
فصل
في شهادة أهل الإثبات
على أهل التعطيل أنه ليس في السماء إله يعبد
ولا لله بيننا كلام ولا في القبر رسول الله
إنّا تحملنا
الشهادة بالذي
|
|
قلتم نؤديها لدى
الرحمن
|
ما عندكم في
الأرض قرآن كلا
|
|
م الله حقّا يا
أولي العدوان
|
كلا ولا فوق
السموات العلى
|
|
رب يطاع بواجب
الشكران
|
كلا ولا في
القبر أيضا عندكم
|
|
من مرسل والله
عند لسان
|
هاتيك عورات
ثلاث قد بدت
|
|
منكم فغطوها بلا
روغان
|
فالروح عندكم من
الاعراض قا
|
|
ئمة بجسم الحي
كالألوان
|
وكذا صفات الحي
قائمة به
|
|
مشروطة بحياة ذي
الجثمان
|
فاذا انتفت تلك
الحياة فينتفى
|
|
مشروطها بالعقل
والبرهان
|
ورسالة المبعوث
مشروط بها
|
|
كصفاته بالعام
والإيمان
|
فاذا انتفت تلك
الحياة فكل مش
|
|
روط بها عدم لذي
الاذهان
|
الشرح
: كما حمّل المؤلف
هؤلاء المعطلة شهادة يشهدون بها عند الله على أهل الاثبات بما يعتقدونه من عقائد
الحق والايمان ، فهو يحمل أهل الإثبات شهادة يشهدون بها على هؤلاء البغاة بما
يقولونه من أقوال الزيغ والكفران ، فسيشهدون عليهم عند الله بأنه ليس عندهم في
الأرض قرآن هو كلام الله ، لأن كلام الله عندهم لا يكون بحرف وصوت ، والقرآن الذي
بين دفتي المصحف هو حروف وألفاظ متلوة مسموعة ، فلا يكون هو عين كلام الله ، بل
يقولون أنه عبارة أو حكاية عنه.
وسيشهدون عليهم
كذلك بأنهم لا يؤمنون بأن فوق السموات العلى ربّا تجب على العباد طاعته والقيام
بحق الشكر له على سابغ نعمته وموفور كرمه ، وذلك لأن الوجود في الجهة عندهم من
لوازم الاجسام والله ليس بجسم فلا يوصف عندهم بفوق ولا تحت وسيشهدون عليهم أيضا
بأنهم ينكرون أن يكون في القبر رسول الله لأن الروح عندهم عرض من الأعراض القائمة
بالحي كالسواد والبياض وغيرهما من الألوان ووجودها مشروط ببقاء البينة المخصوصة
فاذا فسدت تلك البينة وانحل التأليف زالت الحياة.
وكذلك الصفات
القائمة بالحي من العلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر ، وغيرها تكون مشروطة
ببقاء الحياة فهي متوقفة في وجودها عليها فاذا انتفت الحياة انتفى مشروطها عقلا اذ
لا يعقل قيام تلك الصفات بغير الحي ـ ولا شك أن رسالة الرسول هي من الصفات التي
تعتبر الحياة شرطا فيها كسائر صفاته من العلم والايمان ونحوهما ـ فإذا انتفت عنه
الحياة التي هي عرض قائم به انتفى كل مشروط بها من الصفات وصار في حكم العدم الذي
لا وجود له. وبذلك يمتنع أن يوصف في القبر بأنه رسول الله.
هذه عورات ثلاث قد
كشفتم عنها ولزمكم عارها فحاولوا سترها دون أن تروغوا روغان الثعالب والا ظلت
ملصقة بكم لا يمحوها عنكم هذا التمويه والروغان.
* * *
فصل
في الكلام في حياة الأنبياء في قبورهم
ولأجل هذا رام ناصر قولكم
|
|
ترقيعه يا كثرة
الخلقان
|
قال الرسول
بقبره حيّ كما
|
|
قد كان فوق
الأرض والرجمان
|
من فوقه أطباق
ذاك الترب واللبن
|
|
ات قد عرضت على
الجدران
|
أو كان حيا في
الضريح حياته
|
|
قبل الممات بغير
ما فرقان
|
ما كان تحت
الأرض بل من فوقها
|
|
والله هذي سنة
الرحمن
|
أتراه تحت الأرض
حيا ثم لا
|
|
يفتيهم بشرائع
الايمان
|
ويريح أمته من
الآراء
|
|
والخلف العظيم
وسائر البهتان
|
أم كان حيا
عاجزا عن نطقه
|
|
وعن الجواب
لسائل لهفان
|
وعن الحراك فما
الحياة اللات قد
|
|
أثبتموها أوضحوا
ببيان
|
الشرح
: ولأجل ما لزم
هؤلاء المعطلة من انتفاء الرسالة بانتفاء الحياة حاول أنصار هذا المذهب أن يرقعوه
بما اختلقوا من مفتريات ليدفعوا عنه هذه الالزامات فزعموا أن الرسولصلىاللهعليهوسلم حي في قبره ، كما كان فوق الأرض تماما رغم وجوده تحت أطباق
التراب واقامة الجدران المبنية باللبن عليه ، وهذا زعم باطل لا أساس له ، فانه لو
كان عليهالسلام حيا في ضريحه كحياته قبل موته من غير فارق بينهما لما ساغ
بقاؤه تحت الأرض ، بل يجب أن يعيش فوقها. فهذه سنة الله في خلقه ان الموتى هم
الذين يدفنون تحتها ، وأما الأحياء فيعيشون على ظهرها. وكيف يكون تحت الأرض حيا ،
ثم لا يفتي أصحابه فيما أشكل عليهم من شرائع الايمان ويريحهم مما وقع بينهم من
خلاف وينبههم على ما جد بينهم من بدع ومفتريات وقد اختلف أصحابه بعد موته في كثير
من المسائل التي كانوا يحتاجون فيها الى قوله الحاسم. أم تقولون أنه كان حيا ولكنه
كان عاجزا عن النطق وعن رد الجواب لمن سأله متلهفا على سماع ذلك منه. وكان كذلك
عاجزا عن الحركة والنهوض. فما هي اذا تلك الحياة التي أثبتموها له اذا لم تقتض حسا
ولا حركة ولا كلاما؟ دلونا على كنهها ان كنتم صادقين.
* * *
هذا ولم لا جاءه
أصحابه
|
|
يشكون بأس
الفاجر الفتان
|
اذ كان ذلك
دأبهم ونبيهم
|
|
حيّ يشاهدهم
شهود عيان
|
هل جاءكم أثر
بأن صحابه
|
|
سألوه فتيا وهو
في الأكفان
|
فأجابهم بجواب
حي ناطق
|
|
فأتوا اذا بالحق
والبرهان
|
هلا أجابهم
جوابا شافيا
|
|
ان كان حيا
ناطقا بلسان
|
هذا وما شدت
ركائبه ع
|
|
ن الحجرات
للقاصي من البلدان
|
مع شدة الحرص
العظيم له على
|
|
ارشادهم بطرائق
التبيان
|
أتراه يشهد
رأيهم وخلافهم
|
|
ويكون للتبيان
ذا كتمان
|
ان قلتم سبق
البيان صدقتم
|
|
قد كان بالتكرار
ذا احسان
|
الشرح
: واذا كان حيا في
قبره كما زعمتم فلم لم يجئه أصحابه شاكين إليه ما يلقونه من بأس عدوهم ، وقد كان
ذلك دأبهم حين كان نبيهم حيا بينهم يشاهدهم ويشاهدونه وهل بلغكم من أثر بأن أحدا
من أصحابه جاءه مستفتيا اياه وهو مدرج في أكفانه وأنه أجابهم بما يجب به الحي
الناطق من سأله ان كان عندكم شيء من ذلك فأتوا به ليكون برهانا على صدق دعواكم.
فهلا ان كان حيا قادرا على الكلام يجيبهم عما سألوا بما يشفى نفوسهم ويزيل حيرتهم.
هذا وما رأيناه
صلوات الله وسلامه عليه قد شد ركائبه متجاوزا للحجرات التي هي بيوت أزواجه ذاهبا
الى أقاصي البلدان مع شدة حرصه على الهداية والارشاد والبيان. وهل يظن به عليهالسلام أن يرى اختلاف أصحابه من بعده ، ثم يكتم عنهم ما يحتاجون
إليه من بيان ، وان قيل ان البيان قد وقع فيما سبق فهذا حق ، ولكن التكرار مع ذلك
لا يخلو من فائدة ويكون به ذا احسان وفضل.
* * *
هذا وكم من أمر
اشكل بعده
|
|
أعنى على علماء
كل زمان
|
أو ما ترى الفاروق
ود بأنه
|
|
قد كان منه
العهد ذا تبيان
|
بالجد في ميراثه
وكلالة
|
|
وببعض أبواب
الربا الفتان
|
قد قصّر الفاروق
عند فريقكم
|
|
اذ لم يسله وهو
في الاكفان
|
أتراهم يأتون
حول ضريحه
|
|
لسؤال امهم أعز
حصان
|
ونبيهم حي
يشاهدهم ويس
|
|
معهم ولا يأتي لهم
ببيان
|
أفكان يعجز أن
يجيب بقوله
|
|
أن كان حيا داخل
البنيان
|
يا قومنا
استحيوا من العقلاء والمبع
|
|
وث بالقرآن
والرحمن
|
والله لا قدر
الرسول عرفتم
|
|
كلا ولا للنفس
والانسان
|
من كان هذا
القدر مبلغ علمه
|
|
فليستتر بالصمت
والكتمان
|
الشرح
: هذا وكم من مشكلات
جدت بعد موته عليهالسلام والتبس أمرها على العلماء في سائر القرون ولم يهتدوا الى
وجه الصواب فيها حتى أن الفاروق عمر رضي الله عنه ودّ لو كان الرسول صلىاللهعليهوسلم قد عهد إليهم بشيء واضح في ميراث الجد والكلالة وفي بعض
أبواب الربا وفيمن يكون خليفة بعده.
روى الحاكم
باسناده عن عمر بن دينار قال : سمعت محمد بن طلحة بن يزيد ابن ركانة يحدث عن عمر
بن الخطاب قال لأن أكون سألت رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن ثلاث أحب الى من حمر النعم : من الخليفة بعده؟ وعن قوم
قالوا نقر بالزكاة ولا نؤديها أليك أيحل قتالهم؟ وعن الكلالة. ثم روى هذا الاسناد
عن سفيان بن عيينة عن عمر بن مرة عن عمر قال (ثلاث لأن يكون النبي صلىاللهعليهوسلم بينهن لنا أحب الى من الدنيا وما فيها ، الخلافة والكلالة
والربا) فعلى رأيكم يكون الفاروق رضي الله عنه قد قصر اذ لم يطلب من الرسولصلىاللهعليهوسلم بيان هذه الأمور وهو في أكفانه ما دمتم تعتقدون أنه حي
يسمع ويجيب ، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يأتون الى بيت عائشة الصديقة بنت
الصديق رضي الله عنها ليسألوها عما أشكل عليهم حتى يقول في ذلك أبو موسى الأشعري
رضي الله عنه (ما أشكل علينا نحن أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم أمر فسألنا عنه عائشة الا وجدنا عندها منه علما).
فلو كان نبيهم عليهالسلام حيا يشاهدهم ويسمعهم وهم حول ضريحه في بيت أمهم الحصان
المبرأة من السماء انما كان ينبغي أن يجيبهم عما سألوا عنه بدلا من احالتهم على من
يحتمل قولها الخطأ والصواب. أم كان عاجزا وهو حي داخل قبره أن يسعفهم بالجواب؟ يا
قوم ألا تستحيون من هذا الكلام الذي لا يقره عقل ولا يرضى عنه الله ولا رسوله.
والذي يدل على
جهلكم الفاضح بقدر الرسول صلىاللهعليهوسلم وبحقيقة النفس الانسانية ، وكيف تفارق البدن عند الموت
فتزول عنه الحياة ولا تعود إليه الا عند البعث ، فمن كان هذا القدر من المعرفة هو
مبلغ علمه فليستحي من نفسه وليلذ بالصمت والكتمان حتى لا يظهر للناس جهله فيكون
كلامه مثارا للسخرية والازدراء من جميع العقلاء.
* * *
ولقد أبان الله
أن رسوله
|
|
ميت كما قد جاء
في القرآن
|
أفجاء أن الله
باعثه لنا
|
|
في القبر قبل
قيامة الأبدان
|
أثلاث موتات
تكون لرسله
|
|
ولغيرهم من خلقه
موتان
|
اذ عند نفخ
الصور لا يبقى امرؤ
|
|
في الأرض حيا قط
بالبرهان
|
أفهل يموت الرسل
أم يبقوا اذا
|
|
مات الورى أم هل
لكم قولان
|
فتكلموا بالعلم
لا الدعوى وجيب
|
|
وا بالدليل فنحن
ذو أذهان
|
أو لم يقل من
قبلكم للرافعي الأ
|
|
صوات حول القبر
بالنكران
|
لا ترفعوا
الأصوات حرمة عبده
|
|
ميتا كحرمته لدى
الحيوان
|
قد كان يمكنهم
يقولوا أنه
|
|
حي فغضوا الصوت
بالاحسان
|
لكنهم بالله
أعلم منكم
|
|
ورسوله وحقائق
الايمان
|
ولقد أتوا الى
العباس يست
|
|
سقون من قحط
وجدب زمان
|
هذا وبينهم وبين
نبيهم
|
|
عرض الجدار
وحجرة النسوان
|
فنبيهم حي
ويستسقون غ
|
|
ير نبيهم حاشا
أولي الايمان
|
الشرح
: ولقد أخبر الله في
كتابه أن رسوله صلىاللهعليهوسلم بشر يموت كما يموت
البشر ، قال تعالى : (إِنَّكَ مَيِّتٌ
وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) [الزمر : ٣٠] وقال
: (وَما جَعَلْنا
لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ) [الأنبياء : ٣٤]
وقال : (وَما مُحَمَّدٌ
إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ
انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) [آل عمران : ١٤٤].
واذا صح الخبر
بموته عليهالسلام فهل جاء ما يفيد أن الله يبعثه لنا في القبر قبل يوم
القيامة؟ لم يرد ذلك في كتاب ولا سنة ، مع أنه يقتضي محالا ، وهو أن يكون للرسل عليهم
الصلاة والسلام ثلاث موتات ولغيرهم من الناس موتتان اثنتان ، لأنه عند النفخ في
الصور النفخة الأولى لا يبقى أحد ممن هو على ظهر الأرض حيا ، كما قال تعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ
فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) [الزمر : ٦٨]
وحينئذ يقال لكم : هل يموت الرسل عند تلك النفخة مع من يموت؟ أم يبقون أحياء؟ أم
لكم في هذه المسألة قولان؟ أجيبوا بعلم ان كنتم صادقين ، وتكلموا بالدليل والبرهان
لا بالظن والتخمين ، فان مناظريكم من ذوي العقول التي لا يروج عندها ادعاء
المكابرين ولا سفسطة المشاغبين.
هذا وقد كان السلف
رضي الله عنهم ينهون عن رفع الأصوات حول قبره الشريف ، ويقولون لمن يفعل ذلك ان
الله قد أمرنا بغض الصوت عند رسوله صلىاللهعليهوسلم ، وأن حرمته ميتا كحرمته حيا ، فهلا قالوا لهم بدلا من ذلك
ان رسول الله صلىاللهعليهوسلم حي فغضوا أصواتكم عنده؟ لكن حاشا لهم أن يقولوا ذلك ،
فانهم أعلم بالله وبرسوله وبحقائق الايمان من أولئك الأدعياء الجاهلين الذين
يهرفون بما لا يعرفون ، ويقولون على الله وعلى رسوله ما لا يعلمون.
ولقد كان الصحابة
من المهاجرين والانصار رضي الله عنهم يستسقون بالعباس عم رسول الله صلىاللهعليهوسلم اذا نزل بهم قحط واحتبس عنهم المطر ، وقد استسقى به عمر
رضي الله عنه عام الرمادة وقال وهو يقدمه (اللهم انا كنا اذا أجدبنا توسلنا أليك
بنبينا في حياته فتسقينا ، ونحن نتوسل أليك الآن بعم نبينا فاسقنا) فلو كان النبي صلىاللهعليهوسلم حيا في قبره كما زعمتم وليس بينهم وبينه الا جدار القبر
وحجرة زوجه عائشة رضي الله عنها ، فكيف يليق بهم وهم أكمل هذه الأمة علما وايمانا
أن يعدلوا الى الاستسقاء بغير رسول الله أيا كان وهو حي بينهم يملك الدعاء ويقدر
على الكلام باللسان ، أن هذا الا محض افتراء وبهتان.
* * *
فصل
فيما احتجوا به على حياة الرسل في القبور
فان احتججتم
بالشهيد بأنه
|
|
حيّ كما قد جاء
في القرآن
|
والرسل أكمل
حالة منه بلا
|
|
شك وهذا ظاهر
التبيان
|
فلذاك كانوا
بالحياة أحق من
|
|
شهدائنا بالعقل
والبرهان
|
وبأن عقد نكاحه
لم ينفسخ
|
|
فنساؤه في عصمة
وصيان
|
ولأجل هذا لم
يحل لغيره
|
|
منهن واحدة مدى
الازمان
|
أفليس في هذا
دليل أنه
|
|
حيّ لمن كانت له
أذنان
|
أو لم ير
المختار موسى قائما
|
|
في قبره لصلاة
ذي القربان
|
أفميت يأتي
الصلاة وان ذا
|
|
عين المحال
وواضح البطلان
|
أو لم يقل أني
أرد على الذي
|
|
يأتي بتسليم مع
الاحسان
|
أيرد ميت السلام
على الذي
|
|
يأتي به هذا من
البهتان
|
هذا وقد جاء
الحديث بأنهم
|
|
أحياء في
الأجداث ذا تبيان
|
وبأن أعمال
العباد عليه تع
|
|
رض دائما في
جمعة يومان
|
يوم الخميس ويوم
الاثنين الذي
|
|
قد خص بالفضل
العظيم الشأن
|
الشرح
: يذكر المؤلف في
هذا الفصل حجج القائلين بحياته صلىاللهعليهوسلم في قبره أما الحجة الأولى فهي ما ثبت بصريح القرآن من أن
الشهداء أحياء في قبورهم كما قال تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ
يُرْزَقُونَ) [آل عمران : ١٦٩]
وكما قال : (وَلا تَقُولُوا
لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ) [البقرة: ١٥٤] ولا شك أن الرسل عليهم الصلاة والسلام أكمل
حالة من الشهداء ، وهذا أمر ظاهر لا يحتاج الى بيان ، فاذا كان الشهداء أحياء في
قبورهم فالرسل عليهمالسلام أحق منهم بهذا عقلا وبرهانا.
وأما الحجة
الثانية فان عقد نكاحه لأزواجه أمهات المؤمنين باق بعده لم
ينفسخ ، ولهذا
بقيت نساؤه معصومات مصونات من قربان الغير لهن ، فلا يحل لأحد من الناس أن يتزوج
بواحدة منهن أبد الدهر لقوله تعالى : (وَما كانَ لَكُمْ
أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ
أَبَداً) [الاحزاب : ٥٣]
وبقاء عقد النكاح وعدم انفساخه وحرمة تزوج غيره بواحدة من نسائه دليل حياته وعدم
موته.
وأما الحجة
الثالثة فهي ما رواه أنس رضي الله عنه في حديث الاسراء من أنهصلىاللهعليهوسلم مر بموسى ليلة أسرى به وهو قائم بقبره يصلي ، ولا شك أن
الصلاة حركات وأقوال لا يعقل أن تحصل الا من حي ، ونسبتها الى الميت عين المحال.
وأما الحجة
الرابعة فهي ما روى عنه صلىاللهعليهوسلم من قوله «ما من أحد يسلم عليّ الا رد الله عليّ روحي حتى
أرد عليهالسلام» ولا شك أن رد السلام من شأن الأحياء لا من شأن الأموات.
وأما الحجة
الخامسة فهي ما جاء به الحديث من أن الرسل عليهمالسلام أحياء في أجداثهم ، ومن أن أعمال أمته تعرض عليه في يومي
الخميس والاثنين من كل جمعة. هذه جملة ما احتج به القبوريون على حياته صلىاللهعليهوسلم في قبره ، وقد تدرجوا من ذلك الى إثبات الحياة في القبر
لغيره أيضا من الأولياء والصالحين ، وسيأتي الرد عليهم في الفصل الذي يلي هذا ،
ولكننا نجمل الرد عليهم بأن حياة الشهداء ليست حياة في قبورهم ، ولكن عند الله عزوجل ، كما قال عند ربهم يرزقون وبأن بقاء عقد نكاحه عليهالسلام بأزواجه وحرمتهن على غيره لا يقتضي حياته بل هي خصوصية
اختصه الله بها ، فان ازواجه أمهات المؤمنين ، أي كأمهاتهم في الحرمة ووجوب
التوقير.
وأما حديث أنس فلم
يصح رفعه ، بل هو موقوف ، ولو صحّ لم يقتض حياة موسى في قبره ، بل يحمل على
التمثيل كما تحمل رؤيته له في السماء السادسة ومخاطبته له بقوله (فرض الله عليك
وعلى أمتك؟ وقوله له : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف) الخ ، فإن ذلك كله من أمور
الغيب التي نؤمن بها ولا نعلم
كيفيتها ، ولكنا
نعلم يقينا أن موسى قد مات ، وعلى هذا النحو نحمل بقية الأحاديث إذا فرض صحتها ،
وإلا فدون ذلك خرط القتاد.
* * *
فصل
في الجواب عما احتجوا به في هذه المسألة
فيقال أصل
دليلكم في ذاك
|
|
حجتنا عليكم وهي
ذات بيان
|
إن الشهيد حياته
منصوصة
|
|
لا بالقياس
القائم الأركان
|
هذا مع النهي
المؤكد أننا
|
|
ندعوه ميتا ذاك
في القرآن
|
ونساؤه حل لنا
من بعده
|
|
والمال مقسوم
على السهمان
|
هذا وأن الأرض
تأكل لحمه
|
|
وسباعها مع أمة
الديدان
|
لكنه مع ذاك حيّ
فارح
|
|
مستبشر بكرامة الرحمن
|
فالرسل أولى
بالحياة لديه مع
|
|
موت الجسوم وهذه
الأبدان
|
وهي الطرية في
التراب وأكلها
|
|
فهو الحرام عليه
بالبرهان ،
|
ولبعض أتباع
الرسول يكون ذا
|
|
أيضا وقد وجدوه
رأي عيان
|
فانظر إلى قلب
الدليل عليهم
|
|
حرفا بحرف ظاهر
التبيان
|
الشرح
: فيقال لهؤلاء أن
ما جعلتموه أصلا لدليلكم وهو حياة الشهداء قد أصبح حجة عليكم لا لكم ، وبيان ذلك
أن حياة الشهيد ثابتة بالنص في قوله تعالى (بَلْ أَحْياءٌ) وليس ثبوتها بالقياس المستوفى لأركانه ، كما ورد النهي
الصريح في القرآن عن تسمية الشهيد ميتا في قوله تعالى (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي
سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ) [البقرة : ٥٤] ومع
ذلك فلم تقتض هذه الحياة شيئا مما جعلتموه دليلا على حياة الرسول صلىاللهعليهوسلم في قبره ، فإن نساءه ـ أي الشهيد ـ حلال لنا بعد موته
وماله مقسوم بين ورثته ولحمه تأكله الأرض وسباع الوحش والطير وجماعة الديدان. ومع
ذلك فهو حي كما أخبر الله ، فرح مستبشر بكرامة الله
ورضوانه. فدل ذلك
على أن حياة الشهداء التي نص عليها القرآن ليست هي تلك الحياة الجسدية في القبر ،
ولكنها حياة لأرواحهم عند الله ، وقد فسرها الرسول صلىاللهعليهوسلم بأن أرواحهم تجعل في حواصل طير خضر تسرح في الجنة فتأكل من
ثمارها وتشرب من أنهارها ، ولا شك أن الرسل عليهم الصلاة والسلام أولى بتلك الحياة
عند الله مع موت جسومهم وقد ورد أن أرواحهم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش. بل أن
لجسومهم مع موتها مزية كذلك على سائر الأبدان وهي بقاؤها طرية لا تأكلها الأرض.
فقد جاء في المسند والسنن من حديث أوس بن أوس عن النبي صلىاللهعليهوسلم «من أفضل أيامكم
يوم الجمعة فيه خلق الله آدم وفيه قبض وفيه النفخة وفيه الصعقة فأكثروا علي من
الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة عليّ ، قالوا يا رسول الله وكيف تعرض عليك صلاتنا
وقد أرمت ـ يعني قد بليت ـ قال إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء»
ورواه الحاكم في المستدرك وابن حبان في صحيحه وكذلك أخرجه النسائي وابن ماجه.
على أن هذه المزية
ثابتة أيضا لبعض أتباع الأنبياء ، وقد ثبت هذا بالمشاهدة فقد وجد بعضهم بعد موته
بزمان طويل سليما لم تنقص منه الأرض شيئا ولم يسر فيه البلى والتعفن ، فانظر كيف
انقلب هذا الدليل عليهم حرفا بحرف وصار الذي أرادوه حجة لهم حجة ظاهرة عليهم ،
وهكذا أهل الباطل دائما لا يأتون بدليل إلا كان فيه ما يفسد قولهم ويأتي على
دعواهم من القواعد ولله في خلقه شئون.
* * *
لكن رسول الله
خص نساؤه
|
|
بخصيصة عن سائر
النسوان
|
خيرن بين رسوله
وسواه فا
|
|
خترن الرسول
لصحة الإيمان
|
شكر الإله لهن
ذاك وربنا
|
|
سبحانه للعبد ذو
شكران
|
قصر الرسول على
أولئك رحمة
|
|
منه بهن وشكر ذي
الإحسان
|
وكذاك أيضا
قصرهن عليه مع
|
|
لوم بلا شك ولا
حسبان
|
زوجاته في هذه
الدنيا وفي الأخ
|
|
رى يقينا واضح
البرهان
|
فلذا حرمن على
سواه بعده
|
|
إذ ذاك صون عن
فراش ثان
|
لكن أتين بعدة
شرعية
|
|
فيها الحداد
وملزم الأوطان
|
الشرح
: وأما ما ذكرتم من
بقاء عقد نكاحه على أزواجه وحرمتهن على غيره بعد موته ، فليس فيه دليل على حياته
في قبره ، فإن تلك خصوصية اختص الله بها نساء نبيهصلىاللهعليهوسلم حيث خيرن بين الرسول وبين غيره فاخترنه لقوة إيمانهنّ ،
والسبب في التخيير أنهن تظاهرن على الرسول صلىاللهعليهوسلم يسألنه النفقة ورغد الحياة بعد أن فتح الله عليه خيبر ،
فلما أكثرن عليه في ذلك آلى أن لا يقربهن شهرا وأشيع أنه طلقهن ، ثم نزلت آية
التخيير وهي قوله تعالى من سورة الأحزاب (يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا
وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً
وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ
أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً) [٢٨ : ٢٩] فخيرهن صلىاللهعليهوسلم فكلهن اخترن الله ورسوله والدار الآخرة ، فشكر الله لهن
هذا الصنيع وكافأهن عليه وهو سبحانه شكور لأعمال عباده ، فقصر الرسول صلىاللهعليهوسلم عليهن رحمة بهن وشكرا لإحسانهن فقال له (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ
وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا
ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً) [الأحزاب : ٥٢].
وكذلك قصرهن عليه
معلوم لا شك فيه ، فقد جعلهن أمهات للمؤمنين ، ونهى المؤمنين عن نكاحهن بعده بقوله
(وَما كانَ لَكُمْ
أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ
أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً) [الأحزاب : ٥٣ :]
فهن زوجات له في
الدنيا وفي الآخرة جميعا ، ولهذا حرمن على غيره من بعده صيانة لهن عن الدخول في
فراش ثان حتى يلحقن به في الفردوس الأعلى رضي
الله عنهن ، لكنهن
مع ذلك قد أتين بعدة شرعية احتددن فيها ولزمن بيوتهن ، كما تفعل كل متوفى عنها
زوجها امتثالا لقوله تعالى (وَالَّذِينَ
يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ
أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) [البقرة : ٢٣٤].
فأين في هذا ما
يدل أو ما يصح أن يكون شبه دليل على حياته صلىاللهعليهوسلم في قبره.
* * *
هذا ورؤيته
الكليم مصليا
|
|
في قبره أثر
عظيم الشأن
|
في القلب منه
حسيكة هل قاله
|
|
فالحق ما قد قال
ذو البرهان
|
ولذاك أعرض في
الصحيح محمد
|
|
عنه على عمد بلا
نسيان
|
والدار قطني
الإمام أعله
|
|
برواية معلومة
التبيان
|
أنس يقول رأى
الكليم مصلّيا
|
|
في قبره فأعجب
لذا الفرقان
|
فرواه موقوفا
عليه وليس بالم
|
|
رفوع أشواقا إلى
العرفان
|
بين السياق إلى
السياق تفاوت
|
|
لا تطرحه فما
هما سيان
|
لكن تقلد مسلما
وسواه مم
|
|
ن صحّ هذا عنده
ببيان
|
فرواته الإثبات
أعلام الهدى
|
|
حفاظ هذا الدين
في الأزمان
|
لكن هذا ليس
مختصا به
|
|
والله ذو فضل
وذو إحسان
|
فروى ابن حبان
الصدوق وغيره
|
|
خبرا صحيحا عنده
ذا شان
|
فيه صلاة العصر
في قبر الذي
|
|
قد مات وهو محقق
الإيمان
|
فتمثل الشمس
الذي قد كان ير
|
|
عاها لأجل صلاة
ذي القربان
|
عند الغروب يخاف
فوت صلاته
|
|
فيقول للملكين
هل تدعاني
|
حتى أصلي العصر
قبل فواتها
|
|
قالا ستفعل ذاك
بعد الآن
|
هذا مع الموت
المحقق لا الذي
|
|
حكيت لنا بثبوته
القولان
|
هذا وثابت
البناني قد دع
|
|
ا الرحمن دعوة
صادق الإيقان
|
أن لا يزال
مصليا في قبره
|
|
إن كان أعطي ذاك
من إنسان
|
الشرح
: وأما احتجاجهم بما
رواه أنس من أنه صلىاللهعليهوسلم مر ليلة أسري به على موسى بن عمران عليهالسلام وهو قائم يصلي في قبره ، فقد روي الحديث مرفوعا وموقوفا ،
ففي رواية مسلم وأبي داود يرفع أنس الحديث إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال «مررت ليلة أسري بي على موسى عليهالسلام قائما يصلي في قبره» وأبو يعلى الموصلي يرويه في مسنده
موقوفا على أنس مرة بلفظ أخبرني بعض أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم أن النبي صلىاللهعليهوسلم ليلة أسري به مر على موسى وهو يصلي في قبره. ومرة عمن سمع
أنسا قالت سمعت أنسا أن النبي صلىاللهعليهوسلم ليلة أسري به مر بموسى وهو يصلي في قبره ، ولهذا وقع في
القلب حسكة ، أي شك منه ، هل قاله الرسولصلىاللهعليهوسلم أم لم يقله ، فإن كان قاله فالحق ما قاله صاحب البرهان عليهالسلام ، ولذلك أيضا أعرض الإمام محمد بن اسماعيل البخاري رضي
الله عنه عن روايته في صحيحه عمدا بلا نسيان ، وأعله بذلك الدار قطني حيث رواه
موقوفا على أنس ، وليس بالمرفوع وما كان أشد شوقنا إلى معرفة الحق من هذه الروايات
، فإن بينها تفاوتا في السياق ، لكن الأولى قبول رواية مسلم وغيره ممن صح عندهم
رفعه ، فإن رواته كلهم ثقات ، وكلهم أعلام هدى ، وهم القائمون على حفظ الدين في
جميع العصور ، لكن هذا المعنى وهو قيام الكليم مصليا في القبر ليس مختصا به وحده
حتى ينهض دليلا لكم على حياة الأنبياء في قبورهم فقد روى ابن حبان وغيره خبرا
صحيحا مؤداه أن المؤمن الذي مات محققا لإيمانه تمثل له الشمس التي كان يرقبها في
الدنيا يتحين بها أوقات الصلاة فيراها قد مالت للغروب ، فيخاف فوت صلاة العصر
فيستأذن الملكين اللذين هما منكر ونكير قائلا لهما : هل تدعاني حتى أصلي العصر قبل
خروج وقتها ، فيقولان له ستفعل ذلك بعد الآن. فإذا جازت الصلاة في القبر ممن كان
موته محققا لا ريب فيه ، فجوازها ممن وقع النزاع في حياته أو موته أولى. ولقد كان
ثابت البناني رحمهالله ـ وهو أحد رواة
حديث أنس ـ يدعو الله عزوجل بلسان صدق أن يجعله مصليا في قبره إن كان قد أعطى ذلك
لغيره من الناس ، والله سبحانه وتعالى أعلم.
* * *
لكن رؤيته لموسى
ليلة الم
|
|
عراج فوق جميع
ذي الأكوان
|
يرويه أصحاب
الصحاح جميعهم
|
|
والقطع موجبة
بلا نكران
|
ولذاك ظن معارضا
لصلاته
|
|
في قبره إذ ليس
يجتمعان
|
وأجيب عنه بأنه
أسرى به
|
|
ليراه ثم مشاهدا
بعيان
|
فرآه ثم وفي
الضريح وليس ذا
|
|
بتناقض إذ أمكن
الوقتان
|
هذا ورد نبينا
التسليم من
|
|
يأتي بتسليم مع
الإحسان
|
ما ذاك مختصا به
أيضا كما
|
|
قد قاله المبعوث
بالقرآن
|
من زار قبر أخ
له فأتى بتس
|
|
ليم عليه وهو ذو
إيمان
|
رد الإله عليه
حقا روحه
|
|
حتى يرد عليه رد
بيان
|
وحديث ذكر
حياتهم بقبورهم
|
|
لما يصح وظاهر
النكران
|
فانظر إلى
الإسناد تعرف حاله
|
|
إن كنت ذا علم
بهذا الشأن
|
الشرح
: وإذا لم يصح حديث
رؤيته عليهالسلام لموسى قائما يصلي في قبره للاختلاف في وقفه ورفعه ، فإن
رؤيته له في السماء السابعة ليلة المعراج متفق عليه فقد رواه جميع أصحاب الصحاح ،
ولذلك كان مفيدا للقطع بدون نكير.
وقد ظن بعض الناس
أنه معارض لصلاته في قبره ، إذ لا يعقل ان يكون في ليلة واحدة قد رآه في قبره يصلي
، ثم رآه بعد ذلك في السماء ، وأجيب عن هذا بأنه لا تناقض بين رؤيته له في قبره
وبين رؤيته له بعد ذلك في السماء لاختلاف الوقتين. وقد صلى الرسولصلىاللهعليهوسلم في بيت المقدس ، ثم عرج به بعد ذلك إلى السماء ولم يقل أحد
أن صلاته في بيت المقدس تناقض وجوده في السماء ، فإن هذا بعد هذا لا معه ، وإنما
التناقض وقوع الأمرين جميعا في وقت واحد بعينه.
وأما احتجاج
القائلين بحياته صلىاللهعليهوسلم في قبره برده السلام على من يسلم عليه من أمته فهو إن صح حجة عليهم ، فقد جاء في الحديث «ما من أحد يسلم عليّ إلا
رد الله عليّ روحي فأرد عليهالسلام» فقوله إلّا رد الله علي روحي يدل على
__________________
أن روحه لم تكن في
بدنه ، فلم يكن حينئذ حيا ، ويدل أيضا على أن رد الروح إليه إنما هو بقدر ما يرد
السلام فقط على من يسلم عليه ، على أن ذلك ليس مختصا به صلّى الله عليه ، بل ورد
في مسند أحمد وغيره أنه ما من رجل يزور قبر رجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه
إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليهالسلام ، وإذا انتفى اختصاصه عليهالسلام بذلك ، وكان ثابتا في حق غيره ممن هو مقطوع بموته لم يصلح
حينئذ أن يكون دليلا على حياته.
وأما الحديث الذي
ذكر فيه حياة الأنبياء في قبورهم ولفظه «ما من نبي يموت فيقيم في قبره إلا أربعين
صباحا حتى ترد إليه روحه» فقد رواه ابن حبان عن أنس مرفوعا وقال عنه أنه باطل ،
كما ذكره أبو الفرج ابن الجوزي في الموضوعات وقد أخرجه أيضا الطبراني وأبو نعيم في
الحلية ، ورواه البيهقي في كتاب حياة الأنبياء ، وروى له عدة شواهد ، ولم يصح من
ذلك كله شيء ، ومن نظر إلى إسنادها ، وكان ذا علم بأحوال الأسانيد والرجال عرف حال
هذه الأحاديث.
* * *
هذا ونحن نقول
هم أحياء ل
|
|
كن عندنا كحياة
ذي الأبدان
|
والترب تحتهم
وفوق رءوسهم
|
|
وعن الشمائل ثم
عن أيمان
|
مثل الذي قد
قلتموه معاذنا
|
|
بالله من أفك
ومن بهتان
|
بل عند ربهم
تعالى مثل ما
|
|
قد قال في
الشهداء في القرآن
|
لكن حياتهم أجل
وحالهم
|
|
أعلى وأكمل عند
ذي الإحسان
|
هذا وأما عرض
أعمال العبا
|
|
د عليه فهو الحق
ذو إمكان
|
وأتى به أثر فإن
صح الح
|
|
ديث به فحق ليس
ذا نكران
|
لكن هذا ليس
مختصا به
|
|
أيضا بآثار روين
حسان
|
فعلى أبي
الإنسان يعرض سعيه
|
|
وعلى أقاربه مع
الإخوان
|
إن كان سعيا
صالحا فرحوا به
|
|
واستبشروا يا
لذة الفرحان
|
أو كان سعيا
سيئا حزنوا وقا
|
|
لوا رب راجعه
إلى الإحسان
|
ولذا استعاذ من
الصحابة من روى
|
|
هذا الحديث
عقيبه بلسان
|
يا رب إني عائذ
من خزية
|
|
أخزي بها عند
القريب الداني
|
ذاك الشهيد
المرتضى ابن روا
|
|
حة المحبوّ
بالغفران والرضوان
|
لكن هذا ذو
اختصاص والذي
|
|
للمصطفى ما يعمل
الثقلان
|
الشرح
: هذا ونحن لا ننكر
أن الرسل عليهم الصلاة والسلام أحياء لكن لا نثبت لهم حياة بدنية محسوسة في قبورهم
كحياتهم قبل الموت مع إحاطة التراب بهم من كل جانب ومع بطلان الحس والحركة عنهم ،
مثل الذي يزعمه هؤلاء المخرفون ، فنحن نعوذ بالله أن نفتري على الله الكذب ونقول
ما لا علم لنا به من هذا الافك والبهتان ، بل نحن نثبت لهم حياة عند الله كحياة
الشهداء التي أخبر عنها القرآن ، لكن حياة الرسل هناك أعظم مما للشهداء ، وهم أعلى
منهم حالا وأكمل عند الله صاحب الفضل والإحسان.
وأما حديث عرض
أعمال العباد عليه فقد ورد بألفاظ لا يشك من تأملها أنه باطل موضوع ، ولم يروه أحد
من أصحاب الصحاح ، بل رواه صاحب الفردوس بسند فيه انقطاع ، وفي بعض الروايات روى
موقوفا على أنس وأليك نص الحديث :
«حياتي خير لكم
ومماتي خير لكم ، تعرض علي أعمالكم ، فإن وجدت خيرا حمدت الله وإن وجدت شرا
استغفرت لكم» فحياته كانت خيرا لأمته بلا نزاع ، يهديها إلى الرشد ويقودها إلى
مواطن الفلاح والخير ، ولكن كيف يكون موته خيرا لها ، وقد أدرك أصحابه عظم الفجيعة
فيه واستهولوا الخطب ، حتى أن أشدهم شكيمة وهو عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد غشي
عليه من هول المصاب ، وما من شك في أن فقدهصلىاللهعليهوسلم كان أعظم ما أصيبت به هذه الأمة من أرزاء.
ثم ما فائدة عرض
الأعمال عليه وهو ليس مسئولا عنها ولا مكلفا بإحصائها
وكتابتها ولا
برفعها إلى الله ، فإن لذلك كله ملائكة موكلين به ، وكيف يعقل ان يسوء الله عزوجل نبيه ويحزن قلبه وينغّص عليه ما هو فيه من أنواع النعيم
بعرض حصائد الناس من الشرور والمعاصي عليه. أما يكفي ما تحمله في حياته من أنواع
المشقات وكبار التضحيات. والحديث فيه كذلك إغراء بالمعاصي ودعوة إليها ، فإنه إذا
كان الرسول صلىاللهعليهوسلم سيستغفر لعصاة أمته كلما عرضت عليه أعمالهم ، ولا شك أن
استغفاره موجب للمغفرة لم يضر أحد ما يرتكبه من ذنب. وهو معارض للأحاديث الصحيحة
التي تدل على أنه لا يدري بعد موته شيئا من أحوال أمته ، فقد جاء في حديث الحوض (أنه
يرد عليه أناس من أمته الحوض ، وأنه يهم ليسقيهم فتجيء الملائكة وتذودهم عن الحوض
، فيقول الرسول صلىاللهعليهوسلم : هؤلاء أصحابي أعرفهم ، فيقال له : إنك لا تدري ما أحدثوا
بعدك ، فيقول : سحقا وبعدا لمن أحدث بعدي ، ويتلو قوله تعالى (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ
فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) [المائدة : ١١٧].
ولو فرض صحة هذا
الأثر فإن عرض الأعمال عليه صلىاللهعليهوسلم من شئون الغيب التي نؤمن بها ولا نعلم كيفيتها ، مع علمنا
يقينا أنه ليس عرضا حسيا يقتضي رؤية أو سماعا أو غير ذلك مما هو من شئون الحي. وهو
أيضا ليس مختصا به حتى يكون دليلا على حياته في قبره ، بل قد ورد في عدة آثار
حالها في الإسناد على ما فيه أحسن من هذا الحديث أن الإنسان يعرض سعيه على أبيه
الميت وأقاربه وإخوانه فإن كان سعيا صالحا فرحوا به واستبشروا ، وإن كان سعيا سيئا
حزنوا وتكدروا ودعوا الله عزوجل ان يرده عن غيه ويوفقه للصالحات. ولهذا استعاذ راوي هذا
الحديث ـ وهو الصحابي الجليل عبد الله بن رواحة الذي استشهد في غزوة مؤتة ـ بالله
من كل عمل يخزيه عند أهله وأقربائه الميتين.
والفرق بين
الأمرين أن هذا عرض خاص بالنسبة للأهل والاخوان ، وأما الرسول فيعرض عليه ما يعمله
الثقلان.
واعلم أن المؤلف رحمهالله قد تساهل في قبوله هذه الآثار ، وكان الأولى به أن ينبه
على ضعفها وأنها لا يمكن أن تقوم بها حجة ، لا سيما في هذه المسائل التي يجب
الاحتياط فيها حتى لا يفتح الباب للدعاوى العريضة والاختلاقات الباطلة ، كما فعل
المتصوفة بالنسبة إلى مشايخهم المقبورين ، فقد رووا عنهم بعد الموت ما لا يصدقه
عقل ، والسبب في ذلك طبعا هو التساهل في قبول مثل هذه الآثار من غير روية ولا
تمحيص ، والله سبحانه وتعالى أعلم.
* * *
هذي نهايات
لأقدام الورى
|
|
في ذا المقام
الضنك صعب الشأن
|
والحق فيه ليس
تحمله عقو
|
|
ل بني الزمان
لغلظة الأذهان
|
ولجهلهم بالروح
مع أحكامها
|
|
وصفاتها للألف
بالأبدان
|
فارض الذي رضي
الإله لهم به
|
|
أتريد تنقض حكمة
الديان
|
هل في عقولهم
بأن الروح في
|
|
أعلى الرفيق
مقيمة بجنان
|
وترد أوقات
السلام عليه من
|
|
أتباعه في سائر
الأزمان
|
وكذاك إن زرت
القبور مسلما
|
|
ردت لهم أرواحهم
للآن
|
فهم يردّون
السلام عليك ل
|
|
كن لست تسمعه
بذي الأذنان
|
هذا وأجواف
الطيور الخضر
|
|
مسكنها لدى
الجنات والرضوان
|
من ليس يحمل
عقله هذا فلا
|
|
تظلمه واعذره
على النكران
|
للروح شأن غير
ذي الأجسام لا
|
|
تهمله شأن الروح
أعجب شان
|
وهو الذي حار
الورى فيه فلم
|
|
يعرفه غير الفرد
في الأزمان
|
هذا وأمر فوق ذا
لو قلته
|
|
بادرت بالإنكار
والعدوان
|
فلذاك أمسكت
العنان ولو أرى
|
|
ذاك الرفيق جريت
في الميدان
|
هذا وقولي أنها
مخلوقة
|
|
وحدوثها المعلوم
بالبرهان
|
هذا وقولي أنها
ليست كما
|
|
قد قال أهل
الإفك والبهتان
|
لا داخل فينا
ولا هي خارج
|
|
عنا كما قالوه
في الديان
|
والله لا الرحمن
أثبتم ولا
|
|
أرواحكم يا مدعي
العرفان
|
عطلتم الأبدان
من أرواحها
|
|
والعرش عطلتم من
الرحمن
|
الشرح
: بعد أن ذكر المؤلف
رحمهالله بعض ما تضمنته هذه الآثار من شئون الروح وأحوالها ، قال إن
هذا هو نهاية ما بلغته مدارك البشر في هذا المقام الخطر والأمر الجليل. ولكن الحق
الكامل فيه لا تطيق حمله عقول بني العصر لغلظ أذهانهم وشدة جهلهم بأحكام الروح
وصفاتها لقوة الألف بالأبدان والتعلق بالمحسوسات. فيجب أن نقنع منهم بهذا الذي
رضيه الله لهم من يسير العلم بهذه الشئون حيث أجاب سبحانه السائلين عن الروح بقوله
: (قُلِ الرُّوحُ مِنْ
أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) [الإسراء : ٨٥]
وتلك حكمته سبحانه أن لا يخاطب عباده إلا بمقدار ما تحتمله عقولهم. وليس في عقول
الناس أن الروح إذا كانت في الرفيق الأعلى مقيمة في روضات الجنات ترد إلى البدن
لرد السلام كلما سلم عليه أحد من أمته في جميع الأوقات.
وليس في العقول
كذلك أننا إذا زرنا القبور مسلمين على من بها من إخواننا وأقاربنا ترد إليهم
أرواحهم لرد السلام علينا ، وإن كنا لا نسمع ذلك بآذاننا. مع وجود أرواحهم في
حواصل الطير الخضر تسرح في بحبوحة الجنان. فمن لا يحمل عقله مثل هذه المعاني فيجب
أن نعذره ولا نكلفه ما لا يطيقه من ذلك. فإن للروح نواميسها العجيبة وشئونها
الغريبة التي تخالف قوانين الأجسام فلا تهمل هذه الشئون التي حار الورى في فهمها ،
فلم يعرفه منهم إلا الفرد بعد الفرد في الأزمان المتطاولة. هذا وأن للروح من
العجائب والأسرار ما لو أبديته لبادر الجهلاء إلى إنكاره ومقابلته بالعدوان فلهذا
كبحت جماح القلم ، ولو وجدت من يفهم ذلك لأطلقت له العنان وجريت في الميدان.
وخلاصة القول في
الروح أنها مخلوقة وحادثة ، وذلك ثابت بالبراهين القاطعة وليست قديمة كما يقول
الفلاسفة المارقون. وأنها كذلك قابلة للحلول في البدن والانفصال عنه وللصعود
والنزول ، وليست كما يقول الفلاسفة المارقون. وأنها
كذلك قابلة للحلول
في البدن والانفصال عنه وللصعود والنزول ، وليست كما يقول الفلاسفة الضلال ليست
بداخلة فينا ولا خارجة عنا. كما قالوا ذلك في حق الرب جل شأنه ، فلا هم أثبتوا
ربهم ولا أثبتوا أرواحهم ، بل عطلوا أبدانهم عن أرواحها حين قالوا أن الروح ليست
حالة في البدن ، كما عطلوا العرش عن وجود الرحمن فوقه حين أنكروا استواءه عليه.
* * *
فصل
في كسر المنجنيق الذي نصبه أهل التعطيل
على معاقل الإيمان وحصونه جيلا بعد جيل
لا يفزعنك قعاقع
وفراقع
|
|
وجعاجع عريت عن
البرهان
|
ما عندهم شيء
يهولك غير ذا
|
|
ك المنجنيق مقطع
الأفخاذ والأركان
|
وهو الذي يدعونه
التركيب من
|
|
صوبا على
الأثبات منذ زمان
|
أرأيت هذا
المنجنيق فإنهم
|
|
نصبوه تحت معاقل
الإيمان
|
بلغت حجارته
الحصون فهدت الش
|
|
رفات واستولت
على الجدران
|
لله كم حصن عليه
استولت ال
|
|
كفار من ذا
المنجنيق الجاني
|
والله ما نصبوه
حتى عبروا
|
|
قصدا على الحصن
العظيم الشأن
|
ومن البلية أن
قوما بين أه
|
|
ل الحصن واطوهم
على العدوان
|
ورموا به معهم
وكان مصاب أه
|
|
ل الحصن منهم
فوق ذي الكفران
|
فتركبت من كفرهم
ووفاق من
|
|
في الحصن أنواع
من الطغيان
|
وجرت على
الإسلام أعظم محنة
|
|
من ذين تقديرا
من الرحمن
|
والله لو لا أن
تدارك دينه
|
|
الرحمن كان
كسائر الأديان
|
لكن أقام له
الإله بفضله
|
|
يزكا من الأنصار
والأعوان
|
فرموا على ذا
المنجنيق صواعقا
|
|
وحجارة هدته
للأركان
|
تفسير المفردات :
القعاقع : جمع قعقعة وهي صوت الطبل. والفراقع : جمع
فرقعة وهي صوت
السياط ، والجعاجع : جمع جعجعة وهي صوت الرحا. عريت : تجردت ، يهولك : يفزعك ،
المنجنيق : آلة توضع فيها الحجارة لترمى بها الحصون ، والينزك : الشهب التي ترمي
بها الشياطين.
الشرح
: لا يجد أهل
التعطيل حجة يشغبون بها على أهل الاثبات ويغيرون بها في وجه الحق إلا حجة التركيب
، والأصل في هذه الحجة هم الفلاسفة فإن مذهبهم أن واجب الوجود واحد من كل وجه بسيط
لا تكثر فيه لا ذهنا ولا خارجا ، ولهذا نفوا جميع الصفات الثبوتية من العلم
والقدرة والإرادة ونحوها ، ولم يثبتوا إلا السلوب والإضافات ، ولكن فريقا من
المتكلمين جاروهم في هذه الفرية وواطئوهم عليها وصاروا إلبا واحدا على أهل الإثبات
، ونصبوا من هذا التركيب منجنيقا يرمون منه معاقل الإثبات من زمان بعيد.
والمؤلف رحمهالله يحذر من الاغترار بما يجعجع به هؤلاء من سفسطات ليس لها
سنة من دليل ، ويخبر أنه ليس عندهم ما يهولون به غير هذا المنجنيق المتداعي
الأركان الذي يسمونه التركيب ، ناصبين له تحت معاقل الإيمان ، وأخذوا يرمونها به
حتى بلغت حجارته لقوة رميها مواقع الحصون ، فأسقطت شرفاتها واستولت على الجدران ،
فكم من حصن استولوا عليه بواسطة هذا المنجنيق وهم ما نصبوه إلا ليعبروا من خلال
هذه الحصون إلى الحصن الأكبر الذي هو حصن الإيمان. ومما زاد الأمر سوءا والبلاء
شدة أن جماعة من أهل الحصن قد انضموا إلى هؤلاء الأعداء ووافقوهم على العدوان ،
ورموا معهم بالمنجنيق حصن الايمان ، وكان ما لقيه أهل الحصن من هؤلاء المنافقين
أشد مما لقوه من أهل الكفران ، وتركب من كفر هؤلاء وموافقة بعض أهل الحصن لهم
طغيان شديد على أهل الحق وجرت منهما على الإسلام محنة قاسية ، وكان ذلك بتقدير
الله جل شأنه ، ولو لا أنه سبحانه تدارك دينه بلطفه ورحمته لجرى عليه ما جرى على
الأديان قبله من الفساد والضياع ، ولكنه أقام له بفضله جندا من أهل الحق ينصرونه
ويحمونه ويرمون منجنيق أهل التعطيل بصواعق محرقة من أدلة الإثبات حتى أتوا
عليه من القواعد
وجعلوا أركانه كثيبا مهيلا.
* * *
فاسألهم ما ذا
الذي يعنون
|
|
بالتركيب
فالتركيب ست معان
|
إحدى معانيه هو
التركيب من
|
|
متباين كتركب
الحيوان
|
من هذه الأعضاء
كذا أعضاؤه
|
|
قد ركبت من أربع
الأركان
|
أفلازم ذا
للصفات لربنا
|
|
وعلوه من فوق كل
مكان
|
ولعل جاهلكم
يقول مباهتا
|
|
ذا لازم الاثبات
بالبرهان
|
فالبهت عندكم
رخيص سعره
|
|
حثوا بلا كيل
ولا ميزان
|
هذا وثانيها
فتركيب الجوا
|
|
ر وذاك بين
اثنين يفترقان
|
كالجسر والباب
الذي تركيبه
|
|
بجواره لمحلة من
بان
|
والأول المدعو
تركيب امتزا
|
|
ج واختلاط وهو
ذو تبيان
|
أفلازم ذا من
ثبوت صفاته
|
|
أيضا تعالى الله
ذو السلطان
|
الشرح
: فاسأل هؤلاء الذين
يتعللون بحجة التركيب ويرونها مانعة من إثبات الصفات ، ما ذا تقصدون بالتركيب؟
فإنه لفظ مجمل يقع في الاصطلاح على ست معان ، إحداها التركب من أمور متباينة ،
كتركب الحيوان من أعضائه المختلفة وأجهزته المتعددة ، وكتركب أعضاء الحيوان من
الاسطقسات الأربعة التي هي الماء والهواء والتراب والنار ، وكان قدماء الطبيعيين
يعتقدون أن كل واحد من هذه الأربعة عنصر بسيط حتى كشف العلم الحديث عن تركبها من
عناصر أبسط منها كالأوكسجين والأيدروجين والآزوت وغيرها ، وقد بلغ ما اكتشف منها
حتى الآن نحوا من مائة عنصر.
فهل هذا النوع من
التركيب لازم على القول بثبوت الصفات لله وعلوه فوق جميع خلقه؟ لعل جاهلا منكم
يقول على سبيل البهت والمكابرة أن ذلك التركيب من أمور متغايرة لازمة على إثبات
الصفات بالبرهان ، فإنها غير الذات قطعا ، لأن الصفة لا تكون عين الموصوف وكذلك هي
متغايرة فيما بينها ، فإذا فرض
أنها أمور موجودة
لزم التركب من أمور متغايرة. وهذا محض مكابرة. فإن الموصوف بصفات الكمال اللازمة
لذاته لا يكون مركبا من أشياء متباينة ، كتركب الحيوان من أجزائه ، فإن صفاته ليست
غيره ، إذ ليس لها وجود خاص بها ، بل هي تابعة له في وجوده وقدمه وبقائه ، فهي
لازمة له لا يعقل وجوده بدونها ولا يوجد إلا وهو متصف بها من غير افتقار منه إليها
، بل هي المفتقرة إليه لكونها قائمة به. وأما الثاني من أنواع التركيب فهو التركب
من متجاورين يمكن افتراق احدهما عن الآخر ، وضرب المؤلف لذلك مثلا بتركب المحلة من
الجسر والباب المجاور له ، والأمثلة عليه كثيرة ، فهل يمكن أن يقال أيضا أن هذا
النوع من التركيب لازم على ثبوت الصفات ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
* * *
والثالث التركيب
من متماثل
|
|
يدعى الجواهر
فردة الأكوان
|
والرابع الجسم
المركب من هيو
|
|
لاه وصورته لذي
اليونان
|
والجسم فهو مركب
من ذين عن
|
|
د الفيلسوف وذاك
ذو بطلان
|
ومن الجواهر عند
أرباب الكلا
|
|
م وذاك أيضا
واضح البطلان
|
فالمثبتون
الجوهر الفرد الذي
|
|
زعموه أصل الدين
والإيمان
|
قالوا بأن الجسم
منه مركب
|
|
ولهم خلاف وهو
ذو ألوان
|
هل يمكن التركيب
من جزءين أو
|
|
من أربع أو ستة
وثمان
|
أو ست عشرة قد
حكاه الأش
|
|
عري لذي مقالات
على التبيان
|
أفلازم ذا من
ثبوت صفاته
|
|
وعلوه سبحان ذي
السبحان
|
الشرح
: والثالث من أنواع
التركيب هو التركب من أجزاء صغيرة غير قابلة القسمة تسمى بالجواهر الفردة ، وهذا
مذهب سائر المتكلمين ، فإن الأجسام عندهم مركبة من هذه الجواهر المتماثلة ، وإنما
تتمايز الأجسام بما يخلقه الله فيها من الأعراض ، وقد غلا المتكلمون من المعتزلة
والأشاعرة في التعويل على نظرية
الجواهر الفردة ،
وهي في الأصل نظرية يونانية قديمة ، قال بها ديموكريتس : الفيلسوف الطبيعي
اليوناني ، وقد بنوا عليها كثيرا من الأصول الإيمانية ، فجعلوها عمدتهم في
الاستدلال على حدوث العالم ووجود المحدث له ، حتى أن أحد كبار الأشاعرة ، وهو
القاضي أبو بكر الباقلاني قد أوجب الإيمان بوجود الجوهر الفرد ، بناء على أن
الإيمان بوجود الله متوقف على ثبوته ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، كما
بنوا على تلك النظرية ما يترتب على حدوث العالم من أن الله فاعل بالاختيار لا موجب
بالذات كما يقوله الفلاسفة ، وأنه لا تأثير لشيء من الأسباب في مسبباتها ، بل يخلق
الله الأشياء عند وجود أسبابها لا بها.
وهكذا انحرف
المتكلمون عن الجادة واعتمدوا في استدلالهم على وهم كاذب وربطوا به مصير العقائد
الإيمانية كلها ، مما جعل السلف الصالح المتمسكين بالكتاب والسنة يذمون الكلام
وأهله ويرمونهم بالفسوق والابتداع والمروق عن الملة ، ومما جعل أعداءهم من
الفلاسفة ينتصرون عليهم ويتمكنون من مقاتلهم ، فلا هم للإسلام نصروا ولا للفلاسفة
كسروا ، وهكذا يفعل الصديق الجاهل من الأذى والضرر ما لا يفعله العدو العاقل ، فلا
حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وبعد أن اتفق
المتكلمون على تركب الأجسام من تلك الجواهر الفردة اختلفوا في أقل ما يتركب منه
الجسم ، فقال الأشاعرة أقله جوهران ، فإذا انضم جوهر فرد إلى آخر حصل من مجموعهما
الجسم عندهم ، وحدوا الجسم بأنه الجوهر القابل للقسمة ولو في جهة واحدة فقط.
وأما المعتزلة
فاعتبروا في الجسم أن يكون قابلا للقسمة في الجهات الثلاث ، وعرفوه بأنه الطويل
العريض العميق ، ولكنهم اختلفوا في أقل ما يتركب منه الجسم ، فقال النظام : يتركب
من أجزاء غير متناهية بالفعل ، وقال الجبائي من ثمانية أجزاء ، وقال أبو الهذيل
العلاف من ستة أجزاء إلى آخر ما حكاه عنهم الإمام الأشعري في كتابه (مقالات
الإسلاميين).
والرابع من أنواع
التركيب هو تركب الجسم من هيولى هي محل وصورة حالة فيها ، ويعرفون الهيولي بأنها
جوهر في الجسم قابل لما يعرض له من الاتصال والانفصال ومحل للصور الجسمية
والنوعية. وأما الصورة فهي ما به يكون الشيء بالفعل أو بعبارة أخرى هي جوهر في
الجسم مقوم لمادته ومخرج لها من القوة إلى الفعل.
وهذا مذهب أرسطو
الفيلسوف اليوناني وتبعه عليه الفارابي وابن سينا وغيرهما من فلاسفة المسلمين ،
وهو مذهب أشد بطلانا من مذهب المتكلمين ، فهل يلزم واحد من هذين النوعين من
التركيب على القول بثبوت الصفات لله وعلوه على خلقه؟ سبحانه وحاشاه ، فهو المنزه
عن كل هذه الأنواع من التركيبات التي لا تليق بذاته المقدسة ، وإنما تتصف بها
المحدثات الناقصة.
* * *
والحق أن الجسم
ليس مركبا
|
|
من ذا ولا هذا
هما عدمان
|
والجوهر الفرد
الذي قد أثبتو
|
|
ه في الحقيقة
ليس ذا إمكان
|
لو كان ذلك
ثابتا لزم المحا
|
|
ل لواضح البطلان
والبهتان
|
من أوجه شتى
ويعسر نظمها
|
|
جدا لأجل صعوبة
الأوزان
|
أتكون خردلة
تساوي الطود في الأ
|
|
جزاء في شيء من
الأذهان
|
إذ كان كل منهما
اجزاؤه
|
|
لا تنتهي بالعد
والحسبان
|
وإذا وضعت
الجوهرين وثالثا
|
|
في الوسط وهو
الحاجز الوسطاني
|
فلأجله افترقا
فلا يتلاقيا
|
|
حتى يزول إذا
فيلتقيان
|
ما مسه إحداهما
منه هو المم
|
|
سوس للثاني بلا
فرقان
|
هذا محال أو
تقول بغيره
|
|
فهو انقسام واضح
التبيان
|
الشرح
: والحق أن الجسم
ليس مركبا لا من الجواهر الفردة كما يقول المتكلمون ، ولا من الهيولي والصورة كما
يقول الفلاسفة ، بل لا وجود لشيء من
ذلك في واقع الأمر
، وإنما هي فروض وتخمينات لم تثبتها تجربة ولم يقم عليها دليل.
والجوهر الفرد
الذي زعمه أهل الكلام ونصبوه صنما لهم تدور حوله كل أفكارهم ومذاهبهم قامت أدلة
كثيرة على بطلانه. وكان الذي قام بإبطاله هم الفلاسفة انتصارا لمذهبهم الهيولي
والصورة ، وقد قام المتكلمون من جانبهم بإبطال نظرية الفلاسفة ، وهكذا ضرب الله
بعض المبطلين ببعض ، وبقي أهل الحق والإيمان بمنجى من هذا الإفك والبهتان ، فما
أورد على نظرية الجوهر الفرد أنه يلزم عليه أن تكون الخردلة مركبة من عدد من
الجواهر الفردة يساوي ما تركب منه الجبل الضخم ، إذ كان كل منهما مركبا من أجزاء
غير متناهية العدد.
وهذا الإيراد إنما
يتوجه على مذهب النظام الذي يقول بتركيب الجسم ، أي جسم من أجزاء غير متناهية ،
فلزمه أن تكون الخردلة مساوية للجبل. وقد أورد عليه أيضا أن النملة إذا مشت بين
نقطتين على جسم فإنها لا تستطيع قطع المسافة بينهما لعدم تناهيها إذ كانت مركبة من
أجزاء غير متناهية ، وقد أجاب بأنها تمشي بعضا وتطفر بعضا ، فذهبت طفرة النظام
مثلا ، وما أحسن قول الشاعر :
مما يقال ولا
حقيقة عنده
|
|
معقولة تدنو الى
الأفهام
|
الكسب عند
الأشعري والحال عن
|
|
د الهاشمي وطفرة
النظام
|
ومما أورد على
الجوهر الفرد أيضا أنك اذا وضعت جوهرا فردا بين جوهرين فردين وجعلته وسطا بينهما ،
فانهما لا يتلاقيان ما دام هذا الوسط قائما ، وحينئذ يقال : اما أن يكون ما مسه
أحدهما من هذا الوسط هو عين ما مسه الآخر بلا فارق أصلا ، وهذا محال لأنه يؤدي الى
انعدام الوسط نفسه ويقتضي تلاقيهما حال وجوده بينهما ، وأما أن يكون ما مسه أحدهما
منه غير ما مسه الآخر ، وهذا يقتضي قبوله للانقسام ، فيبطل ما زعموه من عدم هذه
الجواهر الفردة للقسمة أصلا ، وهذا دليل بين على فساد هذه الخرافة التي نسجتها
أوهام
المتكلمين ومن
العجيب أنهم تلقوها عبر الأعصار والقرون جيلا بعد جيل وكلهم مصر عليها محافظ على
قدسيتها وجلالها لأنهم يعلمون أنها اذا انهارت زال بنيانهم كله من القواعد وطار كل
ما بنوه عليها من خرافات وأوهام.
* * *
والخامس التركيب
من ذات ال
|
|
أوصاف هذا
باصطلاح ثان
|
سموه تركيبا
وذلك وضعهم
|
|
ما ذاك في عرف
ولا قرآن
|
لسنا نقر بلفظة
موضوعة
|
|
في الاصطلاح
لشيعة اليونان
|
أو من تلقى عنهم
من فرقة
|
|
جهمية ليست بذي
عرفان
|
من وصفه سبحانه
بصفاته العلي
|
|
ا ويترك مقتضى
القرآن
|
والعقل والفطرة
أيضا كلها
|
|
قبل الفساد
ومقتضى البرهان
|
سموه ما شئتم
فليس الشأن في الاس
|
|
ماء بالالقاب
ذات الشأن
|
هل من دليل
يقتضي ابطال ذا الترك
|
|
يب من عقل ومن
فرقان
|
والله لو نشرت
شيوخكم لما
|
|
قدروا عليه لو
أتى الثقلان
|
الشرح
: والخامس من أنواع
التركيب عندهم هو التركيب من الذات مع صفاتها وهذا اصطلاح ثان للفلاسفة في مفهوم
التركيب حملهم على نفي الصفات الوجودية فكما يستحيل عندهم تركب ذاته تعالى من
هيولى وصورة ، كذلك يستحيل تركبه من ذات وصفات زائدة عليها لأن ذلك في زعمهم يؤدي
الى الكثرة في الذات ، وينافي ما يجب لواجب الوجود من البساطة والوحدة المطلقة.
ولكننا ننازعهم في
تسمية هذا تركيبا ، فإنه اصطلاح لهم لا سند له من عرف ولا نقل ، فقد جرى العرف على
ان الشيء قد يطلق عليه اسم الواحد مع وجود صفات كثيرة له. والقرآن الكريم يقول في
شأن الوليد بن المغيرة (ذَرْنِي وَمَنْ
خَلَقْتُ وَحِيداً) [المدثر : ١١]
فسماه وحيدا مع أنه موصوف بأنه له سمعا وبصرا وعلما وقدرة وإرادة الى غير ذلك من
الصفات.
فاذا كنتم معشر
الفلاسفة قد اصطلحتم على تسمية هذا تركيبا ، فلسنا نقر
اصطلاحكم هذا ولا
نوافقكم عليه ولا من تلقى عنكم هذه الاصطلاحات من الجهمية الجهلة الضلال الذين
عطلوا الذات عن صفاتها العليا جريا وراء هذه الاصطلاحات الكاذبة تاركين ما دل عليه
القرآن من ثبوت هذه الصفات لله. ودل عليه كذلك العقل والفطرة الانسانية السليمة
والبراهين القاطعة. فلسنا نترك ذلك كله من أجل تسميتكم اياه تركيبا ، فسموه ما
شئتم فليست العبرة بالأسماء والألقاب ، فانكم لا تستطيعون ان تقيموا دليلا واحدا
على بطلان هذا التركيب لا عقليا ولا قرآنيا حتى ولو بعث شيوخكم وطولبوا بذلك ما
قدروا عليه. بل ولن يستطيع الانس والجن جميعا أن يأتوا بدليل واحد على بطلان ذلك
ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.
* * *
والسادس التركيب
من ماهية
|
|
ووجودها ما
هاهنا شيئان
|
الا اذا اختلف
اعتبارهما فذا
|
|
في الذهن
والثاني ففي الأعيان
|
فهناك يعقل كون
ذا غيرا لذا
|
|
فعلى اعتبارهما
هما غيران
|
أما اذا اتحدا
اعتبارا كل نفس وج
|
|
ودها هو ذاتها
لا ثان
|
من قال شيء غير
ذا كان الذي
|
|
قد قاله ضرب من
الفعلان
|
* * *
هذا وكم خبط هنا
قد زال بالتفص
|
|
يل وهو الأصل في
العرفان
|
وابن الخطيب
وحزبه من بعده
|
|
لم يهتدوا
لمواقع الفرقان
|
بل خبطوا نقلا
وبحثا أوجبا
|
|
شكا لكل ملدد
حيران
|
هل ذات رب
العالمين وجوده
|
|
أم غيره فهما
اذا شيئان
|
فيكون تركيبا
محالا ذاك أن
|
|
قلنا به فيصير
ذا امكان
|
واذا نفينا ذاك
صار وجوده
|
|
كالمطلق الموجود
في الأذهان
|
وحكوا أقاويلا
ثلاثا زين
|
|
ك القولين
اطلاقا بلا فرقان
|
الثالث التفريق
بين الواجب الأ
|
|
على وبين وجود
ذي الامكان
|
وسطوا عليها
كلها بالنقض والا
|
|
بطال والتشكيك
للانسان
|
حتى أتى من أرض
آمد آخرا
|
|
ثور كبير بل
حقير الشأن
|
قال الصواب
الوقف في ذا كله
|
|
والشك فيه ظاهر
التبيان
|
هذا قصارى بحثه
وعلومه
|
|
أن شك في الله
العظيم الشأن
|
الشرح
: والسادس من أنواع
التركيب التركب من الماهية التي هي بالذات ووجودها ، فان لكل شيء ذاتا أي ماهية هو
بها هو ، وهذه الماهية يعرض لها الوجود في الخارج فيكون الشخص في الخارج مركبا من
الماهية ومن التشخص هكذا قالوا والحق أنه ليس هناك في الخارج شيئان ماهية ووجودها
، بل ليس هناك الا الشخص الموجود في الخارج. وانما تعرض زيادة الوجود للماهية في
الذهن ، وذلك لأن الذهن يستطيع تصور الماهية معراة من الوجود ، ثم يضيف إليها
الوجود ، وأما في الخارج فلا مغايرة بين الماهية ووجودها. فالماهية المطلقة معنى
كلي لا وجود له الا في الاذهان ، وما يوجد في الخارج لا يكون الا جزئيا متعينا. فإذا
اعتبر الذهن ماهية من حيث هي بقطع النظر عن الوجود ، واعتبر الوجود عارضا لها حكم
مغايرة كل منهما للآخر ضرورة مغايرة العارض للمعروض أما في الخارج فليس هناك عارض
ولا معروض بل الذات ووجودها شيء واحد فالفصل بين الماهية ووجودها هو من عمل الذهن
وحده.
وبهذا يتضح أن ما
يدعيه هؤلاء من تركب الأشخاص من الماهية والوجود في الخارج باطل ، وزال بهذا
التفصيل الذي قدمناه كثير مما تخبط فيه القوم في هذه المسألة والتفصيل دائما هو
الاساس الذي تبنى عليه كل معرفة صحيحة. ولهذا ترى ابن الخطيب المعروف بالفخر
الرازي هو وحزبه من المتفلسفين لما لم يهتدوا لمواقع الفرق بين الوجود في الذهن
والوجود في الخارج أخذوا يخبطون خبط عشواء حتى بلبلوا الافكار وأثاروا الشكوك حين
أخذوا يتساءلون : هل ذات الباري جل وعلا عين وجوده أم غيره؟
فان قلنا أنها
غيره كان هناك شيئان متغايران فيكون الباري مركبا منهما
فيكون مفتقرا الى
كل واحد منهما والمفتقر الى غيره ممكن فيلزم أن يكون الباري ممكنا. وان قلنا أن
ذاته عين وجوده ، ومعلوم أن الذات أي الماهية أمر كلي صار وجوده وجودا مطلقا لا
تحقق له الا في الاذهان ، ثم أضافوا الى هذين القولين قولا ثالثا وهو التفريق بين
الواجب جل وعلا وبين الممكن ، فالواجب لا تركب فيه بل وجوده عين ماهيته ، وأما
الممكن فوجوده زائدة على ماهيته ، ثم سطوا على كل هذه الأقوال بالنقد والتفنيد
والابطال ، وبذلك حكموا على وجود ربهم بأنه عين المحال حتى جاء أحد المتأخرين من
الاشاعرة وهو المعروف بالآمدي صاحب كتاب (أبكار الافكار) في علم الكلام وما هو الا
أبعار الافكار ، فاختار الوقف في هذه المسألة لأن الأقوال فيها متضاربة محيرة فصار
قصارى بحثه وعلمه أن شك في وجود ربه فبئس ما سولت لهؤلاء شياطينهم أن يفترقوا على
الله الكذب ويقولون عليه ما لا يعلمون.
* * *
فصل
في أحكام هذه التراكيب الستة
فالأولان حقيقة
التركيب لا
|
|
تعدوهما في
اللفظ والاذهان
|
وكذلك الاعيان
أيضا انما الترك
|
|
يب فيها ذلك
النوعان
|
والاوسطان هما
اللذان تنازعا العق
|
|
لاء في تركيب ذي
الجثمان
|
ولهم أقاويل
ثلاث قد حكين
|
|
اها وبينا أتم
بيان
|
والآخران هما
اللذان عليهما
|
|
دارت رحى الحرب
التي تريان
|
أنتم جعلتم وصفه
سبحانه
|
|
بعلوه من فوق ذي
الأكوان
|
وصفاته العليا
التي ثبتت له
|
|
بالعقل والمنقول
ذي البرهان
|
من جملة التركيب
ثم نفيتم
|
|
مضمونها من غير
ما برهان
|
فجعلتم المرقاة
للتعطيل ه
|
|
ذا الاصطلاح وذا
من العدوان
|
الشرح
: يناقش المؤلف رحمهالله هؤلاء النافين للصفات بحجة التركيب في معاني التركيب الستة
السابقة ، وأيها يصح أن يسمى تركيبا وأيها لا يصح ، فيقول ان المعنيين الأولين
للتركيب ، وهما التركب من أمور متباينة أو أمور متجاورة لا ينازع أحد في صدق مفهوم
التركيب عليهما لفظا وعقلا ، وجميع الأعيان الخارجية انما يرجع التركيب فيها الى
واحد من هذين النوعين.
وأما الاوسطان ،
أعنى التركب من جواهر فردة غير قابلة للقسمة أو من هيولى وصورة ، فهما اللذان
تنازع الفلاسفة والمتكلمون في تركب الجسم منهما ، فذهب المتكلمون الى الاول
والفلاسفة الى الثاني ، وذهب النظام من المعتزلة الى تركبه من أجزاء غير متناهية ،
وأما المعنيان الآخران للتركيب ، أعني التركب من الذات والصفات أو من الماهية
ووجودها ، فهما اللذان دارت رحى الحرب عليهما بيننا وبين المعطلة النفاة ، فهم
جعلوا وصفه سبحانه بالعلو على خلقه ، ووصفه كذلك بجميع صفاته العليا التي تثبت له
بالعقل والنقل القطعيين من جملة التركيب المحال ثم نفوا مضمونها من غير برهان ولا
دليل ، فجعلوا اصطلاحهم في تسمية هذا المعنى تركيبا سلما لهم الى النفي والتعطيل ،
ونحن ننازعهم في تسمية هذا المعنى تركيبا ، اذ لا يدل على ذلك شيء من نقل ولا لغة
، ولئن سلمنا لهم اصطلاحهم في تسميته تركيبا ، فلا نسلم لهم أنه تركيب محال ، فان
التركب من ذات واحدة وصفات لا ينافي التوحيد بأي حال.
* * *
لكن اذا قيل
اصطلاح حادث
|
|
لا حجر في هذا
على انسان
|
فنقول نفيكم
بهذا الاصطلا
|
|
ح صفاته هو أبطل
البطلان
|
وكذاك نفيكم به
لعلوه
|
|
فوق السماء وفوق
كل مكان
|
وكذاك نفيكم به
لكلامه
|
|
بالوحي كالتوراة
والقرآن
|
وكذاك نفيكم
لرؤيتنا له
|
|
يوم المعاد كما
يرى القمران
|
وكذاك نفيكم
لسائر ما أتى
|
|
في النقل من وصف
بغير معان
|
كالوجه واليد
والأصابع والذي
|
|
أبدا يسوؤكم بلا
كتمان
|
وبودكم لو لم
يقله ربنا
|
|
ورسوله المبعوث
بالبرهان
|
وبودكم والله
لما قالها
|
|
أن ليس يدخل
مسمع الانسان
|
الشرح
: فاذا كنتم قد
اصطلحتم على تسمية هذا تركيبا ، فسموا كيف شئتم اذ لا مشاحة في الاصطلاح. وأما أن
تتخذوا من هذا الاصطلاح الحادث لكم ذريعة الى نفي صفاته فهذا محض الباطل وعين
الافتراء. وكذلك نفيكم به لعلوه بذاته فوق جميع خلقه ، ونفيكم به لكلامه بالوحى
المنزل على رسله ، كالتوراة والقرآن وغيرهما من كتبه. ونفيكم به لرؤية المؤمنين له
يوم القيامة عيانا بأبصارهم كما يرى القمران ، أي الشمس والقمر.
وكذلك نفيكم به
لسائر ما أتى به النقل من صفات الذات التي ليست معاني ، كالوجه واليد والأصبع
والقدم والساق وغيرها ، مما لا تستطيعون كتمان ما يعلوكم من الكآبة والحزن عند
تلاوة الآيات والأحاديث المثبتة لها ، وتتمنون بجدع الأنف أن لو لم يقله الله
ورسوله ، أو تتمنون اذ قالها أن تئيف مسامعكم حتى لا يصل إليها شيء من هذه الصواعق
المحرقة التي تأتي على تعطيلكم من القواعد وتحيله رمادا تطير به الرياح.
* * *
قام الدليل على
استناد الك
|
|
ون أجمعه الى
خلاقه الرحمن
|
ما قام قسط على
انتفاء صفاته
|
|
وعلوه من فوق ذي
الأكوان
|
هو واحد في وصفه
وعلوه
|
|
ما للورى رب
سواه ثان
|
فلأي معنى
تجحدون علوه
|
|
وصفاته بالفشر
والهذيان
|
هذا وما المحذور
الا أن يقال
|
|
مع الاله لنا
إله ثان
|
أو أن يعطل عن
صفات كماله
|
|
هذان محذوران
محظوران
|
أما اذا ما قيل
رب واحد
|
|
أوصافه أربت على
الحسبان
|
وهو القديم فلم
يزل بصفاته
|
|
متوحدا بل دائم
الاحسان
|
فبأي برهان
نفيتم ذا وقل
|
|
تم ليس هذا قط
في الامكان
|
الشرح
: ثم ما هو دليلكم
الذي تعتمدون عليه في نفى الصفات؟ والدليل انما قام على استناد الوجود كله ، علوه
وسفله الى خلاقه المبدع المصور الرحمن الرحيم الذي أحسن كل شيء خلقه ، ولم يقم
دليل قط على انتفاء صفاته التي لا بد منها في الخلق ولا على انتفاء علوه فوق خلقه
الثابت له بالعقل والنقل والفطرة. ولم يلزم قط من اثبات صفاته وعلوه أن يتعدد رب
العباد أو يتكثر ، بل هو واحد في وصفه وعلوه ليس للعباد رب سواه ينازعه في شيء مما
هو مختص به من شئون الربوبية المطلقة ، فلأي سبب اذا تنكرون صفاته وعلوه بالكذب
والبهتان من غير دليل ولا برهان. هذا وليس المحذور المخوف الا أن يقال ان هناك
إلها مع الله يشاركه إلهيته ويستحق العبادة معه. أو أن يعطل عن أوصاف كماله التي
يعتبر الخلو عنها نقصا ، فهذان هما المحذوران أي المخوفان ، والمحظوران أي
الممنوعان. أما اذا قيل أنه رب واحد له من الصفات ما لا يدخل تحت حصر ولا يضبطه
حساب ، وأنه لم يزل بصفاته كلها إلها واحدا قديم الاحسان دائم الجود والامتنان ،
فبأي برهان من عقل أو نقل يمكنكم نفى هذا أو دعوى أنه محال ليس في الامكان.
* * *
فلئن زعمتم أنه
نقص فذا
|
|
بهت فما في ذاك
من نقصان
|
النقص في أمرين
سلب كماله
|
|
أو شركة بالواحد
الرحمن
|
أتكون أوصاف
الكمال نقيصة
|
|
في أي عقل ذاك
أم قرآن
|
أن الكمال بكثرة
الاوصاف لا
|
|
في سلبها ذا
واضح البرهان
|
ما النقص غير
السلب حسب وكل نقص
|
|
أصله سلب وهذا
واضح التبيان
|
فالجهل سلب
العلم وهو نقيصة
|
|
والظلم سلب
العدل والاحسان
|
متنقص الرحمن
سالب وصفه
|
|
والحمد والتمجيد
كل أوان
|
|
ولذاك أعلم خلقه
أدراهم
|
|
بصفاته من جاء
بالقرآن
|
|
وله صفات ليس
يحصيها سوا
|
|
ه من ملائكة ولا
انسان
|
ولذاك يثني في
القيامة ساجدا
|
|
لما يراه
المصطفى بعيان
|
بثناء حمد لم يكن
في هذه الدني
|
|
ا ليحصيه مدى
الازمان
|
وثناؤه بصفاته
لا بالسلو
|
|
ب كما يقول
العادم العرفان
|
|
|
|
|
|
|
الشرح
: فاذا ادعيتم أن في
اثبات صفات الكمال له سبحانه ما يقتضي لحوق نقص به ، فتلك دعوى مجردة من الدليل ،
بل هي محض البهت والمكابرة فليس في ذلك شائبة نقصان أصلا ، لأن النقص مرجعه الى
أمرين اثنين : أما سلب الكمال الواجب له ، واما نسبة الشريك إليه ، وأما أن يعد
ثبوت أوصاف الكمال له نقصا فذلك مما لا يسانده عقل ولا يشهد له نقل ، بل العكس هو
الصحيح وهو أن الكمال انما يكون بكثرة الصفات الوجودية لا في سلبها ، فسلبها هو
النقص ، اذ الكمال وجود والنقص عدم ، فمن فقد صفة من صفات الكمال يكون قد لحقه من
النقص بقدر ما فقد من تلك الصفة ، لأنه حينئذ يكون متصفا بضدها ، وضد الكمال
النقص.
فاذا كان العلم
صفة كمال فسلبه وهو الجهل يكون نقصا ، وكذلك الظلم نقص لأنه سلب لصفة الكمال التي
هي العدل والاحسان ، وهكذا في جميع صفات الكمال من القدرة والإرادة والسمع والبصر
والكلام وغيرها ، يكون سلبها نقصا ، فالمتنقص للرحمن جل جلاله هو الذي يسلبه أوصاف
الكمال الثابتة له ، تعالى الله عما يقوله المعطلة النافون لكماله.
وأما المثنى عليه
فهو الذي يذكره بأوصاف الكمال التي أثنى على نفسه بها ، وأعلم خلقه أنه موصوف بها
، ويحمده عليها ويمجده في كل وقت وحين. ولذلك كان أعلم خلقه به سبحانه هو أكثرهم
علما بصفاته ، وهو محمد صلىاللهعليهوسلم وله مع ذلك من الصفات ما لا يحصيه أحد من خلقه ، كما قال
الرسول صلىاللهعليهوسلم «سبحانك لا نحصى
ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» ولذلك ورد في حديث الشفاعة
(أنه صلىاللهعليهوسلم حين يستأذن على ربه فيؤذن له ، ويرى الرب سبحانه ، يخر
ساجدا عن يمين العرش ، ويفتح الله عزوجل عليه من الثناء في ذلك الوقت ما لم يكن يحسنه في هذه الدنيا
، فيقال له : ارفع رأسك وسل تعطه واشفع تشفع) وثناؤه على ربه في هذا الوقت انما
يكون طبعا بذكر أوصاف الكمال المستوجبة لحمده لا بالسلوب والاعدام ، كما يقوله
هؤلاء الجهلة الفاقدون لكل معرفة بالله وصفاته ، تعالى الله عما يقولون علوا
كبيرا.
* * *
والعقل دل على
انتهاء الكون
|
|
أجمعه إلى رب
عظيم الشأن
|
وثبوت أوصاف
الكمال لذاته
|
|
لا يقتضي إبطال
ذا البرهان
|
والكون يشهد أن
خالقه تعا
|
|
لى ذو الكمال
ودائم السلطان
|
وكذاك يشهد أنه
سبحانه
|
|
فوق الوجود وفوق
كل مكان
|
وكذلك يشهد أنه
سبحانه الم
|
|
عبود لا شيء من
الأكوان
|
وكذاك يشهد أنه
سبحانه
|
|
ذو حكمة في غاية
الإتقان
|
وكذاك يشهد أنه
سبحانه
|
|
ذو قدرة حي عليم
دائم الإحسان
|
وكذاك يشهد أنه
الفعال ح
|
|
قا كل يوم ربنا
في شان
|
وكذاك يشهد أنه
المختار في
|
|
أفعاله حقا بلا
نكران
|
وكذاك يشهد أنه
الحي الذي
|
|
ما للممات عليه
من سلطان
|
وكذاك يشهد أنه
القيوم قا
|
|
م بنفسه ومقيم
ذي الأكوان
|
وكذاك يشهد أنه
ذو رحمة
|
|
وإرادة ومحبة
وحنان
|
وكذاك يشهد أنه
سبحانه
|
|
متكلم بالوحي
والقرآن
|
وكذاك يشهد أنه
سبحانه ال
|
|
خلاق باعث هذه الأبدان
|
لا تجعلوه شاهدا
بالزور والت
|
|
عطيل تلك شهادة
البطلان
|
الشرح
: وقد دل دليل العقل
على أن الكون كله مستند في وجوده إلى الرب جل شأنه ، فإن العالم بجميع أجزائه ممكن
، ولا شيء من الممكنات يمكن أن
يحدث بنفسه من غير
شيء لأنه لا يحمل في طبيعته السبب الكافي لوجوده ، فإن الممكن لا وجود له ولا عدم
من ذاته ، فإذا وجد لم يكن وجوده من ذاته بل بسبب خارج عنه يرجح وجوده على عدمه إذ
لو وجد بنفسه لكان واجب الوجود ، وهذا خلاف الغرض ، وإذا ثبت أن الكون كله ينتهي
في وجوده إلى واجب الوجود لذاته وهو الرب جل شأنه ، فليس في ثبوت أوصاف الكمال
لذاته ما يقتضي بطلان هذا البرهان القطعي ، بل بالعكس تشهد الموجودات جميعها بأن
باريها وفاطرها سبحانه متصف بكل كمال يمكن أن يتصف به إذ لو خلا من ذلك لم يكن
واجب الوجود بل كان ممكنا محتاجا مثلها. وكذاك تشهد له بدوام القهر والتدبير والعزة
والسلطان ، وبأنه العلي فوق جميع خلقه إذ لا يجوز أن يحصره ولا يحيط به شيء منها
فإن الحادث لا يجوز أن يكون محلا للقديم لأن ذلك يقتضي حدوثه وجميع ما سوى الله
تعالى حادث فلا يجوز أن يكون ظرفا حاويا له وأما ما فوق العرش فإنه خلاء صرف وعدم
محض فإذا قيل أن الله عزوجل هناك ، كما أخبر عن نفسه فليس في هذا ما يقتضي انحصاره في
شيء من خلقه إذ العدم لا يكون مخلوقا. وكذلك تشهد الكائنات بأنه هو وحده المعبود
بحق الذي لا تنبغي العبادة إلا له ، فإن العبادة إنما يستحقها من كان ربا خالقا
ومالكا مدبرا ، وليس ذلك إلا لله جل شأنه ولهذا يعيب القرآن على المشركين أنهم مع
إقرارهم بانفراده سبحانه بالربوبية وشئونها والخلق والرزق والملك والتدبير يعبدون
معه غيره ويجعلون له أندادا من خلقه.
وكذاك تشهد له
بكمال الحكمة والاتقان بما اشتملت عليه من غايات ومقاصد تتجلى في جميع ما خلق وفي
كل ما أمر به. وتشهد له بتمام القدرة التي لا تعجز عن شيء من الممكنات إيتاؤه
وبدوام البر والإحسان إلى خلقه ، وبدوام الفعل فهو سبحانه لم يزل ولا يزال فعالا ،
كما قال تعالى : (فَعَّالٌ لِما
يُرِيدُ) [البروج : ١٦]
وكما قال : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ
فِي شَأْنٍ) [الرحمن : ١٩] فما
دام حيا فهو فعال إذ الفعل لازم الحياة ، وتشهد له بأنه المختار في فعله فلا يصدر
عنه الفعل عن قهر ولا إكراه ، ولا يفيض عنه من غير قصد ولا اختيار كما
تقوله الفلاسفة ،
ويشهد له بالاختيار تنوع الأشياء وتكثر الموجودات وكذاك تشهد له بأنه الحي الذي
الحياة صفة ذاته فلا يطرأ عليها عدم ولا فناء ، فإن ما بالذات لا يسلب. وبأنه
القيوم القائم بنفسه المستغني عن كل ما سواه وكل ما سواه فإنه لا قيام له إلا به ،
وبأنه ذو الرحمة الواسعة التي وسعت كل خلقه. والإرادة النافذة التي لا يعوقها عن
مرادها عائق ، وبأنه ذو محبة وحنان ولطف وامتنان ، وبأنه متكلم سبحانه بكلام يسمعه
من يشاء من خلقه فهو متكلم بالوحي والقرآن ، وبأنه الخلاق العليم الذي يبعث الناس
ويخرجهم من قبورهم أحياء للجزاء والحساب حسبما تقتضيه حكمته وعدالته.
هكذا تشهد
الموجودات لربها جل شأنه بأنه موصوف بكل صفات الكمال فويل للمعطلة الذين يشهدون
على ربهم شهادة الزور ، ويجعلون كونه ربا للموجودات مقتضيا للتعطيل ونفي الصفات.
* * *
وإذا تأملت
الوجود رأيته
|
|
إن لم تكن من
زمرة العميان
|
بشهادة الاثبات
حقا قائما
|
|
لله لا بشهادة
النكران
|
وكذاك رسل الله
شاهدة به
|
|
أيضا فسل عنهم
عليم زمان
|
وكذاك كتب الله
شاهدة به
|
|
أيضا فهذا محكم
القرآن
|
وكذلك الفطر
التي ما غيرت
|
|
عن أصل خلقتها
بأمر ثان
|
وكذا العقول
المستنيرات التي
|
|
فيها مصابيح
الهدى الرباني
|
أترون أنا تاركو
ذا كله
|
|
لشهادة الجهمي
واليوناني
|
هذي الشهود فإن
طلبتم شاهدا
|
|
من غيرها سيقوم
بعد زمان
|
إذ ينجلي هذا
الغبار فيظهر ال
|
|
حق المبين
مشاهدا بعيان
|
فإذا نفيتم ذا
وقلتم أنه
|
|
ملزوم تركيب فمن
يلحاني
|
إن قلت لا عقل
ولا سمع لكم
|
|
وصرخت فيما
بينكم بأذان
|
هل يجعل الملزوم
عين اللازم ال
|
|
منفى هذا بيّن
البطلان
|
فالشيء ليس
لنفسه ينفى لدى
|
|
عقل سليم يا ذوي
العرفان
|
الشرح : فأنت إذا
تأملت الوجود كله سماواته وأرضه ، ونظرت فيما اشتمل عليه من عجائب الخلق وأحكام
الصنع ولطيف التدبير وكيف ربط الله بين أجزائه حتى غدت منسجمة متناغمة. وصار
الوجود كله كأنه جسد واحد لرأيته (إن لم تكن ممن أعمى الله أبصارهم) خير شاهد
بثبوت الصفات لله تعالى ، فإنه أثر لها دليل عليها إذ المفعولات دالة على الأفعال
والأفعال دالة على الصفات ، فإن المفعول يدل على فاعل فعله وذلك يستلزم وجوده
وقدرته ومشيئته وعلمه لاستحالة صدور الفعل الاختياري من معدوم أو موجود لا قدرة له
ولا حياة ولا علم ولا إرادة.
ثم ما في
المفعولات من التخصيصات المتنوعة دال على إرادة الفاعل ، وما فيها من المصالح
والحكم والغايات المحمودة دال على حكمته تعالى وما فيها من النفع والإحسان والخير
دال على رحمته ، وما فيها من البطش والعقوبة والانتقام دال على غضبه. وما فيها من
الإكرام والتقريب والعناية دال على محبته إلخ.
وكذلك الرسل عليهم
الصلاة والسلام قد شهدوا لربهم بثبوت صفات الكمال له وأثنوا عليه بها ، كما نطق
بذلك محكم القرآن.
وكذلك شهدت له به الفطرة
المستقيمة التي لم تفسدها العوامل الخارجية من تلقين الأبوين أو تأثير البيئة أو
نحو ذلك ، قال تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ
لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ
لِخَلْقِ اللهِ) [الروم : ٣٠] وقال
عليه الصلاة والسلام : «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه أو ينصرانه أو
يمجسانه» كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ، وكذلك شهدت له به
العقول المستنيرة التي انتفعت بما ألقى الله فيها من آيات الهدى ولم تزغ بتأثير
الأهواء والأوهام المزلة.
أفتظنون أنا تاركو
هذه الشهادات كلها وهي أقوم الشهادات وأعدلها من أجل شهادة جهمي مأفون لا يرجع في
شهادته إلى صريح عقل ولا إلى صحيح
نقل ، بل يهرف بما
يشاء له هواه ويقول على الله بغير علم. إذ من أجل شهادة فيلسوف مارق قد اتخذ من
فلاسفة اليونان أساتذة له في الضلال. وقدم جهلياتهم التي يسميها معقولا على ما
نطقت به صريح الآيات ، فأين شهادة هذين الأحمقين من شهادة الوجود والرسل والعقول
والفطر وأيها أولى أن يقدر ويعتبر. فإن لم تكفكم هذه الشهود وطلبتم شاهدا غيرها ،
فإنه سيأتكم حين ينكشف الغطاء ويظهر لكم الحق صريحا بلا خفاء وتشاهدون بأعينكم ما
لا تملكون إلا التسليم والإذعان بلا جدال ولا مراء.
فإذا أصررتم بعد
ذلك على نفي صفات الإثبات وقلتم إنها تستلزم التركيب في الذات فمن يلومنا إذا إذا
نحن اتهمناكم بأنكم لا أسماع لكم ولا عقول ، وإذا نحن صرحنا فيكم بأنكم خرجتم على
قوانين منطقكم حيث جعلتم الملزوم عين اللازم المنفى وهذا من أوضح الباطل. فإن
الإثبات عندكم إن كان هو التركيب فكيف تنفون الاثبات من أجل التركيب الذي هو نفسه
مع مما هو معروف لدى كل عاقل من أن الشيء لا ينفى من أجل نفسه مما يشهد بتخبطكم
وحيرتكم ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
* * *
قلتم نفينا وصفه
وعلوه
|
|
من خشية التركيب
والإمكان
|
لو كان موصوفا
لكان مركبا
|
|
فالوصف والتركيب
متحدان
|
أو كان فوق
العرش كان مركبا
|
|
فالفوق والتركيب
متفقان
|
فنفيتم التركيب
بالتركيب مع
|
|
تغيير إحدى
اللفظتين بثان
|
بل صورة البرهان
أصبح شكلها
|
|
شكلا عقيما ليس
ذا برهان
|
لو كان موصوفا
لكان كذاك مو
|
|
صوفا وهذا حاصل
البرهان
|
فإذا جعلتم لفظة
التركيب بال
|
|
معنى الصحيح
أمارة البطلان
|
جئنا إلى المعنى
فخلصناه من
|
|
ها واطّرحناها
اطّراح مهان
|
هي لفظة مقبوحة
بدعية
|
|
مذمومة منا بكل
لسان
|
واللفظ بالتوحيد
نجعله مكا
|
|
ن اللفظ
بالتركيب في التبيان
|
واللفظ بالتوحيد
أولى بالصفا
|
|
ت وبالعلو لمن
له أذنان
|
هذا هو التوحيد
عند الرسل لا
|
|
أصحاب جهم شيعة
الكفران
|
الشرح
: فأنتم تقولون إنما
نفينا الصفات ونفينا علوه على المخلوقات خوفا من التركيب المستلزم للافتقار الذي
هو أمارة الامكان ، فتركيب الدليل عندكم هكذا (لو كان موصوفا لكان مركبا) مع أن
الوصف والتركيب متحدان مفهوما أو هكذا (لو كان فوق العرش كان مركبا) مع أن الفوق
والتركيب متحدان متفقان ، فيؤول دليلكم إلى نفي التركيب بالتركيب ، أي إلى نفي
الشيء بنفسه مع تغيير إحدى اللفظتين بأخرى ، وبذلك يصبح برهانكم عقيما من حيث
الشكل غير منتج ، لأن الملزوم فيه عين اللازم ، فكأنكم قلتم : لو كان موصوفا لكان
موصوفا. هذا حاصل برهانكم ، وحينئذ نقول لكم : ما ذا تعنون بقولكم (لكان مركبا) فإن
عنيتم به معنى صحيحا ، وهو أن يكون موصوفا ، وجعلتم ذلك دليلا على إبطال الصفات ،
عمدنا إلى هذا المعنى الصحيح وخلصناه من هذه الكلمة ونبذناها نبذ النواة ، فهي
لفظة بدعية قبيحة توسل بها إلى غرض فاسد وهو نفي صفات الحق تبارك وتعالى ، وأخذنا
لفظة التوحيد وجعلناها مكان تلك اللفظة البدعية في الخطاب ولا شك أن لفظة التوحيد
أولى من تلك الكلمة التي تموهون بها ، فإن لفظة التوحيد تتفق مع إثبات الصفات لله
وإثبات علوه على خلقه عند من يسمع ويعقل. وهذا هو التوحيد الذي جاءت به رسل الله
عليهم الصلاة والسلام لا توحيد الجهمية أهل التعطيل والكفران.
* * *
فصل
في أقسام التوحيد
والفرق بين توحيد المرسلين وتوحيد النفاة المعطلين
فاسمع إذا
أنواعه هي خمسة
|
|
قد حصلت أقسامها
ببيان
|
توحيد أتباع ابن
سينا وهو من
|
|
سوب لأرسطو من
اليونان
|
ما للاله لديهم
ماهية
|
|
غير الوجود
المطلق الوحدان
|
مسلوب أوصاف
الكمال جميعها
|
|
لكن وجود حسب
ليس بفان
|
ما أن له ذات
سوى نفس الوجو
|
|
د المطلق
المسلوب كل معان
|
فلذاك لا سمع
ولا بصر ولا
|
|
علم ولا قول من
الرحمن
|
ولذاك قالوا ليس
ثم مشيئة
|
|
وإرادة لوجود ذي
الأكوان
|
بل تلك لازمة له
بالذات لم
|
|
تنفك عنه قط في
الأزمان
|
ما اختار شيئا
قط يفعله ولا
|
|
هذا له أبدا بذي
إمكان
|
وبنوا على هذا
استحالة خر
|
|
ق ذي الأفلام
يوم قيامة الأبدان
|
ولذاك قالوا ليس
يعلم قط شي
|
|
ئا ما من
الموجود في الأعيان
|
لا يعلم الأفلاك
كم أعدادها
|
|
وكذا النجوم
وذانك القمران
|
بل ليس يسمع صوت
كل مصوت
|
|
كلا وليس يراه
رأي عيان
|
بل ليس يعلم
حالة الإنسان تف
|
|
صيلا من الطاعات
والعصيان
|
كلا ولا علم له
يتساقط ال
|
|
أوراق أو بمنابت
الأغصان
|
علما على
التفصيل هذا عندهم
|
|
عين المحال
ولازم الإمكان
|
الشرح
: يذكر المؤلف هنا
أنواع التوحيد التي اصطلحت عليها الفرق المختلفة من فلاسفة ومتصوفة ومتكلمين ،
تمهيدا لذكر التوحيد الذي جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام حتى يستبين الفرق
بين الحق والباطل ، والهدى والضلال ، ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة.
وقد بدأ من هذه
الأنواع بذكر توحيد ابن سينا وشيعته من المتفلسفة الذين يدينون بفلسفة أرسطو
اليوناني وغيره من فلاسفة اليونان ، ويعتقدون فيها العصمة من الخطأ ، ويقومونها
على الشريعة ، والمشهور عن أرسطو أنه كان يؤمن بإله وراء العالم ، ويسميه العلة
الأولى أو المحرّك الأول ، ويصفه بأنه جوهر مجرد عن المادة بسيط ، وأنه صورة محضة
وفعل محض ، ولكنه يرى أنه لا صلة له بهذا العالم ، فهو لم يخلقه ابتداء ، وليس له
فيه فعل ولا تدبير ولا علم له بما يجري فيه
من حركات وأحوال ،
وكل ما بين الله وبين العالم من صلة أنه هو مبدأ حركته وحتى هذه الحركة ليست فعلا
منه في العالم ، ولكنها حركة شوقية ، أي أنها من قبيل الدافع الذاتي الذي يحاول به
العالم القرب من هذه الصورة المحضة ومحاذاتها بقدر الإمكان.
ولما كان مذهب
أرسطو في الصورة المحضة المجردة عن المادة يجعلها أقرب إلى المعاني المعقولة منها
إلى الذات الموجودة ، كان القول به مفضيا إلى نفي وجود الله عزوجل وجعله أمرا تقديريا صرفا.
ولما كان ابن سينا
وأشياعه من متفلسفة الإسلام قد دانوا بمذهب أرسطو في بساطة المبدأ الأول وتجرده ،
فقد نفوا عنه كل صفة وجودية ، ولم يثبتوا له إلا سلوبا وإضافات ، وانتهى بهم الأمر
إلى أن جعلوه وجودا مطلقا لا تعين له إذ يستحيل عندهم أن يكون مركبا من ماهية
وتعين ، لأن ذلك يقتضي تركبه من أمرين متباينين ، فلم يثبتوا له إلا ماهية مطلقة
بشرط الإطلاق ، وإلا وجودا مطلقا غير فان ، كما يقول ابن سينا في كتابه النجاة (فإذا
حققت تكون الصفة الأولى لواجب الوجود أنه أن وموجود) ومعلوم أن الوجود المطلق لا
يمكن وجوده في الخارج ، فإن كل ما في الخارج لا بد أن يكون متعينا ، وأما الأمر
المطلق أو الكلي فلا وجود له إلا في الأذهان.
ومعلوم أيضا أن
المطلق لا يمكن أن يتّصف بالصفات الوجودية التي تقتضي تعيّنه وهويته ، فلهذا نفوا
عنه سبحانه كل ما أثبته العقل والسمع من صفات الكمال ، فلا سمع له عندهم يسمع به
ما يخلقه من الأصوات والألفاظ ، ولا بصر له يبصر به ما يخلقه من الأجسام والأكوان
، ولا علم له عندهم بالجزئيات المتغيرة ، ولا بما يجري في العالم من أحداث وحركات
، بل لا يعلم إلا ذاته ثم يلزم من علمه بذاته لذاته أن يعلم ما يصدر عنها من
معلولات ، لكنه لا يعلمها عندهم إلا على وجه كلي غير متغير.
وكذلك لا قول له
عندهم ولا كلام هو مؤلف من حروف وأصوات
يسمعها من يشاء من
خلقه ، بل كلامه في زعمهم هو ما سبقت الإشارة إليه من إفاضة المعاني على قلوب
الأنبياء ، ثم تجسم تلك المعاني في نفوسهم بواسطة القوة المتخيلة حروفا وألفاظا.
وكذلك نفوا إرادته
ومشيئته لإيجاد العالم لأنه عندهم علة ، والعلة يصدر عنها معلولها بطريق الإيجاب
دون مشيئة أو اختيار ، فهو سبحانه عندهم لم يقصد إلى خلق شيء ولا اختاره ، ولكن
الأشياء تصدر عنه كصدور الحرارة عن النار.
وبما أن العالم
معلول له والمعلول لا ينفك عن علته ، فهو لازم له بالذات لا ينفك عنه في وقت من
الأوقات ، فإن العلة ما دامت باقية فمعلولها باق ببقائها لا يجوز عليه العدم
والفناء ، ومن هنا حكموا ببقاء الأفلاك بقاء سرمديا لا انتهاء له ، وأنكروا ما
وردت به النصوص الصريحة من انشقاق السماء وتناثر الكواكب يوم القيامة ، لأنها
عندهم غير قابلة للخرق والالتئام.
وكذلك قالوا أن
الله عزوجل لا يعلم الأشياء الموجودة في هذا العالم بأعيانها ، ولا
يعلم ما يطرأ عليها من أحوال وتغيرات ، فهو لا يعلم أعداد الأفلاك ولا مواقع
النجوم ولا منازل الشمس والقمر ، ولا يسمع أصوات المصوتين ولا يرى أشخاصهم ، ولا
يعلم أحوال الناس على التفصيل ولا سعيهم فيما يكسبونه من طاعات أو معاص ، وكذلك لا
علم له عندهم بما يتساقط من أوراق الأشجار أو بما ينبت فيها من أغصان ، فعلم ذلك
على التفصيل هو عندهم على الله مستحيل ، وحجتهم في ذلك قائمة على التشغيب والتضليل
، فإنهم قالوا كما قال أرسطو من قبل أن علمه بهذه الجزئيات المتغيرة المتكثرة يؤدي
إلى التكثر والتغير في ذاته ، لان العلم عندهم هو حصول المعلومات في نفس العالم
بوجود ظلي مطابق للوجود الخارجي ومعلوم أن التغير والتكثر إمارة الإمكان ، وهذا
ينافي ما ثبت له من وجوب الوجود.
ولا شك أن إنكار
الفلاسفة لعلم الله عزوجل بالجزئيات جحد صريح للنصوص القرآنية التي تخبر عن سعة علمه
وشموله ، وأنه لا يعزب عنه مثقال ذرة
في الأرض ولا في
السماء ، وأنه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. ولهذا كانت هذه المسألة إحدى
المسائل التي كفرهم بها أبو حامد الغزالي في كتابه (تهافت الفلاسفة) كما كفرهم
كذلك بقولهم بقدم العالم وإنكارهم لحشر الأجسام.
بل نفس آدم
عندهم عين المحا
|
|
ل ولم يكن في
سالف الأزمان
|
ما زال نوع
الناس موجودا ولا
|
|
يفنى كذاك الدهر
والملوان
|
هذا هو التوحيد
عند فريقهم
|
|
مثل ابن سينا
والنصير الثاني
|
قالوا وألجأنا
إلى ذا خشية الت
|
|
ركيب والتجسيم
ذي البطلان
|
ولذاك قلنا ما
له سمع ولا
|
|
بصر ولا علم
فكيف يدان
|
وكذاك قلنا ليس
فوق العرش
|
|
إلا المستحيل
وليس ذا إمكان
|
جسم على جسم كلا
الجسمين
|
|
محدود يكون
كلاهما صنوان
|
فبذاك حقا صرحوا
في كتبهم
|
|
وهم الفحول ائمة
الكفران
|
ليسوا مخانيث
الوجود فلا إل
|
|
ى الكفران
ينحازوا ولا الإيمان
|
والشرك عندهم
ثبوت الذات والأ
|
|
وصاف إذ يبقى
هناك اثنان
|
غير الوجود فصار
ثم ثلاثة
|
|
فلذا نفينا
اثنين بالبرهان
|
نفى الوجود فلا
يضاف إليه شيء
|
|
غيره فيصير ذا
إمكان
|
الشرح
: يعني أن الفلاسفة
كما قالوا بقدم العالم قدما زمانيا لأنه معلل لعلة قديمة ، وعندهم أن المعلول يجب
أن يقارن علته في الوجود ، قالوا بقدم العقول والنفوس الناطقة والأفلاك وقدم
العناصر الأصلية التي هي في زعمهم بسيطة ، وهي الماء والهواء والتراب والنار ،
وكذا قدم الأنواع المركبة منها ، لأنها تنشأ عندهم من إفاضة العقل الفعال الذي هو
عقل القمر بحسب الاستعداد ، الموجود في المادة ، ويسمون هذا العالم الأرضي عالم
الكون والفساد ، لأنه هو الذي تجري فيه التغيرات من انعدام صور ووجود أخرى ،
وانحلال مركب ونشوء آخر.
وإذا كانت الأنواع
الأرضية من حيوانات ونباتات قديمة عندهم فهم لا يثبتون إنسانا يكون أول البشر بل
ذلك عندهم عين المحال ، فما من إنسان إلا
وقبله إنسان لا
إلى أول. وكما أن النوع الإنساني قديم لا أول له ، فهو كذلك باق أبد الآباد بلا
فناء ولا انقطاع بل يظل يتسلسل في الوجود شيئا بعد شيء إلى غير نهاية ، وهذا هو
توحيد ابن سينا وأشياعه مثل الخواجة نصير الدين الطوسي شارح الإشارات ، قالوا
وإنما ألجأنا إلى نفي الصفات الوجودية عن الله عزوجل والحكم عليه فقط بالسلوب والإضافات هو الخوف من الإفضاء
إلى التركيب والتجسيم المستلزم للإمكان ، ولذلك نفينا عنه السمع والبصر والعلم ،
وأولى من ذلك نفي اليدين اللتين هما جارحتان وكذلك نفينا استواءه على العرش وحكمنا
باستحالته لأن الاستواء من خواص الأجسام ، فلو كان مستويا على العرش لكان جسما
ولكان محدودا على محدود فيكون هو والعرش سواء.
هذا هو ما صرح به
هؤلاء الفلاسفة الذين هم أساطين الكفر في كتبهم فلم يفعلوا كما فعل مخانيثهم من
المعتزلة ومتأخري الأشعرية الذين لم يعرف اتجاههم ، فلا هم صرّحوا بالكفر وانحازوا
إلى أهله كما فعل هؤلاء الفلاسفة ولا هم اتبعوا سبيل المؤمنين ، وإذا كان توحيد
هؤلاء الفلاسفة يقوم على الاعتقاد ببساطة الذات وتجردها ونفي كل صفة عنها ، فالشرك
عندهم هو إثبات الصفات للذات فإن ذلك يقتضي وجود ثلاثة أشياء متغايرة هي الذات
والصفات والوجود ، وذلك يفضي إلى الكثرة وينافي البساطة. ولهذا نفوا اثنين منهما
وهما الذات والصفات ولم يبقوا إلا الوجود من غير إضافة شيء إليه حتى لا يصير وجودا
ممكنا فآل بهم الأمر كما قدمنا الى القول بوجود مطلق بشرط الإطلاق ، وهذا معناه
أنه ليس هناك إله موجود في الخارج وإنما هو فكرة منحوتة في الأذهان.
* * *
فصل
في النوع الثاني من أنواع التوحيد لأهل الإلحاد
هذا وثانيها
فتوحيد ابن سبـ
|
|
ـعين وشيعته
أولي البهتان
|
كل اتحادي خبيث
عنده
|
|
معبوده موطوؤه
الحقاني
|
توحيدهم أن
الإله هو الوجو
|
|
د المطلق
المبثوث في الأعيان
|
هو عينها لا
غيرها ما هاهنا
|
|
رب وعبد كيف
يفترقان
|
لكن وهم العبد
ثم خياله
|
|
في ذي المظاهر
دائما يلجان
|
فلذاك حكمهما
عليه نافذ
|
|
فابن الطبيعة
ظاهر النقصان
|
فإذا تجرد علمه
عن حسه
|
|
وخياله بل ثم
تجريدان
|
تجريده عن عقله
أيضا فإن ال
|
|
ـعقل لا يدنيه
من ذا الشأن
|
بل يخرق الحجب
الكثيفة كلها
|
|
وهما وحسا ثم
عقل وإن
|
فالوهم منه وحسه
وخياله
|
|
والعلم والمعقول
في الأذهان
|
حجب على ذا
الشأن فاخرقها وإل
|
|
لا كنت محجوبا
عن العرفان
|
هذا وأكثفها
حجاج الحس والـ
|
|
ـعقول ذانك صاحب
الفرقان
|
فهناك صرت موحدا
حقا ترى
|
|
هذا الوجود
حقيقة الديان
|
والشرك عندهم
فتنويع الوجو
|
|
د وقولنا أن
الوجود اثنان
|
واحتج يوما
بالكتاب عليهم
|
|
شخص فقالوا
الشرك في القرآن
|
لكنما التوحيد
عند القائلين
|
|
بالاتحاد فهم
أولو العرفان
|
رب وعبد كيف ذاك
وإنما الـ
|
|
ـموجود فرد ماله
من ثان
|
الشرح : والثاني
من أنواع التوحيد هو توحيد أصحاب مذهب وحدة الوجود كابن سبعين وأضرابه من
الاتحاديين الخبثاء الذين يعبدون ما ينكحون من النساء ويقوم مذهبهم في التوحيد على
أن الإله سبحانه هو الوجود المطلق المنبث في هذه الأعيان الخارجية ، وأنه هو عينها
لا غيرها ، فليس هناك رب وعبد ولا خالق ومخلوق ، فإن ذلك يقتضي اثنينية الوجود ،
والوجود كله عندهم شيء واحد في إطلاقه أو في تعينه.
قالوا والسبب في
رؤية هذا الوجود الواحد أشياء كثيرة هو ما ركب في خلقه الإنسان من الوهم والخيال ،
فإنهما قوتان ضاربتان في المحسوسات ، فالوهم يحكم على ما ليس بمحسوس حكمه على
المحسوس ، والخيال هو قوة التركيب والتحليل
في تلك الصور
الخارجية. فلذلك كان حكمهما على الإنسان نافذا وكان نقص الإنسان بسبب سيطرة هاتين
القوتين عليه ظاهرا ، فإذا استطاع ان يجرد علمه عن تأثير الحس والخيال بل وعن عقله
أيضا ، فإن العقل لا يقر به من شهود الحقيقة لأنه لا يحكم إلا في نطاق المحسوسات ،
وإذا استطاع ان يمزق كل هذه الحجب الغليظة التي تمنعه من إدراك الحقيقة من الوهم
والحس والخيال ، وما في ذهنه من علوم ومعقولات فهنالك يصير موحّدا التوحيد الحق
حيث يشهد أن هذا الوجود كله بشتى مظاهره وصنوف تعيناته هو حقيقة الديان ، سبحانه
وتعالى عن هذا الهذيان ، والشرك عندهم هو ضد هذا الشهود من تنويع الموجودات واعتقاد
كثرتها جريا مع الوهم والخيال ، وقد خاصمهم في هذا بعض العلماء واحتج عليهم بما في
القرآن من التفرقة بين وجود الخالق ووجود المخلوق فردوا عليه بأن القرآن كتاب شرك
وأما التوحيد الحق فهو ما نحن عليه من نفي كل فرق وكل اثنينية في الوجود ، فليس
هناك رب وعبد ، وإنما هناك موجود واحد فرد لا ثاني له. ومن العجب أنهم مع هذا
الخلط والبهتان يزعمون لأنفسهم أنهم هم أولو التحقيق والعرفان فلله في خلقه شئون.
* * *
فصل
في النوع الثالث من التوحيد لأهل الإلحاد
هذا وثالثها هو
التوحيد عن
|
|
د الجهم تعطيل
بلا إيمان
|
نفي الصفات مع
العلو كذاك نف
|
|
س كلامه بالوحي
والقرآن
|
فالعرش ليس عليه
شيء بتة
|
|
لكنه خلو من
الرحمن
|
ما فرقة رب يطاع
ولا علي
|
|
ه للورى من خالق
رحمن
|
بل حظ عرش الرب
عند فريقهم
|
|
منه كحظ الأسفل
التحتاني
|
فهو المعطل عن
نعوت كماله
|
|
وعن الكلام وعن
جميع معان
|
وانظر إلى ما قد
حكينا عنه في
|
|
مبدأ القصيد
حكاية التبيان
|
هذا هو التوحيد
عند فريقهم
|
|
تلك الفحول
مقدمي البهتان
|
والشرك عندهم
فإثبات الصفا
|
|
ت لربنا ونهاية
الكفران
|
إن كان شرك ذا
وكل الرسل قد
|
|
جاءوا به يا
خيبة الإنسان
|
الشرح : والثالث
من أنواع التوحيد الباطل هو توحيد الجهم بن صفوان وشيعته ، وهو يقوم على التعطيل
المحض وعدم الإيمان بثبوت شيء من الصفات لله عزوجل لأن ذلك يقتضي في زعمهم مشابهة الله لخلقه فهو عندهم ليس
حيا ولا عالما ولا مريدا ولا سميعا ولا بصيرا الخ ، وهم كذلك ينفون علوّه تعالى
على خلقه واستواءه على عرشه ، كما أخبر بذلك نفسه وينفون حقيقة كلامه بالوحي
والقرآن ويقولون أن معنى كونه متكلما أنه خالق للكلام. وبناء على زعمهم الفاسد
يكون العرش خاليا ليس عليه شيء فليس فوقه رب يقصد ولا إله خالق يعبد ، بل يكون حظ
العرش منه الذي هو أعلى الموجودات كحظ الحضيض الذي هو أسفل الأمكنة عند مركز
الأرض.
وبالجملة فهم
يعطلون الرب سبحانه عن جميع ما يجب له من نعوت الكمال من كلام وغيره ، ومن أراد أن
يعرف مذهبهم على التفصيل فليرجع إلى ما حكى عنهم في صدر هذه القصيدة ، فقد أشبع
المؤلف رحمهالله الكلام في هذا الباب بما لا مزيد عليه.
هذا هو توحيد
هؤلاء الجهمية أئمة الكفر والضلال ومؤسسو البهتان لمن جاء بعدهم وقلدهم فيه من
العميان.
والشرك عندهم بل
ونهاية الكفر هو ما يضاد مذهبهم وينافيه من إثبات الصفات لله ، وقد رد المؤلف
عليهم بأن هذا الإثبات إن كان شركا ، ومعلوم أن جميع الرسل والأنبياء عليهم صلوات
الله وسلامه قد جاءوا به وصرحوا في غير خفاء ولا كتمان فقد باء الناس بالخيبة
والحرمان حيث لم يتعلموا من معلمي الإنسانية وأساتذة العرفان والإيمان إلا ما هو
ضلال وبهتان.
* * *
فصل
في النوع الرابع من أنواعه
هذا ورابعها
فتوحيد لدى
|
|
جبريهم هو غاية
العرفان
|
العبد ميت ما له
فعل ولكن ما
|
|
ترى هو فعل ذي
السلطان
|
والله فاعل
فعلنا من طاعة
|
|
ومن الفسوق
وسائر العصيان
|
هي فعل رب
العالمين حقيقة
|
|
ليست بفعل قط
للإنسان
|
فالعبد ميت وهو
مجبور على
|
|
أفعاله كالميت
في الأكفان
|
وهو الملوم على
فعال إلهه
|
|
فيه وداخل جاحم
النيران
|
يا ويحه المسكين
مظلوم يرى
|
|
في صورة العبد
الظلوم الجاني
|
لكن نقول بأنه
هو ظالم
|
|
في نفسه أدبا مع
الرحمن
|
هذا هو التوحيد
عند فريقهم
|
|
من كل جبري خبيث
جنان
|
الكل عند غلاتهم
طاعات
|
|
ما ثم في
التحقيق من عصيان
|
والشرك عندهم
اعتقادك فاعلا
|
|
غير الإله
المالك الديان
|
فانظر إلى
التوحيد عند القوم ما
|
|
فيه من الإشراك
والكفران
|
ما عندهم والله
شيء غيره
|
|
هاتيك كتبهم بكل
مكان
|
أترى أبا جهل
وشيعته رأوا
|
|
من خالق ثان لذي
الأكوان
|
أم كلهم جمعا
أقروا أنه
|
|
هو وحده الخلاق
للإنسان
|
فإذا ادّعيتم أن
هذا غاية التوحيد
|
|
صار الشرك ذا
بطلان
|
فالناس كلهم
أقروا أنه
|
|
هو وحده الخلاق
ليس اثنان
|
إلا المجوس
فإنّهم قالوا
|
|
بأن الشر خالقه
إله ثان
|
الشرح
: والرابع من أنواع
التوحيد المخالف لتوحيد الرسل عليهم الصلاة والسلام هو توحيد أصحاب مذهب الجبر
الذين يزعمون أنه نهاية التحقيق وغاية المعرفة وهو يقوم على أن العبد في حقيقته
ميت أو جماد لا حس فيه ولا حركة ولا فعل له ، بل كل ما يصدر عنه من أفعال هو فعل
الله الذي هو القادر وحده
وغيره لا قدرة له
على شيء فهو الذي يخلق في العبد الطاعات من صلاة وصيام وحج وجهاد الخ ، ويخلق فيه
الفسوق وجميع المعاصي من شرك وزنى وقتل وسرقة الخ ، فهذه كلها أفعال الله على
الحقيقة لا يصح نسبتها إلى العبد إلا على وجه من المجاز ، كما يقال هبت الريح وجرى
النهر وطلعت الشمس ، فالعبد لا قدرة له على فعل شيء ولا اختيار له ، بل هو مجبور
على أفعال كالميت أدرج في أكفانه.
ومع ذلك فهو يلام
على ما يخلقه الله فيه من ذنوب ويدخل بسببها نار الجحيم وهو في الحقيقة مظلوم لا
ذنب له وإن بدا في صورة الظلوم الجاني ، ولكنا مع ذلك نقول أنه ظالم لنفسه على جهة
التأدب فقط مع الله عزوجل حتى لا ننسب إليه الظلم هذا هو التوحيد عند عامة هؤلاء
الجبرية الذين خبثت طويتهم وساءت بالله ظنونهم وأما من غلا منهم وزعم شهود الحقيقة
الكونية من زنادقة الصوفية ، فيرى أن أعمال العباد كلها طاعات لا معصية فيها ،
لأنها تنفيذ للإرادة الإلهية الشاملة ، كما يقول في ذلك شاعرهم :
أصبحت منفعلا
لما يختاره
|
|
مني ففعلي كله
طاعات
|
فانظر إلى هذا
التوحيد عند هؤلاء القوم وما فيه من أنواع الشرك والكفر بل هو في حقيقته يبطل كل
شرك وكفر ، فإن الناس كلهم إلا قليلا منهم يقرون بأن الله هو خالق كل شيء ، وإن
شئت دليلا على ذلك فاسأل أبا جهل وشيعته في الشرك والضلال ، هل يعتقدون بوجود خالق
مع الله لهذه الأكوان؟ فستجدهم جميعا مقرين بأن الله هو وحده الخلاق للإنسان وغيره
من الموجودات.
فإذا ادعيتم أيها
الجبرية الضلال أن الاعتقاد بانفراد الله بالخلق هو غاية التوحيد فقد أبطلتم وجود
الشرك في العالم ، لأن الناس كلهم يقرون بأن الله هو وحده الخلاق لا خالق غيره ،
اللهم إلا المجوس الثنوية الذين قالوا بإلهين ، إله للخير وهو النور ، وإله للشر
وهو الظلمة.
* * *
فصل
في بيان توحيد الأنبياء والمرسلين
ومخالفته لتوحيد الملاحدة والمعطلين
فاسمع إذا توحيد
رسل الله ثم اج
|
|
عله داخل كفة
الميزان
|
مع هذه الأنواع
وانظر أيها
|
|
أولى لدى
الميزان بالرجحان
|
توحيدهم نوعان
قولي وفع
|
|
لي كلا نوعيه ذو
برهان
|
فالأول القولي
ذو نوعين أي
|
|
ضا في كتاب الله
موجودان
|
إحداهما سلب وذا
نوعان أي
|
|
ضا فيه حقّا فيه
مذكوران
|
سلب النقائص
والعيون جميعها
|
|
عنه هما نوعان
معقولان
|
الشرح
: بعد أن فرغ المؤلف
من بيان أنواع التوحيد المبتدعة التي اصطلحت عليها فرق الزيغ والضلال من فلاسفة
وصوفية وجهمية وجبرية وغيرها ، شرع في بيان التوحيد الحق الذي لا يستحق هذا الاسم
غيره ، وهو التوحيد الذي بعث الله به جميع رسله ، وأنزل لأجله كتبه ، وخلق الخلق
وشرع الشرائع لإقامته ، وأقام الأدلة العقلية والنقلية على وجوبه وصحته ، وهو كذلك
التوحيد الذي آمن به ودعا إليه خيار خلق الله من الأنبياء والمرسلين الذين هم أكمل
الناس عقولا وأزكاهم نفوسا.
فتوحيد الأنبياء
مشتمل على الحق والصدق المزكي للنفوس المطهر للأخلاق ، وهو مؤيد بصريح العقل
الموافق لصحيح النقل. وأما توحيد الملاحدة والمعطلة فمشتمل على أكذب الكذب ، وقائم
على شبه وخيالات تدل على جهل أصحابها وفساد عقولهم ، وإنما ذكر هذا النوع بعد ما
سبقه ، لأن الشيء يتميز بضده ، فمن عرف هذا التوحيد ووقف على حقيقته تبين له فساد
تلك المقالات ، وظهر له شناعتها وقبحها ، فيتمسك به أعظم التمسك ، قال تعالى (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ
وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) [الأنعام : ٥٥]
وفي الأثر «من لم يعرف الجاهلية لم يعرف الإسلام».
فمن جعل هذا
التوحيد في كفة ميزان وجعل هذه الأنواع الأخرى في الكفة الأخرى ظهر له أيها أرجح
وزنا وأعظم شأنا وأحق بالعناية والاتباع.
وهذا النوع من
التوحيد ينقسم إلى قسمين : أولهما توحيد قولي اعتقادي ، لأنه متعلق بأقوال القلوب
الذي هو اقرارها واعتقادها ، وأقوال اللسان من الثناء على الله وتمجيده ، ويسمى
أيضا بالتوحيد العلمي الخبري ، لأن المقصود منه مجرد العلم والمعرفة ، وتوحيد
الأسماء والصفات ، لأن مداره على إثباتها لله ، ويدخل فيه توحيد الربوبية.
والثاني : توحيد
فعلي لأنه متعلق بأفعال القلوب والجوارح ، ويسمى أيضا بالتوحيد الإرادي الطلبي ،
لأن المقصود منه إرادة الله بأنواع العبادة والإخلاص له فيها. ويسمى كذلك بتوحيد
الإلهية والعبادة ، لأنه توحيد الله بأفعال العبيد ، وأن لا يتّخذ من دونه شريك
ولا نديد.
وكلا نوعي هذا
التوحيد من القولي والعملي ثابت بالأدلة والبراهين النقلية والعقلية ، فآيات
القرآن الكريم وسوره كلها متضمنة لهذين النوعين من التوحيد لأنها إما خبر عن الله
وأسمائه وصفاته ، وهذا هو التوحيد العلمي الخبري ، وإما أمر بعبادته وحده وإخلاص
الدين له سبحانه ، وهذا هو التوحيد الإرادي الطلبي.
والتوحيد القولي
ينقسم أيضا الى قسمين كل منهما وردت به آيات الكتاب العزيز ، القسم الأول منها سلب
أي نفي للنقائص والعيوب عن الله تعالى ، والثاني إثبات صفات الكمال له سبحانه
وسيأتي ، وإنما بدأ بالسلب لأنه وسيلة ومقصود لغيره ، فإن السلب لا يراد لذاته ،
وإنما يقصد لما يتضمنه من إثبات الكمال ، فكل ما نفاه الله عن نفسه أو نفاه عنه
رسوله صلىاللهعليهوسلم من صفات النقص فإنه متضمن للمدح والثناء على الله بضد ذلك
النقص من الأوصاف الحميدة والأفعال الرشيدة. وهذا السلب على قسمين ذكرهما المصنف
بقوله :
* * *
سلب لمتصل
ومنفصل هما
|
|
نوعان معروفان
أما الثاني
|
وكذاك سلب الزوج
والولد الذي
|
|
نسبوا إليه
عابدو الصلبان
|
سلب الشريك مع
الظهير مع الش
|
|
فيع بدون اذن
الخالق الديان
|
وكذاك نفى الكفو
أيضا والولي
|
|
لنا سوى الرحمن
ذي الغفران
|
الشرح
: يعني أن التوحيد
القولي الذي يرجع الى سلب النقائص والعيوب نوعان :
١ ـ سلب لمتصل
وضابطه نفى كل ما يناقض صفة من صفات الكمال التي وصف الله بها نفسه أو وصفه بها
رسوله صلىاللهعليهوسلم ، كنفى الموت المنافي للحياة ، والعجز المنافي للقدرة ،
والسنة والنوم المنافي لكمال القيومية ، والاكراه المنافي للاختيار ، والذل
المنافي للعزة ، والسفه المنافي للحكمة الخ.
٢ ـ وسلب لمنفصل
وضابطه تنزيه الله سبحانه عن أن يشاركه أحد من الخلق في شيء من خصائصه التي لا
تنبغي الا له ، وذلك كنفى الشريك له في ربوبيته ، فانه متفرد بتمام الملك والقوة
والتدبير ، وفي إلهيته ، فهو وحده الذي يجب أن يألهه الخلق ويفردوه بكل أنواع
العبادة والتعظيم ، وفي اسمائه الحسنى وصفاته العليا ، فليس لغيره من المخلوقين
شركة معه سبحانه في شيء منها.
وكذلك نفى الظهير
الذي يظاهره ، أي يعاونه على خلق شيء أو تدبيره ، وذلك لكمال قدرته وسعة علمه
ونفوذ مشيئته ، وغيره من المخلوقين عاجز فقير لا حول له ولا قوة الا بالله ،
فالشريك والظهير منفيان عنه بإطلاق ، وأما الشفيع فانه لكمال عظمته وتمام غناه
وسعة ملكه منزه أن يشفع عنده أحد الا بإذنه ، فالمنفى عنه سبحانه هو تلك الشفاعة
المطلقة التي كان يزعمها المشركون وأشباههم من أهل الكتاب لآلهتهم وأنبيائهم وقد
يسيهم.
وأما الشفاعة عنده
بإذنه فانها ثابتة بالنصوص الكثيرة من الكتاب والسنة وذلك لأنها دالة على سعة
رحمته وكمال احسانه ، فانها من رحمته بالشافع والمشفوع له ، فالشافع ينال بها
الأجر والثناء من الله ومن خلقه ، والمشفوع له يرحمهالله على
يد من أذن له
بالشفاعة ، ومع هذا فلا يأذن سبحانه لأحد أن يشفع الا فيمن رضي قوله وعمله من أهل
الاخلاص والمتابعة ، كما في قوله عليه الصلاة والسلام لأبي هريرة «اسعد الناس
بشفاعتي من قال : لا إله الا الله خالصة من قلبه».
وقد نزه الله
سبحانه نفسه عن مشاركة أحد له في واحد من هذه الأمور الثلاثة التي هي الملك
والشركة معه فيه والمعاونة له والشفاعة عنده بغير اذنه ، في قوله تعالى : (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ
دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ
وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ
الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) [سبأ : ٢٢ ، ٢٣]
فقطع بهذه الآية كل سبب يتوسل به المشركون لدعوة غيره.
وكذلك ينفى عنه
سبحانه اتخاذ الصاحبة والولد الذي نسبه إليه النصارى عابدو الصلبان والصابئة الذين
يقولون ان الملائكة بنات الله. وقد رد الله عزوجل على كل من زعم أن له ولدا في غير آية من كتابه ، فقال في
سورة (قُلْ هُوَ اللهُ
أَحَدٌ) التي تعدل ثلث القرآن : (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ
يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) [الاخلاص : ٣ ، ٤].
وقال في آخر سورة
بني اسرائيل : (وَقُلِ الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ
وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِ) [الإسراء : ١١١].
وفي أول سورة
الكهف : (وَيُنْذِرَ الَّذِينَ
قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ
كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) [٤ ، ٥].
وفي آخر سورة مريم
عليهاالسلام (وَقالُوا اتَّخَذَ
الرَّحْمنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا تَكادُ السَّماواتُ
يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ
دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً
إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) [٨٨ ، ٩٣] الى غير
ذلك من
الآيات التي تنفى
عن الله ما لا يليق به من اتخاذ الصاحبة والولد والشريك ، لأنه الواحد الأحد الفرد
الصمد ، الغني الذي لا يحتاج الى أحد من خلقه بوجه من الوجوه ، وكل الخلق مملوكون
له وفقراء إليه.
وكذلك يجب أن ينفى
عنه أن يكون أحد مكافئا ، أي مساويا له في كماله وفيما يجب له من حقوق ، كما قال
تعالى : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ
كُفُواً أَحَدٌ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) [مريم : ٦٥](فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) [البقرة : ٢٢]
فليس لأحد صفات تقارب صفات الله سبحانه ولا افعال تشبه أفعاله ، بل ليس لأحد من
خلقه استقلال بفعل شيء أصلا حتى يعينه الله عليه. ولهذا كانت أفعال العباد تابعة
لمشيئة الله تعالى مع وقوعها منهم بقدرهم وارادتهم ، فان خالق القدرة والإرادة
خالق ما يكون بهما كما قال تعالى (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ
أَنْ يَسْتَقِيمَ وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) [التكوير : ٢٨ ،
٢٩].
ومما ينفى عن الله
وينزه عنه أيضا أنه ليس لنا ولى سواه يلي أمورنا ، فهو وحده المتولي لأمور خلقه في
الخلق والرزق والتدبير وأنواع التربية العامة والخاصة ، وولايته تعالى نوعان :
ولاية عامة شاملة
للبر والفاجر ، وهي ولاية الخلق والتدبير ، كما قال تعالى (ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍ) [السجدة : ٤](فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ) [الشورى : ٤٤].
وولاية خاصة ، وهي
ولايته تعالى للمؤمنين المتقين يخرجهم بها من ظلمات الكفر والجهل والمعصية الى نور
العلم والايمان والطاعة ، قال تعالى (اللهُ وَلِيُّ
الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) [البقرة : ٢٥٧]
وقال (أَلا إِنَّ
أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا
وَكانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) [يونس : ٦٤].
وكذلك لم يتخذ
سبحانه من خلقه وليا من الذل لكمال اقتداره وغناه وعظمته وانما يتخذ منهم أولياء
رحمة بهم واحسانا إليهم ، يحبهم ويحبونه.
وبالجملة فليس أحد
مساويا لله تعالى أو مماثلا أو معينا أو مشيرا أو محتاجا إليه بوجه من الوجوه.
والأول التنزيه
للرحمن عن
|
|
وصف العيوب وكل
ذي نقصان
|
كالموت والاعياء
والتعب الذي
|
|
ينفى اقتدار
الخالق الديان
|
والنوم والسنة
التي هي أصله
|
|
وعزوب شيء عنه
في الأكوان
|
الشرح
: هذا هو القسم
الأول من قسمي السلب المنفى عن الله ، وهو السلب المتصل الذي يقوم على تنزيهه
سبحانه عن الاتصاف بكل ما يضاد كماله من النقائص والعيوب ، والغرض من هذا السلب
كما قدمنا انما هو ثبوت صفات الكمال له على أكمل وجه وأتمه ، فسلب الموت والاعياء
عنه مستلزم لثبوت كمال حياته وقدرته ، قال تعالى (وَتَوَكَّلْ عَلَى
الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) [الفرقان : ٥٨]
وقال (وَلَقَدْ خَلَقْنَا
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ
لُغُوبٍ) [ق : ٣٨] فانه لو
اتصف بشيء من هذا النقص لكان ناقص القدرة ، وكذلك سلب النوم والسنة التي هي النعاس
عنه يستلزم اثبات كمال حياته وقيوميته ، قال الله تعالى (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ
الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) [البقرة : ٢٥٥].
