
بسم الله الرّحمن الرّحيم
مقدمة الشارح
الحمد لله رب
العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين ، نبينا محمد وعلى آله وصحبه
والتابعين ، وبعد : فلما كانت القصيدة النونية للعلامة «ابن قيم الجوزية» التي
سماها «الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية» من أعظم ما ألف في التعريف
بمذهب السلف الصالح في اثبات الصفات لله تعالى مع تنزيهه عن مشابهة المخلوقات ،
والرد على فرق الزيغ والضلال من المعطلة النفاة أو المجسمة الغلاة. وكانت هذه
القصيدة حتى الآن بكرا لم يفتض ختامها ، وحمى لم يحم حوله أحد بالشرح والتحليل ، اللهم
إلا بعض محاولات يسيرة ليس فيها شفاء لعليل ، ولا ريّ من غليل قام بها بعض الفضلاء
من علماء مذهب السلف ، مثل الشيخ «ابن عيسى» والشيخ «عبد الرحمن بن ناصر آل سعدي»
علامة القصيمرحمهماالله تعالى وأجزل لهما المثوبة.
لهذا استخرت الله عزوجل في عمل شرح لها يجلي غوامضها ويبرز محاسنها ، ويجعلها من
القارئ على طرف الثمام حتى ينتفع بها عشاق الفكر ورواد البحث.
ويجدوا فيها
إمتاعا لعقولهم ، وصقلا لأذهانهم ، وحتى تطمئن إليها القلوب المؤمنة التي استجابت
لداعي الحق والهدى وتجد فيها زادا لايمانها ، ونورا لبصائرها ، وإني اذ آخذ فيما
أنا بسبيله من ذلك العمل الجليل أقدر ثقل المهمة التي اضطلعت بها ، وما تقتضيه من
وافر الجهد ودائب العمل نظرا لما حوته هذه القصيدة من الآراء والمذاهب ، وما
اشتملت عليه من فنون الحجاج والجدل.
وقد رأيت أن يكون
هذا الشرح وسطا لا غاية في البسط ولا نهاية في الإيجاز.
والله جلت قدرته
أسأل أن يكون لي نعم العون على ما أنا بسبيله من ذلك ، وان يشرح له صدري ، ويسير
لي أمري ، انه واهب النعم ، ومواليها وهو نعم المولى ونعم النصير؟.
الشارح
بسم الله الرّحمن الرّحيم
خطبة القصيدة النونية للإمام ابن القيم
الحمد لله الذي شهدت
له بربوبيته جميع مخلوقاته ، وأقرت له بالعبودية جميع مصنوعاته ، وأدت له الشهادة
جميع الكائنات انه الله الذي لا إله الا هو بما أودعها من لطيف صنعه وبديع آياته ،
وسبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضاء نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته ، ولا إله إلا
الله الأحد الصمد الذي لا شريك له في ربوبيته ولا شبيه له في أفعاله ولا في صفاته
ولا في ذاته والله أكبر عدد ما أحاط به علمه وجرى به قلمه ونفذ فيه حكمه من جميع
برياته ، ولا حول ولا قوة إلا بالله تفويض عبد لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ولا
موتا ولا حياة ولا نشورا ، بل هو بالله وإلى الله في مبادي أمره ونهاياته ، وأشهد
أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا صاحبة له ولا ولد له ولا والد له ، ولا
كفؤ له الذي هو كما أثني على نفسه وفوق ما يثني عليه أحد من جميع برياته ، وأشهد
أن محمدا عبده ورسوله وأمينه على وحيه وخيرته من بريته ، وسفيره بينه وبين عباده
وحجته على خلقه ، أرسله بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا ، وداعيا
إلى الله باذنه وسراجا منيرا ، أرسله على حين فترة من الرسل وطموس من السبل ،
ودروس من الكتب ، والكفر قد اضطرمت ناره وتطايرت في الآفاق شراره ، وقد استوجب أهل
الأرض ان يحل بهم العقاب ، وقد نظر الجبار تبارك وتعالى إليهم فمقتهم ، عربهم
وعجمهم ، إلا بقايا من أهل الكتاب.
وقد استند كل قوم
إلى ظلم آرائهم وحكموا على الله سبحانه وتعالى بمقالاتهم الباطلة وأهوائهم ، وليل
الكفر مدلهم ظلامه ، شديد قتامه ، وسبل الحق عافية
آثارها مطموسة
أعلامها ، ففلق الله سبحانه بمحمد صلىاللهعليهوسلم صبح الإيمان ، فأضاء حتى ملأ الآفاق نورا ، وأطلع به شمس
الرسالة في حنادس الظلم سراجا منيرا ، فهدى الله به من الضلالة ، وعلم به من
الجهالة ، وبصر به من العمى وأرشد به من الغي ، وكثر به بعد القلة ، وأعز به بعد
الذلة ، وأغنى به بعد العيلة ، واستنقذ به من الهلكة ، وفتح به أعينا عميا وآذانا
صما وقلوبا غلفا ، فبلغ الرسالة ، وأدى الأمانة ونصح الأمة وكشف الغمة وجاهد في
الله حق جهاده وعبد الله حتى أتاه اليقين من ربه وشرح الله له صدره ، ورفع له ذكره
ووضع عنه وزره ، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره ، وأقسم بحياته في كتابه
المبين ، وقرن اسمه باسمه فإذا ذكر ذكر معه كما في الخطب والتشهد والتأذين ، فلا
يصح لأحد خطبة ولا تشهد ولا أذان ولا صلاة حتى يشهد أنه عبده ورسوله شهادة اليقين
، وصلى الله وملائكته وأنبياؤه ورسله وجميع خلقه عليه ، كما عرفنا بالله وهدانا
إليه ، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد : فإن
الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه إذا أراد أن يكرم عبد بمعرفته ويجمع قلبه على محبته
شرح صدره لقبول صفاته العلى وتلقيها من مشكاة الوحي ، فإذا ورد عليه شيء منها
قابله بالقبول وتلقاه بالرضا والتسليم وأذعن له بالانقياد فاستنار به قلبه واتسع
له صدره وامتلأ به سرورا ومحبة ، فعلم أنه تعريف من تعريفات الله تعالى تعرف به
إليه على لسان رسوله ، فأنزل تلك الصفة من قلبه منزلة الغذاء ، أعظم ما كان إليه
فاقة ومنزلة الشفاء أشد ما كان إليه حاجة ، فاشتد بها فرحه ، وعظم بها غناؤه ،
وقويت بها معرفته ، واطمأنت إليها نفسه ، وسكن إليها قلبه ، فجال من المعرفة في
ميادينها ، وأسام عين بصيرته في رياضها وبساتينها لتيقنه بأن شرف العلم تابع لشرف
معلومه ، ولا معلوم أعظم وأجل ممن هذه صفته ، وهو ذو الأسماء الحسنى والصفات العلى
، وأن شرفه أيضا بحسب الحاجة إليه ، وليست حاجة الأرواح قط إلى شيء أعظم منها الى
معرفة باريها وفاطرها ومحبته وذكره والابتهاج به ، وطلب الوسيلة إليه والزلفى عنده
، ولا سبيل إلى هذا إلا بمعرفة أوصافه وأسمائه ، فكلما كان العبد بها أعلم كان
بالله
أعرف وله أطلب
وإليه أقرب ، وكلما كان لها أنكر كان بالله أجهل وإليه أكره ومنه أبعد ، والله
تعالى ينزل العبد من نفسه حيث ينزله العبد من نفسه ، فمن كان لذكر أسمائه وصفاته
مبغضا ، وعنها نافرا ومنفرا ، فالله له أشد بغضا ، وعنه أعظم اعراضا ، وله أكبر
مقتا ، حتى تعود القلوب إلى قلبين : قلب ذكر الأسماء والصفات قوته وحياته ونعيمه
وقرة عينه ، لو فارقه ذكرها ومحبتها لحظة لاستغاث ، يا مقلب القلوب ثبت قلبي على
دينك ، فلسان حاله يقول :
يراد من القلب
نسيانكم
|
|
وتأبى الطباع
على الناقل
|
ويقول :
وإذا تقاضيت
الفؤاد تناسيا
|
|
ألفيت أحشائي
بذاك شحاحا
|
ويقول :
إذا مرضنا
تداوينا بذكركم
|
|
فنترك الذكر
أحيانا فننتكس
|
ومن المحال أن
يذكر القلب من هو محارب لصفاته نافر من سماعها معرض بكليته عنها زاعم أن السلامة
في ذلك. كلا والله ان هو إلا الجهالة والخذلان ، والاعراض عن العزيز الرحيم ، فليس
القلب الصحيح قط إلى شيء أشوق منه إلى معرفة ربه تعالى وصفاته وأفعاله وأسمائه ،
ولا أفرح بشيء قط كفرحه بذلك وكفى بالعبد عمى وخذلانا أن يضرب على قلبه سرادق
الإعراض عنها والنفرة والتنفير والاشتغال بما لو كان حقا لم ينفع إلا بعد معرفة
الله والإيمان به وبصفاته وأسمائه.
والقلب الثاني قلب
مضروب بسياط الجهالة ، فهو عن معرفة ربه ومحبته مصدود ، وطريق معرفة أسمائه وصفاته
كما أنزلت عليه مسدود ، قد قمش شبها من الكلام الباطل وارتوى من ماء آجن غير طائل
تعج منه آيات الصفات وأحاديثها إلى الله عجيجا ، وتضج منه إلى منزلها ضجيجا بما
يسومها تحريفا وتعطيلا ويؤول معانيها تغييرا وتبديلا ، قد أعد لدفعها أنواعا من
العدد وهيأ لردها ضروبا من القوانين وإذا دعي الى تحكيمها أبى واستكبر وقال : تلك
أدلة
لفظية لا تفيد
شيئا من اليقين ، قد أعد التأويل جنة يتترس بها من مواقع سهام السنة والقرآن وجعل
اثبات صفات ذي الجلال تجسيما وتشبيها يصد به القلوب عن طريق العلم والإيمان ، مزجي
البضاعة من العلم النافع الموروث عن خاتم الرسل والأنبياء لكنه ملئ بالشكوك والشبه
، والجدال والمراء ، خلع عليه الكلام الباطل خلعة الجهل والتجهيل ، فهو يتعثر
بأذيال التفكير لأهل الحديث ، والتبديع لهم والتضليل ، قد طاف على أبواب الآراء
والمذاهب يتكفف أربابها ، فانثنى بأخسر المواهب والمطالب ، عدل عن الأبواب العالية
الكفيلة بنهاية المراد وغاية الاحسان ، فابتلى بالوقوف على الأبواب السافلة
الملآنة بالخيبة والحرمان ، وقد لبس حلة منسوجة من الجهل والتقليد والشبهة والعناد
، فإذا بذلت له النصيحة ودعي إلى الحق أخذته العزة بالاثم ، فحسبه جهنم ولبئس
المهاد.
فما أعظم المصيبة
بهذا وأمثاله على الإيمان ، وما أشد الجناية به على السنة والقرآن ، وما أحب جهاده
بالقلب واليد واللسان الى الرحمن ، وما أثقل أجر ذلك الجهاد في الميزان ، والجهاد
بالحجة واللسان مقدم على الجهاد بالسيف والسنان ولهذا أمر به تعالى في السور
المكية حيث لا جهاد باليد انذارا وتعذيرا ، فقال تعالى : (فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ
بِهِ جِهاداً كَبِيراً) [الفرقان : ٥٢].
وأمر تعالى بجهاد
المنافقين والغلظة عليهم مع كونهم بين أظهر المسلمين في المقام والمسير ، فقال
تعالى : (يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ
وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [التحريم : ٩].
فالجهاد بالعلم
والحجة جهاد أنبيائه ورسله وخاصته من عباده المخصوصين بالهداية والتوفيق والاتفاق
، ومن مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق ، وكفى بالعبد عمى
وخذلانا أن يرى عساكر الإيمان وجنود السنة والقرآن وقد لبسوا للحرب لأمته ، وأعدوا
له عدته ، وأخذوا مصافهم ووقفوا مواقفهم ، وقد حمي الوطيس ودارت رحى الحرب واشتد
القتال وتنادت
الأقران النزال
النزال ، وهو في الملجأ والمغارات ، والمدخل مع الخوالف كمين وإذا ساعد القدر وعزم
على الخروج قعد فوق التل مع الناظرين ، ينظر لمن الدائرة ليكون إليهم من المتحيزين
، ثم يأتيهم وهو يقسم بالله جهد أيمانه اني كنت معكم وكنت أتمنى أن تكونوا أنتم
الغالبين ، فحقيق بمن لنفسه عنده قدر وقيمة أن لا يبيعها بأبخس الأثمان ، وأن لا
يعرضها غدا بين يدي الله ورسوله لمواقف الخزي والهوان ، وأن يثبت قدميه في صفوف
أهل العلم والإيمان ، وأن لا يتحيز إلى مقالة سوى ما جاء في السنة والقرآن ، فكأن
قد كشف الغطاء وانجلى الغبار وأبان عن وجوه أهل السنة مسفرة ضاحكة مستبشرة ، وعن
وجوه أهل البدعة عليها غبرة ترهقها قترة ، يوم تبيض وجوه وتسود وجوه.
قال ابن عباس تبيض
وجوه أهل السنة وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة والضلالة ، فو الله لمفارقة أهل
الأهواء والبدع في هذه الدار أسهل من موافقتهم إذا قيل : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا
وَأَزْواجَهُمْ) [الصافات : ٢٢].
قال أمير المؤمنين
عمر بن الخطاب وبعده الإمام أحمد : أزواجهم : أشباههم ونظراؤهم ، وقد قال تعالى : (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) [التكوير : ٧]
قالوا فيجعل صاحب الحق مع نظيره في درجته ، وصاحب الباطل مع نظيره في درجته ،
هنالك والله يعض الظالم على يديه إذا حصلت له حقيقة ما كان في هذه الدار عليه ،
يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا ، يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلانا خليلا لقد
أضلني عن الذكر بعد اذ جاءني وكان الشيطان للانسان خذولا.
فصل : وكان من قدر الله وقضائه أن جمع مجلس المذاكرة بين مثبت
للصفات والعلو وبين معطل لذلك ، فاستطعم المعطل المثبت الحديث استطعام غير جائع
إليه ولكن غرضه عرض بضاعته عليه ، فقال له ما تقول في القرآن ومسألة الاستواء؟
فقال المثبت : نقول فيها ما قاله ربنا تبارك وتعالى وما قاله نبينا صلىاللهعليهوسلم ، نصف الله تعالى بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله من
غير تحريف ولا تعطيل ، ومن غير تشبيه ولا تمثيل ، بل نثبت له سبحانه ما أثبته
لنفسه من
الأسماء والصفات ،
وننفي عنه النقائص والعيوب ومشابهة المخلوقات ، اثباتا بلا تمثيل ، وتنزيها بلا
تعطيل ، فمن شبه الله بخلقه فقد كفر ، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر ، وليس
ما وصف الله به نفسه ، أو ما وصفه به رسوله تشبيها ، فالمشبه يعبد صنما ، والمعطل
يعبد عدما ، والموحد يعبد إلها واحدا صمدا ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
والكلام في الصفات
كالكلام في الذات ، فكما انا نثبت ذاتا لا تشبه الذوات ، فكذلك نقول في صفاته انها
لا تشبه الصفات ، فليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ، ولا في أفعاله ، فلا
نشبه صفات الله بصفات المخلوقين ، ولا نزيل عنه سبحانه صفة من صفاته لأجل تشنيع
المشنعين ، وتلقيب المفترين ، كما أنا لا نبغض أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم لتسمية الروافض لنا نواصب ، ولا نكذب بقدر الله ولا نجحد
كمال مشيئته وقدرته لتسمية القدرية لنا مجبرة.
ولا نجحد صفاته
ربنا تبارك وتعالى لتسمية الجهمية والمعتزلة لنا مجسمة مشبهة حشوية ، ورحمة الله
على القائل :
فإن كان تجسيما
ثبوت صفاته
|
|
فإني بحمد الله
لها مثبت
|
إلى :
فإن كان تجسيما
ثبوت صفاته
|
|
لديكم فإني
اليوم عبد مجسم
|
ورضي الله عن
الشافعي حيث يقول :
ان كان رفضا حب
آل محمد
|
|
فليشهد الثقلان
إني رافضي
|
وقدس الله روح
القائل وهو شيخ الإسلام ابن تيمية إذ يقول :
ان كان نصبا حب
صحب محمد
|
|
فليشهد الثقلان
اني ناصبي
|
فصل : وأما القرآن فإني أقول أنه كلام الله منزل غير مخلوق منه
بدأ وإليه يعود ، تكلم الله به صدقا ، وسمعه جبرائيل حقا ، وبلغه محمدا صلىاللهعليهوسلم وحيا ، وإن (كهيعص) [مريم : ١] و (حم عسق) [الشورى : ١] و (الر) [يوسف :
[١] و (ق) [ق : ١] و (ن) [القلم : ١] عين
كلام الله حقيقة ، وأن الله تكلم بالقرآن العربي الذي سمعه الصحابة من النبي صلىاللهعليهوسلم وأن جميعه كلام الله ، وليس قول البشر ، ومن قال أنه قول
البشر فقد كفر. والله يصليه سقر ، ومن قال ليس لله بيننا في الأرض كلام فقد جحد
رسالة محمد صلىاللهعليهوسلم فإن الله بعثه يبلغ عنه كلامه ، والرسول إنما يبلغ كلام
مرسله ، فإذا انتفي كلام المرسل انتفت رسالة الرسول ، ونقول ان الله فوق سماواته
مستو على عرشه بائن من خلقه ليس في مخلوقاته شيء من ذاته ، ولا في ذاته شيء من
مخلوقاته ، وأنه تعالى إليه يصعد الكلم الطيب وتعرج الملائكة والروح إليه وإنه
يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ، ثم يعرج إليه ، وأن المسيح رفع بذاته إلى الله
وأن رسول الله صلىاللهعليهوسلم عرج به إلى الله حقيقة ، وأن أرواح المؤمنين تصعد إلى الله
عند الوفاة فتعرض عليه وتقف بين يديه ، وأنه تعالى هو القاهر فوق عباده وهو العلي
الأعلى وأن المؤمنين والملائكة المقربين يخافون ربهم من فوقهم ، وان أيدي السائلين
ترفع إليه وحوائجهم تعرض عليه فإنه سبحانه هو العلي الأعلى بكل اعتبار ، فلما سمع
المعطل منه ذلك أمسك ، ثم أسرها في نفسه وخلي بشياطينه وبني جنسه وأوحى بعضهم إلى
بعض زخرف القول غرورا وأصناف المكر والاحتيال.
وراموا أمرا
يستحمدون به إلى نظرائهم من أهل البدع والضلال وعقدوا مجلسا يبيتون في مساء يومه
ما لا يرضاه الله من القول والله بما يعملون محيط وأتوا في مجلسهم ذلك بما قدروا
عليه من الهذيان واللغط والتخليط ، وراموا استدعاء المثبت إلى مجلسهم الذي عقدوه
ليجعلوا نزله عند قدومه عليهم ما لفقوه من المكر وتمموه فحبس الله سبحانه عنه
أيديهم وألسنتهم فلم يتجاسروا عليه ، ورد الله كيدهم في نحورهم فلم يصلوا بالسوء
إليه ، وخذلهم المطاع فمزقوا ما كتبوه من المحاضر ، وقلب الله قلوب أوليائه وجنده
عليهم من كل باد وحاضر ، وأخرج الناس لهم من المخبآت كمائنها ، ومن الجوائف
والمنقلات دفائنها ، وقوى الله جأش عقد المثبت وثبت قلبه ولسانه ، وشيد بالسنة
المحمدية بنيانه ، فسعى في عقد مجلس بينه وبين خصومه عند السلطان ، وحكم على نفسه
كتب شيوخ القوم
السالفين وأئمتهم
المتقدمين ، وأنه لا يستنصر من أهل مذهبه بكتاب ولا إنسان وأنه جعل بينه وبينكم
أقوال من قلدتموه ، ونصوص من على غيره من الأئمة قدمتموه ، وصرخ المثبت بذلك بين
ظهرانيهم حتى بلغه دانيهم لقاصيهم ، فلم يذعنوا لذلك واستعفوا من عقده فطالبهم
المثبت بواحدة من خلال ثلاث مناظرة في مجلس عالم على شريطة العلم والانصاف تحضر
فيه النصوص النبوية والآثار السلفية وكتب أئمتكم المتقدمين من أهل العلم والدين ،
فقيل لهم لا مراكب لكم تسابقون بها في هذا الميدان وما لكم بمقاومة فرسانه يدان
فدعاهم إلى مكاتبة بما يدعون إليه ، فإن كان حقا قبله وشكركم عليه وإن كان غير ذلك
سمعتم جواب المثبت ، وتبين لكم حقيقة ما لديه ، فأبوا ذلك أشد الاباء ، واستعفوا
غاية الاستعفاء ، فدعاهم إلى القيام بين الركن والمقام قياما في مواقف الابتهال
حاسري الرءوس ، نسأل الله أن ينزل بأسه بأهل البدع والضلال.
وظن المثبت والله
أن القوم يجيبونه إلى هذا ، فوطن نفسه عليه غاية التوطين ، وبات يحاسب نفسه ،
ويعرض ما يثبته وينفيه على كلام رب العالمين ، وعلى سنة خاتم الأنبياء والمرسلين ،
ويتجرد من كل هوى يخالف الوحي المبين ، ويهوي بصاحبه إلى أسفل السافلين فلم يجيبوا
إلى ذلك أيضا ، وأتوا من الاعتذار بما دله على أن القوم ليسوا من أولي الأيدي والأبصار
، فحينئذ شمر المثبت عن ساق عزمه وعقد لله مجلسا بينه وبين خصمه يشهده القريب
والبعيد ، ويقف على مضمونه الذكي والبليد وجعله عقد مجلس التحكيم بين المعطل
الجاحد والمثبت المرمي بالتجسيم.
وقد خاصم في هذا
المجلس بالله وحاكم إليه وبرئ إلى الله من كل هوى وبدعة وضلالة وتحيز إلى فئة رسول
الله صلىاللهعليهوسلم ، وما كان أصحابه عليه والله سبحانه هو المسئول أن لا يكله
إلى نفسه ولا إلى شيء مما لديه ، وأن يوفقه في جميع حالاته لما يحبه ويرضاه ، فإن
أزمة الأمور بيديه وهو يرغب إلى من يقف على هذه الحكومة أن يقوم لله قيام متجرد عن
هواه قاصد لرضاء مولاه ، ثم يقرؤها متفكرا ويعيدها ويبديها متدبرا ، ثم يحكم فيها
بما يرضي الله ورسوله
وعباده المؤمنين ،
ولا يقابلها بالسب والشتم كفعل الجاهلين والمعاندين ، فإن رأى حقا تبعه وشكر عليه
، وإن رأى باطلا رده على قائله وأهدى الصواب إليه ، فإن الحق لله ورسوله ، والقصد
أن تكون كلمة السنة هي العليا جهادا في الله وفي سبيله ، والله عند لسان كل قائل
وقلبه ، وهو المطلع على نيته وكسبه ، وما كان أهل التعطيل أولياءه ، ان أولياؤه
إلا المتقون ، المؤمنون المصدقون : (وَقُلِ اعْمَلُوا
فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ، وَسَتُرَدُّونَ إِلى
عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [التوبة : ١٠٥].
فصل: وهذه أمثال حسان مضروبة للمعطل والمشبه والموحد ، ذكرناها
قبل الشروع في المقصود ، فإن ضرب الأمثال مما يأنس به العقل لتقريبها المعقول من
المشهود ، وقد قال تعالى ، وكلامه المشتمل على أعظم الحجج وقواطع البراهين : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها
لِلنَّاسِ) [الحشر : ٢١]
الآية : (وَما يَعْقِلُها
إِلَّا الْعالِمُونَ) [العنكبوت : ٤٣]
وقد اشتمل منها على بضعة وأربعين مثلا ، وكان بعض السلف إذا قرأ مثلا لم يفهمه
يشتد بكاؤه ويقول لست من العالمين ، وسنفرد لها ان شاء الله كتابا مستقلا متضمنا
لأسرارها ومعانيها وما تضمنته من كنوز العلم وحقائق الإيمان ، والله المستعان
وعليه التكلان.
المثل
الأول : ثياب المعطل ملطخة
بعذرة التحريف ، وشرابه متغير بنجاسة التعطيل. وثياب المشبه متضمخة بدم التشبيه
وشرابه متغير بدم التمثيل ، والموحد طاهر الثوب والقلب والبدن ، يخرج شرابه من بين
فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين.
المثل
الثاني : شجرة المعطل
مغروسة على شفا جرف هار. وشجرة المشبه قد اجتثت من فوق الأرض ما لها ما قرار.
وشجرة الموحد أصلها ثابت وفرعها في السماء ، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب
الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون.
المثل
الثالث : شجرة المعطل شجرة
الزقوم ، فالحلوق السليمة لا تبلعها.
وشجرة المشبه شجرة
الحنظل ، فالنفوس المستقيمة لا تتبعها. وشجرة الموحد طوبى يسير الراكب في ظلها
مائة عام لا يقطعها.
المثل
الرابع : المعطل قد أعد
قلبه لوقاية الحر والبرد كبيت العنكبوت ، والمشبه قد خسف بعقله ، فهو يتجلجل في
أرض التشبيه الى البهموت ، وقلب الموحد يطوف حول العرش ناظرا إلى الحي الذي لا
يموت.
المثل
الخامس : مصباح المعطل قد
عصفت عليه أهوية التعطيل فطفئ وما أنار ، ومصباح المشبه قد غرقت فتيلته في عسكر
التشبيه فلا تقتبس منه الأنوار ، ومصباح الموحد يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا
شرقية ولا غربية ، يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار.
المثل
السادس : قلب المعطل متعلق
بالعدم فهو أحقر الحقير ، وقلب المشبه عابد للصنم الذي قد نحت بالتصوير والتقدير ،
والموحد قلبه متعبد لمن ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
المثل
السابع : نقود المعطل كلها
زيوف فلا تروج علينا ، وبضاعة المشبه كاسدة فلا تنفق لدينا ، وتجارة الموحد ينادي
عليها يوم العرض على رءوس الأشهاد هذه بضاعتنا ردت إلينا.
المثل
الثامن : المعطل كنافخ
الكير اما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحا خبيثة ، والمشبه كبائع الخمر ، اما
أن يسكرك واما أن ينجسك ، والموحد كبائع المسك اما أن يحذيك وإما يبيعك واما أن
تجد منه رائحة طيبة.
المثل
التاسع : المعطل قد تخلف عن
سفينة النجاة ولم يركبها فأدركه الطوفان ، والمشبه قد انكسرت به اللجة ، فهو يشاهد
الغرق بالعيان ، والموحد قد ركب سفينة نوح ، وقد صاح به الربان : اركبوا فيها باسم
الله مجريها ومرساها ، ان ربي لغفور رحيم.
المثل
العاشر : منهل المعطل كسراب
بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم
يجده شيئا فرجع
خاسئا حسيرا. ومشرب المشبه من ماء قد تغير طعمه ولونه وريحه بالنجاسة تغييرا ،
ومشرب الموحد من كأس كان مزاجها كافورا ، عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا
(وقد سميتها بالكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية).
وهذا حين الشروع
في المحاكمة ، والله المستعان ، وعليه التكلان ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي
العظيم.
[القصيدة النونية وشرحها]
حكم المحبة ثابت
الأركان
|
|
ما للصدود بفسخ
ذاك يدان
|
أنى وقاضي الحسن
نفذ حكمها
|
|
فلذا أقر بذلك
الخصمان
|
وأتت شهود الوصل
تشهد أنه
|
|
حق جرى في مجلس
الإحسان
|
فتأكد الحكم
العزيز فلم يجد
|
|
فسخ الوشاة إليه
من سلطان
|
وأتى الوشاة
فصادفوا الحكم الذي
|
|
حكموا به متيقن
البطلان
|
ما صادف الحكم
المحل ولا هو
|
|
استوفى الشروط
فصار ذا بطلان
|
فلذاك قاضي
الحسن أثبت محضرا
|
|
بفساد حكم الهجر
والسلوان
|
وحكى لك الحكم
المحال ونقضه
|
|
فاسمع إذا يا من
له أذنان
|
حكم الوشاة بغير
ما برهان
|
|
أن المحبة
والصدود لدان
|
والله ما هذا
بحكم مقسط
|
|
أين الغرام وصد
ذي هجران
|
شتان بين
الحالتين فان ترد
|
|
جمعا فما الضدان
يجتمعان
|
المفردات
: الأركان جمع ركن
، وهو جانب الشيء الأقوى ـ الصدود الهجر والتمنع ـ يدان تثنية يد بمعنى القدرة ـ أنى
بمعنى كيف ، الوشاة جمع واش ، من وشى به يشي وشاية إذا نم عليه وسعى به ، لدان
تثنية لدة كعدة وهي الترب أي المساوي ، مسقط أي عادل ، الغرام الجب.
الشرح
: بدأ الشيخ قصيدته
بالنسب جريا على عادة الشعراء في ذلك ، ولكن لم يعن بالمحبة هنا إلا ما يتعلق منها
بالمطالب العالية ، والمعاني الشريفة التي
تتعشقها القلوب
الكبيرة ، وتجد في طلبها ووصالها ، وتسهر الليالي في تحصيلها.
وفي هذه الأبيات
يخبر أن حكم تلك المحبة بالجد في طلب المحبوب والظفر بوصله حكم وطيد الأركان ،
ثابت الدعائم لا يستطيع الصدود والاعراض فسخه وأبطاله ، كيف وقاضي الحسن والجمال
هو المنفذ لذلك الحكم ، مما حمل كلا من الخصمين على الاقرار به. وجاء شهود الوصل
يشهدون بحقية ذلك الحكم وثبوته حتى تأكد غاية التأكيد ، وبذلك أصبح حكم الوشاة
والعاذلين حكما لاغيا تهاوت منه الأركان فخر صريعا على الأذقان.
ولما أخبر أن حكم
المحبة قد توفرت له كل وسائل القوة والتنفيذ وأنه لا سبيل للوشاة الى نقضه وابطاله
، بين حكمهم المنافي لحكم المحبة وهو الداعي إلى الصدود والهجران ، فقال ان الوشاة
أدركوا بطلان ذلك الحكم الذي حكموا به بطلانا يقينا ، لأنه حكم لم يصادف محله ،
ولا استوفى شروطه ، ومن أجل ذلك حرر قاضي الحسن محضرا بفساد حكم الهجر والسلوان
وأنكر على الوشاة زعمهم أن المحبة والصدود لدان ، ثم أقسم أن هذا حكم في غاية
الجور وليس بحكم مقسط ، فإنه يسوي بين أمرين متضادين ، ومعلوم ببديهة العقل أن
الضدين لا يجتمعان في محل واحد بحيث يتصف بهما في وقت معا :
* * *
يا والها هانت
عليه نفسه
|
|
إذ باعها غبنا
بكل هوان
|
أتبيع من يهواه
نفسك طائعا
|
|
بالصد والتعذيب
والهجران
|
أجهلت أوصاف
المبيع وقدره
|
|
أم كنت ذا جهل
بذي الأثمان
|
واها لقلب لا
يفارق طيره الأغ
|
|
صان قائمة على
الكثبان
|
ويظل يسجع فوقها
ولغيره
|
|
منها الثمار وكل
قطف دان
|
ويبيت يبكي
والمواصل ضاحك
|
|
ويظل يشكو وهو
ذو شكران
|
هذا ولو أن الجمال
معلق
|
|
بالنجم همّ إليه
بالطيران
|
المفردات
: الواله :
المتحير من شدة الوجد. الغبن في البيع : النقص من الثمن
أو غيره واها :
كلمة تقال اما للتعجب من الشيء أو للتلهّف والحسرة ـ الكثبان : جمع كثيب ، وهو
التل من الرمل ، والسجع : شدو الطير وغناؤه ـ قطف : بكسر القاف بمعنى مقطوف.
الشرح
: يخاطب المؤلف بهذه
الأبيات المحب الذي لا يرعى شروط المحبة ولا يعرف قدر محبوبه ، فهو مع ما يكابده
من الوجد والشوق قد هانت عليه نفسه فلم يعطها حظها من وصل محبوبها لأنه باعه طائعا
بأبخس الأثمان ، أعني بالصد والتعذيب والهجران ، وذلك لجهله بوصف ذلك المبيع وقدره
وما يستحقه من غالي الأثمان. ثم يلتفت الشيخ متحسرا على ذلك القلب الهائم الذي
استبد به الهيام ، فطيره لا يفارق تلك الأغصان القائمة على كثبانها ، ويديم الشدو
والغناء فوقها ، ومع ذلك فهو محروم من ثمارها وقطوفها على حين يستمتع بها غيره ممن
واتاهم الحظ بوصال ذلك المحبوب ، وهو كذلك يبيت ليله شاكيا باكيا يندب حظه ويتجرع
قسوة الحرمان ، على حين يبيت ذو الوصل ضاحكا نشوان.
ولكنه مع كل هذا
الحرمان والعذاب في الحب فهو لا يسلو ولا يزال مفتونا بالجمال ، حتى أنه لو وجده
معلقا بالثريا لما قعد عن الطيران إليه.
* * *
لله زائرة بليل
لم تخف
|
|
عسس الأمير
ومرصد السجان
|
قطعت بلاد الشام
ثم تيممت
|
|
من أرض طيبة
مطلع الإيمان
|
وأتت على وادي
العقيق فجاوزت
|
|
ميقاته حلا بلا
نكران
|
وأتت على وادي
الأراك ولم يكن
|
|
قصدا لها فألا
بأن ستراني
|
وأنت على عرفات
ثم محسر
|
|
ومنى فكم نحرته
من قربان
|
وأتت على
الجمرات ثم تيممت
|
|
ذات الستور وربة
الأركان
|
هذا وما طافت
ولا استلمت ولا
|
|
رمت الجمار ولا
سعت لقران
|
المفردات
: العسس : في
الأصل مصدر عس إذا طاف بالليل : يحرس الناس ويكشف أهل الريبة ، المراد به هنا
جماعة الحراس ، المرصد : مكان الرصد.
التيمم : القصد :
أرض طيبة هي المدينة دار الهجرة ، وكانت تسمى يثرب ، المطلع : مكان الطلوع وهو
الظهور. وادي العقيق : واد من أودية المدينة ، أهل منه النبي صلىاللهعليهوسلم ، وفي الحديث «أتاني آت بالعقيق فقال صل في هذا الوادي
المبارك ، ثم قل عمرة في حجة». وادي الاراك وعرفات ومحسر ومنى ، كلها أمكنة مشهورة
بالحجاز ، ذات الستور : الكعبة المشرفة ، القران : الاحرام بالعمرة والحج معا.
الشرح
: يتخيل الشيخ في
هذه الأبيات جريا على عادة الشعراء زائرة حسناء قد طرقته ليلا في غير خوف من
العيون والارصاد ، وأنها قبل أن تقدم عليه قد قامت برحلة طويلة وطوفت في أماكن
كثيرة فاجتازت بلاد الشام قاصدة أرض طيبة التي شع منها نور الحق وصريح الايمان.
ثم أتت على وادي
العقيق وهو ميقات أهل المدينة فتجاوزته حلا بدون احرام ومن غير أن ينكر ذلك عليها
أحد. ثم أتت على وادي الأراك ، وما بعده من الأماكن التي تؤدى عندها المناسك ، ولم
يكن تقصد لقائي ولا تتوقعه ، فأتت على عرفات وهو الجبل المشهور الذي يعتبر الوقوف
عليه عشية التاسع من ذي الحجة أعظم أركان الحج ، ثم أفاضت منه إلى وادي محسر وهو المزدلفة
، ويقال له جمع ثم إلى منى التي ترمى عندها الجمار وتنحر القربان ، ثم قصدت بعد
ذلك إلى البيت في مكة. وهي مع ذلك لم تطف ولم تسع ولا استلمت الحجر ولا رمت الجمار
ولا سعت بين الصفا والمروة من أجل قران ، وهو الجمع بين الحج والعمرة.
وما أشبه زائرة
الشيخ هذه ، بما كان يسميه بعض الصحفيين هنا في مصر (بالجاسوسة الحسناء) التي
تأتيه بالأخبار وتوافيه بالأسرار ، وهو مدخل لطيف يقدمه الشيخ بين يدي حكايته
للمذاهب والمقالات التي كشف عوارها وهتك أستارها فيما سيأتي من أبيات هذه القصيدة
الشماء.
* * *
ورقت إلى أعلى
الصفا فتيممت
|
|
دارا هنالك
للمحث العاني
|
أترى الدليل
أعارها أثوابه
|
|
والريح أعطتها
من الخفقان
|
والله لو أن
الدليل مكانها
|
|
ما كان ذلك منه
في امكان
|
هذا ولو سارت
مسير الريح ما
|
|
وصلت به ليلا
إلى نعمان
|
سارت وكان
دليلها في سيرها
|
|
سعد السعود وليس
بالدبران
|
وردت جفار الدمع
وهي غزيرة
|
|
فلذاك ما احتاجت
ورود الضان
|
وعلت على مين
الهوى وتزودت
|
|
ذكر الحبيب
ووصلة المتداني
|
المفردات
: الصفا : هو
الجبل المعروف ، المحث : اسم فاعل من أحثه على كذا بمعنى نشطه ، ومفعوله محذوف أي
المحث راحلته ، العاني : الأسير ، الخفقان الاضطراب ومنه خفق الطائر بجناحيه ،
نعمان : اسم مكان ويقال له نعمان الأراك ، وسعد السعود والدبران نجمان يكنى بهما
عن الاقبال والادبار. جفار : جمع جفر وهي البئر الواسعة ، المين : الكذب.
الشرح
: يقول الشيخ : ان
تلك الحسناء في رحلتها المباركة الطويلة صعدت على أعلى الصفا ، وأنها قصدت هناك
دارا للمحث مطاياه ، المكبل بقيود هواه ، ولعله يقصد بها دار الأرقم بن أبي الأرقم
التي كانت أول مدرسة في الاسلام يجتمع فيها النبي صلىاللهعليهوسلم بأصحابه يقرئهم القرآن ويعلمهم عقائد الايمان ، ثم يعجب
الشيخ لشأن تلك الزائرة كيف كانت تسير في هذه المتاهات بلا دليل وبسرعة الريح ،
حتى أنها قد بزت الدليل في خبرتها والريح في سرعتها ، وكان اهتداؤها في مسيرها
بذلك النجم الميمون المسمى بسعد السعود ، وليس بالدبران الذي هو علامة النجس
والشؤم ، وأنها وردت آبار الدمع غزارا فاكتفت بها عن كل ورد سواها ، وأنها ربأت
بنفسها عن كذب الهوى ، وكان زادها في رحلتها ذكر الحبيب ووصله المتداني القريب.
* * *
وعدت بزورتها
فأوفت بالذي
|
|
وعدت وكان
بملتقى الأجفان
|
لم يفجأ المشتاق
إلا وهي دا
|
|
خلة الستور بغير
ما استئذان
|
قالت وقد كشفت
نقاب الحسن ما
|
|
بالصبر لي عن أن
أراك يدان
|
وتحدثت عندي
حديثا خلته
|
|
صدقا وقد كذبت
به العينان
|
فعجبت منه وقلت
من فرحي به
|
|
طمعا ولكن
المنام دهاني
|
ان كنت كاذبة
الذي حدثني
|
|
فعليك أثم
الكاذب الفتان
|
المفردات
: الزورة الزيارة
ـ أوفت أنجزت ـ ملتقى الأجفان كناية عن النوم فجأة الأمر أخذه على غرة النقاب : ما
تنتقب به المرأة كالبرقع. دهاه الأمر غلبة وحيرة الفتان : الشديد الفتنة ، وهي خدع
الناس وتضليلهم.
الشرح
: يعني أن هذه
الحسناء كانت قد وعدته بزيارتها فأنجزت ما وعدت ولكنها لم تجيء إلا في وقت متأخر
من الليل حين التقت منه الأجفان وغلبه النعاس. ثم لم يفجأه إلا دخولها عليه سافرة
قد أماطت عن وجهها لثام الحسن ولم تراع في دخولها أدب الاستئذان رفعا للكلفة وعجزا
عن الصبر ، ثم صرحت له بما يعتلج في قلبها من الوجد ، وأنها لم تعد تقوى على الصبر
عنه ، ثم أخذت تحدثه حديثا ظنه صدقا ، فأخذه العجب من حديثها وطلاوته حتى قال من
فرحه بذلك الحديث مع ما كان يغالبه من النوم : ان كنت قد كذبت فيما حدثتني به فقد
بؤت باثم الكاذب الفتان.
* * *
جهم بن صفوان
وشيعته الألى
|
|
جحدوا صفات
الخالق الديان
|
بل عطلوا منه
السموات العلى
|
|
والعرش أخلوه من
الرحمن
|
ونفوا كلام الرب
جل جلاله
|
|
وقضوا له بالخلق
والحدثان
|
المفردات
: شيعته أنصاره في
مذهبه. جحدوا أنكروا ـ الديان : اسم له تعالى من الدين بمعنى الجزاء. عطلوا من
التعطيل بمعنى النفي ـ العرش : الجسم المعروف الذي استوى ربنا عليه ، الحدثان :
الحدوث الذي هو سبق العدم.
الشرح
: قوله : جهم بن
صفوان بدل من الكاذب الفتان ، وكان الجهم من أكذب الناس على الله وأعظمهم فتنة
وضلالة في الدين. قال الذهبي عنه في الميزان
«جهم بن صفوان»
أبو محرز السمرقندي الضال المبتدع رأس الجهمية ، هلك في زمان التابعين وما علمته
روى شيئا ، لكنه زرع شرا عظيما.
وقال البخاري في
رسالته (خلق أفعال العباد) :
«وحدثني أبو جعفر
حدثني يحيى بن أيوب قال : سمعت أبا نعيم الباغي قال : كان رجل من أهل مرو صديقا
لجهم ثم قطعه وجفاه فقيل له : لم جفوته؟ فقال احتملت منه ما لا يحتمل ، قرأت يوما
آية كذا وكذا أنسيها يحيى ، فقال : ما كان أظرف محمدا فاحتملتها. ثم قرأ سورة طه ،
فلما قال (الرَّحْمنُ عَلَى
الْعَرْشِ اسْتَوى) [طه : ٥] قال :
أما والله لو وجدت سبيلا إلى حكها لحككتها من المصاحف فاحتملتها ، ثم قرأ سورة
القصص ، فلما انتهى الى ذكر موسى قال : ما هنا ذكر قصته في موضع فلم يتمها ثم رمى
المصحف من حجره برجليه فوثبت عليه».
ثم قال البخاري : (بلغني
أن جهما كان يأخذ من الجعد بن درهم ، وكان خالد القسري أمير العراق خطب فقال : إني
مضح بالجعد بن درهم إنه زعم أن الله لم يتخذ ابراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما).
وقال شيخ الاسلام
ابن تيمية في (الفتوى الحموية) ، فإن أول من حفظ عنه أنه قال هذه المقالة في
الاسلام هو الجعد بن درهم ، وأخذها عنه الجهم بن صفوان وأظهرها ، فنسبت مقالة
الجهمية إليه. وقيل أن الجعد أخذ مقالته عن أبان بن سمعان ، وأخذها أبان عن طالوت
ابن أخت لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر الذي سحر النبي صلىاللهعليهوسلم.
وذكر الطبري في
تاريخه في حوادث سنة تسع وعشرين بعد المائة أن الحارث ابن سريج خرج على نصر بن
سيار عامل خراسان لبني أمية وحاربه ، وكان الجهم كاتبا للحارث ، فقتل الحارث في
سنة ثمان وعشرين ومائة في خلافة مروان الحمار آخر خلفاء بني أمية ، وأما الجهم
فقيل انه قتل أيضا في المعركة ، وقيل بل أسره نصر بن سيار وسلمه إلى سالم بن أحوز
فقتله. وكان سالم على شرطة خراسان ،
وقيل أن سالما
قتله لما بلغه فساد نحلته ، وأنه ينكر أن الله كلم موسى تكليما.
ولما كان مذهب
الجهم في التعطيل والجبر أصلا تفرع عنه كثير من فرق الضلال كالمعتزلة والفلاسفة
ومتأخري الأشعرية والقرامطة الباطنية وملاحدة الصوفية القائلين بالحلول والوحدة ،
كابن عربي وابن سبعين وأضرابهما ، بدأ المصنف ببيانه مع التفصيل والاسهاب ، فأخبر
أن الجهم وشيعته أنكروا صفات الخالق جل وعلا ، وخلاصة مذهب الجهم في هذا أنه لا
يجوز أن يوصف الله عزوجل بصفة يوصف بها خلقه لأن ذلك يقتضي في زعمه تشبيها ، فنفى
كونه حيا عالما مريدا الخ ، ولكنه أثبت كونه قادرا فاعلا خالقا ، لأن المخلوق عنده
لا يوصف بهذه الأشياء.
وأما شيعة الجهم
من أهل النفي والتعطيل فإنهم ليسوا في تجهمهم بدرجة سواء بل منهم غال كالفلاسفة
أتباع مذاهب اليونان ، فإنهم لم يثبتوا له إلا وجودا مطلقا بشرط الاطلاق ولم
ينعتوه إلا بالسلوب والاضافات ، ويليهم المعتزلة الذين أثبتوا الأسماء دون الصفات
، ثم متأخرو الأشعرية الذين أثبتوا بعض الصفات ونفوا بعضها ، وسيأتي في كلام
المؤلف رحمهالله ما فيه الكفاية في الرد عليهم.
وبعد أن ذكر
مذهبهم في جحد الصفات اجمالا أخذ في تفصيل ذلك ، فذكر كل واحدة من الصفات التي
نفوها ، فمن ذلك استواؤه تعالى على العرش ، فالجهمية كلهم غاليهم وقاصرهم لا
يؤمنون بأن في السماء ربا ولا فوق العرش ، الهابل عطلوا منه السموات العلى ،
وأخلوا منه عرشه العظيم ، مخالفين بذلك صريح الكتاب والسنة واجماع سلف الأمة
وأئمتها بل وإجماع الشرائع السماوية كلها التي قامت على أساس أن الله عزوجل في السماء ، وأن
الوحي ينزل من عنده على المصطفين من عباده.
وكذلك نفوا أن
يكون الله عزوجل متكلما بكلام هو صفة له قائمة به ، ولكنه متكلم عندهم
بمعنى أنه خالق للكلام كخلقه لسائر الأعراض والأجسام ، فكلام الله عندهم مخلوق
محدث منفصل عنه كسائر مفعولاته ، وإنما يضاف إليه
على سبيل التشريف
كما يقال : بيت الله وناقة الله ، وقضوا على كلامه سبحانه بالخلق ، أي بأنه من
جملة المخلوقات التي توجد بالقدرة منفصلة عن الذات. وبالحدثان يعني بالأولية
والابتداء ، فعندهم أن الله صار متكلما أي خالقا للكلام بعد أن لم يكن كذلك ،
ومعنى هذا أن القرآن وسائر الكتب المنزلة لم يتكلم الله بها وانما خلقها في اللوح
أو في الهواء ، وكذلك تكليمه تعالى لموسى عليهالسلام ، إنما هو بكلام خلقه في الشجرة ونحو ذلك.
* * *
قالوا وليس
لربنا سمع ولا
|
|
بصر ولا وجه ،
فكيف يدان
|
وكذاك ليس لربنا
من قدرة
|
|
وإرادة أو رحمة
وحنان
|
كلا ولا وصف
يقوم به سوى
|
|
ذات مجردة بغير
معان
|
وحياته هي نفسه
وكلامه
|
|
هو غيره فاعجب
لذا البهتان
|
الشرح
: يعني أن من جملة
الصفات التي نفاها الجهمية المعطلة عن الله عزوجل صفة السمع التي يسمع بها الأصوات ، وصفة البصر التي يرى
بها المرئيات ، وصفة الوجه التي نطقت بثبوتها الآيات.
وقوله (فكيف يدان)
استفهام انكاري معناه النفي ، يعني أنهم إذا كانوا قد نفوا عنه هذه الصفات
المتقدمة مع اقتضاء العقل لثبوتها ، فكيف يعقل أن يثبتوا له صفة اليدين.
وكذلك نفوا عنه
صفة القدرة التي بها الايجاد والاعدام وصفة الإرادة التي يقع بها التخصيص في
الممكنات على وفق علمه وحكمته. وكذلك نفوا عنه صفتي الرحمة والحنان وسائر ما يقوم
به من المعاني التي أثبتها لنفسه أو أثبتها له رسوله صلىاللهعليهوسلم ، ولم يثبتوا إلا ذاتا مجردة عن كل معنى ووصف ، ونسبوا إليها
آثار الصفات فقالوا : إنه بذاته يعلم ويقدر ويريد ويسمع الخ.
قوله (سوى ذات
مجردة الخ) استثناء منقطع ، إذ المستثنى ليس من جنس المستثنى منه ، فإن الذات ليست
من جنس الصفات.
وقوله (وحياته هي
نفسه الخ) بيان لما يلزم مذهبهم في النفي من تناقض وافتراء حيث جعلوا حياته هي
نفسه وذاته ، وجعلوا كلامه مغايرا له منفصلا عنه مع أنهما متماثلان في أن كلا
منهما معنى قائم به.
* * *
وكذاك قالوا ما
له من خلقه
|
|
أحد يكون خليله
النفساني
|
وخليله المحتاج
عندهم وفي
|
|
ذا الوصف يدخل
عابد الأوثان
|
فالكل مفتقر
إليه لذاته
|
|
في أسر قبضته
ذليل عان
|
ولأجل ذا ضحى
بجعد خالد ال
|
|
قسري يوم ذبائح
القربان
|
اذ قال إبراهيم
ليس خليله
|
|
كلا ولا موسى
الكليم الداني
|
شكر الضحية كل
صاحب سنة
|
|
لله درك من أخي
قربان
|
الشرح
: أنكر الجهمية صفة
الخلة التي هي كمال المحبة المستغرقة للمحب بدعوى أن المحبة لا تكون إلا لمشاكلة
ومناسبة بين المحب والمحبوب ، ومعلوم أنه لا مناسبة بين القديم والحادث توجب ذلك.
وحرفوا الكلم عن مواضعه فقالوا : ان معنى الخليل في قوله تعالى : (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) [النساء : ١٢٥]
الفقير المحتاج. ولا شك في فساد هذا التأويل ، إذ لا يكون حينئذ لتخصيص إبراهيم
بالخلة معنى ، فإن الفقر والاحتياج لازم لجميع الخلق لزوما ذاتيا لا يمكن الانفكاك
عنه ، وبذلك يكون وصف الخلة متناولا لجميعهم حتى عبدة الأوثان الذين هم ألد أعداء
الرحمن.
فقوله (وفي ذا
الوصف ... الخ) رد على الجهمية في تفسيرهم الخليل بالفقير المحتاج بأنه يدخل فيه
عموم الخلق ، ومنهم عبدة الأوثان لافتقار الجميع إليه افتقارا ذاتيا لا يتصور معه
استغناء في أي لحظة ، والكل في قهر قبضته خاضع ذليل.
وكذلك أنكروا
حقيقة التكليم الذي هو مشافهة الله لبعض عباده من وراء حجاب ، كما هو ثابت لموسى
بالكتاب ولنبينا محمد عليهما الصلاة والسلام ليلة
الاسراء ، وزعموا
أن تكليم الله لموسى انما هو بكلام خلقه في الشجرة أو في الهواء ، ويقال أن أول من
ابتدع هذه المقالة في الاسلام هو الجعد بن درهم في أوائل المائة الثانية ، كما سبقت
الاشارة إليه ، فضحى به خالد بن عبد الله القسري أمير العراق بواسط في يوم عيد
الأضحى حيث قال :
(أيها الناس
اذهبوا إلى اضاحيكم يتقبل الله منكم فإني مضح بالجعد بن درهم أنه زعم أن الله لم
يتخذ إبراهيم خليلا ولا كلم موسى تكليما) ثم نزل فذبحه ، وكان ذلك بفتوى أهل زمانه
من التابعين ، فشكر له صنيعه أهل السنة والجماعة.
ثم أخذ هذا المذهب
عن الجعد الجهم بن صفوان الذي تقدمت ترجمته فأظهره وناظر عليه. وعن الجهم انتقل
إلى المعتزلة اتباع (عمرو بن عبيد) الذين ظهر أمرهم واستفحل في عهد المأمون وأخيه
المعتصم ، حتى امتحن أهل السنة امتحانا شديدا كان من نتيجته أن ضرب امام أهل السنة
أبو عبد الله أحمد بن حنبل الشيباني رضي الله عنه وطيف به ، وينبغي أن يعلم أن
محبته تعالى وخلته انما هما على ما يليق به كسائر صفاته فلا مشابهة بين ما هو ثابت
للخالق جل وعلا من ذلك وبين ما هو ثابت للمخلوق.
* * *
والعبد عندهم
فليس بفاعل
|
|
بل فعله كتحرك
الرجفان
|
وهبوب ريح أو
تحرك نائم
|
|
وتحرك الأشجار
للميلان
|
والله يصليه على
ما ليس من
|
|
أفعاله حر
الحميم الآن
|
لكن يعاقبه على
أفعاله
|
|
فيه تعالى الله
ذو الاحسان
|
والظلم عندهم
المحال لذاته
|
|
أنى ينزه عنه ذو
السلطان
|
ويكون مدحا ذلك
التنزيه ما
|
|
هذا بمقبول لدى
الأذهان
|
يرى الجهم أنه لا
اختيار للعبد في شيء من فعله ، وأن أفعاله تصدر عنه على سبيل الاضطرار ، بل هو يرى
أن لا فعل للعبد أصلا وأن الفعل ينسب إليه
مجازا كما يقال
سقط الجدار وجرى الماء.
وضرب المؤلف مثلا
لذلك بتحرك الرجفان ، وهو الخائف المرتعد. وهبوب الريح وحركة النائم وتمايل
الأشجار ، ومن المعلوم أن كل هذه أفعال اضطرارية.
ويقول الجهمية :
ان الله يعاقب العبد على ما ليس من فعله من المعاصي والذنوب ويذيقه عليها العذاب
الشديد ، وحر الحميم الآن ، وهو الماء الحار الشديد الحرارة ـ بل ان الله يعاقبه
على فعله هو فيه ، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا ـ وقالوا ان هذا ليس ظلما ،
لأنه تصرف في محض ملكه وسلطانه وهو ممكن ، والظلم انما هو المحال لذاته.
وقد ردّ المؤلف
عليهم بأن الظلم إذا كان محالا لذاته لم يكن في نفيه عن الله عزوجل مدح ، مع أن الله قد مدح نفسه بنفي الظلم عنه كما في قوله (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ
ذَرَّةٍ) [النساء : ٤](ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما
أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [ق : ٢٩] وفي
الحديث القدسي «يا عبادي اني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا».
وذلك لا يكون إلا
إذا كان الظلم في ذاته ممكنا ويكون مختارا في تركه ، اذ لا يعقل أن يتمدح أحد بما
لا يتصور وقوعه منه لاستحالته في ذاته.
* * *
وكذلك قالوا
ماله من حكمة
|
|
هي غاية للأمر
والاتقان
|
ما ثم غير مشيئة
قد رجحت
|
|
مثلا على مثل
بلا رجحان
|
هذا وما تلك
المشيئة وصفه
|
|
بل ذاته أو فعله
قولان
|
وكلامه مذ كان
غيرا كان مخ
|
|
لوقا له من جملة
الأكوان
|
الشرح
: اختلفت مذاهب
الناس في الحكمة بمعنى العلة الباعثة على الخلق والأمر ، وهل لله حكمة من أجلها
يفعل ويأمر ، أم ليس هناك إلا مجرد الإرادة
التي ترجح أحد
المتماثلين على الآخر بلا مرجح.
فذهب الأشاعرة
والفلاسفة الى نفي الغرض عن فعله تعالى وأمره ، وقالوا ان الفاعل لغرض مستكمل بذلك
الغرض. وأما المعتزلة فمع اثباتهم الحكمة لله في خلقه وأمره لا يجعلونها صفة له
قائمة ، بل يجعلونها مخلوقة منفصلة عنه.
وكان الجهم ـ قبحه
الله وأخزاه ـ على رأس النفاة الذين لا يثبتون لله حكمة يحبها ويرضاها ويفعل
لأجلها وتكون غاية للأمر واتقان الفعل ولا يثبتون إلا مشيئة مجردة يزعمون أنها
كافية في ترجيح أحد المثلين على الآخر بلا مرجح.
قال شيخ الإسلام
ابن تيمية رحمهالله في جواب أهل العلم :
«فإن هذه الأقاويل
أصلها مأخوذة من الجهم بن صفوان امام غلاة المجبرة ، وكان ينكر رحمة الرب ويخرج
إلى الجذامي فيقول «أرحم الراحمين يفعل مثل هذا» يريد بذلك أنه ما ثم إلا إرادة
رجح بها أحد المتماثلين بلا مرجح لا لحكمة ولا لرحمة».
والجهم مع هذا لا
يثبت المشيئة وصفا لله قائما به جريا على مذهبه في النفي والتعطيل ، بل يجعلها
تارة نفس الذات وتارة يفسرها بما تعلقت هي به من المفعول المراد. كما جعل كلامه
مغايرا له منفصلا عنه ، وقال انه مخلوق كسائر الأكوان المخلوقة.
* * *
قالوا واقرار
العباد بأنه
|
|
خلاقهم هو منتهى
الإيمان
|
والناس في
الايمان شيء واحد
|
|
كالمشط عند
تماثل الأسنان
|
فاسأل أبا جهل
وشيعته ومن
|
|
والاهم من عابدي
الأوثان
|
وسل اليهود وكل
أقلف مشرك
|
|
عبد المسيح مقبل
الصلبان
|
وأسأل ثمود وعاد
بل سل قبلهم
|
|
أعداء نوح أمة
الطوفان
|
وأسأل أبا الجن
اللعين أتعرف ال
|
|
خلاق أم أصبحت
ذا نكران
|
واسأل شرار
الخلق أغلى أمة
|
|
لوطية هم ناكحوا
الذكران
|
وأسأل كذاك امام
كل معطل
|
|
فرعون مع قارون
مع هامان
|
هل كان فيهم
منكر للخالق ال
|
|
رب العظيم مكون
الأكوان
|
فليبشروا ما
فيهم من كافر
|
|
هم عند جهم
كاملو الإيمان
|
الشرح
: اختلف الناس في
حقيقة الإيمان على أقوال شتى ، أصحها ما ذهب إليه السلف من أنه تصديق بالجنان
واقرار باللسان وعمل بالأركان.
وروي عن أبي حنيفة
أنه تصديق واقرار فقط ، بل روي عنه أنه جعل الاقرار ركنا زائدا ليس بأصلي. وذهب
الكرامية إلى أن الإيمان اقرار باللسان فقط ، فمن أقر بلسانه فهو مؤمن عندهم بمعنى
أنه يسمى بذلك ، وان كان مستحقا للوعيد.
وذهب الجهم وشيعته
إلى أن الايمان هو مجرد المعرفة بأن الله هو الرب الخالق لكل شيء ، والناس في هذه
المعرفة متساوون كأسنان المشط ، لا يزيد أحدهم فيها على غيره ولا ينقص عنه.
وقد بين المؤلف رحمهالله فساد هذا المذهب بأنه يلزم عليه أن يكون أبو جهل أشقى هذه
الأمة وشيعته في الكفر والعناد ومن والاهم من عبدة الأوثان.
وأن يكون اليهود
الذي لعنهم الله وغضب عليهم وأن يكون كل أقلف مشرك من النصارى الذي لا يختتنون.
وأن تكون ثمود الذين عقروا الناقة وقوم هود الذين استكبروا في الأرض بغير الحق ،
وقالوا من أشد منا قوة ، وقوم نوح الذين فسقوا عن أمر الله ، وأن يكون ابليس رأس
الشر وقوم لوط ناكحوا الذكران من العالمين ، وفرعون وهامان وقارون ـ يلزم أن يكون
هؤلاء جميعا على مذهب الجهم مؤمنين كاملي الايمان ، فإن الاقرار بوجود صانع للعالم
مركوز في الفطر ، ولم ينازع فيه أحد من العقلاء.
وأما قول فرعون
على جهة التجاهل والانكار (وَما رَبُّ
الْعالَمِينَ) [الشعراء : ٢٣] فهو
مكابرة منه مع علمه بالحق ، ولهذا قال له موسى عليه
السلام : (لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ
إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ) [الإسراء : ١٠٢].
وليس هناك اعظم
فسادا من قول يجعل هؤلاء الذين هم أئمة الكفر والضلال أخيارا مؤمنين ، ان مجرد المعرفة
بالحق لا تكفي لتحقيق الايمان ما لم تكن مصحوبة بالاقرار والاذعان ، ولهذا قال
الله تعالى خبرا عن فرعون وقومه : (وَجَحَدُوا بِها
وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) [النمل : ١٤] فجمع
لهم بين الجحد والاستيقان .. وكان أهل الكتاب الذين في زمان نبينا صلىاللهعليهوسلم يعرفونه كما يعرفون ابناءهم. بل كان ابليس نفسه وهو رأس
الشر في العالم عارفا بربه حيث قال : (رَبِّ بِما
أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ
أَجْمَعِينَ) [الحجر : ٣٩].
* * *
وقضى بأن الله
كان معطلا
|
|
والفعل ممتنع
بلا امكان
|
ثم استحال وصار
مقدورا له
|
|
من غير أمر قام
بالديان
|
بل حاله سبحانه
في ذاته
|
|
قبل الحدوث
وبعدها سيان
|
الشرح
: كان الجهم يقول
بحدوث العالم بمعنى أنه صار موجودا بعد أن كان معدوما لا فرق في ذلك عنده بين
أنواع الحوادث وأشخاصها. وتبعه على ذلك معظم فرق المتكلمين كالمعتزلة والأشعرية
والكرامية.
ويلزم على هذا
القول من الفساد أن الله عزوجل لم يزل معطلا عن الفعل أو غير قادر عليه ، ثم صار فاعلا
وقادرا من غير تجدد سبب أصلا أوجب له القدرة والفعل. أو أن الفعل منه كان ممتنعا
في الأزل ثم صار ممكنا مقدورا من غير سبب اقتضى امكانه ـ وهذا يستلزم الانقلاب من
الامتناع الذاتي إلى الامكان الذاتي ويلزم هؤلاء أيضا أن الحادث اذا حدث بعد أن لم
يكن فلا بد أن يكون ممكنا ، والامكان ليس له وقت محدود فما من وقت يقدر حدوثه فيه
إلا والامكان ثابت قبله. ليس لامكان الفعل وصحته مبدأ ينتهي إليه ، فيجب أنه لم
يزل الفعل ممكنا
جائزا فيلزم جواز حوادث لا نهاية لها.
فقول المؤلف رحمهالله : وقضى بأن الفعل كان معطلا الخ ، إنما هو بيان لما يلزم
مذهب جهم وشيعته في قولهم بحدوث العالم وأنه له بداية في الزمان.
ويقابل قول هؤلاء
قول الفلاسفة بقدم العالم ، وأنه صدر من الله عزوجل صدور المعلول عن علته بلا قصد ولا اختيار ، ولا شك أن هذا
القول أفسد من سابقه وفساده من الظهور بحيث لا يحتاج إلى اطالة الكلام معه.
بقي القول الثالث
وهو ما أجمع عليه سلف الأمة وأئمتها من أن الله عزوجل لم يزل حيا قادرا فعالا لما يريد متكلما إذا شاء بما شاء ،
وأن الفعل والكلام من صفات كماله التي لا يجوز تعطيله عنها في وقت من الأوقات ،
وأن الفعل والكلام لم يزل ممكنا مقدورا لا يجوز القول بامتناع ذلك منه في وقت من
الأوقات كذلك.
* * *
وقضى بأن النار
لم تخلق ولا
|
|
جنات عدن بل هما
عدمان
|
فإذا هما خلقا
ليوم معادنا
|
|
فهما على
الأوقات فانيتان
|
وتلطف العلاف من
أتباعه
|
|
فأتى بضحكة جاهل
مجان
|
قال الفناء يكون
في الحركات لا
|
|
في الذات وا
عجبا لذا الهذيان
|
الشرح
: يرى الجهم أن
الجنة والنار غير موجودتين الآن ، وعلى ذلك سائر المعتزلة. وكان منشأ غلطهم في ذلك
وغيره من أمور الاعتقاد هو تحكيمهم ما يسمونه بالعقل مع وجود النص ، فلما رأوا
بعقولهم الفاسدة أن لا فائدة من وجود الجنة والنار الآن من حيث أنهما داران للجزاء
على الأعمال. والجزاء لا يكون إلا في الدار الآخرة حكموا بعدمهما مع وجود النصوص
الصريحة من الكتاب والسنة على وجودهما ، مثل قوله تعالى لآدم عليهالسلام : (اسْكُنْ أَنْتَ
وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) [البقرة : ٣٥].
ومثل قوله صلىاللهعليهوسلم «أريت الجنة
والنار» وقوله «لما أصيب اخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في حواصل طير خضر تسرح في
الجنة تأكل من ثمارها وتشرب من أنهارها».
ويرى الجهم أيضا
أن الجنة والنار إذا وجدتا في يوم المعاد فانهما لا تبقيان على سبيل التأبيد
والخلود ، كما تدل على ذلك أيضا نصوص الكتاب والسنة ، بل يرى أنه سيأتي وقت تفنى
فيه الجنة والنار وأهلهما بحيث لا يبقى مع الله شيء موجود ، لأن كل ما له ابتداء
عنده يجب أن يكون له انتهاء.
وأما أبو الهذيل
العلاف ، وهو رأس من رءوس الاعتزال ومن أتباع جهم في المروق والضلال ، فقد تلطف في
الأمر فلم يقل بالفناء المحض ، ولكنه أتى بما يثير الضحك ويبعث على السخرية به حين
قال بانقطاع حركات أهل الجنة وأهل النار بحيث يبقون فيهما همودا جمودا ساكنين
وحينئذ لا يقدر الله عزوجل أن يزيد في لذائذ أهل الجنة لذة ولا أن يزيد في عذاب أهل
النار ألما ، فهل رأيت أعجب مما يهذي به هذا الجاهل المأفون.
* * *
أيصير أهل الخلد
في جناتهم
|
|
وجحيمهم كحجارة
البنيان
|
ما حال من قد
كان يغشى أهله
|
|
عند انقضاء تحرك
الحيوان
|
وكذاك ما حال
الذي رفعت يدا
|
|
ه أكلة من صفحة
وخوان
|
فتناهت الحركات
قبل وصولها
|
|
للفم عند تفتح
الأسنان
|
وكذلك ما حال
الذي امتدت يدا
|
|
منه الى قنو من
القنوان
|
فتناهت الحركات
قبل الأخذ هل
|
|
يبقى كذلك سائر
الأزمان
|
تبا لهاتيك
العقول فأنها
|
|
والله قد مسخت
على الأبدان
|
تبا لمن أضحى
يقدمها على ال
|
|
آثار والأخبار
والقرآن
|
الشرح
: هذه الأبيات كلها
في بيان شناعة ما ذهب إليه أبو الهذيل من انقطاع حركات أهل الجنة وأهل النار بحيث
يبقون ساكنين جامدين كحجارة
البنيان التي لا
حس ولا حركة ، فكيف حال من كان يجامع أهله ثم أنقضت تلك الحركات قبل أن ينزع عنها أيظل
على حاله تلك من الغشيان والإيلاج؟
وكيف حال من رفعت
يده اللقمة الى فيه فتناهت الحركات قبل وصولها إلى فمه أيظل فمه هكذا مفتوحا في
انتظار اللقمة التي لن تصل إليه؟
ثم ما حال هذا
الذي امتدت يده الى عذق من الرطب ثم دخل هذا الوقت قبل تناوله هل تبقى يده ممدودة
هكذا سائر الأزمان؟
ألا تبا لعقل يقدم
على مثل هذه الترهات والأباطيل ، ويقدمها على النصوص الصريحة من الكتاب والسنة
والآثار.
* * *
وقضى بأن الله
يعدم خلقه
|
|
عدما ويقلبه
وجودا ثان
|
العرش والكرسي
والأرواح وال
|
|
أملاك والأفلاك
والقمران
|
والأرض والبحر
المحيط وسائر ال
|
|
أكوان من عرض
ومن جثمان
|
كل سيفنيه
الفناء المحض لا
|
|
يبقى له أثر كظل
فان
|
ويعيد ذا
المعدوم أيضا ثانيا
|
|
محض الوجود
اعادة بزمان
|
الشرح
: يرى الجهم أن
العالم كله علويه وسفلية سيفنى يوم القيامة ويصير إلى العدم المحض مستدلا بمثل
قوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ
إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨]
زاعما أن الهلاك في الآية معناه الفناء المحض ، وهذا محض افتراء فإن لفظ الهلاك
انما يستعمل في اللغة بمعنى التحلل والفساد وتفرق الأجزاء ، ولا شك أن الأشياء
جميعا قابلة للهلاك بهذا المعنى.
على أن قوله تعالى
: (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ
إِلَّا وَجْهَهُ) هو من العام المخصوص ، كما في قوله تعالى (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ
رَبِّها) [الاحقاف : ٢٥]
والمراد به هلاك ما على الأرض من انسان وحيوان ، كما في قوله تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) [الرحمن : ٢٦].
ويرى الجهم أيضا
أن الله عزوجل يعيد هذا العالم بعد الفناء بعينه ، يعني بجميع صفاته
وأعراضه ، حتى قال جهلا باعادة الزمان الأول الذي كان مقارنا للوجود الأول بعينه.
وهذا معنى قول الناظم رحمهالله (اعادة بزمان)
يعني اعادة مصحوبة بالزمان الذي كان مقارنا للأشياء حتى يكون الثاني عين الأول.
وأعلم أن الذي
أوقع الجهم وأشياعه من المتكلمين في مثل هذه الجهالات هو ايمانهم بالجوهر الفرد
واعتقادهم أن العوامل كلها مركبة من هذه الجواهر الفردة التي لا تقبل القسمة ،
فبنوا على هذه النظرية الفاسدة كل أصول دينهم ، ومنها المعاد فصاروا على قولين فيه
، فمنهم من قال : تعدم الجواهر ثم تعاد ، كما هو مذهب الجهم ، ومنهم من قال : بل تفرق
الاجزاء ثم تجمع ، وقد أورد الفلاسفة على كل من القولين من الشبه ما اضطر فريقا من
المتكلمين كالحليمي والغزالي أن يدعوا أن الاعادة لا تكون لهذه الاجسام التي كانت
في الدنيا ، بل يخلق الله أجساما جديدة ويعيد الأرواح إليها مع مخالفة ذلك للنصوص
الصريحة التي دلت على أن هذه الاجسام التي باشرت الطاعة والمعصية هي التي تعاد ،
وهي التي يجري عليها الثواب والعقاب.
* * *
هذا المعاد وذلك
المبدا الذي
|
|
جهم وقد نسبوه
للقرآن
|
هذا الذي قاد
ابن سينا والألى
|
|
قالوا مقالته
الى الكفران
|
لم تقبل الأذهان
ذا وتوهموا
|
|
أن الرسول عناه
بالإيمان
|
هذا كتاب الله
أنى قال ذا
|
|
أو عبده المبعوث
بالبرهان
|
أو صحبه من بعده
أو تابع
|
|
لهم على الايمان
والاحسان
|
الشرح
: عرفنا أن الجهم
يرى أن الاعادة ستكون عن عدم محض كما أن الابداء كان كذلك ، ويزعم أن هذا هو معنى
قوله تعالى : (كَما بَدَأْنا
أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) [الأنبياء : ١٠٤]
وقوله : (كَما بَدَأَكُمْ
تَعُودُونَ) [الاعراف : ٢٩]
يعني أن الله كما بدأ الأشياء عن عدم محض ، فكذلك يعيدها عن عدم
محض. وهذا جهل منه
بالبدء ، فان الله لم يبدأ هذه الأجسام من عدم محض ، بل من مواد وعناصر موجودة
فعلا أحالها من حال إلى حال ، وهذه سنته سبحانه في الخلق أنه يحيل الأجسام بعضها
إلى بعض ، ويقلبها من طور الى طور ، وهكذا ستكون الاعادة.
وكانت مقالة الجهم
هذه هي التي حملت ابن سينا وشيعته من المتفلسفة الى الكفر بالبعث وانكار حشر
الأجساد ، لأنهم ظنوا كما ظن الجهم أن الاعادة لا تكون إلا عن عدم ، وأن هذا هو
الذي قصده الرسول صلىاللهعليهوسلم من الايمان بالبعث ـ ولما كان لا يمكن في العقل اعادة
المعدوم بعينه ، لأن ذلك يستلزم اعادته بجميع أعراضه وصفاته كلها ومنها الزمان ،
فقد ذهبوا إلى استحالة الاعادة إذ لا يمكن اعادة الزمان الأول بعينه.
ومعلوم أن هذا
الذي قاله الجهم في الاعادة عن عدم ، وكان سببا لورود الاشكالات على البعث ليس في
شيء من كتاب الله ولا سنة رسوله صلىاللهعليهوسلم ولا ذهب إليه أحد من الصحابة ولا من الذين اتبعوهم باحسان
رضي الله عنهم أجمعين ، بل كلهم فهموا معنى البعث كما ورد به الكتاب الكريم ، وهو
أبعد ما يكون عن أقوال هؤلاء الزائغين المبتدعين.
* * *
بل صرح الوحي
المبين بأنه
|
|
حقا مغير هذه
الأكوان
|
فيبدل الله
السموات العلى
|
|
والأرض أيضا ذات
تبديلان
|
وهما كتبديل
الجلود لساكني الن
|
|
يران عند النضج
من نيران
|
وكذاك يقبض أرضه
وسماءه
|
|
بيديه ما
العدمان مقبوضان
|
وتحدث الأرض
التي كنا بها
|
|
أخبارها في
الحشر للرحمن
|
وتظل تشهد وهي
عدل بالذي
|
|
من فوقها قد
أحدث الثقلان
|
أفيشهد العدم
الذي هو كاسمه
|
|
لا شيء ، هذا
ليس في الامكان
|
الشرح
: يعني أن الذي صرحت
به النصوص ليس هو إعدام هذه الأكوان
كما يقول الجهم ،
ولكن تغييرها وتبديلها في الكيفية مع بقاء الذوات والأعيان ، قال تعالى: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ
الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) [إبراهيم : ٤٨].
وفي الصحيحين عن
سهل بن سعد «أن الناس يحشرون يوم القيامة على أرض عفراء بيضاء كقرصة النقي ليس
فيها معلم لأحد» وقيل تصير خبزة واحدة يتكفؤها الجبار بيده كما في الحديث.
وعن علي رضي الله
عنه «تكون الأرض فضة والسموات ذهبا» وقيل تصير الأرض جنانا ، إلى غير ذلك من
الأقوال التي لا تدل إلا على تبدل الأرض في الكيفية لا على انعدامها بالكلية ،
وهذا كتبديل جلود أهل النار إذا نضجت من حر النار ، فالمقصود أن الله يجددها ويحيي
أعصاب الحس المنبثة فيها ليكمل ذوقهم للألم واحساسهم بالعذاب.
وكذلك صرحت النصوص
بأن الله يقبض الأرض والسموات بيديه كما قال تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ
حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ
مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) [الزمر : ٦٧].
وفي الصحيحين عن
ابن عمر رض الله عنهما «ان الله يطوي السموات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى
ثم يقول : أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرض بشماله ثم يقول :
أنا المكل أين الجبارون أين المتكبرون» ومعلوم أن الطي والقبض والأخذ لا يقع إلا
على شيء موجود.
وصرحت النصوص أيضا
بأن الأرض التي كنا عليها بعينها تحدث الله بأخبارها يوم القيامة وتشهد عنده شهادة
عدل بما أحدثه الثقلان من الجن والانس فوقها ، كما قال تعالى: (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها
بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) [الزلزلة : ٤] فلو
كانت عدما كما يقول الجهم فكيف يتأتى لها أن تحدث أو تشهد ، هذا ما لا يقوله عاقل
أصلا.
* * *
لكن تسوي ثم
تبسط ثم تش
|
|
هد ثم تبدل وهي
ذات كيان
|
وتمد أيضا مثل
مد أديمنا
|
|
من غير أودية
ولا كثبان
|
وتقيئ يوم العرض
من أكبادها
|
|
كالأسطوان نفائس
الأثمان
|
كل يراه بعينيه
وعيانه
|
|
ما لامرئ بالأخذ
منه يدان
|
وكذا الجبال
تفتّ فتا محكما
|
|
فتعود مثل الرمل
ذي الكثبان
|
وتكون كالعهن
الذي ألوانه
|
|
وصباغه من سائر
الألوان
|
وتبس بسا مثل
ذاك فتنثني
|
|
مثل الهباء
لناظر الانسان
|
الشرح
: لكن الذي ذلت عليه
النصوص الصريحة أن الأرض تسوي وتصير قاعا صفصفا لا ارتفاع فيها ولا انخفاض وتصير
صعيدا جرزا ليس عليها نبات ولا شجر ، قال تعالى : (فَيَذَرُها قاعاً
صَفْصَفاً* لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) [طه : ١٠٦ ـ ١٠٧]
وقال : (إِنَّا جَعَلْنا ما
عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً*
وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً) [الكهف : ٧ ـ ٨]
وأنها تبسط وتوسع وتمد كمد الاديم ، وهو الجلد المدبوغ ، قال تعالى : (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ* وَأَلْقَتْ
ما فِيها وَتَخَلَّتْ* وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ) [الانشقاق : ٣ ـ ٥]
وأنها تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها وأنها تبدل كما سبق في الشكل
والكيفية مع بقاء كيانها.
وأما قول المؤلف (وتقيئ
يوم العرض الخ) هذا البيت والذي بعده فهو اشارة الى قوله عليهالسلام فيما رواه مسلم عن أبي هريرة «تلقي الأرض أفلاذ كبدها
أمثال الاسطوان من الذهب والفضة ، فيجيء القاتل فيقول في هذا قتلت ، ويجيء القاطع
فيقول : في هذا قطعت رحمي ، ويجيء السارق فيقول : في هذا قطعت يدي ثم يدعونه فلا
يأخذون منه شيئا».
وكذلك دلت النصوص
الصريحة من القرآن على أن الجبال التي جعلها الله أوتادا للأرض حتى لا تميد بنا
تتفتت وتصير كثيبا مهيلا. وأنها تصير كالعهن المنفوش ، يعني مثل الصوف المصبوغ أو
المتمزق البالي ، وأنها تبس بسا فتصير هباء منبثا قال على رضي الله عنه : هباء
منبثا كرهج الغبار يسطع ثم يذهب فلا
يبقى منه شيء.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما «الهباء الذي يطير من النار إذا اضطرمت يطير منه
الشر فإذا وقع لم يكن شيئا» ...
وبالجملة فقد دلت
النصوص على زوال الجبال من أماكنها يوم القيامة وذهابها وتسييرها ونسفها وصيرورتها
هباء وكالعهن المنفوش ، ومعلوم أن هذه الأحوال كلها لا تجري على معدوم.
* * *
وكذا البحار
فإنها مسجورة
|
|
قد فجرت تفجير
ذي سلطان
|
وكذلك القمران
يأذن ربنا
|
|
لهما فيجتمعان
يلتقيان
|
هذي مكورة وهذا
خاسف
|
|
وكلاهما في
النار مطروحان
|
وكواكب الأفلاك
تنثر كلها
|
|
كلآلئ نثرت على
ميدان
|
وكذا السماء تشق
شقا ظاهرا
|
|
وتمور أيضا أيما
موران
|
وتصير بعد
الانشقاق كمثل ها
|
|
ذا المهل أو تك
وردة كدهان
|
الشرح
: وكذلك وردت النصوص
من الكتاب العزيز بأن البحار تسجر قيل معناه تفجر ، فيكون قوله تعالى : (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) [التكوير : ٦] هو
في معنى قوله : (وَإِذَا الْبِحارُ
فُجِّرَتْ) [الانفطار : ٣]
وقيل معناه تمتلئ نارا وكلا المعنيين وارد في اللغة ، يقال سجر البحر فجره ، وسجر
التنور أوقده ، ولعل قول المؤلف رحمهالله قد فجرت الخ ، يدل على أنه يرجح التفسير الأول.
وكذلك القمران ـ يعني
الشمس والقمر ـ يأذن الله لهما في الالتقاء بعد أن كانت الشمس لا ينبغي لها أن
تدرك القمر ، فتكور الشمس ، يعني يجمع بعضها إلى بعض ، ويخسف القمر ، يعني يذهب
ضوءه ثم يطرحان في النار مع من عبدوهما من دون الله كما قال تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ
اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) [الأنبياء : ٩٨].
وكذلك تتساقط نجوم
السماء وتنتثر ويذهب بريقها كما في قوله تعالى : (وَإِذَا النُّجُومُ
انْكَدَرَتْ) [التكوير : ٢].
وتتشقق السماء
وتتفتح أبوابها وتمور مورانا شديدا ، يعني تتحرك في استدارة ، وقيل معنى تمور
تتشقق وتصير بعد تشققها كالمهل ، يعني دردي الزيت وتكون وردة كالدهان ، قيل مثل
الأديم الأحمر ، وقيل مثل الفرس الورد ، أي الأحمر إلى صفرة.
* * *
والعرش والكرسي
لا يفنيهما
|
|
أيضا وأنهما
لمخلوقان
|
والحور لا تفني
كذلك جنة ال
|
|
مأوى وما فيها
من الولدان
|
ولأجل هذا قال
جهم انها
|
|
عدم ولم تخلق
إلى ذا الآن
|
والأنبياء فانهم
تحت الثرى
|
|
أجسامهم حفظت من
الديدان
|
ما للبلى
بلحومهم وجسومهم
|
|
أبدا وهم تحت
التراب يدان
|
وكذلك الأرواح
لا تبلى كما
|
|
منه تركب خلقة
الانسان
|
وكذلك عجب الظهر
لا يبلى بلى
|
|
تبلى الجسوم ولا
بلى اللحمان
|
ولأجل ذلك لم
يقر الجهم ما ال
|
|
أرواح خارجة عن
الأبدان
|
لكنها من بعض
أعراض بها
|
|
قامت وذا في
غاية البطلان
|
الشرح
: يريد المؤلف بهذه
الأبيات أن يرد على جهم في قوله بالعدم المحض للأشياء كلها يوم القيامة ، فيقول ان
العرش والكرسي وهما من جملة المخلوقات قد صرحت النصوص ببقائهما دون فناء ، وكذلك
جنة المأوى وما فيها من حور وولدان ولأجل هذه النصوص المصرحة ببقاء الجنة ونعيمها
، ذهب جهم إلى أنها لم تخلق للآن زاعما أنه لا فائدة من وجودها ، لأنها انما جعلت
دارا للجزاء على الأعمال. وكذلك وردت النصوص بأن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء ولا
يصيبها ما يصيب الأجسام من البلى والتمزق ـ وبأن ابن آدم كله يبلي إلا عجب الذنب وهو
الذي تنبت منه الأجسام في النشأة ابن آدم كله يبلى الا عجب الذنب وهو الذي تنبت
منه الأجسام في النشأة الأخرى ـ وبأن الأرواح باقية كذلك لا تبلى كما تبلى اللحوم
والاجسام ، ولأجل هذا أنكر الجهم وجود
الأرواح المستقلة
عن الأبدان وقال ليس هناك أرواح تنزل إلى البدن عند الولادة وتصعد منه عند الموت ،
ولكن الحياة عنده عرض من الأعراض القائمة بالبدن ، فإذا مات الحي بطل ذلك العرض
وفني ، وهذا المذهب الذي ذهب إليه جهم وأخذه عن جالينوس الطبيب اليوناني وغيره في
غاية البطلان ، فإن الحياة وغيرها من الاعراض المشروطة بها ، كالاحساس والحركة
والإرادة وغيرها لا بد من سبب خارج عن تركيب البدن ومزاجه ، وذلك هو الروح التي
تحل بالبدن وقد أفاض أهل الأديان وغيرهم من الفلاسفة الروحانيين في الرد على مذاهب
هؤلاء الطبيعيين وبيان فساد مقالتهم بوجوه ليس هنا محل بسطها.
* * *
فالشأن للأرواح
بعد فراقها
|
|
أبدانها والله
أعظم شأن
|
إما عذاب أو
نعيم دائم
|
|
قد نعمت بالروح
والريحان
|
وتصير طيرا
سارحا مع شكلها
|
|
تجني الثمار
بجنة الحيوان
|
وتظل واردة
لانهار بها
|
|
حتى تعود لذلك
الجثمان
|
لكن أرواح الذين
استشهدوا
|
|
في جوف طير أخضر
ريان
|
فلهم بذاك مزية
في عيشهم
|
|
ونعيمهم للروح
والأبدان
|
بذلوا الجسوم
أربهم فأعاضهم
|
|
أجسام تلك الطير
بالاحسان
|
ولها قناديل
إليها تنتهي
|
|
مأوى لها كمساكن
الانسان
|
الشرح
: يقسم المؤلف بأن
شأن الارواح بعد مفارقتها لأجسادها بالموت شأن عظيم جدا ، فهي لا تفنى بفناء الجسد
لأنها ليست عرضا قائما به ، بل تظل حية باقية ، اما في عذاب مقيم إن كانت لكافر أو
منافق ، كما قال تعالى اخبارا عن فرعون وقومه : (النَّارُ يُعْرَضُونَ
عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا ، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ
فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) [غافر : ٤٦] فدلت
الآية على أن عرضهم على النار بالغداة والعشي قبل قيام الساعة.
وقال اخبارا عن
قوم نوح عليهالسلام : (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ
أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا
ناراً) [نوح : ٢٥] فدل
العطف بالفاء على أن دخولهم النار حصل عقيب اغراقهم وأنه قبل القيامة.
وقد صح عنه صلىاللهعليهوسلم أنه قال «القبر اما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر
النار» وأنه مر بانسانين يعذبان في قبورهما ، فقال : «يعذبان وما يعذبان في كبير
بلي» الحديث.
وأما ان كانت روحا
مؤمنة فإنها تكون في نعيم دائم إلى يوم البعث ، تنعم فيه بالروح بفتح الراء وهو
الرحمة والفرح ، والريحان قيل هو الرزق الحسن ، وقيل النبت المعروف الذي واحده
ريحانة.
وأما قول المؤلف (وتصير
طيرا سارحا الخ) فهو اشارة إلى قوله عليهالسلام فيما رواه الامام أحمد رحمهالله «إنما نسمة المؤمن
طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم القيامة» ولكن ليس في الحديث
أن روح المؤمن تجني من ثمار الجنة أو تشرب من أنهارها كما ذكر المؤلف وإنما تلك
خصوصية الشهداء ، فإن الله عزوجل يجعل أرواحهم في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ،
تأكل من ثمارها وتشرب من أنهارها ، ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش. قال تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا
فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) [آل عمران : ١٦٩].
وانما استحق
الشهداء هذه الكرامة لأنهم بذلوا حياتهم رخيصة في سبيل الله فعوضهم الله عنها هذه
الحياة الكريمة ، وعوضهم عن أجسامهم التي قدموها للضرب والطعان طيورا خضرا تحمل
أرواحهم في رحبات الجنان.
* * *
فالروح بعد
الموت أكمل حالة
|
|
منها بهذي الدار
في جثمان
|
وعذاب أشقاها
أشد من الذي
|
|
قد عاينت
أبصارنا بعيان
|
والقائلون بأنها
عرض أبوا
|
|
ذا كله تبا لذي
نكران
|
الشرح
: هذا تفريع على ما
ذكره من أحوال الروح بعد الموت ، وأنها اما في عذاب أو نعيم ، والمعنى أن الروح
بعد مفارقتها للبدن بالموت تظل حية لا تموت ، بل تصير أكمل حالة منها ، وهي حالة
بالبدن في هذه الدار الدنيا. ويكون احساسها بالعذاب اذا كانت شقية أشد مما نراه
ونعانيه من أنواع العذاب المادي المحسوس.
أما القائلون بأن
الروح عرض قائم بالبدن فقد أنكروا ذلك كله ، إذ ليس عندهم روح تفارق ثم تبقى حية
بعد المفارقة ، ولكنها عندهم عرض يفنى بفناء البدن كسائر الاعراض فهلاكا لهؤلاء
المنكرين لحياة الروح بعد المفارقة وما يجري عليها من شئون بعد ما نطق بذلك الكتاب
الكريم والسنة المطهرة. وإن يهلكون بهذا الانكار إلا أنفسهم وما يشعرون؟
* * *
وإذا أراد الله
إخراج الورى
|
|
بعد الممات الى
المعاد الثاني
|
ألقى على الأرض
التي هم تحتها
|
|
والله مقتدر وذو
سلطان
|
مطرا غليظا
أبيضا متتابعا
|
|
عشرا وعشرا
بعدها عشران
|
فتظل تنبت منه
أجسام الورى
|
|
ولحومهم كمنابت
الريحان
|
حتى إذا ما الأم
حان ولادها
|
|
وتمخضت فنفاسها
متدان
|
أوحى لها رب
السما فتشققت
|
|
فبدا الجنين
كأكمل الشبان
|
وتخلت الأم
الولود وأخرجت
|
|
أثقالها أنثى
ومن ذكران
|
الشرح
: هذا بيان لكيفية
البعث بعد الموت على ما وردت به الآثار الصحيحة وحاصل ذلك أن الناس عند ما ينفخ في
الصور النفخة الأولى يصعقون وتسوى بهم الأرض ، فإذا أراد الله عزوجل اخراجهم بعد الموت للمعاد ألقى على هذه الأرض التي هم في
بطنها لا على أرض جديدة غيرها كما يزعم ذلك من يزعمه مطرا غليظا كمني الرجال
يتتابع أربعين يوما فتنبت منه أجسام الناس ولحومهم من عجب الذنب ، فقد ورد أن ابن
آدم كله يبلى إلا عجب الذنب ،
منه ينبت ومنه
يخلق في النشأة الأخرى ، كما ينبت العود المسمى بالريحان ، حتى إذا ما اكتملت
الأجسام وتناهى خلقها وحان للأم ولادها وجاءها المخاض ، فنفاسها متدان قريب ، أوحى
إليها ربها وأذن لاسرافيل أن ينفخ في الصور النفخة الثانية ، فتنشق الأرض وتلقي ما
فيها وتتخلى ويخرج منها الناس ، ذكورهم وإناثهم ، في أكل خلقه.
وقوله (والله
مقتدر وذو سلطان) جملة معترضة أريد بها بيان أن الله كان قادرا أن يخرج الناس من
قبورهم بدون هذه الأسباب ، ولكن حكمته اقتضت أن تكون النشأتان متشابهتين كما قال
تعالى : (كَما بَدَأَكُمْ
تَعُودُونَ) [الأعراف : ٢٩]
وكما قال : (كَما بَدَأْنا
أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) [الأنبياء : ١٠٤](فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : ١٤].
* * *
والله ينشئ خلقه
في نشأة
|
|
أخرى كما قد قال
في القرآن
|
هذا الذي جاء
الكتاب وسنة ال
|
|
هادي به فأحرص
على الايمان
|
ما قال إن الله
يعدم خلقه
|
|
طرا كقول الجاهل
الحيران
|
الشرح
: يزعم الفلاسفة
المنكرون للبعث والمعاد الجسماني أنه لا بد في البعث من اعادة الأجسام التي كانت
في الدنيا بأعيانها ، يعني بجميع صفاتها وأعراضها التي كانت لها في الدنيا. ولما
كان ذلك مستحيلا فقد أدى بهم ذلك إلى انكار البعث ، وللرد عليهم نقول : ان الله
ينشئ الخلق ويؤلفهم تأليفا جديدا كما قال تعالى : (ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ
النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ) [العنكبوت : ٢٠](وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى) [النجم : ٤٧] وليس
بلازم في الاعادة ولا في كون الشخص الثاني عين الأول أن يعاد الجسم بجميع أجزائه ،
فإن الشخص في الدنيا يكون صغيرا ثم ينمو وينتقل من طور إلى طور ، وهو في كل هذه
الأطوار في تجدد دائم واستحالة مستمرة ، فتخرج منه أجزاء وتتجدد له أخرى ، ومع ذلك
هو في كل هذه الأطوار هو ، لم يقل أحد أنه شخص آخر ، فكذلك النشأة الأخرى هي
بمثابة طور من تلك
الأطوار التي تحدث للانسان بحيث لا يشك من يراه أنه هو ذلك الشخص الذي كان في
الدنيا.
هذا هو ما دل عليه
الكتاب الكريم وسنة الهادي صلوات الله وسلامه عليه ولم يقل الله قط ولا رسوله ان
الله يعدم الأشياء كلها ثم يعيدها من عدم كما يقول هذا الجاهل الحيران جهم بن
صفوان قبحه الله.
* * *
وقضى بأن الله
ليس بفاعل
|
|
فعلا يقوم به
بلا برهان
|
بل فعله المفعول
خارج ذاته
|
|
كالوصف غير
الذات في الحسبان
|
والجبر مذهبه
الذي قرت به
|
|
عين العصاة
وشيعة الشيطان
|
كانوا على وجل
من العصيان ذا
|
|
هو فعلهم والذنب
للانسان
|
واللوم لا يعدوه
اذ هو فاعل
|
|
بإرادة وبقدرة
الحيوان
|
فأراحهم جهم
وشيعته من ال
|
|
لّوم العنيف وما
قضوا بأمان
|
لكنهم حملوا
ذنوبهم على
|
|
رب العباد بعزة
وأمان
|
وتبرءوا منها
وقالوا إنها
|
|
أفعاله ما حيلة
الانسان
|
الشرح
: يرى الجهم ويشايعه
في ذلك المعتزلة والأشاعرة الذين يقولون بحدوث العالم : ان الله ليس فاعلا بفعل هو
وصف له قائم به ، بل فعله هو مفعوله الخارج عن ذاته. أما الجهم والمعتزلة فلأنهم
ينفون الصفات فلا وصف عندهم قائم بالذات ، بل كل من فعله وكلامه عندهم مخلوق من
جملة المخلوقات. وأما الأشاعرة فيثبتون الأفعال لا على أنها صفة له سبحانه ، بل
يجعلونها متعلقات للقدرة القديمة وقوله (بلا برهان) متعلق بقضى ، يعني حكم بذلك
بلا حجة له عليه.
وذهب الجهم أيضا
إلى القول بأن الانسان مجبور على ما يصدر عنه من أفعال فلا قدرة له ولا اختيار ،
فقرت بمذهبه أعين العصاة وأولياء الشيطان الذين كانوا على خوف من المعاصي والذنوب
، لعلمهم بأنها أفعالهم الصادرة عنهم بقدرهم
وارادتهم ، حتى
أراحهم جهم وشيعته من عودهم بالأئمة على أنفسهم كلما أحدثوا ذنبا ، فأخذوا بعد
مقالة جهم يحملونها ربهم جل شأنه ويتبرءون منها ، ويقولون مقالة الجاهل المغرور
انها أفعاله لا أفعالنا ، ولا حيلة لنا في دفعها ، اذ لا قدرة لنا ولا اختيار.
* * *
ما كلف الجبار
نفسا وسعها
|
|
أنى وقد جبرت
على العصيان
|
وكذا على
الطاعات أيضا قد غدت
|
|
مجبورة فلها اذا
جبران
|
والعبد في
التحقيق شبه نعامة
|
|
قد كلفت بالحمل
والطيران
|
اذ كان صورتها
تدل عليهما
|
|
هذا وليس لها
بذاك يدان
|
فلذاك قال بأن
طاعات الورى
|
|
وكذاك ما فعلوه
من عصيان
|
هي عين فعل الرب
لا أفعالهم
|
|
فيصح عنهم عند
ذا نفيان
|
نفي لقدرتهم
عليها أولا
|
|
وصدورها منهم
بنفي ثان
|
الشرح
: إذا كان الجهم يرى
أن العبد لا قدرة له على الفعل ولا اختيار له فيه ، فهو عنده قد كلف بما لا يطيق ،
حيث أنه مجبور على كل من الطاعة والمعصية فإذا كلف بترك المعصية أو بفعل الطاعة
فقد كلف بما لا يدخل تحت قدرته ، وهو عند التحقيق أشبه شيء بالنعامة ، يراها الرائي
في صورة الجمل فيكلفها حمل الاثقال ويرى لها جناحين فيكلفها الطيران ، وليس لها
على هذا أو ذاك قدرة واحتمال ، وإذا لم يكن للعباد يد بشيء من الطاعات أو المعاصي
لم تكن هي أفعالهم ، بل عين فعل الرب سبحانه ، لأنه هو الذي خلقها فيهم ، وليس لهم
فيها إلا أنهم محل فقط لظهورها ، وعلى هذا فيصح أن ننفي عنهم قدرتهم عليها كما
ننفي صدورها منهم بنفي ثان.
* * *
فيقال ما صاموا
ولا صلوا ولا
|
|
زكوا ولا ذبحوا
من القربان
|
وكذاك ما شربوا
وما قتلوا وما
|
|
سرقوا ولا فيهم
غوي زان
|
وكذاك لم يأتوا
اختيارا منهم
|
|
بالكفر والاسلام
والايمان
|
إلا على وجه
المجاز لأنها
|
|
قامت بهم كالطعم
والألوان
|
جبروا على ما
شاءه خلاقهم
|
|
ما ثم ذو عون
وغير معان
|
الكل مجبور وغير
ميسر
|
|
كالميت أدرج
داخل الأكفان
|
الشرح
: وإذا لم يكن
للعباد قدرة على شيء من الطاعات والمعاصي ، ولا هي صادرة عنهم ، فيصح إذا نفيها
عنهم نفيا حقيقيا ، فيقال أنه لم يقع منهم صيام ولا صلاة ولا زكاة ولا ذبح قرابين
ولا غيرها من أنواع الطاعات. وكذلك يقال أنهم لم يشربوا خمرا ولا قتلوا نفسا ، ولا
فيهم من هو غوى زان ، وأنهم لم يأتوا عن اختيار منهم بشيء من الكفر والايمان
والاسلام ، بل هم في كل ذلك مجبورون على ما شاءه خلاقهم سبحانه ، فليس فيهم من
يعينه الله وييسره ومن لا يعينه ، بل الكل سواء في الجبر والقهر ونفي الاختيار ،
كميت أدرج في كفنه ، ولا تنسب إليهم الأفعال إلا على وجه المجاز كما تنسب الأفعال
الطبيعية إلى مصادرها ، مثل قولنا جرى النهر وهبت الريح وطلعت الشمس.
* * *
وكذاك أفعال
المهيمين لم تقم
|
|
أيضا به خوفا من
الحدثان
|
فإذا جمعت
مقالتيه أنتجا
|
|
كذبا وزورا واضح
البهتان
|
إذ ليست الأفعال
فعل إلهنا
|
|
والرب ليس بفاعل
العصيان
|
فإذا انتفت صفة
الإله وفعله
|
|
وكلامه وفعائل
الإنسان
|
فهناك لا خلق
ولا أمر ولا
|
|
وحي ولا تكليف
عبد فان
|
الشرح
: يعني أن الجهم كما
ينفي وقوع الفعل من العبد ، كذلك ينفي قيام الفعل بالرب سبحانه خوفا من قيام
الحوادث بذاته ، وذلك يستلزم حدوثه في زعمه ومن العجيب أن تلك القضية الكاذبة التي
نادى بها الجهم والتي تقول ان ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث قد تبعه عليها معظم
المتكلمين من المعتزلة والاشاعرة واتخذوها ذريعة لنفي قيام الأفعال الاختيارية
بذاته سبحانه ، فهو
عندهم لا يتكلم
متى شاء ، ولا يحب ولا يرضى ، ولا يغضب ولا يسخط ، ولا يجيء يوم القيامة ، ولا
ينزل كل ليلة كما وردت الأخبار الصحيحة بذلك.
والمقصود أن الجهم
إذا كان ينفي صدور الفعل من العبد ، وكان الفعل ليس قائما بالرب ، فإذا جمع
القولان كل منهما إلى الآخر أنتجا قضية من أكذب الكذب ، فإن السلب لا ينتج إلا
سلبا ، فإذا نفى صفات الرب وفعله وكلامه ، ونفى مع ذلك فعل العبد ، أنتج ذلك أن لا
خلق ، ولا أمر ، ولا وحي ، ولا تكليف عبد فان.
* * *
وقضى على أسمائه
بحدوثها
|
|
وبخلقها من جملة
الأكوان
|
فانظر إلى
تعطيله الأوصاف وال
|
|
أفعال والأسماء
للرحمن
|
ما ذا الذي في
ضمن ذا التعطيل من
|
|
نفي ومن جحد ومن
كفران
|
لكنه أبدى
المقالة هكذا
|
|
في قالب التنزيه
للرحمن
|
وأتى إلى الكفر
العظيم فصاغه
|
|
عجلا ليفتن أمة
الثيران
|
وكساه أنواع
الجواهر والحلى
|
|
من لؤلؤ صاف ومن
عقيان
|
فرآه ثيران
الورى فأصابهم
|
|
كمصاب إخوتهم
قديم زمان
|
عجلان قد فتنا
العباد بصوته
|
|
إحداهما وبحرفه
ذا الثاني
|
الشرح
: كما نفى الجهم
صفات الرب عزوجل وأفعاله ، فهو كذلك ينفي أسماءه الحسنى التي سمى بها نفسه
والتي سماه بها رسوله صلىاللهعليهوسلم ويرى أنها أسماء لبعض مبتدعاته ، وأنها حادثه ، وإنما تطلق
عليه سبحانه على سبيل المجاز. ومن العجب أن هذا الجهم مع غلوه في النفي والتعطيل ،
ومع ما يتضمنه هذا التعطيل من الكفر والانكار والجحود يصوغ ذلك في عبارات يوهم بها
الأغرار أنه إنما يقصد تنزيه الرب عما لا يليق به من المشابهة لخلقه ، ويصوغ من
ذلك الكفر الشنيع عجلا ليفتن به أمة الجهل والضلال ، لا سيما وقد كساه من حلل
التمويه وزخارف التحريف ما بهر أبصارهم ، ففعلوا به حين رأوه ما فعله إخوة لهم من
قبل بالعجل الذي
صاغه لهم السامري ، فكان هناك عجلان فتن بهما الناس ، عجل فتن بصوته وخواره ، وعجل
فتن بتحريفه وتمويهه ، وهو العجل الذي صاغه الجهم لثيران هذه الأمة وأبقارها.
* * *
والناس أكثرهم
فأهل ظواهر
|
|
تبدو لهم ليسوا
بأهل معان
|
فهم القشور
وبالقشور قوامهم
|
|
واللب حظ خلاصة
الانسان
|
ولذا تقسمت
الطوائف قوله
|
|
وتوارثوه إرث ذي
السهمان
|
لم ينج من
أقواله طرا سوى
|
|
أهل الحديث
وشيعة القرآن
|
فتبرءوا منها
براءة حيدر
|
|
وبراءة المولود
من عثمان
|
من كل شيعي خبيث
وصفه
|
|
وصف اليهود
محللي الحيتان
|
الشرح
: جازت حيلة الجهم
وعظمت فتنته وانخدع بها كثير من الناس ، لأن الناس معظمهم أهل ظواهر ، يغرهم
بريقها ، ويخدعهم عما وراءها من كفر وباطل وسم قاتل وليسوا بأهل حقائق ومعان لأنها
تحتاج في إدراكها إلى سلامة فطرة ، وإلى ذكاء وفطنة ، وهؤلاء أهل بله وغفلة فهم
أشبه شيء بالقشرة الظاهرة التي تستر الثمرة وتحميها ، لذلك لا يدركون من الأشياء
إلا قشورها ، وأما ادراك اللب فهو حظ المصطفين من عباد الله ذوي الألباب السليمة
والأفكار المستقيمة ومن أجل هذا راج مذهب الجهم وتقسمت أقواله طوائف أهل الكلام ،
فمن آخذ بقوله في النفي والتعطيل ، ومن قائل برأيه في الجبر والتسيير ، ومن ذهب
مذهبه في نفي العلم بالمتجددات وخلق القرآن ومن متأثر به في غير هذا وذاك من
ترهاته وأباطيله التي لم ينج من أحابيلها إلا أهل الحديث والقرآن المعتصمين
بعروتهما الوثقى ، فتبرءوا من مقالة الجهم براءة حيدر ، وهو لقب علي رضي الله عنه
، وبراءة المولود من عثمان من أهل التشيع الخبثاء ، الذين أشبهوا في وصفهم اليهود
حرم الله عليهم الاصطياد في يوم السبت ، فتحايلوا على ذلك وخرجوا
عن طاعة الله. وقد
ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهالله في كتابه منهاج السنة وجوه شبه كثيرة بين الشيعة واليهود ،
قبح الله الجميع وأذلهم وأخزاهم.
* * *
فصل
يا أيها الرجل
المريد نجاته
|
|
اسمع مقالة ناصح
معوان
|
كن في أمورك
كلها متمسكا
|
|
بالوحي لا
بزخارف الهذيان
|
وانصر كتاب الله
والسنن التي
|
|
جاءت عن المبعوث
بالفرقان
|
واضرب بسيف
الوحي كل معطل
|
|
ضرب المجاهد فوق
كل بنان
|
واحمل بعزم
الصدق حملة مخلص
|
|
متجرد لله غير
جبان
|
واثبت بصبرك تحت
ألوية الهدى
|
|
فإذا أصبت ففي
رضا الرحمن
|
الشرح
: بعد أن فرغ المؤلف
رحمهالله من ذكر مقالات الجهم الفاسدة ، وما أغرق فيه من الضلال
بسبب اعراضه عن النصوص وابعاده في التأويل ، تقدم بهذه النصائح الغالية لمن ينشد
لنفسه النجاة من عذاب الله الذي توعد به كل مارق ضال. فوصاه بأن يتمسك في أمور
دينه كلها بالوحي المبين ، معرضا عن تمويه المبطلين ، وأن يجتهد في نصر كتاب الله
والسنن المأثورة عمن بعثه الله بالفرقان ، صلوات الله وسلامه عليه وآله ، وأن يتخذ
من نصوص الوحيين سيفا يضرب به أهل التعطيل والبهتان ، ضرب المجاهد لأعدائه فوق كل
بنان ، وأن يكون صادق العزم في حملته ، مخلصا لله عزوجل غير هياب ولا وجل وأن يثبت تحت راية الهدى والإيمان ، غير
فار ولا منهزم ، فإن صابه شيء ففي رضا الرحمن وهو غاية يرخص في سبيلها كل بذل
وتهون كل تضحية.
* * *
واجعل كتاب الله
والسنن التي
|
|
ثبتت سلاحك ثم
صح بجنان
|
من ذا يبارز
فليقدم نفسه
|
|
أو من يسابق يبد
في الميدان
|
واصدع بما قال
الرسول ولا تخف
|
|
من قلة الانصار
والأعوان
|
فالله ناصر دينه
وكتابه
|
|
والله كاف عبده
بأمان
|
لا تخش من كيد
العدو ومكرهم
|
|
فقتالهم بالكذب
والبهتان
|
فجنود أتباع
الرسول ملائك
|
|
وجنودهم فعساكر
الشيطان
|
شتان بين
العسكرين فمن يكن
|
|
متحيرا فلينظر
الفئتان
|
الشرح
: وأوصاه كذلك أن
يجعل كتاب الله والسنن الصحيحة الثابتة سلاحه وعدته في النزال ، فإذا ما لبس تلك
الشكه واستكمل الأهبة فليصح هل من مبارز هل من مناجز ، فإن معه أقوى الأسلحة
وأمضاها ، فلا يخشى أسلحة أهل الباطل فإنها مفلولة مثلومة ، وأن يصدع بما قاله
الرسول صلىاللهعليهوسلم غير مستوحش من قلة الأنصار وندرة الأعوان ، فإن الله ناصر
دينه وكتابه وهو حسبه وكافيه وأن لا يخشى بأس الأعداء ومكرهم ، فإنهم يقاتلون
بأسلحة الكذب والبهتان وهو يقاتل بسلاح التوحيد والايمان ، وشتان بين السلاحين ،
كما أنه يحاربهم بجند من الملائكة ، وأما هم فجنودهم عساكر الشيطان ، فما أبعد
الفرق بين العسكرين ، وما أبين التمايز بين الفئتين : (فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ ،
وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ) [آل عمران : ١٣].
* * *
وأثبت وقاتل تحت
رايات الهدى
|
|
واصبر فنصر الله
ربك دان
|
واذكر مقاتلهم
لفرسان الهدى
|
|
لله در مقاتل
الفرسان
|
وادرأ بلفظ النص
في نحر العدا
|
|
وارجمهم بثواقب
الشهبان
|
لا تخش كثرتهم
فهم همج الورى
|
|
وذبابه أتخاف من
ذبان
|
وأشغلهم عند
الجدال ببعضهم
|
|
بعضا فذاك الحزم
للفرسان
|
وإذا هم حملوا
عليك فلا تكن
|
|
فزعا لحملتهم
ولا بجبان
|
وأثبت ولا تحمل
بلا جند فما
|
|
هذا بمحمود لدى
الشجعان
|
الشرح
: يكرر المؤلف رحمهالله الوصية لمن يريد النجاة بأن يثبت تحت راية
الهدى معتصما بحبل
الله عزوجل صابرا محتسبا موقنا بأن نصر الله قريب ، وأن يدل فرسان
الهدى وجند الحق على مقاتل هؤلاء الأعداء أي المواضع التي يقتلون منها ، وأن يدفع
في نحورهم بألفاظ النصوص الثابتة وأن يرميهم بشهبها الثاقبة وأن لا يخشى كثرة
عددهم ولا شدة صخبهم وضجيجهم فإنهم همج رعاع لا يثبتون عند لقاء بل هم أهون من هذا
الذبان الذي لا يقدر على شيء رغم ما له من طنين.
على أن هؤلاء
الأعداء وان كانوا البا واحدا على أهل الحق ، فإنهم متنازعون فيما بينهم ، فالحزم
يقتضي بأن نصرفهم عن مناوشتنا بأن نشغل بعضهم ببعض ، فنستفيد من ذلك معرفة بفساد
مقالتهم جميعا ، وبالمطاعن التي يوجهها كل منهم إلى الآخرين ، أما إذا تصالحوا على
حربنا وحملوا علينا ، فالواجب أن لا نحزن لحملاتهم وأن لا نجبن عن لقائهم ، وأن
نحشد جنودنا لمقاتلتهم ، فإن الحرب بلا جند وأعوان ليست مما يحمده الأبطال
والشجعان.
* * *
فإذا رأيت عصابة
الإسلام قد
|
|
وافت عساكرها مع
السلطان
|
فهناك فاخترق
الصفوف ولا تكن
|
|
بالعاجز الواني
ولا الفزعان
|
وتعر من ثوبين
من يلبسهما
|
|
يلقى الردى
بمذمة وهوان
|
ثوب من الجهل
المركب فوقه
|
|
ثوب التعصب بئست
الثوبان
|
وتحل بالانصاف
أفخر حلة
|
|
زينت بها
الأعطاف والكتفان
|
واجعل شعارك
خشية الرحمن مع
|
|
نصح الرسول
فحبذا الأمران
|
وتمسكن بحبله
وبوحيه
|
|
وتوكلن حقيقة
التكلان
|
الشرح
: بعد أن نهى صاحب
الحق أن يحارب وحده بلا جند وأعوان ، وأن ذلك من التهور الذي لا يليق بأهل الإيمان
أمره إذا توافدت عصابة الحق ووافت عساكرها مع السلطان أن لا يكون بخائر ولا جبان ،
بل عليه أن يقتحم الصفوف ويخوض غمار الردى في غير عجز ولا ونى ولا فزع من العدا.
ثم أمره أن يتجرد
من ثوبين طالما
أوردا من لبسهما ورد الردى وسقياه كأس المذلة والهوان ، وهذان الثوبان هما ثوب
الجهل المركب وفوقه ثوب التعصب ما اجتمع هذان الثوبان على أحد إلا أدخلاه في لجج
الباطل ومتاهات الضلال وزينا له سوء عمله وقبح اعتقاده فرآه حسنا والمراد بالجهل
المركب أن يعتقد الانسان خلاف الحق مع اعتقاده أنه على الحق فهو جاهل بالحق ولا
يدري أنه جاهل به. وهذا أشنع من الجهل البسيط الذي هو عدم العلم بالحق بمعنى خلو
الذهن عنه. وما أحسن قول الشاعر :
قال حمار الحكيم
تومأ
|
|
لو أنصف الدهر
كنت أركب
|
فإنني جاهل بسيط
|
|
وصاحبي جاهل مركب
|
ثم أمره بعد ذلك
أن يتحلى بحلية الانصاف فإنها أبهى حلة تزين بها الاعطاف والكتفان والمراد أن ينصف
خصومه من نفسه فلا يجحد ما عندهم من الحق ولا ما تتسم به بعض حججهم من وجاهة ، بل
يجب أن يذكر ما لهم وما عليهم في غير غمط ولا انكار. وأن يجعل شعاره في محاربته
لهؤلاء الخصوم خشية الله عزوجل لانها تحجزه عن الاعتداء والطغيان ونصح الرسول له بترك
المراء والجدل فإنه صمام الامام وأن يعتصم بحبل الله المتين ووحيه المبين وأن
يتوكل عليه حقيقة التوكل وهو أن يفوض إليه أمره ، ويستعين به على أعدائه بعد أن
يكون قد بذل غاية وسعه في تهيئة أسباب الغلب والنجاح.
* * *
فالحق وصف الرب
وهو صراطه ال
|
|
هادي إليه لصاحب
الايمان
|
وهو الصراط عليه
رب العرش أي
|
|
ضا وذا قد جاء
في القرآن
|
والحق منصور
وممتحن فلا
|
|
تعجب فهذي سنة
الرحمن
|
وبذاك يظهر حزبه
من حزبه
|
|
ولأجل ذاك الناس
طائفتان
|
ولأجل ذاك الحرب
بين الرسل وال
|
|
كفار مذ قام
الورى سجلان
|
لكنما العقبي
لأهل الحق أن
|
|
فأتت هنا كانت
لدى الديان
|
الشرح
: لما دعاه إلى
الاستمساك بالحق والثبات عليه والقتال دونه أراد أن يظهر شأن ذلك الحق ، وأنه جدير
بكل تضحية تبذل في سبيله ، فذكر أن للحق عدة معان : منها أنه وصف للرب جل شأنه كما
قال تعالى : (يَوْمَئِذٍ
يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ
الْمُبِينُ) [النور : ٢٥]
ومنها أنه صراط الله الذي يهدي إليه من يشاء من عباده من أهل الإيمان والهدى كما
قال تعالى : (قُلْ هَلْ مِنْ
شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِ) [يونس : ٣٥] وكما
قال تعالى : (فَهَدَى اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ) [البقرة : ٢١٣].
ومنها أن الحق هو الصراط
الذي يخبر الله عن نفسه أنه عليه ، كما قال تعالى : (إِنَّ رَبِّي عَلى
صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [هود : ٥٦] يعني
في قوله تعالى وفعله ، فقوله صدق ورشد ونصح وهدى. وفعله حكمة وعدل ورحمة ومصلحة.
ثم ذكر من شأن
الحق أيضا أنه منصور وأن العاقبة له ولكنه ممتحن ومبتلي بمناوأة الباطل وتشويشه ،
وأن سنة الله قد جرت بذلك حتى يتميز حزب الله من حزب الشيطان ، وحتى تظل معركة
الحق والباطل سجالا مستمرة بين رسل الله وبين أعدائهم من الكفار ثم تكون العاقبة
للمتقين كما قال تعالى : (وَالْعاقِبَةُ
لِلتَّقْوى) [طه : ١٣٢] ، وكما
قال تعالى على لسان موسى عليهالسلام : (قالَ مُوسى
لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها
مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف : ١٢٨]
وهذه العاقبة ان فاتت أهل الحق في الدنيا فهي مدخرة لهم عند الله عزوجل يوافيهم بها يوم الدين وينتصف لهم من البغاة المعتدين.
* * *
واجعل لقلبك
هجرتين ولا تنم
|
|
فهما على كل
امرئ فرضان
|
فالهجرة الأولى
إلى الرحمن بال
|
|
اخلاص في سر وفي
اعلان
|
فالقصد وجه الله
بالأقوال وال
|
|
أعمال والطاعات
والشكران
|
فبذاك ينجو
العبد من أشراكه
|
|
ويصير حقا عابد
الرحمن
|
والهجرة الأخرى
الى المبعوث بال
|
|
حق المبين وواضح
البرهان
|
فيدور مع قول
الرسول وفعله
|
|
نفيا وإثباتا
بلا روغان
|
الشرح
: يجب على طالب
النجاة الناصح لنفسه أن يقوم بهاتين الهجرتين العظيمتين في قوة وعزم بلا كسل ولا
فتور ، فإنه لا صلاح للعبد ولا نجاة إلا بهما ، فالقيام بهما واجب حتم على كل
انسان.
أما الهجرة الأولى
فهجرته إلى الله عزوجل باخلاص العبادة له في السر والعلانية ، وأن لا يقصد بكل ما
يصدر عنه من قول وفعل وطاعة وشكر إلا وجهه سبحانه ، حتى يسلم من الوقوع في شرك
الاشراك ، وتقع عبادته موقعها من الصحة والقبول.
وأما الهجرة
الأخرى فهجرته إلى الرسول صلوات الله وسلامه عليه وآله بحسن الاقتداء والاتباع
وعدم المخالفة عن أمره والخروج على حكمه ، فيدور مع قوله وفعله في النفي والاثبات
، فلا يثبت ما نفاه الرسول ، ولا ينفي ما أثبته ميلا مع الهوى واعتسافا في التأويل
ومتابعة للشيطان.
* * *
ويحتكم الوحي
المبين على الذي
|
|
قال الشيوخ
فعنده حكمان
|
لا يحكمان بباطل
أبدا وكل
|
|
العدل قد جاءت
به الحكمان
|
وهما كتاب الله
أعدل حاكم
|
|
فيه الشفا
وهداية الحيران
|
والحاكم الثاني
كلام رسوله
|
|
ما ثم غيرهما
لذي ايمان
|
فإذا دعوك لغير
حكمهما فلا
|
|
سمعا لداعي
الكفر والعصيان
|
قل لا كرامة لا
ولا نعمى ولا
|
|
طوعا لمن يدعو
إلى طغيان
|
وإذا دعيت إلى
الرسول فقل لهم
|
|
سمعا وطوعا لست
ذا عصيان
|
الشرح
: يشير المؤلف بهذه
الأبيات الى أصل عظيم ضل عنه أكثر الناس فوقع
بينهم الاختلاف
والتنازع ، وفاتهم من الحق بقدر اهمالهم له ، ذلك هو تحكيم الوحي المبين في كل
مسائل الدين ، أصوله وفروعه وايثاره على تقليد المشايخ والآباء في أقوالهم بلا
بينة ، فهناك حكمان اثنان لا يحكمان الا بكل ما هو حق وعدل ، ولا يعقل أن يصدر
منهما حكم بخلاف ذلك ، فأولهما كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من
خلفه ، والذي من قال به صدق ، ومن حكم به عدل ، وفيه الشفاء من جميع أمراض القلوب
، وهدى كل ضال حيران.
والثاني هو كلام
رسول الله صلىاللهعليهوسلم الذي أمره الله أن يحكم بين الناس بما أنزله إليه ، وأن
يبلغهم البلاغ المبين ، وأن يبين لهم ما نزل إليهم ، قال تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى
يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً
مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [النساء : ٦٥] فإذا دعي الانسان لغير حكمهما فيجب أن يرفض
بكل اباء ، وأن لا يجيب من يدعوه إلى ذلك قائلا له بملء فمه لا ، ولا كرامة ولا
نعمى ولا طاعة لمن يدعو الى الكفر والطغيان. وأما اذا دعي الى الله ورسوله فليقل
على السمع والطاعة في غير إباء ولا استكبار. قال تعالى : (إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ
إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا
سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [النور : ٥١].
* * *
وإذا تكاثرت
الخصوم وصيحوا
|
|
فأثبت فصيحتهم
كمثل دخان
|
يرقى إلى الأوج
الرفيع وبعده
|
|
يهوي الى قعر
الحضيض الداني
|
هذا وإن قتال
حزب الله بال
|
|
أعمال لا بكتائب
الشجعان
|
والله ما فتحوا
البلاد بكثرة
|
|
أنى وأعداهم بلا
حسبان
|
وكذاك ما فتحوا
القلوب بهذه ال
|
|
آراء بل بالعلم
والايمان
|
الشرح
: يجب على صاحب الحق
المستمسك بأهداب الوحي أن لا يعبأ بكثرة الخصوم ولا يفزعه صياحهم وضجيجهم ، فإن
كيد الباطل ضعيف مآله إلى
التلاشي والزوال
السريع ، كمثل دخان تصاعد إلى طبقات الجو العليا ، ثم أخذ بعد ذلك في الهبوط إلى
الحضيض.
وأما أهل الحق فإنهم
لا يقاتلون أعداءهم بكثرة عددهم ، ولكن بجليل أعمالهم وقويم أخلاقهم ، ولو كانت
المسألة مسألة عدد لما استطاعوا أن يفتحوا هذه الممالك العتيدة ، ويواجهوا هذه
الجيوش الجرارة التي كانت تفوقهم عشرات بل مئات المرات. وكذلك ما فتحوا قلوب الناس
للهدى وحببوا إليها الإسلام بمثل هذه الآراء المبتدعة التي يتبجح بها المتفلسفة
وعلماء الكلام ، وإنما كانت تقوم دعوتهم على العلم والإيمان مما جمع حولهم القلوب
وحملها على الطاعة والاذعان.
* * *
وشجاعة الفرسان
نفس الزهد في
|
|
نفس وذا محذور
كل جبان
|
وشجاعة الحكام
والعلماء زه
|
|
د في الثنا من
كل ذي بطلان
|
فإذا هما اجتمعا
لقلب صادق
|
|
شدت ركائبه الى
الرحمن
|
واقصد إلى
الأقران لا أطرافها
|
|
فالعز تحت مقاتل
الأقران
|
واسمع نصيحة من
له خبر بما
|
|
عند الورى من
كثرة الجولان
|
ما عندهم والله
خير غير ما
|
|
أخذوه عمن جاء بالقرآن
|
والكل بعد فبدعة
أو فرية
|
|
أو بحث تشكيك
ورأي فلان
|
الشرح
: يقسم المؤلف
الشجاعة إلى شجاعة مادية يتصف بها الفرسان في ميدان القتال ، ويعرفها بأنها الزهد
في الحياة واسترخاص النفوس في حومة الوغى ، وهذا ما لا يطيقه الجبان ويتحاماه ،
وإلى شجاعة معنوية ويتصف بها العلماء والحكام الذين يقولون قولة الحق ولا يخشون
فيها أحدا ويعرفها بأنها الزهد في المديح والثناء الذي يزجيه أهل الباطل لمن
يجاريهم على باطلهم ولا يواجههم بالحق خوفا من هياجهم عليه وذمهم له ، ولا شك أن
الشجاعة في الحق أفضل أنواع الجهاد كما قال عليهالسلام «أفضل الجهاد كلمة
حق تقال عند سلطان جائر» فإذا اجتمعت هاتان الشجاعتان لقلب صادق العزم بريء من
الهوى والنفاق
كانا عونا له على السير إلى الله عزوجل والقرب منه ـ ولا ينبغي لمن توفرت له هذه الشجاعة أن يقصد
من دونه من أطراف القوم وأوشابهم بالقتال ، بل يقصد إلى الأقران من خصومه فإن العز
تحت مقاتلهم ، ثم عليه أن يسمع لنصيحة خبير مجرب ، يعني نفسه رحمهالله عنده علم بكل ما عند الورى من مذاهب وآراء ، وهو يقسم
بالله أنه ليس عندهم أفضل ولا أنفع مما أخذوه عن الرسول صلىاللهعليهوسلم وما وراءه مما يقول الناس فهو اما بدعة محدثة لا أصل لها
في دين الله ، وإما فرية مختلقة افتراها أحد الكذابين ، وأما بحث يقصد منه اثارة
الشكوك والشبهات حول العقائد الصحيحة المسلمة ، وإما رأي مأثور عمن ليس قوله حجة
ولا له عليه دليل.
* * *
فاصدع بأمر الله
لا تخش الورى
|
|
في الله واخشاه
تفز بأمان
|
واهجر ولو كل
الورى في ذاته
|
|
لا في هواك
ونخوة الشيطان
|
واصبر بغير تسخط
وشكاية
|
|
وأصفح بغير عتاب
من هو جان
|
واهجرهم الهجر
الجميل بلا أذى
|
|
أن لم يكن بد من
الهجران
|
وانظر إلى
الأقدار جارية بما
|
|
قد شاء من غي
ومن إيمان
|
الشرح
: الصدع بالأمر
معناه الجهر والاعلان ، كما قال تعالى لنبيه عليهالسلام : (فَاصْدَعْ بِما
تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) [الحجر : ٩٤]
والمعنى فاجهر بكلمة الحق ولا تكتمها خشية الناس ، فإن الله أحق أن تخشاه وفي
خشيته الفوز بكل طمأنينة وأمان ، ولو اقتضاك الجهر بكلمة الحق أن تعادي الناس
جميعا وتهجرهم في ذات الله عزوجل لا في سبيل هوى النفس ونفخة الشيطان ، فلا يثقلن عليك ذلك
، وتلقه بالصبر الجميل في غير ضجر ولا شكوى ، واصفح الصفح الجميل دون عتب على من
جنى عليك وآذاك ، وإذا اضطررت إلى هجر الناس واجتنابهم ، فليكن هجرك جميلا غير
مصحوب بأذى ، وليكن نظرك إلى
مجاري أقدار الله عزوجل وما تعلقت به مشيئته من اختلاف الناس في غي وإيمان.
* * *
واجعل لقلبك
مقلتين كلاهما
|
|
بالحق في ذا
الخلق ناظرتان
|
فانظر بعين
الحكم وارحمهم بها
|
|
إذ لا ترد مشيئة
الديان
|
وانظر بعين
الأمر واحملهم على
|
|
أحكامه فهما اذا
نظران
|
واجعل لوجهك
مقلتين كلاهما
|
|
من خشية الرحمن
باكيتان
|
لو شاء ربك كنت
أيضا مثلهم
|
|
فالقلب بين
أصابع الرحمن
|
الشرح
: إذا كان الله عزوجل قد أجرى مقاديره على العباد وحكم فيهم بما شاء من كفر
وإيمان ، وهو مع ذلك قد أمرهم جميعا بالإيمان والطاعة ، فيجب أن ينظر الانسان إلى
الخلق تبعا لذلك بنظرين مختلفين ، نظر بعين الحكم النافذ والقدر السابق ، فيرجمهم
ويرثي لهم لعلمه أن حكم الله وقدره لا راد له ولا دافع ، ونظر بعين الأمر الشامل
لجميع المكلفين ، فيجاهدهم في ذلك ويغلط عليهم حملا لهم على أمر الله عزوجل وحكمه الديني ، فهذان نظران مختلفان ، ولا يلزم من ذلك
الاختلاف التناقض ، فإن جهة كل منهما مخالفة للآخر ، وإنما يكون التناقض عند
الاتحاد. ويجب على العبد كذلك عند نظره إلى اختلاف الناس في الهدي والضلال أن
يستفرغ الدمع من عينيه باكيا من خشية الله عزوجل ، شاكرا له نعمة الهداية والتوفيق ، إذ لو شاء الله لكان
هو أيضا مثلهم ، فإن القلوب بين إصبعين من أصابع الله عزوجل يقلبها كيف شاء ولهذا كان النبي صلىاللهعليهوسلم يكثر أن يقول في دعائه «اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على
دينك».
* * *
واحذر كمائن
نفسك اللاتي متى
|
|
خرجت عليك كسرت
كسر مهان
|
واذا انتصرت لها
فأنت كمن بغى
|
|
طفي الدخان
بموقد النيران
|
والله أخبر وهو
أصدق قائل
|
|
أن سوف ينصر
عبده بأمان
|
من يعمل السوأى
سيجزى مثلها
|
|
أو يعمل الحسنى يفز
بجنان
|
هذي وصية ناصح
ولنفسه
|
|
وصي وبعد سائر
الاخوان
|
الشرح
: الكمائن جمع كمينة
، والمراد بكمائن النفس غرائزها السيئة وشهواتها الدنيا يوصي المؤلف بأن يحذرها
الانسان وينهض دائما لتأديبها كلما تمردت وخرجت عليه ، وإلا هزمته هزيمة منكرة
يصبح بعدها مهانا ذليلا. كما يجب أن لا ينتصر لها يبغي شفاءها واطفاء ثورتها ، فإن
ذلك يزيدها حدة واشتعالا ويكون حينئذ كمن يريد اطفاء الدخان بموقد النيران ، بل
يحسن أن يصبر ويغفر والله عزوجل قد ضمن له النصر ، واخبر بذلك في كتابه حيث يقول : (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ
آمَنُوا) [الحج : ٣٨] ويقول
في آية أخرى : (إِنَّا لَنَنْصُرُ
رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ
الْأَشْهادُ) [غافر : ٥١] كما
أخبر سبحانه أن جزاء السيئة مثلها ، وأن جزاء الحسنى مغفرة من الله ورضوان.
