

بِسْمِ
اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
المقدمة
الحمد لله ربّ
العالمين والصلاة والسلام على سيّدنا محمد خاتم النبيين وإمام الناصحين ، القائل :
«من
يرد الله به خيرا يفقّهه في الدين» ورضي الله تعالى عن صحبه الغرّ الميامين ، وعن التابعين
وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين ...
وبعد ، فهذا كتاب «شرح الأصول الخمسة» لقاضي القضاة عبد الجبار بن أحمد الهمذاني الأسدآبادي
المتوفى سنة ٤١٥ ه. نقدمه للقارىء الكريم بعد أن قمنا بإعادة طبعة وتصحيح ألفاظه
وتخريج آياته بما يفيد المطالع فيه.
والكتاب يتناول «شرح الأصول الخمسة» : التوحيد ، والعدل ، والمنزلة بين المنزلتين ، والوعد
والوعيد ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهي الأصول التي اتفق عليها
المعتزلة. واختلفوا في غيرها ، وقد أوصل الشهرستاني عدد فرقهم إلى اثنتي عشرة
فرقة.
ونحن نقدم هذا
الكتاب للقراء وكلنا ثقة في أنه سيخدم الفكر والثقافة الإسلامية العربية المعاصرة
خدمة جليلة .. فهو يعرض فكر الاعتزال بصورة متكاملة بقلم عالم فاضل من كبار
رجالهم.
وآخر دعوانا أن
الحمد لله رب العالمين.
بيروت ١١ محرم ١٤٢٢ ه
الموافق ٥ نيسان ٢٠٠١ م
مؤلف الكتاب
هو قاضي القضاة
أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد بن الخليل بن عبد الله الهمذاني الأسدآبادي ، لم تحدد كتب الطبقات والتراجم تاريخ مولده ، إلا أن معظم
الذين كتبوا عنه اتفقوا على أنه توفي سنة ٤١٥ ه ، وأنه عمر طويلا حتى جاوز التسعين.
عاصر قاضي القضاة
دولة بني بويه في العراق وفارس وخراسان منذ تأسيسها حتى انهيارها ، ويبدو أنه شارك في كثير من أحداث هذه الدولة ، فقد
استدعاه الصاحب بن عباد أعظم وزرائها إلى الري وولاه قاضيا لقضاتها في سنة ٣٦٧ ه
، ويشبه هذا المنصب وزارة العدل في أيامنا ، وكان العهد الأول من الصاحب إليه يشمل
رئاسة القضاء في الري وقزوين وزنجان وقم وديناوند ، ثم أضاف إليه في عهد آخر قضاء
جرجان وطبرستان .
وكان هذا الوزير
الأديب معجبا بالقاضي ، فخورا بوجوده في ديوانه ، ومن مظاهر هذا الإعجاب أنه كتب
له عهد القضاء بخط يده على ورق سمرقندي مطرز موشى ، وصفه السبكي وصفا جميلا . وذكر أنه كان من جملة ما أهدى إلى نظام الملك . وكان الصاحب يصف أبا الحسن بأنه أفضل أهل الأرض وأعلمهم .
__________________
وقد عرف أصحاب
الحاجات منزلته عند رجال الدولة فقصدوه بغية التوسط لقضائها ، وقد ذكر ابن شاكر
الكتبي أن أحد طلابه رجاه أن يتوسط له عند الصاحب بشأن ضريبة مقدارها ٣٣٠ دينار
فوضعها الصاحب عنه بعد أن أجابه القاضي على عدة مسائل فقهية وعقائدية استعصت عليه.
بقي القاضي مدة
طويلة في منصبه طيلة حياة الصاحب ، ثم عزل بعد وفاته ، ويرى بعض المؤرخين أن سبب
عزله ومصادرته تعود إلى نقمة فخر الدين عليه لعقوقه للصاحب ، فقد رفض أن يصلي عليه
لأنه لم يعلم له توبة عن الكبائر التي ارتكبها .
وقد عاد القاضي
بعد عزله إلى التدريس في مدينة الري ولم ينقطع عنه ولا عن التأليف والكتابة طيلة
حياته.
منزلة القاضي في الفكر الإسلامي :
كان أبو الحسن عبد
الجبار واسع الأفق ، متنوع الثقافة وغزيرها ، اشتهر بأنه شيخ الاعتزال وإمامه في
زمانه وحق له ذلك ، فقد عمر طويلا ولم ينقطع عن التأليف والتدريس طيلة حياته. قال
عنه الذهبي والسبكي إنه من غلاة المعتزلة ، وكان صاحب حجة ومعرفة واعتداد برأيه ،
وكثيرا ما حاول الدفاع عن رجال الاعتزال بنقده لآراء بعض المتطرفين منهم ، أو
التماس تأويلات لا تبعد كثيرا عن تأويلات أهل السنة ولعل للثقافة الفقهية أثرها
الكبير في هذا الموقف.
بدأ القاضي حياته
العلمية فقيها على مذهب الإمام الشافعي ، ثم انصرف إلى الكلام بعد أن وجد على حد
قوله قلة الإقبال عليه لأن صاحبه لا يجني منه ثمرة دنيوية بينما كان الفقه يجذب
كثيرا من طلاب الدنيا ..
ودرس القاضي الفقه
ودرسه وألف فيه كتبا مطولة تشرح وتدرس كما درس التفسير وله فيه كتب عديدة منها «تنزيه القرآن عن
المطاعن» ، و «متشابه القرآن» وكان على دراية واسعة بالحديث فقد سمع من كبار المحدثين
وانتقل إليهم ليأخذ منهم الحديث ، وأملى فيه كتابا هو «نظام الفوائد» و «تقريب
المراد للرائد» .. كما أنه لم
__________________
يقصر في نقض
الفلسفة اليونانية ومنطق أرسطو.
وعرف بالإضافة إلى
ذلك بأنه مؤلف أفضل كتاب في تثبيت دلائل النبوة وهو بعنوان «تثبيت دلائل نبوة
سيدنا محمد».
ونستطيع أن نقول
أن القاضي كان ملما بشتى فروع الثقافة الإسلامية المعروفة آنذاك. دراسة وتدريسا
وتأليفا ، كما أن أثره كان واضحا على جميع من درس العقائد والتوحيد من بعده مؤيدا
أو ناقدا.
أساتذته وتلاميذه :
تتلمذ أبو الحسن
على عدد من كبار رجال الفكر الإسلامي في عصره ، فقد درس علم الكلام على أبي إسحاق
إبراهيم بن عياش. وأبي عبد الله الحسين بن علي البصري (ت ٣٦٩ ه).
وسمع الحديث من
إبراهيم بن سلمة القطان (المتوفى سنة ٣٤٥ ه) وعبد الرحمن بن حمدان الجلاب (ت ٣٤٦
ه) ، وعبد الله بن جعفر بن فارس والزبير بن عبد الواحد الأسدآبادي (٣٤٧ ه)
وغيرهم كثيرون.
وتتلمذ على القاضي
طلاب نابهون منهم الإمام المؤيد بالله (أحمد بن الحسين الآملي) ، وأبو رشيد سعيد
النيسابوري وأبو القاسم التنوخي ، والشريف المرتضى أبو القاسم علي بن الحسين
الموسوي ، وأبو يوسف عبد السلام القزويني ، وأبو عبد الله الحسن بن علي الصيمري ،
وأبو الحسين محمد بن علي البصري ، وأبو القاسم إسماعيل البستي ، وأبو حامد أحمد بن
محمد النجار. وغيرهم كثيرون.
مؤلفات القاضي :
يجمع من أرخ
للقاضي أنه كان كثير التآليف متنوعها ، يقول صاحب «المنية والأمل» :
«هو الذي فتق علم الكلام ونشر بروده ، ووضع فيه الكتب الجليلة التي بلغت الشرق
والغرب وضمنها من دقيق الكلام وجليله ما لا يتفق لأحد مثله حتى طبق الأرض بكتبه.
وقال الحاكم : «يقال إن له مائة ألف ورقة».
وقال صاحب «لسان الميزان»
«وأملى عدة أحاديث وصنف الكتب الكثيرة في التفسير والكلام وحدث الإسنوي : «أن
مؤلفاته انتهت إلى أربع مائة ألف ورقة منها «المحيط» اثنين وعشرين و «المغني» ثلاثة عشر و «مختصر الحسنى» عشرة ، و «الأصول
والعمد»
نيف وعشرون ...
إلخ.
وقد وضع صاحب «المنية والأمل» قائمة طويلة بأسماء مؤلفاته ، وأشار بروكلمان إلى تسع منها
مع تحديد أماكن وجودها.
ومن هذه الكتب : «المغني» ، ولكن مما لا نزاع فيه أن «شرح الأصول» أشهر كتب القاضي وأعظمها أثرا وأشيعها ذكرا. «آداب القرآن» ، و «الأمالي
في الحديث» ، و «تنزيه القرآن عن
المطاعن» ، و «شرح كشف الأغراض عن
الأعراض» ، و «شرح الجامعين» ، و «طبقات
المعتزلة» ، و «المبسوط» ......
وصف الكتاب :
والكتاب الذي
نقدمه للقراء هو «شرح
الأصول الخمسة» : التوحيد ، والعدل ، والمنزلة بين المنزلتين ، والوعد والوعيد ، والأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر. وهي الأصول التي اتفق عليها المعتزلة. واختلفوا في
غيرها ، وقد أوصل الشهرستاني عدد فرقهم إلى اثنتي عشرة فرقة.
ولم يكن بحث
القاضي لهذه الأصول على هذا التصنيف في جميع كتبه فهو في «المغني» اعتمد على أصلين هما العدل والتوحيد وأدخل ما عداهما فيهما
، وفي «مختصر
الحسنى» ذكر أن الأصول
أربعة وهي : العدل والتوحيد والنبوات والشرائع.
ويظهر أن تصنيف «المغني» مرجح لدى شراح كتب القاضي. فقد ذكر مانكديم : أن (الأولى ما
ذكره في «المغني»
من أن النبوات
والشرائع داخلان في العدل لأنه كلام في أنه تعالى إذا علم أن صلاحنا في بعثة الرسل
وأن نتعبد بالشريعة وجب أن يبعث ونتعبد ومن العدل أن لا يخل بما هو واجب عليه.
وكذلك فالوعد والوعيد داخل في العدل لأنه كلام في أنه تعالى إذا وعد المطيعين
بالثواب وتوعد العصاة بالعقاب فلا بد من أن يفعل ولا يخلف في وعده ولا في وعيده ،
ومن العدل أن لا يخلف ولا يكذب ، وكذلك المنزلة بين المنزلتين داخل في باب العدل
لأنه كلام في أن الله تعالى إذا علم أن صلاحنا في أن يتعبدنا بإجراء الأسماء
والأحكام على المكلفين وجب أن يتعبدنا به ومن العدل أن لا يخل بالواجب ، وكذا
الكلام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فالأولى أن يقتصر على ما أورده في «المغني»).
وقد ورد ذكر هذا
الكتاب في أماكن مختلفة من كتب المعتزلة وغيرهم ، وبأسماء متعددة. ذكره الحاكم أبو
السعد ، وابن المرتضى باسم : «شرح
الأصول» و «شرح
الأصول
الخمسة» ، و «الأصول». وذكره صارم الدين صاحب «طبقات الزيدية» (مخطوط دار الكتب) باسم «الشرح» في أكثر من موضع ص ٣٤٤ و ٣٨٩ و ٣٩٧ ... إلخ.
إلا أن عنوان «الأصول» أو «شرح
الأصول» على ما يظهر كان
شائعا ولذلك نجد أن أكثر من واحد من المعتزلة نسب إليهم كتاب بهذا الاسم نذكر منهم
على سبيل المثال : الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي (وهو من أئمة الزيدية ، ومتوفى
سنة ٢٤٦ ه) إذ توجد له رسالة صغيرة باسم «أصول العدل والتوحيد» ، ورسالة أخرى صغيرة أيضا باسم «العدل
والتوحيد ونفي التشبيه عن الواحد الحميد» وكلا الرسالتين من مصورات دار الكتب ـ صنعاء.
فصول الكتاب وأبوابه :
يبدأ «شرح الأصول» بمقدمة عن النظر ووجوبه على المكلف ، وذلك لأن معرفة الله
ليست من المعارف الضرورية ولا تكون إلا بالاستدلال ومن هنا كان النظر في الطرق
المؤدية إلى معرفة الله واجبا ، ويبدأ هذا الطريق بمعرفة الأجسام والأعراض لأنه
سيؤدي بنا إلى أنها حادثة ، وما دامت كذلك فهي تحتاج إلى محدث هو خالق الكائنات
كلها وهو الله.
والطريقة التي
يعتمدها القاضي لمعرفة حدوث الأجسام هي الدعاوى الأربع التي بدأها أبو الهذيل
وتابعه فيها رجال الاعتزال وعلماء الكلام عموما ، وتتلخص فيما يلي : ١ ـ إن في
الأجسام معاني لا ينفك عنها كالاجتماع والافتراق والحركة والسكون. ٢ ـ هذه المعاني
محدثة. ٣ ـ الجسم لا ينفك عنها ولا يتقدمها. ٤ ـ ولذلك وجب حيث حدوث الجسم أيضا.
والمحدث لهذه
الأجسام ليس هو العقل الأول أو الفعال ، أو النفس ، أو الطبيعة ، أو الصدفة ، بل
هو الله.
ثم ينتقل البحث
إلى ما يجب على المكلف معرفته من أصول الدين ، وذلك لأن معرفة الأصول عند القاضي
إما إجمالية أو تفصيلية ، وكثير من المسائل يكفي فيها النظرة الإجمالية ، وخاصة
بالنسبة لعامة المكلفين. وهكذا يميز القاضي في بحوث العقائد بين نوعين من الناس :
العامة وهؤلاء لا يكلفون إلا بالمعرفة الإجمالية من الأصول ، والعلماء وهؤلاء
وحدهم الذين يحق لهم البحث التفصيلي فيها فالمعرفة الإجمالية إذن كافية لترتيب
التكليف على المكلفين ، أو بعبارة أخرى إن المكلف لا
يجب عليه أكثر من
المعرفة الإجمالية.
ثم يعرض للأصول
الخمسة عرضا سريعا يتناسب مع هذه الفكرة مبينا ما يجب على المكلف معرفته من كل
أصول من الأصول الخمسة : التوحيد ، والعدل ، والوعد والوعيد ، والمنزلة بين
المنزلتين ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ويعود بعد ذلك إلى
تفصيل ما أجمله من أصول ويختم الكتاب بفصل في التوبة تيمنا وتبركا وتفاؤلا بالخير
والقبول.
وتمتاز عبارة هذا
الكتاب بالوضوح والسهولة ، على عكس عبارة «المغني» ، ولعل ذلك لأنه أملاه بعد بدئه في «المغني» ، وكان يلقيه في دروس يحضرها العامة والخاصة ، فأراد أن
يبسط قواعد الاعتزال وييسر تناولها ونشرها.
وتبدو قيمة هذا
الشرح في أنه يحيط بأغلب المسائل الاعتقادية التي كانت مدار البحث بين الكلاميين
على اختلاف مشاربهم من معتزلة وأشعرية وكرامية ومجبرة إلى غيرهم. وهو ينصف خصومه
حينما يعرض آراءهم بكل دقة ووضوح ثم يبدأ بالرد عليهم بهدوء وأدب وقلما نجد كلمة
نابية في مناقشته لأفكار الغير.
والقارئ لهذا
الكتاب يستطيع أن يأخذ فكرة شاملة عن تطور بحوث الكلام وأصول الدين عند المسلمين
حتى بداية القرن الخمس الهجري ، لأن القاضي عبد الجبار بسبب اطلاعه على شتى
المذاهب ، وبفضل حياته المديدة المليئة بالمناقشات والمحاورات كان أقدر الناس على
أن يقدم لنا هذه الصورة الكاملة.
ولا شك أن القاضي
كان أحد الأفذاذ الذين وقفوا في وجه المحاولات القوية التي كانت تبذل لتمييع
الثقافة الإسلامية وإخفاء شخصيتها بالمؤثرات الأجنبية. وإذا كان قد استفاد من
الثقافات الأجنبية فإنما كانت هذه الاستفادة بمقدار إذ لم يتخل عن قواعده وأصوله
لقد ظل القاضي طول حياته كالطود الراسخ يكافح مع المكافحين من علماء الكلام في منع
طغيان هذه التيارات الدخيلة ، وذلك لما كان يحمله من ثقافة إسلامية وعربية ضخمة ،
ولما كان يحرص عليه من الاحتكام دوما إلى الفهم الإسلامي لمختلف القضايا الفكرية.
لذا فإننا نراه
يرفض بشدة أن تكون الفلسفة اليونانية موجهة للفكر الإسلامي ، أو أن تصبح قواعد
منطق أرسطو هي الحاكمة لهذا التفكير. لكن هذا السد المنيع لم يلبث أن أنهار بعد
ذلك وأصبح منطق أرسطو أمرا يرتفع فوق الشبهات ، واختلطت الفلسفة
بعلم الكلام حتى
لم يعد بالإمكان أن نميز عند المتأخرين من علماء الكلام كالإيجي والجرجاني مثلا
بين الفلسفة والتوحيد.
هذا وحده هو الذي
دعانا إلى وضع هذا الكتاب بين أيدي القراء راجين ثواب الله ورضاه ، وخدمة التراث
الإسلامي.
والله نسأل أن يجنبنا الخطأ ويهدينا إلى سواء السبيل.
بِسْمِ
اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
والحمد لله وحده.
وصلى الله على محمد وآله ، اللهم أعن ويسر يا كريم.
أول الواجبات :
بدأ قاضي القضاة
أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد رحمهالله في الشرح بسؤال الأصول الخمسة فقال : إن سأل سائل فقال :
ما أول ما أوجب الله عليك؟ فقل : النظر المؤدي إلى معرفة الله تعالى لأنه تعالى لا
يعرف ضرورة ، ولا بالمشاهدة ، فيجب أن نعرفه بالتفكر والنظر.
الواجب وحده وحقيقته :
ثم ثنى بذكر
الواجب ، وحده ، وحقيقته ، لأنه أراد أن ينهي الكلام إلى أن النظر في طريق معرفة
الله تعالى أول الواجبات. ولا يحسن أن نتكلم في وصف لشيء أو حكم له ما لم نعلم ذلك
الشيء.
معنى الواجب :
فقال : الواجب هو
ما إذا لم يفعله القادر عليه استحق الذم على بعض الوجوه. وقوله على بعض الوجوه :
احتراز من الواجبات المخيرة التي لها بدل يقوم مقامها ويسد مسدها ، كالكفارات
الثلاث ، فإنها أجمع واجبة على التخيير ، ثم إذا أتى بواحدة منها وترك الباقي لا
يستحق الذم مع أنه أخل بالواجب ، ولكن يستحق الذم عليه على بعض الوجوه ، وهو أن لا
يأتي بواحدة منها ، فلولا هذا الاحتراز لانتقض الحد ، ولا نقض مع اعتباره.
كيف يفسر عمل الملجأ في ضوء تعريف الواجب :
فإن قيل : هلا
اعتبرتم في حد الواجب استحقاق المدح بفعله؟
قلنا : إنما يعتبر
في الحد ما به يتبين المحدود عن غيره ، والواجب إنما يتبين عما
ليس بواجب بما
ذكرنا ، فيجب الاقتصار عليه.
فإن قيل : إن لم
تعتبروا في حد الواجب استحقاق المدح بفعله انتقض بهرب الملجأ ، لأن الملجأ إلى
الهرب لو مكث ولم يهرب لاستحق الذم بتركه الهرب مع أن الهرب غير واجب عليه ، إذ
الوجوب والتكليف لا يتصور ان مع الإلجاء ، ولو اعتبرتم في الحد استحقاق المدح
بفعله لم ينتقض بذلك لأنه ، وإن استحق الذم بترك الهرب ، لم يستحق المدح بفعله.
قيل له : إن من
مكث ولم يهرب لا يكون ملجأ إلى العرب ، لأنه لو كان ملجأ إلى الهرب لوقع منه الهرب
لأن الملجأ هو من بلغ داعيه حدا لا يقابله داع آخر ، ويقع منه ما ألجئ إليه لا
محالة. فإذا لم يكن ملجأ لم يمتنع وجوب الهرب عليه دفعا للضرر عن نفسه ، فلذلك
استحق الذم بترك الهرب وأنت أردت أن تصور الكلام في الملجأ فصورته في غيره.
سبب اعتماد هذا التعريف للواجب :
فإن قيل : لم قلتم
: إن هذا هو حد الواجب؟
قيل له : لأنه
أوضح من قولنا واجب ، وينبئ عن فائدته ويحصر معناه ، وهذا هو الغرض بالتحديد.
وإن شئت قلت في حد
الواجب : هو ما للإخلال به مدخل في استحقاق الذم ، أو للإخلال به تأثير في استحقاق
الذم ، وهذان الحدان كالأول في الصحة إلا أنهما أوجز وأخصر ، ولهذا لا يرد عليهما
من الأسئلة ما يرد على الأول.
مفهوم القبح :
ولما كان الواجب
ما به ترك قبيح بين حقيقة القبيح فقال :
القبيح هو ما إذا
فعله القادر عليه استحق الذم على بعض الوجوه ، وقوله على بعض الوجوه : احتراز من
الصغيرة ، فإنها قبيحة ومع ذلك فإنه لا يستحق الذم عليها بكل وجه ولكن يستحق الذم
عليها على بعض الوجوه ، وهو أن لا يكون لفاعلها من الثواب قدر ما يكون عقاب هذه
الصغيرة مكفرا في جنبه ، وكذلك فإنه احتراز من القبائح الواقعة من الصبيان
والمجانين والبهائم ، فإنها على قبحها لا يستحق الذم عليها بكل وجه ، ولكن يستحق
الذم عليها على بعض الوجوه ، وهو أن تقع ممن يعلم قبحها ،
أو يتمكن من العلم
بذلك ، فلولا هذا الاحتراز لانتقض الحد ، ولا نقض مع اعتباره.
القول الذي وضح الواجب وجوده قبيح :
وذكر في الكتاب ،
أن كل ترك منع الواجب من وجوده فهو قبيح.
وهذا صحيح لأن
أحدنا إذا كان عنده وديعة فجاء صاحبها وطالبه بالرد فإنه يجب عليه الرد ، فلولا أن
هذا الرد لا يتم إلا بالقيام واستلقى على قفاه ، كان هذا الاستلقاء قبيحا لأنه ترك
منع الواجب من وجوده.
نوعا الواجب : أ ـ موسع مخير ب ـ معين مضيق
واعلم أن الواجبات
على ضربين : موسع فيه مخير ، ومعين مضيق ، فالواجب المخير هو ما إذا لم يفعله
القادر عليه ، ولا ما يقوم مقامه استحق الذم ، والواجب المضيق هو ما إذا لم يفعله
القادر عليه بعينه استحق الذم ، ولسنا نعني بهذا التعيين أن غيره مما لا يخالفه في
الصورة لا يقوم مقامه بخلاف المخير ، وإلا فليس في الواجبات علينا ما يتعين حتى لا
يقوم غيره مقامه ، وإن وجد فيما يجب على الله تعالى. ولكل واحد منهما مثال في
العقل ولا شرع.
مثال الواجب المخير في العقل :
أما مثال الواجب
المخير في العقل فهو : كقضاء الدين ، فإن من عليه الدين بالخيار ، إن شاء قضى من
هذا الكيس ، وإن شاء قضى من كيس آخر إذا كان النقد واحدا.
مثال الواجب المخير في الشرع
وأما مثاله في
الشرع ، فهو : كالصلاة في الوقت فإن المكلف مخير إن شاء صلى وإن شاء عزم ،
وكالكفارات الثلاث فإنها أجمع واجبة على التخيير إن شاء أطعم ، وإن شاء كسى ، وإن
شاء أعتق.
مثال الواجب المضيق ، في العقل :
وأما مثال الواجب
المضيق في العقل فهو ، كرد الوديعة ، إذا جاء صاحبها وطالبه بالرد فإنه يجب عليه
ردها بعينها ، ولا يقوم غيرها مقامها من قيمة أو بدل ، وإن كان
يدخله التخير من وجه
آخر ، فإنه مخير إن شاء ردها باليمين ، وإن شاء ردها باليسار.
مثال الواجب المضيق ، في الشرع :
وأما مثاله في
الشرع فهو كالصلاة في آخر الوقت ، فإنه يتعين عليه الصلاة ويجب أداؤها ولا يقوم
غيرها مقامها من عزم أو غيره ، وإن كان يدخله التخيير من وجه آخر ؛ فإنه مخير إن
شاء صلى في هذه البقعة وإن شاء صلى في هذه البقعة ، بشرط استوائها في الطهارة.
معرفة الله من الواجبات المضيقة :
ثم قال رحمهالله تعالى : إذا ثبت هذا فاعلم أن معرفة الله سبحانه وتعالى من
الواجبات المضيقة التي لا يسع الإخلال بها ، ولا يقوم غيرها مقامها من ظن أو غيره
لأنه مما يقبح تركها ، وقد تقرر في العقل وجوب التحرز من القبيح. فإذا كان لا يمكن
التحرز من هذا القبيح إلا بالمعرفة ، وجب أن يقضى بوجوبها.
وهذه منه رحمهالله إشارة إلى ما يقوله شيخنا أبو علي : من أن وجه وجوب معرفة
الله تعالى قبح تركها ، إلا أن ذلك إنما يستقيم أن لو لم يمكن الانفكاك عن القبيح
إلا إلى المعرفة ، فحينئذ كان يجب أن يقضي بوجوبها. فأما ومن الممكن أن ينفك المرء
عن القبيح لا إلى المعرفة ، بأن لا يفعلها ، ولا يفعل ما يضادها من الجهل وغيره ،
فإن ما ذكره لا يستقيم. وأشبه ما يقوله في الصلاة أنه لا يجوز أن يجعل وجه وجوبها
قبح تركها من الزنا وغيره ، لأن ذلك إنما كان يجب أن لو لم يمكن الاحتراز من الزنا
إلا بالصلاة ، فأما ومن الممكن انفكاك المكلف عن الأمرين جميعا فإن ذلك غير واجب ،
كذلك هاهنا.
الرد على الاعتماد على قولهم : الواجب لا يجب بإيجاب موجب
فإن قيل : إذا كان
عندكم أن الواجب لا يجب بإيجاب موجب ، فما معنى قوله : ما أول ما أوجب الله عليك؟
قيل له : معناه ما عرفك الله وجوبه. فإذن ، الصحيح في وجه وجوب المعرفة ما يقوله
أبو هاشم من أنه ما لطف في أداء الطاعات واجتناب المقبحات العقلية على ما سيأتي شرحه
من بعد إن شاء الله تعالى.
حقيقة النظر ، وأنواعه
ولما ذكر رحمهالله في أول الكتاب ما ذكر ، بين حقيقة النظر.
النظر :
والأصل فيه ، أن
النظر لفظة مشتركة بين معان كثيرة :
قد يذكر ويراد به
تقليب الحدقة الصحيحة نحو المرئي التماسا لرؤية ، تقول العرب : نظرت إلى الهلال
فلم أره.
الانتظار :
وقد يذكر ويراد به
الانتظار ، قال الله تعالى : (فَنَظِرَةٌ إِلى
مَيْسَرَةٍ) [البقرة : ٢٨٠] أي
انتظار ، وقال : (فَناظِرَةٌ بِمَ
يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) [النمل : ٣٥] أي
منتظرة ، وقال المثقب العبدي أو الممزق :
فإن يك صدر هذا
اليوم ولى
|
|
فإن غدا لناظره
قريب
|
أي لمنتظره.
وقال الفقعسي :
فإن غدا للناظرين قريب. أي للمنتظرين.
العطف والرحمة :
وقد يذكر ويراد به
العطف والرحمة ، قال الله تعالى : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ
اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [آل عمران : ٧٧]
أي لا يرحمهم ولا يثيبهم. ويروى عن النبي صلىاللهعليهوسلم : «من جر إزاره بطرا لا
ينظر الله إليه يوم القيامة». أي لا يرحمه.
المقابلة :
وقد يذكر ويراد به
المقابلة ، تقول العرب : داري تنظر إلى دار فلان أي تقابلها ، وتقول : إذا أخذت في
طريق كذا فنظر إليك الجبل أي قابلك فخذ عن يمينك أو عن شمالك.
التفكر بالقلب :
وقد يذكر ويراد به
التفكر بالقلب ، قال الله تعالى : (أَفَلا يَنْظُرُونَ
إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ
خُلِقَتْ
(١٧)) [الغاشية : ١٧] ، أفلا
يفكرون في خلقها.
كيف نميز بين أنواع النظر :
وإنما تتميز هذه
الأنظار بعضها من بعض بما يقترن بها من القرائن ، وينضاف إليها من الشواهد.
على أن النظر إذا
قيد بالعين لا يحتمل إلا تقليب الحدقة الصحيحة نحو المرئي التماسا لرؤيته ، كما
أنه إذا قيد بالقلب لا يحتمل إلا التفكير.
أسماء النظر بالقلب :
ثم إن النظر
بالقلب له أسماء ، من جملتها : التفكير ، والبحث ، والتأمل ، والتدبر ، والرؤية ،
وغيرها.
أقسام النظر :
وهو على قسمين :
أحدهما : النظر في أمور الدنيا ، كالنظر في العلاجات والتجارات ؛ والثاني : النظر
في أمور الدين ، وذلك أيضا على قسمين : أحدهما : النظر في الشبه لتحل ، والثاني :
النظر في الأدلة ليتوصل بها إلى المعرفة ، وهذا هو النظر المقصود بالباب.
ولما رأى رحمهالله تنوع النظر إلى هذه الأنواع ، قيد في أول الكتاب ولم يطلق
، فقال :
أول ما أوجب الله
تعالى عليك ، النظر في طريق معرفة الله تعالى.
معنى الفكر :
فإن قيل : وقد
فسرتم النظر بالفكر فما الفكر؟ قيل له : الفكر هو المعنى الذي يوجب كون المرء
متفكرا والواحد منا يجد هذه الصفة من نفسه ويفصل بين أن يكون متفكرا أو بين أن لا
يكون متفكرا وأجلى الأمور ما يجده الإنسان من نفسه.
حقيقة المعرفة :
ثم إنه رحمهالله بين حقيقة المعرفة.
هذا التعريف أولى من التعريف الذي أورده في العمد :
والأصل في ذلك ،
أن المعرفة والدراية والعلم نظائر ، ومعناها : ما يقتضي سكون النفس ، وثلج الصدر ،
وطمأنينة القلب.
وهذا أولى مما
أورده في العمد : أنه الاعتقاد الذي تسكن به النفس إلى أن معتقده على ما اعتقده
عليه ، لأن العلم إنما يتبين عما عداه بما ذكرناه ، فيجب الاقتصار عليه ويحذف ما
سواه.
العلم غير الاعتقاد :
وبعد ، فإن ما
أورده في العمد فيه لفظ الاعتقاد ، والعلم لا يبين عما ليس بعلم بكونه اعتقادا ،
فإن غير العلم يشارك فيه وهو اعتقاد التقليد والتبخيت ، ولأن فيه لفظ المعتقد ،
وفي العلوم ما لا معتقد له ، كالعلم بأن لا ثاني مع الله تعالى ، وأن لا بقاء ،
ولأن العلم بالحد ينبغي أن يكون علما بالمحدود ، لأنهما عبارتان تقعان على معنى
واحد ، والمستفاد بأحدهما هو المستفاد بالآخر ، فيجب فيمن علم أحدهما أن يعلم
الآخر ، ومعلوم أن في الناس من علم علما وإن لم يعلمه اعتقادا ، كأبي الهذيل
وأصحابه.
معنى سكون النفس :
فإن قيل : ما
المراد بسكون النفس؟ قلنا : التفرقة التي يجدها الواحد منا من نفسه إذا رجع إليها
، بين أن يعتقد كون زيد في الدار مشاهدة ، وبين أن يعتقد كونه فيها لخبر واحد من
أفناء الناس ، فإنه يجد في إحدى الحالتين مزية وحالا لا يجدهما في الحالة الأخرى ،
تلك المزية هي التي عبرنا عنها بسكون النفس.
صلة السكون الحقيقي بمعنى سكون النفس :
فإن قيل : السكون
إنما يستعمل حقيقة في المعنى الذي يضاد الحركة ويعاقبها ، فكيف يجوز تحديد العلم
به.
قلنا : أقصى ما في
الباب أن يكون هذا تحديدا بالمجاز ، وذلك سائغ ، لأن الغرض بالحد دائما إنما هو
الكشف والإبانة عن حال المحدود ، فمتى حصل هذا الغرض بالمجاز صار كما لو حصل
بالحقيقة ، وصار هذا كما نقوله في النظام ، فإنه إنما يستعمل حقيقة من جوهرين ، ثم
يحد به الكلام ، فيقال : الكلام ما انتظم من
حرفين فصاعدا ، أو
ما له نظام من الحروف المخصوصة ، لما انكشف به معنى الكلام ، وأنبأ عن فائدته ،
كذلك في مسألتنا.
السكون يقصد منه المعنى الحقيقي إذا كان مطلقا :
وبعد فإن السكون
إنما يكون حقيقة فيما يضاد الحركة ويعاقبها إذا كان مطلقا ، فأما إذا قيد بالنفس ،
فإنه لا يحتمل إلا ما ذكرناه. وكما إذا قيد بالغضب ، فيقال : سكن غضبه لم يحتمل
إلا زواله وارتفاعه ؛ فصار هذا كالنظر ، فإنه يحتمل بإطلاقه ما لا يحتمله إذا قيد
بالعين والقلب ، وكالإدراك ، فإنه يحتمل مطلقا ما لا يحتمله مقيدا.
على أن المقصود من
هذا كله أن نقف على الغرض المقصود بهذه العبارة إذا وقعت عليه ، فلا مشاقة فيها إن
شئت عبرت عنه بسكون النفس ، أو ثلج الصدر ، أو طمأنينة القلب ، أو انشراح الصدر.
معنى الضرورة والمشاهدة :
ثم إنه رحمهالله سأل نفسه فقال : إذا قلتم : إن النظر في طريق معرفة الله
تعالى أول الواجبات ، لأنه تعالى لا يعرف ضرورة ولا بالمشاهدة ، فما معنى الضرورة
والمشاهدة؟
الضرورة معناها في أصل اللغة : الإلجاء :
وأجاب عنه : بأن
الضرورة في أصل اللغة هي الإلجاء ، قال الله تعالى : (إِلَّا مَا
اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) [الأنعام : ١١٩]
أي ما ألجئتم إليه ، وفي العرف ، إنما يستعمل فيما يحصل فينا لا من قبلنا ، بشرط
أن يكون جنسه داخلا تحت مقدورنا ، ولذلك يقال : حركة ضرورية لما دخل جنسها تحت
مقدورنا ، ولم يقل لون ضروري لما لم يدخل جنسه تحت مقدورنا ، هذا إذا كان مطلقا.
إذا قيدت الضرورة فقيل : العلم الضروري.
وإذا أضيف إليه
العلم فقيل : علم ضروري ، فالمراد على ما ذكره في الكتاب : العلم الذي يحصل فينا
لا من قبلنا ، ولا يمكننا نفيه عن النفس بوجه من الوجوه. وهذا إن أورده على طريق
التحديد ، ففيه تكرار مستغنى عنه ، لأن العلم الذي يحصل فينا لا من قبلنا ، هو
العلم الذي لا يمكن نفيه عن النفس بوجه من الوجوه ، والعلم الذي لا يمكن نفيه عن
النفس بوجه من الوجوه ، هو الذي يحصل فينا لا من قبلنا ، فيجب أن
نقتصر على أحد
الشقين ليكون الحد تجنبا عن التكرار واللغو أو تحديد آخر.
اعتراض البعض وقبول البعض لتحديد العلم الضروري :
وقد حد العلم
الضروري بأنه :
العلم الذي لا
يمكن العالم نفيه عن نفسه بشك ولا شبهة ، وإن انفرد.
وهذا الحد قد صححه
بعضهم ، واعترضه الباقون.
قول المؤيدين لحد العلم الضروري :
وعلى كل حال ،
فقوله : وإن انفرد ، احتراز عن العلم المكتسب إذا قارنه العلم الضروري ، فإنه
والحال هذه لا يمكن نفيه عن النفس بشك ولا شبهة وإن كان مكتسبا ، لأن هذه القضية
إنما وجبت فيه لمقارنة العلم الضروري ، فلولا هذا الاحتراز لانتقض الحد ، ولا نقض
مع اعتباره.
قول المعارضين للحد :
ومن لم يعتمد هذا
الحد ، جعل الاعتراض عليه أن النفي إنما يتصور في الباقيات ، والعلوم عندكم مما لا
يبقى ، فكيف صح ما ذكرتموه في الحد؟ ويمكن أن يجاب عنه ، فيقال : لسنا نعني بالنفي
الذي ذكرناه إلا أن أحدنا لا يمكنه أن يخرج نفسه عن استمرار كونه عالما ، إلا
بالنفي الذي يتصور في الباقيات.
وربما يقال : قد
ذكرتم في الحد الشك ، والشك ليس بمعنى عندكم. وجوابه : أن لفظة الشك لو حدثت جاز
ولم يخل بالحد ، وإذا ذكرت فلأن أكثر العلماء ذهبوا إلى أنه معنى.
وقد حد العلم
الضروري بأنه العلم الذي لا يمكن العالم به نفيه عن النفس بوجه من الوجوه ، وهذا
صحيح.
واتصل بهذا الكلام
في أقسام العلوم الضرورية.
أقسام العلوم الضرورية :
والأصل في ذلك ،
أن العلم الضروري ينقسم إلى ما يحصل فينا مبتدأ ، وهو كالعلم بأحوال أنفسنا من
كوننا مريدين وكارهين ومشتهين ونافرين وظانين ومعتقدين وما شاكل ذلك ، وإلى ما
يحصل فينا عن طريق ، أو ما يجري مجرى الطريق.
فما يحصل فينا عن
طريق ، فهو كالعلم بالمدركات ، فإن الإدراك طريق إليه. وما يحصل عما يجري مجرى
الطريق ، فهو كالعلم بالحال مع العلم بالذات ، فإن العلم بالذات أصل للعلم بالحال
، ويجري مجرى الطريق إلى العلم به ، والفرق بين ما يحصل فينا عن طريق وبين ما يحصل
عما يجري مجرى الطريق ، أن ما يحصل عن طريق يجوز أن يبقى مع عدم الطريق إليه ،
وليس كذلك العلم الحاصل عما يجري مجرى الطريق ، ولهذا يصح من الله تعالى أن يخلق
فينا العلم بالمدركات من دون الإدراك ، ولم يصح أن يخلق فينا العلم بالحال من دون
العلم بالذات ، لما كان أصلا فيه وجاريا مجرى الطريق إليه.
أقسام العلم الضروري الحاصل فينا مبتدأ
ثم الحاصل فينا
مبتدأ ينقسم إلى : ما يعد في كمال العقل.
وإلى ما لا يعد في
كمال العقل.
وأما ما لا يعد في
كمال العقل ، فهو كالعلم بأن زيدا هو الذي شاهدناه من قبل ، فإنه علم مبتدأ من جهة
الله تعالى ، ثم لا يعد في كمال العقل ، ولذلك تختلف فيه أحوال العقلاء ، ففيهم من
إذا شاهده أثبته ، وفيهم من إذا شاهده لم يثبته.
وأما المعروف في
كمال العقل ، فإنه ينقسم : إلى ما يستند إلى ضرب من الخبر ، وإلى ما لا يستند إلى
ذلك. فالذي لا يستند إلى الخبر كالعلم بأن الذات إما أن يكون موجودا أو معدوما ،
والموجود إما قديم وإما محدث. والمستند إلى الخبر ، فهو كالعلم بتعلق الفعل بفاعله
، وما يتصل بذلك من أحكام الفعل من حسن وقبح وغيرهما.
وأما المشاهدة ،
فهي الإدراك بهذه الحواس ، هذا في الأصل ، وفي الأغلب إنما تستعمل في الإدراك بحاسة
البصر ، هذا إذا كان مطلقا ، فأما إذا أضيف إليه العلم فقيل : علم المشاهدة ،
فالمراد به العلم المستند إلى الإدراك بهذه الحواس ، وفي الأغلب إنما يستعمل في
العلم المستند إلى الإدراك بحاسة البصر فقط.
الأدلة على أنه تعالى لا يعرف ضرورة ولا بالمشاهدة
ثم إنه رحمهالله سأل نفسه فقال : إذا قلتم إن النظر في طريق معرفة الله
تعالى واجب لأنه تعالى لا يعلم ضرورة ولا بالمشاهدة ، فمن حقكم أن تثبتوا ذلك ليتم
ما قلتم.
والأصل في ذلك أن
الكلام في أن الله تعالى لا يجوز أن يعرف مشاهدة ،
فموضعه باب نفي
الرؤية ، والذي يختص هذا الوضع الكلام في أنه لا يجوز أن يعرف ضرورة.
وهذه مسألة خلاف
بين الناس. فعندنا ، أنه تعالى لا يعرف ضرورة في دار الدنيا ، مع بقاء التكليف.
مخالفته للجاحظ والأسواري :
وقد خالفنا في ذلك
أصحاب المعارف ، كالجاحظ وأبي علي الأسواري. وقولنا في دار الدنيا مع بقاء التكليف
، هو ، لأن المحتضر وأهل الآخرة يعرفون الله تعالى ضرورة.
مخالفته لأبي القاسم البلخي :
وقد خالف فيه أبو
القاسم البلخي وقال : إنه تعالى كما يعرف دلالة في دار الدنيا ، فكذلك في دار
الآخرة لأن ما يعرف دلالة لا يعرف إلا دلالة ، كما أن ما يعرف ضرورة لا يعرف إلا
ضرورة. وقد حكي عن بعض المتأخرين ، أظنه المؤيد بالله قدس الله روحه ، أنه يجوز أن
يكون من المكلفين من يعرف الله تعالى ضرورة في دار الدنيا مع بقاء التكليف ،
كالأنبياء والأولياء والصالحين.
عودة إلى الأدلة على أن الله لا يعرف ضرورة :
والذي يدل على أن
العلم بالله تعالى ليس بضروري وإنما هو اكتسابي ، ما قد ثبت أنه يقع بحسب نظرنا
على طريقة واحدة ووتيرة مستمرة ، فيجب أن يكون متولدا عن نظرنا ، وإذا كان كذلك
فالنظر من فعلنا فيجب أن تكون المعرفة أيضا من فعلنا ، لأن فاعل السبب ينبغي أن
يكون فاعل المسبب ، فإذا كان من فعلنا لم يجز أن يكون ضروريا ، لأن الضروري هو ما
يحصل فينا لا من قبلنا.
ويدل على ذلك أيضا
، هو أنها تقع بحسب قصودنا ودواعينا ، وتنتفي بحسب كراهتنا وصوارفنا مع سلامة
الأحوال إما محققا وإما مقدرا فلولا أنها محتاجة إلينا ومتعلقة بنا وإلا لما وجبت
فيها القضية ، وهذا أصل دليلنا في خلق الأفعال فإنا نقول بأن تصرفاتنا تقع بحسب
قصودنا ودواعينا وتنتفي بحسب كراهتنا وصوارفنا مع سلامة الأحوال إما محققا وإما
مقدرا ، فلولا أنها محتاجة إلينا ، ومتعلقة بنا ، وإلا لما وجبت فيها هذه القضية ،
كما في تصرف الضرب واللون.
فإن قيل على هذا
الوجه الأول : إن هذه الطريقة توجب عليكم في اللون الحادث عند الضرب أن يكون من
قبلكم لأنه يقع بحسب ضربكم ، يقل إذا قل ، ويكثر إذا كثر. قيل له : ليس ذلك اللون
بحادث عند الضرب ، وإنما هو لون الدم انزعج بالضرب ، فلا يشبه مسألتنا.
فإن قيل على وجه
الثاني : يلزمكم أن يكون من العلم بمخبر الأخبار المتواترة من قبل المخبرين لأنه
يقع بحسب قصدهم ودواعيهم ، قيل له : ليس كذلك ، ذلك علم من جهة الله تعالى يخلقه
فينا عند خبرهم على ما سنبينه في موضعه إن شاء الله تعالى.