وفي الحديث الذي
رواه أبو موسى الاشعري رضي الله عنه «ان الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام» وكذلك
سلب الجهل ، والنسيان عنه يقتضي اتصافه بالعلم الكامل المحيط بكل ما في السموات
والأرض وبما يسر العباد ويعلنون فلا يعزب عنه مثقال ذرة من ذلك ، كما قال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ
فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) [آل عمران : ٥].
وكما قال : (عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ
مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ
وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [سبأ : ٣].
* * *
وكذلك العبث
الذي تنفيه حكمت
|
|
ه وحمد الله ذي
الاتقان
|
وكذاك ترك الخلق
اهمالا سدى
|
|
لا يبعثون الى
معاد ثان
|
كلا ولا أمر ولا
نهى
|
|
عليهم من إله
قادر ديان
|
الشرح
: يعني كما يجب
تنزيهه عما ذكر من الموت والاعياء والنوم والسنة والجهل يجب تنزيهه عن العبث في
خلقه وأمره المنافي لكمال حكمته وحمده ، فلم يخلق شيئا عبثا ولا باطلا ولا شرع
لعباده الا ما فيه حكمة ومصلحة لأنه حكيم حميد ، فمن تمام حكمته وحمده أنه أحسن كل
شيء خلقه وأحكم وأتقن صنعه ، فلا يرى فيه خلل ولا فطور. وكذلك أحكم شرائعه التي
شرعها لعباده فجعلها في غاية العدل والمصلحة وضمنها كل ما فيه خيرهم وسعادتهم في
الدنيا والآخرة.
ومن تمام حكمته
كذلك أنه لم يترك خلقه هملا بلا أمر ولا نهى ولا ثواب ولا عقاب بل حكمته وحمده
دالان اعظم الدلالة على أنه خلق المكلفين لينفذ فيهم أحكامه الشرعية ويبتليهم
بالأوامر والنواهي. ثم بعد ذلك يبعثهم الى الدار الآخرة التي تجري عليهم فيها
أحكامه الجزائية من الثواب والعقاب.
والآيات الدالة
على تمام حكمته سبحانه في خلق المكلفين للابتلاء بأنواع التكاليف ليبلوهم أيهم
أحسن عملا كثيرة منها قوله في آخر سورة (المؤمنون) :
(أَفَحَسِبْتُمْ
أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ فَتَعالَى
اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) [١١٥ ، ١١٦] وقوله
: (وَما خَلَقْنَا
السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ
الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) [ص : ٢٧ ، ٢٨].
وقوله : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا
السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ) [الجاثية : ٢١].
* * *
وكذاك ظلم عباده
وهو الغنى
|
|
فما له والظلم
للانسان
|
وكذاك غفلته
تعالى وهو علا
|
|
م الغيوب فظاهر
البطلان
|
وكذاك النسيان
جل الهنا
|
|
لا يعتريه قط من
نسيان
|
وكذاك حاجته الى
طعم ورز
|
|
ق وهو رازق بلا
حسبان
|
الشرح
: ومما يجب أن ينزه
الله عنه أن يقع منه ظلم لعباده بزيادة في سيئاتهم أو نقص من حسناتهم أو عقوبتهم
على ما لم يفعلوا من الذنوب أو أخذ أحد منهم بجريرة غيره الى غير ذلك من صور الظلم
التي حرمها سبحانه على نفسه ، فان الظلم لا يفعله الا من هو محتاج إليه لعجزه
وفقره أو من كان الجور وصفا له ، والله سبحانه هو الغنى عن خلقه من كل وجه ، وهو
الموصوف بكمال الحكمة والعدل فما له اذا ولظلم العباد ، قال تعالى : (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت : ٤٦] وقال (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ
ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها) [النساء : ٤] وقال
(ما يُبَدَّلُ
الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [ق : ٢٩].
وكذلك ينزه عن
الغفلة التي هي الذهول عن الشيء وعن النسيان الذي هو ضد الذكر لان علمه محيط
بالاشياء كلها من غيب أو شهادة ، فلا يطرأ عليه ما يطرأ على علوم المخلوقين من
ذهول أو نسيان ، كما قال تعالى على لسان موسى عليهالسلام في خطابه لفرعون حين قال له (فَما بالُ الْقُرُونِ
الْأُولى قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى) [طه : ٥٢].
وكذلك ينزه سبحانه
عن احتياجه الى الطعام والرزق ، فانه هو الرازق لجميع الخلق يوصل إليهم أقواتهم
ويطعمهم ويسقيهم مع غناه عنهم قال تعالى (وَما خَلَقْتُ
الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما
أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) [الذاريات : ٥٥ ،
٥٨].
وقال (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا
فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) [الأنعام : ١٤].
* * *
هذا وثاني نوعي
السلب الذي
|
|
هو أول الانواع
في الاوزان
|
تنزيه أوصاف
الكمال له عن التش
|
|
بيه والتمثيل
والنكران
|
لسنا نشبه وصفه
بصفاتنا
|
|
ان المشبه عابد
الاوثان
|
كلا ولا نخليه
من أوصافه
|
|
ان المعطل عابد
البهتان
|
من مثل الله
العظيم بخلقه
|
|
فهو النسيب
لمشرك نصراني
|
أو عطل الرحمن
من أوصافه
|
|
فهو الكفور وليس
ذا ايمان
|
الشرح
: بعد ان فرغ المؤلف
من بيان النوع الاول من أنواع السلب الذي هو سلب النقائص والعيوب عن الله عزوجل وقسمه الى متصل ومنفصل شرع في بيان النوع الثاني من هذا
السلب ، الذي هو أول أنواع التوحيد القولي في هذه القصيدة.
وهذا النوع يقوم
على تنزيه أوصاف الكمال الثابتة له سبحانه عن مماثلة صفات المخلوقين لها ، فلا
يقال علمه كعلمهم ولا قدرته كقدرتهم ولا رحمته كرحمتهم ونحو ذلك ، فمن شبه صفات
الله بصفات خلقه لم يكن عابدا لله في الحقيقة ، وانما يعبد وحدثنا صوره له خياله
ونحته فكره ، فهو من عباد الاوثان لا من عباد الرحمن ، فهو نسيب ، أي مشابه ومشاكل
لهؤلاء النصارى الذين عبدوا المسيح ابن مريم وجعلوه إلههم. وأما رب العالمين فهو
فوق ما يظنون وأعلى مما يتوهمون ، فانه كما أن ذاته لا تشبهها ذوات المخلوقين
فصفاته لا تشبهها صفاتهم.
وكذلك يقوم هذا
النوع على عدم التعطيل والجحد لصفات الكمال كما فعلت ذلك الجهمية ومن تبعهم من
المتكلمين ، فان من نفى ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسولهصلىاللهعليهوسلم ، فانه في الحقيقة لا يعبد شيئا موجودا ، وانما يعبد عدما
مفقودا ، لما توهم أن ظاهر النصوص يدل على التشبيه أخذ ينفيها بوهمه الفاسد. فآل
به النفى للصفات الى نفى حقيقة الذات اذ لا يعقل وجود ذات في الخارج مجردة عن
الصفات ، فصار قلبه متعبدا للعدم المحض. وهذا كفر بآيات الله
وتكذيب للرسل ،
ورد لما جاءوا به من اثبات نعوت الكمال ، ولهذا قال المصنف (فهو الكفور وليس ذا
ايمان).
يقول فضيلة الشيخ
عبد الرحمن آل سعدي رحمهالله :
وبالجملة فالناس
في هذا المقام ثلاثة أقسام : مؤمن موحد ومشبه ومعطل ، فالمؤمن الموحد يصف الله بما
وصف به نفسه ووصفه به رسوله من صفات الكمال على الوجه اللائق بجلال الله وعظمته من
غير تمثيل ولا تشبيه ، ومن غير تحريف ولا تعطيل لشيء من أوصاف الله.
والمشبه هو الذي
يشبه صفات الخالق بصفات المخلوقين أو يتعرض لمعرفة كنهها وحقيقتها التي لا يعلمها
غير الله.
والمعطل هو من نفى
شيئا من صفات الله.
وكل من المعطل
والمشبه قد حرم الوصول الى معرفة الله على وجهها وابتلى بالتكليف والتحريف لنصوص
الوحى.
وكما أنه مناقض
للوحى فهو مناقض لما دلت عليه العقول والفطر التي لم يطرأ عليها التغير فلا معقول
لديهم ولا منقول. وهدى الله أهل السنة والجماعة لاتباع الحق المنقول عن الله وعن
رسله ، والمعقول لذوي الألباب ، وذلك يظهر بتدبر ما عليه هذه الطوائف في المسائل
والدلائل وتحقيقها. ١ ه.
* * *
فصل
في النوع الثاني من النوع الأول وهو الثبوت
هذا ومن توحيدهم
اثبات أو
|
|
صاف الكمال
لربنا الرحمن
|
الشرح
: سبق أن ذكر المصنف
أن التوحيد القولي ينقسم الى ثبوت وسلب وبعد أن فرغ من ذكر السلب بجميع أقسامه شرع
في بيان القسم الثبوتي الذي
يقوم على اثبات كل
صفة الله وردت في الكتب الالهية أو جاءت على السنة الرسل عليهم الصلاة والسلام.
فمن توحيد
الأنبياء والمرسلين أنهم يثبتون أوصاف الكمال كلها لله عزوجل لا ينفون منها شيئا ولا يعطلون ربهم عن شيء من صفات كماله
، بل يؤمنون بها كلها ويتعرفون معناها ويتعبدون لله تعالى بعلمها واعتقادها ،
ويعملون بما تقتضيه كل صفة من الاحوال القلبية والمعارف الالهية.
فأوصاف العظمة
والكبرياء والمجد والجلال تملأ قلوبهم هيبة لله وتعظيما له وتقديسا ، وأوصاف العز
والقهر والقدرة والجبروت تملأها ذلا وانكسارا وخضوعا بين يدي الرب جل شأنه ، وخوفا
من بطشه وعذابه.
وأوصاف الرحمة
والبر والجود والكرم تملأها أملا واستبشارا وطمعا في فضله واحسانه وجوده وامتنانه.
وأوصاف العلم
والخبرة والاحاطة والشهود توجب للعبد مراقبة ربه في جميع حركاته وسكناته ،
والاستحياء منه أن يراه حيث نهاه ، أو يفقده حيث أمره ، وأوصاف الجمال والقرب
والود والاكرام تملأ القلوب محبة لله وشوقا إليه. وهكذا كل من تحقق بمعاني أسمائه
سبحانه ووعاها بقلبه ووجدانه ، فانه يجد لها من التأثيرات المختلفة على قلبه وروحه
ما يصير به كأنه في روضة من الجنة ، ويحق له أن يدخل في عموم قوله عليه الصلاة
والسلام «ان لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة».
* * *
كعلوه سبحانه
فوق السماوات
|
|
العلى بل فوق كل
مكان
|
فهو العلي بذاته
سبحانه
|
|
اذ يستحيل خلاف
ذا ببيان
|
وهو الذي حقا
على العرش استو
|
|
ى قد قام
بالتدبير للأكوان
|
الشرح
: فمما يثبته الرسل
والأنبياء لربهم من صفات كماله علوه على جميع
مخلوقاته ومباينته
لها ، وهذا أمر تشهد له العقول والفطرة التي لم يفسدها التقليد الأعمى والعصبية
لمذاهب الشيوخ والرؤساء. فضلا عما ورد من النصوص الكثيرة القاطعة التي لا يملك
المبطلون لها إنكارا ولا تأويلا ، وقد أشبع المصنف رحمهالله الكلام في هذا الباب في الفصول السابقة من منظومته ، وأثبت
صفة العلو من واحد وعشرين وجها ، وذكر تضافر العقل والنقل والفطرة على ذلك ،
فليرجع إليها من يريد زيادة اطمئنان لقلبه.
وأعلم أن الثابت
لله عزوجل من تلك الصفة هو العلو المطلق الذي يشمل علو الذات وعلو
القهر وعلو القدر ، وإنما نص على علو الذات لوقوع النزاع فيه ، وقال يستحيل أن
يكون خلاف ذلك ، أي أن لا يكون سبحانه عاليا على جميع خلقه ، فإنه لو لم يكن فوق
المخلوقات مباينا لها لكان إما عينها كما يقوله أصحاب الوحدة ، أو حالا فيها كما
يقوله الحلولية ، وكل منهما باطل بالضرورة فتعين علوه عليها ومباينته لها.
وأما استواؤه
سبحانه على عرشه العظيم فيستفاد من النقل (الكتاب والسنة) قال تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) [طه : ٥] ذكر ذلك
في سبعة مواضع من القرآن العظيم. وأعلم أن استواءه تعالى على العرش إنما هو على
الكيفية التي يعلمها مما يليق بعظمته وجلاله. وهكذا يقال في جميع ما أخبر الله به
عن نفسه ، نؤمن بها كما جاءت دون أن نبحث عن كنهها أو عن كيفية قيامها به مع
اعتقاد تنزيهه عن مماثلة المخلوقين.
* * *
حي مريد قادر
متكلم
|
|
ذو رحمة وإرادة
وحنان
|
هو أول هو آخر
هو ظاهر
|
|
هو باطن هي أربع
بوزان
|
ما قبله شيء كذا
ما بعده
|
|
شيء تعالى الله
ذو السلطان
|
ما فوقه شيء كذا
ما دونه
|
|
شيء وذا تفسير
ذي البرهان
|
فانظر إلى
تفسيره بتدبر
|
|
وتبصر وتعقل
لمعان
|
وأنظر إلى ما
فيه من أنواع مع
|
|
رفة لخالقنا
العظيم الشأن
|
الشرح
: تضمنت هذه الأبيات
جملة من الأسماء الحسنى الدالة على ما اشتملت عليه من صفات الكمال ، فهو حي متصف
بالحياة الكاملة اللازمة لذاته أزلا وأبدا فلم يسبقها عدم ولا يلحقها فناء ، وقد
سبق أن قلنا أن جميع صفات الكمال الذاتية ترجع إلى صفة الحياة التي تعتبر شرطا
فيها كلها ، فإنه لا يصح اتصافه بشيء منها إلا كان حيا ، ويكون كمال حياته مستوجبا
لكمال هذه الصفات وهو مريد بإرادة قائمة بذاته تتعلق بكل ما أراد إيجاده واحداثه ،
فلا يشذ عنها شيء من المكونات ، بل ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، وليس معنى ذلك
أن له إرادة واحدة قديمة تعلقت بجميع المرادات في الأزل ، كما يقول بذلك من لا عقل
له ، وإنما تنشأ في ذاته سبحانه إرادات جزئية على وفق علمه وحكمته ، فحدث عنها
المرادات بلا مهلة ولا توان ، كما قال سبحانه : (إِنَّما قَوْلُنا
لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [النحل : ٤٠] أي
فيحدث عقب إرادته وتكوينه له ، لا مع الإرادة ولا متراخيا عنها.
وهو كذلك قادر
بقدرة تامة لا يعجزها شيء. فمهما أراد شيئا من الممكنات أبرزه بقدرته لا يلحقه من
ذلك تعب ولا اعياء ، قال تعالى : (وَما كانَ اللهُ
لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) [فاطر : ٤٤].
وهو أيضا متكلم
بكلام هو صفة له قائمة بذاته ، فإنه لا معنى للمتكلم إلا من قام به الكلام. وكلامه
تعالى من صفات الفعل التابعة لمشيئته وقدرته ، فهو يتكلم متى شاء وكيف شاء بكلام
هو حروف وأصوات ، يسمعها من يختصه من خلقه بتكليمه.
وهو ذو رحمة وسعت
كل شيء في الدنيا ، وبلغت حيث بلغ علمه ، واختص بها عباده المؤمنين في الآخرة ،
كما قال تعالى : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ
كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) [الأعراف : ١٥٦]
الآية.
ورحمته سبحانه صفة
له على ما يليق به ، تقتضي إحسانه إلى خلقه وإيصال
النفع إليهم. وهو
ذو إرادة عامة شاملة يخصص بها كل ممكن ببعض ما يجوز عليه من الأوصاف والأحوال ،
وهو ذو حنان ، بمعنى شفقة عظيمة على خلقه ، ورأفة بالغة بهم تقتضي كمال بره وجوده.
وأما قوله : هو
أول هو آخر الخ الأبيات ، فهو بيان لمعنى أسمائه الأربعة الواردة في قوله تعالى : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ
وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) [الحديد : ٣].
وقد التزم المصنف
في تفسيرها ما ورد به الحديث الصحيح من قوله عليه الصلاة والسلام «أنت الأول فليس
قبلك شيء ، وأنت الآخر فليس بعدك شيء ، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء ، وأنت الباطن
فليس دونك شيء» ولذا قال : (وذا تفسير ذي البرهان).
وقد سبق أن بينا
ضرورة الأخذ بهذا التفسير لهذه الأسماء الأربعة حيث أنه ورد على لسان المعصوم
صلوات الله وسلامه عليه ، وهو أعلم الخلق بربه وبمعاني أسمائه. يقول العلامة الشيخ
عبد الرحمن آل سعدى غفر الله له : (فتدبر هذه المعاني الجليلة الدالة على تفرد
الرب العظيم بالكمال المطلق والإحاطة المطلقة الزمانية في قوله : (الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) والمكانية في (الظَّاهِرُ
وَالْباطِنُ).
فالأول يدل على أن
كل ما سواه حادث كائن بعد أن لم يكن ، ويوجب للعبد أن يلحظ فضل ربه في كل نعمة
دينية أو دنيوية ، إذ السبب والمسبب منه تعالى.
والآخر يدل على
أنه هو الغاية ، والصمد الذي تصمد إليه المخلوقات بتألهها ورغبتها ورهبتها وجميع
مطالبها.
والظاهر يدل على
عظمة صفاته واضمحلال كل شيء عند عظمته من ذوات وصفات وعلى علوه. والباطن يدل على
اطلاعه على السرائر والضمائر والخبايا والخفايا ودقائق الاشياء ، كما يدل على قربه
ودنوه ، ولا يتنافى الظاهر والباطن ، لأن الله ليس كمثله شيء في كل النعوت ا ه.
* * *
وهو العلي فكل
أنواع العل
|
|
وله فثابتة بلا
نكران
|
وهو العظيم بكل
معنى يوجب الت
|
|
عظيم لا يحصيه
من انسان
|
الشرح
: ومن أسمائه الحسنى
سبحانه (العليّ والعظيم) وقد ختم الله بهما آية الكرسي التي هي سيدة أي القرآن قال
تعالى : (وَلا يَؤُدُهُ
حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) [البقرة : ٢٥٥] وقد ذكرا كذلك معا مقترنين في قوله تعالى :
(لَهُ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) [الشورى : ٤].
أما العلى فهو دال
على وصف العلو الثابت له بالعقل والنقل والفطرة ، وقد ذكرنا أن الثابت له سبحانه
من ذلك الوصف هو العلو المطلق الذي يشمل علو الذات فهو موجود بذاته فوق جميع خلقه.
وعلو القهر فالمخلوقات جميعا في قبضة قهره ، وعلو القدر فليس يدانيه أحد في نفاسة
قدره ، وأما العظيم فهو دال على وصف العظمة التي هي الكبر والاتساع.
ومعاني التعظيم الثابتة له سبحانه نوعان
:
أحدهما : أنه
موصوف بكل صفة كمال ، وله من ذلك الكمال أكمله وأعظمه وأوسعه بحيث لا يكون وراءه
كمال أصلا ، فله العلم الواسع المحيط والقدرة التامة والإرادة الشاملة والحكمة
البالغة ، وله الكبرياء والعظمة اللذان لا يقدر أحد قدرهما ولا يبلغ كنههما ، كما
قال صلىاللهعليهوسلم فيما يرويه عن ربه عزوجل «الكبرياء ردائي
والعظمة أزاري فمن نازعني واحدا منهما عذبته».
والنوع الثاني من
معانى عظمته : أنه المستحق لكل أنواع التعظيم التي يعظم بها عباده ، فهو يستحق
منهم أن يعظموه بقلوبهم وألسنتهم وجوارحهم ، وذلك ببذل الجهد في معرفته ومحبته
والذل والانكسار له والخضوع لكبريائه وأعمال اللسان في الثناء عليه ، وقيام
الجوارح بشكره وعبوديته. ومن تعظيمه أن يتقى حق تقاته فيطاع ولا يعصى. ويذكر فلا
ينسى ويشكر فلا يكفر.
ومن تعظيمه تعظيم
امره ونهيه وكل ما شرعه من زمان ومكان وأعمال.
ومن تعظيمه أن لا
يعترض على شيء مما خلقه أو شرعه.
* * *
وهو الجليل فكل
أوصاف الجلا
|
|
ل له محققة بلا
بطلان
|
وهو الجميل على
الحقيقة كيف لا
|
|
وجمال سائر هذه
الأكوان
|
من بعض آثار
الجميل فربها
|
|
أولى وأجدر عند
ذي العرفان
|
فجماله بالذات
والأوصاف وال
|
|
افعال والأسماء
بالبرهان
|
لا شيء يشبه
ذاته وصفاته
|
|
سبحانه عن افك
ذي بهتان
|
الشرح
: قال الراغب في
مفرداته : (الجلالة عظم القدر والجلال بغير الهاء التناهي في ذلك وخص بوصف الله
تعالى فقيل ذو الجلال والاكرام ، ولم يستعمل في غيره والجليل العظيم القدر ، ووصفه
تعالى بذلك ، أما لخلقه الأشياء العظيمة والمستدل بها عليه أو لأنه يجل عن الاحاطة
به أو لأنه يجل عن أن يدرك بالحواس).
وفي النهاية لابن
الأثير (ومن أسماء الله تعالى : الجليل ، وهو الموصوف بنعوت الجلال والحاوي جميعها
هو الجليل المطلق ، وهو راجع إلى كمال الصفات ، كما أن الكبير راجع إلى كمال الذات
، والعظيم راجع إلى كمال الذات والصفات) أه.
وأوصاف الجلال الثابتة
له سبحانه مثل العزة والقهر والكبرياء والعظمة والسعة والمجد كلها ثابتة له على
التحقيق لا يفوته منها شيء.
وأما الجميل فهو
اسم له سبحانه من الجمال وهو الحسن الكثير ، والثابت له سبحانه من هذا الوصف هو
الجمال المطلق الذي هو الجمال على الحقيقة ، فإن جمال هذه الموجودات على كثرة
ألوانه وتعدد فنونه ، هو من بعض آثار جماله فيكون هو سبحانه أولى بذلك الوصف من كل
جميل ، فإن واهب الجمال للموجودات لا بد أن يكون بالغا من هذا الوصف أعلى الغايات
، وهو سبحانه الجميل بذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله.
أما جمال الذات
فهو ما لا يمكن لمخلوق أن يعبر عن شيء منه أو يبلغ بعض كنهه وحسبك أن أهل الجنة مع
ما هم فيه من النعيم المقيم وأفانين اللذات والسرور التي لا يقادر قدرها إذا رأوا
ربهم وتمتعوا بجماله نسوا كل ما هم فيه ، واضمحل عندهم هذا النعيم وودوا لو تدوم
لهم هذه الحال ولم يكن شيء أحب إليهم من الاستغراق في شهود هذا الجمال ، واكتسبوا
من جماله ونوره سبحانه جمالا إلى جمالهم وبقوا في شوق دائم إلى رؤيته حتى أنهم
يفرحون بيوم المزيد فرحا تكاد تطير له القلوب.
وأما جمال الاسماء
فإنها كلها حسنى بل هي أحسن الاسماء وأجملها على الاطلاق فكلها دالة على كمال
الحمد والمجد والجمال والجلال ليس فيها أبدا ما ليس بحسن ولا جميل ، وأما جمال
الصفات فإن صفاته كلها صفات كمال ومجد ونعوت ثناء وحمد ، بل هي أوسع الصفات وأعمها
وأكملها آثارا وتعلقات ، لا سيما صفات الرحمة والبر والكرم والجود والإحسان
والإنعام.
وأما جمال الأفعال
فإنها دائرة بين أفعال البر والإحسان التي يحمد عليها ويشكر وبين أفعال العدل التي
يحمد عليها لموافقتها للحكمة والحمد فليس في أفعاله عبث ولا سفه ولا جور ولا ظلم ،
بل كلها خير ورحمة ورشد وهدى وعدل وحكمة ، قال تعالى : (إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [هود : ٥٦].
ولأن كمال الأفعال
تابع لكمال الذات والصفات ، فإن الأفعال أثر الصفات ، وصفاته كما قلنا أكمل الصفات
، فلا غرو أن تكون أفعاله أكمل الأفعال.
قال العلامة الشيخ
عبد الرحمن السعدي رحمهالله :
(وجمع المؤلف بين
الجليل والجميل ، لأن تمام التعبد لله هو التعبد بهذين الاسمين الكريمين ، فالتعبد
بالجليل يقتضي تعظيمه وخوفه وهيبته وإجلاله ، والتعبد باسمه الجميل يقتضي محبته
والتأله له ، وأن يبذل العبد له خالص المحبة وصفو الوداد ، بحيث يسبح القلب في
رياض معرفته وميادين جماله ويبتهج بما
يحصل له من آثار
جماله وكماله ، فإن الله ذو الجلال والاكرام).
* * *
وهو المجيد
صفاته أوصاف تع
|
|
ظيم فشأن الوصف
أعظم شان
|
الشرح
: قال صاحب النهاية
:
(المجد في كلام
العرب الشرف الواسع ، ورجل ماجد مفضال كثير الخير شريف ، والمجيد فعيل منه
للمبالغة ، وقيل هو الكريم الفعال ، وقيل إذا قارن شرف الذات حسن الفعال سمى مجدا
، وفعيل ابلغ من فاعل ، فكأنه يجمع معنى الجليل والوهاب والكريم) ا ه.
وقد فسر المؤلف
هذا الاسم الكريم بما ينبئ عن عظمة الصفات وسعتها ، وأن كل وصف من أوصافه سبحانه
عظيم شأنه متناه في كماله ، فهو العليم الكامل في علمه ، والرحيم الذي وسعت رحمته
كل شيء ، والقدير الذي لا يعجزه شيء ، والحليم الكامل في حلمه ، والحكيم الكامل في
حكمه ، إلى آخر ما له سبحانه من الأسماء والصفات ، بلغت غاية المجد والعظمة فليس
في شيء منها قصور أو نقصان.
* * *
وهو السميع يرى
ويسمع كل ما
|
|
في الكون من سر
ومن إعلان
|
ولكل صوت منه
سمع حاضر
|
|
فالسر والإعلان
مستويان
|
والسمع منه واسع
الأصوات لا
|
|
يخفى عليه
بعيدها والداني
|
وهو البصير يرى
دبيب النملة الس
|
|
وداء تحت الصخر
والصوان
|
ويرى مجاري
القوت في أعضائها
|
|
ويرى نياط
عروقها بعيان
|
ويرى خيانات
العيون بلحظة
|
|
ويرى كذاك تقلب
الأجفان
|
الشرح
: في هذه الأبيات
يشرح المؤلف معنى هذين الاسمين الكريمين (السميع والبصير) ويجيء ذكرهما في القرآن
كثيرا مقترنين ، لأن كلا منهما صفة
إدراك فمعنى
السميع المدرك لجميع الأصوات ، سرها وعلنها ، فلا يخفى عليه شيء منها مهما خفت ،
بل جميع الأصوات بالنسبة إلى سمعه سواء ، كما أن بعيدها والداني ، أي القريب سواء
، فسمعه سبحانه حاضر عند كل صوت منها ، لا تشتبه عليه ولا يختلط بعضها ببعض ، ولا
يتميز بعضها عن بعض بوضوح أو خفاء.
ومعنى البصير
المدرك لجميع المرئيات من الأشخاص والألوان مهما لطفت أو بعدت ، فلا يؤثر على
رؤيته بعد المسافات والأقطار ، ولا تحول دونها الحواجز والاستار ، فهو يرى دبيب
النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء ، بل ويرى مسالك الغذاء من
أمعائها وأربطة مفاصلها وعروقها بعينه التي لا تنام ، ويرى خيانات الأعين ، وهي
اختلاس النظر إلى محاسن النساء.
قال ابن عباس رضى
الله عنهما (هو الرجل يدخل على أهل البيت وفيهم المرأة الحسناء ، أو تمر به وبهم
المرأة الحسناء ، فإذا غفلوا لحظ إليها ، فإذا فطنوا غض بصره عنها ، فإذا غفلوا
لحظ ، فإذا فطنوا غض).
وقال الضحاك (خائنة
الأعين) هي الغمز وقول الرجل رأيت ولم ير أو لم أر وقد رأى.
ويرى سبحانه كذلك
تقلب الأجفان ، أي حركتها بين الإطباق والتفتيح والمقصود أن بصره سبحانه محيط
بجميع الأشياء ، جليلها وحقيرها ، صغيرها وكبيرها ، كثيفها ولطيفها ، لا يستتر عنه
شيء منها.
روى أبو داود في
سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلىاللهعليهوسلم قرأ هذه الآية (إِنَّ اللهَ كانَ
سَمِيعاً بَصِيراً) [النساء : ٥٨]
فوضع إبهامه على أذنه والتي تليها على عينه.
ومعنى الحديث أنه
سبحانه يسمع بسمع ويرى بعين ، فهو حجة على المعتزلة وبعض الأشاعرة الذين يجعلون
سمعه علمه بالمسموعات ، وبصره علمه بالمبصرات
ولا شك أنه تفسير
خاطئ ، فإن كلا من السمع والبصر معنى زائد على العلم قد يوجد العلم بدونه ، فإن
الأعمى يعلم بوجود السماء ولا يراها ، وكذلك الأصم يعلم بوجود الأصوات ولا يسمعها.
وأعجب من هذا قول
الأشاعرة أن كلا من السمع والبصر متعلق بجميع الموجودات ، فكيف تعلق السمع بما لا
يسمع من الأشخاص والألوان ، وكيف تعلق البصر بما لا يرى من الأصوات المسموعة
بالآذان.
وأعلم أن سمعه
تعالى نوعان : أحدهما عام ، وهو سمعه لجميع الأصوات الظاهرة والباطنة الخفية
والجلية وإحاطته التامة بها ، والثاني خاص وهو سمع الإجابة منه للسائلين والداعين
والعابدين ، فيجيبهم ويثيبهم ، ومنه قوله تعالى على لسان أم مريم عليهاالسلام : (رَبِّ إِنِّي
نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [آل عمران : ٣٥]
وقوله على لسان ابراهيم خليله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي
لَسَمِيعُ الدُّعاءِ) [ابراهيم : ٣٩]
ومنه قول المصلي (سمع الله لمن حمده) أي استجاب له وقبل منه.
* * *
وهو العليم أحاط
علما بالذي
|
|
في الكون من سر
ومن إعلان
|
وبكل شيء علمه
سبحانه
|
|
فهو المحيط وليس
ذا نسيان
|
وكذاك يعلم ما
يكون غدا وما
|
|
قد كان والموجود
في ذا الآن
|
وكذاك أمر لم
يكن لو
|
|
كان كيف يكون ذا
إمكان
|
الشرح
: هذا تفسير لاسمه
العليم بأحسن وجه وأجمعه ، فقد ذكر إحاطة علمه تعالى بجميع المعلومات من الواجبات
والممتنعات والممكنات ، أما الواجبات فإنه سبحانه يعلم ذاته الكريمة ونعوته
المقدسة التي لا يجوز في العقل انتفاؤها بل يجب عنده ثبوتها ووجودها ، وأما
الممتنعات فإنه يعلمها حال امتناعها ، ويعلم ما يترتب على وجودها لو وجدت كما أخبر
عن الآثار المترتبة على وجود آلهة معه في قوله
تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ
لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢]
فهذا فساد لم يقع لأنه مترتب على ممتنع وهو وجود إله مع الله ، فلو وقع هذا
الممتنع لوقع هذا الفساد ، كقوله سبحانه : (مَا اتَّخَذَ اللهُ
مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ
وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) [المؤمنون : ٩١]
فذهاب كل بما خلق وعلو بعضهم على بعض كان يترتب على وجود إله مع الله الذي هو
ممتنع بحيث لو حصل لحصل.
فهذا إخبار منه
سبحانه بما ينشأ عنها لو وجدت على سبيل الفرض والتقدير ، وأما الممكنات وهي التي
يجوز في العقل وجودها وعدمها ، فهو يعلم ما وجد منها وما لم يوجد مما لم تقتض
الحكمة إيجاده ، وعلمه محيط بجميع العالم العلوي والسفلي لا يخلو عن علمه مكان ولا
زمان ، فهو يعلم الغيب والشهادة ، والظاهر والباطن ، والجلي والخفي ، ولا يطرأ على
علمه غفلة ولا نسيان ، كما قال تعالى على لسان موسى عليهالسلام : (عِلْمُها عِنْدَ
رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى) [طه : ٥٢].
وكما أن علمه محيط
بجميع العالم العلوي والسفلي وما فيه من المخلوقات بذواتها وأوصافها وأفعالها
وجميع أمورها ، فهو يعلم أيضا ما كان في الماضي وما يكون في المستقبل الذي لا
نهاية له ، ويعلم ما لم يكن لو كان ، أي لو قدر كونه كيف وعلى أي حال يكون.
ويعلم أحوال
المكلفين منذ أنشأهم وبعد ما يميتهم وبعد ما يحييهم ، قد أحاط علمه بأعمالهم كلها
، خيرها وشرها ، وجزاء تلك الأعمال وتفاصيل ذلك في دار القرار.
والدليل العقلي
على علمه تعالى أمور.
أولها : أنه
يستحيل إيجاده الأشياء مع الجهل ، لأن إيجاده الأشياء بإرادته ، والإرادة تستلزم
العلم بالمراد ، كما قال سبحانه : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ
خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك : ١٤]. وثانيهما : ما في المخلوقات من الأحكام
والإتقان
وعجيب الصنعة
ودقيق الخلقة ، يشهد بعلم الفاعل لها لامتناع صدور ذلك في العادة عن غير ذي علم.
وثالثها : في المخلوقات من هو عالم ، والعلم صفة كمال ، فلو لم يكن سبحانه عالما
لكان في مخلوقاته من هو أكمل منه. ورابعها : كل علم في المخلوق إنما استفادة من
خالقه ، وواهب الكمال أحق به ، لأن فاقد الشيء لا يعطيه.
* * *
فصل
وهو الحميد فكل
حمد واقع
|
|
أو كان مفروضا
مدى الأزمان
|
ملأ الوجود
جميعه ونظيره
|
|
من غير ما عد
ولا حسبان
|
هو أهله سبحانه
وبحمده
|
|
كل المحامد وصف
ذي الاحسان
|
الشرح
: قال الراغب (الحمد
لله تعالى : الثناء عليه بالفضيلة وهو أخص من المدح وأعم من الشكر ، فإن المدح
يقال فيما يكون من الإنسان باختياره ، ومما يكون منه وفيه بالتسخير ، فقد يمدح
الإنسان بطول قامته وصباحة وجهه ، كما يمدح ببذل ماله وسخائه وعمله ، والحمد يكون
في الثاني دون الأول ، والشكر لا يقال إلا في مقابلة نعمة ، فكل شكر حمد ، وليس كل
حمد شكرا ، وكل حمد مدح وليس كل مدح حمدا ويقال : فلان محمود إذا حمد ، ومحمد إذا
كثرت خصاله المحمودة ، ومحمد إذا وجد محمودا ، وقوله عزوجل : إنه حميد مجيد ، يصح أن يكون في معنى المحمود وأن يكون
في معنى الحامد).
والتحقيق أن الحمد
وإن كان أعم من الشكر متعلقا ، فإن الشكر أعم منه من جهة الآلة ، فإن الحمد هو
الثناء باللسان على الجميل الاختياري نعمة كان أو غيرها ، وأما الشكر فيكون بالقلب
واليد واللسان ، ويكون على النعمة خاصة ، والحميد اسم من أسمائه الحسنى ، وهو فعيل
بمعنى مفعول ، ومعناه المستحق لجميع المحامد ما كان واقعا منها أو كان مقدر الوقوع
، فجميع أفراد الحمد المحققة
والمقدرة ثابتة له
سبحانه ، يستحقها بما له من نعوت الكمال وصفات الجلال والجمال ، ومن هنا كان
الأرجح في (ال) من قولنا الحمد لله إنها لاستغراق الأفراد.
وقد ذكر المؤلف أن
اسمه (الحميد) يأتي على وجهين :
أحدهما : أن جميع
المخلوقات ناطقة بحمده ، فكل حمد يقع منهم في الدنيا والآخرة ، بل وكل حمد لم يقع
وإنما كان مفروضا مقدرا في آنات الزمان المتتابعة بحيث يملأ الوجود كله علويه
وسفليه ، بل ويملأ مثله من غير عد ولا إحصاء فإنه سبحانه يستحقه على خلقه حيث كان
هو خلقهم ورزقهم وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة دينية ودنيوية ودفع عنهم النقم
والمكاره ، فليس بالعباد من نعمة إلا وهو موليها ولا يدفع الشر عنهم سواه فيستحق
منهم أن يثنوا عليه بما هو أهله ثناء لا فتور له ولا انقطاع.
والثاني : أنه
يحمد على ما له من الأسماء الحسنى والصفات العليا التي لا تنبغي إلا له فله كما
قدمنا صفات الكمال كلها بحيث لا يجوز خلوه عن أي كمال ممكن له ، وله من كل صفة
غاية كمالها الذي لا ينتظر كمال بعده ، فكل صفة من صفاته يستحق عليها أكمل الحمد
والثناء فكيف بجميع صفاته المقدسة.
فله الحمد لذاته
وله الحمد لصفاته وله الحمد لأفعاله لأنها دائرة بين أفعال الفضل والإحسان ، وبين
أفعال العدل والحكمة التي يستحق عليها كمال الحمد وله الحمد على خلقه ، وعلى شرعه
، وعلى أحكامه القدرية الكونية ، وعلى أحكامه القدرية الكونية ، وعلى أحكامه
الشرعية التكليفية. وعلى أحكامه الجزائية في الأولى والآخرة.
وتفاصيل حمده وما
يحمد هو عليه سبحانه لا تحيط بها الأفكار ولا تحصيها الأقلام.
* * *
فصل
وهو المكلم عبده
موسى بتك
|
|
ليم الخطاب
وقبله الأبوان
|
كلماته جلت عن
الإحصاء والتعداد
|
|
بل عن حصر ذي
الحسبان
|
لو أن أشجار
البلاد جميعها ال
|
|
أقلام تكتبها
بكل بنان
|
والبحر تلقى فيه
سبعة أبحر
|
|
لكتابة الكلمات
كل زمان
|
نفدت ولم تنفد
بها كلماته
|
|
ليس الكلام من
الإله بفان
|
الشرح
: سبق الكلام على
صفة الكلام بما يغني هنا عن إعادته ، ولكن وفاء بحق الشرح نجمل ذلك في أن الله
تبارك وتعالى متكلم متى شاء وكيف شاء ، لم يزل ولا يزال موصوفا بصفة الكلام ، وأن
كلامه من صفاته الذاتية الفعلية غير مخلوق كسائر صفات أفعاله المتعلقة بمشيئته
وقدرته ، وأنه كلم عبده موسى بن عمران كفاحا من غير واسطة بكلام سمعه موسى وناداه
وقربه نجيا ، كما ورد بكل ذلك آيات الكتاب العزيز. وأنه كلم من قبله الأبوان آدم
وحواء حين أزلهما الشيطان بالأكل من الشجرة فقال سبحانه معاتبا لهما : (أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا
الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ) [الأعراف : ٢٢]
وأن كلماته لا حصر لها ولا عد إذ كان ما تعلقت به لا يدخل تحت حصر وعد.
فهو يتكلم بما
يتعلق بذاته وصفاته وأفعاله ، وبما يتعلق بجميع مخلوقاته وأحكامه القدرية والشرعية
والجزائية وكلماته كلها صدق وعدل صدق في الاخبار وعدل في الأوامر والنواهي
والأحكام ، كما قال سبحانه : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ
رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [الأنعام : ١١٥].
وأما قوله (لو أن
أشجار البلاد جميعها) إلخ الأبيات فهو إشارة إلى قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ
شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما
نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) [لقمان : ٢٧].
يقول العلامة
الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمهالله :
(واعلم أن صفة
الكلام من صفاته الذاتية من حيث تعلقها وقيامها بذاته واتصافه بها ، ومن صفاته
الفعلية من حيث تعلقها بقدرته ومشيئته. فإذا كان من المعلوم أن الله لم يزل ولا
يزال كامل القدرة نافذ المشيئة علم أنه لم يزل ولا يزال متكلما إذا شاء لأن الكلام
من أعظم صفات الكمال التي يستحيل نفيها عن الله تعالى وكلماته غير متناهية فلا
تفنى ولا تبيد.
ولم يقدر الله حق
قدره من زعم أن كلامه مخلوق في جملة المخلوقات التي تنتهي وتصور هذا القول كاف في
رده) أه.
* * *
وهو القدير وليس
يعجزه إذا
|
|
ما رام شيئا قط
ذو سلطان
|
وهو القوي له
القوى جمعا تعا
|
|
لى الله ذو
الأكوان والسلطان
|
وهو الغني بذاته
فغناه ذا
|
|
تي له كالجود
والإحسان
|
وهو العزيز فلن
يرام جنابه
|
|
أنى يرام جناب
ذي السلطان
|
وهو العزيز
القاهر الغلاب لم
|
|
يغلبه شيء هذه
صفتان
|
وهو العزيز بقوة
هي وصفه
|
|
فالعز حينئذ
ثلاث معان
|
وهي التي كملت
له سبحانه
|
|
من كل وجه عادم
النقصان
|
الشرح
: ومن أسمائه الحسنى
سبحانه (القوي والعزيز) وقد وردا كذلك مقترنين في غير موضع من القرآن ، كقوله
تعالى : (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ
مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج : ٤٠](كَتَبَ اللهُ
لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [المجادلة : ٢١](وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ
شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ
بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحديد : ٢٥](إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ
الْعَزِيزُ) [هود : ٦٦].
أما القوي فهو ذو
القوة وقوته سبحانه لا يطرأ عليها ما يطرأ على القوى المخلوقة من وهن وفتور أو
تلاش وزوال ، فهو لا يعيا بخلق شيء ولا يمسه من ذلك نصب ولا لغوب. وجميع القوى
المخلوقة هي له سبحانه فهو الذي أودع
المخلوقات ما فيها
من قوة ولو شاء لسلبها ، ولهذا جاء في الحديث أن «لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من
كنوز الجنة».
وفي قصة صاحب
الجنتين المذكورة في سورة الكهف يقول له أخوه وهو يعظه : (وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ
قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ) [الكهف : ٣٩] وفي
سورة البقرة (وَلَوْ يَرَى
الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) [١٦٥].
وأما العزيز : فهو
الموصوف بالعزة وقد ذكر المؤلف لها ثلاث معان :
١ ـ العزة : بمعنى
الامتناع على من يرومه من أعدائه فلن يصل إليه كيدهم ولن يبلغ أحد منهم ضره وأذاه
، كما في الحديث القدسي : «يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي
فتنفعوني» وإلى هذا المعنى أشار بقوله (فلن يرام جنابه) أي لن يقصد أحد حماه
الأقدس فيقهره أو يغلبه ، والعزة بهذا المعنى من عز يعز بكسر العين في المضارع ،
قال الشاعر :
لنا جبل يحتله
من نجيره
|
|
يعز على من رامه
ويطول
|
٢ ـ والثاني العزة : بمعنى القهر
والغلبة وهي من عز يعز بضم العين في المضارع يقال : عزه إذا غلبه ، فهو سبحانه القاهر
لأعدائه الغالب لهم ، ولكنهم لا يقهرونه ولا يغلبونه ، وهذا المعنى هو أكثر معاني
العزة استعمالا.
٣ ـ والثالث العزة
بمعنى القوة والصلابة من عز يعز بفتحها ، ومنه قولهم أرض عزاز للصلبة الشديدة ،
وهذه المعاني الثلاثة للعزة ثابتة كلها لله عزوجل على أتم وجه وأكمله وأبعده عن العدم والنقصان.
* * *
وهو الغني بذاته
فغناه ذا
|
|
تي له كالجود
والإحسان
|
الشرح
: ومن أسمائه الحسنى
(الغني) فله سبحانه الغنى التام المطلق من كل وجه ، بحيث لا تشوبه شائبة فقر وحاجة
أصلا ، وذلك لأن غناه وصف لازم له لا
ينفك عنه لأنه
مقتضى ذاته ، وما بالذات لا يمكن أن يزول ، فيمتنع أن يكون إلا غنيا كما يمتنع أن
يكون إلا جوادا محسنا برا رحيما كريما.
وكما أن غناه ذاتي
له لا يمكن أن يطرأ عليه ما ينافيه من ذل واحتياج ، فكذلك فقر المخلوقات إليه هو
فقر ذاتي بحيث لا يمكنها أن تستغني عنه لحظة من اللحظات ، فهي مفتقرة إليه في
إيجادها وفي استمرار وجودها ، وفي كل ما تحتاجه أو تضطر إليه.
ومن سعة غناه أن
خزائن السموات والأرض كلها بيده ينفق منها ما يشاء ، وأن إنعامه على عباده متصل
دائم الفيض لا ينقطع في لحظة من اللحظات ، كما في الحديث «إن يمين الله ملآى سحاء
الليل والنهار لا تغيضها نفقة ألا ترون إلى ما أنفق منذ خلق السموات والأرض ، فإنه
لم يغض مما بيده».
ومن كمال غناه
وكرمه أنه يبسط يده بالإجابة لمن سأله فيقضي حاجته ويكشف ضره ، ولا يتبرم بإلحاح
السائلين ، بل يغضب على من لم يسأله ، ويؤتي عباده من فضله ما سألوه وما لم
يسألوه. وفي الحديث القدسي يقول الله تعالى «يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم
وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني ، فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك من ملكي
إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر».
ومن تمام غناه عن
خلقه أنه لم يتخذ صاحبة ولا ولدا ، وأنه لم يكن له شريك في الملك ولا ولي من الذل
، فهو الغني الذي كمل بنعوته وأوصافه ، وهو المغني لجميع مخلوقاته.
* * *
وهو الحكيم وذاك
من أوصافه
|
|
نوعان أيضا ما
هما عدمان
|
حكم وأحكام فكل
منهما
|
|
نوعان أيضا
ثابتا البرهان
|
والحكم شرعي
وكوني ولا
|
|
يتلازمان وما
هما سيان
|
بل ذاك يوجد دون
هذا مفردا
|
|
والعكس أيضا ثم
يجتمعان
|
لن يخلو المربوب
من إحداهما
|
|
أو منهما بل ليس
ينتفيان
|
لكنما الشرعي
محبوب له
|
|
أبدا ولن يخلو
من الأكوان
|
هو أمره الديني
جاءت رسله
|
|
بقيامه في سائر
الأزمان
|
لكنما الكوني
فهو قضاؤه
|
|
في خلقه بالعدل
والإحسان
|
هو كله حق وعدل
ذو رضى
|
|
والشأن في
المقتضي كل الشأن
|
فلذاك نرضى
بالقضاء ونسخط ال
|
|
مقضيّ حين يكون
بالعصيان
|
فالله يرضى
بالقضاء ويسخط ال
|
|
مقضي ما الأمران
متحدان
|
فقضاؤه صفة به
قامت وما
|
|
المقضي إلا صنعة
الرحمن
|
والكون محبوب
ومبغوض له
|
|
وكلاهما بمشيئة
الرحمن
|
هذا البيان يزيل
لبسا طالما
|
|
هلكت عليه الناس
كل زمان
|
ويحل ما قد
عقدوا بأصولهم
|
|
وبحوثهم فافهمه
فهم بيان
|
من وافق الكوني
وافق سخطه
|
|
إن لم يوافق
طاعة الديان
|
فلذاك لا يعدوه
ذم أو فوا
|
|
ت الحمد مع أجر
ومع رضوان
|
وموافق الديني
لا يعدوه أج
|
|
ر بل له عند
الصواب اثنان
|
الشرح
: ومن أسمائه الحسنى
سبحانه (الحكيم) وهو إما فعيل بمعنى فاعل ، أي ذو الحكم ، وهو القضاء على الشيء
بأنه كذا أو ليس كذا ، وأما فعيل بمعنى مفعل ، وهو الذي يحكم الأشياء ويتقنها.
وقيل الحكيم ذو
الحكمة ، وهي معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم ، ويقال لمن يحسن دقائق الصناعات
ويتقنها حكيم. فاسمه تعالى الحكيم متضمن لوصفين كل منهما بالغ غاية الكمال ونهاية
التمام ، وهما الحكم والأحكام ، وكل منهما أيضا نوعان ثابتان بالبرهان ومذكوران في
القرآن.
أما الحكم فهو إما
شرعي تكليفي ، وهو الذي يعرفه علماء الأصول بأنه
(خطاب الله
المتعلق بأعمال المكلفين على سبيل الاقتضاء أو الندب أو التخيير) ويقسمونه إلى
واجب ومندوب ومحرم ومكروه ومباح ، فهذا الحكم هو متعلق إرادته الدينية الشرعية ،
ويتناول كل ما كلف الله به عباده على ألسنة رسله عليهم الصلاة والسلام من أفعال
وتروك. وأما حكم كوني قدري يتعلق بكل ما شاء الله كونه مما سبق به قدره ، كما في
قوله تعالى : (إِنَّما قَوْلُنا
لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [النحل : ٤٠] وفي
الحديث «ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن» ولا تلازم بين الحكمين الشرعي والقدري
، وليس أحدهما مساويا للآخر في مفهومه ولا في متعلقه ، بل قد يوجد كل منهما بدون
الآخر ، كما أنهما قد يوجدان معا ، فبينهما عموم وخصوص من وجه ، فالحكم الكوني
القدري ينفرد في مثل كفر الكافر ومعصية العاصي ، فهو مراده بالإرادة الكونية دون
الشرعية. والحكم الشرعي ينفرد في مثل إيمان الكافر وطاعة العاصي ، فهو مراد
بالإرادة الشرعية دون الكونية ، ويجتمع الحكمان معا في مثل إيمان المؤمن وطاعة
المطيع ، فهو مراد بالإرادتين معا. والإرادة الكونية أعم من جهة تعلقها بما هو
واقع مما لا يحبه الله ويرضاه من الكفر والمعاصي ، وأخص من جهة أنها لا تتعلق بما
ليس بواقع مما يحبه الله ويرضاه من إيمان الكفار وطاعة العصاة.
والإرادة الشرعية
أعم من جهة أنها تتعلق بكل ما يحبه الله ويرضاه واقعا كان أو غير واقع. وأخص من
جهة أنها لا تتعلق بما هو واقع من الكفر والمعاصي المرادة بالإرادة الكونية وعلى
كل فلا يمكن أن يخلو المربوب عن أحد الحكمين ، بل لا بد أن يوجد فيه أحدهما أو هما
معا فلا يمكن ارتفاعهما عنه ، لكن الحكم الشرعي يتعلق كما قلنا بما يحبه الله
ويرضاه دائما ، ولم يخل عنه الوجود في وقت من الأوقات ، بل لم يزل الله آمرا ناهيا
متعبدا عباده بما يشاء. فالحكم الشرعي هو أمره الديني الذي بعث به رسله وأمرهم
بإقامته في جميع الأزمان.
وأما حكمه الكوني
فهو قضاؤه في خلقه بالعدل والإحسان ، فأفعاله كلها في خلقه دائرة بين الرحمة
والفضل ، وبين الحكمة والعدل ، فقضاؤه سبحانه حق كله
وعدل كله ومرضى
كله ، لأن قضاءه هو صفته التي قامت به ، فلا يمكن أن يسخط ولا أن يلحقه الذم ،
وإنما الكلام في المقضى على العبد الذي هو أثر القضاء والذي هو خلق الله وصنعته
فأحيانا يكون مرضيا حين يكون طاعة وإيمانا ، وأحيانا يكون مسخوطا حين يكون كفرا
وعصيانا.
والحاصل أنه لا بد
من الفرق بين القضاء الذي هو صفة الرب وبين المقضى الذي هو مخلوقه ، كما يجب الفرق
بين الفعل والمفعول ، والخلق والمخلوق ونحو ذلك ، فإن الأول صفة الرب التي لا يمكن
أن يلحقها نقص أو ذم ، والثاني قد يكون فيه ما يعاب أو يذم ، وبهذا البيان يزول
أشكال كبير طالما أورد الناس موارد الهلكة ، حيث لم يهتدوا إلى الفرق بين القضاء
والمقضى ، حتى آل أمر كثير منهم إلى استحسان الكفر وسائر المعاصي ، وزعموا أن كل
ما قضاه الله فهو محبوب مرضى ، وأن العاصي مطيع لله بتنفيذ قضائه ، كالمطيع له
سواء ، وفي ذلك يقول شاعرهم :
أصبحت منفعلا
لما يختاره
|
|
مني ففعلي كله
طاعات
|
وكل هذا كان بسبب
الخلط بين المعاني وعدم الاهتداء إلى الفرق بينها ، فالأمر الشرعي والكوني عندهم
سواء ، والقضاء والمقتضى سواء ، والإرادة الكونية والشرعية سواء ، والخلق
والاختيار سواء ، وهدى الله أهل السنة والجماعة إلى الفرق بين هذه المعاني كلها
فرضوا بقضاء الله ، ولكنهم سخطوا مقضية من الكفر والمعاصي التي لا يحبها ولا
يرضاها. وعلموا أن من وافق حكمه الكوني القدري إن لم يوافق حكمه الشرعي ، فهو
موافق لسخطه ، فلا يمكن ان يخلو من استحقاق ذم أو فوات حمد أو حرمان أجر ورضوان.
وأما من وافق أمره الديني الشرعي فإن أصاب في اجتهاده فله أجران ، وإن أخطأ فله
أجر ، والله تعالى أعلم.
* * *
فصل
والحكمة العليا
على نوعين أي
|
|
ضا حصلا بقواطع
البرهان
|
إحداهما في خلقه
سبحانه
|
|
نوعان أيضا ليس
يفترقان
|
احكام هذا الخلق
إذ إيجاده
|
|
في غاية الإحكام
والإتقان
|
وصدوره من أجل
غايات له
|
|
وله عليها حمد
كل لسان
|
والحكمة الأخرى
فحكمة شرعه
|
|
أيضا وفيها ذانك
الوصفان
|
غاياتها اللائي
حمدن وكونها
|
|
في غاية الإتقان
والإحسان
|
الشرح
: يقول العلامة
الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمهالله في شرحه لهذه الأبيات.
وحكمته نوعان :
أحدهما الحكمة في خلقه ، فإنه خلق الخلق بالحق ومشتملا على الحق ، وكان غايته
والمقصود به الحق ، خلق المخلوقات كلها بأحسن نظام ، ورتبها أكمل ترتيب ، وأعطى كل
مخلوق خلقه اللائق به ، بل أعطى كل جزء من أجزاء المخلوقات ، وكل عضو من أعضاء
الحيوانات خلقته وهيئته ، فلا يرى أحد في خلقه خللا ولا نقصا ولا فطورا ، فلو
اجتمعت عقول الخلق من أولهم إلى آخرهم ليقترحوا مثل خلق الرحمن أو ما يقارب ما أودعه
في الكائنات من الحسن والانتظام والإتقان لم يقدروا ، وأنّى لهم القدرة على شيء من
ذلك ، وحسب العقلاء الحكماء منهم أن يعرفوا كثيرا من حكمه ويطلعوا على بعض ما فيها
من الحسن والإتقان. وهذا أمر معلوم قطعا بما يعلم من عظمته وكمال صفاته وتتبع حكمه
في الخلق والأمر.
وقد تحدى عباده أن
ينظروا ويكرروا النظر والتأمل ، هل يجدون في خلقه خللا أو نقصا ، وأنه لا بد أن
ترجع الأبصار كليلة عاجزة عن الانتقاد على شيء من مخلوقاته.
(النوع الثاني)
الحكمة في شرعه وأمره ، فإنه تعالى شرع الشرائع وأنزل الكتب
وأرسل الرسل
ليعرفه العباد ويعبدوه ، فأي حكمة أجل من هذا؟ وأي فضل وكرم أعظم من هذا؟ فإن
معرفته تعالى وعبادته وحده لا شريك له ، وإخلاص العمل له وحمده وشكره والثناء عليه
أفضل العطايا منه لعباده على الإطلاق ، وأجل الفضائل لمن يمن الله عليه بها وأكمل
سعادة وسرور للقلوب والأرواح ، كما أنها هي السبب الوحيد للوصول إلى السعادة
الأبدية والنعيم الدائم فلو لم يكن في شرعه وأمره هذه الحكمة العظيمة التي هي أصل
الخيرات وأكمل اللذات ، ولأجلها خلقت الخليقة وحق الجزاء ، وخلقت الجنة والنار
لكانت كافية شافية.
هذا وقد اشتمل
شرعه ودينه على كل خير ، فأخباره تملأ القلوب علما ويقينا وإيمانا وعقائد صحيحة ،
وتستقيم بها القلوب ويزول انحرافها ، وتثمر كل خلق جميل ، وعمل صالح وهدى ورشد ،
وأوامره ونواهيه محتوية على غاية الحكمة والصلاح والإصلاح للدين والدنيا ، فإنه لا
يأمر إلا بما مصلحته خالصة أو راجحة ولا ينهى إلا عما مضرته خالصة أو راجحة.
ومن حكمة الشرع
الإسلامي أنه كما أنه الغاية لصلاح القلوب والأخلاق والأعمال والاستقامة على
الصراط المستقيم ، فهو الغاية لصلاح الدنيا ، فلا تصلح أمور الدنيا صلاحا حقيقيا
إلا بالدين الحق الذي جاء به محمد صلىاللهعليهوسلم وهذا مشاهد محسوس لكل عاقل ، فإن أمة محمد لمّا كانوا
قائمين بهذا الدين أصوله وفروعه وجميع ما يهدي ويرشد إليه كانت أحوالهم في غاية
الاستقامة والصلاح.
ولما انحرفوا عنه
وتركوا كثيرا من هداه ولم يسترشدوا بتعاليمه العالية انحرفت دنياهم كما انحرف
دينهم.
وكذلك أنظر إلى
الأمم الأخرى التي بلغت في القوة والحضارة والمدنية مبلغا هائلا ، لكن لما كانت
خالية من روح الدين ورحمته وعدله كان ضررها أعظم من نفعها ، وشرها أكبر من خيرها ،
وعجز علماؤها وحكماؤها وساستها عن تلافي الشرور الناشئة عنها ، ولن يقدروا على ذلك
ما داموا على حالهم ولهذا كان من حكمته تعالى أن ما جاء به محمد صلىاللهعليهوسلم من الدين والقرآن أكبر البراهين على صدقه
وصدق ما جاء به
لكونه محكما كاملا لا يصلح الصلاح إلا به. ا ه.
وما أظنني بحاجة
إلى أن أزيد شيئا على هذا الشرح الرائع الذي دبجه يراع هذا العالم التحرير رحمهالله وأجزل مثوبته ،
ورفع بين العلماء العاملين درجته آمين.
* * *
وهو الحي فليس
يفضح عبده
|
|
عند التجاهر منه
بالعصيان
|
لكنه يلقى عليه
ستره
|
|
فهو الستير
وصاحب الغفران
|
الشرح
: ورد في السنة وصفه
تعالى بالحياء ، كقوله صلىاللهعليهوسلم : «إن الله حيي يستحي من عبده إذا مد يديه إليه أن يردهما
صفرا» وكقوله عليهالسلام في شأن النفر الثلاثة الذين وقفوا على مجلسه : «أما أحدهم
فأقبل فأقبل الله عليه ، وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله عزوجل منه ، وأما الثالث فأعرض فأعرض الله عزوجل عنه».
وحياؤه تعالى وصف
يليق به ليس كحياء المخلوقين الذي هو تغير وانكسار يعتري الشخص عند خوف ما يعاب أو
يذم ، بل هو ترك ما ليس يتناسب مع سعة رحمته وكمال جوده وكرمه وعظيم عفوه وحلمه.
فالعبد يجاهره بالمعصية مع أنه أفقر شيء إليه ، وأضعفه لديه ويستعين بنعمه على
معصيته ، ولكن الرب سبحانه مع كمال غناه وتمام قدرته عليه يستحي من هتك ستره
وفضيحته ، فيستره بما يهيؤه له من أسباب الستر ، ثم بعد ذلك يعفو عنه ويغفر ، كما
في حديث ابن عمر رضي الله عنهما : «أن الله عزوجل يدني المؤمن فيضع عليه كنفه ، ثم يسأله فيما بينه وبينه : ألم
تفعل كذا يوم كذا؟ حتى إذا قرره بذنوبه وأيقن أنه قد هلك قال له سترتها عليك في
الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم».
وكذلك يستحي
سبحانه من ذي الشيبة في الإسلام أن يعذبه ، ويستحي ممن يدعوه ويمد إليه يديه أن
يردهما خاليتين ، وهو من أجل أنه حيي ستير يحب أهل
الحياء والستر من
عباده ، فمن ستر مسلما ستر الله عليه في الدنيا والآخرة ، ويكره المجاهرة بالفسوق
والإعلان بالفاحشة ، وأن من أمقت الناس عنده من بات على معصية والله يستره ، ثم
يصبح فيكشف ستر الله عليه. وقد توعد الذين يحبون ان تشيع الفاحشة في الذين آمنوا
بأن لهم عذابا أليما في الدنيا والآخرة ، وفي الحديث «كل أمتي معافى إلا المجاهرين».
* * *
وهو الحليم فلا
يعاجل عبده
|
|
بعقوبة ليتوب من
عصيان
|
وهو العفو فعفوه
وسع الورى
|
|
لولاه غار الأرض
بالسكان
|
الشرح
: ومن أسمائه سبحانه
(الحليم والعفو) فالحليم الذي له الحلم الكامل الذي وسع أهل الكفر والفسوق
والعصيان حيث أمهلهم ولم يعاجلهم بالعقوبة رجاء ان يتوبوا ولو شاء لأخذهم بذنوبهم
فور صدورها منهم ، فإن الذنوب تقتضي ترتب آثارها عليها من العقوبات العاجلة
المتنوعة ، ولكن حلمه سبحانه هو الذي اقتضى إمهالهم كما قال تعالى (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا
ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ ، وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ
مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً) [فاطر : ٤٥].
وأما العفو فهو
الذي له العفو الشامل الذي وسع ما يصدر من عباده من الذنوب ، ولا سيما إذا أتوا
بما يوجب العفو عنهم من الاستغفار والتوبة والإيمان والأعمال الصالحة ، فهو سبحانه
يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ، وهو عفو يحب العفو ويحب من عباده ان
يسعوا في تحصيل الأسباب التي ينالون بها عفوه من السعي في مرضاته والإحسان إلى
خلقه ، ومن كمال عفوه أنه مهما أسرف العبد على نفسه ثم تاب إليه ورجع غفر له جميع
جرمه ، كما قال تعالى (قُلْ يا عِبادِيَ
الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ
اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر : ٥٣].
ولو لا كمال عفوه
وسعة حلمه سبحانه لغارت الأرض بأهلها لكثرة ما
يرتكب من المعاصي
على ظهرها ، فنسأله سبحانه أن يعفو عنا بمنه وكرمه.
* * *
وهو الصبور على
أذى أعدائه
|
|
شتموه بل نسبوه
للبهتان
|
قالوا له ولد
وليس يعيدنا
|
|
شتما وتكذيبا من
الإنسان
|
هذا وذاك بسمعه
وبعلمه
|
|
لو شاء عاجلهم
بكل هوان
|
لكن يعافيهم
ويرزقهم وهم
|
|
يؤذونه بالشرك
والكفران
|
الشرح
: ومن أسمائه الحسنى
(الصبور) وهو مبالغة من صابر ، ومعنى الصبر حبس النفس على ما تكره ، وضده الجزع ،
وهو في حق الله تعالى معناه حلمه على أعدائه مع ارتكابهم ما يوجب غضبه ، من شتمه
وتكذيبه وتكذيب رسله ومعاندتهم لآياته ومحاربتهم لدينه وشرعه ، وهو لا يزال يتابع
عليهم نعمه ويدر عليهم أخلاف رزقه ، وصبره تعالى أكمل صبر ، لأنه عن كمال قدرة ،
وكمال غنى عن الخلق ، وكمال رحمة وإحسان.
وقد فسر المؤلف
هذا الاسم الكريم بما ورد به الحديث الصحيح من قوله صلىاللهعليهوسلم : «لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله ، يجعلون له الولد ،
وهو يعافيهم ويرزقهم».
وبما ثبت أيضا في
الصحيح من قوله تعالى في الحديث القدسي : «كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك ، وشتمني
ابن آدم ولم يكن له ذلك ، فأما تكذيبه إياي فقوله : لن يعيدني كما بدأني وليس أول
الخلق بأهون عليّ من إعادته. وأما شتمه إياي فقوله : إن لي ولدا ، وأنا الواحد
الأحد الفرد الصمد ، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد».
ومن أجل أنه
سبحانه صبور فهو يجب الصابرين من عباده ويعينهم في كل أمورهم ، وسيوفيهم أجرهم
بغير حساب.
* * *
وهو الرقيب على
الخواطر واللوا
|
|
حظ كيف بالأفعال
بالأركان
|
الشرح
: ومن أسمائه الحسنى
(الرقيب) وهو واسمه الشهيد مترادفان كلاهما يدل على حضوره مع خلقه يسمع ما يتناجون
به ويرى ما يخوضون فيه ويعلم حركات خواطرهم وهواجس ضمائرهم وتقلب لواحظهم ، لا
يغيب عنه من أمرهم شيء يقولونه أو يفعلونه ، كما قال تعالى : (وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا
مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ
شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ
فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا
فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [يونس : ٦١](أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما
فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ
رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا
أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما
عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [المجادلة : ٧].
وكقوله : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ
وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ
الْوَرِيدِ) [ق : ١٦].
وفي الحديث الصحيح
: «صريح الإيمان ان تعلم أن الله معك حيث كنت» ولهذا كانت المراقبة التي هي من أجل
أعمال القلوب هي التعبد لله باسمه الرقيب الشهيد ، فمتى علم العبد أن حركاته
الظاهرة والباطنة قد أحاط الله بعلمها ، واستحضر هذا العلم في كل أحواله ، أوجب له
ذلك حراسة باطنة عن كل فكر وهاجس يبغضه الله ، وحفظ ظاهره عن كل قول أو فعل يسخط
الله ، وتعبد بمقام الإحسان فعبد الله كأنه يراه ، فإن لم يكن يراه فإنه يراه.
وقول المؤلف رحمهالله : كيف بالأفعال بالأركان ، معناه أنه إذا كان الله عزوجل رقيبا على دقائق الخفيات ، مطلعا على السرائر والنيات ،
كان من باب أولى شهيدا على الظواهر والجليات ، وهي الأفعال التي تفعل بالأركان ،
أي الجوارح.
* * *
وهو الحفيظ
عليهم وهو الكفي
|
|
ل بحفظهم من كل
أمر عان
|
الشرح
: ومن أسمائه سبحانه
الحفيظ ، وله معنيان :
أحدهما أنه يحفظ
على العباد ما عملوه من خير وشر ، وعرف ونكر ، وطاعة ومعصية ، بحيث لا يفوته من
ذلك مثقال ذرة ، وحفظه لهذه الأعمال بمعنى ضبطه لها وإحصائه إياها ، فهو محيط علما
بجميع أعمالهم ، ظاهرها وباطنها ، وهو قد كتبها في اللوح المحفوظ قبل أن يبرأها ،
بل قبل ان يخلق السموات والأرض ، وهو وكلّ بها ملائكة حافظين ، كراما كاتبين
يعلمون ما تفعلون ، قال تعالى : (وَنَكْتُبُ ما
قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) [يس : ١٢] وقال : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً
فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ شَهِيدٌ) [المجادلة : ٦]
وقال : (وَوُضِعَ الْكِتابُ
فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما
لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها
وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) [الكهف : ٤٩] وقال
: (وَكُلُّ شَيْءٍ
فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) [القمر : ٥٢ ، ٥٣].
فهذا المعنى من
حفظه سبحانه يقتضي إحاطة علمه بأحوال العباد كلها ظاهرها وباطنها وكتابتها في
اللوح المحفوظ وفي الصحف التي بأيدي الملائكة كما يقتضي علمه بمقاديرها في كمالها
ونقصها ومقادير جزائها في الثواب والعقاب ثم مجازاتهم عليها بفضله وعدله.
والمعنى الثاني من
معني الحفيظ أنه تعالى الحافظ لعباده من جميع ما يكرهون. وإلى هذا أشار المؤلف
بقوله «وهو الكفيل بحفظهم من كل أمر عان) أي مشق مكروه.
وحفظه لخلقه نوعان
: عام وخاص :
فالعام هو حفظه
لجميع المخلوقات بتيسيره لها ما يقيها ويحفظ بنيتها وإلهامها تدبير شئونها والسعي
فيما يصلحها كل حسب خلقته كما قال تعالى (أَعْطى كُلَ
شَيْءٍ
خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) [طه : ٥٠] يعني
هدى كل مخلوق إلى ما قدر له من ضروراته وحاجاته وأعطاه من الوسائل والآلات ما
يتمكن معه من تحصيل مأكله ومشربه ومنكحه والسعي في أسباب ذلك ولا شك أن هذا أمر
يشترك فيه البر والفاجر بل الحيوانات وغيرها فهو الذي يمسك السموات والأرض أن
تزولا وهو الذي يحفظ الخلائق بنعمه. وهو الذي وكل بالآدمي حفظة من الملائكة معقبات
من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله أي يدفعون عنه من الضر والأذى ما لم
يقدره الله مما هو بصدد أن يضره لو لا حفظ الله.
والنوع الثاني
حفظه الخاص لأوليائه حفظا زائدا على ما تقدم يحفظهم عما يضر إيمانهم ويزلزل يقينهم
من الفتن والشبهات والشهوات فيعافيهم منها ويخرجهم منها بسلامة وحفظ وعافية :
ويحفظهم من أعدائهم من الجن والإنس فينصرهم عليهم ويدفع كيدهم عنهم ، كما قال
تعالى : (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ
عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) [الحج : ٧٨] وهذا
عام في دفع جميع ما يضرهم في دينهم ودنياهم.
فعلى حسب ما عند
العبد من الإيمان تكون مدافعة الله عنه بلطفه ، كما في الصحيح من حديث ابن عباس
رضي الله عنه «احفظ الله يحفظك ، أحفظ الله تجده تجاهك».
* * *
وهو اللطيف
بعبده ولعبده
|
|
واللطف في
أوصافه نوعان
|
إدراك أسرار
الأمور بخبرة
|
|
واللطف عند
مواقع الإحسان
|
فيريك عزته
ويبدي لطفه
|
|
والعبد في
الغفلات عن ذا الشأن
|
الشرح
: قال صاحب النهاية
:
(في أسماء الله
تعالى اللطيف هو الذي اجتمع له الرفق في الفعل والعلم بدقائق المصالح وإيصالها إلى
من قدرها له من خلقه ، يقال لطف به وله بالفتح يلطف لطفا إذا رفق به ، فأما لطف
بالضم يلطف فمعناه صغر ودق) أه.
وقال الراغب في
المفردات :
(وقد يعبر
باللطائف عما لا تدركها الحاسة ، ويصح أن يكون وصف الله تعالى به على هذا الوجه ،
وأن يكون لمعرفته بدقائق الأمور ، وأن يكون لرفقه بالعباد في هدايتهم قال تعالى : (اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ) [الشورى : ١٩](لَطِيفٌ لِما يَشاءُ) [يوسف : ١٠٠] أي
يحسن الاستخراج تنبيها على ما أوصل إليه يوسف حيث ألقاه أخوته في الجب) أه.
فهو سبحانه يلطف
بعبده في أموره الداخلية المتعلقة بنفسه ، ويلطف له في الأمور الخارجة عنه ،
فيسوقه ويسوق إليه ما به صلاحه من حيث لا يشعر ، وهذا من آثار علمه ورحمته وكرمه.
وقد ذكر المؤلف لهذا الاسم معنيين :
أحدهما : أنه
الخبير الذي أحاط علمه بالأسرار وخفيات الأمور ومكنونات الصدور وما لطف ودق من كل
شيء ، فهو يعلم جميع الوجوه الممكنة له ، بحيث لا يشذ شيء منها عن علمه وخبرته.
والثاني : لطفه
بعبده ووليه الذي يريد أن يمن عليه ويشمله بلطفه وكرمه ويرفعه إلى المنازل العالية
وييسره لليسرى ويجنبه العسرى ، فهو يجري عليه من أصناف المحن وألوان البلاء ، ما
علم أن فيه صلاحه وسعادته وحسن العاقبة له في الدنيا والآخرة ، كما امتحن الأنبياء
بأذى قومهم لهم ، وبالجهاد في سبيله ، وكما يمتحن أولياءه بما يكرهونه لينيلهم ما
يحبون ، وهذا معنى قول المصنف (فيريك عزته) أي بامتحانك بما تكره (ويبدي لطفه) أي
في العواقب الحميدة والنهايات السارة.
يقول العلامة
الشيخ السعدي رحمهالله :
(وكم استشرف العبد
على مطلوب من مطالب الدنيا ، من ولاية أو رئاسة أو سبب من الأسباب المحبوبة فيصرفه
الله عنها ويصرفها عنه رحمة به ، لئلا تضره في دينه فيظل العبد حزينا من جهله وعدم
معرفته بربه ، ولو علم ما ذخر له في
الغيب وأريد
إصلاحه فيه لحمد الله وشكره على ذلك ، فإن الله بعباده رءوف رحيم لطيف بأوليائه) أه.
* * *
فصل
وهو الرفيق يحب
أهل الرفق بل
|
|
يعطيهم بالرفق
فوق أمان
|
الشرح
: ومن أسمائه سبحانه
(الرفيق) وهو مأخوذ من الرفق الذي هو التأني في الأمور والتدرج فيها وضده العنف
الذي هو الأخذ فيها بشدة واستعجال.
وتفسير المصنف
لهذا الاسم الكريم مأخوذ من قوله صلىاللهعليهوسلم في الحديث الصحيح «إن الله رفيق يحب أهل الرفق وأن الله
يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف».
فالله تعالى رفيق
في أفعاله حيث خلق المخلوقات كلها بالتدريج شيئا فشيئا بحسب حكمته ورفقه مع أنه
قادر على خلقها دفعة واحدة وفي لحظة واحدة.
وهو سبحانه رفيق
في أمره ونهيه ، فلا يأخذ عباده بالتكاليف الشاقة مرة واحدة بل يتدرج معهم من حال
إلى حال حتى تألفها نفوسهم وتأنس إليها طباعهم ، كما فعل ذلك سبحانه في فرضية
الصيام وفي تحريم الخمر والربا ونحوها.
فالمتأني الذي
يأتي الأمور برفق وسكينة اتباعا لسنن الله في الكون واقتداء بهدى رسول الله صلىاللهعليهوسلم تتيسر له الأمور وتذلل الصعاب. لا سيما إذا كان ممن يتصدى
لدعوة الناس إلى الحق فإنه مضطر إلى استشعار اللين والرفق ، كما قال تعالى : (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا
السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ
وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) [فصلت : ٣٤].
* * *
وهو القريب
وقربه المختص بالد
|
|
اعي وعابده على
الإيمان
|
الشرح
: من أسمائه سبحانه (القريب)
وهو من القرب الذي هو ضد البعد قال تعالى : (وَإِذا سَأَلَكَ
عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) [البقرة : ١٨٦]
وقال على لسان صالح عليهالسلام : (إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ
مُجِيبٌ) [هود : ٦١].
وقربه تعالى من
عباده نوعان :
١ ـ قرب عام وهو
إحاطة علمه بهم ونفوذ إرادته فيهم ، وإحاطة سمعه وبصره بجميع أقوالهم وأفعالهم ،
وهو بمعنى معيته العامة.
٢ ـ وقرب خاص وهو
قربه من الداعين والعابدين. وهو قرب يقتضي المحبة والنصر والتأييد في الحركات
والسكنات والإجابة للداعين والإثابة للعابدين وإذا فهم القرب بهذا المعنى في
العموم والخصوص لم يكن هناك تعارض أصلا بينه وبين ما هو معلوم من وجوده تعالى فوق
عرشه ، فسبحان من هو عليّ في دنوه ودان في علوه.
* * *
وهو المجيب يقول
من يدعو أجب
|
|
ه أنا المجيب
لكل من ناداني
|
وهو المجيب
لدعوة المضطر إذ
|
|
يدعوه في سر وفي
إعلان
|
الشرح
: ومن أسمائه سبحانه
(المجيب) وهو اسم فاعل من الإجابة وإجابته تعالى نوعان : إجابة عامة لكل من دعاه
دعاء عبادة أو دعاء مسألة.
فدعاء العبادة هو الذي
يقصد منه الثناء على الله بما له من الأسماء الحسنى والصفات العليا ، من غير أن
يقترن ذلك بطلب حاجة من الحاجات ، كسعة رزق أو نصر على عدو ، أو هداية قلب أو
غفران ذنب ونحو ذلك ، وإلى هذا الدعاء الإشارة بقوله تعالى : (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ
لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ
داخِرِينَ) [غافر : ٦٠] وهو لا يقع إلا من العابدين أهل المعرفة بالله
عزوجل.
وأما دعاء المسألة
فهو أن يقول العبد : اللهم أعطني كذا أو ادفع عني كذا ، فهذا يقع من الناس كلهم
برهم وفاجرهم ، والله يستجيب فيه لمن يشاء لمن يدعوه بحسب ما تقتضيه حكمته لا تختص
الإجابة فيه بأهل الإخلاص والتقوى ، فإن إحسانه تعالى عام يشمل البر والفاجر ،
ورحمته وسعت كل شيء ، ولهذا كانت الإجابة لمثل هذا الدعاء لا تدل على حسن حال
الداعي الذي أجيبت دعوته إن لم يقترن بذلك ما يدل على صدقه وتعين الحق معه ، وذلك
كسؤال الأنبياء ودعائهم لقومهم أو على قومهم ، فيجيبهم الله ، فتدل إجابته لهم على
صدقهم فيما أخبروا به وكرامتهم على ربهم.
وأما الإجابة
الخاصة فلها أسباب عديدة ، منها أن يكون الداعي مضطرا قد وقع في كربة وشدة ، فيدعو
الله فيستجيب له ويفرج كربته ، كما قال تعالى : (أَمَّنْ يُجِيبُ
الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ) [النمل : ٦٢](وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي
الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى
الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً) [الإسراء : ٦٧].
وسبب ذلك شدة
افتقاره إلى الله وقوة انكساره بين يديه وانقطاع تعلقه بالمخلوقين. ومن أسباب
الإجابة أيضا طول السفر والتوسل إلى الله بأحب الوسائل إليه من أسمائه وصفاته.
وكذلك دعوة المريض والمظلوم والصائم ، وفي الأوقات والأحوال الشريفة ، مثل إدبار
الصلوات وأوقات السحر وعند النداء ونزول المطر واشتداد البأس ونحوه لورود الأحاديث
بذلك.
* * *
وهو الجواد
فجوده عم الوجو
|
|
د جميعه بالفضل
والإحسان
|
وهو الجواد فلا
يخيب سائلا
|
|
ولو أنه من أمة
الكفران
|
الشرح
: الجواد المتصف
بالجود ، وهو كثرة الفضل والإحسان ، وجوده تعالى أيضا نوعان ، جود مطلق عم
الكائنات جميعا لم يخل عنه موجود من الموجودات ، فكلها قد عمها فضله وإحسانه.
وجود خاص
بالسائلين والطالبين ، سواء سألوه بلسان المقال أو بلسان الحال وسواء كان السائل
مؤمنا أم كافرا ، برا أم فاجرا ، فمن سأل الله صادقا في سؤاله طامعا في نواله ،
مستشعرا الذلة والفقر بين يديه ، أعطاه سؤله وأناله ما طلب ، فإنه هو البر الرحيم
، الجواد الكريم.
ومن جوده الواسع
سبحانه ما أعده لأوليائه في دار كرامته ومستقر رحمته ، مما لا عين رأت ولا أذن
سمعت ولا خطر على قلب بشر.
* * *
وهو المغيث لكل
مخلوقاته
|
|
وكذا يجيب إغاثة
اللهفان
|
الشرح
: المغيث اسم فاعل
من الغوث ، وهو تفريج الكرب وإزالة الشدة فهو سبحانه المغيث لجميع المخلوقات عند
ما تتعسر أمورها وتقع في الشدائد والكربات. وفي الحديث «يعجب ربنا من قنوط عباده
وقرب خيره ، ينظر إليكم أزلين قنطين يظل يضحك يعلم أن فرجكم قريب».
وهو الذي ينزل
الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته.
وهو الذي يجيب
إغاثة اللهفان ، أي دعوة من دعاه في حال اللهف والشدة والاضطرار ، فمن استغاث به
سبحانه أغاثه من لهفته وأنقذه من شدته.
* * *
فصل
وهو الودود
يحبهم ويحبه
|
|
أحبابه والفضل
للمنان
|
وهذا الذي جعل
المحبة في قلو
|
|
بهم وجازاهم بحب
ثان
|
هو هو الإحسان
حقا لا معا
|
|
وضة ولا لتوقع
الشكران
|
لكن يحب شكورهم
وشكورهم
|
|
لا لاحتياج منه
للشكران
|
وهو الشكور فلن
يضيع سعيهم
|
|
لكن يضاعفه بلا
حسبان
|
الشرح
: هذا تفسير لا سميه
الكريمين (الودود والشكور) وقد ورد كل منهما في الكتاب العزيز ، فالودود ورد مرة
مقترنا باسمه الرحيم في قوله تعالى من سورة هود على لسان شعيب عليهالسلام يا قوم : (وَاسْتَغْفِرُوا
رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) [٩٠].
وورد مرة أخرى
مقترنا باسمه الغفور في قوله تعالى : (وَهُوَ الْغَفُورُ
الْوَدُودُ) [البروج : ١٤].
والودود مأخوذ من
الود بضم الواو بمعنى خالص المحبة. وهو أما من فعول بمعنى فاعل ، فهو سبحانه الواد
أي المحب لأنبيائه وملائكته وعباده الصالحين وأما من فعول بمعنى مفعول ، فهو
سبحانه المودود المحبوب لهم ، بل لا شيء أحب إليهم منه ، ولا يمكن أن يعدلوا
بمحبته غيره من جميع المحبوبات ، لا في أصل المحبة ولا في كيفيتها ، ولا في
متعلقاتها ، وهذا هو الواجب أن تكون محبة الله في قلب العبد سابقة لكل محبة وغالبة
لها ويتعين أن تكون بقية المحاب تابعة لها.
يقول العلامة
الشيخ السعدى رحمة الله :
«ومحبة الله هي
روح الأعمال ، وجميع العبودية الظاهرة والباطنة ناشئة عن محبة الله ومحبة العبد
لربه فضل من الله وإحسان ، ليست بحول العبد ولا قوته ، فهو تعالى الذي أحب عبده ،
فجعل المحبة في قلبه ، ثم لما أحبه العبد بتوفيقه جازاه الله بحب آخر ، فهذا هو
الإحسان المحض على الحقيقة ، إذ منه السبب ومنه المسبب. ليس المقصود منها المعاوضة
، وإنما ذلك محبة منه تعالى للشاكرين من عباده ولشكرهم ، فالمصلحة كلها عائدة إلى
العبد ، فتبارك الذي جعل وأودع المحبة في قلوب المؤمنين ، ثم لم يزل ينميها
ويقويها حتى وصلت في قلوب الاصفياء إلى حالة تتضاءل عندها جميع المحاب وتسليهم عن
الأحباب ، وتهون عليهم المصائب وتلذذ لهم مشقة الطاعات وتثمر لهم ما يشاءون من
أصناف الكرامات التي أعلاها محبة الله والفوز برضاه والأنس بقربه.
فمحبة العبد لربه
محفوفة بمحبتين من ربه ، فمحبة قبلها صار بها محبا لربه ، ومحبة بعدها شكرا من
الله له على محبة صار بها من أصفيائه المخلصين وأعظم سبب يكتسب به العبد محبة ربه
التي هي أعظم المطالب الإكثار من ذكره والثناء عليه وكثرة الانابة إليه وقوة التوكل
عليه ، والتقرب إليه بالفرائض والنوافل ، وتحقيق الإخلاص له في الأقوال والأفعال
ومتابعة النبي صلىاللهعليهوسلم ظاهرا وباطنا كما قال تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ
فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) [آل عمران : ٣١] أه.
وأما الشكور فورد
كذلك مقترنا باسمه الغفور في قوله تعالى على لسان أهل الجنة : (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ) [فاطر : ٣٤].
ومقترنا باسمه
الحليم في قوله : (إِنْ تُقْرِضُوا
اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ
حَلِيمٌ) [التغابن : ١٧]
ومعنى الشكور الذي يتقبل أعمال عباده ويرضاها ويثيبهم عليها ويضاعفها لهم أضعافا
كثيرة على قدر إخلاصهم فيها واتقانهم لها ، كما قال تعالى : (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ
عَمَلاً) [الكهف : ٣٠].
وقد ضرب الله في
كتابه مثلا للنفقة التي تنفق في سبيله بحبّة أنبت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة
، ثم قال بعد ذلك : (وَاللهُ يُضاعِفُ
لِمَنْ يَشاءُ) [البقرة : ٢٦١]
إيذانا بأن المضاعفة قد تتجاوز هذا القدر لمن يشاء. وفي الحديث الصحيح «من تصدق
بعدل تمرة من كسب طيب ، ولا يقبل الله إلا الطيب ، فإن الله يتلقاها بيمينه
فيربيها له كما يربي أحدكم فلوه حتى تصير مثل الجبل العظيم».
فسبحان من وفق
عباده المؤمنين لمرضاته ثم شكرهم على ذلك بحسن ثوابه وجزيل عطائه ، منة منه وتفضلا
لا حقا عليه واجبا ، بل هو الذي أوجبه على نفسه جودا منه وكرما.
* * *
ما للعباد عليه
حق واجب
|
|
هو أوجب الأجر
العظيم الشأن
|
كلا ولا عمل
لديه ضائع
|
|
إن كان بالإخلاص
والإحسان
|
ان عذبوا فبعدله
أو نعموا
|
|
فبفضله والحمد
للمنان
|
الشرح
: قال أهل السنة
والجماعة : إنه لا يجب على الله شيء ، لأن الوجوب معناه أن أحدا أوجب عليه ، وليس
فوقه سبحانه من يوجب عليه شيئا ، قال تعالى : (لا يُسْئَلُ عَمَّا
يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) [الأنبياء : ٢٣]
فلا يجب عليه سبحانه اثابة المطيع ولا عقاب العاصي ، بل الثواب محض فضله وإحسانه ،
والعقاب محض عدله وحكمته ، ولكنه هو سبحانه الذي يوجب على نفسه ما يشاء ، فيصير
واجبا عليه بمقتضى وعده الذي لا يخلف ، كما قال تعالى : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ
الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ
بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [الأنعام : ٥٤]
وكما قال سبحانه : (وَكانَ حَقًّا
عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [الروم : ٤٧].
وقال المعتزلة
بناء على أصولهم العقلية الفاسدة انه يجب على الله عقلا إثابة المطيع وعقاب العاصي
، بحيث لو لم يفعل لكان في زعمهم مذموما ، فارتكبوا بذلك أكبر حماقة ، حيث حكموا
على ربهم بعقولهم وقاسوه على الحكام من خلقه ، بل جرى العرف على أن الحاكم إذا عفا
عن المسيء كان ذلك منه حسنا يستحق عليه المدح ، وهو يوجبون على ربهم عقاب المذنب
بحيث لا يجوز منه العفو أصلا ، لأن وعيده عندهم كوعده ، كل منهما واجب التحقيق ،
وفاتهم أن القبيح هو خلف الوعد ، وأما خلف الوعيد فكرم ، كما قال الشاعر :
واني إذا أوعدته
أو وعدته
|
|
لمخلف ايعادي
ومنجز موعدي
|
وفي هذه الأبيات
الثلاثة بيان لمذهب أهل السنة في أنه ليس للعباد حق واجب على الله ، وإنه مهما يكن
من حق فهو الذي أحقه وأوجبه ، ولذلك لا يضيع عنده عمل قام على الإخلاص والمتابعة ،
فإنهما الشرطان الأساسيان لقبول الأعمال ، فإذا توفرا في عمل ما كان مقبولا بمقتضى
وعده سبحانه وإيجابه ، واستحق
صاحبه الأجر
المقدر له ، فهو إن عذب العباد فبعدله ، فإنه لا يجزي على السيئة إلا سيئة مثلها ،
فلا يظلم أحدا مثقال ذرة ، وان نعم وأثاب فبفضله ، فله الحمد أولا وآخرا.
* * *
فصل
وهو الغفور فلو
أتى بقرابها
|
|
من غير شرك بل
من العصيان
|
لاقاه بالغفران
ملء قرابها
|
|
سبحانه هو واسع
الغفران
|
وكذلك التواب من
أوصافه
|
|
والتواب في
أوصافه نوعان
|
إذن بتوبة عبده
وقبولها
|
|
بعد المتاب بمنة
المنان
|
الشرح
: ومن أسمائه سبحانه
(الغفور والتواب) ومعناهما متقاربان.
فالغفور مبالغة من
غافر ومعناه الكثير الستر لذنوب عباده مأخوذ من الغفر ، بمعنى الستر ، ومنه سمى
المغفر الذي يلبس على الرأس عند الحرب لأنه يسترها بمعنى الستر ، ويقيها من الضرب.
وهو من أكثر
الأسماء الحسنى ورودا في القرآن الكريم مطلقا في بعضها كقوله تعالى : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا
عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ
الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر : ٥٣]
ومقيدا في بعضها كقوله تعالى من سورة طه : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ
لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى) [طه : ٨٢].
ومذهب أهل السنة
أن جميع الذنوب ما عدا الشرك يجوز أن يغفرها الله سبحانه ولو لم يتب منها صاحبها
لقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا
يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ١١٦]
والقول بأن المغفرة في الآية
مقيدة بالتوبة من
الذنب يلغى التقييد بالمشيئة ، فان الله قد وعد كل تائب بقبول توبته.
وقول المؤلف رحمهالله (فلو أتى بقرابها
... الخ) البيتين الأولين اشارة الى قوله سبحانه في الحديث القدسي «يا بن آدم انك
لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة».
وأما التواب فهو
الكثير التوب بمعنى الرجوع على عبده بالمغفرة وقبول التوبة ، قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ
عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) [الشورى : ٢٥].
وقال : (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ) [غافر : ٣].
ولا يزال الله
يقبل توبة عبده ما لم يغرغر أو تطلع الشمس من مغربها ، فاذا ظهرت أمارات القيامة
الصغرى بالغرغرة أو الكبرى بطلوع الشمس من المغرب أغلق باب التوبة.
قال تعالى : (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ
يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي
تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) [النساء : ١٨].
وقال : (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا
يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي
إِيمانِها خَيْراً) [الأنعام : ١٥٨].
وفي الحديث الصحيح
: «إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل
حتى تطلع الشمس من مغربها».
وتوبته سبحانه على
عبده نوعان :
أحدهما أنه يلهم
عبده التوبة إليه ويوفقه لتحصيل شروطها من الندم والاستغفار والاقلاع عن المعصية
والعزم على عدم العود إليها واستبدالها بعمل الصالحات.
والثاني : توبته
على عبده بقبولها واجابتها ومحو الذنوب بها ، فان التوبة النصوح تجب ما قبلها
لقوله تعالى : (إِلَّا مَنْ تابَ
وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ
حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) [الفرقان : ٧٠].
* * *
فصل
وهو الإله السيد
الصمد الذي
|
|
صمدت إليه الخلق
بالاذعان
|
الكامل الأوصاف
من كل الوجو
|
|
ه كماله ما فيه
من نقصان
|
الشرح
: قال صاحب النهاية
: (الصمد هو السيد الذي انتهى إليه السؤدد ، وقيل هو الدائم الباقي ، وقيل هو الذي
لا جوف له ، وقيل هو الذي يصمد في الحوائج إليه أي يقصد).
وهذا تفسير جامع
لكل معاني هذا الاسم الكريم ، وقد اختار المصنف اثنين من هذه التفسيرات ، لأنهما
أشهر من غيرهما :
أولهما : أنه الذي
تصمد إليه الخلائق وتفزع إليه في جميع حاجاتها لكمال غناه وشدة فقرها إليه.
والثاني : أنه
الذي كملت جميع أوصافه من كل الوجوه فلا تشوبها شائبة نقص أصلا : فهو السيد الذي
كمل في سؤدده ، والعليم الذي كمل في علمه ، والحليم الذي كمل في حلمه ، والغني
الذي كمل في غناه الخ.
* * *
وكذلك القهار من
أوصافه
|
|
فالخلق مقهورون
بالسلطان
|
لو لم يكن حيا
عزيزا قادرا
|
|
ما كان من قهر
ومن سلطان
|
الشرح
: ومن اسمائه سبحانه
القهار ولم يرد في القرآن الا مقرونا باسمه الواحد كقوله تعالى على لسان يوسف عليهالسلام في خطابه لصاحبي السجن : (يا
صاحِبَيِ
السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) [يوسف : ٣٩].
وكقوله سبحانه : (قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ
الْواحِدُ الْقَهَّارُ) [الرعد : ١٦].
وكقوله عز شأنه : (قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ
إِلهٍ إِلَّا اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) [ص : ٦٥].
وكقوله : (لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ
وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ
الْقَهَّارُ) [الزمر : ٤] فدل
هذا على توحده وانفراده بالقهر لجميع الخلق وأنهم جميعا مقهورون تحت سلطانه فهو
سبحانه الذي قهر جميع الكائنات وذلت له جميع المخلوقات ، فلا يحدث حادث ولا يسكن
ساكن إلّا بإذنه وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، وجميع الخلق فقراء إليه عاجزون
لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ، ولا خيرا ولا شرا ، وقهره تعالى لجميع خلقه
مستلزم لكمال حياته وعزته واقتداره اذ لو لا هذه الأوصاف الثلاثة لا يتم له قهر
ولا سلطان.
* * *
وكذلك الجبار من
أوصافه
|
|
والجبر في
أوصافه نوعان
|
جبر الضعيف وكل
قلب قد غدا
|
|
ذا كسرة فالجبر
منه دان
|
والثاني جبر
القهر بالعز الذي
|
|
لا ينبغي لسواه
من إنسان
|
وله مسمى ثالث
وهو الع
|
|
لو فليس يدنو
منه من انسان
|
من قولهم جبارة
للنخلة العلي
|
|
ا التي فاتت لكل
بنان
|
الشرح
: قال صاحب النهاية
: (في أسماء الله تعالى الجبار ومعناه الذي يقهر العباد على ما أراد من أمر ونهى
يقال جبر الخلق وأجبرهم وأجبر أكثر ، وقيل هو العالى فوق خلقه وفعال من أبنية
المبالغة ومنه قولهم نخلة جبارة وهي العظيمة التي
تفوت يد المتناول)
١ ه. وقال الراغب في المفردات (أصل الجبر اصلاح الشيء بضرب من القهر يقال جبرته
فانجبر واجتبر وقد قيل جبرته فجبر ، فأما في وصفه تعالى نحو العزيز الجبار المتكبر
فقد قيل سمي بذلك من قولهم جبرت الفقير ، لأنه هو الذي يجبر الناس بفائض نعمه ،
وقيل لأنه يجبر الناس أن يقهرهم على ما يريده) ١ ه.
وقد ذكر المؤلف
هنا لاسمه (الجبار) ثلاثة معان كلها داخلة فيه ، بحيث يصح ارادتها منه. أحدها أنه
الذي يجبر ضعف الضعفاء من عباده ، ويجبر كسر القلوب المنكسرة من أجله الخاضعة
لعظمته وجلاله ، فكم جبر سبحانه من كسير وأغنى من فقير وأعز من ذليل وأزال من شدة
ويسر من عسير. وكم جبر من مصاب فوفقه للثبات والصبر ، وأعاضه من مصابه أعظم الأجر
، فحقيقة هذا الجبر هو اصلاح حال العبد بتخليصه من شدته ودفع المكاره عنه.
المعنى أنه القهار
الذي دان كل شيء لعظمته وخضع كل مخلوق لجبروته وعزته ، فهو يجبر عباده على ما أراد
مما اقتضته حكمته ومشيئته ، فلا يستطيعون الفكاك منه. والثالث أنه العلي بذاته فوق
جميع خلقه ، فلا يستطيع أحد منهم أن يدنو منه.
وقد ذكر العلامة
الشيخ السعدي رحمهالله أن له معنى رابعا ، وهو أنه المتكبر عن كل سوء ونقص ، وعن
مماثلة أحد ، وعن أن يكون له كفو أو ضد أو سمي أو شريك في خصائصه وحقوقه.
* * *
وهو الحسيب
حماية وكفاية
|
|
والحسب كافي
العبد كل أوان
|
الشرح
: ومن أسمائه سبحانه
الحسيب ، وهو بالمعنى العام الذي يكفي العباد جميع ما يهمهم من أمر دينهم ودنياهم
، فيوصل إليهم المنافع ويدفع عنهم المضار.
وبالمعنى الأخص
الذي يكفي عبده المتقي المتوكل عليه كفاية خاصة يصلح
بها ، المعنى
الثاني أنه القهار دان كل شيء لعظمته وخضع كل مخلوق لجبروته بها دينه ودنياه ، كما
قال تعالى : (يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الأنفال : ٦٤]
فقوله ومن اتبعك ، عطف على الكاف في حسبك ، أي حسبك ومن اتبعك الله ، ولا يجوز
عطفها على لفظ الجلالة ، لأن الحسب بمعنى الكافي من خصائص الرب جل شأنه لا يجوز أن
يكون له ند فيه ، ولهذا قال سبحانه : (وَلَوْ أَنَّهُمْ
رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ
مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ) [التوبة : ٥٩]
فجعل الإيتاء لله ورسوله ، وجعل الحسب والرغبة لله عزوجل وحده ، وقال تعالى : (أَلَيْسَ اللهُ
بِكافٍ عَبْدَهُ) [الزمر : ٣٦] فجعل
الكفاية وهي بمعنى الحسب لله وحده ، فكفاية الله لعبده بحسب ما قام به من متابعة
الرسول ظاهرا وباطنا وقيامه بعبودية الله تعالى ، ومن الحسيب أيضا أنه الذي يحفظ
أعمال عباده من خير وشر ويحاسبهم عليها ، كما في قوله : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ
حَسِيباً) [النساء : ٨٦](وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) [الأحزاب : ٣٩].
* * *
وهو الرشيد
فقوله وفعاله
|
|
رشد وربك مرشد
الحيران
|
وكلاهما حق فهذا
وصفه
|
|
والفعل للارشاد
ذاك الثاني
|
الشرح
: قال العلامة
السعدي رحمهالله في شرحه لهذا الاسم الكريم : (يعني أن (الرشيد) هو الذي
قوله رشد وفعله كله رشد ، وهو مرشد الحيران الضال ، فيهديه الى الصراط المستقيم
بيانا وتعليما وتوفيقا).
فالرشد الدال عليه
اسمه الرشيد وصفه تعالى ، والارشاد لعباده فعله.
فأقواله القدرية
التي يوجد بها الأشياء ويدبر بها الأمور كلها حق لاشتمالها على الحكمة والحسن
والاتقان. وأقواله الشرعية الدينية هي أقواله التي تكلم بها في كتبه وعلى ألسنة
رسله المشتملة على الصدق التام في الأخبار والعدل الكامل في الأمر والنهي ، فإنه
لا أصدق من الله قيلا ولا أحسن منه حديثا (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ
رَبِّكَ
صِدْقاً
وَعَدْلاً) [الأنعام : ١١٥]
في الأمر والنهى ، وهي أعظم وأجل ما يرشد بها العباد ، بل لا حصول للرشاد بغيرها ،
فمن ابتغى الهدى من غيرها أضله الله ، ومن لم يسترشد بها فليس برشيد ، فيحصل بها
الرشد العلمي وهو بيان الحقائق والأصول والفروع والمصالح والمضار الدينية
والدنيوية ، ويحصل بها الرشد العملي ، فأنها تزكي النفوس وتطهر القلوب وتدعو الى
أصلح الأعمال وأحسن الأخلاق ، وتحث على كل جميل وترغب عن كل ذميم رذيل ، فمن
استرشد بها فهو المهتدى ، ومن لم يسترشد بها فهو ضال ، ولم يجعل لأحد عليه حجة بعد
بعثته للرسل وإنزاله الكتب المشتملة على الهدى المطلق ، فكم هدى بفضله ضالا وأرشد
حائرا ، وخصوصا من تعلق به وطلب منه الهدى من صميم قلبه ، وعلم أنه المنفرد
بالهداية) ١ ه.
* * *
والعدل من
أوصافه في فعله
|
|
ومقاله والحكم
في الميزان
|
فعلى الصراط
المستقيم إلهنا
|
|
قولا وفعلا ذاك
في القرآن
|
الشرح
: ومن أسمائه سبحانه
أنه (العدل) وهو في الأصل مصدر وصف به للمبالغة ، وأصل العدل والمعادلة المساواة ،
يقال هذا عدل ذلك ، وعديله أي نظيره ، ومساويه.
وهو سبحانه موصوف
بالعدل في فعله ، فأفعاله كلها جارية على سنن العدل والاستقامة ، ليس فيها شائبة
جور أصلا ، فهي دائرة كلها بين الفضل والرحمة ، وبين العدل والحكمة كما قدمنا ،
وما ينزله سبحانه بالعصاة والمكذبين من أنواع الهلاك والخزي في الدنيا وما أعده
لهم من العذاب المهين في الآخرة ، فانما فعل بهم ما يستحقونه ، فانه لا يأخذ الا
بذنب ، ولا يعذب الا بعد اقامة الحجة. وأقواله كلها عدل ، فهو لا يأمرهم الا بما
فيه مصلحة خالصة أو راجحة ، ولا ينهاهم الا عما مضرته خالصة أو راجحة. وكذلك حكمه
بين عباده يوم فصل القضاء ووزنه لأعمالهم عدل لا جور فيه ، كما قال تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ
الْقِسْطَ
لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ
مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) [الأنبياء : ٤٧].
فهو سبحانه على
صراط مستقيم في قوله وفعله وحكمه.
* * *
فصل
هذا ومن أوصافه
الق
|
|
دوس ذو التنزيه
بالتعظيم للرحمن
|
وهو السلام على
الحقيقة سالم
|
|
من كل تمثيل ومن
نقصان
|
الشرح
: هذا تفسير لاسميه
الكريمين (القدوس والسلام) ومعناهما متقاربان فان القدوس مأخوذ من قدس بمعنى نزهه
وأبعده عن السوء مع الاجلال والتعظيم والسلام مأخوذ من السلامة ، فهو سبحانه
السالم من مماثلة أحد من خلقه ، ومن النقصان ، ومن كل ما ينافي كماله ، فهذا ضابط
ما ينزه عنه. ينزه عن كل نقص بوجه من الوجوه. وينزه ويعظم عن أن يكون له مثيل أو
شبيه أو كفو أو سمى أو نديد أو مضاد وينزه عن نقص صفة من صفاته التي هي أكمل
الصفات وأعظمها وأوسعها ، ومن تمام تنزيهه عن ذلك إثبات صفات الكبرياء والعظمة له
فان التنزيه مراد لغيره ومقصود به حفظ كماله عن الظنون السيئة ، كظن الجاهلية
الذين يظنون به غير ما يليق بجلاله ، فاذا قال العبد مثنيا على ربه (سبحان الله)
أو (تقدس الله) أو (تعالى الله) كان مثنيا عليه بالسلامة من كل نقص واثبات كل
كمال.
* * *
والبر في أوصافه
سبحانه
|
|
هو كثرة الخيرات
والاحسان
|
صدرت عن البر
الذي هو وصفه
|
|
فالبر حينئذ له
نوعان
|
وصف وفعل فهو بر
محسن
|
|
مولى الجميل
ودائم الاحسان
|
وكذلك الوهاب من
أسمائه
|
|
فانظر مواهبه
مدى الأزمان
|
أهل السموات
العلى والأرض عن
|
|
تلك المواهب ليس
ينفكان
|
الشرح
: ومن أسمائه سبحانه
(البر والوهاب) أما البر فقد ورد ذكره مرة واحدة في القرآن في قوله تعالى : (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ
إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) [الطور : ٢٨]
والبر هو الموصوف بالبر ، وهو كثرة الخير والاحسان ، فالبر وصفه سبحانه ، وآثار
هذا الوصف جميع النعم الظاهرة والباطنة فلا يستغني مخلوق عن احسانه وبره طرفه عين
، واحسانه سبحانه عام وخاص ، فالعام هو المذكور في مثل قوله تعالى : (رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً
وَعِلْماً) [غافر : ٧](وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) [الأعراف : ١٥٦] فانه
يشترك فيه البر والفاجر ، وأهل السماء وأهل الأرض ، والمكلفون وغيرهم لا ينفك عنه
موجود من الموجودات.
وأما الخاص فهو
رحمته التي كتبها للمتقين يرحمهم بها في الدنيا بالتوفيق للهداية والايمان
والأعمال الصالحة وصلاح أحوالهم كلها ، ويرحمهم بها في الآخرة فينجيهم من عذاب
السموم ويورثهم جنات النعيم ، قال تعالى : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ
قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف : ٥٦]
وأما الوهاب فقد ورد كثيرا في القرآن ، كقوله تعالى : (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ
رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ) [ص : ٩] وكقوله
على لسان الراسخين في العلم : (رَبَّنا لا تُزِغْ
قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ
أَنْتَ الْوَهَّابُ) [آل عمران : ٨].
وكقوله على لسان
سليمان بن داود عليهماالسلام (رَبِّ اغْفِرْ لِي
وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ
الْوَهَّابُ) [ص : ٣٥].
والوهاب مبالغة من
واهب وهو الكثير الهبات والعطايا التي يتقلب فيها أهل سماواته وأرضه ، والتي لا
تنفك عنهم طرفة عين منذ أن خلق السموات والأرض كما قال صلىاللهعليهوسلم : «إن يمين الله ملآى لا تغيضها نفقة ، سحاء الليل والنهار
، ألم تروا
الى ما أنفق منذ
خلق السموات والأرض فانه لم يغض مما بيده».
* * *
وكذلك الفتاح من
أسمائه
|
|
والفتح في
أوصافه أمران
|
فتح بحكم وهو
شرع الهنا
|
|
والفتح بالأقدار
فتح ثان
|
والرب فتاح بذين
كليهما
|
|
عدلا وإحسانا من
الرحمن
|
قال صاحب (النهاية)
: (في أسماء الله تعالى الفتاح : هو الذي يفتح أبواب الرزق والرحمة لعباده ، وقيل
معناه الحاكم بينهم ، يقال فتح الحاكم بين الخصمين اذا فصل بينهما ، والفاتح
الحاكم والفتاح من أبنية المبالغة) فالفتاح هو الحكم المحسن الجواد وفتحه تعالى نوعان.
(١) أحدهما فتحه بحكمه الديني وحكمه الجزائي (٢) والثاني فتحه بحكمه القدري. ففتحه
بحكمه الديني هو هدايته لعباده وشرعه لهم على ألسنة رسله جميع ما يحتاجون إليه
ويستقيمون به على صراطه المستقيم.
وأما فتحه الجزائي
فهو فتحه لأنبيائه وأتباعهم باكرامهم ونجاتهم وإهانة أعدائهم وعقوباتهم وكذلك فتحه
بين الخلائق يوم القيامة حين يوفى كل إنسان جزاء عمله من خير أو شر.
وأما فتحه القدري
فهو ما يقدره على عباده من خير وشر ونفع وضر وعطاء ومنع قال تعالى : (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ
رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ
وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [فاطر : ٢]. فالرب
تعالى هو الفتاح العليم الذي ينفتح بعنايته كل منغلق وبهدايته يكشف كل مشكل
ومفاتيح الغيب والرزق كلها بيده وهو الذي يفتح لعباده الطائفين خزائن جوده وكرمه ،
ويفتح على أعدائه ضد ذلك ، وذلك بفضله وعدله.
* * *
وكذلك الرزاق من
أسمائه
|
|
والرزق من
أفعاله نوعان
|
رزق على يد عبده
ورسوله
|
|
نوعان أيضا ذا
معروفان
|
رزق القلوب
العلم والإيمان
|
|
والرزق المعد
لهذه الأبدان
|
هذا هو الرزق
الحلال وربنا
|
|
رزاقه والفضل
للمنان
|
والثاني سوق
القوت للأعضاء في
|
|
تلك المجاري
سوقه بوزان
|
هذا يكون من
الحلال كما يكو
|
|
ن من الحرام
كلاهما رزقان
|
والله رازقه
بهذا الاعتبا
|
|
ر وليس بالإطلاق
دون بيان
|
الشرح
: ومن أسمائه سبحانه
(الرزّاق) وهو مبالغة من رازق للدلالة على الكثرة مأخوذ من الرزق : بفتح الراء
الذي هو المصدر. وأما الرزق بكسرها فهو اسم لنفس الشيء الذي يرزق الله به العبد.
فمعنى الرزاق الكثير الرزق لعباده الذي لا تنقطع عنهم أمداده وفواضله طرفة عين ،
والرزق كالخلق صفة من صفات الفعل ، وهو شأن من شئون ربوبيته عزوجل ، لا يصح أن ينسب إلى غيره ، فلا يسمى غيره رازقا ، كما لا
يسمى خالقا ، قال تعالى : (اللهُ الَّذِي
خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) [الروم : ٤٠]
فالأرزاق كلها بيد الله وحده ، فهو خالق الأرزاق والمرتزقة وموصلها إليهم وخالق
أسباب التمتع بها ، فالواجب نسبتها إليه وحده وشكره عليها فهو موليها وواهبها.
ورزقه تعالى
لعباده نوعان : عام وخاص.
فالعام : إيصاله
لجميع خلقه كل ما يحتاجون إليه في معاشهم وقيامهم فيسهل لهم سبيل الأرزاق ويدبرها
في أجسامهم ويسوق إلى كل عضو صغير وكبير ما يحتاجه من القوت ، فهذا عام للبر أو
الفاجر ، والمسلم والكافر بل للإنس والجن ، والحيوانات كلها.
وهذا الرزق قد
يكون من الحلال الذي لا تبعة على العبد فيه ، وقد يكون من الحرام ، ولكنه يسمى
رزقا بهذا الاعتبار الذي هو سوقه للأعضاء وهدايتها لامتصاصه والانتفاع به ، فيصح
أن يقال : رزقه الله بهذا الاعتبار سواء ارتزق من حلال أم من حرام. وهذا يقال له
مطلق الرزق.
وأما النوع الثاني
: فهو الرزق المطلق أو الرزق الخاص وهو النافع المستمر نفعه في الدنيا والآخرة وهو
الذي يحصل على يد الرسول صلىاللهعليهوسلم وهو نوعان :
١ ـ أحدهما رزق
القلوب بالعلم والإيمان وحقائق ذلك ، فإن القلوب مفتقرة غاية الافتقار إلى أن تكون
عالمة بالحق مريدة له متألهة لله ، وبذلك يحصل غناها ويزول فقرها.
٢ ـ والثاني رزق
الأبدان بالرزق الحلال الذي لا تبعة فيه ، فإن الرزق الذي خص به المؤمنين والذين
يسألونه منه شامل للأمرين.
فينبغي للعبد إذا
دعا ربّه في حصول الرزق أن يستحضر بقلبه هذين الأمرين ، فإذا قال مثلا (اللهم
ارزقني) أراد ما يصلح به قلبه من العلم والهدى ، والمعرفة والإيمان ، وما يصلح به
بدنه من الرزق الحلال الهنيء الذي لا صعوبة فيه ، ولا تبعة تعتريه.
* * *
فصل
هذا ومن أوصافه
القيوم وال
|
|
قيوم في أوصافه
أمران
|
إحداهما القيوم
قام بنفسه
|
|
والكون قام به
هما الأمران
|
فالأول استغناؤه
عن غيره
|
|
والفقر من كل
إليه الثاني
|
والوصف بالقيوم
ذو شأن كذا
|
|
موصوفه أيضا
عظيم الشأن
|
والحي يتلوه
فأوصاف الكما
|
|
ل هما لأفق
سماؤها قطبان
|
فالحي والقيوم
لن تتخلف ال
|
|
أوصاف أصلا
عنهما ببيان
|
الشرح
: ومن أسمائه الحسنى
سبحانه (القيوم) وهو مبالغة من قائم وله معنيان :
١
ـ أحدهما : أنه القائم بنفسه
المستغني عن جميع خلقه فلا يفتقر إلى شيء
أصلا لا في وجوده
، ولا في بقائه ، ولا فيما اتصف به من كمال ، ولا فيما يصدر عنه من أفعال ، فإن
غناه كما قدمنا ذاتي له فلا يطرأ عليه فقر أو حاجة.
والثاني
: أنه الكثير القيام
بتدبير خلقه ، فكل شيء في هذا الوجود مفتقر إليه فقرا ذاتيا أصيلا لا يمكن أن
يستغني عنه في لحظة من اللحظات ، فهو مفتقر إليه في وجوده أولا وفي بقائه بعد
الوجود ، فهو الذي يمده بأسباب البقاء ، فلا يقوم شيء في الوجود كله إلا به ، فهو
دائم التدبير والرعاية لشئون خلقه ، لا يمكن أن يغفل عنهم لحظة وإلا اختل نظام
الكون وتحطمت أركانه ، قال تعالى : (قُلْ مَنْ
يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ) [الأنبياء : ٤٢] وقال : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ
أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ) [فاطر : ٤١].
فهذا الوصف من
أوصافه سبحانه ذو شأن عظيم كشأن موصوفه ، إذ هو متضمن بمعناه الأول لكمال غناه
وعظمته ، ومتضمن بمعناه الثاني لجميع صفات الكمال في الفعل ، إذ لا تمام لها إلا
بقيوميته.
ومن أسمائه الحسنى
كذلك (الحي) وقد ورد مقترنا باسمه القيوم في ثلاثة مواضع من القرآن :
١ ـ في آية الكرسي
من سورة البقرة قال تعالى : (اللهُ لا إِلهَ
إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) [٢٥٥].
٢ ـ في أول سورة
عمران ، قال تعالى : (الم اللهُ لا إِلهَ
إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) [١ ، ٢].
٣ ـ في سورة طه ،
قال تعالى : (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ
لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) [١١١].
ومعنى الحي
الموصوف بالحياة الكاملة الأبدية التي لا يلحقها موت ولا فناء ، لأنها ذاتية له
سبحانه ، وكما أن قيوميته مستلزمة لسائر صفات الكمال الفعلية فكذلك حياته مستلزمة
لسائر صفات الكمال الذاتية من العلم والقدرة والإرادة
والسمع والبصر
والعزة والكبرياء والعظمة ونحوها ، فالحي والقيوم متضمنان لصفات الكمال كلها وهما
القطبان لأفق سمائها فلا تتخلف عنهما صفة منها أصلا ولهذا ورد أنهما اسم الله
الأعظم الذي إذا سئل به أعطى ، وإذا دعي به أجاب. وإنما كان هذان الاسمان العظيمان
متضمنين لسائر صفات الكمال لأن الحياة تعتبر شرطا للاتصاف بجميع الكمالات في الذات
من العلم والقدرة ، والإرادة والسمع والبصر والكلام إلخ ، فإن غير الحي لا يتصف
بهذه الصفات ، فمن كملت حياته كان أكمل في كل صفة تكون الحياة شرطا لها وأما
القيوم فلما كان أحد معانيه أنه الكثير القيام بشئون خلقه ، بحيث لا يغفل عنهم
لحظة ، كان ذلك مستلزما لكمال أفعاله ودوامها.
* * *
هو قابض هو باسط
هو خافض
|
|
هو رافع بالعدل
والإحسان
|
وهو المعز لأهل
طاعته وذا
|
|
عز حقيقي بلا
بطلان
|
وهو المذل لمن
يشاء بذله الدّا
|
|
رين ذل شقاء وذل
هوان
|
هو مانع معط
فهذا فضله
|
|
والمنع عين
العدل للمنان
|
يعطي برحمته
ويمنع من يشا
|
|
ء بحكمة والله
ذو سلطان
|
الشرح
: هذه الأسماء
الكريمة من الأسماء المتقابلات التي لا يجوز أن يفرد أحدها عن قرينه ، ولا أن يثنى
على الله عزوجل بواحد منها إلا مقرونا بمقابله ، فلا يجوز أن يفرد القابض
عن الباسط ، ولا الخافض عن الرافع ، ولا المذل عن المعز ، ولا المانع عن المعطي
إلخ ، لأن الكمال المطلق إنما يحصل بمجموع الوصفين ، فهو سبحانه القابض الباسط ،
يقبض الأرواح عن الأشباح عند الممات ، ويبسط الأرواح في الأجساد عند الحياة ،
ويقبض الصدقات من الأغنياء ويبسط الأرزاق للضعفاء ، ويبسط الرزق لمن يشاء حتى لا
تبقى فاقة ، ويقبضه عمن يشاء حتى لا تبقى طاقة ، ويقبض القلوب فيضيقها حتى تصير
حرجا كأنما تصعد في السماء ، ويبسطها بما يفيض عليها من معاني بره ولطفه وجماله ،
قال تعالى : (فَمَنْ
يُرِدِ
اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ
يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) [الأنعام : ١٢٥].
وهو سبحانه الخافض الرافع ، يخفض الكفار بالإشقاء والإبعاد ، ويرفع أولياءه
بالتقرب والإسعاد ، ويداول الأيام بين عباده ، فيخفض أقواما ، يخمل شأنهم ، ويذهب
عزهم ، ويرفع آخرين فيورثهم ملكهم وديارهم.
وهو سبحانه المعز
المذل ، يعز أهل طاعته بالعز الحقيقي الذي لا يبطله شيء ، فإن المطيع لله عزيز وإن
تحالفت عليه كل أسباب الذل والشقاء. ويذل أهل معصيته ذل شقاء وحرمان ، وذل خزي
وخذلان ، فإن العاصي لله وإن ظهر بمظهر العز فحشو قلبه الذل وإن لم يشعر به
لانغماسه فيما هو فيه من الشهوات.
فالعز كل العز في
طاعة الله ، والذل كل الذل في معصيته.
وهو سبحانه المانع
المعطي ، فلا معطي لما منع ، ولا مانع لما أعطى ، ولا ينفع ذا الجد منه الجد.
قال العلامة
السعدي رحمهالله :
(وهذه الأمور كلها
تبع لعدله وحكمته وحمده ، فإن له الحكمة في خفض من يخفضه ويذله ويحرمه ، ولا حجة
لأحد على الله ، كما له الفضل المحض على من رفعه وأعطاه وبسط له الخيرات ، فعلى
العبد أن يعترف بحكمة الله ، كما عليه أن يعترف بفضله ويشكره بلسانه وجنانه
وأركانه.
وكما أنه هو
المنفرد بهذه الأمور وكلها جارية تحت أقداره ، فإن الله جعل لرفعه وعطائه وإكرامه
أسبابا ، ولضد ذلك أسبابا ، من قام بها ترتبت عليها مسبباتها ، وكل ميسر لما خلق
له أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة ، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل
الشقاوة.
وهذا يوجب للعبد
القيام بتوحيد الله والاعتماد على ربه في حصول ما يحب ويجتهد في فعل الأسباب
النافعة ، فإنها محل حكمة الله) أه.
* * *
فصل
والنور من
أسمائه أيضا ومن
|
|
أوصافه سبحانه
ذي البرهان
|
قال ابن مسعود
كلاما قد حكا
|
|
ه الدارمي عنه
بلا نكران
|
ما عنده ليل
يكون ولا نها
|
|
ر قلت تحت الفلك
يوجد ذان
|
نور السموات
العلى من نوره
|
|
والأرض كيف
النجم والقمران
|
من نور وجه الرب
جل جلاله
|
|
وكذا حكاه
الحافظ الطبراني
|
فيه استنار
العرش والكرسي مع
|
|
سبع الطباق
وسائر الأكوان
|
وكتابه نور كذلك
شرعه
|
|
نور كذا المبعوث
بالفرقان
|
وكذلك الإيمان
في قلب الفتى
|
|
نور على نور مع
القرآن
|
وحجابه نور فلو
كشف الحجا
|
|
ب لأحرق السبحات
للأكوان
|
وإذا أتى للفصل
يشرق نوره
|
|
في الأرض يوم
قيامة الأبدان
|
وكذاك دار الرب
جنات العلى
|
|
نور تلألأ ليس ذا
بطلان
|
الشرح
: ومن أسمائه سبحانه
(النور) وهو أيضا صفة من صفاته ، فيقال الله نور فيكون اسما مخبرا به على تأويله
بالمشتق ، ويقال ذو نور ، فيكون صفة ، قال تعالى : (اللهُ نُورُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [النور : ٣٥] وقال
: (وَأَشْرَقَتِ
الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها) [الزمر : ٦٩].
وفي الصحيح عن ابن
عباس رضي الله عنهما أنه صلىاللهعليهوسلم كان يستيقظ من الليل يقول : «اللهم لك الحمد أنت نور
السموات والأرض ومن فيهن».
وقد روى الدارمي
والطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال «إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار ، نور
العرش من نور وجهه» وذلك لأن الليل والنهار سببهما طلوع الشمس وغروبها ، وهذا إنما
يوجد تحت الفلك لا فوقه.
فهو سبحانه الذي
استنارت به جميع الكائنات من العرش والكرسي والسموات السبع وغيرها ، وكتابه سبحانه
وهو القرآن نور ، لأنه يهدي القلوب
من العمي ويبصرها
طريق الرشد ، قال تعالى : (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ
اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ
السَّلامِ ، وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ
وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [المائدة : ١٥ ،
١٦].
وقال سبحانه : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً
مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ
جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) [الشورى : ٥٢].
وكذلك شرعه الذي
شرّعه لعباده نور ، ورسوله محمد صلىاللهعليهوسلم الذي بعثه بالقرآن نور ، قال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا
أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ
وَسِراجاً مُنِيراً) [الأحزاب : ٤٥ ،
٤٦].
وكذلك الإيمان في
قلب المؤمن مع القرآن نور على نور ، كما في قوله تعالى : (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها
مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ
يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ
يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي
اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) [النور : ٣٥]. فهو
مثل ضربه الله لنوره في قلب عبده المؤمن وهذا النور هو الذي يسعى بين يدي العبد
وعن يمينه يوم القيامة ، كما قال تعالى : (نُورُهُمْ يَسْعى
بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) [الحديث : ١٢].
وحجابه سبحانه النور كما ورد في حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. قال : «قام
فينا رسول الله صلىاللهعليهوسلم بأربع كلمات ، قال : إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام
، يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل النهار قبل عمل الليل ، وعمل الليل قبل عمل
النهار ، حجابه النور ، أو قال النار ، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه
بصره من خلقه» والمراد بالسبحات جمع سبحة وهو تلألؤ الوجه وإشراقه ، وهو سبحانه
حين يجيء يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده ، تشرق الأرض بنوره ، كما قال تعالى :
(وَأَشْرَقَتِ
الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ) [الزمر : ٦٩].
وكذلك داره سبحانه
التي أعدها للطيبين من عباده ، وهي الجنات العلى ، نور تزهر ، كما ورد في الحديث.
* * *
والنور ذو نوعين
مخلوق ووص
|
|
ف ما هما والله
متحدان
|
وكذلك المخلوق
ذو نوعين مح
|
|
سوس ومعقول هما
شيئان
|
احذر تزلّ رجلك
هوة
|
|
كم قد هوى فيها
على الأزمان
|
من عابد بالجهل
زلت رجله
|
|
فهوى إلى قعر
الحضيض الداني
|
لاحت له أنوار
آثار العبا
|
|
دة ظنها الأنوار
للرحمن
|
فأتى بكل مصيبة
وبلية
|
|
ما شئت من شطح
ومن هذيان
|
وكذا الحلولي
الذي هو خدنه
|
|
من هاهنا حقا هما
أخوان
|
ويقابل الرجلين
ذو التعطيل وال
|
|
حجب الكثيفة ما
هما سيّان
|
ذا في كثافة
طبعه وظلامه
|
|
وبظلمة التعطيل
هذا الثاني
|
والنور محجوب
فلا هذا ولا
|
|
هذا له من ظلمة
يريان
|
الشرح
: قال العلامة الشيخ
السعدي رحمهالله (والنور نوعان :
حسي كهذه العوالم التي لم يحصل لها نور إلا من نوره ، ونور معنوي يحصل في القلوب
والأرواح بما جاء به محمدصلىاللهعليهوسلم من كتاب الله وسنة نبيه ، فعلم الكتاب والسنة والعمل بهما
ينير القلوب والأسماعوالأبصار ويكون نورا للعبد في الدنيا والآخرة : (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) [النور : ٣٥] لما ذكر أنه نور السموات والأرض وسمى الله
كتابه نورا ورسوله نورا ووحيه نورا. ثم أن المؤلف حذر من اغترار من اغتر من أهل
التصوف الذين لم يفرقوا بين نور الصفات ، وبين أنوار الإيمان والمعارف ، فإنهم لما
تألهوا وتعبدوا من غير فرقان وعلم كامل ولاحت أنوار التعبد في قلوبهم لأن العبادات
لها أنوار في القلوب فظنوا أن هذا النور هو نور الذات المقدسة ، فحصل منهم من
الشطح والكلام القبيح ما هو أثر هذا الجهل والاغترار والضلال. وأما أهل العلم
والإيمان
والفرقان. فإنهم
يفرقون بين نور الذات والصفات ، وبين النور المخلوق الحسي منه والمعنوي فيعترفون
أن نور أوصاف الباري ملازم لذاته لا يفارقها ، ولا يحل بمخلوق ، تعالى الله عما
يقول الظالمون علوا كبيرا.
وأما النور
المخلوق فهو الذي تتصف به المخلوقات بحسب الأسباب والمعاني القائمة بها والمؤمن
إذا كمل إيمانه أنار الله قلبه ، فانكشفت له حقائق الأشياء ، وحصل له فرقان يفرق
به بين الحق والباطل ، وصار هذا النور هو مادة حياة العبد وقوته على الخير علما
وعملا وانكشفت عنه الشبهات القادحة في العلم واليقين والشهوات الناشئة عن الظلمة
والغفلة ، وكان قلبه نورا وكلامه نورا وعمله نورا والنور محيط به من جهاته ،
والكافر أو المنافق أو المعارض أو المعرض الغافل ، كل هؤلاء يتخبطون في الظلمات ،
كل له من الظلمة بحسب ما معه من موادها وأسبابها والله الموفق وحده) أه.
ويظهر من هذا النص
أن الشيخ السعدي قد تابع المؤلف في القول بأن أهل الاغترار والجهل حين تلوح في
قلوبهم أنوار آثار العبادة تحملهم على الشطح والهذيان بكلمات تفهم الوحدة كقول أبي
يزيد البسطامي قبحه الله : (سبحاني ما أعظم شاني) وقوله (انسلخت عن نفسي كما تنسلخ
الحية من جلدها ، ثم نظرت فإذا أنا هو) أو تفهم معنى الحلول كقول الحلاج : (أنا من
أهوى ومن أهوى أنا نحن روحان حللنا بدنا).
وهذه غفلة من
الشيخين غفر الله لهما وإسراف في حسن الظن بهؤلاء الصوفية قبحهم الله ، فإنهم لم
يعبدوا الله عبادة صحيحة حتى تظهر عليهم أنوارها ، فإن شرط العبادة الصحيحة معرفة
المعبود المعرفة الحقة بأسمائه وصفاته ، وهؤلاء الصوفية إنما عرفوه على الصورة
التي رسمتها لهم شياطينهم ، وهو أنه ملك خليع يجب الرقص ويولع بالغناء وعاشق ولهان
يبيح لمحبيه السكر والفجور ومضاجعة الغلمان ، فلم يزدادوا بعبادته إلا خبالا ، ولو
كانوا قد عرفوه حق معرفته لهدتهم هذه المعرفة إلى سبيل الرشاد ، ولما وقعوا عند
ظهور أنواره لهم في بوائق الكفر
والالحاد فإن من
يحصل له نور العبادة الحقة لا يمكن أن يضل به ، كيف وقد جعله الله فرقانا في قلب
العبد يبصره بمواطن الرشد ويجنبه مواضع الزلل ، قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ
تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) [الأنفال : ٢٩] أي
نورا تفرقون به بين الحق والباطل ، فكيف يكون هذا النور الهادي هو سبب الضلال؟
والعجب من رجل لقب
بحجة الإسلام يقال له الغزالي كفر الفلاسفة لقولهم بقدم العالم وإنكارهم علم الله
بالجزئيات وحشر الأجساد. وهو مع ذلك يعتذر عن أسلافه في التصوف فيما نطقوا به من
الكفر البواح ، ويحاول جاهدا أن يجعل لكلامهم مساغا من التأويل كأنما كلامهم وحي
وتنزيل ، ولكن الأنسب كما قيل (حبّك الشيء يعمي ويصم) ومن يضلل الله فما له من
سبيل.
* * *
فصل
وهو المقدم
والمؤخر ذانك الص
|
|
فتان للأفعال تابعتان
|
وهما صفات الذات
أيضا إذ هما
|
|
بالذات لا
بالعير قائمتان
|
ولذاك قد غلط
المقسم حين ظ
|
|
ن صفاته نوعان
مختلفان
|
إن لم يرد هذا
ولكن قد أرا
|
|
د قيامها بالفعل
ذي الإمكان
|
والفعل والمفعول
شيء واحد
|
|
عند المقسم ما
هما شيئان
|
فلذاك وصف الفعل
ليس لديه إلا
|
|
نسبة عدمية
ببيان
|
فجميع أسماء
الفعال لديه لي
|
|
ست قط ثابتة
ذوات معان
|
موجودة لكن أمور
كلها
|
|
نسب ترى عدمية
الوجدان
|
هذا هو التعطيل
للأفعال
|
|
كالتعطيل
للأوصاف بالميزان
|
الشرح
: ومن أسمائه سبحانه
(المقدم والمؤخر) وهما من الأسماء المتقابلة التي لا يجوز إفراد أحدها عن مقابله
كما قدمنا ذلك في المعز والمذل والخافض والرافع
والقابض والباسط
والمانع والمعطي ونحوها ، فهو سبحانه المقدم لبعض الأشياء على بعض ، إما تقديما
كونيا كتقديم بعض المخلوقات في الوجود على بعض وكتقديم الأسباب على مسبباتها
والشروط على مشروطاتها ، وإما تقديما شرعيا معنويا كتفضيل الأنبياء عليهمالسلام على سائر البشر وتفضيل بعض النبيين على بعض ، وتفضيل
العباد كذلك بعضهم على بعض وهو سبحانه المؤخر لبعض الأشياء عن بعض أما بالزمان أو
بالشرع كذلك.
والتقديم والتأخير
صفتان من صفات الأفعال التابعة لمشيئته تعالى وحكمته وهما أيضا صفتان للذات إذ
قيامهما بالذات لا بغيرها ، وهكذا كل صفات الأفعال هي من هذا الوجه صفات ذات حيث
أن الذات متصفة بها ، ومن حيث تعلقها بما ينشأ عنها من الأقوال والأفعال تسمى صفات
أفعال.
ولهذا غلط علماء الكلام
من الأشاعرة حين ظنوا أن هناك نوعين مختلفين من الصفات أحدهما قائم بالذات لازم
لها ، كصفات المعاني السبعة التي هي العلم والقدرة والإرادة والحياة والسمع والبصر
والكلام ، والثاني صفات أفعال لا تقوم عندهم بالذات ، بل هي نسب إضافية عدمية تنشأ
من إضافة المفعول لفاعله ، ولا يعقل لها وجود إلا بتلك الاضافة فوجودها أمر سلبي ،
وليس لها وجود في نفسها ، فليس ثمت عندهم موجود الا المفعولات ، وأما الأفعال فنسب
وإضافات.
وهذا قول باطل
مخالف كما قدمنا لما دل عليه الكتاب والسنة وإجماع السلف ، بل والعقل أيضا الذي
يقضي بأن تكون صفات الأفعال قائمة بمن فعلها ، ويكون متصفا بها من قالها أو عملها
، إذ لا يتصور في العقل مفعول من غير فعل ، ولا مخلوق من غير خالق ، كما لا يتصور
أحد اسما مشتقا ولا يكون دالا على صفة في المحل المسمى به.
والذي أوقعهم في
هذا الغلط الشنيع أن صفات الأفعال عندهم لا تكون إلا حادثة لتعلقها بالمفعولات
الحادثة ، فيستحيل عندهم قيامها بذاته تعالى ، لأن قيام
الحوادث به مستلزم
لحدوثه ، فارتكبوا بهذه الأكذوبة أعظم جناية على الدين ، حيث نفوا كل الصفات
الفعلية التي جاء بها الكتاب والسنة من الاستواء على العرش والنزول إلى السماء
الدنيا وتكليمه لبعض عباده في بعض الأزمنة ، وحبه ورضاه وغضبه ومقته الخ. كما نفوا
أفعاله التي يوجدها شيئا بعد شيء تبعا لحكمته وأقواله التي يتكلم بها شيئا بعد شيء
كذلك. ولا شك أن هذا التعطيل لأفعاله لهو كتعطيل الجهمية والمعتزلة لصفات ذاته بلا
فرق أصلا ، فإذا كان هذا التعطيل لصفاته الذاتية باطلا بإقرار هؤلاء أنفسهم ، فيجب
أن يكون التعطيل لصفاته الفعلية باطلا كذلك.
* * *
فالحق أن الوصف
ليس بمورد التق
|
|
سيم هذا مقتضى
البرهان
|
بل مورد التقسيم
ما قد قام
|
|
بالذات التي
للواحد الرحمن
|
فهما إذا نوعان
أوصاف وأفع
|
|
ال فهذي قسمة
التبيان
|
فالوصف بالأفعال
يستدعي قيا
|
|
م الفعل
بالموصوف بالبرهان
|
كالوصف بالمعنى
سوى الأفعال ما
|
|
أن بين ذينك قط
من فرقان
|
الشرح
: يعني أن هؤلاء
النافين لصفات الأفعال ممن اعتبروها نسبا وإضافات لا تقوم بالذات ، جعلوا مورد
التقسيم هو الوصف ، فقالوا أن الوصف إما وصف معنى قائم بالذات ، وإما وصف فعل لا
يقوم بها ، وذلك ليتأتى لهم على هذا التقسيم اعتبار بعض الصفات قائما بالذات ،
وبعضها غير قائم بها.
ولكن الحق أن مورد
القسمة هو نفس ما يقوم بالذات ، فيقال أن ما يقوم بالذات ويكون وصفا لها ، إما أن
يكون صفة معنى لازما للذات ، وإما أن يكون صفة فعل ، والوصف بالفعل يستدعي قيام
الفعل بالموصوف ، كالوصف بالمعنى سواء بسواء ، فإذا كان وصفه سبحانه بأنه عليم قد
يرحى الخ يقتضي قيام العلم والقدرة والحياة به ، فكذلك وصفه بأنه خالق أو رازق أو
مقدم أو مؤخر يقتضي قيام هذه الأفعال من الخلق والرزق والتقديم والتأخير ونحوها
به. وهذا
ما لا ينبغي أن
يشك فيه عاقل ، فإن إطلاق المشتق على شيء يؤذن بثبوت مأخذ الاشتقاق له.
