشاهد امورا من عجائب ذلك.
ومعراج يونس في
بطن الحوت ، وأنّه غاض به إلى الأرض السابعة
__________________
واطّلع على غوامض
من مكنون ذلك ، فهو معراج ـ أيضا ـ وإن كان تدليا بالنسبة إلى خلقتنا ، إذ علم
الله سبحانه به ـ وهو في قرار البحر ـ كعلمه بالنبيّ صلىاللهعليهوآله وهو فوق طباق السماوات السبع ، لأنّه ـ تعالى ـ منزّه عن
الجهات ، وقربه بالزلف والكرامات ، لا بقطع المسافات.
وكذا معراج غيرهما
من الأنبياء.
لكنّ لنبيّنا صلىاللهعليهوآله في معراجه خصائص عظيمة ، وكرامات جليلة ،
ومعارف ربّانيّة ،
ولطائف رحمانيّة ، ومواهب ملكوتيّة ،
وبوارق نورانيّة ،
وطرف حسيّة ، وتحف معنويّة ،
وعلوم قلبيّة ،
وأسرار سريّة ، ودقائق خفيّة ،
وحقائق جليّة ،
ومشاهدات غيبيّة ،
وأخلاق نبويّة ،
وأوصاف زكيّة ،
وترويحات روحانيّة
في حظائر قدسيّة ،
ومقاعد صدقيّة ،
وتقريبات عنديّة ،
من غير كيفيّة ولا
أينيّة ،
فاق بها على سائر
البريّة ،
فاق بها على سائر
البريّة ،
ونال بها السعادات
الأبديّة السرمديّة
ـ صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ
* * *
__________________
|