ومما يدل على أن
العلم بالله تعالى لا يجوز أن يكون ضروريا ، هو أنه لو كان ضروريا لوجب في العادم
له أن يكون معذورا ، لأن ذلك عند الخصم موقوف على الله تعالى حتى إذا اختار الله
تعالى كان وإلا فلا. وهذا يوجب في الكفار كلهم أن يكونوا معذورين في تركهم معرفة
الله تعالى وغير ذلك من المعارف. وهذا الوجه معتمد عليه ؛ والخصم عند هذا الكلام
إما أن يرتكب كون الكفار كلهم معذورين في تركهم المعارف فيكفر بذلك. أو يقول إنهم
إنما لم يعذروا لأنهم جحدوا ما عرفوه ، وهذا الاعتقاد وإن تخلص به من الكفر إلا
أنه أظهر فسادا من الأول لأن الجحود إنما يجوز على العدد اليسير. فأما على العدد
الكبير والحجم الغفير فلا.
تتمة الأدلة على أنه تعالى لا يعرف ضرورة :
وقد استدل على أنه
تعالى لا يعرف ضرورة بوجوه منها :
أنه تعالى لو كان
العلم به ضروريا لوجب أن لا يختلف العقلاء فيه كما في سائر الضروريات من سواد
الليل وبياض النهار ، ومعلوم أنهم مختلفون فيه ، فمنهم من أثبته ومنهم من نفاه.
ومنها أنه لو كان
كذلك لوجب أن لا يمكن نفيه عن النفس بشك أو شبهة. والمعلوم خلافه ، ولهذا فإنك تجد
كثيرا ممن برز في الإسلام واشتهر به قد ارتد وكفر ونفى عن نفسه العلم بالله تعالى
، كابن الراوندي وأبي عيسى الوراق إلا أن هذا مما لا يمكن الاعتماد عليه ، لأن
لقائل أن يقول : ما أنكرتم أن هذه المعارف مع أن الكل ضرورية ، تنقسم إلى : ما
يمكنكم نفيه عن النفس لأن ما يفعله الله تعالى منه أقل مما في مقدوركم من أضدادها
، وإلى ما لا يمكنكم دفعه عن النفس لأن ما يفعله الله تعالى منها أكثر مما في
مقدوركم من أضدادها. وصار الحال فيه كالحال في الحركات
الضرورية ، فكما
أنها تنقسم إلى ما يمكنكم دفعه لأن ما يفعله الله تعالى منها أقل مما في مقدوركم
من أضدادها ، وإلى ما لا يمكنكم دفعه لأن ما يفعله الله تعالى منها أكثر مما في
مقدوركم من أضدادها ، كذلك في مسألتنا.
ومنها ، أنه لو
كان يعلم بالله تعالى ضروريا لوجب أن يشترك العقلاء فيه ، ومعلوم خلافه.
إلا أن لقائل أن
يقول : لا تجب هذه القضية في سائر الضروريات ، وإنما تجب في بداية العقول ، ولهذا
فإن العلم بالصنائع والحرف ضروري ، ثم لم يشترك العقلاء فيه.
وقد استدل رحمهالله على أنه تعالى لا يعرف ضرورة ، بأن قال في الكتاب : لو كان
العلم بالله تعالى ضروريا لوجب أن يكون صفة للأمور المشاهدة ، كما في العلم بأن
الحلفاء تحترق بالنار ، وأن الزجاج ينكسر بالحديد ، وكالعلم بأن الظلم قبيح والعدل
حسن ، ومعلوم خلافه. إلا أن هذا مما لا يمكن الاعتماد عليه ، لأن لقائل أن يقول : أليس
الله تعالى يعلم ضرورة في دار الآخرة ، ويعرفه المحتضر وإن لم يكن صفة للأمور
المشاهدة ، فهلا جاز ذلك في دار الدنيا؟
ما يتصل بهذا الدليل من الكلام على أصحاب المعارف وأبي
القاسم
واتصل بهذا ،
الكلام على أصحاب المعارف ، وأبي القاسم البلخي. أما أصحاب المعارف فقد تعلقوا في
ذلك بشبه :
منها ، أنه لو لم
يكن العلم بالله تعالى ضروريا ، وكان من فعلنا ، لكان يصح من الواحد منا أن يختار
الجهل بدلا من العلم في الحالة الثانية من النظر ، لأن من حق القادر على الشيء أن
يكون قادرا على جنس ضده إذا كان له ضد ، والمعلوم أنه لا يمكن ذلك ، فليس إلا أن
المعرفة ليست من فعلنا وإذا لم تكن من فعلنا كانت ضرورية على ما نقوله.
والأصل في الجواب
عن ذلك ، أن الواحد منا إنما لم يمكنه إيقاع الجهل واختياره بدلا من العلم في
الحالة الثانية من النظر ، لأن العلم يحصل بسبب موجب ، والجهل يحصل باختياره ، وما
يحصل بسبب موجب ، بالوجوب أولى مما يحصل باختيار الفاعلين ، وهذا مما لا شبهة فيه
، فهذا هو الوجه في ذلك لا ما ظنوه.
ومنها ، أنهم
قالوا : إن المكلف إذا لم يعرف في نظره أنه نظر صحيح يؤدي إلى
العلم ، فإنه يجب
أن لا يدخل تحت تكليفه ، ولا يجوز له الإقدام عليه ، لأن الإقدام عليه كالإقدام
على الجهل المطلق.
والأصل في الجواب
عن ذلك ، أنه لا يجب على المكلف أن يعلم في نظره أنه مولد للعلم ومؤد إليه ، كما
أنه لا يجب أن يعلم فيما يتصرف فيه من أحوال معاشه أنه يؤدي إلى المطلوب ، بل يكفي
أن يعلم على الجملة في نظره أنه حسن أو واجب. وقد تقرر عندهم ، أنه لو كان يؤدي
إلى الجهل لكان لا يحسن ولا يجب ، فعلى هذا الوجه يجوز أن يدخل تحت تكليفه ولا يجب
أن يعرف التفصيل الذي قالوه.
ومنها ، أنهم
قالوا : إن المكلف لو كان مكلفا بالمعرفة لكان يجب أن يعلم صفتها ، لأن المكلف لا
بدّ أن يكون عالما بصفة ما كلفة ، والمعلوم أنه حال النظر لا يمكنه أن يعلم صفة
المعرفة ، ولو وقعت المعرفة عند نظره لكان لا تقع إلا حدسا واتفاقا ، فلا يحسن
تكليفه بها ، لأن التكليف بما لا يعلم كالتكليف بما لا يطاق في باب القبح.
والجواب عن ذلك ،
أن المعرفة إذا اختفت بسبب أو طريق ، وعلم المكلف ذلك السبب وميزه عن غيره صار كما
لو علم نفس المعرفة ، إذ المقصود أن يمكنه الإتيان بها ، وذلك ممكن إذا عرف سبب
المعرفة كما يمكن إذا عرفها نفسها. وإذا كان كذلك فقد خرج العلم من باب الحدس
والاتفاق. فهذا هو الكلام على أصحاب المعارف على حسب ما يحتمله هذا المجمل.
الكلام على أبي القاسم البلخي فيما يتعلق بمعرفة الله ضرورة
وأما الكلام على
أبي القاسم البلخي ، فالأصل فيه هو أن يعلم أنه بنى مذهبه على أصل له وهو ، أن ما
يعرف استدلالا لا يجوز أن يعرف إلا استدلالا ، كما أن ما يعرف ضرورة لا يجوز أن
يعرف إلا ضرورة.
ونحن قبل أن نستدل
بإفساد هذه الطريقة نفسد مذهبه ابتداء ، فنقول : إن خلافه لا يخلو إما أن يكون
خلافا في الصحة ، أو في الوجوب.
فإن كان خلافا في
الصحة ، فالكلام عليه هو أن نقول : قد ثبت أن العلم من أجناس المقدورات فلا يخلو
إما أن يدخل جنسه تحت مقدورنا أولا ، فإن لم يدخل جنسه تحت مقدورنا فيجب أن يكون
القديم تعالى قادرا عليه وإلا خرج عن كونه
مقدورا أصلا ، فإن
دخل جنسه تحت مقدورنا ، فالقديم تعالى بأن يكون قادرا عليه أولى ، لأن قدرته على
الأجناس إن لم تزد على قدرتنا لا تنقص عنها. وبعد فإن الذي يحصر القدرات في الجنس
والعدد إنما هو القدرة ، والقديم تعالى قادر لذاته ، فإذا كان العلم بالله تعالى
من المقدورات وجب أن يكون قادرا عليه ، وإذا ثبتت قدرته عليه صح أن يوجده فينا
وإذا أوجده فينا كان ضروريا.
وإن كان خلافه في
الوجوب فالكلام عليه هو أن نقول : إن أهل الآخرة لا يخلو حالهم من أمرين : إما أن
يكونوا من أهل الجنة ، أو من أهل النار. فإن كانوا من أهل الجنة فلا يخلو ، إما أن
يعرفوا الله تعالى ، أو لا يعرفوه. فإن لم يعرفوه لم يعرفوا استحقاق الثواب من جهته
، وجوزوا انقطاع ما هم فيه من النعيم ، وذلك يؤدي إلى التنغيص المنفي عنهم ، وإن
عرفوا الله تعالى فلا يخلو ، إما أن يكونوا عرفوه اضطرارا أو استدلالا ، لا يجوز
أن يعرفوه استدلالا ، لأن النظر والاستدلال يتضمن المشقة ويؤدي إلى التنغيص
والتكدير وهما منفيان عنهم ، فلم يبق إلا أن يعرفوه ضرورة على ما نقوله.
ومتى قالوا : إنهم
يعرفونه بتذكر النظر والاستدلال فلا يتضمن المشقة ولا يؤدي إلى التنغيص ، قلنا :
لا بد من أن تكون هذه المعرفة واقعة منهم باختيارهم ، ولو كان كذلك لوجب أن يختار
أحدهم من العلوم ما يبلغ ثوابه ثواب بعض الأنبياء ، والمعلوم خلافه.
هل يكون أهل الجنة ملجئين إلى هذه المعرفة
فإن قيل : هلا جاز
أن يكونوا ملجئين إلى هذه المعارف ، فلا يستحقون بذلك مدحا ولا ثوابا؟ قلنا : إن
هذا سؤال لا يصح من الخصم ، لأن مذهبهم أنهم مكلفون في دار الآخرة ، والإلجاء مناف
للتكليف. وهذه القسمة بعينها تعود في أهل النار ، لأنك تقول : إن حالهم لا يخلو من
أحد أمرين : إما أن يعرفوا الله تعالى أو لا فإن لم يعرفوه جوزوا انقطاع ما هم فيه
من العقاب وذلك يؤدي إلى الروح والراحة المنفيين عنهم ، فإن عرفوه فلا يخلو ؛ إما
أن يعرفوه اضطرارا ، أو استدلالا ، لا جائز أن يعرفوه استدلالا ، لأنا إذا جعلنا
العلم بالله موقوفا على اختيارهم للنظر والاستدلال جاز أن لا ينظروا أو لا يتفكروا
، فلا يحصل لهم العلم بالله تعالى فجوزوا انقطاع عقابهم ، وذلك يؤدي إلى الروح
والراحة ، وذلك لا يجوز عليهم.
وبعد ، فكان يجب
في الناظر ومن حقه أن يكون مجوزا أن يجوز في حالة النظر وقبل العلم انقطاع عقابهم
، وذلك يقتضي أن لا يخلص عقابهم عن كل روح وراحة ، وذلك لا يجوز.
ومتى قالوا : إنهم
يعرفونه بتذكر النظر والاستدلال ، قلنا : لم يسبق منهم نظر فيتذكروه ، لأن المعلوم
من حال كثير من أهل النار أنهم ما نظروا ولا استدلوا فكيف نتصور منهم تذكر.
وبعد فإنا إذا
جعلنا ذلك موقوفا على اختيارهم ، جاز أن يختار أحدهم من العلوم ما يبلغ ثوابه قدر
ما يكفر عقاب معاصيه ، فيستحق الخروج من النار ، وهذا محال.
وبعد ، فلو كانوا
مكلفين بالنظر والاستدلال وبتحصيل المعرفة ، لكان لا بدّ من أن يكون لهم طريق إلى
الانتفاع بالتكليف ولن يكون هكذا إلا وتقبل توبتهم إذا تابوا ، فكان يجب وقد علموا
أنهم يتخلصون بالتوبة من النار أن لا يعدلوا عنها ساعة واحدة ، وأن يتوبوا
ويتخلصوا من النار ، وهذا محال. فهذه جملة دالة على مثال ما يقوله أبو القاسم
البلخي ابتداء.
تتمة الرد على اعتراض أبي القاسم البلخي
فأما ما أورده من
الشبهة من أن ما يعلم ضرورة لا يجوز إلا أن يعلم ضرورة ، فكذلك ما يعرف استدلالا
لا يجوز أن يعرف إلا استدلالا فغير مستقيم ، لأنه جمع بين أمرين من غير علة
تجمعهما ، فلا يقبل. على أن فيما نعلم اضطرارا ما يجوز أن يعلم استدلالا ، ألا ترى
أن العلم بكون زيد في الدار ، كما يحصل مشاهدة يحصل بخبر منبئ صادق ففسد ما ظنه ،
فأما إذا علم ضرورة ، إنما لم يجز أن يعلم استدلالا ، لا لأنه معلوم ضرورة ، بل
لأنه معلوم فقط. ولهذا فإنه لو علم استدلالا مرة لا يمكنه أن يعلم استدلالا مرة
ثانية ، لوجه معقول وهو ، أن النظر والاستدلال قط لا يجامع القطع والبتات ،
لاحتياجه إلى التجويز والتمثيل. على أن العلم بالمشاهدات ، وغيره من الأمور التي
قاس عليها ، من كمال العقل والنظر ، والاستدلال لا يتأتى إلا ممن هو كامل العقل ،
فلهذا لم يجز في هذه الأمور أن تعلم استدلالا ، وهذا غير ثابت في العلوم المكتسبة
، ففارق أحدهما الآخر.
الرد على من يقول : إن الله قد يعرف تقليدا
ثم إنه رحمهالله سأل نفسه فقال : كيف يصح قولكم : إنه تعالى إذا لم يعرف
ضرورة ولا بالمشاهدة ، وجب أن نعرفه بالنظر والاستدلال ، وفي الناس من قال إنه
يعرف تقليدا. وأجاب : بأن التقليد هو قبول قول الغير من غير أن يطالبه بحجة وبينة
حتى يجعله كالقلادة في عنقه ، وما هذا حاله لا يجوز أن يكون طريقا للعلم ولهذا لم
نذكره في الطرق المذكورة.
والذي يدل على ذلك
هو أن المقلد لا يخلو إما أن يقلد أرباب المذاهب جملة ، أو لا يقلد واحدا منهم إذ
لا معنى لتقليد بعضهم دون بعض لفقد المزية والاختصاص ، لا يجوز أن يقلد أرباب
المذاهب جملة لأنه يؤدي إلى اجتماع الاعتقادات المتضادات ، فلم يبق إلا أن لا يقلد
واحدا منهم ، ويعتمد على النظر والاستدلال.
الرد على القول بتقليد الأزهدين
فإن قالوا : نقلد
الأزهدين فلتقليدهم مزية على تقليد غيرهم ، قلنا : ليس الزهد والتقشف من أمارات
الحق ، ولهذا فإنك تجد كثيرا من رهبانية النصارى قد بلغوا في الزهد الغاية مع
كونهم على الباطل ، هذا وجه. ومن وجه آخر ، وهو أن يقال : ما من طائفة إلا وفيها
زهاد وعباد ، فلا يخلو ، إما أن يقلد زهاد الطوائف أجمع أو لا يقلد واحدا منهم إذ
لا معنى لتقليد بعضهم دون بعض ، لفقد المزية والاختصاص ؛ لا يجوز أن يقلد زهاد
الطوائف أجمع لأن في هذا اجتماع الاعتقادات المتضادات ، فلم يبق إلا أن لا يقلد
واحدا منهم ويعتمد على النظر والاستدلال.
الرد على القول بتقليد الأكثرين
فإن قالوا نقلد
الأكثرين فللكثرة مزية ، قلنا : ليست الكثرة من أمارات الحق ، ولا القلة من علامات
الباطل. ولهذا ذم الله الأكثرين بقوله : (وَأَكْثَرُهُمْ
لِلْحَقِّ كارِهُونَ) [المائدة : ١٠٣](أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) [الزخرف : ٧٨]
ومدح الأقلين بقوله جل وعز : (وَقَلِيلٌ ما هُمْ) [ص : ٢٤](وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) [هود : ٤٠](وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ : ١٣]. وقال
الشاعر في القليل :
تعيرنا أنا قليل
عديدنا
|
|
فقلت لها إن
الكرام قليل
|
ولهذا فإن الحارث
بن حوط لما قال لأمير المؤمنين علي عليهالسلام : أترى يا
أمير المؤمنين أن
أهل الشام مع كثرتهم على الباطل وأهل العراق مع قلتهم على الحق ، فقال له : يا جار
إنه لملبوس عليك ، الحق لا يعرف بالرجال ، وإنما الرجال يعرفون بالحق ، اعرف الحق
تعرف أهله قلوا أم كثروا ، واعرف الباطل تعرف أهله قلوا أم كثروا.
فإن قالوا : أليس
قد روي عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «عليكم بالسواد
الأعظم» ، فهذا يدل على أن
تقليد الأكثرين أولى ، قلنا : إن صح هذا الخبر وثبت فالمراد به أن الأمة متى أجمعت
على حكم شرعي يجب متابعتهم ولا يجوز مخالفتهم.
ومن جيد ما يعتمد
عليه في فساد التقليد هو ، أن المقلد لا يخلو إما أن يقلد العالم أو غير العالم ،
لا يحل أن يقلد غير العالم ، فإذا قلد العالم فلا يخلو ذلك العالم إما أن يكون قد
علم ما قد علمه تقليدا ، أو بطريقة أخرى ، لا يجوز أن يكون قد علمه تقليدا ، لأن
الكلام فيه كالكلام في الأول فيؤدي إلى ما لا يتناهى من المقلدين ومقلدي المقلدين
، وهذا محال ، وإن علمه بطريقة أخرى ، فلا يخلو إما أن يعلمه اضطرارا أو استدلالا
لا يجوز أن يعلمه اضطرارا لما تقدم من الوجوه لأنه كان يجب أن يشاركه فيه ، فلم
يبق إلا أن يعلمه ، استدلالا على ما نقوله. وهذا يبين لك فساد التقليد.
ومما يعتمد عليه
في فساد التقليد وهو أجود أن المقلد لا يأمن خطأ من قلده فيما يقدم عليه من
الاعتقاد وأن يكون جهلا قبيحا ، والإقدام على ما لا يؤمن كونه جهلا قبيحا بمنزلة
الإقدام عليه مع القطع على ذلك.
شبهة الخلط بتقليد الرسول
فإن قيل : ألستم
جوزتم تقليد الرسول فقد دخلتم فيما عبتم علينا ، قلنا : معاذ الله أن يكون ذلك
تقليدا ، لأن التقليد هو قبول قول الغير من غير أن يطالبه بحجة وبينة ، ونحن إنما
قبلنا قوله لظهور العلم المعجز عليه.
تقليد العامي للعالم
فإن قيل : ألستم
جوزتم للعامي تقليد العالم ، قلنا : إن ذلك ليس بتقليد ، فإنا إنما جوزنا له
الرجوع إلى قول العالم لقوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ
الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [الأنبياء : ٧]
ولأن الأمة اتفقت على أن له الرجوع إليه ، فلا يكون تقليدا. وبعد
فإنا إنما سوغنا
له ذلك في الفروع ، وفيما يكون طريقه الاجتهاد ، فلا يصح قياس الأصول عليه ، وعلى
أنا لم نجوز للعامي أن يعتقد صدق ما يقوله العالم والقطع عليه وعلى أن خلافه كذب ،
وإنما الذي سوغناه له أن يعمل بقوله فقط.
الرد على شبهة أن الله لا يجب معرفته أصلا
ثم إنه رحمهالله سأل نفسه فقال : كيف يصح قولكم : إنه تعالى إذا لم يعرف من
وجه ، وجب أن يعرف من وجه آخر ، وفي الناس من قال : إنه لا تجب معرفته أصلا. وأجاب
عنه : بأنا إنما بينا ذلك على أن معرفة الله تعالى واجبة ، وسنبينه في هذا الفصل ،
ثم قلنا : الطريق إلى معرفة الله تعالى لا يخلو من أحد أمور ثلاثة ، وقد بطل اثنان
منها ، فبقي الثالث ، وهذا صحيح.
الدليل على أن معرفة الله واجبة
ثم الدليل على أن
معرفة الله تعالى واجبة هو أنها لطف في أداء الواجبات واجتناب المقبحات ، وما كان
لطفا كان واجبا لأنه جار مجرى دفع الضرر عن النفس. وإنما قلنا إنها لطف ، لأن
اللطف ليس بأكثر من أن يكون المرء عنده أقرب إلى أداء الواجبات وترك المقبحات ،
على وجه لولاه لما كان بهذه المثابة ؛ ومعرفة الله تعالى بهذه الصفة. ألا ترى أن
الإنسان إذا عرف أن له صانعا صنعه ومدبرا دبره إن أطاعه أثابه وإن عصاه عاقبه ،
كان أقرب إلى أداء الواجبات ، وترك المقبحات. وإن كنا إذا حققنا قلنا : فاللطف هو
العلم باستحقاق الثواب والعقاب لأنه الذي يثبت له حظ الدعاء والصرف ، إلا أن ذلك
لما ترتب على العلم بالله ، عد العلم بالله تعالى في اللطف لما لم يتم اللطف إلا
به.
وقد اختلف كلام
قاضي القضاة : في هذا الباب ؛ فمرة أشار إلى ما ذكرناه ، ومرة قال القضاة بل لا
شيء من المعارف التي يوجبها على المرء ، إلا وله حظ في اللطف ، ألا ترى أنه لو لم
يعلم الله تعالى قادرا عالما ، لم يكن علمه باستحقاق الثواب والعقاب من جهته لطفا
له.
فهرس لما ينبغي فيه النظر
ثم إنه رحمهالله ألحق بهذا كالفهرست لما يريد أن يذكره من بعد ، فقال : إذا
لم يكن بد من النظر ، فينبغي أن ينظر في هذه الحوادث من الأجسام وغيرها ويرى جواز
التغير عليها
فيعرف أنها محدثة.
رأي أبي الهذيل : وجود المحدث
ثم ينظر في حدوثها
، فيحصل له العلم بأن لها محدثا قياسا على تصرفاتنا في الشاهد ، وهذا أول علم يحصل
بالله تعالى على طريقة أبي الهذيل وهو الصحيح.
رأي أبي علي : وجود المحدث المخالف لنا
ثم ينظر في أن ذلك
المحدث لا يجوز أن يكون هو ولا مثله ، فيحصل له العلم بأن له محدثا مخالفا لنا وهو
الله تبارك وتعالى ، وهذا أول علم يحصل بالله تعالى بالنظر والاستدلال عند أبي
علي.
١ ـ أنه قادر
ثم ينظر في صحة
الفعل منه ، فيحصل له العلم بكونه قادرا.
٢ ـ أنه عالم
ثم ينظر في صحة
الفعل منه على وجه الإحكام والاتساق ، فيحصل له العلم بكونه عالما ، ثم ينظر في
كونه قادرا أو عالما ، فيحصل له العلم بكونه حيا.
٣ ـ أنه حي : سميع ، بصير ، مدرك.
ثم ينظر في كونه
حيا لا آفة به ، فيحصل له العلم بكونه سميعا بصيرا مدركا للمدركات.
٤ ـ أنه موجود وقديم
ثم ينظر في كونه
عالما وقادرا ، فيحصل له العلم بكونه موجودا.
ثم ينظر في أن
الحوادث تنتهي إليه وهو لا ينتهي إلى حد ، فيحصل له العلم بكونه قديما.
٥ ـ ليس جسما ولا عرضا ولا يجوز عليه ما يجوز عليهما
ثم ينظر في كونه
قديما ، فيحصل له العلم بأنه ليس بجسم ولا عرض ولا يجوز
عليه ما يجوز على
الأجسام والأعراض من المجاورة والحلول وغير ذلك من الصعود والهبوط والارتفاع
والانحدار والانتقال من مكان إلى مكان ولا تجوز الزيادة ولا النقصان.
٧ ـ غني
ثم ينظر في أنه لا
يجوز عليه الزيادة والنقصان فيحصل له العلم بأنه غني لا تجوز عليه الحاجة ، إذ
الحاجة إنما تجوز على من يجوز عليه الزيادة والنقصان.
٨ ـ لا يرى ولا يبصر ولا يدرك بالحواس
ثم ينظر في أنه لا
يجوز عليه ما يجوز على الأجسام من المجاورة والمقابلة والمماسة والحلول ، فيحصل له
العلم بأنه لا يرى بالأبصار ولا يدرك بشيء من الحواس.
١٠ ـ واحد لا ثاني له
ثم ينظر في أنه لو
كان معه ثان لتمانعا ، وهذا يؤدي إلى الضعف الذي لا يجوز إلا على الأجسام ، فيحصل
له العلم بأنه واحد لا ثاني له يشاركه في القدم والإلهية ، فيكون قد حصل له العلم
بكمال التوحيد.
١١ ـ أنه عادل
ثم ينظر بعد ذلك
في أنه عالم بقبح القبيح ومستغن عنه وعالم باستغنائه عنه فيحصل له العلم بكونه
عدلا حكيما ، لا يفعل القبيح ، ولا يخل بالواجب ، ولا يأمر بالقبيح ، ولا ينهى عن
الحسن ، وأن أفعاله كلها حسنة.
عودة إلى أن معرفة الله واجبة ليدلل على أن النظر في طريق
معرفة الله واجب
فبهذه الطرق يحصل
المرء لنفسه علوم التوحيد والعدل ، فهذه جملة أجملها رحمهالله ليفصلها من بعد.
ثم إنه رحمهالله لما فرغ من المقدمة التي قدمها ، عاد إلى الكلام في أن
معرفة الله تعالى واجبة ، ليرتب عليه الكلام في أن النظر في طريق معرفة الله واجب.
النظر في طريق معرفة الله ليس مقصودا لذاته
والأصل في ذلك ،
أن النظر في طريق معرفة الله تعالى واجب. ثم ليس هو المقصود في نفسه ، وإنما
المقصود منه المعرفة ، حتى لو أمكننا تحصيل المعرفة بدونه لكان لا معنى لإيجابه.
مخالفة أصحاب المعارف ومن قال بالإلهام أو طبع المحل
وقد خالفنا في ذلك
أصحاب المعارف إلا أنهم افترقوا ، فمنهم من قال : إن المعارف كلها تحصل إلهاما
وهؤلاء لا يوجبون النظر البتة ، ومنهم من قال : إن المعارف تحصل بطبع المحل عند
النظر ، فيوجبون النظر إليه. ولكن لا على هذا الوجه الذي أوجبنا. فبقي الخلاف
بيننا وبينهم.
والأصل في هذا
الباب أن يعلم أن وجوب كل نظر يندفع به الضرر عن نفسه مقرر في عقل كل عاقل ، ولا
شبهة في ذلك وإنما يشتبه الحال في بعض الأنظار المفصلة هل هو بهذه الصفة أم لا؟.
ثم إذا أردنا أن
نعلم وجوب بعض الأنظار المفصلة التي هذا حالها ، نلحقه بالجملة المقررة في العقل ،
وصار الحال فيه كالحال في العلم بقبح الظلم على الجملة ، والعلم بأن هذا بعينه ظلم
، فكما أنا عند هذين العلمين نختار منهما علما ثالثا بقبح الظلم المعين إلحاقا
بالجملة المقررة في العقل ، كذلك هاهنا. إذا ثبت هذا ، ومعلوم أن النظر في طريق
معرفة الله تعالى مما يندفع به الضرر عن النفس ، ثبت وجوبه.
الضرر الذي يندفع بالنظر
فإن قال : وما ذلك
الضرر الذي يندفع عن النفس بالنظر في طريق معرفة الله تعالى؟ قيل له : هو الضرر
الذي يخاف المرء عند تركه النظر ، فإن المكلف إذا بلغ كمال العقل لا بدّ من أن
يخاف من ترك النظر ضررا لسبب من الأسباب.
فإن قال : وما أسباب
الخوف؟ قلنا : تختلف ، فربما يكون اختلاطة بالناس وسماع اختلافهم في الأديان
وتضليل بعضهم بعضا ، وتكفير بعضهم بعضا ، وقول كل واحد منهم للآخر إن الحق في
جانبي ، وإن ما أنت عليه باطل يؤدي إلى الهلاك ، فعند هذا يخاف العاقل إن لم ينظر
ولم يتفكر أن يقع في ورطة ومهلكة ، وربما يكون سبب
الخوف دعاء الدعاة
وقصص القاصين وتخويف المخوفين ، وربما يكون ذلك بخاطر من جهة الله تعالى أو من جهة
بعض الملائكة ، وربما يعتريه الخوف بأن ينظر في كتاب فيرى هناك مكتوبا : لا يأمن
أن يكون لك صانع صنعك ، ومدبر دبرك ، إن أطعته أثابك ، وإن عصيته عاقبك. فعند هذه
الأسباب أو عند بعضها لا بدّ من أن يخاف من ترك النظر ضررا ، حتى لو لم يخف البتة
لم يكن مكلفا ولا عاقلا ؛ إذ العاقل إذا خوف بأمارة صحيحة خاف لا محالة. وقد تقرر
في العقل أن دفع الضرر عن النفس واجب سواء كان معلوما أو مظنونا ، وسواء كان معتادا
أو غير معتاد ، إذا كان المدفوع به دون المدفوع. فثبت وجوب النظر في طريق معرفة
الله تعالى.
فإن قيل : ما
أنكرتم أن ضرر النظر أكبر من الضرر الذي يندفع به؟ قلنا : لأن الضرر الذي يندفع
بالنظر هو ضرر العقاب ولا شبهة في أن ضرر النظر دونه.
هل يدفع الضرر بالتقليد أو الاضطرار أو المشاهدة؟
ومتى قيل : إن ذلك
الضرر يمكن دفعه عن النفس بالتقليد أو بأن يعرف الله تعالى اضطرارا أو مشاهدة فلا
يحتاج إلى النظر والاستدلال ، قلنا : قد تكلمنا على هاتين المسألتين وبينا فساد
التقليد وأنه تعالى لا يجوز أن يعرف اضطرارا ولا بالمشاهدة.
ومتى قيل : إن ذلك
الضرر مظنون فلا يجب دفعه ، قلنا : لا فرق بين أن يكون الضرر مظنونا أو معلوما في
وجوب دفعه ، ألا ترى أنه لا فرق بين أن يشاهد في الطريق سبعا ، وبين أن يخبر مخبر
بذلك ، فإنه يلزمه للتجنب عن سلوك تلك الطريق فعلى هذا يجري الكلام في ذلك.
الربط بين الكلام في أن النظر أول الواجبات وبين وجوب النظر
فصل
: ثم إنه رحمهالله عطف على الجملة المتقدمة الغرض المقصود بالباب وهو الكلام
في أن النظر في طريق معرفة الله تعالى أول الواجبات ، ورتبه على الفصل الذي قبله
لما كان ذلك كلام في وجوب النظر ، وهذا كلام في أنه أول الواجبات.
ودل على ذلك بأنه
قال : سائر الشرائع من قول وفعل لا تحسن إلا بعد معرفة الله تعالى ، ومعرفة الله
لا تحصل إلا بالنظر فيجب أن يكون النظر أول الواجبات.
ونحن قبل إيراد
الدلالة على ذلك نبين المراد بهذه العبارة فإن إطلاقها يوهم أنه لا يجوز أن يكون
في الواجبات ما يجب على المرء حال توجه التكليف عليه كالنظر ،
وليس كذلك. فإن من
دخل زرع الغير ثم توجه عليه التكليف يلزمه الخروج عنه كما يجب عليه النظر ، هذا
بقلبه ، وذلك بجارحته. وكذلك من كان عليه دين ، أو عنده وديعة ثم توجه عليه
التكليف فإنه يلزمه الخروج عن عهده ، وذلك كما يلزمه النظر.
النظر في طريق معرفة الله من الواجبات التي لا ينفك عنها
المكلف بوجه من الوجوه
والدليل على ذلك ،
أن سائر الواجبات إما أن تتأخر عن معرفة الله تعالى أو يجوز انفكاك المكلف عن
وجوبه عليه. وكلامنا فيما لا ينفك المكلف عنه بوجه من الوجوه.
وبيان ذلك : أن
الواجبات على ضربين : عقلي وشرعي ، فالعقليات نحو رد الوديعة وقضاء الدين وشكر
النعمة ، فما من شيء منها إلا ويجوز انفكاك المكلف عنه بحال من الأحوال ، وأما
الشرعيات ، فالشرط فيها إيقاعها على وجه القربة والعبادة إلى الله تعالى ، وذلك لا
يحسن إلا بعد معرفة الله تعالى.
فإن قيل : كيف يصح
قولكم : إنه لا يجوز أن ينفك عن وجوب شكر النعمة عليه؟ قلنا : لأن النعمة لا يخلو
أن تكون من قبل الله تعالى ؛ وشكر نعمة الله تعالى لا تجب إلا بعد معرفته وتوحيده
وعدله ، وأنه قصد بذلك الإحسان إليه ، وإما أن تكون من قبل الآدميين ؛ فالآدمي إما
أن يكون أجنبيا ولا شك في جواز انفكاكه عن وجوب شكر نعمة الأجنبي عليه ، وبقي أن
يقال إنه لا يجوز أن ينفك عن وجوب شكر أبويه عليه ، وهذا فغير ممتنع أن يكون
غرضهما بالمقاربة قضاء الوطر وتنفيذ الشهوة فلا يلزمه شكرهما.
فأن قيل : أليس
المكلف إذا علم قبح الظلم والكذب وغيرهما من القبائح يلزمه الاجتناب عنهما فهلا
جعلتموه أول الواجبات؟ قلنا : كلامنا فيما يلزم المكلف فعله والظلم والكذب وغيرهما
من القبائح ليس بهذه المرتبة ، فإن أحدنا يمكنه الاجتناب عن القبائح وإن لم يفعل
فعلا.
فإن قال : هذا لا
يمكن ، لأن القادر بالقدرة لا ينفك عن الأخذ والترك ، قلنا : هذا أصل فاسد عندنا ،
والدليل على ذلك ما ذكره شيخنا أبو إسحاق ابن عياش ، وهو أن أحدنا لا يريد تصرفات
الناس في الأسواق ولا يكرهها ، فقد خلا عن الشيء وعن ضده.
فإن قيل : إنه
يعرض ، فلم يخل عن هذين الضدين إلا إلى ثالث هو الإعراض ، قلنا : الإعراض ليس
بمعنى ، لأنه لا يعلم ضرورة ولا طريق إليه.
فإن قال : إن إليه
طريقا وهو كونه معرضا ، قيل له : ليس للمعرض بكونه معرضا ، وإلا كان يجد من نفسه ،
كما يجد كونه مريدا أو كارها من نفسه ، وقد علم خلافه.
سؤال : هلا جعلتم النظر في وجوب النظر أول الواجبات؟ والرد
:
فإن قيل : هلا
جعلتم النظر في وجوب النظر أول الواجبات؟ قلنا : إن المكلف إذا بلغ كمال العقل لا
بدّ أن يخاف من تركه النظر ضررا لسبب من الأسباب ، وعلم وجوبه عليه ضرورة أو بالرد
إلى ما هو معلوم ضرورة فلا يحتاج إلى النظر والاستدلال ، على أنا لم نعين النظر بل
أطلقنا وقلنا : النظر في طريق معرفة الله تعالى أول الواجبات ، فلو كان النظر في
وجوب النظر نظرا في طريق معرفة الله تعالى ، جاز أن يكون أول الواجبات.
هلا يكون العلم بالله أول الواجبات؟
فإن قيل : هلا
جعلتم العلم بالله تعالى أول الواجبات فإنه هو المقصود بالباب؟ قلنا : إنه وإن كان
كذلك إلا أنه يتأخر في الحصول عن النظر ولا يحصل إلا به ، فيجب أن يكون النظر أول
الواجبات.
فإن قيل : يلزم
على هذا أن يكون القصد إلى النظر واختياره أول الواجبات فإن النظر لا يحصل إلا به
، قلنا : ليس كذلك لأن النظر مجرد الفعل ، ومجرد الفعل لا يحتاج إلى القصد
والإرادة ، وحيث يقع مع القصد فالقصد يقع تبعا له ، وصار الحال فيه كالحال في
إرادة الأكل مع الأكل ، فكما أن الأكل لا يحتاج إلى الإرادة وحيث تقع فيه كالحال
في إرادة الأكل مع الأكل ، فكما أن الأكل لا يحتاج إلى الإرادة وحيث تقع معه إنما
تقع تبعا للأكل ، والمقصود هو الأكل ، كذلك هاهنا.
وكذلك فإن أحدنا
لو كان على شفير الجنة والنار وهو عالم بما في الجنة من المنافع وبما في النار من
المضار وسلبه الله تعالى إرادة دخول الجنة وخلق فيه إرادة دخول النار ، فإنه يدخل
الجنة لا محالة دون النار من غير قصد وإرادة ، فعلم أن مجرد الفعل لا يحتاج إلى
القصد والإرادة.
يبين ما ذكرناه
ويوضحه ، أن الواحد منا لو كلف بالنظر ومنع عن المقصود والإرادة ، لكان يحسن
تكليفه بالنظر فلو كان النظر يحتاج إلى القصد والإرادة ، لكان
تكليفه بالنظر
تكليف ما لا يطاق ، وليس كذلك المعرفة لأن المعرفة محتاجة إلى النظر ، حتى لو منع
عن النظر لما حسن تكليفه بالمعرفة ، لأن تكليفه بها تكليف ما لا يطاق.
هلا يكون الخوف الذي يحصل عند ترك النظر أول الواجبات؟
فإن قيل : هلا
قلتم إن الخوف الذي يحصل عند ترك النظر أول الواجبات ، قلنا : هذا خلف من الكلام
وخطل من القول ، لأن الخوف من شرائط التكليف ، فكيف يجعل واجبا على المكلف ، فضلا
عن أن يكون أول الواجبات؟ فلو جاز هذا ، لجاز أن يقال : إن كمال العقل أول
الواجبات ، وإن كان من شرائط التكليف.
واعلم أن هذا
الخوف إنما يكون من قبلنا ، ولا يجوز أن يكون من قبل الله تعالى لأن المرجع به إلى
ظن مخصوص ولا حكم للظن إلا إذا صدر من أمارة صحيحة ، والأمارة لا تجوز على الله
تعالى لأنه عالم لذاته ، فلو وجد من جهته الظن والحال هذه ، لتنزل منزلة الظن
السوداوي ، وذلك مستحيل عليه. يبين ذلك أن الظن لا يخلو إما أن يكون من قبيل
الاعتقاد على ما قاله الشيخ أبو هاشم ، أو يكون جنسا برأسه على ما يقوله باقي
الشيوخ. فإن كان من قبيل الاعتقاد فلا يخلو إما أن يكون معتقده على ما اعتقده عليه
، أو لا يكون كذلك. فإن كان معتقده على ما اعتقده عليه لم يكن ظنا وكان علما ، وإن
لم يكن كذلك كان جهلا قبيحا ، والله تعالى منزه عنه. وإن كان جنسا برأسه ، فإنه لا
ينفك عن التجويز الذي هو اعتقاد مخصوص ، فحال ذلك الاعتقاد لا يخلو إما أن يكون
معتقده على ما اعتقده عليه ، أو لا يكون كذلك ، فإن كان معتقده على ما اعتقده عليه
لم يكن ظنا بل يكون علما ، وإن لم يكن كذلك كان جهلا قبيحا والله تعالى منزه عن
الجهل والقبيح.
فحصل من هذا أن
الخوف لا بدّ من أن يكون من فعلنا ، ثم لا يمتنع مع ذلك أن يكون من شرائط التكليف.
فإن قيل : لو كان
المرجع بالخوف إلى ما ذكرتموه من الظن المخصوص لكان لا يدخل في المعلومات ،
والمعلوم أن أحدنا يخاف الموت مع كونه مقطوعا به ، قيل له : إنا لا نخاف الموت ،
وإنما خوفنا من الوقت الذي يحدث فيه وينزل وذلك غير معلوم ، فلذلك تحقق الخوف به.
فإن قيل : أليس
الملائكة يخافون عذاب الله تعالى ، قال الله تعالى : (يَخافُونَ رَبَّهُمْ
مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٥٠)) [النحل : ٥٠] مع
علمهم بأنهم لا يعذبون قلنا : إنهم لا
يخافون العذاب على
الحقيقة ، وإنما خوفهم خوف توقي وحذر ، على ما قاله شيخنا أبو هاشم رحمهالله تعالى.
هلا تكون مشاهدة الأدلة والنظر في أحوال القادرين أول
الواجبات
فإن قيل : هلا جاز
أن تكون مشاهدة الأدلة والنظر في أحوال القادرين أول الواجبات؟ قلنا : المشاهدة
مما لا يقف على اختيار المكلف ، بل يحصل على طريقة الوجوب ، والمكلف إذا بلغ كمال
العقل لا بدّ من أن يشاهد الأدلة ويعرفها ضرورة فلا يحتاج إلى نظر في ذلك ولا
استدلال ، فلو أنه محتاج إلى ذلك فإنا لم نقيد النظر بل أطلقنا وقلنا : النظر في
طريق معرفة الله تعالى أول الواجبات ، فحصل من هذه الجملة أن النظر في طريق معرفة
الله تعالى أول الواجبات العقلية على المعنى الذي تقدم.
وأما الواجبات
الشرعية فعلى ما ذكره رحمهالله في الكتاب قسمان : أحدهما ما هو من باب الوصف والقول
والعبارة ، والآخر ما هو خارج عن هذا الباب.
أما
الأول : فهو كالإقرار
بالشهادتين وما يجري هذا المجرى ، والثاني : هو من باب الصلاة والصيام والحج وما
شاكل ذلك. وكلا الوجهين متأخر عن معرفة الله تعالى.
أما الصلاة
والصيام وغيرهما من العبادات فالشرط فيها إيقاعها على وجه القربة والعبادة ، وذلك
لا يحسن إلا بعد العلم بالله وتوحيده وعدله.
وأما الإقرار
بالشهادتين فلا شك في أنه متأخر عن معرفة الله تعالى ، لأنا لو خلينا وقضية العقل
ما كنا نوجب الإقرار بذلك إلا عند من لحقته تهمة في دينه فهو إذا أمر شرعي ،
والتكاليف الشرعية لا شك في تأخرها عن معرفة الله تعالى وتوحيده وعدله ، هذا وجه
ومن وجه آخر ، إن الأمر بالشهادتين صورته
، «أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله» وهذا قول يحتمل الصدق والكذب ، متردد بينهما ، فالمقر بهما لا بدّ من أن يكون على
بصيرة مما يقربه بحيث لا يجوز خلافه حتى يحسن منه ذلك وإلا قبح.
فقد بان بهذه
الجملة مصداق ما قاله رحمهالله : أن سائر الشرائع من قول وفعل لا يحسن إلا بعد معرفة الله
تعالى وثبت أن معرفة الله تعالى لا تحصل إلا بالنظر فيجب أن يكون النظر أول
الواجبات.
فصل
: اعلم أن سياق
الكلام في أن معرفة الله تعالى واجبة وأنها لا تحصل إلا بالنظر وأن النظر واجب
وأنه أول الواجبات لما اقتضى أن تكون الدلالة بلفظ الوجوب وقد دل عليه بلفظ الحسن
فقال : إن سائر الشرائع من قول وفعل لا يحسن إلا بعد معرفة الله تعالى.
