


القسم الثالث
الکلام فی النبوءة والشريعة
والإمامة ومما يتعلق بذلك من الأمربالمعروف والنهي عن المنكر والأسماء الشرعية
التي تترتب عليها الموالاة والمعاداة وما يتعلق بذلك.
قال عليهالسلام :
«كتاب النبوءة»
النّبوءة وزنها
فعولة ، فإن همزت فهي من الإنباء ، وإن لم تهمز فهي من النّبوّ من نبا المكان إذا
ارتفع.
ومنه قول أوس يرثي
فضالة بن كلدة الأسدي :
على السيّد
الصّعب لو أنّه
|
|
يقوم على ذروة
الصّاقب
|
لأصبح رثما دقاق
الحصى
|
|
مكان النّبيّ من
الكاثب
|
قال : الكاثب جبل
فيه رمل وحوله رواب يقال لها : النّبيّ.
الواحد ناب مثل
غاز وغزيّ.
يقول : لو قام
فضالة على الصّاقب وهو جبل لذلّ له وتسهل له حتى يصير كالرمل الذي في الكاثب. ذكر
هذا في الصحاح.
وإن كان النّبيّ
مأخوذا من الإنباء وهو الحقّ فهو (فعيل) بمعنى فاعل أي منبئ عن الله تعالى.
ومثله نذير ،
وقراءة نافع بالهمزة في القرآن.
و «هي» أي النبوءة في حقيقة الشرع :
«وحي الله تعالى إلى أزكى البشر» وهو يخرج الملائكة أي أفضل البشر وأكملهم «عقلا» وخلقا وخلقا أي الزّائد على البشر في العقل والكمال وجميع
الخلال المحمودة كذكاء
__________________
الفطنة وحسن الخلق
والخلق والسّخاء والشّجاعة.
فلا بدّ أن يكون
النبيء أفضلهم في هذه الخلال «و» أزكاهم «طهارة من»
دنس «ارتكاب القبائح» ونحوها فلا يتعمد معصية لله عزوجل
، ولا يدخل في حرفة دنيّة مسترذلة.
«وأعلاهم» أي أعلى البشر «منصبا» أي
أرفعهم بيتا وأطيبهم سنخا «بشريعة» متعلّق بقوله : وحي الله أي وحي الله بشريعة.
والشّريعة ما فرضه
الشارع وهو الله سبحانه وبيّنه من الأحكام وأدلّتها على ما يأتي إن شاء الله
تعالى.
والوحي في اللغة :
الإشارة والكتابة والرّسالة والإلهام والكلام الخفي.
وكل ما ألقيته إلى
غيرك يقال : وحيت إليه الكلام ، وأوحيت وهو أن تكلّمه بكلام تخفيه ، وأوحى الله
إلى أنبيائه أي أشار إليهم. ذكر هذا في الصحاح.
واعلم : أن
النبوءة فضيلة وأمانة يعطيها الله سبحانه من اختاره من عباده ممّن علم تعالى منه
الوفاء بها والثّبوت عليها من غير جبر لقوله تعالى : (اللهُ أَعْلَمُ
حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) .
وقوله عزوجل : (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ
الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ) .
واختصاصه تعالى
بها بعض عباده كاختصاص بعضهم بكونه ذكرا وبعضهم بكونه ملكا ونحو ذلك.
وقد زعم بعض أهل الزيغ أنها مكتسبة بالطاعة فمن أراد أن يكون نبيّا اجتهد
في الطاعة حتى يصير نبيّا. وهذا قول باطل لا التفات إليه.
قال العنسي :
ويشترط في النبيء : أن يكون من جنس من أرسل إليهم ما خلا الجن فإنه يجوز أن يرسل
إليهم غير جنسهم لقوله تعالى :
__________________
(قُلْ لَوْ كانَ فِي
الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ ، لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ
السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً).
«والرّسالة لغة» أي في لغة العرب : «هي
القول المبلّغ» إلى من أريد
تبليغه إليه.
«وشرعا» أي في عرف أهل الشرع «كالنبوءة»
في حقيقتها المذكورة سواء «إلّا أنه يقال في حقيقة الرّسالة في موضع بشريعة لتبليغ
شريعة لم يسبقه» أي المرسل «بتبليغ جميعها أحد» فيقال في حدّ الرّسالة : هي وحي
الله إلى أزكى البشر عقلا وطهارة من ارتكاب القبيح وأعلاهم منصبا لتبليغ شريعة لم
يسبقه بتبليغ جميعها أحد ولا يشترط في الرسول أن لا يسبقه أحد بتبليغ شيء من
شريعته إلى أحد إذ قد تتفق الشرائع في أشياء دون أشياء.
قيل : وأكثر
أنبياء بني إسرائيل لم يبعث بشريعة جديدة بل بعث بتقرير الشريعة الأولى.
ومنهم من بعث
بشريعة جديدة والله أعلم.
(فصل)
قال «الهادي عليهالسلام» والناصر عليهالسلام والإمام أحمد بن سليمان وكثير من قدماء أهل البيت عليهمالسلام«وأهل
اللطف» وهم البغدادية
الذين أوجبوا على الله تعالى الأصلح في غير باب الدين : «ويجب
على كل مكلف عقلا» أي يحكم العقل
بأنه يجب على المكلف «أن يعلم أنه لا بدّ من رسول» لله سبحانه إلى خلقه ، واختلفوا في علّة الوجوب على المكلّف
بعد اختلافهم أيضا في وجوبه على الله عزوجل : فقال «الهادي عليهالسلام» وسائر أئمة أهل البيت عليهمالسلام : لا يجب على الله تعالى شيء ، وإنما علم المكلف أنه لا
بدّ من رسول «لينبئ» ذلك الرسول أي يخبر العباد «عن الله سبحانه
ببيان أداء شكره»
__________________
تعالى الذي قد
علموا وجوبه جملة بفطرة عقولهم «بما شاء» أي ليعلمهم أن يشكروا الله تعالى بما شاء
«من الشرائع» التي تأتي بها الرسل صلوات الله عليهم شكرا
«على ما منّ» تعالى «به» عليهم «من النعم» السوابغ التي لا تحصى.
فالنعم من الله
سبحانه تفضل محض والشكر عليها : واجب بقضيّة العقل وتفصيل الشكر كيف هو وما هو لا يعلم إلّا بالشرع لأن
الله سبحانه لا يدرك مشافهة فيخبرهم ببيان شكره من غير واسطة رسول.
فمن هاهنا علم كلّ
مكلّف أنه لا بدّ من رسول لله سبحانه إلى خلقه تكميلا للتّفضل عليهم بالنعم التي
لا تحصى كما كمّل التكليف بالتمكين.
«و» لأجل «يميز» سبحانه «بذلك» أي بإرسال الرسل «من
يشكره» بامتثال أوامره
والانتهاء عن مناهيه «ممّن لا يشكره» بعصيانه وارتكاب مناهيه «إذ
قد
ثبت أنه تعالى ليس بجسم فامتنع» «أن
يلقي جلّ وعلى مشافهة» فيبيّن لخلقه كيفيّة شكره بالنطق إليهم من غير واسطة تعالى عن ذلك «والحكيم
لا يترك ما شأنه كذلك هملا»
أي ما كان شأنه
يحتاج إلى تبيين الشكر وإلى تمييز الشاكر من الجاحد والخبيث من الطيب لأنه يخالف الحكمة
والعدل.
وقد ثبت أن الله
تعالى عدل حكيم.
وهذا معنى كلام
الهادي عليهالسلام في البالغ المدرك.
قلت : وقوله تعالى
: (وَلَوْ أَنَّا
أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ
إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى) يدل على أن بعثة الرسل أمر متقرر في العقول ، «قلت
وبالله التوفيق : وكذا»
أي مثل قول الهادي
عليهالسلام «يأتي» القول «على أصل قدماء
العترة عليهمالسلام»
__________________
لأنهم يقولون :
إنّ الطاعات شكر لله تعالى على نعمه ، ولأنهم قد صرّحوا أيضا بذلك في كتبهم.
قال الناصر عليهالسلام فيما حكاه عنه مصنّف الباهر : نعرف الله بآياته ونصفه بما
وصف به نفسه ، ونشكره بما علمناه وكلفنا أن نشكره .
وحكى أبو مضر عن
أهل البيت عليهمالسلام أنهم يقولون : إن الشرعيات من العبادات ونحوها وجبت عقلا
كالعقليات سواء والسمع إنما كان شرطا للأداء لا للوجوب. ذكره في شمس الشريعة قلت :
وهو معنى كونها وجبت شكرا.
وقال «أهل اللطف» الذين سبق ذكرهم «بل» علم المكلف عقلا أنه لا بدّ من
رسول «لأنه» قد ثبت أنه «يجب على الله الأصلح» في أمور الدين والدنيا ولا شك أن إرسال الرسل أصلح للمكلفين
في الدين والدنيا فمن هاهنا وجب على المكلف أن يعلم أنه لا بدّ من رسول لله تعالى.
«قلنا» ردّا عليهم : «لا واجب على الله
تعالى» عن ذلك لعباده «كما مرّ» ذكره في الألطاف.
قال الإمام «المهدي
عليهالسلام»
وغيره من
المتأخرين «وبعض
صفوة الشيعة
وكثير من المعتزلة» كأبي علي وأبي هاشم وأكثر المعتزلة : «لا يجب»
على المكلف أن
يعلم ذلك عقلا بل لا يهتدي العقل إلى وجوبها «لأنّ
الشرائع ألطاف في»
الواجبات «العقليات» ولا يهتدي العقل إلى كونها ألطافا إلّا بعد إيجابها لجواز
أن يكون اللطف في غيرها وغير البعثة فيجوز أن يكون في البعثة مصلحة للمكلفين لو لا هي لما عرفت تلك
المصلحة فتكون حسنة واجبة عليه تعالى ويجوز أن لا يكون فيها مصلحة زائدة على ما
عرف بالعقل فتكون قبيحة لا تجوز منه تعالى.
وأما بعد وقوع
البعثة فإن المكلف يعلم قطعا أنها حسنة لكونها لطفا للمبعوث والمبعوث إليهم.
__________________
قال أبو هاشم :
ولا تحسن البعثة من الله سبحانه وتعالى إلّا حيث حصل للمبعوث إليه من العلم بألطاف
ومصالح في الدين وهي التكاليف الشرعية ما لولاها لما علم.
وقد تحسن أيضا إذا
كان الذي يحصل بها يمكن حصوله بغيرها على سواء فإنهما يكونان واجبين على الله
تعالى على التخيير ، ومتى حسنت منه تعالى وجبت عليه تعالى لاتّحاد وجه الحسن ووجه
الوجوب فيها وهو كونها لطفا ، وقد ثبت أن الألطاف واجبة عليه تعالى.
قال : ومن لا يوجب
اللطف على الله يقول : بأنها تحسن ولا تجب.
وقال أبو القاسم
البلخي : إنها تجوز منه تعالى لمجرد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو كاف في
حسنها وإن لم يعلم بها من المصالح أكثر ممّا علم بالعقل.
وقال أبو علي :
إنها تجوز منه تعالى بالزيادة في التكليف من غير أن يعلم بها ما لولاها لما علم ،
أو لغير زيادة في التكليف بل لما يحصل من زيادة تنبيه على أمور قد تعلّق بها
التكليف السابق أو زيادة تحذير وتأكيد لما في العقول من التكاليف أو تأكيد لشريعة متقدمة من غير أن يكون قد انطمس شيء من أحكام تلك
الشريعة.
واحتجّ أبو علي
بأن المقصود بالبعثة حصول اللطف للمكلفين وهو حاصل بأحد هذه الوجوه السابقة وذلك
كاف في حسنها بل في وجوبها.
قالوا : ومعنى كون
الشرائع ألطافا في العقليّات أن فعل الواجبات الشرعية من نحو الصلاة والصوم وسائر
الواجبات الشرعية يكون مسهّلا لفعل الواجبات العقلية من نحو : ردّ الوديعة وقضاء
الدين وترك الظلم ونحو ذلك.
وأما المندوبات
فإنما ندبت لكونها لطفا في مندوبات عقلية ومسهّلة للواجبات الشرعية وليست لطفا
فيها وإلّا لوجبت.
وأما المكروهات
فإنما كرهت لكون فعلها مسهّلا للقبائح وليس فعلها
__________________
مفسدة فيها وإلّا
لقبحت.
قال القرشي : وقال
أبو علي : وجبت الشرائع لمنعها من القبيح وقبحت لمنعها من الواجب.
قالوا : «و» أمّا «الشكر» فإنما هو
«الاعتراف» بنعمة المنعم على ضرب من
الإجلال والتّعظيم «فقط»
أي من غير عمل
فإذا فعل ذلك فقد شكره ، وليست الصلاة ونحوها من هذا الاعتراف في شيء فلا يبقى لها
وجه وجوب سوى أنها لطف في واجبات عقلية لأنه قد بان بالعقل أن ما دعا إلى واجب وحث
عليه من فعل المكلف وجب عليه لأنه يجري مجرى الوصلة إليه.
قالوا : وإذا كانت
الشرعيات ألطافا والعقل لا يهتدي إلى تعيين اللطف الذي يجب فعله إلّا بإيجاب
الشارع ما خلا المعرفة بالله تعالى كما سبق ذكره ، وكان الشكر هو الاعتراف فقط فقد
صحّ ما قلناه.
«لنا» حجة عليهم قوله تعالى : (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً) فنص الله سبحانه على أن العمل الذي هو الطاعة شكر له جلّ
وعلا على نعمه «ونحوها» أي نحو هذه الآية كقوله تعالى : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا
لِي وَلا تَكْفُرُونِ) .
«و» لنا أيضا «إجماع أهل اللغة على أنه»
أي الشكر «قول باللّسان واعتقاد
بالجنان» أي بالقلب «وعمل
بالأركان»
أي بالجوارح «في
مقابلة النعمة» قال الشاعر :
أفادتكم
النّعماء منّي ثلاثة
|
|
يدي ولساني
والضّمير المحجّبا
|
وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «الحمد رأس الشّكر».
والحمد قول
اتّفاقا.
«قالوا» أي مخالفونا في ذلك :
قال تعالى :
(إِنَّ الصَّلاةَ
تَنْهى عَنِ
__________________
الْفَحْشاءِ
وَالْمُنْكَرِ) فدلّ ذلك «على أنها» أي ـ الصلاة ونحوها «ألطاف
في
العقليات».
قالوا وروي عن
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أنه قيل له : إن فلانا يصلي بالنهار ويسرق بالليل فقال: «إن
صلاته لتردعه».
«قلنا» ليس مجرد فعلها هو النّاهي عن
الفحشاء والمنكر «بل هي سبب»
في حصول النّاهي
وهو زيادة العقل و «التنوير الذي أراده الله تعالى بقوله
:
(إِنْ تَتَّقُوا اللهَ
يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً)
أي تنويرا» في قلوبكم «تفرقون به بين الحق والباطل» أي زيادة في العقل من تأثير ما يبقى على ما يفنى ومراقبة
العليّ الأعلى ومعرفة حقّه جلّ وعلا «فهي»
أي الصلاة «كالناهي»
عن الفحشاء
والمنكر
«لمّا كانت سببا لحصول التنوير الزّاجر عن
ارتكاب القبائح ، وذلك لم يخرجها عن كونها شكرا لله تعالى».
فإن قيل : إذا كان
التنوير إنما حصل بسبب الصلاة وقد ثبت أن التنوير لطف في النهي عن الفحشاء والمنكر
فكذلك سببه وهو الصلاة تسمية للسّبب باسم مسبّبه.
قلنا : كلامنا في
وجه وجوبها وهو لا يلزم من ذلك أنها إنّما شرعت لأجل ذلك ، فهات الدليل كما دللنا
على أن وجه وجوبها كونها شكرا؟
«وقالوا :» أيضا «وردت الشرائع على
كيفيات مخصوصة»
كالقيام والقعود
والطهارة في الصلاة والسعي والمشي والوقوف وغير ذلك في الحج
والإمساك عن الطعام والشراب في الصوم وغير ذلك «ولا
تقتضي ذلك»
أي الكيفيات
المخصوصة
«نعمة السيّد
على عبده»
وإنما تقتضي
الاعتراف بها والتعظيم لموليها.
«قلنا : بل تقتضي» نعمة السيد «الامتثال»
من العبد «بفعلها» أي فعل
__________________
الشرائع وتقتضي «مطابقة
مراده» أي مراد السيد «بتأديتها»
أي الشرائع على
الكيفيّة المرادة للشارع «ولذلك وجبت» أي لأجل كون نعمة السيد تقتضي الامتثال لأمره وجبت الشرائع.
«فلو كانت» أي الشرائع «لطفا» في
العقليّات كما زعموا لم تجب لأنها ليست مقصودة بالوجوب للشارع وإنما الواجب
الحقيقي على قولهم هو العقليات والعبد متمكن من الإتيان بها من دون الشرائع فثبت
أنه لا وجه لإيجابها حينئذ «لأنّ الحكيم لا يوجب ما لا يجب» إذ لا تعلّق بين
الواجب العقلي والشرعي.
فإن قيل : ولم
وردت الشرائع على تلك الكيفيات المخصوصة؟
قلنا : لا يلزمنا
معرفة ذلك وإن كنّا نعلم أنه لا بدّ من مصلحة فيها على الجملة لأنه جلّ وعلا حكيم
وأفعاله كلها حكمة وجهلنا بها لا يبطل كونها حكمة.
وقد ورد عن علي عليهالسلام أنه قال : (فرض الله الإيمان تطهيرا من الشرك ، والصلاة
تنزيها من الكبر ، والزّكاة سببا للرزق والصّيام ابتلاء للإخلاص ، والحج تقوية
للدين ، والجهاد عزّا للإسلام ، والأمر بالمعروف مصلحة للعامة ، والنهي عن المنكر
ردعا للسفهاء ، وصلة الرّحم منماة للعدد ، والقصاص حقنا للدماء وإقامة الحدود
إعظاما للمحارم ، وترك الخمر تحصينا للعقول ومجانبة ، السرقة إيجابا للعفّة ، وترك
الزنى تحصينا للنسب ، وترك اللواط تكثيرا للنسل ، والشهادات استظهارا على
المجاحدات ، وترك الكذب تشريفا للسان ، والسّلام أمانا من المخاوف ، والأمانة
إعظاما للأمّة ، والطاعة تعظيما للإمامة).
«قالوا قد ثبت» بلا خلاف «أنه لا يجوز العقاب» من الله سبحانه للمكلفين «ابتداء» أي قبل أن يعلموا بشرعيتها «على
الإخلال بها اللّازم»
ذلك العقاب للمخل بها
«من شرعيتها»
أي من إيجاب
الشارع لها ، لأنّ من أخلّ بالواجب استحقّ العقاب.
وقد ثبت أنه إذا
أخلّ بها المكلفون ابتداء لم يعاقبوا ، فثبت كونها
لطفا ولو كانت
شكرا كما زعمتم لزم عقاب المكلفين على الإخلال بها وإن لم يعلموا شرعيتها لأنّ
الشكر معلوم وجوبه بالعقل.
«قلنا : إنما لم يجز» العقاب لمن ذكروه «حيث
لم يكن» المخل بها «مأمورا
بفعلها» فليست واجبة عليه في هذا الوقت «فلم
يخل بالامتثال» فلا وجه لعقابه «كما أن
العبد إذا أخلّ بما لم يأمره به سيده لم يكن مخلّا بالامتثال» ولا مذموما عند
العقلاء «و» لنا أيضا أنها «وردت الرّسل صلوات الله عليهم» بشرعها «مع مقارنة
التخويف» من الإعراض عن
دعوتهم وعدم القبول لما جاءوا به لمن أخلّ بها كقوله تعالى : (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ
عَنِ الْعالَمِينَ) ، (وَمَنْ عادَ
فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) وما ذاك إلّا لأجل كون وجوبها متقرّرا في العقول جملة
لكونها شكرا.
«فلو كانت ألطافا» كما زعموا «لقبح
التخويف لأن الألطاف ليست بواجبة» لأنها
ليست مقصودة في أنفسها «إذ التخويف لا يكون إلّا على واجب» والألطاف ليست بواجبة. هكذا ذكره عليهالسلام ولعله يريد عليهالسلام بقوله : إن الألطاف ليست بواجبة على المذهب الصحيح الذي
اختاره عليهالسلام وهو الحق.
وأما المخالف في
هذه المسألة فهو يقول : إن الألطاف واجبة.
«قالوا : إنما اقترنت بالتخويف لتجويز
الجهل» من المكلفين «ببعض المصالح» التي لهم في الدين.
قلت : هذه حجة أبي
هاشم على أبي القاسم البلخي في أنه لا بدّ أن يعرف بالنبوّة ما لم يعرف بدونها.
قال : وذلك إنّا
نعلم أنها لا تحسن بعثة لنبي إلّا بمعجز يدل على صدقه ولا معجز إلّا ويجب علينا
النظر فيه ، ولا يجب على المكلف النظر إلّا مع تخويف من تركه ، ولا تخويف من ترك
النظر إلّا مع تجويز الجهل ببعض المصالح إذ لو لم يجوّز الجهل بأمر يجب عليه فعله
أو يحرم لم
__________________
يكن للخوف وجه ،
فلزم ما ذكره أبو هاشم من أنه لا بدّ في البعثة من أن نعلم بها تكليفا لا نعلمه إلّا من جهتها.
قال النجري :
ولقائل أن يقول : مجرّد التّجويز كاف في التخويف كما ذكرتم فمن أين يجب أنه لا بدّ
من وقوع ذلك المجوّز ، فيجوز أن يبعث بعض الأنبياء لا لتعريف مصلحة بل لشيء مما
ذكره المخالف.
ويجب النظر في
معجزته لتجويز أن يكون مبعوثا لتعريف مصلحة.
واحتج أبو القاسم
: بأن دعاء النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى طاعة الله له موقع في النفوس أبلغ من موقع دعاء غيره
فيكون تأثيره أبلغ وهذا كاف في حسن بعثته.
وأجاب أبو هاشم
عليه : بأنّه لا سبيل إلى معرفة صدقه إلّا بعد صدق اليقين بالله تعالى وعدله
وحكمته.
وإذا عرفنا ذلك
فكلام الله في كتبه السالفة أنفع وأوقع فيقع الاستغناء بذلك عن البعثة المتأخرة
حينئذ.
قلت : وهذا الجواب
ضعيف. وكلام أبي القاسم قويّ.
واحتجّ أبو علي :
بأنه إذا كان في بعثته تأكيد لما في العقول وزيادة تنبيه كانت لطفا لنا ، وما كان فيه لطف لنا وجب أن يفعله.
وأجيب عليه : بأنه
لا طريق إلى القطع بأنّ في بعثته تأكيدا وتنبيها ، وإن جوّزناه لم نقطع بأنه خال
عن مفسدة معارضة للمصلحة.
قال الإمام المهدي
عليهالسلام : هكذا أجاب بعض أصحابنا ، وهذا الجواب فيه تسليم تجويز
البعثة لما ذكره أبو علي إذا خلت عن المفسدة وثبتت المصلحة ، فلا يكمل هذا الجواب
إلّا بالتدريج الذي ذكرناه في احتجاج أبي هاشم.
قلت : بل لم يكمل
لما ذكره النجري والله أعلم.
__________________
قال : واحتجّ أبو
علي أيضا : بأنه يجوز تعزيز النبيء بنبي معه تأكيدا وإذا جاز ذلك جاز تعزيز العقل
بنبي يؤكّد ما دلّ عليه العقل.
قال : قلنا إنا لا
نقول : لا يجوز ذلك التعزيز المقيس عليه إلّا لمصلحة لم تعلم إلّا به وإلّا لم
يصحّ التدريج السابق.
قال : واحتجّ أبو
علي أيضا : بأن الله تعالى بعث الأنبياء ليدعوا المشركين إلى التّوحيد والعقل كاف
في ذلك وإنما أكّد بالأنبياء.
قال : قلنا : بل
الغرض من بعثتهم تعريف الشرائع ، لكن لمّا كانت الشرائع لا تصحّ من مشرك دعاهم إلى
التوحيد أوّلا ليصحّ عملهم بالشرائع ودعاؤهم إليه من باب النهي عن المنكر لا من
باب التعريف بأنه قبيح ويجوز أنه من باب التعريف لإخلالهم بالنظر لا لكونه لا طريق
إليه إلّا من جهتهم. انتهى ما ذكره عليهالسلام في الغايات.
قال عليهالسلام : «قلنا : لم تخبر به
الرسل»
أي لم تخبر الرسل
صلوات الله عليهم بذلك الذي جوّز جهله من المصالح.
قلت : وهم قد
قالوا : قد أخبرت به الرسل لأنّ المصالح التي كانت مجهولة هي الشرائع التي جاءت
بها الرسل ، ولكن قولهم بأنّ الشرائع ألطاف مجرد دعوى بلا دليل ، بل قد قام الدليل
الواضح على أنها شكر كما مرّ.
قال عليهالسلام : «وإن سلّم» أن مقارنة التخويف لتجويز الجهل ببعض المصالح وأن الرسل
قد أخبرت بذلك المجهول «لزم» من ذلك «القول بوجوب العلم على كل مكلف» عقلا أي لزم «أن
يعلم» كل مكلف «أنه لا بدّ من رسول كقولنا لينبئ عن الله تعالى بذلك المجهول» أي
ليخبرنا الرسول عن الله عزوجل بذلك المجهول الذي فعله مصلحة لنا «إذا كان» فعله «واجبا
إذ لم يعرف إلّا بإخبار الرسول ، والحكيم لا يترك ما شأنه كذلك» أي ما شأنه الوجوب
وهو مجهول عند المكلف «هملا» أي مهملا منسيّا لمنافاته الحكمة «وإلّا» أي وإن لم
يقولوا بوجوب العلم بالبعثة عقلا «قبح» ذلك التخويف «حيث لم يكن» فعل ذلك المجوّز «واجبا»
إذ الوعيد على ما لم يجب قبيح.
قلت : ولكنهم
قالوا : إنا لا نقطع بالجهل ببعض المصالح وإنّما نجوّز ذلك تجويزا ونجوّز عدمه ،
فمع تجويز عدمه لا يجوز بعثة الرسل للاستغناء بالعقل كما مرّ ذكره عنهم.
«و» اعلم أنه «لا خلاف في حسنها» أي بعد
وقوعها «بين الأمّة»
الإسلامية.
وقالت «البراهمة» وهم فرقة من الكفار
بالهند : «بل» بعثة الرسل «قبيحة».
قالوا :
«إذ العقل كاف»
في معرفة الواجبات
والمقبّحات ، فبعثتهم لتعريف ذلك عبث.
وإذا جاءوا بما
يخالف العقل لم يحسن منّا قبوله.
وقال القاسم بن
إبراهيم عليهماالسلام في الردّ على الرافضة ما لفظه : زعمت الرافضة أنه لم يكن
قرن من القرون خلا ولا أمّة من الأمم الأولى إلّا وفيها وصيّ نبيء أو وصيّ من وصيّ
حجة لله قائمة عليهم ... إلى أن قال : وما قالت به الرافضة في الأوصياء من هذه
المقالة فهو قول فرقة كافرة من أهل الهند يقال لهم : (البرهميّة تزعم أنها بإمامة
آدم من كل رسول وهدى مكتفية).
وأن من ادّعى بعده
رسالة أو نبوّة فقد ادّعى دعوى كاذبة ، وأنه أوصى بنبوّته إلى شيث ، وأنّ شيثا
أوصى إلى وصي من ولده ثم يقودون وصيته ، ولا أدري لعلهم يزعمون أن وصيته
اليوم فيهم. انتهى «قلنا»
ردّا عليهم :
«لا يهتدى
إلى امتثال أمر»
المالك «المنعم
إلّا بها»
أي ببعثة الرسل
كما سبق ذكره.
ثم نقول : يجوز أن
يكون ما جاءوا به موافقا للعقل ولا يكون عبثا لأن القلوب مع دعائهم وظهور المعجز
عليهم أقرب إلى الانصراف عن قبائح العقل والالتزام بمحسّناته كما أن للوعّاظ هذه المزية وإن كانوا يعظون بما قضى به العقل.
__________________
وأما قولهم : إنهم
إذا جاءوا بما يخالف العقل لم يحسن قبوله :
فنقول : لم تجيء
الرسل صلوات الله عليهم إلّا بما يوافق العقل ويؤكده لأنه الحجة الكبرى التي لا
تنسخ ، والشرائع التي جاءت بها الرّسل موافقة لحكم العقل لأنها تذلل وشكر للمالك
المنعم.
وما جاء من نحو
ذبح البهائم وتحميلها المشاق ونحو ذلك موافق للعقل أيضا لعلمنا أن الله سبحانه عدل
حكيم لا يظلم ولا تجوز عليه الحاجة فعلمنا حينئذ أن الله سبحانه قد ضمن لها من
المصالح والأعواض ما يزيد على مقابلة ما نالها من الألم والمشقّة ، مع ما أراد جلّ
وعلا من نفع المكلفين بها والتفضّل عليهم بلحومها وألبانها وأشعارها وجلودها وفي
ذلك من الحكمة والنعمة والعدل ما لا يخفى على أهل العقول لأنّ الله سبحانه قد حكم
بفناء الدنيا فجعل بعض آجال الحيوان بالذبح وجعل تحميلها المشاق كالآلام.
وأما قولهم : إنه
يكتفى بالوصاية عن البعثة فليس وصيّ الرسول كالرسول فضلا عن وصيّ وصيّه أو وصيّ
وصيّ وصيّ وصيّ وصيّ وصيّه.
وذلك معلوم من
أحوال فترات الرّسل وما يقع فيها من الضّلال عن الحق واتباع الهوى وابتداع ما
يتوهّم كونه دينا كالسائبة والبحيرة والحامي وغير ذلك.
بخلاف أوقات
الرّسل ، فلو كانت الوصاية كافية إلى آخر الدهر لما انطمست شريعة ولا خفي هدى
ولكان الناس أمّة واحدة غير مختلفة.
(فصل)
قال «القاسم والهادي عليهماالسلام
وغيرهما» كالزمخشري وقاضي القضاة وغيرهما : «والنبيء أعمّ من الرسول ، لأن الرسول من
أتى بشريعة جديدة» أي لم تشرع من قبل.
ولو قلّت فلا يشترط في الرسول أن تكون
كل شريعته جديدة «من غير واسطة رسول» يريد من البشر ، لأن واسطة الملك نحو جبريل
لا تخرج الرسول عن أن يكون رسولا.
وهو احتراز من أن يوحي الله إلى أحد
أنبيائه بشريعة جديدة ويوحي إلى آخر أنه يتحمل تلك الشريعة من الأول ويبلّغها عنه.
فالثاني نبيء لا
رسول لأنه بواسطة رسول.
وأما النّبي فهو يطلق على الرسول وعلى من بعث لإحياء شريعة مندرسة أو
لتأكيدها كهارون ويوشع وغيرهما.
«خلافا» للإمام «المهدي» أحمد بن يحيى «عليهالسلام»
«و»
أبي القاسم «البلخي»
وهو الكعبي أيضا نسبة إلى الأب ، والبلخي نسبه إلى البلد.
وهو قول كثير من
المتأخرين أيضا فقالوا : لا فرق بين الرسول والنبيء.
«لنا قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ
رَسُولٍ وَلا نَبِيٍ)
«فعطف العام» وهو النبيء «على الخاص» وهو الرسول كما في قوله تعالى : (وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى
وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ) .
«إذ ذلك» أي العطف «يقتضي المغايرة» أي كون المعطوف غير المعطوف عليه ، ويدل على ذلك أيضا : ما
روي عن النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم : أنّه سئل عن الأنبياء فقال : «مائة ألف وأربعة وعشرون
ألفا.
قيل : فكم الرّسل
منهم؟ قال : ثلاث مائة وثلاثة عشر» ذكره الإمام المهدي عليهالسلام في الغايات.
قال : ومتأخروا
أصحابنا أنكروا ذلك وقالوا : الخبر آحادي.
قال الإمام «المهدي عليهالسلام
والبصرية : وهو ظاهر كلام القاسم عليهالسلام
: ويصحّ أن يكون النبيء نبيئا في المهد» أي وقت الطفولة والمهد الفراش الذي يمهد
أي يبسط للصبي.
__________________
قالوا : لقوله
تعالى : (وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) وظاهر الآية أنه نبيء في تلك الحال.
وقال أبو القاسم «البلخي
: لا يصحّ»
أن يكون النبيء
نبيّا في المهد لأن الطفولية منفرة عنه.
قال : وأما كلام
عيسى عليهالسلام فإنما كان إرهاصا لنبوّته بعد تكليفه كقتل عصى موسى
للتّنّين وقت رعيه لغنم شعيب عليهماالسلام.
قال عليهالسلام «قلت : وهو الأقرب
لأن النبوّة تكليف ، ولا تكليف على من في المهد لعدم التمييز والقدرة ، إلّا أن
يجعلهما الله سبحانه له فلا بأس بذلك لأنّ الله على كل شيء قدير».
وأما كلام عيسى عليهالسلام فإنما كان في تلك الحال لبراءة مريم من الريب ، ثم رجع إلى
حال الأطفال حتى بلغ وقت تكليمهم فتكلم فلما كمل عقله بعث رسولا.
ومثل هذا ذكره
الإمام القاسم بن علي العياني عليهماالسلام والزمخشري وغيرهما.
(فصل)
«والملائكة صلوات الله عليهم أفضل من
الأنبياء عليهمالسلام»
على معنى : أن ثواب أدنى ملك أكثر من ثواب أفضل الأنبياء ، وهذا هو قول أهل البيت عليهمالسلام
وشيعتهم والمعتزلة.
وقالت «الأشعرية وغيرهم : بل الأنبياء
أفضل» من الملائكة.
وقالت الإمامية :
بل الأنبياء والأئمة أفضل من الملائكة.
وقيل : بل
الأنبياء والمؤمنون أفضل من الملائكة.
«لنا» حجة على المخالف «قوله
تعالى» :
(عَلَيْها مَلائِكَةٌ
غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) .
__________________
«ولا شك في» وقوع «خطايا الأنبياء
عليهم الصلاة والسلام»
أي الصغائر على
جهة السهو والخطإ لا على جهة العمد كما سيأتي إن شاء الله تعالى بخلاف الملائكةعليهمالسلام فإنهم لا يعصون الله البتّة كما أخبر الله عنهم.
ولنا قوله تعالى :
(قُلْ لا أَقُولُ
لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ
إِنِّي مَلَكٌ) والمعلوم أنّ كونه ملكا صفة زائدة على النبوّة في المرتبة
كما في الصّفتين اللتين قبلهما .
«و» لنا أيضا
«قوله تعالى حاكيا» عن إبليس (ما نَهاكُما
رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا) مِنَ الْخالِدِينَ .
أي إلّا كراهة أن
تكونا ملكين ، هذا تأويل صاحب الكشاف.
وقال الهادي عليهالسلام : تقديره إلّا أن لا تكونا ملكين.
قال عليهالسلام : ومن ذلك قوله تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ
يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ) أي الذين لا يطيقونه قال لأنّ العرب قد تحذف (لا) : وهي
تريدها وتثبتها وهي لا تريدها.
والمعنى : لو لا
علم إبليس أن آدم وحوّى يعلمان أن مرتبة الملائكة فوق مرتبتهما لم يرغبهما ببلوغ
تلك المرتبة بأكلهما الشجرة.
«و» لنا أيضا قوله تعالى : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ
يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) أي ولا من هو أعلى منه درجة وهم الملائكة المقربون
الكروبيّون الذين هم أعلى منزلة عند الله كجبريل وميكائيل وإسرافيل.
قلت : ويمكن أن
يراد بالمقرّبين جميع الملائكة والله أعلم.
__________________
ونزول الآية للردّ
على النصارى في غلوّهم في عيسى صلوات الله عليه وإنكارهم أن يكون عبدا لله حين وفد
أهل نجران إلى النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم والقصة مشهورة.
«وبيان الاستدلال بها» أي بهذه الآية «أن
ذلك»
أي قوله تعالى (وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) «ترقّ» أي صعود
«من
درجة إلى درجة أعلى منها ، يعرف ذلك العالم بأساليب أهل اللسان العربي» لأنه «يقال
: لا يأنف فلان من تعظيم العالم ولا من هو أعظم منه» أي ولا من هو أعظم من ذلك
الفلان فإنه لا يأنف من تعظيم العالم ومن هذا قول الشاعر :
وما مثله ممّن
يجاود حاتم
|
|
ولا البحر ذو
الأمواج ينأج زاخره
|
أي ما مثل الممدوح
ممّن يغالبه في الجود لا حاتم ولا من هو أعظم من حاتم في الجود وهو البحر ذو
الأمواج المضطربة.
وممّا يدل على
أفضليتهم أيضا : قول الوصي في النهج : (منهم سجود لا يركعون ، وركوع لا ينتصبون ،
وصافّون لا يتزايلون ومسبحون لا يسأمون ، لا يغشاهم نوم العيون ولا سهو العقول ولا
فترة الأبدان ولا غفلة النسيان.
ومنهم أمناء على
وحيه وألسنة إلى رسله ومختلفون بقضائه وأمره.
ومنهم الحفظة
لعباده والسّدنة لأبواب جنانه.
ومنهم الثابتة في
الأرض السّفلى أقدامهم والمارقة من السماء العلياء أعناقهم والخارجة من الأقطار
أركانهم ، والمناسبة لقوائم العرش أكتافهم ناكسة دونه أبصارهم متلفّعون تحته بأجنحتهم مضروبة بينهم وبين من دونهم حجب
العزّة وأستار القدرة ، لا يتوهّمون ربهم بالتصوير ، ولا يجرون عليه صفات
المصنوعين ، ولا يحدّونه بالأماكن ولا يشيرون إليه بالنّظائر).
وللمخالفين شبه قد
ذكرناها في الشرح.
«ونبيئنا صلىاللهعليهوآلهوسلم
أفضل
من سائر الأنبياء صلوات الله
__________________
عليهم ، لأدلّة» كثيرة
«لا يسعها هذا الكتاب» منها : الإجماع على ذلك.
و «منها قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم
«أنا سيّد ولد آدم ولا فخر».
وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم «آدم ومن دونه تحت
لوائي يوم القيامة».
وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم «أنا أول من يقرع
باب الجنة وأنا أول من تنشق عنه الأرض ، وأنا أول شافع مشفّع يوم القيامة».
ونحو هذه الأخبار
كثير متوارد في معنى واحد وهو أنه أعلى الناس مرتبة يوم القيامة ، فاقتضى أنه
أفضلهم. ذكر هذا كله الإمام المهدي عليهالسلام في الغايات.
قلت : ولأن الله
سبحانه خصّه بفضيلة عظمى وهو أنه خلق من نور كما روي عن جابر أنه قال : يا رسول
الله : أخبرني عن أول شيء خلقه الله ... الخبر المتقدم في ذكر اللوح.
(فصل)
في ذكر المعجز وحقيقته :
«والمعجز» في اللغة : ما يجعل غيره عاجزا.
وقد يفسر بأنه كل
فعل يقدر عليه بعض القادرين دون بعض.
يقال : أعجزني هذا
الفعل أي لم أقدر أن أفعل مثله.
والمعنى : أن ظهور
قدرة فاعله عليه كان سببا للحكم بعجزي عنه لا أنه سبب عجزي وإنما سبب العجز عدم
القدرة.
وأما حقيقته في
الاصطلاح فهو
«ما
لا يطيقه بشر»
ليدخل ما يطيقه
غير البشر من الملائكة والجن ، لأن النبيء لا يكون إلّا من البشر والمعجز أمارة
بصدقه فإذا جاء بما يخرق عادة البشر كفى ذلك في صدق دعواه «ولا
يمكن التّعلم لإحضار مثله»
خرج بذلك السحر
والطلسمات والشعبذة فإنه يمكن التعلّم لإحضار مثلها.
وحقيقة السّحر :
هو أن يرى الأمر في الظاهر على خلاف ما هو عليه
نحو أن يرى غير
الحيّ حيّا ونحو ذلك.
وقوله «ابتداء» ليدخل في حدّ المعجز ما لا يمكن التعلّم للإتيان بمثله إلّا
اتّباعا لمبتدئه ومنشئه وهو القرآن فإنّا نقدر على الإتيان به اتّباعا لمنشئه وهو
الله تعالى ، ولا نقدر على الإتيان بمثله ابتداء ولهذا قال عليهالسلام : «سواء دخل جنسه في
مقدورنا كالكلام» فإن كلام الله تعالى
الذي هو القرآن معجز وهو من جنس الكلام الذي يتكلم به الإنسان «أم لا»
يدخل جنسه في مقدورنا «كحنين الجذع» إلى النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم ومجيء الشجرة وعودها وقلب العصا حيّة وغير ذلك.
والشعبذة هي الحيل
التي تعسر معرفة كيفيتها إلّا باستنباط ونظر ومعرفة خواص أو بتعلم ممّن تقدم منه
استنباط لذلك ونظر.
ولفظها اسم لتخييل
مخصوص وهو يمكن تعلمها بخلاف المعجز.
«ولا يصحّ» أن يكون «نبيء بلا معجز» لأنه لا يدل على صدقه إلّا المعجز «خلافا
للحشوية»
فإنهم جوّزوا أن
يكون الشخص نبيئا من غير معجز ولا وحي أيضا ولا شريعة لا جديدة ولا إحياء مندرسة
بل تكون له تنويرات وإلهام يفارق بها سائر البشر.
«قلنا : المعجز شاهد بصدقه وإذا عدم
الشاهد لم يحصل التمييز بين» النبيء «الصادق الأمين ، وبين» المتنبّئ «نحو مسيلمة»
الكاذب «اللعين».
وإذا كان كذلك كان تلبيسا للهدى بالباطل
والهراء «والله عدل حكيم لا يلبس خطابه بالهراء» وهو الكلام الباطل «والافتراء» وهو
تعمد الكذب والزور.
«بلى يجوز
أن» يكون نبيء بلا معجز ولكن «يشهد بنبوّته نبيء قبله» فإنا لو فرضنا ذلك لجاز من
جهة العقل «لحصول الشهادة» الصادقة «على صدقه» وهي شهادة ذلك النبيء.
__________________
«وشرطه» أي شرط المعجز «إمّا أن يدعيه
النبيء قبل حصوله ويقع على حسب دعواه نحو قوله تعالى حاكيا» عن موسى صلوات الله عليه في مخاطبته لفرعون لعنه الله : (أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ) أي شيء ظاهر يصدّقني فيما ادّعيت من الرسالة ، فكان ما حكاه الله
سبحانه من قوله : (فَأَلْقى عَصاهُ
فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ
لِلنَّاظِرِينَ) .
«أو» لم يكن ذلك المعجز قد ادّعاه ذلك النبيء ولكنه «كان
معرّفا بالنبوءة كخبر الثعلب» المعرّف بنبوّة نبيّنا محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم : روى أبو طالب عليهالسلام بإسناده إلى أبي ذر رحمهالله قال : كنا عند النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم فأتاه أعرابي على ناقة له ، فأجلسه النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم أمامه وقال له : «حدّث الناس ما كان من أمر ثعلبك». فقال :
أنا رجل من أهل
نجران كنت أحطب من واد يقال له السّيّال فبينا أنا كذلك إذ أنا بهاتف وهو يقول :
يا حامل الجرزة
من سيّال
|
|
هل لك في أجر
وفي نوال
|
وحسن شكر آخر
الليالي
|
|
أنقذك الله من
الأغلال
|
ومن سعير النار
والأنكال
|
|
فامنن فدتك
النفس بالإفضال
|
وحلني
من وهق الحبال.
|
قال : فالتفتّ
فإذا ثعلب مربوط إلى شجرة. فقال الثعلب :
يا حامل الجرزة
للأيتام
|
|
عجبت من شأني
ومن كلامي
|
أعجب من السّاجد
للأصنام
|
|
مستقسما للكفر
بالأزلام
|
هذا الّذي في
البلد الحرام
|
|
نبيء صدق جاء
بالإسلام
|
وبالهدى
والدّين والأحكام
|
__________________
... الخبر بطوله.
«وإلّا» أي وإن لم يقع عقيب الدعوى ولا
كان معرّفا بالنبوّة «فهو آية من آيات الله مصادفة» للنبوّة «وليس بمعجز لعدم
اختصاصها» أي الآية «بوقته» لأنّ كثيرا من الآيات تظهر في غير وقت نبيء فلعل هذه
الآية كذلك فلا نعلم حينئذ أنها إنما جعلها الله سبحانه شاهدة بصدقه.
«ويجوز تراخيه» أي تراخي حصول المعجز «عن
وقت الدعوى ولو بأوقات كثيرة» وذلك «إن أخبر به» النبيء «فوقع» ذلك المعجز كما
أخبر «إذ صارا» مع التراخي «معجزين» الأول بوقوعه كما أخبر إن كان ممّا لا يطيقه
بشر.
والثاني إخباره بالغيب.
«ويجوز» أن يكون المعجز «متقدّما» على
النبوءة «إن كان معرّفا بالنبوّة كقوله تعالى حاكيا عن عيسى عليهالسلام
:
(وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) «وهو في المهد».
فإنّ نطق عيسى عليهالسلام في المهد بهذا الكلام الذي حكاه الله سبحانه معجزة له.
وقال أبو القاسم «البلخي : ويجوز كذلك» أي
تقدم المعجز على النبوّة «إرهاصا» أي توطية وتمهيدا للنبوّة وإعلاما بها.
ويقول : إنه لا
يكفي في دعوى النبوّة بل لا بدّ من معجز عقيب الدعوى واحتجّ بقصة الفيل فإنها عقيب
مولده صلىاللهعليهوآلهوسلم وقصة الغمامة فإنها كانت تظل النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم وتدور معه أينما دار «وظاهره»
أي ظاهر قول أبي القاسم «الإطلاق» أي سواء كان معرّفا بالنبوّة أو لا.
قال عليهالسلام
: «قلت وبالله التوفيق : لا دليل» على أن المتقدم معجز إن لم يعرّف بالنبوّة «لما
مرّ» من أنه يجوز أن يكون آية مصادفة ولم يقصد بها تصديق النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم أما قصة الغمامة فهي
__________________
معرفة بالنبوّة ،
وكذلك حنين الجذع وتسبيح الحصى في كفه ، ونبع الماء من بين أنامله صلىاللهعليهوآلهوسلم لاختصاصها به صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وقالت «البصرية : لا يجوز تقدمه وظاهره
الإطلاق»
أي سواء كان
معرّفا أو لا قالوا لأنه يكون عبثا والعبث قبيح.
قال عليهالسلام : «قلت وبالله التوفيق
: قد حصلت الشهادة بنبوءته».
من ذلك المعجز
المتقدم «كالمقارن» للدعوى «إن عرّف» بالنبوّة مع أنه لو لم يعرف بالنّبوّة فلا وجه لجعله قبيحا
لأن جهل من جهل وجه الحكمة فيه لا يصيره عبثا ، ولكنه لا يكفي في صدق دعوى النبوّة
والله أعلم.
قال «أئمتنا عليهمالسلام
والبهشمية» أي أتباع أبي هاشم «ولا يجوز» ظهور المعجز «لغير نبيء» إذ يكون فيه
تلبيس للمحقّ بالمبطل وذلك قبيح.
وقالت «الإمامية : بل يجب ظهوره للإمام»
لأنه عندهم كالنبي أو أعظم لأنه لا بدّ أن يعلم الغيب كما
يأتي ذكره عنهم إن شاء الله تعالى وقال «عبّاد» بن سليمان «بل يجوز ظهوره على حجج
الله في كل زمان».
قال الإمام المهدي
عليهالسلام : يعني على أشخاص صالحين جعلهم الله حجة على خلقه ، أي
يلزمهم اتباعهم لما يظهر لهم من الكرامات دلالة على أنهم محقون غير مبطلين.
قال : وعندهم لا
يخلو الزمان من حجة على أهله.
وقالت «الملاحمية» أي الشيخ محمود بن الملاحمي ومن تبعه «وهو
ظاهر كلام»
الإمام «المهدي» أحمد بن يحيى «عليهالسلام
والحشوية : بل يجوز» ظهوره «للصالحين» كما قد وقع ذلك كثيرا.
قال الإمام المهدي
عليهالسلام : أما ظهوره على الصالحين فلا يمتنع عندي فيما لا يدخله
بعض لبس لا الخوارق الباهرة كفلق البحر وقلب العصا حية لما فيه من حطّ مرتبة
الأنبياء.
قال : وكذلك لو
أخبر به على القطع وعيّن وقت وقوعه لم يجوّز وقوعه مطابقا لدعواه لما فيه من حطّ
مرتبة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأما غيره ممّن جوّزه على الإطلاق فقالوا :
ليس ذلك حطّا من مرتبة الأنبياء ، فتعظيمهم بالمعجزات تعظيم للأنبياء ، كما أن
إكرام خادم الإنسان إكرام لذلك الإنسان.
وقالت «الأشعرية : بل يجوز للكفار ومن
يدّعي الربوبية» كفرعون والنمرود لأنه لا يقبح عندهم منه جلّ وعلا قبيح «لا» من
يدعي «النبوّة كاذبا» كمسيلمة.
قالوا : لأنه يكون
تصديقا للكاذب في دعوى النبوءة وفيه هدم الشرائع وهذا منهم مناقضة ظاهرة إذ قد
حكموا بأنه لا يقبح من الله قبيح ، وأنه يجوز إثابة الكفار وتعذيب الأنبياء.
«قلنا :» ردّا على الجميع «جميع ذلك» الذي
ذكر من ظهور المعجز على غير الأنبياء «تلبيس وتشكيك بتصديق الأنبياء صلوات الله
عليهم ، لأن الكفار يقولون» للنبي «لا نصدقك لأنه قد أتى بمثل هذا المعجز من ادّعى
الربوبية وهو كاذب» فيمكن أن تكون دعواك مثله «و» قد أتى بمثله أيضا «من ادّعى
الإمامة» وليس بنبي فما يؤمننا أن تكون غير نبيء «أو» من ادّعى «الصلاح» وليس بنبي
ولا إمام فما يؤمننا أن تكون مثله.
«أو» من ادّعى «كونه محقا في حجته» التي
يحتج بها وقوله الذي يدعيه فما يؤمننا أن تكون كذلك.
«فلعل المعجزة» التي ظهرت «كانت لبعضها»
أي لبعض الأمور التي تقدم ذكرها «لكنك تجاريت» على الله تعالى «بالكذب» فيما
ادّعيت «طمعا في نيل الدرجة العلياء وهي النبوءة».
وإذا جوزنا هذا من قولهم لم تقم حجة
لنبي على قومه في تكذيبهم إيّاه ، والتبس المحق بالمبطل.
«والله تعالى عدل حكيم لا يفعل ذلك» لأنه
ضد الحكمة.
«وأيضا» فإن المعجز «لا يكون معجزا إلّا
إذا كان معرّفا بالنبوّة ولم
يقع» أي التعريف فيما
جوزوه على غير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام البتة «أو» كان حصول ذلك المعجز «بعد
الدعوى للمعجز والدعوى للمعجز لا يكون إلّا بعد الوحي» من الله سبحانه إلى النبيء «إن
الله سيفعل له ذلك المعجز ، وليس الوحي إلّا للأنبياء عليهم» الصلاة و «السلام
إجماعا».
فثبت بذلك أن
المعجز لا يكون إلّا للأنبياء عليهمالسلام.
قال «أئمتنا عليهم» «السلام : وكرامات
الصالحين من نحو إنزال الغيث وإشفاء المريض وتعجيل عقوبة بعض الظالمين الحاصلة
بسبب دعائهم» أو تغيّظهم وحرج صدورهم «ليست بمعجزات» لهم وإن كانت خارقة للعادة «لعدم
حصول شرط المعجز فيها» وهو التعريف أو وقوعه بعد الدعوى مطابقا كما مرّ «وإنما هي
إجابة من الله تعالى لدعائهم» وتكريم وتشريف لهم من الله سبحانه لما هم عليه من
خالص الإيمان واتّباع ما يرضي الرحمن «لأن الله سبحانه قد تكفل لهم بالإجابة» لقوله
تعالى : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ
لَكُمْ) كما ورد به الأثر عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ولما في ذلك من المصالح العظيمة ورفع منار الإسلام
والتطاف كثير من الناس بسبب ذلك وغير ذلك ممّا لا يخفى مع زوال الوجه المقتضي
للقبح.
قال عليهالسلام : «ولعل مراد الإمام
المهدي عليهالسلام
بما مرّ»
من قوله : إنه
يجوز ظهور المعجز على الصالحين «هذه الكرامات» التي ذكرناها وسمّاها معجزا على سبيل التسامح.
قلت : وهذا حق وقد
دلّ عليه قوله فيما سبق.
«فإن ادّعاه» أي المعجز أحد لادّعائه
النبوّة وهو «كاذب كفى» في تكذيبه «تخلفه» أي عدم وقوعه.
«وقيل : يجب حصول النقيض إذا كان ادعى
إلى تكذيبه»
لما فيه من اللطف
وإلّا لم يجز لجريه مجرى العبث وهذا هو قول الإمام المهدي عليهالسلام.
__________________
وقيل : بل يجب
حصول النقيض مطلقا ، ومن ذلك قصة مسيلمة الكذاب فإنه لما نقل إليه وإلى أصحابه أن
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بصق في بئر في المدينة كان ماؤها مالحا فعذب.
فقال أصحاب مسيلمة
: افعل لنا في هذه البئر كما فعل محمّد.
فبصق فيها ، قيل :
فغار ماؤها فيبست. ذكره الإمام المهدي عليهالسلام. قال : وأصحابنا يمنعون صحة هذه الرواية.
وقالت «البهشمية : لا يجوز» حصول النقيض
«لأن تخلف مراده كاف» فالزيادة عبث.
«قلنا : لا يجب» حصول النقيض «لعدم دليل
الوجوب» ولو كان ادعى إلى تكذيبه «مع حصول الكفاية بالتخلّف» واللطف غير واجب عليه
تعالى «ولا منع»
من حصول النقيض «لأنه
حسن» ولا وجه لقبحه.
واعلم : أنه لا
بدّ للرسول والنبيء من معجز يأتي به الملك يدل على صدقه أنه رسول إلى الرسول
والنبيء.
وقد قيل : إن
النبيء يعرف الملك المرسل إليه ضرورة.
وقال الإمام أحمد
بن سليمان عليهالسلام في كتاب الحقائق : والذي دلّ محمّداصلىاللهعليهوآلهوسلم على أن جبريل عليهالسلام رسول من الله إليه : ما أراه من المعجزة الخاصة لنفسه لأنه
لو لم يره معجزة لنفسه لم يتحقق صدقه ، كما أنه لا يتحقق صدق النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم إلّا بمعجزة.
فأول ما نزل جبريل
إلى النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم : ما روي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن علي عليهمالسلام قال : (نزل إلى الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم جبريل صلّى الله عليه وعليه جبّة من سندس بأعلى الوادي وهو
يرعى غنما لأبي طالب ، فأخرج له درنوكا من درانيك الجنّة فأجلسه عليه ثم أخبره أنه
رسول الله صلىاللهعليهوآله
__________________
وسلّم وأمره بما
أراد أن يأمره به ، فلمّا أراد جبريل عليهالسلام أن يقوم أخذ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بطرف ثوبه ثم قال له «ما اسمك؟ فقال جبريل» فقام رسول الله
صلىاللهعليهوآلهوسلم فلحق بالغنم فما مرّ بشجرة ولا مدرة إلّا سلّم عليه يقول :
السلام عليك يا رسول الله. قال في الحقائق : ومن معجزات جبريل صلّى الله عليه
الخاصة له ما روي أن النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم رأى جبريل صافّا في الهوى قد سدّ الأفق).
قال عليهالسلام : وروي أن جبريل جاءه صلىاللهعليهوآلهوسلم فأخرجه إلى البقيع وانتهى به إلى مقبرة ، فإذا جثوة في
التراب فضربها برجله وقال : قم بإذن الله ، فانتفض التّراب فإذا هو شخص قد صار
حيّا وهو يقول : يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله ، ثم ضربها فعادت إلى ما كانت
عليه.
وانتهى به إلى
جثوة أخرى فضربها فقام صاحبها وهو يقول : الحمد لله ثم ضربها فعادت إلى ما كانت
عليه.
فقال : يا محمد
فعلى هذا يبعثون.
فإن قيل : فالملك
بما يعرف أوامر الله ونواهيه ورسالته من عند الله؟
فالجواب ما رواه
الهادي عليهالسلام حيث قال : واعلم هداك الله أن القول فيه عندنا : كما قد
روي عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أنه سأل جبريل عن ذلك فقال : آخذه من ملك فوقي ويأخذه
الملك من ملك فوقه ، فقال «كيف يأخذه ذلك الملك ويعلمه فقال جبريل عليهالسلام :
يلقى في قلبه
إلقاء ويلهمه الله إيّاه إلهاما».
وكذلك هو عندنا
أنه يلهمه الملك الأعلى إلهاما فيكون ذلك الإلهام من الله إليه وحيا ، كما ألهم
تبارك وتعالى النحل ما تحتاج إليه وعرفها سبيلها ... إلى آخر كلامه عليهالسلام.
واعلم : أنه يجوز
أن يرسل الله نبيئين في زمان واحد والعقل يحكم بجواز ذلك وحسنه كما قد وقع
كإبراهيم ولوط عليهماالسلام.
فإنّ لوطا أرسل
إلى المؤتفكات وهي خمس قرى على ما رواه أهل التفسير ورسالة إبراهيم صلوات الله
عليه إلى من سواهم.
وكموسى وهارون عليهماالسلام.
(فصل)
في ذكر نبوءة نبيئنا محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم
ومعجزاته.
اعلم : أن صحة
نبوءته صلىاللهعليهوآلهوسلم معلومة لا ريب فيها عند العقلاء كافة.
وإنّما عاند كثير
من الكفار بعد أن علموا صدقه بالآيات الباهرات والمعجزات الظاهرات التي لا يمكن
دفعها إلّا بالمعاندة والمكابرة.
«ومعجزات نبيئنا محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم
كثيرة».
روى الحاكم أنها
ألف معجزة.
وروى الإمام يحيى عليهالسلام ومحمود بن الملاحمي أنها ثلاثة آلاف معجزة وأرادوا بذلك ما
ظهر له صلىاللهعليهوآلهوسلم من حال الطفولة بل من حال الحمل به إلى أن توفّي صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وقال القاضي عياض
في الشفا : اعلم : أن معجزات نبيئنا صلىاللهعليهوآلهوسلم مع كثرتها لا يحيط بها ضبط.
فإنّ واحدا منها
وهو القرآن لا يحصى عد معجزاته بألف ولا ألفين ولا أكثر. واختلف في المتواتر منها
:
فقال «أئمتنا عليهم» «السلام والبغدادية
: وقد تواتر منها مع القرآن كثير : كحنين الجذع».
وذلك أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يخطب إلى جذع نخل من قبل أن ينصب له المنبر ، فلمّا
نصب وتحول إليه النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم حنّ الجذع كما يحنّ الفصيل فما سكن حتى التزمه النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وفي أمالي أحمد بن
عيسى عليهالسلام قال محمد : حدثني أحمد بن
عيسى عن الحسين عن
أبي خالد عن زيد بن علي عليهمالسلام.
قال : كان في
المسجد جذع نخلة يستند إليه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إذا خطب الناس يوم الجمعة.
فقال يوما : «من
يصنع لي منبرا؟ فقال رجل : أنا أصنعه ، فقال : اجلس ، فقام آخر فقال : أنا أصنعه
فقال ـ : اجلس ، فقام آخر فقال : أنا أصنعه إن شاء الله تعالى ، فقال : اصنعه فإنّ
المستثنى معان موفّق إن شاء الله تعالى ، انطلق فاصنع لي منبرا مرقاتين والثالثة
التي أجلس عليها لكي أتبيّن من خلفي ومن عن يميني ومن عن شمالي ويسمع الناس صوتي ،
فلما جاء به أمره فوضعه في مقدّم المسجد فلما كان يوم الجمعة صعد المنبر فسلّم على
الناس ثم قال : آمين ثلاث مرات ، ثم نزل من المنبر إلى جذع النخلة فضمّها إليه ثم
صعد المنبر فقال : أيها الناس إن جبريل أتاني فاستقبلني ثم قال : يا محمد من أدرك
أبويه أو أحمدهما فمات فدخل النار فأبعده الله قل آمين فقلت آمين ، ومن أدرك
شهر رمضان فلم يغفر له فمات فدخل النار فأبعده الله قل آمين ، فقلت آمين ، ومن
ذكرت عنده فلم يصلّ عليك فمات فدخل النار فأبعده الله قل آمين فقلت آمين.
وأما النخلة حين
احتضنتها فإنها حنّت حنين الناقة إلى ولدها لفراقي إيّاها ، فلما احتضنتها دعوت
الله يسكن ذلك منها ولو لا ذلك لحنّت حتى تقوم الساعة».
وأخرج البخاري عن
ابن عمر : كان النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم يخطب إلى جذع النخلة ، فلما اتخذ المنبر تحول إليه فحنّ
الجذع فأتاه فمسح يده عليه.
وأخرج أيضا عن
جابر بن عبد الله : كان المسجد مسقوفا على جذوع من نخل ، فكان النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم إذا خطب يقوم على جذع منها ، ولما وضع له المنبر وكان عليه
فسمعنا لذلك الجذع صوتا
__________________
كصوت العشار حتى
جاء النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم فوضع يده عليه فسكت .
ومنها : تكليم
العضو المسموم في غزوة خيبر.
ومنها انفجار
الماء من بين أصابعه ، وإشباع الخلق الكثير من اليسير غير مرة : كصاع جابر بن عبد
الله الأنصاري وعناقه أكل منه ألف رجل ومجيء الشجرة تخد الأرض ، وتسبيح الحصى في
كفه صلىاللهعليهوآلهوسلم وغير ذلك.
وقال «أبو علي وأبو هاشم» وغيرهما : «لم
يتواتر منها» أي من معجزاته صلىاللهعليهوآلهوسلم «إلّا القرآن وحده».
وقالوا : «وإلّا لشاركنا الكفار في
العلم به» أي لو تواتر غير القرآن لعلمه الكفار مثلنا إذ التواتر لا يختص المسلمين
دون غيرهم.
«قلنا» جوابا عليهم «عدم علمهم» أي
الكفار «لا يقدح في التواتر» ولا يبطله لو فرضنا أنهم لم يعلموا ذلك «كمن لا يعلم
صنعاء ، وقد تواتر لكثير» من الناس فجهل بعض الناس لا يقدح في التواتر كما ذلك
مقرّر في موضعه من أصول الفقه.
ولقد كثر العجب من
الشيخين ومن تبعهما حيث شرطوا في صحة تواتر معجزاته صلىاللهعليهوآلهوسلم علم اليهود والنصارى وسائر الكفار بها ، مع جحدهم جميعا
لمعجزاته وتصميمهم على أنها سحر وجحد اليهود والنصارى صفته صلىاللهعليهوآلهوسلم المذكورة في التوراة والإنجيل ، وتحريفهم الكلم عن مواضعه.
وقد أكذبهم الله
جميعا في القرآن بقوله عزوجل (وَقالُوا لَوْ لا
يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ
الْأُولى) .
وقوله عزوجل : (يَعْرِفُونَهُ كَما
يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) .
__________________
وقوله تعالى : (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ
الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) فكيف يصحّ إقرار الكفار بمعجزاته صلىاللهعليهوآلهوسلم مع جحدهم لنبوءته ومكابرتهم للعقول.
وكيف اشترطوا علم
الكفار في معجزاته صلىاللهعليهوآلهوسلم دون غيرها من الأخبار المتواترة؟
وكيف يصحّ عندهم تواتر القرآن الكريم لأن الكفار لم يصدّقوا به ولم
يشاركونها في العلم به على هذه الصفة والترتيب وعدم الزيادة والنقصان فهذه جهالة
كبيرة؟
قال «أئمتنا عليهم» «السلام والبصرية» من المعتزلة وهو قول أكثر المفسرين كابن عباس وابن مسعود
وابن عمر وابن عمرو بن العاص وأنس وجبير بن مطعم وحذيفة ومجاهد وإبراهيم وغيرهم : «وانشقاق
القمر»
الذي ذكره الله
سبحانه في القرآن «قد وجد» وهو «معجزة» للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم.
قال ابن عباس :
انفلق فلقتين فلقة ذهبت وفلقة بقيت.
وفي الكشاف عن أنس
: أن الكفار سألوا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم آية فانشق القمر مرتين.
وكذا عن ابن عباس
وابن مسعود.
وعن ابن مسعود :
رأيت حراء بين فلقي القمر. انتهى.
وفي البخاري
بإسناده إلى ابن مسعود قال : انشقّ القمر على عهد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فرقتين : فرقة فوق الجبل وفرقة دونه ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم «اشهدوا».
وفي رواية له عن
ابن مسعود أيضا : انشقّ القمر ونحن مع النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم فصار فرقتين فقال لنا «اشهدوا اشهدوا» وفي
__________________
رواية له أيضا عن
ابن عباس قال : انشقّ القمر في زمن النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وفي رواية عن أنس
قال : سأل أهل مكة أن يريهم آية ، فأراهم انشقاق القمر. وفي رواية له عن أنس أيضا
قال انشقّ القمر فرقتين.
قلت : أما رواية
مرتين فلعلها سهو أو تحريف من الناسخ والله أعلم.
«خلافا للبلخي» أي أبي القاسم البلخي وأبي الحسين «الخياط» وهو أستاذ البلخي فقالا : نقطع بأنه لم يقع وإنما يقع يوم القيامة وروي أيضا عن عطاء
والحسن قالوا : لو وقع لكان متواترا مشهورا عند المخالف والمؤالف لعظم موقعه وكونه
من الخوارق الباهرة.
«لنا» حجة عليهم «قوله تعالى» (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ
الْقَمَرُ) «والظاهر» من قوله (وَانْشَقَّ») «المضي» لأنه فعل ماض ولا وجه للعدول عن الظاهر.
ولقوله تعالى
بعدها (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً
يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) .
«و» لنا أيضا «أخبار كثيرة» تقضي بذلك :
«منها : حتى رأى عبد الله بن مسعود جبل
حراء من بين فلقيه».
كما سبق ذكره.
وأما قول البلخي :
إنه لو وقع لم يقع التّمالي على دفعه وإنكاره :
فنقول : قد تمالت
اليهود على إنكار كلام عيسى صلوات الله عليه في المهد ، وإحياء الموتى.
وأيضا : فإن
المشركين لمّا كذبوا وجعلوا ذلك سحرا لم يختلفوا به ولا بنقله بل جعلوه وراء ظهورهم مخافة أن يكبر أمر النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم مع أنه كان ليلا.
__________________
وقد أخبرني الشريف
الفاضل هاشم بن حازم الواصل من مكة من أولاد الشريف أبي نميّ : أن موضعا في جبل
أبي قبيس يسمّى : منشق القمر تسمية مشهورة عندهم ولا يعرفون ما وجهها لأن في
الروايات أن النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم قام على جبل أبي قبيس ونادى القمر فأقبل يركض من السماء
حتى وقف على الكعبة واستدار وتكامل ضوؤه ونوره ثم نزل من السماء فطاف بالكعبة سبعة
أشواط ثم أتى إلى النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال : السلام عليك يا سيد الأولين والآخرين أشهد أن لا
إله إلّا الله وحده لا شريك له وأشهد أنك محمد رسول الله صلّى الله وسلّم عليك ،
ثم دخل في كمّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم الأيمن وخرج من كمّه الأيسر ثم مضى نصفه شرقا ونصفه غربا
ثم عرج السماء فطلع هذا النصف من المشرق وهذا من المغرب والتأما وصارا قمرا مضيئا نيّرا ... الخبر.
واعلم : أنه لما
كان نبيئنا صلىاللهعليهوآلهوسلم خاتم النبيين وأنه لا نبيء بعده أنزل الله عليه القرآن
وجعله الحجة على خلقه ومعجزته الكبرى الباقية إلى انقطاع التكليف.
ولا خلاف بين
الأمّة أنه كلام الله وأن محمّدا صلىاللهعليهوآلهوسلم جاء به ، وأنه معجزته الكبرى.
واختلفوا في وجه
إعجازه :
فقال «أئمتنا عليهم» «السلام والجمهور من غيرهم : وإعجاز
القرآن في بلاغته الخارقة للعادة» التي لا يقدر عليها المخلوق قال الحاكم : وفيه الإعجاز من وجوه :
منها : النظم وذلك
أنه كلام ليس بشعر ولا خطبة ولا سجع فأتى بنظم لم يوجد مثله في كلام المتقدمين ولا
قدر أحد في أيامه ولا بعده على ذلك. انتهى.
__________________
والفصاحة في عرف
اللغة : يوصف بها الكلمة والكلام والمتكلم.
فيقال : كلمة
فصيحة ، وكلام فصيح ، ومتكلم فصيح.
وبسط الكلام في
ذلك في كتب المعاني والبيان.
والبلاغة يوصف بها
الكلام والمتكلم فيقال : كلام بليغ ومتكلم بليغ ومعنى بلاغة الكلام : إيراده فصيحا
مطابقا لمقتضى الحال من إيجاز وإطناب ومساواة مؤكّدا أو غير مؤكّد محسّنا بأي وجوه
التحسين.
ولا شكّ أن ألفاظ
القرآن المركبة حاصلة فيها حقيقة الفصاحة والبلاغة وذلك يعلم بالضرورة عند تتبع
ألفاظه ومعرفة أساليب العرب في كلامها فيعلم كل عالم بلغة العرب مفرغ قلبه
لاستماعه ومصغ إليه بكل لبّه ومتدبّر لعجائبه أنه ليس بكلام البشر إذ لا يساويه
ولا يدانيه كلامهم ولا يقدر أحد منهم أن يأتي بمثله.
«وقيل» بل وجه إعجاز القرآن «للإخبار
بالغيب»
كقوله تعالى : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ
تَفْعَلُوا) فأخبر أنهم لا يفعلون وكان كما قال ، وقوله تعالى : (وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ
سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ) وكان كما قال.
«وقيل» بل وجه إعجازه «كون قارئه لا يكل»
عن تلاوته «وسامعه لا يمل» عن سماعه وهذا معلوم بالضرورة فإنه لا يزداد على كثرة
تلاوته وترديده في كل وقت إلّا حلاوة في قلوب أهل الإيمان بخلاف غيره فإن تكريره
يثقل على الألسن.
«وقيل» بل وجه إعجازه «سلامته من
التناقض والاختلاف» مع كثرة أمثاله وقصصه وأحكامه فلو كان من البشر لجاز فيه
التناقض والاختلاف كما قال تعالى : (وَلَوْ كانَ مِنْ
عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً)
.
«وقيل» بل وجه إعجازه «أمر يحسّ به ولا
يدرك» بوصف ولا تعبير وكأنه يريد حلاوة تلاوته واستماعه.
__________________
«وقيل» بل وجه إعجازه «صرفة» مخصوصة «عن
معارضته» أي صرف الله الخلق عن معارضته.
وهذا قول إبراهيم
النظام وأبي إسحاق النصيبيني من المعتزلة ، واختاره الشريف المرتضى من الإمامية.
قال في الشامل :
فإن عند هؤلاء أن الله تعالى ما أنزل القرآن ليكون حجة على النبوّة بل هو كسائر
الكتب المنزلة لبيان الأحكام من التحليل والتحريم ، والعرب إنما لم يعارضوه ليس
لكونه معجزا في نفسه وإنّما صرفهم الله عن معارضته مع إمكانها وصحتها منهم وسلبهم
العلم بما قال فهذا محصول مذهب أهل الصّرفة.
«قلنا» في الجواب على أهل هذه الأقوال :
«تحدّى الله به» أي بالقرآن «فصحاء العرب» جميعا.
ومعنى التّحدي :
هو طلب الفعل ممّن عرف عجزه عنه إظهارا للعجز عن معارضته مأخوذ من (حدي) الإبل وهو
حثّها على السير بكلام مخصوص يسمونه حديا. كذا ذكره في الغايات.
«فعجزوا» أي العرب «عن معارضة ما لا
إخبار فيه بغيب من السّور»
حيث قال تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا
نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ
مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) وفي آية : (قُلْ فَأْتُوا
بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ
اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) .
وقوله : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ
وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ
وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) .
والدليل على عجزهم
علمنا ضرورة قوة دواعيهم إلى إبطال أمر النبيء
__________________
صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وإلّا لما قاتلوا وقتلوا.
فلو قدروا على
المعارضة لكانت أهون عليهم من القتال.
وعلمنا أيضا ضرورة
أنهم يعلمون أن أمره يبطل بالمعارضة إذا حصلت وأنه يبطل الفضل الذي ادّعاه على
غيره.
فعلمنا حينئذ أنها
لم تقع المعارضة البتة ، وأنهم عجزوا عنها.
فإن قيل : قد نقلت
معارضة مسيلمة المتنبّئ :
روي أن مسيلمة قال
في معارضته : إنا أعطيناك الجواهر فصلّ لربك وجاهر ولا تطع كل شيخ فاجر.
وقال : يا ضفدع
بنت ضفدعين نقي في الماء ما تنقين لا الماء تكدرين ولا الشارب تمنعين ، أعلاك في
الماء وأسفلك في الطين ، لنا نصف الأرض ولقريش نصفها ، ولكن قريشا قوم يجهلون.
قلنا إن هذا
وأمثاله من جملة الهذيان الذي تمجّه الآذان وتعافه الأفهام وتسخر منه جميع الأنام
، ويعرفه كل ذي عقل قويم ولبّ سليم والمعارضة إنما تكون بالشيء الذي يشبه المعارض
فيشتبه المتعارضان حتى يحصل الغرض المقصود وهو بطلان الفضل.
«وليس ذلك» أي عجزهم عن المعارضة «إلّا
لبلاغته»
وفصاحته «و»
أما
«الإخبار بالغيب» فهو «معجزة أخرى» مضافة إلى معجزة البلاغة كما سبق ذكره.
«والأمور المذكورة في سائر الأقوال» وهي كون قاريه لا يكل وسامعه لا يملّ ، والأمر الذي يحسّ به
ولا يدرك ، والصّرفة التي ذكروها
«إنما كانت كذلك» أي كما قالوا «لأجل
بلاغته أيضا»
فلما بلغت بلاغته
الغاية التي عجز عنها المخلوق صار قاريه لا يكل وسامعه لا يملّ لما ذاقه فيه من
الحلاوة والأخذ بمجامع القلوب.
(فصل)
«ونبيئنا» محمد «صلىاللهعليهوآلهوسلم»
رسول من الله «صادق
لشهادة المعجزات
الكثيرة على صدقه ، ولبشارة الرسل المتقدمة صلوات الله عليهم به».
وأعظم معجزاته صلىاللهعليهوآلهوسلم القرآن وهو متواتر عند جميع الأمّة محفوظ من الله سبحانه
عن الزيادة والنقصان والتغيير والتبديل كما قال عزوجل : (إِنَّا نَحْنُ
نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) وهو الحجة على عباده إلى انقطاع التكليف.
وأما بشارة الرسل
المتقدمة صلوات الله عليهم فكما قال تعالى : (النَّبِيَّ
الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ
وَالْإِنْجِيلِ) .
وقد أخبر بصفته من
آمن من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وغيره من أحبار اليهود ، وأبي حارثة وحارثة
بن أثال من أحبار النصارى وغيرهم.
وفي صحيفة آدم عليهالسلام في المسباح الثاني من فواصلها ما لفظه : (لأني باعث فيهم
رسلي ومنزل عليهم كتبي أبرم ذلك من لدن أول مذكور من البشر أحمد نبيء وخاتم رسلي
ذلك الذي أجعل عليه صلواتي وأسلك في قلبه بركاتي وبه أكمل أنبيائي ونذري).
وكذلك في صحيفة
شيث وتابوت إبراهيم والتوراة والإنجيل ، وقد ذكرت بعضه في الشرح.
وهو صلىاللهعليهوآلهوسلم خاتم النبيين والمرسلين ، وشريعته خاتمة الشرائع ، فلا
يجوز أن يأتي بعده نبيء ولا أن تنسخ شريعته لما ثبت من الدليل السمعي الذي لا
اختلاف فيه وهو قوله تعالى: (وَلكِنْ رَسُولَ
اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) .
وكان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يدين بذلك ويخبر به.
وهو مرسل إلى
الإنس والجن جميعا لقوله تعالى : (وَإِذْ صَرَفْنا
إِلَيْكَ
__________________
نَفَراً
مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) ولأنّ الله تحدّى بالقرآن الإنس والجن وأمّا يأجوج ومأجوج
: فقيل ليسوا بمكلفين وإنما حكمهم حكم البهائم.
قلت : ولا بعد في
هذا القول.
وقيل : هم مكلفون
وهم من أولاد يافث بن نوح ، وهم والترك إخوة ، واختلف من قال بتكليفهم :
فقال بعضهم :
مكلفون بالعقليات فقط دون الشرعيات لأنها لم تبلغهم.
وقيل : بل مكلفون
بالعقليات والشرعيات معا.
وإن نبيئنا صلىاللهعليهوآلهوسلم أطلعه جبريل عليهالسلام عليهم ليلة الإسراء وبيّن لهم الشرائع فلم يقبلوا والله
أعلم. وجحد أهل الإلحاد والبراهمة واليهود والنصارى نبوّة نبيئنا صلىاللهعليهوآلهوسلم ، والحجة عليهم معروفة مشهورة ، وقد اكتفينا بما ذكرناه في
الشرح.
«وأتى» نبيئنا صلىاللهعليهوآلهوسلم
«بشريعة مبتدأة» أي لم يبلّغها غيره «وتقرير بعض الشرائع السالفة وهي» أي ـ الشرائع
الماضية التي قررها هي «التي نصّ عليها وعمل بها» وأمر بها كالحج وآية القصاص
والصلاة والصيام وقصّ الشارب والختان والمضمضة والاستنشاق وغير ذلك ، وإن اختلفت
الشروط في بعضها.
«وقيل : بل» أتى النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم
«بشريعة إبراهيم» عليهالسلام
لقوله تعالى : (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى
تَهْتَدُوا ، قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) .
وقوله تعالى : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ
مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) .
__________________
وقوله تعالى : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ
إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) .
وفي كتاب الصفوة
لزيد بن علي عليهماالسلام :
(فأما بنو إسماعيل
فهم أميّون لم يكن لهم كتاب ولم يبعث فيهم غير محمدصلىاللهعليهوآلهوسلم ، فبعثه الله على ملّة إبراهيم عليهالسلام ، ونسبه إلى إبراهيم وجعله أولى النّاس به حين بعثه ،
وبينه وبين إبراهيم ما شاء الله من القرون فقال : (إِنَّ أَوْلَى
النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُ) انتهى «وقيل
: بل» أتى صلىاللهعليهوآلهوسلم «بكل شرع لم ينسخ»
لقوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ
هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) .
وقوله تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى
بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ
وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) .
«وقيل» أتى صلىاللهعليهوآلهوسلم «بشريعة موسى» صلوات الله عليه لقوله تعالى : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ
النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) الآية ولأنه صلىاللهعليهوآلهوسلم رجع إلى التوراة في رجم اليهودي.
«قلنا» الدليل على قولنا : أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم «لم يرجع إلى الكتب
السالفة»
أي المتقدمة أي ما أنزل على آدم وشيث ونوح وإبراهيم وساير
النبيين من الكتب لم يرجع في شرائعه وأحكامه إليها «إجماعا» بين الأمّة ، بل أنكر على عمر بن الخطاب اختلافه إلى مدارس
اليهود ونظره في التوراة ، وقال «أما إنّه لو كان أخي موسى في الحياة لما وسعه أن
ينظر في غير الكتاب الذي أنزل عليّ».
فعلمنا أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم أتى بشرع جديد وإن اتفقت
__________________
الشرائع في حكم أو
أحكام فذلك لا يقتضي أنه إنما عمل بالشرع المتقدم.
وأما رجوعه صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى التوراة في رجم اليهودي فأراد صلىاللهعليهوآلهوسلم تكذيبهم وأن الرجم ثابت في شريعتهم لأنهم أنكروه وكتموه.
وأمّا الاحتجاج
بالآيات المتقدمة فلا يدل على ما ذكروه لأن المراد الاقتداء بالأنبياء عليهم
الصلاة والسلام في إيثار طاعة الله سبحانه والصبر على ما يلقاه من أذى المشركين ،
وفيما ألحق فيه واحد كأصول الدين وما لم ينسخ من الشرائع والله أعلم.
(تنبيه)
هل كان صلىاللهعليهوآلهوسلم
مكلّفا قبل البعثة بشرع أو لا؟
الأقرب : أنه كان صلىاللهعليهوآلهوسلم مكلّفا بشرع وإن لم نعلم كيفيته لقوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها
نَذِيرٌ) ونحوها.
وحكى الإمام
المهدي عليهالسلام عن أبي علي وأبي هاشم وأبي عبد الله البصري : أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم لم يكن متعبدا بشرع.
وحكي عن بعضهم
التوقّف.
والحق : ما ذكرناه
يؤيّده قول الهادي عليهالسلام في كتاب البالغ المدرك (وليست فترة من الهدى ولكنها فترة
من الرسل ، وفيها كتبه وحججه وبقايا من أهل العلم يحيون العلم ويحيون به ... إلى
آخره).
وقوله عليهالسلام في كتاب الديانة : (وندين بأن حجة الله قائمة على أهل
الفترات البالغين الأصحّاء السالمين بفطر عقولهم وما يجدونه في أنفسهم ، وما يرونه
في سماوات الله وأرضه ، وما يأتي به الليل والنهار من عجائب تدبيره ، وما قد ورد
عليهم من أخبار الأنبياء المتقدمين وأخبار كتبهم وشرائعهم وأحكامهم ... إلى آخره).
__________________
(باب الشريعة)
الشريعة في أصل اللغة : مورد الماء.
وفي الاصطلاح «هي الأحكام الخمسة» وهي ؛
الوجوب ، والندب ، والإباحة ، والحظر ، والكراهة ، وما يتصف بها وهو : الواجب
والمندوب والمباح والمحظور والمكروه «وأدلتها وهي الكتاب والسّنّة إجماعا» بين
الأمّة.
قال «أئمتنا عليهمالسلام
والجمهور» من غيرهم : «والقياس» فإنه من الأدلّة.
والحقيقة أن
الأدلّة كلها راجعة إلى الكتاب لأنه الذي دلّنا على العمل بالقياس وعلى العمل بقول
النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم وتقريره وفعله.
«خلافا للإمامية وغيرهم» كبشر بن المعتمر والظاهرية والخوارج والنظام والجاحظ
والجعفرين والإسكافي فقالوا : لا يعمل بالقياس واختلفوا في التعليل :
فقيل : إنه لا
يفيد العلم والمطلوب من الأدلة العلم.
وقيل : لبناء
الشرع على مخالفته. وقيل غير ذلك.
وقالت الإمامية :
بل لأنه يجب الرجوع إلى الإمام المعصوم في كل شيء.
«لنا» حجة على الجميع : «قوله
تعالى :
(فَإِنْ تَنازَعْتُمْ
فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ
__________________
إِلَى
اللهِ وَالرَّسُولِ) .
«وقوله تعالى : (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ
فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ) .
«أي مردود إلى الله».
«وقد قال أمير المؤمنين علي كرّم الله
وجهه في الجنة» في تفسير ذلك :
«الرّدّ إلى الله هو الرّدّ إلى كتابه
تعالى ، والرّدّ إلى رسوله هو» الرّدّ «إلى سنّته الجامعة» أي الصحيحة المعلومة
بالتواتر أو نحوه.
«غير المفرّقة» وهي غير المعلومة .
قلت : ويجوز
الرّدّ إلى السّنّة المظنونة عند من جوز العمل بخبر الآحاد مع الظن وإن كان النزاع
لا يزول حينئذ والله أعلم.
«والرّدّ إلى الله وإلى رسوله بغير ذلك»
أي بغير هذا التفسير الذي ذكره أمير المؤمنين صلوات الله عليه «غير ممكن ضرورة» أي
يعلم عدم إمكانه بضرورة العقل.
«ولا يمكن الرّدّ إلى الكتاب والسّنّة
عند فقد النص»
على الحكم
المتنازع فيه «منهما» أي من الكتاب والسّنّة «إلّا
بالقياس»
الصحيح «وذلك
معلوم لمن
عقل
والله أعلم».
بيانه : أن الرّدّ
لشيء إلى شيء ليتّحد حكمهما إنما يكون مع حصول الشّبه بينهما بالعلّة الجامعة وذلك
حقيقة القياس.
«و» لنا أيضا «إجماع الصحابة عليّ صلوات
الله عليه وغيره» على العمل بالقياس ، وكانوا بين قائس وساكت سكوت رضى ، والمسألة قطعية لأنها أصل من
أصول الشريعة.
فلما كانت قطعية
علمنا أن سكوت الساكت منهم سكوت رضى وإلّا
__________________
لزم أن يكون
سكوتهم منكرا ، بخلاف المسائل الاجتهادية.
قال ابن الحاجب :
دليل السمع على العمل بالقياس قطعي ، خلافا لأبي الحسين ، ويؤكد ذلك دلالة العقل
وهو أن يقال : إذا كلف الله بفعل فلا بدّ أن ينصب لنا طريقا إلى صفة ذلك التكليف
من كونه واجبا أو مندوبا أو قبيحا أو مكروها.
فإن وجد في الكتاب والسّنّة تلك الطريق فذلك ، وإن لم نجدها فيهما
فإن جاز أن يعرف بالقياس صفة الفعل كما يجوز أن يعرف بالنص جاز أن يكون القياس
طريقا إلى صفة ذلك الفعل.
كما أنا نعلم أنه
لا فرق بين أن ينص الله تعالى على تحريم الخمر والنبيذ المسكر ، وبين أن ينص على
تحريم الخمر ، وينص على أن علة تحريمه الإسكار فيلزم القياس عليه.
وقال علي صلوات
الله عليه : (أوّل القضاء ما في كتاب الله) ، ثم ما قاله الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ثم ما أجمع عليه الصالحون فإن لم يوجد ذلك في كتاب الله
تعالى ولا في السّنّة ولا فيما أجمع عليه الصالحون اجتهد الإمام في ذلك لا يأل
احتياطا واعتبر وقاس الأمور بعضها ببعض فإذا تبيّن له الحق أمضاه ، وللقاضي ما
لإمامهم.
قال «أئمتنا عليهم» «السلام ومن وافقهم
: فإن فقد الدليل من الثلاثة» أي الكتاب والسّنّة والقياس «رجع في الحادثة» التي
فقد الدليل عليها «إلى قضية العقل» أي إلى ما قضى به العقل «من تقبيح الفعل» أي
الحكم بقبحه «أو تحسينه» أي الحكم بحسنه ، وإنما كان كذلك «لعلمنا أن الله تعالى
لم ينقل حكم العقل في تلك الحادثة» إذ لو جوزنا نقل حكم العقل في تلك الحادثة ولم
ينصب لنا دليلا على ذلك لكان تكليفا لما لا يطاق وذلك لا يجوز عليه تعالى.
ولهذا قال عليهالسلام : «وإلّا لورد» أي ولو لم يكن حكم العقل باقيا
__________________
لورد ذلك الدليل
الناقل «كغيره»
من الأدلة الناقلة
لحكم العقل وقالت «المجبرة وبعض الحنفية
: لا يصحّ ذلك»
أي الرجوع إلى
قضية العقل لأنه لا حكم للعقل عندهم كما مرّ.
«قلنا : لا مانع» من خلو بعض الحوادث عن النص اعتمادا على دليل العقل.
«قالوا» : قال تعالى : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) فدلّ على أنه لا بدّ في كل حادثة من دليل خاص من أي
الثلاثة.
«قلنا» لأن مرجعها كلها إلى الكتاب كما
مرّ «وعدم نقل حكم العقل» في تلك الحادثة «ليس بتفريط بل جاء القرآن بتقريره» أي
تقرير حكم العقل حيث قال
تعالى : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها
فُجُورَها وَتَقْواها) أي ألهم كل نفس ما يزكيها وما يدسيها وما ذلك إلّا بخلق
العقل الذي فطره على استقباح القبيح واستحسان الحسن فقد دلّ الكتاب على العمل
بقضية العقل فصدقت الآية.
(فصل)
«فالكتاب» الذي سبق ذكره ، وهو الأول من الأدلة «هو
القرآن»
سمّي قرآنا من
الجمع والضّم لأنه آي مجموعة.
«وهو المتواترة تلاوته» بين المسلمين.
«وخالف كثير في كون البسملة في أوائل
السّور قرآنا»
وهم بعض السلف من
الصحابة وقراء المدينة والبصرة والشام وفقهاؤها وأبو حنيفة ومالك والثوري
والأوزاعي قالوا : وإنما أتى بها للفضل والتبرّك عملا بقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم «كل أمر ذي بال لم
يبدأ في أوله باسم الله فهو أجذم».
وقيل «أبتر ، وقيل
: خداج».
__________________
قال جار الله ،
ولذلك لا يجهر بها عندهم في الصلاة.
وقال في التيسير
في معرفة القراءات السبع ما لفظه : اختلفوا في البسملة بين السور :
فكان ابن كثير
وقالون وعاصم والكسائي : يبسملون بين كل سورتين في جميع القرآن ما خلا الأنفال
وبراءة فإنه لا خلاف في ترك البسملة بينهما.
وكان الباقون فيما
قرأنا لهم لا يبسملون بين السور وأجمعوا على أنها بعض آية من القرآن في سورة
النّمل.
«و» خالف «أبي» بن كعب «في إثبات سورة
الحمد في المصحف»
(فزعم أنها لا تكتب) في المصحف ولم يخالف في كونها قرآنا.
«و»
خالف «ابن
مسعود في إثبات المعوّذتين» بكسر الواو
«فيه» أي في إثباتهما في المصحف لما رأى أن النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يعوّذ بهما الحسنين عليهماالسلام فاعتقد أنهما عوذتان فقط.
«لا في كونها» أي الحمد والمعوذتين «قرآنا» فلم يخالف فيه أحد «والأصح ثبوت
البسملة»
في أوائل السور
قرآنا ولهذا أثبتها السلف في المصحف ويجهرون بها في الصلاة.
قال ابن عباس : من
تركها فقد ترك مائة وثلاث عشرة آية من كتاب الله تعالى.
وقال : سرق
الشيطان من الناس آية.
قال الإمام الناصر
لدين الله أبو الفتح الديلمي عليهالسلام في تفسيره : وعندنا وعند علماء العترة عليهمالسلام أنها آية من فاتحة الكتاب ومن كل سورة أثبتت فيها وأن
تاركها تارك لآية من كتاب الله ، والدليل على ذلك ما ثبت عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم من قراءته لها مع ما كان يقرأ من السور ، فلولا أنها من
القرآن لما جاز لرسول
__________________
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يدخل في كلام الله عزوجل ما ليس منه كما أنه لا يجوز أن يخلط به كلاما سواه ، ولا
بيتا من الشعر.
والثاني : إجماع
الأمّة على اختلافها في إثباتها في كل سورة إلّا سورة براءة ، وإجماعهم حجة ، وليس
يثبت في القرآن ما ليس منه.
قلت : وكذلك حكى
الطوسي في تفسيره إجماع أهل البيت عليهمالسلام على أنها آية من القرآن في كل سورة.
قال : وهي آية
مستقلة وليست من السور التي كتبت في أولها إلّا فاتحة الكتاب فإنها منها عند كثير
من العلماء.
«و» الأصحّ أيضا «ثبوت
الثلاث»
أي الحمد
والمعوذتين «في المصحف لوقوع التواتر بذلك» أي بكون البسملة آية في كل سورة وبإثبات الحمد والمعوذتين
في المصحف بل قد وقع الإجماع على خلاف قول أبيّ وابن مسعود.
«ومعتمد أئمتنا عليهم» «السلام قراءة
أهل المدينة»
وهي قراءة نافع
ابن عبد الرحمن بن أبي نعيم مولى جعونة بن شعوب اللّيثي حليف حمزة ابن عبد المطلب
أصله من أصفهان ويكنى أبا رويم وتوفي في المدينة سنة تسع وستين ومائة ذكره صاحب
التيسير.
قال عليهالسلام : «قال الهادي عليهالسلام
: ولم يتواتر غيرها»
أي غير قراءة أهل
المدينة وساير القراءات عنده غير متواترة.
وقال المرتضى لدين
الله محمد بن يحيى عليهالسلام في الإيضاح : وأمّا أفضل القراءات فعلى ما أنزل الله سبحانه وإنما هذا
الاختلاف في القراءات تعمّق من بعض الناس وطلب للرئاسة ، وأصحّ القراءات وأثبتها
ما لا يقع فيه اختلاف فقراءة أهل المدينة لأنّ القرآن نزل عامته في بلدهم وأخذوه
من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم تلقينا وتفهيما فهي القراءة التي أنزلها الله على نبيئه صلىاللهعليهوآلهوسلم لا تخرم حرفا وهي قراءتنا وبها نأخذ وعليها نعتمد وهي التي
تعلّمنا من أسلافنا صلوات الله عليهم.
__________________
وقال «الجمهور : بل القراءات السبع» كلها متواترة وهي : قراءة
نافع ، وأبي عمرو ، والكسائي ، وحمزة ، وابن عامر ، وابن كثير ، وعاصم.
قال الزركشي على
ما حكاه عنه صاحب الإتقان ، والتحقيق أنها متواترة عن الأئمة السبعة.