ومن العجائب
أنهم ردوا على
|
|
من أثبت الأسماء
دون معان
|
قامت بمن هي
وصفه هذا محا
|
|
ل غير معقول لذي
الأذهان
|
وأتوا إلى
الأوصاف باسم العقل قا
|
|
لوا لم تقم
بالواحد الديان
|
فانظر إليهم
أبطلوا الأصل الذي
|
|
ردوا به أقوالهم
بوزان
|
إن كان هذا
ممكنا فكذاك قو
|
|
ل خصومكم أيضا
فذو إمكان
|
والوصف بالتقديم
والتأخير كو
|
|
ني وديني هما
نوعان
|
وكلاهما أمر
حقيقي ونس
|
|
بي ولا يخفى على
الأذهان
|
والله قدر ذاك
أجمعه بإح
|
|
كام وإتقان من
الرحمن
|
الشرح
: يعجب المؤلف من
هؤلاء الأشاعرة في تناقضهم واضطرابهم ، حيث يفرقون بين المتماثلين ويسوون بين
المختلفين ، فهم ينكرون على المعتزلة في إثباتهم الأسماء دون الصفات ، ويقولون أن
ثبوت الاسم لمن لم يقم به معناه محال عند العقل. ثم هم يعمدون إلى صفات الأفعال
فينفونها عن الله عزوجل رغم أنهم يثبتون له الأسماء المأخوذة من هذه الأفعال ،
وبذلك أبطلوا الأصل الذي ردوا به على المعتزلة بعينه وصحّ لخصومهم أن يقولوا لهم
إن كان ممكنا عندكم أن يسمى الله خالقا ولا يكون الخلق وصفا له ، فلم أنكرتم علينا
أن نسميه عالما بلا علم وقادرا بلا قدرة الخ ، مع أنه لا فرق أصلا بين ما أثبتموه
وبين ما نفيتموه ، فأما أن تثبتوا في الكل كما ذهب إليه أهل السنة والجماعة ، وأما
أن تنفوا في الكل كما هو مذهبنا ، أما أن تثبتوا في البعض وتنفوا في البعض فهذا
تناقض لا يليق بالعقلاء.
* * *
هذا ومن أسمائه
ما ليس يف
|
|
رد بل يقال إذا
أتى بقران
|
وهي التي تدعى
بمزدوجاتها
|
|
أفرادها خطر على
الإنسان
|
إذ ذاك موهم نوع
نقص جل رب
|
|
العرش عن عيب
وعن نقصان
|
كالمانع المعطى
وكالضار الذي
|
|
هو نافع وكماله
الأمران
|
ونظير هذا
القابض المقرون با
|
|
سم الباسط
اللفظان مقترنان
|
وكذا المعز مع
المذل وخافض
|
|
مع رافع لفظان
مزدوجان
|
وحديث افراد اسم
منتقم فمو
|
|
قوف كما قد قال
ذو العرفان
|
ما جاء في
القرآن غير مقيد
|
|
بالمجرمين وجا
بذو نوعان
|
الشرح
: سبق أن قلنا أن
هذه الأسماء المزدوجة المتقابلة لا يجوز أن يفرد أحدها عن قرينه ، فإنها إذا أفردت
أوهمت نقصا في حقه تعالى عن كل عيب ونقص ، بل الكمال في ذكرهما جميعا ، فيقال : يا
معطى يا مانع ، يا ضار يا نافع ، يا مقدم يا مؤخر ، يا معز يا مذل ، يا خافض يا
رافع الخ.
وأما إفراد اسمه (المنتقم)
عن قرينه وهو (العفو) فلم يرد إلا في حديث موقوف ، ولم يستعمل في القرآن إلا على
نوعين : أما أن يكون مقيدا بالمجرمين كقوله تعالى : (فَانْتَقَمْنا مِنَ
الَّذِينَ أَجْرَمُوا) [الروم : ٤٧]
وكقوله : (إِنَّا مِنَ
الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) [السجدة : ٢٢]
وأما أن يكون مضافا إلى ذو كقوله : (وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو
انْتِقامٍ) [آل عمران : ٤]
وكقوله : (وَمَنْ عادَ
فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) [المائدة : ٩٥]
الخ.
* * *
فصل
ودلالة الأسماء
أنواع ثلا
|
|
ث كلها معلومة
ببيان
|
دلت مطابقة كذاك
تضمنا
|
|
وكذا التزاما
واضح البرهان
|
أما مطابقة
الدلالة فهي أن
|
|
الاسم يفهم منه
مفهومان
|
ذات الاله وذلك
الوصف الذي
|
|
يشتق منه الاسم
بالميزان
|
لكن دلالته على
إحداهما
|
|
بتضمن فافهمه
فهم بيان
|
لكن دلالته على
الصفة التي
|
|
ما اشتق منها
فالتزام دان
|
وإذا أردت لذا
مثالا بينا
|
|
فمثال ذلك لفظة
الرحمن
|
ذات الاله ورحمة
مدلولها
|
|
فهما لهذا اللفظ
مدلولان
|
احداهما بعض لذا
الموضوع ف
|
|
هي تضمن ذا واضح
التبيان
|
لكن وصف الحي
لازم ذلك الم
|
|
عنى لزوم العلم
للرحمن
|
فلذا دلالته
عليه بالتزا
|
|
م بين الحق ذو
تبيان
|
الشرح
: يقسم المناطقة
دلالة اللفظ الموضوع لمعنى إلى ثلاثة أقسام : مطابقة وتضمن والتزام ، وذلك لأنه إن
قصد باللفظ الدلالة على تمام المعنى فمطابقة لتطابق اللفظ والمعنى ، أي توافقهما ،
وإن قصد به الدلالة على جزء ذلك المعنى فتضمن ، لأن ذلك الجزء داخل في ضمن المعنى
الموضوع له ، وإن قصد به الدلالة على لازم ذلك المعنى فالتزام. وهذا التقسيم جار
في دلالة الأسماء الحسنى على معانيها ، فكل منها يدل بالمطابقة على مجموع الذات
والصفة التي اشتق منها ، فعليم دال بالمطابقة على ذات ثبت لها العلم ، وحي دال
بالمطابقة على ذات وحياة وهكذا.
وأما دلالته على
الذات وحدها أو على الصفة وحدها فتضمن ، لأن كلا منهما جزء لمعنى الاسم داخل في
ضمنه. وأما دلالته على صفة للذات غير الصفة التي اشتق هو منها فدلالة التزام دان ،
أي قريب من متناول العقل ، وضرب المؤلف لذلك مثلا بلفظة الرحمن ، فإنها تدل مطابقة
على الذات والرحمة ، وتدل على أحدهما بالتضمن ، وتدل على الحياة الكاملة والعلم
المحيط والقدرة التامة ونحوها دلالة التزام ، لأنه لا توجد رحمة دون حياة الراحم
وعلمه وقدرته الخ.
هذا وكثير من
أسمائه الحسنى سبحانه يستلزم عدة أوصاف ، فالملك مثلا مستلزم لجميع صفات الملك ،
والرب مستلزم لصفات الربوبية ، والله لصفات الألوهية ، وهي صفات الكمال كلها.
ومنها كذلك الكبير
والعظيم والمجيد والحميد ، والواسع والصمد وغيرها فتحت كل منها الكثير من صفات
الكمال.
فصل
في بيان حقيقة الإلحاد في أسماء
رب العالمين وذكر انقسام الملحدين
أسماؤه أوصاف
مدح كلها
|
|
مشتقة قد حملت
لمعان
|
إياك والإلحاد
فيها أنه
|
|
كفر معاذ الله
من كفران
|
وحقيقة الإلحاد
فيها المي
|
|
ل بالإشراك
والتعطيل والنكران
|
فالملحدون إذا
ثلاث طوائف
|
|
فعليهم غضب من
الرحمن
|
المشركون لأنهم
سموا بها
|
|
أوثانهم قالوا
إله ثان
|
هم شبهوا
المخلوق بالخلاق عك
|
|
س مشبه الخلاق
بالإنسان
|
الشرح
: يعني أن أسماءه
سبحانه كلها حسنى دالة على أوصاف الكمال التي يمدح بها ويثنى عليه بها ، وليست
أعلاما جامدة خالية من المعاني ، كما يزعم ذلك ابن حزم فإنها لو كانت كذلك لم تكن
حسنى ، بل هي أعلام وأوصاف معا ، وإذا كان الاسم محتملا للمدح وغيره ، كالمريد
والصانع والفاعل ونحوها لم يدخل بمطلقه في أسماء الله عزوجل ، بل لا بد أن يقيد بما يجعله متمحضا للمدح والثناء ، إذ
صفاته سبحانه كلها صفات كمال محض ، فهو موصوف بأكمل الصفات ، وله من كل صفة كمال
أحسن اسم وأكمله وأتمه.
والواجب في أسمائه
الحسنى. وصفاته العليا أن تثبت على ما جاء به الكتاب والسنة على الوجه اللائق
بجلال الله وعظمته ، فلا ينفى منها اسم ، ولا ينفى من معانيها صفة ولا تشبه بصفات
المخلوقين ، فإن ذلك كله الحاد في أسمائه سبحانه وهو كفر نعوذ بالله منه ، قال
تعالى : (وَلِلَّهِ
الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي
أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [الأعراف : ١٨٠].
والملحدون في
أسمائه سبحانه ثلاث طوائف عليهم غضب الله ومقته.
الأولى : من يجعل
لله شريكا في أسمائه فيسمي بها بعض المخلوقات ، وذلك كتسمية المشركين آلهتهم اللات
من الإله والعزى من العزيز ومناة من المنان.
والثانية : من
يمثل صفاته سبحانه بصفات المخلوقين فيعتقد أن علمه كعلمهم وقدرته كقدرتهم ، وحياته
كحياتهم الخ.
والثالثة : من
ينفي معاني أسمائه الحسنى ، أو ينفي الأسماء والمعاني جميعا كما يفعل الجهمية ومن
تبعهم من كل معطل جاحد لصفات الله كلها أو بعضها.
* * *
وكذلك أهل
الاتّحاد فإنّهم
|
|
إخوانهم من أقرب
الأخوان
|
أعطوا الوجود
جميعه أسماءه
|
|
إذ كان عين الله
ذي السلطان
|
والمشركون أقل
شركا منهم
|
|
هم خصصوا ذا
الاسم بالأوثان
|
ولذاك كانوا أهل
شرك عندهم
|
|
لو عمموا ما كان
من كفران
|
الشرح
: ومن أعظم الملحدين
في أسمائه سبحانه أصحاب مذهب الاتحاد القائلين بوحدة الوجود ، كابن عربي وابن
سبعين وأضرابهما. وهم أخوان لأهل الشرك يشبهونهم في تسمية المخلوق باسم الخالق إلا
أن الفرق أن هؤلاء الاتحادية يعطون أسماءه سبحانه لكل شيء في الوجود إذ كان وجود
الأشياء عندهم هو عين وجوده ما ثمة فرق إلا بالإطلاق والتقييد ، ولهذا كانوا أعظم
شركا من المشركين لأن المشركين خصصوا أسماءه سبحانه بآلهتهم ، ولم يجعلوها أسماء
لكل شيء كما فعل هؤلاء الملاحدة وهم يعيبون المشركين على هذا التخصيص ويرونه سبب
إشراكهم فلو أنهم عمموا وعبدوا كل مظاهر الوجود وسموها بأسماء الحق سبحانه ما
كانوا في نظرهم كفارا ولا مشركين.
* * *
والملحد الثاني
فذو التعطيل اذ
|
|
ينفى حقائقها
بلا برهان
|
ما ثم غير الاسم
أوله بما
|
|
ينفي الحقيقة
نفي ذي بطلان
|
فالقصد دفع النص
عن معنى
|
|
الحقيقة فاجتهد
فيه بلفظ بيان
|
عطل وحرف ثم أول
وأنفها
|
|
واقذف بتجسيم
وبالكفران
|
للمثبتين حقائق
الأسماء والأ
|
|
وصاف بالأخبار
والقرآن
|
فإذا هم احتجوا
عليك فقل لهم
|
|
هذا مجاز وهو
وضع ثان
|
فإذا غلبت على
المجاز فقل لهم
|
|
لا يستفاد حقيقة
الايقان
|
أنى وتلك أدلة
لفظية
|
|
عزلت عن الايقان
منذ زمان
|
الشرح
: ومن أهل الإلحاد
في أسمائه سبحانه طوائف التعطيل من معتزلة وفلاسفة وأشعرية فإنهم ينفون حقائق
الأسماء ودلالتها على معانيها الحقة التي تفهم منها بوضع اللغة نفيا بلا حجة ولا
دليل ويقولون أن هذه الأسماء لم يقصد منها هذه المعاني المتبادرة عند إطلاقها ،
فإنها في نظرهم مستحيلة على الله لإفضائها إلى التشبيه والتجسيم فالواجب في زعمهم
هو تأويلها بما ينفي حقائقها ويقول بعضهم لبعض متواصين بهذا النفي والتعطيل أن
مقصودنا الأول هو دفع النصوص عن إفادة الحقيقة فالواجب الاجتهاد في ذلك بكل فنون
القول وأساليب البيان بأن نعطل هذه النصوص ونحرفها عن مواضعها ونؤولها بما يصرفها
عن معانيها الحقة إلى ما يتفق مع مناهجنا في التعطيل أو نفيها وننكر ورودها إن
كانت نصوص آحاد ليست من التنزيل ، ثم نرمي المثبتين لحقائق هذه الأسماء والصفات
بأدلة الكتاب والسنة بالتجسيم والتشبيه ، فإذا هم احتجوا علينا بهذه الأدلة قلنا
أنه لم يرد منها حقائقها ، بل مجاز واللفظ يفيده بالوضع الثاني. فإذا غلبنا على
دعوى المجاز ولم نستطع إثباتها حيث لا قرينة تدل عليه ، قلنا لهم أن هذه النصوص لا
تفيد اليقين لأنها أدلة لفظية ، ولا يستفاد اليقين إلا من البرهان العقلي.
* * *
فاذا تضافرت
الأدلة كثرة
|
|
وغلبت عن تقرير
ذا ببيان
|
فعليك حينئذ
بقانون وض
|
|
عناه لدفع أدلة
القرآن
|
ولكل نص ليس
يقبل أن يؤو
|
|
ل بالمجاز ولا
بمعنى ثان
|
قل عارض المنقول
معقول وما الأ
|
|
مران عند العقل
يتفقان
|
ما ثم الا واحد
من أربع
|
|
متقابلات كلها
بوزان
|
أعمال ذين وعكسه
أو تلغى المعق
|
|
ول ما هذا بذي
إمكان
|
العقل أصل النقل
وهو أبوه أن
|
|
تبطله يبطل فرعه
التحتاني
|
فتعين الاعمال
للمعقول والا
|
|
لغاء للمنقول بالبرهان
|
أعماله يفضى الى
الغائه
|
|
فاهجره هجر
الترك والنسيان
|
الشرح
: فاذا تظاهرت أدلة
الأثبات ، وكانت من الكثرة بحيث تعجز أيها المعطل عن ردها بكل أساليب البيان ،
وكان منها نصوص لا تقبل التأويل ولا ينفع معها دعوى المجاز فما عليك الا أن تلجأ
الى هذا القانون الذي وضعناه لك لتدفع به في صدر هذه النصوص ، وهو أنه اذا تعارض
العقل والنقل واستحال التوفيق بينهما عند العقل وجب اعمال دليل العقل وإهمال دليل
النقل ، لأن الامر لا يخرج عن واحد من أربع أمور متقابلة ، فاما أن نعمل الدليلين
معا فنقع في التناقض أو نلغيهما معا ، وهذا أيضا باطل لأنه رفع للنقيضين أو نلغى
المعقول ، وهذا مستحيل لأنه يؤدي الى ابطال الشرع ، فان الشرع لم يثبت الا بالعقل
، فالعقل هو أصله وأبوه والغاء الاصل مستلزم لالغاء الفرع فلم يبق الا الأمر
الرابع وهو اعمال المعقول والغاء المنقول الذي يقضي اعماله الى الغائه فالواجب
حينئذ هجره هجر ترك ونسيان والايمان به ألفاظا مجردة بدون معان.
* * *
والله لم نكذب
عليهم أننا
|
|
وهم لدى الرحمن
مختصمان
|
وهناك يجزى
الملحدون ومن نفى الا
|
|
لحاد يجزى ثم
بالغفران
|
فاصبر قليلا
انما هي ساعة
|
|
يا مثبت الاوصاف
للرحمن
|
فلسوف تجنى أجر
صبرك ح
|
|
ين يجنى الغير
وزر الاثم والعدوان
|
فالله سائلنا
وسائلهم عن الا
|
|
ثبات والتعطيل
بعد زمان
|
فأعد حينئذ
جوابا كافيا
|
|
عند السؤال يكون
ذا تبيان
|
الشرح
: يقسم المؤلف بالله
أنه لم يتجن على القوم فيما رواه عنهم من التلاعب
بالنصوص بالتحريف
والتأويل والدفع في صدورها بأدلة العقول ، فان كتبهم مملوءة من هذه الاباطيل وهم
يذكرونها بلا خجل ولا حياء ، بل أن هذا عندهم هو مسلك المحققين من العلماء.
ويذكر المصنف أن
الفريقين من أهل الاثبات والتعطيل سيختصمان يوم القيامة بين يدي الملك الجليل ،
وهناك يلقى الملحدون المعطلون جزاء هذا الالحاد والتعطيل وأما المثبتة للصفات
النافون عنها تشغيب أهل التعطيل والالحاد فسيجزيهم ربهم بمغفرة لذنوبهم ، فما عليك
أيها المثبت للصفات الا أن تعتصم بالصبر ، فانما هي ساعة تعيشها في هذه الدنيا ،
ثم ينقضى العمر حتى اذا لقيت ربك وفاك أجر صبرك مغفرة منه ورضوانا على حين يجنى
غيرك من أهل الزور والبهتان جزاء ما قدموا لانفسهم من اثم وعدوان.
واعلم أن الله
سائلك عن اثباتك ، كما هو سائلهم عن تعطيلهم ، فأعد لذلك السؤال جوابا كافيا يكون
ذا وضوح وتبيان تنجو به من النيران وتنال به المغفرة والرضوان.
* * *
هذا وثالثهم
فنافيها ونا
|
|
فى ما تدل عليه
بالبهتان
|
ذا جاحد الرحمن
رأسا لم يقر
|
|
بخالق أبدا ولا
رحمن
|
هذا هو الالحاد
فاحذره لع
|
|
ل الله أن ينجيك
من نيران
|
وتفوز بالزلفى
لديه وجنة الم
|
|
أوى مع الغفران
والرضوان
|
لا توحشنك غربة
بين الورى
|
|
فالناس كالأموات
في الحسبان
|
أو ما علمت بأن
أهل السنة
|
|
الغرباء حقا عند
كل زمان
|
قل لي متى سلم
الرسول وصحبه
|
|
والتابعون لهم
على الاحسان
|
من جاهل ومعاند
ومنافق
|
|
ومحارب بالبغى
والطغيان
|
وتظن أنك وارث لهم
وما
|
|
ذقت الأذى في
نصرة الرحمن
|
كلا ولا جاهدت
حق جهاده
|
|
في الله لا بيد
ولا بلسان
|
منّتك والله
المحال النفس فاس
|
|
تحدث سوى ذا
الرأى والحسبان
|
لو كنت وارثه
لآذاك الألى
|
|
ورثوا عداه
بسائر الألوان
|
الشرح
: وأما ثالث الطوائف
من أهل التعطيل والالحاد فهو الذي ينفى الأسماء وينفى ما تدل عليه من المعاني
بالكذب والبهتان ، وذلك مثل الجهمية أتباع الجهم بن صفوان ، والفلاسفة أشياع مذهب
أرسطو ، وغيره من حكماء اليونان. وهؤلاء في الحقيقة جاحدون لوجود الخالق الرحمن ،
فانه لا يعقل وجود ذات في الخارج بلا اسم ولا صفة ، وانما يقدر وجودها في الأذهان.
وبعد أن فرغ
المؤلف من ذكر معاني الالحاد الثلاثة في أسماء الرب التي هي تسمية المخلوق بها ،
أو نفى ما دلت عليه من المعاني ، أو نفيها ونفي المعاني جميعا. حذر من الوقوع في
بوائق هذا الالحاد اخوانه من أهل السنة لكي ينجوا بذلك من النيران ويفوزوا بالقرب
من الله في جنة المأوى التي أعدها لأوليائه ويظفروا بمغفرته ورضوانه.
ثم أوصاهم أن لا
يستوحشوا من قلتهم وكثرة أعدائهم ، فان الناس كلهم موتى وأهل السنة وحدهم الأحياء
، وقد وردت الآثار بأن أهل السنة يكونون آخر الزمان غرباء. قالعليهالسلام «بدأ الاسلام
غريبا وسيعود غريبا كما بدأ ، فطوبى للغرباء ، فقيل من هم يا رسول الله؟ قال الذين
يصلحون اذا فسد الناس ، وفي رواية الذين يحيون ما أمات الناس من سنتي».
ثم يسائل اخوانه
من أهل السنة الذين يضيقون ذرعا بما يلقون من أذى اعدائهم فيقول : متى سلم الرسول صلىاللهعليهوسلم وأصحابه والتابعون لهم باحسان من أهل الجهل والعناد
والنفاق حتى تطمعوا أنتم في السلامة منهم ، وكيف تطمعون أن تكونوا وراثا لهم دون
أن تذوقوا ما ذاقوه من الأذى في نصرة الرحمن وان تجاهدوا في سبيله حق الجهاد باليد
واللسان ، فهذه أماني كواذب تخدعكم بها أنفسكم ، فاستحدثوا لكم رأيا غير هذا ،
واعلموا أن هذه الوراثة الكريمة لهؤلاء
الأخيار لا تكون
الا لمن وطن النفس على احتمال كل ما يلقاه من أذى هؤلاء المجرمين الأشرار.
* * *
فصل
في النوع الثاني من نوعي توحيد الأنبياء والمرسلين المخالف
لتوحيد المشركين والمعطلين
هذا وثاني نوعي
التوحيد تو
|
|
حيد العبادة منك
للرحمن
|
أن لا تكون
لغيره عبدا ولا
|
|
تعبد بغير شريعة
الايمان
|
فتقوم بالإسلام
والإيمان وال
|
|
إحسان في سرّ
وفي إعلان
|
والصدق والإخلاص
ركنا ذلك الت
|
|
وحيد كالركنين
للبنيان
|
وحقيقة الاخلاص
توحيد المرا
|
|
د فلا يزاحمه
مراد ثان
|
لكن مراد العبد
يبقى واحدا
|
|
ما فيه تفريق
لدى الانسان
|
ان كان ربك
واحدا سبحانه
|
|
فاخصصه بالتوحيد
مع احسان
|
أو كان ربك
واحدا أنشأك لم
|
|
يشركه اذ أنشأك
رب ثان
|
فكذاك أيضا وحده
فاعبده لا
|
|
تعبد سواه يا
أخا العرفان
|
الشرح
: بعد أن فرغ المؤلف
من بيان توحيد الأسماء والصفات الذي يقوم على تنزيه الله سبحانه عن كل ما لا يليق
بجلاله من النقائص والعيوب ، متصلة أو منفصلة ، واثبات أوصاف الكمال كلها له ، من
غير تحريف ولا تعطيل ، ولا تكييف ولا تمثيل ، شرع في بيان النوع الثاني من نوعي
التوحيد ، وهو توحيد الالهية أو العبادة الذي يقوم على أن الله هو وحده الاله
المألوه الذي ينبغي أن يألهه الخلق ، أي يعبدوه ، تعظيما ومحبة وذلا ، ومخافة ،
وتوكلا ، واستعانة وتوبة وإنابة الى آخره.
وهذا النوع من التوحيد
هو المقصود الأعظم من بعثة الرسل عليهم الصلاة
والسلام ، بل كان
هو خلاصة رسالاتهم ومفتتح دعواتهم ، فما منهم من رسول الا كان التوحيد أول ما يدعو
إليه قومه ، كما دل على ذلك القرآن الكريم ، قال تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ
رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [النحل : ٣٦] وقال
تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ
قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا
فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء : ٢٥].
بل هذا التوحيد هو
الذي خلق الله الخلق لأجله وشرع الجهاد لاقامته وجعل الثواب في الدنيا والآخرة لمن
قام به وحققه ، وجعل العقاب على من كفر به وتركه ، وجعله الفيصل بين أهل السعادة
القائمين به وأهل الشقاوة التاركين له.
وقد فسر المؤلف
هذا التوحيد بأن لا يجعل العبد لغير الله شركة مع الله في شيء من عبادته ، بل يصرف
عبادته كلها لله ، سواء كانت عبادة بالقلب ، كالحب والذل والخوف والرجاء والتعظيم
والانابة ، أو كانت عبادة باللسان ، كالتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير والتمجيد
وكل أنواع الثناء التي لا تنبغي الا لله.
وكذلك السؤال
والدعاء والاستعاذة والاستغاثة والحلف والتسمية وغير ذلك أو كانت عبادة بالأبدان ،
كالصلاة والصيام والحج والجهاد ، أو عبادة بالمال كالصدقات والنذور والذبائح
والحبوس وجميع أبواب البر التي تنفق فيها الأموال. وان لا يعبد الله الا بما شرعه
هو على لسان رسوله صلىاللهعليهوسلم ، فلا يزيد عليه شيئا ولا ينقص منه شيئا ، ولا يغير فيه
ولا يبدل ، فان كل ذلك بدعة ضلالة لا يقبلها الله عزوجل ، بل يردها على صاحبها ويمقته عليها. قالصلىاللهعليهوسلم «من أحدث في أمرنا
هذا ما ليس منه فهو رد» أي مردود على صاحبه لا ثواب له عليه ، لأنه عبادة بالهوى
وتشريع ما لم يأذن به الله ، وانما يعبد الله بما شرع لا بالأهواء والبدع.
فاذا عرف العبد
ذلك معرفة حقة أفرد الله بالعبادة كلها ، الظاهرة منها والباطنة فيقوم بشرائع
الاسلام الظاهرة ، كالصلاة والزكاة والصوم والحج
والجهاد والامر
بالمعروف والنهى عن المنكر وبر الوالدين وصلة الأرحام والاحسان الى الجار وأداء
الأمانات والوفاء بالعهود والقيام بحقوق الله وحقوق خلقه.
ويقوم كذلك بأصول
الايمان ، فيؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره ،
ويقوم بحقائق الاحسان الذي هو أعلى مقامات الدين فيعبد الله كأنه يراه ، فان لم
يكن يراه فأنه يراه ، كما فسره النبي صلىاللهعليهوسلم بذلك في حديث جبريل ، ويقوم بهذه المقامات الثلاثة مخلصا
في كلها لله لا يقصد به غرضا من الأغراض غير رضا ربه وثوابه ، ومتابعا فيها رسول
الله صلىاللهعليهوسلم ، فيقف عند ما حده له.
ولهذا التوحيد
أيضا ركنان هما له كالأساس للبنيان ، وهما الصدق والاخلاص أما الاخلاص فهو توحيد
الله بقصده وارادته بأن يعمل العمل لا ينبغي به الا وجه الله والا طلب ثوابه ورضاه
، بحيث لا يزاحمه مراد ثان من حب محمدة أو رغبة في شهرة أو غير ذلك من حظوظ النفس
العاجلة ، وكذلك لا يريد به التقرب الى غير الله عزوجل ، فانه اذا كان رب العبد الذي خلقه وصوره ، وشق سمعه وبصره
، وأجرى عليه رزقه ، وأسبغ عليه نعمه ، ظاهرة وباطنة ، واحدا ، وهو الله عزوجل ، ولم يشركه في خلقه ولا في رزقه ولا في تدبير شئونه أحد ،
فيجب أن يخصه بالتوحيد والعبادة ، وأن لا يشرك بعبادة ربه أحدا.
* * *
والصدق توحيد
الإرادة وهو بذ
|
|
ل الجهد لا كسلا
ولا متوان
|
والسنة المثلى
لسالكها فتو
|
|
حيد الطريق
الأعظم السلطاني
|
فلواحد كن واحدا
في واحد
|
|
أعنى سبيل الحق
والايمان
|
هذي ثلاث مسعدات
للذي
|
|
قد نالها والفضل
للمنان
|
فاذا هي اجتمعت
لنفس حرة
|
|
بلغت من العلياء
كل مكان
|
الشرح
: فاذا كان الاخلاص
هو توحيد المراد بالعبادة وهو الله عزوجل بحيث لا يبقى في القلب مراد آخر يزاحمه ، فالصدق هو توحيد
الإرادة وهو بذل الجهد في طلب المراد والتفاني في خدمته سبحانه بلا كسل ولا فتور ،
وتوحيد الطريق وهو المتابعة للسنة القويمة بلا تزيد ولا ابتداع.
وهذا معنى قول
المصنف (فلواحد كن واحدا في واحد) أي فلواحد وهو الله عزوجل ، وهذا هو توحيد المراد «كن واحدا» في عزمك وصدقك وارادتك
وهذا هو توحيد الإرادة في واحد ، وهو متابعة الرسول الذي هو طريق الحق والايمان.
فمن اجتمعت له هذه الثلاثة نال كل كمال وسعادة وفلاح ، ولا ينقص من كماله وسعادته
الا بقدر نقصه من واحد منها.
وهذا النوع من
التوحيد وهو توحيد الالهية متضمن للنوع الأول الذي هو توحيد الأسماء والصفات
الداخل فيه توحيد الربوبية ، لأن الله هو الذي له صفة الالهية ، وهي صفات الكمال
كلها ، ولهذا كلما قوى ايمان العبد ومعرفته بأسماء الله وصفاته قوى توحيده وتم
ايمانه.
ثم أخذ بعد ذلك في
بيان ما يناقض هذا التوحيد وينافيه فقال :
* * *
فصل
والشرك فاحذره
فشرك ظاهر
|
|
ذا القسم ليس
بقابل الغفران
|
وهو اتخاذ الند
للرحم
|
|
ن أيا كان من
حجر ومن انسان
|
يدعوه أو يرجوه
ثم يخافه
|
|
ويحبه كمحبة
الديان
|
والله ما ساووهم
بالله في
|
|
خلق ولا رزق ولا
احسان
|
فالله عندهم هو
الخلاق والر
|
|
زّاق مولى الفضل
والإحسان
|
لكنهم ساووهم
بالله في
|
|
حب وتعظيم وفي
إيمان
|
الشرح
: بعد أن بين المؤلف
توحيد العبادة وأركانه التي يقوم عليها من
الاخلاص والصدق
والمتابعة للسنة ، شرع في بيان ما ينافيه من الشرك ، فقسمه الى ظاهر جلى ، وهو ما
يسمى بالشرك الأكبر ، وهذا النوع لا يغفره الله عزوجل ، كما أخبر بذلك في قوله في موضعين من سورة النساء (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ
بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ١١٦].
وقد فسر المؤلف
هذا الشرك بأنه اتخاذ ند للرحمن من أي شيء كان من خلقه بأن يجعله مساويا لله في ما
يستحقه ، ولا ينبغي الاله من أنواع العبادة والتعظيم فيدعوه كما يدعو الله عزوجل ، سواء كان دعاء عبادة أو دعاء مسألة ، أو يرجوه كما يرجو
الله ، بأن يتوقع عنده من النفع والخير ما لا يملكه الا الله ، أو يخافه كذلك كما
يخاف الله ، بأن يعتقد أنه يملك من أنواع العذاب والبطش ما لا يملكه الا الله أو
يحبه كما يحب الله عزوجل.
فهذه هي الندية
التي كان يؤمن بها العرب وسموا بسببها مشركين ، وهي التي أمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم بقتالهم عليها ، لأنها منافية لكلمة التوحيد (لا إله الا
الله).
وأما ندية الخلق
والرزق والتدبير والملك وغير ذلك من شئون الربوبية ، فإنهم لم يساووا آلهتهم بالله
في شيء منها ، بل ولا جعلوا لهم شركة مع الله فيها ، كما قال تعالى : (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ
وَالْأَرْضِ ، أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ
مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ
، فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) [يونس : ٣١]
وكقوله : (قُلْ لِمَنِ
الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا
تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ
شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) [المؤمنون : ٨٤ ، ٨٩].
فالقوم لم ينددوا
في هذه الناحية ، وانما كانت نديتهم أنهم ساووا آلهتهم بالله في الحب والتعظيم وفي
الايمان بإلهيتهم واستحقاقهم للعبادة مع الله ، فكان هو مناط شركهم. قال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا
رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ
مِنْ
قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً
وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ
الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ ، فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ
تَعْلَمُونَ) [البقرة : ٢٢].
وقال في نفس
السورة : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ
آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) [البقرة : ١٦٥].
ولهذا كانت كلمة
التوحيد التي يدخل بها في الإسلام هي (لا إله إلا الله) لأنها هي التي تنفي الشرك
في الألوهية وتثبت استحقاقه سبحانه للعبادة وحده. وفي الصحيح عن ابن مسعود رضي
الله عنه قال : سألت رسول الله صلىاللهعليهوسلم : أي الذنب أعظم؟ قال : «أن تجعل لله ندا وهو خلقك».
الحديث.
وفي الحديث القدسي
الصحيح يقول الله تعالى : «إني والإنس والجن في نبأ عظيم ، أخلق ويعبد غيري ،
وأرزق ويشكر غيري».
* * *
جعلوا محبتهم مع
الرحمن ما
|
|
جعلوا المحبة قط
للرحمن
|
لو كان حبهم
لأجل الله ما
|
|
عادوا أحبته على
الإيمان
|
ولما أحبوا سخطه
وتجنبوا
|
|
محبوبه ومواقع
الرضوان
|
شرط المحبة أن
توافق من
|
|
تحب على محبته
بلا عصيان
|
فإذا ادعيت له
المحبة مع خلا
|
|
فك ما يحب فأنت
ذو بهتان
|
أتحب أعداء
الحبيب وتدعي
|
|
حبا له ما ذاك
في إمكان
|
وكذا تعادي
جاهدا أحبابه
|
|
أين المحبة يا
أخا الشيطان
|
الشرح
: يعني أن هؤلاء
المتخذين للأنداد أشركوا أندادهم مع الله في المحبة فأحبوهم مع الله ، أي ساووهم
بالله في المحبة ، فإن هذا مقتضى المعية ، ولكنهم لم يحبوهم قط لله وفي الله ، إذ
لو كان حبهم لأجل الله ما امتلأت قلوبهم بالعداوة لأهل محبته المؤمنين به ، فإن من
أحب أحدا أحب من يحبه ، فكراهيتهم لأحباب
الله دليل على
بغضهم له ، وفي الحديث الصحيح : «صريح الإيمان أن تحب في الله وتبغض في الله» وفي
الحديث الآخر : «من أحب لله وأبغض لله ، وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان»
وكان من دعائه صلىاللهعليهوسلم : «اللهم ارزقني حبك وحب من يحبك وحب كل عمل يقرب إليك».
وكذلك لو كان حبهم
أندادهم لأجل الله لما أحبوا مساخطه ومكروهاته وتجنبوا مراضيه ومحبوباته ، فإن شرط
المحبة أن يوافق المحب محبوبه فيما يحبه ويبغضه ، فيحب ما يحبه ويبغض ما يبغضه ،
وأن لا يتوخى عصيانه ومخالفته ، فإن هو أبغض ما يحبه محبوبه أو أحب ما يبغضه وعصاه
ولم يطعه ، فهو كاذب في دعوى المحبة كما يقول الشاعر :
تعصى الإله وأنت
تظهر حبه
|
|
هذا لعمري في
القياس بديع
|
لو كان حبك
صادقا لأطعته
|
|
إن المحب لمن
يحب مطيع
|
فلا يمكن أن
يستقيم ادعاء المحبة لأحد مع حبه لأعداء محبوبه وما يبغضه من الأشخاص والأفعال
والأقوال ، ومع بذله الجهد في عداوة أحبابه كذلك ، فأين هو دليل المحبة إذا؟ إن هو
إلا تلبيس الشيطان ومحض الكذب والبهتان.
والخلاصة أنه لا
يجوز لأحد أن يحب مع الله أحدا ، فإن تلك هي الندية التي حكاها القرآن عن المشركين
، ولكنه يحب في الله ولله ، فيكون حبه لغير الله تابعا لحبه له ، كما في الحديث : «وأن
يحب المرء لا يحبه إلا الله».
وفي حديث السبعة
الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : «ورجلان تحابّا في الله اجتمعا عليه
وتفرقا عليه».
* * *
ليس العبادة غير
توحيد المحب
|
|
ة مع خضوع القلب
والأركان
|
والحب نفس وفاقه
فيما يحب
|
|
ب وبغض ما لا
يرتضي بجنان
|
ووفاقه نفس
اتباعك أمره
|
|
والقصد وجه الله
ذي الإحسان
|
هذا هو الإحسان
شرط في قبو
|
|
ل السعي فافهمه
من القرآن
|
والاتباع بدون
شرح رسوله
|
|
عين المحال
وأبطل البطلان
|
فإذا نبذت كتابه
ورسوله
|
|
وتبعت أمر النفس
والشيطان
|
واتخذت أندادا
تحبهم كح
|
|
ب الله كنت
مجانب الإيمان
|
الشرح
: يعني أن ركني
العبادة التي لا قوام لها إلا بهما ، هما كمال الحب لله ، بأن لا تشرك في محبته
أحدا ، بل تحب فيه وله كما قدمنا ، وكمال الذل والخضوع له بالقلب والأركان ، أي
الجوارح ، فمن لم يجتمع له هذان الأمران لا يسمى عابدا فالإنسان يحب زوجته وأولاده
ولكنه لا يذل لهم ، فلا يكون هذا الحب بمجرده عبادة ، وكذلك قد يذل لغيره مع بغضه
وكراهته له ، فلا يكون ذله عبادة.
ومعنى حبك لله أن
توافقه فيما يحبه ويرضاه ، وتبغض بقلبك كل ما لا يحبه ولا يرضاه ، وهذه الموافقة
هي نفس اتباعك لأمره ، سواء كان أمر إيجاب أو ندب فإنه ما أمر إلا بما يحب ، وأن
تكون مخلصا له في الاتباع ، بحيث لا تقصد به إلا وجهه ، فهذا هو الإحسان الذي جعله
الله شرطا لقبول العمل ، كما دل على ذلك القرآن ، قال تعالى : (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ
وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ) [البقرة : ١١٢] ،
فالمراد من إسلام الوجه لله الانقياد لأمره وقوله : (وَهُوَ مُحْسِنٌ) جملة حالية تفيد أنه لا بد أن يكون هذا الانقياد مع
الإحسان الذي هو إخلاص القصد لله بحيث لا يبتغى إلا وجهه.
ومثل ذلك قوله
تعالى : (وَمَنْ أَحْسَنُ
دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ
إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) [النساء : ١٢٥].
وقوله : (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ
وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) [لقمان : ٢٢] ولا يتحقق الاتباع لأمر الله إلا بالتزام
الشريعة التي جاء بها رسولهصلىاللهعليهوسلم ، فإنها هي المتضمنة لكل ما أمر الله عزوجل به ، وكل ما
خالفها فليس مما
أمر الله به ، فمن أمحل المحال وأبطل الباطل أن يدعي أحد أنه متبع لأمر الله وهو
محاد لله ورسوله ومتبع غير سبيل المؤمنين ، فمن نبذ كتاب الله وسنة رسولهصلىاللهعليهوسلم وراءه ظهريا ، وجرى مع أهواء نفسه ووساوس شيطانه واتخذ له
من دون الله أندادا يحبهم كحب الله ويعطيهم في معصية الله ، فإنه يكون مجانبا
للإيمان قد باء بالخيبة والخسران ، نعوذ بالله من الخذلان.
* * *
ولقد رأينا من
فريق يدعي الا
|
|
سلام شركا ظاهر
التبيان
|
جعلوا له شركاء
والوهم وسو
|
|
وهم به في الحب
لا السلطان
|
والله ما ساووهم
بالله بل
|
|
زادوا لهم حبا
بلا كتمان
|
والله ما غضبوا
إذا انتهكت محا
|
|
رم ربهم في السر
والإعلان
|
حتى إذا ما قيل
في الوثن الذي
|
|
يدعونه ما فيه
من نقصان
|
فأجارك الرحمن
من غضب ومن
|
|
حرب ومن شتم ومن
عدوان
|
وأجارك الرحمن
من ضرب وتع
|
|
زير ومن سب ومن
تسجان
|
الشرح
: يقصد المؤلف بهذا
الفريق طوائف القبوريين عباد الأضرحة ، الذين يدّعون الإسلام كذبا وزورا ، مع أن
شركهم ظاهر مفضوح لا يستطيعون ستره ولا كتمانه ، وإن شئت دليلا على ذلك فاذهب إلى
أحد هذه الأضرحة لترى العجب ، ترى أسرابا من الناس ، رجالا ونساء يطيفون به كما
يطوف الحجاج ببيت الله ، وتراهم قد تعلقوا بالمقصورة يوسعونها تقبيلا ولثما
وينتزعون من بين فراغها البركة انتزاعا ، وتتمتم شفاههم بكلمات الاستغاثة والدعاء
ذلة وتضرعا وكم جادت منهم الجيوب ببدر الأموال توضع في صناديق النذور ، وكم سيقت
الذبائح وحملت الأطعمة وشدت الرحال ، يتسابق في ذلك النساء والرجال ، والشيوخ
والأطفال ، ليشهدوا ما يقام عند هذه الأضرحة من مهرجانات وأحفال ، وكم خرت أذقان
على العتبات ، وكم ضجت بالبكاء والدعاء أصوات ، هذا بطلب النظرة والمدد ، وهذا
يستمنح النسل والولد ، وهذا يطلب النصر على الخصم الألد ،
وهذه عانس طال على
تعنيسها الأمد ، فجاءت للشيخ مفرج الكروب وحلال العقد. وكم وكم مما لا أستطيع حصره
ومما يذيب القلوب أسى وحسرة على ما أصاب الإسلام ممن يدعي محبته ونصره ، وهو لم
يترك له منجنيقا إلا كسره ، فلا حول ولا قوة إلا بالله إليه المشتكى وهو المستعان
وبه المستغاث وعليه التكلان.
فهؤلاء القبوريون
قد جعلوا أصحاب هذه الأضرحة شركاء لله يوالونهم ويتقربون إليهم بأنواع القرابين من
الذبائح والنذور ويسوونهم بالله عزوجل في المحبة بل هم لهم أشد حبا ، وبهم أكثر تعلقا ، كما تدل
على ذلك أحوالهم وتنبئ عنه فعالهم ، فإن أحدهم لا يغار ولا يغضب إذا انتهكت حرمات
الله وعمل بمعصيته في السر والعلانية ، ولكنه إذا سمع من أحد الموحدين أنه يتعرض
لوثنه الذي يدعوه ويعكف عليه ، وأنه يصفه بما هو فيه من عجز ونقص حتى ولو كان هذا
الوصف مأخوذا من القرآن ، استشاط لذلك غضبا وأخذته حمية الجاهلية وهبّ للانتقام
والأخذ بالثأر ، ولم يرع في هذا الموحد إلا ولا ذمة بل ولا حسن جوار ، فلا تسل عما
يناله من هذا المجرم الأثيم من أنواع الأذى ، والكيد والعدوان اللئيم حيث تنهال
عليه الأيدي باللكز والضرب ، وتنثال عليه الألسنة بالشتم والسب ولا سيما إذا كان
هذا المجرم من أصحاب النفوذ والسلطان ، فإنه يمعن في التنكيل ويسرف في العدوان
ويلقى بذلك الموحد في غيابات السجون.
وبعد فما أشبه
الليلة بالبارحة ، فإن ما يحدثنا عنه هذه الإمام الجليل مما كان يقع به وبأمثاله
من العذاب والتنكيل حين يقومون بالدعوة لتجريد التوحيد وإخلاص العبادة للملك
الجليل لا يزال يقع مثله وأشد منه بالدعاة إلى الحق في هذا الزمان ولكن لا نقول
إلا كما قال القرآن : (أَتَواصَوْا بِهِ
بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) [الذاريات : ٥٣].
فنسأل الله النجاة من كيد اللئام وفتنة الطغام.
* * *
والله لو عطلت
كل صفاته
|
|
ما قابلوك ببعض
ذا العدوان
|
والله لو خالفت
نص رسوله
|
|
نصا صريحا واضح
التبيان
|
وتبعت قول
شيوخهم أو غيرهم
|
|
كنت المحقق صاحب
العرفان
|
حتى إذا خالفت
آراء الرجا
|
|
ل لسنة المبعوث
بالقرآن
|
نادوا عليك
ببدعة وضلالة
|
|
قالوا وفي
تكفيره قولان
|
قالوا تنقصت
الكبار وسائر ال
|
|
علماء بل جاهرت
بالبهتان
|
هذا ولم نسلبهم
حقا لهم
|
|
ليكون ذا كذب
وذا عدوان
|
وإذا سلبت صفاته
وعلوه
|
|
وكلامه جهرا بلا
كتمان
|
لم يغضبوا بل
كان ذلك عندهم
|
|
عين الصواب
ومقتضى الإحسان
|
والأمر والله
العظيم يزيد فو
|
|
ق الوصف لا يخفى
على العميان
|
وإذا ذكرت الله
توحيد رأي
|
|
ت وجوههم مكسوفة
الألوان
|
بل ينظرون إليك
شزرا مثل ما
|
|
نظر التيوس إلى
عصا الجوبان
|
وإذا ذكرت بمدحه
شركاءهم
|
|
يتباشرون تباشر
الفرحان
|
والله ما شموا
روائح دينه
|
|
يا زكمة أعيت
طبيب زمان
|
الشرح
: يعني أن هؤلاء
القبوريين لا يعرفون من أمر دينهم إلا العكوف على هذه الأوثان وأزجاء المديح لها
والنقمة ممن يسبها ويشتمها ويكشف عن حالها في عجزها وهوانها ، ولكنك لو شتمت ربك
عندهم وعطلته عن صفات كماله كلها ما وجدت منهم من نكران ولما واجهوك ببعض ما
ينزلونه بشاتم آلهتهم من أذى وعدوان. وكذلك لو خالفت سنة رسوله صلىاللهعليهوسلم الصريحة الواضحة ، وتبعت رأي فلان وفلان من شيوخهم أو من
غيرهم ، فأنت عندهم صاحب التحقيق والعرفان أما إذا خالفت آراء الرجال إلى سنة
المبعوث بالقرآن شنوا عليك الغارة وأسرفوا في الطعن والتشهير ، فأحسن أحوالك عندهم
أنك مبتدع ضال ، ومنهم من يسارع إلى الرمي بالتكفير ، لأنك في نظرهم وقح جريء
تنتقص من قدر الكبار وتعمد إلى مخالفتهم وتقول بغير قولهم ، هذا مع أنك لم تسلبهم
حقا هو لهم إذ ليس لهم على أحد حق الاتباع ، حتى يرمى مخالفهم بالكذب والعدوان
والابتداع.
فهؤلاء الذين حموا
لشيوخهم وصبوا جام غضبهم على من خالفهم في رأيهم ،
وعدوا ذلك تنقيصا
من أقدارهم لو سلبت صفات الله كلها عندهم ، ونفي علوه وكلامه جهارا بلا كتمان لما
غضبوا على من فعل ذلك ، بل لأقروه عليه وصوبوا كلامه ، ومهما قيل في وصفهم فالأمر
يزيد على كل وصف ، وهو أشهر من أن يخفى حتى على العميان.
وكذلك إذا ذكرت
ربك توحيدا فرددت إليه الأمور كلها ونفيت عنه الظهير والمعين والوسيط والشفيع ،
وقلت أنه يفعل ما يريد لا مغير لإرادته ، ولا مكره له على خلاف مشيئته اشمأزت منهم
القلوب ، وعلت وجوههم الكآبة ، وكسفت منهم الألوان ، ونظروا إليك بأعين ملؤها
الحقد والغضب أما إذا ذكرت آلهتهم بالخير وأطريتها في المديح فرحوا بذلك واستبشروا
وهنأ بعضهم بعضا. فهم كمن قال الله فيهم : (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ
وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ
الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ
عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) [الزمر : ٤٥ ، ٤٦].
فهل تحسب أن أمثال
هؤلاء قد شموا لدين الله رائحة أو ذاقوا له طعما ، كلا بل قد زكمت منهم القلوب
زكمة أعيت كل طبيب وحار فيها كل مصلح أريب ، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
* * *
فصل
في صف العسكرين وتقابل الصفين
واستدارة رحى الحرب العوان وتصاول الأقران
يا من يشب الحرب
جهلا ما لكم
|
|
بقتال حزب الله
قط يدان
|
أنى تقوم جنودكم
لجنودهم
|
|
وهم الهداة
وناصر والرحمن
|
وجنودكم ما بين
كذاب ودج
|
|
ال ومحتال وذي
بهتان
|
من كل أرعن
يدّعي المعقول وه
|
|
ومجانب للعقل
والإيمان
|
أو كل مبتدع
وجهمي غدا
|
|
في قلبه حرج من
القرآن
|
أو كل من قد دان
دين شيوخ أه
|
|
ل الاعتزال
البيّن البطلان
|
أو قائل
بالاتحاد وأنه
|
|
عين الإله وما
هنا شيئان
|
أو من غدا في
دينه متحيرا
|
|
أتباع كل ملدد
حيران
|
الشرح
: يخاطب المؤلف فريق
المعطلة النفاة الذين يسعون في إشعال نار الخصومة بينهم وبين فريق أهل الإثبات
جهلا منهم بقوة خصمهم واغترارا بما لديهم من شبهات زائفة يسمونها حججا عقلية ، وما
هي إلا جهليات ، فيقول لهم لا طاقة لكم بقتال حزب الله من أهل الاثبات ، وكيف
تستطيع جنودكم منازلة جنودهم وهم ليسوا أقرانهم؟ فإنهم أعلام الهدى وعسكر الإيمان
وجنود الرحمن الذابّون عن دينه بالسيف واللسان ، وأما جنودكم فما بين كذاب معروف
بالكذب والاختلاق ، ودجال مموه يغطي وجه الحق بما يظهر من منطق طلي وأسلوب براق ،
ومحتال ماكر قد مرد على الخداع والنفاق ، وباهت مكابر بجحد الحق وهو أجلى من الشمس
تملأ الآفاق من كل أحمق جاهل يزعم التمرس بالعقليات وهو لا علم به بمعقول ولا
منقول ومن كل ذي بدعة جهمي يضيق صدره حرجا كلما وردت عليه نصوص الإثبات من القرآن
، ومن كل معتزلي مارق يدين بمذهب الاعتزال الواضح البطلان أو اتحادي خبيث يزعم أن
هذا العالم هو ربه ، وأنه ليس ثم موجودان أو متردد في دينه لا يدري أين يتجه ، قد
استهوته الشياطين في الأرض حيران ، فهؤلاء هم جنودكم يا أنصار الشيطان فأنى لهم
بمناجزة أنصار الرحمن؟.
* * *
وجنودهم جبريل
مع ميكال مع
|
|
باقي الملائك
ناصري القرآن
|
وجميع رسل الله
من نوح إلى
|
|
خير الورى
المبعوث من عدنان
|
فالقلب خمستهم
أولو العزم الأولى
|
|
في سورة الشورى
أتوا ببيان
|
في أول الأحزاب
أيضا ذكرهم
|
|
هم خير خلق الله
من إنسان
|
ولواؤهم بيد
الرسول محمد
|
|
والكل تحت لواء
ذي الفرقان
|
وجميع أصحاب
الرسول عصابة الا
|
|
سلام أهل العلم
والإيمان
|
والتابعون لهم
بإحسان على
|
|
طبقاتهم في سائر
الأزمان
|
أهل الحديث
جميعهم وأئمة ال
|
|
فتوى وأهل حقائق
العرفان
|
العارفون بربهم
ونبيهم
|
|
ومراتب الأعمال
في الرجحان
|
صوفية سنية
نبوية
|
|
ليسوا أولي شطح
ولا هذيان
|
الشرح
: وأما أهل الإثبات
فجنودهم جبريل أمين الوحي وميكال خازن الرزق ، ومعهما باقي الملائكة أنصار الحق ،
وإنما خص جبريل وميكال أولا بالذكر لأنهما الأميران المطاعان ، ومن عداهما من
الملائكة تبع لهما ، ولهذا خصا في القرآن بالذكر بعد دخولهما في عموم الملائكة في
قوله تعالى : (مَنْ كانَ عَدُوًّا
لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ
لِلْكافِرِينَ) [البقرة : ٩٨].
وجنودهم كذلك جميع
الرسل من البشر من أولهم نوح إلى آخرهم محمد صلوات الله عليهم أجمعين ، وأولو
العزم منهم وهم الخمسة الذين ذكرهم الله في موضعين من كتابه ، أولهما في سورة
الشورى في قوله تعالى (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ
الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا
بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا
فِيهِ) [١٣].
والثاني في سورة
الأحزاب وهو قوله : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ
النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى
ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) [٧]. فهؤلاء الخمسة الكبار هم القلب في ذلك الجيش وغيرهم
في الميمنة والميسرة ، ولواؤهم بيد سيدهم ومقدمهم محمدصلىاللهعليهوسلم وكلهم تبع له وتحت لوائه.
ومن جنودهم كذلك
جميع الصحابة الذين أكرمهم الله سبحانه بصحبة نبيه والجهاد معه وتلقى الدين عنه
غضا طريا ، والذين هم عصابة الإسلام وأكمل الناس بعد النبيين في العلم ، ثم من
بعدهم التابعون لهم بإحسان على اختلاف
مراتبهم وطبقاتهم
في سائر الأزمان ، الذين هم حفاظ الحديث وأرباب الفتوى وأهل المعرفة الحقة بالله
وبرسوله ، والعلم بمراتب الأعمال وتفاوتها في الخفة والرجحان ، فيقدمون أهمها
وأثقلها في الميزان ، وهم جميعا سنية ينتسبون إلى سنة نبيهم صلىاللهعليهوسلم ، ليس فيهم مبتدع ولا ذو هوى ولا قائل برأيه بل كلهم على
ما كان عليه الرسول صلىاللهعليهوسلم هو وأصحابه.
وهم كذلك نبوية
مستضيئون بنور النبوة ومقتبسون من مشكاتها ، ليسوا من أولئك الصوفية الرعن
المخابيل الذين ينطقون بالهراء والهذيان ، ويزعمون أنهم هم أولو العرفان ، وما
عرفوا إلا سبيل الشيطان ، نعوذ بالله من الخذلان.
وأما قول المؤلف
في أول البيت الأخير صوفية ، فنحن لا نوافقه على إطلاق هذا اللقب على أهل الحق
والجماعة ، فإنه لفظ مبتدع ويحمل من المعاني الخبيثة ما ننزه القوم عنه ، بل
نسميهم بما سماهم الله به المسلمين المؤمنين عباد الله.
* * *
هذا كلامهم
لدينا حاضر
|
|
من غير ما كذب
ولا كتمان
|
فاقبل حوالة من
أحال عليهم
|
|
هم أملياء هم
أولو امكان
|
فإذا بعثنا غارة
من أخريا
|
|
ت العسكر
المنصور بالقرآن
|
طحنتكم طحن
الرحى للحب ح
|
|
تى صرتم كالبعر
في القيعان
|
أنى يقاوم ذي
العساكر طمطم
|
|
أو تنكلوشا أو
أخو اليونان
|
أعني أرسطو عابد
الأوثان أو
|
|
ذاك الكفور معلم
الألحان
|
ذاك المعلم أولا
للحروف والث
|
|
اني لصوت بئست
العلمان
|
هذا أساس الفسق
والحرف الذي
|
|
وضعوا أساس
الكفر والهذيان
|
أو ذلك المخدوع
حامل راية ال
|
|
إلحاد ذاك خليفة
الشيطان
|
أعني ابن سينا
ذلك المحلول من
|
|
أديان أهل الأرض
ذا الكفران
|
وكذا نصير الشرك
في اتباعه
|
|
أعداء رسل الله
والإيمان
|
الشرح
: يعني أن كلام
هؤلاء السادة الأخيار في إثبات صفات الله عزوجل
موجود عندنا
بالنقل الصحيح عنهم لم يفتروا فيه على الله الكذب ولم يكتموا منه شيئا ، فإذا أحلت
على أحد منهم فأقبل تلك الحوالة ولا ترفضها فإنها حوالة على غني ملئ ، وقد قالصلىاللهعليهوسلم : «إذا أحيل أحدكم على ملئ فليتبع».
وقد حشد المؤلف رحمهالله جملة كبيرة من كلام هؤلاء الأئمة الكبار في كتابه الذي أسماه
: (اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية) وقد سبقه إلى ذلك شيخه شيخ
الإسلام ابن تيمية رحمهالله في (فتواه الحموية) كما فعل مثل ذلك أيضا الحافظ الذهبي في
كتابه : (العلو للعلي الغفار) فمن أراد أن يعرف منهج القوم في عقيدتهم ، ويقف على
ما خلفوه في هذا الباب من آثار وأقوال فليرجع إلى هذه الكتب وأمثالها.
ثم يقول المؤلف :
إننا لو بعثنا بغارة على أهل التعطيل لا من قلب هذا الجيش المنصور ومقدمته ، بل من
ساقته ومؤخرته لمزقتهم شر ممزق ولضرستهم بأنيابها حتى تذرهم كعصف مأكول ، أو كبعر
بعرته الإبل في القيعان ، جمع قيعة ، وهي الأرض المستوية السبخة التي يتراءى فيها
السراب وكيف يستطيع أن يقاوم هذا العسكر المتسلح بأسلحة النصوص من السنة والقرآن ،
والمتترس بتروس العلم والإيمان. هؤلاء الأوباش من التتار أتباع هولاكو وجانكيز خان
، ممن يسمى بطمطم أو تنكلوشا ونحو ذلك من أسماء أهل الجهل والعدوان ، أم كيف
يستطيع مقاومتهم أخو اليونان الذي هو أرسطو عابد الأوثان الملقب عندهم بالمعلم
الأول وما فلسفته الإلهية كلها إلا كذب وبهتان ، فأين صورته المحضة أو محركه الأول
الذي لا نعت له ولا صفة من الله الرحيم الرحمن.
أو هذا المعلم
الثاني الذي هو الفارابي معلم الألحان ، والذي تغذى بلبان الصابئة في بلده حران ،
فجاءت فلسفته تنضح بما في عقائد الصابئة من عبادة للنجوم والأوثان ، حيث وضع عقوله
العشرة ونسب إليها كل ما لا ينسب إلا للحي القيوم ، لا سيما عقله العاشر الذي سماه
بالعقل الفعال أو عقل القمر ، وهو أقرب العقول إلى عالم العناصر ، فقد جعل له
التصرف في هذا العالم بالكون
والفساد ، فهو
عنده مفيض الحياة على الأحياء ، وواهب الصور للأنواع ، وأساس المعارف والعلوم.
فالمعلم الأول
أرسطو هو معلم الحرف ، أي المنطق ، والمعلم الثاني الفارابي هو معلم الموسيقى
والصوت ، وبئس العلم هذان العلمان ، فإن هذا الثاني هو أساس الفسق والفجور ، وأما
الأول فهو أساس الضلال والزندقة.
ويجيء بعد هذين
المعلمين ذلك القرمطي الخبيث حامل راية الإلحاد الملقب عندهم بالشيخ الرئيس ، ذلك
هو ابن سينا المارق الضليل الذي تحلل من جميع الأديان واتخذ دينا له مذاهب فلاسفة
اليونان ، وأخذ يصانع أهل الإسلام بمحاولة التوفيق بينها وبين عقائد الإيمان ،
فأتى في هذا الباب بأنواع من الكفر والهذيان.
ومن العجيب أن
تروج حماقات هذا الرجل وتمتلئ بها كتب أهل الإسلام وتدرس في معاهدهم وجامعاتهم على
أنها إنتاج عقلي رفيع وتشغل بتحليلها وتحقيقها عقول الأساتذة والطلبة ، كأنها وحي
وتنزيل ، بل ربما قدموها على قول الله ورسوله لزعمهم أنها حجج وبراهين قائمة على
أصول منطقية وبديهيات عقلية ، وهي لا تخرج عن كونها جهالات قامت على خيال فاسد
وظنون كاذبة.
ثم يجيء بعد ابن
سينا ذلك الخواجة حامل لواء فلسفته ونصير إفكه وزندقته المسمى بنصير الدين الطوسي
، وما نصر إلا أعداء الدين ، ومكن لهم من رقاب المؤمنين ، وكان حربا على كل من
ينتسب إلى السنة والقرآن ، ويتبع سبيل أهل الإيمان ، فتبا له من مارد شيطان.
* * *
نصروا الضلالة
من سفاهة رأيهم
|
|
وغزوا جيوش
الدين والقرآن
|
فجرى على
الإسلام منهم محنة
|
|
لم تجر قط بسالف
الأزمان
|
أو جعدا وجهم
وأتباع له
|
|
هم أمة التعطيل
والبهتان
|
أو حفص أو بشرا
والنظام ذا
|
|
ك مقدم الفساق
والمجان
|
والجعفران كذاك
شيطان ويد
|
|
عى الطاق لا حييت
من شيطان
|
وكذلك الشحام
والعلاف والنّ
|
|
جار أهل الجهل
بالقرآن
|
والله ما في
القوم شخص رافع
|
|
بالوحي رأسا بل
برأي فلان
|
وخيار عسكركم
فذاك الأشعر
|
|
ي القرم ذاك
مقدم الفرسان
|
لكنكم والله ما
أنتم على
|
|
إثباته والحق ذو
برهان
|
هو قال أن الله
فوق العرش ،
|
|
واستولى مقالة
كل ذي بهتان
|
في كتبه طرا
وقرر قول ذي ال
|
|
إثبات تقريرا
عظيم الشأن
|
لكنكم أكفرتموه
وقلتم
|
|
من قال هذا فهو
ذو كفران
|
فخيار عسكركم
فأنتم منهم
|
|
برآء إذ قربوا
من الإيمان
|
الشرح
: يعني أن هؤلاء
التتار الذين استقدمهم الوزير الرافضي المسمى بابن العلقمي ، والذين استعداهم نصير
الدين الطوسي على أهل الحق كانوا أنصارا للمذاهب الضالة ، وذلك لخفة حلومهم وغلبة
الجهل عليهم ، وكانوا حربا على جيوش الإيمان من أهل الدين والقرآن ، فجرى على
الإسلام وأهله على أيدي هؤلاء التتار من الفظائع والأهوال ما لم يسمع بمثله فيما
مضى من الاعصار.
ثم أخذ الشيخ بعدد
بقية جند الباطل بعد ما ذكر من رءوسهم فيما تقدم هؤلاء الأربعة (أرسطو والفارابي
وابن سينا والطوسي) فذكر الجعد بن درهم والجهم ابن صفوان ، وهما رأسان كبيران من
رءوس الضلال ، وقد تقدم الكلام عليهما ، وكان الجعد أول من أسس مقالة التعطيل ، ثم
تبعه عليها الجهم ، وزاد على ما قاله وأوغل في النفي حتى نسب المذهب إليه.
ثم ذكر من رءوس
أهل الاعتزال الذين شايعوا الجهم في التعطيل. حفصا
__________________
النرد. وبشر بن المعتمر وابراهيم بن سيار الملقب بالنظام ، ووصفه بأنه مقدم القدم في الفسق والمجون
، ثم الجعفرين ، أعني جعفر بن مبشر وجعفر بن حرب ، وكانا على مذهب النظام. ثم
شيطان الطاق ، ثم أبا يعقوب الشحام صاحب أبي الهذيل وكان يقول بقوله في
الصفات وأنها عين الذات ثم أبا الهذيل العلاف الذي كان يقول بتناهي حركات أهل
الجنة وأهل النار ، ثم الحسين النجار من متأخري المعتزلة وكان مذهبه يميل إلى
الاعتدال.
فهؤلاء جميعا ليس
فيهم من يقف عند حدود الوحي المنزل أو يلتزم الأخذ بالنصوص الصريحة بل يبتدعون
بأهوائهم ما لا أصل له في كتاب ولا سنة كما هو معروف من مذاهبهم التي نقلها عنهم
من ألف في الفرق والمقالات وخير هؤلاء هو أبو الحسن علي بن اسماعيل الأشعري إمام
الطائفة الاشعرية ، فإنه أقربهم إلى الكتاب والسنّة وإن كان خالف مذهب السلف في
أشياء ، كالقول بالكلام النفسي ونفي الحرف والصوت ، ونفي الحكمة على أفعاله تعالى
، ونفي قيام الأفعال الاختيارية بذاته ، ولكنه رغم ذلك يثبت الصفات الخبرية من
الاستواء والوجه واليدين والعينين ونحوها. وقد صرح في جميع كتبه بأن الله مستو على
عرشه بمعنى العلو والفوقية ، وأنكر تأويل الاستواء بالاستيلاء.
ومن العجيب أن
المتأخرين من أتباعه يكفرون من قال أن الله فوق عرشه بذاته لأنه يثبت الجهة والحيز
وهو عندهم تجسيم فيلزمهم على ذلك تكفير إمامهم لأنه ممن يثبت الجهة ، وهكذا يتبرأ
أهل التعطيل من خيار عسكرهم إذا قالوا قولا يوافقون فيه أهل الحق ويقربون به من
الإيمان.
* * *
__________________
هذه العساكر قد
تلاقت جهرة
|
|
ودنا القتال
وصيح بالأقران
|
صفوا الجيوش
وعبئوها وابرزوا
|
|
للحرب واقتربوا
من الفرسان
|
فهم إلى لقياكم
بالشوق كي
|
|
يوفوا بنذرهم من
القربان
|
ولهم إليكم شوق
ذي قرم فما
|
|
يشفيه غير موائد
اللحمان
|
تبا لكم لو
تعقلون لكنتم
|
|
خلف الخدور
كأضعف النسوان
|
من أين أنتم
والحديث وأهله
|
|
والوحي والمعقول
بالبرهان
|
ما عندكم إلا
الدعاوى والشكا
|
|
وى أو شهادات
على البهتان
|
هذا الذي والله
نلنا منكم
|
|
في الحرب إذ
يتقابل الصفان
|
الشرح
: يقول الشيخ لهؤلاء
الناكبين عن صراط الله المستقيم ممن قالوا في دين الله برأيهم ، وافتروا الكذب على
ربهم وأوسعوا النصوص تحريفا وتأويلا وساموها إنكارا وتعطيلا ، أن جيوش. أهل الحق قد
تجمعت للنضال وتهيأت للقتال ، وصاحت في وجوهكم تطلب المبارزة ، فصفوا جيوشكم
وعبئوها للقتال والمناجزة وابرزوا من مكامنكم واقتربوا من فرسان أهل الحق ، فإنهم
أشوق شيء إلى لقائكم لكي يوفوا بما نذروا لله من ضحايا وقرابين ، بل أن شوقهم
إليكم أشد من شوق ذي النهمة المحروم الذي لا يشفيه من نهمه إلا أكوام اللحوم.
ولكن تبا لكم
فلستم أهلا للبراز والمقاتلة ولو عرفتم قدر أنفسكم ومبلغ ضعفكم وفساد أسلحتكم
لتواريتم خلف الخدور كما يتوارى النساء الضعيفات اللاتي لا قدرة لهن على حرب ولا
قتال.
وإلا فأين أنتم من
الحديث وأهله ، ومن الوحي وجهابذته ، ومن البراهين العقلية الصحيحة ، إذ ليس عندكم
من بضاعة تزجونها إلا دعاوى عريضة وشكايات مغرضة وإلا شهادات كلها زور وبهتان ،
وهذا هو الذي جعلنا ننال منكم وننتصر عليكم عند ما يلتقي الجيشان ويتقابل الصفان.
* * *
والله ما جئتم
بقال الله أو
|
|
قال الرسول ونحن
في الميدان
|
إلا بجعجعة
وفرقعة وغم
|
|
غمة وقعقعة بكل
لسان
|
ويحق ذاك لكم
وأنتم أهله
|
|
أنتم بحاصلكم
أولو عرفان
|
وبحقكم تحموا
مناصبكم وأن
|
|
تحموا مآكلكم
بكل سنان
|
وبحقنا نحمي
الهدى ونذب عن
|
|
سنن الرسول
ومقتضى القرآن
|
قبح الإله
مناصبا ومآكلا
|
|
قامت على
العدوان والطغيان
|
والله لو جئتم
بقال الله أو
|
|
قال الرسول كفعل
ذي الإيمان
|
كنا لكم شاويش
تعظيم وإج
|
|
لال كشاويش لذي
سلطان
|
لكن هجرتم ذا
وجئتم بدعة
|
|
وأردتم التعظيم
بالبهتان
|
الشرح
: وإذا كنا نحن وأنتم
في مجال الخصومة والمناظرة واستعر بيننا أوار الجدل فإنكم لا تعولون في الاحتجاج
لآرائكم على شيء من النصوص فلا تقولون أبدا قال الله عزوجل ، كذا ولا قال رسوله صلىاللهعليهوسلم كذا ، بل تحاولون الغلب بالتهويش وشقشقة اللسان وتعمدون
إلى الألفاظ الطنانة والاصطلاحات الغريبة تجعجعون بها مع فرقعة بالأصابع ، وغمغمة
بكلام غير مفهوم ، وقعقعة كالطبل الأجوف ، وهذا هو محصولكم من العلم وأنتم أهله
وأدرى الناس به ومقصودكم من كل هذا أن تحموا مناصبكم التي أسندت إليكم في التدريس
والقضاء والفتيا بهذه البضاعة الكاسدة التي راجت عند الجهلة من الأمراء والحكام ،
وأن تحموا كذلك ما يجري عليكم من رواتب وجاريات. وأما نحن فأحقاء بحماية الهدى من
عبث الضلال والدفاع عن السنة المطهرة ممن يتنقصها أو يتهجم عليها ، والذب عما
تقتضيه آيات الكتاب العزيز من معان تريدون الإلحاد فيها والزيغ عنها ، فلا بارك
الله لكم في مناصب ومآكل لم تقم على عدل وحق وإنصاف ولكنها قامت على ظلم وعدوان
وإجحاف ، وو الله لو التزمتم النصفة ووقفتم عند نصوص الكتاب والسنة كما هو شأن أهل
العلم والإيمان لوجدتمونا لكم نعم الجند والأعوان ، ولفعلنا بكم من التوقير
والإجلال ما يفعله الشاويش عند السلطان ، لكنكم هجرتم الوحيين من السنة والقرآن.
وأتيتم ببدع ومفتريات ما أنزل الله بها
من سلطان ومع ذلك
تريدون من الناس ان يعظموكم بالزور والبهتان.
* * *
فصل
العلم قال الله
قال رسوله
|
|
قال الصحابة هم
أولو العرفان
|
ما العلم نصبك
للخلاف سفاهة
|
|
بين الرسول وبين
رأي فلان
|
كلا ولا جحد
الصفات لربنا
|
|
في قالب التنزيه
والسبحان
|
كلا ولا نفي
العلو لفاطر الأ
|
|
كوان فوق جميع
ذي الأكوان
|
كلا ولا عزل
النصوص وأنها
|
|
ليست تفيد حقائق
الايمان
|
إذ لا تفيدكم
يقينا لا ولا
|
|
علما فقد عزلت عن
الإيقان
|
والعلم عندكم
ينال بغيرها
|
|
بزبالة الأفكار
والأذهان
|
سميتموه قواطعا
عقلية
|
|
تنفي الظواهر
حاملات معان
|
كلا ولا إحصاء
آراء الرجا
|
|
ل وضبطها بالحصر
والحسبان
|
كلا ولا التأويل
والتبدي
|
|
ل والتحريف
للوحيين بالبهتان
|
كلا ولا الأشكال
والتشكيك وال
|
|
وقف الذي ما فيه
من عرفان
|
هذي علومكم التي
من أجلها
|
|
عاديتمونا يا
أولي العرفان
|
* * *
الشرح
: يفرق لنا المؤلف
في هذه الأبيات بين العلم الصحيح النافع الذي هو الحق المطابق للواقع. وبين العلم
المموه الزائف الذي هو في حقيقته جهل مركب وسم ناقع. فيقول أن العلم الحقيقي بأن
يسمى علما لا يعدو واحدة من ثلاث ، فأما أن يكون آية من كتاب الله عزوجل ، أو حديثا صح عن رسوله صلىاللهعليهوسلم ، أو أثرا عن واحد من الصحابة الذين هم أكمل هذه الأمة
علما وإيمانا وكل ما خالف ذلك فهو جهل وضلال فليس العلم أن تتحامق فتعارض بآراء
الرجال قول رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فتكون بذلك مخالفا عن أمره ومعرضا عن قبول حكمه فتكون
ممن قال الله فيهم
(وَإِذا دُعُوا إِلَى
اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ). [النور : ٤٨].
وليس العلم أن
تعمد إلى صفات الرب الثابتة بالنصوص الصريحة الواضحة فتنفيها وتجحد ثبوتها بحجة
أنك تقدس الله وتنزهه عن الاتصاف بصفات الأجسام والمحدثات. وليس العلم أن تعمد إلى
صفة العلو الثابتة لله بالنقل والعقل والفطرة فتنفيها بحجة التنزيه لله عن الأحياز
والجهات.
وليس العلم ان
تعزل نصوص الوحيين عن إفادة الحق في باب الاعتقاد بحجة أنها ظواهر لفظية محتملة ،
وأن ما تطرق إليه الاحتمال يسقط به الاستدلال. ولهذا حكمتم عليها بأنها لا تفيد
علما ولا يقينا ، بل إنما يستفاد هذا عندكم من البراهين التي هي أوساخ العقول
والأفكار ، والتي تسمونها قواطع عقلية تنفون بها ظواهر الآيات والأخبار.
وليس العلم كذلك
أن تشتغل بسرد آراء الرجال وعدها ومحاولة ضبطها وحصرها ، فيكون حظك من العلم أن
تقول : قال فلان كذا ، ورأى فلان كذا ، دون أن تناقش هذه الآراء وتبين صحيحها من
زائفها.
وليس العلم أيضا
تأويل النصوص بما ينفي معانيها الظاهرة منها ولا تبديل ألفاظها بغيرها ، ولا تحريف
كلمها عن مواضعها بالكذب والبهتان.
وليس العلم
إشكالات تورد ولا تشكيكات تعد ، ولا توقّف في المسائل يدل على الحيرة والتردد.
فهذه هي كل ما
لديكم من أبواب العلم ، وليس فيها شيء من العلم ، وكانت هي السبب في أن ناصبناكم
العداوة والبغضاء.
* * *
فصل
في عقد الهدنة والأمان الواقع بين المعطلة
وأهل الإلحاد حزب جنكيز خان
يا قوم صالحتم
نفاة الذات والأ
|
|
وصاف صلحا موجبا
لأمان
|
وأغرتم وهنا
عليهم غارة
|
|
قعقعتم فيها لهم
بشنان
|
ما كان فيها من
قتيل منهم
|
|
كلا ولا فيها
أسير عان
|
ولطفتم في القول
أو صانعتم
|
|
وآتيتم في بحثكم
بدهان
|
وجلستم معهم
مجالسكم مع ال
|
|
أستاذ بالآداب
والميزان
|
وضرعتم للقوم كل
ضراعة
|
|
حتى أعاروكم
سلاح الجاني
|
فغزوتم بسلاحهم
لعساكر الا
|
|
ثبات والآثار
والقرآن
|
ولأجل ذا
صانعتموهم عند حر
|
|
بكم لهم باللطف
والاذعان
|
ولأجل ذا كنتم
مخانيثا لهم
|
|
لم تنفتح منكم
لهم عينان
|
حذرا من
استرجاعهم لسلاحهم
|
|
فترون بعد السلب
كالنسوان
|
الشرح
: ينعي المؤلف على
هؤلاء المعطلة ممالأتهم لأعداء الله من التتار الذين لا يقرون بوجود الله عزوجل ، وينفون الذات والصفات جميعا ، وذلك حين غلبوا على الدولة
الإسلامية واستولوا على بغداد قصبة الخلافة سنة ٦٥٦ ه. وقتلوا الخليفة المستعصم ،
وأعملوا السيف في أهل الإسلام ، حتى كانت القتلى في طرقات بغداد كأنها التلول ،
واختلطت مياه دجلة بدماء القتلى ، وارتكبوا من ألوان القسوة والوحشية ما لا نظير
له في التاريخ ، فرأى هؤلاء الملاحدة من المتكلمين والمتفلسفة أن يصانعوا القوم
ليأمنوا شرهم ويكسبوا نصرتهم لهم على أهل الحق فأغاروا عليهم وهنا ، أي في أول
الليل غارة لم يستعملوا فيها السيف والسنان ، ولكن شقشقة باللسان وقعقعة بالشنان ،
أي الطبل ، ولهذا لم تسفر هذه المعركة عن قتيل من هؤلاء ولا أسير.
ثم أخذوا يتلطفون
لهم في القول ويلاينونهم في الكلام ، ويلجئون في بحثهم معهم إلى الدهاء والمخادعة
، وجلسوا بين أيديهم في غاية الأدب والاحتشام ، كما
يجلس التلميذ بين
يدي أستاذه ، فحركاتهم بميزان ، وكلماتهم بميزان ، وأبدوا لهم غاية الضراعة والذلة
، حتى ملكوا قلوبهم وضمنوا ولاءهم ، فأعاروهم أسلحة الظلم والعدوان ، فلما اطمأنوا
إلى مودة القوم ونصرتهم غزوا بسلاحهم عساكر الإثبات والإيمان وأهل الآثار والقرآن.
ومن أجل هذا كانوا يصانعونهم عند حربهم لهم باللطف والاذعان ، وكانوا ذيولا لهم
ينقادون لأمرهم ويغمضون أعينهم عن كل ما يرتكبه القوم من عدوان خوفا من غضبهم
عليهم ، فيسترجعون ما كانوا قد أعاروهم من أسلحة ، فيرون بعد سلبها عنهم كالنسوان
لا قدرة لهم على حرب ولا طعان.
* * *
وبحثتم مع صاحب
الإثبات بالت
|
|
كفير والتضليل
والعدوان
|
وقلبتم ظهر
المجن له وأجلب
|
|
تم عليه بعسكر
الشيطان
|
والله هذى ريبة
لا يختفي
|
|
مضمونها إلا على
الثيران
|
هذا وبينهما أشد
تفاوت
|
|
فئتان في الرحمن
يختصمان
|
هذا نفى ذات
الإله ووصفه
|
|
نفيا صريحا ليس
بالكتمان
|
لكن إذا وصف
الإله بكل أو
|
|
صاف الكمال
المطلق الرباني
|
ونفى النقائص
والعيوب كنف
|
|
يه التشبيه
للرحمن بالإنسان
|
فلأي شيء كان
حربكم له
|
|
بالحد دون معطل
الرحمن
|
قلنا نعم هذا
المجسم كافر
|
|
أفكان ذلك كامل
الإيمان
|
لا تنطفي نيران
غيظكم على
|
|
هذا المجسم يا
أولي النيران
|
فالله يوقدها
ويصلي حرها
|
|
يوم الحساب محرف
القرآن
|
الشرح
: وفي الوقت الذي
تصانعون فيه هؤلاء الكفار وتذلون لهم ، نراكم تشددون النكير على أهل الحق المثبتين
للصفات ، فترمونهم بالتضليل والتكفير ، وتجاهرونهم بالعداوة ، وتجلبون عليهم بما
لديكم من حشود الباطل ، مما جعلنا نرتاب في أمركم ، ونتهمكم بأنكم على دين هؤلاء
الذين واليتموهم ، وهي
ريبة لا تخفى على
من له أقل درجة من التمييز ، فإن بيننا وبين من صانعتموهم من التفاوت كما بين
الليل والنهار ، أو بين العمى والإبصار ، فنحن فئتان اختصمتا في الله عزوجل ، ووقفت كل منهما على النقيض من الأخرى ، فهم ينفون ذات
الاله ووصفه نفيا صريحا لا مواربة فيه ولا كتمان ، وأما نحن فنصف الله سبحانه بكل
أوصاف الكمال المطلق التي وصف بها نفسه ، ووصفه بها رسوله صلىاللهعليهوسلم ، وننفي عنه كل ما لا يليق بجنابه من النقائص والعيوب ،
كوجود مثيل له أو شبيه ، أو شريك أو معين ، أو صاحبة أو ولد ، أو نحو ذلك ، فلأي
شيء كنا نحن موضع حربكم وعداوتكم ، وكانوا هم المؤمنون الكاملو الإيمان ، وما لكم
لا تهدأ مراجل حقدكم ولا تخمد نار غيظكم على هؤلاء الذين سميتموهم مجسمة؟ ليس ذلك
إلا لكراهتكم لما هم عليه من اتباع السنة والقرآن ، وإذا فالله نسأل أن يوقد النار
ويذكى لهيبها ، ثم يصليكم إياها يوم الحساب جزاء وفاقا لتحريفكم القرآن واتباعكم
غير سبيل أهل الإيمان.
* * *
يا قومنا لقد
ارتكبتم خطة
|
|
لم يرتكبها قط
ذو عرفان
|
وأعنتم وأعداءكم
بوفاقكم
|
|
لهم على شيء من
البطلان
|
أخذوا نواصيكم
بها ولحاكم
|
|
فغدت تجر بذلة
وهوان
|
قلتم بقولهم
ورمتم كسرهم
|
|
أنّى وقد غلقوا
لكم برهان
|
وكسرتم الباب
الذي من خلفه
|
|
أعداء رسل الله
والإيمان
|
فأتى عدو ما لكم
بقتالهم
|
|
وبحربهم أبد
الزمان يدان
|
فغدوتم أسرى لهم
بحبالهم
|
|
أيديكم شدت إلى
الأذقان
|
حملوا عليكم
كالسباع استقبلت
|
|
حمرا معقرة ذوي
إرسال
|
صالوا عليكم
بالذي صلتم به
|
|
أنتم علينا صولة
الفرسان
|
لو لا تحيزكم
إلينا كنتم
|
|
وسط العرين
ممزقى اللحمان
|
لكن بنا
استنصرتم وبقولنا
|
|
صلتم عليهم صولة
الشجعان
|
وآليتم الإثبات
إذ صلتم به
|
|
وعزلتم التعطيل
عزل مهان
|
وأتيتم تغزوننا
بسرية
|
|
من عسكر التعطيل
والكفران
|
من ذا بحق الله
أجهل منكم
|
|
وأحقنا بالجهل
والعدوان
|
تالله ما يدري
الفتى بمصابه
|
|
والقلب تحت
الختم والخذلان
|
* * *
المفردات : الوفاق
الموافقة ، النواصي : جمع ناصية وهي مقدم الرأس. اللحا : جمع لحية وهي معروفة.
رمتم : قصدتم. غلقوا لكم برهان : أي ملكوكم ، يقال غلق الرهن في يد المرتهن صار
ملكه ، وذلك إذا عجز الراهن عن افتكاكه في الوقت المشروط ، يدان : بمعنى قوة وحمر
معقرة ، أي جرحت ظهورها فلم تعد تقوى على الحمل.
صالوا : من
الصولان ، بمعنى الاقدام والهجوم. تحيزكم : انضمامكم. واليتم ناصرتم. الختم :
الطبع.
الشرح
: يتوجه المؤلف بهذا
الخطاب إلى من كانوا في زمانه من علماء الأشعرية المتأخرين الذين رضوا لأنفسهم
بالتذبذب بين الفريقين ، فلا هم على السنة المحضة والإثبات الكامل ، ولا هم على
النفي الشامل فيقول لهم انكم قد سلكتم في دينكم خطة تدل على منتهى الحمق والغفلة
ولا يرتضيها عاقل لنفسه ، حيث أعنتم أعداءكم من الفلاسفة والمعتزلة بموافقتكم لهم
في بعض باطلهم ، كنفى الصفات الخبرية وتأويل ما ورد فيها من الآيات والأحاديث بما
ينفي معناها عن الله عزوجل ، وكاعتدادكم بالأدلة العقلية وعزلكم نصوص الوحيين عن
إفادة اليقين ، وقولكم معهم إذا تعارض العقل والنقل وجب تقديم العقل ، فلما رأوا
ذلك منكم شددوا قبضتهم عليكم وأخذوا بلحاكم ورءوسكم يجرونكم إليهم جر ذلة وهوان
فكيف تطعمون أن تكسروهم وتفلجوا عليهم وقد أعطيتموهم من أنفسكم ما تمكنوا به من
رقابكم ، وفتحتم لهم الباب الذي كان موصدا في وجوههم ، فدخلوا حصونكم ومعاقلكم
فتبروا ما علوا تتبيرا حتى إذا جاء عدو آخر لا قبل لكم بحربه ، ولا قدرة لكم على
مناجزته ، وقعتم أسرى في أيديهم
حيث شددا وثاقكم ،
وغلوا أيديكم إلى أعناقكم ، وحملوا عليكم حملة الآساد الكاسرة على قطيع من الحمر
المعقرة ، فصالوا عليكم بنفس السلاح الذي صلتم به علينا صولة الفرسان المغاوير ،
فلو لا انضمامكم إلينا وعودتكم إلى حظيرتنا وتمسككم بأهداب الوحي لغدوتم في العرين
، وهو بيت الأسد ممزقي الاشلاء ، فلم تجدوا لكم في هذه المعركة إلا أن تستنصروا
بنا وتقولوا بقولنا في الإثبات حتى تتمكنوا من رد غارتهم عليكم فأنتم توالون الإثبات
وتعزلون التعطيل عزل مهان ذليل حين يكون الإثبات هو سلاحكم الذي به تصولون ،
ولكنكم في نفس الوقت له تتنكرون حين تكون الحرب بيننا وبينكم حيث تغزوننا بجيوش
التعطيل والإنكار ، فمن بالله أجله منكم حين تتسلحون بالشيء وضده ، وتوالون
الإثبات مرة وتعادونه مرة ، ومن أحق منا ومنكم أن ينتسب إلى الجهل والعدوان. ولكن
الله سبحانه هو مقلب القلوب ، فهي بين إصبعين من أصابعه أن يشأ يختم عليها ويخذلها
فلا يدري أصحابها بمصابهم وإن كان هو أعظم مصاب.
* * *
فصل
في مصارع النفاة والمعطلين بأسنة
أمراء الإثبات الموحدين
وإذا أردت ترى
مصارع من خلا
|
|
من أمة التعطيل
والكفران
|
وتراهم أسرى
حقير شأنهم
|
|
أيديهم غلت إلى
الاذقان
|
وتراهم تحت
الرماح دريئة
|
|
ما فيهم من فارس
طعان
|
وتراهم تحت
السيوف تنوشهم
|
|
من عن شمائلهم
وعن إيمان
|
وتراهم انسلخوا
من الوحيين والع
|
|
قل الصحيح ومقتضى
القرآن
|
وتراهم والله
ضحكة ساخر
|
|
ولطالما سخروا
من الإيمان
|
قد أوحشت منهم
ربوع زاده
|
|
ا الجبار ايحاشا
مدى الأزمان
|
وخلت ديارهم
وشتت شملهم
|
|
ما فيهم رجلان
مجتمعان
|
قد عطل الرحمن
أفئدة لهم
|
|
من كل معرفة ومن
إيمان
|
إذ عطلوا الرحمن
من أوصافه
|
|
والعرش أخلوه من
الرحمن
|
بل عطلوه عن
الكلام وعن صفا
|
|
ت كماله بالجهل
والبهتان
|
المفردات :
المصارع : المهالك ـ غلت : شدت ـ دريئة : ما يستتر به الصائد ليخدع الصيد ـ تنوشهم
: تأخذهم.
الشرح
: يريد المؤلف بهذه
الأبيات أن يكشف لنا عن الدور العظيم الذي قام به شيخه شيخ الإسلام وقدوة الأنام
وعلم الأعلام وأعجوبة الأيام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحراني
الدمشقي مجدد القرن الثامن وباعث النهضة الإسلامية ، الذي لم يأت الدهر له بنظير
في الجمع بين العلوم النقلية والعقلية ، ناصر السنة وقامع البدعة ، ورافع راية
التوحيد ، ومبدد جيوش الملاحدة والمبطلين ، صاحب المؤلفات الخالدة التي هي مشاعل
هدى ، ومنارات رشد يستضيء بنورها طلاب الحق ، وأعلام الفكر ، ومهما قلت في وصفه
وأطنبت فلن أوفيه حقه ، ولن أجزيه عن بعض ما قلدني من منة ، فلقد كنت أحد الذين
تخرجوا على كتبه حين قدر الله سبحانه أن يرفع عني غشاوة التقليد ، وأن يذهب من
نفسي ما ألمّ بها بحكم النشأة من عصبية مذهبية ولوثة صوفية وانحدار في بوائق
الوثنية. فما هي إلا جولة في رياض كتبه المونقة حتى زالت عني سقام الجهل وعادت
للقلب عافيته ، وللعقل صحته ، وحتى تجلى لي الدين في نقائه وطهارته بعد أن انزاحت
عنه عمايات الباطل وضلالات البدع وظلمات الأهواء.
ولنرجع إلى شرح
الأبيات التي يصور لنا فيها المؤلف مدى ما أصاب جيوش الزيغ والتعطيل من هزيمة
وانكسار حين حمل عليها شيخه البطل المغوار والفارس الكرار بسيفه البتار ففرقهم شذر
مذر ، فلم يبق لهم من عين ولا أثر ، فيقول إذا أردت أن تشهد أئمة الكفر والتعطيل
وهم يسقطون صرعى في الميدان ويقعون أسرى ترهقهم الذلة ، ويعلوهم الهوان ، وتربط
أيديهم بالحبال إلى الأذقان وأن تراهم دريئة للرماح لا قدرة لهم على حرب ولا طعان
، وأن تراهم قد تجردوا
من الوحيين والسنة
والقرآن ، بل وتجردوا من العقل الصحيح وما يقتضيه من البرهان ، بل وتراهم مضحكة
للناس يتخذون منهم مادة للفكاهة والهذيان ، ولطالما كانوا يسخرون من أهل الإيمان ،
وتراهم قد خلت منهم الديار وتبدد جمعهم في الأقطار ، كما أخلى الرحمن أفئدتهم من
كل معرفة وإيمان جزاء وفاقا لما عطلوا الرحمن من صفات كماله وعطلوا منه عرشه
فأنكروا أن يكون فوق عرشه بذاته ، بل وعطلوه عن كلامه فنفوا أن يكون له كلام هو
صفة له بحروف وأصوات يسمعها من يشاء من خلقه وعطلوه عن صفات كماله كلها بلا دليل
ولا برهان بل بالكذب والبهتان.
* * *
فاقرأ تصانيف
الامام حقيقة
|
|
شيخ الوجود
العالم الرباني
|
أعني أبا العباس
احمد ذل
|
|
ك البحر المحيط
بسائر الخلجان
|
وأقرأ كتاب
العقل والنقل الذي
|
|
ما في الوجود له
نظير ثان
|
وكذاك منهاج له
في رده
|
|
قول الروافض
شيعة الشيطان
|
وكذاك أهل
الاعتزال فإنه
|
|
أرادهم في حفرة
الجبان
|
وكذلك التأسيس
أصبح نقضه
|
|
أعجوبة للعالم
الرباني
|
وكذاك أجوبة له
مصرية
|
|
في ست أسفار
كتبن سمان
|
وكذا جواب
للنصارى فيه ما
|
|
يشفي الصدور
وأنه سفران
|
وكذاك شرح عقيدة
للأصبها
|
|
ني شارح المحصول
شرح بيان
|
فيها النبوات
التي إثباتها
|
|
في غاية التقرير
والتبيان
|
والله ما لأولي
الكلام نظيره
|
|
أبدا وكتبهم بكل
مكان
|
وكذا حدوث
العالم العل
|
|
وي والسفلي فيه
في أتم بيان
|
وكذا قواعد
الاستقامة أنها
|
|
سفران فيما
بيننا ضخمان
|
وقرأت أكثرها
عليه فزادني
|
|
والله في علم
وفي إيمان
|
هذا ولو حدثت
نفسي أنه
|
|
قبلي يموت لكان
هذا الشأن
|
* * *
الشرح
: هذا هو جواب الشرط
يعني إذا أردت أن تعرف ما نزل بأهل التعطيل من بلاء وتنكيل ، وأسر وتقتيل ، فاقرأ
تصانيف ذلك الامام الجليل التي ما لها فيما ألف الناس مثيل ، والتي هي لكل حائر
دليل ، فاقرأ له كتاب الموافقة بين المعقول والمنقول ، الذي ينفي فيه كل تعارض بين
العقل الصريح الخالي من شوائب الهوى والتقليد ، والمتحرر من سلطان الوهم والتخييل
، واقرأ له كتابه الكبير المسمى (منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية)
الذي كتبه في الرد على ابن المطهر الرافضي ، والذي ضمنه من فنون الحجاج وألوان
الجدل في الرد على فرق الضلال والزيغ ما يعد أعجوبة من الأعاجيب ، واقرأ له كتابه
في (نقض تأسيس التقديس) الذي ألفه الفخر الرازي في التأويل والتعطيل ، فأتى هذا
النقض عليه من قواعده ، واقرأ له كتاب (الأجوبة المصرية) وهو عبارة عن جملة كبيرة
من فتاويه الفروعية جمعها بعض أصحابه وبوبها على أبواب الفقه في ستة مجلدات وعرفت (بالفتاوى
المصرية) وسماها بعضهم (الدرر المضيئة من فتاوى ابن تيمية) واقرأ له كتاب (الجواب
الصحيح لمن بدل دين المسيح) في مجلدين أتى فيه بما يكفي ويشفي في موضوعه ، واقرأ
له كتاب (الاصبهانية) شرح عقيدة الاصبهاني الذي أثبت فيه النبوات بأتم تقرير وأحسن
بيان ، واقرأ له تلك القواعد العظيمة في الاستقامة وهي سفران كبيران ، وقد حكى
المؤلف أنه قرأها على شيخه رحمهماالله تعالى ، فزاده على ما فيها علما ، وإيمانا ، ثم قال ، ولو
أني قدرت أنه يموت قبلي وإني أبقى بعده لاهتبلت فرصة وجوده وقرأت عليه ما استطعت
من كتبه.
* * *
وكذاك توحيد
الفلاسفة الألى
|
|
توحيدهم هو غاية
الكفران
|
سفر لطيف فيه
نقض أصولهم
|
|
بحقيقة المعقول
والبرهان
|
وكذاك تسعينية
فيها له
|
|
رد على من قال
بالنفساني
|
تسعون وجها بينت
بطلانه
|
|
أعني كلام النفس
ذا الوحدان
|
وكذا قواعده
الكبار وأنها
|
|
أوفى من
المائتين في الحسبان
|
لم يتسع نظمي
لها فأسوقها
|
|
فأشرت بعض إشارة
لبيان
|
وكذا رسائله إلى
البلدان والأ
|
|
طراف والأصحاب
والأخوان
|
هي في الورى
مبثوثة معلومة
|
|
تبتاع بالغالي
من الأثمان
|
وكذا فتاواه
فأخبرني الذي
|
|
أضحى عليها دائم
الطوفان
|
بلغ الذي ألفاه
منها عدة الأ
|
|
يام من شهر بلا
نقصان
|
سفر يقابل كل
يوم والذي
|
|
قد فاتني منها
بلا حسبان
|
هذا وليس يقصر
التفسير عن
|
|
عشر كبار ليس ذا
نقصان
|
وكذا المفاريد
التي في كل مس
|
|
ألة فسفر واضح
التبيان
|
ما بين عشر أو
تزيد بضعفها
|
|
هي كالنجوم
لسالك حيران
|
الشرح
: واقرأ له كتابه في
الرد على الفلاسفة وإبطال قولهم ، بأن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد ، وله كتب أخرى
في إبطال قولهم بالجواهر العقلية وقدم العالم وغير ذلك من أصولهم الفاسدة ، وأقرأ
له (التسعينية) التي ألفها وهو بمصر في إبطال القول بالكلام النفسي من تسعين وجها
واقرأ له قواعده الكبار التي تزيد على المائتين في العد والحساب ، ولو لا عجز
النظم عن استيفائها لسقتها أليك ولكني أكتفي بالإشارة إليها.
وأقرأ له رسائله
التي كان يكتبها إلى الأطراف والبلدان والأصحاب والأخوان مثل رسالته (المدنية)
التي كتبها إلى الشيخ شمس الدين الدباهي. ورسالته (المصرية) التي كتبها إلى الشيخ
نصر المنجى ورسالته (العدوية) ورسالته (القبرصية) التي كتبها إلى ملك قبرص يحثه
فيها على رعاية مصالح المسلمين ، وقد ضمنها علوما نافعة ورسالته (الحموية) التي
كتبها إلى أهل حماة في مسائل الصفات. ورسالته (التدمرية والواسطية) ، وغير ذلك من
رسائله إلى اخوانه وأصحابه ، وهي رسائل مشهورة معلومة ، يغالي الناس في أثمانها
لما تحويه من الفوائد العظيمة والعلوم الجمة.
واقرأ له كذلك
فتاواه الكبرى ، وقد أخبرني من كان معنيا بجمعها والبحث عنها أن ما وجده منها
تساوي عدته عدة أيام شهر كامل بلا نقصان ، يعني
ثلاثين سفرا ، وأما
ما فاته منها فشيء لا يحصره الحساب ، وأما تفسيره فليس يقل عن عشر مجلدات كبار.
وأعلم أن ناحية
التفسير كانت من أبرز ما برع فيه شيخ الإسلام ، إلا أن معظمه قد ضاع لأنه لم يكن
يكتبه ، بل كان يلقيه على أصحابه ، فكان من يدونه منهم يضن أن يظهره أو يخاف بسبب
الفتنة. وقد سأله بعض أصحابه وهو أبو عبد الله بن رشيق أن يكتب على جميع القرآن ،
لما حبس آخر مرة ، فكتب إليه الشيخ يقول : «إن القرآن فيه ما هو بين بنفسه وفيه ما
قد بينه المفسرون في غير كتاب ، ولكن بعض الآيات أشكل تفسيرها على جماعة من
العلماء ، فربما يطالع الإنسان عليها عدة كتب ولا يتبين له تفسيرها ، وربما كتب
المصنف الواحد في آية تفسيرا ويفسر غيرها بنظيره ، فقصدت تفسير تلك الآيات بالدليل
، لأنه أهم من غيره ، وإذا تبين معنى آية تبين معنى نظائرها».
وأما مفرداته التي
انفرد بها عن المذاهب الأربعة ، فهي ما بين عشرة إلى عشرين ، وفي كل مسألة منها
سفر واضح ، وهي كالنجوم التي يهتدى بها في الظلمات فكم هدت من ضال ورشدت من حيران.
وأعلم أن ما ذكره
المؤلف هنا من كتب شيخه ومؤلفاته إنما هو إشارة إلى بعض أمهاتها ، فمن أراد الوقوف
على ما خلف الشيخ من ثروة طائلة في ميدان البحث والتأليف فليرجع إلى كتب التراجم
مثل (العقود الدرية) لابن عبد الهادي.
* * *
وله المقامات
الشهيرة في الورى
|
|
قد قامها لله
غير جبان
|
نصر الإله ودينه
وكتابه
|
|
ورسوله بالسيف
والبرهان
|
أبدى فضائحهم
وبين جهلهم
|
|
وأرى تناقضهم
بكل زمان
|
وأصارهم والله تحت
نعال أه
|
|
ل الحق بعد
ملابس التيجان
|
وأصارهم تحت
الحضيض وطالما
|
|
كانوا هم
الأعلام للبلدان
|
ومن العجائب أنه
بسلاحهم
|
|
أرداهم تحت
الحضيض الداني
|
كانت نواصينا
بأيديهم فما
|
|
منا لهم إلا
أسير عان
|
فغدت نواصيهم
بأيدينا فما
|
|
يلقوننا الا
بحبل أمان
|
وغدت ملوكهم
مماليكا لأنص
|
|
ار الرسول بمنة
الرحمن
|
وأتت جنودهم
التي صالوا بها
|
|
منقادة لعساكر
الايمان
|
يدري بهذا من له
خبر بما
|
|
قد قاله في ربه
الفئتان
|
والفدم يوحشنا
ولكن هناكم
|
|
فحضوره ومغيبه
سيان
|
* * *
الشرح
: بعد أن عدد المؤلف
كتب الشيخ التي خلفها من بعده منارا للسالكين وهدى للمستعصرين ، وحجة دامغة فوق
رءوس المبطلين ، أراد أن يشيد بما كان له من مواقف في نصرة الحق والذب عن دين الله
وكتابه ورسوله ، وما اتصف به في ذلك من مضاء العزيمة وعظيم الجرأة وصدق الإيمان ،
حتى أظهر فضائح خصومه وكشف عن جهلهم وأبان عن تناقضهم وتلبيسهم ، وما زال بهم
يأخذهم بصولة الحق حتى كساهم ثياب الذلة ، وجردهم مما كانوا ينعمون به من الجاه
والشهرة والنفوذ والسلطان ، وصيرهم في أسفل مكان بعد أن كانوا أعلام الأقطار
والبلدان ومن العجيب أنه لم يحاربهم إلا بنفس سلاحهم ، وهو سلاح العقل والمنطق
الذي كانوا يتطاولون به على أهل السنة ، ويرمونهم من أجل جهلهم به بأقبح الألقاب
كقولهم حشوية ونوابت ونحو ذلك ، فكان أهل السنة من أجل ذلك في ذلة وانكسار ،
وكانوا يتوارون بمذهبهم عن الأنظار ، حتى جاء شيخ الإسلام فأقام مذهب الحق على
دعائم متينة من العقل ، وحمل على المذاهب الباطلة بنفس السلاح حتى كسرهم لأهل الحق
كسرة غدت بها نواصيهم مأخوذة بأيديهم بعد أن كانوا هم الآخذين بنواصيهم ، وغدا
ملوكهم عبيدا لأهل الحق وأنصار الرسول بفضل الله عزوجل ومنته ، وغدت جنودهم التي كانوا يصولون بها أذلاء منقادين
لعساكر المؤمنين والموحدين ولا يدرك الحق ونصرته إلا من كان له خبرة بما قاله
الفريقان من المثبتين والمعطلين في الله رب العالمين.
فصل
في بيان أن المصيبة التي حلت بأهل التعطيل والكفران
من جهة الأسماء التي ما أنزل الله بها من سلطان
يا قوم أصل
بلائكم أسماء لم
|
|
ينزل بها الرحمن
من سلطان
|
هي عكستكم غاية
التعكيس واقت
|
|
لعت دياركم من
الأركان
|
فتهدمت تلك
القصور وأوحشت
|
|
منكم ربوع العلم
والإيمان
|
والذنب ذنبكم
قبلتم لفظها
|
|
من غير تفصيل
ولا فرقان
|
وهي التي اشتملت
على أمرين من
|
|
حق وأمر واضح
البطلان
|
سميتم عرش
المهيمن حيّزا
|
|
والاستواء تحيزا
بمكان
|
وجعلتم فوق
السموات العلى
|
|
جهة وسقتم نفي
ذا بوزان
|
وجعلتم الإثبات
تشبيها وتج
|
|
سيما وهذا غاية
البهتان
|
وجعلتم الموصوف
جسما قابل الا
|
|
عراض والأكوان
والألوان
|
وجعلتم أوصافه
عرضا وه
|
|
ذا كله جسر إلى
النكران
|
* * *
الشرح
: يخاطب المؤلف بهذه
الأبيات جماعة النفي والتعطيل فيقول لهم : إن سر دائكم وأصل بلائكم هو استعمالكم
لأسماء لم تقم عليها حجة ولا أصل لها في كتاب ولا سنة ، فهذا هو الذي قلب عليكم
أمركم ، وأفسد علمكم وإيمانكم ، فاقتلع بيته من جذوره حتى تهدمت أركانه وسقط
بنيانه ، فأقفرت منكم هاتيك الربوع ، وكنتم أنتم الذين جنيتم على أنفسكم حيث عمدتم
إلى الفاظ موهمة كل منها يحتمل معنى حقا وآخر باطلا فقبلتموها على إجمالها من غير
تفصيل يتبين منه ما يصح من معانيها وما لا يصح ، فيثبت المعنى الصحيح وينفى غيره
فقد سميتم عرش الرحمن حيزا ولم تفرقوا بين ما كان من الأحياز وجوديا داخل هذا
العالم وما كان
منها عدميا خارجه ، ولو أنكم فصلتم هذا التفصيل لهداكم إلى أن ما فوق العرش إنما
هو حيز عدمي لأنه خلاء صرف ، إذ ليس وراء العرش جسم آخر وأن وجود الله سبحانه في
حيز بهذا المعنى ليس مستحيلا ، وإنما المستحيل أن يكون في حيز من هذه الأحياز
الوجودية داخل هذا العالم لما يلزم عليه من كونه محصورا في خلقه وكون الحوادث ظرفا
له محيطة به.
وكذلك سميتم
الاستواء على العرش تحيزا في المكان ، ولم تفرقوا كذلك بين الأمكنة الوجودية داخل
هذا العالم ، فهذه هي التي لا يجوز حلول الله في شيء منها ، وأما الاستواء على
العرش فهو تحيز في مكان عدمي ليس فيه شيء من الموجودات غيره سبحانه ، فلا يكون
مستحيلا ولا ممتنعا ، لأنه لا يقتضي إحاطة الحوادث به ولا حلوله فيها ولا اتصاله
بها وسميتم ما فوق السموات والعرش جهة ، ثم سقتم نفيكم للجهة عليه وجعلتموه مساويا
لما يجب نفيه من الجهات حيث قلتم أن الله لا يجوز أن يكون في جهة من الجهات الست
ومنها جهة الفوق. ولم تفرقوا كذلك بين ما كان من الجهات عدميا فوق هذا العالم حيث
الخلاء الصرف والعدم المحض ، وبين ما كان منها وجوديا محصورا داخل أركان هذا
العالم وموجوداته. وسميتم إثبات الصفات تشبيها وتجسيما ، وهذا محض الكذب والاختلاق
، فإنكم لم تفرقوا بين ما كان من الصفات من قبيل الأعراض التي تختص بالأجسام
والمحدثات وبين ما كان منها من قبيل المعاني القائمة بموصوفها ، فإثبات الصفات لله
بالمعنى الثاني لا يقتضي تشبيها ولا تجسيما إذ لا يلزم من إثبات الصفات لله أن
تكون مثل صفات الأجسام المحدثة المخلوقة. ولو كان هذا لازما لكانت المماثلة لازمة
لجميع الطوائف إذ لا يعقل وجود ذات مجردة من جميع الصفات.
وكذلك عرفتم
الموصوف بأنه جسم قابل للأعراض والأكوان التي هي الحركة والسكون والاجتماع
والافتراق ، والألوان كالسواد والبياض والحمرة والصفرة ، مع أن الموصوف هو الذات
التي تقوم بها الصفات ، وهذا أعم من أن يكون جسما أو غير جسم ، كما جعلتم الصفات
كلها أعراضا قائمة بالأجسام ،
والصفة أعم من أن
تكون عرضا أو غير عرض. ولكن غرضكم من وضع هذه الاصطلاحات أن تجعلوها جسرا تعبرون
منه إلى ما تريدون من النفي والتعطيل ، فضللتم بهذا عن سواء السبيل.
* * *
وكذاك سميتم
حلول حوادث
|
|
أفعاله تلقيب ذي
عدوان
|
إذ تنفر الأسماع
من ذا اللفظ نف
|
|
رتها من التشبيه
والنقصان
|
فكسوتم أفعاله
لفظ الحوا
|
|
دث ثم قلتم قول
ذي بطلان
|
ليست تقوم به
الحوادث والمرا
|
|
د النفي للأفعال
للديان
|
فإذا انتفت
أفعاله وصفاته
|
|
وكلامه وعلو ذي
السلطان
|
فبأي شيء كان
ربا عندكم
|
|
يا فرقة التحقيق
والعرفان
|
والقصد نفي
فعاله عنه بذا الت
|
|
لقيب فعل الشاعر
الفتان
|
وكذاك حكمة ربنا
سميتم
|
|
عللا وأغراضا
وذان اسمان
|
لا يشعران بل
ضدها
|
|
فيهون حينئذ على
الأذهان
|
نفي الصفات
وحكمة الخلاق والأ
|
|
فعال إنكارا
لهذا الشأن
|
الشرح
: وكذلك سميتم ما
يقوم به سبحانه من الأفعال الاختيارية بأنه حلول الحوادث في ذاته تسمية معتدية
جائرة لأنكم تعلمون أن الأسماع تنبو عن هذه الألفاظ وتنفر منها كما تنفر من ألفاظ
التشبيه والنقصان ، فتعمدون إلى أفعاله التي يحدثها هو في ذاته بمشيئته وقدرته ،
وتكسونها لفظ الحوادث ثم تحكمون حكما عاما بأن الحوادث يمتنع قيامها به ، وليس
مرادكم من ذلك إلا نفي أفعاله دون أن تفرقوا بين أجناس الحوادث وأشخاصها ، ولا بين
ما يحدثه هو في ذاته ، وبين ما يحدثه فيه غيره لأن قصدكم هو الإيهام والتلبيس.
ولكن إذا نفيتم
أفعاله بحجة حلول الحوادث في ذاته ونفيتم صفاته بحجة أنها أعراض لا تقوم إلا
بالأجسام ، ونفيتم كلامه بالحرف والصوت ، ونفيتم علوه على عرشه بحجة استلزام ذلك
كله لأن يكون جسما. فبأي شيء عندكم تثبت له
الربوبية على خلقه
، وهل يعقل رب لا فعل له ولا نعت ولا كلام. يا أولي التحقيق والافهام ، ولكن لما
كان قصدكم هو نفي أفعاله عنه لقبتموه بهذا اللقب الشنيع لتنفروا منه كل من يسمعه
كما يفعل الشاعر الفتان بالشيء الذي يريد تنفير الناس منه فإنه يختار له أقبح
الأوصاف ويخلعها عليه كما يقول في صفة الورد مثلا أنه صرم بغل فيه روث.
وكذلك سميتم حكمته
التي يحبها ويرضاها ويفعل من أجلها علة وغرضا وهما لفظان لا يدلان على مدح المتصف
بهما ، بل على مذمته ونقصه وذلك ليسهل عليكم بعد ذلك نفي حكمته ، لأنكم لو عمدتم
إلى نفي الحكمة عنه قبل أن تلقبوها بهذه الألقاب الشنيعة لأنكر ذلك عليكم العقلاء
فتوصلتم إلى نفيها بتسميتها بهذه الأسماء ، وهذا هو دأبكم في كل ما تريدون نفيه من
كمالات ثابتة لله سبحانه تنعتونها أولا بنعوت السوء وألقاب الذم ثم تكرون عليها
بالنفي والإبطال.
* * *
وكذا استواء
الرب فوق العر
|
|
ش قلتم أنه
التركيب ذو بطلان
|
وكذاك وجه الرب
جل جلاله
|
|
وكذاك لفظ يد ولفظ
يدان
|
سميتم ذا كله
الأعضاء بل
|
|
سميتموه جوارح
الإنسان
|
وسطوتم بالنفي
حينئذ علي
|
|
ه كنفينا للعيب
مع نقصان
|
قلتم ننزهه عن
الأعراض والا
|
|
غراض والأبعاض
والجثمان
|
وعن الحوادث أن
تحل بذاته
|
|
سبحانه من طارق
الحدثان
|
والقصد نفي
صفاته وفعاله
|
|
والاستواء وحكمة
الرحمن
|
والناس أكثرهم
بسجن اللفظ مس
|
|
جونون خوف معرة
السبحان
|
والكل لا الفرد
يقبل مذهبا
|
|
في قالب ويرده
في ثان
|
والقصد أن الذات
والأوصاف وال
|
|
أفعال لا تنفى
بذا الهذيان
|
سموه ما شئتم
فليس الشأن في ال
|
|
أسماء بل في
مقصد ومعان
|
الشرح
: وكذلك سميتم
استواءه تعالى على العرش الثابت له بالأدلة الصريحة من الكتاب والسنة تركيبا
لتتوصلوا بذلك إلى نفيه حيث قلتم لو كان فوق العرش بذاته لكان جسما فيكون مركبا ،
والتركيب محال ، وسميتم ما وصف الله به نفسه من الوجه واليد واليدين والعينين
واليمين ، وما وصفه به رسوله صلىاللهعليهوسلم من القدم والساق والاصبع ، ونحو ذلك أعضاء بل سميتموها
جوارح ثم سطوتم عليها بعد ذلك بالنفي ، كما ينفى عنه العيب والنقص فسويتم بين ما
أثبته لنفسه من الكمال ، وبين ما يجب تنزيهه عنه من النقص ، مع أنه لا يلزم أصلا
من إثبات الوجه واليدين ونحوهما أن تكون في الله كما هي في الحيوان جوارح وأعضاء. وقلتم
على سبيل التمويه والمغالطة ، إنما نفينا هذه الأشياء بقصد تنزيهه عن الأعراض
والأغراض والأبعاض أي الأجزاء والجثمان أي الجسمية ، وبقصد تنزيهه أيضا عن أن تحل
الحوادث بذاته مع أن قصدكم بذلك هو نفي صفاته وأفعاله واستوائه وحكمته ، تعالى
الله عما تقولون علوا كبيرا.
ومن العجب أن
الناس إلا أقلهم ممن عصم الله يحسبون أنفسهم في دائرة الألفاظ ويؤثر فيهم جرسها
وطنينها ، فتذهلهم عما وراءها من معان ، فإذا سمعوا لفظا يوهم شيئا من النقص أو
التشبيه فروا منه خشية الوقوع فيما ينافي السبحان ، أي التنزيه ، ومن العجب أن
الناس أيضا كلهم إلا الفرد بعد الفرد تراه يقبل مذهبا إذا صيغ له في قالب معين من
الألفاظ ، ثم يرفضه هو نفسه إذا صيغ في قالب آخر.
وجملة قولنا
لهؤلاء النفاة أن ذات الله وصفاته وأفعاله لا يصح أن تنفى بهذا الهراء ، فإن
العبرة ليست بما يتواضعون عليه من ألفاظ وأسماء ، بل بما وراء ذلك من معان
ومدلولات ، فليسموا هذه الأشياء بما أرادوا ، فإن ذلك لن يغير من الحق شيئا.
* * *
كم ذا توسلتم
بلفظ الجسم
|
|
والتجسيم
للتعطيل والكفران
|
وجعلتموه الترس
إن قلنا لكم
|
|
الله فوق العرش
والأكوان
|
قلتم لنا جسم
على جسم تعا
|
|
لى الله عن جسم
وعن جثمان
|
وكذاك إن قلنا
القرآن كلامه
|
|
منه بدا لم يبد
من إنسان
|
كلا ولا ملك ولا
لوح ول
|
|
كن قاله الرحمن
قول بيان
|
قلتم لنا أن
الكلام قيامه
|
|
بالجسم أيضا وهو
ذا حدثان
|
عرض يقوم بغير
جسم لم يكن
|
|
هذا بمعقول لذي
الأذهان
|
وكذاك حين نقول
ينزل ربنا
|
|
في ثلث ليل وآخر
أو ثان
|
قلتم لنا أن
النزول لغير أج
|
|
سام محال ليس ذا
إمكان
|
وكذاك إن قلنا
يرى سبحانه
|
|
قلتم أجسم كي يرى
بعيان
|
أم كان ذا جهة
تعالى ربنا
|
|
عن ذا فليس يراه
من إنسان
|
الشرح
: كانت شبهة الجسم
والتجسيم من أعظم أسباب الضلال في باب الصفات ، فقد جعلها المعطلة عرضة مانعة لهم
من القول بالاثبات ونصبوها صخرة عاتية يحطمون عليها صريح الأحاديث ومحكم الآيات ،
واتخذوا منها ترسا يحتمون به مما يوجه إليهم من طعنات ، فإذا قيل لهم أن الله فوق
العرش بذاته ، قالوا لو كان فوق العرش (والعرش جسم) لكان جسما لأنه حينئذ يكون
متحيزا وفي جهة ، ولأنه إما أن يكون مساويا للعرش أو أكبر منه أو أصغر إلخ ما
يذكرون من هذا الهراء.
وكذلك إذا قيل لهم
أن القرآن كلام الله غير مخلوق ، بدا بلا كيفية قولا وأنه ليس قول بشر ولا ملك ولا
مأخوذا من اللوح المحفوظ ، ولكنه قول الله الذي تكلم به بحروفه وألفاظه بصوت نفسه
، وسمعه منه جبريل عليهالسلام قالوا إن الكلام عرض من الأعراض التي لا تقوم إلا بالأجسام
، وهو أيضا حادث يمتنع قيامه بذاته تعالى ، وإذا كان الله تعالى غير جسم فلا يعقل
أن يقوم به الكلام الذي هو عرض ، فإن الأعراض لا تقوم إلا بالأجسام.
وكذلك إذا قيل لهم
ما وردت به الروايات الصحيحة من نزول الرب تبارك
وتعالى في ثلث
الليل الآخر أو في نصف الليل الثاني ، قالوا إن النزول من خصائص الأجسام ، فيمتنع
أن يتصف به ما ليس بجسم ، وهو الله تعالى.
وكذلك إذا قيل لهم
إن المؤمنين سيرون ربهم يوم القيامة عيانا بأبصارهم كما نطقت بذلك الآيات
والأحاديث ، قالوا : إن الذي يصح رؤيته إنما هو الجسم ، لأنه هو الذي يكون في جهة
من الرائي ، ويمكن اتصال شعاع منه إليه ، أما ما ليس بجسم ولا هو في جهة فلا تمكن
رؤيته.
فتدبر كيف جعل
هؤلاء من لفظ الجسم طاغوتا يهدمون به صروح الإيمان ويخالفون من أجله موجب السنة
والقرآن.
* * *
ما إذا قلنا له
وجه كما
|
|
في النص أو قلنا
كذاك يدان
|
وكذاك إن قلنا
كما في النص أ
|
|
ن القلب بين
أصابع الرحمن
|
وكذاك إن قلنا
الأصابع فوقها
|
|
كل العوالم وهي
ذو رجفان
|
وكذاك إن قلنا
يداه لأرضه
|
|
وسمائه في الحشر
قابضتان
|
وكذاك إن قلنا
سيكشف ساقه
|
|
فيخر ذاك الجمع
للأذقان
|
وكذاك إن قلنا
يجيء لفصله
|
|
بين العباد بعدل
ذي سلطان
|
قامت قيامتكم
كذاك قيامة الآ
|
|
تي بهذا القول
في الرحمن
|
والله لو قلنا
الذي قال الصحا
|
|
بة والألى من
بعدهم بلسان
|
لرجمتمونا
بالحجارة إن قدر
|
|
تم بعد رجم
الشتم والعدوان
|
والله قد كفرتم
من قال بع
|
|
ض مقالهم يا أمة
العدوان
|
وجعلتم الجسم
الذي قدرتم
|
|
بطلانه طاغوت ذا
البطلان
|
الشرح
: أما إذا أثبتنا له
الوجه الذي أثبته هو لنفسه في قوله تعالى : (وَيَبْقى وَجْهُ
رَبِّكَ) [الرحمن : ٢٧]
وكما في قوله : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ
إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨] أو
أثبتنا له اليدين كما في قوله تعالى : (ما مَنَعَكَ أَنْ
تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) [ص : ٧٥] أو
أثبتنا له الأصابع كما ورد في الحديث
الصحيح «إن القلوب
بين اصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف شاء» أو إذا قلنا بما ورد في تفسير البخاري
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن حبرا من الأحبار جاء إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : يا محمد إنا نجد أن الله عزوجل يجعل السموات على اصبع والأرضين على اصبع والشجر على إصبع
والماء والثرى على إصبع وسائر الخلق على إصبع ، فيقول أنا الملك : فضحك رسول الله صلىاللهعليهوسلم حتى بدت نواجذه
تصديقا لقول الحبر ، ثم قرأ رسول الله صلىاللهعليهوسلم : (وَما قَدَرُوا اللهَ
حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [الزمر : ٦٧]
وكذلك رواه مسلم وأحمد والترمذي والنسائي في التفسير من سننيهما.
أو إذا قلنا بما
ورد في البخاري أيضا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «يقبض الله تعالى الأرض ويطوي السماء بيمينه ثم
يقول : أنا المالك أين ملوك الأرض؟».
أو إذا قلنا بما
رواه البخاري وغيره عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : سمعت النبي صلىاللهعليهوسلم يقول «يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة ويبقى من
كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة ، فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقا واحدا».
أو إذا قلنا أنه
سبحانه يجيء يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده كما قال : (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) [الفجر : ٢٢].
نعم لو قلنا بهذا
الذي نطقت به النصوص الصحيحة لهيجتم علينا الدنيا وملأتم الأرض من حولنا صخبا
وضجيجا ، ولو قلنا بالذي قاله الصحابة رضي الله عنهم والتابعون لهم بإحسان لكان
نصيبنا منكم الرجم بالحجارة بعد رجمكم لنا بألفاظ السب والعدوان ، فلقد كفرتم من
قال ببعض قولهم ، فكيف بمن أخذ في عقيدته بسبيلهم وكان الجسم الذي قدرتم بطلانه في
حق الله تعالى هو طاغوتكم الذي أبطلتم به كل ما وردت به النصوص من الصفات.
* * *
ووضعتم للجسم
معنى غير مع
|
|
روف به في وضع
كل لسان
|
وبنيتم نفي
الصفات عليه فاج
|
|
تمعت لكم إذ ذاك
محذوران
|
كذب على لغة
الرسول ونفي إث
|
|
بات العلو لفاطر
الأكوان
|
وركبتم إذ ذاك
تحريفين تح
|
|
ريف الحديث
ومحكم القرآن
|
وكسبتم وزرين
وزر النفي والت
|
|
حريف فاجتمعت
لكم كفلان
|
وعداكم أجران
أجر الصدق وال
|
|
إيمان حتى فاتكم
حظان
|
وكسبتم مقتين
مقت إلهكم
|
|
والمؤمنين
فنالكم مقتان
|
ولبستم ثوبين
ثوب الجهل وال
|
|
ظلم القبيح
فبئست الثوبان
|
واتخذتم طرزين
طرز الكبر والت
|
|
يه العظيم فبئست
الطرزان
|
ومددتم نحو
العلى باعين ل
|
|
كن لم تطل منكم
لها الباعان
|
وأتيتموها من
سوى أبوابها
|
|
لكن تسورتم من
الحيطان
|
وغلقتم بابين لو
فتحا لكم
|
|
فزتم بكل بشارة
وتهان
|
باب الحديث وباب
هذا الوحي من
|
|
يفتحهما فليهنه
البابان
|
الشرح
: وقد فسرتم الجسم
بمعنى ليس هو معناه المعروف في وضع جميع اللغات ، فقال المتكلمون منكم : انه ما تركب
من جواهر فردة غير قابلة للقسمة وقال الفلاسفة : إنه المركب من هيولى ومن صورة ،
ثم بنيتم نفيكم للصفات على هذا الاصطلاح الفاسد ، فاجتمع لكم بهذا أمران كل منهما
يجب أن يحذر الوقوع فيه ، أحدهما الكذب على لغة الرسول صلىاللهعليهوسلم ، فليس فيها أبدا وضع الجسم لهذا المعنى الذي اصطلحتم
عليه.
يقول شيخ الاسلام
ابن تيمية في رسالته التدمرية :
فإن لفظ الجسم
للناس فيه أقوال متعددة اصطلاحية غير معناه اللغوي ، فإن أهل اللغة يقولون : الجسم
هو الجسد والبدن ، وبهذا الاعتبار فالروح ليست جسما ، ولهذا يقولون الروح والجسم كما
قال تعالى : (وَإِذا رَأَيْتَهُمْ
تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) [المنافقون : ٤]
وقال تعالى : (وَزادَهُ بَسْطَةً
فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) [البقرة : ٢٤٧].
وأما أهل الكلام
فمنهم من يقول : الجسم هو الموجود ، ومنهم من يقول هو القائم بنفسه ، ومنهم من
يقول هو المركب من الجواهر الفردة ، ومنهم من يقول هو المركب من المادة والصورة ،
وكل هؤلاء يقولون أنه مشار إليه اشارة حسية ومنهم من يقول ليس مركبا من هذا ، بل
هو بما يشار إليه ويقال انه هنا أو هناك. والثاني منهما نفي صفة العلو الثابتة
لفاطر الأكوان سبحانه نقلا وعقلا وفطرة.
وركبتم بهذا
الاصطلاح الفاسد أيضا تحريفين : أحدهما تحريف الحديث ، والثاني تحريف المحكم من
آيات القرآن ، فملتم بكل منهما عن أصل وضعه وتأولتموه بما ينفي معناه الظاهر منه
من غير قرينة موجبة لذلك ، واقترفتم به أيضا جرمين : أحدهما جرم النفي لما دلت
عليه النصوص من الصفات ، والثاني جرم التحريف للنصوص وصرفها عن المعاني المرادة
منها : فاجتمع لكم كفلان ، أي نصيبان من الوزر ، وحرمتها بذلك من أجرين : أجر
الصدق حيث كذبتم على الله ورسوله ، وأجر الايمان حيث كفرتم بما هو ثابت من الصفات
، ففاتكم بذلك حظان ، أي نصيبان من الأجر.
وكسبتم به مقتين :
أحدهما مقت الله لكم حيث قلتم عليه بغير علم ، والثاني مقت المؤمنين حيث خالفتم
سبيلهم وأخذتم في سبل الغواية والشيطان.
ولبستم به ثوبين :
أحدهما ثوب الجهل حيث لم تعرفوا ربكم بصفات كماله ، وحسبتموها نقصا ، والثاني ثوب
الظلم والعدوان حيث تعديتم على حرمة النصوص وجرتم عليها بالتحريف والتأويل.
وتحليتم بطرزين :
أحدهما طرز الكبر حيث تأبون قبول الحق والانقياد له والثاني طرز التيه والخيلاء
اغترارا بما عندكم من علم مموه وسفسطة كاذبة.
ومددتم نحو العلى
باعين لكن قصرت أيديكم عن تناولها : لأنكم لم تعدوا لها أسبابها ولم تأتوها من
أبوابها ، ولكن تسورتم عليها من الجدران.
وأغلقتم على
أنفسكم بابين لو فتحا لكم لظفرتم بكل ما يسركم وأدركتم كل ما تؤملون من خير :
أحدهما باب الحديث الذي حرفتموه وأنكرتموه وطعنتم في نقلته. والثاني باب هذا
القرآن العظيم الذي لم تتلوه حق تلاوته ، فهما بابان للخير من يفتحهما بالوقوف عند
نصوصهما وتأملها حق التأمل والاعتداد بها ، وعدم التعويل في الدين الا عليها
فليهنه البابان وطوبى له من موفق معان.
* * *
وفتحتم بابين من
يفتحهما
|
|
تفتح عليه مواهب
الشيطان
|
باب الكلام وقد
نهيتم عنه
|
|
والباب الحريق
فمنطق اليونان
|
* * *
فدخلتم دارين
دار الجهل في الد
|
|
نيا ودار الخزي
في النيران
|
وطعمتم لونين
لون الشك والتش
|
|
كيك بعد فبئست
اللونان
|
وركبتم أمرين كم
قد أهلكا
|
|
من أمة في سالف
الازمان
|
تقديم آراء
الرجال على الذي
|
|
قال الرسول
ومحكم القرآن
|
والثاني نسبتهم
الى الالغاز
|
|
والتلبيس
والتدليس والكتمان
|
ومكرتم مكرين لو
تمّا لكم
|
|
لانفصمت فينا
عرى الايمان
|
أطفأتم نور
الكتاب وسنة اله
|
|
ادي بذا التحريف
والهذيان
|
لكنكم أوقدتموا
للحرب نا
|
|
را بين طائفتين
مختلفان
|
والله مطفيها
بألسنة الأولى
|
|
قد خصهم بالعام
والايمان
|
والله لو غرق
المجسم في فم التجس
|
|
يم من قدم الى
الآذان
|
فالنص أعظم عنده
وأجل قد
|
|
را أن يعارضه
بقول فلان
|
الشرح
: وكما أغلفتم على
أنفسكم بابي الرحمة والخير والحق والايمان فقد فتحتم عليها بابين هما من أعظم
مداخل الشيطان : أما الأول : فهو باب الكلام والجدل المذموم وقد نهاكم عنه الله
ورسوله قال تعالى : (وَلا تُجادِلُوا
أَهْلَ الْكِتابِ
إِلَّا
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [العنكبوت : ٤٦]
وقال (وَكانَ الْإِنْسانُ
أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) [الكهف : ٥٤].
وقال النبي صلىاللهعليهوسلم «ما ضل قوم بعد
هدى كانوا عليه الا أوتوا الجدل» وقال «أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء
وان كان محقا» وقد ورد عن السلف رضي الله عنهم من الآثار في ذم الكلام ما لا يتسع
له هذا المقام ، ونكتفي هنا بقول الامام الشافعي رضي الله عنه (حكمى في أهل الكلام
أن يضربوا بالجريد والنعال ويطاف بهم في العشائر ويقال هذا جزاء من ترك الكتاب
والسنة) وقول أبي يوسف : (من طلب العلم بالكلام تزندق).
وأما الثاني فهو
باب المنطق الذي وضعه أرسطو أشهر فلاسفة اليونان وقد سماه المؤلف باب الحريق لأن
معظم من دخلوا منه واتخذوه آلة لعلمهم أحرق دينهم وايمانهم. بسبب سوء استعمالهم له
، والا فالمنطق قواعد عقلية مجردة يعرف بها تركيب الحدود وتأليف الاقيسة. ولما
كانت معظم الطوائف العقلية من فلاسفة ومعتزلة وأشعرية قد ضلت بهذا المنطق حيث
اتخذته أداة لتحصيل عقائد الايمان معرضة عن أدلة الحديث والقرآن فقد حمل عليه شيخ
الاسلام ابن تيمية وألف في نقضه كتبا قيمة تدل على ما بلغه رحمهالله من قدرة في الجدل وبراعة في النقد قد لا تتاح لأحد بعده في
الاسلام.
وكذلك دخلتم بسببه
في دارين ، دار الجهل في الدنيا حين أعرضتم عن علم الكتاب والسنة ، ودار الخزى
والهوان في الآخرة حيث ارتكبتم من الكفر والتعطيل ما يوجب لكم نار السعير وبئس
المصير ، وذقتم به لونين من الطعام. أحدهما لون الشك الذي أكل بمرارته قلوبكم.
والثاني لدن التشكيك الذي تفسدون به غيركم.
وركبتم بسببه
أمرين قد أهلكا الأمم الماضية قبلكم ، أولهما تقديم آراء الرجال على الوحى المنزل
حيث تنصرفون في الوحي بالنفي والتأويل ، ولكنكم تأخذون كلام الناس قضايا مسلمة بلا
دليل ، والثاني نسبتكم الرسل عليهم الصلاة والسلام
الى الألغاز
والتعمية والتدليس أي إخفاء الحق والتلبيس الذي هو الكلام بخلافه والكتمان. ولا شك
أن ضلال الأمم في الماضي انما كان من هذا الباب حيث كانوا يتركون النصوص المنزلة
ويأخذون بما وضع لها الناس من شروح وتأويلات ، ولا يزال اليهود يقدمون (التلمود)
على التوراة مع أنه شروح وتعليقات عليها من وضع كهنتهم وأحبارهم الذين حرفوا كلمها
عن مواضعه وحملوا نصوصها على ما لا تدل عليه من المعاني كما فعل أهل التأويل في
الاسلام ، وكذلك قادكم اصطلاحكم الفاسد الى أن مكرتم بأهل الحق مكرين لو أنهما
نفذا كما أردتم لانحلت منا عقد الايمان وأواصره وهما محاولتكم اطفاء نور القرآن
والسنة بما ابتدعتم من تحريف وهذيان ، لكنكم كلما أوقدتم للفتنة نارا أطفاها الله
بألسنة أهل الحق والايمان.
على أن هؤلاء
الذين تسمونهم مجسمة وتلمزونهم بهذا اللقب تحقيرا لهم وتنفيرا للناس منهم لو أنهم
أوغلوا في هذا التجسيم الى أبعد مدى فهم على كل حال خيرا منكم لأنهم يحترمون
النصوص ويجلونها وهي عندهم أرفع من أن تعارض بأقوال الرجال.
فصل
في كسر الطاغوت الذي نفوا به صفات ذي الملكوت
والجبروت
أهون بذا
الطاغوت لا عز اسمه
|
|
طاغوت ذي
التعطيل والكفران
|
كم من أسير بل
جريح بل قتي
|
|
ل تحت ذا الطاغوت
في الازمان
|
وترى الجبان
يكاد يخلع قلبه
|
|
من لفظه تبا لكل
جبان
|
وترى المخنث حين
يقرع سمعه
|
|
تبدو عليه شمائل
النسوان
|
ويظل منكوحا لكل
معطل
|
|
ولكل زنديق أخي
كفران
|
وترى الصبى
العقل يفزعه اسمه
|
|
كالغول حين يقال
للصبيان
|
كفران هذا الاسم
لا سبحانه
|
|
أبدا وسبحان
العظيم الشأن
|
كم ذا التترس
بالمحال أما ترى
|
|
قد مزقته كثرة
السهمان
|
جسم وتجسيم
وتشبيه أما
|
|
تعيون من فشر
ومن هذيان
|
أنتم وضعتم ذلك
الطاغ
|
|
وت ثم به نفيتم
موجب القرآن
|
جعلتموه شاهدا
بل حاكما
|
|
هذا على من يا
أولي العدوان
|
أعلى كتاب الله
ثم رسوله
|
|
بالله فاستحيوا
من الرحمن
|
فقضاؤه بالجور
والعدوان مث
|
|
ل قيامه بالزور
والعدوان
|
وقيامه بالزور
مثل قضائه
|
|
بالجور والعدوان
والبهتان
|
الشرح
: يريد المؤلف بهذه
الأبيات أن يحطم طاغوت الجسم الذي نصبه المعطلة ليصدوا به عن سبيل الحق في اثبات
الصفات لله جل شأنه ، فيقول ما أهون وأحقر هذا الطاغوت الذي وضعه أئمة الكفر
والتعطيل ، فهو لا عز اسمه ولا جل شأنه بل هو كعابديه مهين ذليل ، ولكنه مع هوانه
وضعفه ، كم خلف في الأزمنة المتعاقبة من جريح وقتيل. وتراه اذا ذكر اسمه تطير
شعاعا منه نفس الجبان. وترى المخنث الضعيف حين يسمع لفظه يولول ويصيح ويأتي بمثل
حركات النسوان. ثم يرتمى في أحضان المعطلة والزنادقة أهل الكفران ، وترى الأحمق
ضعيف العقل يرتاع حين يذكر عنده كما يرتاع الأطفال عند ما تحكى لهم قصص الغيلان ولكننا
معشر أهل الحق كفرنا به فلا نسبح بحمده أبدا ، بل لا نسبح الا ربنا العظيم الشأن
الذي هو أهل لكل سبحان.
ثم يقول لعابدي
هذا الطاغوت وناصبيه الى متى تترسون بالمحال : وأنتم ترون ما صوب إليه من سهام أهل
الحق التي مزقت لحمه وتركته ممزع الاشلاء. والى متى كلما سمعتم صفة أثبتت للرحمن
من سنة أو قرآن قلتم جسم وتجسيم وتشبيه ، أما تكلون من هذا الكذب والهذيان فأنتم
بأنفسكم الذين نحتم هذا الصنم ثم نفيتم به ما يقتضيه القرآن من اثبات الصفات
للرحمن. وجعلتموه شاهدا على هذا النفى بل حاكما له النفوذ والسلطان ، ولكن على من
يحكم يا أولى الظلم
والعدوان؟ أيحكم
على كتاب الله أم على سنة رسوله صلىاللهعليهوسلم : فهلا استحييتم من الرحيم الرحمن. فحاكمكم هذا لا يقضي
الا بجور وعدوان كما كان قيامه بالزور والبهتان.