الحسن لا ينفك عن الوجوب في الواجبات الشرعية إلا في بعض
الواجبات
اعتذر عند ذلك
بوجهين اثنين : أحدهما : أن الحسن لا ينفك عن الوجوب في الواجبات الشرعية ، ولهذا
إن الصلاة قبل الوقت كما لا تجب لا تحسن ، وكذلك صوم شهر رمضان قبل دخول الشهر كما
لا يحسن لا يجب ، وكذلك الحج عند فقد الاستطاعة كما لا يجب لا يحسن فلا فرق بين أن
يذكر بلفظ الحسن ، وبين أن يذكر بلفظ الوجوب إذا كان الحال ما ذكرناه.
إلا أن هذه
الطريقة مما لا يطرد في جميع الواجبات الشرعية ، فإن الزكاة قبل دخول الحول تحسن
وإن لم تجب ، وإن اعتذر عنه فالأولى أن يعتمد وجها آخر وهو ، أن الوجوب يتفرع على
الحسن ، فلا يكون الواجب واجبا حتى يكون حسنا ، وإن جاز من العقل أن يكون حسنا وإن
لم يجب ، إذا ثبت هذا ، وقد بين رحمهالله أن سائر الشرائع من قول وفعل لا يحسن إلا بعد معرفة الله
تعالى ، فبأن لا يجب أولى وأحق ، فهذا هو العذر الثاني.
ما أول ما أنعم الله على الإنسان؟
فصل
: ثم إنه رحمهالله سأل نفسه فقال : إن قيل : ما أول ما أنعم الله عليك فقل :
خلقه إياي حيا لينفعني.
اعلم أنه لما كان
هاهنا واجبات لها أول وآخر ، وتبين أولها ، وكان لله تعالى علينا نعم لها أول وآخر
، أراد أن يتكلم فيها.
والأصل أن نبين
أولا حقيقة النعمة والمنعم وما يتصل بذلك.
اعلم ، أن النعمة
هي كل منفعة حسنة واصلة إلى الغير إذا قصد فاعلها بها وجه الإحسان إليه.
ولا بدّ من أن
تكون منفعة ، لأنها لو كانت مضرة محضة لما كانت نعمة ، وقولنا
مضرة محضة احتراز
عن الآلام والأسقام التي يوصلها الله تعالى إلى الحيوانات ، فإنها لما كانت في
مقابلتها الأعراض الموفية عليها لا تكون مضارا محضة.
ولا بدّ من أن
تكون حسنة ، لأنها لو كانت قبيحة لما استحق عليها الشكر. والنعمة من حقها أن يستحق
عليها الشكر. هذا هو الذي يقوله الشيخ أبو علي.
وقد خالفه فيه أبو
هاشم ، وجوز في النعمة أن تكون قبيحة ، واستدل على ذلك ، بأن قال : إن الله تعالى
لو أثاب من لم يستحق الثواب فإنه يكون منعما عليه مع أن ذلك قبيح ، وإنما قلنا إنه
قبيح لأنه لا ينفك عن التعظيم ، والابتداء به قبيح. ألا ترى أنه يقبح من أحدنا أن
يعظم أجنبيا على الحد الذي يعظم والديه لا لوجه سوى ما ذكرناه من أن الابتداء
بالتعظيم قبيح ، وكذلك فإن أحدنا لو كان ملك الغير جميع ما يملكه حتى يفقر نفسه
لكان منعما عليه بذلك مستحقا للشكر من جهته وإن كان ما فعله قبيحا لقوله عزوجل : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ
مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) [آل عمران : ١٦١]
إلا أن لأبي علي أن يقول إني لا أسلم أن ذلك نعمة ، لأن من حق النعمة أن يستحق
عليها الشكر ، ولو فعله الله تعالى عن ذلك ، لم يستحق الشكر ، ولو استحق الشكر من
المثاب فإنما يستحق لأن المثاب وصل إلى ذلك الثواب والنفع من جهته عزوجل ، وكذلك الكلام فيمن ملك الغير جميع ما يملكه أنه لا يستحق
بذلك الذي فعله مدحا ولا شكرا ، ولو استحق الشكر من جهته إنما يستحق لأنه وصل إلى
ما وصل إليه من المنافع من جهته وهذا غير مستبعد ، لأنه ليس يجب في المنعم أن يكون
قد فعل شيئا فيستحق به الشكر لا محالة ، بل لا يمتنع استحقاقه للشكر وإن لم يكن
منه فعلا أصلا. ألا ترى أن من اكتسب في جنب الغير ما لا يلزمه شكر ذلك الغير وإن
لم يكن منه إليه فعل ينصرف هذا الشكر إليه. وكذلك فإن أحدنا إذا أمر غلامه بأن يدفع
دراهم إلى الغير ، يكون منعما عليه ، مستحقا للشكر من جهته وإن لم يكن منه إليه
فعل. وكذلك فمن لم يطالب غريمه بالدين كان منعما عليه مستحقا للشكر من جهته من غير
فعل ينصرف إليه الشكر.
فعلم أن المنعم قد
يكون منعما عليه مستحقا للشكر وإن لم يكن له فعل أصلا ، كما أن المخل بالواجب قد
يكون مستحقا للذم وإن لم يكن منه فعل.
واعتبرنا أن تكون
واصلة إلى الغير لأنه لو أوصلها إلى نفسه لا تكون نعمة لأن من حق النعمة أن يستحق
عليها الشكر ، ومن المستبعد أن يستحق الإنسان من نفسه لنفسه الشكر.
قصد الإحسان :
واعتبرنا أن يكون
فاعلها قصد بها الإحسان إليه ، لأنه لو لم يقصد بها منفعته وكان مقصده منفعة نفسه
لم يكن منعما. ألا ترى أن البزاز إذا قدم إلى غيره تختا من بز ليختار منه ما شاء
ويأخذ منه الثمن فإنه لا يكون منعما عليه لما قصد بذلك نفع نفسه لا نفعه ، وكذلك
فمن قطع الثياب الفاخرة لجواريه وغلمانه ليربح عليهم إذا باعهم ، لم يكن بذلك
منعما عليهم ، لما كان غرضه بذلك نفع نفسه لا نفعهم ، وكذلك فمن أنفق على أولاده
نفقة جميلة لسرور نفسه لم يكن بذلك منعما عليهم لما كان غرضه بذلك نفع نفسه ، وإن
كان الغالب من حال الآباء أنهم إذا أنفقوا شيئا على أولادهم كان غرضهم نفع الأولاد
ومسرتهم وما يثبت لهم من السرور يكون على وجه المتبع ، فلذلك يحكم بكونهم منعمين
عليهم ، وكذلك فمن استأجر أجيرا ووفر عليه الأجرة لم يكن بذلك منعما عليه لما كان
غرضه بذلك نفع نفسه ، ولا يلزم على هذا التكليف ، فيقال : كان يجب أن لا يكون الله
تعالى منعما به علينا ، لأجل أن النفع يستحيل عليه جل وعز فلا يمكن أن يكون غرضه
بذلك نفع نفسه ، وإنما غرضه بذلك تعريفنا إلى درجة لا تنال إلا بالتكليف ، فصح أنه
لا بدّ من أن يكون قصد فاعلها بها وجه الإحسان إلى الغير.
معنى المنفعة :
فإن قيل : قد فسرتم
النعمة بالمنفعة ، فما معنى المنفعة؟ قيل له : معناه اللذة والسرور أو ما يؤدي
إليهما أو إلى أحدهما.
أما اللذة فكأن
يحك جرب أحدنا الغير ، أو يضع لقمة شهية في فمه ، أو يخلع عليه خلعة نفيسة ، فيكون
قد أوصل إليه اللذة والسرور.
وأما ما يؤدي
إليهما ، فكأن يدفع إليه دراهم أو دنانير يشتري بها ما يشاء.
أو ما يؤدي إلى
أحدهما ، فكأن يدله على كنز فيكون قد فعل به ما يؤدي إلى السرور. ولهذه الجملة
عددنا دفع الضرر في النفع وإن لم يكن نفعا بنفسه لما كان مؤديا إليه فقلنا : إن من
استوهب إنسانا قدم للقتل وخلصه منه كان منعما عليه بذلك نافعا له. ولذلك حكمنا
أيضا بكون الحياة نفعا وإن لم تكن نفعا بنفسها لكونها أصلا في المنافع ومؤدية
إليها. هذا حد النعمة.
معنى المنعم :
وأما المنعم ، فهو
فاعل النعمة ، كالمكرم والمجمل والمحسن ، فلا يزاد في تفسيره على هذا لأنه اسم
مشتق من النعمة ، كما أن المكرم والمحسن مشتق من الإكرام والإحسان ، والأسامي
المشتقة لا يرجع في بيان فائدتها إلا إلى المشتق منه ، فلا يزاد في تفسير الضارب
على أنه فاعل للضرب الذي اشتق منه ، وكذا القول في الشاتم والكاسر وغيرهما من
الأسامي المشتقة.
وإذ قد عرفت ذلك ،
فاعلم أن المنعم قد يكون منعما بفعله النعمة ومباشرته لها وذلك بأن يطعم جائعا أو
يكسو عاريا ، أو بفعل ما يؤدي إلى ذلك. وقد يكون منعما وإن لم يصدر منه فعل أصلا
كأن لا يطالب غريمه بالدين ، إما إبراء لذمته أو ترفيها عليه ، ونظير ذلك في
الغائب عفو الله عن العصاة ، وإن لم يعاقبهم فإنه جل وعز لو عفا عنهم ولم يعاقبهم
لكان منعما عليهم بذلك ، وإن لم يصدر منه فعل إليهم ، فصح وتقرر إذا ما أردناه.
متى يستحق المنعم الشكر من المنعم عليه :
ثم سأل رحمهالله نفسه فقال : متى يستحق المنعم من المنعم عليه الشكر ،
وأجاب : بأنه إنما يستحق الشكر من جهته إذا خلصت النعمة عن إساءة تقابلها أو توفي
عليها وذلك ظاهر فإن من أعطى غيره دينارا أو فرق عليه ثوبا يساوي هذا القدر أو
كساه ثوبا ثم قتل له ولدا فإنه لا يستحق من جهته شكرا إلا أن هذا كلام فيما يمنع
الشكر من الاستقرار ، فأما الاستحقاق فثابت حالة النعمة ، اللهم إلا إذا جمع بين
النعمة والإساءة فحينئذ كما تمنع الإساءة من استقرار الشكر على النعمة ، تمنع من
استحقاقه أيضا.
حقيقة الشكر
ثم تكلم بعد ذلك
في حقيقة الشكر لما كان من حق النعمة أن يستحق الشكر ، وكان الترتيب الصحيح في ذلك
أن يبين أولا حقيقة الشكر ، ثم يترتب الكلام في كيفية استحقاق المنعم له ، لكنه
كذا أورده فتبعناه.
وجملة القول في
ذلك أن الشكر هو الاعتراف بنعمة المنعم ، مع ضرب من التعظيم ولا بدّ من اعتبار
الوصفين جميعا لأنه لو اعترف بنعمة المنعم ولم يعظم فقال :
هذا ثوب كسانيه
فلان وسكت ولم يكن شاكرا ، ولو عظم من دون الاعتراف ، فقال : فعل الله لفلان كذا
ولم يذكر النعمة ولا اعتراف بها لم يكن شاكرا أيضا ، وإنما يكون شاكرا إذا جمع بين
الأمرين جميعا فقال : هذا ثوب كسانيه فلان جزاه الله عني خيرا ، أو شكر له صنيعه
وفعله.
ثم إن هذا الشكر
والاعتراف قد يكون باللسان والمرجع به إلى ما ذكرناه ولا يجب إلا إذا اتهم بكفران
النعمة فأما أن يدينه بكل حال ، فلا.
وقد يكون بالقلب ،
والمرجع به إلى العلم بنعمة المنعم والعزم على إظهار شكرها إذا لحقته تهمة في ذلك
، وهذا مما يجب دائما ولا يسقط إلا عند سهو أو غفلة.
وكما أن الشكر قد
يكون باللسان ، وقد يكون بالقلب ، فقد يكون بضرب من الأفعال المخصوصة ، نحو هذه
العبادات التي تتقرب بها إلى الله تعالى ، من صلاة وصيام وحج وجهاد ، فإنها جارية
مجرى الشكر لله تعالى على نعمه وأياديه إلا أن هذا الضرب من الشكر ليس يستحقه إلا
الله تعالى لأنه إنما يؤدي على نهاية ما يمكن من التذلل والخضوع ، وذلك لا يستحق
إلا على أصول النعم ، والقادر على أصول النعم ليس إلا الله تعالى ، فلذلك اختص
باستحقاق هذا الضرب من الشكر.
ثم إن المرء متى
أتى بهذه العبادات ، وأدى هذا الشكر استحق من الله تعالى نفعا آخر ونعمة أخرى
بخلاف الشكر منا إذا شكر أحدنا فإنه ليس يستحق من جهته شيئا آخر ، والسبب في ذلك
هو أن الله تعالى هو الذي جعل الشكر شاقا علينا ، فلا بد أن يكون في مقابله ما
يوفي عليه شكره ، وإلا كان ظلما ، وكان بمنزلته أن يكلف أحدنا غيره عملا شاقا ولم
يوفر عليه أجرا ، فكما أن ذلك قبيح في الشاهد لكونه ظلما ، فكذلك في الغائب. وليس
كذلك سبيل أحدنا فإنه لم يجعل الشكر شاقا على الغير ، وإنما الله تعالى جعله بهذه
الصفة ، فلا جرم أن من شكره استحق عليه الثواب الجزيل ، والأجر العظيم. ولهذا فإنه
تعالى لما أوجب علينا شكر الوالدين ، فمن شكر نعمهما البارءة الوالدة فإنه يستحق
من الله تعالى نفعا آخر ونعمة أخرى. فعلى هذا يجرى القول في حقيقة النعمة والمنعم
وما يتصل بهما.
ونعود بعد هذه
الجملة إلى الكلام في أول نعمة أنعم الله تعالى بها علينا.
أول نعم الله علينا
فقد عاد رحمهالله تعالى إلى ذلك ، فيقول : إن أول نعمة أنعم الله تعالى بها
على الحي خلقه إياه حيا لينفعه بذلك. واعتبرنا خلقه إياه حيا لينفعه لأنه لو لم
يخلقه لم يكن منعما عليه كما في المعدوم ، ولو خلقه غير حي لم يكن منعما عليه أيضا
كما في الجمادات ، ولو خلقه حيا لا لينفعه بل ليضره لم يكن منعما عليه أيضا كما في
الكفار والفساق إذا أعادهم للنار فإنه لا يكون منعما عليهم وأن خلقهم أحياء ، لما
لم يخلقهم لينفعهم بل ليضرهم ، فلا بد من اعتبار هذه الوجوه الثلاثة : الخلق ،
والحياة ، وأن يكون غرضه به نفعه.
ولهذا قلنا : إن
المجبرة مع تمسكهم بالجبر لا يمكنهم أن يعرفوا أن لله تعالى نعمة على أحد ، لا
نعمة الدنيا ، ولا نعمة الدين ، لتجويزهم أن يكون الله تعالى خلق الخلق لا لغرض
أصلا ، لا لمنفعة ولا لمضرة ، بل خلقهم عبثا ، تعالى عن ذلك. وهذا يوجب عليهم أن
لا يعرفوا الله تعالى إلها تحق له العبادة ، لأن العبادة هي النهاية في الخشوع ،
والغاية في الشكر ، والشكر إنما يستحق على النعمة ، فإذا لم يمكن القوم أن يعرفوا
كونه منعما أصلا ، كيف يمكنهم معرفة إلهيته واستحقاقه للعبادة ، التي هي النهاية
في الشكر.
وهذا كله عارض في
الكلام.
والغرض المقصود هو
أن الحياة أولى نعمة أنعم الله تعالى بها على الحي. والدليل على أن الحياة نعمة ،
هو أنها مصححة للانتفاع بها ، حتى لا يصح التنعم إلا بها ، وإلا لأجلها ، فيجب أن
تكون نعمة ، والنعمة قد تكون نعمه وإن لم تكن نفعا بنفسها إذا كانت مؤدية إلى
المنفعة أو مصححة لها على ما قد بيناه.
فإن قيل : ليس بأن
يدل تصحيحها للانتفاع على كونها نعمة ، أولى من أن يدل تصحيحها للاستضرار على
كونها نقمة ، فكيف جعلتموها نعمة والحال هذه؟ قيل له : ليس كذلك ، لأن هاهنا مخصصا
يخصصها بأحد الوصفين دون الآخر ، وهو قصد الله تعالى بها النفع وو لهذا قلنا إن
الله تعالى لما لم يقصد بخلق الحياة في الكفار والفساق إذا أعادهم للنار نفعهم لم
يكن منعما عليهم.
وإذ قد عرفت أن
الحياة من النعم ، فالذي يدل على أنها أول نعمة أنعم الله تعالى بها علينا ، هو أن
سائر المنافع يترتب على الحياة ، إما في وجودها ، أو في صحة
الانتفاع بها ،
فيجب أن تكون أول نعمة على ما ذكرناه.
الرد على من يقول : إن أول النعم هي الجملة التي يصير بها
الحي حيا.
فإن قيل : هلا
كانت الجملة التي لا يصير الحي حيا إلا بها أول نعمة أنعم الله تعالى بها علينا ،
فإن الحياة مترتبة في الوجود عليها ، قلنا : إن الجملة مما لا تأثير لها في صحة
الانتفاع بها ، وإنما الحياة هي التي تؤثر في ذلك. وأيضا فإن النعمة لا بد من
تميزها من المنعم عليه ، وهذه الجملة هي نفس المنعم عليها ، فلا يجوز أن تكون نعمة
، فضلا عن أن تكون أول نعمة.
الرد على من يقول : إن الشهوة أول النعم
فإن قيل : أو ليس
المنافع مترتبة على الشهوة حتى لولاها لما صح الانتفاع البتة ، قلنا : إنه وإن كان
كذلك ، إلا أن الشهوة تترتب على الحياة في الوجود ، حتى لو لا الحياة لما صح
وجودها ، فلذلك قلنا إن الحياة أول نعمة.
ثم تكلم رحمهالله في المنافع التي خلقها الله تعالى للحي ليعرضه لها.
وجملة القول في
ذلك ، أن المنافع التي خلقها الله تعالى للحي ليعرضه لها ثلاث : التفضل ، وهو
النفع الذي لفاعله أن يوصله إلى الغير وله أن لا يوصله ؛ والعوض ، وهو النفع
المستحق لا على سبيل التعظيم والإجلال والثواب ، وهو النفع المستحق على سبيل
الإجلال والتعظيم.
المنافع مستحقة أو غير مستحقة
ولك أن تورد هذه
القسمة على وجه يتردد بين النفي والإثبات وتتضمن معاني هذه الألفاظ فتقول : إن
المنافع الواصلة إلى الغير إما أن تكون مستحقة أو لا ، فإن لم تكن مستحقة فهو
التفضل ، وإلا إن كانت مستحقة فلا يخلو ؛ إما أن تكون مستحقة لا على سبيل التعظيم
والإجلال فهو العوض ، وإن كانت مستحقة على سبيل الإجلال والتعظيم فهو الثواب. وأما
التفضل فما من حي خلقه الله تعالى إلا وقد تفضل عليه وأحسن إليه بضروب المنافع
والإحسان ، والعوض يوصله الله تعالى إلى المكلف وغير المكلف ، وأما الثواب فما لاحظ
فيه لغير المكلف ، والمكلف مختص باستحقاقه ، فعلى هذا يجري الكلام في هذا الفصل.
فصل
: فإن قيل : فما
كمال نعم الله ، قلنا : لا سبيل لنا إلى علم ذلك مفصلا وإنما نعلم على سبيل الجملة
أن جميع ما بنا من النعم ؛ أصولها وفروعها ، مبتدؤها ومنشؤها من قبل الله تعالى
ومن عنده. ولهذا قال تعالى : (وَما بِكُمْ مِنْ
نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) [النحل : ٥٣]. ولا
يمكننا عدها على سبيل التفصيل نعمة فنعمة ، ولذلك قال جل وعز : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا
تُحْصُوها) [النحل : ١٨]
الآية بين أنه لا يمكن عد نعمه أجمع وإحصاؤها.
فإن قيل : إذا لم
يمكنكم معرفة نعم الله تعالى بأجمعها فكيف توجبون الشكر عليها؟ قلنا : إنا لا نوجب
الشكر عليها مفصلا ، وإنما نقول : إنه يجب شكره على سبيل الجملة.
فإن قيل : كيف
يمكنكم شكر نعمه تعالى على سبيل الجملة مع أنه لا يمكن شكره إلا بنعمة متجددة؟
قلنا : إذا كنا شكرناه على سبيل الجملة فقد دخل فيه المستمرة والمتجددة جميعا ولا
يلزمنا شيء آخر سواه ، إذ لا يكلف الله تعالى ما ليس في الوسع ولا في الطاقة.
فصل
: ثم ذكر رحمهالله بعد هذه الجملة «أنه تعالى خلق هذه المنافع لتتكامل نعمته
، وتظهر حكمته جل وعز ، فيجب على المكلف وقد عرضه الله تعالى بالتكليف إلى الدرجات
العظيمة ، أن يبالغ في شكر نعمته ولا يكفرها ، ويتحدث بها ، ويذكرها ، ويجتهد في
أداء عباداته التي هي كالشكر له ، ولا يقصر فيها ، وإذا كان لا يمكنه ذلك إلا
بمعرفة جل وعز بتوحيده وعدله ، وجب أن لا يقصر في معرفته ويحصلها بما أمكنه
تحصيلها لأن ما لا يتم الواجب إلا به يكون واجبا كوجوبه.
مناقشة حول قول أبي علي بأن معرفة الله تترتب على الشكر
وهذا منه رحمهالله إشارة إلى ما يقوله أبو علي ، من أن وجه وجوب المعرفة وجوب
شكر النعمة ، وليس كذلك. لأن شكر نعمة الله تعالى إنما يجب على المكلف ، إذا علم
أنه خلف هذه المنافع ، وقصد بها وجه الإحسان ، ولا يعلم ذلك إلا بعد معرفة الله
بتوحيده وعدله ، فلا يترتب وجوب معرفته جل وعز على وجوب شكر نعمته والحال هذه.
وأشبه ذلك ما نقوله فيمن اجتاز بمصنعة من ماء وشرب منها ، فكما أنه لا يجب عليه
معرفة بانيها ليشكر عليها ، بل إنه إن عرف أنه إنما بناها لينفع الناس ، وقصد
ببنائها ذلك شكره وإلا فلا شيء عليه ، كذلك في مسألتنا إن عرف الله تعالى ، وعرف
أنه خلقه وقصد
بهذه المنافع نفعه شكره ، وإلا لم يلزمه شكره. فعلى هذا يجري القول في هذا الفصل.
إذا لزم النظر ففيم النظر؟
فصل
: فإن قيل : إذا
لزمك النظر ففيم تنظر؟ لما بين رحمهالله وجوب النظر وأنه أول الواجبات. وعطف عليه الكلام في أول
نعمة أنعم الله تعالى بها علينا ، إذ أراد أن يبين الطريق الذي يتوصل بالنظر فيه
إلى العلم بالله تعالى.
والأصل أن الطريق
إلى العلم بالغير إذا لم يكن معلوما ضرورة ، إنما هو الدلالة ، وهو الدليل سواء ،
ومعناهما ما إذا نظر الناظر فيه أوصله إلى العلم بالغير إذا كان واضعه وضعه لهذا
الوجه.
ولا بد من اعتبار
هذين الشرطين ؛ أما الأول فلا بد منه ، ولهذا فإن سقوط الثلج في وقته لما لم يمكن
التوصل به إلى نبوة محمد صلىاللهعليهوسلم لم نقل إنه دلالة على نبوته ، وقيل في القرآن إنه دليل على
ذلك لما أمكن التوصل به إلى العلم بنبوته ؛ وأما الشرط الثاني فلا بد منه أيضا ،
ولهذا لا يقال في أثر اللص إنه دلالة عليه وإن أمكن الاستدلال به على موضعه لما لم
يصنعه لهذا الوجه ، بل استفرغ الوسع وبذل الجهد في إخفاء نفسه.
أنواع الدلالة ، وكون معرفة الله لا تنال إلا بالعقل
وإذ قد عرفت ذلك ،
فاعلم : أن الدلالة أربعة : حجة العقل ، والكتاب ، والسنة ، والإجماع. ومعرفة الله
تعالى لا تنال إلا بحجة العقل.
فإن قيل : ولم قصرتم
الأدلة على هذه الأربعة؟ ثم لم قلتم إن معرفة الله تعالى لا تنال إلا بحجة العقل؟
قلنا : أما الأول : فلأن الدليل هو ما إذا نظر الناظر فيه أوصله إلى العلم
بالغير ، وهذه حال هذه الأربعة دون ما عداها.
فإن قيل : أليس
القياس وخبر الواحد دلالة على الأحكام الشرعية عندكم فهلا عددتموه فيها؟
قلنا : إنه يدخل
تحت الإجماع أو الكتاب أو السنة ، فلا يجب إفراده بالذكر.
وأما
الثاني : وهو الكلام في
أن معرفة الله تعالى لا تنال إلا بحجة العقل ، فلأن
ما عداها فرع على
معرفة الله تعالى بتوحيده وعدله ، فلو استدللنا بشيء منها على الله والحال هذه كنا
مستدلين بفرع للشيء على أصله ، وذلك لا يجوز.
بيان هذا ؛ أن
الكتاب إنما ثبت حجة متى ثبت أنه كلام عدل حكيم لا يكذب ولا يجوز عليه الكذب ،
وذلك فرع على معرفة الله تعالى بتوحيده وعدله ؛ وأما السنة فلأنها إنما تكون حجة
متى ثبت أنها سنة رسول عدل حكيم وكذا الحال في الإجماع ، لأنه إما أن يستند إلى
الكتاب في كونه حجة ، أو إلى السنة ، وكلاهما فرعان على معرفة الله تعالى.
الظروف التي إذا نظر الله تعالى فيها أوصلته إلى العلم
بالله
ثم إنه رحمهالله عاد إلى تعيين الكلام في الطريقة التي إذا نظر الناظر فيها
أوصله إلى العلم بالله تعالى.
والأصل فيه ، أن
الله تعالى لا يعرف ضرورة ، وكل ذات لا تعرف ضرورة فالطريق إليها لا يعدو أحد
أمرين : إما أن يكون حكما صادرا عنه ، أو فعلا واقعا من قبله.
والأحكام إنما
تصدر عن العلل ، والله تعالى ليس بعلة ، لأنه لو كان كذلك ، ـ ومعلوم أن المعلول
لا ينفك عن علته ـ أدى إلى وجوب ثان معه فيما لم يزل ، وسنبين في باب نفي الثاني
أنه لا قديم مع الله تعالى إن شاء الله تعالى ، وأيضا فكان يجب أن يكون من قبيل
هذه الأعراض والمعلوم خلافه ، ولأن الصفة الثابتة المستحقة فيما لم يزل واجبة ،
والصفة بوجوبها تستغني عن العلة على ما سنبينه في باب الصفات عند الكلام على
الكلابية إن شاء الله تعالى. فثبت أنه لا يجوز أن يكون الطريق إليه حكما من
الأحكام.
أقسام الأفعال
وبقي أن الطريق
إليه إنما هو الأفعال ، والأفعال على ضربين : أحدهما يدخل جنسه تحت مقدورنا ، والآخر
لا يدخل جنسه تحت مقدورنا.
ما لا يدخل تحت مقدورنا
وما لا يدخل جنسه
تحت مقدورنا فثلاثة عشر نوعا : الجواهر ، والألوان ،
والطعوم ،
والروائح ، والحرارة ، والبرودة ، والرطوبة ، واليبوسة ، والحياة ، والقدرة ،
والشهوة ، والنفرة ، والفناء. وما من شيء منها إلا ويمكن الاستدلال به على الله
تعالى ما عدا الفناء ، فإن طريق معرفته السمع ، وذلك يترتب على معرفة الله تعالى.
ما يدخل تحت مقدورنا
وأما الضرب الذي
يدخل جنسه تحت مقدورنا فعشرة أنواع : خمسة من أفعال الجوارح ، وخمسة من أفعال
القلوب. فالخمسة التي هي من أفعال الجوارح هي : الأكوان ، والاعتمادات ،
والتأليفات ، والأصوات ، والآلام. وأما الخمسة التي هي من أفعال القلوب فهي :
الاعتقادات ، والإرادات ، والكراهات ، والظنون ، والأنظار. ولا يمكن الاستدلال بها
ولا بشيء منها على الله تعالى ، وذلك لأن من حق الدليل أن يكون بينه وبين المدلول
تعلق ليكون بأن يدل عليه أولى من أن يدل على غيره ، وهذه الأفعال إذا صح صدورها عن
أحدنا كما يصح من الله تعالى ، فليس بأن تدل عليه أولى من أن تدل على غيره ، إلا
أن تكون واقعة على وجه لا يصح وقوعها على ذلك الوجه من القادرين بالقدرة ، فحينئذ
يمكن الاستدلال بها على الله تعالى.
الفعل الذي يستدل به على الله مع أن جنسه يقع تحت مقدورنا
فإن قيل : وما ذلك
الفعل الذي يمكن الاستدلال به على الله تعالى مع أن جنسه يدخل تحت مقدورنا؟ قلنا :
أفعال الله كثيرة من جملتها العقل ، لأنه يمكن الاستدلال به على الله تعالى مع أن
جنسه وهو الاعتقادات يدخل في مقدورنا ـ ووجه الاستدلال به أنه لا يخلو ؛ إما أن
يكون من فعلنا فينا ، أو من فعل أمثالنا ـ لا يجوز أن يكون من فعلنا ؛ لأنه يقع
أردنا أم كرهنا ، ومتى أردنا إيقاعه لم يقع ، مع أن من حق القادر على الشيء إذا
خلص داعيه إليه أن يقع لا محالة ؛ ولا يجوز أن يكون من فعل أمثالنا ، لأن القادر
بالقدرة لا يفعل الفعل في الغير إلا باعتماد ، والاعتماد مما لاحظ له في توليد
الاعتقاد ، لأنه لو كان كذلك لوجب إذا اعتمد أحدنا على صدر الغير أن يتغير حاله في
الاعتقاد ، ومعلوم أنه لا يتغير.
وبعد ، فلو كان
كذلك لم يكن بأن يولد الاعتقاد أولى من أن يولد ضده ، فكان يجب توليد الضدين.
وأيضا ، فلو كان كذلك لوجب أن يحصل ما لا يتناهى من الاعتقادات إذ لا اختصاص له
بالبعض دون البعض ، والمعلوم خلافه.
ومن جملتها ، حركة
المرتعش والعروق الضوارب ، فإنه يمكن الاستدلال بها على الله تعالى مع أنه لا يدخل
جنسها تحت مقدورنا. ووجه الاستدلال بها ، هو أنها لا تخلو ؛ إما أن تكون من فعلنا
، أو من فعل أمثالنا لما قد ذكرنا أن القادر بالقدرة لا يفعل الفعل في الغير إلا
بالاعتماد ، ونحن لا نحس باعتماد معتمد علينا.
ومن جملتها ،
الألم الزائد عند لسع الزنبور والعقرب ، ووجه الاستدلال به على الله تعالى ، هو أن
مثل هذا القدر لو وجد من أقوى القادرين بالقدرة لكان لا يتولد منه مثل هذه الآلام
، فلا بد من أن تكون من فعل فاعل مخالف لنا وهو الله تعالى.
ومتى شغب مشغب
فقال : لم لا يجوز أن يوجد من فعل بعض القادرين بالقدرة أكوان تتولد منها مثل هذه
الآلام؟ كان الجواب عنه أن يقال : إن القادر بالقدرة لا يفعل الفعل في الغير إلا
بالاعتماد ، ونحن لا نحس باعتماد معتمد علينا.
ومن جملتها ،
الكلام الموجود في الحصى والشجر ، فإن القادر بالضرورة لا يمكنه أن يفعل الكلام
إلا بهذه الآلة المخصوصة أو ما يتشكل بشكلها ، فعلى هذه الطريقة يجري الكلام في
ذلك.
الاستدلال بالأعراض على الله
فإذ قد عرفت ذلك
وأردت أن تستدل بالأعراض على الله تعالى ، فمن حقك أن تثبتها أولا ، ثم تعلم
حدوثها ، ثم تعلم أنها تحتاج إلى محدث وفاعل مخالف لنا وهو الله تعالى.
والأصل فيه أن
الأعراض على ضربين : مدرك ، وغير مدرك.
فالمدركات سبعة
أنواع : الألوان ، والطعوم ، والروائح ، والحرارة ، والبرودة ، والآلام ،
والأصوات.
إثبات الأعراض
ومتى أردت أن
تستدل بشيء منها ، فلا تحتاج إلى إثباتها على طريق الجملة فإنها مدركة ، وإنما
تحتاج إلى إثباتها على طريقة التفصيل ؛ هل هي نفس المحل على ما يقوله نفاة الأعراض
، أو غيرها على ما نقوله؟ والذي يدل على أنها غير المحل هو ما قد ثبت أن الأجسام
متماثلة ، ومعلوم أن الأسود يخالف الأبيض ، فلولا أن هذه المخالفة ترجع إلى معان
فيه ، وإلا لم يجز ذلك هذا إذا كان مدركا.
وأما إذا لم يكن
مدركا ، فمن شأنك أن تثبته على طريق الجملة والتفصيل جميعا.
والطريقة فيه ، أن
نعرض الكلام في واحد منها وهو الشهوة مثلا ، فنقول : إن الواحد منا حصل مشتهيا مع
جواز أن لا يحصل مشتهيا ، والحال واحدة ، والشرط واحد ، فلا بد من مخصص له ولمكانه
حصل مشتهيا وإلا لم يكن بأن يحصل على هذه الصفة أولى من أن لا يحصل على خلافها ،
وليس ذلك الأمر إلا وجود معنى وهو الشهوة. وإنما قلنا بأن هذا هكذا لأنه لا يخلو ؛
إما أن يكون ذاته ، أو ما هو عليه في ذاته ، أو غيره. لا يجوز أن يكون ذاته أو ما
هو عليه في ذاته ، لأنه لو كان كذلك لوجب أن يكون مشتهيا في حالة العدم ، بل يكون
مشتهيا أبدا وذلك مستحيل. وإن كان غيره فلا يخلو ؛ إما أن يكون تأثيره على طريق
التصحيح ، أو على طريق الإيجاب. لا يجوز أن يكون تأثيره على طريق التصحيح ، لأن
التأثير على هذا الوجه إنما يكون للفاعل وكونه مشتهيا لا يتعلق بالفاعل ، فلم يبق
إلا أن يكون تأثيره على طريق الإيجاب ، وهو المعنى الذي نقوله.
وبهذه الطريقة
نثبت ما عداها من الأعراض نحو الحياة والقدرة وغيرهما.
إثبات حدوث الأعراض
فصل
: وأما حدوثها ،
فالذي يدل عليه هو ما قد ثبت أنه يجوز عليها العدم والبطلان ، والقديم لا يجوز
عليه العدم والبطلان.
وهذه الدلالة
مبنية على أصلين : أحدهما ، أن الأعراض يجوز عليها العدم ؛ والثاني ، أن القديم لا
يجوز عليه العدم.
أما الدليل على أن
الأعراض يجوز عليها العدم فهو ما ثبت أن المجتمع إذا افترق بطل اجتماعه ، وأن
المتحرك إذا سكن بطلت حركته ، وفي ذلك ما نريده.
وأما الدليل على
أن القديم لا يجوز عليه العدم ، فهو ما قد ثبت أن القديم قديم لنفسه ، والموصوف
بصفة من صفات النفس لا يجوز خروجه عنها بحال من الأحوال.
إثبات أنها تحتاج لمحدث
وإذ قد عرفت حدوثها
، فالذي يدل على أنها تحتاج إلى محدث وفاعل ، فهو ما قد ثبت أن تصرفاتنا في الشاهد
محتاجة إلينا ومتعلقة بنا ، وإنما احتاجت إلينا لحدوثها ،
فكل ما شاركها في
الحدوث وجب أن يشاركها في الاحتياج إلى محدث وفاعل ، فعلى هذه الطريقة يجري الكلام
في ذلك.
فصل
: في الاستدلال
بالأجسام على الله تعالى.
والأصل فيه ، أن
الاستدلال بالأجسام على الله تعالى أولى من الاستدلال بغيرها لوجوه :
أحدهما : أن الأجسام معلومة بالاضطرار على سبيل الجملة والتفصيل
جميعا ، وليس كذلك الأعراض.
والثاني : هو أن العلم بكمال التوحيد لا يحصل ما لم يحصل العالم
بحدوث الأجسام.
والثالث : هو أن الاستدلال بالأجسام يتضمن إثبات الأعراض وحدوثها ،
وليس كذلك الاستدلال بالأعراض.
وإذ قد عرفت ذلك
وأردت أن تستدل بالأجسام على الله تعالى ، فمن حقك أن تعلم حدوثها ، وأن لها محدثا
مخالفا لنا وهو الله تعالى.
حدوث الأجسام
والطريق إلى معرفة
حدوثها طرق ثلاثة :
أحدهما : أن نستدل بالأعراض على الله تعالى ، ونعرفه بتوحيده
وعدله ، ونعرف صحة السمع ، ثم نستدل بالسمع على حدوث الأجسام.
والثاني : هو أن نستدل بالأعراض على الله تعالى ونعلم قدمه ، ثم
نقول : لو كانت الأجسام قديمة لكانت مثلا لله تعالى لأن القدم صفة من صفات النفس ،
والاشتراك في صفة من صفات النفس ، يوجب التماثل ولا مثل لله تعالى فيجب أن لا تكون
قديمة ، وإذا لم تكن قديمة وجب أن تكون محدثة لأن الموجود يتردد بين هذين الوصفين
، وإذا لم يكن على أحدهما ، كان على الآخر لا محالة.
أما
الوجه الثالث : فهو الدلالة
المعتمدة ، وأول من استدل بها شيخنا أبو الهذيل ، وتابعه باقي الشيوخ. وتحريرها هو
أن نقول : إن الأجسام لم تنفك من الحوادث ولم تتقدمها ، وما لم يخل من المحدث
يتقدمه يجب أن يكون محدثا مثله.
وهذه الدلالة
مبنية على أربع دعاوى :
أحدها ، أن في
الأجسام معاني هي الاجتماع والافتراق والحركة والسكون ، والثانية ، أن هذه المعاني
محدثة. والثالثة ، أن الجسم لم ينفك عنها ولم يتقدمها. والرابع ، أنها إذا لم ينفك
عنها ولم يتقدمها وجب حدوثه مثلها.
ولهذه الدعاوى
ترتيب ، فالأولى يجب أن تكون متقدمة ، والأخيرة يجب أن تكون متأخرة ، والدعويان
اللتان هما في الوسط لا ترتيب فيهما. وإنما قلنا إن الأولى يجب تقديمها ، لأنها
كلام في إثبات هذه المعاني وما لم نعلمها لا يمكننا وصفها لا بالحدوث ولا بالقدم ،
كما أنا إذا لم نعلم زيدا لا يمكننا وصفه بأنه طويل ولا بأنه أسود. وأما الأخيرة
فإنما وجب تأخيرها لأنها كلام في أن الجسم إذا لم ينفك من المحدث ولم يتقدمه وجب
حدوثه مثله ، وما لم تثبت الدعاوى الثلاث من قبل لا معنى لهذا الكلام. وأما اللتان
هما في الوسط فلا ترتيب فيهما ، لأنهما كلام في أوصاف هذه المعاني ، ومتى عرفناها
إن شئنا وصفناها أولا بالحدوث ، وإن شئنا وصفناها بأن الجسم لم يخل منها.
فإن قيل : ولم
سميتم هذه الوجوه دعاوى؟ قلنا : لأن الدعوى كل خبر لا يعلم صحته وفساده إلا بدليل
، وهذه حال كل واحدة من هذه الوجوه.
الكلام في إثبات الأكوان
الغرض به الكلام
في الدعوى الأولى من الدعاوى الأربع ، وهو الكلام في إثبات الأكوان التي هي
الاجتماع والافتراق والحركة والسكون ، والخلاف فيه مع الأصم وجماعة من الملحدة.
وتحرير الدلالة
على ذلك ، هو أن الجسم حصل مجتمعا في حال كان يجوز أن يبقى مفترقا والحال واحدة ،
والشرط واحد ، فلا بد من أمر ومخصص له ولمكانه حصل مجتمعا ، وإلا لم يكن بأن يحصل
على هذا الوجه أولى من خلافه ، وليس ذلك الأمر إلا وجود معنى.
فإن قيل : ومن أين
أن هذا الجسم حصل مجتمعا في حال كان يجوز أن يكون مفترقا؟ قلنا : هذا الحكم معلوم
ضرورة في الأجسام الحاضرة التي اختبرناها وسبرناها ، وأما في الأجسام الغائبة
فيعلم بالرد إلى الأجسام الحاضرة. فنقول : إنما
وجب ذلك في هذه
الأجسام لتحيزها ، والتحيز ثابت في الأجسام الغائبة ، فيجب أن يكون هذا الحكم
ثابتا هناك.
الرد على من اعترض على دعوى الاضطرار
فإن قيل : كيف تصح
دعوى الاضطرار فيه مع أنكم استدللتم على ذلك بأدلة؟ فقلتم : إن الجسم لو حصل
مجتمعا مع الوجوب لاستغنى عن جامع يجمعه ، كما أن عدم الصوت في الحالة الثانية لما
وجب عدمه استغنى عن معدم يعدمه ، وكذلك وجوب القديم تعالى لما كان واجبا استغنى عن
موجد يوجده ، والمعلوم أنه لا يستغني عن جامع يجمعه. وكذلك فقد قلتم : إن الأجسام
لو حصلت مجتمعة مع الوجوب لكان يجب أن يتأتى من أضعف القادرين منا الجمع بين جبلين
بأن يصادف وقتا يجب اجتماعهما فيه ، بل كان يجب أن يتعذر على أقوى القادرين منا
التفريق بين ريشتين أو خردلتين بأن يصادف وقتا يجب اجتماعهما فيه ، والمعلوم
خلافه. قلنا : إنما كان ذلك منا على طريق الاستظهار والتأكيد ، لا على طريق
الاستدلال والاحتجاج.
فإن قيل : وما
المراد بقولكم : والحال واحدة والشرط واحد؟ قلنا : المراد بالحال التحيز ، وبالشرط
الوجود ، وذلك ثابت في الحالتين جميعا.
فإن قيل : ولم
قلتم : إن الجسم إذا حصل مجتمعا في حال ، كان يجوز أن يبقى مفترقا والحال واحدة
والشرط واحدة فلا بد من أمر ثان ومخصص؟
قيل له : إنما
قلنا : ذلك لأننا نعلم ذلك بأدنى تأمل. وطريقة التأمل هو : أن الجسم إذا جازت عليه
صفتان ثم خرجت إحداهما من الجواز إلى الوجوب ، والأخرى من الجواز إلى الاستحالة ،
فلا بد من أمر ومخصص له ولمكانه خرجت إحداهما من الجواز إلى الوجوب والأخرى من
الجواز إلى الاستحالة ، وإلا لم يكن بأن يحصل هكذا أولى من خلافه ، وليس ذلك الأمر
إلا وجود معنى على ما نقوله. وليس للخصم أن يطالب بعد ذلك بلم ، لأنا قد أوردنا
عليه طريقة النظر ، فإن شاء أن يعلم فلينظر فيه.
فإن قيل : ولم
قلتم : إن ذلك الأمر ليس إلا وجود معنى؟ قلنا : إنه لا يخلو ، إما أن يكون راجعا
إليه ، أو إلى صفاته ، أو إلى غيره ، لا يجوز أن يكون راجعا إليه وإلى صفاته ،
وإذا كان راجعا إلى غيره فلا يخلو ، إما أن يكون تأثيره على طريقة التصحيح كتأثير
الفاعل فيما يفعله ، أو يكون تأثيره على طريقة الوجوب. لا يجوز أن
يكون تأثيره على
طريقة التصحيح ، وإذا كان تأثيره على طريق الوجوب فلا يخلو ، إما أن يكون معدوما
أو موجودا ، ولا يجوز أن يكون معدوما ، فلم يبق إلا أن يكون موجودا على ما نقوله.