أما تواترها عن
النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم ففيه نظر فإن إسنادهم لهذه القراءات إلى السبعة موجود في
كتب القراءات وهي نقل الواحد من واحد ، قال الأسيوطي : وفي ذلك نظر.
قال «أكثرهم» أي أكثر الجمهور : تواترت
القراءات السبع «أصولا وهو جوهر اللفظ» أي حروفه وكلماته وإعرابه «وفرشا» أي
وتواترت فرشا «وهو هيئته نحو المدّ والإمالة» والتّسهيل والتحقيق والتفخيم
والترقيق والإخفاء والإظهار.
وقال الفقيه يحيى بن حسن «القرشي وابن
الحاجب» وغيرهما : «لم يتواتر الفرش».
قال في الفصول :
وهو الأصح.
وقال «بعضهم
: بل العشر»
القراءات متواترة
وهي السبع المذكورات والثلاث التي زادها البغوي وهي : قراءة الشيخ أبي يعقوب
الحضرمي قال في الكشاف : وكان من السبعة فأخّره الرشيد وجعل مكانه الكسائي قال : وإنما
أخّره لأنه تأخّر عنهم وإن كان سابقا في العلم والفضل وقراءة أبي معشر الطبري ،
وأبي بن خلف الجمحي.
وقد قيل : إن
الثلاث هي : قراءة أبي يعقوب الحضرمي ، وأبي بن جعفر المخزومي القرشي مولى عبد
الله بن عباس ، وخلف بن هشام البزار البغدادي.
«والحرف الثابت في إحدى القراءتين دون
الأخرى عند الجمهور» أي عند القائلين بتواتر السبع وذلك «كمالك» فإن فيه زيادة
ألف. «وملك» بغير
__________________
ألف فإن الألف في
إحدى القراءتين «حرف
متواتر»
عندهم «أتى
به توسعة
للقارىء» إن شاء قرأ به وإن شاء تركه قالوا «ولا
يسمّى ذلك»
الحرف «على
انفراده
قرآنا» لأنه إنما أتي به توسعة لا حتما.
قالوا : «والمجتزي بالأخرى» أي القراءة بغير ألف «لم
يترك قرآنا كالمجتزي بإحدى
خصال الكفارة» أي كفارة اليمين فإنه إذا اجتزى بأحدها لم يترك واجبا عليه.
وقال جار الله «الزمخشري
و»
السيد الرضي «نجم
الدين»
صاحب شرح كافية
ابن الحاجب «وغيرهما» كالإمام الحقيني والإمام يحيى عليهماالسلام : «بل المختلف فيه» من القراءات «بين
السبعة»
القراء «وغيرهم
ليس بمتواتر»
كالألف في مالك بل
هو آحادي ولا فرق عند أهل هذا القول بين المختلف فيه بين السبعة وما عدا السبع
القراءات في أن ذلك آحادي وليس بمتواتر عندهم إلّا ما اتفقوا عليه.
قال الشيخ محمد بن
محمد بن محمد
«الجزري» الشافعي حاكيا «عن
الجمهور»
إن «القراءة» الصحيحة
«ما صحّ سندها» إلى النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم «ووافقت إحدى المصاحف العثمانية» التي أرسل بها عثمان إلى البلدان وحرق ما سواها من المصاحف «لفظا» وذلك بأن يكون لفظها موافقا للفظها كلفظ تعملون بالياء
والتاء أو بأحدهما.
«أو
تقديرا وذلك بأن
يحتملها الرسم»
أي رسم الخط كما
في قوله «ملك يوم الدين» فإنه يحتمل أن يكون مقصورا من مالك لأنه قد ينقص الألف في
مثل ذلك كثيرا كسليمن والرحمن وشيطن.
«و» لا بدّ مع ذلك أن يكون قد «وافقت
اللغة العربية»
في اللفظ والإعراب
«ولو بوجه» فصيح أو أفصح مجمعا عليه أو مختلفا فيه اختلافا لا يضر مثله
إذا كانت القراءة ممّا شاع وذاع.
«وإن لم تتواتر» تلك القراءة المقيدة بهذه القيود المذكورة قالوا : وكم
__________________
من قراءة أنكرها
بعض أهل النحو أو كثير منهم ولم يعتبر إنكارهم كإسكان (بارئكم) وخفض «الأرحام»
والفصل بين المضافين في «قتل أولادهم شركائهم» وغير ذلك.
قالوا : فإذا ثبتت
الرواية لم يردّها قياس عربية ولا فشوّ لغة لأنّ القراءة سنّة متّبعة يلزم قبولها.
قال الجزري «والشاذة ما وراء ذلك» أي ما اختلّ فيه أحد القيود المذكورة.
قال الجزري :
ونعني بموافقة أحد المصاحف العثمانية ما كان ثابتا في بعضها دون بعض كقراءة ابن
عامر «قالوا اتّخذ الله ولدا» في البقرة بغير واو «وبالزبر وبالكتاب» فإن ذلك ثابت
في المصحف الشامي ، وكقراءة ابن كثير «تجري من تحتها الأنهار» في آخر براءة بزيادة
(من) فإن ذلك ثابت في المصحف المكي.
وقولنا : ولو
احتمالا نعني به ما وافقه ولو كملك يوم الدين فإنه كتب في الجميع بلا ألف فقراءة
الحذف توافقه تحقيقا ، وقراءة الألف توافقه تقديرا لحذفها في الخط اختصارا.
فما جمع هذه
القيود فهي القراءة الصحيحة ولا يحلّ إنكارها بل هي من الأحرف السبعة التي نزل
القرآن بها ووجب على الناس قبولها سواء كانت عن الأئمة السبعة أم عن غيرهم من
الأئمة المقبولين.
ومتى اختلّ ركن من
هذه الأركان الثلاثة أطلق عليها ضعيفة أو شاذة أو باطلة سواء كانت عن السبعة أو عن
من هو أكبر منهم ، وهو مذهب السلف الذي لا يعرف عن أحد منهم خلافه.
«قلنا» ردّا على الجزري ومن تبعه : «ما
لم يتواتر» فلا نقطع بأنه من القرآن لأنه «يجوّز أن راويه سمعه خبرا فتوهّمه قرآنا»
ويجوّز أيضا أنه وقع في نقله سهو أو غفلة أو تصحيف من الكاتب أو نحو ذلك فلا تقع
الثقة بالقرآن مع ذلك كما روي عن أبي بن كعب في دعاء القنوت أنه قرءان وهو ما
أخرجه البيهقي من طريق سفيان الثوري يرفعه أن عمر بن الخطاب
قنت بعد الركوع
فقال : (بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إنّا نستعينك ونستهديك ونستغفرك ونثني عليك
ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك ، بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إيّاك نعبد ولك
نصلي ونسجد ، وإليك نسعى ونحفد نرجو رحمتك ونخشى عذابك الجدّ إن عذابك بالكفار
ملحق) قال قال ابن جريج : حكمت البسملة أنهما سورتان. حكى ذلك الأسيوطي في
الإتقان.
قال : وأخرج محمد
بن نصر المروزي في كتاب الصلاة عن أبي بن كعب أنه كان يقنت بالسورتين.
وأما صحة السند
المصطلح عليها عند أهل الحديث فهي لا تثمر العلم.
«وذلك» أي تجويز كونه خبرا
«تشكيك في كونه قرآنا والله تعالى يقول» (الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ) أي لا شكّ ولا ارتياب في شيء منه «فلا
بدّ من التواتر»
فيه وقد أعلمنا
الله سبحانه بحفظه عن الالتباس بغيره بقوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ
نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) .
وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم «إني تارك فيكم ما
إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبدا كتاب الله وعترتي أهل بيتي ... الخبر» ولا
يترك الله جلّ وعلا كتابه حجة على عباده إلى انقطاع التكليف إلّا وقد ضمن بحفظه عن
التغيير والتبديل والزيادة والنقصان.
وقال الهادي عليهالسلام : (وفي ذلك ما حدثني أبي عن أبيه أنه قال : قرأت مصحف أمير
المؤمنين علي بن أبي طالب عليهالسلام. عند عجوز مسنّة من ولد الحسين بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب صلوات
____________________________________
* هي السيدة نفيسة بنت الحسين بن زيد بن
الحسن بن علي بن أبي طالب عليهمالسلام
كانت من الصلاح والعلم والزهد والورع والعبادة على الحدّ الذي لا مزيد عليه يقال
إنها حجّت ثلاثين حجة وكانت كثيرة البكاء تديم قيام الليل
__________________
الله عليهم فوجدته مكتوبا أجزاء بخطوط مختلفة في أسفل جزء منها : وكتب
علي بن أبي طالب ، وفي أسفل وكتب سلمان الفارسي ، وفي آخر وكتب أبو ذر ، وفي آخر
وكتب عمّار بن ياسر ، وفي آخر وكتب المقداد.
كأنهم تعاونوا على
كتابته.
وقال جدي القاسم
بن إبراهيم : فقرأته فإذا هو هذا القرآن الذي في أيدي الناس حرفا حرفا لا يزيد
حرفا ولا ينقص حرفا ، غير أن مكان (قاتِلُوا الَّذِينَ
يَلُونَكُمْ) اقتلوا الذين يلونكم وقرأت فيه المعوذتين. انتهى.
«وأنزل القرآن على سبعة أحرف تخفيفا» أي لأجل التخفيف والتيسير ثم اختلفوا :
فقال «الجمهور : والمراد بالأحرف سبع
لغات عربية»
أي أنزل على لغة
سبع قبائل من العرب.
____________________________________
وصيام النهار فقيل لها ألا ترفقين بنفسك
فقالت كيف أرفق بنفسي وأمامي عقبة لا يقطعها إلّا الفائزون وكانت تحفظ القرآن
وتفسيره وقد ذكر أن الإمام محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه كان يزورها وهي من
وراء حجاب وكان إذا ألمّ به مرض أرسل إليها تدعو له بالشفاء لأنه عند ما دخل مصر
في سنة ١٩٩ ه سأل عن قبر الليث بن سعد فتوجه لزيارته وبعد أن فرغ من زيارة الليث
توجه لزيارة السيدة نفيسة وكانت تقيم بمصر منذ أن سجن والدها وهي حفيدة الحسن بن
علي بن أبي طالب عليهمالسلام
وزوجها إسحاق المؤتمن بن جعفر الصادق عليهمالسلام
توفيت رضي الله عنها في شهر رمضان سنة ٢٠٨ ه ودفنت بمنزلها وهو الموضع الذي به
قبرها الآن ويعرف بخط درب السباع ودرب بزرب وقد ذكرها وأثنى عليها صاحب كتاب
الروضة الأنيسة بفضل مشهد السيدة نفيسة وتقي الدين أبو العباس أحمد بن علي
المقريزي في كتابه المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزية
والشيخ عبد الرحمن الشرقاوي في كتابه أئمة الفقه التسعة عند معرض حديثه عن قدوم
الإمام الشافعي رضي الله عنه مصر انتهى.
__________________
«وقيل : بل» المراد «معاني الأحكام» الشرعية
:
حلال وحرام ،
ومحكم ومتشابه ، ومثل ، وإنشاء وخبر.
وقيل : ناسخ
ومنسوخ ، وعام وخاص ، ومجمل ومبيّن ، ومفسّر وقيل :
غير ذلك.
«وقيل : ليس المراد» بالسبعة الأحرف العدد
حقيقة «بل المراد بها السّعة
والتيسير» على القارئ فكأنّه قيل : أنزل
موسّعا ميسّرا على القارئ يقرؤه بلغات كثيرة لأنه قد لا يقصد بالعدد حقيقته كما في قوله تعالى : (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ
مَرَّةً) .
وقول الشاعر :
لأصبحنّ العاص
وابن العاصي
|
|
سبعين ضعفا
عاقدي النّواصي
|
«والظاهر» من هذه الأقوال هو «الأول
لأنّ اللغة العربية تسمّى حرفا» في لغة العرب.
(فائدة)
قال في الفصول :
ومعرفة قدر الآية ومحلها توقيف.
قال الأسيوطي في
الإتقان : الإجماع والنصوص المترادفة على أن ترتيب الآيات توقيفي لا شبهة في ذلك.
قال : وأما معرفة
قدر الآية فقال بعضهم : الصحيح أن الآية إنما تعلم بتوقيف من الشارع كمعرفة
السورة.
وقال الزمخشري :
الآيات علم توقيفي لا مجال للقياس فيه.
قال الأسيوطي :
وأما ترتيب السور فجمهور العلماء على أنه اجتهاد.
قال ابن فارس :
جمع القرآن على ضربين :
أحدهما : تأليف
السور كتقديم السبع الطوال وتعقيبها بالمئين فهذا هو
__________________
الذي تولته
الصحابة.
وأما الجمع الآخر
: فهو جمع الآيات في السور فهو توقيفي تولّاه النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم كما أخبر به جبريل عن أمر ربه.
قلت : وقد ذكرنا
شيئا من ذلك ومن أحكام التوقيف في الشرح.
(فصل)
«وهو» أي القرآن «خطاب للموجودين» وقت
وحيه من الثقلين «اتفاقا»
بين الأمّة.
«والمختار وفاقا للحنابلة» أي أتباع
أحمد بن حنبل أنه خطاب للموجودين.
«وخطاب لمن أدرك» أي بلغ حد التكليف
ممّن وجد بعدهم أي بعد الموجودين وقت وحيه فهو يعمهم بالخطاب حقيقة.
قال في الفصول :
وهي عند بعض أئمتنا الحقيقة العرفية كالوصية للأولاد وكما كان النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم مرسلا إلى الموجودين والمعدومين «لأن
السابق مأمور بإبلاغه»
أي القرآن «اللّاحق
كما أن النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم
مأمور بإبلاغه» أي القرآن «الموجود» أي كل موجود من الثقلين في عصره صلىاللهعليهوآلهوسلم ولو كان من أهل البلدان النّائية عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم إذ لا فرق بين الموجودين في عصره صلىاللهعليهوآلهوسلم النّائين عنه وبين من بعدهم «ولقوله
تعالى ملقّنا لرسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم»
(وَأُوحِيَ إِلَيَّ
هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) أي لأنذركم به وأنذر من بلغه القرآن من العرب والعجم
والإنس والجن إلى يوم القيامة.
وقال «الجمهور : بل لزم من بعدهم بدليل
آخر» لا بكونه
خطابا لهم لأنّ خطاب المعدوم لا يصحّ وذلك الدليل «إمّا الإجماع» من الأمّة
__________________
على أن حكم من
أدرك من المعدومين وقت وحيه كحكم الموجودين «أو
القياس»
للّاحقين على
الموجودين لعدم الفرق.
«لنا ما مرّ ولا مانع منه».
وأما قولهم : إن
خطاب المعدوم محال : فالجواب : أنا لم نرد أنه خطاب له في حال عدمه ، وإنما أردنا
أنه متى وجد وصار مكلّفا صار القرآن خطابا له لما ذكرناه كما أن النّائي عن النبيء
صلىاللهعليهوآلهوسلم يكون خطابا له بشرط بلوغه إليه سواء.
(فصل)
«والمحكم» من القرآن قسمان :
الأول منهما : «ما لا يحتمل أكثر من
معنى واحد».
وقيل : ما وضح معناه.
وقيل : ما كان إلى
معرفته سبيل.
وقيل : ما علم
المراد بظاهره بدليل عقليّ أو نقليّ.
«أو يدل على معان امتنع قصر دلالته على
بعضها دون بعض» منها فإنه يحمل عليها كلها «نحو» قوله تعالى : (وَأْمُرْ
بِالْمَعْرُوفِ) فإنّ أنواع المعروف كثيرة وهو عام فيها كلها لامتناع حمله
على بعضها دون بعض فهذا من المحكم ، ولا إجمال في هذه الآية.
«ويسمّى هذا» القسم من المحكم «النّص» لأنه
نص على ما دلّ عليه نصّا أي رفع معناه إلى الأذهان رفعا واضحا لا لبس فيه.
والقسم الثاني من المحكم : ما أشار إليه
عليهالسلام
بقوله : «أو يكون أحد معانيه أظهر» في فهمه من الآخر «لسبقه إلى الفهم ولم يخالف
نصّا» أي بشرط أن لا يخالف نصّا من الكتاب والسّنّة المعلومة «ولا إجماعا» من
الأمّة على خلافه «ولا يثبت ما قضى العقل ببطلانه» أي وبشرط أن لا يثبت ما قضى
العقل ببطلانه.
__________________
فإنه متى كان أحد
معانيه أظهر ولم يخالف نصّا ولا إجماعا ولا أثبت ما قضى العقل ببطلانه
فإنه يكون من المحكم «ويسمّى» هذا القسم «الظاهر» ولا يخفى وجه المناسبة.
«والمتشابه ما عداهما» أي ما عدا النص والظاهر.
والمعنى : أن
المتشابه ما عدا المحكم فيدخل في المتشابه المجمل ومثله في الفصول.
وعلى هذا لا واسطة
بين المحكم والمتشابه.
وفي المعيار :
المحكم الذي لم يرد به خلاف ظاهره.
والمتشابه مقابله
كالآيات التي ظاهرها الجبر والتشبيه.
وعلى هذا لا يوصف
المجمل بأنه من المحكم ولا من المتشابه.
وكذلك قول من ذهب
إلى أن المتشابه آيات مخصوصة.
إمّا الحروف
المقطعة أو آيات السعادة والشقاوة أو الناسخ والمنسوخ أو الأوامر والنّواهي أو القصص
والأمثال أو نحو ذلك.
واعلم : أن أهل
السّنّة يجعلون ما ظاهره يوافق قواعدهم وأصولهم التي أصّلوها محكما وما خالفها
متشابها ، فيجعلون (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا
أَنْ يَشاءَ اللهُ) ونحوه من المحكم.
وقوله تعالى : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ
فَلْيَكْفُرْ) ونحوه من المتشابه ، ذكره الرازي في مفاتح الغيب.
والحكمة في إنزال
المتشابه : هو الزيادة في التكليف للزيادة في الثواب بسبب مشقة الفحص والتأمّل
وإتعاب النفس وإيثار الهدى على الهوى وفيه تمييز الراسخ في الإيمان من المتزلزل
فيه.
قال «أئمتنا عليهم» «السلام والمعتزلة
وبعض الأشعرية : ويعلم تأويله»
__________________
أي المتشابه الذي
علينا فيه تكليف «الراسخون في العلم» لوقوع الخطاب به وذلك «بأن يحملوه على معناه
الموافق للمحكم».
فيردوا نحو قوله
تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) إلى قوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ
الْأَبْصارُ) ونحو ذلك لقوله تعالى في المحكم (هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) أي أصله الذي يرجع إليه ويردّ ما خالفه في الدلالة عليه.
وقال «بعض
الأشعرية وغيرهم : لا يعلمه» أي المتشابه «إلّا الله» كعدد الزبانية وحملة العرش ،
ويرون الوقف على الجلالة.
قلنا : قال الله
تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ
فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ) فدلّ بذلك على أن له معنى يتبعه الذين في قلوبهم زيغ [فيتبعون
ما تشابه منه] ، فيجب أن يكون له معنى صحيح يتبعه من لم يكن في قلبه مرض ، وإلّا
كان ذلك إغراء بالقبيح وهو لا يجوز على الله تعالى قالوا : إنّا لا ننكر أنه يفهم
منه معنى يتبعه من في قلبه زيغ ولكن معناه الذي أراده الله عزوجل لا يعلمه إلّا هو.
«قلنا : خوطبنا به والحكيم لا يخاطب بما
لا يفهم»
لأنه يكون عبثا
وإغراء بالقبيح وهما قبيحان ، وهذا بخلاف معرفة عدد الزبانية وحملة العرش فإنه
تعالى لم يرد منّا معرفة عددهم.
وإنما أعلمنا
تعالى أن على أهل النار زبانية موكّلين بعذابهم وأنه يتولى أمر الخلائق طوائف من
الملائكة ، ولم يخاطبنا بمعرفة عددهم وهذا ونحوه هو مراد أمير المؤمنين صلوات الله
عليه بقوله :
(واعلم : أنّ
الراسخين في العلم هم الذين أغناهم عن اقتحام السّدد المضروبة دون الغيوب الإقرار
بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب فمدح الله اعترافهم بالعجز عن تأويل ما لم
يحيطوا به علما ، وسمّى تركهم للتعمّق فيما لم يكلّفوا البحث عن كنهه رسوخا).
__________________
«وأيضا : الواو في قوله تعالى «والراسخون
في العلم» «ظاهرة في العطف» أي في كونها واو العطف كما هو أصل وضعها ولا وجه يقتضي
العدول عن الظاهر.
«وإن سلّم عدم ظهوره» أي الواو «كذلك» أي
في العطف «فمتشابه» أي فالواو من المتشابه «لاحتماله» أن يكون واو «الحال و» أن
يكون واو «الاستئناف» أي يكون ما بعده مستأنفا أي غير معطوف على ما قبله «مع»
احتمال أن يكون واو «العطف» فهذه ثلاثة معان تحتملها الواو فيكون من المتشابه.
«فيلزمهم أن لا يحتجّوا بها لكونهم لا
يعلمون تأويلها» لزعمهم أن المتشابه لا يعلم تأويله إلّا الله.
«قالوا» أي مخالفونا في هذه المسألة : «ورد» عن النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم «الوقف على
الجلالة»
في قوله تعالى : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) وذلك يدل على انقطاع ما قبل الواو عمّا بعدها ، فدلّ ذلك
على أن الواو للاستئناف.
«قلنا : الوقف لا يمنع العطف بدليل صحة
الوقف على أوساط الآي إجماعا» بين العلماء.
«وإنما يمنع» العطف «دليل الإضراب عن
الكلام السابق» أي عن الحكم الثابت للكلام السابق «واستئناف ما بعده» أي كون ما
بعده منقطعا معنى عمّا تقدم نحو أن يكون بين الكلامين كمال الانقطاع أو لا جامع
بينهما أو يفسد المعنى مع تقرير العطف أو نحو ذلك على ما هو مقرر في موضعه من علم
المعاني ، «وهو» أي دليل الإضراب «معدوم هنا» فبقيت الواو على معناها الأصلي وهو
العطف.
قلت : إن صحّ أن
الوقف مأثور عن النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم فيحتمل أن يكون للفرق بين علم الله سبحانه وعلم عباده ، أو
لأجل أن تكون هذه الآية من المتشابه الذي يمتحن الله به المكلفين والله أعلم.
__________________
قال «القاسم» بن إبراهيم «والهادي
والمرتضى والحسين بن القاسم العياني» والإمام أحمد بن سليمان «عليهمالسلام
: وفواتح السّور» أي الحروف المقطعة التي في أوائل السور «نحو آلم» وكهيعص وطه ويس
«ممّا استأثر الله تعالى بعلم معانيها» دون خلقه.
قال «القاسم» وكذا الهادي «عليهماالسلام
: ويجوز أن يطلع الله بعض أوليائه على معانيها».
قال عليهالسلام : «قلت : بل الأظهر
أنها» أي فواتح السور «باقية على معانيها الوضعية» من كونها حروف الهجاء
«أقسم الله بها كإقسامه بالنّجم
والسّماء ونحوهما» كالليل والنهار والعصر وغير ذلك «بدليل صحة العطف على كثير منها
بمقسم به مثلها نحو» قوله تعالى : (ق وَالْقُرْآنِ) المجيد فهذا قسم بالقرآن المجيد بلا شك فيكون المعطوف عليه
وهو قوله تعالى : (ق) قسما مثله لوجوب مشاركة المعطوف للمعطوف عليه في الحكم
الثابت له. ومثل هذا ذكره الحسين بن القاسم العياني عليهالسلام ، وحكاه الطوسي في البلغة عن علي عليهالسلام.
«وجواباتها» أي الفواتح المذكورة المقسم بها «إمّا
مذكورة»
نحو قوله تعالى : (ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ ما
أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) وقوله تعالى : (يس وَالْقُرْآنِ
الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) الآية وكذلك قوله تعالى : (وَاللَّيْلِ إِذا
يَغْشى ...) إلى قوله (إِنَّ سَعْيَكُمْ
لَشَتَّى) .
«أو» تكون جواباتها «مقدّرة» حذفت لنوع
من الفصاحة والبلاغة «لدلالة سياق الكلام عليها» نحو قوله تعالى : (الم ذلِكَ الْكِتابُ
لا رَيْبَ فِيهِ) تقديره : أقسم بالم إن القرآن لحقّ لا ريب فيه ، وإنه لهدى
للمتقين ،
__________________
وكقوله تعالى : (وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ
وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي
حِجْرٍ ، أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ) والمعنى لننتقمنّ ولنهلكنّ ، ونحو ذلك ممّا يدل عليه سياق
الكلام «وذلك» أي حذف جواب القسم «جائز
إجماعا»
بين علماء العربية «لثبوت
هذه القاعدة»
أي حذف الجواب لما يدل عليه ونحو ذلك لما يدل عليه «لغة» أي في لغة العرب ، بل ذلك يزيد الكلام فصاحة.
قال في الكشاف :
واعلم أنّك إذا تأملت ما أورده الله عزّ سلطانه في الفواتح من هذه الأسماء وجدتها
نصف أسامي حروف المعجم أربعة عشر سواء وهي : الألف واللّام والميم والصاد والراء
والكاف والهاء والياء والعين والطاء والسين والحاء والقاف والنون ، في تسع وعشرين
سورة على عدد حروف المعجم.
ثم إذا نظرت في
هذه الأربعة عشر وجدتها مشتملة على أنصاف أجناس الحروف بيان ذلك : أن فيها من
المهموسة نصفها : الصاد والكاف والهاء والسين والحاء.
ومن المجهورة
نصفها : الألف واللّام والميم والراء والعين والطاء والقاف والياء والنون.
ومن الشديدة نصفها
: الألف والكاف والطاء والقاف.
ومن الرّخوة نصفها
: اللّام والميم والراء والصاد والهاء والعين والسين والحاء والياء والنون.
ومن المطبقة نصفها
: الصاد والطاء.
ومن المنفتحة
نصفها : الألف واللّام والميم والراء والكاف والهاء والياء والعين والسين والحاء
والنون والقاف.
ومن المستعلية
نصفها : القاف والصاد والطاء.
ومن حروف المنخفضة
نصفها : الألف واللّام والميم والرّاء والكاف
__________________
والهاء والياء
والعين والسين والحاء والنون.
ومن حروف القلقلة
نصفها : القاف والطاء.
ثم إذا استقريت
الكلم وتراكيبها رأيت الحروف التي ألغى الله ذكرها من هذه الأجناس المعدودة مكثورة
بالمذكورة منها.
فسبحان الذي دقّت
في كل شيء حكمته.
وقد علمت أن معظم
الشيء وجلّه ينزّل منزلة كله وهو المطابق للطائف التنزيل واختصاراته.
فكأنّ الله عزّ
اسمه عدّد على العرب الألفاظ التي منها تراكيب كلامهم إشارة إلى ما ذكرت من
التبكيت لهم وإلزام الحجة إيّاهم. انتهى.
(فصل)
«وهو» أي القرآن «كلام الله اتفاقا» يريد
أنّ لله تعالى كلاما اتفاقا.
قال «أئمتنا عليهم» «السلام والجمهور :
وهو» أي كلام الله تعالى الذي هو القرآن «هذا المسموع» المتلوّ في
المحاريب الذي يحرم على الجنب لمسه.
وقالت «الأشعرية : بل» كلام الله «معنى»
ثابت «في نفس المتكلم» الذي هو الله تعالى وسوّوا في ذلك بين الشاهد والغائب ، فإن
الكلام عندهم صفة ذاتية للمتكلم كالقادر والعالم والحيّ ، وليس من قبيل الحروف ولا
الأصوات.
وقال الإمام يحيى عليهالسلام : أجمع المسلمون على وصف الله سبحانه وتعالى بكونه متكلّما
ولكن اختلفوا في فائدة وصفنا له بذلك :
فعندنا وهو قول
المعتزلة : أن فائدته هو أنه تعالى خلق هذه الحروف والأصوات في جسم من غير أمر
زائد على ذلك ، وكونه متكلّما عندنا وعندهم يجري مجرى الأوصاف الاشتقاقية التي لا
يعتبر فيها إلّا مجرد الفعل لا غير كقولنا : خالق ورازق.
وأما الأشعرية
فزعموا أن الكلام يطلق بالاشتراك على أمرين :
أحدهما : على المعنى القائم بالنفس.
وثانيهما : على هذه الحروف المسموعة ، وزعموا أن معنى كونه تعالى
متكلما هو اختصاصه بصفة حقيقية مغايرة لوجود هذه الحروف والأصوات قائمة بذاته
كالقادرية والعالمية ، وزعموا أن هذه الحروف دالة على هذه الصفة.
وقالت «المطرفية بل» كلام الله معنى «في
نفس الملك» الأعلى المسمّى ميخائيل وليس بحرف ولا صوت وهو بناء منهم على أن صفة الجسم هي الجسم.
«قالوا» أي قالت المطرفية والأشعرية : «وهذا»
أي المتلوّ في المحاريب «عبارة
عنه» أي عن الذي في نفس المتكلم والملك وهذه روايته عليهالسلام ، والعنسي عن الأشعرية ، ولعله قول بعضهم ، وبعضهم يقول :
هو مشترك كما سبق
والله أعلم.
«لنا قوله تعالى» (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) ومعلوم أن المراد به هذا المتلو
«والمعنى»
الذي زعمته
الأشعرية والمطرفية
«ليس
بمسموع».
وأيضا : فإن
المعلوم من دين النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم أنه كان يدين بذلك ويقول هو كلام الله ووحيه والإجماع على
ذلك من الصحابة والتابعين وغيرهم.
«قالوا : ذلك» أي الكلام المسموع «مجاز» عن الحقيقة وهو المعنى القائم بالنفس.
قالت الأشعرية :
لأنه لا يشتق اسم الفاعل إلّا من المعنى القائم بنفس الفاعل فيقال : أسود لما حلّ
فيه السواد وأبيض لما حلّ فيه البياض فكذلك متكلم لمن حلّ فيه الكلام.
«قلنا» قولكم هذا : «خلاف المجمع عليه
عند أهل اللسان العربي»
__________________
فإنهم لا يطلقون لفظ
متكلم إلّا على من أوجد الكلام وفعله لأنه اسم اشتقاقي لا يعقل في إطلاقه إلّا
بوجود الفعل كالمنعم والمكرم والضارب والقاتل فوجود الفعل أصل في معقولية الاسم
المشتق وهذا حقيقة وضع الحقيقة ، «ولعدم الاحتياج إلى نصب القرينة» الدالة على أنّ
المراد به خلاف ما وضع له «عند إطلاقه على المسموع فصحّ أنه كلام الله» حقيقة.
ثم نقول : ذلك
المعنى الذي زعمتموه القائم بالنفس لا دليل عليه وما لا دليل عليه وجب نفيه.
وإن فرضنا وجوده
فلا يخلو : إمّا أن تثبت هذه التعلّقات أعني الأمر والنهي والخبر والاستخبار
والدعاء وسائر وجوه الكلام له أو لا ، فإن لم تثبت له فهو باطل لأن حصوله من دون
هذه التعلّقات محال لأن هذه التّعلّقات أصل في معقول حقيقة الكلام فيستحيل أن يكون
هذا المعنى الذي أوجب صفة المتكلمية حاصلا قائما بالنفس من دونها ، وإن كانت هذه
التعلّقات ثابتة معه فهو باطل لأن هذه الصفة المتكلمية عندهم ثابتة في الأزل فيلزم
أن يكون قوله تعالى : (وَلَقَدْ نادانا
نُوحٌ) .
وقوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ ...
وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) وسائر الأخبار والقصص كذبا لا محالة لأنّ الإخبار عن وقوع
ما لم يقع في الماضي يكون كذبا ، وهو معنى ما ذكره الإمام يحيى عليهالسلام وقد بسطت من ذلك في الشرح.
«وإن سلم» أن الكلام المسموع مجاز «لزم
أن يجعلوا للتفاسير ما له من الأحكام» من تحريم لمسها وقراءتها على الجنب والحائض «إذ
هى عبارة عنه»
أي عن كلام الله
الذي هو بزعمهم قائم بذاته فكما أنّ هذا المتلوّ عبارة عنه كذلك التفاسير فيلزم أن
يكون حكمهما سواء «ولا قائل بذلك» أي
باستواء حكميهما.
__________________
وأما قول الأشعرية
: إن اسم الفاعل لا يشتق إلّا من المعنى القائم بنفس الفاعل فباطل ، إذ المعلوم
عندنا وعندهم وعند أهل القبلة كافة وأهل اللغة أنّ الله سبحانه يسمّى خالقا ورازقا
، والخلق والرزق غير قائم بذاته ، وأنّ من بيّض شيئا أو سوّده يسمّى مبيّضا
ومسوّدا لفعله البياض والسواد وهما غير قائمين بذاته.
قالت «العدلية» جميعا «وغيرهم : وهو» أي
القرآن الذي هو كلام الله «محدث» لأنه مخلوق أوجده الله تعالى بعد العدم وقالت «الأشعرية
والحشوية : بل هو قديم» بناء على ما مرّ لهم.
قالت «الحشوية : وهو هذا المتلوّ» في
المحاريب فهو مع كونه حروفا وأصواتا له أوّل وآخر ووسط ، قديم عندهم.
وذهبت المطرفية
إلى أن هذا القرآن لا يوصف بقدم ولا حدوث.
وذهبت الكرامية
إلى أنه محدث غير مخلوق بمعنى أنهم منعوا من وصفه بمخلوق. حكى ذلك كله في المحجة.
«قلنا : يلزم» من قول الأشعرية والحشوية
وجود «الثاني مع الله سبحانه» في الأزليّة والإلهيّة وهو محال «كما مرّ» في مسألة
نفي الثاني.
«وإن سلّم» ما ذكروه على استحالته «فما
جعل أحد القديمين» وهو كلام الله سبحانه بزعمهم «كلاما و» القديم «الآخر» وهو الله
سبحانه وتعالى «متكلّما بأولى من العكس» وهو جعل الله سبحانه كلاما والكلام
متكلّما لاشتراكهما في القدم ، وإن أحدهما لم يسبق الثاني.
«وأيضا : هو» أي القرآن الذي هو كلام الله
«مرتّب منظوم»
أي بعضه بعد بعض
منظوم من حروف مؤتلفة «وما تقدم» من الأشياء على غيره
«دلّ على حدوث ما بعده»
لأن المحدث ما
سبقه في الوجود غيره.
قال العنسي :
وأيضا القرآن هو الأصوات والحروف التي تسمع عند
__________________
القراءة وهي ممّا
لا يبقى وكل ما لا يبقى فهو محدث لما ثبت أن القديم يجب بقاؤه لا يتغير ولا يفنى.
قال : فإن قيل :
هذا يقتضي أن القرآن غير باق مع المسلمين ولا موجود مع محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم لأن الحروف لا تبقى وهذا قول خارج عن قول المسلمين.
قلنا : وما تعني
بقولك : إنّ القرآن موجود؟
إن أردت أنّ عين
ما أحدثه الله تعالى من الكلام باق إلى الآن فذلك لا يصحّ لأنه أصوات وحروف وهي من
قبيل ما لا يبقى.
وإن أردت أن ما
يسمع عند القراءة يلزم أن لا يسمّى كلام الله ولا القرآن فقد بيّنا أنّ التّسمية
راجعة إلى عرف اللغة والشرع وقد ورد بذلك أما اللغة : فلأنهم يسمّون ما سمع من قصيدة امرئ القيس وخطبة أمير المؤمنين : كلام امرئ
القيس وخطبة أمير المؤمنين.
وإن كان العقل
يقضي أنّ ذلك قد عدم وإنّما سمع غيره.
وأمّا الشرع :
فلما بيّنا أنّ المسموع من أيّ قارئ كان من برّ أو فاجر مسلم أو كافر سمّاه الشرع
قرآنا وكلام الله كما قال تعالى : (حَتَّى يَسْمَعَ
كَلامَ اللهِ) .
وإن كان المسموع
هو عين فعل القارئ ، ولهذا يتعلّق به المدح والذمّ والأمر والنهي. انتهى كلام
المحجة.
قلت : هو فعل
القارئ من جهة الحكاية والاتّباع وهو فعل الله حقيقة من جهة الابتداء والاختراع
فالمدح والذمّ والأمر والنهي يتعلّق به من جهة حكايته ، والتسمية حقيقة لغوية من
جهة ابتدائه وحكايته ، والعقل يحكم بذلك ، واللغة جارية بذلك.
__________________
فأصلها وعرفها هنا
واحد لأن القرآن عرض خلقه الله واخترعه وجعله عرضا يحتاج إلى محل.
وجعل لنا القدرة
بما ركّب فينا من القوة والآلات على اتّباعه والنطق بحروفه وترتيبه ونظمه.
قال الإمام أحمد
بن سليمان عليهالسلام في الحقائق :
اعلم : أن النطق
بالكلام على وجهين : حكاية ، ومبتدأ :
فالمبتدأ ما ينطق
به الإنسان ويبتدعه من نفسه من الكلام.
والحكاية : هو ما ينطق به من كلام غيره ، ومن ذلك القرآن ففعله فيه
الحكاية إذا تلاه ، والمحكيّ هو فعل الله.
وكذلك ما حكي من
كلام المتكلمين فذلك الكلام لمن ابتدعه وهو مفعول له لمّا حكاه ، كما أن البنّاء
والنجّار والصانع والنّساج فعلهم التأليف والحركة والسكون ، وفعل
الله الأجسام وهي مفعولهم .
وكذلك القراءة لهم
فعل والقرآن مفعول لهم وهو فعل الله وهو عرض. انتهى. وهو معنى ما ذكرنا.
رجع الكلام إلى
الاستدلال على حدوث القرآن فنقول :
الذي سبق ذكره هو
دليل على حدوثه.
«وقد» أكّده السمع حيث قال تعالى : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ
رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) «...
الآية ونحوها» كقوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْناهُ
قُرْآناً عَرَبِيًّا ، وَما
يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ
مُعْرِضِينَ) وغير ذلك.
__________________
وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم «ما خلق الله من
سماء ولا أرض أعظم من آية الكرسي» وغير ذلك.
(فصل)
والثاني من الأدلة :
«السّنّة» وهي «لغة» أي في لغة العرب : «الطريقة
والعادة» يقال : سلك القوم سنّة آبائهم أي طريقتهم
وعادتهم قال الهذلي :
فلا تجزعنّ من
سنّة أنت سرتها
|
|
فأوّل راض سنّة
من يسيرها
|
«و» هى «دينا» أي في الحقيقة الدينية التي نقلها الشارع إلى أصول الدين : «الملّة» يقال : سنّة النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم أي ملّته ودينه.
وقوله «عشر من سنن
المرسلين» أي من ملّتهم ودينهم.
«و» السّنّة «عرفا» أي في عرف أهل الشرع
: «نقل خبر النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم
وأمره ونهيه» إلى من لم يسمعه منه صلىاللهعليهوآلهوسلم.
«و» كذلك «الإخبار عن فعله» صلىاللهعليهوآلهوسلم فإنه يجب علينا الاقتداء به في فعله إذا
عرفنا وجهه على ما هو مقرّر في موضعه.
«و» كذلك الإخبار عن «تقريره» صلىاللهعليهوآلهوسلم لمن رآه يفعل فعلا ولم ينهه فإنّه دليل على أنّ ذلك الفعل
غير محرّم ، وليس المراد أن نفس النقل والإخبار هو السّنّة.
وإنما المراد خبره
صلىاللهعليهوآلهوسلم المنقول وأمره ونهيه وفعله وتقريره.
«و» السّنّة «في عرف الفقهاء» أي أهل علم الفروع :
«ما لازمه الرسولصلىاللهعليهوآلهوسلم
من النفل»
وأمر به وبيّن أنه
غير واجب كرواتب الفرائض ، وهذا هو المؤكّد ، وإن لم يأمر به فمسنون غير مؤكّد ،
وإن
لم يلازمه فمستحب
والله أعلم.
«والمبحوث عنه هنا» أي في هذا الموضع : «هو
الأول من الأخيرين» وهو نقل خبر النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم لأنه الذي يصلح دليلا وطريقا إلى العلم والعمل.
وأما معرفة كيفية
دلالته وما يشترط فيه فموضعه كتب أصول الفقه.
«فمن عاصر النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم
كفاه ما تلقّاه منه» ويراه «من غير مئونة» أي من غير تحمّل مشقة ويسقط عنه بذلك تكاليف كثيرة.
«ومن كان نازحا عنه» بأن يكون في بلاد بعيدة «أو
تراخت به الأيّام عن إدراك
زمنه» أي لم يكن في عصر النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم «لزم» ذلك النازح والمتأخر عن مدته لزوما «على الكفاية» إذا قام به البعض سقط عن البعض الآخر «البحث
والتفتيش في صحة ما روى عنه»
صلىاللهعليهوآلهوسلم من أقواله وأفعاله وتقريراته ليتّبع ما يصحّ ويترك ما لا
يصحّ «لقوله
صلىاللهعليهوآلهوسلم
«ألا وإنّه سيكذب عليّ ... الخبر» هو في خطبة الوداع :
«أيها الناس :
إنّي امرؤ مقبوض وقد نعيت إليّ نفسي ، ألا وإنّه سيكذب عليّ كما كذب على الأنبياء
من قبلي ، فما أتاكم عنّي فاعرضوه على كتاب الله فما وافق كتاب الله فهو منّي وأنا
قلته ، وما خالفه فليس منّي ولم أقله».
«و» اعلم «أنه لا خلاف في صحة» الخبر «المتواتر»
نقله عن النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم.
«وهو ما نقله جماعة» عن جماعة «يحيل
العقل تواطؤهم على
__________________
الكذب» لكونهم مختلفي
الدّيار منقطعي الأسباب لا حامل لهم على الايتلاف ، «ثم كذلك» أي ثم نقله جماعة
قبلهم عن جماعة كذلك حتى رفعوه «إلى النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم»
فلم ينقصوا عن العدد المعتبر في ذلك لا في الوسط ولا في الطرفين ويكون إسنادهم إلى
ضروريّ محسوس.
فما كان كذلك فهو
معلوم الصحة ، ومعنى (ثمّ) هنا التّرتيب في الدّرج لا في الواقع.
قال «أئمتنا عليهم» «السلام : والمعتبر
في العدد ما حصل به العلم» اليقين وهو سكون النفس وطمأنينتها ولا عبرة بعدد معيّن
إذ قد يكثر العدد ولا يحصل به العلم كما في قصة عائشة حين نبحتها كلاب الحوأب.
وقصة يحيى بن عبد
الله عليهالسلام حين شهدوا عليه زورا أنه عبد لهارون اللعين.
«واشترط غيرهم» أي غير أئمتنا عليهمالسلام
«عددا محصورا على خلافات بينهم» في تعيين أقل ذلك :
فقيل : عشرة ،
وقيل : اثنا عشر ، وقيل : عشرون ، وقيل : أربعون ، وقيل : سبعون ، وقيل : ثلاث
مائة وبضع عشرة وقيل غير ذلك.
«قلنا : حصول العلم ثمرته» أي ثمرة
العدد «فاعتبرناها» إذ هي المقصود «دون العدد» فلا ثمرة لتعيينه «لعدم الفائدة» فيه
من دون العلم.
قال «أئمتنا عليهم» «السلام : (ولا يحصل)
العلم (بالأربعة خاليا عن السّبب».
ويحصل بالخمسة عند
الجمهور ، وتوقف الباقلاني فيها .
وقالت «الظاهرية : بل يحصل العلم بخبر
الواحد مطلقا» أي سواء قارنه سبب بصدقه أو لا.
__________________
وقال «النظام» من المعتزلة : يحصل العلم
بخبر الواحد «إن قارنه سبب» بصدقه وإلّا فلا.
«وقيل» بل يحصل العلم «بأربعة» مطلقا.
وتردد في ذلك
الباقلاني.
«قلنا : يجوز الكذب على الواحد والأربعة»
ولا يحصل اليقين بخبرهم من دون سبب.
وأما مع السبب
فقال الإمام عليهالسلام في الجواب المختار : إنه يفيد العلم ، قال : وهو قول
المؤيّد بالله والمنصور بالله عليهماالسلام وفي رواية : والإمام يحيى والإمام محمد بن المطهر والسيد
محمد بن جعفر عليهمالسلام ، وغيرهم من أهل مذهبنا.
قال : وقد وقع
بالتجربة عند كثير من العقلاء.
قال : وقال الإمام
المهدي عليهالسلام وغيره : إنه يفيد العلم إذا وقع بحضرة خلق كثير لا حامل
لهم على السكوت لو علموا كذبه.
قال «أئمتنا عليهم» «السلام والأكثر : ولا
يشترط» في عدد التواتر «العدالة» بل يصحّ من الكفار والفساق أيضا.
وقال «أبو الهذيل وعبّاد» بن سليمان : «بل
لا بدّ من العصمة» في جماعة التواتر.
وقالت «الإمامية : يكفي معصوم واحد» وهو
الإمام بناء على مذهبهم من عصمة الإمام وكونهم يرجعون إليه في كل الأحكام.
«لنا : حصول العلم بالبلدان» القاصية «والملوك»
البعيدة والماضية «بخبر من ليس كذلك» أي من ليس بعدل ولا معصوم كالفساق والكفار.
«وقد يحصل العلم بخبر بعضهم» أي بعض عدد
التواتر إذا أخبر «عن نفسه» بأنه رأى أو سمع «وعنهم» أي عن عدد التواتر بأن يقول :
رأينا أو سمعنا نحن يا هؤلاء القوم «ولو كان» ذلك البعض المخبر عن نفسه وعنهم «واحدا»
وذلك حيث أخبر ذلك البعض عن نفسه وعنهم «بحضرتهم» أي في حضور عدد التواتر «فسكتوا»
ولم يكذّبوه «بشرط عدم الحامل لهم على
السكوت» من خوف أو
غيره ، وإنما أفاد العلم «للعادة القاضية بإنكاره لو كان كذبا» لأنّ العقلاء لا
يرتضون الكذب لأنفسهم من غير ضرورة.
وعبارة الفصول : (وما
أخبر به واحد بحضرة خلق كثير ولم يكذّبوه وعلم أنه لو كان كذبا لعلموه ولا حامل
لهم على السكوت فهذا صدق قطعا للعادة) ومثلها في المعيار.
«و» قد يحصل العلم أيضا «بخبرهم» أي
بخبر عدد التواتر «أو» بخبر
«بعضهم كذلك» أي إذا أخبر عن نفسه وعنهم
بحضرتهم «عن أمور شتّى» أي مختلفة اللفظ ولكن «مؤدّاها» أي هي مؤدّية وموصلة «لمعنى
واحد وذلك كوقائع الوصيّ» علي بن أبي طالب «عليهالسلام
الدالة على شجاعته» فإنها وقائع كثيرة متفرقة في أحد وبدر وحنين وخيبر وجميع مواطن
النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم
ومن بعده في وقت خلافته كوقعة الجمل ووقائع صفين والنهروان وغير ذلك.
وكل موطن يروى له
فيه من فضيلة الشجاعة ما لم يكن لغيره.
وكذلك ما يروى عنه
كرّم الله وجهه في الجنة من العلم والحلم والجود وسائر الخلال المحمودة ، فإنه قد
روي من طرق كثيرة وإن اختلفت الوقائع والكائنات فمؤدّاها واحد حتى صارت هذه الأمور
في حقّه عليهالسلام معلومة بالتواتر المعنوي.
«ويسمّى» النوع «الأول» من هذه الأنواع
الثلاثة بالتواتر وهو ما نقله جماعة عن جماعة «ضروريّا» لأن العلم يحصل عنده
بضرورة العقل.
قالوا : يخلقه الله تعالى عند تمام
شروطه «في الأصحّ».
وهو قول أكثر
المعتزلة ، وحكاه ابن الحاجب عن الجمهور.
وعند البغدادية هو
استدلالي لأنه يقف على نظر واستدلال.
«ويسمّى الثاني» منها وهو ما أخبر به
بعضهم بحضرة الخلق الكثير كما سبق «استدلاليّا» لأن العلم منه يحصل بنظر واستدلال
اتفاقا.
__________________
«و» يسمّى «الثالث» وهو خبر الجماعة عن
جماعة وخبر بعضهم عن نفسه وعنهم عن أمور متفرقة مؤدّاها واحد «معنويّا» لأن الذي
تواتر وعلم قطعا هو معنى تلك الأخبار المتفرقة.
«وهو» أي المتواتر على أنواعه «مفيد
للعلم» اليقين ، «خلافا للسّمنية» وهم فرقة من عبدة الأوثان وكذلك السّوفسطائية ،
وقد منع أهل العلم مناظرتهم لتجاهلهم وإنكارهم الضرورات .
«قلنا : العلم بحصول العلم به» أي
بالتّواتر «ضروري» أي يعلم كل عاقل بضرورة عقله أنه يحصل له العلم اليقين بمضمون
الخبر المتواتر وإنكاره عناد.
«وكل عدد حصل العلم بخبره لا يجب اطراده»
في كل قضية يخبر بها ذلك العدد المعيّن «في الأصحّ» من الأقوال لاختلاف الأحوال
والأسباب الموجبة للعلم.
وقيل : يجب اطراده إذا استووا في القدر
والصفة ، وهو الذي ذهب إليه أكثر المعتزلة.
«وما نقله واحد» أو من لم يبلغ حد
التواتر «وتلقته الأمّة بالقبول فلا خلاف في صحته» أي في وجوب العمل به لأنّ تلقي
الأمّة له بالقبول يجري مجرى إجماعهم.
قال مصنف الفصول :
وإنّ التّلقّي
بالقبول على الّذي
|
|
به يستدلّ المرء
خير دليل
|
وما أمّة
المختار من آل هاشم
|
|
تلقّى حديثا
كاذبا بقبول
|
قال في الفصول :
وهو قطعي عند أكثر أئمتنا عليهمالسلام وأبي هاشم وبعض المحدثين والقاضي والغزالي : كالمتواتر.
قال : وقال
الجمهور : بل ظني.
__________________
قال أبو طالب : بل
قطعي في ابتداء الحكم لا في نسخه للمعلوم.
وذلك «كخبر السفينة» وهو قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم «مثل أهل بيتي
فيكم كمثل سفينة نوح ... الخبر» وقد تقدم والراوي له أبو ذر وابن عباس.
قال «أئمتنا عليهم» «السلام والجمهور من
غيرهم : ويفيد العلم لعصمة جماعة
الأمّة» لقوله تعالى : (وَمَنْ يُشاقِقِ
الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ
الْمُؤْمِنِينَ) .. الآية وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم «لا تجتمع أمّتي
على ضلالة» وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم «لا تزال طائفة من
أمّتي على الحق ظاهرين».
وللأدلة القاضية
بعصمة العترة عليهمالسلام كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
«وما تلقّته العترة عليهم» «السلام» وهم الأربعة المعصومون ثم أولاد الحسنين عليهمالسلام في كل عصر «بالقبول
فصحيح يفيد العلم قطعا».
فتحرم مخالفته في
العلميّات والعمليّات لأنه يجري مجرى إجماعهم.
ولا وجه لمن فرق
بين العلميات والعمليات إلّا دعوى إصابة المجتهدين في العمليات دون العلميات وذلك
باطل لما سيأتي إن شاء الله تعالى وإن سلّمنا إصابة المجتهدين أيضا فلا يصلح
ذلك وجه فرق أيضا فافهم وهذا الذي ذكرناه من إفادته العلم «عند العترة عليهم» «السلام
والشيعة وأبي علي وأبي عبد الله البصري» وغيرهم وروي عن الإمام يحيى عليهالسلام : أنه أجاز أن يفتي المجتهد بخلاف إجماع العترة عليهمالسلام إذا وافق غيرهم من الأمّة ، وذلك باطل لما سيأتي إن شاء
الله تعالى.
«لعصمة جماعتهم» أي جماعة العترة «بشهادة
آية التطهير» وهي قوله
__________________
تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ
عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) .
والمراد بأهل
البيت أهل الكساء لما سيأتي إن شاء الله تعالى.
والمراد تطهيرهم
من المعاصي ، وإذا أراد شيئا كان.
وشهادة «آية المودّة» وهي قوله تعالى : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) .
والله لا يأمر
بمودّة أحد على الإطلاق إلّا مع العلم بعصمته لقوله تعالى : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ ...) الآية .
«وخبري
: السّفينة اللّذين تقدّم
ذكرهما في أول الكتاب «وغيرهما» من الآيات والأخبار الدالة على أنهم لا يفارقون الحق ولا يخرج عن أيديهم «ممّا
لا خلاف في صحته»
نحو قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم «إني تارك فيكم ما
إن تمسّكتم به لن تضلّوا من بعدي أبدا : كتاب الله وعترتي أهل بيتي إن اللطيف
الخبير نبّأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض» ووجه دلالته أنه لا يكون في
تركه للعترة فائدة إلّا متى كان قولهم حجة لنا وعلينا لأنه صلىاللهعليهوآلهوسلم كان هو الحجة في حياته فلا يفهم من قوله (تارك فيكم) إلّا
أن يكون المتروك وهو العترة بدلا عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم فيما كان كافيا فيه ، وهو كان الحجة لله سبحانه على الخلق
فيكون المتروك العترة عليهمالسلام كذلك.
وقد قيل : إن
الآيات التي تدل على فضل أهل البيت عليهمالسلام وعصمتهم خمس مائة آية (٥٠٠ آية) والله أعلم.
__________________
والعترة في أصل
اللغة : نسل الرجل وذرّيّته لأنها مشتقة من العتيرة وهي الكرمة التي يخرج منها
العنقود فيكون الرجل كالشجرة وذريته كالثمرة المتولدة من أصلها.
واعلم : أنه لا
خلاف بين أهل البيت عليهمالسلام أن المراد بآية التطهير أهل الكساء وأولاد الحسنين عليهمالسلام إلى يوم القيامة ، وآل النبيء هم أهله ، فالآل والأهل واحد
بدليل تصغيره على أهيل.
وقد روى الحاكم
أبو سعيد المحسن بن كرامة في كتاب تنبيه الغافلين عن أبي سعيد الخدري قال : لما
نزل قوله تعالى : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ
بِالصَّلاةِ) كان النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم يأتي باب فاطمة وعلي سلام الله عليهما سبعة أشهر يقول في
وقت كل صلاة : «الصلاة يرحمكم الله إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت
ويطهركم تطهيرا».
وروى الحاكم
المحدث الكبير أبو القاسم عبيد الله بن عبد الله بن أحمد الحسكاني رحمهالله في كتاب شواهد التنزيل روايات كثيرة تفيد التواتر على أن
المراد بأهل البيت أهل الكساء عليهم الصلاة والسلام :
منها : رواية أنس
بن مالك أن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يمر بباب فاطمة رضوان الله عليها ستة أشهر إذا خرج إلى
صلاة الفجر ويقول : «الصلاة يا أهل البيت إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل
البيت ويطهركم تطهيرا».
ومنها : رواية
جابر بن عبد الله الأنصاري : أن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : دعا عليّا وابنيه وفاطمة وألبسهم من ثوبه ثم قال : «اللهم
هؤلاء أهلي «هؤلاء أهلي.
وفي بعضها : عن
جابر قال : نزلت هذه الآية على النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم وليس في البيت إلّا فاطمة والحسن والحسين وعلي (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ
عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) فقال النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم «اللهم هؤلاء أهلي».
ومنها : رواية
الحسن ابن البتول صلوات الله عليهما قال : لما نزلت آية التطهير جمعنا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وإياه في كساء لأم سلمة خيبري ثم قال «اللهم هؤلاء أهل
بيتي وعترتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا».
وغير ذلك من
الروايات الكثيرة التي لا يتسع لها هذا الموضع.
ثم اعلم : أنّ
الآية الكريمة قد أفادت التطهير لجماعة ذرية الحسنين عليهماالسلام إلى يوم القيامة لقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم في الخبر المشهور «إنّ اللطيف الخبير نبّأني أنهما لن
يفترقا حتى يردا عليّ الحوض» فدلّ ذلك على استمرار ملازمة العترة عليهمالسلام للكتاب ، وعدم مفارقتهم له إلى آخر أيام الدنيا ، وكذلك قوله
صلىاللهعليهوآلهوسلم «إنّي تارك فيكم»
كما سبق ذكره قريبا ، وقد بسطت في هذا الموضع في الشرح فليرجع إليه فإنه لا غنية
عنه ، وإنّما تركناه لطوله.
وإذا ثبت ما
ذكرناه من تطهير أهل البيت عليهمالسلام وعصمتهم عن المعصية ومخالفة الحق : ثبت أنّ إجماعهم حجة قطعية
تحرم مخالفتها ، وقد صرّح بذلك خبر السفينة وهو «أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا
ومن تخلّف عنها غرق وهوى».
وهو في الحقيقة
الحجة في كون إجماع الأمّة حجة كما أشار إلى ذلك الإمام شرف الدين عليهالسلام بقوله شعرا :
إجماعنا حجة
الإجماع وهو له
|
|
أقوى دليل على
ما النقل ينميه
|
فإن قيل : قد ثبت
كون علي عليهالسلام من أهل الكساء لإدخال النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم إيّاه معهم تحت الكساء فيلزم أن يكون أولاده من غير فاطمة عليهاالسلام كأولاد الحسنين داخلين في معنى الأهل والعترة؟
قلنا : إنّما كان
أولاد فاطمة عترة للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وأهلا لقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم «كل بني أنثى
ينتمون إلى أبيهم إلّا ابني فاطمة فأنا أبوهما وعصبتهما» ونحوه.
وليس كذلك أولاد
علي عليهالسلام من غير فاطمة عليهاالسلام.
قال عليهالسلام
: «وما نقل» من الأخبار «آحاديّا» أي لم يبلغ ناقله حد التواتر «فله
تفاصيل فيها خلافات» كثيرة مذكورة «في كتب الأصول».
قال في الفصول :
التعبّد بخبر الواحد جائز عند أئمتنا عليهمالسلام والجمهور ، ثم اختلفوا في وقوعه :
فعند أحمد وابن
سريج وأبي الحسين والقفّال : يجب عقلا وسمعا قالوا : لأنّ العقل يحكم بوجوب دفع
الضرر المظنون كالمعلوم ، وعند أئمتنا والطوسي والأشعرية : يجب سمعا فقط والعقل
مجوز.
وقالت البغدادية
والإمامية والظاهرية والخوارج : ممتنع سمعا لقوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) ونحوها.
وإن جاز عقلا ،
وقيل : ممتنع عقلا.
قال الجمهور :
ودليل التعبّد به قطعي.
قال المنصور بالله
عبد الله بن حمزة عليهالسلام : وهو إجماع الصحابة ومن بعدهم ، وللعمل به شروط مذكورة في
كتب أصول الحديث .
«وأصحها قول من يوجب العرض على الكتاب» أي عرض الخبر الآحادي على القرآن.
وهذا قول القاسم والهادي
وولده المرتضى والقاسم بن علي العياني عليهمالسلام وغيرهم.
قال المرتضى عليهالسلام في جواب من سأله ما لفظه : وقلت لأيّ معنى لم ندخل
الأحاديث في أقوالنا؟
فلسنا ندخل من
الحديث ما كان باطلا عندنا وإنّما كثير من الأحاديث
__________________
مخالفة لكتاب الله
ومضادّة له فلم نلتفت إليها ولم نحتج إلى ما كان كذلك منها ، وكل ما وافق الكتاب
وشهد له بالصواب صحّ عندنا وأخذنا به وما كان أيضا من الحديث ممّا رواه أسلافنا
أبا عن أب عن علي عليهالسلام.
عن النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم فنحن نحتجّ به وما كان ممّا رواه الثقات من أصحاب محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم قبلناه وأخذنا به وأنفذناه ، وما كان خلاف ذلك لم نره
صوابا ولم نقل به. انتهى.
وعن الحارث الأعور
: أنه دخل على علي رضي الله عنه فقال إن الأحاديث قد كثرت.
فقال : (قد فعلوها
سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول : «تكون فتنة تكثر فيها الأحاديث. فقلت : يا نبيء
الله فما المخرج؟
فقال : كتاب الله
فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم ... الخبر» ذكره في السفينة وغيرها.
وإنّما كان هذا القول أصحّها «لقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم»
«ألا وإنّه سيكذب عليّ كما كذب على الأنبياء من قبلي».
«فما روي عنّي فاعرضوه على كتاب الله
تعالى ... الخبر .
«فما وافقه فهو
منّي وأنا قلته ، وما خالفه فليس منّي ولم أقله».
«وهذا الخبر تلقاه الأصوليون بالقبول
واحتجوا به»
فجرى مجرى المحكم
من الكتاب فيرد ما وقع فيه الاشتباه من الأخبار إليه.
«وللوصيّ كرّم الله وجهه في الجنة في
أحوال الرّواة تفصيل يجب معرفته»
ولفظه في النهج :
(إن في أيد الناس
حقّا وباطلا وصدقا وكذبا وناسخا ومنسوخا وعامّا وخاصّا ومحكما ومتشابها وحفظا
ووهما ، وقد كذب على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في عهده حتى قام خطيبا فقال «من كذّب عليّ متعمدا فليتبوّأ
مقعده من النار».
__________________
وإنّما أتاك
بالحديث أربعة رجال ليس لهم خامس :
رجل : منافق مظهر
للإيمان متصنّع بالإسلام لا يتأثّم ولا يتحرّج يكذب على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم متعمّدا ، فلو علم الناس أنه منافق كاذب لم يقبلوا منه ولم
يصدقوا قوله ، ولكنهم قالوا صاحب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم رآه وسمع منه ولقف عنه فيأخذون عنه.
وقد أخبرك الله عن
المنافقين بما أخبرك ، ووصفهم بما وصفهم به لك ثم بقوا بعده صلىاللهعليهوآلهوسلم فتقربوا إلى أئمة الضلال والدّعاة إلى النار بالزور
والبهتان فولّوهم الأعمال وجعلوهم على رقاب الناس وأكلوا بهم الدنيا ، وإنّما
الناس مع الملوك والدنيا إلّا من عصمه الله ، فهذا أحد الأربعة.
ورجل : سمع من
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم شيئا لم يحفظه على وجهه فوهم فيه ولم يتعمد كذبا ، فهو في
يديه يرويه ويعمل به ويقول : أنا سمعته من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فلو علم الناس أنه وهم فيه لم يقبلوا منه ، ولو علم هو
أنه كذلك لرفضه.
ورجل ثالث : سمع
من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم شيئا يأمر به ثم نهى عنه وهو لا يعلم ، أو سمعه نهى عن شيء
ثم أمر به وهو لا يعلم فحفظ المنسوخ ولم يحفظ الناسخ ، فلو علم أنه منسوخ لرفضه ،
ولو علم المسلمون أو سمعوا منه أنه منسوخ لرفضوه.
وآخر رابع : لم
يكذب على الله عزوجل ولا على رسوله مبعض للكذب خوفا لله وتعظيما لرسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم ولم يهم به بل حفظ ما سمع على وجهه فجاء به على ما سمعه
ولم يزد فيه ولم ينقض منه ، وحفظ الناسخ فعمل به ، وحفظ المنسوخ فجنب عنه ، وعرف
الخاص والعام فوضع كل شيء موضعه ، وعرف المتشابه ومحكمه.
وقد كان يكون
الكلام من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم له وجهان : فكلام خاص وكلام عام. فيسمعه من لا يعرف ما عنى
به رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فيحمله السامع ويوجهه على غير معرفة بمعناه
ولا ما قصد به ولا
ما خرج من أجله.
وليس كل أصحاب
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يسأله ويستفهمه حتى إن كانوا ليحبون أن يجيء الأعرابي
أو الطارئ فيسأله صلىاللهعليهوآلهوسلم حتى يسمعوا كلامه.
وكان لا يمرّ بي
شيء من ذلك إلّا سألت عنه وحفظته.
فهذه وجوه ما عليه
الناس في اختلافهم وعللهم في رواياتهم).
انتهى كلامه كرّم
الله وجهه في الجنة.
(فرع)
«ولا يجوز على الأنبياء صلوات الله
عليهم السّهو فيما أمروا بتبليغه» من الشرائع «لعصمة لهم» ثابتة «من
الله تعالى ، لأنّ من شأن الحكيم حراسة خطابه من الغلط» أي من صفته الثابتة له أن
يحرس خطابه عن أن يغلط فيه الأنبياء لأنهم مبلّغون عن الله تعالى «مع العلم» أي مع علمه تعالى بأن الأنبياء من جملة البشر الذين يجوز
عليهم السّهو والغلط ، «و» مع «القدرة» منه تعالى «على ذلك» أي على حراسة خطابه من الغلط لعصمة الأنبياء عليهم الصلاة
والسلام عن ذلك.
(فصل)
في ذكر القياس وهو
الثالث من أدلّة الأحكام.
قال عليهالسلام : «والقياس لغة :
التقدير»
يقال : قست الشيء
بغيره وعلى غيره إذا قدرته على مثاله.
«و» حقيقته «اصطلاحا» أي في اصطلاح أهل
علم الأصول «تحصيل مثل حكم الأصل» وهو المقيس عليه وذلك في قياس الطرد «أو» تحصيل «ضدّه»
أي ضد حكم الأصل وذلك قياس العكس «في الفرع» وهو المقيس «لاشتراكهما» أي الأصل
والفرع «في علة باعثة» أي حاملة «على حكم الأصل» تحليلا أو تحريما أو نحوهما
فيستوي الحكمان للاشتراك في العلة ،
«أو» لم يحصل مثل حكم
الأصل بل حصل ضده «لافتراقهما» أي الأصل والفرع «فيها» أي في العلة الباعثة.
أما قياس الطرد
فهو مثل : قياس النبيذ على الخمر في التحريم بجامع الإسكار إن قلنا إن اسم الخمر
لم يعم النبيذ.
وأما قياس العكس :
فكما قالوه في قياس الصوم على الصلاة فإنه لمّا وجب الصوم في الاعتكاف بالنّذر وجب
بغير نذر قياسا على الصلاة فإنّه لمّا لم تجب فيه بالنذر لم تجب فيه بغير نذر.
وهو عند الجمهور
مقبول ، وردّه بعض الأصوليين كابن زيد وغيره.
«وله أقسام تفصيلها في كتب الأصول».
قال في الفصول :
ينقسم القياس باعتبار موقعه إلى :
عقلي : ومورده
المسائل العقلية.
وإلى شرعي :
ومورده الأحكام الشرعية.
وباعتبار فائدته
إلى :
قطعي : وهو ما علم
أصله وعلّته ووجودها في الفرع سواء كان الفرع أولى بالحكم من الأصل أو مساويا له.
وإلى ظنّي : وهو
بخلافه.
وباعتبار جامعه
إلى :
قياس علّة : وهو
ما تذكر فيه العلة الجامعة بين الأصل والفرع كقياس النبيذ على الخمر بجامع الإسكار.
وقياس دلالة : وهو
ما لا تذكر فيه وإنما يجمع بينهما بما يلازمها من خاصيّة كقياس النبيذ على الخمر
بجامع الرائحة.
أو حكم : كقياس
قطع الجماعة بواحد على قتلها به بجامع الاشتراك في أحد موجبيها في الأصل وهو وجوب
الدية عليهم.
وإلى قياس معنى :
وهو ما كان جامعه مخيلا وهو الجمع بنفي
الفارق ، وقياس
شبه : وهو بخلافه.
وباعتبار ظهوره
وخفائه إلى :
جلي : وهو ما كان
الحكم فيه أولى أو مساويا مع القطع بنفي تأثير الفارق كالضرب والتأفيف والعبد
والأمة في تنصيف الحد.
وقيل : لا يسمّى
المساوي قياسا.
وخفي : وهو بخلافه.
«وأركانه» أي القياس أربعة وهي :
«الأصل المقيس عليه وحكمه» من وجوب
وتحريم ونحوهما.
«والفرع» وهو المقيس ، فأما حكم الفرع
فهو ثمرة القياس فلو جعل ركنا لتوقف على نفسه.
«والعلة» وهي الجامع بين الأصل والفرع.
«ولها» أي لهذه الأركان الأربعة «حقائق
وشروط وترجيحات» تخصّ كل واحد منها :
فمن شروط الأصل :
كونه غير منسوخ وأن يكون غير معدول به عن سنن القياس كالقسامة والشفعة ، وأن لا
يكون مصادما لنص أو إجماع وغير ذلك.
ومن شروط الفرع :
أن تعمّه علة أصله ويفيد مثل حكم الأصل وأن لا يخالف الأصل تخفيفا وتغليظا ، وقيل
: لا يشترط ذلك ونحو ذلك.
ومن شروط الحكم
كونه شرعيّا لا لغويا وأن يكون باقيا فلا يقاس على أصل منسوخ وأن يكون ثابتا بغير
القياس وغير ذلك.
ومن شروط العلة :
أن لا تصادم النص أو الإجماع ، وأن لا تخالفه تغليظا أو تخفيفا ، وأن تطّرد على
خلاف في ذلك.
«وللعلة طرق» يتوصل بها إليها كالنّص على العلية أو تنبيه النص والإجماع
وحجة الإجماع «وخواص» ككونها عقلية أو حكما شرعيّا وغير
__________________
ذلك ، «وأقسام» ككونها
مؤثّرة ومناسبة وشبهيّة و «تفصيلها في كتب الأصول ، وثمرته إثبات مثل حكم الأصل في
الفرع» فيشتركان في الحكم «أو ضده» كما في قياس العكس كما سبق ذكره.
(فصل)
«وأصول الشرائع هي أدلّة الأحكام» وهي الثلاثة المتقدمة والإجماع والاجتهاد.
«و» كذلك «ما علم من الدين ضرورة من تلك
الأحكام» التي عرفت من الأدلة «نحو الصّلاة» والصّيام والزكاة والحج والجهاد وغير
ذلك.
«وسمّيت» هذه المذكورة «أصولا لا ينهدم
إسلام من أنكرها» إذ هي أركان الإسلام ، فمتى اختل أحدها انهدم الإسلام.
«و» كذلك ينهدم «ما يترتب على إسلامه من
الشرائع» وهو كل طاعة شرعية لتوقفها عليها توقف الفرع على الأصل فلا يتم لمن أنكرها أو بعضها شيء من
الشرائع.
«وذلك» أي هذا التعليل بما ذكر «عام» للأدلة
المذكورة ولما علم من الدين ضرورة «إلّا القياس» فإنه خارج عن التعليل المذكور مع
كونه من أصول الشرائع ولا ينهدم إسلام من أنكره «لأنّه لم يعلم من الدين ضرورة» ولهذا
وقع فيه الخلاف ، وكذلك الإجماع والاجتهاد.
«أو» نقول سمّيت أصولا «لأجل حصول
الشرائع بها ، وذلك خاص بالأدلة» لأنها هي التي حصلت الشرائع بها دون ما علم من
الدين ضرورة فلم تحصل الشرائع به بل هو من نفس الشريعة.
فعلى هذا أصول
الشرائع التي هي الأدلة وما علم من الدين ضرورة معلّلة تسميتها بعلّتين إحداهما
عامة لها إلّا القياس والإجماع والاجتهاد.
والثانية : خاصة
بالأدلّة منها.
(فصل)
«والحقّ في» مسائل «أصول الدين» كمسائل
التوحيد والعدل والوعد والوعيد والنبوءة والإمامة ونحو ذلك.
«وأصول الشرائع» التي مرّ ذكرها آنفا ، «و»
مسائل «أصول الفقه» المعروفة الموضوعة في كتبه المخصوصة «والقطعي من الفروع» وهو
ما كان دليله معلوما من الكتاب أو السّنّة أو القياس القطعي فإن الحق في هذه
المتقدم ذكرها جميعا : «واحد اتفاقا» بين العلماء أهل العدل وغيرهم «إلّا عن» عبيد
الله بن الحسن «العنبري وداود» الأصفهاني فإنهما قالا : كل مجتهد مصيب فيها ،
وهكذا رواية الفصول عنهما.
فالملحد والجبري
والعدلي والموحد عندهما سواء.
ولعل في الرواية
عنهما وهما ، ولعلهما إنما أرادا أن الظن يكفي فيها ، وقد ذكر ذلك الإمام يحيى عليهالسلام وغيره.
فيكون قولهما كقول
الجاحظ والله أعلم.
«لنا : الإجماع» من المسلمين» على تخطئة
الملاحدة وكفرهم» وهم المنكرون للصانع وإن اجتهدوا في كفرهم فإنّهم من أهل النار
وقد كرّر الله ذلك في القرآن.
«و» لنا «ما يأتي إن شاء الله تعالى ،
ثم اختلف الناس» بعد اتفاقهم أنّ الحق فيما ذكر واحد «في حكم المخطئ» للحق «بعد
قبول الإسلام» أي بعد كونه قابلا للإسلام غير منكر له :
«فذهب كثير من الناس إلى أنه آثم مطلقا»
أي وأطلقوا ولم يخصّوا معاندا من غيره ، ولعله بناء منهم على أن المخالف في ذلك
كالمعاند لظهور دليله.
قالوا : وهو أيضا «كافر إن خالف ما علم
من الدين ضرورة» كالمجبر والمشبه ومنكر وجوب الصلاة أو الزكاة ونحوهما ممّا هو
معلوم من ضرورة الدين «مطلقا» أي أطلقوا ذلك.
«وذهب الجاحظ» وهو عمرو بن بحر «وأبو
مضر» وهو شريح بن المؤيد «والرازي» وهو صاحب مفاتح الغيب : «إلى أنه معفو عن
المخالف» للحق «الغير المعاند مطلقا» أي أطلقوا ولم يفصلوا بين المخالف لما علم من
ضرورة الدين وبين المخالف في غيره.
قال عليهالسلام : «والحق أن المخطئ إن
عاند»
أي خالف الحق
تعمّدا بعد وضوح الدليل على الحق «فهو آثم» مطلقا «كافر
إن خالف ما علم من الدين ضرورة» كمنكر أصول الشرائع أو بعضها ، ومنكر معجزة
الأنبياء ونحو ذلك «لأنه تكذيب لله ولرسوله» صلىاللهعليهوآلهوسلم.
ومن كذب الله
ورسوله كفر إجماعا.
ولأن المعاند قد
أوضح الله له الدلالة فلم يقبلها.
وإن لم يخالف ما
علم من ضرورة الدين فهو فاسق لعناده ، بتعمّد مخالفة الحق كمخالف أحد الإجماعين
عمدا أو نحو ذلك.
«وإن لم يعاند» ولكن أخطأ بعد النظر
والاجتهاد «وكان خطاؤه مؤدّيا إلى الجهل بالله تعالى أو إنكار رسله في جميع ما
بلّغوه عن الله سبحانه أو بعضه أو إنكار ما علم من ضرورة الدين فهو آثم كافر أيضا»
لأنه في الحقيقة كالمعاند لأنّ الله سبحانه عدل حكيم وقد كلفه معرفته جلّ وعلا
ومعرفة رسله ، فلا بدّ أن يجعل له إليها طريقا لا تخفى ، وإلّا كان تكليفا لما لا
يطاق فدعواه الاجتهاد والجهل لا تسمع و «لأن المجسم يعبد غير الله ويعتقد أن
التأثير»
في خلق السموات
والأرض وغيرهما «لذلك الغير» الذي هو
جسم «كالوثنية» وهم عباد الأوثان «والمنجمة» وهم الذين يجعلون التأثير للنجوم «والطبائعيّة»
الذين يجعلون التأثير للطبع «ولا خلاف في كفرهم» أي هذه الفرق المذكورة «مع نظرهم»
واجتهادهم الرّدي فهم مع ذلك معاندون.
«والمتأوّل للشرائع بالسقوط نحو
الباطنية
لاعتقادهم أن للقرآن
__________________
والسّنّة باطنا خلاف
ظاهرهما معاندون فهم كمن هو «مكذب لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
فيما جاء به» من القرآن وغيره بادّعائه لعلم الباطن الذي لم يجعل الله سبحانه إليه
سبيلا «فهو كمن كذبه» ظاهرا وأنكر كونه نبيئا «ولا خلاف في كفره» أي المكذب لرسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
ظاهرا ، فكذلك حكم من تأوّل شرائعه بالسقوط ، وهذا مع الفرض بصحة إقراره بالنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
وإلّا فهم في الحقيقة غير مقرين به «ومن أخطأ في غير ذلك» الذي ذكرناه «بعد
التحري»
في طلب الحق والاجتهاد
في التوقّف على أوامر الشرع ونواهيه «فمعفو عنه» لقوله تعالى (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما
أَخْطَأْتُمْ بِهِ) .
«ولم يفصل ، وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم
«رفع عن أمّتي الخطأ والنسيان» «وما استكرهوا عليه».
«ولم يفصل ، وللإجماع على أن من نكح
امرأة في العدة جهلا غير آثم مع أنه قد خالف ما علم» تحريمه «من الدين ضرورة» وهو
نكاح المعتدة ، فصار جهله رافعا للإثم عنه لأنه هنا غير معاند لأنه قد يجوز أن
يخفى دليل ما شأنه كذلك ولا يكلّف الله نفسا إلّا وسعها ولهذا ارتفع الحرج في كل
فعل لم يتعمد كلو أراد أن يرمي صيدا فقتل نبيئا ، ويمكن تنزيل كلام الجمهور على مثل كلامه عليهالسلام حسبما أشرنا إليه ، وقد بسطته في الشرح.
وأما قول الجاحظ
ومن وافقه : إنه لا إثم على المخالف المجتهد بخلاف المعاند : فيلزمه رفع الإثم عن
الملاحدة ونحوهم.
وله أن يجيب بما
حققناه أوّلا وهو أنهم في الحقيقة معاندون.
وكذلك المجبرة
والمشبهة وإن ادّعوا أنهم لم يعاندوا وأن الحق بأيديهم وأما قولهم : بعد قبول
الإسلام : فالتّسمّي بالإسلام لا يصلح أن يكون وجها فارقا لأنّ العلة في رفع الإثم
إن كان هو الاجتهاد فكلهم
__________________
مجتهدون وإن كان
هو التّسمّي بالإسلام فالتّسمّي بالإسلام من غير حصول الإسلام وثبوته لا معنى له
وأيضا : يلزم من ذلك أن يرتفع الإثم عن ذلك المخالف المتسمّي بالإسلام ولو عاند
لأنّ العلة في رفع الإثم حينئذ هي التّسمّي بالإسلام.
(فصل)
قال «جمهور أئمتنا عليهم» «السلام
وجمهور غيرهم وذلك الحق في الظني من الفروع واحد أيضا» بمعنى : أن لله سبحانه فيها
حكما معيّنا ، فمن أصابه فهو المصيب ، ومن أخطأه فهو المخطي.
قال في الفصول :
وهو قول الناصر في رواية ، وأبي العباس وقديم قولي المؤيّد بالله ثم اختلفوا :
فعند الأصم
والمريسي وابن علّيّة ونفاة القياس : إنّ عليه دليلا قاطعا ، واختلفوا في مخالفه.
فقيل : معذور ،
وقيل مأزور.
قال الأصم : وينقض
حكمه بمخالفته.
وقال بعض الفقهاء
والأصوليين : بل ظني ومخالفه معذور مأجور مخطئ بالإضافة إلى ما طلب لا بالإضافة
إلى ما وجب.
وقال بعض
المتكلمين : لا دليل عليه قطعيّا ولا ظنيّا وإنما هو كدفين يصاب فلمصيبه أجران
ولمخطئه أجر.
وقال الإمام المهدي «أبو عبد الله
الداعي» محمد بن الإمام الداعي إلى الله الحسن بن القاسم بن الحسن بن علي بن عبد
الرحمن بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهمالسلام
«والمؤيّد بالله» أخيرا «وأبو طالب والمنصور بالله» عبد الله بن حمزة «و» الإمام
المهدي «أحمد بن الحسين» والإمام يحيى بن حمزة «و» الإمام «المهدي» أحمد بن يحيى
المرتضى عليهمالسلام
وغيرهم.
«و» من المعتزلة «أبو علي وأبو هاشم
وأبو عبد الله البصري وأبو الهذيل وقاضي القضاة وغيرهم» فكلهم قالوا : «بل كل
مجتهد فيه» أي في الظني «مصيب» للحق.
ومعنى ذلك : أنه
ليس لله تعالى فيه حكم معيّن قبل الاجتهاد بل كلها حق.
قال في الفصول :
ثم اختلفوا :
فعند متأخري
أئمتنا عليهمالسلام والجمهور : أنه لا أشبه فيها عند الله وإنما مراده تابع
نظر كل مجتهد.
وقال بعض الحنفية
والشافعية : بل الأشبه منها عند الله وهو مراده منها ولقّبوه بالأصوب ، والصواب
والأشبه عند الله تعالى.
وقد يصيبه المجتهد
وقد يخطئه ولذلك قالوا : أصاب اجتهادا لا حكما واختلفوا في تفسيره :
فقيل : ما قويت
أمارته. وقيل : الحكم الذي لو نصّ الشارع لم ينص إلّا عليه. وقيل : الأكثر ثوابا. وقيل : لا يفسّر إلّا
بأنه أشبه فقط.
قال : ونقل عن
الفقهاء الأربعة التصويب والتخطئة.
لنا
قوله تعالى : (فَفَهَّمْناها
سُلَيْمانَ ...) الآية .
وقوله تعالى : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً
وَلا تَفَرَّقُوا) .
وقوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا
وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ).
وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ
وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) .
__________________
«ولم تفصّل هذه الآيات» بين ما كان من
أصول الدين وغيره ولا بين القطعي والظني.
«و» لنا أيضا من السّنّة «قوله» صلىاللهعليهوآلهوسلم
«لا يختلف عالمان ولا يقتتل مسلمان» وهو نهي «ولم يفصل» أيضا «و» يؤكد قولنا : أنه
«لم يثبت جوازه» أي جواز التفرق والاختلاف «في كل شرائع الأنبياء عليهم» الصلاة و
«السلام» أي لم يثبت في شريعة من شرائعهم «بدليل قوله تعالى» «شرع لكم من الدين ما
وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين
ولا تتفرقوا فيه» «ولم يفصل» تعالى في التّوصية بالدّين ألّا يتفرقوا فيه بين
الأصول والفروع ولا بين المتقدمين والمتأخرين.
«و» لنا أيضا قوله تعالى : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) .
قال في البرهان :
يعني عشرة قرون بعد آدم كانوا على الحق ثم اختلفوا.
وفي الكشاف عن ابن
عباس أنه كان بين آدم وبين نوح عشرة قرون على شريعة من الحق.
وقال الإمام
القاسم بن إبراهيم عليهالسلام في جواب من سأله عن هذه الآية : لا يكون الناس أمّة واحدة
إلّا وفيهم نبيء أو وصي.
وقال المرتضى في
الإيضاح : ما كانوا إلّا على الإقرار بالله عزوجل والتّصديق له منذ خلق الله آدم مصدّقين لأمره عارفين به
موحّدين له متّبعين لكل ما أنزل فكانوا على هذا الدين لا يشركون به ثم اختلفوا بعد
ذلك وتفرقوا واتبعوا أهواءهم.
«فبعث الله النّبيين مبشرين ومنذرين.
وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه» أي في
الحق «إلّا الذين أوتوه» أي الكتاب «من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم» أي حسدا
وظلما
__________________
لحرصهم على الدنيا «فهدى الله الذين
آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم».
«بيان الاستدلال بهذه الآية : أنّ لفظ
النبيين فيها عام لكل نبيء» لأنّ اللّام فيه للجنس فلا اختصاص لبعضه دون بعض فهي
بمنزلة الإشارة إلى متعيّن ، ولا بعض معهود متعيّن فوجب أن تكون اللّام بمعنى
الإشارة إلى ذلك الجنس جملة وإلّا لم تفد التعريف.
«ونبيّنا محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم
سيّدهم» لما سبق تقريره «والكتاب» في قوله تعالى : (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ)
«عامّ» لكل كتاب أنزله
الله تعالى ، وإن كان لفظه مفردا
بدليل أن الكتب مع الأنبياء عليهمالسلام كثيرة فلكل نبيء في الأغلب كتاب.
«ونظيره» أي نظير الكتاب في إفادته العموم وهو لفظ مفرد قوله
تعالى :
(وَالْعَصْرِ إِنَّ
الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) فالمراد به كل إنسان «بدليل
صحة
الاستثناء» وإذا كان الكتاب عامّا لكل
كتاب «فالقرآن الكريم واسطة عقدها» أي المعظّم فيها الذي حاله فيها كحال واسطة العقد وهو القلادة من جواهر أو ذهب
أو فضة أو غير ذلك لأنّ الواسطة تكون أعظم جوهرا وأكبر قدرا وخطرا من سائر خرز
العقد.
وقوله عليهالسلام «الثمين» أي كثير الثمن وهو صفة للعقد ويحتمل أن يكون صفة للواسطة.
وقوله تعالى : (لِيَحْكُمَ) الضمير فيه «عائد إلى
الكتاب المفيد للعموم أي لتحكم تلك الكتب بين الناس فيما اختلفوا فيه من الأحكام
التي عرفت بالكتب».
وإنّما قلنا إن
الأحكام عرفت بالكتب بدليل قوله تعالى : (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ
أُوتُوهُ) أي إلّا الذين أوتوا الكتاب الذي فيه بيان الأحكام ، والمراد : اختلفوا في أحكامه.
__________________
«أي» الأمر «المختلف فيه» هو «من بعد ما
جاءتهم البيّنات من نصوص تلك الكتب وأماراتها الدّالة على أعيان الأحكام» .
والمعنى : أنّ
الاختلاف وقع من بعد إنزال الكتب ، وهي إنّما أنزلت لإزاحة الاختلاف فعكسوا وجعلوا
إنزال الكتب سببا للاختلاف.
فقال تعالى : (بَغْياً بَيْنَهُمْ) أي لأجل البغي من بعضهم «لمّا
كان الحق مع بعضهم فبغي عليهم»
بالبناء للمفعول
أي بغي على ذلك البعض الذي الحقّ معهم «بالمخالفة
والشّقاق لهم»
حسدا «بعد
ما عرف»
بالبناء للمفعول
أيضا
«أنّ الحق» الذي أمر الله به «بأيديهم» أي بأيدي ذلك البعض المبغي عليهم.
«إمّا» أن يكون عرف ذلك «بما
ذكرنا من النصوص والأمارات
التي في الكتب
المنزلة أنّ الحق بأيدي ذلك البعض ، وإمّا
بالنص على أنّ ذلك البعض»
الذي بغي عليه
بالمخالفة والشقاق «هو الموفّق لإصابة الحق» وذلك نحو ما ورد في عترة النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم وذلك من نحو قوله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ
عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ..) الآية .
«وقوله» صلىاللهعليهوآلهوسلم
«إنّي تارك فيكم ... الخبر»
تمامه «ما إنّ تمسّكتم
به لن تضلوا من بعدي أبدا كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، إنّ اللطيف الخبير نبّأني
أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض».
وإنما اختصّ ذلك
البعض بتوفيق الله لهم «حيث نور قلوبهم لمّا
أطاعوه» بامتثال أوامره والانتهاء عن مناهيه فزادهم الله هدى لقوله تعالى : (إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ
فُرْقاناً) «كما مرّ» «وذلك» أي
التوفيق لإصابة الحق هو «معنى قوله تعالى» : (فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا
اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِ)
أي نوّر قلوبهم ففهموا الحق الذي وقع الاختلاف
فيه «بإذنه»
أي بإرادته
وهدايته لهم ، ففي هذه الآية الكريمة دليل على أن الحق الذي أمر
__________________
الله باتباعه واحد
وأنّ بعض خلقه أصابه وبعضهم أخطأه وخالفه بغيا وعدوانا إن قيل إنّ قوله تعالى : (بَغْياً بَيْنَهُمْ) يشعر بأن الاختلاف وقع في المسائل القطعية لأنها هي التي
يعلم البغي فيها من المخالف ولا نزاع أن الحق فيها واحد .
«قالوا» أي مخالفونا في هذه المسألة :
قال تعالى :
(ما قَطَعْتُمْ مِنْ
لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ) فدلّت على أن اجتهاد من رأى قطع اللّينة أو تركها قائمة
على أصولها حقّ.
قالوا : وهذا دليل
على جواز الاجتهاد بحضرة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم والوحي ينزل عليه فكيف به في غير حضرته.
«قلنا : معنى «بإذن الله» فبإباحته» أي أباح الله سبحانه وتعالى إحراق نخيلهم وقطعها وتركها.
روي أن الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم لمّا قطع نخيلهم جاءت إليه جماعة من اليهود فقالوا : يا
محمد ألست تزعم أنك تريد الصلاح؟ أفمن الصلاح قطع النخيل وعقر الشجر؟
فأنزل الله هذه
الآية.
«وذلك حكم واحد» سوّى الله فيه وخيّر بين القطع والترك كما خيّر في أسير
الكفار بين القتل والفداء والمنّ فقال تعالى : (فَإِمَّا مَنًّا
بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) .
«قالوا» : قال صلىاللهعليهوآلهوسلم
«إذا حكم الحاكم فاجتهد
____________________________________
* قال في الأصل بياض في الأم وغيرها من
النسخ ويمكن الجواب بأن النفي هنا ليس إلّا المخالفة والشقاق والقطعيّة والظنيّة
سواء في ذلك فالتخصيص خلاف الظاهر ، والله أعلم تمت من خط سيد الحسين بن القاسم
عليهماالسلام.
__________________
وأصاب فله أجران ،
وإن حكم فاجتهد وأخطأ فله أجر». قلنا ذلك حجّة لنا لأنه قالصلىاللهعليهوآلهوسلم
:
«فأخطأ» أي أخطأ الحقّ وذلك نص في
المقصود.
«وقوله» صلىاللهعليهوآلهوسلم
«فله أجر» لا حجة لكم فيه لأن الأجر «جزاء على البحث» والتّعب والانقياد لأمر الله
تعالى وذلك منتهى تكليفه ، «لأنه عبادة» لله تعالى «لا» أنّه ثبت له الأجر «على
العمل بخلافه» أي على العمل بالخطإ الذي هو خلاف ذلك الحق الذي لم يعمل به.
«قالوا
: اختلفت الصحابة»
في الكلالة والعول
ومسألة الجدّ وغير ذلك «من
غير نكير» فلو كان الحق واحدا لأنكر بعضهم على بعض.
قلنا» اختلافهم لا يدل على جواز الاختلاف ولا على أن الحق مع كل واحد
لأنهم قد اختلفوا فيما الحق فيه واحد اتفاقا كالإمامة.
ثم نقول : «إنكار الوصي» أمير المؤمنين «عليهالسلام
لكثير من القضايا» التي قضى بها الصحابة .
«لا خلاف فيه بين الناس» فإنه أنكر على عمر في نيف وعشرين مسألة حتى قال عمر : لو لا
علي لهلك عمر.
من جملتها الامرأة
المجهضة وذلك أن عمر أحضر امرأة اتّهمت بالزنى فأسقطت خوفا منه ، فاستشار عمر عبد
الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان فقالا : إنّما أنت مؤدب لا نرى عليك شيئا.
فقال علي عليهالسلام : (إن كانا اجتهدا فقد أخطئا ، وإن لم يجتهدا فقد غشّاك).
وفي رواية : إن
عمرا استشار عبد الرحمن بن عوف فقط.
وفي رواية : أنه
استشار جميع الصحابة.
«ونقل إنكاره» أي إنكار عليّ عليهالسلام للخلاف «جملة» وذلك
أنه
__________________
قال عليهالسلام في نهج البلاغة :
(ترد على أحدهم
القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره
فيحكم فيها بخلاف قوله ، ثم يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم فيصوّب
آراءهم جميعا وإلههم واحد ونبيئهم واحد وكتابهم واحد.
أفأمرهم الله
سبحانه بخلاف فأطاعوه أم نهاهم عنه فعصوه ، أم أنزل الله دينا ناقصا فاستعان بهم
على إتمامه ، أم كانوا شركاء له؟
فلهم أن يقولوا
وعليه أن يرضى ، أم أنزل الله تعالى دينا تامّا فقصر الرسولصلىاللهعليهوآلهوسلم عن تبليغه وأدائه ، والله تعالى يقول : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) .
وقال : (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) .. .
إلى آخر كلامه
كرّم الله وجهه في الجنة).
«وكذلك» نقل إنكار الخلاف «عن كثير من
الصحابة».
روي عن علي عليهالسلام وزيد بن ثابت وغيرهما تخطئة ابن عباس في عدم القول بالعول.
وروي عن ابن عباس
: أنه خطّأ من قال بالعول ، وغير ذلك كثير.
«قالوا : لا مانع من أن الله يخاطب
بمجمل ويريد من كلّ ما فهمه»
فيكون مفهوم كل
مجتهد مرادا لله وصوابا.
«قلنا : قام الدليل على منعه كما مرّ» ذكره من الأدلة على تحريم الاختلاف.
ثم إن التجويز
المذكور لا تقوم به حجة.
__________________
(فرع)
«واختلف المخطّية» أي الفريق الذين ذهبوا إلى أن الحق في المسائل الظنيّة واحد
:
فقال بشر «المريسي
وابن عليّة والأصم : والمخالف»
للحق «مخطئ آثم مطلقا» أي لم يشرطوا شرطا بل أطلقوا.
قالوا : لأنّ عليه
دليلا قاطعا.
وقال بعض أصحاب الشافعي : بل هو مخطئ
معذور فلا إثم عليه مطلقا أي أطلقوا كذلك.
وقال «بعض أصحاب الشافعي : بل» هو «مصيب»
ولكنه «مخالف للأشبه مطلقا» أي أطلقوا.
واعلم : أن كلامهم
في الأشبه مضطرب متناقض.
وذكره في الفصول
قولا لبعض أهل التصويب لا للمخطّئة كما سبق ذكره.