* * *
كم ذي الجعاجع
ليس شيء تحتها
|
|
الا الصدى
كالبوم في الخربان
|
ونظير هذا قول
ملحدكم وقد
|
|
جحد الصفات
لفاطر الاكوان
|
لو كان موصوفا
لكان مركبا
|
|
فالوصف والتركيب
متحدان
|
ذا المنجنيق
وذلك الطاغوت قد
|
|
هدما دياركم الى
الأركان
|
والله ربي قد
أعان بكسر ذا
|
|
وبقطع ذا سبحان
ذي الاحسان
|
فلئن زعمتم أن
هذا لازم
|
|
لمقالكم حقا
لزوم بيان
|
فلنا جوابات
ثلاث كلها
|
|
معلومة الايضاح
والتبيان
|
منع اللزوم وما
بأيديكم سوى
|
|
دعوة مجردة عن
البرهان
|
لا يرتضيها عالم
أو عاقل
|
|
بل تلك حيلة
مفلس فتان
|
الشرح
: فكم تطلقون من هذه
الجعاجع التي لا محصول لها ، بل ليس وراءها الا أصداء تتردد كما تصفر البوم في
الخربات. ومثل تشبثكم بطاغوت الجسم قول اخوانكم الملاحدة من المتفلسفة الذين جحدوا
صفات الرب كما جحدتموها ، لو كان موصوفا لكان مركبا ، فان الوصف والتركيب متحدان
مفهوما ، فهذا المنجنيق الذي نصبوه وسموه التركيب ، وذلك الطاغوت الذي وضعتموه
وسميتموه التجسيم قد اقتلعا دياركم من أساسها حتى صارت خاوية على عروشها ، والله
ربنا سبحانه قد أعاننا على كسر منجنيقكم وقطع طاغوتكم بمنه وكرمه.
فنقول لكم : ان
زعمتم أن الجسم أو التجسيم لازم للقول بالعلو والفوقية لزوما بينا ، وهو ما يسميه المناطقة
باللازم الذهني ، وهو الذي يكفي فيه تصور الملزوم للجزم باللزوم ، قلنا على دعواكم
هذه ثلاثة أجوبة ، كلها في غاية الوضوح والبيان :
أولها : أن نمنع
هذا اللزوم الذي لا دليل لكم عليه ، وانما هو مجرد دعوى لا يقبل عاقل أن يتمسك بها
، ولكنها بضاعة المفلس الذي يريد أن يموه بها ليفتن بها الناس عن الحق الواضح
الصريح.
* * *
فلئن زعمتم أن
منع لزومه
|
|
منكم مكابرة على
البطلان
|
فجوابنا الثاني
امتناع النفى في
|
|
ما تدعون لزومه
ببيان
|
أن كان ذلك
لازما للنص والمل
|
|
زوم حق وهو ذو
برهان
|
والحق لازمه فحق
مثله
|
|
أنى يكون الشيء
ذا بطلان
|
ويكون ملزوما به
حقا فذا
|
|
عين المحال وليس
في الامكان
|
فتعين الالزام
حينئذ على
|
|
قول الرسول
ومحكم القرآن
|
وجعلتم أتباعه
ما نسترا
|
|
خوفا من التصريح
بالكفران
|
والله ما قلنا
سوى ما قاله
|
|
هذي مقالتنا بلا
كتمان
|
فجعلتموها جنة
والقصد مفه
|
|
وم فنحن وقاية
القرآن
|
الشرح
: يعني أن زعمتم أن
منع لزوم الجسمية لاثبات الصفات مكابرة على المحال ، لأن التلازم واضح بين ثبوتها
الشيء وبين كونه جسما اذ لا نرى متصفا بها الا ما هو جسم ، فجوابنا الثاني اننا
نسلم هذه الملازمة ونمنع بطلان اللازم ، وهو كونه تعالى جسم ما دام ذلك لازما للنص
، وما دام ملزومه وهو النص حق ثابت بالبراهين الصحيحة من العقل والنقل ، فان لازم
الحق لا بد أن يكون حقا مثله ، اذ من المعروف في المنطق أنه كلما ثبت الملزوم ثبت
اللازم ، فكيف يكون الشيء وهو اللازم باطل مع كون ملزومه حقا ، هذا غير ممكن ، بل
هو عين المحال. فالالزام الذي أردتموه على الاثبات ، وهو أنه يقتضي كون الموصوف
بها جسما متوجه على كلام الله ورسوله ، فانه صريح في الاثبات ، ولكنكم بدلا من
توجيهكم هذا الالزام الى النصوص ذاتها توجهتم به إلينا جبنا منكم وخشية ان تصرحوا
بما تضمرون من الكفر ، ونحن ما قلنا الا بما نطقت به النصوص ، وهذه
مقالتنا بين
أيديكم ، ليس فيها الا اثبات ما أثبته الله ورسوله ، فجعلتم هذه المقالة جنة
ووقاية لكم من الطعن في النصوص نفسها ، ولكن قصدكم واضح ومفهوم لكل أحد ، وهو أن
تجعلوا من مقالتنا وقاية تتقون بها الطعن في نفس القرآن ، ولكل أحد ، وهو أن
تجعلوا من مقالتنا وقاية تتقون بها الطعن في نفس القرآن ، ولكن حيلتكم هذه لا تجوز
على انسان.
* * *
هذا وثالث ما
نجيب به هو استفس
|
|
اركم يا فرقة
العرفان
|
ما ذا الذي
تعنون بالجسم الذي
|
|
ألزمتمونا
أوضحوا ببيان
|
تعنون ما هو
قائم بالنفس أو
|
|
عال على العرش
العظيم الشأن
|
أو ذا الذي قامت
به الأوصاف أو
|
|
صاف الكمال
عديمة النقصان
|
أو ما تركب من
جواهر فردة
|
|
أو صورة حلت
هيولى ثان
|
أو ما هو الجسم
الذي في العرف أو
|
|
في الوضع عند
تخاطب بلسان
|
أو ما هو الجسم
الذي في الذهن ذا
|
|
ك يقال تعليم
لذي الأذهان
|
ما ذا الذي في
ذاك يلزم من ثبو
|
|
ت علوه من فوق
كل مكان
|
فأتوا بتعيين
الذي هو لازم
|
|
فاذا تعين ظاهر
التبيان
|
فأتوا ببرهانين
برهان اللزو
|
|
م ونفى لازمه
فذان اثنان
|
والله لو نشرت
لكم أشياخكم
|
|
عجزوا ولو
واطاهم الثقلان
|
الشرح
: وأما جوابنا
الثالث على الزامكم فهو أن نسألكم عما تعنون بالجسم اللازم على اثبات الصفات لكي
توضحوه لنا ، فهل تعنون به الشيء الذي هو قائم بنفسه بحيث لا يكون مفتقرا الى محل
يقوم به ، ولا يكون تحيزه تابعا لتحيز غيره أو تعنون به ما يصح أن يكون فوق العرش
عاليا عليه ، أو ما يصح أن تقوم به صفات الكمال التي لا نقص فيها بوجه من الوجوه ،
فان عنيتم بالجسم الذي يلزم على اثبات الصفات واحدا من هذه الثلاثة فمسلم ومعناه
صحيح في حق الله تعالى ، اذ هو قائم بنفسه عال على عرشه ، موصوف بصفات الكمال التي
لا كمال وراءها ولكننا نمنع من اطلاق لفظ الجسم لعدم ورود النص به.
أم تعنون بالجسم
ما تركب من جواهر فردة ، كما هو اصطلاح المتكلمين من المعتزلة والأشاعرة. أم تعنون
به ما تركب من هيولى هي محل وصورة حالة فيها على ما هو اصطلاح الفلاسفة. أم تعنون
به الجسم الذي يطلقه أهل العرف أم تعنون به الجسم في اللغة الذي هو الجسد والبدن.
أم تعنون به الجسم الكلي الموجود في الأذهان والذي يقال له الجسم التعليمي.
فأي معنى من هذه
المعاني التي يستعمل فيها لفظ الجسم هو الذي يلزم من إثبات علوه تعالى فوق عرشه؟
لا بد أن تعينوه لنا ، فإذا عينتموه ببيان صحيح لا لبس فيه ، فعليكم بعد هذا أن
تأتوا ببرهانين اثنين : أحدهما برهان على لزوم هذا المعنى لثبوت علوه سبحانه على
عرشه والثاني برهان على نفي اللازم ، فذانك برهانان لا يد لكم بهما حتى ولو بعث
شيوخكم من قبورهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا ، ولو كان الإنس والجن لهم ظهيرا.
* * *
إن كنتم أنتم
فحولا فابرزوا
|
|
ودعوا الشكاوى
حيلة النسوان
|
وإذا اشتكيتم
فاجعلوا الشكوى إل
|
|
ى الوحيين لا
القاضي ولا السلطان
|
فنجيب بالتركيب
حينئذ جوابا
|
|
شافيا فيه هدى
الحيران
|
الحق إثبات
الصفات ونفيها
|
|
عين المحال وليس
في الإمكان
|
فالجسم إما لازم
لثبوتها
|
|
فهو الصواب وليس
ذا بطلان
|
أو ليس يلزم من
ثبوت صفاته
|
|
فشناعة الإلزام
بالبهتان
|
فالمنع في إحدى
المقدمتين مع
|
|
لوم البيان إذا
بلا نكران
|
المنع إما في
اللزوم أو انتقا
|
|
ء اللازم
المنسوب للبطلان
|
هذا هو الطاغوت
قد أضحى كما
|
|
أبصرتموه بمنة
الرحمن
|
الشرح
: وإن كنتم كما
تدعون فحولا في العلم والمعرفة وجهابذة في التحقيق فأبرزوا للمناجزة ، وحاولوا
النقض لهذه الجوابات التي أجبنا بها على إلزامكم ، واتركوا البكاء والشكاية فإنها
لا تليق إلا بالنساء الضعيفات ، وإذا كان لا بد
من شكوى فاجعلوا
شكواكم إلى الوحيين من الكتاب والسنة ، فإنهما اللذان أمرتم أن تردوا ما تنازعتم
فيه إليهما في قوله تعالى : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ
فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ
بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [النساء : ٥٩] ولا
تجعلوا شكواكم إلى من لا نصفة عنده من قاض أو سلطان تستعدونه وتغرونه بأهل الحق
والإيمان.
ونحن نجيبكم حينئذ
بمعارضة لدليلكم جوابا فيه الشفاء والهدى لعقولكم الضالة الحائرة.
فنقول لكم : إن
إثبات الصفات حق لا ريب فيه ، كما تقتضي ذلك البراهين المكاثرة من العقل والنقل
والفطرة ، وحينئذ فالجسم إن كان لازما لثبوتها فهو حق وصواب ونمنع بطلانه وننازعكم
في هذا البطلان ، وإن لم يكن لازما على ثبوت الصفات منعنا الملازمة ، ويكون
تشنيعكم علينا بهذا الإلزام بهتا ومكابرة. والحل أن منعنا لإحدى المقدمتين من
دليلكم أمر بين لا خفاء فيه ، فنحن إما أن نمنع اللزوم ونقول أنه لا يلزم الجسم
على ثبوت الصفات ، وإما أن نمنع بطلان اللازم الذي هو الجسم الذي زعمتم بطلانه.
فهذا دليلكم
المتهافت الذي نصبتموه طاغوتا نفيتم من أجله صفات الرحمن انظروا إلى ما صار إليه
من ذلة وهوان.
* * *
فصل
في مبدأ العداوة الواقعة بين المثبتين الموحدين
وبين النفاة المعطلين
يا قوم تدرون
العداوة بيننا
|
|
من أجل ما ذا في
قديم زمان
|
انا تحيزنا إلى
القرآن والن
|
|
قل الصحيح مفسر
القرآن
|
وكذا إلى العقل
الصريح وفطرة الر
|
|
حمن قبل تغير
الإنسان
|
هي أربع
متلازمات بعضها
|
|
قد صدقت بعضا
على ميزان
|
والله ما اجتمعت
لديكم هذه
|
|
أبدا كما أقررتم
بلسان
|
إذ قلتم العقل
الصحيح يعارض ال
|
|
منقول من أثر
ومن قرآن
|
فتقدم المعقول
ثم نصرف ال
|
|
منقول بالتأويل
ذي الألوان
|
فإذا عجزنا عنه
ألقيناه لم
|
|
نعبأ به قصدا
إلى الإحسان
|
الشرح
: يخاطب المؤلف في
هذه الأبيات أهل النفي والتعطيل وأرباب الجحد والتأويل مبينا لهم سبب العداوة
بينهم وبين أهل الإثبات منذ الزمان الأول فيقول أنه لا سبب لذلك إلا أننا أخذنا
عقيدتنا في إثبات الصفات من مصادرها الأصلية التي لا يعول في هذا الباب إلا عليها
فأخذناها من القرآن العظيم الذي هو أساس كل علم ومعرفة ، ثم من السنن الصحيحة
المبينة للكتاب ، ثم من العقل الصريح الخالص من شوائب الهوى والتقليد ، ثم من
الفطرة الأولى التي فطر الله الناس عليها قبل أن تتغير بالتبعية والتلقين وهي التي
عناها الرسول صلىاللهعليهوسلم بقوله : «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو
ينصرانه أو يمجسانه».
فهذه المصادر
الأربعة متلازمة في الوجود متضافرة على الإثبات يصدق بعضها بعضا على سواء ، ولكنكم
لم تعولوا في هذا الباب إلا على أوهام فاسدة وتخيلات كاذبة ، فلم تجتمع لكم أبدا
هذه الأمور كما اجتمعت لنا وأنتم تقرون على أنفسكم بذلك حيث تزعمون أن العقل
الصحيح قد يعارض النقل من كتاب ومن سنة ، ومن ثم تقدمون المعقول لأنه في زعمكم
قطعى يفيد اليقين ، ثم تتصرفون في المنقول بالتأويلات المتعددة على ما فيها من بعد
وتكلف سمج ، فإذا عجزتم عن التأويل أنكرتم النصوص وطرحتموها جانبا قصدا منكم إلى
الإحسان وما هو إلا النفاق والنكران.
* * *
ولكم بذا سلف
لهم تابعتم
|
|
لما دعوا للأخذ
بالقرآن
|
صدوا فلما أن
أصيبوا أقسموا
|
|
لمرادنا توفيق
ذي الإحسان
|
ولقد أصيبوا في
قلوبهم وفي
|
|
تلك العقول
بغاية النقصان
|
فأتوا بأقوال
إذا حصلتها
|
|
أسمعت ضحكة هازل
مجان
|
هذا جزاء
المعرضين عن الهدى
|
|
متعوضين زخارف الهذيان
|
الشرح
: يعني أن لكم في
هذا الادعاء الكاذب وهو قصد التوفيق والإحسان بتأويل النصوص سلفا من المنافقين ،
جريتم في ذلك على نهجهم ، فقد دعوا إلى التحاكم إلى ما أنزل الله ، وإلى الرسول
فأبدوا الأعراض والصدود فلما أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم جاءوا إلى الرسول صلىاللهعليهوسلم يقسمون له ما أردنا بالتحاكم إلى غيرك إلا الإحسان
والتوفيق.
والمصنف يشير بذلك
إلى قوله تعالى في شأن هؤلاء المنافقين (أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ
مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا
أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ
رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً* فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ
مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ
أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً* أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما
فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ
قَوْلاً بَلِيغاً) [النساء : ٦٠ ، ٦٣].
ولقد أصيب هؤلاء
الحمقى المتهوكون بعمى في قلوبهم وفساد في عقولهم جزاء إعراضهم عما جاءهم به نبيهم
من الهدى ، واستعاضتهم عنه بأقوال مزخرفة مموهة ، كلها سفسطة وهذيان ، لا يملك من
يطلع عليها إلا أن يضحك ملء شدقيه كما يضحك الهازل المجان.
* * *
__________________
واضرب لهم مثلا
بشيخ القوم إذ
|
|
يأبى السجود
بكبر ذي طغيان
|
ثم ارتضى أن صار
قوادا لأر
|
|
باب الفسوق وكل
ذي عصيان
|
وكذاك أهل الشرك
قالوا كيف ذا
|
|
بشر أتى بالوحي
والقرآن
|
ثم ارتضوا أن
يجعلوا معبودهم
|
|
من هذه الأحجار
والأوثان
|
وكذاك عباد
الصليب حموا بتا
|
|
ركهم من النسوان
والولدان
|
وأتوا إلى رب
السموات العلى
|
|
جعلوا له ولدا
من الذكران
|
وكذلك الجهمي
نزه ربه
|
|
عن عرشه من فوق
ذي الأكوان
|
حذرا من الحصر
الذي في ظنه
|
|
أو أن يرى
متحيزا بمكان
|
فأصاره عدما
وليس وجوده
|
|
متحققا في خارج
الأذهان
|
الشرح
: بعد أن ضرب لهم
مثلا بالمنافقين في إعراضهم عن حكم الله ورسوله إلى حكم طواغيتهم ، ضرب لهم مثلا
كذلك بإبليس رأس الضلال والشر حيث امتنع عما أمره الله به من السجود لآدم عليهالسلام كبرا منه ومجاوزة للحد ثم ارتضى بعد أن رجمه الله ولعنه ان
يصير قوادا لأهل الفسوق والعصيان يزين لهم الفواحش ويغريهم بالإثم والعدوان.
وكذلك المشركون
عبدة الأوثان أنكروا أن يكون الرسول الذي يأتي بالوحي والقرآن بشرا من بني الإنسان
، وقالوا ما حكاه الله عزوجل عنهم (أَبَعَثَ اللهُ
بَشَراً رَسُولاً) [الإسراء : ٩٤] ثم ارتضوا بعد ذلك ان يكون معبودهم من
الأحجار والأوثان.
وكذلك النصارى
عباد الصليب لم يرضوا لبطارقتهم وقسيسيهم ان يكون لهم زوجات وأولاد ، ورأوا ذلك
عيبا في حقهم ، ثم يعمدون إلى ربهم الأعلى ، رب السموات والأرض وما بينهما وما تحت
الثرى ، فينسبون إليه الولد ، ويقولون أن عيسى ابن الله ، قولا بأفواههم يضاهئون
به قول الذين كفروا من قبلهم ، قاتلهم الله أنى يؤفكون.
فانظر كيف أنهم لم
يجعلوا ربهم حتى مساويا لرؤسائهم من القسيسين والرهبان فينزهوه عما نزهوهم عنه من
النسوان والولدان ، ومثل هؤلاء جميعا ذلك الجهمي الذي ينزه ربه عن أن يكون فوق
عرشه ، خوفا من وصفه بالحد والنهاية في زعمه أو أن يكون في حيز ومكان ، ثم رضي أن
يصفه بصفات المعدوم الذي لا وجود له إلا في الأذهان.
* * *
لكنما قدماؤهم
قالوا بأ
|
|
نّ الذات قد
وجدت بكل مكان
|
جعلوه في الآبار
والأنجاس وال
|
|
حانات والخربات
والقيعان
|
والقصد أنكم
تحيزتم إلى الآ
|
|
راء وهي كثيرة
الهذيان
|
فتلونت بكم
فجئتم أنتم
|
|
متلونين عجائب
الأكوان
|
وعرضتم قول
الرسول على الذي
|
|
قد قاله الأشياخ
عرض وزان
|
وجعلتم أقوالهم
ميزان ما
|
|
قد قاله والقول
في الميزان
|
ووردتم سفل
المياه ولم نكن
|
|
نرضى بذاك الورد
للظمآن
|
وأخذتم أنتم
بنيات الطريق ونح
|
|
ن سرنا في
الطريق الأعظم السلطاني
|
وجعلتم ترس
الكلام مجنكم
|
|
تبا لذاك الترس
عند طعان
|
الشرح
: ولكن قدماء هؤلاء
المعطلة كانوا يقولون بحلول الذات في جميع الأمكنة ، فحكموا على ربهم بالوجود في
الأماكن القذرة من الآبار ومواضع النجاسات وحانات الخمور وخرائب الدور وقيعان
الأرض ، وهي الأراضي المستوية السبخة التي لا تصلح للإنبات.
والقصد أن هؤلاء
المعطلة بدلا من أن يتحيزوا إلى القرآن والسنة الصحيحة وحكم العقل الصريح والفطرة
السليمة ، تحيزوا إلى آراء فلان وفلان على كثرة ما فيها من خلط وهذيان ، فتلونت
بهم هذه الآراء حيث ألبسوها أثوابا من جدلهم وسفسطاتهم ، ثم تلونوا هم بها حتى
ظهروا في ألوان مزرية عجيبة ، ثم هم مع تحيزهم لهذه الآراء يقدمونها على قول
المعصوم صلىاللهعليهوسلم ، فيعرضون ما قاله هو على
ما قالته شيوخهم
للموازنة بينهما ، ثم يجعلون أقوالهم هي الميزان لما قاله مع العول ، أي النقص في
هذا الميزان.
وقد رضي هؤلاء
المعطلة لأنفسهم أن يردوا هذه المياه الآجنة وأن يعبوا منها وينهلوا ، مع أنها لا
تصلح وردا لذي الصدى الظمآن. ولكننا نحن نرد أعالي المياه فنشرب صفوا خاليا من
الكدر والقذى ، وهم يسيرون في الطرق الصغيرة الضيقة ويتركون الجادة الواسعة ،
ولكننا نحن نمشي على صراط مستقيم ، وهم يتترسون عند المخاصمة بقواعد الكلام ،
ويجعلون منها مجنة يحتمون بها من وقع السهام ، فتبا لهذا الترس الذي لا يقي صاحبه
عند الطعان.
* * *
ورميتم أهل
الحديث بأسهم
|
|
عن قوس موتور
الفؤاد جبان
|
فتترسوا بالوحي
والسنن التي
|
|
تتلوه نعم الترس
للشجعان
|
هو ترسهم والله
من عدوانكم
|
|
والترس يوم
البعث من نيران
|
أفتاركوه لقشركم
ومحالكم
|
|
لا كان ذاك بمنة
الرحمن
|
ودعوتمونا للذي
قلتم به
|
|
قلنا معاذ الله
من خذلان
|
فاشتد ذاك الحرب
بين فريقنا
|
|
وفريقكم وتفاقم
الأمران
|
وتأصلت تلك
العداوة بيننا
|
|
من يوم أمر الله
للشيطان
|
بسجوده فعصى
وعارض أمره
|
|
بقياسه وبعقله
الخوان
|
فأتى التلاميذ
الوقاح فعارضوا
|
|
أخباره بالفشر
والهذيان
|
ومعارض للأمر
مثل معارض الأ
|
|
خبار هم في
كفرهم صنوان
|
الشرح
: يعني أنكم حين
رميتم أهل الحديث بسهام كلامكم المفلولة بدافع من حقدكم الأسود في جبن ونذالة
تترسوا منكم بالوحي ، أي القرآن ، وبالسنن التي تتلوه ، أي تتبعه ، وهما نعم الترس
للشجعان. فهذا هو ترسهم في الدنيا من سهام كيدكم وعدوانكم ، وهو ترسهم في الآخرة
من عذاب النيران ، أفتظنون أنهم يتركون ذلك من أجل ما تشغبون به من فشر وهذيان ،
أن ذلك لا يكون
أبدا بفضل الرحمن
، وحين دعوتمونا لأن ندخل فيما دخلتم فيه من مضايق الشيطان ونقول بالذي قلتموه من
زور وبهتان ، قلنا نعوذ بالله ونعتصم به من الخذلان. فاشتدت من أجل ذلك بيننا
وبينكم الحرب العوان ، وكانت العداوة قد تأصلت بيننا من قديم الزمان ، حين أمر
الله شيخكم وأستاذكم الشيطان بالسجود لآدم ، فأظهر العصيان ، وعارض أمر الله
الواحد الديان ، بقياسه الفاسد وعقله الخوان حيث قال : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ
نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) [الأعراف : ١٢].
فجئتم أنتم أيها
التلاميذ الوقحاء بعد أستاذكم أمام أهل الخيبة والشقاء فعارضتم أخبار ربكم بالفشر
والهراء ، كما عارض هو أمره بالاستكبار والإباء. ومعارض الأخبار النازلة من عند رب
السماء هو في الجرم كمعارض أمره من طين.
* * *
من عارض المنصوص
بالمعقول قد
|
|
ما أخبرونا يا
أولي العرفان
|
أو ما عرفتم أنه
القدري وال
|
|
جبري أيضا ذاك
في القرآن
|
إذ قال قد
أغويتني وفتنتني
|
|
لأزينن لهم مدى
الأزمان
|
فاحتج بالمقدور
ثم أبان أن ال
|
|
فعل منه بغية
وزيان
|
فانظر إلى
ميراثهم ذا الشي
|
|
خ بالتعصيب
والميراث بالسهمان
|
فسألتكم بالله
من وراثه؟
|
|
منا ومنكم بعد
ذا التبيان
|
هذا الذي ألقى
العداوة بيننا
|
|
إذ ذاك واتصلت
إلى ذا الآن
|
أصلتم أصلا وأصل
خصمكم
|
|
أصلا فحين تقابل
الأصلان
|
ظهر التباين
فانتشت ما بيننا ال
|
|
حرب العوان وصيح
بالأقران
|
المفردات : قدما :
قديما ـ القدري : من لا يؤمن بالقدر السابق. الجبري : نسبة إلى الجبر ، وهو من
يقول أن العبد مجبور على فعله. الغية : واحدة الغي وهو ضد الرشد. الزيان: ما يتزين
به الميراث ، بالتعصيب : أن يكون الوارث عصبة للمورث كالأب والأخ والعم. أصل الشيء
: وضع أصوله وقواعده.
الشرح
: يقول المؤلف
لهؤلاء الغاوين الذين اتخذوا من إبليس اللعين قدوة لهم في الضلال والغي. من ذا
الذي كان أول من استعمل القياس وعارض الأمر المنصوص بالرأي المعقول؟ أخبرونا به إن
كنتم كما تدعون من أولي المعرفة والتحقيق. أو لم تعرفوا أنه إبليس رأس الشر. ذلك
القدري الجبري الذي جمع بين الضدين ، كما حكى ذلك عنه القرآن العظيم حيث قال : (رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي
لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) [الحجر : ٣٩]
فاحتج بالمقدور حين قال : (بِما أَغْوَيْتَنِي) فكان جبريا ، ثم أظهر أن أفعال العباد تقع بإغوائه وتزيينه
هو فكان قدريا.
فانظر كيف ورث القدرية
والمجبرة وغيرهم من فرق الضلال ميراث أستاذهم الأول بطريق التعصيب بحيث أصبح
مقسوما بينهم على أسهمهم ونحن نستحلفهم بالله أن يخبرونا من أحق منا ومنهم بميراث
هذا الشيطان الرجيم؟ بعد ما وضحنا لهم القول بأنه هو الذي أسس لهم كل باطل من
الرأي ذميم. وهو الذي ألقى العداوة بين الفريقين من أوليائه وأعدائه فاستمرت
مستعرة حتى الآن ، ولا تزال كذلك ما دام في الأرض حق وباطل حتى يرث الله الأرض ومن
عليها وهو خير الوارثين وذلك لأن أهل الباطل قد أصلوا لأنفسهم أصولا وأصل خصومهم
من أهل الحق أصولا ، ولن يتلاقى الأصلان أبدا بل بينهما من التباين ما بين الليل
والنهار ولهذا قامت الحرب بيننا ، واشتد أوارها وتنادى الأقران من كل مكان ،
وطلبوا المبارزة والطعان.
* * *
أصلتم آرا
الرجال وخرصها
|
|
من غير برهان
ولا سلطان
|
هذا وكم رأى لهم
فبرأي من
|
|
نزن النصوص
فأوضحوا ببيان
|
كل له رأي
ومعقول له
|
|
يدعو ويمنع أخذ
رأي فلان
|
والخصم أصل محكم
القرآن مع
|
|
قول الرسول
وفطرة الرحمن
|
وبنى عليه
فاعتلى بنيانه
|
|
نحو السما أعظم
بذا البنيان
|
وعلى شفا جرف
بنيتم أنتم
|
|
فأتت سيول الوحي
والإيمان
|
قلعت أساس
بنائكم فتهدمت
|
|
تلك السقوف وخر
للأركان
|
الله أكبر لو
رأيتم ذلك البني
|
|
ان حين علا كمثل
دخان
|
تسمو إليه نواظر
من تحته
|
|
وهو الوضيع ولو
يرى بعيان
|
فاصبر له وهنا
ورد الطرف تلق
|
|
اه قريبا في
الحضيض الداني
|
المفردات : الخرص
: التخمين والكذب. سلطان : حجة. شفا جرف : الشفا الحرف والشفير والجرف : البئر
التي لم تطو أو الهواة والمعنى على طرف حفرة. خر : سقط ووقع. وهنا : قليلا.
الشرح
: أما أصلكم الذي
أصلتم فهو تقليد الرجال والأخذ بآرائهم المبنية على التخرص والتخمين بلا حجة ولا
دليل. وهذه الآراء كذلك كثيرة ومتضاربة يناقض بعضها بعضا فكل من أصحاب المذاهب
والمقالات له رأي يدعو إليه ويمنع من الأخذ برأي غيره ، فقولوا لنا برأي من من
هؤلاء نزن نصوص الكتاب والسنة مع تضاربها وتناقضها؟
يقول شيخ الإسلام
ابن تيمية في الفتوى الحموية في هذا الصدد :
(ثم المخالفون
للكتاب والسنة وسلف الأمة من المتأولين لهذا الباب في أمر مريج ، فإن من ينكر
الرؤية يزعم أن العقل يحيلها ، وأنه مضطر فيها إلى التأويل ومن يحيل أن لله علما
وقدرة وأن يكون كلامه غير مخلوق ونحو ذلك يقول أن العقل أحال ذلك فاضطر إلى
التأويل ، بل من ينكر حقيقة حشر الأجساد والأكل والشرب الحقيقي في الجنة يزعم أن
العقل أحال ذلك وأنه مضطر إلى التأويل. ومن يزعم أن الله ليس فوق العرش ، يزعم أن
العقل أحال ذلك ، وأنه مضطر إلى التأويل.
ويكفيك دليلا على
فساد قول هؤلاء أنه ليس لواحد منهم قاعدة مستمرة فيما يحيله العقل بل منهم من يزعم
أن العقل جوز أو أوجب ما يدّعي الآخر أن العقل إحالة. يا ليت شعري بأي عقل يوزن
الكتاب والسنة؟) أه.
وأما خصومكم من
أهل الحق فقد اتخذوا أصلا لهم محكم القرآن وسنة الرسول وفطرة الرحمن وهي أقوى
الأصول وأثبتها ، ولهذا حين بنوا عليها شمخ بناؤهم وبلغ أجواز السماء ، فما أعظمه
من بناء ، وأما أنتم فحين بنيتم على أصلكم الواهي المنهار بنيتم على شفا جرف هار ،
فما لبثت سيول الحق أن جرفته أمامها واقتلعته من أساسه فخر سقفه وتداعت أركانه.
وهكذا الباطل دائما مهما علا وارتفع لا ثبات له ولا قرار فهو أشبه شيء بالدخان
يراه الناظر متصعدا في السماء حتى يغيب في ارتفاعه عن العيون مع أنه أوضع شيء
وأسفله لو كانوا يعلمون. وإن شئت أن تعرف ذلك فاصبر له قليلا من الزمان ، ثم رد
البصر إليه تلقه قد نزل إلى أسفل مكان ، وما أحسن قول الله عزوجل في وصف الحق والباطل : (أَنْزَلَ مِنَ
السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً
رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ
مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا
الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي
الْأَرْضِ) [الرعد : ١٧].
* * *
فصل
في بيان أن التعطيل أساس الزندقة والكفران
والاثبات أساس العلم والإيمان
من قال أن الله
ليس بفاعل
|
|
فعلا يقوم به
قيام معان
|
كلا وليس الأمر
أيضا قائما
|
|
بالرب بل من
جملة الأكوان
|
كلا وليس الله
فوق عباده
|
|
بل عرشه خلو من
الرحمن
|
فثلاثة والله لا
تبقى من الا
|
|
يمان حبة خردل
بوزان
|
وقد استراح معطل
هذه الثلا
|
|
ث من الاله
وجملة القرآن
|
ومن الرسول
ودينه وشريعة الإ
|
|
سلام بل من جملة
الأديان
|
وتمام ذاك جحوده
لصفاته
|
|
والذات دون
الوصف ذو بطلان
|
وتمام ذا
الإيمان إقرار الفتى
|
|
بالله فاطر هذه
الأكوان
|
فإذا أقرّ به
وعطل كل مف
|
|
روض ولم يتوق من
عصان
|
لم ينقص الايمان
حبة خردل
|
|
انى وليس بقابل
النقصان
|
الشرح
: يعني أن من أنكر
أن يكون الله عزوجل فاعلا بفعل هو وصف له قائم بذاته قيام المعنى بالموصوف.
وأنكر أن يكون لله أمر هو آمر به بل جعل أمره من جملة الأشياء المخلوقة. وأنكر
كذلك أن يكون الله فوق عرشه بذاته بل عطل عرشه منه ، فما ذا بقى له بعد إنكاره
لهذه الثلاثة من الإيمان؟ أنه لم يبق من إيمانه ما يزن حبة خردل ، وقد استراح بهذا
التعطيل والإنكار. من الله وكتابه ورسوله ودينه ومن شرائع الإسلام كلها بل من
الأديان جملة. وأصبح زنديقا متجردا من جميع الأديان ، ومن تمام ذلك التعطيل
والإنكار جحدهم لصفات الرب جل شأنه ، فإنه لا يعقل وجود ذات في الخارج مجردة عن
الصفات ، فتعطيل الصفات هو كتعطيل الذات.
ومن تمام ذلك أيضا
اعتقاد الجهمية بأن الإيمان هو مجرد الإقرار بالله خالق الأكوان فمتى أقر به فقد
كمل إيمانه مهما عطل من فرائض ومهما ارتكب من عصيان ، فإن هذا الإيمان عندهم ليس
بقابل للنقصان ، وقد تقدم الكلام عن هذا المذهب في أول الكتاب.
* * *
وتمام هذا قوله
أن النب
|
|
وة ليس وصفا قام
بالإنسان
|
لكن تعلق ذلك
المعنى القدي
|
|
م بواحد من جملة
الإنسان
|
هذا وما ذاك
التعلق ثابتا
|
|
في خارج بل ذاك
في الأذهان
|
فتعلق الأقوال
لا يعطى الذي
|
|
وقفت عليه الكون
في الأعيان
|
هذا إذا ما حصل
المعنى الذي
|
|
قلتم هو النفسي
في البرهان
|
لكن جمهور
الطوائف لم يروا
|
|
ذا ممكنا بل ذاك
ذو بطلان
|
ما قال هذا
غيركم من سائر الن
|
|
ظار في الآفاق
والأزمان
|
تسعيون وجها
بينت بطلانه
|
|
لو لا القريض
لسقتها بوزان
|
الشرح
: هذه الأبيات فيها
إلزام للأشاعرة والكلابية القائلين بالكلام النفسي بأنهم ينفون وصف النبوة وينكرون
قيامه بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وذلك لأن معنى لفظ النبي عندهم قديم قائم
بذاته تعالى كغيره من المعاني النفسية التي هي كلامه ، فمعنى النبوة عندهم إذا هو
تعلق ذلك المعنى القديم بواحد من الناس فيصير بذلك نبيا ، ومعلوم أن هذه التعلقات
أمور عدمية لا وجود لها في الخارج ، بل إنما يفرض وجودها في الأذهان ، فتعلق
الأقوال بشيء إذا لا يعطى ما تعلقت به الوجود في الأعيان ما دام هذا التعليق عدميا
، وبذلك لا يكون تعلق لفظ النبي بواحد من الناس بمكسب له صفة النبوة ، هذا إذا ما
صح القول بالكلام النفسي وقام البرهان على ثبوته ، مع أن جمهور الطوائف من
المتكلمين والفلاسفة ينكره ويراه محالا فلم يقل به أحد من النظار غيركم في سائر
الجهات وفي جميع الأزمان.
وقد ألف شيخ
الإسلام ابن تيمية رحمهالله رسالة في إبطال الكلام النفسي بلغ بها نحوا من ثمانين وجها
وقد أوصلها تلميذه ابن القيم رحمهالله إلى تسعين وجها ، ثم قال لو لا صعوبة إيرادها في الشعر
لسقتها موزونة مقفاة.
* * *
يا قوم أين الرب؟
أين كلامه؟
|
|
أين الرسول
فأوضحوا ببيان
|
ما فوق عرش الرب
من هو قائل
|
|
طه ولا حرفا من
القرآن
|
ولقد شهدتم أن
هذا قولكم
|
|
والله يشهد مع
أولى الإيمان
|
وا رحمتاه لكم
غبنتم حظكم
|
|
من كل معرفة ومن
ايمان
|
ونسبتم للكفر
أولى منكم
|
|
بالله والايمان
والقرآن
|
هذى بضاعتكم فمن
يستامها
|
|
فقد ارتضى
بالجهل والخسران
|
وتمام هذا قولكم
في مبدأ
|
|
ومعادنا أعني
المعاد الثاني
|
وتمام هذا قولكم
بفناء دا
|
|
ر الخلد
فالداران فانيتان
|
يا قومنا بلغ
الوجود بأسره الد
|
|
نيا مع الأخرى
مع الإيمان
|
والخلق والأمر
المنزل والجزا
|
|
ومنازل الجنات
والنيران
|
الشرح
: فقولوا لنا أين
الرب إذا كنتم تنكرون وجوده فوق عرشه وتجحدون قيام كل صفة به ، وأين كلامه إذا
كنتم لا تؤمنون بأن هذا القرآن هو كلامه وأنه قائم به قيام المعنى بموضوعه ، وأين
الرسول إذا إن كنتم لا تقرون بقيام معنى الرسالة به ، وتردون الأمر إلى التعليق
وحده. فالحق إنكم لا تؤمنون بأن فوق العرش ربا قال أو يقول أو هو قائل متكلم بطه
أو بغيرها من القرآن ، وأنتم تشهدون على أنفسكم بذلك ، والله يشهد عليكم بذلك أيضا
، والمؤمنون يشهدون. وا حسرتاه عليكم قد أضعتم نصيبكم من كل معرفة وإيمان حين قلتم
هذا الزور والبهتان.
ومن العجيب أنكم
تنسبون إلى الكفر من هو أولى وأحق منكم بالله والإيمان والقرآن ، فهذه بضاعتكم
الفاسدة تنادي على نفسها بالبوار ، فمن يطلبها ويسومها فقد رضي لنفسه بالجهل
والخسران.
ومن تمام زندقتكم
وإلحادكم قولكم في المبدأ إن هذا العالم بقي معدوما مدة لا نهاية لها من الزمان قبل
أن يخلقه الله ، فالله عندكم لم يكن فاعلا ثم فعل ، وقولكم في المعاد أن الله يعدم
هذا العالم ويفنيه بالكلية ثم يعيده عن عدم محض.
ومن تمام ذلك أيضا
قولكم بأن الجنة والنار غير باقيتين ، بل يجيء عليهما وقت يفنيان فيه هما وأهلهما
، فإنكاركم وجحودكم قد انتظم الوجود كله ، الدنيا والآخرة والإيمان ، والخلق
والأمر المنزل ، والثواب والعقاب ، ومنازل الجنات والنيران.
* * *
والناس قد ورثوه
بعد فمنهم
|
|
ذو السهم
والسهمين والسهمان
|
بئس المورث
والمورث والترا
|
|
ث ثلاثة أهل لكل
هوان
|
يا وارثين نبيهم
بشراكم
|
|
ما إرثكم مع
إرثهم سيان
|
شتان بين
الوارثين وبين مو
|
|
روثيهما وسهام
ذي سهمان
|
يا قوم ما صاح
الأئمة جهدهم
|
|
بالجهم من
أقطارها بأذان
|
إلا لما عرفوه
من أقواله
|
|
ومآلها بحقيقة
العرفان
|
قول الرسول وقول
جهم عندنا
|
|
في قلب عبد ليس
يجتمعان
|
نصحوكم والله
جهد نصيحة
|
|
ما فيهم والله
من خوان
|
فخذوا بهديهم
فربّي ضامن
|
|
ورسوله أن
تفعلوا بجنان
|
فإذا أبيتم
فالسلام على من اتب
|
|
ع الهدى وانقاد
للقرآن
|
الشرح
: يعني أن جهما
وشيعته قبحهم الله حين وضعوا أصول هذه الضلالات ورثها عنهم من بعدهم من أرباب
المذاهب والمقالات ، كالمعتزلة والفلاسفة والأشعرية ، كل على قذر نصيبه منها ،
فمنهم صاحب السهم والسهمين والسهمان الكثيرة. فبئس المورث حيث خلف من بعده شرا
كثيرا وبلاء مستطيرا ، وبئس الوارث حيث جنح بعقله إلى هذه القاذورات والأوساخ ،
واستعاض بها عن هدى الله الذي جاء به نبيه عليهالسلام وبئست التركة التي لا خير فيها لمن ورثها بل تعود عليه
بأفدح الإضرار. فهذه الثلاثة أهل لكل مهانة واحتقار. وأما أنتم أيها الوارثون لهدى
نبيهم وعلمه فأبشروا برحمة من الله ورضوان ، فما إرثكم الكريم وإرث هؤلاء الضالين
سيان ، بل شتان بينهما شتان.
نعم شتان بين
الوارثين ، فهؤلاء ورثوا هدى وإيمانا ، وأولئك ورثوا ضلالا وكفرانا ، وشتان بين
الموروثين ، فهذا ورث خيرا وعلما نافعا وهدى مبينا ، وهذا ورث شرا وجهلا وضلالا
بعيدا.
ولما ظهرت فتنة
الجهم واندلعت ألسنتها في أقطار الإسلام قام أئمة الهدى يصيحون به من كل جانب
يعرفون الناس بحقيقة أقواله وما تؤول إليه من هدم قواعد الإيمان ويبينون لهم أن
أقواله وآراءه هي وما جاء به الرسول ضدان لا يجتمعان ، فلم يألوا هذه الأمة نصحا
ولا قصروا في واجب الاعلام والبيان ، ولا
عمدوا إلى كذب أو
خيانة أو كتمان ، فالواجب أن نأخذ بهديهم وأن نسير على نهجهم ، فإن الله ورسوله
ضامنان لمن سلك سبيلهم أن يرث عالي الجنان ، فإذا امتنعتم عن اتباع سبيلهم
والاستماع لنصحهم ، فاعلموا أن السلام على من اتبع الهدى وأذعن للقرآن.
* * *
سيروا على نجب
العزائم واجعلوا
|
|
بظهورها المسرى
إلى الرحمن
|
سبق المفرد وهو
ذاكر ربه
|
|
في كل حال ليس
ذا نسيان
|
لكن أخو الغفلات
منقطع به
|
|
بين المفاوز تحت
ذي الغيلان
|
صيد السباع وكل
وحش كاسر
|
|
بئس المضيف
لأعجز الضيفان
|
وكذلك الشيطان
يصطاد الذي
|
|
لا يذكر الرحمن
كل أوان
|
والذكر أنواع
فأعلى نوعه
|
|
ذكر الصفات
لربنا المنان
|
وثبوتها أصل
لهذا الذكر والن
|
|
افي لها داع إلى
النسيان
|
فلذاك كان خليفة
الشيطان ذا
|
|
لا مرحبا بخليفة
الشيطان
|
والذاكرون على
مراتبهم فأع
|
|
لاهم أولو
الإيمان والعرفان
|
بصفاته العليا
إذا قاموا بحم
|
|
د الله في سر
وفي إعلان
|
الشرح
: يأمر المؤلف أهل
السنة والإيمان أن يمتطوا ركائب الهمم وجياد العزائم ، وأن يجعلوا مسيرهم على
صهواتها إلى الرحمن جل شأنه ولا يكونوا كأهل الغفلة الذين خبت منهم العزائم ،
فقعدوا عن السباق في مضمار الطاعات ، فقد سبق المفردون وهم الذاكرون لله على كل حال ، بحيث لا ينسونه أبدا في
لحظة من اللحظات. وأما أهل الغفلة والغرات من المتبعين للأهواء والشهوات ، فقد
انقطعت بهم حمرهم المعقرة بين المفاوز والمتاهات ، فاحتوشتهم هنالك
__________________
الغيلان والحيات ،
وصاروا فريسة للسباع الضاريات والوحوش الكاسرات. وكذلك الشيطان يصطاد بشباكه أهل
الغفلات الذين لا يذكرون الله في جميع الأوقات ، وفي الحديث الصحيح «أن العبد أحصن
ما يكون من الشيطان إذا ذكر الله تعالى» وذكر الله عزوجل أنواع ، فأعلاها ذكره سبحانه بما له من الأسماء والصفات.
وهذا الذكر لا يتأتى إلا مع الإثبات لها ، وأما من ينفيها ويجحدها فهو داع إلى
نسيانها ، ولهذا كان النافي لها خليفة الشيطان ، لأنه يدعو إلى مثل ما يدعو إليه
من الغفلة والنسيان. قال تعالى : (اسْتَحْوَذَ
عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ
أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ) [المجادلة : ١٩].
وكذلك الذاكرون
لله على مراتب ودرجات ، فأعلاهم منزلة هم أولو الإيمان والمعرفة بمعاني أسمائه
الحسنى وصفاته العليا سبحانه ، وذلك حين يقومون لله بها في السر والإعلان ، فكلما
كان العبد أتم إيمانا ومعرفة بصفات الله عزوجل كان أشد خشية له وأقرب إليه زلفى وأعظم عنده جاها ومنزلة.
* * *
وأخص أهل الذكر
بالرحمن أع
|
|
لمهم بها هم
صفوة الرحمن
|
وكذاك كان محمد
وأبوه اب
|
|
راهيم والمولود
من عمران
|
وكذاك نوح وابن
مريم عندنا
|
|
هم خير خلق الله
من إنسان
|
لمعارف حصلت لهم
بصفاته
|
|
لم يؤتها أحد من
الإنسان
|
وهم أولو العزم
الذين بسورة الأ
|
|
حزاب والشورى
أتوا ببيان
|
وكذلك القرآن
مملوء من الأ
|
|
وصاف وهي القصد
بالقرآن
|
ليصير معروفا
لنا بصفاته
|
|
ويصير مذكورا
لنا بجنان
|
ولسان أيضا مع
محبتنا له
|
|
فلأجل ذا
الاثبات في الإيمان
|
مثل الأساس من
البناء فمن يرم
|
|
هدم الأساس فكيف
بالبنيان
|
والله ما قام
البناء لدين رس
|
|
ل الله بالتعطيل
للديّان
|
ما قام إلا
بالصفات مفصلا
|
|
إثباتها تفصيل
ذي عرفان
|
فهي الأساس
لديننا ولكل دي
|
|
ن قبله من سائر
الأديان
|
الشرح
: وأكثر الذاكرين
اختصاصا بالرحمن جل شأنه وأقربهم إليه منزلة هم أعلمهم بصفاته ، فهم خيرة الله
وصفوته من عباده ، ولهذا كان أولو العزم من الرسل وهم الخليلان محمد وابراهيم ،
وموسى بن عمران الكليم ، وعيسى ونوح عليهم جميعا أزكى الصلوات وأتم التسليم هم
أفضل البشر على الإطلاق لأنهم أوتوا من العلم بصفات الله تعالى ما لم يؤته أحد
غيرهم. وهم كذلك متفاوتون فيما بينهم بأكملهم الخليلان محمد وابراهيم ، ثم موسى ،
ثم عيسى ، ثم نوح ، فهم في الفضل على هذا الترتيب ، وهم أولو العزم الذين ذكرهم
الله عزوجل في سورتي الأحزاب والشورى كما سبق بيانه.
والقرآن كذلك
مملوء من ذكر صفات الرب وأسمائه حتى لا تكاد تخلو من ذلك سورة من سوره ، بل هي
المقصود الأول من إنزال القرآن ، فإن أعظم غايات الدين أن يعرف العباد ربهم بما له
من الأسماء والصفات ، وأن يذكروه بها ذكرا يواطئ القلب فيه اللسان فيصير مذكورا
لهم بقلوبهم وألسنتهم مع شدة محبتهم وتعظيمهم له. ولأجل هذا كان إثبات الصفات
للإيمان كالأساس للبناء ، فمن يقصد هدم الأساس بنفي الصفات لم يتم له بناء وكان
فؤاده من الدين هواء.
فو الله ما قام
لله في أرضه دين بعث به رسول على أساس من الجحد والتعطيل بل ما قامت الأديان
والرسالات كلها إلا على إثبات الصفات بالتفصيل فهي الأساس لديننا ، ولكل دين قبله
من لدن أول الرسل نوح عليهالسلام.
* * *
وكذاك زندقة
العباد أساسها الت
|
|
عطيل يشهد ذا
أولو العرفان
|
والله ما في
الأرض زندقة بدت
|
|
إلا من التعطيل
والنكران
|
والله ما في
الأرض زندقة بدت
|
|
من جانب الإثبات
والقرآن
|
هذي زنادقة
العباد جميعهم
|
|
ومصنفاتهم بكل
مكان
|
ما فيهم أحد
يقول الله فو
|
|
ق العرش مستول
على الأكوان
|
ويقول إن الله
جل جلاله
|
|
متكلم بالوحي
والقرآن
|
ويقول إن الله
كلم عبده
|
|
موسى فأسمعه بذي
الآذان
|
ويقول إن النقل
غير معارض
|
|
للعقل بل أمران
متفقان
|
والنقل جاء بما
يحار العقل في
|
|
ه لا المحال
البيّن البطلان
|
فانظر إلى
الجهمي كيف أتى إلى
|
|
أس الهدى ومعاقل
الإيمان
|
بمعاول التعطيل
يقطعها فما
|
|
يبقى على
التعطيل من إيمان
|
يدري بهذا عارف
بمآخذ ال
|
|
أقوال مضطلع
بهذا الشأن
|
والله لو حدقتم
لرأيتم
|
|
هذا وأعظم منه
رأي عيان
|
لكن على تلك
العيون غشاوة
|
|
ما حيلة الكحال
في العميان
|
الشرح
: وكما أن الإثبات
للصفات هو أساس الهدى والإيمان ، فكذلك الجحد والتعطيل سبب لكل زندقة وإلحاد ،
يشهد بذلك أهل المعرفة بأديان العباد فما ظهرت في الأرض زندقة إلا من هذا الوادي ،
فهؤلاء زنادقة الأرض كلهم من فلاسفة وصوفية ، وقرامطة واتحادية وحلولية. ومصنفاتهم
التي أودعوها مذاهبهم موجودة بكل مكان تنطق عليهم بالإلحاد والتعطيل ، والصد عن
سواء السبيل ، فليس فيهم أبدا من يقول إن الله موجود فوق عرشه مستول على خلقه ولا
من يقول إن الله متكلم بالوحي والقرآن كلاما حقيقيا مسموعا بالآذان ، ولا من يقول
بما قاله القرآن إن الله كلم عبده موسى بن عمران ، ولا من يقول إن العقل والنقل لا
يتعارضان ، بل هما دائما متفقان. بل كلهم يرى أن النقل قد ورد بما يحيله العقل
ويحكم عليه بالبطلان.
فانظر يا أخا
العقل إلى ما جناه هذا الجهمي المعطل ، وكيف أتى إلى أصول الهدى وحصون الإيمان
فأعمل فيها معاول جحده وتعطيله حتى تداعت منها الأركان ولا يعرف هذا الا خبير
بأقوال العباد ومآخذها ممن هو كلف بهذا الشأن. وأنتم أيها الضالون المفتونون لو
أمعنتم النظر وصحت منكم العيون لرأيتم
أكثر مما ذكرته
لكم من أنواع الضلال والفتون ، ولكنكم عمي لا تبصرون.
* * *
فصل
في بهت أهل الشرك والتعطيل في رميهم
أهل التوحيد والاثبات بتنقيص الرسول
قالوا تنقصتم
رسول الله وا
|
|
عجبا لهذا البغي
والبهتان
|
عزلوه أن يحتج
قط بقوله
|
|
في العلم بالله
العظيم الشأن
|
عزلوا كلام الله
ثم رسوله
|
|
عن ذاك عزلا ليس
ذا كتمان
|
جعلوا حقيقته
وظاهره هو ال
|
|
كفر الصريح
البيّن البطلان
|
قالوا وظاهره هو
التشبيه والت
|
|
جسيم حاشا ظاهر
القرآن
|
من قال في
الرحمن ما دلت علي
|
|
ه حقيقة الأخبار
والفرقان
|
فهو المشبه
والمثل والمج
|
|
سم عابد الأوثان
لا الرحمن
|
تالله قد مسخت
عقولكم فلي
|
|
س وراء هذا قط
من نقصان
|
ومريتم حزب
الرسول وجنده
|
|
بمصابكم يا فرقة
البهتان
|
وجعلتم التنقيص
عين وفاقه
|
|
إذ لم يوافق ذاك
رأي فلان
|
الشرح
: ومن العجب أن
هؤلاء المعطلة المبطلين يرمون أهل الحق والسنة الموحدين بأنهم يتنقصون من قدر
الرسول الأمين لأنهم ينهون عن شد الرحال إلى زيارة قبره فضلا عن قبور غيره ، عملا
بقوله هو وأمره ، حيث قال في الصحيح : «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجدي
هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى» ونسي هؤلاء البغاة أنهم هم أولى وأحق بما رموا
به خصومهم فقد عزلوا كلامه صلىاللهعليهوسلم عن أن يحتج به في باب العلم بالله وأسمائه وصفاته. فإذا
روي لهم حديث صحيح يتضمن شيئا من ذلك قالوا هذه أخبار آحاد لا يحتج بها في باب
الاعتقاد ، بل عزلوا كلام الله ورسوله عن إفادة العلم واليقين عزلا لا
خفاء فيه حيث
حكموا بأن حقيقته وظاهره كفر صريح ، وباطل بين لا شبهة فيه لأنه في زعمهم يفضي إلى
التجسيم والتشبيه ، فمن قال عندهم بما دلت عليه حقيقة الأخبار النبوية وآيات
الكتاب العزيز ، فهو المشبه الممثل المجسم عابد الأوثان لا عابد الرحمن.
فانظر إلى هذا
المسخ والتشويه الذي أصاب عقول هؤلاء المماليك حتى وصلت إلى أحط الدركات حيث رموا
حزب الرسول وجنده بدائهم وبهتوهم بما هو ألصق بهم ، فكانوا كما قال القائل : «رمتني
بدائها وانسلت». وجعلوا الموافق لقول الرسول تنقيصا له ما دام لا يوافق رأي
شياطينهم.
* * *
أنتم تنقصتم إله
العرش
|
|
والقرآن
والمبعوث بالقرآن
|
نزهتموه عن صفات
كماله
|
|
وعن الكلام وفوق
كل مكان
|
وجعلتم ذا كله
التشبيه والت
|
|
مثيل والتجسيم
ذا البطلان
|
وكلامكم فيه
الشفاء وغاية ال
|
|
تحقيق يا عجبا
لذا الخذلان
|
جعلوا عقولهم
أحق بأخذ ما
|
|
فيها من الاخبار
والقرآن
|
وكلامه لا
يستفاد به اليقي
|
|
ن لأجل ذا لا
يقبل الخصمان
|
تحكيمه عند
اختلافهما بل ال
|
|
معقول ثم المنطق
اليونان
|
أي التنقص بعد
ذا لو لا الوقاء
|
|
حة والجراءة يا
أولي العدوان
|
يا من له عقل
ونور قد غدا
|
|
يمشي به في
الناس كل زمان
|
الشرح
: بل أنتم المتنقصون
لا للرسول صلىاللهعليهوسلم وحده بل لله ولكتابه ولرسوله ، حيث نفيتم صفات كماله
سبحانه بحجة التنزيه ، ونفيتم كذلك كلامه وعلوه على خلقه ، وسميتم هذا كله تشبيها
وتمثيلا وتجسيما تسمية من عند أنفسكم ما أنزل الله به من سلطان ، وزعمتم لأنفسكم
أنكم أهل التحقيق والعرفان وأن كلامكم فيه غاية التدقيق وشفاء الحيران فما أشد ما
أنتم فيه من ضلال وخذلان حيث تجعلون ما في عقولكم من زور وبهتان أحق بالتقديم
والأخذ بما فيه من الأخبار
والقرآن ، وأما
كلامه فلا يستفاد منه اليقين والإيمان ، ومن أجل هذا لا تقبلون عند التنازع
والاختلاف تحكيم السنة والقرآن ، بل تلجئون إلى مسلماتكم العقلية واصطلاحاتكم
الكلامية وإلى أقيسة منطق اليونان.
فأي تنقص بعد هذا
لله ولرسوله وللقرآن ، لو لا فقدانكم الحياء يا أولي الإثم والعدوان ، ولكن من
رزقه الله عقلا يهديه ونورا يمشي به في الناس يدرك حقيقة ما أنتم عليه من زور
وبهتان.
* * *
لكننا قلنا
مقالة صارخ
|
|
في كل وقت بينكم
بأذان
|
الرب رب والرسول
فعبده
|
|
حقا وليس لنا
إله ثان
|
فلذاك لم نعبده
مثل عبادة ال
|
|
رحمن فعل المشرك
النصراني
|
كلا ولم نغل
الغلو كما نهى
|
|
عنه الرسول
مخافة الكفران
|
لله حق لا يكون
لغيره
|
|
ولعبده حق هما
حقان
|
لا تجعلوا
الحقين حقا واحدا
|
|
من غير تمييز
ولا فرقان
|
فالحج للرحمن
دون رسوله
|
|
وكذا الصلاة
وذبح ذا القربان
|
وكذا السجود
ونذرنا ويميننا
|
|
وكذا متاب العبد
من عصيان
|
وكذا التوكل
والإنابة والتقى
|
|
وكذا الرجاء
وخشية الرحمن
|
وكذا العبادة
واستعانتنا به
|
|
إياك نعبد ذان
توحيدان
|
وعليهما قام
الوجود بأسره
|
|
دنيا وأخرى حبذا
الركنان
|
وكذلك التسبيح
والتكبير والتّ
|
|
هليل حق الهنا
الديان
|
الشرح
: لله در المؤلف فقد
بين في هذه الأبيات حق الله الذي لا ينبغي لأحد سواه ، ونعى على هؤلاء القبوريون
غلوهم في تعظيم المخلوقين ، حتى جعلوهم أندادا لله رب العالمين ، فهو يقول لهم :
إننا ما زلنا نصرخ فيكم كل وقت وننادي بأعلى صوتنا أن لا تجعلوا لله شريكا في
ربوبيته ، فإنه رب واحد سبحانه ، وأما الرسول صلىاللهعليهوسلم فهو عبد الله حقا ، ولكنه خير عبد ، وليس هو إلها
مع الله كما قال
تعالى : (وَقالَ اللهُ لا
تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) [النحل : ٥١]
ولذلك لم نعبده مثل عبادتنا لله ، كما فعل النصارى في نبيهم عيسى عليهالسلام ، حيث جعلوه ابنا لله ، بل قال بعضهم أنه هو الله ، وكذلك
لم نغل فيه كما غلا النصارى في عيسى وهو قد نهانا عن هذا الغلو خشية أن يفضي بنا
إلى الكفر ، ففي الصحيح عنه عليهالسلام أنه قال : «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم ، وإنما
أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله».
وحاصل هذا الباب
إن لله عزوجل حقا ولرسوله صلىاللهعليهوسلم حقا ، فأما حق الله فهو مختص به لا يجوز أن يشركه غيره
فيه. وأما حق الرسول فهو ثابت له أيضا ، فلا يصح أن نخلط بين الحقين فنجعل ما هو
مختص بأحدهما للآخر دون تفرقة أو تمييز ، فإن تلك هي الندية التي نهانا عنها الله
ورسوله.
فأما حقوق الله
التي لا تنبغي إلا له فمنها الحج ، وهو القصد إلى زيارة بيته الحرام لأداء المناسك
المعروفة ، ومنها الصلاة ، فرضا كانت أو نفلا ، ومنها الذبح لقوله تعالى : (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي
وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ) [الأنعام : ١٦٢]
والنسك هو الذبح ، ولقوله (فَصَلِّ لِرَبِّكَ
وَانْحَرْ) [الكوثر : ٢] فكما
أمره بالصلاة لربه أمره بالنحر له ، ومنها السجود وهو وضع الجبهة على الأرض على
جهة الذل والخضوع لقوله عليهالسلام لمعاذ حين سجد له : «لو كنت آمرا أحد أن يسجد لأحد لأمرت
المرأة أن تسجد لزوجها ، ولكن لا ينبغي السجود إلا لله».
ومنها النذر ، فإن
النذر عبادة لا تنبغي إلا لله ، قال تعالى : (وَلْيُوفُوا
نُذُورَهُمْ) [الحج : ٢٩] ومدح الأبرار من عباده بأنهم (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) [الإنسان : ٧]
وقال : (وَما أَنْفَقْتُمْ
مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ) [البقرة : ٢٧٠].
ومنها الحلف فإنه
تعظيم للمحلوف به ، وذلك لا يكون إلا لله ، قال عليه
الصلاة والسلام : «من
حلف بغير الله فقد أشرك» وقال : «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليذر».
ومنها التوبة من
المعاصي ، وهي الرجوع إلى الله عزوجل بالندم والاستغفار والعزم على عدم العود إلى المعصية ، قال
الله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً) [التحريم : ٨]
وقال : (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ
وَإِلَيْهِ مَتابِ) [الرعد : ٣٠] وفي
الحديث : «أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال لرجل : ألا تتوب؟ فقال الرجل : اللهم إني أتوب إليك
ولا أتوب إلى محمد ، فضحك النبي صلىاللهعليهوسلم وقال : عرف الحق لأهله».
ومنها التوكل ،
قال تعالى : (وَعَلَى اللهِ
فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [المائدة : ٢٣]
وقال : (وَعَلَى اللهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) [إبراهيم : ١٢]
وفي الحديث «لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير ، تغدو خماصا
وتروح بطانا».
ومنها الإنابة
لقوله تعالى : (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ
وَاتَّقُوهُ) [الروم : ٣١]
وقوله : (وَأَنِيبُوا إِلى
رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ) [الزمر : ٥٤]
وقوله : (وَالَّذِينَ
اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ
الْبُشْرى) [الزمر : ١٧].
ومنها التقى لقوله
تعالى : (أَفَغَيْرَ اللهِ
تَتَّقُونَ) [النحل : ٥٢]
وقوله : (وَإِيَّايَ
فَاتَّقُونِ) [البقرة : ٤١]
وقوله : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ
وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) [النور : ٥٢] فجعل
سبحانه الطاعة له ولرسوله ، وجعل الخشية والتقوى له وحده.
ومنها الرجاء
والخشية لقوله تعالى : (وَيَدْعُونَنا
رَغَباً وَرَهَباً) [الأنبياء : ٩٠]
وقوله : (وَيَرْجُونَ
رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ) [الإسراء : ٥٧]
وقوله : (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ
عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً) [السجدة : ١٦].
ومنها العبادة
والاستعانة ، قال تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ
وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة : ٥] أي
لا نعبد إلا أنت ولا نستعين إلا بك ، فهما توحيدان ، توحيد في العبادة والإلهية ،
وتوحيد في الاستعانة ، أي في طلب العون والتوكل عليه في كل أمر ، قال تعالى : (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ
عَلَيْهِ) [هود : ١٢٣].
وعلى هذين
التوحيدين قام الوجود كله ، دنياه وآخرته ، فإن الأمر بين الرب وعبده دائر بين
العبادة التي هي حقه وبين طلب العبد منه ما لا سبيل إلى تحصيله إلا بعونه ، فبهما
ينتظم شئون المعاد والمعاش.
ومنها التسبيح
والتهليل والتكبير ، أي قولنا باللسان مع مواطأة القلب : سبحان الله ولا إله إلا
الله والله أكبر. ومثلها أيضا جميع العبادات القولية من السؤال والدعاء والذكر
والاستغاثة والاستعاذة والاستخارة والتسمية وغيرها والله سبحانه أعلم.
* * *
لكنما التعزيز
والتوقير حق
|
|
ق للرسول بمقتضى
القرآن
|
والحب والإيمان
والتصديق لا
|
|
يختص بل حقان
مشتركان
|
هذي تفاصيل
الحقوق ثلاثة
|
|
لا تجهلوها يا
أولي العدوان
|
حق الإله عبادة
بالأمر لا
|
|
بهوى النفوس
فذاك للشيطان
|
من غير إشراك به
شيئا هما
|
|
سببا النجاة
فحبذا السببان
|
ورسوله فهو
المطاع وقوله الم
|
|
قبول إذ هو صاحب
البرهان
|
والأمر منه
الحتم لا تخيير في
|
|
ه عند ذي عقل
وذي إيمان
|
الشرح
: وأما الحق الذي
يختص به الرسول صلىاللهعليهوسلم فهو تعزيزه ، أي نصره وتوقيره. أي إجلاله واحترامه ، وقد
أمرنا الله بذلك في القرآن العظيم ، قال تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ
شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ
وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) [الفتح : ٩] فبدأ
بالحق المشترك وهو
الإيمان ثم ثنى
بحق الرسول الكريم في التعزيز والتوقير ، ثم ثلث بحقه هو سبحانه في التسبيح
بالغدوة والعشي. ومن المفسرين من يجعل الضمائر الثلاثة راجعة إلى الله جل شأنه وهو
وجه ضعيف.
وهناك حقوق مشتركة
بين الله عزوجل وبين رسوله صلىاللهعليهوسلم ، وهي المحبة والإيمان والتصديق.
أما المحبة فلقوله
تعالى : (قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ
وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ
اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ
إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) [التوبة : ٢٤].
وقوله عليهالسلام «ثلاث من كن فيه
وجد حلاوة الإيمان ، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما».
وأما الإيمان
فلقوله تعالى : (آمِنُوا بِاللهِ
وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) [الحديد : ٧].
وقوله : (وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ
وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً) [الفتح : ١٣].
وأما التصديق
فلقوله تعالى : (وَلَمَّا رَأَ
الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ
اللهُ وَرَسُولُهُ) [الأحزاب : ٢٢].
فهذه هي تفاصيل
الحقوق الثابتة لله ولرسوله حقان مختصان وحق مشترك ، فلا ينبغي لأحد أن يجهلها ،
ولا أن يخلط بعضها ببعض ، وأن يجعل المختص منها مشتركا فحق الإله أن نعبده ، وشرط
هذه العبادة أمران ، احدهما أن تكون بما شرعه الله عزوجل وأمر به أمر وجوب أو استحباب ، وأن لا تكون بما تزينه
الأهواء من البدع والمحدثات ، فإن تلك عبادة الشيطان لا عبادة الرحمن.
والشرط الثاني أن
تكون العبادة خالصة لله عزوجل ليس لأحد فيها شركة ، فهذان الشرطان أعني المتابعة
والإخلاص لا بد منهما جميعا لكي تكون العبادة
مقبولة منجية
لصاحبها من عذاب الله ، قال تعالى : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا
لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ
أَحَداً) [الكهف : ١١٠] ،
وأما حق الرسول فهو أن يطاع ويتبع ويقبل قوله ويرضى بحكمه.
قال تعالى : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ
اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) [النساء : ٨٠] وقال
: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ
تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ
ذُنُوبَكُمْ) [آل عمران : ٣١]
وقال : (فَلا وَرَبِّكَ لا
يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي
أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [النساء : ٦٥].
ومن حقه أنه إذا
أمر بأمر كان تنفيذه واجبا لا يجوز التخيير ولا التردد فيه قال تعالى: (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ
إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ
أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) [الأحزاب : ٣٦]
وقال سبحانه : (فَلْيَحْذَرِ
الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ
عَذابٌ أَلِيمٌ) [النور : ٦٣].
* * *
من قال قولا
غيره قمنا على
|
|
أقواله بالسبر
والميزان
|
إن وافقت قول
الرسول وحكمه
|
|
فعلى الرءوس
تشال كالتيجان
|
أو خالفت هذا
رددناها على
|
|
من قالها من كان
من إنسان
|
أو أشكلت عنا
توقفنا ولم
|
|
نجزم بلا علم
ولا برهان
|
هذا الذي أدى
إليه علمنا
|
|
وبه ندين الله
كل أوان
|
فهو المطاع
وأمره العالي على
|
|
أمر الورى
وأوامر السلطان
|
وهو المقدم في
محبتنا على ال
|
|
أهلين والأزواج
والولدان
|
وعلى العباد
جميعهم حتى على الن
|
|
فس التي قد ضمها
الجنبان
|
* * *
الشرح
: فنحن لا نقدم بين
يدي الله ورسوله ، ولا نقدم على قول الرسول صلىاللهعليهوسلم قول أحد من الناس ، بل قوله عندنا هو الميزان الذي توزن به
سائر الاقوال فاذا قال غيره قولا لم نبادر الى قبوله أو رفضه حتى نرده الى قوله
ونزنه به ، فاذا وافق قول الرسول صلىاللهعليهوسلم وحكمه تلقيناه بالقبول والتقدير وشكرنا لقائله اصابته
للسنة ، واذا خالف رددناه على صاحبه وضربنا به وجهه كائنا من كان ، وكانت مخالفته
دليلا لنا على نقصه وفساد رأيه ، قال علي رضي الله عنه (أعرف الرجال بالحق ولا
تعرف الحق بالرجال ، اعرف الحق تعرف أهله).
وما أضل الناس في
الماضي والحاضر الا اغترارهم بنسبة الأقوال والآراء الى من زعموا لهم إمامة في
الدين أو مشيخة في العلم أو رئاسة في المذهب فأخذوا بأقوالهم من غير روية ولا
تمحيص ، ومن غير أن يتبينوا ان كانت موافقة لقول المعصوم صلوات الله وسلامه عليه
أو مخالفة له ، بل بلغ الأمر بالمتأخرين من أتباع المذاهب أن قدموا أقوال أئمتهم
على الأحاديث الصحيحة ، فلو جئتهم بألف دليل بأن كلام امامهم في خلاف الحق ما
قبلوه منك ، نعوذ بالله من الخذلان. وأما ان أشكل علينا الأمر ولم ندر ان كانت
أقوال الناس موافقة لقوله عليه الصلاة والسلام أو مخالفة توقفنا فيها ، فلا نقبلها
ولا نرفضها ، ولا نجزم بصحتها ولا بخطئها حيث أعوزنا الدليل.
هذا هو المنهج
المستقيم الذي يجب أن يسير عليه كل طالب للحق ، وهو الذي ندين الله به في كل وقت
وحين ، فهو صلوات الله عليه وسلامه المطاع الذي فرض الله علينا طاعته ، وأمره
عندنا مقدم على كل أمر ، حتى على أمر الحكام والسلاطين.
وهو كذلك المقدم
عندنا في المحبة على كل ما تحبه النفس من الأهلين والأزواج والأولاد ، فلا يكمل
ايمان أحد حتى يكون هو أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين.
بل لا يكمل ايمان
أحد حتى يكون أحب إليه من نفسه التي بين جنبيه ، كما
روى (أن عمر رضي
الله عنه قال له يا رسول الله والله انك لأحب الى من كل أحد الا من نفسي ، فقال له
النبي صلىاللهعليهوسلم : لا ، حتى أكون أحب أليك من نفسك ، فقال عمر : والذي بعثك
بالحق انك لأحب إليّ من نفسي ، فقال الآن يا عمر) اي كمل ايمانك.
* * *
ونظير هذا قول
أعداء المس
|
|
يح من النصارى
عابدي الصلبان
|
انا تنقصنا
المسيح بقولنا
|
|
عبد وذلك غاية
النقصان
|
لو قلتم ولد إله
خالق
|
|
وفيتموه حقه
بوزان
|
وكذاك أشباه
النصارى قد غلوا
|
|
في دينهم بالجهل
والطغيان
|
صاروا معادين
الرسول وديننا
|
|
في صورة الأحباب
والاخوان
|
فانظر الى
تبديلهم توحيده
|
|
بالشرك والايمان
بالكفران
|
وانظر الى
تجريده التوحيد من
|
|
أسباب كل الشرك
بالرحمن
|
راجع مقالتهم
وما قد قاله
|
|
واستدع بالنقاد
والوزان
|
عقل وفطرتك
السليمة ثم زن
|
|
هذا وذا لا تطغ
في الميزان
|
فهناك تعلم أي
حزبينا هو ال
|
|
منتقص المنقوص
ذو العدوان
|
* * *
الشرح
: يعني أن هؤلاء
المبتدعة الضلال من عباد القبور في اتهامهم لنا بالتنقيص من قدر الرسول صلىاللهعليهوسلم لأننا ننهى عن قصد قبره الشريف بالزيارة ، ونحرم دعاءه
والاستغاثة به والغلو في تعظيمه الى الحد الذي يخرجه عن دائرة البشرية ونطاق
العبودية ، قد أشبهوا النصارى عباد الصليب في اتهامهم للمسلمين بأنهم يتنقصون من
قدر المسيح عليهالسلام حين قالوا انه عبد الله ، وذلك في زعمهم غاية ما يمكن أن
يلحقه من النقص ، ولكننا لو قلنا كما يقولون انه ولد الله وانه إله مع الله ، وانه
خالق لكل شيء ، كنا في رأيهم قد وفيناه حقه من المديح. وبذلك صاروا أعداء المسيح ،
وهم يزعمون أنهم أحبابه وأولياؤه.
وكذلك أشباه هؤلاء
النصارى من المسلمين من يوم أن غلوا في تعظيم المخلوقين وذلك بتأثير الجهل
والطغيان المشين قد صاروا أعداء للرسول الأمين ولدينه القويم المتين ، فانهم بهذا
الغلو الممقوت قد بدلوا ما جاء به من محض التوحيد شركا ووثنية ، وبدلوا ما جاء به
من الايمان كفرا واباحية.
وان شئت أن تعرف
مدى عداوتهم للرسول صلىاللهعليهوسلم ومخالفتهم عن امره ، فانظر الى أقواله التي جرد بها
التوحيد من كل أسباب الشرك وخلصه من شوائب الوثنية ، والتي سد بها منافذ الاشراك
كلها حياطة للتوحيد وحماية لبيضته.
وذلك كنهيه عن
اتخاذ القبور مساجد ونهيه عن رفعها وتشييدها وايقاد السرج عليها ، ونهيه عن اتخاذ
قبره عيدا ، ونهيه عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غروبها ، ونهيه أمته عن اطرائه
والغلو في مدحه ، ونهيه الرجل الذي قال له (ما شاء الله وشئت) بقوله «أجعلتني لله
ندا ، بل ما شاء الله وحده» الى غير ذلك مما لا يحصى كثرة من صحيح السنة المطهرة.
ثم أنظر في مقالة
هؤلاء الضلال التي تفيض بألوان الشرك من دعائه صلىاللهعليهوسلم واستغاثته والعكوف على قبره واعتقاد حياته في القبر وسؤاله
ما لا يطلب الا من الله ، والغلو في مدحه الى حد اعتقاد أنه أول خلق الله وأنه نور
عرش الله ، وأنه الذي خلقت الأشياء جميعا من أجله ، بل الى حد اعتقاد أن الوجود
كله بعض فيضه ، وأن علم اللوح والقلم قبس من علمه ، كما يقول شاعرهم المسمى
بالبوصيري :
فان من جودك
الدنيا وضرتها
|
|
ومن علومك علم
اللوح والقلم
|
ثم اجمع مقالة
هؤلاء المفتونين الى مقالته ووازن بينهما وائت بجميع النقاد والوزان من العقول
الصحيحة والفطرة السليمة وتحر العدل في الميزان ، فحينئذ يظهر لك بأجلى بيان أي
الحزبين منا ومنهم هو المنتقص المغبون ذو الجهل والعدوان.
* * *
رامي البريء
بدائه ومصابه
|
|
فعل المباهت
أوقح الحيوان
|
كمعير للناس
بالزغل الذي
|
|
هو ضربه فاعجب
لذي البهتان
|
يا فرقة التنقيص
بل يا أمة الدع
|
|
وى بلا علم ولا
عرفان
|
والله ما قدمتم
يوما مقا
|
|
لته على التقليد
للانسان
|
والله ما قال
الشيوخ وقال الا
|
|
كنتم معهم بلا
كتمان
|
والله أغلاط
الشيوخ لديكم
|
|
أولى من المعصوم
بالبرهان
|
وكذا قضيتم
بالذي حكمت به
|
|
جهلا على
الأخبار والقرآن
|
والله انهم
لديكم مثل مع
|
|
صوم وهذا غاية
الطغيان
|
تبا لكم ما ذا
التنقص بعد ذا
|
|
لو تعرفون العدل
من نقصان
|
والله ما يرضيه
جعلكم له
|
|
ترسا لشرككم
وللعدوان
|
وكذاك جعلكم
المشايخ جنة
|
|
بخلافة والقصد
ذو تبيان
|
والله يشهد ذا
بحذر قلوبكم
|
|
وكذاك يشهده
أولو الايمان
|
* * *
الشرح
: يعني أن هؤلاء
المتجنين السفهاء حين رمونا بما فيهم من داء وبهتونا بما نحن منه براء ، وكانوا
بذلك في غاية الوقاحة والاجتراء ، أشبهوا في ذلك الغاش الذي يعير الناس بما فيه من
الزغل الذي هو ضربه ، أي مثله وشكله ، أو سجيته وطبعه. فوا عجبا لصاحب البهتان يرمي
به البرآء ليخفى عن الناس داءه العياء فيا من ترموننا بتنقيص الرسول بهتا ومكابرة
، ودعوى مجردة من كل علم ومعرفة أنتم أولى وأحق أن ترموا بهذا التنقيص والاتهام ،
فانكم لم تقدموا يوما من الأيام قول الرسول عليه الصلاة والسلام على قول من
تقلدونه من شيخ أو أمام ولا قال شيوخكم قولا الا وانحزتم إليهم جهرة بلا كتمان ،
بل ان أغلاط هؤلاء الشيوخ آثر لديكم من قول المعصوم عليه الصلاة والسلام ، ولهذا
تجعلون أقوالهم أصلا تحكمون به على الأخبار والقرآن ، وتدعون لهم من العصمة مثل ما
له ، وهذا غاية الافتراء والبهتان ، فهلاكا لكم ، ما ذا عسى أن يكون التنقيص بعد
فعلكم هذا لو كنتم تميزون العدل من النقصان ، واعلموا والله أن الرسول لا
يرضيه منكم أن
تجعلوه ترسا تحتمون وراءه من رميكم بما هو فيكم من شرك وعدوان ، فان دعواكم محبة
الرسول وتعظيمه لا تجعل قبيح أعمالكم حسنا ، ولا تشفع لكم ما تقعون فيه من سوء
ونكران ولا يغنى عنكم كذلك أن تجعلوا من اتباعكم للشيوخ جنة تتقون بها سوء
مخالفتكم للرسول ، مع أن قصدكم واضح وهو تعمد المخالفة له والاستهانة بأقواله ،
والله يشهد هذا في أعماق قلوبكم ، ويشهد به أهل الايمان الذين بلوا أخباركم وفساد
سرائركم ، فمهما اتخذتم من جنة فأمركم مفضوح ، فلا تحاولوا التستر والكتمان.
* * *
والله ما
عظمتموه طاعة
|
|
ومحبة يا فرقة
العصيان
|
أني وجهلكم به
وبدينه
|
|
وخلافكم للوحى
معلومان
|
أوصاكم أشياخكم
بخلافهم
|
|
لوفاقه في سالف
الأزمان
|
خالفتم قول
الشيوخ وقوله
|
|
فغدا لكم خلفان
متفقان
|
والله أمركم عجب
معجب
|
|
ضدان فيكم ليس
يتفقان
|
تقديم آراء
الرجال عليه مع
|
|
هذا الغلو فكيف
يجتمعان
|
كفرتم من جرد
التوحيد جه
|
|
لا منكم بحقائق
الإيمان
|
لكن تجردتم لنصر
الشرك وال
|
|
بدع المضلّة في
رضا الشيطان
|
والله لم نقصد
سوى التجريد للت
|
|
وحيد ذاك وصية
الرحمن
|
ورضا رسول الله
منا لا غلو
|
|
الشرك أصل عبادة
الأوثان
|
الشرح
: وأنتم والله ما
عظمتم رسول الله التعظيم اللائق به والذي يقوم على طاعته واتباعه وقبول حكمه
ومحبته ، بل دأبكم العصيان والمخالفة لأمره. وكيف يتاح لكم ان تعظموه هذا التعظيم
وأنتم أجهل الناس بحقائق دينه وأشدهم خلافا للوحى المنزل عليه ، ولقد أوصاكم
أشياخكم من أئمة الهدى رحمهمالله في الماضي أن تتركوا أقوالهم اذا وجدتموها مخالفة لقول
الرسول وأخبروكم أن مذاهبهم حيث يصح الحديث ، فاذا صح الحديث فلا تلتفتوا الى قول
أحد كائنا من
كان ، ولكن تمكن
التقليد منكم فأنساكم وصية الشيوخ فخالفتموها مع مخالفتكم لقول الرسول صلىاللهعليهوسلم وحكمه ، فصار لكم بذلك خلافان متفقان.
ووالله أن أمركم
لجد عجيب ، فقد اجتمع فيكم ضدان لا يمكن أن يتفقا في الوجود أبدا ، وهما تقديمكم
آراء الناس على قوله وحكمه مع غلوكم فيه ، هذا الغلو الذي خرج بكم عن حظيرة
التوحيد. فكيف أتيح لكم أن يجتمع فيكم هذان الضدان؟
ثم أنتم كذلك
تكفرون في جرأة وقحة من يجرد التوحيد لله عزوجل ، فلا يدعو مع الله أحد ، ولا يجعل له ندا ، ولا يجعل
لغيره شركة معه في شيء من عبادته ، وذلك لجهلكم بحقيقة هذا التوحيد ، في الوقت
الذي تتجردون فيه لنصرة الشرك والترويج للبدع ، طاعة منكم للشيطان واجتهادا في
ارضائه وموافقته فأنتم حزبه وأولياؤه.
ونحن حين نهينا
الناس عن الغلو في نبيهم صلىاللهعليهوسلم وأمرناهم أن يعرفوا له حقه في الطاعة والاتباع والتعزيز
والتوقير دون أن يجعلوا له شيئا من حقوق الالهية لم نقصد والله سوى تخليص التوحيد
من كل شوائب الوثنية ، وتلك هي وصية الله لنا حيث قال (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا
إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء : ٢٣]
وذلك هو ما يرضاه منا رسول الله صلىاللهعليهوسلم الذي كان أعظم داع الى التوحيد والقيام بحقه في الاخلاص
والتجريد. وأما هذا الغلو في تعظيم المخلوقين والعكوف على أضرحة الموتى المقبورين
الذي كان أصل الشرك وعبادة الأوثان في جميع الأديان ، فذلك ما لا يرضيه.
* * *
والله لو يرضى
الرسول دعاءنا
|
|
اياه بادرنا الى
الاذعان
|
والله لو يرضى
الرسول سجودنا
|
|
كنا نخر له الى
الأذقان
|
والله ما يرضيه
منا غير
|
|
اخلاص وتحكيم
لذا القرآن
|
ولقد نهى ذا
الخلق عن اطرائه
|
|
فعل النصارى
عابدي الصلبان
|
ولقد نهانا أن
نصير قبره
|
|
عيدا حذار الشرك
بالرحمن
|
ودعا بأن لا
يجعل القبر الذي
|
|
قد ضمه وثنا من
الأوثان
|
فأجاب رب
العالمين دعاءه
|
|
واحاطه بثلاثة
الجدران
|
حتى اغتدت
أرجاؤه بدعائه
|
|
في عزة وحماية
وصيان
|
ولقد غدا عند
الوفاة مصرحا
|
|
باللعن يصرخ
فيهم بأذان
|
وعنى الألى
جعلوا القبور مساجدا
|
|
وهم اليهود
وعابدو الصلبان
|
والله لو لا ذاك
أبرز قبره
|
|
لكنهم حجبوه
بالحيطان
|
قصدوا إلى تسنيم
حجرته ليم
|
|
تنع السجود له
على الأذقان
|
قصدوا موافقة
الرسول وقص
|
|
ده التجريد
للتوحيد للرحمن
|
* * *
الشرح
: فلو كان الرسول صلىاللهعليهوسلم يرضى أن ندعوه مع الله عزوجل لم يكن منا الا المبادرة الى الإذعان والموافقة ، ولو كان
يرضى منا أن نسجد له لوقعنا على الاذقان سجدا بلا مهلة ، ولكنه عليه الصلاة
والسلام لا يرضيه منا الا أن نجرد التوحيد لله فنجعل عبادتنا كلها له وحده ، محبة
وتعظيما وخوفا ورجاء ، وذلا واستكانة وسؤالا ودعاء ، وتوكلا واستعانه وتوبة وإنابة
، ورغبة ورهبة وصلاة وسجودا ، وذبحا ونذرا وحجا واعتمادا ، الى غير ذلك من أنواع
العبادات التي لا تنبغي الا له وحده ، ولا يرضيه منا كذلك الا أن نحكم القرآن
العظيم في كل شئوننا ، وان نرد إليه كل ما تنازعنا فيه من أحكام ديننا.
ولقد نهى أمته أن
تغلو فيه كما غلت النصارى في نبيهم فقال «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم».
ونهاهم كذلك أن
يتخذوا من قبره عيدا يحجون إليه ويجتمعون عنده فقال فيما رواه أبو هريرة رضي الله
عنه «لا تجعلوا بيوتكم قبورا ولا تجعلوا قبري عيدا وصلوا عليّ فان صلاتكم تبلغني
حيث كنتم» رواه أبو داود.
ودعا الله عزوجل أن لا يجعل قبره الذي ضم جسده الشريف وحدثنا يسجد له
ويطاف به ويصلى
عنده فقال «اللهم لا تجعل قبري وحدثنا يعبد ، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور
أنبيائهم مساجد» رواه مالك في الموطأ.
فأجاب الله عزوجل دعاء نبيه صلىاللهعليهوسلم فأحاط قبره بثلاثة جدران حتى لا يكون بارزا في المسجد ،
فأصبحت أنحاء القبر ببركة دعائه في منعة وصيانة أن يرتكب عندها شيء من أعمال
الوثنية. ولقد صرح صلوات الله وسلامه عليه عند موته بلعن من اتخذوا قبور أنبيائهم
مساجد ، من اليهود والنصارى.
روى البخاري ومسلم
عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم في مرضه الذي لم يقم منه «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا
قبور أنبيائهم مساجد» قالت فلو لا ذاك أبرز قبره ، غير أنه خشى أن يتخذ مسجدا.
فلما مات صلوات الله عليه وسلامه بنى أصحابه على القبر حيطانا مرتفعة مستديرة حوله
لئلا يظهر في المسجد فيصلى إليه العوام ويقع المحذور ، ثم بنوا جدارين من ركني
القبر الشماليين ، وحرفوهما حتى التقيا ، حتى لا يتمكن أحد من استقبال القبر ،
وكان قصدهم من تسنيم حجرته وبناء الحيطان عليها أن لا يتمكن أحد من الصلاة عنده ،
وذلك موافقة منهم لرسول اللهصلىاللهعليهوسلم الذي ما قصد بالنهى عن اتخاذ القبور مساجد الا تجريد
التوحيد لله عزوجل.
يقول القرطبي صاحب
التفسير رحمهالله (ولهذا بالغ
المسلمون في سد الذريعة في قبر النبيصلىاللهعليهوسلم فأعلوا حيطان تربته وسدوا المدخل إليها وجعلوها محدقة
بقبره صلىاللهعليهوسلم ، ثم خافوا أن يتخذ موضع قبره قبلة اذا كان مستقبل المصلين
، فتصور الصلاة إليه بصورة العبادة ، فبنوا جدارين من ركني القبر الشماليين وحرفوهما
حتى التقيا على زاوية مثلثة من ناحية الشمال حتى لا يتمكن أحد من استقبال قبره).
* * *
يا فرقة جهلت
نصوص نبيهم
|
|
وقصوده وحقيقة
الايمان
|
فسطوا على
أتباعه وجنوده
|
|
بالبغي والعدوان
والبهتان
|
لا تعجلوا
وتبينوا وتثبتوا
|
|
فمصابكم ما فيه
من حيران
|
قلنا الذي قال
الأئمة قبلنا
|
|
وبه النصوص أتت
على التبيان
|
القصد حج البيت
وهو فريضة الر
|
|
حمن واجبة على
الأعيان
|
ورحالنا شدت
إليه من بقا
|
|
ع الأرض قاصيها
كذاك الداني
|
من لم يزر بيت
الإله فما له
|
|
من حجة سهم ولا
سهمان
|
وكذا نشد رحالنا
للمسجد الن
|
|
بوي خير مساجد
البلدان
|
من بعد مكة أو
على الاطلاق في
|
|
ه الخلف بين
القوم منذ زمان
|
ونراه عند النذر
فرضا لك
|
|
ن النعمان يأبى
ذا وللنعمان
|
أصل هو النافي
الوجوب فانه
|
|
ما جنسه فرضا
على الانسان
|
ولنا براهين تدل
بأنه
|
|
بالنذر مفترض
على الانسان
|
أمر الرسول لكل
نادر طاعة
|
|
بوفائه بالنذر
بالاحسان
|
الشرح
: ينادي المؤلف هذه
الطائفة الضالة عن سواء السبيل فيصفها بالجهل بالآثار النبوية وقلة البضاعة منها ،
ثم بالجهل بمقصود النبي صلىاللهعليهوسلم ومراده من هذه الأحاديث ، ثم بالجهل بحقائق الإيمان من
توحيد الله تعالى ومعرفته بأسمائه وصفاته ووجوب تنزيه عما لا يليق به ، ومن أجل
جهلهم هذا يستطيلون على ذوي العلم والإيمان من أتباع النبي صلىاللهعليهوسلم وجنده بالظلم والعدوان والبهتان.
والمؤلف يناديهم
أن يتريثوا في الحكم على كلام أهل السنة والتوحيد حتى يتبينوا ويتثبتوا من قصدهم
وإلا وقعوا في الخطأ والضلال البعيد ، فإنهم لم يقولوا إلا ما قالته الأئمة قبلهم
ووردت به النصوص على الإيضاح والتأكيد ، وهو أن المسلم يجب أن ينوي بخروجه حج بيت
الله الحرام الذي هو أحد أركان الإسلام ، والذي هو فرض عين على كل قادر مستطيع ،
كما قال تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى
النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ
اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) [آل عمران : ٩٧]
فهو البيت الذي تشد إليه رجال المسلمين من جميع أقطار الأرض ، قريبها والبعيد ،
والذي تعتبر زيارته ركنا من أركان الحج فمن لم يزره فليس له من حجه نصيب.
وكذلك نشدّ رحالنا
إلى المسجد النبوي في المدينة لا إلى القبر الشريف ، فإن شد الرحل لا يجوز إلا
لأحد المساجد الثلاثة التي هي المسجد الحرام ومسجد المدينة والمسجد الأقصى لصحة الحديث
بذلك ، ويصبح شد الرحل إليه عندنا فرضا بالنذر ، لأنه نذر طاعة ، ونذر الطاعة يجب
الوفاء به ، فلو نذر أحد أن يصلي في مسجد الرسول صلىاللهعليهوسلم بالمدينة لزمه الوفاء بذلك ، خلافا لأبي حنيفة فإنه لا يرى
وجوب شيء بالنذر إلا لما كان جنسه فرضا ، كالصلاة والصيام والحج ونحوها. ولنا نحن
براهين تدل على فريضته بالنذر ، وهو قولهصلىاللهعليهوسلم : «من نذر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعصى الله فلا
يعصيه».
فقوله (فليطعه)
أمر والأمر يقتضي الوجوب ، والرسول صلىاللهعليهوسلم لم يفرق بين طاعة وطاعة ، فسواء كان جنسها فرضا أم غير فرض
تصبح واجبة بالنذر والله أعلم.
* * *
وصلاتنا فيه
بألف من سوا
|
|
ه ما خلا ذا
الحجر والأركان
|
وكذا صلاة في
قبا فكعمرة
|
|
في أجرها والفضل
للمنان
|
فإذا أتينا
المسجد النبوي
|
|
صلينا التحية
أولا ثنتان
|
بتمام أركان لها
وخشوعها
|
|
وحضور قلب فعل
ذي الإحسان
|
ثم انثنينا
للزيارة نقصد القب
|
|
ر الشريف ولو
على الأجفان
|
فنقوم دون القبر
وقفة خاضع
|
|
متذلل في السر
والإعلان
|
فكأنه في القبر
حي ناطق
|
|
فالواقفون نواكس
الأذقان
|
ملكتهم تلك
المهابة فاعترت
|
|
تلك القوائم
كثرة الرجفان
|
وتفجّرت تلك
العيون بمائها
|
|
ولطالما غاضت
على الأزمان
|
وأتى المسلم
بالسلام بهيبة
|
|
ووقار ذي علم
وذي إيمان
|
لم يرفع الأصوات
حول ضريحه
|
|
كلا ولم يسجد
على الأذقان
|
كلا ولم ير
طائفا بالقبر أس
|
|
بوعا كأن القبر
بيت ثان
|
ثم انثنى بدعائه
متوجها
|
|
لله نحو البيت
ذي الأركان
|
هذي زيارة من
غدا متمسكا
|
|
لشريعة الإسلام
والإيمان
|
من أفضل الأعمال
هاتيك الزيا
|
|
رة وهي يوم
الحشر في الميزان
|
لا تلبسوا الحق
الذي جاءت به
|
|
سنن الرسول
بأعظم البرهان
|
هذي زيارتنا ولم
ننكر س
|
|
وى البدع المضلة
يا أولي العدوان
|
وحديث شد الرحل
نص ثابت
|
|
يجب المصير إليه
بالبرهان
|
الشرح
: في هذه الأبيات
يبين المؤلف آداب الزيارة للمسجد النبوي وللقبر الشريف على ساكنه أفضل الصلاة وأتم
التسليم ، فيقول : أن صلاة في مسجد الرسول صلىاللهعليهوسلم بالمدينة تعدل ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام فإن
الصلاة فيه بمائة ألف صلاة لصحة الأحاديث بذلك.
وكذلك صلاة في
مسجد قباء الذي أنزل فيه قوله تعالى : (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ
عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ ، فِيهِ رِجالٌ
يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) [التوبة : ١٠٨]
تعدل ثواب عمرة ، ولا حرج على فضل الله ، والله يضاعف لمن يشاء.
وكان النبي صلىاللهعليهوسلم يخرج إليه كل يوم سبت ويصلي فيه ، فإذا دخلنا المسجد
النبوي الكريم بدأنا بتحية المسجد فصليناها ركعتين في الروضة المطهرة ، لقوله عليهالسلام : «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة» مطمئنين في
الأركان خاشعين حاضري القلب بين يدي الرحمن ، كما هو مقتضى الإحسان الذي فسره
النبي صلىاللهعليهوسلم بقوله : «أن تعبد الله كأنك تراه».
ثم بعد الفراغ من
الصلاة نميل إلى القبر الشريف للزيارة ولو نمشي على رءوسنا ، فنقف قريبا من القبر
في ذلة وخضوع وأدب واحتشام ، فإن حرمته صلىاللهعليهوسلم ميتا كحرمته حيا ، فكأنه حي يأمر وينهى ويتكلم بالوحي ،
فيجب السكون وإطراق الرأس مع استشعار الهيبة والاحترام ومع استدرار الدمع من عيون
طالما غاص ماؤها وتجمد في مآقيه ، ثم نسلم على النبي صلىاللهعليهوسلم في سكينة ووقار
لا نرفع الصوت
عاليا كفعل الجاهلين ، فقد أمرنا الله بغض الصوت عنده ، وجعل ذلك علامة على كمال
التقوى ، ولا نخر عند القبر سجدا كفعل المشركين ، فقد نهىصلىاللهعليهوسلم أمته عن السجود له ، وسأل الله عزوجل أن لا يجعل قبره وثنا يعبد ، وقال لمعاذ حين دخل عليه فسجد
«ما هذا يا معاذ؟ لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ، ولكن
لا ينبغي السجود إلا الله ، أرأيت يا معاذ لو مررت على قبري أكنت ساجدا له؟ قال :
لا يا رسول الله قال لا تفعل».
ولا نطوف بالقبر
سبعا كفعل الحمقى الغالين ، فإن ذلك الطواف مخصوص بالبيت العتيق ، ولا ندعو الله
مستقبلين القبر ، بل نتحول عنه ونستقبل القبلة وندعو كما كان يفعل الصحابة رضي
الله عنهم. هذه هي الزيارة الشرعية الصحيحة التي يفعلها المتمسكون بشرائع دينهم
وهدى نبيهم ، لا زيارة هؤلاء السفهاء من أهل البدع والأهواء الذين يرتكبون عند
القبر من الأعمال الشركية والعادات الجاهلية ما يبرأ منه الله ورسوله والمؤمنون.
والزيارة حين تؤدى
على هذا الوجه الصحيح تكون من أفضل القربات وأثقلها في الميزان يوم القيامة ، فيا قوم
لا تخلطوا الحق الذي وردت به السنة المطهرة بما تخترعونه من بدع شركية منكرة ،
واعلموا انا برآء من بهتكم لنا بأنا نحرم زيارة القبر الشريف ، فما أنكرنا سوى
البدع المضلة التي يرتكبها أهل الجهل والضلال ، وأما نهينا عن شد الرحال لزيارة
قبر النبيصلىاللهعليهوسلم وغيره من القبور فالحديث ثابت فيه ، وهو قوله عليهالسلام : «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : مسجدي هذا والمسجد
الحرام والمسجد الأقصى» وإذا صح الحديث فالواجب هو المصير إليه.
* * *
فصل
في تعيين أن اتباع السنة والقرآن طريقة النجاة من النيران
يا من يريد
نجاته يوم الحسا
|
|
ب من الجحيم
وموقد النيران
|
اتبع رسول الله
في الأقوال والأ
|
|
عمال لا تخرج عن
القرآن
|
وخذ الصحيحين
اللذين هم
|
|
ا لعقد الدين
والإيمان واسطتان
|
واقرأهما بعد
التجرد من هوى
|
|
وتعصب وحمية
الشيطان
|
وأجعلهما حكما
ولا تحكم على
|
|
ما فيهما أصلا
بقول فلان
|
واجعل مقالته
كبعض مقالة الأ
|
|
شياخ تنصرها بكل
أوان
|
وانصر مقالته
كنصرك للذي
|
|
قلدته من غير ما
برهان
|
قدر رسول الله
عندك وحده
|
|
والقول منه أليك
ذو تبيان
|
ما ذا ترى فرضا
عليك معينا
|
|
إن كنت ذا عقل
وذا إيمان
|
عرض الذي قالوا
على أقواله
|
|
أو عكس ذا فذانك
الأمران
|
هي مفرق الطرقات
بين طريقنا
|
|
وطريق أهل الزيغ
والعدوان
|
الشرح
: يخاطب المؤلف بهذه
الأبيات كل من يهمه أن يسعى في خلاص نفسه من عذاب الله ونيرانه الموقدة يوم
القيامة فيرسم له فيها سبيل النجاة التي لا سبيل غيرها ، وهو أن يتحرى الاتباع
لرسول الله صلىاللهعليهوسلم في جميع أقواله وأفعاله. فهو الذي أمرنا الله عزوجل باتباعه ، وجعل اتباعه وسيلتنا إلى كل خير وسعادة وفلاح ،
ونهانا عن مخالفته وجعلها سببا لكل شر وشقاء وخيبة وحرمان ، وفي الحديث الصحيح «كل
أمتي يدخلون الجنة إلا من أبي ، فقيل: يا رسول الله ومن يأبى؟ قال من أطاعني دخل
الجنة ومن عصاني فقد أبى» وقال تعالى : (فَلْيَحْذَرِ
الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ
عَذابٌ أَلِيمٌ) [النور : ٦٣].
وعلى طالب الخلاص
كذلك أن يجعل القرآن العظيم أمامه فيقيم حدوده وينفذ أحكامه ويحل حلاله ، ويحرم
حرامه ، ولا يخرج عما تقتضيه سوره وآياته ، ولا يسومها تحريفا وتأويلا ، ولا يخرج
بألفاظه عن مواضعها ، وأن يأخذ معه
بصحيحي البخاري
ومسلم رحمهماالله فإنهما اللذان تضمنا أوثق الأخبار ، وقد أجمعت الأمة على
تلقيهما بالقبول فهما من علم الدين والسنة كواسطة العقد التي تنتظم بها حباته ويتم
جماله ورواؤه. ولكن ينبغي لمن يقرؤهما إذا كان يريد الانتفاع بما فيهما من علم ،
أن يتجرد من كل هوى وعصبية ، وأن ينبذ كل ما يتقلده من مذاهب وآراء ، وأن لا تأخذه
في نصرتها حمية الجاهلية فيجعلها حكما يزن به الآراء والأقوال ، ولا يحكم عليهما
بأقوال الرجال ، وأن ينتصر لما فيهما من قول الرسول صلىاللهعليهوسلم وحكمه كما ينتصر لأقوال شيوخه الذين يقلدهم في الدين بغير
برهان ولا دليل.
والحاصل أنه يجب
عليه أن يقدر أنه بين يدي الرسول صلىاللهعليهوسلم يأخذ عنه مباشرة بلا واسطة أحد ، وأن القول منه صلىاللهعليهوسلم واصل إليه في أتم وضوح وأجلى بيان.
ثم يتساءل المؤلف رحمهالله فيقول : ما الذي تراه واجبا عليك حتما إن كنت ممن رزقهم
الله الفهم الصحيح والإيمان الوثيق؟ هل هو أن تعرض ما قاله الناس على ما قاله
الرسولصلىاللهعليهوسلم فتجعل قوله هو الميزان لقولهم أو ترى عكس ذلك فتجعل
أقوالهم هي الأصل الذي تزن به أقوال المعصوم ، لا شك أن عقلك وإيمانك سيحملانك على
اختيار الطريق المستقيم ، وكان التردد بين هذين الأمرين هو مفرق الطرق بين أهل
الاستقامة والحق والإيمان ، وبين أهل الزيغ والجور والعدوان ، فنحن حكمنا ما قاله
رسول الرحمن وجعلناه لديننا الأصل والميزان ، وهم حكموا ما قالته شيوخهم مما ألقاه
إليهم الشيطان ، فشتان ما بين الطريقين شتان.
* * *
قدر مقالات
العباد جميعهم
|
|
عدما وراجع مطلع
الإيمان
|
واجعل جلوسك بين
صحب محمد
|
|
وتلق معهم عنه
بالإحسان
|
وتلق عنهم ما
تلقوه هم
|
|
عنه من الإيمان
والعرفان
|
أفليس في هذا
بلاغ مسافر
|
|
ينبغي الإله
وجنة الحيوان
|
لو لا التناوش
بين هذا الخلق ما
|
|
كان التفرق قط
في الحسبان
|
فالرب رب واحد
وكتابه
|
|
حق وفهم الحق
منه دان
|
ورسوله قد أوضح
الحق المب
|
|
ين بغاية
الإيضاح والتبيان
|
ما تمّ أوضح منه
فلا
|
|
يحتاج سامعها
إلى تبيان
|
والنصح منه فوق
كل نصيحة
|
|
والعلم مأخوذ عن
الرحمن
|
فلأي شيء يعدل
الباغي الهدى
|
|
عن قوله لو لا
عمى الخذلان
|
الشرح
: وعلى طالب النجاة
كذلك أن يتجرد من كل ما درسه من المذاهب والمقالات وأن يعتبرها عدما ، وأن يمحوها
من صفحة ذهنه ، وأن ييمم بعقله وفكره شطر مدينة الرسول صلىاللهعليهوسلم ، وأن يخيل لنفسه كأنه يجلس بين أصحابه يتلقى معهم عنه العلم
والهدى بالإحسان والمتابعة ، ثم يتلقى عنهم كذلك ما تلقوه هم من الرسول عليه
الصلاة والسلام من حقائق الإيمان وأبواب العلم والمعرفة ، وأن يجعل هذا العلم
النقي المصفى هو زاده في رحلته إلى الله الذي يبلغه كل ما يتمنى من رضوان الله
ورحمته وجنته ، وو الله لو لا ما كتبه الله على بني آدم من الخصومات والعداوة لم
يدر بخلد أحد قط أن يتفرق المسلمون في دينهم شيعا ، وأن يختصموا هكذا في ربهم فرقا
ونحلا ، فإن الرب الذي يدينون له رب واحد ليس لهم رب غيره ، وكتابه الذي أنزله على
رسوله حق لا ريب فيه ، وهو قد أنزله بلسان عربي مبين ليفهمه كل أحد ، فأخذ الحق
منه دان قريب ، قال تعالى : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا
الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) [القمر : ١٧] وقال
: (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ
إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) [ص : ٢٩].
والرسول صلىاللهعليهوسلم قد أوفى على الغاية في إيضاح الحق وبيانه ، فكلامه أفصح
الكلام وأبينه ، لا يحتاج معه سامعه إلى من يوضحه له ، وهو كذلك أعظم الخلق شفقة
على الخلق وأكملهم رغبة في نصحهم وإرشادهم إلى الحق ، وهو أيضا أعلمهم بهذا الحق
بواسطة أمين الوحي جبريل عليهالسلام ، فإذا كان هو عليهالسلام قد كملت فيه هذه الثلاثة من العلم والقدرة على البيان
وإرادة النصح ،
فلأي شيء يعدل
طالب الهدى عن قوله؟ أليس ذلك دليلا على خذلانه وعمى قلبه؟ نعوذ بالله من الخذلان.
* * *
فالنقل عنه مصدق
والقول من
|
|
ذي عصمة ما عندنا
قولان
|
والعكس عند سواه
في الأمرين يا
|
|
من يهتدي هل
يستوي النقلان
|
تالله قد لاح
الصباح لمن له
|
|
عينان نحو الفجر
ناظرتان
|
وأخو العماية في
عمايته يقو
|
|
ل الليل بعد أيستوي
الرجلان
|
تالله قد رفعت
لك الأعلام ان
|
|
كنت المشمر نلت
دار أمان
|
وإذا جبنت وكنت
كسلانا فما
|
|
حرم الوصول إليه
غير جبان
|
فاقدم وعد
بالوصول نفسك واه
|
|
جر المقطوع منه
قاطع الإنسان
|
عن نيل مقصده
فذاك عدوه
|
|
ولو أنه منه
القريب الداني
|
الشرح
: والنقل عنه صلىاللهعليهوسلم ثابت بواسطة العدول الثقات الضابطين الأمناء الأثبات ، وهو
صلىاللهعليهوسلم الصادق المصدوق المعصوم من الغواية والضلال ، فلا يجهل
الحق ، ولا يقول خلاف ما يعلم أنه الحق ، وأما غيره ممن يأخذ عنهم الناس ويقلدونهم
في دين الله فهو بعكس ذلك في الأمرين جميعا ، فالنقل عنه ليس موثوقا به لأنه نقل
غير عدول ولا أمناء ، وهو كذلك غير معصوم من الخطأ ، فقد يجهل الحق ، ولأمن الكذب
فقد يقول بغير ما يعلم أنه الحق ، فو الله ليس بعد هذا البيان بيان ، وقد أسفر
الصبح لكل من له عينان فسبيل الله واضحة لكل من صح نظره واستقام فكره ، وأما أخو
العمى فلا يزال متخبطا في عمايته ، يظن أن الليل لا يزال باقيا ، فهل يستوي الذين
يعلمون والذين لا يعلمون؟ تالله ، قد نشرت لك أعلام الحق ونصبت لك مناراته ، ولم
يبق إلا أن تشمر عن ساعديك وتمضي قدما في غير ونى ولا فتور حتى تبلغ ما تشتهي في
دار الأمان والحبور ، أما إذا ارتديت ثياب الجبن ورضيت لنفسك أن تعيش إمعة لا تقول
إلا بما يقول لك الشيوخ والرؤساء ، وآثرت الكسل والقعود ، فقد قضيت
على نفسك بالحرمان
، فإن الحرمان نصيب الكسول الجبان ، فتقدم غير هياب ولا كسلان ، ومن النفس بالوصال
، واهجر جميع العوائق التي تقطعك وتعوقك عن بلوغ الآمال ونيل المنى والأمان ، فتلك
هي عدوك اللدود وإن كانت من أقرب المقربين ، وأما حبيبك فهو الذي يعينك على بلوغ
غرضك ويساعدك على قطع الطريق إلى ما تشتهي وتريد.
* * *
فصل
في تيسير السير إلى الله على المثبتين الموحدين وامتناعه على
المعطلين والمشركين
يا قاعدا سارت
به أنفاسه
|
|
سير البريد وليس
بالذملان
|
حتى متى هذا
الرقاد وقد سرى
|
|
وفد المحبة مع
أولى الإحسان؟
|
وحدت بهم
عزماتهم نحو العلى
|
|
لا حادي الركبان
والاظعان
|
ركبوا العزائم
واعتلوا بظهورها
|
|
وسروا فما حنوا
إلى نعمان
|
ساروا رويدا ثم
جاءوا أولا
|
|
سير الدليل يؤم
بالركبان
|
ساروا بإثبات
الصفات إليه لا الت
|
|
عطيل والتحريف
والنكران
|
عرفوه بالأوصاف
فامتلأت قلو
|
|
بهم له بالحب
والإيمان
|
فتطايرت تلك
القلوب إليه بال
|
|
أشواق إذ ملئت
من العرفان
|
وأشدهم حبا له
أدراهم
|
|
بصفاته وحقائق
القرآن
|
فالحب يتبع
للشعور بحسبه
|
|
يقوى ويضعف ذاك
ذو تبيان
|
الشرح
: يخاطب المؤلف هذا
القاعد المتخلف الذي تسير به أنفاسه اللاهثة سير ركائب البريد الوانية المتباطئة :
لا سير الذوامل النشيطة الساعية فيقول له : حتى متى تغط في نومك وتهيم في وادي
غفلاتك ، وقد استيقظ الأكياس المحبون وجدوا في السير مع أهل الإحسان المخلصين ،
وشحذوا العزائم فنهضت بهم نحو
العلى صعدا ، ولم
يرتضوا لهم حاديا غيرها ، بل ركبوها وامتطوا ظهورها وساروا لا يلتفتون إلى وصل
غانية ودار حبيب ، حتى لا يقطعهم عن السير إلى الحبيب القريب ، ساروا إليه رويدا
رويدا سيرا لينا متتابعا ، ثم جاءوا في مقدمة الركب كسير الدليل ، ساروا إليه
بإثبات صفاته العليا لا بالتحريف والإنكار والتعطيل. عرفوه بأوصافه كلها ، أوصاف
كماله وجماله وجلاله ، فامتلأت قلوبهم من محبته والإيمان به ، فأطارها الشوق إليه
حين افعمت من كئوس معرفته وامتلأت من أنوار صفات قدسه.
وهكذا كلما زادت
المعرفة في القلب زاد معها الشوق والحب ، فأشد المحبين له حبا وأكثرهم منه مودة
وقربا أعلمهم بصفاته العليا من حيث ثبوتها وكمالها واتساعها وعظمتها وآثارها في
الخلق ، وأعلمهم كذلك بحقائق القرآن وما تضمنه من أبواب العلم والايمان. فالحب
يتبع الشعور ، والعرفان يقوى بقوته ويضعف بضعفه ، وذلك أمر ظاهر للعيان لا يحتاج
الى توضيح وبيان.
* * *
ولذاك كان
العارفون صفاته
|
|
أحبائه هم أهل
هذا الشأن
|
ولذاك كان
العالمون بربهم
|
|
أحبابه وبشرعة
الايمان
|
ولذاك كان
المنكرون لها هم ال
|
|
أعداء حقّا هم
أولو الشنآن
|
ولذاك كان
الجاهلون بهذا وذا
|
|
بغضائه حقا ذوي
شنآن
|
وحياة قلب العبد
في شيئين من
|
|
يرزقهما يحيا
مدى الأزمان
|
في هذه الدنيا
وفي الأخرى يكو
|
|
ن الحى ذا
الرضوان والاحسان
|
ذكر الإله وحبه
من غير إش
|
|
راك به وهما
فممتنعان
|
من صاحب التعطيل
حقا كامتنا
|
|
ع الطائر
المقصوص من طيران
|
أيحبه من كان
ينكر وصفه
|
|
وعلوه وكلامه
بقران
|
لا والذي حقا
على العرش استوى
|
|
متكلما بالوحى
والفرقان
|
الشرح
: واذا ثبت أن
المحبة تابعة للمعرفة تزيد بزيادتها وتنقص بنقصانها ،
فالعارفون بصفاته
المثبتون لها هم أحبابه حقا وأهل الخشية منه حقا ، فانه لا يحب الله ويخشاه الا
العالمون به ، الذين كملت صورة الحق في قلوبهم ، وامتلأت من عظمتها وجلالها
نفوسهم. وكذلك العالمون بما شرع لهم من حقائق الايمان وموجبات اليقين ، وأما
المنكرون الجاحدون لصفات رب العالمين فهم أعداؤه حقا لأنهم جهلوا صفات ربهم وجهلوا
ما شرعه لهم فاستحقوا بذلك بغضه وشنآنه.
وحياة القلب
وغذاؤه في أمرين اثنين ، من يؤت حظه منهما يظل قلبه حيا دائما ، في هذه الحياة
الدنيا وفي الآخرة ، لأنهما يمدانه بأسباب الحياة والبقاء ، فلا يموت كما تموت
قلوب أهل الجهل والغفلة ، وهما ذكر الله وحبه مع توحيده والاخلاص له ، وهذان
الأمران لا يتوافران الا لمن يثبت الصفات للرحمن ، ولكنهما يمتنعان ويصعبان على
أهل التعطيل والنكران ، فهم لا يقدرون على ذلك ، كما لا يقدر الطائر المقصوص على
الطيران.
وكيف يستطيع حبه
وذكره من كان ينكر صفاته العليا التي وصف بها نفسه ومن كان ينكر استواؤه وعلوه ،
ومن كان ينكر كلامه بالقرآن وغيره من كتبه وكلامه لمن يشاء من خلقه.
لا والذي استوى
حقا على عرشه ، وتكلم حقا بفرقانه ووحيه ، لا يستطيع جاحد معطل أبدا أن ينعم بذكر
الله وحبه ، ولا أن يتمتع بأنسه وقربه ، كما يتمتع بذلك أهل معرفته.
* * *
الله أكبر ذاك
فضل الله يؤ
|
|
تيه لمن يرضى
بلا حسبان
|
وترى المخلف في
الديار تقول ذا
|
|
احدى الاثافي خص
بالحرمان
|
الله أكبر ذاك
عدل الله يقضيه
|
|
على من شاء من
انسان
|
وله على هذا
وهذا الحمد في الا
|
|
ولى في الأخرى
هما حمدان
|
حمد لذات الرب
جل جلاله
|
|
وكذاك حمد العدل
والاحسان
|
يا من تعز عليهم
أرواحهم
|
|
ويرون غبنا
بيعها بهوان
|
ويرون خسرانا
مبينا بيعها
|
|
في أثر كل قبيحة
ومهان
|
ويرون ميدان
التسابق بارزا
|
|
فيتاركون تقحم
الميدان
|
ويرون أنفاس
العباد عليهم
|
|
قد أحصيت بالعد
والحسبان
|
ويرون أن أمامهم
يوم اللقا
|
|
لله مسألتان
شاملتان
|
ما ذا عبدتم ثم
ما ذا قد أجب
|
|
تم من أتى بالحق
والبرهان
|
هاتوا جوابا
للسؤال وهيئوا
|
|
أيضا صوابا
للجواب يدان
|
وتيقنوا أن ليس
ينجيكم سوى
|
|
تجريدكم لحقائق
الايمان
|
تجريدكم توحيده
سبحانه
|
|
عن شركة الشيطان
والأوثان
|
وكذاك تجريد
أتباع رسوله
|
|
عن هذه الآراء
والهذيان
|
والله ما ينجى
الفتى من ربه
|
|
شيء سوى هذا بلا
روغان
|
الشرح
: أما من أتاه الله
حظه من معرفته والايمان به ، ومن ذكره سبحانه وحبه ، فذلك فضل الله يؤتيه لمن يرضى
عنه من خلقه ، عطاء بغير حساب ولا تقدير ولا تضييق ولا تقتير. وأما المخلفون في
البيوت الذين رضوا بأن يكونوا مع القواعد ، فانهم كأثافي القدر فقد خصهم الله
بالحرمان من ذلك الخير ، وذاك عدله الذي يقضيه على من يشاء من عباده ، الذين علم
أنهم ليسوا للفضل أهلا ولا للخير والكرامة محلا ، وهو سبحانه المحمود على كل ما
يقضيه من فضل لأهل طاعته وعدل في أهل معصيته ، حمدا دائما في الأولى والآخرة ، فله
الحمد لذاته المقدسة على ما اتصف به من نعوت الكمال ، وله الحمد على عدله واحسانه
وكل ما يصدر عنه من أفعال. فيا من كرمت عليهم نفوسهم وغلت عندهم أرواحهم ، فرأوا
ان من الغبن والخسران أن يبيعوها بيع الهوان ، جريا وراء كل قبيحة يزينها الشيطان
ويرون فرسان السباق يركضون في الميدان ، فيتحاشون تقحم الميدان ويرون أعمارهم تمر
سريعا ، قد عدت عليهم أنفاسهم بالدقائق والثواني ، ويرون أن أمامهم يوما شديد
الهول فظيع المطلع ، سيلقون فيه ربهم ، فيسألهم وهو أعلم بهم ، عن مسألتين شاملتين
لجميعهم ، أولاهما يسألهم عما كانوا يعبدون ، ليرى ما ذا فعلوا بحقه عليهم في
التوحيد والاخلاص ، والثانية يسألهم عما أجابوا به من
أرسلوا إليهم
بالبينات والهدى ليعرف ما ذا فعلوا بحق رسله عليهم في الطاعة والاتباع.
فليعد كل انسان
للسؤال جوابا ، وليهيّئ للجواب أن يكون صوابا ، وليعلم علم اليقين أن ليس ينجيه من
خزى هذا الموقف سوى تخليصه لحقائق الايمان من كل أنواع الزيغ والكفران ، وسوى
تجريده التوحيد لله من كل ما يشرك به من شيطان وأوثان ، وتجريده الاتباع لرسوله من
كل ما يهرف به الناس من أنواع الهراء والهذيان ، فو الله لا منجاة للعبد من عذاب
النيران ، ولا مخلص له من غضب الله الا هذان الأمران ، توحيد واتباع ، فاتركوا
التحايل والروغان.
* * *
يا رب جرد عبدك
المسكين را
|
|
جى الفضل منك
أضعف العبدان
|
لم تنسه وذكرته
فاجعله لا
|
|
ينساك أنت بدأت
بالاحسان
|
وبه ختمت فكنت
أولى بالجمي
|
|
ل وبالثناء من
الجهول الجاني
|
فالعبد ليس يضيع
بين فواتح
|
|
وخواتم من فضل
ذي الغفران
|
أنت العليم به
وقد أنشأته
|
|
من تربة هي أضعف
الأركان
|
كل عليها قد علا
وهوت الى
|
|
تحت الجميع بذلة
وهوان
|
وعلت عليها
النار حتى ظن أن
|
|
يعلو عليها
الخلق من نيران
|
وأتى الى
الأبوين ظنا أنه
|
|
سيصير الأبوين
تحت دخان
|
فسعت الى
الأبوين رحمتك التي
|
|
وسعتهما فعلا بك
الأبوان
|
الشرح
: بعد أن ذكر ما
أعده الله من الفضل والكرامة لمن جرد التوحيد لله فلم يشرك بالله شيئا ، وجرد
الاتباع لرسوله صلىاللهعليهوسلم ، فلم يقدم على قوله قول أحد من الناس ، أخذ يناجي ربه
بهذه الأبيات الرائعة التي تفيض ذلا وضراعة ، فهو يدعوه أن يخلصه من كل آثار الشرك
والوثنية والعصيان والمخالفة ومن أتباع هوى النفس والشيطان ، فانه عبده الخاضع
لجناب قهره وعزته ، المؤمل الطامع في بحبوحة غفرانه ورحمته.
ثم يقول : انك لم
تنسه أبدا من رحمتك مذ كان جنينا في بطن أمه ، بل سبق الاحسان منك إليه من قبل أن
يصعد منه أليك عمل ، فأجريت عليه رزقه من غذاء أمه ، وحفظته في مستقره ، ولم يزل
يتوالى عليه احسانك ، فكنت المحسن في البدء والمحسن في الختام ، فكنت أحق بالثناء
الحسن الجميل من عبدك الجاني الظلوم الجهول ، وأنت أحق أن تغفر لعبدك ما ارتكب من
زلات ، وأكرم من أن تضيعه بين فواتح وخواتم ، بل تعامله في البين بما عاملته به في
البدايات والنهايات ، وأنت العليم بعبدك وقد خلقته من التراب الذي هو أضعف عناصر
المخلوقات فكلها من الماء والهواء ، والنار تعلو عليه وهو يميل الى الهبوط والتسفل
والاستقرار والثبات ، وقد علت النار التي خلق منها الجان على التراب الذي خلق منه
آدم ، حتى إبليس عليه اللعنات أنه خير منه ، فاستكبر عن السجود له وعارض أمر ربه
وقال (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ
خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) [الأعراف : ١٢].
ثم سعى الى
الأبوين بالفتنة وحملهما على ارتكاب الزلة حين أغراهما بالأكل من الشجرة ، وخيل
إليه أنه أهلكهما هلاكا لا قيامة لهما بعده ، وأنه صيرهما بالغواية والمعصية تحته
، ولكن أدركتهما رحمة الله فجبرت كسرهما وداوت جرحهما وعلت بهما الى مكان العزة
والكرامة ، فعاد اللعين مغيظا مخنقا يمنى نفسه أن يدرك من الأبناء ما فاته من
الآباء (وَلَقَدْ صَدَّقَ
عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ
بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) [سبأ : ٢١].
* * *
هذا ونحن بنوهما
وحلومنا
|
|
في جنب حلمهما
لدى الميزان
|
جزء يسير والعدو
فواحد
|
|
لهما وأعدانا
بلا حسبان
|
والضعف مستول
علينا في جميع جها
|
|
تنا سيما من
الإيمان
|
يا رب معذرة
أليك فلم يكن
|
|
قصد العباد ركوب
ذا العصيان
|
لكن نفوس سوّلته
وغرّها
|
|
هذا العدوّ لها
غرور أمان
|
فتيقنت يا رب
أنك واسع ال
|
|
غفران ذو فضل
وذو إحسان
|
ومقاله ما قاله
الأبواب قب
|
|
ل مقالة العبد
الظلوم الجاني
|
نحن الألى ظلموا
وان لم تغفر الذ
|
|
نب العظيم فنحن
ذو خسران
|
يا رب فانصرنا
على الشيطان لي
|
|
س لنا به لو لا
حماك يدان
|
الشرح
: وكما وسعت رحمتك
يا رب الأبوان فلقنتهما توبتهما ثم قبلتها منهما فنحن يا رب بعدهما بنوهما وأحوج
الى رحمتك منهما ، فان عقولنا لا تعد شيئا اذا قيست الى عقليهما ، مع أن عدونا
وعدوهما واحد لا يزال يجد في اغوائنا وفتنتنا كما أغواهما ، ولنا مع ذلك أعداء
كثيرون كلهم يتربصون بنا وينتظرون غراتنا وغفلاتنا ، والضعف مستول علينا من جميع
جهاتنا ، لا سيما ما ألم بنا من ضعف الايمان وقلة اليقين.
فمعذرة أليك يا
ربنا ومغفرة منك لذنوبنا التي لم نقصد أبدا الى ارتكابها عمدا الى عصيانك ومخالفتك
، ولكن النفوس الأمارة بالسوء سولتها لنا ، وجاء هذا العدو الماكر فغرر بنا ووعدنا
ومنانا بغرور ، وقد تيقنا سعة مغفرتك وعظيم احسانك وفضلك ، ونحن نتوب أليك منها
ونقول ما قاله الأبوان قبلنا (رَبَّنا ظَلَمْنا
أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ
الْخاسِرِينَ) [الأعراف : ٢٣]
فاغفر لنا كما غفرت لهما وأعنا على هذا الشيطان الرجيم ، ورد عنا كيده اللئيم ،
فانه لو لا فضلك وحمايتك ما نجا من كيده انسان ولا كان لأحد على التخلص من اغوائه
يدان ، فاللهم لك الحمد وأليك المشتكى ، وأنت المستعان وبك المستغاث وعليك التكلان
ولا حول ولا قوة الا بك يا رحيم يا رحمن.
* * *
فصل
في ظهور الفرق بين الطائفتين وعدم التباسه إلا على من ليس بذي عينين
والفرق بينكم
وبين خصومكم
|
|
من كل وجه ثابت
ببيان
|
ما أنت منهم ولا
هم منكم
|
|
شتان بين السعد
والدبران
|
فاذا دعونا
للقرآن دعوتم
|
|
للرأى أين الرأى
من قرآن
|
واذا دعونا
للحديث دعوتم
|
|
أنتم الى تقليد
قول فلان
|
وكذا تلقينا
نصوص نبينا
|
|
بقبولها بالحق
والاذعان
|
من غير تحريف
ولا جحد ولا
|
|
تفويض ذي جهل
بلا عرفان
|
لكن باعراض
وتجهيل وتأ
|
|
ويل تلقيتم مع
النكران
|
أنكرتموها جهدكم
فاذا أتى
|
|
ما لا سبيل له
الى نكران
|
أعرضتم عنه ولم
تستنبطوا
|
|
منه هدى لحقائق
الايمان
|
فاذا ابتليتم
مكرهين بسمعها
|
|
فوضتموها لا على
العرفان
|
لكن يجهل للذي
سيقت له
|
|
تفويض اعراض
وجهل معان
|
فاذا ابتليتم
باحتجاج خصومكم
|
|
أوليتموها دفع
ذي صولان
|
فالجحد والإعراض
والتأويل والت
|
|
جهيل حظ النص
عند الجاني
|
لكن لدينا حظه
التسليم مع
|
|
حسن القبول وفهم
ذي الاحسان
|
الشرح
: والفرق بينكم أيها
المعطلة الجاحدون ، وبين خصومكم من أهل الحق والاثبات ثابت من كل النواحي ثبوتا
بينا لا شك فيه ، فلستم منهم في شيء ، ولا هم منكم كذلك بل بينكم وبينهم من الخلاف
، كما بين هذين النجمين المعروفين السعد والدبران ونحن ندلكم على مواضع الخلاف
بيننا وبينكم ، ونحن اذا دعونا للأخذ بنصوص القرآن واتباع ما فيه من هدى وبيان
دعوتم أنتم الى تقليد فلان وفلان ، ونحن اذا تلقينا أحاديث نبينا بالقبول والتسليم
والاذعان من غير تحريف لها عن مواضعها ، ولا جحد وانكار لها ، ولا تفويض جاهل بلا
عرفان تلقيتموها أنتم بالجحود والتكذيب والنكران ، تنكرونها جهد استطاعتكم وتطعنون
في نقلها من أهل العلم والايمان ، فاذا جاءكم ما لا سبيل لكم الى انكاره لثبوته في
النقل ثبوتا لا يسوغ معه نكران أعرضتم عنه أعراض الجاهلين ، ولم تحاولوا أن
تستخرجوا منه بيانا لحقائق الايمان. فاذا ابتليتم مكرهين بمن يتلوها على مسامعكم
قلتم نفوض في معناها ، لكنه ليس تفويض ذي معرفة بل تفويضا
قائما على الاعراض
والجهل بالمعاني ، أما اذا ابتليتم باحتجاج خصومكم بها ، فانكم تصولون وتجولون في
دفعها وردها.
وهكذا يتم الخلاف
ويستحكم بيننا وبينكم ، فالجحد والاعراض والتأويل والتجهيل هو نصيب النص عندكم ،
أما عندنا فحظه التسليم والرضى وحسن القبول وفهم ذي الاحسان.
* * *
فصل
في التفاوت بين حظ المثبتين والمعطلين
من وحي رب العالمين
ولنا الحقيقة من
كلام الهنا
|
|
ونصيبكم منه
المجاز الثاني
|
وقواطع الوحيين
شاهدة لنا
|
|
وعليكم هل يستوى
الأمران
|
وأدلة المعقول
شاهدة لنا
|
|
أيضا فقاضونا
الى البرهان
|
وكذاك فطرة ربنا
الرحمن شا
|
|
هدة لنا أيضا
شهود بيان
|
وكذاك إجماع
الصحابة والألى
|
|
تبعوهم بالعلم
والاحسان
|
وكذاك اجماع
الأئمة بعدهم
|
|
هذا كلامهم بكل
مكان
|
هذي الشهود فهل
لديكم أنتم
|
|
من شاهد بالنفى
والنكران
|
وجنودنا من قد
تقدم ذكرهم
|
|
وجنودكم فعساكر
الشيطان
|
وخيامنا مضروبة
بمشاعر ال
|
|
وحيين من خبر
ومن قرآن
|
وخيامكم مضروبة
بالتيه فالس
|
|
كان كل ملدد
حيران
|
ونصيبنا من كلام
الله عزوجل حقيقة معناه التي تدل عليها ألفاظه بوضع اللغة ، وأما
نصيبكم منه فالمجاز الثاني الذي يصرف إليه الكلام صرفا من غير مقتض لذلك ولا قرينة
تدل عليه.
أما الشهود الذين
يشهدون لنا فهم كثرة كاثرة ، وكلهم شهود عدل ليس
فيهم مدلس ولا
شاهد زور ، فالنصوص القاطعة من الكتاب والسنة شاهدة لنا وهي في نفس الوقت شاهدة
عليكم ، والادلة العقلية المؤسسة على المعقولات الصريحة الخالية من شوائب الوهم
والخيال والتقليد شاهدة لنا كذلك ، وان لم تصدقوا فتعالوا نحن وأنتم نحتكم الى
البرهان الصريح ، وكذلك فطرة الله التي فطر الناس عليها والتي لا يمكن أن تكذب أو
تضل ما دامت سليمة خالية من التأثر بعوامل البيئة والتقليد للأبوين هي شاهدة لنا
شهودا واضحا.
ومن شهودنا أيضا
إجماع الصحابة الذين هم أكمل هذه الامة وأبرها قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا
والتابعين لهم باحسان ممن ورثوا علمهم وفضلهم ، وكذلك أئمة الهدى من بعدهم فكلامهم
موجود في بطون الكتب وهو ناطق بصريح الاثبات فهذه هي شهودنا التي تشهد لنا بصحة
قولنا في اثبات الصفات ، فهل لديكم أنتم ولو شاهد واحد على النفى والانكار.
وأما جنودنا فمن
قد علمتم ممن تقدم ذكرهم من الملائكة المقربين وجميع الأنبياء والمرسلين ، وجميع
من جرى على سنتهم واهتدى بهديهم الى يوم الدين ، وأما جنودكم فعساكر الشيطان
اللعين ، وخيامنا مضروبة بمكان ذي صوى وأعلام فلا يضل سكانها مواقع الخيام وهو
معالم الوحيين من سنة وقرآن ، وأما خيامكم فمنصوبة في تيه لا دليل عليه فلا يأوى
إليها الا كل ملدد حيران.
* * *
هذي شهادتهم على
محصولهم
|
|
عند الممات
وقولهم بلسان
|
والله يشهد أنهم
أيضا كذا
|
|
تكفى شهادة ربنا
الرحمن
|
ولنا المساند
والصحاح وه
|
|
ذه السنن التي
نابت عن القرآن
|
ولكم تصانيف
الكلام وهذه ال
|
|
آراء وهي كثيرة
الهذيان
|
شبه يكسر بعضها
بعضا كبي
|
|
ت من زجاج خرّ
للأركان
|
هل ثم شيء غير
رأى أو كلا
|
|
م باطل أو منطق
اليونان
|
ونقول قال الله
قال رسوله
|
|
في كل تصنيف وكل
مكان
|
لكن تقولوا قال
ارسطو وقا
|
|
ل ابن الخطيب
وقال ذو العرفان
|
شيخ لكم يدعى
ابن سينا لم يكن
|
|
متقيدا بالدين
والايمان
|
وخيار ما تأتون
قال الأشعر
|
|
ي وتشهدون عليه
بالبهتان
|
فالأشعري مقرر
لعلو رب ال
|
|
عرش فوق جميع ذي
الأكوان
|
في غابية التقرير
بالمعقول
|
|
والمنقول ثم
بفطرة الرحمن
|
الشرح
: يعني أن علماءكم
يدركهم الندم عند الموت ويشهدون على أنفسهم أنهم أضاعوا أعمارهم فيما لا ينفع من
دراسة المذاهب والمقالات معرضين عن هدى الكتاب والسنة ، وذلك كقول الشهرستاني صاحب
كتاب (نهاية الاقدام في علم الكلام).
لعمري لقد طفت
المعاهد كلها
|
|
وسيرت طرفي بين
تلك المعالم
|
فلم أر الا
واضعا كف حائر
|
|
على ذقن أو
قارعا سن نادم
|
وكقول ابن الخطيب
الرازي صاحب التفسير المشهور ، وأشهر متكلمي الاشعرية في عصره.
نهاية اقدام
العقول عقال
|
|
وأكثر سعى
العالمين ضلال
|
وأرواحنا في
وحشة من جسومنا
|
|
وحاصل دنيانا
أذى ووبال
|
ولم نستفد من
بحثنا طول عمرنا
|
|
سوى أن جمعنا
فيه قيل وقالوا
|
لقد تأملت الطرق
الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفى عليلا ولا تروى غليلا ، ورأيت أقرب
الطرق طريقة القرآن أقرأ في الإثبات : (الرَّحْمنُ عَلَى
الْعَرْشِ اسْتَوى) [طه: ٥](إِلَيْهِ يَصْعَدُ
الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) [فاطر : ١٠] واقرأ
في النفي : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ) [الشورى : ١١](وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) [طه : ١١٠] (ومن
جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي).
وكقول إمام
الحرمين الجويني عند موته :
(لقد خضت البحر
الخضم وتركت أهل الاسلام وعلومهم وخضت في الذي نهوني عنه ، والآن ان لم يتداركني
ربي برحمته فالويل لفلان ، وها أنا أموت على
عقيدة أمي) والله
يشهد عليهم كذلك بما شهدوا به على أنفسهم (وَكَفى بِاللهِ
شَهِيداً) [النساء : ٧٩].
ونحن ورثنا علم
النبوة كابرا عن كابر ، وألفنا فيه الكتب القيمة فلنا المساند التي يجمع فيها
المحدث في ترجمة كل صحابي ما يرويه عنه من حديثه ويجعله على حدة وأن اختلفت أنواعه
مثل مسند الامام أحمد بن حنبل الشيباني رحمهالله ، ومسند اسحاق بن راهويه ومسند عثمان بن أبي شيبة ، ومسند
الحميدي ، ومسند عبد بن حميد ، والمسند الكبير ليعقوب بن شيبة ، والمسند الكبير
لبقى بن مخلد القرطبي الخ.
ولنا كذلك الكتب
الصحاح مثل صحيحي البخاري ومسلم رحمهماالله ، وهما يعتبران أوثق الكتب بعد كتاب الله ، ولنا السنن
المشهورة مثل سنن النسائي وأبي داود والترمذي وابن ماجه القزويني وغيرها.