وهذه القسمة
مترددة بين النفي والإثبات ، كذا أورده قاضي القضاة في «المحيط» وهي أولى من التقاسيم الأخرى التي أوردها المشايخ في الكتب
، لأن القسمة إذا لم تتردد بين النفي والإثبات احتملت الزيادة ، وكان للخصم أن
يشغب فيها.
واعلم أن التقسيم
قد يورد ويكون الغرض به إبطال البعض وتصحيح البعض على ما ذكرناه في هذا الموضع ،
وقد يورد والغرض به إبطال الكل وذلك مثل ما نقوله في الدلالة على أن الله تعالى لا
يجوز أن يكون عالما بعلم ، وقد يورد والغرض به تصحيح الكل وذلك مثل ما نقوله في
الموانع المعقولة عن الرؤية وأنها ستة.
فإن قيل : لم لا
يجوز أن يكون الجسم مجتمعا لذاته ، أو لما هو عليه في ذاته؟ قلنا : لأنه لو كان
كذلك لوجب أن يكون مجتمعا أبدا ولا يكون مفترقا أصلا. ولأنه لو كان كذلك لوجب أن
يكون كل جزء فيه مجتمعا ، لأن صفة الذات ترجع إلى الآحاد والأفراد دون الجمل.
ولأنه لو كان كذلك ، لوجب إذا افترق أن يكون مفترقا لذاته ، وأيضا فكان يؤدي إلى
أن يكون مجتمعا على قصدنا مفترقا دفعة واحدة ، وذلك محال.
ولأنه لو كان كذلك
لكان يجب أن لا يقف كونه مجتمعا على قصدنا ودواعينا ، والمعلوم خلافه ولأنه لو كان
كذلك ، لوجب في الأجسام كلها أن تكون مجتمعة لأنها متماثلة ، والاشتراك في صفة من
صفة الذات يوجب الاشتراك في سائر صفات الذات.
لم لا يكون الجسم مجتمعا لوجوده؟
فإن قلنا : لم لا
يجوز أن يكون الجسم مجتمعا لوجوده؟ قلنا : لأنه لو كان كذلك ، لوجب أن يكون هو
مجتمعا ما دام موجودا وأن لا يفترق أصلا وقد عرفنا خلافه ، ولأنه لو كان كذلك ،
لوجب أن يكون كل جزء منه مجتمعا لأن الوجوب ثابت فيه ، وقد علم خلافه. ولأنه لو
كان كذلك لوجب إذا افترق أن يكون مفترقا أيضا لوجوده ، فيجب أن يكون مجتمعا مفترقا
دفعة واحدة وهذا محال.
لم لا يكون الجسم مجتمعا لحدوثه؟
فإن قيل : لم لا
يجوز أن يكون الجسم مجتمعا لحدوثه؟ قلنا : إن أردتم
بالحدوث وجوده بعد
أن لم يكن فقد أفسدناه من قبل ، وإن أردتم به حالة الحدوث فالذي يفسده هو أنه لو
كان كذلك لوجب أن لا يكون الجسم مجتمعا في حالة البقاء لفقد العلة فيه ، ولأنه [لو]
كان كذلك لوجب أن يكون كل جزء منه مجتمعا لثبوت العلة فيه وقد علمنا خلافه.
وبعد فلو كان كذلك ، لوجب أن لا يحصل مفترقا في حالة الحدوث ، والمعلوم خلافه.
ولأنه لو كان كذلك لكان يجب إذا افترق أن يكون مفترقا لحدوثه أيضا ، فكان يجب أن
يكون الجسم مجتمعا مفترقا دفعة واحدة وهذا محال.
لم لا يكون الجسم مجتمعا على وجه؟
فإن قيل : لم لا
يجوز أن يكون الجسم مجتمعا لحدوثه على وجه؟ قلنا : لأنه لا وجه هاهنا معقول ،
فيقال إن الجسم اجتمع لحدوثه على ذلك الوجه ، بخلاف ما نقوله في الحسن والقبح فإن
لذلك وجوها معقولة ، نحو كونه ظلما وكذبا وغيرهما. ولأنه لو كان كذلك لوجب أن يكون
الجسم مجتمعا في حالة البقاء ، والمعلوم خلافه.
لم لا يكون الجسم مجتمعا لعدمه؟
فإن قيل : لم لا
يجوز أن يكون الجسم مجتمعا لعدمه؟ قلنا : لأن العدم يميل كونه مجتمعا ، وما أحال
الحكم لا يجوز أن يؤثر فيه. ولأنه لا يحصل مجتمعا إلا بعد الوجود ، فكيف يكون عدمه
مؤثرا فيه؟.
لم لا يكون مجتمعا بالفاعل؟
فإن قيل : لم لا
يجوز أن يكون الجسم مجتمعا بالفاعل؟ قلنا : لأنه لو كان كذلك لوجب في الواحد منا
وهو قادر على أن يجعل الجسم مجتمعا من دون معنى أن يكون قادرا على إيجاد الجسم ،
لأن من قدر على أن يجعل ذاتا من الذوات على صفة من الصفات من دون معنى ، قدر على
إيجاد نفس تلك الذات.
دليله ، الكلام ،
فإن أحدنا لما قدر أن يجعله أمرا ونهيا وخبرا ، قدر على إيجاد نفس الكلام. وعكسه
كلام الغير ، فلما لم يقدر على جعله أمرا ونهيا وخبرا ، لم يقدر على إيجاد نفس
الكلام. والمعلوم أن أحدنا لا يقدر على إيجاد الجسم فيجب أن لا يتعلق به كونه
مجتمعا.
__________________
فإن قيل : كيف يصح
رد ذلك إلى الكلام ، والكلام عندنا كسائر الأجسام في أنا لا نقدر عليه؟ قلنا : إنا
نعلم ضرورة أن الكاذب يستحق الذم والملامة من جهته على كذبه ، فلو لا أنه وقع من
جهته ومتعلق به وإلا لم يجز ذلك ، فصح ما قلناه.
دليل آخر ، وهو أن
أحدنا لو قدر على أن يجعل الجسم مجتمعا من دون معنى قدر على أن يجعله على سائر
صفاته التي يكون عليها بالفاعلين ، نحو كونه أسود وأبيض وأحمر وحلوا ومرا وغير ذلك
، كما في الكلام فإنه لما كان قادرا على أن يجعله أمرا ونهيا ، قدر أن يجعله على
سائر أوصافه ، نحو كونه خبرا واستخبارا أو عرضا ويمينا وجحدا ونفيا وإثباتا إلى
غير ذلك ، والمعلوم خلافه.
دليل آخر ، وهو
أنه لو كان كذلك ، لوجب في كون أحدنا عالما أن يتعلق بالفاعل لأن هاتين الصفتين
مستحقتان على حد واحد ، والصفتان متى استحقتا حد واحد ، كان المؤثر فيهما من باب
واحد.
فإن قال : هكذا
نقول فدلوا على خلافه ، قلنا : لو كان كون أحدنا عالما متعلقا بالفاعل ، لوجب أن
لا يجد الواحد منا هذه الصفة كأنها من ناحية صدره ، لأن الفاعل إنما يفعل الجملة
على هذه الصفة لا البعض.
دليل آخر ، وهو
أنه لو كان كذلك ، لوجب أن لا يتأتى من أحدنا الجمع بين الجسمين في حالة البقاء ،
لأن ما يتعلق بالفاعل يتبع حالة الحدوث ، كما في الكلام فإنه لما تعلقت أوصافه
بالفاعل تبع حالة الحدوث حتى لم يجز خلافه.
دليل آخر ، وهو
أنه لو كان كذلك ، لوجب أن يتأتى من الواحد منا إيقاف الجسم الثقيل في الجو دون
قرار ولا علاقة بأن لا يجعله متحركا ، والمعلوم خلافه ، فليس إلا أن يكون الجسم
مجتمعا مما لا تعلق له بالفاعل.
لم لا يكون اجتماع الجسم لعدم معنى؟
فإن قيل : لم لا
يجوز أن يكون الجسم مجتمعا لعدم معنى؟ قلنا : لأن المعنى المقدور لا اختصاص له
ببعض الأجسام دون بعض ، فكان يجب أن تكون الأجسام كلها مجتمعة لعدم ذلك المعنى ،
وأن لا يكون شيئا مفترقا البتة ، وقد عرفه خلافه.
وبعد ، فإن كون
الجسم مجتمعا موقوف على قصدنا ودواعينا نفيا وإثباتا فيجب أن يكون لأحوالنا فيه
تأثير. ولا يخلو أن يكون تأثيره في نفس الصفة أو فيما يؤثر فيه.
لا يجوز أن يكون
تأثيره في نفس الصفة لما قد تقدم أن هذه الصفة لا تتعلق بالفاعل ، وإن كان تأثيره
فيما يؤثر فيه ، فذلك المؤثر لا يجوز أن يكون معدوما ، لأن الأعدام لا يتعلق
بالفاعل ، فيجب أن يكون موجودا على ما نقوله.
وبعد ، فلو كان
الجسم مجتمعا لعدم الافتراق ، ومفترقا لعدم الاجتماع ، لوجب إذا عدم المعينان على
الجسم ، أن يكون مفترقا مجتمعا دفعة واحدة ، وهذا محال.
فإن قيل : نحن لا
نقول بعدم المعنيين عن الجسم ، بل نقول بوجود أحدهما وعدم الآخر ، قلنا : إنك قد
أقررت بإثبات الأعراض فكفينا مئونة المناظرة على أن نريك عدم المعنيين عن الجسم ،
فنقول : إن زيدا لو جمع بين الجسمين فقد عدم عنه الافتراق ، وعمرا إذا فرق بينهم
فقد عدم عنه الاجتماع ، ففي الحالة الثالثة يجب أن يكون الجسم مجتمعا مفترقا في
دفعة واحدة لعدم المعنيين جميعا.
فإن قيل : إن
الافتراق الأول يعود ، قلنا : العود على مقدورات العباد لا يصح ، فصح ما قلناه.
فإن قال : فإذا
جاز في الجسم أن يكون مجتمعا لوجود الاجتماع ومفترقا لوجود الافتراق ، ولا يلزم أن
يكون الجسم مجتمعا مفترقا في حالة واحدة ، فهلا جاز أن يكون مجتمعا مفترقا دفعة
واحدة؟ قلنا : لأن هذين المعنيين يتضادان في الوجود ولا يتضادان في العدم ، فلا
يمنع عدمهما وإن امتنع وجودهما لأجل تضادهما ، فافترقا.
فإن قال : لم لا
يجوز أن يكون مجتمعا لوجود الاجتماع ، ومفترقا لعدم الاجتماع؟ قيل له : لأنه لو
كان كذلك لوجب إذا وجد فيه الاجتماع من جهة زيد ، وعدم من جهة عمرو ، أن يكون
مجتمعا مفترقا دفعة واحدة ، وهذا محال.
دلالة أخرى ، وقد
استدل لحسن الأمر والنهي على إثبات الأعراض ، فقيل قد ثبت أنه يحسن من الواحد منا
أن يأمر الغير بأن يناوله الكوز فلا يخلو أن يكون أمرا بنفس الجسم أو بأمر زائد
على الجسم. لا يجوز أن يكون أمرا بنفس الجسم ، لأن الجسم موجود ، والأمر بإيجاد
الموجود محال ، فلم يبق إلا أن يكون أمرا بمعنى سوى الجسم ، وهو الذي نقوله.
فإن قيل : نحن لا
نقول إنه أمر بنفس الجسم ، ولا بمعنى سوى الجسم بل نقول هو أمر بتحصيل الجسم على
هذه الصفة.
نهاية إثبات الأكوان
قلنا : قد دللنا
على أن هذه الصفة لا تتعلق بالفاعل ، فهذه الجملة كافية في إثبات الأكوان التي هي
الاجتماع والافتراق والحركة والسكون.
الكلام في حدوث الأعراض
فصل
: والغرض به الكلام
في الدعوى الثانية من الدعاوى الأربعة ، وهو الكلام في حدوث الأعراض ، والخلاف فيه
مع أصحاب الكمون والظهور فإنهم ذهبوا إلى قدم الاجتماع والافتراق ، وقالوا : إن
الاجتماع متى ظهر كمن الافتراق ، وإذا ظهر الافتراق قالوا كمن الاجتماع.
وتحرير الدلالة
على ما نقوله في ذلك ، هو أن العرض يجوز عليه العدم ، والقديم لا يجوز أن يعدم ،
ولا يجوز أن يكون قديما ، وإذا لم يكن قديما وجب أن يكون محدثا ، لأن الموجود
يتردد بين هذين الوصفين ، فإذا لم يكن على أحدهما كان على الآخر لا محالة.
فهذه الدلالة
مبنية على أصلين : أحدهما ، أن العرض يجوز عليه العدم ، والثاني ، أن القديم لا
يجوز عليه العدم.
أما الأول ،
فالدليل عليه ، هو أن الجسم المجتمع إذا افترق فما كان فيه من الاجتماع لا يخلو ،
إما أن يكون باقيا فيه كما كان ، أو زائلا عنه. لا يجوز أن يكون باقيا فيه كما
كان. وإذا كان زائلا فلا يخلو ، إما أن يكون زائلا بطريقة الانتقال ، أو بطريقة
العدم. لا يجوز أن يكون زائلا بطريقة الانتقال لأن الانتقال محال على الأعراض ،
فلم يبق إلا أن يكون زائلا بطريقة العدم على ما نقول.
فإن قيل : هذا كله
ينبني على أن الاجتماع كان حالا فيه ونحن لا نسلم ذلك بل نقول : إنه كان موجودا لا
في محل ، قلنا : لو كان كذلك لم يختص ببعض الأجسام دون بعض ، فكان يجب أن تكون
الأجسام كلها مجتمعة لوجود ذلك الاجتماع الموجود لا في محل ، وأن لا يكون شيء منها
مفترقا البتة والمعلوم خلافه. ولأنه لو كان كذلك ، لوجب أن لا يحتاج الواحد منا في
الجمع بين الجسمين إلى أن يماسهما أو يماس ما يماسهما والمعلوم خلافه.
لم لا يكون الاجتماع باقيا فيه كما كان؟
فإن قيل : لم لا
يجوز أن يكون الاجتماع باقيا فيه كما كان؟ قلنا : لأنه لو كان كذلك لوجب في الجسم
أن يكون مجتمعا لوجود الاجتماع الباقي ، ومفترقا لوجود الافتراق الطارئ ، وهذا
محال.
فإن قيل : لم قلتم
ذلك؟ قلنا : لأن هذه الصفة إنما صدرت عن الاجتماع لما هو عليه في ذاته ، وما هو
عليه في ذاته ثابت لأن ثباته من قبل.
فإن قيل : لم لا
يجوز أن يكون إيجاب الاجتماع لما يوجبه موقوفا على شرط منفصل عنه؟ قلنا : لأن هذا
الشرط غير معقول ولا طريق إليه ، وإثبات ما هذا حاله يفتح باب الجهالات.
فإن قيل : ما
أنكرتم أن يكون الشرط فيه هو أن لا يطرأ ضده. قلنا : ليس بأن يقال هذا أولى من أن
يقال هذا الشرط في إيجاب الافتراق لما يوجبه لا يصادف في محل له ضدا هو الاجتماع
فلا يتميز الشرط من المشروط ، وذلك لا يجوز.
لم لا يكون زائلا بطريق الانتقال؟
فإن قيل : لم لا
يجوز أن يكون زائلا بطريقة الانتقال؟ قلنا : الانتقال لا يجوز على الأعراض.
فإن قيل : ولم
قلتم ذلك؟ قيل له : لأن المرجع بالانتقال إلى تفريغ مكان وشغل مكان وهذا من خصائص
الجواهر والأجسام ، ولأنه لا يخلو إما أن يكون منتقلا في حال كان يجب انتقاله فيها
، لأنه لا يمكن صرف هذا الوجود إلا إلى ذاته أو ما هو عليه في ذاته ، وهذا يوجب أن
يكون منتقلا أبدا وأن لا يستقر فيه أصلا. ولا يجوز أن يكون منتقلا في حال كان يجوز
أن لا ينتقل ، لأنه لو كان كذلك لوجب أن يكون منتقلا لمعنى للطريقة المذكورة في
إثبات الأعراض. وحال ذلك المعنى لا يخلو ، إما أن يكون حالا فيه ، أو في غيره أو
لا في محل. لا يجوز أن يكون موجودا لا في محل لأن حاله مع هذا المحل وهذا العرض
كحاله مع سائر المحال وسائر الأعراض فيجب أن ينتقل به سائر الأعراض عن سائر المحال
لوجود ذلك المعنى لا في محل ، والمعلوم خلافه. ولا يجوز أن يكون حالا في غيره لمثل
هذه الطريقة.
فإن قيل : لم لا
يجوز أن يكون حالا في نفس الاجتماع؟ قلنا : لأن الاجتماع
عرض ، والعرض لا
يحل العرض.
فإن قيل : لم قلتم
ذلك؟ قلنا : لأن الحلول إن لم يعلق بالتحيز لا يعلق ، وكذلك اللون بأن يكون حالا
والجوهر بأن يكون محلا أولى من خلافه وإن وجد كل واحد منها بجنب الآخر ، لما كان
الجوهر متحيزا دون اللون وكان المرجع بالحلول إلى الوجود بجنب الغير ، والغير
متحيز ، وقد ثبت أن الاجتماع ليس بمتحيز ، فلا يجوز أن يكون في نفس الاجتماع.
فإن قيل : لم قلتم
ذلك؟ قلنا : لأنه لو كان كذلك لكان لا يخلو ، إما أن يكون مجتمعا أو مفترقا ، فإن
كان مجتمعا كان كذلك بالاجتماع والكلام في ذلك الاجتماع كالكلام فيه فيتسلسل إلى
ما لا نهاية له ، وكذلك الكلام إذا كان مفترقا. فثبت بهذه الجملة أن الأعراض يجوز
عليها العدم.
الدليل على أن القديم لا يجوز عليه العدم
وأما الدليل على
أن القديم لا يجوز عليه العدم ، فهو أن القديم قديم لنفسه ، والموصوف بصفة من صفات
النفس لا يجوز خروجه عنها بحال من الأحوال. وهذه الدلالة مبنية على أصلين : أحدهما
أن القديم قديم لنفسه ، والثاني أن الموصوف بصفة من صفات النفس لا يجوز خروجه عنها
بحال من الأحوال. أما الذي يدل على أن القديم قديم لنفسه ، هو أنه لا يخلو ، إما
أن يكون قديما لنفسه أو بالفاعل أو لمعنى ، لا يجوز أن يكون قديما بالفاعل ولا
لمعنى ، فلم يبق إلا أن يكون قديما لنفسه على ما نقوله.
فإن قيل : لم لا
يجوز أن يكون قديما بالفاعل؟ قلنا : لأن من حق الفاعل أن يكون متقدما على فعله ،
وما تقدمه غيره لا يجوز أن يكون قديما ، لأن القديم هو ما لا أول لوجوده.
لم لا يكون القديم قديما لمعنى؟
فإن قيل : لم لا
يجوز أن يكون قديما لمعنى؟ قلنا : لأن ذلك المعنى لا يخلو ، إما أن يكون موجودا أو
معدوما ، لا يجوز أن يكون معدوما لأن العدم مقطعة الاختصاص ، ولأن الإيجاب إما أن
يصدر عن الصفة المقتضاة عن صفة الذات وهي مشروطة بالوجود ، فلا يجوز أن يكون
معدوما وإذا كان موجودا فلا يخلو ، إما أن
يكون قديما أو
محدثا ، لا يجوز أن يكون محدثا لأن العلة لا تتراخى عن المعلول ، ولا يجوز أن يكون
قديما لأنه ليس بأن يكون القديم قديما لهذا المعنى أولى من أن يكون هذا المعنى
قديما للقديم ، وهذا يؤدي إلى أن لا تتميز العلة من المعلل به ومن شأن ما يجعله
علة أن يجعله متميزا عن المعلل حتى لو لم يتميز دل على فساده.
وبعد ، فإن ذلك
المعنى إذا شارك القديم فيما له احتاج إلى معنى وجب احتياجه إلى معنى آخر ،
والكلام فيه كالكلام في الأول ، فيتسلسل إلى ما لا نهاية له.
الدليل على أن الموصوف بصفة من صفات النفس لا يجوز خروجه
عنها بحال من الأحوال
وأما الذي يدل على
أن الموصوف بصفة من صفات الذات لا يجوز خروجه عنها بحال من الأحوال ، فهو أن الذات
إنما يدخل في كونها ذاتا معلومة لاختصاصها بصفة الذات ، فلو خرجت عن هذه الصفة
لخرجت عن أن تكون ذاتا معلومة أصلا ، ولأن صفة الذات مع الذات تجري مجرى صفة العلة
مع العلة ، فكما أن صفة العلة تجب ما دامت العلة ، فكذلك صفة الذات تجب ما دامت
الذات.
وأحد ما يدل على
أن القديم لا يجوز أن يعدم ، هو أن القديم باق والباقي لا ينتفي إلا بضد أو ما
يجري مجرى الضد ، فيجب أن لا ينقضي القديم أصلا لأنه لا ضد له ولا ما يجري مجرى
الضد.
وهذه الدلالة
تنبني على أصول : أحدها أن القديم باق ، والثاني أن الباقي لا ينتفي إلا بضد أو ما
يجري مجرى الضد ، والثالث أن القديم لا ضد له ولا ما يجري مجرى الضد.
أما الذي يدل على
أن القديم باق ، فهو أن الباقي ليس إلا الموجود في حال الخبر عنه بالوجود ، وهذا
حال القديم.
وأما الذي يدل على
أن الباقي لا ينتفي إلا بضد أو ما يجري مجرى الضد ، فهو أنه إذا انتفى في حال كان
يجوز أن يبقى ، لم يكن بألا يبقى أحق منه بالبقاء إلا لأمر ، كطريقتنا في إثبات
الأعراض ، وليس ذلك الأمر إلا الضد أو ما يجري مجراه.
وأما الذي يدل على
أن القديم لا ضد له ، فهو أنه لو كان له ضد لكان لا بد من أن تكون صفته بالعكس من
صفة القديم ، فيجب إذا كان القديم موجودا لذاته وجب أن
يكون ضده معدوما
لذاته وذلك مستحيل ، لأن المعدوم ليس له بكونه معدوما حال ، فضلا عن أن يكون للذات
أو للغير.
وأما ما يجري مجرى
الضد ، فلأن ذلك يقتضي أن يحتاج القديم في وجوده إلى شيء ولذلك الشيء ضد ، فيقال :
إنه جار مجرى الضد له ، والقديم ليس يجوز احتياجه في الوجود إلى شيء ، لأن ذلك
يقدح في قدمه.
وقد استدل على
حدوث الأعراض بأن قيل : إنها تشتمل على المختلف والمتماثل والمتضاد ، فلو كانت
قديمة لما جاز ذلك لأن القدم صفة من صفات النفس ، والاشتراك في صفة من صفات النفس
يوجب التماثل.
فإن قيل : لم لا
يجوز أن يكون المتماثل منها قديمة والباقي محدثة؟ قلنا : لأن الطريقة في الجميع
واحدة ، فلو جاز في بعضها لجاز في كلها.
فإن قيل : ولم
قلتم إن الاشتراك في صفة من صفات النفس يوجب الاشتراك في سائر صفات النفس؟ قلنا :
لأن ذلك لو لم يجب لكان لا يمتنع أن تشترك ذاتان في صفة ذاتية وتفترقان في صفة
أخرى ذاتية فيكونان من حيث اشتركا في إحدى الصفتين مثلين ، ومن حيث افترقا في إحدى
الصفتين مختلفين ، وذلك يوجب لو قدر طروء الضد عليهما لبقائهما من وجه ولانتفائهما
من وجه آخر ، وذلك محال.
استدلال من وجه آخر
وقد استدل على ذلك
بوجه آخر ، فقيل : إن هذه الصفات الصادرة عن هذه المعاني متجددة فيجب في المؤثر
فيها الموجب لها أن يكون متجددا فإذا ثبت تجددها ثبت حدوثها ، لأنا لا نعني
بالحدوث أكثر من تجدد الوجود. إلا أن هذا لا يعم جميع الأعراض ، ولا بد على حدوث
ما يوجب لمحله حالا أو حكما ، ولا يلزم على هذا القديم وتأثيره في هذه الحوادث ،
لأنه إنما يؤثر على سبيل الاختيار ، وكلامنا فيما يؤثر على طريقة الإيجاب.
وأحد ما يدل على
ذلك ، هو أن هذه المعاني تحتاج في وجودها إلى محال محدثة ، وما يحتاج في الوجود
إلى المحدث حتى لا يوجد من دونه يجب حدوثه. وهذا ينبني على أن العلم بحدوث الأجسام
غير محتاج إلى العلم بحدوث الأعراض.
من الأدلة على حدوث الأكوان
وأحد ما يدل على حدوث
الأكوان ، هو أنها لو كانت قديمة لوجب في الصفات لصادرة عنها أن تكون واجبة فيما
لم يزل ، والصفة متى وجبت استغنت بوجوبها عن العلة على ما سنبينه في باب الصفات
عند الكلام عن الكلابية إن شاء الله تعالى ، وهذا يقدح في أصل إثباتها.
ومن وجه آخر ، وهو
أن الطريق إلى إثبات الأكوان إنما هو تجدد هذه الصفات مع جواز أن لا تتجدد ، فلو
ثبت فيما لم يزل لكانت الصفات الصادرة عنها واجبة فينسد علينا طريق العلم بها.
فهذه جملة كافية في حدوث الأعراض.
الكلام في أن الأجسام لا تخلو من الأكوان
فصل
: والغرض به الكلام
في الدعوى الثالثة من الدعاوى الأربع ، وهو الكلام في أن الأجسام لا يجوز خلوها من
الأكوان التي هي الاجتماع والاقتراف والحركة والسكون.
الخلاف مع أصحاب الهيولى
والخلاف فيه مع
أصحاب الهيولى ، وهم جماعة ذهبوا إلى أن الأعيان قديمة والتراكيب محدثة ، وعبروا
عنها بعبارات هائلة نحو الاستقص والبسيط والطينة والعنصر والهيولى إلى غير ذلك.
والدليل على صحة
ما نقوله في ذلك هو أن الجسم لو جاز خلوه عن هذه المعاني لجاز خلوه عنها الآن بأن
يبقى على ما كان عليه من الخلو احترازا عن اللون ، فإنه وإن صح خلو الجسم منه لم
يصح أن يخلو منه بعد وجوده فيه.
الجسم لا يخلو من الأكوان
فإن قيل : وبأي
علة جمعتم بين حالها الآن وبين حالها فيما مضى من الأيام؟
قلنا : لأنه لم
يتغير عليه إلا أمكنة وأزمنة ، والأمكنة والأزمنة مما لا تأثير لهما فيما يصح على
الجسم أو يجب أو يستحيل ، ألا ترى أن الجسم لما صح أن يكون مجتمعا أو مفترقا الآن
، صح أن يكون مجتمعا أو مفترقا في كل وقت وفي كل زمان ، ولما استحال أن يكون
مجتمعا مفترقا دفعة الآن ، استحال أن يكون في كل وقت وفي
كل زمن ، ولما وجب
كونه مجتمعا أو مفترقا الآن وجب ذلك في كل زمن وفي كل مكان. فوجب لو جاز خلوه عنها
في كل حال من الأحوال أن يجوز خلوه عنها الآن بأن يبقى على ما كان عليه من الخلو ،
وهذا يوجب لو أخبرنا مخبر بأن في أقصى بلاد العالم جسما ليس بمجتمع ولا مفترق ولا
متحرك ولا ساكن أن نصدقه ، والعلوم خلافه ، فثبت بهذا أن الجسم لا يخلو عن الأكوان
في وقت من الأوقات.
الدلالة على أن الجسم لا يخلو من الأكوان
وتحرير هذه الجملة
هو أن الجسم لا بد من أن يكون متحيزا عند الوجود ، ولا يكون متحيزا إلا وهو كائن ،
ولا يكون كائنا إلا بكون.
فإن قيل : لم قلتم
إن الجسم يجب تحيزه عند الوجود؟ قلنا : لأن تحيزه لما هو عليه في ذاته بشرط
الوجود.
فإن قيل : ولم
قلتم ذلك؟ قيل له : لا يخلو ، إما أن يكون متحيزا لما هو عليه في ذاته على ما
نقوله ، أو يكون متحيزا لمعنى ، أو بالفعل. لا يجوز أن يكون متحيزا لمعنى ، لأن
ذلك المعنى لا يوجب تحيزه إلا إذا اختص به ، ولا يختص به إلا إذا حله ، ولا يحله
إلا وهو متحيز. ولو لم يتحيز إلا إذا حله ذلك المعنى لوقف كل واحد من الأمرين على
صاحبه وذلك محال. ولا يجوز أن يكون متحيزا بالفاعل ، وإلا كان يصح من الفاعل أن
يوجد ذات الجوهر ولا يجعله متحيزا لأن هذا هو الواجب فيما يتعلق بالفاعل ، ألا ترى
أن الوجود لما تعلق بالفاعل وقف عليه ، حتى أن شيئا أوجده وأن شيئا لم يوجده ، بل
كان يصح منه أن يوجده فيجعله سوادا بدلا من تحيزه ، وأن يجمع بين هاتين الصفتين
فيجعله سوادا متحيزا ، وذلك يقتضي أنه لو طرأ عليه ضد أن ينفيه من وجه دون وجه.
وأحد ما يدل على
ذلك ، وهو أن كل جسمين إما أن يكون بينهما بون ومسافة أو لا يكون ، فإن كان بينهما
بون ومسافة كانا مفترقين ، وإن لم يكن كانا مجتمعين. فقد صح أن الجسم لم ينفك من
هذه المعاني.
وأحد ما يدل على
ذلك ، هو أن الجسم لو خلا عن الاجتماع والافتراق لكان السابق إليه لا يخلو ، إما
الاجتماع ، أو الافتراق.
فإن قال : السابق
إليه الاجتماع ، قلنا : فكيف يصح تجميع ما لم يكن مفترقا من قبل؟
وإن قال : السابق
إليه الافتراق ، قلنا : كيف يصح تفريق ما لم يكن مجتمعا من قبل ، فعلى هذه الطريقة
يجرى الكلام في ذلك.
الجسم إذا لم ينفك عن الحوادث كان مثلها محدثا
فصل
: والغرض به ،
الكلام في الدعوى الرابعة من الدعاوى الأربع ، وهو الكلام في أن الجسم إذا لم ينفك
عن هذه الحوادث التي هي الاجتماع والافتراق والحركة والسكون وجب أن يكون محدثا
مثلها.
والخلاف فيه مع
جماعة من الملحدة وابن الراوندي
والدليل على صحة
ما نقوله ، هو أن الجسم إذا لم يخل من هذه الحوادث ولم يتقدمها ، وجب أن يكون حظه
في الوجود كحظها وحظ هذه المعاني في الوجود أن تكون حادثة وكائنة بعد أن لم تكن ،
فوجب في الجسم أن يكون محدثا أيضا وكائنا بعد أن لم يكن ، كالتوأمين إذا ولدا معا
وكان لأحدهما عشر سنين فإنه يجب أن يكون للآخر أيضا عشر سنين.
فإن قيل : أليس أن
الجسم لم يخل من الأعراض ولا يجب أن يكون عرضا ، فهلا جاز أن لا يخلو من المحدث
ولا يجب أن يكون محدثا مثله؟ قلنا : ما ذكرناه إنما يقتضي اشتراكها في الوجود لا في الجنس ، ألا ترى أن السواد والبياض إذا وجدا معا فإنما
يجب أن يكونا مشتركين في الوجود حتى لو كان أحدهما محدثا لكان الآخر أيضا محدثا ،
فأما أن يكون كل أحد منهما من جنس الآخر فلا ، وكذلك التوأمان ، إذا ولدا معا وكان
لأحدهما عشر سنين ، فإنما ينبغي أن يكون للآخر أيضا مثل هذه المدة ، فأما
اشتراكهما في الجنس حتى إذا كان أحدهما قرشيا يجب أن يكون قرشيا فلا ، بل لا يمتنع
أن يكون أحدهما من جنس وأحدهما من جنس آخر.
__________________
لا يكون الجسم محلا للحوادث وإن لم يكن محدثا
فإن قيل : ما
أنكرتم أن الجسم وإن لم يخل من الحوادث ولم ينفك عنها لم يجب أن يكون محدثا مثلها
، بأن يكون قد حدث فيه حادث ، قبله حادث وقبل ذلك الحادث حادث ، إلى ما لا أول له؟
قلنا : هذه مناقضة ظاهرة ، لأن الحادث والمحدث سواء ، والمحدث لا بد له من محدث
وفاعل ، والفاعل المحدث يجب أن يكون متقدما على فعله ، وما تقدم غيره لا يجوز أن
يكون مما لا أول لوجوده.
وقد أوردت هذه
الطريقة على وجه آخر ، فقيل : لو كان الجسم قديما لوجب أن يكون متقدما على هذه
المعاني المحدثة ، لأن من حق القديم أن يكون متقدما على ما ليس بقديم ، كما أن من
حق ما وجد منذ يومين أن يكون متقدما على ما وجد منذ يوم ، وقد عرفنا أن الجسم لا يكون
متقدما على هذه المعاني ، فوجب أن لا يكون قديما ، وإذا لم يكن قديما وجب أن يكون
محدثا لأن الموجود يتردد بين هذين الوضعين ، فإذا لم يكن على أحدهما كان على الآخر
لا محالة. فهذه جملة الكلام في هذا الفصل.
الشبه التي تورد في قدم العالم
فصل في الشبه :
اعلم أن الشبه التي تورد في قدم العالم وإن كثرت فهى منفصلة غير قادحة ، فإن عرفت
الجواب عنها حسن ، وإن لم تعرف لم يقدح في العلم بحدوث الأجسام.
تسلسل الفاعلين محال
فمن ذلك هو أنهم
قالوا : لو كان العالم محدثا لاحتاج إلى محدث وفاعل ، وفاعله إذا حصل فاعلا بعد أن
لم يكن فاعلا فلا بد أن هنالك من معنى له ولمكانه صار فاعلا ، كطريقتكم في إثبات
الأعراض ، وذلك المعنى إذا كان محدثا يحتاج إلى آخر ، والكلام في محدثه كالكلام
فيه ، فيتسلسل إلى ما لا نهاية له ، وذلك محال.
والأصل في الجواب
عن ذلك ، هو أن الفاعل ليس له بكونه فاعلا حال ، بل المرجع به إلى أنه وجد من جهته
ما كان قادرا عليه ، وليس يجب إذا وجد من جهته ما كان قادرا عليه أن يكون هنالك
معنى حتى يحتاج ذلك المعنى إلى محدث ، ومحدثه إلى معنى آخر ، فيؤدي إلى ما يتناهى.
ألا ترى أن أحدنا في الشاهد يحصل فاعلا بعد أن لم يكن فاعلا ، ولا يجب أن يكون
هناك معنى ، كذلك في مسألتنا.
لو كان العالم محدثا كان ذلك لغاية أو حكمة وهي مرتبطة
بوجود العالم فيكون الفاعل محدثا
ومنها : هو أنهم
قالوا : لو كان العالم محدثا لوجب أن يكون له محدث وفاعل ، وفاعله لا بد من أن
يفعله لداع وغرض. وذلك الداعي لا يخلو ، إما أن داعي الحاجة أو داعي الحكمة ، لا
يجوز أن يكون داعي الحاجة ، فلم يبق إلا أن يكون داعي الحكمة ، وداعي الحكمة هو
علمه بحسنه وانتفاع الغير به ، وذلك ثابت فيما لم يزل ، فوجب وجود العالم فيما لم
يزل. وهذه شبهة أوردها ابن زكريا المتطبب الرازي.
والجواب عنه ، أن
داعي الحكمة لا يوجب الفعل ، ألا ترى أن الواحد منا مع كونه عالما بحسن الصدقة قد
يتصدق في وقت ولا يتصدق في وقت ، ويتصدق في وقت بدرهم ولا يتصدق في وقت بدرهم ،
فما ذكره جهل.
استحالة وجود العالم فيما لم يزل لو كان محدثا والجواب عن
ذلك
ومنها ، أنهم
قالوا : لو كان العالم محدثا لاستحال وجوده فيما لم يزل ، فيجب أن يكون لاستحالته
وجه. ثم لا يخلو ، إما أن يكون راجعا إلى المقدور أو إلى القادر ، لا يجوز أن يكون
راجعا إلى المقدور وإلا استحال وجوده فيما لم يزل ، ولا أن يكون راجعا إلى القادر
لهذا الوجه أيضا ، فيجب وجود العالم فيما لم يزل.
والأصل في الجواب
عن ذلك ، أن هذا حكم لا يعلل كما في غيره من المواضيع نحو الحلول وغيره.
وبعد ، فلم لا
يجوز أن يكون لأمر يرجع إلى المقدور ، فإنه لو وجد الجسم فحينما لم يزل انقلب جنسه
وصار المحدث قديما. وذلك محال ، أو لم لا يجوز أن يكون لأمر يرجع إلى القادر؟
فيقال : لو وجد الجسم فيما لم يزل ، قدح في كونه قادرا. لأن من حق القادر أن يكون
متقدما على فعله ، ولو كان العالم موجودا فما لم يزل لم يصح هذا.
ومنها ، هو أنهم
قالوا لو كان العالم محدثا لوجب أن يكون القديم تعالى غير عالم بوجوده فيما لم يزل
ثم حصل عالما بوجوده بعد أن لم يكن عالما ، وهذا يوجب أن يكون قد تغير حاله.
والأصل في الجواب
عنه أن العلم بالشيء أنه سيوجد علم بوجوده إذا وجد ،
ولهذا الكلام موضع
هو أخص.
شبهة عوام الملحدة
ومنها ، ما يتعلق
به عوام الملحدة ، وهو أنهم يقولون : إنا لم نجد دجاجة إلا من بيضة ، ولا بيضة إلا
من دجاجة ، فيجب أن يكون هكذا أبدا ، وهذا يؤذن بقدم العالم.
والأصل في الجواب
عنه ، أن هذا اعتماد على مجرد الوجود ، والاعتماد على مجرد الوجود في مثل هذه
المسائل لا يمكن ، كما لا يمكن الزنجي أن يقول إن جميع من في العالم أسود لأني لم
أر إلا هكذا. يبين ذلك أن أرباب المذاهب جملة أثبتوا خلاف ما قد وجدوه ولم يعتمدوا
على مجرد الوجود. ولهذا فإن الفلاسفة يقولون : إن في هذا العالم مواضع لا ينبت
فيها نبات ولا يعيش فيها حيوان ، وإنما تكون دائمة الظلمة أو الشمس ، مع أنهم لم
يشاهدوا مثله.
على أنا نقول لهم
: إن الحال فيما ذكرتموه لا يخلو ، إما أن تكون الدجاجة والبيضة قديمتين أو
محدثتين أو أحدهما قديمة والأخرى محدثة ، فإن كانتا محدثتين فهو الذي نقوله ، وإن
كانتا قديمتين لم يصح كون إحداهما من الأخرى وكذلك الكلام إذا جعل إحداهما قديمة
والأخرى محدثة.
الأجسام لأنها محدثة تحتاج إلى محدث هو الله
فصل
: وإذا ثبت أن
الأجسام محدثة فلا بد لها من محدث وفاعل ، وفاعلها ليس إلا الله تعالى.
فإن قيل : لم قلتم
إن الأجسام إذا كانت محدثة فلا بد لها من محدث وفاعل ، ثم قلتم إن محدثها ليس إلا
الله تعالى؟ قلنا :
أما الأول فالذي
يدل عليه تصرفاتنا في الشاهد فإنها محتاجة إلينا ومتعلقة بنا ، وإنما احتاجت إلينا
لحدوثها ، فكل ما شاركها في الحدث وجب أن يشاركها في الاحتياج إلى محدث وفاعل ،
والأجسام قد شاركتها في الحدوث ، فيجب احتياجها إلى محدث وفاعل.
هل تكون تصرفاتنا في حاجة إلى محدث
فإن قيل : ولم
قلتم إن تصرفاتنا محتاجة إلينا ، وما معنى هذا الاحتياج أولا ، ثم
لم قلتم إنما
احتاجت إلينا لحدوثها ، حتى يمكنكم أن تقيسوا الأجسام عليها بعلة الحدوث؟
قيل له : إنما
نعني بالاحتياج أن لحالة من أحوالنا فيه تأثير ، والذي يدل على ذلك ، هو أنها تقع
بحسب قصودنا ودواعينا وتنتفي بحسب كراهتنا وصوارفنا مع سلامة الأحوال محققا وإما
مقدرا ، فلو لا أنها محتاجة إلينا متعلقة بنا وإلا كان لا يجب فيها هذه القضية ،
كما في تصرف الغير ، وكما في اللون.
وأما الذي يدل على
أنها إنما احتاجت إلينا لحدوثها ، فهو أن حدوثها هو الذي يقف على قصدنا ودواعينا
نفيا وإثباتا.
وبعد ، فإنه لا
يخلو ، إما أن تكون محتاجة لاستمرار وجودها ، أو لاستمرار عدمها ، أو لتجدد
وجودها.
لا يجوز أن تكون
محتاجة إلينا لاستمرار عدمها لأنها قد كانت مستمرة العدم ولم تكن.
ولا أن تكون
محتاجة إلينا لاستمرار وجودها لأنها تبقى مستمرة الوجود وإن خرجنا عن كوننا أحياء
فضلا عن كوننا قادرين.
فلم يبق إلا أن
تكون محتاجة إلينا لتجدد وجودها وهو الحدوث ، فصح القياس.
فإن قيل : كيف يصح
قياس الجسم على العرض قلنا : إذا اشتركا في علة الحكم لم يمتنع أن يكون حكم أحدهما
حكم الآخر ، وقد بينا أن الأجسام قد شاركت تصرفاتنا في علة الاحتياج إلى محدث وهو
الحدوث ، فلم يمتنع قياس أحدهما على الآخر.
لم يكون فاعلها هو الله
فأما الثاني ، وهو
الكلام في أن فاعلها ليس إلا أن الله تعالى فلا يخلو ، إما أن تكون قد أحدثت نفسها
، أو أحدثها غيرها.
لا يجوز أن تكون
قد أحدثت نفسها لأن من حق القادر على الشيء أن يكون متقدما على فعله ، فلو كان
الجسم هو الذي أحدث نفسه لزم أن يكون قادرا وهو
معدوم ، وسنبين في
باب الصفات أن المعدوم لا يجوز أن يكون قادرا إن شاء الله تعالى.
وإن أحدثها غيرها
فلا يخلو ، إما أن تكون من فعل أمثالنا من القادرين بالقدرة ، أو من فعل فاعل
مخالف لنا.
لا يجوز أن تكون
من فعل أمثالنا من القادرين بالقدرة لأنه لو كان كذلك لصح منا أيضا فعل الجسم ،
وهذا يوجب أن يصح من الواحد منا أن يخلق لنفسه ما شاء من الأموال والبنين ،
والمعلوم خلافه.
فإن قيل : لم قلتم
ذلك؟ قيل له : لأن القدرة وإن اختلفت مقدوراتها متجانسة ، حتى لا جنس يفعل بقدرة
إلا ويصح أن يفعل مثله بقدرة أخرى على ما سنبينه مشروحا في موضعه.
لم لا يكون الجسم قد حدث بالطبع
فإن قيل : لم لا
يجوز أن يكون الجسم قد حدث بالطبع؟ قلنا : لأن الطبع غير معقول.
ثم إنا نقول لهم :
وما تعنون بالطبع ، أتريدون به الفاعل المختار ، أم تريدون به معنى موجبا؟ فإذا
أردتم به الفاعل المختار فهو الذي نقوله ، وإن أردتم به المعنى الموجب فلا يخلو ،
إما أن يكون معدوما ، أو موجودا.
لا يجوز أن يكون
معدوما لأن المعدوم لاحظ له في الإيجاب.
وإذا كان موجودا
فلا يخلو ، إما أن يكون قديما ، أو محدثا.