والحق ما ذهب إليه
«جمهور أئمتنا عليهم» «السلام» من أنه لا إثم على المخطئ الجاهل بعد التحري.
«بل من خالف مجتهدي العترة عمدا» أي وهو
عالم بمخالفته لهم «أو أخذ» علمه «من غيرهم» من سائر المخالفين لهم عمدا «أو سلك
في الأصول» أي أصول الدين أو أصول الفقه «غير طريقهم
عمدا أيضا لتفرع كثير من الخلافات عليه» أي على ذلك الأصل الذي قد خالف فيه مجتهدي العترة.
فإذا كان المخالف
على ما ذكرنا
«فهو آثم واجتهاده حظر» أي محرم عليه لأنه يؤدّي إلى مخالفة أهل البيت ، عليهمالسلام.
وقد علم بالأدلة
المتواترة في المعنى أن الحق لا يخرج عن جماعة
__________________
أهل البيت كما
مرّ.
قال زيد بن علي عليهماالسلام في جوابه لمن سأله ما لفظه :
وكتبت تسألني عن
أهل بيتي وعن اختلافهم :
فاعلم رحمك الله
أن أهل بيتي فيهم المصيب وفيهم المخطئ غير أنه لا يكون هداة الأمّة إلّا منهم فلا
يصرفك عنهم الجاهلون ، ولا يزهّدك فيهم الذين لا يعلمون ، وإذا رأيت الرجل منصرفا
عن هدينا زاهدا في علمنا راغبا عن مودّتنا فقد ضلّ لا شك عن الحق وهو من المبطلين
الضالين ، وإذا ضلّ الناس عن الحق لم تكن الهداة إلّا منّا. انتهى.
وقال الناصر للحق
الحسن بن علي عليهماالسلام فيما حكاه عنه صاحب المسفر : ولله أدلّة على الحوادث على
المكلف إصابتها التي الأمّة فيها على سواء ، فأما ما سوى هذه الأصول من الأحكام في
الحوادث النادرة التي يسوغ فيها الاجتهاد إذ لا نص عليها من كتاب ولا سنّة ولا
إجماع من الأمّة والأئمة فالاجتهاد فيها إلى علماء آل الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم دون غيرهم لقوله تعالى : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ
فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) .
وقال تعالى : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ
وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ
مِنْهُمْ) .
وقال محمد بن
القاسم في شرح دعائم الإيمان : فأولئك هم الذين أمر الله بطاعتهم وهم العترة
الطاهرون من آل نبيئه عليهمالسلام وأقامهم أئمة يهدون بأمره وأمر الخلق كلهم أن يسألوهم إذا
جهلوا وأن يردّوا إليهم علم ما اختلفوا فيه لأنّهم أهل الاستنباط والبحث والنظر الذين
أمر الله بالردّ إليهم ، وإنما ضلّ مخالف العترة عليهمالسلام
«لآية التطهير»
التي مرّ ذكرها «وخبري
السفينة» وقد تكرر ذكرهما «و» قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم
«إنّي تارك فيكم ... الخبر» وقد مرّ ذكره.
__________________
وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم
«قدّموهم ولا تقدموهم» «ولا تخالفوهم فتضلوا» «ولا تشتموهم فتكفروا».
«ونحو ذلك» ممّا يكثر تعداده ولا يتّسع له هذا الموضع.
«ومن أخطأ أو سها بعد البحث والتحري» في الاجتهاد ولم يتعمد مخالفة العترةعليهمالسلام «فمعذور لا إثم عليه»
لقوله تعالى :
(وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ) .
«وقوله»
صلىاللهعليهوآلهوسلم
«رفع عن أمتي الخطأ والنسيان» «وما استكرهوا عليه».
ولأنّ الله سبحانه
لا يكلّف نفسا إلّا وسعها.
(بحث)
أي هذا بحث يتعلق
بما ذكر من أنّ الحق لا يخرج عن أئمة العترة عليهمالسلام.
«يقال : لو أن مجتهدين من العترة عليهم»
«السلام اختلفا في شيء فرأى أحدهما تحريمه ورأى الآخر وجوبه» كالعمل بالطلاق
البدعي.
«إن قلت : إنّه يلزم كل واحد منهما
القيام بما رآه واجبا عليه من الفعل أو الترك صوّبتهما» أي جعلت كل واحد منهما
مصيبا وقد منعت ذلك.
«وإن قلت بخلاف ذلك فما» هو أي ما «يلزم
كل واحد منهما؟».
قال عليهالسلام : «والجواب والله
الموفق : أنهما إن علما جميعا» اختلافهما «أو» علم «أحدهما» ذلك «وجب عليهما أو
على العالم منهما إعادة النظر في دليليهما» أي في دليله ودليل مخالفه لعله يظهر له رجحان أحدهما «إذ
لا بدّ من راجح»
في الأغلب «يرجعان
إليه»
وحينئذ يزول
الاختلاف.
«أو» يرجعان «إلى غيره» أي غير ذلك الدليل الذي بأيديهما «إن
عدم
__________________
المرجح» لأحد الدليلين على الآخر ويرفضان دليليهما لتعارضهما
واستوائهما ، ولا يكاد يستويان من جميع الوجوه ، وحينئذ يزول الاختلاف أيضا.
فإن لم يوجد
غيرهما ولم يعلم المرجح فكما لو لم يعلما الاختلاف.
«وإن لم يعلما» اختلافهما «وجب على كل
واحد منهما العمل بمقتضى ما رآه» أي ظنّه واجبا عليه بالأمارة.
«لا لأنّهما مصيبان معا بل لإصابة الحق
في حق المصيب» للحق منهما بالأمارات «ولاتقاء التّجاري على الله تعالى» أي ولأجل
تجنّب التّجاري على الله سبحانه «بالإخلال بما يرى وجوبه عليه» للأمارة التي
اقتفاها «في حق المخطي» للحق منهما.
إذ لو لم يعمل بما ظنّه واجبا عليه لكان
قد تجارى على الله سبحانه بالعصيان له والمخالفة لأمره فيما يظن وجوبه «كمن يقسم
من الأزواج في الليالي والقيلولة لمنكوحة في العدة» أي لامرأة نكحها في العدة «جهلا
منه» بذلك «إذ لا خلاف» بين العلماء «في وجوب القسمة» عليه لها «ما دام جاهلا و» لا
خلاف أيضا «في أنه غير مصيب» للحق في قسمته لها «في حقيقة الأمر» لأنّ نكاح
المعتدة باطل فكذلك يكون حكم هذا المجتهد المخطي للحق في نفس الأمر.
(فصل)
«والنسخ لغة» أي في لغة العرب : «بمعنى
الإزالة للشيء» يقال : نسخت الشمس الظّلّ
أي أزالته ، ونسخت الريح آثار بني فلان أي أزالتها.
«وبمعنى النقل عند جمهور أئمتنا عليهم» «السلام
وبعض المعتزلة».
ومعنى ذلك : أنه
حقيقة مشتركة بين المعنيين يقال : نسخت الكتاب أو السّجلّ أي نقلت ما فيهما.
وفيه تجوّز لأنك
لم تنقل ما فيهما حقيقة بل كتبت مثل ما فيهما.
والأصح في المثال
قولك : نسخت النّحل أي نقلتها من موضع إلى موضع ومنه المناسخة في المواريث.
«وقيل : بل» النسخ «حقيقة في الأوّل» وهو
الإزالة «مجاز في الثاني» وهو النقل وهذا قول أبي هاشم وأبي الحسين والقاضي جعفر
والجويني والرازي.
«وقيل : بل العكس» وهذا قول البستي وهو
أبو القاسم بن تال
من فقهاء المؤيّد بالله عليهالسلام.
«و» أما حقيقة النسخ «شرعا» أي في
اصطلاح أهل الشرع فهو «بيان انتهاء الحكم الشرعي بطريق شرعي واجبة التراخي عن وقت
إمكان العمل».
فقوله : الحكم الشرعي : يخرج الحكم
العقلي كالمباح بحكم الأصل فإنّ رفعه بدليل شرعي ليس بنسخ.
وقوله : بطريق
شرعي : أي بدليل من الشرع فلا يصحّ أن يكون الناسخ عقليّا وليخرج رفعه بالموت
والنوم والجنون.
وقوله : واجبة
التراخي : ليخرج البداء كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وقوله : عن وقت
إمكان العمل : ليدخل في ذلك نسخ الشيء قبل فعله بعد مضي وقت يمكن فيه الفعل فإنه
يكون نسخا.
فعلى هذا : النسخ
تخصيص للحكم مخصوص وهو تخصيصه بالزمان بمعنى أن الشارع إنما أراد بالحكم من وجوب
أو غيره في بعض الأزمنة
__________________
دون بعض لتعلّق
المصلحة بذلك الزمان دون غيره.
وهذا هو معنى قوله
عليهالسلام هو بيان انتهاء الحكم ... إلى آخره.
«والبداء لغة : الظهور» يقال : بدا
الأمر أي ظهر.
«واصطلاحا» أي في اصطلاح أهل علم الأصول
: «رفع عين الحكم المأمور به مع اتحاد الآمر والمأمور والمأمور به ، والقوة والفعل
والزمان والمكان لغرض تنبّه له» بعد الغفلة.
مثال ذلك : قول
السيد لعبده : صلّ ركعتين أول وقت الظهر في الجامع ، ثم يبدو له خلافه فيقول : لا
تصلّ ركعتين أول وقت الظهر في الجامع.
فقد رفع عين الحكم
وهو الركعتان واتّحد الآمر وهو السيد والمأمور وهو العبد والمأمور به وهو الركعتان
، والقوّة وهي قدرة العبد على الصلاة حين الأمر بها وحين رفعها واحدة ، والزمان
وهو أول وقت الظهر ، والمكان وهو الجامع.
فإن اختل شرط منها
فليس ببداء.
وقيل : اتحاد
القوة واختلافها في مثل قولك : الماء في البئر مرو مطهّر ، الماء في البئر ليس بمرو
ولا مطهّر.
فإن أردت بالأول
أنه مرو مطهّر بالقوة أي له صلاحية الرّواء والتطهير وبالثاني أنه ليس بمرو ولا
مطهّر بالفعل لكونه في البئر فلا يكون متناقضا ولا يكون من البداء. وإن أردت
بالأول ما أردت بالثاني كان من البداء.
وقال العنسي :
البداء : أن يتّحد فيه الآمر والناهي والمأمور والمنهي والفعل الذي تعلّقا به
والوجه الذي يقع عليه وزمانه إن كان ومكانه ، وهو
____________________________________
(١) هذا التفسير هو الأولى لأنه
بالتفسير الأول يصير قوله والفعل تكريرا لقوله والمأمور به كما سيذكره بخلاف هذا
التفسير وهذا التفسير هو الذي سمعناه عن والدنا قدس الله روحه تمت من خط سيدي
الحسين بن القاسمعليهماالسلام.
مثل كلام الإمام عليهالسلام إلّا أن فيه زيادة الوجه الذي يقع عليه الفعل نحو جهرا أو سرّا في صلاة
الركعتين.
وقول الإمام عليهالسلام : والمأمور به ، والفعل تكرار أو نظر إلى ما ذكره في الفصول والله أعلم.
«ولا يجوز البداء على الله تعالى» لأنه
يستلزم الغفلة وهي من خواص الأجسام.
«خلافا لبعض الإمامية» فإنه روي عنهم جوازه عليه تعالى وهو باطل لما مرّ.
وقد روى النجري عن
الشريف المرتضى الموسوي : أنهم إنما يريدون بالبداء النسخ.
«لنا ما مرّ» في صفات الله تعالى وآنفا.
«واتفق المسلمون على جواز النسخ عقلا
وشرعا».
وخالف في ذلك شذوذ
من الناس وأبو مسلم الأصفهاني في القرآن.
ووجه النسخ عند «قدماء أئمتنا عليهم» «السلام
لأنّ لله تعالى أن يستأدي شكره وهو الامتثال» أي له أن يطلب أداء شكره وهو
الامتثال لأمره ونهيه «والتعظيم»
له جلّ وعلا «بما
شاء من العبادات»
فله أن يرفع جلّ
وعلا حكما منها ويثبت غيره مكانه كما قال تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ
آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) أي ما نبدّل من حكم آية بالنّسخ له نأت بخير منها أو ننسها
أي نتركها بحالها لا نغير شيئا ممّا حكمنا به فيها. هكذا ذكره عبد الله بن الحسين
بن القاسم عليهالسلام في كتاب الناسخ والمنسوخ.
قال : وكذلك قال
الله تعالى في موضع آخر : (يَمْحُوا اللهُ ما
يَشاءُ
__________________
وَيُثْبِتُ
وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) أي أصل ذلك وجملته مثبتا في علمه لا يعزب عنه شيء ممّا نسخ
ولا ممّا لم ينسخ ولا ممّا وقع الحكم به ومضى ولا ممّا لم يقع به ولم يمض. انتهى.
قلت : ومع ذلك
فإنه تعالى لا يرفع حكما ويبدّل غيره إلّا لحكمة ومصلحة راجعة إلى العباد.
«ولكون غيرها» أي غير العبادات من
الشرائع «مصالح للمكلفين وهي تختلف باختلاف الأحوال» أي صفات المكلفين ونحوها «والأشخاص»
أي أعيانهم «والأزمنة والأمكنة» وذلك يقتضي النسخ.
«وقال غيرهم :» أي غير قدماء أهل البيت عليهمالسلام
وهو جمهور المعتزلة وغيرهم : «بل لأنها» أي الشرائع «مصالح كلها» كما مرّ لهم في
النبوّة.
«لنا ما مرّ» في كتاب النبوّة.
وقال «أكثر اليهود لا يصحّ النسخ» عقلا
ولا سمعا.
وبعضهم جوزه عقلا
لا سمعا ، وبعضهم جوزه عقلا وسمعا.
وأنكروا كون
نبيئنا محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم مرسلا إليهم.
«لنا عليهم ما مرّ» وقد بسطنا الردّ عليهم في الشرح في ذكر نبوءة نبينا محمّدصلىاللهعليهوآلهوسلم.
ولنا عليهم صحة وقوعه «فإنه قد وقع» باتفاق
بين الناس «وذلك تحريم نكاح الأخوات بعد أن كان مباحا لأولاد آدم».
وذلك أن الله
تعالى أباح نكاح الأخت من أولاد آدم للأخ الذي لم يكن توأما لها أي لم يولد معها
في بطن واحد.
روي أن حوّى ولدت
قابيل وأخته في حمل واحد وهابيل وأخته في حمل آخر وكانت توأمة قابيل أحسن من توأمة
هابيل فأوحى الله إلى آدم أن
__________________
زوّج هابيل توأمة
قابيل.
وكان ذلك من أسباب
حسد قابيل لهابيل مع ما حكا الله سبحانه من تقريب القربان.
وأما رواية من روى
أنّ الله سبحانه أخرج لولدي آدم زوجتين من حور الجنة فغير صحيحة.
وهو أي تحريم نكاح الأخت بعد إباحته لا
يمكن اليهود دفعه لأنه مذكور عندهم في التوراة «والوقوع فرع الجواز».
وكذلك روي أن في
التوراة : إن الله تعالى قال لنوح عليهالسلام. عند خروجه من الفلك : إني جعلت كل دابّة حيّة مأكولا لك
ولذريتك وأطلقت ذلك لكم كنبات العشب ما خلا الدم فلا تأكلوه ، ونسخ ذلك بعد فحرم
على بني إسرائيل كثير من الحيوانات.
وكان الجمع بين
الأختين حلالا في شريعة يعقوب عليهالسلام وحرّمه الله في زمن موسىعليهالسلام.
وفي التوراة في
العبد يستخدم ستّ سنين ثم يعتق في السابعة فإن أبى العتق فلتثقب أذنه ويستخدم
أبدا.
وقال في موضع آخر
: يستخدم خمسين سنة وغير ذلك.
«وشريعة نبيئنا» محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم
نسخت ما قبلها من الشرائع كما مرّ ذكره «إلّا ما ورد» تقريره من الشرائع المتقدمة «على
لسانه صلىاللهعليهوآلهوسلم
نحو آية القصاص».
لقوله تعالى : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ
النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ...) الآية .
وكذلك الصيام
والصلاة والزكاة وغير ذلك وإن اختلفت صفاتها.
«وفي شريعته صلىاللهعليهوآلهوسلم
الناسخ والمنسوخ»
كالقبلة والوصية
للوالدين والأقربين على رأي والعدّة. وغير ذلك.
__________________
«خلافا لأبي مسلم الأصفهاني في الكتاب» فقال : لم يقع فيه نسخ «لنا الإجماع» على وقوع ذلك كنسخ القبلة والعدّة وصدقة النجوى.
وغير ذلك.
وقوله تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها
نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها) .
أي أكثر ثوابا
منها أو أدخل في المصلحة في ذلك الوقت «أو
مثلها»
أي مثلها في ذلك
حين انقضت مصلحة الأولى ، وفيها تقديم وتأخير وحذف ، والمعنى : ما ننسخ من آية نأت
بخبر منها أو مثلها ، وما ننسها أي نتركها ولا نغيّر حكمها فلمصلحة وحكمة في
إبقائها على حالها.
وأما من فسّر (ننسها)
أي نذهب بحفظها عن القلوب كما يروون أنه نسخ شيء من القرآن بإزالة حفظه عن القلوب
أو نسخ تلاوته لا حكمه فليس ذلك بصحيح عند أئمة أهل البيت عليهمالسلام وقد صرّح بذلك الإمام الكبير عبد الله بن الحسين بن القاسم
عليهمالسلام في كتاب الناسخ والمنسوخ وغيره.
وفي معنى هذه
الآية
قوله تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) أي ينسخ الله ما يشاء ويثبت أي يترك ما يشاء من الآيات على
حالها فلا يرفع حكمها. وهاتان الآيتان حجة على أبي مسلم.
«وفي كتب الأصول» أي أصول الفقه «ذكر
قواعده»
أي قواعد النسخ
وشروطه «وفي غيرها» أي في غير كتب الأصول «ذكر
أعيانهما»
أي أعيان مسائل
الناسخ والمنسوخ إمّا في كتب مفردة لذلك أو داخلة في ضمن غيرها من الكتب.
__________________
«كتاب الإمامة»
هي تابعة للنبوءة
في الوجه الذي وجبت له لأنّ الأئمة عليهمالسلام يقومون مقام الأنبياءعليهمالسلام في تبليغ الشريعة وإحياء ما اندرس منها ، ومقاتلة من عند
عنها ولهذا لم تكن إلّا بإذن من الشارع واختيار منه كالنبوّة.
واعلم : أن مسألة
الإمامة من أكبر مسائل أصول الدين وأعظمها لأنه يترتب عليها طاعة الله وطاعة
الرسول والقيام بالشرائع والجهاد والموالاة والمعاداة والحدود وغير ذلك.
فتجب معرفتها على
كل مكلّف ويؤكد ذلك قوله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ
مِنْكُمْ) . ولا تتم طاعة الإمام إلّا بمعرفته.
وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم «من مات ولم يعرف
إمامه مات ميتة جاهليّة».
وهذا الخبر متلقّى
بالقبول. ذكر ذلك القاسم بن إبراهيم عليهماالسلام في كتاب تثبيت الإمامة ، والحسين بن القاسم بن علي عليهمالسلام وروى الناصر للحق عليهالسلام عن إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن عليهمالسلام أنه سئل عن معنى هذا الخبر فقال : أراد عليهالسلام من مات ولم يعرف إمامه عادلا فيتبعه أو جائرا فيجتنبه مات
ميتة جاهلية.
__________________
قال الناصر للحق عليهالسلام : والحق عندي أن المراد بهذا الخبر أن النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم بيّن لأمّته «أني مخلف فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلّوا من
بعدي أبدا كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، إنّ اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى
يردا عليّ الحوض وهما الخليفتان من بعدي».
فجعلهما الإمامين
لعباد الله إلى يوم القيامة.
ثم قال عليه
الصلاة والسلام وعلى آله «من مات ولم يعرف إمامه مات ميتة جاهلية» يقول : إمامه من
الكتاب والعترة.
انتهى كلام الناصر
عليهالسلام.
ومثله ذكره الهادي
عليهالسلام في آخر كتاب الأحكام حيث قال : إذا كان في عصر هذا الإنسان
إمام قائم زكي تقي عالم نقي ولم ينصره وتركه وخذله ومات على ذلك مات ميتة جاهلية
فإذا لم يكن إمام معروف باسمه فالإمام الرسول والقرآن وأمير المؤمنين علي بن أبي
طالب عليهالسلام ومن كان على سيرته وصفته من ولده فتجب معرفة ما ذكرنا على جميع الأنام إذا لم
يعلم في الأرض في ذلك العصر إمام.
ويجب عليهم أن
يعلموا أن هذا الأمر في آل الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم خاصة دون غيرهم ، وأنه لا يعدم في كل عصر حجة لله يظهر
منهم إمام يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
فإذا علم كل ما
ذكرنا وكان الأمر عنده على ما شرحنا ثم مات فقد نجا من الميتة الجاهلية ومات على
الميتة الملّيّة.
ومن جهل ذلك ولم
يقل به ولم يعتقده فقد خرج من الميتة الملّيّة ومات على الميتة الجاهلية. فهذا
تفسير الحديث ومعناه. انتهى.
[ويؤيّد ذلك ما رواه الهادي عليهالسلام قال : بلغنا عن رسول
__________________
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أنه قال «من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر من ذريتي فهو
خليفة الله في أرضه وخليفة كتابه وخليفة رسوله»].
وقال القاسم بن
إبراهيم عليهماالسلام في جواب من سأله عن إمام (صلاة) شاك في إثبات الإمامة هل
تجوز الصلاة خلفه إذا كان موافقا في غيرها من أمر الدين؟
فقال عليهالسلام : إن الولاية واجبة من الله عزوجل بتنزيله في كتابه لكل فاضل على كل مفضول ... إلى قوله عليهالسلام : فمن اشتبه عليه فرض الإمامة وما حكم الله به من ذلك على
الأمّة ولم يدر أفرض الله ذلك عليه أو لم يفرضه ولم يعلم من ذلك ما يلزمه فهو ضال
غير مهتد وأمره في ذلك مسخوط عند الله غير مرضي لأنّ الله كلفه العلم كما كلفه
العمل فجهل من ذلك ما علم فعليه أن يتعلم ما جهل فإن لم يفعل كان ضالّا ولم يكن
مهتديا ولا برّا.
ولا يجوز أن يؤتم
في الصلاة إلّا بكل برّ زكيّ ... إلى آخر كلامه عليهالسلام.
وكلام الهادي عليهالسلام في خطبة الأحكام مثله وأوضح.
وقال علي بن أبي
طالب عليهالسلام في نهج البلاغة :
«وإنّما الأئمة
قوام الله على خلقه وعرفاؤه على عباده لا يدخل الجنة إلّا من عرفهم وعرفوه ، ولا
يدخل النار إلّا من أنكرهم وأنكروه).
وقال أيضا فيه
لمّا سمع قول الخوارج : لا حكم إلّا لله :
(هذه كلمة حق يراد
بها باطل ، نعم إنّه لا حكم إلّا لله ولكن هؤلاء يقولون : لا إمرة ، وإنّه لا بدّ
للناس من أمير بر أو فاجر يعمل في إمرته المؤمن ويستمتع فيها الكافر ، ويبلغ الله
فيها الأجل ويجمع به الفيء ويقاتل به العدو ويأمن به السّبل ويؤخذ به للضعيف من
القوي حتى يستريح برّ ويستراح من فاجر).
وقال القاسم بن
إبراهيم عليهالسلام في جواب من سأله. ومن لم يعتقد بعد النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم إمامة علي بن أبي طالب عليه
السلام لم يقبل
الله منه صلاة ولا زكاة ولا حجّا ولا صوما ولا شيئا من أعمال البرّ.
ثم من بعده الحسن
والحسين.
ومن لم يؤمن بأن
الإمام كان بعد النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم عليّا عليهالسلام كما يؤمن بالنبيصلىاللهعليهوآلهوسلم والقرآن والصلاة والزكاة والصوم والحج لم ينفعه شيء من
عمله إلّا أعجمي أو صبي أو امرأة أو جاهل لم يقرأ القرآن ولم يعلم العلم فإن جملة
الإسلام تجزيهم.
وقال القاسم بن
إبراهيم عليهالسلام.
واعلم : أنّ أفرض
الفرائض وأوكدها فرض الإمامة لأنّ جميع الفرائض لا تقوم إلّا بها ، ولا يجوز تبديل
فريضة الإمامة بوجه من الوجوه لأنّ فيها من الفساد ما ليس في غيرها من الفرائض ...
إلى قوله :
فإن قالوا : فما
وجه الإمامة عندكم؟
قيل لهم : وجه
الإمامة موضع الاختيار من الله تعالى.
فإن قالوا : وما
موضع الاختيار من الله؟
قيل لهم : موضع
الاختيار من الله معدن الرسالة ليكونوا موضعا معروفا والدليل على ذلك : أنّ
الإمامة موضع حاجة الخلق فلا يجوز أن تكون في موضع غير معروف ، إذا بطلت الحاجة
وضاع المحتاجون وإذا كان كذلك فسد اليقين ودخل الوهن في الدين ... إلى آخر كلامه عليهالسلام.
وقال القاسم بن
علي العياني عليهماالسلام في كتاب الردّ على الملحدين : الإمامة فرض من الله لا يسع
أحدا جهلها لأنّ الحكيم لا يهمل خلقه مع ما يرى من اختلافهم.
وقال الإمام أحمد
بن سليمان عليهالسلام في كتاب حقائق المعرفة :
أعلم : أنه لمّا
كانت النبوّة لا تحصل لأحد بعد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وأنّ الله قد ختم به الرسل ، وكان الناس محتاجين إلى من
يقوم مقام النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم ينفذ الأحكام ويحلّ الحلال ويحرم الحرام ويكفل الضعفاء
والأيتام وينصف المظلوم من الظالم ويدعو إلى عزّ الإسلام وبناء المكارم ، ويدفع كل
خائن وغاشم ، ويدعو إلى الجهاد في سبيل رب العالمين ويعزّ المؤمنين ويذلّ الفاسقين
: حكم العقل بوجوب قيام إمام من المؤمنين لصلاح الإسلام والمسلمين.
وحكم العقل أنه إن
لم يقم إمام أن الإسلام يضعف وأن الكفر يتقوّى وأنّ الفساد يلحق جميع الناس.
فوجب قيام الإمام
بعد النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وكذلك القول إذا
مات الإمام أو قتل أنه يجب قيام إمام بعده إلى آخر الدهر.
وحكم العقل أيضا
بأن الإمام بعد النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم يكون مختارا ولا يكون في الأمّة من يكون أجمع منه للمحامد
انتهى.
وقال الإمام
المنصور بالله عبد الله بن حمزة عليهالسلام في جواب من سأله : وأما كون أكثر الشريعة مرويّا من طريق
الآحاد نقول لا شك فيه ولا مرية ، لكن نائم أنت أم يقظان إنّما أنت في الإمامة وهي
من مهمّات أصول الدين فلا يقبل فيها إلّا الأخبار المتواترة المعلومة كما روينا في
خبر الغدير والمنزلة فإنهما من الأخبار المعلومة بالضرورة كحج النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم واعتماره وأمره بالخمس الصلوات ومقادير أصول الزكاة.
فلو شغب في ذلك
شاغب لعدّ مجنونا إلّا أن يعلم عقله كان مرتدا كافرا لإنكاره ما علم من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ضرورة. انتهى.
وقد بسطنا القول
في هذه المسألة في الشرح لأنها من مهمات أصول الدين.
قال عليهالسلام : «وهي» أي الإمامة «لغة
التّقدم».
يقال : أمّ القوم
فلان أي تقدمهم على وجه يقتدون به.
ومنه إمام الصلاة.
«وشرعا» أي في عرف الشرع «رئاسة عامة» أي
على جميع الناس تثبت
«باستحقاق» لها «شرعي» أي بدليل من الشرع أي باختيار من الشارع لصاحبها لأنها
تالية للنبوّة.
والنبوّة لا تكون إلّا بالاختيار
فكذلك الإمامة «لرجل» واحد «لا يكون فوق يده يد مخلوق».
فقوله : عامة :
خرجت الخاصة كرئاسة أمراء أهل السّرايا ونحوهم.
وقوله : بدليل
شرعي أي باختيار من الشارع لصاحبها.
وإن كان فرض
الإمامة جملة معلوما بالعقل.
وخرجت الرئاسة
التي تكون بالقهر والغلبة والاختيار من القبيلة.
وقوله : لرجل خرج
بذلك المرأة.
وقولنا في الشرح :
واحد احتراز من النبوّة فإنها قد تثبت لاثنين وأكثر والفارق بينهما الإجماع.
ووجهه : أن تعدّد
الأئمة في وقت واحد وبلاد واحدة يؤدّي إلى التشاجر والنزاع والفساد ، بخلاف
النبوّة فلا يقع فيها ذلك لأنّ النبيء يتبع الوحي.
وإذا تباعدت
الديار جاز قيام إمامين والله أعلم.
وقوله : لا يكون
فوق يده يد مخلوق : زيادة توضيح وإلّا فقد أغنى عنه قوله : عامّة. والله أعلم.
قال «بعض أئمتنا عليهم» «السلام وأبو
القاسم البلخي وأبو الحسين البصري» والجاحظ وغيرهم : «وهي واجبة عقلا وسمعا» أي
يحكم العقل بوجوبها والشرع قد قضى به أمّا الشرع : فلما سيأتي.
وأما العقل : فلما
مرّ من حاجة الناس إلى الإمام لدفع ضرر بعضهم
__________________
عن بعض ولحفظ
الشريعة وإحياء ما اندرس منها.
لأنّ الناس مع
كثرتهم واختلاف هممهم وقوّة دواعيهم إلى العدوان وميل أنفسهم إلى الظلم لا يكادون
ينزجرون ويكف بعضهم شرّه عن البعض إلّا إذا كان هناك رئيس له قوة وسطوة وأعوان فيمنعهم خوفه
عن التّوثّب في العدوان.
ولهذا إذا ضعف
السلطان أو تشاغل عن النظر في أمور العامّة كثر في الناس الظلم والفساد وخافت
الطرق وتغلب القوي على الضعيف ثم إنه لا توجد قبيلة في كل زمان إلّا ولها رئيس
يمنع القوي من الضعيف وينتصف للمظلوم من الظالم.
وقال «بعض أئمتنا عليهم» «السلام» وهم
بعض المتأخرين منهم «والجمهور» من غيرهم «بل» وجبت «سمعا فقط».
قالوا : لأنّ
ثمرتها أمور شرعية كالحدود والجمعات.
قالوا : ولا إشكال
أن الإمام لطف ومصلحة للخلق لكن العلم بكونه لطفا ومصلحة إنما طريقه الشرع
كالنبوّة عندهم.
«وقيل : لا تجب» الإمامة لا عقلا ولا
سمعا «لما سيأتي لهم».
قال في الشامل :
أهل هذا القول : أبو بكر الأصم وضرار وهشام الفوطي وبعض المرجئة وبعض الحشوية
والنّجدات من الخوارج.
قال : ثم اختلف
هؤلاء :
فزعم الأصم أنه لا
يجب نصب الأئمة في كل وقت وإنما يجب عند ظهور الظلم والتظالم بين الخلق ليدفع بنصب
الإمام ظلم الناس.
وأما هشام : فزعم
أن الأمر على عكس ذلك فقال لا يجب نصبه عند ظهور الظلم والتظالم بين الخلق لأنه
ربّما قتلوه فيصير نصبه سببا في الفتنة ، فأما عند عدم الظلم وخلو الزمان عنهم
فإنه يجب نصبه لإظهار شعار الإسلام وقوّة شوكته.
__________________
وأما النجدات من
الخوارج وضرار بن عمرو فلم يوجبوا نصب الإمام في حالة من الحالات. وذهب إلى مثل
هذا القرشي في المنهاج.
«قلنا» ردّا على المخالف في وجوبها أو
زعم أن العقل لا يدل على ذلك : «التّظالم واقع بين الناس قطعا ولا يتم دفعه إلّا
برئيس» للناس عموما يرجعون إليه ودفعه من غير رئيس يؤدّي إلى كثرته «ودفع التّظالم
واجب عقلا فوجب» على المسلمين «إقامة رئيس» لهم «لذلك» أي لدفع التظالم.
«ودليلها شرعا قوله تعالى» : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ
بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) قالَ أي إبراهيم عليهالسلام (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) أي واجعل يا رب من ذريتي أئمة من بعدي ينالون من فضلها
وشرفها
«قال لا ينال عهدي الظالمين» أي ومن ذريتك اجعل أئمة مهما كانوا أخيارا مؤمنين فإني لا
أستثني إلّا الظالمين فإنهم لا ينالهم عهدي.
والمراد بالعهد
هنا : ما يتحمله الإمام والنبيء من الحق العظيم والأعباء الثقال من التكاليف.
ووجه دلالة الآية
: إنّ الله سبحانه اختار إبراهيم عليهالسلام للإمامة وجعله أهلا لها ، وكذلك من ذريته ، وإذا أذن الله
سبحانه بذلك فقد حكم لهم بالإمامة وخصّهم بهذه الفضيلة دون غيرهم.
والعقل قد حكم
بوجوب الإمامة جملة كما سبق فثبت بذلك وجوب الإمامة فيهم دون غيرهم لعدم الإذن
فيمن سواهم.
«و» دليلها «من السّنّة ما يأتي إن شاء
الله» قريبا.
«والإجماع» أيضا من الصحابة والتابعين
وغيرهم.
فإنه لمّا توفي
نبيئنا محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم أجمع جميع الناس على أنه لا بدّ من رئيس يقوم بأمر الأمّة
، ولم ينكر ذلك أحد فيقول :
__________________
لا نحتاج إلى إمام
، بل أطبقوا على أن الإمامة حق مطلوب محتاج إليه.
وإنما وقع
الاختلاف والخبط وركوب الأهواء في تعيين القائم بأمر الأمّة بعد النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وعلى هذا توالت
الأعصار بعد يوم السقيفة فإنهم كانوا يفزعون إلى الإمام ويطلبونه ويعتقدون وجوب
قيامه قطعا.
قلت : وعندي أن
هذا الإجماع دليل على أن وجوبها بالعقل مقرّر كالشرع لأنهم إنّما أجمعوا على مقتضى
ما ارتكز في عقولهم من احتياج الأمّة إلى رئيس.
ولنا أن نقرّر
الإجماع على وجه آخر فنقول : أمر الله تعالى بإقامة الحدود على مرتكبيها ، وأجمعت
الأمّة على أنه لا يتولى الحدود إلّا الأئمة أو من يلي من جهتهم فيكون الأمر بإقامة
الحدود أمرا بنصب الأئمة لأنّ ما لا يتم الواجب المطلق إلّا به وكان مقدورا للمكلف
فهو واجب.
(فصل)
«ويجب على المسلمين في كل عصر إعانة من
يصلح لها»
أي للإمامة بالمال
والنفس والجنان والأركان «إجماعا» بين الأمّة إلّا من أنكر وجوبها كما سيأتي وقد مرّ ذكرهم.
«لأنّ ثمرتها» أي فائدتها «وهي حفظ بيضة
الإسلام ودفع التّظالم» بين المسلمين «وإنصاف المظلومين» من الظالمين «وإقامة
الحدود» التي أمر الله تعالى بها في نحو قوله تعالى : (وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) .
«ونحو ذلك» كإقامة الجمعات وقسم الفيء
والصدقات «لا يختص وقتا دون وقت» بل هي حاصلة في جميع الأوقات على سواء ، فلهذا
وجب إعانة من يصلح للإمامة في كل وقت.
__________________
«و» اعلم : أنّ العترة عليهمالسلام قد أجمعوا ووافقهم غيرهم أيضا أنه «لا
يخلو الزمان ممّن يصلح لها» أي للإمامة من منصبها الشريف وهم العترة عليهمالسلام «لأخبار صحيحة» وردت عن النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم :
«نحو قوله» صلىاللهعليهوآلهوسلم
«أهل بيتي كالنجوم كلّما أفل نجم طلع نجم».
والمراد تشبيه أهل
البيت عليهمالسلام في هداية الخلق والقيام بمصالحهم بالنجوم في هدايتها لمن
اهتدى بها إلى مراده.
ومنها قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم «إنّي تارك فيكم
ما إن تمسكتم به لن تضلوا ... الخبر».
وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم «إنّ عند كل بدعة
تكون من بعدي يكاد بها الإسلام وليّا من أهل بيتي موكّلا يعلن الحق وينوره ويرد
كيد الكائدين ، فاعتبروا يا أولي الأبصار وتوكلوا على الله».
يؤكد ذلك قول علي
كرّم الله وجهه : (اللهم بلى لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة إمّا ظاهرا مشهورا أو
خاملا مغمورا كيلا تبطل حجج الله وبيّناته).
قال الإمام
المنصور بالله عبد الله بن حمزة عليهالسلام : وتجب معرفة ذلك على كل مكلف.
وقال عليهالسلام : اعلم : أنه لا يجوز مرور وقت من الأوقات ولا عصر من
الأعصار إلّا وفيهم عليهم سلام الله من تجب طاعته ويحرم خلافه من الصالحين الذين
هم أعلام الدين وقدوة المؤمنين والقادة إلى عليين والذادة عن سرح الإسلام
والمسلمين ، وبهم أقام الله حجته على الفاسقين ورد كيد أعداء الدين ، وهم القائمون
دون هذا الدين القويم حتى تقوم الساعة ينفون عنه شبه الجاحدين وإلحاد الملحدين.
انتهى.
«وقيل : لا تجب» إعانة من يصلح لها إذ
لا تجب الإمامة لا عقلا ولا
شرعا وقد تقدم ذكر
أهل هذا القول.
قالوا : «لخلو بعض الأزمنة عن إمام ،
لأنها لو كانت واجبة» في كل عصر «لكانت الأمّة في ذلك العصر» الذي خلى عن ظهور
الإمام «مجمعة على الإخلال بالواجب» وهو إقامة الإمام «ولا يجوز أن تجمع الأمّة على
الإخلال بالواجب إذ لا تجتمع على ضلالة».
لما روي عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم أنه قال : «لن تجتمع أمّتي على ضلالة».
ولما تقدم ذكره من
الدلالة على أن الإجماع حجة.
وهذا هو الموعود
بذكره حجة للمخالف حيث قال عليهالسلام فيما سبق (لما سيأتي لهم).
«قلنا : قد ثبت الإجماع» من الصحابة
والتابعين وغيرهم «على ما ذهبنا إليه» من وجوب نصب الإمام كما سبق ذكره.
«وإنّما خلى بعض الأزمنة» عن قيام
الإمام وظهوره «لقهر الظلمة من يعين صاحبها» أي صاحب الإمامة أي من يستحقها «الذي
هو» أي من يعين صاحبها أي إعانته «شرط في وجوبها» أي في قيام الإمام وانتصابه فلا
يجب على المستحق للإمامة القيام بها إلّا مع وجود المعين له والناصر.
فإذا كان المعين والنّاصر مقهورا من
الظلمة لم يتمكن من إعانة الإمام لم يجب على المستحق للإمامة الانتصاب لها لأنّه
يكون إلقاء بنفسه إلى التّهلكة
«أو» لم يقهر الظلمة كل الناس على ذلك لكن تعذّر قيامه «لخذلان الأكثر» له تمردا
منهم والأقل منهم عازم على النّصرة والإعانة ولكنه لا يحصل به المقصود.
وإذا كان كذلك «فالمغلوب عن» تحصيل «الشرط»
وهو المقهور من الناس «والأقل» منهم «العازم» على المعاونة «غير مخل» بالواجب فلا
يلزم ما ذكروه من إجماع الأمّة على الإخلال بالواجب «إذ العزم» على فعل
__________________
الواجب مع عدم
التمكّن من الفعل «كاف كمن يجبر على ترك الصّلاة» أو أيّ واجب فإنّ العزم على فعله
متى تمكن منه يكفيه في الامتثال لأمر الله «وكالحج» فإنّه «لا يجب على أحد حتى
يتمكن من» شرط «وجوبه وهو الزاد والراحلة وكفاية من يمون» من عياله «حتى يرجع» على
ما هو مفصّل في موضعه «والمغلوب والأقل غير متمكن» من إعانة الإمام.
والإمام حينئذ
معذور عن القيام ومثل هذا ذكره صاحب المحيط [لبعض الناصرية] ، فثبت بهذا ما ذهبنا
إليه وعليه الأكثر من الأمّة من وجوب الإمامة في كل عصر إذ المراد مع التمكن من
تحصيل شرطها كما تقرر.
فإن قيل : إنّ
الأئمة من أهل البيت عليهمالسلام وشيعتهم قد أجازوا قيام المحتسب بالأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر.
ومن شرطه أن لا
يصحّ انتصابه إلّا مع عدم الإمام فدل على أن الزمان قد يخلو من المجتهد.
قلنا : ذلك لا يدل
على ذلك لجواز أن يكون لمستحق الإمامة مانع من القيام والانتصاب إمّا لعدم النصرة
كما في حق علي عليهالسلام أو لنحو ذلك.
(فصل)
«وشروط صاحبها» أي شروط الإمام أربعة
عشر شرطا :
الأول : «البلوغ والعقل للإجماع على أن
لا ولاية للصبي والمجنون» على أنفسهما فضلا عن غيرهما.
«و» الثاني : «الذّكورة» لقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم
«ما أفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة» ولأنّ المرأة لا تولّى جميع أمرها
ولأنها ممنوعة من مخالطة الناس وغير ذلك.
__________________
«و» الثالث : «الحرية لأنّ العبد مملوك
الرقبة والتصرّف» أي ممنوع من التصرّف قد ملك تصرّفه عليه وملكت رقبته أيضا فلا
يصحّ أن يتولّى على غيره.
والرابع : ما ذهب إليه «العترة عليهم» «السلام
والجمهور» وهو «المنصب» فلا تصحّ الإمامة إلّا في منصب مخصوص بيّنه الشّارع.
«خلافا للنظام ونشوان» بن سعيد الحميري «والخوارج
وبعض الحشوية» فقالوا : تصحّ الإمامة في جميع الناس «مطلقا» أي سواء وجد القرشيّ
أم لم يوجد ، والعجمي والعربي والزنجي وغيرهم سواء عندهم ، وتردّد في ذلك الجويني.
وروي عن ضرار أنه
قال : العجمي أولى لأنه إذا أريد عزله كان أيسر.
«و» خلافا «لأبي علي : إن عدم القرشيّ».
يعني أنّ أبا علي
يشترط المنصب وهو من ينتسب إلى قريش وهو النّضر بن كنانة فإن عدم القرشي الجامع
لشروط الإمامة جازت في جميع الناس للضرورة كما قيل في المفضول تجوز إمامته إذا حصل
في الأفضل عذر وكما يجوز التيمّم : إذا عدم الماء.
«قلنا : لا دليل على ثبوتها» أي الإمامة
«لمن عداه» أي لمن عدى المنصب المخصوص.
وهي ولاية لا تكون
إلّا بإذن الشارع واختياره كالنبوّة.
وأيضا : لو لم تكن الإمامة في موضع
مخصوص لوقع الفساد كما سبق ذكره. قالت «العترة عليهم» «السلام» جميعا «وشيعتهم وهو»
أي المنصب «الوصي» أمير المؤمنين «علي بن أبي طالب عليهالسلام
والحسنان» أبناء رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
«وذريتهما» أي أولادهما عليهمالسلام
لما نذكره من الأدلة.
«وقيل : منصبها الوصي عليهالسلام
وذريته جميعا» سواء كانوا من
أولاد الحسنين أو
من غيرهما كمحمد بن الحنفية والعباس بن علي وعمر بن علي ، وهذا القول حكاه صاحب
المحيط عن بعض المتأخرين من الزيدية.
قال في المحجة
البيضاء : هو مروي عن أصحاب عبد الله بن محمد العقبي وإليه ذهب بعض المحدثين من
العلوية قالوا لقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم «إني تارك فيكم
كتاب الله وعترتي ... الخبر».
وقوله في بعض
روايات حديث الكساء : «علي وذريته».
قلنا : لفظ العترة
لا يتناول على الحقيقة إلّا الحسنين وذريتهما لأنهما أولاد النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم لقوله «كل بني أنثى ينتمون إلى أبيهم إلّا ابني فاطمة فأنا
أبوهما وعصبتهما».
وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم «إنّ الله جعل
ذرية كل نبيء في صلبه وجعل ذرّيتي في صلب علي ... الخبر».
والمراد من فاطمة عليهاالسلام.
قال عليهالسلام
: «قلنا : لا دليل على ثبوتها» أي الإمامة «لمن عدا من ذكرنا وهي مما تعم به
البلوى علما وعملا» أي يعمّ وجوب العلم والعمل به جميع المكلفين.
«فلو كان» أي لو ثبت عليها دليل لمن
ذكره المخالف «لظهر» لجميع المكلفين «كدليل الحج ونحوه» من الصلاة والصوم وسائر
أصول الدين والشرائع ، وكل دعوى كذلك فلا شك في بطلانها.
وقال «الراوندي» وهو أبو الحسين أحمد بن
يحيى الراوندي «بل» منصب الإمامة «العباس» بن عبد المطلب عمّ النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم
وبنوه من بعده.
قال : لأنهم عصبة
النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم فهو أحق بميراث الإمامة ، وهذا القول مبتدع ابتدعته شيعة
بني العباس الراوندية في زمن السفاح وأخيه أبي الدوانيق بعد ذهاب دولة بني أميّة.
وما زالت هذه
البدعة يستعملها أهل الجهل والتمويه إلى أن زالت
دولة بني العباس.
ثم إلى زمن ملك
صاحب الروم لجهات مصر وما إليها وهو في المائة التاسعة وهو أنهم يأخذون الولاية من
العباسي طوعا أو كرها ويجلسونه في مجلس مخصوص ولباس مخصوص وعمامة مدورة مخصوصة
ويذكرونه في الخطبة مع السلطان ويجرون له نفقته على ما يريدون.
ثم يتصرفون في
البلاد والعباد بما شاءوا رضي أم كره.
ومتى أحبوا عزلوه
أو قتلوه أو سملوه أو حبسوه كما ذلك كله مذكور في كتب التواريخ.
«قلنا» ردّا على الراوندي ومن تبعه : «لا
دليل»
على ما ابتدعت
وافتريت «كما ذكرنا» أوّلا.
وأيضا فإنّ الذي
يستحقّ بالميراث هو الأموال وأمّا الإمامة فليست بمال يقسم.
«وأيضا : لم يدّعها العباس» بعد موت
النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم
«ولا ولده عبد الله بن العباس» بعد موت أبيه «بل قال العباس للوصي عليهالسلام
امدد يدك أبايعك» حتّى يقال عمّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
بايع ابن أخيه فلا يختلف عليك اثنان.
«ومتابعة عبد الله بن العباس للوصي عليهالسلام
لا تنكر» بل هي معلومة لجميع الناس فإنه كان من ولاته وأخصّ أصحابه وكان يقاتل بين
يديه.
وقال «جمهور المعتزلة وغيرهم» كالأشعرية
: «بل» منصبها كل «قريش لقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم
«الأئمة من قريش».
وما روي من قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم «قدّموا قريشا ولا
تقدموهم».
قال عليهالسلام
: «قلنا : هذا الحديث غير صحيح لقول عمر بن الخطاب : لو كان سالما مولى أبي حذيفة
حيّا ما شككت فيه».
أي ما شككت في أنه
يصلح للخلافة بعدي.
لأن عمر قال ذلك
حين قيل له بعد ما طعن : ألا تستخلف.
وروي أنه قال : لو
كان أبو عبيدة حيّا لاستخلفته ، ولو كان معاذ حيّا لاستخلفته ، ولو كان سالم حيّا
لاستخلفته.
فإني سمعت رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول : «أبو عبيدة أمين هذه الأمّة ، ومعاذ أمّة لله قانت ليس بينه وبين الله يوم القيامة إلّا المرسلون ، وسالم
شديد الحب لله لو كان لا يخاف الله لم يعصه».
«وسالم المذكور ليس من قريش ولم ينكر من
حضر من الصحابة على عمر» في قوله هذا.
«فلو كان الحديث صحيحا لأنكروا عليه» ولما
تكلم بذلك عمر في حضرة الصحابة.
قال في المحيط :
ذكر أبو عثمان الجاحظ أن سالما كان عبدا لامرأة من الأنصار فعتق فأتى مكة فحالف
أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة فصاهره فلما قتل يوم اليمامة مع خالد بن الوليد بعثوا
بتركته إلى مولاته الأنصارية.
وإنّما يقال : مولى أبي حذيفة لأنه كان
حليفه ، والحليف مولى في كلام العرب «مع أنه» أي هذا الحديث «آحادي لا يثبت
الاحتجاج به في هذه المسألة لأنها من أصول الدين».
والخبر الآحادي لا
يفيد اليقين وأصول الدين لا يؤخذ فيه إلّا باليقين.
قال صاحب المحيط
أيضا بعد ذكره لهذا الحديث أعني : الأئمة من قريش ـ : فإن هذا خبر واحد لا يصحّ
التعلّق به في الاعتقادات ، مع ما بلغنا من جماعة أئمة الحديث أنّ هذا الخبر
موضوع.
وأما قول من قال :
إنّ مسألة الإمامة ليست من مسائل أصول الدين : فهو باطل بما قدمناه من الأدلة.
«وإن سلّم» أن الخبر صحيح «فهو مجمل
بيّنه خبر الوصي» أمير
__________________
المؤمنين علي بن
أبي طالب عليهالسلام المذكور في النهج «وهو قوله» : (أين الذين زعموا أنهم
الراسخون في العلم دوننا كذبا وبغيا علينا أن رفعنا الله ووضعهم وأعطانا وحرمهم
وأدخلنا وأخرجهم بنا يستضاء الهدى وبنا يستجلى العمى إن «الأئمة
من قريش غرسوا في هذا البطن من هاشم» (لا تصلح على سواهم ولا تصلح الولاة من غيرهم).
وقوله : (هذا
البطن) أي بطن النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم الذي هو من هاشم.
وقول علي عليهالسلام حجة يجب اتباعه.
«و» لنا أيضا حجة على قولنا : «ما
يأتي ذكره إن شاء الله تعالى من النصوص» بعد ذكر إمامة الحسنين.
على أن إجماع أهل
البيت عليهمالسلام يكفي في ذلك لأنه حجّة قطعية كما مرّ.
وقال «بعض المعتزلة : بل» منصب الإمامة «كل
العرب»
وهذه رواية القرشي
ولعلها غير صحيحة والله اعلم وأما رواية القرشي عن الصالحية من الزيدية : أنه يكفي
في الإمام أن يكون قرشيّا فهي باطلة بما حققنا في الشرح من الرواية عنهم وسيأتي
ذكر ذلك إن شاء الله تعالى.
«قلنا : لا دليل» كما مرّ.
«ولنا» تأكيدا لقولنا : «قوله
تعالى»
(أَفَمَنْ كانَ عَلى
بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) وهو النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم
«ويتلوه شاهد منه» «أي من لحمته»
أي من قرابته أو
من نوره أي خلق من نوره وهو الوصي أمير المؤمنين كرّم الله وجهه في الجنّة.
والشاهد : هو
الإمام يشهد لله تعالى بإقامة شريعته وتبليغ حجته على عباده.
__________________
وروى الناصر للحق عليهالسلام بإسناده قال : قال عليّ عليهالسلام : (ما من رجل إلّا وقد نزلت فيه آية أو آيات من كتاب الله
، فقال له رجل : فما نزل فيك يا أمير المؤمنين؟
فقال : أما تقرأ
الآية في سورة هود (أَفَمَنْ كانَ عَلى
بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) فمحمّد على بيّنة وأنا الشّاهد منه).
ذكره الحاكم في
كتاب تنبيه الغافلين.
ومثله ذكر الحاكم
أبو القاسم عبيد الله بن عبد الله بن أحمد الحسكاني المحدث الكبير في كتابه «شواهد
التنزيل» وفيه من قول علي عليهالسلام : (أما والّذي فلق الحبّة وبرأ النّسمة إنّ مثلنا فيكم
كمثل سفينة نوح في قومه ، ومثل باب حطة في بني إسرائيل ، أتقرءوا سورة هود (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ
رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ). فرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم على بيّنة من ربّه وأنا أتلوه الشاهد منه).
ثم قال : له طرق
عن الأعمش وطرق عن المنهال والحارث عنه ثم ذكر له طرقا كثيرة عن ابن عباس وعن أنس
بن مالك وزاذان.
قلت : ويؤكده أيضا
ما روي في قصة أحد : أن جبريل عليهالسلام قال للنبيصلىاللهعليهوآلهوسلم في شأن عليّ :
«هذه هي المواساة
فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم «إنّه منّي وأنا
منه ، فقال جبريل : وأنا منكما».
«و» لنا أيضا حجة
على ما ذهبنا إليه : قوله تعالى : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ
أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) الآية .
وقد ثبت أن عليّا عليهالسلام أقرب رحما إلى النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم ، لأنه خلق من نوره صلىاللهعليهوآلهوسلم وأنّ الحسنين عليهماالسلام وأولادهما هم أولاد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وعصبته وعترته.
__________________
فهم أولى بمقامه صلىاللهعليهوآلهوسلم لدلالة العقل ، وهذه الآية الكريمة مؤكدة لذلك.
قال القرشي في
المنهاج : في الاحتجاج على حصر الإمامة في أولاد الحسنين عليهماالسلام لنا العقل والسمع :
أمّا العقل :
فالمعلوم الظاهر عند جميع العقلاء أن أهل بيت الرجل أحق الناس بمكانه وأولاهم
بالرئاسة بعده ، وعلى هذا كان جميع العرب من الجاهلية بل كان عليه العجم وهم عليه
إلى الآن قال : ولسنا ندّعي أن العقل يحيل خلاف هذا ولكن العقل يقضي بأن هذا هو
الأولى.
قلت فكيف إذا قرّر
الله سبحانه هذه الدلالة العقلية وجعل عترة النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم التي شهد بطهارتها وحكم بمودّتها على الأمّة قائمة مقام
النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم في هداية عباده وإحياء شريعته وإقامة حجته لما علم من
طهارتهم وتزكيتهم ووجه دلالة هذه الآية الكريمة : أن الله سبحانه ابتدأ بذكر
الولاية فقال عزوجل : (النَّبِيُّ أَوْلى
بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) ثم عقّب ذلك بقوله : (وَأُولُوا
الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) .
فدلّ ذلك على أن
أولاده أولى بمقامه في الولاية من غيرهم. هكذا ذكره الحاكم أبو سعيد الجشمي في
تنبيه الغافلين.
قال : ويصحّح ذلك
: ما رويناه في حديث غدير خمّ أنّ النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : «ألست أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا : بلى قال : فمن
كنت مولاه فعليّ مولاه».
قال : وروينا عن
النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم أنه قال : «كل بني أنثى ينتسبون إلى آبائهم إلّا الحسن
والحسين فأنا أبوهما وعصبتهما».
الشرط الخامس : ما ذهب إليه «جمهور
أئمتنا عليهم» «السلام و» هو
__________________
«الاجتهاد» أي يكون مجتهدا في العلوم ليتمكن من استنباط الأحكام فيرشد الضّال ويحلّ الشّبه ويجيب الفتوى.
وقد ذكر أصحابنا
في كتبهم : أنّ المجتهد من جمع علوما خمسة :
علم العربيّة ،
وآيات الأحكام ، ومعرفة سنّة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ومسائل الإجماع ، وعلم أصول الفقه.
وأما علم أصول
الدين : فهو من تمام الإسلام والدين ، وأمّا علم المنطق فهو من علوم الفلسفة فلا
ينبغي تعلّمه ولغة العرب قد أغنت عنه.
واعلم : أن القدر
الذي يحتاجه الإمام من العلوم المذكورة سهل يسير غير عسير مع الذكاء والفطنة.
وعمدة الإمامة
ورحاها الذي تدور عليه : هو الورع ، ومن وقف على سير الأئمة المتقدمين عليهمالسلام علم صدق ما قلنا.
وقال «بعض متأخري الزيدية والغزالي :
فإن لم يوجد المجتهد فالتقليد كاف» أي يجوز إمامة المقلد للضرورة وهذا روي عن
الإمام يحيى عليهالسلام.
وقال الإمام
المنصور بالله عبد الله بن حمزة عليهالسلام في الشافي في ذكر المستظهر العباسي ما لفظه : ولما كان في
أيامه النزاع والخلاف وقد وسم نفسه بالإمامة وخلافة النبوّة على ما جرت به عادات
سلفه وعلم أن الكافة من أهل عصره يعلمون جهله وقلة معرفته : تقرّب إليه الغزالي في
أيامه وصنّف له تصنيفا زبدته : أنه يجوز للإمام أن يكون جاهلا مقلدا ولا يفتقر إلى
العلم في صحة الإمامة.
فهذا وجنسه هو
الذي هوّن عند القوم أمر دين الله وجرّأهم على ارتكاب دعوى الخلافة بغير
استحقاقها. انتهى.
«لنا» حجة على قولنا : «إجماع الصدر
الأول» من الصحابة وأهل
__________________
البيت عليهمالسلام وغيرهم «على وجوب الاجتهاد» في حق الإمام.
قال في البحر :
فيجب كونه مجتهدا إجماعا ليتمكن من إجراء الشريعة على قوانينها.
قال : وقال الإمام
يحيى عليهالسلام : فلو قدّر تعذر الاجتهاد ففي إمامة المقلد تردّد الأصح
الجواز للضرورة كالحاكم.
قال الإمام المهدي
عليهالسلام : لكن قد ذكر في شرح الأصول وغيره من الكتب الكلامية: أنّه
لا يجوز من الله سبحانه إخلاء الزمان عمّن يصلح للإمامة ، وادّعى الإجماع على أن
شرطها الاجتهاد.
قلت : ويمكن أن
يقال : وجود المجتهد من أهل البيت عليهمالسلام لا يرفع حكم الضرورة لجواز أن يكون له عذر عن القيام
بالإمامة كما مرّ ذكره في المحتسب والله أعلم.
«ولقوله تعالى» : (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ
أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ
كَيْفَ تَحْكُمُونَ) .
ولا يصحّ أن يكون
الذي يهدي إلى الحق إلّا مجتهدا.
وقوله تعالى : (فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) توبيخ وإنكار لاتّباع غير المجتهد.
«و» قد عرف أنه «لا يخلو الزمان من
مجتهد لما مرّ» فثبت بما ذكرناه أنّه لا بدّ أن يكون الإمام مجتهدا.
وقالت «الحشوية : لا يشترط» في الإمام «العلم
رأسا».
قال الإمام المهدي
عليهالسلام في الغيث : والعجب ممّن يرى فضل النّووي في العلم والورع
مع كونه من أهل هذا المذهب.
قال في منهاجه
الذي صنّفه في الفقه في بيان ما تنفذ به الإمامة ما هذا لفظه : [تنعقد] بالغلبة ولو فاسقا أو
جاهلا في الأصحّ.
__________________
فأوجب طاعة
الجهّال والفسّاق والائتمام بهم. انتهى.
«لنا» عليهم «الإجماع والآية كما مرّ».
«و» السادس من شروط الإمامة : «الورع» وهو
الإتيان بالواجبات والانتهاء عن المحرّمات وملاك النّفس على
ذلك.
قال الإمام يحيى عليهالسلام في الشامل : ولا يشترط بلوغه في الورع أعلى المراتب ولكن
مقدار ما يحصل به مجانبة الكبائر وترك الأمور المسترذلة فلا تصحّ إمامة الفاسق ومن
يفعل ما لا يفعله إلّا أهل الفسق كالبول في السّكك والشوارع ، والإصرار على ما يظن
كونه معصية قال : وإذا كان الشّاهد يجرح بذلك فالإمام أولى.
«خلافا للحشوية» فإنهم لا يشترطون العدالة.
«لنا قوله تعالى» : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) فأخبر الله تعالى أنّ الإمامة التي هي عهد الله وأمانته لا
تنال الظالمين وكيف يصحّ أن يكون الإمام ظالما وإنّما شرع نصبه لدفع الظلم. قال
الشاعر :
لنا ملك ما فيه
للملك آية
|
|
سوى أنه يوم
السلام متوج
|
أقيم لإصلاح
الورى وهو مائل
|
|
وكيف يقوم الظلّ
والعود أعوج
|
وكما لا يجوز في
حكم الله عزوجل أن يجعل المتقين كالفجار ولا الذين آمنوا وعملوا الصالحات
كالمفسدين : فكذلك لا يجوز في حكمه أن يجعل المتقين أتباعا للفجّار وأن يجعل
المفسدين أئمة للمصلحين.
«و» السابع : «اجتناب المهن المسترذلة» كالدّباغة
والحجامة والحياكة «خلافا للحشوية».
«قلنا : اختلّت العدالة» بذلك «والإجماع»
ممّن يعتد به «على اعتبارها».
وقول الحشوية ساقط
لمخالفته العقل والنقل.
وبعض أهل المذهب
يأتي بلفظ العدالة ويريد بها : الورع والسخاء والشجاعة.
__________________
«و» الثامن : «الأفضلية» فيكون الإمام
أفضل أهل زمانه أو كأفضلهم «لقوله» صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «من ولى رجلا وهو يعلم أن غيره أفضل منه فقد خان الله في أرضه».
وإذا كان هذا في
حق الإمام إذا ولى غيره في الأعمال فكذلك في الإمام نفسه وهذا قول جمهور أئمة
الزيدية وبعض المعتزلة.
قال في المحيط :
أجمعت الزيدية والإمامية على أنّ إمامة المفضول لا تجوز وأن الإمام يجب أن يكون
أفضلهم ، لا يجوز أن يعدل عنه إلى غيره بوجه من الوجوه.
وإليه ذهب أكثر
المرجئة وقوم من المعتزلة منهم الجاحظ.
وقالت المعتزلة :
إنّ الإمامة يستحقها الفاضل الذي يعرف فضله بأكثر الرأي إلّا أن يحدث أمر يكون نصب
المفضول عنده أصلح وجب نصبه في هذه الحال ، ولا يجوز نصب الفاضل.
قال : والذي يمنع
عندنا من إمامة المفضول هو السّمع دون العقل.
قال : وهذا على
أصول أئمة الزيدية ودلائلهم.
وقد جرى في بعض
كتب الزيدية : أن العقل يمنع من ذلك وهو مذهب الإمامية.
قال : والدليل على
أنّ إمامة المفضول لا تجوز : إجماع الصحابة فإنّ من عرف ما وقع في بيعة أبي بكر
وعمر وعثمان وحديث المناشدة علم ذلك قطعا ، وقد بسطنا الكلام في هذا الموضع في
الشرح.
«و» التاسع : «الشجاعة وحدّها : أن يكون
معه من رباطة الجأش» أي شدّة القلب وثباته «ما يتمكن معها من تدبير الحروب عند فشل
الجموع» من الهزائم ونحوها.
والجأش مهموز روع القلب إذا اضطرب عند
الفزع «لئلّا تتحطم جيوش المسلمين» أي تهلك لأنّه إذا فشل الإمام في مثل ذلك الوقت
ولم يتمكن من تدبير الحرب المؤدّي إلى حفظ المسلمين ظفر بهم العدوّ وضعف أمر
المسلمين.
وقال الإمام شرف الدين
عليهالسلام : الشجاعة تنقسم إلى واجب وهو مقاومة الواحد للاثنين في
الجماعة أو منفردا حيث يكون هو الطالب في الأصحّ وإن ظنّ الهلكة في الأصحّ لقوله
تعالى : (فَإِنْ يَكُنْ
مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ ...)
الآية .
واستقرّ عليه
الشرع ، ومندوب حيث يزيد عدد الكفار على مثلي المسلمين ويظن عدم الهلكة.
ومكروه : وهو حيث
يزيد عدد الكفار على مثلي المسلمين ويظن الهلكة ، في قول ومحظور في هذه الصورة في
قول ، ومباح حيث يزيد عدد الكفار على مثلي المسلمين ولا يحصل له الظنّ بل يجوّز
الهلكة والغلب.
قال : وقسم
المحظور إنّما يستقيم على أحد وجهي أصحاب الشافعي وإلّا فقد حكى الإمام يحيى عليهالسلام أنّ الفرار لا يجب بلا خلاف فلا يستقيم إقدام محظور إلّا
في بغي أو نحوه.
قال : فعرف من هذا
أنه يجب أن يعرف من حال الإمام أن يكون ممّن يكثر منه الإقدام حيث يظنّ السلامة
وحيث يستوي الأمران بل وحيث يظن الهلكة لأنّ ذلك قد يجب في الصورة المذكورة.
قال : وهذا هو
المختار وإلّا فقد بالغ أبو طالب عليهالسلام حيث نصّ على أنه يجب الإقدام وإن تيقّن الهلكة إذا لم يحصل
مجموع ثلاثة شروط معروفة في كتب الأصحاب رضي الله عنهم.
قال : فعرف بهذا
صحة كلام الأزهار مقدام حيث يجوّز السّلامة لأنّ تجويز السلامة مع ظنّ الهلكة باق
، وتفسير التجويز بالظن غلط محض. انتهى «و» العاشر : «التدبير»
فتكون آراؤه صالحة وأنظاره ثاقبة وسياسته حسنة ولا يشترط أن لا يخطي في ذلك بل
يكون الأغلب من حاله الإصابة.
«و» الحادي عشر : «القدرة على القيام
بثمرة الإمامة» وهي صلاح
__________________
الخاصة والعامة
وسدّ الثغور والقيام بأمور المسلمين فلا يكون ملولا عاجزا ضعيفا ضيّقا قلبه لا
يتّسع لتحمّل الأثقال «لئلّا تنتثر» أي ثمرة الإمامة فلا يحصل المقصود من قيام الإمام.
«و» الثاني عشر : «السّخاء بوضع الحقوق
في مواضعها» التي أمر الله بوضعها فيها «لأنّ ذلك من ثمرة الإمامة» فلا يمنع أهل
الحقوق حقهم وعليه التحري في ذلك والنظر للمسلمين بالمصلحة «ولأنّ المنع» للمستحق
من حقه «حيف» وميل عن الحق «تسقط به العدالة» وقد ثبت اشتراطها.
وقال الإمام شرف
الدين عليهالسلام : الواجب من السّخاء قسمان :
قسم : واجب بالشرع
كالزكاة ونحوها.
وقسم : واجب
بالمروءة والعادة كالضّيافة على من تجب عليه لكل بما يليق به ويستحقه مثله بحيث لا
يلحق المضيّف ذمّ ولا زيادة مدح والمكافأة للمحسن على إحسانه وترك المضايقة والاستقصاء
في المحقرات في حق من كثر ماله ، وترك مشاحّة من تحت يده في الزيادة القليلة على
ما فرض له.
والمندوب من
السّخاء : الزيادة في الأصناف المذكورة ونحوها على الواجب كالإكثار من البرّ
والصّدقات وكثرة إكرام الوفّاد وتلذيذهم بأنواع الضّيافات وإجزال العطايا والصّلات
والسّماحة الزائدة في المعاملات والتّوسيع على من تحت يده في الفواكه والكساء
والأقوات.
والمحظور من
السخاء : هو إنفاق المال فيما لا يجلب نفعا ولا ثناء ولا يدفع ضررا عن نفس أو مال
أو عرض ، أو صرفه في وجه قبيح وهذا هو السّرف. انتهى.
«و» الثالث عشر : «السّلامة من المنفرات
نحو الجذام والبرص» ونحو ذلك ممّا ينفر عن مخالطة الناس «ليتمكن من مخالطة
المسلمين» التي لا يتم القيام بأمور المسلمين إلّا معها.
__________________
«و» الرابع عشر : «سلامة الحواس
والأطراف» فلا يكون أعمى ولا أصم ولا أشل ولا أعرج على صفة ينتقص
بها أمر تدبيره أو مخالطته المسلمين وشجاعته المعتبرة.
ولهذا قال عليهالسلام
: «التي يختل القيام بثمرة الإمامة عند فقدها» لا الأمر اليسير الذي لا يمنع
القيام بثمرة الإمامة.
وقد روي أن الناصر
عليهالسلام أصابه طرش في أذنيه قبل دعوته من ضرب المأمون له لعنه
الله.
«وزاد» السيد «أبو العباس» الحسني وهو
أحمد بن إبراهيم بن الحسن بن إبراهيم بن محمد بن سليمان بن داود بن الحسن بن الحسن
بن علي بن أبي طالب عليهمالسلام
«والإمامية» في شروط الإمامة «العصمة» وهو أن يكون معصوما من ارتكاب الكبائر.
قال في المحيط :
وذهب السيد أبو العبّاس الحسني عليهالسلام من بين الزيدية إلى أنّ الإمام يجب أن يكون معصوما ، وأنه
إذا لم يكن معصوما يجب على الله أن يظهر لنا ستره ويبدي لنا عورته لنقف على فسقه
ونتبرأ منه ولا تلزم طاعته .
قلت : فمضمون قوله
: أنّ الإمام القائم بالدّعوة الذي ظهرت لنا كمال خصال الإمامة فيه ظاهرا ولم نعلم
من خفيّ حاله ما يخالف ظاهره محكوم بعصمته وإنّا نقطع بكونه معصوما لأنه لو لم يكن
كذلك لظهر خفيّ حاله ومكنون فسقه وحينئذ لا يتحقق الخلاف إلّا إذا فسق الإمام ولا
يكاد يوجد ذلك والله أعلم.
قال عليهالسلام
: «ولا دليل عليها» أي على اشتراطها أي العصمة «إلّا تقدير حصول المعصية» من
الإمام «لو لم يكن معصوما» أي لا دليل لهم على اشتراط العصمة إلّا تقدير حصول
المعصية وهو لا يصلح
دليلا
__________________
لما ذكره عليهالسلام بقوله :
«قلنا : ذلك التقدير حاصل» في المعصوم فيفرض
حصول المعصية منه كما «قال تعالى» في سيد المعصومين «لئن أشركت ليحبطن عملك» ولا
يلزم من هذا الفرض وقوع الشرك منه صلىاللهعليهوآلهوسلم.
«قالوا :» لا سواء فإنه «امتنع وقوعها
من المعصوم» قطعا ولو قدّرت منه تقديرا فإنّا نعلم انتفاءها «بخلاف غيره» أي غير
المعصوم فإنه مع تقديرها منه يمكن وقوعها ولا يمتنع فلم يستوي التقديران.
«قلنا ما دام» الإمام «عدلا فلا وقوع» للمعصية
منه «وإن وقعت منه» المعصية «فكلو مات المعصوم».
لأنّ تقدير موت الإمام المعصوم ووقوع
المعصية من الإمام غير المعصوم سواء في كونهما مبطلين للإمامة فهلّا منعتم من قيام
الإمام المعصوم لتقدير موته كما منعتم من إمامة العدل لتقدير معصيته وكذلك تقدير
العمى والجذام أو نحو ذلك.
«وزاد الإماميّة في شروط الإمامة : «أن
يولد عالما».
«وذلك باطل حيث لم يثبت ذلك» أي خلق
العلم فيه من وقت الولادة «للأنبياء صلوات الله عليهم» وهم أفضل من الأئمة عليهمالسلام.
«قال تعالى» في نبيئنا محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم : (ما كُنْتَ تَدْرِي
مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) أي ما كنت تدري ما القرآن قبل نزوله عليك ولا ما الشرائع
المنزّلة المفروضة.
وقال
تعالى فيه صلىاللهعليهوآلهوسلم (وَوَجَدَكَ ضَالًّا
فَهَدى) أي ضالّا عن علم الشرائع فهداك إليها.
«وقال تعالى حاكيا عن موسى» صلّى الله
عليه
(قالَ فَعَلْتُها
إِذاً وَأَنَا
__________________
مِنَ
الضَّالِّينَ) أي الجاهلين ، يريد أنّ قتل القبطي قبل نبوّته وقبل علمه
بالشرائع.
(فصل)
«ولا تثبت» أي الإمامة «لأحد من الناس
إلّا بدليل شرعي إجماعا» وذلك لما كانت الإمامة تابعة للنبوّة لأنّ ثمرتها هي حفظ
الشريعة وتقويمها وتجديد ما درس
منها ودفع التظالم وتحمّل التكاليف الثقيلة : لم تكن إلّا لمن اختاره الله واصطفاه
وعلم طهارته وقيامه بما كلّف به كالنبوّة وذلك بتخصيص الشارع وتعيينه لبعض الخلق.
وقوله : إجماعا :
لعله يريد به العترة عليهمالسلام وشيعتهم.
قال الهادي عليهالسلام : تثبت الإمامة للإمام وتجب له على جميع الأنام بتثبيت
الله لها فيه وجعله إيّاه له ، وذلك فإنّما يكون من الله إليه إذا كانت الشروط
المتقدمة التي ذكرناها فيه ، فمن كان من أولئك كذلك فقد حكم الله سبحانه له بذلك
وصي بذلك الخلق أم سخطوا.
ويحتمل أن يريد عليهالسلام [من قوله] :
إجماعا بين الأمّة لما ذكره عليهالسلام من قوله : «لترتب كثير من
الشرائع عليها»
كالحدود وإقامة
الجمعات «ولا طريق إلى من يقوم بها إلّا الشرع» ولا مجال للعقل فيه وإن اختلفوا في ذلك الدليل الشرعي ما هو :
فقال أئمة الزيدية
وشيعتهم : هو النص في علي والحسنين عليهمالسلام وفي غيرهم النص الجملي ، وإجماع العترة عليهمالسلام وشيعتهم المفسّر لذلك النص الجملي وإجماعهم أيضا على أنه
من دعا الناس إلى نصرته والجهاد معه وهو جامع لشروط الإمامة صار إماما تجب طاعته.
وقالت المعتزلة :
والأشعرية لا نص من الشارع على إمام معيّن بعد
__________________
النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ولكن أجمع الصحابة على العقد والاختيار ، فمن عقد له
واختير وهو من قريش صار إماما للإجماع على ذلك والإجماع دليل شرعي.
وأما قول الحشوية
: إن الإمامة تثبت بالقهر والغلبة فقول ساقط لا يعتدّ به.
وقال القرشي في
المنهاج : اتّفق الناس على أن الإمام لا يصير إماما بنفس الصّلاحيّة بل لا بدّ من
أمر واختلفوا في ذلك الأمر :
فقالت العباسية :
الإرث.
وقال المصححون :
لإمامة معاوية الغلبة.
وقالت الإمامية :
النص الجلي على الاثني عشر.
وقالت البكرية : [النص]
الجلي في أبي بكر.
وقال الحسن البصري
: الخفي في أبي بكر.
وقالت المعتزلة
والصالحية من الزيدية : العقد والاختيار.
وقال أهل البيت عليهمالسلام : النص الخفي في أمير المؤمنين عليهالسلام والدعوة والخروج ممّن صلح من أولاده.
قال : وهذا هو
الحق.
ومعنى كون النص
جليّا أنه يعلم قصد النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم فيه ضرورة.
ومعنى كونه خفيّا
: أنه لا يعلم المراد منه إلّا بالنظر. انتهى.
وقوله : النص
الخفي في أمير المؤمنين سلام الله عليه غير واضح فإن الحق أنّ النص فيهعليهالسلام جلي واضح.
ثم إن النص في
اصطلاح أهل الأصول لا يطلق إلّا على الجلي ، ثم ولو فرضنا أنه خفيّ فإنه بعد وجوب
معرفة إمامته كرّم الله وجهه في الجنة على كل مكلف عند العترةعليهمالسلام جميعا وشيعتهم يستوي فيه العلم الضروري والاستدلالي فيما
يترتب عليهما كمعرفة الباري تعالى.
وإدخاله للصالحية
مع المعتزلة في قولهم بالعقد والاختيار : غير
صحيح لأنّ
الصالحيّة فرقة من الزيدية لا يجعلون الإمامة بالعقد والاختيار ولا يجعلونها في
قريش كافة.
قال في الجزء
الثاني من المحيط ما لفظه : وذهبت الجريرية من أصحاب زيد بن عليعليهماالسلام وهم أصحاب سليمان بن جرير إلى أن بيعة أبي بكر وعمر كانت
خطاء إلّا أنهما لا يستحقان اسم الفسق من قبل التأويل وأن الأمّة تركت الصلاح في
ذلك ، ولم يتبرءوا من أبي بكر وعمر ولم يتولّوا أيضا ، وتبرءوا من عثمان.
وقالت البترية :
وهم أصحاب كثير الأبتر بن الحسن بن صالح بن حي إن عليّا عليهالسلام أفضل الأمّة بعد نبيئها وأولاهم بسياستها وأنه لو امتنع من
بيعتهما وحاربهما لكان يحلّ له دماؤهما ولمّا لم يمتنع من بيعتهما فهي بيعة محمودة
وتوقفوا في أمر عثمان. انتهى.
وقال الإمام أحمد
بن سليمان عليهالسلام في كتاب حقائق المعرفة ما لفظه : فقال أبو الجارود ومن قال
بقوله من الزيدية : عليّ وصيّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم والإمام بعده ، وأنّ الأمّة كفرت وضلّت في تركها بيعته.
ثم الإمام بعده
الحسن والحسين بالنص ، ثم هي بينهم شورى فمن خرج من أولادهما جامعا لشروط الإمامة
فهو الإمام.
وكذلك قالت
الصالحية الحسن بن صالح بن حيّ ومن قال بقوله [من الزيدية] في الإمامة إلّا أنهم
قالوا : إنّ أبا بكر وعمر غير مخطئين بسبب سكوت عليّ عليهالسلام عن حقّه ، وكذلك عثمان إلى أن تبرأ منه المسلمون وتوقف فيه
بعد ذلك.
وكذلك قال ابن
التمّار ومن قال بقوله من الزيدية إلّا أنهم تبرءوا من عثمان بعد ما عزله المسلمون
وشهدوا على من خالف عليّا بالكفر.
وقال سليمان بن
جرير ومن قال بقوله في علي والحسن والحسين عليهمالسلام مثل ذلك وأنّ بيعة أبي بكر وعمر خطأ لا يستحقّان عليها
اسم الفسق من قبل
التّأويل وتبرءوا من عثمان. انتهى.
ومثل هذا ذكر
الفقيه محمد بن الحسن الديلمي رحمهالله في كتابه قواعد عقائد أهل البيتعليهمالسلام :
قلت : البترية هم
الصالحية لأنّ البترية نسبة إلى كثير بن الحسن بن صالح بن حيّ ، وقد سمّاه المغيرة
بن سعيد بالأبتر وهو ابن التمّار أيضا.
والصالحية نسبة
إلى الحسن بن صالح بن حيّ فعرفت أن الصالحية إنّما اعتقدت صحة إمامة أبي بكر وعمر
بسكوت علي عليهالسلام وتسليمه حقّه لهما بمثابة رجل له حق على غيره فرضي بإسقاطه لا أنّ
الاختيار يصيّر الإمام إماما لأنهم من الزيدية الذين يقولون : إنّ الإمامة بالنص
في علي والحسنين عليهمالسلام ثم فيمن قام ودعا من أولادهما جامعا لشروط الإمامة.
ويوضح ذلك : ما
ذكره الديلمي في كتاب قواعد عقائد أهل البيت عليهمالسلام ولفظه :
وقالت الفرقة
الثانية : لم يصحّ عندنا أن الحسين عهد إلى أحد ولا دعي ابنه علي بن الحسين إلى
بيعته ، فنحن نقف حتى نرى رجلا من أحد البطنين (يعنون ولد الحسن والحسين) يصحّ لنا ولادته وزهده وعلمه وشجاعته وعدالته وورعه وكرمه
يشهر السيف ويباين الظالمين فتكون علينا طاعته.
فسمّوا : الواقفة
، فمكثوا بعد قتل الحسين عليهالسلام ستين سنة حتى قام زيد بن عليعليهماالسلام في الكوفة في زمان هشام بن عبد الملك فبايعوه فسمّوا زيدية
.. إلى أن قال : إذا عرفت هذا فاعلم : أن الزيدية افترقت ثلاث فرق على الأشهر
بترية ، وجريرية ، وجارودية.
وقيل : صالحية ،
وسليمانية ، وجارودية.
__________________
ثم بيّن هذه الفرق
كما ذكره الإمام أحمد بن سليمان عليهالسلام ، وقد بسطت في هذا الموضع [الكلام] لأنه قد وقع سهو في
الرواية عن الصالحية والجريرية في كثير من كتب أصحابنا فليعرف ذلك ، وقد عرفت من
هذا أن البترية هي الصالحية.
قالت «العترة عليهم». «السلام جميعا
والشيعة والإمام بعد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
بلا فصل» أمير المؤمنين وسيد الوصيين «علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه في الجنة ثم
الحسن» بعده بلا فصل «ثم الحسين» بعد الحسن عليهمالسلام
بلا فصل للنص الذي سيأتي ذكره في الثلاثة جميعا.
وقال «سائر الفرق» من المعتزلة وغيرهم :
«بل»
الإمام بعده صلىاللهعليهوآلهوسلم بلا فصل «أبو بكر ثم عمر ثم
عثمان».
قال «جمهورهم : ثم علي عليهالسلام» بعد عثمان ، ولا خلاف في ذلك لغير العثمانية إلّا الحشوية
والأصم لقولهم بالقهر والغلبة.
وقالت «العثمانية» وهم قوم بسجستان يفضلون عثمان على علي عليهالسلام ويسمّون: النواصب
لنصبهم العداوة لعلي لزعمهم أنه الذي أمر بقتل عثمان فقالوا : «لا» أي ليس الإمام بعد عثمان علي عليهالسلام :
«بل ثم معاوية» بن أبي سفيان :
وقال جمهور
المجبرة : وإمامة عليّ اجتهادية وخطأ معاوية فيها معفو وعليه أكثر الشافعية في
الزمن المتأخر.
«لنا» حجة على مخالفينا العقل والنقل :
أما النقل فمنه «قوله
تعالى» :
(إِنَّما وَلِيُّكُمُ
اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ
الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) .
«بيان الاحتجاج
بهذه الآية : إنّ المعنيّ بقوله تعالى : (وَالَّذِينَ
__________________
آمَنُوا
... إلى آخرها)
عليّ صلوات الله عليه لوقوع التواتر بذلك من المفسرين وأهل التواريخ وإطباق العترة»
عليهمالسلام
«وشيعتهم على ذلك».
قال الإمام الناطق
بالحق أبو طالب عليهالسلام في كتابه زيادات شرح الأصول ما لفظه : ومنها النقل
المتواتر القاطع للعذر أنّ الآية نزلت في أمير المؤمنين علي عليهالسلام :
وفي محاسن الأزهار
للفقيه حميد رحمهالله بإسناده قال قال عمر بن الخطاب : أخرجت مالي صدقة يتصدق
بها عنّي وأنا راكع أربعا وعشرين مرة على أن ينزل فيّ مثل ما نزل في عليّ فما نزل.
واعلم : أن نزول
هذه الآية في علي عليهالسلام معلوم تواتره مشهور بين العترة عليهمالسلام.
وقد حكى إجماع
العترة على ذلك أبو القاسم البستي رحمهالله وغيره وذكر الحاكم أبو القاسم عبيد الله بن عبد الله بن
أحمد الحسكاني النيسابوري في كتابه (شواهد التنزيل لقواعد التفضيل) طرق الرواية في
ذلك عن ابن عباس بروايات وعن أنس كذلك وعن محمد بن الحنفية كذلك وعن عطاء بن
السائب وعن عبد الملك بن جريج المكي وعن أبي جعفر الباقر وعن عمّار بن ياسر وعن
جابر بن عبد الله الأنصاري وعن أمير المؤمنين علي عليهالسلام وعن المقداد بن الأسود.
قال : أي المقداد
: كنّا جلوسا بين يدي رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إذ جاء أعرابي بدوي متنكّبا على قوسه وقيل : على فرسه حتى ساق الحديث بطوله حتى قال : وعلي بن
أبي طالب عليهالسلام يصلي في وسط المسجد ركعات بين الظهر والعصر فناوله خاتمه ،
فقال النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم :
«وجبت الغرفات»
فأنشأ الأعرابي يقول :
__________________
يا أول المؤمنين
كلهم
|
|
وسيد الأوصياء
من آدم
|
قد فزت بالنّيل
يا أبا حسن
|
|
إذ جادت الكفّ
منك بالخاتم
|
فالجود فرع وأنت
مغرسه
|
|
وأنتم سادة لذا
العالم
|
فعندها هبط جبريل
بالآية (إِنَّما وَلِيُّكُمُ
اللهُ وَرَسُولُهُ ...) الآية.
وعن أبي ذر
الغفاري وفي روايته قال : بينما عبد الله بن عباس جالس على شفير زمزم يقول : قال
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إذ أقبل رجل متعمم بعمامة فجعل ابن عباس لا يقول قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إلّا قال الرجل : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم.
فقال ابن عباس :
سألتك بالله من أنت؟ فكشف العمامة عن وجهه فقال : يا أيّها الناس : من عرفني فقد
عرفني ومن لم يعرفني فأنا جندب بن جنادة البدري أبو ذرّ الغفاريّ سمعت النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم بهاتين وإلّا فصمّتا ورأيته بهاتين وإلّا فعميتا وهو يقول
: «عليّ قائد البررة وقاتل الكفرة منصور من نصره مخذول من خذله».
أمّا إني صليت مع
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يوما من الأيام صلاة الظهر فسأل سائل في المسجد فلم يعطه
أحد فرفع السائل يده إلى السماء وقال : اللهمّ اشهد أني سألت في مسجد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فلم يعطني أحد شيئا وعليّ كان راكعا فأومأ إليه بخنصره
اليمنى وكان يتختم فيها فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم من خنصره وذلك بعين النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فلمّا فرغ النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم من صلاته رفع رأسه إلى السماء وقال : «اللهمّ إنّ أخي موسى
سألك فقال : ربّ اشرح لي صدري ويسّر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي
واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي أشدد به أزري وأشركه في أمري ، فأنزلت عليه
قرآنا ناطقا (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ
بِأَخِيكَ) .
اللهم وأنا محمد
نبيئك وصفيك اللهم فاشرح لي صدري ويسّر لي
__________________
أمري واجعل لي
وزيرا من أهلي عليّا أخي أشدد به أزري».
قال أبو ذر : فو
الله ما استتمّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم الكلام حتى هبط جبريل عليهالسلام من عند الله وقال : يا محمد هنيئا ما وهب الله لك من أخيك ، قال «وما ذاك يا جبريل؟ قال : أمر الله أمّتك
بموالاته إلى يوم القيامة وأنزل عليك قرآنا (إِنَّما وَلِيُّكُمُ
اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ
وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) .
ثم ذكر الحاكم
روايات أخر في هذا المعنى إلى أن قال :
قال أبو مؤمن : لا
خلاف بين المفسرين أن هذه الآية نزلت في أمير المؤمنين عليعليهالسلام.
«وورد» الخطاب في قوله تعالى (وَالَّذِينَ آمَنُوا
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) «بلفظ الجمع من باب
إطلاق العام على الخاص» لأنّ المراد به عليّ عليهالسلام
وذلك جائز كما سبق تقريره.
«ونظيره» قوله تعالى : (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا
تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ الله) .. الآية فإنه قد أطلق
لفظ العام فيها على الخاص «و» ذلك «لأنّ المعنيّ بها عبد الله بن أبي وحده» لأنه
الذي قال ذلك دون غيره «لنقل المفسرين ذلك» أي كونه المقصود بها وحده [دون غيره] ،
ذكر ذلك في الكشاف وغيره.
ومثله قوله تعالى
: (الَّذِينَ قالَ
لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) .
فالمراد بالناس في
الأول نعيم بن مسعود الأشجعي فقط لأنه هو الذي قال ذلك ذكره في الكشاف.
__________________
وقيل : المراد
بالناس عبد القيس.
«وكلمة ولي» في الآية الكريمة «مشتركة
بين معان» :
منها : الوليّ
نقيض العدو.
ومنها : الوليّ
بمعنى الناصر والحفيظ قال تعالى : (إِنَّ وَلِيِّيَ
اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ) أي ناصري وحافظي.
ومنها : الوليّ
بمعنى مالك التصرّف وهو كل من إليه الولاية في كل شيء أي الرئيس الذي يلي التصرّف
، وعلى هذا ورد قوله تعالى : (وَهُمْ يَصُدُّونَ
عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا
الْمُتَّقُونَ) .
ومنها : الوليّ
بمعنى الأولى.
ومنها : الوليّ
بمعنى المطر الذي يعقب الوسميّ لأنه يليه.
«فيجب حملها» أي كلمة وليّ «على جميع
معانيها الغير الممتنعة» فيكون المراد بها هنا هذه المعاني كلها ما
خلا المطر وذلك «على قاعدة أئمتنا عليهم» «السلام والجمهور من غيرهم» في أن
المشترك يحمل على جميع معانيه إن لم تصرف عن بعضها قرينة قال القرشي في المنهاج : الظاهر من كلام أهل البيت عليهمالسلام وهو قول أبي علي والقاضي والشافعي والباقلاني : أنه يصحّ
من حيث القصد ومن حيث اللغة أن يريد الحكيم باللفظ المشترك كلا معنييه إذا تجرّد
عن القرينة.
وعند أبي الحسين
والرازي يجوز من حيث القصد لا من حيث اللغة.
وعند أبي هاشم
وأبي عبد الله والكرخي : لا يجوز لا من حيث القصد ولا من حيث اللغة.
قال : لنا أمّا من
حيث القصد : فهو أن قصد المعنيين أو المعاني مقدور كما أن اللفظ مقدور وكما يجوز إرادتهما قبل ورود اللفظ يجوز
__________________
حال وروده ولا
يمنع من ذلك إلّا العلم بالتضاد أو ما يجري مجراه.
وأما من حيث اللغة
: فهو أن تجرد اللفظ عن القرينة يوجب حمله على كل معانيه.
وبعد : فأما أن لا
يحمل على واحد منها فذلك يخرجه عن الإفادة ، وأما أن يحمل على بعضها ولا مخصّص.
وأما أن يحمل على
كلها وهو المطلوب. انتهى [كلام القرشي].
«وبدليل قوله تعالى» : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ
عَلَى النَّبِيِ) «وهي» أي
الصلاة «من الله سبحانه معظم الرحمة ومن الملائكة عليهمالسلام
الدعاء والاستغفار» فأطلق سبحانه لفظ الصلاة وأراد بها المعنيين وهما : معظم
الرحمة ، والدعاء والاستغفار من الملائكة.
قلت : الأولى أن
يحمل هذا على الحذف ويكون الضمير في (يصلّون) عائد إلى الملائكة صلوات الله عليهم
فقط لما تقدم من أنه لا يجوز أن يقصد جلّ وعلا مع غيره بالضمير تعظيما له تعالى
كما في قوله تعالى : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ
أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) ولم يجز أن يقال يرضوهما لما مرّ في كتاب التوحيد.
لكن استعمال الاسم
المشترك في جميع معانيه شائع لمثل ما ذكره القرشي. ولأن القائم إذا قال لزوجته :
أنت طالق إذا رأيت لونا ، طلقت إذا رأت أيّ لون.
«و» ذلك كما في الاسم العام فإنّه قد ثبت «تناول
لفظ شيء» في قوله تعالى: (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ
فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ ...) الآية «كل ما يسمّى شيئا
على
اختلاف الماهيّات» فكما جاز في الاسم العام أن يراد به جميع الأشياء المختلفة
جاز ذلك في المشترك إذ لا فرق ، ويدل على ذلك أيضا : «صحة
الاستخدام»
في لغة العرب ،
وهو ممّا يزيد الكلام حسنا وملاحة.
__________________
وحقيقته : أن يراد
بلفظ له معنيان أحدهما ثم يراد بضميره ، المعنى الآخر أو يكون ضميران لشيء واحد
ويراد بأحدهما معنى وبالآخر معنى آخر وسواء كان المعنيان حقيقيين أو مجازيين أو
مختلفين :
فالأول : «نحو قول الشاعر :
إذا نزل السّماء
بأرض قوم
|
|
رعيناه وإن
كانوا غضابا»
|
فإنه «أراد بالسماء وهو لفظ واحد المطر
والنّبات» الحاصل من المطر «معا وهما معنيان مختلفان» وكلاهما مجاز وذلك «بدليل
قوله نزل» والنزول من صفات المطر «و» بدليل «قوله : رعيناه» والمرعيّ إنما هو
النبات
فقد أراد بلفظ السماء معنيين مختلفين مجازيين.
والثاني : وهو أن يراد بأحد ضميريه أحد المعنيين وبالضمير الآخر معناه
الآخر كقوله:
فسقى الغضى
والسّاكنية وإن هم
|
|
شبّوه بين
جوانحي وضلوعي
|
أراد بأحد ضميري
الغضى وهو المجرور في الساكنية المكان الذي فيه شجر الغضى ، وبالآخر أعني المنصوب
في شبّوه النّار الحاصلة من شجرة الغضى وكلاهما مجاز. كذا ذكره صاحب المطول.
فعلى هذا قد أطلق
لفظ الغضى وأراد به ثلاثة معان مختلفة :
الأول منها : الحقيقية وهو الشجر المعروف الذي هو القرض بدليل سقى.
والثاني : موضعه بدليل والساكنية.
والثالث : النار بدليل شبّوه ، وهما مجازان .
«ومن جملة معاني ولي مالك التصرف» فيفيد معنى الآية : إثبات
__________________
ولاية أمير
المؤمنين علي عليهالسلام على الأمّة وملك التصرّف عليهم كما ثبت لله ولرسوله ، وهو
معنى الإمامة.