وأما أنتم فليس
لكم الا تصانيف الكلام الباطل التي لا تحوي الا آراء كلها فشر وهذيان مثل كتب أبي
المعالي الجويني ، وأبي حامد الغزالي ، وابن الخطيب الرازي والآمدي ، ونصير الدين
الطوسي ، وعضد الدين الإبجي ، وسعد الدين التفتازاني والجلال الدواني وغيرهم. وهي
كتب مليئة بالمتناقضات والايرادات والشبه التي يحطم بعضها بعضا ، كأنها بيت من
زجاج قذفته بحجر فصار هشيما متداعي الأركان ، وليس فيها شيء من العلم النافع بل كل
ما فيها أما رأي قائل ، أو كلام باطل ، أو أدلة متهافتة ركبت على قواعد المنطق
الأرسطي.
ونحن لا نقول في
كل كتبنا ومؤلفاتنا إلا قال الله عزوجل وقال رسوله صلىاللهعليهوسلم وأما أنتم فتنقلون عن أساتذتكم في الكفر والضلال فتقولون
قال أرسطو أو قال الفخر الرازي أو قال الشيخ الرئيس ابن سينا ذلك الزنديق المتحلل
من قيود الدين والايمان ، وأفضل منقولاتكم ما تنقلونه عن الشيخ أبي الحسن علي بن
اسماعيل الأشعري رحمهالله ، ولكنكم تشهدون عليه شهادة زور وبهتان فتنسبونه الى القول
بالتعطيل مع أنه يقرر صفة العلو في جميع كتبه أحسن تقرير فيثبتها
بطريق العقل
والنقل والفطرة ويرد على نفاتها ، وينكر تأويل الاستواء بالاستيلاء ، ومن يقرأ
كتابيه المشهورين (الآبانة) و (مقالات الاسلاميين) لا يشك في أنه كان من المثبتين.
* * *
هذا ونحن فتاركو
الآراء
|
|
للنقل الصحيح
ومحكم الفرقان
|
لكنكم بالعكس قد
صرحتم
|
|
ووضعتم القانون
ذا البهتان
|
والنفي عندكم
على التفصيل وال
|
|
إثبات إجمالا
بلا نكران
|
والمثبتون
طريقهم نفي على وال
|
|
إجمال والتفصيل
بالتبيان
|
فتدبروا القرآن
مع من منكما؟
|
|
وشهادة المبعوث
بالقرآن
|
وعرضتم قول
الرسول على الذي
|
|
قال الشيوخ
ومحكم الفرقان
|
فالمحكم النص
الموافق قولهم
|
|
لا يقبل التأويل
في الأذهان
|
لكنما النص
المخالف قولهم
|
|
متشابه متأول
بمعان
|
واذا تأدبتم
تقولوا مشكل
|
|
أفواضح يا قوم
رأى فلان
|
والله لو كان
الموافق لم يكن
|
|
متشابها متأولا
بلسان
|
الشرح
: والفرق بيننا
وبينكم كذلك أننا نترك آراء الناس وأقوالهم اذا كانت مخالفة للحديث الصحيح عن رسول
الله صلىاللهعليهوسلم أو للمحكم الصريح من كتاب الله عزوجل ، وأما أنتم فقد صرحتم بعكس ذلك تماما ووضعتم في ذلك
قانونا جائرا ظالما ، وهو أنه اذا تعارض العقل والنقل وجب تقديم حكم العقل لأنه
قطعي عندكم بخلاف النقل فانه لا يفيد الا الظن.
وأنتم كذلك
تتوسعون في صفات السلب فتذكرونها على التفصيل وتزعمون ذلك مبالغة في التنزيه ، مع
أن النفى الصرف لا مدح فيه ، وأما صفات الاثبات فتذكرونها اجمالا. وأما نحن
فطريقتنا عكس ذلك ، نقتصر في النفى على ما نفاه الله ورسوله ، ونتوسع في الاثبات
فنثبت كل ما أثبته الله ورسوله ، وهذه هي طريقة الكتاب والسنة ، اجمال في النفى
وتفصيل في الاثبات ، فتدبروهما ان كنتم
من أهل ذلك ،
لتعرفوا هل هما على طريقتنا أو على طريقتكم ، وأنتم تعرضون ما قاله الله ورسوله
على الذي قالته شيوخكم ، فان وافق النص قولهم كان محكما غير قابل للتأويل عندكم ،
وأما ان خالف فهو متشابه يجب تأويله بمعان أخر ، واذا تصنعتم الأدب مع النص قلتم
انه مشكل ولا نخوض فيه ، وو الله لو كان موافقا لقول شيوخكم لم يكن عندكم متشابها
ولا مشكلا ولا قابل للتأويل.
* * *
لكن عرضنا نحن
أقوال الشيو
|
|
خ على الذي جاءت
به الوحيان
|
ما خالف النصين
لم نعبأ به
|
|
شيئا وقلنا
حسبنا النصان
|
والمشكل القول
المخالف عندنا
|
|
في غاية الاشكال
لا التبيان
|
والعزل والابقاء
مرجعه إلى ال
|
|
آراء عندكم بلا
كتمان
|
لكن لدينا ذاك
مرجعه الى
|
|
قول الرسول
ومحكم القرآن
|
والكفر والاسلام
عين خلافه
|
|
ووفاقه لا غير
بالبرهان
|
والكفر عندكم
خلاف شيوخكم
|
|
ووفاقهم فحقيقة
الايمان
|
هذي سبيلكم وتلك
سبيلنا
|
|
والموعد الرحمن
بعد زمان
|
وهناك يعلم أي
حزبينا على ال
|
|
حق الصريح وفطرة
الديان
|
فاصبر قليلا
انما هي ساعة
|
|
فاذا أصبحت ففي
رضا الرحمن
|
فالقوم مثلك
يألمون ويصبرو
|
|
ن وصبرهم في
طاعة الشيطان
|
الشرح
: لكننا بخلافكم
نعرض أقوال الناس على ما جاء في الكتاب الكريم والسنة المطهرة ، فما خالف نصوصهما
لم نرفع به رأسا ولم نقم له وزنا ، وقلنا يكفينا ما جاء به النصان ، والمشكل عندنا
هو القول المخالف لهما ، فهذا عندنا في غاية الاشكال ، والعزل والابقاء عندكم
مرجعه الى آراء الشيوخ ، فما وافقها من النصوص أبقيتموه وما خالفها عزلتموه ، فلا
يصلح عندكم حجة ولا دليلا.
وأما عندنا فالعزل
والابقاء يرجع الى النصوص الصريحة من الكتاب والسنة فما وافقها من الآراء أبقيناه
واعتددنا به ، وما خالفها عزلناه ولم نعبأ به.
والنصوص عندنا
كذلك هي ميزان كفر الرجل واسلامه ، فمن خالف النصوص الصريحة من الكتاب والسنة
حكمنا بكفره ، ومن وافقها حكمنا باسلامه ، وأما عندكم فالكفر هو مخالفة أقوال
الشيوخ والاجتراء على نقد آرائهم ، والاسلام والايمان هو اتباعهم وموافقة أقوالهم.
هذي سبيلكم وتلك سبيلنا ، قد استبان الفرق بينهما ، وهو فرق كما رأيتم جد كبير
والموعد غدا لله العلى الكبير يحكم بيننا وبينكم فيما اختلفنا فيه ، وستعلمون
حينئذ أي الحزبين منا ومنكم هو على الحقّ المبين وعلى فطرة الديان التي فطر عليها
عباده أجمعين.
فاصبر يا أخا الحق
قليلا ولا تجزع من قلة الأعوان وكثرة الأعداء ، فانما هي أيام قليلة وينقضى العمر
، واعلم ان ما تلقاه في هذه الدنيا من بلاء ، وما تقاسيه من أذى الجهلاء انما هو في
مرضاة ربك ، فلا يكن أهل الباطل أصبر على باطلهم منك على حقك ، فان القوم مثلك
يألمون كما تألم ويصبرون لكن في طاعة الشيطان فاجعل صبرك أنت في طاعة الرحمن.
* * *
فصل
في بيان الاستغناء بالوحي المنزل من السماء عن تقليد الرجال والآراء
يا طالب الحق
المبين ومؤثرا
|
|
علم اليقين وصحة
الايمان
|
اسمع مقالة ناصح
خبر الذي
|
|
عند الورى مذ شب
حتى الآن
|
ما زال مذ عقدت
يداه ازاره
|
|
قد شد ميزره الى
الرحمن
|
وتخلل الفترات
للعزمات أم
|
|
ر لازم لطبيعة
الإنسان
|
وتولد النقصان
من فتراته
|
|
أو ليس سائرنا
بنى النقصان
|
وتولد النقصان
من فتراته
|
|
أو ليس سائرنا
بنى النقصان
|
طاف المذاهب
يبتغي نورا ليهديه
|
|
وينجيه من
النيران
|
وكأنه قد طاف
يبغي ظلمة ال
|
|
ليل البهيم
ومذهب الحيران
|
والليل لا يزداد
الا قوة
|
|
والصبح مقهور
بذي السلطان
|
حتى بدت في سيره
نار على
|
|
طور المدينة
مطلع الايمان
|
فأتى ليقبسها
فلم يمكنه مع
|
|
تلك القيود
منالها بأمان
|
الشرح
: ينادي المؤلف كل
من يتجرد لطلب الحق ويسعى في نيله وتحصيله ويؤثر علم اليقين على القول بالظن
والتخمين ، ويريد لنفسه ايمانا صحيحا بعيدا عن شوائب الزيغ والكفران ، فيقول له
اسمع لنصيحتي ، فإنها نصيحة مجرب خبر كل ما عند الناس من المذاهب والمقالات وطوف
مذ شب عن الطوق على الفرق المختلفة يطلب الطريق الى اللهعزوجل.
ولكن الانسان مهما
شد منه العزم فلا بد ان تتخلل عزمه فترات كما في الحديث «ان لكل شيء شرة ولكل شرة
فترة» فهذا أمر لازم لنقص الطبيعة الانسانية وضعفها ، والناس كلهم أبناء نقصان ،
قال تعالى : (وَلَوْ لا فَضْلُ
اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً ، وَلكِنَّ
اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) [النور : ٢١].
والمؤلف يخبر عن
نفسه رحمهالله أنه قد طاف على جميع أرباب المذاهب والمقالات يبتغي لنفسه
نورا يهدى قلبه ويبصره طريق النجاة ، ولكنه ما وجد عندهم الا ظلمات فوق ظلمات ،
فكأنه ما طاف يبغي نورا ، بل طاف يبغي ظلمة الليل البهيم ، وكلما أوغل في الطلب
كلما ازدادت أمامه الظلمات التي قهرت بجيوشها العاتية نور الصبح ، وما زال هكذا
يهيم في وادي الظلمات حتى ظهر له في مسيره نار من جهة المدينة المنورة ، كما تراءت
لموسى عليهالسلام النار في طور سيناء فيمم نحوها ليقبس منها نورا وهدى يبدد
أمامه غياهب الظلمات. فلم يمكنه أن ينالها وهو مقيد بقيود التقليد وأسر العادات.
وهذا الذي يتحدث
عنه المؤلف قد حصل لكل من مر بمثل تجربته ممن أوغل في دراسة الكلام وعب مما في
وردها الآسن من خرافات وأوهام ، حتى انبلج له صبح الاسلام.
* * *
لو لا تداركه
الاله بلطفه
|
|
ولى على العقبين
ذا نكصان
|
لكن توقف خاضعا
متذللا
|
|
مستشعر الافلاس
من أثمان
|
فأتاه جند حل
عنه قيوده
|
|
فامتد حينئذ له
الباعان
|
والله لو لا أن
تحل قيوده
|
|
وتزول عنه ربقة
الشيطان
|
كان الرقى الى
الثريا مصعدا
|
|
من دون تلك
النار في الامكان
|
فرأى بتلك النار
آكام المدي
|
|
نة كالخيام
تشوفها العينان
|
ورأى على
طرقاتها الأعلام قد
|
|
نصبت لأجل
السالك الحيران
|
ورأى هنالك كل
هاد مهتد
|
|
يدعو الى
الايمان والايقان
|
فهناك هنأ نفسه
متذكرا
|
|
ما قاله المشتاق
منذ زمان
|
والمستهام على
المحبة لم يزل
|
|
حاشا لذكراكم من
النسيان
|
الشرح
: بعد أن ذكر المؤلف
أن دراساته السابقة وما شحن به رأسه من الأفكار والآراء واصطلاحات العلماء ، وقفت
حائلا بينه وبين الوصول الى نار الحق ونور الهدى التي بدت له من المدينة مطلع
الايمان ومركز اليقين ، ذكر أن تلك الحوائل كادت تثنيه عن عزمه وتجعله يرتد ناكصا
على عقبيه لو لا أن تداركه الله بفضله ورحمته ، فوقف مظهرا الخضوع والذلة مستشعرا
افلاسه وعجزه حتى أرسل الله إليه من حل عنه قيوده وخلصه من ربقة أسره ، وهو شيخه
وشيخ المفكرين الأحرار جميعا من بعده أحمد تقي الدين أبي العباس بن عبد الحليم بن
عبد السلام بن تيمية الحراني رحمهالله وأجزل مثوبته ، فأصبح بعد اتصاله به وأخذه عنه حرا طليقا
قد امتد منه الباعان ولم يعد يتقيد بقول فلان أو فلان ، وو الله لو لم تحل عنه هذه
القيود وتزول عنه ربقة الشيطان لكان صعوده الى الثريا في السماء أهون من وصوله الى
تلك النار في الامكان. ولما أتى تلك النار شاهد بها حصون المدينة العالية كأنها
خيام منصوبة تراها العينان ، ورأى على دروبها أعلام الحق قد نصبت لهداية السالك
الحيران ، ولقى فيها الغر الميامين من الصحابة الهداة المهتدين يدعون كل من أمهم
الى الايمان واليقين ،
هنالك حمد السرى
وهنأ نفسه بسلامة الوصول متذكرا ما كان قد قاله حين برح به الشوق وأضناه الجوى.
* * *
لو قيل ما تهوى؟
لقال مبادرا
|
|
أهوى زيارتكم
على الأجفان
|
تالله ان سمح
الزمان بقربكم
|
|
وحللت منكم
بالمحل الداني
|
لأغفرن الخد
شكرا في الثرى
|
|
ولأكحلن بتربكم
أجفاني
|
ان رمت تبصر ما
ذكرت فغض طر
|
|
فا عن سوى
الآثار والقرآن
|
واترك رسوم
الخلق لا تعبأ بها
|
|
في السعد ما
يغنيك عن دبران
|
حذق لقلبك في
النصوص كمثل ما
|
|
قد حذقوا في
الرأي طول زمان
|
وأكحل جفون
القلب بالوحيين واح
|
|
ذر كحلهم يا
كثرة العميان
|
فالله بين فيهما
طرق الهدى
|
|
لعباده في أحسن
التبيان
|
لم يحوج الله
الخلائق معهما
|
|
لخيال فلتان
ورأي فلان
|
فالوحي كاف للذي
يعنى به
|
|
شاف لداء جهالة
الانسان
|
وتفاوت العلماء
في أفهامهم
|
|
للوحي فوق تفاوت
الأبدان
|
الشرح
: فلو قيل لي ما
الذي تحبه وتهواه لقلت لسائلي مبادرا اياه : ان الذي اهوى هو زيارتي لكم أيها
الأحبة ولو أن أمشي إليكم على أجفاني. ولو أن الزمان جاد لي بوصلكم ونزلت منكم
بمكان قريب لأسجدن لله شكرا ممرغا خدي في التراب ولأكحلن الأجفان من تراب الاحباب.
وقد غلا المؤلف رحمهالله في هذه الأبيات ، ونحن لا نقره على هذا الغلو ، وان كنا
نعلم أنه لم يقصد بذلك شيئا مما يفعله القبوريون عند أضرحة شيوخهم من لثم العتبات
واستمداد البركات ، وان أردت يا طالب الحق أن تبصر ما ذكرت لك وأن تصل الى مثل ما
وصلت إليه ، فاغمض عينك عن كل ما سوى القرآن والآثار ، واهجر كل ما تواضع عليه
القوم من رسوم واصطلاحات ، ولا تجعل لها قيمة ففي لجة البحر ما يغنيك عن الوشل ،
وفي السعد ما يغنيك عن
الدبران. واعمل
بصيرة قلبك في فهم النصوص وتدبرها كما أعملوا هم عقولهم في فهم الآراء في كل زمان.
واكحل بنور الوحيين جفون قلبك حتى تنفتح له وتنتفع بما فيه من جليل العلم وصالح
المعرفة ، واحذر أن تكحلها بما عند القوم من ترهات وأوهام فيصيبك العمى كما أصاب
كثيرا ممن اكتحلوا بهذا الرغام.
وكيف تلتمس الهدى
في غيرهما والله بين فيهما طرق الهدى كلها لعباده أحسن بيان وأوضحه بحيث لم يحوج
خلقه معهما الى شيء آخر غيرهما من خيال مرور فلتان ، أو رأى أحمق خرفان ، فالوحي
في الكفاية كل الكفاية لم يتدبره ويتجه إليه بعقله وقلبه ويستشفي به من داء جهله ،
وأن تفاوت العلماء في فهمهم للوحى واستمدادهم منه بحسب ما قدر لكل منهم من استعداد
في الذكاء وقدرة في الاستخراج لأكثر مما بين الأبدان من تفاوت في القوة والضعف ،
فان قياس أقوى بدن الى أضعفه أقل بكثير من قياس أكمل فهم الى أنقصه ، وكما يقول
الشاعر :
ولم أر أمثال
الرجال تفاوتا
|
|
الى المجد حتى
عد ألف بواحد
|
* * *
والجهل داء قاتل
وشفاؤه
|
|
امران في
التركيب متفقان
|
نص من القرآن أو
من سنة
|
|
وطبيب ذاك
العالم الرباني
|
والعلم أقسام
ثلاث ما لها
|
|
من رابع والحق
ذو تبيان
|
علم بأوصاف
الاله وفعله
|
|
وكذلك الأسماء
للرحمن
|
والأمر والنهي
الذي هو دينه
|
|
وجزاؤه يوم
المعاد الثاني
|
والكل في القرآن
والسنن التي
|
|
جاءت عن المبعوث
بالفرقان
|
والله ما قال
امرؤ متحذلق
|
|
بسواهما إلا من
الهذيان
|
إن قلتم تقريره
فمقرر
|
|
بأتم تقرير من
الرحمن
|
أو قلتم إيضاحه
فمبيّن
|
|
بأتمّ إيضاح
وخير بيان
|
أو قلتم إيجازه
فهو الذي
|
|
في غاية الإيجاز
والتبيان
|
أو قلتم معناه
هذا فاقصدوا
|
|
معنى الخطاب
بعينه وعيان
|
أو قلتم نحن
التراجم فاقصدوا الم
|
|
عنى بلا شطط ولا
نقصان
|
أو قلتم بخلافه
فكلامكم
|
|
في غاية الإنكار
والبطلان
|
الشرح
: لا داء أدوأ من
الجهل فهو قاتل لأصحابه شر قتل ، وشفاء هذا الداء العياء في دواء مركب من عقارين اثنين
على سواهما هما نصوص الكتاب ونصوص السنة الغراء ولا بد في تحضير هذا الدواء من
طبيب نطاسي وعالم رباني بصير بموطن الداء كي تحصل العافية ويضمن الشفاء.
والعلم النافع
يرجع إلى أمور ثلاثة ليس لها رابع أولها العلم بأسماء الله عزوجل وصفاته وأفعاله ، فلذلك هو أصل كل علم وأساسه وهو علم
الأصول والفقه الأكبر ، والثاني : العلم بأحكامه سبحانه وشرائع دينه من كل ما أمر
به ، أو نهى عنه وذلك هو علم الفروع.
والثالث : العلم
بشئون المعاد التي أخبر عنها الله ورسوله من البعث والنشور ، والحساب والجزاء ،
والصراط والميزان ، والجنة والنار ، وغير ذلك مما ورد الكتاب والسنة بتفصيله.
وهذه العلوم
الثلاثة موجودة كلها في القرآن والسنة بأتم بيان وأوضح برهان ، فكل ما يقوله
المتحذلقون في هذه الأبواب من العلم مما ليس في كتاب ولا سنة ، فكله فشر وهذيان ،
فإن قلتم أن كلامنا هذا هو تقرير لما في الكتاب والسنة فهو لا يحتاج إلى تقريركم
فقد قرره الله ورسوله أعظم تقرير.
وإن قلتم أن
كلامنا إيضاح له وبيان قلنا بل هو مبين بأتم إيضاح وخير بيان وإن قلتم أنه تلخيص
له وإيجاز فهو في إيجازه وقوة عبارته في الدرجة القصوى البالغة حد الإعجاز.
وإن قلتم أنه كشف
عن معناه وتوضيح لمقاصده ، فلما ذا لم تقصدوا المعنى المفهوم من الخطاب وذهبتم إلى
معان أخر ليست هي التي تتبادر إلى الذهن عند
ذكر العبارة. فإذا
كنتم صادقين في دعواكم ترجمته وتفسيره فاقصدوا إلى معناه الذي يدل عليه اللفظ بلا
زيادة ولا نقصان. وإن صرحتم بأن كلامكم هذا بخلاف ما في الكتاب والسنة فقد أقررتم
على أنفسكم بأن كلامكم في غاية الإنكار والبطلان ، فإن كلام الله ورسوله هو حق كله
، وليس بعد الحق إلا الضلال.
* * *
أو قلتم قسنا
عليه نظيره
|
|
فقياسكم نوعان
مختلفان
|
نوع يخالف نصه
فهو المحا
|
|
ل وذاك عند الله
ذو بطلان
|
وكلامنا فيه
وليس كلامنا
|
|
في غيره أعني
القياس الثاني
|
ما لا يخالف نصه
فالناس قد
|
|
عملوا به في
سائر الأزمان
|
لكنه عند
الضرورة لا يصار
|
|
إليه إلا بعد ذا
الفقدان
|
هذا جواب
الشافعي لأحمد
|
|
لله درك من إمام
زمان
|
والله ما اضطر
العباد إليه في
|
|
ما بينهم من
حادث بزمان
|
فإذا رأيت النص
عنه ساكتا
|
|
فسكوته عفو من
الرحمن
|
وهو المباح
إباحة العفو الذي
|
|
ما فيه من حرج
ولا نكران
|
فأضف إلى هذا
عموما للفظ وال
|
|
معنى وحسن الفهم
في القرآن
|
فهناك تصبح في
غنى وكفاية
|
|
عن كل ذي رأي
وذي حسبان
|
الشرح
: وإن قلتم أننا
نقيس على المنصوص نظيره ، والقياس أحد الأدلة المعتبرة عند كثير من الفقهاء ، قلنا
لكم إن القياس نوعان متباينان : أحدهما نوع مخالف لفهم النص وذلك باطل محال ،
وكلامنا معكم إنما هو في هذا النوع ، لأن معظم أقيستكم ترجع إليه ، وليس كلامنا في
النوع الثاني من القياس ، وهو ما لا يكون مخالفا للنص ، فإن جمهور الفقهاء قد
اعتبروه وعملوا بمقتضاه في جميع العصور. وهذا هو الذي يذكره علماء الأصول في كتبهم
كأحد الأدلة الفقهية ، ويقسمونه إلى ثلاثة أقسام : الأول : قياس علة ، وهو ما كانت
العلة فيه موجبة
للحكم ومقتضية له
، وذلك كقياس تحريم ضرب الوالدين على التأفيف.
الثاني : قياس
دلالة ، وهو الاستدلال بأحد النظيرين على الآخر ، وهو أن تكون العلة دالة فقط على
الحكم ، وليست موجبة له كقياس مال الصبي على مال البالغ في وجوب الزكاة فيه.
الثالث : قياس
الشبه ، وهو أن يتردد الفرع بين أصلين فيلحق بأكثرهما شبها كالعبد المقتول ، فإنه
متردد في الضمان بين الإنسان الحر من حيث أنه آدمي وبين البهيمة من حيث أنه مال ،
وهو بالثاني أكثر شبها. وهذا القياس وإن كان جائزا لا يصار إليه إلا عند الضرورة
بأن يكون النص مفقودا.
وبهذا أجاب الإمام
الشافعي أخاه الإمام أحمد رحمهماالله تعالى ، فلله در الشافعي من إمام عصره ، ومع ذلك فإن
العباد لم يضطروا إليه فيما يجري عليهم من الحوادث في الأزمنة المختلفة ، فإن ما
يحدث لهم مما سكت عنه النص ولم يبين حكمه فهو مما عفا الله عزوجل عنه ، فهو مباح إباحة العفو الذي لا حرج عليهم فيه ولا
إنكار ، وقد صح عنه صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «أن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودا فلا
تعتدوها وحرم أشياء فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا
عنها».
فإذا أضفت إلى
نصوص الوحيين من الكتاب والسنة عموم ألفاظها ومعانيها وحسن الفهم لدلالات الكتاب
وجودة الاستنباط منه أصبحت بالوحيين في غنى تام عن كل ما عداهما ولم تحتج معها إلى
رأي أحد ولا حسبانه.
* * *
ومقدرات الذهن
لم يضمن لنا
|
|
تبيانها بالنص
والقرآن
|
وهي التي فيها
اعتراك الرأي من
|
|
تحت العجاج
وجولة الأذهان
|
لكن هنا أمران
لو تمّا لما
|
|
احتجنا إليه
فحبذا الأمران
|
جمع النصوص وفهم
معناها المرا
|
|
د بلفظها والفهم
مرتبتان
|
إحداهما مدلول
ذاك اللفظ وض
|
|
عا أو لزوما ثم
هذا الثاني
|
فيه تفاوتت
الفهوم تفاوتا
|
|
لم ينضبط أبدا
له طرفان
|
فالشيء يلزمه
لوازم جمة
|
|
عند الخبير به
وذي العرفان
|
فبقدر ذاك الخبر
يحصي من لوا
|
|
زمه وهذا واضح
التبيان
|
الشرح
: وأما ما تقدره
الأذهان وتجول فيه من وجوه الاحتمال والإمكان فهذه لم يضمن لنا أن يقع في النصوص
لها بيان ، وهي موضع اعتراك الآراء وتشاجر الأذهان ، لكن هنا أمران اثنان لو أنهما
حصلا على التمام من غير نقصان لما احتجنا إلى شيء مما تجول فيه الأذهان. أحدهما
استيعاب النصوص من السنة والقرآن ، والثاني فهم معناها المراد بلفظها ، ولهذا
الفهم درجتان ، إحداهما فهم ما يدل عليه اللفظ بطريق الوضع ، وهذا لا تختلف فيه
الأذهان ، فإنه لا يحتاج إلا إلى العلم بأن هذه الألفاظ موضوعة لتلك المعاني ،
وثانيتهما فهم ما يدل عليه اللفظ بطريق اللزوم ، بأن يكون المراد لازما للمعنى
الموضوع له اللفظ. ولما كان لكل من اللوازم ما لا حصر له ، فإن الأفهام تتفاوت في
هذا النوع من الدلالة تفاوتا لا ينضبط ، ويكون ذلك بحسب الخبرة وطول المراس لهذا
الشأن ، فكلما كان الإنسان أكثر خبرا وأوسع معرفة كان أكثر إدراكا لتلك اللوازم
والعكس بالعكس. وهذا أمر واضح لا يفتقر إلى بيان.
* * *
ولذلك عرف
الكتاب حقيقة
|
|
عرف الوجود
جميعه ببيان
|
وكذاك يعرف جملة
الشرع الذي
|
|
يحتاجه الإنسان
كل زمان
|
علما بتفصيل
وعلما مجملا
|
|
تفصيله أيضا
بوحي ثان
|
وكلاهما وحيان
قد ضمنا لنا
|
|
أعلى العلوم
بغاية التبيان
|
ولذاك يعرف من
صفات الله وال
|
|
أفعال والأسماء
ذي الإحسان
|
ما ليس يعرف من
كتاب غيره
|
|
أبدا ولا وما
قالت الثقلان
|
وكذاك يعرف من
صفات البعث بالت
|
|
فصيل والإجمال
في القرآن
|
ما يجعل اليوم
العظيم مشاهدا
|
|
بالقلب كالمشهود
رأي عيان
|
وكذاك يعرف من
حقيقة نفسه
|
|
وصفاتها بحقيقة
العرفان
|
يعرف لوازمها
ويعرف كونها
|
|
مخلوقة مربوبة
بيان
|
وكذاك يعرف ما
الذي فيها من ال
|
|
حاجات والاعدام
والنقصان
|
وكذاك يعرف ربه
وصفاته
|
|
أيضا بلا مثل
ولا نقصان
|
الشرح
: وإذا كانت ألفاظ
الكتاب الكريم وعباراته ، إما أن يراد منها معانيها الموضوعة لها : وإما أن يراد
منها لوازم تلك المعاني ، وهي من الكثرة بحيث تستوعب الأشياء كلها ، فلذلك كان من
عرف كتاب الله عزوجل معرفة حقيقة ووقف على كل ما تدل عليه ألفاظه من المعاني
بطريق الوضع أو الالتزام فإنه يكون قد عرف حقائق الوجود كلها معرفة جلية. وكذلك
يعرف كليات الأحكام والشرائع التي تلائم مصالح الناس وحاجاتهم في كل زمان ومكان
علما إجماليا ، ثم تجيء السنة وهي الوحي الثاني ببيان تلك الأحكام والشرائع
بالتفصيل فكلا من السنة والكتاب وحيان من عند الله قد تكفلا لمن تدبرهما أن يبلغ
ذروة العلم وسنام المعرفة.
ويعرف الواقف على
علم الكتاب أيضا من صفات الله العليا وأفعاله وأسمائه الحسنى ما لا يوجد مثله ولا
قريبا منه في كتاب غير القرآن ، ولا في كل ما قاله الثقلان من الإنس والجان.
ويعرف من صفات
البعث وأحوال اليوم الآخر ومشاهد القيامة في التفصيل والإجمال ما يجعله كأنه يعاين
ذلك اليوم وكأنه يعيش فيه الآن ، ويصير مشهودا له بالقلب كشهود العيان. ويعرف كذلك
من حقيقة نفسه وصفاتها وأحوالها التي تتقلب فيها ولوازمها التي لا تنفك عنها من
كونها حادثة مخلوقة لله مربوبة مقهورة في قبضة يده ، وما يعتريها من الفقر
والاحتياج عنها ونواحي النقص والعدم ما لا يقاس به كل ما يهرف به الفلاسفة في هذا
الشأن.
ويدرك أيضا أن
نفسه وهي مخلوقة مربوبة محدثة لا تماثل صفاتها صفات الأجسام ، فالرب الخالق الغني
أولى بأن لا تماثل صفاته صفات المخلوقين ،
فيعرف ربه وصفاته
معرفة منزهة عن المماثلة والنقصان.
* * *
وهنا ثلاثة أوجه
فافطن لها
|
|
إن كنت ذا علم
وذا عرفان
|
ماع بالضد
والأولى كذا بالامتناع
|
|
لعلمنا بالنفس
والرحمن
|
فالضد معرفة
الإله بضد ما
|
|
في النفس من عيب
ومن نقصان
|
وحقيقة الأولى
ثبوت كماله
|
|
إذ كان معطيه
على الإحسان
|
الشرح
: يعني أن من عرف ما
جاء في الكتاب والسنة من حقيقة النفس وأحوالها وصفاتها وما يلازمها من العيب
والنقص يستطيع أن يعبر من تلك المعرفة بنفسه إلى معرفة ربه من ثلاثة أوجه يجب أن
يفطن لها كل ذي قدم راسخة في العلم والمعرفة.
الوجه
الأول : أن يعرف ربه عزوجل بضد ما في نفسه من عيب ونقص ، فإذا كانت نفسه مخلوقة محدثة
مربوبة مملوكة عاجزة فقيرة جاهلة ، فيجب أن يعرف ربه بأنه الرب الخالق المالك
القادر الغني الحميد إلخ ..
الوجه
الثاني : أن يستدل على ثبوت
الكمال له سبحانه بطريق الأولى ، فإنه إذا كانت نفسه وهي مخلوقة محدثة ناقصة تتصف
بأنها حية عالمة قادرة مريدة سميعة بصيرة إلخ ، فالرب أولى أن يتصف بذلك ، فإن كل
كمال ثبت للمخلوق وأمكن أن يتصف به الخالق كان الخالق أولى به من المخلوق لأن
المخلوق إنما استفاد هذا الكمال من خالقه ، فهو الذي أفاده هذا الكمال إحسانا منه
وفضلا ، وفاقد الشيء لا يمكن أن يعطيه ، ولأنه سبحانه لو خلا من هذا الكمال الممكن
له مع وجوده في المخلوق لكان في المخلوقات من هو أكمل منه ، وكل هذا باطل محال.
الوجه
الثالث الاستدلال على
تنزهه سبحانه عن النقص بطريق الامتناع ، وذلك أن يقال كل نقص تنزه عنه المخلوق ،
فإنه يمتنع أن يتصف به الخالق ، إذ الخالق أولى بتنزهه عن النقص من المخلوق.
يقول شيخ الإسلام
ابن تيمية في رسالته (التدمرية) :
(والمقصود أن
الروح إذا كانت موجودة حية عالمة قادرة سمعية بصيرة تصعد وتنزل وتذهب وتجيء ونحو
ذلك من الصفات ، والعقول قاصرة عن تكييفها وتحديدها ، لأنهم لم يشاهدوا لها نظيرا
، والشيء إنما تدرك حقيقته بمشاهدته أو مشاهدة نظيره ، فإذا كانت الروح متصفة بهذه
الصفات مع عدم مماثلتها لما يشاهد من المخلوقات فالخالق أولى بمباينته لمخلوقاته
مع اتصافه بما يستحقه من أسمائه وصفاته).
* * *
فصل
في بيان شرط كفاية النصين والاستغناء بالوحيين
وكفاية النصّين
مشروط بتج
|
|
ريد التلقي عنها
لمعان
|
وكذاك مشروط
بخلع قيودهم
|
|
فقيودهم غل إلى
الأذقان
|
وكذاك مشروط
بهدم قواعد
|
|
ما أنزلت
ببيانها الوحيان
|
وكذاك مشروط
بإقدام على
|
|
الآراء إن عريت
عن البرهان
|
بالرد والابطال
لا تعبأ بها
|
|
شيئا إذا ما
فاتها النصان
|
لو لا القواعد
والقيود وهذه
|
|
الآراء لاتّسعت
عرى الإيمان
|
لكنها والله
ضيقة العرى
|
|
فاحتاجت الأيدي
لذاك توان
|
وتعطلت من أجلها
والله أع
|
|
داد من النصّين
ذات بيان
|
الشرح
: وإذا كانت نصوص
الكتاب والسنة فيهما الكفاية والشفاء لمعرفة الدين كله أصوله وفروعه ، فإن تلك
الكفاية مشروطة بشروط لا بد من اعتبارها في ذلك.
أولا
: أن يقوم الملتقي
عنهما بالتجريد لما يفهم منها من معان بأن لا يصرف نصوصهما إلى معان أخر بتأويل لا
دليل عليه ولا موجب له.
ثانيا
: أن يهدم كل
القواعد والمصطلحات التي تواضع عليها الناس ، ولم يرد بشأنها بيان من السنة
والقرآن.
ثالثا
: أن يعمد إلى كل
المقالات والآراء التي لم يقم عليها برهان فيدفعها ويجتهد في إبطالها ، ولا يقيم
لها وزنا ما دامت غير قائمة على نصوص من الكتاب والسنة.
ووالله لو لا ما
عمدت إليه فرق الزيغ والضلال من وضع القواعد والقيود والمذاهب التي أسست عليها
لوجدت عرى الإيمان وقواعده واسعة لا حرج فيها ولا تعقيد ولكن هؤلاء ضيقوا عراه بما
أحدثوا من المبادئ والاصطلاحات حتى عطلوا بها نصوصا كثيرة من الكتاب والسنة مع
أنها في غاية الوضوح والبيان.
* * *
وتضمنت تقييد
مطلقها وإط
|
|
لاق المقيد وهو
ذو ميزان
|
وتضمنت تخصيص ما
عمّته والت
|
|
عميم للمخصوص
بالأعيان
|
وتضمنت تفريق ما
جمعت وجم
|
|
عا للذي وسمته
بالفرقان
|
وتضمنت تضييق ما
قد وسع
|
|
ته وعكسه فلتنظر
الأمران
|
وتضمنت تحليل ما
قد حرمت
|
|
ه وعكسه فلتنظر
النوعان
|
سكتت وكان
سكوتها عفوا فلم
|
|
تعف القواعد
باتساع بطان
|
وتضمنت إهدار ما
اعتبرت كذا
|
|
بالعكس والأمران
محذوران
|
وتضمنت أيضا
شروطا لم تكن
|
|
مشروطة شرعا بلا
برهان
|
وتضمنت أيضا
موانع لم تكن
|
|
ممنوعة شرعا بلا
تبيان
|
إلا بأقيسة
وآراء وتلق
|
|
ليد بلا علم أو
استحسان
|
الشرح
: يذكر المؤلف في
هذه الأبيات أنواع الجنايات التي جنتها القواعد والاصطلاحات على نصوص الكتاب
والسنة ، وهذه الجنايات كما يأتي :
١ ـ عمدت إلى ما
أطلقته النصوص فلم تقيد بشرط ولا صفة ولا استثناء
فقيدته بواحد من
هؤلاء وإلى ما قيدته النصوص كذلك فأطلقته دون اعتبار للقيود مع أن كلا من الإطلاق
والتقييد في النصوص له ميزان واعتبار.
٢ ـ تضمنت كذلك
تخصيص ما عممته النصوص وتعميم ما خصصته وجعلته معينا ولم تراع ما أرادته النصوص من
العموم والخصوص.
٣ ـ فرقت بين ما
جمعته النصوص وجعلته شيئا واحدا ، وجمعت كذلك ما أرادت النصوص تفريقه.
٤ ـ ضيقت ما وسعته
النصوص ، ووسعت ما ضيقته ، فلينظر ما في النصوص من تضييق وتوسيع.
٥ ـ تضمنت أيضا
تحليلا لما حرمته النصوص ، وحرمت ما أحلته بأن سكتت عنه النصوص ، وكان سكوتها عفوا
وتجاوزا ، ولكن القواعد لم تعف ولم تتسع لما اتسعت له النصوص.
٦ ـ أهدرت ما
اعتبرته النصوص ، واعتبرت ما أهدرته وكلاهما ممنوع ، بل الواجب اعتبار ما اعتبرته
النصوص وإهدار ما أهدرته.
٧ ـ تضمنت شروطا
مشروطة في الشرع ولا برهان لهم عليها.
٨ ـ وتضمنت أيضا
موانع لم يعتبرها الشرع بلا حجة ولا دليل اللهم إلا أقيسة فاسدة وآراء باطلة ،
وتقليدا للرجال بلا علم ولا استحسان.
* * *
عمن أتت هذى
القواعد من جمي
|
|
ع الصحب
والأتباع بالإحسان
|
ما أسسوا إلا
أتباع نبيهم
|
|
لا عقل فلتان
ورأي فلان
|
بل أنكروا
الآراء نصحا منهم
|
|
لله والداعي
وللقرآن
|
أو ليس في خلف
بها وتناقض
|
|
ما دل ذا لب وذا
عرفان
|
والله لو كانت
من الرحمن ما اخ
|
|
تلفت ولا انتقضت
مدى الأزمان
|
شبه تهافت
كالزجاج تخالها
|
|
حقا وقد سقطت
على صفوان
|
والله لا يرضى
بها ذو همة
|
|
علياء طالبة
لهذا الشأن
|
فمثالها والله
في قلب الفتى
|
|
وثباتها في منبت
الإيمان
|
كالزرع ينبت
حوله دغل فيم
|
|
نعه النما فتراه
ذا نقصان
|
وكذلك الإيمان
في قلب الفتى
|
|
غرس من الرحمن
في الإنسان
|
والنفس تنبت
حوله الشهوات
|
|
والشبهات وهي
كثيرة الأفنان
|
فيعود ذاك الغرس
يبسا ذاويا
|
|
أو ناقص الثمرات
كل أوان
|
فتراه يحرث
دائبا ومغله
|
|
نزر وذا من أعظم
الخسران
|
والله لو نكش
النبات وكان ذا
|
|
بصر لذاك الشوك
والسعدان
|
لأتى كأمثال
الجبال مغله
|
|
ولكان أضعافا
بلا حسبان
|
الشرح
: يتساءل المؤلف عمن
أثرت هذه القواعد؟ التي أسسها هؤلاء وبنوا عليها ما بنوا من المذاهب والآراء ، إنه
لم يقل بها أحد من صحابة رسول الله صلىاللهعليهوسلم ولا من التابعين لهم بإحسان ، فإنهم ما أسسوا للناس في
دينهم إلا اتباع نبيهم الكريم ولم يأمروهم بالجري وراء عقول الحمقى وآراء السفهاء
، بل كلهم شدد النكير على من يأخذ بالرأي في دين الله عزوجل نصحا منهم لله وكتابه ورسوله عملا بقوله صلىاللهعليهوسلم : «الدين النصيحة قلنا : لمن يا رسول الله؟ قال : لله
ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم».
وإن في اختلاف هذه
الآراء وتناقضها ما يدل كل ذي عقل ومعرفة على أنها ليست من دين الله في شيء ، إذ
لو كانت من عنده سبحانه ما اختلفت ولا تناقضت في أي عصر ولا زمان ، بل هي في
حقيقتها شبه واهية لا أصل لها كأنها بيت من الزجاج قد سقط على حجر صلب فصار هشيما
، وو الله ما يرضى بها من كانت له همة علياء في طلب الحق وتسعى لمعرفته ، فمثالها
في قلب أصحابها وثباتها في منبت الإيمان كهذه الحشائش الضارة الطفيلية التي تمنع
الزرع من النماء والتمام ، فلا يعطي غلته كاملة. فالإيمان في قلب العبد هو غرس
الله ، والنفس تنبت من حوله وفي خلاله أفنانا كثيرة من الشهوات والشبهات التي
تأكله وتعوق نموه حتى يرى بعد نضرته يابسا ذاويا ناقص الثمرة ، فهو يزرع باستمرار
ويتعهد
بالسقي والحرث ،
ولكن مغله قليل بسبب وجود هذه النباتات التي لو نكشت وأخرجت لجاءت غلته أضعافا
مضاعفة.
* * *
فصل
هذا وليس الطعن
بالإطلاق في
|
|
ها كلها فعل
الجهول الجاني
|
بل في التي قد
خالفت قول الرسو
|
|
ل ومحكم الإيمان
والفرقان
|
أو في التي ما
أنزل الرحمن في
|
|
تقريرها يا قوم
من سلطان
|
فهي التي كم
عطلت من سنة
|
|
بل عطلت من محكم
القرآن
|
هذا وترجو أن
واضعها فلا
|
|
يعدوه أجر أو له
أجران
|
إذا قال مبلغ
عمله من غير إي
|
|
جاب القبول له
على إنسان
|
بل قد نهانا عن
قبول كلامه
|
|
نصا بتقليد بلا
برهان
|
وكذاك أوصانا
بتقديم النصو
|
|
ص عليه من خبر
ومن قرآن
|
نصح العباد بذا
وخلص نفسه
|
|
عند السؤال لها
من الديان
|
والخوف كل الخوف
فهو على الذي
|
|
ترك النصوص لأجل
قول فلان
|
وإذا بغى
الإحسان أولها بما
|
|
لو قاله خصم له
ذو شان
|
لرماه بالداء
العضال مناديا
|
|
بفساد ما قد
قاله بأذان
|
الشرح
: وإذا كنا ننكر على
هؤلاء ما وضعوا من قواعد واصطلاحات جنوا بها على الدين ، وخالفوا بها دلالات
النصوص ، فإن ذلك الطعن ليس على اطلاقه بحيث يكون متناولا لجميعها ، فإننا لا نريد
التجني على أحد أو غمط ما عنده من حق ، وإنما نريد بالإنكار والطعن تلك القواعد
التي جاءت مخالفة لأقوال الرسول صلىاللهعليهوسلم ومناقضة لمحكم الإيمان وصريح القرآن وكذلك التي لم يرد في
تقريرها حجة من الله ولا برهان ، فهذه هي التي عطلت كثيرا من النصوص الصريحة من
الكتاب والسنة ، ومع ذلك يرجو واضعها أن يثاب على اجتهاده فيها
فإن كان قد أخطأ
فله أجر وإن كان قد أصاب فله أجران ، لأنه قد قال بما أداه إليه اجتهاده وما بلغه
علمه من غير أن يوجب قبول قوله ومذهبه على إنسان ، بل كل واحد من الأئمة المجتهدين
نهى أن يأخذ أحد بكلامه تقليدا له من غير أن يعرف دليله ، وأوصى كل من اطلع على نص
يخالف مذهبه أن يأخذ بالنص ويترك مذهبه ، فكلهم قالوا حيث يصح الحديث فهو مذهبنا ،
نصحا للعباد لكي يخلصوا بذلك أنفسهم من تبعة السؤال عند الله يوم القيامة.
فهؤلاء المجتهدون
على رجاء من المغفرة ، ولكن الخوف كله على هؤلاء المقلدين المتعصبين لمذاهب أئمتهم
، بحيث يتركون النصوص لأجلها ، وإذا أراد أحدهم الإحسان والتوفيق بين هذه النصوص
وبين قول امامه أولها تأويلات بعيدة ومتكلفة ، يحمل الألفاظ فيها ما لا تحتمله ،
وقال في ذلك ما لو قاله خصمه ذو الشأن والشهرة لرماه بالحمق وفساد الرأي ولشنع
عليه اعظم التشنيع.
* * *
فصل
في لازم المذهب هل هو مذهب أم لا؟
ولوازم المعنى
تراد بذكره
|
|
من عارف بلزومها
الحقاني
|
وسواه ليس بلازم
في حقه
|
|
قصد اللوازم وهي
ذو تبيان
|
إذ قد يكون
لزومها المجهول أو
|
|
قد كان يعلمه
بلا نكران
|
لكن عرته غفلة
بلزومها
|
|
إذ كان ذا سهو
وذا نسيان
|
ولذاك لم يك
لازما لمذاهب ال
|
|
علماء مذهبهم
بلا برهان
|
فالمقدمون على
حكاية ذاك مذ
|
|
هبهم أولو جهل
مع العدوان
|
لا فرق بين
ظهوره وخفائه
|
|
قد يذهلون عن
اللزوم الداني
|
سيما إذا ما كان
ليس بلازم
|
|
لكن يظن لزومه
بجنان
|
لا تشهدوا
بالزور ويحكم على
|
|
ما تلزمون شهادة
البهتان
|
الشرح
: أعلم أن الجهمية
المعطلة لا يجدون لهم سلاحا يشهرونه في وجه أهل الحق والإثبات إلا إيراد اللوازم
والرمي بالشناعات ، فيقولون لهم مثلا : يلزم على اثباتكم صفة العلو لله أن يكون في
جهة وأن يكون في حيز ، وأن يكون ذا قدر ونهاية ، وأن يكون جسما كما يلزم على إثبات
الوجه واليد والعين أن يكون له جوارح وأعضاء إلى غير ذلك مما امتلأت به كتبهم التي
ألفوها في نفي الصفات ودفع مذهب أهل الإثبات.
والمؤلف رحمهالله يرد عليهم هنا بأن لوازم المعنى لا تكون مقصودة عند ذكره
إلا ممن يعرف لزومها له ، فهذا هو الذي يمكن أن يؤخذ بما يلزم ما يثبته من معان ،
وأما غيره ممن يجهل اللزوم بينهما فليس بلازم في حقه القصد إلى اللوازم عند ذكر
المعنى مهما تكن اللوازم بينة واضحة ، إذ قد يكون لزومها مجهولا له ، أو يكون
معلوما ولكن أصابته غفلة عن ذلك اللزوم بسبب كثرة سهوه ونسيانه ، ولذلك قرر
العلماء بأن لازم المذهب لا يكون مذهبا بلا حجة ولا برهان ، وأن من حكى ذلك عنهم
فهو من أجهل الجهل والعدوان ، ولا فرق في ذلك بين اللوازم الظاهرة واللوازم الخفية
، فإن الإنسان قد يذهل عن اللازم القريب ، وهذا الحكم أنما هو بالنسبة إلى اللوازم
التي ثبت لزومها ، أما ما ليس بلازم في الحقيقة ، ولكن يظن الذهن لزومه ، فهذا
أولى أن لا يعتبر لازما ، فلا تشهدوا أيها المعطلة على ما تلزموننا به شهادة زور
وبهتان ، فترمونا بالقول بتلك اللوازم ، وأنها مذهب لنا ، مع أنا لم نقصدها ولم
تخطر لنا في الأذهان عند إثبات الصفات للرحمن.
* * *
بخلاف لازم ما
يقول الهنا
|
|
ونبينا المعصوم
بالبرهان
|
فلذا دلالات
النصوص جلية
|
|
وخفية تخفى على
الأذهان
|
والله يرزق من
يشاء الفهم في
|
|
آياته رزقا بلا
حسبان
|
واحذر حكايات
لأرباب الكلا
|
|
م عن الخصوم
كثيرة الهذيان
|
فحكوا بما ظنوه
يلزمهم فقا
|
|
لوا ذاك مذهبهم
بلا برهان
|
كذبوا عليهم
باهتين لهم بما
|
|
ظنوه يلزمهم من
البهتان
|
فحكى المعطل عن
أولي الاثبات قو
|
|
لهم بأن الله ذو
جثمان
|
وحكى المعطل
أنهم قالوا بأن
|
|
الله ليس يرى
لنا بعيان
|
وحكى المعطل
أنهم قالوا يجوز
|
|
ز كلامه من غير
قصد معان
|
وحكى المعطل
أنهم قالوا بتحي
|
|
يز الإله وحصره
بمكان
|
وحكى المعطل
أنهم قالوا له ال
|
|
أعضاء جل الله
عن بهتان
|
وحكى المعطل أن
مذهبهم هو الت
|
|
شبيه للخلاق
بالإنسان
|
وحكى المعطل
عنهم ما لم يقو
|
|
لوه ولا أشياخهم
بلسان
|
الشرح
: يعني إذا كان لازم
المذهب قد لا يكون مقصودا لصاحب المذهب لجواز جهله باللزوم أو غفلته عنه ، فإن ذلك
لا ينطبق على لوازم الكتاب والسنة بل كل ما يقوله الله عزوجل ورسوله المعصوم صلوات الله عليه وسلامه لا بد أن تكون
لوازمه كلها مقصودة ، ولذلك كانت دلالات النصوص منها ما هو جلي ظاهر ، ومنها ما هو
شديد الخفاء ، وذلك لتفاوت اللوازم في القرب والبعد من المعنى الأصلي ، فبعضها
يكون لزومه لهذا المعنى واضحا وبعضها يكون خفيا ، والله سبحانه هو الذي يرزق من
يشاء من عباده الفهم لمعاني كلامه رزقا واسعا بلا تقدير ، كما أثر عن علي رضي الله
عنه أنه سئل هل وصى لكم رسول الله صلىاللهعليهوسلم بشيء؟ فقال لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ، إلا أن يعطي
الله عبده فهما في كتابه وإلا ما في هذه الصحيفة.
وكذلك ما عرف عن
سعة علم ابن عباس رضي الله عنهما بوجوه التأويل حتى سمي ترجمان القرآن ، وذلك
ببركة دعاء رسول الله صلىاللهعليهوسلم حين وضع يده على صدره ، وقال : «اللهم فقهه في الدين وعلمه
التأويل».
وإذا عرفت أن لازم
المذهب لا يصح أن يكون مذهبا فضلا عما يظن لزومه مما ليس بلازم فاحذر ما يحكيه
علماء الكلام عن خصومهم من أهل الحق والإثبات من حكايات فيها كثير من الهراء
والهذيان ، فقد ذكروا ما ظنوه لازما
لمذاهبهم وحكوه
على أنه مذهب لهم بلا حجة ولا برهان ، فكذبوا بذلك عليهم وبهتوهم بما هم منه براء
مما ظنوه يلزمهم من الأقوال والآراء. فحكوا عنهم أنهم قالوا أن الله تعالى جسم ذو
جوارح وأعضاء لما رأوهم يثبتون ما أثبته لنفسه من الوجه واليدين والعينين وغير ذلك
من الصفات.
وحكوا عنهم كذلك
أنهم قالوا أن الله ليس يرى رؤية حقيقية بالعين لما رأوهم ينفون عنه الكيف
والإحاطة ويقولون ما قاله القرآن : (لا تُدْرِكُهُ
الْأَبْصارُ) [الأنعام : ١٠٣].
وحوا عنهم أنهم
قالوا يجوز أن يكون كلامه سبحانه مجردا عن قصد المعاني لما رأوهم يثبتون لوازم تلك
المعاني ويدخلونها في دلالة الألفاظ.
وحكوا عنهم أنهم
قالوا بأن الله متحيز ومحصور في المكان ، لأنهم رأوهم يثبتون له جهة العلو
والفوقية.
وحكوا عنهم بأنهم
يثبتون لله الأعضاء ، لأنهم أثبتوا له من الصفات ما يطلق فينا على الجوارح
والأعضاء.
وحكوا عنهم أنهم
شبهوا الله عزوجل بخلقه حين رأوهم قد وصفوه بما وصف به نفسه وبما وصفه به
رسوله مما يوجد مسماه في الإنسان.
وبالجملة فقد حكى
المعطل عنهم ما لم يتلفظوا به لا هم ولا شيوخهم ، وإنما هي أمور استنتجها من
مذهبهم بالظن والتخمين ، فوقع في الكذب والبهتان والضلال المبين.
* * *
ظن المعطل أن
هذا لازم
|
|
فلذا أتى بالزور
والعدوان
|
فعليه في هذا
معاذير ثلا
|
|
ث كلها متحقق
البطلان
|
ظن اللزوم
وقذفهم بلزومه
|
|
وتمام ذاك شهادة
الكفران
|
يا شاهدا بالزور
ويحك لم تخف
|
|
يوم الشهادة
سطوة الديان
|
يا قائل البهتان
غط لوازما
|
|
قد قلت
ملزوماتها ببيان
|
والله لازمها
انتفاء الذات وال
|
|
أوصاف والأفعال
للرحمن
|
والله لازمها
انتفاء الدين وال
|
|
قرآن والإسلام
والإيمان
|
ولزوم ذلك بيّن
جدا لمن
|
|
كانت له أذنان
واعيتان
|
والله لو لا ضيق
هذا النظم بي
|
|
نت اللزوم بأوضح
التبيان
|
ولقد تقدم منه
ما يكفى لمن
|
|
كانت له عينان
ناظرتان
|
أن الذكي ببعض
ذلك يكتفي
|
|
وأخو البلادة
ساكن الجبان
|
الشرح
: ظن المعطل أن هذه
الأمور المتقدمة لازمة لمذاهب أهل الحق والإثبات فاعتقدها مذهبا لهم وحملهم إياها
زورا وعدوانا ، وارتكب في حقهم ثلاث جنايات كلها باطلة. الأولى : ظنه لزوم هذه
الأمور لمذاهبهم. والثانية : رميه إياهم بذلك اللزوم. والثالثة : التي هي تمام
الثلاثة شهادته عليهم بالكفر بسبب ما ظنه لازما لمذهبهم.
فويحك يا شاهد
الزور والبهتان كيف لم تخف يوم تسأل عن شهادتك سطوة الديان ، وبدلا من أن ترمي
خصومك بلوازم مظنونة ليس لك عليها برهان كان أولى بك أن تستر ما يلزم مذهبك من
لوازم في غاية البيان ، وفي الدرجة القصوى من الشناعة والنكران ، فإن لازمها هو
انتفاء الذات والصفات والأفعال للرحمن بل ولازمها انتفاء الدين والقرآن والإسلام
والإيمان ، ولزوم هذه اللوازم الشنيعة لمذهبكم بين جدا لمن كانت له عينان ، فإن وصفه
تعالى بصفات السلوب والاعدام من كونه ليس داخل العالم ولا خارجه ، ولا متصلا ولا
منفصلا ، ولا قريبا ولا بعيدا ، ولا في جهة ولا مكان ، وليس بذي مقدار ولا صورة
الخ ، يفضي إلى نفي وجوده سبحانه في الأعيان ويصبح أمرا مفروضا في الأذهان ، وإذا
انتفى وجوده فقد انتفت صفاته وأفعاله.
وأيضا نفيكم لقيام
الفعل بذاته وجعلكم أفعاله تعلقات للقدرة مستلزم لنفي الفعل عنه واعتقادكم أنه ليس
متكلما بهذا القرآن الذي بين أيدينا يقتضي أنه ليس
له بيننا كلام ،
وذلك يستلزم نفي الرسالة لأن بناءها على تكليم الله لرسله ، وإذا انتفت الرسالة
انتفت معها شرائع الإسلام والإيمان ، وهكذا تجد اللوازم لمذهبهم في غاية الوضوح
والبيان ، ولكن ضيق النظم وقيوده تمنع من ذكرها على التفصيل ، ولكن قد تقدم منها
ما يكفي لمن كانت له عينان متفتحتان ، فإن الذكي تكفيه الإشارة إلى بعضها أما أخو
البلادة فهو يسكن مع الأموات في الجبان.
* * *
يا قومنا
اعتبروا بجهل شيوخكم
|
|
بحقائق الإيمان
والقرآن
|
أو ما سمعتم قول
أفضل وقته
|
|
فيكم مقالة جاهل
فتان
|
إن السموات
العلى والأرض قب
|
|
ل العرش
بالإجماع مخلوقان
|
والله ما هذي
مقالة عالم
|
|
فضلا عن الإجماع
كل زمان
|
من قال ذا قد
خالف الإجماع وال
|
|
خبر الصحيح
وظاهر القرآن
|
فانظر إلى ما
جره تأويل لف
|
|
ظ الاستواء
بظاهر البطلان
|
زعم المعطل أن
تأويل استوى
|
|
بالخلق والإقبال
وضع لسان
|
كذب المعطل ليس
ذا لغة الألى
|
|
قد خوطبوا
بالوحي والقرآن
|
فأحاره هذا إلى
أن قال خلق الع
|
|
رش بعد جميع ذي
الأكوان
|
يهنيه تكذيب
الرسول له وإج
|
|
ماع الهداة
ومحكم القرآن
|
الشرح
: وكان ينبغي لكم
بدلا من رميكم أهل الإثبات بالجهل والعجز عن إدراك المعقولات أن تعتبروا بما
لشيوخكم من فضائح وشناعات دلت على جهلهم بحقائق الإيمان وصريح الآيات ، ولا بد أن
تكونوا قد سمعتم بما قاله امام منكم كان يعد أفضل عصره علما وتدقيقا مقالة جاهل يبغي
الفتنة وصرف الناس عن صريح الكتاب والسنة ، فقد قال هذا الجاهل ويا شناعة ما قال
إن السموات والأرض مخلوقة كلها قبل العرش ، وادعى في ذلك الإجماع في
__________________
كل عصر ، وو الله
ما يصح أن يصدر هذا القول ممن شمّ رائحة العلم فضلا عن أن يدعي فيه الإجماع ، بل
من قال به فهو مخالف للإجماع وللخبر الصحيح وظاهر القرآن. والذي جره إلى الوقوع في
هذه الشناعة أنه أراد ان يصرف لفظ الاستواء عما يدل عليه لغة ووضعا من العلو
والارتفاع إلى معان أخرى باطلة فزعم أن معنى قوله تعالى : (اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) [الأعراف : ٥٤] أقبل على خلقه ، وأن دلالته عليه بوضع
اللغة ، وهذا كذب صريح على اللغة التي نزل بها القرآن ، فليس فيها استوى على كذا
بمعنى أقبل على خلقه. ولكنه أراد أن يتوصل من هذا التفسير العجيب إلى القول بأن
العرش مخلوق بعد السموات والأرض ، لأن الله سبحانه ذكر أنه استوى على العرش بعد
خلق السموات والأرض ، فإذا فسر استوى بخلق دل على أنه خلقه بعد خلقهما.
فليهن هذا الجاهل
الكذاب تكذيب الرسول صلىاللهعليهوسلم له فقد قال في الصحيح «كان الله ولم يكن شيء غيره وكتب في
الذكر كل شيء ، وخلق السموات والأرض وكان عرشه على الماء» فقد أخبر أنه عند خلقه
السموات والأرض كان عرشه على الماء ، فدل على أن العرش كان موجودا قبل خلقهما.
وقد أجمع الأئمة
الهداة على ذلك لم يختلف فيه منهم اثنان ، وفي هذا الإجماع تكذيب له أي تكذيب ،
وليهنه كذلك تكذيب محكم القرآن له ، فقد قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى
الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [هود : ٧] والآية موافقة للحديث في وجود العرش على الماء
عند خلق السموات والأرض.
* * *
فصل في الرد عليهم في تكفيرهم أهل العلم والإيمان
وذكر انقسامهم إلى أهل الجهل والتفريط والبدع والكفران
ومن العجائب
أنكم كفرتم
|
|
أهل الحديث
وشيعة القرآن
|
إذ خالفوا رأيا
له رأى ينا
|
|
قضه لأجل النص
والبرهان
|
وجعلتم التكفير
عين خلافكم
|
|
ووفاقكم فحقيقة
الإيمان
|
فوفاقكم ميزان
دين الله لا
|
|
من جاء بالبرهان
والفرقان
|
ميزانكم ميزان
باغ جاهل
|
|
والعول كل العول
في الميزان
|
أهون به ميزان
جور عائل
|
|
بيد المطفّف ويل
ذا الوزان
|
لو كان ثم حيا
وأدنى مسكة
|
|
من دين أو علم
ومن إيمان
|
لم تجعلوا
آراءكم ميزان كف
|
|
ر الناس
بالبهتان والعدوان
|
هبكم تأولتم
وساغ لكم
|
|
أيكفر من
يخالفكم بلا برهان
|
هذه الوقاحة
والجراءة والجها
|
|
لة ويحكم يا
فرقة الطغيان
|
الله أكبر ذا
عقوبة تا
|
|
رك الوحيين
للآراء والهذيان
|
الشرح
: ومن عجيب أمركم
أيها المعطلة الجاحدون أنكم تعمدون إلى تكفير خير الناس من أصحاب الحديث وأنصار
القرآن العظيم لا لشيء إلا أنهم خالفوا آراءكم الضالة المناقضة من أجل ما عندهم من
النصوص والأدلة القاطعة.
ومن العجيب أنكم
تجعلون التكفير سيفا مصلتا على من يخالفكم في هذه الآراء ، وأما من يوافقكم عليها
فهو عندكم مؤمن كامل الإيمان ، فجعلتم موافقتكم هي الميزان لدين الله لا موافقة
رسوله المبعوث من عنده بالبرهان والفرقان مع أن ميزانكم قائم على أمرين يجعلانه
ميزان جور وخسران ، وهما البغي على عباد الله والجهل بدينه ، فبئس الأمران أهون
بميزان يقوم على جهل وعدوان ، فهو ميزان جور مائل وهو بيد مطفف مخسر للميزان ،
فويل له يوم يقوم الناس لربنا الديان ، ولو كان عندكم بقية من حياء أو أقل مسكة من
دين ، أو علم أو إيمان لم تجعلوا آراءكم هي ميزان كفر الناس بالبهتان والعدوان.
فإنه لو قدر أنكم متأولون وسوغت لكم عقولكم هذا التأويل فهل يجوز لمتأول أن يكفر
من يخالفه بلا حجة على كفره ولا برهان لكنها الوقاحة والجراءة ، والجهالة التي
كانت نصيبكم من الأخلاق يا أمة الطغيان عقوبة من الله لكم على ترككم الوحيين من
السنة والقرآن إلى آراء كلها فشر وهذيان.
* * *
لكننا نأتي بحكم
عادل
|
|
فيكم لأجل مخافة
الرحمن
|
فاسمع إذا يا
منصفا حكميهما
|
|
وانظر إذا هل
يستوي الحكمان
|
هم عندنا قسمان
أهل جهالة
|
|
وذوو العناد
وذلك القسمان
|
جمع وفرق بين
نوعيهم هما
|
|
في بدعة لا شكّ
يجتمعان
|
وذوو العناد
فأهل كفر ظاهر
|
|
والجاهلون فانهم
نوعان
|
متمكنون من
الهدى والعلم بال
|
|
أسباب ذات اليسر
والإمكان
|
لكن إلى أرض
الجهالة أخلدوا
|
|
واستسهلوا
التقليد كالعميان
|
لم يبذلوا
المقدور في إدراكهم
|
|
للحق تهوينا
بهذا الشأن
|
فهم الألى لا شك
في تفسيقهم
|
|
والكفر فيه
عندنا قولان
|
والوقف عندي
فيهم لست الذي
|
|
بالكفر أنعتهم
ولا الإيمان
|
والله أعلم
بالبطانة منهم
|
|
ولنا ظهارة حلة
الاعلان
|
لكنهم مستوجبون
عقابه
|
|
قطعا لأجل البغي
والعدوان
|
الشرح
: لكننا لا نحكم
فيكم بالجور والظلم كما حكمتم فينا ، بل نحكم فيكم بالعدل والإنصاف من أجل خوفنا
من الله عزوجل. فليسمع إذا كل منصف من الناس حكمنا وحكمكم ، ثم لينظر هل
يستوي الحكمان. أما حكمكم فينا فقد عرف ما فيه من شطط وعدوان. وأما حكمنا فيكم
فأنتم عندنا نوعان : أهل جهالة وذوو عناد وشقاق وعصيان ، وبينكم قدر مشترك تجتمعون
فيه ، وهو أنكم أهل بدعة وضلالة خارجون عن السنة والقرآن ، ثم تفترقون بعد ذلك
فيما يستحقه كل منكم من وصف الكفر أو الإيمان ، فأما أهل العناد والمشاقة فكفرهم
ظاهر واضح للعيان. وأما أهل الجهالة منكم فإنهم عندنا نوعان : نوع كان متمكنا من
الهدى والعلم قد يسرت له أسبابه من عقل ذكي وبصر نافذ وقدرة على فهم معاني السنة
والقرآن ، لكنهم مالوا إلى القعود والكسل ورضوا بالتخلف وعطلوا ما وهبهم الله من
سلامة العقول وجودة الأذهان ، واستسهلوا الجري وراء غيرهم ، يقلدونهم كالعميان ،
ولم يبذلوا الوسع في إدراكهم للحق لقلة اكتراثهم بهذا الشأن ، فهؤلاء لا يشك أحد
في أنهم فساق لخروجهم عما كان
ينبغي لهم من
النظر الذي هو خاصة الإنسان ، وأما تكفيرهم ففيه لأهل السنة قولان ، ولكن المؤلف
اختار الوقف في شأنهم ، فهو لا يصفهم بكفر ولا إيمان فكل بواطنهم إلى الله العليم
بالسر والإعلان ، ويحكم عليهم بما يظهر منهم جهرة بلا كتمان ، ونعلم أنهم مستوجبون
للعقاب قطعا لما ارتكبوه في حق المثبتين الموحدين من بغي وعدوان.
* * *
هبكم عذرتم بالجهالة
أنكم
|
|
لن تعذروا
بالظلم والطغيان
|
والطعن في قول
الرسول ودينه
|
|
وشهادة بالزور
والبهتان
|
وكذلك استحلال
قتل مخالفي
|
|
كم قتل ذي
الإشراك والعدوان
|
إن الخوارج ما
أحلوا قتلهم
|
|
إلا لما ارتكبوا
من العصيان
|
وسمعتم قول
الرسول وحكمه
|
|
فيهم وذلك واضح
التبيان
|
لكنكم أنتم
أبحتم قتلهم
|
|
بوفاق سنته مع
القرآن
|
والله ما زادوا
النقير عليهما
|
|
لكن بتقرير مع
الإيمان
|
فبحق من قد خصكم
بالعلم والت
|
|
حقيق والإنصاف
والعرفان
|
أنتم أحق أم
الخوارج بالذي
|
|
قال الرسول
فأوضحوا ببيان
|
هم يقتلون لعابد
الرحمن بل
|
|
يدعون أهل عبادة
الأوثان
|
هذا وليسوا أهل
تعطيل ولا
|
|
عزل النصوص الحق
بالبرهان
|
الشرح
: فإذا فرض أنا
عذرناكم بجهلكم أيها الجهلة المقلدون فكيف نعذركم بما ارتكبتم في حق أهل الاثبات
من ظلم وطغيان ، وما اجترأتم عليه من الطعن في أحاديث الرسول صلىاللهعليهوسلم ودينه ، ومن شهادتكم على خصومكم بالزور والبهتان ، وما
استحللتموه من سفك دماء مخالفيكم ، كما يستحل دماء المشركين عبدة الأوثان.
وإن الخوارج وما
أباحوا قتل خصومهم إلا لأنهم في نظرهم صاروا كفارا بما ارتكبوا من العصيان ، ومع
ذلك فقد سمعتم ما قاله الرسول صلىاللهعليهوسلم من شأن
الخوارج حيث قال «يمرقون
في الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم».
وسمعتم كذلك حكمه
فيهم حيث قال لأصحابه : «إذا لقيتموهم فاقتلوهم قتل عاد ، وهم شر قتلى تحت أديم
السماء وخير قتلى من قتلوه ، وأنهم كلاب النار».
ولكنكم أنتم أبحتم
قتل خصومكم بسبب موافقتهم للقرآن والسنة ، وو الله ما زادوا على ما فيهما نقيرا ،
إلا أنهم آمنوا به وقرروه تقريرا.
فنسألكم بحق من
أعطاكم ما تزعمون لأنفسكم من العلم والتحقيق والإنصاف والعرفان ، أأنتم أم الخوارج
بالذي قاله الرسول وحكم به في شأنهم؟ وضحوا لنا ذلك.
فإنهم بقتلهم عباد
الرحمن من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ويسمونهم كفارا كما يسمى عبدة الأوثان ،
مع أنهم ليسوا مثلكم أهل تعطيل وجحد ونكران ، ولا عزل للنصوص الثابتة بما تزعمونه
من البرهان.
* * *
فصل
والآخرون فأهل
عجز عن بلو
|
|
غ الحق مع قصد
ومع إيمان
|
بالله ثم رسوله
ولقائه
|
|
وهم إذا ميزتهم
ضربان
|
قوم دهاهم حسن
ظنهم بما
|
|
قالته أشياخ ذوو
أسنان
|
وديانة في الناس
لم يجدوا سوى
|
|
أقوالهم فرضوا
بها بأمان
|
لو يقدرون على
الهدى لم يرتضوا
|
|
بدلا به من قائل
البهتان
|
فأولاء معذورون
إن لم يظلموا
|
|
ويكفروا بالجهل
والعدوان
|
والآخرون
فطالبوا الحق ل
|
|
كن صدهم عن علمه
شيئان
|
مع بحثهم
ومصنفات قصدهم
|
|
منها وصولهم إلى
العرفان
|
إحداهما طلب
الحقائق من سوى
|
|
أبوابها متسوري
الجدران
|
وسلوك طرق غير
موصلة إلى
|
|
درك اليقين
ومطلع الإيمان
|
فتشابهت تلك
الأمور عليهم
|
|
مثل اشتباه
الطرق بالحيران
|
فترى أفاضلهم
حيارى كلها
|
|
في التيه يقرع
ناجذ الندمان
|
ويقول قد كثرت
على الطرق لا
|
|
أدري الطريق
الأعظم السلطاني
|
بل كلهم طرق
مخوفات بها ال
|
|
آفات حاصلة بلا
حسبان
|
فالوقف غايته
وآخر أمره
|
|
من غير شك منه
في الرحمن
|
أو دينه وكتابه
ورسوله
|
|
ولقائه وقيامة
الأبدان
|
فأولاء بين
الذنب والاجرين أو
|
|
إحداهما أو واسع
الغفران
|
الشرح
: وأما الفريق
الثاني من أهل الجهالة فهم قوم عجزوا عن الوصول إلى الحق مع حسن قصدهم وصلاح
نياتهم ، ومع إيمانهم بالله ورسوله ورجاء لقائه ، وهؤلاء أيضا ضربان :
قوم أتوا من حسن
ظنهم بأقوال شيوخ من أهل العلم ذوي أسنان وشرف وحسن تدين واستقامة ، ولم يجدوا سوى
هذه الأقوال فرضوا بها واطمأنوا إليها لحسبانهم أنها هي الحق ، ولكنهم لو وجدوا من
يدلهم على الحق ويأخذ بيدهم إلى الهدى لم يؤثروا عليه شيئا ولم يرضوا به بديلا من
أقوال أهل الكذب والبهتان.
وحكم هؤلاء أنهم
معذورون لعدم تمكنهم من الهدى بشرط أن لا يظلموا أهل الحق ولا يكفروهم بالجهل
والعدوان.
وأما الآخرون فقوم
يطلبون الحق ويتلمسون الطريق إليه ، ولكنهم مع اجتهادهم في البحث وقراءتهم للكتب
التي يقصدون منها الوصول إلى المعرفة قد حال بينهم وبين الوصول إليه أمران.
أحدهما أنهم طلبوا الحقائق من غير أبوابها وسلكوا إليها غير
طريقها ، كمن يتسور الجدران إلى الدار ولا يدخل من الباب.
وثانيهما أنهم سلكوا إليها طرقا غير موصلة إلى اليقين بحقائق
الإيمان ، فالتبست عليهم تلك الأمور كما تلتبس الطرق على السالك الحيران ، فترى
أفاضل هؤلاء ورؤساءهم حيارى في بيداء الضلال يقرعون أسنانهم ندما ، ويقولون قد
كثرت علينا الطرق واشتبهت ، فلا ندري أيها الطريق الموصل إلى الله ، بل كلها طرق
مخوفة مملوءة بالآفات ، فينتهي بهم الأمر إلى التوقف مع تحصيلهم لأركان الإيمان
التي هي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ولقائه والبعث بعد الموت ، فهؤلاء
أمرهم مردد بين أن يؤخذوا بذنبهم وبين أن يؤجروا على اجتهادهم ، فلمن أصاب منهم
أجران ، ولمن أخطأ منهم أجر ، واما أن يتركوا لواسع مغفرة الله وعظيم رحمته.
* * *
فانظر إلى
أحكامنا فيهم وقد
|
|
جحدوا النصوص
ومقتضى القرآن
|
وانظر إلى
أحكامهم فينا لأج
|
|
ل خلافهم إذ
قاده الوحيان
|
هل يستوي
الحكمان عند الله أو
|
|
عند الرسول وعند
ذي إيمان
|
الكفر حق الله
ثم رسوله
|
|
بالنص يثبت لا
بقول فلان
|
من كان رب
العالمين وعبده
|
|
قد كفراه فذاك
ذو الكفران
|
فهلم ويحكم
نحاكمكم الى
|
|
النصين من وحي
ومن قرآن
|
وهناك يعلم أي
حزبينا على
|
|
الكفران حقا أو
على الإيمان
|
فليهنكم تكفير
من حكمت بإس
|
|
لام وإيمان له
النصان
|
لكن غايته كغاية
من سوى ال
|
|
معصوم غاية نوع
ذا الإحسان
|
خطأ يصير الأجر
أجرا واحدا
|
|
إن فاته من أجله
الكفلان
|
إن كان ذاك
مكفرا يا أمة ال
|
|
عدوان من هذا
على الإيمان
|
قد دار بين الأجر
والأجرين والت
|
|
كفير بالدعوى
بلا برهان
|
كفرتم والله من
شهد الرسو
|
|
ل بأنه حقا على
الإيمان
|
ثنتان من قبل
الرسول وخصلة
|
|
من عندكم أفأنتما
عدلان
|
الشرح
: فانظر يا أخا
العقل والإنصاف إلى الفرق الواضح بين أحكامنا في خصومنا مع جحدهم للنصوص ومخالفتهم
لمقتضى القرآن. ثم انظر إلى أحكامهم فينا حيث كفرونا من أجل أننا خالفناهم في
آرائهم خلافا اضطرنا إليه وقوفنا مع الوحيين من السنة والقرآن ، فهل يستوي هذان
الحكمان عند الله عزوجل وعند رسوله صلىاللهعليهوسلم وعند ذوي الإيمان ، إنه ليس لأحد من الناس أن يكفر أحدا
لمخالفته له في رأيه ، بل التكفير حق لله ورسوله وحدهما ، فلا يثبت إلا بالنص ولا
يقع برأي أحد ولا بقوله ، فمن كفره الله ورسوله فهو الكافر حقا ، فتعالوا إذا
نحتكم إلى النصين من السنة والقرآن لنعرف أي الحزبين منا ومنكم على الكفر أو على
الإيمان ، فليهنكم أنكم كفرتمونا وقد شهدت بإسلامنا وإيماننا النصان. لكن غاية ما
يمكن أن يحكم به علينا أننا لسنا بمعصومين ، فقد نخطئ خطأ يصير لنا به أجر واحد إن
فاتنا من أجرنا الكفلان ، فهل هذا يصلح أن يكون مكفرا يا أمة العدوان ، فالرسول صلىاللهعليهوسلم قد حكم لنا بأجر إن أخطأنا ، وإن أصبنا فلنا أجران ، وأما
أنتم فكفرتمونا بالدعوى بلا برهان ، فاجترأتم على تكفير من شهد له الرسول بأنه على
الإيمان.
فصار لنا من
الرسول ثنتان ، إما أجر أو أجران ، ولنا من عندكم خصلة واحدة وهي الحكم بالكفران ،
فهل أنتما بعد متساويان.
* * *
فصل
في تلاعب المكفرين لأهل السنة والإيمان
بالدين كتلاعب الصبيان
كم ذا التلاعب
منكم بالدين وال
|
|
إيمان مثل تلاعب
الصبيان
|
خسفت قلوبكم كما
خسفت عقو
|
|
لكم فلا تزكو
على القرآن
|
كم ذا تقولوا
مجمل ومفصل
|
|
وظواهر عزلت عن
الإيقان
|
حتى إذا رأى
الرجال أتاكم
|
|
فاسمع لما يوصي
بلا برهان
|
مثل الخفافيش
التي إن جاءها
|
|
ضوء النهار ففي
كوى الحيطان
|
عميت عن الشمس
المنيرة لا تطي
|
|
ق هداية فيها
إلى الطيران
|
حتى إذا ما
الليل جاء ظلامه
|
|
جالت بظلمته بكل
مكان
|
فترى الموحد حين
يسمع قولهم
|
|
ويراهم في محنة
وهوان
|
وا رحمتاه لعينه
ولأذنه
|
|
يا محنة العينين
والأذنان
|
إن قال حقا
كفروه وإن يقو
|
|
لوا باطلا نسبوه
للإيمان
|
حتى إذا ما رده
عادوه مث
|
|
ل عداوة الشيطان
للإنسان
|
الشرح
: ولقد هان الدين
على قلوبكم ، فأنتم تتلاعبون به كما يتلاعب الصبيان بالكرة ، وذلك لأن قلوبكم قد
حصل لها من الخسف وذهاب النور كما حصل لعقولكم فهي لا تطيب وتصلح بما يتلى عليها
من كتاب الله عزوجل.
ولطالما رددتم
نصوص الوحيين ولم تروها صالحة لأخذ العقائد منها بحجة أنها يقع فيها الإجمال
والتفصيل والإطلاق ، والتقييد والعموم ، والخصوص والابهام والبيان ، وأنها ظواهر
لا تفيد القطع واليقين ، فلا تصلح للاحتجاج بها في باب الاعتقاد. حتى إذا ما وقع
لكم رأي لأحد من الشيوخ طرتم به فرحا واستمعتم إليه كأنه وحي وتنزيل ، ولم تسألوه
على ما قال أي دليل ، فأنتم مثل الخفافيش التي لا تعيش إلا في الظلام ، فتراها إذا
أقبل عليها ضوء النهار لجأت إلى الطيقان تستتر فيها لأنها لا تطيق أن تبصر ضوء
الشمس ، ولا تستطيع فيها هداية إلى الطيران حتى اذا ما أقبل عليها الليل بظلمته
خرجت من مكامنها وأخذت تجول في ظلمته في جميع الأمكنة.
ولا شيء يؤذي
الموحد ويستثير حزنه وأشجانه مثل سماعه لسخافات هؤلاء ورؤيته لقبيح حركاتهم وسوء
أفعالهم فتراه حين يسمع أقوالهم ويرى أشخاصهم في أشد محنة فوا رحمتاه لعينه مما
ترى ولأذنه مما تسمع. وهو أن قال حقا مستمدا من نصوص الوحيين كفروه به ما دام
مخالفا لآرائهم ، وإن قالوا هم باطلا نسبوه إلى الإيمان ، فإذا حاول الموحد رده
وإبطاله كشروا له عن أنيابهم
وجاهروه بالعداوة
التي مثل عداوة الشيطان للإنسان.
* * *
قالوا له خالفت
أقوال الشيو
|
|
خ ولم يبالوا
الخلف للفرقان
|
خالفت أقوال
الشيوخ فأنتم
|
|
خالفتم من جاء
بالقرآن
|
خالفتم قول
الرسول وانما
|
|
خالفت من جراه
قول فلان
|
يا حبذا ذاك
الخلاف فإنه
|
|
عين الوفاق
لطاعة الرحمن
|
أو ما علمت بأنّ
أعداء الرسو
|
|
ل عليه عابوا
الخلف بالبهتان
|
لشيوخهم ولما
عليه قد مضى
|
|
أسلافهم في سالف
الأزمان
|
ما العيب إلا في
خلاف النص لا
|
|
رأى الرجال
وفكرة الأذهان
|
أنتم تعيبونا
بهذا وهو من
|
|
توفيقنا والفضل
للمنان
|
فليهنكم خلف
النصوص ويهننا
|
|
خلف الشيوخ أيستوي
الخلفان
|
والله ما تسوى
عقول جميع أه
|
|
ل الأرض نصا صح
ذا تبيان
|
حتى نقدمها عليه
معرض
|
|
ين مؤولين
محرّفي القرآن
|
والله أن النص
فيما بيننا
|
|
لأجل من آراء كل
فلان
|
الشرح
: يقولون للموحد حين
يرد باطلهم ويدفعه بسلاح الحق هذه القولة التي تدل على التعصب والجهل (خالفت أقوال
الشيوخ) فتلك عندهم عظيمة من العظائم مع أنهم هم لم يبالوا بمخالفتهم للفرقان الذي
هو كتاب ربهم. فإذا كان هو قد خالف أقوال الشيوخ الذين يجوز عليهم الخطأ والصواب ،
ولا يجب على أحد من الناس تقليدهم ، فأنتم خالفتم قول المعصوم الذي جاء بالقرآن
العظيم صلوات الله وسلامه عليه ، والذي يجب على كل أحد اتباعه ، فشتان بين من خالف
قول الرسول ، وبين من خالف قول فلان من الناس من أجل قول الرسول ، وحبذا ذاك
الخلاف لأقوال شيوخكم ، فإنه محض الموافقة لطاعة اللهعزوجل.
وأنتم حين
تعيبوننا بمخالفة من مضى من شيوخكم تشبهون المشركين أعداء
الرسول صلىاللهعليهوسلم حين عابوا عليه مجيئه بدين يخالف ما ورثوه عن أسلافهم
الأولين.
وأنتم قد انتكست
فطركم وعقولكم فأصبحتم لا تعرفون مواطن العيب من مواطن المدح ، فاعلموا أن العيب
كل العيب ليس إلا في مخالفة النصوص التي جاء بها المعصوم ، وليس في مخالفة آراء
الرجال وأفكار العقول.
فليهنكم أنتم
مخالفة النصوص وليهننا نحن مخالفة الشيوخ ، فهل يستوي الخلفان؟ كلا والله أن جميع
ما أنتجته عقول أهل الأرض من آراء ومذاهب لا تساوي نصا واحدا تثبت صحته ، وكان
معناه واضحا بينا ، فلا نقدمها أبدا عليه معرضين عنه محرفين له وو الله إن النص
عندنا معشر أهل السنة لأجل وأرفع من آراء جميع الناس من الأولين والآخرين لأنها آراء
غير معصومين ، فهي محتملة للخطأ والصواب ، ولكن النص إذا صح لا يكون إلا عين
الصواب.
* * *
والله لم ينقم
علينا منكم
|
|
أبدا خلاف النص
من انسان
|
لكن خلاف
الأشعري بزعمكم
|
|
وكذبتم أنتم على
الإنسان
|
كفرتم من قال ما
قد قاله
|
|
في كتبه حقا بلا
كتمان
|
هذا وخالفناه في
القرآن مث
|
|
ل خلافكم في
الفوق للرحمن
|
فالأشعري مصرح
بالاستوا
|
|
ء وبالعلو بغاية
التبيان
|
ومصرح أيضا
بإثبات اليدين ووج
|
|
ه رب العرش ذي
السلطان
|
ومصرح أيضا بأن
لربنا
|
|
سبحانه عينان
ناظرتان
|
ومصرح أيضا
بإثبات النزو
|
|
ل لربنا نحو
الرفيع الداني
|
ومصرح أيضا
بإثبات الاصا
|
|
بع مثل ما قد
قال ذو البرهان
|
ومصرح أيضا بأن
الله يو
|
|
م الحشر يبصره
أولو الإيمان
|
جهرا يرون الله
فوق سمائه
|
|
رؤيا العيان كما
يرى القمران
|
ومصرح أيضا
بإثبات المج
|
|
يء وأنه يأتي
بلا نكران
|
ومصرح بفساد قول
مؤول
|
|
للاستواء بقهر
ذي سلطان
|
وصرح أن الألى
قالوا بذا الت
|
|
أويل أهل ضلالة
ببيان
|
ومصرح أن الذي
قد قاله
|
|
أهل الحديث
وعسكر القرآن
|
هو قوله يلقى
عليه ربه
|
|
وبه يدين الله
كل أوان
|
الشرح
: ومن العجيب أنه لم
ينقم علينا أحد منكم مخالفتنا للنصوص ، ولكن تنقمون علينا أننا خالفنا الأشعري
بزعمكم ، وكذبتم أنتم على الأشعري حين نسبتم إليه التعطيل ونفي الصفات ، وكفرتمونا
بمخالفة الأشعري مع أننا لم نقل إلا بما قاله وصرح به في كتبه مثل الإبانة
والمقالات.
هذا ونحن وأنتم في
مخالفة الأشعري سواء ، فنحن خالفناه في رأيه في القرآن حيث نفى الحرف والصوت ،
وزعم أنه الكلام النفسي ، كما خالفتموه أنتم في إثبات صفة الفوقية لله عزوجل ، فإنه قد صرح في جميع كتبه بإثبات الاستواء والعلو وأوضح
ذلك غاية الإيضاح ، كما صرح أيضا بإثبات اليدين والوجه والعينين ، وصرح بإثبات
النزول إلى السماء الدنيا في كل ليلة ، وبإثبات الأصابع لورود الأحاديث الصحيحة
بإثبات ذلك. وصرح بأن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة عيانا بأبصارهم كما يرى
الشمس والقمر ليس دونهما سحاب وصرح بإثبات المجيء والاتيان بلا نفي ولا نكران. وصرح
بفساد قول من أول الاستواء بالاستيلاء ورمى القائلين له بالضلال وفساد الاعتقاد ،
وصرح بأن مذهب أهل الحديث كالإمام أحمد وغيره هو مذهبه الذي يقول به ويدين الله
عليه إلى يوم أن يلقاه. ومن أراد أن يعرف مذهب الأشعري في الإثبات فليرجع إلى
كتابه (الإبانة) (ومقالات الإسلاميين) ليظهر له أن هؤلاء الذين يتظاهرون بالانتساب
إلى مذهبه وتأخذهم حمية الجاهلية على من يخالفه هم أكثر الناس مخالفة له وجهلا
بمذهبه.
* * *
لكنه قد قال أن
كلامه
|
|
معنى يقوم بربنا
الرحمن
|
في القول
خالفناه نحن وأنتم
|
|
في الفوق
والأوصاف للديان
|
لم كان نفس
خلافنا كفرا وكا
|
|
ن خلافكم هو
مقتضى الإيمان
|
هذا وخالفتم لنص
حين خا
|
|
لفنا لرأي الجهم
ذي البهتان
|
والله ما لكم
جواب غير تك
|
|
فير بلا علم ولا
إيقان
|
أستغفر الله
العظيم لكم جوا
|
|
ب غير ذا الشكوى
إلى السلطان
|
فهو الجواب
لديكم ولنحن من
|
|
تظروه منكم يا
أولي البرهان
|
والله لا
للأشعرى تبعتم
|
|
كلا ولا للنص
بالإحسان
|
يا قوم فانتبهوا
لأنفسكم وخل
|
|
وا الجهل
والدعوى بلا برهان
|
ما في الرئاسة
بالجهالة غير ضح
|
|
كة عاقل منكم
مدى الأزمان
|
لا ترتضوا
برياسة البقر التي
|
|
رؤساؤها من جملة
الثيران
|
الشرح
: يعني أن الأشعري
وإن وافق السلف في إثبات العلو وغيره من الصفات الخبرية فقد خالفهم في صفة الكلام
، فلم يثبت إلا كلاما نفسيا قائما بذاته تعالى من غير حرف ولا صوت ، فلهذا خالفناه
نحن في هذه الصفة كما خالفتموه أنتم في إثباته صفة الفوق وغيرها من الصفات ، فلأي
شيء كان خلافنا للأشعري كفرا وكان خلافكم أنتم له إيمانا ، مع أنكم حين خالفتموه
خالفتم النص الذي تمسك هو به ، ونحن حين خالفناه كان خلافنا لما ذهب إليه من رأي
الجهم ذي الكذب ، فو الله لا تجدون على هذا الكلام جوابا غير التكفير لنا عن جهل
وحمية بلا علم ولا إيقان. لا ، أستغفر الله ، بل لكم جواب آخر ، وهو أن تجأروا
بالشكوى منا إلى السلطان ، فهو جوابكم دائما الذي تلجئون إليه كلما أعوزتكم الحجة
وفاتكم البرهان ، ونحن دائما منتظروه ومستعدون له في كل آن.
وأنتم والله لا
للأشعري اتبعتم ، فقد خالفتم ما صرّح به في سائر كتبه كما عرفتم ، ولا بالنصوص من
الوحيين تمسكتم ، فما أحراكم أن تنتبهوا لأنفسكم وأن تتركوا ما أنتم عليه من الجهل
والدعاوى العريضة التي ليس لكم عليها برهان ، ولا تظنوا أن ما تتقلبون فيه من
مناصب ورئاسات يخفي جهلكم أو يغطي عن الناس عوراتكم ، فإن الرئاسة بالجهالة لا
تزيد العقلاء إلا سخرية منكم وازدراء
لكم على أنكم لم
ترأسوا أناسا لهم عقول وأفهام ، وإنما رأستم قطعانا من البقر ، وجدير بمن يترأس
على البقر أن يكون من جملة الثيران.
* * *
فصل
في أن أهل الحديث هم أنصار رسول الله صلىاللهعليهوسلم
ولا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر
يا مبغضا أهل
الحديث وشاتما
|
|
أبشر بعقد ولاية
الشيطان
|
أو ما علمت
بأنهم أنصار دي
|
|
ن الله والإيمان
والقرآن
|
أو ما علمت بأن
أنصار الرسو
|
|
ل هم بلا شك ولا
نكران
|
هل يبغض الأنصار
عبد مؤمن
|
|
أو مدرك لروائح
الإيمان
|
شهد الرسول بذاك
وهي شهادة
|
|
من أصدق الثقلين
بالبرهان
|
أو ما علمت بأن
خزرج دينه
|
|
والأوس هم أبدا
بكل زمان
|
ما ذنبهم إذ
خالفوك لقوله
|
|
ما خالفوه لأجل
قول فلان
|
لو وافقوك
وخالفوه كنت تش
|
|
هد أنهم حقا
أولو الإيمان
|
لما تحيّزتم إلى
الأشياخ وان
|
|
حازوا إلى
المبعوث بالقرآن
|
نسبوا إليه دون
كل مقالة
|
|
أو حالة أو قائل
ومكان
|
هذا انتساب أولى
التفريق نسبته
|
|
من أربع معلومة
التبيان
|
فلذا غضبتم
حينما انتسبوا إلى
|
|
خبر الرسول
بنسبة الإحسان
|
فوضعتم لهم من
الألقاب ما
|
|
تستقبحون وذا من
العدوان
|
هم يشهدونكم على
بطلانها
|
|
أفتشهدونهم على
البطلان
|
ما ضرهم والله
بغضكم لهم
|
|
إذ وافقوا حقا
رضا الرحمن
|
الشرح
: يا من تعادي أهل
الحديث وحملة علم النبوة وتسبهم بغير حق وتنبزهم بألقاب السوء ، هنيئا لك ما عقدت
يمينك من ولاية الشيطان : (وَمَنْ
يَتَّخِذِ
الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً) [النساء : ١١٩].
أتعاديهم وتشتمهم
وما علمت بأنهم أنصار دين الله الذين يذبون عنه أعداءه من الكفار والمنافقين ،
وأنصار الإيمان الذين يبينونه للناس مجردا من عقائد أهل الزيغ والمبتدعين ، وأنصار
القرآن الذين ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال الجاهلين وتأويل المبطلين ، وأنصار
رسول الله صلىاللهعليهوسلم الذين يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ويدفعون عن أحاديثه سهام
الطاعنين والمفترين.
فهل يبغض الأنصار
عبد شم رائحة الإيمان ، وقد شهد لهم الرسول الذي هو أصدق خلق الله من أنس ومن جان
بأنهم لا يبغضهم رجل يؤمن بالله واليوم الآخر صادق الإيمان. ولا تحسبن أن أنصاره
هم الأوس والخزرج وحدهم ، بل أنصار دينه موجودون دائما بكل زمان.
فهل كل ذنبهم عندك
أنهم خالفوك أيها المعطل من أجل قول نبيهم وأنهم لم يخالفوا قوله من أجل قول أحد
من الناس؟ ولكنهم لو خالفوه ووافقوك أنت كنت تشهد لهم بكمال الإيمان.
ولما تحيزتم إلى
الشيوخ الذين قلدتموهم في دين الله وانحازوا هم إلى نبيهم المبعوث بالقرآن ، صارت
نسبتهم إليه دون ما سواه من مقالة أو حالة أو قائل أو مكان ، فهذه الأربعة هي نسب
أهل التفرق والاختلاف ، فمن أجل انتسابهم إلى حديث الرسول صلىاللهعليهوسلم وسنته غضبتم عليهم ورميتموهم بالألقاب القبيحة المستهجنة
كقولكم حشوية ونوابت ومشبهة ومجسمة الخ عدوانا منكم وظلما ، وما يضرهم والله بغضكم
ولا سبكم شيئا ما داموا قد وافقوا رضا الله باتباعهم لرسوله صلىاللهعليهوسلم.
* * *
يا من يعاديهم
لأجل مآكل
|
|
ومناصب ورئاسة
الأخوان
|
تهنيك هاتيك
العداوة كم بها
|
|
من حسرة ومزلة
وهوان
|
ولسوف تجني غيها
والله عن
|
|
قرب وتذكر صدق
ذي الإيمان
|
فإذا تقطعت
الوسائل وانتهت
|
|
تلك المآكل في
سريع زمان
|
هناك تقرع سن
ندمان على الت
|
|
فريط وقت السير
والإمكان
|
وهناك تعلم ما
بضاعتك التي
|
|
حصلتها في سالف
الأزمان
|
إلا الوبال عليك
والحسرات وال
|
|
خسران عند الوضع
في الميزان
|
قيل وقال ما له
من حاصل
|
|
إلا العناء وكل
ذي الأذهان
|
والله ما يجدي
عليك هناك الا
|
|
ذا الذي جاءت به
الوحيان
|
والله ما ينجيك
من سجن الجحي
|
|
م سوى الحديث
ومحكم القرآن
|
والله ليس الناس
إلا أهله
|
|
وسواهم من جملة
الحيوان
|
الشرح
: ينادي المؤلف في
هذه الأبيات علماء السوء من مقلدة المذاهب الأربعة في الفقه ومذهب الأشعري في علم
الكلام ، وكانوا هم أهل الحظوة في دولة الجهل في أيامه ، حيث يتولون مناصب الافتاء
والتدريس والقضاء وغيرها وتجري عليهم الجرايات والأحباس الكثيرة ، ويتمتعون بأطيب
المآكل والمشارب ويجالسون السلاطين والأمراء ويغرونهم بخصومهم من أهل الحديث
والسنة فيقول لهم : يا من تعادون أنصار السنة والتوحيد وتحرضون عليهم أهل الجهل
والظلم من الحكام والأمراء ، من أجل أن يبقى لكم ما تتمتعون به من مآكل ومناصب
ورياسات ، هنيئا لكم هذه العداوة للحق وأهله ، فلسوف تنقلب عليكم هوانا وحسرة
ومذلة ، ولسوف تجنون عاقبتها قريبا عند الموت ، وحينئذ تذكرون صدق نصيحة أهل
الإيمان لكم ، فإذا تقطعت بكم تلك الأسباب التي كانت مودة بينكم في الحياة الدنيا
، وفنيت عنكم تلك المآكل اللذيذة في زمان قريب ، وصرتم إلى أجداث يأكلكم فيها
الدود ويعفر وجوهكم التراب ، فهناك تقرعون أسنانكم ندما وتعضون على أيديكم غما على
تفريطكم في فسحة العمر وفي وقت القدرة والإمكان ، وهناك تعلمون أي بضاعة فاسدة تلك
التي حصلتموها في أيامكم الخوالي ، فانقلبت عليكم وبالا وحسرات ونقصا في ميزانكم
وزيادة في أوزاركم ، وما هذه البضاعة التي عنيتم بها أنفسكم طول عمركم وأتعبتم
فيها قرائحكم إلا قيل وقال لا محصول له ولا طائل تحته ولا يغني عنكم من عذاب
الله شيئا ، بل لا
ينفعكم هناك إلا استمساككم بما جاء به الوحيان من الكتاب والسنة ، ولا يخلصكم من
ضيق النار وظلمتها وحرها ولظاها إلا أخذكم بالحديث ومحكم القرآن ، فإن أهل الحديث
والقرآن هم الناس على الحقيقة ، وأما غيرهم من البشر فهم معدودون من جملة الحيوان.
* * *
ولسوف تذكر بر
ذي الإيمان عن
|
|
قرب وتقرع ناجذ
الندمان
|
رفعوا به رأسا
ولم يرفع به
|
|
أهل الكلام
ومنطق اليونان
|
فهم كما قال
الرسول ممثلا
|
|
بالماء مهبطه
على القيعان
|
لا الماء تمسكه
ولا كلأ بها
|
|
يرعاه ذو كبد من
الحيوان
|
هذا إذا لم يحرق
الزرع الذي
|
|
بجوارها بالنار
أو بدخان
|
والجاهلون بذا
وهذا هم زوا
|
|
ن الزرع أي
والله شر زوان
|
وهم لدى غرس الإله
كمثل غر
|
|
س الدلب بين
مغارس الرمان
|
يمتص ماء الزرع
مع تضييقه
|
|
أبدا عليه وليس
ذا قنوان
|
ذا حالهم مع حال
أهل العلم أن
|
|
صار الرسول
فوارس الإيمان
|
فعليه من قبل
الإله تحية
|
|
والله يبقيه مدى
الأزمان
|
المفردات : زوان
الزرع بتثليث الزاي : أي زينته. الدلب : بضم الدال شجر عظيم عريض الورق لا زهر له
ولا ثمر. القنوان جمع قنو وهو العذق وهو من النخل كالعنقود من العنب.
الشرح
: ولسوف تذكر هناك
بعد أن تفارق ما أنت فيه من طيبات الحياة ومتعها قريبا بر أهل الإيمان واجتهادهم
في النصيحة لك ، وتقرع أسنانك ندما على أنك لم تكن تبعتهم فيما دعوك إليه من
الاحتفاء بالوحي الذي رفعوا به رأسا ، وجعلوه لدينهم أسا بخلاف أهل الكلام وأصحاب
منطق اليونان ، فإنهم لم يرفعوا بذلك رأسا ، ولم يقبلوا هدى الله الذي جاء به نبيه
صلىاللهعليهوسلم ، وقد ضرب
الرسول لهم مثلا بالغيث ، ينزل على
أرض سبخة إنما هي قيعان لا تمسك ماء ليشرب منه الزرع والحيوان ، ولا تنبت كلأ
ليرعاه بهيمة الأنعام هذا إذا اقتصر ضررها عليها ، ولم تحرق ما يجاورها من الزرع
بنارها ودخانها. وأما الجاهلون بالوحي وغيره من أبواب العلم ، فهم كرواء الزرع
وزينته ، شر زوان لأنهم مع قلة فائدتهم ممتصون ماء الزرع ويضيقون عليه ، ويمنعون
عنه الهواء والشمس ، فهم مع غرس الله من الإيمان والهدى في القلب ، كمثل شجر الدلب
تراه ضخما عظيم الورق مع أنه لا زهر له ولا ثمر ، فإذا كان بين أشجار الرمان فإنه
يمتص منها الماء فلا يصل إليها ، ويضيق بضخامته عليها فلا تنمو فروعها ولا تبسق
أغصانها.
فهذا حال هؤلاء
الجهلاء مع حال أهل العلم أنصار الرسول وفوارس الإيمان من أمثال شيخ المؤلف شيخ
الإسلام ابن تيمية رحمهالله ، فعليه تحية من الله مباركة طيبة ، فسلام الله عليه
ورحمته والله يبقيه مدى الأزمان لسان صدق لدعوة الحق يذود عنها كيد المضلين
وأكاذيب المفترين.
* * *
لولاه ما سقى
الغراس فسوق ذا
|
|
ك الماء للدلب
العظيم الشأن
|
فالغرس دلب كله
وهو الذي
|
|
يسقى ويحفظ عند
أهل زمان
|
فالغرس في تلك
الحضارة شارب
|
|
فضل المياه
مصاوه البستان
|
لكنما البلوى من
الحطاب قط
|
|
اع الغراس وعاقر
الحيطان
|
__________________
بالفوس يضرب في
أصول الغرس كي
|
|
يجتثها ويظن ذا
إحسان
|
ويظل يحلف كاذبا
لم أعتمد
|
|
في ذا سوى
التثبيت للعيدان
|
يا خيبة البستان
من حطابه
|
|
ما بعد ذا
الحطاب من بستان
|
في قلبه غل على
البس
|
|
تان فهو موكل
بالقطع كل أوان
|
فالجاهلون شرار
أهل الحق وال
|
|
علماء سادتهم
أولو الإحسان
|
والجاهلون خيار
أحزاب الضلا
|
|
ل وشيعة الكفران
والشيطان
|
وشرارهم علماؤهم
هم شر خل
|
|
ق الله آفة هذه
الأكوان
|
الشرح
: يقول أنه لو لا أن
قيض الله له شيخ الإسلام يبثه من علمه الغزير ويرشده إلى الطريق القويم لما سقى
غراس قلبه بماء العلم والإيمان ، فإن الماء كله كان يساق للدلب الضخم العظيم الشأن
فيمتصه ولا ينتفع به أحد ، وقد كان الغراس في هذه الأيام كله دلبا ما عدا شيخ
الإسلام ، فقد كان هو الذي يسقي ويحفظ في علماء عصره. فالغرس في تلك الحضارة كان
يشرب فضل المياه التي تفيض من البستان. وهذا كله هين قليل ضرره ، ولكن البلوى كل
البلوى في ذلك الحطاب الذي لا يهدأ قلبه حتى يقطع الغراس ويدمر البستان ، فهو عامل
فأسه في أصول الشجرة بقوة ليجتثها من مغارسها ، ويظن مع ذلك أنه ذو إحسان فيما
يفعل ، وإذا نهي عن هذا الفساد والتدمير أخذ يقسم بالله جهد إيمانه انه لم يقصد
بذلك إلا تثبيت العيدان في مغارسها ، فيا ويل هذا البستان من حطابه الذي لا يريد
أن يبقى منه ، ولا يذر حتى يجعله صعيدا جرزا لأن قلبه مملوء بالحقد على ذلك
البستان ، فكأنه موكل بقطعه وتخريبه كل أوان ، فالجاهلون من أهل الحق هم شرارهم
وساداتهم وخيارهم هم العلماء أهل الفضل والإحسان. وأما الجاهلون من أهل الضلالة
فهم خيارهم لأن ضررهم أخف ، أما علماؤهم فهم شر خلق الله وهم آفة هذا الوجود كله
والساعون فيه بالفساد.
* * *
فصل
في تعين الهجرة من الآراء والبدع إلى سنته
كما كانت فرضا من الأمصار إلى بلدته عليهالسلام
يا قوم فرض
الهجرتين بحاله
|
|
والله لم ينسخ
إلى ذا الآن
|
فالهجر الأول
إلى الرحمن بال
|
|
إخلاص في سر وفي
إعلان
|
حتى يكون القصد
وجه الله بال
|
|
أقوال والأعمال
والإيمان
|
ويكون كل الدين
للرحمن ما
|
|
لسواه شيء فيه
من إنسان
|
والحب والبغض
اللذان هما ل
|
|
كل ولاية وعداوة
أصلان
|
لله أيضا هكذا
الاعطاء والمن
|
|
ع اللذان عليهما
يقفان
|
والله هذا شطر
دين الله
|
|
والتحكيم
للمختار شطر ثان
|
وكلاهما الإحسان
لن يتقبل الر
|
|
حمن من سعي بلا
إحسان
|
والهجرة الأخرى
إلى المبعوث بال
|
|
إسلام والإيمان
والإحسان
|
أترون هذى هجرة
الأبدان لا
|
|
والله بل هي
هجرة الإيمان
|
قطع المسافة
بالقلوب إليه في
|
|
درك الأصول مع
الفروع وذان
|
أبدا إليه حكمها
لا غيره
|
|
فالحكم ما حكمت
به النصان
|
الشرح
: صح عنه صلىاللهعليهوسلم أنه قال يوم فتح مكة «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية ،
وإذا استنفرتم فانفروا» فهذه الهجرة من مكة إلى المدينة التي كانت فرضا في أول
الأمر قد بطل حكمها بالفتح لأن مكة أصبحت بعده دار إسلام. ولكن هناك هجرتين
فرضيتهما باقية بحالها وحكمهما ماض إلى يوم القيامة لا يلحقه نسخ أبدا.
الأولى منهما :
الهجرة إلى الله عزوجل بإخلاص العبادة له في السر والعلانية حتى لا يقصد بقوله
وعمله وإيمانه إلا وجه الله ، وحتى يخلص دينه كله لله ، لا يجعل لغيره شركة معه في
شيء منه ، وحتى يكون حبه وبغضه الله ، وكذلك ما يترتب عليهما من الموالاة
والمعاداة فيوالي من والى الله ، ويكون أيضا إعطاؤه
ومنعه لله ، وفي
الحديث الصحيح «من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان».
فهذا الإخلاص لله
في السر والعلانية وتجريد القصد له من كل شائبة هو نصف الدين وجزؤه الباطن ، وأما
نصفه الثاني فهو التحكيم لرسول الله صلىاللهعليهوسلم والرضا بحكمه وحسن متابعته وموافقته في كل ما شرعه بلا
زيادة ولا نقص ، وكلا هذين الشطرين هو الإحسان الذي لن يتقبل الله عملا بدونه.
وأما الهجرة
الثانية فهي الهجرة إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم الذي بعثه الله بالإسلام والإيمان والإحسان التي هي مراتب
الدين كله ، وهي التي وقع السؤال عنها في حديث جبريل عليهالسلام ، وليست هذه هجرة بالأبدان ، فقد مضى أوان هذه الهجرة
ولكنها هجرة بالإيمان ، وهي السير إليه بالقلوب والأرواح ليأخذ عنه أصول الدين
وفروعه جميعا ، فإن الحكم في كل منهما ليس إلا له وحده وليس لغيره أن يحكم في شيء
من الدين لا أصلا ولا فرعا فالحكم هو ما ورد به النصان من السنة والقرآن.
* * *
يا هجرة طالت
مسافتها على
|
|
من خص بالحرمان
والخذلان
|
يا هجرة طالت
مسافتها على
|
|
كسلان منخوب
الفؤاد جبان
|
يا هجرة والعبد
فوق فراشه
|
|
سبق السعاة
لمنزل الرضوان
|
ساروا أحث السير
وهو فسيره
|
|
سير الدلال وليس
بالذملان
|
هذا وتنظره أمام
الركب كالع
|
|
لم العظيم يشاف
في القيعان
|
رفعت له أعلام
هاتيك النصو
|
|
ص رءوسها شابت
من النيران
|
نار هي النور
المبين ولم يكن
|
|
ليراه إلا من له
عينان
|
مكحولتان بمرود
الوحيين لا
|
|
بمراود الآراء
والهذيان
|
فلذاك شمر نحوها
لم يلتفت
|
|
لا عن شمائله
ولا أيمان
|
يا قوم لو
هاجرتم لرأيتم
|
|
أعلام طيبة رؤية
بعيان
|
ورأيتم ذاك
اللواء وتحته الرس
|
|
ل الكرام وعسكر
القرآن
|
أصحاب بدر
والألى قد بايعوا
|
|
أزكى البرية بيعة
الرضوان
|
وكذا المهاجرة
الألى سبقوا كذا ال
|
|
أنصار أهل الدار
والإيمان
|
والتابعون لهم
بإحسان وسا
|
|
لك هديهم أبدا
بكل زمان
|
الشرح
: وهذه الهجرة إلى
رسول الله صلىاللهعليهوسلم لا يستطيع قطع مسافتها وبلوغ غايتها إلا من جرد لها ركائب
عزمه وتوجه إليها بكل همه ولم يلتفت إلى شيء مما يعوقه في سيره من تقليد لمذهب أو
تعصب لرأي أو استحسان لبدعة ، ولكن مسافتها تطول وتطول جدا على من خصهم الله
بالحرمان والخذلان ، فصرف قلوبهم عنها ، وكره انبعاثهم إليها ، فثبطهم وقال اقعدوا
مع القاعدين ، فهي هجرة لا ينالها أبدا كسلان ، ولا يقوى عليها كل رعديد الفؤاد
جبان ، وهي هجرة لا تحتاج أن تعد لها زادا وراحلة ، وتضرب في بيد الأرض وقفارها ،
بل قد يقوم بها العبد وهو نائم على فراشه ، ويسبق في مضمارها الساعين إلى منازل
الرحمة والرضوان ، الذين يغذون السير جاهدين ، تخب بهم مطاياهم ، وأما هو فيسير
سيرا لينا رفيقا ، ولكنك تراه مع ذلك قد سبق الركب وسار أمامهم كأنه الجبل العظيم
يراه من في القاع تحته ، وإنما هيأ له السبق في المضمار أنه نشرت له أعلام النصوص
، وفي رءوسها أوقدت نيران ، هي النور المبين لهداية السالك الحيران ، ولكن لا يراها
إلا من كانت له عينان بمراود الوحي مكتحلتان ، لا بمراود أهل الفشر والهذيان ،
فلما رآها هرع نحوها وجرد السعي إليها ، فلم يلتفت عنها يمينا ولا شمالا حتى بلغها
وأدرك عندها بغيته وحقق أمله.
فيا أيها
المخذولون المحرومون لو كنتم معنا في هذه الهجرة لرأيتم أعلام طيبة بأعينكم قائمة
منصوبة تهدى الضال وترشد الحيران ، ولرأيتم ذاك اللواء العظيم بيد رسول الله صلىاللهعليهوسلم تحته كل عبد لله صالح من الأنبياء والرسل الكرام ، وأصحاب
محمد الذين هم عسكر القرآن وجند الإسلام من أصحاب بدر الكبرى وأهل بيعة الرضوان
الذين بايعوا تحت الشجرة أزكى الخليقة وأطهرها عليه
السلام ، ثم
السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ، ثم التابعين لهم بإحسان ، ثم كل من سلك
سبيلهم واقتفى أثرهم في كل عصر وزمان.
* * *
لكن رضيتم
بالأماني وابتلي
|
|
تم بالحظوظ
ونصرة الأخوان
|
بل غركم ذاك
الغرور وسولت
|
|
لكم النفوس
وساوس الشيطان
|
ونبذتم غسل
النصوص وراءكم
|
|
وقنعتم بقطارة
الأذهان
|
وتركتم الوحيين
زهدا فيهما
|
|
ورغبتم في رأي
كل فلان
|
وعزلتم النصين
عما وليا
|
|
للحكم فيه عزل
ذي عدوان
|
وزعمتم أن ليس
يحكم بيننا
|
|
إلا العقول
ومنطق اليونان
|
فهما بحكم الحق
أولى منهما
|
|
سبحانك اللهم ذا
السبحان
|
حتى إذا انكشف
الغطاء وحصلت
|
|
أعمال هذا الخلق
في الميزان
|
وإذا انجلى هذا
الغبار وصار مي
|
|
دان السباق
تناله العينان
|
وبدت على تلك
الوجوه سماتها
|
|
وسم المليك
القادر الديان
|
مبيضة مثل
الرياض بجنة
|
|
والسود مثل
الفحم للنيران
|
فهناك يعلم كل
راكب ما تحته
|
|
وهناك يقرع ناجذ
الندمان
|
وهناك تعلم كل
نفس ما الذي
|
|
معها من الأرباح
والخسران
|
وهناك يعلم مؤثر
الآراء والش
|
|
طحات والهذيان
والبطلان
|
أي البضائع قد
أضاع وما الذي
|
|
منها تعوض في
الزمان الفاني
|
الشرح
: لكن قعدتم عن تلك
الهجرة وبؤتم بالخسران والخيبة ، لأنكم رضيتم بالأماني الباطلة وابتليتم بحب
الحظوظ العاجلة ، وشغلتم بنصرة الأخوان عن السير إلى الرحمن وغركم بالله الغرور ،
وزينت لكم أنفسكم الامارة بالسوء الجري وراء ما وسوست لكم به الشياطين ، وطرحتم
وراءكم غسل النصوص طاهرا نقيا ، ورحتم تلتمسون رذاذ الأذهان الكدر الذي لا يذهب
درنا ولا يحدث ريا ، وهجرتم الوحيين رغبة عنهما واستثقالا لهما ، ثم رغبتم فيما
أحدث الناس من مذاهب وآراء.
وعزلتم النصين من
الكتاب والسنة عما جعلت لهما الولاية عليه للحكم فيه عزل معتد ظالم سفيه ، وزعمتم
أنها لا تصلح للحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ، وإنما يصلح للحكم بينهم مقررات
العقول وأدلة منطق اليونان ، فهما أولى من النصين بالحكم في هذا الشأن ، فسبحانك
اللهم ذا السبحان ونبرأ إليك من هذا الإفك والبهتان.
فهذا شأنكم في
الدنيا ، غفلة وغرور وجرى وراء الأوهام ، وتسل بالأماني والأحلام ، حتى إذا انكشف
عنكم الغطاء بالموت وعاينتم الحقائق ونصبت موازين الأعمال ، وانجلى الغبار عن
المتسابقين ، وانكشف ميدان السباق للناظرين. وبدت على وجوه أهل الحق سماتها التي وسمها
بها المليك المقتدر ، وجاءت مبيضة مسفرة ضاحكة مستبشرة ، كأنها أزاهير الرياض في
الجنة ، وجاءت وجوه أخرى مسودة كالحة عليها غبرة ترهقها قترة ، فهناك يتميز
الفريقان ويعلم كل راكب ما الذي تحته من اعمال تسعى به إلى ما أعد له من مآل.
وهناك أيضا تعلم كل نفس مقدار الربح والخسارة في تجارتها ، ويعلم المعرض عن
الوحيين المؤثر عليهما آراء الناس وباطلهم وشطحاتهم وهذيانهم ، أي البضائع النفيسة
والجواهر الثمينة قد أضاع ، وما الذي استبدله بها وتعوض به عنها في حياته الأولى
الفانية.
* * *
سبحان رب الخلق
قاسم فضله
|
|
والعدل بين
الناس بالميزان
|
لو شاء كان
الناس شيئا واحدا
|
|
ما فيهم من تائه
حيران
|
لكنه سبحانه
يختص بالفض
|
|
ل العظيم خلاصة
الإنسان
|
وسواهم لا
يصلحون لصالح
|
|
كالشوك فهو
عمارة النيران
|
وعمارة الجنات
هم أهل الهدى
|
|
الله أكبر ليس
يستويان
|
فسل الهداية من
أزمة أمرنا
|
|
بيديه مسألة
الذليل العاني
|
وسل العياذ من
اثنتين هما اللتا
|
|
ن بهلك هذا
الخلق كافلتان
|
شر النفوس وسيّئ
الأعمال ما
|
|
والله أعظم
منهما شران
|
ولقد أتى هذا
التعوذ منهما
|
|
في خطبة المبعوث
بالقرآن
|
لو كان يدري
العبد أن مصابه
|
|
في هذه الدنيا
هما الشران
|
جعل التعوذ
منهما ديدانه
|
|
حتى تراه داخل
الأكفان
|
وسل العياذ من
التكبر والهوى
|
|
فهما لكل الشر
جامعتان
|
وهما يصدان
الفتى عن كل طر
|
|
ق الخير إذ في
قلبه يلجان
|
فتراه يمنعه
هواه تارة
|
|
والكبر أخرى ثم
يشتركان
|
والله ما في
النار إلا تابع
|
|
هذين فاسأل
ساكني النيران
|
والله لو جردت
نفسك منهما
|
|
لأتت أليك وفود
كل تهان
|
الشرح
: فسبحان الله رب
الخلق الحكم العدل الذي حكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون ، فجعلهم فريقين ،
فريقا في الجنة بفضله ، وفريقا في السعير بعدله ، فهو قاسم فضله وعدله بين الناس
بالميزان السوي الذي لا يضل ولا يجور ولو شاء لجعلهم جميعا أمة واحدة متفقة على
الحق والإيمان ، وليس فيهم من ضال شقي ولا تائه حيران ، ولكنه سبحانه يختص بفضله
العظيم من يشاء من خلقه ممن علم أنهم للخير أهل وللفضل محل. من خاصة الناس وخيارهم
الذين حققوا انسانيتهم وأدركوا الغاية من وجودهم وقاموا لله بحقه عليهم في
العبودية الكاملة واستجابوا له حين دعاهم على ألسنة رسله وعظموا أمره ونهيه
وأخلصوا دينهم له ، وأما سواهم من الناس ممن عاشوا في هذه الدنيا هملا وعطلوا المواهب
والملكات التي أودعها الله فيهم ، ولم يعرفوا لوجودهم غاية ، فهم لا يصلحون لشيء
من الصالحات ، كمثل الشوك الذي لا يصلح إلا حطبا للنار ووقودا.
وأما عمار الجنة
وسكانها فهم أهل الهدى الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم أدخلوا
الجنة بما كنتم تعلمون.
فالله أكبر لا
يستوي الفريقان أبدا ، أصحاب النار وأصحاب الجنة ، أصحاب الجنة هم الفائزون (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ
فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ
فَسَقُوا
فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها ،
وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) [السجدة : ١٨ ، ٢٠].
فاطلب الهدى ممن
بيده مقاليد الأمور وأزمة القلوب سبحانه واسأله سؤال الخاشع الذليل المسكين الفقير
أن يفتح قلبك على الهدى ويثبته على دينه. واستعذ به من خصلتين اثنتين بهما هلك
اكثر الخلق ، وهما شر النفوس وسيئات الأعمال ، فلا شر أعظم منهما ، ولهذا كان
النبي صلىاللهعليهوسلم يستعيذ منهما في خطبه حيث كان يفتتح خطبه بقوله :
«إن الحمد لله
نحمده ونستعينه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، انه من يهده الله فلا
مضل له ، ومن يضلل الله فلا هادي له».
فلو كان يعرف
العبد أن بلاءه ومصيبته في هذه الدنيا ينبع من هذين الشرين لجعل التعوذ منهما شغله
الشاغل وورده الدائم حتى يدرج في أكفانه.
وسل الله كذلك أن
يعيذك من أمرين قد صدا أعظم الخلق عن اتباع الحق ، وهما الكبر والهوى ، فهما
جامعان لكل شر ، وإذا ولجا قلب العبد سدا عنه كل مسالك الخير وطرقه ، فالكبر حجاب
مانع من قبول الحق قد صد عنه ما لا يحصى من الخلق كما نطقت بذلك آيات الكتاب.
قال تعالى : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ
ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى
إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ
خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) [النحل : ٢٨ ، ٢٩].
وقال : (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ
يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) [الأعراف : ١٤٦]
وقال : (الَّذِينَ
يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ
اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ
مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) [غافر : ٣٥]. وقال
: (إِنَّ الَّذِينَ
يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ
إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ) [غافر : ٥٦].
وقال : (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا
عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ
الدُّنْيا
وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ
تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) [الأحقاف : ٢٠]
إلى غير ذلك من الآيات التي تدل أوضح دلالة على أن الذي صد هؤلاء المجرمين عن قبول
الحق والانقياد له هو كبرهم ، وهو الذي أدخلهم النار ، وفي الحديث الصحيح : «لا
يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ، فقال رجل يا رسول الله ان أحدنا يجب
أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة ، فهل ذلك من الكبر ، قال لا أن الله جميل يحب
الجمال ، الكبر بطر الحق وغمط الناس».
وأما الهوى فقد
ذكر القرآن أنه إله يعبد من دون الله ، قال تعالى : (أَرَأَيْتَ مَنِ
اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً) [الفرقان : ٤٣].
وقال : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ
اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ
وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ) [الجاثية : ٢٣]
فترى العبد يمنعه هواه تارة ويمنعه كبره تارة ، ثم قد يجتمعان ويشتركان فيه فيصدر
ما يصدر عن كبره وهواه فيكون قد بلغ من السوء والشر غايته ومنتهاه والعياذ بالله.
ولو أنك سألت كل
واحد من أهل النار عما سلكه في سقر وارداه في جهنم لم تجده إلا تابعا لواحد من
هذين أو لهما جميعا. ولو أنك اجتهدت في تجريد نفسك منهما فنفيت عن قلبك الكبر ولم
تتبع في دينك الهوى لبلغت كل ما تؤمل من خير وجاءتك وفود التهنئة تترى تزف أليك
البشرى بما ظفرت به من فوز ورضوان.
* * *
فصل
(في ظهور الفرق المبين بين دعوة الرسل ودعوة المعطلين)
والفرق بين
الدعوتين فظاهر
|
|
جدا لمن كانت له
أذنان
|
فرق مبين ظاهر
لا يختفي
|
|
إيضاحه إلا على
العميان
|
فالرسل جاءونا
بإثبات العلو
|
|
لربنا من فوق كل
مكان
|
وكذا أتونا
بالصفات لربنا
|
|
الرحمن تفصيلا
بكل بيان
|
وكذاك قالوا أنه
متكلم
|
|
وكلامه المسموع
بالآذان
|
وكذاك قالوا انه
سبحانه
|
|
المرئي يوم لقائه
بعيان
|
وكذاك قالوا أنه
الفعال حق
|
|
ا كل يوم ربنا
في شان
|
وأتيتمونا أنتم
بالنفي والت
|
|
عطيل بل بشهادة
الكفران
|
للمثبتين صفاته
وعلوه
|
|
ونداءه في عرف
كل لسان
|
شهدوا بإيمان
المقر بأنه
|
|
فوق السماء
مباين الأكوان
|
وشهدتم أنتم
بتكفير الذي
|
|
قد قال ذلك يا
أولى العدوان
|
الشرح
: والفرق بين ما
تدعون إليه من النفي والتعطيل وبين دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام ظاهر جد
الظهور لمن ألقى سمعه وكان له أذنان واعيتان وهو من الوضوح والظهور بحيث لا يخفى
ولا يلتبس إلا على العميان ، فالرسل عليهمالسلام قد اتفقت كلمتهم بأن الله سبحانه فوق عرشه بائن من خلقه ،
وأن الوحي ينزل عليهم من عنده.
وكذلك جاءوا
بإثبات صفات الكمال لله سبحانه على جهة التفصيل وبينوها أوضح بيان ، وما منهم من
أحد إلا عرف أمته بما يجب أن تعرفه من صفات الله عزوجل.
وكذلك أثبتوا أنه
متكلم بكلام هو حروف وأصوات مسموعة بالآذان ، وأن الذي يتلونه على الناس هو كلام
الله تعالى لا كلام غيره ، تكلم به بصوت نفسه. وكذلك أخبروا أنه سبحانه سيرى يوم
القيامة رؤية حقيقية بالأبصار ، وبشر كل رسول المؤمنين من أمته بأنهم سيرون ربهم
في الجنة كما يرى الشمس والقمر ليس دونهما سحاب ولا ضباب.
وكذلك قالوا إنه
حي فعال ، وأن الفعل من صفات الكمال التي لا يصح تعطيله عنها في حال من الأحوال ،
فهو لم يزل سبحانه فعالا كما قال : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ
فِي شَأْنٍ) [الرحمن : ٢٩].
هذه هي دعوة الرسل
كلهم وهي صريحة في إثبات الصفات ، وأما أنتم فعلى النقيض من ذلك ، جئتمونا بالنفي
والتعطيل ، والإلحاد والتأويل ، بل وزدتم على ذلك أنكم تشهدون بالكفر على من يثبت
الصفات ويثبت لله العلو فوق جميع المخلوقات ، ويثبت له النداء بحروف وأصوات ،
فالرسل يشهدون بالإيمان لمن أقرّ بعلوه سبحانه فوق جميع الأكوان ، ولكنكم أنتم
تشهدون عليه بالكفران يا أمة الظلم والعدوان.
* * *
وأتى بأين الله
اقرارا ونط
|
|
قا قلتم هذا من
البهتان
|
فسلوا لنا
بالأين مثل سؤالنا
|
|
ما الكون عندكم
هما شيئان
|
وكذا أتونا
بالبيان فقلتم
|
|
باللغز أين
اللغز من تبيان
|
إذ كان مدلول
الكلام ووضعه
|
|
لم يقصدوه
بنطقهم بلسان
|
والقصد منه غير
مفهوم به
|
|
ما اللغز عند
الناس إلا ذان
|
يا قوم رسل الله
أعرف منكم
|
|
وأتم نصحا في
كمال بيان
|
أترونهم قد
ألغزوا التوحيد إذ
|
|
بينتموه يا أولي
العرفان
|
أترونهم قد
أظهروا التشبيه وه
|
|
ولديكم كعبادة
الأوثان
|
ولأي شيء صرحوا
بخلافه
|
|
تصريح تفصيل بلا
كتمان
|
ولأي شيء بالغوا
في الوصف با
|
|
لإثبات دون
النفي كل زمان
|
الشرح
: وأتى الرسول صلىاللهعليهوسلم بلفظ الأين الذي يسأل به عن المكان مرة إقرارا حيث أقر
السائل الذي قال له (أين كان ربنا قبل أن يخلق السموات والأرض)؟ ومرة نطقا حيث سأل
الجارية التي أراد سيدها أن يعتقها بقوله «أين الله؟». ولكنكم أنتم تجعلون السؤال
بالأين كذب وبهتان ، لأنه إثبات للمكان ، وتقولون أن معنى قوله «أين الله» في
الحديث (ما الله) فتجعلون السؤال بالأين
مثل السؤال بما ،
مع أنهما شيئان مختلفان ، فا «ما» يسأل بها عن الحقيقة ، وأما أين فيسأل بها عن
المكان.
وكذلك أتى الرسل عليهمالسلام بالبيان الواضح الصريح ، ولكنكم تقولون أنهم عمدوا إلى
الألغاز والتعمية ولم يبينوا الحق الذي يجب على الناس اعتقاده. فأين يا قوم
الألغاز من البيان ، وهل هما إلا ضدان لا يجتمعان. إن الألغاز في الكلام لا يتم
إلا بأمرين : أحدهما أن لا يقصد من اللفظ معناه الذي يدل عليه بوضع اللغة ،
وثانيهما أن يكون المقصود من اللفظ مما لا يفهم من اللفظ عند إطلاقه ، فهذا هو
الألغاز الذي يعرفه الناس ، فهل كلام الرسل كذلك؟
يا قوم ألا
تستحيون من وصف كلام الرسل الذين بعثوا للبيان بالأحاجي والألغاز ، وهم أعرف منكم
بالحق الذي يدعون إليه ، وأتم نصحا للخلق وإرشادا لهم وشفقة عليهم ، وأقدر منكم
على البيان والأداء لما يريدونه من معان ، فهل ترونهم قد ألغزوا في التوحيد وقصروا
في بيانه حتى جئتم أنتم فبينتموه؟
أم ترونهم قد
أظهروا التشبيه الذي هو عندكم قرين عبادة الأوثان ، حتى جئتم أنتم فدللتم الناس
على التنزيه.
فإذا كان الحق هو
ما قلتم أنتم ، فلأي شيء لم يقولوا هم بمثل ما قلتم في حق اللهعزوجل.
ولأي شيء صرحوا هم
بخلاف ما قلتم تصريحا مفصلا لا كتمان فيه ولا إجمال ولا اشتباه.
بل ولأي شيء
بالغوا في الإثبات الذي هو عندكم تجسيم وتشبيه ، كما بالغتم أنتم في النفي
والتعطيل بحجة التنزيه.
* * *
ولأي شيء أنتم
بالغتم
|
|
في النفي
والتعطيل بالقفزان
|
فجعلتم نفي
الصفات مفصلا
|
|
تفصيل نفي العيب
والنقصان
|
وجعلتم الإثبات
أمرا مجملا
|
|
عكس الذي قالوه
بالبرهان
|
أتراهم عجزوا عن
التبيان واس
|
|
توليتم أنتم على
التبيان
|
أترون أفراخ
اليهود وأم
|
|
ة التعطيل
والعبّاد للنيران
|
ووقاح أرباب
الكلام الباطل الم
|
|
ذموم عند أئمة
الإيمان
|
من كل جهمي
ومعتزل ومن
|
|
والاهما من حزب
جنكسخان
|
بالله أعلم من
جميع الرسل والت
|
|
وراة والإنجيل
والقرآن
|
فسلوهم بسؤال
كتبهم التي
|
|
جاءوا بها عن
علم هذا الشأن
|
وسلوهم هل ربكم
في أرضه
|
|
أو في السماء
وفوق كل مكان
|
أم ليس من ذا كله
شيء فلا
|
|
هو داخل أو خارج
الأكوان
|
فالعلم والتبيان
والنصح الذي
|
|
فيهم يبين الحق
كل بيان
|
لكنما الألغاز
والتلبيس وال
|
|
كتمان فعل معلم
الشيطان
|
الشرح
: ولأي شيء بالغتم
أنتم في النفي والتعطيل ووفيتموه كيلا وتقصيتم فيه تقصيا ، فجعلتم نفي الصفات
مفصلا ، فقلتم ليس بكذا ولا كذا ولا كذا إلى آخر ما أوردتموه من صفات السلوب التي
فصلتم فيها القول ، كالتفصيل في نفي النقائص والعيوب ، ثم جعلتم الإثبات أمرا
مجملا عكس ما قاله الرسل عليهم الصلاة والسلام ، فهل عجز الرسل عن بيان هذه السلوب
وتفصيلها ، وقدرتم أنتم على هذا البيان. أم تظنون أن هؤلاء الحيارى المنهوكين من
أفراخ اليهود الضالين وأمة التعطيل من الزنادقة الملحدين والمجوس عباد النار
الثنويين وأراذل أهل الكلام الباطل الذي ذمه كل امام فاضل من أئمة الإيمان والدين
، من هؤلاء الجهمية والمعتزلة وكل من شايعهما في التجهم والنفي والإلحاد والتعطيل.
هل تظنون أن هؤلاء
جميعا أعلم بالله سبحانه من جميع رسله الذين بعثهم بالبينات والهدى ، ومن جميع
كتبه التي أنزلها للناس شفاء ورحمة من التوراة والإنجيل والزبور والفرقان وغيرها.
فسلوا هؤلاء الرسل
عليهم الصلاة والسلام بسؤال كتبهم التي جاءوا بها من
عند الله عن علم
هذه الأمور حتى تعرفوا إن كان كلامهم في جانب النفي أم في جانب الإثبات.
وسلوهم عن ربهم
أين هو ، هل هو في أرضه أم في السماء فوق جميع خلقه ، أم ليس هو في أرضه ولا سمائه
، ولا هو داخل هذه الأكوان ولا خارجها ، فالعلم والبيان والنصح الذي اشتملت عليه
كتب الله وجاءت به رسله يوضح الحق أكمل إيضاح.
أما الألغاز
والتلبيس والكتمان فهو دأبكم أنتم يا أساتذة الشيطان.
* * *
فصل
في شكوى أهل السنة والقرآن أهل التعطيل والآراء المخالفين
للرحمن
يا رب هم
يشكوننا أبدا
|
|
ببغيهم وظلمهم
إلى السلطان
|
ويلبسون عليه
حتى أنه
|
|
ليظنهم هم ناصرو
الإيمان
|
فيرونه البدع
المضلة في قوا
|
|
لب سنة نبوية
وقران
|
ويرونه الإثبات
للأوصاف في
|
|
أمر شنيع ظاهر
النكران
|
فيلبسون عليه
تلبيسين لو
|
|
كشفا له باداهم
بطعان
|
يا فرقة التلبيس
لا حييتم
|
|
أبدا وحييتم بكل
هوان
|
لكننا نشكوهم
وصنيعهم
|
|
أبدا أليك فأنت
ذو السلطان
|
فاسمع شكايتنا
وأشك محقّتنا
|
|
والمبطل اردده
عن البطلان
|
راجع به سبل
الهدى والطف به
|
|
حتى تريه الحق
ذا تبيان
|
وارحمه وارحم
سعيه المسكين قد
|
|
ضل الطريق وتاه
في القيعان
|
الشرح
: يتوجه المؤلف إلى
ربه بهذا الدعاء الضارع الذليل يشكو إليه ظلم
أهل النفي
والتعطيل ، فيقول انهم يشكوننا ببغيهم وظلمهم إلى السلطان ويغرونه بنا بالإثم
والعدوان ، ويلبسون عليه الأمر ويصورون له باطلهم في صورة الحق حتى يظنهم هم فئة
الإيمان ، ويزينون له البدع ، فيضعونها في قوالب السنة النبوية والقرآن ، ويهولون
عليه الأمر في إثبات الصفات ، ويسوقونه إليه في عبارات شنيعة ظاهرة النكران ،
وبذلك يلبسون عليه تلبيسين ، لو أنهما ظهرا له على حقيقتهما لبدأهم هو بالحرب
والطعان وأنزلهم من نفسه بمنزل هوان.
فيا أمّة التمويه
والتلبيس لا حياكم الله تحية الرحمن والرضوان ، بل حياكم تحية غضب وهوان ، إننا
نشكوكم كما تشكوننا أبدا إلى السلطان ، وإنما نشكوكم ونشكو فعالكم القبيحة
وعدوانكم علينا إلى الله وحده ، فهو ذو السلطان الذي لا يدانيه سلطان.
فاسمع يا رب
شكايتنا فيهم وأنصفنا منهم وردهم عن غيهم وباطلهم ، واسلك بهم سبل الهدى والطف بهم
حتى يروا كما رأينا الحق ذا تبيان ، وارحمهم وانقذهم مما هم فيه من ضلال السعي
وشتات الأمر ، فإنهم قد ضلوا طريق الحق وتاهوا في بيداء الضلال.