وبعد : فهذه وصية المؤلف
رحمهالله يوصي بها نفسه أولا ثم سائر اخوانه من طالبي الهدى ، أهل
الصدق والتوحيد والايمان.
* * *
فصل
فاجلس إذا في
مجلس الحكمين للر
|
|
حمن لا للنفس
والشيطان
|
الأول النقل
الصحيح وبعده ال
|
|
عقل الصريح
وفطرة الرحمن
|
واحكم إذا في
رفقة قد سافروا
|
|
يبغون فاطر هذه
الأكوان
|
فترافقوا في
سيرهم وتفارقوا
|
|
عند افتراق
الطرق بالحيران
|
فأتى فريق ثم
قال وجدته
|
|
هذا الوجود
بعينه وعيان
|
ما ثم موجود
سواه وانما
|
|
غلط اللسان فقال
موجودان
|
الشرح
: إذا جعل طالب
النجاة من أهل الحق هذه الوصية شعاره ووقف
عند النصوص يحكمها
في كل مسألة من مسائل الدين ، فقد أصبح بذلك أهلا لأن يتصدى للحكومة بين
المتنازعين ، فليجلس إذا في مجلس الحكمين وليكن في حكمه طالبا وجه الحق لا يصدر في
حكمه عن هو نفس ، ولا إيحاء شيطان ، والحكمان هما النقل الصحيح أولا من الكتاب
والسنة ثم بعده العقل الصريح. الخالي من شوائب الجهل والوهم وفطرة الله التي فطر
الناس عليها ، والتي لم تفسد بالتقليد والجمود ، ثم ليحكم بعد ذلك في جماعة من
الرفقاء قد سافروا يقصدون الوصول إلى مبدع هذه الأكوان جل شأنه.
والسفر هنا كناية
عن سفر الفكر والطلب بالنظر. فبدءوا السفر من نقطة واحدة وترافقوا في سيرهم ولكنهم
لم يلبثوا أن افترقوا وذهبوا في ربهم مذاهب شتى. فذهب فريق وهم أصحاب وحدة الوجود
بزعامة ابن عربي الزنديق أن الله هو هذا الوجود بعينه وعيانه ، وأنه ليس هناك إلا
موجود واحد وإنما يغلط اللسان فيقول موجودان.
* * *
فهو السماء
بعينها ونجومها
|
|
وكذلك الأفلاك
والقمران
|
وهو الغمام
بعينه والثلج وال
|
|
أمطار مع برد
ومع حسبان
|
وهو الهواء
بعينه والماء وال
|
|
ترب الثقيل ونفس
ذي النيران
|
هذي بسائطه ومنه
تركبت
|
|
هذي المظاهر ما
هنا شيئان
|
وهو الفقير لها لأجل
ظهوره
|
|
فيها كفقر الروح
للأبدان
|
وهي التي افتقرت
إليه لأنه
|
|
هو ذاتها
ووجودها الحقاني
|
الشرح
: هذا تفريع على ذلك
المذهب الفاسد القائل بأن الحق هو عين الخلق وأنه ما ثم إلا وجود واحد ، وأن هذه
الكثرة التي نراها إنما هي مظاهر له فقط وأثواب يلبسها ويخلعها. فهو السماء بما
فيها من شمس وقمر ونجوم وأفلاك ، وهو هذا السحاب الذي نراه مسخر بين السماء والأرض
بما فيه من ثلج وبرد وأمطار وهو الهواء والماء والتراب والنار ، التي هي البسائط
الأربعة في زعم
الطبيعيين القدماء
ومنها تتركب سائر الموجودات ، والأمر قسمة بينه وبين هذه العوالم التي هي مجال له
يظهر فيها فكما أنها فقيرة ومحتاجة إليه لأنه هو جوهرها ووجودها الأصيل فكذلك هو
مفتقر إليها من أجل تعينه وظهوره فيها كما تفتقر الروح في ظهور آثارها للأبدان.
* * *
وتظل تلبسه
وتخلعه وذا ال
|
|
ايجاد والاعدام
كل أوان
|
ويظل يلبسها
ويخلعها وذا
|
|
حكم المظاهر كي
يرى بعيان
|
وتكثر الموجود
كالأعضاء في ال
|
|
محسوس من بشر
ومن حيوان
|
أو كالقوى في
النفس ذلك واحد
|
|
متكثر قامت به
الامران
|
فيكون كلا هذه
أجزاؤه
|
|
هذه مقالة مدعي
العرفان
|
الشرح
: يعني أن تلك المظاهر
والتعينات باعتبار أن ذلك الوجود المطلق هو قوامها الحامل لها ، فهي لا تزال
تتوارد عليه في عملية إيجاد واعدام مستمر كلما فنت صورة وخلعت ذلك الوجود ولبست
أخرى ، وكذلك هو يظل يلبسها ويخلعها بلا انقطاع ، وهذا حكم اقتضاه ظهور هذا الوجود
فإنه لو دام على اطلاقه لما أمكن رؤيته وظهوره للعيان. ونسبة تلك الموجودات
المتكثرة إلى ذلك الوجود المطلق كنسبة الأعضاء المختلفة لجسم الانسان أو الحيوان
إليه ، أو كنسبة قوى النفس المختلفة إليها ، أي أنها كنسبة الجزء إلى كله ، وكما
أن كلا من الجسم ذي الاعضاء والنفس ذات القوى له اعتباران ، اعتبار أنه وحدة قائمة
بذاتها وهو بهذا يصح أن يقال أنه شيء واحد ، واعتبار أنه مركب من أعضاء وقوى وهي
من هذه الجهة تسمى كثيرا ، فكذلك هذا الوجود له اعتباران ، اعتبار الاطلاق وعدم
التقييد وهو من هذه الجهة واحد لا حدود فيه ولا قيود ، واعتبار ظهوره في عالم
الامكان والتقييد ، وهو من هذه الجهة كثير كثرة لا حد لها. يقول ابن عربي الزنديق
في كتابه المسمى فصوص الحكم.
«فالعالم يعلم من
عبد وفي أي صورة ظهر حتى عبد ، وأن التفريق والكثرة
كالأعضاء في
الصورة المحسوسة وكالقوى المعنوية في الصورة الروحانية ، فما عبد غير الله في كل
معبود».
* * *
أو أنها لتكثر
الأنواع في
|
|
جنس كما قال
الفريق الثاني
|
فيكون كليا
وجزئياته
|
|
هذا الوجود فهذه
قولان
|
إحداهما نص
الفصوص وبعده
|
|
قول ابن سبعين
وما القولان
|
عند العفيف
التلمساني الذي
|
|
هو غاية في
الكفر والبهتان
|
إلا من الأغلاط
في حس وفي
|
|
وهم وتلك طبيعة
الانسان
|
والكل شيء واحد
في نفسه
|
|
ما للتعدد فيه
من سلطان
|
الشرح
: بعد أن اتفقت كلمة
القائلين بوحدة الوجود على أن الوجود في نفسه شيء واحد ، وأن الكثرة انما هي في
التعينات اختلفوا في نسبة ذلك الوجود الواحد إلى تلك التعينات ، فذهب ابن عربي كما
تقدم إلى أنها من نسبة الكل إلى أجزائه كنسبة أعضاء الجسم إليه أو كنسبة قوي النفس
إليها ، وذهب ابن سبعين وهو من شيعة ابن عربي في القول بوحدة الوجود إلى أنها من
نسبة الكلي إلى جزئياته ، يعني بذلك أن هذا الوجود المطلق الكلي جنس ، وهذه
الوجودات المتعينة أنواع له فتكون هذه الكثرة البادية في الموجودات كثرة نوعية كما
يقال مثلا أن الحيوان جنس تحته أنواع هي الانسان والفرس والجمل الخ.
والفرق بين
القولين أن الوجود المطلق على رأي ابن عربي يكون كلا اجزاؤه الوجودات الخاتمة ، وأما
على رأي ابن سبعين فهو جزء من ماهية كل واحد من هذه الوجودات. إذ من المعلوم أن
الكلي يكون جزءا من كل جزئي تحته ، وأما العفيف التلمساني وهو أشدهم كفرا وافتراء
، فذهب إلى أن الوجود كله شيء واحد في نفسه لا تكثر ولا تعدد فيه أصلا ، وأما هذه
الكثرة التي نراها بأعيننا أو نتخيلها في نفوسنا ، فلا حقيقة لها بل هي من أغلاط
الحس الذي قد يرى الشيء الواحد كثيرا والوهم الذي قد يتخيل الصورة الواحدة صورا
متعددة ،
وذلك الغلط في
الحس والوهم من طبيعة الإنسان؟
* * *
فالضيف والمأكول
شيء واحد
|
|
والوهم يحسب
هاهنا شيئان
|
وكذلك الموطوء
عين الوطء وال
|
|
وهم البعيد يقول
ذا اثنان
|
ولربما قالا
مقالته كما
|
|
قد قال قولهما
بلا فرقان
|
وأبى سواهم ذا
وقال مظاهر
|
|
تجلوه ذات توحد
ومثان
|
فالظاهر المجلو
شيء واحد
|
|
لكن مظاهره بلا
حسبان
|
هذي عبارات لهم
مضمونها
|
|
ما ثم غير قط في
الأعيان
|
الشرح
: هذا تفريع على
مذهب التلمساني القائل بأن الكثرة وهم وما ثم إلا شيء واحد فيكون الضيف وما قدم له
من القرى شيئا واحدا. وان حسب الوهم أن هاهنا شيئين آكلا ومأكولا ويكون كذلك
الموطوء عين الواطئ وان تخيلهما الوهم اثنين ومهما يكن من فرق بين هذه الأقوال
الثلاثة فهي جد متقاربة لأن جوهرها واحد ، ولهذا قال الشيخ رحمهالله ولربما قالا أي ابن عربي وابن سبعين مقالة هذا التلمساني
في ابطال الكثرة كما قد قال هو قولهما بلا فارق أصلا.
ثم ذكر الشيخ
مذهبا رابعا أشار إليه بقوله وأبى سواهم ذا : أي سوى هؤلاء الثلاثة ، هذا الذي
قالوه ، وذهب إلى أن هذه الموجودات انما هي مظاهر وتجليات لشيء واحد وهذه المظاهر
ذات توحد : أي انفراد ومثان : أي تعدد ، وهذه العبارات التي نطق بها أصحاب وحدة
الوجود مهما اختلفت وتنوعت فإن مضمونها شيء واحد وهو أنه ما ثم غير الله في هذا
الوجود ، فسواء جعلت الكثرة أجزاء له أو أنواعا أو قلت أنها وهم ، أو جعلتها مظاهر
وتجليات فالمآل واحد وهو أنه ما ثم إلا وجود واحد.
* * *
فالقوم ما صانوه
عن انس ولا
|
|
جن ولا شجر ولا
حيوان
|
كلا ولا علو ولا
سفل ولا
|
|
واد ولا جبل ولا
كثبان
|
كلا ولا طعم ولا
ريح ولا
|
|
صوت ولا لون من
الألوان
|
لكنه المطعوم
والملبوس وال
|
|
مشموم والمسموع
بالآذان
|
وكذلك قالوا أنه
المنكوح وال
|
|
مذبوح بل عين
الغوي الزاني
|
الشرح
: هذا بيان لما
يترتب على تلك المقالة الفاسدة من أنواع الكفر والضلال التي لا تخفى على أحد. فإنه
إذا لم يكن ثم إلا وجود واحد لبس هذه الصور والتعينات المختلفة التي لا بد له منها
في بروزه وتجليه ولا بد لها منه لأنه عين حقيقتها لزم أن يكون الله تعالى وتقدس هو
الأشياء جميعا بما فيها متقابلات ومتضادات ، فالقوم ما صانوا ربهم ولا نزهوه عن أن
يكون هو الانس والجن والشجر والحيوان ، ولا أن يكون هو العلو والسفل والوديان
والجبال والكثبان ولا أن يكون هو الطعوم والروائح والأصوات والألوان ، ولا أن يكون
هو المطعوم والملبوس والمشموم والمسموع بالآذان ، بل قالوا أنه المنكوح والمذبوح
بل عين الغوي الزاني.
* * *
والكفر عندهم
هدى ولو أنه
|
|
دين المجوس
وعابدي الأوثان
|
وقالوا ما عبدوا
سواه وإنما
|
|
ضلوا بما خصوا
من الأعيان
|
ولو انهم عموا
وقالوا كلها
|
|
معبودة ما كان
من كفران
|
فالكفر ستر
حقيقة المعبود بال
|
|
تخصيص عند محقق
رباني
|
قالوا ولم يك
كافرا في قوله
|
|
أنا ربكم فرعون
ذو الطغيان
|
بل كان حقا قوله
اذ كان عي
|
|
ن الحق مضطلعا
بهذا الشأن
|
ولذا غدا تطهيره
في البحر تط
|
|
هيرا من الأوهام
والحسبان
|
الشرح
: يرى أصحاب وحدة
الوجود أن الأديان كلها حق ، وأن المجوس عبدة النار والمشركين عابدي الأوثان
وغيرهم ليسوا كفارا ولا ضلالا ، بل مذاهبهم هي عين الهدى والإيمان ، لأنهم حين
عبدوا النار والحجارة والصلبان وأنواع الحيوان ما عبدوا إلا الله عزوجل.
فإذا كان الله عزوجل قد تجلى بذاته لذاته في جميع هذه الصور والمتعينات فالهدى
والإيمان في زعم هؤلاء المارقين أن تعبد وتعظم جميعا.
قالوا : وإنما ضل
من ضل وكفر من كفر بتخصيص بعض هذه المظاهر بالعبادة دون بعض ، فالكفر عندهم ليس هو
عبادة غير الله ، اذ ليس هناك غير ، ولكنه ستر حقيقة المعبود بتخصيص بعض مجاليه
بالعبادة دون البعض الآخر. وحكموا بإيمان فرعون وقالوا أنه كان يشاهد عين الحقيقة
حين قال : (أَنَا رَبُّكُمُ
الْأَعْلى) [النازعات : ٢٤]
ولم يكن كاذبا في دعواه أنه هو الله ، بل كان في أعلى مقامات التوحيد ، ولذا كان
أغراقه في البحر تطهيرا له من توهم الغيرية وحسبان الاثنينية.
* * *
قالوا ولم يك
منكرا موسى لما
|
|
عبدوه من عجل
لذي الخوران
|
الا على من كان
ليس بعابد
|
|
معهم وأصبح ضيق
الأعطان
|
ولذاك جر بلحية
الأخ حيث لم
|
|
يك واسعا في
قومه لبطان
|
بل فرق الانكار
منه بينهم
|
|
لما سرى في وهمه
غيران
|
الشرح
: كما افترى هؤلاء
المارقين الكذب في شأن فرعون وخالفوا فيه صريح القرآن الذي نطق بموته على الكفر ،
وأنه لم ينفعه إيمانه حين أدركه الغرق وأن الله إنما نجاه ببدنه ليكون عبرة مائلة
للأجيال من بعده ، وأن الله أخذه نكال الآخرة والأولى ، كذلك كذبوا في شأن موسى
وهارون عليهما الصلاة والسلام ، فزعموا أن موسى عليهالسلام لم يلم قومه على عبادة العجل ولم ينكرها عليهم ، وأنما كان
انكاره على من تحرج عن عبادته وضاق بها صدره ، ولذلك أخذ بلحية أخيه يجره إليه حيث
لم يتسع صدره لما فعله قومه ، وأخذ ينكر عليهم ويحذرهم مغبة ذلك وسوء عاقبته ،
ويقول لهم : يا قوم انما فتنتم به وأن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري.
قالوا وانما وقع
ذلك الانكار من هارون على قومه لما سرى في خاطره من معنى الغيرية ، وكانوا هم أعلم
منه بالحقيقة ، حيث لم يشاهدوا الا الله وقت عبادتهم العجل . فانظر إلى كذب هؤلاء الدجاجلة المارقين حيث جعلوا الضلال
هدى ، ونسبوا الى كليم الله موسى الرضي بعبادة غير الله ، وجعلوا عبدة العجل أعلم
بالله من نبي الله ورسوله هارون ، كما جعلوا فرعون آنفا أعلم بالحق من موسى
الكليم.
* * *
ولقد رأى إبليس
عارفهم فأه
|
|
وى بالسجود هوي
ذي خضعان
|
قال له ما ذا
صنعت فقال هل
|
|
غير الاله
وانتما عميان
|
ما ثم غير
فاسجدوا أن شئتم
|
|
للشمس والأصنام
والشيطان
|
فالكل عين الله
عند محقق
|
|
والكل معبود لذي
العرفان
|
هذا هو المعبود
عندهم فقل
|
|
سبحانك اللهم ذا
السبحان
|
يا أمة معبودها
موطوؤها
|
|
أين الاله وثغرة
الطعان
|
يا أمة قد صار
من كفرانها
|
|
جزء يسير جملة
الكفران
|
الشرح
: يعني أن عارف
هؤلاء الجاهلين وهو ابن عربي رأس الالحاد وأمام الزندقة رأى ابليس في زعمه فهوى
بالسجود له في ذلة وخضوع ، فلما أنكر عليه صاحباه ذلك الصنيع قال لهما موبخا : وهل
غير الإله رأيت ، أم قد عميت منكم العينان ليس هناك غير قط ، فاسجدوا أن شئتم
للشمس أو للأصنام ، أو للشيطان ، فإن الكل عين الحق والكل أهل للعبادة لشهود الحق
فيه ، عند أهل المعرفة.
__________________
ثم قال الشيخ بعد
ذكر ضلالة هؤلاء الملاحدة : هذا هو المعبود عند هؤلاء السفهاء الحمقى فسبح ربك
أيها المؤمن ونزهه عما يقول الجاهلون ثم ناداهم الشيخ مسفها وموبخا ، يا أمة
معبودها موطوءها ، أين الاله من ثغرة الطغيان ، يا أمة قد صار جميع أنواع الكفر
والضلال ، جزءا يسيرا من كفرها وضلالها.
* * *
فصل
في قدوم ركب آخر
وأتى فريق ثم
قال وجدته
|
|
بالذات موجودا
بكل مكان
|
هو كالهواء
بعينه لا عينه
|
|
ملأ الخلاء ولا
يرى بعيان
|
والقوم ما صانوه
عن بئر ولا
|
|
قبر ولا حش ولا
أعطان
|
بل منهم من قد
رأى تشبيهه
|
|
بالروح داخل هذه
الأبدان
|
ما فيهم ما قال
ليس بداخل
|
|
أو خارج عن جملة
الأكوان
|
لكنهم حاموا على
هذا ولم
|
|
يتجاسروا من
عسكر الإيمان
|
وعليهم رد
الأئمة أحمد
|
|
وصحابه من كل ذي
عرفان
|
فهم الخصوم لكل
صاحب سنة
|
|
وهم الخصوم
لمنزل القرآن
|
ولهم مقالات
ذكرت أصولها
|
|
لما ذكرت الجهم
في الأوزان
|
الشرح
: بعد أن فرغ المؤلف
من ذكر مقالة ابن عربي وأضرابه من القائلين بمذهب وحدة الوجود شرع في بيان مقالة
الحلولية ، وينبغي أن يعلم أن أصحاب الحلول فريقان : فريق يقول بالحلول الخاص في
بعض أفراد البشر ، كما ذهب إليه النصارى في عيسى عليهالسلام ، حيث زعموا أن اللاهوت وهو الله حل في الناسوت ، أي في
جسد عيسى وكما ادعاه في الاسلام السبأية أتباع عبد الله بن سبأ الذي قال هو
وأتباعه بألوهية علي رضي الله عنه ، وقد حرقهم علي بالنار ، وكذلك الخطابية في
جعفر الصادق ، وكان الحسين بن منصور الحلاج يزعم أن الله حل فيه ، ويقول في بعض
شعره :
أنا من أهوى ومن
أهوى أنا
|
|
نحن روحان حللنا
بدنا
|
فإذا ما أبصرتني
أبصرته
|
|
واذ ما أبصرته
ابصرتنا
|
وكان يرى قبحه
الله أن الانسان إذا بلغ درجة من الصفاء والمحبة بالرياضة والمجاهدة فإنه يكون
أهلا لان يحل الله فيه ، ومن شعره في ذلك :
سبحان من أظهر
ناسوته
|
|
سر سنا لاهوته
الثاقب
|
ثم بدا في خلقه
ظاهرا
|
|
في صورة الآكل
والشارب
|
حتى لقد عاينه
خلقه
|
|
كلحظك الحاجب
بالحاجب
|
وقد أفتى علماء
عصره بردته ووجوب قتله حين ظهر بتلك المقالة الشنيعة ، فقتل لعنه الله.
وأما الفريق
الثاني من القائلين بالحلول ، وهم الذين تعرض المؤلف لذكر مذهبهم هنا فيرون أن
الله عزوجل حال بذاته في كل جزء من أجزاء العالم ، بحيث لا يخلو منه
مكان ، ويشبهونه ـ تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا ـ بالهواء الذي يملأ الخلاء ،
ومع ذلك لا يراه أحد ، ومنهم من يقول : أن هذا العالم جسم كبير ، والله عزوجل هو الروح الكامنة في هذا الجسم المدبرة له ، فهو سار في
جميع أجزائه ، كحلول الروح في البدن الانساني والحيواني.
وقد رد المؤلف على
هؤلاء الحلوليين بأنهم حكموا على ربهم بالحلول في الأماكن القذرة ، كالآبار
والقبور والحشوش والأعطان ، وبين أن هذا المذهب غير مذهب المعطلة الذين نفوا عن
الله الجهة والحيز ، وقالوا أنه لا داخل العالم ولا خارجه ، وأن هؤلاء الحلولية قد
حاموا حول ذلك القول ، ولكنهم لم يجرءوا على إظهاره خوفا من عسكر الإيمان ، وهم
أهل السنة والجماعة وقد رد عليهم الامام أحمد وغيره بما بين فساد مقالتهم وشناعة
نحلتهم.
ولا شك أن هؤلاء
الحلولية خصوم ألداء لأهل السنة والجماعة الذين ينزهون ربهم عزوجل أن يكون حالا في شيء من أجزاء العالم ، ويؤمنون بأنه
سبحانه
فوق سماواته مستو
على عرشه بائن من خلقه كما أخبر هو عن نفسه.
* * *
فصل
في قدوم ركب آخر
وأتى فريق ثم قارب
وصفه
|
|
هذا ولكن جد في
الكفران
|
فأسر قول معطل
ومكذب
|
|
في قالب التنزيه
للرحمن
|
اذ قال ليس
بداخل فينا ولا
|
|
هو خارج عن جملة
الأكوان
|
بل قال ليس
ببائن عنها ولا
|
|
فيها ولا هو
عينها ببيان
|
كلا ولا فوق
السموات العلى
|
|
العرش من رب ولا
رحمن
|
والعرش ليس عليه
معبود سوى الع
|
|
دم الذي لا شيء
في الأعيان
|
بل حظه من ربه
حظ الثري
|
|
منه وحظ قواعد
البنيان
|
لو كان فوق
العرش كان كهذه ال
|
|
أجسام سبحان
العظيم الشأن
|
الشرح
: هذا بيان لمذهب
الجهمية المعطلة الذين حكى الشيخ مقالتهم فيما سبق وهو مقارب لمذهب الحلول السابق
، ولكنه أوغل منه في الكفر حيث أنه قائم على التعطيل لصفات الرب والتكذيب بالنصوص
الصريحة المثبتة لها من الكتاب والسنة ومع ذلك يصوغه أصحابه في قالب التنزيه
تمويها على قصار النظر فيقولون ما أردنا بنفي الصفات الا تنزيهه عن مشابهة
المخلوقات ، وهم مع ذلك يصفونه بصفات المعدوم الممتنع فيقولون لا هو داخل العالم
ولا خارج العالم ، ولا يقال له متصل ولا منفصل ولا قريب ولا بعيد ، وليس هو في حيز
ولا جهة فالجهات والأمكنة كلها بالنسبة إليه سواء فليس الفوق أولى به من التحت
ولاحظ العرش منه أكثر من حظ الأرض السابعة السفلى ، أو قواعد البنيان ، وحقيقة
قولهم أنه ليس فوق السموات العلى والعرش رب ولا رحمن ، بل ليس فوقه الا العدم
المحض الذي لا حقيقة له في الخارج.
ويزعمون أن القول
باستوائه على العرش يستلزم أن يكون في جهة وأن يكون العرش حيزا له ، وذلك من صفات
الأجسام تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا؟
* * *
ولقد وجدت لفاضل
منهم مقا
|
|
ما قامه في
الناس منذ زمان
|
قال اسمعوا يا
قوم أن نبيكم
|
|
قد قال قولا
واضح البرهان
|
لا تحكموا
بالفضل لي أصلا على
|
|
ذي النون يونس
ذلك الغضبان
|
هذا يرد على
المجسم قوله
|
|
الله فوق العرش
والأكوان
|
ويدل أن إلهنا
سبحانه
|
|
وبحمده يلقى بكل
مكان
|
قالوا له بين
لنا هذا فلم
|
|
يفعله فأعطوه من
الأثمان
|
الفا من الذهب
العتيق فقال في
|
|
تبيانه فاسمع
لذا التبيان
|
قد كان يونس في
قرار البحر تح
|
|
ت الماء في قبر
من الحيتان
|
ومحمد صعد
السماء وجاوز ال
|
|
سبع الطباق وجاز
كل عنان
|
وكلاهما في قربه
من ربه
|
|
سبحانه إذ ذاك
مستويان
|
فالعلو والسفل
اللذان كلاهما
|
|
في بعده من ضده
طرفان
|
أن ينسبا لله
نزه عنهما
|
|
بالاختصاص بلى
هما سيان
|
في قرب من أضحى
مقيما فيهما
|
|
من ربه فكلاهما
مثلان
|
فلأجل هذا خص
يونس دونهم
|
|
بالذكر تحقيقا
لهذا الشأن
|
فأتى الثناء
عليه من أصحابه
|
|
من كل ناحية بلا
حسبان
|
الشرح
: أورد الشيخ هنا
هذه الحكاية التي تدل على جهل ذلك الجهمي وعدم بصره بمواقع الاستدلال ، فقد أراد
أن يستدل بقوله عليهالسلام «لا تفضلوني على
يونس بن متى» على أنه ليس فوق العرش إله ، وأن محمدا لم يكن وهو فوق السبع الطباق
باقرب إلى الله من يونس وهو في جوف الظلمات وهو استدلال فاسد ، فان نهيه عليهالسلام أمته عن تفضيله على يونس لم ينف أنه أفضل منه في الواقع ،
وهذا النهي عن التفضيل لا صلة له بالقرب والبعد ، وأنما هو إرشاد
لأمته أن يتأدبوا
في حق الأنبياء ، وأن لا يفضلوا أحدا منهم بخصوصه على آخر بخصوصه وان كان المفضل
هو محمد ، والمفضل عليه هو يونس عليهما الصلاة والسلام ، وانما خص يونس بالذكر لأن
بعض الأوهام قد يسبق إليها هبوط درجته عليهالسلام عن اخوانه من المرسلين حيث أخبر الله عزوجل عنه : انه التقمه الحوت وهو مليم أي فاعل ما يلام عليه ،
وقال في حقه : (وَذَا النُّونِ إِذْ
ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ
أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء : ٨٧]
على أن الحديث بهذا اللفظ لم يروه أحد من أهل الكتب التي يعتمد عليا ، وانما اللفظ
الذي في الصحيح «لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى» وفي رواية «من قال
أني خير من يونس بن متى فقد كذب».
ومعلوم أنه ليس في
هذه الروايات تعرض للمفاضلة بين محمد وبين يونس عليهماالسلام ، ولا نهي للمسلمين أن يفضلوا محمدا على يونس ، بل هو نهي
عام لكل أحد أن يفضل ويفتخر على يونس ، وهل يقول من له ذرة من عقل ، ولمحة من
ايمان ان مقام الذي أسرى به إلى ربه وهو مقرب معظم مكرم كمقام الذي القي في بطن
الحوت وهو مليم ـ واين المعظم المقرب من الممتحن المؤدب ، ولو جاز أن يتخذ من مثل
ذلك الحديث دليلا على نفي علوه تعالى على خلقه فهل يقوى مثله في احتماله وبعد
الاستدلال به أن يقاوم الأدلة الصريحة القطعية من الكتاب والسنة والعقل والفطرة
على علوه تعالى والتي بلغت من الكثرة أن زادت على ألف دليل.
فانظر إلى حال
الجهمي الجاهل الذي يتجرأ على الناس بسخافة حمقاء ، ثم أنظر إلى قبولهم ذلك منه ،
وفرحهم به وبجهلهم وقلة علمهم بكلام الله وكلام رسوله فالحمد لله الذي عافانا مما
ابتلى به كثيرا من خلقه ، وهدانا صراطه المستقيم.
* * *
فاحمد إلهك أيها
السني اذ
|
|
عافاك من تحريف
ذي بهتان
|
والله ما يرضى
بهذا خائف
|
|
من ربه أمسى على
الايمان
|
هذا هو الالحاد
حقا بل هو التح
|
|
ريف محضا أبرد
الهذيان
|
والله ما بلي
المجسم قط بمثل ذ
|
|
ي البلوى ولا
أمسى بذي الخذلان
|
أمثال ذا
التأويل أفسد ه
|
|
ذه الأديان حين
سرى الى الأديان
|
والله لو لا
الله حافظ دينه
|
|
لتهدمت منه قوى
البنيان :
|
الشرح
: بعد أن حكى المؤلف
هذه الأكذوبة التي تفتق عنها ذهن ذلك الجهمي المارق ، والتي تدل على مبلغ جعل
الجهمية وضلالهم حيث أنكروا أن يكون بعض العباد والمخلوقات أقرب إلى الله من بعض ،
وزعموا أن جميع الجهات والأمكنة بالنسبة إليه سواء ، توجه إلى كل معتصم بالسنة
وعقيدة السلف أن يحمد الله الذي عافاه من تحريف هؤلاء الكذابين ، وأخبر أنه لا
يرضى بمثل هذا التحريف والتعطيل الا قلب فارقه الخوف من مولاه وبات على غير ايمان
به ، والا لما اجترأ على القول بتلك الشناعات في حق الله عزوجل التي هي محض الالحاد وعين التحريف والهذيان ، ثم أخبر أن
المجسمة الذين يدعي الجهم وأصحابه الفرار من الوقوع في تجسيمهم بالتأويل ما ابتلوا
قط بمثل هذي البلوى التي هي تأويل الجهمي ، ولا خذلوا هذا الخذلان الشنيع وأن
أمثال هذه التأويلات الفاسدة هي التي أفسدت الأديان حين سرت إليها ، وقد وجد في
اليهودية والنصراني جهمية كهذا الجهم الذي أصيب به الإسلام حرفوا التوراة والإنجيل
وتناولوهما بالتغيير والتبديل حتى أفسدوا هاتين الديانتين على أهلهما ، كما حاول
الجهم افساد الإسلام على أهله ، ولو لا أن الله حافظ دينه وكتابه لكانت بدعة الجهم
ومقالاته سببا في هدم بنيان هذا الدين وتصدع أركانه.
* * *
فصل
وأتى فريق ثم
قارب وصفه
|
|
هذا وزاد عليه
في الميزان
|
قال اسمعوا يا
قوم لا تلهيكم
|
|
هذي الأماني هن
شر أماني
|
أتعبت راحلتي
وكلت مهجتي
|
|
وبذلت مجهودي
وقد أعياني
|
فتشت فوق وتحت
ثم أمامنا
|
|
ووراء ثم يسار
مع أيمان
|
ما دلني أحد
عليه هناكم
|
|
كلا ولا بشر
إليه هداني
|
إلا طوائف
بالحديث تمسكت
|
|
تعزي مذاهبها
إلى القرآن
|
الشرح
: بعد أن فرغ الشيخ
من ذكر مذهب الجهمية أهل التعطيل والالحاد شرع في بيان ما جره هذا المذهب من
انسلاخ طائفة كبيرة من النظار من الدين جملة ونزوعهم إلى الزندقة والانحلال ،
فانهم فتشوا فوجدوا أن مذاهب الجهمية والمتكلمين متضاربة متناقضة ينفون الشيء
ويثبتون نظيره ، ويقطعون بالشيء في موضع وبضده في موضع آخر ، فشكوا فيها جميعا ولم
يطمئنوا إلى صحتها. ثم نظروا في مذاهب أهل السنة والجماعة فوجدوها محكمة مطابقة
لما جاء به الكتاب الحكيم والسنة المطهرة فأعجبوا بها وكادوا يدخلون في أهلها لو
لا أنهم رأوا الجهم وأصحابه يرمونهم بأشنع الألقاب ، ويتهمونهم بالتشبيه والتجسيم
تنفيرا للناس من أتباعهم. فحار هؤلاء بين الفريقين ، ولم يجدوا بدا من نبذ ذلك كله
والعيش في هذه الدنيا كالبهائم ، بلا عقيدة ولا دين.
والآن فلنسمع إلى
الشيخ يحكي لنا على لسان رائد هذه الجماعة وهو يقول لهم : يا قوم ان سعيكم هذا في
ضلال ، وإن ما تطلبونه مستحيل المنال ، فلا تشغلنكم هذه الأماني الكواذب ، فهن شر
أماني ، لقد أتعبت راحلتي ، مغذا السير ، حتى كلت مهجتي ونفدت قوتي ، ومع ذلك
أعياني الوصول إليه ، لقد بحثت عنه في جميع الجهات الست ، فما وجدت أحدا دلني على
وجوده ولا هداني إلى معرفته ، اللهم إلا جماعة تمسكوا بصحاح الأحاديث ، وانتسبت
مذاهبهم إلى القرآن ، فهم الذين يبشرون بوجوده ويدلون عليه كل طالب للوصول إليه.
* * *
قالوا الذي
تبغيه فوق عباده
|
|
فوق السماء وفوق
كل مكان
|
وهو الذي حقا
على العرش استوى
|
|
لكنه استولى على
الأكوان
|
وإليه يصعد كل
قول طيب
|
|
وإليه يرفع سعي
ذي الشكران
|
والروح والأملاك
منه تنزلت
|
|
وإليه تعرج عند
كل أوان
|
وإليه أيدي
السائلين توجهت
|
|
نحو العلو بفطرة
الرحمن
|
وإليه قد عرج
الرسول فقدرت
|
|
من قربه من ربه
قوسان
|
الشرح
: يعني أن أهل السنة
والجماعة قالوا لهذا السائل أن الذي تطلبه وتجد في البحث عنه ، وتقول انك لم تجده
في واحدة من الجهات الست هو في جهة الفوق ، فهو العلي بذاته فوق عباده ، وفوق
السموات السبع ، وفوق كل مكان من أمكنة هذا العالم الوجودية ، وهو هناك مستو على
عرشه استواء حقيقيا بمعنى العلو والارتفاع ، لا كما يزعم الجهم وأتباعه من أن معنى
استوائه على العرش هو استيلاؤه عليه ، فإنه لا معنى لتخصيص العرش بذلك ، اذ هو
سبحانه مستول على جميع الأكوان التي من جملتها العرش ، وإليه هناك يصعد كل قول طيب
، ويرفع كل عمل صالح ، كما قال تعالى : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ
الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر : ١٠] ومن
عنده تتنزل الملائكة والروح وإليه تعرج في كل الآنات وفي جميع الأوقات ، كما قال
تعالى : (تَعْرُجُ
الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ
سَنَةٍ) [المعارج : ٤] وهو
الذي إليه تمتد أيدي السائلين بالطلب في الدعاء ، متجهة نحو العلو بفطرة الله الذي
فطرها على رفع الأكف في الدعاء ، وهو الذي عرج إليه الرسول صلوات الله وسلامه عليه
ليلة الإسراء ، وتجاوز السبع طباق ، وتناهى في القرب منه ، حتى كان قاب قوسين أو
أدنى ...
* * *
وإليه قد رفع
المسيح حقيقة
|
|
ولسوف ينزل كي
يرى بعيان
|
وإليه تصعد روح
كل مصدق
|
|
عند الممات
فتنثني بأمان
|
وإليه آمال
العباد توجهت
|
|
نحو العلو بلا
تواصي ثان
|
بل فطرة الله
التي لم يفطروا
|
|
ألا عليها الخلق
والثقلان
|
ونظير هذا أنهم
فطروا على
|
|
اقرارهم لا شك
بالديان
|
لكن أولو
التعطيل منهم أصبحوا
|
|
مرضى بداء الجهل
والخذلان
|
الشرح
: هذه من جملة كلام
أهل السنة والجماعة في اثبات الفوقية لله عزوجل على الحقيقة ، حيث أخبر سبحانه أنه رفع عيسى عليهالسلام إليه بجسده وروحه حيا ، كما قال تعالى: (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي
مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ) [آل عمران : ٥٥]
وكما قال : (وَما قَتَلُوهُ وَما
صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي
شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ
يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) [النساء : ١٥٧ ،
١٥٨] فإضافة الرفع إلى ضمير عيسى عليهالسلام في الآيتين يدل على أنه رفع كله ويرد على من زعم أن الرفع إنما
هو لروحه وحدها ، وأن جسده قد مات ودفن ، وهو زعم باطل ، فإنه لا يظهر حينئذ
لتخصيص عيسى عليهالسلام بذلك الرفع معنى ، إذ كل ميت هو كذلك ترفع روحه إلى السماء
، وقد ورد في الحديث الصحيح أن عيسى سينزل قرب قيام الساعة ، وأنه سيقتل المسيح
الدجال ويكسر الصليب ويضع الجزية على أهل الكتاب ، وتمتلئ الدنيا في عهده خيرا
وعدلا.
وكذلك ورد الحديث
بأن أرواح المؤمنين تعرج بها ملائكة الرحمة حتى تمثل بين يدي الله عزوجل فيبشرها بما أعد لها من نعيم فترجع آمنة مطمئنة.
وهو سبحانه كذلك
الذي تتجه إليه آمال عباده نحو العلو دون أن يوصي بعضهم بعضا بذلك ، بل فطرة فطرهم
الله عليها كما فطرهم على الاقرار بوجوده ، لكن أهل التعطيل قد فسدت فطرهم فجحدوا
هذه الضرورات التي يجدها الناس من أنفسهم بالتوجه دائما في الدعاء والرجاء نحو
العلو ، وأصبحوا مرضى بداء الجهل والخذلان ، أعاذنا الله مما ابتلاهم به بمنه
وكرمه.
* * *
فسألت عنهم
رفقتي وأحبتي
|
|
أصحاب جهم حزب
جنكيز خان
|
من هؤلاء ومن
يقال لهم فقد
|
|
جاءوا بأمر مالئ
الآذان
|
ولهم علينا صولة
ما صالها
|
|
ذو باطل بل صاحب
البرهان
|
أو ما سمعتم
قولهم وكلامهم
|
|
مثل الصواعق ليس
ذا لجبان
|
جاءوكم من فوقكم
وأتيتم
|
|
من تحتهم ما
أنتم سيان
|
جاءوكم بالوحي
لكن جئتم
|
|
بنحاتة الأفكار
والأذهان
|
الشرح
: لما سمع هذا
السائل الذي خرج يرتاد لقومه عقيدة يدينون بها كلام أهل السنة والجماعة في إثبات
صفة العلو لله عزوجل ، وأنه فوق العرش بذاته ، أعجب أيما اعجاب بقوة كلامهم
ووضوحه ، وامتلأت به نفسه ، فذهب يسأل عنهم رفقاءه وأهل هواه من أصحاب جهم ، وحزب
ذلك القائد المغولي الجبار ، المسمى بجنكيزخان ، والمراد بهم نصير الدين الطوسي
وأمثاله من أذناب المتفلسفة ، فقال لهم من هؤلاء وبما ذا يسمون ، فإنهم قد جاءوا
بأمر عجيب يملأ الآذان والقلوب روعة وجلالا ولهم علينا صولة لا يمكن أن يصولها ذو
باطل بل لا تكون إلا لصاحب الحجة والبرهان ، فهذه أقوالهم وحججهم يرسلونها علينا
مثل الصواعق المحرقة في غير جبن ولا خور ، وشتان بين كلامنا وكلامهم ، فانهم
يجيئوننا من فوقنا بالوحي المبين والنصوص الصريحة من الكتاب والسنة ، ونحن نجيئهم
من تحتهم بنفاية الأفكار وكناسة الأذهان ، ومن ذا الذي يسوي بين مستمسك بالوحي
المعصوم وبين خابط في دياجير الجهالة ومتاهات الظنون.
* * *
قالوا مشبهة
مجسمة فلا
|
|
تسمع مقال مجسم
حيوان
|
والعنهم لعنا
كبيرا واغزهم
|
|
بعساكر التعطيل
غير جبان
|
واحكم بسفك
دمائهم وبحبسهم
|
|
أو لا فشردهم عن
الأوطان
|
حذر صحابك منهم
فهم أضل
|
|
من اليهود
وعابدي الصلبان
|
واحذر تجادلهم
بقال الله أو
|
|
قال الرسول
فتنثني بهوان
|
أني وهم أولى به
قد أنفذوا
|
|
فيه قوى الأذهان
والأبدان
|
فإذا ابتليت بهم
فغالطهم على التأ
|
|
ويل للأخبار
والقرآن
|
وكذاك غالطهم
على التكذيب لل
|
|
آحاد ذان لصحبنا
أصلان
|
الشرح
: سأل هذا السائل
رفقاءه وأهل محبته عن رأيهم في أهل السنة والجماعة وبما ذا يسمونهم ، فقالوا ـ قبحهم
الله ـ انهم مشبهة يشبهون الله عزوجل بخلقه ، حيث يثبتون له من الصفات ما هو موجود في المخلوقات
، وهم كذلك مجسمة يقولون ان الله فوق العرش بذاته ، فيثبتون له المكان والحيز الذي
هو من خصائص الأجسام ، وقالوا له إياك أن تسمع لقولهم أو تصيخ لآرائهم ، بل يجب أن
تمقتهم وأن تقابل جيوشهم من النصوص بعساكر التعطيل غير هياب ولا وجل ، وعليك أن
تتبع معهم احدى ثلاث خصال ، فأما أن تسفك دماءهم كما تسفك دماء الكفرة والمشركين ،
أو تحبسهم حتى يرجعوا عن قولهم ويفيئوا إلى حكم العقل ، وإلا فانفهم عن الأوطان
واسترح من شرهم ، وحذر أصحابك من اتباعهم ، فإنهم أضل من اليهود والنصارى.
ثم إياك إياك أن
تجادلهم بما هم أعلم به منك وأمهر فيه وهو قال الله ، وقال الرسول فترجع مغلوبا
مقهورا ، وكيف تجادلهم بالوحي الذي هم أحق به وقد أفنوا فيه عصارة أذهانهم وقوى
أبدانهم ، بل إذا ابتليت بشيء من ذلك فلا مخلص لك إلا اللجوء إلى المغالطة ، فإن
كان النص متواترا لا يمكن رده فغالطه على التأويل له وقل لهم انه مصروف عن ظاهره
إلى معنى آخر ، فإن سألوك عن القرينة التي أوجبت ذلك الصرف فقل لهم حكم العقل
باستحالة ذلك المعنى على الله. وأما ان كان الخبر آحادا فما عليك إلا أن تكذب به
وتنكر ثبوته أو تدعي أنه لا يفيد إلا الظن فلا يقبل في باب الاعتقاد.
هذان هما الأصلان
اللذان بنى عليهما المعطلة دفعهم للنصوص التي يرون فيها مصادمة لقضايا عقولهم
الفاسدة وأوهامهم الكاذبة.
* * *
أوصى بها
أشياخنا أشياخهم
|
|
فاحفظهما بيديك
والأسنان
|
وإذا اجتمعت وهم
بمشهد مجلس
|
|
فابدر بإيراد
وشغل زمان
|
لا يملكوه عليك
بالآثار وال
|
|
أخبار والتفسير
للفرقان
|
فتصير ان وافقت
مثلهم وان
|
|
عارضت زنديقا
أخا كفران
|
وإذا سكت يقال
هذا جاهل
|
|
فابدر ولو
بالفشر والهذيان
|
هذا الذي والله
أوصانا به
|
|
أشياخنا في سالف
الأزمان
|
الشرح
: يعني أن هذا
التأويل لظواهر النصوص المتواترة والتكذيب بالآحاد منها هو الذي أوصى به شيوخ
المعطلة أتباعهم ، فعليك أن تعض عليهما بالنواجذ وإذا اجتمعت بهؤلاء المثبتة أهل
النصوص والآثار وضمك وإياهم مجلس ، فإياك أن يسبقوك إلى الكلام بل بادرهم بإيراد
مسألة أو إلزام تشغل به الوقت حتى لا يملكوه عليك بإيراد الآثار والاخبار والتفسير
لآيات الكتاب وحينئذ تكون بين أمرين ، أحلاهما مر. فإما أن توافقهم فتصير مثلهم في
التشبيه والتجسيم ، أو تخالفهم فترمى بالزندقة والكفر ، وإذا سكتت ولم تقل شيئا
نسبت إلى الجهل وقلة العلم ، فبادرهم إذا بأي كلام ولو بالفشر ، يعني بالكذب.
والهذيان الكلام الذي فيه تخليط واضطراب ، وهذا الذي أوصيناك به هو والله الذي
أوصانا به أشياخنا في سالف الأزمان.
* * *
فرجعت من سفري
وقلت لصاحبي
|
|
ومطيتي قد آذنت
بحران
|
عطل ركابك
واسترح من سيرها
|
|
ما ثم شيء غير
ذي الأكوان
|
لو كان للأكوان
رب خالق
|
|
كان المجسم صاحب
البرهان
|
أو كأن رب بائن
عن ذي الورى
|
|
كان المجسم صاحب
الإيمان
|
ولكان عند الناس
أولى الخلق بال
|
|
اسلام والإيمان
والاحسان
|
ولكان هذا الحزب
فوق رءوسهم
|
|
لم يختلف منهم
عليه اثنان
|
الشرح
: يقول ذلك الرائد
الأحمق اني بعد أن طوفت بين أهل المذاهب فسمعت كلام أهل السنة والجماعة ، ثم سمعت
كلام رفقتي من أصحاب جهم
فيهم شككت في
المذهبين جميعا ورجعت من سفري بخيبة واخفاق قلت لصاحبي ، وقد كلت دابتي من السير
حتى أعلمت بحرانها وامتناعها عن المسير عطل ركابك واسترح من سيرها فإنه لا حاجة بك
إلى كثرة التجوال وطول الكلام فقد جئتك من هناك بالخبر اليقين وهو أنه لا شيء وراء
هذه الأكوان.
ثم أخذ يدلل على
قضيته الخاسرة ، فقال لو كان للأكوان رب خالق موجود لكان مذهب المجسمة هو أصح
المذاهب وأقواها برهانا وأولاها بالقبول ، فإن القول بوجوده يقتضي أن يكون ذلك
الوجود متحققا في جهة ولما استحال القول بوجوده داخل هذا العالم لما يلزم عليه من
أن تكون الحوادث ظرفا له محيطة به فلا بد من القول بأنه بائن عن الورى منفصل عنهم
، أما القول بأنه موجود لا في مكان وأنه ليس داخل العالم ولا خارجه ، فإنه ينطوي
على التناقض كأنه قيل هو موجود معدوم ، فالحكم بوجود رب خالق للعالم بائن عنه
يقتضي انتصار مذهب التجسيم ، وأن يكون أهله أحق الناس بالإسلام والإيمان والإحسان
وأن يكون حزبهم هو الأعز الأغلب فوق رءوس المذاهب جميعا.
* * *
فدع التكاليف
التي حملتها
|
|
واخلع عذارك
وارم بالأرسان
|
ما ثم فوق العرش
من رب ولم
|
|
يتكلم الرحمن
بالقرآن
|
لو كان فوق
العرش رب ناظر
|
|
لزم التحيز
وافتقار مكان
|
لو كان ذا
القرآن عين كلامه
|
|
حرفا وصوتا كان
ذا جثمان
|
فإذا انتفى هذا
وهذا ما الذي
|
|
يبقى على ذا
النفي من إيمان
|
فدع الحلال مع
الحرام لأهله
|
|
فهما السياج لهم
على البستان
|
فاخرقه ثم ادخل
ترى في ضمنه
|
|
قد هيئت لك سائر
الألوان
|
وترى بها ما لا
يراه محجب
|
|
من كل ما تهوى
به زوجان
|
__________________
واقطع علائقك
التي قد قيدت
|
|
هذا الورى من
سالف الأزمان
|
لتصير حرا لست
تحت أوامر
|
|
كلا ولا نهي ولا
فرقان
|
الشرح
: يقول هذا الرائد
الاحمق لصاحبه : إذا كان الإيمان برب خالق للأكوان بائن عنها جميعا لا يتأتى إلا
على مذهب هؤلاء المجسمة وكان مذهب المعطلة غير معقول حيث يفرضون وجوده ، ثم يصفونه
بصفات المعدوم فالواجب هو التخلص من هذه المذاهب جميعا فاطرح عنك هذه التكاليف
التي أثقلت كاهلك ، واخلع عنك عذار الحياء والحشمة ، وألق بهذه القيود التي منعتك
من الحركة والانطلاق فليس هناك فوق العرش رب يخاف أو يرجى ولم يتكلم الرحمن
بالقرآن كما يدعي أهل السنة إذ لو كان فوق العرش بذاته للزم تحيزه وشغله قدرا من
الفراغ ولزم كذلك احتياجه إلى المكان الذي يحل فيه ، ولو كان قد تكلم بالقرآن بحرف
وصوت لزم أن يكون جسما إذ أن الحرف والصوت من خصائص الاجسام وإذا انتفى وجود رب
فوق العرش ، وانتفى كلامه بالقرآن لم يبق مع هذا النفي شيء من إيمان ، وإذا
فلنتخلص من تبعات هذا الإيمان ولندع التقيد بقيود الحلال والحرام لأهله ولنخرق هذا
السياج السميك الذي يحول بيننا وبين دخول البستان ، يعني به الدنيا التي أعدت لنا
فيه سائر المتع والملذات حيث نرى فيه ما لا يراه هؤلاء المقيدون ، ونجد فيه من كل
ما نشتهي زوجين اثنين ولنقطع هذه العلائق التي تشدنا دائما إلى الوراء وتمنعنا من
التحرر والانطلاق كما قيدت من سبقنا من الناس فنصير أحرارا لا نعيش تحت قسوة هذه
الأوامر والنواهي ، ولا في ظلال هذه الاحكام التي جاء بها هذا الفرقان.
* * *
لكن جعلت حجاب
نفسك اذ ترى
|
|
فوق السما للناس
من ديان
|
لو قلت ما فوق
السماء مدبر
|
|
والعرش نخليه من
الرحمن
|
والله ليس مكلما
لعباده
|
|
كلا ولا متكلما
بقرآن
|
ما قال قط ولا
يقول ولا له
|
|
قول بدا منه إلى
انسان
|
لحللت طلسمه
وفزت بكنزه
|
|
وعلمت أن الناس
في هذيان
|
الشرح
: يقول له انك أنت
الذي تصنع الحجاب الذي يحجز بين نفسك وبين مشتهياتها حين تقدر أن فوق السماء إلها
يدين الناس ويجزيهم بأعمالهم ، ولكنك لو عمدت إلى جحده وانكاره فقلت ما فوق السماء
مدبر ولا على العرش إله رحمان ونفيت أن يكون مكلما لعباده ، أو متكلما بالقرآن
بجميع صيغ النفي ، فقلت ما قال قط ، ولا يقول أصلا ولا له قول بدأ منه إلى أحد من
البشر لكنت بذلك قد وصلت الى السر الذي عجز عنه الكثيرون ، ولكنك قد حللت طلسم هذا
الوجود وفزت بكنزه ، وعلمت أن كل ما يقوله الناس في هذا الباب انما هو تخليط
وهذيان.
* * *
لكن زعمت بأن
ربك بائن
|
|
من خلقه اذ قلت
موجودان
|
وزعمت أن الله
فوق العرش والكرسي
|
|
حقا فوقه
القدمان
|
وزعمت أن الله
يسمع خلقه
|
|
ويراهم من فوق
سبع ثمان
|
وزعمت أن كلامه
منه بدا
|
|
وإليه يرجع آخر
الأزمان
|
ووصفته بالسمع
والبصر الذي
|
|
لا ينبغي الا
لذي الجثمان
|
ووصفته بإرادة
وبقدرة
|
|
وكراهة ومحبة
وحنان
|
وزعمت أن الله
يعلم كل ما
|
|
في الكون من سر
ومن اعلان
|
والعلم وصف زائد
عن ذاته
|
|
عرض يقوم بغير
ذي جثمان
|
الشرح
: يلتفت هذا المتحلل
الزنديق الى صاحبه ويتخيله رجلا من أهل الاثبات ، فيقول له : أنك بدلا من أن تلجأ
إلى الانكار الذي يريح نفسك ويحط عنها أثقالها ، زعمت أن ربك موجود ، وأنه منفصل
عن خلقه ، حين ذهبت إلى أن هناك موجودين الله والعالم ، وأن لكل منهما وجوده الخاص
المباين لوجود الآخر. وزعمت أن الله فوق العرش بذاته وأن الكرسي موضع قدميه ـ كما
روي عن ابن عباس وغيره.
وزعمت أن له سمعا
وبصرا ، فهو يسمع أصوات خلقه مهما خفتت ، حتى همسات الخواطر ونجوى الضمائر ،
ويراهم من فوق سبع سماوات ، بل من فوق ثمان بحيث لا يمتنع على رؤيته أصغر ذرة.
وزعمت أنه متكلم بكلام هو صفة له ، وأنه يتكلم بمشيئة ، وأن القرآن كلامه على
الحقيقة ، وأنه منه بدأ بلا كيفية قولا وأنزله على رسوله وحيا ، وأنه يرجع إليه في
آخر الزمان حين يقبضه من صدور العباد. ووصفته بصفات المخلوقين من السمع والبصر
والإرادة والقدرة والكراهة والمحبة والحنان. وزعمت أنه يعلم كل ما في الكون من غيب
وشهادة وسر واعلان وأن العلم وصف زائد على ذاته زيادة الأعراض ، وأن هذا العرض
قائم به وهو غير ذي جثمان.
* * *
وزعمت أن الله
كلم عبده
|
|
موسى فأسمعه ندا
الرحمن
|
أفتسمع الآذان
غير الحرف والص
|
|
وت الذي خصت به
الأذنان
|
وكذا النداء
فإنه صوت باجم
|
|
اع النحاة وأهل
كل لسان
|
لكنه صوت رفيع
وهو ضد
|
|
للنجاء كلاهما
صوتان
|
فزعمت أن الله
ناداه ونا
|
|
جاه وفي ذا
الزعم محذوران
|
قرب المكان
وبعده والصوت بل
|
|
نوعاه محذوران
ممتنعان
|
الشرح
: وزعمت كذلك أن
الله كلم عبده موسى بن عمران بكلام سمعه بأذنيه وذلك الكلام المسموع لا يكون الا
حرفا وصوتا ، لأنه هو الذي خصت الآذان بسماعه. وكذلك زعمت أنه ناداه من جانب الطور
الأيمن ، والنداء لا يكون إلا صوتا باجماع أهل اللغات ، لكنه صوت عال ، ويقابله
النجاء وهو الصوت الخفيض ، وكلاهما صوتان ، وكلاهما ثابت لموسى عليهالسلام حيث يقول القرآن : (وَنادَيْناهُ مِنْ
جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا) [مريم : ٥٢] وفي
زعمك أيها المثبت أن الله نادى موسى وناجاه ، قد ارتكبت محذورين. أولهما وصف الله عزوجل بقرب المكان وبعده ، فان النداء يقتضي البعد ، وضده
وهو النجاء يقتضي
القرب. والثاني انك أثبت له الصوت الذي هو من خصائص الأجسام ، سواء كان عاليا او
منخفضا ، وهو بنوعيه ممتنع على الله عزوجل.
* * *
وزعمت ان محمدا
أسرى به
|
|
ليلا إليه فهو
منه دان
|
وزعمت أن محمدا
يوم اللقا
|
|
يدنيه رب العرش
بالرضوان
|
حتى يرى المختار
حقا قاعدا
|
|
معه على العرش
الرفيع الشأن
|
وزعمت أن لعرشه
أطا به
|
|
كالرحل أطّ براكب
عجلان
|
وزعمت أن الله
أبدى بعضه
|
|
للطور حتى عاد
كالكثبان
|
لما تجلى يوم
تكليم الرضى
|
|
موسى الكليم
مكلم الرحمن
|
وزعمت للمعبود
وجها باقيا
|
|
وله يمين بل
زعمت يدان
|
وزعمت أن يديه
للسبع العلى
|
|
والأرض يوم
الحشر قابضتان
|
الشرح
: وزعمت كذلك أن
محمدا صلىاللهعليهوآلهوسلم أسرى به ربه ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ،
وأنه عرج به الى السماء حتى تجاوزها ووصل إلى مستوى سمع فيه صريف الأقلام ، وكان
من ربه قاب قوسين أو أدنى وأنه يدنيه كذلك يوم القيامة حين ينزل سبحانه لفصل
القضاء بين عباده فيجلسه معه على العرش العظيم ، وزعمت أن لعرشه سبحانه أطيطا به ،
أي تصويتا كأطيط الرحل الجديد من ثقله كما روي الحديث بذلك عن عمر رضي الله عنه.
وزعمت أنه سبحانه
تجلى للجبل المسمى بالطور عند ما سأله موسى عليهالسلام الرؤية فقال له لن تراني ولكن أنظر إلى الجبل فان استقر
مكانه فسوف تراني ، فلما تجلى سبحانه للجبل وظهر له من نوره مقدار أنملة إصبع ـ كما
ورد في الحديث ـ لم يطق الجبل ذلك وصار كثيبا مهيلا وخر موسى صعقا من هول الموقف ،
فلما أفاق قال سبحانك تبت أليك وأنا أول المؤمنين.
وزعمت أن للمعبود
سبحانه وجها باقيا لا يفنى ولا يزول ، أخذا من قوله
تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَيَبْقى
وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) [الرّحمن : ٢٦ ،
٢٧] وزعمت أن له يمينا كما قال سبحانه : (وَالسَّماواتُ
مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) [الزمر : ٦٧] وكما
قال عليهالسلام «أن يمين الله
ملأى لا تغيضها نفقة ، سحاء الليل والنهار» بل زعمت أكثر من ذلك أن له يدين لقوله
تعالى : (بَلْ يَداهُ
مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) [المائدة: ٦٤]
وقوله لإبليس حين امتنع من السجود لآدم (ما مَنَعَكَ أَنْ
تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) [ص : ٧٥].
وزعمت أنه يوم
الحشر يجعل السموات في أحدى يديه وهي اليمين ويجعل الأرض في الأخرى ، كما قال
تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ
حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ
مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) [الزمر : ٦٧] ثم
يقول : أنا الله ، أنا الملك اين ملوك الأرض.
* * *
وزعمت أن يمينه
ملآى من الخيرات
|
|
ما غاضت على
الأزمان
|
وزعمت أن العدل
في الأخرى بها
|
|
رفع وخفض وهو
بالميزان
|
وزعمت أن الخلق
طرا عنده
|
|
يهتز فوق أصابع
الرحمن
|
وزعمت أيضا أن
قلب العبد ما
|
|
بين اثنتين من
أصابع عان
|
وزعمت أن الله
يضحك عند ما
|
|
يتقابل الصفان
يقتتلان
|
من عبده يأتي
فيبدي نحره
|
|
لعدوه طلبا لنيل
جنان
|
وكذاك يضحك عند
ما يثب الفتى
|
|
من فرشه لتلاوة
القرآن
|
وكذاك يضحك من
قنوط عباده
|
|
اذ أجدبوا
والغيث منهم دان
|
الشرح
: قوله وزعمت أن
يمينه ملآى ، البيت إشارة إلى الحديث السابق ، وهو قوله عليه الصلاة والسلام «ان
يمين الله ملآى لا تغيضها نفقة ، سحاء الليل والنهار الا ترون ما أنفق منذ خلق
السموات والأرض فإنه لم يغض مما في يده».
وأما قوله في
البيت بعده ، وزعمت أن العدل في الأخرى بها خفض ورفع ،
فهو اشارة إلى
قوله عليهالسلام في الحديث الذي رواه أبو موسى رضي الله عنه «ان الله لا
ينام ولا ينبغي له ان ينام يخفض القسط ويرفعه» وأما قوله : وزعمت أيضا أن قلب
العبد ، البيت فهو اشارة إلى قوله عليهالسلام «أن قلوب بني آدم
بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف شاء» ولذلك كان أكثر دعائه عليهالسلام «اللهم يا مقلب
القلوب ثبت قلبي على دينك».
وأما قوله وزعمت
أن الله يضحك إلى آخر الأبيات فكلها اشارة إلى أحاديث وردت باثبات صفة الضحك له
سبحانه في هذه الأحوال وفي غيرها ، كما في الحديث «يضحك الله الى رجلين يقتل
أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة» وكما في الحديث الذي أشار إليه بالبيت الأخير وهو
قوله عليهالسلام «يضحك الله من
قنوط عباده وقرب خيره ينظر إليكم أزلين قنطين يظل يضحك يعلم أن فرجكم قريب».
* * *
وزعمت أن الله
يرضى عن أولى
|
|
الحسنى ويغضب من
اولى العصيان
|
وزعمت أن الله
يسمع صوته
|
|
يوم المعاد
بعيدهم والداني
|
لما يناديهم أنا
الديان لا
|
|
ظلم لدي فيسمع
الثقلان
|
وزعمت أن الله
يشرق نوره
|
|
في الأرض يوم
الفصل والميزان
|
وزعمت أن الله
يكشف ساقه
|
|
فيخر ذاك الجمع
للأذقان
|
وزعمت أن الله
يبسط كفه
|
|
لمسيئنا ليتوب
من عصان
|
وزعمت أن يمينه
تطوى السما
|
|
طي السجل على
كتاب بيان
|
الشرح
: قوله وزعمت أن
الله يرضى ، البيت اشارة إلى ما في الآيات والأحاديث من اثبات صفتي الرضى والغضب
لله عزوجل ، كقوله تعالى (رَضِيَ اللهُ
عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) [المجادلة : ٢٢] وقوله : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ
عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) [الفتح: ١٨]. وقوله : (فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى
غَضَبٍ) [البقرة : ٩٠].
وقوله : (وَلا تَطْغَوْا فِيهِ
فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ
غَضَبِي
وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى) [طه : ٨١]. وهو في
القرآن والسنة كثير. وقوله في البيت الذي بعده : وزعمت أن الله يسمع صوته ، إشارة
إلى ما ورد في الأثر من أن الله عزوجل ينادي يوم القيامة بصوت يسمعه أهل الموقف ، فيقول : أنا
الديان ، اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم.
وأما قوله : وزعمت
أن الله يشرق نوره ، البيت فهو اشارة إلى الآية الكريمة (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها
وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ
بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) [الزمر : ٦٩]
وقوله في البيت بعده : وزعمت أن الله يكشف ساقه الخ فهو اشارة إلى قوله تعالى : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ
إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ) [القلم : ٤٢] وقد جاء في الحديث «ان الله عزوجل يكشف عن ساقه فيخر أهل الموقف سجدا على الأذقان» الا
المشركين فإنهم يدعون الى السجود فلا يستطيعون فتصير ظهورهم طبقا واحدا.
وقوله : وزعمت أن
الله يبسط كفه ، فهو اشارة إلى قوله عليهالسلام «أن الله يبسط يده
بالليل ليتوب مسيء النهار ، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل». وقوله : وزعمت
أن يمينه الخ ، البيت اشارة إلى قوله عزوجل : (يَوْمَ نَطْوِي
السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) [الأنبياء : ١٠٤] مع قوله : (وَالسَّماواتُ
مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) [الزمر : ٦٧].
والحاصل أن هذه الأبيات السابقة تضمنت اثبات صفات الرضى والغضب والنداء بالصوت
والنور والساق والكف واليمين ، وكلها صفات موجودة في المخلوق.
* * *
وزعمت أن الله
ينزل في الدجى
|
|
في ثلث ليل آخر
أو ثان
|
فيقول هل من
سائل فأجيبه
|
|
فأنا القريب
أجيب من ناداني
|
وزعمت أن له
نزولا ثانيا
|
|
يوم القيامة
للقضاء الثاني
|
وزعمت أن الله
يبدو جهرة
|
|
لعباده حتى يرى
بعيان
|
بل يسمعون كلامه
ويرونه
|
|
فالمقلتان إليه
ناظرتان
|
وزعمت أن لربنا
قدما وأن
|
|
الله واضعها على
النيران
|
فهناك يدنو
بعضها من بعضها
|
|
وتقول قط قط
حاجتي وكفاني
|
الشرح
: قوله في البيت
الأول : وزمعت أن الله ينزل في الدجى الخ هو والبيت الذي بعده اشارة الى قوله عليه
الصلاة والسلام «ينزل ربنا تبارك وتعالى في كل ليلة الى سماء الدنيا حين يبقى ثلث
الليل الآخر فيقول هل من داع فاستجيب له هل من سائل فأعطيه هل من مستغفر فأغفر ولا
يزال هكذا حتى يطلع الفجر». وقد ورد الحديث بعدة روايات بينها اختلاف يسير في
الألفاظ مثل ذكر الشطر الأول بدل الثلث الآخر والحديث صريح في اثبات صفة النزول
فيجب الايمان بها مع اعتقاد أن نزوله تعالى ليس كنزول المخلوقين فلا يقتضي هبوطا
ولا انتقالا ولا شغل مكان وخلو آخر كما أن استواءه ليس كاستواء المخلوق فلا يقتضي
مماسة ولا محايثة ولا اتكاء الخ.
وأما قوله : وزعمت
أن له نزولا ثانيا فهو النزول لفصل القضاء بين عباده وهو المشار إليه بقوله تعالى
: (هَلْ يَنْظُرُونَ
إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ
وَقُضِيَ الْأَمْرُ) [البقرة : ٢١٠]
وقوله سبحانه (وَجاءَ رَبُّكَ
وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) [الفجر : ٢٢]
وقوله جل شأنه : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ
السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً) [الفرقان : ٢٥]
واذا نزل سبحانه هذا النزول فإنه يظهر لعباده جهرة ويرونه بأبصارهم ويسمعون كلامه
، وقد جاء في الحديث «ما من عبد الا ويكلمه الله يوم القيامة ليس بينه وبينه
ترجمان» ولا ينافي هذا قوله سبحانه في شأن الكفار : (كَلَّا إِنَّهُمْ
عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) [المطففين : ١٥] وقوله : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ
اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [البقرة : ١٧٤]
فإن المقصود من الآية الأولى أنهم يحجبون في النار عن النظر الى وجه ربهم كما ينظر
إليه أهل الجنة والمقصود من عدم تكليمه اياهم انه لا يكلمهم كلاما يسرهم ، ولكن
كلام اهانة وتقريع ، وأما قوله وزعمت أن لربنا قدما الخ هذا البيت وما بعده إشارة
إلى قوله عليهالسلام «ما تزال جهنم
يلقى فيها وتقول هل من مزيد
حتى يضع الجبار
فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض وتقول قط قط وعزتك وكرمك».
* * *
وزعمت أن الناس
يوم مزيدهم
|
|
كل يحاضر ربه
ويداني
|
بالحاء مع ضاد
وجامع صادها
|
|
وجهان في ذا
اللفظ محفوظان
|
في الترمذي
ومسند وسواهما
|
|
من كتب تجسيم
بلا كتمان
|
ووصفته بصفات حي
فاعل
|
|
بالاختيار وذانك
الأصلان
|
أصل التفرق بين
هذا الخلق ف
|
|
ي الباري فكن في
النفي غير جبان
|
أو لا فلا تلعب
بدينك ناقضا
|
|
أو ثالث متناقض
صنفان
|
فالناس بين معطل
أو مثبت
|
|
نفيا باثبات بلا
فرقان
|
والله لست برابع
لهم بلى
|
|
إما حمارا أو من
الثيران
|
الشرح
: قوله : وزعمت أن
الناس يوم مزيدهم الخ اشارة إلى ما رواه أحمد والترمذي وغيرهما وملخصه ان يوم
الجمعة يسمى يوم القيامة بيوم المزيد فيه يزور أهل الجنة ربهم عزوجل ، ويكونون في سبقهم إليه على قدر سبقهم إلى الجمعة ،
ويكونون في قربهم من ربهم على قدر قربهم من الامام ، فتنصب لهم منابر اللؤلؤ
والزبرجد والياقوت والعقيان وأدناهم منزلة يكونون على كثبان المسك فيتجلى لهم الرب
جل شأنه وينظرون إليه كلهم ، ولا يكون شيء أحب إليهم من النظر الى وجهه ، ثم تظلهم
سحابة من عنده سبحانه فتمطرهم طيبا ما رأوا مثله قط ، فيزيدهم جمالا فوق جمالهم ،
ثم يقول لهم الرب تعالى قوموا الى ما ذخرت لكم ، فيأتون سوقا فيها ما لا عين رأت ،
ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، فيأخذون منها ما يشتهون من أنواع الحلل
والحلى ، فإذا رجعوا الى أهليهم رحبوا بهم وسألوهم عما غشيهم من هذا الجمال ،
فيقولون لهم : وأنتم قد زدتم في أعيننا حسنا على حسن لكن يحق لنا وقد كنا الآن
جلساء رب العرش فيكون أهل الجنة أشد شوقا إلى يوم المزيد من المحب الى حبيبه.
وأما قوله :
ووصفته الخ ، فالمعنى انك وصفت الباري جل شأنه بصفات الحي من القدرة والإرادة
والسمع والبصر والكلام ، فإن كلها صفات تقتضيها الحياة ، ووصفته كذلك بصفات الفاعل
المختار من الرضي والغضب ، والمحبة والكراهية ، والمجيء والاتيان والنزول الخ ،
وهذان الاصلان من الحياة الفاعلية بالاختيار هما أصل التفرق بين الناس في الباري
جل شأنه ، فدع ما تفرقوا فيه وبادر الى النفي والانكار في غير تهيب ولا جبن ، وان
لم تجرءوا على ذلك التحلل من ربقة الدين فلا تتلاعب به تلاعب هؤلاء المعطلة ،
فتنقض نفيا باثبات ليس يفترق عنه في شيء ، فإن اثبات ذات مجردة عن جميع الصفات
والاسماء هو والنفي سواء ، فالناس قد افترقوا على ثلاث فرق ، معطلة عطلوا الذات عن
جميع ما لها من صفات وأسماء ، ومثبتة اثبتوا للذات كل ما اثبت الله ورسوله بلا
تفريق بين صفة وصفة وفرقة تناقضت فاثبتت بعضا ونفت بعضا ، ففرقت بين المتماثلين
بلا دليل ، أما أنا فلست والله برابع لهم ، بل اختار لنفسي مذهب الحمير والثيران ،
فأعيش كما تعيش بلا عقيدة ولا إيمان.
* * *
فاسمع بإنكار
الجميع ولا تكن
|
|
متناقضا رجلا له
وجهان
|
أو لا ففرق بين
ما أثبته
|
|
ونفيته بالنص
والبرهان
|
فالباب باب واحد
في النفي
|
|
والاثبات في عقل
وفي ميزان
|
فمتى أقر ببعض
ذلك مثبت
|
|
لزم الجميع أو
ائت بالفرقان
|
ومتى نفى شيئا
وأثبت مثله
|
|
فمجسم متناقض
ديصان
|
فذروا المراء
وصرحوا بمذاهب
|
|
القدماء
وانسلخوا من الايمان
|
أو قاتلوا مع
أمة التجسيم والتش
|
|
بيه تحت لواء ذي
القرآن
|
أو لا فلا تتلاعبوا
بعقولكم
|
|
وكتابكم وبسائر
الأديان
|
فجميعها قد صرحت
بصفاته
|
|
وكلامه وعلوه
ببيان
|
والناس بين مصدق
أو جاحد
|
|
أو بين ذلك أو
شبيه أتان
|
الشرح
: يقول هذا الأحمق
لصاحبه : إذا كان الناس قد افترقوا في ربهم إلى هذه المذاهب الثلاثة ، فهم بين
الاثبات والتعطيل والتناقض باثبات البعض ونفي البعض ، وكان العقل لا يطمئن إلى شيء
منها ، إذ الاثبات تجسيم والتعطيل جحد وانكار لصريح النصوص ، واثبات بعضها دون
البعض الآخر تناقض ، فما عليك إلا أن تطيب نفسا بانكارها جميعا ، وأن تقنعها بهذا
الإنكار ، فإذا أبت نفسك عليك ذلك ولم تجبك إليه ، فتخير من هذه المذاهب أبعدها عن
التناقض وأقربها إلى النصوص وهو مذهب أهل الإثبات ، حتى لا تعيش متناقضا ذا وجهين
أما إذا سمحت لنفسك أن تكون مع المعطلة النفاة أو مع الملفقة المتحذلقين فيجب عليك
في كلتا الحالتين أن تقيم الدليل القاطع على أن ما نفيته مغاير لما أثبته ، وأن
هناك فرقا بينهما ، فإن الباب واحد في النفي والإثبات عند العقل وفي قانون المنطق
فمتى أقررت بإثبات البعض لزمك هذا الإثبات في الكل ، وإلا فيجب أن تأتي بالفارق
الذي اقتضى التغاير في الحكم ، أما أن تنفي شيئا وتثبت مثله فذلك هو عين التجسيم
والتناقض ، فإن من نفى صفة مثلا عن الله خوف التشبيه ثم أثبت أخرى تماثلها في
اتصاف المخلوق بكل منهما ، فقد وقع في التشبيه وناقض نفسه.
فيقال للمعطل
الجهمي مثلا : أنت تنفي عن الله الأسماء والصفات فرارا من التشبيه مع أنك تثبت له
الذات ، وتقول إنه شيء وموجود ، والمخلوق أيضا له ذات ويوصف بالشيئية والوجود ،
فإن كان مجرد الاشتراك في الاسم أو الصفة موجبا للتشبيه ، فكان يجب أن تنفي ما
أثبته أيضا ، وإن كان اثبات ما أثبته لا يقتضي التشبيه والمماثلة فقل هذا أيضا
فيما نفيته ، اذ لا فارق أصلا.
وكذلك يقال لمن
يثبت الأسماء دون الصفات كالمعتزلة ، أو يثبت بعض الصفات دون بعض كالأشاعرة ، إذا
كنتم تثبتون له سبحانه الأسماء دون الصفات أو بعض الصفات دون بعض مع أن كلا منهما
مما يشاركه فيه المخلوق ، فإن كان مجرد الاشتراك عندكم في الاسم أو في الصفة موجبا
للتشبيه فيجب أن تطردوا الباب على وتيرة واحدة في النفي ، وان كان غير موجب لذلك
فقولوا
فيما نفيتم مما
أثبته الله ورسوله نظير قولكم فيما أثبتموه ، وإذا فلا مناص من أحد أمرين : أما
ترك المراء والجدل والتصريح بمذاهب قدماء الطبيعيين من الفلاسفة في جحد الصانع
والانسلاخ من الإيمان أو الانضواء تحت لواء المجسمة أهل القرآن والقتال معهم ،
فهذا أولى من التلاعب بالعقول وبالنصوص وبما أجمعت عليه سائر الملل والشرائع من
اثبات صفاته وكلامه وعلوه على خلقه ببيان شاف ولفظ صريح.
* * *
فأصنع من
التنزيه ترسا محكما
|
|
وانف الجميع
بصنعة وبيان
|
وكذاك لقب مذهب
الاثبات
|
|
بالتجسيم ثم
احمل على الأقران
|
فمتى سمحت لهم
بوصف واحد
|
|
حملوا عليك
بحملة الفرسان
|
فصرعت صرعة من
غدا متليطا
|
|
وسط العرين ممزق
اللحمان
|
فلذاك أنكرنا
الجميع مخافة
|
|
التجسيم ان صرنا
إلى القرآن
|
ولذا خلعنا ربقة
الأديان من
|
|
أعناقنا في سالف
الأزمان
|
الشرح
: وإذا كان الغلب
لأهل الاثبات لا تساق مذهبهم ومطابقته للنصوص الصريحة فلا بد اذن من اعمال الحيلة
للتغلب عليهم ، وذلك بأن نسمي النفي والتعطيل تنزيها ، وأن نتخذ من هذا التنزيه
ترسا محكما وسياجا قويا ، فنعمد بواسطته إلى نفي جميع الأسماء والصفات بطريقة فنية
تتسم بأحكام الصنعة واجادة البيان حتى يروج كلامنا عند الناس ، وعلينا كذلك أن
نشنع على أهل الاثبات ، وننفر الناس منهم فنلقبهم بأهل التجسيم ثم نحمل عليهم حملة
قوية في دفع مذهبهم والتشغيب عليهم في كل ما أثبتوه دون أن نبدي لهم ملاينة أو
مهادنة ، فإننا متى سمحنا لهم بإثبات وصف واحد حملوا علينا حملة نكراء وألزمونا ،
أما اثبات الكل أو نفي الكل ، فعدونا صرعى في الميدان ، كمن غدا قتيلا وسط العرين
، وهو بيت الأسد ممزق الأوصال. وهذا هو الذي حدا بنا إلى انكار جميع المذاهب مخافة
الوقوع في التجسيم ان صرنا إلى القرآن وأخذنا
بظواهر نصوصه
الصريحة ، وهذا أيضا هو الذي دفعنا ، أي دفع أسلافنا إلى خلع ربقة الأديان من
أعناقهم في غابر القرون والأزمان.
* * *
ولنا ملوك
قاوموا الرسل الألى
|
|
جاءوا بإثبات
الصفات كمان
|
في آل فرعون
وهامان وقا
|
|
رون ونمرود
وجنكيز خان
|
ولنا الأئمة
كالفلاسفة الألى
|
|
لم يعبئوا أصلا
بذي الأديان
|
منهم ارسطو ثم
شيعته إلى
|
|
هذا الأوان وعند
كل أوان
|
ما فيهم من قال
ان الله فو
|
|
ق العرش خارج
هذه الأكوان
|
كلا ولا قالوا
بأن الهنا
|
|
متكلم بالوحي
والقرآن
|
ولأجل هذا رد
فرعون على
|
|
موسى ولم يقدر
على الإيمان
|
إذ قال موسى
ربنا متكلم
|
|
فوق السماء وأنه
متداني
|
الشرح
: يتبجح هذا الملحد
الزنديق بأسلافه في الزندقة والالحاد ويعدهم على سبيل الفخر والاغراء بالتأسي بهم
، فيقول قد كان لنا فيما مضى ملوك عاندوا الرسل وكذبوهم فيما جاءوا به من اثبات
إله فوق العرش متكلم بكلام مسموع ، وذلك كفرعون إمام أهل التعطيل والجحد ، حيث قال
لموسى : (وَما رَبُّ
الْعالَمِينَ) [الشعراء : ٢٣]
والحق أن فرعون كان متجاهلا فقط ، يتظاهر بإنكار الصانع مع علمه التام بوجوده كما
في قوله تعالى حكاية عن موسى عليهالسلام في رده على فرعون : (لَقَدْ عَلِمْتَ ما
أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ) [الإسراء : ١٠٢]
وكان هامان فيما يروى وزيرا لفرعون ، وكان من مشايعيه في إنكاره وجحده ، وهو الذي
أمره فرعون أن يبني له صرحا يبلغ به أسباب السموات فيطلع إلى إله موسى ، وفي ذلك
دليل واضح على أن موسى كان قد أخبره أن ربه في السماء ، وإلا لما عزم على بناء
الصرح.
وأما قارون فكان
من قوم موسى عليهالسلام ، فبغى عليهم واستطال بسبب ما آتاه الله من الكنوز وخزائن
الأموال ، حتى حمله ذلك على الكفر بالله وادعاء
أن ما عنده من
المال إنما كسبه بما يحذقه من علم الكيمياء ونحوه وليس من فضل الله.
وأما نمرود فكان
ملكا جبارا في أرض كنعان ، وهو الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك ، اذ
قال إبراهيم ربي الذي يحيى ويميت ، قال أنا أحيي وأميت فأنكر الصانع وادعى الالهية
كما ادعاها فرعون بعده.
وأما جنكيز خان
فهو قائد المغول الطاغية الذي خرج من بلاده يجتاح البلاد الإسلامية قتلا ونهبا
وتخريبا حتى استولى على بغداد قصبة الخلافة سنة ٦٥٦ ه في عهد المستعصم فأحالها
خرابا.
وأما أرسطو فهو
الفيلسوف اليوناني المشهور واضع علم المنطق وكان تلميذا لأفلاطون ولكنه خالفه في
كثير من المسائل ، وكان من رأيه في الله عزوجل أنه واحد بسيط مجرد عن المادة وعلائقها واجب الوجود ويقول
أنه لا يعلم إلا ذاته فقط ، وعنده أن الله ليس خالقا للعالم ولكنه محرك له فقط ،
ولا يعني بذلك أن الله دفع العالم فتحرك ، ولكن لما كان الله صورة محضة غاية في
الكمال والجمال ، وكانت المادة أو العالم المادي في غاية النقص فهو يتحرك بدافع
الشوق إلى المبدأ الأول محاولا التشبه به قدر الاستطاعة.
وأما شيعة أرسطو
فيعني بهم الذين ذهبوا في القول بتجرد الباري سبحانه من النعوت والأوصاف المادية ،
وذلك كالفارابي وابن سينا وابن رشد الاندلسي وغيرهم من متفلسفة المسلمين ، ولذلك
قال المؤلف : ما فيهم من قال ان الله فوق العرش خارج هذه الأكوان ، لأن ذلك ينافي
التجريد عندهم ، ولا فيهم من قال ان الهنا متكلم بالوحي والقرآن ، لأن الكلام أيضا
بالحرف والصوت من شأن الماديات ومن أجل اعتقادهم في أن الاله لا ينبغي أن يتصف
بخصائص الأجسام أنكر فرعون على موسى قوله أن ربه فوق العالم وأنه يتكلم بكلام يسمع
بالآذان وأنه متدان ، يعني قريب ويجيب من ناداه ، وهو محيط بخلقه علما وقدرة وسمعا
ورؤية ، كما قال
سبحانه لموسى وهارون : (لا تَخافا إِنَّنِي
مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) [طه : ٤٦].
* * *
وكذا ابن سينا
لم يكن منكم ولا
|
|
أتباعه بل
صانعوا بدهان
|
وكذلك الطوسي
لما أن غدا
|
|
ذا قدرة لم يخش
من سلطان
|
قتل الخليفة
والقضاة وحاملي ال
|
|
قرآن والفقهاء
في البلدان
|
اذ هم مشبهة
مجسمة وما
|
|
دانوا بدين
أكابر اليونان
|
ولنا الملاحدة
الفحول ائمة الت
|
|
عطيل والتسكين
آل سنان
|
ولنا تصانيف بها
غالبتم
|
|
مثل الشفا
ورسائل الاخوان
|
وكذا الاشارات
التي هي عندكم
|
|
قد ضمنت لقواطع
البرهان
|
الشرح
: وكذلك ابن سينا
وهو الفيلسوف الإسلامي المشهور مؤلف كتاب الشفاء في الفلسفة ، والقانون في الطب
والإشارات وغيرها في المباحث العقلية لم يكن منكم يا معشر أهل الإثبات ، ولا
أتباعه في فلسفته كذلك ، ولكنهم كانوا يصانعونكم بالمداهنة والحيلة حتى لا ينكشف
أمرهم ، ولا تعرف زندقتهم ، فابن سينا كان يتظاهر أمام العامة بأنه يريد أن يخدم
الدين من طريق التوفيق بينه وبين الفلسفة اليونانية مع أنه في قرارة نفسه لا يحمل
للدين أي قدسية وكل عنايته في كتبه ، أنما كانت بتقرير نظريات أرسطو وأفلاطون
وغيرهما من فلاسفة اليونان.
وكذلك الخواجة
نصير الدين الطوسي المتوفي سنة ٦٧٢ كان من شيعة ابن سينا في الزندقة والتعطيل
وكتبه ومؤلفاته مثل المحاكمات وشرح المحصل وشرح الإشارات شاهدة بزندقته والحاده ،
وكان شديد البغض والكراهية لأهل السنة والجماعة ، وكان يضمر للدولة الإسلامية
العداء والشر حتى يقال أنه هو الذي أغرى قائد التتر بغزو البلاد الإسلامية ، وكان
مساعدا له في ذلك.
وهذا معنى قول
المؤلف (لما أن غدا ذا قدرة لم يخش من سلطان). قتل
الخليفة يعني
الخليفة العباسي المستعصم آخر خلفاء العباسيين ببغداد ، وقتل القضاة وحاملي القرآن
والفقهاء في البلدان ، وما نقم هذا الملحد من هؤلاء الا أنهم في نظره مشبهة مجسمة
، ولا يدينون مثله بدين اليونان في المروق والالحاد ـ وممن ينتسب إلى جماعتنا كذلك
، فحول الملاحدة من آل سنان ، وهي أسرة قوية من أهل فارس كانت تحكم في خراسان ،
وفي كنفها تربى ابن سينا وعلى كتبهم تخرج ، وكانت لهم مكتبات حافلة بشتى المؤلفات
في جميع فروع العلم ، ولا سيما علوم الفرس واليونان ـ ولنا كذلك المصنفات التي
يغالي بها أهل البحث ، ويعتمدون عليها في بحوثهم ودراساتهم مثل الشفاء ، وهو كتاب
لابن سينا يعتبر أهم كتبه كلها لما حواه من أبحاث في المنطق والفلسفة ، ومثل رسائل
الاخوان وهي رسائل ألفتها جماعة تسمت باسم «اخوان الصفا وخلان الوفاء» وتزعم أن
رائدها في تأليف هذه الرسائل هو رفع الخلاف بين المذاهب والأديان والتأليف بينها
في وحدة منسقة حتى يعيش الناس جميعا في ظلال وحدة إنسانية شاملة ، ولذلك جاءت رسائلهم
خليطا متنافرا من شتى العقائد فهم يمزجون الإسلام باليهودية والنصرانية
والزرادشتية والمانوية والافلاطونية الحديثة الخ ...
ومن يقرأ هذه
الرسائل ويقف على مدى ما فيها من خلط وتناقض لا يشك في سوء اعتقاد هذه الجماعة وما
تهدف إليه من كيد للاسلام ، وانخلاع من ربقة الدين وتحلل من قيوده ، ولنا كذلك
الإشارات ، وهو كتاب لابن سينا يعتبر من أهم كتبه الفلسفية ، وقد قام بشرحه
الخواجة نصير الدين الطوسي الذي تقدم ذكره.
* * *
قد صرحت بالضد
مما جاء في الت
|
|
وراة والإنجيل
والفرقان
|
هي عندكم مثل
النصوص وفوقها
|
|
في حجة قطعية
وبيان
|
وإذا تحاكمنا
فإن إليهم
|
|
يقع التحاكم لا
إلى القرآن
|
إذ قد تساعدنا
بأن نصوصه
|
|
لفظية عزلت عن
الإيقان
|
فلذاك حكمنا
عليه وأنتم
|
|
قول المعلم أولا
والثاني
|
الشرح
: يعني أن الإشارات
قد صرحت بضد ما جاء في كتب الله الثلاثة وذلك لأن مؤلفها نهج بها نهجا فلسفيا
تجريديا ، فنفى عن الله القدرة والاختيار والإرادة ، وقال أنه لا يعلم إلا ذاته ،
وأنه يعلم الأشياء على وجه كلي ونفي حكمة الله ، وقال أنه لا يفعل لحكمة يحبها
ويرضاها ، وقال أن الله علة فقط للعالم ، وأن العالم صدر عنه بطريق الإيجاب لا
بطريق الاختيار والمشيئة الى غير ذلك مما ضمنه كتابه من زندقة وضلال.
ومن العجيب أن
هؤلاء الملاحدة أشياع هذا الفيلسوف يقدسون هذه الإشارات ويجعلونها في مرتبة النصوص
القرآنية ، بل فوقها في افادة الحجج القاطعة التي يسمونها البراهين ، وإذا تحاكموا
في مسألة من المسائل الالهية ، فإنما يرجعون إليها ويحكمونها دون كتاب الله عزوجل. لأنهم زعموا وبئس ما زعموا أن نصوص القرآن لفظية ، ودلالة
الألفاظ عندهم ظنية ، فنصوص القرآن عندهم بمعزل عن إفادة اليقين ولهذا نراهم لا
يأخذون عقائدهم من القرآن ، ولا يعتمدون على أدلته في اثبات العقائد لأن المطلوب
في العقائد هو الجزم واليقين ، وأدلة القرآن عندهم خطابية لا تنتج اليقين ، وإنما
قصاراها أنها تفيد الاقناع والتأثير ، فهي لا تفيد إلا غلبة الظن ، وذلك غير كاف
في الاعتقاد ، ومن أجل هذا أتعبوا أنفسهم في تركيب الأدلة العقلية المثبتة للعقائد
الإيمانية ، وما هي في الواقع إلا ترهات وأباطيل إلا ما يرجع منها إلى أدلة القرآن
البينة الواضحة ، وليت شعري ما ذا يقول هؤلاء في السلف الأولين من الصحابة
والتابعين ومن بعدهم من أئمة الهدى والدين الذين ماتوا قبل أن يعرفوا هذه الأدلة
التي يعول عليها هؤلاء ويجعلونها الطريق الوحيد إلى الإيمان واليقين. هل كانوا في
نظر هؤلاء الملاحدة كفارا أو مؤمنين؟ ومن أعجب العجب أن تتفق كلمة المتكلمين جميعا
من معتزلة وأشعرية وغيرهما على هذه القاعدة الجائرة وأن يجاروا فيها ملاحدة
المتفلسفة فيؤخروا كتاب الله عن قضايا عقولهم ويعزلوا
كتاب الله عن أن
يكون هدى وبيانا وشفاء كما وصفه الله حيث يقول : (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ
وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران : ١٣٨]
وحيث يقول : (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ
اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ
السَّلامِ) [المائدة : ١٥]
وحيث يقول : (يا أَيُّهَا النَّاسُ
قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً
وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) [يونس : ٥٧] الخ
ذلك من الآيات.
* * *
يا ويح جهم وابن
درهم والألى
|
|
قالوا بقولهما
من الخوران
|
بقيت من التشبه
فيه بقية
|
|
نقضت قواعده من
الأركان
|
ينفي الصفات
مخافة التجسيم لا
|
|
يلوي على خبر
ولا قرآن
|
ويقول أن الله
يسمع أو يرى
|
|
وكذاك يعلم سر
كل جنان
|
ويقول أن الله
قد شاء الذي
|
|
هو كائن من هذه
الأكوان
|
ويقول أن الفعل
مقدور له
|
|
والكون ينسبه
إلى الحدثان
|
وبنفيه التجسيم
يصرح في الورى
|
|
والله ما هذان
متفقان
|
لكننا قلنا محال
كل ذا
|
|
حذرا من التجسيم
والامكان
|
الشرح
: يتحسر هذا الملحد
على اثنين من أسلافه ، وهما الجهم بن صفوان والجعد بن درهم ومن ذهب مذهبهما حيث
منعهم الجبن والخور من التصريح بالنفي والإنكار ، فبقيت فيهم بقية من تشبيه أتت
على مذهبهم من القواعد ، فهم ينفون الصفات مخافة التجسيم دون أن يكترثوا لما جاء
من النصوص في الكتاب والسنة بإثباتها ، ثم هم مع ذلك يثبتون له السمع والرؤية
والعلم بما تخفيه الصدور وتسره القلوب ، ويثبتون له كذلك المشيئة العامة والقدرة
الشاملة فلا يخرج كائن عندهم عن مشيئته ، ولا يحدث إلا بقدرته ، ويقولون أن الفعل
مقدور له ، وأن العالم بجميع أجزائه حادث بعد عدم ، وأن الله أوجده بمشيئته وقدرته
، فكيف يتفق هذا الاثبات مع تصريحهم بنفي التجسيم والله ما هذان متفقان.
ولكنا نحن لم
نتردد كما تردد جهم ، ولم نجبن عن التصريح بالنفي الشامل فلم نثبت لا سمعا ولا
بصرا ، ولا علما ولا كلاما ، ولا مشيئة ولا قدرة على الفعل ، ولا قلنا بحدوث
العالم عن مشيئته وقدرته ، بل قلنا أن كل ذلك محال حذرا من الوقوع في التجسيم
والإمكان.
* * *
فصل
وأتى فريق ثم
قال ألا اسمعوا
|
|
قد جئتكم من
مطلع الإيمان
|
من أرض طيبة من
مهاجر أحمد
|
|
بالحق والبرهان
والتبيان
|
سافرت في طلب
الإله فدلني ال
|
|
هادي عليه ومحكم
القرآن
|
مع فطرة الرحمن
جل جلاله
|
|
وصريح عقلي فاعقلي
ببيان
|
فتوافق الوحي
الصريح وفطرة ال
|
|
رحمن والمعقول
في إيماني
|
شهدوا بأن الله
جل جلاله
|
|
متفرد بالملك
والسلطان
|
وهو الاله الحق
لا معبود إلا
|
|
وجهه الأعلى
العظيم الشأن
|
بل كل معبود
سواه فباطل
|
|
من عرشه حتى
الحضيض الداني
|
الشرح
: بعد أن ذكر المؤلف
طوائف أهل الضلال الذين سافروا في طلب الحق جل شأنه فعميت عليهم السبل ، وضلت بهم
المسالك لأنهم لم يطلبوه من مصادره ، ولم يسلكوا إليه النهج الواضح ، بل رجعوا في
ذلك إلى خيالات فاسدة وأوهام كاذبة ، أخذ في بيان فريق الحق أهل السنة والجماعة فذكر
أن هذا الفريق حين قدم من سفره وعرض بضاعته قال إني قد جئتكم من مطلع الإيمان أي
مكان طلوعه وظهوره وهي أرض طيبة دار الهجرة بالحق الصريح والبرهان الجلي والتبيان
الواضح ، وكنت قد سافرت إليها في طلب العلم بالله جل شأنه فدلني عليه أربعة أشياء
كلها عليه دوال ولا يؤخذ العلم به إلا من طريقها.
الأول
: نبيه الذي أرسله
بالهدى ودين الحق والمراد سنته الصحيحة.
والثاني
: محكم القرآن وهي
آياته البينات الواضحة الدلالة على معانيها بلا احتمال ولا اشتباه.
والثالث
: فطرة الله التي
فطر الناس عليها من الإقرار بوجوده ووحدانيته واتصافه بجميع الكمالات.
والرابع
: العقل الصريح
الخالي من شوائب الجهل والتقليد والتعصب والجمود.
هذه المصادر
الأربعة من الوحي الصريح بنوعيه والفطرة والمعقول قد توافقوا وتواطئوا على الشهادة
بأن الله جل شأنه متفرد بربوبيته ، فهو الملك الذي لا شريك له في ملكه ، وهو ذو
السلطان القاهر فوق خلقه ، وهو كذلك متوحد في إلهيته ، فهو الاله الحق الذي لا
ينبغي أن يعبد إلا وجهه الأعلى ذو الجلال والإكرام ، وكل معبود سواه فهو باطل في
السماء أو في الأرض ، من العرش الأعلى ، إلى الحضيض الأسفل.
* * *
وعبادة الرحمن
غاية حبه
|
|
مع ذل عابده هما
قطبان
|
وعليهما فلك
العبادة دائر
|
|
ما دار حتى قامت
القطبان
|
ومداره بالأمر
أمر رسوله
|
|
لا بالهوى
والنفس والشيطان
|
فقيام دين الله
بالاخلاص والإ
|
|
حسان انهما له
أصلان
|
لم ينج من غضب
الإله وناره
|
|
إلا الذي قامت
به الأصلان
|
والناس بعد
فمشرك بالهه
|
|
أو ذو ابتداع أو
له الوصفان
|
والله لا يرضى
بكثرة فعلنا
|
|
لكن بأحسنه مع
الايمان
|
فالعارفون
مرادهم إحسانه
|
|
والجاهلون عموا
عن الإحسان
|
الشرح
: بعد أن بين أن
العبادة لا تنبغي إلا لله وأنها خالص حقه على عباده كما جاء في حديث معاذ «حق الله
على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا»
ذكر أن للعبادة
ركنين أساسيين ، هما لها كقطبي الرحا ، فعليهما يدور فلكها ، وبهما ينتظم أمرها ،
وهما كمال المحبة وكمال الذل ، فلا تتم عبودية أحد حتى يكمل فيه هذان الأمران محبة
الله تملأ شعاب قلبه ومسالك وجدانه ويورثها مشاهدة فضله وامتنانه وذل يحمله على
الانكسار والخضوع لهيبته وسلطانه ، ويورثه مطالعة عيوب النفس وجنوحها إلى مخالفته
وعصيانه.
ثم مدار العبادة
بعد هذا على الأوامر الشرعية المتلقاة عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فإن الله عزوجل لا يعبد إلا بما شرع هو ، لا بما يسوق إليه الهوى أو تزينه
النفس والشيطان ، كما يفعله المبتدعة والضلال من أهل التصوف الذين يشرعون لأنفسهم
ولأتباعهم من العامة من الأوراد والأذكار وألوان السلوك في المطعم والملبس وغيرهما
من شئون الحياة ما لم يأذن به الله.
والحاصل أن العبادة
لا تكون صحيحة ولا مقبولة إلا إذا توافر لها شرطان الاخلاص والمتابعة لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فلا منجاة لأحد من غضب الله وناره إلا إذا قامت عبادته
على هذين الأصلين ، اخلاص برئ من سائر ألوان الشرك من الرياء وغيره ، وموافقة
للسنة بلا ابتداع. والناس بعد هذا فاما مشرك لا يخلص العبادة لله ، واما ذو بدعة
لا يتوخى في عبادته اصابة السنة ، وأما جامع للوصفين معا. وليست العبرة بكثرة
العبادة والانهماك فيها ، ولكن بتوخي الإحسان مع ابتنائها على الإيمان الصحيح.
وهذا هو ما يطلبه أهل المعرفة ويجدون فيه ، وأما أهل الجهل والحماقة فهم بمعزل عن
طلب الإحسان.
* * *
وكذاك قد شهدوا
بأن الله ذو
|
|
سمع وذو بصرهما
صفتان
|
وهو العلي يرى
ويسمع خلقه
|
|
من فوق عرش فوق
ست ثمان
|
فيرى دبيب النمل
في غسق الدجى
|
|
ويرى كذاك تقلب
الأجفان
|
وضجيج أصوات
العباد بسمعه
|
|
ولديه لا يتشابه
الصوتان
|
وهو العليم بما
يوسوس عبده
|
|
في نفسه من غير
نطق لسان
|
بل يستوي في
علمه الداني مع ال
|
|
قاصي وذو
الأسرار والاعلان
|
وهو العليم بما
يكون غدا وما
|
|
قد كان والمعلوم
في ذا الآن
|
وبكل شيء لم يكن
لو كان كي
|
|
ف يكون موجودا
لذي الأعيان
|
الشرح
: يعتقد أهل السنة
والجماعة بأن الله سميع يسمع ، هو صفة له قائمة بذاته ، وأنه كذلك بصير ببصر زائد
على ذاته ، فالسمع والبصر صفتان ثابتتان له سبحانه لا كما تزعم الجهمية نفاة
الأسماء ، من كونه ليس سميعا ولا بصيرا ، ولا كما تزعم المعتزلة من كونه سميعا
بذاته لا يسمع ، وبصيرا بذاته لا يبصر ، فإن نفي الأسماء تكذيب بصريح القرآن ، وهو
كفر ، واثبات الموصوف بدون الصفة أو ادعاء أن الصفة عين الموصوف سفسطة.
ويعتقد أهل السنة
كذلك أن سمع الله يتعلق بكل مسموع مهما دق وخفت ، وأن بصره يتعلق بكل مرئي مهما
لطف لا يؤثر فيهما بعد مسافة ، ولا يمنعهما حجب وأستار ، فهو سبحانه مع كونه فوق
عرشه عاليا على خلقه يرى أصغر مخلوقاته وهي النملة ويسمع دبيبها على الصخرة الصماء
في الليلة الظلماء ، ويرى تحرك أجفان خلقه في أغماضها وفتحها ، ويسمع كذلك ضجيج
أصوات عباده ويميز بينها فلا تتشابه الأصوات عنده ولا تغلطه كثرة المسائل ولا
يشغله شأن عن شأن. ويعتقدون أن الله عليم بعلم كما قال تعالى : (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) [النساء : ١٦٦]
وكما قال : (وَلا يُحِيطُونَ
بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ) [البقرة : ٢٥٥]
وأن علمه متعلق بكل ما من شأنه أن يعلم لا يعزب عنه من ذلك شيء ، فهو يعلم ما يحدث
به المرء نفسه ، وما يرد على خاطره من الهواجس وان لم يحرك به لسانه ، ويستوي في
علمه ما قرب وما بعد ، وما أسر وما أعلن كما قال تعالى : (سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ
وَمَنْ جَهَرَ بِهِ ، وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ) [الرعد : ١٠] بل
يستوي في علمه الماضي والحاضر والمستقبل فهو يعلم ما سيكون مستقبلا ، كما يعلم ما
قد كان في الماضي ، وكما يعلم ما هو كائن الآن ، فالاشياء كلها حاضرة لديه ، وهو
يعلم الكيفيات التي ستكون عليها الأشياء
قبل وجودها ،
فيعلم ما لم يوجد من الاشياء لو وجد ، فعلى أي كيفية يكون وجوده في عالم الأعيان.
* * *
وهو القدير فكل
شيء فهو مق
|
|
دور له طوعا بلا
عصيان
|
وعموم قدرته تدل
بأنه
|
|
هو خالق الأفعال
للحيوان
|
هي خلقه حقا
وأفعال لهم
|
|
حقا ولا يتناقض
الأمران
|
لكن أهل الجبر
والتكذيب با
|
|
لاقدار ما
انفتحت لهم عينان
|
نظروا بعيني
أعور اذ فاتهم
|
|
نظر البصير
وغارت العينان
|
فحقيقة القدر
الذي حار الورى
|
|
في شأنه هو قدرة
الرحمن
|
واستحسن بن عقيل
ذا من أحمد
|
|
لما حكاه عن
الرضا الرباني
|
قال الإمام شفا
القلوب بلفظه
|
|
ذات اختصار وهي
ذات بيان
|
الشرح
: ويعتقد أهل السنة
والجماعة أن الله قدير بقدرة ، وأن قدرته عامة تتعلق بجميع الممكنات إيجادا
واعداما ، فلا يخرج شيء منها عن نطاق قدرته ، ومهما أراد شيئا فإنما يقول له كن
فيكون ، دون معاندة أو اباء ، وعموم قدرته سبحانه لكل شيء من الأعيان والصفات
والأفعال يرد على القدرية في قولهم ان الحيوان يخلق أفعال نفسه وأنها ليست مخلوقة
لله.
والحق الذي عليه
أهل السنة أن أفعال الحيوانات تنسب إلى الله عزوجل على أنه خالقها وموجدها كما قال تعالى : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) [الصافات : ٩٦]
وتنسب إليها على أنها أفعال لها صادرة عن قدرها وارادتها الحادثة ، ولا تنافي بين
الأمرين ، فإن معنى كونها مخلوقة لله أن الله خلق جميع الأسباب التي وجدت بها مثل
القدر والارادات والحواس والآلات والمواد الخارجية التي تقع عليها الأفعال.
ومعنى كونها
أفعالا للعباد أنهم هم الذين باشروها بقدرهم واراداتهم مباشرة تجوز اتصافهم بها
على الحقيقة فيقال : صلى وصام وزنى وسرق.
هذا هو مذهب الأمة
الوسط الذي يجمع بين الآيات الدالة على عموم خلقه سبحانه مثل قوله : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الرعد : ١٦] وبين
الآيات الدالة على نسبة الأفعال إلى العباد ، وهي كثيرة مثل قوله تعالى : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) [فصلت : ٤٠] وقوله
: (وَقُلِ اعْمَلُوا
فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) [التوبة : ١٠٥]
الآية. وقوله : (فَمَنْ يَعْمَلْ
مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة : ٧ ، ٨].
ولكن أهل الجبر
الذين ينفون عن العبد القدرة على الفعل ولا يسمونه فاعلا إلا على جهة المجاز ،
والقدرية الذين يزعمون أن العبد مستقل بخلق أفعاله دون أن تتعلق بها قدرة الله
ومشيئته نظروا إلى المسألة بعين أعور حين أخذ كل منهم بجانب من الحق دون جانب
فالمجبرة غلبوا عموم القدرة والمشيئة ، فلم يجعلوا للعبد فعلا ولا جعلوه مسئولا
عما يصدر منه ، إذ لا يسأل عما ليس من فعله.
والقدرية غلبوا
جانب التكليف والأمر والنهي فخصصوا في القدر والمشيئة ، وعزلوا أفعال العباد عن
الدخول تحتهما تحقيقا لمسئولية العبد وتصحيحا للتكليف.
وهكذا نظرت كل من
الطائفتين نظرا قاصرا ، فلم يؤمنوا بالكتاب كله الدال على اثبات عموم قضاء الله
وقدره ومشيئته ، وعلى أن أفعال العباد واقعة منهم بقدرتهم ومشيئتهم ، فلو وفقوا
لذلك كما وفق له أهل السنة والجماعة لهدوا ، ولذلك قال الإمام أحمدرحمهالله : (القدر هو قدرة الله) واستحسن ابن عقل هذه الكلمة من
الإمام أحمد وقال : إنه شفى بهذه الكلمة ووفى.
* * *
فصل
وله الحياة
كمالها فلأجل ذا
|
|
ما للممات عليه
من سلطان
|
وكذلك القيوم من
أوصافه
|
|
ما للمنام لديه
من غشيان
|
وكذاك أوصاف
الكمال جميعها
|
|
ثبتت له ومدارها
الوصفان
|
فمصحح الأوصاف
والأفعال والأ
|
|
سماء حقا ذانك
الوصفان
|
ولأجل ذا جاء
الحديث بأنه
|
|
في آية الكرسي
وذي عمران
|
اسم الاله
الأعظم اشتملا على اس
|
|
م الحي والقيوم
مقترنان
|
فالكل مرجعها
إلى الاسمين يد
|
|
ري ذاك ذو بصر
بهذا الشأن
|
الشرح
: ويعتقد أهل السنة
والجماعة أن الله حي قيوم ، وأن حياته أكمل حياة ، لأنها ذاتية له لم يستفدها من
غيره ، بل هو واهب الحياة ومفيدها ، ولذلك كانت حياته أزلية أبدية لا يمكن أن
يلحقها موت أو فناء. وأن قيوميته كذلك شاملة كاملة ، فهو قائم بنفسه غني عن غيره
وكل شيء قائم به فقير إليه ، ومن أجل تمام قيوميته لا يمكن أن تأخذه سنة ولا نوم ،
وعلى هذين الوصفين ، أعني الحياة والقيومية تدور جميع أوصاف الكمال الثابتة له
سبحانه ، فالحياة تصحح اتصافه بصفات الكمال في الذات من العلم والقدرة والسمع
والبصر وغيرها من الصفات التي لا تكمل الحياة بدونها ، والقيومية تصحح اتصافه
بصفات الكمال في الفعل من الخلق والرزق والاحياء والاماتة الخ ...
ولأجل هذا ورد
هذان الاسمان الكريمان مقترنين في ثلاث مواضع من كتاب الله عزوجل ، وورد في الحديث ما يدل على أنهما اسم الله الاعظم حيث
أجاب النبي عليهالسلام من سأله عنه بأنه في آية الكرسي وأول آل عمران ، لأنهما
اشتملا على هذين الاسمين مقترنين ، ففي آية الكرسي التي هي أعظم آية في كتاب الله
يقول الله عزوجل : (اللهُ لا إِلهَ
إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) [البقرة : ٢٥٥]
وفي أول آل عمران يقول : (الم اللهُ لا إِلهَ
إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) [آل عمران : ٢].
ومن هنا يعلم أن
على هذين الاسمين مدار الاسماء الحسنى كلها وإليهما ترجع معانيها فإن حياته إذا
كانت أكمل حياة وأتمها استلزم اثباتها اثبات كل كمال يضاد نفيه كمال الحياة. وأما
القيوم فإنه متضمن كمال غناه ، وكمال قدرته فانه
القيوم بنفسه الذي
لا يحتاج إلى غيره بوجه من الوجود ، ولا قيام لغيره إلا بإقامته فانتظم هذان
الاسمان الكريمان صفات الكمال أتم انتظام يعرف ذلك أهل البصر بهذه الشئون الإلهية
العالية وأهل العلم بأسماء الله وصفاته.
* * *
وله الإرادة
والكراهة والرضا
|
|
وله المحبة وهو
ذو الاحسان
|
وله الكمال
المطلق العاري عن الت
|
|
شبيه والتمثيل
بالانسان
|
وكمال من أعطى
الكمال لنفسه
|
|
أولى وأقدم وهو
أعظم شان
|
أيكون قد أعطى
الكمال وما له
|
|
ذاك الكمال أذاك
ذو إمكان
|
أيكون انسان
سميعا مبصرا
|
|
متكلما بمشيئة
وبيان
|
وله الحياة
وقدرة وإرادة
|
|
والعلم بالكلي
والأعيان
|
والله قد أعطاه
ذاك ليس ه
|
|
ذا وصفه فاعجب
من البهتان
|
الشرح
: ويعتقد أهل السنة
والجماعة أن الله متصف بالارادة وهي صفة تختص الفعل بأحد وجوهه الممكنة ، فالله عزوجل يخص بإرادته كل مخلوق بما يشاء من الصفات المتباينة
المتقابلة من مثل السواد والبياض ، والطول والعرض ، واللطافة والكثافة والصلابة
والليونة الخ. وضدها الكره وهو مستحيل على الله إذ لا مكره له ، قال تعالى : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ
وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) [القصص : ٦٨] ونفى
الفلاسفة والمعتزلة صفة الإرادة عن الله عزوجل ، أما الفلاسفة فنفوا عنه القصد إلى الفعل وقالوا أن
الفاعل بالقصد مستكمل ، وإن الإرادة تغير وانفعال وميل إلى الملائم وهو نقص يستحيل
على الله ، ولهذا قالوا ان العالم صدر عنه بطريق الإيجاب والتعليل لا بطريق القدرة
والاختيار.
وأما المعتزلة
فبعد أن اتفقوا على نفي الإرادة فاختلفت عباراتهم في ذلك ، فمنهم من ذهب إلى أن
معنى الإرادة أنه لا مكره له فهي ترجع إلى معنى سلبي. ومنهم من قال إنه مريد
بإرادة حادثة لا في محل الخ. وكلا المذهبين مخالف للنصوص الصريحة الدالة على ثبوت
المشيئة والإرادة ونفوذها في جميع
الموجودات ،
ويعتقد أهل السنة كذلك أنه سبحانه متصف بصفة الكراهة التي هي ضد المحبة ، فهو يكره
الكفر والفسوق وأهلهما والدليل على ثبوتها له قوله تعالى : (وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ
فَثَبَّطَهُمْ) [التوبة : ٤٦]
وقوله عليهالسلام «وكره لكم قيل
وقال وكثرة السؤال واضاعة المال» وأنه متصف بصفة الرضى فهو رضي عن المؤمنين وعن
أفعالهم كما قال تعالى: (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ
عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) [الفتح : ١٨]
وضدها وهو السخط صفة له كذلك كما قال تعالى : (لَبِئْسَ ما
قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ) [المائدة : ٨٠]
وأنه متصف بصفة المحبة فهو يحب الصالحين من عباده المتقين المحسنين ويحب الأعمال
الصالحة وينبغي أن يعلم أن ارادته ومشيئته غير كراهته ومحبته ، فالإرادة عامة لكل
ما وجد من محبوب ومكروه والمحبة والكراهة خاصتان. ويعتقد أهل السنة كذلك أن الله
له الرحمة الواسعة والإحسان العظيم الذي عم جميع المخلوقات ، وأن له الكمال المطلق
الذي لا يعتريه نقص بوجه من الوجوه فلا يمكن أن يقاربه أو يماثله في كماله أحد
والدليل على ثبوت صفات الكمال له سبحانه أنه هو واهب الكمال ومعطيه للمخلوق فيكون
هو أولى بذلك الكمال من غيره ويكون أقدم بالاتصاف به من غيره ، ويكون الكمال الثابت
له أعظم من الكمال الموجود في المخلوق اذ لا يعقل أن يكون هو معطي الكمال ، ويكون
فاقدا له فإن فاقد الشيء لا يعطيه ، فإذا كان هو سبحانه الذي خلق الانسان وجعله
سميعا بصيرا متكلما بمشيئته واختياره حيا قادرا مريدا عالما بحقائق الأشياء
وماهياتها الكلية وأعيانها الخارجية الجزئية ، وكانت هذه كلها صفات كمال في
الانسان فلا بد أن تكون ثابتة له سبحانه على نحو أتم وأكمل مما هي في الانسان ،
وأما خلوه عن هذه الصفات والكمالات التي هو واهبها ومفيدها فهذا من أعظم الزور
والبهتان ، والحاصل أن كل كمال في المخلوق وأمكن أن يتصف به الخالق جل وعلا فهو
أحق به وأولى كما أن كل نقص في المخلوق ، فالخالق أولى بتنزهه عنه.
* * *
بخلاف نوم العبد
ثم جماعه
|
|
والأكل منه
وحاجة الأبدان
|
اذ تلك ملزومات
كون العبد مح
|
|
تاجا وتلك لوازم
النقصان
|
وكذا لوازم كونه
جسدا نعم
|
|
ولوازم الأحداث
والإمكان
|
يتقدس الرحمن جل
جلاله
|
|
عنها وعن أعضاء
ذي جسمان
|
الشرح
: يعني أن الثابت
لله عزوجل من الكمالات ما لا يستلزم نقصا بوجه من الوجوه بخلاف ما
يكون من لوازم البشرية وضرورات الجسد وما يكون من مقتضيات الحدوث والامكان مثل نوم
العبد فإنه فتور يعتري جسم الحي فيتطلب الراحة من أجل استعادة نشاطه في القيام
بوظائفه ، ومثل الجماع فإنه ضرورة يريد بها الحي التخلص من بعض الفضلات التي تؤذيه
لو بقيت كالبول والتغوط وهو أيضا يحتاجه من أجل الولد الذي يعتبر كمالا في حقه ،
ومثل الأكل والشراب ، فإن الحي يحتاجهما من أجل بقاء حياته وتجديد ما تهدم من
أجزائه وإذا علم أن هذه الأشياء تستلزم نقصا واحتياجا وتقتضي حدوثا وامكانا فالله عزوجل يتقدس عنها كما يتقدس عن كونه جسما له أعضاء وجوارح كما
يصفه بذلك المشبهة مثل داود الجورابي وأمثاله تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
ولكن ينبغي أن لا يتخذ نفي الأعضاء والجوارح ذريعة إلى نفي الصفات الثابتة لله عزوجل بالأدلة القطعية من الوجه واليد والعين والقدم وغيرها.
* * *
والله ربي لم
يزل متكلما
|
|
وكلامه المسموع
بالآذان
|
صدقا وعدلا
أحكمت كلماته
|
|
طلبا واخبارا
بلا نقصان
|
ورسوله قد عاذ
بالكلمات من
|
|
لدغ ومن عين ومن
شيطان
|
أيعاذ بالمخلوق
حاشاه من ال
|
|
اشراك وهو معلم
الإيمان
|
بل عاذ بالكلمات
وهي صفاته
|
|
سبحانه ليست من
الأكوان
|
وكذلك القرآن
عين كلامه ال
|
|
سموع منه حقيقة
ببيان
|
هو قول ربي كله
لا بعضه
|
|
لفظا ومعنى ما
هما خلقان
|
تنزيل رب
العالمين وقوله
|
|
اللفظ والمعنى
بلا روغان
|
الشرح
: هذا بيان لمذهب
أهل السنة والجماعة في صفة كلام الرب جل شأنه فالله عندهم لم يزل متكلما ، لأن
الكلام صفة كمال ، ومن يتكلم من المخلوقين أكمل ممن لا يتكلم ، والله لم يزل ولا
يزال متصفا بصفات الكمال كلها ومنها الكلام ، والكلام من صفات الأفعال التابعة
لمشيئته وارادته ، فهو يتكلم متى شاء وكيف شاء ، فهو من الافعال الاختيارية
التابعة لمشيئته وحكمته.
وهو سبحانه يتكلم
بحروف وأصوات يسمعها من يكلمه كما كلم موسى عليهالسلام عند مجيئه للميقات وناداه من جانب الطور الايمن وقربه نجيا
، وكما يكلم عباده المؤمنين يوم القيامة ويسلم عليهم ويبشرهم برحمة منه ورضوان ،
وقد تمت كلماته سبحانه وأحكمت ، صدقا في اخباره وعدلا في أحكامه ، لا مبدل لكلماته
وهو السميع العليم.
والدليل على أن
الكلام المسموع المتلو صفة لله غير مخلوق أن الرسول صلوات الله وسلامه عليه وآله
استعاذ بكلمات الله من شر ما خلق ، ومعلوم أنه لا يجوز الاستعاذة بالمخلوق ، بل لا
يستعاذ الا بأسمائه تعالى وصفاته. والقرآن كذلك عين كلامه المسموع منه على الحقيقة
، فقد تكلم الله به بألفاظه ومعانيه بصوت نفسه وسمعه منه جبريل عليهالسلام وبلغه الى رسول الله صلىاللهعليهوسلم كما سمعه. وهو كله قول الله وكلامه غير مخلوق ، لا فرق بين
لفظه ومعناه ، خلافا لمن زعم أن المعنى قديم يرجع إلى صفة قديمة وأن اللفظ حادث
مخلوق. فالقرآن كله تنزيل رب العالمين وقوله.
ولا شك أن المنزل
هو كلام الله وليس هو الفاظا فقط دون معان ، ولا هو معان بلا الفاظ ، بل هو الفاظ
دالة على معانيها ، فهو كلام الله المنزل من عنده بألفاظه ومعانيه ، فتخصيص المعنى
دون اللفظ بالقدم ، وكونه غير مخلوق روغان عن الحق ومكابرة للدليل.
* * *
لكن أصوات
العباد وفعلهم
|
|
كمدادهم والرق
مخلوقان
|
فالصوت للقاري
ولكن الكلا
|
|
م كلام رب العرش
ذي الاحسان
|
هذا إذا ما كان
ثم وساطة
|
|
كقراءة المخلوق
للقرآن
|
فإذا انتفت تلك
الوساطة مثل ما
|
|
قد كلم المولود
من عمران
|
فهنالك المخلوق
نفس السمع لا
|
|
شيء من المسموع
فافهم ذان
|
هذي مقالة أحمد
ومحمد
|
|
وخصومهم من بعد
طائفتان
|
إحداهما زعمت
بأن كلامه
|
|
خلق له ألفاظه
ومعاني
|
والآخرون أبوا
وقالوا شطره
|
|
خلق وشطر قام
بالرحمن
|
الشرح
: بعد أن بين أن
القرآن كلام الله غير مخلوق ، وأن الله تكلم به على الحقيقة بلفظه ومعناه ، ذكر أن
أصوات العباد بالقرآن وكتابتهم له ، والمداد الذي يكتبون به والورق الذي يكتبون
عليه ، كل ذلك مخلوق ، ولكن المقروء والمكتوب هو كلام الله ، فإذا قرأ القارئ
القرآن. فصوته بالقرآن مخلوق ، ولكن القرآن المؤدى بذلك الصوت غير مخلوق ، وكذلك
إذا كتبه الكاتب في المصحف فالكتابة نفسها فعل الكاتب ، وهي مخلوقة ، ولكن المكتوب
كلام الله ، فالمقروء بالألسنة والمكتوب في المصاحف والمحفوظ في الصدر هو كلام
الله عزوجل ، فإن طرق الاداء والتعبير قد تختلف وتتعدد ، ولكن المؤدى
والمعبر عنه بها جميعا شيء واحد وهو كلام الله عزوجل ، فإن الكلام انما ينسب لمن قاله مبتدئا لا إلى من بلغه
مؤديا.
وهذا الذي ذكره في
حكم أصوات القارئين ومداد الكاتبين وأنها مخلوقة ، أنما يتأتى اذا كان ثمة واسطة
في الأداء والتبليغ ، كقراءة المخلوق للقرآن. وأما إذا انتفت تلك الواسطة وكان
الكلام مسموعا من الله عزوجل مباشرة كما في تكليم موسى عليهالسلام ، فالمخلوق هنالك هو نفس السمع الذي هو أدرك المسموع ،
وأما المسموع نفسه فهو كلام الله لا شيء منه بمخلوق ، فإنه نعت الله وصفته.
هكذا فرق الإمام
أحمد والإمام البخاري وغيرهما من أئمة أهل السنة بين
كلام الله الذي هو
غير مخلوق ، وبين ما هو من فعل العباد من القراءة أو الكتابة أو الحفظ أو السماع
الذي هو مخلوق.
وأما خصوصهم
فطائفتان : طائفة الجهمية والمعتزلة ، وهؤلاء ذهبوا الى أن القرآن كله بألفاظه
ومعانيه مخلوق ، وذلك بناء على مذهبهم في نفي الصفات ، وزعموا أن الله متكلم بمعنى
خالق للكلام ، فالله عزوجل عندهم لا يتكلم بكلام هو صفة له قائمة به ، ولكنه يخلق
الكلام ، أما في الهواء أو في اللوح المحفوظ أو في غيرهما ، واحتجوا لمذهبهم
بالآيات التي تدل على حدوث القرآن من مثل قوله تعالى : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ
رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) [الأنبياء : ٢]
ولا شك أننا لا ننازعهم في الحدوث ، ولكنهم يبنون عليه الحكم بأنه مخلوق ، اذ كل
حادث عندهم مخلوق ، فإنهم لم يثبتوا الا قديما واحدا وهو ذات الله عزوجل ، وما وراءها فهو حادث مخلوق ، ولهذا نفوا الصفات فرارا من
القول بتعدد القدماء.
وأما الطائفة
الأخرى فهم الكلابية والأشعرية ، ذهبوا الى أن القرآن ألفاظ ومعان ، فألفاظه
المتلوة المسموعة المكتوبة في المصاحف حادثة مخلوقة ، وأما معانيه المعبر عنها
بتلك الألفاظ فقديمة قائمة بذاته تعالى ، ويسمونها الكلام النفسي وهو عندهم معنى
واحد لا تعدد فيه ولا تبعض.
وهذا هو معنى قول
المؤلف رحمهالله (والآخرون) يعني
الكلابية والاشعرية أبوا القول بما قاله المعتزلة من أن القرآن كله مخلوق ، وقالوا
شطره ، أي نصفه وهو اللفظ خلق ، يعني مخلوق ، وشطره الآخر ، وهو المعاني قام
بالرحمن ، يعني أنه صفة له فالمعاني عندهم ترجع الى الصفة القديمة ، وأما الالفاظ
فحادثة مخلوقة.
* * *
زعموا القرآن
عبارة وحكاية
|
|
قلنا كما زعموه
قرآنان
|
هذا الذي نتلوه
مخلوق كما
|
|
قال الوليد
وبعده الفئتان
|
والآخر المعنى
القديم فقائم
|
|
بالنفس لم يسمع
من الديان
|
والأمر عين
النهي واستفهامه
|
|
هو عين اخبار
وذو وحدان
|
وهو الزبور وعين
توراة وان
|
|
جيل وعين الذكر
والفرقان
|
الكل شيء واحد
في نفسه
|
|
لا يقبل التبعيض
في الأذهان
|
ما ان له كل ولا
بعض ولا
|
|
حرف ولا عربي
ولا عبراني
|
الشرح
: يعني أن الكلابية
أتباع ابن كلّاب (بضم الكاف وتشديد اللام) والأشعرية أتباع أبي الحسن الأشعري
زعموا أن هذا القرآن الموجود بين دفتي المصحف؟ والذي نقرؤه بالألسنة ونحفظه في
الصدور ليس كلام الله ، وانما هو عبارة وحكاية عن كلام الله ودال عليه فقط ،
وتسميته قرآنا أو كلاما مجاز من قبيل تسمية الدال باسم المدلول وعلى زعمهم هذا
يكون هناك قرآنان : هذا الذي نتلوه بألسنتنا ونكتبه في مصاحفنا ونحفظه في صدورنا ،
وهو عندهم مخلوق كما وصفه بذلك أحد أئمة الكفر ، وهو الوليد بن المغيرة حين فكر
وقدر : (فَقُتِلَ كَيْفَ
قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ
أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هذا إِلَّا
قَوْلُ الْبَشَرِ) [المدثر : ١٩ ، ٢٥]
وكما وصفه بذلك أيضا الفئتان من الجهمية والمعتزلة بعد الوليد حيث قالوا أن القرآن
ليس الا هذه الالفاظ الحادثة المخلوقة.
وأما الآخر فهو
المعنى القديم القائم بالنفس ، وهو الكلام عندهم على الحقيقة ولا يكون بحروف
وأصوات مسموعة ، بل هو عندهم معنى واحد في الأزل لا انقسام فيه ولا تبعض ، فالأمر
فيه عين النهي ، والاستفهام عين الخبر ، وكذلك الزبور فيه عين التوراة ، والإنجيل
عين القرآن ، الكل شيء واحد في نفسه هو الأمر بكل مأمور ، والنهي عن كل محظور ،
والخبر عن كل مخبر عنه ، ان عبر عنه بالعربية صار قرآنا ، وان عبر عنه بالعبرانية
كان توراة ، فلا يقبل هذا المعنى الواحد التبعيض والانقسام اصلا ، بل ليس له كل ولا
بعض ، ولا هو مركب من حروف وأصوات ، ولا عربي ولا عبراني.
* * *
ودليلهم في ذاك
بيت قاله
|
|
فيما يقال
الأخطل النصراني
|
يا قوم قد غلط
النصارى قبل في
|
|
معنى الكلام وما
اهتدوا لبيان
|
ولأجل ذا جعلوا
المسيح إلههم
|
|
اذ قيل كلمة
خالق رحمن
|
ولأجل ذا جعلوه
ناسوتا ولا
|
|
هوتا قديما بعد
متحدان
|
ونظير هذا من
يقول كلامه
|
|
معنى قديم غير
ذي حدثان
|
والشطر مخلوق
وتلك حروفه
|
|
ناستوته لكن هما
غيران
|
فانظر الى ذاك
الاتفاق فإنه
|
|
عجب وطالع سنة
الرحمن
|
الشرح
: يعني أنه لا دليل
لهؤلاء الكلابية والأشاعرة على اثبات الكلام النفسي الذي هو معنى قائم بالمتكلم
الا بيتا من الشعر ينسب للأخطل ، وهو شاعر نصراني من بني تغلب كان في زمان بني
أمية يقول فيه :
ان الكلام لفي
الفؤاد وانما جعل
|
|
اللسان على
الفؤاد دليلا
|
على أن هذا البيت
لو صحت نسبته إليه ـ وكثير من اللغويين ينكرها ـ فإنه لم يرد به المعنى الذي
ارادوه من اثبات الكلام النفسي العاري عن الحروف والالفاظ ولكنه يقصد به ان
الانسان إذا أراد أن يتكلم فإنه يزور الكلام في نفسه أو لا قبل أن ينطق به ، ويزنه
بعقله ثم يعبر عنه باللسان.
هذا شأن كل عاقل
يعلم أنه مؤاخذ بما ينطق به ، أما أجراء الكلام على اللسان دون تقدير أو روية ،
فإنما هو من شأن المجنون والهاذي ونحوهما. ويشهد لهذا قول عمر الله عنه يوم
السقيفة : زورت في نفسي كلاما ، فهذا الكلام لم يكن مجرد معان قائمة بنفس عمر ،
ولكنه كان جملا وعبارات أعدها ليلقيها من أجل استخلاف أبي بكر رضي الله عنه بعد
وفاة رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ولو فرضنا أنه أراد هذا المعنى فإنه نصراني ، وقد غلط
النصارى قديما في معنى الكلام حيث زعموا أن عيسى نفس كلمة الله ، فجعلوا الكلام
الذي هو من قبيل الاعراض جوهرا قائما بنفسه ، ومن أجل هذا اتخذوه إلها. وقالوا أن
اللاهوت يعنون الكلمة التي هي شيء من الاله اتحد بالناسوت ، اي بجسد عيسى عليهالسلام.