وكذلك وجوب مودّته
ومناصرته وأنه الأولى بها من غيره.
فإن قيل : لا يصلح
أن يراد بالآية المودّ والنّاصر لأنّ لفظ (إنّما) يفيد الحصر فكأنه قال : ما
مودكم وناصركم إلّا الله ورسوله وعليّ وذلك يتضمن الكذب لأنّ من المعلوم أن غير
عليّ عليهالسلام مودّ للمؤمنين وناصر لهم فتعين حمل الآية على مالك التصرف
أي وليّ أمركم فقط. والجواب والله الموفق : أنه لا يمتنع ذلك ويكون من القصر غير
الحقيقي كما يقال : إنما العالم زيد والله أعلم.
«وممّا يدل على إمامته عليهالسلام
من السّنة : قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم»
لمّا رجع من حجة
الوداع ونزل بالوادي الذي يسمّى خمّا وفيه غدير ماء ينسب إليه : أنزل الله تبارك
وتعالى عليه : (يا أَيُّهَا
الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما
بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) .
فأمر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم مناديه أن ينادي بالتعريس وكان ذلك الوقت غير وقت تعريس
لأنه كان في وسط اليوم الثامن عشر من ذي الحجة ، فكسح له صلىاللهعليهوآلهوسلم تحت دوحات هنالك وأمر المنادي أن ينادي بحضور النّاس ، ثم
قام على أقتاب جمال قد نصبت له ، فأخذ بيد علي عليهالسلام حتى رئي بياض إبطيهما ثم خطب فكان ممّا قال : «أيها الناس»
«ألست
أولى بكم من أنفسكم لا أمر لكم معي؟ قالوا : بلى يا رسول الله قال : من كنت مولاه
فعليّ مولاه ، اللهمّ وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله».
«وهذا الخبر متواتر مجمع على صحّته» عند
المؤالف والمخالف ومن
__________________
وقف على طرف من
علم الحديث علم صحة تواتره.
وقد أورد الإمام
المنصور بالله عبد الله بن حمزة عليهالسلام في الشافي في سند هذا الحديث ما يزيد على مائة طريق من
صحيح البخاري ومسلم والنسائي وأبي داود وابن حنبل ومناقب ابن المغازلي وتفسير
الثعلبي وغير ذلك ممّا يطول ذكره.
ثم رفعه إلى اثني
عشر رجلا ممّن سمعه من لسان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في ذلك الموقف.
ثم قال عليهالسلام : وهذا قد تجاوز حد التواتر.
قلت : وفي بعض
روايات هذا الخبر ما يدل على أن النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم قاله في غير موطن وهو ما رواه الحاكم أبو القاسم الحسكاني
بإسناده إلى عمّار بن ياسر قال : كنت عند أبي ذرّ في مجلس لابن عباس وعليه فسطاط
وهو يحدث الناس إذ قام أبو ذر حتى ضرب بيده إلى عمود الفسطاط ثم قال : أيها الناس
: من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني أنبأته باسمي أنا جندب بن جنادة أبو ذرّ
الغفاري : سألتكم بحقّ الله وحقّ رسوله أسمعتم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول : «ما أقلّت الغبراء ولا أظلّت الخضراء ذا لهجة أصدق
من أبي ذرّ؟ قالوا : اللهمّ نعم».
قال : أفتعلمون :
أيها الناس أن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم جمعنا يوم غدير خمّ ألفا وثلاثمائة رجل ، وجمعنا يوم سمرات
خمس مائة رجل كل ذلك يقول : «اللهم من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه
وعاد من عاداه فقام عمر فقال : بخّ بخّ [لك] يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل
مؤمن ومؤمنة ، فلمّا سمع ذلك معاوية بن أبي سفيان اتكأ على المغيرة بن شعبة وقام
وهو يقول : لا نقرّ لعلىّ بولاية ولا نصدّق محمّدا في مقالة فأنزل الله تعالى على
نبيئه (فَلا صَدَّقَ وَلا
صَلَّى وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى أَوْلى
لَكَ فَأَوْلى) تهدّدا من الله تعالى وانتهارا؟
__________________
فقالوا : اللهم
نعم. انتهى.
وما رواه بريدة
الأسلمي قال : غزوت مع علي رضي الله عنه إلى اليمن فرأيت منه جفوة ، فقدمت فذكرت
عليّا فتنقّصته فجعل النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم يتغير وجهه وقال : «يا بريدة : ألست أولى بالمؤمنين من
أنفسهم؟ قلت : بلى يا رسول الله.
قال : من كنت مولاه
فعليّ مولاه» أخرجه أبو الحسين عبد الوهاب بن الحسن بن الوليد الكلابي رحمهالله في مجموعه. وقد أشار إلى هذا الإمام شرف الدين عليهالسلام بقوله في القصص الحق أول البيت ما لفظه :
من مثل ما كان
في حجّ الوداع وفي
|
|
يوم الغدير
الّذي أضحى يثنّيه
|
وروى الفقيه حميد
الشهيد في محاسن الأزهار بإسناده إلى جعفر بن محمد الصادقعليهماالسلام أنه سئل عن معنى هذا الخبر فقال جعفر : سئل عنه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال: «الله مولاي أولى بي من نفسي لا أمر لي معه ، وأنا
مولى المؤمنين أولى بهم من أنفسهم لا أمر لهم معي ، ومن كنت مولاه أولى به من نفسه
لا أمر له معي فعليّ مولاه أولى به من نفسه لا أمر له معه».
«وبيان الاستدلال به» أي بالخبر «أن
كلمة مولى مشتركة بين معان من جملتها : ما لك التصرّف» بل هو الغالب عليها بدليل
سبق الفهم إلى ذلك عند قولنا : فلان مولى القوم ومولى الدار ومولى القرية أي
سيّدهم ورئيسهم.
ومن جملتها المعتق
اسم فاعل والمعتق اسم مفعول وبمعنى المود يقال : هذا مولى فلان أي مودّه ، وبمعنى
الناصر ، ومنه قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ
مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا) أي ناصرهم وبمعنى ابن العمّ ، وبمعنى المحالف قال النابغة
الجعدي :
موالي حلف لا
موالي قرابة
|
|
ولكن قطينا
يدفعون الأتاويا
|
__________________
وقال الفرزدق رحمهالله :
فلو كان عبد
الله مولى هجوته
|
|
ولكنّ عبد الله
مولى مواليا
|
أي حليف حلفاء
لأنّ عبد الله بن إسحاق مولى الحضرميين وهم حلفاء بني عبد شمس بن عبد مناف. كذا
ذكره في الصحاح.
وبمعنى الجار قال
الشاعر :
جزى الله خيرا
والجزاء بكفّه
|
|
كليب بن يربوع
وزادهم مجدا
|
همو خلطونا
بالنّفوس وألجموا
|
|
إلى نصر مولاهم
مسوّمة جردا
|
أي جارهم.
وبمعنى الأحقّ
والأولى قال الله تعالى : (مَأْواكُمُ النَّارُ
هِيَ مَوْلاكُمْ) أي أحق بكم وأولى قال لبيد :
فغدت كلا الفرجين تحسب أنّه
|
|
مولى المخافة
خلفها وأمامها
|
يريد أنه أولى
موضع أن يكون فيه الخوف.
وقوله : فعدت تمّ
الكلام كأنه قال : فغدت هذه البقرة وقطع الكلام ثم ابتدأ فكأنه قال : تحسب أنّ كلا
الفرجين مولى المخافة. كذا ذكره في الصحاح.
فإذا عرفت ذلك : «فهو» أي الخبر المتقدم
«مفيد لمعنى الإمامة على قواعد كل مذهب ، أمّا على قاعدة أئمتنا عليهم» «السلام
والجمهور» من وجوب حمل المشترك على جميع معانيه «فكما مرّ» ذكره في كلمة (وليّ).
فنقول : المراد
بالمولى هنا : مالك التصرّف والمودّ والنّاصر والأولى بالشيء ، ويمتنع أن يراد هنا
ابن العمّ أو الجار أو المعتق أو المعتق لاستحالة ذلك عقلا وشرعا.
__________________
«وأمّا على قاعدة غيرهم» أي غير أئمتنا عليهمالسلام
والجمهور «فقد أجمعوا على أن المشترك يحمل على أحد معانيه إن دلّت عليه» أي على
ذلك المعنى «قرينة».
«ومعنى الإمامة» هنا «قد دلّت عليه
قرينة لفظيّة» وهي «قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم»
في أوّله «ألست أولى بكم من أنفسكم» فإنه صريح في ملك أمرهم والتصرّف عليهم ، وإذا
كان كذلك كان المناسب له أن يكون المراد بلفظ مولى المالك للتصرّف والأولى به إذ
لو أريد [به] خلاف ذلك لما تناسب الكلام.
«و» كذلك «قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم»
«لا أمر لكم معي».
«وقوله في آخره : «وانصر من نصره واخذل
من خذله» فإنه قرينة أخرى مؤكّدة لمعنى الإمامة لأنّ النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم
حثّ على نصرته وحذّر من خذلانه ، وذلك أوضح دليل على أنّ النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم
أراد إمامته واستخلافه على أمّته بعده.
وممّا يؤكد ذلك
أيضا : القرينة الحالية وهي تعظيم النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم للموقف الذي جمع الناس له وأمره للمنادي أن ينادي الصلاة
جامعة في غير وقت التعريس في شدّة الحر في موضع شديد الحر ولم يزدهم في ذلك الجمع
العظيم والموقف الكبير على الخطبة وإثبات ولاية عليّ عليهالسلام.
ويؤكده أيضا : ما
ظهر وشاع من فهم الجمع الذي حضر في ذلك الموقف لمراد النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم من معنى الإمامة كما مرّ ذكره عن عمر بن الخطاب.
وقال حسان بن ثابت
في ذلك :
يناديهم يوم
الغدير نبيئهم
|
|
بخمّ وأسمع
بالرّسول مناديا
|
يقول : فمن
مولاكم ونبيئكم
|
|
فقالوا : ولم
يبدوا هناك التّعاميا
|
__________________
إلهك مولانا
وأنت نبيئنا
|
|
ولن تجدن منّا
لامرك عاصيا
|
فحينئذ نادى
عليّا وشاله
|
|
بيمناه حتّى صار
للقوم باديا
|
فقال له : قم يا
عليّ فإنّني
|
|
رضيتك من بعدي
إماما وهاديا
|
فمن كنت مولاه
فهذا وليّه
|
|
فكونوا له أنصار
صدق مواليا
|
هناك دعا :
اللهمّ والي وليّه
|
|
وكن للّذي عادى
عليّا معاديا
|
وقال عمرو بن
العاص في شعره المعروف الذي منه :
وفي يوم خمّ رقى
منبرا
|
|
يقول بأمر
العزيز العلي
|
فمن كنت مولى له
سيّدا
|
|
عليّ له الآن
نعم الولي
|
وقال : ألا
ويلكم فاحفظوه
|
|
كحفظي فمدخله
مدخلي
|
ومما قيل في ذلك
من بعد الصحابة : قول الكميت بن زيد رحمهالله :
ويوم الدوح دوح
غدير خمّ
|
|
أبان له الولاية
لو أطيعا
|
ولكن الرجال
تبايعوها
|
|
ولم أر مثلها
خطرا مبيعا
|
وقال السيد
الحميري :
أتنهينني عن حبّ
آل محمّد
|
|
وحبّهم ممّا به
أتقرّب
|
إلى الله عزّ
الله جلّ ثناؤه
|
|
يزحزحني عن حرّ
نار تلهّب
|
وحبّهم مثل
الصّلاة وإنّه
|
|
على النّاس من
بعد الصّلاة لأوجب
|
ألم تسمعوا يوم
الغدير مقالة
|
|
لأحمد عند
الدّوح والحقّ ينصب
|
وممّا يدل على
إمامته عليهالسلام من السّنة أيضا :
«قوله : صلىاللهعليهوآلهوسلم
لعليّ كرّم الله وجهه في الجنّة «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلّا أنه لا نبيء
بعدي».
«وهذا الخبر متواتر مجمع على صحته» عند المؤالف والمخالف فيه من الكتب المشهورة بالصّحّة عند
المخالفين أربعون إسنادا من غير رواية الشيعة وأهل البيت عليهمالسلام ، ذكره المنصور بالله عليهالسلام ثم قال : والخبر ممّا علم ضرورة.
وقال الحاكم أبو
القاسم الحسكاني رحمهالله في هذا الحديث : وهذا
حديث المنزلة الذي
كان شيخنا أبو حازم الحافظ يقول : خرّجته بخمسة آلاف إسناد. «وبيان الاستدلال به :
أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم
أثبت له» أي لعليّ عليهالسلام
«جميع ما لهارون» من المنازل الشريفة التي رتّبت
له «من موسى» أي بالإضافة إلى منازل موسى الشريفة ولفظ (من) هنا لابتداء الغاية (إلّا
النبوّة» فإنه استثناها بقوله «إلّا أنه لا نبيء بعدي».
وفي بعض روايات
هذا الخبر «ولو كان لكنته».
ولفظ (منزلة) هنا
يقتضي الاستغراق بدليل الاستثناء.
قال السيد أبو
طالب عليهالسلام : والعادة جارية باستعمال مثل هذا الخطاب وإن كان المراد
المنازل الكثيرة ، ألا ترى أنهم يقولون : منزلة فلان من الأمير كمنزلة فلان ، وإن
أشاروا إلى أحوال مختلفة ومنازل كثيرة ولا يكادون يقولون : منازل فلان من الأمير
كمنازل فلان.
«فلو علم» النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم
«شيئا» ممّا هو لهارون من المنازل «لم يكن له» أي لعلي سلام الله عليه «لأخرجه» كما
أخرج النبوءة.
«و» المعلوم أن «من جملة ما لهارون من
موسى الخلافة»
أي خلافة هارون
لموسى في غيبته في القيام بأمر أمّته «بدليل
قوله تعالى»
(وَقالَ مُوسى
لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي) أي كن خليفتي فيهم ، ومن جملة ما لهارون من موسى : الأخوّة
وقد ثبتت لعلي عليهالسلام بما علم من الأخبار في ذلك ، وكذلك الوزارة وشدّة الأزر
وشدّة المحبة وغير ذلك.
«فإن قيل : لم يعش هارون بعد موسى» عليهماالسلام
«فلم تثبت له الخلافة بعده» أي من بعد موسى عليهالسلام.
«والجواب والله الموفق : أنه لا خلاف» بين
الأمّة «أنه لو عاش هارون عليهالسلام»
بعد موسى عليهالسلام
«لكانت الخلافة له» لما ذكرناه.
__________________
«ولأنه شريك موسى صلوات الله عليهما في
أمره» في النبوّة وملك التصرّف على الأمّة «لقوله تعالى حاكيا عن موسى» صلوات الله
عليه «وأشركه في أمري».
وقوله تعالى : (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) .
«وقيام الشريك بحقه» أي بحق نفسه «أولى
من قيام غيره» ، أي غير الشريك (به) أي بحق الشريك.
قال القرشي : قال
المخالف : إن هذه الأدلة تقتضي أنه عليهالسلام كان يستحق الولاية في هذه الأمور في حياة النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم وذلك باطل.
قال : والجواب :
أن جمهور أئمتنا عليهمالسلام قد خصّوا وقت الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بالإجماع على أنه ليس لأحد تصرف في حياته على الأمّة.
وقال أبو طالب :
بل يستحق التصرّف في حياة النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم إذا كان غائبا على الحدّ الذي يستحقه الخليفة من المستخلف
ولكن لا نسميه إماما حينئذ لأنّ فوق يده يدا أخرى ، قال : واتفق الكل من أئمتنا عليهمالسلام على أن الاستحقاق ثابت من حال حصول الأدلة الدالة على
ولايته وإنّما هذا الخلاف المذكور في نفاذ التصرّف.
وممّا يدل على
إمامته عليهالسلام : حديث الوصاية ، وقد صحّ إجماع العترة عليهمالسلام على أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم أوصى إلى عليّ عليهالسلام ، وإجماعهم حجة قطعية ، مع أن أخبار الوصاية قد بلغت في
الشهرة حدّا يقارب التواتر. ذكر المنصور بالله عليهالسلام في الشافي ذلك من ست طرق واستدل على ذلك من جهة الشرع :
بأن الله تعالى أوجب الوصية وحثّ عليها جميع المسلمين فكيف يجوز أن يخلّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بأمر أوجبه الله على سائر المسلمين ، وإذا ثبتت وصايته
عليه
__________________
السلام لم يصحّ أن
يكون الإمام غيره مع وجوده.
وقد بسطت الكلام
في ذلك في الشرح.
«و» من الأدلة على إمامته عليهالسلام
بعد النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم
بلا فصل : «ما تواتر معنى» أي تواتر معناه وإن لم يتواتر لفظه «من الأخبار
المصرّحة بالإمامة نحو خبر البساط وخبر العمامة وغيرهما ممّا لا يسعه كتابنا هذا
من روايات المؤالف والمخالف».
أما خبر البساط :
فهو ما رواه الفقيه حميد الشهيد رحمهالله تعالى يرفعه إلى أنس بن مالك قال : أهدي لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بساط من خندف فقال : «يا أنس : ابسطه فبسطته ثم قال لي ادع
العشرة».
وفي رواية : «ادع
الثلاثة : أبا بكر وعمر وعثمان ، فلما دخلوا أمرهم بالجلوس على البساط ثم نادى
عليّا فناجاه طويلا ثم رجع عليّ فجلس على البساط ثم قال : يا ريح احملينا فحملتنا
الريح ، قال : فإذا البساط يدف بنا دفّا ثم قال : يا ريح ضعينا ثم قال : أتدرون في
أي مكان أنتم؟
قلنا : لا ، قال :
هذا موضع أصحاب الكهف والرقيم ، قوموا فسلموا على إخوانكم ، قال : فقمنا رجلا رجلا
فسلمنا عليهم رجلا رجلا فلم يردّوا علينا ، فقام علي بن أبي طالب فقال : (السلام
عليكم معاشر الصديقين والشهداء ، قال : فقالوا : وعليك السلام ورحمة الله وبركاته.
قال : فقلت : ما
بالهم ردّوا عليك ولم يردّوا علينا؟
فقال لهم علي : ما
بالكم لا تردّون على إخواني؟
فقالوا : إنّا
معاشر الصديقين والشهداء لا نكلم بعد الموت إلّا نبيئا أو وصيّا.
ثم قال : يا ريح
احملينا فحملتنا تدفّ بنا دفّا ، ثم قال : يا ريح ضعينا فوضعتنا فإذا نحن بالحرة.
قال : فقال علي عليهالسلام ندرك النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم
في آخر ركعة ،
فطوينا وأتينا فإذا النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم يقرأ في آخر ركعة «أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا
من آياتنا عجبا».
وأما خبر العمامة
: فروى الفقيه حميد الشهيد رحمهالله تعالى بإسناده عن عبد الله بن أبي أنيس قال : برز يوم
الصوح أسد بن غويلم فاتك العرب يجيل فرسه ويدير رمحه ويقول :
وجرد سعال
|
|
وزعف مذال
|
وسمر عوال
|
|
بأيدي رجال
|
وأشبال خيس
|
|
غداة الخميس
|
تجيد الضراب
|
|
وحزّ الرقاب
|
غداة النزال
|
|
يكيد الكذوب
|
ويروي الكعوب
|
|
دما غير آل
|
ثم سأل البراز
فأحجم الناس فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم «من قام إلى هذا
المشرك [فقتله] فله على الله الجنة والإمامة بعدي» فأحجم الناس فقام علي عليهالسلام تهزه العروى فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم «يا ذا القبقب ما
لك؟ فقال : ظمآن إلى البراز سغب إلى القتال ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : نحن بني هاشم جود مجد لا نجبن ولا نغدر أنا وعليّ من
شجرة واحدة لا يختلف ورقها ، اخرج إليه ولك الإمامة من بعدي».
فخرج وضربه في
مفرق رأسه والناس ينظرون فبلغ سيفه إلى السرج وخرّ بنصفين وانهزم المشركون ، وآب عليّ عليهالسلام يهزّ سيفه ويقول :
ضربته بالسّيف
وسط الهامة
|
|
بشفرة صارمة
هذّامة
|
__________________
فبتّكت من جسمه
عظامه
|
|
وبيّنت من أنفه
إرغامه
|
أنا عليّ صاحب
الصّمصامة
|
|
وصاحب الحوض لدى
القيامة
|
أخو نبيء الله
ذي العلامة
|
|
قد قال إذ عمّمني
العمامة
|
أنت أخي ومعدن
الكرامة
|
|
ومن له من بعدي
الإمامة
|
قال : رواه الحاكم
من كتاب الناصر للحق عليهالسلام بإسناده عن عبد الله بن أبي أنيس.
قال : ورواه
الحاكم أيضا عن أبي رافع.
ومن ذلك : حديث
الطائر : روى الفقيه حميد الشهيد رحمهالله بإسناده إلى أنس بن مالك قال : أهدي إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم طير مشويّ فلما وضع بين يديه قال : «اللهم ائتني بأحب خلقك
إليك يأكل معي من هذا الطائر». قال : فقلت : في نفسي : اللهم اجعله رجلا من
الأنصار.
قال : فجاء عليّ عليهالسلام فقرع الباب قرعا خفيفا.
فقلت : من هذا؟
فقال : عليّ.
فقلت : إنّ رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم على حاجة فانصرف فرجعت إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فسمعته يقول الثانية «اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي
من هذا الطائر».
فقلت في نفسي :
اللهم اجعله رجلا من الأنصار.
قال : فجاء علي عليهالسلام فقرع الباب فقلت : ألم أخبرك أن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم على حاجة فانصرف ورجعت إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فسمعته يقول الثالثة «اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي
من هذا الطائر».
قال : فجاء عليّ
فضرب الباب ضربا شديدا.
فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم «افتح افتح افتح
قال فلما نظر إليه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : اللهمّ وإليّ وإليّ».
قال : فجلس مع
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فأكل معه الطير.
قلت : وهذا الخبر
مشهور.
قال في المحيط :
روي عن أنس ، وسعد بن أبي وقاص ، وأبي ذر وأبي رافع مولى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وسفينة وابن عمر ، وابن عباس ، قال : وهو متلقّى بالقبول
من جلّ الصحابة.
وإذا كان علي عليهالسلام أحب الخلق إلى الله كان أحقهم بالإمامة لما تقدم.
وقد تركنا كثيرا
من الأخبار الدّالّة على إمامته عليهالسلام لعدم احتمال هذا المختصر لها كحديث هوى النجم وخبر
المؤاخاة والأخبار الدالة على عصمته والخبر المروي في قوله تعالى : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) وقصة براءة وقصة فتح خيبر وخبر الموارثة والأخبار الدالة
على أنه سيد العرب ، والأخبار الدالة على أنه خلق من نور النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم.
والخبر الذي فيه :
«عليّ منّي وأنا منه وهو وليّكم بعدي» أخرجه ابن حنبل وغيره من حديث عبد الرزاق
وغيره وغير ذلك ممّا لا يسعه إلّا المجلدات الكبار ، وقد ذكرنا بعض ذلك في الشرح.
قال الديلمي رحمهالله : إن بعض الشيعة في بلاد البحرين صنّف كتابا في إمامة أمير
المؤمنين علي عليهالسلام واستدلّ بستين دليلا لا يمكن دفعها إلّا على سبيل
المكابرة.
«و» منها أيضا : «قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم»
«الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا وأبوهما خير منهما» «أي في صلاحيته عليهالسلام
للإمامة ، ولذلك» أي : ولأجل علمهماعليهماالسلام
بأن أباهما خير منهما في صلاحيته للإمامة بعد ورود النص الصريح من أبيهما
بإمامتهما الذي لا يحتمل التأويل «لم ينازعاه في تقدمه كرّم الله وجهه» بل سلّما
أمرهما إليه
__________________
لعلمهما أنه أولى
منهما بالإمامة ، «وهذا المعنى لا يختلف عند أهل اللسان العربي» كما يقال : فلان
كريم وفلان خير منه أي في الكرم ، وهذا الخبر مجمع على صحته لأنه متلقى بالقبول من
الناس جميعا.
قالت «العترة» صلوات الله عليهم «والشيعة
: ولا دليل على إمامة من ذكره المخالف» والإمامة كما سبق تقريره لا تثبت لأحد إلّا
بدليل شرعي واختيار من الشارع.
وقالت «البكرية» وهم أصحاب بكر بن عبد الواحد من فرق المجبرة : «بل النص
الجلي في أبي بكر»
بن أبي قحافة.
«قلنا : لم يظهر هذا الدليل» الذي
زعمتم.
«و» قد انعقد «الإجماع على وجوب ظهور ما
تعمّ به البلوى علما وعملا» كما سبق تقريره في أول الكتاب ، والإمامة ممّا يعمّ
وجوب العلم والعمل بها جميع المكلفين.
وقال «الحسن» بن أبي الحسن «البصري
: بل النص الخفي المأخوذ من الإمامة الصغرى» دليل على إمامة أبي بكر ، يعني حين أراد أبو بكر أن يصلي
بالناس في مرض رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وزعم أن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أمره بذلك.
«قلنا : هي» أي الإمامة الصغرى «بمعزل
عن الإمامة الكبرى»
أي في جانب بعيد
عنها فلا يصحّ قياس إحداهما على الأخرى ، «بدليل أنها» أي الإمامة الصغرى «تصحّ
من المماليك»
ومن غير المجتهد
ومن الأعمى ونحوه.
«وإن سلّم» أنه يصحّ قياس إحداهما على
الأخرى على استحالته «ففي الرواية الصحيحة : أن النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم
لم يأمره بالصلاة» بالناس «وإنّما أمرته عائشة».
روى العنسي في
المحجة البيضاء عن زيد بن علي عليهماالسلام أنه سئل عن صلاة أبي بكر بالناس في مرض النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم؟
فقال : ما أمر
النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم أبا بكر أن يصلي بالناس وروى صاحب المحيط بإسناده إلى موسى
بن عبد الله عن أبيه عن جده [وهو موسى بن عبد الله الثاني] عن أبيه عبد الله بن
الحسن عليهمالسلام في خبر الوفاة بطوله إلى أن قال :
ثم قام ودخل منزله
فلبث أيّاما يجد الوجع والناس يأتونه ويخرج إلى الصلاة ، فلمّا كان آخر ذلك ثقل
وأتاه بلال ليؤذنه بالصلاة وهو ملق ثوبه على وجهه قد تغطى به فقال : الصلاة يا رسول الله فكشف
الثوب وقال «لقد أبلغت يا بلال فمن شاء فليصل».
فخرج بلال ثم رجع
الثانية والثالثة وهو يقول : الصلاة يا رسول الله فقال : «لقد أبلغت يا بلال من
شاء فليصل» فخرج بلال وكان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في حجر عليّ عليهالسلام والفضل بن العباس بين يديه يروّحه وأسامة بن زيد بالباب
يحجب عنه زحمة الناس ، ونساء النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم في ناحية من البيت يبكين فقال «اعز بن عنّي يا صويحبات
يوسف».
فلما رجع بلال ولم
يقم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم تبعته عائشة بنت أبي بكر فقالت : يا بلال : مر أبا بكر
فليصل بالناس ، ووجد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم خفّة فقام فتمسّح وتوضأ وخرج معه علي والفضل بن العباس وقد
أقيمت الصلاة وتقدمهم أبو بكر ليصلي ، وكان جبريل عليهالسلام أمره بالخروج ليصلي بهم ونبّهه على ما يقع من الفتنة إن
صلّى أبو بكر ، وخرج رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يمشي بين علي والفضل وقدماه تخطان في الأرض حتى دخل المسجد
، فلما رآه أبو بكر تأخّر وتقدم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وصلّى بالناس ، فلمّا سلّم أمر عليّا ... الخبر إلى آخره.
انتهى.
وفي رواية أخرى :
فصلّى بهم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
__________________
قاعدا والمسلمون
قيام ، فلما فرغ من الصلاة أقبل على الناس فكلمهم رافعا صوته حتى خرج صوته من باب
المسجد يقول :
«يا أيها الناس : سعّرت النّار وأقبلت الفتن ... إلى آخر كلامه صلىاللهعليهوآلهوسلم».
«وإن سلّم» أنّ النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم
أمره بالصلاة «فأمر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
إيّاه أوّلا وعزله آخرا بيان منه» صلىاللهعليهوآلهوسلم
«لعدم استحقاقه» للإمامة الصغرى فضلا عن الإمامة الكبرى.
«وقيل : بل النص في أبي بكر وعمر معا
وهو قوله تعالى :
(سَتُدْعَوْنَ إِلى
قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ ...) الآية .
والضمير في (ستدعون)
للمخلفين ، وزعم صاحب هذا القول أنهم الذين تخلفوا عن غزة تبوك ، وهي آخر غزوة
غزاها النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم بنفسه وكانت في رجب سنة تسع.
قالوا إذ الدّاعي (٣) لهم أبو بكر إلى
قتال بني حنيفة ، وعمر إلى قتال فارس والروم ، لأنّ الآية خطاب للمخلفين ولم يدعهم» أي المخلفين «النبيء
صلىاللهعليهوآلهوسلم» بدليل
قوله تعالى :
(فَإِنْ رَجَعَكَ
اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ
تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ
بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ) وإذا كان الداعي لهم أبا بكر وعمر دلّ ذلك على إمامتهما.
«قلنا» أخطأتم في هذا التدريج لأنه ليس المراد المتخلفين في قوله
تعالى «ستدعون ... الآية» المتخلفين عن غزوة تبوك لما سنذكره الآن إن
__________________
شاء الله تعالى ،
وإن سلّمنا أنهم المرادون على استحالته فليس فيه دلالة على أن الداعي أبو بكر
وعمر.
«بل المراد : دعوة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
حين أمر»
النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم «أسامة
بن زيد»
وأمرهم بغزو الشام
وأن يوطئ الخيل تخوم البلقاء من أرض فلسطين «فتخلفوا» أي هؤلاء المدعوّون المخلفون وغيرهم «عنه» أي عن أسامة بن زيد وكان ذلك في مرض رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وكان يقول : «أنفذوا جيش أسامة» فلم ينفّذوا ما أراد ، «فهو» أي رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم «الدّاعي» لهم «لا غيره» ولا ينافي ذلك قوله تعالى : (لَنْ تَخْرُجُوا
مَعِيَ أَبَداً) «إذ لم يخرجوا معه» صلىاللهعليهوآلهوسلم.
«والآية» وهي قوله تعالى «فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك
للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوّا» «لم
تمنع إلّا من الخروج معه» صلىاللهعليهوآلهوسلم
«لا من الدعاء» أي لا من دعائه لهم إلى الخروج مع غيره وهذا الكلام إنّما هو على
ما ذكرناه وهو : «إن سلّمنا لهم أن المعنيّ بقوله «(سَتُدْعَوْنَ ...) الآية» هو المعنيّ
بقوله «لن تخرجوا معي أبدا»
الآية وهو باطل
قطعا.
بل المعنيّ بقوله
تعالى : (سَتُدْعَوْنَ ...) الآية : الذين تخلّفوا عن النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم عن غزوة الحديبية وهم : أعراب مزينة وغفار وجهينة وأشجع
وأسلم والدّئيل ، وذلك أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم حين أراد المسير إلى مكة عام الحديبية معتمرا استنفر من
حول المدينة من الأعراب والبوادي حذرا من قريش أن يصدّوه عن البيت ، وأحرم هو صلىاللهعليهوآلهوسلم وساق معه الهدي ليعلم أنه لا يريد حربا فتثاقل كثير من
الأعراب وقالوا : يذهب إلى قوم قد غزوه في عقر داره بالمدينة وقتلوا أصحابه
فنقاتلهم وظنّوا أنه يهلك ولا ينقلب إلى المدينة واعتلّوا بالشغل
__________________
بأهاليهم
وأموالهم. هكذا ذكره في الكشاف وغيره وهو الحق ، لأنّ هذه السورة (أعني سورة الفتح)
نزلت على النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو بموضع بين مكة والمدينة مرجعه من الحديبيّة تسلية
للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لما وقع مع أصحابه من الغم من عدم دخول مكة. ذكر ذلك
الواحدي وغيره.
ولا خلاف أيضا أن
سورة الفتح نزلت مرجع النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم من الحديبيّة في ذي القعدة من سنة ست ، وهي كلها في ذكر
غزوة الحديبية وما كان من أهلها وما وعدهم الله به من الغنائم والظفر ، وما كان
بسبب الهدنة والصلح من الفتح العظيم والمصلحة الكبرى من إسلام كثير من الناس واختلاطهم
بالمسلمين وتقوّي الإسلام ، وحينئذ فالداعي لهؤلاء المخلفين النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم إمّا للخروج مع أسامة كما ذكرناه.
«أو من قبل» ذلك الوقت «إلى» قتال «غطفان وهوازن يوم
حنين كما هو مذهب بعض المفسرين ، لأنّ قوله تعالى : (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ
مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ) الآية
نص في أنّ المراد بها متخلفو الأعراب
فقط»
دون متخلفي
المدينة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك الذين ذكرهم الله تعالى في سورة براءة.
««ولم يمنع قوله تعالى» (فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ
مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ) أبدا
«إلّا طائفة يرجع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم» من غزوة تبوك «إليهم» لقوله تعالى : (فَإِنْ رَجَعَكَ
اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ).
«وهم متخلفو أهل المدينة» من المنافقين وغيرهم «لأنّ
رجوعه كان إلى المدينة لا إلى الأعراب».
__________________
فصحّ أن المراد
بقوله تعالى : (سَتُدْعَوْنَ ...) الآية : مختلفو الأعراب الذين تخلفوا عن الحديبيّة لا من
تخلّف عن غزوة تبوك وكيف يصحّ أن يكون المراد بآية الفتح آية براءة وقد علم أن سورة
الفتح نزلت قبل سورة براءة بزمان طويل كما ذكرنا من تاريخ الغزوتين والمعلوم عند
الناس كافة : أنّ آية براءة التي ذكر فيها المخلفون إنّما هي فيمن تخلّف عن غزوة
تبوك ، فمن ذهب إلى ذلك فهو غالط أو مغالط.
وأما قوله تعالى :
(وَإِنْ تَتَوَلَّوْا
كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ) أي وإن تتولوا وتتخلفوا عن دعاء النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم لكم إلى قتال هوازن أو غيرهم كما توليتم وتخلفتم عن دعوته
لكم إلى غزوة الحديبية يعذبكم عذابا أليما.
وقوله تعالى : (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا
انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها) أي إذا توجهتم لقتال أهل خيبر ومغانمها (ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ) أي نسير معكم فنصيب من الغنائم (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ
اللهِ) أي يريدون أن يغيروا وعد الله تعالى لرسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم وأصحابه أهل الحديبية بما ذكره الله من المغانم ، وذلك أنّ
الله تعالى وعد أهل الحديبية خاصة بمغانم خيبر وذلك قوله تعالى : (وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً
تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ) .
ومن فسّر قوله
تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ
يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ) أي قوله تعالى : (لَنْ تَخْرُجُوا
مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا) فقد غلط غلطا ظاهرا.
قال عليهالسلام : «سلّمنا» تسليم جدل ومجاراة للخصم وإن كان محالا أن المعنيّ بقوله
تعالى : (سَتُدْعَوْنَ إِلى
قَوْمٍ) هم المتخلفون عن غزوة تبوك : فلا يلزم من ذلك أن يكون جميع
المتخلفين عن غزوة تبوك لم
__________________
يدعهم النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم فيكونوا المرادين بقوله تعالى : (فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً) لأنّ الكلام حينئذ يحتمل «أنه
صلىاللهعليهوآلهوسلم
لم يدع طائفة منهم لكنه قد دعا من عدا تلك الطائفة» التي لم يدعها «منهم» أي من متخلفي غزوة تبوك «لأنّ الآية
لم تمنع إلّا طائفة من المتخلفين لا كلهم والمعنيّ بقوله تعالى : (سَتُدْعَوْنَ) : من عدا تلك الطائفة» يدعوهم النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم لأنّ متخلفي غزوة تبوك قد قسمهم الله تعالى طوائف يدل عليه
قوله تعالى : (فَرِحَ
الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ) صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى قوله تعالى : (فَإِنْ رَجَعَكَ
اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ) أي من المخلفين.
و (من) موضوعة
للتبعيض ، فهات الدليل على أنّ الطائفة المتخلفة المخصوصة بقوله تعالى : (لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً) هي المرادة بقوله تعالى : (سَتُدْعَوْنَ ...) الآية؟ ولا دليل هيهات.
وهذا على الفرض
بأن قوله تعالى : (سَتُدْعَوْنَ ...) الآية المراد بها آية براءة وهو محال كما سبق من تاريخ
نزول السورتين وذلك واضح.
وقال «سائرهم» أي سائر من ذهب إلى إمامة أبي بكر وعمر وعثمان غير من تقدم
ذكره : «بل الإجماع» من الناس دليل على
إمامة الثلاثة :
أما أبو بكر :
أجمعت الأمّة على إمامته يوم السقيفة بعد المنازعة فآل أمرهم إلى الوفاق.
وأما عمر : فلما
نصّ عليه أبو بكر لم ينازعه أحد.
وأما عثمان : فلما
جعلها عمر شورى بين الستة المعروفين ورضيت الأمّة بفعله ثم تراضى الستة بتفويض عبد
الرحمن فيمن اختار فرضي عثمان وبايعه كان إجماعا.
«قلنا : دعوى الإجماع باطلة لاشتهار
خلاف أمير المؤمنين عليهالسلام
وأهل بيته عليهم» «السلام وشيعتهم سلفا يعقبهم خلف إلى الآن» وذلك أن المشهور في
كتب التواريخ : أنه
وقع هناك من الاختلاف والمنازعة ما لا
ينكره إلّا مكابر
وذلك بعد أن تركوا أمر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في تنفيذ جيش أسامة وقد جعل صلىاللهعليهوآلهوسلم أبا بكر وعمر وأبا عبيدة بن الجراح وسعد بن أبي وقاص وكبار
المهاجرين والأنصار وغيرهم تحت رايته وضيّق عليهم في الخروج معه ولم يرخّص لهم في
المقام بالمدينة وذلك يوم السبت لعشر خلون من ربيع الأول وهو صلىاللهعليهوآلهوسلم عليل فلم يتركهم يشتغلون به وما يئول أمره إليه بل كان
يقول «أنفذوا جيش أسامة أنفذوا بعث أسامة».
ودخل عليه أسامة
وهو مغمى عليه فرفع صلىاللهعليهوآلهوسلم يديه إلى السماء ، قال أسامة : فعرفت أنه يدعو لي فرجعت
إلى معسكري وفي أنوار اليقين وغيره : أن المتخلفين عن السقيفة هم علماء الصحابة
وأعيان الأمّة والذين يرجع إليهم في الأمور المهمة من فتوى وغيرها وأهل الورع
والجد والاجتهاد من المهاجرين والأنصار وأرباب الجهاد مع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم.
منهم أمير
المؤمنين عليّ عليهالسلام وعمّه العباس وجميع بني هاشم والزبير بن العوام وسلمان
الفارسي والمقداد بن الأسود وعمار بن ياسر وأبو الدرداء وأبو ذر الغفاري وعبد الله
بن مسعود وخالد بن سعيد بن العاص وأبو الهيثم بن التيهان وأبي بن كعب وسهل بن حنيف
وأبو أيوب الأنصاري وحذيفة وبلال بن حمامة وكذلك أسامة ومن بقي معه من عسكره وعمرو
بن سعيد بن العاص في بعض الروايات وعثمان بن حنيف في بعضها وسعد بن عبادة وقيس بن
سعد بن عبادة وجميع عشيرته من الخزرج. فأين الإجماع مع هذا؟
ومن شك في ذلك
طالع كتب التواريخ وقد بسطنا شيئا من ذلك في الشرح.
(فرع)
«واختلف في حكم من تقدّم الوصي» علي بن أبي طالب عليهالسلام ، أي اختلف من أثبت الإمامة له عليهالسلام بعد النبيء صلّى الله
عليه وآله وسلّم
بلا فصل في حكم المشايخ الثلاثة المتقدمين له عليهالسلام بالإمامة :
فقال أبو الجارود
ومن قال بقوله من الزيدية رضي الله عنهم : عليّ وصيّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم والإمام بعده وأن الأمّة كفرت وضلّت في تركها بيعته ، ثم
الإمام بعده الحسن والحسين بالنص ثم هي بينهم شورى فمن خرج من أولادهما مستحقّا
للإمامة فهو الإمام.
وكذلك قالت
الصالحيّة الحسن بن صالح بن حيّ ومن قال بقوله في الإمامة إلّا أنهم قالوا : إنّ
أبا بكر وعمر غير مخطئين بسبب سكوت عليّ عليهالسلام عن حقّه ، وكذلك عثمان إلى أن تبرأ منه المسلمون وتوقف فيه
بعد ذلك.
وكذلك قال ابن
التمّار وهو كثير البتري بن الحسن بن صالح لأنّ المغيرة بن سعيد لقّب كثيرا هذا
بالأبتر ومن قال بقوله من الزيدية وهم المسمّون البتريّة إلّا أنهم تبرءوا من
عثمان بعد ما عزله المسلمون وشهدوا على من خالف عليّا بالكفر.
وقال سليمان بن
جرير ومن قال بقوله في علي عليهالسلام والحسن والحسين عليهمالسلام مثل ذلك ، وإن بيعة أبي بكر وعمر خطاء لا يستحقان عليها
اسم الفسق من قبل التّأويل وأن الأمّة تركت الصّلاح في ذلك ، ولم يتبرءوا من أبي
بكر وعمر ولم يتولّوا أيضا. ذكره في المحيط ، وتبرءوا من عثمان وشهدوا عليه
بالكفر.
وقالت الإمامية في
علي والحسن والحسين عليهمالسلام مثل قولنا وقالوا : لا يكون الإمام إلّا منصوصا عليه من
نبيء أو وصيّ أو إمام هكذا حكى هذا الخلاف الإمام أحمد بن سليمان عليهالسلام ، ومثله ذكر الديلمي في كتابه قواعد عقائد أهل البيت عليهمالسلام وصاحب المحيط في الجزء الثاني ، وهو الصحيح.
قال عليهالسلام : «والحق أنهم» أي المتقدمين له عليهالسلام «إن
لم يعلموا استحقاقه عليهالسلام»
عليهم للإمامة «دونهم بعد التحرّي» منهم في طلب الأدلة الموصلة إلى الحق فلم
يجدوها «فلا إثم عليهم وإن أخطئوا» أي وإن كان فعلهم خطيئة مخالفة للحق ولمراد
الله سبحانه منهم لأنهم لم يتعمدوا عصيانه تعالى «لقوله تعالى»
:
(وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ) «ولم يفصل» بين خطاء وخطاء.
«وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم»
«رفع عن أمتي الخطاء والنسيان» «ولم يفصل» هذا هو الحق وهو على سبيل الإنصاف والفرض والتقدير ، لأنّ
مسألة الإمامة كما سبق ذكره من أمهات أصول الدين التي يجب على كل مكلف معرفتها لا
سيما عند من جعل دليلها العقل والشرع ، فهل يجوز من الشارع أن يخفي دليلها ويكلف
معرفتها جميع خلقه لأنه يكون كالتكليف لما لا يطاق وحينئذ يبعد بل يستحيل أن
يكونوا جهلوا استحقاقه عليهالسلام الإمامة دونهم.
قال في المحيط :
أجمعت الزيدية على أن معرفة إمامة أمير المؤمنين عليهالسلام والحسن والحسين عليهماالسلام واجبة على كل مكلّف.
قلت : فلا بدّ أن
يكون الطريق إليها معلوما لكل مكلف إمّا ضرورة وإمّا استدلالا كمعرفة الباري تعالى
، وإلّا كان تلبيسا من الشارع وتكليفا لما لا يطاق وذلك لا يجوز على الله تعالى.
«وإن علموا» أنه المستحق للإمامة دونهم «فخطيئتهم
كبيرة»
إجماعا ، أمّا عند
من يجعل كل عمد كبيرة فواضح.
وأمّا عند غيرهم ف «للإجماع» من الأمّة «على
أنّ من منع إمام الحق من تناول الواجب» أي ما يجب تسليمه إليه من الحقوق أو من
الواجب عليه إقامته كالحدود والجمعات وغير ذلك «أو منع الواجب منه» أي منع ما يجب
للإمام من الحقوق فلم يسلمها إليه : «بغي عليه ، والإجماع على أن البغي عليه فسق
لأنه اتّباع لغير سبيل المؤمنين والله تعالى يقول» «ومن
__________________
يشاقق الرسول من بعد
ما تبيّن له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا» وهذا
وعيد على هذه المعصية والوعيد يوجب كون المعصية كبيرة.
قال عليهالسلام : «ولعل» توقف «من توقف
من أئمتنا عليهمالسلام» عن البراءة ممّن تقدمه عليهالسلام بالإمامة
«لعدم حصول العلم بأنهم علموا» استحقاقه عليهالسلام الإمامة دونهم «أو
جهلوا»
ذلك فلما لم يحصل
لهم أحد الأمرين توقفوا وذلك لا يكون إلّا فيمن لم يبحث عن حقيقة الأمر الواقع بعد
قبض رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ولم ينظر في كتب التواريخ ، وأما من نظر في ذلك وطالع كتب
التواريخ فإنه يعلم قطعا أحد الأمرين «ومعارضة
إبقائهم على الأصل من الجهل باستحقاقه عليهالسلام
بأن الأصل في أعمال المكلفين التي تعلّق بالحقوق العمد».
أي لو قيل : الأصل
الجهل فيحملهم هذا المتوقف عليه ولا يتوقف في شأنهم بل يتولّاهم إبقاء لهم على هذا
الأصل قيل له قد عارض هذا الأصل أصل آخر وهو : أن الأصل في أعمال المكلفين التي
تتعلق بحقوق بعضهم على بعض العمد فوجب الوقف لتعارض الأصلين.
«ألا ترى لو أن رجلا قتل رجلا» بأن ضربه بسيف أو طعنه أو باشره بأي شيء «ثم
ادّعى الخطاء»
في قتله إيّاه
ومباشرته له «أنّه لا يقبل قوله» في دعوى الخطاء «بالإجماع» لأنّ مباشرته إيّاه وهو ينظر تكذب دعواه الخطاء ، ومثلها
مسألة الإمامة بل أولى لأنهم لم يقعدوا في دست الخلافة إلّا متعمدين غير ساهين ،
ولأنّ أدلة الإمامة يجب ظهورها كما سبق ذكره.
وأما من ادّعى على
غيره أنه قتل أباه فقال : كان ذلك خطاء فهو إقرار منه بالقتل ، والقول قوله في أنه
خطاء نص عليه المرتضى عليهالسلام وذكره القاضي زيد والأستاذ والفقيه محمد بن سليمان والفقيه
حسن لأن الأصل براءة الذمّة من القصاص.
وقال أبو جعفر :
الظاهر العمد لأن الظاهر في فعل كل عاقل العمد فهي مسألة غير ما أراده الإمام عليهالسلام.
«وبوجوب» أي ومعارض ذلك الأصل الذي هو
الجهل بوجوب «حمل علماء الصحابة رضي الله عنهم على السّلامة» من ارتكاب المعصية من
عدم الإخلال منهم بتعريفهم أي تعريف المتقدمين على عليّ عليهالسلام
أنهم مخطئون في ادّعائهم الإمامة لأنه يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيحمل
علماء الصحابة أنهم قد عرّفوهم ذلك.
«إذ مثل ذلك» التعريف
«واجب»
عليهم «لقوله
تعالى»
: (إِنَّ الَّذِينَ
يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما
بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ
اللَّاعِنُونَ) فيبعد حينئذ تقدير الجهل مع اجتماع هذه القرائن المقتضية لخلافه «ولنقل تعريفهم» أي نقل تعريف علماء الصحابة «إيّاهم» أي المتقدمين لهعليهالسلام «نقلا لم يبلغ حدّ
التواتر»
كما روي : أن اثني
عشر من المهاجرين والأنصار.
قال بعضهم لبعض :
قوموا إلى هذا الرجل فأنزلوه عن منبر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وقال بعضهم : إن
هذا الرجل اتفقت عليه الأمّة ولكن انطلقوا بنا إلى صاحب هذا الأمر حتى نشاوره
ونستطلع رأيه فانطلق القوم حتى أتوا أمير المؤمنين عليّا عليهالسلام فقالوا له : كنّا في مسجد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ورأينا هذا الرجل قد صعد المنبر فأردنا أن ننزله عن منبر
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فكرهنا أن ننزله دونك ونحن نعلم أن الحق لك.
فقال عليهالسلام : (أما إنكم لو فعلتم ما كنتم لهم إلّا حربا وما كنتم إلّا
كالكحل في العين أو كالملح في الزاد وقد اتفقت هذه الأمّة التاركة قول نبيئها صلىاللهعليهوآلهوسلم الذين باعوا آخرتهم بدنياهم ، وقد شاورت في ذلك أهل بيتي
فأبوا إلّا السكوت لما يعلمون من وغر صدور القوم
__________________
وبغضهم لأهل بيت
نبيئهم صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ولكن انطلقوا إليه فأخبروه بما سمعتم من قول نبيئكم محمد
صلىاللهعليهوآلهوسلم ولا تتركوه في شبهة من أمره ليكون ذلك أوكد في الحجة وأبلغ
في العقوبة إذا لقي الله وقد عصاه وخالف أمر نبيئه).
فانطلق القوم في
يوم جمعة حتى جثوا حول منبر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فأقبل أبو بكر فصعد المنبر.
فقال المهاجرون
للأنصار : قوموا فتكلموا بما سمعتم من قول نبيئكم.
فقال الأنصار
للمهاجرين : بل أنتم قوموا فتقدموا فإن الله قدمكم [في كتابه].
فقام المهاجرون
فتكلموا رجلا رجلا ، ثم قام الأنصار فتكلموا رجلا رجلا في خبر طويل : روى حديث
الاثني عشر هذا القاسم بن إبراهيم والهادي والإمام أحمد بن سليمانعليهمالسلام وغيرهم كالفقيه محمد بن الحسن الديلمي صاحب قواعد عقائد
أهل البيت عليهمالسلام وغيره وكذلك قد روي عن غير هؤلاء الاثني عشر الإنكار على
المتقدمين على عليّعليهالسلام.
وقد روى المرتضى عليهالسلام عن أبيه الهادي إلى الحق عليهالسلام أنّ النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم أمر المسلمين بمكة أن يسلّموا على عليّ عليهالسلام بإمرة المؤمنين حين قدم عليه من اليمن.
قال عليهالسلام
: «و» مع هذه المعارضات للجهل «وجب الوقف» عند هذا الذي التبس عليه تعمّدهم «في
حقّهم دون علماء الصحابة» فلا يجوز له أن يتوقف في حقهم على معنى أنه يجوّز أن
يكونوا أمروهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر.
ويجوّز أن يكونوا
أخلّوا بهذا الواجب وإذا جوّز الأمرين وقف في حقّهم وذلك لأنهم لم يعلم من علماء
الصحابة تلبّس بالمعصية بعد علمنا بإيمانهم في الظاهر فهذا التجويز لا ينسخ العلم
بإيمانهم في الظاهر بخلاف المتقدمين على عليّ عليهالسلام فساغ له التوقّف في حقهم.
«لحصول العلم بتلبسهم بالمعصية وهو
اغتصاب إمامته عليهالسلام
ولم يحصل مثل ذلك» أي التلبّس بالمعصية «في حق علماء الصحابة» كما ذكرناه من قبل.
«فإن قيل : فحاصل الكلام» الذي تقدم
ذكره : «أن أمرهم» أي المتقدمين على عليّ عليهالسلام
«ملتبس» في الإيمان وعدمه «والأصل الإيمان» في حقّهم إذ قد علمنا إيمانهم ، فإذا
كانوا كذلك «فلنتولّهم إبقاء لهم على الأصل» من إيمانهم المعلوم.
قال عليهالسلام : «قلت وبالله التوفيق
: ذلك الأصل معارض بأن الأصل في كل معصية» متعمدة «الكبر كما هو مذهب عيون العترة عليهم» «السلام
لقوله تعالى» : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ
وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها ...) الآية .
«وقوله تعالى» : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ
فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) ولم يفصل بين معصية ومعصية كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
قلت : المعصية :
هي اغتصاب الإمامة وهو بغي والبغي على إمام الحق فسق فلا حاجة إلى القول بأن الأصل
في كل معصية الكبر لأنّ هذه معصية إن وقعت عمدا فقد دلّ الشرع على كبرها ، وإن
وقعت سهوا أو خطأ فلا إثم أصلا لما مرّ.
قال عليهالسلام
: «وأيضا : فإن حصول الالتباس» أي التباس إيمانهم بسبب تلبّسهم بالمعصية «نسخ
العلم بإيمانهم في الظاهر» أي في ظاهر الأمر «ولا يصحّ التّولي إلّا مع العلم
بالإيمان في الظاهر بإجماع العترة عليهم» «السلام» ، وهذا مع الفرض بأن معصيتهم لم
يعلم قدرها وقد علم قطعا تلبّسهم بها.
«فإن قيل : قد ثبت عن أهل المذهب وجوب
صلاة الجنازة على من
__________________
شهدت قرينة بإسلامه» كالختان
وفرق الرأس ونحو ذلك «والدعاء له فيها مشروع وهو فرع التّولّي» إذ لا يجوز الدعاء
إلّا لمن يجوز تولّيه أي محبته.
قال عليهالسلام
: «قلت : قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم
: كل مولود يولد على الفطرة» حتى يكون أبواه هما اللذان يهودانه وينصرانه ويمجسانه
«يوجب العلم بإيمانه في الظاهر» عملا بهذا الخبر ، ودلالة العقل أيضا وذلك أن الله
سبحانه قد ركب في قلب كل مكلف عقلا يهديه إلى مراشده ، ونصب له علامات من خلقه
ودلائل واضحات فلا يضل إلّا إذا رفض دلالة عقله وهذا أصل في الإيمان.
«و» هذا الميت الذي على هذه الصورة «لم
يعلم تلبسه بمعصية»
ترفع حكم الإيمان
في الظاهر
«فلم ينسخ العلم بإيمانه في الظاهر شيء» وإذا كان كذلك وجبت الصلاة
عليه والدعاء له فيها «مع أن قياس ما المطلوب فيه العلم» كالموالاة والمعاداة «على
الظني»
كصلاة الجنازة على
من شهدت قرينة بإسلامه لأنها من مسائل الفروع العمليّة فيكفي في وجوبها الظنّ «كما
هو مذهبكم في الفروع»
من أنه يكفي في
العمل بها الظن بخلاف الموالاة والمعاداة فلا بدّ من
العلم فيهما «لا يصحّ إجماعا»
بين من يقول : كل
مجتهد مصيب وبين من يقول الحق مع واحد لأنه قياس لما يجب فيه العلم على ما يكفي
فيه الظن فثبت توجيه توقف من توقف من أئمتنا عليهمالسلام بما ذكر على تلفيق واجتهاد كما رأيت. وأقرب ما يحملون عليه
: أنهم كانوا يعتقدون أن الناس لا يطيعونه لكراهة الأكثر من قريش لهعليهالسلام لما وترهم به على كفرهم وبغضهم حسدا وبغيا لما فضله الله
سبحانه على غيره من الخلال الكثيرة فكانوا كالقاطعين بأن الأمر لا يتم له مع ذلك.
ولكن؟ هل يكون هذا
عذرا عند الله سبحانه؟
وأنا أقول كما قال
الله سبحانه : (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ
خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا
يَعْمَلُونَ) .
__________________
قال «الإمام يحيى» بن حمزة «والإمام
المهدي» أحمد بن يحيى «عليهماالسلام
: وحكم أبي بكر في فدك صحيح لأنه حكم باجتهاده» وقد ثبت أن كل مجتهد مصيب.
«قلنا : هو المنازع» أي هو الخصم الذي نازعته فاطمة عليهاالسلام «وأيّما منازع» كائنا من كان «حكم
لنفسه فحكمه باطل إجماعا ولو لم يخالف» في حكمه «اجتهاده» فكيف يصحّ أن يقال : إن حكمه صحيح وقد علم أن أمير المؤمنين
عليّا عليهالسلام لم يحكم لنفسه في قضية النصراني معه بل تحاكما إلى شريح ،
وكذلك روي عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : أنه لم يحكم لنفسه بل حاكم إلى علي عليهالسلام ، لأنّ الله سبحانه أمر المتحاكمين أن يتحاكما إلى غيرهما
لأن الحاكم لنفسه متهم بالميل ولو حكم بالحق وإذا كانت شهادة الخصم على خصمه غير
مقبولة فما ظنّك بالحكم ولهذا
قال الشاعر :
«ومن يكن القاضي له من خصومه
|
|
أضرّ به إقراره
وجحوده»
|
«وأيضا : فإن الإمام عندهما» أي عند الإمامين المذكورين عليهماالسلام بعد النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم بلا فصل «عليّ عليهالسلام
وهو لم يرض ولايته»
بل كرهها أشدّ
الكراهة لما تواتر من تجرّمه ولأنه سار مع فاطمة عليهماالسلام للشهادة لها ، وولاية القضاء إلى الأئمة بالإجماع ، «فكيف
صحّ قضاؤه؟»
أي قضاء أبي بكر
في فدك والحال ما ذكر؟
«وأيضا : كانت اليد في فدك لفاطمة عليهاالسلام
، لأنّ في الرواية : أنها أتته» أي أتت أبا بكر «تطلبه حقّها بعد أن رفع عاملها» أي
وكيلها على فدك «فإيجاب البينة عليها خلاف الإجماع»
من المسلمين لأن الشارع حكم بالبينة على المدعي واليمين على المنكر ، فمن حكم
بخلاف ذلك فحكمه باطل بالإجماع.
اعلم : أنه لا
خلاف بين الناس : أن فاطمة عليهاالسلام نازعت أبا
__________________
بكر في فدك ،
وأنها جاءت بعلي عليهالسلام وأم أيمن شاهدين وأنها رجعت بغير شيء ، وأنها دفنت ليلا
ولم يحضرها أبو بكر ولا عمر ، فهذا ممّا لا يخالف فيه أحد وروى أهل البيت عليهمالسلام كافّة : أنها ماتت غضبانة على أبي بكر وعمر ، وأنها أوصت
أن لا يحضرا جنازتها.
وقال في محاسن
الأزهار للفقيه حميد رحمهالله : روى البخاري بسنده عن عائشة : أن فاطمة أرسلت إلى أبي
بكر تسأله ميراثها من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ممّا أفاء الله عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر ،
فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منه شيئا ، فوجدت فاطمة على أبي بكر وهجرته ولم
تكلمه حتى توفيت ، وقد عاشت بعد النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم ستة أشهر فلما ماتت دفنها الإمام علي ليلا ولم يؤذن بها
أبا بكر.
وقال ابن أبي
الحديد : نازعت فاطمة أبا بكر في ثلاثة أشياء :
الأول : الإرث ، الثاني : النحلة في فدك
، الثالث : في سهم ذوي القربى ومنعها أبو بكر ذلك جميعا وهي على هذا الترتيب.
وفدك قال الإمام
يحيى : قريّات أفاءها الله على رسوله من غير إيجاف.
وقال الجوهري :
فدك قرية بخيبر.
وقيل : إنّ عدد
القرى سبع وكان النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم أنحلها فاطمة عليهاالسلام وكانت غلتها في كل سنة (ثلاث مائة ألف دينار) وقيل : أكثر
من ذلك.
وروي : أنه كان
فيها ممّا غرسه النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم بيده الطاهرة إحدى عشرة نخلة (١١ نخلة) وكان ثمر هذه
النخلات يستشفى به من الآلام.
وروى أبو العباس
الحسني بإسناده إلى أبي سعيد الخدري قال : لما نزل قوله تعالى : (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) : دعا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فاطمة وأعطاها فدكا.
__________________
وروى أيضا بإسناده
إلى جعفر بن محمد عن أبيه : أن فدكا سبع قريّات متّصلات حدّ منها ممّا يلي وادي
القرى غلتها في كل سنة (ثلاث مائة ألف دينار) أعطاها النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم فاطمة عليهاالسلام قبل أن يقبض بأربع سنين ، وكانت في يدها تحتمل غلتها وعبد
يسمّى جبيرا وكيلها ، فلما قبض رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أنفذ أبو بكر رجلا من قريش بعد خمسة عشر يوما فأخرج وكيل
فاطمة [من فدك].
قال أبو العباس :
وأخبرنا علي بن الحسين بإسناده عن عبد الله بن الحسن عليهمالسلام أنه أخرج وكيل فاطمة عليهاالسلام من فدك وطلبها بالبينة بعد شهر من موت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ... إلى قوله : فكتب لها صحيفة وختمها فأخذتها فاطمة
فاستقبلها عمر فقال : يا بنت محمد : هلمّي الصحيفة ، فنظر فيها وتفل فيها ومزقها.
[ومثل هذه الرواية
: ذكر الأمير الحسين في الشفاء (يعني تمزيقها)].
وروى صاحب كتاب
المحيط بالإمامة بإسناده إلى عبد الله بن الحسن : أن أبا بكر أخرج وكيل فاطمة من
فدك وطلبها بالبيّنة بعد شهر من موت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فجاءها وكيلها فقال : أخرجني أبو بكر ، فسارت فاطمة إلى
أبي بكر ومعها أم أيمن ونسوة من قومها فقالت : فدك بيدي أعطانيه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال : يا بنت محمد : أنت عندنا مصدّقة إلّا أن عليك
البينة ، فقالت : يشهد لي علي بن أبي طالب وأم أيمن ، فقال : هاتي فشهدا وكتب لها
صحيفة وختمها فأخذتها فاطمة فاستقبلها عمر فقال : يا بنت محمد هات الصحيفة فأخذها
ونظر فيها فتفل فيها وخزّقها ، واستقبلها عليّ عليهالسلام فقال : (يا بنت محمد ما لك غضبانة؟ فذكرت له ما صنع عمر
فقال : ما ركبوا من أبيك ومنّي أكبر من هذا).
قال : فمرضت فجاءا
يعودانها فلم تأذن لهما ، فجاء أمير المؤمنين إليها من الغد وبلغهما أنّ عليّا عليهالسلام عندها فتشفّعا به إليها فأذنت لهما فدخلا فسلّما فردّت
عليهما سلاما ضعيفا ثم قالت : سألتكما بالله الّذي لا إله إلّا هو هل سمعتما رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
يقول : «من آذى
فاطمة فقد آذاني»؟
فقالا : نعم ،
فقالت : فأشهد أنكما قد آذيتماني.
وروي أيضا بإسناده
عن جابر عن أبي جعفر مثله ، وزاد : فسألته فدكا فقال : إنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : «إنّا معاشر الأنبياء لا نورث» فقالت : قد قال الله
تعالى : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ
داوُدَ) فلما خصمته أمر من يكتب لها ... إلى آخره سواء.
قال الفقيه حميد
الشهيد رحمهالله : وقد تقرر في الأخبار : أنّ الله يغضب لغضب فاطمة ويرضى
لرضاها.
ومتى كان الخبر
مقطوعا به كان الحال في عصمتها جليّا ظاهرا.
قلت : وإجماع
العترة عليهمالسلام وشيعتهم على عصمتها وقد كثرت الأخبار في ذلك وأنّ الله
يغضب لغضبها.
«وأيضا :» فإن أبا بكر في بعض الروايات «اعتمد
على خبره» الذي رواه هو وزعم أن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
قاله وهو : «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما خلّفناه صدقة».
«مع احتمال أن يكون معناه» لو فرضنا
صحته : «أن الصدقة» أي «الزكاة التي لا تحلّ لبني هاشم غير موروثة بل تصرف في
مصارفها» وإن كان النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم
قد قبضها فكيف يصحّ الاحتجاج به مع هذا الاحتمال ونجعله ناسخا لعموم آية المواريث
والآيات المصرّحة بإرث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
وأيضا : روي في
كتب التواريخ وغيرها من كتب أهل البيت عليهمالسلام : أنّ عليّاعليهالسلام : قبض ما خلفه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم من دوابه وسلاحه وجميع آلاته حتى أنها بقيت منطقة كان
ينتطق بها رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وقت الحرب فأخذها عليّ عليهالسلام. وكذلك فإنها وردت هدايا لرسول الله صلىاللهعليهوآله
__________________
وسلّم بعد موته
فأخذها علي عليهالسلام.
فما الفرق بين ذلك
وبين فدك .
وقد أورد ابن أبي
الحديد اعتراضا واضحا على أبي بكر في قبض عليّ عليهالسلام الأدرع والأفراس ونحوها.
إن قيل : إنّ ما
ذكرتموه قد روي أن النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم كان قد أعطاه عليّا عليهالسلام في حياته.
قلنا : إن صحّ ذلك
فإنّما أعطاه على سبيل الإرث خوفا من اغتصابه بعده صلىاللهعليهوآلهوسلم يدل على ذلك آخر الخبر وهو قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «اقبضه في حياتي لا ينازعك فيه أحد بعدي».
ولأنه صلىاللهعليهوآلهوسلم أجلّ وأعظم من أن يزوي أحدا من خلق الله سبحانه ميراثه
ويظلمه حقّه ، وممّا يدل على بطلان هذا الخبر : ردّ عمر بن عبد العزيز فدكا إلى
أولاد فاطمة وذلك أنه لمّا ولي معاوية أقطع مروان ثلثها بعد موت الحسن عليهالسلام ، فلم يزالوا يتداولونها حتى خلصت لمروان أيام خلافته فوهبها
لعبد العزيز ابنه فوهبها لابنه عمر فلما ولي الخلافة كانت أول مظلمة ردّها فكانت
بيد أولاد فاطمة مدة خلافته فلما ولي يزيد بن عاتكة قبضها منهم فصارت في أيدي بني
مروان كما كانت فلمّا ولي السّفاح ردّها على عبد الله بن الحسن ، ثم قبضها أبو
جعفر المنصور حتى ولي المأمون فردّها على الفاطميين ، ثم قبضها المتوكل فأقطعها
بعض عماله ثم ردّها المستنصر على أولاد فاطمة. ذكره المسعودي والنهرواني في
تاريخيهما.
«و» أيضا : فإن «لفاطمة عليهاالسلام
أن تعتمد على خبرها وخبر علي والحسن والحسين عليهمالسلام»
مع كون خبرهم موافقا للشريعة المطهرة غير مصادم لها وهو أنّ النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم
أنحلها
__________________
إيّاها نحلة في
حياته صلىاللهعليهوآلهوسلم.
ويكون قول هؤلاء
المعصومين إخبارا عن النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم لا شهادة.
قال عليهالسلام : «صحّ لنا ذلك» أي كون الحسنين عليهماالسلام ممّن شهد لفاطمة عليهاالسلام بالنحلة
«من رواية الهادي عليهالسلام» في
كتاب تثبيت الإمامة «وأم أيمن» رضي الله عنها ، وهي أم أسامة بن زيد ، وهي عتيقة النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وقد بشّرها النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم بالجنة فشهدت مثل شهادة علي والحسنين عليهمالسلام.
وقال الإمام
الموفق بالله : أبو عبد الله الحسين بن إسماعيل الحسني عليهالسلام في كتاب الإحاطة : وقيل : إنه شهد لفاطمة بالنحلة أبو سعيد
الخدري وقال : أشهد أن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أعطى فاطمة عليهاالسلام فدكا لمّا أنزل الله تعالى «وآت ذا القربى حقّه».
«مع أنه» أي خبرها عليهاالسلام المتضمن للنحلة الذي أكدته بشهادة من تقدم ذكره «نص
صريح»
فيما ادّعت «لا
يحتمل التأويل»
بخلاف خبر أبي بكر
فإنه لو صحّ لاحتمل التأويل كما مرّ.
«ثم» مع ذلك «لا» يصحّ أن «يكون» أبو
بكر هو «الأولى» من فاطمة عليهاالسلام
«بترجيح دعواه» دونها «لأنهما متنازعان كل» منهما «يجر إلى نفسه ، مع أن الخبرين» خبر
فاطمة عليهاالسلام وخبر أبي بكر «لا يكذب أحدهما الآخر» فيصحّ الجمع بينهما «لأن
خبره يتضمن عدم استحقاقها الإرث بزعمه ، وخبرها متضمّن لعقد» هبة «عقده لها رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
في حياته صلىاللهعليهوآلهوسلم
، وإذا ثبت الحكم» من أبي بكر «لنفسه بلا مرجح كما تقرر فالعقل والشرع يقضي
ببطلانه».
أمّا العقل : فلأنّه رجّح دعواه على
دعوى خصمه لغير برهان والعقل يحكم بأن ذلك ميل وجور.
وأما
الشرع : فكما تقدم من
الإجماع على أن من حكم لنفسه فحكمه باطل وإيجاب البيّنة على المدّعى عليه خلاف حكم
الشرع.
«وأيضا :» نقول : «إن خبر علي والحسن
والحسين عليهمالسلام
وأم أيمن رضي الله عنها أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم
أنحلها دليل على ذلك» أي على النحلة والهبة «لا» أنّه «شهادة يجب تتميمها» وأن لا
تجرّ إلى من شهد بها منفعة ، كما في بعض الروايات : أن أبا بكر قال لفاطمة : هات
رجلا مع الرجل وامرأة مع الامرأة ، وفي بعضها : أنه قال : إنّ عليّا يجر إليها فلا
يقبل بل يكون ذلك الخبر دليلا «كسائر ما يروى» عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم
«من الأخبار المثبتة للحقوق» فهي مقبولة مع أنه ليس للراوي هنا في هذا الخبر حق
فكيف مع كون الراوي له معصوما والمدّعي أيضا معصوما ، «ولو لم يكن» من هذه الأخبار
التي تثبت الحقوق «إلّا خبره الذي رواه عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم
وهو : أن الخليفة أولى بميراث النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم»
فإنه قبله مع أن له فيه حقّا.
قلت : ولعل الإمام
عليهالسلام أراد بهذا الخبر ما رواه أبو بكر وهو قوله : «نحن معاشر
الأنبياء لا نورث» إلّا أنه عليهالسلام حكاه بالمعنى أو ما رواه ابن بهران في تخريجه عن أبي
الطفيل.
قال : جاءت فاطمة
إلى أبي بكر تطلب ميراثها من أبيها ، فقال لها : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول «إنّ الله إذا أطعم نبيئه طعمة فهو للذي يقوم من بعده».
قال : أخرجه أبو
داود.
وروى ابن أبي
الحديد قال : روي أن فاطمة عليهاالسلام أتت إلى أبي بكر فقالت له : أنت ورثت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أم أهله؟ قال : بل أهله.
قالت : فما بال
سهم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم؟
فقال : إني سمعت
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول : «إنّ الله إذا أطعم نبيئا طعمة ثم قبضه جعلها للذي
يقوم بعده».
قال ابن أبي
الحديد : في هذا الحديث عجب لأنها قالت : أنت ورثت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أم أهله؟ قال : بل أهله وهذا تصريح بأنه صلىاللهعليهوآلهوسلم موروث يرثه أهله وهو خلاف قوله : لا
نورث «وإلّا» أي وإن لم يكن خبر علي والحسنين عليهمالسلام
وأم أيمن المتضمن إثبات حق لآدمي مقبولا لكونه دليلا لا شهادة «لزم مثل ذلك في كل
خبر يثبت حقّا لآدمي لم يتواتر نقله كحق الشفعة للجار» فكان يلزم أن لا يقبل وهو
مقبول «لأنّ كل حقّ ثبت بالسّنة لم يثبت لأحد معينا كان كفاطمة عليهاالسلام
أو غير معين كخبر الشفعة إلّا بخبر» راو «واحد أو أكثر أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
أثبته له به» أي بالخبر «لا بالشهادة» أي لا أنّ ذلك الحق يثبت بالشهادة على
النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم
حتى يعتبر فيها الاثنان أو رجل وامرأتان «إجماعا بين الناس» على ذلك.
وطريق الشهادة وطريق الأخبار مختلفان
ولو كانت الحقوق إنما تثبت بالشهادة على النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم
أنّه أثبتها لما قبل النّساء وحدهنّ ولا ما أخبر به واحد فقط أو رجل وامرأة ، «ولو
لم يكن» من هذه الأخبار التي تثبت الحقوق «إلّا خبر معاذ» بن جبل «الذي قبله أبو
بكر ، وذلك أنه» أي معاذ «قدم برقيق» أي عبيد «من اليمن» بعد وفاة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
«وهم من هدايا اليمن» أي ممّا أهدي له حال توليه في اليمن «فهمّ أبو بكر بأخذه» أي
بأخذ ذلك الرقيق «عملا بقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم»
«هدايا الأمراء غلول» أي محرّمة عليهم لأنها من قبيل الرشوة «فقال معاذ : طعمة
أطعمنيها رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم»
أي أذن لي فيها وأباحها لي «فأقرّه أبو بكر على ذلك» وصدّقه وعمل به ، «وأخذت منه»
أي من هذا الخبر «العلماء : أنه إذا أذن الإمام لعامله في الهدايا حلّت له».
فأيّ فرق بين قوله
وقول فاطمة عليهاالسلام : إن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أنحلني فدكا؟
إلّا أن فاطمة
أكدت خبرها برواية علي عليهالسلام والحسنين عليهمالسلام وأم أيمن رضي الله عنها ، وكونها وبعلها وولداها معصومين
فكيف ساغ لأبي بكر أن يقول لها : هات الشهود على دعواك ، ولم يقل لمعاذ : هات
الشهود على دعواك؟
«و» كذلك «خبر عمر : أن النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم
وعده إذا جاء مال البحرين» وهما الحساء والقطيف وما حولهما من الجهات «بكذا وكذا» كأنّه
كناية عن حثيتين «فصدّقه أبو بكر» في خبره هذا «وحثى له» أي لعمر «حثية فعدّها
فإذا هي خمس مائة درهم وقال : خذ مثلها» أي مثل هذه الخمس مائة.
وذكر رزين بن
معاوية العبدري في جامعه ما لفظه : عن جابر قال قال لي رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم «لو قد جاء مال
البحرين لأعطيتك هكذا وهكذا وهكذا» فلم يقدم حتى قبض فأعطانيه أبو بكر انتهى.
ومثله أخرج
البخاري [إلّا أنه قال : هكذا وهكذا].
وفي رواية له أيضا
: هكذا ثلاثا فأمر أبو بكر مناديا فنادى : من كان له عند النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم عدة أو دين فليأتنا فأتيته فقلت له : إنّ النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم وعدني فحثى لي ثلاثا. انتهى.
«وإذا كان خبر فاطمة عليهاالسلام
دليلا كما تقرر ثبت الحق لفاطمة عليهاالسلام»
في فدك «بالدليل لا بالشهادة ، ولم يثبت لأبي بكر لا بدليل أنه بقي» موروثا «ولم
ينحله فاطمة سلام الله عليها حتى كان الأولى به» للخبر الذي رواه «ولا بشهادة» أتى
بها على صحة دعواه وهذا «إن سلّمنا صحة خبره» وهو : «إنّا معاشر الأنبياء لا نورث
، ما خلفناه صدقة» «أو معناه» أي معنى لفظ خبره «إذ القضاء بما يثبت بالدليل حقّ ،
وبما لم يثبت به باطل عقلا وشرعا» وذلك واضح.
ولنا أيضا : تجرم
أمير المؤمنين عليهالسلام من أخذ فدك وتشجّيه من ذلك.
قال في كتابه إلى
عثمان بن حنيف : بلى قد كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلته ، السماء فشحّت عليها
نفوس قوم وسخت عنها نفوس آخرين ونعم الحكم الله تعالى ، وما أصنع بفدك وغيرها ...
إلى آخر كلامه عليهالسلام ، وهذا كلام شاك متظلّم.
«قالا» أي الإمام يحيى والإمام المهدي عليهماالسلام
: «لم ينقضه الوصيّ عليهالسلام»
حين ولي الأمر ، ولو كان حكم أبي بكر باطلا لنقضه وقبض فدكا.
«قلنا : إن سلّم» ذلك وأنه لم يتصرف في
فدك من جملة ما أمره إليه «فحقّ له ولبنيه» أي هو حق لهم «إن شاءوا أخذوه وإن
شاءوا تركوه».
وتركه عليهالسلام حقّه وحق بنيه وهو الإمام المالك للتصرف على جميع الخلق لا
يقتضي صحة حكم أبي بكر في ذلك ، لأنه الناظر في مصالح المسلمين وذلك واضح.
(فصل)
«وإمامة الحسن عليهالسلام
بعد أبيه علي عليهالسلام
بلا فصل».
«وإمامة الحسين عليهالسلام
بعد أخيه الحسن عليهالسلام
بلا فصل».
لقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا وأبوهما خير منهما».
وهذا الخبر ممّا
أجمعت الأمّة عليه. ذكره المنصور بالله عليهالسلام وغيره من أئمة أهل البيت عليهمالسلام وغيرهم وهو نص صريح في إمامتهما ، ولأنهما أفضل الأمّة بعد
أبيهما وأكملها علما وعملا وورعا ونجدة وغير ذلك ممّا يوجب لهما الإمامة من العقل
والنّقل ممّا لا يحتمله هذا الموضع.
ومع ذلك : قد
خالفت الخوارج في إمامة الحسن عليهالسلام واليزيدية في إمامة الحسين عليهالسلام :
أمّا المخالفون في
إمامة الحسن عليهالسلام : فهم أربع فرق : فرقة زعمت : أنه ليس بإمام لأنّه كفر مع
أبيه بالتحكيم ولم يتب.
وفرقة : زعمت أنه
كان إماما ثم كفر بتسليم الأمر إلى معاوية.
وفرقة : زعمت أن
معاوية هو الإمام لأنّ الحسن سلم إليه الأمر طائعا.
وهؤلاء هم
المتسمّون بأهل السنة والجماعة لتسميتهم العام الذي وقع فيه صلح معاوية عام
الجماعة.
والعام الذي أجرى
فيه معاوية سبّ عليّ كرّم الله وجهه في الجنّة في جميع الآفاق عام السّنة.
وفرقة : زعمت أن
معاوية هو الإمام لأنه غلب ، وطريق الإمامة هي الغلبة. هكذا حكاه القرشي في
المنهاج.
قلنا : أما قول من
قال إنّ الحسن عليهالسلام كفر مع أبيه : فقول صادر ممّن مرق من الدين ، وما كان كذلك
فلا يلتفت إليه لأنّ كل المسلمين لم يختلفوا في أن عليّا عليهالسلام لم يكفر ولم يفسق ، أجمع أعداؤه وأولياؤه على ذلك.
وأما صورة التحكيم
: فإن جمهور أصحابه عليهالسلام ألجئوه إليه وهو غير راض مع أن الحكمين لو حكما بحكم الله
تعالى وحكم رسوله لأوجبا له الإمامة ولمن سواه الدخول تحت طاعته ، ومن وقف على
التواريخ علم ذلك قطعا.
وأما صلح الحسن عليهالسلام لمعاوية : فإن الحسن عليهالسلام لمّا علم ضعف أصحابه وخديعة اللعين معاوية لعبيد الله بن
العباس وغيره مع ما كان يرى من خذلانهم لأبيه عليهالسلام وإقبال الناس على الدنيا ورفض الآخرة : رأى في المصالحة في
ذلك الوقت خيرا والصلح جائز للأئمة ، بل وللأنبياء صلوات الله عليهم.
وقد علم النّاس كافة
أنه عليهالسلام طعنه الجرّاح بن سنان الأسدي في مظلم ساباط من أرض المدائن
بالخنجر في فخذه فوجأه به حتى خالط
أربيته فقال الحسن
عليهالسلام : أقتلتم أبي بالأمس ووثبتم عليّ اليوم زهدا في العادلين
ورغبة في القاسطين والله لتعلمنّ نبأه بعد حين ، فمرض عليهالسلام شهرين.
وروي من غير جهة :
أن الحسين عليهالسلام قال للحسن عليهالسلام : أجادّ أنت فيما أرى من موادعة معاوية؟
قال : نعم ، قال :
إنّا لله وإنّا إليه راجعون ثلاثا ، فقال الحسن : إنّي أذكّرك الله يا أخي أن تفسد
عليّ ما أريد وتردّ عليّ أمري ... إلى أن قال : إنّا اليوم يا أخي في سعة وعذر كما
وسعنا العذر يوم قبض نبيئنا صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فسكت الحسين عليهالسلام.
وأمّا من قال :
بإمامة معاوية لأجل الغلبة أو لأجل تسليم الحسن عليهالسلام له حقّه : فمعاوية لا يشتبه فيه الحال عند المسلمين أنه لا
يصلح للإمامة لكفره وفسقه وعدم إذن الشارع له بالإمامة وأن تسليم الحسن عليهالسلام له ليس إلّا على وجه الإكراه والغلبة وذلك لا يصلح طريقا
إلى الإمامة.
وكذلك القول مع من
ذهب إلى إمامة يزيد بن معاوية بنص أبيه عليه وبغلبته للحسين عليهالسلام.
قالت «العترة» عليهمالسلام
«والشيعة : والإمامة بعد الحسين عليهالسلام
: في سائر العترة عليهم» «السلام فقط» دون غيرهم من سائر الناس.
وقال «سائر الفرق : بل وفي غيرهم على
اختلاف الآراء كما مرّ» من حكاية أقوالهم في ذكر المنصب.
«قلنا» الإمامة اختصاص من الله سبحانه
لبعض من الخلق معيّن موصوف معلوم لهم لتثبت به الحجة ويحصل المقصود من قيامة كما
قد تكرر ذكره ، ولم يرد ذلك إلّا في العترة عليهمالسلام
و «لا دليل عليها» أي الإمامة «في غيرهم» كما مرّ ذكره.
«ولنا» تأكيد لقولنا : الكتاب والسّنة
والإجماع وحجة العقل.
أمّا الكتاب :
فقوله تعالى في إبراهيم عليهالسلام (إِنِّي جاعِلُكَ
لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) .
ووجه الاستدلال
بها : أنه قد وقع الإجماع على إجابة دعوة إبراهيم عليهالسلام إلّا من استثناه الله تعالى من أهل الظلم من ذريته ولم تقع
العصمة بعد أهل الكساء إلّا لجماعة العترة عليهمالسلام من جملة ولد إبراهيم عليهالسلام فكانوا أهلا للإمامة بتأهيل الله لهم.
وهذه الآية دالّة
على إمامة العترة عليهمالسلام كما هي دالّة أيضا على إمامة علي والحسنينعليهمالسلام لأنه قد ثبت أنّ الأفضل أولى بالإمامة من المفضول.
فإن قيل : إن
جماعة الأمّة أيضا معصومة فهلّا كانت الإمامة فيهم كافة؟
قلنا : إنما كانت
جماعة الأمّة معصومة لدخول العترة عليهمالسلام في جملتهم لما تقدم ذكره في إجماعهم من الحجة على ذلك ولما
سيأتي إن شاء الله تعالى.
فإن قيل : فيلزم
من هذا أن يجب أن يكون الإمام معصوما [ولم يشترطوا ذلك]؟
قلنا : لا يلزم
ذلك لأن المعصوم لا طريق إليه إلّا الوحي ، ولم يرد الوحي بعصمة رجل بعينه بعد أهل
الكساء عليهمالسلام ، فلو شرطت العصمة لبطلت الإمامة أصلا والله أعلم.
ولنا من الكتاب
أيضا : قوله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا
الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ، وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ
اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ
إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ
الرَّسُولُ شَهِيداً
__________________
عَلَيْكُمْ
وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) أي : ولاة وحكّاما على الناس كما كان الرسول كذلك.
وقوله تعالى : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ
اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ
وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) .
وهاتان الآيتان
مختصتان بالعترة عليهمالسلام.
والسابق بالخيرات
: هو الإمام الشاهر سيفه في جهاد أعداء الله.
وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) والمراد بأولي الأمر هم الذين قد علمتموهم بصفاتهم التي لا
تخفى عليكم على لسان نبيئكم ، لأنّ الله سبحانه لا يأمر إلّا بطاعة معلومة كما
كانت طاعة الله وطاعة رسوله معلومة.
وروى الإمام
الناصر عليهالسلام عن جعفر بن محمد عليهماالسلام لمّا سأله أبو مريم عن ذلك فقال : هم علي والحسن والحسين
وذريتهما عليهمالسلام. ذكر ذلك أبو القاسم البستي في كتابه الباهر. وقوله تعالى
: (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي
أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) روى الحاكم أبو القاسم الحسكاني رحمهالله بإسناده إلى جعفر بن محمد عليهماالسلام قال : هي ولايتنا أهل البيت لا ينكرها أحد إلّا ضالّ ، ولا
ينتقص عليّا إلّا ختّال.
«و» أما السّنّة فمنها : «قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم»
: «إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلوا من بعدي أبدا ... الخبر» تمامه : «كتاب
الله وعترتي أهل بيتي ، إن اللطيف الخبير نبّأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ
الحوض».
__________________
وأولاد الحسنين عليهمالسلام هم عترته كما مرّ تحقيقه ، والخبر مفيد للإمامة لأنّ
المعنى أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم : ترك في أمّته من يقوم مقامه فيما تحتاج إليه الأمّة ،
وأن الله سبحانه قد أخبره أن العترة لا تفارق الكتاب إلى يوم القيامة ففيه دلالة
على عصمة العترة عليهمالسلام وعلى إمامتهم لأنه لا معنى لتركهم في أمّته إلّا لكونهم
قائمين مقامه في معنى الإمامة ، وكونهم شهداء على الناس وعلى أنه لا تخلو الأرض من
مجتهد منهم صالح للإمامة لئلّا تبطل حجج الله سبحانه.
ولقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم
«لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض» «وهو» أي هذا الخبر «متواتر مجمع على صحته» عند
المخالف والمؤالف.
ولو كانت الإمامة
جائزة في غير العترة عليهمالسلام لبطل معنى هذا الخبر.
«وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم»
: «مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق وهوى ، ومن
قاتلنا آخر الزمان فكأنّما قاتل مع الدجال».
«وهذا الخبر أيضا لا خلاف في صحته بين
علماء آل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
وشيعتهم وأهل التحقيق من غيرهم».
«وبيان الاستدلال بهما : أنهما نصّ في
وجوب تقديم العترة عليهم» «السلام» على جميع الناس «في جميع أمور الدين ومن جملتها
الإمامة» بل هي معظم الدين وأكبره ، ولأنّ الإمام يهدي أمّته إلى الرشاد كالسفينة
فهم الهادون والمتّبعون ولو كانت الإمامة في غيرهم لكانوا تابعين لذلك الغير
منقادين له ولم يكونوا كسفينة نوح بل يكون ذلك الغير كسفينة نوح وبطل معنى الخبر.
«وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم»
: «ومن قاتلنا آخر الزمان فكأنما قاتل مع الدجال» «إشعار آخر بالإمامة» لأنّ
المعنى : أن من نازع أهل البيت عليهمالسلام
في الإمامة وبغى عليهم بالمقاتلة فكأنما قاتل مع الدجال.
«و» لنا أيضا : «ما تواتر معنى» أي
تواتر معناه وإن اختلف اللفظ «من رواية المؤالف والمخالف من الأخبار المنبئة
بالإمامة نحو قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «من سمع واعيتنا أهل البيت ولم يجبها كبّه الله على منخريه في قعر جهنم».
ورواية الهادي عليهالسلام : «من سمع واعيتنا أهل البيت فلم ينصره لم يقبل الله له
توبة حتى تلفحه جهنم» والواعية : الصوت المؤذن بالقتال.
والمراد : من سمع
دعوة داعي أهل البيت عليهمالسلام لأن دعوته للناس إلى إجابته مؤذنة بالقتال.
ومن ذلك : ما رواه
الهادي عليهالسلام أن النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم قال «من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر من ذريتي فهو خليفة
الله في أرضه وخليفة كتابه وخليفة رسوله».
وروى الإمام
المنصور بالله عليهالسلام في الشافي عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم أنه قال «إن عند كل بدعة تكون من بعدي يكاد بها الإسلام : وليّا
من أهل بيتي موكّلا يعلن الحق وينوره ويرد كيد الكائدين فاعتبروا يا أولي الأبصار
وتوكلوا على الله».
وروى الإمام أحمد
بن سليمان عليهالسلام في حقائق المعرفة عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أنه قال : «ما بال أقوام من أمّتي إذا ذكر عندهم آل
إبراهيم استبشرت قلوبهم وتهلّلت وجوههم وإذا ذكر أهل بيتي اشمأزّت قلوبهم وكلحت
وجوههم ، والذي بعثني بالحق نبيئا : لو أنّ الرجل منهم لقي الله بعمل سبعين نبيئا
ثم لم يلقه بولاية أولي الأمر من أهل بيتي ما قبل الله عزوجل منه صرفا ولا عدلا» وما رواه في كتاب الحكمة الدرية عن
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أنه قال : «إنّ الله تعالى جعل عليّا لي وزيرا إلى قوله :
وهو وهما والأئمة من بعدهما من ولدهما حجج الله على خلقه».
__________________
وروى صاحب المحيط
بإسناده إلى فضل بن الزبير قال : سمعت زيد بن علي عليهماالسلام يقول : (كل راية رفعت ليست لنا ولا تدعي إلينا فهي راية
ضلالة).
وروى العنسي عن
زيد بن علي عليهماالسلام أنه قال : (حق علينا أهل البيت إذا قام الرجل منّا فدعا
إلى كتاب الله وسنّة رسول الله وجاهد على ذلك فاستشهد ومضى : أن يقوم آخر يتلوه
يدعو إلى ما دعا إليه حجّة الله عزوجل على أهل كل زمان إلى أن تنقضي الدنيا).
وروى صاحب المحيط
أيضا بإسناد رفعه إلى سفيان بن خالد الأعشى قال : دخل نفر من أهل الكوفة على زيد
بن علي عليهماالسلام.
فقالوا : يا بن
رسول الله : أنت المهدي بلغنا أنه يملؤها عدلا؟
قال : لا ، قالوا
: فنخشى أن تكون علينا مفتاح بلاء.
قال : ويحكم وما
مفتاح بلاء؟ قالوا : تهدم دورنا وتسبى ذرارينا ونقتل تحت كل حجر.
قال : ويحكم أما
علمتم أنه ما من قرن ينشو إلّا بعث الله منّا رجلا أو خرج منّا رجلا حجة على ذلك
القرن علمه من علم وجهله من جهل.
وغير ذلك من الأخبار المنبئة بالإمامة
كثير تركناها اختصارا «و» أما حجة «الإجماع» فقد وقع «من طوائف الأمّة على صحتها» أي
الإمامة «فيهم» أي في العترة عليهمالسلام
وادّعى بعض : تشريك غيرهم وهو باطل بما مرّ من أنها لا تكون إلّا بدليل شرعي وإذن
من الله سبحانه لمن يقوم بها ، ولم يأذن بها لغيرهم ، ولما تقدم ذكره من الأخبار
المشيرة بالحصر ولإجماع العترة المعلوم على حصر الإمامة فيهم دون غيرهم من سائر
الناس ، وإجماعهم حجة قطعية كما سبق تحقيقه.
وأمّا دعوى
الإمامية باختصاصها لمعيّنين من أولاد الحسين عليهالسلام : فهي باطلة لا أصل لها كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
قال المنصور بالله
في شرح الرسالة الناصحة : ولم نعلم بين العترة
الطاهرة اختلافا
في ثبوت الإمامة لمن قام من ولد أحد البطنين الطاهرين الحسن والحسين عليهماالسلام وهو جامع لخصال الإمامة إلى أيّام المأمون وتصنّع في عمل
مذهب الإمامية يريد بذلك فرق الشيعة والعترة انتهى.
قال في المحيط :
فإن قيل : أليس قد ذهب بعض الناس إلى أن الإمامة تصحّ في جميع أولاد عليّ عليهالسلام مع ترك القول بالنص فلم ادّعيتم إطباق من لا يقول منهم
بالنص على ما ذهبتم إليه فجوابنا : أن الذي نصّ [على] هذا القول لا يعتد بخلافه
لأنه أحدث هذا القول بعد سبق الإجماع والإطباق على ما ذكرناه فهو من الشواذ التي
يحكم بسقوطها ، على أنا لا نعلم أن القائل بهذا القول هل كان بلغ في العلم المبلغ
الذي يعتد بخلافه لو خالف في الموضع الذي يسوغ فيه الخلاف فكيف إذا خالف بعد
الإجماع؟ انتهى.
قلت : وقد أجبنا
على صاحب هذا القول فيما سبق عند ذكر المنصب وأما حجة العقل فهي : أن الله سبحانه
بعث الرسل لحاجة الخلق إليهم والإمامة فرع النبوءة كما سبق ذكره فلا يجوز أن تكون
بعد النبوءة إلّا في موضع مخصوص معروف للخلق وإلّا فسد التدبير وضاع الخلق.
وكما أن النبوءة
لا تكون إلّا في أرفع المواضع وأشرفها فكذلك الإمامة لا تكون إلّا في أرفع المواضع
وأشرفها وهو معدن الرسالة لتكون أقطع للحجة وأبلغ في المعذرة ، ولا أقرب إلى
النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم من أولاده وذريته مع ما خصّهم الله به من الشرف والفضل
فكانوا أحق بالإمامة من غيرهم ، وفيما ذكرناه إن شاء الله تعالى كفاية لمن أراد
الفائدة.
والأدلّة على
اختصاص العترة عليهمالسلام بالإمامة كثيرة مذكورة في الكتب البسيطة المرفوضة في هذا
الزمان.