* * *
يا رب قد عم
المصاب بهذه الآ
|
|
راء والشطحات
والبهتان
|
هجروا لها
الوحيين والفطرات
|
|
والآثار لم
يعبوا بذا الهجران
|
قالوا وتلك
ظواهر لفظية
|
|
لم تغن شيئا
طالب البرهان
|
فالعقل أولى أن
يصار إليه من
|
|
هذه الظواهر عند
ذي العرفان
|
ثم ادعى كل بأن
العقل ما
|
|
قد قلته دون
الفريق الثاني
|
يا رب قد حار
العباد بعقل من
|
|
يزنون وحيك فائت
بالميزان
|
وبعقل من يقضى
عليك فكلهم
|
|
قد جاء بالمعقول
والبرهان
|
يا رب ارشدنا
إلى معقول من
|
|
يقع التحاكم
اننا خصمان
|
جاءوا بشبهات
وقالوا أنها
|
|
معقولة ببدائه
الأذهان
|
كل يناقض بعضه
بعضا وما
|
|
في الحق معقولان
مختلفان
|
وقضوا بها كذبا
علي وجرأة
|
|
منهم وما
التفتوا إلى القرآن
|
الشرح
: يشكو المؤلف إلى
ربه ما وصلت إليه الحال في عصره من فوضى اعتقادية لا ضابط لها ، ففي محيط الكلام
والفلسفة والتصوف وجدت مذاهب وآراء تثير العجب وتحمل على التساؤل : هل يمكن أن
يكون أصحاب هذه الأقوال مسلمين؟ فهي مذاهب وآراء دخيلة كلها على الإسلام ، ليست
مستمدة من مصادره الأولى ، وإنما وردت عليه من ثقافات أجنبية وأولع بها القوم
وافتتنوا بها افتتان بني اسرائيل بعجل السامري ، وهجروا من أجلها كتاب ربهم وسنة
نبيهم صلىاللهعليهوسلم ، وخالفوا بها حكم الفطرة الهادي وآثار السلف الصالح ، ولم
يكترثوا لهذا الهجران ولقد أمعنوا في الضلال والغي حين صرحوا بتقديمها على الوحي
بحجة أن الوحي ظواهر لفظية لا تفيد اليقين ، فلا تغني شيئا عن طالب البرهان وأما
العقل فحكمه قطعي ، فهو أولى أن يذهب إليه من تلك الظواهر.
ومن العجيب أن
هؤلاء الذين اتفقوا على تقديم حكم العقل قد اختلفوا وتناقضت أقوالهم ، ثم ادعت كل
فرقة منهم أن الحق ما قالته هي دون غيرها وأنه هو الموافق لحكم العقل ، فبأي عقل
من هذه العقول المختلفة توزن اذا نصوص الكتاب والسنة؟ وبأي عقل منها يحكم على الله
سبحانه؟ فإن كلا منهم يدّعي أنه قد جاء بالمعقول الصريح والبرهان القاطع ، فنحن في
حيرة من أمر هؤلاء لا ندري يا رب إلى معقول من منهم نتحاكم عند الخصومة. ومن
العجيب أنهم يجيئون بشبهات واهية ليست بنبع إذا عدت ولا غرب ولا تؤول إلى أي معقول
، وإنما هي من بنات الوهم ونسيج الخيال ، ثم يدعون أنها معقولة ببدائه العقول ،
وأن العلم بها ضروري وأنها مكتسبة بالبرهان ، وكيف يتأتى أن تكون آراؤهم هذه
أحكاما عقلية صحيحة مع تناقضها واختلافها ، وهل يمكن أن يكون في الحق معقولان
مختلفان؟
ثم هم يقضون
بأقوالهم هذه على الله كذبا عليه سبحانه وإمعانا في الجرأة
والوقاحة معرضين
عن حكم القرآن غير ملتفتين إلى ما فيه من هدى وبيان.
يا رب قد أوهى
النفاة حبائل
|
|
القرآن والآثار
والإيمان
|
يا رب قد قلب
النفاة الدين والإ
|
|
يمان ظهر منه
فوق بطان
|
يا رب قد بغت
النفاة وأجلبوا
|
|
بالخيل والرجل
الحقير الشأن
|
نصبوا الحبائل
والغوائل للآلئ
|
|
أخذوا بوحيك دون
قول فلان
|
ودعوا عبادك أن
يطيعوهم فمن
|
|
يعصيهم ساموه شر
هوان
|
وقضوا على من لم
يقل بضلالهم
|
|
باللعن والتضليل
والكفران
|
وقضوا على أتباع
وحيك بالذي
|
|
هم أهله لا عسكر
الفرقان
|
وقضوا بعزلهم
وقتلهم وحب
|
|
سهم ونفيهم عن
الأوطان
|
وتلاعبوا بالدين
مثل تلاعب ال
|
|
حمر التي نفرت
بلا أرسان
|
حتى كأنهم
تواصوا بينهم
|
|
يوصي بذلك أول
للثاني
|
الشرح
: يشكو المؤلف إلى
ربه أن هؤلاء النفاة المعطلة قد أوهنوا وشائج القرآن وعقد الآثار والإيمان ، وأنهم
قلبوا الدين والإيمان ظهرا منه لبطن ، فصيروا أعلاه أسفله وأسفله أعلاه ، وأنهم
بغوا على أهل الحق وجمعوا لهم فرسانهم ورجالتهم ذوي الحقارة ، وأنهم نصبوا حبائل
كيدهم ومؤامرات اغتيالهم لمن أخذ بالوحيين ولم يأخذ بقول شيوخهم ، وأنهم دعوا أهل
الحق أن يطيعوهم في باطلهم ، فمن لم يستجب منهم لدعوتهم ورفض الدخول في طاعتهم
ساموه سوء العذاب ، وحكموا على كل من لم يأخذ برأيهم ويقل بضلالهم بأنه مستحق
للعنة ، وأنه ضال وكافر ، وقضوا على أتباع وحي الله بما هم به أولى وأحق دون
خصومهم من جند الإيمان وعسكر الفرقان ، قضوا عليهم بالعزل والحرمان من جميع
الوظائف في الفتيا والتدريس والقضاء ، بل وقضوا بقتلهم واستحلال دمائهم ، وبسجنهم
ونفيهم عن الأوطان. وكتب التراجم حافلة بما حصل لشيخ الإسلام ابن تيمية وأمثاله من
هذه الألوان.
* * *
هجروا كلامك
مبتدع لمن
|
|
قد دان بالآثار
والقرآن
|
فكأنه فيما
لديهم مصحف
|
|
في بيت زنديق
أخي كفران
|
أو مسجد بجوار
قوم همهم
|
|
في الفسق لا في
طاعة الرحمن
|
وخواصهم لم
يقرءوه تدبرا
|
|
بل للتبرك لا
لفهم معان
|
وعوامهم في
الشبع أو في ختمة
|
|
أو تربة عوضا
لذي الأثمان
|
هذا وهم حرفية
التجويد أو
|
|
صوتية الأنغام
والألحان
|
يا رب قد قالوا
بأن مصاحف الإ
|
|
سلام ما فيها من
القرآن
|
إلا المداد وهذه
الأوراق والجلد
|
|
الذي قد سل من
حيوان
|
والكل مخلوق
ولست بقائل
|
|
أصلا ولا حرفا
من القرآن
|
إن ذاك إلا قول
مخلوق وهل
|
|
هو جبرئيل أو
الرسول فذان
|
قولان مشهوران
قد قالتهما
|
|
أشياخهم يا محنة
القرآن
|
لو داسه رجل
لقالوا لم يطأ
|
|
إلا المداد
وكاغد الإنسان
|
الشرح
: يبين المؤلف في
هذه الأبيات موقف هؤلاء المعطلة النفاة من كلام الله ، فهم قد هجروه وجفوا عنه كما
يجفو المبتدعة الضلال عن أنصار السنة المستمسكين بالآثار والقرآن ، فأصبح من هجرهم
له كأنه مصحف وضع في بيت ملحد زنديق ، متحلل من ربقة الدين والإيمان ، أو كأنه
مسجد في محله قوم لا هم لهم إلا ارتكاب المعاصي والفسوق وإذا قرأه خواصهم فإنهم لم
يقرءوه تدبرا لآياته ، وتفهما لمعانيه ، وإنما يقرءونه لتحصل لهم بركته في الأولاد
والأرزاق.
وأما عوامهم فإنهم
يأكلون به ويتخذون منه حرفة لشبع بطونهم ، فيقرءونه في الختمات أو على القبور
ليشتروا به ثمنا قليلا ، فبئس ما يشترون ، وكل حظهم منه أنهم يهتمون بتجويد حرفة
وتحسين الصوت بقراءته ، فيقرءونه بأنواع من القراءات مع التطريب والإيقاع وحسن
النغمات ، وهم يا رب لا يعظمون حرمة هذه المصاحف لأنهم يعتقدون أنها ليس فيها شيء
من القرآن ، لأن القرآن عندهم هو معان قائمة بذاته تعالى ، يسمونها الكلام النفسي
، وأما هذه المصاحف فليس فيها إلا المداد الذي كتبت به ، والأوراق الذي كتب عليها
والجلد الذي
أخذ من اهاب
الحيوان ، وكل هذه عندهم مخلوقة ، والله ليس بمتكلم أصلا ولا بحرف واحد من القرآن
، بل ألفاظ القرآن وحروفه عندهم حادثة مخلوقة ، أنشأها جبريل الرسول الملكي أو
أنشأها محمد الرسول البشري ، فهذان عندهم قولان مشهوران ، قالت بكل منهما فرقة من
أشياخهم في قديم الزمان. فيا لها من محنة أصيب بها كتاب الله على يد من يزعمونهم
أهل التحقيق والعرفان.
فلو داسه رجل
بنعله لما أنكروا عليه ولما غاروا لحرمة القرآن ، لأنه في نظرهم لم يطأ إلا المداد
والورق وكاغد الإنسان.
ولو بعث المؤلف في
هذه الأيام ورأى ما بلغه كتاب الله عزوجل من الهوان على أهله ، وكيف عطلوا حدوده وأحكامه واتخذوه
مهجورا لا يستمدون منه نظام حياتهم ولا يعرفونه إلا في الحفلات والمآتم وإلا في
اتخاذ الأحجبة والتمائم لوجد أن ما يشكوه من أهل زمانه من امتهان القرآن لا يعد
شيئا إذا قيس بما أحدثه أهل هذا الزمان ، فإلى الله المشتكى وهو المستعان.
* * *
يا رب زالت حرمة
القرآن من
|
|
تلك القلوب
وحرمة الإيمان
|
وجرى على
الأفواه منهم قولهم
|
|
ما بيننا لله من
قرآن
|
منا بيننا إلا
الحكاية عن
|
|
ه والتعبير ذاك
عبارة بلسان
|
هذا وما التالون
عمالا به
|
|
إذ هم قد
استغنوا بقول فلان
|
إن كان قد جاز
الحناجر منهم
|
|
فبقدر ما عقلوا
من القرآن
|
والباحثون
فقدموا رأي الرجا
|
|
ل عليه تصريحا
بلا كتمان
|
عزلوه إذ ولوا
سواه وكان ذا
|
|
ك العزل قائدهم
إلى الخذلان
|
قالوا ولم يحصل
لنا منه يقي
|
|
ن فهو معزول عن
الإيقان
|
إن اليقين قواطع
عقلية
|
|
ميزانها هو منطق
اليونان
|
هذا دليل الرفع
منه وهذه
|
|
أعلامه في آخر
الأزمان
|
يا رب من أهلوه
حقا كي يرى
|
|
إقدامهم منا على
الأذقان
|
أهلوه من لا
يرتضي منه بدي
|
|
لا فهو كافيهم
بلا نقصان
|
وهو الدليل لهم
وهاديهم إلى ال
|
|
إيمان والإيقان
والعرفان
|
هو موصل لهم إلى
درك اليقي
|
|
ن حقيقة وقواطع
البرهان
|
يا رب نحن
العاجزون بحبهم
|
|
يا قلة الأنصار
والأعوان
|
الشرح
: يا رب زالت عظمة
القرآن من قلوب هؤلاء كما زالت منها حرمة الإيمان ، وجرى على ألسنتهم من منكر
القول وزوره ما تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدّا ، حيث زعموا
أن ليس لله بيننا قرآن ولا كلام ، وليس في المصاحف إلا حروف وألفاظ ، هي حكاية عن
كلام الله أو عبارة عنه تتلى باللسان هذا وهم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم ،
فلا يقيمونه عملا واتباعا ، لأنهم قد استغنوا عنه بما ورثوا من أقوال شيوخهم ، وإن
كان قد جاوز حناجر بعضهم ، فبقدر ما عقلوا من معانيه وتفهموا من مقاصده ومراميه
وأما الباحثون منهم فقد قدموا عليه آراء الرجال ، وصرحوا بذلك بلا خجل ولا حياء ،
فعزلوه عن ولايته في إفادة العلم واليقين حين ولوا غيره من نفايات العقول وزبالات
الأذهان ، وكان هذا العزل مما جرهم إلى كل خيبة وخذلان.
وقالوا أنه ظواهر
لفظية لا يحصل منها يقين ولا يقوم عليها برهان ، لأن اليقين لا يحصل إلا بقواطع
عقلية ، وهي لا تستفاد إلا بمنطق اليونان ، إذ هو عندهم لكل العلوم معيار وميزان ،
ولقد قال كبير من أئمتهم ، وهو أبو حامد الغزالي (من لا معرفة له بعلم المنطق لا
يوثق بعلمه).
وهذه الاستهانة
منهم بالقرآن في التلاوة والعمل والاستدلال علامات تدل على قرب رفعه الذي صح الخبر
بحصوله في آخر الزمان.
فيا رب من أهل
القرآن حقا حتى نعرف لهم أقدارهم ونقبل بأذقاننا أقدامهم إن أهله الحقيقيين
بالنسبة إليه هم الذين لا يرتضون به بديلا من الأقوال والآراء بل يرون فيه الكفاية
والشفاء ، ويستمدون منه كل دينهم ، أصوله وفروعه على
السواء ، ويتخذون
منه دليلا هاديا لهم إلى كل إيمان ويقين وعرفان ، وموصلا لهم إلى درك قواطع
البرهان.
وما أجمل اعتذار
المؤلف في البيت الأخير إلى ربه بعجزه عن القيام بحق القرآن مع حبه ومع قلة
الأنصار والأعوان له على ذلك.
* * *
فصل
في أذان أهل السنة الاعلام بصريحها جهرا
على رءوس منابر الإسلام
يا قوم قد حانت
صلاة الفجر
|
|
فانتبهوا فإني
معلن بأذان
|
لا بالملحن
والمبدل ذاك بل
|
|
تأذين حق واضح
التبيان
|
وهو الذي حقا
إجابته على
|
|
كل امرئ فرض على
الأعيان
|
الله أكبر ان
يكون كلامه ال
|
|
عربي مخلوقا من
الأكوان
|
والله أكبر أن
يكون رسوله ال
|
|
ملكي أنشأه عن
الرحمن
|
والله أكبر أن
يكون رسوله الب
|
|
شري أنشأه لنا
بلسان
|
هذي مقالات لكم
يا أمة الت
|
|
شبيه ما أنتم
على إيمان
|
شبهتم الرحمن
بالأوثان في
|
|
عدم الكلام وذاك
للأوثان
|
مما يدل بأنها
ليست بآ
|
|
لهة وذا البرهان
في الفرقان
|
في سورة الأعراف
مع طه وثا
|
|
لثها فلا تعدل
عن القرآن
|
أفصح أن
الجاحدين لكونه
|
|
متكلما بحقيقة
وبيان
|
هم أهل تعطيل
وتشبيه معا
|
|
بالجامدات عظيمة
النقصان
|
الشرح
: ينادي المؤلف
هؤلاء التائهين في ليل جهلهم وضلالهم ، الغافلين عن حقائق العلم الصحيح بربهم
ودينهم بأن ينتبهوا ويستيقظوا من نومهم ، فقد وافت صلاة الفجر ، وانشق ظلام الليل
عن نور الصبح ، وأنه مؤذن فيهم بأذان لا
تبديل فيه ولا
ألحان ، ولكنه تأذين بحق واضح التبيان ، يجب على كل من سمعه أن يبادر إلى إجابته
بلا كسل ولا توان. وهذه هي ألفاظ الأذان : الله أكبر وأجل من أن يكون قرآنه الذي
أنزله بلسان عربي مبين مخلوقا من جملة المخلوقات ، بل هو صفته القائمة به كغيرها
من سائر الصفات ، والله أكبر وأجل من أن يكون قرآنه الذي بين أيدينا من اختراع
رسوله الملكي وأمين وحيه جبريل عليهالسلام ، عبر به عما تلقاه من معاني القرآن.
والله أكبر وأجل
من أن يكون رسوله البشرى محمدا عليه الصلاة والسلام قد أحدثه لنا بلسان.
فهذه مقالات لكم
قلتموها في القرآن يا أمة التشبيه والكفران. لقد شبهتم ربكم بالأصنام والأوثان في
عدم القدرة على الكلام والبيان ، فقد استدل القرآن على بطلان إلهية هذه الأصنام
بعدم قدرتها على الكلام والإفهام ، قال تعالى : (وَاتَّخَذَ قَوْمُ
مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا
أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا
ظالِمِينَ) [الأعراف : ١٤٨].
وقال سبحانه : (أَفَلا يَرَوْنَ
أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) [طه : ٨٩].
وبعد : فهل ظهر أن
المنكرين لكونه تعالى متكلما على الحقيقة بكلام بين مسموع بالآذان هم أهل تعطيل
وتشبيه معا.
أما تعطيلهم
فلنفيهم عن الله صفة من أعظم صفات كماله ، وهي الكلام. وأما تشبيههم فلأنهم شبهوه
بالجامدات الناقصة التي لا تقدر على البيان والإفهام.
* * *
لا تقذفوا
بالداء منكم شيعة الر
|
|
حمن أهل العلم
والعرفان
|
إن الذي نزل
الأمين به على
|
|
قلب الرسول
الواضح البرهان
|
هو قول ربي
اللفظ والمعنى جمي
|
|
عا إذ هما أخوان
مصطحبان
|
لا تقطعوا رحما
تولى وصلها
|
|
الرحمن تنسلخوا
من الإيمان
|
ولقد شفانا قول
شاعرنا الذي
|
|
قال الصواب وجاء
بالإحسان
|
إن الذي هو في
المصاحف مثبت
|
|
بأنامل الأشياخ
والشبان
|
هو قول ربي آيه
وحروفه
|
|
ومدادنا والرق
مخلوقان
|
الشرح
: وإذا ظهر أنكم
أنتم المشبهة ، حيث شبهتم ربكم بالجامدات التي لا تتكلم ولا تبين ، فلا ترموا
بدائكم هذا أنصار الرحمن من ذوي العلم والدين ، ولا تتهموهم بما أنتم به أولى من
التجسيم والتشبيه ، وأما قولنا نحن معشر أهل السنة في القرآن أن الذي نزل به جبريل
الأمين على قلب عبد الله ورسوله محمد صلىاللهعليهوسلم من القرآن الواضح الحجة والبرهان ، هو قول الله وكلامه ،
تكلم الله بحروفه وألفاظه بصوت وسمعه منه ملك الوحي ، فأداه إلى الرسول صلىاللهعليهوسلم كما سمعه ، فلفظه ومعناه جميعا من عند الله ، إذ الألفاظ
لا تنفك عن المعاني ، بل هما أمران متلازمان ، فإن الألفاظ قوالب المعاني ، ولا
يعقل التكلم بالمعاني وحدها بدون ألفاظ تصب فيها ، ولا يقال لأحد أنه تكلم إلا نطق
بحروف وألفاظ مسموعة.
فلا تقطعوا أيها
المعطلة وشيجة تولى الله سبحانه ربطها بفضلكم الألفاظ عن المعاني فتنسلخوا بذلك عن
الإيمان.
ولقد شفى صدور أهل
السنة وأثلجها قول شاعرهم الذي جاء بالقول الفصل والمنطق الصواب : إن الذي هو
مكتوب في المصاحف بأقلام الشيوخ والشبان هو قول الله وكلامه ، آيه وحروفه ، وأما
الكتابة والخط والمداد والرق ، فكل ذلك مخلوق.
* * *
والله أكبر من
على العرش استوى
|
|
لكنه استولى على
الأكوان
|
والله أكبر ذو
المعارج من الي
|
|
ه تعرج الأملاك
كل أوان
|
والله أكبر من
يخاف جلاله
|
|
أملاكه من فوقهم
ببيان
|
والله أكبر من
غدا لسريره
|
|
أط به كالرحل
للركبان
|
والله أكبر من
أتانا قوله
|
|
من عنده من فوق
ست ثمان
|
نزل الأمين به
بأمر الله من
|
|
رب على العرش
استوى الرحمن
|
والله أكبر قاهر
فوق العبا
|
|
د فلا تضع فوقية
الرحمن
|
من كل وجه تلك
ثابتة له
|
|
لا تهضموها يا
أولي البهتان
|
قهرا وقدرا
واستواء الذات فو
|
|
ق العرش
بالبرهان
|
فبذاته خلق
السموات العلى
|
|
ثم استوى بالذات
فافهم ذان
|
فضمير فعل
الاستواء يعود لل
|
|
ذات التي ذكرت
بلا فرقان
|
هو ربنا هو خالق
هو مستو
|
|
بالذات هذي كلها
بوزان
|
الشرح
: والله أكبر وأعظم
، فهو الذي استوى على عرشه بذاته ، بمعنى علا وارتفع ، ولكنه مستول على الأكوان
كلها التي من جملتها العرش بقهره وقدرته.
والله أكبر فهو ذو
المعارج ، أي المصاعد والمراقي التي هي السموات ، تعرج الملائكة فيها إلى الله
صاعدة في كل وقت بأعمال العباد وأرواحهم لعرضها عليه.
والله أكبر فهو
الذي يخاف عظمته وجلاله ملائكته من فوقهم ، كما نطقت بذلك الآية الكريمة : (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ
وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) [النحل : ٥٠].
والله أكبر فهو
الذي يئط به عرشه كأطيط الرحل الجديد براكبه ، كما ورد في الحديث.
والله أكبر فهو
الذي أتانا وحيه وقرآنه من عنده من فوق ثمان سماوات بما فيها العرش ، حيث نزل به
الأمن بأمر الله له من عند رب مستو على عرشه ، رحمن بخلقه. والله أكبر فهو القاهر
فوق عباده فوقية ثابتة له من كل وجه قهرا وقدرا واستواء بذاته على عرشه ، فلا
تهضموا هذه الفوقية يا أولي العدوان ، ولا تقيدوها ، وقد وردت مطلقة في القرآن.
ومما يدل على
استوائه بذاته على عرشه قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكُمُ
اللهُ الَّذِي خَلَقَ
السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) [يونس : ٣].
فإنه إذا كان
بذاته خلق السموات والأرض ، فيجب أن يكون أيضا بذاته استوى ، فإن ضمير فعل
الاستواء يعود للذات المذكورة ، كما يعود إليها ضمير فعل الخلق بلا فارق أصلا ،
فهو ربنا ، هو خالق ، هو مستو ، كل ذلك بذاته ، فهي جميعا سواء.
* * *
والله أكبر ذو
العلو المطلق ال
|
|
معلوم بالفطرات والإيمان
|
فعلوه من كل وجه
ثابت
|
|
فالله أكبر جلّ
ذو السلطان
|
والله أكبر من
رقا فوق الطبا
|
|
ق رسوله فدنا من
الديان
|
وإليه قد صعد
الرسول حقيقة
|
|
لا تنكروا
المعراج بالبهتان
|
ودنا من الجبار
جل جلاله
|
|
ودنا إليه الرب
ذو الإحسان
|
والله قد أحصى
الذي قد قلتم
|
|
في ذلك المعراج
بالميزان
|
قلتم خيالا أو
أكاذيبا أو ال
|
|
معراج لم يحصل
إلى الرحمن
|
إذا كان ما فوق
السموات العلى
|
|
رب إليه منتهى
الإنسان
|
الشرح
: والله أكبر فهو
صاحب العلو المطلق المعلوم ثبوته له بالفطرة ، فقد فطر عباده سبحانه على رفع
الأيدي والأبصار إلى السماء عند الدعاء ، والمعلوم ثبوته له بالآيات والأحاديث
الصحيحة ، قال تعالى : (سَبِّحِ اسْمَ
رَبِّكَ الْأَعْلَى) [الأعلى : ١](وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) [سبأ : ٢٣]
فالثابت له سبحانه هو العلو المطلق من كل وجه ، علو الذات وعلو القدر وعلو القهر.
والله أكبر فهو
الذي رقا إليه عبده ورسوله محمد صلىاللهعليهوسلم فوق السموات السبع حتى وصل إلى مستوى سمع فيه صريف الأقلام
، وكان من ربه قاب قوسين أو أدنى.
والمعراج ثابت
بالأحاديث الصحيحة البالغة حد التواتر ، وهو عروج حقيقي
بالجسد والروح ،
في اليقظة لا في النوم ، وهو عروج إلى الله لا إلى غيره ، فلا تنكروا ذلك كله يا
أمة البهتان.
وقد دنا الرسول من
الجبار جل جلاله ، كما دنا إليه ربه ذو الفضل والإحسان ولكنكم لا تؤمنون بذلك كله
، وتقولون في المعراج أقوالا أحصاها الله عليكم ليوفيكم حسابها ، فمنكم من زعم
أنها خيال ، ومنكم من كذب به وأنكره ، ومنكم من أثبته لكن قال : إن العروج لم يكن
إلى الله ، بل إلى محل سلطانه ورحمته ، إذ ليس عنده فوق السماء رب ينتهي إليه
الإنسان.
* * *
والله أكبر من
أشار رسوله
|
|
حقا إليه بإصبع
وبنان
|
في مجمع الحج
العظيم بموقف
|
|
دون المعرف موقف
الغفران
|
من قال منكم من
أشار بإصبع
|
|
قطعت فعند الله
يجتمعان
|
والله أكبر ظاهر
ما فوقه
|
|
شيء وشأن الله
أعظم شان
|
والله أكبر عرشه
وسع السما
|
|
والأرض والكرسي
ذا الأركان
|
وكذلك الكرسي قد
وسع الطبا
|
|
ق السبع والأرضين
بالبرهان
|
والرب فوق العرش
والكرسي لا
|
|
يخفى عليه خواطر
الإنسان
|
لا تحصروه في
مكان إذ تقو
|
|
لوا ربنا حقا
بكل مكان
|
نزهتموه بجهلكم
عن عرشه
|
|
وحصرتموه في
مكان ثان
|
لا تقدموه بقول
داخل
|
|
فينا ولا هو
خارج الأكوان
|
الله أكبر هتكت
استاركم
|
|
وبدت لمن كانت
له عينان
|
الشرح
: والله أكبر فهو
الذي أشار إليه رسوله صلىاللهعليهوسلم بإصبعه في أعظم مشهد شهده المسلمون مع نبيهم في حجة الوداع
بعرفة ، حيث خطبهم خطبته الجامعة المشهورة ، وكان أثناء الخطبة يقول لهم : ألا هل
بلغت. ويشير بإصبعه إلى السماء ثم ينكتها إليهم قائلا : اللهم أشهد. فمن حكم منكم
على من أشار بإصبعه إلى
السماء أن تقطع
إصبعه ، فهو خصم لرسول الله صلىاللهعليهوسلم وسيجتمع معه بين يدي الله عزوجل يوم القيامة ليحكم بينهما.
والله أكبر فهو
الظاهر العالي الذي لا شيء فوقه ، وشأنه سبحانه أعظم شأن والله أكبر وسع عرشه جميع
كونه ، فالأرض والسموات السبع والكرسي كلها في جوفه كحلقة في فلاة وكذلك وسع كرسيه
السموات والأرض ، فهي في جوفه كحلقة في فلاة ، والله عزوجل فوق عرشه وكرسيه ، ولا يخفى عليه شيء من أمور خلقه ، حتى
أنه يعلم خواطر الإنسان وما توسوس به نفسه.
هذا هو مذهب أهل
الحق الذي دلت عليه الآيات والآثار والفطر والعقول ، وأما أنتم فقد مرج أمركم
واضطربت في الله أقوالكم ، فمرة تقولون أنه في كل مكان فحكمتم عليه بذلك الانحصار
في المكان ، وجعلتموه في الحشوش والأخلية ومواضع النجاسة والقذر ، فقد نزهتموه
بجهلكم عن الوجود فوق عرشه ثم حصرتموه داخل خلقه.
ومرة تصفونه بصفة
المعدوم الذي لا وجود له ، فتقولون ليس داخل العالم ولا خارجه. فالله أكبر قد
انكشفت فضائحكم وظهرت سوءاتكم ، ولم يعد أمركم يخفى على من كان له عينان ناظرتان.
* * *
والله أكبر جل
عن شبه وعن
|
|
مثل وعن تعطيل
ذي كفران
|
والله أكبر من
له الأسماء وال
|
|
أوصاف كاملة بلا
نقصان
|
والله أكبر جل
عن ولد وصا
|
|
حبة وعن كفء وعن
آخذان
|
والله أكبر جل
عن شبه الجما
|
|
د كقول ذي
التعطيل والكفران
|
هم شبهوه
بالجماد وليتهم
|
|
قد شبهوه بكامل
ذي شأن
|
الله أكبر جل عن
شبه العبا
|
|
د فذان تشبيهان
ممتنعان
|
والله أكبر واحد
صمد فك
|
|
ل الشأن في
صمدية الرحمن
|
نفت الولادة
والأبوة عنه وال
|
|
كفء الذي هو
لازم الإنسان
|
وكذاك أثبتت
الصفات جميعها
|
|
لله سالمة من
النقصان
|
وإليه يصمد كل
مخلوق فلا
|
|
صمد سواه عز ذو
السلطان
|
لا شيء يشبهه
تعالى كيف يش
|
|
به خلقه ما ذاك
في إمكان
|
لكن ثبوت صفاته
وكلامه
|
|
وعلوه حقا بلا
نكران
|
لا تجعلوا
الإثبات تشبيها له
|
|
يا فرقة التشبيه
والطغيان
|
كم ترتقون بسلم
التنزيه للت
|
|
عطيل ترويجا على
العميان
|
فالله أكبر أن
يكون صفاته
|
|
كصفاتنا جل
العظيم الشأن
|
هذا هو التشبيه
لا إثبات أو
|
|
صاف الكمال فما
هما سيان
|
الشرح
: والله أكبر جل عن
التشبيه والمثيل ، كما جل عن الإنكار والتعطيل والله أكبر من له الأسماء الحسنى
والصفات العليا التي بلغت غاية الكمال ، فلا يلحقها عيب ولا نقصان.
والله أكبر تنزه
عن أن يكون له ولد أو صاحبة أو كفء مساو أو معين أو ظهير. والله أكبر جل عن
المشابهة للجمادات التي يشبهه بها أهل الإنكار والتعطيل فقد شبهوه بالجمادات
الناقصة حين نفوا عنه صفات الكمال من الكلام والفعل والرضى والغضب ، والمحبة
والكراهية وغيرها ، فليتهم إذ وقعوا في التشبيه كانوا قد شبهوه بشيء كامل ذي قدر
وشأن كالإنسان مثلا. ومع ذلك فهو أكبر تنزه عن مشابهة العباد الأحياء العالمين
القادرين ، فكلاهما تشبيه ممنوع ، تشبيهه بالجمادات الميتة الناقصة ، وتشبيهه بذوي
الحياة والعلم من خلقه.
والله أكبر فهو
واحد لا شريك له ، متفرد بما له من ذات وصفات وأفعال وهو صمد غني واسع الغنى ،
تصمد الخلائق كلها إليه ، ولهذه الصمدية شأن أي شأن ، فإن صفات الكمال كلها راجعة
إليها ، فهي تنفي عنه الولادة التي تقتضي تفرع شيء عنه وخروجه منه ، وتنفي عنه
الأبوة التي هي تفرعه عن أصل سابق عليه ، وتنفي عنه الكفء وهو النظير الذي يساويه
، وهذا من لوازم الإنسان. وهي تثبت له جميع صفات الكمال بريئة من كل عيب ونقصان.
وهي تثبت فقر
العباد جميعهم إليه ، فاليه يصمد كل مخلوق ، لا صمد لهم غيره عزوجل شأنه.
وهو سبحانه لا
يشبهه شيء من خلقه ، ولا يشبه هو شيئا ، فتلك مشابهة مستحيلة لكنها لا تقتضي نفي
شيء من صفاته الثابتة له ، ولا نفي علوه وكلامه ، فإن إثبات الصفات لا يستلزم
المشابهة إلا عند هؤلاء الذين أشربوا التشبيه في قلوبهم ، فهم لا يفرون منه إلا
ليقعوا فيه.
ومن العجيب أنهم
يموهون على البسطاء ، فيسمون نفيهم للصفات تنزيها ، فيجعلون التنزيه مرقاة يصعدون
منها إلى الإنكار والتعطيل.
فليس التشبيه هو
إثبات الصفات ، فإن الإثبات حق لا شك فيه ، وإنما التشبيه هو اعتقاد أن صفاته مثل
صفات المخلوقين ، بأن يقال له علم كعلمنا وقدرة كقدرتنا ويد كيدنا الخ ، فأين هذا
من إثبات الكمال له حتى تجعلوهما شيئا واحدا؟ إنهما شيئان مختلفان ، وما هما عند
العاقل المنصف سيان.
* * *
فصل
في تلازم التعطيل والشرك
واعلم بأن الشرك
والتعطيل مذ
|
|
كانا هما لا شك
مصطحبان
|
أبدا فكل معطل
هو مشرك
|
|
حتما وهذا واضح
التبيان
|
فالعبد مضطر إلى
من يكشف الب
|
|
لوى ويغني فاقة
الإنسان
|
وإليه يصمد في
الحوائج كلها
|
|
وإليه يفزع طالب
لأمان
|
فإذا انتفت
أوصافه وفعاله
|
|
وعلوه من فوق كل
مكان
|
فزع العباد إلى
سواه وكان ذا
|
|
من جانب التعطيل
والنكران
|
فمعطل الأوصاف
ذاك معطل الت
|
|
وحيد حقا ذان
تعطيلان
|
قد عطلا بلسان
كل الرسل من
|
|
نوح إلى المبعوث
بالقرآن
|
والناس في هذا
ثلاث طوائف
|
|
ما رابع أبدا
بذي امكان
|
احدى الطوائف
مشرك بإلهه
|
|
فإذا دعاه إلها
ثان
|
هذا وثاني هذه
الأقسام ذا
|
|
لك جاحد يدعو
سوى الرحمن
|
هو جاحد للرب
يدعو غيره
|
|
شركا وتعطيلا له
قدمان
|
الشرح
: يثبت المؤلف في
هذه الآيات أن التعطيل ونفي الصفات أخو الإشراك وعبادة الأوثان ، وأنهما مذ وجدا
أخوان لا يفترقان. وأن أولهما وهو التعطيل مفض إلى الشرك ومقتض له ، كما تقتضي
العلة معلولها ، فكل معطل وجاحد للصفات فهو مشرك عابد للطاغوت.
وذلك لأن العبد في
هذه الحياة الدنيا عرضة لنوائب الخير والشر وهو لا يستطيع أن يستقل بتحصيل الخير
لنفسه ولا بدفع الشر عنها ، فهو محتاج إلى من يدفع عنه ضره ويغنيه من عيله ، وإليه
يقصد في كل حوائجه ليقضيها له ، ويفزع من مخاوفه ليوفر له الأمان ، فإذا نفينا
صفات هذا الإله المقصود وأفعاله ، ونفينا وجوده فوق عرشه لم يجده العباد أهلا لأن
يفزعوا إليه ، بل لم يجدوه شيئا ، فيفزعون حينئذ إلى غيره ، والذي جرهم إلى هذا
الشرك هو التعطيل والإنكار.
فمن عطل أوصافه
سبحانه فقد عطل توحيده ، فهما تعطيلان قد بعث جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام من
أولهم نوح إلى خاتمهم محمد لإنكارهما وإبطالهما والناس بالنسبة لهذا الأمر ثلاث
فرق لا رابع لها.
فأما إحداها فهو
من يشرك بالهه في العبادة فيدعو معه إلها آخر ، وهذا شرك أكثر المشركين ، فإنهم
يقرون بوجود الله وبأنه المنفرد بالربوبية في الخلق والرزق والتدبير والملك ،
ولكنهم يعبدون معه غيره. وأما ثانيتهما فهو من يجحد الرب جل شأنه فينكر وجوده
وصفات كماله ، فهذا لا يدعوه وإنما يدعو غيره ، فهو قد جمع بين الشرك والتعطيل ،
واتخذ منهما قدمين يقوم عليهما كفره والحاده. وهذا شر الفريقين ، فإن من يدعو مع
الله غيره مع دعائه إياه أهون ممن لا يدعوه ، بل يدعو سواه.
* * *
هذا وثالث هذه
الأقسام خير ال
|
|
خلق ذاك خلاصة
الإنسان
|
يدعو الإله الحق
لا يدعو سوا
|
|
ه قط في الأشياء
والأكوان
|
يدعوه في
الرغبات والرهبان وال
|
|
حالات من سر ومن
إعلان
|
توحيده نوعان
علمي وقص
|
|
دي كما قد جرد
النوعان
|
في سورة الإخلاص
مع تال لنص
|
|
ر الله قل يا
أيها ببيان
|
ولذاك قد شرعا
بسنة فجرنا
|
|
وكذاك سنة مغرب
طرفان
|
ليكون مفتتح
النهار وختمه
|
|
تجريدك التوحيد
للديان
|
وكذاك قد شرعا
بخاتم وترنا
|
|
ختما لسعي الليل
بالآذان
|
وكذاك قد شرعا
بركعتي الطوا
|
|
ف وذاك تحقيق
لهذا الشأن
|
فهما إذا أخوان
مصطحبان لا
|
|
يتفارقان وليس
ينفصلان
|
فمعطل الأوصاف
ذو شرك كذا
|
|
ذو الشرك فهو
معطل الرحمن
|
أو بضع أوصاف
الكمال له فحق
|
|
ق ذا ولا تسرع
إلى نكران
|
الشرح
: وأما ثالث هذه
الأقسام فهم خيرة الله من خلقه والخلاصة المصطفاة من عباده ، الذين أخلصوا توحيدهم
لله ، فهم يدعون إلههم الحق وحده ولا يدعون سواه ، ولا يشركون به شيئا من خلقه في
شيء من عبادتهم ، فهم يدعونه رغبا وطمعا في فضله ، ورهبا وخوفا من عقوبته وأخذه ،
ويدعونه في جميع أحوالهم ، في سرهم وعلانيتهم ، وفي ظعنهم وإقامتهم ، لا ملجأ لهم
منه إلا إليه.
وتوحيده سبحانه
على نوعين : أحدهما علمي خبري ، وهو توحيد الأسماء والصفات ، والثاني توحيد قصدي
طلبي ، وهو توحيد الإلهية والعبادة ، وقد جرد النوعان من كل ما يشوبهما من أنواع
الشرك في سورتي : الإخلاص ، وقل يا أيها الكافرون. فالأولى فيها تجريد لتوحيد
الأسماء والصفات. والثانية فيها تجريد لتوحيد العبادة ، ولهذا شرعت القراءة بهما
في ركعتي الفجر والمغرب لوقوعهما في طرفي النهار ، ليكون مفتتحة ومختتمة تجريد
التوحيد بنوعية الله. وكذلك شرعا في ختام الوتر ، أي في الركعتين الأخيرتين ، لأنه
آخر عمل الليل ، فيكون بذلك
قد ختم عمله
بتجريد التوحيد وإخلاصه لله. وكذلك شرعا في ركعتي الطواف تحقيقا لهذا الغرض نفسه.
فهما إذا ـ أعني
التوحيد العلمي الخبري والتوحيد القصدي الطلبي ـ أخوان متلازمان لا يفترقان ولا
ينفصلان ، فمن أخل بأحدهما أخل بالآخر ، ولا يتم توحيد أحد إلا إذا حققهما جميعا.
فمعطل الأوصاف
كلها أو بعضها فهو مشرك ، وكذلك المشرك هو معطل ، فتأمل هذا الأمر جيدا وتدبره ولا
تسرع إلى إنكاره لعدم فهمك له.
* * *
فصل
في بيان أن المعطل شر من المشرك
لكن أخو التعطيل
شر من أخي ال
|
|
إشراك بالمعقول
والبرهان
|
ـ ٥٤٥ ـ ١ إن المعطل
جاحد للذات أو
|
|
لكمالها هذان
تعطيلان
|
متضمنان القدح
في نفس الألو
|
|
هة كم بذاك
القدح من نقصان
|
والشرك فهو توسل
مقصوده الز
|
|
لفى من الرب
العظيم الشأن
|
بعبادة المخلوق
من حجر ومن
|
|
بشر ومن قبر ومن
أوثان
|
فالشرك تعظيم
بجهل من قيا
|
|
س الرب بالأمران
والسلطان
|
ظنوا بأن الباب
لا يغشى بدو
|
|
ن توسط الشفعاء
والأعوان
|
ودهاهم ذاك
القياس المستبين
|
|
فساده ببداهة
الإنسان
|
الشرح
: وإذا كان التعطيل
كما بينا أخا للشرك وملازما له ، فإن المعطل شر من المشرك وأسوأ منه عقيدة في ربه عزوجل. وليست هذه دعوى تقال باللسان ولكنها مدعمة بالدليل
والبرهان ، إن التعطيل نوعان أحدهما جحد الذات وعدم الإقرار بوجودها ، وهو تعطيل
الدهرية الذين ينكرون الصانع ويقولون ما حكاه
القرآن عنهم : (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا
نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) [المؤمنون : ٣٧].
والثاني : تعطيل
الذات عن صفات الكمال الثابتة لها ، فهذان تعطيلان يتضمنا الطعن في حقيقة الألوهية
والتنقيص من شأنها.
وأما الشرك فليس
فيه طعن في ذات الألوهية ، فالمشرك مقر بإلهية الرب سبحانه ، ولكنه يظن أنه لا
يستطيع أن يبلغ منه مكان الرضى إلا إذا توسل إليه بما يعبده من حجر أو بشر أو قبر
أو وثن أو كوكب أو ملك أو غير ذلك مما يتخذه المشركون وسائط فيما بينهم وبين الله
، يزعمون أنها تقربهم إليه زلفى.
فالشرك تعظيم
للمشرك به ، ولكنه تعظيم بجهل ، نشأ من قياس فاسد ، وهو قياس الرب سبحانه بالملوك
والأمراء والسلاطين ، فلما رأى المشركون أنه لا يمكن الدخول على أحد من هؤلاء ولا
الاتصال به والحظوة لديه إلا بواسطة بطانته ورجال حاشيته من الحجاب والوزراء أو
أهل بيته من الزوجات والأولاد ، ظنوا الله سبحانه كواحد من هؤلاء ، فاتخذوا له
الوسائط والشفعاء ، وكان الذي جر عليهم تلك الداهية الدهياء هو ذلك القياس الذي
فساده من الظهور والبيان بحيث تدركه بداهة الإنسان.
* * *
الفرق بين الله
والسلطان من
|
|
كل الوجوه لمن
له أذنان
|
إن الملوك
لعاجزون وما لهم
|
|
علم باحوال
الدعاء بأذان
|
كلا ولا هم
قادرون على الذي
|
|
يحتاجه الإنسان
كل زمان
|
كلا وما تلك
الإرادة فيهم
|
|
لقضا حوائج كل
ما انسان
|
كلا ولا وسعوا
الخليقة رحمة
|
|
من كل وجه هم
أولو النقصان
|
فلذلك احتاجوا
إلى تلك الوسا
|
|
ئط حاجة منهم
مدى الأزمان
|
أما الذي هو
عالم للغيب مق
|
|
تدر على ما شاء
ذو إحسان
|
وتخافه الشفعاء
ليس يريد من
|
|
هم حاجة جل
العظيم الشأن
|
بل كل حاجات لهم
فاليه لا
|
|
لسواه من ملك
ولا انسان
|
الشرح
: ومما يدل على فساد
قياسهم أن هناك فرقا بين المقيس والمقيس عليه من كل وجه ، فكل ما يدعوهم لالتماس
الزلفى إلى الملوك والأمراء باتخاذ الوسائط والشفعاء ليس موجودا في حق الله عزوجل. وكل ما يحتاج الملوك من أجله إلى اتخاذ الأعوان والظهراء
فإن الله غني عنه ، فالملوك عاجزون عن تدبير شئون مملكتهم بأنفسهم ، فلا بد لهم
ممن يعينهم على ذلك ويرفع إليهم حوائج الناس الذين لا يستطيعون الوقوف على حاجاتهم
بأنفسهم ، وليس لهم قدرة كذلك على توفير ما يحتاجون إليه في كل وقت إلا بمعونة
هؤلاء. فهم يقبلون شفاعتهم ووساطتهم بسبب حاجتهم إليهم ، وهم كذلك يخشون منازعتهم
إياهم على الملك فيقبلون شفاعتهم خوفا منهم. وليس للملوك إرادة لقضاء حوائج كل
الناس ، فهم يحتاجون إلى من يرغبهم في ذلك ويغير ارادتهم ، ويحولهم من الغضب إلى
الرضى ، وكذلك هم لا يجدون عندهم الرحمة التي يمكن أن يبسطوها على الناس ،
فيحتاجون إلى من يعطفهم ويرقق قلوبهم ويملأها بالرحمة والحنان والرغبة في الإحسان.
فمن أجل ذلك كله
احتاجوا إلى تلك الوسائط حاجة لا ينفكون عنها في وقت من الأوقات. أما الله سبحانه
فهو بعكس هؤلاء الملوك العاجزين الجاهلين ، فهو عالم الغيب كله ، يعلم أحوال جميع
خلقه ، لا يحتاجون إلى من يرفع إليه حوائجهم ، وهو سبحانه ذو القدرة التامة على
فعل كل ما يشاء ، لا يحتاج إلى معونة أحد في تنفيذ ما يريد.
وهو ذو فضل وإحسان
، ورحمته وسعت كل شيء من خلقه ، وهو سبحانه مريد لنفعهم والإحسان إليهم ، بل هو
أرحم بعباده من الأم بولدها.
وهو لا يقبل شفاعة
الشفعاء خوفا منهم ولا رغبة فيما عندهم ، فليس له إلى أحد حاجة ، ولن يبلغ أحد ضره
أو نفعه ، تعالى الله عن ذلك كله جل شأنه ، بل
كل حاجات هؤلاء
الشفعاء إنما هي إليه لا إلى غيره من ملك أو إنسان.
* * *
وله الشفاعة
كلها وهو الذي
|
|
في ذاك يأذن
للشفيع الداني
|
لمن ارتضى ممن
يوحده ولم
|
|
يشرك به شيئا
لما قد جاء في القرآن
|
سبقت شفاعته
إليه فهو مش
|
|
فوع إليه وشافع
ذو شان
|
فلذا أقام
الشافعين كرامة
|
|
لهم ورحمة صاحب
العصيان
|
فالكل منه بدا
ومرجعه إلي
|
|
ه وحده ما من
إله ثان
|
غلط الألى جعلوا
الشفاعة من سوا
|
|
ه إليه دون
الاذن من رحمن
|
هذي شفاعة كل ذي
شرك فلا
|
|
تعقد عليها يا
أخا الإيمان
|
والله في القرآن
أبطلها فلا
|
|
تعدل عن الآثار
والقرآن
|
الشرح
: والشفاعة كلها لله
كما قال سبحانه : (قُلْ لِلَّهِ
الشَّفاعَةُ جَمِيعاً) [الزمر : ٤٤] فهو
سبحانه الذي يأذن في الشفاعة لمن يشاء من خيار خلقه من الملائكة والرسل والأنبياء
والصديقين والشهداء ، فلا يشفع من هؤلاء أحد عنده إلا بإذنه ولا يشفعون إلا لمن
ارتضاه من خلقه ممن مات على التوحيد فلم يشرك بالله شيئا ، فالشفاعة التي أثبتها
الله في كتابه هي تلك الشفاعة المقيدة بالاذن من المشفوع عنده سبحانه والرضى منه
عن المشفوع فيه واختاره لمن يكرمه بمنصب الشفاعة ، فهو سبحانه يقيم الشافعين
تكريما لهم ورحمة بأصحاب الذنوب ، فالشفاعة مرجعها إليه سبحانه أولا وآخر ، ليس لأحد
شركة معه في شيء منها ، إذ ليس معه إله غيره.
وأما الشفاعة التي
يدعيها المشركون لآلهتهم والنصارى لقسيسيهم ورهبانهم ، وهي التي تقع بغير إذن منه
سبحانه ، وتنال كل أحد رضيه أم لم يرضه. فلا يجوز لمؤمن ان يعتقدها ولا ان يعول
عليها ، فهي الشفاعة التي أبطلها القرآن الكريم ، كما في قوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ
عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ) [البقرة : ٤٨]
وقوله : (وَاتَّقُوا يَوْماً
لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ
نَفْسٍ
شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ) [البقرة : ١٢٣] [البقرة
: ١٢٣] وقوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ
إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ ، يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ
قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ
فَيَشْفَعُوا لَنا) [الأعراف : ٥٣]
وقوله : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ
دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا
عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا
فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [يونس : ١٨] وقوله
: (فَما تَنْفَعُهُمْ
شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) [المدثر : ٤٨] إلى
غير ذلك من الآيات التي لا يراد بها نفي مطلق الشفاعة ، وإنما يراد بها نفي
الشفاعة المطلقة.
* * *
وكذا الولاية
كلها لله لا
|
|
لسواه من ملك
ولا إنسان
|
والله لم يفهم
أولو الاشراك ذا
|
|
ورآه تنقيصا
أولو النقصان
|
إذ قد تضمن عزل
من يدّعي س
|
|
وى الرحمن بل
أحدية الرحمن
|
بل كل مدعو سواه
من لدن
|
|
عرش الإله إلى
الحضيض الداني
|
هو باطل في نفسه
ودعاه عا
|
|
بده له من أبطل
البطلان
|
فله الولاية
والولاية ما لنا
|
|
من دونه وال من
الأكوان
|
فإذا تولاه امرؤ
دون الورى
|
|
طرا تولاه
العظيم الشأن
|
وإذا تولى غيره
من دونه
|
|
ولاه ما يرضى به
لهوان
|
في هذه الدنيا
وبعد مماته
|
|
وكذاك عند قيامة
الأبدان
|
حقا يناديهم ندا
سبحانه
|
|
يوم المعاد
فيسمع الثقلان
|
الشرح
: وكما أن الشفاعة
كلها لله فهو الذي يختار الشفعاء ويأذن لهم في الشفاعة ويحدد لهم من يشفعون فيه
ممن رضي دينهم وقولهم ، فكذلك الولاية كلها له وحده ، فلا يجوز لأحد أن يتولى غيره
من ملك ولا إنس ولا غيرهما.
ولكن أهل الشرك لم
يفهموا ذلك ، بل ينكرونه ويرونه تنقيصا من قدر أوليائهم ، إذ هو يتضمن عزلها عن ان
تدعي مع الله ، بل يتضمن إخلاص الدعاء
له واعتقاد أحديته
، وكل من يدعي من دون الله من لدن عرشه إلى فرشه فهو باطل في نفسه ، لأنه قد جعل
إلها معه وهو لا يستحق من الإلهية شيئا. وكذلك دعاء عابديه له من أبطل الباطل وأضل
الضلالة.
فثبت أنه سبحانه
له وحده الولاية كلها ، ولاية الذل والضراعة ، فليس لنا من وال يلي أمورنا غيره في
الوجود كله ، بل هو وحده الولي الذي نتولاه عبادة وذلا ، فإذا تولاه عبده من دون
جميع خلقه تولاه الله سبحانه وكان له نعم المولى ونعم النصير ، أما إذا تولى غيره
ورضي بتلك الولاية للمخلوق ، ولاه الله ما تولى لهوانه عليه في هذه الحياة الدنيا
وبعد مماته ، وكذلك في معاده عند قيامة الأبدان ، حيث ينادي سبحانه عباده بنداء
يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب يقول : «من كان يعبد إلها فليتبع» كما ورد في
الحديث.
* * *
يا من يريد
ولاية الرحمن دو
|
|
ن ولاية الشيطان
والأوثان
|
فارق جميع الناس
في إشراكهم
|
|
حتى تنال ولاية
الرحمن
|
يكفيك من وسع
الخلائق رحمة
|
|
وكفاية ذو الفضل
والإحسان
|
يكفيك من لم تخل
من إحسانه
|
|
في طرفة تتقلب
الأجفان
|
يكفيك رب لم تزل
ألطافه
|
|
تأتي أليك برحمة
وحنان
|
يكفيك رب لم تزل
في ستره
|
|
ويراك حين تجيء
بالعصيان
|
يكفيك رب لم تزل
في حفظه
|
|
ووقاية منه مدى
الأزمان
|
يكفيك رب لم تزل
في فضله
|
|
متقلبا في السر
والإعلان
|
الشرح
: يوصي المؤلف من
يريد ان يظفر بولاية الرحمن سبحانه وينجو من ولاية الشيطان والأوثان أن يفارق جميع
الناس فيما يقعون فيه من ألوان الشرك وصوره ، من تعظيم غير الله ومحبته واتخاذه
ندا مع الله يدعوه ويرغب إليه ويتقرب إليه بأنواع القربات ، فإن ولاية الله لا
تنال إلا بتوحيده وإخلاص الدين له ، والله سبحانه فيه كل الكفاية لعبده ، بحيث لا
يحتاج معه إلى غيره ، فهو الذي
شمل الخلائق كلهم
برحمته ووسعهم فضله وإحسانه ، وهو الذي لم ينقطع إحسانه عن عبده طرفة عين ، بل هو
دائم الإحسان وقديمه ، وهو الذي لم تزل ألطافه تتوارد على عبده رحمة وحنانا ، وهو
الذي لم يزل يضع ستره على عبده وهو مقيم على معصيته ، وهو الذي لم يزل عبده في
حفظه وكلاءته ووقايته طول عمره وهو لم يزل عبده متقلبا في فضله في سره وعلانيته.
فرب هذا شأنه أليس
يكفي عبده حتى يدعو معه غيره وينزل حاجاته بباب من سواه.
* * *
يدعوه أهل الأرض
مع أهل السما
|
|
ء فكل يوم ربنا
في شان
|
وهو الكفيل بكل
ما يدعونه
|
|
لا يعتري جدواه
من نقصان
|
فتوسط الشفعاء
والشركاء والظ
|
|
هراء أمر بيّن
البطلان
|
ما فيه إلا محض
تشبيه لهم
|
|
بالله وهو فأقبح
البهتان
|
مع قصدهم تعظيمه
سبحانه
|
|
ما عطلوا
الأوصاف للرحمن
|
لكن أخو التعطيل
ليس لديه
|
|
إلا النفي أين
النفي من إيمان
|
والقلب ليس يقرّ
إلا بالتعب
|
|
د فهو يدعوه إلى
الأكوان
|
فترى المعطل
دائما في حيرة
|
|
متنقلا في هذه
الأعيان
|
يدعو إلها ثم
يدعو غيره
|
|
ذا شأنه أبدا
مدى الأزمان
|
ونرى الموحد
دائما متنقلا
|
|
بمنازل الطاعات
والإحسان
|
ما زال ينزل في
الوفاء منازلا
|
|
وهي الطريق له
إلى الرحمن
|
لكنما معبوده هو
واحد
|
|
ما عنده ربان
معبودان
|
الشرح
: فهو سبحانه يدعوه
أهل سمائه وأهل أرضه ، لا تغلطه المسائل ولا يشغله شأن عن شأن ولا يتبرم بإلحاح
السائلين ، وهو الضامن لعباده بإعطائهم كل ما يسألونه إياه من غير ان ينقص ما عنده
، بل يمينه سبحانه ملأى لا تغيضها نفقة ، ولو أن عباده كلهم قاموا في صعيد واحد
فسألوه فأعطى كل واحد
مسألته ما نقص ذلك
من ملكه إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر.
وإذا كان الأمر
كذلك فاتخاذ العبد وسائط فيما بينه وبين الله من الشفعاء والشركاء والظهراء أمر في
غاية البطلان ، لأنه سوء ظن بالرب جل شأنه واتهام له بالحاجة إلى من يعلمه بأحوال
خلقه أو يغير إرادته أو يستخرج لهم إحسانه ورحمته ، وفيه أيضا تشبيه لهم بالله في
استحقاق العبادة والتعظيم ، وهو من أقبح البهتان.
والمشرك مع تشبيه
غير الله به فهو يقصد تعظيمه سبحانه ولا يجحد صفاته ولا يعطلها ، ولكن المعطل ليس
عنده إلا النفي والنكران ، وأين النكران من الإيمان؟
وإذا كان القلب لا
بد له ان يتعبد لشيء ، فإذا لم يعبد الله اتجه إلى عبادة غيره كان المعطل في حيرة
من أمره ، لأنه لما نفى الذات أو عطلها عن صفاتها لم يجد ما يعبده من الإله الحق ،
فينتقل بعبادته بين هذه الأعيان المخلوقة ، فهو يدعو إلها اليوم ثم يدعو غيره غدا
، ويظل هذا شأنه طول عمره يتعبد لآلهة شتى لا يكاد يثبت على عبادة واحد منها أبدا.
وأما الموحد فلا ينتقل من إله إلى إله ، فحاشاه من هذا الإشراك حاشاه ، ولكنه
يتنقل في منازل الطاعات ومراتب الإحسان ، مرتقيا فيها من درجة إلى درجة وهو سائر
إلى ربه ، ولكن معبوده في كل هذه المنازل هو الله عزوجل وحده ليس له ربان معبودان.
* * *
فصل
في مثل المشرك والمعطل
أين الذي قد قال
في ملك عظي
|
|
م لست فينا قط
ذا سلطان
|
ما في صفاتك من
صفات
|
|
الملك شيء كلها
مساوية الوجدان
|
فهل استويت على
سرير الملك أو
|
|
دبرت أمر الملك
والسلطان
|
أو قلت مرسوما
تنفذه الرعا
|
|
يا أو نطقت
بلفظة ببيان
|
أو كنت ذا أمر
وذا نهي وتك
|
|
ليم لمن وافى من
البلدان
|
أو كنت ذا سمع
وذا بصر وذا
|
|
علم وذا سخط وذا
رضوان
|
أو كنت قط مكلما
متكلما
|
|
متصرفا بالفعل
كل زمان
|
أو كنت تفعل ما
تشاء حقيقة ال
|
|
فعل الذي قد قام
بالأذهان
|
أو كنت حيا
فاعلا بمشيئة
|
|
وبقدرة أفعال ذي
السلطان
|
فعل يقوم بغير
فاعله محا
|
|
ل غير معقول لذي
الإنسان
|
بل حالة الفعال
قبل ومع وبع
|
|
د هي التي كانت
بلا فرقان
|
والله لست بفاعل
شيئا إذا
|
|
ما كان شأنك منك
هذا الشأن
|
لا داخلا فينا
ولست بخارج
|
|
عنا خيالا درت
في الأذهان
|
فبأي شيء كنت
فينا مالكا
|
|
ملكا مطاعا قاهر
السلطان
|
اسما ورسما لا
حقيقة تحته
|
|
شأن الملوك أجل
من ذا الشأن
|
الشرح
: يضرب المؤلف في
هذه الأبيات والتي بعدها مثلين ، مثلا للمعطل الذي ينفي صفات الكمال عن الله عزوجل ويجحدها ، ومثلا للمشرك الذي يقر بها ولكنه يتخذ بينه وبين
الله وسطاء يرفعون دعاءه إليه ويقضون حوائجه ، ومنهما يتبين أن المشرك أحسن حالا
من المعطل.
فالمعطل إذا خاطب
ربه يقول له إنك فينا لست ذا تسلط وقدرة وليس لك من صفات الملك شيء بل أنت مسلوب
هذه الصفات فاقدها فإنك لم تستو على سرير ملكك تدبر من هناك أمور خلقك. ولم تخاطب
عبادك بخطاب يفهمونه عنك ولم تعهد إليهم بمرسوم ينفذونه كما هو شأن الملوك فلا أمر
لك فيهم ولا نهي ولا خطاب ولا تكليم لمن وافوا أليك ليسمعوا منك ولست كذلك ذا سمع
تسمع به أصواب خلقك وشكاياتهم التي يجأرون أليك ولست ذا بصر تبصر به أشخاصهم
وأحوالهم وما يتصرفون فيه من أعمالهم ولست ذا علم بما يجري في مملكتك من شئون
وأحداث ، بل كلها تتم من وراء ظهرك ولا تملك ان تسخط وتغضب على من خالفك وعصى أمرك
ولا أن ترضى عمن أطاعك واتبع
رسلك. ولست قط
مكلما بالفعل أحدا من خلقك ولا لك قدرة على التكلم والتكليم. وليس لك في مملكتك
فعل قط ولا تصرف فلست تفعل ما تشاء كما يفعل الملوك ما يشاءون بل أنت لا حياة لك
ولا مشيئة ولا قدرة على فعل مما يفعله أصحاب السلطان وكيف يتأتى أن يكون لك فعل
والفعل إنما قام بغيرك وهل يقوم الفعل بغير فاعله بل حالك قبل الفعل ومع الفعل
وبعد الفعل هي هي لم يعرض لك حال صرت فيها فاعلا ولا خالقا ولا رازقا ولا مدبرا
فما دام هذا شأنك ولم تتصف بصفة الفعل فلست في ملكك فاعلا لشيء ولا مدبرا لأمر كما
أنك لا مكان لك ولا جهة يتجه أليك عبادك نحوها فلست داخل مملكتك ولا خارجها بل أنت
إن حقق الأمر عليك لم تزد ان تكون صورة في الخيال لا حقيقة لها في عالم الواقع.
فبأي شيء إذا تكون
ملكا علينا واجب الطاعة قاهر السلطان ، وما أنت إلا اسم ورسم لا حقيقة تحتهما ، بل
شأن الملوك أجلّ من هذا وأعظم.
* * *
هذا وثان قال
أنت مليكنا
|
|
وسواك لا نرضاه
من سلطان
|
إذ حزت أوصاف
الكمال جميعها
|
|
ولأجل ذا دانت
لك الثقلان
|
وقد استويت على
سرير الملك واس
|
|
توليت مع هذا
على البلدان
|
لكن بابك ليس
يغشاه امرؤ
|
|
إن لم يجيء
بالشافع المعوان
|
ويذلّ للبواب
والحجاب والش
|
|
فعاء أهل القرب
والإحسان
|
أفيستوي هذا
وهذا عندكم
|
|
والله ما استويا
لدى إنسان
|
والمشركون أخف
في كفرانهم
|
|
وكلاهما من شيعة
الشيطان
|
إن المعطل
بالعداوة قائم
|
|
في قالب التنزيه
للرحمن
|
الشرح
: وأما الثاني وهو
المشرك فإنه أقر لله بتمام الربوبية والانفراد بالملك والسلطان لأنه حائز لجميع
صفات الكمال التي لا بد منها في تمام الملك ومن أجلها خضع له جميع الخلق ودان له
الثقلان من الجن والإنس فهو ملك مستو على
سرير ملكه عال على
جميع خلقه قاهر لهم مستول عليهم ، بيده أزمة أمورهم ولا يخرج شيء منهم عن قهره
وسلطانه ، وهو عظيم في سلطانه لا يستطيع أحد من خلقه ان يصل إليه ولا ان يغشى بابه
إلا إذا التمس إليه الشفعاء والوسطاء فيذل لهم ويتملقهم ويقوم لهم بأنواع العبادة
حتى يدخلوه على الملك فهل يستوي هذا الذي أقر لله بتمام الربوبية وأثبت له ما أثبت
لنفسه من صفات الكمال ولم يجحد منها شيئا لكنه جعل له أندادا من خلقه. ومن عطله عن
صفات كماله فلم يثبت علوه على خلقه ولا كلامه لأحد من خلقه ولا رحمته ولا غضبه ولا
حكمته ولا أمره ولا نهيه ، لا شك أن المشركين أهون في كفرانهم من هؤلاء المعطلة
وإن كان الفريقان من أحزاب الشيطان فالمعطل عدو لله قد ناصب ربه العداوة ولكنه
يتظاهر بأنه يقصد تنزيهه عما لا يليق به من التشبيه والتجسيم.
* * *
فصل
فيما أعد الله تعالى من الإحسان للمتمسكين بكتابه
وسنة رسوله صلىاللهعليهوسلم عند فساد الزمان
هذا وللمتمسكين
بسنة المختار
|
|
عند فساد ذي
الأزمان
|
أجر عظيم ليس
يقدر قدره
|
|
إلا الذي أعطاه
للإنسان
|
فروى أبو داود
في سنن له
|
|
ورواه أيضا أحمد
الشيباني
|
أثرا تضمن أجر
خمسين امرأ
|
|
من صحب أحمد
خيرة الرحمن
|
اسناده حسن
ومصداق له
|
|
في مسلم فافهمه
بالإحسان
|
إن العبادة وقت
هرج هجرة
|
|
حقا إلي وذاك ذو
برهان
|
هذا فكم من هجرة
لك أيها الس
|
|
ني بالتحقيق لا
بأماني
|
هذا وكم من هجرة
لهم بما
|
|
قال الرسول وجاء
في القرآن
|
ولقد أتى مصداقه
في الترمذي
|
|
لمن له أذنان
واعيتان
|
في أجر محيي سنة
ماتت فذا
|
|
ك مع الرسول
رفيقه بجنان
|
الشرح
: وردت أحاديث كثيرة
تدل على ما أعد الله سبحانه من أجر عظيم للمتمسكين بسنّة نبيه المختار صلىاللهعليهوسلم عند فساد الزمان وانحلال عرى الدين. فروى أبو داود رحمهالله في سننه ، وروى أحمد بن حنبل الشيباني رضي الله عنه في
مسنده أثرا تضمن أن للعامل من هذه الأمة عند فساد الزمان أجر خمسين رجلا من أصحاب
رسول الله صلىاللهعليهوسلم ولفظ الحديث عند أبي داود.
وعن أبي أمية الشعباني
قال : «سألت أبا ثعلبة الخشني فقلت : يا أبا ثعلبة كيف تقول في هذه الآية : (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) [المائدة : ١٠٥]؟
قال : أما والله لقد سألت عنها خبيرا ، سألت عنها رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت
شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك ـ يعني بنفسك ـ ودع
عنك العوام ، فإن من ورائكم أيام الصبر فيها مثل قبض على الجمر ، للعامل فيهم مثل
أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله ، وزاد في غيره ، قالوا يا رسول الله أجر خمسين
منهم؟ قال أجر خمسين منكم ، وله شاهد يقويه فيما رواه مسلم رحمهالله من أن العبادة في وقت الهرج ـ أي القتل والفتن ـ تعدل هجرة
إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
هذا ولأهل السنة
هجرات كثيرة لا بالأماني والأحلام ولكن بالتحقيق والتثبيت فلهم هجرة إلى الله عزوجل بالإخلاص والتوحيد ، ولهم هجرة إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم بالاقتداء والاتباع ، ولهم هجرة من البدع إلى السنن ومن
المعاصي إلى الطاعات ومن الأقوال والآراء إلى ما قاله الرسول صلىاللهعليهوسلم وما جاء في القرآن وله شاهد أيضا فيما رواه الترمذي من أن
الذي يحيي سنة من سنن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ماتت يكون رفيقه في الجنة.
* * *
هذا ومصداق له
أيضا أتى
|
|
في الترمذي لمن
له عينان
|
تشبيه أمته بغيث
أول
|
|
منه وآخره
فمشتبهان
|
فلذاك لا يدري
الذي هو منهما
|
|
قد خص بالتفضيل
والرجحان
|
ولقد أتى أثر
بأن الفضل
|
|
في الطرفين أعني
أولا والثاني
|
والوسط ذو ثبج
فاعوج هكذا
|
|
جاء الحديث وليس
ذا نكران
|
ولقد أتى في
الوحي مصداق له
|
|
في الثلتين وذاك
في القرآن
|
أهل اليمين فثلة
مع مثلها
|
|
والسابقون أقل
في الحسبان
|
ما ذاك إلا أن
تابعهم هم
|
|
الغرباء ليست
غربة الأوطان
|
لكنها والله
غربة قائم
|
|
بالدين بين
عساكر الشيطان
|
فلذاك شبههم به
متبوعهم
|
|
في الغربتين
وذاك ذو تبيان
|
لم يشبهوهم في
جميع أمورهم
|
|
من كل وجه ليس
يستويان
|
فانظر إلى تفسيره
الغرباء بالمحيين سنته بكل زمان الشرح
: وروى كذلك الترمذي
مصداقا لهذا الأثر الدال على فضل أهل الغربة العاملين بالسنّة عند فساد الأمة قوله
عليهالسلام فيما رواه عنه عمار بن ياسر رضي الله عنه «مثل أمتي مثل
المطر لا يدري أوله خير أم آخره».
قال ابن كثير رحمهالله بعد روايته لهذا الحديث :
(فهذا الحديث بعد
الحكم بصحة إسناده محمول على أن الدين كما هو محتاج إلى أول الأمة في إبلاغه إلى
من بعدهم ، كذلك هو محتاج إلى القائمين به في أواخرها ، وتثبيت للناس على السنّة
وروايتها ، والفضل للمتقدم وكذلك الزرع هو محتاج إلى المطر الأول وإلى المطر
الثاني ، ولكن العمدة الكبرى على الأول واحتياج الزرع إليه آكد فإنه لولاه ما نبت
في الأرض ولا تعلق أساسه بها).
ولقد ورد أثر آخر
يدل على أن الخير في طرفي هذه الأمة ، يعني في أولها وآخرها ، وأما وسطها فذو ثبج
، أي أحدب معوج.
ولقد أتى مصداق
لهذه الآثار في القرآن عند قوله تعالى : (وَالسَّابِقُونَ
السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ثُلَّةٌ مِنَ
الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) [الواقعة : ١٠ ،
١٤].
وقوله من نفس
السورة في شأن أصحاب اليمين (ثُلَّةٌ مِنَ
الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) [الواقعة : ٣٩ ،
٤٠] فلما ذكر أصحاب اليمين جعلهم ثلتين ، ثلة من أول هذه الأمة وثلة من آخرها.
وعند ما ذكر السابقين جعلهم ثلة من الأولين وقليلا من الآخرين. وليس ذلك إلا لأن
التابع لهؤلاء السابقين في آخر الزمن يكونون أهل قلة وغربة كما قال صلوات الله
وسلامه عليه فيما رواه مسلم عن أبي هريرة «بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ
، فطوبى للغرباء».
ووردت روايات عدة
في تفسير هؤلاء الغرباء ، ففي بعضها أنهم النزاع من القبائل. وفي أخرى أنهم الذين
يصلحون إذا فسد الناس. وفي رواية أنهم الذين يفرون بدينهم من الفتن. وفي أخرى أنهم
الذين يصلحون ما أفسد الناس من سنة رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
فهذه الغربة
المذكورة في هذا الحديث ليست غربة عن الأهل والأوطان ولكنها غربة المتمسك بدينه
العاض عليه بناجذيه بين جنود الشيطان ، فلذلك شبههم الرسول صلىاللهعليهوسلم في غربتيه الأولى والثانية في قلة الأعوان والأنصار. يقول
العلامة ابن رجب الحنبلي في تفسيره لهذا الحديث :
قوله : «بدأ
الإسلام غريبا» يريد به أن الناس كانوا قبل مبعثه على ضلالة عامة كما قال النبي صلىاللهعليهوسلم في حديث عياض بن حمار الذي خرجه مسلم «إن الله نظر إلى أهل
الأرض فمقتهم ـ عربهم وعجمهم ـ إلا بقايا من أهل الكتاب» ، فلما بعث النبي صلىاللهعليهوسلم ودعا إلى الإسلام لم يستجب له في أول الأمر إلا الواحد بعد
الواحد من كل قبيلة ، وكان المستجيب له خائفا من عشيرته وقبيلته يؤذى غاية الأذى
وينال منه وهو صابر على ذلك في الله عزوجل ، وكان المسلمون إذ ذاك مستضعفين يشردون كل مشرد ويهربون
بدينهم إلى البلاد النائية ، كما هاجروا إلى الحبشة مرتين ، ثم هاجروا إلى المدينة
، وكان منهم من يعذب في الله ومنهم من يقتل ، فكان الداخلون في الإسلام حينئذ
غرباء ، ثم ظهر الإسلام بعد الهجرة إلى المدينة وعز وصار أهله ظاهرين كل الظهور ،
ودخل الناس بعد ذلك
في دين الله
أفواجا ، وأكمل الله لهم الدين وأتم النعمة عليهم.
وتوفى رسول الله صلىاللهعليهوسلم والأمر على ذلك وأهل الإسلام على غاية من الاستقامة في
دينهم ، وهم متعاضدون متناصرون ، وكانوا على ذلك في زمن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
ثم عمل الشيطان
مكايده على المسلمين ، وألقى بأسهم بينهم وأفشى فيهم فتنة الشبهات والشهوات ، ولم
تزل هاتان الفتنتان تتزايدان شيئا فشيئا حتى استحكمت مكيدة الشيطان وأطاعه أكثر
الخلق ، فمنهم من دخل في طاعته في فتنة الشبهات ، ومنهم من دخل في فتنة الشهوات ،
ومنهم من جمع بينهما ، وكل ذلك مما أخبر النبي صلىاللهعليهوسلم بوقوعه : إلى أن يقول :
(فلما دخل أكثر
الناس في هاتين الفتنتين أو إحداهما أصبحوا متقاطعين متباغضين بعد أن كانوا اخوانا
متحابين متواصلين ، فإن فتنة الشهوات عمت غالب الخلق ففتنوا بالدنيا وزهرتها وصارت
غاية قصدهم ، لها يطلبون وبها يرضون ولها يغضبون ولها يوالون وعليها يعادون فقطعوا
لذلك أرحامهم وسفكوا دماءهم وارتكبوا معاصي الله بسبب ذلك.
وأما فتنة الشبهات
والأهواء المضلة ، فسببها تفرق أهل القبلة وصاروا شيعا وكفّر بعضهم بعضا ، وأصبحوا
أعداء وفرقا وأحزابا ، بعد أن كانوا إخوانا قلوبهم على قلب رجل واحد ، فلم ينج من
هذه الفرق كلها إلا الفرقة الواحدة الناجية ، وهم المذكورون في قولهصلىاللهعليهوسلم : «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من
خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك) وهم في آخر الزمان الغرباء
المذكورون في هذه الأحاديث الذين يصلحون إذا فسد الناس ، وهم الذين يصلحون ما أفسد
الناس من السنة ، وهم الذين يفرون بدينهم من الفتن ، وهمّ النزاع من القبائل لأنهم
قلوا ، فلا يوجد في كل قبيلة منهم إلا الواحد والاثنان ، وقد لا يوجد في بعض القبائل
منهم أحد ، كما كان
الداخلون في
الإسلام في أول الأمر كذلك. وبهذا فسر الأئمة هذا الحديث) أه.
* * *
طوبى لهم والشوق
يحدوهم إلى
|
|
أخذ الحديث
ومحكم القرآن
|
طوبى لهم لم
يعبئوا بنحاتة الأ
|
|
فكار أو بزبالة
الأذهان
|
طوبى لهم ركبوا
على متن العزا
|
|
ئم قاصدين لمطلع
الإيمان
|
طوبى لهم لم
يعبئوا شيئا بذي الآ
|
|
راء إذ أغناهم
الوحيان
|
طوبى لهم
وامامهم دون الورى
|
|
من جاء بالإيمان
والفرقان
|
والله ما ائتموا
بشخص دونه
|
|
إلا إذا ما دلهم
ببيان
|
الشرح
: فالعاقبة الطيبة
والنهاية الحميدة في جنة الخلد التي عرضها السموات والأرض لهؤلاء الغرباء الذين
حدا بهم الشوق إلى كتاب الله وسنة رسوله صلىاللهعليهوسلم فأكبوا عليهما دراسة وفقها وتأملا ، وعولوا عليهما في كل
أمورهم ، ولم يكترثوا لسواهما من هذه الآراء القذرة التي هي نحت أفكار معوجة
ووساخة أذهان منحرفة ، فهؤلاء الغرباء لم يلتفتوا إلى شيء منها بل امتطوا صهوات
العزائم إلى حيث مطلع الإيمان ومشرق النور ، فاستغنوا بالوحيين عن كل ما سواهما ،
ولم يتخذوا إماما لهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم الذي بعثه الله معلما للإيمان ومبيّنا للفرقان.
ووالله ما عرفوا لهم
إماما غيره إلا رجلا يدلهم على ما قاله وجاء به من الهدى والعلم والإيمان.
* * *
في الباب آثار
عظيم شأنها
|
|
أعيت على
العلماء في الأزمان
|
إذ أجمع العلماء
أن صحابة ال
|
|
مختار خير طوائف
الإنسان
|
ذا بالضرورة ليس
فيه الخلف بي
|
|
ن اثنين ما حكيت
به قولان
|
فلذاك ذي الآثار
أعضل أمرها
|
|
وبغوا لها
التفسير بالإحسان
|
فاسمع إذا
تأويلها وأفهمه لا
|
|
تعجل برد منك أو
نكران
|
إن البدار برد
شيء لم تحط
|
|
علما به سبب إلى
الحرمان
|
الفضل منه مطلق
ومقيد
|
|
وهما لأهل الفضل
مرتبتان
|
والفضل ذو التقييد
ليس بموجب
|
|
فضلا على
الإطلاق من إنسان
|
لا يوجب التقييد
أن يقضي له
|
|
بالاستواء فكيف
بالرجحان
|
إذ كان ذو
الإطلاق حاز من الفضا
|
|
ئل فوق ذي
التقييد بالإحسان
|
فإذا فرضنا
واحدا قد حاز نو
|
|
عا لم يحزه فاضل
الإنسان
|
لم يوجب التخصيص
من فضل علي
|
|
ه ولا مساواة
ولا نقصان
|
ما خلق آدم
باليدين بموجب
|
|
فضلا على
المبعوث بالقرآن
|
وكذا خصائص من
أتى من بعده
|
|
من كل رسل الله
بالبرهان
|
فمحمد أعلاهم
فوقا وما
|
|
حكمت لهم بمزية
الرجحان
|
فالحائز الخمسين
أجرا لم يحز
|
|
ها في جميع
شرائع الإيمان
|
هل حازها في بدر
أو أحد أو ال
|
|
فتح المبين
وبيعة الرضوان
|
بل حازها إذ كان
قد فقد المع
|
|
ين وهم فقد
كانوا أولي أعوان
|
الشرح
: وقد حار العلماء
في كل عصر في تفسير هذه الآثار العظيمة التي دلت على زيادة أجر العاملين في آخر
الزمان على الصحابة رضي الله عنهم ، إذ كانوا قد أجمعوا على أن الصحابة هم أفضل
خلق الله بعد النبيين. وهذا أمر معلوم بالضرورة لم يختلف فيه اثنان ولا حكي فيه
قولان ، فلذاك أشكل أمر هذه الآثار على العلماء ، وحاولوا التوفيق بينها وبين ما
هو متفق عليه من ذلك ، فإذا أردت أن تعرف تأويل هذه الآثار وأن تقف على جلية الأمر
فيها فاسمع لما يقال لك من ذلك وحاول أن تفهمه ولا تعجل برد هذه الآثار وإنكارها ،
فإن من أسباب الخيبة والحرمان أن يتعجل الإنسان رد ما لم يحط به علما من الأمور. فالفضل
قسمان : أحدهما مطلق غير مقيد بعمل أو صفة أو وقت أو نحوها. والثاني مقيد بشيء من
ذلك.
فالفضل للقيد لا
يوجب لصاحبه فضلا مطلقا ، فلا يصح أن يحكم له
بالمساواة مع صاحب
الفضل المطلق ، فضلا عن أن يكون راجحا عليه ، فإن ذا الفضل المطلق قد أحرز من
الفضائل والمناقب ما لم يحرزه صاحب الفضل المقيد ، فإذا فرضنا واحدا من الناس قد
حاز نوعا من الفضائل لم يحزه الذي هو أفضل منه لم يوجب تخصيصه بهذا النوع فضلا
عليه ولا مساواة له.
فخلق الله آدم
بيديه ميزة لآدم عليهالسلام ، لم توجب له أن يكون أفضل من نبينا عليهالسلام. وكذا خصائص الرسل بعد آدم ، كتخصيص موسى بالتكليم وعيسى
بأنه روح الله وكلمته ، لم يوجب لهم أن يكونوا أفضل من محمد ، بل هو أعلاهم شرفا
وأرفعهم عند الله درجات ، فكذلك الحائز لأجر خمسين رجلا من الصحابة لم يحزها في
جميع الأعمال الإيمانية حتى يكون أفضل أو مساويا للصحابة فإنه لم يحزها في بدر ولا
أحد ، ولا في فتح مكة ولا بيعة الرضوان تحت الشجرة ، وإنما حازها بسبب غربته وفقده
للناصر المعين ، على حين كانوا هم يجدون على الحق أعوانا.
* * *
والرب ليس يضيع
ما يتحمل
|
|
المتحملون لأجله
من شان
|
فتحمل العبد
الوحيد رضاه مع
|
|
فيض العدو وقلة
الأعوان
|
مما يدل على
يقين صادق
|
|
ومحبة وحقيقة
العرفان
|
يكفيه ذلا
واغترابا قلة الأ
|
|
نصار بين عساكر
الشيطان
|
في كل يوم فرقة
تغزوه ان
|
|
ترجع يوافيه
الفريق الثاني
|
فسل الغريم
المستضام عن الذي
|
|
يلقاه بين عدا
بلا حسبان
|
هذا وقد بعد
المدى وتطاول ال
|
|
عهد الذي هو
موجب الإحسان
|
ولذاك كان كقابض
جمرا فسل
|
|
أحشاءه عن حرّ
ذي النيران
|
والله أعلم
بالذي في قلبه
|
|
يكفيه علم
الواحد المنان
|
في القلب أمر
ليس يقدر قدره
|
|
إلا الذي آتاه
للإنسان
|
بر وتوحيد وصبر
مع رضا
|
|
والشكر والتحكيم
للقرآن
|
سبحانه قاسم
فضله بين العبا
|
|
د فذاك مولى
الفضل والإحسان
|
فالفضل عند الله
ليس بصورة الأ
|
|
عمال بل بحقائق
الإيمان
|
وتفاضل الأعمال
يتبع ما يقو
|
|
م بقلب صاحبها
من البرهان
|
حتى يكون
العاملان كلاهما
|
|
في رتبة تبدو
لنا بعيان
|
هذا وبينهما كما
بين السما
|
|
والأرض في فضل
وفي رجحان
|
ويكون بين ثواب
ذا وثواب ذا
|
|
رتب مضاعفة بلا
حسبان
|
هذا عطاء الرب
جل جلاله
|
|
وبذاك تعرف حكمة
الرحمن
|
الشرح
: والله سبحانه
وتعالى أكرم من أن يضيع ما يتحمله عبده لأجله من شئون ، فتحمله مرارة الرضى والصبر
مع كثرة الأعداء وقلة الأنصار مما يدل على صدق يقينه بالله عزوجل وقوة معرفته ومحبته له ، فبحسبه من الذل والغربة قلة
أنصاره بين جحافل الشرك التي تغزوه فرقة بعد فرقة ، كلما رجعت عنه فرقة وأفته فرقة
أخرى ، فسل هذا الكسير المهيض الجناح عما يلقاه من أعدائه الذين لا حصر لهم مع
تطاول الأمد وبعد العهد بالقرون الفاضلة. ولذلك تراه في صبر على أذى أعدائه
كالقابض على الجمر ، وترى في أحشائه نارا متقدة من الحزن والألم ، والله سبحانه هو
الذي يعلم ما في قلبه من أمور عظيمة لا يقدر قدرها إلا هو سبحانه ، إذ هو موليها
ومعطيها فيه بر ووفاء وتوحيد ، وإخلاص وصبر ورضا وشكر وعرفان وتحكيم للسنة والقرآن
، فسبحان مولى الفضل والإحسان الذي قسم الفضل بين عباده بالقسط والميزان والفضل
عنده ليس بظواهر الأعمال بل بما تقوم عليه من حقائق الإيمان ، فهي تتفاوت في الفضل
بقدر ما يكون في قلب صاحبها من الإخلاص واليقين والخوف والمحبة والتذلل والخضوع
الخ. حتى أن الرجلين ليكونان في صلاة واحدة ركوعهما واحد وسجودهما واحد ، وأن بين
صلاتيهما كما بين السماء والأرض ، فإحداهما صاحبها في خشوع وخشية وحضور قلبه مع
الله ، والأخرى أداها صاحبها وهو ساه غافل عن صلاته ، إنما يؤديها حركات بالجوارح
وأقوالا باللسان دون أن يكون حاضر الجنان.
وبين هاتين
الدرجتين من المراتب ما لا حصر له ، فيكون بين ثواب هذه
وتلك من الدرجات
ما لا يحصيه إلا الله ، فهذا عطاؤه وفضل الذي قسمه بين أهل الفضل من خلقه ، وهذه
حكمته البالغة في تفاوت درجات الأعمال في الإحسان وتفاوتها تبعا لذلك في الجزاء.
قال تعالى : (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ
مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) [الأحقاف : ١٩].
وقال سبحانه : (هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ
بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) [آل عمران : ١٦٣].
* * *
فصل
فيما أعد الله تعالى في الجنة لأوليائه المتمسكين بالكتاب والسنة
يا خاطب الحور
الحسان وطالبا
|
|
لوصالهن بجنة
الحيوان
|
لو كنت تدري من
خطبت ومن طلب
|
|
ته بذلت ما تحوي
من الأثمان
|
أو كنت تدري أين
مسكنها جعل
|
|
ت السعي منك لها
على الأجفان
|
ولقد وصفت طريق
مسكنها فان
|
|
رمت الوصال فلا
تكن بالواني
|
أسرع وحث السير
جهدك إنما
|
|
مسراك هذا ساعة
لزمان
|
فاعشق وحدّث
بالوصال النفس واب
|
|
ذل مهرها ما دمت
ذا إمكان
|
واجعل صيامك قبل
لقياها ويو
|
|
م الوصل يوم
الفطر من رمضان
|
واجعل نعوت
جمالها الحادي وسر
|
|
تلقي المخاوف
وهي ذات أمان
|
الشرح
: بعد أن فرغ المؤلف
من بيان عقيدة الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة التي تقوم على إثبات كل ما وصف
الله به نفسه أو وصفه به رسوله صلىاللهعليهوسلم وبعد أن دحض عقائد أهل الزيغ والتعطيل أخذ في بيان ما أعد
الله من الجزاء العظيم في جنة النعيم للمتمسكين بكتابه وسنة رسوله صلىاللهعليهوسلم.
فهو ينادي من يريد
التزوج بالحور الحسان وينشد الحظوة بوصالهن في جنة الحيوان التي هي الحياة الحقة
ومنزل الكرامة والرضوان فيقول له : لو كنت تعلم
قدر مخطوبتك
ونفاستها لبذلت لها كل ما تقدر عليه من أثمان ، ولو كنت تعلم أي دار تسكنها ،
وأنها الدار التي حوت من صنوف النعيم والسرور كل ما تشتهيه الأنفس وتلذه الأعين ،
ومما لم يخطر على قلب إنسان لجعلت السعي منك إليها على الأرؤس إن لم تسعف القدمان.
ولقد دللتك على
الطريق المؤدي إلى هذا المسكن الطيب ، وهو العمل بالسنة والقرآن ، فإن كنت طالبا
للوصول حقا فإن الطريق لا يقطعه كسلان بل شمر عن ساعد جدك وأغذ السير على مطية
عزمك ولا تستطل الطريق ، فما سيرك إلا ساعة من زمان فتذكر قدر مخطوبتك وعلق بها
قلبك وحدث بطيب وصالها نفسك ولا تبخل عليها بغالي المهور والأثمان ما دمت ذا قدرة
وإمكان ، ولا تبال بما تلقاه في هذه الدنيا من بؤس وحرمان ، بل قدر كأن عمرك هو
شهر رمضان. فأنت تصومه لعدته وتجعل يوم فطرك هو يوم وصال الأحبة والخلان ، وتغن
بأوصاف حسنها في سيرك ، وأتخذ منه حداء يلهب شوقك ويجدد نشاط عزمك ، وهناك تزايلك
المخاوف كلها وتصبح في سكينة وأمان.
* * *
لا يلهينك منزل
لعبت به
|
|
أيدي البلا من
سالف الأزمان
|
فلقد ترحل عنه
كل مسرة
|
|
وتبدلت بالهم
والأحزان
|
سجن يضيق بصاحب
الإيمان ل
|
|
كن جنّة المأوى
لذي الكفران
|
سكانها أهل
الجهالة والبطا
|
|
لة والسفاهة
أنجس السكان
|
وألذهم عيشا
فأجلهم
|
|
بحق الله ثم
حقائق القرآن
|
عمرت بهم هذي
الديار وأقفرت
|
|
منهم ربوع العلم
والإيمان
|
قد آثروا الدنيا
ولذة عيشها ال
|
|
فاني على الجنات
والرضوان
|
صحبوا الأماني
وابتلوا بحظوظهم
|
|
ورضوا بكل مذلة
وهوان
|
كدحا وكذا لا
يفتر عنهم
|
|
ما فيه من غم
ومن أحزان
|
الشرح
: فلا يشغلنك عن
السير إلى غايتك والجد للقاء محبوبتك هذا المنزل
الفاني الذي عصفت
به ريح البلى من قديم الزمان ، وهو خلو من كل ما يسر القلب ويبهج النفس ، بل ليس
حشوه إلا الهموم والأحزان ، وهو حبس للمؤمن يضيق به لأنه يلقى فيه المكاره ويصيم
فيه النفس عن مراتع الشهوات ويثقلها بقيود الطاعات ، ولكنه جنة للكافرين يرتع فيها
منطلقا من كل قيد متبعا للأهواء والشهوات وسكان هذا المنزل المحشو بالآفات هم أهل
البطالة الذين لا يشعرون بالمسئوليات ولا يقدرون التبعات ، وأهل الجهالات الذين رضوا
لأنفسهم أن يلتحقوا بغمار والعجماوات وأهل السفالة الذين هجروا معالي الأمور
وأخلدوا إلى المحقرات والدناءات ، وبالجملة فهم أنجس الحيوان وأخبث البريات. وأطيبهم
عيشا في هذه الدنيا هو أشدهم جهلا بحقوق الله العظيم وحقائق كتابه الكريم فهو كما
يقول الشاعر :
ذو العقل يشقى
في النعيم بعقله
|
|
وأخو الجهالة في
الشقاوة ينعم
|
ولقد عمروا هذه
الدنيا وافتنوا في عمارتها ، حتى لم يتركوا بابا للرفاهة إلا ولجوه ولا طريقا
للشهوة إلا سلكوه ، فقد يخيل لمن يراهم يلهثون وراءها ويمنعون في عمارتها وتزيينها
أنهم يعملون في دار خلد ومنزل إقامة ، لا في دار بلى ومنزل نفاد وهم مع ذلك هجروا
مجالس العلم وأقفرت منهم ربوع الإيمان ، لأنهم استحبوا الحياة الدنيا ونعيمها
الزائل على ما عند الله للمتقين من جنات ورضوان. وغرتهم الأماني الباطلة فعاشوا
فيها سعيا وراء الحظوظ العاجلة ورضي بكل هوان ومذلة مع بذل غاية التعب والجهد في
تحصيلها ، فإذا وقع بهم مكروه من مكارهها اغتموا لذلك أعظم الغم ، وإذا فاتهم شيء
من محبوباتها حزنوا أشد الحزن ، فهم دائما يتقلبون في غموم وأحزان.
* * *
والله لو شاهدت
هاتيك الصدو
|
|
ر رأيتها كمراجل
النيران
|
ووقودها الشهوات
والحسرات والآ
|
|
لام لا تخبو مدى
الأزمان
|
أبدانهم أجداث
هاتيك النفو
|
|
س اللائي قد
قبرت مع الأبدان
|
أرواحهم في وحشة
وجسومهم
|
|
في كدحها لا في
رضا الرحمن
|
هربوا من الرق
الذي خلقوا له
|
|
فبلوا برق النفس
والشيطان
|
لا ترض ما
اختاروه هم لنفوسهم
|
|
فقد ارتضوا
بالذل والحرمان
|
لو ساوت الدنيا
جناح بعوضة
|
|
لم يسق منها
الرب ذا الكفران
|
لكنها والله
أحقر عنده
|
|
من ذا الجناح
القاصر الطيران
|
ولقد تولت بعد
عن أصحابها
|
|
فالسعد منها حل
بالدبران
|
لا يرتجى منها
الوفاء لصبها
|
|
أين الوفاء من
غادر خوان
|
طبعت على كدر
فكيف ينالها
|
|
صفو أهذا قط في
الامكان
|
يا عاشق الدنيا
تأهّب للذي
|
|
قد ناله العشاق
كل زمان
|
أو ما سمعت بل
رأيت مصارع ال
|
|
عشاق من شيب ومن
شبان
|
الشرح
: ووالله لو كشف لك
ما في صدور أهل الدنيا من شهوات وأحقاد لرأيتها تغلي كغلي المراجل ، تحتها نار
شديدة الإيقاد ، لأنها تمد دائما بحطب من الشهوات المستعرة والحسرات المضطرمة
والآلام الموجعة ، فهي لا تنطفئ أبدا ولا يخمد لها رماد : وهم قد حبسوا أنفسهم في
سجن أبدانهم حتى صارت هذه الأبدان قبورا لهذه النفوس التي قبرت مع الأبدان ،
وأرواحهم تعيش في غربة معهم لأنهم عزلوها عن عالمها الأصيل وحرموها غذاءها من
الإيمان والمعرفة ، وعاشوا لهذه الأجسام يتعبون في تحصيل ما تتطلبه من متع وشهوات
، فكدحهم دائما في صيانة هذه الأبدان لا في رضى الرحمن.
والعجيب أنهم
هربوا من العبودية التي خلقوا لها ، وهي العبودية لله التي تورث صاحبها العز
والشرف ، فرماهم الله بالعبودية للنفس والشيطان فلا ترض أيها العاقل اللبيب أن
تسلك سبيل هؤلاء ولا تختر لنفسك ما اختاروه لأنفسهم من ذل وحرمان ، ومن إيثار هذه
الدنيا الفانية التي يقول فيها الرسول عليهالسلام «لو كانت الدنيا
تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها جرعة ماء» فدل هذا على أنها أهون على
الله من ذلك الجناح الضعيف الذي لا يقوى على الطيران.
وهي غرارة خداعة
تتزين لخطابها حتى إذا أنسوا إليها وظنوا أن قد طاب لهم وصالها كشّرت عن أنيابها
وقلبت لهم ظهر المجن وأدبرت عنهم مولية ، فهي لا تقبل إلا لتدبر ولا تبتسم إلا
للتجهم ، ولا تعد إلا لتخلف ، وهي دار لا يؤمل منها الوفاء لعشاقها الذين أغرموا
صبابة بها ، وكيف ينتظر الوفاء ممن طبيعته الغدر والاخلاف ، أي كيف يرجى الصفو ممن
هو ممتزج بالأقذاء والأكدار.
فيا عشاق الدنيا
وخطابها انتظروا غدرتها بكم ووثبتها عليكم كما فعلت بعشاقها قبلكم ، فلقد سمعتم من
أخبار صرعاها الغابرين ، ورأيتم من مصائر قتلاها الكثيرين ما فيه عبرة لكم إن كنتم
من المستبصرين.
* * *
فصل
في صفة الجنة التي أعدها الله ذو الفضل والمنة
لأوليائه المتمسكين بالكتاب والسنة
فاسمع إذا
أوصافها وصفات ها
|
|
تيك المنازل ربة
الإحسان
|
هي جنة طابت
وطاب نعيمها
|
|
فنعيمها باق
وليس بفان
|
دار السلام وجنة
المأوى ومن
|
|
زل عسكر الإيمان
والقرآن
|
فالدار دار
سلامة وخطابهم
|
|
فيها سلام واسم
ذي الغفران
|
الشرح
: فإذا كنت مشوقا
إلى معرفة أوصاف تلك الدار التي هي مسكن الحور الحسان ومستقر الرحمة والرضوان ،
وأوصاف منازلها وغرفها صاحبة الجمال والإحسان ، فأعلم أنها جنة طيبة قد تمحض طيبها
، فلا يلحقها خبث ولا أذى ، وطاب نعيمها فهو باق لا يبيد ولا يفنى ، وهو صاف من كل
شوب فلا يمازجه كدر ولا يعرض له عطب ولا عفن ، ولا تبلى جدته ولا تذبل نضارته.
ومن أجل أن الجنة
طيبة كانت دار الطيبين ، فلا يدخلها إلا من صلح وطاب
كما قال تعالى : (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ
صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) [الرعد : ٢٣] وكما قال : (جَنَّاتُ عَدْنٍ
يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ
كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ
طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ) [النحل : ٣١ ، ٣٢].
وكقوله : (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ
إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ
خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ) [الزمر : ٧٣] وهي
تسمى دار السلام لأن أهلها سالمون من كل مكروه لا يمسهم فيها نصب ولا وصب ولا هم
ولا حزن ، ولأن تحيتهم فيها السلام ، يسلم عليهم ربهم ، كما قال تعالى : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) [يس : ٥٨].
وتسلم عليهم
الملائكة كما قال تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ
يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ
فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد : ٢٣ ، ٢٤].
وتسمى أيضا جنة
المأوى كقوله تعالى : (أَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا
يَعْمَلُونَ) [السجدة : ١٩]
ومعنى المأوى المستقر والمسكن ، فهي مأوى الأبرار من عباد الله ومسكن جنده الذين
هم عساكر القرآن والإيمان.
* * *
فصل
في عدد درجات الجنة وما بين كل درجتين
درجاتها مائة
وما بين اثنتي
|
|
ن فذاك في
التحقيق للحسبان
|
مثل الذي بين
السماء وبين هذي
|
|
الأرض قول
الصادق والبرهان
|
لكن عاليها هو
الفردوس مس
|
|
قوف بعرش الخالق
الرحمن
|
وسط الجنان
وعلوها فلذاك كا
|
|
نت قبة من أحسن
البنيان
|
منه تفجر سائر
الأنهار فال
|
|
ينبوع منه نازل
بجنان
|
الشرح
: هذا بيان لدرجات
الجنة ومنازلها ، وهي من الكثرة والتفاوت بحيث لا يعلم عظمها وتباهيها إلا الله عزوجل قال تعالى : (هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ
اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) [آل عمران : ١٦٣]
وقال : (فَضَّلَ اللهُ
الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً
وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى
الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً ، وَكانَ
اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) [النساء : ٩٥ ، ٩٦].
وفي الصحيحين من
حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «أن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما
يتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق والمغرب لتفاضل ما بينهم ، قالوا
يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ قال بلى والذي نفسي بيده رجال
آمنوا بالله وصدقوا المرسلين» ولهما أيضا من حديث سهل بن سعد : «أن أهل الجنة
ليتراءون أهل الغرفة في الجنة كما ترون الكوكب في أفق السماء».
وفي المسند من
حديث أبي سعيد يرفعه : «أن في الجنة مائة درجة ، ولو أن العالمين اجتمعوا في
إحداهن وسعتهم».
وفي المسند عنه
أيضا مرفوعا : «يقال لصاحب القرآن إذا دخل الجنة اقرأ واصعد ، فيقرأ ويصعد بكل آية
درجة حتى يقرأ آخر شيء معه».
وهذا صريح في أن
درجات الجنة أزيد من مائة ، وأما تحديدها بمائة كما في الحديث الذي قبله وفي غيره
فلعل المراد به كما قال المؤلف في كتابه (حادي الأرواح) أن هذه المائة هي نهاية
الدرجات ، وفي ضمن كل درجة درجة دونها ، أو المراد بها الدرجات الكبار التي
تتخللها درج صغار.
وورد أن بين كل
درجتين مسيرة مائة عام ، وورد خمسمائة عام ولا تناقض بينهما ، فإن ذلك محمول على
اختلاف السير في السرعة والبطء قاله المؤلف وأعلى
درجات الجنة هو
الفردوس ، فهو وسط الجنة وأعلاها ، وسقفه عرش الرحمن ، كما روى البخاري في صحيحه
عن أبي هريرة أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «أن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في
سبيله ، بين كل درجتين كما بين السماء والأرض ، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس
فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة».
وأعلى درجات
الفردوس هي الوسيلة التي خص بها نبينا صلىاللهعليهوسلم ، وسميت وسيلة لأنها أقرب الدرجات الى العرش ، فهي أقرب
الدرجات إلى الله عزوجل روى مسلم في صحيحه من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه
سمع النبي صلىاللهعليهوسلم يقول : «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي
، فإنه من صلى عليّ صلاة واحدة صلّى الله عليه بها عشرا ، ثم سلوا الله لي الوسيلة
فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله ، وأرجو ان أكون هو ، فمن
سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي».
* * *
فصل
في أبواب الجنة
أبوابها حق
ثمانية أتت
|
|
في النص وهي
لصاحب الإحسان
|
باب الجهاد وذاك
أعلاها وبا
|
|
ب الصوم يدعي
الباب بالريان
|
ولكل سعي صالح
باب ورب
|
|
السعي منه داخل
بأمان
|
ولسوف يدعى
المرء من أبوابها
|
|
جمعا إذا وفى
حلى الإيمان
|
منهم أبو بكر هو
الصديق ذا
|
|
ك خليفة المبعوث
بالقرآن
|
الشرح
: ورد في القرآن ذكر
أبواب الجنة من غير نص على عددها. قال تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ
يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ) [الرعد : ٢٣].
وقال سبحانه : (جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ
الْأَبْوابُ) [ص : ٥٠].
وقال : (حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها) [الزمر : ٧١].
ولكن السنة
المطهرة بينت أن عددها ثمانية أبواب ، وأن أعلاها هو باب الجهاد ، ولها باب يقال
له الريّان لا يدخل منه إلا الصائمون ، فإذا دخلوا أغلق ، فلا يدخل منه أحد غيرهم.
ولكل نوع من الأعمال الصالحة باب يدخل منه أهله المبرزون فيه ، وقد يدعى المرء من
الأبواب كلها إذا وفى بجميع شعب الإيمان. ومن هؤلاء صديق هذه الأمة وأفضل الناس
جميعا بعد النبيين أبو بكر خليفة رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فقد جاء في الصحيحين من حديث أبي حازم عن سهل بن سعد أن
رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «في الجنة ثمانية أبواب ، باب منها يسمى الريان لا
يدخله إلا الصائمون».
وفيهما أيضا من
حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «من أنفق زوجين في
شيء من الأشياء في سبيل الله دعي من أبواب الجنة ، يا عبد الله هذا خير ، فمن كان
من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة ، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد ، ومن
كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة ، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الصيام ،
فقال أبو بكر بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة؟
فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها ، فقال نعم وأرجو ان تكون منهم».
وفي صحيح مسلم عن
عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «ما منكم من أحد يتوضأ فيبالغ أو فيسبغ الوضوء ثم
يقول : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إلا
فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء».
* * *
فصل
في مقدار ما بين الباب والباب منها
سبعون عاما بين
كل اثنين من
|
|
ها قدّرت بالعد
والحسبان
|
هذا حديث لقيط
المعروف بال
|
|
خبر الطويل وذا
عظيم الشأن
|
وعليه كل جلالة
ومهابة
|
|
ولكم حواه بعد
من عرفان
|
الشرح
: يعني أن المسافة
التي تفصل بين كل بابين من أبواب الجنة هي مسيرة سبعين عاما مقدرة بالعد والحساب
كما ورد في حديث لقيط بن عامر الذي رواه الطبراني في معجمه أنه خرج وافدا إلى رسول
الله صلىاللهعليهوسلم ، قال قلت يا رسول الله فما الجنة والنار ، قال : «لعمر
إلهك أن للنار سبعة أبواب ما منهن بابان إلا يسير الراكب بينهما سبعين عاما ، وأن
للجنة ثمانية أبواب ما منهن بابان إلا يسير الراكب بينهما سبعين عاما».
والحديث طويل وهو
عظيم القدر جدا وفيه من أنواع المعرفة ما ينبغي ان يجد كل أحد في تحصيله ، فليرجع
إليه من أراد.
* * *
فصل
في مقدار ما بين مصراعي الباب
لكن بينهما
مسيرة أربعي
|
|
ن رواه حبر
الأمة الشيباني
|
في مسند بالرفع
وهو لمسلم
|
|
وقف كمرفوع بوجه
ثان
|
ولقد روى تقديره
بثلاثة ال
|
|
أيام لكن عند ذي
العرفان
|
أعني البخاري
الرضي هو منكر
|
|
وحديث راويه فذو
نكران
|
الشرح
: أما المسافة بين
مصراعي باب الجنة وهما عضادتاه ، فقد قدرت بمسيرة أربعين سنة في عدة أحاديث بعضها
مرفوع وبعضها موقوف ، أما المرفوع
فروي الإمام أحمد
في مسنده من طريق حماد بن سلمة قال : سمعت الجريري يحدث عن حكيم بن معاوية عن أبيه
أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال «أنتم موفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله ،
وما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين عاما ، وليأتين عليه يوم وله كظيظ».
وأما الموقف فما
رواه مسلم عن خالد بن عمير العدوي قال (خطبنا عتبة بن غزوان فحمد الله وأثنى عليه
ثم قال : أما بعد فإن الدنيا قد آذنت بصرم وولت حذاء ولم يبق منها إلا صبابة
كصبابة الإناء يصبها صاحبها ، وأنكم منقلبون عنها إلى دار لا زوال لها فانقلبوا
بخير ما بحضرتكم ، ولقد ذكر لنا أن مصراعين من مصاريع الجنة بينهما مسيرة أربعين سنة
وليأتين عليه يوم وهو كظيظ من الزحام وقد روي تقدير المسافة بثلاثة أيام ، فعن
سالم بن عبد الله عن أبيه أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «الباب الذي يدخل منه أهل الجنة مسيرة الراكب المجد
ثلاثا ، ثم إنهم ليضغطون عليه حتى تكاد مناكبهم تزول» رواه عنه أبو نعيم.
وقد اختار المصنف رحمهالله هذا الرأي لأنه مطابق لما جاء في حديث الشفاعة المتفق على
صحته عن أبي هريرة من قوله عليهالسلام «والذي نفسي بيده
أن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة لكما بين مكة وهجر أو كما بين مكة وبصرى».
قال المصنف : (فإن
الراكب المجد غاية الإجادة على أسرع هجين لا يفتر ليلا ولا نهارا يقطع هذه المسافة
في هذا القدر أو قريبا منه) لكن هذا الحديث رغم ذلك أنكره البخاري رحمهالله وقال عن رواية أن أحاديثه مناكير فالله أعلم.
* * *
فصل
في مفتاح باب الجنة
هذا وفتح الباب
ليس بممكن
|
|
إلا بمفتاح على
أسنان
|
مفتاحه بشهادة
الإخلاص والتو
|
|
حيد تلك شهادة
الإيمان
|
أسنانه الأعمال
وهي شرائع ال
|
|
إسلام والمفتاح
بالأسنان
|
لا تلغين هذا
المثال فكم به
|
|
من حل اشكال لذي
العرفان
|
الشرح
: لكن هذه الأبواب
لا تفتح إلا لمن يملك مفتاحها ، ولا بد لهذا المفتاح من أسنان حتى يصلح للفتح ،
فمفتاح هذه الأبواب هي كلمة التوحيد وشهادة الإخلاص التي هي لا إله إلا الله.
وأما أسنان هذا
المفتاح فهي شرائع الإسلام كلها ، من الصلاة والزكاة والصيام والحج والعمرة
والجهاد وبر الوالدين وأداء الأمانة والإحسان إلى الجار الخ. والمفتاح يكون
بأسنانه ، فقد ذكر البخاري في صحيحه عن وهب بن منبه أنه قيل له : أليس مفتاح الجنة
لا إله إلا الله؟ قال بلى ولكن ليس من مفتاح إلا وله أسنان ، فإن أتيت بمفتاح له
أسنان فتح لك وإلا لم يفتح لك.
وهذا المثال الذي
ضربه وهب يجب اعتباره لأن فيه حلا لمشاكل كثيرة وردت في بعض الأحاديث ، حيث علق
دخول الجنة فيها على قول لا إله إلا الله أو الموت على التوحيد ، فيجب أن لا يفهم
منها أن لا إله إلا الله بمجردها كافية في دخول الجنة والنجاة من النار ، بل لا بد
معها من حقوقها التي هي أسنان المفتاح.
* * *
فصل
في منشور الجنة الذي يوقع به لصاحبها
هذا ومن يدخل
فليس بداخل
|
|
إلا بتوقيع من
الرحمن
|
وكذاك يكتب
للفتى لدخوله
|
|
من قبل توقيعان
مشهوران
|
إحداهما بعد
الممات وعرض أر
|
|
واح العباد به
على الديان
|
فيقول رب العرش
جل جلاله
|
|
للكاتبين وهم
أولو الديوان
|
ذا الاسم في
الديوان يكتب ذاك دي
|
|
وان الجنان
مجاور المنان
|
ديوان عليين
أصحاب القرا
|
|
ن وسنة المبعوث
بالقرآن
|
فإذا انتهى
للجسر يوم الحشر يع
|
|
طى للدخول اذا
كتاب ثان
|
عنوانه هذا
الكتاب من عزي
|
|
ز راحم لفلان
ابن فلان
|
فدعوه يدخل جنة
المأوى التي ار
|
|
تفعت ولكن
القطوف دوان
|
هذا وقد كتب
اسمه مذ كان في ال
|
|
أرحام قبل ولادة
الإنسان
|
بل قبل ذلك هو
وقت القبضتي
|
|
ن كلاهما للعدل
والإحسان
|
سبحان ذي
الجبروت والملكوت وال
|
|
إجلال والإكرام
والسبحان
|
والله أكبر عالم
الأسرار وال
|
|
إعلان واللحظات
بالأجفان
|
والحمد لله
السميع لسائر ال
|
|
أصوات من سر ومن
إعلان
|
وهو الموحد
والمسبح والممج
|
|
د والحميد ومنزل
القرآن
|
والأمر من قبل
ومن بعد له
|
|
سبحانك اللهم ذا
السلطان
|
الشرح
: يعني أن من كان من
أهل السعادة وكتب له دخول الجنة ، فإنه لا يدخلها حتى يأتي توقيع من الله وإجازة
له بالدخول ، كما روى الطبراني في المعجم من حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه قال
: قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لا يدخل الجنة أحد إلا بجواز بسم الله الرحمن الرحيم ،
هذا كتاب من الله لفلان ابن فلان أدخلوه جنة عالية قطوفها دانية».
وكذلك يكتب له من
قبل هذا التوقيع ، فهما توقيعان معلومان أحدهما بعد الموت عند عرض روحه على الله عزوجل ، فيقول سبحانه لملائكته ، اكتبوا كتاب عبدي في عليين.
والثاني إذا انتهى إلى الصراط يوم الحشر يعطى لدخول الجنة كتابا آخر عنوانه ما سبق
في حديث الطبراني.
هذا وقد كتب اسمه
عند نفخ الروح فيه ، وهو لا يزال جنينا في بطن أمه ، حيث يؤمر الملك بأربع كلمات ـ
يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي هو أم سعيد ، بل هناك كتب سابقة على ذلك أيضا ، وهو
عند ما أخرج الله ذرية آدم من صلبه فقبض منها قبضة بيمينه وقال : هؤلاء للجنة وقبض
قبضة بشماله وقال : هؤلاء للنار.
روى الامام أحمد
في مسنده من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال :
(خرجنا مع رسول
الله صلىاللهعليهوسلم إلى جنازة ، فجلس رسول الله صلىاللهعليهوسلم على القبر وجلسنا حوله كأن على رءوسنا الطير وهو يلحد له ،
فقال أعوذ بالله من عذاب القبر ـ ثلاث مرات ـ ثم قال : إن المؤمن إذا كان في إقبال
من الآخرة وانقطاع من الدنيا تنزلت إليه ملائكة كأن على وجوههم الشمس مع كل واحد
منهم حنوط وكفن فجلسوا منه مد بصره ، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول :
أيتها النفس الطيبة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان ، قال فتخرج تسيل كما تسيل
القطرة من السقاء فيأخذها ، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها
فيجعلوها في ذلك الحنوط وذلك الكفن ، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على الأرض
قال فيصعدون بها فلا يمرون بها ـ يعني على ملأ من الملائكة ـ الا قالوا ما هذا
الروح الطيب؟ فيقولون فلان ابن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا
حتى ينتهوا بها إلى السماء التي تليها ، حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها الله عزوجل ، فيقول الله عزوجل اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوه إلى الأرض ، فإني منها
خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى. قال فتعاد روحه في جسده ، فيأتيه
ملكان فيجلسانه فيقولان له من ربك؟ فيقول ربي الله ، فيقولان له ما دينك؟ فيقول
ديني الإسلام ، فيقولان له ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول هو رسول الله ،
فيقولان له وما علمك؟ فيقول قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت. قال فينادي مناد من
السماء : أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة وألبسوه من الجنة وافتحوا له بابا إلى
الجنة. قال فيأتيه من روحها وطيبها ويفسح له في قبره مد بصره. قال ويأتيه رجل حسن
الوجه حسن الثياب طيب الريح فيقول له : أبشر بالذي يسرك ، هذا يومك الذي كنت توعد
، فيقول له من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير ، فيقول أنا عملك الصالح فيقول
رب أقم الساعة ، رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي.
وإن العبد الكافر
إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال على الآخرة نزل إليه من السماء ملائكة سود
الوجوه معهم المسوح فيجلسون منه مد البصر ، ثم يجيء
ملك الموت حتى
يجلس عند رأسه فيقول : أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب ، قال :
فتغرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول فيأخذها : فإذا أخذها
لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح ويخرج منها كأنتن ريح جيفة
وجدت على الأرض ، فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا : ما
هذا الروح الخبيث؟ فيقولون فلان ابن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في
الدنيا ، حتى ينتهي إلى سماء الدنيا فيستفتح له فلا يفتح له ، ثم قرأ رسول الله صلىاللهعليهوسلم : (لا تُفَتَّحُ لَهُمْ
أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي
سَمِّ الْخِياطِ) [الأعراف : ٤٠]
فيقول الله عزوجل : اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى وتطرح روحه طرحا.
ثم قرأ رسول الله صلىاللهعليهوسلم : (وَمَنْ يُشْرِكْ
بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي
بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ) [الحج : ٣١].
فتعاد روحه في
جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له : من ربك؟ فيقول هاه هاه لا أدري ، فيقولان
له : ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول هاه هاه لا أدري ، فينادي مناد من السماء
أن كذب عبدي فأفرشوه من النار وافتحوا له بابا إلى النار : فيأتيه من حرها وسمومها
ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه ، ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح
، فيقول له أبشر بالذي يسوؤك هذا يومك الذي كنت توعد ، فيقول من أنت؟ فوجهك الوجه
الذي يجيء بالشر فيقول أنا عملك الخبيث ، فيقول رب لا تقم الساعة ورواه أبو داود
بطوله بنحوه.
فهذا هو التوقيع
والمنشور الأول ، وأما المنشور الثاني فهو ما ذكرنا من حديث الطبراني.
* * *
فصل
في صفوف أهل الجنة
هذا وان صفوفهم
عشرون مع
|
|
مائة وهذى الأمة
الثلثان
|
يرويه عنه بريدة
إسناده
|
|
شرط الصحيح
بمسند الشيباني
|
وله شواهد من
حديث أبي هري
|
|
رة وابن مسعود
وحبر زمان
|
أعني ابن عباس
وفي إسناده
|
|
رجل ضعيف غير ذي
إتقان
|
ولقد أتانا في
الصحيح بأنهم
|
|
شطر وما اللفظان
مختلفان
|
إذ قال أرجو أن
تكونوا شطرهم
|
|
هذا رجاء منه
للرحمن
|
أعطاه رب العرش
ما يرجو وزا
|
|
د من العطاء
فعال ذي الإحسان
|
الشرح
: روى الامام أحمد
والترمذي بإسناد صحيح عن بريدة بن الحصيب قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أهل الجنة عشرون ومائة صف هذه الأمة منها ثمانون صفا».
ولهذا الحديث
شواهد من حديث أبي هريرة الذي رواه عبد الله بن احمد قال : «لما نزلت (ثلة من
الأولين وثلة من الآخرين) قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : أنتم ربع أهل الجنة ، أنتم ثلث أهل الجنة ، أنتم نصف أهل
الجنة ، أنتم ثلثا أهل الجنة» قال الطبراني : تفرد برفعه ابن المبارك عن الثوري.
وله شاهد أيضا من
حديث ابن مسعود عند الطبراني قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «يف أنتم وربع الجنة لكم ولسائر الناس ثلاثة أرباعها؟
قالوا الله ورسوله أعلم ، قال : كيف أنتم وثلثها؟ قالوا : ذاك أكثر ، قال كيف
والشطر لكم؟ قالوا ذاك أكثر ، فقال رسول الله : «أهل الجنة عشرون ومائة صف لكم
منها ثمانون صفا».
ورواه الطبراني
أيضا عن حبر هذه الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما لكن في إسناده خالد بن
يزيد البجلي وقد تكلم فيه.
وورد في الصحيحين
من حديث عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أما ترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ فكبرنا ، ثم قال : أما
ترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟ فكبرنا ، ثم قال : اني لأرجو أن تكونوا شطر
أهل الجنة ،
وسأخبركم عن ذلك : ما المسلمون في الكفار إلا كشعرة بيضاء في ثور أسود أو كشعرة
سوداء في ثور أبيض».
ولا تنافي بين هذا
الحديث وبين ما سبق من كونهم ثلثا أهل الجنة ، لأنهصلىاللهعليهوسلم رجا أولا أن يكونوا شطر أهل الجنة ، فأعطاه الله سبحانه
رجاءه وزاد عليه سدسا آخر ، وفضل الله واسع ، وهو سبحانه وتعالى ذو الجود
والإحسان.
* * *
فصل
في صفة أول زمرة تدخل الجنة
هذا وأول زمرة
فوجوههم
|
|
كالبدر ليل الست
بعد ثمان
|
السابقون هم وقد
كانوا هنا
|
|
أيضا أولى سبق
إلى الإحسان
|
الشرح
: جاء في الصحيحين
من حديث همام بن منبه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أول زمرة تلج الجنة صورتهم على صور القمر ليلة البدر ،
لا يبصقون فيها ولا يتمخطون فيها ولا يتغوطون فيها ، آنيتهم وأمشاطهم الذهب والفضة
ومجامرهم الألوة ورشحهم المسك ، ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ ساقهما من وراء
اللحم من الحسن ، لا اختلاف بينهم ولا تباغض ، قلوبهم على قلب رجل واحد يسبحون
الله بكرة وعشيا».
وهؤلاء هم
السابقون الذين سبقوا في الدنيا إلى الخيرات وسبقوا في الآخرة إلى الجنات ، فإن
السبق هناك على قدر السبق هنا.
* * *
فصل
في صفة الزمرة الثانية
والزمرة الأخرى
كأضوأ كوكب
|
|
في الأفق تنظره
به العينان
|
أمشاطهم ذهب
ورشحهم فمس
|
|
ك خالص يا ذلة
الحرمان
|
الشرح
: وأما الجماعة التي
تلي هؤلاء المقربين في دخول الجنة ، فإن أحدهم يرى كأشد الكواكب إضاءة في أفق
السماء ، وتكون أمشاطهم من ذهب وعرقهم مسك خالص ، فما أعظم هذا النعيم ، ويا ذلة
من حرمه ولم يظفر به ، إن ذلك هو الخسران المبين.
وفي الصحيحين من
حديث أبي زرعة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر
والذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة ، لا يبولون ولا يتغوطون ولا
يتفلون ولا يتمخطون ، أمشاطهم الذهب ورشحهم المسك ومجامرهم الألوة وأزواجهم الحور
العين ، أخلاقهم على خلق رجل واحد على صورة أبيهم آدم ستون ذراعا في السماء».
* * *
فصل
في تفاضل أهل الجنة في الدرجات العلى
ويرى الذين
بذيلها من فوقهم
|
|
مثل الكواكب
رؤية بعيان
|
ما ذاك مختصا
برسل الله بل
|
|
لهم وللصديق ذي
الإيمان
|
الشرح
: سبق أن روينا ما
ورد في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما
يتراءون الكوكب الدري الغابر من الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم قالوا
يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم. قال بلى والذي نفسي بيده رجال
آمنوا بالله وصدقوا المرسلين».
* * *
فصل
في ذكر أعلى أهل الجنة منزلة وأدناهم
هذا وأعلاهم
فناظر ربه
|
|
في كل يوم وقته
الطرفان
|
لكن أدناهم وما
فيهم دني
|
|
إذ ليس في
الجنات من نقصان
|
فهو الذي تلقى
مسافة ملكه
|
|
بسنيننا ألفان
كاملتان
|
فيرى بها أقضاه
حقا مثل رؤ
|
|
يته لأدناه
القريب الداني
|
أو ما سمعت بأن
آخر أهلها
|
|
يعطيه رب العرش
ذو الغفران
|
أضعاف دنيانا
جميعا عشر أم
|
|
ثال لها سبحان
ذي الإحسان
|
الشرح
: روى الترمذي من
حديث ابن عمر أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جناته
وأزواجه ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف عام ، وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة
وعشية» ثم قرأ رسول الله صلىاللهعليهوسلم : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) [القيامة : ٢٢]
وكذا رواه الطبراني في معجمه بلفظ : «إن أدنى أهل الجنة منزلة لرجل ينظر في ملكه
ألفي سنة يرى أقصاه كما يرى أدناه» الحديث.
وفي صحيح مسلم من
حديث المغيرة بن شعبة عن النبي صلىاللهعليهوسلم : «أن موسى سأل ربه ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ فقال رجل
يجيء بعد ما دخل أهل الجنة الجنة ، فيقال له ادخل الجنة ، فيقول رب كيف وقد نزل
الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم ، فيقال له : أترضى أن يكون لك مثل ملك من ملوك الدنيا؟
فيقول رضيت رب ، فيقول لك ذلك ومثله ومثله ومثله ومثله فقال في الخامسة رضيت رب.
قال رب فأعلاهم منزلة؟ قال أولئك الذين أردت غرست كرامتهم بيدي وختمت عليها ، فلم
تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر».
وفي الصحيحين من
حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم : «إني لاعلم آخر أهل النار خروجا منها وآخر أهل الجنة
دخولا الجنة رجل يخرج من النار حبوا ، فيقول الله له : اذهب فادخل الجنة ، فيأتيها
فيخيل
إليه أنها ملآى ،
فيرجع فيقول يا رب وجدتها ملآى ، فيقول الله له اذهب فادخل الجنة ، فياتيها فيخيل
إليه أنها ملآى ، فيرجع فيقول يا رب وجدتها ملآى ، فيقول له : اذهب فادخل الجنة ،
فإن كل مثل الدنيا وعشر أمثالها أو أن لك عشرة أمثال الدنيا ، فيقول أتسخر بي
وتضحك بي وأنت الملك قال ابن مسعود : لقد رايت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يضحك حتى بدت نواجذه ، قال فكان يقول : ذلك أدنى أهل الجنة
منزلة» فسبحان واسع الفضل والإحسان.
* * *
فصل
في ذكر سن أهل الجنة
هذا وسنهم ثلاث
مع ثلا
|
|
ثين التي هي قوة
الشبان
|
وصغيرهم وكبيرهم
في ذا على
|
|
حد سواء ما سوى
الولدان
|
ولقد روى الخدري
أيضا أنهم
|
|
أبناء عشر بعدها
عشران
|
وكلاهما في
الترمذي وليس ذا
|
|
بتناقض بل هاهنا
أمران
|
حذف الثلاث ونيف
بعد العقو
|
|
د وذكر ذلك
عندهم سيان
|
عند اتساع في
الكلام فعند ما
|
|
يأتوا بتحرير
فبالميزان
|
الشرح
: يعني أن أهل الجنة
جميعا على تفاوت أسنانهم في الدنيا يكونون على هذه السن الواحدة التي هي وقت
اكتمال الشباب وعنفوانه ، وهي ثلاث وثلاثون سنة ، ولا يستثنى من ذلك إلا الولدان
الذين هم خدم الجنة ، فقد جاء في جامع الترمذي من حديث معاذ بن جبل أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «يدخل أهل الجنة الجنة جردا مردا مكحلين أبناء ثلاث
وثلاثين» وقال هذا حديث حسن غريب وكذلك روى مثله من حديث أنس بن مالك قال: قال
رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «يبعث أهل الجنة على صورة آدم في ميلاد ثلاث وثلاثين سنة
جردا مردا مكحلين ثم يذهب بهم إلى شجرة في الجنة فيكسون منها لا تبلى ثيابهم ولا
يفنى شبابهم».
لكن روى الترمذي
في جامعه أيضا من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «من مات من أهل الجنة من صغير أو كبير يردون بنى
ثلاثين سنة في الجنة لا يزيدون عليها أبدا ، وكذلك أهل النار».
قال المؤلف رحمهالله في كتابه حادي الأرواح (فإن كان هذا محفوظا لم يناقض ما
قبله فإن العرب إذا قدرت بعدد له نيف فإن لهم طريقين تارة يذكرون النيف للتحرير
وتارة يحذفونه ، وهذا معروف في كلامهم وخطاب غيرهم من الأمم) أه.
* * *
فصل
في طول قامات أهل الجنة وعرضهم
والطول طول
أبيهم ستون ل
|
|
كن عرضهم سبع
بلا نقصان
|
الطول صح بغير
شك في الصحي
|
|
حين اللذين هما
لنا شمسان
|
والعرض لم نعرفه
في احداهما
|
|
لكن رواه أحمد
الشيباني
|
هذا ولا يخفي
التناسب بين ه
|
|
ذا العرض والطول
البديع الشأن
|
كل على مقدار
صاحبه وذا
|
|
تقدير متقن صنعة
الإنسان
|
الشرح
: يعني أن أهل الجنة
يكونون على طول أبيهم آدم ستين ذراعا في السماء ، وهذا أمر مقطوع به لوروده في
صحيحي البخاري ومسلم اللذين هما أوثق كتب السنة. وأما العرض فلم يرد فيهما ، لكن
روى أحمد رحمهالله أن عرضهم سبعة أذرع كاملة ، ولا يخفى ما بين هذا الطول
والعرض من التناسب والانسجام وأن كلا منهما موافق لصاحبه على التمام ، فتبارك الله
الذي أحسن كل شيء خلقه وأتقن صنعة الإنسان.
* * *
فصل
في لحاهم وألوانهم
ألوانهم بيض
وليس لهم لحى
|
|
جعد الشعور
مكحّلوا الأجفان
|
هذا كمال الحسن
في أبشارهم
|
|
وشعورهم وكذلك
العينان
|
الشرح
: يعني أن أهل الجنة
يدخلونها بيضا جردا ليس لهم لحى ، جعد الشعور ، في شعورهم تكسر وليست سبطة ، مكحلى
الأجفان. وهذا هو تمام الحسن في هذه الأشياء الثلاثة ، فتمام الحسن في اللون أن
يكون أبيض صافيا ، وتمامه في الشعر أن يكون جعدا ، وتمامه في العينين أن تكونا مكتحلتين.
روى الإمام أحمد
عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «يدخل أهل الجنة الجنة جردا مردا بيضا جعادا مكحلين
أبناء ثلاث وثلاثين ، وهم على خلق آدم ستون ذراعا في عرض سبعة أذرع».
* * *
فصل
في لسان أهل الجنة
ولقد أتى أثر
بأن لسانهم
|
|
بالمنطق العربي
خير لسان
|
لكنّ في إسناده
نظرا ففي
|
|
ه راويان وما
هما ثبتان
|
أعني العلاء هو
ابن عمرو ثم يح
|
|
يى الأشعري وذان
مغموزان
|
الشرح
: ولقد ورد أثر بأن
أهل الجنة يتكلمون فيها باللسان العربي الفصيح فإن لغة العرب هي التي أنزل الله
بها أفضل كتبه ، واختار من العرب أكرم رسله لأعظم رسالة إلى خلقه ، فالأثر معقول
المعنى وإن كان في إسناده ضعف لوجود راويين فيه ليسا بحجة ، وهما العلاء بن عمر
ويحيى الأشعري ، فانهما مغموران ، أي مطعون فيهما ، وفي بعض النسخ مغموران بالراء
، أي مجهولان.
روى ابن أبي
الدنيا بإسناده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم «يدخل أهل الجنة
الجنة على طول آدم ستين ذراعا بذراع الملك ، على
حسن يوسف وعلى
ميلاد عيسى ثلاث وثلاثون سنة وعلى لسان محمد صلىاللهعليهوسلم جرد مرد مكحلون».
وروى داود بن
الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال : «لسان أهل الجنة عربي» وقال عقيل قال الزهري : «لسان
أهل الجنة عربي».
* * *
فصل
في ريح أهل الجنة من مسيرة كم يوجد
والريح يوجد من
مسيرة أربعي
|
|
ن وإن تشأ مائة
فمرويان
|
وكذا روى سبعين
أيضا صح ه
|
|
ذا كله وأتى به
أثران
|
ما في رجالهما
لنا من مطعن
|
|
والجمع بين الكل
ذو إمكان
|
ولقد أتى تقديره
مائة بخم
|
|
س ضربها من غير
ما نقصان
|
إن صح هذا فهو
أيضا والذي
|
|
من قبله في غاية
الإمكان
|
أما بحسب
المدركين لريحها
|
|
قربا وبعدا ما
هما سيان
|
أو باختلاف
قرارها وعلوّها
|
|
أيضا وذلك واضح
التبيان
|
أو باختلاف
السير أيضا فهو أن
|
|
واع بقدر إطاقة
الإنسان
|
ما بين ألفاظ
الرسول تناقض
|
|
بل ذاك في
الأفهام والأذهان
|
الشرح
: وردت آثار متعددة
في مقدار المسافة التي تشم منها رائحة الجنة ، فقد قدرت في بعضها بأربعين خريفا ،
وفي بعضها بمائة عام ، وفي بعضها بسبعين وبخمسمائة ، ونحن نورد هاهنا بعض هذه
الآثار ، ثم نبين ما حاوله المؤلف من التوفيق بينهما.
روى الطبراني
بإسناده عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «من قتل قتيلا من أهل الذمة لم يرح رائحة الجنة ،
وأن ريحها ليوجد من مسيرة مائة عام» ورواه البخاري في الصحيح بإسناده أيضا إلى عبد
الله بن عمرو قال : «ليوجد من مسيرة أربعين عاما».
وروى الترمذي
بإسناده عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «ألا من قتل نفسا معاهدا له ذمة الله وذمة رسوله فقد
أخفر بذمة الله فلا يراح رائحة الجنة وأن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفا».
وروى أبو نعيم
بإسناده عن مجاهد عن أبي هريرة عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إن رائحة الجنة توجد من مسيرة خمسمائة عام».
وكذلك روى أبو
داود الطيالسي في مسنده ، حدثنا شعبة عن الحكم عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو بن
العاص عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «من ادعى إلى غير أبيه لم يرح رائحة الجنة وأن ريحها
ليوجد من مسيرة خمسمائة عام».
وأما التوفيق بين
هذه الآثار فقد يكون اختلاف المسافة باختلاف المدركين لرائحتها في القرب والبعد ،
فليسوا كلهم في ذلك بدرجة واحدة أو بحسب قرارها الذي هو أرضها وعلوها ، وهي كما
ذكرنا درجات كثيرة بعضها فوق بعض فبعضها يشم من مسيرة أربعين ، وبعضها من مسيرة
سبعين الخ.
أو يكون اختلاف
المسافات راجعا إلى اختلاف السير في السرعة والبطء ، فتكون الأربعون بالنسبة
للجواد الراكض مثلا ، والسبعون بالنسبة لما هو دونه وهكذا. والحاصل أنه لا تناقض
أصلا بين ألفاظ الرسول عليه الصلاة والسلام ، وإنما التناقض حاصل في الأفهام بحسب
إدراكها لما يقصده من الكلام.
* * *
فصل
في أسبق الناس دخولا إلى الجنة
ونظير هذا سبق
أهل الفقر لل
|
|
جنات في تقديره
أثران
|
مائة بخمس ضربها
أو أربعي
|
|
ن كلاهما في ذاك
محفوظان
|
فأبو هريرة قد
روى أولاهما
|
|
وروى لنا الثاني
صحابيان
|
هذا بحسب تفاوت
الفقراء في اس
|
|
تحقاق سبقهم إلى
الإحسان
|
أو ذا بحسب
تفاوت في الأغنيا
|
|
ء كلاهما لا شك
موجودان
|
هذا وأولهم
دخولا خير خل
|
|
ق الله من قد
خصّ بالقرآن
|
والأنبياء على
مراتبهم من الت
|
|
فضيل تلك مواهب
المنان
|
هذا وأمة أحمد
سباق با
|
|
قي الخلق عند
دخولهم بجنان
|
وأحقهم بالسبق
أسبقهم إلى ال
|
|
إسلام والتصديق
بالقرآن
|
وكذا أبو بكر هو
الصديق أس
|
|
بقهم دخولا قول
ذي البرهان
|
الشرح
: وشبيه هذا التفاوت
في تقدير المسافة التي تنشق منها رائحة الجنة واختلاف الآثار فيها ، تفاوت المدة
التي يسبق بها الفقراء الأغنياء إلى دخول الجنة فقد ورد تقديرها بخمسمائة عام ،
وورد تقديرها بأربعين خريفا ، وكلها آثار محفوظة معلومة.
روى الإمام أحمد
في مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل أغنيائهم بنصف يوم ، وهو
خمسمائة عام» وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح ورجال اسناده احتج بهم مسلم في صحيحه.
وفي صحيح مسلم من
حديث عبد الله بن عمرو قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء يوم القيامة
بأربعين خريفا».
وكذلك روى الترمذي
عن جابر بن عبد الله أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «يدخل فقراء أمتي الجنة قبل أغنيائها بأربعين خريفا».
وحينئذ يقال أن الذي في الصحيح أن الفقراء يسبقون بأربعين خريفا ، فيجب التعويل
عليه أو نوفق بين هذه الآثار كما وفقنا من قبل فنقول : إن مدة السبق تختلف بحسب
أحوال الفقراء والأغنياء ، فمنهم من يسبق بأربعين ، ومنهم من يسبق بخمسمائة ، كما
يتأخر مكث العصاة من الموحدين في النار بحسب أحوالهم والله أعلم.
هذا وأول الناس
دخولا الجنة على الاطلاق هو رسولنا عليه الصلاة والسلام فقد روى مسلم في صحيحه من
حديث أنس بن مالك أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال :
«أنا أكثر الناس
تبعا يوم القيامة ، وأنا أول من يقرع باب الجنة».
وله كذلك عن أنس :
«آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح ، فيقول الخازن من أنت؟ فأقول محمد ، فيقول
بلى أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك».
وروى الترمذي كذلك
عن أنس أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «أنا أول الناس خروجا إذا بعثوا ، وأنا خطيبهم إذا
أنصتوا ، وقائدهم إذا وفدوا وشافعهم إذا حبسوا ، وأنا مبشرهم إذا أيسوا ، لواء
الحمد بيدي ومفاتيح الجنة يومئذ بيدي ، وأنا أكرم ولد آدم يومئذ على ربي ولا فخر ،
يطوف على ألف خادم كأنهم اللؤلؤ المكنون».
ثم الأنبياء بعد
ذلك على درجاتهم في الفضل كما قال تعالى : (وَلَقَدْ فَضَّلْنا
بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ) [الإسراء : ٥٥]
وقال : (وَلَلْآخِرَةُ
أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) [الإسراء : ٢١].
ثم أمة محمد صلىاللهعليهوسلم هي أول الأمم دخولا الجنة. ففي الصحيحين من حديث همام بن
منبه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «نحن السابقون الأولون يوم القيامة ، بيد أنهم أوتوا
الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم».