فعيسى عندهم فيه
جزء إلهي قديم ، وهو الكلمة ، وجزء حادث مخلوق وهو الجسد ، ولكنهما اتحدا وصارا
شيئا واحدا يسمى المسيح.
وقول الكلابية ومن
وافقهم من الأشعرية هو من هذا الجنس حيث زعموا أن القرآن شطره قديم ، وهو المعنى
النفسي وشطره محدث ، وهو هذا الموجود في المصحف ، فهو عندهم عبارة وحكاية عن كلام
الله ، وجعلوه ناسوتا لذلك المعنى القديم ، لأنه حال فيه ومدلول عليه به ، فما
أقوى ما ضاهى هؤلاء بقولهم في القرآن قول النصارى في نبيهم ، وليس هناك من فرق ،
الا أن النصارى اثبتوا اتحاد الجزءين ، وأما هؤلاء فقالوا أنهما غيران ، وهذا
الاتفاق بين هؤلاء وبين النصارى مما يقضي منه العجب ، ويحمل على التأمل في مجارى
سنن الله جل شأنه في خلقه.
وتكايست أخرى
وقالت ان ذا
|
|
قول محال وهو
خمس معان
|
تلك التي ذكرت
ومعنى جامع
|
|
لجميعها كالأس
للبنيان
|
فيكون أنواعا
وعند نظيرهم
|
|
أوصافه وهما
فمتفقان
|
أن الذي جاء
الرسول به لمخ
|
|
لوق ولم يسمع من
الديان
|
والخلف بينهم
فقيل محمد
|
|
أنشأه تعبيرا عن
القرآن
|
والآخرون أبوا
وقالوا انما
|
|
جبريل انشاه عن
المنان
|
الشرح
: لما كان القول بأن
الكلام النفسي القديم معنى واحد في الأزل غير معقول لاستلزامه أن يكون الأمر عين
النهي ، والاستخبار عين الخبر ، وأن تكون معاني كتب الله عزوجل كلها معنى واحد ، وان تكون آية الكرسي مثلا في معاني آية
الدين ، وسورة تبت يدا أبي لهب في معنى قل هو الله أحد إلى غير ذلك من اللوازم
الفاسدة ، تكايست طائفة من الأشاعرة وقالوا ان الكلام في الأزل خمسة أنواع الأمر
والنهي ، والاستفهام والخبر ومعنى خامس يعمها جميعا فهو لها كالاساس للبنيان.
ومنهم من جعلها أوصافا
للكلام لا أنواعا له ، ومهما كان اختلافهم في هذا
المعنى النفسي ،
فإنهم متفقون جميعا على أن هذا الذي جاء به الرسول من الألفاظ المقروءة المتلوة
انما هو من وضع المخلوق ، وليس بكلام مسموع من الله جل شأنه ثم اختلفوا فيمن وضعه
، فقالت طائفة أن محمدا صلىاللهعليهوسلم هو الذي أنشأه وألفه تعبيرا عن القرآن الذي هو المعنى
النفسي القديم فالوحي ينزل عليه بالمعاني ، ثم هو يعبر عنها بألفاظ من عنده ، وأبت
طائفة أخرى هذا القول لأنه يضاهى قول الكفار في القرآن : (إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) [المدثر: ٢٥] وقولهم : (إِنْ هَذا إِلَّا
إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) [الفرقان : ٤]
وذهبوا الى أن جبريل عليهالسلام هو الذي أنشأ الفاظ القرآن بأمر من الله عزوجل ، ثم نزل بها على رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
* * *
وتكايست أخرى
وقالت أنه
|
|
نقل من اللوح
الرفيع الشأن
|
فاللوح مبدؤه
ورب اللوح قد
|
|
أنشأه خلقا فيه
ذا حدثان
|
هذي مقالات لهم
فانظر ترى
|
|
في كتبهم يا من
له عينان
|
لكن أهل الحق
قالوا انما
|
|
جبريل بلغه عن
الرحمن
|
القاه مسموعا له
من ربه
|
|
للصادق المصدوق
بالبرهان
|
الشرح
: وتكايست طائفة
ثالثة وقالت لا يجوز القول بأن محمدا أو جبريل عليهما الصلاة والسلام هو الذي الف
القرآن وأنشأه ، فان ذلك مما يقوي كلام الطاعنين فيه ، والقائلين بأنه مختلق مفتري
، وليس كلام الله بل الواجب أن نقول أن الله عزوجل قد أنشأ القرآن وخلقه كتابة في اللوح المحفوظ ، كم قال
تعالى : (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ
مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) [البروج : ٢١ ، ٢٢]
وكما قال : (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ
الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) [الزخرف : ٤] ثم
أن جبريل عليهالسلام يأخذه من اللوح وينزل به على النبي صلىاللهعليهوسلم ويتلوه عليه ، فاللوح هو مبدأ انزاله ، وليس منزلا من عند
الله جل شأنه ورب اللوح هو الذي أنشأه في اللوح مخلوقا ذا حدثان أي حدوث. وهذه
المقالات الثلاث في القرآن المسمى عندهم باللفظي المخلوق موجودة في كتب هذه
الطائفة المسماة بالأشعرية يراها ويطالعها كل من له عينان.
وأما أهل الحق من
أتباع مذهب السلف فإنهم لا يقولون بشيء من ذلك الكلام المحدث المبتدع ، ولكنهم
يذهبون الى أن القرآن منزل من عند الله حقا وانه كلامه الذي تكلم به ، وسمعه منه
عبده جبريل عليهالسلام ، فبلغه الى الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه كما
سمعه من الرب جل شأنه فالكلام كلام الله وما كان جبريل الا مبلغا ومؤديا لما سمع
بأمانة هو جدير بها حيث وصفه الله بها في قوله : (وَإِنَّهُ
لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ
لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) [الشعراء : ١٩٢ ،
١٩٤].
* * *
فصل
في مجامع طرق أهل الأرض واختلافهم في القرآن
واذا أردت مجامع
الطرق التي
|
|
فيها افتراق
الناس في القرآن
|
فمدارها أصلان
قام عليها
|
|
هذا الخلاف هما
له ركنان
|
هل قوله بمشيئة
أم لا وهل
|
|
في ذاته أم خارج
هذان
|
أصل اختلاف جميع
أهل الأرض في
|
|
القرآن فأطلب
مقتضى البرهان
|
ثم الألى قالوا
بغير مشيئة
|
|
وإرادة منه
فطائفتان
|
احداهما جعلته
معنى قائما
|
|
بالنفس او قالوا
بخمس معان
|
والله أحدث هذه
الألفاظ كي
|
|
تبديه معقولا
الى الاذهان
|
الشرح
: هذا شروع من
المؤلف في بحث اختلاف الطوائف في مسألة الكلام وقد أولاها هنا عناية خاصة ، وأفاض
في معالجتها نظرا لما لها من أهمية كبرى ، فقد كثر تنازع الفرق حولها واختلفت
مذاهب الناس فيها ، وكانت السبب في المحنة التي وقعت على أهل السنة في زمن المأمون
والمعتصم حتى ضرب الامام أحمد رضي الله عنه وطيف به من أجل امتناعه عن القول بخلق
القرآن ، وقد حصر المؤلف الأقوال في هذه المسألة حصرا مفيدا حين رد الخلاف فيها
الى
أصلين هما كالأساس
له ، أما الأصل الأول فهو هل قوله تعالى متعلق بمشيئته وقدرته أم لا.
وأما الأصل الثاني
فهو : هل قوله وصف له قائم بذاته أم خارج عنها ، فهذان الاصلان عليهما يدور كل
خلاف بين أهل الأرض حول هذه المسألة أما الذين قالوا أن الكلام لا تعلق له بمشيئته
تعالى وارادته فطائفتان : الكلابية والاشعرية وهؤلاء ذهبوا الى أن الكلام معنى
قديم قائم بذاته تعالى ، فمنهم من جعله معنى واحدا في الازل كما تقدم ، ومنهم من
قال أنه خمس معان مختلفة. وأما الفاظ القرآن عندهم فحادثة احدثها الله عزوجل للدلالة على هذا المعنى القديم وجعله معقولا للأذهان.
* * *
وكذاك قالوا
أنها ليست هي ال
|
|
قرآن بل دلت على
القرآن
|
ولربما سمي بها
القرآن تس
|
|
مية المجاز وذاك
وضع ثان
|
وكذلك اختلفوا
فقيل حكاية
|
|
عنه وقيل عبارة
لبيان
|
اذ كان ما يحكى
كمحكي وه
|
|
ذان اللفظ
والمعنى فمختلفان
|
ولذا يقال حكى
الحديث بعينه
|
|
اذ كان أوله
نظير الثاني
|
فلذاك قالوا لا
نقول حكاية
|
|
ونقول ذاك عبارة
الفرقان
|
والآخرون يرون هذا
البحث لف
|
|
ظيا وما فيه
كبير معان
|
الشرح
: وكذلك قال
الكلابية والأشعرية أن هذه الالفاظ لا يصح اطلاق القول بأنها القرآن بل هي دالة
عليه فقط ، وربما أطلقوا عليها اسم القرآن مجازا تسمية للدال باسم المدلول ، ومنهم
من قال أن القرآن مشترك لفظي يطلق على كل من المعنى القديم واللفظ الحادث. ثم
اختلفوا فقال الكلابية : ان هذه الالفاظ المقروءة حكاية عن الكلام النفسي ، وقال
الاشعرية : بل هي عبارة عنه فقط وليست حكاية ، اذ الحكاية عن الشيء لا بد أن تكون
عين المحكي ، كما تقول حكيت الحديث بعينه ، تريد أن روايتك له مطابقة للأصل تماما
بلا تغيير لفظ
ولا زيادته ولا
تقديم ولا تأخير ، وما هنا ليس كذلك ، فان اللفظ والمعنى مختلفان ، فلا يصح القول
بأن أحدهما حكاية عن الآخر ، ويرى بعض الاشاعرة أن هذا الخلاف لفظي لا يتعلق به
غرض علمي ، وليس وراءه ثمرة مرجوة ، فان الفريقين من الكلابية والاشعرية متفقون
على أن هذه الألفاظ ليست هي القرآن ، وانما هي دالة عليه فقط ، فسواء جعلت حكاية
عنه أو عبارة لم يختلف هذا المعنى الذي هو محل اتفاق.
* * *
فصل
في مذهب الاقترانية
والفرقة الأخرى
فقالت إنه
|
|
لفظا ومعنى ليس
ينفصلان
|
واللفظ كالمعنى
قديم قائم
|
|
بالنفس ليس
بقابل الحدثان
|
فالسين عند
الباء لا مسبوقة
|
|
لكن هما حرفان
مقترنان
|
والقائلون بذا
يقولوا انما
|
|
ترتيبها بالسمع
بالآذان
|
ولها اقتران
ثابت لذواتها
|
|
فأعجب لذا
التخليط والهذيان
|
الشرح
: وأما الفرقة
الثانية ممن قالوا ان الكلام لا يتعلق بمشيئته تعالى وقدرته ، فهم الاقترانية نسبة
إلى الاقتران الذي هو مذهبهم ، فإنهم زعموا أن الحروف التي تركب منها القرآن قد
اقترن بعضها ببعض في الأزل ، فليس لأحدها تقدم بالزمان على غيره ، إذ لا يوجد قبل
وبعد في الأزل. وذهب هؤلاء إلى أن القرآن ألفاظ ومعان ، ليس ينفصل أحدهما عن الآخر
، إذ لا تعقل ألفاظ بلا معان ، ولا تعقل معان مجردة عن الألفاظ ، وكل من اللفظ
والمعنى قديم قائم بذاته تعالى ليس بقابل للحدوث أصلا ، وما دامت الألفاظ قديمة
فالحروف التي تألفت منها هذه الألفاظ قديمة ، وحينئذ لا يصح القول بوجودها في
الأزل على الترتيب والتعاقب ، بل وجدت مقترنة مجتمعة ، فالسين من بسم الله الرحمن
الرحيم تكون
عند الباء لا
مسبوقة بها ، فإنه لا نسبة بين المقترنين بالتقدم والتأخر ، وإنما يكون الترتيب بن
الحروف وتعاقبها عند السمع با لآذان ، إذا لا تطيق الاسماع إدراك الحروف على سبيل
الاجتماع ، وهذا الترتيب الواقع بين الحروف في الأسماع لا يعني أن الاقتران غير
لازم لها ، بل هو ثابت لهذه الحروف لذواتها ، وما بالذات لا يعقل تخلفه ، ولا شك
أن هذا الكلام تخليط وهذيان يدعو إلى الضحك من هؤلاء المجانين ، فإن اللفظ إذا كان
مؤلفا من حرفين مثلا ، فإنه لا يمكن النطق بالثاني منها قبل النطق بالأول ، ولا
يمكن النطق بهما مجتمعين بحال من الأحوال فلا وجود للحروف أصلا إلا على سبيل
الترتيب والتعاقب بمعنى أنها توجد شيئا بعد شيء ، وعلى هذا النحو تصل إلى الآذان
فتسمعها وتميزها ، وإلا فلو جاز أن توجد مجتمعة فما الذي يميز لفظا عن لفظ إذا
كانت حروفها واحدة ولكنها مختلفة في الترتيب كعذل ولذع وسبق وقبس مثلا.
* * *
لكن زاغونيهم قد
قال ان
|
|
ذواتها ووجودها
غيران
|
فترتبت بوجودها
لا ذاتها
|
|
لا للعقول وزيغة
الأذهان
|
ليس الوجود سوى
حقيقتها لذي ال
|
|
أذهان بل في هذه
الأعيان
|
لكن إذا أخذ
الحقيقة خارجا
|
|
ووجودها ذهنا
فمختلفان
|
والعكس أيضا مثل
ذا فإذا هما
|
|
اتحدا اعتبارا
لم يكن شيئا
|
وبذا يزول جميع
إشكالاتهم
|
|
في ذاته ووجوده
الرحمن
|
الشرح
: قد عرفت ما يلزم
مذهب هؤلاء الاقترانية من الفساد ومخالفة الواقع المحسوس بزعمهم أن الحروف قديمة
وأنها مجتمعة في الأزل على سبيل الاقتران بلا تعاقب ولا ترتيب بينها. ولكن أحدهم
وهو ابن الزاغوني يريد أن يتكايس ويدعي الفلسفة فيفرق بين ذوات هذه الحروف ، يعني
حقائقها الثابتة التي هي بها هي وبين وجودها ، فيقول أنها مترتبة بحسب وجودها لا
بحسب ذواتها وهذه مغالطة مكشوفة ، فإن ذات الشيء وحقيقته لا بد أن تكون موجودة ،
أما
بالوجود العيني
الخارجي ، وإما بالوجود الذهني ، ولا تختلف الحقيقة والذات في هذا الوجود عنها في
ذاك إلا بالاعتبار ، فإن كانت الذات الثابتة للحروف مقتضية للترتيب والتعاقب
بالنسبة لأحد الوجودين ، وهو الوجود الخارجي ، فهي كذلك بالنسبة للوجود الآخر ،
وإن أراد بقوله ان الذات والوجود غيران ، ان الذات من حيث هي مجردة عن الاتصاف
بأحد الوجودين غير الوجود ، هذه الذات غير معقولة ، فإن ما ليس بموجود هو معدوم.
نعم يمكن القول
بأن الوجود الخارجي للحقيقة غير وجودها في الذهن ، فتكون الحقيقة مغايرها لنفسها
بالاعتبار. وكذلك يمكن العكس ، فيقال الوجود للتي بحسب الذهن مغاير للوجود بحسب
الخارج ، ولكن هذا لا يعني أن الذات يمكن أن تنفصل عن الوجود أو أن تقتضي من حيث هي
أمرا ، ولا يكون لازما لها عند الوجود ، أما إذا أخذت الحقيقة مجردة عن الاعتبارات
المترتبة على اختلاف الوجود ، فهي شيء واحد حينئذ لا شيئان. وبهذا التفسير يزول
الأشكال الذي أورده المتكلمون كالرازي وغيره ، وهو : هل وجود الباري غير ذاته
وحقيقته أم لا. والجواب أن الذات إذا أخذت من حيث هي فلا شك أن الوجود وصف لها فهو
غيرها بهذا المعنى ، وأما الذات الموجودة بوجودها ، فلا يقال ان الوجود غيرها ،
ولكن يمكن أن يقال أن هناك فرقا بين وجودها الذهني ووجودها الخارجي بالاعتبار.
* * *
فصل
في مذاهب القائلين بأنه متعلق بالمشيئة والإرادة
والقائلون بأنه
بمشيئة
|
|
إرادة أيضا فهم
صنفان
|
إحداهما جعلته
خارج ذاته
|
|
كمشيئة للخلق
والأكوان
|
قالوا وصار
كلامه بإضافة ال
|
|
تشريف مثل البيت
ذي الأركان
|
وقال عندهم ولا
هو قائل
|
|
والقول لم يسمع
من الديان
|
فالقول مفعول
لديهم قائم
|
|
بالغير كالأعراض
والأكوان
|
هذي مقالة كل
جهمي وهم
|
|
فيها الشيوخ
معلم الصبيان
|
الشرح
: بعد أن فرغ المؤلف
من ذكر مذاهب القائلين بأن القرآن صفة قديمة قائمة بذاته تعالى لا تعلق لها
بمشيئته وقدرته بين أن الأولى منهما وهي الكلابية والأشعرية ادعت ذلك في المعنى
فقط ، والأخرى ادعته في اللفظ والمعنى جميعا ، وهم الاقترانية ، أخذ في بيان مذاهب
القائلين بأن القرآن متعلق بمشيئته تعالى وارادته ، فذكر أنهما طائفتان أيضا :
احداهما وهم الجهمية ومتأخرو المعتزلة قالوا بأن القرآن مخلوق خلقه الله كما خلق
السموات والأرض وسائر المخلوقات ومعنى كونه تعالى متكلما عندهم إنه خالق للكلام
وإنما يضاف إليه القرآن فيقال كلام الله على سبيل التشريف ، كما يقال بيت الله ،
وناقة الله ، وهذه سفسطة ظاهرة ، فإنه ولا شك فيه أنه لا يعقل من المتكلم إلا من
قام به الكلام ، فطن الكلام صفة المتكلم ، ولا يقال لمن أوجد الكلام في غيره أنه
هو المتكلم بذلك الكلام ، بل يكون الكلام صفة للمحل الذي قام به وصار عرضا له.
وأما قولهم ان
اضافة الكلام إلى الله إنما هي اضافة تشريف ، كاضافة البيت والناقة فغلط صريح ، بل
هي اضافة صفة إلى موصوف ، لأن الاضافة نوعان : أحدهما ما يضيفه الله إلى نفسه من
الأعيان المخلوقة ، كالبيت والناقة ونحوهما ، فهذه الإضافة تفيد تشريف المضاف
والتنويه بما امتاز به من الصفات العظيمة ، والثاني ما يضيفه الله إلى نفسه من
المعاني والصفات التي لا تقوم بنفسها ، كعلم الله وقدرته وارادته وكلامه الخ.
فهذه الإضافة
تقتضي قيام هذه المعاني بالمضاف إليه واتصافه بها ، وهذا فرق بديهي ، ويلزم على
مذهب هؤلاء أن الله لم يتصف بالقول أبدا ، فلا هو قال في الماضي ، ولا هو قائل
الآن أو مستقبلا ، وأنه لم يسمع منه قول ، إذ كان القول عندهم مفعوله الذي خلقه في
الغير على أنه عرض له كسائر الأعراض القائمة
بالأجسام ، وهذا
هو مذهب الجهمية في الأصل ، وهم شيوخه وأساتذته ، وعنهم أخذه من اقتدى بهم من
الصبيان ، يعني متأخري المعتزلة.
* * *
لكن أهل
الاعتزال قديمهم
|
|
لم يذهبوا ذا
المذهب الشيطاني
|
وهم الألى
اعتزلوا عن الحسن الر
|
|
ضي البصري ذاك
العالم الرباني
|
وكذاك أتباع على
منهاجهم
|
|
من قبل جهم صاحب
الحدثان
|
لكنما متأخروهم
بعد ذا
|
|
لك وافقوا جهما
على الكفران
|
فهم بذا جهمية
أهل اعتزا
|
|
ل ثوبهم أضحى له
علمان
|
ولقد تقلد كفرهم
خمسون في
|
|
عشر من العلماء
في البلدان
|
واللالكائي
الامام حكاه عن
|
|
هم بل حكاه قبله
الطبراني
|
الشرح
: وأما قدماء
المعتزلة كواصل بن عطاء وعمرو بن عبيد ومن سار على نهجهما قبل حدوث بدعة الجهم
فإنهم لم يذهبوا هذا المذهب الفاسد الذي هو من وحي الشيطان ، وهؤلاء القدامى من
المعتزلة (إنما لقبوا بهذا اللقب عندهم) الذين اعتزلوا مجلس الحسن البصري رضي الله
عنه ، وكان سبب اعتزالهم أن رجلا وقف على مجلس الحسن وسأله عن حكم مرتكب الكبيرة ،
وهل هو مؤمن أو كافر فإن الخوارج كانوا يكفرونه ويحكمون بخلوده في النار ،
والمرجئة كانوا يقولون لا يضر مع الإيمان معصية ، وقبل أن يجيب الحسن قال واصل بن
عطاء : أنا لا أسميه مؤمنا ولا كافرا ، ولكنه في منزلة بين المنزلتين ، واسميه
فاسقا وأقول بخلوده في النار ، ثم اعتزل حلقة الحسن ومعه عمرو بن عبيد ، وأخذ يقرر
مذهبه ، فقال الحسن : اعتزل عنا واصل ، فسموا لذلك بالمعتزلة ، وقد وردت روايات
أخرى في سبب هذه التسمية ولا مجال لذكرها هنا ، والحاصل أن هؤلاء القدامى وأتباعهم
يوافقون أهل السنة والجماعة في أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق ، منه بدأ
وإليه يعود.
وأما المتأخرون
منهم من أمثال أبي الهذيل العلاف والنظام والجاحظ وغيرهم
فوافقوا جهما على
الكفر بكلام الله عزوجل وانكار أن الله متكلم بالقرآن أو كلم موسى عليهالسلام بكلام سمعه ، فجمعوا بذلك بين التجهم والاعتزال وصاروا
كصاحب ثوب له علمان ، ولقد حكم بكفرهم من أجل هذا الذي قالوه خمسمائة من العلماء
في مختلف البلدان. حكى ذلك عنهم اللالكائي في مسنده ، بل حكاه من قبله الإمام
الطبراني وقوله قديمهم ، بدل من أهل الاعتزال. وقوله : الرضي صفة للحسن ، وهي مصدر
بمعنى المرضي.
* * *
فصل
في مذهب الكرامية
والقائلون بأنه
بمشيئة
|
|
في ذاته أيضا
فهم نوعان
|
إحداهما جعلته
مبدوءا به
|
|
نوعا حذار تسلسل
الاعيان
|
فيسد ذاك عليهم
في زعمهم
|
|
اثبات خالق هذه
الأكوان
|
فلذاك قالوا أنه
ذو أول
|
|
ما للفناء عليه
من سلطان
|
وكلامه كفعاله
وكلاهما
|
|
ذو مبدأ بل ليس
ينتهيان
|
الشرح
: وأما الفرقة
الثانية من القائلين بأن الكلام متعلق بمشيئته تعالى وقدرته فانقسموا إلى طائفتين
، الطائفة الأولى الكرامية أتباع محمد بن كرام ، وهؤلاء ذهبوا إلى أن الله تعالى
يتكلم بمشيئته بالقرآن العربي وغيره ، إلا أنهم لا يقولون لم يزل متكلما إذا شاء
لأنه يمتنع عندهم أن يكون الله متكلما في الازل فيجعلون كلامه حادثا في ذاته
مسبوقا بالعدم بمعنى أن الله لم يكن عندهم متكلما ، ثم صار متكلما ، فنوع الكلام
عندهم له ابتداء في ذاته ، وإنما الجأهم إلى ذلك الخوف من القول بحوادث لا أول لها
، فإن هذا يلزمه التسلسل في الموجودات والقول بقدم الانواع فينسد عليهم طريق اثبات
الصانع في زعمهم إذ كان الطريق إلى ذلك هو حدوث الاشياء المستلزم لوجود محدث لها
فلهذا
اضطر الكرامية إلى
أن يجعلوا لما يحدث في ذاته تعالى من الكلام أو الفعل ابتداء ، لكنه مع ذلك إذ حدث
فليس قابلا عندهم للزوال والفناء ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالة الفرقان (ومحمد
بن كرام فكان بعد ابن كلاب في عصر مسلم ابن الحجاج اثبت أنه يوصف بالصفات
الاختيارية ، ويتكلم بمشيئته وقدرته ، ولكن عنده يمتنع أنه كان في الأزل متكلما
بمشيئته وقدرته لامتناع حوادث لا أول لها ، فلم يقل بقول السلف لم يزل متكلما إذا
شاء ، وقال هو وأصحابه في المشهور أن الحوادث التي تقوم به لا يخلو عنها ، ولا
تزول عنه).
* * *
قالوا ولم ينصف
خصوم جعجعوا
|
|
وأتوا بتشنيع
بلا برهان
|
قلنا كما قالوه
في أفعاله
|
|
بل بيننا بون من
الفرقان
|
بل نحن أسعد
منهم بالحق إذ
|
|
قلنا هما بالله
قائمتان
|
وهم فقالوا لم يقم
بالله لا
|
|
فعل ولا قول
فتعطيلان
|
لفعاله ومقاله
شرا وأب
|
|
طل من حلول
حوادث ببيان
|
تعطيله عن فعله
وكلامه
|
|
شر من التشنيع
بالهذيان
|
هذي مقالات ابن
كرام وما
|
|
ردوا عليه قط
بالبرهان
|
أني وما قد قال
أقرب منهم
|
|
للعقل والآثار
والقرآن
|
لكنهم جاءوا له
بجعاجع
|
|
وفراقع وقعاقع
بشمان
|
الشرح
: قالت الكرامية أن
خصومنا من الكلابية والأشعرية قد شنعوا علينا في قولنا بحدوث الكلام في ذاته تعالى
بمشيئته واختياره مع أنه لا حجة لهم في هذا التشنيع على أنهم قد قالوا بمثل قولنا
في أفعاله تعالى فجعلوها حادثة ، ولزمهم في ذلك مثل ما لزمنا من أن الله كان معطلا
عن الفعل في الأزل. ثم صار فاعلا بلا تجدد سبب أوجد القدرة والامكان ، بل نحن أقرب
منهم إلى الحق لأننا جعلنا الكلام والفعل صفتين قائمتين بذاته ، وأما هم فعطلوه عن
قوله وفعله ، فإن القول المسموع عندهم مخلوق كما أن الفعل عين المفعول المخلوق ،
ولا شك أن
تعطيل الباري عن
قوله وفعله شر ، وأدخل في الباطل من القول بحلول الحوادث في ذاته ، والحق أن مقالة
ابن كرام وان كانت منحرفة عن جادة الصواب حيث حكم بخلوه تعالى في الأزل من الكلام
والفعل وهما من صفات كماله إلا أن خطأه أهون من خطأ الأشعرية ، ولهذا لم يستطيعوا
أن يردوا عليه ببرهان جلي ، فإن ما قاله أقرب إلى العقل والنقل مما قالوه.
أما من جهة العقل
فلأنه لا يعقل متكلما ولا فاعلا إلا من قام به الفعل والكلام وأما من جهة النقل
فالنصوص كلها دلت على أن الله متكلم بمشيئته وقدرته ، وأن كلامه ليس إلا حروفا
وأصواتا مسموعة.
قوله جعجعوا :
أحدثوا ضجة شديدة ، وقوله : وأتوا بتشنيع من شنع عليه إذا نسبه إلى الشناعة وهي
القبح. وقوله لفعاله ومقاله متعلق بتعطيلان في البيت قبله وتعطيلان مبتدأ خبره شر
وأنى بمعنى كيف والاستفهام استبعاد والجعاجع الفراقع والقعاقع اسماء أصوات.
* * *
فصل
في ذكر مذهب أهل الحديث
والآخرون أولوا
الحديث كأحمد
|
|
ومحمد وأئمة
الإيمان
|
قالوا بأن الله
حقا لم يزل
|
|
متكلما بمشيئة
وبيان
|
ان الكلام هو
الكمال فكيف يخ
|
|
لو عنه في أزل
بلا إمكان
|
ويصير فيما لم
يزل متكلما
|
|
ما ذا اقتضاه له
من الإمكان
|
وتعاقب الكلمات
أمر ثابت
|
|
للذات مثل تعاقب
الأزمان
|
والله رب العرش
قال حقيقة
|
|
حم مع طه بغير
قران
|
بل أحرف مترتبات
مثل ما
|
|
قد رتبت في مسمع
الانسان
|
وقتان في وقت
محال هكذا
|
|
حرفان أيضا
يوجدا في آن
|
من واحد متكلم
بل يوجدا
|
|
بالرسم أو يتكلم
الرجلان
|
هذا هو المعقول
أما اقترا
|
|
ن فليس معقولا
لذي الأذهان
|
الشرح
: وأما الآخرون من
القائلين بأن الله متكلم بكلام قائم بذاته متعلق بمشيئته وارادته فهم أصحاب الحديث
أهل السنة والجماعة كأحمد بن حنبل الشيباني ومحمد بن إسماعيل البخاري وغيرهما من
أئمة الإيمان رضي الله عنهم ذهبوا إلى أن الله لم يزل متكلما إذا شاء ، لأن الكلام
صفة كمال إذ أن من يتكلم أكمل ممن لا يتكلم ومن يتكلم بمشيئته وقدرته أكمل ممن
يكون الكلام لازما لذاته وإذا فلا يعقل خلوه تعالى عنه في الازل ، لأن الخلو عن
الكمال نقص يستحيل على الله ، ولأن الكلام إذا كان ممتنعا عليه في الأزل ، ثم صار
متكلما فيما لا يزال ، فما الذي اقتضى انقلابه من الامتناع إلى الامكان ، مع أنه
لم يتجدد في ذاته شيء يوجب ذلك الانقلاب فتبين أن الرب سبحانه لم يزل متكلما إذا
شاء بمعنى أن جنس كلامه قديم وتعاقب الكلمات وخروجها إلى الوجود شيئا بعد شيء هو
أمر ثابت لها لذواتها مثل تعاقب الازمنة فكما أن أجزاء الزمان لا توجد مجتمعة ، بل
توجد على سبيل التعاقب آنا بعد آن ، فكذلك الحروف التي هي أجزاء الكلمات لا يمكن
النطق بها مجتمعة بحيث يكون النطق بالحروف الثاني مع الأول في آن واحد ، بل لا بد
من وجودها على سبيل التعاقب والتسلسل حرفا بعد حرف ، فإذا قال الله عزوجل : (حم) أو (طه) فلا يعقل اجتماع الحرفين من كل من هاتين الآيتين بحيث ينطق
بالميم مع الحاء ، أو بالهاء مع الطاء بل تأتي الحروف مترتبات في النطق كما هي
مترتبة في الاسماع. وإذا كان وجود وقتين من الزمان في وقت واحد غير معقول لأن
الزمان كم متصل غير قار الذات لا يجتمع أجزاؤه في الوجود ، فكذلك وجود حرفين من
متكلم واحد في آن واحد مستحيل ، وإنما يعقل ذلك في الرسم أي الكتابة أو إذا كان
المتكلم أكثر من واحد ، أما الاقتران الذي تزعم الاقترانية فشيء غير معقول لذوي
الأذهان بل أن استحالته ضرورية لا تحتاج إلى بيان.
وكذا كلام من
سوى متكلم
|
|
أيضا محال ليس
في إمكان
|
الا لمن قام
الكلام به فذا
|
|
ك كلامه المعقول
في الأذهان
|
أيكون حيا سامعا
أو مبصرا
|
|
من غير ما سمع
وغير عيان
|
والسمع والأبصار
قام بغيره
|
|
هذا المحال
وواضح البهتان
|
وكذا مريد
والإرادة لم تكن
|
|
وصفا له هذا من
الهذيان
|
وكذا قدير ماله
من قدره
|
|
قامت به من أوضح
البطلان
|
والله جل جلاله
متكلم
|
|
بالنقل والمعقول
والبرهان
|
قد أجمعت رسل
الاله عليه لم
|
|
ينكره من
اتباعهم رجلان
|
فكلامه حقا يقوم
به والا
|
|
لم يكن متكلما
بقرآن
|
الشرح
: وكما يستحيل وجود
الحروف مقترنة كما تزعم الاقترانية ، فكذا يستحيل وجود كلام من غير متكلم ، ولا
يعقل متكلم الا من قام به الكلام خلافا للمعتزلة الذين زعموا أن معنى كونه متكلما
أنه خالق للكلام ، وان كلامه مخلوق منفصل عنه فيكون على رأيهم متكلما بلا كلام
قائم به بل بكلام قائم بغيره وهذا سخف وهذيان. فإن اطلاق المشتق على شيء يقتضي
ثبوت مأخذ الاشقاق لذلك الشيء وقيامه به بمعنى أن الاطلاق يقتضي وجود الصفة لا كما
تزعم المعتزلة من ان الله عليم بلا علم ، وسميع بلا سمع ، وبصير بلا بصر ، وقدير
بلا قدرة الخ. ويقتضي أيضا قيام تلك الصفة بموصوفها لا بغيره ، فلا يعقل مثلا حي
بلا حياة أو حياة قائمة بغيره وكذلك سميع وبصير وعليم وقدير ومريد الخ. لا يعقل أن
تكون هذه المشتقات دالة على ذات مجردة عن الصفات كما لا يعقل قيام تلك الصفات بغير
تلك الذات الموصوفة بها ، فكذلك الكلام لا يكون الا وصفا للمتكلم به.
ولا يعقل متكلم
الا من قام به الكلام والله تعالى موصوف بأنه متكلم باجماع أهل الاديان كلهم وبشهادة
العقول الصحيحة والفطرة السليمة والبراهين القاطعة
ولا معنى لكونه
متكلما الا قيام الكلام بذاته فيكون من جملة صفاته والا لم يكن متكلما بالقرآن
العربي ولا بغيره.
* * *
والله قال وقائل
وكذا يقول
|
|
الحق ليس كلامه
بالفاني
|
ويكلم الثقلين
يوم معادهم
|
|
حقا فيسمع قوله
الثقلان
|
وكذا يكلم حزبه
في جنة الحي
|
|
وان بالتسليم
والرضوان
|
وكذا يكلم رسله
يوم اللقا
|
|
حقا فيسألهم عن
التبيان
|
ويراجع التكليم
جل جلاله
|
|
وقت الجدال له
من الانسان
|
ويكلم الكفار في
العرصات تو
|
|
بيخا وتقريعا
بلا غفران
|
ويكلم الكفار
أيضا في الجح
|
|
يم أن اخسئوا
فيها بكل هوان
|
والله قد نادى
الكليم وقبله
|
|
سمع الندا في
الجنة الأبوان
|
وأتى الندا في
تسع آيات له
|
|
وصفا فراجعها من
القرآن
|
الشرح
: كما أن الله عزوجل يوصف بالتكليم والتكلم ، فكذلك يوصف بالقول وهو اللفظ
المسموع ، فهو قد قال في الماضي وقائل الآن وسيقول غدا ، وقوله الحق الثابت الذي
لا يخالطه باطل وكلماته لا نفاد لها ولا فناء قال تعالى : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ
شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما
نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) [لقمان : ٢٧] وهو
سبحانه يكلم الثقلين من الانس والجن بكلام يسمعونه يوم القيامة وكذا يكلم أولياءه
في جنة الخلد فيسلم عليهم ، ثم يقول لهم هل رضيتم فيقولون وما لنا لا نرضى ألم
تدخلنا جنتك وتنجنا من نارك فيقول سبحانه سأعطيهم أفضل من ذلك ، فيقولون يا ربنا
وما أفضل من ذلك فيقول سأحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا ، كما ورد في
الحديث.
وكذا يكلم رسله
ويسألهم عن تبليغ الرسالة كما قال تعالى : (يَوْمَ يَجْمَعُ
اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ
عَلَّامُ الْغُيُوبِ) [المائدة :
١٠٩] وكذا يراجع
سبحانه التكليم مع بعض عباده يوم القيامة عند جوابهم له ويكلم الكفار في عرصات
القيامة كلام تقريع وتوبيخ ، ويكلمهم أيضا وهم في الجحيم فيقول لهم : (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) [المؤمنون : ١٠٨]
وهو سبحانه قد نادى الكليم موسى من جانب الطور الايمن ، ومن قبله نادى آدم وحواء
عند ما وقعا في الخطيئة كما قال تعالى: (وَناداهُما رَبُّهُما
أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ
لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ) [الأعراف : ٢٢].
وقد وصف الله نفسه
بالنداء في تسع مواضع من القرآن :
الأول
: قوله تعالى : (وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما
عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ) [الأعراف : ٢٢].
الثاني
: قوله (وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ
الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا) [مريم : ٥٢].
الثالث
: قوله : (فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى *
إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) [طه : ١١ ـ ١٢].
الرابع
: قوله : (وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [الشعراء : ١٠].
الخامس
: قوله (فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ
مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها) [النمل : ٨].
السادس
: قوله (فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ
الْوادِ الْأَيْمَنِ) [القصص : ٣٠].
السابع
: قوله (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ
نادَيْنا) [القصص : ٤٦].
الثامن
: قوله : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ
شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) [القصص : ٦٢].
التاسع
: قوله : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا
أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) [القصص : ٦٥].
العاشر
: قوله (وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ* قَدْ
صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) [الصافات : ١٠٤].
الحادي
عشر : قوله (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى * إِذْ
ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) [النازعات : ١٥ ،
١٦].
* * *
وكذا يكلم
جبرئيل بأمره
|
|
حتى ينفذه بكل
مكان
|
واذكر حديثا في
صحيح محمد
|
|
ذاك البخاري
العظيم الشأن
|
فيه نداء الله
يوم معادنا
|
|
بالصوت يبلغ قاصيا
والداني
|
هب أن هذا اللفظ
ليس بثابت
|
|
بل ذكره مع حذفه
سيان
|
ورواه عندكم
البخاري المجس
|
|
م بل رواه مجسم
فوقاني
|
أيصح في عقل وفي
نقل ندا
|
|
ء ليس مسموعا
لنا بأذان
|
أم أجمع العلماء
والعقلاء من
|
|
أهل اللسان وأهل
كل لسان
|
أن الندا الصوت
الرفيع وضده
|
|
فهو النجاء
كلاهما صوتان
|
والله موصوف
بذاك حقيقة
|
|
هذا الحديث
ومحكم القرآن
|
الشرح
: يعني أن الله عزوجل إذا أراد أن يأمر أهل سماواته أو أرضه بأمر كلم به جبرائيل
ملك الوحي عليهالسلام فيقوم بتبليغه إليهم ، فإنه هو المختص بالوحي في السماء
وفي الأرض جميعا ، وقد جاء في حديث صحيح رواه الإمام البخاري أن الله عزوجل ينادي عباده يوم القيامة بصوت يسمعه أهل الموقف جميعا
القاصي منهم والداني ، وعلى فرض أن لفظ الصوت ليس بثابت لأنه من رواية أهل التجسيم
في زعمهم ، فإنه لا حاجة إليه اذ العقل والنقل متفقان على أنه لا يكون نداء الا
بصوت مسموع بالآذان ، ومما اجمع عليه العلماء والعقلاء من أهل اللسان العربي وغيره
أن النداء هو الصوت العالي ، وأن ضده وهو النجاء يكون بصوت خافت غير مسموع الا ممن
يناجي ، ولكن كلاهما صوت على كل حال والله موصوف به ، وقد جمع الله بينهما في قوله
اخبارا عن موسى :
(وَنادَيْناهُ مِنْ
جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا) [مريم : ٥٢].
* * *
وأذكر حديثا
لابن مسعود صر
|
|
يحا أنه ذو أحرف
ببيان
|
الحرف منه في
الجزا عشر من ال
|
|
حسنات ما فيهن
من نقصان
|
وانظر الى السور
التي افتتحت بأح
|
|
رفها ترى سرا
عظيم الشأن
|
لم يأت قط بسورة
الا أتى
|
|
في أثرها خبر عن
القرآن
|
اذ كان أخبارا
به عنها وفي
|
|
هذا الشفاء
لطالب الإيمان
|
ويدل أن كلامه
هو نفسها
|
|
لا غيرها والحق
ذو تبيان
|
فأنظر إلى مبدأ
الكتاب وبعدها الا
|
|
عراف ثم كذا الى
لقمان
|
مع تلوها أيضا
ومع حم مع
|
|
يس وافهم مقتضى
القرآن
|
الشرح
: مما يدل على أن
القرآن الذي هو كلام الله هو هذا المؤلف من الحروف والألفاظ الذي نتلوه بألسنتنا ،
ونحفظه في صدورنا ، ونكتبه بالمداد في صحفنا ما رواه ابن مسعود رضي الله عنه عن
النبي صلىاللهعليهوسلم من قوله «من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات لا أقول الم
حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف» وكذلك اذا تأملنا السور التي افتتحت بالفواتح
من مثل : ألم ، والمص ، والر ، والمر ، وحم ، ويس ، ون ، وق ... الخ. نرى سرا
عجيبا وهو أنه لم تفتتح سورة ببعض هذه الفواتح الا ورد على أثرها خبر عن القرآن اذ
كان القرآن مخبرا به عنها مما يدل أعظم دلالة على أن القرآن هو نفس هذه الفواتح
وأنه مركب من الحروف التي اشتملت عليها ، نرى ذلك في أول سورة البقرة أعني قوله
تعالى : (الم* ذلِكَ الْكِتابُ
لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : ١ ، ٢]
ثم في الأعراف : أعني قوله سبحانه : (المص* كِتابٌ
أُنْزِلَ إِلَيْكَ) [الأعراف : ١ ، ٢]
الآية. ونراه كذلك في أول لقمان هكذا (الم* تِلْكَ آياتُ
الْكِتابِ الْحَكِيمِ) [لقمان : ١ ، ٢]
ثم في السورة التي تتلوها ، أعني سورة السجدة : الم تنزيل ، وهو قوله تعالى : (الم* تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ
فِيهِ مِنْ
رَبِّ
الْعالَمِينَ) [السجدة : ١ ، ٢]
ونراه في الحواميم وفي سورة يس ، قال تعالى : (يس* وَالْقُرْآنِ
الْحَكِيمِ) [يس : ١ ، ٢] وقال
(حم* تَنْزِيلُ
الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) [غافر : ١ ، ٢] و (حم* تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ
الرَّحِيمِ) [فصلت : ١ ، ٢]
الخ.
* * *
فصل
في الزامهم القول بنفي الرسالة اذا انتفت صفة الكلام
والله عزوجل موص آمر
|
|
ناه منب مرسل
لبيان
|
ومخاطب ومحاسب
ومنبئ
|
|
ومحدث ومخبر بالشان
|
ومكلم متكلم بل
قائل
|
|
ومحذر ومبشر
بأمان
|
هاد يقول الحق
يرشد خلقه
|
|
بكلامه للحق
والإيمان
|
فإذا انتفت صفة
الكلام فكل
|
|
هذا منتف متحقق
البطلان
|
الشرح
: يريد أن الله عزوجل موصوف بصفات هي من لوازم اتصافه بصفة الكلام ، بحيث لا
يمكن وصفه بها إذا لم يكن متكلما ، فهو سبحانه موص ، وهو اسم فاعل من أوصى ،
والايصاء الأمر المؤكد ، وهو آمر من الأمر الذي هو طلب الفعل ، وهو ناه من النهي
الذي هو طلب الكف ، وهو منب اسم فاعل من أنبأه بمعنى أخبره ، وهو مرسل الرسل عليهم
الصلاة والسلام لبيان شرائعه وارشاد عباده ، وهو مخاطب يخاطب أنبياءه ورسله ،
ويخاطب أتباعهم من المؤمنين ويخاطب الكفار والمشركين ، ويخاطب جبريل أمين وحيه ،
ويخاطب الملائكة المكرمين ، وهو محاسب يحاسب خلقه يوم القيامة ويسألهم عما فعلوه
ويناقشهم فيه وهو منبئ اسم فاعل من أنبأه بالأمر ، بمعنى أخبره ، وهو محدث ومخبر
ومكلم ، ومتكلم ، وقائل ومحذر المخالفين من العقاب ومبشر للطائعين بالثواب ، وهو
هاد يهدي خلقه ويرشدهم بكلامه إلى ما يحبه منهم من الحق والإيمان. فهذه الصفات
كلها تنتفي عن
الله عزوجل ، اذا انتفت صفة الكلام فإنها لوازم لها ، ويلزم من انتفاء
الملزوم انتفاء لازمه.
* * *
وإذا انتفت صفة
الكلام كذلك ال
|
|
ارسال منفي بلا
فرقان
|
فرسالة المبعوث
تبليغ كلا
|
|
م المرسل الداعي
بلا نقصان
|
وحقيقة الارسال
نفس خطابه
|
|
للمرسلين وانه
نوعان
|
نوع بغير وساطة
ككلامه
|
|
موسى وجبريل
القريب الداني
|
منه إليه من
وراء حجابه
|
|
اذ لا تراه
هاهنا العينان
|
والآخر التكليم
منه بالوسا
|
|
طة وهو أيضا
عنده ضربان
|
وحي وإرسال إليه
وذاك في الش
|
|
ورى أتى في أحسن
التبيان
|
الشرح
: وكذلك يترتب على
انتفاء صفة الكلام عن الله عزوجل انتفاء النبوات والرسالات وجحدها ، اذ لا معنى لرسالة
المبعوث الا تبليغ كلام من أرسله من أوامر ونواه ، واخبار بلا زيادة ولا نقصان ،
كما قال تعالى : (يا أَيُّهَا
الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما
بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) [المائدة : ٦٧]
وقال : (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا
الْبَلاغُ) [الشورى : ٤٨] فإذا لم يكن المرسل متكلما لم تتحقق ماهية
الرسالة وتتعطل وظيفة الرسول ، وهي التبليغ لانتفاء المبلغ.
وكذلك حقيقة
الارسال هي نفس خطابه للمرسلين المأمور بتبليغه الى الخلق ، وهذا الخطاب نوعان نوع
يكون بلا واسطة وهو تكليمه للرسول مشافهة من وراء حجاب ككلامه لموسى ومحمد وجبريل
عليهم الصلاة والسلام ، والثاني يكون بواسطة ، وهو أيضا نوعان : نوع يكون بالوحي
والقاء المعنى في القلب ، وهو المعبر عنه بالنفث في الروع ، وآخر يكون بارسال
الملك ، أما على حالته الملكية ، وهذا لم يقع الا لنبينا محمد صلوات الله وسلامه
عليه وآله وقع له مرتين ، وأما على صورة بشر ، وقد جمع الله أنواع الوحي كلها في
الآية الكريمة التي في أواخر
سورة الشورى حيث
قال : (وَما كانَ لِبَشَرٍ
أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ
رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) [الشورى : ٥١].
* * *
فصل
في إلزامهم التشبيه للرب بالجماد الناقص
إذا انتفت صفة الكلام
وإذا انتفت صفة
الكلام فضدها
|
|
خرس وذلك غاية
النقصان
|
فلئن زعمتم أن
ذلك في الذي
|
|
هو قابل من أمة
الحيوان
|
والرب ليس بقابل
صفة الكلا
|
|
م فنفيها ما فيه
من نقصان
|
فيقال سلب كلامه
وقبوله
|
|
صفة الكلام أتم
للنقصان
|
اذ أخرس الانسان
أكمل حالة
|
|
من ذا الجماد
بأوضح البرهان
|
فجحدت أوصاف
الكمال مخافة التش
|
|
بيه والتجسيم
بالانسان
|
ووقعت في تشبيهه
بالناقصات
|
|
الجامدات وذا من
الخذلان
|
الله أكبر هتكت
استاركم
|
|
حتى غدوتم ضحكة
الصبيان
|
الشرح
: ويلزم هؤلاء
النفاة أيضا أن الله اذا لم يكن متصفا بصفة الكلام كان متصفا بضدها وهو الخرس ،
والخرس نقص والنقص محال على الله تعالى ، فإن قالوا في الجواب عن ذلك لا يلزم من
نفي صفة الكلام عن الله ثبوت ضدها وهو الخرس له ، لأن الخرس هو عدم الكلام عما من
شأنه أن يكون متكلما من أمة الحيوان ، فالتقابل بين الكلام والخرس هو تقابل بين
الملكة وعدمها ، فلا يتصف بالخرس الذي هو عدم الكلام الا ما كان قابلا لصفة الكلام
، أما ما ليس قابلا لها ولا من شأنه الاتصاف بها فلا يقال له اخرس. والله عزوجل ليس قابلا لصفة الكلام ، فنفيها عنه لا يترتب عليه اتصافه
بالخرس الذي هو
نقصان فنقول لهم أن جوابكم هذا كان ضغثا على ابالة ، وزاد مذهبكم شناعة ، فإنكم لم
تكتفوا بأن سلبتموه صفة الكلام حتى سلبتم عنه قبوله للصفة ، وأنه ليس أهلا للاتصاف
بها ، وأي نقصان أعظم من هذا وقد سويتموه بالجمادات التي ليس من شأنها الكلام ،
وأيهما أكمل في رأيكم هذا؟ الجماد الذي ليس قابلا للكلام أم الأخرس من الانسان ،
لا شك أن الأخير أكمل ببديهة العقل ، ولكنكم جحدتم أوصاف الكمال ومنها الكلام ،
فرارا من تشبيه الله بالانسان ، فوقعتم في شر مما فررتم منه حيث شبهتموه بالجمادات
الناقصة التي ليس من شأنها أن تسمع وتبصر وتعلم وتقدر وتريد وتتكلم. وهذا من أعظم
الخذلان الذي رماكم الله به حتى كشف عوراتكم وفضح سرائركم ، حتى أصبحت مذاهبكم
مضحكة للصبيان ، لما فيها من التخليط والهذيان والكذب والبهتان.
* * *
فصل
في إلزامهم بالقول بأن كلام الخلق ،
حقه وباطله ، عن كلام الله سبحانه
أو ليس قد قام
الدليل بأن أفع
|
|
ال العباد خليفة
الرحمن
|
من ألف وجه أو
قريب الألف يحصي
|
|
ها الذي يعني
بهذا الشأن
|
فيكون كل كلام
هذا الخلق
|
|
عين كلامه سبحان
ذي السلطان
|
اذ كان منسوبا
إليه كلامه
|
|
خلقا كبيت الله
ذي الأركان
|
هذا ولازم قولكم
قد قاله
|
|
ذو الاتحاد
مصرحا ببيان
|
حذر التناقض اذ
تناقضتم ولك
|
|
ن طرده في غاية
الكفران
|
فلئن زعمتم أن
تخصيص القرا
|
|
ن كبيته وكلاهما
خلقان
|
فيقال ذا
التخصيص لا ينفي العمو
|
|
م كرب ذي
الأكوان
|
ويقال رب العرش
أيضا هكذا
|
|
تخصيصه لإضافة
القرآن
|
لا يمنع التعميم
في الباقي وذا
|
|
في غاية الايضاح
والتبيان
|
الشرح
: وهذا الزام آخر
يوجهه المؤلف الى هؤلاء النفاة الذين نفوا صفة الكلام عن الله عزوجل ، وزعموا أن كلامه هو ما يخلقه في غيره منفصلا عنه ، فيقال
لهم : قد قامت الأدلة المتكاثرة التي تبلغ الف دليل أو قريبا منها ، على أن جميع
أفعال العباد مخلوقة لله ، ولا شك أن كلامهم من جملة هذه الأفعال ، فيكون مخلوقا
لله أيضا ، فإذا صح زعمكم في أن كلام الله هو ما يخلقه في غيره ، وأن نسبته إليه
هي نسبة المخلوق الى خالقه لا نسبة الصفة الى موصوفها ، كنسبة البيت صاحب الأركان
، يعني الكعبة ، إليه لزم ان يكون كل كلام هذا الخلق ، حقه وباطله جده وهزله ، عين
كلامه سبحانه ، فإنه يصدق عليه التعريف الذي عرفتم به كلام الله حيث قلتم هو ما
يخلقه في غيره منفصلا عنه ، وهذا اللازم في غاية الفساد والبطلان وقد صرح به
الاتحادية أصحاب مذهب وحدة الوجود بزعامة الزنديق ابن عربي وفي ذلك يقول شاعرهم :
وكل كلام في
الوجود كلامه
|
|
سواء علينا نثره
ونظامه
|
وذلك خوف الوقوع
في التناقض حيث كان مذهبهم قائما على أنه ليس ثم الا وجود واحد ، وأن هذه
الموجودات التي من جملتها الانسان انما هي صور ومظاهر لهذا الوجود ، فيكون الكلام
الصادر من بعض هذه المظاهر هو كلامه ، اذ ليس ثمة غيره ، وهكذا طرد الاتحادية هذا
اللازم والتزموا فوقعوا في غاية الكفر والتعطيل والحمد لله رب العالمين.
فإن زعم النفاة ان
تخصيص القرآن بالإضافة إليه هو كتخصيص البيت بها مع أن كلا منهما مخلوق فلا يلزم
أن يكون كل ما خلقه الله من الكلام في غيره تجوز اضافته إليه ، على أنه كلامه ،
كما لا يلزم أن يكون كل ما خلقه الله من الابنية يضاف إليه على أنه بيته ، فالجواب
أن هذا التخصيص لا ينفي العموم ، الا ترى أنه يجوز لك أن تقول رب العرش على سبيل
التخصيص ، ثم تقول رب الأكوان التي من جملتها العرش على جهة التعميم ، فكذلك
تخصيصه سبحانه
لإضافة القرآن
إليه لا يمنع التعميم في الباقي ، أي فيما وراءه من الكلام ، وذلك أمر في غاية
الظهور والبيان.
* * *
فصل
في التفريق بين الخلق والأمر
ولقد أتى
الفرقان بين الخلق وال
|
|
أمر الصريح وذاك
في الفرقان
|
وكلاهما عند
المنازع واحد
|
|
والكل خلق ما هنا
شيئان
|
والعطف عندهم
كعطف الفرد من
|
|
نوع عليه وذاك
في القرآن
|
فيقال هذا ذو
امتناع ظاهر
|
|
في آية التفريق
ذو تبيان
|
فالله بعد الخلق
أخبر أنها
|
|
قد سخرت بالأمر
للجريان
|
وأبان عن
تسخيرها سبحانه
|
|
بالأمر بعد
الخلق بالتبيان
|
الشرح
: ومما يرد به أيضا
على هؤلاء القائلين بخلق القرآن أن الله عزوجل فرق في كتابه بين الخلق والأمر ، فقال تعالى : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ،
يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً ، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ
وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ
اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) [الأعراف : ٥٤]
فقد عطف الأمر على الخلق ولا شك أن العطف مؤذن بمغايرة المعطوف للمعطوف عليه ـ فان
قال المنازع أن الخلق والأمر شيء واحد ليس بينهما تغاير وأن عطف الأمر على الخلق
هو من قبيل عطف الخاص على العام أعني من قبيل عطف فرد من أفراد النوع عليه كما في
قوله تعالى : (تَنَزَّلُ
الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها) [القدر : ٤]
ولا شك أن الروح
فرد من أفراد الملائكة ـ قلنا هذا النوع من العطف وأن كان جائزا في غير هذا الموضع
الا انه في هذه الآية ظاهر الامتناع ، فإن الله عزوجل أخبر عن خلقها أولا لأن قوله : والشمس والقمر والنجوم عطف
على
السموات الذي هو
مفعول خلق ، ثم أخبر بعد ذلك أنه سخرها بالأمر في قوله مسخرات بأمره ثم قال عقب
ذلك الا له الخلق والأمر فدل ذلك على أن الخلق غير الأمر وأنها بعد الخلق سخرت
بالأمر ، وهذا أمر من الوضوح بمكان.
* * *
والأمر اما مصدر
أو كان مفع
|
|
ولا هما في ذاك
مستويان
|
مأموره هو قابل
للأمر
|
|
كالمصنوع قابل
صنعة الرحمن
|
فإذا انتفى
الأمر انتفى المأمور
|
|
كالمخلوق ينفى
لانتفا الحدثان
|
وانظر الى نظم
السياق تجد به
|
|
سرا عجيبا واضح
البرهان
|
ذكر الخصوص
وبعده متقدما
|
|
والوصف والتعميم
في ذا الثاني
|
فأتى بنوعي خلقه
وبأمره
|
|
فعلا ووصفا
موجزا ببيان
|
فتدبر القرآن ان
رمت الهدى
|
|
فالعام تحت تدبر
القرآن
|
الشرح
: قد يقول المنازع
في المغايرة بين الخلق والأمر ان الأمر هنا مصدر بمعنى المأمور ، كما يقال الخلق
بمعنى المخلوق ، ولا شك أن المأمور لا يكون الا مخلوقا فلا يلزمه التغاير بين
الخلق والأمر ، فنقول له سواء جعل الأمر هنا مصدرا بمعنى أحد الأوامر ، او كان
مفعولا فهما سواء في مغايرتهما للخلق والمخلوق ، فإن المأمور هو القابل للأمر
كالمصنوع لقابل الصنعة ، وعلى هذا فالمأمور فرع الأمر ، فإذا لم يكن ثمة أمر فلا
مأمور كما أن المخلوق الذي هو فرع الخلق ينتفي لانتفاء الحدثان يعني الخلق ، فتبين
أن الخلق غير الأمر كما أن الفعل غير المفعول ، والأمر ينشأ عنه المأمورات
والشرائع ، وأما الخلق فتنشأ عنه المخلوقات كلها.
وأعلم أن الناظر
في سياق الآية الكريمة يجد سرا عجيبا ، فإن الله عزوجل ذكر خلقه للسماوات والأرض على وجه الخصوص ، ثم ذكر تسخيره
للشمس والقمر والنجوم بأمره على وجه الخصوص أيضا ، وصرح فيهما بالفعل ، ثم أتى بعد
ذلك بالخلق والأمر وصفين على جهة التعميم في قوله : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ
وَالْأَمْرُ) [الأعراف : ٥٤]
فيكون سبحانه قد جمع بين نوعي الخلق الفعلي والوصفي ، وبين نوعي الأمر كذلك في
أبلغ عبارة وأوجز بيان ، فما أجدر طالب الهدى أن يتدبر كتاب الله عزوجل فان العلم كله في تدبر القرآن؟
* * *
فصل
في التفريق بين ما يضاف إلى الرب تعالى
من الاوصاف والأعيان
والله أخبر في
الكتاب بأنه
|
|
منه ومجرور ، (من)
نوعان
|
عين ووصف قائم
بالعين فا
|
|
لاعيان خلق
الخالق الرحمن
|
والوصف بالمجرور
قام لأنه
|
|
أولى به في عرف
كل لسان
|
ونظير ذا أيضا
سواء ما يضا
|
|
ف إليه من صفة
ومن أعيان
|
فإضافة الأوصاف
ثابتة لمن
|
|
قامت به كارادة
الرحمن
|
واضافة الاعيان
ثابتة له
|
|
ملكا وخلقا ما
هما سيان
|
فانظر إلى بيت
الإله وعلمه
|
|
لما أضيفا كيف
يفترقان
|
وكلامه كحياته
وكعلمه
|
|
في ذي الاضافة
اذ هما وصفان
|
لكن ناقته وبيت
إلهنا
|
|
فكعبده أيضا هما
ذاتان
|
فانظر الى
الجهمي لما فاته ال
|
|
حق المبين وواضح
البرهان
|
كان الجميع لديه
بابا واحدا
|
|
والصبح لاح لمن
له عينان
|
الشرح
: يريد المؤلف في
هذا الفصل أن يفرق بين ما كان من الأعيان مخبرا عنه أنه من الله وبين ما كان من
الأوصاف كذلك ، وان يفرق أيضا بين ما كان من الأعيان مضافا الى الله وبين ما كان
من الأوصاف كذلك ، فيقول أن الله قد أخبر في القرآن بأن القرآن منه كما في قوله
تعالى : (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ
الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ) [النحل : ١٠٢].
وقوله : (تَنْزِيلٌ مِنَ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
[فصلت : ٢] وقوله
: (تَنْزِيلُ الْكِتابِ
مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) [غافر : ٢] وهذا
المخبر عنه بأنه من الله على نوعين ، لأنه أما أن يكون عينا من الاعيان أو وصفا
قائما بالعين فإن كان عينا فمعنى كونه من الله انه هو خالقه سبحانه كما في قوله
تعالى : (ما أَصابَكَ مِنْ
حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ) [النساء : ٧٩]
وقوله : (قُلْ كُلٌّ مِنْ
عِنْدِ اللهِ) [النساء : ٧٨]
وقوله : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما
فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) [الجاثية : ١٣]
وقوله تعالى عن عيسى عليهالسلام : (إِنَّمَا الْمَسِيحُ
عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ
مِنْهُ) [النساء : ١٧١]
والآيات كثيرة في هذا الباب.
وان كان وصفا
فمعنى كونه من الله انه صفة له كما في الآيات السابقة التي أخبر الله فيها عن
القرآن بأنه منه ، وهذا معنى قول المؤلف : والوصف بالمجرور قام ، يعني أن ما أخبر
عنه بمن أن كان وصفا فهو قائم بالمجرور بها لأنه أحق به في عرف أهل اللغات جميعا.
ومثل ذلك تماما
يقال فيما يضاف الى الله عزوجل ، فان كان عينا مثل بيت الله وناقة الله وعباد الرحمن ،
فنسبته إليه ثابتة خلقا وملكا ، وتكون اضافته للاختصاص ، والتشريف. وأما ان كان
وصفا كعلم الله وقدرته وارادته وكلامه وحياته ، فهذه الاضافة تقتضي قيامها بالله
وانه موصوف بها ، وتدبر هذا الفرق بين قولك بيت الله وعلم الله ، فان كلا منهما
يضاف الى الله ولكن لما كانت اضافة الأول اضافة ذات دلت على أنه مخلوق ، ولما كانت
اضافة الثاني اضافة معنى دلت على أنه صفة للمضاف إليه ، ولهذا لما اهتدى السلف
لهذا الفرق هدوا الى الصراط المستقيم ، ولما ضل عنه الجهمي الزائغ جعل الجميع بابا
واحدا ، ولم يفرق بين الأوصاف والأعيان ، فوقع في الضلال والبهتان.
* * *
وأتى ابن حزم
بعد ذاك فقال ما
|
|
للناس قرآن ولا
اثنان
|
بل أربع كل يسمى
بالقرآ
|
|
ن وذاك قول بين
البطلان
|
هذا الذي يتلى
وآخر ثابت
|
|
في الرسم يدعى
المصحف العثماني
|
والثالث المحفوظ
بين صدورنا
|
|
هذي الثلاث
خليقة الرحمن
|
والرابع المعنى
القديم كعلمه
|
|
كل يعبر عنه
بالقرآن
|
وأظنه قد رام
شيئا لم يجد
|
|
عنه عبارة ناطق
ببيان
|
أن المعين ذو
مراتب أربع
|
|
عقلت فلا تخفى
على انسان
|
في العين ثم
الذهن ثم اللفظ
|
|
ثم الرسم حين
تخطه ببنان
|
وعلى الجميع
الاسم يطلق لكن
|
|
الأولى به
الموجود في الأعيان
|
بخلاف قول ابن
الخطيب فإنه
|
|
قد قال أن الوضع
للأذهان
|
الشرح
: جاء بعد ذلك ابن
حزم الظاهري الأندلسي المتوفي سنة ٤٥٦ ه. فزعم أنه ليس هناك قرآن واحد ولا قرآنان
، ولكن هناك أربع قرآنات كل منها يصح أن يقال له قرآن ، الا أن منها ثلاثة مخلوقة
، وهي المتلو بالألسنة والمكتوب في المصحف والمحفوظ في الصدر. وأما الرابع وهو
المعنى القائم بذاته تعالى فقديم كعلمه ، والظاهر أن ابن حزم أراد بكلامه هذا أن
القرآن المعين الواحد بالشخص له مراتب أربعة من الوجود.
أولها وجوده في الأعيان ، أي في الوجود الخارجي وهو القرآن
القائم بذاته تعالى.
وثانيها وجوده في الذهن. وثالثها وجوده في اللفظ. ورابعها وجوده في
الرسم. يعني الكتابة ، وهو في كل مرتبة من هذه المراتب يطلق عليه اسم القرآن ، لكن
أولاها بهذا الاسم الموجود في الأعيان ، وخالفه في هذا فخر الدين الرازي فقال : أن
لفظ القرآن انما هو موضوع للموجود في الأذهان ، ولا شك أن هذا الذي قاله ابن حزم
هو قول الكلابية والأشعرية مع فارق بسيط ، وهو ان ابن حزم يسمي هذا المتلو المحفوظ
المكتوب قرآنا ، وأما الكلابية والأشعرية فيقولون أنه عبارة أو حكاية عنه كما سبق
، وان كان متفقا معهم في القول بأنه مخلوق.
* * *
فالشيء شيء واحد
لا أربع
|
|
فدهي ابن حزم
قلة الفرقان
|
والله أخبر أنه
سبحانه
|
|
متكلم بالوحي
والفرقان
|
وكذاك أخبرنا
بأن كتابه
|
|
بصدور أهل العلم
والإيمان
|
وكذاك أخبر أنه
المكتوب في
|
|
صحف مطهرة من
الرحمن
|
وكذاك أخبر أنه
المتلو والمق
|
|
روء عند تلاوة
الانسان
|
والكل شيء واحد
لا أنه
|
|
هو أربع وثلاثة
واثنان
|
الشرح
: يرد المؤلف على سخافة
ابن حزم في قوله بتعدد القرآن تبعا لتعدد المحال التي يوجد فيها وموافقته للكلابية
والمعتزلة في أن القرآن اللفظي المقروء بالألسنة والمكتوب في المصاحف والمحفوظ في
الصدور مخلوق ، يرد عليه بأن القرآن في نفسه شيء واحد ، هو ما تكلم الله عزوجل به بصوت نفسه ، وسمعه منه أمين الوحي جبريل عليهالسلام ، فإذا أداه جبريل بعد ذلك الى محمد صلىاللهعليهوسلم ثم أداه محمد إلى أمته وأمر بكتابته في المصاحف وحفظه في
صدور أهل الحفظ من أصحابه لم يخرج في هذه الأحوال كلها عن كونه كلام الله عزوجل فأن الكلام أنما ينسب إلى من قاله مبتدئا لا إلى من بلغه
مؤديا ، فالقرآن كلام الله على أي نحو كان من أنحاء الوجود ومراتبه ، فمهما تلاه
القارءون أو حفظه الحفظة أو رقمه الكاتبون ، فهو كلام الله على الحقيقة ، منزل غير
مخلوق ، ليس المتلو قرآنا آخر غير ما تكلم الله به ، ولا المحفوظ غير المتلو ، ولا
المرقوم غير المحفوظ ، بل هو هو بعينه في جميع ذلك ، وهذا أمر ظاهر لا تجوز فيه
المكابرة. ولهذا أخبر الله عن القرآن خبرا واحدا في أحواله كلها ، فأخبر أنه كلامه
وتنزيله ، وأنه آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم ، وأنه مكتوب في صحف مطهرة
بأيدي سفرة كرام بررة. وأخبر أنه هو المقروء المتلو عند تلاوة الانسان ، كما في
قوله تعالى : (وَإِذا قُرِئَ
الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ) [الأعراف : ٢٠٤]
وقوله (فَأَجِرْهُ حَتَّى
يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) [التوبة : ٦]
وقوله (فَاقْرَؤُا ما
تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) [المزمل : ٢٠] الخ
الآيات ، والكل شيء واحد لا هو أربعة ولا ثلاثة ولا
أثنان ، وانما أتى
ابن حزم من جهله بالتفرقة بين المتلو والتلاوة ، وبين المكتوب والكتابة ، فقال ما
قال مما يبرأ منه أهل الإيمان.
* * *
وتلاوة القرآن
أفعال لنا
|
|
وكذا الكتابة
فهي خط بنان
|
لكنما المتلو
والمكتوب وال
|
|
محفوظ قول
الواحد الرحمن
|
والعبد يقرؤه
بصوت طيب
|
|
وبضده فهما له
صوتان
|
وكذاك يكتبه بخط
جيد
|
|
وبضده فهما له
خطان
|
أصواتنا ومدادنا
وأدائنا
|
|
والرق ثم كتابة
القرآن
|
ولقد أتى في
نظمه من قال قو
|
|
ل الحق والانصاف
غير جبان
|
أن الذي هو في
المصاحف مثبت
|
|
بأنامل الأشياخ
والشبان
|
هو قول ربي آية
وحروفه
|
|
ومدادنا والرق
مخلوقان
|
فشفى وفرق بين
متلو ومصن
|
|
وع وذاك حقيقة
العرفان
|
الشرح
: يقصد المؤلف بهذه
الأبيات أن يرد على شبهة قد تعلق ببعض الأذهان ، وهي أنه كيف يكون هذا المتلو
بالألسنة ، أو المكتوب في المصاحف كلام الله غير مخلوق ، مع أن القارئ يحدثه بصوته
وينطق به حروفا وألفاظا ، وكذلك الكاتب يرقمه بالمداد في الرق ، فهو يحدثه ببنانه
وقلمه.
والجواب عن هذه
الشبهة هو أنه يجب أن نفرق بين التلاوة والمتلو ، وبين الكتابة والمكتوب ، فكل من
التلاوة والكتابة فعل العبد وهو مخلوق ، وأما المتلو والمكتوب والمحفوظ فهو كلام
الله وقوله جل شأنه ، ولهذا تختلف القراءة تجويدا ولحنا ، وتختلف أصوات القارئين
قباحة وحسنا ، ولكن المقروء لا يختلف وكذلك تختلف الكتابة بين خط جيد وآخر رديء والمكتوب
واحد ، فأصوات القارئين ومداد الكاتبين وأقلامهم والأوراق التي يكتبون عليها
وفعلهم الكتابة ، كل ذلك أفعال للعباد مخلوقة ، وأما المثبت في المصاحف بأنامل
الأشياخ والشبان فهو كلام
الله وقوله بآياته
وحروفه ، فالمعرفة الحقة تقتضي التفرقة بين المتلو الذي هو كلام الله وبين المصنوع
الذي هو من فعل العبد.
* * *
الكل مخلوق وليس
كلامه
|
|
المتلو مخلوقا
هنا شيئان
|
فعليك بالتفصيل
والتمييز فالا
|
|
طلاق والاجمال
دون بيان
|
قد أفسدا هذا
الوجود وخبطا ال
|
|
أذهان والآراء
كل زمان
|
وتلاوة القرآن
في تعريفها
|
|
باللام قد يعني
بها شيئان
|
يعني به المتلو
فهو كلامه
|
|
هو غير مخلوق
كذي الأكوان
|
ويراد أفعال
العباد كصوتهم
|
|
وأدائهم وكلاهما
خلقان
|
الشرح
: يعني أن كل ما ذكر
مما هو من فعل العبد وصنعه ، كصوت القارئ وكتابة الكاتب وما يستخدمه في كتابته من
مداد وورق وأقلام فهو مخلوق ، وأما كلامه هو سبحانه المتلو بتلك التلاوة أو
المكتوب بتلك الكتابة فليس مخلوقا ، فيجب أن تفرق وتميز بين الأمرين ، وأن لا تحكم
حكما إجماليا مطلقا دون تفصيل فإنه ما أفسد هذا الوجود وأوقع الشجار والنزاع بين
لطوائف وأضل العقول والأفكار الا عدم التفصيل والبيان ، والتحديد لمعاني الألفاظ
المجملة التي قد يقع في معانيها احتمال واشتباه. وبعض هذه المعاني يكون صحيحا
مرادا ، وبعضها يكون فاسدا غير مراد ، فتتشبث طوائف المبتدعة بتلك المعاني الفاسدة
، وتفسير الألفاظ بها فتقع في الضلال ، ولهذا كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهالله يعني بتحديد معاني الألفاظ عند مناقشته لفرق الزيغ والضلال
، ويطالبهم بتحديد مرادهم منها. وهذا تلميذ النابغة يوصي بما أوصى به شيخه ، مبينا
أن الفساد كله انما ينشأ عن الإطلاق والاجمال ، ففي المسألة التي معنا لا يجوز
مثلا إطلاق القول بأن القرآن مخلوق أو غير مخلوق ، بل يجب التفصيل ، فإن كان
المراد بالقرآن نفس الفاظ القارئ وصوته وأداءه ، فذلك ولا شك مخلوق ، وأما ان كان
المراد به المتلو المؤدى ، فهذا كلام الله غير مخلوق.
وكذلك لفظ التلاوة
، إذا عرف باللام كان محتملا لمعنيين أن يراد به المتلو فيكون غير مخلوق كهذه
الأكوان المخلوقة ، وقد يراد به أفعال العباد من أدائهم وأصواتهم ، فهذا مخلوق.
* * *
هذا الذي نصت
عليه أئمة ال
|
|
إسلام أهل العلم
والعرفان
|
وهو الذي قصد
البخاري الرضي
|
|
لكن تقاصر قاصر
الأذهان
|
عن فهمه كتقاصر
الافهام عن
|
|
قول الامام
الأعظم الشيباني
|
في اللفظ لما أن
نفى الضدين
|
|
عنه واهتدى
للنفي ذو عرفان
|
فاللفظ يصلح
مصدرا هو فعلنا
|
|
كتلفظ بتلاوة
القرآن
|
وكذاك يصلح نفس
ملفوظ به
|
|
وهو القرآن فذان
محتملان
|
فلذاك أنكر أحمد
الإطلاق في
|
|
نفي وإثبات بلا
فرقان
|
الشرح
: يعني أن هذا الذي
ذكره من التمييز بين التلاوة والمتلو ، وبين الكتابة والمكتوب ، هو الذي نصت عليه
أئمة الهدى أهل العلم الصحيح والمعرفة الحقة ، وهو الذي قصد إليه الامام البخاري
المرضي العقيدة والإيمان ، ولكن بعض قصار النظر ممن قلت درايتهم بهذه الشئون
تقاصروا عن فهم كلامه ، ولم يفطنوا الى ما قصده بهذا التفصيل من رفع الإيهام
وازالة الالتباس ، وخشوا أن يتخذ الجهمية والمعتزلة من كلامه سلما إلى ما يريدون
من اثبات أن القرآن مخلوق ، وقد جرت بين الإمام البخاري وبين أحمد بن يحيى الذهلي
محنة مشهورة سببها سوء فهم الأخير لكلام البخاري وقصده ، كما تقاصرت الأفهام أيضا
عن قول الإمام أحمد لما سئل : هل لفظي بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق؟ فقال : لا أقول
مخلوق ولا غير مخلوق ، فأنكروا عليه نفي الضدين عنه واهتدى أولو المعرفة الى سر
ذلك النفي وحكمته ، وذلك أن كلمة اللفظ من الكلمات المجملة التي لا يجوز الحكم
عليها بنفي أو إثبات قبل التفصيل ومعرفة المراد منها ، فإنها تصلح أن تكون مصدرا
بمعنى التلفظ ، وهي بهذا المعنى فعل العبد مخلوق.
وتصلح أن يراد
منها نفس الملفوظ به وهو القرآن ، فهذان المعنيان محتملان فلذلك أنكر أحمد رضي الله
عنه الاطلاق في الاثبات والنفي قبل التفصيل والبيان الذي يحصل به التمييز بين
المعنيين ومعرفة المراد منهما.
* * *
فصل
في كلام الفلاسفة والقرامطة
في كلام الرب جل جلاله
وأتى ابن سينا
القرمطي مصانعا
|
|
للمسلمين بافك
ذي بهتان
|
فرآه فيضا فاض
من عقل هو ال
|
|
فعال علة هذه
الأكوان
|
حتى تلقاه زكي
فاضل
|
|
حسن التخيل جيد
التبيان
|
فأتى به
للعالمين خطابة
|
|
ومواعظا عريت عن
البرهان
|
ما صرحت أخباره
بالحق بل
|
|
رمزت إليه اشارة
لمعان
|
الشرح
: بعد أن بين المؤلف
آراء طوائف المتكلمين من معتزلة وجهمية وكلابية وأشعرية وكرامية واقترانية في كلام
الله عزوجل ، وعقب عليها ببيان مذهب السلف القويم أراد تتميما للفائدة
، واستيعابا للآراء أن يبين مذهب الفلاسفة في هذه المسألة ، والفلاسفة جمع فيلسوف
وهي كلمة يونانية مركبة من كلمتين ، فيلو : معناها محب ، وسوفي ، ومعناها العلم أو
الحكمة ، فيكون معنى الفيلسوف محب الحكمة ، ومعنى الفلسفة محبة الحكمة.
وقد اشتهر
بالفلسفة قديما في أثينا من بلاد اليونان أفلاطون وأرسطو واشتهر بها في الاسلام
الفارابي وابن سينا ، وقد ترجمت كتب الفلسفة الى العربية في عهد المأمون الخليفة
العباسي ومن بعده ، وقد اختلف في تحديد معنى الفلسفة وأشهر الأقوال أنها البحث عن
العلل والمبادي الأولى للموجودات وإدراك الحقائق الثابتة للأشياء بقدر الطاقة
البشرية. ولم يضع فلاسفة المسلمين فلسفة جديدة ،
ولكنهم كانوا
يؤمنون بالفلسفة اليونانية ايمانا عميقا ، وينزلونها من نفوسهم منزلة الوحي
المعصوم ، ولما كانت هذه الفلسفة تناقض قواعد الشريعة مناقضة صريحة فقد تظاهر
هؤلاء الفلاسفة بأن غرضهم هو التوفيق بين الفلسفة والدين ، لأن كلا منهما حق في
زعمهم والحق لا يتناقض ، ولكنهم في حقيقة أمرهم كانوا زنادقة ملحدين ولهذا تراهم
يجعلون مبادي الفلسفة هي الأصل ويحاولون أن يجروا الدين إليها ويخضعوه لقواعدها ،
وإذا هم أظهروا شيئا من الاحترام للنصوص ، فإنما يفعلون ذلك مصانعة للمسلمين.
ويدلك على مبلغ زندقة هؤلاء الفلاسفة وبعدهم عن الدين ما ذهب إليه مقدمهم وحامل
لوائهم وهو ابن سينا القرمطي في كلام الله عزوجل فهو يرى أنه فيض من العقل الفعال الذي هو العقل العاشر
عندهم ، ويسمونه عقل القمر وينسبون إليه جميع الحوادث في عالم العناصر ، فهو الذي
يفيض الصور على الموجودات ، ويهب الحياة للأحياء ويفيض العلوم والمعارف على العقول
الانسانية.
ويصور ابن سينا هذا
الفيض بأن نفس النبي لشدة صفائها تكون كالمرآة المجلوة فتنعكس المعاني من العقل
الفعال عليها وتنطبع فيها ، ثم أن القوة المتخيلة للنبي تتلقى هذه المعاني المجردة
فتجسمها في حروف وألفاظ ، ولما كان خيال النبي صلىاللهعليهوسلم في غاية القوة فإنه يخيل إليه أنه يرى شخصا خارجا ويسمع
كلاما ، وليس هناك في الحقيقة شخص ولا كلام مسموع من خارج ، وإنما هو صوت ينبعث من
داخل نفسه ، وهكذا ينزل القرآن على النبي معاني مجردة من العقل الفعال وهو لقوة
بيانه وفصاحته يلبس هذه المعاني ألفاظا من تأليفه ، ولهذا جاء به كتاب خطابة ومواعظ
وليس كتاب عقل وبرهان ، فهو أنما ينفع في اقناع العامة والتأثير عليهم ولكنه في
رأي هذا الملحد وأضرابه لا يصلح للخاصة الذين يطلبون البرهان وهو في رأيه أيضا لم
يصرح بالحق الذي يجب اتباعه ولكنه رمز إليه مجرد اشارة لمعان.
يقول ابن سينا في
رسالته العرشية «فوصفه بكونه متكلما لا يرجع الى ترديد العبارات ولا الى أحاديث
النفس ، والفكرة المتخيلة المختلفة التي العبارات دلائل
عليها بل فيضان
العلوم منه على لوح قلب النبي صلىاللهعليهوسلم بواسطة القلم النقاش الذي يعبر عنه بالعقل الفعال والملك
المقرب. أه. كلامه».
فالكلام عبارة عن
العلوم الخاصة للنبي صلىاللهعليهوسلم والعلم لا تعدد فيه ولا كثرة : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ
بِالْبَصَرِ) [القمر : ٥٠] بل
التعدد أما أن يقع في حديث النفس أو الخيال والحس فالنبي صلىاللهعليهوسلم يتلقى علم الغيب من الحق بواسطة الملك وقوة التخيل تتلقى
تلك وتتصورها بصورة الحروف والأشكال المختلفة وتجد لوح النفس فارغا فتنتقش تلك
الصور والعبارات فيه فيسمع منها كلاما منظوما ، ويرى شخصا بشريا فذلك هو الوحي
لأنه القاء الشيء إلى النبي بلا زمان ، فيتصور في نفسه الصافية صورة الملقي
والملقي ، كما يتصور في المرآة المجلوة صورة المقابل فتارة يعبر عن ذلك المنتقش
بالعبارة العبرية وتارة بعبارة العرب فالمصدر واحد والمظهر متعدد ، فذلك هو سماع
كلام الملائكة ورؤيتها وكلما عبر عنه بعبارة واقترنت بنفس الصور فذلك هو آيات
الكتاب ، وكلما عبر عنه بعبارة نقشية فذلك هو أخبار النبوة».
هكذا يحاول ابن
سينا أن يرجع أمر الوحي والنبوة إلى قوة التخيل في نفس النبي زاعما أنه انما يرى
صورا ويسمع أصواتا من داخل نفسه لا من الخارج ، ولا شك أنه في كلامه هذا جار على
قواعد الفلسفة في مناقضة الشريعة وأبطال النصوص الصريحة الدالة على أن الرسول كان
يوحي إليه أما بتكليم الله عزوجل مباشرة ، وأما بواسطة ملك من الملائكة منفصل عنه كما دلت
عليه آية [الشورى : ٥١](وَما كانَ لِبَشَرٍ
أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ
رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ).
* * *
وخطاب هذا الخلق
والجمهور بالح
|
|
ق الصريح فغير
ذي امكان
|
لا يقبلون حقائق
المعقول الا
|
|
في مثال الحس
والأعيان
|
ومشارب العقلاء
لا يردونها
|
|
الا إذا وضعت
لهم بأوان
|
من جنس ما ألفت
طباعهم من ال
|
|
محسوس في ذا
العالم الجثمان
|
فأتوا بتشبيه
وتمثيل وتج
|
|
سيم وتخييل إلى
الأذهان
|
ولذاك يحرم
عندهم تأويله
|
|
لكنه حل لذي
العرقان
|
فإذا تأولناه
كان جناية
|
|
منا وخرق سياج
ذا البستان
|
الشرح
: هذا استطراد من
المؤلف في ذكر بعض من مفتريات هؤلاء المتفلسفة بعد بيان مذهبهم الباطل في كلام
الله عزوجل فهم يزعمون أن الرسل صلوات الله عليهم وسلامه لم يخاطبوا
الجمهور بالحق الواضح الصريح فإن خطابهم بذلك غير ممكن اذ أن مداركهم قاصرة عن فهم
الحقائق العقلية المجردة ، فلا بد من سوقها إليهم في مثل مشاهدة وصور عينية محسوسة
حتى يطيقوا فهمها وهم بمعزل عن أن يردوا منابع الحكمة الصافية التي هي موارد
العقلاء الا إذا وضعت لهم في أوان (جمع اناء) يكون من جنس ما اعتادوه وألفته
طباعهم في عالم المحسوسات ولذلك أتاهم الرسل بما يلائم طباعهم ومداركهم ، من كلام
كله تشبيه وتمثيل ، وتجسيم وتخييل ، فصوروا لهم الحق تبارك وتعالى بصورة من يقدر
ويريد ويقول ويتكلم ، ويسمع ويبصر ، ويجيء وينزل ، ويضحك ويعجب ، وجعلوا له يدا
وقدما ووجها وجبينا.
وكذلك صوروا نعيم
الآخرة وعذابها بصورة محسوسة مألوفة للجمهور ، فجعلوا في الجنة حورا وولدانا ،
وفاكهة ونخلا ورمانا ، وفي النار سعيرا ولهبا ، وعناء ونصبا ، وحيات وعقارب الخ ،
ومن أجل أن الجمهور لا يستطيع فهم هذه الحقائق والمعاني المجردة الا بواسطة هذه
الأشياء المحسوسة المتخيلة يحرم تأويله لهم ، لأنهم لا يطيقون فهم هذه التأويلات
فيقعون في الضلال ، ويبادرون الى الانكار ، وأما الخاصة من أهل الفلسفة والحكمة ،
فان تأويله لهم بما يبعد عنه هذه التشبيهات والتمثيلات ، والصور المادية المحسوسة
حلال ، بل واجب لأنهم يستطيعون ادراك المعاني المجردة المقصودة من وراء هذه
الألفاظ ، وأما إذا تأولناه للعامة فقد جنينا عليهم وعلى الدين جناية كبرى ،
وخرقنا سياج بستان الحقائق الذي يجب أن يظل وقفا على الخاصة وحدهم ، ويمنع العامة
من ولوجه.
هذا ما يزعمه
الفلاسفة. ومن العجيب أن يجاري عالم مسلم لقب بحجة الاسلام واشتغل بالرد على هؤلاء
المتفلسفة ، وهو الغزالي ، هؤلاء الضلال في تلك الضلالة فيبيح التأويل للخاصة
ويمنع منه العامة ، ويؤلف في ذلك كتابا يسميه (الجام العوام عن علم الكلام) ولو
أنصف نفسه لكانت عنده أحق بهذا اللجام من سائر الأنام ولله في خلقه حكمة لا ترام.
* * *
لكن حقيقة قولهم
ان قد اتوا
|
|
بالكذب عند
مصالح الانسان
|
والفيلسوف وذا
الرسول لديهم
|
|
متفاوتان وما
هما عدلان
|
أما الرسول
ففيلسوف عوامهم
|
|
والفيلسوف نبي
ذي البرهان
|
والحق عندهم
ففيما قاله
|
|
اتباع صاحب منطق
اليونان
|
ومضى على هذه
المقالة أمة
|
|
خلف ابن سينا
فاغتذوا بلبان
|
منهم نصير الكفر
في أصحابه
|
|
الناصرين لملة
الشيطان
|
فأسأل بهم ذا
خبرة تلقاهم
|
|
أعداء كل موحد
رباني
|
وأسأل بهم ذا
خبرة تلقاهم
|
|
اعداء رسل الله
والقرآن
|
الشرح
: يعني أن حقيقة قول
هؤلاء المتفلسفة أن الرسل لم يخاطبوا العامة بالحق الصريح. وأنهم انما جاءوا به في
اثواب مزورة مموهة هو نسبة هؤلاء الرسل عليهم الصلاة والسلام إلى الكذب ، ولكنهم
يقولون انهم كذبوا للمصلحة ، لأن غرضهم هو تنظيم أحوال العامة واصلاح معاشهم ، ولا
شك أن هذا منهم كفر بالرسل وبالشرائع وقدح في العصمة الواجبة للأنبياء.
ومن كفرهم أيضا
أنهم يجعلون الفيلسوف فوق منزلة الرسول ، ويقولون أن الرسل انما بعثوا للعامة ،
فهم فلاسفة العوام ، ولكن الفيلسوف هو نبي أصحاب العقول من الخاصة الذين يطلبون
الحقائق بالبراهين. والحق عندهم فيما قاله أرسطو صاحب المنطق وأتباعه من المشائين
، لا فيما قاله رسل رب العالمين.
هذا ما قاله ابن
سينا ، ذلك الفيلسوف الملحد ، ومضت عليه أمة من بعده
اغتذت بلبانه ،
منهم ذلك المارق المسمى بالخواجه نصير الدين الطوسي ، وما كان الا ناصر للكفر
والالحاد ، وكذلك أصحابه من أنصار ملة الشيطان ، فاسأل بهؤلاء خبيرا ينبيك عن
عدواتهم لأهل التوحيد ولرسل الله والقرآن.
* * *
صوفيهم عبد
الوجود المطلق
|
|
المعدوم عند
العقل في الأعيان
|
أو ملحد
بالاتحاد يدين لا التوحي
|
|
د منسلخ من
الأديان
|
معبوده موطوءه
فيه يرى
|
|
وصف الجمال
ومظهر الاحسان
|
الله أكبر كم
على ذا المذهب ال
|
|
ملعون بين الناس
من شيخان
|
يبقون منهم دعوة
ويقبلوا
|
|
ن أياديا منهم
رجا الغفران
|
ولو أنهم عرفوا
حقيقة أمرهم
|
|
رجموهم لا شك
بالصوان
|
فابذر لهم أن
كنت تبغي كشفهم
|
|
وافرش لهم كفا
من الاتبان
|
وأظهر بمظهر
قابل منهم ولا
|
|
تظهر بمظهر صاحب
النكران
|
وانظر الى أنهار
كفر فجرت
|
|
وتهم لو لا
السيف بالجريان
|
الشرح
: يعني أن صوفيّ
هؤلاء المارقين ، وهو محيي الدين بن عربي وأشياعه من أصحاب وحدة الوجود يعبد وجودا
مطلقا كليا ، ولا وجود له في الأعيان ، وانما هو معنى معقول في الأذهان ، وهو كذلك
ملحد منسلخ عن الأديان ، لأنه يدين بالاتحاد الذي هو اعتقاد أن الله والعالم شيء
واحد ، وأن الخلق عين الخالق ، ولا يدين بالتوحيد الذي بعث الله به أنبياءه ورسله
، وهو يزعم أن الله في كل شيء ، فيتخذ من جميع مظاهر الوجود معبودات له ، وأعظم
مظهر عنده مظهر الرب فيه هو المرأة ، ولذلك كانت أحق بالعبادة من سائر مظاهر الوجود
وحيث يرى فيها وصف الجمال ومظهر الاحسان.
هذه حقيقة هذا
المذهب الملعون الذي يدين به هذا الزنديق وأتباعه ، وأن تعجب فعجب أن ترى شيوخا
على هذا المذهب الخبيث ، والناس يقبلون عليهم ويتبركون بهم ويقبلون منهم الأيدي
طمعا في مغفرة الله ، ولو عرفوا حقيقتهم
وانكشف لهم أمرهم
لرجموهم بالحجارة الصلبة التي تدمي وجوههم وتمزق جلودهم جزاء كفرهم وشرهم ، فإذا
أردت أن تعرفهم وتكشف حقيقتهم فلا تبادههم بالانكار ، ولكن تلطف معهم وأظهر لهم
الطاعة والخضوع ، فترى عند ذلك أنهار من الكفر العظيم يفجرونها ، ولو لا خوفهم من
السيوف لنشروها وأذاعوها بين الناس.
* * *
فصل
في مقالات طوائف الاتحادية في كلام الرب جل جلاله
وأتت طوائف
الاتحاد بملة
|
|
طمت على ما قال
كل لسان
|
قالوا كلام الله
كل كلام هذا ال
|
|
خلق من جن ومن
انسان
|
نظما ونثرا زوره
وصحيحه
|
|
صدقا وكذبا واضح
البطلان
|
فالسب والشتم
القبيح وقذفهم
|
|
للمحصنات وكل
نوع اغان
|
والنوح والتعزيم
والسحر المب
|
|
ين وسائر
البهتان والهذيان
|
هو عين قول الله
جل جلاله
|
|
وكلامه حقا بلا
نكران
|
هذا الذي أدى
إليه أصلهم
|
|
وعليه قام مكسح
البنيان
|
الشرح
: سبق الكلام على
مذاهب الاتحادية الذين زعموا أن الوجود واحد وأنه ليس ثم وجودان متغايران ، وجود
واجب ووجود ممكن ، وذكرنا أنهم اختلفوا في هذه الموجودات المتكاثرة ، هل هي أجزاء
لذلك الوجود الواحد فتكون نسبتها إليه كنسبة أعضاء الجسم الى الجسم ، أو كنسبة قوي
النفس المختلفة إليها ، أو هي أنواع لذلك الوجود وهو كالجنس لها ، أو أن تلك
الكثرة وهم وخداع من الحس لا حقيقة لها؟ ومهما كان اختلافهم فإن الأصل الذي اتفقوا
عليه أن العوالم كلها هي مظاهر وتجليات للرب جل شأنه ، وأن وجودها عين وجوده ،
فلزمهم على هذا الأصل الأعرج الفاسد أن يكون كل كلام في الوجود هو كلامه سبحانه
كما قال شاعرهم.
وكل كلام في
الوجود كلامه
|
|
سواء علينا نثره
ونظامه
|
وحسبك من مذهب
قبحا وشناعة أن يجعل الله عزوجل هو المتكلم بكلام سائر الخلق من جن وأنس وغيرهما ، مع
اشتمال هذا الكلام على أنواع من القبائح والمنكرات لا يعقل صدورها عن الحق جل شأنه
، كالزور والكذب ، والشتم والسب ، وقذف المحصنات ، وأنواع الأغاني بما فيها من فحش
وخلاعة ، والنياحة ورقي السحر وتعازيمه ، وما إلى ذلك من البهتان والهذيان ، فيقول
عاقل أن هذا الكلام الباطل صادر عن الله؟ وهو الذي لا يأمر بالفحشاء ، وهو الذي
تمت كلماته صدقا وعدلا لا مبدلا لكلامه ، وهو الذي قوله الحق وله الملك ، ولكن
هؤلاء الزنادقة من الاتحادية يلزمهم أن يقولوا ذلك بناء على أصلهم الخبيث الذي
أقاموا عليه بناءهم المكسح المنهار.
* * *
اذ أصلهم أن
الاله حقيقة
|
|
عين الوجود وعين
ذي الأكوان
|
فكلامها وصفاتها
هو قوله
|
|
وصفاته ما هاهنا
قولان
|
وكذاك قالوا أنه
الموصوف بالض
|
|
دين من قبح ومن
إحسان
|
وكذلك قد وصفوه
أيضا بالكما
|
|
ل وضده من سائر
النقصان
|
هذي مقالات
الطوائف كلها
|
|
حملت أليك رخيصة
الأثمان
|
وأظن لو فتشت
كتب الناس ما
|
|
ألفيتها أبدا
بذا التبيان
|
زفت أليك فإن
يكن لك ناظر
|
|
أبصرت ذات الحسن
والاحسان
|
الشرح
: يعني أن الأصل
والمبدأ الذي اتفق عليه هؤلاء الاتحادية والذي بنوا عليه كل شناعاتهم أن الاله في
الحقيقة هو عين هذا الوجود الظاهر ، وهو عين هذه الأكوان المخلوقة ، وحينئذ فيكون
كلام هذه المخلوقات وصفاتها هي عين كلامه وصفاته ، اذ كانت هي عينه ، ويكون كذلك
هو نفسه الموصوف بالضدين حين يقال هذا حسن وهذا قبيح ، اذ ليس ثمة غيره ، ويكون
أيضا هو الموصوف بالكمال وضده وهو النقص ، لأنه عين الموصوف بكل منهما ، فهو
عندهم مجمع الأضداد
والمتقابلات ، فهو الرب والعبد والخالق والمخلوق ، والمالك والمملوك ، والآمر
والمأمور ، والسيد والمسود ، والمكلف والمكلف ، والمؤمن والكافر والبر والفاجر بل
هو الليل النهار والماء والنار والأرض والسماء الخ. فما أشنع ما رضي هؤلاء لربهم ،
الذي يزعمون كذبا وزورا أنهم أهل معرفته وولايته ، وما أقبح ما رضوا لأنفسهم من
الارتماء في أحضان الجهل والحماقة.
وهكذا يسوق إلينا
المؤلف رحمهالله مقالات الطوائف كلها هذا السوق الرائع ، ويحملها إلينا
سهلة التناول رخيصة الأثمان ، بحيث لم نجد في فهمها من نظمه كدا ولا تعبا ، ولم
يحوجنا إلى أن نفتش عنها هنا وهناك في بطون الكتب على أننا لو فتشنا كتب أهل النظر
جميعا ما ألفينا هذه المقالات والمذاهب مذكورة على هذا النحو البديع من الدقة
والبيان ، فجزاه الله عن قارئيه ومحبي كتبه ومصنفاته خير الجزاء بمنه وكرمه.
فاعطف على
الجهمية المغل الألي
|
|
خرقوا سياج
العقل والقرآن
|
شرد بهم من
خلفهم واكسرهم
|
|
بل ناد في
ناديهم بأذان
|
أفسدتم المعقول
والمنقول وال
|
|
مسموع من لغة
بكل لسان
|
أيصح وصف الشيء
بالمشتق ال
|
|
مسلوب معناه لذي
الأذهان
|
أيصح صبار ولا
صبر له
|
|
ويصح شكار بلا
شكران
|
ويصح علام ولا
علم له
|
|
ويصح غفار بلا
غفران
|
ويقال هذا سامع
أو مبصر
|
|
والسمع والابصار
مفقودان
|
هذا محال في
العقول وفي النقو
|
|
ل وفي اللغات
وغير ذي امكان
|
الشرح
: بعد أن فرغ المؤلف
من ذكر مقالات الطوائف في كلام الرب عزوجل وصفاته عطف عليها بالنقض والابطال وبدأ منها بالجهمية نفاة
الصفات لأنهم الأصل الذي تفرع عنه كثير من المقالات الفاسدة كما سبق ووصفهم بالمغل
يعني المغول وهم التتار ، لأن التتار بعد غزوهم للبلاد الإسلامية ودخولهم في
الإسلام كانوا من
أنصار التجهم والتعطيل بتأثير وزيرهم نصير الدين الطوسي. ثم وصفهم ثانيا بأنهم خرقوا سياج العقل والقرآن ، لأن
أقوالهم مناقضة للعقل الصريح ، ومخالفة للنقل الصحيح. وهذا من شأنه أن يغري صاحب
الحق بهم فيحمل عليهم حملة صادقة يشرد بها من خلفهم ، ويكسر بها شرتهم ويصرخ فيهم
منكرا عليهم ما ذهبوا إليه مما خالفوا فيه العقل والنقل واللغة جميعا بنفي صفات
الله عزوجل فإن العقل يثبتها لأنها صفات كمال يستحيل على الله خلوه
عنها والنقول من الكتاب والسنة مصرحة بثبوتها له ، واللغات كلها متفقة على أن
إطلاق المشتق على شيء يقتضي مأخذ الاشتقاق للموصوف فلا يصح وصف الشيء بالمشتق
ويكون معناه مسلوبا عنه ، بل يجب أن يكون المعنى الذي هو مبدأ الاشتقاق ثابتا له ،
فإذا قيل فلان صبار دل هذا الاطلاق على ثبوت الصبر له ، فلا يصح صبار لا صبر له
فإنه تناقض ، وكذلك لا يقال شكار الا لموصوف بالشكر وعلام غفار الا لموصوف بالعلم
والغفران ، وكذلك لا يقال سامع أو مبصر وهو فاقد للسمع والابصار. هذا مما اتفق على
استحالته العقل والنقل وسائر اللغات وهو غير ممكن بحال من الأحوال.
* * *
فلئن زعمتم أنه
متكلم
|
|
لكن بقول قام
بالانسان
|
أو غيره فيقال
هذا باطل
|
|
وعليكم في ذاك
محذوران
|
نفي اشتقاق اللفظ
للموجود مع
|
|
ناه به وثبوته
للثاني
|
أعني الذي ما
قام معناه به
|
|
قلب الحقائق
أقبح البهتان
|
ونظير ذا أخوان
هذا مبصر
|
|
وأخوه معدود من
العميان
|
سميت الأعمى
بصيرا اذ أخو
|
|
ه مبصر وبعكسه
في الثاني
|
الشرح
: يرد المؤلف على
هؤلاء الجهمية ومن تبعهم من المعتزلة الذين زعموا أن معنى كونه تعالى متكلما أنه
خالق للكلام في غيره ، فليس الكلام وصفا له هو ولكنه وصف للمحل الذي خلقه الله فيه
من انسان وغيره. فيقول ان هذا من
أبطل الباطل
ويلزمكم فيه محذوران : الأول نفي اللفظ المشتق عمن قام به معناه ووجد فيه ،
والثاني اثباته للمسلوب عنه ذلك المعنى ، وهذا من قلب الحقائق ، وهو أقبح أنواع
الكذب ، ونظير هذا اذا كان هناك أخوان ، أحدهما مبصر والآخر أعمى فاقد لحاسة البصر
، فسمى الأعمى بصيرا لأن أخاه كذلك ، مع أنه فاقد للمعنى الذي أخذ منه المشتق وهو
بصير فيكون قد أطلق المشتق على فاقد لمعناه ومثله يقال في عكس ذلك وهو تسمية الأخ
المبصر أعمى لأن أخاه كذلك والحاصل أنه لا يعقل من قولنا متكلم الا من قام به
الكلام لا من أوجد في غيره الكلام فإذا أطلق متكلم على من أوجد الكلام في غيره كان
في ذلك إطلاق للمشتق على من لم يقم به معناه ولم يوجد فيه : وكان في ذلك نفي
المشتق عمن ثبت له معناه ووجد فيه ، وهذا تخليط وهذيان لا يليق بانسان.
* * *
فلئن زعمتم أن
ذلك ثابت
|
|
في فعله كالخلق
للأكوان
|
والفعل ليس
بقائم بالهنا
|
|
اذ لا يكون محل
ذي حدثان
|
ويصح أن يشتق
منه خالق
|
|
فكذلك المتكلم
الوحداني
|
هو فاعل لكلامه
وكتابه
|
|
ليس الكلام له
بوصف معان
|
ومخالف المعقول
والمنقول وال
|
|
فطرات والمسموع
للانسان
|
من قال أن كلامه
سبحانه
|
|
وصف قديم أحرف
ومعان
|
والسين عند
الباء ليست بعدها
|
|
لكن هما حرفان
مقترنان
|
الشرح
: لما أنكر المؤلف
على الجهمية والمعتزلة ما زعموه من أنه تعالى متكلم بكلام قائم بغيره ، وبين أن
ذلك مخالف للعقل والنقل ولما هو معروف في سائر اللغات من أن الوصف بالمشتق يقتضي
قيام معناه بالموصوف به لا بغيره أورد على ذلك معارضة من جانب هؤلاء الخصوم بأن
ذلك الذي قلناه في معنى متكلم هو ثابت في صفات الافعال مثل خالق ورازق ، فان وصف
الله عزوجل بهما لم يقتض قيام معناهما من الخلق والرزق به لان كلا
منهما فعل حادث ، والله ليس
محلا للحوادث ،
فإذا صح أن يشتق من الخلق الذي ليس قائما به وصفا له وهو خالق ، فكذلك يصح أن يقال
له متكلم بمعنى أنه فاعل لكلامه وكتابه دون أن يكون الكلام وصف معنى له قائما
بذاته وعلى هذا لا يكون مذهبنا مخالفا للعقل والنقل واللغة كما زعمتم ، ولكن الذي
يصح أن يحكم عليه بتلك المخالفة للعقل والنقل والفطرة مذهب هؤلاء الاقترانية الذين
زعموا أن كلام الله بألفاظه ومعانيه قديم وأن حروفه مجتمعة في الأزل لا ترتيب ولا
تعاقب بينها ، فالسين من بسم الله تكون مع الباء في النطق لا بعدها متأخرة عنها بل
مقارنة لها فارتكبوا بذلك أشنع مخالفة للضرورة القاضية بأن الحروف لا يتصور وجودها
ولا النطق بها الا مع التعاقب على نحو ورودها الى الاسماع سواء بسواء.
* * *
أو قال ان كلامه
سبحانه
|
|
معنى قديم قام
بالرحمن
|
ما أن له كل ولا
بعض ولا ال
|
|
عربي حقيقته ولا
العبراني
|
والأمر عين
النهي واستفهامه
|
|
هو عين أخبار
بلا فرقان
|
وكلامه كحياته
ما ذاك مق
|
|
دور له بل لازم
الرحمن
|
هذا الذي قد
خالف المعقول وال
|
|
منقول والفطرات
للانسان
|
أما الذي قد قال
ان كلامه
|
|
ذو أحرف قد رتبت
ببيان
|
وكلامه بمشيئة
وإرادة
|
|
كالفعل منه
كلاهما سيان
|
فهو الذي قد قال
قولا يعلم ال
|
|
عقلاء صحته بلا
نكران
|
الشرح
: ومثل هؤلاء
الاقترانية في شناعة مذهبهم وفساده طائفة الكلابية والأشعرية الذين زعموا أن كلامه
سبحانه هو معنى واحد قديم قائم بذاته لا تعدد فيه ، وليس له كل ولا بعض ولا يوصف
بأنه عربي ولا عبراني والأمر فيه عين النهي والاستفهام نفس الخبر ، وهو وصف للذات
لازم لها أزلا وأبدا كالحياة وليس هو صفة فعل فلا يتعلق بمشيئته تعالى وقدرته.
فهذان المذهبان هما اللذان يصح أن يقال أنهما مخالفان للعقل والنقل والفطرة
الانسانية.
أما مذهب الذي
يقول بأن كلامه تعالى حروف وألفاظ مرتبة ، وأنه متعلق بمشيئته وإرادته مثل فعله ،
فقد قال ما يعلم جميع العقلاء صحته دون أن يتوجه عليه انكار ، ولا شك أنه لا ينكر
علن المعتزلة قولهم ان كلامه تعالى حروف وألفاظ عربية ، وأنه متعلق بالقدرة
والمشيئة كسائر الافعال ، ولكن موضع الانكار عليهم هو زعمهم أن الكلام ليس صفة لله
قائمة به ، بل مخلوقا له منفصلا عنه ، كما ينكر على الكلابية والاشعرية جعلهم
الكلام صفة ذات ، وزعمهم أنه ليس بحرف ولا صوت ، ونفيهم أنه صفة فعل متعلقة
بالقدرة والاختيار.
* * *
فلأي شيء كان ما
قد قلتم
|
|
أولى وأقرب منه
للبرهان
|
ولأي شيء دائما
كفرتم
|
|
أصحاب هذا القول
بالعدوان
|
فدعوا الدعاوى
وابحثوا معنى
|
|
بتحقيق وانصاف
بلا عدوان
|
وارفوا مذاهبكم
وسدوا خرقها
|
|
ان كان ذاك
الرفو في الامكان
|
فاحكم هداك الله
بينهم فقد
|
|
ادلوا أليك بحجة
وبيان
|
لا تنصرن سوى
الحديث وأهله
|
|
هم عسكر الايمان
والقرآن
|
وتحيزن إليهم لا
غيرهم
|
|
لتكون منصورا
لدى الرحمن
|
الشرح
: بعد ما برر
الجهمية والمعتزلة مذهبهم في الكلام بقياسه على الفعل وقالوا أن وصفه تعالى بأنه
متكلم هو نظير وصفه بأنه خالق أو رازق لا يقتضي ثبوت معناه لله ، وشنعوا على مذاهب
خصومهم من الكلابية والاشعرية والاقترانية قالوا لخصومهم متسائلين : لأي شيء كان
ما قلتم أنتم مع ظهور بطلانه أولى من مذهبنا بالقبول وأقرب منه الى الحجة والبرهان
، ولأي شيء تكفروننا بهذا القول ظلما وعدوانا؟ فهل تظنون أن الأمر مجرد دعوى تدعى
بلا دليل؟ فاتركوا الدعاوى اذا وتعالوا نحن وأنتم نبحث كلا من مذهبنا ومذاهبكم
بحثا يقوم على التمحيص والانصاف ، لا على البغي والعدوان ، وبدلا من أن تشتغلوا
بنقض مذهبنا
وأبطاله ، فارجعوا الى مذاهبكم وأصلحوا من خللها وسدوا خرقها ان امكنكم ذلك أو
استطعتم إليه سبيلا.
هذا هو مضمون
ايراد المعتزلة وحجتهم على صحة مذهبهم ورجحانه على مذاهب خصومهم ، وقد انتدب
المؤلف حكما من أهل الحق ليحكم بينهم بعد ما أدلوا بما لديهم من حجة وبيان ،
وأوصاه أن لا ينصر الا السنة وأهلها ، وان لا يقول الا بما قاله أهل الحديث ،
فإنهم جند الإيمان وعسكر القرآن ، وأمره أن يتحيز ويميل إليهم لا الى غيرهم من
طوائف المبتدعة الضلال ليكون جزاؤه أن ينصره الله بنصره الذي وعد به المؤمنين في
قوله (وَكانَ حَقًّا
عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [الروم : ٤٧].
* * *
فتقول هذا القدر
قد أعيا على
|
|
أهل الكلام
وقاده أصلان
|
إحداهما هل فعل
مفعوله
|
|
أو غيره فهما
لهم قولان
|
والقائلون بأنه
هو عينه
|
|
فروا من الأوصاف
بالحدثان
|
لكن حقيقة قولهم
وصريحة
|
|
تعطيل خالق هذه
الأكوان
|
عن فعله اذ فعله
مفعوله
|
|
لكنه ما قام
بالرحمن
|
فعلى الحقيقة ما
له فعل اذ ال
|
|
مفعول منفصل عن
الديان
|
الشرح
: هذا جواب المؤلف
على ايراد المعتزلة الذي أرادوا به تصحيح مذهبهم في الكلام بقياسه على الفعل ،
وقولهم أن وصفه بمتكلم لا يقتضي قيام الكلام به ، كما لا يقتضي وصفه بفاعل قيام
الفعل به ، وقد استطرد المؤلف في الجواب بذكر مذاهب المتكلمين في فعله تعالى ، وهل
هو عين مفعوله أو غيره ، فالقائلون بأنه هو عينه كالجهمية والمعتزلة انما دعاهم
الى ذلك فرارهم من القول بقيام الحوادث بذاته ، فإن الفعل اذا جعل وصفا له لم يكن
الا حادثا ، والله ليس محلا للحوادث عندهم ، لأن ذلك يستلزم حدوثه ، وهذا الأمر
مما وافقت فيه
الأشعرية المعتزلة
حيث منعوا هم أيضا قيام الحوادث بذاته ، وقالوا أن ما لا يخلو من الحوادث فهو
حادث.
وقد قادت هذه
القضية الكاذبة كلا من الطائفتين الى أحكام فاسدة فقد التزم المعتزلة لأجلها أن
يكون الفعل عين المفعول ، وأن يكون كلامه تعالى مخلوقا له منفصلا عنه ، والتزم
الأشاعرة لأجلها نفي الحرف والصوت ، ونفي صفات الأفعال من الاستواء والمجيء ،
والغضب والرضى ، والمحبة والسخط ، والكراهية والنزول والاتيان الخ.
والتزموا أن يكون
الله قد تكلم في الأزل بكلام سمعه موسى ، وأنه ناداه وناجاه في الأزل الى غير ذلك
مما هذى به الفريقان مما يصادم المعقول والمنقول ، مصادمة صريحة.
وحقيقة قول هؤلاء
المعتزلة والجهمية أن الفعل عين المفعول هو نفي الفعل وتعطيل الخالق عنه ، فإنه
إذا كان الفعل هو المفعول ، ومعلوم أن المفعول مخلوق له منفصل عنه لم يكن له في
الحقيقة فعل هو وصف له قائم به ، فتفسير الفعل بالمفعول مستلزم لنفيه ، وأنه ليس
هناك الا المفعول.
* * *
والقائلون بأنه
غير له
|
|
متنازعون وهم
فطائفتان
|
إحداهما قالت
قديم قائم
|
|
بالذات وهو
كقدرة المنان
|
سموه تكوينا
قديما قاله
|
|
اتباع شيخ
العالم النعماني
|
وخصومهم لم
ينصفوا في رده
|
|
بل كابروهم ما
اتوا ببيان
|
والآخرون رأوه
أمرا حادثا
|
|
بالذات قام
وانهم نوعان
|
إحداهما جعلته
مفتتحا به
|
|
حذر التسلسل ليس
ذا إمكان
|
هذا الذي قالته
كرامية
|
|
ففعاله وكلامه
سيان
|
الشرح
: وأما القائلون بأن
الفعل غير المفعول فقد انقسموا أولا الى طائفتين
إحداهما قالت أنه
قديم قائم بالذات لازم لها كالقدرة ، ولم يجعلوه متعلقا بمشيئته تعالى وقدرته ،
وهم الماتريدية أتباع الشيخ أبي منصور الماتريدي من علماء الحنفيين وهذه المسألة
مما خالف فيه الماتريدية الأشاعرة رغم ما بين الطائفتين من اتفاق في كثير من مسائل
الكلام ، فإن المشهور عن الاشاعرة أنهم لا يثبتون الا سبع صفات ، يسمونها صفات
المعاني ، وهي : الحياة والقدرة والإرادة والعلم والسمع والبصر والكلام ،
ويجعلونها كلها قديمة وقائمة بالذات. وأما صفات الأفعال عندهم من الخلق والرزق
والاحياء والامانة الخ ، فيجعلونها تعلقات تنجيزية حادثة للقدرة القديمة ، ومن
العجب أنهم يقولون أن تعلقات الإرادة كلها تنجيزية قديمة ، فكيف اذا تخلف عنها
المراد في الأزل. وكذلك قالوا في تعلقات العلم والكلام. وأما الماتريدية فقد
أثبتوا التكوين صفة أخرى وراء الصفات السبع المتقدمة وجعلوها قديمة كما سبق ، وقد
عارضهم خصومهم من الأشاعرة وردوا قولهم في اثبات هذه الصفة مكابرة بلا دليل.
وأما الطائفة
الأخرى فقد ذهبت الى أن الفعل حادث قائم بالذات ، ثم انقسمت الى فرقتين : الكرامية
أتباع محمد بن كرام ، وهؤلاء ذهبوا الى أن فعله حادث قائم بذاته ومتعلق بمشيئته
وقدرته ، ولكنهم جعلوا له ابتداء في ذاته ، بمعنى أنه لم يكن فاعلا ثم فعل. وهكذا
قالوا في جميع الصفات المتعلقة بالمشيئة من الكلام والرضى والمحبة والنزول
والاستواء ، والذي دعاهم الى ذلك الخوف من القول بالتسلسل في أفعاله ، فيلزم قدم
أنواع المفعولات ، فيسد ذلك عليهم في زعمهم طريق اثبات الصانع ، اذ كان اثباته من
طريق حدوث المخلوقات ، وذهبوا الى أن الفعل والكلام سيان ، كلاهما حادث له ابتداء
في الذات ، فالله عندهم لم يكن متكلما ولا فاعلا ، ثم حدث له الفعل والكلام ،
فعطلوه سبحانه عن فعله وكلامه وجعلوا كلا منهما ممتنعا في الأزل.
* * *
والآخرون أولو
الحديث كأحمد
|
|
ذاك ابن حنبل
الرضي الشيباني
|
قد قال ان الله
حقا لم يزل
|
|
متكلما أن شاء
ذو إحسان
|
جعل الكلام صفات
فعل قائم
|
|
بالذات لم يفقد
من الرحمن
|
وكذاك نص على
دوام الفعل
|
|
بالاحسان أيضا
في مكان ثان
|
وكذا ابن عباس
فراجع قوله
|
|
لما أجاب مسائل
القرآن
|
وكذاك جعفر
الامام الصادق ال
|
|
مقبول عند الخلق
ذو العرفان
|
قد قال لم يزل
المهيمن محسنا
|
|
برا جوادا عند
كل أوان
|
الشرح
: وأما الفرقة
الثانية من القائلين بأن فعله تعالى حادث وقائم بذاته ، فهم أصحاب الحديث كالإمام
أحمد بن حنبل رضي الله عنه ، هؤلاء ذهبوا الى ما دلت عليه النصوص الصريحة وحكم به
العقل السليم من أن الله لم يزل متصفا بصفات كماله كلها سواء ما كان فيها لازما
لذاته او ما كان متعلقا بمشيئته وقدرته ، ليس لما يحدث في ذاته عندهم ابتداء ، بل
يقولون لم يزل الله متكلما اذا شاء بما شاء وكيف شاء ، وكذلك لم يزل فاعلا لما
أراد ، فكل من فعله وكلامه صفة كمال له ، لا يجوز خلوه عنها في وقت من الأوقات ،
لأن الخلو عن الكمال الممكن نقص مستحيل على الله ، ولا يلزم من دوام فعله وكلامه
قدم شيء من المفعولات ، فإن الله لم يزل يفعل الأشياء ويحدثها شيئا بعد شيء ،
وكذلك لم يزل متكلما بما شاء ، فكل من الكلام والفعل قديم النوع ، ولكن آحاده لم
تزل تحدث في ذاته سبحانه بلا بداية ولا انقطاع ، وهذا مستلزم للتسلسل في الآثار ،
وهو ليس بممتنع ، بل دل الشرع والعقل على ثبوته ، وانما الممتنع هو التسلسل في
العلل والمؤثرين.
وقوله في البيت
الثاني : ذو احسان خبر ثان لأن ، اي لم يزل محسنا كما لم يزل متكلما ، وقوله في
البيت الرابع وكذاك نص الخ. يعني به أحمد رحمهالله أنه نص في مكان آخر من كتابه الذي رد به على الجهمية على
دوام فعله سبحانه بدوام إحسانه كما نص على ذلك ابن عباس رضي الله عنهما فيما أجاب
به على مسائل القرآن وكذلك جعفر الصادق من أئمة أهل البيت المشهود لهم بالورع
والتقوى والمعرفة الحقة وقال لم يزل المهيمن محسنا برا جوادا في كل وقت وحال ،
وهذا
اثبات لدوام فعله
سبحانه واستمراره في أوقات الزمان كلها بلا بداية ولا انقطاع.
* * *
وكذا الإمام
الدارمي فإنه
|
|
قد قال ما فيه
هدى الحيران
|
قال الحياة مع
الفعال كلاهما
|
|
متلازمان فليس
يفترقان
|
صدق الإمام فكل
حي فهو
|
|
فعال وذا في
غاية التبيان
|
إلا إذا ما كان
ثم موانع
|
|
من آفة أو قاسر
الحيوان
|
والرب ليس لفعله
من مانع
|
|
ما شاء كان
بقدرة الديان
|
ومشيئة الرحمن
لازمة له
|
|
وكذاك قدرة ربنا
الرحمن
|
الشرح
: وممن نص على دوام
فاعلية الرب ، وأنه لم يعطل عنها في وقت من الأوقات ـ الإمام الكبير عثمان بن سعيد
الدارمي ـ المشهور في رده على الجهمية والقدرية ، وقد قال في هذا كلاما جيدا ،
وأدلى بحجة قوية ، مبناها على أن الفعل لازم للحياة ، فكل حي لا بد أن يكون فعالا
، وما ليس بفعال فهو ليس بحي ، فالحياة والفعل متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر
في الوجود ، اللهم إلا إذا وجد مانع يمنع الحي من الفعل من آفة تصيبه أو قاسر يقسره
، وذلك لا يتصور في حقه سبحانه فإن حياته أكمل حياة فيجب أن تستلزم أكمل الأفعال
ويستحيل أن تطرأ عليه آفة يعجز معها عن الفعل كما لا يتصور أن يقسره قاسر ويكرهه
على عدم الفعل بل ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، فالمشيئة لازمة له لا مكره له
ولا غالب ، والقدرة كذلك من صفاته اللازمة فلا يعتريه وهن ولا عجز ولا قصور ، ومع
نفوذ المشيئة وتمام القدرة وانتفاء كل الموانع التي تمنع من تعلقها بالممكن لا
يتصور التعطيل عن الفعل ، فثبت أنه سبحانه لم يزل فعالا لأنه لم يزل حيا قادرا
مريدا.
* * *
هذا وقد فطر
الإله عباده
|
|
ان المهيمن دائم
الإحسان
|
أو لست تسمع قول
كل موحد
|
|
يا دائم المعروف
والسلطان
|
وقديم الإحسان
الكثير ودائم ال
|
|
جود العظيم
وصاحب الغفران
|
من غير انكار
عليهم فطرة
|
|
فطروا عليها لا
توصي ثان
|
أو ليس فعل الرب
تابع وصفه
|
|
وكماله أفذاك ذو
حدثان
|
وكماله سبب
الفعال وخلقه
|
|
أفعالهم سبب
الكمال الثاني
|
أو ما فعال الرب
عين كماله
|
|
أفذاك ممتنع على
المنان
|
أزلا إلى أن صار
فيما لم يزل
|
|
متمكنا والفعل
ذو امكان
|
الشرح
: بعد أن قرر المؤلف
مذهب السلف القويم في دوام فاعلية الرب وكلامه وأورد من النقول عن بعض أئمة أهل
السنة كأحمد وغيره ما يشهد لصحته أراد أن يستدل عليه كذلك من طريق الفطرة والعقل ،
أما الفطرة فإننا نسمع الناس في دعائهم واستغاثتهم ، وطلبهم الحاجات من الله عزوجل يلهجون بهذه العبارات من قولهم : يا قديم الإحسان ، يا
قديم المعروف والسلطان ، يا دائم الجود والامتنان إلى غير ذلك مما يفهم أنهم فطروا
على اعتقاد ذلك فطرة دون أن يوصي بعضهم بعضا بذلك ، أو يعلمه إياه ودون أن ينكر
بعضهم على بعض.
وأما دليل العقل
فهو أن فعل الرب سبحانه تابع لوصفه وكماله ، فإذا كان لم يزل موصوفا بصفات الكمال
ونعوت الجلال بحيث لا يتصور خلوه عنها لحظة من اللحظات في جانب الأزل أو الأبد فهو
إذا لم يزل فعالا لأن الفعل من جملة الصفات التي لم يزل بها موصوفا ، والفعل من
لوازم كماله سبحانه فكماله في ذاته وصفاته هو سبب كونه فاعلا فهو سبحانه كمل ففعل
، وأما الكمال في المخلوقات والمكونات في أعيانها وأوصافها فهو تابع لكمال المكون
، فإن أثر الكمال لا يكون إلا كاملا.
وإذا كان الفعل
عين كماله سبحانه لأن الكمال مستتبع له ولا يحصل إلا به. فكيف إذا يجوز القول
بامتناع الفعل منه في الأزل ، ثم يصير هذا الفعل ممكنا فيما لا يزال من غير تجدد
سبب أوجب ذلك الانقلاب من الامتناع الذاتي إلى
الامكان الذاتي لا
تجدد قدرة ولا إرادة ولا غيرهما.
* * *
تالله قد ضلت
عقول القوم إذ
|
|
قالوا بهذا
القول ذي البطلان
|
ما ذا الذي أضحى
له متجددا
|
|
حتى تمكن
فانطقوا ببيان
|
والرب ليس معطلا
عن فعله
|
|
بل كل يوم ربنا
في شان
|
والأمر والتكوين
وصف كماله
|
|
ما فقد ذا
ووجوده سيان
|
وتخلف التأثير
بعد تمام مو
|
|
جبه محال ليس في
الإمكان
|
والله ربي لم
يزل ذا قدرة
|
|
ومشيئة ويليهما
وصفان
|
العلم مع وصف
الحياة وهذه
|
|
أوصاف ذات
الخالق المنان
|
وبها تمام الفعل
ليس بدونها
|
|
فعل يتم بواضح
البرهان
|
فلأي شيء قد
تأخر فعله
|
|
مع موجب قد تم
بالاركان
|
ما كان ممتنعا
عليه الفعل بل
|
|
ما زال فعل الله
ذا امكان
|
الشرح
: يعني أن هؤلاء
الذين قالوا بأن الله كان معطلا عن الفعل في الأزل وان الفعل كان ممتنعا منه فيما
لم يزل ، ثم صار ممكنا فيما لا يزال قد قالوا بما يعلم كل عاقل بطلانه وبرهنوا على
سخافة عقولهم اذ لو كان الفعل ممتنعا عنه في الأزل فما الذي صيره ممكنا مع أنه لم
يتجدد في ذاته شيء يقتضي هذا الانقلاب من الامتناع إلى الإمكان ، وهذا الإلزام لا
مخلص لهم منه فإن أجابوا عنه بأن نفس الأزل هو المانع من التأثير في الممكن لأن من
شرائط التأثير فيه أن يكون مسبوقا بالعدم قلنا سبق العدم أمر عدمي لا يصلح أن يكون
شرطا للتأثير ، ولكن الذي يصلح شرطا هو الإمكان والامكان ثابت في الأزل فثبت أن
الرب سبحانه لم يكن معطلا عن فعله في وقت من الأوقات بل كل يوم هو في شأن يدبر ما
يشاء ويحدث من الأمور ما تقتضيه حكمته ، ويقال لهؤلاء أيضا أليس الأمر والتكوين من
صفات الكمال بدليل أن المتصف بهما أكمل من الفاقد لهما ، وحينئذ فالله لم يزل آمرا
مكونا والأمر والتكوين هما الموجب التام للتأثير وهو
مستلزم لوجود
الأثر لأن تخلف التأثير بعد تمام علته الموجبة له محال غير ممكن ، ويقال لهم كذلك
أن الله لم يزل قادرا مريدا عالما حيا ، وهذه الأربعة صفات ذاتية له ، وليس يحتاج
الفاعل في كونه فاعلا إلى غير هذه الأربع فهي التي بها تمام الفعل لأنها أركانه
التي لا يتحقق بدونها ، وإذا كان ذلك فلما ذا تأخر فعله سبحانه عن وجود الموجب
التام لجميع أركانه ، فإن قلتم : تأخر الفعل لأنه كان ممتنعا في الأزل ، قلنا :
كذبتم بل لم يزل الفعل ممكنا ، إذ لو كان ممتنعا في الأزل لم يقبل الوجود فيما لا
يزال لأن الممتنع لا ينقلب ممكنا.
* * *
والله عاب
المشركين بأنهم
|
|
عبدوا الحجارة
في رضا الشيطان
|
ونعى عليهم
كونها ليست بخا
|
|
لقة وليست ذات
نطق بيان
|
فأبان أن العقل
والتكليم من
|
|
أوثانهم لا شك
مفقودان
|
وإذا هما فقدا
فما مسلوبها
|
|
بإله حق وهو ذو
بطلان
|
والله فهو إله
حق دائما
|
|
أفعنه ذا
الوصفان مسلوبان
|
أزلا وليس
لفقدها من غاية
|
|
هذا المحال
وأعظم البطلان
|
الشرح
: ويقال لهؤلاء أيضا
إذا كان الله معطلا عن الفعل والكلام في الأزل لم يكن إلها حقا ولا واجب العبادة
فإن الالهية الحقة واستحقاق العبادة لا يكون إلا مع القدرة على الخلق والتكليم ،
ولهذا عاب الله المشركين الذين يعبدون الأصنام ارضاء للشيطان بأنهم عبدوا ما لا
يستحق العبادة لأنه لا يقدر على خلق شيء ولا يستطيع تكليم عابديه قال تعالى : (أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً
وَهُمْ يُخْلَقُونَ) [الأعراف : ١٩١]
وقال : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ
كَمَنْ لا يَخْلُقُ) [النحل : ١٧] وقال
: (وَاتَّخَذُوا مِنْ
دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) [الفرقان : ٣]
وقال : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما
تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ
شِرْكٌ فِي السَّماواتِ) [الاحقاف : ٤]
وقال تعالى في شأن الذين عبدوا العجل من قوم موسى عليهالسلام : (أَلَمْ يَرَوْا
أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا
يَهْدِيهِمْ
سَبِيلاً) [الأعراف : ١٤٨]
وقال حكاية عما قاله إبراهيم عليهالسلام لقومه : (بَلْ فَعَلَهُ
كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) [الأنبياء : ٦٣].
فدلت هذه الآيات
الكريمة على أن الفعل والتكليم مفقودان من هذه الأوثان وفقدهما يدل على أنها ليست
بآلهة حقة ، بل هي آلهة باطلة ، ومعلوم أن الله إله حق دائما ، ولا يكون كذلك إلا
إذا كان موصوفا بالفعل والتكليم دائما لأن فاقدهما لا يكون إلها حقا كما تقدم ،
فكيف يجوز أن يقال ان هذين الوصفين اللذين عليهما مدار الالوهية مسلوبان عنه أزلا
، ومعلوم أن الأزل لا غاية له ولا نهاية ، هذا من أمحل المحال وأعظم البطلان.