«وأما خلاف ابن الراوندي» حيث قال : إن
الإمامة تستحق بالميراث وأنها لبني العباس دون غيرهم : «فلا يعتد به لأنّ الإجماع
قد سبقه ولخروجه من الأمّة باشتهار زندقته» أي كفره وإلحاده إذ قد رويت عنه أنواع
من الكفر قد ذكرنا بعضها في الشرح.
قال «أئمتنا عليهم» «السلام وشيعتهم :
وطريقها» أي الإمامة أي الطريق إلى كون الشخص إماما تجب طاعته «بعد الحسنين عليهماالسلام:
القيام والدّعوة»
ممّن جمع شرائطها
التي تقدم ذكرها.
ومعنى ذلك أنّه
ينصب نفسه لمحاربة الظالمين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويشهر سيفه وينصب
رايته ويبث الدّعاة للناس إلى إجابته ومعاونته وعلى هذا إجماع العترة عليهمالسلام وشيعتهم رضي الله عنهم وقالت «الإمامية
: بل» طريقها «النص».
قالوا : والنص على
وجهين : جملي وتفصيلي :
أمّا الجملي : فقول الرسول بزعمهم «الأئمة من بعدي بعدد نقباء بني إسرائيل».
وأمّا التفصيلي : فما رووه بزعمهم أنّ النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم نصّ عليهم بأعيانهم وهم : علي بن أبي طالب عليهالسلام والحسنان ، وعلي بن الحسين ، ومحمد بن علي الباقر ، وجعفر
الصادق ، وموسى بن جعفر ، وعلي بن موسى الرضى ، ومحمد بن علي ، وعلي بن محمد ،
والحسن بن علي العسكري ، والمنتظر وهو محمد بن الحسن بزعمهم.
قال العنسي :
ولمّا مات الحسن العسكري سنة (ستين ومائتين) بسامرّا ولم يخلف ولدا اختلط أمرهم.
قال في المحيط :
وادّعت بعض جواريه الحمل فبقيت معدّلة أربع سنين فلم يظهر بها حبل ولا ولد ، وفي
أثناء هذه الأيام انتدب رجل سمّان يعرف بالعمري فادّعى أن للحسن ابنا وأنه وكّله ،
وساعده على ذلك طائفة من جملة هؤلاء الحشوية واعتزل عن جملته أكثر فقهاء القطعيّة
في ذلك الزمان فافترقوا على خمس عشرة فرقة وكان أكثر تلك الفرق أنه لم يثبت للحسن
بن علي ولد ، ومنهم من وقف عليه كما وقفت الواقفية على موسى بن جعفر ومنهم من رجع
إلى إمامة محمد بن علي ، ومنهم من لحق بالقطعيّة وصاروا فرقا.
واختلفت فرقة
السّمان في اسم الولد ، فمنهم من زعم أن اسمه علي ومنهم من زعم أن اسمه محمد ،
ومنهم من زعم أنه لا يسمّى ولا يذكر واختلفوا في وقت ولادته أيضا وفي أمّه أيضا :
فمنهم من زعم أنه ولد من جارية اسمها نرجس ، ومنهم من زعم أنه من الجارية المعدّلة
وأنّ الله أخفى خبره عن ذلك القاضي الذي عدّلت عنده ورفعه إلى السماء كما رفع عيسى
بن مريم عليهالسلام.
ومنهم من زعم أن
ذلك القاضي عرف خبره لكنه كتمه لمّا كان أخذ من ماله. إلى غير ذلك من الاختلاف
والهذيان.
وفرقة زعمت أن
الإمامة بعد الحسن العسكري لأخته قالوا : إمامة النساء جائزة. انتهى ما في المحيط.
«قلنا :» ردّا على الإمامية : «لا نصّ على
رجل بعينه فيمن عدا الثلاثة» الذين هم علي والحسنان عليهمالسلام
«وإلّا كان مشهورا» أي وإن لم نقل بعدم النص فيمن عدا الثلاثة لكان يجب أن يكون
ذلك النص المدّعى مشهورا يعلمه كل الناس كما كان في الثلاثة كذلك «لأنه ممّا تعمّ
به البلوى علما وعملا» كما تكرر ذكره فوجب اشتهاره «للإجماع على وجوب اشتهار ما
شأنه كذلك كالصلاة» والصوم والحج ونحوها من أصول الشرائع والإمامة من أعظم مسائل
الأصول كما تكرر ذكره.
واعلم : أن بين
الإمامية اختلافا شديدا في هذا الاختلاق والافتراء على الله سبحانه وعلى رسوله
وعلى هؤلاء الذين سمّوهم أئمة قائمين بأمور العباد والجهاد وإن كانوا أئمة في
العلم والهدى والدين والتّقى صلوات الله عليهم ورحمته وبركاته.
ولو علم هؤلاء
الأئمة ما نسب إليهم هؤلاء الجهّال المغترون بأقوال الزور والمحال لتبرءوا ممّا
نسبوه إليهم.
قال الهادي عليهالسلام : وروي عن جعفر الصادق عليهالسلام لمّا جاءه خبر قتل عمّه زيد وأصحابه أنه قال : ذهب والله
زيد كما ذهب علي ابن أبي طالب والحسن والحسين وأصحابهم شهداء إلى الجنة التابع لهم
مؤمن والشّاك فيهم
ضالّ والرادّ عليهم كافر ، انتهى وإنّما فرّق بين زيد وجعفر قوم كانوا بايعوا زيد
بن علي فلما بلغهم أن سلطان الكوفة يطلب من بايع زيدا ويعاقبهم خافوا على أنفسهم
فخرجوا من بيعة زيد ورفضوه مخافة من هذا السلطان ثم لم يدروا بم يحتجّون على من
لامهم وعاب عليهم فعلهم فقالوا : بالوصية حينئذ فقالوا : كانت الوصية من علي بن
الحسين إلى ابنه محمد ومن محمد إلى جعفر ليموّهوا به على الناس فضلّوا وأضلّوا
كثيرا وتبعهم على قولهم من أحب البقاء وترك الجهاد في سبيل الله ، ثم جاء قوم من
بعد أولئك فوجدوا كلاما مرسوما في كتب ودفاتر فأخذوا بذلك من غير تمييز ولا برهان بل كابروا عقولهم ونسبوا فعلهم هذا
إلى الأخيار منهم من ولد الرسول عليه وعليهمالسلام كما نسبت الحشوية ما روت من أباطيلها وزور أقاويلها إلى
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ليثبت لهم باطلهم على من اتخذوه مأكلة لهم وجعلوهم خدما
وخولا ... إلى قوله عليهالسلام : وكذلك هؤلاء الذين رفضوا زيد بن علي وتركوه ثم لم يرضوا
بما أتوا من الكبائر حتى نسبوا ذلك إلى المصطفين من آل الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فلما كان فعلهم على ما ذكرناه سمّاهم حينئذ روافض ورفع
يديه فقال : (اللهم اجعل لعنتك ولعنت آبائي وأجدادي ولعنتي على هؤلاء الذين رفضوني
وخرجوا من بيعتي كما رفض أهل حرورا علي بن أبي طالب عليهالسلام حتى حاربوه).
فكان هذا خبر من
رفض زيد بن علي وخرج من بيعته.
قال عليهالسلام : وروي عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أنه قال لعلي «يا عليّ : إنه سيخرج قوم في آخر الزمان لهم
نبز يعرفون به يقال لهم : الرافضة ، فإذا أدركتهم فاقتلهم فإنهم مشركون فهم لعمري
شر الخلق والخليقة».
قال عليهالسلام : فأمّا الوصية فكل من قال بإمامة أمير المؤمنين ووصيته
فهو يقول بالوصية على معنى أن الله عزوجل أوصى بخلقه على
__________________
لسان النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى علي بن أبي طالب عليهالسلام والحسن والحسين وإلى الأخيار من ذرية الحسن والحسين ،
أوّلهم علي بن الحسين وآخرهم المهدي ثم الأئمة فيما بينهما ، وذلك أن تثبيت
الإمامة عند أهل الحق في هؤلاء الأئمة من الله عزوجل على لسان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فمن ثبّت الله فيه الإمامة واختاره واصطفاه وبيّن فيه صفات
الإمام فهو إمام عندهم مستوجب للإمامة لقول النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم «من أمر بالمعروف
ونهى عن المنكر من ذريتي فهو خليفة الله في أرضه وخليفة كتابه وخليفة رسوله».
قال : (من ذريتي)
فولد الحسن والحسين من ذرية النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ثم قال : «عليكم بأهل بيتي فإنهم لن يخرجوكم من باب هدى
ولن يدخلوكم في باب ردى» انتهى كلام الهادي عليهالسلام.
وروى صاحب المحيط
بإسناد رفعه إلى أبي الطيب أحمد بن محمد بن فيروز الكوفي قال : حدثنا يحيى بن
الحسين بن القاسم بن إبراهيم عليهمالسلام.
قال : حدثني أبي
عن أبيه قال : لما ظهر زيد بن علي ودعا الناس إلى نصرة الحق فأجابته الشيعة وكثير
من غيرهم : قعد قوم عنه وقالوا له : لست الإمام ، فقال : فمن؟
قالوا : ابن أخيك
جعفر ، فقال لهم : إن قال جعفر هو الإمام فقد صدق فاكتبوا إليه وسلوه : فقالوا :
الطريق مقطوعة ولا نجد رسولا إلّا بأربعين دينارا ، فقال : هذه أربعون دينارا
فاكتبوا إليه وأرسلوا ، فلما كان من الغد أتوه فقالوا : إنّه يداريك ، قال ويلكم
إمام يداري من غير بأس أو يكتم حقّا أو يخشى في الله أحدا.
اختاروا : إمّا أن
تقاتلوا معي وتبايعوني على ما بويع عليه عليّ عليه
__________________
السلام والحسن
والحسين عليهماالسلام أو تعينوني بسلاحكم وتكفّوا عنّي ألسنتكم.
قالوا : لا نفعل ،
فقال : الله أكبر أنتم والله الروافض الذين ذكر جدي رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : «سيكون من بعدي قوم يرفضون الجهاد مع الأخيار من أهل
بيتي ويقولون ليس عليهم أمر بمعروف ولا نهي عن منكر يقلّدون دينهم ويتبعون أهواءهم»
انتهى.
وقال الدامغاني في
رسالته في شأن الإمامية ما لفظه : فمنها : أن كتب أهل المقالات اتفقوا أنهم لم
يأخذوا مذهبهم عن أئمتهم ولا عن الثقات وإنّما هو موضوع وضعه المنصور أبو الدوانيق
بعد قتل محمد بن عبد الله النفس الزكيّة وأخيه إبراهيم وعدّة من فضلاء العلوية ،
فظنّ أبو الدوانيق أنه لا يزال يخرج إليه قائم منهم بالخلافة فأعمل الحيلة ورأى
جماعة من الشيعة تنكر قيام القائم بالإمامة وتعتقد أن إمامها منصوص عليه وأنّه
غائب وهم الكيسانية فلاحت له الحيلة وبعث إلى الأقطار التي يظن أن فيها من جهّال
الشيعة من تطرأ عليه الشبهة ، وأمر ببثّ هذا المذهب فيهم وصنع لهم نسخة وجعلها مع
بعض أتباعه وأمرهم بإظهار التشيّع وإلقائها إلى جهّال الشيعة ، ومضمون ما في
النسخة :
(إنّ بني إسرائيل
كان لهم اثنا عشر نقيبا وبعد عيسى اثنا عشر في أمّته ، وأن جبريل أتى بلوح فيه
أسماء الخلفاء على الأمّة وأنهم اثنا عشر بعد محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فقد مضى منهم خمسة إلى جعفر الصادق ، وهذا جعفر سادسهم
لما علم أن جعفرا متزهّد ، والستة الباقون من ولده).
فاعتقد الجهال
منهم ذلك المذهب.
ولما سمع به جعفر
الصادق أنكر ذلك على الشيعة ، فأبوا وقالوا : إنّ جعفرا ينكر علينا تقيّة على نفسه
، فاستمروا على ذلك وكل من ادّعى الخلافة بعد هذا يكونون أعداء الأعداء له وأحرص
الناس على إتلافه وأخذل الناس له لاعتقادهم أن النص في غيره ، وحصل بذلك مراد أبي
الدوانيق لعنه
الله. انتهى.
وقال الحاكم في
السفينة : وعن بشير المنهال قال : كنت جالسا عند الصادق فقلت: إنّي تركت فلانا في
الطواف يتبرأ من عمّك.
فقال : أنت سمعته (ثلاثا)
فقلت نعم ، فطلع الرجل فقال له جعفر أنت تبرأ من عمّي؟ قال : أوليس قد سبق الإمام؟
فقال له جعفر :
برئ الله منك برئ الله منك إن نتبع إلّا أثر عمّي زيد ، إن علم عمّي لينهال انهيال
الكثيب ما نظر أحد إلى عمّي شامتا إلّا كفر أو كان كافرا.
وقال فيها أيضا :
عن جابر عن أبي جعفر قال : ليس منّا إمام تفترض طاعته أرخى عليه ستوره والناس يظلمون خلف بابه ، إنّما
الإمام المفترض طاعته منّا : من شهر سيفه ودعا إلى سبيل الله. انتهى.
وقالت «المعتزلة وغيرهم» كالأشعرية ومن
وافقهم : «بل» طريق الإمامة «العقد» للإمام «والاختيار» له من فضلاء الحاضرين فمتى
عقد له واختير ثبتت إمامته. واختلفوا في عدد العاقدين :
فقال الشيخان
والقاضي وجمهور المعتزلة : لا بدّ من خمسة كما في العاقدين لأبي بكر وهم : عمر
وأبو عبيدة وعبد الرحمن بن عوف وأسيد بن حضير وبشير بن سعد.
وقيل : سالم مولى
أبي حذيفة مكان عبد الرحمن.
وقيل : ستة كالذين
نصبهم عمر للشورى.
وقيل : أربعة منصب
أكبر الشهادة.
وقيل : ثلاثة لقول
عمر في الشورى : فإن اجتمع ثلاثة وثلاثة فالحق مع الثلاثة الذين فيهم عبد الرحمن.
وقيل : اثنان كسائر
الشهادات.
__________________
وكل هذه الأقوال
هوس وخرافات لا يلتفت إليها إلّا من عظم جهله لأنه لا أصل لذلك في الدين إلّا ما
جرى في بيعة أبي بكر وعمر وعثمان من التخاليط.
قال عليهالسلام في الردّ عليهم :
«قلنا : لم يثبته الشرع لفقد الدليل على ثبوته».
وأمّا بيعة أبي
بكر : فإنما كانت فلتة من غير رضى من أفاضل الناس.
وبيعة عمر كانت
بالوصية من أبي بكر من غير عقد أحد له ولا رضى من الناس لأنه استخلفه مع كراهة
الأكثر من الناس.
وبيعة عثمان :
كانت بالحيلة من عمر وعبد الرحمن بن عوف.
(تنبيه)
اعلم : أنه يلحق
بما تقدم من الكلام في الإمامة مسائل :
الأولى
: هل يجوز أن يقوم
إمامان في وقت واحد؟
فالذي صرّح به أهل
المذهب : أنه لا يجوز لما لا يؤمن من الفساد والاختلاف والتنازع بخلاف النبوّة
فإنه لا يجوّز فيها ذلك للعصمة ولوقوف النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم على الوحي لا سيما فيما شأنه الاختلاف.
وقال الناصر عليهالسلام : لو يخرج اثنان أو ثلاثة من ولد فاطمة عليهاالسلام صالحون يدعون إلى الله تعالى متفرقين متبعين أمر الله
تعالى آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر : كان الواجب على من قاربهم وسمع دعاءهم
إجابة من قرب منه منهم وعونه بالمال والنفس فإذا تبيّن لهم الأفضل بعد ذلك وجب على
المفضول تسليم الأمر له حكى ذلك عنه عليهالسلام صاحب المحيط.
وقال الحسن بن
يحيى بن الحسين بن زيد بن علي عليهمالسلام في الجامع الكافي : أجمع آل الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم أنه جائز أن يدعوا جماعة متفرقون أو مجتمعون ويعقد كل [واحد]
في كل ناحية هذا
العقد على النصرة
والقيام بأمر الله تعالى على كل من حضر قائما بأمر الله بأن ينصره بقدر الطاقة ،
فإذا ظهر أمر الله تعالى فآل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم الأتقياء العلماء أعلم بالرّضى منهم.
قال الحسن بن يحيى
عليهالسلام : فإن زعم زاعم أنه لا يصلح أن يكون لإمام إلّا واحدا فإن
النبوّة أعظم قدرا عند الله من الإمامة قال الله عزوجل (إِذْ أَرْسَلْنا
إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ) .
وقال عزوجل : (وَداوُدَ
وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ) وقال لموسى وهارون (اذْهَبا إِلى
فِرْعَوْنَ) .
وكان إبراهيم
وإسماعيل ولوط في زمن واحد يدعون إلى الله تعالى فإذا استقام أن يكون الداعي إلى
الله تعالى من الرسل في زمن واحد اثنين وثلاثة فذلك فيما دون النبوّة أجوز.
المسألة
الثانية : هل يجوز للإمام أن
يتنحّى عن الإمامة بعد انتصابه لها؟ فالذي نعرفه من مذهب أئمتنا عليهمالسلام : أنه لا يجوز له التنحّي مهما وجد أعوانا أو كان راجيا
لذلك لأنه قد تعلّق به تكليف فلا يسقطه عنه إلّا عدم الاستطاعة ، فإن وجد من هو
أنهض منه بالأمر وأنفع للمسلمين وجب عليه التّنحّي له والله أعلم.
المسألة
الثالثة : فيما تبطل به
إمامة الإمام :
وهي تبطل بثلاثة
أشياء :
الأول
: من فعل الله وهو
ما كان مانعا من مخالطة المسلمين ومباشرتهم ومعرفة أحوالهم كالعمى والجنون المطبق
والجذام والصّمم الشديد ونحو ذلك.
الثاني
: من فعله كالفسق
وذلك بعيد في حق من كملت فيه شروط
__________________
الإمامة وعدم
القيام بما يجب عليه من ثمرة الإمامة وعدم التأثير في منابذة الظالمين والقيام
بأمور الدين.
والثالث
: ما يرجع إلى فعل
غيره كالأسر المأيوس. والعبرة في ذلك بأيأس الرعية والله أعلم.
(فصل) في التفضيل
اعلم : أن التفضيل
من جملة الابتلاء والامتحان يمتحن بذلك الفاضل والمفضول :
أما الفاضل : فهل
يشكر ويعرف قدر النعمة فيتواضع ولا يتطاول أو يكفر فيتعدّى طوره.
وأما المفضول :
فهل يصبر ويعترف بالفضل لأهله ويعطي الفاضل حقّه أو يتكبر ويحسده على ما أنعم الله
به عليه من الفضل والزيادة.
ووجه حسن ذلك :
التمييز بين المطيعين والعاصين بما يظهر عند البلوى والامتحان من أسرارهم لأنّ
الله سبحانه لا يعذب على ما يعلم من معاصي العباد قبل ظهورها ، قال الله سبحانه : (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا
أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) .
واعلم : أن
الاعتقادات أصول الأديان ، والاعتقاد الصحيح أصل الدين الصحيح ، والاعتقاد الفاسد
أصل الدين الفاسد فمتى صحّ الأصل ثبت الفرع :
وهل يستوي
الممشى وما ثمّ منهج
|
|
وكيف يقوم الظل
والعود أعوج
|
فلا تكون الأعمال
وإن كثرت وأتعبت من طول القيام وتكرير الصلاة والصيام وإظهار التقشف والزهد وإدامة
التعبّد ودرس الكتب في المدارس وكثرة أهل المجالس والأتباع والأشياع دليلا على
إصابة الحق ولا نافعا مع
__________________
بطلان الاعتقاد بل
ذلك من أبلغ الاغتيال وأشبه الأشياء بالداء العضال فإن أردت مثال ذلك فاعلم :
أن الخوارج كانوا
فرسان الخيل وعبّاد الليل وحملة القرآن وأحلاس الإيمان : فخالفوا عليّا أمير
المؤمنين عليهالسلام في مسائل يجمعها : إنكار التفضيل وجهل منزلته عند الله
فقتلهم كرّم الله وجهه في الجنّة قتل الكلاب وصبّ عليهم سوط العذاب ، وكذلك غيرهم
من فرق النواصب والروافض ممّن نبّه الله سبحانه على ضلالته بقوله (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ عامِلَةٌ
ناصِبَةٌ تَصْلى ناراً حامِيَةً) هكذا ذكره الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة عليهالسلام وغيره من أئمتنا عليهمالسلام.
وقد أشار الإمام عليهالسلام إلى ذكر التفضيل بألفاظ يسيرة وفيها لمن نظر بنور عقله
ورفض هواه بصيرة وأيّ بصيرة.
فقال : قالت «العترة عليهم» «السلام
والشيعة : وأفضل الأمّة بعد النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم
عليّ عليهالسلام
وفاقا للبغدادية فيه وحده».
قال ابن أبي
الحديد : اختلفت المعتزلة في التفضيل :
فقال قدماء
البصريين كأبي عثمان عمرو بن عبيد وأبي إسحاق إبراهيم بن سيّار النظام وأبي عثمان
عمرو بن بحر الجاحظ وأبي معن ثمامة بن الأشرس وأبي محمد هشام بن عمرو الفوطي وأبي
يعقوب يوسف بن عبد الله الشحام وجماعة من غيرهم : إن أبا بكر أفضل من علي عليهالسلام ، وهؤلاء يجعلون ترتيب الأربعة في الفضل كترتيبهم في
الخلافة.
وقال البغداديون
قاطبة قدماؤهم ومتأخروهم كأبي سهل بشر بن المعتمر وأبي موسى عيسى بن صبيح وأبي عبد
الله جعفر بن مبشر وأبي جعفر الإسكافي وأبي الحسين الخياط وأبي القاسم عبد الله بن
محمود
__________________
البلخي وتلامذته :
إنّ عليّا عليهالسلام أفضل من أبي بكر ثم حكى ابن أبي الحديد عن جماعة من متأخري
البصرية أنهم يفضّلون عليّا عليهالسلام.
واعلم : أنه قد
يراد بالأفضل : الأكثر جمعا لفضائل الإمامة والأكثر ثوابا عند الله تعالى والأكثر
جمعا لخصال الفضل وهو عليهالسلام الأفضل فيها كلها.
«ثم» أفضل الأمّة بعد علي عليهالسلام «الحسن عليهالسلام
ثم الحسين عليهالسلام
، ثم جماعة العترة عليهمالسلام» فإن جماعتهم أفضل من جماعة غيرهم وأفضل من أفرادهم.
«ثم أفراد فضلائهم» أي فضلاء العترة عليهمالسلام فإنّ أفراد فضلائهم أفضل من أفراد فضلاء غيرهم من سائر
الناس ، ومعنى الفضل في ذلك كله : أن الله سبحانه زادهم في بصائر العقول وأمدّهم
بمواد الزيادة في الفضل لمّا أطاعوه.
وقال «جمهور
الفرق»
من المعتزلة
والمرجئة والخوارج وغيرهم من سائر الناس : «بل» الأفضل بعد النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم «أبو بكر ثم عمر ثم
عثمان ثم علي عليهالسلام» ولعل حجتهم الترتيب في الخلافة.
مع أن صاحب المحيط
روى بإسناد رفعه إلى أبي حنيفة أنه قال : تفضيل الناس أبا بكر وعمر رأي منهم.
وقال «بعضهم» وهو قول أبي الهذيل وجعفر بن حرب : «بل» أفضل الأمّة بعده صلىاللهعليهوآلهوسلم : «أبو بكر ثم عمر ثم
علي ثم عثمان».
وتوقف أبو علي
وأبو هاشم في الكل ، وقد روي عنهما القول بتفضيل عليّ عليهالسلام.
وحكى الشيخ أبو
القاسم البلخي عن الحسن البصري أنه كان يفضل عثمان على علي عليهالسلام.
وقال «بعض العثمانية : بل» الأفضل «أبو
بكر ثم عمر ثم عثمان ثم معاوية» بن أبي سفيان لزعمهم أن عليّا عليهالسلام
غير إمام بل هو باغ ، وهؤلاء في الحقيقة خارجون عن الانتساب إلى العلم والإيمان
لتفضيلهم الكفار على وصيّ النبيء المختار.
«جميعهم» أي جميع الفرق التي تقدم ذكرها
الناكبة عن مركب النجاة «ثم» بعد الأربعة «سائر العشرة» لما رووه (١) عن النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم
أنهم في الجنة وهم :
أبو بكر ، وعمر ،
وعثمان ، وعلي ، وطلحة ، والزبير ، وسعد بن أبي وقاص ، وأبو عبيدة بن الجراح ،
وعبد الرحمن بن عوف ، وسعيد بن زيد.
وهذا الخبر مقطوع
بكذبه عند أئمة أهل البيت عليهمالسلام [لأنه لا يجوز أن
يخبر الله ولا رسوله أن فلانا من أهل الجنة إلّا أن يكون معصوما كالأنبياء وأهل
الكساء لما في ذلك من الإغراء بالمعصية في حق غير المعصوم ، ولا خلاف أنّ هؤلاء
العشرة غير علي عليهالسلام ليسوا معصومين] .
قال أبو مخنف في
كتاب وقعة الجمل : إنّ عليّا عليهالسلام قال : (إنّ صاحبة الجمل لتعلم وأولو العلم من أصحاب محمد
أن أصحاب الجمل ملعونون على لسان النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم فاسألوها عن ذلك وقد خاب من افترى ، فقال الزبير : يا أبا
الحسن كيف ملعون من هو من أهل الجنة؟ قال : لو علمت أنكم من أهل الجنة ما قاتلتكم
قال له الزبير : أما علمت أن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل روى لعثمان بن عفان أن
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : «عشرة في الجنة» قال عليّ : قد سمعته يحدّث عثمان في
خلافته ، قال الزبير : أفتراه كذب على رسول
__________________
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم؟ قال له علي عليهالسلام : لا أخبرك حتى تسميهم لي.
قال الزبير : هم :
أبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة وسعيد بن زيد
وسعد بن أبي وقاص.
قال له علي : عددت
تسعة فمن العاشر؟
قال له الزبير :
أنت ، قال له عليّ : أمّا أنت فقد أقررت أنّي من أهل الجنة وأنا بما ادّعيت لنفسك
وأصحابك من الجاحدين ، قال له الزبير : أفترى سعيدا كذب على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم؟
قال عليّ عليهالسلام : ما أراه ولكنّه اليقين).
قلنا : قد مرّ من
الأدلة على الإمامة في حق علي عليهالسلام والحسنين وسائر العترةعليهمالسلام ما يقتضي تفضيلهم على غيرهم عموما وخصوصا.
ونزيد بعض ما لم
نذكره هناك [منها : ما رواه مصنف نهج البلاغة عنه عليهالسلام أنه قال في بعض خطبه : (والله لو شئت أن أخبر كل رجل منكم
بمخرجه ومولجه وجميع شأنه لفعلت ، ولكن أخاف أن تكفروا فيّ برسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ألا وإني مفضيه إلى الخاصة ممّن يؤمن ذلك منه ، والذي
بعثه بالحق نبيئا واصطفاه على الخلق ما أنطق إلّا صادقا ، ولقد عهد إليّ بذلك كله
وبمهلك من يهلك ومنجى من ينجو ، ومآل هذا الأمر وما أبقى شيئا يمرّ على رأسي إلّا
أفرغه في أذنيّ وأفضى به إليّ)].
ومنها : ما رواه
الناصر عليهالسلام في كتاب الإمامة بإسناده إلى أنس ابن مالك قال : دخل علي
بن أبي طالب عليهالسلام على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال له : «أنت أخي ووزيري وخليفتي في أهلي وخير من أخلفه
بعدي».
__________________
وروى أيضا بإسناده
إلى كثير بن أسعد بن زرارة عن أبيه قال قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم «لمّا كانت ليلة
أسري بي فأوحى الله عزوجل إليّ في عليّ : أنه سيد المسلمين وإمام المتقين وقائد الغر
المحجلين».
ومنها : (ما رواه
صاحب المحيط بإسناده إلى ابن أبي اليسر قال :
كنت عند عائشة أم
المؤمنين فدخل مسروق فقالت : من قتل الخوارج؟
قال : عليّ عليهالسلام.
قالت : سمعت رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول : «يقتلهم خير أمّتي من بعدي وهو مع الحق والحق معه».
قال : وهذا خبر
معروف بين أصحاب الحديث لا يدفعه أحد منهم.
وما رواه أيضا
بإسناده إلى أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم «علي بن أبي طالب
خير البرية».
وما رواه أيضا
بإسناده إلى ابن عباس قال : لمّا زوج النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم فاطمة من عليّ عليهالسلام قالت فاطمة عليهاالسلام : يا رسول الله زوجتني من رجل فقير ليس له شيء؟ .
فقال النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم «أما ترضين يا
فاطمة أن الله اختار من أهل الأرض رجلين : أحدهما أبوك والآخر زوجك».
وما رواه أيضا عن
السيد الإمام أبو طالب الهاروني بإسناده إلى أبي وائل عن جدّه قال قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم «عليّ خير البشر
فمن أبى فقد كفر».
وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم «الحسن والحسين
سيدا شباب أهل الجنة وأبوهما خير منهما».
__________________
وغير ذلك كثير
ممّا تواتر معنى وأفاد العلم قطعا وأجمعت الأمّة على أنه عليهالسلام أعلم الصحابة وأزهدهم وأورعهم وأشجعهم وقد روي بإسناد صحيح
أنه كان يصلي في كل ليلة ألف ركعة ، وحفر سبع مائة بئر لله سبحانه وأعتق ألف مملوك
لوجه الله سبحانه.
وقال البستي في
المراتب : إنه عليهالسلام عمر طريق مكة وأخرج بينبع مائة عين واشترى ببعضها ألف نسمة
وأعتقها ووقف الباقي إلى يومنا هذا ، وكان مع ذلك يصوم النهار ويصلي في الليل
والنهار ألف ركعة ثم نقول على جهة الإجمال لأنّ حصر الفضائل متعذر أو متعسر.
«لنا
:» «لو
وزن أعمال الوصي عليّ عليهالسلام
بأعمال من ذكر» أي من ذكره المخالف بأنه الأفضل
«أو»
لو وزن «ما
ورد فيه»
أي في علي عليهالسلام من الأخبار المفصحة بالتفضيل والشرف وعظم المنزلة عند الله سبحانه «بما
ورد في من
ذكروا» تفضيله عليه مع التي وردت فيه عليهالسلام التي لو وزنت «ممّا
لا ينكره المخالف»
فضلا عمّا اختصّ بروايته العترة عليهمالسلام وذلك «مع» فضيلة عظمى وهي «سابقته» أي سبقه عليهالسلام إلى الإسلام.
قال الإمام
المنصور بالله عليهالسلام في شرح الرسالة الناصحة : وقد وقع الاتفاق على إيمانهعليهالسلام ثاني البعثة ، وكانت البعثة بالاثنين.
قال : فإن قالوا :
كان إسلامه إسلام إلف ومحبّة لأنه كان صغيرا فلم يكن عن نظر واستدلال فقولهم هذا
باطل بوجهين :
أحدهما : قول النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم لفاطمة عليهاالسلام
__________________
«زوجتك أقدمهم
إسلاما وأكثرهم علما» والضمير عائد إلى جميع الصحابة فلو كان أسلم غير بالغ لما
مدحه بذلك.
والثاني : أنه دعاه إلى الإسلام أوّلا ونحن نعلم من حاله أنه يقبح من
أحدنا أن يبتدئ في الدعاء إلى الدين بالأطفال قبل ذوي الألباب من الرجال لأنّ ذلك
يكون عدولا عن الواجب إلى المندوب ومثل ذلك لا يجوز منّا فكيف يجوز من
النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وفي المحيط : والصحيح عندنا أنه أسلم وله ثلاث عشرة سنة وقد يبلغ
الإنسان لدون ذلك.
قال السيد أبو
طالب عليهالسلام : الصحيح في مبلغ عمره أنه ما بين خمس إلى ست وستين سنة
وهذا يوجب أن يكون له وقت إسلامه أكثر من ثلاث عشرة سنة والعادة جارية أن الإنسان
يبلغ في دون هذه المدة.
وذكر القاسم بن
إبراهيم عليهالسلام أنه كان له ثلاث عشرة سنة.
والمشهور عن الحسن
البصري مثله ... إلى أن قال : وإن سلّمنا أنه كان من أبناء سبع سنين وذلك أقل ما
قيل فإنه لا يضرّنا كما أنّا نجوّز في ابن سبع سنين أن يكون مكلفا تلزمه معرفة
الله تعالى ويكون مثابا ومعاقبا وذلك مذهب جميع أهل العدل لا يختلفون فيه ويقولون:
إن خمس عشرة سنة أو الاحتلام أو الحيض إنّما جعل حدّا للأحكام الشرعية.
وأما الأحكام
العقلية فلا تتعلق إلّا بكمال العقل. انتهى.
وفي سيرة ابن هشام
: قال ابن إسحاق ثم كان أوّل ذكر من الناس آمن برسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وصلّى وصدّق بما جاءه من الله تعالى : عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه بن عبد
المطلب وهو ابن عشر سنين.
وقال في جامع
الأصول وهو أول من أسلم من الذكور في أكثر
__________________
الأقوال وقد اختلف
في سنّه يومئذ : فقيل : خمس عشرة سنة وقيل ستّ عشرة وقيل أربع عشرة وقيل ثلاث
عشرة. انتهى.
[قلت : والمراد :
أنّ عليّا عليهالسلام أوّل من صدّق النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم فيما جاء به لأنه كرّم الله وجهه لم يشبه شرك البتة].
«وكذلك الحسنان عليهماالسلام» أي وكذلك لو وزن أعمال الحسنين بأعمال من فضلوهم عليهما أو
يوزن ما ورد في الحسنين بما ورد في غيرهما ممّا ذكره المخالف .
«وكذلك ما ورد في العترة عليهم» «السلام
بما ورد في غيرهم ممّا لا ينكره المخالف» أيضا ممّا يقتضي تفضيلهم وشرفهم من الأخبار والآيات
المصرّحة بذلك فضلا عمّا اختصّ به العترة عليهمالسلام وشيعتهم «علم ذلك» أي ما ذكرناه من تفضيل علي وسبطيه والعترة عليهمالسلام على الترتيب المذكور «قطعا» أي علما مقطوعا به لا يختلجه ريب ولا شك ولكن مع تحكيم
العقل على الهوى والانقياد لحكم العليّ الأعلى وقد ضربنا صفحا عن ذكر الفضائل وما
ورد فيها من الآيات والأخبار لكثرتها وعدم احتمال هذا الموضع لها وقد ذكرنا قسطا
منها في الشرح ، وهي بحمد الله معلومة للعلماء وأرباب الدين والورع من الكتاب
والسّنّة وسير الأئمة عليهمالسلام.
(فصل)
«وأفضل أزواج النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم
: خديجة» بنت خويلد «إجماعا»
بين العترة عليهمالسلام وسائر الفرق إلّا من لا يعتدّ به ، وذلك «لسابقتها» إلى الإسلام فإنها أول الناس إسلاما بلا خلاف بين الناس.
__________________
ثم أسلم بعدها
عليّ عليهالسلام قبل أن يسلم أحد من الرجال ولأجل
«مواساتها لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم» بمالها وكثرة عنايتها بشأنه صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وقد ورد فيها عن النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم أخبار كثيرة منها : «خير نسائها : مريم ابنة عمران وخير
نسائها خديجة بنت خويلد» رواه عليعليهالسلام [أخرجه البخاري].
وعن أنس قال قال
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم «حسبك من نساء
العالمين مريم ابنة عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية بنت مزاحم امرأة
فرعون» وغير ذلك. قالت «العترة» عليهمالسلام
«والشيعة : وأفضل النساء كافة : فاطمة عليهاالسلام» فهي أفضل من أمّها ومن كل النساء. وقال الإمام المنصور بالله
عبد الله بن حمزة : ما خلا مريم ابنة عمرانعليهاالسلام.
«وقال طوائف» من الفرق والنواصب : «بل
عائشة أفضل من فاطمة»عليهاالسلام.
قالوا : لأنها
كانت أحب نساء النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم إليه ، ولأنه تزوجها بكرا ، ولأنه صلىاللهعليهوآلهوسلم توفي في بيتها ، ولأنه نزل في إفكها آيات من القرآن ،
ولأنها روت كثيرا من أخبار النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم.
«لنا» حجة على قولنا : «ما
ورد»
عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم في فضلها
«من
نحو قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم»
«مريم سيدة نساء عالمها»
أي العالم الذي
كانت فيه «وأنت سيدة نساء العالمين» أي جميع نساء العالمين.
وروى صاحب البلغة
: إجماع أهل البيت عليهمالسلام على ذلك.
وروى أبو العباس
الحسني عليهالسلام في المصابيح بإسناده إلى عبد الله بن الحسن عليهالسلام قال: لما نزل قوله تعالى : (إِذا جاءَ نَصْرُ
اللهِ وَالْفَتْحُ) قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم «نعيت إليّ نفسي»
__________________
وعرف اقتراب أجله
فدخل منزله ودعا فاطمة عليهاالسلام فوضع رأسه في حجرها ساعة ثم رفع رأسه وقال «يا فاطمة يا
بنيّة : أشعرت بأنّ نفسي قد نعيت إليّ ، فبكت فاطمة عند ذلك حتى قطرت دموعها على
خده فرفع رأسه إليها ونظر فقال : أما إنكم المستضعفون المقهورون بعدي فلا تبكين يا
بنية فإني قد سألت ربي أن يجعلك أول من يلحق بي من أهل بيتي ، وأن يجعلك سيدة نساء
أمّتي ومعي في الجنة فأجبت إلى ذلك ، فتبسمت فاطمة عند ذلك ونساء النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم ينظرن إليها حين بكت وحين تبسّمت فقال بعضهن : ما شأنك يا
فاطمة تبكين مرة وتبسّمين مرة؟ فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : دعي ابنتي».
وكان وفاتها رضوان
الله عليها لثلاث خلت من شهر رمضان سنة إحدى عشرة «و» لنا أيضا
«عصمتها» بإجماع العترة وشيعتهم لحديث الكساء وغيره ، وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم «إن الله يغضب
لغضبها».
وقوله «فاطمة بضعة
مني يريبني ما رابها».
وعنه صلىاللهعليهوآلهوسلم «كأني أنظر إلى
فاطمة قد أقبلت يوم القيامة على نجيب من نور عن يمينها سبعة آلاف ملك وعن يسارها
سبعة آلاف ملك وبين يديها كذلك وخلفها كذلك تقود مؤمنات أمّتي إلى الجنة».
قال العنسي :
الرواية متظاهرة بأنها في اليوم الرابع من النّذر لمّا دخلت مصلّاها وصلّت ودعت
فسمعت حشحشة فإذا بجفنة فيها ثريد ولحم وزعفران ، فلما قرّبت إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم سجد وقال «الحمد لله الذي جعل ابنتي شبيهة مريم بنت عمران
ينزل عليها رزقها في المحراب» وغير ذلك.
وأما ما ذكره
المخالف من كون عائشة أحب أزواج النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : فالمحبة للزوجة لا تدل على أفضليتها لجواز أن يكون
__________________
ذلك من الطباع
البشرية لا سيّما ما روي من قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم «إيّاك أن تكونيها
يا حميراء».
وكذلك خروجها على
عليّ عليهالسلام يوم الجمل.
وأمّا الآيات
النازلة في براءتها من الإفك فذلك تنزيه لرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ولا فضيلة في ذلك تزيد على غيرها من المؤمنات لأن مضمونها
أنها بريئة من المعصية التي قذفت بها ، وكل مؤمنة على تلك الصفة وإلّا لم تكن
مؤمنة.
وأما روايتها
الحديث فإن الرواية لا تدل على أفضليّة لأنّ الرواية إن صحّت فإنما تدل على العلم
، والعلم بمعزل عن العمل ، ثم إن روايتها للعلم لا تدل على أن غيرها ليس معه من
العلم مثل علمها لجواز أن يستغنى عن رواية العالم برواية غيره ، فكثرة الرّواية لا
تدل على كثرة العلم إذا لكانت عائشة أفضل من أبي بكر ولكان أبو هريرة وابن عمر
أفضل من أبي بكر.
وأمّا أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم تزوجها بكرا فلا وجه فيه للفضل.
(باب [الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر])
«ويجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
إجماعا».
قال الإمام المهدي
عليهالسلام : الوجه في ذكر هذا الباب مع مسائل أصول الدين : أنه ممّا
يجب على كل مكلف العلم به مع كونه أصلا من أصول الشرائع التي لا يكفي الظن فيها.
قال : فإن قلت :
إذا كان هذا أصلا من أصول الشرائع فما وجه اختصاصه بالذكر دون الصلاة والزكاة
والحج مع الاشتراك في كونها أصولا للشرائع؟ قال : قلت : إن تلك الأصول العلم بها
ضروري لا يفتقر إلى نظر بل كل من علم بنبوّة محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم علم أنها من دينه ضرورة بخلاف الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر فلم يعلم وجوبه ضرورة فحسن ذكره مع مسائل أصول الدين. انتهى.
وهو إجماع بين
الأمة وإن اختلف في كيفيته هل يجب بالقول والفعل أو بأحدهما لقوله تعالى : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ...) إلى قوله تعالى (كانُوا لا يَتَناهَوْنَ
عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ).
وقوله تعالى : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ
إِلَى الْخَيْرِ ...) إلى آخر الآية . وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لا يحل لعين ترى الله يعصى فتطرف حتى تغير أو تنتقل».
وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «ما من قوم يكون بين ظهرانيهم من يعمل بالمعاصي فلا
يغيّروا عليه إلّا أصابهم الله بعقاب» رواه الإمام
__________________
عبد الله بن
الحسين عليهالسلام في كتاب الناسخ والمنسوخ.
واختلف في الدليل
عليه : هل من السمع والعقل معا أو من السمع؟
فعند الجمهور أنه
من السمع فقط.
وقال أبو علي :
يدل العقل عليه أيضا لأنّ العلم بقبح الفعل يتبعه وجوب المنع منه جبرا ، ولأنّ
الإنسان يجد من نفسه أنه لو رأى رجلا يقطّع صبيّا ويعذّبه بأنواع العذاب وعنده رجل
كامل العقل ينظر إليه ولا ينهاه أن ذلك ظلم يستقبحه العقل كما يستقبح فعل الرجل
بالصبي ولأنه لو لم يجب عقلا وجاز ترك النكير مع التمكّن منه لجاز الرضاء به
والرضاء بالقبيح قبيح.
ولأنه كما يجب أن
يمتنع هو يجب أن يمنع غيره وللاتفاق على وجوب كراهة القبيح.
وقد أجيب عنها
بجوابات قد ذكرتها في الشرح.
وإنّما يجب الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر «متى تكاملت شروطهما وهي : التكليف» أي كون الآمر النّاهي بالغا عاقلا لرفع
القلم عن الصبي والمجنون.
«والقدرة عليهما» أي لا يكون عاجزا «والعلم» من الآمر الناهي «بكون ما
أمر به معروفا وما نهى عنه منكرا ، لأنه إن لم يعلم ذلك لم يؤمن أن يأمر بالمنكر
وينهى عن المعروف».
وذلك لا يجوز إذ
الإقدام على ما لا يؤمن قبحه قبيح.
فإن قيل : كيف يشترط العلم مع أنه قد يجب عليه ذلك في الاجتهاديات
وهي لا تفيد إلّا الظن؟
قلنا : إن
الاجتهاديات يدخلها العلم وذلك وإن كان مظنونا للمجتهد فإنه يجب عليه قطعا العمل
به ، وإذا وجب عليه العمل به قطعا وجب الأمر
__________________
به والنهي عنه
كذلك ، هكذا ذكروه وهو حق والله أعلم.
«وظن التأثير» أي يظن الآمر النّاهي أن لأمره ونهيه تأثيرا في وقوع المعروف وإزالة
المنكر وذلك «حيث كان المأمور والمنهي عارفين بأن
المأمور به معروف ، والمنهي عنه منكر وإلّا» أي وإن لم يكونا عارفين بذلك «وجب
التعريف»
بأن هذا معروف
فليفعل وهذا منكر فليجتنب.
«وإن لم يظن التأثير لأنّ إبلاغ الشرائع» إلى من تبلغه «واجب» على كل من تمكن من ذلك «إجماعا ،
والأصل في ذلك : قوله تعالى
(إِنَّ الَّذِينَ
يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما
بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ ...)
الآية تمامها : (أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ
وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) .
وذلك لتبليغ الحجة سواء عمل بها أم لم
يعمل «ونحوها»
كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما
أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً ...) الآية .
وقوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ ...) الآية .
وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم «إذا ظهرت البدع
فعلى العالم أن يظهر علمه وإلّا فعليه لعنة الله».
«وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم»
: «من كتم علما ممّا ينفع الله به ... الخبر».
تمامه : «في أمر
الدين ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار» ونحو ذلك قال عليهالسلام : «قلت وبالله التوفيق
: ويجب أيضا أمر العارف بالمعروف ونهي العارف بالمنكر وإن لم يحصل الظن بالتأثير» وذلك
للإعذار
__________________
إلى الله سبحانه
بالخروج من عهدة الواجب وتأكيد الحجة على المأمور والمنهي «لقوله
تعالى» :
(وَإِذْ قالَتْ
أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ
عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) .
«والمعذرة إلى الله تعالى لا تكون عمّا
لا يجب»
فثبت كون الواعظين
فعلوا ما يجب عليهم مع أنهم قد قرّروا قول الطائفة التي قالت لم تعظون قوما الله
مهلكهم أي لا ينفع الوعظ فيهم فكأنهم قالوا صدقتم لكن ليس ذلك عذرا لنا في السكوت
، لأنه يجب علينا أن نفعل ذلك معذرة إلى الله تعالى أي لنخرج عمّا يجب علينا له
تعالى من إلزام الحجة على من عصاه حتى يكون ذلك عذرا لنا في النّجاة من عقابه.
وأما قوله تعالى
حاكيا (وَلَعَلَّهُمْ
يَتَّقُونَ) فإنه علة أخرى في وجوب الوعظ فكأنهم قالوا : إن الوعظ
والتذكير واجب علينا بكل حال إمّا للخروج من عهدة الواجب أو لرجوى ارتداعهم
واتعاظهم ويدل على هذا قوله تعالى : (فَلَمَّا نَسُوا ما
ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا
الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ ...) .
فلم يخبر الله
سبحانه إلّا بنجاة الناهين فقط وروي عن ابن عباس أنه قال : والله ما سمعت الله ذكر
أنه نجّى إلّا الفرقة التي نهت واعتزلت ولقد أهلك الله الفرقتين جميعا.
ومثله ذكره القاسم
بن إبراهيم عليهالسلام في كتاب الهجرة.
«وإنّما يجب ذلك» أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لمن هو عالم بهما مع
عدم ظن التأثير
ريث ما يتحول المتمكن من الهجرة إليها» أي في مدة تحول من كان متمكنا من الهجرة إلى الهجرة لأنه إن
كان لا تأثير لأمره ونهيه ولم يكن في بقائه مصلحة عامة ولا كان من المستضعفين
الذين استثناهم الله تعالى وجب عليه الهجرة من دار العصيان إلى غيرها
«لما يأتي إن شاء الله تعالى».
__________________
وقال الإمام
المهدي عليهالسلام في البحر : فإن لم يعلم ولا يظن التأثير فلا وجوب قطعا وفي
الحسن وجهان.
قال الإمام يحيى عليهالسلام : أصحهما الحسن.
وقيل : بل يصير
عبثا.
قال : قلنا :
الأمر والنهي عمل مقصود للشرع وإن لم يحصل متعلّقه إذ قد أمر الله سبحانه ولم يحصل
مأموره. انتهى.
قال عليهالسلام : «وتجويز ما يقع على
الآمر الناهي بسببهما» أي بسبب الأمر والنهي
«من نحو تشريد» أي تطريد للآمر النّاهي «وانتهاب مال» له «غير مرخص له في
الترك» أي ترك الأمر
والنهي «وفاقا لكثير من العلماء لقوله تعالى» حاكيا ومقرّرا (وَأْمُرْ
بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ) أي بسببهما (إِنَّ ذلِكَ مِنْ
عَزْمِ الْأُمُورِ) أي من الأمور التي
أراد الله العزم عليها بالجد والجهد.
«وقوله» أي ولقوله «صلىاللهعليهوآلهوسلم»
: «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر» مع أن الظن يحصل عند ذلك بوقوع تشريد وانتهاب مال ونحو ذلك.
«وقوله
صلىاللهعليهوآلهوسلم»
«اجعل مالك وعرضك دون دينك ... الخبر أو كما قال» أي هذا لفظ الخبر أو معناه.
وفي بعض الأخبار :
«اجعل مالك دون دمك ، فإن تجاوز بك البلاء فاجعل مالك ودمك دون دينك».
والمراد : إن خفت
الفتنة في الدين وفساده فاجعل مالك ودمك دون دينك «وكالجهاد» فإنه يجوّز معه ذلك بل الضرر والقتل أيضا ولا يكون ذلك
التجويز مرخّصا في إسقاط وجوبه ، أما مع الشك في ذلك أو التجويز
__________________
المرجوح فلعله
إجماع ، وأما مع الظن أو العلم بحصول ذلك فكذلك أيضا عند أكثر أئمتناعليهمالسلام.
قال عليهالسلام في كتاب التحذير : قد صحّ لنا عن عيون العترة عليهمالسلام والجمهور من علماء الأمّة : أن الخشية على المال لا تكون
رخصة في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
قلت : ووجهه : أن
المال من رزق الله سبحانه وقد قال تعالى : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ
يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) فمن ترك شيئا لله سبحانه رزقه الله خيرا منه فهو عليه
سبحانه وتعالى في أي موضع يكون العبد فلا يكون إتلافه عذرا في إسقاط الواجب لأن
عوضه على الله مع صدق التوكل والتسليم لأمر الله والتشريد كانتهاب المال.
قال الهادي عليهالسلام في جواب إبراهيم بن المحسّن حيث قال :
وسألته عن رجل
ساكن في بلدة وقد ولي أمر البلدة سلطان ظالم والسلطان يقتضي منه جباية من غير طيبة
من نفسه وهو يخاف إن خرج من البلد على نفسه التلف الجواب في ذلك :
إن كان مخافته على
نفسه مخافة أن يجوع في الأرض أو يعرى ويتلف إذا خرج من تلك البلد فليس هذا له بعذر لأن الله عزوجل يرزقه في بلده وغيرها ، وإن كان يخاف أن يظفر به سلطان
بلده فيقتله إن خرج ولم تكن له حيلة في الانسلال عنه وكان لا محالة واقعا في يده
إن خرج فله في ذلك العذر إلى أن يأتيه الله عزوجل بفرج ، وإن قدر وأمكنه أن لا يعمل عملا يأخذ منه فيه
السلطان فليفعل ، انتهى.
وأما خوف الضرر
بالنفس أو تلفها أو قطع عضو ولم يتمكن من الهجرة فلا شك أن ذلك رخصة في الترك كما
سيتضح لك والله أعلم.
__________________
والأصل في ذلك
قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ
وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) .
وقوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) .
وقوله تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ ...) الآية .
ووجه دلالة هذه
الآيات : أنه إذا جاز فعل المحظور بهذه الضرورة المذكورة فبالأولى أنه يجوز ترك
الواجب وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للإجماع على أن ترك الواجب أهون من
فعل المحظور.
قال الإمام يحيى عليهالسلام : ما أباحه الاضطرار أباحه الإكراه لقوله تعالى : (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ).
وقوله تعالى : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ
مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) وهي في عمّار وياسر حين أكرها على الكفر.
قال وترك ما أكره
عليه أفضل وإن قتل لتفضيله صلىاللهعليهوآلهوسلم إيمان ياسر لمّا صبر على القتل.
وقال الإمام
المهدي عليهالسلام : الإكراه يكون بوعيد القادر إمّا بقتل أو قطع عضو أو ضرب
أو طعن بذي حدّ وهذا مؤثر إجماعا وإمّا بلطم أو ضرب فيشترط في كونه مؤثرا التّضرّر
، وإمّا بالحبس فلا بدّ من كونه كذلك فالساعة ليس بإكراه والسّنة إكراه وما بينهما
مختلف والضّابط التّضرّر ... إلى أن قال حاكيا عن المذهب وأبي حنيفة : ولا يبيح
المحظور إلّا الضرب المفضي إلى التلف أو ما في حكمه.
قال كالميتة لا
يبيحها إلّا خشية التلف فقيس عليها.
قلت : ما خلا قتل
الآدمي وإيلامه [والزنا] فلا يبيحه الإكراه.
قال النجري : لأنّ
الإكراه إنّما يستباح به من القبائح ما يمكن خروجه
__________________
عن كونه قبيحا
والإضرار بالغير لا يخرج عن كونه قبيحا وأمّا سبّ الآدمي فيبيحه الإكراه لأنه لا
يتضرر منه المسبوب مع علمه بالإكراه ولقول علي عليهالسلام : (فأمّا السّب فسبوني فإنه لكم نجاة ولي زكاة) فعرف من
ذلك أن ظنّ القتل ونحوه عذر إجماعا في فعل المحظور غير ما استثني ، وترك الواجب
وإن ظنّ الضرر بالنفس موضع اتفاق بين أهل المذهب أنه عذر مبيح لترك الواجب.
وفرق أهل المذهب
بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسائر الواجبات : فقالوا في الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر : لا يسقطان إلّا إذا كانا يؤدّيان إلى تلفه أو تلف عضو منه أو
مال مجحف أو منكر مساو أو أنكر. ذكره الإمام المهدي عليهالسلام في الأزهار.
قالوا : كالقتال
فإنه يجب مع خشية القتل ولم يتضح لي وجه الفرق لأنه إن صحّ تفسير الضرر بدون ذلك
كان كذلك في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإن لم يصحّ تفسيره بغير ذلك
فالواجبات حينئذ سواء والله أعلم.
وأمّا القتال :
فإن كل مقاتل يجوّز أن يغلب وأن يغلب بدليل أن الإمام إذا لم يجد أعوانا لم يجب
عليه القتال والله أعلم.
قال عليهالسلام : «وحصول القدرة» من الآمر والناهي «على
التأثير»
أي حصلت القدرة
على تحصيل ما أمر به والانتهاء عمّا نهى عنه وحصل مع ذلك «ظنّ
الانتقال»
من المأمور والمنهي «إلى منكر غيره» سواء كان مساويا أو زائدا أو دونه «لا
يرخّص في الترك»
أي لا يكون عذرا
مبيحا لترك الأمر والنهي «لأنّ هذا» الذي حصلت القدرة عليه «منكر
معلوم وذلك»
أي المنكر الذي
ظنّ وقدّر وقوعه بسبب النهي عن هذا المنكر المعلوم «مجوّز
مظنون»
أي ليس معلوما
وقوعه إذ يجوز أن لا يقع إمّا بحصول موت أو أيّ مانع فلا يسقط الواجب المتيقّن
المعلوم بالمجوّز المظنون.
وقال الإمام
المهدي عليهالسلام وغيره وهو قول كثير من أهل المذهب : إنه يشترط أن لا يعلم
الآمر الناهي ولا يظن أنّ أمره ونهيه يؤدّيان
إلى منكر آخر هو
مثل المنكر الأول أو أعظم.
«و» أما
«حصول الظن بوقوع شيء من ذلك» أي بوقوع منكر آخر ولم تحصل
القدرة على إزالة هذا المنكر المعلوم بل كان ذلك «مع عدم ظنّ التأثير» لأمره ونهيه وسواء بقي شاكّا أو ظن عدم التأثير فإنّ أمره ونهيه
حينئذ
«لا يجوزان لأنهما حينئذ كالإغراء» بفعل ذلك المنكر وهو قبيح ، وأمّا حصول الظن بوقوع المنكر
الآخر بسبب النهي عن المنكر المعلوم «مع
ظنّ التأثير»
لأمره ونهيه
فإنهما مع ذلك «لا يجبان قطعا» لأنّ القدرة على التأثير في هذا الموضع لم تحصل وإنّما هي
مظنونة وقد عارضها حصول الظن بانتقال المأمور والمنهي بسبب ذلك إلى منكر آخر
فتعارض الظّنّان وحينئذ لا يجبان «وفي حسنهما
تردد»
يحتمل أن يحسنا
لحصول ظن القدرة على التأثير ويحتمل أن لا يحسنا لمعارضة ذلك الظن بظن وقوع المنكر
فيكون أمره ونهيه سببا في وقوع المنكر فيكون قبيحا ولعله أولى والله أعلم.
(فرع)
«ولا يكونان إلّا بقول رفق أوّلا» أي
قول ليّن لأنه أقرب إلى الامتثال «فإن لم يتمّا به» زيد عليه بحسب الحال فيقدّم
الوعظ ثم السّب ثم كسر الملاهي ثم الضرب بالعصى ثم بالسلاح لما ثبت من أنه إذا خشي
أن يفعل المحظور «وجبت عليه المدافعة عن فعل» ذلك «المحظور» بأيّ ممكن «إلى حد
القتل لإجماع العترة عليهم» «السلام على وجوب إزالة المنكر بأيّ وجه».
قال في البحر :
وكأنّ ذلك الترتيب ادعى إلى حصول الامتثال قال : فإن احتاج إلى تجييش الجيوش فهو
إلى الإمام لا إلى الآحاد إذ هو من الآحاد يؤدّي إلى تهييج الفتن والضّلال.
قال : وقال
الغزالي : يجوز للآحاد تجييش الجيوش والحرب.
قال : ولا وجه له.
__________________
قلت : وإن أراد
المحتسب فالقول واحد
«ولا يفعل الأشدّ مع تأثير الأخفّ» كما ذكرناه آنفا من الترتيب لأنّ العدول إلى الأشدّ مع
تأثير الأخفّ إضرار مجرد عن النفع والدفع فكان ظلما.
قال الفقيه حميد
الشهيد رحمهالله : وأمّا حكم المعروف الذي هو فعل فقد ذكروا أنه لا يجوز
القتال عليه مطلقا وفي تعليلهم ما يقتضي أن المراد به الشرعي دون العقلي ولا شبهة
أنّ ردّ الودائع والمغصوبات إلى أربابها ممّا يجوز أخذه كرها والقتال عليه لمن
امتنع من تسليمه.
قال : واعلم : أن
المنكر إذا أمكن أن يحال بينه وبين فاعله من دون قتل ولا قتال فإنّ ذلك هو الواجب.
قال : وهل يجوز
القتل عليه أو لا؟ فيه خلاف.
فقد ذكر الشيخ أبو
علي : أنه من كان مفسدا شرّيرا فإنه يجوز قتله لغير الإمام ، وإليه ذهب الجصاص ،
وهو الذي اختاره الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة عليهالسلام فإنه قال: والذين يؤذون المسلمين ويضرونهم يجوز قتلهم في
وقت الإمام وغير وقته.
وذهب السيد
المؤيّد بالله عليهالسلام إلى أنه لا يجوز قتل من هذا حاله بل يجب على المسلمين
حبسه.
وقال «بعض سادتنا عليهم» «السلام» وهو السيد الكبير العلّامة أمير الدين بن عبد الله بن نهشل
بن المطهر بن أحمد بن عبد الله بن عز الدين بن محمد بن إبراهيم بن الإمام المطهر
بن يحيى المظلل بالغمام عليهالسلام.
وتوفي هذا السيد عقيب وفاة الإمام عليهالسلام
في هجرة حوث رحمهالله تعالى في ليلة الثلاثاء تاسع شهر جمادى الآخرة سنة تسع
وعشرين بعد الألف فقال : «فإن كان التفكّر في القدر الكافي» في الانزجار عن فعل
القبيح من القول وغيره «مخلّا بالمدافعة» أي مانعا لدفع فعل المحظور «بحيث» يقدّر
أنه «يفعل المحظور في مدة التفكّر» لو بقي النّاهي متفكرا «في ذلك القدر الكافي (وجب
دفعه بغير رويّة» أي بغير تفكّر في القدر الكافي «ولو» كان دفعه «بالأضرّ وهو قوي
لعدم حصول الانزجار
لولاه» أي لو لا دفعه
بذلك الأضر.
«و» أما «الحمل على فعل الواجب» أي التكليف
«بالإكراه» لفاعله كالإكراه على الصلاة وتسليم الزكاة بالقتال فلا يجوز للآحاد بل «يخصّ
الإمام غالبا» أي في أغلب الواجبات احترازا من الواجبات العقلية كما مرّ.
وكذلك يجوز للمحتسب الإكراه على
المعاونة على دفع المنكر وأخذ المال لدفع الكفار والبغاة وإنّما اختصّ الحمل على
الواجب بالإمام «للإجماع على وجوب ذلك على الإمام وعدم الدليل في حق من عداه».
أي في حق من عدا
الإمام.
وأمّا الإكراه على
فعل الواجب من دون قتال كالإكراه على فعل الصلاة وعلى تسليم الزكاة من أربابها إلى
الفقراء فلا يبعد وجوبه على كل من قدر عليه ، والله أعلم.
(فصل)
«والمحتسب هو المنتصب للأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر»
سمّي المحتسب
محتسبا لأنه يحتسب في جميع أموره بما يرضي الله تعالى ذكره الأمير الحسين عليهالسلام.
وهو مأخوذ من
الحسب الذي هو كرم الآباء أو كرم النفس كما ذكر أهل اللغة والله أعلم.
وللمحتسب ما
للإمام وعليه ما عليه إلّا ما يستثنى وأساس شرائطه :
العقل الوافر
وينبني عليه ثلاث خصال : أوّلها : الورع الكامل ، وثانيها : حسن الرأي وجودة
التدبير ، وثالثها : العلم بقبح ما ينهى عنه ووجوب ما يأمر به ، وسواء علم ذلك أو
قلّد فيه وأمضى فتوى العالم. هكذا ذكره الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة عليهالسلام قال : ولا يعتبر في الاحتساب المنصب النّبوي بل يجوز
الاحتساب لسائر العرب والعجم إلّا المماليك وإن كنّا نقول : إن القائم من المنصب
النبوي بذلك أولى.
قال : ولا ولاية
للمحتسب على شيء من أموال الله سبحانه ولا يجوز
له قبضها إلّا أن
يأذن له أربابها فيقبضها بيد الوكالة ولا يتعدّى فيها أمرهم وإنّما يأخذ من صميم
أموالهم ما يدفع به عنهم.
قال : وليس في وقت
المحتسب مؤلّفة من مال رب العالمين.
قال : والذي يجوز
له بل يجب عليه : النهي عن المنكر بلسانه وسيفه على مراتبه ، والأمر بالمعروف
بلسانه دون سيفه وسدّ الثغور وتجييش الجيوش للدفع عن المسلمين وحفظ ضعفتهم عن
شياطينهم بالقول والفعل والدعاء إلى طاعة الله والتأهّب لإجابة دعوة الدّاعي من
عترة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ... إلى آخر كلامه عليهالسلام.
وقد أوضح الإمام عليهالسلام شروطه بقوله : «وشروطه
: العقل»
لأنه لا ولاية
للصبي والمجنون «والذكورة» فلا يصحّ من المرأة الاحتساب لكونها ممنوعة من مخالطة الناس
«والحرية» لأنّ العبد مملوك التّصرف
والمنفعة «والتدبير»
على حدّ تدبير
الإمام ليتم المقصود من انتصابه «والقوة» أي القدرة على ما قام به فلا يكون عاجزا ملولا مهملا للنّاس
«وسلامة
الحواس والأطراف المحتاج إليها» في مخالطة الناس وتدبير أمورهم وفي الجهاد لا غير ذلك كحاسّة اللّمس والشمّ
وثقل السمع والعرج اليسير الذي لا يمنع من القتال ولا ينفّر من الناس «وسلامته
من المنفّرات» عن مخالطة الناس
كالجذام والبرص وذلك «لما مرّ في الإمامة».
والسادس : «العلم» بما لا بدّ منه من
معرفة الأحكام ولو لم يكن مجتهدا «ليصحّ أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر» كما مرّ
في شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
«و» السابع : «عدم من يصلح للإمامة في
ناحيته» بلا مانع من قيامه لأنّ المراد عدم ظهور القائم بالإمامة في ناحيته أو عدم
إمكان الاعتزاء إليه.
«و» الثامن : «العدالة المحقّقة» ليوثق
به في مصالح المسلمين ولا يشترط أن يكون فاطميّا كما مرّ «ويكفي في انتصابه
الصّلاحيّة» فمتى صلح لذلك ودعا الناس إلى إعانته وجب عليهم ذلك كما في انتصاب
الحاكم المحكّم «خلافا لمعتبري الخمسة» أي من زعم أن الحاكم لا بدّ أن ينصبه
للحكم بين الناس
خمسة من أهل الصلاح ما لم تضيّق الحادثة وهم : المؤيّد
بالله والفقهاء والمعتزلة فقالوا : لا بدّ للمحتسب أن ينصبه خمسة أو أربعة أو
ثلاثة أو اثنان أو واحد على خلاف بينهم من أهل الصلاح والدين والعلم وإن لم يصلحوا
للاحتساب ولا للحكم «ويجب على المسلمين إعانته على ما انتصب لأجله» من الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر وإنصاف المظلومين وتفقّد الضعفاء والمساكين ومجاهدة
الكفار والفاسقين وغير ذلك ، كما يجب عليهم ذلك للإمام.
«وله الإكراه على معاونته لدفع المنكر» بالأموال
والأنفس «لوجوب دفعه بأيّ ممكن بإجماع العترة عليهمالسلام
على ذلك.
«ويجوز» له أيضا «أخذ المال» من
المسلمين «لدفع الكفار والبغاة» عن حوزة المسلمين والمؤمنين «لوجوب دفعهم كذلك» أي
بأيّ ممكن.
«وليس له أخذ الحقوق» الواجبة من نحو
الزكاة «كرها» ولو للدّفع وقال الأستاذ والقاضي جعفر وابن شروين : يجوز للمحتسب
أخذ الحقوق كرها.
«ولا» يجوز له أيضا «إقامة الجمعة ولا
الحدود» كقطع يد السارق وجلد الزّاني والقاذف «ولا نحو ذلك ممّا يختص الإمام» كغزو
البغاة إلى ديارهم على رأي.
وجوّزه الإمام
الحسن بن إسماعيل الجرجاني عليهالسلام والحاكم وأبو سعد وغيرهما وإنّما كان ذلك إلى الإمام وحده
لما روي عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم أنه قال : «أربعة إلى الولاة : الحدّ والجمعة والفيء
والصّدقات» ذكره في الشفاء وغيره.
وروي في الشفاء عن
الفضل بن شروين أنه يجوز إقامة الحدود على الأحرار والمماليك في غير وقت الأئمة
لغيرهم من المسلمين لئلّا تضيع الحدود.
وقال الفقيه حميد
الشهيد رحمهالله : وقد قيل : إن الإجماع منعقد
على خلاف هذا
القول فلا يعتد به بعد سبق الإجماع له.
«ويجوز للمسلمين» مع المحتسب وغيره : «غزو
الكفار إلى ديارهم للسّبي والنّهب» لأموالهم «وإن عدم الإمام في الناحية» وذلك «للإجماع»
من علماء الأمّة «على إباحتهما» أي إباحة سبي الكفار ونهبهم ولا دليل على اشتراط
الإمام في غزو الكفار إلى ديارهم ولقول علي عليهالسلام
«لا يفسد الجهاد والحج جوز جائر كما لا يفسد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غلبة
أهل الفساد».
ولأنه قد روي عن
أقوام صالحين أنهم حاربوا وغزوا الكفار مع الفسقة ولم يحفظ عن أحد من السلف إنكار
ذلك.
[وقال الهادي عليهالسلام : إن الله جلّ جلاله عن أن يحويه قول أو يناله حظر الجهاد
مع جميع من خلق من العباد إلّا من اصطفى وائتمن على وحيه من عترة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم الذين هدى الله بهم الأمّة من الضلال والهلكة لما في
الجهاد من القتل والقتال وسفك الدماء وأخذ الأموال وهتك الحريم وغير ذلك من
الأحكام وذلك لا يكون إلّا بإمام مفترض الطاعة.
ولا يكون إلّا من
آل محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم الذين استنقذ الله بهم الأمّة من شفا الحفرة وجمع بهم
كلمتها وألّف بين قلوبهم من بعد الافتراق والاختلاف فأصبحوا بنعمة الله على الحق
مؤتلفين ولما كانوا عليه من الكفر مجانبين ... إلى آخر كلامه عليهالسلام ، وهو قوي].
(باب الهجرة)
الوجه في ذكرها :
أن لها تعلّقا بأصول الدين.
وتعلّقا بعلم
الفروع.
فتعلّقها بأصول
الدين من حيث أنها كلام فيما هو سبب في الإكفار والتفسيق في الظاهر وهو الذي يوجد
في الدار كما سنذكره إن شاء الله تعالى والتكفير والتفسيق من علم الأصول.
وتعلّقها بالفروع
: من حيث أنه يجب علينا إجراء أحكام الكفر والفسق على من حكم الشرع بكفره أو فسقه
، وإجراء الأحكام في ذلك من علم الفروع.
واعلم : أن الهجرة
كما ذكره القاسم بن إبراهيم عليهالسلام : أمرها عظيم كبير ، وفرضها في كتاب الله تعالى مكرر كثير
لا يجهله إلّا جهول ولا ينكره إلّا مخذول ، إلّا أنه قد قطع ذكرها وصغّر أمرها وأمحى عمودها وحلّ عقودها تحكّم الناس على الله فيها وتظاهرهم
بالمخالفة لله عليها والمقام مع الظالمين في دارهم محرّم حكم من الله كما ترون
أوّل مقدّم قد جرت به سنّة الله قبلكم في الماضين وسار به من قد مضى قبل رسولكم من
المرسلين صلّى الله عليهم في الأمم الذين كانوا فيهم. فكفى بهذا في وجوب الهجرة
وما حرم الله من جوار الظالمين والفجرة نورا وبرهانا وحجة وتبيانا ... إلى آخر
كلامه عليهالسلام.
__________________
و «هي لغة :» أي في لغة العرب : «مأخوذة
من الهجر» الذي هو «نقيض الوصل» وهو ظاهر.
«و» هي «شرعا» أي في عرف أهل الشرع : «الرحلة»
أي الانتقال «من دار تظاهر أهلها بالعصيان» أي تعاونوا ، والمظاهرة المعاونة
مأخوذة من جعل الرجل ظهره إلى ظهر رجل غيره إذا أرادا الاجتماع والمعاونة على فعل.
والمراد هنا : أنهم تعاونوا ولم ينه
بعضهم بعضا فكأنهم قد تعاونوا بالعصيان «أو» الرحلة من دار لم يتعاون أهلها على
العصيان بل قد نهى بعضهم بعضا ولكنه لم يفد النّهي شيئا بل «ظهر» العصيان «بغير
جوار» من المسلمين بل بسلطان وقوة من الظالمين فحينئذ تكون الدار دار كفر إن كان
العصيان يوجب الكفر ، أو دار فسق إن كان العصيان يوجب الفسق فتجب الهجرة «إلى مكان
خلي عنهما» أي عن صفة الدارين المتقدم ذكرهما.
واعلم : أن الدور
ثلاث : ولها أحكام وهي : أن من رأيناه في دار الإسلام وكان مجهول الحال وجب اعتقاد
كونه من المسلمين في الظاهر لا في نفس الأمر وحينئذ تجرى عليه أحكامهم ويعامل
معاملتهم ومن رأيناه في دار الكفر وهو مجهول الحال وجب اعتقاد كفره في الظاهر لا
في نفس الأمر وتجري عليه أحكام الكفار.
قالوا : ومن ثمّ
كان معرفتها من فروض الأعيان على كل من يتعلق به شيء من هذه الأحكام إذ لا تقليد
في عمليّ يترتب على علميّ فدار الإسلام ودار الكفر ثابتتان إجماعا وإن اختلف في
تفسيرهما.
فعند أئمة العترة عليهمالسلام وبعض المعتزلة وغيرهم : أن دار الإسلام هي : ما ظهر فيها
الشهادتان والصلاة ولم يظهر فيها خصلة كفرية ولو تأويلا إلّا بجوار وذمّة من
المسلمين كإظهار اليهود والنصارى دينهم في أمصار المسلمين ، فلو ظهر فيها
الشهادتان والصلاة وظهر فيها خصلة كفرية كالجبر ونحوه من غير جوار فهي دار كفر.
وكلام المؤيّد
بالله عليهالسلام مؤوّل بمثل هذا.
وقال أبو القاسم
البلخي : العبرة بالغلبة والقوة ، فإن كانت القوة للكفار من سلطان أو رعيّة كانت
دار كفر ، وإن كانت للمسلمين فدار إسلام.
قلت : وهو كالأول
والله أعلم والدليل عليه : أن الأصل في إثبات الدار : مكّة والمدينة ، فكانت مكّة
قبل الفتح دار كفر إذ لم تظهر فيها الشهادتان والصلاة من المسلمين إلّا بجوار من
المشركين وظهر فيها الكفر من المشركين بغير جوار.
وكانت المدينة بعد
الهجرة دار إسلام إذ كانت بالعكس ممّا ذكر في مكة.
وأما دار الفسق :
فهي ثابتة عند الجمهور وهي : ما ظهر فيها العصيان من غير إمكان نكير.
وقيل : لا عبرة
بإمكان النكير فإنه إذا ظهر الفسق من غير نكير ولو كان يمكن النكير كانت دار فسق.
وبهذا صرّح جعفر بن مبشر.
قلت : إن كان يمكن
النكير ويحصل التأثير له لم تكن دار فسق وإن لم يحصل التأثير فهي دار فسق لأنّ
النكير وعدمه حينئذ سواء والله أعلم.
وقيل : إنما تكون
الدّار دار فسق إذا كان ذلك الفسق من جهة الاعتقاد كدار الخوارج والبغاة على
الأئمة ولا عبرة بفسق الجارحة.
وعلّل ذلك : بأن
للبغاة أحكاما مخصوصة فيجب أن تعتبر لهم دار منفردة كما في دار الكفر والإسلام.
وقال المؤيّد
بالله عليهالسلام : لا دار للفسق مطلقا سواء كان الفسق بالبغي أو بغيره إذ
لا حكم يستفاد منها لساكنها .
قلنا : تحريم
الموالاة حكم يستفاد منها وكذلك وجوب المعاداة ورد الشهادة وتحريم الصلاة على موتى
أهلها وتحريم غسلهم ونحو ذلك.
قال «أئمتنا عليهم» «السلام : وهي» أي
الهجرة من دار العصيان
__________________
«واجبة بعد الفتح» أي
فتح مكة ووجوبها باق إلى انقطاع التكليف لوجود علة الوجوب وهي العصيان.
«وقيل» : قد نسخت بقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «لا هجرة بعد الفتح».
وحكي في البحر هذا
القول عن المؤيّد بالله عليهالسلام.
«قلنا المراد» لا هجرة بعد الفتح «من
مكة شرفها الله تعالى» لأنه كان من أسلم من مكة قبل الفتح أمر بالهجرة إلى المدينة
فأخبر صلىاللهعليهوآلهوسلم
بأن حكم مكة بعد الفتح كحكم المدينة «إذ [قد] صارت دار إسلام كالمدينة لا» أنّه
أراد صلىاللهعليهوآلهوسلم
: لا هجرة بعد الفتح «من ديار الكفّار لما سيأتي» الآن «إن شاء الله تعالى».
والدليل على صحة
تأويلنا : ما روي عن معاوية بن عمرو قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ، ولا تنقطع التوبة
حتى تطلع الشمس من مغربها». أخرجه أبو داود.
وروى الأسيوطي في
الجامع الكبير : «لا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفّار» قال أخرجه أحمد والطبراني وابن
مندة والبيهقي عن عبد الله بن السعدي.
وروى أيضا : «لا
تنقطع الهجرة ما دام العدوّ يقاتل» قال : أخرجه البغوي وابن عساكر عن ابن السعدي.
وروى أيضا : «لا
تنقطع الهجرة ما تقبّلت التوبة ، ولا تزال التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من المغرب
، فإذا طلعت الشمس من المغرب ختم الله على كل قلب [بما فيه] وكفي النّاس العمل»
قال : أخرجه ابن عساكر عن عبد الرحمن بن عوف ومعاوية بن عمرو.
وما روي عن عبد
الله بن السعدي قال قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لا تنقطع الهجرة ما قوتل العدوّ» أخرجه النسائي وصحّحه
ابن حبان.
قال عليهالسلام : وهذا لا شكّ في صحته لموافقته الكتاب من نحو قوله تعالى
: (ما لَكُمْ مِنْ
وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا) .
والعدوّ يعمّ
الكفار وأهل الطغيان والبغاة والمنافقين.
قال : ولأنهم
حذفوا الزيادة من الخبر وهي تدل على قولنا ، لأنّ لفظ الخبر : عن ابن عباس رضي
الله عنهما قال قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم «لا هجرة بعد
الفتح ولكن جهاد ونيّة» أخرجه بزيادته البخاري ومسلم «ومن كان بين العدوّ فيبعد
منه الجهاد».
قال «جمهور أئمتنا عليهم» «السلام :
وتجب» الهجرة «من دار الفسق» وهي : ما تظاهر أهلها بالعصيان الذي لا يوجب الكفر ،
أو ظهر من غير جوار كما تقدم.
وسواء كان العصيان بالبغي أم بغيره «خلاف
الإمام يحيى عليهالسلام»
والفقهاء الأربعة ومن تبعهم فإنهم لا يثبتون دار الفسق ولا الهجرة عنها.
«لنا قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ
الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ ...) إلى قوله تعالى : (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ
اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ
مَصِيراً) «ولم يفصل» تعالى بين دار الكفر ودار الفسق لأنّ العلة العصيان.
وفي قوله تعالى : (فِيمَ كُنْتُمْ) من التوبيخ لهم بأنهم لم يكونوا في شيء من الدين حيث قدروا
على المهاجرة ولم يهاجروا ، فقالوا : كنّا مستضعفين اعتذارا ممّا وبّخوا به
واعتلالا بالاستضعاف ما لا يخفى فبكّتتهم الملائكة بقولهم (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً
فَتُهاجِرُوا فِيها) . أبلغ تأكيد على وجوب الهجرة.
«و» لنا أيضا : «قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم»
: «لا يحل لعين ترى
__________________
الله يعصى فتطرف حتى
تغير أو تنتقل» ولم يفصل صلىاللهعليهوآلهوسلم بين عصيان الكفر وعصيان غيره.
«وبيان الاستدلال به» أي بهذا الخبر : «أن
التحريم» أي تحريم غموض العين التي رأت العصيان قبل تغييره أو الانتقال إنّما هو «لأجل
العلم» بوقوعه «مع القرب» منه «بحيث يمكن أن يرى المعصية» ممّن فعلها ..
فالمعنى : لا يحل
لعين تعلم العصيان لله تعالى بمشاهدة أو نحوها كأن يكون قريبا منه بحيث يمكن أن
يراه ) «وإلّا» أي وإلّا يكن المراد ذلك «لقال
: حتى تغيّر أو تغمّض»
لأن تغميض العين لو
كان كافيا في إسقاط الواجب لذكره صلىاللهعليهوآلهوسلم وكان هو الأولى لأنّ في الانتقال والهجرة مشاقّا عظيمة فلا
يأمر بها ويحرض فيها بأبلغ تحريض وهو : قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «فتطرف» أي تردّ جفنا على جفن حتى تغيّر المنكر أو تنتقل
مع إمكان فعل يسير يقوم مقام الانتقال والهجرة وهو التغميض ، وفي هذا من المبالغة
على إزالة المنكر أو الهجرة ما لا يخفى.
«و» اعلم أنه «من حمل على فعل معصية» أي
أكره عليها «وجبت عليه الهجرة إجماعا» من العلماء كافّة.
وكذلك مع أمر
الإمام بالهجرة فتجب إجماعا.
قال «أئمتنا عليهم» «السلام : ومنه» أي
ومن الحمل على المعصية : «إعانة سلاطين الجور بالغارة» من الرعية معهم وتكثير
سوادهم «وتسليم المال إليهم قسرا» أي الغالب من تسليم المال إليهم إنّما هو بالقسر
وإلّا فلو سلّموه بالرضا لكان الحكم واحدا لأنه إعانة لهم على منكر «لما مرّ» من
الآية.
وقد أوسع الإمام عليهالسلام الاحتجاج في هذا في كتابه المسمّى بالتحذير من الفتنة ،
وذكر كثيرا من أقوال الأئمة عليهمالسلام فليرجع إليه فإنه لا يسع جهله.
__________________
قال عليهالسلام
حاكيا ومؤكدا لاحتجاجه : «قال المنصور بالله عليهالسلام
في» كتابه المسمّى «المهذب في باب السيرة في أهل الفسق ما لفظه : ونحن لا نشك أن
الضعفاء الذين لبّسوهم الحرير» أي هم الذين لبسوهم الحرير «وركبوهم الذكور وسقوهم
الخمور فأي عون أعظم من هذا».
وهذا تصريح منه عليهالسلام بأن هذا الذي وصفه من فعلهم أعظم عونا لسلاطين الجور على
العصيان ، وهم إنّما أعطوهم الدراهم والدنانير ونحوها.
«وقال عليهالسلام»
أي المنصور بالله عليهالسلام
«فيه في باب الهجرة ما لفظه : لأنّ أشد المظاهرة وأعظمها تقويتهم بالخراج» أي
تقوية سلاطين الجور بتسليم الخراج «وكونهم» أي الرعية «مستضعفين فيما بينهم» أي
فيما بين سلاطين الجور «لا يخرجهم عن حكمهم» أي لا يخرج الرعية عن حكم سلاطين
الجور الذين أعانوهم بل حكمهم حكمهم في غضب الجبار واستحقاق النار لقوله تعالى : (إِنَّكُمْ إِذاً
مِثْلُهُمْ).
وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم «المعين للظالمين
كالمعين لفرعون على موسى صلّى الله عليه» رواه الهادي عليهالسلام في الأحكام.
وعنه صلىاللهعليهوآلهوسلم «إذا كان يوم
القيامة نادى مناد أين الظلمة وأعوان الظلمة وأشباه الظلمة حتى من برى لهم قلما أو
لاق لهم دواة ، فيجمعون في تابوت من حديد ثم يرمى بهم في جهنم» وغير ذلك كثير.
واعلم : أن أعظم
الفتن في الدين وأكثر المفاسد وأشدّ الإعانة للظالمين : سكون علماء السّوء بين
ظهرانيهم ومواصلتهم فإنه لو لا ذلك لما انتصب للظالمين راية ولا استقامت لهم شوكة
لأنّ الأكثر من العوام إنّما يقتدي بعلماء السّوء في ذلك.
وقد روي في الخبر
الطويل الذي أخرجه السيد : ظفر بن داعي بن مهدي العلوي عن ابن مسعود رضي الله عنه
عن النبيء صلّى الله عليه
وآله وسلّم أنه
قال : «يا ابن مسعود : لا يجيء هلاك أمّتي إلّا من الفقهاء وعلماء السّوء ومنهم
هلاك الدين» ، يا ابن مسعود : قال الله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ
حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ
أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا
يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) .
ولمّا خالط الزهري
السلاطين كتب إليه أخ له في الدين :
عافانا الله
وإيّاك أبا بكر من الفتن فقد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك أن يدعو الله لك ويرحمك ،
أصبحت شيخا كبيرا وقد أثقلتك نعم الله بما فهّمك من كتابه وعلمك من سنّة نبيئه ،
وليس كذلك أخذ الله الميثاق على العلماء قال الله سبحانه : (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا
تَكْتُمُونَهُ) واعلم : أن أيسر ما ارتكبت وأخف ما احتملت : أنك أنّست
وحشة الظالم وسهلت سبيل الغيّ بدنوّك ممّن لم يؤد حقّا ولم يترك باطلا حين أدناك
اتخذوك قطبا تدور عليك رحى باطلهم وجسرا يعبرون عليك إلى بلائهم وسلّما يصعدون فيك
إلى ضلالهم ويدخلون بك الشك على العلماء ويقتادون بك قلوب الجهلاء ، فما أيسر ما
عمروا بك في جنب ما خرّبوا عليك ، وما أكثر ما أخذوا منك فيما أفسدوا عليك من دينك ... إلى آخر الكتاب. ذكر هذا في
الكشاف.
وروي عن زيد بن
علي عليهالسلام من رسالته التي كتبها إلى العلماء في وقته ومنها قوله : (عباد
الله : إن الظالمين قد استحلوا دماءنا فأخافونا في ديارنا وقد اتخذوا خذلانكم حجة
علينا فيما كرهوه من دعوتنا وفيما سفهوه من حقّنا ، وفيما أنكروه من فضلنا ، عباد
الله : فأنتم شركاؤهم في دمائنا وأعوانهم على ظلمنا فكل مال لله أنفقوه وكل جمع
جمعوه وكل سيف شحذوه وكل عدل تركوه وكل جور ركبوه وكل ذمّة لله أخفروها وكل مسلم
أذلّوه ، وكل كتاب نبذوه وكل حكم لله عطّلوه وكل عهد لله نقضوه فأنتم المعاونون
لهم بالسكوت عن نهيهم عن السوء.
__________________
عباد الله : إن
الأحبار والرهبان من كل أمّة مسئولون عمّا استحفظوا عليه فأعدّوا جوابا لله سبحانه
عن سؤاله). انتهى.
وعنه صلىاللهعليهوآلهوسلم «يأتي على الناس
زمان لا يبقى من الإسلام إلّا اسمه ولا من القرآن إلّا رسمه مساجدهم يومئذ عامرة
من أبدانهم وهي خراب من الهدى ، فقهاؤهم شرّ من تحت أديم السماء منهم خرجت الفتنة
وفيهم وقعت» رواه عليّ عليهالسلام ذكره الحاكم في السفينة.
قال «أئمتنا عليهم» «السلام : ولا رخصة
في ذلك» أي لا رخصة في ترك الهجرة «إلّا للمحاط به» من الجوانب بحيث لا يتمكن من
الهجرة كالمأسور ونحوه.
«و» إلّا «المستضعفين من الرجال
والنّساء والولدان الّذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا» فهؤلاء معذورون «لقوله
تعالى :
(إِلَّا
الْمُسْتَضْعَفِينَ ...) الآية لعدم تمكّنهم من الهجرة ، والمراد بهم : الفقراء الذين لا
يجدون ما يوصلهم إلى دار الهجرة وأهل العجز الذين لا يقدرون على المشي ولا الركوب
، والذي لا يدري أين يتوجه ولا يجد من يدلّه الطريق.
وروى صاحب الكشاف
أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بعث بهذه الآية إلى مسلمي مكة فقال جندب بن ضمرة (أو ضمرة
بن جندب) لبنيه احملوني فإنّي لست من المستضعفين وإنّي لأهتدي الطريق والله لا بتّ
الليلة بمكة فحملوه على سرير متوجها إلى المدينة وكان شيخا كبيرا فمات بالتنعيم.
(فصل)
«ويجوز الوقوف في دار العصيان» سواء
كانت دار كفر أو غيره «لحبس أو ضعف» أي عدم تمكن من الخروج منها «لما مرّ» من
الآية «و» يجوز أيضا الوقوف فيها «لمصلحة عامة» دينية يعود نفعها للمسلمين لا
دنياوية ولو عامّة
وذلك «كوقوف» أي كما جاز وقوف «بعوث رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم»
أي الذين بعثهم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلى بعض من أرسل إليهم فإنّه معلوم وقوفهم «بين الكفار لدعائهم» إلى الإسلام
وتعليم الشرائع «ولا بدّ مع ذلك من إذن الإمام إن كان» ثمّ إمام «ما لم تقارن
مفسدة» في الدين «من انتشار بدعة» في الدين كأن يقتدي به غيره أو يقع بوقوفه تلبيس
بعدم وجوب الهجرة أو أي مفسدة «أو» كان وقوفه يؤدي «إلى خذلان الإمام» وتوهين
جانبه «وإلّا» أي وإن لم يخل عن المفسدة «صار» الوقوف حينئذ «كالإغراء» بفعل
المفسدة والإغراء بالقبيح قبيح.
(كتاب المنزلة بين
المنزلتين)
ومعنى ذلك الشيء
بين الشيئين في العلوّ والانحطاط لأنّ مرتكب الكبيرة له حكم بين الحكمين واسم على
ما زعموه بين الاسمين وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى ، ولمّا كان ذلك يستدعي
معرفة المنزلتين ذكرهما فقال عليهالسلام :
(فصل)
قال «أئمتنا عليهمالسلام
والجمهور : والمعاصي صغائر وكبائر».
فالكبائر : ما يستحق فاعلها العقاب
الدائم إن لم يتب.
والصغائر : هي التي تكون مكفّرة في جنب
الطاعات أو مطلقا.
وقالت الخوارج «والأسفراييني» من
المجبرة «وموافقوه : بل» كل المعاصي «كبائر فقط».
أما الخوارج : فلأنّ كل معصية عند بعضهم
توجب الكفر وعند بعضهم كل ما ورد فيه وعيد أوجب الكفر ، وعند بعضهم : كل ما ثبت في
العقل تحريمه ففعله كفر ولا صغيرة عندهم جميعا.
وأما الأسفراييني : فهذه رواية صاحب
الفصول عنه ولعله يقول : إنها كبائر وإن جوز العفو عنها أو عن بعضها ، والله أعلم.
«لنا» : قوله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما
تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ
سَيِّئاتِكُمْ)
(وَنُدْخِلْكُمْ
مُدْخَلاً كَرِيماً) فأفهم قوله تعالى : (كَبائِرَ) أنّ في العصيان صغائر ، وأكده بقوله تعالى : (نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ).
وقوله تعالى : (لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً
إِلَّا أَحْصاها) وغير ذلك.
فإن قيل : الصغائر
: لا يعاقب عليها : فالمراد حينئذ في معنى الآيتين ما اعتقدوه صغيرا وهو في نفس
الأمر كبير.
قلنا : لا يمتنع
أن يراد بالصغيرة هنا المعنى المصطلح عليه ولكنها تكتب على الكافر والفاسق
ويعاقبان عليها لأنه لا صغيرة لهما مغفورة ، ويحتمل : أن تكتب الصّغائر ولا يعاقب
عليها والله أعلم.
قالت «الناصرية» وهم أصحاب الناصر الأطروش عليهالسلام : «وهو ظاهر كلام
الهادي عليهالسلام
في كتاب المنزلة بين المنزلتين حيث قال :
وأصحاب الكبائر المنتهكون» أي هم
المنتهكون «للمحارم ولم يفصل» الهاديعليهالسلام بين محرّم ومحرّم.
«و» هو «صريح قول المرتضى عليهالسلام
في» كتاب «الإيضاح ، وقول القاسم بن علي العياني عليهالسلام
في الجزء الثاني من كتاب التنبيه والدلائل».
وهو أيضا قول «بعض البغدادية» فهؤلاء
قالوا : «كل عمد» يفعله المكلف «كبيرة» ، والصغيرة : ما صدر عن سهو أو إكراه أو
تأوّل أو نحو ذلك.
وروي عن أبي علي
أنه قال : ما أقدم عليه العاصي بتأويل أو ترك استدلال فمحتمل للكبر والصغر لا ما
أقدم عليه مع العلم بقبحه فإنه كبيرة ، وقد نقلت أقوال الأئمة المذكورين عليهمالسلام بألفاظها في الشرح.
وقال «بعض الزيدية» كالإمام المهدي عليهالسلام وغيره «و» هو قول البصرية من المعتزلة ونسبه في الفصول إلى أئمتنا عليهمالسلام وهو قول
__________________
«بعض البغدادية
والطوسي»
وهو مصنف البلغة
أبو العباس محمد بن محمد ابن أحمد : «بل بعض العمد
ليس بكبيرة».
قالوا : إذ لا
مانع من أن يكون في العمد المعلوم قبحه ما هو صغير إذ لم يفرق الدليل المجوّز
للصغائر بين العمد وغيره ، وقد ثبت أن في الأنبياء من فعل ما هو ذنب صغير فإمّا أن
يقع ذلك منه سهوا فليس بمعصية ولا ذنب ، أو عمدا فهو الذي نقول.
قالوا : فإن قيل :
وقع منه لترك الاستدلال؟
قلنا : فترك
الاستدلال كان عمدا أو سهوا :
إن كان سهوا فلا
ذنب ، وإن كان عمدا فهو الذي نقول والكلام فيه كذلك فتسلسل وهو محال.
قلنا : خطايا
الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ليست بعمد ولا مانع من أن تسمّى معصية وذنبا وقد
سمّاها الله معصية وخطيئة كما سيأتي إن شاء الله.
قال النجري :
اتفقت المعتزلة على أن ذنوب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ومن كان على صفتهم في
العصمة : كلها صغائر ، وذنوب الفساق كلها كبائر ، ومن عداهم من المكلفين فإنه يجوز
في معاصيهم أن تكون صغائر وأن تكون كبائر إذ كون الذنب صغيرا أو كبيرا بحسب قلة
الثواب والعقاب وكثرتهما.
قالوا : ونحن لا
نعلم مقاديرهما.
قلت : وهو بناء
على الموازنة وسنبطلها إن شاء الله تعالى.
«لنا» حجة على قولنا : أنّ كل عمد كبيرة :
«قوله تعالى»
(وَمَنْ يَعْصِ اللهَ
وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) «ولم يفصل تعالى» بين عصيان وعصيان في التّوعّد عليه بنار جهنم والخلود فيها.