وفي صحيح مسلم من
حديث أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم : «نحن الآخرون الأولون يوم القيامة ، ونحن أول من يدخل
الجنة ، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم ، فاختلفوا فهدانا الله
لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه».
وأما أول هذه
الأمة دخولا الجنة فهو صديقها وأفضل الناس بعد النبيين أبو بكر رضي الله عنه ، فقد
روى أبو داود في سننه من حديث أبي هريرة قال : قال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم : «أتاني جبريل فأخذ بيدي فأراني باب الجنة الذي تدخل منه
أمتي ، فقال أبو بكر: يا رسول الله وددت أني كنت معك حتى أنظر إليه ، فقال رسول
الله صلىاللهعليهوسلم : «أما انك يا أبا بكر أول من يدخل الجنة من أمتي».
* * *
وروى ابن ماجة
أن أولهم يصا
|
|
فحه إله العرش
ذو الإحسان
|
ويكون أولهم
دخولا جنة ال
|
|
فردوس ذلك قامع
الكفران
|
فاروق دين الله
ناصر قوله
|
|
ورسوله وشرائع
الإيمان
|
لكنه أثر ضعيف
فيه مج
|
|
روح يسمى خالدا
ببيان
|
لو صلح كان
عمومه المخصوص بالص
|
|
ديق قطعا غير ذي
نكران
|
هذا وأولهم
دخولا فهو حم
|
|
اد على الحالات
للرحمن
|
إن كان في
السراء أصبح حامدا
|
|
أو كان في الضرا
فحمد ثان
|
هذا الذي هو
عارف بإلهه
|
|
وصفائه وكماله
الرباني
|
وكذا الشهيد
فسبقه متيقن
|
|
وهو الجدير بذلك
الإحسان
|
وكذلك الملوك
حين يقوم بال
|
|
حقين سباق بغير
توان
|
وكذا فقير ذو
عيال ليس بال
|
|
ملحاح بل ذو غفة
وصيان
|
الشرح
: وأما الحديث الذي
رواه ابن ماجة في سننه عن سعيد بن المسيب عن أبي بن كعب أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «أول من يصافحه الحق عمر ، وأول من يسلم عليه ، وأول
من يأخذ بيده فيدخله الجنة» فهو حديث شديد النكارة. قال الإمام أحمد : داود بن
عطاء ليس بشيء ، ولو سلم فعمومه مخصوص بالصديق قطعا ، فيكون المراد أن عمر أول من
يدخل من هذه الأمة بعد صديقها فهي أولية نسبية. هذا وقد وردت آثار بسبق بعض
الطوائف من هذه الأمة إلى الجنة ، فمنهم الحمادون الذين يكثرون حمد الله عزوجل في جميع الحالات ، من عسر ويسر ، ومنشط ومكره ، لا يفترون
عن حمده والثناء عليه.
روى شعبة بن قيس
عن حبيب عن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال ، قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أول من يدعى إلى الجنة يوم القيامة الحامدون الذين
يحمدون الله في السراء والضراء» فهؤلاء هم الذين كملت معرفتهم بالله عزوجل وصفات كماله فلهجوا بحمده ، ومنهم كذلك ما رواه الإمام
أحمد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «عرض عليّ أول ثلاثة
من أمتي يدخلون
الجنة ، وأول ثلاثة يدخلون النار ، فأما أول ثلاثة يدخلون الجنة ، فالشهيد وعبد
مملوك لم يشغله رق الدنيا عن طاعة ربه ، وفقير متعفف ذو عيال ، وأول ثلاثة يدخلون
النار ، فأمير مسلط وذو ثروة من مال لا يؤدي حق الله من ماله وفقير فخور».
* * *
فصل
في عدد الجنات وأجناسها
والجنة اسم
الجنس وهي كثيرة
|
|
جدا ولكن أصلها
نوعان
|
ذهبيتان بكل ما
حوتاه من
|
|
حلى وآنية ومن
بنيان
|
وكذاك أيضا فضة
ثنتان من
|
|
حلى وبنيان وكل
أوان
|
لكن دار الخلد
والمأوى وعد
|
|
ن والسلام اضافة
لمعان
|
أوصافها استدعت
اضافتها إلي
|
|
ها مدحة مع غاية
التبيان
|
لكنما الفردوس
أعلاها وأو
|
|
سطها مساكن صفوة
الرحمن
|
أعلاه منزلة
لأعلى الخلق من
|
|
زلة هو المبعوث
بالقرآن
|
وهي الوسيلة وهي
أعلى رتبة
|
|
خلصت له فضلا من
الرحمن
|
الشرح
: والجنة إذا أفردت
فإنما يراد بها اسم الجنس الذي يندرج تحته ما لا يحصى من الجنات الخاصة ، ولكنها
مع كثرتها ترجع إلى أصلين ، أولهما جنتان ذهبيتان بكل ما اشتملتا عليه من آنية
وحلى وقصور ، والثاني جنتان فضيتان كذلك بكل ما احتوتاه من حلى وآنية وبنيان.
روى البخاري في
صحيحه عن أنس بن مالك أن أم الربيع بنت البراء ، وهي أم حارثة بن سراقة ، أتت رسول
الله صلىاللهعليهوسلم فقالت : يا نبي الله ألا تحدثني عن حارثة ، وكان قتل يوم
بدر ، أصابه سهم غرب ، فإن كان في الجنة صبرت ، وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه في
البكاء ، قال : «يا أم حارثة انها جنان في الجنة وأن ابنك أصاب الفردوس الأعلى».
وفي الصحيحين من حديث أبي موسى
الأشعري عن رسول
الله صلىاللهعليهوسلم قال : «جنتان من ذهب آنيتهما وحليتهما وما فيهما ، وجنتان
من فضة آنيتهما وحليتهما وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا
رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن».
وأما تسمية الجنة
بدار الخلد والمأوى والسلام وعدن والحيوان والمقامة ونحوها ، فهي ليست أسماء لجنات
مختلفة ، ولكنها أسماء الجنة باعتبار صفاتها ، فالإضافة فيها من قبيل إضافة
الموصوف لصفته ، فالمسمى واحد باعتبار الذات ، وهي من هذا الوجه مترادفة ، ولكنها
تتغاير بتغاير الصفات ، فتكون من هذا الوجه متباينة ، وهكذا أسماء الرب سبحانه
وتعالى وأسماء كتبه وأسماء رسله وأسماء اليوم الآخر وأسماء النار ونحو ذلك.
والفردوس هو أعلى
الجنة ووسطها ، وهي مساكن الصفوة المختارة من خلق الله من النبيين والصديقين
والشهداء.
روى البخاري في
صحيحه من حديث أبي هريرة عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في
سبيله بين كل درجتين كما بين السماء والأرض ، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس
فإنه وسط الجنة وأعلا الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة».
وروى الطبراني في
معجمه بسنده إلى أبي الدرداء قال ، قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ينزل الله تعالى في آخر ثلاث ساعات بقين من الليل ،
فينظر الله في الساعة الأولى منهن في الكتاب الذي لا ينظر فيه غيره ، فيمحو ما
يشاء ويثبت ، ثم ينظر في الساعة الثانية إلى جنة عدن ، وهي مسكنه الذي يسكن فيه ،
ولا يكون معه فيها أحد إلا الأنبياء والشهداء والصديقون ، وفيها ما لم تره عين أحد
ولا خطر على قلب بشر ، ثم يهبط آخر ساعة من الليل فيقول : ألا مستغفر يستغفرني
فأغفر له؟ ألا سائل يسألني فأعطيه؟ ألا داع يدعوني فأستجيب له؟ حتى يطلع الفجر». وأعلا
منزلة في الفردوس هي الوسيلة التي خص الله بها نبينا صلىاللهعليهوسلم
الذي هو أعلى
الخلق منزلة ، فهي خالصة له من دون الناس فضلا من الله عزوجل على حبيبه وأكرم خلقه.
روى مسلم في صحيحه
من حديث عمرو بن العاص أنه سمع النبي صلىاللهعليهوسلم يقول : «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا عليّ
، فإن من صلى عليّ صلاة واحدة صلى الله عليه عشرا ، ثم سلوا لي الوسيلة ، فإنها
منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله ، وأرجو أن أكون هو».
* * *
ولقد أتى في
سورة الرحمن تف
|
|
صيل الجنان
مفصلا ببيان
|
هي أربع ثنتان
فاضلتان ثم
|
|
يليهما ثنتان
مفضولان
|
فالأوليان
الفضليان لأوجه
|
|
عشر ويعسر نظمها
بوزان
|
واذا تأملت
السياق وجدتها
|
|
فيه تلوح لمن له
عينان
|
الشرح
: ولقد أتى في سورة
الرحمن تفصيل للجنان في غاية البيان ، فذكر الآيات أنها أربع جنان ، منها جنتان
فاضلتان ، وهما المذكورتان في قوله تعالى : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ
رَبِّهِ جَنَّتانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ذَواتا أَفْنانٍ
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ فَبِأَيِّ
آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ فَبِأَيِّ
آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ
إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ
فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ) [٤٦ ، ٥٨] فهاتان
الجنتان قد فضلتا على الأخريين بعشرة أوجه يصعب ذكرها في النظم ، ولكنها لا تخفى
على المتأمل في سياق الآيات ، وهاتان الجنتان هما المخصوصتان بالمقربين. وأما الأخريان
المفضولتان فهما لأصحاب اليمين ، فالأوليان من ذهب والثانيتان من فضة.
* * *
سبحان من غرست
يداه جنه ال
|
|
فردوس عند تكامل
البنيان
|
ويداه أيضا
أتقنت لبنائها
|
|
فتبارك الرحمن
أعظم بان
|
هي في الجنان
كآدم وكلاهما
|
|
تفضيله من أجل
هذا الشأن
|
لكنما الجهميّ
ليس لديه من
|
|
ذا الفضل شيء
فهو ذو نكران
|
ولد عقوق عق
والده ولم
|
|
يثبت بذا فضلا
على شيطان
|
فكلاهما تأثير
قدرته وتأ
|
|
ثير المشيئة ليس
ثم يدان
|
آلاهما أو
نعمتاه وخلقه
|
|
كل بنعمة ربه
المنان
|
الشرح
: ورد في بعض الآثار
أن الله عزوجل غرس الفردوس بيده بعد أن تم بناؤها ، وأنه سبحانه بناها
فأحسن البناء وجعلها في غاية الجمال والبهاء ، فقد روى الحسن بن سفيان عن أنس بن
مالك أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إن الله بنى الفردوس بيده وحظرها على كل مشرك وكل
مدمن خمر ومتكبر».
وروى الدارمي من
حديث عبد الله بن الحارث قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «خلق الله ثلاثة أشياء بيده : خلق آدم بيده وكتب التوراة
بيده وغرس الفردوس بيده ، ثم قال : وعزتي وجلالي لا يدخلها مدمن خمر ولا الديوث»
قال ابن القيم : المحفوظ أنه موقوف. وذكر الحاكم عن مجاهد قال : «إن الله تعالى
غرس جنات عدن بيده ، فلما تكاملت أغلقت ، فهي تفتح في كل سحر فينظر الله إليها
فتقول قد أفلح المؤمنون».
وبهذا فضلت جنة
عدن على سائر الجنات ، كما فضل به آدم على سائر البشر ، لكن الجهمي الذي ينكر أن
يكون لله يد يخلق بها ما يشاء لا يعترف بهذا الفضل لأبيه آدم ، بل ينكره غاية
الإنكار ، فهو ولد عاق يجحد فضل أبيه وخصوصيته ويرى أنه لا فضل له على الشيطان ،
لأن كلا منهما مخلوق بقدرة الله ومشيئته ، وليس هناك يد أن امتاز آدم على غيره
بأنه خلق بهما ، بل يفسر اليدين بالقدرة أو النعمة أو نحوهما ، ولو تأمل الجهمي
قوله تعالى لإبليس حين امتنع من السجود لآدم عليهالسلام : (ما مَنَعَكَ أَنْ
تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) [ص : ٧٥]
لاستحيا من نفسه
وأدرك أن سر الأمر بالسجود لآدم هو تلك الخصوصية التي امتاز بها ، ولو كان آدم
مخلوقا بمجرد القدرة والمشيئة ، وأن اليدين هنا بمعنى القدرة لكان إبليس أعلم من
هذا الجهمي بما يجيب به حيث يقول : «وأنا أيضا خلقتني بيديك ، فأي خصوصية لآدم علي».
* * *
لما قضى رب
العباد العرش قا
|
|
ل تكلمي فتكلمت
ببيان
|
قد أفلح العبد
الذي هو مؤمن
|
|
ما ذا ادّخرت له
من الإحسان
|
ولقد روى حقا
أبو الدرداء ذا
|
|
ك عويمر أثرا
عظيم الشأن
|
يهتز قلب العبد
عند سماعه
|
|
طربا بقدر حلاوة
الإيمان
|
ما مثله أبدا
يقال برأيه
|
|
أو كان يا أهلا
بذا العرفان
|
فيه النزول ثلاث
ساعات فاح
|
|
داهن ينظر في
الكتاب الثاني
|
يمحو ويثبت ما
يشاء بحكمة
|
|
وبعزة وبرحمة
وحنان
|
فترى الفتى يمسي
على حال ويص
|
|
بح في سواها ما
هما مثلان
|
هو نائم واموره
قد دبرت
|
|
ليلا ولا يدري
بذاك الشأن
|
والساعة الأخرى
إلى عدن مسا
|
|
كن أهله هم صفوة
الرحمن
|
الرسل ثم
الأنبياء ومعهم الص
|
|
ديق حسب فلا تكن
بجبان
|
فيها الذي والله
لا عين رأت
|
|
كلا ولا سمعت به
الأذنان
|
كلا ولا قلب به
خطر المثا
|
|
ل له تعالى الله
ذو السلطان
|
والساعة الأخرى
إلى هذي السما
|
|
ء يقول هل من
تائب ندمان
|
أو داع أو
مستغفر أو سائل
|
|
أعطيه اني واسع
الإحسان
|
حتى يصلى الفجر
يشهدها مع ال
|
|
أملاك تلك شهادة
القرآن
|
هذا الحديث
بطوله وسياقه
|
|
وتمامه في سنة
الطبراني
|
الشّرح : ذكر
البيهقي من حديث البغوي عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن الله أحاط حائط الجنة لبنة من ذهب ولبنة من فضة ،
وغرس عرشها بيده
وقال لها تكلمي ، فقالت قد أفلح المؤمنون ، فقال طوبى لك منزل الملوك».
وأما حديث أبي
الدرداء فقد سبقت الإشارة إليه ، وهو أثر عظيم يطرب له قلب المؤمن ، ومثل هذا لا
يقال بالرأي ، بل لا بد أن يكون أبو الدرداء سمعه من رسول اللهصلىاللهعليهوسلم وهو من علماء الصحابة الأجلاء. وفي هذا الحديث يخبر الرسول
صلىاللهعليهوسلم عن ربه عزوجل أنه ينزل لآخر ثلاث ساعات بقين من الليل ، وأنه في الساعة
الأولى ينظر في الكتاب الذي لا ينظر فيه غيره فيمحو ويثبت ، ولهذا ترى المرء يبيت
على حال ويصبح على أخرى مخالفة لها ، فيكون نائما وأموره تدبر من حيث لا يدري ولا
يشعر ، فسبحانه من كل يوم هو في شأن ، وفي الساعة الثانية ينظر في جنة عدن التي هي
مسكنه ومسكن خواص خلقه من الرسل والأنبياء والصديقين ، حيث أعد لهم فيها ما لم
يخطر مثاله بقلب أحد وأما في الساعة الثالثة فينزل إلى خلقه يبسط لهم يد رحمته
وعفوه حتى تصلى الفجر التي يشهدها الله وملائكته ، كما قال تعالى : (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ
مَشْهُوداً) [الإسراء : ٧٨].
* * *
فصل
في بناء الجنة
وبناؤها اللبنات
من ذهب
|
|
وأخرى فضة نوعان
مختلفان
|
وقصورها من لؤلؤ
وزبرجد
|
|
أو فضة أو خالص
العقيان
|
وكذاك من در
وياقوت به
|
|
نظم البناء
بغاية الاتقان
|
والطين مسك خالص
أو زعفرا
|
|
ن جابذا أثران
مقبولان
|
ليسا بمختلفين
لا تنكرهما
|
|
فهما الملاط
لذلك البنيان
|
الشرح
: روى الإمام أحمد
في مسنده عن أبي هريرة قال : (قلنا يا رسول الله إذا رأيناك رقت قلوبنا وكنا من
أهل الآخرة ، وإذا فارقتنا أعجبتنا الدنيا وشممنا النساء والأولاد. قال : لو بقيتم
في كل حال على الحال التي أنتم عليها
عندي لصافحتكم
الملائكة بأكفهم ولزارتكم في بيوتكم ، ولو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون كي يغفر
لهم ، قال قلنا يا رسول الله حدثنا عن الجنة ما بناؤها؟ قال لبنة ذهب ولبنة فضة
وملاطها المسك وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت وترابها الزعفران ، من يدخلها ينعم لا
يبأس ويخلد لا يموت ، لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه).
وروى أبو بكر بن
مردويه من حديث الحسن عن ابن عمر قال : (سئل رسول اللهصلىاللهعليهوسلم عن الجنة فقال : من يدخل الجنة يحيا لا يموت ، وينعم لا
يبأس لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه ، قيل يا رسول الله كيف بناؤها؟ قال لبنة من
ذهب ولبنة من فضة وملاطها مسك أذفر وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت وترابها الزعفران)
هكذا جاء في هذه الأحاديث أن ترابها الزعفران ، وقد ورد في بعضها أن ترابها المسك
، ولا تعارض بينها إذ يجوز أن تكون تربتها متضمنة للنوعين. كما قال بعض السلف :
ويجوز أن يكون التراب من زعفران ، فإذا عجن بالماء صار مسكا ، والطين قد يسمى
ترابا ، ويحتمل أن يكون زعفرانا باعتبار اللون ـ ومسكا باعتبار الرائحة ، وهذا من
أحسن شيء يكون البهجة والإشراق لون الزعفران والرائحة رائحة المسك. وكذلك ورد
تشبيهها بالدرمكة ، وهي الخبزة الصافية التي يضرب لونها إلى الصفرة مع لينها
ونعومتها.
* * *
فصل
في أرضها وحصبائها وتربها
والأرض مرمرة
كخالص فضة
|
|
مثل المرات
تناله العينان
|
في مسلم تشبيهها
بالدرمك الص
|
|
افي وبالمسك
العظيم الشأن
|
هذا لحسن اللون
لكن ذا لطي
|
|
ب الريح صار
هناك تشبيهان
|
حصباؤها در
وياقوت كذا
|
|
ك لآلئ نثرت
كنثر جمان
|
وترابها من
زعفران أو من الم
|
|
سك الذي ما استلّ
من غزلان
|
الشرح
: سئل ابن عباس رضي
الله عنهما : ما أرض الجنة؟ فقال : (مرمرة بيضاء من فضة كأنها مرآة ، قيل له فما
نورها؟ قال : أما رأيت الساعة التي تكون فيها قبل طلوع الشمس؟ فذلك نورها ، إلا
أنه ليس فيها شمس ولا زمهرير). وكذلك روى ابن عباس عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «خلق الله الجنة بيضاء وأحب الزي إلى الله
البياض ، فليلبسه أحياءكم وكفنوا فيه موتاكم» وفي سنن ابن ماجة من حديث أسامة بن
زيد قال ، قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ألا هل من مشمر للجنة ، فإن الجنة لا حظر لها ، هي ورب
الكعبة نور يتلألأ وريحانه تهتز وقصر مشيد ونهر مطرد وثمرة نضيجة وزوجة حسناء
جميلة ، وحلل كثيرة ومقام في أيد في دار سليمة ، وفاكهة وخضرة وحبرة ، ونعمة في
محلة عالية بهية قالوا نعم يا رسول الله نحن المشمرون لها ، قال قولوا إن شاء الله
، قال القوم إن شاء الله».
* * *
فصل
في صفة غرفاتها
غرفاتها في الجو
ينظر بطنها
|
|
من ظهرها والظهر
من بطنان
|
سكانها أهل
القيام مع الصيا
|
|
م وطيب الكلمات
والإحسان
|
ثنتان خالص حقه
سبحانه
|
|
وعبيده أيضا لهم
ثنتان
|
الشرح
: قال الله تعالى : (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ
غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ) [الزمر : ٢٠] وقال
: (أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ
الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا) [الفرقان : ٧٥]
والغرفة هنا اسم جنس كالجنة وهي المنازل العالية.
روى الترمذي في
جامعه من حديث عبد الرحمن بن اسحاق عن النعمان بن سعد عن علي قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن في الجنة غرفا يرى ظهورها من بطونها وبطونها من
ظهورها ، فقام اعرابي فقال : يا رسول الله لمن هي؟ قال : لمن طيب الكلام وأطعم
الطعام وأدام الصيام وصلى بالليل والناس نيام».
وروى البيهقي من
حديث حفص بن عمرو بن قيس الملائى عن عطاء بن أبي
رباح عن ابن عباس
قال ، قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن في الجنة لغرفا ، فإذا كان ساكنها فيها لم يخف عليه
ما خلفها ، وإذا كان خلفها لم يخف عليه ما فيها ، قيل لمن هي يا رسول الله؟ قال
لمن أطاب الكلام ، وواصل الصيام ، وأطعم الطعام ، وأفشى السلام وصلى والناس نيام».
فهؤلاء هم سكان
هذه الغرف ، لأنهم قاموا بحق الله وحق عباده ، فثنتان من هذه الخصال هما خالص حقه
سبحانه ، وهما أداء الصيام ، والصلاة بالليل والناس نيام ، وثنتان من حقوق العباد
، وهما افشاء السلام وإطعام الطعام.
* * *
فصل
في خيام أهل الجنة
للعبد فيها خيمة
من لؤلؤ
|
|
قد جوفت هي صنعة
الرحمن
|
ستون ميلا طولها
في الجو في
|
|
كل الزوايا أجمل
النسوان
|
يغشى الجميع فلا
يشاهد بعضهم
|
|
بعضا وهذا
لاتساع مكان
|
فيها مقاصير بها
الأبواب من
|
|
ذهب ودر زين
بالمرجان
|
وخيامها منصوبة
برياضها
|
|
وشواطئ الأنهار
ذي الجريان
|
ما في الخيام
سوى التي لو قابلت
|
|
للنيرين لقلت
منكسفان
|
لله هاتيك
الخيام فكم بها
|
|
للقلب من علق
ومن أشجان
|
فيهن حور قاصرات
الطرف خي
|
|
رات حسان من خير
حسان
|
خيرات أخلاق
حسان أوجها
|
|
فالحسن والإحسان
متفقان
|
الشرح
: يعني أن للمؤمن في
الجنة خيمة من لؤلؤ مجوف قد صنعها له أحسن الخالقين ، وأن طول هذه الخيمة ستون
ميلا ، وفي كل ركن من أركانها زوجة له من أجمل النساء ، فيجامع كل واحدة منهن من
غير أن يرى بعضهن بعضا ، وذلك لتباعد ما بينهن.
وهذه الخيام فيها مقاصير
بها أبواب مصنوعة من ذهب ودر مزين بالمرجان ،
وهي غير الغرف
والقصور ، بل هي خيام في البساتين وعلى شواطئ الأنهار ، في الصحيحين من حديث أبي
موسى الأشعري عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة
طولها ستون ميلا فيها أهلون يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضا».
وروى ابن أبي
الدنيا بسنده إلى عبد الله بن مسعود قال : (لكل مسلم خيرة ولكل خيرة خيمة ولكل
خيمة أربعة أبواب يدخل عليها كل يوم من كل باب تحفة وهدية وكرامة لم تكن قبل ذلك ،
وليس في هذه الخيام سوى الحور العين التي لو التقت احداهن بالشمس والقمر لأزرت
بنورهما ولخلت أنهما منكسفان فلله هاتيك الخيام كم للقلوب بها من تعلق وميل وكم
بها من غرام وأشجان.
فيهن قاصرات الطرف
فلا ينظرن إلى غير أزواجهن وهن خيرات حسان خيرات أخلاقا وحسان وجوها ، كمل منهن
الظاهر والباطن والخلق والخلق فاتفق لهما الحسن والجمال مع الإحسان وكريم الخلال).
* * *
فصل
في أرائكها وسررها
فيها الأرائك
وهي من سرر علي
|
|
هن الحجال كثيرة
الألوان
|
لا تستحق اسم
الأرائك دون ها
|
|
تيك الحجال وذاك
وضع لسان
|
بشخنانة يدعونها
بلسان فا
|
|
رس وهو ظهر
البيت ذي الأركان
|
الشرح
: الأرائك جمع
أريكة. قال مجاهد عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى : (مُتَّكِئِينَ فِيها
عَلَى الْأَرائِكِ) [الكهف : ٣١] لا
تكون أريكة حتى يكون السرير في الحجلة ، فإذا كان السرير بغير حجلة لا يكون أريكة
، وإن كانت حجلة بغير سرير لم تكن أريكة ، فإذا اجتمعا كانت أريكة.
وقال الليث :
الأريكة سرير حجلة ، فالحجلة والسرير أريكة وجمعها أرائك ،
والحجلة هي
البشخانة التي تعلق فوق السرير بلغة فارس ، وفي الحديث أن خاتم النبيصلىاللهعليهوسلم كان مثل زر الحجلة : وهو الزر الذي يجمع بين طرفيها من
جملة أزرارها ، والله أعلم.
* * *
فصل
في أشجارها وثمارها وظلالها
أشجارها نوعان
منها ما له
|
|
في هذه الدنيا
مثال ذان
|
كالسدر أصل
النبق مخضود مكا
|
|
ن الشوك من ثمر
ذوي ألوان
|
هذا وظل السدر
من خير الظلا
|
|
ل ونفعه الترويح
للأبدان
|
وثماره أيضا
ذوات منافع
|
|
من بعضها تفريح
ذي الأحزان
|
والطلح وهو
الموز منضود كما
|
|
نضدت يد باصابع
وبنان
|
أو أنه شجر
البوادي موقرا
|
|
حملا مكان الشوك
في الأغصان
|
وكذلك الرمان
والأعناب التي منها القطوف دوان الشرح
: يعني أن أشجار
الجنة نوعان : نوع له شبيه في هذه الدنيا ، وذلك كالسدر الذي هو شجر النبق. كما
قال تعالى: (وَأَصْحابُ
الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ* فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ) [الواقعة : ٢٧ ،
٢٨] ومعنى مخضود. قال قتادة : الموقر الذي لا شوك ، فإن سدر الدنيا كثير الشوك
قليل الثمر ، وفي الآخرة بالعكس من هذا ، لا شوك فيه ، وفيه الثمر الكثير الذي قد
أثقل أصله.
روى الحافظ أبو
بكر أحمد بن سليمان النجار عن عامر بن سليم قال : (كان أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقولون أن الله لينفعنا بالأعراب ومسائلهم ، قال : أقبل
أعرابي يوما فقال : يا رسول الله ذكر الله في الجنة شجرة تؤذي صاحبها ، فقال رسول
اللهصلىاللهعليهوسلم : ما هي؟ قال السدر فإن لو شوكا مؤذيا ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : أليس الله تعالى يقول : (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ) خضد الله شوكه فجعل
مكان كل شوكة ثمرة
، فإنها لتنبت ثمرا ففتق الثمرة منها عن اثنين وسبعين لونا من طعام ما فيه لون
يشبه الآخر).
هذا ومن فوائد
السدر أن ظلاله من خير الظلال وأنفعها وأشدها ترويحا للأبدان كما أن الأكل من
ثمرته يجلب الفرح ويذهب الأحزان.
ومنها أيضا الطلح
، وهو شجر الموز ، قال تعالى : (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) [الواقعة : ٢٩]
يعني نضد ثمره وتراكم فتراه في سباطته ، كما نضدت الأصابع والبنان في الكف ،
وتفسير الطلح بالموز هو المعروف عن أبي سعيد وابن عباس وأبي هريرة وعكرمة ومجاهد
وغيرهم وقيل هو شجر عظام من شجر العضاة واحدته طلحة ، وهو شجر كثير الشوك ، فيجعل
الله مكان كل شوكة منها ثمرة فيها سبعون لونا من الطعام لا يشبه لون منها الآخر
كما ورد في الحديث.
وكان علي رضي الله
عنه يقرأ : في طلع منضود فعلى هذا يحتمل أن يكون صفة أخرى لسدر. ومنها أيضا الرمان
والنخيل والأعناب التي دنت قطوفها وتدلّت ثمرتها لآكلها. قال تعالى : (فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) [الرحمن : ٦٨]
وقال : (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ
مَفازاً حَدائِقَ وَأَعْناباً) [النبأ : ٣١ ، ٣٢].
* * *
هذا ونوع ما له
في هذه الد
|
|
نيا نظير كي يرى
بعيان
|
يكفي من التعداد
قول الهنا
|
|
من كل فاكهة بها
زوجان
|
وأتوا به
متشابها في اللون مخ
|
|
تلف الطعوم فذاك
ذو ألوان
|
أو أنه متشابه
في الاسم مخ
|
|
تلف الطعوم فذاك
قول ثان
|
أو أنه وسط خيار
كله
|
|
فالفحل منه ليس
ذا ثنيان
|
أو أنه لثمارنا
ذي مشبه
|
|
في اسم ولون ليس
يختلفان
|
لكن لبهجتها
ولذة طعمها
|
|
أمر سوى هذا
الذي تجدان
|
فيلذها في الأكل
عند منالها
|
|
وتلذها من قبله
العينان
|
قال ابن عباس
وما بالجنة ال
|
|
عليا سوى أسماء
ما تريان
|
يعني الحقائق لا
تماثل هذه
|
|
وكلاهما في
الاسم متفقان
|
الشرح
: وأما النوع الثاني
من أشجار الجنة فليس له نظير في هذه الدنيا تراه العيون وهو كثير جدا ، لكن يكفي
من عده قول الله تعالى : (فِيهِما مِنْ كُلِّ
فاكِهَةٍ زَوْجانِ) [الرحمن : ٥٢] ويؤتى أهل الجنة بالثمر متشابها ، كما قال
تعالى : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي
رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) [البقرة : ٢٥].
واختلف فيم يكون
التشابه؟ فقيل يكون متشابها في اللون مع اختلاف الطعوم قال بهذا طائفة منهم ابن
مسعود وابن عباس ومجاهد والربيع بن أنس وغيرهم. قال يحيى بن أبي كثير (عشب الجنة
الزعفران وكثبانها المسك ويطوف عليهم الولدان بالفاكهة فيأكلونها ثم يأتونهم
بمثلها ، فيقولون هذا الذي جئتمونا به آنفا ، فيقول لهم الخدم : كلوا فإن اللون
واحد والطعم مختلف) ، وقيل إن التشابه في الأسماء مع اختلاف الطعم ، ولا أدري من
قال بهذا.
وقيل معنى (متشابها)
أي يشبه بعضه بعضا في الحسن ، فهو خيار كله لا رذل فيه. قال بذلك الحسن وقتادة
وابن جريج وغيرهم ، وعلى هذا فالمراد بالتشابه التوافق والتماثل.
وقالت طائفة أخرى
: إن معنى الآية أن ثمر الجنة يشبه ثمر الدنيا في الاسم واللون ، ولكنه أبهج منه
منظرا وألذ طعما ، فآكلها يلتذ بها عند تناولها أعظم لذة ومن قبل ذلك تلتذ عيناه
بحسن مرآها. قال ابن وهب قال عبد الرحمن بن زيد (يعرفون أسماءه كما كانوا في
الدنيا ، التفاح بالتفاح والرمان بالرمان ، وليس هو مثله في الطعم). وقد صح عن ابن
عباس رضي الله عنهما أنه قال (ليس في الجنة مما في الدنيا إلا الأسماء) ومعنى هذا
أن الحقائق مختلفة غير متماثلة ، فليس النخل كالنخل ولا الرمان كالرمان ولا اللبن
كاللبن ولا العسل كالعسل وغير ذلك ، ولكن الأسماء متفقة ، ولكن يجب أن يكون هناك
قدر مشترك بينهما يصحح إطلاق الاسم على كل منهما كما سيأتي.
* * *
يا طيب هاتيك
الثمار وغرسها
|
|
في المسك ذاك
الترب للبستان
|
وكذلك الماء
الذي يسقى به
|
|
يا طيب ذاك
الورد للظمآن
|
وإذا تناولت
الثمار أتت نظي
|
|
رتها فحلت دونها
بمكان
|
لم تنقطع أبدا
ولم ترقب نزو
|
|
ل الشمس من حمل
إلى ميزان
|
وكذاك لم تمنع
ولم تحتج إلى
|
|
أن ترتقي للقنو
في العيدان
|
بل ذللت القطوف
فكيف ما
|
|
شئت انتزعت
بأسهل الإمكان
|
ولقد أتى أثر
بأن الساق من
|
|
ذهب رواه
الترمذي ببيان
|
قال ابن عباس
وهاتيك الجذو
|
|
ع زمرد من أحسن
الألوان
|
ومقطعاتهم من
الكرم الذي
|
|
فيها ومن سعة من
العقيان
|
وثمارها ما فيه
من عجم كأم
|
|
ثال القلال فجلّ
دو الإحسان
|
وظلالها معدودة
ليست تقي
|
|
حرا ولا شمسا
وأنى ذان
|
أو ما سمعت بظل
أصل واحد
|
|
فيه يسير الراكب
العجلان
|
مائة سنين قدرت
لا تنقضي
|
|
هذا العظيم
الأصل والأفنان
|
ولقد روى الخدري
أيضا أن طو
|
|
بى قدرها مائة
بلا نقصان
|
تتفتح الأكمام
فيها عن لبا
|
|
سهم بما شاءوا
من الألوان
|
الشرح
: فما أطيب هذه
الثمار التي غرست أشجارها في أرض المسك الذي هو تراب الجنة ، ثم سقيت بماء هو أطهر
ماء وأنقاه ، وأعذب مورد للظامئ الصادي وأحلاه.
وهذه الثمار إذا
تناولت منها ثمرة خلق الله مكانها أخرى ، فثمارها لا تنقطع أبدا ، بل هي متجددة
دائما ، وهي توجد حين توجد نضيجة مهيأة للقطاف ، فلا تنتظر نزول الشمس من برج
الحمل إلى برج الميزان الذي هو أوان نضوج ثمار الدنيا.
وهي أيضا غير
ممنوعة على من أراد تناولها ، فلا يحتاج أن يصعد إلى قنواتها ليقطفها ، كما هو
الحال في الدنيا ، بل هي قطوف مذللة منقادة ودانية قريبة
يقطف منها كيف شاء
، قائما أو قاعدا أو مضطجعا ، وينتزعها بأيسر قدرة ولقد روى الترمذي في جامعه من
حديث أبي حامد عن أبي هريرة قال ، قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ما في الجنة شجرة إلا وساقها من ذهب».
وقال ابن المبارك
حدثنا سفيان عن حماد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : (نخل الجنة جذوعها من زمرد
أخضر وكربها ذهب أحمر ، وسعفها كسوة لأهل أجنة ، منها مقطعاتهم وحللهم ، وثمرها
أمثال القلال والدلاء أشد بياضا من اللبن وأحلى مذاقا من العسل وألين من الزبدة
ليس فيها عجم).
وأما ظلال الجنة
فظليلة ممدودة لكنها لا تحمى من حر ولا شمس ، إذ لا حر ولا شمس هناك. قال تعالى : (لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا
زَمْهَرِيراً) [الإنسان : ١٣].
روى عكرمة عن ابن
عباس قال : (الظل الممدودة شجرة في الجنة على ساق قدر ما يسير الراكب المجد في
ظلها مائة عام في كل نواحيها ، فيخرج إليها أهل الجنة أهل الغرف وغيرهم يتحدثون في
ظلها ، قال فيشتهي بعضهم ويذكر لهو الدنيا ، فيرسل الله ريحا من الجنة فتحرك تلك
الشجرة بكل لهو كان في الدنيا).
وروى ابن وهب عن
أبي سعيد الخدري قال : (قال رجل يا رسول الله ما طوبى؟ قال شجرة في الجنة مسيرة
مائة سنة ، ثياب أهل الجنة تخرج من اكمامها).
* * *
فصل
في سماع أهل الجنة
قال ابن عباس
ويرسل ربنا
|
|
ريحا تهز ذوائب
الأغصان
|
فتثير أصواتا
تلذ لمسمع الإ
|
|
الإنسان
كالنغمات بالأوزان
|
يا لذة الأسماع
لا تتعوضى
|
|
بلذاذة الأوتار
والعيدان
|
أو ما سمعت
سماعهم فيها غنا
|
|
ء الحور
بالأصوات والألحان
|
واها لذيّاك
السماع فإنه
|
|
ملئت به الأذنان
بالإحسان
|
واها لذيّاك
السماع وطيبه
|
|
من مثل أقمار
على أغصان
|
واها لذيّاك
السماع فكم به
|
|
للقلب من طرب
ومن أشجان
|
واها لذيّاك
السماع ولم أقل
|
|
ذيّاك تصغيرا له
بلسان
|
ما ظن سامعه
بصوت أطيب ال
|
|
أصوات من حور
الجنان حسان
|
نحن النواعم
والخوالد خيرا
|
|
ت كاملات الحسن
والإحسان
|
لسنا نموت ولا
نخاف وما لنا
|
|
سخط ولا ضغن من
الأضغان
|
طوبى لمن كنا له
وكذاك طو
|
|
بى للذي هو حظنا
لفظان
|
في ذاك آثار
روين وذكرها
|
|
في الترمذي
ومعجم الطبراني
|
ورواه يحيي شيخ
الأوزاعي تف
|
|
سيرا للفظة
يحبرون أغان
|
الشرح
: سبق أن ذكرنا الأثر
الذي رواه عكرمة عن ابن عباس أن أهل الجنة حين يشتهون السماع ويذكرون لهو الدنيا
وهم تحت شجرة طوبى يرسل الله إليهم ريحا تهز أفنان الشجرة فتنطلق منها أنغام
وأصوات هي ألذ في السمع من كل أنغام الدنيا وألحانها.
فيا لذة الأسماع
لا تستعيضى عن هذا السماع العالي الحلو النشيد بما تسمعين في هذه الدنيا من أوتار
وعيدان ، ولا تستبدلي الذي هو أدنى بالذي هو خير. ولقد وردت الآثار أيضا بأن الحور
العين يغنين في كل صباح بأعذب الألحان. روى الترمذي بإسناده عن النعمان بن سعد عن
علي قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن في الجنة لمجتمعا للحور العين يرفعن بأصوات لم تسمع
الخلائق بمثلها ، يقلن : نحن الخالدات فلا نبيد ، ونحن الناعمات فلا نبأس ، ونحن
الراضيات فلا نسخط ، طوبى لمن كان لنا وكنا له».
وروى الطبراني من
حديث ابن عمر قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن أزواج أهل الجنة ليغنين أزواجهن بأحسن أصوات ما
سمعها أحد قط ، وأن مما يغنين به : نحن الخيرات الحسان أزواج قوم كرام. ينظرون
بعشرة أعين ، وأن مما يغنين
به : نحن الخالدات
فلا نمتنه ، نحن الآمنات فلا نخفنه ، نحن المقيمات فلا نظعنه». وروى أبو نعيم في
صفة الجنة من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن في الجنة شجرة جذوعها من ذهب وفروعها من زبرجد ولؤلؤ
، فتهب لها ريح فيصطفقن ، فما سمع السامعون بصوت شيء قط ألذ منه». وروى الأوزاعي
عن شيخه يحيى بن أبي كثير في تفسير قوله تعالى : (يُحْبَرُونَ) [الروم : ١٥] قال
الحبرة السماع في الجنة.
فوا لهفتا على ذلك
السماع التي تمتلئ منه الآذان لذة ونشوة ، ووا لهفتا لذلك السماع وطيبه حين تنطلق
به حناجر الحور الحريرية وتتمايل عنده رءوسهن كأنها أقمار على أغصان ، ووا لهفتا
لذلك السماع الذي ملأ القلوب طربا وشجنا ، ولم أقل بذياك بصيغة التصغير تحقيرا له
وتهوينا من شأنه ، فما ظنك بأطيب صوت في أعذب لحن يخرج من أجمل امرأة ، لا شك أنه
قد اجتمعت له كل عناصر اللذة والامتاع.
* * *
نزه سماعك إن
أردت سماع ذي
|
|
اك الغنى عن هذه
الألحان
|
لا تؤثر الأدنى
على الأعلى فتح
|
|
رم ذا وذا يا
ذلة الحرمان
|
إن اختيارك
للسماع النازل ال
|
|
أدنى على الأعلى
من النقصان
|
والله أن سماعهم
في القلب وال
|
|
إيمان مثل السم
في الأبدان
|
والله ما انفك
الذي هو دأبه
|
|
أبدا من الإشراك
بالرحمن
|
فلقلب بيت الرب
جل جلاله
|
|
حبا واخلاصا مع
الإحسان
|
فإذا تعلق
بالسماع اصاره
|
|
عبدا لكل فلانة
وفلان
|
حب الكتاب وحب
ألحان الغنى
|
|
في قلب عبد ليس
يجتمعان
|
ثقل الكتاب
عليهم لما رأوا
|
|
تقييده بشرائع
الإيمان
|
واللهو خف عليهم
لما رأوا
|
|
ما فيه من طرب
ومن ألحان
|
قوت النفوس
وانما القرآن قو
|
|
ت القلب أنى
يستوي القوتان
|
ولذا تراه حظ ذي
النقصان كال
|
|
جهال والصبيان
والنسوان
|
وألذهم فيه
أقلهم من العقل
|
|
الصحيح فسل أخا
العرفان
|
يا لذة الفساق
لست كلذة ال
|
|
أبرار في عقل
ولا قرآن
|
الشرح
: فإن أردت أن تحظى
بسماع ذلك الغناء العلوي العبقري النشيد فنزه سمعك عن هذه الألحان الدنسة المنطلقة
بسعار الشهوة ، ولا تؤثر هذا الأدنى الخسيس على الأعلى الشريف النفيس. فيكون مآلك
أن تحرمهما جميعا ، وما أقسى الحرمان وما أصعبه. وأن إيثارك هذا السماع الدني
المنحط على السماع العلوي الكريم من أمارات نقصانك في عقلك وإيمانك ، فكيف يؤثر
عاقل لذة حقيرة تفوت وتذهب على لذة عالية تبقى وتخلد؟
ووالله أن سماع
هذه الألحان لأشد فتكا بالقلب والإيمان من فتك السموم بالأبدان ، وأن الذي يجعل
هذا السماع ديدنه وهجيراه ويغرم به لا ينفك أبدا من الإشراك بالرحمن ، فإن القلب هو
بيت الرب جل جلاله ووعاء محبته ومعرفته والإخلاص له ، فهو عرش للمثل الأعلى ، فإذا
خلا من هذه المعالي الكريمة وتعلق بالغناء واللهو الباطل ، جعله ذلك عبدا للمغنين
والمغنيات لا يلهج إلا بذكرهم ، ولا يفكر إلا فيهم ، واعتبر بما نراه في هذه
الأيام من تعلق هذه الأمة بمن نبغوا في الغناء والطرب ، من أمثال أم كلثوم وعبد
الوهاب وعبد الحليم حافظ وصباح وغيرهم ، فإنك لا تجد أغلب هذه الأمة إلا عبيدا
لهؤلاء ، قد فتنوا بهم أعظم فتنة ، حتى أن الفتيان والفتيات يحفظون أغنياتهم عن
ظهر قلب ، وكثير منهم قد لا يحفظ فاتحة الكتاب. فحب القرآن وحب الغناء والألحان في
قلب عبد واحد لا يجتمعان. قال تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ
وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ
آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ
وَقْراً ، فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [لقمان : ٦ ، ٧]
والناس قد استثقلوا القرآن لما فيه من قيود التكاليف وشرائع الإيمان ، ولكنهم
استخفوا اللهو والغناء لما فيه من الطرب والألحان.
أما هذا اللهو والغناء
فهو غذاء النفوس المريضة الأمارة بالسوء ، ولكن القرآن هو قوت القلوب ، ولا يمكن
أن يستوي القوتان. ولهذا ترى الغناء هو نصيب أهل النقص القريبين من درجة العجماوات
من الجهال والغلمان والنسوان وترى أشدهم تعلقا به ولذة فيه أقلهم حظا من العقل
السليم فاسأل به خبيرا. وأين لذة الفساق والمجان من لذة الأبرار في العقل والقرآن.
* * *
فصل
في أنهار الجنة
أنهارها في غير
أخدود جرت
|
|
سبحان ممسكها عن
الفيضان
|
من تحتهم تجري
كما شاءوا مفج
|
|
رة وما للنهر من
نقصان
|
عسل مصفى ثم ماء
ثم خم
|
|
ر ثم أنهار من
الألبان
|
والله ما تلك
المواد كهذه
|
|
لكن هما في
اللفظ مجتمعان
|
هذا وبينهما
يسير تشابه
|
|
وهو اشتراك قام
بالأذهان
|
الشرح
: يعني أن أنهار
الجنة تجري على وجه الأرض في غير أخاديد ، وأما قوله تعالى : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) [البقرة : ٢٥]
فالمراد أنها تجري تحت غرفهم وقصورهم وبساتينهم ، والله سبحانه يمسكها أن تفيض على
الجانبين ، وهي أنهار مطردة دائمة الجريان لا يطرأ لها غيض ولا نقصان ، وتتفجر لهم
كما شاءوا وأينما كانوا ، كما قال تعالى : (عَيْناً يَشْرَبُ
بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً) [الإنسان : ٦].
وهي أنهار تجري
بأنواع مختلفة من الأشربة ، كما قال تعالى : (مَثَلُ الْجَنَّةِ
الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ
مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ
لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى) [محمد : ١٥] وليست
هذه الأشربة كالمعهود منها في الدنيا ، بل بينها من التفاوت في الطعم والشكل ما لا
يعلمه إلا الله ، ولا اشتراك بينها إلا في اللفظ ، كما قال ابن
عباس : ليس في
الجنة مما في الدنيا إلا الأسماء ، وبينها كذلك قدر يسير من التشابه ، وهو
اشتراكها في المعنى الكلي الحاصل في الأذهان. قال المؤلف في (حادي الأرواح).
(فذكر سبحانه هذه
الأجناس الأربعة ، ونفى عن كل واحد منها الآفة التي تعرض له في الدنيا ، فآفة
الماء أن يأسن ويأجن من طول مكثه ، وآفة اللبن أن يتغير طعمه إلى الحموضة وأن يصير
قارصا ، وآفة الخمر كراهة مذاقها المنافي للذة شربها ، وآفة العسل عدم تصفيته).
* * *
فصل
في طعام أهل الجنة
وطعامهم ما
تشتهيه نفوسهم
|
|
ولحوم طير ناعم
وسمان
|
وفواكه شتى بحسب
مناهم
|
|
يا شبعة كملت
لذي الإيمان
|
لحم وخمر والنسا
وفواكه
|
|
والطيب مع روح
ومع ريحان
|
وصحافهم ذهب
تطوف عليهم
|
|
بأكف خدام من
الولدان
|
وانظر إلى جعل
اللذاذة للعيو
|
|
ن وشهوة للنفس
في القرآن
|
للعين منها لذة
تدعو إلى
|
|
شهواتها بالنفس
والأمران
|
سبب التناول وهو
يوجب لذة
|
|
أخرى سوى ما
نالت العينان
|
الشرح
: يعني أن طعام أهل
الجنة هو كل ما تتطلبه نفوسهم من لحوم الطير السمان والفواكه المتنوعة ، كما قال
تعالى : (وَفاكِهَةٍ مِمَّا
يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) [الواقعة: ٢٠ ، ٢١] وكما قال : (لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما
يَدَّعُونَ) [يس : ٥٧] ويأكلون
منها وفق ما يتمنونه حتى يمتلئون شبعا ، فلهم فيها لحم طيب نضيج وخمر معتقة لذة
للشاربين ونساء طاهرات من الحيض ومن كل قذر ، وفواكه لا يصيبها عفن ولا عطب ، ولهم
فيها أريج الطيب وشذى الروح والريحان ، فطاب لهم فيها كل شيء ، من مطعوم ومشروب ومنكوح
ومشموم.
ويأتي لهم الطعام
في صحاف من الذهب يطوف عليهم بها غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون. قال تعالى : (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ
وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ
فِيها خالِدُونَ) [الزخرف : ٧١].
وتأمل في هذه
الآية الكريمة حيث جعل اللذة للعين والشهوة للنفس ، لأن العين إذا التذت شيئا
اشتهته النفس ، فلذة العين سبب داع إلى شهوة النفس ، وكلاهما باعث على التناول وهو
مقتض لذة أخرى فوق ما نالته العينان.
وروى مسلم في
صحيحه من حديث جابر قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «يأكل أهل الجنة ويشربون ولا يمتخطون ولا يتغوطون ولا
يبولون ، طعامهم ذلك جشاء كريح المسك يلهمون التسبيح والتكبير كما تلهمون النفس».
وفي المسند وسنن النسائي بإسناد صحيح عن زيد بن أبي أرقم قال : (جاء رجل من أهل
الكتاب إلى النبي صلىاللهعليهوسلم فقال : يا أبا القاسم تزعم أن أهل الجنة يأكلون ويشربون؟
قال نعم والذي نفس محمد بيده أن أحدهم ليعطى قوة مائة رجل في الأكل والشرب والجماع
والشهوة ، قال فإن الذي يأكل ويشرب تكون له الحاجة وليس في الجنة أذى ، قال تكون
أحدهم رشحا يفيض من جلودهم كرشح المسك فيضمر بطنه).
وعن عبد الله بن
مسعود قال : قال لي رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إنك لتنظر إلى الطير في الجنة فتشتهيه فيخر بين يديك
مشويا». وعن عبد الله بن عمرو في قوله تعالى : (يُطافُ عَلَيْهِمْ
بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ) [الزخرف : ٧١] قال
: يطاف عليهم بسبعين صحفة من ذهب كل صحفة منها فيها لون ليس في الأخرى.
وروى الحاكم
بإسناده عن حذيفة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن في الجنة طيرا أمثال البخاتي ، فقال أبو بكر إنها
لناعمة يا رسول الله ، قال أنعم منها من يأكلها وأنت ممن يأكلها يا أبا بكر».
* * *
فصل في شرابهم
يسقون فيها من
رحيق ختمه
|
|
بالمسك أوله
كمثل الثاني
|
مع خمرة لذت
لشاربها بلا
|
|
غول ولا داء ولا
نقصان
|
والخمر في
الدنيا فهذا وصفها
|
|
تغتال عقل
الشارب السكران
|
وبها من الأدواء
ما هي أهله
|
|
ويخاف من عدم
لذي الوجدان
|
فنفى لنا الرحمن
أجمعها عن ال
|
|
خمر التي في جنة
الحيوان
|
وشرابهم من
سلسبيل مزجه ال
|
|
كافور ذاك شراب
ذي الإحسان
|
هذا شراب أولي
اليمين ولكن ال
|
|
أبرار شربهم
شراب ثان
|
يدعى بتسنيم
سنام شربهم
|
|
شرب المقرب خيرة
الرحمن
|
صفى المقرب سعيه
فصفا له
|
|
ذاك الشراب فتلك
تصفيتان
|
لكن أصحاب
اليمين فأهل مز
|
|
ج بالمباح وليس
بالعصيان
|
مزج الشراب لهم
كما مزجوا
|
|
هم الأعمال ذاك
المزج بالميزان
|
هذا وذو التخليط
مزجا أمره
|
|
والحكم فيه لربه
الديان
|
الشرح
: قال الله تعالى : (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى
الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ يُسْقَوْنَ
مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ
الْمُتَنافِسُونَ وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا
الْمُقَرَّبُونَ) [المطففين : ٢٢ ،
٢٨].
وقال سبحانه : (إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ
كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها
تَفْجِيراً) [الإنسان : ١٦٠].
وقال جل ذكره : (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ
مَعِينٍ بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها
يُنْزَفُونَ) [الصافات : ٤٥ ،
٤٧].
قال ابن عباس : (بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) الخمر (لا فِيها غَوْلٌ) ليس فيها صداع (وَلا هُمْ عَنْها
يُنْزَفُونَ) لا تذهب عقولهم ، وقال في تفسير قوله تعالى :
(وَكَأْساً دِهاقاً) [النبأ : ٣٤]
ممتلئة. وقوله : (رَحِيقٍ مَخْتُومٍ) [المطففين : ٢٥]
يقول الخمر ختم بالمسك.
فهذا شأن خمر
الآخرة تحدث لصاحبها أعظم نشوة وأصفى لذة من غير أن تغتال عقله أو تصدع رأسه أو
تجلب له الأمراض.
وأما خمر الدنيا
فهذا وصفها : تغتال عقل شاربها حتى يهذي ويقدم على ارتكاب العظائم ، وتحدث له من
الأدواء والعلل ما هي جديرة به ، وتورثه العدم والإملاق بعد الغنى واليسار ، فنفى
لنا الرحمن عزوجل كل هذه الآفات التي تحدثها خمر الدنيا عن خمر الجنة من
الصداع والغول واللغو والإنزاف وعدم اللذة. وأهل الجنة فريقان : مقربون ، وأصحاب
يمين.
أما أصحاب اليمين
فيشربون فيها من سلسبيل مزج بالكافور والزنجبيل ، كما قال تعالى : (إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ
كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً) [الإنسان : ٥]
وقال بعد ذلك : (وَيُسْقَوْنَ فِيها
كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً) [الإنسان : ١٧ ،
١٨] قال المؤلف رحمهالله في حادي الأرواح :
فأخبر سبحانه عن
مزاج شرابهم بشيئين ، بالكافور في أول السورة والزنجبيل في اخرها ، فإن في الكافور
من البرد وطيب الرائحة وفي الزنجبيل من الحرارة وطيب الرائحة ما يحدث لهم باجتماع
الشرابين ومجيء أحدهما على أثر الآخر حالة اخرى أكمل وأطيب وألذ من كل منهما
بانفراده ، ويعدل كيفية كل منهما بكيفية الآخر. وما ألطف موقع ذكر الكافور في أول
السورة والزنجبيل في آخرها ، فإن شرابهم مزج أولا بالكافور ، وفيه من البرد ما
يجيء الزنجبيل بعده فيعدله والظاهر أن الكأس الثانية غير الأولى ، وأنهما نوعان
لذيذان من الشراب ، أحدهما مزج بكافور والثاني مزج بزنجبيل أه.
وأما المقربون
فيشربون من هذه الكأس صرفا غير مزيج كما قال تعالى : (عَيْناً يَشْرَبُ
بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً) [الإنسان : ٦]
وذلك لأنهم
أخلصوا الأعمال
لله فأخلص شرابهم. وأما الأولون فمزجوا فمزج شرابهم. ونظير هذا قوله تعالى : (وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ عَيْناً
يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) [المطففين : ٢٧ ،
٢٨] يعني أن شراب أصحاب اليمين يمزج لهم من هذه العين التي تسمى بتسنيم والتي يشرب
منها المقربون صرفا. فالمقرب أخلص سعيه وصفاء حتى صار كله لله ، فلهذا صفى له
شرابه ولم يمزج ، والجزاء من جنس العمل. وأما أصحاب اليمين فلما مزجوا سعيهم
الصالح ببعض المكروهات التي ليست معصية مزج لهم شرابهم حزاء وفاقا.
وهناك فريق ثالث ،
وهم الذين قال الله فيهم : (وَآخَرُونَ
اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ
أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [التوبة : ١٠٢]
وهم الذين قصروا في بعض الواجبات وارتكبوا بعض المحرمات ، فهؤلاء أمرهم مفوض إلى
الله سبحانه ، إن شاء عفا عنهم وتاب عليهم ، وإن شاء عذبهم بقدر ذنوبهم ثم يدخلهم
الجنة.
* * *
فصل
في مصرف طعامهم وشرابهم وهضمه
هذا وتصريف
المآكل منهم
|
|
عرق يفيض لهم من
الأبدان
|
كروائح المسك
الذي ما فيه خل
|
|
ط غيره من سائر
الألوان
|
فتعود هانيك
البطون ضوامرا
|
|
تبغي الطعام على
مدى الأزمان
|
لا غائط فيها
ولا بول ولا
|
|
مخط ولا بصق من
الإنسان
|
ولهم جشاء ريحه
مسك يكو
|
|
ن به تمام الهضم
بالإحسان
|
هذا وهذا صح عنه
فواحد
|
|
في مسلم ولأحمد
الأثران
|
الشرح
: يعني أن طعام أهل
الجنة وشرابهم لا يخلف في بطونهم فضلات تؤذيهم يحتاجون معها إلى بول أو غائط ، بل
تخرج عرقا له رائحة كرائحة المسك
الخالص الذي لم
يخلط به غيره ، فتعود بطونهم ضوامر خاوية تتطلب الطعام وتشتهيه ، وهكذا حالهم على
الدوام ، أكل وانهضام ، وقد طهر الله الجنة وأهلها من كل قذر الدنيا وخبثها ، فلا
غائط فيها ولا بول ، ولا تمخط ولا بصق ، ولا حيض ولا نفاس. ولأهل الجنة جشاء ، وهو
ذلك الريح الذي يخرج من الفم ، يكون كريح المسك يتم به هضمهم للطعام. وهذا كله صح
عنه صلىاللهعليهوسلم وقد سبق أن ذكرنا حديث مسلم في جشاء أهل الجنة.
ولأحمد رحمهالله أثران في هذا الباب يدلان على أن طعام أهل الجنة يفيض من
جلودهم كرشح المسك ، وقد تقدم ذكر ذلك.
* * *
فصل
في لباس أهل الجنة
وهم الملوك على
الأسرة فوق ها
|
|
تيك الرءوس مرصع
التيجان
|
ولباسهم من سندس
خضر ومن
|
|
استبرق نوعان
معروفان
|
ما ذاك من دود
بنى من فوقه
|
|
تلك البيوت وعاد
ذا الطيران
|
كلا ولا نسجت
على المنوال نس
|
|
ج ثيابنا بالقطن
والكتان
|
لكنها حلل تشق
ثمارها
|
|
عنها رأيت شقائق
النعمان
|
بيض وخضر ثم صفر
ثم حم
|
|
ر كالرباط بأحسن
الألوان
|
لا تقرب الدنس
المقرب للبلى
|
|
ما للبلى فيهن
من سلطان
|
ونصيف احداهن
وهو خمارها
|
|
ليست له الدنيا
من الأثمان
|
سبعون من حلل
عليها لا تعو
|
|
ق الطرف عن مخ
ورا الساقان
|
لكن يراه من ورا
ذا كله
|
|
مثل الشراب لذي
زجاج أوان
|
الشرح
: يعني أن أهل الجنة
يكونون ملوكا فيها متكئين على أسرتهم ، والتيجان المرصعة فوق رءوسهن.
ذكر البيهقي من
حديث يعقوب بن حميد بن كاسب عن أبي هريرة عن النبيصلىاللهعليهوسلم قال : «من قرأ القرآن فقام به آناء الليل والنهار ، ويحل
حلاله ويحرم حرامه ، خلطه الله بلحمه ودمه وجعله رفيق السفرة الكرام البررة ، وإذا
كان يوم القيامة كان القرآن له حجيجا ، فقال يا رب كل عامل يعمل في الدنيا يأخذ
بعلمه من الدنيا إلا فلانا كان يقوم آناء الليل وأطراف النهار ، فيحل حلالي ويحرم
حرامي ، يقول يا رب فأعطه ، فيتوجّه الله تاج الملوك ويكسوه من حلة الكرامة ثم
يقول : هل رضيت؟ فيقول : (أي القرآن) يا رب أرغب له في أفضل من هذا ، فيعطيه الله
الملك بيمينه والخلد بشماله ، ثم يقول : هل رضيت؟ فيقول نعم يا رب».
وعن أبي سعيد
الخدري : أن النبي صلىاللهعليهوسلم تلا قوله عزوجل : (جَنَّاتُ عَدْنٍ
يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ) [فاطر : ٣٣] فقال
: «إن عليهم التيجان ، إن أدنى لؤلؤة منها لتضيء ما بين الشرق والمغرب».
وأما ثياب أهل
الجنة فقد قال تعالى : (وَلِباسُهُمْ فِيها
حَرِيرٌ) [الحج : ٢٣] وقال
: (وَيَلْبَسُونَ
ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ) [الكهف : ٣١] قيل
السندس مارق من الديباج والاستبرق ما غلظ منه ، أو هو الصفيق. وقال الزجاج : هما
نوعان من الحرير. ولما كان أبهج الألوان الأخضر وألين اللباس الحرير ، فقد جمع
الله لأهل الجنة بين حسن منظر اللباس والتذاذ العين به ، وبين نعومته والتذاذ
الجسم به.
ولكن ينبغي أن
يعلم أن حرير الجنة ، بين رقيقه واستبرقه ، لم تخرج خيوطه من تلك الدودة المعروفة
بدودة القز التي تبنيه من فوقها ثم تخرج منه وتعود لطيرانها ، وكذلك لم ينسج هذا
الحرير على أنوال كهذه التي ننسج عليها ثيابنا التي نتخذها من القطن أو الكتان ،
ولكن هذا الحرير صنعة الرحمن تخرج حلله من شجرة في الجنة تتفتح أكمامها عنه كما
تتفتح شقائق النعمان.
روى الإمام أحمد
في مسنده عن عبد الله بن عمر أن رجلا سأل رسول
الله صلىاللهعليهوسلم عن ثياب الجنة أتخلق خلقا أم تنسج نسجا؟ فسكت النبي صلىاللهعليهوسلم ساعة ثم قال : «أين السائل عن ثياب أهل الجنة؟ فقال ها هو
ذا يا رسول الله ، قال لا ، بل يشقق عنها ثمر الجنة ثلاث مرات».
وعن أبي سلام
الأسود قال : سمعت أبا أمامة يحدث عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «ما منكم من أحد يدخل الجنة الا انطلق به إلى طوبى
فتفتح له أكمامها فيأخذ من أي ذلك شاء أبيض وإن شاء أحمر وإن شاء أخضر وإن شاء
أصفر وإن شاء أسود ومثل شقائق النعمان وأرق وأحسن».
وهذه الحلل في
بهائها وحسنها لا يمسها الدنس والوسخ الذي يسرع بها إلى البلى والتمزق ، إذ ليس
للبلى عليها من سبيل ، ونصيف الواحدة من نساء الجنة ، وهو خمارها على رأسها لا
يقوم بثمن من أثمان هذه الدنيا.
روى الإمام أحمد
في مسنده عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لقيد سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا ومثلها معها ،
ولقاب قوس أحدكم من الجنة خير من الدنيا ومثلها معها ، ولنصيف امرأة من الجنة خير
من الدنيا ومثلها معها ، قال قلت يا رسول الله : وما النصيف؟ قال الخمار».
وروى الطبراني في
معجمه من حديث عبد الله بن مسعود عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «أول زمرة يدخلون الجنة كأن وجوههم ضوء القمر ليلة
البدر ، والزمرة الثانية على لون أحسن كوكب دري في السماء ، لكل واحد منهم زوجتان
من الحور العين ، على كل زوجة سبعون حلة ، يرى مخ سوقها من وراء لحومها وحللها كما
يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء» وهذا إسناد على شرط الصحيح.
وفي الصحيحين من
حديث أنس بن مالك قال : أهدى أكيدر دومة إلى النبيصلىاللهعليهوسلم جبة من سندس ، فتعجب الناس من حسنها ، فقال : «لمناديل سعد
في الجنة أحسن من هذا» والمراد سعد بن معاذ رضي الله عنه.
* * *
فصل
في فرشهم وما يتبعها
والفرش من
استبرق قد بطنت
|
|
ما ظنكم بظهارة
لبطان
|
مرفوعة فوق
الأسرة يتكئ
|
|
هو والحبيب
بخلوة وأمان
|
يتحدثان على
الأرائك ما ترى
|
|
حبين في الخلوات
ينتجيان
|
هذا وكم زربية
ونمارق
|
|
ووسائد صفت بلا
حسبان
|
الشرح
: قال الله تعالى : (مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها
مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) [الرحمن : ٥٤]
وقال : (مُتَّكِئِينَ عَلى
رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ) [الرحمن : ٧٦]
وقال : (فِيها سُرُرٌ
مَرْفُوعَةٌ وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ وَزَرابِيُّ
مَبْثُوثَةٌ) [الغاشية : ١٣ ،
١٦].
فقوله تعالى في
الآية الأولى : (بَطائِنُها مِنْ
إِسْتَبْرَقٍ) يدل على أمرين ، أحدهما أن ظهائرها أعلى وأحسن من بطائنها
، لأن بطائنها تلي الأرض ، وظهائرها للجمال والزينة والمباشرة. روى سفيان الثوري
عن عبد الله في قوله تعالى : (بَطائِنُها مِنْ
إِسْتَبْرَقٍ) قال هذه البطائن قد خبرتم بها فكيف بالظهائر. والثاني أنها
فرش عالية لها سمك وحشو بين البطانة والظهارة ، كما قال تعالى : (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) [الواقعة : ٣٤].
وقد روى عن أبي
سعيد الخدري مرفوعا أن ما بين الفراشين كما بين السماء والأرض.
وهذه الفرش موضوعة
فوق الأسرة ليتكئ عليها صاحب الجنة هو وحبيبته من الحور العين ، حيث يتحدثان
ويتناجيان ويتطارحان عبارات الغرام ، بعيدين عن الناس وفي مأمن من العواذل
والرقباء ، كما يجلس عشيقان من أهل الدنيا في خلوة يتناجيان.
هذا وكم في الجنة
من زرابي ، جمع زربية بمعنى البسط والطنافس ، ونمارق جمع نمرقة بضم النون. قال
الواحدي : هي الوسائد. وقال الكلبي : وسائد مصفوفة
بعضها إلى بعض
وقال مقاتل : هو الوسائد مصفوفة على الطنافس.
* * *
فصل
في حلى أهل الجنة
والحلى أصفى
لؤلؤ وزبرجد
|
|
وكذاك أسورة من
العقيان
|
ما ذاك يختص
الإناث وإنما
|
|
هو للإناث كذاك
للذكران
|
التاركين لباسه
في هذه الد
|
|
نيا لأجل لباسه
بجنان
|
أو ما سمعت بأن
حليتهم إلى
|
|
حيث انتهاء
وضوئهم بوزان
|
وكذا وضوء أبي
هريرة كان قد
|
|
فازت به العضدان
والساقان
|
وسواه أنكر ذا
عليه قائلا
|
|
ما الساق موضع
حلية الإنسان
|
ما ذاك إلا موضع
الكعبين والز
|
|
ندين لا الساقان
والعضدان
|
وكذاك أهل الفقه
مختلفون في
|
|
هذا وفيه عندهم
قولان
|
والراجح الأقوى
انتهاء وضوئنا
|
|
للمرفقين كذلك
الكعبان
|
هذا الذي قد حده
الرحمن في ال
|
|
قرآن لا تعدل عن
القرآن
|
واحفظ حدود الرب
لا تتعدها
|
|
وكذاك لا تجنح
إلى النقصان
|
وانظر إلى فعل
الرسول تجده قد
|
|
أبدى المراد
وجاء بالتبيان
|
ومن استطاع يطيل
غرته فمو
|
|
قوف على الراوي
هو الفوقاني
|
فأبو هريرة قال
ذا من كيسه
|
|
فغدا يميزه أولو
العرفان
|
ونعيم الراوي له
قد شك في
|
|
رفع الحديث كذا
روى الشيباني
|
وإطالة الغرات
ليس بممكن
|
|
أبدا وذا في
غاية التبيان
|
الشرح
: وأما حلى أهل
الجنة فمن أصفى الجواهر الكريمة ، وأثمنها من اللؤلؤ والزبرجد وأساور العقيان الذي
هو الذهب وأساور الفضة ، قال تعالى : (يُحَلَّوْنَ فِيها
مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً) [الحج : ٢٣] قرئ
لؤلؤا بالنصب عطف على محل أساور أو منصوبا بفعل محذوف ، أي ويحلون لؤلؤا ، وقرئ
بالجر عطفا على ذهب ، وهو يحتمل أمرين : أن يكون لهم أساور من لؤلؤ كما لهم أساور
من ذهب وأن تكون
الأساور مركبة من الأمرين معا ، الذهب المرصع باللؤلؤ والله أعلم بمراده.
وهذه الحلى لا
تختص بالإناث في الجنة ، بل هي للذكور والإناث جميعا. بل روي عن الحسن أن الحلى في
الجنة على الرجال أحسن منه على النساء ، وهم الرجال الذين تركوا لباس الحرير
والذهب في الدنيا ليظفروا بلباسها في الجنة.
وقد ورد أن حلية
المؤمن في الجنة تبلغ إلى حيث يبلغ وضوؤه ، فقد أخرجا في الصحيحين والسياق لمسلم
عن أبي حازم قال : (كنت خلف أبي هريرة وهو يتوضأ للصلاة ، فكان يمد يده حتى يبلغ
إبطه ، فقلت يا أبا هريرة ما هذا الوضوء؟ فقال يا بني فروخ أنتم هاهنا؟ لو أعلم
أنكم هاهنا ما توضأت هذا الوضوء ، سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء» وقد احتج
بهذا من يرى استحباب غسل العضد وإطالته ، وكذا غسل الساق ، والصحيح أنه لا يستحب.
والحديث لا يدل على الإطالة ، فإن الحلية إنما تكون زينة في الساعد والمعصم لا في
العضد والكتف. وكذلك لا تكون زينة في الساقين ولكن في موضع الكعبين ، فالصحيح أن
تمام الوضوء هو غسل اليدين إلى المرفقين وغسل الرجلين إلى الكعبين ، وهذا هو الذي
حده الله في كتابه حيث قال في آية الوضوء : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ
وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى
الْكَعْبَيْنِ) [المائدة : ٦]
فالواجب أن يوقف عند ما حدّه الله تعالى بلا زيادة ولا نقصان ، ولا سيما وقد بيّنه
الرسول صلىاللهعليهوسلم بفعله أحسن بيان.
وأما قوله في
الحديث الآخر : «فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل» بعد قوله : «يبعث أمتي غرا
محجلين من آثار الوضوء» فالصحيح أن هذه الجملة الشرطية موقوفة على أبي هريرة وأنها
ليست من تمام الحديث ، بل قالها أبو هريرة بناء على ما فهمه من الحديث ، وقد بيّن
ذلك غير واحد من الحفاظ ، فقد جاء في مسند الإمام أحمد في هذا الحديث أن نعيما
راوي الحديث قال : فلا أدري قوله من استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل ، من كلام
النبي صلىاللهعليهوسلم أو شيء قاله أبو هريرة من عنده.
قال ابن القيم (وكان
شيخنا يقول هذه اللفظة لا يمكن أن تكون من كلام الرسولصلىاللهعليهوسلم ، فإن الغرة لا تكون في اليد لا تكون إلا في الوجه وإطالته
غير ممكنة ، إذ تدخل في الرأس فلا تسمى تلك غرة).
* * *
فصل
في صفة عرائس الجنة وحسنهن وجمالهن ولذة وصالهن ومهورهن
يا من يطوف
بكعبة الحسن التي
|
|
خفت بذاك الحجر
والأركان
|
ويظل يسعى دائما
حول الصفا
|
|
ومحسّر مسعاه لا
العلمان
|
ويروم قربان
الوصال على منى
|
|
والخيف يحجبه عن
القربان
|
فلذا تراه محرما
أبدا ومو
|
|
ضع حله منه فليس
بدان
|
يبغي التمتع
مفردا من حبه
|
|
متجردا يبغي
شفيع قران
|
فيظل بالجمرات
يرمى قلبه
|
|
هذى مناسكه بكل
زمان
|
والناس قد قضوا
مناسكهم وقد
|
|
حثوا ركائبهم
الى الأوطان
|
وحدت بهم همم
لهم وعزائم
|
|
نحو المنازل أول
الأزمان
|
رفعت لهم في
السير أعلام الوصا
|
|
ل فشمّروا يا
خيبة الكسلان
|
الشرح
: في هذا الفصل
والذي بعده تظهر عبقرية المؤلف وترق حواشي شعره وهو يصف عرائس الجنة وخرائدها
الحسان وصفا يزري بكل ما قيل من غزل ونسيب ، ويكثر في كلامه هنا التورية ، وهو أراد
معان بعيدة غير التي تعطيها ظواهر الألفاظ ، فهو ينادي هذا الذي يهيم في أودية
الجمال وينشد وصل ربات الحجال وبينه وبينهن حواجز يعقنه عن الوصال ، فيظل يسعى بين
صفاء يرجوه وحسرة تلوعه ، وينشد بلوغ المنى بقرب وصالها ، ولكن خوفه من العواذل
والرقباء يمنعه من قربانها ، فيظل يقاسي ألم الحرمان ، ويرى يوم الوصل منه غير دان
، فهو يطلب التمتع بمحبوبه خاليا به ، وينشد شفيعا إليه يقربه منه فيظل قلبه متقدا
بنار الغرام ، مشبوبا بلواذع الهجر والحرمان ، وهذه مناسكه على مدى
الأيام لا ينقضي
ما بقلبه من وجد وهيام ، ولكن الأكياس الفطناء من الأنام لم يتعلقوا من هذه الدنيا
بحسن زائف ولا بجمال زائل ، بل جردوا من ذلك قلوبهم ورنوا بأبصار بصائرهم إلى
الغايات البعيدة ، فحثوا إليها ركائب العزائم وامتطوا صهوات الهمم وجدّوا في بلوغ
هاتيك المنازل التي هي المنازل الأولى والأوطان الأصلية التي كانوا يسكنونها وهم
في صلب أبيهم آدم ، قبل أن يرتكب الخطيئة ويهبط الى الأرض. وقد رفعت لهم في سيرهم
أعلام الوصال فقربت منهم بعيد الآمال ، وشحذت منهم الهمم ، فلم يشعروا في سيرهم
بسأم ولا كلال على حين باء الكسلان بالخيبة والحرمان.
* * *
ورأوا على بعد
خياما مشرفا
|
|
ت مشرقات النور
والبرهان
|
فتيمموا تلك
الخيام فآنسوا
|
|
فيهن أقمارا بلا
نقصان
|
من قاصرات الطرف
لا تبغى سوى
|
|
محبوبها من سائر
الشبان
|
قصرت عليه طرفها
من حسنه
|
|
والطرف في ذا
الوجه للنسوان
|
أو أنها قصرت
عليه طرفه
|
|
من حسنها فالطرف
للذكران
|
والأول المعهود
من وضع الخطا
|
|
ب فلا تحد عن
ظاهر القرآن
|
ولربما دلت
إشارته على الث
|
|
اني فتلك إشارة
لمعان
|
هذا وليس
القاصرات كمن غدت
|
|
مقصورة فهما إذا
صنفان
|
الشرح
: وتراءت لهؤلاء
الجادين المثمرين على بعد خياما عالية قد أشرق منها النور وسطع الضياء ، فقصدوا
نحو تلك الخيام فأبصروا فيهن نساء كأنهن البدور ليلة التمام من كل قاصرة طرفها على
محبوبها فلا تتحول عنه إلى غيره من سائر الأنام قال تعالى : (فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ
يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ) [الرحمن : ٥٦]
وقال : (وَعِنْدَهُمْ
قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ) [الصافات : ٤٨ ،
٤٩] وقد اتفق المفسرون كلهم على أن معنى قاصرات الطرف أنهن حبسن أطرافهن على
أزواجهن فلا يطمحن إلى غيرهم
لحسنهم عندهن.
فالطرف هنا طرف النساء لا طرف الرجال. وقيل قصرن طرف أزواجهن عليهن ، فلا يدعهم
حسنهن وجمالهن أن ينظروا إلى غيرهن ، وهذا الوجه صحيح من جهة المعنى وأما من جهة
اللفظ فقاصرات صفة مضافة إلى الفاعل ، وأصله قاصر طرفهن ، أي ليس بطامح متعد ،
فالوجه الأول هو المألوف من وضع الخطاب وهو ظاهر الآيات الكريمة فلا يجوز أن يعدل
عنه ، وإن كان هو قد يدل بالإشارة على المعنى الثاني ، فإن قصر المرأة طرفها على
زوجها من شأنه أن يحمله على قصر طرفه عليها. هذا وقد ورد في وصفهن كذلك قوله تعالى
: (حُورٌ مَقْصُوراتٌ
فِي الْخِيامِ) [الرحمن : ٧٢]
وفرق بين القاصرات والمقصورات ، فإن شأن التي قصرت طرفها على زوجها أعظم ممن قصرها
، أي حبسها غيرها ، فهما إذا نوعان من النساء ، النوع الأول للمقربين ، لأنهن ذكرن
في وصف الجنتين الفضليين. وأما الثاني فهو لأصحاب اليمين لأنهن ذكرن في وصف
الجنتين اللتين من دون الأوليين والله أعلم.
* * *
يا مطلق الطرف
المعذب في الألى
|
|
جردن عن حسن وعن
احسان
|
لا تسبينّك صورة
من تحتها
|
|
الداء الدوي
تبوء بالخسران
|
قبحت خلائقها
وقبح فعلها
|
|
شيطانة في صورة
الإنسان
|
تنقاد للأنذال
والارذال هم
|
|
أكفاؤها من دون
ذي الإحسان
|
ما ثم من دين
ولا عقل ولا
|
|
خلق ولا خوف من
الرحمن
|
وجمالها زور
ومصنوع فان
|
|
تركته لم تطمح
لها العينان
|
طبعت على ترك
الحفاظ فما لها
|
|
بوفاء حق البعل
قط يدان
|
إن قصر الساعي
عليها ساعة
|
|
قالت وهل أوليت
من إحسان
|
أو رام تقويما
لها استعصت ولم
|
|
تقبل سوى
التعويج والنقصان
|
أفكارها في
المكر والكيد الذي
|
|
قد حار فيه فكرة
الإنسان
|
فجمالها قشر
رقيق تحته
|
|
ما شئت من عيب
ومن نقصان
|
نقد رديء فوقه
من فضة
|
|
شيء يظن به من
الأثمان
|
فالناقدون يرون
ما ذا تحته
|
|
والناس اكثرهم
من العميان
|
الشرح
: بعد أن رغب المؤلف
في عرائس الجنان اللاتي كمل حسنهن وخلائقهن أخذ يحذر من الانخداع بنساء الدنيا
اللاتي تجردن من كل مزية ، فلا حسن في الخلقة ولا إحسان في العمل ، فهو يوصي صاحب
الطرف الطموح المعذب الذي ينطلق وراء كل غانية هيفاء أن لا تخدعه صورة ظاهرة من
تختها الداء العياء فيرجع بكل خسارة وشقاء. وكيف ينخدع بامرأة قبحت منها الخلائق
فلا أمانة ولا وفاء ، ولا صبر ولا رضى ، ولا طاعة ولا تواضع ، وقبحت منها الفعال ،
بل هي شيطانة في صورة انسان ، تخضع وتنقاد لمن يهواها من الأنذال والأرذال ، لأنهم
هم أشبه بها وأقرب إلى طباعها ، دون أهل الخير والفضل فإنها لا تريدهم ولا ترغب
فيهم لعدم المشاكلة بينهم وبينها ، وهي خالية من كل ما يدفعها إلى الخير ويحجزها
عن الشر ، فلا دين ولا عقل ، ولا خلق ولا خوف من الله عزوجل. وجمالها ليس بالخلقة والطبيعة ، ولكنه جمال مزور مصنوع من
الأصباغ والألوان ، حتى أنها إذا تركت التزين والتجمل زهدت فيها العيون وخلت من كل
ما يثير الرغبة فيها ، وهي مطبوعة على الغدر ونكران العشير وعدم الحفاظ عليه
والوفاء بحقه ، حتى أنه لو أحسن إليها الدهر كله ثم رأت منه شيئا لا يعجبها ولو
مرة واحدة قالت له : ما رأيت منك خيرا قط. وهي مخلوقة من ضلع أعوج ، فإن أراد
إصلاحها وتقويمها امتنعت عليه وأبت ألا أن تظل على عوجها ونقصها. وهي لا تعمل
فكرها إلا في المكر السيئ والكيد الدنيء الذي يعيا الرجل به ، فهي كما قال تعالى :
(إِنَّ كَيْدَكُنَّ
عَظِيمٌ) [يوسف : ٢٨]
فجمالها قشرة رقيقة تحتها من العيوب والقبائح ما شاء الله ، فهو يشبه نقدا رديئا
قدموه بالفضة أو الذهب ليظن أنه منهما ، ولكن النقاد الصيارفة لا يروج عليهم هذا
البهرج ، وإن كان ينطلي على كثير من الناس.
* * *
أما جميلات
الوجوه فخائنا
|
|
ت بعولهن وهن
للأخدان
|
والحافظات الغيب
منهن التي
|
|
قد أصبحت فردا
من النسوان
|
فانظر مصارع من
يليك ومن خلا
|
|
من قبل من شيب
ومن شبان
|
وارغب بعقلك أن
تبيع العالي ال
|
|
باقي بذا الأدنى
الذي هو فان
|
إن كان قد أعياك
خود مثل ما
|
|
تبغي ولم تظفر
إلى ذا الآن
|
فاخطب من الرحمن
خودا ثم قد
|
|
م مهرها ما دمت
ذا إمكان
|
ذاك النكاح عليك
أيسر أن يكن
|
|
لك نسبة للعلم
والإيمان
|
والله لم تخرج
إلى الدنيا للذ
|
|
ة عيشها أو
للحطام الفاني
|
لكن خرجت لكي
تعد الزاد لل
|
|
أخرى فجئت بأقبح
الخسران
|
أهملت جمع الزاد
حتى فات بل
|
|
فات الذي ألهاك
عن ذا الشأن
|
والله لو أنّ
القلوب سليمة
|
|
لتقطعت أسفا من
الحرمان
|
لكنها سكرى بحب
حياتها الد
|
|
نيا وسوف تفيق
بعد زمان
|
الشرح
: أما من رزقت منهن
حظا من جمال الوجه ورشاقة القد وسحر العيون فقد غرها جمالها فراحت تبيعه في سوق
الدعارة والفتون ، فسرعان ما تقع في أحابيل المعجبين بها ، فتتخذ منهم أخدانا تبيح
لهم من نفسها ما حرم الله ، فتهدر شرفها وتخون بعلها وتغضب ربها ، وتعيش مطية
للشيطان ، والقانتات الصالحات الحافظات للغيب منهن اللاتي يرعين أزواجهن في غيبتهم
، فلا يتعرضن لأحد بفتنة ولا يأذن لأحد أن يطأ فراشهن ولا أن يدخل عليهن ، فانهن
في غاية الندرة والقلة ، وإن شئت أن تعرف مكايد هؤلاء النساء وما وقع بسببهن في
الدنيا من شر وبلاء فاعتبر بمصارع من حولك وانظر في مصائر من خلا قبلك من الشيب
والشبان والكبار والصغار.
وإذا كنت ذا عقل
سليم وإدراك كامل فكيف يليق بك أن تبيع العالي بالسافل وأن تستبدل العاجل الفاني
بالذي هو خير وابقى وأهنأ وأصفى ، إن ذلك لا يقدم عليه إلا ذو عقل مدخول وبصيرة
مغلولة وإيمان مهزول ، وإن كنت لا تزال عزبا لم تنكح النساء ولم تجد من ترغب فيها
من ذوات الجمال والعفة والدين والخلق فما عليك إلا أن تصبر عنهن بقية عمرك وأن
تيمم وجهك شطر
الخرد الغيد من
عرائس الجنان فتخطب لنفسك واحدة منهن من ربك الرحمن ثم تقدم لها مهرها من الإيمان
والتقى ما دمت ذا قدرة وإمكان. فذلك النكاح أيسر وأخف كلفة من خطبة واحدة من نساء
هذا الزمان ، ولا سيما على من له نسب بالعلم والإيمان.
وأعلم أنك لم تخرج
إلى هذه الدنيا لتتخذها دار قرار تعكف على لذاتها العاجلة وحطامها الهزيل الفاني ،
وإنما خرجت للابتلاء والامتحان لكي تكسب لنفسك زادا يؤهلك لبلوغ دار القرار ،
ولكنك بدلا من أن تشتغل بما خلقت له وقفت عند شهواتك الدنيا ، وأذهبت طيباتك في هذه
الحياة ، ولم تتخذ الزاد لآخرتك حتى فات العمر وذهبت الفرصة ، وحتى فاتك الذي
ألهاك عن الاستعداد لأخراك فو الله لو أن القلوب سليمة غير معلولة لتقطعت حسرات
على ما مر من أيام قضتها في التفريط والغفلات والجري وراء الأوهام والخيالات ،
ولكنها ثملة بحب ما ترتع فيه من شهوات وسوف تصحو من سكرتها بعد حين ، ولكن هيهات
أن ينفعها ذلك هيهات.
* * *
فصل
فاسمع صفات
عرائس الجنات ثم اخ
|
|
تر لنفسك يا أخا
العرفان
|
حور حسان قد
كملن خلائقا
|
|
ومحاسنا من أجمل
النسوان
|
حتى يحار الطرف
في الحسن الذي
|
|
قد ألبست فالطرف
كالحيران
|
ويقول لما أن
يشاهد حسنها
|
|
سبحان معطي
الحسن والإحسان
|
والطرف يشرب من
كئوس جمالها
|
|
فتراه مثل
الشارب النشوان
|
كملت خلائقها
وأكمل حسنها
|
|
كالبدر ليل الست
بعد ثمان
|
والشمس تجري في
محاسن وجهها
|
|
والليل تحت
ذوائب الأغصان
|
فتراه يعجب وهو
موضع ذاك من
|
|
ليل وشمس كيف
يجتمعان
|
فيقول سبحان
الذي ذا صنعه
|
|
سبحان متقن صنعة
الإنسان
|
لا الليل يدرك
شمسها فتغيب عن
|
|
د مجيئه حتى
الصباح الثاني
|
والشمس لا تأتي
بطرد الليل بل
|
|
يتصاحبان كلاهما
أخوان
|
الشرح
: فإن كنت لا تزال مفتونا
بما هاهنا من جمال ، مأخوذا بسحر عيون ربات الحجال ، فاسمع ما سأقصه عليك من صفات
عرائس الجنان وما بلغنه من كمال في باب الحسن والإحسان ، ثم اختر لنفسك ما يحلو
منهن أو من هؤلاء النسوان ، فهن حور حسان قد عملت خلائقهن ، فلا يرى من عيب ولا
نقصان ، وكملت محاسنهن حتى ليحار الطرف فيهن من رقة الجلد وصفاء الالوان ، وحتى
ليرى مخ سوقهن من وراء ثيابهن ويرى الناظر وجهه في كبد احداهن ، كما ترى الصور في
المرآة ، ولا تسل عن جمال العيون ، ففيها كل السحر والفتون ، قد زانها الحور فاشتد
بياض بياضها واشتد سواد سوادها ، والتأم كل منهما بالآخر وتناسبا حتى أصبحا يشعان
الفتنة. وبالجملة ففيهن كل ما شئت من شباب وجمال وحسن ودلال ، حتى يقول صاحبها حين
يشاهدها وهو مشدوه حائر الطرف : سبحان من كملك جسما ومعنى وأعطاك هذا الحسن
والإحسان ، ويظل طرفه يشرب من كئوس جمالها ويعبّ من معين فتنتها وسحرها ، حتى يصير
ثملا نشوان في مثل الشارب السكران. كملت خلائقها ، فلا يصدر عنها إلا كل جميل من
عفة وشرف وطاعة للزوج وتحبب إليه وقصر للطرف عليه ، ومناجاته بأحب الكلام إليه ،
لا يبدر منها إليه ما يسوؤه ولا يرى منها ما يكرهه ، ولا يقع منها دائما إلى على كل
ما يزيده حبا فيها وانجذابا إليها ، والله سبحانه قد جمع فيها بين الليل والنهار ،
فالشمس تجري في محاسن وجهها ، والليل تحت ذوائب شعرها الفاحم الجميل ، فاعجب لشمس
وليل كيف يجتمعان ، وقل سبحان من هذا صنعه ، سبحان متقن صنعة الإنسان. ومن عجب أن
الشمس والليل باقيان فيها لا يستطيع كل منهما أن ينسخ الآخر ، فلا الليل بمدرك
شمسها فتغيب عند إقباله ، ولا شمسها تأتي بطرد الليل وإدباره ، بل هما فيها
متلازمان كأنهما أخوان.
روى أبو سعيد
الخدري عن النبي صلىاللهعليهوسلم في تفسير قوله تعالى : (كَأَنَّهُنَّ
الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ) [الرحمن : ٥٨] قال
: (ينظر إلى وجهه في خدها أصفى من المرآة ، وأن أدنى لؤلؤة عليها لتضيء ما بين
المشرق والمغرب ، وأنه ليكون عليها سبعون ثوبا ينفذها بصره حتى يرى مخ ساقها من
وراء ذلك).
وروى سعيد بن جبير
عن ابن عباس قال : (لو أن حوراء أخرجت كفها بين السماء والأرض لافتتن الخلائق
بحسنها ، ولو أخرجت نصيفها لكانت الشمس عند حسنها مثل الفتيلة في الشمس لا ضوء لها
، ولو أخرجت وجهها لأضاء حسنها ما بين السماء والأرض).
* * *
وكلاهما مرآة
صاحبه اذا
|
|
ما شاء يبصر
وجهه يريان
|
فيرى محاسن وجهه
في وجهها
|
|
وترى محاسنها به
بعيان
|
حمر الخدود
ثغورهن لآلئ
|
|
سود العيون
فواتر الأجفان
|
والبرق يبدو حين
يبسم ثغرها
|
|
فيضيء سقف القصر
بالجدران
|
ولقد روينا أن
برقا ساطعا
|
|
يبدو فيسأل عنه
من بجنان
|
فيقال هذا ضوء
ثغر ضاحك
|
|
في الجنة العليا
كما تريان
|
لله لاثم ذلك
الثغر الذي
|
|
في لثمه إدراك
كل أمان
|
ريانة الأعطاف
من ماء الشبا
|
|
ب فغصنها بالماء
ذو جريان
|
لما جرى ماء
النعيم بغصنها
|
|
حمل الثمار
كثيرة الألوان
|
فالورد والتفاح
والرمان في
|
|
غصن تعالى غارس
البستان
|
الشرح
: يعني أن كلا من
الرجل وزوجته في الجنة يكون مرآة لصاحبه إذا ما شاء أن يرى وجهه فيه رآه ، فهو يرى
محاسن وجهه في وجهها وهي كذلك ترى محاسنها في وجهه وهي حمر الخدود ، فخدودهن أصفى
من لون الورود وثغورهن حين يبسمن كأنهن لؤلؤ منضود ، وعند ما يفتر ثغرها عن
ابتسامة حلوة يسطع منها البرق فيضيء جوانب القصر وسقفه. ولقد روى أن أهل الجنة
يشيمون برقا
ساطعا فيسألون عنه
فيقال لهم : هذا ضوء انبعث من ثغر حوراء ضحكت لزوجها في أعلى الجنان ، فطوبى للاثم
ذلك الثغر ومقبله ، ففي تقبيله تحقيق كل المنى. روى علقمة عن عبد الله بن مسعود عن
النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «سطع نور في الجنة فرفعوا أبصارهم فإذا هو من ثغر
حوراء ضحكت في وجه زوجها».
وهي أيضا طرية
الجسم بضّته ، تكاد تتفجر شبابا وصحة وامتلاء ، يجري ماء الشباب في جسمها الممشوق
فيزيده لينا وطراوة وحسنا ، فهي بيضاء باكرها النعيم وجرى ماؤه في غصنها الناعم
الرخيم ، فحمل من كل الثمار ففيه ما شئت من ورد على الخدود وتفاح على الجبين ورمان
في الصدور ، فتعالى الله غارس ذلك البستان الذي أودعه من كل ما تشتهيه النفس وتلذه
العينان.
* * *
والقد منها
كالقضيب اللدن في
|
|
حسن القوام
كأوسط القضبان
|
في مغرس كالعاج
تحسب انه
|
|
عالي النقا أو
واحد الكثبان
|
لا الظهر يلحقها
وليس ثديها
|
|
بلواحق للبطن أو
بدوان
|
لكنهن كواعب
ونواهد
|
|
فثديهن كألطف
الرمان
|
والجيد ذو طول
وحسن في بيا
|
|
ض واعتدال ليس
ذا نكران
|
يشكو الحليّ
بعاده فله مدى ال
|
|
أيام وسواس من
الهجران
|
والمعصمان فان
تشأ شبههما
|
|
بسبيكتين عليهما
كفان
|
كالزبد لينا في
نعومة ملمس
|
|
أصداف در دورت
بوزان
|
والصدر متسع على
بطن لها
|
|
حفت به خصران
ذات ثمان
|
وعليه أحسن سرة
هي مجمع ال
|
|
خصرين قد غارت
من الأعكان
|
حق من العاج
استدار وحوله
|
|
حبات مسك جل ذو
الاتقان
|
الشرح
: وأما قدها فكالغصن
الرطيب في حسن القوام واعتداله ، فلم يشنه قصر ولا طول ، وهذا القد الممشوق
والقوام المعتدل قد قام على عجيزة بيضاء كالعاج ثقيلة ممتلئة كأنها كثيب من الرمل
، فليس الظهر بلاحق لها ، بل هي
متميزة منفصلة عنه
، وكذلك ثدياها قد بعدا عن بطنها فليسا بلا صقين فيه ولا بقريبين منه بل نساء
الجنة كلهن كواعب ونواهد ، قد كعبت أثداؤهن ونهدت ، أي تمت استدارتها وبرزت
وارتفعت ، فصارت كفحول الرومان الجيدة.
وأما أعناقهن فذو
طول وجمال في بياض واعتدال ، فهن مثل كئوس الفضة حتى أن الحلى وهو على الصدر يشكو
من بعد جيدها ، فهو دائما من هذا الهجر في هم وقلق.
وأما المعصمان فإن
شئت فشبههما بسبيكتين اتخذنا من خالص الفضة قد ركب فيهما كفان ألين من الزبد مجسا
، وأنعم من الحرير ملمسا ، فكأنهما أصداف در قد دور على قدره.
وأما الصدر فرحيب
متسع فوق بطنها يحف به من الجانبين خصران دقيقان يشكلان حرف الثماني ، وعلى البطن
سرة هي أجمل السرر يلتقي عندها الخصران ، وهذه السرة في بياضها واستدارتها وشدة
غورها تشبه حقا من العاج مستديرا ، وحوله حبات مسك أسود فجل ربنا الذي خلقها على
هذه الصورة من الإبداع والإتقان.
* * *
وإذا انحدرت
رأيت امرا هائلا
|
|
ما للصفات عليه
من سلطان
|
لا الحيض يغشاه
ولا بول ولا
|
|
شيء من الآفات
في النسوان
|
فخذان قد جفا به
حرسا له
|
|
فجنابه في عزة
وصيان
|
قاما بخدمته هو
السلطان بي
|
|
نهما وحق طاعة
السلطان
|
وهو المطاع
أميره لا ينثني
|
|
عنه ولا هو عنده
بجبان
|
وجماعها فهو
الشفاء لصبها
|
|
فالصبّ منه ليس
بالضجران
|
وإذا يجامعها
تعود كما أتت
|
|
بكرا بغير دم
ولا نقصان
|
فهو الشهي وعضوه
لا ينثنى
|
|
جاء الحديث بذا
بلا نكران
|
ولقد روينا أن
شغلهم الذي
|
|
قد جاء في يس
دون بيان
|
شغل العروس
بعرسه من بعد ما
|
|
عبثت به الأشواق
طول زمان
|
بالله لا تسأله
عن أشغاله
|
|
تلك الليالي
شأنه ذو شان
|
واضرب لهم مثلا
بصب غاب عن
|
|
محبوبه في شاسع
البلدان
|
والشوق يزعجه
إليه وما له
|
|
بلقائه سبب من
الإمكان
|
وافى إليه بعد
طول مغيبه
|
|
عنه وصار الوصل
ذا امكان
|
أتلومه ان صار
ذا شغل به
|
|
لا والذي أعطى
بلا حسبان
|
يا رب غفرا قد
طغت اقلامنا
|
|
يا رب معذرة من
الطغيان
|
الشرح
: وإذا نزلت قليلا
عن السرة رأيت أمرا عظيما لا يقادر قدره ولا يستباح وصفه ، رأيت فرجا محصنا طاهرا
من كل قذر فلا يعتريه حيض ولا يخرج منه بول ولا شيء من الآفات التي تصيب نساء
الدنيا.
وتراه وقد حف به
من الجانبين فخذان مهولان كأنهما له جندان حارسان فحرمه لا يستباح لإنسان غير
صاحبه ، بل هو في حماية وصيان ، وهذان الفخذان يقومان بخدمته لأنه أمير عليهما ومن
الواجب طاعة السلطان.
وأما جماعها فهو
الراحة الكبرى واللذة العظمى لعاشقها الولهان اختص بها واختصت به من دون الرجال
والنسوان ، وهو لا يمل أبدا جماعها ولا يكسل عنه بل كلما نزل عنها تجدد له نشاطه
كما كان ، فهو يشتهيها دائما وعضوه لا يعتريه انثناء ولا غيضان ، ورد الحديث بهذا
ولكن فيه نكران. فقد روى خالد بن يزيد بن أبي مالك عن أبيه عن خالد بن معدان عن
أبي أمامة عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «ما من عبد يدخل الجنة الا ويزوج ثنتين وسبعين زوجة
، ثنتان من الحور العين وسبعون من أهل ميراثه من أهل الدنيا ، ليس منهن امرأة إلا
ولها قبل شهي وله ذكر لا ينثني».
فخالد بن يزيد هذا
هو الدمشقي ابن عبد الرحمن قد وهاه ابن معين وقال احمد ليس بشيء ، وقال النسائي
غير ثقة ، وقال الدار قطني ضعيف ، وذكر ابن عدى هذا الحديث في معرض النكران.
ولكن ورد في
الصحيح ما يشهد له ، فقد روى الترمذي في جامعه من حديث قتادة عن أنس عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «يعطى المؤمن في الجنة قوة كذا وكذا من الجماع ، قيل
يا رسول الله أو يطيق ذلك؟ قال : يعطى قوة مائة» وقد ورد في تفسير قوله تعالى : (إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ
فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ
مُتَّكِؤُنَ) [يس : ٥٥ ، ٥٦] إن
ذلك الشغل هو اشتغال كل منهم بعرسه وافضاؤه إليها بعد ما قاسى من الحرمان ، فقد
روى سليمان التيمي عن أبي مجلز : قلت لابن عباس عن قول الله تعالى : (إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ
فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ) ما شغلهم؟ قال افتضاض الأبكار. وقال مقاتل : (شغلوا
بافتضاض العذارى عن أهل النار فلا يذكرونهم ولا يهتمون بهم) ولا ينكر على أهل
الجنة شغلهم بأزواجهم وقد تمكنوا من وصالهم بعد طول الغيبة ، فإن العاشق الصب من
أهل الدنيا إذا غاب عن محبوبه في بلاد بعيدة وأصبح يكابد لواعج الفراق ويتجرع
مرارة الأشواق وينتظر بفارغ الصبر يوم التلاق ، ثم آب إليه ووافاه بعد هذا الغياب
الطويل ، وصار وصاله في الإمكان بعد ما كان أشبه بالمستحيل ، فمن ذا يلومه إذا
أقبل على محبوبه يطفئ نار أشواقه بالعناق والتقبيل ويقضي منه أوطاره وحاجاته ، ما
على المحب المدنف من سبيل.
ولقد استشعر
المؤلف رحمهالله أن قلمه قد جرى به أشواطا بعيدة في التصريح بما لا يحسن
التصريح به فاستغفر الله من جماح قلمه واعتذر إليه مما جاوز فيه حده.
* * *
فصل
أقدامها من فضة
قد ركبت
|
|
من فوقها ساقان
ملتفان
|
والساق مثل
العاج ملموم يرى
|
|
مخ العظام وراءه
بعيان
|
والريح مسك
والجسوم نواعم
|
|
واللون كالياقوت
والمرجان
|
وكلاهما يسبى
العقول بنغمة
|
|
زادت على
الأوتار والعيدان
|
وهي العروب
بشكلها وبدرها
|
|
وتحبب للزوج كل
أوان
|
وهي التي عند
الجماع تزيد في
|
|
حركاتها للعين
والأذنان
|
لطفا وحسن تبعل
وتغنج
|
|
وتحبب تفسير ذي
العرفان
|
تلك الحلاوة
والملاحة أوجبا
|
|
اطلاق هذا اللفظ
وضع لسان
|
فملاحة التصوير
قبل غناجها
|
|
هي أول وهي
المحل الثاني
|
فإذا هما اجتمعا
لصب وامق
|
|
بلغت به اللذات
كل مكان
|
الشرح
: يعني أن قدمي هذه
الحوراء كالفضة في بياضها ، وقد ركب من فوقها ساقان في غاية البياض والصفاء
والالتفات ، فهي أجمل السوق ، وقد بلغ من صفائها أن مخ عظامها يرى من وراء الثياب
واللحوم.
وأما ريحها فنوافج
المسك يفوح أريجه من فمها وثيابها حتى يتضوع به المكان من حولها وأما جسمها فأشد
نعومة من الحرير لا يرى به آثار خشونة ولا تشقق ولا يبوسة وأما اللون فهو كما قال
الله تعالى : (كَأَنَّهُنَّ
الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ) [الرحمن : ٥٨]
والمراد كما قال الحسن وغيره صفاء الياقوت في بياض المرجان ، شبههن في صفاء اللون
وبياضه بالياقوت والمرجان.
وأما كلامها فيسلب
اللب بحسن أنغامه وجمال تطريبه الذي يفوق كل لحن تنطق به آلات الغناء ، وهي عروب
بشكلها ، فهي أحسن شيء صورة وبحسن عشرتها ، فهي دائما متحببة إلى زوجها مطيعة له ،
وبحسن مواقعتها وملاطفتها لزوجها عند الجماع ، حيث تزيد في حركات عينها وآذانها ،
وبالجملة فهي جامعة لكل صفات العروب من اللطف والرقة وحسن التبعل للزوج والتغنج له
والتحبب إليه فكمال لذة الرجل بها بأمرين : أولهما ملاحة صورتها والثاني غناجها
وحسن مودتها فإذا هما اجتمعا للعاشق الولهان بلغ من اللذة أرفع مكان.
* * *
فصل
أتراب سن واحد
متماثل
|
|
سن الشباب لأجمل
الشبان
|
بكر فلم يأخذ
بكارتها سوى ال
|
|
محبوب من انس
ولا من جان
|
حصن عليه حارس
من أعظم ال
|
|
حرّاس بأسا شأنه
ذو شان
|
فاذا أحس بداخل
للحصن ول
|
|
ى هاربا فتراه
ذا امعان
|
ويعود وهنا حين
رب الحصن يخ
|
|
رج منه فهو كذا
مدى الأزمان
|
وكذا رواه أبو
هريرة أنها
|
|
تنصاغ بكرا
للجماع الثاني
|
لكن دراجا أبا
السمح الذي
|
|
فيه يضعفه أولو
الإتقان
|
هذا وبعضهم يصحح
عنه في الت
|
|
فسير كالمولود
من حبان
|
فحديثه دون
الصحيح وأنه
|
|
فوق الضعيف وليس
ذا اتقان
|
الشرح
: يعني أن نساء
الجنة أتراب أسنانهن متماثلة ، وهي سن الشباب والغضارة ، كما قال : (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً
فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً عُرُباً أَتْراباً لِأَصْحابِ الْيَمِينِ) [الواقعة : ٣٥ ،
٣٨].
قال ابن عباس وسائر
المفسرين : أي مستويات على سن واحد وميلاد واحد ، بنات ثلاث وثلاثين سنة ، والمراد
من الأخبار باستواء أسنانهن أنهن ليس فيهن عجائز فات حسنهن ولا ولائد لا يطقن
الوطء ، بخلاف الذكور فإن فيهم الغلمان وهم الخدم لأهل الجنة.
ونساء الجنة كلهن
أبكار ، حتى من كانت منهن ثيبا في الدنيا ، فإن الله يخلقها خلقا جديدا كما قال : (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً
فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً) وكل منهن لا يفتض بكارتها إلا محبوبها الذي اختصه الله بها
، كما قال تعالى : (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ
إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ) [الرحمن : ٥٦].
ففرجها حصن منيع
يقف عليه حارس ذو بأس شديد ، وهو تلك البكارة ، فلا يستطيع اقتحام هذا الحصن غير
من أعد هو له ، فإذا أحس هذا الحارس بداخل للحصن غار بالداخل وأمعن في الهروب ،
فإذا قضى الرجل حاجته ونزع
عاد الحارس مكانه
، ويظل هذا شأنه مدى الأيام.
وقد جاء هذا في
حديث رواه أبو هريرة عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : يا رسول الله أنطأ في الجنة؟ قال : «نعم والذي
نفسي بيده دحما دحما ، فإذا قام عنها رجعت مطهرة بكرا» لكن الحديث فيه دراج أبو
السمح ، وقد ضعفه أئمة الجرح والتعديل ، ومنهم من يصحح أحاديثه في التفسير كابن
حبان ، ولكن الحق أن أحاديثه دون الصحيح وفوق الضعيف ، فهي خالية من الإتقان وقد
روى الطبراني أيضا من حديث أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن أهل الجنة إذا جامعوا نساءهم عدن أبكارا» وهو ضعيف
أيضا.
* * *
يعطى المجامع
قوة المائة التي اج
|
|
تمعت لأقوى واحد
الإنسان
|
لا أن قوته
تضاعف هكذا
|
|
اذ قد يكون
لأضعف الأركان
|
ويكون أقوى منه
ذا نقص من ال
|
|
إيمان والأعمال
والإحسان
|
ولقد روينا أنه
يغشى بيو
|
|
م واحد مائة من
النسوان
|
ورجاله شرط
الصحيح رووا لهم
|
|
فيه وذا في معجم
الطبراني
|
هذا دليل أن قدر
نسائهم
|
|
متفاوت بتفاوت
الإيمان
|
وبه يزول توهم
الأشكال عن
|
|
تلك النصوص بمنة
الرحمن
|
وبقوة المائة
التي حصلت له
|
|
أفضى إلى مائة
بلا خوران
|
وأعفهم في هذه
الدنيا هو ال
|
|
أقوى هناك لزهده
في الفاني
|
فاجمع قواك لما
هناك وغمض ال
|
|
عينين واصبر
ساعة لزمان
|
ما هاهنا والله
ما يسوى قلا
|
|
مة ظفر واحدة
ترى بجنان
|
ما هاهنا الا
النقار وسيّئ ال
|
|
أخلاق مع عيب
ومع نقصان
|
هم وغم دائم لا
ينتهي
|
|
حتى الطلاق أو
الفراق الثاني
|
والله قد جعل
النساء عوانيا
|
|
شرعا فأضحى
البعل وهو العاني
|
لا تؤثر الأدنى
على الأعلى فان
|
|
تفعل رجعت بذلة
وهوان
|
الشرح
: يعني أن الرجل من
أهل الجنة يعطى قوة مائة من أقوى أهل الدنيا في الجماع ، وليس المراد أن قوته هو
تضاعف مائة ضعف ، إذ يكون هو ضعيف البنية في الدنيا ، ويكون هناك من هو أقوى منه
ولكنه أنقص منه في الأعمال والإيمان والإحسان ، فيلزم أن يكون الأدنى أقدر على
الجماع من الأعلى. ولقد روى الطبراني في معجمه من حديث محمد بن سيرين عن أبي هريرة
قال : «قيل يا رسول الله هل نصل إلى نسائنا في الجنة؟ فقال : إن الرجل ليصل في اليوم
إلى مائة عذراء» قال محمد بن عبد الواحد المقدسي : ورجال هذا الحديث عندي على شرط
الصحيح.
وقد حصل هنا اشكال
، وهو أنه لم يرد في الأحاديث الصحيحة زيادة على زوجتين لكل واحد ، فلو صح حديث
الطبراني لتعين الجمع بينه وبين ما في هذه الأحاديث بأن يقال أن أهل الجنة
متفاوتون في عدد نسائهم بتفاوت درجاتهم ، وبهذا يندفع الأشكال بفضل الله ومنته.
ويستطيع رجل الجنة
بقوة المائة التي حصلت له أن يفضي إلى مائة امرأة بلا ضعف ولا فتور. وأقوى أهل
الجنة وأقدرهم على الجماع هو أعفهم في هذه الدنيا لزهده في هذا المتاع الحقير
والحطام الفاني.
فإذا أردت أن تحظى
بتلك المزية فما عليك إلا أن تستعد لما هنالك بحفظ فرجك وغض بصرك وصبرك على مرارة
الحرمان ، وهذا أمر جدير بالعاقل أن لا يقصر فيه إذا عرف مقدار التفاوت بين ما هنا
وبين ما هناك ، فإن ما هنا من أجمل نساء الدنيا ، لا يعدل ولا قلامة ظفر واحدة من
الحور العين. وما ذا هاهنا إلا العراك والشجار وسوء الخلق وفحش الكلام ، مع ما
فيهن من النقائص والعيوب ، فالرجل معها في غم دائم وهم لازب لا ينتهي إلا بالطلاق
أو الموت. ومن العجيب أن الحال قد تبدل وأصبح الرجال الذين جعلهم الله قوامين على
النساء خاضعين لسلطان النساء ، فالله قد جعل النساء عوانيا في أيدي الرجال ، كما
قال صلىاللهعليهوسلم في خطبته في حجة الوداع : «ألا فاستوصوا بالنساء خيرا
فإنهن عوان
في أيديكم ليس
تملكون منهن شيئا غير ذلك» فأصبح الرجال الآن هم العوانى في أيدي النساء ، فلا
تفضل أيها العاقل الناصح لنفسه هذا الأدنى الخسيس على الأعلى النفيس فتبوأ بكل
خيبة وخسران.
ورحم الله المؤلف
، فهذا كلامه في نساء زمانه وما بلغن من قحة وسوء أدب وتسلط على الرجال ، فما ذا
عسى أن يقول لو بعث فينا الآن ورأى نساءنا يخرجن كاسيات عاريات مائلات مميلات ،
يجبن الشوارع ويملأن الطرقات ويغشين دور السينما والمتنزهات ، ويزاحمن الرجال
بالمناكب في وظائف الحكومة وفي أعمال المصانع والشركات ، إذا الحمد لله عزوجل على أن تقدم به الزمان ولم يشهد هذا العصر المنكود الذي
انقلبت فيه كل الأوضاع واختلت كل القيم وأصبح فيه المعروف منكرا والمنكر معروفا.
فاللهم لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان وبك المستغاث وعليك التكلان ولا حول
ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
* * *
فصل
وإذا بدت في حلة
من لبسها
|
|
وتمايلت كتمايل
النشوان
|
تهتز كالغصن
الرطيب وحمله
|
|
ورد وتفاح على
رمان
|
وتبخترت في مشيها
ويحق ذا
|
|
ك لمثلها في جنة
الحيوان
|
ووصائف من خلفها
وأمامها
|
|
وعلى شمائلها
وعن ايمان
|
كالبدر ليلة تمه
قد حف في
|
|
غسق الدجى
بكواكب الميزان
|
فلسانه وفؤاده
والطرف في
|
|
دهش وإعجاب وفي
سبحان
|
فالقلب قبل
زفافها في عرسه
|
|
والعرش أثر العرس
متصلان
|
حتى إذا ما
واجهته تقابلا
|
|
أرأيت إذ يتقابل
القمران
|
فسل المتيم هل
يحل الصبر عن
|
|
ضم وتقبيل وعن
فلتان
|
وسل المتيم اين
خلف صبره
|
|
في أي واد أم
بأي مكان
|
وسل المتيم كيف
حالته وقد
|
|
ملئت له الأذنان
والعينان
|
من منطق رقت
حواشيه ووج
|
|
ه كم به للشمس
من جريان
|
وسل المتيم كيف
عيشته إذا
|
|
وهما على
فرشيهما خلوان
|
يتساقطان لآلئا
منثورة
|
|
من بين منظوم
كنظم جمان
|
وسل المتيم كيف
مجلسه مع ال
|
|
محبوب في روح
وفي ريحان
|
وتدور كاسات
الرحيق عليهما
|
|
بأكف أقمار من الولدان
|
يتنازعان الكأس
هذا مرة
|
|
والخود أخرى ثم
يتكئان
|
فيضمها وتضمه أرأيت
مع
|
|
شوقين بعد البعد
يلتقيان
|
الشرح
: في هذه الأبيات
يتخيل المؤلف حوراء الجنان وقد برزت في أبهى حللها ، وأخذت تختال في مشيتها وتتثنى
بقدها الممشوق كما يتثنى العود الطري ، وقد حملت من ورد الخدود ورمان النهود ،
ويحق لها أن تمشي تياهة بحسنها مزهوة بجمالها ، وهي في جنة الحيوان حولها كل ما
يسر ويبهج ، وخوادمها يحطن بها من كل جانب وهي وسطهن كأنها البدر ليلة تمامه ، قد
أحيط في ظلمة الليل بالنجوم المتلألئة. هنا تملك محبوبها الدهشة ويأخذه العجب من
أقطاره ، فلسانه وقلبه وعينه كل ذلك في غاية الدهش والإعجاب ، والتسبيح لله الكريم
الوهاب ، ولقد كان القلب منه قبل زفافها إليه في أعراس متصلة وأفراح مستمرة ، حتى
إذا ما تقابلا وجها لوجه كما يتقابل القمران ، فسله وهو العاشق الولهان هل يملك الصبر
حينئذ عن عناق وتقبيل وإسراع إلى المحبوب في لهفة وشوق ، بل سله أين خلف صبره وفي
أي مكان تركه.
ثم سله كيف هو وقد
امتلأت من الفتون والسحر الحلال عيناه وأذناه حين يسمع منطقها الرخيم وأنغامها
الحلوة التي تزري بأجمل الألحان ، وحين توجه إليه ألفاظها العذاب وتبثه أشواقها
وحبها ، وحين يرى وجهها المضيء كأن الشمس تجري في صفحته.
ثم سله كيف عيشته
الهانئة الراضية وقد اتكأ هو وعروسه على فرشيهما
منفردين يتناجيان
بأعذب الألحان وينثران الدر من أفواههما كأنه عقود جمان.
ثم سله كيف مجلسه
مع محبوبه تحمل إليهما النسائم الندية عبير الروض وشذاه ، تدور عليهما كئوس الرحيق
المختوم على أيدي غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون ، فيتنازعان الكأس يرشفها هو مرة
وترشفها خوده مرة ، ثم يتكئان على الأسرة فيتضامان ويتلاصقان فما ظنك بمحبوبين بعد
البين يتلاقيان.
* * *
غاب الرقيب وغاب
كل منكد
|
|
وهما بثوب الوصل
مشتملان
|
أتراهما ضجرين
من ذا العيش لا
|
|
وحياة ربك ما
هما ضجران
|
ويزيد كل منهما
حبا لصا
|
|
حبه جديدا سائر
الأزمان
|
ووصاله يكسوه
حبا بعده
|
|
متسلسلا لا
ينتهي بزمان
|
فالوصل محفوف
بحب سابق
|
|
وبلاحق وكلاهما
صنوان
|
فرق لطيف بين
ذاك وبين ذا
|
|
يدريه ذو شغل
بهذا الشأن
|
ومزيدهم في كل
وقت حاصل
|
|
سبحان ذي
الملكوت والسلطان
|
يا غافلا عما
خلقت له انتبه
|
|
جد الرحيل فلست
باليقظان
|
سار الرفاق
وخلفوك مع الألى
|
|
قنعوا بذا الحظ
الخسيس الفاني
|
ورأيت أكثر من
ترى متخلفا
|
|
فتبعتهم ورضيت
بالحرمان
|
لكن أتيت بخطتي
عجز وجه
|
|
ل بعد ذا وصحبت
كل أمان
|
منتك نفسك
باللحاق مع القعو
|
|
د عن المسير
وراحة الأبدان
|
ولسوف تعلم حين
ينكشف الغطا
|
|
ما ذا صنعت وكنت
ذا امكان
|
الشرح
: وغاب عنهما العاذل
والرقيب وخلا وصالهما من كل تنكيد ، وقد لفهما ثوب الوصال وصفا لهما العيش وطاب ،
فهل تحسبهما يملان هذا العيش أو يسأمانه؟ لا وحياة ربك لا يصيبهما منه ضجر ولا ملل
، بل يزيد كل منهما حبا لصاحبه ، حبا متجددا على الدوام لا يفتر ولا ينقطع ، فكلما
حظى منها بوصال هفا قلبه الى وصال جديد ، ويظل هكذا ، فوصاله محفوف بحبين : حب
سابق
وحب لاحق ، وهما
صنوان متشابهان الا أن بينهما فرقا لطيفا يعرفه كل من له خبرة بهذا الشأن ، فإن
الحب السابق حب اللهفة والشوق ، والحب اللاحق هو حب أعقبه الوصال من النشوة
والذكريات الحلوة. ويحصل لهم في كل وقت مزيد من الشوق والرغبة ، ومن السرور
والبهجة ، فلا يفنى ما هم فيه ولا يبيد ، بل هو دائما في استمرار وتجديد. فيا أيها
الغر الأحمق السادر في غيه الغافل عما خلق من أجله من هذه الحياة الناعمة في جوار
المليك المقتدر ، انتبه من غفلتك وانفض عنك ثوب الكسل ورداء الخمول ، فقد جد الرحيل
وشد القوم ركائبهم وأنت لا تزال تتمطى وتتثاءب ، وقد سار الرفاق وأدلجوا ، يحدوهم
الشوق إلى ديار الحبيب وتركوك مع المخلفين الذين رضوا بالقعود ، وقنعوا بهذا العرض
الحقير. ورأيت أكثر الناس قد أخلدوا إلى الأرض ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها
وتخلفوا عن الركب السائر إلى الله ، فتبعتهم في تخلفهم ورضيت لنفسك ما رضوا
لأنفسهم من الخيبة والحرمان ، وسلكت أشنع خطتين يمكن أن يسلكهما إنسان ، وهما خطتا
العجر والجهل ، فبئس الخطتان ، ومع ذلك تمنّيك نفسك باللحاق مع هذا القعود والتخلف
عن السباق ، ومع إيثار الراحة والسلامة على مشقة السعي والانطلاق ، ولسوف تعلم
عاقبة تخلفك حين ينكشف لك الغطاء وتعض بنان الندم على ما ضيعت من فرص كنت عندها ذا
قدرة وإمكان.
* * *
فصل
في ذكر الخلاف بين الناس هل تحبل نساء أهل الجنة أم لا
والناس بينهم
خلاف هل بها
|
|
حبل وفي هذا لهم
قولان
|
فنفاه طاوس
وابراهيم ثم
|
|
مجاهد هم أولو
العرفان
|
وروى العقيلي
الصدوق أبو رزي
|
|
ن صاحب المبعوث
بالقرآن
|
أن لا توالد في
الجنان رواه تع
|
|
ليقا محمد عظيم
الشأن
|
وحكاه عنه
الترمذي وقال اس
|
|
حاق بن ابراهيم
ذو الإتقان
|
لا يشتهي ولدا
بها ولو اشتهى
|
|
ه لكان ذاك محقق
الامكان
|
وروى هشام لابنه
عن عامر
|
|
عن ناجي عن سعد
بن سنان
|
ان المنعم
بالجنان إذا اشتهى ال
|
|
ولد الذي هو
نسخة الإنسان
|
فالحمل ثم الوضع
ثم السن في
|
|
فرد من الساعات
في الأزمان
|
اسناده عندي
صحيح قد روا
|
|
ه الترمذي وأحمد
الشيباني
|
ورجال ذا
الإسناد محتج بهم
|
|
في مسلم وهم
أولو اتقان
|
لكن غريب ما له
من شاهد
|
|
فرد بذا الاسناد
ليس بثان
|
لو لا حديث أبي
رزين كان ذا
|
|
كالنص يقرب منه
في التبيان
|
ولذاك أوله ابن
ابراهيم بال
|
|
شرط الذي هو
منتفى الوجدان
|
وبذاك رام الجمع
بين حديثه
|
|
وأبي رزين وهو
ذو إمكان
|
هذا وفي تأويله
نظر ف
|
|
ان اذا لتحقيق
وذي اتقان
|
ولربما جاءت
لغير تحقق
|
|
والعكس في أن
ذاك وضع لسان
|
الشرح
: يعني أن العلماء
قد اختلفوا هل سيكون بالجنة حمل وولادة أم لا ، فنفاه طاوس وابراهيم النخعي ومجاهد
من أئمة العلم والحديث. وروى أبو رزين العقيلي : الصحابي المشهور عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «ان أهل الجنة لا يكون لهم فيها ولد» رواه عنه
البخاري تعليقا ، وحكى عنه الترمذي ، وقال اسحاق بن ابراهيم في قوله صلىاللهعليهوسلم : «إذا اشتهى المؤمن الولد في الجنة كان في ساعة كما يشتهي»
أن ذلك على سبيل الفرض والتقدير ، فإن اشتهاء الولد في الجنة غير ممكن.
وقد روى أبو نعيم
من حديث سفيان الثوري عن أبان عن أبي الصديق الناجي عن أبي سعيد الخدري قال : (قيل
يا رسول الله أيولد لأهل الجنة؟ فإن الولد من تمام السرور ، فقال : «نعم والذي
نفسي بيده وما هو إلا كقدر ما يتمنى أحدكم فيكون حمله ورضاعه وشبابه».
قال المؤلف : (إسناد
حديث أبي سعيد على شرط الصحيح فرجاله محتج بهم
فيه ولكنه غريب
جدا ، وتأويل إسحاق فيه نظر فإنه قال : «إذا اشتهى المؤمن الولد» وإذا للمتحقق
الوقوع ، ولو أريد ما ذكر من المعنى لقال : «لو اشتهى المؤمن الولد لكان حمله في
ساعة» فإن ما لا يكون أحق بأداة (لو) كما أن المتحقق الوقوع أحق بأداة إذا) أه.
وأقول أن هذا غير
لازم ، فإن أدوات الشرط قد تتعاور ، وهذه قاعدة أغلبية وليست مطردة ، والأخذ
بتأويل إسحاق متعين إذا فرض أن كلا من حديث أبي رزين وحديث أبي سعيد صحيح ، فإن
حديث أبي رزين نفي الولادة صريحا وحديث أبي سعيد علقها بشرط الاشتهاء ، وقد يكون
الاشتهاء غير واقع والله أعلم.
* * *
واحتج من نصر
الولادة أن في الج
|
|
نات سائر شهوة
الإنسان
|
والله قد جعل البنين
مع النسا
|
|
من أعظم الشهوات
في القرآن
|
فأجيب عنه بأنه
لا يشتهي
|
|
ولدا ولا حبلا
من النسوان
|
واحتج من منع
الولادة أنها
|
|
ملزومة أمرين
ممتنعان
|
حيض وإنزال
المنى وذانك ال
|
|
أمران في الجنات
مفقودان
|
وروى صدى عن
رسول الله
|
|
أن منيهم إذ ذاك
ذو فقدان
|
بل لا مني ولا
منية هكذا
|
|
يروي سليمان هو
الطبراني
|
وأجيب عنه بأنه
نوع سوى ال
|
|
معهود في الدنيا
من النسوان
|
فالنفي للمعهود
في الدنيا من ال
|
|
إيلاد والإثبات
نوع ثان
|
والله خالق
نوعنا من أربع
|
|
متقابلات كلها
بوزان
|
ذكر وأنثى والذي
هو ضده
|
|
وكذاك من أنثى
بلا نكران
|
والعكس أيضا مثل
حوا أمنا
|
|
هي أربع معلومة
التبيان
|
وكذاك مولود
الجنان يجوز أن
|
|
يأتي بلا حيض
ولا فيضان
|
والأمر في ذا
ممكن في نفسه
|
|
والقطع ممتنع
بلا برهان
|
الشرح
: وأما الذين قالوا
بالتوالد في الجنة فاحتجوا بأن في الجنة كل ما يشتهيه الإنسان لقوله تعالى : (وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي
أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ) [فصلت : ٣١]
ومعلوم أن البنين من أعظم الشهوات للإنسان ، كما قال تعالى : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ
مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ) [آل عمران : ١٤].
وأجيب عن هذا بأنه
ليس كل ما يشتهى في الدنيا يشتهى في الآخرة ، بل أهل الجنة لا يشتهون فيها ولدا
ولا حبلا. وأما المانعون للولادة فاحتجوا بأمور كثيرة منها : حديث أبي رزين أن أهل
الجنة لا يكون لهم فيها ولد ، وأن الحمل لا يكون إلا مع الحيض وإنزال المنيّ ،
ونساء الجنة مطهرات من الحيض والنفاس وكل قدر. والجماع في الجنة يكون بغير إنزال ،
كما جاء ذلك في حديث صدى ابن عجلان عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وفي معجم الطبراني من حديث أبي أمامة أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم سئل : (أيجامع أهل الجنة؟ قال : دحا دحا ولكن لا منى ولا
منية).
وأجيب عن هذا بأن
نفي الولادة في حديث أبي رزين واشتراط الحيض والإنزال فيها ، إنما هو بالنسبة
للولادة المعهودة في هذه النشأة ، فنفيها لا يستلزم أن لا يكون هناك ولادة أصلا ،
لجواز أن يكون هناك ولادة من نوع آخر لا يشترط فيها ذلك.
روى الحاكم عن أبي
سهل قال : (أهل الزيغ ينكرون هذا الحديث ـ يعني حديث الولادة في الجنة ـ وقد روى
فيه غير إسناد. وسئل النبي صلىاللهعليهوسلم عن ذلك فقال : يكون ذلك على نحو مما روينا. والله سبحانه
وتعالى يقول : (وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ
الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) [الزخرف : ١٧] وليس بالمستحيل أن يشتهي المؤمن الممكن من
شهواته المصفى المقرب المسلط على لذاته قرة عين وثمرة فؤاد من الذين أنعم الله
عليهم بأزواج مطهرة ، فإن قيل ففي الحديث أنهن لا يحضن ولا ينفسن فأين يكون الولد؟
قلت : (الحيض سبب الولادة الممتد مدة بالحمل
على الكثرة والوضع
عليه كما أن جميع ملاذ الدنيا من المشارب والمطاعم والملابس على ما عرف من التعب
والنصب وما يعقبه كل منهما مما يحذر منه ويخاف من عواقبه ، وهذه خمرة الدنيا
المحرمة المستولية على كل بلية قد أعدها الله تعالى لأهل الجنة منزوعة البلية
موفرة اللذة ، فلم لا يجوز أن يكون على مثله الولد) انتهى كلامه.
ويؤيد كلام هؤلاء
أن الله خلق هذا النوع الانساني على أربعة انحاء : نوع خلق من بين ذكر وأنثى وهو
أكثر الخلق. ونوع خلق بلا ذكر ولا أنثى وهو آدم عليهالسلام ونوع خلق من أنثى بلا ذكر وهو عيسى روح الله وكلمته التي
ألقاها إلى مريم. ونوع خلق من ذكر بلا أنثى وهي أمنا حواء خلقها الله من ضلع آدم.
وعلى هذا يجوز أن
تكون الولادة في الجنة على نوع غير المعهود في الدنيا لا يحتاج إلى حيض ولا إنزال.
والذي نرجحه في هذا الباب والله أعلم بالصواب هو ما دل عليه حديث أبي رزين ، فإنه
صريح في نفي الولادة. وأما حديث أبي سعيد فهو كما عرفت قد علقها بشرط الاشتهاء ،
وهو لا يستلزم وقوع المعلق ولا المعلق عليه ، وإسناده ليس بذاك ، فإن أجود أسانيده
ما رواه الترمذي وقد حكم بغرابته ، وأنه لا يعرف إلا من حديث أبي الصديق الناجي ،
وهو كذلك قد اضطرب لفظه ، فتارة يروى بلفظ إذا اشتهى الولد ، وتارة أنه ليشتهي
الولد ، وتارة أن الرجل من أهل الجنة ليولد له الخ.
على أن الأمر في
حد ذاته ممكن وقدرة الله صالحة ، والقطع بواحد من هذين القولين لا يمكن إلا ببرهان
، فالأولى هو التفويض فيها إلى الله مع ترجيح النفي والله أعلم.
* * *
فصل
في رؤية أهل الجنة ربهم تبارك وتعالى ونظرهم إلى وجهه الكريم
ويرونه سبحانه
من فوقهم
|
|
نظر العيان كما
يرى القمران
|
هذا تواتر عن
رسول الله لم
|
|
ينكره إلا فاسد
الإيمان
|
وأتى به القرآن
تصريحا وتع
|
|
ريضا هما بسياقه
نوعان
|
وهي الزيادة قد
أتت في يونس
|
|
تفسير من قد جاء
بالقرآن
|
ورواه عنه مسلم
بصحيحه
|
|
يروى صهيب ذا
بلا كتمان
|
وهو المزيد كذاك
فسره أبو
|
|
بكر هو الصديق
ذو الايقان
|
وعليه أصحاب
الرسول وتابعو
|
|
هم بعدهم تبعية
الإحسان
|
ولقد أتى ذكر
اللقاء لربنا ال
|
|
رحمن في سور من
الفرقان
|
ولقاؤه إذ ذاك
رؤيته حكى ال
|
|
إجماع فيه جماعة
ببيان
|
وعليه أصحاب
الحديث جميعهم
|
|
لغة وعرفا ليس
يختلفان
|
الشرح
: والمؤمنون في
الجنة يرون ربهم سبحانه من فوقهم رؤية حقيقية بأبصارهم كما يرى الشمس والقمر صحوا
ليس دونهما سحاب ولا ضباب ، وقد تواتر النقل بذلك عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فلا ينكره إلا مدخول في دينه وإيمانه ، روى ذلك عنه
جماعة كبيرة من أصحابه ، منهم أبو بكر الصديق وأبو هريرة وأبو سعيد الخدري وجرير
بن عبد الله البجلي وصهيب بن سنان الرومي وعبد الله بن مسعود الهذلي وعلي بن أبي
طالب وأبو موسى الأشعري وعدي بن حاتم الطائي وأنس بن مالك وأبو رزين وجابر الخ.
فأما حديث أبي
هريرة وأبي سعيد ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة «أن ناسا قالوا يا رسول الله هل
نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر. قالوا لا يا رسول
الله ، قال هل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا لا ، قال فانكم ترونه
كذلك» الحديث.
وفي الصحيحين أيضا
عن أبي سعيد الخدري «أن أناسا في زمن رسول اللهصلىاللهعليهوسلم قالوا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة قال رسول الله
صلىاللهعليهوسلم : وهل تضارون في رؤية الشمس بالظهيرة صحوا ليس دونها سحاب؟
وهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر صحوا ليس فيها سحاب؟ قالوا لا يا رسول الله ،
قال ما تضارون في رؤيته تبارك وتعالى يوم القيامة إلا كما تضارون في رؤية أحدهما».
وأما حديث جرير
ففي الصحيحين من حديث اسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عنه قال : «كنا
جلوسا مع النبي صلىاللهعليهوسلم فنظر إلى القمر ليلة أربع عشرة فقال انكم سترون ربكم عيانا
كما ترون هذا لا تضامون في رؤيته ، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع
الشمس وقبل الغروب فافعلوا ، ثم قرأ قوله : (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ
رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) [ق : ٣٩].
وأما حديث صهيب
فرواه مسلم في صحيحه من حديث حماد بن سلمة عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن
صهيب قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله عزوجل : تريدون شيئا أزيدكم؟ يقولون : ألم تبيض وجوهنا ، ألم
تدخلنا الجنة وتنجنا من النار؟ قال فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئا أحب إليهم من
النظر إلى ربهم ثم تلا هذه الآية : (لِلَّذِينَ
أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس : ٢٦].
وأما حديث أبي
موسى ففي الصحيحين عنه صلىاللهعليهوسلم قال : «جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما ، وجنتان من ذهب
آنيتهما وما فيهما ، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم تبارك وتعالى إلا رداء
الكبرياء على وجهه في جنة عدن».
ويطول بنا القول
لو ذكرنا بقية الأحاديث ، وفيما ذكرنا غنية وشفاء للقلوب المؤمنة المستنيرة ،
والقرآن كذلك أتى بإثبات الرؤية تصريحا تارة وتلميحا تارة أخرى ، فقد قال تعالى: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى
وَزِيادَةٌ) [يونس : ٢٦] وقد
فسر النبي صلىاللهعليهوسلم هذه الزيادة بأنها النظر إلى وجه الله كما جاء في حديث
صهيب المتقدم الذي رواه مسلم.
وقال تعالى : (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا
مَزِيدٌ) [ق : ٣٥] وقد فسر
علي رضي الله عنه وغيره هذا المزيد بأنه النظر إلى وجه الله ، روى ذلك عنه ابن
جرير كما روى البزار وابن أبي حاتم عن أنس في تفسير هذه الآية أنه قال : (يظهر لهم
الرب كل يوم جمعة).
ولقد ورد ذكر لقاء
العبد لربه في كثير من آيات القرآن الكريم كقوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ
مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [البقرة : ٢٢٣]
وكقوله : (إِنَّ الَّذِينَ لا
يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها
وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما
كانُوا يَكْسِبُونَ) [يونس : ٧ ، ٨]
وكقوله : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا
لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ
أَحَداً) [الكهف : ١١٠]
وكقوله : (مَنْ كانَ يَرْجُوا
لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ) [العنكبوت : ٥].
وقد حكى بعضهم
الإجماع على أن هذا اللقاء هو رؤيته سبحانه وتعالى ، وهو الذي جزم به أهل الحديث
جميعا ، وتفسير اللقاء بالرؤية هو المطابق للغة والعرف وقد روى امام الأئمة ابن
خزيمة من حديث بريدة بن الحصيب قال ، قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ما منكم من أحد إلا سيخلو الله به يوم القيامة ليس بينه
وبينه حجاب ولا ترجمان».
* * *
هذا ويكفي أنه
سبحانه
|
|
وصف الوجوه
بنظرة بجنان
|
وأعاد أيضا
وصفها نظرا وذا
|
|
لا شك يفهم رؤية
بعيان
|
وأتت أداة إليّ
لرفع الوهم من
|
|
فكر كذاك ترقب
الإنسان
|
واضافة لمحل
رؤيتهم بذك
|
|
ر الوجه إذ قامت
به العينان
|
تالله ما هذا
بفكر وانتظا
|
|
ر مغيب أو رؤية
لجنان
|
ما في الجنان من
انتظار مؤلم
|
|
واللفظ يأباه
لذي العرفان
|
لا تفسدوا لفظ
الكتاب فليس في
|
|
ه حيلة يا فرقة
الروغان
|
ما فوق ذا
التصريح شيء ما الذي
|
|
يأتي به من بعد
ذا التبيان
|
لو قال أبين ما
يقال لقلتم
|
|
هو مجمل ما فيه
من تبيان
|
الشرح
: قال الله تبارك
وتعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) [القيامة : ٢٢]
فوصف الوجوه أولا بالنضرة ، كما في قوله تعالى : (تَعْرِفُ فِي
وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) [المطففين : ٢٤]
ثم أعاد وصفها بالنظر في الآية الثانية ، وهذا يفهم من غير شك أنه النظر إلى وجه
الله سبحانه ، ولكي يرفع توهم أن المراد بالنظر الانتظار كما يدعيه المعطلة نفاة
الرؤية ، أتى بالحرف إلى فقال : إلى ربها ناظره ، والذي يتعدى بإلى هو النظر بمعنى
الابصار ، يقال نظرت إليه بمعنى أبصرته وأما النظر بمعنى الانتظار فإنه يتعدى
بنفسه ، كما في قوله تعالى : (يَوْمَ يَقُولُ
الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ
نُورِكُمْ) [الحديد : ١٣].