* * *
ان كان رب العرش
حقا لم يزل
|
|
أبدا إله الحق
ذا سلطان
|
فكذاك أيضا لم
يزل متكلما
|
|
بل فاعلا ما شاء
ذا احسان
|
والله ما في
العقل ما يقضي لذا
|
|
بالرد والابطال
والنكران
|
بل ليس في
المعقول غير ثبوته
|
|
للخالق الأزلي
ذي الإحسان
|
هذا وما دون
المهيمن حادث
|
|
ليس القديم سواه
في الأكوان
|
والله سابق كل
شيء غيره
|
|
ما ربنا والخلق
مقترنان
|
والله كان وليس
شيء غيره
|
|
سبحانه جل
العظيم الشأن
|
الشرح
: فإذا كان الله لم
يزل ولا يزال له الالهية الحقة والسلطان الأعظم ، فيجب كذلك أن يكون لم يزل متكلما
بما شاء وفاعلا لما شاء ، ولم يزل محسنا برا رحيما ، وليس في العقل ما يحيل هذا أو
يأباه ، كيف والعقل إنما يقتضي ثبوته للخالق جل وعلا ، لأنه يقر له بالأزلية ذاتا
وصفات. والأزلية تنافي حدوث الصفات وابتداؤها في ذاته ، ولا يلزم من القول بقدم
الفعل القول بقدم شيء من المفعولات ، فإن الله هو وحده القديم ، وكل ما سواه حادث
، وليس وجود الأشياء مقارنا بوجوده ، بل وجوده سابق عليها جميعا كما جاء في الحديث
«كان
الله ولم يكن شيء
معه» أي مساوق له في الوجود سبحانه ، بل متأخر عنه. ولكنا مع ذلك لا نقول بوجود
فاصل لا نهاية له في الزمان بين وجود الله ووجود العالم كما يقوله من ذهب إلى أن
العالم وجد من عدم ، فإن هذا يستلزم كما قدمنا أن يكون الباري معطلا عن الفعل أو
غير قادر عليه مدة لا تقاس بها مدة فاعليته ، بل نقول إنه سبحانه يكون الشيء فيكون
عقب تكوينه ، لا مع تكوينه ولا متراخيا عنه فإن المؤثر التام يجب أن يكون أثره
عقيب تأثيره بلا مهلة ، وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً
أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس : ٨٢].
* * *
لسنا نقول كما
يقول الملحد ال
|
|
زنديق صاحب منطق
اليونان
|
بدوام هذا
العالم المشهود وال
|
|
أرواح في أزل
وليس بفان
|
هذي مقالات
الملاحدة الألى
|
|
كفروا بخالق هذه
الأكوان
|
الشرح
: يعني اننا وان
قلنا بقدم الفعل الذي هو صفة لله ، لا نقول بأن العالم المفعول قديم مع الله ،
وأنه مقارن له في الزمان ، كما يقول ذلك أرسطو صاحب المنطق فالمشهور عن أرسطو أنه
كان يرى أن العالم مساوق لله في الوجود أزلا وأبدا ، والله عنده ليس خالقا للعالم
، وإنما هو محرك فقط ، ولهذا كان يسميه المحرك الأول أو العلة الأولى أو الصورة
المحضة. ولا يعني أرسطو بذلك أن الله فعل في العالم الحركة ، فإن الله ليس بعلة
فاعلية عنده ، وإنما هو علة غائية.
ويقول أرسطو في
بيان ذلك : ان الله لما كان صورة محضة كان في غاية الكمال وكانت المادة في الجهة
الأخرى أقرب إلى العدم منها إلى الوجود إذ كانت امكانا وكانت وجودا بالقوة لا
بالفعل ، فتركت بدافع الشوق إلى محاكاة تلك الصورة المحضة والقرب منها قدر الطاقة
، وكانت هذه الحركة الشوقية هي التي أبرزت هذه المادة إلى الوجود بالفعل وسارت بها
في طريق التقدم والارتقاء. ولا ريب أن هذا الكلام هو إلى الشعر والخيال أقرب منه
إلى الفلسفة ، فكيف
خان صاحب المنطق
منطقه ولم يسعده في هذه المشكلة حتى تورط فيما تورط فيه من كلام هو إلى الهذيان
أقرب منه إلى الجد.
فليبين لنا أرسطو
ما الذي بث الشوق والحنين في مادته المزعومة حتى تحركت تحاول التشبه بتلك الصورة
المحضة ، وكيف كانت المادة أو الهيولى الأولى قبل حلول الصورة فيها إمكانا أو قوة
، والإمكان معنى من المعاني التي توصف بها المادة وليس هو المادة. ولسنا هنا بصدد
الرد على هذه الحماقة من فيلسوف طار صيته وذاع ، حتى كاد أن يعبده أتباعه من
متفلسفة الإسلام المارقين من أمثال الفارابي وابن سينا ، ويزعمون لآرائه العصمة
والقداسة ، ويقدمونها على الوحي المنزل ، ولا ريب أن هذا الذي قال به أرسطو في قدم
العالم هو رأي ملاحدة الدهرية الذين ينكرون وجود الخالق جل وعلا ويقولون (ان هي
إلا حياتنا الدنيا وما يهلكنا إلا الدهر).
* * *
وأتي ابن سينا
بعد ذاك مصانعا
|
|
للمسلمين فقال
بالامكان
|
لكنه الأزلي ليس
بمحدث
|
|
ما كان معدوما
ولا هو فان
|
وأتى بصلح بين
طائفتين
|
|
بينهما الحروب
وما هما سلمان
|
أنى يكون
المسلمون وشيعة ال
|
|
يونان صلحا قط
في الإيمان
|
والسيف بين
الأنبياء وبينهم
|
|
والحرب بينهم
فحرب عوان
|
الشرح
: جاء ابن سينا بعد
أرسطو ، وكان كما قلنا تلميذا وفيا لفلسفة أستاذه ، ولكنه من جهة أخرى كان يريد
مصانعة المسلمين ومداهنتهم حتى لا يفطنوا لمروقه والحاده ، فتكايس بمحاولة التوفيق
بين الفلسفة التي تقول بقدم العالم ومقارنته لله في الزمان ، وبين الدين الذي
يجعله مخلوقا حادثا ، بعد أن لم يكن ، فزعم أن الله علة تامة لوجود العالم ، والعلة
التامة يجب أن يقارنها معلولها ولا يتخلف عنها ، وعلى هذا فيمكن القول بأن العالم
أزلي مقارن لله في الزمان ، كما تقول الفلسفة ، ولكنه من جهة أخرى متأخر وممكن
حادث بالذات أما كونه
متأخرا فلأن
المعلول قد استفاد الوجود من علته ، ولا نعني بالحدوث الذاتي إلا استفادة الوجود
من الغير. ومن العجيب ان ابن سينا مع قوله بقدم العالم يسمي الله خالقا وفاعلا
ويسمي العالم مخلوقا ومفعولا ، فمتى خلق الله العالم على رأيه أو فعله إذا كان
وجوده مقارنا لوجوده ، وكيف يمكن أن يكون الله خالقا للعالم مع القول بأنه علة
والخلق إنما يعتمد على القصد والاختيار ، وأما العلة فيصدر عنها معلولها بالإيجاب
المنافي للاختيار ، والعالم عنده كما هو أزلي مساوق لعلته في جانب الأزل ، هو كذلك
أبدي غير قابل للفناء ، لأن المعلول لعلة تامة يجب أن يبقى ببقاء علته.
وهكذا يظن ابن
سينا أنه أفلح بهذا التمويه والمغالطة في لبس الأمر على المسلمين ولكن الأذكياء من
علماء هذه الأمة من أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية استطاعوا كشف تلبيساته وفضح
سرائره ونياته.
ومن العجيب أيضا
أن يزعم هذا الرجل أنه يحاول الصلح والتوفيق بين طائفتين لا يعقل أن تهدأ بينهما
الحرب أو ان يتم سلام ، فهذه طائفة تؤمن بالوحي والقرآن وتعتصم بعرى الإسلام
والإيمان ، وهذه طائفة كافرة تدين بما ضرطت به عقول فلاسفة اليونان مما كله أو
أغلبه كفر والحاد وهذيان. فلا يمكن أن يوضع السيف بينهم وبين أتباع الأنبياء أبد
الدهر ، وستبقى بينهم الحرب العوان حتى لا تكون فتنة وحتى يظهر دين الله على الدين
كله ولو كره الكافرون.
* * *
وكذا أتى الطوسي
بالحرب الصر
|
|
يح بصارم منه
وسل لسان
|
وأتى إلى
الإسلام يهدم أصله
|
|
من أسه قواعد
البنيان
|
عمر المدارس
للفلاسفة الألى
|
|
كفروا بدين الله
والقرآن
|
وأتى إلى أوقاف
أهل الدين
|
|
ينقلها إليهم
فعل ذي أضغان
|
وأراد تحويل
الإشارات التي
|
|
هي لابن سينا
موضع الفرقان
|
وأراد تحويل
الشريعة بالنوا
|
|
مس التي كانت
لذي اليونان
|
لكنه علم اللعين
بأن ها
|
|
ذا ليس في
المقدور والامكان
|
إلا إذا قتل
الخليفة والقضا
|
|
ة وسائر الفقهاء
في البلدان
|
فسعى لذلك وساعد
المقدور بالأمر الذي هو حكمة الرحمن الشرح : بعد أن فرغ المؤلف من الكلام على ابن سينا القرمطي ، وما
كان يكيد به للاسلام وأهله في الخفاء بسبب اتباعه للفلسفة مع إيهامه أنه حريص على
اتباع الشريعة ، وأنه يحاول جاهدا التوفيق بينها وبين الفلسفة ، أخذ في الحديث على
ذيل من ذيوله الذين تعلقوا بفلسفته ، وهو الخواجة نصير الدين الطوسي ، فذكر أن هذا
الرجل لم يكن يصانع المسلمين كسلفه ، ولكنه أعلنها على الإسلام وأهله حربا صريحة
سافرة بسيفه ولسانه ، فكان يسعى جهده لكي يهدم الاسلام من أساسه ، فأنشأ المدارس ،
لا لدراسة الكتاب والسنة وعلوم الشريعة ، ولكن لدراسة الكفر والإلحاد باسم الفلسفة
، وحول الأحباس التي كانت لأهل الدين إلى طلبة هذه المدارس حسدا منه وبغيا.
وقد أراد هذا
الخبيث أن يجعل من كتاب الإشارات الذي ألفه سيده ابن سينا كتابا مقدسا بدلا من
القرآن ، يعني بحفظه ودراسته وتعليمه ، كما أراد أن ينسخ الشريعة ويستعيض عنها
بالنظم والقوانين التي كانت عند اليونان والرومان ، ولكنه علم أن ذلك لا يتم له
ولا يقدر عليه إلا إذا أزال دولة الإسلام بقتل رجالاتها من الخليفة والقضاة
والفقهاء من سائر البلدان ، فسعى لذلك سعيه باستعداء التتار أتباع جانكيز خان على
المسلمين ، وكان يعمل كالمشير لهم ، وساعد على تحقيق غرضه موافقة الاقدار له لحكمة
أرادها الله سبحانه وهو أحكم الحاكمين.
* * *
فأشار أن يضع
التتار سيوفهم
|
|
في عسكر الإيمان
والقرآن
|
لكنهم يبقون أهل
مصانع الد
|
|
نيا لأجل مصالح
الابدان
|
فغدا على سيف
التتار الألف في
|
|
مثل لها مضروبة
بوزان
|
وكذا ثمان
مئينها في الفها
|
|
مضروبة بالعد
والحسبان
|
حتى بكى الإسلام
أعداه اليهود
|
|
كذا المجوس
وعابد الصلبان
|
فشفى اللعين
النفس من حزب الر
|
|
سول وعسكر
الايمان والقرآن
|
وبوده لو كان في
أحد وقد
|
|
شهد الوقيعة مع
أبي سفيان
|
لأقر أعينهم
وأوفى نذره
|
|
أو أن يرى متمزق
اللحمان
|
الشرح
: أراد هذا الخبيث
شفاء غيظه المتقد على الإسلام وأهله بمحاولة الاتيان على أصوله وقواعده والقضاء
على حملته ، فأشار على أعوانه من التتار ، وهم أهل جهل وغلظة أن يضعوا سيوفهم في
معسكر الايمان والقرآن من رجال الفقه والدين مع الابقاء على ذوي الحرف وأرباب
الصنائع من أجل عمارة البلدان ومصالح الأبدان.
وقد أخذ هؤلاء
السفكة من التتار بمشورة هذا الخبيث الملحد ، فأعملوا سيوفهم في أهل الاسلام في كل
بلد دخلوه حتى قدر عدد القتلى بسيوف هؤلاء المجرمين بما يقرب من مليون وثمانمائة
الف شخص ونكب الاسلام بهم نكبة جعلت أعداءه من اليهود والنصارى والمجوس يبكونه
ويرثون لحاله ، وبذلك تمكن هذا اللعين من شفاء نفسه من حزب الرسول صلىاللهعليهوسلم الذين هم جند الإيمان وعسكر القرآن وكان يود لو أنه شهد
وقعة أحد مع أبي سفيان وحزبه ، وكان جنديا في جيش الباطل اذا لصال وجال وأقر أعين
إخوانه من أهل الشرك والضلال وأوفى نذره في الكيد للاسلام وجهاد أهله ، أو يرى
مقتولا متمزق اللحمان.
* * *
وشواهد الأحداث
ظاهرة على
|
|
ذا العالم
المخلوق بالبرهان
|
وأدلة التوحيد
تشهد كلها
|
|
بحدوث كل ما سوى
الرحمن
|
أو كان غير الله
جل جلاله
|
|
معه قديما كان
ربا ثان
|
اذ كان عن رب
العلى مستغنيا
|
|
فيكون حينئذ لنا
ربان
|
والرب باستقلاله
متوحد
|
|
أفممكن أن يستقل
اثنان
|
لو كان ذاك
تنافيا وتساقطا
|
|
فإذا هما عدمان
ممتنعان
|
والقهر والتوحيد
يشهد منهما
|
|
كل لصاحبه هما
عدلان
|
ولذلك اقترنا
جميعا في صفا
|
|
ت الله فانظر
ذاك في القرآن
|
فالواحد القهار
حقا ليس في الا
|
|
مكان أن تحظى به
ذاتان
|
الشرح
: بعد هذا الاستطراد
الطويل بذكر مذاهب الفلاسفة والدهرية في قدم العالم وموقف ابن سينا ونصيره نصير
الدين الطوسي من الاسلام وأهله رجع الى ما كان فيه من بيان أن الله هو وحده القديم
، وأن كل ما سواه حادث ، فقال أن أمارات الحدوث وهو الوجود بعد العدم بادية على كل
جزء من أجزاء هذا العالم المخلوق المصنوع ، فإن هذه التغيرات الدائبة التي تجري في
هذا العالم علوية وسفلية من ولادة وموت وزرع وحصاد ، وهبوب رياح ونزول أمطار ،
وشروق وغروب وحر وبرد ، وزلازل وصواعق الخ ، تشهد بحدوثه اذ لو كان قديما لما قبل
هذه التغيرات ، كما أن أدلة التوحيد المثبتة لانفراده سبحانه بالربوبية والقهر
شاهدة كذلك بحدوث كل ما سواه ، اذ لو كان معه قديم غيره لكان مستغنيا في وجوده
وبقائه عنه فيكون ربا معه ، ومن خصائص الرب أن يستقل بالخلق والايجاد ، فلو كان
هنا ربان لحاول كل منهما أن يستقل بالفعل ولا يتم له ذلك ما دام له شريك مساو له
في القدرة ومكافئ في الربوبية فيتمانعان ويتعارضان ، فإذا هما عدمان ممتنعان قال
تعالى : (مَا اتَّخَذَ اللهُ
مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ
وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) [المؤمنون : ٩١]
وحينئذ فلا بد أن ينفرد أحدهما بالقهر والعلو على الآخر ويكون الآخر عاجزا مغلوبا
، ولهذا كان كل من القهر والتوحيد عدلا للآخر ودالا على صاحبه فكل واحد قهار وكل
قهار واحد. وهذا هو سر مجيئهما مقترنين في كتاب الله تعالى كما قال سبحانه : (قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ
الْواحِدُ الْقَهَّارُ) [الرعد : ١٦] وكما
قال : (لَوْ أَرادَ اللهُ
أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ
اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) [الزمر : ٤]
فصفة القهر والعلو
لا يمكن أن يتصف بها اثنان.
* * *
فصل
في اعتراضهم على القول بدوام فاعلية الرب تعالى
وكلامه والانفصال عنه
فلئن زعمتم أن
ذاك تسلسل
|
|
قلنا صدقتم وهو
ذو امكان
|
كتسلسل التأثير
في مستقبل
|
|
هل بين ذلك قط
من فرقان
|
والله ما افترقا
لذي عقل ولا
|
|
نقل ولا نظر ولا
برهان
|
في سلب امكان
ولا في ضده
|
|
هذي العقول ونحن
ذو أذهان
|
فليأت بالفرقان
من هو فارق
|
|
فرقا يبين لصالح
الاذهان
|
وكذاك سوى الجهم
بينهما ك
|
|
ذا العلاف في
الإنكار والبطلان
|
ولأجل ذا حكما
بحكم باطل
|
|
قطعا على الجنات
والنيران
|
فالجهم أفنى
الذات والعلاف
|
|
للحركات افنى
قاله الثوران
|
الشرح
: هذا بيان لشبهة قد
ترد من جانب المانعين لدوام فاعلية الرب وكلامه بأن ذلك يستلزم التسلسل في جانب
الماضي بلا بداية ، فإنه ما دام نوع الفعل والكلام قديما يجب أن يكون كل حادث
منهما مسبوقا بحادث لا ينتهي ذلك الى حادث يعتبر أول الحوادث.
والجواب عن الشبهة
المذكورة أننا نلتزم لزوم التسلسل ، ولكن نمنع استحالته فإن هذا تسلسل في الحوادث
والآثار وهو ممكن في جانب الماضي كما هو ممكن في جانب المستقبل بلا فارق أصلا ،
فإذا كان الخصوم يسلمون بامكان تسلسل التأثير في المستقبل بمعنى أنه ما من حادث
الا وبعده حادث لا ينتهي ذلك الى حادث يعتبر آخر الحوادث فيجب عليهم أن يسلموا
كذلك بامكانه أيضا في جانب الماضي اذ لا يدل على الفرق بينهما شيء من عقل ولا نقل
ولا يثبت ذلك
الفرق بنظر ولا
برهان والا فمن ادعى ذلك الفرق فليبينه لنا بيانا يرتضيه العقل. وقد سوى بينهما
الجهم بن صفوان وأبو الهذيل العلاف لكن لا في الثبوت والامكان بل في الانكار
والبطلان فحكموا بامتناع كل منهما ، وبنوا على هذا حكمهم الجائر بفناء الجنة
والنار وأهلهما ، فالجهم حكم بفناء الذات ، وأما أبو الهذيل فقال بانقطاع الحركات
، وقد سبق الكلام على ذلك فلا نطيل فيه.
* * *
وأبو علي وابنه
والأشعري
|
|
وبعده ابن الطيب
الرباني
|
وجميع أرباب
الكلام الباطل ال
|
|
مذموم عند أئمة
الإيمان
|
فرقوا وقالوا
ذاك فيما لم يزل
|
|
حق وفي أزل بلا
امكان
|
قالوا لأجل
تناقض الأزلي وال
|
|
أحداث ما هذان
يجتمعان
|
لكن دوام الفعل
في مستقبل
|
|
ما فيه محذور من
النكران
|
الشرح
: انقسم الناس في
تسلسل الحوادث والآثار الى ثلاث طوائف فأهل السنة والجماعة ذهبوا الى امكانه في
جانب الماضي والمستقبل جميعا بلا فارق ، وذهب الجهم وأبو الهذيل الى القول
بامتناعه في جانب الماضي والمستقبل جميعا كما تقدم. وأما أبو علي الجبائي المعتزلي
شيخ الجبائية وولده أبو الحسن الأشعري وتلميذه أبو بكر الباقلاني وجميع أهل الكلام
الباطل المذموم ففرقوا بينهما فذهبوا الى جوازه في جانب المستقبل وبامتناعه في
جانب الأزل وكانت شبهتهم في ذلك أن الدليل القطعي قد قام على حدوث العالم بجميع
أجزائه والقول بتسلسل الحوادث في جانب الأزل بلا بداية معناه القول بقدم العالم ،
والقدم والحدوث نقيضان لا يجتمعان لهذا منعوا دوام الفعل في الماضي لما يلزمه من
قدم المفعول ، وأما دوام الفعل في المستقبل وتسلسله الى غير نهاية ، فهذا لا محذور
فيه ولا يقتضي الدليل انكاره ، فالعقل يجيز أن يكون بعد كل حادث حادث دون انقطاع
في جانب الابد.
ومن شبههم أيضا
انه إذا كان كل فرد من أفراد الفعل حادثا ، فكيف يكون
نوعه قديما مع أن
النوع ليس الا مجموعة الافراد ، فإذا كان كل فرد حادثا مسبوقا بالعدم ، كان الكل
كذلك ، اذ لا يصح أن توصف الجملة بحكم غير حكم الافراد ، فإذا قلت مثلا كل زنجي
أسود ، كان الكل أسود بالضرورة ، راجع كتابنا ابن تيمية السلفي في مبحث قيام
الحوادث بذاته تعالى.
* * *
فانظر إلى
التلبيس في ذا الفرق تر
|
|
ويجا على
العوران والعميان
|
ما قال ذو عقل
بأن الفرد ذو
|
|
أزل لذي ذهن ولا
أعيان
|
بل كل فرد فهو
مسبوق بفرد
|
|
د قبله أبدا بلا
حسبان
|
ونظير هذا كل
فرد فهو ملح
|
|
وق بفرد بعده
حكمان
|
النوع والآحاد
مسبوق وملح
|
|
وق وكل فهو منها
فان
|
والنوع لا يفنى
أخيرا فهو لا
|
|
يفنى كذلك أولا
ببيان
|
وتعاقب الآنات
أمر ثابت
|
|
في الذهن وهو
كذلك في الأعيان
|
الشرح
: هذا رد لتلك
الشبهة التي بنى عليها الأشعري وموافقوه الفرق بين الدوام في جانب الأزل وبين
الدوام في جانب المستقبل ، وملخص الدفع أن هذه التفرقة مغالطة وتلبيس لا يروج الا
على السذج البسطاء من الجهلة وانصاف العلماء ، اذ لم يقل أحد من العقلاء الذين
ذهبوا إلى دوام فاعلية الرب تعالى وتسلسل أفعاله ماضيا ومستقبلا أن شيئا من أعيان
المخلوقات وأفرادها قديم ، لا ذهنا ولا خارجا ، بل قالوا أن كل فرد منها فهو مسبوق
بفرد قبله الى غير بداية يمكن أن يحصرها العد والحساب ، مع قولهم بأن كل فرد منها
حادث. ونظير هذا قولهم أن كل فرد فهو ملحوق بفرد آخر يجيء بعده بلا نهاية كذلك
فالآحاد كلها لها ابتداء وانتهاء ، سواء في ذلك السابق منها واللاحق ، وأما النوع
فهو مستمر أزلا وأبدا بلا ابتداء ولا انتهاء ، وقس ذلك على آنات الزمان ، وهي
أجزاؤه ، فإنها تتعاقب في الوجود شيئا بعد شيء لا الى نهاية مع امتدادها كذلك في
جانب الأزل بلا بداية ، فليست تبتدئ من آن هو أول الآنات ، ولا تنتهي
الى آن هو آخرها ،
مع ان كل آن منها له بداية وانتهاء ، لأنه واقع بين آنين ، فكل آن منها يبتدئ من
نهاية الآن الذي قبله بابتداء الذي بعده ، ومع ذلك فجملة الآنات لا أول لها ولا
آخر لا في الذهن ولا في الخارج ، فكل فرد من أفراد المخلوقات حادث موجود بعد أن لم
يكن.
وأما النوع الذي
هو من لوازم الكمال لأنه وصفه تعالى فلا مبتدأ له ولا منتهى ، بل لم يزل الله
فعالا لما يريد ، لأنه لا يمكن أن يكون في وقت من الأوقات فاقدا لشيء من الكمال.
* * *
فإذا أبيتم ذا
وقلتم أول ال
|
|
آنات مفتتح بلا
نكران
|
ما كان ذاك الآن
مسبوقا يرى
|
|
الا بسلب وجوده
الحقاني
|
فيقال ما تعنون
بالآنات هل
|
|
تعنون مدة هذه
الأزمان
|
من حين أحداث
السموات العلى
|
|
والأرض والأفلاك
والقمران
|
ونظنكم تعنون
ذاك ولم يكن
|
|
من قبلها شيء من
الأكوان
|
هل جاءكم في ذاك
من أثر ومن
|
|
نص ومن نظر ومن
برهان
|
هذا الكتاب وهذه
الآثار والمع
|
|
قول في الفطرات
والأذهان
|
أنا نحاكمكم إلى
ما شئتموا
|
|
منها فكل الحق
في تبيان
|
الشرح
: لما مثل المؤلف
لتعاقب الحوادث وتسلسلها فيما لم يزل ولا يزال بلا بداية ولا نهاية بتعاقب آنات
الزمان ، كذلك قال للخصوم المانعين : فإذا أبيتم هذا القياس ومنعتم التسلسل في
المقيس عليه ، وهو الآنات ، وقلتم أن أول الآنات مفتتح وله بداية ، ولم يكن هذا
الآن الأول مسبوقا بآن قبله ، وانما كان مسبوقا بعدم وجود ، فيقال لكم : ما ذا
تعنون بالآنات التي أنكرتم الحكم عليها بالتسلسل هل تعنون بها مدة الأزمنة الكائنة
منذ خلق الله السموات والأرض وما فيهما من الأشياء ، ولا نظنكم تعنون بالزمان الا
ذلك بدليل أنكم تقيسون الزمان بحركات الافلاك ودورانها ، فهذا يفيد أن الزمان
عندكم حادث بحدوث هذه
الافلاك ، وأنه
قبل خلق السموات والأرض لم يكن في زعمكم شيء من الأكوان موجودا ونحن نسألكم : هل
عندكم على ذلك دليل من نقل أو عقل ، فهذا كتاب الله عزوجل وهذه الآثار المروية عن رسوله صلىاللهعليهوسلم وأصحابه ، وهذه هي الفطرة الانسانية التي فطر الله الناس
عليها ، وهذه هي بداية العقول ومسلماتها ، فأين تجدون زعمكم في شيء من هذه الأربع
التي هي مرجع كل حجة ومصدر كل دليل ، انا نحاكمكم الى أيها شئتم حتى يتبين الحق
ويتضح ، ويظهر أنكم لا ترجعون في قولكم هذا الى دليل معتبر ولا حجة بينة.
* * *
أو ليس خلق
الكون في الأيام كا
|
|
ن وذاك مأخوذ من
القرآن
|
أو ليس ذلكم
الزمان بمدة
|
|
لحدوث شيء وهو
عين زمان
|
فحقيقة الأزمان
نسبة حادث
|
|
لسواه تلك حقيقة
الأزمان
|
واذكر حديث
السبق للتقدير والتو
|
|
قيت قبل جميع ذي
الأعيان
|
خمسين الفا من
سنين عدها المخ
|
|
تار سابقة لذي
الأكوان
|
هذا وعرش الرب
فوق الماء من
|
|
قبل السنين بمدة
وزمان
|
الشرح
: يعني أن الأدلة من
النقل والعقل دلت على فساد زعم هؤلاء أن السموات والأرض هما أول المخلوقات وأنه لم
يكن قبلهما شيء يمكن أن يقاس به الزمان ، فقد ذكر الله عزوجل في عدة مواضع من القرآن أنه خلق السموات والأرض في ستة
أيام ، وهذه الأيام التي جعلها الله مدة وظرفا لذلك الخلق هي جملة معينة من الزمان
، وحقيقة الزمان هي نسبة حادث الى آخر ، فلا بد أن تكون هذه الأيام مقدرة بحركة
أخرى غير سير الشمس والقمر اذ كانت سابقة عليهما وهذا يدل على وجود أزمنة ومخلوقات
قبل خلق السموات والأرض ، وهذا هو ما يشهد له الحديث الصحيح الذي يقول فيه الرسول صلىاللهعليهوسلم «قدر الله مقادير
الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء» والحديث
الآخر الذي بمعناه «أن الله لما خلق القلم قال له اكتب ، قال
ما اكتب؟ قال اكتب
كل ما هو كائن إلى يوم القيامة. فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة ،
وذلك قبل خلق السموات والأرض بخمسين الف عام وكان عرشه على الماء».
فهذا صريح في وجود
مخلوقات قبل السموات والأرض حيث أخبر أن التقدير سابق على وجود هذه الأعيان بخمسين
الف سنة ، ووجود العرش كان سابقا على هذا التقديم بدليل قوله «وكان عرشه على الماء»
أي عند كتابة القلم للمقادير ، ولا يدري الا الله كم من السنين كان العرش على
الماء قبل أن يجري القلم بما جرى به من قدر الله عزوجل.
* * *
والناس مختلفون
في القلم الذي
|
|
كتب القضاء به
من الديان
|
هل كان قبل
العرش أو هو بعده
|
|
قولان عند أبي
العلا الهمداني
|
والحق أن العرش
قبل لأنه
|
|
قبل الكتابة كان
ذا أركان
|
وكتابة القلم
الشريف تعقبت
|
|
ايجاده من غير
فصل زمان
|
لما براه الله
قال أكتب كذا
|
|
فغدا بأمر الله
ذا جريان
|
فجرى بما هو
كائن أبدا الى
|
|
يوم المعاد
بقدرة الرحمن
|
الشرح
: اختلف العلماء هل
القلم كان قبل العرش أو بعده ، وأيهما كان أول المخلوقات؟ قولان ذكرهما الحافظ أبو
العلاء الهمداني ، أصحهما أن العرش كان قبل القلم ، لما في الصحيح من حديث عبد
الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «كتب الله مقادير
الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين الف سنة وعرشه على الماء».
فهذا صريح أن
التقدير أنما وقع بعد خلق العرش ، والتقدير وقع عند أول خلق القلم بلا مهلة لما
رواه أبو داود عن عبادة بن الصامت قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول «أن أول ما خلق الله القلم فقال له أكتب ، قال يا رب
وما ذا أكتب قال اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة» يعني أنه عند أول خلقه
للقلم قال له اكتب
، بدليل الرواية الأخرى «أول ما خلق الله القلم قال له اكتب» بنصب اوّل على
الظرفية ، ونصب القلم على المفعولية. وأما على رواية رفع أول والقلم فيتعين حمله
على أنه أول المخلوقات من هذا العالم ـ يعني عالم الأقلام ـ ليتفق الحديثان ، اذ
حديث عبد الله بن عمرو صريح في أن العرش سابق على التقدير ، والتقدير مقارن لخلق
القلم. وفي اللفظ الآخر «لما خلق الله القلم قال له اكتب» فجرى القلم بما هو كائن
الى يوم القيامة بقدرة الله عزوجل.
* * *
أفكان رب العرش
جل جلاله
|
|
من قبل ذا عجز
وذا نقصان
|
أم لم يزل ذا
قدرة والفعل ق
|
|
دور له أبدا وذو
امكان
|
فلئن سألت وقلت
ما هذا الذي
|
|
اداهم لخلاف ذا
التبيان
|
ولأي شيء لم
يقولوا إنه
|
|
سبحانه هو دائم
الاحسان
|
فأعلم بأن القوم
لما أسسوا
|
|
أصل الكلام عموا
عن القرآن
|
وعن الحديث
ومقتضى المعقول بل
|
|
عن فطرة الرحمن
والبرهان
|
وبنوا قواعدهم
عليه فقادهم
|
|
قسرا الى
التعطيل والبطلان
|
الشرح
: أفبعد هذا البيان
الذي دل على وجود مخلوقات قبل هذا العالم ووجود زمان قبل هذا الزمان يصح أن يقال
أن رب العرش قبل وجود هذا العالم كان عاجزا عن الفعل والايجاد ، فيما لم يزل ، أم
الحق هو عكس ذلك تماما ، وهو أنه سبحانه لم يزل قادرا على ايجاد الفعل والفعل لم
يزل مقدورا له ممكنا.
فلئن سأل سائل عما
حدا بهؤلاء الخصوم إلى المنازعة في تلك القضية التي تتألق وضوحا وتبيانا ، ولما ذا
لم يقولوا بما قال به السلف من أنه سبحانه دائم الإحسان وقديمه ، فإنا نقول له :
إن هؤلاء المخذولين اغتروا بعقولهم الفاسدة وبما أصلته لهم من أصول باطلة ، فعموا
بسبب ذلك عن كل ما يصلح أن يكون حجة ودليلا عموا عن القرآن والحديث ، وعموا عن
الفطرة الإنسانية وعما يقتضيه العقل السليم والنظر الصحيح ، لقد أسسوا لهم أصلا في
الكلام وبنوا عليه جميع قواعدهم ،
فقادهم هذا الأصيل
الفاسد رغما عنهم إلى التعطيل والإنكار ، وهذا الأصل هو :
* * *
نفي القيام لكل
أمر حادث
|
|
بالرب خوف تسلسل
الأعيان
|
فيسد ذاك عليهم
في زعمهم
|
|
إثبات صانع هذه
الأكوان
|
إذ أثبتوه يكون
ذي الاجساد حا
|
|
دثة فلا تنفك عن
حدثان
|
فإذا تسلسلت
الحوادث لم يكن
|
|
لحدوثها إذ ذاك
من برهان
|
فلأجل ذا قالوا
التسلسل باطلا
|
|
والجسم لا يخلو
عن الحدثان
|
فيصح حينئذ حدوث
الجسم من
|
|
هذا الدليل بواضح
البرهان
|
هذي نهايات
لاقدام الورى
|
|
في ذا المقام
الضيق الاعطان
|
فمن الذي يأتي
بفتح بين
|
|
ينجي الورى من
غمرة الحيران
|
فالله يجزيه
الذي هو أهله
|
|
من جنة المأوى
مع الرضوان
|
الشرح
: هذا هو الأصل الذي
أسسوه وبنوا عليه مذاهبهم في تعطيل الرب سبحانه عن صفاته الاختيارية التي تحدث في
ذاته بمشيئته وهو الحكم بامتناع قيام الحوادث بذاته اذ لو قامت به الحوادث من
الأفعال لوجب القول بتسلسلها وتعاقبها في الوجود شيئا قبل شيء لا إلى أول ، وهذا
يؤدي بدوره إلى القول بتسلسل الأعيان التي هي المفعولات وبذلك تكون هذه المفعولات
قديمة فينسد حينئذ طريق اثبات الصانع اذ كان الطريق إلى اثباته هو لزوم الحدوث
لهذه المخلوقات وعدم انفكاكها عنه ، فإذا تسلسلت بطل دليل حدوثها فلأجل هذا قالوا
ببطلان التسلسل ولزوم الحدوث للأجسام .
__________________
وهذه الآراء التي
تقدم ذكرها هي غاية ما وصلت إليه عقول الورى في هذا المقام الذي هو مزلة الإقدام
ومضلة الإفهام فمن ذا يستطيع أن يأتي فيه بحكم بين وقول فصل ينجي به الناس من هذه
الحيرة الغامرة ويكون له عند الله ما هو له أهل من جنة ورضوان.
* * *
فاسمع إذا وافهم
فذاك معطل
|
|
ومشبه وهداك ذو
الغفران
|
هذا الدليل هو
الذي أرداهم
|
|
بل هد كل قواعد
القرآن
|
وهو الدليل
الباطل المردود
|
|
عند أئمة
التحقيق والعرفان
|
ما زال أمر
الناس معتدلا إلى
|
|
أن دار في
الأوراق والأذهان
|
وتمكنت أجزاؤه
بقلوبهم
|
|
فأتت لوازمه إلى
الإيمان
|
رفعت قواعده
وتحت أسه
|
|
فهوى البناء وخر
للأركان
|
وجنوا على
الإسلام كل جناية
|
|
اذ سلطوا
الاعداء بالعدوان
|
الشرح
: بعد أن أورد
المؤلف الأصل الذي بنى عليه أهل الكلام قواعدهم الفاسدة في منع قيام الحوادث بذاته
تعالى ، وزعمهم أن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث ، واتخاذهم من هذه القضية
الكاذبة التي يزعمون أن عقولهم قد أجمعت على صحتها أساسا لنفي صفات الفعل والصفات
الاختيارية التي تحدث في ذاته تعالى بمشيئته وقدرته أراد بعد ذلك أن يبين فساد هذا
الدليل الذي تشبثوا به فذكر أن هذا الدليل هو الذي أوقعهم في الهلكة وأضلهم عن
سواء السبيل كما أنه قد هدم كل ما جاء به القرآن الحكيم من قواعد الإيمان فقد وصف
الله نفسه في كتابه بأنه كلم موسى عند مجيئه للميقات وناداه من جانب الطور الأيمن
وأنه استوى على عرشه بعد خلق السموات والأرض ، وأنه ينزل كل ليلة الى سماء الدنيا
، وأنه سيأتى ويجيء يوم القيامة ، وأنه يحب المؤمنين ويرضى عنهم ويبغض الكافرين
ويغضب عليهم ، وأنه يفرح بتوبة عبده التائب وأنه يسمع أصوات عباده حين تحدث ويرى
حركاتهم وأعمالهم إلى غير ذلك من الآيات التي لا
تحصى كثرة والتي
تدل أقوى دلالة على حدوث هذه الأفعال في ذاته تعالى بمشيئته وقدرته ، فكيف إذا يصح
قول هؤلاء الجاهلين أن ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث دون أن يفرقوا بين جنس
الحوادث وأعيانها فالممنوع هو قيام أشخاص الحوادث بذاته بمعنى أن يكون لها ابتداء
في ذاته ، أما قيام اجناس الحوادث وحدوث آحادها في ذاته شيئا بعد شيء وفي وقت دون
آخر بمعنى أنه لم يزل فاعلا لها إذا شاء فإنه لا يدل على امتناعه دليل بل نصوص
الكتاب والسنة تثبته ولا تنفيه.
فقد تبين بذلك
بطلان دليل هؤلاء وفساده ومصادمته للنصوص ولهذا اشتغل برده وابطاله كثير من أئمة
التحقيق والعرفان. ولقد كان أمر الناس معتدلا وبعيدا عن الزيغ والانحراف قبل أن
يلقي الشيطان بهذا الدليل إلى أوليائه من الانس ، ويدفعهم إلى أن يشيعوه بين الناس
ويشتغلوا به كتابة وتفكيرا حتى تمكنت قضاياه من قلوبهم فالتزموا من أجله اللوازم
الفاسدة التي أتت على الإيمان من القواعد حتى هوى بناؤه وتداعت أركانه. وجنوا على
الإسلام أكبر جناية ومكنوا منه أعداءه وأعطوهم السلاح الذي يستطيعون محاربته به ،
فقد جاء الفلاسفة واستغلوا هذا الدليل الذي هو عمدة المتكلمين في القول بالإيجاب
ونفي الاختيار عن الله عزوجل والقول بقدم العالم الخ.
* * *
حملوا بأسلحة
المحال فخانهم
|
|
ذاك السلاح فما
اشتفوا بطعان
|
وأتى العدو إلى
سلاحهم فقا
|
|
تلهم به في غيبة
الفرسان
|
يا محنة الإسلام
والقرآن من
|
|
جهل الصديق وبغي
ذي طغيان
|
والله لو لا
الله ناصر دينه
|
|
وكتابه بالحق
والبرهان
|
لتخطفت أعداؤنا
أرواحنا
|
|
ولقطعت منا عرى
الإيمان
|
الشرح
: يعني أن هؤلاء
الجهلة من المتكلمين الذين لا يحسنون الدفاع عن الإسلام ضد خصومه وأعدائه حملوا
على هؤلاء الخصوم بأسلحة مفلولة ، والمراد بها الادلة الباطلة المحالة فخانهم
سلاحهم ولم يسعفهم ولا شفى منهم الصدور عند
الطعان ، ثم جاء
العدو الماكر فاستلب منهم هذا السلاح وقاتلهم به فاصماهم حيث قال لهم أنتم تمنعون
قيام الحوادث بذاته تعالى ، فلما ذا قلتم بحدوث العالم مع أن كل ما يحتاج إليه في
الفعل موجود في الأزل من علم شامل وقدرة تامة وإرادة نافذة فلما ذا إذا يتأخر وجود
المراد مع أنه لم يحدث في ذات الرب سبحانه شيء لا تجدد قدرة ولا إرادة ولا وجود
آلة يستعين بها على الايجاد الخ.
وهكذا قاتلتم
العدو بنفس السلاح ، وكان ذلك في غيبة فرسان الإسلام الحقيقين ذوي الاسلحة
الماضية. وهكذا كانت محنة الإسلام والقرآن في الصديق الجاهل كمحنته في العدو
الظالم ، فتعاون الفريقان على هدمه وافساده وإن كان الفريق الأول لم يقصد إلى ذلك
ولو لا أن الله ناصر دينه وكتابه بالحجة والبرهان لمزقنا الاعداء شر ممزق ولسلبونا
أرواحنا من جسومنا ولقطعوا منا عرى الإيمان.
* * *
أيكون حقا ذا
الدليل وما اهتدى
|
|
خير القرون له
محال ذان
|
وفتقتم للحق إذ
حرموه في
|
|
أصل اليقين
ومقعد العرفان
|
وهديتمونا للذي
لم يهتدوا
|
|
أبدا به وأشدة
الحرمان
|
ودخلتم للحق من
باب وما
|
|
دخلوه وا عجبا
لذا الخذلان
|
وسلكتم طرق
الهدى والعلم دو
|
|
ن؟؟؟؟ عجبا لذا
البهتان
|
وعرفتم الرحمن
بالأجسام
|
|
والاعراض
والحركات والألوان
|
وهم فما عرفوه
منها بل من
|
|
الآيات وهي فغير
ذي برهان
|
الله أكبر أنتم
أو هم على
|
|
حق وفي غي وفي
خسران
|
الشرح
: ينكر المؤلف على
هؤلاء المتكلمين اعتمادهم في اثبات وجود الله عزوجل الذي هو أعظم المطالب في الدين على هذا الدليل المتقدم
المبني على حدوث الجواهر والاعراض ، حتى ذهب بعضهم جهلا وغلوا إلى أن من لم يؤمن
بالله عن طريقه لم يصح إيمانه ، فهن يقول لهم لو كان دليلكم هذا حقا ، ويتوقف
الإيمان بالله عزوجل على معرفته ، كيف لم يهتد إليه خير القرون وأفضلها ، وهم
أكمل
هذه الامة علما
وايمانا ، هذا محال ، وكيف يعقل أن توفقوا أنتم يا أذناب الفلاسفة واخوان الزنادقة
للحق في أصل اليقين وأساس الإيمان في حين يرجع هؤلاء الافاضل الكملة بالخيبة
والحرمان ، وكيف جاز أن تهتدوا أنتم إلى ما لم يهتدوا إليه أو تدخلوا إلى الحق من
باب لم يعرفوه أو تسلكوا إلى العلم والهدي طريقا لم يسلكوه ، ولكنكم لا تتورعون من
رمي القوم بالجهل وقلة المعرفة حيث قلتم أن مذهبنا أعلم وأحكم ، ومذهب السلف أسلم
، وزعمتم أنكم عرفتم ربكم بدليل العقل ، وهو يفيد القطع واليقين ، أما القوم فما
عرفوه إلا من طريق الآيات القرآنية ، وهي في زعمكم لا تفيد إلا الظن واقناع
السامعين.
فيا عجبا لكم
تخالفون طريق القوم وتزعمون أنكم على الحق والهدي ، فمن أحق بذلك ، أنتم أو هم؟ لا
شك أنهم أولى وأحق بكل حق وكل هدي ، وليس لمن خالفهم واتبع غير سبيلهم إلا الوقوع
في الغي والضلال.
* * *
دع ذا أليس انه
قد أبدى لنا
|
|
حق الأدلة وهي
في القرآن
|
متنوعات صرفت
وتظاهرت
|
|
في كل وجه فهي
ذو أفنان
|
معلومة للعقل أو
مشهودة
|
|
للحس أو في فطرة
الرحمن
|
أسمعتم لدليلكم
في بعضها
|
|
خبرا أو أحسستم
له ببيان
|
أيكون أصل لدين
ما تم الهدى
|
|
إلا به وبه قوى
الإيمان
|
وسواه ليس بموجب
من لم يحط
|
|
علما به لم ينج
من كفران
|
الشرح
: ولندع مخالفتكم
لطريق القوم جانبا ولنسألكم هل تعتقدون أن الله عزوجل قد بين لنا الأدلة الحقة على وجوده في القرآن وصرفها
ونوعها لتتظاهر على اثبات هذا الطلوب الأعظم من كل وجه ، وحتى لا يبقى فيه لبس ولا
خفاء أصلا ، فمنها ما هو معلوم للعقل ، ومنها ما هو مشهود للحس ، ومنها ما يرجع
إلى الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها فمع كل هذه الأدلة المتكاثرة التي
جاء بها القرآن هل سمعتم في بعضها خبرا عن دليلكم هذا الذي جعلتموه
عمدتكم في
الاستدلال وأهملتم لأجله كل ما جاء بالقرآن الكريم من أنواع الادلة بحجة أنها لا
تفيد ما يفيده هذا الدليل من قطع ويقين ، فهل يعقل أن يكون دليلكم ـ ولم يرد له في
كتاب الله ذكر ولا وقعت إليه اشارة مع كثرة ما أورد من أدلة ـ هو أصل اليقين
والإيمان وسواه من الادلة ليس بموصل لهذا المطلوب ولا محصل للايمان وأن الواجب هو
معرفة الله بهذا الدليل الفاسد ، وأن من لم يحط به علما لم ينج من كفران ولم تحصل
له حقيقة الايمان.
* * *
والله ثم رسوله
قد بينا
|
|
طرق الهدى في
غاية التبيان
|
فلأي شيء أعرضا
عنه ولم
|
|
نسمعه في أثر
ولا قرآن
|
لكن أتانا بعد
خير قروننا
|
|
بظهور أحداث من
الشيطان
|
وعلى لسان الجهم
جاءوا حزبه
|
|
من كل صاحب بدعة
حيران
|
ولذلك أشتد
النكير عليهم
|
|
من سائر العلماء
في البلدان
|
صاحوا بهم من كل
قطر بل رموا
|
|
في أثرهم بثواقب
الشهبان
|
عرفوا الذي يفضي
إليه قولهم
|
|
ودليلهم بحقيقة
العرفان
|
وأخو الجهالة في
خفارة جهله
|
|
والجهل قد ينجي
من الكفران
|
الشرح
: يعني أن الله
ورسوله قد بينا جميع الطرق المعرفة بالله غاية البيان ، فإذا كان دليل هؤلاء حقا
فلما ذا لم يذكره الله ولا رسوله ، ولم نسمع عنه لا في قرآن ولا أثر ، ولكنه دليل
باطل متهافت ومقدماته على ما فيها من خفاء وبعد ، ليست كلها صحيحة وهو دليل مبتدع
متلقى من مبادي الفلسفة اليونانية والوثنية فإن الكلام في الجسم والعرض والجوهر
وغيرها لم يظهر إلا بعد ترجمة هذه الفلسفة إلى العربية في عهد المأمون ومن بعده من
خلفاء العباسيين ، وكان أول من أحدثه هو الجهم وحزبه من المبتدعة الضلال ولهذا لما
اطلع أئمة الحق على حقيقة هذا الدليل وما فيه من تناقض واضطراب أنكروا على أهله
غاية الانكار وحذروا منه غاية التحذير لعلمهم بما يفضي إليه من لوازم فاسدة فيها
هدم لكل
قواعد الإسلام ،
ولسنا نعرف أحدا اختص هذا الدليل بالنقد المر اللاذع ، وابان عن تناقضه وفساده
بأدلة العقل والنقل بمثل ما فعل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهالله في كتابه (العقل والنقل) و (منهاج السنة) فقد أتى فيه بما
يشفي ويقنع فجزاه الله عن الإيمان وأهله خير الجزاء
* * *
فصل
في الرد على الجهمية المعطلة القائلين بأنه ليس على العرش
إله
يعبد ولا فوق السموات إله يصلى له ويسجد ، وبيان فساد قولهم
عقلا ونقلا ولغة وفطرة
والله كان وليس
شيء غيره
|
|
وبرأ البرية وهي
ذو حدثان
|
فسل المعطل هل
براها خارجا
|
|
عن ذاته أم فيه
حلت ذان
|
لا بد من
إحداهما أو أنها
|
|
هي عينه ما ثم
موجودان
|
ما ثم مخلوق
وخالقه وما
|
|
شيء مغاير هذه
الأعيان
|
لا بد من إحدى
ثلا ما لها
|
|
من رابع خلوا من
الروغان
|
ولذاك قال محقق
القوم الذي
|
|
رفع القواعد
مدعي العرفان
|
هو عين هذا
الكون ليس بغيره
|
|
أنى وليس مباين
الأكوان
|
كلا وليس مجانبا
أيضا لها
|
|
فهو الوجود
بعينه وعيان
|
الشرح
: أعلم أن هذه الصفة
وهي استواؤه تعالى على عرشه بمعنى علوه وارتفاعه على العرش بذاته على الكيفية التي
يعلمها هو سبحانه من أظهر ما وقع فيه النزاع بين أهل السنة وبين خصومهم ، وكانت
الشبهة التي سولت لهؤلاء المعطلة نفي الاستواء وغيره من الصفات التي وردت باثباتها
النصوص الصريحة من الكتاب والسنة الصحيحة أن هذه الصفات من لوازم الأجسام الحادثة
، فلو اتصف الله بها على الحقيقة لكان جسما ، والله منزه عن الجسمية ولوازمها ،
ولا
يخفى ما في هذه
الشبهة من المغالطة ، فإننا نثبت هذه الصفات لله على ما يليق به سبحانه ، فلا
ننفيها كما نفتها المعطلة ، ولا نمثلها بصفات خلقه كما فعلت الممثلة ، وبذلك لا
يقتضي اثباتها جسمية ولا حدوثا ، ولا يلزمنا ما أورده من اللوازم لكنهم توهموا أن
معاني هذه الصفات في الغائب لا يمكن أن تعقل إلا كما هي في الشاهد ، فقاسوا الله عزوجل على خلقه، وظنوا أن مقتضى التنزيه هو نفي هذه الصفات رأسا
، دون الاكتفاء بنفي المماثلة عنها ، فجرهم هذا الغلو في التنزيه الى الوقوع في
التعطيل وجحد ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله ، وتوسعوا في صفات السلوب ، حتى
يخيل لمن يطالع كتبهم أنهم لا يعنون بهذه الصفات شيئا موجودا متحقق الثبوت ، وإنما
يصفون بها أمرا افتراضيا صرفا لا حقيقة له، وكأني بك أيها القارئ تنظر إلي في دهشة
وتسألني في عجب من أين لهؤلاء ذلك النفي الصرف والتجريد المحض ، وهو لا أصل له في
دينهم ، ولا دليل عليه من كتاب ربهم ولا من أقوال نبيهم ، ولا هو مما نقل عن أحد
من سلف هذه الأمة الذين هم أكملها علما وايمانا ، وهل يعقل أن هؤلاء المعطلة قد
علموا من حقائق التنزيه ما لم يعلمه الله ولا رسوله ولا أحد من سلف هذه الأمة؟
وإني أقول لك مهلا أيها القارئ الكريم ، فسأحدثك عن الأسباب التي أوقعت هؤلاء في
تلك الفتنة وأوردتهم موارد الهلكة ، حتى يبطل بذلك عجبك وتزول دهشتك ، لقد نظر
قدماء هؤلاء المعطلة في كتب فلاسفة اليونان وغيرهم ، فوجدوا أنه يثبتون إلى جانب
هذا الوجود المادي المتمثل في الجواهر والاعراض وجودا آخر مجردا عن المادة
وعلائقها ، فهو ليس بجسم ولا عرض ولا عرض ولا بذي صورة ولا مقدار ولا كيفية ولا يشار
إليه بالإشارة الحسية بأنه هنا أو هناك ، ولا يجوز عليه قرب ولا بعد ، ولا اتصال
ولا انفصال ، ولا صعود ولا نزول الخ ما نعتوه به من السلوب التي تحيل وجوده وتجعله
من قبيل المعدومات والممتنعات.
وكان الفلاسفة
يقولون أن هذا الوجود المجرد هو أكمل من الوجود المادي لأنه لا يجوز عليه التغير
والاستحالة ولا تحله الاعراض ، وكانت المجردات عندهم هي الله والعقل والنفس
والهيولى والصورة.
فلما رأى المعطلة
ما قال الفلاسفة فرحوا به فرحا شديدا ، وظنوا أنهم وقعوا على كنز ثمين ، وأنهم
عثروا على مفتاح السر الذي يتيح لهم حل الألغاز والمعميات فقالوا وما لنا لا نثبت
هذا النوع من الوجود وان كنا لا نحسه ولا نراه ، وليس عندنا عنه أثر ولا خبر.
الم يثبته قبلنا
أرسطو وأفلاطون ، وهما بلا شك أصح منا عقولا وأجود أذهانا ، ولكنا لا نجعل هذا
الوجود الكامل إلا لله وحده ولا نصف به شيئا من هذه الموجودات الممكنة.
هذا هو أصل تلك
الأكذوبة التي راجت وانتشرت حتى عمت الأرجاء والأقطار ، وأفسدت بسمها المهلك كثيرا
من العقائد والأفكار ، وانخدع بها كثير من أهل الفضل والصلاح ممن لهم في علوم
الحديث والآثار قدم راسخة ، ولكن لا نقول الا كما قال موسىعليهالسلام : (إِنْ هِيَ إِلَّا
فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ) [الأعراف : ١٥٥].
أننا يا قوم معكم
في أن الله ليس جسما بالمعنى الذي اصطلح عليه أهل الكلام والفلسفة ، فهو ليس مركبا
من تلك الجواهر المفردة التي يزعمها المتكلمون ، ولا من الهيولى والصورة التي يهرف
بها الفلاسفة ، ولكنا مع ذلك لا نعقل موجودا ليس في مكان ولا حيز له ولا جهة ولا
يشار إليه ، ولا يوصف بقرب ولا بعد ولا اتصال ولا انفصال ، الخ ما ذكرتموه من نعوت
هذا الوجود الذي تسمونه مجردا ، وهل من الضروري أن يكون وجود الرب على هذا النحو
الذي يقتضي نفي كل صفة محضة ، والا لكان جسما ، أو ليس أحسن من ذلك وأقوم أن نثبت
له سبحانه وجودا خاصا به هو أكمل من هذه الموجودات الممكنة ، ويكون هذا الوجود
قابلا للاتصاف بكل هذي الصفات على وجه لا يكون مماثلا لاتصاف المخلوق بها ، بل لا
يكون هناك تشابه ولا اشتراك الا في مسمى الاسم الكلي المتناول لافراد تلك الصفة
المتباينة في وجودها العيني.
ولنرجع بعد هذه
المقدمة الى شرح كلام المؤلف ، فهو يقول لهؤلاء النافين لاستوائه تعالى على العرش
: أنتم توافقوننا على أن الله كان ولم يكن معه شيء ، ثم خلق هذه الموجودات الحادثة
، فأين خلقها؟ هل خلقها خارج ذاته ، فهي مباينة له منفصلة عنه أم خلقها داخل ذاته
، بحيث تكون حالته فيه ، لا بد لكم من القول بأحد هذين القولين ما دمتم تعتقدون أن
هذه الموجودات هي غيره ، فان كان موجودين اذا نسب أحدهما إلى الآخر ، فأما أن يكون
داخلا فيه أو خارجا عنه وليس هناك قسم ثالث الا اذا قلتم انها عينه ، وأنه ليس
هناك موجودان أحدهما خالق والآخر مخلوق ، فلا بد لكم من أحدى هذه الخصال الثلاث ،
أما أن تقولوا انها خارجة عنه ، أو تقولوا انها حالة فيه ، أو تقولوا أنها عينه ،
ودعوكم من هذا الروغان ، فإنها قسمة حاضرة تقتضيها ضرورة العقل ، ولا يجد المصنف
محيصا عنها.
ولهذا ذهب ابن
عربي واتباعه من أصحاب مذهب الوحدة الى القسم الثالث ، وهو ان الله عزوجل هو عين هذه الأكوان ، وليس هناك مباينة أصلا بين وجوده
ووجودها ، وليس هو مجانبا لها ، بل هو هذا الوجود بعينه وعيانه.
* * *
ان لم يكن فوق
الخلائق ربها
|
|
فالقول هذا
القول في الميزان
|
إذ ليس يعقل بعد
الا أنه
|
|
قد حل فيها وهي
كالابدان
|
والروح ذات الحق
جل جلاله
|
|
حلت بها كمقالة
النصراني
|
فأحكم على من
قال ليس بخارج
|
|
عنها ولا فيها
بحكم بيان
|
بخلافه الوحيين
والاجماع والعق
|
|
ل الصريح وفطرة
الرحمن
|
فعليه أوقع حد
معدوم وذا
|
|
حد المحال بغير
ما فرقان
|
الشرح
: بعد ما بين المؤلف
أن النسبة بين الله عزوجل وبين هذه الموجودات لا يمكن أن تخرج عن هذه الصور الثلاث ،
أما الانفصال والمباينة ، وأما الحلول والمداخلة ، واما نفي الغيرية وابطال
الاثنينية بينهما ، والقول بأن وجودهما واحد
قال بعد ذلك فإذا
لم يقل الجهمي بأن الله فوق عرشه مباين لخلقه ، كان عليه حينئذ أن يقول بما ذهب
إليه أصحاب وحدة الوجود من أن الوجود واحد وأن وجود الرب هو عين هذه الموجودات ،
أو ليس له بعد رفض هذين القولين الا ان يقول بما ذهب إليه الحلولية من أن العالم
جسم كبير ، وأن ذات الله عزوجل هي الروح السارية في هذا الجسم لحلول روح الحيوان في بدنه
، وذلك مثل ما قالته النصارى في عيسى عليهالسلام حيث زعموا أن الله حل فيه ، وأن اللاهوت وهو الله قد اتحد
بالناسوت ، يعنون جسد عيسى ، فصار الكل إلها واحدا ، واذا تبين أن الأمر لا يخلو
عن أحد من هذه الفروض الثلاثة ، فمن زعم أن الله ليس بخارج عن هذه الموجودات وليس
بحال فيها ، فقد نفي وجوده سبحانه ووصفه بصفات المعدوم الممتنع ، وكان بذلك مخالفا
للكتاب والسنة وإجماع الأمة ومناقضا لحكم العقل الصريح وحكم الفطرة السليمة التي
فطر الله عليها سائر خلقه.
* * *
يا للعقول اذا
نفيتم مخبرا
|
|
ونقيضه هل ذاك
في امكان
|
ان كان نفي
دخوله وخروجه
|
|
لا يصدقان معا
لذي الامكان
|
الا على عدم
صريح نفيه
|
|
متحقق ببداهة
الانسان
|
أيصح في المعقول
يا أهل النهى
|
|
ذاتان لا بالغير
قائمتان
|
ليست تباين
منهما ذات لأخ
|
|
رى أو تحاثيها
فيجتمعان
|
ان كان في
الدنيا محال فهو ذا
|
|
فارجع الى
المعقول والبرهان
|
الشرح
: يعجب المؤلف من
سخافة عقول هؤلاء المعطلة النفاة في قولهم أن الله ليس داخل العالم ولا خارجه ، مع
أن الدخول والخروج نقيضان والنقيضان يستحيل في العقل ارتفاعهما معا ، كما يستحيل
اجتماعهما معا ، بل لا بد من ثبوت أحدهما وانتفاء الآخر ، فإذا استحال أن يكون
الله داخل العالم لتنزهه عن الحلول في خلقه وجب ان يكون خارجه ، بأن يكون فوقه عاليا
عليه ، وانما يصدق نفي النقيضين معا على المعدوم الصريح الذي تحكم بديهة العقل
بامتناعه ، فهو الذي
يمكن أن يقال انه
لا داخل ولا خارج ، وأما الموجود الذي له ذات متحققة ثابتة إذا نسب الى موجود آخر
متحقق الذات فلا بد من أحد هذين الامرين ، أما أن يكون أحدهما داخلا في الآخر أو
خارجا عنه فلا يصح في العقل أبدا أن يكون هناك ذاتان كل منهما قائمة بنفسها لا
بغيرها ، ومع ذلك لا توصف كل منهما عند نسبتها الى الأخرى بأنها ، أما مباينة لها
منفصلة عنها أو مجانسة لها داخلة فيها ، بل أحد هذين الوصفين ضروري تحكم به بداهة
العقل والخلو عنهما معا من أمحل المحال.
* * *
فلئن زعمتم أن
ذلك في الذي
|
|
هو قابل من جسم
أو جسمان
|
والرب ليس كذا
فنفي دخوله
|
|
وخروجه ما فيه
من بطلان
|
فيقال هذا أولا
من قولكم
|
|
دعوى مجردة بلا
برهان
|
ذاك اصطلاح من
فريق فارقوا ال
|
|
وحي المبين بحكمة
اليونان
|
والشيء يصدق
نفيه عن قابل
|
|
وسواه في معهود
كل لسان
|
أنسيت نفي الظلم
عنه وقولك ال
|
|
ظلم المحال وليس
ذا امكان
|
ونسيت نفي النوم
والسنة التي
|
|
ليست لرب العرش
في الامكان
|
ونسيت نفي الطعم
عنه وليس ذا
|
|
مقبولة والنفي
في القرآن
|
ونسيت نفي ولادة
أو زوجة
|
|
وهما على الرحمن
ممتنعان
|
الشرح
: يشير المؤلف في
هذه الأبيات الى جواب هؤلاء المعطلة عما تقضي به ضرورة العقل من وجود الاتصاف بأحد
النقيضين ، واستحالة الخلو عنهما معا ، وملخص هذا الجواب أن ذلك انما يكون بالنسبة
الى ما هو قابل للاتصاف بالشيء أو بنقيضه ، فهو الذي يجب في حقه الاتصاف بأحدهما
ويستحيل خلوه عنهما ، فلا يصح أن يقال مثلا أن هذين الجسمين ليسا متصلين ولا
منفصلين لأن الجسم قابل للاتصال والانفصال فلا بد له من أحدهما ولكن الرب سبحانه
ليس من شأنه أن يتصف بالدخول ولا بنقيضه فيجوز حينئذ نفيهما عنه معا ولا يترتب على
ذلك محال.
وقد أجاب المؤلف
عن ذلك بأن تلك التفرقة بين القابل وغير القابل دعوى مجردة عن الدليل وهي مبنية
على اصطلاح الفلاسفة الذين فارقوا الوحي واعتصموا بفلسفة اليونان فإنهم يزعمون أن
التقابل ان كان بين الوجود والعدم كأن يقال الشيء أما موجود أو معدوم استلزم هذا
التقابل الحكم عليه بأحدهما ، وأما أن كان تقابلا بين الملكة وعدمها كما في
التقابل بين الحياة والموت ، والعلم والجهل ، والبصر والعمى الخ. فإن هذا التقابل
لا يستلزم الاتصاف بأحدهما أي بالملكة أو بعدمها الا فيما هو قابل للاتصاف بهما
فلا يوصف بالموت مثلا الا ما من شأنه أن يكون حيا ولا يوصف بالجهل الا ما هو قابل
للعلم ولا يوصف بالعمى الا ما كان ذا بصر وهكذا. وهذا اصطلاح فاسد مخالف لما هو
معروف عند أهل اللغات جميعا من جواز نفي الشيء عما هو له قابل وعن غيره. وهذا لازم
لكم أيضا فأنتم تنفون عنه الظلم سبحانه مع أنه غير قابل له عندكم لأن الظلم في حقه
محال ممتنع. وكذلك تنفون عنه السنة والنوم مع أنه غير قابل للاتصاف بشيء من ذلك
لاستحالته عليه وتنفون عنه الطعم أيضا ، وقد نفاه سبحانه عن نفسه في قوله : (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) [الأنعام : ١٤] مع أن الطعم ليس مما يقبل الرب الاتصاف به
وتنفون عنه كذلك الزوجة والولد وهما محالان عليه ممتنعان.
* * *
والله قد وصف
الجماد بأنه
|
|
ميت أصم وما له
عينان
|
وكذا نفى عنه
الشعور ونطقه
|
|
والخلق نفيا
واضح التبيان
|
هذا وليس بها
قبول للذي
|
|
ينفي ولا من
جملة الحيوان
|
ويقال أيضا
ثانيا لو صح ه
|
|
ذا الشرط كان
لما هما ضدان
|
لا في النقيضين
اللذين كلاهما
|
|
لا يثبتان وليس
يرتفعان
|
ويقال أيضا
نفيكم لقبوله
|
|
لهما يزيل حقيقة
الإمكان
|
بل ذا كنفي
قيامه بالنفس أو
|
|
بالغير في الفطرات
والأذهان
|
الشرح
: ومما يدل أيضا على
أن الشيء قد يقع وصفا لغير ما هو قابل له أن
الله عزوجل قد وصف الجماد في كتابه بالموت والصمم والعمى ونفي عنه
الشعور والنطق والقدرة على الخلق قال الله تعالى : (وَالَّذِينَ
يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ* أَمْواتٌ
غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) [النحل : ٢٠ ، ٢١]
وقال (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ
يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ
يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها) [الأعراف : ١٩٥]
وقال حكاية عن إبراهيم في سورة [مريم : ٤٢](يا أَبَتِ لِمَ
تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) ومعلوم أن الجماد غير قابل للاتصاف بملكات هذه الأعدام من
الحياة والسمع والبصر الخ. ومع ذلك جاز اتصافه بهذه الأعدام.
ويقال لهؤلاء أيضا
لو سلمنا لكم بصحة هذا الشرط وهو قابلية الموصوف للاتصاف ، وأن غير القابل يجوز
خلوه عن الشيء ومقابلة فإنما يكون ذلك في الضدين اللذين قد يرتفعان معا عن الشيء
مثل البياض والسواد ولا يجوز في النقيضين اللذين لا يرتفعان ولا يجتمعان ومعلوم أن
التقابل بين دخوله سبحانه في العالم وبين مباينته له هو من قبيل التقابل بين
النقيضين فلا بد من ثبوت أحدهما له.
ويقال لهؤلاء أيضا
أن نفيكم عنه قبول أحد هذين الوصفين الدخول والخروج من شأنه أن ينفي امكان وجوده
فضلا عن أن يكون واجب الوجود بل هذا يجعله من قبيل المعدوم الممتنع وهو يشبه في
الفساد نفي القيام بالنفس والقيام بالغير عنه بحجة أنه ليس من شأنه الاتصاف بواحد
منهما مع أن العقل والفطرة يقضيان بأن كل موجود فأما أن يكون قائما بنفسه أو قائما
بغيره ، فإذا استحال أن يقوم بغيره وجب أن يكون قائما بنفسه.
* * *
فإذا المعطل قال
أن قيامه
|
|
بالنفس أو
بالغير ذو بطلان
|
إذ ليس يقبل
واحد من ذينك ال
|
|
أمرين الا وهو
ذو امكان
|
جسم يقوم بنفسه
أيضا كذا
|
|
عرض يقوم بغيره
اخوان
|
في حكم امكان
وليس بواجب
|
|
ما كان فيه
حقيقة الامكان
|
فكلاكما ينفي
الاله حقيقة
|
|
وكلاكما في نفيه
سيان
|
الشرح
: بعد أن بين المؤلف
أن قول القائل الله أما داخل العالم أو خارجه هو مساو للقول بأنه أما قائم بنفسه
أو قائم بغيره في وجوب الاتصاف بواحد من المتقابلين لنقول بأنه أما قائم بنفسه أو
قائم بغيره في وجوب الاتصاف بواحد من المتقابلين ، فإذا كان الترديد بين القيام
بالنفس والقيام بالغير صحيحا يقتضي ثبوت أحدهما له سبحانه وهو القيام بالنفس لأنه
يناسب غناه فيجب أن يكون الترديد في قولنا أما داخل العالم أو خارجه صحيحا أيضا
مقتضيا لثبوت أحدهما له وهو كونه خارج العالم حتى لا يكون حالا في خلقه ، فإذا
ادعى المعطل وهو الفيلسوف الذي يرى أن القيام بالنفس يفهم المكانية أن ذلك الترديد
بين القيام بالنفس والقيام بالغير فاسد أيضا في حقه سبحانه لأنه ليس قابلا لواحد
منهما كما قيل في الدخول والخروج وانما يقبل واحد من هذين الامرين ما كان ممكنا من
الاجسام والاعراض فيقال الجسم ما قام بنفسه والعرض ما قام بغيره ولا شك ان الجسم
والعرض أخوان في حكم الامكان فتكون كل واحدة من هاتين الصفتين أعني القيام بالنفس
والقيام بالغير صفة لممكن وما كان ممكنا فليس بواجب فلا يجوز أن تقع واحدة منهما
صفة للواجب ، وبذلك يكون الترديد بينهما فاسدا ، فيقال له أن رفع النقيضين هنا بأن
يقال لا قائم بنفسه ولا بغيره مستلزم لنفي حقيقة الاله كما استلزمه رفعهما في
قولكم لا داخل ولا خارج فكلاكما في نفيه سواء لأن الضرورة التي قضت بثبوت أحد
الوصفين من الدخول والخروج هي بعينها التي تقتضي أن يثبت له إما القيام بالنفس
وأما القيام بالغير ، فكما لا يعقل موجود لا داخل ولا خارج فإنه لا يعقل موجود لا
يكون قائما بنفسه ولا بغيره.
* * *
ما ذا يرد عليه
من هو مثله
|
|
في النفي صرفا
اذا هما عدلان
|
والفرق ليس
بممكن لك بعد ما
|
|
ضاهيت هذا النفي
في البطلان
|
فوزان هذا النفي
ما قد قلته
|
|
حرفا بحرف أنتما
صنوان
|
والخصم يزعم أن
ما هو قابل
|
|
لكليهما فكقابل
لمكان
|
فأفرق لنا فرقا
يبين مواقع ال
|
|
إثبات والتعطيل
بالبرهان
|
أو لا فأعط
القوس باريها وخ
|
|
ل الفشر عنك
وكثرة الهذيان
|
الشرح
: يعني بما ذا
يستطيع نفاة الجهة من المعتزلة والاشاعرة الرد على الفيلسوف في قوله أن القيام
بالنفس والقيام بالغير كلاهما منفي عن الله لأنهما من خصائص الممكن مع أنهم مثله
في النفي المحض حيث قالوا بنفي الدخول والخروج لأنهما عندهم أيضا من خصائص الاجسام
وكيف يمكنهم أن يفرقوا بين ما نفوه هم وبين ما نفاه الفلاسفة مع أن النفيين في
ميزان العقل سواء فكلاهما مستلزم لنفي وجود الاله.
وهذا معنى قول
المؤلف رحمهالله فوزان هذا النفي أعني الذي نفته الفلاسفة ما قد قلته أنت
من نفي الدخول والخروج حرفا بحرف لا يختلف عنه قيد شعرة لكن الخصم وهو الفيلسوف
يزعم أنه انما نفي هذين الوصفين عن الله لأن القائل بكليهما لا بد أن يقبل الحلول
في المكان ، والله منزه عن المكانية فافرق لنا أنت بين ما نفيته من الدخول والخروج
وبين ما نفاه الفيلسوف فرقا يتبين منه بالبرهان ان كنت مثبتا أو معطلا والا فالزم
غرزك واعط القوس باريها ولا ترد من الموارد ما لا تعرف له صدرا.
* * *
فصل
في سياق هذا الدليل على وجل آخر
وسل المعطل عن
مسائل خمسة
|
|
تردى قواعده من
الاركان
|
قل للمعطل هل
تقول إلهنا ال
|
|
معبود حقا خارج
الاذهان
|
فإذا نفى هذا
فذاك معطل
|
|
للرب حقا بالغ
الكفران
|
وإذا أقر به
فسلفه ثانيا
|
|
أتراه غير جميع
ذي الأكوان
|
فإذا نفى هذا
وقال بأنه
|
|
هو عينها ما
هاهنا غيران
|
فقد ارتدى
بالاتحاد مصرحا
|
|
بالكفر جاحد ربه
الرحمن
|
حاشا النصارى أن
يكونوا مثله
|
|
وهم الحمير
وعابدو الصلبان
|
هم خصصوه
بالمسيح وأمه
|
|
وأولاء ما صانوه
عن حيوان
|
الشرح
: يريد المؤلف في
هذا الفصل أن يضيق الخناق على الخصم وأن يلزمه القول بأنه تعالى بائن من خلقه مستو
على عرشه ، فحصر المسألة في خمسة أمور لا بد للخصم من القول بأحدها ، فيسأله أولا
: هل تقول بأن الله موجود خارج الأذهان أو لا وجود له الا في الذهن ، فإذا نفى
وجوده خارج الذهن فقد حكم على نفسه بالتعطيل وجحد الصانع ، وذلك غاية الكفر ، واذا
أقر بوجوده تعالى خارج الأذهان يسأل ثانيا : هل تقول بأن وجود الله غير وجود هذه
الأكوان أو تراه عينها ، فإذا نفى مغايرة وجوده سبحانه لوجود خلقه وقال : بل هو
عينها وليس هناك غيران ، فقد اتشح بثوب الاتحاد ، وصرح على نفسه بالكفر وجحد وجود
الرب جل شأنه ، بل كان أشد كفرا من النصارى عبدة الصلبان ، لأنهم لم يقولوا
باتحاده سبحانه بجميع خلقه ، ولكنهم خصوا ذلك بالمسيح وأمه مريم العذراء ، وأما
هذا الاتحادي فقد زعم أن الله متحد بجميع خلقه بما في ذلك الحيوانات المنحطة من
القردة والخنازير ونحوها ، فلم يصنه عن الاتحاد بهذه الحيوانات وغيرها من
المستقذرات.
* * *
وإذا أقر بأنه
غير الورى
|
|
عبد ومعبود هما
شيئان
|
فأسأله هل هذا
الورى في ذاته
|
|
أم ذاته فيه هنا
أمران
|
وإذا أقر بواحد
من ذينك الا
|
|
مرين قبل خده
النصراني
|
ويقول أهلا
بالذي هو مثلنا
|
|
خشداشنا وحبيبنا
الحقاني
|
وإذا نفى
الأمرين فأساله إذا
|
|
هل ذاته استغنت
عن الأكوان
|
فلذاك قام بنفسه
أم قام بالأ
|
|
عيان كالأعراض
والأكوان
|
فإذا أقر وقال
به هو قائم
|
|
بالنفس فأساله
وقل ذاتان
|
بالنفس قائمتان
أخبرني هما
|
|
مثلان أو ضدان
أو غيران
|
وعلى التقادير
الثلاث فإنه
|
|
لو لا التباين
لم يكن شيئان
|
ضدين أو مثلين
او غيرين كا
|
|
نا بل هما لا شك
متحدان
|
فلذاك قلنا انكم
باب لمن
|
|
بالاتحاد يقول
بل بابان
|
نقطتم لهم وهم
خطوا على
|
|
نقط لكم كمعلم
الصبيان
|
الشرح
: أما إذا أقر
المعطل بأن الله والعالم شيئان متغايرات ، فهذا عبد وذاك معبود ، يسأل مرة أخرى :
هل تقول بحلول هذا العالم في ذاته ، أو تقول بحلوله هو في العالم أو لا ، فإذا أقر
بواحد منهما وفقد وافق النصارى القائلين بحلول الله في المسيح ، بل صار شرا منهم ،
لأنهم خصوا هذا الحلول بالمسيح ، وأما هو فقد جعله حالا في جميع خلقه ، فيقر بذلك
عين النصارى ويصير حبيبا لهم لمضاهاة قوله لقولهم.
وأما إذا نفى عنه
الحلول بنوعيه ، أعني حلوله هو في العالم وحلول العالم فيه ، فيسأل هل تعتقد أنه
تعالى قائم بنفسه مستغن في وجوده عن غيره ، كهذه الاعيان القائمة بنفسها ، أو تراه
من جملة الاعراض والأكوان التي لا تقوم بنفسها ، بل يكون وجودها تابعا لوجود ما
تقوم به من الأعيان ، فإذا أقر بالأول ، وهو أنه تعالى قائم بنفسه يسأل عن النسبة
بين الله وبين هذا العالم ، فيقال له : هنا ذاتان كل منهما قائمة بنفسها ، فأخبرنا
هل هما مثلان أو ضدان أو غيران ، إذ لا يمكن أن تخرج النسبة بينهما عن هذه الفروض
الثلاثة ، وعلى كل واحد من هذه التقادير الثلاث يلزمك القول بالتباين والانفصال ،
إذ لو لا التباين لم يثبت واحد من هذه الثلاثة ، ولم يكن شيئان ، لا ضدين ولا
مثلين ولا غيرين ، بل يكونان متحدين.
ومن هنا كان هؤلاء
النفاة لوجوده تعالى خارج العالم بائنا من خلقه مستويا
على عرشه بابا لمن
قال بالاتحاد ، فإن هؤلاء الاتحادية لما جاروهم في ذلك النفي ولم تسغ عقولهم
موجودا لا داخل العالم ولا خارجه ، حكموا بأن الله هو عين هذا العالم ، وصرحوا
بالاتحاد ، بل أن هؤلاء النفاة أيضا كانوا بابا ولج منه الحلولية الذين زعموا أن
الله هو الروح السارية في العالم ، لأنهم لما وافقوا هؤلاء في أن الله ليس خارج
العالم ، ولم يعقلوا موجودا لا داخلا ولا خارجا حكموا بحلوله فيه وسريانه في جميع
أجزائه ، فصار هؤلاء الجهمية النفاة أساتذة لهؤلاء الاتحادية والحلولية ينقطون لهم
نقطا وهم يخطون عليها كما يفعله معلم الصبيان.
وملخص هذا الدليل
على طريقة السير والتقسيم المعروفة أن الله سبحانه أما أن يكون موجودا خارج
الأذهان أو لا ، والثاني مستلزم لنفيه وجحوده والأول أما أن يكون وجوده غير وجود
هذه الأكوان أو لا ، بأن يكون عينها ، والثاني مستلزم للقول بالاتحاد ، وهو كفر ،
والأول اما أن يكون متصلا بالأشياء اتصال حلول ، بأن تكون قد حلت فيه أو حل فيها
أو لا ، والأول مستلزم للقول بالحلول الذي قالت به النصارى هو كفر ، والثاني أما
أن يكون قائما بنفسه مستغنيا عن الأكوان أو لا ، والثاني يستلزم كونه عرضا قائما
بالأعيان ، وهو كفر ، فثبت من ذلك أنه موجود بوجود مغاير لوجود الأشياء غير حال
فيها ولا حالة فيه وليس هو عرضا لها ، بل هو وجود قائم بنفسه ، والعالم قائم بنفسه
، فإذا نسب أحدهما إلى الآخر فلا يخلو ، إما أن يكونا مثلين أو ضدين أو غيرين ،
وعلى كل فهما منفصلان متباينان فثبت أن الله مباين للعالم وأنه فوقه عال عليه.
* * *
فصل
في الاشارة الى الطرق النقلية الدالة
على أن الله تعالى فوق سماواته على عرشه
ولقد أتانا عشر
أنواع
|
|
من المنقول في
فوقية الرحمن
|
مع مثلها أيضا
تزيد بواحد
|
|
ها نحن نسردها
بلا كتمان
|
منها استواء
الرب فوق العرش في
|
|
سبع أتت في محكم
القرآن
|
وكذلك اطردت بلا
لام ولو
|
|
كانت بمعنى
اللام في الأذهان
|
لأتت بها في
موضع كي يحمل ال
|
|
باقي عليها
بالبيان الثاني
|
ونظير ذا
اضمارهم في موضع
|
|
حملا على
المذكور في التبيان
|
لا يضمرون مع
اطراد دون ذكر
|
|
المضمر المحذوف
دون بيان
|
بل في محل الحذف
يكثر ذكره
|
|
فإذا هم ألفوه
إلف لسان
|
حذفوه تخفيفا
وايجازا فلا
|
|
يخفى المراد به
على الانسان
|
هذا ومن عشرين
وجها يبطل
|
|
التفسير باستولى
لذي العرفان
|
قد أفرد بمصنف
لامام هذا
|
|
الشأن بحر
العالم الرباني
|
الشرح
: بعد أن فرغ المؤلف
من إيراد الطرق العقلية التي لا تقبل الجدل على استوائه تعالى على عرشه بذاته ،
شرع في إيراد النصوص المثبتة لذلك من الكتاب والسنة وأقوال السلف والأئمة رضي الله
عنهم ، وقد بلغ بها المؤلف واحدا وعشرين نوعا أولها : اخباره سبحانه عن نفسه بأنه
استوى على عرشه ، وقد جاء في سبع مواضع من القرآن الكريم : في سورة الأعراف ،
ويونس ، والرعد ، وطه ، والفرقان ، والم تنزيل السجدة والحديد. وقد عدى فعل
الاستواء في هذه المواضع كلها بعلى التي هي نص في الدلالة على العلو والارتفاع ،
كما اطراد فيها لفظ الاستواء بدون لام ، مما يدل على أنه لم يرد به إلا الاستواء
الحقيقي ، اذ لو كان استوى معناه استولى كما يزعم الجهمية والمعطلة لوجب أن يذكر
هذا اللفظ ولو في موضع واحد كي يحمل لفظ الاستواء في بقية المواضع عليه.
هذا ما يقتضيه
الكلام البليغ أن يؤتى في أحد المواضع بلفظ يعين المراد نصا فإذا جاءت بعد ذلك
ألفاظ مجملة يحتمل هذا المعنى وغيره حملت عليه ، ونظير هذا أنهم يضمرون في بعض
المواضع بعد الذكر في بعضها حملا على المذكور في الكلام واعتمادا على فهم المخاطب
المقصود بهذه الضمائر ، ولكنهم لا يضمرون أبدا باطراد دون ذكر سابق للمضمر المحذوف
، بل قد يكثرون من ذكر الشيء في
مواضع حذفه ، حتى
إذا ألف وصار مشهورا حذفوه تخفيفا وإيجازا اتكالا على وضوح المراد.
هذا وقد أبطل شيخ
الإسلام ابن تيمية تأويل الاستواء بالاستيلاء من عشرين وجها ، أفردها بمصنف خاص ،
وفيها الكفاية كل الكفاية لمن أراد أن يعرف زيغ هؤلاء المؤولة وبعدهم عن جادة الحق
، وكفى بمذهبهم شناعة أن الله يقول استوى ، وهم يقولون ما استوى ولكن استولى ، فهل
كان الله عاجزا عن زيادة لام يزيل بها الاشكال ويوضح المراد.
وما أحسن ما قيل
أن لام الجهمية كنون اليهودية ، فاليهود قيل لهم قولوا حطة فقالوا حنطة ، وهؤلاء
قيل لهم : استوى ، فقالوا استولى ، تشابهت قلوبهم.
* * *
فصل
هذا وثانيها
صريح علوه
|
|
وله بحكم صريحة
لفظان
|
لفظ العلى ولفظه
الأعلى معر
|
|
فة لقصد بيان
|
ان العلو له
بمطلقه على الت
|
|
عميم والاطلاق
بالبرهان
|
وله العلو من
الوجوه جميعها
|
|
ذاتا وقهرا مع
علو الشأن
|
لكن نفاة علوه
سلبوه أك
|
|
مال العلو فصار
ذا نقصان
|
حاشاه من أفك
النفاة وسلبهم
|
|
فله الكمال
المطلق الرباني
|
الشرح
: هذا هو النوع
الثاني من الدلائل النقلية وهو التصريح بالعلو في قوله تعالى : (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) [البقرة : ٢٥٥]
وقوله : (سَبِّحِ اسْمَ
رَبِّكَ الْأَعْلَى) [الأعلى : ١] فكل
من هذين الاسمين الكريمين صريح في إثبات علوه تعالى ، وقد جيء بكل منها معرفة
لافادة أن الثابت له سبحانه هو العلو المطلق من كل وجه علو الذات وعلو القدر
والعظمة وعلو القهر والجبروت ، ولكن المعطلة بناء على أصلهم الفاسد يحملون العلو
في هذه الآيات على المعنيين
الأخيرين أعني علو
القدر والقر فقط وينفون عنه المعنى الأول وهو علو الذات ، ولا شك أن العلو المطلق
من كل وجه أكمل من العلو الذي يكون مقيدا ببعض الوجود فم بتقييدهم للعلو سلبوه
سبحانه كمال العلو ، وسلب الكمال مستلزم للنقص ، وحاشاه سبحانه مما يأفك به هؤلاء
النفاة من نقصه في علوه بل له الكمال المطلق في علوه وفي سائر صفاته.
* * *
وعلوه فوق
الخليقة كلها
|
|
فطرت عليه الخلق
والثقلان
|
لا يستطيع معطل
تبديلها
|
|
أبدا وذلك سنة
الرحمن
|
كل إذا ما نابه
أمر يرى
|
|
متوجها بضرورة
الإنسان
|
نحو العلو فليس
يطلب خلفه
|
|
وأمامه أو جانب
الانسان
|
ونهاية الشبهات
تشكيك
|
|
وتخميش وتغبير
على الايمان
|
لا يستطيع تعارض
المعلوم وال
|
|
معقول عند بدائه
الإنسان
|
فمن المحال
القدح في المعلوم
|
|
بالشبهات هذا
بين البطلان
|
وإذا البداءة
قابلتها هذه
|
|
الشبهات لم تحتج
إلى بطلان
|
شتان بين مقالة
أوصى بها
|
|
بعض لبعض أول
للثاني
|
ومقالة فطر
الإله عباده
|
|
حقا عليها ما
هما عدلان
|
الشرح
: هذا استدلال على
علوه تعالى فوق خلقه بدليل الفطرة الذي هو أقوى من دليل العقل عند من أنصف لاستناده
إلى فطرة الله التي فطر الناس عليها فلا يستطيع أحد تبديلها ، وذلك أن الله عزوجل قد فطر عباده على أن يتوجهوا في دعائهم الى جهة الفوق
رافعي أكفهم رائين بأبصارهم حتى أن كل من نابه من العباد أمر أو مسه ضر يرى متوجها
بفطرته إلى جهة العلو وحدها دون الأمام أو الخلف أو اليمين أو الشمال ، ولو رجع
هؤلاء المعطلة إلى أنفسهم لوجدوا هذا المعنى مركوزان في فطرهم ، ولكنهم يكابرون
ويحاولون اثارة الشبهات حول ما هو معلوم بالنقل والعقل والفطرة ، ولكن نهاية
شبهاتهم هي
اثارة الشكوك
والتغيير في وجه الايمان إذ هي لا تقوى على معارضة أمر ثابت بضرورة العقل ومعلوم
بالبديهة فإنه من المحال أن تنال الشبهات من المعلوم على وجه اليقين فإذا حصلت
مقابلة بينهما فلا شك أن هذه الشبهات تضمحل وتزول ويبقى الحق ثابتا فإنه شتان بين
قضية وهم أوصى بها كل معطل من خلفه وبين قضية فطرة فطر الله العباد عليها وما هما
في ميزان العدل سواء؟
* * *
فصل
هذا وثالثها
صريح الفوق مص
|
|
حوبا بمن
وبدونها نوعان
|
إحداهما هو قابل
التأويل والأ
|
|
صل الحقيقة
وحدها ببيان
|
فإذا ادعى تأويل
ذلك مدع
|
|
لم تقبل الدعوى
بلا برهان
|
لكنما المجرور
ليس بقابل التأ
|
|
ويل في لغة وعرف
لسان
|
وأصح لفائدة
جليل قدرها
|
|
تهديك للتحقيق
والعرفان
|
إن الكلام إذا
أتى بسياقة
|
|
يبدي المراد لمن
له أذنان
|
أضحى كنص قاطع
لا يقبل
|
|
التأويل يعرف ذا
أولو الأذهان
|
فسياقة الألفاظ
مثل شواهد ال
|
|
أحوال انهما لنا
صنوان
|
إحداهما للعين
مشهود بها
|
|
لكن ذاك لمسمع
الإنسان
|
الشرح
: هذا هو الوجه
الثالث من الوجوه الدالة على علوه تعالى ، وهو التصريح بلفظ الفوق في القرآن
الكريم مصحوبا بمن أحيانا ، كما في قوله تعالى في صفة ملائكته : (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) [النحل : ٥٠] وبدونها
أخرى ، كما في قوله تعالى : (وَهُوَ الْقاهِرُ
فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) [الأنعام : ١٨]
ولا شك أن الفوق المجرور بمن نص في معناه لا يقبل التأويل ، إذ لا يقال هذا اللفظ
إلا في تعيين الجهة التي يكون فيها الشيء بالنسبة لما تحته ، كما يقال : السماء من
فوقنا ، ومنه قوله تعالى : (قُلْ هُوَ الْقادِرُ
عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ
أَرْجُلِكُمْ) [الأنعام : ٦٥].
وأما الفوق المجرد
عن الاقتران بمن فهو قد يقبل التأويل ، ولكن لا يقبله إلا بدليل ، لأن الأصل هو
الحقيقة ، فلا يصرف اللفظ عن معناه الحقيقي إلا بقرينة صارفة تمنع من إرادة المعنى
الأصلي ، فإذا ادعى الخصم ان قرينة العقل هي التي أوجبت ذلك الصرف لاستحالة
الفوقية الحسية ، قلنا هذه القرينة معارضة عندنا بضرورة العقل القاضية بأن كل
موجودين إذا نسب أحدهما إلى الآخر ، فأما أن يكون متداخلين أو متباينين ، وإذا
كانا متباينين فلا بد أن يكون أحدهما في جهة من الآخر.
وقد ذكر المؤلف
هنا فائدة جليلة ينبغي التنويه بها وهي اعتبار سياق الكلام في تحديد مدلولات
الألفاظ ، فإذا جاء السياق يبدي المراد للمخاطب أصبح كالنص في افادة القطع وعدم
قبول التأويل ، فبعض الألفاظ قد يكون محتملا لأكثر من معنى ، ولكن سياق الكلام هو
الذي يعين المراد باللفظ من هذه المعاني ، فسياق الألفاظ مثل شواهد الأحوال كل
منهما قرينة تعين المعنى المقصود إلا أن هذه قرينة مرئية بالعيان وهذه قرينة
مسموعة بالآذان.
* * *
فإذا أتى
التأويل بعد سياقة
|
|
تبدي المراد أتى
على استهجان
|
وإذا أتى
الكتمان بعد شواهد ال
|
|
أحوال كان كأقبح
الكتمان
|
فتأمل الألفاظ
وانظر ما الذي
|
|
سيقت له ان كنت
ذا عرفان
|
والفوق وصف ثابت
بالذات من
|
|
كل الوجوه لفاطر
الأكوان
|
لكن نفاة الفوق
ما وافوا به
|
|
جحدوا كمال
الفوق للديان
|
بل فسروه بأن
قدر الله أع
|
|
لى لا بفوق
الذات للرحمن
|
قالوا وهذا مثل
قول الناس في
|
|
ذهب يرى من خالص
العقبان
|
هو فوق جنس
الفضة البيضاء لا
|
|
بالذات بل في
مقتضى الأثمان
|
والفوق انواع
ثلاث كلها
|
|
لله ثابتة بلا
نكران
|
هذا الذي قالوا
وفوق القهر وال
|
|
فوقية العليا
على الاكوان
|
الشرح
: بعني إذا دل سياق
الكلام وفحواه على المعنى المراد من اللفظ ، فإن التأويل عند ذلك يكون قبيحا
مستهجنا كقبح الكتمان لما دلت عليه شواهد الأحوال ، فالواجب هو تأمل الالفاظ
والنظر فيما سيقت له حتى يعرف المراد بها.
ولا شك أن لفظ
الفوق في جميع سياقاته في القرآن الكريم يفيد أن الثابت لله عزوجل هو الفوقية المطلقة بجميع معانيها. فإن الفوق وصف ثابت لله
، فيجب أن يكون الثابت له هو كمال الفوق لا بعض الفوق ، ولكن نفاة الفوق جحدوا
كمال هذا الوصف ، كما جحدوا كمال علوه من قبل ، وفسروا الفوق بأحد المعاني الذي
يحتملها ، وهو فوقية القدر ، كما يقال الذهب فوق الفضة ، بمعنى أنه أغلى منها
ثمنا.
ولا شك ان هذا
المعنى الذي ذكروه صحيح ولكن ليس هو كل المراد من لفظ الفوق ، فان للفوقية معاني
ثلاثة : هي فوقية الذات ، وفوقية القدر والعظمة ، وفوقية القهر ، وكلها ثابتة لله
جل شأنه حسبما يقتضيه اطلاق اللفظ.
* * *
فصل
هذا ورابعها
عروج الروح وال
|
|
أملاك صاعدة الى
الرحمن
|
ولقد أتى في
سورتين كلاهما اشتملا
|
|
على التقدير
بالازمان
|
في سورة فيها
المعارج قدرت
|
|
خمسين ألفا كامل
الحسبان
|
وبسجدة التنزيل
ألفا قدرت
|
|
فلأجل ذا قالوا
هما يومان
|
يوم المعاد بذي
المعارج ذكره
|
|
واليوم في تنزيل
في ذا الآن
|
وكلاهما عندي
فيوم واحد
|
|
وعروجهم فيه إلى
الديان
|
فالألف فيه
مسافة لنزولهم
|
|
وصعودهم نحو
الرفيع الداني
|
هذي السماء
فإنها قد قدرت
|
|
خمسين في عشر
وذا صنفان
|
لكنما الخمسون
ألف مسافة
|
|
السبع الطباق
وبعد ذي الأكوان
|
من عرش رب
العالمين إلى الثرى
|
|
عند الحضيض
الأسفل التحتاني
|
الشرح
: الوجه الرابع من
تلك الوجوه النقلية الدالة على علوه تعالى على خلقه اخباره سبحانه بعروج الملائكة
والروح إليه ، ورد ذلك في سورتين من كتاب الله ، وفي كل منهما قدر العروج بالأزمان
، ففي سورة المعارج قدر ذلك بخمسين ألف سنة ، قال تعالى : (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ
إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ* فَاصْبِرْ صَبْراً
جَمِيلاً) [المعارج : ٤ ، ٥].
وفي سورة الم
تنزيل السجدة قدر بألف سنة فقط ، قال تعالى : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ
مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ
مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) [السجدة : ٥] ومن
أجل هذا الاختلاف في مدة العروج ظن كثير من المفسرين أنهما يوما متغايران ، وليس
المراد بهما يوما واحدا ، فاليوم المذكور بذي المعارج هو يوم المعاد كما يفيده
السياق في قوله تعالى : (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ
بَعِيداً* وَنَراهُ قَرِيباً* يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ) [المعارج : ٦ ، ٨]
الآيات.
وأما اليوم
المذكور في الم تنزيل فهو في الدنيا ، واختار المؤلف رحمهالله أن المراد بهما يوم واحد ، وأن العروج فيه إلى الله عزوجل ، وانما اختلفت المدة في الآيتين ، فكانت في احداهما ألفا
وفي الأخرى خمسين ألفا لاختلاف المسافة المقطوعة في كل منهما ، فالألف جعلت مدة
لنزول الملائكة وصعودهم إلى السماء الدنيا ، فإن المسافة بين الأرض والسماء الدنيا
قدرت في الأحاديث بخمسمائة عام فإذا قدر نزولهم وصعودهم كان المجموع ألف سنة. وأما
الخمسون ألفا فهي المدة التي يعرجون فيها من فوق السبع الطباق من عند العرش إلى
المركز الأسفل الذي هو الحضيض.
* * *
واختار هذا القول
في تفسيره البغوي ذاك العالم الرباني
ومجاهد قد قال هذا
القول لكن ابن اسحاق الجليل الشأن قال المسافة بيننا والعرش ذا المقدار في سير من
الإنسان
والقول الأول
قول عكرمة وقو
|
|
ل قتادة وهما
لنا علمان
|
واختاره الحسن
الرضي ورواه عن
|
|
بحر العلوم مفسر
القرآن
|
ويرجع القول
الذي قد قاله
|
|
ساداتنا في
فرقهم أمران
|
إحداهما ما في
الصحيح لمانع
|
|
لزكاته من هذه
الأعيان
|
يكوي بها يوم
القيامة ظهره
|
|
وجبينه وكذلك
الجنبان
|
خمسون ألفا قدر
ذاك اليوم في
|
|
هذا الحديث وذاك
ذو تبيان
|
الشرح
: هذا القول الذي
اختاره المؤلف من أن المراد باليومين يوم واحد وأن الاختلاف في الزمن مبني على
اختلاف المسافة المقدرة لكل منهما قد اختاره الإمام البغوي في تفسيره ، وهو مروي
أيضا عن مجاهد الذي هو أشهر من نقل عن ابن عباس حتى قال فيه القائل (إذا جاءك
التفسير عن مجاهد فحسبك به) وأما ابن اسحاق صاحب السيرة فقال : أن الاختلاف يرجع
الى كيفية السير فالمسافة التي بيننا وبين العرش تقطع بسير الانسان في هذا المقدار
وهو خمسون الف سنة.
وأما القول الأول
الذي فرق بين اليومين ، فجعل أحدهما وهو المذكور بذي المعارج ليوم المعاد ، والآخر
في هذه الدنيا فقد ذهب إليه جل المفسرين عكرمة وقتادة ، واختاره الحسن البصري
وأسنده الى ابن عباس رضي الله عنهما ، ومما يرجح هذا القول ما ورد في الصحيح من
قوله عليه الصلاة والسلام «ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاته الا أحمي عليه في نار
جهنم ، فيجعل صفائح فتكوى بها جنباه وجبهته حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان
مقداره خمسين الف سنة» الحديث بطوله رواه أحمد ومسلم.
وقد مال إلى هذا
الفرق أيضا علامة القصيم الشيخ عبد الرحمن آل سعدي غفر الله له في شرحه على
القصيدة النونية فقال (والظاهر لي أن آية المعارج التقدير
فيها ليوم القيامة
، وأن معنى الكلام الاخبار بعظمة ذلك اليوم وطوله العظيم ، وأنه في ذلك اليوم يظهر
للخلائق من عظمة الرب وعظمة ملكه وكمال تدبيره ، وأن أمور الملك وتدابيره تعرج بها
الملائكة إليه وتنزل فيها منه ، والسياق في الآيات التي في المعارج ، يدل على ذلك.
وأما تقديره بالألف في سورة السجدة فإنه في الدنيا ، لأن السياق أيضا يدل عليه ،
فإنه في سياق بيانه في الدنيا ليعرفوا عظمة الله وكبرياءه ونفوذ تدبيره).
فالظاهر اليومان
في الوجهين يو
|
|
م واحد ما أن
هما يومان
|
قالوا وإيراد
السياق يبين المض
|
|
مون منه بأوضح
التبيان
|
فانظر الى
الإضمار ضمن يرونه
|
|
ونراه ما تفسيره
ببيان
|
فاليوم بالتفسير
أولى من عذا
|
|
ب واقع للقرب
والجيران
|
ويكون ذكر
عروجهم في هذه الدني
|
|
ا ويوم قيامة
الابدان
|
فنزولهم أيضا
هنالك ثابت
|
|
كنزولهم أيضا
هنا للشأن
|
وعروجهم بعد
القضا كعروجهم
|
|
أيضا هنا فلهم
اذا شأنان
|
ويزول هذا السقف
يوم معادنا
|
|
فعروجهم للعرش
والرحمن
|
هذا وما اتضحت
لدي وعلمها الم
|
|
وكول بعد لمنزل
القرآن
|
وأعوذ بالرحمن
من جزم بلا
|
|
علم وهذا غاية
الامكان
|
والله أعلم
بالمراد بقوله
|
|
ورسوله المبعوث
بالفرقان
|
الشرح
: يعني أن الظاهر هو
كون اليومين المذكورين في آية المعارج وحديث مانع الزكاة يوم واحد لا يومان ،
وايراد السياق في كل من السورة الكريمة ، والحديث يبين أن المراد به يوم واحد هو
يوم المعاد بأوضح بيان وأجلاه ، ونحن إذا تأملنا في الضمير الواقع مفعولا في كل من
يرونه ونراه والى مرجعه في الكلام السابق وجدنا أن رجوعه الى اليوم وتفسيره به
أولى من رجوعه إلى عذاب واقع وذلك لأن اليوم أقرب مذكور ، ويكون حينئذ ما في آية
السجدة بيانا لعروجهم في هذه الدنيا ، وما في آية المعارج بيانا لعروجهم يوم
القيامة ، ولهم كذلك نزولان نزول يوم القيامة ، وهو المشار إليه لقوله تعالى : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ
بِالْغَمامِ
وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً) [الفرقان : ٢٥]
ونزولات في الدنيا للقيام بما يكلفهم الله بهم من شئون خلقه ، وإليه الإشارة لقوله
تعالى : (وَما نَتَنَزَّلُ
إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) [مريم : ٦٤] وقوله
: (تَنَزَّلُ
الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ* سَلامٌ) [القدر : ٤ ، ٥]
وعروجهم بعد فصل القضاء وفراغ الله عزوجل من محاسبة الخلق ، هو كعروجهم في هذه الدنيا هو الى العرش
والرحمن ، ولكن العروج الأول يكون بعد زوال هذا السقف ، يعني السموات السبع ،
وطيها كطي السجل للكتب ، فلا يبقى هناك مراحل للصعود والعروج.
وبعد أن ساق
المؤلف رحمهالله كلا من المذهبين ، المذهب الذي اختاره هو والمذهب الذي
رواه عن جمهرة المفسرين ، وبعد ان ساق الأدلة المقوية لهذا المذهب الثاني أعتذر
بأن المسألة لم تتضح له تماما ، ووكل علمها إلى الله عزوجل ، واستعاذ بالله من أن يقطع فيها برأي على غير علم وبينة ،
وقال ان هذا هو أقسى ما امكنه من تحقيقها ، والله ورسوله أعلم بالمراد من كلامه عزوجل.
* * *
فصل
هذا وخامسها
صعود كلامنا
|
|
بالطيبات إليه
والاحسان
|
وكذا صعود
الباقيات الصالحا
|
|
ت إليه من أعمال
ذي الايمان
|
وكذا صعود تصدق
من طيب
|
|
أيضا إليه عند
كل أوان
|
وكذا عروج ملائك
قد وكلوا
|
|
منا بأعمال وهم
بدلان
|
فإليه تعرج بكرة
وعشية
|
|
والصبح يجمعهم
على القرآن
|
كي يشهدون
ويعرجون إليه بالاعم
|
|
ال سبحان العظيم
الشأن
|
وكذاك سعي الليل
يرفعه الى ال
|
|
رحمن من قبل
النهار الثاني
|
وكذاك سعي اليوم
يرفعه له
|
|
من قبل ليل حافظ
الانسان
|
الشرح
: هذا هو خامس
الوجوه النقلية ، وهو اخباره سبحانه بصعود الكلم
الطيب والأعمال
الصالحة إليه ، قال تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ
الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ
وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر : ١٠] وكذا
تصعد إليه الصدقة اذا كانت من كسب طيب ، فقد أخرج الشيخان من حديث أبي هريرة رضي
الله عنه أنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «من تصدق بعدل
تمرة من كسب طيب ، ولا يصعد الى الله تعالى الا الطيب ، فإن الله عزوجل يقبلها بيمينه فيربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى
تكون مثل أحد».
وكذلك ورد الأثر
بأن أعمال العباد يعرج بها إلى الله الملائكة الموكلون بها فيصعد بها ملائكة
النهار بعد صلاة العصر ، وملائكة الليل بعد صلاة الفجر ، روى الأعرج عن أبي هريرة
رضي الله عنه أنه سمعه يقول : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «الملائكة
يتعاقبون فيكم ، ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة
العصر ، ثم يعرج إليه الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم بهم ، فيقول كيف تركتم
عبادي؟ فيقولون تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون» ولهذا كان الأرجح في الصلاة
الوسطى أنها صلاة العصر ، وقال تعالى في صلاة الفجر : (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ
مَشْهُوداً) [الاسراء : ٧٨]
يعني تشهده الملائكة ، ثم يعرجون الى الله بالأعمال بعد الفراغ من الصلاة.
وورد كذلك ان عمل
الليل يرفع إليه سبحانه قبل عمل النهار ، وعمل النهار قبل عمل الليل ، فعن أبي
موسى الأشعري رضي الله عنه قال : «قام فينا رسول اللهصلىاللهعليهوسلم بأربع كلمات فقال : «إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام
يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل الليل قبل النار وعمل النار قبل عمل الليل حجابه
النور أو قال النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجه ما انتهى إليه بصره من خلقه».
* * *
وكذلك معراج
الرسول إليه ح
|
|
ق ثابت ما فيه
من نكران
|
بل جاوز السبع
الطباق وقد دنا
|
|
منه الى أن قدرت
قوسان
|
بل عاد من موسى
إليه صاعدا
|
|
خمسا عداد الفرض
في الحسبان
|
وكذاك رفع الروح
عيسى المرتضى
|
|
حقا إليه جاء في
القرآن
|
وكذاك تصعد روح
كل مصدق
|
|
لما تفوز بفرقة
الابدان
|
حقا إليه كي
تفوز بقربه
|
|
وتعود يوم العرض
للجثمان
|
وكذا دعا المضطر
أيضا صاعد
|
|
أبدا إليه عند
كل اوان
|
وكذا دعا المظلوم
أيضا صاعد
|
|
حقا إليه قاطع
الأكوان
|
الشرح
: وكذلك ثبت
بالأحاديث الصحيحة أنه صلىاللهعليهوسلم ليلة الاسراء عرج بشخصه يقظة الى السماء فقد جاء في صحيح
البخاري من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه : «ثم عرج به الى الجبار جل جلاله
وتقدست أسماؤه فدنا منه حتى كان قاب قوسين أو ادنى فأوحى الى عبده ما أوحى وفرض له
خمسين صلاة فرجع حتى مر على موسى فقال : بم أمرت؟ قال بخمسين صلاة ، فقال أن أمتك
لا تطيق ذلك أرجع إلى ربك فأسأله التخفيف لأمتك فالتفت الى جبرائيل كأنه يستشيره
في ذلك فأشار أن نعم أن شئت فعلا به جبريل حتى جاء به الى الجبار تبارك وتعالى وهو
في مكانه فوضع عنه عشرا ، ثم نزل حتى مر بموسى فأخبره ، فقال ارجع الى ربك فأسأله
التخفيف فلم يزل يتردد بين موسى وبين الله تبارك وتعالى حتى جعلها خمسا فأمره موسى
بالرجوع وسؤال التخفيف فقال قد استحييت من ربي ولكن أرضى وأسلم ، فلما نفذ نادى
مناد قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي».
وكذلك أخبر الله
عنه عيسى روح الله وكلمته انه رفعه إليه لما أراد اليهود قتله قال تعالى: (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي
مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) [آل عمران : ٥٥]
وقال (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ
إِلَيْهِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) [النساء : ١٥٨]
وقد روى البخاري ومسلم في صحيحهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم «كيف انتم اذا نزل
ابن مريم من السماء فيكم وإمامكم منكم» والمراد بهذا نزوله من السماء بعد رفعه الى
الله عزوجل.
وكذلك ثبت أن روح
المؤمن حين تفارق جسده عند الموت تصعد بها ملائكة الرحمة حتى تقف بين يدي الله عزوجل ، وأنها تنعم هناك بقربه في الجنة حتى تعود إلى جسدها يوم
القيامة ، وكذاك يرفع إليه دعاء المضطرين فيجيب ما دعوه إليه ان شاء كما قال
سبحانه : (أَمَّنْ يُجِيبُ
الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ) [النمل : ٦٢]
ودعاء المظلومين فينتقم لهم ممن ظلمهم ، قال صلىاللهعليهوسلم لمعاذ حين بعثه الى اليمن «واتق دعوة المظلوم فأنها ليس
بينها وبين الله حجاب» وردد ان الله يرفعها فوق الغمام ويقول وعزتي لأجيبنك ولو
بعد حين.
* * *
فصل
هذا وسادسها
وسابعها النزول
|
|
كذلك التنزيل
للقرآن
|
والله أخبرنا
بأن كتابه
|
|
تزيله بالحق
والبرهان
|
أيكون تنزيلا
وليس كلام من
|
|
فوق العباد اذاك
ذو إمكان
|
أيون تنزيلا من
الرحمن والر
|
|
حمن ليس مباين
الأكوان
|
وكذا نزول الرب
جل جلاله
|
|
في النصف من ليل
وذاك الثاني
|
فيقول لست بسائل
غيري بأح
|
|
وال العباد أنا
العظيم الشأن
|
من ذاك يسألني
فيعطي سؤله
|
|
من ذا يتوب الى
من عصيان
|
من ذاك يسألني
فأغفر ذنبه
|
|
فأنا الودود
الواسع الغفران
|
من ذا يريد شفاءه
من سقمه
|
|
فأنا القريب
مجيب من ناداني
|
ذا شأنه سبحانه
وبحمده
|
|
حتى يكون الفجر
فجرا ثان
|
يا قوم ليس
نزوله وعلوه
|
|
حقا لديكم بل
هما عدمان
|
وكذا يقول ليس
شيئا عندكم
|
|
لا ذا ولا قول
سواه ثان
|
كل مجاز لا
حقيقة تحته
|
|
أول وزد وانقص
بلا برهان
|
الشرح
: هذا بيان للوجهين
السادس والسابع من الأدلة النقلية الدالة على علوه
تعالى وهما نزوله
سبحانه إلى السماء الدنيا كل ليلة على ما وردت به الأحاديث الصحيحة المتواترة في
المعنى ، والثاني تنزيله القرآن من عنده كما نطقت به الآيات في مثل قوله تعالى : (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ
رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى
لِلْمُسْلِمِينَ) [النحل : ١٠٢] وقوله في أول سورة [غافر : ١ ، ٢](حم* تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ
الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) وقوله : (حم* تَنْزِيلٌ مِنَ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) [فصلت : ١ ، ٢]
وفي أول سورة [الزمر : ١](تَنْزِيلُ الْكِتابِ
مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) الخ. وهذا التنزيل يقتضي علو من أنزله وكونه فوق عرشه
مباينا لخلقه ، فإن التنزيل مصدر نزل بمعنى القي الشيء من أعلى الى أسفل فيكون
الملقى عاليا على من أنزله إليهم والا لم يصح تسميته تنزيلا إذا كان المتكلم به
ليس فوق عباده ولا مباينا لهم بل يسمى بغير ذلك مما لا يقتضي العلو كالتبليغ
والتوصيل.
وأما نزوله تبارك
وتعالى فقد ورد من طرق متعددة فيها اختلاف في بعض الالفاظ ففي بعضها انه ينزل حين
يبقى ثلث الليل الآخر ، وفي بعضها أنه ينزل حين يتعار من الليل شطره الأول ولكنها
كلها متفقة على اثبات النزول وأنه الى السماء الدنيا ويقول سبحانه اذا نزل لا أسأل
عن عبادي غيري من ذا الذي يسألني فأعطيه من ذا الذي يستغفرني فأغفر له ، من ذا
الذي يدعوني فأستجب له ويظل هكذا سبحانه الى أن يطلع الفجر الثاني الذي يعرف
بالصادق.
ولا شك ان معنى
النزول معروف لا يمكن جحده ولا المماراة فيه وتأويل ذلك بنزول الملك او بقرب
الرحمة كما يقوله المعطلة اخراج للكلام عن معناه المتبادر منه بلا قرينة ، فإن
ادعوا ان النزول الحسي مستحيل لأنه يقتضي هبوطا وانتقالا من مكان إلى آخر وتفريغ
محل وشغل آخر وان تكون السماء ظرفا للرب تبارك وتعالى قلنا لهم نحن نثبت النزول
على ما اراده الله عزوجل بلا خوض في كيفيته فلا يقتضي نزوله عندنا شيئا من هذه
اللوازم الفاسدة التي يقتضيها نزول المخلوق وأما هم فلا يثبتون له نزولا ولا علوا
، بل ينفون عنه ما وصف به نفسه ووصفه به رسوله بدعوى ان ذلك من لوازم الجسم ، وأنه
يقتضي المشابهة ،
وكذلك ينفون عنه
أنه يقول هذه الكلمات التي تضمنها هذا الحديث كما ينفون عنه كل قول آخر وكل ذلك
عندهم محمول على المجاز والتأويل بلا دليل ولا برهان.
* * *
هذا وثامنها
بسورة غافر
|
|
هو رفعة الدرجات
للرحمن
|
درجاته مرفوعة
كمعارج
|
|
أيضا له وكلاهما
رفعان
|
وفعيل فيها ليس
معنى فاعل
|
|
وسياقها يأباه
ذو التبيان
|
لكنها مرفوعة
درجاته
|
|
لكمال رفعته على
الأكوان
|
هذا هو القول
الصحيح فلا تحد
|
|
عنه وخذ معناه
في القرآن
|
فنظيرها المبدى
لنا تفسيرها
|
|
في ذي المعارج
ليس يفترقان
|
والروح والأملاك
تصعد في معا
|
|
رجه إليه جل ذو
السلطان
|
ذا رفعة الدرجات
حقا ما هما
|
|
الا سواء أو هما
شبهان
|
فخذ الكتاب
ببعضه بعضا كذا
|
|
تفسير اهل العلم
للقرآن
|
الشرح
: هذا هو الوجه
الثامن ، وهو اخباره سبحانه عن نفسه في سورة غافر بأنه رفيع الدرجات ، ولا يصح أن
يكون رفيع هنا بمعنى رافع. فإن السياق يأباه ، فقد وصف الله نفسه قبل هذا بأنه
العلي الكبير ، ثم وصف نفسه بعد ذلك بأنه رفيع الدرجات ذو العرش ، فالأوصاف كلها
راجعة الى رفعته هو وارتفاعه على خلقه لا الى رفعه بعض خلقه على بعض درجات ، كما
فهمه من لا يحسن تذوق كلام الله عزوجل ، ولكن فعيل هنا بمعنى مفعول ، والمراد أن درجاته مرفوعة
لكمال علوه على خلقه ، فهو كقوله تعالى [المعارج : ٣](مِنَ اللهِ ذِي
الْمَعارِجِ) يعني المصاعد التي تصعد فيها الملائكة إليه جل سلطانه ،
فهي درجات بعضها فوق بعض ، وانتهاؤها إليه سبحانه هذا هو التفسير الذي يجب المصير
إليه ، فإن الله قد أنزل القرآن يصدق بعضه بعضا ، وخير ما يفسر به القرآن هو
القرآن.
* * *
فصل
هذا وتاسعها
النصوص بأنه
|
|
فوق السماء وذا
بلا حسبان
|
فاستحضر الوحيين
وأنظر ذاك تلق
|
|
اه مبينا واضح
التبيان
|
ولسوف نذكر بعض
ذلك عن قر
|
|
يب كي تقوم
شواهد الايمان
|
وإذا أتتك فلا
تكن مستوحشا
|
|
منها ولا تك
عندها بجبان
|
ليست تدل على
انحصار إلهنا
|
|
عقلا ولا عرفا
ولا بلسان
|
اذ أجمع السلف
الكرام بأن معن
|
|
اها كمعنى الفوق
بالبرهان
|
أو أن لفظ سمائه
يعني به
|
|
نفس العلو
والمطلق الحقاني
|
والرب فيه وليس
يحصره من ال
|
|
مخلوق شيء عز ذو
السلطان
|
كل الجهات
بأسرها عدمية
|
|
في حقه هو فوقها
ببيان
|
قد بان عنها كلها
فهو المحي
|
|
ط ولا يحاط
بخالق الأكوان
|
ما ذاك ينقم بعد
ذو التعطيل من
|
|
وصف العلو لربنا
الرحمن
|
أيرد ذو عقل
سليم قط ذا
|
|
بعد التصور يا
أولي الأذهان
|
والله ما رد
امرؤ هذا بغ
|
|
ير الجهل أو
بحمية الشيطان
|
الشرح
: هذا هو الوجه
التاسع ، وهو ما صرحت به النصوص التى لا تحصى كثرة من الكتاب والسنة بأن الله عزوجل في السماء ، ومن يستحضرهما وينظر فيهما يلق ذلك في غاية
الوضوح والبيان ، فمن الكتاب قوله عزوجل : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ
فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ* أَمْ أَمِنْتُمْ
مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً) [الملك : ١٦ ، ١٧].
ومن السنة قوله
عليه الصلاة والسلام «ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء» وقوله «ارحموا من في
الأرض يرحمكم من في السماء». وقوله في الرقية «ربنا الله الذي في السماء تقدس أسمك»
الخ الحديث.
وقوله لابي حصين :
كم إلها تعبد؟ فقال سبعة ، ستة في الأرض وواحد في السماء ، فمن تعد لرغبتك ورهبتك؟
فقال الذي في السماء ولم ينكر عليه الرسول
صلىاللهعليهوسلم قوله انه في السماء ، ومثل ذلك قوله للجارية : اين الله؟
فقالت في السماء ، فقال لسيدها اعتقها فانها مؤمنة.
وينبغي لرجل السنة
أن لا يستوحش من قراءة هذه الآيات والأحاديث ولا يتهيب الاستدلال بها على علوه
تعالى على خلقه لما فيها من ايهام انحصاره تعالى في بعض مخلوقاته على ما «في» من
معنى الظرف ، لانا نقول انها لا تدل على الانحصار عقلا ولا عرفا ولا لغة ، فقد
أجمع السلف على أن «في» هنا ليست على معناها من الظرفية ، وانما هي بمعنى «على»
كما في قوله تعالى : (لَأُصَلِّبَنَّكُمْ
فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) [طه : ٧١] فهي هنا
بمعنى الفوق للاتفاق على أن الله لا يحصره ولا يحيط به شيء من خلقه ، أو يراد من
السماء في الآيات والأحاديث جهة العلو ، ولا شك أن الله في هذه الجهة ، فله العلو
المطلق على سائر خلقه ، بحيث لا يكون شيء منها حاصرا له ولا محيطا به ، فهو سبحانه
ليس في جهة وجودية من هذه الجهات الواقعة داخل هذا العالم ، ولكن الجهات كلها
بالنسبة إليه عدمية ، فإنه فوق عرشه ، والعرش هو الجسم الذي تنتهي به كرة العالم ،
فالله عز شأنه هناك حيث انتهت جميع المخلوقات ، فهو فوقها مباين لها محيط بها ،
ولا يحيط به شيء منها.
فإذا فهم علوه
تعالى على خلقه بهذا المعنى ، فما الذي ينكره المعطل على من أثبت هذا العلو وصفا
لله عزوجل ما دام هذا العلو لم يقتض حلولا ولا انحصارا والا اتصالا
بالمخلوق. وهل يجوز لمن عنده مسكة من العقل السليم والفهم الصحيح أن يرد هذا بعد
تصوره على هذا النحو الذي لا يقتضي نقصا ولا محالا ، ان رده وانكاره لا يكون إلا
عن أحد أمرين لا ثالث لهما : اما جهل بحقيقته وعدم فهم لمعناه ، واما تعصب وحمية
وطاعة للشيطان الرجيم.
* * *
فصل
هذا وعاشرها
اختصاص البعض
|
|
من أملاكه
بالعند للرحمن
|
وكذا اختصاص
كتاب رحمته
|
|
بعند الله فوق
العرش ذو تبيان
|
لو لم يكن
سبحانه فوق الورى
|
|
كانوا جميعا عند
ذي السلطان
|
ويكون عند الله
إبليس وجبريل
|
|
هما في العند
مستويان
|
وتمام ذاك القول
أن محبة
|
|
الرحمن عين
إرادة الأكوان
|
وكلاهما محبوبه
ومراده
|
|
وكلاهما هو عنده
سيان
|
الشرح
: هذا هو الوجه
العاشر ، ويقوم على ما وردت به النصوص من الكتاب والسنة ، من اختصاص بعض المخلوقات
بأنها عنده سبحانه ، فمن الكتاب قوله تعالى في شأن الملائكة : (وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ
عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) [الأنبياء : ١٩]
وقوله في شأنهم أيضا : (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا
فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا
يَسْأَمُونَ) [فصلت : ٣٨] وقوله
تعالى في أهل الجنة : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ
فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ* فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر : ٥٤ ، ٥٥]
ومن السنة مثل قوله عليه الصلاة والسلام «ان الله كتب كتابا فهو عنده فوق العرش ان
رحمتي سبقت غضبي».
فهذا من أعظم
الأدلة على علوه تعالى على خلقه ، فتكون بعض مخلوقاته أقرب إليه من بعض ، إذ لو لم
يكن كذلك لما كان هناك معنى لاختصاص بعضها بالقرب منه ، بل تكون جميعا عنده سواء ،
بل يكون أقربها وهو جبريل عليهالسلام بمنزلة ، أبعدها وهو إبليس في تلك العندية ، وهذا لازم
للجهمية الذين نفوا علوه تعالى ومنعوا نسبة العباد إليه بالقرب والبعد ، وجعلوا
نسبتهم إليه نسبة واحدة ، وزعموا أن محبته عين ارادته. وأن كل ما أراده الله فقد
أحبه ، فلزمهم على هذا أن يكون كل من جبريل وابليس مرادا له ومحبوبا ، وأن يكون كلاهما
سواء عنده والحق أن محبته سبحانه غير ارادته للأشياء بالارادة الكونية القدرية ،
لأن المحبة انما تتعلق بما يأمر الله به عباده ويريده منهم شرعا ، وهذا ليس بلازم
أن يقع فقد لا يريده الله كونا وقدرا ، وأما الإرادة الكونية فتتعلق بكل كائن.
سواء كان مما يحبه الله ويرضاه ، أو كان مما يبغضه ويسخطه.
* * *
ان قلتم عندية
التكوين فالذاتان عند الله مخلوقان أو قلتم عندية التقريب تقريب الحبيب وما هما
عدلان
فالحب عندكم
المشيئة نفسها
|
|
وكلاهما في
حكمها مثلان
|
لكن منازعكم
يقول بأنها
|
|
عندية حقا بلا
روغان
|
جمعت له حب
الإله وقربه
|
|
من ذاته وكرامة
الإحسان
|
والحب وصف وهو
غير مشيئة
|
|
والعند قرب ظاهر
التبيان
|
الشرح
: يعني يقال لهؤلاء
الجهمية الذين ينفون العندية الحقيقية المستلزمة لقرب بعض عباده منه قربا حقيقيا ،
كما دلت عليه الآيات والأحاديث ، بما ذا تفسرون تلك العندية؟ فإن قلتم إنها عندية
تكوين ، فقد نفيتم أن يكون لجبريل زيادة اختصاص على عدو الله إبليس في ذلك ، إذ لا
شك أن ذات كل منهما مخلوقة لله ، فهما في تلك العندية سواء.
وإن قلتم انها
عندية تقريب ومحبة ، وليس جبريل وإبليس في حكمها سواء ، فقد نقضتم مذهبكم ، فإنكم
تقولون ان المشيئة عين المحبة ، ولا شك أن جبريل وابليس في حكم المشيئة سواء ،
فيكونان كذلك في المحبة أيضا ، فإن المتماثلين في حكم أحد المتساويين يتماثلان في
حكم الآخر.
وإذا بطل تفسير
العندية على الوجهين عندكم ، فالحق ما ذهب إليه السلف من أن العندية هنا على
حقيقتها ، فهي تجمع لمن ثبتت له حب الإله عزوجل وقربه من ذاته وكرامته بإحسانه ، وذلك لأن لفظ العند واضح
في معنى القرب ، وهو قرب ذات ومحبة واحسان ، ولا يلزم من قرب المحبة عموم ذلك لكل
كائن ، لأن الحب غير المشيئة.
* * *
فصل
هذا وحادي عشر
هن اشارة
|
|
نحو العلو بإصبع
وبنان
|
لله جل جلاله لا
غيره
|
|
إذ ذاك اشراك من
الانسان
|
ولقد أشار رسوله
في مجمع
|
|
الحج العظيم
بموقف الغفران
|
نحو السماء
بإصبع قد كرمت
|
|
مستشهدا للواحد
الرحمن
|
يا رب فاشهد
انني بلغتهم
|
|
ويشير نحوهم
لقصد بيان
|
فغدا البنان
مرفعا ومصوبا
|
|
صلى عليك الله
ذو الغفران
|
أديت ثم نصحت إذ
بلغتنا
|
|
حق البلاغ
الواجب الشكران
|
الشرح
: هذا هو الوجه
الحادي عشر ، وهو الإشارة بالأصبع إلى جهة العلو عند ذكر الله عزوجل أو اشهاده على أمر من الأمور ، فلا شك أن تلك الإشارة
ينبغي أن لا تكون إلا لله ، فإن الاشارة الى غيره في مثل هذا المقام اشراك ، ولقد
كان صلىاللهعليهوسلم وهو يخطب الناس يوم المجمع العظيم بعرفة في حجة الوداع
يشير بإصبعه الكريمة إلى السماء كلما ألقى إليهم أمرا من أمور الدين ووصاياه قائلا
: الا هل بلغت اللهم فأشهد ثم يخفضها إليهم وهذا من أقوى الادلة على علوه تعالى
وفوقيته اذ لو كانت كل الامكنة والجهات إليه متساوية لما كان هناك معنى للاشارة
إلى جهة العلو بالذات بل لم يكن هناك حاجة إلى الاشارة أصلا ، فصلوات الله وسلامه
على من هو أعلم الخلق بربه وبما ينبغي له من التنزيه ، لقد أدى الأمانة وبلغ
الرسالة ونصح لأمته ، فجزاه الله عنها خير ما يجزي به رسولا كريما ، وقائدا برا
رحيما.
* * *
فصل
هذا وثاني عشرها
وصف الظهو
|
|
ر له كما قد جاء
في القرآن
|
والظاهر العالي
الذي ما فوقه
|
|
شيء كما قد قال
ذو البرهان
|
حقا رسول الله
ذا تفسيره
|
|
ولقد رواه مسلم
بضمان
|
فاقبله لا تقبل
سواه من التفا
|
|
سير التي قيلت
بلا برهان
|
والشيء حين يتم
منه علوه
|
|
فظهوره في غاية
التبيان
|
أو ما ترى هذي
السما وعلوها
|
|
وظهورها وكذلك
القمران
|
والعكس أيضا
ثابت فسفوله
|
|
وخفاؤه إذ ذاك
مصطحبان
|
الشرح
: هذا هو الوجه
الثاني عشر وهو ما وصف الله به نفسه في كتابه من الظهور ، قال الله تعالى : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ
وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) [الحديد : ٣].
ومعنى الظاهر في
الآية هو العالي الذي لا شيء فوقه كما فسره بذلك أعلم الخلق بمعاني أسماء الله
وصفاته محمد عبد الله ورسوله صلوات الله وسلامه عليه ، فقد روى مسلم في صحيحه عن
أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إذا أراد أحدكم أن ينام فليضطجع على شقه الأيمن ثم
ليقل : اللهم رب السموات ورب الأرض رب العرش العظيم ربنا ورب كل شيء ، فالق الحب
والنوى منزل التوراة والإنجيل والفرقان أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته
اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء ، وأنت الآخر فليس بعد شيء ، وأنت الظاهر فليس فوقك
شيء ، وأنت الباطن فليس دونك شيء اقض عنا الدين وأغننا من الفقر» والشاهد هنا في
قوله : وأنت الظاهر فليس فوقك شيء. فلا شك أن ما بعد الفاء تفسير لما قبلها ونفي
فوقية شيء عليه يستلزم علوه المطلق على كل ما سواه ، وهذا التفسير المأثور يتعين
المصير إليه وعدم الالتفات إلى ما سواه مما يعرف به من لا علم عندهم بمعاني أسمائه
سبحانه من المعطلة الذين يؤولون الظهور هنا بأنه ظهور القدرة أو الغلبة ، أو بأنه
ظهوره في أفعاله ووضوح دلالتها على وجوده ، فكلها تفاسير لا دليل عليها ، ولا يجوز
لمؤمن بعد ورود التفسير عنه عليهالسلام لاسم من أسمائه تعالى أن يضع له هو تفسيرا من عنده أو
يلتفت إلى ما فسره الناس به فقد قطعت جهيزة قول كل خطيب ، ومما يشهد لصحة هذا
التفسير دون ما سواه ، اننا نرى في الشاهد أن الشيء كلما تم علوه كان في غاية
الظهور فالعلو والظهور متلازمان بحيث يصح أن يقال كل عال ظاهر وبالعكس. ومثال ذلك
أن السماء والشمس والقمر لما كانت فوق
الأرض كانت ظاهرة
لأهلها ، ونشاهد كذلك أن السفول والخفاء متلازمان ، فالشيء كلما زاد سفوله زاد
خفاؤه.