__________________
«وقوله تعالى» : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ
وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ) «ولم يفصل» أيضا بين عصيان وعصيان فاقتضى ذلك العموم في الآيتين أن كل
عصيان لله تعالى يقتضي الخلود في النار.
وخصّصنا الخطأ
والنّسيان وما وقع اضطرار إليه بما سيأتي إن شاء الله تعالى من الأدلة على سقوط
عقابها.
«و» أيضا : «لم يغفر الله سبحانه سيّئة
من غير توبة إلّا الخطأ والنسيان والمضطر إليه» لقوله تعالى : (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ
بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) .
وقوله تعالى
معلّما لعباده ومرشدا (رَبَّنا لا
تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) ،
«واستثنى تعالى المضطر» حين عدّ المحرمات بقوله تعالى (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي
مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) .
«و» من السّنّة : «قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم»
«رفع عن أمّتي الخطأ والنسيان ... الخبر».
تمامه : «وما
استكرهوا عليه».
وأما ما يحكى عن
النظام : من أن الخطأ والنسيان غير معفوّين عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لعظم
درجاتهم وكونهم مأمورين بالحفظ والتّحرّز من السهو بخلاف غيرهم : فقول باطل
لمصادمته النص ولأنه يؤدّي إلى تكليف ما لا يطاق والله يتعالى عنه.
«فعلمنا بذلك أنّ الكبير : ما وقع عمدا
من غير اضطرار».
فإن قالوا : بل قد
ثبت أن الله يغفر بعض الذنوب المتعمدة بغير توبة وذلك فى جنب الحسنات لقوله تعالى
: (إِنَّ الْحَسَناتِ
يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ)
__________________
وقوله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما
تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) ونحو ذلك.
والجواب والله
الموفق : أن هذا احتجاج بمحل النزاع.
قال المرتضى عليهالسلام في هذه الآية : والمعنى في ذلك عندنا فهو : إن تجتنبوا
العمد من أفعالكم نكفر عنكم الخطأ من أعمالكم ، فإن قال قائل : هل الخطأ سيّئة؟ .
قلنا له : نعم لو
لا أنه سيئة ما ذكره الله سبحانه ولا أوجب فيه ما أوجب من حكمه ، وهل رأيتم مخطئا
في فعله لم يوجب الله عليه في فعله شيئا ... إلى آخر كلامه عليهالسلام.
فإن قالوا : لو
كان المراد بالسيّئات في الآيتين الخطأ والنسيان
____________________________________
(٢) قال في حاشية في شرح الأساس للسيد
العلامة أحمد بن محمد لقمان رحمهالله ما لفظه أقول لا دلالة في الآية على أنّ
الاجتناب سبب بل تدل على أنه شرط في الغفران للمخاطبين وإدخالهم الجنة ولعلهم قد
عصوا عمدا فيما مضى من أزمانهم بل الظاهر أنّ جميع المؤمنين بالرسول في زمن الرسول
صلىاللهعليهوآلهوسلم
كانوا كفّارا إلّا علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه في الجنة والأحداث ثم أسلموا
فإن قلت من بعدهم في حكمهم قلت معنى الآية نكفر عنكم سيئاتكم من الذنوب إن كان
عليكم سيئات بدليل أنها تصلح خطابا لكل مكلّف والمعلوم أن من المكلفين من هو معصوم
لا سيئة عليه ولا يجوز أن تكون المكفّرة عين المجتنبة لأنه لا يمكن تكفيرها ولم
تقع ولا اجتناب ما قد وقع فثبت أنّ المكفّر غير المجتنب ولا يجوز أن يكون المكفر
الخطاء ونحوه لأنه يغفر من دون اجتناب الكبائر ولا العمد الذي لم يتب عنه لأنه لا
يغفر مع عدم التوبة وهو كبيرة وهذا محل النزاع فثبت أن يكون المكفّر ما تبت منه لا
يقال التوبة مكفّرة بنفسها ولا تأثير للاجتناب معها لأنّا نقول بل هو شرط في
تكفيرها للذنوب فمن تاب ثم لم يجتنب الكبائر رجعت عليه الذنوب التي تاب منها وإن
تاب واجتنب كفرت عنه فثبت أنّ الاجتناب شرط لا سبب ويؤيّد هذا أنّ الخطاب للمؤمنين
وكل من ليس بتائب ليس بمؤمن فليس مخاطبا بالآية فليس له حكمها فتأمل تمت.
__________________
ونحوهما لما كان
للشرط فائدة لأن الخطأ والنسيان معفوّان على كل حال وكذلك لم يكن في ذكر الوعك في
قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم «من وعك ليلة ...
الخبر : فائدة .
قلت : قال الإمام عليهالسلام : والمراد في قوله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا
كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) : تكفير السيئات بالتوبة حيث اجتنب ما عداها ممّا يجازى عليه
المكلف ، وأمّا إذا تاب من السيئات الكبيرة مع عدم تجنّبه لشيء من الكبائر فإن
الله تعالى لا يقبل توبته بدليل قوله تعالى : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ
اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) .
والمراد بقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم «من وعك ليلة كفر
الله عنه ذنوب سنة» ونحوه من الأخبار : كونه سببا للألطاف الدّاعية إلى التوبة إذا
وقع الصّبر والرّضا بقضاء الله تعالى لأنهما من الأعمال ، وقد قال تعالى : (وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ
فِيها حُسْناً) .
ودواعي التوبة لا
شك أنها من ألطاف الله تعالى. انتهى.
وقد تقدم من قوله
في الآلام : أنه لا يبعد أن يجعل الله عقاب بعض المعاصي المتعمدة في الدنيا ،
وكذلك سيأتي حكاية ذلك في باب التوبة إن شاء الله تعالى.
وقالت «البصرية» ليست كل عمد كبيرة «بل
ما وجب فيه حدّ» كالزنى وشرب الخمر ونحوهما «أو نصّ على كبره «من الشارع بأن يصفه
بالكبر أو بالعظم أو الفحش أو الإحباط أو الغضب على فاعله أو نحو ذلك فكبير «وغير
ذلك محتمل» للصغر والكبر.
وحكى صاحب الفصول
عن أئمتنا عليهمالسلام وبعض البغدادية
__________________
والطوسي : أن ما توعد
الله عليه بعينه كمخالفة الإجماع فهو كبير وما عداها محتمل.
«قلنا : استحق فاعلها» أي المعصية
المتعمدة «النار قطعا بالنص» الذي تقدم ذكره من الآيات العامة لكل معصية «فلا
احتمال» للصغر فيما ارتكبه المكلف عمدا من غير تأويل ولا اضطرار.
ويؤيّده : ما رواه
الهادي عليهالسلام بإسناده عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أنه قال «من اقتطع حق مسلم بيمينه حرّم الله عليه الجنة
وأوجب له النار.
قيل يا رسول الله
: وإن كان شيئا يسيرا؟
قال : وإن كان
قضيبا من أراك قال ذلك ثلاث مرّات».
وروى المؤيّد
بالله عليهالسلام في سياسة المريدين قال : بلغنا أن الله تعالى أوحى إلى
نبيئه داود عليهالسلام : أن أنذر الصديقين وبشّر المذنبين ، قال يا رب : كيف أنذر
الصديقين وأبشر المذنبين؟
قال : بشّر
المذنبين بأني أقبل التوبة منهم.
وأنذر الصديقين
لئلّا يغتروا بأعمالهم».
قال الإمام «المهدي» أحمد بن يحيى عليهالسلام
«وجمهور البصرية : والصغائر كلها غير متعينة لأنها بعض العمد» وليس الخطأ والنسيان
والمضطر إليه عندهم من الصغائر لأنّ ذلك غير معصية.
كما سبق ذكره عنهم قالوا «إذ تعيينها» أي
الصغائر «كالإغراء» بفعلها والإغراء بفعل القبيح قبيح.
«قلنا : بل كلها متعين لأنها الخطأ» والنسيان
والمضطر إليه وما وقع بتأويل.
وحكى مصنف الباهر
عن الناصر عليهالسلام أنه قال بعد أن سأل نفسه عن علامة الصغائر الممحضة
المغفورة فقال : إن الصغائر مثل ما
ذكرته اللكزة
والكذب في غير الإصرار وترك الأدب غير أنّي أوثر ترك وصف الصغيرة من الكبيرة
ليكون التوقّي للصغيرة والكبيرة معا إذ كانتا جميعا معصية وكانتا موجبتين للعقاب
إمّا في العاجل وهو عذاب الصغائر ، وأمّا في الآجل وهو عذاب الكبائر ليحذر من ظن أنه
مواقع صغيرة أن تكون كبيرة فيستوجب العقوبة ويتجنب الجميع. انتهى.
وحكى البستي عن
الناصر عليهالسلام أنه قال : إن كل من ارتكب ما حرم الله عمدا مع علمه أنّ
الله حرّمه وكذلك ما حرّم رسول الله وكذلك ما حرّم الأمّة إذا ارتكب مع العلم
متعمدا فهو مرتكب الكبيرة وما عدا ذلك صغائر كإتباع النظرة النظرة والكذب في غير
إصرار ، وكاللكزة الخفيفة ، وقول القائل لأخيه : أخزاه الله ، أو يقول : يا كذاب
وهو في ذلك غير متعمد وما أشبه ذلك فإحصاء جميعه يكثر. انتهى.
(فصل)
قال «الهادي والناصر عليهماالسلام
وبعض البغدادية» وهو قول جمهور أئمة أهل البيتعليهمالسلام
: «وخطايا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا عمد فيها».
إذ لا يجوز عليهم
صلوات الله عليهم تعمد عصيان الله تعالى لمكان العصمة والطهارة والتزكية.
وقال الإمام «المهدي» أحمد بن يحيى «عليهالسلام»
وبعض المتأخرين «والبصرية» من المعتزلة : «بل هي عمد» منهم وإنّما وجب القطع
بصغرها لكثرة ثوابهم.
«لنا قوله تعالى» في خطيئة آدم عليه الصلاة والسلام (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ
قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) أي عزما على فعل المعصية بل
__________________
ارتكبها ناسيا.
هكذا ذكره الهادي عليهالسلام وقد ذكرته في الشرح.
وقال الإمام
القاسم بن علي العياني عليهالسلام : ولم نجد له عزما على افتقاده لنفسه من الغفلة والسّهو ،
وهو قريب من كلام الهادي عليهالسلام.
وقال صاحب الكشاف
: العزم : التصميم ، والمضيّ على ترك الأكل.
قال : «وأولو
العزم من الرسل» هم أهل الجهاد والصبر.
وقال بعضهم : أولو
العزم هم كل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
ولم يتخذ الله
نبيئا إلّا كان ذا عزم وإنّما دخلت (من) للجنس لا للتبعيض وهذا قول جماعة من أهل
التفسير ، وقواه الإمام محمد بن المطهر عليهالسلام في عقود العقيان ، وهو الأولى ، والله أعلم.
«و» لنا أيضا في خطيئة يونس صلىاللهعليهوآلهوسلم «قوله تعالى» : (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً
فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) أي لن نضيّق عليه أي
لا نؤاخذه»
في ذهابه مغاضبا
لقومه ومثل هذا ذكره الديلمي عليهالسلام في البرهان وصاحب الكشاف.
وقال الهادي عليهالسلام : إنما كان ذهابه غضبا على قومه واستعجالا منه دون أمر
ربّه إلى قوله عليهالسلام «فظنّ أن لن نقدر
عليه» أي : أفظن على معنى الاستفهام ولم يكن ظن ذلكعليهالسلام.
قال : وهذا ممّا
احتججنا به في طرح الألف التي تطرحها العرب وهو يحتاج إلى إثباتها ، وتثبتها في موضع وإن لم يحتج إليها ... إلى
آخر كلامه عليهالسلام.
«قالوا» أي مخالفونا : «ما تعمده
الأنبياء عليهم الصلاة والسلام» من المعاصي «فصغير لكثرة ثوابهم» كما سبق ذكره
عنهم.
«قلنا» كثرة الثواب لا تأثير لها في جعل المعصية صغيرة.
__________________
«قال الله تعالى» في حق نبيئنا صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو سيّد الأنبياء وأفضلهم وثوابه أكثر (لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ
شَيْئاً قَلِيلاً إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ
لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً) .
فدلّت هذه الآية :
أن الركون القليل من النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى المشركين يحبط ثوابه ويبطله ولو كان كثيرا.
قال في الكشاف في
معناها : أي لأذقناك عذاب الآخرة وعذاب القبر مضاعفين وأصله : لأذقناك عذاب الحياة
وعذاب الممات ، لأن العذاب عذابان : عذاب في الممات وهو عذاب القبر ، وعذاب في
حياة الآخرة وهو عذاب النار ، والضعف يوصف به نحو قوله تعالى : (فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ) بمعنى مضاعفا فكان أصل الكلام : لأذقناك عذابا ضعفا في
الحياة وعذابا ضعفا في الممات ثم حذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه وهو الضعف ، ثم
أضيفت الصفة إضافة الموصوف فقيل : ضعف الحياة وضعف الممات كما لو قيل : لأذقناك
أليم الحياة وأليم الممات.
قال : وفي ذكر
الكيدودة وتقليلها مع إتباعها الوعيد الشّديد بالعذاب المضاعف في الدارين دليل
بيّن على أنّ القبيح يعظم قبحه بمقدار عظم شأن فاعله وارتفاع منزلته.
قلت : وهذا حق وهو
عكس ما ذكره المخالف.
«فليس ما قالوا» من أن معاصي الأنبياء المتعمدة صغائر لكثرة ثوابهم «بصحيح ،
وأيضا لا خلاف في وقوع خطايا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام» لأنّ الله سبحانه قد أخبر بها وهو أصدق القائلين «فإن
تعمّدوها لأجل تعريفهم أنها صغائر» أي لأجل إعلام الله سبحانه إيّاهم أنها صغائر «فذلك
إغراء» منه تعالى بفعلها «وهو» أي الإغراء بفعلها
«لا يجوز على الله تعالى» لأنّ الإغراء بفعل القبيح كفعل القبيح.
__________________
«وإن تعمّدوها جرأة على الله تعالى من
غير مبالاة» منهم «بصغرها وكبرها وحاشاهم عن ذلك ثم بيّنت لهم» أي أنها صغائر
مغفورة «من بعد» الإقدام عليها جرأة
«فذلك مؤدّ إلى التنفير عن قبول ما أتوا به» من الشرائع «وذلك» أي ما أدّى إلى
التنفير «باطل» لا يجوز وقوعه في حق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
فإن قيل : إن
تعريفهم بها لا يكون إغراء في حقهم لشدة رغبتهم في طاعة الله سبحانه فيكون علمهم
بأنها تنقص من ثوابهم كافيا لهم في الزجر عنها؟
قلنا : هذا متناقض
لأنها إن كانت معصية يكرهها الله تعالى فإن فعلوها مع هذا فهو حقيقة الإغراء ، وإن
لم يفعلوها فلا معصية حينئذ منهم وأما معصية الأسباط مع يوسف عليهالسلام فهي من صريح العمد ولكن الله سبحانه قد أخبر بتوبتهم
وندمهم وغفران خطيئتهم ولا مانع مع ذلك أن يكونوا أنبياء من بعد ذلك إذا علم الله
طهارتهم كما ذكره الإمام أحمد بن سليمان والقاسم بن علي العياني عليهمالسلام والله أعلم. مع أنه لا دليل على نبوءتهم.
وأمّا قوله تعالى
: (وَالْأَسْباطِ) فالمراد بهم ذراري أبناء يعقوب عليهمالسلام لأنّ السبط الحافد وولد الولد. والله أعلم.
(فرع)
«ووقوعها» أي المعصية «منهم» أي من
الأنبياء عليهم الصلاة والسلام «من باب التأويل وهو لتفريطهم في التحرّز» عن
المعصية «لظنّهم أنهم لا يقعون فيها» لما معهم من الخشية لله سبحانه والمراقبة له
جلّ وعلا في السّرّ والعلن فكان ذلك سببا في وقوع المعصية منهم سهوا.
«ومن ذلك» أي من المعاصي التي سببها
التفريط في التحرّز «خطيئة
__________________
آدم عليهالسلام»
في أكله من الشجرة «أو لظنهم أنها غير معصية» لله تعالى.
«ومن ذلك خطيئة يونس عليهالسلام»
كما سبق ذكره أنه ظنّ أن لا يعاقبه الله على مغاضبته لقومه لمّا كان ذلك غضبا لله
تعالى «و» خطيئة «داود عليهالسلام»
أيضا في شأن امرأة أوريا وذلك أنه حين رآها تمنّاها في نفسه أن تكون من أزواجه ولم
يكن منه غير ذلك على ما حكاه الهادي عليهالسلام
وغيره واعتقد أن ذلك لا يؤاخذ به.
(فصل)
«والإيمان لغة التّصديق» كما قال الله
تعالى حاكيا [عن أولاد يعقوب] «وما أنت بمؤمن لنا» أي بمصدّق لنا.
وقال الناصر عليهالسلام : هو مشتق من الأمان لأنّ المؤمن يؤمّن نفسه من سخط الله
ووعيده ويوجب له رضوانه.
واعلم : أن هذه المسألة تنبني عليها
مسألة الإرجاء ومسألة المنزلة بين المنزلتين وقد اختلف في الإيمان في الشرع على
عشرة أقوال الأول والثاني والثالث قول «أئمتنا عليهم» «السلام وجمهور المعتزلة
والشافعي وبعض الخوارج» وهم الفضلية والبكرية والأزارقة والصفرية [لأن الفضلية
يقولون : من أخلّ بشيء من
الواجبات أو فعل شيئا من المحرمات كفر فجعلوا فعل الواجبات وترك المحرمات من شروط
الإيمان وإن خالفوا في اسم من ترك بعض الواجبات وفعل المحرمات ، وكذلك الأزارقة
والصفرية قد شرطوا في الإيمان ترك ما ورد الوعيد عليه ، ومن ارتكب ما ورد الوعيد
عليه كفر وخرج من الإيمان وأمّا ما لم يرد الوعيد عليه فلا يكفر فإن صحّ عنهم أنهم
يقولون : إن بعض المعاصي لا وعيد عليه كانوا خارجين عن هذا القول وإلّا فالظاهر
أنهم يقولون : إن بعض المعاصي وهي التي لم يرد فيها دليل وعيد لا توجب الكفر لأنها
لا تخرج صاحبها من الإيمان والعمدة تحقيق النقل عنهم بتحقيق مذاهبهم].
«ودينا» أي في دين الإسلام بنقل الشارع له إليه : «الإتيان
بالواجبات واجتناب المقبّحات»
فهو اسم مدح
يستحقّ به الثواب فيشمل الملائكة والأنبياء ومن له ثواب من الجن والإنس ، وليس
مشتقا من التصديق بمعنى أنه لا يلزم إذا حصل تصديقا ما أن يسمّى صاحبه مؤمنا ، بل
من فعل الواجبات واجتنب المقبّحات فهو مؤمن عند هؤلاء المذكورين كلهم ثم اختلفوا
فيمن أخلّ بشيء من الواجبات أو فعل شيئا من المحرمات : فعند أئمتنا عليهمالسلام وجمهور المعتزلة والشافعي : لا يكفر بذلك إلّا أن تكون
المعصية ممّا دلّ الدليل القطعي على كفر صاحبها كما سيأتي إن شاء الله تعالى
فالمؤمن عندهم : هو من اعتقد بقلبه وأقرّ بلسانه وعمل بجارحته ، فإن أخلّ بالأول
فقط كان منافقا ، وإن أخلّ بالثاني كان كافرا ، وإن أخلّ بالثالث كان فاسقا.
والإيمان عندهم
يزيد وينقص.
وقالت الفضلية
والبكرية من فرق الخوارج : بل من أخلّ بشيء من الواجبات أو فعل شيئا من المحرمات
كفر.
وقالت الأزارقة
والصفرية : بل ما ورد فيه الوعيد من المعاصي فكفر دون ما عداه ، وهو بناء على أن
بعض المعاصي لا وعيد فيها ، وسيأتي الردّ عليهم إن شاء الله تعالى.
الرابع : قول «الأشعرية : بل» الإيمان «التصديق
بالله تعالى فقط» أي من دون سائر الأعمال فهو باق على معناه اللغوي لم ينقل.
الخامس : قول «الكرامية» من المجبرة «بل»
هو «الإقرار باللسان فقط» وإن لم يعمل عملا ، وظاهر قولهم أنه لا يشترط مطابقة
اللسان للجنان فيلزمهم أن يكون المنافق مؤمنا ولا قائل به ، وأن يكون الأخرس غير
مؤمن وهو معلوم البطلان.
السادس : قول «الجهمية» من الجبريّة «و»
بشر «المريسي» من المعتزلة : «بل» هو «المعرفة فقط» من دون اعتبار تصديق ولا عمل.
هكذا ذكره النجري.
قلنا : فيلزم فيمن
عرف بقلبه ولم يقرّ بلسانه أن يكون مؤمنا ولا قائل به.
السابع : قول «محمد بن شبيب» من مرجئة
المعتزلة «بل» هو «الإقرار بالله تعالى ورسوله» صلىاللهعليهوآلهوسلم «والمعرفة بذلك» بالجنان «وما نصّ عليه» أي نصّ الله ورسوله عليه «أو
أجمع عليه»
أي أجمعت الأمّة
عليه من الأحكام الشرعية «لا ما استخرج» بالنظر واستنبط بالاجتهاد.
فالأعمال على هذا
خارجة عن الإيمان وكذلك بعض المعارف فيلزمهم أنّ من عرف بقلبه وأقرّ بلسانه
واستخفّ بالأنبياء وكتب الله وملائكته وهدم المساجد أن يكون مؤمنا ولا قائل به.
الثامن : قول «الحنفية : بل» هو «الإقرار
بالله ورسوله» وجميع الشرائع باللسان «والمعرفة بذلك» بالجنان «مطلقا» أي سواء كان
ممّا نصّ عليه أو أجمع عليه أو لا ، والأعمال كلها خارجة عن الإيمان.
التاسع : قول «الغيلانية» من مرجئة
المعتزلة : «بل» هو «الإقرار» باللسان «والمعرفة بالله» بالجنان «وبما جاء عن الله
تعالى» من الشرائع إذا كان ذلك «مجمعا عليه».
وأمّا ما اختلف
فيه فليس من الإيمان ، وهذا القول قريب من قول محمد بن شبيب إلّا أنه زاد معرفة ما
نصّ عليه ، والفرق بين قول الحنفية وقول بن شبيب : أن الحنفية يعمّمون المعرفة
بجميع الشرائع سواء كان مستنبطا أو منصوصا ، والأعمال كلها على هذه الأقوال خارجة
عن الإيمان فيلزمهم أن يكون من أقرّ بلسانه وعرف بقلبه وعاند بالتكبّر والحسد وقتل الأنبياء مؤمنا.
العاشر : قول «النجدات» من الخوارج : «بل»
هو «الإقرار بالله تعالى [وملائكته] وكتبه ورسله وترك الفعل المحرم عقلا» ومن أخلّ
بشيء من
__________________
ذلك كفر ، فأمّا
ما ليس في العقل تحريمه من الأمور الشرعية فليس من الإيمان ، وهذا القول باطل من
وجهين :
أحدهما : إخراج الشرعيات عن الإيمان.
وثانيهما : قولهم : ومن خالف شيئا من ذلك كفر إذ من المعاصي ما لا كفر
فيه كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
«لنا» حجة على قولنا :
«قوله تعالى» :
(إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ، وَإِذا
تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ
، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أُولئِكَ
هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) .
فأخبر الله سبحانه
أنه لا بدّ في حقيقة الإيمان من العمل وأنه لا يسمّى مؤمنا من لم يضم العمل [الصالح]
إلى التصديق والمعرفة بالجنان والإقرار باللسان بقوله (إنما) وهي موضوعة للحصر ،
أي لا يسمّى مؤمنا من لم يصلّ ولم ينفق ممّا رزقه الله تعالى.
«ونحوها» كقوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ
لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) .
وقوله عزوجل : (ما كُنْتَ تَدْرِي
مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) .
والمراد الشرائع
لأنه صلىاللهعليهوآلهوسلم مصدّق بالله تعالى عارف به من قبل بعثته صلىاللهعليهوآلهوسلم.
«و» لنا أيضا من السنّة : «قوله
صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «الإيمان بضع وسبعون شعبة ، والحياء شعبة من الإيمان ، وأفضلها قول : لا إله
إلّا الله وأدناها إماطة الأذى عن
الطريق».
وهذا نص صريح في
أن الأعمال داخلة في مفهوم الإيمان وأنّ له شعبا أي أعمالا كثيرة بعضها أفضل من
بعض.
__________________
«ونحو هذا الخبر كثير» نحو : ما رواه علي بن موسى الرضى عليهماالسلام في صحيفته عن آبائه عليهمالسلام عن النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم أنه قال : «الإيمان إقرار باللسان ومعرفة بالقلب وعمل
بالأركان».
وما رواه في
السفينة عن النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم «الإيمان ثلاثة :
فقه بالقلب ، ونطق باللسان ، وعمل بالجوارح» وما رواه الناصر للحق عليهالسلام في كتاب البساط بإسناده إلى جندب بن عبد الله البجلي قال :
كنا مع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ونحن فتيان حزاورة فيعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن فازددنا إيمانا.
قال الناصر عليهالسلام : أراد : يعلمنا شرائع الإيمان من الصلاة والصيام وغيرهما.
وقال عليهالسلام : حدثني أخي الحسين بن علي ومحمد بن منصور المرادي قالا :
حدثنا علي بن الحسن يعنيان أبي عليهالسلام عن علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عن أبيه جعفر بن محمد
قال قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم «من أسبع وضوءه
وأحسن صلاته وأدّى زكاة ماله وخزن لسانه وكفّ غضبه وأدّى النصيحة لأهل بيت نبيئه صلىاللهعليهوآلهوسلم فقد استكمل حقائق الإيمان وأبواب الجنة مفتّحة له».
وما رواه البخاري
بإسناده إلى أبي هريرة قال قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم «لا يزني الزاني
حين يزني وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن ، ولا يسرق حين يسرق وهو
مؤمن ، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن».
وغير ذلك كثير.
«والإسلام لغة» أي في لغة العرب : «الانقياد»
والامتثال والاستسلام ،
__________________
قال الله تعالى : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ
تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي
قُلُوبِكُمْ) أي استسلمنا ولم نمتنع بالمعارضة.
قال «أئمتنا عليهم» «السلام والجمهور» والإسلام
دينا أي في الشرع بنقل الشارع إلى أصول الدين هو «مشترك» بين معنيين أولهما : «الإيمان
وكلّا على أصله»
في حقيقة الإيمان
فعند أئمة أهل البيت عليهمالسلام ومن وافقهم أنه يطلق اسم الإسلام على الإيمان وهو :
الإتيان بالواجبات واجتناب المقبّحات.
وأما عند مخالفيهم
: فلم أقف على ما حكاه الإمام عليهالسلام عنهم وذكر الإمام المهدي عليهالسلام في مقدّمة البحر وفي الغايات والنجري في شرحه ما لفظه :
قال أكثر المعتزلة : والإسلام والإيمان والدين سواء في الشرع وهو فعل الطاعات
واجتناب المقبحات والمكروهات وإن كانت في أصل اللغة مختلفة.
فالإيمان :
التصديق ، والإسلام : الاستسلام والانقياد ، والدين : يستعمل في اللغة بمعنى
الجزاء وبمعنى العادة وبمعنى الملّة وهو ما يتخذه الإنسان له دينا ، وبمعنى الطاعة
لكنها قد صارت في الشرع بعد النقل بمعنى واحد وهو ما تقدم.
وأما من منع النقل
من المعنى اللغوي إلى المعنى الشرعي فلا خلاف بينهم أن هذه الألفاظ مختلفة المعنى
لغة وشرعا وأنها غير مستوية وأما الذين قالوا بصحة النقل ووقوعه في الإيمان والفسق
ونحوهما فقد اختلفوا :
فقالت الوعيدية من
المعتزلة : إن الإيمان والإسلام والدين سواء في الشرع.
وقال بعض الإمامية
وهم فريق منهم أثبتوا النقل الشرعي الإسلام غير الإيمان لقوله تعالى : (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا
أَسْلَمْنا) فأثبت الإسلام ونفى الإيمان فيجب أن يكون أحدهما غير
الآخر.
فالإيمان هو
المعرفة والإقرار بالله ورسوله والإمام وجميع ما جاء عنهم والإسلام : هو الإقرار
بالله من دون معرفة ، فالإيمان أخصّ من
__________________
الإسلام ، قال
النجري : واعلم : أن في هذه المسألة خلافا أشهر من هذا وهو خلاف الأشاعرة وأكثر
المجبرة فإنهم يقولون : الإسلام والدين اسم للطاعات كما هو مذهب المعتزلة.
والإيمان هو
التّصديق فقط ، فالإيمان غير الدين والإسلام. انتهى.
«و» المعنى الثاني من معنيي الإسلام في
الشرع هو «الاعتراف بالله ورسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم
وما عرف من الدين ضرورة» كالصلاة والزكاة والحج وأصول الشرائع أي الاعتراف بالجنان
بوجوبها «والإقرار» باللسان «بذلك» أي بالله ورسوله وما عرف من ضرورة الدين «مع
عدم ارتكاب معصية الكفر» كسبّ الأنبياء أو قتلهم ونحو ذلك ممّا يوجب الكفر على ما
سيأتي إن شاء الله تعالى.
«ففاعل» المعصية «الكبيرة غير معصية
الكفر مسلم فاسق» يستحق الخلود في النار وهو مع ذلك غير كافر كفر الجحود والمخرج
من الملّة وسيأتي بيان معصية الكفر ومعصية الفسق إن شاء الله تعالى.
وهذا المعنى
الثاني من معنيي الإسلام لا شك فيه وأنه يصحّ إطلاقه عند أهل الشرع على القاتل
عمدا أو الزاني ونحوهما ، ولكن : يقال : هل نقله الشارع من أصل وضعه وهو الانقياد
إلى هذا المعنى كما نقله إلى معنى الإيمان لقوله تعالى : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ
دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) .
ولقوله تعالى : (فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ) .
وحينئذ يصح أن
يقال : هو حقيقة دينية في مرتكب الكبيرة لأنه يمكن أن يقال : إنما أطلق اسم المسلم
على مرتكب الكبيرة على مقتضى أصل الوضع اللغوي وهو الانقياد والله أعلم.
وقال «بعض
الإمامية : بل» الإسلام «الانقياد» أي الإذعان والقبول والإقرار وإن لم يصحبه عمل كما تقدم
ذكره عنهم من رواية النجري أن
__________________
الإسلام عندهم هو
الإقرار من دون معرفة وأنه أعمّ من الإيمان ولكن يقال : هذا المعنى لغوي لا شرعي والله أعلم.
«لنا» حجة على أن الإسلام يطلق على الإيمان دينا :
«قوله تعالى»
: (فَأَخْرَجْنا مَنْ
كانَ فِيها) أي في قرية لوط وهي سدوم (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) يريد لوطا عليهالسلام وأهله رحمة الله عليهم إلّا امرأته (فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ) وهو يريد لوطا وأهله المتقدم ذكرهم فدل على أن الإسلام هو
الإيمان.
وما اعترض به
النجري في هذا الاستدلال ضعيف قد بيّنا وجهه في الشرح «و» لنا أيضا حجة على ذلك «قوله
تعالى» :
(وَمَنْ يَبْتَغِ
غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ
الْخاسِرِينَ).
فالآية صريحة في
أن ما كان غير الإسلام فهو غير مقبول والإيمان والدين مقبولان فيكون الدين
والإيمان والإسلام بمعنى واحد.
«و» لنا حجة على أن مرتكب الكبيرة الغير المخرجة من الملّة
يسمّى مسلما
«معاملة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
نحو السارق»
والقاتل والزّاني «من
تبقية نكاحه»
وإبقاء حكم
التوارث بينه وبين المؤمنين والدفن في مقابرهم «ونحو
ذلك»
من سائر المعاملات
«كمعاملة المسلمين» في ذلك.
فدلّ ذلك على أن
حكم مرتكب الكبيرة حكم المسلمين فيطلق عليه من الأسماء ما يطلق عليهم ، ولعل فيه
تسامحا وهو أن يقال : معاملته كمعاملة المسلمين في ذلك لا تقتضي وجوب تسميته
بأسمائهم إذ لا مانع من أن تكون معاملته كمعاملة المسلمين واسمه مخالفا لأسمائهم
والله أعلم وفيه ما مرّ وهو : أن يقال : ما المانع من أن يكون إطلاق اسم الإسلام
عليه بالنظر إلى أصل وضع اللغة لا بنقل الشرع.
__________________
(فصل)
قال «أئمتنا عليهم» «السلام وجمهور
المعتزلة والشافعي وبعض الخوارج : والكبائر من المعاصي محبطات للإيمان» أي مبطلات
له «فلا يبقى مؤمنا من ارتكب» معصية «كبيرة خلافا لمن مرّ» من الفرق المخالفة في
حقيقة الإيمان في الشرع. «لنا» حجة على قولنا : «ما مرّ» من الأدلة على حقيقة
الإيمان الشرعي.
(فصل)
في ذكر الكفر والنفاق والفسق وحقائقها.
«والكفر لغة» أي في لغة العرب «التغطية»
ومنه سمّي الزراع
كافرا لأنه يغطي البذر بالتراب ، وسمّي الليل المظلم كافرا لأنه يستر بظلمته كل شيء
، وكذلك تسمية البحر كافرا لأنه يستر ما فيه ومن ذلك سمّي الكافر بالله لأنه يستر
نعم الله وهو مشتق من الكفر بالفتح وهو التغطية.
«و» الكفر «في عرفها» أي في عرف اللغة :
«الإخلال بالشكر قال الشاعر :» وهو عنترة :
«نبّئت عمرا غير شاكر نعمتي
|
|
والكفر مخبثة لنفس
المنعم»
|
أراد بالكفر هنا
الإخلال بشكر النعمة.
«و» الكفر «دينا» أي بنقل الشرع له إلى أصول الدين : «عصيان»
لله تعالى مخصوص «مخرج لمرتكبه من ملّة الإسلام» أي من دين الإسلام كمن يجحد بالله
تعالى أو برسله أو ينسب إليه تعالى صفة نقص ونحو ذلك كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وأما من حدّ الكفر
في الشرع بأنه ما يستحق عليه أعظم أنواع العقاب فهو دور محض.
قال الإمام المهدي
عليهالسلام : ونحن نأتي له بحدّ يكشف عن تفاصيله ولا يلزم منه دور
فنقول : الكفر هو الخلوّ عن معرفة الله تعالى ونبوّة نبيئه ، أو الاستخفاف بالله
أو بنبيه أو بشيء ممّا جاء به أو تكذيبه في
شيء ممّا علم
ضرورة أنه جاء به بقول أو فعل أو تعظيم غير الله كتعظيمه أو الدخول في الشعار
المختص بمن هو كذلك جرأة وتمرّدا ثم فسّر عليهالسلام هذه الألفاظ ، ثم قال : ويلحق بهذه الجملة الموالاة لمن
هذه صفته فإنه في حكم من التزم بشعاره بدليل قوله تعالى : (فَإِنَّهُ مِنْهُمْ).
قال : هذا حدّ
الكفر الجامع لأنواعه على سبيل التفصيل. انتهى.
وقال الشيخ أبو
القاسم البستي : اعلم : أن جميع الكفر لا يخرج عن الجهل بالله تعالى أو التشبيه أو
الخروج من التوحيد أو التجوير أو التظليم أو التكذيب فمن اعتقد قدم العالم ونفي
الصانع وأضاف الصّنع إلى نجم أو طبع أو نحو ذلك إنّما يكفر بالجهل بالله تعالى.
قال : ومن قال
بالتشبيه والتثليث كالثنوية والنصارى وعبدة الأوثان فكفرهم لخروجهم من التوحيد ،
ومن وصف الله بالظلم والجور فكفره لكونه مظلّما لله تعالى ، ومن كذب بالرسل فإنه
كفر لتكذيبه.
قال : فكل كفر من
طريق القول والاعتقاد لا يخرج عن هذه الوجوه الخمسة فالكفر في الملل والأديان
والمذاهب لا يقع إلّا في هذه الخصال.
قال : فأمّا ما
يقع لا من طريق التديّن كالسجود للغير أو شدّ الزنار أو لبس الغيار أو الاستخفاف
بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام فهو خارج عمّا نحن بصدده لأن غرضنا بيان ما هو كفر
من المذاهب والملل. انتهى.
«والنفاق لغة : الرياء» والرياء ممدود مصدر (راء رياء ومرآة) مثل قاتل قتالا
ومقاتلة أي فعل فعلا لأجل يراه غيره طلبا للثناء أو نحوه.
وحاصله : إظهار الخير وإبطان الشّر ، «و»
حقيقة النفاق «دينا» أي في الدين بنقل الشرع له : «إظهار الإسلام وإبطان الكفر».
قال في الصحاح :
النفاق : مأخوذ من النافقاء وهو إحدى جحرة اليربوع يكتمها ويظهر غيرها ، وهو موضع
يرقّقه فإذا أتي من جهة القاصعاء ضرب النّافقاء برأسه فانتفق أي خرج :
وروي عن «القاسم» بن إبراهيم «عليهالسلام»
أنه قال : «بل» النفاق
هو «الرّياء فقط» وهو
إظهار الخير وإبطان الشر فهو باق على معناه اللغوي لم ينقله الشرع إلى إظهار خير
مخصوص وهو الإسلام وإبطان شرّ مخصوص وهو الكفر ومثله ذكر زيد بن علي والناصر للحق عليهماالسلام
وغيرهما وهو الحق إذ لا دليل على النقل و «لقوله تعالى»
في وصف المنافقين (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا
وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ
نَعْلَمُ قِتالاً لَاتَّبَعْناكُمْ) .
«هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان» «ف
لو كانوا كفّارا ما قال تعالى» «هم أقرب» إليه وهم حينئذ فيه فقد استعمله هنا فيمن أظهر خيرا وهو الإيمان والامتثال لأمر
الملك الدّيّان ، وأبطن شرّا وهو العصيان من غير أن يكون ذلك العصيان كفرا لأنه لو
كان كفرا ما قال تعالى : «هم أقرب إليه» وهم فيه لأنه لا يقال هذا أقرب إلى هذا
إلّا وهو غير حاصل فيه.
فلما قال تعالى : (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ) : علم أنهم غير داخلين في الكفر.
قال عليهالسلام : «قلنا» في الجواب على القاسم بن إبراهيم عليهالسلام : «المراد أنهم مائلون
إليه»
أي إلى الكفر أي
هم أكثر ميلا إلى الكفر ، وهذا القول يصلح أن يوجه إلى من هو كافر أي هو محب للكفر
ومائل إليه أكثر من محبة الإسلام والميل إليه «لقوله
تعالى» :
(وَما مَنَعَهُمْ أَنْ
تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ
وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ
كارِهُونَ) .
وهذا تصريح
بكفرهم.
«ولتصريحهم بتكذيب الله تعالى فيما حكى
عنهم في قوله تعالى»
(وَإِذْ يَقُولُ
الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) .
__________________
(ما وَعَدَنَا اللهُ
وَرَسُولُهُ) من الفتح والنصر «إلّا غرورا» أي كذبا ومن كذب الله ورسوله فهو كافر.
ويقال : إن القاسم
عليهالسلام : لم يمنع من تسمية من أظهر الإسلام وأبطن الكفر منافقا ،
وإنّما منع اختصاص المنافق به لعدم الدليل على الاختصاص.
وقد أوسع الناصر عليهالسلام في كتاب البساط الاحتجاج على ذلك وقد ذكرنا منه قسطا في
الشرح.
«والفسق لغة : الخروج» يقال : فسقت الرّطبة إذا خرجت عن قشرها ، وفسق عن أمر ربه
أي خرج. ذكره في الصحاح.
والفسّيق الدائم
الفسق ، والفويسقة الفأرة.
«و» الفسق «في عرفها : الخروج من الحدّ
في عصيان أهل الشرك»
أي عصيان خارج عن
عصيان أهل الشرك أي زائد على معاصيهم في الفحش.
ولهذا قال عليهالسلام : «وهو الخباثة ، ومنه
قيل»
للزاني فاسق
لاستهجان الزنا عندهم و «للخبيثة» من النساء المعتمدة على الفجور «يا
فساق»
أي يا فاسقة.
ومن ذلك : تسميتهم
للفأرة : فويسقة لأنّ ضرها زائد على الحد المعروف من سائر الضوار في الخباثة.
«و» حقيقة الفسق «دينا»
أي في الشرع ودين الإسلام «ارتكاب كبيرة» أي فعل معصية كبيرة «عمدا لم يرد دليل
بخروج صاحبها» أي مرتكبها «من الملّة» أي ملّة الإسلام كالزنى وشرب الخمر والقتل
من غير استحلال لذلك لقوله تعالى عقيب ذكر قذف المحصنة (وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) ونحوها كثير.
ولا خلاف أن
الكافر فاسق أيضا لأنّ الفاسق خارج عن طاعة الله تعالى ولا خلاف أن البرّ التّقيّ
لا يسمّى كافرا ولا فاسقا.
وتعين الخلاف في
الفاسق هل يجوز أن يسمّى كافرا؟ وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.
وقوله : لم يرد
دليل بخروج صاحبها من الملة : يحترز من معصية الكفر كالجهل بالله سبحانه ونحوه ،
وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى.
واعلم : أن لكل
واحد من معاني الكفر والنفاق والفسق شبها بالمعنى اللّغوي :
أما الكفر : فلأنّ
الكافر كالساتر للحق بالباطل وفي حكم الساتر لنعم الله تعالى عليه.
وأمّا النفاق :
فلأنّ المنافق يبطن خلاف ما يظهر.
وأمّا الفاسق :
فلأنه خارج من ولاية الله تعالى إلى عداوته وخارج من حدود الله تعالى.
قال الإمام المهدي
عليهالسلام : ومن أجل هذا الشّبه : حكم الرازي وغيره بأن الكفر والفسق
لم ينقلا عن معناهما اللّغوي كما أنكر نقل لفظ الإيمان ، قال : وهو باطل بمثل ما
قدمنا في لفظ المؤمن من أن المعلوم أن الشرع قد قصره على ما ذكرناه من المعنى.
والمعلوم : أن
الستر والخروج الحقيقيين غير حاصلين فيهما فبطل ما زعموه.
قلت : ولم يتضح لي
دليل النقل في اسم الكفر والفسق والنفاق لأنّ الكفر في عرف اللغة : الإخلال بالشكر
ومرتكب الكبيرة المخرجة من الملّة وغيرها مخلّ بالشكر لأنّ الشكر هو الطاعة
والامتثال لأمر الله كما تقرر.
والفاسق : خارج عن
ولاية الله تعالى حقيقة.
والمنافق : يبطن
خلاف ما يظهر حقيقة.
فهات الدليل من
الشرع أنه لا يسمى باسم الكفر إلّا من ارتكب المعصية المخرجة من الملّة؟ ولا يسمّى
مرتكب الكبيرة الغير المخرجة إلّا
__________________
باسم الفسق؟ ولا
يسمّى باسم النفاق إلّا من أظهر الإسلام وأبطن الكفر؟ ولا دليل على ذلك من الشرع
أصلا.
وأما الاصطلاح :
فهو غير الشرع والله أعلم.
«والعصيان : مخالفة الآمر والنّاهي ولو»
كانت المخالفة «خطاء» فإنها تسمّى عصيانا «لما مرّ» في ذكر خطايا الأنبياء عليهم
الصلاة والسلام وغيره من أن الخطأ والنّسيان معصية ولو كانت مكفّرة.
«والظلم : إنزال مضرة مجردة» أي خالية «عن
جلب منفعة» يحترز من التأديب «أو دفع مضرة فوقها» أي أعظم منها يحترز من الفصد
والحجامة ونحوهما.
ويزاد : واستحقاق
ليخرج القصاص فإنه ليس بظلم ، وسواء كانت تلك المضرة المجردة عن النفع والدفع والاستحقاق
«بالنفس»
كأن يؤلم المرء
نفسه أو يقتلها «أو بالغير» كأن يلطم غيره أو يقتله.
(فصل)
قال «أئمتنا عليهم» «السلام وجمهور
المعتزلة : ويصير المكلف كافرا» أي كفر جحود «بخصلة واحدة من خصال الكفر بما سيأتي
إن شاء الله تعالى» من الأدلة في باب التكفير والتفسيق بخلاف الإيمان فلا يصير
المكلف مؤمنا بخصلة واحدة من خصال الإيمان قال النجري : فإن قيل : فما الفرق : فإن المؤمن والكافر أسماء فاعل واسم الفاعل
مشتق من فعله قلّ أو كثر كالضارب لمن فعل ضربا ما وقد جريتم على القياس في الكفار
إذ سميتموه كافرا بخصلة واحدة من خصال الكفر وخالفتموه في المؤمن إذ حكمتم أن لا
يكون مؤمنا ولو فعل خصالا كثرة من الإيمان؟
قال : والجواب :
أن المؤمن والكافر وإن كانا في الأصل مشتقّين لكنهما قد صارا في الشرع غير مشتقّين
بل اسمين لمن اتّصف بصفات مخصوصة فالمؤمن : اسم لمن يستحق الثواب ، والكافر : لمن
يستحق أعظم
__________________
العقاب ، فمن فعل خصلة واحدة من خصال الكفر يسمّى كافرا وليس
مشتقا من الكفر كما توهّم بل لأنه يستحق أعظم أنواع العقاب ومن فعل خصلة واحدة من
خصال الإيمان لا يسمّى مؤمنا لأنه لا يستحق الثواب إلّا بمجموع خصال الإيمان ،
فصحّ أن تسمية المؤمن والكافر إنما هي شرعية باعتبار العقاب والثواب. انتهى.
قلت : الحقّ أن
ذلك إنما هو لعدم نقل تسمية الكافر دون المؤمن فتأمله. قال واعلم : أن الكفر
والشرك سواء في استعمال الشرع وهو ما يستحق عليه أعظم أنواع العقاب ، وقد ثبت أن
المنافق كافر للإجماع على ذلك فهو مشرك.
قال : وقالت
الأباضية من الخوارج : الشرك غير الكفر فالشرك إثبات الشريك لله فهو نوع مخصوص من
الكفر.
وقيل : إنهم
يعدّون كل من خالفهم من أهل القبلة كافرا وليس بمشرك ويقولون : إن تحريم الذبيحة
والدفن في مقابر المسلمين ونحو ذلك من الأحكام إنما تجرى على المشركين ، على ما
رواه الحاكم عنهم.
قال : قلنا : قد
ثبت أن الكافر اسم لمن يستحق أعظم العقاب فعمّهما التعريف فيجب أن يكونا متساويين.
قلت : قال الناصر عليهالسلام إنّ من أطاع الشيطان وعصى الرحمن فقد أشرك في عبادة ربّه ،
واحتجّ على ذلك بمثل قوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا
مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ
الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ
أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) وغير ذلك كثير من القرآن والسنّة قد ذكرت منه قسطا في
الشرح.
وعلى هذا يكون
الشرك مستعملا في معناه اللغوي كالكفر سواء والله أعلم.
__________________
وقال «بعض الخوارج : بل» يصير المكلف
كافرا «بفعل أي كبيرة»
أي أيّ كبيرة يحكم العقل
بقبحها إذا فعلها عمدا ولا صغيرة عندهم «لا بترك» الواجبات الشرعية «نحو الصلاة»
والزكاة وغيرهما من الواجبات الشرعية فلا يصير بتركها كافرا ، وهذا قول النجدات
منهم. وقال «بعض الخوارج : بل» يصير المكلف كافرا «بارتكاب أيّ كبيرة» أي بفعل أي معصية متعمدا لأنه لا صغيرة عندهم ، وهذا قول
الفضليّة والبكرية من الخوارج.
وقالت الأزارقة
والصفرية من الخوارج : بل ما ورد فيه وعيد فكفر وهو بناء على أن من المعاصي ما لا وعيد فيه. هكذا ذكره الإمام
المهدي عليهالسلام عنهم.
وقال الحسن «البصري : يصير» المكلف «بارتكاب
أي كبيرة» من المعاصي «منافقا» وإيمانه غير خالص ، واحتجّ بوجهين :
أحدهما
: أن الفاسق لو كان
يقطع بصدق الوعد والوعيد والجنة والنار لما ارتكب الكبيرة الموجبة للهلاك ، وهذا
مثل قول زيد بن علي والقاسم والناصر عليهمالسلام ، وإن اختلف التعليل.
وثانيهما : قوله تعالى : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ
هُمُ الْفاسِقُونَ) في سورة براءة .
قال في الغايات :
وكان عمرو بن عبيد يذهب إلى مثل مقالة الحسن في الفاسق حتى راجع
واصل فرجع إلى مذهب واصل ، والقصة مشهورة. «لنا» حجة على أن مرتكب الكبيرة يسمّى فاسقا ولا يسمّى كافرا ولا
منافقا : «فعل النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم
و» كذلك «الإجماع
من الأمّة على إقامة الحدود على نحو السارق» والزاني «مع عدم معاملتهم
معاملة الكفار»
من القتل والسّبي
وانفساخ النكاح وانقطاع التوارث.
__________________
فلو كان يسمّى
كافرا أو منافقا كما زعمه المخالف لما عامله معاملة المسلمين وذلك يقتضي أنّ حكمه
مخالف لحكم الكافرين والمنافقين ، وإذا كان كذلك : امتنع أن يطلق عليه اسم الكفر
والنفاق.
فإن قيل : إن
المنافقين عهده صلىاللهعليهوآلهوسلم كان حكمهم في المعاملة حكم المسلمين مع كفرهم ، ولهذا جلد
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم رأس المنافقين عبد الله بن أبيّ في حديث الإفك وأخذ الزكاة
منه ، وحينئذ لم يتم الاحتجاج بما ذكرتم أن معاملة أهل الكبائر معاملة المسلمين
يدل على عدم كفرهم ونفاقهم؟
والجواب والله
الموفق : أما عند زيد والناصر والقاسم عليهمالسلام ومن وافقهم : فلا يرد هذا لأنّ مرتكبي الكبائر من
المنافقين عندهم وهذا حجة لهم.
وأما على قول من
عداهم : فيمكن أن يقال : إن معاملة النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم لهم معاملة المسلمين لمصلحة علمها وأمره الله بها وهو
تقوّي الإسلام وترغيب الناس إليه ، لأنه لو عامل من أظهر الإسلام وأبطن الكفر
معاملة الكفار بالقتل والسّبي ونحو ذلك لنفر عن الإسلام كثير من الناس خشية أن لا
يقبل منهم إظهار الإسلام وإن لم يبطنوا الكفر والله أعلم.
قلت : ويمكن أن
يجاب عن جميع ما أوردوه في هذه المسألة :
بأن المنافق في
اللغة : اسم لمن أظهر خلاف ما يبطن وذلك يصدق على مرتكب الكبيرة لأنه يتسمّى
بالإيمان والتقوى ويتلبس بها ، وأفعاله تشعر بخلاف ذلك وهذا حقيقة النفاق.
ولا دليل من الشرع
يدل على نقله فهو اسم عامّ لمن أبطن الكفر أو غيره من المعاصي وتزيّا بزيّ التقوى
والإيمان.
__________________
والكافر : اسم
عامّ لمن كفر نعمة المنعم بالعصيان له سواء كان ذلك العصيان هو الجحد أو غيره.
وأمّا معاملة
النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم لأهل الكبائر معاملة المسلمين في أحكام مخصوصة فهي بمعزل
عن إجراء الأسماء عليهم إذ لو كانت تلك المعاملة توجب لهم أسماء المسلمين لوجب أن
يسمّوا مؤمنين وهو باطل.
وأما قول علي عليهالسلام وقد سئل عن الخوارج أكفار هم (فقال من الكفر فرّوا) فمراده
: أنهم فرّوا من عصيان الله بزعمهم مع أنهم عاصون لله قطعا فلا يلزم من ذلك أن لا
يسمّوا كفارا بل هم كفار نعمة ومعاملتهم بخلاف معاملة كفار الجحود ، وبين الكفرين
فرق أوضحته معاملة النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم وعليّ عليهالسلام والإجماع.
ويدل عليه تمام
الخبر أيضا وهو قوله عليهالسلام من الكفر (فرّوا وفيه وقعوا).
وأما الاحتجاج
بإجماع الصحابة على أن المنافق من أبطن الكفر وأظهر الإسلام فهو مسلّم ، فهل
أجمعوا على أن غيره لا يسمّى منافقا والمعلوم أنه لم يحدث المنع من تسمية مرتكب
الكبيرة منافقا إلّا واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد ومن تبعهما من وقت المراجعة التي
وقعت بينهما وبين الحسن البصري.
وممّا احتجّ به
الناصر عليهالسلام في ذلك من السّنة : قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم «أكثر منافقي
أمّتي قرّاؤها».
وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صلّى وصام وحجّ واعتمر
وزعم أنه مسلم : من إذا حدّث كذب وإذا ائتمن خان ، وإذا وعد أخلف ، ذئب بالليل
وذئب بالنهار» وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «أربع من كنّ فيه فهو منافق ومن كان فيه خصلة منها ففيه
خصلة من النفاق حتى يتوب أو يدعها : من إذا حدّث كذب ، وإذا ائتمن
خان ، وإذا خاصم
فجر ، وإذا عاهد خان» وغير ذلك كثير قد أودعت الشرح قسطا منه وقال «ابن
الحاجب : صاحب الشاذة من القراءة كافر» أي كفر جحود لأنه قد أثبت من القرآن ما ليس فيه ونقص ما هو
منه.
«قلنا» لا يجوز تكفيره لجواز أن يكون «سمعها
خبرا فتوهمها قرآنا»
وحينئذ لم يتعمد
زيادة في القرآن ولا نقصانا
، والله تعالى يقول : (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما
أَخْطَأْتُمْ بِهِ) «وقول النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم
«رفع عن أمّتي الخطاء والنسيان»
وما استكرهوا
عليه.
ولا يجوز التكفير
والتفسيق إلّا بدليل قاطع كما سيأتي إن شاء الله.
«و» لنا أيضا «الإجماع» من الأمّة
«على
عدم تكفير» عبد الله «بن مسعود
وهو من أهل القراءة الشاذة» كما روي أنه قرأ «فصيام ثلاثة أيّام متتابعات».
وكذلك روي عن حفصة
أنها قرأت «والصلاة الوسطى صلاة العصر» قالعليهالسلام : «ومرتكب الكبيرة
الغير المخرجة من الملّة»
أي ملّة الإسلام «يسمّى
فاسقا اتفاقا»
بين أهل علم
الكلام ، وإنما اختلفوا في تسميته منافقا أو كافرا :
قال «أئمتنا عليهم» «السلام وجمهور
المعتزلة و» الحسن «البصري وبعض
الخوارج» وهم من يقول : إن كل عمد من المعاصي كفر مطلقا ، ومن يقول :
إن فعل المحرم العقلي كفر فيمن فعل محرّما عقليّا فهؤلاء قالوا :
«ولا يسمّى»
أي مرتكب الكبيرة عمدا
والمحرم العقلي «مؤمنا»
لما سبق ذكره في
فصل الإيمان.
«خلافا لمن مرّ» ذكره في فصل الإيمان من أهل الإرجاء الذين تقدم ذكر
أقوالهم بناء على أن الإيمان هو المعرفة والتصديق أو أحدهما والأعمال خارجة عنه ،
فالفاسق عندهم مؤمن بإيمانه فاسق بفسقه.
«و» خلافا أيضا «لبعض الخوارج في تارك
الواجب»
أي الواجبات
__________________
الشرعية وهم الذين
يقولون : إن فعل المحرم العقلي كفر لا الشرعي فمن ترك الواجب الشرعي عندهم فهو
مؤمن إذ ليس من الإيمان فعلا أو تركا ، ومن فعل المحرم العقلي فليس بمؤمن إذ تركه
عندهم من الإيمان ، وهذا قول النجدات منهم.
ولعل هذا مراده عليهالسلام بقوله «لا فاعل أي كبيرة» أي فاعل أي محرم عقلي فإنه لا يسمّى مؤمنا كما مرّ ذكره ،
وهذا هو الذي رواه عنهم الإمام المهدي عليهالسلام والنجري وغيرهما وظاهر كلام الإمام عليهالسلام في قوله : تارك الواجب أي واجب عقليا كان أو شرعيا ، وقوله
: لا فاعل أي كبيرة على الإطلاق أيضا ولم أقف على ذلك لهم ، ولعله عليهالسلام قد وقف عليه لأن لهم أقوالا كثيرة ضعيفة باطلة نتجت بالخرص
والتوهم ووسواس الشيطان.
«لنا ما مرّ» في فصل الإيمان من الحجج الواضحة في معنى الإيمان وعدم
الفرق بين الواجب العقلي والشرعي ، وبين الترك المحرم والفعل المحرم.
قال عبد الله «بن العباس و» جعفر «الصادق
والقاسم والهادي والناصر» الأطروش «و» الإمام «أحمد بن سليمان عليهمالسلام
وقد روي أنه إجماع قدماء العترة عليهم» «السلام والشيعة ويسمّى» مرتكب الكبيرة
عمدا الغير المخرجة من الملّة «كافر نعمة» لأنّ الطاعات شكر لله تعالى فمن تركها
أو بعضها فقد كفر نعمة الله «خلافا للجمهور» من المعتزلة وغيرهم فإنهم قالوا : لا
يسمّى كافر نعمة لأن الطاعات عندهم ليست شكرا والفسق لا ينافي الشكر عندهم.
«قلنا» في الردّ عليهم «هو» أي الكفر «معناه» أي معنى مرتكب الكبيرة أي
ارتكاب الكبيرة كفر «عرفا»
أي في عرف أهل
اللغة لأن الكفر في اللغة الإخلال بالشكر كما سبق ذكره ، ومرتكب الكبيرة مخل
بالشكر.
«لأن الطاعات شكر لله» في مقابلة الملك
والنعمة «كما مرّ»
في كتاب النبوءات.
ولقوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ
الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) وَمَنْ كَفَرَ «أي من ترك
الحج»
(فَإِنَّ اللهَ
غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) «فسمّى ترك الحج كفرا».
وكذلك قوله تعالى
: (وَإِنَّ جَهَنَّمَ
لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) .
وقوله تعالى : (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ
النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا
لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) .
وقوله تعالى : (الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ
نِسائِهِمْ ..) إلى قوله (وَتِلْكَ حُدُودُ
اللهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ) وغير ذلك كثير.
وروى الناصر عليهالسلام بإسناده عن مبارك عن الحسن قال قال رجل : يا رسول الله : أأحج
كل عام؟
قال صلىاللهعليهوآلهوسلم «لو قلت نعم لوجبت
ولو وجبت ما قمتم بها ، ولو تركتموها كفرتم».
وروى أيضا بإسناده
عن ابن عمر قال قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم «أيّما رجل كفّر
رجلا فأحدهما كافر».
وروى أيضا بإسناده
عن عليّ عليهالسلام قال (المكر غدر والغدر كفر).
وروى أيضا بإسناده
عن زيد بن علي عن آبائه عن علي عليهالسلام قال : قال له رجل : يا أمير المؤمنين : أرأيت قومنا أمشركون
هم؟ يعني أهل القبلة؟
قال : (لا ولو
كانوا مشركين ما حلّت لنا مناكحتهم ولا ذبائحهم ولا مواريثهم ولا المقام بين
أظهرهم ولا جرت الحدود عليهم ، ولكنهم كفروا
__________________
بالأحكام وكفروا
بالنعم والأعمال وكفر النعم غير كفر الشرك).
قال الحسن بن علي عليهماالسلام : (يعني شرك العدل بالله لا شرك الطاعة للشيطان مع الله)
انتهى.
وقد ذكر الناصر عليهالسلام في كتاب البساط حججا كثيرة من القرآن والسّنة ، قال : ولن
تجد المعتزلة آية من كتاب الله تعالى تدل على أن الفاسق لا يجري عليه اسم الكفر.
«وقد ثبت النص» «من الشارع «على إطلاقه» أي اسم الكفر «على
الإخلال بالشكر»
كما «قال تعالى» :
(وَضَرَبَ اللهُ
مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ
كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ
وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) .
فعلّق الكفر
بالنعم وصرّح بأن الإخلال بالشكر كفر.
«ولأنّ الفسق هو الخروج من الحد» في
عصيان أهل الكفر «عرفا»
أي في عرف اللغة
كما مرّ
«فإذا
جاز إطلاقه»
أي الفسق مع كونه
أعظم في الذمّ لبعض الكفار من بعض «على فعل الكبيرة» مع عدم جحد صاحبها «فبالحريّ» أي فبالأولى أن يجوز إطلاق «ما
هو دونه»
على فعل الكبيرة
أي دون الفسق «وهو الكفر عرفا» أي الكفر في عرف اللغة وهو الإخلال بالشكر فثبت بذلك أن
مرتكب الكبيرة يسمّى فاسقا وكافر نعمة.
(تنبيه)
قال الإمام المهدي
عليهالسلام : والإمام اسم لمن لا درجة فوقه في التعظيم من الآدميين
غير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والمؤمن اسم لمن هو دونه في الدرجة ، والكافر
اسم لمن يستحق أعظم أنواع العقاب.
قال النجري : وفيه
تسامح مخل لأنه لا يشمل من الكفار إلّا أشدهم
__________________
عذابا كآل فرعون ،
وأيضا : فإنه لا يعرف كون المكلف يستحق أعظم أنواع العقاب إلّا بعد المعرفة بأنه
كافر ، فتعريف الكافر باستحقاق أعظم أنواع العقاب دور.
قال الإمام المهدي
عليهالسلام : والفاسق دونه أي دون الكافر في العقاب.
قال النجري :
المشهور من كلام أصحابنا وأكثر المعتزلة : أن عقاب أدنى كفر أكثر من عقاب أعظم فسق
، فعقاب من استحلّ كبيرة ولم يفعلها قط أعظم من عقاب من استمرّ على ارتكابها طول
عمره ولم يستحلّها قط ، واستدلّوا على ذلك : بأنه قد ثبت أن للكافر أحكاما غليظة
إذ تستباح بسببه الأرواح والأموال وينفسخ به النكاح ونحو ذلك.
ولم يثبت للفسق هذه الأحكام ، وهو دليل على أن عقابه دون عقاب الكفر قال
واعترض هذا بعض المتأخرين بأن هذه الأحكام إنما شرعت كونها مصالح ولا تدل على كثرة
عقاب ولا قلته يوضحه أنا نقطع باستحقاق الفاسق ما هو أعظم من أخذ الروح والمال
وجميع تلك الأحكام وهو نار جهنم وحينئذ فيجوز فيمن قتل النفوس وقطع السبيل وظلم
الأيتام وبالغ في ارتكاب الفواحش وإن لم يأت بخصلة كفرية أن يكون عقابه كعقاب من
تكلم بكلمة الكفر أو سجد لغير الله مع علمه بأنه لا يستحق السجود إلّا الله تعالى.
انتهى.
ومثله ذكر الإمام
يحيى عليهالسلام في الشامل.
قلت : قوله تعالى
: (يا نِساءَ النَّبِيِّ
مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ
ضِعْفَيْنِ) .
وقوله تعالى في
نبيئنا محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم : (إِذاً لَأَذَقْناكَ
ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ) كما مرّ يدل على أن عذاب المتلبس
__________________
بالإسلام العارف
للشرائع والمقرّ بها وهو مع ذلك يتجارى على الله سبحانه بالفواحش أعظم من عقاب
الكافر الجاحد بالله لأنه حينئذ كالمستهزئ بالله والمقابل لما فضله الله به وأنعم
عليه من فضيلة العلم ومعرفة الشرائع بالكفر لها والعصيان وقد قال الله تعالى في
المنافقين : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ
فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) والله أعلم.
ويؤيّد ذلك : ما
رواه أبو طالب عليهالسلام في أماليه بإسناده عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عليهمالسلام قال قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم «والذي نفس محمد
بيده للزّبانيّة من الملائكة أسرع إلى فسقة حملة القرآن منهم إلى عبدة النيران
والأوثان ، فيقولون : يا رب : بدئ بنا سورع إلينا يا رب ، فيقول الرب تبارك وتعالى
: ليس من يعلم كمن لا يعلم».
(فصل)
«ولا إكفار ولا تفسيق إلّا بدليل سمعيّ».
قال الإمام المهدي
عليهالسلام : واعلم : أن معرفة مسائل الإكفار والتفسيق واجبة على كل
مسلم لأن الشرع ورد بأحكام تعبّدنا بها في حق المؤمن والكافر والفاسق تتعلّق
بالموالاة والمعاداة والتناكح والكفاءة والتوارث ونحوه ، فتجب على كل مكلف ملتزم
بالشريعة معرفة تلك الأمور ليمكنه تأدية ما كلّف من الأحكام المتفرعة عليها ، قال
: ولا يقال : إنما لزم المكلف إجراء أحكامهم بشرط معرفتهم ومهما لم يعرفهم لا
تلزمه أحكامهم.
وتحصيل شرط الواجب
ليجب لا يجب لأنا نقول : إنه سبحانه قد عرّفنا أنّ في أفعالنا ما هو طاعة وما هو
معصية ، وفي المعصية ما هو كفر وما هو فسق ، وأنّ لكل واحد منهما أحكاما يجب علينا
العمل بها ، وقد عرّفنا وقوع الطاعات والمعاصي من العباد ومكّننا من تمييز بعضها
من بعض ، وأمرنا في المطيع بأحكام وفي العاصي بأحكام أمرا مطلقا من غير
__________________
شرط ، ألا ترى إلى
قوله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ).
وقوله تعالى : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ
فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) .
وقوله في قصة
إبراهيم عليهالسلام : (فَلَمَّا تَبَيَّنَ
لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) .
وقد أمرنا بالتأسي
بإبراهيم صلّى الله عليه والذين معه فوجب علينا معرفة ما هو المؤمن لنتبع سبيله ، وما يصير به المكلف عدوّا لنتبرأ
منه ونحو ذلك ، وإلّا لم نأمن من موالاة عدوّ الله والتبري من وليّ الله ، وكذلك
حيث علمنا وقوع معصية من عبد فيجب علينا النظر في شأنها هل توجب الفسق أو الكفر أو
لا ، ليمكننا إجراء حكمها على صاحبها فوجب معرفة ذلك لأجل الأمر المطلق. انتهى.
قلت : ومراده عليهالسلام : حيث احتاج المكلف إلى معاملة الكافر أو الفاسق لما سيجيء
إن شاء الله تعالى ، وأما إذا لم يحتج إلى ذلك فوجوب معرفة ذلك تختص العلماء
والأئمة والله أعلم.
واعلم : أنه لا
يجوز الإكفار ولا التفسيق أي الحكم بارتكاب الكبيرة الموجبة للخلود في النار إلّا
بدليل سمعيّ «لأنّ تعريف معصيتهما» أي كونها موجبة للكفر أو الفسق «لم
تثبت إلّا بالسمع إجماعا»
من الأمّة إذ لا يهتدي العقل إلى التمييز بين عصيان وعصيان
ومعرفة مقدار العقاب على كل معصية بعينها «قطعيّ» أي دليل مفيد للعلم قطعا
«لاستلزامهما»
أي التكفير
والتفسيق «الذمّ والمعاداة» لصاحبهما لكونه عدوّا لله «والقطع
بتخليد صاحبهما في النار ، إذا لم يتب «وجميع ذلك» أي الذمّ والمعاداة والقطع بتخليد صاحبهما في النار «لا
يجوز إلّا بقاطع إجماعا»
بين المسلمين.
__________________
ولقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم «أمرت أن أقاتل
الناس حتى يقولوا : لا إله إلّا الله فإذا قالوها حقنوا دماءهم وأموالهم إلّا
بحقّها وحسابهم على الله».
وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم «كل نسمة تولد على
الفطرة حتى يعرب عنها لسانها».
وهذه أدلة معلومة
، ولا يجوز الانتقال عن المعلوم من الأصول إلّا بقاطع وإلّا كان تركا للمعلوم إلى
مظنون وهو لا يجوز ، ولهذا لا يجوز نسخ المعلوم بالمظنون.
قال الإمام المهدي
عليهالسلام : وجملة الأمر أنّ الطريق السّمعي ليس إلّا أحد ثلاثة
أشياء:
إمّا نصّا جليّا
متواترا كقوله تعالى : (لَقَدْ كَفَرَ
الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) .
أو في حكم النص
وهو الذي علم من دينه ضرورة كما علم من دينه أن تكذيبه كفر ونحو ذلك.
وإمّا إجماعا
معلوما وإمّا قياسا قطعيّا معلوما أصله وفرعه وعلته بدليل قاطع أو ضرورة.
(فالأول) وهو النص
الجلي : متفق على جواز التكفير به.
والآخران : مختلف
فيهما.
أما الإجماع : فالخلاف
فيه لمن جعل الدليل على كونه حجة ظنيّا لا قطعيّا وكذلك إجماع العترة عليهمالسلام وخبر المعصوم.
وأما القياس
والاعتبار فنوعان :
أحدهما : يصحّ
الاستدلال به على الإكفار والتفسيق بلا خلاف وذلك حيث علمنا ذنبين أحدهما أعظم من
الآخر وعلمنا أن الأصغر كفر فإنا نعلم أن الأعظم كذلك ، وهذه هي دلالة الفحوى ،
وكذلك حيث علمنا بدلالة
__________________
سمعية في ذنبين
أنهما مستويان في العقاب وعلمنا أن أحدهما كفر فإنّا نعلم أن الآخر كفر ، فهذا
النوع لا خلاف في صحة الإكفار به.
والنوع الثاني :
مختلف فيه وذلك حيث نعلم في ذنب أنه كفر أو فسق بدليل سمعي ثم نستنبط العلة
الموجبة كونه كفرا أو فسقا استنباطا لا بنصّ ولا إجماع ثم نعمد إلى ذنب آخر لا
نعلم قدر عقابه فنلحقه بذلك الذنب لحصول العلة.
مثاله : ما يقوله
من كفّر المجبرة من أنا قد علمنا يقينا أنه من وصف الله سبحانه بأنه ظالم فقد كفر وأجمعت الأمّة على
كفره ، ثم نظرنا في علة كفره بطريقة السّبر فلم نجد له علة إلّا كونه أضاف وجود
الظلم إليه فقسنا عليه من وصفه بكونه موجدا للظلم لحصول تلك العلة ، ولذلك أمثلة
كثيرة ، هذا أجلاها.
وقد اختلف العلماء
في صحة الاستدلال به على الإكفار والتفسيق فالذي عليه أكثر الشيوخ كأبي علي وأبي
هاشم والقاضي وغيرهم وأكثر فقهاء أهل البيت عليهمالسلام : أنه يصحّ الاستدلال بهذه الطريقة على الإكفار والتفسيق.
والذين امتنعوا من
الإكفار لأهل القبلة منعوا من ذلك. انتهى.
واعلم : أن الأسباب
الموجبة للكفر أربعة :
الأول منها :
أفعال القلوب وهي تشمل الاعتقاد والعزم كأن يعتقد نفي الصانع أو أنّ معه ثانيا أو
أنه غير قادر أو غير عالم أو محدث أو يشبه المحدث أو نحو ذلك ، أو يعتقد كذب الرسل
فيما جاءوا به ، أو يعتقد أن لا بعث ولا نشور ولا جنة ولا نار أو نحو ذلك ، أو
يعزم على ذلك.
الثاني : أفعال
الجوارح كعبادة الأصنام وقتل الأنبياء والاستخفاف بهم ونحو ذلك.
__________________
الثالث : الأقوال
كإظهار كلمة الكفر بأن ينطق بأن الله ثالث ثلاثة أو يسبّ الله أو يسبّ الأنبياء أو
نحو ذلك.
الرابع : ما هو من
قبيل الترك كأن لا يعرف الله أو لا يقرّ بلسانه أو لا يهاجر من دار الكفر حيث لا
عذر أو نحو ذلك.
قال الإمام المهدي
عليهالسلام : وقالت الكرامية : لا كفر بفعل القلب حتى ينضم إليه غيره
من قول كتكذيب النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم أو فعل كالسجود لغير الله.
وحجتهم : قول
النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم لأسامة «هلّا شققت على قلبه».
قلنا : الإجماع
على أن الجهل بالله كفر ، والجهل بالله تعالى من أفعال القلوب.
قال : وقالت
الأشعرية : إنما يقع الكفر بفعل القلب لا بأفعال الجوارح. وقالوا الكفر هو التكذيب
النفسي كما أنّ الإيمان عندهم هو التصديق النفسي واحتجوا بقوله تعالى : (وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ
صَدْراً) قلنا عبادة الصنم كفر وليست من فعل القلب لا يقال إنّ
العبادة لم تكن كفرا إلّا لكشفها عن اعتقاد إلاهيته لأنا نقول بل هي كفر وإن لم
يعتقد إلاهيته إذ هو في حكم التكذيب للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والاستخفاف بنهيه عنه وأيضا الاستخفاف بالنبي والقرآن كفر
نحو السب والضرب وتحريق المصاحف تهاونا وذلك من أفعال الجوارح قال عليهالسلام وقيل لا يقع كفر إلا بالقول دون أفعال القلوب وأفعال
الجوارح.
قال : ولا يصحّ
هذا القول إلّا للكرامية لأنهم يقولون إنّما الإيمان القول كما سبق.
قال : وقيل :
القول لا يدخله كفر وإنّما هو يكشف عن الكفر.
قال : والقائل
بهذا : أبو هاشم حيث قال : إنّ إظهار كلمة الكفر ليست كفرا حتى ينضم إليها اعتقاد
بدليل : أن المكره يجوز أن ينطق بكلمة الكفر.
قال عليهالسلام : قلنا : المعلوم أن إظهار كلمة الكفر كفر إذ من أظهرها
أجرينا عليه أحكام الكفر وإن لم نطلع على حقيقته.
قال : والكفر
ينقسم إلى ضربين :
مجمع عليه : وهو
ما كان كفر تصريح على جهة التمرّد والمعاندة فهذا لا خلاف فيه بين المسلمين.
ومختلف فيه : وهو
ضربان :
أحدهما
: ما هو من كفر التصريح ولكن صدر من صاحبه لا على جهة التمرّد
والمعاندة بل مع اجتهاد في معرفة الحق ، فأكثر الأمّة على أنه كفر كالأول من غير
فرق.
وعن الجاحظ
والعنبري : أنه لا عقاب على أهل هذا الضرب وأنهم معذورون.
الضرب
الثاني : كفر التأويل وفيه
خلاف شديد.
قال : فإن قلت :
ما الفرق بين كفر التصريح وكفر التأويل؟
قال عليهالسلام : كفر التصريح : هو ارتكاب شيء ممّا يوجب الكفر بعينه.
وكفر التأويل هو
ارتكاب ما يماثل شيئا من تلك الأمور مع مناكرة المرتكب له في المماثلة بينهما
لشبهة يدّعي اقتضاؤها ذلك.
قال : ولنذكر له
مثالين فهما كافيان :
الأول
: قول المجسمة : إن
الله تعالى جسم ذو أعضاء فإن المعلوم ضرورة من دين النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّ الله لا يشبه خلقه وأنه دان بذلك.
فلو قال المجسم :
إنه سبحانه شبيه بخلقه كان بذلك كافر تصريح لأنه قد كذّب النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم حيث أثبت ما نفاه لكنه زعم أن قوله : إن الله جسم ذو أعضاء
وجوارح ليس من التشبيه الذي جاء
__________________
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بنفيه ، وأن الرسول إنما حرم تشبيه الله تعالى بعباده في
صفات النقص من الحدوث وتوابعه من الموت والتألّم ونحوها وذلك لشبهة وهي الظواهر
التي في القرآن والسّنّة فهذا كافر التأويل لأنه لم يثبت لله تعالى من الوصف عين
ما جاء الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بنفيه فيكون مكذّبا.
وإنّما أثبت مثل
ما نفاه صلىاللهعليهوآلهوسلم وزعم أنه غير مثل له.
المثال
الثاني : قول المجبرة : إنه
تعالى فاعل الظلم والكذب والعبث فإن المعلوم ضرورة من دين النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم أن الله تعالى لا يجوز أن يوصف بأنه ظالم أو كاذب أو عابث
وأنّ من وصفه بذلك أو اعتقده فيه فقد كفر وهؤلاء القوم لم يصفوه بذلك ولا اعتقدوه
فيه لكنهم وصفوه واعتقدوا فيه أنه فاعل الظلم والكذب والعبث وأنكروا كون الوصف
بأنه فاعل ذلك مماثلا للوصف بأنه ظالم وكاذب وعابث لشبهة اقتضت عندهم اختلاف
الوصفين وامتناع مماثلتهما فهذان المثالان كافيان في تمييز كفر التأويل من كفر
التصريح انتهى.
قلت : وسيأتي ذكر
الخلاف في كفر التأويل إن شاء الله تعالى.
واعلم : أن أهل
كفر التصريح خمسة أصناف بعد بطلان قول الجاحظ والعنبري :
الأول
: المعطّلة والدهرية
والفلاسفة ومنكرو الحقائق من أهل السفسطة.
والثاني
: الملاحدة من
الثنوية والمجوس والصابئة ومنهم الباطنية.
الثالث
: عبدة الأصنام
والأوثان والنجوم والأفلاك والنيّرات والجمادات والحيوانات.
الرابع
: المنكرون للنبوءات
كالبراهمة والقائلون بالتناسخ.
الخامس
: الكفار من أهل
الكتب المنزلة كاليهود والنصارى وهم معظم الفرق الخارجة عن الإسلام.
هكذا ذكره الإمام
يحيى عليهالسلام ، قال : ويندرج تحتهم من الفرق والطوائف خلق كثير.
قال : وأما الضرب
الثاني وهم أهل التأويل وهم سبعة أصناف :
المطرفية ،
والمشبهة ، والمجبرة ، والروافض ، والخوارج ، والمرجئة ، والمقلدة على اختلافهم في
كفرهم. انتهى.
قلت : ولم يذكر
الإمام عليهالسلام الضرب الأول وهو المتفق عليه لوضوحه وأشار إلى الضرب
الثاني بقوله :
قالت «العترة عليهم» «السلام وصفوة
الشيعة وجمهور المعتزلة وغيرهم : ومن شبّه الله تعالى بخلقه» كهشام بن الحكم والجوالقي والحنابلة حيث جعلوه تعالى جسما.
وكذلك من جعله تعالى ذا مكان كالكراميّة
والكلابية ونحوهم ، «أو» من «نسب عصيان العباد إليه تعالى» كالمجبرة الذين زعموا
أن المعاصي بقضاء الله وقدره بمعنى خلقها وحتمها فمن اعتقد ذلك أو نطق به غير مكره
: «كفر لعدم معرفته بالله تعالى ، ولسبّه جلّ وعلا و» قد انعقد «الإجماع» من
الأمّة «على كفر من جهل بالله تعالى أو سبّه».
فالمشبّهة جهلت
بالله تعالى لأنها لا تعرف إلّا إلها جسما ، والمجبرة : سبّته تعالى بأن نسبت
الظلم إليه جلّ وعلا.
«و» في «قديم قولي المؤيد بالله عليهالسلام»
والإمام يحيى عليهالسلام
«و» قول محمد «بن شبيب» من المعتزلة «والملاحميّة» أتباع محمود بن الملاحمي من
المعتزلة فهؤلاء قالوا : «المجبرة عصاة وليسوا بكفار».
وقال الإمام يحيى عليهالسلام : لا قطع بكفر المجبر والمشبّه إلّا
__________________
من حقق التجسيم
بالأعضاء والجوارح فلا يبعد كفره ، حكاه عنه الإمام المهدي عليهالسلام في الغايات.
قال النجري :
واعلم : أنه لم ينقل عن أحد من أهل البيت عليهمالسلام ولا من المعتزلة الخلاف في كفر المشبهة ، وأما المجبرة :
فقال جمهور المعتزلة البصريين والبغداديين وأكثر أهل البيت عليهمالسلام ، وبه صرّح الهادي والقاسم والناصر وأبو طالب والمنصور
بالله : أنهم كفار.
وحكى الإمام أبو
عبد الله الدّاعي عليهالسلام : إجماع أهل البيت عليهمالسلام على ذلك.
وروى صاحب شرح
الأبيات الفخرية : أن الإمام محمد بن المطهر روى عن السيد الإمام الناصر للحق
الحسين بن محمد عليهالسلام : أنه صحّح عن المؤيّد بالله عليهالسلام : القول بتكفير المجبرة ، ونفى هذه الرواية عنه وقال : إنه
غلط عليهالسلام.
«لنا» من الحجة عليهم «ما مرّ» من أنهم جهلوا بالله وسبّوه.
وأيضا : المجبرة
جهلوا بالله تعالى المتعالي عن ظلم العباد لأنهم لا يعرفون إلّا ربّا أمر بالظلم
وفعله وقدّره وخلقه.
«و» لنا أيضا قوله تعالى : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى
اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً
لِلْكافِرِينَ) وهذا نص في تسميتهم كافرين.
«فقد افترت المجبرة على الله تعالى
الكذب حيث نسبت عصيان العباد إليه» ونزّهت أنفسها والشيطان عن ذلك.
«وكذبت هي والمشبهة بالصدق لأنّ الله
تعالى يقول» :
(وَلا يَرْضى
لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) «والمجبرة تقول : بل
رضيه» وإلّا لم يقع في ملكه إذ لو وقع
__________________
في ملكه ما لا
يرضاه لما كان إلّا للعجز منه جلّ وعلا وقد تقدم الردّ عليهم.
«وبقوله تعالى» : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) .
«والمجسمة تقول : بل هو كالأجسام
فسمّاهم الله تعالى» أي المشبهة والمجبرة «في آخر الآية : كافرين» حيث قال «أليس في جهنم مثوى للكافرين».
والمعنى : أليس في
جهنم مثوى لهم.
«و» لنا أيضا «الإجماع» المعلوم من المسلمين «على
أن من ردّ آية»
من كتاب الله «فهو
كافر» لردّه ما علم
ثبوته من الدين ضرورة.
ولا شك أن المجبرة
والمشبهة ردّوا كثيرا من الآيات المحكمة.
وما قيل : من أنهم
لم يرتكبوا الشيء الذي هو كفر بعينه ، وإنّما ارتكبوا مثله وأنكروا المماثلة بخلاف
عبّاد النجوم والأصنام ونحوهم ، ممّا لا يصلح أن يكون فارقا :
أمّا أوّلا : فنقول : إن الذي دانت به المجسمة من أن الله تعالى جسم ذو
أعضاء (تعالى الله عن ذلك) هو عين ما جاء النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم بنفيه لا مثله لأنّ الله سبحانه قال (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) فعمّ نفي المشابهة في أي شيء من الأشياء.
وأمّا
ثانيا : فلأنه لا فرق بأن
يكون ذلك عين ما جاء النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم بنفيه أو مثله لأن العلّة في كفرهم هي جهلهم بالله تعالى
ونسبة صفة النقص إليه جلّ وعلا وسبّهم له وردّهم آيات القرآن المحكمة مع وضوح
الدلالة.
وإنكارهم للمماثلة
إنكار للضرورة فلا يسمع والله أعلم.
وأيضا : فإنا نقول
للخصم : ألست تسلّم أن من استحلّ الخمر أو سبّ النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم فقد كفر وإن كان مقرّا بالنبي صلّى
__________________
الله عليه وآله
وسلّم؟
فلا بدّ وأن يقول
: نعم.
وإذا قال نعم :
قلنا له فما وجه كفره وقد أقرّ بالنبوّة وصلّى إلى القبلة ولا جواب له عن ذلك إلّا
بأن يقول : إنه باستحلاله الخمر صار مكذبا له وبسبّه له صار مستخفّا به ونحن نعلم
ذلك ضرورة فعلمنا أنه كفر وإن أقرّ بنبوّته وصلّى إلى قبلته.
وإذا أجاب بذلك
قلنا له : قد أمكنت راميك من صفاء الثّغرة وذلك لأنّا كذلك نقول. هكذا ذكره عليهالسلام في الغايات.
قال عليهالسلام : «وكذلك
القول فيمن يقول : إن الله يحلّ في الكواعب الحسان ومن أشبههن من المردان».
أي فهم كفار
كالمجبرة والمشبهة لا أنهم كالمجبرة والمشبهة في التأويل فإن كفر هؤلاء تصريح
اتفاقا لأنهم باطنية وإن تستّروا بالإسلام.
وإن فرضنا : أنهم
ليسوا باطنية فهم حلوليّة حيث قالوا إنه تعالى يحلّ في الصّور الحسان «عشقا
منه لها تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا» ومن وصف الله سبحانه بالحلول في المخلوق ونسب إليه العشق
فقد كفر إجماعا وذلك كفر تصريح لا تأويل.
وكذلك القول في الإباحية الذين يقولون «إن
أموال الناس» المحرّمة حلال «والفروج المحرّمة حلال وليس المراد بالجنة» التي
وعدها الله المتقين «إلّا وصل الحبيب» أي محبوبهم وليس المراد «بالنار» التي
أعدّها الله للكافرين والفاسقين «إلّا هجره» أي هجر الحبيب وينفون الجنة والنار
ولا يثبتونهما فهم كفار تصريح اتفاقا وهم من الباطنية «للآية» المتقدم ذكرها «ولردّهم
أيضا ما علم أنه من الدين ضرورة» أي بضرورة العقل وذلك تحريم أموال الناس ودمائهم
والزنى ونحو ذلك.
«وهو» أيضا «تكذيب لله ولرسوله» وذلك
واضح.
«وكذلك القول فيمن والى كافرا» أي أحبّه
أو فعل ما ظاهره المحبة
«لقوله تعالى» : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) .
(وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ
مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) أي كافر مثلهم في الكفر وهذا نص صريح في كفر من والى
كافرا.
قال الإمام المهدي
عليهالسلام : وحقيقة الموالاة للغير هي :
أن تحب له ما تحب
لنفسك وتكره له ما تكره لها كما نبّه قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم «لا يكون المؤمن
مؤمنا حتى يرى لأخيه المؤمن ما يرى لنفسه ويكره له ما يكره لها» أو كما قال.
وحقيقة المعاداة
للغير : «أن تريد إنزال المضرّة به وصرف المنافع عنه ويعزم على ذلك إن قدّر
عليه ولم يعرض صارف.
قال : وإنّما
يكونان دينيّين حيث يواليه لكونه وليّا لله تعالى ويعاديه لكونه عدوّا لله تعالى.
فإن لم يكونا كذلك
فدنيويّان نحو أن يحب له الخير لقرابته منه أو لنفعه له ، أو يحب له الشرّ لمضرته
له أو لمن يحب.
وقال القاسم بن
إبراهيم عليهماالسلام في كتاب الهجرة : ومن صار إلى عدوّ من أعداء الله إلى
محبّة أو موالاة أو مسالمة أو مراضاة أو مؤانسة أو موادّة أو مداناة أو مقاعدة أو
مجاورة أو اقتراب فضلا عن توادّ أو تحابّ فقد باء راغما صاغرا من الله جلّ ثناؤه
بسخطه وهلك في ذلك بهلكة عدوّ الله وتورط من الهلكة في متورطه وكان في الإساءة
والجرم مثله وأحلّه الله في العداوة له محله ... إلى آخر كلامه عليهالسلام.
وفيه تصريح بعدم
اشتراط مواطأة القلب ، وأنّ الأفعال التي يكون ظاهرها المحبّة والإيناس موالاة ولو
كان يعتقد ويضمر الكراهة والبغض فكل
__________________
فعل ظاهره
الموالاة والمعاداة يحكم على صاحبه به ، ولا عبرة بفعل القلب وإلّا لما وجبت
الهجرة.
ويؤكّد ذلك قوله
تعالى : (وَبَدا بَيْنَنا
وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً ...)الآية .
وما أخرجه رزين عن
سمرة بن جندب قال أمّا بعد : فإنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : «من جامع المشرك أو سكن معه فإنه مثله».
وأخرج الترمذي بمعناه أو قريبا منه ،
ذكر هذا ابن بهران في المعتمد والله أعلم «أو» لم يوال كافرا ولكنه «صوّب عاصيا» لله
تعالى «في عصيانه» والمراد «المتجاري عليه» أي المتعمد للمعصية لله تعالى جرأة
عليه فإن من صوّبه في ذلك العصيان كفر «لردّه ما علم» أنه «من الدين ضرورة» وهو
عصيان الله تعالى : إذ هو تكذيب لما جاء به رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
من تحريم معصية الله تعالى ، وهو ما نهى الله عنه.
وهو ردّ أيضا لحكم
العقل من وجوب امتثال أمر المالك المنعم وذلك يقتضي الاستخفاف بالله تعالى.
«أو جالسهم» أي جالس العاصين «في حال
ارتكابهم فعل الكفر» أي الموجب لكفر فاعله «غير مكره» على مجالستهم.
أمّا إذا أكره أو
اضطرته ضرورة أو مصلحة دينيّة ولم يعارضها مفسدة فلا إثم عليه كما سبق ذكره في الهجرة وذلك «لقوله
تعالى» :
(وَقَدْ نَزَّلَ
عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها
وَيُسْتَهْزَأُ بِها
__________________
فَلا
تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً
مِثْلُهُمْ) أي مثلهم في الكفر ، وهذا نص في كفرهم.
قال المنصور بالله
عليهالسلام في المهذب : فإن كانت الدار الغالب عليها الكفر من قول
بباطل أو جبر أو تشبيه ولهم السيف والمنبر فحكم المقيم بينهم إذا كان متمكنا من
الخروج والهجرة حكمهم في الكفر ، وإن كان الغالب عليها الفسق فحكمه في أيّام
الإمام حكم الفاسقين وفي غير وقته : حكم الصالحين إلّا أن يغلب في الظنّ أنهم إذا
انفصلوا عنها يكونون أقرب إلى فعل الطاعات وترك المقبّحات فالهجرة عنها واجبة
عليهم في وقت الإمام وغير وقته ويفسق من لا يخرج.
وإن كان ظاهره
الصّلاح بالدرس في العدل والتوحيد.
قلت : قوله عليهالسلام : وفي غير وقت الإمام حكم الصالحين وذلك حيث لم يجد موضعا
يهاجر إليه خليّا من الفسق لقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لا يحل لعين ترى الله يعصى ... الخبر كما تقدم».
(فرع)
يتفرع على كفر
المشبهة والمجبرة ، اختلف المكفرون لهم في حكمهم في الدنيا ومعاملتهم :
فقال «بعض أئمتنا عليهم» «السلام» وهو ظاهر إطلاق قدمائهم عليهمالسلام : «وحكم نحو المجبرة» أي المجبرة والمشبهة ومن يشبههم في كفر التأويل كالمرجئة
والمطرفية عند من كفرهم «حكم المشركين» في جميع الأحكام فيجوز سبيهم ويحرم مناكحتهم ويمتنع التوارث
بينهم وبين المسلمين.
وقال الإمام «المهدي» أحمد بن يحيى «عليهالسلام
وأبو علي»
الجبائي «والقاضي» عبد
الجبار «و»
جعفر «بن مبشر» ورواه النجري عن القاسم وأبي طالب والجرجاني والمنصور بالله
عليهالسلام : «بل» لهم
__________________
«حكم المرتدين لأن
إظهارهم للشهادتين إسلام ، واعتقادهم ذلك» أي الجبر ونحوه «ردّة» ولم أقف على كلام الإمام المهدي عليهالسلام في ذلك إلّا ما حكاه في الأزهار ولعل الرواية عن المنصور
بالله عليهالسلام غير صحيحة لأنه قد روي عنه : جواز سبي المشبهة والمجبرة ،
والله أعلم.
«قلنا» ليس إظهارهم الشهادتين إسلاما
لأنهم «إنما يشهدون بإلهية الفاعل للقبائح والمشابه للأجسام والعاشق للحسان لا» أنهم
يشهدون «بإلهية الله سبحانه المتعالي عن ذلك» علوّا كبيرا.
وقد أدخل عليهالسلام الصوفية مع أهل كفر التأويل فينظر فيه.
«وإن سلّم» أن إظهار الشهادتين إسلام «فكالمنافق
الذي لم يشم قلبه رائحة الإسلام» لأنه «يظهر الشهادتين» وقلبه منطو على الكفر بالله تعالى «وليس
له
حكم المرتد إجماعا» بين المسلمين لأن المرتد هو الذي يكفر بعد الإسلام ،
والمنافق لم يثبت له إسلام وكذلك المجبرة والمشبهة.
وفي «أحد قولي أبي هاشم و» هو قول «ثمامة» بن الأشرس من المعتزلة : «بل»
لهم «حكم الذمّي»
لأنهم نطقوا
بالشهادتين وكذبوا على الله وكذّبوا بالصدق فهم كمن كذّب نبيئنا [محمدا] صلىاللهعليهوآلهوسلم.
ولقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم في المجوس : «سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب» وهم مثل المجوس.
قلنا لم تعقد لهم ذمّة كأهل الذمّة والمعلوم أن الذمّة إنّما عقدت لأهل الكتاب المنزل على
الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
وقال أبو القاسم «البلخي
: بل»
لهم في الدنيا «حكم
الفاسق»
في الدفن في مقابر المسلمين والمناكحة والتوارث ، ولهم في
الآخرة حكم الكفار في العقاب.
«قلنا : صحّ كفرهم» بما سبق ذكره من الأدلة «فلزم»
لهم
«أحكام
__________________
الكفار» في معاملة الدنيا والآخرة «لعدم
الفارق»
بين كفر وكفر وبين
أحكام الدنيا والآخرة
«ولا دليل على صحة ما ذكروه» أي ما ذكره المخالف.