لا يجوز أن يكون
محدثا لأنه يحتاج إلى طبع آخر ، والكلام في ذلك الطبع كالكلام فيه فيتسلسل لما لا
يتناهى ، وذلك محال.
ولا يجوز أن يكون
قديما ، لأنه لو كان كذلك للزم قدم العالم ، لأن حق المعلوم أن لا يتراخى عن العلة
، وقد بينا أن العالم لا يجوز أن يكون قديما.
فهذه جملة الكلام
في هذا الفصل.
حول القائلين بالنفس والعقل والعلة وأصحاب النجوم
فصل
: إن قيل : أين
أنتم عن القائلين بالنفس والعقل ، وعمن يقول بإثبات علة كنى بها عن الباري ، وكذلك
فأين أنتم عن أصحاب النجوم الذين أضافوا هذه الحوادث إلى تأثيرات الكواكب؟
والأصل في الجواب
عن ذلك ، أن القول بالنفس والعقل والعلة إشارة إلى ما لا يعقل ، لأن العقل في
الشاهد يدل على فاعل مختار حتى صار كالحقيقة فيه فلا يتغير شاهدا وغائبا. ولو أنهم
أرادوا بذلك الفاعل المختار فلا مشاحة بيننا وبينهم إلا في العبارة ، والمرجع فيها
إلى أرباب اللسان وأهل اللغة ، ومعلوم أنهم لا يسمون الفاعل نفسا ولا عقلا ولا
علة.
وأما أصحاب النجوم
الذين أضافوا هذه الحوادث إلى تأثيرات الكواكب فقد أبعدوا ، وذلك لأن هذه النجوم
ليست بأحياء فضلا عن أن تكون قادرة ، والفاعل المختار لا بد من أن يكون حيا قادرا.
يبين ما ذكرناه ويوضحه ، أن الشمس على ما هي عليه من الحرارة لا يصح أن تكون حية ،
لأن الحياة تحتاج إلى بنية مخصوصة هي اللحية والدميمة ، وهي مفقودة فيها.
وبعد ، فلو كانت
الشمس قادرة لوجب وقوع الاختلاف في تصرفاتها ، فتطلع تارة من الشرق وتارة من الغرب
، ومعلوم أنه لا اختلاف في حركاتها ، بل هي على طريقة واحدة ووتيرة مستمرة. على
أنا نعلم من وحي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ومن دين الأمة ضرورة أنها
مسخرة مدبرة غير حية ولا قادرة ، ففسد ما قالوه.
وبعد ، فلو كانت
قادرة لوجب أن تكون قادرة بقدرة ، والقادر بالقدرة ، لا يقدر على فعل الأجسام ، إذ
لو صح ذلك بما فيه من القدرة لصح من الواحد منا. ذلك لأن القدرة وإن اختلفت
فمقدوراتها متجانسة ، فيلزم أن يخلق لنفسه ما شاء من الأموال والبنين ، والمعلوم
خلافه.
والذي حملهم على
ذلك وأداهم إليه ، هو أنهم ظنوا أن نماء الزرع وإدراك الثمار وغيرها يتبع الشمس
ويقع بحسبها ، وليس كذلك لأن الزرع قد ينمو والثمار قد تدرك مع غيبوبة الشمس كما
تنمو وتزداد مع طلوعها ، فكيف يصح تعليقه بها.
وبعد فإن الزرع
كما يختلف في الزيادة والنقصان بحسب الشمس ، فقد يختلف أيضا بحسب تعهد الزراع ،
فليس بأن يضاف إلى الشمس أولى من أن يضاف إلى
الزراع ، فلو لا
أن هؤلاء القوم استعموا واستصموا وإلا لما احتاجوا إلى إضافة هذه الحوادث إلى
النفس والعقل والكواكب والعلة ، فقد تم الكلام في جواب شبههم هذه.
فصل فيما يلزم المكلف معرفته من أصول الدين
اعلم أن ما يلزم
المكلف معرفته من أصول الدين أصلان اثنان على ما ذكره رحمهالله في «المغني»
وهما : التوحيد ،
والعدل. وذكر في «مختصر
الحسنى» أن أصول الدين
أربعة : التوحيد ، والعدل ، والنبوات ، والشرائع ، وجعل ما عدا ذلك من الوعد
والوعيد والأسماء والأحكام ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، داخلا في
الشرائع. وذكر في الكتاب أن ذلك خمسة : التوحيد ، والعدل ، والوعد ، والوعيد ،
والمنزلة بين المنزلتين ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لظهور الخلاف بين
الناس في كل واحد من هذه الأصول. والأولى ما ذكره في «المغني» أن النبوات والشرائع داخلان في العدل ، لأنه كلام في أنه
تعالى إذا علم أن صلاحنا في بعثة الرسل ، وأن نتعبد بالشريعة ، وجب أن يبعث ونتعبد
، ومن العدل أن لا يخل بما هو واجب عليه. وكذلك الوعد والوعيد داخل في العدل ،
لأنه كلام في أنه تعالى إذا وعد المطيعين بالثواب ، وتوعد العصاة بالعقاب ، فلا بد
من أن يفعل ولا يخلف في وعده ولا في وعيده ، ومن العدل أن لا يخلف ولا يكذب ،
وكذلك المنزلة بين المنزلتين داخل في باب العدل ، لأنه كلام في أن الله تعالى إذا
علم أن صلاحنا في أن يتعبدنا بإجراء أسماء وأحكام على المكلفين وجب أن يتعبدنا به
، ومن العدل أن لا يخل بالواجب. وكذا الكلام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،
فالأولى أن يقتصر على ما أورده في «المغني».
كيف تلزم هذه الأصول جميع المكلفين
ثم سأل رحمهالله نفسه فقال : كيف قلتم إن المكلف يلزمه معرفة هذه الأصول ،
وقد قلتم : إن من لا يسلك طريقة العلماء ليس يلزمه معرفة هذه الأصول أجمع ، وإنما
يلزمه أن يعرف التوحيد والعدل؟ وأجاب : بأنه يلزمه معرفة التوحيد والعدل ، لأنه
يخاف من تركه ضررا ، ولأنه لطف له في أداء الواجبات واجتناب المقبحات. ويلزمه معرفة
الأصول الأخر أيضا ، لأنه علم بكمال التوحيد ، والعدل موقوف على ذلك. ألا ترى أن
من جوز على الله تعالى في وعده ووعيده الخلف والاخلال بما يجب عليه من إزاحة علة
المكلفين وغيره ، فإنه لا يتكامل له العلم بالعدل ، ولا فرق في ذلك بين من
يسلك طريقة
العلماء ، وبين من لا يكون كذلك لأن العامي أيضا يلزمه معرفة هذه الأصول على سبيل
الجملة ، وإن لم يلزمه معرفتها على سبيل التفصيل ، لأن من لم يعرف هذه الأصول لا
على الجملة ولا على التفصيل لم يتكامل علمه بالتوحيد والعدل.
وسبب الاقتصار على الأصول الخمسة
ثم سأل رحمهالله نفسه فقال : ولم اقتصرتم على هذه الأصول الخمسة؟
وأجاب بأن قال :
لا خلاف أن المخالفين لنا لا يعدو أحد هذه الأصول. ألا ترى أن خلاف الملحدة
والمعطلة والدهرية والمشبهة قد دخل في التوحيد ، وخلاف المجبرة بأسرهم دخل في باب
العدل ، وخلاف المرجئة دخل في باب الوعد والوعيد ، وخلاف الخوارج دخل تحت المنزلة
بين المنزلين ، وخلاف الإمامية دخل في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ثم سأل رحمهالله نفسه على هذا ، فقال : هل عددتم في هذه الجملة النبوات
والإمامة؟
وأجاب عنه : بأن
الخلاف في ذلك يدخل تحت هذه الأبواب ، فلا يجب إفراده بالذكر.
إلا أن هذا العذر
ليس بواضح ، فإن الخلاف في الوعد والوعيد والمنزلة بين المنزلتين وغيرهما ، مما
يدخل في العدل. ثم أفرده بالذكر ، فهلا أفرد ما ذكرناه أيضا بالذكر. والصحيح أنه
يقتصر على ما أورده في «المغني»
أو يزاد على الخمس
ويذكر بالغا ما بلغ ، فعلى هذا يجري الكلام في ذلك.
بيان حكم مخالفه في هذا الباب
فصل
: ثم إنه رحمهالله بين حكم من يخالفه في هذا الباب.
والأصل فيه ، أن
المخالف في هذه الأصول ، ربما كفر ، وربما فسق ، ورما كان مخطئا.
أما من خالف في
التوحيد ، ونفي عن الله تعالى ما يجب إثباته ، وأثبت ما يجب نفيه عنه ، فإنه يكون
كافرا.
وأما من خالف في
العدل ، وأضاف إلى الله تعالى القبائح كلها ، من الظلم والكذب ، وإظهار المعجزات
على الكذابين ، وتعذيب أطفال المشركين بذنوب آبائهم ، والاخلال بالواجب ، فإنه
يكفر أيضا.
وأما من خالف في
الوعد والوعيد ، وقال إنه تعالى ما وعد المطيعين بالثواب ولا توعد العاصين بالعقاب
البتة ، فإنه يكون كافرا ، لأنه رد ما هو معلوم ضرورة من دين النبي صلى الله عليه
وعلى آله وسلم. والمراد لما هذا حاله يكون كافرا. وكذا لو قال : إنه تعالى وعد
وتوعد ولكن يجوز أن يخلف في وعيده لأن الخلف في الوعيد كرم ، فإنه يكون كافرا
لإضافة القبيح إلى الله تعالى. فإن قال : إن الله تعالى وعد وتوعد ، ولا يجوز أن
يخلف في وعده ووعيده ، ولكن يجوز أن يكون في عمومات الوعيد شرط أو استثناء لم
يبينه الله تعالى ، فإنه يكون مخطئا.
وأما من خالف في
المنزلة بين المنزلتين ، فقال : إن حكم صاحب الكبيرة حكم عبدة الأوثان والمجوس
وغيرهم فإنه يكون كافرا ، لأنا نعلم خلافه من محمد دين النبي صلىاللهعليهوآله والأمة ضرورة. فإن قال : حكمه حكم المؤمنين في التعظيم
والموالاة في الله تعالى ، فإنه يكون فاسقا ، لأنه خرق إجماعا مصرحا به ، على معنى
أنه أنكر ما يعلم ضرورة من دين الأمة. فإن قال : ليس حكمه حكم المؤمن ولا حكم
الكافر ولكن أسميه مؤمنا ، فإنه يكون مخطئا.
وأما من خالف في
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصلا وقال : إن الله تعالى لم يكلف الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر أصلا ، فإنه يكون كافرا ، لأنه رد ما هو معلوم ضرورة من
دين النبي صلىاللهعليهوآله ودين الأمة. فإن قال : إن ذلك مما ورد به التكليف ولكنه
مشروط بوجود الإمام ، فإنه يكون مخطئا.
فهذه جملة ما يلزم
المكلف معرفته من أصول الدين. ونحن إذا قلنا إن المكلف يلزمه معرفة هذه الأصول ،
فلسنا نعني أنه يجب معرفتها على حد يمكنه العبارة عنها والمناظرة فيها ، وحل الشبه
الواردة فيها ، إذ لو سميناه ذلك لأدى إلى تكليف ما ليس في الإمكان ، ويخرج أكثر
المكلفين من أن يكونوا مكلفين بمعرفة هذه الأصول ، فعلى هذا يجري الكلام في ذلك.
__________________
إذا عرف المكلف الأصول لزم معرفة الفقه والشرع
فصل
: ثم قال رحمهالله : أن المكلف إذا عرف هذه الأصول ، يلزمه معرفة الفقه
والشرع.
والأصل أن الفقه
هو العلم بغرض الغير فيما يخاطب به ، ولهذا لا يستعمل في كل علم. فلا يقول أحدهم
فقهت أن زيدا عندي ، وأن السماء فوقي ، وأن الأرض تحتي. كما لا يقال فهمت وفطنت.
وأما في الاصطلاح
: فهو العلم بأحكام الشرع وما يتصل بها من أسبابها ، وعللها وشروطها وطرقها.
وهو على ضربين :
أحدهما : ما يجب على الكافة معرفته ، وذلك نحو العلم بوجوب الصلاة
على الجملة ، ووجوب الزكاة والحج والجهاد في سبيل الله تعالى ، وما يجري هذا
المجرى.
والثاني : يلزم الكافة معرفته ويكون من فروض الكفاية ، نحو العلم
بالمسائل الدقيقة من أصول الفقه والفروع المتعلقة بها المتفرعة عنها ، فإن ذلك مما
لا يجب على الأعيان ، وإنما هو من فروض الكفاية. إذا قام به بعض الناس سقط عن
الباقين.
كيف يجب معرفة
الفقه الشرعيات وفيها ما هو فرض كفاية :
ثم سأل رحمهالله نفسه على هذا ، فقال : كيف يصح قولكم إن المكلف إذ عرف هذه
الأصول يلزمه معرفة الفقه والشرعيات ، وفي الشرعيات ما لا يجب العلم به ، وهو ما
يكون من فروض الكفاية؟ وأجاب : بأن أكثر الشرعيات مما يجب معرفته على الجملة. وبعد
، فإنما هو من فروض الكفاية مما يلزم الكافة ، إلا أنه إذا قام به بعض الناس سقط
عن الباقين ، وقد تقدم هذا فيما قدمناه ، فهذه جملة ما أورده في ذلك.
التوحيد :
فصل
: اعلم أنه رحمهالله بدأ من هذه الجملة بالتوحيد.
والأصل فيه ، أن
التوحيد في أصل اللغة عبارة عما به يصير الشيء واحدا ، كما أن التحريك عبارة عما
به يصير الشيء متحركا ، والتسويد عبارة عما به يصير الشيء أسود. ثم يستعمل في
الخبر عن كون الشيء واحدا لما لم يكن الخبر صدقا إلا وهو
واحد ، فصار ذلك
كالإثبات ، فإنه في أصل اللغة عبارة عن الإيجاب ، يقال أثبت لهم في القرطاس ، أي
أوجدته فيه. ثم يستعمل في الخبر عن وجود الشيء ، فيقال إن فلانا يثبت الأعراض أي
يخبر عن وجودها. لما لم يكن الخبر عنها صدقا إلا وهي موجودة.
التوحيد في اصطلاح المتكلمين :
فأما في اصطلاح
المتكلمين ، فهو العلم بأن الله تعالى واحد لا يشاركه غيره فيما يستحق من الصفات
نفيا وإثباتا على الحد الذي يستحقه والإقرار به. ولا بد من اعتبار هذين الشرطين :
العلم ، والإقرار جميعا. لأنه لو علم ولم يقر ، أو أقر ولم يعلم ، لم يكن موحدا.
علوم التوحيد وما يلزم المكلف منها :
وأما علوم التوحيد
، فلا مزيد على ما أورده في الكتاب. غير أنا نورده على هذا ليكون أسهل للحفظ ،
وأقرب إلى الضبط ، فنقول :
ما يلزم المكلف
معرفته من علوم التوحيد هو ، أن يعلم القديم تعالى بما يستحق من الصفات ، ثم يعلم
كيفية استحقاقه لها ، ويعلم ما يجب له في كل وقت ، وما يستحيل عليه من الصفات في
كل وقت ، وما يستحقه في وقت دون وقت ، ثم يعلم أن من هذا حاله ، لا بد من أن يكون
واحدا لا ثاني له يشاركه فيما يستحقه من الصفات نفيا وإثباتا على الحد الذي
يستحقه.
ما يستحقه من الصفات :
أما ما يستحقه من
الصفات فهو الصفة التي بها يخالف مخالفة ويوافق موافقة لو كان له موافق تعالى عن
ذلك ، وكونه قادرا ، عالما ، حيا ، سميعا ، بصيرا ، مدركا للمدركات ، موجودا ،
مريدا ، كارها. هذا عند أبي هاشم. وأما أبو علي ، فإنه لا يثبت تلك الصفة الذاتية.
فأما كيفية
استحقاقه لهذه الصفات ، فاعلم : أن تلك الصفة التي يقع بها الخلاف والوفاق يستحقها
لذاته ، وهذه الصفات الأربع التي هي كونه قادرا عالما حيا موجودا لما هو عليه في
ذاته ، وكونه مدركا لكونه حيا بشرط وجود المدرك ، وكونه مريدا وكارها بالإرادة
والكراهة المحدثتين الموجودتين لا في محل.
ولا خلاف في هذا
بين الشيخين إلا في هذه الصفات الأربع ، فإن عند أبي علي أنه يستحقها القديم تعالى
لذاته ، وعند أبي هاشم يستحقها لما هو عليه في ذاته. وأما ما يجب له في كل حال فهو
تلك الصفة الذاتية ، وهذه الصفات الأربع.
ما يستحيل عليه من الصفات :
وأما ما يستحيل
عليه في كل وقت ، فهو ما يضاد هذه الصفات ، نحو كونه عاجزا جاهلا معدوما.
ما يستحقه في وقت دون وقت :
وأما ما يستحقه في
وقت ومن وقت ، فنحو كونه مدركا فإن ذلك مشروط بوجود المدرك ، ونحو كونه مريدا
وكارها ، فإن ذلك يستند إلى الإرادة والكراهة الحادثتين الموجودتين لا في محل.
وأما الكلام في أن
من هذه صفته فلا بد من أن يكون واحدا ، فسنذكره في باب مفرد إن شاء الله تعالى ،
وبه الثقة.
قسمة أخرى لصفات القديم :
وقد قسم صفات
القديم تعالى في الكتاب قسمة أخرى فقال :
إن صفات القديم جل
وعز إما أن تكون من باب ما يختص به على وجه لا يشاركه فيه غيره ، نحو كونه قديرا
وغنيا إلا أن هذا لا يصح في المثال ، لأن المرجع بالقدم إلى استمرار الوجود ،
والواحد منا يشارك القديم في الوجود ، وكونه غنيا ليس بصفة ، لأن المرجع به إلى
نفي الحاجة عنه ، فالأولى أن يذكر في مسألة الصفة الذاتية التي يقع بها الخلاف
والوفاق.
وإما أن تكون من
باب ما يشاركه غيره في نفس الصفة ويخالفه في كيفية استحقاقه لها ، نحو كونه قادرا
عالما حيا موجودا ،
فإن أحدنا يستحق
هذه الصفات كالقديم سبحانه ، إلا أن القديم تعالى سبحانه يستحقها لما هو عليه في
ذاته ، والواحد منا يستحقه لمعان محدثة.
وإما أن تكون من
باب ما يشاركه غيره في نفس الصفة وفي جهة الاستحقاق ، نحو كونه مدركا ومريدا
وكارها ، فإن القديم تعالى مدرك لكونه حيا بشرط وجود
المدرك ، وكذلك
الواحد منا ، وكذلك فهو مريد وكاره بالإرادة والكراهية ، وكذلك الواحد منا. إلا أن
الفرق بينهما هو أن القديم تعالى حي لذاته فلا يحتاج إلى حاسة ، ومريد وكاره
بإرادة وكراهة موجودتين لا في محل ، والواحد منا مريد وكاره لمعنيين محدثين في
قلبه. فعلى هذا يجري الكلام في هذا الفصل.
فصل والغرض به الكلام في العدل
اعلم أن العدل ،
مصدر عدل يعدل عدلا ، كما أن الضرب ، مصدر ضرب يضرب ضربا ، والشتم ، مصدر شتم يشتم
شتما.
وقد يذكر ويراد به
الفعل ، ويذكر ويراد به الفاعل.
فإذا أريد به
الفاعل فذلك على طريق المبالغة لأنه معدول به عما يجري على الفاعلين ، وهو كقولهم
للضارب ضرب ، وللصائم صوم ، وللراضي رضى ، وللمفطر فطر ، إلى غير ذلك. وله حد إذا
استعمل في الفعل ، وحد إذا استعمل في الفاعل ، أما حقيقته إذا استعمل في الفعل على
ما قيل ، توفير حق الغير واستيفاء الحق منه. وقد قيل في حده ، كل فعل حسن يفعله
الفاعل لينفع به الغير أو ليضره. إلا أن هذا يوجب أن يكون خلق العالم عدلا من الله
تعالى ليتضمن هذا المعنى ، وليس كذلك ، بل خلق العالم من الله تعالى تفضل. فالصحيح
، الحد الأول ، لأن هذه اللفظة لا تكاد تدخل إلا فيما يتعلق بالحقوق ، وقولنا
ليضره احتراز عن العقاب ، لأن ذلك من الله تعالى عدل وإن كان إضرارا بالغير.
وأما إذا استعمل
في الفاعل ، فهو فاعل هذه الأمور. هذا في أصل اللغة.
العدل في اصطلاح المتكلمين :
وأما في الاصطلاح
، فإذا قيل : إنه تعالى عدل ، فالمراد به أن أفعاله كلها حسنة ، وأنه لا يفعل
القبيح ولا يخل بما هو واجب عليه.
فإن قيل : كيف يصح
قولكم إن أفعاله كلها حسنة مع أنه هو الفاعل لهذه الصور القبيحة المنكرة؟ والأصل
في الجواب عنه ، أنا لا نعني أنه يحسن من جهة المرأى والمنظر حتى يستحيله كل واحد
، وإنما نريد أنه يحسن من جهة الحكمة ، وهذه الصور كلها حسنة من جهة الحكمة ، ولا
يمتنع أن يكون الفعل حسنا من جهة المرأى والمنظر ، قبيحا من جهة الحكمة ، كما أنه
يكون حسنا من جهة الحكمة ، قبيحا من
جهة المرأى
والمنظر ، ألا ترى أن أحدنا لو مشى مشية عرجاء في انقاذ محبوس فإن تلك المشية حسنة
من جهة الجملة ، قبيحة من جهة الصورة. وبالعكس من هذا لو مشى مشية حسنة في سعاية
بمسلم إلى السلطان الجائر ، فإنها قبيحة من جهة الحكمة ، حسنة من جهة المرأى
والمنظر.
هذا هو الكلام في
حقيقة العدل.
علوم العدل :
وأما علوم العدل ،
فهو أن يعلم أن أفعال الله تعالى كلها حسنة ، وأنه لا يفعل القبيح ، ولا يخل بما
هو واجب عليه ، وأنه لا يكذب في خبره ، ولا يجور في حكمه ، ولا يعذب أطفال
المشركين بذنوب آبائهم ، ولا يظهر المعجزة على الكذابين ، ولا يكلف العباد ما لا
يطيقون ولا يعلمون ، بل يقدرهم على ما كلفهم ، ويعلمهم صفة ما كلفهم ، ويدلهم على
ذلك ، ويبين لهم ، ليهلك من هلك عن بينة ، ويحيى من حي عن بينة ، وأنه إذا كلف
المكلف وأتى بما كلف على الوجه الذي كلف فإنه يثيبه لا محالة ، وأنه سبحانه إذا
آلم وأسقم فإنما فعله لصلاحه ومنافعه ، وإلا كان مخلا بواجب ، وأن يعلم أنه تعالى
أحسن نظرا بعباده منهم لأنفسهم ، وفيما يتعلق بالدين والتكليف ، ولا بد من هذا
التقييد ، لأنه تعالى يعاقب العصاة ولو خيروا في ذلك لما اختاروا لأنفسهم العقوبة
، فلا يكون الله تعالى والحال هذه أحسن نظرا منهم لأنفسهم وكذلك فإنه ربما يبقى
المرء وإن علم من حاله أنه لو اخترمه لاستحق بما سبق منه الثواب وكان من أهل الجنة
، ولو أبقاه لارتد وكفر وأبطل جميع ما اكتسبه من الآخر ، ومعلوم أنه لو يخير بين
التبقية والاخترام لاختار الاخترام دون التبقية ، فكيف يكون الله تعالى أحسن نظرا
لعباده منهم لأنفسهم والحال هذه ، فلا بد من التقييد الذي ذكرناه.
موقف البغداديين من إطلاق القول بأن الله أحسن نظرا للناس
من أنفسهم :
فإن قيل : وهل
أطلق أحد ذلك؟ قلنا : نعم. البغداديون من أصحابنا لما أوجبوا الأصلح على الله
تعالى أطلقوا ، وقالوا : إنه تعالى أحسن نظرا لعباده منهم لأنفسهم ، وذلك عندنا
باطل بما ذكرناه.
ومن علوم العدل أن
نعلم أن جميع ما بنا من النعم فمن الله تعالى ، سواء كان من جهة الله تعالى أو جهة
غيره ، ودخوله في العدل أنه تعالى كلفنا الشكر على جميع
ما بنا من النعم ،
فلو لا أنها من فعله وإلا كان لا يكلفنا أن نشكره عليها أجمع ، لأن لك يكون قبيحا.
فصل والغرض به الكلام في الوعد والوعيد
وجملة ما يجب
بيانه في هذا الفصل حقيقة الوعد والوعيد ، والخلف والكذب ، وما يتصل بذلك من علوم
هذا الباب.
أما الوعد ، فهو
كل خبر يتضمن إيصال نفع إلى الغير أو دفع ضرر عنه في المستقبل. ولا فرق بين أن
يكون حسنا مستحقا ، وبين أن لا يكون كذلك. ألا ترى أنه كما يقال إنه تعالى وعد
المطيعين بالثواب ، فقد يقال وعدهم بالتفضيل مع أنه غير مستحق.
وكذلك يقال : فلان
وعد فلانا بضيافة في وقت يتضيق عليه الصلاة مع أنه يكون قبيحا ، وهكذا يقال إن
أحدنا وعد غيره بتمليكه جميع ما يملكه حتى إنه يفقر نفسه مع أنه يكون قبيحا ،
لقوله تعالى : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ
مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) [الإسراء : ٢٩].
وأما الوعيد ، فهو
كل خبر يتضمن إيصال ضرر إلى الغير أو تفويت نفع عنه في المستقبل ، ولا فرق بين أن
يكون حسنا مستحقا ، وبين أن لا يكون كذلك ، ألا ترى أنه كما يقال : إن الله تعالى
توعد العصاة بالعقاب ، قد يقال توعد السلطان الغير بإتلاف نفسه وهتك حرمه ونهب
أمواله ، مع أنه لا يستحق ولا يحسن.
ولا بد من اعتبار
الاستقبال في الحدين جميعا ، لأنه إن نفعه في الحال أو ضره مع القول ، لم يكن
واعدا ولا متوعدا.
وأما الكذب ، فهو
كل خبر لو كان له مخبر لكان مخبره لا على ما هو به. وقولنا لو كان له مخبر ، هو أن
في الأخبار ما لا مخبر له أصلا ، كالخبر بأن لا ثاني مع الله تعالى ولا بقاء ،
وغير ذلك.
وأما الحلف فهو أن
يخبر أنه يفعل فعلا في المستقبل ثم لا يفعله ، ثم إن الحلف ربما يكون كذبا بأن
يخبر عن نفس الفعل ثم لا يفعله ، وربما لا يكون كذبا بأن يخبر عن عزمه على الفعل
ثم لا يفعله. ولهذا فإنه لما استحال العزم على الله تعالى ، لم يكن الخلف في حقه
إلا كذبا تعالى الله عنه علوا كبيرا.
علوم الوعد والوعيد :
وأما علوم الوعد
والوعيد ، فهو أنه يعلم أن الله تعالى وعد المطيعين بالثواب وتوعد العصاة بالعقاب ،
وأنه يفعل ما وعد به وتوعد عليه لا محالة ، ولا يجوز عليه الخلف والكذب.
المخالف في هذا الباب :
والمخالف في هذا
الباب : إما أن يخالف في أصل الوعد والوعيد ، وقال : إن الله تعالى ما وعد ولا
توعد ، وهذا على الحقيقة خلاف في نبوة محمد صلىاللهعليهوسلم ، لأنا نعلم من دينه ضرورة أنه وعد وتوعد ، أو يقول : إنه
تعالى وعد وتوعد ولكن يجوز أن يخلف في وعيده ، فالكلام عليه أن يقال : إن الخلف في
حق الله تعالى كذب لما تقدم ، والكذب قبيح ، والله تعالى لا يفعل القبيح لعلمه
بقبحه ولغناه عنه ، وإلى هذا أشار بقوله : (ما يُبَدَّلُ
الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (٢٩)).
وبعد : فلو جاز
الخلف في الوعيد لجاز في الوعد ، لأن الطريق في الموضعين واحدة ، فإن قال فرق
بينهما ، لأن الخلف في الوعيد ، كرم ، وليس كذلك في الوعد. قلنا : ليس كذلك ، لأن
الكرم من المحسنات ، والكذب قبيح بكل وجه ، فكيف تجعله كرما. أو يقول إن الله
تعالى وعد وتوعد ، ولا يجوز عليه الخلف والكذب ، ولكن يجوز أن يكون في عمومات
الوعيد شرط واستثناء لم يبينه الله تعالى. والكلام عليه ، أن يقال : إن الحكيم لا
يجوز أن يخاطبنا بخطاب لا يريد به ظاهره ، ثم لا يبين مراده به ، لأن ذلك يجري
مجرى الألغاز والتعمية ، وذلك لا يجوز على القديم تعالى.
وبعد : فلو جاز في
عمومات الوعيد لجاز في عمومات الوعد ، بل في جميع الخطاب من الأوامر والنواهي ،
والمعلوم خلافه. فإن قيل : فرق بينهما ، لأنا أمرنا بموجبات الأمر والنهي وعلينا
في ذلك التكليف ، وليس كذلك في عمومات الوعيد لأنه لا يتعلق بالتكليف ، قلنا لهم :
إن علينا في عمومات الوعيد تكليفا كما في غيره من الأوامر والنواهي ، ألا ترى أنا
قد أمرنا أن نعتقد مخبراتها ولا نعتقد خلافها ، فلو كان فيها شرط أو استثناء لم
يبينه الله تعالى جرى مجرى الإلغاز والتعمية على ما مر ، فهذه هي طريقة القول في
هذا الفصل.
فصل والغرض به الكلام في المنزلة بين المنزلتين
والأصل في ذلك ،
أن هذه العبارة إنما تستعمل في شيء بين شيئين ينجذب إلى كل واحد منهما بشبهة ، هذا
في أصل اللغة.
وأما في اصطلاح
المتكلمين ، فهو العلم بأن لصاحب الكبيرة اسم بين الاسمين ، وحكم بين الحكمين ،
على ما يجيء من بعد.
وهذه المسألة تلقب
بمسألة الأسماء والأحكام ، وقد اختلف الناس فيها.
فذهب الخوارج إلى
أن صاحب الكبيرة كافر ، وذهبت المرجئة إلى أنه مؤمن ، وذهب الحسن البصري إلى أنه
ليس بمؤمن ولا كافر وإنما يكون منافقا ، وإلى هذا ذهب عمرو بن عبيد ، وكان من
أصحابه. وذهب واصل بن عطاء إلى أن صاحب الكبيرة لا يكون مؤمنا ولا كافرا ولا
منافقا بل يكون فاسقا ، وهذا المذهب أخذه عن أبي هاشم ، عبد الله بن محمد بن
الحنفية ، وكان من أصحابه. وقد جرت بين واصل بن عطاء وبين عمرو بن عبيد مناظرة في
هذا ، فرجع عمرو بن عبيد إلى مذهبه وترك حلقة الحسن واعتزل جانبا فسموه معتزليا
وهذا أصل تلقيب أهل العدل بالمعتزلة.
سبب تسمية أهل العدل بالمعتزلة :
واعلم أن هذه
مسألة شرعية لا مجال للعقل فيها لأنها كلام في مقادير الثواب والعقاب ، وهذا لا
يعلم عقلا ، وإنما المعلوم عقلا أنه إذا كان الثواب أكثر من العقاب فإن العقاب
مكفر في جنبه ، وإن كان أقل منه فإنه يكون محبطا في جنب ذلك العقاب ، وصار الحال
في ذلك كالحال في الشاهد ، فإن أحدنا لو أخذ غيره من قارعة الطريق ورباه وخوله
وموله ، ثم يكسر رأس قلم له ، فإن هذه الإساءة تقع مكفرة في جنب تلك النعم ،
وبالعكس من هذا لو أحسن إليه بأن يعطيه دينارا واحدا ثم يقتل ولده ، فإن تلك
النعمة تكون محبطة في جنب هذه الإساءة هذا هو الذي يعلم بالعقل.
فأما أن ثواب بعض
الطاعات أكبر من ثواب البعض ، أو عقاب بعض المعاصي أعظم من بعض ، فإن ذلك مما لا
مدخل للعقل فيه. بل لو خلينا وقضيه العقل ، لجوزنا أن يكون ثواب الإحسان إلى الغير
بدرهم أعظم من ثواب الشهادتين ، وأن يكون عقاب شرب الخمر أعظم من عقاب استحلالها.
فحصل من هذه
الجملة أن هذه المسألة مما لا سبيل للعقل فيها ، وإنما هي مسألة شرعية على ما
قلناه.
وتحصيل الكلام
فيها ، هو أن نقول :
إن المكلف لا يخلو
، إما أن يكون من أهل الثواب ، أو يكون من أهل العقاب.
فإن كان من أهل
الثواب ، فلا يخلو ، إما أن يكون مستحقا للثواب العظيم ، أو مستحقا لثواب غير ذلك.
فإن استحق الثواب العظيم ، فلا يخلو ، إما أن يكون من البشر ، أو لم يكن. فإن لم
يكن من البشر سمي ملكا ومقربا إلى غير ذلك من الأسماء ، وإن كان من البشر فإنه
يسمى نبيا ورسولا ومصطفى ومختارا أو مبعوثا إلى غير ذلك. وإن استحق ثوابا دون ذلك
، فإنه يسمى مؤمنا برأ تقيا صالحا إلى ما أشبه ذلك.
وإن كان من أهل
العقاب ، فلا يخلو ، إما أن يكون مستحقا للعقاب العظيم ، أو لعقاب دون ذلك. فإن
استحق العقاب العظيم فإنه يسمى كافرا أو مشركا سواء كان ذلك من البشر أو لم يكن.
ثم أنواع الكفر
تختلف ، فربما يكون تعطيلا ، وربما يكون تهودا ، أو تمجسا ، أو تنصرا ، إلى غير
ذلك ، وإن استحق عقابا دون ذلك ، فإنه يسمى فاسقا ، فاجرا ، ملعونا ، إلى ما
شكاله.
فحصل من هذه
الجملة أن صاحب الكبيرة لا يسمى مؤمنا ، ولا كافرا ، ولا منافقا ، بل يسمى فاسقا.
وكما لا يسمى باسم هؤلاء فإنه لا يجري عليه أحكام هؤلاء ، بل له اسم بين الاسمين ،
وحكم بين الحكمين.
المخالف في هذا الباب :
والمخالف في هذا
الباب ، لا يخلو ، إما أن يقول : إن صاحب الكبيرة منافق ، وذلك لا وجه له ، لأن
النفاق اسم لمن يبطن الكفر ويظهر الإسلام وليس هذا حال صاحب الكبيرة ، أو يقول إنه
كافر على ما تقوله الخوارج.
والكلام عليه ، أن
نقول : ما تعني به؟ أتريد أن حكمه حكم الكافر حتى لا يناكح ولا يورث ولا يدفن في
مقابر المسلمين ، أو تريد أنه يسمى كافرا وإن لم تجز عليه هذه
الأحكام. فإن أردت
به الأول ، فذلك ساقط ، لأنا نعلم ضرورة من دين الأمة أن صاحب الكبيرة لا تجري
عليه هذه الأحكام ، فلا يمنع على المناكحة والموارثة والدفن وغيرها ، وإن أردت به
الثاني ، فذلك لا يصح أيضا ، لأن الكفر صار بالشرع اسما لمن يستحق إجراء هذه
الأحكام عليه ، فكيف يجوز إطلاقها على من لا يستحقها؟.
وإما أن يقول إن
صاحب الكبيرة مؤمن على ما تقوله المرجئة. والكلام عليه أن نقول ما تريد به؟ أتريد
به أن حكمه حكم المؤمن في المدح والتعظيم والموالاة في الله تعالى ، أم تريد أنه
يسمى مؤمنا. فإن أردت به الأول ، فذلك لا يصح ، لأنه خرق إجماع مصرح ، فإنا نعلم
من حال الصحابة وخاصة من حال علي بن أبي طالب عليهالسلام ، أنهم كانوا لا يعظمون صاحب الكبيرة ولا يوالونه في الله عزوجل بل يلعنونه ويستخفون به ، ولهذا فإن أمير المؤمنين عليهالسلام كان يقول في قنوته : اللهم العن معاوية بن أبي سفيان ،
وعمرو بن العاص ، وأبا الأعور السلمي ، وأبا موسى الأشعري. وإن أردت به الثاني.
فذلك لا يصح أيضا لأن قولنا مؤمن في الشرع ، اسم لمن يستحق هذه الأحكام المخصوصة ،
فكيف يجري على من لا يستحقها.
واعلم أن هذا
المذهب مأخوذ عن أمير المؤمنين عليهالسلام خاصة ، وعن الصحابة التابعين عامة ، ولهذا قال أبو حنيفة :
لو لا سيرة أمير المؤمنين عليهالسلام في أهل البغي ما كنا نعرف أحكامهم فعلى هذا يجب أن نقول في
هذا الباب.
فصل والغرض به الكلام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
ونحن أولا نبين
حقيقة الأمر ، والنهي ، والمعروف ، والمنكر.
أما الأمر ، فهو
قول القائل لمن دونه في الرتبة افعل ، والنهي هو قول القائل لمن دونه لا تفعل.
وأما المعروف ،
فهو كل فعل عرف فاعله حسنه أو دل عليه ، ولهذا لا يقال في أفعال القديم تعالى
معروف ، لما لم يعرف حسنها ولا دل عليه.
وأما المنكر ، فهو
كل فعل عرف فاعله قبحه أو دل عليه ، ولو وقع من الله تعالى القبيح لا يقال إنه
منكر ، لما لم يعرف قبحه ولا دل عليه.
الخلاف حول العلم بوجوب ذلك سمعا وعقلا :
وإذ قد عرفت هذه
الجملة فاعلم : أنه لا خلاف في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وإنما
الخلاف في أن ذلك هل يعلم عقلا أو لا يعلم إلا سمعا.
فذهب أبو علي إلى
أنه يعلم عقلا وسمعا ، وذهب أبو هاشم إلى أنه إنما يعلم سمعا ، إلا في موضع واحد ،
وهو أن يشاهد واحدا يظلم غيره فيلحق قلبك بذلك مضض وحرد ، فيلزمك النهي عنه دفعا
لتلك المضرة عن النفس.
والذي يدل على
وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من جهة السمع الكتاب ، والسنة ، والإجماع.
أما الكتاب فقوله
تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ
أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ
الْمُنْكَرِ) [آل عمران : ١١٠]
: فالله تعالى مدحنا على ذلك ، فلو لا أنها من الحسنات الواجبات وإلا لم يفعل ذلك.
وأما السنة ، فهو
قول النبي صلىاللهعليهوسلم : «ليس لعين ترى الله
يعصى فتطرف حتى تغير أو تنتقل».
وأما الاجماع ،
فلا إشكال فيه لأنهم اتفقوا على ذلك.
شرائط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :
ثم إن للأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر شرائط يجب بوجودها ، ويسقط بزوالها.
أولها : هو أن يعلم أن المأمور به معروف ، وأن المنهي عنه منكر.
لأنه لو لم يعلم ذلك لا يأمن أن يأمر بالمنكر وينهي عن المعروف ، وذلك مما لا يجوز
، وغلبة الظن في هذا الموضع لا تقوم مقام العلم.
ومنها : هو أن يعلم أن المنكر حاضر ، كأن يرى آلات الشرب مهيأة
والملاهي حاضرة والمعازف جامعة ، وغلبة الظن تقوم مقام العلم هاهنا.
ومنها : هو أن يعلم أن ذلك لا يؤدي إلى مضرة أعظم منه ، فإنه لو
علم أو غلب في ظنه أن نهيه عن شرب الخمر يؤدي إلى قتل جماعة من المسلمين أو إحراق
محلة لم يجب ، وكما لا يجب لا يحسن.
ومنها : هو أن يعلم أو يغلب في ظنه أن لقوله فيه تأثير ، حتى لو
لم يعلم ذلك ولم يغلب على ظنه لم يجب. وفي أن ذلك هل يحسن إذا لم يجب كلام. فقال
بعضهم إنه يحسن لأنه بمنزلة استدعاء الغير إلى الدين ، وقال الآخرون يقبح لأنه
عبث.
ومنها : هو أن يعلم أو يغلب على ظنه أنه لا يؤدي إلى مضرة في
ماله أو في نفسه إلا أنه يختلف بحسب اختلاف الأشخاص. فإن كان المرء بحيث لا يؤثر
في حاله الشتم والضرب فإنه لا يكاد يسقط عنه ، وإن كان ممن يؤثر ذلك في حاله ويحط
مرتبته فإنه لا يجب ، وفي أن ذلك هل يحسن ، ينظر ، فإن كان الرجل ممن يكون في
تحمله لتلك المذلة إعزاز الدين حسن ، وإلا فلا. وعلى هذا يجمل ما كان من الحسين بن
علي عليهماالسلام ، لما كان في صبره على ما صبر إعزازا لدين الله عزوجل ، ولهذا نباهي به سائر الأمم ، فنقول : لم يبق من ولد
الرسول صلى الله على وآله وسلم إلا سبط واحد ، فلم يترك الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر حتى قتل في ذلك.
إذا تأمن ذلك بالأسهل فلا يجب تجاوزه إلى الأصعب :
واعلم أن المقصود
بالأمر بالمعروف إيقاع المعروف ، وبالنهي عن المنكر زوال المنكر ، فإذا ارتفع
الغرض بالأمر السهل ، لم يجز العدول عنه إلى الأمر الصعب. وهذا مما يعلم عقلا
وشرعا ، أما عقلا فلأن الواحد منا إذا أمكنه تحصيل الغرض بالأمر السهل لا يجوز
العدول عنه إلى الأمر الصعب ، وأما الشرع فهو قوله تعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى
فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) [الحجرات : ٩] فالله
تعالى أمر بإصلاح ذات البين أولا ، ثم بعد ذلك بما يليه ، إلى أن انتهى إلى
المقاتلة.
إذا فقدت هذه الشرائط فهل يجب عليه تكليف آخر في هذا الباب
:
ثم إنه رحمهالله سأل نفسه فقال : إن المكلف إذا لم يجب عليه الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر لفقد هذه الشرائط فهل يبقى عليه تكليف آخر في هذا الباب أم لا؟. وأجاب
عنه : بأن ينظر في حاله ، فإن كان عفيفا مستورا بحيث لا يظن أنه راض بما يجري فلا
شيء عليه ، وإن كان ممن نظن به الرضى بذلك فإنه يجب عليه إظهار الكراهة دفعا
للتهمة ، ولأن فيه لطفا ومصلحة.
المنكرات على قسمين :
ثم ذكر رحمهالله أن المناكير على قسمين : أحدهما ما يختص به والآخر ما
يتعداه. أما ما يختص به ، فعلى قسمين أيضا.
أحدهما : يقع به الاعتداد.
والثاني : لا يقع به الاعتداد. أما ما لا يقع به الاعتداد ، فهو
كأن يكون أحدنا في المال بمنزلة قارون ثم يغصب منه درهم واحد فإنه مما لا يجب
النهي عنه عقلا ويجب شرعا. وأما ما يقع به الاعتداد ، فهو كأن يكون أحدنا فقيرا
معسرا لا يكون له إلا درهم واحد ثم يغصب منه ذلك الدرهم ، فإنه يجب النهي عنه عقلا
وشرعا ، هذا إذا كان مما يختص به.
وأما ما يتعداه ،
فإنه يجب النهي عنه عقلا وشرعا عند أبي علي ، وعند أبي هاشم يجب شرعا ولا يجب عقلا
إلا في موضع واحد على ما تقدم.
قسمة أخرى للمناكير :
ثم إنه رحمهالله قسم المناكير أيضا قسمين :
أحدهما : يتغير حاله بالإكراه ، وهو الذي يكون ضرره عائدا عليه
فقط.
والثاني : لا يتغير حاله بالإكراه وهو الذي يتعدى ضرره إلى الغير.