* * *
فانظر إلى علو
المحيط وأخذه
|
|
صفة الظهور وذاك
ذو تبيان
|
وانظر خفاء
المركز الادنى ووصف
|
|
السفل فيه وكونه
تحتاني
|
وظهوره سبحانه
بالذات
|
|
مثل علوه فهما
له صفتان
|
لا تجحدنهما
جحود الجهم أو
|
|
صاف الكمال تكون
ذا بهتان
|
وظهوره هو مقتض
لعلوه
|
|
وعلوه لظهوره
ببيان
|
وكذاك قد دخلت
هناك الفاء
|
|
للتسبيب مؤذنة
بهذا الشأن
|
فتأملن تفسير
أعلم خلقه
|
|
بصفاته من جاء
بالقرآن
|
إذ قال أنت كذا
فليس لضده
|
|
أبدا إليك تطرق
الاتيان
|
الشرح
: ومما يدل على
التلازم بين الظهور والعلو أن العرش وهو الجسم المحيط بالمخلوقات لما كان فوقها
جميعا كان أشدها ظهورا كما أن المركز الادنى وهو الحضيض التحتاني لما كان أسفلها
كان أشدها خفاء ، فظهوره سبحانه هو مقتض لعلوه وكذلك العكس فكل منهما صفة ثابتة له
على الحقيقة لا يجوز جحدها ، ولا تأويلها بما يصرفها عن حقيقتها بلا دليل ، كما هو
دأب الجهمية في تفهيم صفات الكمال عنه سبحانه وحملهم اياها على معان بعيدة متكلفة
يعلم كل أحد أنها ليست هي المتبادر من اللفظ عند اطلاقه زاعمين أن قرينة العقل
كافية في ذلك الصرف ، فيا لسخافة العقول ، ولما كان الظهور والعلو كما قدمنا كل
منهما مقتض للآخر جاءت فاء السببية في كلامه صلىاللهعليهوسلم مؤذنة باستلزام ما قبلها لما بعدها ، فكونه ظاهرا على
الأشياء جميعا مستلزم أن لا يكون منها شيء فوقه ، ونفي فوقية شيء عليه مستلزم
لاثبات علوه على كل شيء .
* * *
__________________
فصل
هذا وثالث عشرها
اخباره
|
|
انا نراه بجنة
الحيوان
|
فسل المعطل هل
نرى من تحتنا
|
|
أم عن شمائلنا
وعن أيمان
|
أم خلفنا
وأمامنا سبحانه
|
|
أم هل نرى من
فوقنا ببيان
|
يا قوم ما في
الأمر شيء غير ذا
|
|
أو أن رؤيته بلا
إمكان
|
اذ رؤية لا في
مقابلة من الرائي محال ليس في الامكان ومن ادعى شيئا سوى ذا كان دعواه مكابرة على
الأذهان الشرح
: هذا هو الوجه
الثالث عشر وهو ما وردت به النصوص الصريحة من الكتاب والسنة بأن المؤمنين يرون
الله عزوجل يوم القيامة في الجنة قال تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى
وَزِيادَةٌ) [يونس : ٢٦] وقد
صح عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه فسر تلك الزيادة بأنها النظر الى وجه الله ـ وقال
تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) [القيامة : ٢٣]
وقال : (كَلَّا إِنَّهُمْ
عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ
__________________
لَمَحْجُوبُونَ) [المطففين : ١٥]
فدل حجب الكفار عن رؤيته على ثبوتها للمؤمنين. وأما أحاديث الرؤية فتشبه أن تكون
متواترة في المعنى لكثرتها واشتهارها ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام «انكم
سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب ولا تضامون في
رؤيته».
وإذا كانت الرؤية
قد صارت قطعية الثبوت بتلك الأدلة فينبغي أن يسأل المعطل لاستوائه تعالى على عرشه
عن الجهة التي تقع فيه الرؤية ، فإن الجهات ست ولا بد من وقوع الرؤية في واحدة
منها ، فهل نراه من تحتنا ـ حاشاه سبحانه ـ أو عن أيماننا أو عن شمائلنا أو من
خلفنا أو أمامنا أو نراه من فوقنا ، لا تحتمل القسمة أكثر من هذا ، فإذا نفي
المعطل عنه سائر الجهات التي تمكن منها الرؤية صارت الرؤية ممتنعة غير ممكنة ، لأن
المرئي يجب أن يكون في جهة الرائي ، ومن ادعى امكان الرؤية بلا وجه فقد كابر
العقول ووقع في التناقض لهذا لما رأى المعتزلة إنه لا يمكن اثبات الرؤية مع نفي
الجهة التزموا نفي الرؤية ، وأولوا ما ورد فيها من الآيات وردوا الاحاديث بدعوى
أنها أحاديث آحاد ولا يؤخذ بها في الاعتقاد.
وأما الأشاعرة
فإنه لما لم يستطيعوا انكار الرؤية وكانوا مع المعتزلة في نفي الجهة التزموا اثبات
رؤية بلا وجه ، بل قال بعضهم جهلا تقع الرؤية كل جهة ولا يتأتى هذا إلا إذا انقلب
الجسم كله عيونا ترى. وما أوقع الاشاعرة في هذا التناقض الشنيع الذي سلم منه
المعتزلة إلا تأرجحهم بين المذاهب وأخذهم من كل منها بطرق حتى سموا بالملفقة.
* * *
ولذاك قال محقق
منكم لأهل
|
|
الاعتزال مقالة
بأمان
|
ما بيننا خلف
وبينكم لذي
|
|
التحقيق في معنى
فيا اخواني
|
شدوا بأجمعنا
لنحمل حملة
|
|
نذر المجسم في
أذل هوان
|
إذ قال ان الهنا
حقا يرى
|
|
يوم المعاد كما
يرى القمران
|
وتصير أبصار
العباد نواظرا
|
|
حقا إليه رؤية
بعيان
|
لا ريب أنهم إذا
قالوا بذا
|
|
لزم العلو لفاطر
الأكوان
|
ويكون فوق العرش
جل جلاله
|
|
فلذاك نحن
وحزبهم خصمان
|
لكننا سلم وأنتم
اذ تسا
|
|
عدنا على نفي
العلو لربنا الرحمن
|
فعلوه عين
المحال وليس فو
|
|
ق العرش من رب
ولا ديان
|
ولا تنصبوا معنا
الخلاف فما له
|
|
طعم فنحن وأنتم
سلمان
|
هذا الذي والله
مودع كتبهم
|
|
فانظر ترى يا من
له عينان
|
الشرح
: لما رأى بعض محققي
الاشاعرة كالفخر الرازي وغيره تناقض مذهبهم في مسألة الرؤية. ذهبوا إلى أن الرؤية
الثابتة للمؤمنين في الآخرة ليست بصرية ، وإنما هي زيادة انكشاف الرب لهم وتمام
معرفتهم به حتى كأنهم يرونه بأعينهم ، قالوا : وعلى هذا يرتفع الخلاف بيننا وبين
المعتزلة لأن الرؤية التي نثبتها ليست هي التي تنفيها المعتزلة ، فنحن وهم متفقون
على نفي الرؤية البصرية التي تقتضي وقوع المرئي في جهة من الرائي ، ولو أن
المعتزلة فسروا الرؤية بالمعنى الذي فسرناها به لم ينفوها ، وإذا فيجب أن نكون نحن
وهم البا واحدا على هؤلاء المجسمة الذين يزعمون أن الله يرى يوم القيامة بالأبصار
رؤية حقيقية ، كما يرى الشمس والقمر فإن اثبات مثل هذه الرؤية مستلزم لاثبات جهة
العلو له سبحانه ، وكونه فوق العرش بذاته وهو أمر قد قطعت عقولنا باستحالته
وخاصمنا هؤلاء المجسمة عليه وعاديناهم بسببه.
وأما أنتم معشر
المعتزلة فسلم لنا اذ قد توافقنا على نفي الجهة عن الله ، وأقمنا نحن وأنتم الأدلة
على استحالة علوه واستوائه على العرش بذاته ، وإذا فلا معنى للخلاف بيننا وبينكم.
ومن تأمل كتب المتأخرين من الأشاعرة مثل الرازي وعضد الدين الايجي والشريف
الجرجاني والسعد التفتازاني والجلال الدواني وغيرهم وجدها مليئة بأمثال هذه
المحاولات التي تبذل لرفع الخلاف بين مذهبي الأشاعرة والمعتزلة على حين أنهم لا
يذكرون مذهب السلف إلا مقرونا
بالاستخفاف
والتحقير ، ومع ذلك يسمون أنفسهم أهل السنة والجماعة تبجحا وغرورا.
* * *
فصل
هذا ورابع عشرها
اقرار سا
|
|
ئلة بلفظ الأين
للرحمن
|
ولقد رواه أبو
رزين بعد ما
|
|
سأل الرسول
بلفظه بوزان
|
ورواه تبليغا له
ومقررا
|
|
لما أقر به بلا
نكران
|
هذا وما كان
الجواب جواب من
|
|
لكن جواب اللفظ
بالميزان
|
كلا وليس لمن
دخول قط في
|
|
هذا السياق لمن
له أذنان
|
دع ذا فقد قال
الرسول بنفسه
|
|
أين الاله لعالم
بلسان
|
والله ما قصد
المخاطب غير
|
|
معناها الذي
وضعت له الحقاني
|
والله ما فهم
المخاطب غيره
|
|
واللفظ موضوع
لقصد بيان
|
الشرح
: هذا هو الوجه
الرابع عشر وهو اقراره صلىاللهعليهوسلم لمن سأله بلفظ الاين ، واجابته على سؤاله ولو كان السؤال
فاسدا لنبهه صلىاللهعليهوسلم وبين له أن ذلك لا ينبغي في حق الرب جل شأنه ولم يجبه على
سؤاله ، فقد روي عن أبي رزين أنه قال قلت : يا رسول الله اين كان ربنا قبل أن يخلق
السموات والأرض قال صلىاللهعليهوسلم «كان في عماء ما
فوقه هواء وما تحته هواء وكان عرشه على الماء»
فقوله كان في عماء
الخ دليل على أن الرسول صلىاللهعليهوسلم فهم أن السائل يسأل عن حقيقة الاين ، ولهذا أجابه بالجواب
المطابق لسؤاله فمن السخف بعد هذا أن يدعي أن السائل انما أراد (من ربنا) فإنه لا
يصح أن يقال في جواب السائل بمن أنه في كذا ، وانما يقال هو كذا ، فالسياق كله في
السؤال والجواب يبعد هذا بل ينفيه. وما لنا نتكلف هذا التأويل ، وقد وقع السؤال
بلفظ الأين منه هو نفسه صلوات الله عليه وسلامه حين قال للجارية أين الله ، فقالت
في السماء ، فهل كان
الرسول عليهالسلام يقصد غير المعنى الحقيقي للفظ الأين ، وهل فهمت الجارية من
اللفظ غير هذا المعنى الذي وضع اللفظ لافادته كلا والله ما قصد الرسول الى غير هذا
المعنى ، ولا فهم المخاطب من اللفظ سواه.
* * *
يا قوم لفظ
الأين ممتنع على الرحم
|
|
ن عندكم وذو
بطلان
|
ويكاد قائلكم
يكفرنا به
|
|
بل قد وهذا غاية
العدوان
|
لفظ صريح جاء عن
خير الورى
|
|
قولا واقرارا
هما نوعان
|
والله ما كان
الرسول بعاجز
|
|
عن لفظ من مع
أنها حرفان
|
والأين أحرفها
ثلاث وهي ذو
|
|
لبس ومن غاية
التبيان
|
والله ما
الملكان أفصح منه اذ
|
|
في القبر من رب
السما يسلان
|
ويقول أين الله
يعني من فلا
|
|
والله ما
اللفظان متحدان
|
كلا ولا معناهما
أيضا لذي
|
|
لغة ولا شرع ولا
انسان
|
الشرح
: يعني أن الجهمية
يمنعون السؤال بلفظ الاين في حق الله عزوجل لأنه أنما يسأل به عن المكان والجهة والله منزه في زعمهم عن
الحلول في الأمكنة والجهات ولهذا يكادون يكفرون أهل السنة والجماعة لقولهم أنه فوق
العرش بذاته بل قد كفروهم فعلا ظلما منهم وعدوانا فإن الاين لفظ صريح في معناه
وأرد عمن هو أعلم الخلق بربه. وقد ورد عنه مرة على جهة السؤال منه لغيره كما في
سؤاله الجارية ، ومرة على جهة الاقرار لمن سأله به كما في حديث أبي رزين. فلو كان
المقصود بأين في الموضعين أن تكون بمعنى من. فما الحكمة في العدول عن لفظ من الذي
هو صريح في معناه الى لفظ الاين الموقع في الاشتباه والحيرة هل كان الرسول عاجزا
عن النطق بمن مع أنها حرفان حتى استعمل بدلها لفظ الابن الذي هو ثلاثة أحرف وهل
كان الملكان الموكلان بسؤال القبر أفصح منه حين يسألان الميت بقولهما من ربك.
ويقول هو اين الله يعني بها من مع أنه لا اتحاد أصلا بين اللفظين ولا بين معناهما
لا لغة ولا شرعا ولا في عقل عاقل. اللهم أنه
التعصب الأعمى
الذي يصرف أصحابه عن الحق الواضح الصريح الى اقوال لا حجة عليها ولا دليل.
* * *
فصل
هذا وخامس عشرها
الاجماع من
|
|
رسل الاله
الواحد المنان
|
فالمرسلون
جميعهم مع كتبهم
|
|
قد صرحوا بالفوق
للرحمن
|
وحكى لنا
إجماعهم شيخ الورى
|
|
والدين عبد
القادر الجيلاني
|
وأبو الوليد
المالكي أيضا حكى
|
|
إجماعهم أعني
ابن رشد الثاني
|
وكذا ابو العباس
أيضا قد حكى
|
|
اجماعهم علم
الهدى الحراني
|
وله اطلاع لم
يكن من قبله
|
|
لسواه من متكلم
ولسان
|
هذا ونقطع نحن
أيضا انه
|
|
اجماعهم قطعا
على البرهان
|
الشرح
: هذا هو الوجه
الخامس عشر وهو اجماع الرسل عليهم الصلاة والسلام والكتب المنزلة على أن الله عزوجل في السماء وأنه فوق خلقه مستو على عرشه. وقد حكى هذا
الاجماع غير واحد من العلماء المعتبرين مثل الشيخ عبد القادر الجيلاني في كتابه
المسمى (بالغنية) وأبي الوليد بن رشد الاندلسي المالكي المسمى بابن رشد الحفيد في
كتابه (الكشف عن مناهج الأدلة) يقول ابن رشد :
«القول في الجهة ،
واما هذه الصفة فما زال أهل الشريعة من أول الأمر يثبتونها لله سبحانه حتى نفتها
المعتزلة ثم تبعهم على نفيها متأخر والأشاعرة كأبي المعالي ومن اقتدى بقوله. وظواهر
الشرع كلها تقضي باثبات الجهة مثل قوله تعالى : (وَيَحْمِلُ عَرْشَ
رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) [الحاقة : ١٧]
ومثل قوله (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ
مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ
مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) [السجدة : ٥] ومثل
قوله (تَعْرُجُ
الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ) [المعارج : ٤]
ومثل قوله : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ
فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ
فَإِذا
هِيَ تَمُورُ) [الملك : ١٦]. الى
غير ذلك من الآيات التي أن سلط التأويل عليها عاد الشرع كله مؤولا ، وان قيل أنها
من المتشابهات عاد الشرع كله متشابها لأن الشرائع كلها مبنية على أن الله في
السماء ، وأن منه تنزل الملائكة بالوحي الى النبيين وأن من السماء نزلت الكتب
وإليها كان الاسراء بالنبي صلىاللهعليهوسلم حتى قرب من سدرة المنتهى وجميع الحكماء اتفقوا على أن الله
والملائكة في السماء كما اتفقت جميع الشرائع على ذلك».
وممن حكى هذا
الاجماع كذلك شيخ الاسلام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني الدمشقي
الذي لم يأت الزمان له بنظير في سعة الاطلاع والجمع بين المعقول والمنقول مع قدرة
فائقة في الجدل وبراعة في تصريف الحجج وسبر لأغوار المذاهب ووقوف على دقائقها.
وقد قطع المؤلف رحمهالله بهذا الاجماع الذي حكاه عن هؤلاء قطعا مبنيا على البرهان.
* * *
ووكذاك نقطع
انهم جاءوا باثبات
|
|
الصفات لخالق
الأكوان
|
وكذاك نقطع أنهم
جاءوا
|
|
باثبات الكلام
لربنا الرحمن
|
وكذاك نقطع أنهم
جاءوا
|
|
باثبات المعاد
لهذه الابدان
|
وكذاك نقطع أنهم
جاءوا بتو
|
|
حيد الإله وما
له من ثان
|
وكذاك نقطع أنهم
جاءوا باثب
|
|
ات القضاء وما
لهم قولان
|
فالرسل متفقون
قطعا في أصو
|
|
ل الدين دون
شرائع الايمان
|
كل له شرع
ومنهاج وذا
|
|
في الأمر لا
التوحيد فافهم ذان
|
فالدين في
التوحيد دين واحد
|
|
لم يختلف منهم
عليه اثنان
|
الشرح
: يعني كما نقطع
باتفاق الرسل عليهم الصلاة والسلام واجماعهم على اثبات صفة العلو لله جل شأنه كذلك
نقطع بأنهم متفقون على إثبات الصفات
كلها لله فليس
فيهم حاشاهم من يعطل الله عزوجل عن شيء من نعوت كما له وصفات جلاله كما تفعل الجهمية
ومتفقون على اثبات صفة الكلام لله فان الشرائع التي نزلت عليهم ليست الا كلام الله
عزوجل قام جبريل الأمين بتبليغه إليهم ومتفقون على اثبات المعاد
الجسماني خلافا للنصارى والفلاسفة الذين انكروه.
ومتفقون أيضا على
توحيد الله جل شأنه وأنه لا إله غيره ، ولا رب سواه. ومتفقون على اثبات القضاء
والقدر الذي أنكرته القدرية والمعتزلة وبالجملة فهم متفقون على كل ما هو من أصول
الدين مما يتعلق بالله عزوجل وأحوال اليوم الآخر فان دينهم فيها واحد لا اختلاف فيه قال
تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ
الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا
بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا
فِيهِ) [الشورى : ١٣]
وقال تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ
اللهِ الْإِسْلامُ) [آل عمران : ١٩]
وانما يختلف الرسل عليهم الصلاة والسلام في الأحكام والشرائع العملية الفرعية التي
تتعلق بها الأوامر والنواهي والتي تختلف باختلاف الزمان والمكان كما قال تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً
وَمِنْهاجاً) [المائدة : ٤٨] أي في الفروع لا في الأصول.
* * *
دين الاله
اختاره لعباده
|
|
ولنفسه هو قيم
الأديان
|
فمن المحال بأن
يكون لرسله
|
|
في وصفه خبران
مختلفان
|
وكذاك نقطع أنهم
جاءوا بعد
|
|
ل الله بين
طوائف الانسان
|
وكذاك نقطع أنهم
أيضا دعوا
|
|
للخمس وهي قواعد
الايمان
|
أيماننا بالله
ثم برسله
|
|
وبكتبه وقيامة
الأبدان
|
وبجنده وهم
الملائكة الآلى
|
|
هم رسله لمصالح
الأكوان
|
هذي أصول الدين
حقا لا أصو
|
|
ل الخمس للقاضي
هو الهمداني
|
الشرح
: يعني أن الدين
الذي جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام هو دين
الله الذي اختاره
لعباده ورضيه لنفسه دينا وهو الدين القيم الذي لا عوج فيه ولا انحراف فيجب أن يكون
واحدا لا اختلاف فيه لأنه يقوم على الأخبار المتعلقة بأسماء الله عزوجل وصفاته وأفعاله والاخبار عن اليوم الآخر وما فيه. ومن
المحال أن يقع بين الرسل اختلاف في هذه الاخبار لأن ذلك يستلزم أن يكون بعضها
صادقا وهو ما طابق الواقع منها. وما عداه يكون كذبا وحاشا للرسل أن يكذبوا على
الله عزوجل ويخبروا عنه بخلاف ما عليه الأمر ، وأما الشرائع والأحكام
الأمرية الطلبية فهذه لا يضر الاختلاف فيها مع القطع بأن شرائعهم كلها عادلة ومستقيمة.
ونقطع كذلك انهم
دعوا أممهم الى قواعد الايمان الخمسة التي هي أولا الايمان بالله على الوجه الصحيح القائم على توحيده في
إلهيته ، فلا معبود غيره ، وفي ربوبيته فلا خالق ولا مالك سواه ، وفي اسمائه
وصفاته ، فنثبت له كل ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسله من غير تكييف ولا تمثيل ،
وفي أفعاله فلا شريك له فيها وليس لغيره فعل يشبه فعله الى غير ذلك من شئونه جل
شأنه.
وثانيا
: الايمان بالرسل
الذين جعلهم الله عزوجل وسطاء بينه وبين خلقه في تبليغ أمره ونهيه فضلا منه ورحمة
، والايمان بالرسل عليهم الصلاة والسلام يتضمن الايمان بعصمتهم في التبليغ وعدم
كتمانهم لشيء مما أمروا بتبليغه وصدقهم في كل ما أخبروا به عن الله عزوجل الخ ما يتعلق بهم.
وثالثا
: الايمان بالكتب
المنزلة على هؤلاء الرسل عليهم الصلاة والسلام نورا وهدى للناس ، قال تعالى (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا
بِالْبَيِّناتِ ، وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ
النَّاسُ بِالْقِسْطِ) [الحديد : ٢٥]
ويجب الايمان تفصيلا بأربعة منها لورودها في القرآن ، وهي التوراة التي أنزلت على
موسى الكليم ، والزبور الذي أنزل على داود والإنجيل الذي أنزل على عيسى والقرآن
الذي أنزل على محمد وهو المهيمن عليها جميعا.
ورابعا
: الايمان باليوم
الآخر على الوجه الصحيح الذي أخبرت عنه الرسل
من قيام الأجساد
من قبورها وحشرها الى الله عزوجل لفصل القضاء بينها ثم مصيرها الى الجنة أو النار الى آخر
ما وردت به الأخبار من أحوال ذلك اليوم ، كالصراط والميزان ، وايتاء الصحف ،
والشفاعة التي لنبينا صلىاللهعليهوسلم في أهل الموقف وغيرها.
وخامسا
: الإيمان بالملائكة
الذين جعلهم الله عزوجل رسلا لتدبير مصالح خلقه ، فمنهم الموكل بانزال الوحي على
الأنبياء ، وهو جبريل عليهالسلام ، ومنهم الموكل بالامطار والأرزاق ، وهو ميكال ، ومنهم
الموكل بقبض الأرواح ، وهو عزرائيل ، ومنهم الموكل بالنفخ في الصور ، وهو اسرافيل
، ومنهم الحفظة الكاتبون ، ومنهم حملة العرش الخ.
هذه الخمسة هي
أصول الدين الحقة التي جاءت بها رسل الله ودعوا إليها ، لا تلك الأصول الخمسة التي
اتفقت عليها المعتزلة وجعلوها شعارا للاعتزال ، وهي التوحيد المتضمن لنفي صفات
الله عزوجل وكلامه. والعدل المتضمن التكذيب بقضاء الله وقدره وشمول
ارادته ومشيئته ، والوعد والوعيد المتضمن لوجوب تنفيذ وعيده سبحانه وخلود أهل
الكبائر في النار ونفي الشفاعة ، والمنزلة بين المنزلتين المتضمن لنفي اسم الايمان
عن عصاة المؤمنين والقول بخلودهم مع الكفار في النار والأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر الذي استغله المعتزلة لفرض مذاهبهم على المسلمين بقوة السلطان.
تلك هي أصولهم
الباطلة المنافية لما جاءت به الرسل ولما يقضي به العقل السليم فأين هي من تلك
الأصول الكبار التي قام عليها دين الله الواحد في كل زمان ومكان؟
* * *
تلك الأصول
للاعتزال وكم لها
|
|
فرع فمنه الخلق
للقرآن
|
وجحود أوصاف
الاله ونفيهم
|
|
لعلوه والفوق
للرحمن
|
وكذاك نفيهم
لرؤيتنا له
|
|
يوم اللقاء كما
يرى القمران
|
ونفوا قضاء الرب
والقدر الذي
|
|
سبق الكتاب به
هما شيئان
|
من أجل هاتيك
الأصول خلدوا
|
|
أهل الكبائر في
لظى النيران
|
ولأجلها نفوا
الشفاعة فيهم
|
|
ورموا رواة
حديثا بطعان
|
ولأجلها قالوا
بأن الله لم
|
|
يقدر على ايمان
ذي الكفران
|
ولأجلها حكموا
على الرحمن
|
|
بالشرع المحال
شريعة البهتان
|
ولأجلها هم
يوجبون رعاية
|
|
للأصلح الموجود
في الإمكان
|
حقا على رب
الورى بعقولهم
|
|
سبحانك اللهم ذي
السبحان
|
الشرح
: يعني أن تلك
الأصول الخمسة التي اتفق عليها أهل الاعتزال والتي قررها أحد شيوخهم ، وهو القاضي عبد
الجبار الهمداني ، قد تفرعت عنها فروع هي غاية في الفساد والشناعة ، فمما تفرع على
توحيدهم الباطل الذي هو الأصل الأول عندهم القول بخلق القرآن ، لأنهم لا يثبتون
لله صفة الكلام ، ويقولون أنه متكلم بمعنى خالق للكلام ، والقول بانكار الصفات
زعما منهم ان اثباتها ينافي التوحيد ، والقول بنفي علوه تعالى على خلقه واستوائه
على عرشه والقول بنفي رؤية المؤمنين له في الجنة رؤية حقيقية بالأبصار.
ومما تفرع عن
أصلهم الثاني وهو العدل نفي القضاء والقدر ، ونفي إرادة الله تعالى لفعل العبد ،
لأن ذلك في زعمهم يبطل مسئولية العبد عن فعله ، وينافي العدل الذي يوجب أن يكون
العبد حرا في فعله. وقد غلوا في هذا الباب حتى قالوا أنه لا يقدر على أفعال العباد
فلا يقدر على خلق الإيمان في الكافر ولا خلق الكفر في المؤمن ولا يقدر أن يعين
العبد على ما به يصير فاعلا.
ومنها أيضا قولهم
بوجوب الصلاح والأصلح على الله عزوجل بالنسبة للعبد على خلاف بينهم في معنى الأصلح هل هو الأنفع
أو الاوفق في الحكمة ، ويرد عليهم ذلك القول الفاسد خلقه تعالى للكافر الفقير
المعذب في الدنيا بالفقر وفي الآخرة بالنار ، فأي صلاح له في هذا.
ومما تفرع على
أصلهم الثالث وهو الوعد والوعيد ، يعني وجوب اثابة المطيع
وعقاب العاصي
القول بخلود مرتكب الكبيرة في النار أن مات ولم يتب منها ، والقول بنفي الشفاعة
الثابتة لعصاة الموحدين وانكار الاحاديث الواردة فيها والطعن في رواتها.
وهذا قليل من كثير
مما ترتب على أصولهم الجائرة ومبادئهم الخاسرة ، نسأل الله العافية والعصمة من هذا
الضلال ، وان يهدينا لما اختلف فيه من الحق باذنه.
فصل
هذا وسادس عشرها
اجماع اه
|
|
ل العلم أعني
حجة الأزمان
|
من كل صاحب سنة
شهدت له
|
|
أهل الحديث
وعسكر القرآن
|
لا عبرة بمخالف
لهم ولو
|
|
كانوا عديد
الشاء والبعران
|
ان الذي فوق
السموات العلى
|
|
والعرش وهو
مباين الأكوان
|
هو ربنا سبحانه
وبحمده
|
|
حقا على العرش
استوى الرحمن
|
فأسمع اذا
أقوالهم وأشهد علي
|
|
هم بعدها بالكفر
والايمان
|
وأقرأ تفاسير
الأئمة ذاكري الأس
|
|
ناد فهي هداية
الحيران
|
وانظر الى قول ابن
عباس بتفس
|
|
ير استوى ان كنت
ذا عرفان
|
وانظر الى
أصحابه من بعده
|
|
كمجاهد ومقاتل
حبران
|
الشرح
: هذا هو الوجه
السادس عشر ، وهو اجماع من يعتد باجماعهم من علماء السلف والخلف ، الذين كانوا حجة
الأعصار والازمان ، والمشهود لهم بالسبق والتحقيق من أهل الحديث والقرآن ، ولا
اعتبار لمن يخالفهم من أهل الابتداع والتعطيل مهما كان عددهم ، فان الحق ليس مداره
على القلة والكثرة ، ولكن علامته الوقوف عند حدود الكتاب والسنة وما كان عليه سلف
هذه الأمة كما قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم عند ما سئل عن الفرقة الناجية «هي ما كانت على مثل ما أنا
عليه اليوم وأصحابي».
وقد أجمع هؤلاء
الأئمة الأعلام على أن الله سبحانه مستو على عرشه استواء
حقيقيا بمعنى علوه
وارتفاعه على العرش بذاته مع المباينة والانفصال ، ومن أراد الوقوف على أقوالهم
فعليه بكتب التفاسير التي تعني بذكر الأسانيد وتعزو الأقوال الى أصحابها ، ولينظر
في قول ابن عباس الذي هو ترجمان القرآن ، وفي قول أصحابه من بعده كمجاهد ومقاتل
حتى يدرك أن هؤلاء وهم أعلام التأويل لم يخرجوا عما قلناه من تأويل الاستواء
بالعلو والارتفاع.
وأنظر الى
الكلبي أيضا والذي
|
|
قد قاله من غير
ما نكران
|
وكذا رفيع
التابعي أجلهم
|
|
ذاك الرياحي
العظيم الشأن
|
كم صاحب القى
إليه علمه
|
|
فلذاك ما اختلفت
عليه اثنان
|
فليهن من قد سبه
اذ لم يوا
|
|
فق قوله تحريف
ذي البهتان
|
فلهم عبارات
عليها أربع
|
|
قد حصلت للفارس
الطعان
|
وهي استقر وقد علا
وكذلك أر
|
|
تقع الذي ما فيه
من نكران
|
وكذاك قد صعد
الذي هو أربع
|
|
وأبو عبيدة صاحب
الشيباني
|
يختار هذا القول
في تفسيره
|
|
أدرى من الجهمي
بالقرآن
|
والأشعري يقول
تفسير استوى
|
|
بحقيقة استولى
من البهتان
|
هو قول أهل
الاعتزال وقول
|
|
اتباع لجهم وهو
ذو بطلان
|
في كتبه قد قال
ذا من موجز
|
|
وأبانة ومقالة
ببيان
|
وكذلك البغوي
أيضا قد حكا
|
|
ه عنهم بمعالم
القرآن
|
الشرح
: كذلك يحكي المؤلف
عن الكلبي صاحب التفسير المشهور ، وعن الحسن البصري سيد التابعين الذي عاصر كثيرا
من الصحابة وأخذ عنهم ، ولهذا كان موضع ثقة جميع الأئمة والمحدثين ان عباراتهم في
تفسير الاستواء لم تخرج عن هذه الألفاظ الأربعة وهي : استقر وعلا وارتفع وصعد ،
وقد اختار أبو عبيدة صاحب الإمام أحمد بن حنبل في تفسير الاستواء هنا بالمعنى
الرابع وهو صعد ، ولا شك أنه اهدى وأعلم من هؤلاء الجهمية بمعاني القرآن.
وهذا الأشعري الذي
ينسب إليه أتباع مذهبه أنه من نفاة الاستواء يقول في
جميع كتبه
المعتبرة مثل الموجز والابانة ، ومقالات الاسلاميين أن تفسير الاستواء بالاستيلاء
كذب وافتراء ويعزوه إلى المعتزلة والجهمية ويصرح ببطلانه ، وكذلك الإمام البغوي في
تفسيره المسمى بمعالم القرآن قد حكى ذلك التأويل الفاسد على الجهمية والمعتزلة.
* * *
وانظر كلام
إمامنا هو مالك
|
|
قد صح عن قول ذي
اتقان
|
في الاستواء
بأنه المعلوم لكن
|
|
كيفه خاف على
الأذهان
|
وروى ابن نافع
الصدوق سماعه
|
|
منه على التحقيق
والاتقان
|
الله حقا في
السماء وعلمه
|
|
سبحانه حقا بكل
مكان
|
فانظر إلى
التفريق بين الذات وال
|
|
معلوم من ذا
العالم الرباني
|
فالذات خصت
بالسماء وإنما ال
|
|
معلوم عم جميع
ذي الأكوان
|
ذا ثابت عن مالك
من رده
|
|
فلسوف يلقى
مالكا بهوان
|
وكذاك قال
الترمذي بجامع
|
|
عن بعض أهل
العلم والايمان
|
الله فوق العرش
لكن علمه
|
|
مع خلقه تفسير
ذي ايمان
|
الشرح
: وأما الإمام مالك
فإنه قد أتى في هذه المسألة بفصل الخطاب ، ولا تزال كلمته المأثورة التي أجاب بها
من سأله عن كيفية استوائه تعالى على العرش نورا وهدى لأولي الالباب ، فقد قال ويا
نعم ما قال (الاستواء معلوم والكيف مجهول والايمان به واجب والسؤال عنه بدعة)
فأصبحت تلك الكلمة دستورا يجب تطبيقه في كل ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله
أن نقول ان ثبوتها لله عزوجل معلوم لا مرية فيه ، وأما كيفها فمما اختص الله عزوجل بعلمه.
ومن العجيب أن بعض
المارقين من أهل الجحد والتعطيل يحرف كلمة مالك حتى توافق مذهبه الباطل في النفي
فيضع كلمة مذكور بدل معلوم ، وهذا ليس
بنافعه ، فإن لفظ
الاستواء إذا كان مذكورا فلا بد أن يراد منه معناه إذ لا يعقل أن يكون في القرآن
لفظ لا معنى له.
وقد روى ابن نافع
الذي كان من أعلم الناس بآراء مالك كلها عن مالك رحمهالله انه قال ان الله عزوجل في السماء بذاته ولكنه مع جميع خلقه بعلمه ، ففرق رحمهالله بين الذات والمعلوم ، فخص الذات بالسكون في السماء ، وأما
العلم فجعله محيطا شاملا لجميع الأكوان.
وهذا القول الذي
رواه ابن نافع عن مالك ثابت عنه رحمهالله ، فمن رده وأنكره فسوف يلقى مالكا يوم القيامة وهو مهين
ذليل. وينبغي هنا التنبيه على أن ابن نافع لم يلق مالكا ولم يسمع منه فإنه رحل إلى
المدينة فوجد مالكا قد مات ، فأخذ عن تلامذته ابن القاسم وابن وهب وأشهب. فقول
المؤلف رحمهالله الصدوق سماعه منه ليس صحيحا ، ويجوز أن تكون الرواية عنه
لا منه ويكون الخطأ في الطبع ويكون الجار والمجرور متعلق بروى وفصل بينهما بقوله
الصدوق سماعه.
وكذلك روى الإمام
الترمذي في جامعه عن بعض أهل العلم والإيمان مثل الذي رواه ابن نافع عن مالك وهو
أن الله فوق العرش بذاته وأنه مع خلقه بعلمه في كل مكان.
* * *
وكذاك أوزاعيهم
أيضا حكى
|
|
عن سائر العلماء
في البلدان
|
من قرنه
والتابعين جميعهم
|
|
متوافرين وهم
أولو العرفان
|
أيمانهم بعلوه
سبحانه
|
|
فوق العباد وفوق
ذي الأكوان
|
وكذاك قال
الشافعي حكاه
|
|
عنه البيهقي
وشيخه الرباني
|
حقا قضى الله
الخلافة ربنا
|
|
فوق السماء
لأصدق العبدان
|
حب الرسول وقائم
من بعده
|
|
بالحق لا فشل
ولا متوان
|
فانظر إلى
المقضي في ذي الأرض
|
|
لكن في السماء
قضاء ذي السلطان
|
وقضاؤه وصف له
لم ينفصل
|
|
عنه وهذا واضح
البرهان
|
الشرح
: وكذلك الأوزاعي
امام أهل الشام غير منازع يحكي عن جميع علماء عصره في سائر البلدان والتابعون
يومئذ متوافرون جميعا يؤمنون بأنه تعالى فوق عرشه وفوق العوالم جميعا. وروى الحافظ
البيهقي صاحب التصانيف المشهورة التي منها كتاب (الاسماء والصفات) و (دلائل النبوة
والسنن).
وكذلك روى شيخه في
الحديث الحاكم أبي عبد الله بن البيع عن الإمام الشافعي أنه قال ان خلافة أبي بكر
قد قضاها الله في السماء فهو حب الرسول كما جاء في الحديث أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم سئل من أحب الناس إليك فقال : أبو بكر : وهو القائم بعده
بالحق ونصرة دين الله بكل ما أمكنه غير خوار ولا مقصر فحارب المرتدين ومانعي
الزكاة.
والشاهد هنا في
قول الشافعي أن الخلافة قضاها الله في السماء ، فهو دليل على أن الله في السماء
لأن قضاءه وصف له لا ينفصل عنه بخلاف المقضي به فإنه في الأرض.
* * *
وكذلك النعمان
قال وبعده
|
|
يعقوب والألفاظ
للنعمان
|
من لم يقر بعرشه
سبحانه
|
|
فوق السماء وفوق
كل مكان
|
ويقر أن الله
فوق العرش لا
|
|
يخفى عليه هواجس
الأذهان
|
فهو لا شك في
تكفيره
|
|
لله درك من امام
زمان
|
هذا الذي في
الفقه الاكبر عندهم
|
|
وله شروح عدة
لبيان
|
وانظر مقالة
أحمد ونصوصه
|
|
في ذاك تلقاها
بلا حسبان
|
فجميعها قد صرحت
بعلوه
|
|
وبالاستواء
والفوق للرحمن
|
وله نصوص واردات
لم تقع
|
|
لسواه من فرسان
هذا الشأن
|
اذ كان ممتحنا
بأعداء الحديث
|
|
وشيعة التعطيل
والكفران
|
وإذا أردت نصوصه
فانظر إلى
|
|
ما قد حكي
الخلال ذو الاتقان
|
الشرح
: وكذلك قال الإمام
أبو حنيفة النعمان في كتابه المشهور المسمى بالفقه الأكبر ، وقال صاحبه أبو يوسف
القاضي صاحب كتاب الخراج. إن من لم يقر بأن الله عزوجل فوق عرشه وأنه مع ذلك لا يخفى عليه شيء من خلقه حتى ما
تهجس به ضمائرهم فهو كافر لا شك في كفره. وأما الإمام أحمد رحمهالله فإن نصوصه في ذلك لا حصر لها وكلها تصرح بعلوه تعالى
واستوائه وفوقيته على خلقه. وقد جاء في ذلك بما لم يسبق إليه نظرا لاشتغاله بالرد
على أئمة التعطيل والكفر من الجهمية والمعتزلة ، ومن أراد الاطلاع على تلك النصوص
فعليه بكتاب السنة للخلال وكتاب أحمد في الرد على الزنادقة والجهمية.
* * *
وكذاك إسحاق
الإمام فإنه
|
|
قد قال ما فيه
هدى الحيران
|
وابن المبارك
قال قولا شافيا
|
|
إنكاره علم على
البهتان
|
قالوا له ما ذاك
نعرف ربنا
|
|
حقا به لنكون ذا
أيمان
|
فأجاب نعرفه
بوصف علوه
|
|
فوق السماء
مباين الأكوان
|
وبأنه سبحانه حقا على العرش
|
|
الرفيع فجل ذو
السلطان
|
وهو الذي قد شجع
ابن خزيمة
|
|
اذ سل سيف الحق
والعرفان
|
وقضي بقتل
المنكرين علوه
|
|
بعد استتابتهم
من الكفران
|
وبأنهم يلقون
بعد القتل فو
|
|
ق مزابل الميتات
والأنتان
|
فشفى الإمام
العالم الحبر الذي
|
|
يدعى أمام أئمة
الأزمان
|
وقد حكاه الحاكم
العدل الرضي
|
|
في كتبه عنه بلا
نكران
|
الشرح
: وكذلك قال الإمام
إسحاق بن راهويه الذي يقول فيه الإمام أحمد ابن حنبل (لم يعبر الجسر إلى خراسان
مثله) قال في هذا الشأن ما فيه هدى لكل حائر ضال ، وأما عبد الله بن المبارك
المحدث الفقيه الزاهد فقد قال لمن سأله بم نعرف ربنا؟ نعرفه بأنه فوق سماواته على
عرشه بائن من خلقه؟ فقيل له بحد أو بغير حد؟ فقال أي والله بحد. وهذا الذي أجاب به
ذلك الإمام الجليل هو
الذي شجع امام
الأئمة ابن خزيمة على أن يسل سيف الحق على المعطلة المارقين فأفتى بأن من أنكر أن
الله فوق عرشه يجب أن يستتاب ، فإن تاب والا قتل مرتدا وقد شفى هذا الامام الحبر
بفتواه صدور قوم مؤمنين وأرسلها سيفا مصلتا على رقاب الزنادقة المنحلين ، وقد حكى
ذلك عنه في كتبه الحاكم محمد بن عبد الله النيسابوري صاحب المستدرك بما لا يدع
مجالا لشك ولا انكار.
* * *
وحكى ابن عبد
البر في تمهيده
|
|
وكتاب الاستذكار
غير جبان
|
اجماع أهل العلم
أن الله فهو
|
|
ق العرش
بالايضاح والبرهان
|
وأتى هناك بما
شفى أهل الهدى
|
|
لكنه مرض على
العميان
|
وكذا على
الأشعري فإنه
|
|
في كتبه قد جاء
بالتبيان
|
من موجز وابانة
ومقالة
|
|
ورسائل للثغر
ذات بيان
|
وأتى بتقرير
استواء الرب فو
|
|
ق العرش
بالايضاح والبرهان
|
وأتى بتقرير
العلو بأحسن
|
|
التقرير فانظر
كتبه بعيان
|
والله ما قال
المجسم مثل ما
|
|
قد قاله ذا
العالم الرباني
|
فأرموه ويحكم
بما ترموا به
|
|
هذا المجسم يا
أولي العدوان
|
أو لا فقولوا أن
ثم حزازة
|
|
وتنفس الصعداء
من حران
|
فسلوا الإله
شفاء ذا الداء العضا
|
|
ل مجانب الإسلام
والإيمان
|
الشرح
: وكذلك قد حكى ابن
عبد البر في أهم كتبه ، وهما كتاب التمهيد والاستيعاب وكتاب الاستذكار اجماع أهل
العلم الذين يعتد بإجماعهم على أن الله فوق عرشه بذاته ، موضحا ذلك بالبراهين
القاطعة التي فيها شفاء لأهل الهدى ، ولكنها مرض لأهل الجهل والعمى.
وكذلك أبو الحسن
الأشعري في كتبه المعتبرة ، مثل الموجز والابانة والمقالات وكذلك في رسائله لأهل
الثغر قد قرر ذلك أحسن تقرير وأهداه ، وأثبت علوه بالأدلة الواضحة ، وقال في هذا
الباب أكثر مما قال شيخ الإسلام ابن
تيمية الذي يرميه
هؤلاء المتأخرون من الأشاعرة بالتجسيم ، فليرموا اذن شيخهم الأشعري بذلك الذي رموا
به شيخ الإسلام من التجسيم بل هو أحق ، وإلا فليصرحوا بما انطوت عليه نفوسهم من
حقد وحزازات على شيخ حران وحجة الزمان ، ويسألوا الله شفاء هذا الداء العيان الذي
لا يليق بأهل الإسلام والإيمان.
* * *
وانظر إلى حرب
واجماع حكى
|
|
لله درك من فتى
كرماني
|
وانظر إلى قول
ابن وهب أوحد ال
|
|
علماء مثل الشمس
في الميزان
|
وانظر إلى ما
قال عبد الله في
|
|
تلك الرسالة
مفصحا ببيان
|
من أنه سبحانه
وبحمده
|
|
بالذات فوق
العرش والأكوان
|
وانظر إلى ما
قاله الكرخي في
|
|
شرح لتصنيف امرئ
رباني
|
وانظر إلى الأصل
الذي هو شرحه
|
|
فهما الهدى
لملدد حيران
|
وانظر إلى تفسير
عبد ما الذي
|
|
فيه من الآثار
في ذا الشأن
|
وانظر إلى تفسير
ذاك الفاضل
|
|
الثبت الرضي
المتطلع الرباني
|
ذاك الإمام ابن
الامام وشيخه
|
|
وأبوه سفيان فرازياني
|
وانظر إلى
النسائي في تفسيره
|
|
هو عندنا سفر
جليل معان
|
واقرأ كتاب
العرش للعبسي وهو
|
|
محمد المولود من
عثمان
|
وأقرأ لمسند عمه
ومصنف
|
|
أتراهما نجمين
بل شمسان
|
واقرأ كتاب
الاستقامة للرضي
|
|
ذاك ابن أصرم
حافظ رباني
|
لله در المؤلف ،
فقد ذكر لنا آنفا وفيما يأتي سجلا حافلا بأسماء بعض أئمة الهدى ، وأعلام السنة ،
وذكر ما لهم من كتب ورسائل وأقوال في اثبات العلو لله تعالى ، مما لا يدع مجالا
للشك في أن ذلك هو الحق المبين ، ومن أجمع الكتب لهذه الاقوال كتاب (اجتماع الجيوش
الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية) للمؤلف وقد بدأ المؤلف هنا بذكر الامام حرب
وهو من أبرز تلاميذ الإمام أحمد رحمهالله ، وابن وهب مشهور ، وعبد الله المراد به ابن المبارك ،
والبقية كلهم من
المشهود لهم بسعة
العلم وسلامة العقيدة ، وصحة الإيمان.
* * *
واقرأ كتاب
الحافظ الثقة الرضي
|
|
في السنة العليا
فتى الشيباني
|
ذاك ابن أحمد
أوحد الحفاظ قد
|
|
شهدت له الحفاظ
بالاتقان
|
واقرأ كتاب
الأثرم العدل الرضى
|
|
في السنة الأولى
امام زمان
|
وكذا الامام ابن
الامام المرتضى
|
|
حقا أبي داود ذي
العرفان
|
تصنيفه نظما
ونثرا واضح
|
|
في السنة المثلى
هما نجمان
|
واقرأ كتاب
السنة الأولى التي
|
|
أبداه مضطلع من
الايمان
|
ذاك النبيل ابن
النبيل كتابه
|
|
أيضا نبيل واضح
البرهان
|
وانظر إلى قول
ابن اسباط الرضي
|
|
وانظر إلى قول
الرضي سفيان
|
وانظر إلى قول
ابن زيد
|
|
ذاك حماد وحماد
الإمام الثاني
|
بدأ المؤلف هنا
بذكر عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل وله كتاب (السنة) وهو كتاب حافل بحجج أهل
السنة على النفاة ، ثم ذكر جملة من أئمة السنة إلى حماد بن زيد وهو مشهور.
* * *
وانظر إلى ما
قاله علم الهدى
|
|
عثمان ذاك
الدارمي الرباني
|
في نقضه والرد
يا لهما كتا
|
|
با سنة وهما لنا
علمان
|
هدمت قواعد فرقة
جهمية
|
|
فخرت سقوفهم على
الحيطان
|
وانظر إلى ما في
صحيح محمد
|
|
ذاك البخاري
العظيم الشأن
|
من رده ما قاله
الجهمي
|
|
بالنقل الصحيح
الواضح البرهان
|
وانظر إلى تلك
التراجم ما الذي
|
|
في ضمنها ان كنت
ذا عرفان
|
وانظر إلى ما
قاله الطبري
|
|
في الشرح الذي
هو عندكم سفران
|
أعني الفقيه
الشافعي اللالكا
|
|
ئي المسدد ناصر
الايمان
|
وانظر إلى ما
قاله علم الهدى
|
|
التيمي في
إيضاحه وبيان
|
ذاك الذي هو
صاحب الترغيب
|
|
والترهيب ممدوح
بكل لسان
|
وانظر إلى ما
قاله في السنة
|
|
الكبرى سليمان
هو الطبراني
|
وانظر إلى ما
قاله شيخ الهدى
|
|
يدعى بطلمنكيهم
ذو شان
|
وانظر إلى قول
الطحاوي الرضي
|
|
وأجره من تحريف
ذي بهتان
|
وكذلك القاضي
أبو بكر هو
|
|
ابن الباقلاني
قائد الفرسان
|
قد قال في تمهيده
ورسائل
|
|
والشرح ما فيه
جلي بيان
|
في بعضها حقا
على العرش استوى
|
|
لكنه استولى على
الأكوان
|
من أوجه شتى وذا
في كتبه
|
|
باد لمن كانت له
عينان
|
أول من ذكر هنا هو
عثمان بن سعيد الدارمي ، وكتبه كان لها أثر فعال في زلزلة بناء النفاة عند ظهورها
في عالم المطبوعات ، والبخاري صاحب الصحيح ، وكم في تراجم أبوابه من غصة للنفاة ،
واللالكاني هو الإمام أبو القاسم الطبري أحد أئمة أصحاب الشافعي رحمهالله وله كتاب في السنة ، وهو من أجل الكتب.
والتيمي هو الإمام
إسماعيل بن محمد بن الفضل ، كان إماما للشافعية ، والطلمنكي هو أبو عمر وله كتاب
في الأصول ، والطحاوي هو أبو جعفر إمام الحنفية في وقته في الحديث والفقه ومعرفة
أقوال السلف وله كتاب نفيس (العقيدة الطحاوية) ولها شروح عدة.
والباقلاني هو القاضي أبو بكر الأشعري له كتاب التمهيد.
* * *
وانظر إلى قول
ابن كلاب وما
|
|
يقضي به لمعطل
الرحمن
|
اخرج من النقل
الصحيح وعقله
|
|
من قال قول
الزور والبهتان
|
أو ليس الاله
بداخل في خلقه
|
|
أو خارج عن جملة
الأكوان
|
وأنظر إلى ما
قاله الطبري في الت
|
|
فسير والتهذيب
قول معاني
|
وانظر إلى ما
قاله في سورة
|
|
الاعراف مع طه
ومع سبحان
|
وانظر إلى ما
قاله البغوي في
|
|
تفسيره والشرح
بالاحسان
|
في سورة الاعراف
عند الاستواء
|
|
فيها وفي الاولى
من القرآن
|
وانظر إلى ما
قاله ذو سنة
|
|
وقراءة ذاك
الإمام الداني
|
وكذاك سنة
الاصبهاني أبي
|
|
الشيخ الرضي
المستلّ من حبان
|
وانظر إلى ما
قاله ابن سريج
|
|
البحر الخضم
الشافعي الثاني
|
وانظر الى ما
قاله علم الهدى
|
|
أعني أبا الخير
الرضي النعمان
|
أول من ذكر هنا
ابن كلاب وهو من أئمة المتكلمين وامام الطائفة الكلابية ، والطبري هو الإمام محمد
بن جرير امام أهل التفسير ، والبغوي هو الحسين بن مسعود محيي السنة وقد اجتمعت على
تلقي تفسيره بالقبول.
وختم المؤلف هذا
السجل الحافل بابن سريج وهو أبو العباس امام الشافعية في وقته ، ونحن نحيل القارئ
إلى الكتب التي سردها المؤلف إذا أراد الاطلاع على ما فيها ليرى بنفسه اجماع سلف
الأمة وأئمتها على هذه المقالة دون نكير حتى لا يغتر بتلبيسات أهل التعطيل وشبههم
الفاسدة وتأويلاتهم الباردة ، فليسع كل مؤمن ناصح لنفسه ما وسع هؤلاء الأئمة
الأعلام الذين هم أكمل هذه الأمة علما وعملا وأرضاها دينا ، نسأل الله أن يوفقنا
لاتباع سبيلهم بمنه وكرمه.
* * *
وكتابه في الفقه
وهو بيانه
|
|
يبدي مكانته من
الايمان
|
ووانظر الى
السنن التي قد
|
|
صنف العلماء
بالآثار والقرآن
|
زادت على
المائتين منها مفردا
|
|
أوفى من الخمسين
في الحسبان
|
منها لأحمد عدة
موجودة
|
|
فينا رسائله إلى
الاخوان
|
واللاء في ضمن
التصانيف التي
|
|
شهرت ولم تحتج
إلى حسبان
|
فكثيرة جدا فمن
يك راغبا
|
|
فيها يجد فيها
هدى الحيران
|
وهم النجوم لكل
عبد سائر
|
|
يبغي الاله وجنة
الحيوان
|
أصحابها هم
حافظو الإسلام لا
|
|
أصحاب جهم حافظو
الكفران
|
وسواهم والله
قطاع الطريق
|
|
أئمة تدعو إلى
النيران
|
ما في الذين
حكيت عنهم آنفا
|
|
من حنبلي واحد
بضمان
|
بل كلهم والله
شيعة أحمد
|
|
فأصوله وأصولهم
سيان
|
وبذاك في كتب
لهم قد صرحوا
|
|
وأخو العماية ما
له عينان
|
أتظنهم لفظية
جهلية
|
|
مثل الحمير تقاد
بالارسان
|
حاشاهم من ذاك
بل والله هم
|
|
أهل العقول وصحة
الأذهان
|
الشرح
: بعد أن سرد المؤلف
هذه المصنفات الكثيرة في السنن والآثار وتفسير القرآن وبين تضافرها على اثبات صفة
العلو له سبحانه على ما تقتضيه النصوص الصريحة القطعية من الكتاب والسنة ، قال ان
أصحاب هذه المصنفات هم بحق حملة الإسلام الحافظون له الذين ورد فيهم الأثر القائل (يحمل
هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل
الجاهلين) وهم رضي الله عنهم نجوم الهدى يهتدي بهم كل سائر إلى الله يبغي رضوانه
وجنته. وأما سواهم من أتباع جهم وشيعته من أهل التعطيل ، فهم قطاع طريق يصدون عن
سبيل الله الحقة ويبغونها عوجا ، وهم أئمة تدعو إلى النيران ، يعني إلى الأسباب
الموجبة لها من المروق والتعطيل والالحاد.
ويقول المؤلف ردا
على خصوم الحنابلة الذين يتهمونهم بالحشو والتجسيم أنه ليس في الذين حكى أقوالهم
وسرد مصنفاتهم آنفا حنبلي واحد ولكنهم مع ذلك هم شيعة أحمد المتفقون معه في الأصول
، فإن الأصول لا يسع أحد الخلاف فيها وكلمة أهل الحق فيها متفقة كما صرحوا جميعا
بذلك في كتبهم. وينكر المؤلف على هؤلاء الجهمية رميهم هؤلاء الأئمة الكبار
بالألقاب الشنيعة مثل قولهم أنهم لفظية يعنون بذلك أنهم يقفون عند ظواهر الالفاظ
ولا يتعمقون في فهم ما تحتمله من تأويلات ، وقولهم أنهم جهلية نسبة إلى الجهل
وحشوية يعنون أنهم من طغام الناس وحاشاهم رضي الله عنهم من مقالة السفهاء ولمز
الأغبياء ، بل هم أهل العقول الراجحة والأذهان الصحيحة والفطرة السليمة المستقيمة.
* * *
فانظر إلى
تقريرهم لعلوه
|
|
بالنقل والمعقول
والبرهان
|
عقلان عقل
بالنصوص مؤيد
|
|
ومؤيد بالمنطق
اليوناني
|
والله ما استويا
ولن يتلاقيا
|
|
حتى تشيب مفارق
الغربان
|
أفتقذفون أولاء
بل أضعافهم
|
|
من سادة العلماء
كل زمان
|
بالجهل والتشبيه
والتجسيم
|
|
والتبديع
والتضليل والبهتان
|
يا قومنا الله
في اسلامكم
|
|
لا تفسدوه لنخوة
الشيطان
|
يا قومنا
اعتبروا بمصرع من خلا
|
|
من قبلكم في هذه
الأزمان
|
لم يغن عنهم
كذبهم ومحالهم
|
|
وقتالهم بالزور
والبهتان
|
كلا ولا التدليس
والتلبيس عند الناس والحكام والسلطان الشرح : فانظر ان شئت دليلا على سمو علومهم وجودة اذهانهم إلى
تقريرهم لعلوه سبحانه ببراهين النقل والعقل. ولكن العقل الذي يستعملونه هو العقل
السليم المؤيد بالنصوص الصريحة لا عقل الجهمية المؤيد بقضايا المنطق اليوناني
الفاسدة. ثم يلتفت المؤلف إلى هؤلاء المجترئين على أئمة السلف بقالة السوء فيقول
لهم أفترمون هؤلاء ممن ذكرنا وأضعافهم من سادة العلماء في كل زمان بما هم منه براء
من الجهل والتشبيه وغيرهما ولا تتقون الله في اسلامكم الذي أفسدتموه بعوامل الهوى
والعصبية وحمية الشيطان كأنكم لم تعتبروا بمصارع من قبلكم من المارقين الكاذبين
الذين لم يغن عنهم كذبهم وزورهم ولا ترويجهم لبدعهم بالتدليس والتلبيس عند العامة
وعند الحكام والسلاطين وكأن الشيخ يشير بذلك إلى مصرع المعتزلة في عهد الخليفة
المتوكل بعد ما كان لهم من صولة في عهد المأمون والمعتصم من قبله؟
* * *
وبدا لهم عند
انكشاف غطائهم
|
|
ما لم يكن للقوم
في حسبان
|
وبدا لهم عند
انكشاف حقائق ال
|
|
إيمان أنهم على
البطلان
|
ما عندهم والله
غير شكاية
|
|
فأتوا بعلم
وانطقوا ببيان
|
ما يشتكي إلا
الذي هو عاجز
|
|
فاشكوا لنعذركم
إلى القرآن
|
ثم اسمعوا ما ذا
الذي يقضي لكم
|
|
وعليكم فالحق في
الفرقان
|
لبستم معنى
النصوص وقولنا
|
|
فغدا لكم للحق
تلبيسان
|
من حرف النص
الصريح فكيف لا
|
|
يأتي بتحريف على
إنسان
|
الشرح
: يعني أنه قد ظهر
لهؤلاء الماضين من أهل التعطيل والكفر عند ما انكشف عنهم الغطاء بالموت ما لم
يكونوا يحتسبون فعرفوا زيف ما كانوا عليه من باطل وبهتان ، وأن الحق كان مع خصومهم
من أهل العلم والإيمان. فليعتبر بهم هؤلاء الذين يجرون وراءهم ويقلدونهم في باطلهم
، فإنه يوشك أن ينزل بهم ما نزل بأسلافهم لا سيما وليس عندهم على ما يقولون أثارة
من علم ولا بيان صريح وانما هي شكاية العاجز الذي لا حيلة له. وإلى من يشتكون؟!
إلى هذا المنطق السقيم والجدل العقيم كلا أنهم إذا أرادوا أن تسمع شكواهم ، وأن
يعذروا فيها ، فليشتكوا إلى من يملك الفصل فيها وهو القرآن الذي هو الحكم العدل ،
ثم ليسمعوا ما الذي يقضي به ، هل يقضي لهم أو عليهم؟ ولكنهم ما ارتضوا حكم القرآن
، فقد لبسوا معاني نصوصه حين عمدوا إلى تأويلها بما يخرجها عن مواضعها ، كما لبسوا
على الناس معاني ما قال السلف حين أرادوا أن يخرجوا أقوالهم عما دلت عليه من
الاثبات ، وقالوا ان السلف يفوضون في المعاني أيضا كما يفوضون في الكيفيات ، ولا ريب
أن من اجترأ على تحريف النص الصريح من كتاب الله وكلام رسوله هو على تحريف غيرهما
أشد اجتراء.
* * *
يا قوم والله
العظيم أسأتم
|
|
بأئمة الإسلام
ظن الشاني
|
ما ذنبهم ونبيهم
قد قال ما
|
|
قالوا كذاك منزل
الفرقان
|
ما الذنب إلا
للنصوص لديكم
|
|
اذ جسمت بل شبهت
صنفان
|
ما ذنب من قد
قال ما نطقت به
|
|
من غير تحريف
ولا عدوان
|
هذا كما قال
الخبيث لصحبه
|
|
كلب الروافض
أخبث الحيوان
|
لما أفاضوا في
حديث الرفض
|
|
عند القبر لا
تخشون من انسان
|
يا قوم أصل
بلائكم ومصابكم
|
|
من صاحب القبر
الذي تريان
|
كم قدم ابن أبي
قحافة بل غدا
|
|
يثني عليه ثناء
ذي شكران
|
ويقول في مرض
الوفاء يؤمكم
|
|
عني أبو بكر بلا
روغان
|
ويظل يمنع من
إمامة غيره
|
|
حتى يرى في صورة
ميلان
|
الشرح
: ينكر المؤلف على
هؤلاء المعطلة أنهم أساءوا الظن بأئمة الإسلام حين رموهم ظلما بالتجسيم والتشبيه ،
وما نقموا منهم إلا أنهم قالوا ما قال الله ورسوله بلا زيادة ولا نقص ، ولا تحريف
ولا تبديل ، ووقفوا عند ما جاءت به النصوص الصريحة في الاثبات بلا كيف ولا تمثيل
فليتهموا النصوص إذا وليرموها هي بالتجسيم والتشبيه ، وليفعلوا ما فعله ذلك الرافضي
الخبيث حين أشار إلى قبر النبي صلىاللهعليهوسلم وقال لأصحابه مقالة المغيظ المحنق ، ان أصل بلائكم وسر
شقائكم هو ما صرح به صاحب هذا القبر من تقديم أبي بكر على جميع أصحابه ، وثنائه
عليه ثناء الشاكر له سالفته في الإسلام حيث يقول : «ان من أمن الناس عليّ في صحبته
وماله أبا بكر» وقوله في مرضه الذي توفي فيه ، حين عجز عن الخروج للصلاة : «مروا
أبا بكر فليصل بالناس» ولما قالت له عائشة أن أبا بكر رجل أسيف لا يملك نفسه ان هو
قام مقامك من البكاء غضب وقال : انكن صواحب يوسف مروا أبا بكر فليصل بالناس.
* * *
ويقول لو كنت
الخليل لواحد
|
|
في الناس كان هو
الخليل الداني
|
لكنه الأخ
والرفيق وصاحبي
|
|
وله علينا منة
الاحسان
|
ويقول للصديق
يوم الغار لا
|
|
تحزن فنحن ثلاثة
لا اثنان
|
الله ثالثنا
وتلك فضيلة
|
|
ما حازها إلا
فتى عثمان
|
يا قوم ما ذنب
النواصب بعد ذا
|
|
لم يدهكم إلا
كبير الشأن
|
فتفرقت تلك
الروافض كلهم
|
|
قد أطبقت اسنانه
الشفتان
|
وكذلك الجهمي
ذاك رضيعهم
|
|
فهما رضيعا
كفرهم بلبان
|
ثوبان قد نسجا
على المنوال يا
|
|
عريان لا تلبس
فما ثوبان
|
والله شر منهما
فهما على
|
|
أهل الضلالة
والشقا علمان
|
الشرح
: ويقول صلوات الله
وسلامه عليه «لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ، ولكن اخوة
الإسلام ، فإن صاحبكم خليل الرحمن» وعند ما كان الرسول صلىاللهعليهوسلم هو وأبو بكر في الغار مختفيين من قريش نظر أبو بكر إلى فم
الغار فوجد القوم مجتمعين عليه فبكى وقال : والله يا رسول الله لو نظر أحدهم موضع
قدمه لأبصرنا ، فقال لهصلىاللهعليهوسلم ما حكاه القرآن : (لا تَحْزَنْ إِنَّ
اللهَ مَعَنا) [التوبة : ٤٠]
وروي أنه قال له «ما ظنك باثنين الله ثالثهما» وهذه منقبة عظيمة لأبي بكر ما حازها
أحد من هذه الأمة غيره ، وإذا فلا ذنب للنواصب يا قوم في تقديمهم أبا بكر وعمر ،
وإنما الذنب على من قدمهما ودل على فضلهما ، فلما سمع الروافض مقالة ذلك الخبيث
تفرقوا وكلهم يعض بأسنانه على شفتيه من الغيظ ، فكذلك الجهمي رضيع الرافضة الذي
رضع معهم بلبان الكفر يصب كل غيظه ونقمته على النصوص التي تفسد عليه أمره وتنادي
بفساد مذهبه ، فالرفض والتجهم ثوبان قد نسجا على منوال واحد ، وهما والله شر ما
عرف الناس من أثواب ما ارتداهما أحد إلا كانا علامة على شقائه وضلاله.
* * *
فصل
هذا وسابع عشرها
أخباره
|
|
سبحانه في محكم
القرآن
|
عن عبده موسى
الكليم وحربه
|
|
فرعون ذي
التكذيب والطغيان
|
تكذيبه موسى
الكليم بقوله
|
|
الله ربي في
السماء نباني
|
ومن المصائب
قولهم أن اعتقا
|
|
د الفوق من
فرعون ذي الكفران
|
فإذا اعتقدتم ذا
فأشياع له
|
|
أنتم وذا من
أعظم البهتان
|
فأسمع إذا من ذا
الذي أولى بفر
|
|
عون المعطل جاحد
الرحمن
|
وانظر إلى ما
جاء في القصص التي
|
|
تحكي مقال
امامهم ببيان
|
الشرح
: هذا هو الوجه
السابع عشر من الوجوه الدالة على علوه تعالى فوق خلقه خلقه ، وهو ما أخبر به
سبحانه في كتابه عن كليمه موسى عليهالسلام وعن عدوه فرعون ذي التكذيب والطغيان ، فقد أخبر سبحانه أن
فرعون كذب موسى عند ما قال له انه مرسل من الله الذي في السماء. وقال ما حكاه عنه
القرآن : (يا هامانُ ابْنِ لِي
صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ* أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى
إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً) [غافر : ٣٦ ، ٣٧].
ومن المصائب أن
الجهمية يعكسون المسألة ويجعلون اعتقاد الفوق من رأي فرعون ذي الكفران لم يسمعه من
موسى ، وأن كل من اعتقد الفوق فهو من شيعة فرعون وحزبه ، وهذا من أعظم الكذب
والبهتان ، وذلك يظهر بأدنى تأمل في القصص التي حكي الله فيها مقالة امام المعطلة
فرعون كما سيأتي.
* * *
والله قد جعل
الضلالة قدوة
|
|
بأئمة تدعو إلى
النيران
|
فامام كل معطل
في نفسه
|
|
فرعون مع نمرود
مع هامان
|
طلب الصعود إلى
السماء مكذبا
|
|
موسى ورام الصرح
بالبنيان
|
بل قال موسى
كاذب في زعمه
|
|
فوق السماء الرب
ذو السلطان
|
فأبنوا لي الصرح
الرفيع لعلني
|
|
أرقى إليه بحيلة
الإنسان
|
وأظن موسى كاذبا
في قوله
|
|
الله فوق العرش
ذو السلطان
|
وكذاك كذبه بأن
إلهه
|
|
ناداه بالتكليم
دون عيان
|
هو أنكر التكليم
والفوقية ال
|
|
عليا كقول
الجهمي ذي صفوان
|
فمن الذي أولى
بفرعون اذا
|
|
منا ومنكم بعد
ذا التبيان
|
الشرح
: يعني أن الله
تعالى جعل الضلال في الاقتداء بفرعون وملئه الذين هم
ائمة الضلال
الداعون الى النار ، كما قال تعالى : (وَجَعَلْناهُمْ
أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ) [القصص : ٤١] وهم
انما يدعون إلى النار أشياعهم في الجحد والتعطيل فامام كل معطل في نفسه هم هؤلاء
الثلاثة : فرعون. وهو لقب لمن ملك مصر ، ونمرود ، وهو لقب الكنعانيين ، وهامان هو
وزير فرعون. فأولهم وهو فرعون انما طلب الصعود إلى السماء وأمر هامان ببناء الصرح
تكذيبا منه لموسى عليهالسلام حين أخبره أن الرب في السماء ، فإن موسى حين أخبره بأنه
رسول من رب العالمين ، سأله عن مكانه وأين هو ، فأخبره أنه في السماء ، فقال ما
قال وكذلك كذبه حين أخبره أن الله ناداه وكلمه من وراء حجاب دون رؤية ، وبذلك يكون
فرعون قد أنكر تكليم الله لموسى وفوقيته على عرشه ، كما أنكرهما الجهم وشيعته. فمن
إذا أولى بفرعون وأحق بالانتساب إليه منا ومنكم ، لا شك أن أولى الناس به هم من
وافقوه على الجحد والتعطيل.
* * *
يا قومنا والله
ان لقولنا
|
|
ألفا تدل عليه
بل ألفان
|
عقلا ونقلا مع
صريح الفطرة الأ
|
|
ولى وذوق حلاوة
القرآن
|
كل يدل بأنه
سبحانه
|
|
فوق السماء
مباين الأكوان
|
أترون انا تاركو
ذا كله
|
|
لحباجع التعطيل
والهذيان
|
يا قوم ما أنتم
على شيء إلى
|
|
أن ترجعوا للوحي
بالاذعان
|
وتحكموه في
الجليل ودقه
|
|
تحكيم تسليم مع
الرضوان
|
الشرح
: بعد أن أورد
المؤلف هذا الوجه وقرره هذا التقرير الحسن التفت إلى هؤلاء النفاة المعاندين مبينا
لهم أن الأدلة على ثبوت الفوق لله عزوجل قد بلغت من الكثرة أن صارت ألف دليل بل ألفين وهي أذلة
متنوعة ، فمنها ما يرجع إلى العقل الصريح ، ومنها ما يرجع إلى النقل الصحيح ،
ومنها ما يرجع إلى الفطرة الأولى التي فطر الله عباده عليها ، ومنها ما يفهمه
العلماء الراسخون من أساليب القرآن بأذواقهم السليمة ، وكل واحد من هذه الأدلة
المتكاثرة يكفي
وحده لاثبات ذلك
المطلوب ، وهو أن الله فوق عرشه مباين لخلقه ، فهل يعقل بعد ذلك أن يترك أهل الحق
هذه الأدلة القاطعة التي هي أوضح من الشمس في رائعة النهار من أجل تشغيب هؤلاء
المعطلة وتمويهاتهم الباطلة ، وقد حكموا عقولهم الفاسدة في أمور نطق بها صريح
الوحي ولم يترك فيها مجالا لرأي ، فما هم على شيء من الدين حتى ينزعوا عن غرورهم
ويرجعوا إلى وحي ربهم ويذعنوا له ويحكموه في كل دقيق وجليل من أمور الدين ، ثم
يرضوا بحكمه ويسلموا له تسليما.
* * *
قد أقسم الله
العظيم بنفسه
|
|
قسما يبين حقيقة
الايمان
|
أن ليس يؤمن من
يكون محكما
|
|
غير الرسول
الواضح البرهان
|
بل ليس يؤمن غير
من قد حكم ال
|
|
وحيين حسب فذاك
ذو إيمان
|
هذا وما ذاك
المحكم مؤمنا
|
|
ان كان ذا حرج
وضيق بطان
|
هذا وليس بمؤمن
حتى يسلم
|
|
للذي يقضي به
الوحيان
|
يا قوم بالله
العظيم نشدتكم
|
|
وبحرمة الايمان
والقرآن
|
هل حدثتكم قط
أنفسكم بذا
|
|
فسلوا نفوسكم عن
الإيمان
|
الشرح
: يشير المؤلف بهذه
الأبيات الى الآية الكريمة التي في سورة النساء والتي نزلت في شأن المنافقين الذين
احتكموا الى الطاغوت وأعرضوا عن حكم رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، أعني قوله تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا
يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي
أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [النساء : ٦٥] فقد
أقسم الله في هذه الآية الكريمة بنفسه أن هؤلاء لا يكونون مؤمنين أبدا حتى يحكموا
الرسول صلىاللهعليهوسلم فيما ينشب بينهم من خصومات ، ثم لا يقابلوا حكمه بالحرج
وضيق الصدر ، بل يرضوا به ويذعنوا ، وبعد وفاتهصلىاللهعليهوسلم انما يكون التحاكم الى كتاب الله وسنة رسوله فلا يتم ايمان
أحد حتى يحكمهما وحدهما ويسلم للذي يحكمان به كما قال تعالى : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ
فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ
وَالرَّسُولِ
إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ
تَأْوِيلاً) [النساء : ٥٩].
فهؤلاء المبتدعة
من أرباب المقالات والمذاهب حكموا في دين الله عقولهم وقدموا كلام رؤسائهم وقادتهم
في الضلال على حكم الله ورسوله ، فأشبهوا هؤلاء المنافقين الذين حكى الله عنهم
تحاكمهم الى الطاغوت وصدودهم عن حكم الرسول عليهالسلام ، ولهذا ينشدهم المؤلف بالله العظيم وبحرمة الايمان
والقرآن أن يراجعوا أنفسهم وأن يسألوها هل لا يزال فيها شيء من الايمان.
* * *
لكن رب العالمين
وجنده
|
|
ورسوله المبعوث
بالقرآن
|
هم يشهدون بأنكم
اعداء من
|
|
ذا شأنه أبدأ
بكل زمان
|
ولأي شيء كان
أحمد خصمكم
|
|
أعني ابن حنبل
الرضي الشيباني
|
ولأي شيء كان
بعد خصومكم
|
|
أهل الحديث
وعسكر القرآن
|
ولأي شيء كان
أيضا خصمكم
|
|
شيخ الوجود
العالم الحراني
|
أعني أبا العباس
ناصر سنة المخت
|
|
ار قامع سنة
الشيطان
|
والله لم يك
ذنبه شيئا سوى
|
|
تجريده لحقيقة
الايمان
|
اذ جرد التوحيد
عن شرك كذا
|
|
تجريده للوحي عن
بهتان
|
فتجرد المقصود
عن قصد له
|
|
فلذاك لم ينصف
الى انسان
|
الشرح
: فإذا لم تشهدوا على
أنفسكم ببراءتها من الايمان بسبب معاداتها للوحي من السنة والقرآن ، فاعلموا أن
الله وجنده من الملائكة ورسوله المبعوث بالقرآن ، كلهم يشهدون عليكم بأنكم في كل
زمان أعداء لمن شأنه التمسك بالسنة والقرآن ، دالا فأخبرونا لما ذا عاديتم أمام
أهل السنة وناصر مذهب السلف وقدوة أهل الحق في الثبات والصبر والجهاد لأعداء الله
أحمد بن حنبل رضي الله عنه. ولما ذا كان أعداؤكم دائما هم أهل الحديث وعسكر
القرآن. ثم لأي شيء عاديتم شيخ الاسلام وعلم الأعلام غير منازع الذي بعثه الله على
رأس المائة الثامنة
ليجدد لهذه الأمة
ما رث من أمر دينها ويشد ما وهى من عقد ايمانها من نصر الله به السنة وقمع به
البدعة وأقام به على المارقين الحجة (تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية
الحراني الدمشقي) الذي لم يأت الزمان له بنظير في الجمع بين المعقول والمنقول ،
وهل كان ذنبه الا أنه جرد الدين من كل دخيل وأزال ما لصق به من أوضار الشرك وظلمات
البدع حتى رده سليما نقيا. وأنه جرد الوحي مما زاده المفترون الكذابون.
هذا واعتذر
للقارىء عن شرح البيت الأخير أعني قوله (فتجرد المقصود عن قصد له الخ) فإني لم
أفهمه والله تعالى أعلم. ويجوز أن يكون الشيخ قد أراد أن المقصود من التوحيد
والوحي قد تجرد عما لصق به من زيادات ومحدثات حين قصد شيخ الاسلام الى تجريده ،
فلهذا عودي رحمة الله ولم ينصفه من الناس أحد.
* * *
ما منهم أحد دعا
لمقالة
|
|
غير الحديث
ومقتضى الفرقان
|
فالقوم لم يدعوا
إلى غير الهدى
|
|
ودعوتم انتم
لرأي فلان
|
شتان بين
الدعوتين فحسبكم
|
|
يا قوم ما بكم
من الخذلان
|
قالوا لنا لما
دعوناهم الى
|
|
هذا مقالة ذي
هوى ملآن
|
ذهبت مقادير
الشيوخ وح
|
|
رمة العلماء بل
عبرتهم العينان
|
وتركتم أقوالهم
هدرا وما
|
|
أصغت إليها منكم
اذنان
|
لكن حفظنا نحن
حرمتهم ولم
|
|
نعد الذي قالوه
قدر بنان
|
الشرح
: يعني أن هؤلاء
الذين عاديتموهم من أهل الحديث وأئمة الهدى مثل أحمد وابن تيمية ، وأضرابهما لم
يدع أحد منهم الى مقالة مبتدعة ولا تزيد في دين الله ما ليس منه ، وانما دعوا الى
الأخذ بالحديث وما يفهم من صريح الكتاب. وأما أنتم فتعرضون عن السنة والكتاب جانبا
وتدعون لرأي فلان وفلان ممن يجوز عليهم الخطأ وليسوا بمعصومين فشتان ما بين
الدعوتين دعوة الى هدى ،
ودعوة الى ضلال ،
وكفاكم هذا خذلانا.
والعجيب من أمركم
انكم كلما دعاكم داع الى الرجوع للأصل الأول ، وهو كتاب الله وسنة رسوله نفرتم منه
نفار الوحش وقلتم له مقالة المغيظ المحنق ، لقد أزريت بأقدار الشيوخ وانتهكت حرمة
العلماء حيث تدعونا الى ترك أقوالهم وعدم الإصغاء الى آرائهم وأما نحن فقد حفظنا
حرمتهم حيث لم نتجاوز أقوالهم ولم نعد آراءهم مقدار بنان أي طرف إصبع ، وهذا الذي
أشار إليه المؤلف هو دأب هؤلاء المقلدة الجامدين في كل زمان يعدون كل من يدعو الى
الكتاب والسنة وأخذ الدين منهما متهجما على الأئمة مزريا بمذاهبهم التي يجب في
نظرهم اتباعها وأخذ الأحكام منها دون مناقشة فبئس ما رضوا لأنفسهم أن يحرموها ميزة
الفهم والادراك التي جعلها الله خاصة الانسان.
* * *
يا قوم والله
العظيم كذبتم
|
|
وأتيتم بالزور
والبهتان
|
ونسبتم العلماء
للأمر الذي
|
|
هم منه أهل
براءة وأمان
|
والله ما أوصاكم
أن تتركوا
|
|
قول الرسول
لقولهم بلسان
|
كلا ولا في
كتبهم هذا بلى
|
|
بالعكس أوصاكم
بلا كتمان
|
اذ قد أحاط
العلم منهم أنهم
|
|
ليسوا بمعصومين
بالبرهان
|
كلا وما منهم
احاط بكل ما
|
|
قد قاله المبعوث
بالقرآن
|
فلذاك أوصاكم
بأن لا تجعلوا
|
|
أقوالهم كالنص
في الميزان
|
لكن زنوها
بالنصوص فإن توا
|
|
فقها فتلك صحيحة
الاوزان
|
الشرح
: يقسم المؤلف بالله
العظيم أن هؤلاء المقلدة المتباكين على حرمة الائمة ومذاهبهم قد كذبوا على هؤلاء
الائمة ونسبوهم الى ما هم منه براء من دعوة الناس الى الأخذ بمذاهبهم دون نظر في
أدلتها من الكتاب والسنة. والله سبحانه ما أمرنا في كتابه أن نترك قول الرسول لقول
أحد من الناس ، بل قال سبحانه : (وَما آتاكُمُ
الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) [الحشر : ٧] وقال
:
(فَإِنْ تَنازَعْتُمْ
فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) [النساء : ٥٩]
وكذلك الأئمة رحمهمالله لم يدع أحد منهم أن مذهبه هو الحق الذي يجب اتباعه بل صح
عنهم جميعا أنهم يبرءون إلى الله من كل قول لهم يخالف الحديث وقد صح عن الشافعي رحمهالله أنه قال (إذا جاء الحديث يخالف ما قلناه فخذوا به ودعوا ما
قلناه).
وورد عن مالك رحمهالله أنه قال (كل انسان يؤخذ من قوله ويترك الا صاحب هذا القبر)
وأشار الى قبر رسول الله صلىاللهعليهوسلم. وصح عن أحمد أنه قال (لا يحل لأحد أن يأخذ بشيء من
أقوالنا حتى يعلم من أين قلناه).
وهذا هو اللائق
بهم رحمهمالله ، فإنهم يعلمون أنهم ليسوا بمعصومين ، بل هم مجتهدون
يصيبون ويخطئون ، ويعلمون كذلك أن أحدا منهم لم يحط علما بكل ما قاله الرسول صلىاللهعليهوسلم ، فلذلك جاءت وصيتهم جميعا بأن لا تجعل أقوالهم مساوية
للنص في الميزان ، بل يجب أن توزن بالنصوص فإن وافقتها فهي صحيحة والا وجب اتباع
النص.
* * *
لكنكم قدمتم
أقوالهم
|
|
أبدا على النص
العظيم الشأن
|
والله لا لوصية
العلماء نف
|
|
ذتم ولا لوصية
الرحمن
|
وركبتم الجهلين
ثم تركتم النص
|
|
ين مع ظلم ومع
عدوان
|
قلنا لكم
فتعلموا قلتم أما
|
|
نحن الأئمة
فاضلو الأزمان
|
من أين والعلماء
أنتم فاستحوا
|
|
أين النجوم من
الثرى التحتاني
|
لم يشبه العلماء
الا أنتم
|
|
أشبهتم العلماء
في الأذقان
|
والله لا علم
ولا دين ولا
|
|
عقل ولا بمروءة
الانسان
|
عاملتم العلماء
حين دعوكم
|
|
للحق بل بالبغي
والعدوان
|
الشرح
: لكنكم بالرغم من
أمر الله لكم أن لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ومن وصية الأئمة لكم أن لا تقدموا
آراءهم ومذاهبهم على قول الله وحديث
رسوله صلىاللهعليهوسلم ، قد خالفتم هذا كله وقدمتم أقوالهم على النصوص الصريحة من
الكتاب والسنة ، فلا أنتم امتثلتم أمر ربكم بالوقوف عند ما جاء به الرسول عليهالسلام ، ولا أنتم نفذتم وصية العلماء بترك أقوالهم إذا ظهر
مخالفتها لصريح النص وركبتم الجهلين ، جهلكم بالحق الذي يجب اتباعه والايمان به ،
وجهلكم انكم تجهلونه ، وهذا هو الجهل المركب ، ثم تركتم النصين من الكتاب والسنة
ظلما وعدوانا ، واذا نصح لكل ناصح أن تتعلموا لأنكم لستم على شيء غضبتم من رميه
لكم بالجهل ، وقلتم تبجحا وغرورا : ألسنا نحن الأئمة الفضلاء والعلماء الأذكياء ،
كذبتم فأين أنتم من هؤلاء او هؤلاء؟ ألم يبق في وجوهكم قطرة من حياء؟ فأين الثرى
من الثريا؟ أم أين الأرض من السماء؟ ألم يبق مما يشبه العلماء ألا أنتم ، صدقتم ،
ولكنكم أشبهتموهم في طول اللحى والأذقان أما ما وراء ذلك فأنتم لا علم ولا دين ولا
عقل ولا حتى مروءة انسانية ، فقد كنتم لئاما حين عاملتم من يدعوكم من العلماء الى
الحق بالبغي والكيد الدنيء والاعتداء الاثيم ، وكأنه يشير بذلك رحمهالله الى ما وقع عليه وعلى شيخه شيخ الاسلام ابن تيمية من علماء
عصرهم من الجهلة المتعصبين للمذاهب من ايذاء واعتداء على حين لا ذنب لهما الا الذب
عن دين الله ونصر السنة المطهرة والرجوع بالأمة الى ما كان عليه سلفها الصالح قبل
نجوم الخلاف ، وظهور البدع والمقالات.
* * *
أن أنتم الا
الذباب اذا رأى
|
|
طعما فيا لمساقط
الدبان
|
وإذا رأى فزعا
تطاير قلبه
|
|
مثل البغاث يساق
بالعقبان
|
وإذا دعوناكم
الى البرهان كا
|
|
ن جوابكم جهلا
بلا برهان
|
نحن المقلدة
الألى ألفوا كذا
|
|
آباءهم في سالف
الأزمان
|
قلنا فكيف
تكفرون وما لكم
|
|
علم بتكفير ولا
ايمان
|
اذ أجمع العلماء
أن مقلدا
|
|
للناس والأعمى
هما أخوان
|
والعلم معرفة
الهدى بدليله
|
|
ما ذاك والتقليد
مستويان
|
حرنا بكم والله
لا أنتم مع العلم
|
|
اء تنقادون
للبرهان
|
كلا ولا متعلمون
فمن ترى
|
|
تدعون نحسبكم من
الثيران
|
لكنها والله
أنفع منكم
|
|
للأرض في حرث
وفي دوران
|
نالت بهم خيرا
ونالت منكم المعه
|
|
ود من بغي ومن
عدوان
|
فمن الذي خير
وأنفع للورى
|
|
أنتم أم الثيران
بالبرهان
|
الشرح
: يشبه المؤلف هؤلاء
الأدعياء من أهل التعصب والتقليد الأعمى في دناءتهم وتهافتهم على حطام الدنيا
بالذباب إذا رأى طعما ، أي شيئا حلوا كالعسل كثر تساقطه فيه ، وهم من ذلك جبناء
رعاديد اذا رأوا هيعة طارت نفوسهم منها شعاعا وانخلعت قلوبهم ، كأنهم رخم تسوقه
الصقور والعقبان ، واذا ناظرهم العلماء وطالبوهم بالبرهان لم يقدروا على اقامته ،
وكان جوابهم هو جواب أهل التقليد في كل زمان : (إِنَّا وَجَدْنا
آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) فقيل لهم كيف تكفرون اذا من خالفكم وأنتم لا علم عندكم
بمواضع التكفير والايمان ، وهل التقليد الا عمى في العقل والبصيرة ، يحمل المقلد
على الانقياد لمن يقلده ، كانقياد الأعمى لمن يقوده ، فأين هو من العلم الصحيح
الذي يكون قائما على الدليل والبرهان ، فشتان ما بينهما ثم شتان ، ولقد تركتمونا
في حيرة من أمركم فلا ندري الى أي قبيل ننسبكم ، فلا أنتم مع العلماء في طلب
الدليل والبرهان ولا أنتم ترضون أن تتعلموا لتزيلوا عن أنفسكم غشاوة الجهل
والتقليد ، فلا نظنكم الا أمة من الثيران التى لا تفقه ولا تعي ، على أن الثيران
كذلك خير منكم وأنفع ، فإنها تحرث الأرض وتسقي الزرع ، وأما أنتم فما نالت بكم
الأرض الا شرا ، فقد أكثرتم فيها البغي والعدوان ، فأصبحتم أخف وزنا حتى من
الثيران.
* * *
فصل
هذا وثامن عشرها
تنزيهه
|
|
سبحانه عن موجب
النقصان
|
وعن العيوب
وموجب التمثيل
|
|
والتشبيه جل
الله ذو السلطان
|
ولذاك نزه نفسه
سبحانه
|
|
عن ان يكون له
شريك ثان
|
أو أن يكون له
ظهير في الورى
|
|
سبحانه عن افك
ذي بهتان
|
أو أن يوالي
خلقه سبحانه
|
|
من حاجة او ذلة
وهوان
|
أو أن يكون لديه
أصلا شافع
|
|
الا باذن الواحد
المنان
|
وكذاك نزه نفسه
عن والد
|
|
وكذاك عن ولدهما
نسبان
|
وكذاك نزه نفسه
عن زوجة
|
|
وكذاك عن كفو
يكون مداني
|
الشرح
: هذا هو الوجه
الثامن عشر من الوجوه الدالة على علوه تعالى وفوقيته ، وخلاصة هذا الوجه أن الله
سبحانه قد نزه نفسه في كتابه عن كل ما يوجب نقصا أو عيبا ، وعن كل ما يقتضي تمثيلا
أو تشبيها له بأحد من خلقه ، تعالى الله عن ذلك ، فنزه نفسه سبحانه عن أن يكون له
شريك ينازعه الملك والسلطان ، ويكون مستحقا للعبادة معه.
وآيات نفي الشريك
في القرآن أكثر من أن تحصر ، ومنها آيات مشتملة على دليل ذلك النفي ، كقوله تعالى
: (لَوْ كانَ فِيهِما
آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢]
وقوله (مَا اتَّخَذَ اللهُ
مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ
وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) [المؤمنون : ٩١]
وكذلك نزه نفسه سبحانه عن الظهير ، وهو المظاهر المعاون له في شيء من الخلق أو
التدبير ، كقوله تعالى : (وَما لَهُمْ فِيهِما
مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ) [سبأ : ٢٢] ونزه
نفسه عن أن يكون له ولي من خلقه يواليه من ذل أو حاجة ، قال تعالى : (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ
يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ
وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِ) [الإسراء : ١١١]
ونزه نفسه عن أن يكون لديه شافع أصلا يشفع بغير أذنه فيقبل شفاعته لرغبة أو رهبة ،
كما يقبل الملوك في الدنيا شفاعة من حولهم من القواد والأمراء وذوي الجاه لخوفهم
منهم وحاجتهم إليهم. أما الشفاعة عنده سبحانه فإنها لا تكون أبدا الا بشرطين ،
أحدهما في الشافع ، وهو اذن الله له بالشفاعة والثاني في المشفوع له ، وهو أن يكون
مرضيا عنه ، قال تعالى : (وَلا يَشْفَعُونَ
إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) [الأنبياء : ٢٨]
وقال (وَكَمْ مِنْ
مَلَكٍ
فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ
يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) [النجم : ٢٦].
وكذاك نزه نفسه
سبحانه عن الوالد والولد فقال : (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ
يُولَدْ) [الإخلاص : ٣] وعن
الزوجة والكفء الذي هو النظير المساوي قال تعالى : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ
كُفُواً أَحَدٌ) [الإخلاص : ٤]
وقال : (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ
سَمِيًّا) [مريم : ٦٥] أي
شبيها ونظيرا يستحق مثل اسمه ، وقال تعالى : (أَنَّى يَكُونُ لَهُ
وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ) [الأنعام : ١٠١]
وقال حكاية عن الجن : (وَأَنَّهُ تَعالى
جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً) [الجن : ٣].
ولقد أتى
التنزيه عما لم يقم
|
|
كي لا يزور
بخاطر الانسان
|
فأنظر الى
التنزيه عن طعم ولم
|
|
ينسب إليه قط من
انسان
|
وكذلك التنزيه
عن موت وعن
|
|
نوم وعن سنة وعن
غشيان
|
وكذلك التنزيه
عن نسيانه
|
|
والرب لم ينسب
الى نسيان
|
وكذلك التنزيه
عن ظلم وفي الافع
|
|
ال عن عبث وعن
بطلان
|
وكذلك التنزيه
عن تعب وعن
|
|
عجز ينافي قدرة
الرحمن
|
الشرح
: يعني أنه سبحانه
كما نزه نفسه عما قاله المبطلون ووصفوه به نزه نفسه عما لم يقله أحد ولم ينسبه
إليه حتى لا يقع بخاطر أحد ، فنزه نفسه عن الطعم مع أن أحدا لم يصفه به ، قال
تعالى : (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ
أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) [الأنعام : ١٤]
وقال سبحانه (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ
مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) الذاريات : ٥٧] وكذلك نزه نفسه عن الموت وعن السنة النوم
وعن الغشيان الذي هو الجماع وعن النسيان الذي هو ضد الذكر مع أن أحدا لم ينسبه الى
شيء من ذلك قال تعالى: (وَتَوَكَّلْ عَلَى
الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) [الفرقان : ٥٨]
وقال : (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ
وَلا نَوْمٌ) [البقرة : ٢٥٥]
وقال تعالى : (وَما كانَ رَبُّكَ
نَسِيًّا) [مريم : ٦٤].
ونزه نفسه كذلك عن
الظلم في معاملة خلقه فلا يعاقب أحدا بغير ذنب ، ولا
يضيع عمل عامل ، ولا
ينقصه شيئا من أجره. ونزه نفسه في الأفعال عن العبث والباطل وهو خلو الفعل عن
الحكمة المقتضية له قال تعالى : (وَلا يَظْلِمُ
رَبُّكَ أَحَداً) [الكهف : ٤٩] وقال
: (وَما رَبُّكَ
بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت : ٤٦] وقال
: (وَما خَلَقْنَا
السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً) وقال : (أَفَحَسِبْتُمْ
أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً) [المؤمنون ١١٥]
وقال : (وَما خَلَقْنَا
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ* ما خَلَقْناهُما إِلَّا
بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) [الدخان : ٣٨ ، ٣٩].
* * *
ولقد حكى الرحمن
قولا قاله
|
|
فنحاص ذو
البهتان والكفران
|
ان الاله هو
الفقير ونحن أصح
|
|
اب الغنى ذو
الوجد والامكان
|
وكذاك أضحى ربنا
مستقرضا
|
|
أموالنا سبحان
ذي الاحسان
|
وحكى مقالة قائل
من قومه
|
|
أن العزير ابن
من الرحمن
|
هذا وما القولان
قط مقالة
|
|
منصورة في موضع
وزمان
|
لكن مقالة كونه
فوق الورى
|
|
والعرش وهو
مباين الأكوان
|
قد طبقت شرق
البلاد وغربها
|
|
وغدت مقررة لذي
الأذهان
|
فلأي شيء لم
ينزه نفسه
|
|
سبحانه في محكم
القرآن
|
عن ذي المقالة
مع تفاقم أمرها
|
|
وظهورها في سائر
الأديان
|
بل دائما يبدي
لنا اثباتها
|
|
ويعيده بأدلة
التبيان
|
الشرح
: روى عكرمة عن ابن
عباس في سبب نزول قوله تعالى : (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ
قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) [آل عمران : ١٨١]
الآية ان أبا بكر الصديق رضي الله عنه دخل بيت المدراس فوجد ناسا كثيرة من اليهود
قد اجتمعوا على رجل منهم يقال له فنحاص وكان من علمائهم وأحبارهم ، فقال له أبو
بكر : اتق الله يا فنحاص واسلم فو الله انك لتعلم أن محمدا رسول من عند الله قد
جاء بالحق من عنده تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل. فقال فنحاص : والله
يا أبا بكر ما بنا إلى الله من حاجة من فقر وأنه إلينا لفقير ، ولو
كان عنا غنيا ما
استقرض منا كما يزعم صاحبكم. فغضب أبو بكر وضربه على وجهه ضربا شديدا ، فذهب فنحاص
إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم يشكو أبا بكر. فقال له الرسول عليهالسلام «ما حملك على ما
صنعت يا أبا بكر» فقال : يا رسول الله ان عدو الله قال قولا عظيما يزعم أن الله
فقير وأنهم أغنياء ، فلما قال ذلك غضبت لله مما قال ، فضربت وجهه فجحد فنحاص ذلك
فنزلت الآية.
وكما حكى الله عزوجل مقالة فنحاص هذه حكى لنا مقالة بعض الجهلة من قومه اليهود
أن عزيرا ابن الله لما كتب لهم التوراة بقلمه بعد غلبة العمالقة على بني إسرائيل
وذهاب علمائهم مع أن كلا من هاتين المقالتين فسادها ظاهر ، وليست مشهورة في أي
مكان وزمان. فإذا كان الله سبحانه قد نزه نفسه عما تقدم من العيوب والنقائص وعما
قاله اليهود مع عدم اشتهاره وظهور فساده ، فلأي شيء إذا لم ينزه نفسه عن تلك
المقالة وهي كونه فوق عرشه مباينا لخلقه إذا كانت متضمنة لمعنى فاسد لا يجوز
اعتقاده في حق الله تعالى مع شهرة هذه المقالة وتفاقم أمرها واجماع أهل الأديان
عليها ، فكانت هي أحق من هذا كله بالتنبيه على فسادها والتحذير منها مع ان العكس
هو الواقع ، فالله عزوجل يثبت لنا هذه المقالة ويعيدها ويكررها في كتابه في اسلوب
واضح صريح مثل قوله تعالى : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ
فِي السَّماءِ) [الملك : ١٧](ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) [يونس : ٣](إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) [فاطر : ١٠](تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ
إِلَيْهِ) [المعارج : ٤] إلى
غير ذلك من الآيات التي لا تقبل تأويلا. وقوله ـ ذو البهتان ـ أي الكذب والافتراء
واتهام الغير بما ليس فيه. وقوله ذو الوجد بضم الواو : بمعنى الغنى والتفاقم
الزيادة والاشتهار.
* * *
لا سيما تلك
المقالة عندكم
|
|
مقرونة بعبادة
الاوثان
|
أو أنها كمقالة
لمثلث
|
|
عبد الصليب
المشرك النصراني
|
إذ كان جسما كل
موصوف بها
|
|
ليس الإله منزل
الفرقان
|
فالعابدون لمن
على العرش استوى
|
|
بالذات ليسوا
عابدي الديان
|
لكنهم عباد
أوثان لدى
|
|
هذا المعطل جاحد
الرحمن
|
ولذاك قد جعل
المعطل كفرهم
|
|
هو مقتضى
المعقول والبرهان
|
هذا رأيناه
بكتبكم ولم
|
|
نكذب عليكم فعل
ذي البهتان
|
ولأي شيء لم
يحذر خلقه
|
|
عنها وهذا شأنها
ببيان
|
هذا وليس فسادها
بمبين
|
|
حتى يحال لنا
على الأذهان
|
ولذاك قد شهدت
أفاضلكم لها
|
|
بظهورها للوهم
في الإنسان
|
وخفاء ما قالوه
من نفي على الا
|
|
ذهان بل تحتاج
للبرهان
|
الشرح
: يعني كيف ينزه
الله نفسه عن تلك المقالة مع أنها عندكم من أشنع المقالات فهي مساوية لعبادة
الأوثان ، أو هي كمقالة النصارى المثلثة المشركين عباد الصليب اذ كان كل موصوف بها
عندكم جسما ، ويستحيل أن يكون الإله جسما فالعابدون لمن استوى على العرش بذاته
لبسوا بعابدين لله عزوجل عندكم ولكنهم عباد أوثان ، ولهذا حكمتم عليهم بالكفر في
كتبكم وقلتم ان هذا هو مقتضى العقل والبرهان ، فمقالة هذا شأنها كيف يسكت الله عزوجل عنها ولا يحذر خلقه منها مع أن فسادها ليس ببين في نفسه
حتى تحال معرفته على العقول ، ولهذا قد اعترف فضلاؤكم بأنها أظهر وأوضح للوهم أو
لما سميتموه وهما وان مذهبهم في النفي من الأمور التي تخفى على الأذهان فهو محتاج
إلى البرهان.
* * *
فصل
هذا وتاسع عشرها
الزام
|
|
ذي التعطيل أفسد
لازم ببيان
|
وفساد لازم قوله
هو مقتضى
|
|
لفساد ذاك القول
بالبرهان
|
فسل المعطل عن
ثلاث مسائل
|
|
تقتضي على
التعطيل بالبطلان
|
ما ذا تقول كان
يعرف ربه
|
|
هذا الرسول
حقيقة العرفان
|
أم لا وهل كانت
نصيحته لنا
|
|
كل النصيحة ليس
بالخوان
|
أم لا وهل حاز
البلاغة كلها
|
|
فاللفظ والمعنى
له طوعان
|
فإذا انتهت هذي
الثلاثة فيه كا
|
|
ملة مبرأة من
النقصان
|
فلأي شيء عاش
فينا كاتما
|
|
للنفي والتعطيل
في الازمان
|
بل مفصحا بالضد
منه حقيقة الا
|
|
فصاح موضحة بكل
بيان
|
الشرح
: هذا هو الوجه
التاسع عشر ويقوم على إلزام أهل التعطيل بأحد لوازم ثلاثة ، كل منها في غاية
الفساد ، ولا شك أن فساد اللازم يقتضي عقلا فساد الملزوم ، فيسأل هذا المعطل أولا
: هل تعتقد أن الرسول صلىاللهعليهوسلم كان يعرف ربه حق المعرفة ، وأنه لا أحد من الخلق يمكن أن
يكون علمه بالله عزوجل مساويا لعلم رسوله به أم لا؟
ثم يسأل ثانيا :
هل كان هذا الرسول صلوات الله وسلامه عليه في غاية النصح لأمته والحرص على هدايتهم
، أم كان غاشا لهم كاتما عنهم ما يجب ان يعلموه من أسماء ربهم وصفاته؟
ثم يسأل ثالثا :
هل كان هذا الرسول في أعلى درجات البلاغة والقدرة على البيان والافهام ، وأن
الألفاظ والمعاني كانت تسلس له قيادها ، فلا يستعصي عليه شيء منها أم لا؟
فإذا كانت هذه
الأمور الثلاثة من العلم واردة البيان والقدرة عليه قد كملت فيه غاية الكمال ، بحيث
لا يمكن أن يساويه أحد من الخلق في واحد منها ، ولا أن تجتمع لأحد من الخلق كما
اجتمعت له ، فلأي شيء إذا عاش طول حياته كاتما لما يجب اعتقاده من النفي والتعطيل
في زعمكم. بل لأي شيء عاش مفصحا عن ضد ذلك من الاثبات غاية الافصاح ، ومبينا له
أوضح البيان.
إن مذهبكم في
التعطيل يقتضي واحدا من هذه الثلاثة ، أما نفي علم الرسول بما يجب لله من تنزيه
وتقديس ، وأما كتمانه ذلك عن أمته غشا وتلبيسا. وأما
عدم قدرته على
بيان ذلك وإيضاحه ، فأي واحد منها إذا تختارون لتسجلوا على أنفسكم أشنع الكفر
والبهتان.
* * *
ولأي شيء لم يصرح
بالذي
|
|
صرحتم في ربنا
الرحمن
|
ألعجزه عن ذاك
أم تقصيره
|
|
في النصح أم
لخفاء هذا الشأن
|
حاشاه بل ذا
وصفكم يا
|
|
أمة التعطيل لا
المبعوث بالقرآن
|
ولأي شيء كان
يذكر ضد ذا
|
|
في كل مجتمع وكل
زمان
|
أتراه أصبح
عاجزا عن
|
|
قوله استولى
وينزل أمره وفلان
|
والله ما قال
الأئمة غير ما
|
|
قد قاله من غير
ما كتمان
|
لكن لأن عقول
أهل زمانهم
|
|
ضاقت بحمل دقائق
الإيمان
|
وغدت بصائرهم
كخفاش أتى
|
|
ضوء النهار فكف
عن طيران
|
حتى إذا ما
الليل جاء ظلامه
|
|
أبصرته يسعى بكل
مكان
|
الشرح
: يعني إذا كان ما تقولونه
من التعطيل ونفي الصفات هو الحق الذي يجب اعتقاده ، فلأي شيء لم يصرح به الرسول
صلوات الله وسلامه عليه كما صرحتم أنتم به في حق الله عزوجل. لا بد أن يكون ذلك لأحد الأمور الثلاثة التي قدمناها :
أما لعجزه وعدم قدرته على التعبير والافصاح عن ذلك وحاشاه ، فهو أكمل الخلق بلاغة
وأقدرهم على أداء أي معنى بما يناسبه من الألفاظ. واما لتقصيره في النصح لأمته
وقصده الى غشهم والتلبيس عليهم ، وحاشاه فهو الأمين الذي ائتمنه الله على وحيه ،
فلا يعقل منه كتمان لشيء من ذلك أو تبديل ، واما لخفاء هذا الشأن عليه وعدم ظهوره
له ، وحاشاه فهو أعلم الخلق بما يجب لربه عزوجل وما يجوز وما يمتنع ، لا يخفى عليه شيء من ذاك في النفي
والاثبات ، بل أنتم يا جماعة التعطيل والانكار أولى بهذه الأوصاف ، فأنتم أجهل
الناس بالحق وأقصرهم تعبيرا وأداء وأغشهم لناصح ، وأما الرسول فبراء من ذلك.
وإذا كان ما
تقولونه من التعطيل هو الحق ، فلأي شيء كان الرسول صلىاللهعليهوسلم
يذكر ضده ويصرح به
في كل مجتمع وزمان ، هل ترونه كان عاجزا عن قوله استولى بدلا من استوى ، أو عاجزا
عن قوله ينزل أمر ربنا بدلا من قوله ينزل ربنا الخ ، ولا سيما إذا كانت الألفاظ
التي نطق بها موقعة في اللبس والايهام. ولأي شيء عبتم على الأئمة أقوالهم ، وهم لم
يقولوا غير ما قاله الرسول بلا تبديل ولا كتمان ، لكن عقول أهل زمانهم القاصرة
ضاقت عن فهم دقائق ذلك العلم وعجزت عن حل أسراره ، فهي أشبه شيء بالخفاش الذي لا
يبصر ولا يطير إلا في الظلام ، حتى إذا طلع عليه النهار كف عن الطيران لعجزه عن
الابصار.
* * *
وكذا عقولكم لو
استشعرتم
|
|
يا قوم كالحشرات
والفيران
|
أنست بايحاش
الظلام وما لها
|
|
بمطالع الأنوار
قط يدان
|
لو كان حقا ما
يقول معطل
|
|
لعلوه وصفاته
الرحمن
|
لزمتكم شنع ثلاث
فارتئوا
|
|
أو خلة منهن أو
ثنتان
|
تقديمهم في
العلم أو في نصحهم
|
|
أو في البيان
أذاك ذو امكان
|
أن كان ما قد
قلتم حقا فقد
|
|
ضل الورى بالوحي
والقرآن
|
اذ فيهما ضد
الذي قلتم وما
|
|
ضدان في المعقول
يجتمعان
|
بل كان أولى أن
يعطل منهما
|
|
ويحال في علم
وفي عرفان
|
أما على جهم
وجعد أو على
|
|
النظام أو ذي
المذهب اليوناني
|
الشرح
: يعني كما عجزت
عقول أسلافكم في النفي والتعطيل عن رؤية الحق الواضح في كلام الله وكلام رسوله ،
وسلف هذه الأمة من أئمة الهدى والعلم ، فكذلك عقولكم مثل عقولهم في الغمة والضلال
، فهي لا تأنس إلا بظلام التعطيل والتأويل ، ولا قدرة لها على مطالعة نور الحق
الواضح الصريح.
ولو كان حقا ما
تقولونه أيها المعطلة النافون لعلوه تعالى ولسائر صفاته لزمكم أن تكونوا أعلم بهذا
الشأن من الله ورسوله ، أو أخلص في النصح للأمة أو أقدر على التعبير والبيان ، فهل
يمكن أن تلتزموا واحدة من هذه الشنع الثلاث أو
كلها وهل يقبل هذا
عقل عاقل ، ولو كان حقا ما تقولونه لزم أن لا يكون الوحي والقرآن مصدر هداية للناس
، بل مصدر ضلال وتلبيس ، فإنهما قد جاءا بصريح الاثبات الذي هو ضد ما قلتم من
النفي والتعطيل ، ولا يمكن أن يجتمع الضدان ، فلو فرض أن ما جئتم به هو الحق لزم
أن يكون الوحي والقرآن باطلا ووجب أن يحال الناس في العلم بالله وصفاته على ما
قاله الجهم بن صفوان الترمذي والجعد بن درهم أو على ما قاله إبراهيم النظام
المعتزلي صاحب القول بالطفرة أو على ما قاله ابن سينا صاحب المذهب اليوناني.
* * *
وكذاك أتباع لهم
فقع الفلا
|
|
صم وبكم تابعوا
العميان
|
وكذاك أفراخ
القرامطة الألى
|
|
قد جاهروا
بعداوة الرحمن
|
كالحاكمية
والألى والوهم
|
|
كأبي سعيد ثم آل
سنان
|
وكذا ابن سينا
والنصير نصير
|
|
أهل الشرك
والتكذيب والكفران
|
وكذاك أفراخ
المجوس وشبههم
|
|
والصابئين وكل
ذي بهتان
|
اخوان ابليس
اللعين وجنده
|
|
لا مرحبا بعساكر
الشيطان
|
الشرح
: ووجب أن يحال أيضا
في هذا الشأن على أتباع لهؤلاء الضلال كأنهم فقع الفلا والفقع هو البيضاء الرخوة
من الكمأة ، وهو نبات ينبت في الصحراء على مياه الأمطار يشبه البطاطس ويحبه البدو
كثيرا ، والمراد تشبيه هؤلاء بالفقع في كونهم يعيشون في متاهات الضلال كما يعيش
الفقع في الفلوات.
ثم أخبر عنهم كذلك
بأنهم تابعون لعميان لا يبصرون ، فلهذا كانوا صما وبكما في الظلمات ، ووجب أن يحال
كذلك على أفراخ القرامطة أتباع قرمط المجاهرين بالعدوان لله ورسوله ، من أمثال
الحاكمية أتباع الحاكم بأمر الله الفاطمي الذين اعتقدوا إلهيته ولا يزالون يعبدونه
إلى اليوم في جبال سوريا ولبنان ، ويسمون بالدروز وكذاك من والاهم وتشيع لهم ، مثل
أبي سعيد؟ وآل سنان ، وهي أسرة كانت تحكم خراسان ، وفي ظلها نشأ ابن سينا القرمطي
والنصير ،
وهذا هو نصير
الدين الطوسي شارح الاشارات لابن سينا ، والمحصل للرازي ، وكذاك أتباع المجوس عبدة
النار وأشباههم والصابئة عبدة النجوم والكواكب وكل ذي فرية وبهتان كلهم اخوان
إبليس وجنده وأعوانه في الاغواء والاضلال فلا مرحبا بعساكر الشيطان أعداء الرحمن.
* * *
أفمن حوالته على
التنزيل
|
|
والوحي المبين
ومحكم القرآن
|
كمحير أضحت
حوالته على
|
|
أمثاله أم كيف
يستويان
|
أم كيف يشعر
تائه بمصابه
|
|
والقلب قد جعلت
له قفلان
|
قفل من الجهل
المركب فوقه
|
|
قفل التعصب كيف
ينفتحان
|
ومفاتيح الاقفال
في يد من له
|
|
التصريف سبحان
العظيم الشأن
|
فاسأله فتح
القفل مجتهدا
|
|
على الأسنان ان
الفتح بالأسنان
|
الشرح : ولكن كيف يستوي من حوالته على الوحي المنزل في محكم القرآن
وصحيح السنة ومن هو حائر ضال يحال على أمثاله في الحيرة والضلال ، أم كيف يشعر هذا
التائه الضال بمصابه ، وقد جعل على قلبه قفلان يمنعان نور الحق من النفوذ إليه ،
أحدهما قفل الجهل المركب الذي هو جهله بأنه جاهل ، والآخر قفل التعصب الأعمى الذي
يحمل صاحبه على الحمية الجاهلية لما هو عليه من الباطل ، فكيف ينفتح هذان القفلان
، إلا أن يشاء الله الذي بيده قلوب العباد يقلبها كيف شاء ، فليسأله العبد أن يفتح
أقفال قلبه حتى يبصر الحق ويرى النور ، ولكن كل مفتاح له أسنان ، فما لم يجتهد
العبد في تحصيل الاسنان لم يتم له ما أراد ، ولعل مراده بالأسنان هنا النظر الصحيح
في الأدلة مع الانصياع لما تهدى إليه من الحق في غير تعصب ولا تقليد.
* * *
فصل
هذا وخاتم
العشرين وجها
|
|
وهو أقربها إلى
الأذهان
|
سرد النصوص
فانها قد نوعت
|
|
طرق الادلة في
أتم بيان
|
والنظم يمنعني
من استيفائها
|
|
وسياقة الالفاظ
بالميزان
|
فأشير بعض اشارة
لمواضع
|
|
منها وأين البحر
من خلجان
|
فاذكر نصوص
الاستواء فإنها
|
|
في سبع آيات من
القرآن
|
واذكر نصوص
الفوق أيضا في ثلا
|
|
ث قد غدت معلومة
التبيان
|
واذكر نصوص علوه
في خمسة
|
|
معلومة برئت من
النقصان
|
الشرح
: هذا هو الوجه
العشرون من الوجوه الدالة على علوه تعالى على خلقه واستواؤه فوق عرشه ، وهو أقرب
هذه الوجوه كلها تناولا ، وأسهلها مئونة لأنه يقوم على سرد النصوص الصريحة من كتاب
الله عزوجل الدالة على العلو عند من أنصف عقله ، ولم تفسد فطرته
الاهواء ، ولم يوسع هذه النصوص تحريفا ، ولم يسمها تأويلا. والشيخ رحمهالله يعتذر من عدم قدرته على إيراد هذه النصوص هنا لتقيده بقيود
النظم والقافية التي لا يجوز اخضاع هذه النصوص لها ، فاكتفى بأن يشير إلى مواضعها
من القرآن ، فذكر أن لفظ الاستواء قد ورد في سبع آيات وهي قوله في سورة [الاعراف :
٥٤](إِنَّ رَبَّكُمُ
اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى
عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ
تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) وفي سورة [يونس : ٣](إِنَّ رَبَّكُمُ
اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى
عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ
ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) وفي سورة [الرعد : ٢](اللهُ الَّذِي رَفَعَ
السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) وفي سورة [طه : ٥](الرَّحْمنُ عَلَى
الْعَرْشِ اسْتَوى) وفي سورة [الفرقان : ٥٩](الَّذِي خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى
عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) وفي الم [السجدة : ٤](اللهُ الَّذِي خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى
عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا
تَتَذَكَّرُونَ) وفي سورة [الحديد : ٤]
(هُوَ الَّذِي خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) الآية.
وأما نصوص الفوق
فقد ذكر أنها وردت في ثلاث آيات. وهي قوله تعالى في سورة [الانعام : ١٨](وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ
وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) وقوله في نفس السورة : (وَهُوَ الْقاهِرُ
فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا)(جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ
رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) [الأنعام : ٦١]
وقوله في سورة [النحل : ٥٠] في شأن الملائكة (يَخافُونَ رَبَّهُمْ
مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ).
وأما نصوص العلو
فقد ذكر أنها وردت في خمسة مواضع وهي قوله في آخر آية الكرسي من سورة [البقرة :
٢٥٥](وَلا يَؤُدُهُ
حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) وفي سورة [النساء : ٢٤](وَاللَّاتِي
تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ
وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ
اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً).
وفي سورة [الرعد :
٩] : (عالِمُ الْغَيْبِ
وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ) وفي سورة [غافر : ١٢] : (فَالْحُكْمُ لِلَّهِ
الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ) وفي سورة [الأعلى : ١](سَبِّحِ اسْمَ
رَبِّكَ الْأَعْلَى).
ولا شك أن هذه
النصوص كلها صريحة في علوه تعالى فوق خلقه واستوائه على عرشه ولا يجوز صرفها عن
ظاهرها الى معان أخر لما قدمنا من عدم وجود قرينة توجب ذلك الصرف ، وما يدعيه أهل
التأويل الباطل من قرينة عقلية وهي حكم العقل باستحالة الجهة على الله معارض بأدلة
من العقل والفطرة أقوى منه كما بينا.
* * *
واذكر نصوصا في
الكتاب تضمنت
|
|
تنزيله من ربنا
الرحمن
|
فتضمنت أصلين
قام عليهما ال
|
|
إسلام والإيمان
كالبنيان
|
كون الكتاب
كلامه سبحانه
|
|
وعلوه من فوق كل
مكان
|
وعدادها سبعون
حين تعد أو
|
|
زادت على
السبعين في الحسبان
|
واذكر نصوصا
ضمنت رفعا ومعرا
|
|
جا وإصعادا الى
الديان
|
هي خمسة معلومة
بالعد وال
|
|
حسبان فاطلبها
من القرآن
|
الشرح
: أما النصوص التي
وردت في الكتاب العزيز مصرحة بأن هذا القرآن منزل من عند الله عزوجل ، فقد تضمنت أصلين عظيمين عليهما قام بناء الإسلام وصرح
الايمان.
(الأصل
الأول): ان هذا القرآن
كلامه هو سبحانه حقيقة لا مجازا ، بمعنى أنه تكلم به بألفاظه ومعانيه بصوت نفسه ،
وسمعه منه الأمين جبريل عليهالسلام وأداه الى رسول الله صلىاللهعليهوسلم كما سمعه.
(والأصل
الثاني): أنه سبحانه وتعالى
في جهة العلو فوق جميع الأمكنة ، فإن النزول يقتضي الهبوط من أعلى الى أسفل ، فلو
لم يكن سبحانه عاليا فوق خلقه لم يصح الاخبار بكون الكتاب منزلا من عنده وهذه
النصوص المتضمنة لنزول القرآن من عند الله عزوجل ، ذكر المصنف أن عددها سبعون أو تزيد ، ويطول بنا القول لو
ذكرناها جميعا ، فلنقتصر على بعضها على سبيل المثال ، فنقول : منها قوله تعالى في
سورة [آل عمران : ٧](هُوَ الَّذِي
أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ
وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) وفي سورة [الأنعام : ١١٤](أَفَغَيْرَ اللهِ
أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً
وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ
بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ)
وفي سورة [النحل :
١٠٢](قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ
الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً
وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) وفي سورة [الشعراء : ١٩٢ ، ١٩٣](وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ
الْعالَمِينَ* نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ
الْمُنْذِرِينَ* بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) [الشعراء : ١٩٢ ، ١٩٦].
وأما النصوص التي
تضمنت رفع بعض الأشياء أو عروجها أو صعودها إليه سبحانه فقد ذكر المصنف أنها في
خمسة مواضع من القرآن ، الأول قوله تعالى في سورة آل عمران خطابا لعيسى عليهالسلام : (إِذْ قالَ اللهُ يا
عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) [آل عمران : ٥٥]
وفي سورة [النساء : ١٥٨] اخبارا عنه عليهالسلام (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ
إِلَيْهِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) وفي سورة الم [السجدة : ٥](يُدَبِّرُ الْأَمْرَ
مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ
أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) وفي سورة [فاطر : ١٠](إِلَيْهِ يَصْعَدُ
الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) وفي سورة [المعارج : ٤](تَعْرُجُ
الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ
سَنَةٍ* فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً).
* * *
ولقد أتى في
سورة الملك التي
|
|
تنجي لقارئها من
النيران
|
نصان أن الله
فوق سمائه
|
|
عند المحرف ما
هما نصان
|
ولقد أتى
التخصيص بالعند الذي
|
|
قلنا بسبع بل
أتى بثمان
|
منها صريح
موضعان بسورة الأ
|
|
عراف ثم الأنبياء
الثاني
|
فتدبر التعيين
وانظر ما الذي
|
|
لسواه ليست
تقتضي النصان
|
وبسورة التحريم
أيضا ثالث
|
|
بادي الظهور لمن
له أذنان
|
الشرح
: ورد في سورة الملك
التي قال فيها رسول الله صلىاللهعليهوسلم «سورة من القرآن
ثلاثون آية شفعت في صاحبها» نصان صريحان في أن الله عزوجل في السماء وهما قوله تعالى : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ
فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ* أَمْ
أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ
كَيْفَ نَذِيرِ) [الملك : ١٦ ، ١٧]
وأما النصوص الدالة على تخصيص بعض الأشياء بكونها عنده فقد جاء ذلك في سبعة أو
ثمانية مواضع : الأول : قوله تعالى في سورة
الأعراف (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا
يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ) [الأعراف : ٢٠٦] والثاني : في سورة الأنبياء : (وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ
عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) [الأنبياء : ١٩]
فتخصيص الملائكة الذين هم سكان السموات بكونهم عنده دليل على أن المراد بها عندية
مكان. والثالث : في سورة التحريم قوله تعالى : (وَضَرَبَ اللهُ
مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي
عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ
وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [التحريم : ١١].
* * *
ولديه في مزمل
قد بينت
|
|
نفس المراد
وقيدت ببيان
|
لا تنقض الباقي
فما لمعطل
|
|
من راحة فيها
ولا تبيان
|
وبسورة الشورى
وفي مزمل
|
|
سر عظيم شأنه ذو
شان
|
في ذكر تفطير
السماء فمن يرد
|
|
علما به فهو
القريب الداني
|
لم يسمح
المتأخرون بنقله
|
|
جبنا وضعفا عنه
في الإيمان
|
بل قاله
المتقدمون فوارس الا
|
|
سلام هم أمراء
هذا الشأن
|
ومحمد بن جرير
الطبري في
|
|
تفسيره حكيت به
القولان
|
الشرح
: وأما بقية المواضع
فإنه وان لم يصرح فيها بلفظ العند فإن الاضافة فيها الى لفظ لدى الذي هو بمعنى عند
ودال على نفس المراد منها ، وذلك مثل قوله تعالى : (إِنَّ لَدَيْنا
أَنْكالاً وَجَحِيماً* وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً) [المزمل : ١٢ ، ١٣]
وقوله : (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ
فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) [ق : ٣٥](قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ
قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ* ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا
بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [ق : ٢٨ ، ٢٩] وفي
سورة الزخرف (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ
الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) [الزخرف : ٤].
وأما قوله : وفي
مزمل سر عظيم ، شأنه ذو شأن في ذكر تفطير السماء الخ ، فهو اشارة الى قوله تعالى
من هذه السورة : (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ
بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً)
فالضمير في به
يحتمل أن يعود الى اليوم في قوله : (يَوْماً يَجْعَلُ
الْوِلْدانَ شِيباً) يعني أن السماء تنفطر في هذا اليوم وتتشقق ، وتكون الباء
بمعنى في ، ويحتمل أن يعود الى الله عزوجل وان لم يسبق له ذكر ، لأنه مفهوم من السياق ، ويؤيده قوله
بعد ذلك (كانَ وَعْدُهُ
مَفْعُولاً) فإن عود الضمير هنا على الله في غاية الظهور ، ويكون معنى
انفطار السماء بالله عزوجل تشققها عند نزوله لفصل القضاء بين عباده كما في قوله تعالى
في سورة [الفرقان ٢٥](وَيَوْمَ تَشَقَّقُ
السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً).
ولكن المتأخرين من
المفسرين مثل ابن كثير وغيره جبنوا عن ايراد هذا القول الثاني ولم يصرح به الا
المتقدمون من جهابذة الاسلام الذين هم أعلم هذه الأمة بمعاني كلام الله عزوجل. وقد حكى ابن جرير القولين في تفسيره.
* * *
فصل
هذا وحاديها
وعشرون الذي
|
|
قد جاء في
الأخبار والقرآن
|
اتيان رب العرش
جل جلاله
|
|
ومجيئه للفصل
بالميزان
|
فانظر الى
التقسيم والتنويع في الق
|
|
رآن تلفيه صريح
بيان
|
ان المجيء لذاته
لا أمره
|
|
كلا ولا ملك
عظيم الشأن
|
اذ ذانك الامران
قد ذكرا وبينهما
|
|
مجيء الرب ذي
الغفران
|
والله ما احتمل
المجيء سوى مجي
|
|
ء الذات بعد
تبين البرهان
|
من أين يأتي يا
أولى المعقول أن
|
|
كنتم ذوي عقل مع
العرفان
|
من فوقنا او
تحتنا او عن شما
|
|
ئلنا ومن خلف
وعن ايمان
|
والله لا يأتيهم
من تحتهم
|
|
أبدا تعالى الله
ذو السلطان
|
كلا ولا من
خلفهم وأمامهم
|
|
وعن الشمائل او
عن الايمان
|
والله لا يأتيهم
الا من الع
|
|
لو الذي هو فوق
كل مكان
|
الشرح
: الوجه الحادي
والعشرون من الوجوه الدالة على العلو والفوقية ما
نطقت به آيات
الكتاب الكريم ، ووردت به الأخبار الصحيحة ، من اتيانه عزوجل ومجيئه يوم القيامة لفصل القضاء بين العباد ، كقوله تعالى
: (هَلْ يَنْظُرُونَ
إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ
وَقُضِيَ الْأَمْرُ) [البقرة : ٢١٠]
يعني ما ينتظر هؤلاء الا وقوع ذلك الأمر العظيم ، وهو أن يأتيهم الله في ظلل
الغمام وتأتي معه الملائكة وقضي الأمر ، يعني فرغ من حسابهم ، وعطف الملائكة هنا
على الله ينفي تأويل المعطلة بأن الاتيان للملك ، فهو كقوله : (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا
صَفًّا) [الفجر : ٢٢] ولكن
قد يقول المعطل ان اتيان الرب عزوجل هو اتيان امره كما في قوله تعالى في سورة النحل : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ
تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) [النحل : ٣٣] فيرد
عليه بتلك الآية التي تأخذ بخناقه ولا يجد لتأويلها مساغا أعني قوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ
تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ
رَبِّكَ) [الأنعام : ١٥٨]
فان الترديد هنا بين اتيان الرب والملائكة ، والآيات أوضح دليل على ان المراد مجيء
ذاته لا أمره ، فإنه مذكور بين الأمرين الآخرين وهما مجيء الملك والآيات ، فكيف
يجوز تأويله بأحدهما ، واذا ثبت مجيء الرب وإتيانه جل شأنه بهذه الآية القاطعة ،
فمن أين يأتي اذا؟ والجهات المعروفة ست ، هي الفوق والتحت ، واليمين والشمال ،
والأمام والخلف ، فليقل لنا هؤلاء المعطلة أي هذه الجهات يختارون ليكون منها مجيء
الرب واتيانه ، لا يعقل أبدا أن يجيئهم من تحتهم ـ تعالى الله عن ذلك ـ وكذلك لا
يعقل أن يجيئهم من خلفهم ولا من أمامهم ، ولا عن أيمانهم ولا عن شمائلهم ، فلم يبق
الا أن يأتيهم من العلو المطلق الذي هو فوق الأمكنة جميعا.
* * *
فصل في الاشارة الى ذلك من السنة
وأكثر حديثا في
الصحيح تضمنت
|
|
كلماته تكذيب ذي
البهتان
|
لما قضى الله
الخليقة ربنا
|
|
كتبت يداه كتاب
ذي الاحسان
|
وكتابه هو عنده
وضع على الع
|
|
رش المجيد
الثابت الأركان
|
اني أنا الرحمن
تسبق رحمتي
|
|
غضبي وذاك
لرأفتي وحناني
|
ولقد أشار نبينا
في خطبة
|
|
نحو السماء
بإصبع وبنان
|
مستشهدا رب
السموات العلى
|
|
ليرى ويسمع قوله
الثقلان
|
أتراه أمسى
للسما مستشهدا
|
|
أم للذي هو فوق
ذي الأكوان
|
ولقد أتى في
رقية المرض
|
|
ى عن الهادي
المبين أتم ما تبيان
|
نص بأن الله فوق
سمائه
|
|
فأسمعه ان سمعت
لك الأذنان
|
الشرح
: بعد أن فرغ من
دلالة آيات الكتاب الحكيم على اثبات صفة العلو للعلي العظيم شرع في إيراد ما
تضمنته السنة الصحيحة من دلالات واضحة واشارات صريحة لا تخفى الا على من أعمى
الهوى والتعصب بصائر قلوبهم ، فمن ذلك قوله صلىاللهعليهوسلم في الحديث الصحيح «ان الله لما خلق الخلق كتب في كتاب
موضوع عنده فوق العرش أن رحمتي سبقت غضبي» فقوله في كتاب موضوع عنده فوق العرش لا
يحتاج الى بيان أن تلك العندية تقتضي وجوده سبحانه فوق عرشه.
ومن ذلك أيضا ما
ثبت عنه صلىاللهعليهوسلم في خطبة الوداع التي شهدها الجم الغفير من الصحابة أنه كان
يوجه إليهم نصائحه ووصاياه (ويشير بإصبعه الى السماء ثم ينكبها إليهم ، ثم يقول
لهم : الا هل بلغت اللهم فاشهد) غير مرة ، فالاشارة بإصبعه الى السماء لا يعقل أنه
أراد بها أن يستشهد بالسماء على تبليغه رسالة الله التي أرسله بها الى خلقه ، ولكنه
أراد بها أن يشهد ربه عزوجل في آخر مجمع وأعظم مشهد حضره أنه أتم رسالة ربه وبرئ من
تبعة التقصير والكتمان ، ولهذا قال لهم في آخر خطبته «فليبلغ الشاهد منكم الغائب»
فرب مبلغ أوعى من سامع.
ومن ذلك قوله في
حديث الرقية الذي رواه أبو داود وغيره كالطبراني والحاكم وأخرجه البيهقي في
الأسماء والصفات «ربنا الله الذي في السماء تقدس
اسمك ، أمرك في
السماء والأرض كما رحمتك في السماء أجعل رحمتك في الأرض أنت رب الطيبين أغفر لنا
حوبنا وخطايانا ، أنزل رحمة من رحمتك وشفاء من شفائك على هذا الوجع».
فقوله ربنا الله
الذي في السماء صريح لا يسوغ العقل تأويله أبدا لا بملك ولا برحمه ولا بأمر ولا
بغير ذلك مما يتكلفه المعطلة ، فإن كلا من الرحمة والأمر مذكور في الحديث ، وقصارى
شغب المبطلين على هذه الأحاديث الصريحة أن يقولوا أنها أحاديث آحاد لا يعول عليها
في باب الاعتقاد. ولكن هذه الشبهة يرد عليها بأن هذه الاحاديث وان كان كل واحد
منها لا يفيد الا الظن الا أنها اذا ضم بعضها الى بعض تبلغ مبلغ التواتر المعنوي ،
وهو مفيد للعلم اليقيني.