واعلم : أن
الإسكافي وكثيرا من المعتزلة قالوا : إن الشك في كفر المجبرة والمشبهة كفر ،
ويتوقفون في الشّاك الثاني.
وقال قوم : الشّاك
الثاني أيضا كافر ، وكذلك الثالث والرابع وتوقف بعضهم في الشّاك الثالث.
وقالت البصرية :
إن صوّبهم كفر وإن خطّأهم لم يكفر ولم يخطئ إذ لا يجب على المكلف إلّا اعتقاد
الحقّ وإخطاء مخالفه ، وأما أحكامه هل هو كافر أو لا فلا يجب إذ دليل كون الذنب
كفرا سمعيّ وليس كل أحد مكلّفا بمعرفته ، وإنّما يكلف بها العلماء والأئمة ومن جرى
مجراهم لما عليهم من التكاليف المتعلقة بهم.
واعلم : أنه بقي
من أصناف التأويل التي عدّها الإمام يحيى عليهالسلام خمسة أصناف : المطرفية ، والروافض ، والخوارج ، والمرجئة ،
والمقلّدة :
أما المطرفية :
فقد كفرهم الإمام أحمد بن سليمان والإمام المنصور بالله عليهماالسلام وغيرهما من أئمة أهل البيت عليهمالسلام وشيعتهم لما قد ذكرنا بعضه في فصل الأجل وغيره ، من ذلك :
إنكارهم أن الله سبحانه ما قصد إلى خلق الفروع وإنّما قصد الأصول التي هي : الهوى
والماء والأرض والنار ، وأنّ الفروع إنّما حدثت بالإحالة وكذلك أنكروا أن يكون
الله سبحانه أمات من لم يبلغ [عمره] مائة وعشرين سنة.
وأما الرافضة :
فهم فرق كثيرة ، قال القاسم بن إبراهيم عليهالسلام : افترق من ادّعى التشيّع على ثلاثة عشر صنفا : منهم اثنا
عشر في النار وهم الروافض.
ثم ذكر فرقا كثيرة
من الروافض ، فمن علم أنّ خطأه يوجب الكفر من الاعتقاد والقول أجري عليه حكمه
حسبما قد حققنا معصية الكفر فيما تقدم
وأما من كفرهم
لتكفيرهم المشايخ فإن ذلك لا يوجب الكفر فإن من كفّر مسلما لشبهة لا يكفر لعدم
الدليل القطعي على كفره.
وأما الخوارج :
فإن أدّاهم اجتهادهم إلى معصية الكفر قولا أو اعتقادا أو فعلا كانوا كفّارا.
وأما خروجهم على
عليّ عليهالسلام وغيره من سائر الأئمة فلا يكفرون بذلك.
وأيضا : لم يكفرهم
عليّ عليهالسلام.
وأما من جوّز منهم
كفر الأنبياء فإنه يكفر قطعا لردّه ما علم من الدين ضرورة وهو أن الله سبحانه لم
يبعث إلّا من اختاره واصطفاه وعلم طهارته من كبائر الذنوب.
وأما المرجئة :
فمن قطع بخلف الوعيد في حق مرتكب الكبيرة أو انقطاعه : فلا شك في كفره لردّه آيات
القرآن الصريحة في بطلان قوله كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وكذلك من ذهب إلى
تجويز استثناء أو شرط غير معلوم لأن فيه تجويز الإلغاز والتعمية على الله سبحانه
وهو قبيح ، وقد ثبت أن من نسب القبيح إلى الله سبحانه كفر.
وكذلك من قال :
بتعارض العمومين فتوقف في ذلك لأنه قد ثبت وجوب العلم على كل مكلف بحكم صاحب
الكبيرة وحينئذ فلا بدّ من طريق له إلى العلم بذلك وإلّا كان تكليفا لما لا يطاق
والله يتعالى عنه ، فلا يجوز له التوقّف.
وأما المقلدة :
فقالت البصرية : التقليد في معرفة الله تعالى كفر لأن الجهل بالله كفر إجماعا
والمقلد في الله تعالى جاهل به لأن اعتقاده ليس علما.
وقيل : هو مؤمن
عندنا نعامله معاملة المؤمنين وما ندري ما حكمه عند الله تعالى.
وقال أبو القاسم
البلخي : بل هو مؤمن قطعا عندنا وعند الله تعالى إذا وافق اعتقاده الحق.
وقد روي ذلك عن
القاسم عليهالسلام لحصول الاعتقاد المطابق للحق (إذ ربّ عامّي نفسه أشدّ
سكونا إلى ما يعتقده من كثير من العلماء ولإجماع الصحابة على إيمان من نطق
بالشهادتين من أجلاف العرب الذين لا يهتدون لتحرير دليل ولا حلّ شبهة فإنهم كانوا
يعرضون عليهم قواعد الإسلام وينهونهم عن ضلالات الشرك من غير أن يلقّنوهم حجة أو
يحرروا لهم برهانا.
وأيضا : لو كان
التقليد قبيحا لاستحقّ عليه العقاب فيستحقّ العقاب على اعتقاد التوحيد وهو باطل
هكذا حكاه النجري في شرح القلائد.
(فصل)
في ذكر التفسيق :
قال الإمام المهدي
عليهالسلام : اعلم : أن الفسق ينقسم إلى تصريح وتأويل :
فالتصريح هو ما
علم من الدين ضرورة أنه فسق.
وفسق التأويل : ما
لم يعلم ضرورة أنه فسق ، وإنّما علم بالدليل كونه فسقا كالبغي على الإمام مع إظهار
الباغي أنه محقّ ، لشبهة تعينه على ذلك.
قلت : لعل مراده عليهالسلام : أن من ارتكب كبيرة يعلم كونها معصية من ضرورة الدين ،
وإن علم كونها كبيرة بالاستدلال فهو فاسق تصريح ، ولم يذكر الإمام عليهالسلام فسق التصريح لوضوحه وأشار إلى فسق التأويل بقوله :
«ومن خالف المؤمنين المقطوع بإيمانهم
جملة» أي كلهم «نحو كل الأمّة» أي علماء الأمّة «أو كل العترة عليهم» «السلام» كذلك.
والمراد : خالفهم
في شيء من الشرائع الدينيّة لأن الحق لا يخرج
عن أيديهم فلا
يجوز إجماعهم على خطإ لعصمة جماعة العترة عليهمالسلام للأدلة المتقدم ذكرها ، والمراد العلماء لا غيرهم وذلك «فيما
مستنده غير الرأي»
كذا ألحقه الإمام عليهالسلام ولعله يحترز به عن الإجماع في الأمور الدنيوية كالآراء
والحروب والله أعلم.
«عمدا» أي وهو عالم أنه مخالف لهم في قوله : «فهو
فاسق لقوله تعالى :
(وَمَنْ يُشاقِقِ
الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ
الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) فعلم بهذه الآية أنّ معصيته كبيرة.
وما روي من قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم «من فارق الجماعة
قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه».
والحق أن الحجة
الواضحة في كون الإجماع حجة : هو ما ورد في جماعة العترة من الأدلة المعلومة على
أن الحق لا يخرج عن أيديهم وأنه يجب على كل مكلف الاعتزاء إليهم والكون معهم من
خبري السفينة وإني تارك فيكم وآية التطهير وغير ذلك كما سبق ذكره.
وعن النظام
والرافضة وبعض الخوارج : أن الإجماع ليس بحجة واختلف الرواة عنهم : فمنهم من زعم
أنهم إنّما خالفوا في ثبوته لا في كونه حجة لأن انتشار الأمّة يحيل اطلاع كل واحد
منهم على الحكم ، ومنهم من حكى أنهم ينفون كونه حجة ولو ثبت.
وقال الرازي والآمدي
: هو حجة ظنيّة ، فعلى قولهما لا يقطع بفسق مخالفه ، وقولهما باطل بما مرّ.
«وكذلك من بغى على أئمة الحق للآية» المتقدم
ذكرها «والإجماع» أي وللإجماع من الأمّة على فسق من بغى على إمام الحق ، والإجماع
دليل قطعيّ.
__________________
وذلك لأنّ مسألة
الإمامة من مسائل أصول الدين الكبار التي لا يسع أحدا جهلها.
فالباغي على إمام
الحق معاند أو في حكم المعاند حيث ترك الاستدلال والنظر في طلب الحق.
قال الإمام المهدي
عليهالسلام في الغايات : اختلف في البغي على إمام الحق :
فقال جلّ المعتزلة
وكلّ الزيدية والخوارج : إنه يوجب الفسق قطعا.
وقال أكثر المجبرة
وأهل الحديث : إن مسألة الإمامة اجتهادية فالمخطئ فيها معذور كسائر الاجتهاديات ،
وحكموا في حرب الصحابة بينهم بأن القاتل والمقتول في الجنّة.
وبطلان هذا القول
ظاهر لأن العدل الحكيم لا يكلف عباده أن يقتل بعضهم بعضا ثم يدخل القاتل والمقتول
الجنة.
ولقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم «من مات لا يعرف
إمامه مات ميتة جاهليّة».
«وكذلك» أي يفسق «من تولّى الفساق» أي والاهم ، وقد عرفت حقيقة الموالاة ، «أو
جالسهم في حال عصيانهم غير مكره لنحو ما مرّ» ذكره في تولّي الكفار ومجالستهم.
ولقوله تعالى : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا
آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ ...) الآية .
فنفى الله سبحانه
الإيمان عن الموادّ للمحادّ لله تعالى ولرسوله وهو يعمّ الفاسق والكافر.
__________________
(باب التوبة)
«لا خلاف في وجوبها» بين المسلمين على من ارتكب معصية عقلا وسمعا :
أما عقلا : فلأنها دفع ضرر عن النفس ودفع الضرر عن النفس واجب عقلا.
وأمّا سمعا : فلورود الآيات الكثيرة بذلك.
وتجب «فورا» عقيب العصيان «لأنّ» التراخي إصرار و «الإصرار
على المعاصي عصيان»
بل هو معدود من
الكبائر المحبطة للإيمان.
«و» أيضا «العاصي مخاطب بترك معصيته في
كل وقت» فثبت وجوب التوبة فورا لذلك.
«وتصحّ» التوبة ويقبلها الله تعالى «مدة
العمر»
وإن عصى المذنب
بتأخيرها
«ما
لم تحضره ملائكة الموت»
فإذا حضرته
الملائكة لقبض روحه فإنها لا تقبل توبته «لقوله تعالى»
:
(يَوْمَ يَرَوْنَ
الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً
مَحْجُوراً) أي حراما محرّما
عليكم قبول الإنابة «ونحوها»
كقوله تعالى : (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ
يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي
تُبْتُ الْآنَ ...) الآية .
قال أبو علي :
وتجب التوبة من الصغائر لأنه لا يخلو منها إلّا إلى
__________________
قبيح وهو الإصرار
إذ هو ضدّها والقبيح ليس للعاقل فعله وإن لم يستحق عليه عقابا فوجبت التوبة لكونها
ترك قبيح. حكاه الإمام المهدي عليهالسلام عنه.
قال : وقال أبو
هاشم : لا تجب التوبة من الصغائر عقلا إذ لا وجه يقتضي وجوبها.
قال عليهالسلام : وهذه المسألة إنّما هي واقعة على سبيل الفرض والتقدير إذ
الصغائر عندنا لا يصحّ أن تعلم ، وإذا جوزنا في كل معصية أنها كبيرة ولم نقطع
بأنها صغيرة وجبت التوبة عقلا لأن وجوب دفع الضرر الموهوم في الثبوت كوجوب دفع
المعلوم فلا خلاف حينئذ في وجوبها.
وإنما الخلاف حيث
قطعنا بأنها صغيرة وهذا إنّما يتفق في حقّنا على سبيل الفرض والتقدير.
وأما في حق
الأنبياء فيتحقق الخلاف لأن معاصيهم صغائر.
قال : والصحيح أن
التوبة لا تجب عليهم عقلا بل سمعا فقط لقوله تعالى لنبيه صلىاللهعليهوآلهوسلم (وَاسْتَغْفِرْ
لِذَنْبِكَ) ونحوها.
واعلم : أن التوبة
لا يجب قبولها عقلا وفاقا لأبي القاسم البلخي وخلافا للبصرية.
قلنا : الذنب
يقتضي العقاب وهو حق للمعاقب أو في حكمه كعقاب الله للعصاة فلا يسقط إلّا برضاه أو
ما في حكمه كعفو الله عن التائب وكوجوب ردّ المال والقصاص ، ولقوله تعالى : (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا
أَنْفُسَكُمْ ...) الآية والله أعلم.
فلو وجب قبولها
عقلا لما أمرهم بقتل أنفسهم لأنه بعض عقوبة بلى يحكم العقل بعدم دوام العقاب مع
التوبة كما يحكم بعدم دوام الذمّ والله أعلم.
__________________
«و» حقيقة التوبة «هي الندم» على ما أتى
به من القبيح لقبحه وأخلّ به من الواجب لوجوبه.
«والعزم على ترك العود على المعاصي» مدة
العمر فالندم والعزم ركنان لها وهي مقبولة من كل ذنب.
وخالف بعضهم في قتل المؤمن وهو باطل وهي
تقبل.
ولو علم الله أن التائب يعود إلى ما تاب
عنه خلاف بعض البغداديين واتفق أبو علي وأبو هاشم : أنها تسقط العقاب بنفسها لا
بالموازنة بين ثوابها وعقاب العصيان.
قالوا : إذ هي بذل الجهد في التلافي لما
وقع من العصيان فالتساقط يقع بين فعلها وفعل المعصية فتصير المعصية حينئذ كأن لم
تكن فيسقط العقاب تبعا لسقوطها من غير أن يسقط شيء من ثواب التوبة.
وفي النهج عن أمير المؤمنين عليّ عليهالسلام
في ثواب التوبة حين قال رجل بحضرته : أستغفر الله ، فقال عليهالسلام
(ثكلتك أمّك ، أتدري ما الاستغفار؟
إن الاستغفار درجة العلّيين.
وهي اسم واقع على ستة معان :
أوّلها : النّدم على ما مضى ، والثاني :
العزم على ترك العود إليه أبدا ، والثالث : أن تؤدّي إلى المخلوقين حقوقهم حتى
تلقى الله عزوجل أملس ليس عليك تبعة.
والرابع : أن تعمد إلى كل فريضة عليك
ضيعتها فتؤدّي حقّها.
والخامس : أن تعمد إلى اللحم الذي قد
نبت من السّحت فتذيبه بالأحزان حتى يلصق الجلد بالعظم وينشأ بينهما لحم جديد.
والسادس : أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما
أذقته حلاوة المعصية فعند ذلك تقول : أستغفر الله).
وقال السيد الإمام «مانكديم» وهو أحمد
بن الحسين بن أبي هاشم
عليهالسلام : «هي الندم» المذكور «والعزم»
إنّما هو «شرط فيها» وليس ركنا.
قال عليهالسلام : «وهو قريب» أي هو قريب من أن يكون هو الأولى أو قريب من القول الأول إذ
لا ثمرة لهذا الخلاف.
«وشرطها» أي شرط صحتها أمران :
الأول منهما : «الإصلاح فيما يتعلق
بالآدمي من تسليم النفس»
إن كان التائب
قاتل عمد ، «و» تسليم «الأطراف للقصاص» في النفس والأطراف «وكذا
تسليم
الأروش إن كان الواجب الأرش و» كذا «الديون
«اللّازمة «و»
تسليم «الودائع» التي عنده لأهلها «ونحو
ذلك»
من جميع حقوق
الآدميين ، «أو العزم» على الإصلاح وتسليم الحقوق
«إن لم يتمكن من ذلك حالها»
أي حال التوبة.
فإنه إذا عزم على
ذلك متى تمكّن منه فإنّ توبته صحيحة.
«و» الثاني : «أن يكون الندم لأجل وجه
القبح من الإضرار»
أي القبح الذي هو
الإضرار بالغير )
«وعصيان الله تعالى»
فيكون ندمه لأجل
كون ذلك الفعل أو الترك عصيانا للمالك المنعم وظلما للغير «لأنه
إن كان الندم لأجل مشقة الفعل»
أي فعل
المعصية ، «أو» لأجل «أمر دنيوي يتعلق» ذلك الأمر الدنيوي «به» أي بالفعل من نقصان رزق أو حظّ ونحو ذلك أو يتعلق ذلك الأمر الدنيوي «بالترك» أي ترك الطاعة فقط ، أي
كان تركه للقبيح وفعله للطاعة لأمر دنيوي فقط.
«أو للذمّ والعقاب فقط» أي خشية الذمّ
والعقاب فقط «أو للمجموع» أي لمجموع الأمور الثلاثة فقط «من دون وجه القبح» الذي
تقدم بيانه «بقي التائب غير نادم من عصيان الله تعالى».
«و» من «الظلم وهما بذر القبح» أي وجه
القبح وعلته وأصله «الذي
__________________
ثمرته الذمّ والعقاب» لفاعله شبّه القبح بالزرع ، فأثبت له البذر والثمر ترشيحا
وهي استعارة بالكناية مثل تشبيه : نشبت مخالب المنيّة بفلان.
«و» قد «قيل» في حقيقة التوبة «غير ذلك»
الذي ذكرناه «وهو صحيح إن تضمن الندم من وجه القبح» أي إن كان الندم من جهة
المعصية لأجل قبحها فالتوبة صحيحة.
«لكن هذا القدر» الذي ذكرناه في حقيقة
التوبة «كاف»
في صحتها «لحصول
الرجوع من التائب والإقلاع» عن فعل المعصية «بذلك» الذي ذكرناه.
(فصل)
«وهي» أي التوبة
«مكفّرة» بنفسها «لكل معصية» صغيرة كانت أو كبيرة «إجماعا لقوله
تعالى» :
(وَإِنِّي لَغَفَّارٌ
لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى) «ونحوها» من الآيات كثير ويبدّل
الله بها مكان السيّئات حسنات لقوله تعالى : (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ
عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ ...) الآية (وَكانَ اللهُ
غَفُوراً رَحِيماً) .
قال الناصر عليهالسلام في كتاب البساط في تفسيرها : أعلمنا الله تعالى أنّ العبد
إذا تاب ردّ عليه ما بطل من عمله وجعل بدل سيّئاته حسنات.
وقال في الكشاف :
فإن قلت : ما معنى مضاعفة العذاب وإبدال السيّئات بالحسنات؟
قلت : إذا ارتكب
المشرك معاصي مع الشرك عذّب على الشرك وعلى المعاصي جميعا فتضاعف العقوبة بمضاعفة
المعاقب عليه وإبدال السيّئات بالحسنات أن يمحوها بالتوبة ويثبت مكانها الحسنات
الإيمان والطّاعة والتّقوى. انتهى.
__________________
قلت : ويحتمل أن
يراد بمضاعفة العذاب شدّته لأن الآية في المشرك والفاسق وإن تبقى الآية على ظاهرها
لأن ندمه قد حصل عن كل معصية ارتكبها .
فإن قيل : يلزم
على ظاهر الآية التّساوي بين رجل بارز الله تعالى بأنواع المعاصي ثم تاب ومات عقيب
التوبة ، ورجل فعل معصية واحدة ثم تاب ومات عقيبها أيضا بل الأكثر عصيانا أكثر
ثوابا لأن الله سبحانه يبدّل مكان سيّئاته حسنات.
قلنا : قد أخبرنا
الله سبحانه وتعالى بذلك ولا ملجأ للتأويل وقد روى الإمام محمد بن المطهر عليهالسلام في عقود العقيان وغيره عن زين العابدين عليهالسلام وسلمان الفارسي وسعيد بن المسيب مثل قولنا ، وأكده واحتجّ
له بأخبار رواها.
منها : أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم أتاه رجل فقال يا رسول الله : أرأيت رجلا عمل الذنوب كلها
ولم يترك منها شيئا ... إلى قوله : هل لذلك من توبة؟
قال : «هل أسلمت؟
قال : أنا أشهد أن لا إله إلّا الله وأنّك رسول الله قال : نعم تفعل الخيرات وتترك السيّئات يجعلهن الله خيرات كلهن
__________________
فقال : الله أكبر
فما زال يكبّر حتى توارى».
واعلم : أنه من
فعل معصية ثم تاب عنها سقط عنه عقابها فإذا نقض التوبة وعاد إلى تلك المعصية فقالت
البصرية وأبو القاسم البلخي : لا يعود.
وقال بشر بن
المعتمر : بل يعود.
وجه قول البصرية :
أن الفعل الأول قد بطل بالتوبة فصار كأن لم يكن فلو عاد عقابه لما كان سببه إلّا
الفعل الثاني فيصير كأنه يستحق عقابين على فعل معصية واحدة.
ووجه قول بشر بن
المعتمر : أن الموجب لارتفاعه هو التوبة وقد زالت التوبة فيعود.
وأما وجه قول أبي
القاسم فهو : أن إسقاط العقاب عند التوبة تفضل عنده فلا يجوز الرجوع فيه بعد بطلان
التوبة.
«وقيل : ويعود بالتوبة ما أحبطته
المعصية»
من ثواب الحسنات
هذا القول لأبي القاسم البلخي وأبي بكر النجاري من أصحاب أبي هاشم وبشر بن المعتمر
من البغدادية.
ويدل عليه كلام
الناصر عليهالسلام فيما سبق.
فقالوا : يعود
الثواب الذي كان قد انحبط بفعل المعصية.
قالوا : لأن
انحباطه عقاب وقد سقط العقاب بالتوبة.
قال عليهالسلام : «ولا دليل على ذلك» أي على قولهم لأن انحباط الثواب ليس بعقاب ، وقد علمنا
بالدليل القاطع بطلان الثواب بالمعصية فلا يعود بعد التوبة إلّا بدليل.
وبه قال الحسين بن
القاسم العياني عليهالسلام.
ويمكن أن يدل عليه
قوله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى ...) إلى قوله : (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ
صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ
عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا) .
__________________
وقال الإمام
المهدي عليهالسلام : إن التائب بعد انحباط ثوابه على الطاعات السابقة قبل
التوبة لم يعد ثوابه الذي كان قد اجتمع قبل فعل الكبيرة المحبطة ، ولا الثواب الذي منعت
الكبيرة عن استحقاقه من وقت فعلها إلى وقت التوبة ولكنه يتجدّد له استحقاق الثواب
في المستقبل من الزمان على طاعته الماضية حتى يصير كأنّه فعلها وقت التوبة فهي
كالمستقبل من الطاعات التي يفعلها عقيب التوبة في أنه يستحق عليها الثواب متجددا
دائما فيصير في المسألة ثلاثة أقوال :
(١) لا يعود مطلقا
وهو قول الجمهور وأبي هاشم.
(٢) ويعود مطلقا
وهو قول أبي القاسم ومن معه.
(٣) ويعود تجدّد
الاستحقاق وهو قول الإمام المهدي عليهالسلام وابن الملاحمي.
قال النجري : وهو
الموافق للقواعد والأصول.
قال : وهو أيضا
اللّائق بالعدل وإلّا لزم التساوي بين من قطع عمره في عبادة الله سبحانه وتعالى
وطاعته ثم فعل كبيرة وتاب عنها قبل موته ، وبين من قطع عمره في عصيان الله والكفر
ثم تاب قبل موته.
والفرق بينهما
ممّا لا يشكّ فيه.
وحمل عليه ابن
الملاحمي كلام أبي القاسم البلخي.
وحمل عليه الإمام عليهالسلام قول أبي هاشم ومن تبعه.
قال : فإن قيل :
فيلزم فيمن تاب من معصية ثم عاد إليها أن يتجدّد له استحقاق عقاب الأولى كما ذكرتم
في الطاعة المنحبط ثوابها أنه يتجدد له ثوابها في المستقبل؟
قلنا : لا سواء
فإن الطاعات المنحبط ثوابها باقية في أنفسها إذ سقوط ثوابها في الماضي بالموازنة
بينه وبين عقاب المعصية وذلك لا يصيّرها كالمعدومة ، بخلاف سقوط المعصية بالتوبة
فليس بالموازنة بل بالتوبة
__________________
صارت المعصية
كالمعدومة لما مرّ أنها تحتّها حتّا فبطلت تلك المعصية في الحال والمآل.
قلت : وهذا الجواب
إنّما يستقيم على قول أهل الموازنة وسيأتي إبطالها إن شاء الله تعالى.
ويلزمهم أن يكون
تكفير السيّئات بالتوبة بالموازنة إذ لا فرق.
ثم نقول : وما
دليلكم على أن ثواب الطاعة إنما حصلت كثرته بتزايد الأوقات وأنه لم يعدّه الله
كثيرا من غير مرور الأزمان لأنّ الله سبحانه لم يخبرنا بذلك بل أخبرنا أنه أعدّه
كثيرا دائما غير منقطع عنه.
قال أبو القاسم
البلخي : لا يجب قبول التوبة على الله تعالى ولا أن يسقط بها عقاب حتى لو عوقب
تائب لم يكن ظلما.
قال : وإنّما لا
يعاقبه إذا تاب لأنه أصلح وهو بناء على أن الثواب غير واجب على الله لأن الطاعات
شكر في مقابلة النعم.
(تنبيه)
اعلم : أنه لمّا
كانت التوبة تصيّر المعصية كالمعدومة كذلك النّدم على الطاعة يصيّرها كالمعدومة
حيث كان نادما على الطاعة لكونها طاعة كما قيل في التوبة إذ كل منهما بذل الجهد في
التّلافي ذكره النجري.
وقوله : لكونها
طاعة : محل نظر لأنه إذا كان كذلك فلا يبعد أن يقتضي الكفر والله أعلم.
«ولا تتم النجاة بها» أي بالتوبة «إلّا
بعموم التوبة» أي بكون التوبة من كل ذنب فينجو بها التائب «اتفاقا» بين العلماء.
«وفي إسقاطها» أي التوبة «لما خصّ بها» أي
لعقاب ما خصّ بها «من الذنوب خلاف» بين أهل علم الكلام.
«الأصحّ : أنه لا يقع» إسقاط لعقاب تلك
المعصية المخصوصة بالتوبة ، وهذا القول حكاه الحاكم عن عليّ عليهالسلام
وزيد بن علي
وجعفر الصادق
والقاسم بن إبراهيم عليهمالسلام وبشر بن المعتمر وجعفر بن مبشر وأبي عبد الله البصري.
قال الإمام المهدي
عليهالسلام : وهو قول واصل بن عطا وقاضي القضاة وموسى بن جعفر وغيرهم.
وقال أبو علي :
إنها تصحّ التوبة من قبيح مع إصراره على قبيح آخر من غير جنسه نحو التوبة من الزنى
مع إصراره على الكذب ونحوه بخلاف الجنس الواحد كالشرب من شراب دنّ دون آخر فلا
تصحّ التوبة. وقال أبو القاسم البلخي : بل تصحّ من ذنب دون آخر مطلقا سواء اتّحد
الجنس أو تغاير فتصحّ عنده التوبة من شرب قدح من الخمر دون قدح ، هكذا حكاه الإمام
المهدي عليهالسلام في الدامغ. لنا : أن التوبة وجبت لإسقاط العقاب وهو إنّما
يستحق للقبح فيتوب عن الفعل من الوجه الذي يستحق عليه العقاب وهو القبح فإصراره
على قبيح آخر ينقض ذلك ويكشف أنه لم يتب لأجل القبح. وأيضا : التوبة كالاعتذار من
الإساءة في الشاهد فإنه لا يصحّ من إساءة دون إساءة لأنّ المعتذر إنّما يعتذر من
الإساءة لأجل كونها إساءة ، وإذا كان كذلك كان مع الإساءة الأخرى في حكم من لم
يعتذر عنها.
«ولأن الآيات» الواردة في التوبة «لا تدل إلّا
على العموم فقط» ولم يرد شيء منها في التوبة من بعض الذنوب دون بعض نحو قوله تعالى
: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ
لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى) فظاهرها عموم التوبة من كل ذنب. وقوله تعالى وآمن وعمل
صالحا إشعار آخر بأنه لا يغفر لمن يخلط التوبة بمعصية.
وقوله تعالى : (ثُمَّ اهْتَدى) أي ثم استمرّ على توبته ولم ينكثها ونحوها من الآيات كثير.
«و» أيضا «لا دليل» لمخالفينا «على قبول
توبة من خصّ بها بعض ذنوبه إلّا قياس معارض بمثله».
__________________
أما قياسهم فقالوا
: لو لم تصحّ التوبة من ذنب دون ذنب آخر لزم في يهودي أسلم إسلاما محقّقا وهو مصرّ
على غصب عشرة دراهم أن لا يصحّ إسلامه فيبقى على حكم اليهودية وذلك مخالف لإجماع
الأمّة قال الإمام المهدي عليهالسلام قد أجاب قاضي القضاة : بأنهم إنما أجمعوا على صحة خروجه من
اليهودية فقط ، ولا نسلم أنهم حكموا بصحة إسلامه وأنه قد صار حكمه حكم المؤمنين.
وأمّا خروجه من
اليهودية فلعدم التزامه أحكامها من السبت وغيره كما لو خرج إلى النصرانية.
فأما أنه كتب له
ثواب الإسلام أو أجريت عليه أحكام المسلمين فهذا غير مسلّم ، بل عقابه باق
لم ينقص منه شيء.
وأما أبو رشيد
فزعم أنه قد استحقّ ثواب الإسلام وأنه يخفف عليه من عقاب الكفر.
وأما معارضتهم
بالقياس فنقول : لو كانت التوبة من ذنب دون ذنب مقبولة لزم فيمن قتل ولدا لغيره
وأخذ ماله أن يصحّ اعتذاره عن القتل دون أخذ المال فيبقى مصرّا ، والمعلوم أن مثل
هذا الاعتذار عند العقلاء لا يقبل «فوجب طرحهما» أي القياسين المتعارضين «والرجوع
إلى الآيات»
الدالة على وجوب
عموم التوبة
«كما
تقدم» «وكقوله تعالى» :
(إِنْ تَجْتَنِبُوا
كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) فشرط في تكفير السيّئات اجتناب جميع الكبائر.
ومن تاب من بعض الذنوب دون بعض فلا شكّ
أنه مصرّ على الذنب الذي لم يتب منه «والإصرار على بعض المعاصي من الكبائر» المحبطة
للطاعات.
«و» حينئذ «هو» أي التائب من بعض الذنوب
دون بعض «غير مجتنب» لجميع الكبائر لأنه مصرّ على بعضها.
__________________
«والآية» المذكورة «تدل على عدم المغفرة
مع عدم اجتناب الكبائر» فثبت أن التوبة لا تصحّ من بعض الذنوب دون بعض وسواء قلنا إنّ المراد بقوله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما
تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) أي بالتوبة كما فسّره الإمام فيما سبق والمرتضى عليهماالسلام ، أو المراد : أن الصغائر مكفّرة في جنب اجتناب الكبائر
كما هو مذهب الجمهور في أنه لا بدّ من عموم التوبة على الأول ، واجتناب الكبائر
على الثاني والإصرار على بعض الذنوب من الكبائر
كما تقدم. ولقوله تعالى :
(إِنَّما يَتَقَبَّلُ
اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) فلا تكون التوبة مقبولة إلّا من المتقي وهو الذي يعمّ بها
جميع الذنوب.
«والمصرّ» على بعض الذنوب «غير متّق» لله
تعالى قطعا فلا تقبل توبته.
(فصل)
في ذكر الإحباط
وكيفيته :
«ومن لم يتب من» المعصية «الكبيرة الغير
المخرجة من الملّة»
أي ملّة الإسلام «وفعل
طاعة» بعد فعل المعصية ولم يتب «سقط القضاء» أي قضاء تلك الطاعة التي
فعلها وهو عاص لله تعالى «إجماعا» بين العلماء.
قلت : وليس ذلك من
جهة أنّ الطاعة التي فعلها مقبولة منه بل لأن فعله الثاني مع عدم توبته كفعله
الأول فلا فائدة إذا فيه ، وإن تاب فيمكن أن سقوط القضاء بالقياس على الكافر
والمرتد كما قال الناصر عليهالسلام : من ترك الصلاة عامدا فسق وعليه التوبة دون إعادة الصلاة
، يعني قضاءها.
وكما قال القاسم عليهالسلام في جواب من سأله : عن رجل ترك الصلاة في حداثته عشر سنين
وكان شارب مسكر ثم تاب : أيعيد الصلوات أم كيف يصنع؟
__________________
فقال عليهالسلام : من ترك صلاته سنين عشرا مقلّا كان أو مكثرا ثم تاب إلى
الله فيما يستقبل من ترك صلاته كما يتوب إليه من غير ذلك من سيّئاته : فإن كانت
توبته في نهار صلّى مثل ما ترك من صلاة النهار وإن كانت في الليل صلّى مثل ما ترك
من صلاة ليلته. انتهى.
أما لو كان الوقت
باقيا وجبت عليه الإعادة لتجدّد الخطاب كما ذكره القاسم عليهالسلام.
وكذلك يجب عليه
إعادة الحج والله أعلم.
وقد أجاب القاسم عليهالسلام عمّن سأله عن حجّ الفاسق فقال :
حجته غير مجزئة له
ولا يقبلها الله منه لقوله تعالى : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ
اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ).
وقال مصنف الباهر
: وهل يلزم الفاسق إعادة العبادات إذا تاب أو لا؟
قال قوم : هو
كالكافر لا يعيد ، وإلى هذا أشار الناصر عليهالسلام. انتهى.
«ولم تسقط هي» أي تلك الطاعة التي سقط
قضاؤها شيئا «من عقاب عصيانه
وفاقا لأبي علي» الجبّائي «والإخشيدية» من المعتزلة ، إلّا أن الفرق بين قول الإخشيدية وقول أبي
علي : أن الإخشيدية تقول : تقع الموازنة بين الفعل وبين المستحقّ الذي هو الثواب
والعقاب فيكون الساقط مطلقا هو الفعل والمسقط هو المستحقّ فينحبط فعل الطاعة
بالعقاب المستحقّ على المعصية ، ويتكفر فعل المعصية بالثواب المستحق على الطاعة.
وأما أبو علي
فيقول : تقع الموازنة بين الفعلين فعل الطاعة وفعل المعصية ولا مدخل للمستحقين في
إحباط ولا تكفير.
قال النجري : لا
خلاف أن الإحباط والتكفير واقعان في حق المكلفين واختلف في حقيقته :
__________________
فعند أبي هاشم من
المعتزلة : أن ذلك يقع بالموازنة فمن له أحد عشر جزءا من الثواب وفعل ما يوجب عشرة
أجزاء من العقاب تساقط العشرتان وصارت العشرة التي هي العقاب مكفّرة بعشرة من
الثواب وبقي جزء من الثواب يدخل به الجنة.
ومن له عشرة من
الثواب وأحد عشر من العقاب فإنه ينحبط الثواب بعشرة ويبقى عليه جزء من العقاب يدخل
به النار.
قال : وقال أبو
علي : بل يسقط الأقل وهو العشرة في مثالنا بالأكثر وهو الأحد عشر ، ولا يسقط من
الأكثر شيء فيستحق الأحد عشر التي هي الثواب في الصورة الأولى ، والعقاب في الصورة
الثانية كاملة من غير أن يسقط منها شيء في مقابلة العشرة. انتهى.
وأما الذي يجيء
على أصل قدماء أهل البيت عليهمالسلام : وعلى ما ذكره عليهالسلام أنّ أجزاء الثواب والعقاب لا يجتمعان لتضادّهما ولأنه
إنّما يتقبل الله من المتقين.
فالكبيرة محبطة
للإيمان ومبطلة للثواب لا بالموازنة ولا على ما ذهب إليه أبو علي ، والصغيرة
مكفّرة أي لا عقاب عليها لا من جهة نقصان عقابها عن أجزاء الثواب ، سواء قلنا : إن
الصغائر متعينة وهي الخطأ والنّسيان أو غير متعينة كما ذهب إليه الأكثر ، والله
أعلم.
قال أبو هاشم :
ويجوز استواء الثواب والعقاب عقلا إذ لا مانع إلّا السمع وهو الإجماع على أنه لا
بدّ للمكلف من أن يستحق الجنة أو النار فلو استوى الثواب والعقاب لم يستحق المكلف
جنّة ولا نارا.
قال الإمام المهدي
عليهالسلام : وفي دعوى الإجماع نظر إذ خلاف زين العابدين وغيره
كالقاسم عليهماالسلام ظاهر.
فإن المنقول عنهم
: أنه يجوز استواء الثواب والعقاب ثم يدخل الله ذلك المكلف الجنة تفضّلا بشفاعة أو
غيرها.
قلت : وفي الحكاية
عن زين العابدين والقاسم عليهماالسلام نظر لأن
المشهور من مذهب
أهل البيت عليهمالسلام أن الثواب لا يجامع العقاب لتضادهما.
وقد صرّح بذلك
القاسم عليهالسلام.
وأما من جوّز دارا
ثالثة وسمّاها (الأعراف) فبطلان قوله واضح.
واعلم : أن
الأعمال على خواتمها فمن وافق موته عملا صالحا فقد فاز وظفر ، ومن وافق موته عملا
سيّئا كان من المعاقبين النادمين الخاسرين.
وقد أشار الإمام عليهالسلام إلى قول البهشمية بقوله :
وقال الإمام «المهدي» أحمد بن يحيى «عليهالسلام
والبهشمية وادّعى القاضي جعفر» بن أحمد بن عبد السلام بن أبي يحيى «الإجماع» على ذلك فقالوا :
«بل فعل
طاعته» التي فعلها مع الكبيرة من غير توبة «مسقطة
بقدرها»
أي بقدر ثوابها «من عقاب
عصيانه لقوله تعالى :
(فَمَنْ يَعْمَلْ
مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّايَرَهُ).
قالوا وهذا عام في
كل خير يفعله المكلف لا بدّ أن يراه ، ولكن لمّا كان الجمع بين الثواب والعقاب متعذرا
قلنا : يصل إليه بدله وهو إسقاط ما يوازنه من العقاب.
«قلنا» ذلك العام «مخصّص» بقوله تعالى : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ
الْمُتَّقِينَ) «فلو كانت» تلك
الطاعة «مسقطة»
لشيء من عقابه
«كانت متقبّلة»
والآية مصرّحة
بعدم قبولها ، «و»
مخصّص «بقوله
تعالى» :
(فَاسْتَجابَ لَهُمْ
رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ) «والخطاب» في قوله «منكم» «للمؤمنين
فقط»
إذ الآيات
المتقدمة فيهم.
«و» مخصّص أيضا «بقوله تعالى» : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ
عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً)
«أي باطلا» والآية في سياق المجرمين عموما.
__________________
وقوله تعالى : (وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) .
وقوله جلّ وعلا : (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ
لا تَشْعُرُونَ) .
«فلو كان» ما عمله المجرمون من الطاعات «مسقطا» لشيء من عقابهم «لم يكن
باطلا»
إذ قد عاد عليهم
نفعه.
والآيات مصرّحة
ببطلانه ، والهباء هو : ما يخرج من الكوّة مع ضوء الشّمس شبه الغبار شبّه به
أعمالهم في البطلان ووصفه بأنه منثور زيادة تأكيد لذلك.
وحكى البستي رحمهالله عن الناصر عليهالسلام أنه قال : إن الله تعالى لا يدع جزاء على صالح أعمال مرتكب
الكبيرة لا في الآخرة بل في الدنيا يمدّه بالزيادة في عمره وإمهاله والسّلامة
والصّحة في بدنه وجوارحه وأن يضاعف المنن والإحسان لديه بالتثمير في ماله والنّمو
في ولده حتى يوفيه من الجزاء على صالح عمله في الدنيا.
قلت : ولعل هذا
معنى قوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ
الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ
فِيها لا يُبْخَسُونَ أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا
النَّارُ ...)الآية .
«قالوا :» أي مخالفونا الذين ذهبوا إلى الموازنة :
«يفرق في العقل بين من أحسن
بعد الإساءة ، وبين من أساء ولم يحسن» أي يحكم العقل بأن الذي أحسن وأساء له مزيّة وفضل على من
أساء ولم يحسن ، كرجل قطع عمره في عبادة الله ثم فعل كبيرة ومات ، وآخر لمّا بلغ
أوان التكليف فعل مثل تلك الكبيرة ثم مات فيلزم أن يكون عقابهما سواء ونحن نعلم
أنه لا بدّ من فرق بينهما ، ولا فرق إلّا بما ذكرنا.
«قلنا : يحسن في العقل : ردّ إحسان
المسيء الغير المقلع
عن الإساءة» كمن
أساء إليك بقتل ولدك ثم أحسن إليك وهو غير مرتدع عن
__________________
قتل الولد الآخر
لأنّ إحسانه مع الإساءة وعدم الإقلاع كالاستهزاء.
«ومع الردّ» لإحسانه «لا فرق بينه وبين
من لم يحسن لعدم حصول ما يستحق به المكافأة وهو قبول الإحسان» وذلك واضح.
لا يقال : إذا ثبت
الإجماع على عدم وجوب القضاء فيمن فعل طاعة من أهل الكبائر الغير المخرجة من
الملّة فلا يعاقب حينئذ على الإخلال بتلك الطاعة لأنه قد فعلها وسقط عنه قضاؤها
وحينئذ قد وصل إليه خير من فعلها وهو عدم العقاب عليها.
لأنّا نقول : يمكن
أن يعاقب على الإخلال بها لأنه مخاطب بالإتيان بها على الوجه الصحيح المقبول وهو
الإيمان كما أن الكافر مخاطب بالإتيان بها كذلك والله أعلم.
«ولا تسقط حسنات الكافر شيئا من عقاب
عصيانه اتفاقا» بين العلماء «لعدم حصول شرطها وهو الإسلام» إذ لا تصحّ الطاعة من
الكافر اتفاقا «لقوله تعالى» : (أُولئِكَ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ
لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) .
أي بطلت أعمالهم
التي زعموا أنها طاعات فيعاقب الكافر على الإخلال بالطاعات وعدم الإتيان بها
وشرطها وهو الإسلام وعلى الكفر.
وقال بعضهم : إنه
غير مخاطب بالشرعيّات قبل الإسلام لأنها لا تصحّ منه حال كفره وهو باطل.
(فصل)
في ذكر التكفير للذنوب ، قال عليهالسلام :
«واكتساب الحسنات من المؤمنين» أي فعل الطاعات من الواجبات والمندوبات من
المؤمنين «وآلامهم» النازلة بهم في الدنيا والغمّ الذي سببه
__________________
من الله تعالى فهذه
كلّها «تكفر الذنوب» أي ذنوب المؤمنين اتفاقا «لقوله تعالى» : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ
السَّيِّئاتِ) .
قال عليهالسلام : وذلك أن الحسنات تكون سببا في التوبة ، لأن الطاعات سبب
في تنوير القلب والتوفيق فتكون سببا في التوبة.
«و» كذا «قوله تعالى» : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما
تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) الآية .
قال عليهالسلام : المراد : تكفير السيّئات باجتناب الكبائر بالتوبة كما
سبق ذكره عنهعليهالسلام.
ومثله ذكر عبّاد
بن المعتمر ، وقد ذكرنا كلام المرتضى عليهالسلام في تفسيرها فيما مضى.
وقيل : بل المراد
في الأولى والثانية : إن الحسنات يذهبن السيئات أي الصغائر الغير المحبطة للحسنات
فإنها تسقط باجتناب الكبائر وفي جنب الطاعات بغير توبة وهو قول البصرية ومن
وافقهم.
وقال الناصر عليهالسلام في كتاب البساط في معنى هذه الآية : فتكفيرها بسترها
وتمحيصها في الدنيا بالمصائب فمصائب المؤمنين تمحيص لصغائر ذنوبهم ، ومصائب
الكافرين محق لهم قال جلّ ذكره : (وَلِيُمَحِّصَ اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ) انتهى .
ومثله ذكر الإمام عليهالسلام فيما سيأتي إن شاء
الله تعالى.
ويدل على ذلك : ما
روي عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم أنه قال : «إذا أراد الله بعبده الخير عجّل له العقوبة في
الدنيا ، وإذا أراد الله بعبده الشّرّ أمسك عنه بذنبه حتى يوافى به يوم القيامة».
قال عليهالسلام : «ولقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم»
«من موجبات
__________________
المغفرة : إدخالك
السرور على أخيك المؤمن» «ونحوه» «وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم»
«من وعك ليلة كفّر الله عنه ذنوب سنة» «ونحو ذلك ممّا تواتر معنى» أي تواتر معناه
من الأحاديث الدالة على أن الحسنات والآلام مكفّرة للسّيئات «كما مرّ» في فصل
الآلام.
«وإذا» أسقطت الحسنات السّيئات فإنه «لا
يسقط من ثواب الحسنات بقدر ما أسقطت من الذنوب» بل يبقى ثواب الحسنات كاملا ، خلافا لأبي هاشم ومن معه من
أهل الموازنة كما مرّ.
«ولا» يسقط «من ثواب التوبة بقدر» ما أسقطت من عقاب «المعصية
خلافا للمهدي عليهالسلام
وغيره»
وهم البهشمية ومن
وافقهم.
قال الإمام المهدي
عليهالسلام في رياضة الأفهام : مسألة : أبو هاشم والتّائب ليس كمن لم
يفعل ذنبا لقوله بالموازنة.
أبو علي : بل كمن
لم يفعل لإبطال التوبة حكم المعصية فيكون كالمجتنب لكل معصية فيكتب له في كل معصية
تاب عنها ثواب ككلّ معصية اجتنبها.
قلنا : إذا لا
استوى من كفر مائة سنة ثم تاب ومن كفر لحظة ثم تاب ولكان أكثر ثوابا ، والمعلوم
خلافه. انتهى.
وقد تقدم من حكاية
النجري وغيره : أنّ أبا هاشم يوافق أباه أبا علي في التوبة أنها تسقط العقاب
بنفسها لا بالموازنة فينظر في ذلك.
«لنا» حجة على ما ذهبنا إليه : أنه قد علم «ثبوت
ثواب الحسنات بالأدلة» القاطعة المعلومة «وفقد الدليل على سقوط شيء منه» أي من الثواب ،
ولو سقط بها أي بالحسنات ذنب فلا يلزم منه نقصان ثوابها لأنه لم يثبت على ما ذكروه دليل
لا من عقل ولا شرع.
احتجّ المخالف
بنحو قوله تعالى : (وَمَنْ يَعْمَلْ
مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)
__________________
وقوله تعالى : (فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ
كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) .
والجواب : ما تقدم
[من قوله تعالى : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ
اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) .
واعلم : أن كلام
الإمام عليهالسلام في هذا الفصل إمّا على القول :
بأن في الذنوب من
العمد صغائر حتى تكون تلك الصغائر مكفّرة بالحسنات والآلام: فواضح.
وإمّا على ما اختاره
عليهالسلام وحكاه عن الأئمة عليهمالسلام.
فإن قلنا : إن
الحسنات يذهبن السّيّئات بشرط التوبة كان المكفّر للسّيئات هو التوبة ، ولم يصحّ
أن يقال إن الحسنات يذهبن السّيّئات إلّا أن يقال : إن التوبة من أعظم الحسنات وهي
المراد في الآية من باب إطلاق العام على الخاص.
وقد أجاب الإمام عليهالسلام على من سأله عن ذلك فقال :
إن الحسنات
والآلام من أسباب التوبة لمن وفّقه الله سبحانه إليها.
قال الله سبحانه :
(وَالَّذِينَ
اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) .
ومن الهدى :
التوفيق إلى التوبة فإذهاب السيئات بالحسنات هو ما عرفناه بالأدلة من كون الحسنات
من أسباب التوبة المذهبة للسيئة وكذلك القول في الأمراض.
وأما خبر عائشة عن
النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم «ومن وعك ليلة ...
الخبر» فلا يبعد أن يجعل الله سبحانه عقاب بعض المعاصي المتعمّدة في الدنيا كما
قال سبحانه : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ
مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ) وفي قراءة بعضهم : (فَبِما كَسَبَتْ
أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) انتهى.
__________________
قلت : وهذا مثل
كلام الناصر عليهالسلام الذي تقدم ذكره من رواية البستي رحمهالله تعالى ، وهو قريب من كلام الجمهور من وجه وهو أنّ بعض
العمد لا يوجب دخول النار بل يكون عقابه في الدنيا ومخالف لكلام الجمهور من وجه
آخر لأنّهم يقولون إن بعض العمد لا عقاب عليه لا في الدنيا ولا في الآخرة لكنّه
يسقط من الثواب بقدره.
وتحتمل الآية معنى
آخر وهو : أن يكون معناها : إن الحسنات لطف في تجنّب السّيّئات على طريقة قوله
تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ
تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) .
وقد فسّرت الآية
بذلك وهو معنى حسن قويم والله أعلم.
وإلى هنا انتهى
بنا الكلام في القسم الثالث من أقسام هذا الكتاب المبارك.
__________________
القسم الرّابع :
الكلام في الوعد والوعيد وما يتعلق بذلك :
قال عليهالسلام :
«كتاب الوعد والوعيد»
هذا الكتاب له
جنبتان : عقليّة وسمعيّة :
فالعقلية : تشتمل
على بيان ما يستحق على الأفعال وصفة ما يستحق وشرائط الاستحقاق وما يرفع ذلك
الاستحقاق وما يحسن إسقاطه وما يجب وكيفيّة الإسقاط.
وأمّا السّمعيّة :
فهي تشتمل على بيان ما يفعله الله بالعباد ممّا لا طريق للعقل إليه.
والوعد : يستعمل
في الخير والشرّ. قال الفرّاء : يقال : وعدته خيرا ووعدته شرّا قال فإذا أسقطوا
الخير والشر ، قالوا : في الخير الوعد والعدة ، وفي الشّر الإيعاد والوعيد.
وأما حقيقتهما في
الشرع فقال عليهالسلام : «الوعد : إخبار من
الله»
سبحانه للمطيع «بالثواب
والوعيد إخبار منه»
جلّ وعلا «للعاصي
بالعقاب».
(فصل)
قالت «العترة عليهمالسلام
وصفوة الشيعة والمعتزلة وغيرهم : «وهما» أي الثواب والعقاب «مستحقّان
عقلا وسمعا»
أي يحكم العقل
باستحقاق المطيع الثواب واستحقاق العاصي العقاب ، والسمع ورد بذلك :
أما السمع : فإن القرآن مملوء من ذكر الثواب والعقاب وأنهما جزاء على
العمل.
وأما العقل : فلما نذكره إن شاء الله تعالى.
ثم اختلف هؤلاء هل
يمكن الاستدلال بالسمع وحده على استحقاق العقاب أو لا يمكن وإنّما هو مؤكّد لدليل
العقل؟
فقال القاضي عبد
الجبار : استحقاق العقاب لا يعلم إلّا عقلا والشرع مؤكّد.
وقال الشيخ أبو
رشيد : بل تجوز دلالة الشرع عليه دلالة مستقلة عن العقل.
وقالت «المجبرة
: بل» لا يعلمان إلّا «سمعا فقط»
ولا حكم للعقل في
ذلك كما تقدم ذكره من أساس مذهبهم في أول الكتاب ، وإلى مثل قولهم أن العقل لا
يدرك استحقاق الثواب والعقاب ذهب أبو القاسم المرتضى الموسوي من العدليّة وابن
الراوندي.
«لنا : تصويب العقلاء من طلب المكافأة
على الإحسان و» تصويب «من عاقب المسيء على الإساءة».
فلو لا أنّ العقل
يحكم بهذا الاستحقاق لما صوّبوه.
ولعله عليهالسلام أراد الردّ على من أنكر حكم العقل من المجبرة لا أنه أراد
الاحتجاج على وجوب الثواب والعقاب على الله سبحانه وتعالى لأنه لا واجب على الله
سبحانه وتعالى كما مرّ.
ولأن الطاعات شكر
لله تعالى في مقابلة النعمة وحينئذ لا يحكم العقل باستحقاق طلب المكافأة من الله
سبحانه بالثواب عليها.
ولا يجوز أن يقال
: العقاب حقّ له تعالى استوفاه لأنه جلّ وعلا أغنى الأغنياء عن احتياجه إلى الحقوق
وإنّما هو حقّ راجع إلى المكلفين لأنه مصلحة لهم وزجر عن ارتكاب القبيح وكفران
المنعم ولو لم يكن العقاب
__________________
مستحقّا عقلا لكان
المكلف مغرى بالقبيح والإغراء بالقبيح قبيح.
لا يقال : إذا
قلتم : إن العقاب ليس حقّا لله تعالى لكونه غنيّا عن احتياجه إلى الحقوق لزم أن
يكون الشكر له تعالى غير واجب على المكلف لأنه لا وجه لوجوبه إلّا كونه حقّا
للمالك المنعم والله سبحانه غنيّ عن الحقوق لأنا نقول : لا سوى فإن شكر المنعم حقّ
للمنعم لا يصحّ إسقاطه بفطرة العقل من غير نظر إلى انتفاع المنعم بالشكر أو لا :
ولو أسقط المالك المنعم وجوب شكره لم يسقط ، فوجوب شكر المنعم متقرر في العقول من
غير نظر إلى انتفاع المنعم بالشكر.
حتى لو قال قائل :
قد أسقط المالك المنعم عليّ وجوب شكره لعدّ جاحدا لنعمه كافرا لإحسانه وليس كذلك
العقاب فإنه لا معنى لكونه حقّا لله تعالى إلّا أن يعود إليه منه أي منفعة وذلك
محال.
فثبت أن معنى كونه
حقّا هو كونه مصلحة راجعة إلى المكلفين كما قررنا والله أعلم.
وأما استحقاق
الثواب بمجرد العقل : ففيه إشكال على مقتضى ما قرّره الإمام عليهالسلام ورواه عن أئمة العترة عليهمالسلام من أن الطاعات شكر وهو أيضا قول البغدادية كما سبق ذكره.
إلّا أن يقال : قد
ثبت أن الله سبحانه غني لا يجوز عليه الانتفاع بشيء من أفعال عباده وقد كلفهم
الأمور الشاقة فلا بدّ أن يرجع إليهم من فعلها مصلحة لكونه تعالى حكيما ، وانتفاعه
جلّ وعلا بأفعال عباده محال فهي وإن كانت شكرا له تعالى على نعمه لا بدّ أن يستحقوا عليها منفعة ومصلحة من جهة الجود والحكمة
والعدل ، وإلّا كان شكره تعالى عبثا بخلاف شكر غيره من المخلوقين فإنه يرجع إلى
المشكور منه انتفاع وتلذّذ بالشكر والله أعلم.
وهذا معنى ما ذكره
أمير المؤمنين كرّم الله وجهه في الجنة ولو كان لأحد أن يجري له ولا يجرى عليه
لكان ذلك خالصا لله عزوجل دون
__________________
خلقه لقدرته على
عباده ولعدله في كل ما جرى به صروف قضائه ولكنه جعل حقّه على العباد أن يطيعوه
وجعل جزاءهم عليه مضاعفة الثواب تفضّلا منه وتوسّعا بما هو من المزيد أهله.
وقوله عليهالسلام : (إنّ الله وضع الثواب على طاعته والعقاب على معصيته
ذيادة لعباده عن نقمته وحياشة لهم إلى جنّته).
وقوله عليهالسلام : (أوصيكم عباد الله بتقوى الله فإنها حقّ الله عليكم
والموجبة على الله حقكم) ونحو ذلك.
وقد بسطنا في هذا
الموضوع في الشرح.
وقد صرّح الإمام عليهالسلام بعدم وجوب الثواب على الله تعالى.
قالت «العدليّة» جميعا : «ولا يجوز خلف
الوعد على الله تعالى» عقلا ولا سمعا لأنّ خلفه صفة نقص والله يتعالى عنها.
وقالت «المجبرة : بل يجوز خلفه عليه
تعالى» بناء على أصلهم أنه لا يقبح منه قبيح.
«قلنا : خلف الوعد مع القدرة على الوفاء
وعدم المانع» «منه توأم الكذب» أي أخوه «وكلاهما» أي الكذب وأخوه «صفة نقص يتعالى
الله عنها».
«وأيضا» : تجويز ذلك ارتياب في قوله
تعالى :
(ما يُبَدَّلُ
الْقَوْلُ لَدَيَ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) .
«وقوله تعالى» : (إِنَّ اللهَ لا
يُخْلِفُ الْمِيعادَ) .
«وهو» أي الارتياب في قوله تعالى «كفر»
لتكذيب الله تعالى «في قوله تعالى» : (الم ذلِكَ الْكِتابُ
لا رَيْبَ فِيهِ) أي لا شك فيه.
ومن أجاز خلف
الوعد من الله سبحانه فقد كذّبه وارتاب في قوله وكذّب محمداصلىاللهعليهوآلهوسلم فيما جاء به.
__________________
«و» اعلم أنه «يحسن العفو عن العاصي
إن علم ارتداعه» عن المعصية أي إقلاعه عنها «كالتائب» من الذنب الراجع إلى الله
تعالى النّادم على ما فرط منه «اتفاقا» بين أهل العدل وإن اختلفوا : هل يجب قبول
التوبة أو لا؟
وليس ذلك من خلف
الوعيد في شيء لأن التّائب خارج عن الوعيد اتفاقا ، وأما العاصي الغير مرتدع فإنه «لا
يحسن العفو عنه» عقلا «إن علم عدم ارتداعه» عن العصيان «وفاقا للبلخي» أي أبي
القاسم البلخي وبشر بن المعتمر وأصحابهما من البغداديين.
«وخلافا للبصرية» من المعتزلة.
اعلم : أنه اتفق
جمهور البصرية والبغدادية على أن العقاب يستحقّ عقلا ثم اختلفوا : هل يعلم أنه
يفعل ويقطع به عقلا أو لا؟
فقالت البصرية :
لا يعلم بذلك إلّا سمعا فقط لا عقلا فإن العقل يجوّز العفو عنه.
وقالت البغدادية :
نعلم من جهة العقل أنه يفعل لا محالة وأنه لا يجوز العفو أصلا.
قال الإمام المهدي
عليهالسلام : وهو بناء على أن العقاب لطف للمكلفين فلا بدّ من وقوعه
حينئذ.
قلت : وهذا يؤيّد ما تقدم من قولنا وما
ذكره الإمام عليهالسلام
بقوله : «قلنا : يصير العفو» مع عدم الارتداع «كالإغراء» للعاصي بفعل المعصية «وهو»
أي الإغراء بفعل المعصية «قبيح عقلا» أي يحكم العقل بقبحه.
قال في الكشاف :
في سياق قوله تعالى : (فَإِنْ زَلَلْتُمْ
مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) .
__________________
وروي أنّ قارئا
قرأ مكان «عزيز حكيم : غفور رحيم» فسمعه أعرابيّ فأنكره ولم يقرأ القرآن وقال : إن
كان هذا كلام الله فلا يقول كذا ، الحكيم لا يذكر الغفران عند الزلل لأنه إغراء
عليه انتهى.
احتجّ البصرية
فقالوا : العقاب حقّ لله سبحانه وتعالى ، ومن المعلوم أنّ من له حقّ على غيره أنّ
له إسقاطه حيث لا إضرار بالغير ونحن نعلم أن إسقاط الله حقّه من العقاب لا إضرار
فيه على أحد بل فيه نفع لمن أسقط عنه كإسقاط الدين.
قلنا : إن أردتم
أن لله فيه نفعا كالدين لمن هو له فذلك محال في حق الله سبحانه لأنه الغنيّ عن كل
شيء.
وإن أردتم خلاف
ذلك فهو غير معقول إلّا أن يكون حقّا راجعا إلى العباد ومصالحهم وحينئذ لا يجوز
إسقاطه.
قال «أئمتنا عليهم» «السلام وجمهور
المعتزلة : ولا يجوز على الله تعالى خلف الوعيد» للعصاة بالعقاب «مطلقا» أي لا في
حق أهل الصلاة ولا في غيرهم.
«و» روي «عن مقاتل بن سليمان وبعض أهل
خراسان» أنهم قالوا : «بل وعيد الله مقطوع بتخلّفه مطلقا» أي في حق أهل الصلاة وغيرهم ، وهذه رواية السيد مانكديم عليهالسلام عنهم.
وقال «بعض المرجئة : بل» وعيد الله «مقطوع
بتخلّفه في حق أهل الكبائر من أهل الصلاة فقط» أي الذين يدينون بوجوب الصلاة
والتزام أحكام الإسلام وهؤلاء ليسوا بمرجئة على الحقيقة.
وقالت الجهمية :
بل ينقطع العقاب في حق الفاسق دون الكافر فيدوم عقابه.
قال الإمام المهدي
عليهالسلام : وهو قول الرازي وغيره من الأشعرية. وقال «بعض
المرجئة
: يجوز خلف الوعيد في حق أهل الصلاة فقط» أي قال هؤلاء بجوازه ولم يقطعوا بتخلّفه وهؤلاء هم
المرجئة على الحقيقة.
قالوا : لأنّ آيات
الوعد والوعيد متعارضة فصار في المسألة أربعة أقوال :
الأول : قول العدلية إنه لا يجوز مطلقا.
الثاني : قول مقاتل وأصحابه : أنه مقطوع بتخلّفه مطلقا.
الثالث : لبعض المرجئة : أنه مقطوع بتخلّفه في حق أهل الصلاة من أهل
الكبائر. هكذا ذكره الإمام عليهالسلام.
وفي الغايات :
اختلف المرجئة في الفسّاق :
فمنهم من قطع بأنه
لا بدّ من عقاب بعضهم والعفو عن البعض.
قال الرازي : وهو
قول أكثرهم.
ومنهم من توقّف في
ذلك كله فجوّز العفو عن الجميع وعقاب الجميع والعفو عن البعض وعقاب البعض.
قال الرازي : وهو
قول كثير من أصحابنا.
قلت : وهذا هو
القول الرابع فهم المرجئة على الحقيقة.
وحكى الرازي اتفاق
أهل السّنة على أمرين :
أحدهما : أن الكبائر التي يعفى عنها لا تعلم في الحال.
الثاني : أنه لا يخلد أحد من فساق هذه الأمّة.
والقول الخامس :
ما ذكرناه في الشرح من قول الجهمية من انقطاع عذاب الفاسق.
ومثله قول : رزقان
وأكثر المرجئة حيث قالوا : يقطع بخروج أهل الكبائر من النار ، قالوا : يفعل
به ما يستحقه من العقاب ثم ينقطع ويفعل له ما يستحقه من الثواب ويدوم ولا ينقطع.
قال النجري :
وقريب من قولهم : قول الخالدي إلّا أنه لم يصرّح بدخول العاصي النار مثلهم بل قال
: الطاعة توجب قطع العقاب فلعلّه يقول
__________________
يجوز أن يوصل إليه
عقابه المنقطع في الدنيا كما هو قول جماعة من المرجئة. انتهى.
«لنا» في الاحتجاج على مخالفينا : حجة العقل والسّمع ولنذكر
الكلام في ذلك في فصلين :
الأول : في استحقاق الفاسق العقاب.
الثاني : في أنه يستحقه دائما على الحدّ الذي يستحقه المشرك.
أمّا الأول : فدلالة العقل فيه : أن الفاسق لو لم يستحق العقاب لكان خلق
شهوته للقبيح إغراء له به ويتنزل خلقها بمنزلة قول القائل : افعل ولا بأس عليك.
وأما دلالة الشرع
: فمنها
: «قوله تعالى» : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ
وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ) .
«الآية ونحوها» من الآيات العامة للعصاة والخاصة لأهل الكبائر الغير
المخرجة من الملّة كقوله تعالى : (وَمَنْ يَقْتُلْ
مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ
وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً) وقوله تعالى : (وَما هُمْ عَنْها
بِغائِبِينَ) والضمير للفجار وهو يعمّ كل عاص.
وقوله تعالى : (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ
يَرَوْنَ الْعَذابَ ...) إلى قوله (كَذلِكَ يُرِيهِمُ
اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ) .
وقوله تعالى : (وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ
إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً ...) إلى قوله (بَلى مَنْ كَسَبَ
سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها
خالِدُونَ) .
__________________
«ولم يفصل» تعالى بين الكافر والفاسق.
«وقوله تعالى» : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا
لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ ...) إلى قوله تعالى (فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ
مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ...) الآية .
«وقوله تعالى» : (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ
أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ
اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) .
قال الإمام المهدي
عليهالسلام : وسبب نزولها : أن جماعة من المسلمين واليهود تذاكروا في
أمر العقاب فادّعى كل فريق منهم أن الله تعالى يهب مسيئهم لمحسنهم ويعفو عنه
لسابقة إيمانه بالله والرسول المرسل إليهم ولفضل الصالحين منهم فنزلت هذه الآية
الكريمة ردّا على دعوى كل فريق وأخبرهم أن رجاءهم العفو عن عاصيهم إنّما هو أمانيّ
كاذبة باطلة.
قال : ولا وجه لما
رواه البغوي في المصابيح عن عائشة في أن المراد يجزيه في الدنيا لأنّ سببها يكذبه.
«ونحوهما» أي نحو هاتين الآيتين «من
الآيات الخاصة في عصاة أهل الصلاة» كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ...) إلى قوله تعالى: (وَمَنْ يَفْعَلْ
ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً ...) الآية والقرآن مملوء من نحوها.
«وقد قال الله تعالى» : (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ وَما
أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) .
ومن ذهب إلى جواز
خلف الوعيد من الله سبحانه في حق مرتكب الكبيرة أو خروجه من النار فقد نقض معنى
هذه الآية وما تقدمها من الآيات الدالة على عقابه وخلوده في النار.
__________________
وأما الفصل الثاني : وهو : أن الفاسق يستحق العقاب دائما فدلالة العقل عليه : أن
المقتضي للعقاب هو المقتضي للذمّ وهو فعل المعصية وقد علمنا حسن ذمّ الفاسق دائما.
وأما دلالة الشرع : فهي كثيرة منها : ما قد ذكر من الآيات في الفصل الأول
المصرّحة بدوام العقاب والتخليد في النار ، ولم يسمع خلاف ممّن يعتدّ به بل ذلك
معلوم من دين النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم ضرورة من غير فرق بين الكافر والفاسق وبعضها يخصّ الفاسق
كما بيّنا. ومن السّنة : قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم «من تحسّى سمّا
فهو يتحسّاه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها ، ومن تردّى من جبل فهو يتردّى من جبل
في النار خالدا مخلدا ، ومن وجأ نفسه بحديدة فحديدته في يده يوجأ بها بطنه في
النار خالدا مخلدا».
والمعلوم أن هذه
الأفعال إنما تقتضي الفسق. ذكر هذا الإمام المهدي عليهالسلام.
وروى الهادي عليهالسلام بإسناده إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أنه قال : «من اقتطع حق مسلم بيمينه حرّم الله عليه الجنة
وأوجب له النار.
قيل يا رسول الله
: وإن كان شيئا يسيرا؟
قال ـ : وإن كان
قضيبا من أراك قال ذلك ثلاث مرات».
وروى البخاري
بإسناده إلى أبي هريرة من حديث طويل عن النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم أنه أمر بلالا فنادى في الناس :
أنه لا يدخل الجنة
إلّا نفس مسلمة ، وأنّ الله ليؤيّد هذا الدين بالرجل الفاجر.
وروى البخاري أيضا
بإسناده إلى عبد الله بن عمر أنه قال : كان على ثقل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم رجل يقال له : كركرة فمات فقال
__________________
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم «هو في النار
فذهبوا ينظرون إليه فوجدوا عباءة قد غلّها».
وروى البخاري أيضا
بإسناده إلى عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم أنه قال : «من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة ، وأنّ ريحها
ليوجد من مسير أربعين عاما».
قال الإمام المهدي
عليهالسلام : وللمخالفين شبه عقلية وسمعية أما العقلية : فقال جهم :
لا شك أن المعصية متناهية فكيف يستحق على المتناهي عقاب لا يتناهى وقد قال تعالى :
(فَلا يُجْزى إِلَّا
مِثْلَها) وغير المتناهي ليس مثلا للمتناهي؟
قلنا : المعصية
مستلذة والعقاب منفور عنه مؤلم والمعصية قبيحة وجزاؤها حسن فليس المعصية والعقاب
مثلين من هذه الجهة التي توهّمها جهم ، وإنما المراد بالمثلية تجانس اللفظين لنوع
من الفصاحة.
والمراد : من عمل
سيئة فلا يجزى إلّا العقاب ، والمعصية سبب في وقوع العذاب وعلّة فيه ، وإذا كان
كذلك فما المانع من أن تكون علة في دوامه كما كانت علة في دوام الذمّ ، ويمكن أن
يراد بالمماثلة المعادلة أي لا يجزى إلّا عدلها (بكسر العين) أي ما يعادلها وهو
العذاب الدائم ، لأنّ عصيان المالك المنعم يعظم في القليل كما يعظم في الكثير فلا
يعادله إلّا دوام العقاب.
يدل على ذلك في
الشاهد قطع يد السارق التي ديتها خمس مائة مثقال في عشرة دراهم قفلة.
وقال المرتضى عليهالسلام في جواب من سأله : عن التخليد بالنار على ذنب واحد من كلام
طويل ما لفظه : وقد أنصف الله عزوجل خلقه وعدل بينهم في حكمه ، أولا ترى لو أن رجلا عصى الله
طول عمره ثم تاب وأخلص ورجع في صحة من بدنه من قبل نزول الموت به أن تلك الذنوب
جميعا تحطّ عنه وتغفر له وإن مات على ذلك دخل الجنة فكذلك
من ختم عمله
بالمعصية لله سبحانه وتعالى ومات عليها حكم له بالعذاب كما حكم له عند التوبة
بالثواب ، فهذا عين العدل والإنصاف.
ولو جاز أن يدخل
الجنة من مات على معصية واحدة لجاز أن يدخلها من مات على معصية ومعصيتين ولو جاز
ذلك لجاز أن يدخلها من عصى عشرا وعشرين مرّة ، وإذا جاز ذلك فقد بطل الوعد والوعيد
ووقع الاختلاف والفساد انتهى.
وأما شبههم
السمعية : فمنها : ما ذكره الإمام عليهالسلام بقوله : «قالوا : قال
تعالى»
: (قُلْ يا عِبادِيَ
الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ
اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) .
«وقال تعالى» : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ
لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) .
«وقال تعالى» : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ
بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ).
«ونحوها» من الآيات الدّالة على غفران الذنوب.
قالوا : ففي هذه
الآي إشعار بغفران الذنوب على الإطلاق.
وأيضا : قال أبو
بكر الأصم من العدلية أستاذ ابن عليّة لما خرج من عموم آيات الوعيد التّائب ونحوه.
وهو الذي ثواب
طاعته أكثر علمنا أنها ليست على عمومها فهي حينئذ مجملة مع حصول التخصيص لعمومها ،
والمجمل لا يستدل به على شيء ، وهو مبني على أن العموم إذا خصّص صار مجملا لا
يستدل به على شيء.
«قلنا : آيات الوعيد لا إجمال فيها» وإن خرج من عمومها التائب ونحوه.
وقول من قال : إن
العموم إذا خصّص صار مجملا باطل للأدلة المذكورة في موضعها.
__________________
«وهذه الآيات» التي ذكروها في غفران الذنوب «ونحوها
مجملة»
أي مطلقة «فيجب
حملها»
على المقيد كما هو
الواجب في مثل ذلك عند علماء الأصول فتحمل على «نحو قوله تعالى» : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ
وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى) .
«وقوله تعالى» : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا
إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ
سَيِّئاتِكُمْ) بعد التوبة والعمل الصالح.
«وقوله تعالى» : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ
نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) .
«ونحوها من صرائح الآيات» التي لا إجمال فيها الدالة على أن الله تعالى يغفر الذنوب
بالتوبة والاستقامة على الهدى وتكفينا في ذلك كله الآيات الخاصة بأهل الكبائر من
أهل الصلاة فإنها نصّ صريح في إبطال قولهم : لا تحتمل التأويل إلّا بالنسخ.
والنسخ لا يجوز في
مثل ذلك بالاتفاق.
قالوا : قوله
تعالى : (إِنَّ اللهَ لا
يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) والمراد بغير توبة لأنّ التوبة تمحو الشرك فيكون المراد
بقوله : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ
ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) مثله أي بغير توبة.
قلنا : قوله تعالى
: (لِمَنْ يَشاءُ) دليل على بطلان هذا المفهوم لأنه قد أخبرنا بأن القاتل
عمدا ونحوه مخلد في النار إلّا أن يتوب فعلمنا أنه لا يشاء الغفران له مع عدم
التوبة.
ثم ولو سلمنا أن
المراد بقوله (وَيَغْفِرُ ما دُونَ
ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) بغير توبة فالمراد به صغائر ذنوب المؤمنين وكل على أصله
فيها
«قالوا : القرآن مملوء من نحو قوله
تعالى» : (وَهُوَ
أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)
«قلنا» هي «مجملات
__________________
أيضا» كما سبق ذكره
في نظائرها «فيجب حملها على قوله تعالى» : (وَالْمُؤْمِنُونَ
وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ
اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ) (الآية) .
(إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ) فقيّد الرحمة بما ترى من هذه القيود التي هي شروط الإيمان
، وعلى قوله تعالى : (قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ
وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ
وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا) يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ
الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ
وَالْإِنْجِيلِ الآية .
فبين تعالى أنه
كتب رحمته لمن عمل هذه الأعمال الصالحة.
«و» كذلك «نحوهما من صرائح
القرآن»
الدالة على أن
الله تعالى يقبل التوبة من عباده ويدخلهم في رحمته مع الإنابة والعمل الصالح.
«قالوا : يحسن في العقل العفو عن المسيء» وإذا كان حسنا فلا مانع منه في حق الله تعالى.
«قلنا : لا» يحسن العفو «حيث علم عدم
إقلاعه»
أي إقلاع العاصي
لا عقلا ولا سمعا.
«ألا ترى لو أنّ سلطانا عرف من عبده» فعل
«الفاحشة مع حريمه»
التي لا يرضى أن
يحوم أحد حولها
«وهو يعلم» أي السلطان المالك للعبد «أنه
لا يرتدع»
ذلك العبد
«إن عفا عنه بل يعود إلى الفاحشة : أنّ العفو عنه لا يحسن في العقل قطعا» إذ يكون إغراء بفعل القبيح.
«وهم» أي مرتكبو الكبائر من أهل الصلاة
وغيرهم «لم يقلعوا عن الإصرار» على فعل المعصية «لأنّ توبتهم» حين رؤية العذاب أو
بعد وقوعهم فيه «لم تكن لوجه القبح بل لما وقعوا فيه من العقاب» الأليم وذلك «لقوله
__________________
تعالى» في حق أهل النار جميعا (وَلَوْ رُدُّوا
لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) (وَإِنَّهُمْ
لَكاذِبُونَ) وهذا قول أصدق القائلين المطّلع على أسرار القلوب وضمائر
الأفئدة فثبت بما ذكرناه : ما ذهبت إليه أئمة العدلية من الزيدية وجماهير المعتزلة
من خلود الفساق في النار.
وبطل ما ذهب إليه المرجئة ومن اغترّ بهم من أهل الأهواء والأمنية.
(فصل)
في ذكر شفاعة النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم
، ولا خلاف بين
الأمّة في ثبوتها ، وأجمعت الأمّة أن المقام المحمود الذي وعد الله به نبيئه صلىاللهعليهوآلهوسلم يوم القيامة هو الشفاعة المقبولة ولا اعتداد بخلاف
المطرفية في إنكار شفاعته صلىاللهعليهوآلهوسلم .
قالوا : لأنه إن
شفع في واجب فإن الله يفعله من غير شفاعة ، وإن شفع في تفضّل فهو لا يجوز لأنه يجب
عليه المساواة بين خلقه وإلّا كان محاباة.
لنا : ما تقدم في
الردّ عليهم ولخروجهم من الأمة بكفرهم.
واختلفوا في
المستحق لها :
فقال «أئمتنا عليهم» «السلام وجمهور
المعتزلة : وشفاعة النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم
لأهل الجنة من أمّته يرقّيهم الله بها من درجة» كانوا فيها
«إلى» درجة «أعلا منها ومن نعيم» كانوا صاروا إليه «إلى» نعيم «أسنى منه» وأعظم.
«وأما من أدخله الله النّار فهو خالد
فيها أبدا» أي دائما دواما لا انقطاع له
__________________
وذهب الشيخ أبو
الهذيل : إلى أنها إنما تكون لأهل الصغائر من المؤمنين ليرد الله ما انحبط من ثوابهم.
وذهب بعض المعتزلة
أيضا إلى أنها تكون لمن استوت حسناته وسيّئاته فيدخل الجنة بالشفاعة.
وقد مرّ إبطال
استوى الحسنات والسيّئات في فصل الإحباط.
وذهبت المجبرة إلى
أنّ الشفاعة لا تكون إلّا لأهل الكبائر ليعفى عنهم ويدخلون الجنة تفضّلا.
قالوا : لأنّ
موضوعها دفع المضرة فقط.
قالوا : وإلّا لزم
أن يكون دعاؤنا للرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم والملائكة شفاعة لهم ، والإجماع منعقد على أنّا غير شافعين
لهم.
قلنا : الشفاعة في
اللغة : ما أراد بها فاعلها الحثّ على المطلوب والداعي للرسولصلىاللهعليهوآلهوسلم لم يقصد الحثّ على إكرامه صلىاللهعليهوآلهوسلم لأنه يعلم أن الله تعالى مكرم له سواء طلب ذلك أم لم يطلبه
، وإنما قصد تحصيل إكرام نفسه بفعله ما أمر به من الدعاء للرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وطالب إكرام نفسه بامتثال الأمر ليس بشافع. كذا ذكره
الإمام المهدي عليهالسلام في الغايات.
قال : واعترض
الرازي هذا الجواب بأن قال : لم تجمع الأمّة على أن الله تعالى لا يريد إكرام
رسوله لأجل دعائنا ، وإذا لم يدل دليل على منع ذلك جاز فيلزم كوننا شافعين له صلىاللهعليهوآلهوسلم والأمّة مجمعة على منع ذلك.
قلنا : إذا صحّ
الإجماع على أنّا غير شافعين له صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وعلمنا من اللغة أن الشفاعة تكون لجلب النفع كدفع الضرر
كان ذلك دليلا قاطعا على أن الله سبحانه لا يريد إكرامه لأجل سؤالنا فبطل ما
ادّعاه.
__________________
قلت : موضوع
الشفاعة في اللغة هي التفضّل والجود من الشافع بسؤال منفعة أو دفع مضرة للغير
لا على جهة التحتّم والوجوب ، والدعاء منّا للرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم قد أمرنا به وحثّنا الشارع عليه فليس من الشفاعة في شيء
وإنّما هو جار منّا مجرى الشكر والتعظيم للرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم في هدايتنا وتبليغه شريعة ربنا إلينا وسواء كان سببا في
زيادة إكرام الرسولصلىاللهعليهوآلهوسلم أو لا والله أعلم.
والدليل على أنها
في اللغة لجلب المنافع كدفع المضار : ما نعلمه بتواتر النقل عن أهل اللغة أنهم
يقولون : شفع فلان إلى فلان لفلان ليقضي دينه أو يغني فقره ونحو ذلك ، لا يخالف
أحد في ذلك ، بل هي في جلب المنافع أشهر قال الشاعر :
فذاك فتى إن
جئته لصنيعة
|
|
إلى ماله لم
تأته بشفيع
|
وعلى الجملة : فهو
معلوم ضرورة من اللغة هكذا ذكره الإمام المهدي عليهالسلام.
قال : والظاهر أنه
يجوز أن يشفع النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم لغير أمّته من المؤمنين كما يشفع لأمّته.
والظاهر أيضا : أن
غيره من الأنبياء صلوات الله عليهم يشفّع إذا شفع ، وكذا بعض الأولياء والصالحين
إذ قد ورد في الآثار : ما يقتضي ذلك.
قلت : ومن ذلك :
ما رواه أبو الفرج في كتابه مقاتل الطالبيين بإسناده إلى أبي هريرة أنه قال : وددت
أنّي مولى لبني هاشم ، فقيل له : ولم يا أبا هريرة؟
قال : لأنّي سمعت
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول : «ما من رجل مسلم من بني هاشم إلّا وله شفاعة عند
الله يوم القيامة» وقال
__________________
«بعض المرجئة : بل
شفاعة النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم
لأهل الكبائر من أمّته فيخرجهم الله بها
من النار إلى الجنة»
وبعضهم ذهب إلى
أنه يشفع لأهل الكبائر قبل دخولهم النار فلا يدخلونها.
«لنا»
حجة عليهم :
«قوله تعالى» :
(وَالَّذِينَ كَسَبُوا
السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ
اللهِ مِنْ عاصِمٍ) أي مانع يدفع عنهم العذاب (كَأَنَّما أُغْشِيَتْ
وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ
فِيها خالِدُونَ) .
«ولم يفصل» تعالى في هذا بين أهل الجحود وغيرهم.
«وقوله تعالى» : (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ
أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ
اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) أي ناصرا ودافعا لما استحق من العذاب.
وقوله تعالى» : (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا
شَفِيعٍ يُطاعُ) أي يجاب إلى ما شفع فيه «كقوله تعالى» : (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ
كَفُوراً) «أي لا تجب» آثما أو كفورا.
فهذه الآيات
مصرّحة بعدم الشفاعة لمستحق النار ونحوها كثير من نحو قوله تعالى : (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) .
وقوله تعالى : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى
وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) .
وقوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا
مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) .
__________________
وقوله تعالى : (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ
الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) .
«فلو كانت» أي الشفاعة «لهم» أي لأهل
الكبائر «لكانوا غير مخلدين فيها ، وذلك خلاف لصرائح آيات الوعيد» القاضية «بالتخليد ، ولكان
الشفيع لهم»
أي لأهل الكبائر «عاصما ووليّا ونصيرا ،
وذلك خلاف وردّ لصرائح هذه الآيات» الكريمة ومن ردّ آية كفر.
«قالوا : ورد الاستثناء في قوله» تعالى.
(«فَأَمَّا الَّذِينَ
شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ
السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما
يُرِيدُ) .
فقالوا : إلّا ما
شاء ربك من إخراج أهل الكبائر بالشفاعة من النار.
وقالوا في قوله
تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ
فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) أي من تخليد البعض كالكفار وإخراج البعض كالفسّاق.
وقالوا في آيات
السعادة : إن بعض السعداء لا يخلّدون في الجنة بل يفارقونها ابتداء أي أيّام
عذابهم كالفساق من المؤمنين الذين سعدوا بالإيمان والتّأبيد من مبدإ معيّن كما
ينتقض باعتبار الانتهاء فكذلك باعتبار الابتداء. هكذا ذكره التفتازاني.
[وهو باطل لأنه
متضمن لكون أهل النار وأهل الجنة فريقا واحدا وإن الذين شقوا هم الذين سعدوا.
والآية مصرّحة
بخلاف ذلك].
«قلنا» إن «المعنى» في تفسير الآية «هم» أي
الأشقياء «خالدون في النار
مدة القيامة» أي مدة الحياة الآخرة «إلّا
مدة وقوفهم في المحشر»
فإنهم غير داخلين
في النار حينئذ
«للقطع بالوقوف فيه» أي لعلمنا أن أهل النار لا
__________________
بدّ لهم من الوقوف
فيه «للحساب كما أن الاستثناء في حق أهل الجنة في قوله تعالى» : (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي
الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ
رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) كذلك «إذ لا خلاف في ذلك أن
المراد بالاستثناء» في حقهم «قبل دخول الجنة» وهو وقت وقوفهم في
المحشر ومرورهم إليه.
«والفرق» بين الاستثناءين «تحكّم» أي مجرد دعوى للفارق بلا دليل ، كيف وقد دلّ الدليل القاطع
على خلود أهل النار بما تقدم ذكره من الآيات الصريحة في ذلك.
«ولصريح قوله تعالى» : (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ) .
«وقوله تعالى» : (وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا
رَبُّكَ) أي ليمتنا ربك حتى نستريح من العذاب (قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) أي خالدون لا سبيل لكم إلى الموت.
وقوله عليهالسلام : إذ لا خلاف في ذلك ... إلى آخره : مراده : أنه لا خلاف
في حق أهل الجنة أنهم لا يخرجون من الجنة بعد دخولها فكذلك أهل النار لا يخرجون
منها بعد دخولها فكما جعل المخالف الاستثناء في حق أهل الجنة للوقت المتقدم على
دخولهم الجنة كذلك يكون الاستثناء في حق أهل النار للوقت المتقدم على دخولهم النار
، والفرق تحكّم].
وأما تأويل الآية
: فقد فسرت بمثل ما ذكره الإمام عن الإمام المهدي عليهالسلام ، وقد فسّرت بغير ذلك وقد ذكرته في الشرح.
«قالوا» أي قالت المرجئة : «وردت
أحاديث»
عن النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم «بأنها
لأهل الكبائر» من أمّته.
__________________
«قلنا : يجب طرحها لإجماع الصحابة على
رفض معارض القرآن بما روي
من
الأخبار» أو تأويلها إن أمكن على ما يوافق محكم القرآن «و»
أيضا يجب طرحها
«لقدح في متحمّليها» أي في رواتها كعبد الله بن عمرو بن العاص وغيره.
وروى الذهبي في
الميزان ما لفظه : صديق بن سعيد الصّوناخي عن محمد بن نصر المروزي عن يحيى بن مالك عن نافع عن ابن
عمر مرفوعا : «شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي».
قال الذهبي : هذا
لم يروه هؤلاء قط لكن رواه عن صديق من يجهل حاله أحمد بن عبد الله بن محمد
الزّينبي فما أدري من أين وضعه؟ انتهى بلفظه.
«ولمعارضتها بصحيح من الأخبار نحو قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم»
«صنفان من أمتي لا تنالهما شفاعتي لعنهم الله على لسان سبعين نبيئا ... الخبر».
وفي الاعتصام :
وأخرج الطبراني عن أبي أمامة عن النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم «صنفان من أمتي لا
تنالهما شفاعتي : إمام ظلوم غشوم وكل غال مارق».
وأخرج أبو نعيم في
الحلية عن أنس والطبراني في الأوسط عن واثلة وعن جابر عن النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم أنه قال : «صنفان من أمّتي لا تنالهما شفاعتي يوم القيامة
: المرجئة والقدرية».
وفي الجامع الصغير
للأسيوطي : وأخرج أحمد بن عثمان عن النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم أنه قال : «من غش العرب لم يدخل في شفاعتي ولم تنله مودتي»
انتهى.
__________________
«وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم»
«لا يدخل الجنة قتّات» وهو النّمّام والكذّاب.
«وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم»
«لا يدخل الجنة صاحب مكس ولا مدمن خمر ولا مؤمن بسحر ولا قاطع رحم ولا منّان».
المكس : ما يأخذه
الماكس ، والماكس : العشار قال الشاعر :
أفي كلّ أسواق
العراق إتاوة
|
|
وفي كلّ ما باع
امرؤ مكس درهم
|
ومدمن الخمر هو :
الذي متى وجد الخمر شربها ، كذا ورد تفسيره بمعنى : أنه لا يتحرج من شربها.
والمؤمن بالسحر :
المصدق به المعتقد أن التأثير له.
وقاطع الرحم :
المانع له ممّا يجب أن يصله به.
والمنّان : الذي
يمنّ بما أعطى أو تصدّق به.
«وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم»
«لا يدخل الجنة بخيل»
وذلك أن البخل
يحمل صاحبه على ترك الإنفاق فيما يجب.
ولهذا ورد في
الخبر عن النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم أنه قال «البخل شجرة في النار من تعلّق بغصن منها دخل
النار ، والكرم شجرة في الجنة من تعلّق بغصن منها دخل الجنة» أو كما قال.
«إلى غير ذلك» من الأخبار المصرّحة بنفي الشفاعة لأهل الكبائر نحو ما أخرج
مسلم عن أبي هريرة عن النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم أنه قال «لا يدخل الجنة سيّئ الملكة».
وأخرج أحمد
والبخاري والنسائي وابن ماجة عن النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم أنه قال : «من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة وأن ريحها
ليوجد من مسيرة أربعين عاما» وغير ذلك.
فثبت ما ذهبنا
إليه وبطل ما اغترّ به المخالف.
__________________
(فصل)
في ذكر عذاب القبر.
قال الإمام المهدي
عليهالسلام في الغايات :
اعلم : أن
المتكلمين ذكروا مسائل ممّا وردت به الآثار في عذاب القبر وما بعده ، ولا وجه
لتخصيص ذلك بالذكر إلّا كون العلماء اختلفوا في تصحيحه.
قال : قلت : وقد
جاء في شرائط الساعة ما اختلف في تصحيحه وتصحيح حمله على ظاهره كالدجال في صفته
وتعيينه ونزول عيسى وارتفاع الكعبة والقرآن وخروج الدابة والنار من عدن ونحو ذلك.
قال : ونحن نذكر
ما ورد في ذلك.
قلت : قد ذكره في
الغايات تركته اختصارا وذكرت بعضه في الشرح.
قال «أئمتنا عليهم» «السلام والجمهور» من
المعتزلة وغيرهم : «وعذاب القبر ثابت» لأهل النار.
«خلافا لقديم قولي» الإمام «أحمد بن سليمان عليهالسلام» فإنه نفاه في حقائق المعرفة وأثبته في كتاب الحكمة الدرية.
قال في الحقائق :
والخلاف في إحيائه في القبر وإماتته ميتة ثانية فأمّا عذاب القبر للعاصين فنقول به
ونصدق به ، وقد ورد في ذلك أخبار عن النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم ولم يأت في وقته أثر والله أعلم ، ونحسب أنه عند بعثه
والله أعلم.
والمعول عليه
عندنا : أنه يعذب عند بعثه ونشره.
قال عليهالسلام : ويؤيّد ما قلنا : قول زيد بن علي عليهماالسلام ـ : (أيها الناس إن الله خلقكم ليبلوكم أيكم أحسن عملا ، جعل
موتا بين حياتين : موتا بعده حياة وحياة ليس بعدها موت) انتهى.
«و» كذلك خالف فيه «الموسوي»
وهو أبو القاسم المرتضى .
__________________
قيل : وهو قول
الناصر وابني الهادي ، ورواه الإمام المطهر عليهالسلام عن الهادي عليهالسلام.
«و» هو أيضا قول «يحيى بن مالك» من المجبرة «وغيرهم» كبشر المريسي وغيره من البغدادية وأبي
القاسم البستي وضرار بن عمرو.
«لنا» حجة على ثبوت عذاب القبر «أخبار
صحيحة»
وردت عن النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم.
منها قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار».
ومرّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بقبرين فقال : «إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير» أي
عندهما ، كان أحدهما يمشي بالنميمة والآخر لا يستنزه من البول.
وقول علي عليهالسلام : (ثم أدرج في أكفانه مبلسا وجذب منقادا سلسا ، ثم ألقي
على الأعواد رجيع وصب ونضو سقم يحمله حفدة الولدان وحشدة الإخوان إلى دار حضرته
ومنقطع زورته حتى إذا انصرف المشيّع ورجع المتفجّع أقعد في حفرته نجيّا لبهتة
السؤال وعثرة الامتحان).
ومنها : ما رواه
البراء بن عازب عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم أنه قال : «يكسى الكافر في قبره لوحين من نار».
ومنها : ما رواه
ابن مسعود أن النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يتعوذ من عذاب القبر.
وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم «لو لا أخشى أن لا
تدافنوا لسألت الله أن يسمعكم عذاب القبر» وغير ذلك ، ذكر هذا في الغايات.
واحتجّ المنكرون
لعذاب القبر بحجج من العقل والسمع :
أمّا العقل :
فقالوا : لو جوّزنا فيما نشاهد من الموتى أنهم أحياء معذبون مع مشاهدتنا لهم على
مثل حال الجمادات لجوزنا فيما نشاهده من الجمادات أنهم أحياء فضلاء علماء بل نجوز
في السرير الذي عليه الميت
مثل ما نجوزه في
الميت.
ومن المعلوم أيضا
: أنّا نشاهد المصلوب على حالة واحدة لا يتغير عن حاله لو رصدناه أيّما رصد.
قلت : ويمكن
الجواب بأن يقال : إنما تعذب الأرواح ، وقد ثبت بما تقدم ذكره عن بعض أئمة أهل
البيت عليهمالسلام : أن الروح جسم ، وإن كنا لا نعلم حقيقته ، وثبت أنه يبقى
بعد مفارقته الجسد إلى قرب يوم القيامة.
[ويؤكد هذا : ما
ذكره الحسين بن القاسم عليهماالسلام في كتاب الرؤيا فأما العقل فلا يقع عليه الثواب والعقاب ،
وإنما هو شاهد على الخطإ والصواب ، وإنما يقع الثواب والعقاب على الجسم والروح إذا
اجتمعا وعلى الروح وحده إن لم يكونا معا.
فأما الجسم الموات
فلا يعقل إذا فارقته الحياة. انتهى].
أو يقال : إن الله
سبحانه يحيي بعض العاصين في قبره ويرد الله روحه ويعذبه ولا يلزم أن يكون ذلك في
كل عاص.
وقد بسطنا في هذا
الموضع من الشرح وذكرنا ما احتجّ به المخالف من السمع ، وقد اتفق أكثر الأمّة على
القطع بعذاب القبر وإن اختلفوا في تعيين وقته.
«ويجوز دخول الملكين القبر للسؤال» للميت.
«خلافا للبستي» من الزيدية «وضرار» بن عمرو من الجبرية وهو بناء على نفي عذاب القبر.
«لنا» على جوازه : «الأخبار» الواردة في
ذلك.
«ولا مانع» من قبولها لا عقلي ولا سمعي.