أما ما يتغير حاله
بالإكراه ، نحو أكل الميتة وشرب الخمر ، والتلفظ بكلمة الكفر ، فإن ذلك يجوز عند
الإكراه ، إلا كلمة الكفر فإنه لا يجوز له أن يعتقد مضمونه بل يجب أن ينوي ، أنك
أنت الذي تكرهني على قولي : الله ثالث ثلاثة مثلا.
وأما ما لا يتغير
حاله بالإكراه ، فكقتل المسلم والقذف ، فذلك لا يجوز ، اللهم إلا أن يكون في المال
فحينئذ يجوز إتلاف مال الغير بشرط الضمان.
إذا سقط الوجوب فهل يبقى الحسن :
ثم إنه رحمهالله سأل نفسه فقال : إذا سقط عن المكلف وجوب الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر فهل يبقى الحسن أو لا؟ وأجاب عنه : بأنه ينظر في ذلك.
فإن سقط عنه الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر لفقد الشرط الأول ، وهو العلم بأن ذلك منكر أو معروف ،
فلا يجب النهي عنه ، وكما لا يجب لا يحسن ، لأنه لا
يأمن أن يأمر
بالمنكر وينهي عن المعروف.
وإن سقط عنه هذا
التكليف لفقد الشرط الثاني ، وهو العلم بحضور المنكر ، فلا يجب ، وكما لا يجب لا
يحسن.
وإن سقط عنه لفقد
الشرط الثالث ، وهو العلم بأن ذلك يؤدي إلى مضرة أعظم منه كقتل جماعة من المسلمين
أو إحراق محلة من محالهم ، فإنه كما يسقط عنه الوجوب لا يثبت الحسن أيضا.
وإذا سقط عنه ذلك
لفقد الشرط الرابع ، وهو العلم بأن لقوله فيه تأثيرا ، فإن ذلك مما قد اختلفوا فيه
، فقال بعضهم إنه يحسن ، لأنه بمنزلة استدعاء الغير إلى الإسلام ، وقال الآخرون
إنه يكون عبثا قبيحا.
وإذا سقط ذلك عنه
لفقد الشرط الخامس ، وهو العلم بأن ذلك يؤدي إلى مضرة في نفسه أو ماله ، فالكلام
فيه ما ذكرناه من قبل.
المعروف على قسمين :
ثم قال رحمهالله : إن المعروف على قسمين :
أحدهما : واجب ، والآخر : ليس بواجب.
فالأمر بالواجب
واجب ، وبالنافلة نافلة. وهذا إنما أخذ عن أبي علي ، لأن المشايخ من السلف أطلقوا
القول في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، إلى أن جاء شيخنا أبو علي ، وقسم
المعروف إلى هذين القسمين ، وجعل الأمر بالواجب واجبا ، وبالنافلة نافلة ، وهو
الصحيح ، لأن حال الأمر لا يزيد في الوجوب والحسن على حال المأمور به. هذا في
المعروف.
المنكر كله في باب واحد في أنه يجب النهي عنه :
وأما المنكر ،
فكله من باب واحد في أنه يجب النهي عن جميعه عند استكمال الشرائط. وليس لقائل أن
يقول إن من المناكير ما يكون صغيرة ، فكيف يلزم النهي عنها ، لأنه ما من صغيرة إلا
ويجوزها كبيرة.
وبعد فإن النهي عن
المنكر إنما وجب لصحته ، والقبح ثابت في الصغيرة شأنه في الكبيرة.
فإن قيل : كيف
يمكنكم القول أن المناكير كلها من باب واحد وقد علمنا أن في المناكير ما للاجتهاد
فيه مجال ، ومنها ما ليس كذلك.
والأصل في الجواب
عن ذلك ، أن الاجتهاد إنما يدخل في أن ذلك الشيء منكر أم لا ، فأما إذا ثبت كونه
منكرا فلا مجال للاجتهاد في وجوب النهي عنه.
واعلم أن المناكير على ضربين : عقلية وشرعية :
فالعقليات منها ،
نحو الظلم والكذب وما يجري مجراها ، والنهي عنها كلها واجب ، لا يختلف الحال فيه
بحسب اختلاف المقدم عليه بعد التكليف.
والشرعيات على
ضربين : أحدهما ، ما للاجتهاد فيه مجال ، والآخر لا مجال للاجتهاد فيه. أما ما لا
مجال للاجتهاد في كونه منكرا كالسرقة والزنا وشرب الخمر وما يجري هذا المجرى ،
والنهي عن كل ذلك واجب ولا يختلف الحال فيه بحسب اختلاف المقدم عليه. وأما ما
للاجتهاد فيه مجال ، فكشرب المثلث فإنه منكر عند بعض العلماء وغير منكر عند البعض
، وما هذا سبيله ينظر في حال المقدم عليه ، فإن كان عنده أنه حلال جائز لم يجب
النهي عنه ، وإن كان عنده أنه مما لا يحل ولا يجوز وجب النهي عنه. فعلى هذا ، لو
رأى واحد من الشافعية حنيفا يشرب المثلث فإنه ليس له أن ينكر عليه وينهاه ،
وبالعكس من هذا لو رأى حنفي شفعويا يشرب المثلث ، فإنه يلزم نهيه والانكار عليه.
وعلى الجملة ، فما هذا حاله لا يخرج عن كونه منكرا وإن اختلف بحسب اختلاف المقدمين
عليه.
كيف يقال بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفي الناس
من لم يقل بوجوبه إلا مع إمام
ثم إنه رحمهالله سأل نفسه فقال : كيف يمكنكم أن تقولوا بوجوب الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر ، وفي الناس من ذهب إلى أنه لا يجب إلا إذا كان هناك
إمام مفترض الطاعة؟ والأصل في الجواب عن ذلك ، أن المخالف فيه لا يخلو ، إما أن
يقول : إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يجب لا قولا ولا فعلا إلا عند وجود
الإمام المفترض الطاعة ، أو يقول : إنه إنما لا يجب فعلا ولكن يجب قولا ، وكلا
القولين فاسد لأن الدلالة التي دلت على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من
الكتاب والسنة والإجماع لم تفصل بين أن يكون هناك إمام وبين أن لا يكون.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضربان :
واعلم أن الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر على ضربين : أحدهما ما لا يقوم به إلا الأئمة ، والثاني
ما يقوم به كافة الناس.
أما ما لا يقوم به
إلا الأئمة ، فذلك كإقامة الحدود ، وحفظ بيضة الإسلام ، وسد الثغور ، وتنفيذ
الجيوش ، وتولية القضاة والأمراء ، وما أشبه ذلك.
وأما ما يقوم به
غيرهم من أفناء الناس ، فهو كشرب الخمر ، والسرقة والزنا ، وما أشبه ذلك ، ولكن
إذا كان هناك إمام مفترض الطاعة فالرجوع إليه أولى.
واعلم أن المقصود
في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، هو أن لا يضيع المعروف ولا يقع المنكر. فإذا
ارتفع هذا الفرض ببعض المكلفين سقط عن الباقين ، فلهذا قلنا : إنه من فروض
الكفايات ، فعلى هذه الطريقة يجري الكلام في ذلك.
الأصل الأول
التوحيد
الكلام في الصفات
فصل
والغرض به الكلام في أن الله تعالى قادر
اعلم ، أن أول ما
يعرف استدلالا من صفات القديم جل وعز إنما هو كونه قادرا ، وما عداه من الصفات
يترتب عليه. لأن الدلالة التي دلت على أنه تعالى هو المحدث للعالم ، دلت على هذه
الصفة التي هي كونه تعالى قادرا من غير واسطة. وليست كذلك باقي الصفات ، لأنا
نحتاج فيها إلى واسطة أو واسطتين أو وسائط ، فلهذا قدمنا الكلام فيه.
وتحرير الدلالة
على ذلك ، هو أنه تعالى قد صح منه الفعل ، وصحة الفعل تدل على كونه قادرا.
فإن قيل : الدلالة
هي صحة الفعل أو وقوعه ، قلنا : بل الدلالة هي صحة الفعل ، لأنه لو وقع لا على
طريق الصحة بل على طريق الوجوب ، لم يدل على كونه قادرا. وهذه الدلالة مبنية على
أصلين ، أحدهما ، أنه تعالى قد صح منه الفعل ، والثاني ، أن صحة الفعل تدل على
كونه قادرا.
أما الذي يدل على
أنه تعالى قد صح منه الفعل ، فهو أنه وقع منه الفعل ، وهو أجسام العالم وكثير من
الأعراض ، ولو لم يصح لم يقع ، إذ الوقوع أمر زائد على الصحة.
وأما الذي يدل على
أن صحة الفعل دلالة على كونه قادرا ، فهو أن نرى في الشاهد جملتين ، إحداهما ، صح
منه الفعل كالواحد منا ، والأخرى تعذر عليه الفعل ، كالمريض المدنف. فمن صح منه
الفعل فارق من تعذر عليه بأمر من الأمور ، وليس ذلك إلا صفة ترجع إلى الجملة وهي كونه
قادرا. وهذا الحكم ثابت في الحكيم تعالى ، فيجب أن يكون قادرا لأن طريق الأدلة لا
تختلف شاهدا غائبا.
شبهات وردود
فإن قيل : قد
وجدتم كثيرا من المفارقات ولا تعللونه ، فهلا ألحقتم هذه المسألة
بها؟ قلنا : الأصل
في المفارقات أن تعرض على وجوه التعليل ، فإن قبلت التعليل تعلل ، وإن لم تقبل لم
تعلل. وهذه المفارقة قد عرضناها على التعليل وقبلت ، فعللناها ، على أن هاهنا
طريقة ملجئة إلى التعليل ، لأن هذين الحيين إذا صح من أحدهما الفعل وتعذر على
الآخر مع استوائهما في باقي الصفات ، فلا بد من أن يكون هناك أمر له ولمكانه صح من
أحدهما الفعل وتعذر على صاحبه ، وإلا لم يكن هو بصحة الفعل أولى منه بالتعذر ، ولا
صاحبه بالتعذر أولى منه بالصحة ، وليس ذلك الأمر إلا صفة راجعة إلى الجملة وكونه
قادرا.
فإن قال : قد
وجدتم كثيرا من المفارقات التي لا تعلل بأمر راجع إلى الجملة نحو مفارقة المتحرك
للساكن ، والأبيض للأسود ، فهلا ألحقتم هذه المسألة بذلك ، فكيف عللتموها بأمر
راجع إلى الجملة؟ قلنا : إن صحة الفعل حكم صدر عن الجملة ، فكان ينبغي في المؤثر
فيه أن يكون راجعا إلى الجملة. وليس كذلك كونه متحركا ، لأنه حكم راجع إلى الأجزاء
والأبعاض ، فكان المؤثر فيه راجعا إلى الأجزاء والأبعاض.
يبين ذلك ، أن هذا
الحكم لو لم يصدر عن الجملة وكان راجعا إلى كل جزء ، لوجب في الجملة أن تكون
بمنزلة أحياء قادرين ضم بعضهم إلى بعض ، فكان يجب أن لا يحصل منها الفعل بداع واحد
، بل كان يجب إذا دعا أحدهم الداعي إلى إيجاد الفعل ، أو صرف الآخر عنه الصارف ،
أن يوجد وأن لا يوجد دفعة واحدة ، وذلك محال. ولوجب في كل جزء أن يأتي الفعل إذا
ابتدأ ، حتى يصح الفعل بشحمة الأذن ابتداء ، والمعلوم خلافه. وليس لقائل أن يقول
إنما لم يصح ذلك لفقد المفصل ، لما نبينه من بعد إن شاء الله تعالى.
فإن قيل : ما
أنكرتم أن هذه المفارقة معللة بالطبع؟ قلنا : أول ما في هذا ، أن الطبع غير معقول
لما بينا.
وبعد ، فإنه لا
يخلو ، إما أن يريد به أمرا راجعا إلى الجملة ، أو أمرا راجعا ولا ثالث. فإن البعض
أراد به الأول فهو الذي نقوله ، وإن أراد به الثاني فقد أبطلناه ، وبهذه الطريقة
أبطلنا قول الكلابية ، إن الفعل إنما يصح ويحصل بالقدرة لا بالقادر.
فإن قيل : لم لا
يجوز أن يقال : إن صحة الفعل منا هو لزوال المنع في حقنا ، وتعذره على المريض
المدنف هو لحصول المنع في حقه؟
قلنا : صحة الفعل
حكم ثابت ، وزوال المنع يرجع إلى النفي ، ولا يجوز أن يعلل
الثابت بالمنفي.
وبعد فإن المنع
إذا لم يكن بطريقة القيد والجنس ، كان بالضد أو ما يجري مجرى الضد ، فكان يجب كما
تعذر على المريض المدنف تحريك نفسه أو المشي لمكان ذلك المنع الذي هو الضد ، أن
يتعذر علينا أيضا تحريكه ، لأن حال الضد معه كحاله معنا ، والمعلوم خلاف ذلك. فيجب
القضاء بأن هذه المفارقة معللة بأمر راجع إلى الجملة ، وهو الذي عبرنا عنه بكونه
قادرا.
فإن قيل : نقلب
هذه المسألة عليكم ، فنقول : إن من تعذر عليه الفعل إنما تعذر عليه لأمر ، والذي
صح منه إنما صح لزوال ذلك الأمر ، قلنا : صحة الفعل حكم ثابت ، فلا يجوز أن يعلل
بما يرجع إلى النفي.
وبعد فلو كان كذلك
لوجب في كل من زال عنه ذلك الأمر أن يصح منه ذلك الفعل بعينه ، وهذا يقتضي كون
المقدور الواحد من قادرين ، وذلك محال.
فإن قيل : ما
أنكرتم أن المريض المدنف إنما تعذر عليه الفعل لرطوبات فاضلة ومواد انصبت إلى آلتي
بطشه ومشيه؟ قلنا : إنما نفرض الكلام في مريض غلبت عليه اليبوسة وذبل ذبولا لا إلى
حد ، فسقط ما أوردتموه.
فإن قيل : ما
أنكرتم أن من صح الفعل منه إنما صح لأنه صحيح ، ومن تعذر عليه إنما تعذر لأنه مريض؟
قلنا : ما تعنون بالصحة؟ فإن أردتم صفة ترجع إلى الجملة لها ولمكانها صح الفعل ،
فلا خلاف بيننا وبينكم إلا في العبارة ، وإن أردتم به التأليف المخصوص فذلك لا
يجوز ، لأن التأليف حكم يرجع إلى الأجزاء والأبعاض ، وقد ذكرنا أن صحة الفعل حكم
صدر عن الجملة ، فالمؤثر فيه ينبغي أن يكون راجعا إلى الجملة.
فإن قيل : إنا
نعني بالصحة اعتدال المزاج ، قلنا : وما تعنون باعتدال المزاج؟ فإن أردتم به صفة
ترجع إلى الجملة فهو الذي نقوله ، وإن أردتم به اعتدال هذه الطبائع الأربع ، التي
هي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة على ما يقوله الأطباء ، فذلك فاسد ، لأنها
علل متضادة ، والعلل الكثيرة المتضادة لا تجتمع على إيجاد حكم واحد ، فعلى هذا يجب
أن تترتب هذه الجملة.
ما يلزم المكلف معرفته في هذا الباب
ثم إنه رحمهالله أورد في آخر الفصل ما يلزم المكلف معرفته في هذا الباب.
والأصل في ذلك ،
أن تعلم أنه تعالى كان قادرا فيما لم يزل ، ويكون قادرا فيما لا يزال ، ولا يجوز
خروجه عنها لضعف أو عجز ، وأنه قادر على جميع أجناس المقدورات ، ومن كل جنس على ما
لا يتناهى ، وأنه لا ينحصر مقدوره لا في الجنس ولا في العدد.
الذي يدل على أنه تعالى كان قادرا فيما لم يزل
وأما الذي يدل على
أنه تعالى كان قادرا فيما لم يزل ، فهو أنه لو لم يكن قادرا فيما لم يزل ، ثم حصل
قادرا بعد أن لم يكن ، لوجب أن يكون قادرا بقدرة محدثه متجددة ، وسنبين فساده إن
شاء الله تعالى.
فإن قيل : لم لا
يجوز أن يكون الحال في كونه قادرا كالحال في كونه مدركا ، فكما أنه حصل مدركا بعد أن
لم يكن ، ولا يجب أن يكون مدركا بإدراك محدث ، كذلك في مسألتنا. قلنا : فرق بين
الموضعين ، لأن كونه مدركا يجب لكونه حيا بشرط متجدد وهو وجود المدرك ، وليس كذلك
كونه قادرا ، فإنه غير مشروط بشرط متجدد ، إذ الشرط فيه ليس إلا عدم المقدور ،
وذلك مما لا يتجدد.
وأما الذي يدل على
أنه تعالى يكون قادرا فيما لا يزال ، فهو أنه يستحق هذه الصفة لنفسه ، والموصوف
بصفة من صفات النفس ، لا يجوز خروجه عنها بحال من الأحوال.
وأما الذي يدل على
أنه عزوجل قادر على سائر أجناس المقدورات ، فهو أن أجناس المقدورات
لا تخلو ، إما أن تدخل تحت مقدورنا ، أو لا تدخل تحت مقدورنا. فإن لم تدخل تحت
مقدورنا وجب أن يختص القديم تعالى بها وإلا خرجت عن كونها مقدورة ، وإن دخلت تحت
مقدورنا فالله تعالى بأن يكون قادرا عليها أولى ، لأن حاله في القدرة على الأجناس
إن لم يزد على حالنا لم ينقص عنه.
وبعد ، فإن الذي
يحصر المقدورات في الجنس والعدد إنما هو القدرة ، والله تعالى يستحق هذه الصفة
لذاته ، فيجب أن لا تنحصر مقدوراته ، فعلى هذا يجب أن تعلم هذا الفصل.
فصل والغرض به الكلام في أن الله تعالى عالم
وتحرير الدلالة
على ذلك ، هو أنه قد صح منه الفعل المحكم ، وصحة الفعل المحكم دلالة كونه عالما.
فإن قيل : وما المحكم من الأفعال؟ قلنا : كل فعل واقع من فاعل على وجه لا يتأتى من
سائر القادرين ، وفي الأكثر إنما يظهر ذلك في التأليف ، بأن يقع بعض الأفعال إثر
بعض.
وهذه الدلالة
مبنية على أصلين :
أحدهما ، أنه
تعالى قد صح منه الفعل المحكم.
والثاني ، أن صحة
الفعل المحكم دلالة كونه عالما.
أما الذي يدل على
أنه تعالى قد صح منه الفعل المحكم ، فهو خلقه للحيوانات مع ما فيها من العجائب ،
وإدارته للأفلاك وتركيب بعضها على بعض ، وتسخيره الرياح ، وتقديره الشتاء والصيف ،
وكل ذلك أظهر وأبلغ في الأحكام من الكتابة المحكمة الحسنة والبيان العظيم.
فإن قيل : ما
أنكرتم أن إحكام هذه الأفعال صحيحة من جهة بعض القادرين بالقدرة ، إذ الأصل في ذلك
التأليف مقدور لنا؟ قلنا : نفرض الكلام في أول حي خلقه الله تعالى فيسقط الاعتراض.
على أنا نعلم الآن من جهة السمع ، أن هذه الأفعال المحكمة من جهة الله تعالى ومن
قبله ، لا يشاركه فيها غيره.
وأما الذي يدل على
أن صحة الفعل المحكم دلالة كونه عالما ، فهو أنا وجدنا في الشاهد قادرين : أحدهما
، قد صح منه الفعل المحكم كالكاتب ، والآخر تعذر عليه كالأمي. فمن صح منه ذلك فارق
من تعذر عليه بأمر من الأمور ، وليس ذلك الأمر إلا صفة ترجع إلى الجملة وهي كونه
عالما ، لأن الذي يشتبه الحال فيه ليس إلا كونه ظانا ومعتقدا ، وذلك مما لا تأثير
له في إحكام الفعل. ألا ترى أن أحدنا في أول ما يمارس الكتابة ويتعلمها قد يظنها
ويعتقدها ثم لا يتأتى منه إيقاعها على هذا الوجه المخصوص ، فصح بهذا أن صحة الفعل
المحكم دلالة كونه عالما في الشاهد ، وإذا ثبت ذلك في الشاهد ثبت في الغائب ، لأن
طرق الأدلة لا تختلف غائبا وشاهدا. ويمكن أن نسأل عن هذه المفارقة وأنها لم عللت
أولا ، ثم لم وجب تعليلها بأمر يرجع إلى الجملة؟ والكلام عليه ما ذكرناه في كونه
قادرا ، فلا وجه لإعادته.
سؤال حول اختلاف الغائب عن الشاهد
فإن قيل : ما
أنكرتم أن صحة الفعل المحكم في الشاهد إنما دل على كون فاعله عالما لمطابقة
المواضعة والعادة السابقة ، وهذا غير ثابت في حق الله تعالى لأن أفعاله تجري مجرى
الابتداء ، إذ لا مواضعة بيننا وبينه ولا عادة؟ قلنا : هذا لا يصح ، لأنا قد ذكرنا
أن صحة الفعل المحكم إنما يدل على كون فاعله عالما من حيث صح على أحدهما وتعذر على
الآخر حتى لو صح الفعل الحكم من جميع القادرين لم يدل على كونهم عالمين. ألا ترى
أن الكتابة الكثيرة كالكتابة اليسيرة في باب الإحكام. ثم إنه لم يدل على كون
فاعلها عالما ، لما لم يتعذر على سائر القادرين ودلت الكتابة الكثيرة على ذلك ،
لما صحت من أحدهم وتعذرت على الباحثين ، على أن مشايخنا بينوا أن في أفعال القديم
تعالى ما يجري الحال فيه على طريقة واحدة ووتيرة مستمرة ، فأشبه الكتابة المحكمة.
ألا ترى أنه تعالى أجرى العادة بأن لا يخلق هذه الحيوانات إلا من أجناسها ، حتى لا
يخلق الجماد إلا من الجماد ، والبقر إلا من البقر ، والغنم إلا من الغنم ، وكذلك
هذه الثمار لا تخلق إلا من أشجار مخصوصة بحيث لا يختلف الحال فيها ، وكذلك فلا
تخلق هذه الشهوات المخصوصة إلا في الحيوانات المخصوصة ، وصار الحال في ذلك كالحال
في المؤذن ، إذا أذن في أوقات مخصوصة ، لصلوات مخصوصة ، فكما أنه يدل على كونه
عالما بأوقات الصلاة ، كذلك في مسألتنا.
فإن قيل : لو كان
الفعل المحكم يدل على كون فاعله عالما ، لوجب فيما ليس بمحكم من الأفعال أن يدل
على كونه ليس بعالم ، ومعلوم أن في أفعال القديم ما لا يظهر فيه الإحكام والاتساق
ككثير من الصور القبيحة الناقصة؟ قلنا : إن ما ليس بمحكم من الأفعال قد يوجد من
العالم ، كما قد يوجد ممن ليس بعالم ، فلا يصح ما ذكرتموه ، وليس يجب إذا وجد في
أفعال القديم ما لا يظهر فيه الإحكام والاتساق أن يدل على أنه ليس بعالم ، وإنما
يدل على كونه قادرا فقط.
الغرض من خلق الصور القبيحة
فإن قيل : إذا كان
الله تعالى قادرا على أن يخلق هذه الصور في غاية الحسن والتمام ، فما الوجه في
خلقها ناقصة قبيحة؟ قلنا : الغرض حكمي.
فإن قيل : وما ذلك
الغرض؟ قلنا : ليكون لطفا لنا في أداء الواجبات. يبين ذلك ويوضحه ، إن الله تعالى
إذا خلقنا وأنعم علينا بضروب النعم وكلفنا الشكر عليها ، فلا
بد من أن يفعل بنا
ما نكون عنده أقرب إلى أداء الشكر عليها. فقد خلق هذه الصور غير تامة ليدعونا إلى
الشكر على النعم ، إذ المعلوم أن أحدنا إذا رأى صورة ناقصة قبيحة فإنه يكون عند
ذلك أقرب إلى أداء الشكر الواجب على تحسين صورته ، وإتمام خلقه.
فإن قيل : فهل
يوجد في الأفعال ما يدل على أن فاعله جاهل؟ قلنا : لا ، لأن أقصى ما يقال في هذا
الفعل ، المخرمش ، فذلك كما يقع من الجاهل قد يقع أيضا من العالم.
فإن قيل : فهل
يوجد من الأفعال ما يدل على أن صاحبه ليس بعالم؟ قلنا نعم ، فإنا إذا علمنا أن
أحدنا قد خلص داعيه إلى إيجاد الفعل محكما متسقا ، وكانت الموانع مرتفعة زائلة ثم
لا يقع ، دل على أنه غير عالم به ، إذ لو علم به لأوقعه كما يريد.
ما يلزم المكلف معرفته في هذا الباب
ثم إنه رحمهالله أورد في آخر الفصل ما يلزم المكلف معرفته في هذا الباب.
وجملة القول في
ذلك ، أنه يلزمه أن يعلم أنه تعالى كان عالما فيما لا يزال ، ولا يجوز خروجه عن
هذه الصفة بجهل أو سهو ، وأنه عالم بجميع المعلومات على الوجه الذي يصح أن تعلم
عليها.
أما الذي يدل على
أنه تعالى كان عالما فيما لم يزل ، فهو أنه لو لم يكن عالما فيما لم يزل وحصل
عالما بعد إذ لم يكن ، لوجب أن يكون عالما بعلم متجدد محدث ، وذلك فاسد لما نبينه
من بعد إن شاء الله تعالى.
وأما الذي يدل على
أنه جل وعز يكون عالما فيما لا يزال ، هو أنه لا يستحق هذه الصفة لذاته ، والموصوف
بصفة من صفات الذات لا يصح خروجه عنها بحال من الأحوال.
وأما الذي يدل على
أنه تعالى عالم بجميع المعلومات على الوجه الذي يصح أن تعلم عليها ، فهو أن
المعلومات غير مقصورة على بعض العالمين دون بعض فما من معلوم يصح أن يعلمه عالم
إلا يصح أن يعلمه سائر العالمين ، فيجب في القديم تعالى صحة أن يعلم جميع
المعلومات على الوجوه التي يصح أن تعلم عليها ، وإذا صح وجب ، لأن صفة الذات متى
صحت وجبت. فهذه جملة الكلام في هذا الفصل.
فصل والغرض به الكلام في أنه تعالى حي
وتحرير الدلالة
على ذلك ، هو ما قد ثبت أن الله تعالى عالم قادر ، والعالم القادر لا يكون إلا
حيا. وبأي واحدة من الصفتين استدللت جاز ، إلا أنا جمعنا بينهما اقتداء بالشيوخ
وتبركا بكلامهم.
وهذه الدلالة
مبنية على أصلين :
أحدهما ، أن الله
تعالى عالم قادر.
والثاني أن العالم
القادر لا يكون إلا حيا.
أما الأول : فقد
تقدم.
وأما الثاني ، فهو
أنا نرى في الشاهد ذاتين : أحدهما صح أن يقدر ويعلم كالواحد منا ، والآخر ، لا يصح
أن يقدر ويعلم كالجماد ، فمن صح من ذلك فارق من لا يصح من الأمور ، وليس ذلك الأمر
إلا صفة ترجع إلى الجملة وهي كونه حيا ، فإذا ثبت هذا في الشاهد ، ثبت في الغائب ،
لأن طرق الدلالة لا تختلف شاهدا وغائبا.
فإن قيل : إنا
نعلم هذا الحكم في الشاهد اضطرارا فكيف دللتم عليه؟ قلنا : إنا نعلم ضرورة التفرقة
بين الحي والجماد ، فأما أن هذه التفرقة ترجع إلى صفة راجعة إلى الجملة فلا تعلم
إلا بدليل ، ولهذا فإن نفاة الأحوال يشاركون في العلم بهذه التفرقة ، ثم لا يثبتون
الحال على ما نقوله.
حول نفاة الأحوال
فإن قيل : إن من
صح أن يحيا فارق من لا يصح أن يحيا ، كما أن من صح أن يعلم ويقدر فارق من لا يصح
ذلك فيه ، فلو أوجبتم في هذه المفارقة أن تكون معللة بصفة ترجع إلى الجملة ، لوجب
في تلك المفارقة أيضا مثله ، فإن أجبتم إلى ذلك ، لزمكم فيمن اختص بتلك الصفة إذا
ما فارق من لا يختص بها ، أن تكون تلك المفارقة لصفة أخرى راجعة إلى الجملة ،
والكلام فيها كالكلام في هذه فيتسلسل إلى ما يتناهى ، وهذا محال.
والأصل في الجواب
عن ذلك ، أن الذي يجب في مجرد المفارقة أن تكون معللة بأمر ما ، ثم إن ذلك الأمر
ليس إلا صفة ترجع إلى الجملة ، فإنما يعرف بنظر مستأنف. وقد نظرنا في المفارقة بين
من صح أن يعلم ويقدر وبين من لا يصح ذلك فيه ،
فوجدناها معلله
بصفة راجعة إلى الجملة ، وليس كذلك المفارقة بين من صح أن يحيا وبين من لا يصح ،
فإن من الممكن أن ترجع بها إلى الأمور التي تفتقر الحياة في الوجود إليها ، من
التأليف والرطوبة وغيرهما.
الواحد منا حي وجسم فهل يكون الله كذلك؟
فإن قيل : الواحد
منا إذا كان عالما قادرا كما يجب أن يكون حيا يجب أن يكون جسما ، فقولوا مثله في
القديم تعالى. قلنا : هذا الذي ذكرتم إنما وجب في الواحد منا لعلة ، تلك العلة
مفقودة في القديم تعالى ، وهي أن أحدنا عالم بعلم ، وقادر بقدرة ، والعلم والقدرة
يحتاجان إلى محل مخصوص ، والمحل المخصوص لا بد من أن يكون جسما ، وليس كذلك القديم
تعالى ، لأنه تعالى قادر لذاته ، فلا يجب إذا كان عالما قادرا أن يكون جسما ، وإن
وجب كونه حيا.
فإن قيل : فارضوا
منا بمثل هذا الجواب ، فنقول : الواحد منا إذا كان قادرا عالما إنما وجب أن يكون حيا
، لأنه عالم بعلم وقادر بقدرة ، والعلم والقدرة يحتاجان إلى محل فيه حياة ، وليس
كذلك القديم تعالى لأنه عالم لذاته وقادر لذاته ، فلا يحتاج إلى الحياة ، ولا يجب
أن يكون حيا.
والأصل في الجواب
عن ذلك ، أن العالم القادر إنما وجب أن يكون حيا في الشاهد لتعلق بين هاتين
الصفتين ، لا لما ذكرتموه. ألا ترى أن ما دخل في جملة الحي دخل في جملة العالم
القادر كاليد الصحيحة ، وما خرج عن جملة الحي خرج عن جملة العالم القادر كاليد
المبانة ، ولهذا تقع الكتابة باليد الصحيحة ولا تصح باليد المبانة.
فإن قيل : إن
الكتابة إنما تقع باليد الصحيحة لاتصالها بجملة الحي ، وهذا غير ثابت في اليد
المبانة ، لا تأثير للاتصال ولا للانفصال في ذلك ، ألا ترى أن الشعر والظفر مع
اتصالها بالحي لا تصح بهما الكتابة والفعل ، فإذا لا تأثير لكونه متصلا على ما
قالوه.
على أنا نفرض
الكلام في اليد الشلاء ، فنقول : إنها لما خرجت عن جملة الحي لم تتأت بها الكتابة
، ولا شيء آخر لخروجها عن جملة الحي. فإذا بأن ذلك إنما هو لعلاقة بين الصفتين ،
لا للاتصال وعدم الاتصال.
فإن قيل : فما
أنكرتم أن العالم القادر في الشاهد إنما يجب كونه حيا ، لأنه عالم بعلم ، قادر
بقدرة ، والعلم والقدرة معينان يرجع حكمهما إلى الجملة ، والجملة لا تعتبر إلا
بالحياة ، وليس كذلك القديم تعالى لأنه شيء واحد لا ثاني له فلا يحتاج إلى الحياة
، فلا يجب أن يكون حيا؟ قلنا : إنما قلنا إن العالم القادر في الشاهد إنما وجب كون
حيا لتعلق بين هاتين الصفتين ، لا لما ذكرتموه.
فإن قيل : كونه
عالما قادرا فرع على كونه حيا ، والاستدلال بكونه قادرا عالما عليه ، استدلال بفرع
الشيء على أصله ، قلنا : إنما كان يلزم لو لم نعلم كونه عالما قادرا ما لم نعلم
كونه حيا ، وليس كذلك ، فإن العلم لا يجب مطابقته للمعلوم في الترتيب ، بل ربما
يطابقه كما في كونه حيا مع كونه مدركا ، وربما لا يطابقه كما في كونه قادرا مع صحة
الفعل ، وكما في كونه حيا مع كونه عالما قادرا. يبين ذلك ويوضحه ، أن القديم تعالى
وكونه قادرا أصل لحدوث العالم ، وحدوث العالم فرع على الله وعلى كونه قادرا ، ثم
إنا نستدل بحدوث العالم على الله تعالى ، لا ذلك إلا أنه لا يجب في العلم أن يكون
مطابقا للمعلوم في الترتيب.
فإن قيل : إن
الواحد منا إذا كان حيا كما صح أن يكون عالما قادرا ، يصح أن يكون مشتهيا ونافرا ،
فجوزوا مثل ذلك في الغائب وإلا فما الفرق؟ قلنا : الفرق أن كونه حيا إنما يصحح
كونه مشتهيا ونافرا بشرط جواز الزيادة والنقصان عليه ، والزيادة والنقصان لا
يجوزان على الله تعالى ، فلا يجب إذا كان حيا صحة أن يكون مشتهيا ونافرا. وليس
كذلك في كونه قادرا وعالما ، لأن كونه حيا إنما نصححهما لا بشرط ، ففارق أحدهما
الآخر ، وجرى ما ذكرته مجرى أن يقال : إذا كان الله تعالى حيا لزمه صحة أن يكون
جاهلا ، لأن كونه حيا كما يصحح كونه عالما يصحح كونه جاهلا ، فكما أنا نقول إن
كونه حيا إنما يصحح كونه جاهلا بشرط أن لا يجب كونه عالما ، فهذا الشرط مفقود في
حق القديم تعالى ، كذلك في مسألتنا.
فإن قيل : هذا كله
ينبني على أن كونه حيا صفة زائدة على كونه قادرا ، والمخالف لا يساعدكم عليه ،
فبينوا ذلك وإلا كنتم مستدلين بالشيء على نفسه ، قيل له : إن الذي يعرف به اختلاف
الصفتين لا يعدو أحد أمور ثلاثة ، إما الإدراك على مثل ما نقوله في السواد والبياض
أنهما مختلفين لأن الإدراك يقتضي اختلافهما ، وإما الوجدان من من النفس ، وإما
اختلاف الحكمين على مثل ما نقوله في كونه قادرا وعالما فإنه لما
كان من حكم كونه
قادرا صحة الفعل ومن حكم كونه عالما صحة الفعل على وجه الإحكام والاتساق وهما
مختلفان علمنا باختلافهما اختلاف الصفتين. إذا ثبت هذا ، ومعلوم أن حكم كونه قادرا
صحة الفعل ، وحكم كونه حيا صحة الإدراك ، وهما مختلفان ، وجب في الصفتين أيضا أن
تكونا مختلفتين ، ولا يمكن معرفة اختلافهما إلا بهذه الطريقة ، إذ الإدراك لا
يتناولهما ولا هما يوجدان من النفس.
فإن قيل : إن هذين
الحكمين على اختلافهما يرجعان إلى صفة واحدة وهي كونه قادرا ويستندان إليها ، كما
أن صحة إدراك الجوهر بحاستين واحتمال الأعراض ومنعه مثله أن يحصل بحيث هو مستند
إلى صفة واحدة وهي التحيز ، وإن كانت الأحكام مختلفة.
قلنا : هذا غير
صحيح وذلك لأن أحد الحكمين ينبئ عن صفة مختلفة في الذوات وهي صحة الفعل ، والحكم
الآخر ينبئ عن صفة متماثلة وهي صحة الإدراك ، فلو كان المرجع بالحكمين إلى صفة
واحدة. لوجب في الصفة وهي واحدة أن تكون مختلفة متماثلة في الذوات ، وهذا لا يجوز.
يبين ما ذكرناه
ويوضحه ، أن ما صح فعله من زيد لا يصح إلا منه ، وليس كذلك ما يدركه زيد ، فإنه ما
من مدرك إلا ويصح أن يدركه ، فكيف يصح في هذين الحكمين أن يكونا راجعين إلى صفة
واحدة.
وبعد ، فلو كان
المرجع بالحكمين إلى صفة واحدة ، لوجب في كل من صح فيه الإدراك أن يصح منه الفعل
والمعلوم خلافه ، فإن المريض المدنف مع أن إدراكه أقوى من إدراك الصحيح السليم ،
قد لا يتأتى الفعل منه على الحد الذي يتأتى من الصحيح.
وبعد فلو كان
المرجع بالحكمين إلى صفة واحدة ، لوجب في كل عضو يصح به الإدراك أن يصح به الفعل
ابتداء فيجب أن يتأتى الفعل من شحمة الأذن ابتداء ، ومعلوم خلافه.
فإن قيل : لا يصح
ذلك لمنع وهو فقد المفصل ، قلنا : إن تختص ما به الشحمة من الرخاوة والغضروف من
الصلابة ، يجري مجرى المفصل ، فكان يجب أن يتأتى بها الفعل لو كان المنع ما
ذكرتموه ، وقد عرف خلافه.
ما يلزم المكلف معرفته في هذا الباب
ثم إنه رحمهالله أورد في آخر الفصل ما يلزم المكلف معرفته في هذا الباب.
وجملة القول في
ذلك ، أنه يجب أن يعلم أنه تعالى كان حيا فيما لم يزل ، ويكون حيا فيما لا يزال ،
ولا يجوز خروجه عنها بحال من الأحوال ، لا بموت ، ولا بما يجري مجرى ذلك.
ولا تحتاج في هذا
الباب إلا ما احتجت إليه في باب كونه قادرا ، نحو أن تعلم أنه قادر على جميع أجناس
المقدورات من كل جنس إلى ما لا يتناهى ، ولا إلى ما احتجت إليه في باب كونه عالما
، نحو أن يعلم كونه عالما جميع المعلومات على سائر الوجوه التي يصح أن يعلم كونه
عليها ، لأن ذلك فرع التعلق وهذه الصفة غير متعلقة.
أما الذي يدل على
أنه كان حيا فيما لم يزل ، فهو أنه لو لم يكن حيا وحصل حيا بعد إذ لم يكن لوجب أن
يكون حيا بحياة محدثة ، وسنبطل القول فيه إن شاء الله تعالى. وليس لقائل أن يقول أليس
أنه تعالى حصل مدركا بعد أن لم يكن ، ولم يجب أن يكون مدركا بإدراك محدث ، فهلا
جاز مثله في مسألتنا. لأنا قد أجبنا عن هذا في الفصل المتقدم.
وأما الذي يدل على
أنه تعالى يكون حيا فيما لا يزال ، فهو أنه يستحق هذه الصفة لذاته ، والموصوف بصفة
من صفات الذات لا يجوز خروجه عنها بحال من الأحوال ، فعلى هذا يجب القول في هذا
الفصل.
فصل والغرض به الكلام في كونه تعالى سميعا بصيرا مدركا
للمدركات
وقبل الشروع في
هذه المسألة لا بد أن نبين حقيقة السميع والبصير والسامع والمبصر والمدرك والفرق
بينها.
أما السميع البصير
، فهو المختص بحال لكونه عليها يصح أن يسمع المسموع ويبصر المبصر إذا وجدا.
وأما السامع
والمبصر فهو أن يسمع المسموع ويبصر المبصر في الحال ، وكذلك المدرك. ولهذا قلنا إن
الله تعالى كان سميعا بصيرا فيما لم يزل ولم نقل إنه سامع مبصر فيما لم يزل لفقد
المسموع والمبصر. وعلى هذا قول شيخنا أبي علي أن السامع والمبصر متعد ، والسميع
والبصير غير متعد.
إذا ثبت هذا فاعلم
أن هذه مسألة خلاف بين الناس.
الخلاف بين البصريين والبغدادين حول الإدراك
فعند شيوخنا
البصريين أن الله تعالى سميع بصير مدرك للمدركات ، وأن كونه مدركا صفة زائدة على
كونه حيا ، وأما عند مشايخنا البغداديين ، هو أنه تعالى مدرك للمدركات على معنى
أنه عالم بها ، وليس له بكونه مدركا صفة زائدة على كونه حيا. فعند هذا لا بد من
بيان أن المدرك له بكونه مدركا صفة ، وأن هذه الصفة إنما يستحقها الواحد منا لكونه
حيا بشرط صحة الحاسة وارتفاع الموانع.
أما الذي يدل على
أن الله تعالى سميع بصير مدرك للمدركات ، هو أنه حي لا آفة به ، والموانع المعقولة
مرتفعة ، فيجب أن يدرك المدركات.
وأما الذي يدل على
أن المدرك له بكونه مدركا صفة ، هو أن أحدنا يفصل بين حاله إذا كان مدركا وبين
حاله إذا لم يكن مدركا ، وأجلى الأمور ما يجده الإنسان من نفسه. ولا يمكن أن يرجع
بهذه التفرقة إلى كونه عالما حيا.
فإن قيل : ولم
قلتم ذلك؟ قيل له : لأن أحدنا لو غمض عينيه فإنه لا يدرك ما بين يديه مع كونه حيا
، فلو لا أن كونه مدركا أمر زائد عليه وإلا لم يجز ذلك. وبعد ، فإن كونه حيا مما
لا يتعلق بالغير ، وكونه مدركا متعلق بالغير ، فكيف يجوز أن يكون أحدهما هو الآخر؟
هذا هو الكلام في أن كونه مدركا لا يرجع إلى كونه حيا.
وأما الكلام في
أنه صفة زائدة على كونه عالما ، فهو أن الذي به يعرف تغاير الصفتين أن تثبت
إحداهما مع فقد الأخرى ، وهذا ثابت في مسألتنا ، لأنه قد ثبت العلم مع فقد الإدراك
، وثبت الإدراك مع فقد العلم.
أما ثبوت العلم مع
فقد الإدراك ، فهو أن أحدنا يعلم القديم تعالى ولا يدركه ، وكذلك فإنه يعلم الجوهر
الواحد وكثيرا من الأعراض ولا يدركها ، وكذلك يعلم المعدومات ولا يدركها.
وأما ثبوت الإدراك
مع فقد العلم ، فهو أن النائم قد يدرك قرص البق والبراغيث حتى يتأذى به ، وقد يكون
شيئا لا يثبته ولا يعلمه ، وكذلك فإنه يدرك الحديث الذي بحضرته ولا يعلمه ، وكذلك
فإنه يرى الشيء من بعيد فيظنه أسود فإذا هو أخضر.
يبين هذه الجملة ،
أن أحدنا لو أخبره نبي صادق أن الله تعالى أحدث جسما فإنه
يعلم لا محالة ،
ثم إذا أدركه وجد مزية وحالا لم يكن يجدهما في الحالة الأولى ، وليست تلك المزية
إلا ما قلناه.
فإن قيل : ولم
قلتم إن صحة الإدراك هو لكونه حيا؟ قيل له : لأن ما دخل في جملة الحي صح الإدراك
به كاليد الصحيحة ، وما خرج عن كونه حيا خرج عن صحة الإدراك به كاليد المبانة.
فإن قيل : إنما لم
يصح الإدراك باليد المبانة لأنها منفصلة عنه ، قلنا ، إنا قد ذكرنا أنه مما لا
تأثير للاتصال والانفصال في ذلك. على أنا نفرض الكلام في اليد الشلاء ، فإنها
متصلة مع أن الإدراك بها لا يصح ، وكذلك بالشعر والظفر مع اتصالهما بالحي ولم يصح
بهما الإدراك لما خرجا عن جملة الحي ، فصح وتقرر ما أردناه.
فإن قيل : قد
بينتم أن صحة الإدراك إنما هو لكونه حيا ، فبينوا أن المقتضى لذلك إنما هو كونه
حيا بشرط وجود المدرك ، حتى إذا ثبتت هذه الصفة في القديم تعالى ، وجب القضاء
بكونه مدركا للمدركات.