والعجب من هؤلاء
المخذولين الذين يردون على هذه الاحاديث ويرفضون أخذ عقائدهم منها ، وهم اذا جاءهم
خبر منقطع عن شخص مجهول يوافق أهواءهم طاروا به فرحا وجعلوه حجة لهم؟؟؟ مجال
التأويل والانكار ، وكم رأينا من هؤلاء من ينقل عن أرسطو وأفلاطون الوثنيين ، وعن
أفلوطين المسيحي ، ويقدم ذلك على الوحي المنزل من عند الله ، فبئس ما اشتروا به
أنفسهم أن يقدموا كلام هؤلاء الكفرة على كلام الله ورسوله ويأخذوا دينهم عن أهل
الشرك والالحاد.
* * *
ولقد أتى خبر
رواه عمه العب
|
|
اس صنو أبيه ذو
الاحسان
|
أن السموات
العلى من فوقه
|
|
ا الكرسي عليه
العرش للرحمن
|
والله فوق العرش
ينظر خلقه
|
|
فانظره أن سمحت
لك العينان
|
واذكر حديث حصين
بن المن
|
|
ذر الثقة الرضي
أعني أبا عمران
|
اذ قال ربي في
السماء لرغبتي
|
|
ولرهبتي أدعوه
كل أوان
|
فأقره الهادي
البشير ولم يقل
|
|
أنت المجسم قائل
بمكان
|
حيزت بل جيهت بل
شبهت بل
|
|
جسمت لست بعارف
الرحمن
|
هذي مقالتهم لمن
قد قال ما
|
|
قد قاله حقا أبو
عمران
|
فالله يأخذ حقه
منهم ومن
|
|
أتباعهم فالحق
للرحمن
|
الشرح
: روى أبو داود في
سننه عن العباس بن عبد المطلب عم النبي صلىاللهعليهوسلم قال «كنت في البطحاء في عصابة فيهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم فمرت بهم سحابة فنظر إليها فقال : ما تسمون هذه؟ قالوا
السحاب ، قال والمزن؟ قالوا والمزن قال والعنان؟ قالوا والعنان : قال أبو داود لم
أتقن العنان جيدا ، قال هل تدرون بعد ما بين السماء والأرض؟ قالوا لا ندري ، قال
أن بعد ما بينهما اما واحدة او اثنتان او ثلاث وسبعون سنة ، ثم السماء فوقها كذلك
حتى عد سبع سماوات ، ثم فوق السابعة بحر بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء الى
سماء ، ثم فوق ذلك ثمانية أو عال بين أظلافهم وركبهم مثل ما بين سماء الى سماء ،
ثم على ظهورهم العرش بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء الى سماء ، ثم الله تبارك
وتعالى فوق ذلك». ثم رواه أبو داود من طريق آخر وفيه : ان الله فوق عرشه وعرشه فوق
سماواته.
وكذلك رواه ابن
ماجة والترمذي وحسنه ، ورواه الحافظ ضياء الدين المقدسي في المختارة وابن منده في
كتاب التوحيد وهو صريح في فوقية الذات ، لأنه ذكر أن العرش فوق السموات ، وهي
فوقية حسية بالمكان ، فتكون فوقية الله عزوجل على العرش كذلك ولا يصح أبدا حمل الفوقية هنا على فوقية
القهر والغلبة ، والا لتفكك معنى الحديث ولا يبقى حينئذ معنى لتخصيص العرش بتلك
الفوقية ، اذ الله عزوجل فوق الخلق جميعا قاهر لهم.
وأما حديث حصين بن
منذر فقد رواه البيهقي في الأسماء والصفات عن عمران بن حصين رضي الله عنه وفيه أن
النبي صلىاللهعليهوسلم قال لحصين «كم إلها تعبد؟ قال : سبعة ستة في الأرض وواحد
في السماء. قال : من لرغبتك ورهبتك؟ قال : الذي في السماء ، قال : فاترك الستة
واعبد الذي في السماء وأنا أعلمك دعوتين» فأسلم وعلمه النبيصلىاللهعليهوسلم أن يقول «اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي».
وظاهر من الحديث
أن النبي صلىاللهعليهوسلم أقر حصينا على ما قاله من أن إلهه الذي
يدعوه في الرغب
والرهب في السماء ولم يقل له أنت مجسم بذلك ولا قائل بالمكان ولا قال له حيزت أي
أثبت الحيز لله ، ولا جيهت أي اعتقدت الجهة ، ولا شبهت ومثلت أي اعتقدت المشابهة
والمماثلة وغير ذلك من الالفاظ التي يرمي بها المعطلة كل من قال بمثل مقالة حصين
ولكن الله مطلع على ما يقوله الظالمون الجاحدون لصفاته وسيأخذ حقه منهم يوم توفى
الحقوق لأصحابها من كل ظالم غشوم.
* * *
واذكر شهادته
لمن قال رب
|
|
ي في السما
بحقيقة الايمان
|
وشهادة العدل
المعطل للذي
|
|
قد قال ذا
بحقيقة الكفران
|
واحكم بأيهما
تشاء وأنني
|
|
لأراك تقبل شاهد
البطلان
|
ان كنت من أتباع
جهم ص
|
|
احب التعطيل
والعدوان والبهتان
|
واذكر حديثا
لابن اسحاق الرضي
|
|
ذاك الصدوق
الحافظ الرباني
|
في قصة
استسقائهم يستشفعو
|
|
ن الى الرسول
بربه المنان
|
فاستعظم المختار
ذاك وقال شأ
|
|
ن الله رب العرش
أعظم شأن
|
الله فوق العرش
فوق سمائه
|
|
صبحان ذي
الملكوت والسلطان
|
ولعرشه منه أطيط
مثل ما
|
|
قد أط رحل الراكب
العجلان
|
الشرح
: قوله واذكر شهادته
الخ. اشارة الى حديث الجارية التي سألها النبيصلىاللهعليهوسلم : «أين الله. فقالت : في السماء. ثم قال لها : من أنا.
فقالت : أنت رسول الله. فقال لسيدها : أعتقها فإنها مؤمنة». فهذه شهادته صلىاللهعليهوسلم لتلك الجارية بالايمان ، فقارن بينها وبين شهادة الجهمي
المعطل لمن قال مثل قولها بالكفر واحكم بعد ذلك بأيهما شئت ، ولا أراك أن كنت من
أصحاب جهم الموصوف بالتعطيل لتعطيله ذات الرب جل شأنه عن صفاتها الواجبة لها
والعدوان لمجاوزته الحق الذي دلت عليه النصوص والبهتان لكذبه وافترائه على الله ،
ولا أراك ان كنت كذلك الا قابلا لشهادة البطلان ومنحازا الى فئة الشيطان.
وأما قوله واذكر
حديثا الخ ، فهو اشارة إلى الحديث الذي رواه ابن اسحاق أن اعرابيا جاء إلى النبي صلىاللهعليهوسلم فقال : يا رسول الله نهكت الانفس وجاع العيال وهلك المال
فاستسق لنا ربك فإنا نستشفع بالله عليك وبك على الله ، فسبح النبي صلىاللهعليهوسلم حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه ، ثم قال للرجل ويحك أتدري ما
الله ان الله لا يستشفع به على أحد من خلقه شأنه الله أعظم ثم ذكر الحديث. بعد ما
بين سماء وسماء ، وبعد ما بين السماء السابعة والعرش ، وأن الله فوق ذلك مستو على
عرشه ، وأن للعرش منه أطيطا وهو صوت الرحل الجديد كأطيط الرحل لراكب عجلان أي مغذ
في سيره.
فالرسول صلىاللهعليهوسلم انما يذكر ذلك للأعرابي في مقام التعليم له بشأن الله عزوجل وعظمته تربية للمهابة في قلبه حين قال تلك القولة النكراء
التي أطلقت لسان رسول الله صلىاللهعليهوسلم بالتسبيح والثناء فدل هذا على أن التعظيم والتنزيه ليس
بنفي الجهة والاستواء كما يدعي الجهمية السفهاء.
* * *
لله ما لقي ابن
اسحاق من
|
|
الجهمي اذ يرميه
بالعدوان
|
ويظل يمدحه إذا
كان الذي
|
|
يروي يوافق مذهب
الطعان
|
كم قد رأينا
منهم أمثال ذا
|
|
فالحكم لله
العلي الشأن
|
هذا هو التطفيف
لا التطفيف في
|
|
ذرع ولا كيل ولا
ميزان
|
واذكر حديث
نزوله نصف الدجى
|
|
في ثلث ليل آخر
أو ثان
|
فنزول رب ليس
فوق سمائه
|
|
في العقل ممتنع
وفي القرآن
|
واذكر حديث
الصادق ابن رواحة
|
|
في شأن جارية
لدى الغشيان
|
فيه الشهادة أن
عرش الله فو
|
|
ق الماء خارج
هذه الأكوان
|
والله فوق العرش
جل جلاله
|
|
سبحانه عن نفي
ذي البهتان
|
ذكر ابن عبد
البر في استيعابه
|
|
هذا وصححه بلا
نكران
|
الشرح
: لله يعني في سبيل
الله ما لقي ابن إسحاق من الجهمي بسبب روايته
لهذا الحديث حيث
يتهمه بالعدوان والكذب ، ولكنه يظل يمدحه ويطريه إذا هو روى ما يوافق مذهبه فهذا
دأبهم دائما تصديق للراوي فيما لا يصادم قضية من قضايا عقولهم الخاسرة فإذا روى هو
نفسه حديثا على خلاف ما ذهبوا إليه لم يكن نصيبه منهم إلا التشنيع والتكذيب ، فما
أجدر هؤلاء باسم المطففين حيث يستوفون الذي لهم وينكرون الذي عليهم فهذا فهو
التطفيف في الحقيقة لا التطفيف في كل أو ذرع أو ميزان. بل أجدرهم أن يكونوا ممن
قال الله عزوجل فيهم (وَإِذا دُعُوا إِلَى
اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ*
وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ* أَفِي قُلُوبِهِمْ
مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ
بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [النور : ٤٨ ، ٥٠].
وأما قوله : واذكر
حديث نزوله الخ فقد تقدم الكلام على هذا الحديث وهو يدل دلالة قاطعة على وجود الله
عزوجل فوق عرشه ، فإن حقيقة النزول هي انتقال النازل من مكان عال
إلى ما دونه فنزول بلا فوقية ممتنع في العقل والشرع جميعا وأما تأويله بنزول الأمر
أو الرحمة أو الملك فقد بينا فساده ، وأما قوله واذكر حديث الصادق ابن رواحة الخ.
فهو عبد الله بن رواحة الخزرجي أحد شعراء الرسول صلىاللهعليهوسلم قتل في غزوة مؤتة. وقد جاء في هذا الحديث أن عبد الله ابن
رواحة وقع على جارية له فرأته زوجته فجاءت بسكين لتضربه بها فأنكر أنه غشي الجارية
فقالت له : ان كنت صادقا فاقرأ قرآنا فأنشدها هذين البيتين :
شهدت بأن وعد
الله حق
|
|
وأن النار مثوى
الكافرين
|
وأن العرش فوق
الماء طاف
|
|
وفوق العرش رب
العالمين
|
فقالت صدق الله
وكذبت عيناي. وقد أخبر ابن رواحة رسول الله صلىاللهعليهوسلم بذلك فأقره ، ولم ينكر عليه. وفي هذين البيتين تصريح بأن
الله فوق عرشه فوقية حقيقية.
* * *
وحديث معراج
الرسول فثابت
|
|
وهو الصريح
بغاية التبيان
|
وإلى إله العرش
كان عروجه
|
|
لم يختلف من
صحبه رجلان
|
واذكر بقصة خندق
حكما جرى
|
|
لقريظة من سعد
الرباني
|
شهد الرسول بأن
حكم إلهنا
|
|
من فوق سبع وفقه
بوزان
|
واذكر حديثا
للبراء رواه أصحاب
|
|
المساند منهم
الشيباني
|
وأبو عوانة ثم
حاكمنا الرضي
|
|
وأبو نعيم
الحافظ الرباني
|
قد صححوه وفيه
نص ظاهر
|
|
ما لم يحرفه
أولو العدوان
|
في شأن روح
العبد عند وداعها
|
|
وفراقها لمساكن
الابدان
|
فتظل تصعد في
سماء فوقها
|
|
أخرى إلى خلاقها
الرحمن
|
حتى تصير إلى
سماء ربها
|
|
فيها وهذا نصه
بأمان
|
الشرح
: المعراج آلة
العروج وهو الصعود. وقد ثبت عروجه صلىاللهعليهوسلم ليلة الاسراء بالأحاديث الصحيحة التي تبلغ حد التواتر فلا
مجال لانكاره ووقع اتفاق الصحابة فمن بعدهم على أن هذا العروج كان إلى ذي العرش
سبحانه ، وأنه قربه منه وأدناه ، وفرض عليه وعلى أمته الصلاة مباشرة في تلك الليلة
، وتأمل قول موسى عليهالسلام (حين سأل نبينا صلىاللهعليهوسلم عما فرض الله عليه وعلى أمته فقال خمسين صلاة) أرجع إلى
ربك فاسأله التخفيف ، فان أمتك لا تطيق ذلك. وقوله عليهالسلام فما زلت أراجع ربي حتى جعلها خمس صلوات في اليوم والليلة.
فليت شعري ما ذا
يقول المعطلة في هذا؟ وهل يعقل أن موسى أمر نبينا صلىاللهعليهوسلم بالرجوع إلى ملك الله أو أمره كما يزعمون في غير هذا
الموضوع وقد كان معه جبريل ملك الوحي وقتئذ ، وقد ورد أنه استشار جبريل فيما قاله
موسى فقال له نعم ان شئت. وأما قوله : واذكر بقصة خندق حكما جرى الخ ، فهو اشارة
إلى ما كان من أمر بني قريظة حين حاصرهم النبي صلىاللهعليهوسلم بسبب نقضهم العهد وانضمامهم للأحزاب في غزوة الخندق ،
فطلبوا منه أن يحكم فيهم سعد بن معاذ سيد الأوس رضي الله عنه ، فحكم فيهم سعد بأن
تقتل مقاتلتهم وأن تسبى نساؤهم وذراريهم ، وأن تؤخذ أموالهم غنيمة للمسلمين ، فقال
له النبيصلىاللهعليهوسلم :
«لقد حكمت فيهم
بحكم الملك من فوق سبع سماوات». وقد نزل في شأن هذه الغزوة قوله تعالى : (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ
أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً
تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً* وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ
وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) [الأحزاب : ٢٦ ،
٢٧].
وأما قوله : واذكر
حديثا للبراء الخ ، فهو إشارة إلى ما رواه البراء بن عازب رضي الله عنه من قوله صلىاللهعليهوسلم ما معناه أن روح العبد إذا فارقت البدن تصعد بها الملائكة
من سماء إلى سماء حتى تنتهي إلى السماء الذي فها الرب الخ ، فهو صريح بوجود الرب
جل شأنه في السماء ، أي في جهة العلو.
* * *
واذكر حديثا في
الصحيح وفيه
|
|
تحذير لذات
البعل من هجران
|
من سخط رب في
السماء على التي
|
|
هجرت بلا ذنب ولا
عدوان
|
واذكر حديثا قد
رواه جابر
|
|
فيه الشفاء
لطالب الايمان
|
في شأن أهل
الجنة العليا وما
|
|
يلقون من فضل
ومن احسان
|
بيناهم في عيشهم
ونعيمهم
|
|
وإذا بنور ساطع
الغشيان
|
لكنهم رفعوا
إليه رءوسهم
|
|
فإذا هو الرحمن
ذو الغفران
|
فيسلم الجبار جل
جلاله
|
|
حقا عليهم وهو
ذو الاحسان
|
الشرح
: قوله : واذكر
حديثا في الصحيح الخ ، اشارة الى قوله عليهالسلام ما معناه «والذي نفسي بيده ما من امرأة تبيت هاجرة فراش
زوجها إلا كان الذي في السماء ساخطا عليها حتى تصبح» فالذي في السماء إنما هو الرب
جل شأنه لا يصح أن يحمل على شيء آخر من ملك ونحوه ، فإن المقصود من الحديث الزجر
والتهديد والوعيد الشديد لمن تفعل ذلك ، والذي يناسب هذا إنما هو سخط الرب وغضبه.
وأما قوله : واذكر
حديثا ، قد رواه جابر الخ ، فهو اشارة إلى قوله صلىاللهعليهوسلم ما
معناه فيما رواه
ابن ماجه في سننه «بينما أهل الجنة في نعيمهم اذ سطع عليهم نور فرفعوا رءوسهم فإذا
الرب تعالى قد أشرف عليهم من فوقهم ، فقال السلام عليكم يا أهل الجنة ، فذلك قوله
تعالى : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ
رَبٍّ رَحِيمٍ) [يس : ٥٨] قال
فينظر إليهم وينظرون إليه فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى
يحتجب عنهم ويبقى نوره وبركته عليهم وفي ديارهم» رواه ابن ماجة في كتاب السنة من
سننه عن محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب.
* * *
واذكر حديثا قد
رواه الشافعي
|
|
طريقه فيه أبو
اليقظان
|
في فضل يوم
الجمعة اليوم الذي
|
|
بالفضل قد شهدت
له النصان
|
يوم استواء الرب
جل جلاله
|
|
حقا على العرش
العظيم الشأن
|
واذكر مقالته ألست
أمين من
|
|
فوق السماء
الواحد الرحمن
|
واذكر حديث أبي
رزين ثم سقه
|
|
بطوله كم فيه من
عرفان
|
والله ما لمعطل
بسماعه
|
|
أبدا قوي إلا
على النكران
|
فأصول دين نبينا
فيه أتت
|
|
في غاية الايضاح
والتبيان
|
وبطوله قد ساقه
ابن إمامنا
|
|
في سنة والحافظ
الطبراني
|
وكذا أبو بكر
بتاريخ له
|
|
وأبوه ذاك زهير
الرباني
|
الشرح
: أخرج الشافعي رحمهالله في مسنده من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «أتى
جبريل رسول الله صلىاللهعليهوسلم بمرآة بيضاء فيها نكتة ، فقال النبي صلىاللهعليهوسلم ما هذه؟ فقال هذه يوم الجمعة ، فضلت بها أنت وأمتك والناس
لكم فيها تبع ، اليهود والنصارى ولكم فيها خير وفيها ساعة لا يوافقها عبد مسلم
يدعوا الله بخير إلا استجيب له ، وهو عندنا يوم المزيد ، فقال النبي صلىاللهعليهوسلم وما يوم المزيد يا جبريل؟ قال ان ربك اتخذ في الفردوس
واديا أفيح فيه كثب من مسك ، فإذا كان يوم الجمعة أنزل الله سبحانه وتعالى ما شاء
من ملائكته وحوله منابر من نور عليها مقاعد النبيين ، وحف تلك المنابر بمنابر من
ذهب مكللة بالياقوت
والزبرجد عليها
الشهداء والصديقون ، فجلسوا من ورائهم على تلك الكثب ، فيقول الله عزوجل : أنا ربكم قد صدقتكم وعدي فسلوني أعطكم ، فيقولون ربنا
نسألك رضوانك ، فيقول قد رضيت عنكم ولكم ما تمنيتم ولدي مزيد ، فهم يحبون يوم
الجمعة لما يعطيهم فيه ربهم من الخير ، وهو اليوم الذي استوى فيه ربك على العرش
وفيه خلق آدم وفيه تقوم الساعة).
والشاهد هنا في
قوله : وهو اليوم الذي استوى فيه ربك على العرش ، وهو موافق لما في القرآن من أن
استواءه تعالى على العرش كان بعد خلق السموات والأرض ، ومعلوم أن الله ابتدأ الخلق
يوم الأحد وفرغ منه يوم الجمعة حيث خلق آدم وهو آخر المخلوقات في آخر ساعة منه بعد
العصر ثم استوى بعد ذلك على العرش ، فيكون الاستواء قد وقع يوم الجمعة بعد الفراغ
من الخلق.
وأما قوله : واذكر
مقالته ألست أمين من فوق السماء (البيت) فهو اشارة إلى ما ورد في الصحيح من حديث
الخوارج من قوله عليهالسلام (ألا تأمنوني وأنا
أمين من في السماء ، يأتيني خبر السماء صباحا ومساء) والشاهد في قوله : وأنا أمين
من في السماء ، فليس له معنى إلا أنه أمين الله الذي في السماء ، لا يجوز أبدا أن
يراد بمن في السماء غير ذلك.
* * *
واذكر كلام
مجاهد في قوله
|
|
أقم الصلاة وتلك
في سبحان
|
في ذكر تفسير
المقام لأحمد
|
|
ما قيل ذا
بالرأي والحسبان
|
ان كان تجسيما
فإن مجاهدا
|
|
هو شيخهم بل
شيخه الفوقاني
|
ولقد أتى ذكر
الجلوس به وفي
|
|
أثر رواه جعفر
الرباني
|
أعني ابن عم
نبينا وبغيره
|
|
أيضا أتى والحق
ذو التبيان
|
والدارقطني
الامام يثبت الآثار
|
|
في ذا الباب غير
جبان
|
وله قصيد ضمنت
هذا وفيها
|
|
لست للمروي ذا
نكران
|
وجرت لذلك فتنة
في وقته
|
|
من فرقة التعطيل
والعدوان
|
روي ابن جرير
وغيره في تفسير : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ
رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) [الإسراء ٧٩] ان
المقام المحمود هو الشفاعة العظمى ، وذكر عن مجاهد أن المقام المحمود هو أن الله
تعالى يجلس رسوله معه على العرش ، والله أعلم.
* * *
والله ناصر دينه
وكتابه
|
|
ورسوله في سائر
الأزمان
|
لكن بمحنة حزبه
من حربه
|
|
ذا حكمة مذ كانت
الفئتان
|
وقد اقتصرت على
يسير من
|
|
كثير فائت للعد
والحسبان
|
ما كل هذا قابل
التأويل بالتحريف
|
|
فاستحيوا من
الرحمن
|
الشرح
: إذا كانت الحرب في
هذا الباب قائمة بين أهل الحق والاثبات من جهة ، وبين أهل النفي والتعطيل من جهة
أخرى ، فإن النصر فيها مضمون لأقربهما الى كتاب الله وسنة رسوله صلىاللهعليهوسلم ، حيث وعد الله عزوجل بذلك في كتابه ، قال تعالى : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ
كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ* إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ
جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) [الصافات : ١٧١ ،
١٧٢] وقال : (إِنَّا لَنَنْصُرُ
رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ
الْأَشْهادُ) [غافر : ٥١] ولكن ما يجري على أهل الحق من عدوان أهل
الباطل عليهم وإيذائهم لهم ، فإن ذلك امتحان من الله تبارك وتعالى لحزبه وأوليائه
ليصفي بذلك جوهرهم ويمحص قلوبهم ويزيدهم عنده كرامة ورفعة على ما أوذوا في سبيله
وصبروا وعلى ما احتملوا في جهاد أعدائه المبطلين ، قال تعالى : (وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ
مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) [محمد : ٤].
ثم ذكر الشيخ رحمهالله أنه لم يذكر من أدلة علو الله تعالى على خلقه واستوائه على
عرشه إلا طرفا يسيرا جدا من كثير لا يمكن عده واحصاؤه ، ولا يعقل أن تكون هذه
النصوص كلها من الآيات والأحاديث والآثار في كثرتها ووضوحها قابلة لتأويل هؤلاء
المعطلة لو لا أن القوم قد أصبحوا ولا حياء عندهم يمنعهم من الجرأة على كتاب الله عزوجل بالتحريف ، ويلزمهم الوقوف
عند ما وقف سلف
هذه الأمة الذين هم أكملها علما وأوسعها فهما بدلا من أن يتخبطوا في هذه المتاهات
التي أضلتهم عن سواء السبيل.
* * *
فصل
في جناية التأويل على ما جاء به الرسول
والفرق بين المردود منه والمقبول
هذا وأصل بلية
الإسلام من
|
|
تأويل ذي
التحريف والبطلان
|
وهو الذي قد فرق
السبعين بل
|
|
زادت ثلاثا قول
ذي البرهان
|
وهو الذي قتل
الخليفة جامع
|
|
القرآن ذا
النورين والاحسان
|
وهو الذي قتل
الخليفة بعده
|
|
أعني عليا قاتل
الأقران
|
وهو الذي قتل
الحسين وأهله
|
|
فغدوا عليه
ممزقي اللحمان
|
وهو الذي في يوم
حربهم أبا
|
|
ح حمى المدينة
معقل الإيمان
|
حتى جرت تلك
الدماء كأنها
|
|
في يوم عيد سنة
القربان
|
وغدا له الحجاج
يسفكها ويقتل
|
|
صاحب الإيمان
والقرآن
|
وجرى بمكة ما
جرى من أجله
|
|
من عسكر الحجاج
ذي العدوان
|
الشرح
: بعد أن بين الشيخ رحمهالله فساد مذهب أهل التأويل في مسألة العلو وما يفضي إليه من
نفي وجود الرب جل شأنه قرر هنا أن أساس كل بلية أصيب بها الإسلام إنما هو التأويل
الذي هو في الحقيقة تحريف والحاد ، فجميع الأحداث الكبار التي وقعت في هذه الأمة
وهزت من كيانها وفرقتها شيعا لم يكن لها من سبب إلا جنوح فريق منها إلى أتباع
الهوى والاستحسان بالرأي وترك الاعتصام بالكتاب والسنة. فهذا هو الذي فرق هذه
الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة مصداق قوله صلىاللهعليهوسلم فيما رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما «ان بني إسرائيل
تفرقوا على ثنتين وسبعين ملة ، وأن أمتي ستفترق على ثلاث وسبعين
ملة كلها في النار
، إلا ملة واحدة. قيل من هي يا رسول الله؟ قال عليه الصلاة والسلام : ما أنا عليه
اليوم وأصحابي».
وهو الذي كان سببا
في قتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه صاحب المناقب الغراء في جمع
القرآن في المصحف الإمام وتجهيز جيش العسرة من ماله واختصاصه بتزوج اثنتين من
بناته صلىاللهعليهوسلم. اذ لو لا ظهور التأويل ونشر الدعايات الخبيثة في الأمصار
ضد خليفة الإسلام لما جرأت هذه الوفود التي قدمت المدينة على محاصرة داره
واقتحامها عليه وقتله ظلما وهو يتلو كتاب الله عزوجل.
وكان مما تأوله
هؤلاء القتلة في ذلك قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ
بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) [المائدة : ٤٤]
فقالوا أن عثمان كفر لحكمه بغير الحق وكل كافر فهو مشرك حلال الدم والمال ، وبهذه
التأويلات الفاسدة استحل الخوارج الذين خرجوا في زمن علي رضي الله عنه دماء
المسلمين وأموالهم وكفروا عليا ومعاوية ومن معهما من الصحابة وخرج منهم عبد الرحمن
بن ملجم أشقى هذه الأمة فقتل عليا رضي الله عنه وهو ينادي لصلاة الصبح بمسجد
الكوفة سنة ٤٠ من الهجرة.
وكان التأويل أيضا
سببا في مقتل الحسين والايقاع به هو وأهله في كربلاء حيث قتله جند يزيد بن معاوية
متأولين أنه من البغاة الخارجين عن طاعة الإمام.
وكان التأويل كذلك
هو السبب في استباحة جند يزيد حمى المدينة المنورة في وقعة الحرة ثلاثة أيام يسفكون
الدماء وينهبون الأموال ويهتكون الاعراض حتى فني في هذه الموقعة معظم الأنصار
الذين آووا ونصروا رضي الله عنهم أجمعين.
ومن بعد ذلك جرى
بمكة ما جرى من عسكر الحجاج الغشوم حيث حاصرها في أيام ابن الزبير رضي الله عنه
وضربها بالمنجنيق وانتهت المعركة بمقتل ابن الزبير بعد أن تخلى عنه أصحابه.
فكل هذه البلايا
ما وقعت الا بسبب تأويلات الخوارج والمرجئة والقدرية والرافضة وغيرهم من فرق
الضلال والزيغ التي اتبعت ما تشابه من الكتاب ، وتركت محكمة فصاروا في أمر مريج.
* * *
وهو الذي أنشأ
الخوارج مثل انش
|
|
اء الروافض أخبث
الحيوان
|
ولأجله شتموا
خيار الخلق بع
|
|
د الرسل
بالعدوان والبهتان
|
ولأجله سل
البغاة سيوفهم
|
|
ظنا بأنهم ذوو
احسان
|
ولأجله قد قال
أهل الاعتزا
|
|
ل مقالة هدت قوى
الأيمان
|
ولأجله قالوا
بأن كلامه
|
|
سبحانه خلق من
الأكوان
|
ولأجله قد كذبت
بقضائه
|
|
شبه المجوس
العابدي النيران
|
ولأجله قد خلدوا
أهل الكبا
|
|
ئر في الجحيم
كعابدي الأوثان
|
ولأجله قد
أنكروا لشفاعة ال
|
|
مختار فيهم غاية
النكران
|
الشرح
: والتأويل كذلك هو
الذي كان سببا في ظهور الخوارج والروافض أما الخوارج فهم الذين يسمون بالحرورية أو
الشراة ، وقد كانوا أو لا في معسكر علي رضي الله عنه ثم خرجوا عليه بعد حادثة
التحكيم وقالوا لا حكم الا لله وكفروا عليا ومعاوية ومن معهما من الصحابة رضي الله
عنهم واستحلوا دماء المسلمين وأموالهم ومن مذهبهم أن من ارتكب كبيرة ولم يتب منها
فهو كافر مخلد في النار ومن شبههم الفاسدة في هذا أن الله عزوجل قال : (يَوْمَ لا يُخْزِي
اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) [التحريم : ٨] ثم
قال في آية أخرى (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ
تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) [آل عمران : ١٩٣]
فقالوا أن الله قد نفى الخزي عن المؤمنين وأثبته لأهل النار وعلى ذلك فكل من دخل
النار فليس بمؤمن وكل من ليس بمؤمن فهو كافر. وهم محجوبون بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ
بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨]
وبالأحاديث المتواترة في خروج الموحدين من النار. وأما الروافض فهم غالية الشيعة
الذين
غلوا في علي رضي
الله عنه وفي أهل بيته ، وكان سبب تسميتهم بهذا الاسم انهم طلبوا من زيد بن علي أن
يتبرأ من إمامة الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فلما لم يجبهم انفضوا عنه.
فقال رفضني هؤلاء فسموا رافضة وهؤلاء الروافض أخبث الناس قولا في صحابة رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأكذبهم في الحديث عنه. ويقولون بالإمام المعصوم وبالتقية
والرجعة وهم خارجون عن دائرة الاسلام. والتأويل كذلك هو السبب في خروج البغاة على
الأئمة ، وشقهم عصا الطاعة وخروجهم عن الجماعة وترويعهم المسلمين ويظنون أنهم بذلك
من أهل الاحسان لأنهم يريدون إقامة العدل ، ودك صروح الظلم والطغيان وينسون قوله عليهالسلام «من فارق الجماعة
قيد شبر فقد خلع ربقة الاسلام من عنقه» وهو كذلك السبب فيما ذهب إليه أهل الاعتزال
من أقوال منكرة كانت معاول هدم في صرح الايمان منها قولهم أن كلام الله مخلوق
منفصل عنه ، وليس صفة قائمة به فخالفوا بذلك العقل والنقل واتوا منكرا من القول
وزورا. وقد سبق الكلام في هذه المسألة ، ومنها تكذيبهم بقضاء الله وقدره وقولهم أن
الأمر أنف وأن الله لم يكن يعلم أعمال العباد قبل أن يفعلوها وأن الله لا يريد
أفعال العباد ولا يقدر عليها ، بل هم الذين يخلقونها ، فأشبهوا بذلك المجوس حيث
اثبتوا خالقا غير الله.
ومنها حكمهم على
أهل الكبائر بالخلود في النار مع الكفار كما قالت الخوارج الا أنهم لا يسمونهم
كفارا ولا مؤمنين بل يجعلونهم في منزلة بين المنزلتين ومنها انكارهم لشفاعة النبي صلىاللهعليهوسلم في أهل الكبائر وهي ثابتة بالأحاديث البالغة حد التواتر
ويتمسكون في هذا بالآيات التي تنفي الشفاعة مع أنها خاصة بالشفاعة لأهل الشرك ، ونفي الشفاعة عن هؤلاء
يفيد ثبوتها لغيرهم كقوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي
يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [البقرة : ٢٥٥]
فنفي الشفاعة بغير اذن يفيد ثبوتها بالاذن كقوله تعالى : (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا
تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ
__________________
شَيْئاً
إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) [النجم : ٢٦].
* * *
ولأجله ضرب
الامام بسوطهم
|
|
صديق أهل السنة
الشيباني
|
ولأجله قد قال جهم
ليس رب
|
|
العرش خارج هذه
الأكوان
|
كلا ولا فوق
السموات العلى
|
|
والعرش من رب
ولا رحمن
|
ما فوقها رب
يطاع جباهنا
|
|
تهوى له بسجود
ذي خضعان
|
ولأجله جحدت
صفات كماله
|
|
والعرش أخلوه من
الرحمن
|
ولأجله أفنى
الجحيم وجنة ال
|
|
مأوى مقالة كاذب
فتان
|
ولأجله قالوا
الاله معطل
|
|
أزلا بغير نهاية
وزمان
|
ولأجله قد قال
ليس لفعله
|
|
من غاية هي حكمة
الديان
|
الشرح
: ولأجل التأويل
أيضا ضرب أحمد بن حنبل الشيباني صديق أهل السنة رضي الله عنه حيث أراد المأمون
بتأثير المعتزلة أن يحمل العلماء على القول بخلق القرآن ، وامتحنهم بذلك امتحانا
شديدا ، فأجابوه الى ذلك تقية وخوفا من القتل ، ولم يثبت في المحنة الا أحمد بن
حنبل ومحمد بن نوح ، فأمر المأمور بحملهما إليه بواسط ولكن المنية عاجلته قبل أن
يصلا إليه فقام بها أخوه المعتصم بوصية منه ، وضرب أحمد بن حنبل وطيف به وهو مصر
على قولة الحق في أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق ، منه بدأ وإليه يعود ،
فاستحق بذلك منصب الامامة في الدين ، كما قال تعالى : (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً
يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ) [السجدة : ٢٤].
وكانت محنة أحمة
نقطة سوداء في تاريخ بني العباس والمعتزلة قبحهم الله ، ولأجل التأويل كذلك نفي
جهم شيخ المعطلة وجود الله عزوجل فوق عرشه بذاته وقال : ليس في السماء إله يعبد ولا فوق
العرش رب يصلي له ويسجد ، وتأول جميع الآيات والاحاديث الواردة في إثبات جهة العلو
، وهي من الكثرة والوضوح بحيث لا ينكرها الا ضال أعمى كما قدمنا ، ولا متمسك له هو
وأشياعه على هذا
النفي الا شبه واهية يسمونها عقلية ، وهي جهليات لا تغني من الحق شيئا كقولهم :
اذا كان الله في جهة كان محدودا ومتحيزا وذا صورة ، ويمكن أن يشار إليه بالاشارة الحسية
وهذا من خواص الاجسام.
والجواب ما قدمناه
من أن استواءه تعالى على العرش ليس كاستواء المخلوق على المخلوق ، فلا يلزمه ما
يلزمها ، على أن ما ذكروه من اللوازم ليس كله فاسدا ، كالحد والتحيز والصورة
والاشارة الحسية الخ ، وادعاؤهم أن هذا من لوازم الأجسام أن أرادوا تلك الأجسام
الاصطلاحية التي هي مركبة عندهم ، أما من الجواهر الفردة على رأي المتكلمين أو
الهيولي ، والصورة على رأي الفلاسفة فممنوع ، وانما هي من خواص كل موجود قائم
بنفسه وله وجود مستقل ، اذ لا يعقل وجود بدون هذه اللوازم ، ولأجل التأويل أيضا
جحد الجهم وأشياعه صفات الله عزوجل من العلم والقدرة والحياة والإرادة والسمع والبصر والكلام
وغيرها. وقالوا لا نصفه بصفة المخلوق ، ومنهم من أثبت بعضا ونفى بعضا على اختلاف
مذاهبهم في التجهم والتعطيل ، وكل من نفى صفة من الصفات اضطر الى تأويل ما ورد في
اثباتها من النصوص ، ولا متمسك لهم على هذا النفي أيضا الا ادعاؤهم أن الاثبات
يقتضي المماثلة بين الله عزوجل وبين خلقه ، وهو وهم فاسد ، فإن الاثبات لا يستلزم
المماثلة ، بل يثبت للخالق من ذلك ما يليق به ويثبت للمخلوق ما يليق به ، فليس
العلم كالعلم ، ولا القدرة كالقدرة ، وليست اليد كاليد ولا العين كالعين ، وليس
الاستواء كالاستواء ولا النزول كالنزول الخ. فان الاشتراك انما هو في مسمى الاسم
الكلي ، وذلك يستلزم التماثل بين أفراده في الخارج ، ألا ترى أن الوجود الكلي
يشترك فيه الواجب والممكن ، وليس وجود الواجب في الخارج يماثل وجود الممكن ، وهكذا
، ولأجل التأويل ذهب الجهم الى القول بفناء الجنة والنار ، وهي مقالة لم يقلها في
الاسلام غيره.
وقال هو ومن تبعه
من المعتزلة والأشاعرة ان الله لم يكن فاعلا في الأزل ثم صار فاعلا ، أي انه لم
يزل معطلا عن الفعل مدة لا نهاية لها من الزمان قبل أن
يخلق هذا العالم ،
ثم ابتدأ الخلق ، وكان هذا مما أعان الفلاسفة عليهم حيث أوردوا عليهم أنه يلزم
حدوث شيء في ذاته اقتضى الفعل بعد أن لم يكن مقتضيا ، كأن كان عاجزا فقدر ، أو كان
فاقدا لآلة فوجدها ، أو كان غير مريد للفعل ثم أراد الخ.
فإن قلتم أن
الإرادة قديمة والقدرة موجودة في الأزل وجميع الشرائط المعتبرة في الفعل مستكملة ،
فما الذي منعه من أن يفعل وليس لكم أن تقولوا ان الإرادة القديمة إنما تعلقت
بالايجاد في هذا الوقت دون غيره ، فان الأوقات كلها متساوية بالنسبة للارادة في
الأزل وليس وقت منها أولى من غيره ، ولأجل التأويل أيضا نفي الجهم وأشياعه من
الفلاسفة والمعتزلة والأشاعرة الحكمة عن فعله تعالى ، وقالوا أن أفعاله لا تعلل
بالأغراض والغايات ، فإن الفاعل لغرض مستكمل ، وتوهموا أن اثبات غاية باعثة له عزوجل على الفعل نقص يجب تنزيه الله تعالى عنه ، وجوزوا ترجيح
القادر لأحد الأمرين المتساويين بلا مرجح ، وفاتهم أن مثل ذلك يكون عبثا يستحيل
صدوره عن الله عزوجل ، على ان الغايات والمصالح التي من أجلها يفعل ربنا سبحانه
ظاهرة متجلية في كل ما خلقه أو أمر به ، والقرآن والسنة فيهما الكثير من تلك الحكم
التي لا ينكرها الا مكابر مثل قوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْنا ما
عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [الكهف : ٧]
ومثلها قوله : (الَّذِي خَلَقَ
الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [الملك : ٢] ومثل
قوله جل وعلا : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ
أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ
عَلَيْكُمْ شَهِيداً) [البقرة : ١٤٣](ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ
مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [المائدة : ٦](يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ
وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ) [المائدة : ٩٤](وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي
كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ
عَلى عَقِبَيْهِ) [البقرة : ١٤٣](وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا
وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ* وَلِيُمَحِّصَ
اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ
الْكافِرِينَ) [آل عمران : ١٤٠ ،
١٤١].
الخ ما لا يمكن
حصره من آيات الكتاب العزيز.
* * *
ولأجله قد كذبوا
بنزوله
|
|
نحو السماء بنصف
ليل ثان
|
ولأجله زعموا
الكتاب عبارة
|
|
وحكاية عن ذلك
القرآن
|
ما عندنا شيء
سوى المخلوق وال
|
|
قرآن لم يسمع من
الرحمن
|
ما ذا كلام الله
قط حقيقة
|
|
لكن مجاز ويح ذا
البهتان
|
ولأجله قتل ابن
نصر أحمد
|
|
ذاك الخزاعي
العظيم الشأن
|
اذ قال ذا
القرآن نفس كلامه
|
|
ما ذاك مخلوق من
الأكوان
|
الشرح
: وكما جنى التأويل
على صفة العلو والاستواء على العرش التي جاء بها صريح الكتاب والسنة ، كذلك حمل
هؤلاء المتأولة على التكذيب بنزوله سبحانه وتعالى الى السماء الدنيا حين يبقى شطر
الليل الآخر مع صحة الحديث بذلك وبلوغه مبلغ التواتر ، ومن سلم منهم بصحة الحديث
تأوله بدنو الرحمة أو بنزول الامر أو الملك الى غير ذلك مما لا تدل عليه العبارة
لا تصريحا ولا تلميحا وهل يعقل أن يكون الأمر أو الملك هو الذي يقول : هل من سائل
فأعطيه الخ.
ومن أجل التأويل
أيضا ذهب الكلابية والأشعرية الى إثبات الكلام النفسي ونفي الحرف والصوت عن كلام
الله عزوجل ، ولهذا قالوا ان هذا المتلو بالالسنة والمكتوب في المصاحف
والمحفوظ في الصدور ليس كلام الله ، بل هو عبارة أو حكاية عنه ، فإن كلام الله
قديم ليس بحرف ولا صوت ، وهذا الذي عندنا محدث مخلوق لأنه مركب من حروف وأصوات.
والله لم يتكلم عندهم بالقرآن ، لأن كلامه ليس بحروف وأصوات مسموعة ، فجبريل عليهالسلام لم يسمع القرآن من الله عزوجل ، ولكنه أخذه من اللوح المحفوظ او سمع كلاما في الهواء
الخ.
ثم اختلفوا هل
يطلق لفظ القرآن بالاشتراك بين المعنى النفسي القائم بذاته تعالى وبين هذا المتلو
المسموع او هو حقيقة في النفسي مجاز في اللفظي أو العكس. فهذا القرآن عندهم ليس
كلام الله على الحقيقة بل على سبيل المجاز من باب اطلاق اسم المدلول على الدال.
ومن أجل التأويل
أيضا قتل الشيخ أحمد بن نصر الخزاعي رحمهالله زمان المحنة حين ثبت مع الامام أحمد في القول بأن هذا
القرآن المتلو المسموع هو نفس كلامه تعالى ليس بمخلوق من جملة المكونات.
* * *
وهو الذي جر ابن
سينا والآلي
|
|
قالوا مقالته
على الكفران
|
فتأولوا خلق
السموات العلى
|
|
وحدوثها بحقيقة
الامكان
|
وتأولوا علم
الاله وقوله
|
|
وصفاته بالسلب
والبطلان
|
وتأولوا البعث
الذي جاءت به
|
|
رسل الاله لهذه
الأبدان
|
بفراقها لعناصر
قد ركبت
|
|
حتى تعود بسيطة
الأركان
|
وهو الذي جر
القرامطة الألى
|
|
يتأولون شرائع
الايمان
|
فتأولوا العملي
مثل تأول الع
|
|
لمي عندكم بلا
فرقان
|
وهو الذي جر
النصير وحزبه
|
|
حتى أتوا بعساكر
الكفران
|
فجرى على
الإسلام أعظم محنة
|
|
وخمارها فينا
الى ذا الآن
|
الشرح
: والتأويل كذلك هو الذي
جرأ أبو علي ابن سينا الفيلسوف ، ومن لف لفه على القول بقدم العالم بالزمان ، لأنه
معلول لعلة قديمة والعلة التامة يجب أن يقارنها معلولها ولا يتأخر عنها ، وتأولوا
خلق الله للعالم وحدوثه عنه بأنه مفتقر إليه لامكانه افتقار المعلول الى علته ،
وليس معنى الخلق أو الحدوث أن الله أوجده من العدم ، والقول بقدم العالم كانت إحدى
المسائل التي كفر بها الغزالي الفلاسفة في كتابه (التهافت).
وكذلك تأولوا علم
الله عزوجل وجميع صفاته بمعان سلبية تحاشيا من القول
بالتركيب. يقول
ابن سينا في كتابه النجاة : فإذا حققت تكون الصفة الأولى لواجب الوجود أنه أن
وموجود ، ثم الصفات الأخرى يكون بعضها المتعين فيه هذا الوجود مع اضافة ، وبعضها
هذا الوجود مع السلب ، وليس ولا واحد منها موجبا في ذاته كثرة البتة ولا مغايرة.
وكذلك تأولوا علم
الله عزوجل وجميع صفاته لمعان سلبية تحاشيا من البعث الجسماني الذي
جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام والذي هو خروج الموتى من قبورهم أحياء بأنه
فراق الروح لعالم العناصر الذي هو عالم الكون والفساد ورجوعها الى عالمها الأول ،
حين كانت تعيش في عالم البسائط والمجردات التي لا يعتريها تحلل ولا فساد ، ولا
يجوز أن يكون الضمير في قوله (بفراقها) عائدا على الأبدان ، لأن الأبدان من عالم
العناصر ، فكيف تفارقه؟ اللهم إلا إذا اريد بهذا أنها تتحلل فيعود كل عنصر منها
الى حاله قبل التركيب ، ولكن اطلاق اسم البعث على هذا المعنى بعيد ، فالظاهر أن
المراد بالبعث هنا مفارقة الروح لعالم العناصر.
وكذلك جرأ التأويل
القرامطة اتباع حمدان قرمط ، وهم من غلاة الشيعة على أن يتأولوا شرائع الايمان
العملية ، كما تأولوا شرائعه العلمية بلا فارق بينهما ، فتأولوا الصلاة والصيام ،
والحج والزكاة ، والجهاد وغيرها بمعان اصطلحوا عليها تناسب مذاهبهم الخبيثة ، وفسروا
آيات الكتاب برموز واشارات وقالوا أن لها ظاهرا وباطنا. ولهذا سموا باطنية.
والتأويل كذلك هو
الذي جرأ نصير الدين الطوسي الخبيث شارح الاشارات لابن سينا ، والمحصل للرازي على
أن يكيد للاسلام وأهله. فيقال أنه هو الذي كتب الى هولاكو ليغزو بجيوشه الباغية
بلاد الاسلام ، ويقوض أركان الخلافة الاسلامية ، وقد جرى للمسلمين على أيدي هؤلاء
التتار من المحن والبلايا ما بقيت آثاره الى أيام الشيخ ابن القيم رحمهالله.
وجميع ما في
الكون من بدع واح
|
|
داث تخالف موجب
القرآن
|
فأساسها التأويل
ذو البطلان لا
|
|
تأويل أهل العلم
والايمان
|
اذ ذاك تفسير
المراد وكشفه
|
|
وبيان معناه الى
الأذهان
|
قد كان أعلم
خلقه بكلامه
|
|
صلى عليه الله
كل أوان
|
يتأول القرآن
عند ركوعه
|
|
وسجوده تأويل ي
برهان
|
هذا الذي قالته
أم المؤمن
|
|
نين حكاية عنه
لها بلسان
|
فانظر الى التأويل
ما تعني به
|
|
خير النساء
وافقه النسوان
|
أتظنها تعني به
صرفا عن آل
|
|
معنى القوي لغير
ذي الرجحان
|
الشرح
: يعني أن جميع ما
أحدث في الدين من بدع مخالفة لمقتضى الكتاب والسنة الصحيحة فلا سبب له الا التأويل
الباطل الذي هو في الحقيقة تحريف للكلم عن مواضعه وعدول بالألفاظ عن معانيها
المتبادرة منها بغير موجب لذلك الصرف الا محاولة تصحيح ما جنح إليه القوم من
الأهواء الضالة التي أخذوها مما عند اليهود والنصارى وفلاسفة اليونان والصائبة
وغيرهم.
وأما تأويل أهل
العلم والايمان فهو تأويل صحيح لأن المراد به كشف المعنى وتفسيره وبيان المراد منه
وحقيقته نفس ما يؤول إليه الشيء ، فإن كان اللفظ خبرا فتأويله هو نفس المخبر عنه
وذلك مثل آيات الصفات والوعد والوعيد وأحوال أهل الجنة وأهل النار ، فتأويلها هو
نفس حقيقة ما أخبر الله عنه فيها ، ومنه قوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ
يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ
رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ
نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) [الأعراف : ٥٣].
ومعناه ما ينتظر هؤلاء المكذبون بيوم البعث والجزاء الا تأويله أي وقوع ما أخبر
عنه القرآن من ذلك ، ومنه أيضا قول القرآن حكاية عن الصديق يوسف عليه الصلاة
والسلام : (قالَ يا أَبَتِ هذا
تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا) [يوسف : ١٠٠] فقد
أراد بتأويل الرؤيا وقوع مضمونها المفسر لها فيما جرى بينه وبين أخوته وما تقلب
فيه من محن وأرزاء حتى بلغ من استخلاص الملك اياه وجعله على خزائن الأرض ، ومنه
قول الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم
كان يكثر أن يقول
في ركوعه وسجوده «سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي» يتأول القرآن ، تعني
أنه كان ينفذ ما أمر به في القرآن ، بقوله تعالى : (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ
رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ) [النصر : ٣] لأن
اللفظ ان كان طلبا فتأويله هو نفس المأمور به أو المنهى عنه.
فهل يظن أن عائشة
رضي الله عنها كانت تعني بقولها يتأول القرآن ، ذلك المعنى الفاسد للتأويل الذي
اصطلح عليه أهل الكلام وهو صرف اللفظ عن المعنى الراجح المتبادر منه الى المعنى
المرجوح بلا صارف.
* * *
وانظر الى
التأويل حين يق
|
|
ول علمه لعبد
الله في القرآن
|
ما ذا أراد به
سوى تفسيره
|
|
وظهور معناه له
ببيان
|
قول ابن عباس هو
التأويل لا
|
|
تأويل جهمي أخي
بهتان
|
وحقيقة التأويل
معناه الرجو
|
|
ع الى الحقيقة
لا الى البطلان
|
وكذاك تأويل
المنام حقيقة ال
|
|
مرئي لا التحريف
بالبهتان
|
وكذاك تأويل
الذي قد أخبرت
|
|
رسل الإله به من
الايمان
|
لا خلف بين أئمة
التفسير في
|
|
هذا وذلك واضح
البرهان
|
نفس الحقيقة اذ
تشاهدها لدي
|
|
يوم المعاد
برؤية وعيان
|
الشرح
: وتأمل كذلك قوله صلىاللهعليهوسلم لابن عمه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما «اللهم فقهه في
الدين وعلمه التأويل» فهل أراد به الا أن يرزقه الله الفهم لتفسير كتابه وبيان
معناه ، وقد استجاب الله دعوة نبيه عليهالسلام لابن عمه فكان يسمى ترجمان القرآن. فما أثر عن ابن عباس من
تفسير للقرآن وكشف عن معناه هو الذي يصح أن يسمى تأويلا لا تأويلات هؤلاء الجهمية
المبطلين. وذلك لان حقيقة التأويل كما قدمنا هي الرجوع الى حقيقة المعنى الذي يدل
عليه اللفظ ويقتضيه عند الاطلاق لا الى معنى باطل لا يدل عليه الا باحتمال مرجوح
فتأويل المنام مثلا وقوع نفس ما رآه النائم في حال اليقظة مطابقا للرؤية.
وتأويل ما أخبرت
به الرسل عليهم الصلاة والسلام من أسماء الله وصفاته واليوم الآخر وما فيه ونعيم
أهل الجنة وعذاب أهل النار الخ هو نفس الحقائق المخبر عنها كما سبق بحيث تشاهدها
يوم القيامة مطابقة للخبر عنها ولا خلاف بين أئمة التفسير في أن هذا المعنى
للتأويل هو الذي يدل عليه قوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ
إِلَّا تَأْوِيلَهُ) [الأعراف : ٥٣]
الآية أي ما ينتظرون الا حصول ما انذروا به من العذاب ووقوعه.
* * *
هذا كلام الله
ثم رسوله
|
|
وأئمة التفسير
للقرآن
|
تأويله هو عندهم
تفسيره
|
|
بالظاهر المفهوم
للأذهان
|
ما قال منهم قط
شخص واحد
|
|
تأويله صرف عن
الرجحان
|
كلا ولا نفي الحقيقة
لا ولا
|
|
عزل النصوص عن
اليقين فذان
|
تأويل أهل
الباطل المردود عن
|
|
د أئمة العرفان
والايمان
|
وهو الذي لا شك
في بطلانه
|
|
والله يقضي فيه
بالبطلان
|
الشرح
: فهذا كلام الله
وقرآنه لم يجيء فيه التأويل في جميع استعمالاته الا بمعنى التفسير وبيان المعنى أو
وقوع المخبر عنه ، وهذا كلام رسوله صلىاللهعليهوسلم في دعائه لابن عمه بتعلم التأويل لم يرد الا هذا المعنى
كذلك. وهؤلاء أئمة التفسير من السلف الذين هم أعلم الناس بمعاني كتاب الله عزوجل مطبقون على أنه لا معنى للتأويل الا كشف المعنى وتفسيره ،
ما قال أحد منهم قط بمثل مقالتكم المحدثة التي لا أصل لها ولا فسر التأويل بما
فسرتموه به من أنه صرف اللفظ عن معناه الراجح الذي هو حقيقة فيه وحمله على معنى
مرجوح بطريق المجاز ولا أدعي أحد منهم أن نصوص الكتاب والسنة لا تفيد اليقين ، لان
اللفظ يحتمل الحقيقة والمجاز والعموم والخصوص الخ ، ولكنكم أنتم اللذين اجترأتم
على التلاعب بالنصوص فحرفتموها عن مواضعها ، ونفيتم حقائقها وعزلتموها عما جاءت له
من افادة العلم واليقين وحملتموها على ما شاء لكم الهوى من معان
موافقة لمذاهبكم
الباطلة ، فهذه هي تأويلاتكم التي لا يعرفها أهل المعرفة والايمان ، بل ينكرونها
أشد النكران وهي في حكم الله مقضي عليها كذلك بالبطلان.
* * *
فجعلتم للفظ
معنى غير
|
|
معناه لديهم
باصطلاح ثان
|
وحملتم لفظ
الكتاب عليه حتى
|
|
جاءكم من ذاك
محذوران
|
كذب على الألفاظ
مع كذب على
|
|
من قالها كذبان
مقبوحان
|
وتلاهما أمران
أقبح منهما
|
|
جحد الهدى
وشهادة البهتان
|
اذ يشهدون الزور
أن مراده
|
|
غير الحقيقة وهي
ذو بطلان
|
الشرح
: ويقال لهؤلاء
المتأولين الذين جعلوا القرآن عضين ، فجعلوا للالفاظ معاني أخرى باصطلاحهم الفاسد
غير المعاني المفهومة منها ، واستكرهوا ألفاظ الكتاب في حملها على هذه المعاني
البعيدة. يقال لهم يلزمكم في صنيعكم هذا أمران محذوران. أحدهما : الكذب على
الألفاظ حيث حملتموها من المعاني ما لا تحتمل وصرفتموها قسرا واعتسافا الى هذه
المعاني التي لا تخطر لأحد ممن يفهم معاني هذه الألفاظ عند اطلاقها. والثاني هو
الكذب على من قالها حيث زعمتم أن مراده منها كذا وكذا وزورا ، بل يلزمكم في صنيعكم
هذا أمران آخران هما أقبح من المذكورين ، أحدهما جحدكم الهدى الذي دلت عليه هذه
الألفاظ حيث نفيتم معانيها الحقة التي أراد الله أن تكون بيانا وهدى. والثاني
شهادتكم الزور والبهتان. اذ تشهدون على الله عزوجل أن مراده من هذه الألفاظ كذا وكذا ، وأنه لم يرد منها
حقائقها ، وان تلك الحقائق لا يمكن أن تكون مرادة لله من هذه الالفاظ لما يترتب
عليها في زعمكم من محالات ، فأي شهادة زور أشنع من هذه التي شهدتموها على ربكم
أنها الجاهلون.
* * *
فصل
فيما يلزم مدّعي التأويل لتصحيح دعواه
وعليكم في ذا
وظائف أربع
|
|
والله ليس لكم
بهن يدان
|
منها دليل صارف
للفظ عن
|
|
موضوعه الأصلي
بالبرهان
|
اذ مدعي نفس
الحقيقة مبدع
|
|
للأصل لم يحتج
الى برهان
|
فإذا استقام لكم
دليل الصرف يا
|
|
هيهات طولبتم
بأمر ثان
|
وهو احتمال
اللفظ للمعنى الذي
|
|
قلتم هو المقصود
بالتبيان
|
فإذا أتيتم ذاك
طولبتم بأمر
|
|
ثالث من بعد هذا
الثاني
|
اذ قلتم ان
المراد كذا فما
|
|
ذا دلكم اتخرص
الكهان
|
الشرح
: ويلزمكم لتصحيح ما
ادعيتموه من التأويل أربع أمور ليس لكم والله قدرة على واحد منها ، الأول أن تأتوا
بدليل صارف للفظ عن معناه الأصلي ، فإن اللفظ لا يجوز صرفه عن معناه الموضوع له
الا لدليل يدل على استحالة ذلك المعنى ، وما تدعونه من قرائن عقلية موجبة لذلك لا
يسلمها لكم خصومكم ، وأما نحن فلا نحتاج الى مثل ذلك الدليل لأننا ندعي أن اللفظ
مستعمل في حقيقته التي هي الأصل فيه ، فإذا ظفرتم بالدليل الصارف للفظ عن معناه ،
وهيهات طولبتم باثبات أن اللفظ محتمل لذلك المعنى الذي ادعيتم أنه المقصود من
اللفظ ، ثم عليكم بعد هذا أن تثبتوا بالدليل أن المعنى الذي عنيتموه حين قلتم أن
المراد كذا هو المقصود للمتكلم ، فهذه أمور ثلاثة تلزم مدعي التأويل فلا تستقيم له
دعواه الا إذا أثبت كل واحد منها بالدليل ، وما له الى ذلك من سبيل.
ثم ينضم إليها أمر
رابع سيذكره المصنف فيما سيأتي ، وهو الجواب عن المعارض فان الدعوى لا تتم الا
بذلك ، والمعارض هنا هو جميع أدلة الاثبات في الكتاب والسنة وأقوال الصحابة
والتابعين وأدلة العقل والفطرة ، مما لا سبيل الى معارضته بما يشغب به القول من
ترهات وأباطيل.
* * *
هب أنه لم يقصد
الموضوع لك
|
|
ن قد يكون القصد
معنى ثان
|
غير الذي
عينتموه وقد يكو
|
|
ن اللفظ مقصودا
بدون معان
|
كتعبد وتلاوة
ويكون ذا
|
|
ك القصد أنفع
وهو ذو امكان
|
من قصد تحريف
لها يسمى بتأ
|
|
ويل مع الأتعاب
للاذهان
|
والله ما
القصدان في حد سوا
|
|
ء في حكمة
المتكلم المنان
|
بل حكمة الرحمن
تبطل قص
|
|
ده التحريف حاشا
حكمة الرحمن
|
وكذاك تبطل قصده
انزالها
|
|
من غير معنى
واضح التبيان
|
وهما طريقا
فرقتين كلاهما
|
|
عن مقصد القرآن
منحرفان
|
الشرح
: فلو قدر أن
المتكلم لم يقصد المعنى الحقيقي الموضوع له اللفظ لم يمكن إثبات أنه أراد به
المعنى الذي عينتموه ، لجواز أن يكون له قصد آخر ، أو أن يكون اللفظ مجردا عن
المعنى قد قصد من إنزاله التعبد بتلاوته ، وهذا مع كونه جائزا أنفع وأقرب الى
الحكمة من قصد معنى بعيد لا يدل عليه اللفظ ، فإن ذلك تحريف للفظ عن معناه مع ما
في ذلك من كد الأذهان واتعابها في استخراج ذلك المعنى البعيد. فإذا وازنا هذا
القصد الثاني بالأول الذي هو انزال اللفظ للتعبد لم نجدهما سواء في حكمة المتكلم
المنان جل شأنه ، بل وجدنا الأول أقرب الى الحكمة وأدنى الى النفع من الآخر ، بل
الحكمة الالهية في سموها وكمالها تبطل أن يكون قصده جل شأنه التحريف للألفاظ
باستعمالها في غير معانيها ، كما هو زعم المؤولة ، وكذلك تبطل أن يكون قصده منها
معنى غير مفهوم من اللفظ ، ولا يمكن للعباد إدراكه كما هو زعم المفوضة. فهذان
الطريقان للمؤولة والمفوضة كلاهما منحرف عما قصد إليه القرآن الكريم من استعمال
الألفاظ في معانيها الموضوعة لها في اللغة التي نزل بها ، فلا تفويض ولا تأويل.
* * *
فصل
في طريقة ابن سينا وذويه
من الملاحدة في التأويل
وأتى ابن سينا
بعد ذا بطريقة
|
|
أخرى ولم يأنف
من الكفران
|
قال المراد
حقائق الألفاظ تخيي
|
|
لا وتقريبا الى
الأذهان
|
عجزت عن الادراك
للمعقول ا
|
|
لا في مثال الحس
كالصبيان
|
كي يبرز المعقول
في صور من المحس
|
|
وس مقبولا لدى
الأذهان
|
فتسلط التأويل
أبطال لهذا القصد
|
|
وهو جناية من
جان
|
هذا الذي قد
قاله مع نفيه
|
|
لحقائق الألفاظ
في الأذهان
|
وطريقة التأويل
أيضا قد غدت
|
|
مشتقة من هذه
الخلجان
|
وكلاهما اتفقا
على أن الحقيق
|
|
ة منتف مضمونها
ببيان
|
الشرح
: وجاء بعد ذلك أبو
علي ابن سينا الذي يلقبه أشياعه بالشيخ الرئيس فابتدع طريقة أخرى في التأويل ،
فقال ان المراد بالألفاظ حقائقها ، لكن على سبيل التخييل تقريبا الى الأذهان ، فإن
عقول العامة تعجز عن ادراك هذه المعاني العقلية لشدة اتصالها بالمحسوسات ، فإذا
أبرزت لها هذه المعقولات في صورة الأمور المحسوسة كانت مقبولة لديها. وقال ان تسلط
التأويل على هذه النصوص يبطل ما قصد إليه الشارع من جعلها مثالا للحقائق تقربها من
الأذهان فهو جناية يا لمرتكبها من جان ، ولكن ابن سينا نسي أنه هو أيضا ينفي حقائق
الألفاظ المعقولة ، ويدعي عليها أنها مستعملة في حقائق حسية ليست هي مقصود المتكلم
بهذه الألفاظ. فطريقته في الايهام والتخييل أخت لطريقة أهل التحريف والتأويل
كلتاهما مشتقة من أصل واحد وهو الانكار والتعطيل ، وهما متفقتان على نفي حقائق الألفاظ
وعزلها عن أن تكون مقصودة من التنزيل.
* * *
لكن قد اختلفا
فعند فريقكم
|
|
ما أن أريدت قط
بالتبيان
|
لكن عندهم أريد
ثبوتها
|
|
في الذهن اذ
عدمت من الاحسان
|
اذ ذاك مصلحة
المخاطب عندهم
|
|
وطريقة البرهان
أمر ثان
|
فكلاهما ارتكبا
أشد جناية
|
|
جنيت على القرآن
والايمان
|
جعلوا النصوص
لأجلها غرضا بهم
|
|
قد خرقوه بأسهم
الهذيان
|
وتسلط الأوغاد
والاوقاح
|
|
والأرذال
بالتحريف والبهتان
|
كل اذا قابلته
بالنص قا
|
|
بله بتأويل بلا
برهان
|
الشرح
: يعني أن الطريقتين
وإن اتفقتا في نفي حقائق النصوص وإنكار معانيها قد اختلفتا في وجود هذه الحقائق ،
فعند فريق المؤولة هي من قبيل المستحيل الذي لا وجود له لا في الذهن ولا في الخارج
، ولا يمكن أن تراد من النص أصلا. وعند ابن سينا وأشياعه من المتفلسفة هي حقائق
ثابتة ، لكن ثبوتها ذهني لا خارجي ، والنصوص إنما دلت على أمثلة ضربت لها من عالم
الحس ، وذلك لمصلحة المخاطبين ، اذ كانوا لا يستطيعون ادراك هذه المعاني الا بطريق
التخييل. وأما طريقة البرهان عندهم ، فهي التي توصل الى إدراك هذه المعقولات
بذاتها ، وهي طريقة الخواص ، يعنون بذلك أنفسهم ، فيا عجبا لهؤلاء الحمقى يجعلون
طريقة القرآن خطابية شعرية تخييلية ، وأما طريقتهم التي بنوها على قواعد المنطق
الارسطي فهي طريقة البرهان واليقين ، وما هي الا طريقة الضلال والتجهيل ، الا ساء
ما يزعمون.
وكلا الفريقين من
المؤولة والمتفلسفة قد ارتكب أشد جناية على القرآن والايمان حيث جعلوا النصوص
الكريمة هدفا لسهام هذيانهم وفتحوا المجال لكل وغد ورذيل ليقول في النصوص بما شاء
له هواه. فكلما أوردت له نصا قابله بتأويل من تلك التأويلات السمجة بلا دليل ولا
برهان.
* * *
ويقول تأويلي
كتأويل ال
|
|
ذين تأولوا
فوقية الرحمن
|
بل دونه فظهورها
في الوحي بالنص
|
|
ين مثل الشمس في
التبيان
|
أيسوغ تأويل
العلو لكم ولا
|
|
تتأولوا الباقي
بلا فرقان
|
وكذاك تأويل
الصفات مع أنها
|
|
ملء الحديث وملء
ذا القرآن
|
والله تأويل
العلو أشد من
|
|
تأويلنا لقيامة
الابدان
|
وأشد من تأويلنا
لحياته
|
|
ولعلمه ومشيئة
الاكوان
|
وأشد من تأويلنا
لحدوث ه
|
|
ذا العالم
المحسوس بالامكان
|
وأشد من تأويلنا
بعض الشرا
|
|
ئع عند ذي
الانصاف والميزان
|
وأشد من تأويلنا
لكلامه
|
|
بالفيض من فعال
ذي الاكوان
|
الشرح
: ويقول الفلسفي اذا
حدثته في فساد تأويله وشناعته أن تأويلي كتأويل هؤلاء الجهمية الذين تأولوا فوقية
الرحمن ، بل هو دونها في الشناعة ، فإن نصوص الفوقية من الكتاب والسنة كالشمس في
الوضوح والبيان ، فكيف يسوغ لكم أيها الجهمية تأويل علوه سبحانه على كثرة نصوصه
ووضوحها ، ثم تنكرون علينا ما تأولناه ، وكيف ساغ لكم أن تتأولوا آيات الصفات
وأحاديثها مع أنها ملء الكتاب والسنة ولا يسوغ لنا ذلك. والله لتأويلكم للعلو أشد
من تأويلنا للقيامة بأن المراد بها رجوع الروح الى عالمها الأول مع عود الجسم الى
العناصر التي تركب منها وأشد من تأويلنا لحياته وعلمه ومشيئته بأن ذلك كله نفس ذاته
وأشد من تأويلنا لحدوث هذا العالم بأنه ليس معناه الوجود من عدم ، بل معناه أنه
ممكن في ذاته مفتقر الى علة يستند إليها في وجوده. فإن الممكن لا وجود له من ذاته
لكنه مع ذلك لم يسبق بعدم لأن علته قديمة لا أول لها في الزمان وهو مقارن لها وأشد
من تأويلنا بعض الشرائع من الصلاة والحج ونحوهما بأن المراد بهما معان فكرية وأشد
من تأويلنا لكلامه بأنه فيض من العقل الفعال الذي هو عقل القمر المختص بالتدبير في
عالم العناصر وإفاضة المعلومات على العقول الانسانية وانزالها على لوح قلب النبي صلىاللهعليهوسلم وانتقاش صور تلك المعاني في خياله حروفا وكلاما منظوما.
* * *
وأشد من تأويل
أهل الرفض
|
|
أخبار الفضائل
حازها الشيخان
|
وأشد من تأويل
كل مؤول
|
|
نصا أبان مراده
الوحيان
|
اذ صرح الوحيان
مع كتب الاله
|
|
جميعها بالفوق
للرحمن
|
فلأي شيء نحن
كفار بذا
|
|
التأويل بل أنتم
على الإيمان
|
انا تأولنا
وأنتم قد تأو
|
|
لتم فهاتوا وأضح
الفرقان
|
ألكم على
تأويلكم أجران
|
|
حيث لنا على
تأويلنا وزران
|
هذي مقالتهم لكم
في كتبهم
|
|
منها نقلناها
بلا عدوان
|
ردوا عليهم ان
قدرتم أو فنحوا على طريق عساكر الإيمان لا تحطمنكم جنودهم كحطم السيل ما لاقى من
الديدان الشرح
: وتأويلكم للعلو
أشد كذلك من تأويل الرافضة للأخبار التي وردت في فضل الشيخين أبي بكر وعمر رضي
الله عنهما ، وأشد من تأويل كل من تأول نصا أظهر المراد منه الوحيان من كتاب وسنة
، فإن نصوص الفوقية فيهما وفي غيرهما من الكتب السماوية في غاية الصراحة ونهاية
الكثرة ، فلأي شيء إذا أيها الجهميون نكون نحن كفارا بتأويلنا وأنتم المؤمنون ،
وأي فرق بين تأويلنا وتأويلكم ، دلونا ان استطعتم على ما يصلح أن يكون فارقا
بينهما ، لعلكم تقولون اننا مجتهدون في هذا التأويل ومصيبون فيه ، فلنا على
تأويلنا أجران ، ولكنكم أنتم مخطئون في هذا التأويل متعمدون فعليكم فيه وزران.
وهذا كذب فنحن وأنتم سواء في تعمد الكذب على النصوص ، حيث لا موضع للاجتهاد.
هذه مقالة
الفلاسفة في الرد على الجهمية الذين ينكرون عليهم التأويل منقولة من كتبهم بلا
زيادة ولا تبديل ، فهل يستطيع هؤلاء الجهمية أن يردوا عليهم أو يتخلصوا من هذا
الالزام الذي وجهوه إليهم؟ كلا فليتركوا الميدان إذا لأهل الحق وعساكر الإيمان ،
وليخلوا لهم الطريق حتى لا تحطمهم جنودهم كحطم السيل المنهمر لما يقابله من الخشاش
والديدان.
* * *
وكذا نطالبكم
بأمر رابع
|
|
والله ليس لكم
بذا امكان
|
وهو الجواب عن
المعارض اذ
|
|
به الدعوى تتم
سليمة الأركان
|
لكن ذا عين
المحال ولو يسا
|
|
عدكم عليه رب كل
لسان
|
فأدلة الأثبات
حقا لا يقو
|
|
م لها الجبال
وسائر الأكوان
|
تنزيل رب
العالمين ووحيه
|
|
مع فطرة الرحمن
والبرهان
|
أني يعارضها
كناسة هذه
|
|
الأذهان
بالشبهات والهذيان
|
وجعاجع وفراقع
ما تحتها
|
|
إلا السراب
لوارد ظمآن
|
الشرح
: سبق أن طالب
المؤلف مدعي التأويل بأربعة أمور ، ذكر منها ثلاثة هناك ، وهي الاتيان بدليل صارف
للفظ عن معناه ، واثبات أن اللفظ محتمل للمعنى الذي ادعوه والاتيان بدليل على أن
هذا المعنى يتعين ارادته من اللفظ.
ثم ذكر هنا الأمر
الرابع ، وهو الجواب عن المعارض حتى تتم لهم دعوى التأويل سليمة ، وذلك من أمحل
المحال وان استعانوا عليه بكل فصيح مقوال ، فإن المعارض هنا لا يقوم له شيء حتى
ولا شم الجبال وغيرها من سائر الأكوان كيف وهو تنزيل رب العالمين ووحيه مع فطرة
الله التي لا تبديل لها ، ومع براهين العقل القطعية ، فإنى يعارض ذلك كله بأوساخ
القرائح وزبالة الأذهان من تلك الشبهات والهذيانات التي هي كالطبل الأجوف ، أو
كالسراب الذي يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا.
* * *
فلتهنكم هذي
العلوم اللاء قد
|
|
ذخرت لكم من
تابع الإحسان
|
بل عن مشايخهم
جميعا ثم
|
|
وفقتم لها من
بعد طول زمان
|
والله ما ذخرت
لكم لفضيلة
|
|
لكم عليهم يا
أولى النقصان
|
لكن عقول القوم
كانت فوق ذا
|
|
قدرا وشأنهم
فأعظم شان
|
وهم أجل وعلمهم أعلى
وأشرف
|
|
أن يشاب بزخرف
الهذيان
|
فلذاك صانهم
الاله عن الذي
|
|
فيه وقعتم صون
ذي احسان
|
الشرح
: فإن كنتم لا تجدون
ما تعارضون به النصوص الصريحة من الكتاب والسنة مع ما ينضم إليها من أدلة العقل
والفطرة إلا هذه الهذيانات التي ورثتموها عن أسلافكم في الضلال من فلاسفة اليونان
والرومان وغيرهم من ضلال اليهود والنصارى والصابئة ، فلتهنكم إذا هذه العلوم التي
هي أحق أن تسمى جهالات ، والتي قد ادخرت لكم في بطون الكتب التي تركها لكم هؤلاء
الأسلاف حتى وقعتم عليها بعد زمان طويل ، فاشتغلتم بها عن الوحي ونقلتموها إلى
لسانكم العربي وفتنتم بها ايما فتنة وظننتم أنكم وقعتم على لحم ، وأنكم تميزتم بها
عن أئمة الهدى ممن أحسنوا الاتباع ووقفوا عند ما سنه لهم سلفهم الصالح رضي الله
عنهم أجمعين. فلا تظنوا أن هذه العلوم قد ادخرت لكم لكي يرفعكم الله بها ، أو أن
اشتغالكم بهذه العلوم قد أورثكم فضلا وكمالا فقتم به هؤلاء الاخيار من أهل السنة
والاتباع ، فإن عقولهم أسمى من أن تشتغل بهذه الترهات ، وهم أجل أن ينزلوا بأنفسهم
إلى هذا الدرك الذي نزلتم إليه ، وعلمهم أعلى وأشرف من أن يدنسوه بهذه المقالات
السخيفة. وهذا من فضل الله عزوجل عليهم أن صانهم وحماهم عما تورطتم أنتم فيه من أوساخ
وأقذار هي نتاج عقول لم تستضيء بنور الله ولم تنتفع بما جاء به رسله عليهم الصلاة
والسلام من الهدى والعلم النافع الصحيح.
* * *
سميتم التحريف
تأويلا
|
|
كذا التعطيل
تنزيها هما لقبان
|
وأضفتم أمرا إلى
ذا ثالثا
|
|
شرا وأقبح منه
ذا بهتان
|
فجعلتم الاثبات
تجسيما وتشبيها
|
|
وذا من أقبح
العدوان
|
فقلبتم تلك
الحقائق مثل ما
|
|
قلبت قلوبكم عن
الايمان
|
وجعلتم الممدوح
مذموما كذا
|
|
بالعكس حتى
استكمل اللبسان
|
وأردتم أن
تحمدوا بالاتبا
|
|
ع نعم لكن لمن
يا فرقة البهتان
|
وبغيتم أن
تنسبوا للابتدا
|
|
ع عساكر الآثار
والقرآن
|
الشرح
: هذه العلوم التي
ورثتموها عن أسلافكم في الضلال ، وظننتموها
مسلمات عقلية لا
تقبل الجدل ، وأحسنتم الظن بأصحابها الى حد اعتقاد العصمة ، بل قدمتموها على الوحي
بدعوى أنها أمور قطعية لا يتطرق إليها الاحتمال هي التي أفسدت عقولكم وسممت
أفكاركم ، فغدت مريضة منتكسة تعطي الأشياء غير اسمها ، وتقلب الحقائق على رأسها ،
فهي تسمى التحريف للنصوص والخروج بها عن وضعها الحقيقي الذي توجبه اللغة تأويلا ،
وهي تسمى التعطيل الذي هو نفي ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله صلىاللهعليهوسلم من الصفات تنزيها بل أدهى من ذلك أمر ، وادخل في باب
الافتراء والبهتان أنها تسمى الاثبات للأسماء والصفات التي وردت به النصوص الصريحة
تشبيها وتجسيما ، وما قلبكم لهذه الحقائق والتباسها عليكم إلا نتيجة حتمية لفساد
فطركم وزيغ قلوبك ، فجعلتم بجهلكم ، المحمود من الاثبات للأسماء والصفات التي هي
كمالات محضة ، مذموما وبالعكس ، جعلتم المذموم من النفي والتعطيل محمودا ، وأردتم
أن تحمدوا بالاتباع فنعم ولكن من تتبعون؟ ان تتبعون إلا أهواءكم الجامحة وظنونكم
الكاذبة وشياطينكم الذين زخرفوا لكم وموهوا.
واعجب من ذلك أنكم
ترمون بدائكم في الابتداع والزيغ جند الرحمن وعساكر الآثار والقرآن.
* * *
وجعلتم الوحيين
غير مفيدة
|
|
للعلم والتحقيق
والبرهان
|
لكن عقول
الناكبين عن الهدى
|
|
لهما تفيد ومنطق
اليونان
|
وجعلتم الإيمان
كفرا والهدى
|
|
عين الضلال وذا
من الطغيان
|
ثم استحقيتم
عقولا ما أرا
|
|
د الله ان تزكوا
على القرآن
|
حتى استجابوا
مهطعين لدعوة
|
|
التعطيل قد
هربوا من الايمان
|
يا ويحهم لو
يشعرون بمن دعا
|
|
ولما دعا قعدوا
قعود جبان
|
الشرح
: ومن شر حماقاتكم
وأشنع غلطاتكم ما اجترأتم به من الحكم على نصوص الوحيين من الكتاب والسنة بأنها
غير مفيدة للعلم اليقيني وليست من
قبيل البراهين
التي تفيد القطع ولا تحتمل النقيض بما زينه لكم الشيطان من أن هذه النصوص ألفاظ
تحتمل الحقيقة والمجاز ، ويدخلها التعميم والتخصيص والاجمال والتفصيل والاطلاق
والتقييد وغير ذلك مما ينافي العلم بالمراد ، ألا ساء ما تحكمون ، وبئس ما تظنون
بكتاب ربكم وسنة نبيكم حيث عزلتموهما عن افادة العلم والهدى في الوقت الذي تزعمون
فيه أن عقولكم المريضة التي نكبت عن صراط الله وحادت عن سبيله هي التي يوثق
بأدلتها ، فهي في نظركم براهين مفيدة للعلم اليقيني وموصلة إلى النتائج القطعية
إذا كانت مؤلفة تأليفا صحيحا على أساس المنطق اليوناني الذي وضعه أرسطو.
وكذلك نتج عن
التواء فهمكم وانتكاس عقولكم جعلتم الايمان بعلو الله فوق خلقه وغير ذلك من صفاته
كفرا ، وجعلتم هذا الهدى هو عين الضلال طغيانا منكم وتجاوزا عن الحد ، لأن عقولكم
لم تطق حمل حقائق القرآن ، ولا أراد الله لها أن تزكو بآياته وتحسن الفهم لمقاصده
وغاياته ، فارتكست في غيها وضلالها ، واستجابت مسرعة لمن دعاها إلى النفي والتعطيل
، هاربة من الإيمان بمقتضى التنزيل ، ولو علمت بحال من دعاها وحال ما دعاها إليه
لقعدت قعود الجبان عن سلوك هذا السبيل المؤدي إلى أسوأ عاقبة وشر مقيل.
* * *
فصل
في شبه المحرفين للنصوص باليهود وارثهم التحريف منهم
وبراءة أهل الاثبات مما رموهم به من هذا الشبه
هذا وثم بلية
مستورة
|
|
فيهم سأبديها
لكم ببيان
|
ورث المحرف من
يهود وهم أولو
|
|
التحريف
والتبديل والكتمان
|
فأراد ميراث
الثلاثة منهم
|
|
فعصت عليه غاية
العصيان
|
اذ كان لفظ النص
محفوظا
|
|
فما التبديل
والكتمان في الامكان
|
فأراد تبديل
المعاني اذ هي
|
|
المقصود من
تعبير كل لسان
|
فأتى إليها وهي
بارزة من ال
|
|
ألفاظ ظاهرة بلا
كتمان
|
فنفى حقائقها
وأعطى لفظها
|
|
معنى سوى موضوعه
الحقاني
|
فجنى على المعنى
جناية جاحد
|
|
وجنى على
الألفاظ بالعدوان
|
الشرح
: وهناك بلية أخرى
خفية قد ابتلى بها هؤلاء المتأولون قد لا يفطن إليها كثير من الناس ، وهي أنهم
ورثوا تحريفهم للنصوص عن اليهود واتبعوا سنتهم فيه حذو القذة بالقذة ، فإن اليهود
ـ قبحهم الله ـ جمعوا بين جريمة التحريف الذي هو تفسير الألفاظ بغير معانيها
وإمالتها عن المقصود منها وبين جناية التبديل الذي هو حذف بعض نصوص الكتاب المنزل
ووضع أخرى مكانها مما كتبته أيديهم وزورته أقلامهم ، وبين خيانة الكتمان الذي هو
اخفاء ما عندهم من الحق وعدم بيانه للناس مع حاجة الناس إليه ، فأراد هؤلاء
المتأولون أن يرثوا عن اليهود هذه العظائم الثلاث. ولكنهم لم يجدوا إلى التبديل
والكتمان سبيلا ، إذ كانت ألفاظ النصوص محفوظة لا يمكن لأحد أن ينال منها بتغيير
أو تبديل ، ولا بحذف أو زيادة ، كما لا يمكن أن يجحد منها شيئا ، فاكتفى من ذلك
بالتحريف وتبديل المعاني التي هي المقصود من الألفاظ ، فعمد إليها وهي بارزة من
الألفاظ تكاد تنطق معلنة عن نفسها وتتراءى للعقول من خلال الألفاظ واضحة لا خفاء
فيها ، فنفى حقائقها وحول الألفاظ إلى معان أخرى ، يعلم كل من مارس اللغة وعرف
مدلولاتها أنها ليست هي المقصود من هذه الألفاظ وبذلك جنى على المعاني والألفاظ
جميعا ، فجنى على المعاني بالجحد والانكار ، وجنى على الألفاظ بحملها قسرا على ما
لا تحتمله من المعاني عدوانا وظلما ، فبعدا للقوم الظالمين.
* * *
وأتى إلى حزب
الهدى أعطاهم
|
|
شبه اليهود وذا
من البهتان
|
اذ قال انهم
مشبهة وأنتم
|
|
مثلهم فمن الذي
يلحاني
|
في هتك أستار
اليهود وشبههم
|
|
من فرقة التحريق
للقرآن
|
يا مسلمون بحق
ربكم اسمعوا
|
|
قولي وعوه وعي
ذي عرفان
|
ثم احكموا من
بعد من هذا الذي
|
|
أولى بهذا الشبه
بالبرهان
|
أمر اليهود بأن
يقولوا حطة
|
|
فأبوا وقالوا
حنطة لهوان
|
وكذلك الجهمي
قيل له استوى
|
|
فأبى وزاد الحرف
للنقصان
|
قال استوى
استولى وذا من جهله
|
|
لغة وعقلا ما
هما سيان
|
الشرح
: والعجيب من أمر
هؤلاء المتأولين أنهم يرمون أهل الحق بما هم به أولى وأحق وهو بهم أشبه وألصق من
الشبه باليهود حيث يقولون أن اليهود شبهوا حين قالوا أن الله فقير ونحن أغنياء ،
وأنه استراح من الخلق يوم السبت الخ وأنتم شبهتم حين قلتم أن الله مستو على عرشه ،
وأن له وجها ويدا ، وأنه ينزل ويجيء الخ ، سبحانك هذا بهتان عظيم. اننا حين نثبت
لله عزوجل ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله صلىاللهعليهوسلم من صفات لا نعتقد أن هذه الصفات له تشبه ما للمخلوق من ذلك
، بل نثبتها له على ما يليق بعظمته وجلاله فنحن لسنا مشبهين ولا ممثلين ، كما أننا
لسنا معطلين ولا جاحدين ، بل شأننا في ذلك إثبات بلا تمثيل وتنزيه بلا تعطيل كما
قال تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى : ١١] ثم
أننا نحتكم نحن وأنتم إلى كل مسلم يمكن أن يعي قولنا ويعرفه ليحكم اينا أقرب شبها
إلى اليهود ، وأولى أن ينسب إليهم.
أن اليهود أمرهم
الله عزوجل أن يدخلوا الباب سجدا ، وأن يقولوا حطة من الحط ، يعني أن
تحط عنا ذنوبنا وتغفر لنا خطايانا ، فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم ،
ووضعوا حنطة مكان حطة لهوان نفوسهم واخلادهم إلى هذه الارض وقصر أنظارهم على حطام
الحياة ومادة العيش دون اعتبار للمعاني السامية والمبادي الكريمة.
وهكذا أنتم معشر
الجهمية ، يقول الله لكم استوى على العرش فتأبون الا أن تزيدوا حرفا على النص ،
وذلك من نقصانكم في العلم والفهم ، فتقولون استولى
بدلا من استوى
جهلا منكم بمواضع الألفاظ في اللغة التي لم يستعمل فيها لفظ استوى قط بمعنى
استولى. ومخالفة منكم لمنطق العقل الذي يحكم بأن كل موجودين ، فلا بد أن يكونا اما
متداخلين يعني أحدهما داخل في الآخر ، وأما متباينين كل منهما منفصل عن الآخر ،
وما دام الله عزوجل باتفاق منا ومنكم ليس داخلا في العالم ولا حالا فيه فلم
يبق إلا أن يكون منفصلا عنه عاليا عليه.
وقول الشيخ : فمن
الذي يلحاني استفهام انكاري تعجبي أي لا أحد يلومني ويعنفني على ما قصدت إليه من
فضيحة اليهود واخوانهم المحرفين للقرآن.
* * *
عشرون وجها تبطل
التأويل باس
|
|
تولى فلا تخرج
عن القرآن
|
قد أفردت بمصنف
هو عندنا
|
|
تصنيف حبر عالم
رباني
|
ولقد ذكرنا
أربعين طريقة
|
|
قد أبطلت هذا
بحسن بيان
|
هي في الصواعق
ان ترد تحقيقها
|
|
لا تختفي إلا
على العميان
|
نون اليهود ولام
جهمي هما
|
|
في وحي رب العرش
زائدتان
|
وكذلك الجهمي
عطل وصفه
|
|
ويهود قد وصفوه
بالنقصان
|
فهما إذا في
نفيهم لصفاته
|
|
العليا كما
بينته أخوان
|
الشرح
: يعني أن تأويل
الجهمية للفظ استوى باستولى باطل من عشرين وجها ، ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية قدس
الله سره في مصنف خاص. وقد ذكرها المصنف رحمهالله في كتابه (الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة)
وزاد عليها عشرين وجها أخرى ، فصار المجموع أربعين وجها مع قوة في الحجة وحسن في
البيان كما هو دأبه في كل كتبه صغيرها وكبيرها ، فهو بحق كما وصفه أحد الاخوان من
أنصار السنة (صاحب القلم السيال والسحر والحلال) جزاه الله وجزى أستاذه شيخ
الإسلام عن هذه الأمة خير ما يجزي به العلماء العاملين الذين أناروا الطريق
للسالكين ، ومهدوا لمن بعدهم سبل الحق واليقين.
ولا نطيل الكلام
في سرد هذه الوجوه ، فليرجع إليها من أراد في كتاب
الصواعق المذكور
غير أننا نحب أن نشير إلى بعض ما يظهر به فساد هذا التأويل وتتضح به تفاهته أو
سخافته وهو أنه يقتضي أن الله لم يكن مستوليا على العرش ولا مالكا له ثم استولى
عليه وملكه ، وذلك يقتضي أن العرش كان في حوزة ملك آخر قبل أن يقهره الله وينتزع
العرش منه.
ثم ما الحكمة في
تخصيص العرش وحده باستيلاء الله عزوجل عليه وهو مالك الملك كله من عرشه إلى فرشه كله في قبضته
مقهور بقهر جبروته وعزته. أفلا يستحي هؤلاء من ترديد مثل هذا الهراء وتدريسه
للناشئة من طلاب المعاهد اللذين يأخذونه من أفواه شيوخهم عقيدة مسلمة لا يجرءون
على مناقشتهم فيها ، وإلا رموا بالكفر والالحاد.
وما أحسن قول من
قال (لام الجهمية كنون اليهودية) فكلتاهما زائدة على الوحي حيث جاء آمرا لليهود
بأن يقولوا حطة فقالوا حنطة. وجاء مخبرا عن الله بأنه استوى فقال الجهمية :
استولى. وكما وصف اليهود ربهم بما لا يليق به من النقائص. من قولهم أنه فقير ويده
مغلولة ، وأنه تعب من الخلق فاستراح في يوم السبت الخ. كذلك عطله الجهمية عن صفات
كماله ونفوها عنه.
وبذلك اتفق
الفريقان على نفي صفاته العليا التي هي كمالات محضة وبان لكل أحد أنهما أخوان
متشابهان.
* * *
فصل
في بيان بهتانهم في تشبيه أهل الاثبات بفرعون وقولهم أن
مقالة
العلو عنه أخذوها وأنهم أولى بفرعون وهم أشباهه
ومن العجائب
قولهم فرعون مذ
|
|
هبه العلو وذاك
في القرآن
|
ولذاك قد طلب
الصعود إليه
|
|
بالصرح الذي قد
رام من هامان
|
هذا رأيناه
بكتبهم ومن
|
|
أفواههم سمعا
إلى الآذان
|
فاسمع إذا من ذا
الذي أولى بفر
|
|
عون المعطل جاحد
الرحمن
|
وانظر إلى من
قال موسى كاذب
|
|
حين ادعى فوقية
الرحمن
|
فمن المصائب أن
فرعونيكم
|
|
أضحى يكفر صاحب
الايمان
|
ويقول ذاك مبدل
للدين سا
|
|
ع بالفساد وذا
من البهتان
|
الشرح
: ومن عجائب هؤلاء
الجهمية كذلك أنهم يرمون أهل الاثبات لصفة العلو وغيرها بأنهم أشباه لفرعون ، فقد
حكي عنه القرآن أنه كان يعتقد أن إله موسى في السماء ، ولهذا قال لهامان وزيره : (يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي
أَبْلُغُ الْأَسْبابَ* أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى
وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً) [غافر : ٣٦ ، ٣٧]
ويذكرون هذا في كتبهم ويصرحون به في مجالسهم ، ونحن نبين من هو أولى بفرعون المعطل
الجاحد لوجود الصانع جل وعلا ، ومن هو أحق أن ينسب إليه نحن أم هم؟ ان فرعون حين
أخبره موسى عليهالسلام بأنه رسول من رب العالمين سأله فرعون سؤال المتظاهر بالجحد
والانكار : ما رب العالمين وأين هو؟ فأخبره موسى بأن إلهه الذي أرسله في السماء ،
فقال فرعون ما حكاه عنه القرآن : (يا أَيُّهَا
الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى
الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي
لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ) [القصص : ٣٨]
ففرعون كذب موسى في قوله ان إلهه في السماء ولهذا طلب بناء الصرح ليرقى عليه
ويستطلع جلية الخبر.
وهكذا أنتم أيها
الجهمية أشياع لفرعون في التعطيل والانكار ، اذا أخبركم أهل الحق بأن الله فوق
خلقه مستو على عرشه قلتم حشوية كفار وخشيتم منهم ما خشيه فرعون من موسى حين قال : (إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ
أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ) [غافر : ٢٦] فأنتم
أشياع فرعون في الكذب والبهتان ترمون به أهل الحق والإيمان كما رمى به هو موسى بن
عمران.
* * *
أن المورث ذا
لهم فرعون حين
|
|
رمى به المولود
من عمران
|
فهو الامام لهم
وها فيهم
|
|
بمتبوع يقودهم
إلى النيران
|
هو أنكر الوصفين
وصف
|
|
الفوق والتكليم
انكارا على البهتان
|
اذ قصده إنكار
ذات الرب
|
|
فالتعطيل مرقاة
لذا النكران
|
وسواه جاء بسلم
وبآلة
|
|
وأتى بقانون على
بنيان
|
وأتى بذاك مفكرا
ومقدرا
|
|
ورث الوليد
لعابد الأوثان
|
وأتى إلى
التعطيل من أبوابه
|
|
لا من ظهور
الدار والجدران
|
الشرح
: فهذا البهت الذي
بهتم به أهل السنة والجماعة من قولكم حشوية ومجسمة حددوا ربهم وجعلوا له مكانا الخ
، إنما ورثتموه من فرعون إمامكم في الضلال حين رمى به موسى بن عمران كليم الرحمن ،
فقال انه ما جاء إلا لتبديل الدين والسعي في الأرض بالفساد فهو إمامكم في الدنيا ،
وسيكون كذلك إماما لكم في الآخرة يقودكم إلى النار ، كما قال تعالى : (فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما
أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ* يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ
فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) [هود : ٩٧ ، ٩٨].
وهو أنكر الوصفين
جميعا ، وصف الفوق ووصف التكليم ، أما وصف الفوق فيما تقدم من قوله في شأن موسى (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً) وأما وصف التكليم فلأنه جحد رسالة موسى وكذب بها ،
والرسالة انما مبناها على تكليم الله لمن يرسله فمن جحدها فقد جحد ما تنبني عليه
من وصف التكليم ، وكان قصد فرعون من الجحد لهذين الوصفين انكار ذات الرب جل شأنه ،
فجعل من هذا التعطيل مرقاة يثب منها إلى جحد الصانع جل وعلا وتعطيل العالم عن
صانعه وإلهه ، ولكنكم حين قصدتم إلى هذا التعطيل والانكار أعددتم للأمر عدته
واستكملتم لآلته وبنيتم على هندسة ونظام مع تفكير وتقدير ورثتموه عن سلفكم في
الجحود والانكار : الوليد بن المغيرة حين قال في القرآن بعد أن فكر وقدر ان هذا
الا سحر يؤثر. ودخلتم إلى التعطيل من بابه ولم تتسوروا الجدران ولا أتيتم البيت من
ظهره ، لهذا راج باطلكم وجاز تلبيسكم وخداعكم على كثير لا من العامة
فحسب بل ممن
ينسبون إلى العلم والدين ، ونالوا لقب الامامة والزعامة بين المسلمين ، والله في
خلقه شئون.
* * *
وأتى به في قالب
التنزيه
|
|
والتعظيم تلبيسا
على العميان
|
وأتى إلى وصف
العلو فقال ذا
|
|
التجسيم ليس
يليق بالرحمن
|
فاللفظ قد أنشأه
من تلقائه
|
|
وكساه وصف
الواحد المنان
|
والناس كلهم صبي
العقل لم
|
|
يبلغ ولو كانوا
من الشيخان
|
إلا أناسا سلموا
للوحي هم
|
|
أهل البلوغ
وأعقل الانسان
|
فأتى إلى
الصبيان فانقادوا له
|
|
كالشاء إذ تنقاد
للجوبان
|
فانظر إلى عقل
صغير في يدي
|
|
شيطان ما يلقى
من الشيطان
|
الشرح
: يعني أنكم حين
عطلتم الباري عن صفاته سميتم هذا التعطيل تنزيها وتعظيما للرب جل شأنه لكي تلبسوا
بذلك على أهل الغفلة والعمي فينقادوا لكم ويدينوا بتعطيلكم وعمدتم إلى وصف العلو
الثابت له سبحانه بما لا يحصى من الأدلة النقلية والعقلية ، فقلتم هذا تجسيم يجب
تنزيه الله عنه ، وهكذا أنشأتم لفظ التنزيه من عند أنفسكم وكسوتموه مما تشاءون من
صفات ، فاقتضى تنزيهكم أن تنفوا عنه الجهة والمكان والحيز والحركة والنزول والصعود
والمقدار والصورة والإشارة الحسية الخ ، مما يجعله سبحانه ، وحاشاه أقرب إلى
المعدوم منه إلى الموجود ، وكل صفة مما أثبته هو لنفسه أو أثبته له رسوله لا تروق
لكم تنفونها بحجة التنزيه. والناس ينقادون لكم في هذا النفي والتعطيل ، لأنهم
صبيان العقول وان كانوا كبار الأعمار ، ولكن المتبعين للوحي والواقفين عند النص هم
الذين بلغوا رشدهم واستوت أحلامهم فهم لا ينقادون لكم ولا يغترون بجعجعتكم ، وإنما
ينقاد لكم الصبيان انقياد الشاء للجوبان ، يعني الراعي ، وما ذا يصنع عقل صغير بين
يدي شيطان إلا أن يلعب به كما تلعب بالكرة الصولجان.
* * *
فصل
في بيان تدليسهم وتلبيسهم الحق بالباطل
قالوا إذا قال
المجسم ربنا
|
|
حقا على العرش
استوى بلسان
|
فسلوه كم للعرش
معنى واستوى
|
|
أيضا له في
الوضع خمس معان
|
وعلى فكم معنى
لها أيضا لدى
|
|
عمرو فداك أمام
هذا الشأن
|
بين لنا تلك
المعاني والذي
|
|
منها أريد بواضح
التبيان
|
فاسمع فذاك معطل
هذي الجعا
|
|
جع ما الذي فيها
من الهذيان
|
قل للمجعجع ويحك
اعقل ذا الذي
|
|
قد قلته إن كنت
ذا عرفان
|
العرش عرش الرب
جل جلاله
|
|
واللام للمعهود
في الأذهان
|
ما فيه إجمال
ولا هو موهم
|
|
نقل المجاز ولا
له وضعان
|
ومحمد والأنبياء
جميعهم
|
|
شهدوا به للخالق
الرحمن
|
منهم عرفناه وهم
عرفوه من
|
|
رب عليه قد
استوى ديان
|
الشرح
: مما أوصى به
المعطلة النفاة بعضهم بعضا أنهم قالوا : إذا قال لك المجسم ـ يعنون المثبت لعلوه
تعالى واستوائه على العرش ـ ربنا على العرش استوى حقا كما جاء ذلك صريحا في كتابه
بلسان عربي مبين ، فسله أي معنى من معاني العرش تريد؟ فإن العرش يطلق ويراد به
سرير الملك ، ويطلق ويراد به عرش الكروم ، ويطلق ويراد به العريشة ، ويطلق ويراد
به عرش بلقيس ملكة سبأ ، ويطلق ويراد به السقف.
وكذلك سله عن معنى
استوى فإنه كذلك لفظ محتمل لعدة معان ، يقال استوى بمعنى جلس ، واستوى بمعنى قصد ،
واستوى بمعنى بلغ تمامه وكماله ، واستوى بمعنى ساوى. وسله أيضا عن معنى على فانها
تأتي للاستعلاء ولغيره ، كما ذكر ذلك أئمة اللغة ، فقل له بين لنا كل هذه المعاني
التي تراد من هذه الألفاظ ، وأي هذه المعاني تريد ، فإذا حاول المعطل تشكيكك بمثل
هذه الهذيانات ، وأراد أن يسد عليك باب الفهم للنصوص بسلب الألفاظ دلالتها على
معانيها المتبادرة
منها ، وادعاء أنه لا يمكن فهم مقصود المتكلم بهذه الألفاظ لاحتمالها لعدة معان ،
فقل له : دع عنك هذه الجعاجع والمغالطات ، فكل لفظ من هذه الالفاظ الثلاثة واضح
الدلالة على معناه.
فالمراد بالعرش
هنا ليس إلا عرش الرب جل شأنه الذي هو فوق السموات وهو المذكور في قوله تعالى : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ
حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) [غافر : ٧] وفي
قوله : (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ
ذُو الْعَرْشِ) [غافر : ١٥] وفي
قوله (قُلْ مَنْ رَبُّ
السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) [المؤمنون : ٨٦]
إلى ما لا يحصى من الآيات والأحاديث واللام فيه للعهد الذهني ، وليس في هذا اللفظ
بحمد الله اجمال يحتاج معه إلى تفصيل ، ولا هو موهم أنه مستعمل في معنى مجازي ،
ولا هو من الالفاظ المشتركة الموضوعة لعدة معان ، وهو العرش الذي شهد الرسول صلىاللهعليهوسلم وجميع الأنبياء قبله بثبوته لربهم ، وقد عرفنا نحن ذلك من
أخبارهم كما عرفوه هم بالوحي الذي أنزل عليهم ممن على العرش استوى جل وعلا.
* * *
لم تفهم الأذهان
منه سرير
|
|
بلقيس ولا بيتا
على الأركان
|
كلا ولا عرشا
على بحر ولا
|
|
عرشا لجبريل بلا
بنيان
|
كلا ولا العرش
الذي ان ثل من
|
|
عبد هوى تحت
الحضيض الداني
|
كلا ولا عرش
الكروم وهذه
|
|
الأعناب في حرث
وفي بستان
|
لكنها فهمت بحمد
الله منه عر
|
|
ش الرب فوق جميع
ذي الاكوان
|
وعليه رب
العالمين قد استوى
|
|
حقا كما قد جاء
في القرآن
|
الشرح
: يعني أن العرش
المذكور في مثل قوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى
الْعَرْشِ اسْتَوى) [طه : ٥] قد جاء
إما مطلقا معرفا بلام العهد كما في الآية ، أو مضافا إلى الرب جل شأنه كما في قوله
«وكان عرشه على الماء» فلا يمكن أن يفهم الذهن منه غير معنى واحد وهو هذا الجسم
المخصوص الذي تنتهي به كرة
العالم ، ولا يعقل
أن يفهم منه أنه عرش بلقيس ملكة سبأ ، فإنه مضاف إليها كما يدل عليه قول سليمان
لجنوده : (أَيُّكُمْ يَأْتِينِي
بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) [النمل : ٣٨]
وقوله لها حين جاءت : (أَهكَذا عَرْشُكِ
قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ) [النمل : ٤٢] ولا
يفهم منه كذلك أنه عرش على بحر ، وهو عرش الشيطان كما ورد في حديث ابن صوريا أن
النبي صلىاللهعليهوسلم سأله عما يرى ، فقال (أرى عرشا على الماء) فقال عليهالسلام ذاك عرش الشيطان ، ولا يفهم منه أيضا أنه العرش الذي استوى
عليه جبريل حين رآه النبي صلىاللهعليهوسلم جالسا على كرسي بين السماء والأرض قد سد الافق ، كما ورد
في حديث جابر ، وذلك بعد فترة الوحي وكان النبي صلىاللهعليهوسلم قد جاور بحراء شهرا ، فلما خرج سمع صوتا يناديه فرفع رأسه
فرآه على صورته الملكية فرعب منه ، ولا يمكن أن يفهم منه أنه عرش ملك من ملوك
الدنيا بحيث لو ثل أي سلب عنه هوى أي سقط عن عز ملكه وصار واحدا من الناس ، ولا
يفهم منه أنه العرش الذي تقوم عليه الكروم والاعناب ، إلى غير ذلك من المعاني التي
لا يمكن أن تخطر ببال أحد يقرأ هذه الآيات ولكنه لا يفهم منه إلا أنه عرش الرب
الموجود فوق جميع هذه الموجودات ، ولا يفهم إلا أن الله استوى عليه استواء حقيقيا
كما جاء في القرآن.
* * *
وكذا استوى
الموصول بالحرف الذي
|
|
ظهر المراد به
ظهور بيان
|
لا فيه اجمال
ولا هو مفهم
|
|
للاشتراك ولا
مجاز ثان
|
تركيبه مع حرف
الاستعلاء نص
|
|
في العلو بوضع
كل لسان
|
فإذا تركب مع
الى فالقصد مع
|
|
معنى العلو
لوضعه ببيان
|
وإلى السماء قد
استوى فمقيد
|
|
بتمام صنعتها مع
الاتقان
|
لكن على العرش
استوى هو مطلق
|
|
من بعدها قد تم
بالاركان
|
لكنما الجهمي
يقصر فهمه
|
|
عن ذا فتلك
مواهب المنان
|
فإذا اقتضى واو
المعية كان
|
|
معناه استوى
متقدم والثاني
|
فإذا أتى من غير
حرف كان
|
|
معناه الكمال
فليس ذا نقصان
|
لا تلبسوا
بالباطل الحق الذي
|
|
قد بين الرحمن
في الفرقان
|
الشرح
: وكذلك الفعل استوى
إذا تعدى بالحرف ، فإن معناه في غاية الظهور فليس فيه اجمال يحتاج معه إلى التفصيل
ولا هو من الالفاظ المشتركة التي تحتمل أكثر من معنى ولا هو منقول من حقيقته إلى
مجازه ، بل إذا تعدى بعلى الموضوعة للاستعلاء كان نصا في العلو لا يحتمل معنى آخر
، قال تعالى : (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ
أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا
مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [المؤمنون : ٢٨]
وقال : (لِتَسْتَوُوا عَلى
ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ) [الزخرف : ١٣] ولا
يمكن أن يقال استوى على كذا من غير أن يفيد ذلك معنى العلو ، ويكون نصا فيه ، وإذا
تعدى بإلى أفاد القصد مع العلو وضعا يقال استوى إلى كذا بمعنى قصد إليه مستعليا
عليه ، وقوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى
السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ) [فصلت : ١١] يفيد
القصد إلى خلقها مع الاحكام والاتقان للخلق كما قال تعالى : (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ
وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) [الذاريات : ٤٧]
أما قوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى
الْعَرْشِ اسْتَوى) [طه : ٥] فهو مطلق
لا يفيد إلا علوه تعالى على العرش الذي قام على أركانه بعد السموات ، والذي هو
أعلى الموجودات ، ولكن الجهمي المعطل يعجز عن فهم هذه المعاني لجهله بأوضاع اللغة
والله هو الذي يهب الفهم من يشاء بمنه وكرمه. أما إذا اقتضى الفعل استوى واو
المعية كما في قولنا : استوى الماء والخشبة أفاد أن ما قبل الواو قد ساوى ما
بعدها. فإذا أتى من غير حرف واستعمل لازما كما في قوله تعالى : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى) [القصص : ١٤] أفاد
معنى الكمال وتمام القوة. هذه هي استعمالات الفعل استوى في لغة العرب التي نزل بها
القرآن الكريم ، فلا تخلطوا أيها الجهمية الحق الذي بينه الله في كتابه بما
تختلقونه من المفتريات والأباطيل.
* * *
وعلا للاستعلاء
فهي حقيقة
|
|
فيه لدى أرباب
هذا الشأن
|
وكذلك الرحمن جل
جلاله
|
|
لم يحتمل معنى
سوى الرحمن
|
يا ويحه بعماه
لو وجد اسمه الر
|
|
حمن محتملا لخمس
معان
|
لقضى بأن اللفظ
لا معنى له
|
|
إلا التلاوة
عندنا بلسان
|
فلذاك قال أئمة
الإسلام في
|
|
معناه ما قد
ساءكم ببيان
|
ولقد أحلناكم
على كتب لهم
|
|
هي عندنا والله
بالكيمان
|
الشرح
: وكذلك الحرف (على)
الذي تعدى به فعل الاستواء هو نص في إفادة الاستعلاء عند أهل اللغة لا يجوز صرفه
عن هذا المعنى الذي هو حقيقة فيه بلا قرينة كلامية توجب ذلك وتدل عليه. وكذلك
الاسم الكريم (الرحمن) لا يحتمل معنى سوى الرب الموصوف بالرحمة الواسعة التي وسعت
كل شيء جل شأنه. فيا ويح هذا المعطل الأعمى لو رأى كذلك أن اسمه الرحمن ليس نصا في
الدلالة على مسماه وطرد قاعدته الفاسدة في احتمال الألفاظ عليه ، وادعى له هو
الآخر أنه محتمل لخمس معان ، كما ادعى ذلك في العرش : إذا لوجب أن يحكم بأن
الألفاظ خالية من معانيها ، وأن نصيب القارئ منها هو التلاوة باللسان فقط دون أن
يفقه لها معنى. وهذا هو ما يهدف إليه هؤلاء المعطلة أعداء الكتاب والسنة أن يعزلوا
نصوصهما عن إفادة الحق واليقين ليرجعوا في ذلك إلى قضايا عقولهم الفاسدة ، وإذا
ثبت أن كل لفظة من ألفاظ الآية الكريمة ، أعني قوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) [طه : ٥] هو نص في
معناه بحيث لا يجوز صرفه عنه لم يكن حينئذ للاستواء على العرش معنى إلا العلو
والارتفاع عليه ، وهذا المعنى هو الذي أطبق عليه أئمة الإسلام ولكن قلوبكم المريضة
لم تتسع له لامتلائها من الباطل الذي ورثتموه عن فلاسفة اليونان وغيرهم فساءكم ما
قاله أئمة الهدى ، وملأ قلوبكم غيظا عليهم ، ولن تستطيعوا إنكار نسبة هذا القول
إليهم ، فقد أحلناكم على كتبهم التي لا يشك في نسبتها إليهم وهي بحمد الله من
الكثرة بحيث تشبه الكيمان ، والكيمان جمع أكوام الذي هو جمع كومة ، والكومة هي
الجملة من الشيء المتكومة المجتمعة.
* * *
فصل
في بيان سبب غلطهم في الألفاظ والحكم عليها
باحتمال عدة معان حتى أسقطوا الاستدلال بها
واللفظ منه مفرد
ومركب
|
|
في الاعتبار فما
هما سيان
|
واللفظ في
التركيب نص في الذي
|
|
قصد المخاطب منه
في التبيان
|
أو ظاهر فيه وذا
من حيث
|
|
نسبته إلى
الإفهام والأذهان
|
فيكون نصا عند
طائفة وعند
|
|
سواهم هو ظاهر
التبيان
|
ولدى سواهم مجمل
لم يتضح
|
|
لهم المراد به
اتضاح بيان
|
فالأولون لألفهم
ذاك الخطا
|
|
ب والفهم معناه
طول زمان
|
طال المراس لهم
لمعناه كما
|
|
اشتدت عنايتهم
بذاك الشأن
|
والعلم منهم
بالمخاطب إذ هم
|
|
أولى به من سائر
الإنسان
|
ولهم أتم عناية
بكلامه
|
|
وقصوده مع صحة
العرفان
|
فخطابه نص لديهم
قاطع
|
|
فيما أريد به من
التبيان
|
الشرح
: يريد الشيخ رحمهالله أن يبين أحوال الناس في إدراكهم لمعاني الألفاظ ومدلولاتها
، فيقسم اللفظ إلى مفرد لم يستعمل مع غيره من الألفاظ ، كزيد مثلا ، وإلى مركب ،
وهو ما تركب مع غيره لإفادة معنى تام ، وذلك مثل الجمل الفعلية والاسمية ، فإذا
تركب اللفظ مع غيره اختلف الناس في دلالته على معناه تبعا لاختلاف أفهامهم
وأحوالهم ، فمن الناس من يجعله نصا في المعنى الذي قصده منه المخاطب بكلامه فلا
يكون محتملا لغيره ، ومنهم من يعتبره ظاهرا فيه فقط ، فيرجح أن يكون المقصود به
هذا المعنى ، ولكنه لا يقطع به. ومنهم طائفة ثالثة تجعل اللفظ من قبيل المجمل الذي
لم يتضح المراد منه ، فهو عندهم محتمل لعدة معان ولا يدرون أيها هو المراد من
اللفظ ، لأن هذه المعاني عندهم متساوية فيه ، فالأولون لأنهم ألفوا هذا الخطاب
واعتادوه ، وألفوا معانيه وطال مراسهم لها ، واشتدت عنايتهم بها ، ولأنهم أعرف
الناس بالمخاطب لهم ، وأولى به من
غيرهم ، وأكمل
الناس عناية بفهم خطابه وإدراك مقاصده مع ما لهم من الفهم الصحيح والنظر الصائب
والفطرة السليمة التي لم تفسد بالتقليد الأعمى ، يعتبرون خطابه نصا قاطعا في
الدلالة على ما قصد إليه منه دون ان يتطرق إلى نفوسهم أي توهم للاحتمال أو المجاز.
والمراس هو الممارسة ، وهو كثرة التمرن والاعتياد.
* * *
لكن من هو دونهم
في ذاك لم
|
|
يقطع بقطعهم على
البرهان
|
ويقول يظهر ذا
وليس بقاطع
|
|
في ذهنه لا سائر
الأذهان
|
ولألفه بكلام من
هو مقتد
|
|
بكلامه من عالم
الأزمان
|
هو قاطع بمراده
وكلامه
|
|
نص لديه واضح
التبيان
|
والفتنة العظمى
من المتسلق
|
|
المخدوع ذي
الدعوى أخي الهذيان
|
لم يعرف العلم
الذي فيه الكلا
|
|
م ولا له ألف
بهذا الشأن
|
لكنه منه غريب
ليس من
|
|
سكانه كلا ولا
الجيران
|
فهو الزنيم دعي
قوم لم يكن
|
|
منهم ولم يصحبهم
بمكان
|
وكلامهم أبدا
لديه مجمل
|
|
وبمعزل عن أمرة
الإيقان
|
الشرح
: لكن من نقصت درجته
في العلم والتحصيل والفهم لمضمون الخطاب عن هؤلاء السابقين لم يسلك سبيلهم في
القطع بمعاني النصوص ، بل يرى فقط أن هذا هو الظاهر المتبادر منها إلى الذهن مع
تجويزه أن يكون المراد بها معنى آخر ، وذلك لقلة ألفه بالنصوص الصريحة من الكتاب
والسنة وقلة ممارسته لها ، ولكنه لطول الفه بكلام من يقلده ويقتدي به من علماء
زمانه يقطع بمراده من كلامه ، ويعتبر كلامه نصا واضحا فيما يتضمنه من معنى ، فجعل
كلام الله تعالى وكلام رسوله صلىاللهعليهوسلم أقل في الإفادة والإفهام من كلام شيخه ، ولم يرض حتى
بالمساواة ، وصاحب هذا المسلك هو على كل حال أقل خطرا وأخف ضررا ، ولكن الفتنة
العظمى والداهية الكبرى في هذا المتسلق للجدران المخدوع بزخارف البهتان صاحب
الدعاوى العريضة في العلم والعرفان ، وما هو إلا أخو
ضلالة وهذيان ،
يهرف بما لا يعرف ، ويتكلم فيما لا علم له به ، ولا يحسن الكلام فيه لعدم الفه له
وقلة مصاحبته إياه ، فهو منه غريب كل الغربة ، فلا هو من سكانه المقيمين معه ولا
حتى من جيرانه القريبين منه ، وهو زنيم يدعي النسبة إلى قوم ليس هو منهم ولم يتشرف
أبدا بصحبتهم في أي مكان ، فكلامهم دائما غير واضح المعنى عنده وبمعزل عن إفادة
اليقين. والمراد بالقوم هنا أهل الحق من سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين ومن
سلك سبيلهم في الأتباع رضي الله عنهم أجمعين.
* * *
نشد التجارة
بالزيوف يخالها
|
|
نقدا صحيحا وهو
ذو بطلان
|
حتى إذا ردت
إليه ناله
|
|
من ردها خزي
وسوء هوان
|
فأراد تصحيحا
لها إذ لم يكن
|
|
نقد الزيوف يروج
في الأثمان
|
ورأى استحالة ذا
بدون الطعن في
|
|
باقي النقود
فجاء بالعدوان
|
واستعوض الثمن
الصحيح بجهله
|
|
وبظلمه يبغيه
بالبهتان
|
عوجا ليسلم نقده
بين الورى
|
|
ويروج فيهم كامل
الأوزان
|
والناس ليسوا
أهل نقد للذي
|
|
قد قيل إلا
الفرد في الأزمان
|
والزيف بينهم هو
النقد الذي
|
|
قد راج في
الأسفار والبلدان
|
إذ هم قد
اصطلحوا عليه وارتضوا
|
|
بجوازه جهرا بلا
كتمان
|
الشرح
: وهذا الداعي
الزنيم المتعالم ولا علم عنده لا يتجر إلا في الزيوف ، وهي الدراهم المغشوشة ،
يظنها بجهله وقلة بصره نقدا جيدا ، فتراه يروج بين الناس قضايا وهمية وجهالات
سوفسطائية ، يخدعهم بها ، ويوهمهم أنها علم صحيح ، فإذا انبرى له أهل الحق وأرباب
البصائر وردوا عليه زيوفه وكشفوا عن بهرجها لحقه من ذلك أشد الخزي وأسوأ الهوان ،
ولكنه لا يستسلم للهزيمة ولا يفيء إلى الحق بل يحاول تصحيحها لتروج في الأثمان ،
ويرى أن ذلك مستحيل بدون الطعن في باقي النقود ، فيعمد إلى النقد الصحيح من علوم
الكتاب والسنة ،
فيتعوض عنه بجهله وظلمه ، ويريده بالكذب والافتراء عوجا ليسلم له زيفه ويروج باطله
، والناس كلهم إلا من عصم الله ليسوا أهل بصر بالنقود ، فلا يقدرون على تمييز
الجيد من الرديء ، ولا لهم خبرة بوزن الأقوال وتمحيص الآراء ، اللهم إلا أفراد
قلائل يوجدون في الأزمان المتطاولة. ولذلك تجد الزيف هو النقد المتداول بينهم
والرائج في الأسفار والبلدان ، لأنهم قد تعارفوا عليه وارتضوه جهرة بلا كتمان.
* * *
فإذا أتاهم غيره
ولو أنه
|
|
ذهب مصفى خالص
العقيان
|
ردوه واعتذروا
بأن نقودهم
|
|
من غيره بمراسم
السلطان
|
فإذا تعاملنا
بنقد غيره
|
|
قطعت جوامكنا من
الديوان
|
والله منهم قد
سمعنا ذا ولم
|
|
نكذب عليهم ويح
ذي البهتان
|
يا من يريد
تجارة تنجيه من
|
|
غضب الإله وموقد
النيران
|
وتفيده الأرباح
بالجنات
|
|
والحور الحسان
ورؤية الرحمن
|
في جنة طابت
ودام نعيمها
|
|
ما للفناء عليه
من سلطان
|
هيئ لها ثمنا
يباع بمثلها
|
|
لا تشترى بالزيف
من أثمان
|
نقدا عليه سكة
نبوية
|
|
ضرب المدينة
أشرف البلدان
|
الشرح
: فإذا جاءهم أحد
بنقد آخر غير هذا الذي تعارفوا عليه ردوه على الناقد ، ولو كان من نضار الذهب
وخالصه معتذرين بأن نقدهم عليه سكة السلطان فإذا هم تعاملوا بنقد غيره قطعت
رواتبهم من ديوان الحكومة ، وكأن المؤلف رحمهالله يشير بهذا إلى حال كثير من العلماء الرسميين الذين توظفهم
الحكومة في بعض الوظائف ، مثل القضاء والافتاء والحسبة وغيرها ، فيتوخون في
أعمالهم موافقة الحكام في مذاهبهم ولا يجرءون على مخالفتها خوفا من العزل وهذا
المعنى كان موجودا منذ قريب عندنا في مصر في عهد الحكم التركي ، حين كان
__________________
لا يولي مناصب
القضاء والافتاء إلا حنفيا ، بل ولا يزال كثير من العلماء في مصر وغيرها يدينون
بمذهب الأشعري في العقيدة ، لأنه منذ عهد صلاح الدين كان هو المذهب الرسمي لكثير
من البلاد الإسلامية ، وكان أتباعه هم الذين يتولون وظائف التدريس في مدارس
الحكومة ، فمثل هؤلاء العلماء إنما يريدون تجارة الدنيا من الحظوة عند الحكام
وإغداق الأرزاق عليهم. أما أنت يا من تريد تجارة الآخرة التي رأسمالها النجاة من
غضب الله وناره المتسعرة ، والربح فيها جنات عرضها السموات والأرض ، تتمتع فيها
بالحور الحسان ، وأعظم من ذلك رؤية الرحمن جل جلاله ، ولك فيها ما شئت من ألوان النعيم
، وأنت فيها خالد مقيم لا تفنى ولا تريم ، فيهيئ لتلك الدار الطيبة التي هي سلعة
الله الغالبة ثمنا يليق بها من نقد جيد صحيح ، فإنها لا تشترى بالنقد الزائف
المغشوش نقدا عليه سكة النبوة وطابعها ومضروبا في المدينة أشرف البلدان ومصدر
العلم والهدى والإيمان.
* * *
أظننت يا مغرور
بائعها الذي
|
|
يرضى بنقد ضرب
جنكيز خان
|
منتك والله
المحال النفس ان
|
|
طمعت بذا وخدعت
بالشيطان
|
ولا يذهبن بك
الغرور فتظن أن بائعها جلا وعلا يرضى بالنقد الزائف ثمنا لها مثل النقود التي هي
ضرب جنكيز خان قائد التتار الغشوم ، فإذا أنت طمعت في ذلك أن تنالها بمثل هذه
الأثمان المزورة المغشوشة فقد منتك نفسك المحال ، وخدعك الشيطان بكواذب الآمال.
وقوله المحال بالنصب مفعول ثان لمنتك والنفس بالرفع فاعل.
* * *
فاسمع إذا سبب
الضلال ومنشأ
|
|
التخليط إذ
يتناظر الخصمان
|
يحتج باللفظ
المركب عارف
|
|
مضمونه بسياقه
لبيان
|
واللفظ حين يساق
بالتركيب
|
|
محفوف به للفهم
والتبيان
|
جند ينادي عليه
مثل
|
|
ندائنا بإقامة
وأذان
|
كي يحصل الاعلام
بالمقصود من
|
|
ايراده ويصير في
الأذهان
|
فيفك تركيب
الكلام معاند
|
|
حتى يقلقله من
الأركان
|
ويروم منه لفظة
قد حملت
|
|
معنى سواها في
كلام ثان
|
فيكون دبوس
الشقاق وعدة
|
|
للدفع فعل
الجاهل الفتان
|
فيقول هذا مجمل
واللفظ
|
|
محتمل وذا من
أعظم البهتان
|
الشرح
: إذا عرفت أن اللفظ
ينقسم إلى مفرد ومركب ، وأن اللفظ في التركيب غيره حال الإفراد سهل عليك ان تعرف
سبب الضلال ومصدر ما يقع من خلط وتخبط عند الحجاج والمناظرة ، فقد يحتج باللفظ
المركب فاهم لمضمونه وما يدل عليه سياق التركيب ، حيث أن اللفظ في هذه الحالة تحف
به قرائن تعين المراد منه وتنفي عنه كل شائبة احتمال ، وتكون له جندا ينادي عليه
بحقيقة مدلوله نداء واضحا قويا كندائنا بالإقامة والأذان للصلاة ، وبذلك يحصل
العلم بالمقصود من ايراده ويثبت في الأذهان بلا مرية ولا نكران فيجيء خصمه المعاند
للحق ويفك تركيب الكلام حتى يجعله انقاضا لا يرتبط منه لفظ بآخر ثم ينظر الى
الألفاظ هكذا مجردة عن تركيبها فربما قصد إلى لفظة من المركب تحتمل معنى آخر سوى
معناه الثابت لها في التركيب في كلام آخر فيكون هذا دبوس الشقاق فيجعل استعمال
اللفظة في هذا المعنى الآخر في هذا الكلام الثاني عدة له في الدفع والمعارضة
وإسقاط الاستدلال بالمركب على ما فهم منه وما يقتضيه سياقه. وهذا فعل جاهل يبتغي
الفتنة والمماراة بالباطل ، ويدعي حينئذ أن اللفظ مجمل وأنه محتمل لغير هذا المعنى
، واللفظ متى تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال ، وهذا منه كذب وافتراء ، فإن
اللفظ إذا كان يحتمل غير معناه حال التجرد والإفراد فإنه في التركيب كما قلنا نص
في معناه لما يحف به من قرائن تبين المراد منه وتنادي عليه والله أعلم.
وقوله محفوف : أي
محيط خبرا للفظ ، وجند فاعل محفوف ، وجملة ينادي صفة لجند.
* * *
وبذاك يفسد كل
علم في الورى
|
|
والفهم من خبر
ومن قرآن
|
إذ أكثر الألفاظ
تقبل ذاك في ال
|
|
أفراد قبل العقد
والتبيان
|
لكن إذا ما ركبت
زال الذي
|
|
قد كان محتملا
لدى الوحدان
|
فإذا تجرد كان
محتملا
|
|
لغير مراده أو
في كلام ثان
|
لكن ذا التجريد
ممتنع فإن
|
|
يفرض يكن لا شك
في الأذهان
|
والمفردات بغير
تركيب كمثل
|
|
الصوت تنعقه
بتلك الضان
|
وهنالك الإجمال
والتشكيك والتجهيل
|
|
والتحريف
والإتيان بالبطلان
|
فإذا هم فعلوه
راموا نقله
|
|
لمركب قد حف
بالتبيان
|
وقضوا على
التركيب بالحكم الذي
|
|
حكموا به للمفرد
الوحداني
|
جهلا وتجهيلا
وتدليسا
|
|
وتلبيسا وترويجا
على العميان
|
الشرح
: وبهذا الذي يعمد
إليه هؤلاء الجهلة من التشكيك في دلالات الألفاظ المركبة والحكم عليها بالإجمال
والاشتباه يفسد كل علم في الوجود ، فإن أي قضية علمية ترد لا يمكن فهم معناها ما
دامت ألفاظها محتملة وموهمة خلاف المقصود منها وكذلك ينسد باب الفهم للكتاب والسنة
، فلا يعلم أحد مراد الله جل وعلا من كلامه ولا مراد رسوله صلىاللهعليهوسلم ، وبذلك تبطل التكاليف جملة وتبقى نصوص الكتاب والسنة مجرد
ألفاظ تتلى دون ان يكون وراءها معنى ، فأي فساد للدين أعظم من هذا ، ولا سبب لهذا
الفساد إلا ما يعمد إليه هؤلاء الجاهلون من التسوية بين الألفاظ في حالتي أفرادها
وتركيبها ، فإن أكثر الألفاظ حال الأفراد تكون مجملة وقابلة للاحتمال لكن إذا ما
ركبت مع غيرها زال كل احتمال وصارت نصا في معناها الذي يدل عليه سياق التركيب
ويفهمه فحوى الخطاب. فإذا تجرد اللفظ عن ذلك الوجود التركيبي أمكن حينئذ ان يكون
محتملا لغير المراد منه في التركيب. وكذلك إذا استعمل في كلام ثان جاز ان يستعمل
فيه بمعنى آخر بحسب ما تدل عليه القرائن التي تحف به. لكن تجريد الألفاظ أمر فرضي
محض لا وجود له إلا في الأذهان ، فإن الألفاظ يمتنع استعمالها مفردة إذ هي حينئذ
بمثابة الأصوات التي تنادي بها الحيوانات. وهنالك
أي عند التجريد
والأفراد يكون ادعاء الإجمال ويكون التشكيك والتجهيل والتحريف لها عن مواضعها
والإتيان بالباطل ، ولكن هؤلاء الجهلة يدعون هذا في المركب أيضا مع ما يحف به من
بيان ينفي عنه كل اشتباه ، ويحكمون على الألفاظ في حال التركيب بمثل ما يحكمون به
عليها في حال التجرد والافراد. جهلا منهم بالفرق بينهما وتجهيلا لغيرهم ، وتدليسا
أي خدعا بصرف اللفظ عن معناه ، وتلبيسا أي سترا للحق وإظهار للأمر على خلاف ما هو
عليه ، وترويجا لباطلهم عند السذج الذين لا بصر لهم بالأمور.
(فصل في بيان شبه غلطهم في تجريد اللفظ بغلط
الفلاسفة في تجريد المعاني)
هذا هداك الله
من إضلالهم
|
|
وضلالهم في منطق
الإنسان
|
كمجردات في
الخيال وقد بنى
|
|
قوم عليها أوهن
البنيان
|
ظنوا بأن لها
وجودا خارجا
|
|
ووجودها لو صح
في الأذهان
|
أني وتلك مشخصات
حصلت
|
|
في صورة جزئية
بعيان
|
لكنها كلية إن
طابقت
|
|
أفرادها كاللفظ
في الميزان
|
يدعونه الكلي
وهو معين
|
|
فرد كذا المعنى
هما سيان
|
تجريدا ذا في
الذهن أو في خارج
|
|
عن كل قيد ليس
في الإمكان
|
لا الذهن يعقله
ولا هو خارج
|
|
هو كالخيال
لطيفة السكران
|
الشرح
: واعلم ـ هداك الله
أن الذي وقع فيه هؤلاء من الإضلال والضلال بالنسبة للألفاظ حيث حكموا عليها بجواز
التجرد في الخارج هو شبيه بضلال بعض الفلاسفة في المجردات الخيالية حيث ظنوا بأن
لها وجودا في الأعيان وبنوا على ذلك الظن أوهن البنيان مع أن وجودها لو صح لا يكون
إلا في الأذهان ، فإن الموجود في الخارج لا يكون إلا مشخصا حافلان في صورة جزئية
معينة غير مشتركة أما إذا كانت الصورة صادقة على أفراد كثيرة ومطابقة لهم ، فهي
كلية
ولا وجود لها إلا
في الذهن ، وهؤلاء يقيسون الألفاظ على تلك المجردات قياس فاسد على فاسد ، فيسمون
اللفظ كليا وهو معين فرد. وكذلك يسمون معناه الجزئي كليا مع أن تجريد اللفظ عن كل
قيد يجعله من قبيل الممتنع الذي لا وجود له لا في العقل ولا في الخارج ، بل يكون
كخيال السكران خرافة وهذيان.