وقد ورد الأثر :
بأنهما يأتيان الميت فيقعدانه بعد أن أحياه الله تعالى وأكمل عقله ويشاهدهما على
صورة حسنة يسر برؤيتهما فتجري مجرى البشارة بالجنة إن كان من أهل الخير.
وعلى صورة هائلة
فاجعة إن كان من أهل النار.
ثم يسألانه عن
ربّه ودينه ونبيئه.
فإن كان من أهل
الثواب ثبته الله تعالى فأجاب بالصواب فأحسنا له الكلام وبشّراه وأدخلا عليه سرورا
عظيما.
وإن كان من أهل
العقاب كان بالعكس.
نسأل الله أن
يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
(فصل)
في ذكر الصّور.
الصّور في اللغة :
هو القرن قال الشاعر :
لقد نطحناهم
عداة الجمعين
|
|
نطحا شديدا لا
كنطح الصّورين
|
قال «الهادي
عليهالسلام» وهو المأخوذ من كلام القاسمية :
«والصّور»
الذي ذكره الله في
القرآن الكريم : «المراد به كل الصّور» يريد أنه جمع وأن المراد بقوله تعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) أي صور الأموات.
ومثل كلام الهادي عليهالسلام حكاه الإمام المهدي عليهالسلام عن قتادة وأبي عبيدة.
قال الهادي عليهالسلام في كلام له طويل : (والصّور جمع الصّورة والعرب تقول :
صورة وصورتان وصور ثم تجمع الصّور فيكون جمعها : صورا ، فهذا معنى الصّور.
ونفخ الله فيها
النفخة الأولى هو : إفناؤها وهو نفخه فيها وهي الأبدان والصّور صور الخلق وأبدان
العالمين لما أراد من هلاكها وفنائها إلى قوله : ومعنى النفخة الأخرى : فهي نفخة الله سبحانه
الثانية في الصّور والأبدان المتمزقة البالية لما أراد الله من حياتها ونشرها
وتجديدها وبعثها من بعد موتها ... إلى آخر كلامه عليهالسلام.
قال الإمام عليهالسلام : «قلت : وله» أي للصور على هذا الوزن
__________________
وكونه جمعا لصورة «نظائر»
من ألفاظ العرب مثل : «النقب» فإنه «جمع لنقبة» وهي الموضع المحتفر في جلد البعير
ونحوه «من الجرب قال الشاعر» وهو دريد بن الصمة :
ما إن رأيت ولا
سمعت به
|
|
كاليوم هاني
أنيق جرب
|
متبذّلا تبدو
محاسنه
|
|
«يضع الهناء مواضع النّقب»
|
والهناء :
القطران.
ولا يجوز أن يكون
النّقب هنا مفردا لأنه قال مواضع فهو جمع نقبة. «و»
كذلك «الصوف فإنه جمع صوفة ، والعطب جمع عطبة والقطن جمع قطنة ، والبسر جمع بسرة» ونحو
ذلك ممّا ميّز واحده بالتّاء.
«وعلى الجملة : أن محققي علماء العربية
أجمعوا على أن ذلك قياس»
أي وارد على قياس
مطرد في لغة العرب «فيما عدا صنعة البشر من نحو : برمة» المصنوعة للبشر فإنه ليس بقياس جمعه على فعل (بضم الفاء
وسكون العين) الذي حكاه نجم الدين في شرحه عن الفرّاء : أن كل ما له واحد من
تركيبه سواء كان اسم الجمع كباقر وركب أو اسم الجنس كتمر وبسر وروم فهو جمع وإلّا
فلا.
فنحو : إبل عنده
مفرد ، وأمّا اسم الجنس الذي ليس له واحد من لفظه فليس بجمع اتفاقا. انتهى.
«وقيل : بل الصور» الذي ذكره الله في القرآن «مجاز» عن صوت يحدثه الله تعالى لإفزاع الخلائق وإماتتهم وإحيائهم
ذكره الإمام أحمد بن سليمان عليهالسلام قال : لقوله تعالى: (يَوْمَئِذٍ
يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ ...) الآية .
وقوله تعالى : (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ ...) الآية .
__________________
وقوله تعالى : (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ ...) الآية ونحوها.
وقالت «الحشوية وغيرهم : بل» الصور «قرن»
كهيئة البوق «قد التقمه
إسرافيل عليهالسلام»
لينفخ فيه متى أمر بذلك فهو باق على معناه اللغوي.
قال الإمام المهدي
عليهالسلام : وعلى هذا أكثر المفسرين وينفخ فيه ثلاث نفخات : الأولى :
نفخة الفزع. والثانية : نفخة الصعق. والثالثة : نفخة القيام لرب العالمين.
[وقيل : ينفخ فيه
مرتين : الأولى : لإماتة الخلائق. والثانية : لإحيائهم. قلت : وهو الحق أعني : أن
النفخ إنّما هو مرتان فقط لأن الصور هو القرن].
[وفي كلام عليّ عليهالسلام في نهج البلاغة ما يدل على هذا حيث قال : (يوم تشخص فيه
الأبصار وتظلم له الأقطار وتعطل فيه صروم العشار ، وينفخ فيه الصور فتزهق كل مهجة
وتبكم كل لهجة)].
«قلنا : لا دليل عليه» أي على القرن الذي زعموه لا «من
القرآن»
الكريم ولا من
السنّة الصحيحة المعلومة.
«ولا ثقة بأخبار الحشوية» التي روتها في ذلك عن أبي هريرة وغيره «حيث
لم يروه
غيرهم» أي غير الحشوية.
قلت : وما ذهب
إليه الإمام أحمد بن سليمان عليهالسلام محتمل ويحتمل أن الصور الذي ذكره الله في القرآن هو غير
الصور المذكور والله أعلم.
«قيل : لو كان الصور» وضع «لجمع الصور
لما صحّ إفراد الضمير في قوله تعالى: (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ
أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) .
«قلنا : ذلك» أي إفراد الضمير «جائز في
العربية إجماعا في نحو هذا الجمع خاصة».
__________________
«يقال : الصوف نفشته» والبسر أكلته.
والوجه : أن هذا
الجمع جار مجرى المفرد.
وقد جاء إفراد
الضمير في الجمع أيضا كقوله تعالى : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي
الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ) .
وفي آية أخرى (مِمَّا فِي بُطُونِها) .
«و» أما «الناقور» الذي ذكره الله في
القرآن فهو «مجاز» من قبيل الاستعارة «شبّه الله دعاءهم» أي الخلائق «إلى المحشر
بالنقر في الناقور وهو» أي الناقور في اللغة «آلة
نحو الطبل» المعروف «ينقر فيها لاجتماع القوم وعند
نهوض الجيش» أي ليجتمعوا.
وقال الهادي عليهالسلام : والناقور : علامة من الله يجعلها في يوم الدين تكون
ظاهرة في موضع حشر العالمين يستدل الخلق أجمعون بها على الموضع الذي يقصدون من
موضع الحشر الذي إليه يساقون.
قال : وقد يمكن أن
تكون هذه العلامة نورا يسطع في ذلك الموضع وقد يمكن أن تكون تلك العلامة أصواتا من
دعاة من الملائكة يدعون الناس إلى ذلك المكان فينتقر الناس موضع الحشر بذلك الدعاء
... إلى آخر كلامه عليهالسلام.
«وقيل بل» الناقور «هو القرن» الذي سبق
ذكره.
«لنا» عليهم «ما مرّ» من أنه لا دليل
عليه.
__________________
(باب والقيامة)
«والقيامة» التي ذكرها الله سبحانه في كتابه في غير موضع هي
«اسم لوقت
البعث والنشور» أي بعث الخلائق من قبورهم ونشرهم أي خروجهم منها.
«و» اسم لوقت «الحساب والجزاء» للخلق على أعمالهم فيوم القيامة اسم لهذه الأشياء ،
والقيامة : قيامها وحصولها.
قال الهادي عليهالسلام : القيامة يوم جعله الله سبحانه وقتا لحشره وحينا لبعثه
ونشره أبان فيه وعيده ووعده وأبان فيه ما حتم من حكمه أنصف فيه المظلوم وأظهر فيه
الحق ... إلى آخر كلامه عليهالسلام «ووجه حسنه : حصول
العلم البت» أي العلم القاطع الذي لا شكّ يعتريه «للمكلفين» من المقرين والجاحدين «بالله
تعالى»
وصدق وعده ووعيده
يعلمون ذلك ضرورة كما سبق ذكره في أول الكتاب.
«و» يعلمون أيضا ضرورة «أنّ
الصائر إليهم»
من الثواب والعقاب
«جزاء» على أعمالهم وذلك «لكشف
الغطاء بالآيات»
التي يشاهدونها «الموجبة
للقطع بذلك
منذ الممات إلى المحشر» أي يرون الآيات متتابعة من وقت موتهم إلى وقت حشرهم
وحسابهم.
وقد قيل : إن
الخلائق يحشرون عراة حفاة ، وليس بصحيح والحق أنهم يحشرون على أحوال شتّى ومراتب
مختلفة على قدر أعمالهم قال الله تعالى : (يَوْمَ نَحْشُرُ
الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ
وِرْداً) .
__________________
وليس الوافد
الريّان كالمسوق الظمآن.
وعن أبي ذر رحمهالله أنه قال : إن الصادق المصدوق حدثني : أن الناس يحشرون على
ثلاثة أفواج :
فوجا : راكبين
طاعمين كاسين.
وفوجا : تسحبهم
الملائكة على وجوههم.
وفوجا : يمشون
ويسعون ... الحديث.
هكذا ذكره المهدي عليهالسلام في الغايات.
وقال المرتضى عليهالسلام : إن الله يبعثهم في أكفانهم وفيما تستتر به عوراتهم عن مواقف النبيين والملائكة المقربين.
فأما الذين آمنوا
فيصيرون إلى دارهم ويستوجبون الثواب من ربهم فيكسون من حلل المؤمنين ويستترون بما
وعد الله به عباده الصالحين من الثياب السندس والإستبرق ، وتطرح عنهم أكفان هذه
الدنيا.
وأما الذين كفروا
فيلبسون سرابيل قطران ... إلى آخر كلامه عليهالسلام ومثل كلامه : ذكر القاسم بن علي العياني عليهالسلام.
[وعنه صلىاللهعليهوآلهوسلم أنه قال : «إن الميت ليبعث في ثيابه التي يموت فيها»].
وقد ذكر الإمام
المهدي عليهالسلام من أحوال القيامة عشرين حالة وبعضها فضلا عن كلها يوجب
للخلائق العلم البت بالله سبحانه وبالمجازاة.
«قال الله تعالى» : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي
أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) أي أن الله تعالى حقّ وما وعد وأوعد به صدق «فتتم
حينئذ غبطة المطيعين» لله تعالى بما يرونه من الكرامة لهم «و» تتم وتعظم «حسرة
المصرين» على المعاصي غير التائبين.
__________________
«ولذلك» أي ولأجل تمام الغبطة والحسرة «لم
يعجل الله كل الجزاء في الدنيا».
أما بعضه فيجوز
إيصال شيء من الثواب في الدنيا لا يعتد بنقصانه في الآخرة ، وكذلك تعجيل بعض
العقاب الذي لا يؤثّر في تخفيف العقاب عن المعاقب وقد تقدم ذكر ذلك.
وإنما لم يعجل
الله سبحانه كل الجزاء
لعدم تمامه بعدم القطع بكونه جزاء
للمكلفين من الله تعالى على
أعمالهم «ولتنغصه بانقطاعه في حق غيرهم» أي غير المكلفين «إذ
لا بدّ من الفناء» للعالم «والإعادة» لجميع المخلوقين «لذلك»
أي ليقع القطع بالجزاء «كما مرّ» في فصل فناء العالم.
«وقال «الزمخشري : يجوز» من الله سبحانه «تعجيل
كل العقاب»
في الدنيا لبعض
المكلفين. ذكر ذلك في تفسير قوله تعالى : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ
مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) .
قال : ويدل على
ذلك : قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم «ما أصاب الإنسان
من نصب أو غمّ أو ألم حتى الشوكة يشتاكها فبذنبه وما يعفو الله عنه أكثر».
وعن بعضهم : من لم
يعلم أن ما وصل إليه من الفتن والمصائب باكتسابه ، وأنّ ما عفى عنه مولاه أكثر كان
قليل النظر في إحسان ربه إليه.
«قلنا» جوابا على الزمخشري «لم
يعرف أنه»
أي المعجّل «جزاء
فلم يتم» كما ذكرنا.
«وأيضا : لا دليل» على ذلك.
قلت : وقد تقدم
ذكر كلام الإمام عليهالسلام في بعض معاصي المؤمنين المتعمدة أنه يجوز تعجيل عقابها في
الدنيا ، وهو قريب من قول الزمخشري وهو متأخر عن وضع الأساس لأنه جواب لمن سأله عن
بعض معاني الأساس ، وهو قول الناصر عليهالسلام كما سبق ذكره.
__________________
والدليل عليه : ما
تقدم في الآلام من الأخبار الكثيرة أنها لحط الذنوب وغير ذلك ، والله أعلم.
(فصل)
«ويبعث الله تعالى كل من نفخ فيه الروح»
من جميع الحيوانات «قطعا» أي علم ذلك علما مقطوعا به.
وقال «أبو هاشم : لا قطع» بذلك إذ يجوز أن يكون البعض لا يستحق البعث فلا يبعث وهو من
لم يكن له ثواب لأنه يجوز عنده توفير العوض في الدنيا.
«لنا : قوله تعالى» : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا
طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي
الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) فأخبر سبحانه وتعالى : أن كل دابّة وكل طائر في الأرض لا
بدّ من بعثه وحشره وهذا نص في ذلك.
وأيضا : لو لم يعد
بعض ما فيه روح لكان خلقه عبثا وظلما.
«وتعاد أجزاء الحي كاملا» من غير نقص شيء منه.
قال المرتضى عليهالسلام : فأما أولياء الله ومن لم يعصه من خلقه مثل الأطفال وأهل
الطاعة فإن الله يبعثهم على أكمل سنّ وأحسن مقدار في أبناء الأربعين سنة ، على تلك
الصورة يحشر الشيخ والصبي وجميع المؤمنين.
حدثني أبي صلوات
الله عليه عن أبيه صلوات الله عليه عن جدّه عن آبائه عن عليعليهمالسلام أنه قال : (يحشر الله أولياءه يوم القيامة في أكمل ما
كانوا عليه في دنياهم وفي سنّ أربعين سنة ثم يوصلهم الله سبحانه إلى ما أعدّ لهم من
ثوابه وجزيل عطائه). انتهى.
وأخرج الترمذي من
رواية أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله
__________________
صلىاللهعليهوآلهوسلم : «من مات من أهل الجنة وهو صغير أو كبير يدخلون الجنة بني
ثلاثين [سنة] لا يزيدون عليها أبدا وكذلك أهل النار».
وأخرج أيضا عن
معاذ أن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : «يدخل أهل الجنة الجنّة جردا مردا مكحّلين أبناء
ثلاثين أو ثلاث وثلاثين سنة».
وأخرج مسلم عن
جابر قال سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول : «إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ولا يتفلون ولا
يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون.
قالوا : فما بال
الطعام؟
قال ـ : جشأ ورشح
كريح المسك يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النّفس» ذكر هذا ابن بهران في
المعتمد.
[وفي البخاري من
حديث طويل : «يسبحون الله بكرة وعشيّا لا يسقمون ولا يمتخطون ولا يبصقون آنيتهم
الذهب والفضة وأمشاطهم الذهب ووقود مجامرهم الألوّة ».
قال أبو اليمان :
يعني العود : ورشحهم المسك.
وأجاب الإمام
القاسم بن علي العياني عليهالسلام عمّن سأله عن مؤمني الجن هل يكونون في الآخرة يأكلون
ويشربون ويتنعمون؟
فقال عليهالسلام : اعلم : أن الله سبحانه وتعالى لم يجعل الأكل والشرب إلّا
لبني آدم وما خلق الله تعالى معهم في الأرض من البهائم وأما الملائكة عليهمالسلام والجن فلم يجعل الله لهم الأكل وجعل لهم من الملاذ ما
يتنعمون به ويسرون [به] ، فإذا كان
في دار الآخرة أعطى الله كل عبد من النعيم ما أعطاه في دار الدنيا وكل ما خلق في
الآخرة من الفضل فإنه خلق للبقاء ، وكل ما خلق في الدنيا فإنه خلق للفناء والجن
__________________
يومئذ يوصل إليهم
ما فيه لذّة ونعيم ، قد جعل الله فيه لهم مقنعا وسرورا فاعلم ذلك انتهى.
«وقيل :» بل يعاد من الحي «ما يصحّ أن
يكون الحيّ حيّا معها»
وهي جملة في بدن
الإنسان لا يعلم كمّيتها ، هي الإنسان حقيقة المستحق للمدح والذمّ والثواب والعقاب
ولا تعاد كل أجزائه التي كان عليها في الدنيا بدليل : أن أحدنا يسمّى إنسانا وهو
مهزول ثم يسمن أو العكس.
«قلنا : يلزم من ذلك أن يكون» الحيّ
المعاد «بلا يدين ولا رجلين لأنه يصحّ أن يكون الحيّ حيّا من دونها و» قد ثبت أن «الله
تعالى يقول» : (يَوْمَ تَشْهَدُ
عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ ...) الآية (وَأَيْدِيهِمْ
وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) .
وقال «أبو علي و» أبو القاسم «البلخي : بل» تعاد
«جميع الأجزاء» التي كان الحي عليها وقت الطاعة أو المعصية لأنها بمجموعها
هي المستحقة للثواب أو العقاب حتى قال أبو القاسم : لو قطعت يده وهو مؤمن ثم كفر
فلا بدّ أن يخلق الله من يده حيوانا يدخله الجنة وكذلك العكس.
«قلنا : لا دليل على» إعادة «الفضلات» كاليد
الزائدة وكذلك زيادة اللحم والسمن على قدر الحاجة ، وكذا ما قطع في حال الطاعة
والعصيان مع أنه لا وجه لما ذكراه لأنّ الأعضاء لا تستبدّ بفعل الطاعة أو المعصية.
(فصل)
«والحساب يحصل به تعجيل مسرة للسعيد
بنشر الحسنات ، وتعجيل عقوبة بالحسرة والندامة للشقي بكشف السيّئات مع إظهار عدل
الله سبحانه» وحكمته وصدق وعده ووعيده «والتناصف» من الله سبحانه لعباده حيث
أوقفهم تعالى على ما أسلفوه ولم يأخذهم تعالى بقدرته ، وإنصاف بعضهم من بعض.
وذلك أن الله
سبحانه وكّل الملائكة عليهمالسلام يكتبون ما يفعلون
__________________
فإذا كان يوم
القيامة أعطي المؤمن كتابه الذي كتب الملك فيه حسناته بيمينه فينظر ما عمله من
الحسنات فيه فيحصل مع المؤمن من السرور والبشر ما لا يزول عن قلبه ويقول كما حكى
الله سبحانه عنه لمن حوله من أهل المحشر : (هاؤُمُ اقْرَؤُا
كِتابِيَهْ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) .
ويعطى العاصي
كتابه بشماله من وراء ظهره فيقرأ جميع ما فيه من السيئات فتحصل معه من الحسرة
والندامة ما لا يوصف ويقول ما حكى الله عنه (يا لَيْتَنِي لَمْ
أُوتَ كِتابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ).
ذكر هذا الإمام
المهدي عليهالسلام.
قال الهادي عليهالسلام ما لفظه : (ومعنى بيمينه فهو اليمن والبركة وما يتلقى به
الملائكة أهل الدين والتطهرة من البشارة من ربهم والتبشير والتطمين لهم عند
توقيفهم ومحاسبتهم ، فهذا معنى قوله «بيمينه».
وكذلك قال ذو
العزّة والجلال في أصحاب الميمنة حين يقول (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ
ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) فأراد بقوله بالميمنة اليمن والبركة والفضل والمغفرة ، لا
أنّ ثمّ ميمنة قصدها الله ولا ميسرة ومعنى «اقرءوا كتابيه» فهو فسّروا حسابيه
واشرحوا عمليه وبيّنوا فعليه يقوله لمن يحاسبه من الملائكة عليهمالسلام ... إلى قوله عليهالسلام : «وأما من أوتي كتابه بشماله» قال : هو مثل من الله عزوجل مثّله الله لعباده وضربه لهم يريد بالشمال العسر والشدّة
في كل حال يقول سبحانه : حوسب حسابا شديدا وأوقف توقيفا عنيفا».
ومثل قوله : ذكر
عمّه الإمام الكبير محمد بن القاسم بن إبراهيم عليهمالسلام.
قال «جمهور أئمتنا عليهم» «السلام :
والميزان»
الذي ذكره الله في
القرآن «المراد
به : الحق من إقامة العدل والإنصاف» من الله سبحانه وتعالى للمخلوقين.
__________________
قال الهادي عليهالسلام : فأما الميزان وما ذكر الله من حكمه في القرآن فليس بحالة
زائدة في يوم القيامة على إقامة الحساب والعدل بين العباد.
وقال الإمام «المهدي» أحمد بن يحيى «عليهالسلام وغيره» من المتأخرين وهو قول جمهور المعتزلة : «بل»
هو «على حقيقته»
وله عمود ولسان
وكفّتان.
«قلنا : وزن الأعمال مستحيل إذ هي أعراض» حركة أو سكون وهي لا تقوم بنفسها فوزنها على انفرادها يوجب
قلب ذواتها
«ووزن غيرها» أي غير الأعمال «إمّا جور
ولا طائل تحته»
حيث وزنت الصحائف
المكتوب فيها الأعمال أو ابن آدم نفسه فلعل صحيفة العاصي تكون أثقل لكثرة المعاصي
المكتوبة فيها أو مساوية إن كان ثمّ صحيفة وكذلك بعض أهل النار أثقل من بعض أهل
الجنة وإن فرضنا أن الصحائف أو ابن آدم يثقل بكثرة الطاعات ويخف بكثرة المعاصي أو
أنه يجعل فيها نور وظلمة كما زعموا فلا فائدة حينئذ في الوزن «وأيّا
ما كان»
من الجور أو عدم
الطائل «فلا يجوز على الله تعالى» فعله لأنه قبيح والله لا يفعل القبيح.
«ولنا» حجة على قولنا «قوله تعالى» : (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُ) فأخبر تعالى أن الوزن يوم القيامة هو الحق أي إقامة العدل
والإنصاف لا غير
«وهذا نص صريح أنه
الحق».
«ولنا أيضا
: قوله تعالى» : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ
لِيَوْمِ الْقِيامَةِ) «وهذا نصّ صريح أيضا أن الموازين هي القسط ، والقسط هو
العدل وكالميزان الذي أنزله الله في الدنيا حيث قال (وَأَنْزَلْنا
مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ) فإنه مجاز والمراد به الحق والعدل اتفاقا.
«قالوا : روي عن
ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في صفة الميزان» : إنه موكل به ملك وأنه «دون
العمود كما بين المشرق والمغرب»
__________________
والعمود وسط ساعد
الميزان «وكفة الميزان كأطباق الدنيا».
والكفة (بالكسر)
لكل ما استدار ، ويقال ؛ كفة (بالفتح) أيضا.
قالوا : وشطر
الميزان نور وشطره ظلمة ، وهو معلق ببعض قوائم العرش.
وفي بعض الأخبار :
فيؤتى بابن آدم فيوضع بين كفتي الميزان فإن ثقل ميزانه نادى مناد يسمعه جميع
الخلائق : سعد فلان سعادة لا يشقى بعدها أبدا.
وإن خفّ ميزانه
نادى مناد يسمعه جميع الخلائق : شقي فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبدا.
«قلنا : لا وثوق برواية من روى» هذا
الخبر «عنه»
أي عن ابن عباس
لأن العقل ينكره من وجوه كثيرة.
«وإن سلم» صحته على بعده «فذكر العمود
والكفة ترشيح»
للاستعارة.
وحقيقة الترشيح :
هو ذكر ما يلائم المستعار منه ، وذلك أنه استعير لفظ الميزان للعدل والإنصاف ثم
ذكر ما يلائم المستعار منه وهو الميزان الحقيقة فأثبت له الكفة والعمود ترشيحا «كقول
الشاعر»
وهو زهير بن أبي
سلمى «يصف رجلا شجاعا».
لدى أسد شاك
السّلاح مقذّف
|
|
«له لبد أظفاره لم تقلّم»
|
فقد استعار لفظ
الأسد للرجل الشجاع وقرنه بما يلائم المستعار منه وهو السبع المعروف فأثبت له
اللبد والأظفار وهي من صفات الأسد وقوله : شاك السلاح : أي حديد السلاح وهذا ممّا
يلائم المستعار له وهو الرجل الشجاع.
ويسمّى ذلك أي ذكر
ما يلائم المستعار له : تجريدا فقد اجتمع في هذا البيت التجريد والترشيح.
«فيوافق» أي ما رووه عن ابن عباس «حينئذ» أي حين إذ حمل على هذا المحمل
«ما ذكرناه من الأدلة»
الدالة على قولنا
أنّه مجاز.
«والصراط في الدنيا» أي حيث كان المراد به معناه في الدنيا كقوله تعالى : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) «هو» بهذا المعنى مجاز عبّر به عن «دين
الله الذي جاء به رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
إجماعا» بين الأمّة.
ومعناه لغة :
الطريق قال الهذلي :
أكرّ على
الحروريّين مهري
|
|
وأحملهم على وضح
الصّراط
|
قال الإمام «المهدي» أحمد بن يحيى «عليهالسلام
وغيره»
من الأئمة عليهمالسلام وغيرهم: «وفي الآخرة جسر على
جهنم»
أي الصراط الذي
جاء ذكره في الآخرة هو جسر على جهنم يمر عليه أهل الجنة وأهل النار فيسلم أهل
الجنة ويتهافت في النّار أهل النّار.
قالوا : وهو أدق
من الشعرة وأحدّ من السيف.
قالوا : وهو
المراد بقوله تعالى : (وَإِنْ مِنْكُمْ
إِلَّا وارِدُها ... الآيتين)
.
ورووا في ذلك عن
أبي هريرة خبرا وفي آخره ولجهنم جسر وهو الصراط أدقّ من الشعرة وأحدّ من السيف
عليه كلاليب وحسك والناس يمرّون عليه منهم كالبرق والريح.
ومنهم من أخذته
الكلاليب والحسك ، والناس [يمرّون] بين ناج مسلّم ومخدوش مكبوب في النار على وجهه»
وغير ذلك.
«لنا» حجة على مخالفينا : «قوله
تعالى
: (وَأَنَّ هذا صِراطِي
مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ
سَبِيلِهِ) ونزلت هذه الآية : خطابا
لأهل الدنيا وهي نص في أن المراد
بالصراط دين الله القويم وإن كان مجازا.
«وكما قال تعالى» : (قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى
صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً
__________________
قِيَماً
مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) وهذا ممّا لا خلاف فيه.
«و» لنا حجة على
أنه لا جسر فوق جهنم يمرّون عليه : «قوله
تعالى» في صفة دخول العصاة النار : (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ
دَعًّا) والدّع الدفع العنيف فيدفعهم خزنة النار إلى النار دفعا
عنيفا على وجوههم وزجا في أقفيتهم من غير جسر يتهافتون من فوقه.
«وقوله تعالى» : (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى
جَهَنَّمَ زُمَراً) إلى قوله تعالى (قِيلَ ادْخُلُوا
أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) .
فهاتان الآيتان «نص» صريح «في أنهم لم
يمشوا على جسر فوقها» أي فوق جهنم.
«وأيضا : ما قالوا» أي ما قاله المخالف : «يستلزم
تكليف المؤمنين في الآخرة» بالمرور عليه مع خطره وهوله ، «والإجماع» منعقد من
الأمّة «على أن لا تكليف فيها» لأنها دار جزاء لا دار تكليف.
«قيل : ويلزمنا التكليف بالوقوف في
المحشر» فهو «كالوقوف بعرفة» والوقوف بعرفة تكليف بلا شك «والمرور إلى الجنة» أي
ويلزمنا التكليف بالمرور إلى الجنة لأنه «كالمرور إلى الحج» فما الفرق بين
المرورين.
«قلنا : لا سواء» بين المرورين ولا بين الوقوفين «لأن
الوقوف في المحشر لا مشقة فيه على المؤمنين» وإن كان فيه مشقة على العاصين فليس تكليفا أيضا «لأنه تعجيل
جزاء»
للمكلفين أي من
مقدمات ثواب المطيعين وعقاب العاصين.
«وكذلك مرورهم إلى الجنة» من مقدمات
الجزاء ولا مشقة فيه «لسرورهم به وسوقهم إليها بخلاف المرور على جسر جهنم فهو مشقة
لا أعظم منها لأنكم تزعمون أن الأنبياء والمرسلين يقولون ـ : سلّم سلّم» دعاء
__________________
لهم بالسلامة «خوفا
من أن يقعوا فيها» أي في النار «وذلك أعظم تكليف» لا شك فيه.
ثم نقول إن هذا
الذي زعمتم من إثبات الجسر والمرور عليه يناقض ما تقدم ذكره واتفق الإجماع منّا
ومنكم عليه من تبشير المؤمن في قبره بالجنة والعاصي بالنار.
وبعد ذلك الميزان
سواء كان على الحقيقة كما زعمتموه أو كان المراد به العدل والإنصاف لأنه يعرف به
سعادة السعيد وشقاوة الشقي ، ويعلم كل مكلف مستقره من جنة أو نار.
«قالوا» : قال تعالى : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) .
«أي النار وليس ورودها إلّا المرور على
الجسر» الذي فوقها.
«قلنا : بل ورودها حضورها» أي القرب
منها «فقط لأنّ الورود في اللغة بمعنى الحضور»
كقوله تعالى :
(وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ
مَدْيَنَ) .
«أي حضر» ماء مدين ، وحضورها هو «من غير
خوف ولا حزن على المؤمنين
لقوله تعالى» : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ
ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا
تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) .
«وقوله تعالى» : (وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ) (لا يَحْزُنُهُمُ
الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) وهذا إنّما يكون قبل دخولهم الجنة.
وقال الحسين بن
القاسم عليهالسلام في تفسيرها : يقول عزوجل : إنا إذا نزعنا من كل شيعة أشدّهم عتيّا لم نذر منكم يا
من بقي من الأوباش والسفل أحدا إلّا وردها فلا تحسبوا أنا إذا عذّبنا المتكبرين
تركنا الهمج من
__________________
النار وعذابها ،
ولا تطمعوا أيها الضعفاء أن تسلموا من جهنم ولهبها بل نعذبكم جميعا.
قال عليهالسلام : ومعنى قوله تعالى : (ثُمَّ نُنَجِّي
الَّذِينَ اتَّقَوْا) أي وننجي الذين آمنوا ولكن (ثم) تقوم مقام (الواو) لأنهما
من حروف العطف.
«قالوا» : قد روي عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم
أنه قال : «يمدّ الصراط فيكون أول من يمرّ به أنا وأمّتي والملائكة بجنبيه أكثرهم
يقول : سلّم سلّم ... الخبر».
تمامه : «وإنّ
عليه لكلاليب وحسكا ثقالا يقال لها : السّعدان تنبت بنجد ، وأنه لدحض مزلّة فيمرون
عليه كالبرق وكالريح وكأجاويد الخيل والرجال فناج مسلّم ، ومكدوش في النار ... إلى
آخره».
«قلنا : لا ثقة براويه ، وإن سلّم» أنّ
راويه ثقة «فمعارض» أي فهو معارض «بأقوى منه» أي بخبر أقوى منه متنا ورواية «وهو :
قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم
لعلي كرّم الله وجهه في الجنّة ـ : «يا عليّ : إن المؤمنين إذا خرجوا من قبورهم
استقبلوا بنوق عليها رحائل الذهب يستوون عليها فتطير بهم إلى باب الجنة ... الخبر
بطوله».
وهو قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «فإذا حلقة من ياقوت على صفائح الباب ، وإذا عند الباب
شجرة ينبع من أصلها عينان فيشربون من إحدى العينين فلما بلغ الشراب إلى الصدر أخرج
الله ما في صدورهم من الغل والحسد والبغي ، وذلك قوله تعالى : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ
غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) فلما انتهى إلى البطن طهّره الله من دنس الدنيا وقذرها
وذلك قوله تعالى : (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ
شَراباً طَهُوراً) .
ثم اغتسلوا من
الأخرى فجرت عليهم نظرة النعيم لا تشعث أشعارهم ولا تتغير ألوانهم فيضربون بالحلقة
على الصفائح فلو سمعت لها طنينا يا
__________________
عليّ فيبلغ كل
حوراء أن زوجها قدم فتبعث قيّمة فلولا أن الله سبحانه عرفهم نفسه لخرّ ساجدا ممّا
يرى من النور والبهاء والحسن فتقول : يا ولي الله أنا قيمتك التي وكلت بمنزلك
فتنطلق وهو بالأثر حتى ينتهي إلى قصر من الفضة شرفه الذهب يرى ظاهره من باطنه وباطنه
من ظاهره فيريد أن يدخله فتقول : يا ولي الله أمامك ما هو أحسن منه ، فتنطلق به
إلى قصر من الذهب شرفه الفضة ترى ظاهره من باطنه وباطنه من ظاهره فيقول : لمن هذا؟
فتقول : هو لك.
فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : فلو مات أحد من أهل الجنة من الفرح لمات.
فيريد أن يدخله
فتقول : أمامك ما هو أحسن منه ، فلا يزال يمرّ على قصور جنانه وأنهاره حتى تنتهي
به على غرفة من ياقوت أحمر وأخضر وأصفر وأبيض في الغرفة سرير عرضه فرسخ في طول ميل
عليه من الفرش كقدر سبعين غرفة بعضها فوق بعض ، فراشه نور وسريره نور وعلى رأس ولي
الله تاج لذلك التاج سبعون ركنا في كل ركن ياقوتة تضيء مسيرة ثلاثة أيّام للراكب
المتعب.
وجهه مثل القمر
ليلة البدر عليه طوق ووشاحان له نور يتلألأ ، وفي يده ثلاثة أسورة من فضة وذهب
ولؤلؤ وذلك قوله تعالى : (يُحَلَّوْنَ فِيها
مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) فيهتز السرير فرحا وشوقا إلى ولي الله ، فيوضع له حتى
يستوي عليه ، ثم يهتز في السماء.
ثم تأتيه قهرمانة
بقضيب الملك فجعل ينكت به فينظر إلى أساس بنيانه ويسترقه مخافة أن يذهب ببصره ،
فبينما هو كذلك إذ أقبلت حوراء عيناء معها سبعون جارية وسبعون غلاما وعليها سبعون
حلّة يرى مخ ساقها من وراء الحلل والحلي والجلد والعظم كما يرى الشراب الأحمر في
الزجاجة البيضاء ، وكما ترون السلك في الدءة [البيضاء الصافية].
__________________
قال : فلما عاينها
نسي كل شيء قبلها فتستوي معه على السرير فيضرب بيده إلى نحرها فإذا هو يقرأ ما في كبدها وإذا فيه مكتوب : «أنت حبي وأنا
حبك إليك اشتهت نفسي» فذلك قوله تعالى : (كَأَنَّهُنَّ
الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ) فينعم معها سبعون [مرّة] لا تنقطع شهوتها ولا شهوته ،
فبينما هم كذلك : إذ أقبلت الملائكة وللغرفة سبعون ألف باب على كل باب حاجب ،
فتقول الملائكة : استأذنوا لنا على ولي الله؟
فيقول الحجاب :
إنه ليتعاظمنا أن نستأذن عليه إنه مع أزواجه ، فيقولون : لا بدّ لنا إنّا رسل
الجبّار إليه فيتناجون بينهم فيقولون : يا ولي الله : الملائكة يستأذنون إليك؟
فيقول : ائذنوا
لهم وتلا : (وَالْمَلائِكَةُ
يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ
فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) .
وقرأ (وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ
نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً) .
«يعني استئذان
الملائكة». انتهى.
ذكره العنسي في
الإرشاد وغيره أيضا ، وفيه تصريح بعدم الجسر فوق جهنم.
«وما روى ابن البيّع» وهو من خيار
الشيعة «بإسناده إلى النعمان بن سعد قال : كنا جلوسا عند علي بن أبي طالب كرّم
الله وجهه» فقرأ قوله تعالى :
(يَوْمَ نَحْشُرُ
الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً) .
قال : (لا والله ما على أرجلهم يحشرون
ولا يساقون ولكنهم يؤتون بنوق من نوق الجنة لم تنظر الخلائق إلى مثلها رحالهم
الذهب).
قال في الصحاح :
الرحل : رحل البعير وهو أصغر من القتب والجمع
__________________
الرحال والرحال
أيضا الطنافس الحبرية وعليه قول الشاعر :
نشرت عليه برودها ورحالها
«وأزمتها الزبرجد فيقعدون حتى يقرعوا
باب الجنة».
ثم «قال» ابن البيع : «هذا حديث صحيح
الإسناد ولم يخرجاه يعني البخاري
ومسلم» لأنه صنف كتابه المستدرك وذكر فيه ما لم يخرجاه وهو على
شرطيهما ، وفي هذا تصريح بعدم الجسر أيضا.
«و» ما «روى البخاري ومسلم والنسائي عن
أبي هريرة عن النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم
أنه قال : «يحشر الناس على ثلاث طرائق» أي ثلاث فرق.
ولعل المراد ما جاء في خبر أبي ذرّ المتقدم يحشرون ثلاثة أفواج
.. إلى آخره والله أعلم.
راغبين راهبين واثنان
على بعير وثلاثة على بعير ، وأربعة على بعير وعشرة على بعير ... الخبر.
[تمامه : ويحشر
بقيتهم النار تقيل معهم حيث قالوا وتبيت معهم حيث باتوا وتصبح معهم حيث أصبحوا
وتمسي معهم حيث أمسوا].
«ونحوه» من الأخبار الدالة على عدم
الجسر.
«وإن سلّم التعادل» بين أخبارنا وأخبار
مخالفينا «وجب طرحها» أي طرح هذه الأخبار كلها «والرجوع إلى ما قدمنا من الأدلة
القطعية» على كون الصراط دين الله وفي اللغة الطريق ، وامتناع الجسر والتكليف في
الآخرة.
«و» من أحوال القيامة : «إنطاق الجوارح» الذي ذكره الله في القرآن وهو «حقيقة»
لا مجاز لقدرة
الله سبحانه على ذلك إمّا بخلق كلام فيها كما خلقه في الحصى والشجر أو بأن يخلق
بذلك العضو آلة الكلام. وقيل إنه مجاز لا
__________________
حقيقة كقوله تعالى
(فَقالَ لَها
وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) .
«قلنا : لا مانع» من حمله على الحقيقة فلا وجه للعدول عنها «لقدرة
الله
سبحانه على ذلك كتسبيح الحصى في كفه صلىاللهعليهوآلهوسلم».
روي أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم أخذ في كفّه سبع حصيات أو تسع فسبّحت بكفه وكان لتسبيحهن
دويّ كدويّ النحل ، فلما وضعهن انقطع ذلك.
وكذلك : تكليم
الذراع المسموم له صلىاللهعليهوآلهوسلم والقصة مشهورة في غزوة خيبر.
ومن أحوال يوم
القيامة : اللواء والحوض.
روى صاحب الإشارة
وغيره عن ابن عباس أن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : رجع من سفر وهو متغيّر اللون فخطب الناس خطبة بليغة وهو
يبكي ثم قال : «أيها الناس : إني خلفت فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي وأرومتي ولن
يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ألا وإنّي أنتظرهما ، ألا وإني أسائلكم في ذلك يوم
القيامة عند الحوض وأنه سيرد عليّ الحوض يوم القيامة ثلاث رايات من هذه الأمّة :
راية سوداء : فتقف فأقول : من أنتم؟ فينسون ذكري ويقولون : نحن أهل التوحيد من
العرب ، فأقول : أنا محمد نبيء العرب والعجم فيقولون : نحن من أمّتك ، فأقول : أنا
محمد نبيء العرب والعجم فيقولون : نحن من أمّتك ، فأقول : كيف خلفتموني في عترتي
وكتاب ربي فيقولون : أما الكتاب فضيعنا ، وأما عترتك فحرصنا أن نبيدهم ، فأولّي
وجهي عنهم فيصدرون عطاشا قد اسودّت وجوههم. ثم ترد عليّ راية أخرى أشد سوادا من
الأولى فأقول لهم من أنتم فيقولون كما قالت الأولى : نحن من أهل التوحيد ، فإذ
ذكرت اسمي قالوا : نحن من أمّتك ، فأقول : كيف خلفتموني في الثقلين كتاب ربي
وعترتي؟ فيقولون : أما الكتاب فخالفنا ، وأما العترة فخذلنا ومزقناهم كل ممزق.
__________________
فأقول : إليكم
عنّي ، فيصدرون عطاشا مسودّة وجوههم.
ثم ترد عليّ راية
أخرى تلمع نورا فأقول : من أنتم؟
فيقولون : نحن أهل
كلمة التوحيد والتقوى نحن أمّة محمد ونحن بقية أهل الحق حملنا كتاب ربنا وأحللنا
حلاله وحرّمنا حرامه وأحببنا ذرية محمد فنصرناهم من كل ما نصرنا منه أنفسنا
وقاتلنا معهم وقاتلنا من ناوأهم فأقول لهم أبشروا فأنا نبيئكم محمد ولقد كنتم كما
وصفتم.
ثم أسقيهم من حوضي
فيصدرون رواء.
ألا وإنّ جبريل
أخبرني بأن أمّتي تقتل ولدي الحسين بأرض كرب وبلاء ألا ولعنة الله على قاتله
وخاذله أبد الدهر أبد الدهر».
وعنه صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : «حوضي ما بين مكة إلى أيلة له ميزابان من الجنة ...
إلى قوله : شرابه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل وأطيب ريحا من المسك ، من
كذّبه اليوم لم يصبه في الشرب يومئذ شيء منه» .
وعنه صلىاللهعليهوآلهوسلم «حوضي كما بين
المدينة وصنعاء» ذكر هذا في الغايات وغيره مثله كثير.
وقال الحسين بن
القاسم العياني عليهماالسلام : الكوثر هو الخير الكثير ، وإنّما قيل كوثرا من الكثرة
كما يقال : غفران من المغفرة قال : والكوثر عندنا نهر في الجنة خصّ الله به نبيئه صلىاللهعليهوآلهوسلم.
قال «الهادي عليهالسلام
وأبو هاشم وغيرهما»
كقاضي القضاة
وأكثر المعتزلة : «والجنة والنار لم يخلقا قطعا» أي ما قد خلقتا قطعا وإنما يخلقهما الله تعالى يوم القيامة «لقوله
تعالى»
في وصف الجنة (أُكُلُها دائِمٌ)
(وَظِلُّها) ولا بدّ من فناء كل
شيء كما مر» فلو كانتا قد خلقتا
لوجب أن تفنيا وحينئذ يكون خلقهما وإفناؤهما عبثا.
__________________
ومثل هذا ذكره
الإمام أحمد بن سليمان عليهالسلام قال : لأنه لا يعدّ الشيء ويدّخره إلى وقت طويل إلّا من
يعجز عن إبداعه وقت الحاجة إليه والله تعالى لا يعجزه شيء.
قال : وإذا كانت
قد خلقت لم تكن إلّا في السماء أو في الأرض ، وإذا كانت قد خلقت في السماء فكيف
تبدّل السماء وتبقى الجنة التي فيها وما فيها من الحور العين والولدان.
وقال القاسم بن
إبراهيم عليهالسلام : وقد سئل عن آدم حيث أسكنه الله الجنة ما كانت الجنة
مخلوقة أو لا؟
فقال : الجنة
مخلوقة في غير سماء ولا أرض وقد أسكن الله آدم وزوجته الجنة وأخرجهما منها
بعصيانهما. انتهى.
قلت : وقوله تعالى
: (وَلَقَدْ رَآهُ
نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) يدل على أنها قد خلقت والله أعلم.
وقال «أبو علي وأبو الحسين» والإمام يحيى عليهالسلام وغيرهم «بل» قد «خلقتا قطعا
لقوله تعالى» :
(أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) «قلنا» معناه أعدّت «في
علمه تعالى»
فكأنها قد وجدت
لما كان أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون.
«قالوا» : قال تعالى : (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ
سِدْرَةِ الْمُنْتَهى عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) فدلّت هذه الآية على أن الجنة قد خلقت وأن محمّدا صلىاللهعليهوآلهوسلم رأى جبريل على صورته عندها ليلة المعراج.
«قلنا : تلك جنة تأوي إليها أرواح
الأنبياء صلوات الله عليهم والشهداء» والمؤمنين «في بقية أيام الدنيا» قبل قيام القيامة «لا
جنة الخلد التي وعد المتّقون جمعا بين الأدلة» المفهمة أنها قد خلقت والأدلة المنافية لذلك.
__________________
وقال «المرتضى» محمد بن يحيى «والمهدي» أحمد
بن يحيى عليهماالسلام
وهو قول أبي القاسم
البلخي وكثير من البغدادية :
«لا قطع بأيهما» أي لا قطع بأنها قد خلقت ولا بأنها لم تخلق.
قال الإمام عليهالسلام : «قلت : وهو الحق
لاحتمال أن يكون» معنى «أكلها دائم» أي «في القيامة» فلا ينافي عدم خلقها لأن
المعنى لا ينقطع أكلها بعد وجودها «لا في أيام الدنيا» وممّا يلحق بذلك القول في
أزواج أهل الجنة.
قال الإمام أحمد
بن سليمان عليهالسلام : اعلم : أن الله سبحانه يزوج عبيده من إمائه يوم القيامة
بمن يشاء وكيف يشاء ، فأما من مات مؤمنا وله زوجة مؤمنة ولم تخلف بعده زوجا فأحسب
والله أعلم أنها زوجته في الجنة ، وكذا لو ماتت ولم يتزوج أختها ولا من يحرم عليه
الجمع بينهما ، فإن تزوج أختها بعدها أو عمّتها أو خالتها فإن زوجته في الجنة
الأخرى دون الأولى.
وإن مات وتزوجت
بعده فهي للزوج الآخر في الجنة.
[قلت : وروي عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم أنه قال «المرأة لآخر أزواجها» يعني في الجنة].
قال : والدليل على
ذلك : ما رواه الهادي إلى الحق عليهالسلام في جوابه للرازي يرفعه إلى النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم أنه سئل عن زوجة المؤمن هل تكون له زوجة في الجنة إذا كانت
مؤمنة؟ فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «نعم يجمع الله بين أهل البيت إذا كانوا مؤمنين في دار
ثواب المتقين».
قال : ويدل على
صحة ما قلناه : أن الميت إذا مات فقد خرج من أحكام الدنيا وصار من أهل الآخرة وقد
جاء عن الصالحين من الصحابة وغيرهم من المؤمنين : أنّ الرجل يغسل زوجته إذا ماتت
إذا أراد ذلك والمرأة تغسل زوجها.
وروي عن النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم أنه دخل على عائشة وهي تقول : وا رأساه فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لا عليك لو متّ لغسلتك ... الخبر».
وروي : أن أمير
المؤمنين عليهالسلام غسل فاطمة عليهاالسلام إلى أن قال عليهالسلام : وعلى هذا لو عقد بامرأة عقدة النكاح ولم يدخل بها ثم ماتت
وتزوج بابنتها قبل أن تدفن وتغسل لم يجز له أن ينظر إلى عورة الميتة.
قال : وهذا القول
منّي اجتهاد وقياس على ما ذكرنا من الأخبار والله أعلم.
قال : ويمكن أن
يكون حكم تزويج الآخرة غير حكم تزويج الدنيا لأنّ أحكام الآخرة غير أحكام الدنيا
إلّا في العدل فإن أحكام الله تستوي في العدل في الدنيا والآخرة.
قال : واعلم : أن
الله يزوج أولياءه في الجنة من حور العين.
وحور العين : نساء
يخلقهن الله في الجنة كيف يشاء وكما يشاء أحسن خلق وأجمل صورة كما قال تعالى : (وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ
الْمَكْنُونِ) .
وقال تعالى : (وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) انتهى كلامه عليهالسلام.
وهو قويّ جدّا
موافق لكثير ممّا روي عن النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم من أن أزواج المؤمنين تردّ عليهم في الجنة إذا كنّ مؤمنات.
[وقال القاسم بن
علي العياني عليهالسلام في جواب من سأله فقال في الجواب :
اعلم : أن الله
تبارك وتعالى لم يفصّل لنا ذلك وإنما وعد الله المتقين الجنة ووعده الحقّ إلّا أني
أقول : إن الخيار في ذلك إلى الرجال والنّساء
__________________
بعد كونهم في دار
الخلد فمن اختار منهم شيئا أوصله الله إليه وتفضّل به عليه كما وعده إذ يقول عزوجل : (وَفِيها ما
تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) وهذا الدليل لا معدل عنه ولا مخلف انتهى]. وقد بسطت في هذا
الموضع في الشرح.
وأما الكلام في
جنة آدم : فقال «الهادي عليهالسلام
: وجنة آدم عليهالسلام» التي
أخرجه الله منها «كانت في الأرض لقوله تعالى : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) «ولا
دليل على اطلاعه إلى السماء» ،
ومثله ذكر الحسين
بن القاسم العياني عليهماالسلام ، وحينئذ المراد بالجنة البستان الرائق الجامع للفواكه
والملاذ؟
قال بعضهم : كانت
جنة آدم بين مكة والطائف ومنهم من قال بل خلق آدم هناك ثم نقل إلى السماء ومن قال
: في السماء جنة ونار ، اختلفوا هل هي دار الجزاء أو لا : فمنهم من قال : هي دار
الجزاء ، ومنهم من قال : ليست دار الجزاء وهي محل الشهداء والأنبياء وكذلك النار
مثل دار الجزاء فيها الأعداء إلى أن يفنى الخلق ثم يعاد وتخلق دار الجزاء ولا تفنى
ذكر هذا في الباهر.
«وقال غيره» أي غير الهادي عليهالسلام : «بل هي» أي جنة آدم «في
السماء
لقوله تعالى» : (قالَ اهْبِطا) خطابا لآدم وحوّى بعد أكلهما من الشجرة.
«قلنا» لا حجة في ذلك لأنه «كقوله تعالى»
خطابا لبني إسرائيل
(اهْبِطُوا مِصْراً
فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ) .
والمراد : مصر
المعروف وقيل : مصرا من الأمصار وبنو إسرائيل في الأرض قبل الهبوط وبعده.
ويقال : هبطنا
اليمن ، وهبطنا الحجاز.
__________________
وقد تقدم ما ذكره
القاسم بن إبراهيم عليهالسلام في جنة آدم.
وإلى هنا انتهى
بنا الكلام في القسم الرابع من أقسام هذا الكتاب المبارك ونذكر الآن الخاتمة
بمشيئة الله وإعانته.
قال عليهالسلام :
(خاتمة)
أي هذه خاتمة لهذا
الكتاب ينبغي ذكرها لما قد عرف من اختلاف الناس في أصول الدين وغيره فلا بدّ من
الاجتهاد في طلب الحق لمن أراد النجاة يوم القيامة ، فلهذا حسن ذكرها بعد تمام
أقسام الكتاب.
قال عليهالسلام :
«اعلم : أن الأمّة» أي أمّة النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم «قد تفرقت إلى مذاهب
شتّى وليس كل بمصيب» للحق وإن اجتهد «لما مرّ» أنّ الحق واحد.
«ولقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم»
«أمّة أخي موسى افترقت إحدى وسبعين فرقة ، وافترقت أمّة أخي عيسى على اثنتين
وسبعين فرقة».
«وستفترق أمّتي إلى ثلاث وسبعين فرقة
كلها هالكة إلّا فرقة واحدة».
«وهذا الخبر» مقطوع بصحته لأنه «متلقّى
بالقبول»
من جميع الأمّة لا
يختلفون فيه. ذكره الإمام أحمد بن سليمان عليهالسلام في حقائق المعرفة.
قال : فلما سمع
ذلك منه ضاق به المسلمون ذرعا وضجّوا بالبكاء وأقبلوا عليه وقالوا : يا رسول الله
: كيف لنا بعدك بطريق النجاة ومعرفة الفرقة الناجية حتى نعتمد عليها؟
فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي كتاب
الله وعترتي أهل بيتي إن اللطيف الخبير نبّأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ
الحوض».
قال عليهالسلام : والأمّة مجمعة على صحة هذا الخبر ، وكل فرقة من فرق الإسلام
تتلقاه بالقبول وتزعم أنها هي الناجية.
قال : والأمّة
مجمعة أيضا على أن إجماع الأمّة حجة لقول رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم «لن تجتمع أمّتي
على ضلالة» انتهى.
ذكر نحو هذا الخبر
ابن بهران في المعتمد من رواية معاوية قال أخرجه أبو داود.
قال : وأخرج هو
والترمذي قريبا منه من رواية أبي هريرة والترمذي نحوه مع زيادة من رواية ابن عمر.
قال العنسي رحمة
الله عليه في المحجة البيضاء : انتشر مذهب الخوارج في زمن عليعليهالسلام ، وفي زمانه كان حدوث مذهب الغلاة والمفوضة وهم الذين
مهدوا مذاهب الباطنية.
وفي ضمنه من زمن معاوية ظهر الجبر والتشبيه ، ثم تزايدت مذاهب الجبرية
وصاروا فرقا كالأشعرية والكلابية والكرامية والضرارية وظهر في ضمن ذلك آخر زمن بني
أميّة مذهب الإمامية وتزايد في زمن العباسية.
وظهر في التابعين
مذهب المرجئة ولصق أكثره بمذهب الجبرية والإمامية ، وظهر مذهب المعتزلة زمن واصل
بن عطا وتزايد وصار لهم رئاسة عظيمة لميلهم في العدل والتوحيد إلى مذهب العترة
الزكية عليهمالسلام.
واستقامت الزيدية
على المذهب الذي كان عليه زيد بن علي عليهماالسلام وسائر العترةعليهمالسلام وهو الذي مات عليه النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم ومات عليه عليّ عليهالسلام وابناه الحسن والحسين عليهماالسلام والجماعة الوافرة من الصحابة رضي الله عنهم ومن التابعين.
انتهى.
«ولم يمت صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلّا وقد بلّغ عن الله تعالى بيان
__________________
الفرقة الناجية لقوله
تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) الآية وهي نص في إكمال الدين.
ومن أعظم الدين
وأهمّه وأقدمه وأجسمه : بيان الفرقة الناجية ومن يقع الاعتصام به عند الاختلاف
بعده صلىاللهعليهوآلهوسلم ويقوم مقامه ، إذ قد علم من دينه ضرورة أنه لا نبيء بعده
وإلّا كان مهملا لأمّته وغير مكمل لشريعة ربه وحاشاه عن ذلك صلىاللهعليهوآلهوسلم الطيبين الطاهرين.
«وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم»
: «ما تركت شيئا يقربكم إلى الجنة إلّا دللتكم عليه ... الخبر»
عن ابن عمر من أحاديث السيلقية : «ليس شيء يباعدكم من النار إلّا وقد ذكرته لكم ، ولا شيء يقربكم من الجنة إلّا وقد دللتكم عليه ، إن روح
القدس نفث في روعي أنه لن يموت امرؤ حتى يستكمل رزقه فأجملوا في الطلب» ومن غير
السيلقية عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : خطبنا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال : «ما علمت شيئا يقربكم من الجنة ويباعدكم من النار
إلّا وقد أمرتكم به ، ولا علمت شيئا يقربكم من النار ويباعدكم من الجنة إلّا وقد
نهيتكم عنه ألا وأنه لن تموت نفس حتى تستكمل ما كتب الله لها من رزق ... إلى آخره».
وذلك «بآية
المودة»
وهي قوله تعالى : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً
إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) وذوو القربى هم عترته صلىاللهعليهوآلهوسلم لما تقدم من الأدلة على ذلك.
«وآية التطهير» وهي قوله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ
اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) وقد مرّ ذكرها وكون المراد بها العترة عليهمالسلام.
«وآية المباهلة» وهي قوله تعالى : (فَمَنْ حَاجَّكَ
فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ
__________________
مِنَ
الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا
وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ
اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) .
ووجه دلالتها :
أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم لمّا لم يخرج لمباهلة نصارى نجران إلّا بعليّ وفاطمة
والحسنينعليهمالسلام : علمنا أنهم المرادون بالأبناء والنساء والأنفس.
وقد قرنهم صلىاللهعليهوآلهوسلم بنفسه فكان حكمهم في هذه الرتبة الجليلة الشريفة وهي
الابتهال والدعاء إلى الله سبحانه بهلاك الكاذب ولعنته : حكمه صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو رأس الناجين يوم القيامة.
«وغيرها» أي غير هذه الآيات.
قد تقدم ذكر طرف
منها في فضل العترة عليهمالسلام «من
الآيات الدالة على أنها» أي الفرقة الناجية «هي العترة الطاهرة ومن
تابعها»
في دينها من سائر
البرية.
«وما ورد في أبعاضهم» على التعيين ، من
ذلك :
ما ورد في الأربعة «المعصومين خاصة» وهم عليّ وفاطمة والحسنان صلوات الله عليهم من ذلك ما تقدم
ذكره.
ومنه : خبر
الأشباح : روى الأمير الحسين عليهالسلام في كتاب ينابيع النصيحة عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم أنه قال : «لمّا أمر الله آدم بالخروج من الجنة رفع طرفه
نحو السماء فرأى خمسة أشباح على يمين العرش فقال : إلهي : خلقت خلقا قبلي؟
فأوحى الله إليه :
أما تنظر إلى هذه الأشباح؟ قال : بلى.
قال : هؤلاء
الصفوة من نوري اشتققت أسماءهم من اسمي فأنا المحمود وهذا محمّد ، وأنا العالي
وهذا عليّ ، وأنا الفاطر وهذه فاطمة ، وأنا المحسن وهذا الحسن ، ولي الأسماء
الحسنى وهذا الحسين.
قال آدم : فبحقهم
اغفر لي ، فأوحى الله إليه : قد غفرت لك».
__________________
وغير ذلك «ممّا لا ينكره المؤالف
والمخالف» ممّا تقدم ذكر بعضه (وبما ورد فيهم) أي الأربعة المعصومين «وفي سائر
العترة عليهم» «السلام عامّة» : قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبدا : كتاب الله وعترتي أهل
بيتي ، إن اللطيف الخبير نبّأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض».
«وهذا الخبر متواتر مجمع على صحته».
وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم»
: «مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق وهوى ، ومن
قاتلنا آخر الزمان فكأنما قاتل مع الدجال».
«وهذا الخبر مجمع على صحته أيضا عند
علماء آل الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
وشيعتهم» وإجماعهم حجة قطعية يجب اتباعه.
«وعند أهل التحقيق من غيرهم».
وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «نحن أهل البيت شجرة النبوءة ومعدن الرسالة ، ليس أحد من
الخلائق يفضل أهل بيتي غيري» رواه الأمير الحسين عليهالسلام في ينابيع النصيحة.
وروى فيه أيضا عنه
صلىاللهعليهوآلهوسلم أنه قال : «ارفعوا أصواتكم بالصلاة عليّ وعلى أهل بيتي
فإنها تذهب بالنفاق».
وروى فيه أيضا عنه
صلىاللهعليهوآلهوسلم أنه قال : «لا تصلّوا عليّ الصلاة البتراء ، ولكن صلّوا
عليّ وعلى آلي معي فإن الله لا يقبل الصلاة عليّ إلّا بالصلاة عليّ وعلى آلي».
وروى فيه أيضا عنه
صلىاللهعليهوآلهوسلم أنه قال : «أنا وأهل بيتي شجرة في الجنة أغصانها في الدنيا
فمن شاء اتخذ إلى ربّه سبيلا ، وأن الله تعالى جعل أجري عليكم المودة في أهل بيتي
وإني سائلكم غدا فمحف لكم في المسألة».
[وفي السفينة
للحاكم قال ؛ من كتاب الناصر للحق عليهالسلام عن
أبي سعيد الخدري
قال : لما مرض رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم مرضه الذي توفّي فيه : أخرجه علي والفضل بن العباس فصلّى
ثم وضعاه على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : «أيها الناس: إني تارك فيكم
الثقلين لن تعمى قلوبكم ولن تزل أقدامكم ولن تقصر أيديكم أبدا ما أخذتم بهما :
كتاب الله سبب
بينكم وبين الله فأحلّوا حلاله وحرّموا حرامه.
قال : فعظّم من
كتاب الله ما شاء أن يعظم ثم سكت.
فقام عمر فقال :
هذا أحدهما قد أعلمتنا به فأعلمنا بالآخر؟
فقال : إني لم
أذكره لكم إلّا وأنا أريد أن أخبركم به غير أنه أخذني الريق فلم أستطع أن أتكلم :
ألا وعترتي ألا
وعترتي ألا وعترتي (ثلاثا) فو الله لا يبعث رجل يحبهم إلّا أعطاه الله نورا يوم
القيامة.
ولا يبعث الله
رجلا يبغضهم إلّا احتجب الله عنه يوم القيامة.
ثم أنهما حملاه
إلى فراشه» انتهى.
«وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم»
: «قدموهم ولا تقدموهم وتعلموا منهم ولا تعلموهم».
«ولا تخالفوهم فتضلّوا» «ولا تشتموهم
فتكفروا».
«إلى غيرها» ممّا يطول ذكره «من زهاء» أي
قدر «ألف حديث من رواية المؤالف والمخالف».
وكل واحد منها
يقضي بفضلهم وتقدمهم في أمر الدين وذلك إنما يكون مع القطع بنجاتهم عليهمالسلام من كل هول يوم القيامة وقد ذكرنا فيما سبق في فضل العترة عليهمالسلام ما حكاه الديلمي والمنصور بالله عليهماالسلام من الأخبار.
«وفي أعيان أئمتهم عليهم» «السلام بعد
الأربعة»
المعصومين عليهمالسلام.
من ذلك : ما ورد «في زين العابدين» علي بن الحسين بن علي بن
أبي طالب عليهمالسلام
«عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم»
أنه قال : «إذا كان يوم القيامة نادى مناد : ليقم سيد العابدين».
«ونحوه» عن أبي ذر الغفاري رحمهالله تعالى قال : رأيت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يبكي فبكيت لبكائه فقلت : فداك أبي وأمّي قد قطعت أنياط
قلبي ببكائك.
قال : «لا قطع
الله أنياط قلبك يا أبا ذر : إنّ ابني الحسين يولد له ابن يسمّى عليّا أخبرني
حبيبي جبريل بأنه سيد العابدين ، وأنه يولد له ابن يقال له زيد ، وأنّ شيعة زيد هم
فرسان الله في الأرض وأن فرسان الله في السماء الملائكة ، وأن الخلق يوم القيامة
يحاسبون وأن شيعة زيد في أرض بيضاء كالفضة أو لون الفضة يأكلون ويشربون ويقول
بعضهم لبعض : امضوا إلى مولاكم أمير المؤمنين حتى ننظر إليه كيف يسقي شيعته ،
فيركبون على نجائب من الياقوت والزبرجد مكلّلة بالجواهر أزمّتها اللؤلؤ الرطب ،
رحالها من السندس والإستبرق فبينما هم يركبون إذ يقول بعضهم لبعض : والله إنّا لنرى
أقواما ما كانوا معنا في المعركة.
قال : فيسمع زيد عليهالسلام فيقول : والله لقد شارككم هؤلاء فيما كنتم ، كما شارك
أقوام أتوا من بعد وقعة صفين وأنهم لإخوانكم اليوم وشركاؤكم اليوم» رواه [محمد بن
علي بن الحسين بن عبد الرحمن العلوي الحسني في فضل زيد بن علي].
[وقد رواه الهادي
في المجموع].
وكانت وفاة زين
العابدين عليهالسلام سنة خمس وتسعين (٩٥ ه) وقيل غير ذلك ودفن في البقيع مع
عمّه الحسن بن علي عليهمالسلام وهو ابن سبع وخمسين سنة.
«وفي» سبطه «زيد بن علي عليهماالسلام
عن صنوه محمد الباقر عليهالسلام
عن النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم
أنه قال للحسين» : «يا حسين : يخرج من صلبك رجل يقال له زيد يتخطّى هو وأصحابه
رقاب الناس يوم القيامة غرّا محجلين وفي رواية أخرى : مثله وزاد : يدخلون الجنة
بغير حساب».
رواه الناصر للحق عليهالسلام وغيره.
«ونحوه» كما ذكرناه في فضل أبيه عليهمالسلام.
وفي المحيط : قال
الناصر للحق عليهالسلام بإسناده إلى حبة بن جوير العرني قال : كنا مع أمير
المؤمنين علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه في الجنة أنا والأصبغ بن نباتة في
الكناسة في موضع الجزّارين والمسجد والخياطين وهي يومئذ صحراء (يريد المسجد الأعظم).
فما زال يلتفت إلى
ذلك الموضع ويبكي بكاء شديدا ويقول : (بأبي بأبي) فقال له الأصبغ بن نباتة : لقد
بكيت والتفتّ حتى بكت قلوبنا وأعيننا فالتفتّ فلم أر أحدا؟
فقال : (حدثني
خليلي رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عن جبريل عليهالسلام عن الله عزوجل : أنه يولد لي مولود ما ولد أبواه بعد يلقى الله عزوجل غضبان لله عزوجل وراضيا عنه ، على الحق حقّا حقّا على دين جبريل وميكائيل
ومحمد عليهم الصلاة والسلام.
وأنه يمثّل به في
هذا الموضع مثلة ما مثّل بأحد قبله ولا يمثّل بأحد بعده مثلها) صلوات الله عليه
وعلى روحه وعلى الأرواح التي تتوفى معه.
وكان استشهاده
صلوات الله عليه : عشية الجمعة لخمس بقين من المحرم سنة اثنين وعشرين ومائة (١٢٢ ه).
ذكره في الحدائق ،
والقاتل له : يوسف بن عمر.
من قواد هشام بن
عبد الملك.
«وفي علي بن موسى الرضا عليهالسلام»
وهو : علي بن موسى بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين عليهمالسلام
: «عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم
أنه قال : «ستلقى بضعة مني بأرض خراسان لا يزورها مؤمن إلّا أوجب الله له الجنة
وحرّم جسده على النار» رواه الحاكم.
ونحوه عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم أنه قال : «ستلقى بضعة منّي
بأرض خراسان ما
زارها مكروب إلّا فرّج الله كربه ، ولا مذنب إلّا غفر الله ذنبه».
وكان وفاته عليهالسلام بالسم في خلافة (المأمون) في شهر صفر سنة ثلاث ومائتين (٢٠٣
ه).
وكان مولده عليهالسلام بالمدينة ، سمّه المأمون في عنب ، وقيل : في رمّان.
وكان قد أزعجه من
المدينة في جماعة من أهل بيته صلوات الله عليهم بعث لهم رجاء بن أبي الضحاك وياسر
الخادم فأشخصوهم إلى خراسان إلى مقام المأمون.
وكان المأمون أراد
أن يوليه الأمر بعده ، ثم ندم على ذلك ولامه خواصّه فاحتال في سمّه.
«وفي محمد بن عبد الله النفس الزكية عليهماالسلام».
هو : محمد بن عبد
الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهمالسلام.
«عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم
أنه قال» : «إن النفس الزكية يقتل فيسيل دمه إلى أحجار الزيت ، لقاتله ثلث عذاب
أهل جهنم».
وأحجار الزيت :
خارج المدينة.
وعنه صلىاللهعليهوآلهوسلم «يقتل من ولدي عند
أحجار الزيت رجل اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي وإنّه النفس الزكية».
وكانت وفاته عليهالسلام بالشهادة بعد العصر يوم الاثنين لأربع عشرة ليلة خلت من
رمضان سنة خمس وأربعين ومائة (١٤٥ ه).
وقيل : سنة ست وهو
ابن اثنين وخمسين سنة.
ومدة قيامه :
شهران وذلك أنه وجه إليه أبو الدوانيق إلى المدينة عيسى ابن موسى العباسي في أربعة
آلاف فارس وألفي راجل وأتبعه حميد بن قحطبة في جيش كثيف فقاتلوه في المدينة حتى
قتلوه رضوان الله عليه.
وقد قتل بيده من
جنود أعدائه : اثني عشر رجلا وقيل سبعة عشر رجلا والذي تولّى الإجهاز عليه : حميد
بن قحطبة ، وحمل رأسه إلى أبي الدوانيق ، ودفن جسده في موضعه المعروف بالمدينة
ومشهده مشهور مزور.
«وفي الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن الحسن (المثلث) بن علي بن أبي طالب عليهمالسلام ، وهو صاحب فخّ» عليهالسلام.
وفخّ : واد بالقرب
من مكة.
«عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم
أنه انتهى إلى فخّ فصلّى بأصحابه» في ذلك الموضع «صلاة الجنازة» ثم قال : «يقتل
هاهنا رجل من أهل بيتي في عصابة تنزل عليهم الملائكة بأكفان وحنوط من الجنة تسبق
أرواحهم أجسادهم ... الخبر».
ونحوه.
وفي رواية لأبي
العباس : «في عصبة لم يسبقهم أهل بدر».
وفي كتاب ينابيع
النصيحة : وذكر من فضائلهم أيضا أشياء لم يحفظها الراوي.
وعن الباقر عليهالسلام أنه قال : مرّ النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم بفخّ فنزل به وصلّى ركعتين فبينما هو في الركعة الثانية إذ
بكى وهو في صلاته ، فلمّا رآه الناس يبكي بكوا فلمّا انصرف قال : «ما يبكيكم؟
قالوا : لمّا رأيناك تبكي بكينا يا رسول الله ، قال : نزل عليّ جبريل لمّا صليت
الركعة الأولى فقال لي : يا محمد : إنّ رجلا من ولدك يقتل في هذا المكان أجر
الشهيد معه أجر شهيدين» إلى غير ذلك.
وكانت وقعة فخّ في
يوم التروية.
وذلك أنه عليهالسلام قام بالمدينة في أيام موسى الملقب (بالهادي) العباسي يوم
السبت لإحدى عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة سنة تسع وستين ومائة (١٦٩) فخرج من
المدينة وقد بايعه ثلاثون ألفا وكان موسى بن جعفر الصادق عليهماالسلام ممّن بايعه قاصدا إلى مكة فيمن معه من أهله ومواليه وهم
زهاء ثلاث مائة وبضع عشرة فتلقتهم جيوش بني العباس بفخّ
فاقتتلوا قتالا
شديدا وأحاط بهم العدو من كل جانب فقتلوهم عن آخرهم ، وما سلم منهم إلّا من خرج من
بين القتلى لمّا جنّ عليهم اللّيل كيحيى ابن عبد الله وأخيه إدريس في جماعة يزيدون
على العشرة.
ولما قتل عليهالسلام حمل رأسه إلى موسى الهادي ودفنت جثته الكريمة بفخّ ومشهده
هناك مزور.
«وفي القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم» بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي
طالب عليهمالسلام وهو الرّسي عليهالسلام
(عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم
أنه قال» : «يا
فاطمة : إن منك هاديا ومهديا ومستلب
الرباعيتين لو كان بعدي نبيء لكان إيّاه».
وفي رواية : «إن
منك هاديّها ومهديّها ومستلب الرباعيتين».
والرباعية (بفتح
الراء والتخفيف) : السن التي بين الثنية والناب ، ذكره في الصحاح.
وهو عليهالسلام كان مستلب الرباعيتين .
ولما استشهد أخوه
محمد بن إبراهيم عليهالسلام في الكوفة وهو بمصر دعا إلى نفسه وبثّ الدّعاة وهو مستتر
فأجابه عالم من الناس في بلدان مختلفة كمكة والمدينة والرّيّ وقزوين وطبرستان
وتخوم الديلم ، وأقام بمصر عشر سنين فاشتدّ به الطلب هناك من عبد الله بن طاهر وهو
عامل مصر للمأمون.
فعاد إلى الحجاز
وتهامة وخرج جماعة من دعاته إلى بلخ والطالقان والجوزجان فبايعه خلق كثير وسألوه
أن ينفذ إليهم بولده ليظهروا الدعوة هناك ، فانتشر أمره قبل التمكّن فوجهت الجيوش
في طلبه فألجأه ذلك إلى الجولان في البلدان فدخل اليمن والتجأ إلى البدو ودخل عدن
والتجأ إلى بلاد السودان ودخل إلى مصر ثم إلى الحجاز وانحاز إلى حيّ من البدو
فاستخفى فيهم ، ثم أراد الخروج في وقت من الأوقات من المدينة فأشار
__________________
أصحابه أن لا يفعل
وقالوا ـ : إن المدينة والحجاز تسرع إليهما الجيوش.
فلما مات المأمون
وتولّى أخوه المعتصم شدّد في طلبه وأنفذ عساكر عظيمة في تتبع أثره لا شغل لهم إلّا
طيافة الأقاليم لرصده عليهالسلام فأحوج إلى الانفراد عن أصحابه وانتقص أمر ظهوره. ذكره
السيد أبو طالب عليهالسلام.
وانتقل آخر أيامه
إلى الرس وهي أرض اشتراها وراء جبل أسود بالقرب من ذي الحليفة وبني هناك لنفسه
ولولده وتوفي بها ، وقد حصل له ثواب المجاهدين السابقين.
سنة : ست وأربعين
ومائتين (٢٤٦ ه) في أيام المتوكل.
«وفي الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن
القاسم الرسي عليهمالسلام
: عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم
: أنه أشار بيده إلى اليمن وقال : «سيخرج رجل من ولدي في هذه الجهة يحيى يحيي الله
به الدين».
«ونحوه» عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم أنه قال «يخرج في هذا الفجّ وأشار بيده إلى اليمن : رجل من
ولدي اسمه يحيى الهادي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يحيي الله به الدين ويميت به
الباطل».
وعن أمير المؤمنين
علي بن أبي طالب عليهالسلام :
«تكون فتن بين
المائتين فيخرج من عترتي رجل اسمه اسم نبيء يميز بين الحق والباطل ويؤلف الله قلوب
المؤمنين على يديه».
وعن الصادق عليهالسلام : «أول ما يأتيكم الفرج من اليمن».
ونحو ذلك.
وخرج الهادي عليهالسلام إلى اليمن مرتين وكانت جهات اليمن قد انطمس الإسلام فيها
فلم يزل عليهالسلام مجتهدا في إحياء دين الله وطمس معالم الكفر والفسوق حتى
انتشر الإسلام وظهر الحق وعلا نوره.
وكان بينه عليهالسلام وبين سلاطين اليمن أوّلا وبينه وبين القرامطة
__________________
ثانيا وقعات كثيرة
لا تحصى إلى أن توفي عليهالسلام بصعدة يوم الأحد لعشر بقيت من ذي الحجة سنة ثمان وتسعين
ومائتين (٢٩٨ ه).
ودفن يوم ثاني قبل
الزوال وله ثلاث وخمسون سنة.
ومشهده أشهر من أن
يوصف بصعدة رحمة الله عليه ورضوانه
«وفي الناصر للحق الحسن بن علي بن الحسين
بن علي» بن عمر الأشرف بن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهمالسلام
وهو «الأطروش عليهالسلام»
لطرش وقع في أذنيه بسبب ضرب المأمون.
«عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم»
أنه قال : «يا علي : يكون من ولدك رجل يدعى بزيد المظلوم يأتي يوم القيامة مع
أصحابه على نجب من نور يعبرون على رءوس الخلائق كالبرق اللّامع يقدمهم زيد ، وفي
أعقابهم رجل يدعى بناصر الحق حتى يقفوا على باب الجنة فتستقبلهم الحور العين وتجذب
بأعنة نجبهم إلى أبواب قصورهم».
«إلى غير ذلك» من الأخبار عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم لما سأله أنس عن علامات الساعة؟
قال : «من
علاماتها : خروج الشيخ الأصم من ولد أخي مع قوم شعورهم كشعور النساء بأيديهم
المزاريق».
وكانت هذه صفته عليهالسلام وصفة أصحابه.
وعن أمير المؤمنين
صلوات الله عليه أنه قال في بعض خطبه :
(يخرج من الديلم
من جبال طبرستان فتى صبيح الوجه يسمّى باسم فرخ النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم الأكبر «يعني الحسن عليهالسلام»).
وعن الناصر عليهالسلام أنه قال : حفظت من كتب الله بضعة عشر كتابا فما انتفعت
منها كانتفاعي بكتابين : أحدهما الفرقان لما فيه من التسلية للأنبياء ، والثاني :
كتاب دانيال لما فيه : أن الشيخ الأصم يخرج في بلد يقال لها ديلمان ويكابد من
أصحابه وأعدائه ما لا يقدر قدره ولكن عاقبته محمودة.
وغير ذلك :
وكانت وفاة الناصر
عليهالسلام (بآمل) ليلة
الجمعة لخمس بقين من شعبان سنة أربع وثلاثمائة (٣٠٤ ه) ودفن بها ومشهده مشهور
مزور.
وكان بينه وبين
جنود بني العباس وقعات كثيرة وأفنى من جنودهم آلافا كثيرة.
وروي أنه فاضت
نفسه وهو ساجد يصلي. رحمة الله عليه ورضوانه وله أربع وسبعون سنة (٧٤) سنة.
«ومن أراد استقصاء ذلك» أي ما ورد في
العترة عليهمالسلام
«فعليه بالبسائط» أي الكتب البسيطة «نحو كتاب ينابيع النصيحة في العقائد الصحيحة
للأمير» شرف الدين «الحسين» بن بدر الدين «عليهالسلام».
من ذلك : ما روي
فيه وفي غيره في المهدي عليهالسلام القائم في آخر الزمان : قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم «يخرج المهدي في
أمتي يبعثه الله غياثا للناس تنعم الأمّة وتعيش الماشية وتخرج الأرض نباتها ويعطي
المال صحاحا.
فقال له صلىاللهعليهوآلهوسلم رجل : ما صحاحا؟
قال : التسوية بين
الناس».
وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لا تذهب الدنيا حتى يبعث الله من أهل بيتي رجلا يواطئ
اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي يملأها قسطا كما ملئت جورا وظلما».
وروى الحسين بن
القاسم العياني عليهالسلام عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم أنه قال «ستأتي من بعدي فتن متشابهة كقطع الليل المظلم
فيظن المؤمنون أنهم هالكون فيها ، ثم يكشفها الله عنهم بنا أهل البيت برجل من ولدي
خامل الذكر ، لا أقول خاملا في حسبه ودينه وحلمه ، ولكن لصغر سنه وغيبته عن أهله
واكتتامه في عصره على منهاجي ومنهاج المسيح في السياحة والدعوة والعبادة يؤيّم
عرسه ويخلص نفسه ويكن بدء ناصريه من أهل اليمن».
وعنه صلىاللهعليهوآلهوسلم أنه قال «يظهر في آخر الزمان رجل يسمى أمير الغضب [لله].
(وقيل أيضا أمير
العصب) له أصحاب منحون مطرودون عن أبواب السلاطين مقصون يجتمعون إليه من كل أوب
كما يجتمع قزع الخريف ، يملكه الله مشارق الأرض ومغاربها».
وعنه صلىاللهعليهوآلهوسلم : «يظهر في آخر الزمان رجل من ولدي من اليمن يملأ الأرض
عدلا كما ملئت جورا».
وقيل : يظهر بمكة.
وقيل : في بلد
همدان.
وقد صحّ أن أول من
ينصر الحق أهل اليمن.
ثم يلتئم إليهم
بعد ذلك الواحد والاثنان من كل نهج وبلد من البلدان.
قال عليهالسلام : قال الهادي إلى الحق صلوات الله عليه شعرا :
من اليمن الذي
فيه مقال
|
|
من الرحمن جاء
به الرسول
|
وقال أيضا يمدح
همدان (يعني الهادي عليهالسلام) :
وبهم يعزّ الدين
آخر مرة
|
|
بقيامهم بلوائه
المنصوب
|
قال عليهالسلام : ثم أتت الأخبار بأنه يملك الدنيا كلها ويطأ الأمم
بأسرها.
ثم يوشك بعد مدة
من الزمان أن يتلف ببعض الأسباب ويختم الله له بالسعادة.
وتظهر الفتن
والمنكرات ويفتح يأجوج ومأجوج وتسفك الدماء وتخصب البلاد لما أراد الله من البلاء
والإنظار لأهل الفساد.
ويترك الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر وذلك عند اقتراب الساعة حتى أنه ليمر الرجل بالرجل وهو
على الفاحشة فلا يقول له : اتّق الله ثم تقع صيحة من صنع الله تعالى تهلك أهل
السموات والأرض جميعا ثم ينفخ في الصور ويقع الحساب ويذهب الشك والارتياب. انتهى.
ما ذكره الحسين بن
القاسم عليهالسلام في تفسيره في سورة الأحزاب.
إذا عرفت ذلك :
فقد تبين لك بحمد
الله الفرقة الناجية ، وأنها عترة النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم ومن تابعها في دينها ولم يفارقها.
ولهذا قال بعض
العلماء الفضلاء قيل : هو الشافعي رحمهالله تعالى :
ولمّا رأيت
النّاس قد ذهبت بهم
|
|
مذاهبهم في أبحر
الغيّ والجهل
|
ركبت على اسم
الله في سفن النّجا
|
|
وهم آل بيت
المصطفى خاتم الرّسل
|
وأمسكت حبل الله
وهو ولاؤهم
|
|
كما قد أمرنا
بالتّمسّك بالحبل
|
إذا كان في
الإسلام سبعون فرقة
|
|
ونيف على ما جاء
في واضح النّقل
|
وليس بناج منهم
غير فرقة
|
|
فقل لي بها يا
ذي الرّجاحة والعقل
|
أفي الفرق
الهلّاك آل محمّد
|
|
أم الفرقة
اللّاتي نجت منهم قل لي
|
فإن قلت : في
النّاجين فالقول واحد
|
|
وإن قلت : في
الهلّاك حفت عن العدل
|
رضيت عليّا لي
إماما ونسله
|
|
وأنت من الباقين
في أوسع الحلّ
|
إذا كان مولى
القوم منهم فإنّني
|
|
رضيت بهم لا زال
في ظلّهم ظلّي
|
واعلم : أن الوقوف
على معرفة عدد الفرق الهالكة والعلم بما قصد النبيء صلىاللهعليهوآلهوسلم على سبيل التفصيل ممّا لا طريق إليه من عقل ولا سمع.
غير أن الفرقة
الناجية قد علمت بأوصافها التي اختصّت بها.
وبذلك يعلم أن من
فارقها هالك ، وذلك يكفي في المراد من الخبر وقد عدّ الإمام المهدي عليهالسلام وغيره الفرق على سبيل التظنّن وليس بصحيح ، والله أعلم.
«وقالت المعتزلة» : بل هي الفرقة
الناجية لقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «أبرّها وأتقاها : الفئة المعتزلة».
قالوا : وفي رواية
: «ستفترق أمّتي إلى ثلاث وسبعين فرقة خيرها
وأبرها وأتقاها
الفئة المعتزلة».
«قلنا :» هذه الزيادة والنقصان من الخبر
غير معروفين.
و «إن صحّ» ذلك «فالمراد به العترة
المعتزلة عن الباطل بشهادة الله تعالى ورسوله» صلىاللهعليهوآلهوسلم
«بذلك» أي باعتزال الباطل وتطهيرهم من الرجس وكونهم على الحق حتى تقوم الساعة ،
وأنهم سفينة النجاة وباب حطة وغير ذلك.
«لما مرّ» وتكرر من الأدلة على ذلك.
وقالت «المجبرة : بل هي الناجية لقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم»
: «عليكم بالسواد الأعظم».
قالوا : والمراد
بالسواد الأعظم الكثرة وهم الأكثر عددا.
«قلنا :» إن صحّ هذا الخبر : فليس المراد الكثرة حقيقة لقوله تعالى :
(وَما أَكْثَرُ
النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) .
(وَإِنْ تُطِعْ
أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) .
(وَما آمَنَ مَعَهُ
إِلَّا قَلِيلٌ) .
والقرآن مملوء من
نحو ذلك في ذمّ الكثرة.
وسأل ابن الكوّاء
عليّا صلوات الله عليه عن :
السنّة والبدعة
والجماعة والفرقة؟ فقال :
(السنّة والله
سنّة محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم.
والبدعة : ما
فارقها.
والجماعة : مجامعة
أهل الحقّ وإن قلّوا والفرقة مجامعة أهل الباطل وإن كثروا.
فيجب أن يكون «المراد : الأعظم عند الله
سبحانه وتعالى وليس كذلك» أي الأعظم عند الله سبحانه «إلّا الذين شهد الله
بإيمانهم وحكم بنجاتهم من عترة خاتم النبيين» وسيد الأولين والآخرين محمد صلّى
الله
__________________
عليه وعلى آله
الطاهرين الذين أوجب الله مودتهم على جميع المسلمين.
ونوّه بذكرهم في
الكتاب المبين وعلى لسان رسوله الأمين صلّى الله عليه وعلى آله الطاهرين.
وقرن ذكرهم مع ذكر
رسوله في كل وقت وحين.
وجعلهم الحجة على
جميع خلقه إلى يوم الدين ، ومن اتبعهم ولم يفارقهم من سائر العالمين.
«ختم الله لنا بمرضاته ، ونجانا برحمته
آمين».
رزقنا الله
التوفيق لسلوك سبيلهم والتمسّك بهداهم والثبات على طريقتهم بحقه عليه وحق كل ذي حق
لديه إنه جواد كريم رءوف رحيم وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين
الطاهرين ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم قال في نسخة المهلّا وافق
الفراغ من جمعه ظهر يوم الأحد سابع عشر شهر رمضان الكريم من سنة سبع وثلاثين بعد
الألف منقول من خط جامعه أفقر عباد الله وأحوجهم إلى تجاوزه وغفرانه أحمد بن محمد
بن صلاح بن محمد بن صلاح بن أحمد القاسمي نسبا الشرفي بلدا تغمده الله برحمته
ورضوانه بحقه وحق كل ذي حق لديه آمين وكان ابتداء جمعه واختصاره من الشرح أول شهر
جمادى الأولى سنة سبع وثلاثين بعد الألف هذا آخر الكتاب والحمد لله أوّلا وآخرا
وظاهرا وباطنا.
|
كاتبه حسين عبد اللطيف الهادي
حرّر ١٠ ربيع الثاني ١٤١٣ ه
الموافق ٦ أكتوبر ١٩٩٢ م
|
فهرس الجزء الثاني من شرح الأساس الصغير
فهرس
الصفحة
|
الاصل
السطر
|
الموضوع
|
الصفحة
|
|
|
كتاب النبوءة
|
٥
|
٣٦٦
|
|
فصل : ويجب على كل مكلف عقلا أن يعلم
أنه لا بدّ من رسول
|
٧
|
٣٧٩
|
|
فصل : والنبيء أعم من الرسول لأن
الرسول من أتى بشريعة جديدة
|
١٨
|
٣٨١
|
|
فصل : والملائكة أفضل من الأنبياء
|
٢٠
|
٣٨٤
|
|
فصل : في ذكر المعجز وحقيقته
|
٢٣
|
٣٩٥
|
|
فصل : في ذكر نبوّة نبيئنا محمد (ص) ومعجزاته
وذكر الاختلاف في وجه إعجاز القرآن
|
٣٢
|
٤٠٥
|
|
فصل : ونبيئنا محمد (ص) رسول الله
صادق لشهادة المعجزات الكثيرة على صدقه ولبشارات الرسل المتقدمة به
|
٤٠
|
٤٠٨
|
|
تنبيه : يتضمن : هل كان (ص) مكلّفا
قبل البعثة بشرع أو لا
|
٤٤
|
٤٠٩
|
|
باب الشريعة
|
٤٥
|
٤١٣
|
|
فصل : في الكتاب وهو القرآن
|
٤٨
|
٤٢٣
|
|
فصل : والقرآن خطاب للموجودين ولمن
أدرك بعدهم أي بلغ حد التكليف ممن وجد بعد الموجودين وقت وحيه
|
٥٧
|
٤٢٤
|
|
فصل : في المحكم من القرآن
|
٥٨
|
٤٣١
|
|
فصل : والقرآن كلام الله اتفاقا
|
٦٤
|
٤٣٨
|
|
فصل : في السنة النبوية
|
٧٠
|
٤٥٤
|
|
فرع : ولا يجوز على الأنبياء صلوات
الله عليهم السهو فيما أمروا بتبليغه من الشرائع
|
٨٣
|
٤٥٤
|
|
فصل : في ذكر القياس
|
٨٣
|
٤٥٧
|
|
فصل : وأصول الشرائع هي أدلة الأحكام
|
٨٦
|
٤٥٨
|
|
فصل : والحق في أصول الدين وأصول
الشرائع وأصول الفقه القطعي من الفروع واحد اتفاقا
|
٨٧
|
٤٦٢
|
|
فصل : في كون الحق في الظني من الفروع
واحد أيضا
|
٩٠
|
٤٧١
|
|
فرع : واختلفت المخطئة
|
٩٨
|
٤٧٤
|
|
بحث : يتضمن بأن الحق لا يخرج عن أئمة
العترة عليهمالسلام
|
١٠٠
|
٤٧٥
|
|
فصل : في النسخ
|
١٠١
|
٤٨٢
|
|
كتاب الإمامة
|
١٠٩
|
٤٩٢
|
|
فصل : في وجوب إعانة من يصلح للإمامة
|
١١٧
|
٤٩٦
|
|
فصل : وشروط الإمامة أربعة عشر شرطا
|
١٢٠
|
٥١٤
|
|
فصل : ولا تثبت الإمامة لأحد من الناس
إلّا بدليل شرعي
|
١٣٦
|
٥٥٢
|
|
فرع : واختلف في حكم من تقدم الوصي
كرم الله وجهه
|
١٦٦
|
٥٧٣
|
|
فصل : في إمامة الحسن والحسين عليهماالسلام
|
١٨٣
|
٥٩١
|
|
تنبيه : يلحق بما تقدم من الكلام في
الإمامة مسائل
|
١٩٨
|
٥٩٣
|
|
فصل : وأفضل الأمة بعد النبيء (ص) علي
(ع)
|
٢٠٠
|
٦٠٣
|
|
فصل : وأفضل أزواج النبي (ص) أم
المؤمنين خديجة رضي الله عنها
|
٢٠٨
|
٦٠٦
|
|
باب : الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر
|
٢١٣
|
٦١٦
|
|
فرع : في بيان كيفية الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر
|
٢٢١
|
٦١٨
|
|
فصل : في المحتسب
|
٢٢٣
|
٦٢٣
|
|
باب : الهجرة
|
٢٢٧
|
٦٣٣
|
|
فصل : في الوقوف بدار العصيان هل يجوز
أم لا
|
٢٣٥
|
٦٣٤
|
|
كتاب : المنزلة بين المنزلتين
|
٢٣٧
|
٦٣٤
|
|
فصل : في كون المعاصي كبائر وصغائر
|
٢٣٧
|
٦٤١
|
|
فصل
: وخطايا الأنبياء عليهمالسلام لا عمد فيها
|
٢٤٤
|
٦٤٥
|
|
فرع : ووقوع المعصية من الأنبياء (ع)
من باب التأويل
|
٢٤٧
|
٦٤٦
|
|
فصل : في الإيمان
|
٢٤٨
|
٦٥٥
|
|
فصل : والكبائر من المعاصي محبطات
للإيمان
|
٢٥٦
|
٦٥٦
|
|
فصل : في ذكر الكفر والنفاق والفسق
وحقائقها
|
٢٥٦
|
٦٦٢
|
|
فصل : ويصير المكلف كافرا بخصلة واحدة
من خصال الكفر
|
٢٦١
|
٦٧٤
|
|
فصل : ولا إكفار ولا تفسيق إلّا بدليل
شرعي
|
٢٧١
|
٦٩٤
|
|
فصل : في ذكر التفسيق
|
٢٨٨
|
٦٩٨
|
|
باب : التوبة
|
٢٩١
|
٧٠٢
|
|
فصل : والتوبة مكفرة بنفسها لكل معصية
|
٢٩٥
|
٧٠٧
|
|
تنبيه : في كون الندم كالتوبة
|
٢٩٩
|
٧١٠
|
|
فصل : في ذكر الإحباط وكيفيته
|
٣٠٢
|
٧١٧
|
|
فصل : في ذكر التكفير للذنوب
|
٣٠٧
|
٧٢١
|
|
كتاب : الوعد والوعيد
|
٣١٣
|
٧٢٧
|
|
فصل : والثواب والعقاب مستحقّان عقلا
وسمعا
|
٣١٣
|
٧٣٧
|
|
فصل : في ذكر شفاعة النبي (ص)
|
٣٢٧
|
٧٤٥
|
|
فصل : في ذكر عذاب القبر
|
٣٣٥
|
٧٤٩
|
|
فصل : في ذكر الصّور
|
٣٣٨
|
٧٥٤
|
|
باب : والقيامة
|
٣٤٣
|
٧٥٧
|
|
فصل : في البعث
|
٣٤٦
|
٧٦٠
|
|
فصل : في الحساب
|
٣٤٨
|
٧٦٢
|
٣
|
القول في الميزان
|
٣٤٩
|
٧٦٤
|
١٨
|
القول في الصراط
|
٣٥٢
|
٧٧٢
|
١٤
|
القول في إنطاق الجوارح
|
٣٥٨
|
٧٨٥
|
٢
|
القول في خلق الجنة والنار
|
٣٦٠
|
٧٨٠
|
|
خاتمة في بيان الفرقة الناجية
|
٣٦٧
|
|
|
فهرس الجزء الثاني من شرح الأساس
الصغير
|
٣٨٥
|
انتهى بحمد الله
|