قيل له : الذي يدل
على ذلك ، أن أحدنا متى كان حيا والحالة صحيحة والموانع مرتفعة والمدرك موجود فلا
بد من أن يدركه لا محالة ، ولن يكون هكذا إلا ولهذه الأمور تأثيرا لأن الحكم يدور
عليها نفيا وإثباتا ، فلا يخلو ، إما أن يكون الكل شرطا والمؤثر غيرها ، أو الكل
مقتضى ، أو بعضها شرط والباقي مقتضى.
لا جائز أن يقال :
إن الكل شرط والمؤثر غيرها ، وإلا لزم في الواحد منا مع صحة الحالة وارتفاع
الموانع وجود المدرك أن لا يدركه لعدم ذلك المؤثر والمعلوم خلافه. وبهذه الطريقة
أبطلنا القول بأن الإدراك معنى.
ولا أن يقال : إن
الكل مقتضى ، لأن الأمور الكبيرة المختلفة لا يجوز اجتماعها على اقتضاء حكم
وإيجابه ، فلم يبق إلا أن يقال : إن البعض شرط والباقي مقتض.
ولا يجوز أن يقال
: إن صحة الحاسة هو المؤثر ، لأنه ليس المرجع بها إلا إلى تأليف مخصوص ، والتأليف
لا حظ له في إيجاب كون الحي مدركا لأن هذه الصفة ترجع إلى الجملة ، وحكم التأليف
مقصور على محله.
ولا أن يقال : إن
المؤثر هو ارتفاع الموانع ، لأنه راجع إلى النفي وكونه مدركا أمر ثابت ، والأحكام
الثابتة لا تعلل بما يرجع إلى النفي.
ولا يجوز أن يقال
أيضا : إن المؤثر هو وجود المدرك ، لأنه لو كان كذلك لجاز أن يدرك الحي منا المدرك
وإن غمض عينيه ، والمعلوم خلافه.
ومتى قيل إن فتح
الجفن شرط ، قلنا : إن العلة لا يجوز أن تقف في باب الإيجاب على شرط منفصل عنها ،
وأيضا فإن أحدنا قد يدرك السواد الحال في محل منفصل عنه ، ولو كان علة في كونه
مدركا لم يجز ذلك ، لأن من حق العلة أن تختص بالمعلول غاية الاختصاص ، وهذا السواد
مما لا اختصاص له به ولا تعلق. وأيضا فلو كان وجود المدرك علة في كون الحي مدركا ،
لوجب إذا أدرك السواد في محل والبياض في محل آخر ، أن يحصل على صفتين ضدين وذلك
مستحيل.
فإن قال : إنما لم
يجب ذلك لتغاير بحالهما ، قلنا : الصفتان إذا تضادتا على الجملة فلا فرق فيما
يوجبهما بين أن يكون في محل واحد وبين أن يكون في محال متغيرة ، ألا ترى أن العلم
والجهل لما تضادا على الجملة لم تقترن الحال بين أن يكون محلهما واحدا وبين أن
يكون محلهما متغايرا ، لذلك فالإرادة والكراهة لما كان تضادهما على الجملة ، لم
يفترق الحال فيه بين أن يكون محلهما واحدا وبين أن يكون متغايرا ، حتى أنه كما أنه
لا يجوز أن يريد الشيء ويكرهه بإرادة وكراهة موجودتين في جزء من قبله ، كذلك لا
يجوز أن يكون مريدا وكارها لذلك الشيء الواحد بإرادة في جزء من قلبه وكراهة في جزء
آخر من قلبه ، كذلك في مسألتنا. فهذه جملة ما يحصل في ذلك.
شبه حول الإدراك وكونه صفة لله
واعلم ، أن
المخالف أورد شبها في هذا الباب.
من جملتها ، أن
القديم لو حصل مدركا بعد أن لم يكن مدركا لوجب أن يكون مدركا بإدراك ، كما أن
الجسم لما تحرك بعد أن لم يكن متحركا وجب أن يكون متحركا بحركة ، وذلك محال.
والجواب عنها ، أن
الفرق بين الموضعين هو أن الجسم حصل متحركا مع الجواز ، وليس كذلك المدرك فإنه لم
يحصل مدركا مع الجواز ، بل حصل على هذه الصفة مع وجوب أن يحصل عليها ، ففارق
أحدهما الآخر.
ومنها ، هو أن
قالوا : لو حصل القديم تعالى مدركا لوجب أن يكون قد تغير ،
والتغير لا يجوز
على القديم تعالى ، فليس إلا أنه غير مدرك.
والجواب : ما
تعنون بالتغير؟ أتريدون به أنه حصل على صفة بعد إذ لم يكن عليها ، أو تريدون أنه
صار غير ما كان ، على ما تقوله العرب في المحل إذا وجد فيه بياض بعد أن كان أسود
أنه تغير على معنى أنه صار غير ما كان؟
فإن أردتم به
الأول ، فذلك كلام لا فائدة فيه ، وينزل منزلة قول القائل لو حصل القديم تعالى
مدركا بعد أن لم يكن ، لحصل مدركا بعد أن لم يكن ، وذلك فاسد.
وإن أردتم به
الثاني ، فمن أين أنه تعالى إذا حصل على صفة لم يكن عليها وجب أن يكون قد تغير
وصار غير ما كان.
ثم يقال لهم ولم
لا يجوز عليه هذا النوع من التغير؟ فإن قالوا : لأن ذلك من سمات الحوادث ، قلنا :
لا نسلم ذلك فبينوه ، وإذا راموا بيانه لم يجدوا إليه سبيلا.
ومنها ، هو أنه
تعالى لو كان مدركا لوجب احتياجه إلى الحاسة ، وأن تختلف حواسه بحسب اختلاف المحسوسات
، حتى إن كان المدرك صوتا احتاج إلى حاسة السمع ، وإن كان المدرك طعما احتاج إلى
حاسة الذوق ، وكذلك الكلام في البواقي كما في الواحد منا ، والمعلوم خلافه ، فيجب
أن لا يكون مدركا.
والجواب ، أن
أحدنا إنما يحتاج في إدراك هذه المدركات إلى الحواس لأنه حي بحياة ، والحياة لا
يصيح الإدراك بها إلا بعد استعمال محلها في الإدراك ضربا من الاستعمال ، والقديم
تعالى حي لذاته ، ففارق أحدهما الآخر.
ومنها ، هو أنهم
قالوا : لو كان الله تعالى مدركا لوجب أن يسمى ذائقا وشاما ولامسا ، والمعلوم
خلافه ، فيجب أن لا يكون مدركا.
والجواب : إن
الشام ليس باسم للمدرك فقط ، وإنما هو اسم لمن يستجلب المشموم إلى الخيشوم طلبا
لإدراكه ، وكذلك الذائق اسم لمن يجمع بين محل الطعم وبين لهاته طلبا للادراك به ،
وكذلك الملامس فإنه اسم لمن يجمع بين محل حاسته وبين الملموس ، والقديم تعالى يدرك
هذه المدركات لا على هذا الحد ، فليس يجب أن تجري عليه هذه الأسماء ، فصح ما
قلناه.
ما يلزم المكلف معرفته في هذا الباب
ثم إنه رحمهالله أورد في آخر هذا الفصل ما يلزم المكلف معرفته في هذا
الباب.
وجملة القول في
ذلك ، أنه يجب أن يعلم أنه تعالى كان سميعا بصيرا فيما لم يزل ، وسيكون سميعا
بصيرا فيما لا يزال ، ولا يجوز خروجه عنها بحال من الأحوال ، لأن المرجع بذلك ليس
إلى إلا إلى كونه حيا لا آفة به ، وهذا ثابت للقديم تعالى في كل حال ، ويعلم أنه
لم يكن سامعا مبصرا فيما لم يزل ، ولا يكون سامعا مبصرا فيما لا يزال لفقد المسموع
والمبصر ، ويعلم أنه مدرك للمدركات الآن ، وهي موجودة.
خلاف بين القاضي وشيخه أبي القاسم
وهذه مسألة خلاف
بيننا وبين شيخنا أبي القاسم بن سهلويه الملقب بقاتل الأشعري ، وسبب تلقيبه به أنه
ناظر الأشعري في مسألة فانقطع وحم ومات.
فعندنا أنه تعالى
مدرك للمدركات أجمع ألما كان أو غيره ، وعنده أن الله تعالى مدرك للمدركات جملة ،
ما عدا الألم واللذة.
والذي يدل على ما
نقوله ، أن كونه تعالى مدركا لما يدركه ، إنما هو لكونه حيا لا آفة به ، وهذا حاله
مع بعض المدركات كحاله مع سائرها ، فيجب أن يكون مدركا للجميع أو لا يكون مدركا
لشيء منها. فأما أن يكون مدركا لشيء منها دون شيء فلا.
وشبهته في هذا
الباب ، شبهتان اثنتان :
إحداهما ، أن
الألم إنما يدرك بمحل الحياة في محل الحياة ، وهذا يستحيل على القديم تعالى فيجب
أن لا يدركه.
والأصل في الجواب
عن ذلك ، أن الواحد منا إذا أدرك الألم بمحل الحياة في محل الحياة فلأنه حي بحياة
، وليس كذلك القديم تعالى لأنه حي لذاته فلا تجب فيه هذه القضية. وصار الحال في
الألم كالحال في الحر والبرد ، فكما لا يقال إنه تعالى لا يدركهما لأنهما يدركان
بمحل الحياة في غير محل الحياة وهذا يستحيل في القديم تعالى لما كانت هذه القضية
إنما وجبت في الواحد منا لأنه حي بحياة ، وليس كذلك القديم ، كذلك في مسألتنا.
والثانية ، هو أنه
تعالى لو كان مدركا للألم واللذة لوجب أن يسمى ألما وملتذا ،
والمعلوم خلافه.
والجواب عنه ، أن
الواحد منا إنما يسمى ألما وملتذا لأنه يدرك الألم مع النفرة واللذة مع الشهوة ،
والشهوة والنفرة مستحيلتان على الله تعالى ، ففارق أحدهم الآخر.
فصل والغرض به الكلام في كونه تعالى موجودا
وقبل أن ندل عليه
لا بد من أن نذكر حقيقة الموجود والمعدوم.
أما الموجود ،
فعلى ما ذكره شيخنا أبو عبد الله البصري وشيوخنا البغداديون أنه الكائن الثابت ،
وهذا لا يصح ، لأن قولنا موجود أظهر منه ، ومن حق الحد أن يكون أظهر من المحدود.
وبعد ، فإن الكائن إنما هو الثابت ، والثابت إنما هو الكائن ، فيكون في الحد إذا
تكرار مستغنى عنه. وبعد ، فإن الكائن إنما يستعمل في الجوهر الذي حصل في حيز فكيف
يصح تحديد الموجود به.
وذكر قاضي القضاة
في حد الموجود ، أنه المختص بصفة تظهر عندها الصفات والأحكام.
وهذا وإن كان كذلك
إلا أن إيراده على طريقة التحديد لا يصح ، لأنه أشكل من قولنا موجود ، ومن حق الحد
أن يكون أظهر منه ، فالأولى أن لا يحد الموجود بحد ، لأن كل ما يذكر في حده فقولنا
موجود أكشف منه وأوضح.
فلو سئلنا عن
حقيقة الموجود ، فالواجب أن نشير إلى هذه الموجودات.
وأما المعدومات ،
فعلى ما قاله شيخنا أبو عبد الله البصري : أنه المنتفى الذي ليس بكائن لا ثابت.
وهذا لا يصح ، لأن
المنتفى إنما يستعمل في المعدوم الذي وجد مرة ثم عدم أخرى ، فيخرج عن الحد كثير من
المعدومات ، ومن حق الحد أن يكون جامعا مانعا لا يخرج منه ما هو منه ، ولا يدخل
فيه ما ليس منه. وبعد فإن قول المنتفي ، هو قوله ليس بكائن ولا ثابت ، فيكون
تكرارا لا فائدة فيه ، فالأولى أن يحد المعدوم بأنه المعلوم الذي ليس بموجود ، ولا
يلزمنا على هذا أن يكون ثاني القديم عزوجل والفناء معدومين لأنهما ليس بمعلومين.
إذا ثبت هذا فاعلم
أنا لا نحتاج إلى إقامة الدليل له على وجود هذه الموجودات ، لأنا نشاهدها ونعلم
وجودها بالاضطرار ، وليس كذلك القديم تعالى فإنا
لا نشاهده عزوجل ، فاحتجنا إلى إقامة الدليل عليه.
وتحرير الدلالة
على ذلك ، أنه عالم قادر ، والعالم القادر لا يكون إلا موجودا.
وهذه الدلالة
مبنية على أصلين ، أحدهما ، أنه تعالى عالم قادر وقد تقدمه ، والثاني ، أن العالم
القادر لا يكون إلا موجودا فلا يمكن رده إلى الشاهد ، لأنا لو قلنا : إن الواحد
منا إذا كان عالما قادرا لا بد من أن يكون موجودا فكذلك القديم تعالى ، كان لقائل
أن يقول : إن الواحد منا إنما يجب أن يكون موجودا لأنه عالم بعلم ، وقادر بقدرة ،
والعلم والقدرة يحتاجان إلى محل مبنى مبنية مخصوصة ، والمحل المبني على هذا الوجه
لا بد من أن يكون موجودا ، وليس كذلك القديم تعالى لأنه عالم لذاته ، وقادر لذاته
، فلا يجب وجوده وإن كان عالما قادرا.
فالأولى أن نسلك
طريقة على غير هذه الطريقة فنقول : إن القادر له تعلق بالمقدور ، والعالم له تعلق
بالمعلوم ، والعدم يحيل التعليق ، فلو كان القديم تعالى معدوما لم يصح كونه قادرا
ولا عالما ، والمعلوم خلافه.
فإن قيل : وما
المراد بقولكم إن القادر له تعلق بالمقدور ، والعالم له تعلق بالمعلوم؟ قلنا :
المراد بذلك ، أن القادر يصح منه إيجاد ما قدر عليه إن لم يكن منع ، والعالم يصح
منه إيجاد ما قدر عليه على وجه الإحكام والاتساق إذا لم يكن هناك ثمة منع.
فإن قيل : ولم
قلتم : إن العدم يحيل التعلق؟ قلنا : لأنا قد علمنا أن الإرادة إذا وجدت تعلقت ،
وإذا عدمت زال تعلقها. وإنما زال تعلقها لعدمها ، فكل ما شاركها في العدم وجب أن
يشاركها في زوال التعلق.
فإن قيل : ولم
قلتم إن الإرادة متى عدمت زال تعلقها ، ثم لم قلتم إن زوال تعلقها لعدمها؟ قلنا :
أما الذي يدل على أن الإرادة متى عدمت زال تعلقها ، هو أنه لو لم يزل لكان لا يخلو
، إما أن تكون متعلقة بنفس ما كانت متعلقة به ، أو متعلقة بغير ما كانت متعلقة به
، لا يجوز أن تكون متعلقة به ، لأنه ما من مراد إلا ويجوز أن ينقضي ويمضي ،
والإرادة مما لا يجوز تعلقها بالماضي والمنقضي ، ولا يجوز أن تكون متعلقة بغير ما
كانت متعلقه به لأن في ذلك انقلابها عما هي عليه في ذاتها واتصافها بصفة تخالفها
وهذا لا يجوز.
وأما الذي يدل على
أن زوال تعلقها لعدمها ، فهو أنه لا يخلو ، إما أن يكون
زوال تعلقها
لعدمها على ما نقوله ، أو لتقضي مرادها ، أو لخروجها من أن توجب الصفة للمريد ، أو
لخروجها عن الصفة المقتضاة عن صفة الذات ، أو لأن الوجود شرط فيه. لا يجوز أن يكون
لتقضي مرادها لأن الإرادة قد تخرج عن التعلق وإن لم ينقض مرادها ، ألا ترى أن
أحدنا إذا أراد قدوم زيد قد يبدو له ولما قدم زيد بعد ، ولا لخروجها من أن توجب
الصفة للمريد لوجهين ، أحدهما ، أن خروجها من أن توجب الصفة للمريد إنما هو لعدمها
، فقد عاد الأمر إلى ما قلناه ولكن بواسطة ، والثاني : أنه ليس بأن يقال إنما زال
تعلقها لخروجها من أن توجب الصفة للمريد ، أولى من أن يقال خروجها من أن توجب
الصفة للمريد إنما هو لزوال تعلقها ، فلا تتميز العلة من المعلل به. ولا يجوز أن
يكون زوال تعلقها لخروجها عن الصفة المقتضاة عن صفة الذات ، لأنه لو لا العدم لما
خرجت الإرادة عن هذه الصفة ، فقد عاد الأمر إلى زوال تعلقها لعدمها ولكن بواسطة.
وبهذه الطريقة يبطل القسم الآخر وهو أن يكون زوال تعلقها لعدمها ، لأن الوجود شرط
فيه ، لأنه لو لم يكن العدم محيلا للتعلق لم يكن الوجود موجبا للتعلق فلم يبق إلا
أن يكون زوال تعلقها لعدمها على ما نقوله.
فإن قيل : إن زوال
التعلق نفي ، والعدم نفي ، وتعليل النفي بالنفي محال. ألا ترى أنه لا يقال إن
الجسم إنما لم يكن متحركا لفقد الحركة.
والأصل في الجواب
عن ذلك ، أن تعليل النفي بالنفي لا يجوز إذا كانت العلة موجبة ، فأما إذا كانت
العلة كاشفة فإنه يجوز. وعلى هذا يقال إنما لم يصح منه الفعل لأنه ليس بقادر.
فإن قيل : لو كان
العدم محيلا للتعلق لوجب أن يكون الوجود موجبا للتعلق ، وهذا يقتضي في الموجودات
كلها أن تكون متعلقة ، ومعلوم خلافه ، فإن السواد والحلاوة والطعم مما لا تعلق
لها.
والأصل في الجواب
عن ذلك ، أنه ليس يجب في أمر من الأمور إذا أحال حكما من الأحكام ، أن يكون نقيض
ذلك الأمر يوجب ذلك الحكم. ألا ترى أن عدم المحيل يحيل حلول السواد فيه ، وليس يجب
في وجوده أن يوجب حلول السواد فيه.
فإن قيل : إن هذه
القضية إنما وجبت في الإرادة لأنها علة والقديم تعالى ليس بعلة ، قلنا : مخالفة
القديم تعالى للإرادة ليس بأكثر من مخالفة هذه المتعلقات بعضها لبعض ، وهذه
المتعلقات مع اختلافها واختلاف أنواعها وأجناسها متفقة في أنها متى
وجدت تعلقت ، ومتى
عدمت زال تعلقها فيجب مثله في القديم تعالى.
وقد استدل قاضي
القضاة على المسألة بأن قال : قد ثبت أنه تعالى قادر ، والقادر لا يصح منه الفعل
إلا إذا كان موجودا ، كما أن القدرة لا يصح الفعل بها إلا وهي موجودة ، وهذا إن لم
يبن على ما ذكرناه ، لم يصح الاعتماد عليه.
ما يلزم المكلف معرفته
ثم إنه رحمه [الله]
أورد في آخر هذا الفصل ما يلزم المكلف معرفته في هذا الباب.
وجملة القول في
ذلك هو أن تعلم أنه تعالى كان موجودا فيما لم يزل ، ويكون موجودا فيما لا يزال ،
ولا يجوز خروجه عنها بحال من الأحوال. ولا تحتاج في هذا الباب إلى مثل ما احتجت
إليه في باب كونه قادرا وعالما ، لأن ذلك من فرع التعلق ، وصار الحال في هذا
كالحال في كونه تعالى حيا.
أما الذي يدل على
أنه تعالى كان موجودا فيما لم يزل ، فهو أنه تعالى لو لم يكن موجودا فيما لم يزل
وحصل كذلك بعد إذ لم يكن ، لاحتاج إلى موجد يوجده ، وذلك محال.
وأما الذي يدل على
أنه تعالى يكون موجودا فيما لا يزال ، فهو أنه يستحق هذه الصفة لذاته ، والموصوف
بصفة من صفات الذات لا يجوز خروجه عنها بحال من الأحوال ، فهذه جملة الكلام في هذا
الفصل.
فصل والغرض به الكلام في كونه تعالى قديما
وقبل الدلالة على
ذلك ، فاعلم :
أن القديم في أصل
اللغة هو ما تقادم وجوده ، ولهذا يقال بناء قديم ، ورسم قديم ، وعلى هذا قوله
تعالى : (حَتَّى عادَ
كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) [يس : ٢٩].
وأما في اصطلاح
المتكلمين ، فهو ما لا أول لوجوده ، والله تعالى هو الموجود الذي لا أول لوجوده ،
ولذلك وصفناه بالقديم.
__________________
وتحرير الدلالة على
ذلك ، هو أنه تعالى لو لم [يكن] قديما لكان محدثا ، لأن الموجود يتردد بين هذين الوصفين ،
فإذا لم يكن على أحدهما كان على الآخر لا محالة. فلو كان القديم تعالى محدثا
لاحتاج إلى محدث ، وذلك المحدث إما أن يكون قديما أو محدثا ، فإن كان محدثا كان
الكلام في محدثه كالكلام فيه ، فإما أن ينتهي إلى صانع قديم على ما نقوله ، أو
يتسلسل إلى ما لا نهاية ولا انقطاع من المحدثين ومحدثي المحدثين ، وذلك يوجب أن لا
يصح وجود شيء من هذه الحوادث ، وقد عرف خلافه.
فإن قيل ومن أين
ذلك؟ قلنا : لأن ما وقف وجوده على وجود ما لا انقطاع له ولا تناهي لم يصح وجوده ،
ويقتضي ما ذكرناه من استحالة حدوث شيء من هذه الحوادث. ألا ترى أن أحدنا لو قال لا
آكل هذه التفاحة ما لم آكل تفاحات لا تتناهى ، لم يصح أكله لهذه التفاحة قط ، لما
وقف ذلك على وجود ما لا يتناهى. كذلك لو قال إني لا أدخل هذه الدار حتى أدخل دورا
لا تتناهى ، فإنه لا يدخلها البتة لما ذكرناه ، فلما وجدت هذه الحوادث صح أنها
مستترة إلى صانع قديم تنتهي إليه الحوادث على ما نقوله.
وقد قيل : إنه لو
لم يكن صانع العالم قديما لكان محدثا ، لأن الموجود إما قديم وإما محدث ، ول؟ كان
محدثا لم يصح منه فعل الجسم ، لأن المحدث لو قدر لم يقدر إلا بقدرة ، والقدرة لا
يصح بها فعل الجسم ، فيجب أن يكون قديما.
ما يلزم معرفته في هذا الباب
وأما الذي يلزمك
معرفته في هذا الباب ، فقد ذكرناه في باب كونه موجودا ، لأن المرجع بالقدم ليس إلا
إلى استمرار الوجود ، فعلى هذا يجري الكلام في هذا الفصل.
فصل والغرض به الكلام في كيفية استحقاقه تعالى لهذه الصفات
والأصل في ذلك ،
أن هذه مسألة خلاف بين أهل القبلة.
فعند شيخنا أبي
علي أنه تعالى يستحق هذه الصفات الأربع التي هي كونه قادرا عالما حيا موجودا
لذاته.
__________________
وعند شيخنا أبي
هاشم يستحقها لما هو عليه في ذاته.
وقال أبو الهذيل :
إنه تعالى عالم بعلم هو هو ، وأراد به ما ذكره الشيخ أبو علي ، إلا أنه لم تتلخص
له العبارة. ألا ترى أن من يقول : إن الله تعالى عالم بعلم ، لا يقول : إن ذلك
العلم هو ذاته تعالى.
فأما عند سليمان
بن جرير وغيره من الصفاتية ، فإنه تعالى يستحق هذه الصفات لمعان لا توصف بالوجود
ولا بالعدم ، ولا بالحدوث ولا بالقدم.
وعند هشام بن
الحكم ، أنه تعالى عالم بعلم محدث.
وعند الكلابية ،
أنه تعالى يستحق هذه الصفات لمعان أزلية ، وأراد بالأزلى القديم ، إلا أنه لما رأى
المسلمين متفقين على أنه لا قديم مع الله تعالى لم يتجاسر على إطلاق القول بذلك.
ثم نبغ الأشعري ،
وأطلق القول بأنه تعالى يستحق هذه الصفات لمعان قديمة ، لوقاحته وقلة مبالاته
بالإسلام والمسلمين.
وتحرير الدلالة
على ما نقوله في ذلك ، هو أنه تعالى لو كان عالما بعلم ، لكان لا يخلو ، إما أن
يكون معلوما ، أو لا يكون معلوما. فإن لم يكن معلوما لم يجز إثباته ، لأن إثبات ما
لا يعلم يفتح باب الجهات. وإن كان معلوما فلا يخلو ، إما أن يكون موجودا أو
معدوما. لا يجوز أن يكون معدوما. وإن كان موجودا فلا يخلو ، إما أن يكون قديما ،
أو محدثا ، والأقسام كلها باطلة ، فلم يبق إلا أن يكون عالما لذاته على ما نقوله.
فإن قيل : ما
أنكرتم أن هذه المعاني صفات ، والصفات لا توصف بالوجود ولا بالعدم ، ولا بالحدوث
ولا بالقدم.
قلنا : هذه مناقضة
ظاهرة من وجوه ، أحدهما ، أنك قد وصفتها بأنها معان بل سميتها علما وقدرة وحياة ،
والثاني ، بأنك وصفتها بأنها صفات ، والثالث ، بأنك وصفتها بأنها لا توصف ، فقد
نقضت كلامك من هذه الوجوه.
فإن قيل : هذه
المعاني عندنا كالأصول عندكم ، فكما أن هذه القسمة لا تدخل في الأحوال عندكم ،
فكذلك لا تدخل عندنا في هذه المعاني.
قلنا : إن هذه
المعاني معلومة عندكم فتدخلها قسمة المعلومات ، وليس كذلك
الأحوال ، فإنها
عندنا غير معلومة بانفرادها ، وإنما الذات عليها تعلم ، ففارق أحدهما الأخر. والذي
يدل على أن الأحوال لا تعلم ، أنها لو علمت لتميزت عن غيرها بأحوال أخر ، والكلام
في الأحوال تلك ، كالكلام فيها ، يتسلسل إلى ما لا يتناهى من الأحوال ، وذلك محال.
على أنكم إن عنيتم بالمعاني ما نريده بالحال فمرحبا بالوفاق.
فإن قالوا : إن
هذه المعاني صفات والصفة لا توصف ، إذ لو جاز أن توصف الصفة أدى إلى ما لا يتناهى
من الصفات وصفات الصفات.
قلنا : ليس يجب
إذا جوزنا أن توصف الصفة ، أن يوجد ما لا يتناهى من الصفات وصفات الصفات ، إذ ليس
يلزم على الجواز ما يلزم على الوجوب. وصار الحال فيه كالحال في الحيز إذا قلنا إنه
يجوز الإخبار عنه ، فكما لا يلزمنا ما ذكرتموه فيه ، كذلك هاهنا. وهذا لأن الجواز مخالف
للوجوب ، فلا يجوز إجراء أحدهما مجرى الآخر.
فإن قيل : أبطلوا
هذه الأقسام ليتم لكم ما ذكرتموه.
الدليل على أنه لا يكون عالما بعلم معدوم
قلنا : أما الذي
يدل على أنه تعالى لا يجوز أن يكون عالما بعلم معدوم ، فهو أنه لو جاز أن يكون
كذلك لجاز مثله في الواحد منا ، ومعلوم خلافه.
وهذه طريقة
مستقيمة يمكن تمشيتها ، ولا يمكن الاعتراض عليها بأن يقال : أليس الله تعالى مريدا
بإرادة محدثة موجودة لا في محل ، ولا يجوز ذلك في الواحد منا ، فهلا جاز مثله في
مسألتنا. لأن الفرق بينهما ظاهر ، وقد بين ذلك في غير هذا الموضع.
والطريقة المرضية
المعروفة في هذا ، هو أن نقول : إن في العدم جهلا كما أن فيه علما ، فلو جاز أن
يكون الله تعالى عالما بعلم معدوم ، لجاز أن يكون جاهلا بجهل معدوم ، وذلك يؤدي
إلى أن يكون عالما بالشيء جاهلا به دفعة واحدة ، وهذا محال.
ويمكن أن نسلك هذه
الطريقة في كونه مريدا وكارها ، فنقول : إن في العدم كراهة كما أن فيه إرادة ، فلو
جاز أن يكون الله تعالى مريدا بإرادة معدومة ، لجاز أن يكون كارها بكراهة معدومة ،
وهذا يقتضي أن يكون مريدا للشيء كارها له دفعة واحدة ، وهذا محال.
وهذه الطريقة لا
يمكن سلوكها في القدرة والحياة ، فلا نقول : إن في العدم عجزا كما إن فيه قدرة ،
ولا أن في العدم موتا كما أن فيه حياة ، لأن الموت والعجز ليسا بمعنيين فيجب أن
نسلك طريقة أخرى غير هذه الطريقة ، فنقول : إن القدرة لا يصح الفعل بها إلا بعد
استعمال محلها في الفعل أو في سببه ضربا من الاستعمال ، وكذلك الحياة لا يصح
الإدراك بها إلا بعد استعمال محلها في الإدراك ضربا من الاستعمال ، وذلك يترتب على
وجودها في محل.
فهذا هو الكلام في
أنه تعالى لا يجوز أن يستحق هذه الصفات لمعان معدومة.
الدليل على أنه لا يستحق هذه الصفات لمعان محدثة
وأما الكلام في
أنه تعالى لا يجوز أن يستحق هذه الصفات لمعان محدثة ، فهو أن المحدث لا بد له من
محدث ، فلا يخلو أن يكون محدث هذه المعاني نفس القديم تعالى ، أو غيره من القادرين
بالقدرة. لا يجوز أن يكون محدثها غيره من القادرين بالقدرة ، لأن القادر بالقدرة
لا يصح منه إيجاد هذه المعاني. وأما العلم وإن صح منه إيجاده فإنما يصح منه إيجاده
لنفسه لا لغيره ، لأن القادر بالقدرة لا يفعل الفعل في الغير إلا بالاعتماد ،
والاعتماد ما لا حظ له في توليد العلم ، لأنه لو صح ذلك ، لوجب في الواحد منا إذا
اعتمد على صدر غيره أن يوجد هناك العلم ، ومعلوم خلافه. ولا يجوز أن يكون محدثها
نفس القديم تعالى ، لأنه يجب أن يكون على هذه الصفات قبل وجود هذه المعاني ، فلو
ترتب حصول هذه الصفات على وجود هذه المعاني أدى إلى أن يقف كل واحد منهما على
الآخر فلا يحصلان وذلك محال.
وتفصيل هذه الجملة
، هو أن القديم تعالى لو كان قادرا بقدرة محدثة ، والمحدث لا بد له من محدث ، لكان
محدثها لا يخلو ، إما أن يكون نفس القديم تعالى ، أو غيره من القادرين بالقدرة. لا
يجوز أن يكون غيره من القادرين بالقدرة لأن القادر بالقدرة لا يصح منه إيجاد
القدرة ، على أن وجود القادرين بالقدرة يترتب على قدرة القديم تعالى ، فلو ترتبت
قدرة القديم تعالى على قدرتنا لوقف كل من الأمرين على صاحبه فلا يحصلان ولا واحد
منهما. ولو كان محدثها نفس القديم تعالى لوجب أن يكون قادرا قبل وجود هذه القدرة
حتى يصح منه إيجادها ، ولا تصح قدرته إلا بعد هذه القدرة ، فيترتب كل واحد منهما
على الآخر.
وكذلك الكلام في
كونه تعالى حيا بحياة محدثة ، والمحدث لا بد له من محدث ،
لكان ذلك المحدث
لا يخلو ، إما أن يكون نفس القديم تعالى ، أو غيره من القادرين بالقدرة ، لا يجوز
أن يكون غيره من القادرين بالقدرة لأن القادر بالقدرة لا يصح منه إيجاد الحياة ،
إذ لو صح ذلك منه لصح أن يتخذ لنفسه ما شاء من العبيد والأولاد ، والمعلوم خلافه.
على أن كوننا أحياء يترتب على كونه تعالى حيا فوجب أن لا يحصلان ولا واحد منهما.
وإذا كان محدثها القديم تعالى وجب أن يترتب كونه تعالى حيا على كونه قادرا ، مع أن
من حق كونه قادرا أن يترتب عليه.
وهكذا الكلام في
كونه موجودا.
وكونه عالما ،
فقريب من هذا ، لأنه تعالى لو كان عالما بعلم محدث ، والمحدث لا بد من محدث ، لكان
لا يخلو ، إما أن يكون نفس القديم تعالى ، أو غيره من القادرين بالقدرة على ما قد
مر في نظائره ، ولا يجوز أن يكون نفس القديم تعالى لأنه لا بد من أن يكون عالما
قبل وجود هذا العلم حتى يصح منه إيجاده ، وهذا يقتضي أن يقف كونه عالما على وجود
هذا العلم من قبله ، ووجود العلم من قبله على كونه عالما ، فلا يحصلان ولا واحد
منهما.
فإن قيل : ومن أين
أنه تعالى لا بد من أن يكون عالما قبل وجود العلم ، حتى يصح منه إيجاده؟
قلنا : لأن العلم
يجري مجرى الفعل المحكم ، لأنه اعتقاد واقع على وجه مخصوص ، فلا يتأتى إيقاعه على
ذلك الوجه إلا ممن هو عالم به.
وهذه الدلالة
مبنية على أصول ، أحدها أن العلم من قبيل الاعتقاد ، والثاني ، أنه اعتقاد واقع على
وجه مخصوص ، والثالث ، أنه لا يقع على ذلك الوجه إلا ممن هو عالم به.
قول أبي الهذيل مخالفا القاضي : العلم غير الاعتقاد
أما الأول ، فقد
خالفنا فيه شيخنا أبو الهذيل ، وقال : إن العلم جنس برأسه غير الاعتقاد.
والدليل على صحة
ما ذهبنا إليه ، هو أن العلم لو لم يكن من قبيل الاعتقاد لصح انفصال أحدهما عن
الآخر إذ لا علاقة بينهما من وجه معقول ، فكان يصح أن يكون أحدهما عالما بالشيء
ولا يكون معتقدا له ساكن النفس إليه ، أو يكون معتقدا ساكن
النفس إليه ولا
يكون عالما به ، والمعلوم خلافه. وبعد فإنه لا يخلو ، إما أن يكون من قبيل
الاعتقاد على ما نقوله ، أو مخالفا له ، أو ضدا. لا يجوز أن يكون مخالفا له ، لأنه
كان يجب إذا طرأ عليها الجهل أن لا ينفيهما ، لأن الشيء الواحد لا يجوز أن ينفي
شيئين مختلفين غير ضدين. ألا ترى أن السواد إذا طرأ على المحل وفيه بياض وحلاوة ،
فإنه ينفي البياض دون الحلاوة ولا يجوز أن يكون ضدا ، لأن الضدين لا يجوز
احتمالهما معا ، فلم يبق إلا أن يكون من قبيل الاعتقاد على ما نقوله.
شبهتان لأبي الهذيل
وشبهته في هذا
الباب ، شبهتان :
إحداهما ، هو أن
العلم لو كان من قبيل الاعتقاد لوجب في كل اعتقاد أن يكون علما ، ومعلوم أن اعتقاد
التقليد والتبخيت ليس بعلم.
والأصل في الجواب
عن ذلك ، أنا لم نجعل مجرد الاعتقاد علما حتى يلزم ما ذكرته ، وإنما جعلنا العلم
اعتقادا واقعا على وجه مخصوص ، وليس كذلك اعتقاد التقليد والتبخيت فإنه غير واقع
على ذلك الوجه ، فلا يصح ما أوردته.
والشبهة الثانية ،
هو أن العلم لو كان من قبيل الاعتقاد لوجب في كل عالم أن يسمى معتقدا ، ومعلوم أنه
تعالى عالم ولا يسمى بذلك ، فليس إلا أن العلم جنس برأسه غير الاعتقاد على ما
أقوله.
والجواب عن ذلك أن
الذي ذكرته إنما وجب في الواحد منا لأنه عالم بعلم هو اعتقاد مخصوص ، فسمي معتقدا
، وليس كذلك القديم تعالى لأنه عالم لذاته فلا يجوز أن يسمى معتقدا.
والأولى أن يذكر
في الجواب عنه ما ذكره الشيخ أبو عبد الله البصري ، وهو أنه تعالى حاصل على مثل
صفة الواحد منا في كونه معتقدا ، إلا أنه لم يجز إجراء هذا اللفظ على الله تعالى ،
لأنه يوهم أن هناك قلبا وضميرا أو عقلا.
وبعد ، فإن لفظ
الاعتقاد مجاز فيما استعملنا ، ويشبه بعقد الخيط ، والمجازات لا يجوز إجراؤها على
الله تعالى إلا بعد توقيف وإذن سمعي ، فلهذا يوصف القديم تعالى بذلك.
الكلام في أن العلم إنما هو اعتقاد واقع على وجه
وأما الكلام في أن
العلم إنما هو اعتقاد واقع على وجه ، وأنه لوقوعه على ذلك الوجه يصير علما ، فهو
أنه لو لم يكن كذلك لكان لا يخلو ، إما أن يكون علما لجنسه وعينه ، أو لصفة جنسه ،
أو لوجوده ، أو لعدمه ، أو لوجود معنى ، أو لحدوثه ، أو بالفاعل ، أو لوقوعه على
وجه ما نقوله. لا يجوز أن يكون علما لجنسه وعينه على ما قاله الشيخ أبو القاسم
البلخي ، لأنه لو كان كذلك لوجب في اعتقاد التقليد والتبخيت أن يكون علما
لتماثلهما واشتراكهما في الجنس ، والمعلوم خلافه.
فإن قيل : ولم
قلتم إنهما مثلان؟ قلنا. لأن موجب أحدهما مثل موجب الآخر ، والاشتراك في الموجب
يقتضي التماثل.
فإن قيل : فلا جرم
نقول : إن اعتقاد التقليد والتبخيت علم؟ قلنا : ذلك غير ممكن ، لأن العلم يقتضي
سكون النفس ، واعتقاد التقليد والتبخيت مما لا يقتضي ذلك ، فكيف يجعل علما؟ وبهذه
الطريقة يبطل قول من قلال : إنه علم لصفة جنسه ، أو لوجوده أو لحدوثه. وبعد ، فلو
كان علما لحدوثه لكان يجب إذا قدرنا بقاء العلم أن ينقلب جهلا ، ومعلوم خلافه. ولا
يجوز أن يكون علما لعدمه ، لأن العدم يحيل هذا الحكم ، وما أحل الحكم لا يجوز أن
يؤثر فيه ويوجبه. ولا يجوز أن يكون علما لوجود معنى أو لعدم معنى ، لأن أي معنى
وجد أو عدم فلا تأثير له في ذلك. ويبين ما ذكرناه أنه إذا نظر الناظر فإنه يحصل له
العلم لا محالة سواء وجد ذلك المعنى أو عدم ، فلا تأثير له في ذلك. ولا يجوز أن
يكون علما بالفاعل ، وإلا كان يصح منه أن يجعل اعتقاد التقليد والتبخيت علما وقد
عرف خلافه. وبعد ، فكان يجب صحة أن ينظر الناظر في الدليل على الوجه الذي يدل ثم
لا يحصل له العلم بأن لا يختاره ، والمعلوم خلافه. فلم يبق إلا أن يكون علما
لوقوعه على وجه على ما نقوله.
الوجوه التي يقع عليها الاعتقاد فيصير علما كثيرة
ثم إن الوجوه التي
يقع عليها الاعتقاد فيصير علما كثيرة.
أحدها : هو أن يقع من الناظر في الدليل على الوجه الذي يدل ، فإن
الاعتقاد يصير علما لوقوعه على هذا الوجه.
والثاني : هو أن يقع من متذكر النظر والاستدلال ، وذلك كالاعتقاد
الواقع من المنتبه من رقدته.
والثالث : هو أن يقع من العالم بالمعتقد ، وذلك كالاعتقادات
الواقعة من جهة الله تعالى فينا ، فإن وقوعها من جهة العالم بمعتقدها وجه في كونها
علما.
ولا خلاف في هذه
الوجوه بين الشيخين.
وقد زاد شيخنا أبو
عبد الله وجهين آخرين :
أحدهما : هو ما يحصل عند إلحاق التفصيل بالجملة ، وذلك كأن يعلم
أحدنا مثلا قبح الظلم على الجملة ، ثم يعلمه في شيء بعينه أنه ظلم ، فيلحقه بتلك
الجملة المقررة في عقله ، أن كل ظلم قبيح.
والثاني : تذكر العلم ، فإن الاعتقاد الواقع عنده يكون علما لوقوعه
على هذا الوجه.
وقد خرج على مذهب
أبي هاشم وجه سادس ، فقيل : لو اعتقد أحدنا تقليدا أن زيدا في الدار ، ثم بقي ذلك
الاعتقاد إلى أن يشاهده فيها ، فإن ذلك الاعتقاد ينقلب علما لمقارنة هذا العلم
الضروري.
إلا أن هذا إنما
يستقيم على قوله إذا جوز البقاء على الاعتقاد ، وذلك عندنا لا يجوز ، لأن هذا
يقتضي أن ينقلب الحسن قبيحا والقبيح حسنا ، وذلك لا يجوز ، فهذا هو الكلام في
الوجوه التي يقع عليها الاعتقاد فيصير علما.
الاعتقاد لا يقع إلا ممن هو عالم
وأما الكلام في أن
الاعتقاد لا يقع إلا على هذه الوجود. ولا يتأتى إلا ممن هو عالم ، فهو أنه لو لم
يكن المرء عالما بالدليل على الوجه الذي يدل ، لم يولد نظره العلم ، ولا أمكنه
اكتساب العلم ، هذا في الوجه الأول. وأما الوجه الثاني ، فكذلك لأنه لو لم يكتسب
العلم بالنظر والاستدلال ، لم يمكن تذكر النظر والاستدلال على وجه يدعوه إلى فعل
العلم. وكذلك الوجه الثالث ، فإنه لو لم يكن عالما بالمعتقد لم يكن الاعتقاد
الواقع منه علما.
وأما ما زاده
الشيخ أبو عبد الله البصري فظاهر أيضا ، لأنه لو لم يكن عالما بقبح الظلم على
الجملة لا يمكنه إلحاق التفصيل بالجملة ، وهكذا الكلام في الوجه الثاني ، فإنه لو
لم يكن عالما لم يمكنه تذكير العلم.
من كل هذا ثبت أن العلم اعتقاد واقع على وجه مخصوص ووقوعه
على هذا الوجه لا يمكن إلا ممن هو عالم
فحصل من هذه
الجملة أن العلم اعتقاد واقع على وجه مخصوص ، وأن وقوعه على هذا الوجه مما لا يمكن
إلا ممن هو عالم ، إذا ثبت هذا ، فإذا كان القديم تعالى عالما بعلم محدث ، والمحدث
لا بد له من محدث ، ومحدثه لا بد من أن يكون هو الله تعالى ، لزم أن لا يصح وجود
هذا العلم إلا إذا كان عالما ، وأن لا يكون عالما إلا إذا كان هذا العلم ، فيترتب
كل واحد منهما على الآخر ، وذلك محال.
فإن قيل : أليس
أنه تعالى مريد بإرادة محدثة موجودة لا في محل من قبله ، ثم لا يجب أن يكون مريدا
قبل الإرادة ، فهلا جاز أن يكون عالما بعلم محدث ولا يجب أن يكون عالما قبل وجود
هذا العلم.
قلنا : فرق بين
الموضعين ، لأن الإرادة جنس الفعل ، فلا تحتاج إلى قصد وإرادة ، وليس كذلك العلم ،
لأنه اعتقاد واقع على وجه مخصوص لا يتأتى على ذلك الوجه من جميع القادرين ، ففارق
أحدهما الآخر.