لكن تجردها
المقيد ثابت
|
|
وسواه ممتنع بلا
إمكان
|
فتجرد الأعيان
عن وصف وعن
|
|
وضع وعن وقت لها
ومكان
|
فرض من الأذهان
يفرضه كفر
|
|
ض المستحيل هما
لها فرضان
|
الله أكبر كم
دهى من فاضل
|
|
هذا التجرد من
قديم زمان
|
تجريد ذي
الألفاظ عن تركيبها
|
|
وكذاك تجريد
المعاني الثاني
|
والحق أن كليهما
في الذهن مفروض
|
|
فلا تحكم عليه
وهو في الأذهان
|
فيقودك الخصم
المعاند بالذي
|
|
سلمته للحكم في
الأعيان
|
فعليك بالتفصيل
إن هم أطلقوا
|
|
أو أجملوا فعليك
بالتبيان
|
الشرح
: يعني ان التجريد
إذا كان مقيدا ببعض القيود فهو ثابت. وأما سواه وهو التجرد المطلق عن كل وصف وقيد
فممتنع غير ممكن ، فتجرد الأعيان الخارجية عن الوصف والكيفية ، وعن الوضع الذي
تكون عليه ، وعن الوقت والزمان الذي هو ظرف لوجودها ، وعن المكان والحيز الذي
تشغله ، كل هذا أمر يفرضه الذهن كما يفرض المستحيل.
ومن العجيب المؤسف
أن كثيرا من الفضلاء قد دهاهم هذا التجرد منذ القدم فآمنوا بهذه الخرافة ، وأثبتوا
في عالم الأعيان أشياء يسمونها المجردات ينفون عنها كل وصف وقيد ، فيقولون لا حيز
لها ولا مكان ولا جهة ولا توصف بقرب ولا بعد ولا اتصال ولا انفصال ، وليست بذات
صورة ولا كم ، ولا مقدار ولا ثقل ، ولا لون ولا تقبل الإشارة إليها بأنها هنا أو
هنا إلخ ما نعتوها به من ألقاب النفي التي تجعلها من قبيل المعدوم الممتنع ،
ويجعلون الله جل
شأنه من قبيل هذه
المجردات ، فعطلوه عن وجوده وصفاته ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا
فتجريد الألفاظ عن تركيبها ، وكذلك تجريد المعاني كلاهما من قبيل الفرض الذهني فلا
يجوز الحكم عليه في تلك الحالة بحكم ، فيقودك الخصم للتسليم بثبوت ذلك الحكم له في
الأعيان ، بل عليك بالتفصيل إذا هم عمدوا إلى الإطلاق. فتقول إن أردتم أن هذا حكم
له في الذهن على فرض تجرده فمسلم ، وإن أردتم أن هذا حكم له حال التركيب في
الأعيان فممنوع. وكذلك إن أجملوا فعليك بالبيان والإيضاح.
فصل
في بيان تناقضهم وعجزهم
عن الفرق بين ما يجب تأويله وما لا يجب
وتمسكوا بظواهر
المنقول عن
|
|
أشياخهم كتمسك
العميان
|
وأبو بأن
يتمسكوا بظواهر
|
|
النصين وا عجبا
من الخذلان
|
قول الشيوخ محرم
تأويله
|
|
إذ قصدهم للشرح
والتبيان
|
فإذا تأولنا
عليهم كان أبط
|
|
الا لما راموا
بلا برهان
|
فعلى ظواهرها
تمر نصوصهم
|
|
وعلى الحقيقة
حملها لبيان
|
يا ليتهم أجروا
نصوص الوحي
|
|
ذا المجرى من
الآثار والقرآن
|
بل عندهم تلك
النصوص ظواهر
|
|
لفظية عزلت عن
الإيقان
|
لم تغن شيئا
طالب الحق الذي
|
|
يبغي الدليل
ومقتضي البرهان
|
الشرح
: ينعى المؤلف رحمهالله على هؤلاء المتأخرين من علماء الكلام أهل الجمود والتقليد
أنهم يتمسكون بالأقوال المأثورة عن أشياخهم ويجعلونها نصوصا لا تقبل التأويل ،
ويحملونها على ظواهرها المتبادرة منها دون صرف لها عنها بدعوى مجاز أو غيره ، بل
يرون ذلك ممنوعا لأنه ينافي ما قصد إليه الشيوخ من الشرح والبيان ، فإذا صرفت تلك
الأقوال عن ظواهرها كان ذلك إبطالا لما
قصدوا إليه بدون
دليل ولا قرينة توجب ذلك التأويل. ولكنهم بالنسبة لنصوص الوحي من الآيات والأحاديث
لا يسلكون هذا المنهج ، بل يرونها ظواهر لفظية معزولة عن إفادة اليقين ، يقولون أن
دلالتها ظنية لا تفيد إلا احتمالا راجحا ، فهي لا تغني عن طالب الحق شيئا ، بل يجب
أن يسلك طريق البرهان العقلي إذا أراد تحصيل اليقين.
فهؤلاء الحيارى
المنهوكون بلغت بهم الجرأة والقحة أن يقدموا أقوال شيوخهم على نصوص الوحي ، فهي
عندهم محكمة لا تقبل التأويل ولا تحتمل أكثر من معنى. وأما نصوص الوحيين فهي في
نظرهم متشابهة لا تفهم معنى واحدا ولا يجوز حملها على ظواهرها ، وهي أيضا ظنية
الدلالة لا تفيد علما ولا تورث يقينا ، ولكن عقولهم المريضة هي الطريق الوحيد
لإفادة العلم واليقين ، فما أسوأ ظن هؤلاء بربهم ، وما أجرأهم على كتابه الذي سماه
بيانا وهدى وشفاء ورحمة ، وما أشد استخفافهم بسنة رسول الله صلىاللهعليهوسلم الذي هو أفصح الناس وأظهرهم بيانا وأصدقهم قيلا وأحسنهم
حديثا.
* * *
وسطوا على
الوحيين بالتحريف إذ
|
|
سموه تأويلا
بوضع ثان
|
فانظر إلى
الأعراف ثم ليوسف
|
|
والكهف وافهم
مقتضى القرآن
|
فإذا مررت بآل
عمران فهم
|
|
ت القصد فهم
موفق رباني
|
وعلمت أن حقيقة
التأويل تب
|
|
يين الحقيقة لا
المجاز الثاني
|
ورأيت تأويل
النفاة مخالفا
|
|
لجميع هذا ليس
يجتمعان
|
اللفظ هم أنشوا
له معنى بذا
|
|
ك الاصطلاح وذاك
أمر دان
|
وأتوا إلى الحاد
في الأسماء
|
|
والتحريف
للألفاظ بالبهتان
|
فكسوه هذا اللفظ
تلبيسا وتد
|
|
ليسا على
العميان والعوران
|
الشرح
: فهؤلاء إذ لم
يرضوا لنصوص الوحيين حتى مثل ما جعلوه لكلام شيوخهم من الاحترام والوقوف بها عند
ظواهرها ، أخذوا يتلاعبون بها
واجترءوا عليها
بالتحريف الذي سموه تأويلا كذبا منهم وتضليلا ، فإن لفظ التأويل لم يستعمل في
القرآن بهذا المعنى الذي أدعوه ، وهو صرف اللفظ عن معناه الظاهر الراجح إلى معنى
آخر لا يحتمله اللفظ إلا على وجه مرجوح ، وإنما هو اصطلاح اصطلحوا عليه وسموه بهذا
الاسم تلبيسا منهم على الجهلة وإنصاف العلماء. ونحن إذا تتبعنا لفظ التأويل في
مواضعه من القرآن لم نجده قد استعمل إلا بمعنى الحقيقة التي يؤول إليها الخبر
والتي هي لنفس المخبر عنه. فتأويل ما أخبر الله به عن نفسه من أسمائه وصفاته هو
نفس الأسماء والصفات المخبر بها أي حقائقها ، وتأويل ما أخبر الله به من الوعد
والوعيد هو وقوع ما أخبر الله به من ذلك وهكذا.
فقوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ) [الأعراف : ٥٣]
معناه ما ينتظر هؤلاء في عنادهم وإصرارهم على كفرهم إلا وقوع ما توعدهم القرآن به
من العذاب الذي هو تأويل ، أي ما يؤول ويصير إليه.
وقوله : (وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ
رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا) [يوسف : ١٠٠]
معناه أن هذا الذي حصل من دخول أبويه وإخوته عليه وسجودهم له هو تأويل رؤياه التي
رآها من قبل ، والتي ذكرت في قوله تعالى : (إِذْ قالَ يُوسُفُ
لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) [يوسف : ٤] ومعنى
تأويلها أي وقوع ما تضمنته تلك الرؤيا في عالم اليقظة ومطابقة ذلك لما رآه الصديق
في منامه.
وقوله تعالى : (سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ
تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) [الكهف : ٧٨]
معناه سأخبرك بحقيقة ما رأيت من الأمور التي أنكرت ظواهرها ولم تطق صبرا عليها.
وعلى هذا يمكن أن نفهم المراد بلفظ التأويل في قوله تعالى (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) [آل عمران : ٧] أي
لا يفهم حقيقة المتشابه وكيفيته ، وهو ما أخبر الله به عن نفسه من أسمائه وصفاته
ووعده ووعيده وغير ذلك من أمور الغيب إلا الله عزوجل. فحقيقة هذه الأمور وكيفياتها على التفصيل مما استأثر
الله عزوجل بعلمه ، ولهذا لا يخوض فيها الراسخون في العلم بتأويل ولا
تفسير ، ولكنهم يقابلونها بالتفويض والتسليم قائلين ما حكاه الله عنهم : (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا). [آل عمران : ٧].
هذه هي حقيقة
التأويل كما تدل عليها جميع استعمالاته في القرآن الكريم ، لا يراد منه إلا بيان
حقيقة الشيء المطابقة للخبر عنه ، فأين هي إذا من تأويل أولئك النفاة الذين
يستعملون لفظ التأويل بمعنى المجاز الذي هو صرف اللفظ عن حقيقته إلى معنى آخر بعيد
لا يحتمله إلا بكثير من التكلف. فهؤلاء ينشئون للفظ معنى غير معناه المتبادر منه ،
ويصطلحون على استعمال ذلك اللفظ في ذلك المعنى الذي اخترعوه ، ويلبسونه إياه ثوب
زور ليلبسوا به على الجهلة وضعفاء العقول ، وبذلك يلحدون في الأسماء ، ويحرفون
الألفاظ عن معانيها زورا وبهتانا والله أعلم.
* * *
فاستن كل منافق
ومكذب
|
|
من باطني قرمطي
جان
|
في ذا بسنتهم
وسمى جحده
|
|
للحق تأويلا بلا
فرقان
|
وأتى بتأويل
كتأويلاتهم
|
|
شبرا بشبر صارخا
بأذان
|
أنا تأولنا كما
أولتم
|
|
فأتوا نحاكمكم
إلى الوزان
|
في الكفتين نحط
تأويلاتنا
|
|
وكذاك تأويلاتكم
بوزان
|
هذا وقد أقررتم
انا بأي
|
|
دينا صريح العدل
والميزان
|
وغدوتم فيه
تلاميذا لنا
|
|
أو ليس ذلك منطق
اليونان
|
منا تعلمتم ونحن
شيوخكم
|
|
لا تجحدونا منه
الإحسان
|
فسلوا مباحثكم
بسؤال تفهم
|
|
وسلوا القواعد
ربة الأركان
|
من أين جاءتكم
وأين أصولها
|
|
وعلى يدي من يا
أولي النكران
|
فلأي شيء نحن كفار
|
|
وأنتم مؤمنون
ونحن متفقان
|
الشرح
: يعني أن هؤلاء
المتأخرين من الأشعرية لما فتحوا باب التأويل
لنصوص وحرّفوها عن
مواضعها حتى توافق ما رأته عقولهم ، هيئوا بذلك فرصة عظيمة لأهل النفاق والكذب من
القرامطة الباطنية أن يستندوا بسنتهم في ذلك ، فيجحدوا الحق المبين ، ويسموا ذلك
تأويلا بلا فارق أصلا بين تأويل هؤلاء وتأويل أولئك ، فالكل صرف للألفاظ عن
ظواهرها وحمل لها على معان أخرى بمحض الهوى. فلو قدر أن أولئك المتأولين من
الأشعرية لاموا هؤلاء الجناة من الباطنية على ما أوغلوا فيه من التأويل ،
لاستطاعوا إفحامهم بأنا تأولنا كما تأولتم ، فنحن وأنتم في هذا الباب سواء ، وإلا
فدلونا على فارق يجعل التأويل حلالا لكم وحراما علينا ، ونحن مستعدون أن نتحاكم
نحن وأنتم إلى وزان يضع تأويلاتنا في كفة ويضع تأويلاتكم في الكفة الأخرى ، وسترون
حينئذ أن تأويلاتنا أرجح من تأويلاتكم ، وأننا أولى بهذا الأمر منكم ، لأننا أهل
المنطق وأساتذته ، وأما أنتم فتلاميذ لنا فيه ، وهذا أمر تقرون به ولا تنكرونه ،
فنحن شيوخكم في المعقول ، ومنا تعلمتم تركيب الأقيسة وفنون الحجاج ، فمنا العلم
الثاني الفارابي والشيخ الرئيس ابن سينا اللذان مهدا لكم سبيل هذا العلم وأحكما
قواعده ، وأنتم عالة عليهما في كل ما تقررونه. وإن أبيتم إلا الإنكار فارجعوا إلى
مباحثكم واسألوها وإلى قواعدكم فاستفتوها. وهي تنبئكم نبأ صدق من أين جاءتكم وأين
وجدتم أصولها ، وعلى يدي من وصلتكم ، حتى تقروا لنا بالسبق في هذا المضمار والتفوق
عليكم فيه.
وإذا تبين لكم هذا
وتحققتموه ، فنحن نسألكم لما ذا أنتم مؤمنون ونحن كفار وطريقتنا واحدة والاتفاق
بيننا قائم على :
* * *
أن النصوص أدلة
لفظية
|
|
لم تفض قط بنا
إلى إيقان
|
فلذاك حكمنا
العقول وأنتم
|
|
أيضا كذاك فنحن
مصطلحان
|
فلأي شيء قد
رميتم بيننا
|
|
حرب الحروب ونحن
كالأخوان
|
الأصل معقول
ولفظ الوحي مع
|
|
زول ونحن وأنتم
صنوان
|
لا بالنصوص نقول
نحن وأنتم
|
|
أيضا كذاك فنحن
مصطلحان
|
الشرح
: إن النصوص من
الكتاب والسنة لا تكفي في إفادة اليقين الذي لا بد منه في باب الاعتقاد ، لأن دلالتها
لفظية لا تفيد إلا الظن بسبب احتمالها للحقيقة والمجاز ، ولهذا رأينا نحن وأنتم أن
نجعل العقل أصلا نحتكم إليه في هذا الباب ، وجعلنا أحكامه قطعية لا تقبل النقض ،
وبهذا وقع الصلح بيننا وبينكم. فلما ذا تهيجون بيننا وبينكم نار العداوة والخصام
وما بيننا إلا الوفاق والوئام؟
* * *
فذروا عداوتنا
فإن وراءنا
|
|
ذاك العدو الثقل
ذي الأضغان
|
فهم عدوكم وهم
أعداؤنا
|
|
فجميعنا في
حربهم سيان
|
تلك المجسمة
الألى قالوا بأن
|
|
الله فوق جميع
ذي الأكوان
|
والية يصعد
قولنا وفعالنا
|
|
وإليه ترقى روح
ذي الإيمان
|
وإليه قد عرج
الرسول حقيقة
|
|
وكذا ابن مريم
مصعد الأبدان
|
وكذاك قالوا أنه
بالذات فو
|
|
ق العرش قدرته
بكل مكان
|
وكذاك ينزل كل
آخر ليلة
|
|
نحو السماء فها
هنا جهتان
|
للابتداء
والانتهاء وذان للأ
|
|
جسام اين الله
من هذان
|
وكذاك قالوا أنه
متكلم
|
|
قام الكلام به
فيا أخوان
|
أيكون ذاك بغير
حرف أم بلا
|
|
صوت فهذا ليس في
الإمكان
|
الشرح
: وإذا كان الأمر
كذلك من الاتفاق بيننا وبينكم على خطة سواء تقوم على عزل النصوص والاستمساك بحجج
العقل ، فيجب أن لا يكون بيننا عداوة أصلا ، وأن نكون البا واحدا في حرب هذا العدو
المشترك الذي يحمل لنا كل ضغينة ويجاهرنا بالعداوة وهم هؤلاء الذين اصطلحنا نحن
وأنتم على تسميتهم بالمجسمة لأنهم يثبتون الجهة لله فيقولون: إنه بذاته فوق خلقه
استمساكا بظاهر قوله : (الرَّحْمنُ عَلَى
الْعَرْشِ اسْتَوى) [طه : ٥] وأن إليه
تصعد الملائكة بأقوال العباد وأفعالهم كما قال سبحانه : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ
وَالْعَمَلُ
الصَّالِحُ
يَرْفَعُهُ) [فاطر : ١٠] وأنها
ترقى إليه بأرواح المؤمنين كما قال سبحانه (إِلَيْهِ يَصْعَدُ
الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) وأنها ترقى إليه بأرواح المؤمنين كما ورد بذلك الحديث
الصحيح ـ وأن الرسول صلىاللهعليهوسلم قد عرج إليه ليلة الإسراء عروجا حقيقيا حتى كان منه قاب
قوسين أو أدنى. وأن عيسى عليهالسلام قد رفعه الله إليه ببدنه كما نطقت بذلك الآيات من سورتي
النساء وآل عمران. وأنه سبحانه مع كونه فوق العرش بذاته فهو في كل مكان بقدرته
وعلمه. ويقولون كذلك أنه ينزل آخر كل ليلة إلا السماء الدنيا نزولا حقيقيا لورود
الحديث الصحيح به مع ما يقتضيه ذلك من إثبات جهتين جهة ابتداء يبتدئ منها النزول ،
وجهة انتهاء ينتهي إليها وذلك من خواص الأجسام ويقولون أنه متكلم بكلام قام بذاته
، وأن كلامه حروف وأصوات مسموعة إذ لا يعقل من الكلام إلا ذلك ـ والثقل بكسر الثاء
أي الثقيل ، والأضغان جمع ضغن وهو الحقد وقوله فهم عدوكم أي أعداؤكم ، ولفظ عدو
يستعمل كثيرا في الجمع.
* * *
وكذلك قالوا ما
حكينا عنهم
|
|
من قبل قول مشبه
الرحمن
|
فذروا الحراب
لنا وشدوا كلنا
|
|
جمعا عليهم حملة
الفرسان
|
حتى نسوقهم
بأجمعنا إلى
|
|
وسط العرين
ممزقي اللحمان
|
فلقد كوونا
بالنصوص وما لنا
|
|
بلقائها أبد
الزمان يدان
|
كم ذا يقال الله
قال رسوله
|
|
من فوق أعناق
لنا وبنان
|
إذ نحن قلنا قال
أرسطو ذا المع
|
|
لم أولا أو قال
ذاك الثاني
|
وكذاك إن قلنا
ابن سينا قال ذا
|
|
أو قاله الرازي
ذو التبيان
|
قالوا لنا قال
الرسول وقال في
|
|
القرآن كيف
الدفع للقرآن
|
وكذاك أنتم منهم
أيضا بهذا
|
|
المنزل الضنك
الذي تريان
|
إن جئتموهم بالعقول
أتوكم
|
|
بالنص من أثر
ومن قرآن
|
الشرح
: وكذلك قالوا ما
رويناه عنهم قبلا من إثبات الوجه واليدين والعينين والقدم والساق والإصبع مما هو
فينا أبعاض ، ومن اثبات الرضى والمحبة
والكراهية والمقت
والغضب والضحك والعجب وغير ذلك مما هو فينا إعراض ، فشبهوا الله بخلقه ، ونحن
وأنتم متفقون على استحالة ثبوت هذه الصفات لله. فاتركوا إذن محاربتنا ولنحمل جميعا
عليهم حملة واحدة حتى ندعهم في الميدان أشلاء متناثرة ونشفي منهم غيظ قلوبنا ،
ونستريح من تطاولهم علينا بالنصوص التي طالما كوونا بها وجرعونا غصصها ، وما لنا
قدرة على مناجزتها وهم دائما يحتمون في هذه النصوص ويعتصمون بها عند المصاولة
ويشهرونها في وجوهنا سيوفا مسلولة ، فكلما قلنا لهم : قال أرسطو الملقب عندنا
بالمعلم الأول ، أو قال الفارابي الذي هو المعلم الثاني ، أو قال ابن سينا الذي
لقبناه بالشيخ الرئيس ، أو قال أبو عبد الله فخر الدين الرازي صاحب كتاب التبيان
في تفسير القرآن ، قابلونا بقولهم : قال الرسول كذا وقال الله في القرآن كذا ، وهل
نملك للقرآن دفعا أو نستطيع له ردا ، وكذلك حالكم معهم أيها المتأخرون من الأشاعرة
فأنتم منهم كما نحن بأضيق المنازل وأهونها. كلما جئتموهم بما تزعمون أنه مقررات
العقول أتوكم بالنص الصريح من الكتاب والسنة. فلنتآزر نحن وأنتم في القضاء عليهم
وتشتيت جموعهم حتى تسلم لنا مناهجنا القائمة على العقل وحده الذي وثقنا نحن وأنتم
فيه وارتضينا حكمه دون هذه النصوص التي لا تخلوا من إجمال واشتباه.
* * *
فتحالفوا إنا
عليهم كلنا
|
|
حزب ونحن وأنتم
سلمان
|
فإذا فرغنا منهم
فخلافنا
|
|
سهل فنحن وأنتم
اخوان
|
فالعرش عند
فريقنا وفريقكم
|
|
ما فوقه أحد بلا
كتمان
|
ما فوقه شيء سوى
العدم الذي
|
|
لا شيء في
الأعيان والأذهان
|
ما الله موجود
هناك وإنما الع
|
|
دم المحقق فوق
ذي الأكوان
|
والله معدوم
هناك حقيقة
|
|
بالذات عكس
مقالة الديصان
|
هذا هو التوحيد
عند فريقنا
|
|
وفريقكم وحقيقة
العرفان
|
وكذا جماعتنا
على التحقيق
|
|
في التوراة
والإنجيل والفرقان
|
ليست كلام الله
بل فيض من
|
|
الفعال أو خلق
من الأكوان
|
فالأرض ما فيها
له قول ولا
|
|
فوق السما للخلق
من ديان
|
بشر أتى بالوحي
وهو كلامه
|
|
في ذاك نحن
وأنتم مثلان
|
الشرح
: فلنتحالف بيننا أن
نكون عليهم حزبا واحدا ، وأن يكون كل منا سلما لصاحبه ، فإذا فرغنا من قتالهم
والقضاء عليهم ، فإن ما بيننا من الخلاف هين بسيط ، بل نحن في حقيقة الأمر أخوان
متفقان في أكثر المبادي والأحكام ، فالعرش عند جماعتنا وجماعتكم (وهو الجسم المحيط
بكرة العالم) ليس فوقه شيء اللهم إلا العدم المحض الذي ليس شيئا موجودا ، لا في
الأعيان ولا في الأذهان. بل ليس وراءه إلا العدم المحقق ، فالله عندنا وعندكم ليس
فوق العرش بذاته عكس ما يقوله الديصانية (الذين يقولون بأصلين نور وظلمة ، وأن
النور لم يزل يلقى الظلمة بأسفل صفحة منه ، وأن الظلمة لم تزل تلقاه بأعلى صفحة
منها) وهذا هو عندنا وعندكم حقيقة التوحيد والمعرفة أن الله وجود مجرد بسيط لا تكثر
فيه ، ولا يقال فوق ولا تحت ولا داخل ولا خارج ولا يوصف بقرب ولا بعد ولا اتصال
ولا انفصال ، ولا يشار إليه ولا يصعد إليه شيء ، ولا ينزل من عنده شيء وكذلك
جماعتنا تقول في التوراة والإنجيل والقرآن أنها ليست كلام الله على الحقيقة ، بل
هي عندنا فيض من العقل الفعال الذي هو عقل القمر ، وهو آخر العقول العشرة وأقربها
إلى عالم العناصر ، وهو المتصرف فيها بالكون والفساد ، وهو الذي يفيض العلوم على
البشر بحسب الاستعداد والتوجه كما يفيض الصور النوعية على المركبات ، وهي عندكم
كذلك من جملة المخلوقات ، لأنها حروف وأصوات وألفاظ مكتوبات ، فالاتفاق بيننا
وبينكم قائم على نفي أن يكون لله كلام في الأرض ، أو أن يكون بذاته على العرش ، بل
الذي نقرؤه بألسنتنا إنما هو كلام بشر أتى بالوحي وليس كلام الله ، ونحن وأنتم في
هذا مثلان .
* * *
__________________
ولذاك قلنا أن
رؤيتنا له
|
|
عين المحال وليس
في الإمكان
|
وزعمتم أنا نراه
رؤية المع
|
|
دوم لا الموجود
في البرهان
|
إذ كل مرئي يقوم
بنفسه
|
|
أو غيره لا بد
في البرهان
|
من أن يقابل من
يراه حقيقة
|
|
من غير بعد مفرط
وتدان
|
ولقد تساعدنا
على إبطال ذا
|
|
أنتم ونحن فما
هنا قولان
|
أما البلية فهي
قول مجسم
|
|
قال القرآن بدا
من الرحمن
|
هو قوله وكلامه
منه بدا
|
|
لفظا ومعنى ليس
يفترقان
|
سمع الأمين
كلامه منه وأد
|
|
اه إلى المختار
من إنسان
|
فله الأداء كما
الأداء لرسوله
|
|
والقول قول الله
ذي السلطان
|
الشرح
: ولهذا الذي ذهبنا
إليه نحن وأنتم من نفي الجهة وإنكار أن يكون الله فوق عرشه بذاته ، قلنا أن رؤيتنا
له التي وردت بها النصوص الصريحة من الكتاب والسنة مستحيلة غير ممكنة ، وأما أنتم
فلما لم يجترئوا على إنكار تلك النصوص أو تأويلها أثبتم رؤية بلا جهة ، وهي لا
تليق إلا بالمعدوم دون الموجود في الأعيان ، فإن البرهان قام على أن كل مرئي ،
سواء كان قائما بنفسه ، وهو ما لا يكون تحيزه تابعا لتحيز غيره ، أو كان قائما بغيره
، كالعرض لا بد أن يكون مقابلا للرائي وفي جهة منه ، وقد تظاهرنا نحن وأنتم على
إبطال ذلك ، أي الوجود في الجهة في حق الله تعالى ، فقولنا في ذلك هو عين قولكم ،
لهذا حكمنا باستحالة الرؤية ، والتزمتم رؤية بلا جهة ، فليس ثم خلاف بيننا وبينكم
في هذه الأصول ، أما المخالف لنا ولكم جميعا فهو ذلك المجسم الذي يقول بأن القرآن
كلام الله ، لفظه ومعناه ، منه بدأ وإليه يعود ، فيثبت الحرف والصوت ، ولا يفرق
بين اللفظ والمعنى ، ولا يقول أن اللفظ مخلوق ، بل يقول أن القرآن كله ، لفظه
ومعناه ، هو قول الله وكلامه ، سمعه منه الأمين جبريل عليهالسلام ثم أداه إلى سيد البشر ومختارهم محمد صلىاللهعليهوسلم كما سمعه ، فليس لجبريل فيه إلا الأداء فقط ، وكذلك الرسول
عليهالسلام أداه لأمته كما سمعه من جبريل ، والقول قول الله في كل ذلك
، لأن القول إنما ينسب إلى من قاله مبتدئا لا إلى من بلغه مؤديا. نعم قد
ينسب القرآن قولا
إلى كل من جبريل ومحمد عليهماالسلام ، ولكن باعتبار الأداء لا بمعنى الابتداء والإنشاء.
* * *
هذا الذي قلنا
وأنتم أنه
|
|
عين المحال وذاك
ذو بطلان
|
فإذا تساعدنا
جميعا أنه
|
|
ما بيننا لله من
قرآن
|
إلا كبيت الله
إضافة المخلوق
|
|
لا الأوصاف
للديان
|
فعلام هذا الحرب
فيما بيننا
|
|
مع ذا الوفاق
ونحن مصطلحان
|
فإذا أبيتم
سلمنا فتحيزوا
|
|
لمقالة التجسيم
بالإذعان
|
عودوا مجسمة
وقولوا ديننا ال
|
|
إثبات دين مشبه
الديان
|
أو لا فلا منا
ولا منهم وذا
|
|
شأن المنافق إذ
له وجهان
|
هذا يقول مجسم
وخصومه
|
|
ترميه بالتعطيل
والكفران
|
هو قائم هو قاعد
هو جاحد
|
|
هو مثبت تلقاه
ذا ألوان
|
يوما بتأويل
يقول وتارة
|
|
يسطو على
التأويل بالنكران
|
الشرح
: هذا الذي يقوله
المجسم من إثبات الكلام اللفظي الذي هو حروف وأصوات مسموعة ، ولا تكون إلا حادثة ،
لأن لها ابتداء وانتهاء ، هو الذي قلنا نحن وأنتم أنه عين المحال لاستلزامه مشابهة
الله لخلقه ، وكونه محلا للحوادث.
فإذا كنا قد
اتفقنا نحن وأنتم على أن هذا المكتوب بين دفتي المصحف المقروء بألسنتنا المسموع
بآذاننا ليس هو كلام الله ، وأنه ليس لله في الأرض قرآن ، وأن إضافته إلى الله
تعالى كإضافة البيت والناقة وغيرهما من الأعيان المخلوقة إليه ، وليست إضافة صفة
إلى موصوف ، فعلام إذا تناجزوننا الحرب مع كل هذا الوفاق في معظم الأصول والقواعد
الأساسية ، فإذا أبيتم إلا حربنا وعداوتنا فانبذوا ما أنتم عليه مما توافقوننا فيه
وانحازوا إلى مقالة التجسيم مذعنين ، وكونوا مع هؤلاء المجسمة المثبتين ، وقولوا
رضينا بالإثبات دينا ، وإلا فصرحوا بأنكم لستم منا ولا منهم ، وأنكم كالشاة
الحائرة بين الغنمين ، شأن المنافق صاحب
الوجهين لا تثبتون
على مبدأ ، ولا يستقر لكم منهج ، فنحن نقول عنكم مجسمة لاثباتكم بعض الصفات ،
وخصومنا يرمونكم بالتعطيل والجحود لنفيكم بعضها بلا فارق بين ما أثبتموه وما
نفيتموه ، فأنتم كقوس قزح تتعدد ألوانه ، مرة تجحدون وأخرى تثبتون ، لم تطردوا
قاعدتكم في الجحد ولا قاعدتكم في الإثبات بل تفرقون بين المتماثلين وتسوون بين
المختلفين ، ومرة تؤولون وأخرى تحرمون التأويل وتسطون عليه بالإنكار.
والحق أن هذه
الفرقة التي تسمى بالأشعرية ، لا سيما المتأخرين منها ، أشد الفرق حيرة واضطرابا
وتذبذبا ، بسبب أنهم أرادوا الجمع بين العقل والنص ، فلا للنص نصروا ، ولا لخصومهم
من الفلاسفة والمعتزلة كسروا ، لأنهم لما جاروا هؤلاء الخصوم في كثير مما ذهبوا
إليه من النفي والتعطيل أعانوهم على أنفسهم ، وأعطوهم سلاحا يقابلونهم به كلما
أرادوا التعرض لهم ، ومن يقرأ كتاب (تهافت التهافت) لابن رشد في الرد على كتاب
تهافت الفلاسفة للغزالي ، يظهر له جليا كيف أعان هؤلاء الأشاعرة خصومهم على ضربهم
في الصميم.
فصل
في المطالبة بالفرق بين ما يتأول وما لا يتأول
فنقول فرق بين
ما أولته
|
|
ومنعته تفريق ذي
برهان
|
فيقول ما يفضي
إلى التجسيم
|
|
أولناه من خبر
ومن قرآن
|
كالاستواء مع
التكلم هكذا
|
|
لفظ النزول كذاك
لفظ يدان
|
إذ هذه أوصاف
جسم محدث
|
|
لا ينبغي للواحد
المنان
|
فنقول أنت وصفته
أيضا بما
|
|
يفضي إلى
التجسيم والحدثان
|
فوصفته بالسمع
والأبصار مع
|
|
نفس الحياة وعلم
ذي الأكوان
|
ووصفته بمشيئة
مع قدرة
|
|
وكلامه النفسي
وهو معان
|
أو واحد والجسم
حامل هذه الأ
|
|
وصاف حقا فاءت
بالفرقان
|
بين الذي يفضي
إلى التجسيم أو
|
|
لا يقتضيه بواضح
البرهان
|
والله لو نشرت
شيوخك كلهم
|
|
لم يقدروا أبدا
على الفرقان
|
الشرح
: ونحن كذلك معشر
أهل السنة والجماعة ، نقول لهؤلاء النفاة من الأشاعرة الذين يتأولون ما ورد من
النصوص في الصفات الخبرية ، ولكنهم يمنعون التأويل لما أثبتوه مما يسمونه صفات
عقلية ، فنقول لهم فرقوا لنا ببرهان صحيح مقبول بين ما أولتموه وبين ما منعتموه ،
فإن قالوا إن ما يوهم التجسيم ويفضي إلى مشابهة الله بخلقه أولناه ، وذلك كاستواء
الله على العرش والتكلم بالحرف والصوت والنزول إلى سماء الدنيا وإثبات اليد وغير
ذلك من صفات الأجسام المحدثة التي يجب تنزيه الله تعالى عنها.
قلنا لهم : وأنتم
أيضا وصفتموه بما يفضي إلى التجسيم والحدوث من السمع والبصر والحياة والعلم
والقدرة والمشيئة والكلام النفسي ، سواء كان معنى واحدا أو أكثر ، فهذه كلها صفات
الأجسام ، ونحن لا نرى في الشاهد موصوفا بها إلا الجسم ، وبذلك بطل ما ادعيتموه من
الفرق بين ما أثبتموه وبين ما نفيتموه ، ونحن نطالبكم أن تأتونا بدليل واضح على
الفرق بين ما يفضي إلى التجسيم وبين ما لا يوجبه ويقتضيه في زعمكم ، ولن تستطيعوا
ذلك أبدا ، ولا حتى شيوخكم لو أقامهم الله من قبورهم ، فإنهم لا يقدرون على
الإتيان بذلك الفرقان.
* * *
فصل
في ذكر فرق لهم آخر وبيان بطلانه
فلذاك قال
زعيمهم في نفسه
|
|
فرقا سوى هذا
الذي تريان
|
هذي الصفات
عقولنا دلت على
|
|
إثباتها مع ظاهر
القرآن
|
فلذاك صناها عن
التأويل
|
|
فاعجب يا أخا
التحقيق والعرفان
|
كيف اعتراف
القوم أن عقولهم
|
|
دلت على التجسيم
بالبرهان
|
فيقال هل في
العقل تجسيم
|
|
أم المعقول
ننفيه كذا النقصان
|
إن قلتم ننفيه
فانفوا هذه
|
|
الأوصاف
وانسلخوا من القرآن
|
أو قلتم نقضي
بإثبات له
|
|
ففراركم منها
لأي معان
|
أو قلتم ننفيه
في وصف ولا
|
|
ننفيه في وصف
بلا برهان
|
فيقال ما
الفرقان بينهما وما ال
|
|
برهان فاتوا
الآن بالفرقان
|
الشرح
: لما طالبناهم
بتحقيق الفرق بين هذا الذي أثبتوه من صفات المعاني وبين ما نفوه من الصفات الخبرية
، أجابوا أولا بأن هذه الأخيرة مفضية إلى التجسيم والحدوث بخلاف الأولى فإنها لا
تقتضيه ، ولما بينا لهم أن هذا الفرق غير سديد ، لأن كلا مما أثبتوه وما نفوه هو
الشاهد من صفات الأجسام ، فإثبات أحدهما موجب لإثبات الأخر ، ونفيه موجب لنفي
الآخر لجئوا إلى فرق آخر ، وهو أن هذه الصفات السبع إنما أثبتناها بالعقل ، فإن
وجود المخلوقات دل على القدرة ، وما فيها من التخصيصات دل على الإرادة ، والإتقان
في الصنعة دل على العلم والسمع والبصر ، وهذه الخمس تدل على الحياة مع ظاهر القرآن
، فلذلك صناها عن التأويل ، بخلاف الصفات الأخرى فإنها لم تثبت بالعقل ، فاضطررنا
إلى تأويل الظواهر الواردة فيها.
فأعجب لهذا
الاعتراف منهم على أنفسهم بأن عقولهم دلت على التجسيم بالبرهان وحينئذ يقال لهم إن
كان في العقل ما يدل على نفي التجسيم وأنتم تنفونه غاية النفي فيلزمكم نفي ما
أثبتموه من الصفات السبع ، وموافقة الجهمية في التعطيل التام وإن كان فيه ما يقتضي
التجسيم ويدل على ثبوته ، فلأي شيء تفرون من إثبات ما وردت به النصوص من الكتاب
والسنة ، وإن قلتم ننفيه في بعض الأوصاف دون بعض فاذكروا لنا الفرق بينهما ويلزمكم
الإتيان ببرهان صحيح على هذا الفرق حتى يمكن قبول دعواكم فيه.
والحاصل أنه لا
مخلص لهم من اختيار واحد من هذه الوجوه الثلاثة فيلزمهم حينئذ لازمه المترتب عليه.
ويقال قد شهد
العيان بأنه
|
|
ذو حكمة وعناية
وحنان
|
مع رأفة ومحبة
لعباده
|
|
أهل الوفاء
وتابعي القرآن
|
ولذاك خصوا
بالكرامة دون
|
|
أعداء الاله
وشيعة الكفران
|
وهو الدليل لنا
على غضب
|
|
وبغض منه مع مقت
لذي العصيان
|
والنص جاء بهذه
الأوصاف مع
|
|
مثل الصفات
السبع في القرآن
|
ويقال سلمنا بأن
العقل لا
|
|
يفضي إليها فهي
في الفرقان
|
أفنفي آحاد
الدليل يكون للم
|
|
دلول نفيا يا
أولي العرفان
|
أو نفي مطلقة
يدل على انتفا
|
|
المدلون في عقل
وفي قرآن
|
أفبعد ذا
الإنصاف ويحكم سوى
|
|
محض العناد
ونخوة الشيطان
|
وتحيز منكم
إليهم لا إلى الق
|
|
رآن والآثار
والإيمان
|
الشرح
: ويقال لهم ونحن
أيضا نثبت هذه الصفات الخبرية بمثل ما أثبتم به هذه السبع ، ونقول أن العقل دل على
ثبوتها لله ، فإن نفع العباد بالإحسان إليهم يدل على الرحمة وإكرام الطائعين
بأنواع الكرامة في الدنيا والآخرة يدل على المحبة وعقاب الكافرين وإهانتهم يدل على
البغض والغضب والمقت والغايات المحمودة في مفعولاته ومأموراته تدل على الحكمة
وهكذا ، والنص أيضا جاء بها صريحا كما جاء بالصفات السبع وبذلك تكون ثابتة مثلها
بالنص والعقل معا فلا فرق.
ويقال لهم كذلك
سلمنا أن العقل لا يدل على ثبوت هذه الصفات ، فإن ذلك لا يستلزم نفيها فإن عدم
الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول المعين. وكذلك نفي مطلق الدليل لا يدل على
انتفاء المدلول لا في العقل ولا في الشرع ، بل لا بد للنافي من أن يأتي بالدليل
على النفي كالمثبت سواء بسواء. وهذه الأمور ثابتة بالسمع الذي لم يعارضه معارض لا
سمعي ولا عقلي ، فيجب إثبات ما أثبته الدليل السالم عن المعارض المقاوم.
وهكذا ينهج المؤلف
رحمهالله مع هؤلاء الخصوم خطة القصد والانصاف بلا شطط ولا اعتساف ،
ولهذا يقول لهم ليس وراء رفضكم لهذه الخطة إلا محض
المكابرة والعناد
وحميتكم لمذاهبكم الباطلة حمية الجاهلية وانضمامكم إلى فئة الشيطان دون معسكر
القرآن والآثار والإيمان.
* * *
فصل
في بيان مخالفة طريقهم لطريق أهل الاستقامة عقلا ونقلا
واعلم بأن
طريقهم عكس الطر
|
|
يق المستقيم لمن
له عينان
|
جعلوا كلام
شيوخهم نصا له الأ
|
|
حكام موزونا به
النصان
|
وكلام باريهم
وقول رسولهم
|
|
متشابها متحملا
لمعان
|
فتولدت من ذينك
الأصلين أو
|
|
لاد أتت للغي
والبهتان
|
إذ من سفاح لا
نكاح كونها
|
|
بئس الوليد
وبئست الأبوان
|
عرضوا النصوص
على كلام شيوخهم
|
|
فكأنها جيش لذي
سلطان
|
والعزل والإبقاء
مرجعة إلى
|
|
السلطان دون
رعية السلطان
|
وكذاك أقوال
الشيوخ فإنها
|
|
الميزان دون
النص والقرآن
|
إن وافقا قول
الشيوخ فمرحبا
|
|
أو خالفت فالدفع
بالإحسان
|
أما بتأويل فإن
أعيا فتفويض ونتركها لقول فلان الشرح
: وطريقة هؤلاء في
باب الاعتقاد طريقة عوجاء مائلة عن طريق أهل القصد والاستقامة فهم بدلا من أن
يجعلوا النص أصلا محكما ويردوا إليه ما تنازعوا فيه ، ويزنوا به أقوال الناس عكسوا
القضية فجعلوا كلام شيوخهم هو النص المحكم وجعلوه هو الميزان الذي يزنون به نصوص
السنة والقرآن وجعلوا كلام الله وكلام رسوله صلىاللهعليهوسلم مجملا متشابها محتملا لأكثر من معنى ، وتولد عن هذين
الأصلين الفاسدين أسوأ النتائج ، فمنها أنهم يجعلون كلام شيوخهم هو صاحب السلطان
في الإبقاء على ما يشاء من النصوص وعزل ما يشاء شأن القائد مع جيشه والحاكم مع
رعيته فهو يتصرف فيها بما يشاء.
ومنها أنهم يجعلون
أقوال الشيوخ هي الميزان الذي توزن به النصوص من السنة والقرآن ، فإن وافقته فبها
ونعمت وإن خالفته وجب دفعها ، أما بتأويلها بما يتفق مع أقوال هؤلاء الشيوخ ، وأما
بتفويضها وتركها ألفاظا بلا معنى من أجل قول فلان وفلان فما أسوأ ما رضوا لأنفسهم
أن يستبدلوا بكلام الله وكلام رسوله كلاما عامته خلط وهذيان.
وقوله له الأحكام
بكسر الهمزة أي جعلوه هو المحكم والنصان يعني السنة والقرآن. وقوله أولاد فاعل
تولدت وللغي يعني لغير رشدة.
* * *
إذ قوله نص
لدينا محكم
|
|
فظواهر المنقول
ذات معان
|
والنص فهو به
عليم دوننا
|
|
وبحاله ما حيلة
العميان
|
إلا تمسكهم
بأيدي مبصر
|
|
حتى يقودهم كذي
الأرسان
|
فاعجب لعميان
البصائر أبصروا
|
|
كون المقلد صاحب
البرهان
|
ورأوه بالتقليد
أولى من سوا
|
|
ه بغير ما بصر
ولا برهان
|
وعموا عن
الوحيين إذا لم يفهموا
|
|
معناهما عجبا
لذي الحرمان
|
قول الشيوخ أتم
تبيانا
|
|
من الوحيين لا
والواحد الرحمن
|
النقل نقل صادق
والقول من
|
|
ذي عصمة في غاية
التبيان
|
وسواه إما كاذب
أو صح لم
|
|
يك قول معصوم
وذي تبيان
|
أفيستوي النقلان
يا أهل النهى
|
|
والله لا يتماثل
النقلان
|
الشرح
: يعني أنهم يتركون
النصوص لقول فلان من الناس ، لأن قوله في نظرهم نص محكم لا اشتباه فيه ولا يحتمل
أكثر من معنى. أما ظواهر النصوص فهي متشابهة محتملة لمعان عدة. ولأنه من جهة أخرى
أعلم بالنصوص وبحالها منهم ، فهم لا يعرفون تفسيرها إلا من جهته ، ولا ينظرون فيها
إلا بعينه. كالعميان في حاجتهم إلى قائد بصير يقودهم قود الدواب ذوات الأرسان ،
ولكن العجب من هؤلاء العميان كيف أبصروا أن مقلدهم ومتبوعهم هو
صاحب البرهان وكيف
آثروا كلامه على كلام غيره بمجرد التقليد من غير برهان في الوقت الذي عموا فيه عن
الوحيين ولم يروا أنفسهم أهلا للنظر فيهما ، فيا له من حرمان أن يجعل قول الشيوخ
أتم بيانا من الوحيين ، فهم إذا سئلوا عن شيء منها أظهروا الحذق والمهارة في فهمه
وتقريره بحيث لا يخفي عليهم موضع حرف منه ، ولكنهم إذا سئلوا عن معنى آية أو حديث
استعظموا ذلك واستهولوه واكتفوا بذكر ما يحفظونه من كلام شيوخهم فيه. فلا والله
الواحد الرحمن لا يكون كلام شيوخهم أبدا أتم بيانا ولا أوضح دلالة من الوحيين ، لا
من جهة سنده ولا متنه ، فإن النقل فيهما نقل صادق قام به أئمة عدول وجهابذة ثقات ،
والقول هو قول المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى ، والذي هو أعلم الناس بما يقول ،
وأقدرهم على الأداء والبيان وأما ما سواهما من قول سائر الناس فلا يخلو إما ان
يكون كاذبا من جهة النقل ، أو قاصرا على إفادة المطلوب أو محتملا للخطأ ، فلا يمكن
ان يستوي النقلان أبدا عند ذوي الألباب. والأرسان جمع رسن وهو الحبل المعروف الذي
تشد به الدابة.
* * *
هذا الذي ألقى
العداوة بيننا
|
|
في الله نحن
لأجله خصمان
|
نصروا الضلالة
من سفاهة رأيهم
|
|
لكن نصرنا موجب
القرآن
|
ولنا سلوك ضد
مسلكهم فما
|
|
رجلان منا قط
يلتقيان
|
إنا أبينا أن
ندين بما به
|
|
دانوا من الآراء
والبهتان
|
إنا عزلناها ولم
نعبأ بها
|
|
يكفي الرسول
ومحكم الفرقان
|
من لم يكن يكفيه
ذان فلا كفا
|
|
ه الله شر حوادث
الأزمان
|
من لم يكن يشفيه
ذان فلا شفا
|
|
ه الله في قلب
ولا أبدان
|
من لم يكن يغنيه
ذان رماه رب
|
|
العرش بالإعدام
والحرمان
|
من لم يكن يهديه
ذان فلا هدا
|
|
ه الله سبل الحق
والإيمان
|
الشرح
: يعني أن انتصار
هؤلاء لأقوال شيوخهم وتقديمهم إياها على الكتاب
والسنة دون ان
يحفلوا بهما هو الذي أرث بيننا وبينهم العداوة وجعلنا خصمين في الله لا يلتقيان
وكيف يلتقي من كان مشايعا للضلالة سفاها وجهلا ، ومن كان ناصرا لمقتضى القرآن ،
كيف يلتقي منهجنا ومنهجهم وهما ضدان لا يجتمعان. فنحن نأبى أن ندين بما يدينون به
من الآراء الضالة والقضايا الفاسدة فهي عندنا بمعزل عن مكان القدوة والاعتبار ،
ولا نراها أهلا لأن نجيل فيها الأذهان والأفكار ، بل كفايتنا في ذلك القرآن
والآثار ، فإن من لم يكتف بهما في دينه وعقيدته فلا كفاه الله أبدا ما يلقى من
زمانه من خطوب وأرزاء ، ومن لم يجد فيهما شفاء قلبه وعقله فلا برئت له علة ولا
انحسم له داء ، ومن لم يجد فيهما الغني كل الغنى عما عداهما ضربه الله بالعدم
والإملاق وجعل الفقر لازما له أبد الدهر. ومن لم يجد فيهما الهدى كل الهدى ، فلا
ذاق طعم الهداية أبدا إلى طريق الحق والإيمان.
* * *
إن الكلام مع
الكبار وليس مع
|
|
تلك الأراذل
سفلة الحيوان
|
أوساخ هذا الخلق
بل أنتانه
|
|
جيف الوجود أخبث
الإنسان
|
الطالبين دماء
أهل العلم
|
|
بالكفران
والعدوان والبهتان
|
الشاتمي أهل
الحديث عداوة
|
|
للسنة العليا مع
القرآن
|
جعلوا مسبتهم
طعام حلوقهم
|
|
فالله يقطعها من
الأذقان
|
كبرا وإعجابا
وتيها زائدا
|
|
وتجاوزا لمراتب
الإنسان
|
لو كان هذا من
وراء كفاية
|
|
كنا حملنا راية
الشكران
|
لكنه من خلف كل
تخلف
|
|
عن رتبة الإيمان
والإحسان
|
الشرح
: إن كلامنا
ومناظراتنا في قضايا العقيدة الكبرى إنما نتوجه بها إلى رؤساء القوم والمتصدرين
منهم لنصرة هذه المذاهب الباطلة ، ولسنا نعني بها أولئك الأخساء الأرذال الذين هم
شر الدواب الصم البكم الذين لا يعقلون ، بل هم أقذار هذا الوجود وجيفة وأخباثه ،
فقد انطوت نفوسهم على الحقد القاتل
والعداوة اللدود
لأهل العلم والإيمان ، يودون لو خلت منهم الدنيا حتى يستريحوا من استطالتهم عليهم
بالآثار والقرآن ، فهم يطلبون دماءهم ، ويسعون في الإيقاع بهم لا بالحق والعدل بل
بالكفر والعدوان ، وبما يرمونهم به من البهتان ، وهم مع ذلك قد بسطوا إليهم
ألسنتهم بالسوء ، عداوة منهم للسنة والقرآن ، وجعلوا سبابهم مضغ أفواههم وطعام
حلوقهم وقربتهم التي يتقربون إلى الله بها. وليتهم فعلوا ذلك عن جدارة وكفاية ،
وكان عندهم من العلم والمعرفة ما يؤهلهم للنزول في مضمار الخصومة والجري في حلبتها
، إذا لعرفنا لهم حقهم وشكرنا لهم هذه الهمة في المنازلة والدفاع ، ولكنهم لا
يصدرون في ذلك إلا عن كبر في صدورهم ما هم ببالغيه ، وإعجاب منهم بآرائهم الضالة ،
وزيادة تيه وعدم معرفة منهم بأقدارهم صلفا وغرورا ، وهم مع ذلك متخلفون أشد التخلف
، قاصرون كل القصور عن أقل درجات الإيمان والإحسان.
ولا يعجبن القارئ
من وصف الشيخ رحمهالله لهؤلاء الجامدين المتعصبين بما وصفهم به ، فإنهم طالما
عادوه وعادوا شيخه شيخ الإسلام وحجة الدهر ابن تيمية رحمهالله ورضي عنه ، ورموهما بكل نقيصة من الضلال والإضلال والكفر
والإلحاد ، الخ ما يشتمل عليه قاموس المطاعن والمفتريات ، وأليك نموذجا واحدا مما
يقوله التقي السبكي في العلامة ابن القيم خلال رده الهزيل المتهافت على تلك
النونية العصماء. فقد قال عند تعليقه على قول الناظم في شأن إمام الحرمين الجويني
:
(ولقد وجدت لفاضل منهم مقا
|
|
ما قامه في
الناس منذ زمان الخ)
|
«فانظر أن مالكا رضي الله عنه ـ وناهيك
به ـ قد فسر الحديث بما قال هذا المتخلف النحس أنه الحاد ، فهو الملحد عليه لعنة
الله ما أوقحه وما أكثر تجرأه؟ أخزاه الله».
ثم يعلق على تلك
العبارات البشعة التي تدل على قذارة قائلها وخلوه من كل
معاني الأدب
والإيمان. تلميذه ومشايعه في الجهل والضلال المدعو زاهد الكوثري ، فيقول في تكملته
:
«ترى المؤلف على
ورعه البالغ يستنزل اللعنات على الناظم في كثير من مواضع هذا الكتاب ، وهو يستحق
تلك اللعنات من حيث خروجه على معتقد المسلمين بتلك المخازي لكن الخاتمة مجهولة ،
فالأولى كف اللسان الآن عن اللعن».
وأما استنزال
المؤلف اللعنة عليه فكان في حياة الناظم ، وهو يمضي على زيغه وإضلاله ، عامله الله
بعدله ، وإنما قدمت لك هذه الصورة لترى في أي جو خانق مظلم ملئ بأنواع الكيد
والأذى كان يعيش المؤلف وشيخه وغيرهما من أئمة السنة والحديث ، رحمهمالله ورضي عنهم أجمعين.
* * *
من لي بشبه
خوارج قد كفروا
|
|
بالذنب تأويلا
بلا إحسان
|
ولهم نصوص قصروا
في فهمها
|
|
فأتوا من
التقصير في العرفان
|
وخصومنا قد
كفرونا بالذي
|
|
هو غاية التوحيد
والإيمان
|
الشرح
: إذا قلت من لي
بفلان كان معنى هذا التعبير أنك تطلب من يكفيكه ويريحك منه ، فالمؤلف يود لو أن له
بهؤلاء الجاهلين قوة ، ويرميهم بشبه الخوارج في تكفيرهم بالذنب بلا إحسان في
التأويل ، وباستمساكهم بنصوص قصروا عن فهمها فضلوا بها عن سواء السبيل. وخصومنا
كذلك ، بل هم شر من الخوارج ، فإنهم ما كفرونا بذنب ارتكباه ، ولكن كفرونا بما هو
غاية التوحيد والإيمان ، وهذا أعظم الجهل ومنتهى الخذلان أو يوصف التوحيد منا
بالشرك ، والإيمان منا بالكفران. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
والمراد بعدم
الإحسان في التأويل هو التمسك ببعض المتشابه من الآيات من غير ردها إلى المحكم
الذي يوضح المراد منها. وقوله : فأتوا من التقصير في
العرفان معناه أن
تقصيرهم في فهم النصوص ومعرفة المراد بها كان هو سبب فتنتهم وضلالهم.
* * *
فصل
في بيان كذبهم ورميهم أهل الحق بأنهم أشباه الخوارج
وبيان شبههم المحقق بالخوارج
ومن العجائب
أنهم قالوا لمن
|
|
قد دان بالآثار
والقرآن
|
أنتم بذا مثل
الخوارج أنهم
|
|
أخذوا الظواهر
ما اهتدوا لمعان
|
فانظر إلى ذا
البهت هذا وصفهم
|
|
نسبوا إليه شيعة
الإيمان
|
سلوا على سنن
الرسول وحزبه
|
|
سيفين سيف يد
وسيف لسان
|
خرجوا عليهم مثل
ما خرج الألى
|
|
من قبلهم بالبغي
والعدوان
|
والله ما كان
الخوارج هكذا
|
|
وهم البغاة أئمة
الطغيان
|
كفرتم أصحاب
سنته وهم
|
|
فساق ملته فمن
يلحاني
|
إن قلت هم خير
وأهدى منكم
|
|
والله ما
الفئتان مستويان
|
شتان بين مكفر
بالسنة العليا وبين مكفر العصيان الشرح : والعجيب من أمر هؤلاء المنحرفين عن طريق الكتاب والسنة أنهم
يعيبون على من قد دان بهما ووقف عند نصوصهما من غير تحريف لها ولا تأويل متكلف
لشيء منها ، ويشبهونه في ذلك بالخوارج الذين كانوا يأخذون بظواهر النصوص من غير
فهم لمعانيها. وهذا بهت منهم لأهل السنة والحديث ، حيث رموهم بما هم منه براء بل هم في الحقيقة أولى بهذا الوصف الذي نسبوهم إليه
__________________
على حد المثل
القائل (رمتني بدائها وانسلت) فهم يشبهون الخوارج في عداوتهم للسنن وأهلها ، فلا
شيء أبغض إليهم من ذكر الآثار التي تصادم مذاهبهم في التعطيل ، ولهذا تراهم يكرون
عليها بالإبطال والتأويل والتهوين من شأنها ، ويسلون على رواتها والمتمسكين بها
سيوف البغي والعدوان ، مرة باليد ومرة باللسان ، فهم أحقاء بأن يسموا بالخوارج
البغاة لخروجهم على السنة وأهلها ومعاداتهم لها. كما خرج الذين من قبلهم على أئمة
الحق بالبغي والعدوان بل لو حققت الأمر عليهم لوجدتهم شرا من الخوارج حالا وأضل
سبيلا ، فإن الخوارج إنما كفروا فساق ملته عليه الصلاة والسلام. وأما هؤلاء
فيكفرون أصحاب سنته ، فمن يلومنا إذا ، إذا نحن قلنا أن الخوارج خير منهم حالا
وأهدى سبيلا ، وإذا نحن أقسمنا بأن الفئتين لا تستويان ، وهل يستوي مكفر بالسنة
العليا ومكفر بالفسق والعصيان فشتان ما بينهما شتان.
* * *
قلتم تأولنا
كذاك تأولوا
|
|
وكلاكما فئتان
باغيتان
|
ولكم عليهم ميزة
التعطيل
|
|
والتحريف
والتبديل والبهتان
|
ولهم عليكم ميزة
الإثبات
|
|
والتصديق مع خوف
من الرحمن
|
ألكم على
تأويلكم أجران إذ
|
|
لهم على تأويلهم
وزران
|
حاشا رسول الله
من ذا الحكم بل
|
|
أنتم وهم في
حكمه سيان
|
وكلاكما للنص
فهو مخالف
|
|
هذا وبينكما من
الفرقان
|
هم خالفوا نصا
لنص مثله
|
|
لم يفهموا
التوفيق بالإحسان
|
لكنكم خالفتم
المنصوص للشبه
|
|
التي هي فكرة
الأذهان
|
فلأي شيء أنتم
خير وأقرب
|
|
منهم للحق
والإيمان
|
هم قدموا
المفهوم من لفظ
|
|
الكتاب على
الحديث الموجب التبيان
|
لكنكم قدمتمو
رأي الرجا
|
|
ل عليهما أفأنتما
عدلان
|
أم هم إلى
الإسلام أقرب منكم
|
|
لاح الصباح لمن
له عينان
|
الشرح
: فإن قلتم معتذرين
عن تكفيركم لأهل السنة والحديث واستحلالكم لدمائهم وأعراضهم أنا متأولون في ذلك
فالخوارج كذلك كانوا متأولين في تكفيرهم لمن خالفهم من المسلمين. ومع اشتراككما في
البغي والعدوان والخطأ في التأويل فإنكم تنفردون عنهم بقبائح ، منها البهتان
والتعطيل ، والتحريف والتبديل ، وهم ينفردون عنكم بمحاسن ، منها الإثبات والتصديق
، والخوف من الرب الجليل فما ذا يكون لكم على تأويلكم أجران ، ويكون لهم على
تأويلهم وزران. فإذا كان الرسول صلىاللهعليهوسلم قد حكم عليهم بالمروق من الإسلام لتكفيرهم متأولين أهل
الإيمان فأنتم وهم في حكمه سيان.
ومع اشتراككما
كذلك في مخالفة النصوص إلا أن هناك فرقا بينكم وبينهم من جهتين تجعلانهم خيرا
وأقرب إلى الحق منكم ، الجهة الأولى أنهم يخالفون النص لتمسكهم بنص آخر معارض له
في الظاهر ، ولم يفهموا طريق الاحسان في التوفيق بينهما ولكنكم أنتم تخالفون
النصوص لما تسمونه عندكم شبهات عقلية ترون تقديمها على موجب النص لأنها في زعمكم
قواطع تفيد اليقين ، والجهة الثانية أنهم يقدمون ما يفهم من ظاهر الآيات على
الأحاديث المبينة لها ، وأما أنتم فتقدمون آراء شيوخكم ومتبوعيكم على ما يدل عليه
الكتاب والسنة جميعا ، فهل أنتم وهم بعد هذا الفرق البين عدلان أم هم أقرب منكم
إلى الإسلام والإيمان لقد وضح الصبح لمن له عينان.
* * *
والله يحكم
بينكم يوم الجزا
|
|
بالعدل والإنصاف
والميزان
|
هذا ونحن فمنهم
بل منكم
|
|
برآء إلا من هدى
وبيان
|
فاسمع إذا قول
الخوارج ثم قو
|
|
ل خصومنا واحكم
بلا ميلان
|
من ذا الذي منا
إذا أشباههم
|
|
إن كنت ذا علم
وذا عرفان
|
قال الخوارج
للرسول اعدل فلم
|
|
تعدل وما ذي
قسمة الديان
|
وكذلك الجهمي
قال نظير ذا
|
|
لكنه قد زاد في
الطغيان
|
قال الصواب بأنه
استولى فلم
|
|
قلت استوى وعدلت
عن تبيان
|
وكذلك ينزل أمره
سبحانه
|
|
لم قلت ينزل
صاحب الغفران
|
ما ذا بعدل في
العبارة وهي مو
|
|
همة التحرك
وانتقال مكان
|
وكذاك قلت بأن
ربك في السما
|
|
أوهمت حيز خالق
الأكوان
|
كأن الصواب بأن
يقال بأنه
|
|
فوق السما سلطان
ذي السلطان
|
وكذاك قلت إليه
يعرج والصوا
|
|
ب إلى كرامة
ربنا المنان
|
الشرح
: بعد أن حكم الشيخ
المؤلف بأن الخوارج خير وأقرب إلى الإسلام من هؤلاء وكل أمرهم جميعا إلى الله الذي
له الحكم وحده وإليه يرجعون يوم الجزاء فيجازي كلا منهم بما يستحقه في قانون العدل
الإلهي والقسطاس المستقيم الذي لا تغيب عنه ذرة ، ثم أعلن براءة أهل السنة من
الفريقين جميعا إلا مما يوجد عندهم من الهدى والبيان ، ثم عقد هذه المقارنة
الرائعة بين الخوارج وبين هؤلاء الخصوم ومنها يتبين جليا أنهم هم أشباه الخوارج
عند كل من له علم ومعرفة بآراء الفريقين.
فالخوارج قالوا
للرسول صلىاللهعليهوسلم على لسان زعيمهم ذي الخويصرة التميمي : يا رسول الله اعدل
فإنك لم تعدل ، وقالوا عن قسمته هذه قسمة ما أريد بها وجه الله.
وكذلك الجهمي
المعطل قال مثل ذلك وزاد عليه ، فلم يعجبه قول الرسول أن ربه استوى على العرش ،
وقال بل صوابه استولى وعاب على الرسول أنه عدل عن هذا اللفظ الصريح إلى ذلك اللفظ
الموهم للعلو والارتفاع ، وكذلك لم يعجبه قول الرسول ينزل ربنا ، فقال بل الصواب
ينزل أمر ربنا ، واتهمه بعدم العدل في هذه العبارة التي توهم جواز الحركة على الله
والانتقال من مكان إلى مكان ، وكذلك لم يرض قوله أن الله في السماء لأن ذلك يوهم
الحيز والجهة وهما عنده مستحيلان على الله والصواب عنده ان يقال فوق السماء سلطانه
لا ذاته.
وينكر الجهمي كذلك
ان يقال أن الملائكة والروح تعرج إليه إذ هو لا يؤمن
بإله فوق العرش ،
فكيف يصعد إليه شيء ، والصواب عنده ان يقال تعرج إلى محل كرامته ونحو ذلك ،
والخلاصة أن كلا من الخوارج والجهمية اتهموا الرسول صلىاللهعليهوسلم بعدم العدل إلا أن الأولين اتهموه بذلك في قسمة الأموال
والجهمية اتهموه بعدم العدل في المقال.
* * *
وكذاك قلت بأن
منه ينزل الق
|
|
رآن تنزيلا من
الرحمن
|
كان الصواب بأن
يقال نزوله
|
|
من لوحه او من
محل ثان
|
وتقول أين الله
ذاك الأين ممتن
|
|
ع عليه وليس في
الامكان
|
لو قلت من كان
الصواب كما ترى
|
|
في القبر يسأل
ذلك الملكان
|
وتقول اللهم أنت
الشاهد الأ
|
|
على تشير بإصبع
وبنان
|
نحو السماء وما
اشارتنا له
|
|
حسية بل تلك في
الأذهان
|
والله ما ندري
الذي نبديه في
|
|
هذا من التأويل
للأخوان
|
قلنا لهم ان
السما هي قبلة الد
|
|
اعى كبيت الله
ذي الأركان
|
قالوا لنا هذا
دليل أنه
|
|
فوق السماء
بأوضح البرهان
|
فالناس طرا انما
يدعونه
|
|
من فوق هذي فطرة
الرحمن
|
لا يسألون
القبلة العليا ول
|
|
كن يسألون الرب
ذا الاحسان
|
قالوا وما كانت
اشارته الى
|
|
غير الشهيد منزل
الفرقان
|
أتراه أمسى
للسما مستشهدا
|
|
حاشاه من تحريف
ذي البهتان
|
الشرح
: والجهمي لا يرضى
كذلك قول الرسول صلىاللهعليهوسلم أن القرآن منزل من عند الله لأن من تفيد جهة الابتداء وهذا
يقتضي أن الله في السماء ويقول ان الصواب أن يقال ان نزوله من اللوح المحفوظ أو في
محل آخر كأن يخلق الله كلاما في الهواء فيسمعه جبريل عليهالسلام وينزل به ، كما قالوا مثل ذلك في تكليمه تعالى لموسى عليهالسلام أنه خلق كلاما في الشجرة سمعه موسى ونحو ذلك وكذلك يغيظ
الجهمي أشد الغيظ ويكوى قلبه بنار الحقد أن يسأل الرسول
صلىاللهعليهوسلم عن ربه بلفظ الأين ، كما وقع في سؤاله للجارية التي كان
يمتحنها ، ولما قالت في السماء حكم بايمانها ، ويقول الجهمي ان الأين وهو سؤال عن
المكان ممتنع على الله وليس في الامكان. فكيف يليق أن يسأل عنه رسوله بما هو ممتنع
عليه ، فالرسول في نظر الجهمي قد جار في هذه العبارة وما عدل ، وكان بصواب عنده أن
يقول لها من الله؟ كما يقع من الملكين عند السؤال في القبر ، ولا يستريح الجهمي
كذلك الى ما وردت به الأخبار الصحيحة من أن الرسول صلىاللهعليهوسلم في خطبته يوم عرفة في حجة الوداع وفي أعظم مجمع للمسلمين
كان يشير بإصبعه الى السماء يشهد الله عزوجل على البلاغ والأداء قائلا «اللهم فاشهد» لأن تلك الاشارة
الحسية عند ذلك الجهمي ممتنعة على الله لاقتضائها الجهة ، فهو عنده لا يقبل الا
الاشارة الذهنية العقلية ، ويحار الجهمي أشد الحيرة في تفسير هذه الأمور ، ولا
يدري ما ذا يقول في تأويلها ، فان قال ان الأكف والأبصار انما ترفع الى السماء
لأنها قبلة الدعاء كما يتوجه المصلي قبل البيت. قيل له : وهذا أيضا أوضح دليل على
ان الله في السماء ، فان الناس يتوجهون بالفطرة في دعائهم إليها حتى من لا يعرف أن
الشرع أمر به ، والناس طبعا في توجههم نحو السماء لا يسألونها هي قضاء حوائجهم ،
ولكن يسألون الرب صاحب الفضل والاحسان جل شأنه. والرسول كان يشير بإصبعه الى
السماء لم يكن يطلب شهادتها هي على ما قام به من البلاغ والأداء ، وانما كان يشهد
رب السماء الذي هو الشهيد المطلع على عمله كله ، والذي هو منزل الفرقان ولو كره
ذلك المحرفون الجهلاء.
* * *
وكذاك قلت بأنه
متكلم
|
|
وكلامه المسموع
بالآذان
|
نادى الكليم
بنفسه وكذاك قد
|
|
سمع الندا في
الجنة الأبوان
|
وكذا ينادي الخلق
يوم معادهم
|
|
بالصوت يسمع
صوته الثقلان
|
أني أنا الديان
آخذ حق مظ
|
|
لوم من العبد
الظلوم الجاني
|
وتقول ان الله
قال وقائل
|
|
وكذا يقول وليس
في الامكان
|
قول بلا حرف ولا
صوت يرى
|
|
من غير ما شفة
وغير لسان
|
أوقعت في
التشبيه والتجسيم من
|
|
لم ينف ما قد
قلت في الرحمن
|
الشرح
: وكذلك يسوء الجهمي
ويخزيه ويأتي على تعطيله من القواعد وصف الرسولصلىاللهعليهوسلم لربه بأنه متكلم ، بمعنى ان الكلام قائم به لا بمعنى أنه
مخلوق له ، وقوله : ان كلامه حروف وأصوات مسموعة بالآذان ، فهو الذي نادى بنفسه
الكليم موسى بن عمران بنداء سمعه موسى عليهالسلام ، كما قال تعالى (وَإِذْ نادى رَبُّكَ
مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [الشعراء : ١٠] وكما قال (وَنادَيْناهُ مِنْ
جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا) [مريم : ٥٢].
وهو سبحانه الذي
نادى آدم وحواء حين أكلا من الشجرة ووقعا في الخطيئة معاتبا لهما على عصيانهما
أمره ونسيانهما تحذيره لهما من عداوة الشيطان ، كما قال تعالى : (وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما
عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ
مُبِينٌ) [الأعراف : ٢٢].
وهو سبحانه ينادي
عباده يوم القيامة بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب ويقول : «أنا الديان لا ظلم
اليوم». كما ورد بذلك الحديث.
وهو سبحانه موصوف
بأنه قال في الماضي وقائل في الحال ، ويقول في المستقبل فالقول ثابت له بكل صيغ
الاشتقاق ، ولا يعقل قول بلا حروف وأصوات.
فهذا كله مما جاء
به الرسول عليه الصلاة والسلام ، يراه الجهمي جورا في العبارة مجانبا للصواب في
التنزيه وموقعا لمن لا علم له بنفيه عن الرحمن في التجسيم والتشبيه.
والثقلان الانس
والجن ، والديان صيغة مبالغة من دانه بمعنى جازاه ، وقوله قول بلا حروف الخ ، هو
اسم ليس في البيت قبله.
* * *
لو لم تقل فوق
السماء ولم تشر
|
|
باشارة حسية
ببنان
|
وسكت عن تلك
الأحاديث التي
|
|
قد صرحت بالفوق
للديان
|
وذكرت أن الله
ليس بداخل
|
|
فينا ولا هو
خارج الأكوان
|
كنا انتصفنا من
أولى التجسيم بل
|
|
كانوا لنا اسرى
عبيد هوان
|
لكن منحتهم
سلاحا كلما
|
|
شاءوا لنا منهم
أشد طعان
|
وغدوا بأسهمك
التي أعطيتهم
|
|
يرموننا غرضا
بكل مكان
|
لو كنت تعدل في
العبارة بيننا
|
|
ما كان يوجد
بيننا رجفان
|
هذا لسان الحال
منهم وهو في
|
|
ذات الصدور يغل
بالكتمان
|
يبدو على فلتات
أنفسهم وفي
|
|
صفحات أوجههم
يرى بعيان
|
سيما اذا قرئ
الحديث عليهم
|
|
وتلوت شاهده من
القرآن
|
فهناك بين
النازعات وكورت
|
|
تلك الوجوه
كثيرة الألوان
|
ويكاد قائلهم
يصرح لو يرى
|
|
من قابل فتراه
ذا كتمان
|
اللغة
: يقال انتصف من
خصمه اذا غلب عليه بالحجة وقهره ، والغرض هو الشيء الذي ينصب للرمي كالهدف ،
والرجفان من الرجفة والاضطراب ، وهو الشديد الفزع والشاهد هو المطابق المؤيد.
وقوله : بين النازعات وكورت ، يعني به قوله تعالى في سورة عبس في وصف وجوه الكفار
: (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ) [عبس : ٤٠ ، ٤١].
الشرح
: هذا من جملة خطاب
الجهمي للرسول صلىاللهعليهوسلم يحكيه عنه المؤلف ، يعني أنك لو لم تقل بأن الله فوق
السماء ولم تشر إليه بالاشارة الحسية الى جهة الفوق ، ولم تتحدث بتلك الأحاديث
المستفيضة التي تصرح باثبات تلك الجهة لله ، ولو أنك بدلا من هذا ذكرت ما يفيد
تنزهه عن الجهة والمكان ، فقلت انه ليس داخل العالم ولا خارجه ، لكنا بذلك قد
انتصرنا على المجسمة وحجزناهم في أقماع السمسم ، حيث يكون معنا سلاح النقل الى
جانب ما عندنا من المعقول ، لكنك منحتهم بهذه الأحاديث والنصوص سلاحا جبارا
يطعنوننا به كلما شاءوا
دون أن نملك
مقاومة ، وأصبحوا بتلك السهام النافذة التي منحتهم اياها ، يرموننا في مقاتلنا ،
ويتخذون منا غرضا لها حيثما ثقفونا.
ولو أنك عدلت في
العبارة ولم تمل بها الى جانب التشبيه والتجسيم ، وأتيت بها على وجهها نصا في
التعطيل والتنزيه ما وجد بيننا من يفزع أو يضطرب في ساحة هذه المعركة الزبون هذا
ما تنطق به حال القوم بالنسبة الى أحاديث الصفات وما يغلون عليه صدورهم. وهو كذلك
قد يبدو على فلتات ألسنتهم ، ويظهر جليا على صفحات وجوههم ، لا سيما اذا قرئت
عليهم هذه الأحاديث ، وأتبعت بما يشهد لها من القرآن ، هناك تغبر وجوه القوم
وتعلوها الكآبة ، وتضيق صدورهم وتكاد تنفجر من الغيظ ، ثم يندمون على ما كان منهم
من ابداء دخائلهم وكشف ضمائرهم حتى ليكاد أحدهم يصرح بأنه سيجتهد مستقبلا في اخفاء
ذلك وكتمانه.
* * *
يا قوم شاهدنا
رءوسكم على
|
|
هذا ولم نشهده
من انسان
|
الا وحشو فؤاده
غل على
|
|
سنن الرسول
وشيعة القرآن
|
وهو الذي في
كتبهم لكن بلطف عب
|
|
ارة منهم وحسن
بيان
|
وأخو الجهالة
نسبة للفظ والم
|
|
عنى فنسب العالم
الرباني
|
يا من يظن بأننا
حفنا علي
|
|
هم كتبهم تنبيك
عن ذا الشأن
|
فانظر تر لكن
نرى لك تركها
|
|
حذرا عليك مصايد
الشيطان
|
فشباكها والله
لم يعلق بها
|
|
من ذي جناح قاصر
الطيران
|
الا رأيت الطير
في قفص الردى
|
|
يبكى له نوح على
الأغصان
|
ويظل يخبط طالبا
لخلاصه
|
|
فيضيق عند فرجة
العيدان
|
والذنب ذنب
الطير أخلى طيب الثم
|
|
رات في عال من
الأفنان
|
وأتى الى تلك
المزابل يبتغي الفض
|
|
لات كالحشرات
والديدان
|
المفردات : الرءوس
: الزعاء والقادة ـ الغل : الحقد والغيظ. الحيف : الجور مصايد الشيطان : حبائله
ومكايده ـ علق الطائر بالشبكة : اذا أمسك الفخ
برجليه فلم يستطع
النهوض. الردى : الهلاك ـ النوح : جمع نائح ، والمراد به الطير التي تنوح على
الأغصان. يخبط : يضرب بجناحيه فرجة العيدان : ما بينهما من اتساع ـ أخلى : ترك ـ الإفناء
: جمع فنن وهو الغصن.
الشرح
: ينادي الشيخ رحمهالله جمهور هؤلاء الجهمية من المقلدين لأشياخهم في الضلال بأنه
شاهد رءوسهم ، أي زعماءهم على تلك الحال من الزراية بالسنن والبرم بها اذا رويت ،
لما فيها من نسف مذاهبهم في التعطيل والالحاد. ويقول أن هذا لم ير من انسان قط الا
وكان ممتلئ الفؤاد غيظا وغلا على السنة وأهلها. وأن ذلك موجود أيضا في كتبهم ،
فتراهم لا يألون جهدا في التهوين من شأن هذه الآثار ومقابلة كثير منها بالطعن
والانكار ، لكن مع لطف في العبارة وحسن في البيان ، حتى لا يفطن أحد الى ما تكنه
صدورهم من زراية وامتهان ، ولا يظنن أحد أننا نتجنى على القوم أو نتهمهم بغير الحق
، فتلك كتبهم تخبر عنهم كل من ينظر فيها وتشهد عليهم شهادة صدق ، فليقرأها من شاء
ليتأكد من صحة ما نسبناه إليهم ، لكنا مع ذلك ننصح كل أحد أن لا يقرأ هذه الكتب
حتى لا يقع في حبائلها ويغره ما فيها من تزويق المنطق وتنميق الأفكار ، لا سيما
اذا لم يكن ممن رسخ في علوم الكتاب والسنة قدمه ولا تمكن منهما فهمه ، فهذا لا
يلبث أن يقع أسير شباكها ، تبكيه نائحة الدوح على غصنها ، وهو يجتهد في طلب الخلاص
فلا يستطيع ، والذنب في ذلك ذنبه هو ، حيث ترك أطيب الثمرات على أغصانها العالية
حلوة المجتنى طيبة المأكل ، وهبط الى المزابل وأمكنة القذارة يتقمم الفضلات كما
تفعل الديدان والحشرات.
وما أروع تشبيه
الشيخ رحمهالله حال من وقع أسير هذه الكتب وما فيها من ضلالات مزوقة قد
فتن بها لبه وتأثر بها عقله ، بحال طير في قفص قد أحكم غلقه فهو يضرب بجناحيه
طالبا للخلاص منه فلا يجد فرجة ينفذ منها لضيق ما بين العيدان من فرج.
وما أجمل أيضا
تشبيهه لعقائد الكتاب والسنة بثمرات شهية كريمة المذاق على أغصان عالية ، بحيث لا
يصل إليها فساد ولا يلحقها تلوث ، وتشبيهه لعقائد
هؤلاء الزائغين
بفضلات قذرة وأطعمة عفنة ألقيت في احدى المزابل ، فلا يأوى إليها الا أصحاب العقول
القذرة والفطرة المنتكسة.
* * *
يا قوم والله
العظيم نصيحة
|
|
من مشفق وأخ لكم
معوان
|
جربت هذا كله
ووقعت في
|
|
تلك الشباك وكنت
ذا طيران
|
حتى أتاح لي
الاله بفضله
|
|
من ليس تجزيه
يدي ولساني
|
حبر أتى من أرض
حران فيا
|
|
أهلا بمن قد جاء
من حران
|
فالله يجزيه
الذي هو أهله
|
|
من جنة المأوى
مع الرضوان
|
أخذت يداه يدي
وسار فلم يرم
|
|
حتى أراني مطلع
الايمان
|
ورأيت أعلام
المدينة حولها
|
|
نزل الهدى
وعساكر القرآن
|
ورأيت آثارا
عظيما شأنها
|
|
محجوبة عن زمرة
العميان
|
ووردت رأس الماء
أبيض صافيا
|
|
حصباؤه كلآلئ
التيجان
|
ورأيت أكوازا
هناك كثيرة
|
|
مثل النجوم
لوارد ظمآن
|
ورأيت حوض
الكوثر الصافي الذي
|
|
لا زال يشخب فيه
ميزابان
|
ميزاب سنته وقول
إلهه
|
|
وهما مدى الأيام
لا ينيان
|
والناس لا
يردونه الا من الآ
|
|
لاف أفرادا ذوي
ايمان
|
وردوا عذاب
مناهل أكرم بها
|
|
ووردتم أنتم
عذاب هوان
|
الشرح
: يحكي الشيخ هنا في
صورة نصيحة يقدمها الى هؤلاء الهلكى شفقة بهم ما جربه هو بنفسه من الوقوع في أسر
هذه المذاهب الباطلة ، ولكنه كان أوتي من قوى التمييز والفهم ما يقدر به على
التخلص من أغلال التقليد. فما أن قيض الله له شيخ الاسلام وأكرمه بصحبته حتى انفتح
له باب الخلاص مما كان يعانيه فلازم هذا الحبر الرباني الجليل ملازمة الظل ، وأخذ
من علمه وفضله ما لا يقدر أن يكافئه عليه بيد ولا لسان ، وهو لهذا يدعو الله أن
يجزيه عنه بما يستحقه من نعيم الجنان وكريم الرضوان. فهو الذي أخذ بيده وسار فلم
يتركه
حتى فتح عينه على
مهبط الايمان ومشرق النور والعرفان. وهنالك رأى المدينة دار الهجرة قد ارتفعت
أعلامها وخفقت بنودها ، والتفت من حولها طلاب الهدى وجند القرآن وشاهد من عظيم
الآثار التي خلفها الرسول صلىاللهعليهوسلم وصحابته الأخيار ما لا يطيق رؤيته هؤلاء المحجوبون من
خفافيش الظلام وعبدة الأوهام.
وورد هناك نبع
الشريعة صافيا لم يختلط بما يكدره من اقذاء ، ورأى عنده من الكيزان ما قد يعد
بنجوم السماء وقد أعدت لمن يرده ويطلب ريه من الظماء ، ورأى هنالك حوض الكوثر
الصافي وهو علمه صلىاللهعليهوسلم الذي تركه في أمته لا زال يصب فيه ميزابان ، ميزاب الكتاب
الكريم والسنة المطهرة كما أن حوضه في الموقف يوم القيامة سيصب فيه ميزابان من نهر
الكوثر الذي في الجنة ، فمن شرب من حوض علمه الصافي في الدنيا فهو الجدير أن يرد
حوضه في الآخرة ، ومن صد عنه وآثر عليه هذه الموارد الآسنة فسيذاد عن حوضه ويبعد
جزاء وفاقا وما ربك بظلام للعبيد ، ومن المؤسف ان الناس لا يردون حوض علمه في
الدنيا من الآلاف المؤلفة الا الفرد بعد الفرد ممن هداهم الله ووفقهم وهم الذين
وردوا أكرم المناهل وأعذبها ، وأما أنتم أيها المعرضون المخذولون فقد وردتم موارد
العذاب المهين تبقون فيها خزايا نادمين.
* * *
فبحق من أعطاكم
ذا العدل والا
|
|
نصاف والتخصيص
بالعرفان
|
من ذا على دين
الخوارج بعد ذا
|
|
أنتم أم الحشوي
ما تريان
|
والله ما أنتم
لدى الحشوي
|
|
أهلا أن يقدمكم
على عثمان
|
فضلا عن الفاروق
والصديق فض
|
|
لا عن رسول الله
والقرآن
|
والله لو أبصرتم
لرأيتم الحش
|
|
وي حامل راية
الايمان
|
وكلام رب
العالمين وعبده
|
|
في قلبه أعلى
وأكبر شان
|
من أن يحرف عن
مواضعه وأن
|
|
يقضى له بالعزل
عن إيقان
|
ويرى الولاية
لابن سينا أو أبى
|
|
نصر أو المولود
من صفوان
|
أو من يتابعهم
على كفرانهم
|
|
أو من يقلدهم من
العميان
|
يا قومنا بالله
قوموا وأنظروا
|
|
وتفكروا في السر
والاعلان
|
نظرا وان شئتم
مناظرة فمن
|
|
مثنى على هذا
ومن وحدان
|
أي الطوائف بعد
ذا أدنى الى
|
|
قول الرسول
ومحكم القرآن
|
فاذا تبين ذا
فاما تتبعوا
|
|
أو تعذروا أو
تؤذنوا بطعان
|
الشرح
: يقسم عليهم بالله
الذي اعطاهم ما يزعمون أنه عدل وانصاف ، وبحق من خصهم بتلك المعرفة أن يبينوا له
بعد هذا الذي قدمه من الشرح والبيان أي الفريقين منهم ومن الحشوية هو على دين
الخوارج وأقرب إليهم نسبا ولن يجدوا محيصا من الحكم على أنفسهم بأنهم أولى بشبه
الخوارج من خصومهم فهم الذين يتهمون الرسول صلىاللهعليهوسلم بعدم العدل في العبارة كما اتهمه من قبلهم من الخوارج بعدم
العدل في القسمة.
ثم يقسم بالله مرة
ثانية أنهم ليسوا عند الحشوي أهلا لأن يقدمهم في فهم الدين على ثالث الخلفاء
الراشدين عثمان ذي النورين رضي الله عنه فضلا عن أن يقدمهم على صديق الأمة أبي بكر
أو فاروقها عمر رضي الله عنهما فضلا عن أن يقدمهم على سنة رسول الله صلىاللهعليهوسلم وعلى القرآن الكريم ، ثم يقسم ثالثة بالله أنهم لو كانوا
ذوي بصر وفطنة لأدركوا أن هذا الذي يسمونه الحشوى استهزاء وسخرية هو حامل راية
الإيمان لأنه هو الذي وقف عند نصوص الكتاب والسنة فلم يسمها تأويلا ولم يحرفها عن
مواضعها تبديلا ، بل هي عنده أجل وأكبر من أن يتلاعب بها أو يحكم عليها بالقصور عن
افادة اليقين. أو يتركها ويهملها من أجل كلام هؤلاء المارقين من أمثال أبي علي ابن
سينا الذي يسمونه بالشيخ الرئيس أو أبي نصر الفارابي الملقب بالمعلم الثاني ، أو
الجهم بن صفوان الترمذي رأس الضلال والفتنة ، أو من يشايعهم على كفرهم وضلالهم ،
ويقلدهم تقليدا أعمى بلا نظر ولا معرفة.
ثم يدعوهم الشيخ
مرة أخرى إلى أن يقوموا مثنى وفرادى ، ثم يتفكروا وينظروا في السر والعلانية ، وإن
شاءوا مناظرة فليناظروا ليعرفوا أي الطوائف
منهم ، ومن
الحشوية هو أقرب إلى قول رسول الله صلىاللهعليهوسلم وإلى محكم القرآن ، فإن ظهر لهم ذلك وتبينوه فإما أن
يتبعوا الحق وإما أن يقدموا عذرا عن بقائهم على ما هم عليه ، وإما أن يعلنوها حربا
بينهم وبين خصومهم تفصل بينهم إذ لم تجد الحجة ولم ينفع البرهان.
* * *
(فصل في تلقيبهم أهل السنة بالحشوية
وبيان من أولى بالوصف المذموم من هذا اللقب من الطائفتين
وذكر أول من لقب به أهل السنة أم أهل البدعة)
ومن العجائب
قولهم لمن اقتدى
|
|
بالوحي من أثر
ومن قرآن
|
حشوية يعنون
حشوا في الوجو
|
|
د وفضلة في أمة
الإنسان
|
ويظن جاهلهم
بأنهم حشوا
|
|
رب العباد بداخل
الأكوان
|
إذ قولهم فوق
العباد وفي السما
|
|
ء الربّ ذو
الملكوت والسلطان
|
ظن الحمير بأن
في الظرف والر
|
|
حمن محوى بظرف
مكان
|
والله لم يسمع
ندا من فرقة
|
|
قالته في زمن من
الأزمان
|
لا تبهتوا أهل
الحديث به فما
|
|
ذا قولهم تبا
لذي البهتان
|
بل قولهم أن
السموات العلى
|
|
في كف خالق هذه
الأكوان
|
حقا كخردلة ترى
في كف
|
|
ممسكها تعالى
الله ذو السلطان
|
أترونه المحصور
بعد أم السما
|
|
يا قومنا
ارتدعوا عن العدوان
|
كم ذا مشبهة وكم
حشوية
|
|
فالبهت لا يخفى
على الرحمن
|
الشرح
: ومن عجيب أمر
هؤلاء الجهمية المعطلة أنهم يسمون أهل السنة والجماعة المتمسكين بنصوص الوحيين
حشوية ، يعنون بذلك أنهم من حشو الناس وسقطهم فلا يعتد بكلامهم في العقيدة لأنهم
لم يتعمقوا تعمقهم في التأويل ، ولا ذهبوا مذاهبهم في الإنكار والتعطيل. فكل من
آمن بظواهر النصوص عندهم ،
ولم يشتغل بصرفها
عما تفيده من معان توهم التشبيه ، فهو حشوي بعيد عن التحقيق وليس من العلماء
الراسخين ، وربما ظن الجاهل من هؤلاء الجهمية أنهم إنما سموا حشوية لأنهم جعلوا
ربهم حشو هذا الكون ، أي داخله ، لأن مذهبهم يقوم على أن الله في السماء وأنه فوق
العباد ، وإنما أوقعهم في هذا الجهل توهمهم أن (في) عند قولنا الله في السماء
للظرف فتفيد أن الله مظروف في السماء ، وأن السماء حاوية له وهذا القول الذي نسبوه
إلى الحشوية في زعمهم لم يسمع عن فرقة من فرق الإسلام أنها قالت به وذهبت إليه حتى
المشبهة الذين صرحوا بالتشبيه لم يقولوا أنه محصور في السماء ولكنهم أرادوا بذلك
بهت أهل الحديث بما ليس من قولهم ، فتبا لهم على سوء بهتهم وعظيم افترائهم ، بل
قول أهل الحديث الذي يصرحون به دائما أن الله فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه ،
وأنه لا يحصره ولا يحيط به شيء من مخلوقاته ، وأن الكون كله بسماواته وأرضه في
قبضة يده جل شأنه كخردلة في يد أحدنا ، فتعالى الله عما يقوله الظالمون علوا
كبيرا.
وإذا عرف أن هذا
هو مذهب أهل السنة والحديث ، فمن على هذا يكون محصورا في الآخر ، هو جل شأنه أم
السماء؟ لا جرم أن السماء والكون كله هو المحصور المقهور تحته سبحانه. ولكن القوم
لا يكفون عن عدوانهم على أهل السنة وبهتهم لا يخفى على الله الذي لا تخفى عليه
خافية في الأرض ولا في السماء وسيجزيهم عليه يوم القيامة أشد الجزاء.
المفردات : الفضلة
: الشيء الزائد الذي لا يؤبه له ـ والبهت رميك غيرك بما ليس فيه ـ قولهم أي مذهبهم
، وهو مبتدأ خبره الجملة بعده.
* * *
يا قوم إن كان
الكتاب
|
|
وسنة المختار
حشوا فاشهدوا ببيان
|
أنا بحمد الهنا
حشوية
|
|
صرف بلا جحد ولا
كتمان
|
تدرون من سمت
شيوخكم بهذا
|
|
الاسم في الماضي
من الأزمان
|
سمى به ابن عبيد
عبد الله ذا
|
|
ك ابن الخليفة
طارد الشيطان
|
فورثتم عمرا كما
ورثوا
|
|
لعبد الله أنى
يستوي الإرثان
|
تدرون من أولى
بهذا الاسم وه
|
|
ومناسب أحواله
بوزان
|
من قد حشا
الأوراق والأذهان من
|
|
بدع تخالف موجب
القرآن
|
هذا هو الحشوي
لا أهل الحد
|
|
يث أئمة الإسلام
والإيمان
|
وردوا عذاب
مناهل السنن التي
|
|
ليست زبالة هذه
الأذهان
|
ووردتم القلوط
مجرى كل ذي ال
|
|
أوساخ والأقذار
والأنتان
|
وكسلتم أن
تصعدوا للورد من
|
|
رأس الشريعة
خيبة الكسلان
|
الشرح
: فإن كنتم معشر
الجهمية تعدون التمسك بالكتاب والسنة والوقوف عند نصوصها حشوا ، فاشهدوا علينا
أننا بحمد الله حشوية خالصون في الحشو لا ننكر ذلك ولا نخفيه ، ولكن هل تعلمون من
الذي سمته شيوخكم بهذا الاسم في الماضي؟ أنه رجل من خيار التابعين ، هو عبد الله
بن عبيد الله بن عمر أمير المؤمنين ، فهو حفيد الفاروق الذي يفر منه الشيطان ولا
يمشي معه في طريق فأنتم معشر الجهمية قد ورثتم عمرو بن عبيد صاحب واصل بن عطاء
الذي كان رأسا في البدعة والاعتزال ، وأما أهل السنة والحديث فقد ورثوا عبد الله
هذا فكيف إذا يستوي الارثان ، وهذا إرث سنة وهدى ، وذلك إرث بدعة وضلالة.
ولكن هل تدرون
أيضا من أحق الناس بهذا الاسم ومن تكون حاله مناسبة له تماما ، إنه من حشا الأوراق
وسودها ، وملأ الأذهان وأفسدها بالبدع والضلالات التي تخالف مقتضى القرآن.
هذا هو الحقيق أن
يسمى حشويا ، وليس أهل الحديث أئمة الهدى وأساتذة الإيمان الذين وردوا ينابيع
السنن عذبة صافية غير مشوبة بزبالة الأذهان وأقذار الأفكار.
وأما أنتم فوردتم
أسوأ مورد وأخبثه ، وردتم القلوط مجمع كل وسخ ونتن كسلا منكم أن تصعدوا بعقولكم
ونفوسكم إلى موارد الشريعة الصافية ، ورضي منكم
بالتبعية الذليلة
لأصحاب هذه الأوساخ الفكرية ، فخيبة لكل متواكل كسلان.
* * *
فصل
في بيان عدوانهم في تلقيب أهل القرآن والحديث بالمجسمة
وبيان أنهم أولى بكل لقب خبيث
كم ذا مشبهة
مجسمة نوا
|
|
بته مسبة جاهل
فتان
|
أسماء سميتم بها
أهل الح
|
|
ديث وناصري
القرآن والإيمان
|
سميتموهم أنتم
وشيوخكم
|
|
بهتا بها من غير
ما سلطان
|
وجعلتموها سبة
لتنفروا
|
|
عنهم كفعل
الساحر الشيطان
|
ما ذنبهم والله
إلا أنهم
|
|
أخذوا بوحي الله
والفرقان
|
وأبوا بأن
يتحيزوا لمقالة
|
|
غير الحديث
ومقتضى القرآن
|
وأبوا يدينوا
بالذي دنتم به
|
|
من هذه الآراء
والهذيان
|
وصفوه بالأوصاف
في النصين من
|
|
خبر صحيح ثم من
قرآن
|
إن كان ذا
التجسيم عندكم فيا
|
|
أهلا به ما فيه
من نكران
|
أنا مجسمة بحمد
الله لم
|
|
نجحد صفات
الخالق الديان
|
الشرح
: يتجنى أهل التعطيل
على أهل الحق فينعتونهم بألقاب السوء التي هم منها براء ، فأحيانا يسمونهم مشبهة
لأنهم بزعمهم لما أثبتوا الصفات قد شبهوا الله بخلقه ، وأحيانا مجسمة لأنهم لما اعتقدوا
علو الله وفق خلقه فقد جعلوه جسما متحيزا حالا بالمكان ، وأحيانا يطلقون عليهم
النوابت ، يعنون بذلك أنهم نبتوا في الإسلام بأقوال بدعية.
وهذه كلها أسماء
سموا بها أهل الحديث وناصري القرآن والإيمان ، ما لهم عليها من حجة ولا من سلطان ،
ولكنها محض الزور والبهتان ، وقد قلدوا في ذلك شيوخا لهم من أهل البغي والعدوان ،
وجعلوا هذه الألقاب الشنيعة مسبة
لأهل الحق لينفروا
الناس عن اتباعهم والأخذ بأقوالهم كفعل الساحر الشيطان الذي قد يبلغ من سحره أن
يفرق بين المرء وزوجه بإلقاء الكراهية والبغضاء. ولا ذنب لأهل الحق عند هؤلاء
السمجاء إلا أنهم وقفوا عند الوحي المنزل من السماء ، وأبوا أن يميلوا عنه إلى
مقالات من صنع مبطلين سفهاء ، وإن سموا أنفسهم محققين وحكماء ولم يرضوا أن يدينوا
بالذي يدين به هؤلاء من آراء باطلة معوجة وهذيانات سخيفة فجة ووصفوا ربهم بكل وصف
جاء في الكتاب والسنة ، فإن كان هذا في نظر هؤلاء الجاهلين تجسيما ، فنحن نرحب به
ونرضاه لنا دينا ، ونحمد الله على أننا مجسمة لا نجحد شيئا من صفات الخالق الديان
، سبحانه وتعالى عما يقول المعطلة علوا كبيرا.
والله ما قال
امرؤ منا ب
|
|
أن الله جسم يا
أولي البهتان
|
والله يعلم أننا
في وصفه
|
|
لم نعد ما قد
قال في القرآن
|
أو قاله أيضا
رسول الله فهو
|
|
الصادق المصدوق
بالبرهان
|
أو قاله أصحابه
من بعده
|
|
فهم النجوم
مطالع الإيمان
|
سموه تجسيما
وتشبيها فلسنا
|
|
جاحديه لذلك
الهذيان
|
بل بيننا فرق
لطيف بل هو
|
|
الفرق العظيم
لمن له عينان
|
إن الحقيقة
عندنا مقصودة
|
|
بالنص وهو مراده
التبيان
|
لكن لديكم فهي
غير مرادة
|
|
أنى يراد محقق
البطلان
|
فكلامه فيما
لديكم لا حقي
|
|
قة تحته تبدو
إلى الأذهان
|
فكلامه فيما
لديكم لا حقي
|
|
قة تحته تبدو
إلى الأذهان
|
في ذكر آيات
العلو وسائر الأ
|
|
وصاف وهي القلب
للقرآن
|
بل قول رب الناس
ليس حقيقة
|
|
فيما لديكم يا
أولي العرفان
|
الشرح
: على أنه لم يقل
أحد منا معشر أهل السنة أن الله تعالى جسم ، ولكنكم تبهتوننا بذلك وتجعلونه من
لوازم قولنا أن الله فوق عرشه بذاته ، لأن الوجود في الأين عندكم من خصائص الأجسام
، فإذا قلنا إن الله في السماء كما أخبر عن نفسه قلتم لنا جسمتم ، ولكن الله يعلم
أننا لم نتجاوز في وصفه ما ذكره
الله في كتابه أو
ما قاله رسول الله صلىاللهعليهوسلم في الصحيح عنه ، فإنه الصادق في كل ما يخبر به عن ربه
المصدوق الذي صدقه ربه في كل ما أوحى به إليه ، أو ما قاله أصحابه رضي الله عنهم
من بعده ، فهم نجوم الهدى لهذه الأمة وأكملها إيمانا وعلما فإذا سميتم إثباتنا
لهذه الصفات الثابتة بالكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة تجسيما أو تشبيها فلن يحملنا
هذيانكم هذا على جحد شيء منها أو إنكاره ، بل نحن باقون على الإثبات أبدا ما شاء
الله ، وبيننا وبينكم في ذلك فرق واضح لكل ذي بصر ، وأن بدا للبعض دقيقا لطيفا. هو
أن هذه النصوص عندنا مستعملة في معانيها الحقيقية التي تفهم من اللفظ عند إطلاقه
ولا يجوز حمل شيء منها على المجاز حيث لا قرينة تدل عليه. ولم ترد هذه النصوص
للألغاز والتعمية ، وإنما جاءت للبيان والإيضاح ، فلو حمل شيء منها على غير معناه
بلا داع ولا قرينة لا ننفي عنها وصف البيان ، ولكن الحقيقة عندكم غير مرادة ،
لأنها في نظركم باطلة ، فكيف تراد من النص؟ وكلامه سبحانه عندكم لا حقيقة له عند
العقل ، لأن العقل عندكم يحيل كل ما أثبتته الآيات من الصفات الخبرية ، كالعلو
ونحوه ، مع أنها هي لب القرآن وجوهره ، ومعظم المقصود من إنزاله. بل قول الله نفسه
ليس له حقيقة عندكم لأنكم تنفون عنه الحرف والصوت ، والقول لا يكون إلا حروفا
وأصواتا ، فقول الله كصفاته ، لا حقيقة لشيء من ذلك عندكم ، يا من تدعون المعرفة
زورا وبهتانا.
* * *
وإذا جعلتم ذا
مجازا صح أن
|
|
ينفي على
الاطلاق والإمكان
|
وحقائق الألفاظ
بالعقل انتفت
|
|
فيما زعمتم
فاستوى النفيان
|
نفي الحقيقة
وانتفاء اللفظ ان
|
|
دلت عليه فحظكم
نفيان
|
ونصيبنا إثبات
ذاك جميعه
|
|
لفظا ومعنى ذاك
إثباتان
|
فمن المعطل في
الحقيقة غيركم
|
|
لقب بلا كذب ولا
عدوان
|
وإذا سببتم
بالمحال فسبنا
|
|
بأدلة وحجاج ذي
برهان
|
تبدي فضائحكم
وتهتك ستركم
|
|
وتبين جهلكم مع
العدوان
|
يا بعد ما بين
السباب بذاكم
|
|
وسبابكم بالكذب
والطغيان
|
من سب بالبرهان
ليس بظالم
|
|
والظلم سب العبد
بالبهتان
|
الشرح
: فإذا كان الله
عندكم ليس بقائل على الحقيقة وجعلتم القول المضاف إليه مجازا صح نفيه عنه ، أما
على جهة الاطلاق المقتضى سلب القول عنه بالفعل أو على جهة الإمكان المقتضى سلب
إمكان ذلك منه فضلا عن وقوعه. فهذا نفي وأنتم قد نفيتم حقائق الألفاظ ، وزعمتم أن
معانيها الحقيقية مستحيلة عند العقل ، فهذا نفي آخر فاجتمع لكم بذلك نفيان ، نفي
الألفاظ عن الله عزوجل وإنكار أن يكون هو متكلما بها ، ونفي الحقائق التي دلت
عليها. فهذا حظكم من الإيمان بالوحي إنكار للفظ والمعنى جميعا.
وأما نحن فنصيبنا
إثبات ذلك كله لفظا ومعنى وعدم إنكار شيء منه. فأنتم الأحقاء وحدكم بوصف التعطيل
وهو لقب لائق بكم لا كذب فيه ولا عدوان وإذا أنتم شتمتمونا بما ليس فينا شتما
قائما على الزور والبهتان فسبنا لكم لا يكون إلا عن حجة وبرهان يكشف ستركم ويفضح
جهلكم وعدوانكم فما أبعد الفرق بين شبابنا وسبابكم ، فإن من سب خصم بالدليل لا
يكون ظالما ولا واضعا للشيء في غير موضعه ، ولكن الظلم هو سب العبد بالزور
والبهتان.
* * *
فحقيقة التجسيم
أن تك عندكم
|
|
وصف الإله
الخالق الديان
|
بصفاته العليا
التي شهدت بها
|
|
آياته ورسوله
العدلان
|
فتحملوا عنا
الشهادة واشهدوا
|
|
في كل مجتمع وكل
مكان
|
أنا مجسمة بفضل
الله
|
|
وليشهد بذلك
معكم الثقلان
|
الله أكبر كشرت
عن نابها ال
|
|
حرب العوان وصيح
بالأقران
|
وتقابل الصفان
وانقسم الورى
|
|
قسمين واتضحت
لنا القسمان
|
الشرح
: فإذا كنتم مصرين على أن وصف الرب جل
شأنه بصفاته العليا التي صرحت بها آيات الكتاب العزيز والسنة المطهرة (وكل منهما
شاهد عدل) موقع
في التجسيم بحيث يكون مجسما عندكم كل من أثبت صفة من هذه الصفات فتحملوا عنا
إقرارنا بذلك التجسيم واشهدوا علينا في كل مجتمع ومكان أنا مجسمة وادعوا من
استطعتم من الإنس والجن ليشهدوا معكم بذلك ، فإن تشنيعكم علينا بمثل هذه الألفاظ
لن يغير شيئا من حقيقة الخلاف بيننا وبينكم بعد أن استعرت بيننا نار الحرب وشمرت
عن ساقها وتداعى إليها الفريقان وتقابل الصفان وعرف كل فريق ما عند خصمه واضحا لا
خفاء فيه ، فالحقيقة التي عليها نجالدكم هي أننا نؤمن بحقيقة ما أنزل الله على
رسوله ، وأنتم تنكرونه ونحن ندين بالكتاب والسنة في الإثبات والنفي ، وأنتم لا
ترجعون في ذلك إلا إلى قضية عقولكم الخاسرة ، وما وضعه لكم شيوخكم في الضلال من
قواعد وأصول جعلتموها دينا لكم واستعضتم بها عن الحق الذي جاء به الرسول صلىاللهعليهوسلم فوقعتم في الضلال البعيد والخسران المبين.
فصل
في بيان مورد أهل التعطيل
وأنهم تعوضوا بالقلوط عن السلسبيل
يا وارد القلوط
ويحك لو ترى
|
|
ما ذا على شفتيك
والأسنان
|
أو ما ترى
آثارها في القل
|
|
ب والنيات
والأعمال والأركان
|
لو طاب منك
الورد طابت كلها
|
|
أنّى تطيب موارد
الانتان
|
يا وارد القلوط
طهر فاك من
|
|
خبث به واغسله
من أنتان
|
ثم اشتم الحشوي
حشو ال
|
|
دين ـ والقرآن
والآثار والإيمان
|
أهلا بهم حشو
الهدى وسواهم
|
|
حشو الضلال فما
هما سيان
|
أهلا بهم حشو
اليقين وغيرهم
|
|
حشو الشكوك فما
هما صنوان
|
أهلا بهم حشو
المساجد والسوى
|
|
حشو الكنيف فما
هما عدلان
|
أهلا بهم حشو
الجنان وغيرهم
|
|
حشو الجحيم أيستوي
الحشوان
|
الشرح
: ينادي المؤلف رحمهالله هؤلاء الناكبين عن صراط الله المستقيم ناعيا عليهم أعراضهم
عن ينابيع الدين الصافية وموارده الكريمة التي هي كتاب الله تعالى وأحاديث رسولهصلىاللهعليهوسلم ، وما أثر من أقوال السلف الصالح واستعاضتهم عنها بتلك
الموارد العفنة مما وضعه ضلال الفلاسفة والجهمية وغيرهم ، وأنهم حين يلوكون هذه
الأقوال الخبيثة وتتلوث بها شفاههم وأسنانهم تبدوا آثارها القبيحة في ما تضمره
قلوبهم من الأخلاق والنيات وما تقوم به جوارحهم من الأعمال والاركان لأنه لا يمكن
ان تطيب منهم هذه الأمور وموردها منتن خبيث ، ثم دعاهم قبل ان يشتغلوا بشتم أهل
الحق ويعيبوهم بألقاب السوء ان يغسلوا أفواههم أولا ويطهروها مما بها من خبث وقذر
، ثم التفت الى من يسمونهم حشوية فجعل هذه النسبة التي قصد بها الأعداء إلى ذمهم
موضع مدح وفخار لهم فهم حشوية قد حشوا من الدين والقرآن والسنة والإيمان وهم حشوية
حشوهم الهدى واليقين على حين حشى أعداؤهم من الضلال والشكوك والشبهات وهم حشوية
لأنهم حشو بيوت الله يعمرونها بذكره ومدارسة كتابه وسنة رسوله صلىاللهعليهوسلم وأعداؤهم حشو الأماكن القذرة من الغائط والقلوط وهم أخيرا
حشو الجنة دار الخلد التي أعدها الله للمتقين وأما أعداؤهم فحشو الجحيم يصلونها
بما أعرضوا عن سبل الله المستقيمة ، وبما اتبعوا من سبل الضلال والكفران.
* * *
يا وارد القلوط
ويحك لو ت
|
|
رى الحشوي وارد
منهل الفرقان
|
وتراه من رأس
الشريعة شاربا
|
|
من كف من قد جاء
بالفرقان
|
وتراه يسقي
الناس فضلة كأسه
|
|
وختامها مسك على
ريحان
|
لعذرته أن بال
في القلوط لم
|
|
يشرب به مع جملة
العميان
|
يا وارد القلوط
لا تكسل فرأ
|
|
س الماء فاقصده
قريب دان
|
هو منهل سهل
قريب واسع
|
|
كاف إذا نزلت به
الثقلان
|
والله ليس بأصعب
الوردين بل
|
|
هو أسهل الوردين
للظمآن
|
الشرح
: وهنا أيضا ينادي
المؤلف رحمهالله وارد القلوط نداء ترحم وإشفاق لعماه وجهله وعدم قدرته على
التمييز بين كرام المناهل وعذابها ، وبين آسنها وخبيثها فيقول له إنك لو ترى
الحشوي وهو يرد منهل الفرقان ويشرب من أصل الشريعة الصافي وينبوعها الطيب من كف
رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ثم يوزع فضلة كأسه على الناس مختومة بمسك وريحان ، إذا
لعذرته أن احتقر وردك الآجن وبال فيه ولم يكن من جملة وراده الذين استعذبوه بسبب
عماهم عما فيه من أخباث وأقذار.
ثم دعاه أن يطرح
الكسل ، وأن لا يرضى لنفسه بالدون ، وأن يقصد إلى رأس الماء فإنه قريب دان والطريق
إليه سهل ميسور ، وهو واسع ولا يضيق بوراده مهما كثروا فلو نزل به الثقلان جميعا
لكفاهم ، وهو إذا قيس بالورد الآخر أيسر منه منالا للوارد الظمآن.
ولعلك أيها القارئ
قد فهمت ما قصد إليه المؤلف من المقابلة بين هذين الوردين وما أراده بكل منهما ،
فهو يكنى بأكرمهما عن المصادر الأولى للشريعة من الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة
التي سلمت من الزيغ والانحراف ويكنى بأخبثها المعبر عنه بالقلوط عن تلك الآراء
والأقوال المبتدعة التي يزعمها أصحابها عقليات ، وما هي إلا أوساخ العقول وقاذورات
الأفهام ، وهي تفضي بسالكيها إلى الخروج من حظيرة الإسلام.
* * *
فصل
في بيان هدمهم لقواعد الإسلام
والإيمان بعزلهم نصوص السنة والقرآن
يا قوم والله
انظروا وتفكروا
|
|
في هذه الأخبار
والقرآن
|
مثل التدبر
والتفكر للذي
|
|
قد قاله ذو
الرأي والحسبان
|
فأقل شيء أن
يكونا عندكم
|
|
حدا سواء يا
أولي العدوان
|
والله ما استويا
لدى زعمائكم
|
|
في العلم
والتحقيق والعرفان
|
عزلوهما بل
صرحوا بالعزل عن
|
|
نيل اليقين
ورتبة البرهان
|
قالوا وتلك أدلة
لفظية
|
|
لسنا نحكمها على
الايقان
|
ما أنزلت لينال
منها العلم بالإ
|
|
ثبات للأوصاف
للرحمن
|
بل بالعقول ينال
ذاك وهذه
|
|
عنه بمعزل غير
ذي السلطان
|
الشرح
: من أعظم الشناعات
التي وقع فيها المتكلمون من الأشعرية وغيرهم قولهم أن دلالة كل لفظ على معناه
دلالة ظنية لتطرق الاحتمال إليها بسبب ما يعتري الألفاظ من إجمال وإبهام وحذف
واشتراك وحقيقة ومجاز الخ. وطردوا قاعدتهم اللئيمة على نصوص الوحيين ، فحكموا
بعزلها عن إفادة اليقين والشيخ هنا يستحلفهم بالله أن ينظروا فيها ويتدبروها ، كما
يفعلون ذلك بالنسبة إلى ما ينقل إليهم من آراء أهل الفكر والنظر ، فإن هذا أقل ما
ينبغي أن يكون عليه المسلم أن يسوي بين نصوص الوحي وكلام الناس في درجة التفكر
والاعتبار ، أما أن يؤثر كلام الناس بالنظر ، فذلك هو العدوان والخسار ، ولكن أنّى
لهؤلاء المتأخرين بتلك التسوية ، وقد ضل عنها شيوخهم الذين سنوا لهم سبيل الجور
والاعتساف ، وجنفوا بهم عن طريق الحق والإنصاف ، والذين صرحوا بعزل نصوص الوحيين
عن إفادة اليقين وقصورها عن رتبة البرهان.
وقالوا إنها أدلة
لفظية لا يجوز التعويل عليها في مسائل الاعتقاد التي لا يكفي فيها الظن بل لا بد
فيها من العلم اليقيني الذي لا يتطرق إليه الاحتمال. وهذا عندهم لا يستفاد إلا من البراهين
العقلية التي تفيد القطع والجزم. وأما هذه النصوص التي هي أصل الدين فبمعزل عندهم
عن إفادة اليقين ، وليس لها في عقائد الإيمان حكم ولا سلطان ، فبئس ما قاله أولياء
الشيطان من الإفك والزور والبهتان.
* * *
فبجهدنا تأويلها
والدفع في
|
|
أكنافها دفعا لذي
الصولان
|
ككبير قوم جاء
يشهد عند ذي
|
|
حكم يريد دفاعه
بليان
|
فيقول قدرك فوق
ذا وشهادة
|
|
لسواك تصلح
فاذهبن بأمان
|
وبوده لو كان
شيء غير ذا
|
|
لكن مخافة صاحب
السلطان
|
فلقد آتانا عن
كبير فيهم
|
|
وهو الحقير
مقالة الكفران
|
لو كان يمكنني
وليس بممكن
|
|
لحككت من ذا
المصحف العثماني
|
ذكر استواء الرب
فوق العرش
|
|
لكن ذاك ممتنع
على الإنسان
|
والله لو لا
هيبة الإسلام
|
|
والقرآن
والأمراء والسلطان
|
لأتوا بكل مصيبة
ولدكدكوا
|
|
الإسلام فوق
قواعد الأركان
|
الشرح
: وقالوا إذا كانت
نصوص الوحيين من الكتاب والسنة لا تفيد اليقين المطلوب في باب الاعتقاد ، وكانت
البراهين العقلية وحدها هي التي يعول عليها في هذا الباب ، فلنجد إذا في تأويل هذه
النصوص بصرفها عما توهمه ظواهرها من معان مستحيلة عند العقل ، ولندفع في جوانبها
بما يكسر قوتها ويضعف صولتها ، بأن نوقع في روع الناس أن هذه النصوص فوق ما تناله
مداركنا وتتصوره أفهامنا ، وذلك كرجل ذي قدر وشرف جاء يشهد في قضية من القضايا ،
والقاضي يريد دفع شهادته بأسلوب لا يكون فيه حرج لكرامته ، فيوهمه أن قدره أعلى من
أن يقف في موقف الشاهد في مثل هذه القضية ، وأن شهادة من غيره تكفي ، وليس غرضه من
ذلك إلا دفع الحكم بموجب تلك الشهادة ، ولكنه لا يستطيع التصريح بذلك مخافة بطش
السلطان به فكذلك حال هؤلاء المعطلة مع نصوص الوحيين المصرحة بإثبات الصفات ،
يريدون دفع ما دلت عليه من ذلك فلا يستطيعونه عن طريق التكذيب والإنكار ، فيلجئون
إلى المراوغة بدعوى قصور الافهام عنهما. وكان بودهم لو لم تكن هذه النصوص أصلا ،
حتى روى عن كبير من هؤلاء ، وهو عند الله والمؤمنين من أحقر الحقراء أنه قال مقالة
الكافر العنيد والشانئ الحقود ، وددت لو حككت من المصحف كل ما فيه ذكر استواء الرب
على عرشه ، لكن أنى له بذلك وقد حفظ الله كتابه
من كيد حقود مثله
، فليمت غيظا ، وستبقى هذه الآيات الكريمة سيفا مصلتا فوق رأسه تنادي بفساد قوله
وبطلان رأيه ، ولو لا هيبة الاسلام ورجالاته في قلوب هؤلاء الجبناء لنقضوا حبل
الإسلام عروة عروة ، وأتوا على بنائه من القواعد ، ولكنهم لا يجرءون على العمل
ظاهرين.
فلقد رأيتم ما
جرى لأئمة الإ
|
|
سلام من محن على
الأزمان
|
لا سيما لما
استمالوا جاهلا
|
|
ذا قدرة في
الناس مع سلطان
|
وسعوا إليه بكل
إفك بين
|
|
بل قاسموه بأغلظ
الأيمان
|
إن النصيحة
قصدهم كنصيحة
|
|
الشيطان حين خلا
به الأبوان
|
فيرى عمائم ذات
أذناب على
|
|
تلك القشور
طويلة الأردان
|
ويرى هيولى لا
تهول لمبصر
|
|
وتهول أعمى في
ثياب جبان
|
فإذا أصاخ بسمعه
ملئوه من
|
|
كذب وتلبيس ومن
بهتان
|
فيرى ويسمع
فشرهم وفشارهم
|
|
يا محنة العينين
والأذنان
|
فتحوا جراب الجهل
مع كذب فخذ
|
|
واحمل بلا كيل
ولا ميزان
|
الشرح
: يستدل على كيد
هؤلاء للإسلام وأهله بما جرى على أيديهم من محن وأرزاء لأئمة الإسلام في جميع
الأزمان ، كأحمد بن حنبل وشيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنهما ، لا سيما حين
يستميلون إليهم الجهلة من الأمراء ويسعون إليهم بالإفك والافتراء مؤكدين إفكهم
بالأيمان الفاجرة أنهم ما قصدوا إلا محض النصيحة كما أقسم إبليس لآدم وحواء حين
خلا بهما في الجنة : (إِنِّي لَكُما لَمِنَ
النَّاصِحِينَ) [الأعراف : ٢١].
فلا يسع ذلك الجاهل إلا أن يغتر ببهتانهم ويؤخذ بزخرف أقوالهم ، لا سيما حين يرى
عليهم عمائم كالأبراج ، قد أرخوا أذنابها على أقفائهم ، ويرى أجساما ضخمة كتلك
التي حكاها الله عن المنافقين في قوله جل شأنه : (وَإِذا رَأَيْتَهُمْ
تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ
خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) [المنافقون : ٤]
ولكن تلك الهيئة الضخمة لا تروع الحصيف العارف بحقيقة هؤلاء وما هم عليه من جهل
وضلال ، وإنما تروع كل
أعمى جبان لا يبصر
ما تحتها من ضعف وهوان ، فإذا ألقى إليهم سمعه ورأوا أنهم قد ملكوه ، أخذوا يملئون
قلبه حقدا وعداوة على أهل الحق والإيمان ، وحشوه بالكذب والتلبيس والبهتان ، فيرى
من زيهم ويسمع من فشرهم ما فيه بلاء لعينيه وأذنيه ويبدون له من الجهل والكذب ما
لا يقدر بكيل ولا ميزان.
* * *
وأتوا إلى قلب
المطاع ففتشوا
|
|
عما هناك
ليدخلوا بأمان
|
فإذا بدا غرض
لهم دخلوا به
|
|
منه إليه كحيلة
الشيطان
|
فإذا رأوه هش
نحو حديثهم
|
|
ظفروا وقالوا
ويح آل فلان
|
هو في الطريق
يعوق مولانا عن
|
|
المقصود وهو عدو
هذه الشأن
|
فإذا هم غرسوا
العداوة واظبوا
|
|
سقي الغراس كفعل
ذي البستان
|
حتى إذا ما
أثمرت ودنا لهم
|
|
وقت الجذاذ وصار
ذا إمكان
|
ركبوا على حرد
لهم وحمية
|
|
واستنجدوا
بعساكر الشيطان
|
فهنالك ابتليت
جنود الله من
|
|
جند اللعين
بسائر الألوان
|
ضربا وحبسا ثم
تكفيرا وتبديعا
|
|
وشتما ظاهر
البهتان
|
الشرح
: وتراهم لكي يضمنوا
انحياز هؤلاء الأمراء والحكماء إليهم في الخصومة بينهم وبين أهل الحق ، يحكمون
الحيلة ويتلطفون في الدخول إلى قلوبهم بالتفتيش عما فيها من أماني وأغراض ، فإذا
ظهر لهم منها شيء جعلوه وسيلتهم في احتلال قلوب هؤلاء وامتلاكها بما يظهرون من
الرضى والاستحسان لذلك ، فإذا رأوه انبسط إليهم وأعجبه حديثهم ، أخذوا في إغرائه
بخصومهم واستعدائه عليهم بأن يوهموه أنهم ضد رغبته وعلى خلاف مراده ، حتى إذا
نجحوا في غرس العداوة لهم في قلبه تعهدوا ذلك الغرس بالسقي ، كما يفعل البستاني
بالشجر حتى تستحكم وتخرج إلى حد البطش والانتقام ، وحينئذ يستعلن هؤلاء الجبناء
بخصومة أهل الحق ويركبون أفراس البغي ويجعلون في قلوبهم الحمية ، حمية الجاهلية
ويستنجدون بعساكر الشيطان ، فهنالك تبتلى جنود الرحمن من جند
اللعين بشتى أنواع
البغي والعدوان ، فمن ضرب مبرح إلى إلقاء في غياهب السجون إلى رمي بالتكفير
والتبديع إلى أقذاع في الشتم والهجاء ، بظاهر الإفك والافتراء.
* * *
فلقد رأينا من
فريق منهم
|
|
أمرا تهد له قوى
الايمان
|
من سبهم أهل
الحديث ودينهم
|
|
أخذ الحديث وترك
قول فلان
|
يا أمة غضب
الاله عليهم
|
|
الأجل هذا
تشتموا بهوان
|
تبا لكم إذ
تشتمون زوامل
|
|
الإسلام حزب
الله والقرآن
|
وسببتموهم ثم
لستم كفأهم
|
|
فرأوا مسبتكم من
النقصان
|
هذا وهم قبلوا
وصية ربهم
|
|
في تركهم لمسبة
الأوثان
|
حذر المقابلة
القبيحة منهم
|
|
بمسبة القرآن
والرحمن
|
وكذاك أصحاب
الحديث فإنهم
|
|
ضربت لهم ولكم
بذا مثلان
|
سبوكم جهالهم
فسببتم
|
|
سنن الرسول
وعسكر الإيمان
|
وصددتم سفهاءكم
عنهم وعن
|
|
قول الرسول وذا
من الطغيان
|
الشرح
: لقد حمل التعصب
والتقليد للمذاهب الباطلة فريقا من هؤلاء الجاهلين أن يرتكبوا أمرا عظيما يتصدع
منه بناء الإسلام وتتضعضع له قوى الإيمان وهو شتمهم أهل الحديث ورميهم إياهم
بالبلادة والغفلة وقلة الفقه وما نقموا منهم إلا أنهم جعلوا دينهم ومذهبهم التمسك
بالحديث والعض عليه بالنواجذ وترك ما يخالفه من أقوال الناس ، فهل يصلح هذا أن
يكون سببا لشتمهم وإهانتهم بألسنة هؤلاء المارقين الملعونين ، فويل لهم إذ يشتمون
حملة العلم والدين ويسبون جند الله والقرآن وكان بوسع أهل السنة والحديث أن يردوا
عليهم ويقابلوهم بمثل سفاهتهم لو لا أن هؤلاء الأوغاد ليسوا كفؤا لهم فرأوا مسبتهم
مما ينقص من قدرهم. وكذلك امتثلوا فيهم قول الله تبارك وتعالى : (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ
مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ)
[الأنعام : ١٠٨]
فقد نهى الله المؤمنين عن سب الأصنام حذرا أن يحمل ذلك المشركين على الحمية
لأصنامهم ، فيقابلوا هذا السب بسب الله جل وعلا عدوانا وجهلا. فكذلك أهل السنة
كفوا عن سب هؤلاء الجهلاء حتى لا تأخذهم العزة بالإثم فيسبوا السنة وأهلها كما فعلوا
ذلك حين تعرض لهم بعض الجهلة من أهل السنة. ويقال لهم أيضا أنتم صددتم سفهاءكم عن
اتباع أهل السنة والأخذ بأقوال الرسول صلىاللهعليهوسلم وذلك منتهى الطغيان والعدوان.
* * *
ودعوتموهم للذي
قالته أشياخ
|
|
لكم بالخرص
والحسبان
|
فأبوا إجابتكم
ولم يتحيزوا
|
|
إلا إلى الآثار
والقرآن
|
وإلى أولي
العرفان من أهل الحد
|
|
يث خلاصة
الإنسان والأكوان
|
قوم أقامهم
الإله لحفظ هذا ال
|
|
دين من ذي بدعة
شيطان
|
وأقامهم حرسا من
التبديل
|
|
والتحريف
والتتميم والنقصان
|
يزك على الإسلام
بل حصن له
|
|
يأوي إليه عساكر
الفرقان
|
فهم المحك فمن
يرى متنقصا
|
|
لهم فزنديق خبيث
جنان
|
إن تتهمه فقبلك
السلف الألى
|
|
كانوا على
الإيمان والاحسان
|
أيضا قد اتهموا
الخبيث على الهدى
|
|
والعلم والآثار
والقرآن
|
وهو الحقيق بذاك
إذ عادى روا
|
|
ة الدين وهي
عداوة الديان
|
الشرح
: لا يعتد هؤلاء
المقلدون بشيء من دينهم إلا ما أخذوه عن أشياخهم من أقوال لم تبن على عقل صريح ولا
على نقل صحيح ، وإنما بنيت على ظن وتخمين فتراهم يتعصبون لها ويدعون إليها كل أحد
، ولكن أهل الحق لا يجيبونهم إلى الأخذ بهذه الأباطيل ، ولا يتحيزون إلا إلى
الآثار الصحيحة والكتاب الكريم فهما المصدران لكل معرفة حقة ، وكذلك يرجعون إلى ما
يؤثر عن أئمة الحديث وجهابذة السنة الذين هم خلاصة أهل الأرض دينا وعلما وإيمانا ،
والذين قد اختارهم الله لحفظ دينه ، ونصبهم حراسا عليه من أهل
الأهواء والبدع
حتى لا يفسدوه بتبديل أو تحريف أو زيادة فيه أو حذف منه فهم الشهب التي يرمي بها
الله شياطين الإنس حماية لدينه منهم كما يرمي بالشهب السماوية من يحاول استراق
السمع من شياطين الجن وهم حصون الإسلام وكهفه الذي يأوي إليه كل من سلك سبيلهم في
نصر السنة والكتاب وهم الميزان الذي يعرف به صحيح الأقوال من سقيمها ، فما أنكروه
هو المنكر ، وما أقروه فهو الحق فمن عمد إلى تنقصهم والتهوين من شأنهم فهو خبيث
القلب مغموص في دينه ، ولا حرج على من يتهمه بذلك فقد اتهم قبله السلف الصالح رضي
الله عنهم الخبيث المارق المدعو بالجهم بن صفوان ، ولم يأمنوه على العلم والهدى
والآثار والقرآن ، وقد كان جديرا بهذا الاتهام حيث عادى رواة الدين وحملة السنة ،
وعداوتهم هي عداوة الله الواحد الديان.