كذلك أضاف الرؤية
إلى الوجه الذي هو محل الرؤية ، إذ هو مشتمل على العينين اللتين تقع بهما ، مما
ينفي كل توهم ويزيل كل لبس ، فلا تحتمل الآية أبدا ما تأولها به المعطلة من قولهم
أن معناها إلى ثواب ربها منتظرة ، فإن الانتظار آلم شيء للنفس ، والله قد وعد أهل
الجنة بأنهم : لا يمسهم فيها نصب ولا يمسهم فيها لغوب هذا وليس هناك أفسد للنصوص
وأكبر جناية عليها من مثل هذه التأويلات السخيفة التي يعمد إليها هؤلاء المعطلة
الزائفون ليروغوا بها عن الحق روغان الثعالب ، مع أن الآية بلغت الغاية من الصراحة
في الأفهام والدلالة على المعنى المراد ، وليس بعد هذا البيان بيان أبدا ، ولكن
هؤلاء دأبهم مع هذه النصوص التي هي أبين وأصرح ما يكون أن يدعوا فيها الاجمال
والاشتباه ما دامت لم توافق ما قضت به عقولهم المريضة بداء الإنكار والتعطيل ، ومن
يضلل الله فما له من سبيل.
* * *
ولقد أتى في
سورة التطفيف أن
|
|
القوم قد حجبوا
عن الرحمن
|
فيدل بالمفهوم
أن المؤمني
|
|
ن يرونه في جنة
الحيوان
|
وبذا استدل
الشافعي واحمد
|
|
وسواهما من
عالمي الأزمان
|
وأتى بذا
المفهوم تصريحا بآ
|
|
خرها فلا تخدع
عن القرآن
|
وأتى بذاك مكذبا
للكافري
|
|
ن الساخرين
بشيعة الرحمن
|
ضحكوا من الكفار
يومئذ كما
|
|
ضحكوا هم منهم
على الإيمان
|
وأثابهم نظرا
إليه ضد ما
|
|
قد قاله فيهم
أولو الكفران
|
فلذاك فسرها
الأئمة أنه
|
|
نظر إلى الرب
العظيم الشأن
|
لله ذاك الفهم
يؤتيه الذي
|
|
هو أهله من جاد
بالإحسان
|
الشرح
: قال الله تعالى في
سورة المطففين في شأن الفجار والمكذبين : (كَلَّا إِنَّهُمْ
عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) [المطففين : ١٥]
فهذا يدل بمفهومه على أن المؤمنين لا يحجبون عنه سبحانه ، بل يرونه في جنة الخلد
التي وعدها عباده المتقين ، وبهذا احتج الشافعي وأحمد رحمهماالله وغيرهما من علماء أهل السنة.
روى الحاكم قال :
حدثنا الأصم أنبأنا الربيع بن سليمان قال : حضرت محمد بن ادريس الشافعي وقد جاءته
رقعة من الصعيد فيها (ما تقول في قول الله عزوجل : (كَلَّا إِنَّهُمْ
عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) [المطففين : ١٥]
فقال الشافعي : لما أن حجب هؤلاء في السخط كان في هذا دليل على أن أولياءه يرونه
في الرضى قال الربيع فقلت يا أبا عبد الله وبه تقول؟ قال نعم وبه أدين لله ، ولو
لم يوقن محمد بن ادريس أنه يرى الله لما عبد الله عزوجل).
ولقد ورد التصريح
بهذا المفهوم في آخر السورة حيث يقول سبحانه : (فَالْيَوْمَ
الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ
هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) [المطففين : ٣٤ ، ٣٦].
فقد جاءت هذه
الآيات تكذب الكفار في سخريتهم من المؤمنين ورميهم إياهم بالضلال ، فهم يضحكون
يومئذ من الكفار ، كما كان الكفار يضحكون
منهم ، ويتغامزون
عليهم في الدنيا ، ولما صبروا في الدنيا على ما كانوا يسمعونه من الأذى وسوء
القالة والغمز واللمز ، جزاهم الله على ذلك بالنظر إلى وجهه الكريم فلهذا ذهب أئمة
العلم إلى أن المراد بقوله تعالى : (عَلَى الْأَرائِكِ
يَنْظُرُونَ) [المطففين : ٣٥]
أنه النظر إلى وجه الله سبحانه ، فلله ما أحسن هذا الفهم لآيات الكتاب وإشاراته
الذي يؤتيه الله من هو أهل له من ذوي الفضل والإحسان.
* * *
وروى ابن ماجة
مسندا عن جابر
|
|
خبرا وشاهده ففي
القرآن
|
بينا هم في
عيشهم وسرورهم
|
|
ونعيمهم في لذة
وتهان
|
واذا بنور ساطع
قد اشرقت
|
|
منه الجنان
قصيها والداني
|
رفعوا إليه
رءوسهم فرأوه نور
|
|
الرب لا يخفى
على انسان
|
واذا بربهم
تعالى فوقهم
|
|
قد جاء للتسليم
بالإحسان
|
قال السلام
عليكم فيرونه
|
|
جهرا تعالى الرب
ذو السلطان
|
مصداق ذا يس قد
ضمنته عن
|
|
د القول من رب
بهم رحمن
|
من ردّ ذا فعلى
رسول الله رد
|
|
وسوف عند الله
يلتقيان
|
في ذا الحديث
علوه ومجيئه
|
|
وكلامه حتى يرى
بعيان
|
هذى أصول الدين
في مضمونه
|
|
لا قول جهم صاحب
البهتان
|
الشرح
: روى ابن ماجة في
سننه من حديث محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال : قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رءوسهم
فإذا الرب جل جلاله قد أشرف عليهم من فوقهم فقال السلام عليكم يا أهل الجنة ، وهو
قول الله عزوجل : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ
رَبٍّ رَحِيمٍ) [يس : ٥٨] فلا
يلتفتون إلى شيء مما هم فيه من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم وتبقى
فيهم بركته ونوره» ومصداق هذا الحديث في سورة يس عند قوله تعالى : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ).
فمن ردّ هذا
الحديث فقد ردّ على رسول صلىاللهعليهوسلم ودفع كلامه وسوف يكون خصمه يوم القيامة ، وقد تضمن هذا
الحديث أصولا عظيمة من عقائد الدين ، فأثبت علوه سبحانه على خلقه ومجيئه وتكليمه
ورؤية عباده المؤمنين له بأبصارهم. وهذه هي أصول الدين التي تضمنتها الآيات
والأحاديث لا قول المعطلة قبحهم الله الذين ينفون علوه سبحانه وكلامه ورؤيته.
* * *
وكذا حديث أبي
هريرة ذلك ال
|
|
خبر الطويل أتى
به الشيخان
|
فيه تجلى الرب
جل جلاله
|
|
ومجيئه وكلامه
ببيان
|
وكذاك رؤيته
وتكليم لمن
|
|
يختاره من أمة
الإنسان
|
فيه أصول الدين
أجمعها فلا
|
|
تخدعك عنه شيعة
الشيطان
|
وحكى رسول الله
فيه تجدد ال
|
|
غضب الذي للرب
ذي السلطان
|
إجماع أهل العزم
من رسل ال
|
|
إله وذاك إجماع
على البرهان
|
لا تخدعنّ عن
الحديث بهذه ال
|
|
آراء فهي كثيرة
الهذيان
|
أصحابها أهل
التخرص والتنا
|
|
قض والتهاتر
قائلو البهتان
|
يكفيك انك لو
حرصت فلن ترى
|
|
فئتين منهم قط
يتفقان
|
إلا إذا ما قلدا
لسواهما
|
|
فتراهم جيلا من
العميان
|
ويقودهم أعمى
يظن كمبصر
|
|
يا محنة العميان
خلف فلان
|
هل يستوي هذا
ومبصر رشده
|
|
الله اكبر كيف
يستويان
|
الشرح
: روى الشيخان عن
أبي هريرة رضي الله عنه قال : أتى رسول الله صلىاللهعليهوسلم بلحم فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه فنهش منها نهشة ثم قال
: «أنا سيد الناس يوم القيامة ، وهل تدرون مم ذلك؟ يجمع الله الأولين والآخرين في
صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر وتدنو الشمس فيبلغ الناس من الغم والكرب ما
لا يطيقون ولا يحتملون ، فيقول الناس لبعض : ألا ترون ما أنتم فيه مما قد بلغكم؟
ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس عليكم بآدم
فيأتون آدم عليهالسلام ، فيقولون : يا آدم أنت أبو البشر ، خلقك الله بيده ونفخ
فيك من روحه وأمر الملائكة فسجدوا لك ، فاشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه؟
ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم : إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن
يغضب بعده مثله ، وأنه قد نهاني عن الشجرة فعصيت ، نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري
، اذهبوا إلى نوح ، فيأتون نوحا ، فيقولون : يا نوح أنت أول الرسل إلى أهل الأرض ،
وقد سماك الله عبدا شكورا اشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد
بلغنا؟ فيقول نوح إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله
، وأنه قد كانت لي دعوة دعوتها على قومي ، نفسي نفسي نفسي ، اذهبوا إلى غيري ،
اذهبوا إلى ابراهيم فيأتون ابراهيم فيقولون : يا ابراهيم أنت نبي الله وخليله من
أهل الأرض اشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول أن
ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله ، فذكر كذباته ، نفسي
نفسي نفسي ، اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى موسى ، فيأتون موسى عليهالسلام فيقولون يا موسى أنت رسول الله ، اصطفاك الله برسالاته
وبكلامه على الناس ، اشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول
لهم موسى : إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله ، وإني
قد قتلت نفسا لم أؤمر بقتلها ، نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى عيسى ،
فيأتون عيسى فيقولون يا عيسى أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وكلمت
الناس في المهد صبيا فاشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟
فيقول لهم عيسى : إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله
ولم يذكر ذنبا ، نفسي نفسي نفسي ، اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى محمد صلىاللهعليهوسلم فيأتون محمداصلىاللهعليهوسلم ، فيقولون : يا محمد أنت رسول الله وخاتم الأنبياء وقد غفر
الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى
ما قد بلغنا؟ فأقوم فآتى تحت العرش فأقع ساجدا لربي عزوجل ، ثم يفتح الله
علي ويلهمني من
محامده وحسن الثناء عليه شيئا ما لم يفتحه على أحد قبلي ، فيقال يا محمد ارفع رأسك
وسل تعطه واشفع تشفع ، فأرفع رأسي فأقول : أمتي يا رب أمتي يا رب ، فيقال يا محمد
أدخل من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة وهم شركاء الناس
فيما سوى ذلك من الأبواب ثم قال : والذي نفس محمد بيده أن ما بين المصراعين من
مصاريع الجنة كما بين مكة وهجر أو كما بين مكة وبصرى» أخرجاه في الصحيحين.
فهذا الحديث قد
تضمن أصولا كبيرة من وجود الله فوق عرشه وتجليه وتكليمه لخير خلقه وأشرف رسله محمد
صلىاللهعليهوسلم ، وقد أخبر الرسول فيه عن إخوانه من أولي العزم أنهم يخشون
غضب الرب الذي بلغ من الشدة مبلغا لم يبلغه من قبل ولن يبلغه من بعد ، فلا تخدع
أيها السني عن هذه الأحاديث العظيمة التي تملأ القلب نورا وبصيرة ، ولا تنصرف عنها
إلى هذه الآراء الضالة الكثيرة السقط والهواء ، وهي لم تصدر عن أحد ممن يعتد بهم
في العلم والمعرفة ، ولكن عن قوم كثر تخرصهم في دين الله وعظم تناقضهم واضطرابهم
أنك لن تجد طائفتين منهم تلتقيان عند رأي واحد إلا إذا كانا قد قلدا غيرهما فيه
بلا بينة ولا دليل ، فهم كجماعة من العميان يقودهم أعمى مثلهم يحسب أنه بصير ، فيا
محنة هؤلاء مما يقودهم إليه هذا الأحمق الغرير ، فهل يستوي هذا الضال المضل : ومن
ألهمه الله رشده ، فهو يمشي على هدى من الله ونور ، كلا لا يستويان أبدا في عقل
المتأمل البصير.
* * *
أوما سمعت منادي
الإيمان يخ
|
|
بر عن منادي جنة
الحيوان
|
يا أهلها لكم
لدى الرحمن وع
|
|
د وهو منجزه لكم
بضمان
|
قالوا أما بيضت
أوجهنا كذا
|
|
أعمالنا أثقلت
في الميزان
|
وكذاك قد
ادخلتنا الجنات حي
|
|
ن أجرتنا من
مدخل النيران
|
فيقول عندي موعد
قد آن أن
|
|
أعطيكموه برحمتي
وحناني
|
فيرونه من بعد
كشف حجابه
|
|
جهرا روى ذا
مسلم ببيان
|
ولقد أتانا في
الصحيحين اللذي
|
|
ن هما أصح الكتب
بعد قران
|
برواية الثقة
الصدوق جري
|
|
ر البجلي عمن
جاء بالقرآن
|
ان العباد يرونه
سبحانه
|
|
رؤيا العيان كما
يرى القمران
|
فإن استطعتم كل
وقت فاحفظوا ال
|
|
بردين ما عشتم
مدى الأزمان
|
ولقد روى بضع
وعشرون امرأ
|
|
من صحب أحمد
خيرة الرحمن
|
أخبار هذا الباب
عمن قد اتى
|
|
بالوحي تفصيلا
بلا كتمان
|
وألذ شيء للقلوب
فهذه الأخبار مع أمثالها هي بهجة الايمان الشرح : أو ما سمعت منادي الإيمان وهو رسول الله صلوات الله وسلامه
عليه يخبر عن ذلك المنادي الذي ينادي أهل الجنة : «يا أهل الجنة إن ربكم تبارك
وتعالى يستزيركم فحيّ على زيارته ، فيقولون سمعا وطاعة وينهضون إلى الزيارة
مبادرين ، فإذا بالنجائب قد أعدت لهم فيستوون على ظهورها مسرعين حتى إذا انتهوا
إلى الوادي الأفيح الذي جعل لهم موعدا وجمعوا هناك فلم يغادر الداعي منهم أحدا أمر
الرب تبارك وتعالى بكرسيه فنصب هناك ثم نصبت لهم منابر من نور ومنابر من لؤلؤ
ومنابر من زبرجد ومنابر من ذهب ومنابر من فضة وجلس أدناهم ـ وحاشاهم أن يكون فيهم
دنيء ـ على كثبان المسك ما يرون أن أصحاب الكراسي فوقهم في العطايا ، حتى إذا
استقرت بهم مجالسهم واطمأنت بهم أماكنهم نادى المنادي : يا أهل الجنة أن لكم عند
الله موعدا يريد أن ينجزكموه فيقولون ما هو؟ ألم يبيّض وجوهنا ويثقل موازيننا
ويدخلنا الجنة ويزحزحنا عن النار ، فبينما هم كذلك إذ سطع لهم نور أشرقت له الجنة
، فرفعوا رءوسهم فإذا الجبار جلا جلاله وتقدست أسماؤه قد أشرف عليهم من فوقهم وقال
: يا أهل الجنة سلام عليكم ، فلا ترد هذه التحية بأحسن من قولهم : اللهم أنت
السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام ، فيتجلى لهم الرب تبارك وتعالى
يضحك إليهم ويقول : يا أهل الجنة ، فيكون أول ما يسمعون منه تعالى : أين عبادي
الذين أطاعوني بالغيب ولم يروني؟ فهذا يوم المزيد ،
فيجتمعون على كلمة
واحدة أن قد رضينا فارض عنا ، فيقول : يا أهل الجنة لو لم أرض عنكم لم أسكنكم جنتي
هذا يوم المزيد فاسألوني ، فيجتمعون على كلمة واحدة : أرنا وجهك ننظر إليه ، فيكشف
لهم الرب جل جلاله الحجب ويتجلى لهم ، فيغشاهم من نوره ما لو لا أن الله تعالى قضى
أن لا يحترقوا لاحترقوا ولا يبقى في ذلك المجلس أحد إلا حاضره ربه تعالى محاضرة
حتى أنه ليقول له يا فلان : أتذكر يوم فعلت كذا وكذا؟ يذكره ببعض عداوته في الدنيا
، فيقول يا رب ألم تغفر لي؟ فيقول بمغفرتي بلغت منزلتك هذه» الحديث. ولقد جاء في
صحيحي البخاري ومسلم اللذين هما أصح الكتب على الإطلاق بعد كتاب الله عزوجل من رواية الصحابي الجليل جرير بن عبد الله البجلي (أن
المؤمنين يرون ربهم بأبصارهم يوم القيامة عيانا) وقد تقدمت رواية الحديث. وبالجملة
فأحاديث الرؤية متواترة في المعنى رواها أكثر من عشرين صحابيا قد ذكرنا أسماء
بعضهم وأحاديثهم فيما سبق ، ولا شيء ألذ للقلوب ولا أبهج للنفوس من رواية مثل هذه
الأحاديث التي تحرك شوق المؤمن الى شهود ذلك الجناب الأقدس التي تتضاءل دونه أنواع
المتع واللذات.
* * *
والله لو لا
رؤية الرحمن في ال
|
|
جنات ما طابت
لذي العرفان
|
أعلى النعيم
نعيم رؤية وجهه
|
|
وخطابه في جنة
الحيوان
|
وأشد شيء في
العذاب حجابه
|
|
سبحانه عن ساكني
النيران
|
وإذا رآه
المؤمنون نسوا الذي
|
|
هم فيه مما نالت
العينان
|
فإذا توارى عنهم
عادوا إلى
|
|
لذاتهم من سائر
الألوان
|
فلهم نعيم عند
رؤيته سوى
|
|
هذا النعيم
فحبذا الأمران
|
أو ما سمعت سؤال
أعرف خلقه
|
|
بجلاله المبعوث
بالقرآن
|
شوقا إليه ولذة
النظر التي
|
|
بجلال وجه الرب
ذي السلطان
|
فالشوق لذة روحه
في هذه ال
|
|
دنيا ويوم قيامة
الأبدان
|
تلتذ بالنظر
الذي فازت به
|
|
دون الجوارح هذه
العينان
|
والله ما في هذه
الدنيا ألذ
|
|
من اشتياق العبد
للرحمن
|
وكذاك رؤية وجهه
سبحانه
|
|
هي أكمل اللذات
للإنسان
|
لكنما الجهمي
ينكر ذا وذا
|
|
والوجه أيضا
خشية الحدثان
|
تبّا له المخدوع
أنكر وجهه
|
|
ولقاءه ومحبة
الديان
|
وكلامه وصفاته
وعلوه
|
|
والعرش عطله من
الرحمن
|
فتراه في واد
ورسل الله في
|
|
واد وذا من أعظم
الكفران
|
الشرح
: وأشد شيء في عذاب
أهل النار هو احتجاب الرب تبارك وتعالى عنهم وحرمانهم من النظر الى وجهه الكريم ،
وإذا تجلى الرب لعباده المؤمنين في الجنة نسوا كل ما هم فيه من ألوان النعيم من
أجل ما ظفرت به أعينهم من اللذة الكبرى بالنظر إلى وجه الله عزوجل ، فإذا ما احتجب عنهم عادوا إلى ما كانوا فيه من ألوان
السرور والنعيم ، فلهم نعيمان في الجنة ، نعيم عند رؤيته سبحانه وهو أجلهما
وأشرفهما ، ونعيم عند احتجابه بما هم فيه من ظلال وفواكه وحور وولدان إلى آخره ،
فحبذا النعيمان.
ولقد روى الامام أحمد
من حديث أبي مجلز قال : (صلى بنا عمارة صلاة فأوجز فيها فأنكروا ذلك ، فقال ألم
أتمّ الركوع والسجود؟ قالوا بلى ، قال : أما اني قد دعوت فيها بدعاء كان رسول الله
صلىاللهعليهوسلم يدعو به : «اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما
علمت الحياة خيرا لي ، وتوفني إذا علمت الوفاة خيرا لي ، وأسألك خشيتك في الغيب
والشهادة ، وكلمة الحق في الغضب والرضا ، والقصد في الغنى والفقر ، ولذة النظر إلى
وجهك الكريم ، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة ، اللهم زينا
بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين» وأخرجه ابن حبان والحاكم في صحيحيهما.
فالشوق إلى لقاء
الله عزوجل هو لذة الروح في هذه الدنيا للمؤمن ، وفي يوم القيامة يلتذ
بالنظر إلى وجه الله الكريم الذي هو حظ العين من دون الجوارح
كلها. وليس في هذه
الدنيا لدى أهل المعرفة بالله لذة تعدل لذة الشوق إلى لقاء الله كما أنه ليس في
الآخرة لذة تعدل لذة النظر إلى وجهه سبحانه.
لكن الجهمي المعطل
لا يؤمن لا بلقاء ولا بنظر ولا بوجه ، لأنها عنده من مستلزمات الحوادث ، فهلاكا
لهذا المغرور الذي استمسك بشبه واهية ظنها معقولات صحيحة ، فنفى من أجلها ما ثبت
بالنصوص الصريحة القطعية من الوجه واللقاء والمحبة والكلام والعلو وسائر الصفات ،
حتى عطل العرش عن أن يكون فوقه إله يعبد ورب يصلى له ويسجد ، فهو بإنكاره وتعطيله
في واد ، ورسل الله وأتباعهم في إثباتهم لكمالات الرب كلها في واد ، ومخالفة الرسل
عليهمالسلام ومشاقتهم واتباع غير سبيلهم من أقبح أنواع الكفر الذي باء
به هذا الجهمي العنيد.
* * *
فصل
في كلام الرب جل جلاله مع أهل الجنة
أو ما علمت بأنه
سبحانه
|
|
حقّا يكلم حزبه
بجنان
|
فيقول جل جلاله
هل أنتم
|
|
راضون قالوا نحن
ذو رضوان
|
أم كيف لا نرضى
وقد أعطيتنا
|
|
ما لم ينله قط
من انسان
|
هل ثمّ شيء غير
ذا فيكون اف
|
|
ضل منه نسأله من
المنان
|
فيقول أفضل منه
رضواني فلا
|
|
يغشاكم سخط من
الرحمن
|
ويذكر الرحمن
واحدهم بما
|
|
قد كان منه سالف
الأزمان
|
منه إليه ليس ثم
وساطة
|
|
ما ذاك توبيخا
من الرحمن
|
لكن يعرّفه الذي
قد ناله
|
|
من فضله والعفو
والاحسان
|
ويسلم الرحمن جل
جلاله
|
|
حقا عليهم وهو
في القرآن
|
وكذاك يسمعهم
لذيذ خطابه
|
|
سبحانه بتلاوة
الفرقان
|
فكأنهم لم
يسمعوه قبل ذا
|
|
هذا رواه الحافظ
الطبراني
|
هذا سماع مطلق
وسماعنا ال
|
|
قرآن في الدنيا
فنوع ثان
|
والله يسمع قوله
بوساطة
|
|
وبدونها نوعان
معروفان
|
فسماع موسى لم
يكن بوساطة
|
|
وسماعنا بتوسط
الإنسان
|
من صير النوعين
نوعا واحدا
|
|
فمخالف للعقل
والقرآن
|
الشرح
: اعلم أن تكليم
الله لأوليائه في الجنة هو كرؤيته ، كل ذلك حق لا ريب فيه ، فإن الله عزوجل نفى تكليمه لأعدائه يوم القيامة كما قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ
اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ
وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا
يُزَكِّيهِمْ) [آل عمران : ٧٧]
فلو كان لا يكلم عباده المؤمنين في الجنة لكانوا هم وأعداؤه في ذلك سواء.
وتكليمه لأهل
الجنة تكليم خاص للتحية والتكريم ، فهو لا ينافي أنه سيكلم عباده جميعا في عرصات
القيامة. وقد جاء في حديث عدي بن حاتم (ما من عبد الا سيكلمه الله يوم القيامة ليس
بينه وبينه ترجمان ، ولكن حين يدخل أهل النار النار يحتجب سبحانه وتعالى عنهم ولا
يكلمهم ، بل حين يستغيثون به ويطلبون منه الخروج من النار يقول لهم : (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) [المؤمنون : ١٠٨].
وفي الصحيحين من
حديث أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن الله عزوجل يقول لأهل الجنة يا أهل الجنة ، فيقولون لبيك ربنا وسعديك
، فيقول : هل رضيتم؟ فيقولون : وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من
خلقك ، فيقول : أنا أعطيكم أفضل من ذلك ، قالوا ربنا وأي شيء أفضل من ذلك؟ قال أحل
عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا».
وقد سبق في حديث
زيارة أهل الجنة لربهم أنه سبحانه يحاضر كل واحد منهم حتى يقول له يا فلان ألم
تفعل كذا يوم كذا ، يذكره بغدراته لا على جهة
التوبيخ والتقريع
، ولكن يذكر بفضله وإحسانه عليه في العفو والمغفرة. وفي الصحيح من حديث ابن عمر : «أن
الله عزوجل يدني المؤمن ويضع عليه كنفه ثم يقرره بذنوبه فيقول : ألم
تفعل كذا يوم كذا ، حتى إذا قرره بذنوبه وأيقن أنه قد هلك قال له سترتها عليك في
الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم».
وقد ورد أيضا أن
الله عزوجل يتجلى لأهل الجنة ويسلم عليهم ، كما قال تعالى : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) [يس : ٥٨] بل وقد
ورد أنه سبحانه يقرأ القرآن لأهل الجنة بصوت نفسه يسمعهم لذيذ خطابه ، فإذا سمعوه
منه فكأنهم لم يسمعوه قبل ذلك. روى أبو الشيخ عن صالح بن حبان عن عبد الله ابن
بريدة قال : إن أهل الجنة يدخلون كل يوم مرتين على الجبار جل جلاله فيقرأ عليهم
القرآن وقد جلس كل امرئ منهم مجلسه الذي هو مجلسه على منابر الدر والياقوت
والزبرجد والذهب والزمرد فلم تقرّ أعينهم بشيء ولم يسمعوا شيئا قط أعظم ولا أحسن
منه.
وهذا سماع مطلق
وهو أكمل السماع ، وأما سماعنا للقرآن في الدنيا فهو نوع آخر ، لأن سماع كلام الله
نوعان : نوع بوساطة القارئين له المبلغين عن الله عزوجل. ونوع بالمباشرة بلا وساطة أحد ، كتكليمه لموسى عليهالسلام ، فإنه كان كفاحا بلا واسطة. وأما سماعنا نحن لكلامه في
الدنيا فهو بواسطة التالين له. فمن جعل النوعين نوعا واحدا وزعم أن الله لا يتكلم
بكلام مسموع ، وأنه لا يمكن سماع كلامه إلا بواسطة من يقرؤه من الناس ، فهو مخالف
للعقل الذي يقتضي بأنه لا يسمى متكلما إلا من قام به الكلام ، والكلام لا يكون إلا
حروفا وألفاظا مسموعة. ومخالف للقرآن أيضا : فقد ذكر الله أنواع وحيه إلى رسله
وجعل منها تكليمه لمن يشاء منهم من غير وساطة الملك. قال تعالى : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ
اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ
بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ) [الشورى : ٥١].
* * *
فصل
في يوم المزيد وما أعد لهم فيه من الكرامة
أو ما سمعت
بشأنهم يوم المزي
|
|
د وأنه شأن عظيم
الشأن
|
هو يوم جمعتنا
ويوم زيارة ال
|
|
رحمن وقت صلاتنا
وأذان
|
والسابقون إلى
الصلاة هم الألى
|
|
فازوا بذاك
السبق بالإحسان
|
سبق بسبق
والمؤخر هاهنا
|
|
متأخر في ذلك
الميدان
|
والأقربون إلى
الامام فهم أولو
|
|
الزلفى هناك
فههنا قربان
|
قرب بقرب
والمباعد مثله
|
|
بعد ببعد حكمة
الديان
|
ولهم منابر لؤلؤ
وزبرجد
|
|
ومنابر الياقوت
والعقيان
|
هذا وأدناهم وما
فيهم دني
|
|
من فوق ذاك
المسك كالكثبان
|
ما عندهم أهل
المنابر فوقهم
|
|
مما يرون بهم من
الإحسان
|
فيرون ربهم
تعالى جهرة
|
|
نظر العيان كما
يرى القمران
|
ويحاضر الرحمن
واحدهم محا
|
|
نظر العيان كما
يرى القمران
|
هل تذكر اليوم
الذي قد كنت في
|
|
ه مبارزا بالذنب
والعصيان
|
فيقول رب أما
مننت بغفرة
|
|
قدما فانك واسع
الغفران
|
فيجيبه الرحمن
مغفرتي التي
|
|
قد أوصلتك إلى
المحل الداني
|
الشرح
: روى الإمام
الشافعي في مسنده من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال : «أتى جبريل رسول الله صلىاللهعليهوسلم بمرآة بيضاء فيها نكته ، فقال النبي صلىاللهعليهوسلم ما هذه؟ فقال هذه يوم الجمعة فضلت بها أنت وأمتك ، والناس
لكم فيها تبع اليهود والنصارى ، ولكم فيها خير ، وفيها ساعة لا يوافقها عبد مؤمن
يدعو الله بخير إلا استجيب له ، وهو عندنا يوم المزيد ، فقال النبي صلىاللهعليهوسلم وما يوم المزيد يا جبريل؟ قال : إن ربك اتخذ في في الفردوس
واديا أفيح فيه كثب من مسك ، فإذا كان يوم الجمعة أنزل الله سبحانه وتعالى ما شاء
من ملائكته وحوله منابر من نور عليها مقاعد النبيين ، وحف تلك المنابر بمنابر من
ذهب مكللة بالياقوت
والزبرجد عليها
الشهداء والصديقون ، فجلسوا من ورائهم على تلك الكثب ، فيقول الله عزوجل : أنا ربكم قد صدقتكم وعدي فسلوني أعطكم فيقولون ربنا
نسألك رضوانك ، فيقول قد رضيت عنكم ولكم ما تمنيتم ولديّ مزيد ، فهم يحبون يوم
الجمعة لما يعطيهم فيه ربهم من الخير ، وهو اليوم الذي استوى فيه ربك على العرش
وفيه خلق آدم وفيه تقوم الساعة».
وذكر أبو نعيم من
حديث المسعودي عن المنهال عن أبي عبيدة عن عبد الله قال : «سارعوا إلى الجمعة في
الدنيا ، فإن الله تبارك وتعالى يبرز لأهل الجنة في كل جمعة على كثيب من كافور
أبيض فيكونون منه سبحانه في القرب على قدر سرعتهم إلى الجمعة ، ويحدث لهم من
الكرامة شيئا لم يكونوا رأوه قبل ذلك ، فيرجعون إلى أهليهم وقد أحدث لهم.
فالسابقون إلى
الصلاة يوم الجمعة هم السابقون في الذهاب إلى الله عزوجل يوم المزيد الذي هو يوم زيارة الرب تعالى ، والمتأخرون هنا
متأخرون هناك جزاء وفاقا.
وكذلك الأقربون
إلى الامام في يوم الجمعة يكونون هم أهل الزلفى والقرب عند الله ، فقربهم هناك
بحسب قربهم من الامام ، وبعدهم بحسب بعدهم كذلك.
ولهم هناك في هذا
الوادي الذي يسمى وادي المزيد منابر من اللؤلؤ والياقوت والزبرجد والذهب وأدناهم
منزلة وليس فيهم دنيء ولا ناقص يجلسون على كثبان المسك ولا يجدون لأهل المنابر
فضلا عليهم ، فيتجلى لهم الرب تبارك وتعالى ويطلب إليهم أن يسألوه.
وقد ذكرنا فيما
سبق محاضرة الرب جل شأنه لهم ، وأنه يسأل أحدهم فيقول يا فلان ابن فلان ألم تفعل
كذا يوم كذا ـ من غدراته في الدنيا ـ فيقول يا رب ألم تغفره لي؟ فيقول بلى فمغفرتي
لك التي أوصلتك إلى ما أنت فيه.
* * *
فصل
في المطر الذي يصيبهم هناك
ويظلّهم إذ ذاك
منه سحابة
|
|
تأتي بمثل
الوابل الهتان
|
بينا هم في
النور اذ غشيتهم
|
|
سبحان منشيها من
الرضوان
|
فتظل تمطرهم
بطيب ما رأوا
|
|
شبها له في سالف
الأزمان
|
فيزيدهم هذا
جمالا فوق ما
|
|
لهم وتلك مواهب
المنان
|
الشرح
: روى بقية بن
الوليد عن كثير بن مرة قال : (ان من المزيد أن تمر السحابة بأهل الجنة فتقول ما ذا
تريدون أن أمطركم؟ فلا يتمنون شيئا إلا أمطروا).
وروى عبد الله بن
المبارك من حديث شفي بن ماتع قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن من نعيم أهل الجنة أنهم يتزاورون على المطايا والنجب
، وأنهم يؤتون في الجنة بخيل مسرجة ملجمة لا تروث ولا تبول يركبونها حتى ينتهوا
حيث شاء الله فيأتيهم مثل السحابة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، فيقولون
أمطري علينا فما يزال المطر عليهم حتى ينتهي ذلك فوق أمانيهم».
ويزيدهم هذا حسنا
فوق ما بهم حتى أن الرجل منهم ليرجع إلى أهله بعد الزيارة فتقول له : لقد خرجت من
عندنا على صورة ورجعت على غيرها.
* * *
فصل
في سوق الجنة الذي ينصرفون إليه من ذلك المجلس
فيقول جل جلاله
قوموا إلى
|
|
ما قد ذخرت لكم
من الإحسان
|
يأتون سوقا لا
يباع ويشترى
|
|
فيه فخذ منه بلا
أثمان
|
قد أسلف التجار
أثمان المبي
|
|
ع بعقدهم في
بيعة الرضوان
|
لله سوق قد
أقامته الملا
|
|
ئكة الكرام بكل
ما احسان
|
فيها الذي والله
لا عين رأت
|
|
كلا ولا سمعت به
اذنان
|
كلا ولم يخطر
على قلب امرئ
|
|
فيكون عنه معبرا
بلسان
|
فيرى امرأ من
فوقه في هيئة
|
|
فيروعه ما تنظر
العينان
|
فإذا عليه مثلها
اذ ليس يل
|
|
حق أهلها شيء من
الأحزان
|
واها لذا السوق
الذي من حله
|
|
نال التهاني
كلها بأمان
|
يدعى بسوق تعارف
ما فيه من
|
|
صخب ولا غش ولا
ايمان
|
وتجارة من ليس
تلهيه تجا
|
|
رات ولا بيع عن
الرحمن
|
أهل المروة
والفتوة والتقى
|
|
والذكر للرحمن
كل أوان
|
يا من تعوض عنه
بالسوق الذي
|
|
ركزت لديه راية
الشيطان
|
لو كنت تدري قدر
ذاك السوق لم
|
|
تركن إلى سوق
الكساد الفاني
|
الشرح
: يعني أن أهل الجنة
بعد انتهاء زيارتهم للرب جل شأنه يقول لهم قوموا إلى ما ذخرت لكم من الكرامة ،
فينصرفون إلى سوق لا بيع فيه ولا شراء فتأخذ منها ما شئت بلا عوض ولا ثمن ، لأن
التجار هناك قد دفعوا ثمن البيع مقدما عند مبايعتهم للرب جل شأنه ، كما قال تعالى
: (إِنَّ اللهَ اشْتَرى
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) [التوبة : ١١١]
الآية.
فلله در ذلك السوق
الذي نصبته الملائكة لأولياء الله وحزبه ، كم فيه من تحف وهدايا مما لا عين رأت
ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
ويرى الرجل من هو
أعلى منه منزلة في هيئة من الحلى والحلل تروعه وتدهشه ويتمنى لو كان له مثلها ،
فإذا هو قد ألبس منها ، وذلك لأن الجنة ليست دار حزن بل يجد الإنسان فيها كل ما
يشتهي. فوا لهفتا على هذه السوق التي من ظفر بها وصل إلى منتهى البغية وأطيب
الأمل.
وهو سوق تعارف بين
أهل الجنة ، فلا صخب ولا غش ولا أيمان فاجرة ولا غير ذلك مما يجري في أسواق
الدنيا.
روى الأوزاعي عن
حسان بن عطية عن سعيد بن المسيب أنه لقى أبا هريرة فقال أبو هريرة : (أسأل الله أن
يجمع بيني وبينك في سوق الجنة ، فقال سعيد أو فيها سوق؟ قال نعم ، أخبرني رسول
الله صلىاللهعليهوسلم أن أهل الجنة إذا دخلوها نزلوها بفضل أعمالهم فيؤذن لهم
بمقدار يوم الجمعة من أيام الدنيا فيزورون الله تبارك وتعالى ، فيبرز لهم عرشه
ويتبدى لهم في روضة من رياض الجنة ، فيوضع لهم منابر من نور ومنابر من لؤلؤ ومنابر
من زبرجد ومنابر من ياقوت ومنابر من ذهب ومنابر من فضة ويجلس أدناهم ـ وما فيهم من
دنيء ـ على كثبان المسك والكافور ما يرون أن أصحاب الكراسي بافضل منهم مجلسا. قال
أبو هريرة وهل نرى ربنا عزوجل؟ قال نعم ، هل تمارون في رؤية الشمس والقمر ليلة البدر؟
قلنا لا ، قال فكذلك لا تمارون في رؤية ربكم ، ولا يبقى في ذلك المجلس أحد إلا
حاضره الله محاضرة ، حتى يقول يا فلان ابن فلان أتذكر يوم فعلت كذا وكذا فيذكره
ببعض غدراته في الدنيا ، فيقول بلى ألم تغفر لي؟ فيقول بلى فبمغفرتي بلغت منزلتك
هذه. قال فبينما هم على ذلك إذ غشيتهم سحابة من فوقهم فأمطرت عليهم طيبا لم يجدوا
مثل ريحه شيئا قط.
قال ثم يقول ربنا
تبارك وتعالى : قوموا إلى ما أعددت لكم من الكرامة فخذوا ما اشتهيتم ، قال فيأتون
سوقا قد حفت بها الملائكة ، فيها ما لم تنظر العيون إلى مثله ولم تسمع الآذان ولم
يخطر على القلوب.
قال فيحمل لنا ما
اشتهينا ليس يباع فيه ولا يشترى ، وفي ذلك السوق يلقى أهل الجنة بعضهم بعضا. قال
فيقبل ذو البزة المرتفعة فيلقى من هو دونه ، وما فيهم دني ، فيروعه ما يرى عليه من
اللباس والهيئة ، فما ينقضي آخر حديثه حتى يتمثل عليه أحسن منه ، وذلك أنه لا
ينبغي لأحد أن يحزن فيها.
قال ثم ننصرف إلى
منازلنا فيلقانا أزواجنا فيقلن مرحبا وأهلا بحبنا ، لقد جئت وأن بك من الجمال
والطيب افضل مما فارقتنا عليه ، فنقول أنا جالسنا اليوم ربنا الجبار عزوجل وبحقنا أن ننقلب بمثل ما انقلبنا).
* * *
فصل
في حالهم عند رجوعهم إلى أهليهم ومنازلهم
فإذا هم رجعوا
إلى أهليهم
|
|
بمواهب حصلت من
الرحمن
|
قالوا لهم أهلا
ورحبا ما الذي
|
|
أعطيتم من ذا
الجمال الثاني
|
والله لازددتم
جمالا فوق ما
|
|
كنتم عليه قبل
هذا الآن
|
قالوا وأنتم
والذي أنشأكم
|
|
قد زدتم حسنا
على الاحسان
|
لكن يحق لنا وقد
كنا اذا
|
|
جلساء رب العرش
ذي الرضوان
|
فهم إلى يوم المزيد
أشد شو
|
|
قا من محب
للحبيب الداني
|
الشرح
: يعني أن أهل الجنة
حين يرجعون إلى أهليهم بعد زيارة الرب تبارك وتعالى يقولون لهم أهلا ومرحبا بحبنا
، ما هذا الجمال الذي أضفي عليكم فوق ما كنتم عليه قبل مفارقتنا ، لقد ازددتم في
أعيننا جمالا وحسنا ، فيقولن لهم وأنتم كذلك والذي أنشأكم ، لقد ازددتم في أعيننا
جمالا وملاحة ، لكننا يحق لنا أن نرجع إليكم بهذه الصور ، فقد كنا قبل قليل جلساء
رب العرش ، فخلع علينا من نوره وجماله ما ملأ عيونكم وقلوبكم ، فأهل الجنة يشتاقون
ليوم المزيد أشد مما يشتاق المحب لقرب حبيبه ، وذلك لما يخلع الله عليهم من
كرامته.
روى مسلم في صحيحه
من حديث ثابت البناني عن أنس بن مالك أن رسول اللهصلىاللهعليهوسلم قال : «ان في الجنة لسوقا يأتونها كل جمعة فتهب ريح الشمال
فتحثو في وجوههم وثيابهم فيزدادون حسنا وجمالا ، فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا
حسنا وجمالا ، فيقول لهم أهلوهم : والله لقد ازددتم حسنا وجمالا فيقولون والله
وأنتم لقد ازددتم حسنا وجمالا».
* * *
فصل
في خلود أهل الجنة ودوام صحتهم ونعيمهم وشبابهم
واستحالة النوم والموت عليهم
هذا وخاتمة
النعيم خلودهم
|
|
أبدا بدار الخلد
والرضوان
|
أو ما سمعت
منادي الإيمان يخ
|
|
بر عن مناديهم
بحسن بيان
|
لكم حياة ما بها
موت وعا
|
|
فيه بلا سقم ولا
أحزان
|
ولكم نعيم ما به
بؤس وما
|
|
لشبابكم هرم مدى
الأزمان
|
كلا ولا نوم
هناك يكون ذا
|
|
نوم وموت بيننا
اخوان
|
هذا علمناه
اضطرارا من كتا
|
|
ب الله فافهم
مقتضى القرآن
|
والجهم أفناها
وأفنى أهلها
|
|
تبا لذاك الجاهل
الفتان
|
طردا لنفي دوام
فعل الرب في ال
|
|
ماضي وفي مستقبل
الأزمان
|
وأبو الهذيل
يقول يفنى كلما
|
|
فيها من الحركات
للسكان
|
وتصير دار الخلد
مع سكانها
|
|
وثمارها كحجارة
البنيان
|
قالوا ولو لا
ذاك لم يثبت لنا
|
|
رب لأجل تسلسل
الأعيان
|
فالقوم أما
جاحدون لربهم
|
|
أو منكرون حقائق
الإيمان
|
الشرح
: هذا وتمام نعيم
أهل الجنة خلودهم فيها وبقاؤهم أبد الآباد ولا يفنون ولا يخرجون ، وهذا أمر معلوم
من الدين بالضرورة ، فإن الآيات والأحاديث في هذا الباب من الكثرة والصراحة بحيث
لا تقبل جدلا ولا تأويلا كقوله تعالى : (خالِدِينَ فِيها
أَبَداً) [النساء : ٥٧](لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ
مُقِيمٌ) [التوبة : ٢١](وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) [الحجر : ٤٨](خالِدِينَ فِيها ما
دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) [هود : ١٠٨](طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ) [الزمر : ٧٣](أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها) [الرعد : ٣٥] إلى
غير ذلك من الآيات التي لا تحصى كثرة.
وعن أبي سعيد
الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «يجاء
بالموت كأنه كبش
أملح فيوقف بين الجنة والنار ، فيقال يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون
وينظرون ويقولون : نعم هذا الموت ، ثم يقال يا أهل النار هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون
وينظرون ويقولون : نعم هذا الموت ، قال فيؤمر به فيذبح ، قال ثم يقال : يا أهل الجنة
خلود فلا موت ، ويا أهل النار خلود فلا موت ، ثم تلا رسول الله صلىاللهعليهوسلم : (وَأَنْذِرْهُمْ
يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا
يُؤْمِنُونَ) [مريم : ٣٩].
قال المؤلف في (حادي
الأرواح) (وهذا الكبش والاضجاع والذبح ومعاينة الفريقين ذلك حقيقة لا خيال ولا
تمثيل كما أخطأ فيه بعض الناس خطأ قبيحا ، وقال الموت عرض والعرض لا يتجسم ، فضلا
عن أن يذبح وهذا لا يصح ، فإن الله ينشئ من الموت صورة كبش يذبح كما ينشئ من
الأعمال صورا معاينة يثاب بها ويعاقب ، والله تعالى ينشئ من الأعراض أجساما تكون
الأعراض مادة لها وينشئ من الأجسام أعراضا كما ينشئ سبحانه من الأعراض أعراضا ومن
الأجسام أجساما ، فالأقسام الأربعة ممكنة مقدورة للرب تعالى) أه.
وأهل الجنة كذلك
في عافية دائمة لا تصيبهم الآفات ولا الأمراض ولا الآلام والأوصاب ، كما قال تعالى
: (لا يَمَسُّنا فِيها
نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ) [فاطر : ٣٥]
ونعيمهم باق فلا يلحقهم بؤس ولا شقاء ، وشبابهم لا يفنى ولا يحول ولا تنسخه شيخوخة
ولا فناء وهم كذلك لا ينامون ، فإن النوم والموت فيما بيننا أخوان.
روى ابن مردويه من
حديث سفيان الثوري عن محمد بن المنكدر عن جابر قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «النوم أخو الموت وأهل الجنة لا ينامون».
وهذا الذي ذكرناه
من دوام حياة أهل الجنة ونعيمهم وسرورهم وشبابهم وانتفاء الموت والنوم والأسقام
والأحزان والتعب والنصب عنهم هو ما علم بالاضطرار من كتاب الله وسنة نبيه صلىاللهعليهوسلم.
ولكن جهما قبحه
الله قضى بنفاء الجنة وأهلها محتجا بأن كل ما له ابتداء
لا بد أن يكون له
انتهاء ، وبأن التسلسل في الحوادث كما هو ممتنع في الماضي ، فكذلك في المستقبل فلا
بد أن يأتي وقت لا يكون فيه إلا الله عزوجل وحده وتفنى الجنة والنار وأهلهما.
قال شيخ الإسلام
ابن تيمية (وهذا قاله جهم لأصله الذي اعتقده وهو امتناع وجود ما لا يتناهى من
الحوادث ، وهو عمدة أهل الكلام التي استدلوا بها على حدوث الأجسام وحدوث ما لم يخل
من الحوادث وجعلوا ذلك عمدتهم في حدوث العالم فرأى الجهم ان ما يمنع من حوادث لا
أول لها في الماضي يمنع في المستقبل ، فدوام الفعل عنده ممتنع على الرب تبارك
وتعالى في المستقبل كما هو ممتنع عليه في الماضي ، وأبو الهذيل العلاف شيخ
المعتزلة وافقه على هذا الأصل ، لكن قال أن هذا يقتضي فناء الحركات لكونها متعاقبة
شيئا بعد شيء ، فقال بفناء حركات أهل الجنة والنار حتى يصيروا في سكون دائم لا
يقدر أحد منهم على حركة).
وقال الجهم وأبو
الهذيل ومن وافقهما في امتناع دوام فاعلية الرب في الماضي والمستقبل جميعا أنه لو
لا القول بحدوث العالم وامتناع التسلسل لما كان لنا طريق إلى إثبات وجود الله عزوجل ، فإن إثباته إنما هو من طريق حدوث العالم المحوج له إلى
محدث يخرجه من العدم إلى الوجود ، فوقعوا بهذا بين أمرين أحلاهما مر فهم إما
جاحدون منكرون لوجود الله تعالى ، وأما منكرون لحقائق لإيمان الثابتة المعلوم
ثبوتها بالضرورة.
* * *
فصل
في ذبح الموت بين الجنة والنار والرد على من قال
إن الذبح لملك الموت وإن ذلك مجاز لا حقيقة له
أو ما سمعت
بذبحه للموت بي
|
|
ن المنزلين كذبح
كبش الضان
|
حاشا لذا الملك
الكريم وإنما
|
|
هو موتنا
المحتوم للإنسان
|
والله ينشئ منه
كبشا أملحا
|
|
يوم المعاد يرى
لنا بعيان
|
ينشئ من الأعراض
أجساما كذا
|
|
بالعكس كل قابل
الامكان
|
أفما تصدق أن
أعمال العبا
|
|
د تحط يوم العرض
في الميزان
|
وكذاك تثقل تارة
وتخف أخ
|
|
رى ذاك في
القرآن ذو تبيان
|
وله لسان كفتاه
تقيمه
|
|
والكفتان إليه
ناظرتان
|
ما ذاك أمرا
معنويا بل هو ال
|
|
محسوس حقا عند
ذي الإيمان
|
أو ما سمعت بأن
تسبيح العبا
|
|
د وذكرهم وقراءة
القرآن
|
ينشيه رب العرش
في صور يجا
|
|
دل عنه يوم
قيامة الأبدان
|
أو ما سمعت بأن
ذلك حول عر
|
|
ش الرب ذو صوت
وذو دوران
|
يشفعن عند الرب
جل جلاله
|
|
ويذكرون بصاحب
الاحسان
|
أو ما سمعت بأن
ذلك مؤنس
|
|
في القبر
للملفوف في الأكفان
|
في صورة الرجل
الجميل الوجه في
|
|
سن الشباب كأجمل
الشباب
|
يأتي يجادل عنك
يوم الحشر للر
|
|
حمن كي ينجيك من
نيران
|
في صورة الرجل
الذي هو شا
|
|
حب يا حبذا ذاك
الشفيع الداني
|
الشرح
: تقدم حديث أبي
سعيد الخدري رضي الله عنه في أنه (يجاء بالموت على هيئة كبش أملح فيذبح بين الجنة
والنار ، ويقال يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت).
وقد ذكرنا كلام
المؤلف رحمهالله في أن الذي يذبح هو الموت حقيقة ، بأن ينشئ الله منه صورة
كبش. وليس هذا بممتنع على قدرة الله ، فهي صالحة لأن تنشئ من الأعراض أجساما
وبالعكس ، لأن ذلك كله ممكن مقدور ، وقد وردت النصوص الكثيرة بانقلاب بعض الأعراض
أجساما. فمن ذلك أعمال العباد التي عملوها في الدنيا من خير وشر توضع يوم القيامة
في ميزان حقيقي له لسان وكفتان وتوصف حينئذ بالخفة أو الرجحان قال تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ
لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ
مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا
بِها
وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) [الأنبياء : ٤٧]
ومعلوم أن الأعمال أعراض لا تقبل الوزن ، ولكن الله سبحانه يحولها يوم القيامة
أعيانا محسوسة.
ومن ذلك أيضا أن
ما يقع من العبد من تسبيح وذكر لله وقراءة للقرآن ينشئه الله في صور طير لها دويّ
ودوران حول العرش تجادل عن صاحبها يوم القيامة.
ومن ذلك ما تقدم
في حديث البراء بن عازب من أن عمل المؤمن يجيئه في قبره في صورة رجل حسن الوجه حسن
الثياب ويقول له : أبشر بالذي يسرك ، هذا يومك الذي كنت توعد ، فيقول له من أنت
فوجهك الذي يأتي بالخير؟ فيقول أنا عملك الصالح ، ويكون مؤنسا له في قبره ، وعمل
الكافر بعكس ذلك.
ومن ذلك أن ما
نتلوه من القرآن في الدنيا يأتي يوم القيامة في صورة رجل شاحب اللون يجادل عن
صاحبه لكي ينجيه من النار ، فيا حبذا القرآن من شفيع مقرب نسأل الله عزوجل أن يجعلنا من أهل شفاعته.
* * *
أو ما سمعت حديث
صدق قد
|
|
أتى في سورتين
من أول القرآن
|
فرقان من طير
صواف بينها
|
|
شرق ومنه الضوء
ذو تبيان
|
شبههما بغمامتين
وإن تشأ
|
|
بغياتين هما لذا
مثلان
|
هذا مثال الأجر
وهو فعالنا
|
|
كتلاوة القرآن
بالإحسان
|
فالموت ينشيه
لنا في صورة
|
|
خلاقه حتى يرى
بعيان
|
والموت مخلوق
بنص الوحي وال
|
|
مخلوق يقبل سائر
الألوان
|
في نفسه وبنشأة
أخرى بقد
|
|
رة قالب الأعراض
والألوان
|
أو ما سمعت
بقلبه سبحانه ال
|
|
أعيان من لون
إلى ألوان
|
وكذلك الأعراض
يقلب ربها
|
|
أعيانها والكل
ذو إمكان
|
لم يفهم الجهال
هذا كله
|
|
فأتوا بتأويلات
ذي البطلان
|
فمكذب ومؤول
ومحير
|
|
ما ذاق طعم
حلاوة الإيمان
|
لما فسى الجهال
في آذانه
|
|
أعموه دون تدبر
القرآن
|
فثنى لنا
العطفين منه تكبرا
|
|
وتبخترا في حلة
الهذيان
|
ان قلت قال الله
قال رسوله
|
|
فيقول جهلا أين
قول فلان
|
الشرح
: جاء في الصحيح عن
رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن البقرة وآل عمران تجيئان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو
غيابتان أو فرقان من طير صواف تحاجّان عن قارئهما يوم القيامة ، وأو هنا ليست للشك
من الراوي ولكنها من كلامه صلىاللهعليهوسلم للتخيير ، والمعنى ان شئت شبهتهما بهذه أو تلك ، فهما
مثلان لا مثل واحد وقوله : أو فرقان من طير صواف مثل ثالث.
وإذا ثبت أن
الأعمال والقراءة وغيرهما من الأعراض يقلبها الله أعيانا توزن وتجيء وتتكلم فلا
مانع أبدا أن ينشئ الله الموت الذي هو عرض في صورة كبش حتى يراه أهل الجنة والنار
ليزداد أهل الجنة فرحا وليزداد أهل النار غما وبأسا. فالموت مخلوق بنص القرآن ،
قال تعالى : (الَّذِي خَلَقَ
الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [الملك : ٢] ولا
شك أن المخلوق قابل في نفسه لكل أنحاء الوجود ، وقابل أيضا لأن ينشئه الله نشأة
أخرى ، فيحيله من عرض إلى جسم ومن جسم إلى عرض ، بل قد قال بعض المتكلمين كالنظام :
إن الجسم مجموعة من الأعراض ومنهم من رأى أن الأعراض من اللون والطعم والرائحة
أجسام ، فلا يمتنع على قدرة الخالق جل شأنه التصرف في عالم الإمكان بما يشاؤه من
الصور والألوان ، ولكن الجهلة الأغبياء لم يقدروا الله حق قدره ، وظنوا أن قلب
الأعيان محال فأتوا بتأويلات باطلة متكلفة لكل ما قدمنا من النصوص ، فمنهم من كذب
بها ، ومنهم من اشتغل بتأويلها ، ومنهم من بقي متحيرا لا يدري ما يقول ، لأن ترهات
الجهال ملأت أذنه فأعمته عن تفهم القرآن وتدبره ، وهو مع ذلك يظن أنه على شيء من
العلم فيمشي تياها متكبرا يختال في حلل جهله وهذيانه ، وإذا احتج له بما قال الله عزوجل في كتابه وبما قاله رسوله صلىاللهعليهوسلم لم
يقنعه هذا وراح
يسأل عما قاله فلان وفلان ، لأن آراء الناس عنده مقدمة على ما جاء به الوحيان ،
فما أقبح الجهل والغرور بالإنسان.
* * *
فصل
في أن الجنة قيعان وأن غراسها الكلام الطيب والعمل الصالح
أو ما سمعت
بأنها القيعان فاغ
|
|
رس ما تشاء بذا
الزمان الفاني
|
وغراسها التسبيح
والتكبير والت
|
|
حميد والتوحيد
للرحمن
|
تبا لتارك غرسه
ما ذا الذي
|
|
قد فاته من مدة
الإمكان
|
يا من يقر بذا
ولا يسعى له
|
|
بالله قل لي كيف
يجتمعان
|
أرأيت لو عطلت
أرضك من غرا
|
|
س ما الذي تجني
من البستان
|
وكذاك لو عطلتها
من بذرها
|
|
ترجو المغل يكون
كالكيمان
|
ما قال رب
العالمين وعبده
|
|
هذا فراجع مقتضى
القرآن
|
وتأمل الباء
التي قد عينت
|
|
سبب الفلاح
لحكمة الفرقان
|
وأظن باء النفي
قد غرتك في
|
|
ذاك الحديث أتى
به الشيخان
|
لن يدخل الجنات
أصلا كادح
|
|
بالسعي منه ولو
على الأجفان
|
والله ما بين
النصوص تعارض
|
|
والكل مصدرها عن
الرحمن
|
لكنّ بالإثبات
للتسبيب وال
|
|
باء التي للنفي
بالأثمان
|
والفرق بينهما
ففرق ظاهر
|
|
يدريه ذو حظ من
العرفان
|
الشرح
: يعني أن الجنة أرض
مستوية ليس فيها غراس ، وأن الإنسان بسعيه وعمله في أيام عمره يغرس لنفسه ما يشاء
، وقد ورد أن غراسها : «سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر» فهذه
الكلمات الأربع ورد الحديث الصحيح بأنها أفضل الكلام بعد القرآن ، وهن من القرآن ،
وصح أيضا أنها الباقيات الصالحات التي يقول الله عزوجل في شأنها : (وَالْباقِياتُ
الصَّالِحاتُ خَيْرٌ
عِنْدَ
رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً) [الكهف : ٤٦].
فالويل لمن أهمل
أن يغرس لنفسه في أيام قدرته وإمكانه ، لقد ضيع على نفسه أعظم فرصة.
فيا من يؤمن
إيمانا جازما بأنه سيجني هناك ما قدم لنفسه هنا ثم لا يسعى لذلك سعيه ولا يهتم له
اهتمامه بأمره دنياه ، قل لي بربك كيف يجتمع إيمان وإهمال أرأيت لو كان لك بستان
فعطلته من الغراس هل كنت تجني منه شيئا ، وكذلك لو كان لك أرض فعطلتها من البذر ،
فهل كنت ترجو أن تغل لك غلة كثيرة؟ ما قال الله هذا ولا قاله رسوله عليه الصلاة
والسلام ، بل جعل الله الأعمال سببا للجزاء ، وجعل الجزاء من جنس العمل وعلى وفاقه
وقدره ، قال تعالى : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً
يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً وَمَنْ
يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ
يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) [النساء : ١٢٣ ،
١٢٤] ولا تعارض بين هذا وبين ما قاله الرسول عليه الصلاة والسلام فيما رواه عنه
الشيخان «لن يدخل أحدكم الجنة بعمله ، فقيل له : ولا أنت يا رسول الله؟ فقال ولا
أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل».
فإن باء الإثبات
في مثل الآية السابقة هي باء السبب ، فالأعمال أسباب فقط في دخول الجنة ، وباء
النفي التي في الحديث للمقابلة ، يعني أن الأعمال لا تصلح أن تكون ثمنا للجنة ولا
سببا لدخولها لو لا فضل الله ورحمته.
قال المؤلف رحمهالله في حادي الأرواح :
(وهاهنا أمر يجب
التنبيه عليه ، وهو أن الجنة إنما تدخل برحمة الله تعالى ، وليس عمل العبد مستقلا
بدخولها وإن كان سببا ، ولهذا أثبت الله دخولها بالأعمال في قوله : (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الأعراف : ٤٣]
ونفى رسول الله صلىاللهعليهوسلم دخولها بالأعمال بقوله : «لن يدخل أحدكم الجنة بعمله» ولا
تنافي بين الأمرين لوجهين : أحدهما ما ذكره سفيان وغيره قال : كانوا يقولون النجاة
من
النار بعفو الله
ودخول الجنة برحمته واقتسام المنازل والدرجات بالأعمال.
والثاني أن الباء
التي نفت الدخول هي باء المعاوضة التي يكون فيها أحد العوضين مقابلا للآخر ،
والباء التي أثبتت الدخول هي باء السببية التي تقتضي سببية ما دخلت عليه لغيره وإن
لم يكن مستقلا بحصوله ، وقد جمع النبي صلىاللهعليهوسلم بين الأمرين بقوله : «سددوا وقاربوا وأبشروا واعلموا أن
أحدا منكم لن ينجو بعمله قالوا ولا أنت يا رسول الله؟ قال ولا أنا الا أن يتغمدني
الله برحمته».
ومن عرف الله
تعالى وشهد مشهد حقه عليه ومشهد تقصيره وذنوبه وأبصر هذين المشهدين بقلبه عرف ذلك
وجزم به ، والله سبحانه وتعالى المستعان).
* * *
فصل
في إقامة المأتم على المتخلفين عن رفقة السابقين
بالله ما عذر
امرئ هو مؤمن
|
|
حقا بهذا ليس
باليقظان
|
بل قلبه في رقدة
فإذا استفا
|
|
ق فلبسه هو حلة
الكسلان
|
تالله لو شاقتك
جنات النعي
|
|
م طلبتها بنفائس
الأثمان
|
وسعيت جهدك في
وصال نواعم
|
|
وكواعب بيض
الوجوه حسان
|
جليت عليك عرائس
والله لو
|
|
تجلى على صخر من
الصوان
|
رقّت حواشيه
وعاد لوقته
|
|
ينهال مثل نقى
من الكثبان
|
لكن قلبك في
القساوة جاز حد
|
|
الصخر والحصباء
في أشجان
|
لو هزك الشوق
المقيم وكنت ذا
|
|
حس لما استبدلت
بالأهوان
|
أو صادفت منك
الصفات حياة قل
|
|
ب كنت ذا طلب
لهذا الشأن
|
خود تزفّ إلى
ضرير مقعد
|
|
يا محنة الحسناء
بالعميان
|
شمس لعنين تزف
إليه ما
|
|
ذا حلية العنين
في الغشيان
|
الشرح
: بعد أن أفاض
المؤلف في وصف الجنان وعرائسها من الحور العين
وأتى في ذلك بما
يهز الشوق ويثير الأشجان ويطير بالأرواح إلى بلاد الأفراح التي صاغها ربنا جل وعلا
لأوليائه فأحسن صوغها ، ونقاها من كل دنس وصفاها من كل كدر ، ووفر لهم فيها كل
رفاهية ومتعة لأبدانهم ، في المطاعم والمشارب والمناكح والملابس والمناظر البهيجة
والملك الكبير وكل سرور ولذة لأرواحهم وقلوبهم برضوانه والنظر إلى وجهه.
وما أروع قوله صلىاللهعليهوسلم في وصف الجنة فيما رواه عنه أسامة رضي الله عنه : «ألا هل
من مشمر للجنة؟ فإن الجنة لا خطر لها ، وهي ورب الكعبة نور يتلألأ وريحانة تهتز
وقصر مشيد ونهر مطرد وثمرة نضيجة وزوجة حسناء جميلة وحلل كثيرة ومقام في أبد في
دار سليمة ، وفاكهة وخضر ، وحبرة ونعمة في محلة عالية بهية».
أقول : بعد أن صاغ
المؤلف هذه الأبيات من أشواق قلبه ونظمها من فيض عواطفه وآهات وجده قال : أي عذر
لمن صدق بهذا النعيم والبهجة والعاقبة الحميدة الحسنة ، ثم ظل قلبه فيما هو فيه من
رقدة وغفلة ، فإذا أفاق وصحا لم يصح إلى جدّ وتشمير وعمل ، بل إلى خمود وبلادة
وكسل. أليس هذا دليلا على جمود قلبه ويبسه وأنه لم يتحرك فيه الشوق إلى بلوغ هاتيك
المنازل الرفيعة والجنات الناعمة إذ لو شاقته لبذل في سبيلها كل غال ونفيس ، وسعى
جهده في وصال عرائسها المجلوة الناعمات وكواعبها البيض الفاتنات اللائي يتفجرن
شبابا ويتألقن جمالا ويفضن رقة وعذوبة ، واللائي لو جليت صفاتها ومحاسنها لجلمود
صخر لرقت جوانبه وعاد من فوره كثيبا مهيلا ، لكن القلوب أصبحت في قساوتها وجمودها
ويبسها أشد من الصخر ، فلا تهتز بشوق ولا تتحرك بعاطفة ، إذ لو هزك الشوق وكنت ذا
حس مرهف لما تعوضت عن هذا النعيم الأعلى بالحقير الدون من متاع هذه العاجلة ولو
صادفت منك هذه الصفات قلبا ينبض بالحياة والحركة ويدرك مقدار هذا المطلوب الأعظم
لجد غاية الجد في طلبه وسعى الى تحصيله بكل ممكن وإلا فهل يليق بتلك الخود أن تزف
إلى ضرير مقعد ، فما أشد حينئذ محنتها به وما أنكد عيشها معه ، وهل يليق بشمس
تتفجر
حياة وبضاضة أن
تزف إلى عنين لا حركة له ولا شهوة؟ كلا والله لن تزف هذه الشموس إلا لخطابها
الحقيقيين الذين دفعوا أثمانها غالية وقدموا لهن المهور المجزية.
* * *
يا سلعة الرحمن
لست رخيصة
|
|
بل أنت غالية
على الكسلان
|
يا سلعة الرحمن
ليس ينالها
|
|
في الألف إلا
واحد لا اثنان
|
يا سلعة الرحمن
ما ذا كفؤها
|
|
إلا أولو التقوى
مع الإيمان
|
يا سلعة الرحمن
سوقك كاسد
|
|
بين الأراذل
سفلة الحيوان
|
يا سلعة الرحمن
أين المشتري
|
|
فلقد عرضت بأيسر
الأثمان
|
يا سلعة الرحمن
هل من خاطب
|
|
فالمهر قبل
الموت ذو إمكان
|
يا سلعة الرحمن
كيف تصبر ال
|
|
خطّاب عنك وهم
ذوو إيمان
|
يا سلعة الرحمن
لو لا أنها
|
|
حجبت بكل مكاره
الإنسان
|
ما كان عنها قط
من متخلف
|
|
وتعطلت دار
الجزاء الثاني
|
لكنها حجبت بكل
كريهة
|
|
ليصد عنها
المبطل المتواني
|
وتنالها الهمم
التي تسمو إلى
|
|
رب العلى بمشيئة
الرحمن
|
الشرح
: صح عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل ألا أن سلعة
الله غالية ألا أن سلعة الله الجنة».
فالمؤلف يخاطب
سلعة الرحمن التي هي جنته بأنها ليست رخيصة مبتذلة ولا مزهودا فيها ، بل هي غالية
جدا على أهل الكسل والبلادة الذين لم يقدموا من السعي ما يرشحهم للظفر بها ، وهي
لعلوها وتمنعها وغلاء مهرها لا يستطيع أن ينالها من كل ألف إلا واحد فقط ، كما ورد
في الحديث الصحيح : «إن الله عزوجل يقول لآدم عليهالسلام : يا آدم اذهب فأخرج بعث ذريتك إلى النار ، فيخرج من كل
ألف تسعمائة وتسع وتسعون».
وليس من خاطب كفوء
لسلعة الله الغالية ، بل لا ينالها من عباده إلا أولو
التقوى والإيمان ،
فهما ثمنها الذي لا تنال إلا به من دون سائر الأثمان ، ولكنها سلعة بائرة عند
الأخساء من أهل الكفر والفجور والعصيان.
فيا سلعة الرحمن
أين مشتريك ، فقد عرضك مولاك بأيسر الأثمان ، ولكنه ليس يسيرا إلا على كل موفق ذي
ثقة ، ولا يستطيعه أهل الخيبة والخذلان. وأين خطابك الذين يقدمون لك المهر في حال
الحياة ، فإنه قبل الموت ذو إمكان. وكيف سلو هؤلاء الخطاب واصطبارهم عنك إذا كانوا
بك ذوي إيمان ، فو الله لو لا أنك حففت بالمكاره والشدائد لما تخلف عنك إنسان
ولتعطلت النار التي هي دار الجزاء الثاني وخلت من السكان ، ولكن الله حجبك بكل
كريهة حتى لا يطيقك إلا كل مشمر مقدام غير متوان ولا جبان ، وحتى يعرض عنك كل مبطل
كسلان. وهل ينالك في علاك إلا كل عالي الهمة غير مخلد إلى الأرض والحطام الفاني ،
بل ساعيا إلى ربه بمشيئة الرحمن.
* * *
فاتعب ليوم
معادك الأدنى تجد
|
|
راحاته يوم
المعاد الثاني
|
وإذا أبت ذا
الشأن نفسك فات
|
|
همها ثم راجع
مطلع الإيمان
|
فإذا رأيت الليل
بعد وصبحه
|
|
ما انشق عنه
عمودة لأذان
|
والناس قد صلوا
صلاة الصبح وان
|
|
تظروا طلوع
الشمس قرب زمان
|
فاعلم بأن العين
قد عميت فنا
|
|
شد ربك المعروف
بالإحسان
|
واسأله إيمانا
يباشر قلبك ال
|
|
محجوب عنه لتنظر
العينان
|
واسأله نورا
هاديا يهديك في
|
|
طرق المسير إليه
كل أوان
|
والله ما خوفي
الذنوب فانها
|
|
لعلى طريق العفو
والغفران
|
لكنما أخشى
انسلاخ القلب من
|
|
تحكيم هذا الوحي
والقرآن
|
ورضا بآراء
الرجال وخرصها
|
|
لا كان ذاك بمنة
الرحمن
|
الشرح
: وإذا كانت الجنة
لا ينالها إلا من شمر لها وسعى لها سعيها وجد في طلبها ، فكن ممن يؤثر الآجلة على
العاجلة ويتحمل كل ما يصادفه في سيره إلى
الله من المتاعب
والآلام إلى يوم معاده القريب بالموت لتعقبه الراحة الكبرى يوم معاده الثاني
بالبعث والنشور ، وإذا استعصت عليك نفسك وأبت لا الركون والاخلاد إلى عرض هذا
الأدنى ولم ترد إلا الحياة الدنيا ، فأسىء بها الظن واتهمها وامتحن ايمانك فلعله
أن يكون مدخولا ، فإذا رأيت نفسك لا تزال تعيش في ليل لم ينشق فجره ولم يسفر صبحه
، والناس من حولك قد صلوا صلاة الصبح وأخذوا يرقبون طلوع الشمس ، فاعلم بأن عينك
قد أصابها العمى وجعلت عليها غشاوة تمنعها من الرؤية ، فاضرع إلى ربك ذي الكرم
والجود وأسأله أن يهبك إيمانا صادقا يباشر قلبك حتى تنفتح عيناك على الحق وترى
الأشياء رؤية صحيحة واسأله نورا يهديك وأنت سائر إليه حتى لا تضل ولا تعوج ، فليس
الخوف على العبد من ذنوب يلم بها ، فإنها مهما عظمت في معرض العفو والمغفرة ولكن
الخوف كل الخوف من أن يزيغ قلبه ، فيخرج عن تحكيم الكتاب والسنة ولا يرضى بحكمهما
، بل يرضى بآراء الرجال وظنونهم الكاذبة فلا قدر الله علينا ذلك بفضله ورحمته (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ
إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) [آل عمران : ٨]
* * *
فبأي وجه التقى
ربي إذا
|
|
أعرضت عن ذا
الوحي طول زمان
|
وعزلته عمّا
أريد لأجله
|
|
عزلا حقيقيا بلا
كتمان
|
صرّحت أن يقيننا
لا يستفاد
|
|
به وليس لديه من
إتقان
|
أوليته هجرا
وتأويلا وتح
|
|
ريفا وتفويضا
بلا برهان
|
وسعيت جهدي في
عقوبة ممسك
|
|
بعراه لا تقليد
رأي فلان
|
يا معرضا عما
يراد به وقد
|
|
جد المسير
فمنتهاه دان
|
جذلان يضحك آمنا
متبخترا
|
|
فكأنه قد نال
عقد امان
|
خلع السرور عليه
أوفى حلة
|
|
طردت جميع الهم
والاحزان
|
يختال في حلل
المسرة ناسيا
|
|
ما بعدها من حلة
الأكفان
|
ما سعيه إلا
لطيب العيش في الد
|
|
نيا ولو أفضى
إلى النيران
|
قد باع طيب العيش
في دار النعي
|
|
م بذا الحطام
المضمحل الفاني
|
اني أظنك لا
تصدق كونه
|
|
بالقرب بل ظن
بلا ايقان
|
بل قد سمعت
الناس قالوا جنة
|
|
أيضا ونار بل
لهم قولان
|
والوقف مذهبك
الذي تختاره
|
|
واذا انتهى
الإيمان للرجحان
|
أم تؤثر الأدنى
عليه وقالت الن
|
|
فس التي استعلت
على الشيطان
|
أتبيع نقدا
حاصلا بنسيئة
|
|
بعد الممات وطي
ذي الأكوان
|
لو انه بنسيئة
الدنيا لها
|
|
ن الأمر لكن في
معاد ثان
|
دع ما سمعت
الناس قالوه وخذ
|
|
ما قد رأيت
مشاهدا بعيان
|
الشرح
: يعرض المؤلف في
هذه الأبيات الأولى بخصومه الذين أعرضوا عن حكم الوحي ورضوا بالتقليد والتبعية
الذليلة وعزلوا نصوص الوحي عما أريد بها من الإرشاد والبيان عزلا حقيقيا صرحوا به
بلا حياء ولا كتمان ، وقالوا أنها ظواهر لفظية لا يستفاد منها الإيقان ، وهي
خطابيات لم تسم إلى درجة البرهان فأوسعوها هجرا وتعطيلا ، وساموها تحريفا وتأويلا
، وتفويضا وتجهيلا بلا بينة ولا برهان ، ولم يكتفوا بذلك الجرم الشنيع ولا
بالجناية على النصوص ، بل سعوا كذلك جهدهم في عقوبة أهلها المتمسكين بها الذين
ربئوا بأنفسهم عن مهانة التقليد ولم يقبلوا وقد خلقهم الله أحرارا أن يكونوا من
جملة العبيد.
ثم يلتفت بعد ذلك
إلى أهل الغرور والغفلة الذين مد لهم الشيطان في حبل الأماني والأمان ، فأذهلهم
عما يراد بهم وعن قافلة الحياة التي تسير بهم فتطوى أعمارهم طيا وتدنيهم من
نهايتهم ، ترى الواحد منهم يمشي بين الناس جذلان ضاحكا ملء شدقيه متبخترا في حلله
مزهوا بنفسه كأنه قد أمن العاقبة واتخذ عند الله عهدا أن لا يعذبه ، وتراه دائما
مفعما بالسرور والنشوة خالي القلب من جميع الهموم والأحزان عاكفا على سروره ولهوه
غير مفكر في عاقبة أمره ، كل همه وسعيه إنما هو في هناءة هذا العيش ورغده ، ولو
أفضى به إلى جهنم في غده فهو قد باع حظه من نعيم الجنة وصفو سرورها بمتاع هذه
الحياة القليل الذي لا يلبث أن يتلاشى ويزول. والظن بهذا الأحمق الغرير أنه لم
يصدق بقرب وقوع ما
وعد به من الثواب
وأوعد به من العقاب ، بل هو ممن قال الله خبرا عنهم (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا
ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) [الجاثية : ٣٢].
بل هو قد سمع
الناس يذكرون الجنة والنار وقد افترقوا في شأنهما بين كفر وإيمان ، فاختار الوقف
له مذهبا ، فلا صدق ولا كذب ، بل وقف متحيرا مؤثرا للأدنى على الأعلى ، تزين له
نفسه السوء ، وتمد له في حبل الغرور ، وتركب له من منطقها السقيم قياسا فاسدا غير
مستقيم ، وتقول له أتبيع ما في يدك من لهو الحياة ومتعها بشيء بينك وبينه أهوال
ثقال وآماد طوال ، فهو لا يجيء إلا بعد الموت وخراب هذه الدنيا وحصول نشأة أخرى لا
يدري ما ذا سيكون من حالك فيها. فلو أن هذا الجزاء الآجل يحصل في الدنيا لهان الأمر
وخف البيع على ما فيه من مخاطرة ، ولكن كيف الإقدام وهذا الجزاء إنما يتم في حياة
آخرة ، فدع ما يقوله الناس ويمنون به أنفسهم ، واقطف زهرة هذه الحياة واطرح ذكر
العواقب جانبا فإن هذا بيع ظاهر غبنه غير مأمون العاقبة.
* * *
والله لو جالست
نفسك خاليا
|
|
وبحثتها بحثا
بلا روغان
|
لرأيت هذا كامنا
فيها ولو
|
|
أمنت لألقته إلى
الآذان
|
هذا هو السر
الذي من أجله اخ
|
|
تارت عليه
العاجل المتدان
|
نقد قد اشتدت
إليه حاجة
|
|
منها ولم يحصل
لها بهوان
|
أتبيعه بنسيئة
في غير هذي
|
|
الدار بعد قيامة
الأبدان
|
هذا وإن جزمت
بها قطعا ول
|
|
كن حظها في حيّز
الإمكان
|
ما ذاك قطعيا
لها والحاصل ال
|
|
موجود مشهود
برأي عيان
|
فتألفت من بين
شهوتها وشب
|
|
هتها قياسات من
البطلان
|
واستنجدت منها
رضا بالعاجل ال
|
|
أدنى على
الموعود بعد زمان
|
وأتى من التأويل
كل ملائم
|
|
لمرادها يا رقة
الإيمان
|
الشرح
: وهذا الذي تعلله
به النفس من باطل هذا العيش وغروره ومطالبتها
إياه أن يحرص عليه
وأن لا يضحي به في سبيل آجل غير مضمون ليس أمرا فرضيا تقديريا ، بل لو أنه خلا
بنفسه وبحث أغوارها في غير مخادعة لوجده مستقرا في أعماقها ولكنها تخفيه خوفا من
الاتهام بالإلحاد والزندقة ، ولو أنها أمنت لتحدثت به في غير مواربة ولا خفاء ،
وهذا هو حقيقة السر الذي جعلها تختار هذا العاجل القريب على المؤمل البعيد ، فهو
متاع حاضر قد اشتدت رغبتها فيه وتعبت في تحصيله ، فكيف تطيب أن تبيعه بنسيئة ، لا
في هذه الدنيا ولكن في دار أخرى لا تجيء إلا بعد فناء هذه الأجسام وقيامها من
قبورها في نشأة أخرى. هذا ولو أنها جزمت بوجود هذا النعيم في العقبى لكنها لا تدري
إن كانت ستكون من أهله أم لا ، فنصيبها منه غير مقطوع به ، بل هو في حيز الإمكان ،
فكيف يقاس عندها بالحاصل الموجود الذي تحسه وتراه.
وهكذا استطاعت
النفس من بين الشهوات والشبهات أن تؤلف هذه الأقيسة الباطلة وأن تستنتج منها هذه
النتيجة الكاذبة ، وهي اختيار هذا العاجل والرضا به على المؤمل الموعود الذي لن
يجيء إلا بعد زمان بعيد ، ثم وجدت من تأويلات الباطنية والفلاسفة لنصوص الوعد
واعتقاد أنها أمور متخيلة لا حقيقة لها ما يناسب مرادها في الإنكار والجحود ، فجرت
وراءها وتعللت بها لرقة دينها وضعف يقينها.
وهذا والله حال
أغلب الناس وإن كانوا لا يتحدثون به ، ولكن أعمالهم وتصرفاتهم تشهد عليهم بما
يكتمونه في صدورهم ، فإن الواحد منهم يدأب ليله ونهاره في عمل دنياه وخدمة جسده ،
ولكنه يمل ويستثقل أن يطول عليه إمام في خطبة أو صلاة فلا حول ولا قوة إلا بالله.
* * *
وصغت إلى شبهات
أهل الشرك وال
|
|
تعطيل مع نقص من
العرفان
|
واستنقصت أهل
الهدى ورأيتهم
|
|
في الناس
كالغرباء في البلدان
|
ورأت عقول الناس
دائرة على
|
|
جمع الحطام
وخدمة السلطان
|
وعلى المليحة
والمليح وعشرة ال
|
|
أحباب والأصحاب
والأخوان
|
فاستوعرت ترك
الجميع ولم تجد
|
|
عوضا تلذ به من
الإحسان
|
فالقلب ليس يقر
ألا في انا
|
|
ء فهو دون الجسم
ذو جولان
|
يبغي له سكنا
يلذ بقربه
|
|
فتراه شبه
الواله الحيران
|
فيحب هذا ثم
يهوى غيره
|
|
فيظل منتقلا مدى
الأزمان
|
لو نال كل مليحة
ورئاسة
|
|
لم يطمئن وكان
ذا دوران
|
بل لو ينال
بأسرها الدنيا لما
|
|
قرت بما قد ناله
العينان
|
نقّل فؤادك حيث
شئت من الهوى
|
|
واختر لنفسك
أحسن الانسان
|
فالقلب مضطر الى
محبوبه ال
|
|
أعلى فلا يغنيه
حب ثان
|
وصلاحه وفلاحه
ونعيمه
|
|
تجريد هذا الحب
للرحمن
|
فإذا تخلى منه
أصبح حائرا
|
|
ويعود في ذا
الكون ذا هيمان
|
الشرح
: والنفس حين يكون
فيها شهوة خفية إلى الاقتناع بشيء من الأشياء فإنها تتلمس كل الوسائل التي تبرر
هذا الاقتناع ، فتراها تنزع وتميل إلى شبهات أهل الشرك والتعطيل ممن لا يؤمنون
بحشر الأجساد ولا يقرون بنعيم حسى ولا بآلام جسدية ستجري على العباد ، هذا مع
نقصها في العلم والعرفان وعدم قدرتها على إدراك ما في هذه الآراء من فساد وبطلان
وتراها كذلك تستنقص أهل لهدى والإيمان وتزدريهم حين تشاهد قلتهم وغربتهم بين الأهل
والأوطان. ثم هي مع ذلك تأتسي بمن حولها من الناس الذين لا هم لهم إلا جمع هذا
الحطام الفاني ، والسعي في خدمة من تنشد الزلفى لديه من أمير أو سلطان ، والحرص
على لظفر بما تعلقت به النفس من مليحة حسنا أو مليح حسن ، وعشرة ما أنست به من
الأصحاب والخلان.
فهي تستوحش أن
تفارق هذا كله وأن تقطع كل هذه العلائق وتعيش وحدها في عزلة ، لا سيما وهي فارغة
ليس فيها من المعاني ما يعوضها عما فارقت ويصلح أن يقوم بدله.
وشأن القلب ليس
كشأن الجسم ، بل هو دائم القلق والاضطراب لا يستقر على حال الا ويتطلع إلى أحسن
منها ، فهو يطلب ما يسكن إليه وينعم بقربه ، كمثل العاشق الولهان ، ولكنه لا يسكن
إلى شيء أبدا ، بل يحب هذا الآن ثم ينتقل منه إلى غيره مما هو أطيب وألذ ، وهكذا
يظل متنقلا على مدى الأزمان ، بل لو ظفر بكل مليحة ورئاسة لم يقر قراره وظل في
اضطراب وجولان ، بل لو حيزت له الدنيا كلها بما فيها من متع ورغائب لما قرت منه
العينان ، فلا قرار للقلب ولا سكن إلا بالوصول إلى محبوبه الأول وهو الله جل شأنه
، فمعرفته والقرب منه هو غذاء القلوب وقوتها وسكنها وراحتها وغاية مطلوبها الذي لا
تطمح إلى شيء وراءه. فمهما جلت بفؤادك بين مغاني الهوى وارتدت له آنق المرعى ،
وجلبت له كل ما على الأرض من حسن فهو شاعر بالفقر والحرمان ، لأنه مضطر إلى محبوبه
الأعلى جل شأنه ، فلا يتعوض عنه بأي حب كان. فصلاحه وفلاحه ونعيمه وأنسه وراحته وسكنه
في توحيد حبه للرحمن ، فإذا ما أقفر من هذا الحب عاودته الحيرة والاضطراب ورجع إلى
حاله من الاضطراب والجولان.
* * *
فصل
في زهد أهل العلم والإيمان وإيثارهم الذهب الباقي على الخزف الفاني
لكن ذا الإيمان
يعلم أن ه
|
|
ذا كالظلال وكل
هذا فان
|
كخيال طيف ما
استتم زيارة
|
|
الا وصبح رحيله
بأذان
|
وسحابة طلعت
بيوم صائف
|
|
فالظل منسوخ
بقرب زمان
|
وكزهرة وافى
الربيع بحسنها
|
|
أو لامعا
فكلاهما أخوان
|
أو كالسراب يلوح
للظمآن في
|
|
وسط الهجير
بمستوى القيعان
|
أو كالأماني طاب
منها ذكرها
|
|
بالقول واستحضارها
بجنان
|
وهي الغرور رءوس
أموال المفا
|
|
ليس الألى
اتجروا بلا أثمان
|
أو كالطعام يلذ
عند مساغه
|
|
لكن عقباه كما
تجدان
|
هذا هو المثل
الذي ضرب الرسو
|
|
ل لها وذا في
غاية التبيان
|
الشرح
: أما أهل العلم
والإيمان فهم يعرفون هذه الدنيا على حقيقتها فلا يغرهم منها بهرج ولا يخدعهم منها
رواء ، وهم يضربون لها الأمثال التي تكشف عن جوهرها وتدل على قصر عمرها ، فهم
يشبهونها بتلك الأفياء التي تكون ممتدة ثم تتقلص رويدا رويدا حتى تذهب وتزول ، أو
بخيال طيف ألم برأس نائم ، فما استتم زورته حتى آذن بالرحيل.
أو بسحابة طلعت في
يوم قيظ ، فما أن انتشر ظلها حتى طلعت عليها الشمس فمحت هذا الظل القليل ، أو
بزهرة في الروض أقبل الربيع بنضرتها وازدهارها ثم آل أمرها إلى تصوح وذبول.
أو ببرق لمع من
خلال السحاب فأضاء الأفق ثم انطفأ فانتشر بعده ظلام ثقيل أو بسراب يتراءى في القيعان
فيهرع إليه الظمآن يحسبه ماء ، فإذا جاءه لم يرو منه الغليل ، أو بالأماني الحلوة
ينعم بذكرها اللسان ويستحضر صورتها الجنان ، ثم لا يرى لها في الواقع تأويل ،
والدنيا هي متاع الغرور كما سماها الله عزوجل ، وهي رأس مال العجزة المفاليس الذين أقفرت نفوسهم من كل
معنى سبيل ، وهي أشبه بالطعام يحلو لآكله عند مضغه ويجد له حلاوة على لسانه ، ثم
يكون نهايته عند غائط أو بول.
هذا هو المثل الذي
ضربه لها الرسول صلىاللهعليهوسلم ، وهل هناك بعد القرآن أوضح وأبين من أمثال الرسول؟
* * *
وإذا أردت ترى
حقيقتها فخذ
|
|
منه مثالا واحدا
ذا شان
|
أدخل بجهدك
إصبعا في أليم وان
|
|
ظر ما تعلقه إذا
بعيان
|
هذا هو الدنيا
كذا قال الرسو
|
|
ل ممثلا والحق
ذو تبيان
|
وكذاك مثلها بظل
الدوح في
|
|
وقت الحرور
لقائل الركبان
|
هذا ولو عدلت
جناح بعوضة
|
|
عند الإله الحق
في الميزان
|
لم يسق منها
كافرا من شربة
|
|
ماء وكان الحق
بالحرمان
|
تالله ما عقل
امرئ قد باع ما
|
|
يبقى بما هو
مضمحل فان
|
هذا ويفتي ثم
يقضي حاكما
|
|
بالحجر من سفه
لذا الانسان
|
اذ باع شيئا
قدره فوق الذي
|
|
يعتاضه من هذه
الأثمان
|
فمن السفيه
حقيقة ان كنت ذا
|
|
عقل واكن العقل
للسكران
|
والله لو أن
القلوب شهدن من
|
|
ا كان شأن غير
هذا الشأن
|
نفس من الأنفاس
هذا العيش إن
|
|
قسناه بالعيش
الطويل الثاني
|
يا خسة الشركاء
مع عدم الوفاء
|
|
ء وطول جفوتها
من الهجران
|
هل فيك معتبر
فيسلو عاشق
|
|
بمصارع العشاق
كل زمان
|
لكن على تلك
العيون غشاوة
|
|
وعلى القلوب
أكنة النسيان
|
الشرح
: وإذا أردت أن تعرف
حقيقة الدنيا وخسة قدرها وقلة متاعها فخذ لها مثالا واحدا ضربه الرسول صلىاللهعليهوسلم بقوله : «ما الدنيا في الآخرة إلا كما يدخل أحدكم إصبعه في
اليم فلينظر بم يرجع» فما ذا يعلق بإصبعه من ماء البحر إن هو أدخله فيه ، إن ذلك
لا يعدو أن يكون قطرة لا تقاس بذلك الخضم الكبير وكذلك شبهها صلىاللهعليهوسلم بظل شجرة قال تحتها الراكب ثم انصرف عنها قال عليه الصلاة
والسلام : «ما لي وللدنيا إنما أنا فيها كراكب قال تحت شجرة في يوم صائف ثم راح
وتركها» وقال صلوات الله وسلامه عليه فيما صح عنه : «لو كانت الدنيا تعدل عند الله
جناح بعوضة ما سقى الكافر منها جرعة ماء» فجعلها أهون شأنا عند الله من أحقر
المحقرات وهو جناح البعوض.
فبالله أي عقل
يمكن أن يدعى لرجل باع ما يبقى أبد الآباد فما له من نفاد بعرض قصير الأمد سريع
الزوال ، ثم هو مع ذلك يفتي ويقضي على فلان بالحجر والمنع من التصرف في ماله لأنه
سفيه وسفاهته أنه باع شيئا من ماله بأقل مما يستحقه من ثمن ، فمن الأحق باسم
السفيه إذا؟ أأنت يا من بعث أشرف اللذات وأدومها بلعاعات من الدنيا وتفاهات من
العيش ، أم ذاك الذي حكمت بسفهه
والحجر عليه لأنه
غبن في دراهم معدودات وو الله لو أن بصائر القلوب مفتوحة تشهد هذه الحقائق
وتتدبرها لكان شأننا غير هذا الشأن ، فإن من الحمق والسفه قياس فان بباق ، ولو جاز
لنا أن نقيس لقلنا أن هذا العيش في عيش الآخرة كنفس واحد من الأنفاس ، فهو متاع
خسيس لا وفاء لأهله ولا حفاظ على مودة ولا رعاية لعشير أو شريك ، فيا موله القلب
في حب الدنيا أما لك معتبر فيمن مضى قبلك من عشاقها وقد شهدت مصارعهم وسمعت عنها ،
ولكن على تبصير منك غشاوة وعلى قلبك غطاء من النسيان.
* * *
وأخو البصائر
حاضر متيقظ
|
|
متفرد عن زمرة
العميان
|
يسمو إلى ذاك
الرفيق الأرفع الأ
|
|
على وخلى اللعب
للصبيان
|
والناس كلهم
فصبيان وإن
|
|
بلغوا سوى
الأفراد والوحدان
|
واذا رأى ما
يشتهيه قال مو
|
|
عدك الجنان وجد
في الأثمان
|
واذا أبت الا
الجماح أعاضها
|
|
بالعلم بعد
حقائق الإيمان
|
ويرى من الخسران
بيع الدائم ال
|
|
باقي به يا ذلة
الخسران
|
ويرى مصارع
أهلها من حوله
|
|
وقلوبهم كمراجل
النيران
|
حسراتها هن
الوقود فإن خبت
|
|
زادت سعيرا
بالوقود الثاني
|
جاءوا فرادى مثل
ما خلقوا بلا
|
|
مال ولا أهل ولا
اخوان
|
ما معهم شيء سوى
الأعمال فه
|
|
ي متاجر للنار
أو لجنان
|
تسعى بهم
أعمالهم سوقا إلى الد
|
|
ارين سوق الخيل
بالركبان
|
صبروا قليلا
فاستراحوا دائما
|
|
يا عزة التوفيق
للإنسان
|
حمدوا التقى عند
الممات كذا السرى
|
|
عند الصباح
فحبذا الحمدان
|
وحدت بهم
عزماتهم نحو العلى
|
|
وسروا فما نزلوا
إلى نعمان
|
باعوا الذي يفنى
من الخزف الخسي
|
|
س بدائم من خالص
العقيان
|
رفعت لهم في
السير اعلام السعا
|
|
دة والهدى يا
ذلة الحيران
|
فتسابق الأقوام
وابتدروا لها
|
|
فتسابق الفرسان
يوم رهان
|
وأخو الهوينا في
الديار مخلف
|
|
مع شكله يا خيبة
الكسلان
|
الشرح
: وأما أخو البصيرة
فهو دائما حاضر القلب يقظان لا يجري مع أهل اللهو في لهوهم ، ولا يسير مع جماعة
السكارى والعميان ، ولا ينحط إلى طلب هذا المتاع الأرضي الحقير الفاني ، بل يسمو
دائما بهمته وروحه إلى الرفيق الأرفع في أعلى الجنان ، وقد ترك اللعب في هذه
الدنيا وخلاه للصبيان ، والناس كلهم صبيان العقول وإن كبرت أجسامهم إلا أفرادا
قليلين في كل زمان.
وإذا رأى العاقل
البصير ما تشتهيه نفسه لم ينقد لها ولم يسرع إلى تلبية ندائها ولكنه يقول لها
موعدك الجنان ، ثم يجد في تحصيل ما تتطلبه الجنة ، تلك السلعة الغالية من مهر
وأثمان.
وإذا أبت نفسه إلا
العناد والجماح ولم تستنم لهذه العدة الكريمة أعاضها عن ذلك بلذة العلم والعرفان ،
ويرى بحق أن بيع الدائم الباقي بذلك العرض الفاني من أفحش الغبن وأقبح الخسران.
ويشاهد مصارع أهل
الدنيا من حوله وما تغلي به صدورهم من سعير الشهوات ولاذع الحسرات وجمر الأحقاد
والعداوات ، فكلما خبت وضعف لهبها جاءها الوقود فازدادت به اشتعالا واتقادا ، ثم
أن هؤلاء الأكياس الفطناء تخففوا من هذه الدنيا ، فجاءوا إلى الله فرادى كما خلقهم
أول مرة ، لا مال ولا أهل ولا اخوان بل ليس معهم سوى أعمالهم التي هي متاجر وأثمان
للجنان أو للنيران. فأعمالهم هي التي تسعى بهم وتسوقهم أما إلى هذه الدار أو تلك ،
كما تساق الخيل قد امتطاها الفرسان ، فهم صبروا قليلا على لأواء هذه الدنيا وشدتها
فاستراحوا الراحة الكبرى بتوفيق العزيز المنان ، حمدوا عند الممات استمساكهم بعرى
التقوى ، كما يحمد القوم عند الصباح السري ، فيا لهما حمدان.
ونهضت بهم عزائمهم
نحو العلى فسروا إليها مدلجين ولم ينزلوا بشيء من منازل الطريق مستريحين ، ولكنهم
واصلوا السير إلى غايتهم معرضين عن هذا الخزف الخسيس مؤثرين عليه الذهب النفيس.
وقد رفعت لهم في سيرهم رايات
السعادة والهداية
فتبينوا معالم الطريق ، فساروا قاصدين غير متعثرين ولا معوجين ولا وانين ولا
متخلفين حتى وصلوا إلى غايتهم سالمين.
وأما البطيء
الكسلان الذي قعدت به همته فلم يستطع اللحاق بركب الصاعدين بل بقي مخلفا في الديار
مع المخلفين ، إن هذا لهو الخسران المبين.
* * *
فصل
في رغبة قائلها إلى من يقف عليها من أهل العلم والإيمان أن
يتجرد لله
ويحكم عليها بما يوجبه الدليل والبرهان ، فإن رأى حقا قبله
وحمد
الله عليه وإن رأى باطلا عرف به وأردت إليه
يا أيها القارئ
لها اجلس مجلس ال
|
|
حكم الأمين أتى
له الخصمان
|
واحكم هداك الله
حكما يشهد ال
|
|
عقل الصريح به
مع القرآن
|
واحبس لسانك
برهة عن كفره
|
|
حتى تعارضها بلا
عدوان
|
فإذا فعلت فعنده
أمثالها
|
|
فنزال آخر دعوة
الفرسان
|
فالكفر ليس سوى
العناد ورد ما
|
|
جاء الرسول به
لقول فلان
|
فانظر لعلك هكذا
دون الذي
|
|
قد قالها فتفوز
بالخسران
|
فالحق شمس
والعيون نواظر
|
|
لا تختفي إلا
على العميان
|
والقلب يعمى عن
هداه مثل ما
|
|
تعمى وأعظم هذه
العينان
|
الشرح
: بعد أن فرغ المؤلف
من نظم هذه القصيدة الجامعة التي عالج فيها القضايا الإيمانية ونصر مذهب السلف بما
لا يحصى من البراهين العقلية والنقلية ودحض مذاهب المعطلة النفاة ورد عليهم بأدلة
حاسمة قوية ، توجه إلى من قرأها
وتأمل أبياتها أن
ينصب من نفسه حكما أمينا منزها من الهوى والتعصب ، وأن يحكم لها أو عليها حكما قائما
على العقل الصريح الخالي من شوائب الوهم وعلى النصوص القرآنية الواضحة.
ثم طلب إليه أن لا
يتسرع في رمي قائلها بالكفر حتى يقوم بمعارضتها معارضة نزيهة لا يقصد بها إلا وجه
الحق في غير ظلم ولا عدوان ، فإن هو فعل ذلك ولا أخاله يفعل ، فسيجد عنده من
أمثالها ما يهدم معارضته ويفل غربها ، لأنه مستعد لقراع الأبطال ومنازلتهم في
مضمار الحجاج والجدال ، على أنه لا يستحق أحد اسم الكفر إلا إذا عاند الحق ورد ما
جاء به الرسول صلىاللهعليهوسلم من أجل آراء الناس وأقوالهم. فانظر إذا أيها المتسرع
بالتكفير لعلك أن تكون أنت المتصف بما يوجب الكفر دون قائلها فترجع بالخيبة
والخذلان ، فالحق في ظهوره ووضوحه كالشمس في رأد الضحى صحوا ليس دونها قتر ولا
سحاب ، والعيون السليمة تراها وتنظر إليها فلا تخفى إلا على العميان ، فكذلك بصيرة
القلب في إدراكها للحق إذا كانت سليمة غير مدخولة ، ولكنها أحيانا تعمى وتنطمس مثل
ما تعمى العينان ، بل أشد وأعظم ، كما قال تعالى : (فَإِنَّها لا تَعْمَى
الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج : ٤٦] فقوله
: (أعظم) عطف على (مثل) وقوله : (هذه العينان) فاعل تعمى.
* * *
هذا واني بعد
ممتحن بأر
|
|
بعة وكلهم ذوو
أضغان
|
فظ غليظ جاهل
متعلم
|
|
ضخم العمامة
واسع الأردان
|
متفيهق متضلع
بالجهل ذو
|
|
صلع وذو جلح من
العرفان
|
مزجى البضاعة في
العلوم وأنه
|
|
زاج من الايهام
والهذيان
|
يشكو إلى الله
الحقوق تظلّما
|
|
من جهله كشكاية
الأبدان
|
من جاهل متطبب
يفتي الورى
|
|
ويحيل ذاك على
قضا الرحمن
|
عجت فروج الخلق
ثم دماؤهم
|
|
وحقوقهم منه إلى
الديان
|
ما عنده علم سوى
التكفير والت
|
|
بديع والتضليل
والبهتان
|
فإذا تيقن أنه
المغلوب عن
|
|
د تقابل الفرسان
في الميدان
|
قال اشتكوه إلى
القضاة فانهم
|
|
حكموا وألا
أشكوه للسلطان
|
قولوا له هذا
يحل الملك بل
|
|
هذا يزيل الملك
مثل فلان
|
فاعقره من قبل
اشتداد الأمر من
|
|
ه بقوة الاتباع
والأعوان
|
وإذا دعاكم
للرسول وحكمه
|
|
فادعوه كلكم
لرأي فلان
|
وإذا اجتمعتم في
المجالس فالغوا
|
|
والغوا اذا ما
احتج بالقرآن
|
واستنصروا
بمحاضر وشهادة
|
|
قد أصلحت بالرفق
والاتقان
|
لا تسألوا
الشهداء كيف تحملوا
|
|
وبأي وقت بل بأي
مكان
|
وارفوا شهادتهم
ومشوا حالها
|
|
بل أصلحوها غاية
الإمكان
|
وإذا هم شهدوا
فزكوهم ولا
|
|
تصغوا لقول
الجارح الطعان
|
قولوا العدالة
منهم قطعية
|
|
لسنا نعارضها
بقول فلان
|
ثبتت على الحكام
بل حكموا بها
|
|
فالطعن فيها ليس
ذا إمكان
|
من جاء يقدح
فيهم فليتخذ
|
|
ظهرا كمثل حجارة
الصوان
|
واذا هو
استعداهم فجوابكم
|
|
أتردها بعداوة
الديان
|
الشرح
: يذكر المؤلف في
هذه الأبيات والتي بعدها كيف امتحن بتألّب الخصوم والأعداء عليه وعلى شيخه العظيم
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهماالله ، وكيف كانوا يدبرون لهما المكايد ويستعدون عليهما الشعوب
والحكام فلله كم لقي هذان الامامان الجليلان من عداوات واحن صنعها الجهل والتعصب
الأعمى من الفقهاء الجامدين وزنادقة المتكلمين والصوفية المارقين ، ومن كان يسمع
لهم من الأمراء والسلاطين وكثير غير هؤلاء من العامة والدهماء الذين كانوا يدينون
دين الخرافة من عبادة القبور والعكوف عليها وتأليه شيوخ الصوفية والخضوع لهم. فصبرا
على ما امتحنا وثبتا في وجه الباطل وتحملا الاضطهاد والحبس حتى أقاما حجة الله في
أرضه ، وتركا من بعدهما ثروة علمية ، هي لباب العلم وخلاصة
المعرفة وهي
الإسلام نقيا من كل شائبة ، فجزاهما الله عن كل من انتفع بعلمهما خير ما يجزي به
العلماء العاملين.
يذكر المؤلف أنه
امتحن بأربعة أصناف من الناس وكلهم ذوو ضغن وأحقاد عليه ، أما الأول فهو من ذلك
النوع الذي يستر جهله بالكبر والنفخة ويتوارى وراء الثياب الواسعة الفضفاضة
والكلمات الفخمة الطنانة ، فهو كما يقول فظ غليظ الطبع ، جاهل يتظاهر بالعلم ، حسن
المظهر والرواء ، فهو ضخم العمامة واسع الأكمام متفيهق يتشدق بالكلام ، وهو راسخ
في الجهل ، ومع ذلك من يراه يظنه من أهل المعرفة لصلع رأسه ، وهو قليل البضاعة في
العلم ، ولكنه ذو ثروة هائلة من الأوهام والخرافات. وهو إذا كان قاضيا لا يعرف
وجوه القضاء ، فكم ضيع من حقوق ، حتى أن الحقوق لتشكو إلى الله متظلمة من جهله ،
كما تشكو الأبدان من طبيب جاهل لا يعرف كيف يشخص الداء ليصف له الدواء المناسب فهو
يقتل الناس بجهله ويحمل ذلك على القضاء والقدر. وكم ضجت منه فروج الناس ودماؤهم
وحقوقهم التي ضيعها إلى الله الملك الديان.
وقصارى علمه رمي
خصومه بأشنع التهم من التكفير والتبديع والتضليل وبهتهم بالإثم والعدوان ، فإذا
دعى إلى المناظرة وأيقن أنه منهزم مغلوب لجأ إلى حيلة العاجز الضعيف ، وهي الجأر
بالشكوى مرة إلى القضاء ومرة إلى السلطان وهو يستعدي عليه السلطان بأن كلامه هذا
يثير فتنة تحل عقد الملك ، بل تزيله وأن الواجب هو عقره والقضاء عليه قبل أن يجتمع
عليه الناس ويكثر أتباعه وأعوانه. وهو يوصي من معه ويرسم لهم الخطط ، فيقول إذا
دعاكم إلى الكتاب والسنة ، فادعوه إلى ما قال الغزالي والرازي وغيرهما ، وإذا
اجتمعتم معه في مجلس فشوشوا عليه حتى لا يسمع كلامه ، وإذا ما ساق حجج القرآن
فالغوا فيها وردوها عليه بأنها ظواهر لفظية لا تفيد اليقين ، ثم استنصروا عليه بما
حرر ضده من محاضر وبشهادات الزور التي أديت ضده بإحكام وإتقان ، ولا تسألوا هؤلاء
الشهود كيف تحملوها ولا عن وقت تحملها ومكانه ، بل أصلحوا ما فيها من خلل وسووها
تسوية حتى تقبل ، وإذا هم شهدوا عليه بالزور فزكوا شهادتهم ولا
تلتفتوا إلى قول
من يجرحهم أو يطعن فيهم ، وقولوا له أن عدالتهم قطعية قد حكم بها الحكام وقبلها
القضاة ، فالطعن فيها مستحيل ، ومن أراد أن يقدح في عدالتهم فليستند على ظهر متين.
* * *
فصل
في حال العدو الثاني
أو حاسد قد بات
يغلي صدره
|
|
بعداوتي كالمرجل
الملآن
|
لو قلت هذا
البحر قال مكذبا
|
|
هذا السراب يكون
بالقيعان
|
أو قلت هذي
الشمس قال مباهتا
|
|
الشمس لم تطلع
إلى ذا الآن
|
أو قلت قال الله
قال رسوله
|
|
غضب الخبيث وجاء
بالكتمان
|
أو حرف القرآن
عن موضوعه
|
|
تحريف كذاب على
القرآن
|
صال النصوص عليه
فهو بدفعها
|
|
متوكل بالدأب
والديدان
|
فكلامه في النص
عند خلافه
|
|
من باب دفع
الصائل الطعان
|
فالقصد دفع النص
عن مدلوله
|
|
كيلا يصول اذا
التقى الزحفان
|
الشرح
: وأما الصنف الثاني
من الخصوم فهو حاسد شانئ قد رأى تفوق المؤلف في العلم وبزه للأقران ، فامتلأ قلبه
منه بالحسد والشنآن وباتت مراجل غيظه تغلي منه كغلي المرجل الملآن ، فجعل همه
ووكده دفع كلامه وردّه ولو كان في غاية الوضوح والبيان وكان صدقه باديا للعيان ،
فلو قال هذا هو البحر ، لقال هذا العدو الكاشح إنه ليس بحرا ، بل هو سراب بقيعة ،
ولو قال هذه الشمس طالعة تملأ الأفق ، لقال هذا الخبيث مباهتا إننا لا نزال بليل
وأن الشمس لم تطلع بعد ، ولو أورد المؤلف النصوص من الكتاب والسنة محتجا بها ، عمد
هذا الشرير إلى كتمانها أو حرّف الكلم عن مواضعه تحريف مكذب بها ، فهو يخشى صولة
النصوص على آرائه المتهافتة فيبادر إلى ردها.
ويجعل ذلك هجيراه
وديدنه ، فكلامه في النص بالتحريف والتأويل عند
مخالفته لرأيه
الهزيل من قبيل الدفع للصائل الطعان ، فقصده كله هو دفع النص ورده عن مدلوله كي لا
يصول عليه اذا التقت الفئتان وتناجز الخصمان.
* * *
فصل
في حال العدو الثالث
والثالث الأعمى
المقلد ذينك الر
|
|
جلين قائد زمرة
العميان
|
فاللعن والتكفير
والتبديع والت
|
|
ضليل والتفسيق
بالعدوان
|
فاذا هم سألوه
مستندا له
|
|
قال اسمعوا ما
قاله الرجلان
|
الشرح
: وأما الصنف الثالث
فأعمى القلب والبصيرة لا علم عنده ولا معرفة بل رضي أن يعيش ذيلا لذينك الرجلين
السابقين ويقلدهم فيما يقولونه ، وهو يقود جماعة من الجهلة المتعصبين مثله ، وهذا
الصنف لجهله وقلة بضاعته من العلم لا شغل له إلا أن يردد اتهامات السابقين باللعن
والتكفير والتبديع والتضليل والرمي بالفسوق ظلما وعدوانا في غير تحرج ولا حياء.
فإذا سئل دليلا
على ما يقول لم يجد حيلة إلا أن يحيل سائله على ما قاله الرجلان السابقان فيه.
* * *
فصل
في حال العدو الرابع
هذا ورابعهم
وليس بكلبهم
|
|
حاشا الكلاب
الآكلي الأنتان
|
خنزير طبع في
خليقة ناطق
|
|
متسوف بالكذب
والبهتان
|
كالكلب يتبعهم
يشمشم أعظما
|
|
يرمونها والقوم
للحمان
|
يتفكهون بها
رخيصا سعرها
|
|
ميتا بلا عوض
ولا أثمان
|
هو فضلة في
الناس لا علم ولا
|
|
دين ولا تمكين
ذي سلطان
|
فإذا رأى شرا
تحرك يبتغي
|
|
ذكرا كمثل تحرك
الثعبان
|
ليزول منه أذى
الكساد فينفق ال
|
|
كلب العقور على
ذكور الضان
|
فبقاؤه في الناس
أعظم محنة
|
|
من عسكر يعزى
إلى غازان
|
هذي بضاعة ضارب
في الأرض يب
|
|
غي تاجرا يبتاع
بالأثمان
|
وجد التجار
جميعهم قد سافروا
|
|
عن هذه البلدان
والأوطان
|
الا الصعافقة
الذين تكلفوا
|
|
أن يتجروا فينا
بلا أثمان
|
فهم الزبون لها
فبالله ارحموا
|
|
من بيعة من مفلس
مديان
|
يا رب فارزقها
بحقك تاجرا
|
|
قد طاف بالآفاق
والبلدان
|
ما كل منقوش
لديه أصفر
|
|
ذهبا يراه خالص
العقيان
|
وكذا الزجاج
ودرة الغواص في
|
|
تمييزه ما إن
هما مثلان
|
الشرح
: وأما الصنف الرابع
فهو رذل خسيس الطبع كالخنزير الذي يتقمم المزابل وإن كان في صورة انسان ناطق ،
يتسول القوم ويجري وراءهم كالكلب عسى أن يصيب منهم عظما يفرح به وينهش فيه ، تاركا
لهم قطعان اللحم وافرة من عرض المؤلف ، فهم يتمتعون بها رخيصة السعر ، كالميت الذي
لا عرض له ولا ثمن. وهذا الصنف من سقط الناس وحشوهم ليس له حيثية ولا قدر ، فلا
علم ولا دين ولا سلطة ، ولكنه يبغي الظهور والشهرة ، فإذا هاج الشر وثارت الفتنة
تحرك نحوها كما تتحرك الحية ، لينفق سوقه ويزول عنه معرة الكساد ، كما ينفق الكلب
العقور هجم على ذكور الضأن. فهذا الصنف وجوده في الناس أعظم بلية وأقسى محنة ، بل
هو شر من وجود عسكر التتار ، فهو يضرب في الأرض يبتغي مشتريا لشره وفساده ، فلما
وجد التجار جميعا قد رحلوا عن هذه الأوطان ولم يبق فيها إلا هؤلاء المفاليك الذين
يتجرون في أعراض أفاضل الناس بلا عوض ولا أثمان ، قدم نفسه زبونا لهم يشتري منهم
ويروج لتجارتهم. فيا من يرحم هذه الأعراض واللحمان من أن تباع بيع السماح لعاجز
مفلس قد ركبته الديون.
فيا رب ارزقها
بتاجر بصير قد جوب الآفاق وطاف بالأمصار حتى اكتسب
خبرة ومهارة ، فهو
يستطيع أن يميز الجيد من الزيف ، فليس كل منقوش أصفر يعده ذهبا ، ولا يسوي بين
الزجاج ودرة الغواص.
* * *
فصل
في توجه أهل السنة إلى رب العالمين أن ينصر
دينه وكتابه ورسوله وعباده المؤمنين
هذا ونصر الدين
فرض لازم
|
|
لا للكفاية بل
على الأعيان
|
بيد وأما
باللسان فان عجز
|
|
ت فبالتوجه
والدعاء بجنان
|
ما بعد ذا والله
للإيمان حب
|
|
ه خردل يا ناصر
الإيمان
|
بحياة وجهك خير
مسئول به
|
|
وبنور وجهك يا
عظيم الشأن
|
وبحق نعمتك التي
أوليتها
|
|
من غير ما عوض
ولا أثمان
|
وبحق رحمتك التي
وسعت جميع ال
|
|
خلق محسنهم كذاك
الجاني
|
وبحق أسماء لك
الحسنى معا
|
|
نيها نعوت المدح
للرحمن
|
وبحق حمدك وهو
حمد واسع ال
|
|
أكوان بل أضعاف
ذي الأكوان
|
وبأنك الله
الإله الحق مع
|
|
بود الورى متقدس
عن ثان
|
بل كل معبود
سواك فباطل
|
|
من دون عرشك
للثرى التحتاني
|
وبك المعاذ ولا
ملاذ سواك أن
|
|
ت غياث كل ملدد
لهفان
|
من ذاك للمضطر
يسمعه سوا
|
|
ك يجيب دعوته مع
العصيان
|
إنّا توجهنا
إليك لحاجة
|
|
ترضيك طالبها
أحق معان
|
فاجعل قضاها بعض
انعمك التي
|
|
سبغت علينا منك
كل زمان
|
الشرح
: بعد أن فرغ المؤلف
من ذكر صنوف أعداء التوحيد والسنة وطريق سلف الأمة من أهل الزيغ والضلال والإلحاد
والبدعة توجه إلى إخوانه من أهل السنة المحمدية وأنصار الطريقة السلفية التي هي
الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام
الساعة موصيا لهم
بالدفاع عن الإسلام والجهاد لاعلاء كلمته ضد خصومه من سائر فرق الضلال وأشياع
الباطل ، مبينا أن هذا فرض حتم على كل أحد ، وليس فرضا على الكفاية حتى يكفي قيام
جماعة به ويسقط الحرج عن بقيتهم.
وهذا النصر
للإسلام والجهاد لإزالة كل ما يخالفه له ثلاث مراتب : فأولها وأعلاها أن يكون
باليد مع القدرة والإمكان. وأوسطها أن يكون بالإرشاد والنصح والبيان لمن عجز عن
إزالته باليد. وأدناها أن يكون إنكارا بالقلب وتوجها بالدعاء إلى الله أن ينصره
ويعليه.
وقد بين النبي صلىاللهعليهوسلم هذه المراتب بقوله في الحديث الصحيح : «من رأى منكم منكرا
فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان».
وبقوله في الحديث
الصحيح الآخر : «خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم
ثم تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون ، فمن جاهدهم
بيده فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن ليس وراء
ذلك من الإيمان حبة خردل».
ولما كان المؤلف رحمهالله ومن معه من إخوانه الموحدين ليس في مقدورهم القيام بالدرجة
الأولى ، وهي نصر دين الله بالسيف والسنان ، وذلك لقلتهم وضعفهم وسط جيوش الجهل
والظلم التي لها الصولة والدولة ، فقد توجه إلى الله عزوجل بهذا الدعاء الضارع والنداء الذليل ، متوسلا إليه بأحب
الوسائل لديه وهي أسماؤه الحسنى وصفاته العليا ، فهو يسأله بحياة وجهه ونوره
وبعظمة جلاله وشأنه وقديم سلطانه وبحق نعمه وآلائه التي أولاها ووهبها من غير سابق
عمل ولا سعي تكون جزاء له ، وبحق رحمته التي وسعت جميع خلقه في الدنيا ، مؤمنهم
وكافرهم ، برهم وفاجرهم ، وبحق أسمائه الحسنى كلها الدالة على صفات كماله التي
يمدح ويثنى عليه بها. وبحق حمده الذي ملأ الأكوان كلها ، بل هو أضعاف
أضعافها. ويسأله
كذلك بحق إلهيته التي تفرد بها وتنزه عن أن يكون له شريك فيها ، فليس معه إله غيره
، بل كل ما عبد سواه فعبادته محض الباطل وعين الضلال والافتراء من العرش إلى الفرش
، وبه وحده العوذ والتحصن من كل شر وسوء ، وهو الملاذ لعبده من كل خوف ومكروه. وهو
الغياث لكل مكروب وملهوف ، فمن غيره للمضطر يسمعه ويجيب دعوته مع عصيانه ومخالفته.
ثم قال بعد هذه
التوسلات القوية التي تزيح الجبال من أماكنها ، إنّا قد توجهنا أليك بحاجة فيها
حبك ورضاك ، وطالبها أحق بعونك من كل من دعاك ، فاجعل قضاءها من جملة النعم التي
أوليتها في جميع الأوقات.
* * *
أنصر كتابك
والرسول ودينك ال
|
|
عالي الذي أنزلت
بالبرهان
|
واخترته دينا
لنفسك واصطفي
|
|
ت مقيمه من أمة
الإنسان
|
ورضيته دينا لمن
ترضاه من
|
|
هذا الورى هو
قيم الأديان
|
وأقر عين رسولك
المبعوث بال
|
|
دين الحنيف
بنصره المتدان
|
وانصره بالنصر
العزيز كمثل ما
|
|
قد كنت تنصره
بكل زمان
|
يا رب وانصر خير
حزبينا على
|
|
حزب الضلال
وعسكر الشيطان
|
يا رب واجعل شر
حزبينا فدى
|
|
لخيارهم ولعسكر
القرآن
|
يا رب واجعل
حزبك المنصور أه
|
|
ل تراحم وتواصل
وتدان
|
يا رب وارحمهم
من البدع التي
|
|
قد أحدثت في
الدين كل زمان
|
يا رب جنبهم
طرائقها التي
|
|
تفضي بسالكها
إلى النيران
|
يا رب واهدهم
بنور الوحي كي
|
|
يصلوا أليك
فيظفروا بجنان
|
يا رب كن لهم
وليا ناصرا
|
|
واحفظهم من فتنة
الفتان
|
وانصرهم يا رب
بالحق الذي
|
|
أنزلته يا منزل
القرآن
|
الشرح
: هذه هي الحاجة
التي يريد المؤلف من الله عزوجل قضاءها ، وهي أن ينصر كتابه المبين ، فيقيض له من يظهر
حججه ويوضح أغراضه ومقاصده ،
وينفي عنه تحريف
الزائغين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين ، وينصر رسوله الأمين بنصر سنته
وإظهارها وتأييد العاملين بها ، وينصر دينه القويم الذي أنزله مؤيدا بالحجة
والبرهان ، واختاره لنفسه دينا ، واصطفى من جاء به ، وأقامه على الخلق أجمعين ،
ورضيه دينا لمن رضي عنهم من خلقه ، وجعله مهيمنا على الدين كله ، وأن يقر عين
رسوله الذي بعثه بهذا الدين الحنيف بنصره العاجل القريب وأن ينصره النصر العزيز
المؤزر ، كما نصره في كل العصور ، وأن ينصر من يعلم أنه خير الحزبين وأفضل
الفريقين منا ومن حزب الضلال وعسكر الشيطان ، وأن يجعل شر الحزبين فداء لخيرهم من
جند الايمان وعسكر القرآن ، وأن يؤلف بين قلوب أوليائه من أهل التوحيد ، فيجعلهم
متواصلين متراحمين متقاربين ، وأن يقيهم شر المحدثات والبدع المضلة ، وأن يجنبهم
مسالكها وشعابها التي تفضي بأصحابها إلى النار ، وأن يهديهم بنور الوحي حتى
يستقيموا على صراط الله فيظفروا برحمته ورضاه ، وأن يكون وليهم وناصرهم وحافظا لهم
من كل فتنة ، وأن ينصرهم بالحق الذي أنزله ، فإنه نعم المولى ونعم النصير.
يا رب انهم هم
الغرباء قد
|
|
لجئوا أليك وأنت
ذو الإحسان
|
يا رب قد عادوا
لأجلك كل
|
|
هذا الخلق إلا
صادق الإيمان
|
قد فارقوهم فيك
أحوج ما هم
|
|
دنيا إليهم في
رضا الرحمن
|
ورضوا ولايتك
التي من نالها
|
|
نال الأمان ونال
كل أماني
|
ورضوا بوحيك من
سواه وما ار
|
|
تضوا بسواه من
آراء ذي الهذيان
|
يا رب ثبتهم على
الإيمان واج
|
|
علهم هداة
التائه الحيران
|
وانصر على حزب
النفاة عساكر ال
|
|
إثبات أهل الحق
والعرفان
|
وأقم لأهل السنة
النبوية ال
|
|
أنصار وانصرهم
بكل زمان
|
واجعلهم للمتقين
أئمة
|
|
وارزقهم صبرا مع
الايقان
|
تهدي بأمرك لا
بما قد أحدثوا
|
|
ودعوا إليه
الناس بالعدوان
|
وأعزّهم بالحق
وانصرهم به
|
|
نصرا عزيزا أنت
ذو السلطان
|
واغفر ذنوبهم
وأصلح شأنهم
|
|
فلأنت أهل العفو
والغفران
|
ولك المحامد
كلها حمدا كما
|
|
يرضيك لا يفنى
على الأزمان
|
ملك السموات
العلى والأرض وال
|
|
موجود بعد
ومنتهى الإمكان
|
مما تشاء وراء
ذلك كله
|
|
حمدا بغير نهاية
بزمان
|
وعلى رسولك أفضل
الصلوات والت
|
|
سليم منك وأكمل
الرضوان
|
وعلى صحابته
جميعا والألى
|
|
تبعوهم من بعد
بالإحسان
|
الشرح
: يذكر المؤلف من
أحوال أهل التوحيد والسنة وما هم فيه من ضعف وقلة ، ما يستدر به رحمة الله عليهم
ونظره إليهم ، فيقول : يا رب أنهم هم الغرباء في أوطانهم وبين أهليهم ، وقد لجئوا
إلى بابك وأنزلوا حاجاتهم بكريم رحابك وأنت مولى الفضل والإحسان. وقد عادوا من
أجلك كل الناس حتى الآباء والأبناء والأهل والعشيرة ووالوا فيك من كان على شاكلتهم
من أهل طاعتك وتوحيدك ، وقد فارقوا الناس وهم أحوج ما يكونون إليهم ليعينوهم على
شئون دينهم التي فيها رضاك ، ولم يتخذوا من دونك وليا يتولونه ، بل رضوا بولايتك
التي تنيل صاحبها أمنه وأمانيه ، واكتفوا في دينهم بوحيك لم يعبئوا بغيره ولا
اتخذوا بديلا منه آراء الهاذين والمخلطين.
فثبتهم يا رب على
الإيمان ، فأنت مقلب القلوب كلها بين أصبعيك تحولها كما تشاء ، واجعلهم هداة كل
تائه وضال ، وانصر حزبك من أهل الإثبات أهل الحق والمعرفة على حزب النفاة الزائغين
، وهيئ لأهل السنة النبوية الجند والأعوان وانصرهم في كل مكان ، واجعلهم للمتقين
إماما وارزقهم ما به يستأهلون منصب الإمامة في الدين من الصبر واليقين ، كما قلت
سبحانك : (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ
أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ) [السجدة : ٢٤].
نعم يهدون الناس
بأمرك ووحيك لا بما أحدثه أهل البدع والضلال ودعوا إليه الناس بالعدوان ، وأعزهم
بعزة الحق وانصرهم به النصر العزيز فأنت رب
العزة والسلطان.
وصل اللهم على رسولك محمد وصحابته. والحمد لله رب العالمين.
خاتمة ورجاء
وبعد : فهذا مبلغ
ما يسر الله من الجهد في شرح هذه القصيدة الجامعة التي حوت من أبواب العلم وعويص
المسائل وفنون الحجاج والجدل وصنوف المذاهب والمقالات ما جعلها فريدة في بابها ،
وهو شرح لا أدّعي أنه بلغ درجة الكمال ونهاية الإتقان ، فإن درك الكمال في هذا
المجال محال ، ولكنه على كل حال محاولة فيها النجاح أغلب من الفشل والنصر أكبر من
الهزيمة ، رغم قلة الوسائل وكثرة العوائق والشواغل ، فهو تمهيد صالح لمن يريد أن
يسلك الطريق إلى زيادة أو إجادة ويعلم الله كم من مرة وقفت أمام عصى شموس من
أبياتها أقلب فيه الفكر وأجيل الخاطر حتى سلس لي مفاده واطمأن نافره.
وقد التزمت في هذا
الشرح ما سبق أن وعدت به في المقدمة ، وهو أن لا يكون طويلا إلى حد الإملال ، ولا
قصيرا إلى درجة الإخلال ، كما توخيت فيه بساطة الأسلوب وسهولة التعبير ، حتى يتيسر
فهمه لكل قارئ مهما كانت درجته من الثقافة ، وسيجد القارئ فيه أحيانا نوعا من
السجع الذي لم أتكلفه ، وإنما كان يجيء عفوا ، فتزيد العبارة به حسنا والأسلوب
رونقا ، وإذا كان لي ما أرجوه من القارئ الكريم ، فهو أن يقرأه قراءة منصف ، وأن
يحاول جهد الطاقة أن يطابق بين الأبيات وبين شرحها ، فسيجد الثوب على قدر الجسد ،
اللهم إلا في بعض الأحيان قد يفيض ويتسع إذا وجدت حاجة إلى الزيادة والاستطراد ،
وقد يقصر عنه إذا ركدت ريح الفهم وجنحت الملكة إلى الشراد ، فما وجدت أيها القارئ
من عيب أو قصور فلا تعجل باللوم والتثريب ، فإننا بشر نخطئ ونصيب ، ولا تفعل بفعل
الجاهل المغرور ، إذا رأى هفوة طار بها فرحا ، واتخذها مادة للطعن والتشهير. وما
وجدت من حسن فهو من فضل الله
وتوفيقه ، فاذكره
بالخير لصاحبه ولا تحاول غمطه والتهوين من شأنه ، كما يفعل الحاقد الموتور.
والله أسأل أن
ينفع به كل من قرأه وأن يجعله مرآة تنعكس عليها ما حوته هذه القصيدة من حقائق
مطوية فلا ترتد عنها إلى بصيرة القلب ألا وهي ظاهرة جلية.
والله أسأل أن
يغفر لنا وإخواننا انه سميع الدعاء؟
المؤلف
فهرس
الجزء الثاني من شرح
القصيدة النونية للإمام اين القيم
فصل في شهادة أهل
الإثبات على أهل التعطيل أنه ليس في السماء إله يعبد............. ٣
فصل في الكلام في حياة الأنبياء في
قبورهم........................................... ٤
فصل فيما احتجوا به علي حياة الرسل في
القبور.................................... ١٠
فصل في الجواب عما احتجوا به في هذه
المسألة..................................... ١٢
فصل في المنجيق الذي نصبه أهل التعطيل
على معاقل الإيمان وحصونه جيلاً بعد جيل... ٣٣
فصل في احكام هذه التراكيب السنة.............................................. ٣٣
فصل في أقسام التوحيد والفرق بين توحيد
المرسلين وتوحيد النقاة المعطلين............... ٤٣
فصل في النوع الثاني من أنواع التوحيد
لأهل الإلحاد................................. ٤٨
فصل في النوع الثالث من أنواع التوحيد
الأهل الإلحاد............................... ٥٠
فصل في النوع الرابع من التوحيد لأهل
الإلحاد...................................... ٥٢
فصل في بيان توحيد الأنبياء والمرسلين
ومخالفته لتوحيد الملاحدة والمعطلين............... ٥٤
بيان أن هذا التوحيد ينقسم إلى قسمين :
الأول : توحيد قولي اعتقادي (توحيد
الأسماء والصفات)
الثاني : توحيد فعلي (توحيد الالهية
والعبادة)........................................ ٥٥
بيان أن التوحيد بنقسم أيضاً إلى قسمين
:
الأول : سلب أي نفي للنقائض
الثاني إثبات صفات الكمال له سبحانه............................................ ٥٥
فصل في بيان ان التوحيد القولي الذي
يرجع إلى سلب النقائق نوعان.................. ٥٥
فصل في النوع الثاني من النوع الأول
وهواثبات صفات الكمال له سبحانه.............. ٦٣
فصل في بيان حقيقة الإلحاد في أسماء رب
العالمين وذكرانه؟ الملحدين................. ١٢٥
فصل في بيان حقيقة الالحاد فيأسماء رب
الأنبياء والمرسلين المخالف لتوحيد المشركيين والمعطلين ١٣١
فصل في بيان الشرك الأكبر.................................................... ١٣٤
فصل في بيان ما يفعله القبوريون من شرك
أكبر.................................... ١٣٩
فصل في صف العسكرين وتقابل الصفين
واستدارة رحي الحرب العوان وتصاول الأقران.. ١٤٢
فصل في مصارع النفاة والمعطلين بأسنة
أمراه الإثبات الموحدين....................... ١٥٩
فصل في بيان أن المصيبة التي حلت بأهل
التعطيل والكفران من جهة الأسماء التي ما أنزل الله بها من سلطان ١٦٥
فصل في كسرالطاغوت الذي نفوا به صفات ذي
الملكوت والجبروت.................. ١٧٧
فصل في مبدأ العداوة الواقعة بين
المثبتين الموحدين وبين النغاة المعطلين................ ١٨٣
فصل في بهت أهل الشرك والتعطيل في رميهم
أهل التوحيد والإثبات بتنقيض الرسول... ٢٠١
فصل في تعين أن اتباع السنة والقرآن طریقة
النجاة من النيران....................... ٢٢١
فصل في تيسر السير إلى على المثبتين
الموحدين وامتناعه على المعطلين والمشركين........ ٢٢٥
فصل في ظهورالفرق بين الطائفتين وعدم
التباسه إلا على من ليس بذي عينين......... ٢٣١
فصل في التفاوت بين حظ المثبتين
والمعطلين من وحي رب العالمين.................... ٢٣٣
فصل في بيان الاستغناء بالوحي المنزل من
السماء عن تقليد الرجال والآراء............ ٢٣٩
فصل
في بيان شرط كفاية النصين والاستغناء بالوحيين............................. ٢٥٠
فصل في لازم المذهب هل هو مذهب ام لا؟..................................... ٢٥٥
فصل في الرد عليهم في تكفيرهم أهل العلم
والإيمان وذكرانقسامهم إلى أهل الجهل والتفريط والبدع والكفران ٢٦١
فصل في تلاعب المكفرين لأهل السنة
والايمان بالدين كتلاعب الصبيان.............. ٢٦٨
فصل في أن أهل الحديث هم أنصار رسول
الله صلىاللهعليهوسلم ولا یبغض الانصار
رجل یؤمن بالله واليوم الآخر ٢٧٤
فصل فی
تعیین الهچرة من الآراء والبدع إلى سنتة
كما كانت فرضا من الأمصار الي بلدنه عليهالسلام ٢٨٠
فصل في ظهورالفرق المبين بين دعوة الرسل
ودعوة المعطلين.......................... ٢٨٧
فصل في شكوى أهل السنة والقرآن أهل التعطيل والأراء
المخالفين للرحمن............. ٢٩٢
فصل في أذان أهل السنة الأعلام بصريحها
جهراً على رؤوس منابر الإسلام............ ٢٩٩
فصل في تلازم التعطيل والشرك.................................................. ٣٠٧
فصل في بيان المعطل شرمن المشرك.............................................. ٣١٠
فصل في مثل المشرك والمعطل.................................................... ٣١٧
فصل فيما أعد الله تعالى في الجنة
لأوليائه المتمسكين بالكتاب والسنة................ ٣٢٩
فصل في صفة الجنة التي اعدها الله ذو
الفضل والمنة لأوليائه المتمسكين بالكتاب والسنة ٣٣٣
فصل في عدد درحات الجنة وما بين كل
درجتين.................................. ٣٣٤
فصل في أبواب الجنة.......................................................... ٣٣٦
فصل في مقدارما بين الباب والباب منها.......................................... ٣٣٨
فصل في مقدارما بين مصراعي الباب............................................ ٣٣٨
فصل في مفتاح باب الجنة...................................................... ٣٣٩
فصل في مشوارالجنة الذي يوقع به لصاحبها...................................... ٣٤٠
فصل في صفوف اهل الجنة..................................................... ٣٤٣
فصل في صفة أول زمرة تدخل الجنة............................................. ٣٤٥
فصل في صفة الزمرة الثانية..................................................... ٣٤٥
فصل في تفاضل أهل الجنة في الدرجات
العلى..................................... ٣٤٦
فصل في ذكرأعلى أهل الجنة منزلة وأدناهم....................................... ٣٤٧
فصل في ذكر سن أهل الجنة................................................... ٣٤٨
فصل في طول قامات أهل الجنة وعرضهم........................................ ٣٤٩
فصل في خاهم وألواتهم........................................................ ٣٥٠
فصل في لسان اهل الجنة....................................................... ٣٥٠
فصل في ربح أهل الجنة من مسيرة كم يوجد...................................... ٣٥١
فصل في أسبق الناس دخولا إلى الجنة............................................ ٣٥٢
فصل في عدد الجنات وأجناسها................................................. ٣٥٦
فصل في بناء الجنة............................................................ ٣٦١
فصل في أرضها وحصبائها وتربها................................................ ٣٦٢
فصل في صفة غرفاتها.......................................................... ٣٦٣
فصل في خيام أهل الجنة....................................................... ٣٦٤
فصل في أرائكها وسررها....................................................... ٣٦٥
في في أشجارها وثمارها ظلالها................................................... ٣٦٦
فصل في سماع أهل الجنة....................................................... ٣٧٠
فصل في أنهار الجنة............................................................ ٣٧٤
فصل في طعام أهل الجنة....................................................... ٣٧٥
فصل في شرابهم............................................................... ٣٧٧
فصل في مصرف طعامهم وشرابعم وهضمه....................................... ٣٧٩
فصل في لباس أهل الجنة....................................................... ٣٨٠
فصل في فرشهم وما يتبعها..................................................... ٣٨٣
فصل في حل أهل الجنة........................................................ ٣٨٤
فصل في صفة عرائس الجنة وحسنهن وجمالهن
ولذة وصالهن ومهورهن................. ٣٨٦
فصل في ذكرالخلاف بين الناس هل تحبل
النساء أهل الجنة ام لا..................... ٤٠٥
فصل في رؤية أهل الجنة ربهم تبارك
وتعالى ونظهرم إلى وجهه الكريم.................. ٤١٠
فصل في كلام الرب جل جلاله مع أهل الجنة..................................... ٤٢٢
فصل في يوم المزيد وما أعد لهم فيه من
الكرامة.................................... ٤٢٥
فصل في المطرالذي يصيبهم هناك............................................... ٤٢٧
فصل في سوق الجنة الذي ينصرفون اليه من
ذلك المجلس........................... ٤٢٧
فصل في خلود أهل الجنة ودوام صحتهم
ونعيمهم وشبابههم واستحالة النوم والموت عليهم ٤٣١
فصل في ذبح الموت بين الجنة والنار والرد
على من قال ان الذبح لملك الموت وأن ذلك مجازلا حقيقة له ٤٣٣
فصل في أن الجنة قيصان وان غراسها
الكلام الطيب والعمل الصالح.................. ٤٣٧
فصل في إقامة المأتم على المتخلفين عن
رفقة السابقين.............................. ٤٣٩
فصل في زهد أهل العلم والإيمان وايثارهم
الذهب الباقي على الحزف الفاني............ ٤٨٨
فصل في رغبة قائلها إلى من يقف عليها من
أهل العلم والإيمان أن ينجرد لله ويحكم عليها بما يوجبه الديل والبرهان ٤٥٣
فصل في حال العدو الثاني...................................................... ٤٥٧
فصل في حال العدو الثالث.................................................... ٤٥٨
فصل في حال العدو الرابع...................................................... ٤٥٨
فصل في توجه أهل السنة إلى رب العالمين
أن ينصر دينه وكتابه ورسوله وعباده المؤمنين. ٤٦٠
خاتمة ورجاء.................................................................. ٤٦٥
|