* * *
فإذا ذكرت
الناصحين لربهم
|
|
وكتابه ورسوله
بلسان
|
فاغسله ويلك من
دم التعطيل
|
|
والتكذيب
والكفران والبهتان
|
أتسبهم عدوا ولست
بكفئهم
|
|
فالله يفدي حزبه
بالجاني
|
قوم هم بالله ثم
رسوله
|
|
أولى وأقرب منك
للإيمان
|
شتان بين
التاركين نصوصه
|
|
حقا لأجل زبالة
الأذهان
|
والتاركين
لأجلها آراء من
|
|
آراؤهم ضرب من
الهذيان
|
لما فسا الشيطان
في آذانهم
|
|
ثقلت رءوسهم عن القرآن
|
فلذاك ناموا عنه
حتى أصبحوا
|
|
يتلاعبون تلاعب
الصبيان
|
والركب قد وصلوا
العلى وتيمموا
|
|
من أرض طيبة
مطلع الإيمان
|
واتوا الى
روضاتها وتيمموا
|
|
من أرض مكة مطلع
القرآن
|
قوم إذا ما ناجل
النص بدا
|
|
طاروا له بالجمع
والوحدان
|
وإذا بدا علم
الهدى استبقوا له
|
|
كتسابق الفرسان
يوم رهان
|
وإذا هم سمعوا
بمبتدع هذي
|
|
صاحوا به طرا
بكل مكان
|
الشرح
: يقول لهذا الجهمي
الخبيث أن لسانك القذر الذي لا ينطق إلا بكل إفك وزور ليس أهلا لأن يلوك أسماء
هؤلاء الأبرار الذين أخلصوا النصيحة لله ولكتابه ولرسوله فإذا أردت ذكرهم فاغسل
لسانك أولا مما ولغ فيه من دم التعطيل والإنكار والتكذيب للسنن والآثار والكفران
والجحود والبهتان. ثم ينكر عليه أشد الإنكار أن يسبهم وهو ليس معهم في إطار ، ولا
يقدر على الجري معهم في مضمار. ويدعو عليه أن يجعله الله فداءهم لأنهم حزبه وجنده
الأطهار ـ الذين لم يعولوا في دينهم إلا على ما قاله الله ورسوله المختار ، فهم
أولى وأقرب إلى الإيمان من ذلك المعطل المختار ـ والفرق هائل جدا بين من يترك
النصوص الصريحة متعلقا بزبالات الأذهان والأفكار ، وبين من يتمسك بالنصوص ويعض
عليها ضاربا بكل ما عداها مما يهذي به المخرفون عرض الجدار وكيف يستوي من هو بليد
غافل قد بال الشيطان في أذنه فأثقل رأسه وأطال نومه حتى أصبح ، وقد استحوذ عليه
يقوده من خطامه ، ويلعب به لعب الصبيان بالكرة. كيف يلحق هذا المختلف المفتون بركب
الله على الطائر الميمون وهم قد حلقوا في سماء الرفعة قاصدين مطلع الإيمان من أرض
طيبة ليستمتعوا برياضها الأنف وأزهارها الناضرة ، وقاصدين كذلك مهابط القرآن من
أرض مكة ، فهم قوم لا هم لهم إلا أن يتلمسوا الهدى من مصادره ، فإذا أبدى لهم النص
ناجذيه ، وثبتت لديهم صحته طاروا إليه زرافات ووحدانا غير متعثرين ولا متخلفين ،
وإذا بدا لهم علم الهدى استبقوا نحوه كتسابق المتراهنين. وإذا سمعوا عن ضال ذي
بدعة يهذي بها وينشرها في الناس صاحوا به صيحات الغضب والاستنكار ورموا من كل جانب
بشهب الآيات والآثار حتى يكشفوا عن بدعته ويجللوه الخزي والعار.
ورثوا رسول الله
لكن غيرهم
|
|
قد راح بالنقصان
والحرمان
|
واذا استهان
سواهم بالنص لم
|
|
يرفع به رأسا من
الخسران
|
عضوا عليه
بالنواجذ رغبة
|
|
فيه وليس لديهم
بمهان
|
ليسوا كمن نبذ
الكتاب حقيقة
|
|
وتلاوة قصدا
بترك فلان
|
عزلوه في المعنى
وولوا غيره
|
|
كأبي الربيع
خليفة السلطان
|
ذكروه فوق منابر
وبسكة
|
|
رقموا اسمه في
ظاهر الاثمان
|
والأمر والنهي
المطاع لغيره
|
|
ولمهتد ضربت بذا
مثلان
|
يا للعقول أيستوي
من ق
|
|
ال بالقرآن
والآثار والبرهان
|
ومخالف هذا
وفطرة ربه
|
|
الله أكبر كيف
يستويان
|
الشرح
: وهم الذين ورثوا
علم النبوة وحملوا أمانته على حين باء أعداؤهم بالنقصان والحرمان لما أعرضوا عنه
ورفضوه ، واذا حمل الغرور العقلي أعداءهم أن يستهينوا بالنص ، ويتكبروا عن قبوله
بسبب ما هم فيه من خسار وضلال ، تراهم هم جد حريصين على التمسك به واحترامه فهم
ليسوا كمن نبذ الكتاب وراء ظهره فلم يحسن تدبره ، ولم يحكم تلاوته مقلدا في ذلك من
سبقه من شيوخه ، فان هؤلاء لم يؤمنوا الا بألفاظ الكتاب يرددونها بلا فهم ولا تدبر
ولا يأخذون دينهم منها بل هي عندهم معزولة عن افادة العلم ، ولا يرجعون في ذلك الا
الى حاكم العقل يستفتونه في كل ما يجب اثباته ونفيه ، فصار الكتاب عندهم لا حكم له
الا في الاسم فقط ، وأما في الحقيقة فالحكم لغيره فهو كأبي الربيع خليفة السلطان
يهتف باسمه على المنابر ، ويرقم اسمه على وجه النقود ، ومع ذلك فليس له في الامور
حل ولا عقد بل الأمر والنهي في يد غيره.
فيا عجبا لعقول
هؤلاء ، كيف ضلت حتى استوى عندها من دان بالكتاب والسنة وبرهان العقل والفطرة ،
ومن خالف ذلك جملة ، الله أكبر كيف استوى عندهم الأعمى والبصير ، أم كيف استوت
الظلمات والنور؟ ان هذا لهو الضلال الكبير.
* * *
بل فطرة الله
التي فطروا على
|
|
مضمونها والعقل
مقبولان
|
والوحى جاء
مصدقا لهما فلا
|
|
تلق العداوة ما
هما حربان
|
سلمان عند موفق
ومصدق
|
|
والله يشهد أن
هما سلمان
|
فاذا تعارض نص
لفظ وارد
|
|
والعقل حتى ليس
يلتقيان
|
فالعقل اما فاسد
ويظنه الرائي
|
|
صحيحا وهو ذي
بطلان
|
أو ان ذاك النص
ليس بثابت
|
|
ما قاله المعصوم
بالبرهان
|
ونصوصه ليست
تعارض بعضها
|
|
بعضا فسل عنها
عليم زمان
|
واذا ظننت
تعارضا فيها فذا
|
|
من آفة الأفهام
والأذهان
|
او أن يكون
البعض ليس بثابت
|
|
ما قاله المبعوث
بالقرآن
|
الشرح
: يرى أهل السنة
قبول كل من حكم الفطرة وحكم العقل ، فان الله لا يمكن أن يفطر عباده على خلاف الحق
، كما لا يمكن اذا استقام تفكير العقل ، ولم يشبه شيء من الهوى والتقليد أن يزيغ
عن الهدى أو يحيد. ويرى أهل السنة كذلك أن الوحى لا يمكن أن يجيء بما يناقض الفطرة
أو يخالف العقل ، بل لا بد أن يكون مصدقا لهما ، فان رب الفطرة والعقل هو منزل
الشرع فهو مصدر ذلك كله ، فلا يعقل أن يناقض نفسه ، فمن الخطأ توهم عداوة بين هذين
الأصلين ووجود حرب بينهما بل هما سلمان عند من يحسن التوفيق بينهما ويرزق التصديق
والقبول للنصوص والآثار والله يشهد كذلك أنهما سلمان لا يعاند أحدهما الآخر ، فاذا
بدا تعارض بين النص والعقل فلا بد أن يكون سببه أحد أمرين : اما فساد في العقل
بسبب ما خالطه من هوى أو وهم فيظنه الناظر فيه صحيحا وهو في حقيقته باطل واما كذب
في النقل ، فيكون غير ثابت الورود عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
وكذلك اذا نسبت
النصوص بعضها الى بعض فلا يمكن ان يقع بينها تعارض فسل عنها عليما بتأويلها وأوجه
التوفيق بينها ليزيل ما يتوهم بينها من تعارض. واذا ظننت بينها تعارضا فلا سبب
لذلك الا واحد من أمرين : أما قصور في الفهم وحصول آفة له تمنعه من الجمع بينهما ،
واما أن يكون أحدهما ليس بثابت النقل عن الرسول صلىاللهعليهوسلم.
* * *
لكن قول محمد
والجهم في
|
|
قلب الموحد ليس
يجتمعان
|
الا ويطرد كل
قول ضده
|
|
فاذا هما اجتمعا
فمقتتلان
|
والناس بعد على
ثلاث : حزبه
|
|
أو حربه أو فارغ
متوان
|
فاختر لنفسك أين
تجعلها فلا
|
|
والله لست برابع
الأعيان
|
من قال بالتعطيل
فهو مكذب
|
|
بجميع رسل الله
والفرقان
|
ان المعطل لا
إله له سوى الم
|
|
نحوت بالأفكار
في الأذهان
|
وكذا إله
المشركين نحيته الأ
|
|
يدي هما في
نحتهم سيان
|
لكن إله
المرسلين هو الذي
|
|
فوق السماء مكون
الأكوان
|
تالله قد نسب
المعطل كل من
|
|
بالبينات أتى
الى الكتمان
|
والله ما في
المرسلين معطل
|
|
نافي صفات
الواحد الرحمن
|
كلا ولا في
المرسلين مشبه
|
|
حاشاهم من افك
ذي بهتان
|
فخذ الهدى من
عبده وكتابه
|
|
فهما الى سبل
الهدى سببان
|
الشرح
: واذا ثبت أن هذه
الثلاثة من الفطرة والعقل ونصوص الشرع متساندة متعاضدة يؤيد بعضها بعضا ، وهي
متضافرة على اثبات الصفات ، فان العداوة والمنافاة قائمة على أشدها بين قول الرسول
صلىاللهعليهوسلم وبين قول الجهم امام التعطيل ، فليس يجتمعان في قلب موحد ،
حتى يجتمع فيه الماء والنار ، فهما ضدان متعاندان لا يمكن أن يجتمعا في محل واحد ،
فاذا هما اجتمعا فلا بد من وقوع حرب بينهما. والناس حينئذ على أقسام ثلاثة ، فمنهم
من هو من حزب الحق وجنده ، فهو يقاتل تحت رايته ويذب عنه أعداؤه ، ومنهم من هو حرب
عليه يقاتل في صفوف خصومه ، ومنهم من هو فارغ اللب من هذه الحرب لا يكترث لها ولا
ينتصر لأي الفريقين المتحاربين لتوانيه عن تحصيل ما ينجيه ، فيجب على العاقل أن
يختار لنفسه بين هذه الفرق الثلاث ، فان قال بقول الجهم في التعطيل فقد كذب بما
جاءت به جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام ، فان أقوالهم كلها متفقة على الاثبات ،
وقد رضي لنفسه ان يعبد صنما قد نحته بفكره وذهنه ، ونسجه بخياله ، كما يعبد
المشركون أصناما نحتوها بأيديهم من الحجارة.
وأما إله الرسل
الذين جاءوا للتبليغ عنه والدعوة الى توحيده ، فهو الذي فوق
السماء مستو على
عرشه ، وهو الموجد لجميع الكائنات.
تالله لقد نسب
المعطل كل الرسل عليهم الصلاة والسلام الى جحود الحق وكتمانه ، اذا كان الحق هو ما
ذهب إليه من التعطيل ، فان كلامهم كله صريح في الاثبات ، وليس فيهم أبدا من هو
معطل جاحد لصفات الواحد الرحمن ، كما أنه ليس فيهم مشبه يمثل الله بخلقه ، فحاشاهم
من كل ما يفتريه عليهم أهل الافك والبهتان. فعلى طالب الهدى أن لا يأخذه الا من
مصدريه الحقيقين ، وهما عبد الله ورسوله ، وما أنزل من كتابه ، فهما وحدهما السبيل
إليه ، فمن تركهما ضل وجانبه الصواب.
* * *
فصل
في بطلان قول الملحدين ان الاستدلال بكلام الله ورسوله
لا يفيد العلم واليقين
واحذر مقالات
الذين تفرقوا
|
|
شيعا وكانوا
شيعة الشيطان
|
واسأل خبيرا
عنهم ينبيك عن
|
|
أسرارهم بنصيحة
وبيان
|
قالوا الهدى لا
يستفاد بسنة
|
|
كلا ولا أثر ولا
قرآن
|
اذ كل ذاك أدلة
لفظية
|
|
لم تبد عن علم
ولا إيقان
|
فيها اشتراك ثم
اجمال يرى
|
|
وتجوز بالتزييد
والنقصان
|
وكذلك الاضمار
والتحقيق والح
|
|
ذف الذي لم يبد
عن تبيان
|
والنقل آحاد
فموقوف على
|
|
صدق الرواة وليس
ذا برهان
|
اذ بعضهم في
البعض يقدح دائما
|
|
والقدح فيهم فهو
ذو إمكان
|
وتواتر وهو
القليل ونادر
|
|
جدا فأين القطع
بالبرهان
|
هذا ويحتاج
السلامة بعد من
|
|
ذاك المعارض
صاحب السلطان
|
وهو الذي بالعقل
يفرض صدقه
|
|
والنفي مظنون
لدى الانسان
|
فلأجل هذا قد
عزلناها
|
|
وولينا العقول
ومنطق اليونان
|
الشرح
: من الضلالات
الشنيعة التي وقع فيها أرباب الكلام المذموم ، وكانت محل اتفاق بينهم رغم ما هم
عليه من عداوة وخلاف ، زعمهم أن الأدلة اللفظية وحدها لا تفيد العلم واليقين ،
ولكن تفيد الظن الذي لا قطع معه بأحد المعنيين ، وعللوا هذا بأن الألفاظ يعرض لها
مثل الاشتراك الذي هو وضع اللفظ لمعنيين أو لعدة معان على السواء ، فاذا أطلق لا
يدري أيها هو المقصود منه ، كلفظ العين مثلا ، فانه موضوع للباصرة والجارية والشمس
الخ.
ويعرض لها كذلك
الاجمال الذي يحتاج الى بيان وتفصيل كما في قوله تعالى مثلا : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) [المائدة : ٣]
فهذا مجمل يحتاج الى بيان الأشياء التي يتناولها اسم الميتة وهل يدخل فيها ميتة
البحر والجنين الذي خرج من بطن أمه المذكاة ميتا أو لا يدخل ... الخ ، ويعرض لها
أيضا المجاز بالزيادة والنقصان ، والاضمار الذي لا يعرف معه مرجع الضمير ، والحذف
الذي لا يدري معه تقدير الحذوف الى غير ذلك من العوارض التي قد تعرض للألفاظ فلا
يمكن معها الجزم بمعنى اللفظ. وهذا عارض من جهة من اللفظ. وأما من جهة السند
فالنقل اما أخبار آحاد فتتوقف على صدق رواتها ، وهو أمر غير مقطوع به ما دام بعضهم
يقدح في بعض ويتهمه بالكذب والوضع ، أو بسوء الحفظ وعدم الضبط ، وأما متواتر وهو
نادر وقليل جدا ، وهو مع ندرته وقلته يحتاج الى السلامة من المعارض العقلي. هذه هي
الشبه التي أدت بهم الى تلك الفرية الكبرى ، وهي عزل جميع الألفاظ عن أن تكون نصا
في معانيها تفيد القطع بها والحكم عليها جميعا بالاحتمال وافادة الظن ، ولزمهم بذلك
عزل القرآن والسنن والآثار السلفية عن إفادة العلم ، ولكن ذلك انما يستفاد عندهم
بالدلائل العقلية التي تركب على قواعد المنطق اليوناني. ولهذه الشناعة التي
ارتكبوها ، وهي سد باب الهدى والبيان من جهة النصوص الشرعية ، حذرنا المؤلف من
مقالاتهم ، ووصفهم بأنهم شيعة الشيطان أي حلفاؤه في الاضلال والاغواء ، وقال سل
بهم خبيرا ، يعني نفسه ، فانه درس هذه المذاهب كلها دراسة تعمق واستيعاب ،
وكان من علماء
المذهب الأشعري قبل أن يتصل بشيخه شيخ الاسلام ابن تيمية رحمهماالله تعالى ، وجزاهما عن دينه خير ما يجزي به الناصحين الأمناء.
* * *
فانظر الى
الاسلام كيف بقاؤه
|
|
من بعد هذا
القول ذي البطلان
|
وانظر الى
القرآن معزولا ل
|
|
ديهم عن نفوذ
ولاية الايقان
|
وانظر الى قول
الرسول كذاك مع
|
|
زولا لديهم ليس
ذا سلطان
|
والله ما عزلوه
تعظيما له
|
|
أيظن ذلك قط ذو
عرفان
|
يا ليتهم اذ
يحكمون بعزله
|
|
لم يرفعوا رايات
جنكسخان
|
يا ويلهم ولوا
نتائج فكرهم
|
|
وقضوا بها قطعا
على القرآن
|
ورذالهم ولوا
اشارات ابن س
|
|
ينا حين ولوا
منطق اليونان
|
وانظر الى نص
الكتاب مجندلا
|
|
وسط العرين ممزق
اللحمان
|
بالطعن بالاجمال
والاضمار
|
|
والتخصيص
والتأويل بالبهتان
|
والاشتراك
وبالمجاز وحذف ما
|
|
شاءوا بدعواهم
بلا برهان
|
وانظر إليه ليس
ينفذ حكمه
|
|
بين الخصوم وما
له من شان
|
وانظر إليه ليس
يقبل قوله
|
|
في العلم
بالاوصاف للرحمن
|
لكنما المقبول
حكم العقل لا
|
|
أحكامه لا يستوى
الحكمان
|
يبكى عليه أهله
وجنوده
|
|
بدمائهم ومدامع
الاجفان
|
الشرح
: فانظر يا أخا
الاسلام كيف هدم هؤلاء بمقالتهم الجائرة بناء الاسلام وانظر كيف عزلوا القرآن الذي
أخبر الله عنه أنه أنزله بيانا للناس وبلاغا لهم ، وسماه هدى ورحمة وموعظة وشفاء
وروحا ونورا ، وسماه بينة وبرهانا وبصائر الى غير ذلك من الأسماء الواردة في
القرآن ، كيف عزلوه عن سلطته في افادة العلم والايقان ، وكيف عزلوا الأحاديث
الصحيحة كذلك عن افادة البرهان ، فأي هوان لهما وراء هذا الهوان؟ ومهما تصنع هؤلاء
التوقير للكتاب والسنة بصيانتهما عن متناول العقول والأفهام ، فلن يجوز ذلك على
أحد من أهل
المعرفة فانهم في
الوقت الذي يعزلون فيه النصوص الشرعية يقيمون شرائع المغول والتتار فويل لهم حيث
حكموا نتائج عقولهم وقدموا حكمها على القرآن ، وجعلوها قاضية عليه ، ورذالهم أي
أخساؤهم يولون اشارات ابن سينا ويتخذونها آيات مقدسة ، حين قدموا منطق اليونان
وجعلوا له الولاية والسلطان ، في الوقت الذي جعلوا فيه نصوص الكتاب مزقا وطعنوا
فيها باحتمال الاجمال والاضمار ، والتخصيص والتأويل ، والاشتراك والمجاز والحذف ،
الى غير ذلك مما زعموه بلا بينة ولا برهان ، ثم عزلوها عن الحكم فيما شجر من خلاف
بين أرباب المذاهب ولم يردوا إليها ما تنازعوا فيه ، اعتقادا منهم أنها لا تصلح
لأن تكون حكما في موارد الخلاف. ولم يقبلوا كذلك قولها في صفات الرحمن جل شأنه.
لأنها تثبت له من الصفات ما تقتضي عقولهم نفيه ، فهم يرجعون في ذلك الى حكم العقل
وحده اثباتا ونفيا ويرفضون أحكام القرآن حتى تركوه وسط المعركة صريعا ممزق اللحمان
يبكى عليه أهله وجنوده بدمائهم ومدمع الاجفان.
* * *
عهدوه قدما ليس
يحكم غيره
|
|
وسواه معزول عن
السلطان
|
ان غاب نابت عنه
أقوال الرسو
|
|
ل هما لهم دون
الورى حكمان
|
فأتاهم ما لم
يكن في ظنهم
|
|
في حكم جنكسخان
ذي الطغيان
|
بجنود تعطيل
وكفران من المفع
|
|
ول ثم اللاص
والعلان
|
فعلوا بملته
وسنته كما
|
|
فعلوا بأمته من
العدوان
|
والله ما
انقادوا لجنكسخان حتى أع
|
|
رضوا عن محكم
القرآن
|
والله ما ولوه
الا بعد عز
|
|
ل الوحي عن علم
وعن ايقان
|
عزلوه عن سلطانه
وهو اليق
|
|
ين المستفاد لنا
من السلطان
|
هذا ولم يكف
الذي فعلوه حتى
|
|
تمموا الكفران
بالبهتان
|
جعلوا القرآن
عضين اذ عض
|
|
هوه أنواعا
معددة من النقصان
|
الشرح
: يعني أن أهل
القرآن وجنوده كان عهدهم به في الزمان الأول أنه
هو وحده الحكم
والفيصل في قضايا الدين كلها أصليها وفرعيها وسواه من مصادر العلم والمعرفة لا
سلطان لها بجانبه ، بل كلها خاضعة لحكمه ، فان غاب ولم يوجد فيه الحكم المطلوب
نابت عنه أقوال الرسول وسنته ، فالكتاب والسنة هما وحدهما والحكمان عند أهل
الايمان لا يقدمون على حكمهما قول فلان ولا رأي علان. ولكن الآية انعكست ووقع ما
لم يكن في حسبان أحد حين وقعت البلاد الاسلامية تحت حكم جنكيز خان ملك التتار
الطاغية حيث أتى مع جيشه المحارب بالسيف والسنان بجنود تعطيل وكفران ليفعلوا
بالملة الاسلامية ، والطريقة المحمدية مثل ما فعلت جيوشهم بأمة الاسلام من التنكيل
والعدوان. فهم وان تظاهروا بالدخول في الاسلام ، لكنهم لم ينقادوا لحكم الكتاب
والسنة. بل بقوا على شريعة الغاب التي قدموا بها من بلادهم. فمن انقاد لهم ودخل في
طاعتهم على ما هم فيه فقد أعرض عن محكم القرآن. وعزله عما هو مختص به ونازل لأجله
من افادة العلم والايقان. فان ذلك هو سلطانه ومناط ولايته أن يفيد اليقين بما فيه
من حجة وبرهان وبما اشتمل عليه من تفصيل وبيان.
وليتهم اكتفوا
بهذا الذي فعلوه بعزله عن ولايته في افادة اليقين بل تمموا هذا الكفر المبين
ببهتان عظيم ، وهو جعلهم القرآن مزقا وعضين فرموه بأنواع من النقص فعل الجاهلية
المارقين يضاهئون به قول من تقدمهم من المشركين كما حكاه الله عنهم في كتابه
المبين.
* * *
منها انتفاء
خروجه من ربنا
|
|
لم يبد من رب
ولا رحمن
|
لكنه خلق من
اللوح ابتدا
|
|
أو جبرئيل أو الرسول
الثاني
|
ما قاله رب
السموات العلى
|
|
ليس الكلام بوصف
ذي الغفران
|
تبا لهم سلبوه
أكمل وصفه
|
|
عضهوه عضه الريب
والكفران
|
هل يستوى بالله
نسبته الى
|
|
بشر ونسبته الى
الرحمن
|
من أين للمخلوق
عين صفاته
|
|
الله أكبر ليس
يستويان
|
بين الصفات وبين
مخلوق كما
|
|
بين الاله وهذه
الأكوان
|
هذا وقد عضوه أن
نصوصه
|
|
معزولة عن إمرة
الايقان
|
لكن غايتها
الظنون وليته
|
|
ظنا يكون مطابقا
ببيان
|
لكن ظواهر ما
يطابق ظنها
|
|
ما في الحقيقة
عندنا بوازن
|
الا اذا ما أولت
فمجازها
|
|
بزيادة فيها أو
النقصان
|
أو بالكناية
واستعارات وتش
|
|
بيه وأنواع
المجاز الثاني
|
فالقطع ليس
يفيده والظن
|
|
منفى كذلك
فانتفى الأمران
|
فلم الملامة اذ
عزلناها
|
|
وولينا العقول
وفكرة الأذهان
|
الشرح
: فمما عضهوا به
القرآن العظيم انهم نفوا خروجه من الرب الكريم ولم يقولوا بما قال السلف انه كلام
الله منزل غير مخلوق منه بدا وإليه يعود ، بل قالوا أنه مخلوق كسائر الأشياء
المخلوقة في الوجود ، وأنه لم يبتدئ نزوله من عند الله ، بل من اللوح المحفوظ الذي
هو مكتوب فيه ، ومنهم من يقول أن جبريل هو الذي أنشأ ألفاظه وتكلم بها ، ومنهم من
يقول : بل الرسول الثاني وهو محمد صلىاللهعليهوسلم فان القرآن أوحى إليه معاني فقط وهو الذي عبر عنها بألفاظ
من عنده ، بل معنى كونه متكلما عندهم أنه خالق للكلام ، وإضافة القرآن إليه انما
هي اضافة تشريف لمزيد اختصاص به كاضافة البيت والناقة ، وليست اضافة لموصوف ،
فهلاكا لهؤلاء الملحدين الذين ألحدوا في آيات الله ونفوا تكلمه بها فسلبوا ربهم
أكمل صفاته وهي الكلام والبيان والافهام ، فان من لا يقدر على الكلام لا يصلح أن
يكون إلها معبودا للأنام ، ولهذا أنكر الله على بني اسرائيل عبادتهم للعجل الذي صاغه
لهم السامري بأنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا.
وعجبا لهؤلاء كيف
تستوي في عقولهم النسبتان. نسبته الى البشر ، ونسبته الى الرحمن ، مع أن الله توعد
رأسا من رءوس الكفر وهو الوليد بن المغيرة بأنه سيصليه سقر لقوله في القرآن : (إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) [المدثر : ٢٥]
وكيف يضاف كلامه الذي هو صفته الى مخلوق فيكون صفة لذلك المخلوق
وأنى للمخلوق بمثل
صفاته؟ وكيف تستوي صفة الخالق وصفة المخلوق مع أن بينهما من البعد كما بين الخالق
والمخلوق سبحانك هذا بهتان عظيم.
ومما عضدوه به
أيضا أنهم عزلوا نصوصه عن امرتها في افادة العلم واليقين ، وقالوا أنها دلائل
لفظية قصاراها أن تفيد الظن والتخمين وليتها حين تفيد الظن يكون ظنها مطابقا لما
في الواقع ونفس الأمر ببيان واضح. بل هي ظواهر لفظية لا تطابق معانيها الحقائق
الخارجية فلا بد من تأويلها بما يصرفها عن تلك المعاني الظاهرة منها الى معان أخر
فتحمل على أنها مجاز بالزيادة أو النقصان أو على أنها كنايات يراد منها لوازم
معناها دون المعنى الأصلي أو على أنها استعارات استعملت في غير ما وضعت له لعلاقة
مع امتناع إرادة معانيها الحقيقية أو على أنها تشبيهات أو مجاز ثان وهو المجاز
المرسل الخ. وعلى الجملة فهي لا تفيد الا الظن والظن المستفاد منها ليس هو المقصود
، وبذلك انتفت عندهم افادتها للقطع وللظن معا ، فهي لا تفيد شيئا ، وبذلك يقولون
لا لوم علينا اذا عزلناها عن ولايتها ولم نحتكم في باب العقائد إليها. وولينا بدلا
منها العقول والأذهان لأنها هي التي تعطينا البرهان المفيد للعلم والايقان. هكذا
يقول هؤلاء الثيران فما أعظمه من افك ، وما أقبحه من بهتان.
* * *
فالله يعظم في
النصوص أجوركم
|
|
يا أمة الآثار
والقرآن
|
ماتت لدى
الأقوام لا يحيونها
|
|
أبدا ولا تحييهم
لهوان
|
هذا وقولهم خلاف
الحس
|
|
والمعقول
ولمنقول والبرهان
|
مع كونه أيضا
خلاف الفطرة الأو
|
|
لى وسنة ربنا
الرحمن
|
فالله قد فطر
العباد على التفا
|
|
هم بالخطاب
لمقصد التبيان
|
كل يدل على الذي
في نفسه
|
|
بكلامه من أهل
كل لسان
|
فترى المخاطب
قاطع بمراده
|
|
هذا مع التقصير
في الانسان
|
اذ كل لفظ غير
لفظ نبينا
|
|
هو دونه في ذا
بلا نكران
|
حاشا كلام الله
فهو الغاية القص
|
|
وى له أعلى ذرى
التبيان
|
الشرح
: المقصود من
الالفاظ هو الدلالة على المعانى ، واللفظ بلا معنى كالجسد بلا روح ، فاذا كان
هؤلاء قد سلبوا النصوص دلالتها على معانيها ، وأوجبوا صرفها عنها الى معان أخر
بالتأويل. فقد حكموا بموتها ، وجردوها من الروح التي به حياتها ، وتلك مصيبة من
أعظم المصائب ، دونها فقد كل عزيز وصاحب ، فالله يعظم أجور أهل الايمان في مصيبتهم
في النصوص التي لا خلف منها ولا عوض ، فقد أماتها القوم موتا لا قيامة بعده ، ولم
يريدوا أن يحيوا بها لهوانها عليهم ، على أنهم فيما ذهبوا إليه من سلب النصوص
خاصية الدلالة والافهام مكابرون للحس والعيان ، ومخالفون للعقل والنقل وفطرة
الانسان التي هي سنة ربنا الرحمن ، فان الله قد فطر العباد على التفاهم بالخطاب
لقصد الايضاح والبيان لما يضمره الجنان. فكل متكلم بكلام من أهل كل لغة ولسان انما
يريد بكلامه التعبير عما في نفسه حتى يفهمه المخاطب فاذا سمع الكلام وكان عارفا
بوضع الألفاظ قطع بمراد المتكلم منها مع قصوره في البيان ، فانه مهما كانت درجته
في الفصاحة والبلاغة فلا بد أن يكون في بيانه قصور ، وانما تمام البيان له وحده صلىاللهعليهوسلم ، فكل كلام هو دون كلامه في ذلك الا كلام ربنا جل وعلا فهو
الغاية القصوى التي لا تنال وهو الذي يتطامن عنده كل مقال.
لم يفهم الثقلان
من لفظ كما
|
|
فهموا من
الأخبار والقرآن
|
فهو الذي استولى
على التبيان
|
|
كاستيلائه حقا
على الاحسان
|
ما بعد تبيان
الرسول لناظر
|
|
إلا العمى
والعيب في العميان
|
فانظر إلى قول
الرسول لسائل
|
|
من صحبه عن رؤية
الرحمن
|
كالبدر ليل
تمامه والشمس في
|
|
نحر الظهيرة ما
هما مثلان
|
بل قصده تحقيق
رؤيتنا له
|
|
فأتى بأظهر ما
يرى بعيان
|
ونفى السحاب
وذاك أمر مانع
|
|
من رؤية القمرين
في ذا الآن
|
فأتى بالمقتضى
ونفى الموا
|
|
نع خشية التقصير
في التبيان
|
صلى عليه الله
ما هذا الذي
|
|
يأتي به من بعد
ذا ببيان
|
ما ذا يقول
القاصد التبيان يا
|
|
أهل العمى من
بعد ذا التبيان
|
الشرح
: فنصوص الكتاب
والسنة هي الغاية في البيان والدلالة على المعنى المقصود ، بحيث لا يمكن ان يتسامى
إلى رتبتها في ذلك كلام أحد من الناس ، فاختصاصهما بالإيضاح والبيان كاختصاصهما
بالجودة والإتقان ، فليس بعد بيان الرسول مطمح لناظر ولا غاية لمستدل ، فمن لم
يهتد به ولم يدرك المراد منه فليتهم نفسه ، فإنه إنما أتى من جهة عماه وفساد نظره
، وإن شئت دليلا على ذلك فانظر إلى ما أجاب به الرسول صلىاللهعليهوسلم من سأله من أصحابه عن رؤية المؤمنين لله عزوجل في الجنة حيث قال «إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة
البدر ليس دونه سحاب وكما ترون الشمس صحوا ليس دونها سحاب» ولم يرد الرسولصلىاللهعليهوسلم بذلك تشبيه المرئي بالمرئي ، فإن الله عزوجل لا يشبهه شيء من خلقه ، وإنما قصد إلى تحقيق الرؤية
وتأكيدها ، فشبه رؤيتنا له برؤية الشمس والقمر وهما في أتم أحوالهما من حيث الجلاء
والظهور ، وهو أن يكون القمر بدرا ، وأن تكون الشمس في نحر الظهيرة ، وقد انتفى
عنهما كل ما يحول دون رؤيتهما من سحاب وقتر ، فجمع صلىاللهعليهوسلم في كلامه بين وجود المقتضى للرؤية وانتفاء المانع منها
خشية ان يقع في كلامه نقص أو قصور ، فما ذا كان يمكن ان يأتي به صلىاللهعليهوسلم من زيادة على هذا البيان ، وما ذا عسى ان يقوله القاصد
للبيان من بعد هذا التبيان؟ اللهم إنه العمى والخذلان وغرور الإنسان ، يحول بينه
وبين رؤية الحق الظاهر للعيان.
* * *
فبأي لفظ جاءكم
قلتم له
|
|
ذا اللفظ معزول
عن الإيقان
|
وضربتم في وجهه
بعس
|
|
اكر التأويل
دفعا منكم بليان
|
لو أنكم والله
عاملتم بذا
|
|
أهل العلوم
وكتبهم بوزان
|
فسدت تصانيف
الوجود بأسرها
|
|
وغدت علوم الناس
ذات هوان
|
هذا وليسوا في
بيان علومهم
|
|
مثل الرسول
ومنزل القرآن
|
والله لو صح
الذي قد قلتم
|
|
قطعت سبيل العلم
والإيمان
|
فالعقل لا يهدي
إلى تفصيلها
|
|
لكن ما جاءت به
الوحيان
|
فإذا غدا
التفصيل لفظيا ومع
|
|
زولا عن الإيقان
والرجحان
|
فهناك لا علم
أفادت لا ولا
|
|
ظنا وهذا غاية
الحرمان
|
الشرح
: ولكنكم مع بلوغ
الرسول صلىاللهعليهوسلم ذروة البيان ووضوح مراده من كلامه كأنه مرئي للعيان ، كلما
جاءكم بلفظ مهما كان صريحا في معناه قلتم أنه لا يفيد اليقين ، لأن دلالة أي لفظ
على معناه عندكم دلالة ظنية ، فتضربون في وجهه بعساكر التأويل دفعا له عن معناه
الحق بليان ، أي بملاينة ولطف. وصرفا له إلى ما تريدون من معان باطلة تزعمونها
عقلية. وهذا الحكم منكم بقصور الألفاظ عن الدلالة على معانيها يترتب عليه من
الفساد ما لا يحصيه إلا الله ، فلو أنكم أجريتم قاعدتكم هذه على أهل العلوم وكتبهم
لما أمكن فهم مسألة واحدة من مسائل العلوم ، ولفسدت تصانيف الوجود كلها ، ولأصبحت
العلوم شيئا تافها لا يؤبه له ، مع أن علوم هؤلاء العلماء لا يمكن ان تساوي في
البيان ما جاء عن الرسول من سنة وقرآن ، ولو صح أيضا ما قلتم لانسد باب العلم
والإيمان ، فإن العقول لا تهدي إلى تفاصيلها ، بل إنما يعرف ذلك مما جاء به الوحيان
من سنة ومن قرآن ، فإذا كان ذلك التفصيل لفظيا ومعزولا عندكم عن إفادة الإيقان ،
بل عن إفادة الظن والرجحان كانت النتيجة أن هذه النصوص التي لا بد منها لمعرفة
تفاصيل العقائد لا تفيد علما ولا ظنا ، وهذا غاية الحرمان ، بل غاية الجهل
والخذلان.
* * *
لو صح ذاك القول
لم يحصل لنا
|
|
قطع بقول قط من
إنسان
|
وغدا التخاطب
فاسدا وفساده
|
|
أصل الفساد لنوع
ذا الانسان
|
ما كان يحصل
علمنا بشهادة
|
|
ووصية كلا ولا
إيمان
|
وكذلك الإقرار
يصبح فاسدا
|
|
إذ كان محتملا
لسبع معان
|
وكذا عقود
العالمين بأسرها
|
|
باللفظ إذ
يتخاطب الرجلان
|
أيسوغ للشهداء
شهادتهم بها
|
|
من غير علم منهم
ببيان
|
إذ تلكم الألفاظ
غير مفيدة
|
|
للعلم بل للظن
ذي الرجحان
|
بل لا يسوغ
لشاهد أبدا شها
|
|
دته على مدلول
نطق لسان
|
بل لا يراق دم
بلفظ الكفر من
|
|
متكلم بالظن
والحسبان
|
بل لا يباح
الفرج بالاذن الذي
|
|
هو شرط صحته من
النسوان
|
يسوغ للشهداء
جزمهم بأن
|
|
رضيت بلفظ قابل
لمعان
|
هذا وجملة ما
يقال بأنه
|
|
في ذا فساد
العقل والأديان
|
الشرح
: ولو صح قولكم أيضا
لما أمكن القطع بمراد أي متكلم بكلامه لاحتماله لهذا المعنى ولغيره ، وحينئذ يفسد
التخاطب بين الناس ولا يمكن لأحد أن يفهم مراد الآخر من كلامه وفساد التخاطب الذي
هو ميزة الإنسان وخاصيته التي اختصه الله بها من بين سائر الحيوان يقتضي فساد
أحوال ذلك النوع كلها واضطراب أموره ، فإذا شهد شاهد مثلا على أمر ما لم تكن
شهادته موجبة لإثبات ذلك الأمر إذ لم يحصل لنا علم بمضمون تلك الشهادة ، وحينئذ لا
يمكن إثبات حق ما عن طريق الشهادة.
وكذلك إذا أوصى
إنسان بوصية لا يمكن فهم ما أوصى به على وجهه ، وبذلك لا يمكن إنفاذ وصيته ، ولو
حلف على يمين لا ينعقد يمينه لعدم العلم بالمحلوف عليه ولو أقر بشيء لا يؤخذ
بإقراره كذلك لاحتماله لعدة معان ، وكل عقد حصل بين اثنين عن طريق التخاطب
والمشافهة هو أيضا فاسد على رأيكم لعدم علم كل منهما بما يريده الآخر بكلامه ، ولا
يسوغ لشاهد سمع ذلك منهما الشهادة عليه لعدم علمه بمدلولات تلك الألفاظ ، فإنها
عندكم غير مفيدة لا لعلم ولا لظن ، بل يسوغ لشاهد شهادته على مدلول أي كلام ، بل
لو تلفظ أحد بما هو صريح في الكفر لا يحكم بردته ولا يجب قتله ، بل لو تزوج إنسان
من امرأة وتلفظت بما يدل على أذنها وقبولها للنكاح منه لا يكون ذلك مبيحا للوطء
لعدم إفادة ذلك
اللفظ للعلم برضاها ، ولو استشهد على ذلك شهود لم يمكنهم الجزم بأنها رضيت ما دام
اللفظ محتملا لمعان كثيرة. وبالجملة فإن هذه القاعدة التي سيبوء بإثمها من قعدها
وقصد من ورائها صرف الناس عن أخذ دينهم من الكتاب والسنة بحجة أن دلالتهما لفظية
يترتب عليها من فساد العقول والأديان ما لا يدخل تحت عد ولا حسبان ، بل هي هذيان
لا يليق بكرامة الإنسان.
* * *
هذا ومن بهتانهم
أن اللغا
|
|
ت أتت بنقل
الفرد والوحدان
|
فانظر إلى
الألفاظ في جريانها
|
|
في هذه الأخبار
والقرآن
|
أتظنها تحتاج
نقلا مسندا
|
|
متواترا أو نقل
ذي وحدان
|
أم قد جرت مجرى
الضروريات لا
|
|
تحتاج نقلا وهي
ذات بيان
|
إلا الأقل فإنه
يحتاج
|
|
للنقل الصحيح
وذاك ذو تبيان
|
ومن المصائب قول
قائلهم ب
|
|
أن الله أظهر
لفظة بلسان
|
وخلافهم فيه
كثير ظاهر
|
|
عربي وضع ذاك أم
سرياني
|
وكذا اختلافهم أمشتقا
يرى
|
|
أم جامدا قولان
مشهوران
|
والأصل ما ذا
فيه خلف ثابت
|
|
عند النحاة وذاك
ذو ألوان
|
هذا ولفظ الله
أظهر لفظة
|
|
نطق اللسان بها
مدى الأزمان
|
فانظر بحق الله
ما ذا في الذي
|
|
قالوه من لبس
ومن بهتان
|
هل خالف العقلاء
أن الله
|
|
رب العالمين
مدبر الأكوان
|
ما فيه إجمال ولا
هو موهم
|
|
نقل المجاز ولا
له وضعان
|
الشرح
: ومن جملة افتراء
هؤلاء ادعاؤهم أن اللغات في دلالتها على معانيها إنما نقلت بأخبار آحاد ، وخبر
الواحد إنما يفيد الظن. وهذا كذب فإننا نجد الألفاظ المتداولة في الكتاب والسنة لا
تحتاج في العلم بوضعها لمعانيها إلى رواية أحد من الناس لا تواترا ولا آحادا ، بل
إن ذلك يجري مجرى الضروريات التي لا تحتاج إلى نقل ، اللهم إلا قليلا من الألفاظ
الشاذة الغريبة ، فقد يحتاج في العلم
بوضعها الى نقل
صحيح ، وهذه قد بينها علماء اللغة ونقلوا الشواهد الدالة على معانيها.
وأدهى من ذلك وأمر
قول بعضهم مستشهدا على قصور اللغات وعدم إفادتها العلم بالمعاني أن الاسم الكريم (الله)
مع كونه أظهر لفظة نطق بها لسان قد اختلفوا فيه اختلافا كثيرا ، فاختلفوا أولا هل
هو عربي أم سرياني ، ثم اختلفوا ثانيا هل هو مشتق أم جامد؟ والذين قالوا بأنه مشتق
اختلفوا في أصل اشتقاقه ، هل هو من إله يأله آلهة ، بمعنى عبد ، أو من إله يأله
إلها إذا تحير ، أو من وله يوله إذا أصابه الوله ، وهو شدة الحب الخ.
قالوا فإذا كانت
أظهر لفظة نطق بها لسان ، هذا حظها من الخلاف والشقاق فكيف يمكن الثقة بمعنى أي
لفظ مما هو دونها في الظهور والبيان. وهذا منهم تلبيس مكشوف وبهتان مفضوح فإن أحدا
من العقلاء لم يختلف في مدلول هذه اللفظة ، وأنها علم على رب العالمين مدبر
الخلائق أجمعين ليس فيها إجمال يحتاج إلى تفصيل ولا هي موهمة معنى آخر بطريق النقل
المجازي ولا لها وضعان ، بل لم توضع إلا لهذا المعنى وحده ، يعرف ذلك كله من له
علم بالوضع اللغوي لها ، فأين إذا ما ادعوه من خلاف على معناه؟ اللهم أن القوم في
ضلال مبين.
* * *
والخلف في أحوال
ذاك اللفظ لا
|
|
في وضعه لم
يختلف رجلان
|
وإذا هم اختلفوا
بلفظة مكة
|
|
فيه لهم قولان
معروفان
|
أفبينهم خلف بأن
مرادهم
|
|
حرم الإله وقبلة
البلدان
|
وإذا هم اختلفوا
بلفظة أحمد
|
|
فيه لهم قولان
مذكوران
|
أفبينهم خلف بأن
مرادهم
|
|
منه رسول الله
ذو البرهان
|
ونظير هذا ليس
يحصر كثرة
|
|
يا قوم فاستحيوا
من الرحمن
|
أبمثل ذا
الهذيان قد عزلت نصو
|
|
ص الوحي عن علم
وعن إيقان
|
فالحمد لله
المعافي عبده
|
|
مما بلاكم يا
ذوي العرفان
|
فلأجل ذا نبذوا
الكتاب وراءهم
|
|
ومضوا على آثار
كل مهان
|
ولأجل ذاك غدوا
على السنن التي
|
|
جاءت وأهليها
ذوي أضغان
|
يرمونهم كذبا
بكل عظيمة
|
|
حاشاهم من أفك
ذي بهتان
|
الشرح
: فالخلاف الواقع في
ذلك اللفظ ليس في المعنى الموضوع له ، فإن ذلك لم يختلف فيه اثنان ، وإنما الخلاف
فيما يعتريه من أحوال من حيث الجمود والاشتقاق والأصل الذي يرجع إليه الاشتقاق
ونحو ذلك ، كما اختلفوا في لفظة مكة على قولين من حيث الأصل الذي اشتقت منه ،
فمنهم من قال أنها من مكئه بمعنى أهلكه لأنها تهلك كل من قصدها بسوء ، وقيل من
أمتك الفضيل الضرع إذا امتص كل ما فيه لذهابها بالفضل على سائر القرى.
ولكن أحدا لم
ينازع في أن هذه اللفظة علم على حرم الله الآمن وقبلته التي ارتضاها لعباده ،
وكذلك اختلفوا في اشتقاق لفظة أحمد ، وهل هي بمعنى اسم الفاعل أو المفعول ، ولكنهم
متفقون على أن المراد بها هو رسول الله المبعوث بالبراهين والبينات. ومثل هذا كثير
لا يمكن حصره ، ولكن القوم قل منهم الحياء من الله جل وعلا. فقالوا على كتابه وسنة
رسوله بهتانا عظيما. وقضوا عليها بمثل هذه الهذيانات فعزلوا نصوصهما عن إفادة
العلم واليقين ، فالحمد لله الذي عافانا مما ابتلى به هؤلاء الأدعياء للمعرفة وهم
في الغاية القصوى من الجهل والغباء الذين نبذوا كتاب ربهم وراء الظهور وصاروا
أعداء للسنة وأهلها يرمونهم بكل قبيح من الألقاب ، وبكل فاحش من السباب من أجل
قاعدة موهومة يحسبونها شيئا وهي سراب ، ولكن هؤلاء مبرءون مما يبهته به هؤلاء
الأفاكون ، وهم عند الله أولو الألباب.
* * *
فصل في تنزيه أهل الحديث والشريعة
عن الألقاب القبيحة الشنيعة
فرموهم بغيا بما
الرامي به
|
|
أولى ليدفع عنه
فعل الجاني
|
يرمي البريء بما
جناه مباهتا
|
|
ولذاك عند الغر
يشتبهان
|
سموهم حشوية
ونوابتا
|
|
ومجسمين وعابدي
أوثان
|
وكذاك أعداء
الرسول وصحبه
|
|
وهم الروافض
أخبث الحيوان
|
نصبوا العداوة
للصحابة ثم سم
|
|
وا بالنواصب
شيعة الرحمن
|
وكذا المعطل شبه
الرحمن بالم
|
|
عدوم فاجتمعت له
الوصفان
|
وكذاك شبه قوله
بكلامنا
|
|
حتى نفاه وذان
تشبيهان
|
وكذاك شبه وصفه
بصفاتنا
|
|
حتى نفاه عنه
بالبهتان
|
وأتى إلى وصف
الرسول لربه
|
|
سمّاه تشبيها
فيا إخواني
|
بالله من أولى
بهذا الاسم من
|
|
هذا الخبيث
المخبث الشيطاني
|
إن كان تشبيها
ثبوت صفاته
|
|
سبحانه فبأكمل
ذي شأن
|
لكن نفي صفاته
تشبيهه
|
|
بالجامدات وكل
ذي نقصان
|
بل بالذي هو غير
شيء وه
|
|
ومعدوم وان يفرض
ففي الأذهان
|
فمن المشبه
بالحقيقة أنتم
|
|
أم مثبت الأوصاف
للرحمن
|
الشرح
: ثم إن هؤلاء
المعطلة الجاحدين لصفات رب العالمين يرمون أهل الإثبات من المحدثين بغيا بما هم
أحق به وأجدر من ألقاب السوء ليدفعوا الذم عن أنفسهم فعل الجناة المجرمين فيرمونهم
، وهم برآء بما جنوه هم مكابرين مباهتين ، ولذلك يشتبه الأمر على الإغرار الجاهلين
فيظنونهم فيما بهتوا به أهل الحق صادقين. وهم عند الله والمؤمنين من أكذب الكاذبين
فسموهم حشوية يعنون أنهم من حشو الناس أو خلاطهم ، فليس عندهم علم ولا تحقيق ،
وسموهم نوابتا يقصدون أنهم نبتوا في الإسلام بعد اختلاط الأعاجم وفساد اللسان
العربي وسموهم مجسمين وعابدي أوثان ، لأنهم يقولون أن ربهم في السماء وفوق العرش
بذاته فما أشبههم
في ذلك بالرافضة الخبثاء أعداء الرسول وأصحابه حيث نصبوا العداوة للصحابة رضي الله
عنهم وأسرفوا في سبهم وتنقيصهم ، ثم كل من والاهم وعرف لهم أقدارهم وسوالفهم في
الدين ناصبيا ، فمن أولى بهذا الاسم من الفريقين؟ ورحم الله ابن تيمية حيث يقول :
إن كان نصبا حب
صحب محمد
|
|
فليشهد الثقلان
أني ناصبي
|
وكذلك هؤلاء
المعطلة النافون لصفات الاثبات التي جاء بها الكتاب والسنة يصفون ربهم بصفات سلبية
عدمية لا تكون إلا للمعدوم والممتنع ويزعمون ذلك تنزيها. فيقولون : أنه ليس بجسم
ولا عرض ولا جوهر ولا شخص ، وليس له مقدار ولا صورة ولا أين ولا يشار إليه ولا
يقبل الاتصال والانفصال والقرب والبعد والصعود والهبوط والحركة والنقلة ، ولا يقال
داخل العالم ولا خارجه إلى غير ذلك مما أجروه عليه من صفات السلب التي تقتضي عدمه
فشبهوه في ذلك بالمعدوم فاجتمع لهم الوصفان من التشبيه والتعطيل ، بل إذا حقق
عليهم الأمر كانوا مشبهة أولا ، فإن الذي حملهم على التعطيل والإنكار توهمهم أن
إثبات الصفات تشبيه والصفات ثابتة في نفس الأمر فلزمهم التشبيه وما نفعهم التعطيل
بل أوقعهم في تشبيه شر مما فروا منه فإنهم ما زادوا على أن شبهوه بالجامدات
والمعدومات.
فهم لمّا توهموا
أن إثبات القول لله يقتضي تشبيهه بكلام المخلوقين نفوه عنه ، وقالوا : ليس لله قول
ولا كلام ، فشبهوه في ذلك بالجامدات التي لا تنطق وبالعجماوات الخرساء ، فهذان
تشبيهان.
وكذلك ظنوا أن
إثبات الصفات له مستلزم أن تكون كصفات المخلوقين ، فنفوها كذبا وبهتانا ، ولم
يستطيعوا أن يثبّتوا بلا تمثيل ، فوقعوا في التشبيه والتعطيل ، وهم مع ذلك يعمدون
إلى ما وصف به الرسول صلىاللهعليهوسلم ربه من صفات الاثبات ، فيسمون ذلك تشبيها. فمن أولى بهذا
الاسم من الفريقين؟ الذين مثلوا فعطّلوا فمثلوا ، أن الذين أثبتوا بلا تمثيل
ونزهوا بلا تعطيل ، مصدق قوله
تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ
السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى : ١١] فإن
كان ذلك الإثبات يسمى عندهم تشبيها ـ وحاشاه ـ فهو على كل حال خير من تشبيههم ،
فإنه تشبيه له بالأشياء الكاملة ذوات الشأن والرفعة ، وأما نفيهم للصفات فيقتضي
تشبيهه بالناقصات من الجمادات وغيرها ، بل بالعدوم الذي لا حقيقة له ، والذي لا
يصح فرضه إلا في الأذهان فمن المشبه إذا على الحقيقة منكم ، ومن مثبتي الصفات
للرحمن؟
* * *
فصل
في نكتة بديعة تبين ميراث الملقبين
والملقبين من المشركين والموحدين
هذا وثم لطيفة
عجب سأبديها
|
|
لكم يا معشر
الأخوان
|
فاسمع فذاك معطل
ومشبه
|
|
واعقل فذاك
حقيقة الإنسان
|
لا بد أن يرث
الرسول وضده
|
|
في الناس
طائفتان مختلفان
|
فالوارثون له
على منهاجه
|
|
والوارثون لضده
فئتان
|
إحداهما حرب له
ولحزبه
|
|
ما عندهم في ذاك
من كتمان
|
فرموه من
ألقابهم بعظائم
|
|
هم أهلها لا
خيرة الرحمن
|
فأتى الألى
ورثوهم فرموا بها
|
|
وراثه بالبغي
والعدوان
|
هذا يحقق إرث كل
منهما
|
|
فاسمع وعه يا من
له أذنان
|
والآخرون أولو
النفاق فاضمروا
|
|
شيئا وقالوا
غيره بلسان
|
وكذا المعطل
مضمر تعطيله
|
|
قد أظهر التنزيه
للرحمن
|
هذي مواريث
العباد تقسمت
|
|
بين الطوائف
قسمة المنان
|
الشرح
: بعد أن بين المؤلف
ما وقع فيه هؤلاء المعطلة من التشبيه الذي رموا به أهل الإثبات كذبا وبهتانا أراد
أن يقفنا على لطيفة من اللطائف الخفية التي
تدل على عجيب صنع
الله في خلقه ، فقال إن الناس منذ كانوا : ثلاثة أقسام :
معطل يجحد الخالق
جل وعلا وينكر وجوده أو ينكر ما ينبغي له من الصفات.
ومشبه يؤمن بوجود
الله سبحانه ، ولكنه يثبت له مثل صفات المخلوقين.
ومؤمن موحد يثبت
لله ما يليق به من الأسماء والصفات مع تنزيهه عن مشابهة المخلوقات. وإذا علم هذا
فينبغي لكل ذي عقل تتحقق به إنسانيته وتتميز به عن سائر الحيوان أن يدرك أن الرسول
صلىاللهعليهوسلم له ورثة من أمته ، ولخصومه أيضا وراث ، فالوارثون له هم
السائرون على منهجه ، الواقفون عند ما حده لهم دون زيادة أو ابتداع ، والوارثون
لضده فريقان : فريق جاهر بالعداوة له ولحزبه دون تستر أو كتمان ، فرموه وهو خيرة
الله من خلقه من شنيع الألقاب بما هم أولى به وأهله.
ثم أتى الذين
ورثوهم في الضلال والعداوة ، فرموا بهذه الألقاب وراث الرسول وحزبه بغيا وعدوانا ،
فهذا يحقق إرث كل منهما عند كل من عقل وتدبر وألقى السمع وهو شهيد.
وأما الفريق
الثاني فهم أهل النفاق الذين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم فهم يضمرون في
قلوبهم الكفر والعداوة للحق ، ويظهرون الإيمان والمسالمة. وما أشبه المعطلة بهذا
الفريق الثاني ، فإنهم يضمرون التعطيل والإنكار ، ويسمون ذلك تنزيها لله جل شأنه ،
قولا بألسنتهم مع انطواء قلوبهم على خلافه ، فهذه هي مواريث العباد قسمها الله بين
خلقه على وفق حكمته وعلمه ، ولله في خلقه شئون.
اللغة : اللطيفة ،
المعنى الخفي من اللطافة التي هي ضد الظهور. والحرب مصدر بمعنى اسم الفاعل أي
محارب ، والعظائم جمع عظيمة وهي الأمر الشنيع.
* * *
هذا وثم لطيفة
أخرى بها
|
|
سلوان من قد سب
بالبهتان
|
تجد المعطل
لاعنا لمجسم
|
|
ومشبه لله
بالإنسان
|
والله يصرف ذاك
عن أهل الهدى
|
|
كمحمد ومذمم
اسمان
|
هم يشتمون مذمما
ومحمد
|
|
عن شتمهم في
معزل وصيان
|
صان الإله محمدا
عن شتمهم
|
|
في اللفظ
والمعنى هما صنوان
|
كصيانة الاتباع
عن شتم المعطل
|
|
للمشبه هكذا
الإرثان
|
والسب مرجعه
إليهم اذ هم
|
|
أهل لكل مذمة
وهوان
|
وكذا المعطل
يلعن اسم مشبه
|
|
واسم الموحد في
حمى الرحمن
|
الشرح
: ومع هذه اللطيفة
التي تقدمت هناك لطيفة أخرى يتسلى بها أهل الحق عن شتم هؤلاء المجرمين لهم وبهتهم
إياهم مما هم منه براء ، وهي أنك تجد المعطل لاعنا لكل من يقول بالتجسيم وتسببه
الله بخلقه ، ولكن هذا اللعن لا يضير أهل الحق ، فقد صرفه الله عنهم بتطهير
عقيدتهم من اعتقاد التجسيم والتشبيه ، وإنما يلحق هذا اللعن من يطلق الجسم على
الله أو يشبهه بخلقه ، وذلك كمحمد ومذمم ، فإنهما اسمان متقابلان ، والثاني منهما
هو الحقيق بالشتم والتنقيص ، فإذا شتم الكفار رسول الله صلىاللهعليهوسلم فإنهم لا يضيرونه بشتمهم ، فإن شتمهم إنما يلحق مذمما ،
ولكنه هو محمد لا مذمم ، فهو من شتمهم في حصن حصين وحرم مصون وقد صانه الإله عن
شتمهم لفظا ومعنى ، اما لفظا فبتسميته محمدا ، وأما المعنى فبتطهيره عن كل ما يذم
ويعاب من العقائد والأخلاق والأعمال ، والضمير في قوله هما للفظ والمعنى ، ومعنى
كونهما صنوان أن أصلهما واحد كما في قوله تعالى : (وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ
وَغَيْرُ صِنْوانٍ) [الرعد : ٤] وكما
في قوله عليه الصلاة والسلام في شأن عم العباس «أن عم الرجل صنو أبيه».
وكما صان الله عزوجل نبيه عن شتم الكفار وتنقيصهم ، فقد صان أتباعه عن شتم
المعطل للمشبه ، فلا يلحقهم من معرته شيء ، بل هو في الحقيقة راجع إلى
هؤلاء الشاتمين ،
فإنهم هم أحق بكل مذمة وتنقيص ، فالمعطل يلعن اسم المشبه ، فلا يلحق لعنه إلا كل
من صدق عليه هذا الاسم وهو غير صادق على أحد من أهل الحق ، بل الذي يصدق عليه أنه
موحد ، فهو في حمى الله من كل ما يتلاعن به المبطلون.
* * *
هذي حسان عرائس
زفت لكم
|
|
ولدى المعطل هن
غير حسان
|
والعلم يدخل قلب
كل موفق
|
|
من غير أبواب
ولا استئذان
|
ويرده المحروم
من خذلانه
|
|
لا تشقنا اللهم
بالحرمان
|
يا فرقة نفت
الإله وقوله
|
|
وعلوه بالجحد
والكفران
|
موتوا بغيظكم
فربي عالم
|
|
بسرائر منكم
وخبث جنان
|
فالله ناصر دينه
وكتابه
|
|
ورسوله بالعلم
والسلطان
|
والحق ركن لا
يقوم لهذه
|
|
أحد ولو جمعت له
الثقلان
|
توبوا إلى
الرحمن من تعطيلكم
|
|
فالرب يقبل توبة
الندمان
|
من تاب منكم فالجنان
مصيره
|
|
أو مات جهميا
ففي النيران
|
الشرح
: يخاطب المؤلف
إخوانه من أهل الحق بأن تلك اللطائف التي أبداها لهم هي في جمالها وروعتها كحسان
العرائس المجلوة ، حثا لهم على تأملها والنظر فيها ، ولكنها عند المعطل ليست بذاك
لبلادة عقله وغبائه ، فهو لا يدرك ما فيها من معنى رائق لطيف ، لأنه لا حظّ له في
إدراك جواهر العلم وفرائده ، إذ العلم لا يناله إلا كل موفق مسدد ، وأما المخذول
المطرود فإن قلبه عن ذلك في صدود ، نعوذ بالله من الخذلان والحرمان.
ثم ينادي هذه
الفرقة الضالة من أهل الجحد والتعطيل التي نفت الإله وكلامه وعلوه على خلقه بأن
يموتوا غيظا وحسرة ، فإن الله عالم بخبث طواياهم ودخن قلوبهم ، وهو لا بد ناصر
دينه وكتابه ورسوله بالعلم الصحيح والحجة الظاهرة ، فإنها الحق الذي من أوى إليه
فقد أوى إلى ركن شديد لا يقدر أحد على النيل
منه ولو اجتمعت
على حربه الثقلان من أنس ومن جان ، ثم هو بعد ذلك يعرض عليهم أن يتوبوا إلى الله
ويرجعوا إليه من إثم تعطيلهم وجرم إنكارهم ، فإن الله يقبل توبة من تاب نادما على
ما فعل ، فمن تاب منكم فإن مآله إلى جنة عرضها السموات والأرض ، ومن مات منكم على
تجهمه وتعطيله فإن مأواه جهنم وبئس المصير.
* * *
فصل في بيان اقتضاء التجهم والجبر والإرجاء
للخروج عن جميع ديانات الأنبياء
واسمع وعه سرا
عجيبا كان
|
|
مكتوما من
الأقوام منذ زمان
|
فأذعته بعد
اللتيا والتي
|
|
نصحا وخوف معرة
الكتمان
|
جيم وجيم ثم جيم
معهما
|
|
مقرونة مع أحرف
بوزان
|
فيها لدى
الأقوام طلسم متى
|
|
تحلله تحلل ذروة
العرفان
|
فإذا رأيت الثور
فيه تقارن
|
|
الجيمات
بالتثليث شر قران
|
دلت على أن
النحوس جميعها
|
|
سهم الذي قد فاز
بالخذلان
|
جبر وارجاء وجيم
تجهم
|
|
فتأمل المجموع
في الميزان
|
فاحكم بطالعها
لمن حصلت له
|
|
بخلاصة من ربقة
الإيمان
|
الشرح
: هذه الأبيات تدل
على تمكن المؤلف رحمهالله من علم الفلك والهيئة وحساب الجمل ، وأنا لست ممن يحذقون
هذه الفنون ، فلا أحسن أن أعبر عما يريده بهذه الأبيات إلا على سبيل الإجمال ، فهو
يطلب منا أن نسمع ونعي هذا السر العجيب الذي كتمه في صدره مدة طويلة ، ثم أذاعه
بعد اللتيا والتي ، أي بعد ما سفرت العداوة بينه وبين خصومه ، واستعرت المعركة ،
فأيداه على جهة النصح لهم ، وخروجا من عهدة الكتمان ومعرته ، وهذا السر هو أن هناك
ثلاث جيمات في ثلاث كلمات ، هي الجبر والإرجاء والتجهم ، فكل جيم منها مقرونة مع
أحرف بوازنها ، أي
بقدرها ، وأن في هذه الجيمات الثلاث عند القوم لغزا بديعا من يحلله ، فقد حل ذروة
المعرفة وركب سنام الحقيقة ، فإذا رأيت الثور ـ وهو أحد البروج التي تقطعها الشمس
في حركتها الظاهرية جنوبي مدار السرطان في فصل الربيع ـ تتقارن فيه الجيمات الثلاث
وتجتمع شر اجتماع ، فاعلم بأن النحس كله نصيب الذي قد باء بالخذلان ، فإن كل جيم
منها نحس على صاحبها ، فإذا اجتمعت كانت نحوسا وكانت أشأم طالع ، فاحكم بطالعها
النحس لمن حصلت له هذه الجيمات الثلاث واقترنت فيه بأن جمع بين القول بالجبر
والإرجاء والتجهم بانخلاعه من ربقة الإيمان وعري اليقين.
* * *
فاحمل على
الأقدار ذنبك كله
|
|
حمل الجذوع على
قوى الجدران
|
وافتح لنفسك باب
عذر إذ ترى
|
|
الأفعال فعل
الخالق الديان
|
فالجبر يشهدك
الذنوب جميعها
|
|
مثل ارتعاش
الشيخ ذي الرجفان
|
لا فاعل أبدا
ولا هو قادر
|
|
كالميت أدرج
داخل الأكفان
|
والأمر والنهي
اللذان توجها
|
|
فهما كأمر العبد
بالطيران
|
وكأمره الأعمى
بنقط مصاحف
|
|
أو شكلها حذرا
من الألحان
|
وإذا ارتفعت
دريجة أخرى
|
|
رأيت الكل طاعات
بلا عصيان
|
إن قيل قد خالفت
أمر الشرع قل
|
|
لكن أطعت إرادة الرحمن
|
ومطيع أمر الله
مثل مطيع ما
|
|
يقضي به وكلاهما
عبدان
|
عبد الأوامر مثل
عبد مشيئة
|
|
عند المحقق ليس
يفترقان
|
فانظر إلى ما
قادت الجيم الذي
|
|
للجبر من كفر
ومن بهتان
|
الشرح
: هذا خطاب لصاحب
الجيم الأولى وهي جيم الجبر الذي يزعم بأن الإنسان لا قدرة له ولا اختيار ، وأنه
مجبور على ما يقع منه من أفعال فهي ليست أفعالا له على الحقيقة ، وإنما تنسب إليه
على جهة المجاز ، كما يقال : طلعت الشمس وهبت الريح ، فالأفعال والتكليف بها
والثواب والعقاب عليها ، كل ذلك
جبر على العبد لا
اختيار له فيه فيلزم هذا الجبر أن لا يقر على نفسه بذنب ، وأن يحمل ذنوبه كلها على
القدر كما يحمل السقف على قوي الجدر. وأن يفتح لنفسه باب العذر في كل ما يرتكب من
وزر إذ يرى أنه لا فعل له. وأن الأفعال كلها صادرة من الله جل شأنه ويلزمه أيضا أن
يسوي بين ما يصدر عنه بإرادته واختياره ، وبين ما يصدر منه على جهة الضرورة كحركة
الرعدة والارتعاش ، فلا يحس فرقا بين الذنوب التي تصدر عنه باختياره ، وبين رعشة
الشيخ الكبير التي تصدر عنه بلا قصد منهن بل بسبب الهرم والضعف فالعبد عنده ليس
بفاعل على الحقيقة. ولا هو قادر على الفعل بل هو كالميت المدرج في أكفانه لا قدرة
له على حركة أصلا. ويلزمه أيضا أن الله كلف العباد ما لا يطيقونه ، وأنه أمرهم
ونهاهم بما لا قدرة لهم على فعله أو تركه ، فهو كأمر العبد بأن يطير في الهواء مع
عجزه عنه إذ لا أجنحة له تساعده على الطيران ، أو كأمر الأعمى الذي لا يبصر بأن
يضع النقط على حروف المصحف أو يشكله خوفا من وقوع اللحن في قراءته. ومعلوم أن
الأعمى لا قدرة له على ذلك. وفي هذا نسبة العبث إلى الله جل شأنه.
وهذا الذي ذكرناه
من مذهب الجبرية ، إنما هو قول عامتهم ، واما متصوفتهم ممن يزعمون الترقي في مقام
الشهود للحقيقة الكونية والربوبية الشاملة فيرون كل ما يصدر من العبد من ظلم وكفر
وفسوق هو طاعة محضة لأنها إنما تجري وفق ما قضاه الله وقدره ، وكل ما قضاه وقدره
فهو ، محبوب لديه مرضي عنده. فإذا كان قد خالف أمر الشرع بارتكابه هذه المحظورات
فقد أطاع إرادة الله ونفذ مشيئته. فمن أطاع الله وقضاءه وقدره هو كمن أطاعه في
أمره ونهيه كلاهما قد قام بحق العبودية لله إلا أن هذا عبده بامتثال أمره وهذا
عبده بتنفيذ مشيئته. فمن حقق الأمر لم يجد فرقا بين العبوديتين بل وجد العبادة
بالمشيئة أليق بمن لا يرون لأنفسهم فعلا وأن الأفعال كلها من الله.
فانظر يا أخا
العقل والدين إلى ما انتهت جيم الجبر إليه ، وكيف قادت صاحبها إلى شر أنواع الكفر
والبهتان ، فجعلته يسوي في النهاية بين الإيمان
والكفر والطاعة
والمعصية وينفض يده من أحكام الشريعة كلها ولا يفرق بين أمر ونهي ولا يرى ذلك
لازما لأحد بل يرى ارتكاب المنهيات عبادة يتقرب بها إلى الله ما دامت موافقة
للإرادة ، فأي كفر أقبح من هذا. نعوذ بالله من الضلال والخذلان. ولا حول ولا قوة
إلا بالله.
* * *
وكذلك الأرجاء
حين تقر
|
|
بالمعبود تصبح
كامل الإيمان
|
فارم المصاحف في
الحشوش
|
|
وخرب البيت
العتيق وجد في العصيان
|
واقتل إذا ما
اسطعت كل موحد
|
|
وتمسحن بالقس
والصلبان
|
واشتم جميع
المرسلين ومن أتوا
|
|
من عنده جهرا
بلا كتمان
|
وإذا رأيت حجارة
فاسجد لها
|
|
بل خر للأصنام
والأوثان
|
وأقر أن الله جل
جلاله
|
|
هو وحده الباري
لذي الأكوان
|
واقر أن رسوله
حقا أتى
|
|
من عنده بالوحي
والقرآن
|
فتكون حقا مؤمنا
وجميع ذا
|
|
وزر عليك وليس
بالكفران
|
هذا هو الارجاء
عند غلاتهم
|
|
من كل جهمي أخي
الشيطان
|
الشرح
: الارجاء في اللغة
معناه التأخير ، ومنه سميت المرجئة لأنهم يؤخرون الأعمال عن الإيمان ، ويقولون لا
يضر مع الإيمان ذنب كما لا تنفع مع الكفر طاعة. والإيمان عندهم هو مجرد الاقرار
بأن الله هو الخالق للموجودات فمتى أقر العبد بذلك أصبح عندهم كامل الإيمان ، وليس
عليه بعد ذلك حرج أن يرتكب ما شاء من معصية أو يقصر في طاعة فليرم المصاحف إن شاء
في الحشوش أي في بيوت الخلاء امتهانا لها ، وليخرب الكعبة البيت الحرام وينقض
بنيانها ، وليجتهد في ارتكاب كل موبقة ، وليقتل إن استطاع كل نفس مؤمنة ، وليذهب
إن شاء الى الكنيسة متبركا بالقس عابدا للصليب وليسب جميع المرسلين ومن أرسلهم
سبحانه علنا ومجاهرة ، وليسجد لكل ما قابله من صنم ووثن فإن ذلك كله وغيره لا ينقص
من إيمانه مقدار خردلة عندهم ما دام يقر بأن الله جل
شأنه هو الفاطر
للكائنات وما دام يقر بأن محمدا رسول الله الذي أرسله بالوحي والقرآن ، فإن كل ما
عدا ذلك ليس إلا ذنوبا لا توقع صاحبها في الكفر. هذا هو معنى الإرجاء عند غلاة
المرجئة الجهمية إخوان الشيطان وأهل البهت والكفران ، وأما الارجاء الذي ينسب إلى
بعض السلف كالحسن البصري وغيره ، فمعناه التفويض في أمر مرتكب الكبيرة إذا مات ولم
يتب منها بمعنى عدم القطع له بشيء ، بل إن شاء الله عذبه عليها وإن شاء عفا عنه ،
فهذا الإرجاء لا يضر بل هو مذهب أهل الحق قابلوا به قول الخوارج إن مرتكب الكبيرة
إذا مات ولم يتب منها فهو كافر مخلد في النار.
* * *
فأضف إلى
الجيمين جيم تجهم
|
|
وانف الصفات
وألق بالارسان
|
قل ليس فوق
العرش رب عالم
|
|
بسرائر منا ولا
إعلان
|
بل ليس فوق
العرش ذو سمع ولا
|
|
بصر ولا عدل ولا
إحسان
|
بل ليس فوق
العرش معبود سوى
|
|
العدم الذي لا
شيء في الأعيان
|
بل ليس فوق
العرش من متكلم
|
|
بأوامر وزواجر
وقران
|
كلا ولا كلم
إليه صاعد
|
|
أبدا ولا عمل
لذي شكران
|
إني وحظ العرش
منه كخط ما
|
|
تحت الثرى عند
الحضيض الداني
|
بل نسبة الرحمن
عند فريقهم
|
|
للعرش نسبته إلى
البنيان
|
فعليهما استولى
جميعا قدرة
|
|
وكلاهما من ذاته
خلوان
|
هذا الذي أعطته
جيم تجهم
|
|
حشوا بلا كيل
ولا ميزان
|
الشرح
: عرفنا ما جنته جيم
الجبر من نفي مسئولة العبد عن فعله وإلقاء اللوم كله على القدر وما انتهت إليه من
التسوية بين الإيمان والكفر والطاعة والمعصية ، وعرفنا كذلك ما جنته جيم الارجاء
من الإغراء بفعل المعاصي والمنكرات والتراخي وفي أداء الواجبات اتكالا على الإيمان
الناقص المبتور ، وأما ثالثها وهي جيم التجهم نسبة إلى رأس الفتنة الجهم بن صفوان
الترمذي أمام أهل
التعطيل فتقتضي
نفس صفات الرب جل وعلا والانطلاق في هذا النفي إلى أبعد حد كما أشار إليه المصنف
بقوله (وألق بالأرسان) فإن الأرسان جمع رسن وهو الحبل الذي تقاد به الدابة ليمنعها
من الجري والجموح.
فقوله (وألق
بالارسان) كناية على الانطلاق في النفى والايغال فيه ، فينفي فوقية الرب على عرشه
وعلوه على خلقه ، كما ينفي علمه الشامل المحيط بأحوال عباده في سرهم وجهرهم وينفي
سمعه الذي وسع أصواتهم مهما خافتوا بها وينفي رؤيته لهم رؤية لا يحول دونها حجاب
ولا ظلمة ، ولا يؤثر فيها بعد ولا يغنى منها تخف واستتار ، وينفي عدله الذي قامت
به السموات والأرض واحسانه الذي وسع جميع خلقه ، بل لو حقق الأمر على هذا الجهمي
الخبيث لوجد أنه لا يعبد الا عدما لا حقيقة له في عالم الأعيان ، بل انما يفرض في
الأذهان ، ولا يؤمن بأن فوق العرش إلها متكلما على الحقيقة بأوامر ونواه ، ومتكلما
بالقرآن والتوراة والإنجيل بل يقول ان معنى كونه متكلما أنه خالق للكلام ، ولا
يؤمن كذلك بأن كلام العباد يصعد إليه ، ولا أن أعمالهم ترفع عنده ، كما قال تعالى
: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ
الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر : ١٠].
وكيف يؤمن بذلك
وهو لا يقر بوجوده فوق عرشه ، بل يرى أن حظ العرش منه سبحانه كحظ أسفل مكان ، وهو
الذي عند مركز الأرض المسمى بالحضيض ، وأن نسبته تعالى للعرش كنسبته الى بيته
الحرام ، فكما أنه ليس ساكنا في البيت مع اضافته إليه ، فكذلك ليس مستويا على
العرش ، بل هو مستول عليهما جميعا بقدرته ، وكلاهما خال من وجوده بذاته فيه.
هذا هو ما أفادته
جيم الجهم من تعطيل الواحد الديان حشوا بلا كيل ولا ميزان.
* * *
تالله ما
استجمعن عند معطل
|
|
جيماتها ولديه
من ايمان
|
والجهم أصلها
جميعا فاغتدت
|
|
مقسومة في الناس
بالميزان
|
والوارثون له
على التحقيق هم
|
|
أصحابها لا شيعة
الايمان
|
لكن تقسمت
الطوائف قوله
|
|
ذو السهم
والسهمين والسهمان
|
لكن نجا أهل
الحديث المحض أتب
|
|
اع الرسول
وتابعوا القرآن
|
عرفوا الذي قد
قال مع علم بما
|
|
قال الرسول فهم
أولو العرفان
|
وسواهم في الجهل
والدعوى م
|
|
ع الكبر العظيم
وكثرة الهذيان
|
مدوا يدا نحو
العلى بتكلف
|
|
وتخلف وتكبر
وتوان
|
أترى ينالوها
وهذا شأنهم
|
|
حاشا العلى من
ذا الزبون الغاني
|
الشرح
: يقسم المؤلف بالله
العظيم أن هذه الجيمات الثلاث ما اجتمعت عند أحد وبقى عنده شيء من الايمان. وكيف
يبقى له ايمانه ، وقد رأيت ما ترتب على كل واحدة منها من أنواع الكفر والضلال ،
فكيف بها اذا لو اجتمعت؟ لا شك أن من كتب عليه أن تجتمع هذه الخلايا فيه فيكون
جبريا مرجئا جهميا يصير بها من العتاة في الكفر والالحاد.
والجهم بن صفوان
الترمذي قبحه الله هو الذي أسس قواعد هذه الضلالات الثلاث ، فغدت من بعده قسمة بين
أصحاب المذاهب والمقالات ، كل منهم يأخذ منها بنصيب مقدور ، وهؤلاء الذين شايعوا
جهما في ضلالاته هم وراؤه على الحقيقة وان كان نصيب كل منهم من هذه التركة الوبيئة
يختلف عن الآخر ، فمنهم صاحب السهم الواحد ، ومنهم صاحب السهمين ، ومنهم صاحب
السهمان الكثيرة.
وأما أهل الحديث
الصرف من اتباع الرسول وجند القرآن فقد نجوا من التلبس بشيء منها ، لأنهم عرفوا ما
قاله القرآن وما جاء به الرسول صلىاللهعليهوسلم ، فاستمسكوا بنصوص الوحيين ، واستضاءوا بذينك النورين ، ولم
يكترثوا لما خالفهما. وأما سواهم فهو يرتع في جهله ودعاواه العريضة ، مع ما فيه من
الصلف والتكبر وكثرة الخلط والهذيان. ومن العجيب أنه ينشد المعالي ويمد إليها يده
مع تكلفه وتخلفه وتكبره وتوانيه ، فهل تظنه ينالها الا كل من قدم لها غالي الأثمان
،
من جد وصبر ومثابرة
وتواضع وتقوى وايمان.
* * *
فصل
في جواب الرب تبارك وتعالى يوم القيامة
اذا سأل المعطل والمشبه عن قول كل منهما
وسل المعطل ما
تقول اذا أتى
|
|
فئتان عند الله
يختصمان
|
احداهما حكمت
على معبودها
|
|
بعقولها وبفكرة
الاذهان
|
سمته معقولا
وقالت أنه
|
|
اولى من المنصوص
بالبرهان
|
والنص قطعا لا
يفيد فنحن أول
|
|
نا وفوضنا لنا
قولان
|
قالت وقلنا فيك
لست بداخل
|
|
فينا ولست بخارج
الأكوان
|
والعرش أخليناه
منك فلست فو
|
|
ق العرش لست
بقابل لمكان
|
وكذاك لست بقائل
القرآن بل
|
|
قد قاله بشر
عظيم الشأن
|
ونسبته حقا أليك
بنسبة التش
|
|
ريف تعظيما لذي
القرآن
|
وكذاك قلنا لست
تنزل في الدجى
|
|
ان النزول صفات
ذي الجثمان
|
وكذاك قلنا لست
ذا وجه ولا
|
|
سمع ولا بصر
فكيف يدان
|
وكذاك قلنا لا
ترى في هذه الدني
|
|
ا ولا يوم
المعاد الثاني
|
وكذاك قلنا ما
لفعلك حكمة
|
|
من أجلها خصصته
بزمان
|
ما ثم غير مشيئة
قد رجحت
|
|
مثلا على مثل
بلا رجحان
|
لكن منا من يقول
بحكمة
|
|
ليست بوصف قام
بالرحمن
|
هذا وقلنا ما
اقتضته عقولنا
|
|
وعقول أشياخ ذوي
عرفان
|
قالوا لنا لا
تأخذوا بظواه
|
|
ر الوحيين
تنسلخوا من الايمان
|
بل فكروا
بعقولكم ان شئتم
|
|
أو فاقبلوا آراء
عقل فلان
|
فلأجل هذا لم
نحكم لفظ آ
|
|
ثار ولا خير ولا
قرآن
|
اذ كل تلك أدلة
لفظية
|
|
معزولة عن مقتضى
البرهان
|
الشرح
: يصور لنا المؤلف
في هذه الأبيات الرائعة مشهدا من مشاهد يوم القيامة حين يجمع الله المتخاصمين فيه
ليحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون ، هنالك يظهر الحق ويعلو ويذهب بأصحابه الى
الجنة بررة مكرمين ، ويسفل الباطل ويخزي ويذهب بأتباعه الى العذاب المهين ، فيقول
سل هذا المعطل الجاحد لصفات رب العالمين ، ما ذا يكون جوابك عند ما تجتمع الفئتان
المختصمتان عند الله.
أما احداهما وهي
فئة التعطيل والانكار فقد كذبت على ربها وقالت عليه ما لا تعلم ، وعولت في ذلك لا
على القرآن والآثار ، بل على ما عندها من زبالات الأذهان والأفكار ، وسمت ذلك
دلائل عقلية وقدمتها على النصوص الصريحة من الكتاب والسنة ، وزعمت أنها أولى باسم
البرهان من تلك النصوص لأنها يقينية ، وأما النصوص ، فلا تفيد الا غلبة ظن لا يغني
في باب الاعتقاد ، ولهذا تراهم اذا تعارض ظاهر النص مع ما يزعمونه قواطع عقلية ،
فانهم اما أن يؤولوا النص بما يصرفه عن هذا الظاهر الى معنى آخر يكون موافقا لما
حكم به العقل. واما أن يفوضوا في معنى النص فيقولوا لا نعلم المراد به ، وان كنا
نعلم ان هذا الظاهر غير مراد.
وكذلك تجيب هذه
الفئة الجاحدة ربما يوم القيامة بأنها كانت تقوم عليه بأنه ليس داخل هذا العالم
ولا خارجه ، وأن العرش خلو منه ، فهو ليس فوق العرش بذاته ، زعما منهم أنه لا يجوز
عليه الحلول في المكان ، لأن ذلك عندهم من خصائص الأجسام ، وبأنه ليس هو المتكلم
بالقرآن ، اذ لا يجوز عليه الحرف والصوت ، بل انما هو قول رسولهصلىاللهعليهوسلم ، وانما نسبه سبحانه الى نفسه تشريفا له وتعظيما لقارئه ،
وبأنه لا ينزل كل ليلة الى سماء الدنيا ، كما صرح الحديث الصحيح بذلك ، لأن النزول
من صفات الأجسام ، وبأنه ليس له وجه ولا سمع ولا بصر ، ومن باب أولى لا يكون له
يدان ، وبأن رؤيته بالأبصار مستحيلة في هذه الدنيا وفي الآخرة ، اذ لا جهة له ،
وما لا يكون في جهة لا تمكن رؤيته ، وبأنه ليس لأفعاله حكمة تفعل من أجلها ، ويخصص
كل فعل منها بزمانه
بسببها ، بل ليس
هناك الا مجرد مشيئة ترجح احد المتساويين على الآخر بلا مرجح دون أن يكون في
أحدهما ما يقتضي رجحانه وتعلق المشيئة به.
ومنهم من يثبت
الحكمة ، لكن لا يجعلها صفة قائمة بذاته سبحانه ، بل يجعلها قائمة بالمفعول ،
وتجيب أيضا هذه الفئة الباغية ربما بأننا انما حكمنا عليها بما اقتضته عقولنا ،
وبما أخذناه من شيوخنا الذين كنا نظن فيهم التحقيق والعرفان ، والذين كانوا
يحذروننا من الأخذ بظواهر الوحيين من الكتاب والسنة ويرون ذلك خروجا من ربقة
الايمان ، ويزعمون لنا أن العقائد لا يرجع فيها الا الى حكم العقل فيقولون لنا
فكروا بعقولكم والا فقلدوا في عقيدتكم من سبقكم من العقلاء ، فلأجل هذا الذي قالوه
لنا لم نحكم في عقيدتنا لفظ آثار ولا أخبار ولا قرآن ، وانما جرينا معهم فيما
أسسوه لنا من أفك ومن بهتان.
* * *
فصل
والآخرين أتوا
بما قد قاله
|
|
من غير تحريف
ولا كتمان
|
قالوا تلقينا
عقيدتنا ع
|
|
ن الوحيين
بالأخبار والقرآن
|
فالحكم ما حكما
به لا رأى أه
|
|
ل الاختلاف وظن
ذي الحسبان
|
آراؤهم احداث
هذا الدين نا
|
|
قضة لأصل طهارة
الايمان
|
آراؤهم ريح
المقاعد أين تلك
|
|
الريح من روح
ومن ريحان
|
قالوا وأنت
رقيبنا وشهيدنا
|
|
من فوق عرشك يا
عظيم الشأن
|
انا أبينا أن
ندين ببدعة
|
|
وضلالة أو افك
ذي بهتان
|
لكن بما قد قلته
أو قاله
|
|
من قد أتانا عنك
بالفرقان
|
وكذاك فارقناهم
حين احتيا
|
|
ج الناس للأنصار
والأعوان
|
كيلا تصير
مصيرهم في يومنا
|
|
هذا ونطمع منك
بالغفران
|
الشرح
: وأما الآخرون وهم
أهل الحق ، فقد أتوا الى ربهم سليمة عقائدهم
من أدران التعطيل
والالحاد ، لم يتبعوا فيها الا ما قاله هو سبحانه ، من غير تحريف له عن أصل وضعه ،
ولا صرف له عن ظاهره ، ومن غير ما جحد له ولا كتمان ، قالوا لربهم حين سألهم :
انما تلقينا عقيدتنا عن الوحيين من القرآن والأخبار ، فهما مصدر ديننا كله ، فلا
حكم عندنا الا لهما ، ولا مرجع الا إليهما فلا نقدم عليهما قول أحد ولا رأيه ولا
نعارض حكمهما بقضية عقل ولا غيره ولا نعدل عنهما الى رأى هؤلاء المختلفين
المضطربين الذين يحسبون أنهم على شيء وهم ضلال عن الحق المبين ، آراؤهم مفسدة
للدين افساد الحدث لطهارة المتطهرين فكما ينقض الحدث الطهارة الحاصلة بالوضوء تنقض
آراؤهم أصل طهارة الايمان فهي كهذا الفساء والضراط الخارجين من الدبر ، فأين تلك
الريح المنتنة مما جاء به الوحيان من روح وريحان ، وقال أهل الحق لربهم كذلك أنت
كنت الرقيب علينا من فوق عرشك تسمعنا وترانا وتعلم سرنا وعلانيتنا لا يخفى عليك
شيء من أمرنا. فأنت تعلم أنا قد أبينا أن ندين بالبدع والضلالات أو نقول بقول
الافاكين ذوي البهتان والجهالات ، بل لم نقل الا بما قلته أنت في كتابك الحكيم ،
أو قاله رسولك محمد صلىاللهعليهوسلم فيما صح عنه لم نتجاوز ذلك قيد أنملة ولم نركن الى هؤلاء
المبتدعة بل عاديناهم فيك وفارقناهم رغم احتياجنا الى الانصار والاعوان. وانا
خشينا ان تجر علينا صحبتهم أن نصير الى ما صاروا إليه من ذلة وهوان في يوم نطمع
منك فيه بالغفران.
فمن الذي منا
أحق بأمنه
|
|
فاختر لنفسك يا
أخا العرفان
|
لا بد نلقاه نحن
وأنتم
|
|
في موقف العرض
العظيم الشأن
|
وهناك يسألنا
جميعا ربنا
|
|
ولديه قطعا نحن
مختصمان
|
فنقول قلت كذا
وقال نبينا
|
|
أيضا كذا
فأمامنا الوحيان
|
فافعل بنا ما
أنت أهل بعد ذا
|
|
نحن العبيد وأنت
ذو الاحسان
|
أفتقدرون على
جواب مثل ذا
|
|
أم تعدلون على
جواب ثان
|
ما فيه قال الله
قال رسوله
|
|
بل فيه قلنا مثل
قول فلان
|
وهو الذي أدت
إليه عقولنا
|
|
لما وزنا الوحي
بالميزان
|
ان كان ذلكم
الجواب مخلصا
|
|
فامضوا عليه يا
ذوي العرفان
|
تالله ما بعد
البيان لمنصف
|
|
الا العناد
ومركب الخذلان
|
الشرح
: يعني اذا كنا نحن
معشر اهل الحق قد وقفنا عند نصوص الوحيين واستضأنا بنورهما ، ولم نقل الا بقولهما
وكنتم أنتم معشر أهل التعطيل قد عزلتم هذه النصوص وجعلتموها وراءكم ظهريا وعولتم
على عقولكم وحدها وجعلتم لها الحكم فيما يثبت وينفي ، ولم ترفعوا بالوحي رأسا ،
فمن أحق منا ومنكم أن يأتي ربه آمنا يوم القيامة.
واذا ظهر الحق على
جليته وبان الفرق الهائل بيننا وبينكم فليختر كل عاقل لنفسه ما يعتقد أن فيه نجاته
من عذاب الله ، فاننا لا بد ملاقوه نحن وأنتم في مشهد يوم عظيم يوم يوقفنا بين
يديه للعرض والحساب فيسألنا جميعا عما قدمناه لهذا اليوم ، فنختصم عنده ويقول كل
منا ما كان يدين به ويعتقده أما نحن فنقول له سبحانه : انك قلت في كتابك كذا
فاتبعنا ، وقال نبينا صلىاللهعليهوسلم أيضا كذا فأطعنا قد جعلنا الوحي إمامنا وقدوتنا ، وقد
قدمنا عليك وأنت رب كريم فافعل بنا ما أنت أهل له من الكرم والجود فنحن العبيد
وأنت الرب ذو الفضل والاحسان ولكنكم لن تقدروا على مثل هذا الجواب بل ستجدون أنفسكم
مضطرين للعدول عنه الى جواب آخر ليس فيه اعتراف باتباع ما قاله الله ورسوله بل
ستقولون لربكم حين يسألكم قلنا مثل ما قاله فلان أو فلان ، مما اهتدينا إليه
بعقولنا حين وزنا الوحي فرأيناه لا يصلح للاهتداء به في هذا المجال ، فهل تظنون أن
مثل هذا الجواب يصلح أن يكون مخلصا لكم من عذاب الله؟ ان كان ذلك فاستمروا عليه
وغدا سترون أنه لن يغني عنكم شروى نقير. أما نحن فقد أعذرنا إليكم وبينا لكم الحق
فأبيتم الا العناد واللجاجة في الباطل وتلك علامة الخذلان ونفخة الشيطان.
* * *
فصل
في تحميل أهل الاثبات للمعطلين
شهادة تؤدي عند رب العالمين
يا أيها الباغي
على أتباعه
|
|
بالظلم والبهتان
والعدوان
|
قد حملوك شهادة
فاشهد بها
|
|
ان كنت مقبولا
لدى الرحمن
|
واشهد عليهم ان
سئلت بأنهم
|
|
قالوا إله العرش
والأكوان
|
فوق السموات
العلى حقا على الع
|
|
رش استوى سبحان
ذي السلطان
|
والأمر ينزل منه
ثم يسير في الا
|
|
قطار سبحان
العظيم الشأن
|
وإليه يصعد ما
يشاء بأمره
|
|
من طيبات القول
والشكران
|
وإليه قد صعد
الرسول وقبله
|
|
عيسى ابن مريم
كاسر الصلبان
|
وكذلك الاملاك
تصعد دائما
|
|
من هاهنا حقا
على الديان
|
وكذاك روح العبد
بعد مماتها
|
|
ترقى إليه وهو
ذو ايمان
|
الشرح
: ينادي المؤلف
هؤلاء البغاة الخارجين عن مذهب أهل الحق المتجنين عليهم بالظلم والعدوان والرامين
لهم بالافك والبهتان بأنهم قد حملوهم شهادة يؤدونها عنهم عند الله يوم القيامة ان
كانوا أهلا لتحمل الشهادة بأن كونوا عدولا أمناء ، فليشهدوا عليهم ان سئلوا عنهم
بأنهم كانوا يصرحون بأن الله فوق سماواته مستو على عرشه يدبر شئون خلقه ، وأن
الأمور تنزل من عنده ينزل بها ملك الوحي ، ثم تسير في أقطار السموات والأرض ، وأنه
يصعد إليه ما يشاء من كلام العباد وأعمالهم كما قال تعالى : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ
وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر : ١٠] وأن
الرسول صلىاللهعليهوسلم قد صعد إليه ليلة المعراج حتى كان قاب قوسين أو أدنى ،
فكلمه وناجاه وفرض عليه وعلى أمته الصلاة ، وأنه سبحانه قبل ذلك قد رفع إليه عيسى
ابن مريم بجسده حيا كما قال تعالى : (يا عِيسى إِنِّي
مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ) [آل عمران : ٥٥]
وسينزل قرب قيام الساعة فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية كما ورد الحديث
بذلك ،
وأن الملائكة
الموكلين بأعمال العباد يصعدون بها على الدوام متعاقبين بالليل والنهار ويعرضونها
على رب العالمين ، وقد سبق ذكر الحديث الدال على ذلك من رواية أبي هريرة وأن روح
المؤمن ترقى بها ملائكة الرحمة حتى يبلغوا بها الرب جل شأنه فتعرض عليه ، ثم ترد
الى روح وريحان. فسبحان من له العلو كله ذات وقهر وقدرة ورفعة شأن.
* * *
وأشهد عليهم أنه
سبحانه
|
|
متكلم بالوحى
والقرآن
|
سمع الأمين
كلامه منه وأد
|
|
اه الى المبعوث
بالفرقان
|
هو قول رب
العالمين حقيقة
|
|
لفظا ومعنى ليس
يفترقان
|
وأشهد عليهم أنه
سبحانه
|
|
قد كلم المولود
من عمران
|
سمع ابن عمران
الرسول كلامه
|
|
منه إليه مسمع الاذان
|
وأشهد عليهم
أنهم قالوا بأن
|
|
الله ناداه بلا
كتمان
|
وأشهد عليهم
أنهم قالوا بأن
|
|
الله نادى قبله
الأبوان
|
وأشهد عليهم
أنهم قالوا بأن
|
|
الله يسمع صوته
الثقلان
|
والله قال بنفسه
لرسوله
|
|
اني أنا الله
العظيم الشأن
|
والله قال بنفسه
لرسوله
|
|
اذهب الى فرعون
ذي الطغيان
|
والله قال بنفسه
حم مع
|
|
طه ومع يس قول
بيان
|
الشرح
: وليشهدوا عليهم
كذلك بأنه سبحانه تكلم القرآن بصوت نفسه كلاما حقيقيا سمعه منه الأمين جبريل عليهالسلام ، ثم أداه الى النبي صلىاللهعليهوسلم كما سمعه ، فهو قول الله على الحقيقة لفظه ومعناه لا يجوز
القول بأن معناه من عند الله. وأما ألفاظه فمن اختراع جبريل أو محمد عليهماالسلام الى آخر ما يقوله المفترون الذين جعلوا القرآن عضين ،
وليشهدوا عليهم كذلك انه سبحانه كلم موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام بكلام
حقيقي مؤلف من حروف وأصوات سمعها موسى عليهالسلام بأذنه ، وعلم أن الذي يكلمه هو الله عزوجل
وليس بكلام خلقه
في الهواء أو في الشجرة أو بإلقاء المعاني في قلب موسى مجردة عن الألفاظ ، كما
يزعم أهل التعطيل.
وليشهدوا عليهم
أنهم قالوا بأن الله سبحانه نادى موسى بصوت سمعه ، وأنه قربه نجيا ، كما صرحت
الآيات بذلك وأنه نادى من قبله الأبوان آدم وحواء معاتبا لهما على الأكل من الشجرة
واقتراف الخطيئة كما قال تعالى : (وَناداهُما رَبُّهُما
أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ) [الأعراف : ٢٢]
وأنه ينادى عباده يوم القيامة بصوت يسمعه الثقلان من الانس والجن كما في الحديث ،
وأنه هو سبحانه الذي قال بنفسه لرسوله وكليمه موسىعليهالسلام: (إِنَّنِي أَنَا اللهُ
لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) [طه : ١٤] وهو
الذي قاله له بنفسه : (اذْهَبْ إِلى
فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) [طه : ٢٤] وهو
الذي تكلم وقال بنفسه حم وطه ويس وغيرهما من الفواتح قولا بينا لا خفاء فيه ولا
اشتباه.
* * *
وأشهد عليهم
أنهم وصفوا الال
|
|
ه بكل ما قد جاء
في القرآن
|
وبكل ما قال
الرسول حقيقة
|
|
من غير تحريف
ولا عدوان
|
وأشهد عليهم أن
قول نبيهم
|
|
وكلام رب العرش
ذا التبيان
|
نص يفيد لديهم
علم اليق
|
|
ين افادة
المعلوم بالبرهان
|
واشهد عليهم
أنهم قد قابلوا
|
|
التعطيل
والتمثيل بالنكران
|
ان المعطل
والممثل ما هما
|
|
متيقنين عبادة
الرحمن
|
ذا عابد المعدوم
لا سبحانه
|
|
أبدا وهذا عابد
الأوثان
|
وأشهد عليهم
أنهم قد أثبتوا الأ
|
|
سماء والأوصاف
للديان
|
وكذلك الأحكام
أحكام الصفا
|
|
ت وهذه الأركان
للايمان
|
الشرح
: وليشهد هؤلاء
المعطلة على أهل الحق بأنهم يصفون الله عزوجل بكل ما وصف به نفسه في كتابه ، وبكل ما وصفه به رسوله صلىاللهعليهوسلم ، ويعتقدون حقيقة ما دلت عليه النصوص من تلك الصفات ، لا
يحرفون الكم عن مواضعه ،
ولا يعتدون على
النصوص بصرفها عن حقيقتها الى المجاز ، ويعتقدون أن كلام الله عزوجل وكلام رسوله صلىاللهعليهوسلم في باب الأسماء والصفات نصوص صريحة في معانيها ، فهي تفيد
من العلم اليقيني ما تفيده البراهين العقلية القائمة على الضروريات.
وليشهدوا عليهم
بأنهم ينكرون أشد الإنكار كلا من التعطيل والجحد للصفات والتمثيل والتشبيه
بالمخلوقات ، ويعتقدون أن كلا من المعطل والممثل ليسوا من عبادة الرحمن على يقين ،
بل الأول يعبد عدما حيث نفى عن ربه من الصفات ما لا يعقل وجود الموصوف بدونه ووصفه
بصفات المعدوم. والثاني وهو الممثل يعبد صنما ، لأنه يعبد الله على الصورة التي
رسمها له في خياله ، وهي لا تفترق عن تلك المنحوتة من الحجارة.
وليشهدوا عليهم
بأنهم في باب الاثبات لا يثبتون الأسماء دون الصفات كالمعتزلة ، ولا يثبتون الصفات
دون الأحكام ، بل يثبتون كلا من الأسماء والصفات والأحكام ، وهذه كلها عندهم أركان
للايمان.
* * *
قالوا عليم وهو
ذو علم يع
|
|
لم غاية الاسرار
والاعلان
|
وكذا بصير وهو
ذو بصر ويبص
|
|
ر كل مرئي وذي
الأكوان
|
وكذا سميع وهو
ذو سمع ويسم
|
|
ع كل مسموع من
الأكوان
|
متكلم وله كلام
وصفه
|
|
ويكلم المخصوص
بالرضوان
|
وهو القوي بقوة
هي وصفه
|
|
ومليك يقدر يا
أخا السلطان
|
وهو المريد له
الإرادة هكذا
|
|
أبدا يريد صنائع
الاحسان
|
والوصف معنى
قائم بالذات والاس
|
|
ماء أعلام له
بوزان
|
أسماؤه دلت على
أوصافه
|
|
مشتقة منها
اشتقاق معان
|
وصفاته دلت على
أسمائه
|
|
والفعل مرتبط به
الامران
|
والحكم نسبتها
الى متعلقا
|
|
ت تقتضي آثارها
ببيان
|
ولربما يعني به
الأخبار عن
|
|
آثارها يعني به
أمران
|
والفعل اعطاء
الإرادة حكمها
|
|
مع قدرة الفعال
والامكان
|
فاذا انتفت
أوصافه سبحانه
|
|
فجميع هذا بين
البطلان
|
الشرح
: فهم يثبتون الاسم
الكريم ، فيقولون هو عليم ، ويثبتون الصفة فيقولون هو ذو علم ، ويثبتون الحكم الذي
هو تعلق الصفة بمتعلقاتها التي هي آثارها ، فيقولون أنه يعلم كل شيء من الظواهر
والخفيات والماضيات والمستقبلات والواجبات والجائزات والمستحيلات.
وكذلك يقولون هو
بصير وذو بصر وبصيرة ، متعلق بكل ما تصح رؤيته من الأشخاص والأكوان مهما لطفت ،
ويقولون هو سميع يسمع وسمعه يتعلق بكل مسموع من الأصوات مهما خفتت ، ويقولون هو
متكلم وله كلام هو صفة قائمة به ، وهو قدرته على أن يتكلم متى شاء وكيف شاء ، وأنه
يكلم بالفعل من خصه من عباده بالرضى وجعله أهلا لسماع كلامه.
ويقولون هو قوي
بقوة هي وصفه ، وقوته قاهرة لكل ذي سلطان من خلقه وبها يقدر على كل شيء ، ويقولون
هو مريد بإرادة هي صفة قائمة به وتحدث في ذاته آحادها ، فهو لم يزل مريدا لما يشاء
، كونه وأحداثه ومريدا لنفع خلقه والإحسان إليهم.
والوصف هو المعنى
القائم بالذات ، من العلم والقدرة والسمع والبصر الخ ، وأما الأسماء فهي أعلام له
سبحانه مشتقة من صفاته ، إلا أن منها ما غلبت عليه العلمية حتى صار كالأسماء
الجامدة ، مثل الاسم الجليل (الله) ولهذا يقع موصوفا مخبرا عنه ولا يقع صفة ولا
خبرا ، فأسماؤه تدل على صفاته من حيث أنها مشتقة منها ، فعليم مشتق من العلم ،
وقدير من القدرة ، ومريد من الإرادة ، وهكذا.
وكذلك صفاته تدل
على أسمائه ، وذلك لأن ثبوت الصفة لموصوفه يدل على ثبوت المشتق منها له كذلك ،
فثبوت العلم له يدل على اسمه العليم ، وثبوت القدرة يدل على اسمه القدير وهكذا.
وأما الفعل وهو
كونه يعلم ويقدر ويريد ويسمع ويبصر إلخ. فله ارتباط بكل من الاسم والصفة جميعا ،
فهو يعلم لأنه عليم وذو علم ، ويقدر لأنه قدير وذو قدرة ، وهكذا.
وأما الحكم فهو
نسبة الصفات إلى متعلقاتها ، بحيث تقتضي آثارها اقتضاء ظاهرا ، فنسبة العلم إلى
المعلومات التي هي متعلقاته ، بحيث تصير معلومة له بالفعل بذلك العلم هو ما يسمى
بالحكم وتعلق القدرة بالمقدور ، بحيث يقع ذلك المقدور بها هو ما يسمى بالحكم وكذلك
تعلق الإرادة بالمرادات والسمع بالمسموعات إلخ. وقد يراد بالحكم الأخبار عن آثار
الصفة ، كقولنا الله يعلم كذا ويريد كذا ، فهذا معلوم لله وهذا مراد لله. فظهر أن
الحكم قد يعني به هذا كما قد يعني به ما تقدم من نسبة الصفة إلى متعلقها.
وأما الفعل هو
إعطاء الإرادة حكمها ، أي تعلقها بالمراد مع شرط في الفاعل ، وهو القدرة على إبراز
ذلك المراد وشرط في المراد نفسه ، وهو أن يكون ممكنا غير مستحيل.
فإذا قيل بانتفاء
صفاته تعالى كما تقول المعتزلة لم يمكن إثبات الأسماء والأحكام وكان ذلك كله ظاهر
البطلان.
* * *
وأشهد عليهم
أنهم قالوا بهذا
|
|
كله جهرا بلا
كتمان
|
واشهد عليهم
انهم برآء من
|
|
تأويل كل محرف
شيطان
|
واشهد عليهم
أنهم يتأولو
|
|
ن حقيقة التأويل
في القرآن
|
هم في الحقيقة
أهل تأويل الذي
|
|
يعني به لا قائل
الهذيان
|
واشهد عليهم أن
تأويلاتهم
|
|
صرف عن المرجوح
للرجحان
|
واشهد عليهم
انهم حملوا النصو
|
|
ص على الحقيقة
لا المجاز الثاني
|
إلا إذا ما
اضطرهم لمجازها المضطر
|
|
من حس ومن برهان
|
فهناك عصمتها
إباحته بغير
|
|
تجانف للإثم
والعدوان
|
واشهد عليهم
أنهم لا يكفرو
|
|
نكم بما قلتم من
الكفران
|
إذ أنتم أهل
الجهالة عندهم
|
|
لستم أولي كفر
ولا إيمان
|
لا تعرفون حقيقة
الكفران بل
|
|
لا تعرفون حقيقة
الإيمان
|
إلا إذا عاندتم
ورددتم
|
|
قول الرسول لأجل
قول فلان
|
فهناك أنتم أكفر
الثقلين من
|
|
إنس وجن ساكني
النيران
|
الشرح
: وأشهد أيها المعطل
على أهل الحق عند الله كذلك أنهم يثبتون لله جميع الأسماء الحسنى والصفات العليا
وأحكام الصفات وآثارها في غير مواربة ولا خفاء. وأنهم من تأويل أهل الباطل الذين
يحرفون الكلم عن مواضعه براء. وأشهد عليهم كذلك أنهم متأولون ، ولكن تأويلهم هو صرف
اللفظ إلى حقيقته وبيان المعنى المراد منه ، لا ما يقوله المعطلة من الهذيان
والهراء ، فتأويلهم إنما يقوم على صرف الألفاظ إلى معانيها الراجحة المتبادرة منها
، لا حملها على معان بعيدة مرجوحة ، وهم لا يحملون النصوص إلا على معانيها
الحقيقية التي هي الأصل ولا يصرفونها إلى المجاز إلا إذا اضطرهم إلى ذلك ضرورة من
الحس أو البرهان ، فهناك تستباح ما للنصوص من عصمة ، لكن بغير إفراط ولا مجاوزة
للحد ، بل بالقدر الذي أوجبته الضرورة ، كما في أكل المضطر للميتة ، ولكن النصوص
التي يجب فيها ذلك من الكتاب والسنة قليلة جدا ومع كل نص منها القرينة التي تدل
على أنه مصروف عن حقيقته ، ومع وجود القرينة لا يكون النص قد فهم منه إلا معناه
المراد للمتكلم ، وبذلك لا يكون هناك صرف للفظ عن معناه بل هناك حمل له على المعنى
الذي يفيده السياق وتدل عليه الفحوى ، وحينئذ فلا صرف ولا مجاز.
واشهد عليهم كذلك
انهم لا يكفرون أهل التأويل والتعطيل بما يقولونه من كلمات الكفر حين ينفون عن
الله ما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله من صفات الكمال لأنهم عندهم أهل جهالة
يعذرون لجهلهم فليسوا بكفار ولا مؤمنين إلا إذا أظهروا المشاقة والعناد ، وردوا
قول رسول الله صلىاللهعليهوسلم ردا صريحا
من أجل قول أحد من
الناس فهناك يحكم عليهم بالكفر ، بل يكونون أكفر الثقلين من الإنس والجن الذين هم
أصحاب النار.
* * *
واشهد عليهم
انهم قد اثبتوا الأ
|
|
قدار واردة من
الرحمن
|
واشهد عليهم أن
حجة ربهم
|
|
قامت عليهم وهو
ذو غفران
|
واشهد عليهم
انهم هم فاعلو
|
|
ن حقيقة الطاعات
والعصيان
|
والجبر عندهم
محال هكذا
|
|
نفي القضاء
فبئست الرأيان
|
واشهد عليهم ان
إيمان الورى
|
|
قول وفعل ثم عقد
جنان
|
ويزيد بالطاعات
قطعا هكذا
|
|
بالضد يمسي وهو
ذو نقصان
|
والله ما إيمان
عاصينا كإيمان
|
|
الأمين منزل
القرآن
|
كلا ولا إيمان
مؤمننا كإيمان
|
|
الرسول معلم
الإيمان
|
واشهد عليهم
أنهم لم يخلدوا
|
|
أهل الكبائر في
حميم آن
|
بل يخرجون بإذنه
بشفاعة
|
|
وبدونها لمساكن
بجنان
|
واشهد عليهم أن
ربهم يرى
|
|
يوم المعاد كما
يرى القمران
|
واشهد عليهم أن
أصحاب الرسو
|
|
ل خيار خلق الله
من إنسان
|
حاشا النبيين
الكرام فإنهم
|
|
خير البرية خيرة
الرحمن
|
وخيارهم خلفاؤه
من بعده
|
|
وخيارهم حقا هما
العمران
|
والسابقون
الأولون أحق
|
|
بالتقديم ممن
بعدهم ببيان
|
كل بحسب السبق
أفضل رتبة
|
|
من لاحق والفضل
للمنان
|
الشرح
: واشهد عليهم أنهم
لا ينفون القدر السابق على حصول الأشياء كما نفته القدرية والمعتزلة ، بل يؤمنون
بالقدر خيره وشره حلوه ومره من الله تعالى كما قال تعالى : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ
وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ
عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) [الحديد : ٢٢] وفي
الحديث الصحيح : «أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب ، قال وما أكتب؟ قال
اكتب كل ما هو
كائن ، فجرى القلم بما هو كائن». والآيات والأحاديث في إثبات القدر من الكثرة والصراحة
بحيث لا تحتمل إنكارا ولا تأويلا.
ولكنهم مع إثبات
القدر يرون أنه لا يصلح حجة لأحد على ما يقع فيه من الكفر والظلم وسائر المعاصي ،
بل يرون أن حجة الله قائمة على عباده بعد أن أوضح السبيل وأزاح العلل وأرسل الرسل
مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ، وقد رد الله على
المشركين في تعللهم بالقدر وبين أن ذلك تخرص بغير علم ، قال تعالى : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ
شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ ، كَذلِكَ
كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا ، قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ
مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ
أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ* قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ
لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) [الأنعام : ١٤٨ ،
١٤٩].
ويرون أن العباد
هم الفاعلون حقيقة لأفعالهم من الطاعات والمعاصي ، وإن كانت واقعة بقدر الله ولهذا
يستحقون عليها المدح والذم والثواب والعقاب.
ومذهبهم في ذلك
وسط بين مذهب الجبرية الذين يرون أن العبد لا قدرة له ولا اختيار ، وأنه ليس فاعلا
على سبيل الحقيقة ، بل تنسب إليه أفعاله على أنه محل لجريانها ، فيقال صلى فلان
وصام كما يقال : طلعت الشمس وهبت الريح. وبذلك لا يكون مسئولا عنها ولا مستحقا
عليها ثوابا أو عقابا ، وبين مذهب القدرية نفاة القدر الذين يزعمون أن العباد
مستقلون بخلق أفعالهم الاختيارية دون تدخل أصلا لقدرة الله ولا لإرادته فيها ،
وأنه لم يشأها منهم ولا قدرها عليهم فبئس الرأيان من غال في إثبات القدر إلى حد
الجبر ، ومقصر فيه إلى حد نفي المشيئة عن فعل العبد ، وأشهد عليهم بأنهم يرون أن
الإيمان تصديق بالجنان وقول باللسان وعمل بالأركان وأنه يزيد بالطاعات وينقص
بالمعاصي كما دلت على ذلك الآيات والأحاديث الكثيرة بل هو قابل للزيادة والنقص
باعتبار ركنه الأول الذي هو التصديق فإنه لا يعقل أن يكون إيمان أحد العصاة من هذه
الأمة كإيمان
جبريل الأمين عليهالسلام ولا أن يكون إيمان أحد المؤمنين منا كإيمان النبي الذي هو
معلم الإيمان عليهالسلام ، واشهد عليهم أنهم لا يحكمون بتخليد مرتكب الكبيرة في
النار ، كما تزعم الخوارج والمعتزلة ، بل سيخرج منها سائر العصاة من الموحدين إما
بشفاعة الشافعين من الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين. وأما برحمة أرحم
الراحمين ، ثم يدخلون الجنة بعد أن يتطهروا في نهر الحياة فينبتون فيه كما تنبت
الحبة في حميل السيل كما وردت بذلك الأحاديث الصحيحة ، واشهد عليهم أنهم يؤمنون
برؤية المؤمنين لربهم عزوجل في الجنة بأبصارهم كما يرى القمران أي الشمس والقمر ليس
دونهما سحاب ولا ضباب ، فلا ينكرون الرؤية كما تنكرها المعتزلة ، ولا يؤولونها بنوع
من الكشف العلمي ، كما يزعمه بعض من يسمونهم بالمحققين من الأشاعرة. واشهد عليهم
أنهم يعتقدون أن أصحاب رسول اللهصلىاللهعليهوسلم هم أفضل خلق الله من الناس بعد النبيين ، فالنبيين هم خير
البرية على الإطلاق وخيرة الله في خلقه ، وأن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم هم
خيار الصحابة وخيار الخلفاء هما العمران ، يعني أبا بكر وعمر ، وقد روى عن علي رضي
الله عنه أنه قال على منبر الكوفة (ما مات رسول الله صلىاللهعليهوسلم حتى علمنا أن أفضلنا بعده أبو بكر ، وما مات أبو بكر حتى
علمنا أن أفضلنا بعده عمر) وأن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار أحق
بالتقديم ممن أسلم بعدهم ، وكل منهم في الفضل على حسب سبقه إلى الإسلام قال تعالى
: (لا يَسْتَوِي
مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ
دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا) [الحديد : ١٠] والفضل بعد ذلك بيد الله وحده يؤتيه من
يشاء. والله ذو الفضل العظيم.
* * *
فصل
في عهود المثبتين مع رب العالمين
يا ناصر الإسلام
والسنن التي
|
|
جاءت عن المبعوث
بالقرآن
|
يا من هو الحق
المبين وقوله
|
|
ولقاؤه ورسوله
ببيان
|
أشرح لدينك صدر
كل موحد
|
|
شرحا ينال به
ذرا الإيمان
|
واجعله مؤتما
بوحيك لا بما
|
|
قد قاله ذو
الإفك والبهتان
|
وانصر به حزب
الهدى واكبت به
|
|
حزب الضلال
وشيعة الشيطان
|
وانعش به من
قصده إحياءه
|
|
واعصمه من كيد
امرئ فتان
|
واضرب بحقك عنق
أهل الزيغ
|
|
والتبديل
والتكذيب والطغيان
|
فو حق نعمتك
التي أوليتني
|
|
وجعلت قلبي واعي
القرآن
|
وكتبت في قلبي
متابعة الهدى
|
|
فقرأت فيه أسطر
الإيمان
|
ونشلتني من حب
أصحاب الهوى
|
|
بجبائل من محكم
الفرقان
|
وجعلت شربي
المنهل العذب الذي
|
|
هو رأس ماء
الوارد الظمآن
|
وعصمتني من شرب
سفل الماء
|
|
تحت نجاسة
الآراء والأذهان
|
وحفظتني مما
ابتليت به الألى
|
|
حكموا عليك
بشرعة البهتان
|
نبذوا كتابك من
وراء ظهورهم
|
|
وتمسكوا بزخارف
الهذيان
|
وأريتني البدع
المضلة كيف
|
|
يلقيها مزخرفة
إلى الإنسان
|
شيطانه فيظل
ينقشها له
|
|
نقش المشبه صورة
بدهان
|
فيظنها المغرور
حقا وهي في التحقيق مثل اللال في القيعان يناجي المؤلف رحمهالله ربه بهذه الأبيات الروائع معاهدا له على نصرة دينه وجهاد
أعدائه لقاء ما أنعم به عليه من نعمة الهداية والتوفيق إلى متابعة السنة والقرآن
فيقول : يا ناصر الإسلام ومظهر حجته ومانعه من كيد أعدائه الحانقين ، ويا ناصر سنة
رسولك الذي بعثته بالقرآن العظيم بما قضيت بها في كل عصر من أئمة هداة يذبون عنها
كيد أهل البدع ويحفظونها من تزيد الكاذبين وتأويل الجاهلين وإنكار الفاسقين ، ويا
من أنت الحق البين الذي لا شيء أبين منه بشهادة ما نصبته من الأدلة على وجودك
وحكمتك ، وعلى جودك ونعمتك ، وعلى عزتك وقدرتك ، وعلى أنك الواحد الأحد الذي لا
شريك له في ربوبيته ولا في إلهيته ، يا من لقاؤك أيضا حق لا شك فيه ، فإنك لم تخلق
هذا الخلق عبثا ولا
باطل بل لتجزي
الذين أساءوا بما عملوا وتجزي الذين أحسنوا بالحسنى. ورسولك هو كذلك حق أرسلته
بالبينات والهدى على حين فترة من الرسل فضلا منك ورحمة. ليخرج الناس من الظلمات
إلى النور وليهديهم صراطك المستقيم ، اشرح لدينك الحق الذي لا تحريف فيه ولا
التواء صدر كل من وحدك في ربوبيتك ، فعلم أنك المنفرد بالخلق والتدبير ، ووحدك في
إلهيتك فعبدك وحدك ولم يجعل لك في العبادة شريكا من خلقك ، ووحدك في أسمائك وصفاتك
فأثبت لك كل ما أثبته لنفسك أو أثبته لك رسولك من غير تشبيه ولا تمثيل ، اشرحه
شرحا يصل به إلى أعلى مراتب الإيمان ، واجعله ممن يأتمون بوحيك ويتبعون ما شرعته
على لسان عبدك ورسولك لا ممن ينقادون لأهل الأهواء وأصحاب الزور والبهتان ، وانصر
بقلمه ولسانه حزب أهل الحق والإيمان ، واكبت به حزب الضلال وفرقة الشيطان ، وانهض
بوحيك من كان قصده إلى إحيائه ونصرته واعصمه من كيد كل من يريد لإضلاله وفتنته ، واضرب
بسيف حقك البتار أعناق أهل الزيغ والتبديل والتكذيب والطغيان.
ثم يقسم المؤلف رحمهالله على ربه بحق نعمته التي أولاه إياها ، وبما جعل قلبه وعاء
لعلوم القرآن العظيم ، وبما كتب في قلبه من متابعة الهدى حتى قرأ فيه سطور الإيمان
، وبما أنقذه من صحبة أرباب الهوى بما مد إليه من أسباب الهدى وحبائل النجاة
المستمدة من محكم الفرقان ، وبما جعل ربه ، بكسر الشين ، أي موضع شربه هو المنهل
العذب الذي هو أصل الماء وينبوعه الصافي لكل وارد ظمآن ، والمراد به الكتاب والسنة
، وبما حماه من شرب أهل الضلال الذي هو أسفل الماء تحت نجاسة الأفكار والأذهان ،
والمراد به علوم أهل الباطل ومذاهبهم ، وبما حفظه مما ابتلي به الذين حكموا على
ربهم بشرعة الهوى والجهل بغير علم ولا هدي ولا كتاب منير ، حيث طرحوا كتاب الله
وراء ظهورهم ولم يرفعوا به رأسا ، واتبعوا من دونه أقوالا مزخرفة مموهة كلها خرافة
وهذيان. وبما أراه حقيقة البدع المضلة وكيف يلقيها الشيطان في قلوب أوليائه بعد أن
يزحزحها لهم وينقشها في أذهانهم ، كما يفعل المثال بالصورة التي يصنعها ، حيث
يضفي عليها من
الدهون والطلاء ما يحسنها في أعين النظار ، حتى يظنها الجاهل المغرور حقا ، وما هي
إلا كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء ، حتى إذا جاءه لم يجده شيئا.
* * *
لأجاهدن عداك ما
أبقيتني
|
|
ولأجعلن قتالهم
ديداني
|
ولأفضحنهم على
روس الملا
|
|
ولأفرين أديمهم
بلساني
|
ولأكشفن سرائرا
خفيت على
|
|
ضعفاء خلقك منهم
ببيان
|
ولأتبعنهم إلى
حيث انتهوا
|
|
حتى يقال أبعد
عبادان
|
ولأرجمنهم
بأعلام الهدى
|
|
رجم المريد
بثاقب الشهبان
|
ولأقعدن لهم
مراصد كيدهم
|
|
ولأحصرنهم بكل
مكان
|
ولأجعلن لحومهم
ودماءهم
|
|
في يوم نصرك
أعظم القربان
|
ولأحملن عليهم
بعساكر
|
|
است تفر إذا
التقى الزحفان
|
بعساكر الوحيين
والفطرات والمعقول
|
|
والمنقول
بالإحسان
|
حتى يبين لمن له
عقل من الأولى
|
|
بحكم العقل
والبرهان
|
ولأنصحن الله ثم
رسوله
|
|
وكتابه وشرائع
الإيمان
|
إن شاء ربي ذا
يكون بحوله
|
|
إن لم يشأ
فالأمر للرحمن
|
شرح المفردات :
العدا بكسر العين الأعداء جمع عدو ـ والديدن الدأب والعادة ، يقال جعل هذا ديدنة ،
يعني استمر عليه ـ والملأ بالتسهيل أصله الملأ ، وهم الجماعة ، سميت بذلك لأنها
تملأ العين ، ولأفرين ، أي لأقطعن يقال فراه يفريه ، بمعنى قطعه ومزقه ـ والأديم
الجلد ، وعبادان تثنية عباد وكان أميرا فهجاه أحد الشعراء وفر فلم يلحق به ، فقال
الشاعر لبغلته :
عدس ما لعباد
عليك أمارة
|
|
أمنت وهذا
تحملين طليق
|
والرجم : القذف
بالحجارة ، والمزيد بفتح الميم الشيطان ، بمعنى المتمرد ، والثاقب النافذ ،
والشهبان جمع شهاب ، وهو النجم الذي ترمي به الشياطين حين
يحاولون استراق
السمع. والمراصد جمع مرصد ، وهو مكان الرصد ، قال تعالى : (وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) [التوبة : ٥]
والحصر الحبس والتضييق ، والقربان ما يتقرب به من الذبائح ، والزحفان جمع زحف ،
وهو الجيش الزاحف من وضع المصدر موضع اسم الفاعل ، والوحيان الكتاب والسنة ،
والفطرات جمع فطرة.
الشرح
: هذا هو ما يقسم
عليه المؤلف رحمهالله أن يجاهد أعداء الله المارقين عن دينه الناكبين عن صراطه
ما بقي فيه رمق من حياة ، وأن يجعل قتالهم وجهادهم ديدنه وهجيراه ، وأن يظهر للناس
عوارهم ويهتك أستارهم ، ويكشف ما خفي على الجهال من مخازيهم ، ويفري أعراضهم بحديد
لسانه إن كان قد بقي لهم أعراض.
ويقسم كذلك
ليبالغن في طلبهم وتتبع آثارهم إلى حيث بلغوا ، لا يني في ذلك ولا يقصر ، حتى يقول
القائل : أيكون هناك عبادان ، وليقذفنهم بسهام الهدى يرجمهم بها رجم الشياطين
بالشهب الثاقبة. وليقعدن لهم كل مرصد يمكن أن يكيدهم فيه وليضيقن عليهم الخناق ،
وليجعلن من لحومهم ودمائهم التي فراها بسهام الحق أعظم قربان يتقرب به إلى الله ،
وليحملن عليهم بجند لا تعرف الفرار ولا تولي يوم اللقاء الأدبار ، وهي عساكر
الوحيين من الكتاب والسنة وما تقر به الفطرة السليمة التي خلقها الله مستعدة لقبول
الحق والإذعان له ، وما تهدي إليه العقول بالنظر الصحيح ، وما تفيده النقول
الثابتة ، حتى يظهر لكل من له عقل من أولى منا ومنهم بأن ينسب كلامه إلى حكم العقل
والبرهان؟ ولينصحن ما عاش لله ، فيبين العقيدة الصحيحة التي يجب على كل أحد أن يعتقدها
في ربه عزوجل ، ويبين كذلك حقوقه التي يجب أن يقوم بها العباد نحوه ،
ولينصحن لرسوله ببيان ما يجب له على الناس من محبة وتوقير وطاعة واتباع ، وما يجب
عليهم أن يعرفوه من أخلاقه وسيرته وهديه وسنته. ولينصحن كذلك لكتاب الله ، فيبين
ما يجب على الناس نحو كلام ربهم ، من حسن الاستماع إليه وكمال التعقل والتدبر
لآياته ، والوقوف عند حدوده وأحكامه ، والاتعاظ
بمواعظه والتخلق
بآدابه ، ولينصحن لشرائع الإسلام والإيمان كلها ببيانها للناس أتم بيان ، وهذا كله
رهن بمشيئة الله ، فهو الذي إن شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، ولا قوة إلا به.
تم الجزء الأول ويليه الجزء الثاني إن شاء الله وأوله
فضل في شهادة أهل الإثبات على أهل التعطيل
فهرس
الجزء الأول من شرح
القصيدة النونية للإمام ابن القيّم
مقدمة
الشارح................................................................... ٣
خطبة القصيدة النونية للإمام ابن القيّم.............................................. ٥
فصل في قدوم ركب آخر........................................................ ٦٧
فصل في مجامح طرق أهل الأرض واختلافهم
في القرآن............................. ١١٥
فصل في مذهب الاقترانية...................................................... ١١٧
فصل في مذاهب القائلين بأنه متعلق
بالمشيئة والإرادة.............................. ١١٩
فصل في مذهب الكرامية...................................................... ١٢٢
فصل في ذكرمذهب أهل الحديث............................................... ١٢٤
فصل في إلزامهم القول بنفي الرسالة إذا
انتفت صفة الكلام........................ ١٣١
فصل في إلزامهم التشبيه للرب بالجماد
الناقص إذا انتفت صفة الكلام............... ١٢٣
فصل في إلزامهم بالقول بأن كلام الل
حقّه وباطله عين الله سبحانه.................. ١٣٤
فصل في التفريق بين الخلق والأمر................................................ ١٣٦
فصل في التفريق ما يضاف إلى الربّ تعالى
من الأوصاف والأعبان................... ١٣٨
فصل في كلام الفلاسفة والقرامطة في كلام
الرب جلّ جلاله......................... ١٤٥
فصل في مقالات طوائف الاتحادية في كلام
الربّ جلّ جلاله........................ ١٥١
فصل في اعتراضهم على القول بدوام فاعلية
الربّ تعالى وكلامه والانفصال عنه........ ١٧٣
فصل في الرد علي الجهمية المعطلة............................................... ١٨٦
فصل في سياق هذا الدليل على وجه آخر........................................ ١٩٥
فصل في الإشارة إلى الطرق النقلية الدالة
على أن الله تعالى فوق سماواته على عرشه..... ١٩٨
فصل في الإشارة إلى ذلك من السنة............................................. ٢٧٣
فصل في جناية التأويل على ما جاء به
الرسول.................................... ٢٨٥
فصل فيما يلزم مدّعى التأويل لتصحيح
دعواه..................................... ٢٩٩
فصل في طريقة اين سينا وذويه من
الملاحدة في التأويل............................. ٣٠١
فصل في شبه المحرفين للنصوص باليهود.......................................... ٣٠٨
فصل في بيان بهتانهم في تشبيه أهل
الإثبات بفرعون............................... ٣١٢
فصل في بيان تدليسهم وتلبيسهم الحق
بالباطل.................................... ٣١٦
فصل في بيان سبب غلطهم في الألفاظ
والحكم عليها.............................. ٣٢١
فصل في بيان شبه غلطهم في تجريد اللفظ
بغلط الفلاسفة.......................... ٣٢٨
فصل في بيان تناقضهم وعجزهم عن الفرق
بين ما يجب تأويله وما يجب............. ٣٣٠
فصل في المطالبة بالفرق بين ما يتأول
وما لا يتأول................................. ٣٤١
فصل في ذكرفوق لهم آخر وبیان بطلانه.......................................... ٣٤٢
فصل في بيان مخالفة طريقهم لطريق أهل
الاستقامة عقلاً ونقلاً...................... ٣٤٥
فصل في بيان كذبهم ورميهم أهل الحق
بأنهم أشياء الخوارج.......................... ٣٥١
فصل في تلقيبهم أهل السنة بالحشوية............................................ ٣٦٤
فصل في بيان عدوانهم في تلقيب أهل القرآن والحديث بالمجسمة..................... ٣٦٧
فصل في بيان مورد أهل التعطيل................................................ ٣٧١
فصل في بيان هدمهم لقواعد الإسلام
والإيمان بعزلهم نصوص السنة والقرآن........... ٣٧٣
فصل بطلان قول الملحدين أن الاستدلال
بكلام الله ورسوله لا يفيد العلم واليقين...... ٣٨٥
فصل في تنزيه أهل الحديث والشريعة عن
الألقاب القبيحة الشنيعة................... ٣٩٩
فصل فی نکتة بديعة تبيّن ميراث
الملقبين والملقبين من المشركين والموحدين............. ٤٠١
فصل في بيان إقتداء التجّهم والجبر
والإرجاء للخروج من جميع ديانات الأنبياء......... ٤٠٥
فصل في جواب الرب تبارك وتعالى إذا سأل
المعطل والمشبه عن قول كل منهما......... ٤١٢
فصل في تحميل أهل الإثبات للمعطلين
شهادة تؤدي عند ربّ العالمين................ ٤١٧
|