شبه المخالفين العقلية
وللمخالف في هذا
الباب شبه من جملتها ، هو أنهم قالوا : لم يكن القديم تعالى عالما بوجود العالم
فيما لم يزل ، ثم حصل عالما بذلك بعد إذ لم يكن عالما به ، وهذا يوجب أن يكون
عالما بعلم محدث. وربما يغيرون العبارة فيقولون : إنه تعالى لم يكن عالما فيما لم
يزل بأنه فاعل ، وحصل عالما بعد إذ لم يكن ، فيجب أن يكون عالما بعلم محدث على ما
نقوله.
والأصل في الجواب
عن ذلك ، أن العلم بأن الشيء سيوجد علم بوجوده إذا وجد ، بدليل أنا لو قدرنا بقاء
هذا العلم ، لكان لا يخلو ، إما أن يكون متعلقا ، أو لم يكن متعلقا ، لا يجوز أن
لا يكون متعلقا ، لأن ذلك يقتضي انقلاب جنسه. وإذا تعلق فلا يخلو ، إما أن يكون
متعلقا بوجوده ، أو بأنه سيوجد. لا يجوز أن يكون متعلقا بأنه سيوجد لأنه موجود ،
والعلم لا يتعلق بالشيء إلا على ما هو به ، فلم يبق إلا أن يكون متعلقا بوجوده على
ما نقوله. فهذه شبهة عقلية والجواب عليها.
وأما شبههم من جهة
السمع ، فقد تعلقوا بقوله تعالى : (حَتَّى نَعْلَمَ
الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) [محمد : ٣١] وحتى
إذا دخل على الفعل المضارع أفاد الاستقبال ،
وهذا يدل على أنه
تعالى حصل عالما بعد إذ لم يكن عالما ، وفي ذلك ما نريده. وتعلقوا أيضا بقوله
تعالى : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ
عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً) [الأنفال : ٦٦]
قالوا فعلق التخفيف عنهم بهذا الوقت ثم عطف عليه العلم ، فيجب أن يكون عالما بعلم
محدث. وتعلقوا أيضا بقوله تعالى : (لِنَنْظُرَ كَيْفَ
تَعْمَلُونَ) [يونس : ١٤] قالوا
: وهذا يدل على أنه تعالى سيحصل عالما بعد إذ لم يكن.
ولنا في الجواب عن
هذا طريقان اثنان :
إحداهما ، أن نقول
إن الاستدلال بالسمع على هذه المسألة مما لا يمكن ، لأن صحة السمع تنبني على هذه
المسألة ، وكل مسألة تنبني صحة السمع عليها ، فالاستدلال عليها يجري مجرى الشيء
على نفسه ، وذلك مما لا يجوز. وإنما قلنا : إن صحة السمع موقوفة على هذه المسألة ،
لأننا ما لم نعلم القديم تعالى عدلا حكيما لا يمكننا معرفة السمع ، وما لم نعلم
أنه تعالى عالم بقبح القبائح واستغنائه عنها لم نعلم عدله ، وما لم نعلم كونه
عالما لذاته لم نعلم علمه بقبح القبائح أجمع ، فقد ترتب السمع على هذه المسألة فلا
يصح الاستدلال بالسمع عليها.
والطريقة الثانية
، هي أن يقال : إن العلم قد ورد بمعنى العالم وبمعنى المعلوم ، يقال جرى هذا بعلمي
أي وأنا عالم به ، وكذلك فإنه يقال هذا علم أبي حنيفة وعلم الشافعي ، أي معلومهما.
وإذا ثبت هذا فقوله تعالى : (حَتَّى نَعْلَمَ
الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ) المراد به حتى يقع الجهاد المعلوم من حالكم. وقوله : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ
أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً) أي وقع الضعف المعلوم من حالكم وقوعه. وقوله : (لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) أي يقع العمل المعلوم وقوعه من حالكم. فهذه جملة الكلام في
أنه لا يجوز أن يستحق هذه الصفات لمعان محدثة.
الكلام في أن الله لا يستحق هذه الصفات لمعان قديمة
ثم إنه رحمهالله عاد إلى الكلام في أنه تعالى لا يجوز أن يستحق هذه الصفات
لمعان قديمة.
والأصل في ذلك ،
أنه تعالى لو كان يستحق هذه الصفات لمعان قديمة ، وقد ثبت أن القديم إنما يخالف
مخالفه بكونه قديما ، وثبت أن الصفة التي تقع بها المخالفة عند الافتراق بها تقع
المماثلة عند الاتفاق ، وذلك يوجب أن تكون هذه المعاني مثلا لله تعالى ، حتى إذا
كان القديم تعالى عالما لذاته ، قادرا لذاته ، وجب في هذه المعاني
مثله ، ولوجب أن
يكون الله تعالى مثلا لهذه المعاني تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، لأن الاشتراك
في صفة من صفات الذات يوجب الاشتراك في سائر صفات الذات ، بل كان يجب أن يكون كل
واحد مثلا لصاحبه ، وكان يلزمهم العلم بصفة الحياة والقدرة وغيرها ، حتى يقع
الاستغناء بواحدة منها عن سائرها.
وهذه الدلالة
مبنية على أصول :
أحدها ، أنه تعالى
إنما يخالف مخالفه بكونه قديما.
والثاني ، أن
الصفة التي تقع بها تقع المماثلة عند الاتفاق.
والثالث ، أن
الاشتراك في صفة من صفات الذات يوجب الاشتراك في سائر صفات الذات.
فأما الكلام في
أنه تعالى إنما يخالف مخالفه بكونه قديما ، فهو أن المخالفة ليس بأكثر من أن لا
ينوب غيره منابه فيما يرجع إلى ذاته ، وهذا المعنى ثابت في الله تعالى. فلا يخلو ،
إما أن يكون لمجرد كونه ذاتا ، أو لصفة من الصفات. لا يجوز أن تكون المخالفة واقعة
بكونه ذاتا فقط لأن غيره من الذوات يشاركه في ذلك. وإن كان بصفة من صفاته ، فلا
يخلو ، إما أن يكون بصفات الأفعال والمعاني ، نحو كونه محسنا ومتفضلا ورازقا ومريدا
وكارها ، أو بصفة مستحقة للذات. لا يجوز أن تقع المخالفة بصفات الأفعال لأن
المخالفة كانت ثابتة فيما لم يزل ولا هذه الصفات ، فلم يبق إلا أن تقع بصفة من
صفات الذات. وصفات الذات كونه قادرا عالما حيا موجودا. ثم لا يخلو ، إما أن تقع
المخالفة بمجرد هذه الصفات أو بوجوبها. لا يجوز أن تقع بمجردها لأن أحدنا يشارك
القديم في مجرد هذه الصفات ، فليس إلا أن تقع بوجوبها. ثم لا يخلو ، إما أن تقع
بوجوب مجموع هذه الصفات ، أو بوجوب كل واحدة منها. لا يمكن أن يقال إنها تقع بوجوب
مجموعها ، لأن المخالفة إنما تقع بالوجوب وهذا ثابت في كل واحد منها ، فلم يبق إلا
أن تقع بوجوب كل واحدة من هذه الصفات ومن جملتها كونه موجودا ، فيجب أن تقع
المخالفة بوجوبه ، وفي ذلك ما نريده لأن المرجع بالقدم ليس إلا إلى وجوب الوجود.
وأما الكلام في أن
الصفة التي تقع بها المخالفة عند الافتراق ، بها تقع المخالفة عند الاتفاق ، فالذي
يدل عليه السواد ، فإنه لما خالف مخالفة بكونه سوادا عند الافتراق ، ماثل مماثلة
بتلك الصفة عند الاتفاق يبين. ذلك أنه لما خالف السواد
البياض بكونه
سوادا ، ماثل السواد بهذه الصفة ، فصح ما قلناه.
وأما الكلام في أن
الاشتراك في صفة من صفات الذات يوجب الاشتراك بسائر صفات الذات ، فقد ذكرناه في
باب حدوث الأعراض فلا وجه لإعادته.
وإذا ثبت هذا ،
فالقديم تعالى لو استحق هذه الصفات لمعان قديمة ، لوجب أن تكون مثلا لله تعالى ،
وهذا يوجب إذا كان العالم تعالى عالما قادرا لذاته ، وجب أن تكون هذه المعاني أيضا
قادرة عالمة وذلك محال ، وأن تكون بعض هذه المعاني بصفة البعض ، وأن يقع الاستغناء
بأحدها عن الباقي ، وذلك محال ، وما أدى إليه وجب أن يكون محالا.
فإن قبل كيف يصبح
هذا الالزام ، ولم يثبت لكم بعد أنه تعالى يستحق هذه الصفات لذاته ، يوضح ذلك أن
الاشتراك في صفة من صفات الذات وإن أوجب الاشتراك في سائر صفات الذات ، لم يوجب
الاشتراك في صفات المعاني. ألا ترى أن كل ما شارك الجوهر في كونه جوهرا فإنما يجب
أن يشاركه في صفاته ، الذاتية ، نحو كونه متحيزا ، ولا يجوز أن يشاركه في صفات
المعاني نحو كونه متحركا وساكنا ، كذلك في مسألتنا.
والأصل في الجواب
عن ذلك ، أن لنا في هذا الباب مذهبين :
أحدهما ، أن نقول
إن الاشتراك في صفة من صفات الذات ، وإن لم يوجب الاشتراك في صفات المعاني إلا أنه
يوجب الاشتراك في صحة صفات المعاني ، حتى ما من جوهر مثلا وإلا وكما يجب أن يكون
متحيزا ، يصح أن يكون متحركا وساكنا ، فهلا جوزتم أن يكون العلم مما يصح أن يعلم
ويقدر ويحيا.
والطريقة الثانية
، هو أنا لم نقتصر على هذا الشق ، بل ألزمنا كم الشق الثاني فقلنا : لو كان كما
ذكرتموه ، لوجب أن يكون القديم تعالى مثلا لهذه المعاني ، هذا يوجب أن يكون الله
تعالى بصفة العلم والقدرة والحياة تعالى الله عن ذلك ، فيستغنى عن هذه المعاني فما
ذا تنفصلون عنه.
فإن قيل : أليس من
مذهبكم أنه تعالى لا يستحق كونه قديما لذاته ، فكيف أوجبتم بالاشتراك فيه التماثل
والاشتراك في سائر صفات الذات؟
قلنا : لنا في هذه
المسألة مذهبان :
أحدهما أنه تعالى
يستحق هذه الصفة لذاته ، وهو مذهب أبي علي.
والثاني ، أن هذه
الصفة لله تعالى من مقتضى صفة ذاته ، وهو مذهب أبي هاشم.
فعلى المذهب الأول
لا كلام فيه ، وعلى المذهب الثاني فالصفة المقتضاة عن صفة الذات كصفة الذات ، فإنه
بها يقع الخلاف والوفاق وأن بالاشتراك فيها يجب الاشتراك في سائر صفات تلك الذات.
ما يدل على أن الله لا يجوز أن يكون عالما بعلم
وأحد ما يدل على
أنه تعالى لا يجوز أن يكون عالما بعلم ، هو أن هذه الصفة واجبة لله تعالى ، والصفة
متى وجبت استغنت بوجوبها عن العلة.
وهذه الدلالة
مبنية على أصلين ، أحدهما ، هو أن هذه الصفة واجبة لله تعالى ، والثاني ، أن الصفة
متى وجبت بوجوبها عن العلة.
أما الذي يدل على
أن هذه الصفة واجبة لله تعالى ، فهو أنها لو لم تكن واجبة لكانت جائزة ، وهذا يوجب
أن يكون القديم تعالى عالما بعلم محدث ، وقد أبطلنا ذلك من قبل.
وأما الذي يدل على
أن الصفة متى وجبت استغنت بوجوبها عن العلة فصفة العلة ، فإنها لما كانت واجبة
استغنت بوجوبها عن العلة ، فكل ما شاركها في الوجوب وجب أن يشاركها في الاستغناء
عن العلة.
فإن قيل : إنما
استغنت عن العلة لا لوجوبها ، بل لاستحالة قيام العلة بالعلة ، قلنا : فكان يجب أن
لا يستغنى التحيز بوجوبه عن علة ، لأنه لا يستحيل قيام العلة بالمتحيز ، وقد علم
خلافه.
وبعد ، فإن هذا
التعليل لا يتنافى مع ما قلناه ، فيعلل الحكم بهما. وفائدة التعليل أن أيهما كان
ثبت الحكم.
فإن قيل : هذا
باطل بالصفة الصادرة عن الله نحو كونه متحركا ، فإنها تجب ولا يستغني عن العلة ،
قلنا : هذا لا يلزمنا لوجهين ، أحدهما ، أن الجسم حصل متحركا مع الجواز لا مع
الوجوب بخلاف مسألتنا ، والثاني ، أن الصفة الصادرة عن العلة لما وجبت لا جرم
استغنت بوجوبها عن علة أخرى ، فقولوا مثل ذلك في مسألتنا.
وقد تورد هذه
الطريقة على وجه آخر ، فيقال : لو كان الله تعالى عالما بعلم لكان إليه طريق ، ولا
طريق إلى ذلك. فإن قال : ومن أين أنه لا طريق إليه؟ قلنا : لأن الطريق إلى إثبات
العلم وغيره من العلل تجدد الصفة مع الجواز ، وهذه الصفة واجبة لله تعالى.
فإن قيل : ألستم
قد عبتم على أبي القاسم البلخي اعتماده على هذه الطريقة في نفي الثاني ، فكيف
اعتمد نحوها هاهنا؟ قلنا : لأن الثاني يجوز أن يثبت ولا يختار ما هو طريق إليه ،
إذ الطريق إليه إنما هو فعله ، وفعله موقوف على اختياره وقصده ، بخلاف العلم لأنه
علة موجبة لما هو طريق إليها ، فلا يجوز إثباته إلا وكان إليه طريق فافترقا.
تفصيل الحديث على كل صفة من صفات الله
ثم إنه رحمهالله فصل هذه الجملة التي أجملناها وتكلم على كل واحدة بكلام
يخصه.
حي لا بحياة
وجملة القول في
ذلك ، هو أنه تعالى لو كان حيا بحياة ، والحياة لا يصح الإدراك بها إلا بعد
استعمال محلها في الإدراك ضربا من الاستعمال ، لوجب أن يكون القديم تعالى جسما ،
وذلك محال.
قادر لا بقدرة
وكذلك الكلام في
القدرة ، لأن القدرة لا يصح الفعل بها إلا بعد استعمال محلها في الفعل أو في سببه
ضربا من الاستعمال ، فيجب أن يكون الله تعالى جسما محلا للأعراض ، وذلك لا يجوز.
عالم لا بعلم
وأما العلم ، فقد
يسلك فيه طريقان اثنان :
أحدهما ، هو أنه
تعالى لو كان عالما بعلم لكان يجب في علمه أن يكون مثلا
لعلمنا ، وفي
علمنا أن يكون مثلا لعلمه تعالى ، وهذا يوجب أن يكونا قديمين أو محدثين ، لأن
المثلين لا يجوز افتراقهما في قدم ولا حدوث ، وذلك محال.
وهذه الدلالة
مبنية على أصلين ، أحدهما ، هو أنه تعالى لو كان عالما بعلم لوجب في علمه أن يكون
مثلا لعلمنا. وفي علمنا أن يكون مثلا لعلمه تعالى ، والثاني ، أن المثلين لا يجوز
افتراقهما في قدم ولا حدوث.
أما الأول ، فالذي
يدل عليه هو أنه تعالى إذا كان عالما بعلم لا بد في ذلك العلم من أن يكون متعلقا
بما تعلق به علمنا وهذا يقتضي تماثلهما. لأن العلمين إذا تعلقا بمتعلق واحد على
أخص ما يمكن كانا مثلين ، بدليل أنه لو طرأ عليهما ضد لنفاهما جميعا ، والشيء
الواحد لا يجوز أن ينفي شيئين مختلفين غير ضدين.
فإن قيل : هذا
إنما كان يجب إذا حصلا لعالم واحد ، فأما إذا تغاير العالمان فلا ، قلنا : تغاير
العالمين بهما لا يوجب افتراقهما إلا في كيفية الوجوب ، والافتراق في ذلك والاتفاق
فيه مما لا حظ له في اقتضاء الخلاف والوفاق ، ولهذا صح وجود المختلفين في محل واحد
ووجود المثلين متغايرين ، لأنه لا تنافي بينهما ، ولا ما يجري مجرى التنافي.
وأما الذي يدل على
أن المثلين لا يجوز افتراقهما في قدم ولا حدوث ، هو ما قد ثبت أن القدم مما يقع به
الخلاف والوفاق ، والصفة التي يقع بها الخلاف والوفاق ، لا يجوز اتفاق المختلفين
ولا افتراق المثلين فيها ، فصح ما قلناه. وباق أنه تعالى لو كان عالما بعلم لوجب
في علمه أن يكون مثلا لعلمنا ، وهذا يقتضي أن يكونا قديمين أو محدثين ، وذلك محال.
والطريقة الثانية
، هو أنه تعالى لو كان عالما بعلم لكان لا يخلو ، إما أن يكون عالما بعلم واحد ،
أو بعلوم منحصرة ، أو بعلوم لا نهاية لها. لا يجوز أن يكون عالما بعلوم لا تتناهى
لأن وجود ما لا يتناهى محال ، ولا يجوز أن يكون عالما بعلوم منحصرة لأن انحصار
العلوم يوجب انحصار المعلومات ، ولا أن يكون عالما بعلم واحد لأن العلم الواحد لا
يجوز أن يتعلق بأزيد من متعلق واحد على طريق التفصيل ، فيجب أن لا يكون عالما بعلم
أصلا.
فإن قيل : ومن أين
أن العلم الواحد لا يجوز أن يتعلق بأزيد من متعلق واحد على طريق التفصيل؟ قلنا.
لأن لو جاز أن يتعدى في التعلق من واحد إلى ما زاد عليه
ولا حاصر ، لجاز
أن يتعلق بما لا نهاية له وبالشيء على ما ليس به كما يتعلق به كالاعتقاد ، وذلك
محال.
وبعد فما من
معلومين إلا ويصح أن يعلم أحدهما ولا يعلم الآخر ، وهذا يدل على أن العلم الواحد
لا يتعلق بأزيد من متعلق واحد على طريق التفصيل.
فإن قال : كيف يصح
قولكم هذا ، ومعلوم أن من عرف الفرع عرف الأصل لا محالة ، وكذلك فمن أدرك المدركات
فإنه يجب أن يعلمها كلها ، حتى لا يجوز أن يعلم البعض دون البعض وهذا ينفي ما
ذكرتموه؟
قيل له : أما
الأول ، فلا يصح أن يعلم بعضها ولا يعلم البعض بأن يكون هناك لبس فلا يقدح ذلك
فيما قلناه.
وقد تعلق المخالف
في هذا الباب بشبه ، وشبههم على ضربين : أحدهما ما يستدلون به ابتداء على أنه
تعالى عالم بعلم ، والثاني ما يريدون به إبطال كلامنا في أنه تعالى عالم لذاته حتى
يبقى لهم أنه تعالى عالم بعلم.
استدلال المخالف على أنه عالم بعلم
فمن الضرب الأول
قولهم : قد ثبت أنه عالم فيجب أن يكون عالما بعلم لأن العالم من له العلم. يبين
ذلك أنا لم نر في الشاهد عالما إلا بعلم ، فكذلك في الغائب ، وصار الحال فيه
كالحال في الحركة ، فكما أنا لم نر في الشاهد محتركا إلا بحركة وجب مثله أن يكون
في الغائب ، كذلك في مسألتنا.
وربما قالوا : لما
لم يجز أن يكون في الشاهد أسود إلا بسواد ، وجب مثله في جميع المواضع ، وكذلك فلما
لم يكن الجسم فيما بيننا إلا بالطول والعرض والعمق وجب مثله في الغائب ، كذلك يجب
في كونه تعالى عالما ، وهذا يقتضي صحة ما قلناه.
وربما يروون ذلك
على وجه آخر ، فيقولون : إن العلم علة في كون الذات عالما ، والعلة يجب فيها الطرد
والعكس ، وهذا يوجب في كل عالم أن يكون عالما بعلم ، وفي ذلك ما نريده. وصار الحال
فيه كالحال في الحركة ، فكما أنها لما كانت علة في كون الجسم متحركا ، وجب فيها
الطرد والعكس ، حتى وجب في كل متحرك أن يكون متحركا بحركة ، وأيضا فإن السواد لما
كان علة في كون الأسود أسود ، وجب فيه الطرد
والعكس ، حتى وجب
في كل أسود أن يكون أسود بسواد ، كذلك في مسألتنا.
وهكذا قالوا في
الجسم والفاعل على ما تقدم.
والأصل في الجواب
عن ذلك وهو أن يقال لهم : ما الدليل على أن أحدنا عالم بعلم حتى تقيموا عليه الغائب؟
فإن قالوا : لا
خلاف بيننا وبينكم في ذلك فما وجه المنازعة؟ قلنا : لنا في هذه المنازعة غرض صحيح
فدلوا عليه.
فإن قالوا :
الدليل على ذلك هو أن أحدنا حصل عالما مع جواز أن لا يحصل عالما ، والحال واحدة
والشرط واحد ، ولا بد من أمر ومخصص له ولمكانه حصل عالما وإلا لم يكن بأن يحصل
عالما على هذا الوجه أولى من خلافه ، وليس ذلك الأمر إلا وجود معنى هو العلم.
قلنا : هذه طريقة
مرضية. إلا أن هذا غير ثابت في حق القديم تعالى ، لأنه تعالى حصل عالما مع الوجوب
لا مع الجواز ، فلا يمكن قياس الغائب على الشاهد والحال هذه.
فإن قالوا :
الدليل على ذلك هو أن العالم حقيقة من له العلم ، قلنا : هذه شبهة مستقلة بنفسها
في إثبات العلم لله تعالى ، فلو لا فساد الشبهة الأولى وإلا لما وقعت الحاجة إلى
الانتقال إليها.
فإن قالوا : إن
العالم مشتق من العلم ، وهذا يدل على أنه تعالى عالم بعلم.
قلنا : هذه أيضا
شبهة مغررة يمكن أن تذكر في إثبات العلم لله تعالى والانتقال عن شبهة ذكرتموها
إليها يؤذن بفساد تلك الشبهة.
الرد على الشبه
ثم نعود إلى
الكلام على ما أوردوه من الشبه ، فنقول :
قولكم إنا لم نر
في الشاهد عالما إلا بعلم فكذلك في الغائب ، هو اعتماد على مجرد الوجود وذلك مما
لا يصح في مثل هذه المواضع. يبين ذلك أنكم كما لم تجدوا في الشاهد عالما إلا بعلم
، فكذلك لم تجدوه إلا جسما ذا قلب ، فاحكموا بمثله في الغائب. وأما قياسهم ذلك على
المتحرك فلا يصح ، لأن الفرق بينهما هو أنه ما من
متحرك شاهدا كان
أو غائبا إلا وقد حصل متحركا مع الجواز ، فلم يكن بد من إثبات حركة ، وليس كذلك في
مسألتنا ، لأنه لا يمكن أن يقال ما من عالم إلا وقد حصل عالما مع الجواز حتى يجب
إثبات العلم ، فالفرق بينهما ظاهر.
وأما ما ذكره في
الأسود فأبعد ، لأن الحال في ذلك إنما يختلف من حيث أن المرجع بالأسود إلى محل حله
السواد ، وكان السواد كالحقيقة في ذلك ، والحقائق لا تختلف ، بخلاف مسألتنا ، فإن
العلم ليس بحقيقة في كونه عالما.
وأما ما ذكروه في
الفاعل فلا يصح أيضا ، لأن الفاعل ليس له بكونه فاعلا حال ، حتى يقال إنه إنما
يستحق تلك الحال لأمر دون أمر ، وليس كذلك في العالم فإن له بكونه عالما حالا. على
أن وقوع الحقيقة من جهة القادر ، كالحقيقة في كونه فاعلا ، فلذلك لم يختلف ، وكذا
الكلام في الجسم.
وأما ما قالوه من
أن العلم علة في كون الذات عالما ، والعلة يجب فيها الطرد والعكس ، وهذا يوجب في
كل عالم أن يكون عالما بعلم ، وقياس ذلك على الحركة ، فإنها لما كانت علة في كون
الجسم متحركا وجب فيها الطرد والعكس ، حتى وجب في كل متحرك أن يكون متحركا بحركة ،
قلنا : هذا الذي ذكرتموه لا يصح ، لأن ذلك إنما وجب في كون الجسم متحركا ، لا لأن
العلة يجب فيها الطرد والعكس ، بل لأنه ما من جسم إلا وقد حصل متحركا مع جواز أن
لا يحصل متحركا ، والحال واحدة والشرط واحد ، فلا بد من إثبات حركة ، وليس كذلك في
مسألتنا ، لأنه لا يمكن أن يقال ما من عالم إلا وقد حصل عالما مع جواز أن لا يحصل
كذلك ، لأن هذه الصفة واجبة لله تعالى ، ففارق أحدهما الآخر.
فإن قالوا : الذي
يدل على ما ذكرناه ، السواد ، فإنه لما كان علة في كون الأسود أسودا اطرد وانعكس ،
قلنا : هذا لا يصح ، لأن ذلك إنما وجب لا لأن السواد علة ، والعلة تطرد وتنعكس ،
بل لأن المرجع بالأسود إلى محل حله السواد فلا يختلف شاهدا وغائبا. يبين ذلك ، أن الأسود
ليس بكونه أسود حال حتى يعلل بوجود السواد فيه ، فيفسد ما أورده.
ومن هذا الضرب
قولهم : إن العالم لا بد له من حقيقة ، فلا يخلو ، إما أن تكون حقيقته ، من يصح
منه إيقاع الفعل على وجه الأحكام والاتساق على ما ذكرتموه ، وذلك ليس بصحيح ، لأن
أحدنا مع كونه عالما بفعل الغير لا يصح منه إيقاعه على وجه
الإحكام والاتساق.
فلم يبق إلا أن تكون حقيقته من له العلم على ما نقوله.
والأصل في الجواب
عن ذلك ، هو أن يقال لهم : هذا توصل بالعبارات إلى المعاني ، وذلك مما لا يجوز لما
سنبينه من بعد.
وبعد فما أنكرتم
أن حقيقة العالم من يصح منه إيقاع الفعل محكما متسقا إذا كان قادرا عليه ، فلا
يلزم على هذا فعل الغير لأنه ليس بقادر عليه ، حتى لو قدر عليه لأمكنه إيقاعه على
وجه الإحكام والاتساق.
وبعد ، فلو كان
حقيقة في العالم : لوجب فيمن علم أحدهما أن يعلم الأخر في الحد والمحدود ، ومعلوم أن
في الناس من يعلم العالم عالما وإن لم يعلم العلم ، كالأصم ونفاة الأعراض وغيرهم ،
فإنهم علموا العالم عالما وإن لم يخطر ببالهم العلم.
وعلى أنهم إذا
فسروا العالم بمن له العلم ، والعلم مما يوجب كون الذات عالما ، فقد أحالوا أحد
المجهولين إلى الآخر.
ومن هذا الضرب
قولهم : قد ثبت أنه تعالى عالم ، والعالم مشتق من العلم ، فيجب أن يكون عالما
بعلم. وصار هذا كالضارب ، فإنه لما كان مشتقا من الضرب ، وجب في كل ضارب أن يكون
ذا ضرب ، كذلك في مسألتنا.
قلنا : هذا توصل
بالعبارات إلى المعاني وذلك على الواجب. يبين ذلك أن الشيء يعلم أولا ثم يعبر عنه
بعبارة ، وأنتم قد عكستم هذه القضية.
وبعد فلو لم يخلق
الله تعالى العرب ، أو خلقهم خرسا ، أليس كان يلزمكم أن تعلموه عالما بعلم ، فبأي
شيء كنتم تستدلون على ذلك والحال ما قلناه؟
وبعد ، فلو كان
العالم مشتقا من العلم ، لوجب أن يسبق العلم بالمشتق منه على العلم بالمشتق ، كما
في الضارب ، فإنه لما كان مشتقا من الضرب سبق العلم بالمشتق منه على العلم بالمشتق
، حتى ما لم نعلم وقوع الضرب من قبله لم نعلمه ضاربا ، فكان يجب مثل ذلك في
مسألتنا.
والمعلوم أنهم لا
يعرفون العلم معنى يوجب كون الذات عالما ، وإنما يستعملون هذه اللفظة في العالم
مرة ، وفي المعلوم مرة أخرى. يقولون : جرى هذا بعلمي ، أي وأنا عالم به. وربما
يقولون هذا علم أبي حنيفة وعلم الشافعي ، أي معلومهما ، فكيف يقال : إن قولنا عالم
مشتق من العلم.
وبعد ، فإن هذه
الطريقة توجب عليهم أن يثبتوا لله تعالى علوما كثيرة ، لأن قولنا عالم إذا أفاد
العلم من طريق الاشتقاق ، فقولنا أعلم لا بد من أن يفيد زيادة العلوم والقوم لا
يقولون بذلك ، لأن عندهم أن الله تعالى عالم بعلم واحد.
ومنها ، هو أن
قالوا إن أحدنا إذا علم القديم تعالى عالما فلا يخلو ، إما أن يتعلق علم بذاته ،
أو بمعنى سوى ذاته. لا يجوز أن يتعلق بذاته فقط ، لأن أحدنا يعلم ذاته تعالى وإن
لم يعلم كونه عالما ، فليس إلا أنه متعلق بمعنى سوى ذاته ، وهو الذي نقوله.
والأصل في الجواب
عن ذلك ، أن علمه هذا لا يتعلق بذاته تعالى فقط ، ولا بمعنى سوى ذاته ، وإنما يتعلق
بذاته على الصفة ، كما نقوله في علم الواحد منا بحدوث الأجسام ، لأنه لا يتعلق
بذات الجسم ، فقد كان يعلم ذاته وإن لم يعلم كونه محدثا ، ولا بمعنى سوى ذاته ،
لاستحالة أن يكون المحدث محدثا لمعنى ، لأن ذلك المعنى لو كان معدوما والعدم بلا
ابتداء ، فيلزم قدم المحدث وكذلك إن كان قديما ، وإن كان محدثا فقد شارك الجسم
فيما له ولأجله احتاج إلى هذا المعنى ، فيجب أن يكون لمحدثا لمعنى آخر فيتسلسل.
فإن قيل : هذا
يبين أن له عزوجل بكونه عالما حالا وصفة ، ونحن لا نسلم ذلك فدلوا عليه ،
قلنا : الدليل على ذلك ، هو ما قد ثبت أن أحدنا يستحيل أن يكون عالما بالشيء بعلم
في جزء من قبله ، وجاهلا بذلك الشيء بجهل في جزء آخر من قلبه ، فلو لا أنهما
يوجبان للجملة صفتين متضادتين وإلا لما استحال ذلك.
فإن قيل : استحالة
اجتماعهما لتضادهما ، قلنا : تضادهما لا يخلو إما أن يكون على الجملة ، أو على المحل.
فإن كان على الجملة فهو الذي نقوله ، وإن كان على المحل فإنما يستحيل احتماله إذا
كان محله واحدا ، وهاهنا قد تغاير بهما المحل فيجب صحة وجودها على الحد الذي
ذكرناه ، فلما استحال ، تبينا أن ذلك من حيث يوجب كل واحد من المعنيين صفة معاكسة
لما يوجبه الآخر على ما نقوله.
ومما يقولونه : إن
صحة الفعل المحكم دلالة العلم ، والأدلة لا تختلف.
وجوابنا ، أنه حكم
صادر عن الجملة فلا يدل على ما يختص البعض.
ومما يتعلقون به
من هذا الضرب ، قولهم : إن العالم منا محتاج إلى العلم ، فلا يخلو ، إما أن يكون
احتياجه إلى العلم لمجرد هذه الصفة ، أو لجوازها. لا يجوز أن يقال إن حاجته إلى
العلم لجواز هذه الصفة لأن الجواز ثابت في الجاهل ، فلم يبق إلا
أن يكون احتياجه
إلى ذلك لمجرد هذه الصفة ، ومجرد هذه الصفة ثابت في القديم تعالى ، فيجب أن يكون
عالما بعلم.
والأصل في الجواب
عن ذلك ، أن العالم منا يحتاج إلى العلم لا لمجرد هذه الصفة ولا لجوازها ، بل
لتجددها مع جواز أن لا تتجدد ، وهذا غير ثابت في القديم تعالى ، فلا يجب أن يكون
عالما بعلم.
ثم يقال لهم : إن
الموجود منا يحتاج إلى موجود ، فلا يخلو ، إما أن يكون احتياجه إلى هذا الموجود
لمجرد الصفة ، أو لجوازها. لا جائز أن يكون احتياجه إلى ذلك لجواز هذه الصفة لأن
الجواز ثابت في المعدوم فلا يحتاج إلى الموجود ، فلم يبق إلا أن يكون احتياجه إلى
موجد يوجده لمجرد الوجود ، وهذا ثابت في القديم تعالى فيجب أن يحتاج إلى موجد
يوجده ، فكما أنهم يقولون إن الموجود منا لا يحتاج إلى موجد لمجرد هذه الصفة ولا
لجوازها ، بل إنما يحتاج إلى ذلك لتجدد هذه الصفة مع جواز أن لا تتجدد ، وهذا غير
ثابت في القديم تعالى ، كذلك في مسألتنا.
فهذا هو الكلام
فيما استدلوا به ابتداء على أنه تعالى عالم بعلم ، والجواب عنه.
الضرب الثاني من شبههم على أنه تعالى عالم لذاته وقولهم إنه
عالم بعلم
وأما الضرب الثاني
من شبههم ، فنحو قولهم : أنه تعالى لو كان عالما لذاته ، لوجب أن تكون ذاته بصفة
العلم ، لأن العلم إنما يتبين عما ليس بعلم بإيجابه كون الذات عالما ، حتى لو لم
يوجب ذلك لم يكن علما. وربما يغيرون العبارة فيقولون : إنه تعالى لو كان عالما
لمعنى ، لوجب في ذلك المعنى أن يكون بصفة العلم ، وكذلك إذا كان عالما لذاته وجب
في ذاته أن تكون بصفة العلم ، وفي ذلك ما نريده.
والأصل في الجواب
عن ذلك ، أنهم إنما يوردون هذه الشبهة لاعتقادهم الخطأ فينا ، أنا سلكنا في قولنا
أنه تعالى عالم لذاته طريقة التعليل ، وجعلنا ذاته تعالى كالعلة في هذه الصفة ولا
يحتاج إلى شيء آخر ، وصار الحال في ذلك كالحال في قولنا في الجوهر أنه جوهر لذاته
، على معنى أن ذاته كاف في حصول هذه الصفة وأن به يقع الاستغناء عما عداه ، فكيف
يصح كلامهم.
وأما قولهم : إن
العلم يتبين عما ليس بعلم بإيجابه كونه الذات عالما ، حتى أنه لو لم يوجب خرج عن
كونه علما فليس بأولى من أن يعكس فيقال : إنما أوجب كون العالم عالما لكونه علما ،
حتى أنه لو لم يكن علما لم يكن ليوجب هذه الصفة ، وهذا
يقتضي أن لا تتميز
العلة عن المعلل به ، ومن شأن ما نجعله علة أن يكون متميزا من المعلل به ، بل ما
قلناه أولى لأن في هذا اتباع الصفة للعلة ، وما ذكروه اتباع العلة للصفة وذلك عكس
الواجب.
وأما ما قالوه من
أنه لو كان عالما لمعنى لوجب في ذلك المعنى أن يكون بصفة العلم ، وكذلك إذا كان
عالما لذاته وجب في ذاته أن تكون بصفة العلم ، فذلك جمع بين أمرين من غير علة
تجمعهما فلا يقبل.
ثم يقال لهم : أليس
أنه تعالى لو كان عالما لمعنى لكان ذلك المعنى قد أوجب الحكم لغيره ، وكان علة فيه
ولم يلزم ذلك إذا كان عالما لذاته ، فكيف يصلح ما ذكرتموه ، وهل هذا إلا كأن يقال
: الجوهر لو كان جوهرا لمعنى ، لكان لا بد لذلك المعنى من أن يكون على صفة من
الصفات ، لها لمكانها يوجب تلك الصفة ، فكذلك الآن وهو جوهر لذاته وجب في ذاته أن
يكون بصفة ذلك المعنى ، فكما أن ذلك خلف من الكلام كذلك في مسألتنا.
من شبههم السمعية
وللمخالف في هذا
الباب شبه من جهة السمع ، قد تعلقوا بها قد ذكرناه ، وبعضها نذكره الآن.
ممن جملة ما لم
نذكره ، تعلقهم بقوله الله سبحانه : (أَنْزَلَهُ
بِعِلْمِهِ) [النساء : ١٦٦]
وقوله تعالى : (وَلا يُحِيطُونَ
بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ) [البقرة : ٢٥٥]
وقوله تعالى : (فَلَنَقُصَّنَّ
عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ) [الأعراف : ٧]
وهذا يدل على أنه تعالى عالم بعلمه.
وربما يستدلون
بالسمع على إثبات القدرة لله تعالى ، فيقولون : وإنه تعالى قال : (وَالسَّماءَ بَنَيْناها) بأييد (وَإِنَّا
لَمُوسِعُونَ) [الذاريات : ٤٧]
أي بقوته ، وقال : (هُوَ أَشَدُّ
مِنْهُمْ قُوَّةً).
والأصل في الجواب
عن ذلك ، أن الاستدلال بالسمع على هذه المسألة غير ممكن ، لأن صحة السمع ينبني على
كونه عدلا حكيما ، وكونه حكيما ينبني على أنه تعالى عالم لذاته ، فكيف يصح ذلك؟
__________________
ثم يقال لهم : لا
تعلق لكم بالظاهر لأن هذه الباءات إنما تدخل في الآلة كقولهم شيء برجلي ، وأجذب
بيدي ، وكتبت بقلمي. وليس العلم بآلة فيما دخل فيه ، فلا يصح التعلق بظاهر الآية.
وإذا عدلتم عن الظاهر فلستم بالتأويل أولى منا ، فنحمله على وجه آخر يوافق الدلالة
العقلية ، فنقول : قوله عزوجل : (أَنْزَلَهُ
بِعِلْمِهِ) أي وهو عالم به ، وقوله تعالى : (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ) أي ونحن عالمون به ، وقوله تعالى : (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ) أي معلوماته ، والعلم قد يستعمل في العالم مرة وفي المعلوم
مرة أخرى ، يقال : جرى هذا بعلمي ، أي وأنا عالم به ، ويقال : هذا علم أبي حنيفة
وعلم الشافعي أي معلومها.
وأما ما ذكروه في
إثبات القدرة لله تعالى فلا يصح ، لما قد تقدم من أن الاستدلال بالسمع على هذه
المسألة غير ممكن.
ثم نقول : قوله
تعالى (هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ
قُوَّةً) [غافر : ٢١] لا
يحوز حمله على ظاهره ، لأن الشدة والصلابة إنما تستعمل في الأجسام والله تعالى ليس
بجسم ، فيجب حمله على وجه يوافق دلالة العقل ، فنقول : (هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) المراد به وصف اقتداره وأنه أقدر القادرين.
وبعد فلو صح لكم
الاستدلال بالسمع على هذه المسألة ، لصح لنا أيضا فنستدل بقوله تعالى : (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ). ووجه الاستدلال أنه تعالى لو كان ذا علم على ما ذكرتموه ،
لوجب أن يكون فوقه من هو أعلم منه ، لأن العليم إنما يستعمل في مبالغة العالم ،
وذلك محال ، فليس إلا أنه يستحيل أنه تعالى عالم بعلم ، فيحب أن يكون عالما لذاته
قادرا لذاته على ما نقوله.
فصل ، لما بين رحمهالله الكلام فيما يستحقه تعالى من الصفات ، وكيفية استحقاقه لها
، وفرغ من الكلام في ذلك ، تكلم فيما يجب أن ينفي عنه.
نفي الحاجة عن الله
نبدأ من ذلك بكونه
غنيا ، لأن الغرض به نفي الحاجة عن القديم تعالى.
وجملة القول في
ذلك ، أن الغنى على ضربين : غنى على الإطلاق ، والآخر غنى لا على الإطلاق. أما
الغنى على الإطلاق ليس إلا الله تعالى ، وأما الذي ليس كذلك ، فكالواحد منا لأنه
لا يستغنى مطلقا وإنما يستغنى بهذا عن ذاك وبشيء عن شيء.
الحاجة إنما تجوز على الأجسام
وتحرير الدلالة
على أنه تعالى غني ، هو أنه حي لا تجوز عليه الحاجة فيجب أن يكون غنيا ، وهذه
الدلالة مبنية على أصلين : أحدهما ، هو أنه تعالى حي ، وقد تقدم. والثاني ، أنه لا
تجوز عليه الحاجة. والذي يدل على ذلك أن الحاجة إنما تجوز على من جازت عليه الشهوة
والنفار ، والشهوة والنفار إنما تجوز على من جازت عليه الزيادة والنقصان ،
والزيادة والنقصان إنما تجوز على الأجسام ، والله تعالى ليس بجسم ، فيجب أن لا
تجوز عليه الحاجة. وإذا لم تجز عليه الحاجة وجب كونه غنيا.
فإن قيل : ولم قلتم
ذلك ، وما دليلكم عليه؟
أبو هاشم والشهوة والنفار
قلنا : الدليل
عليه ، ما ذكره شيخنا أبو هاشم أن أحدنا إذا أدرك ما تشتهيه النفس فإنه يزداد جسمه
ويصح بدنه عليه ، ولو أدرك ما تنفر طبيعته عنه فإنه يضره حتى يورثه الهزال والضعف
، وذلك دلالة دالة على أن الزيادة والنقصان من حكم الشهوة والنفار.
اعتراض أبي إسحاق بن عياش
وقد اعترض هذه
الطريقة شيخنا أبو إسحاق بن عياش بأن قال : إن أحدنا قد يشتهي الطين والجبن أشد
الشهوة ، ومع ذلك يضره غاية المضرة وينقص بدنه عليه ، وكذا الجماع فإنه تتعلق به
الشهوة الشديدة ثم لا يوافقه ، وعلى هذا قال فيه الأطباء ما قالوه. وبالضد من ذلك
، إنه مع نفار طبعه عن الأدوية الكريهة المرة المنفرة وكراهته لها ، قد ينتفع
بتناولها أشد الانتفاع وأظهره.
إلا أن أبا هاشم
يمكنه الاعتذار عن ذلك ، فيقول : ليست شهوة الطين والجبن بشهوة صادقة وإنما هي
شهوة كاذبة ، وأما الأدوية فإنه لا يقع بها الانتفاع وصلاح البدن بل تضر نفسه
ونورثه الضعف والهزال ، ثم يصح بدنه على ما يتناوله من الأطعمة الشهية اللذيذة بعد
ذلك.
إلا أن الاعتماد
على هذه الطريقة غير ممكن ، لأن الجسم إنما يزداد وينقص بالأطعمة والأدوية لمجرى
العادة من الله تعالى ، فكيف يجعل ذلك من حكم الشهوة والنفار.
تغليب رأي أبي إسحاق
والطريقة المرضية
المعتمدة في ذلك ، ما ذكره شيخنا أبو إسحاق بن عياش ، وهو أنه تعالى لو جازت عليه
الشهوة لكان لا يخلو ، إما أن يكون مشتهيا لذاته ، أو لصفة من صفاته ، أو لمعنى ،
أو لفاعل. والأقسام كلها باطلة. فليس إلا أن لا يكون مشتهيا أصلا.
فإن قالوا : لم لا
يجوز أن يكون مشتهيا لذاته؟ قلنا : لأنه لو كان كذلك لوجب أن يكون ملجأ إلى خلق
المشتهيات وإلى أن يزيد فيها إلى ما لا نهاية له ، لعلمه بأنه ينتفع بها ولا مضرة
عليه في الحال ولا في المآل ، وصار الحال فيه تعالى كالحال في أحدنا إذا علم أن
بحضرته بدرة ولا ضرر عليه في أخذها لا في الحال ولا في المآل ، فكما أنه يكون ملجأ
إلى تناولها والانتفاع بها ، كذلك القديم تعالى عن ذلك علوا كبيرا ، وبهذه الطريقة
يعلم أنه تعالى لا يجوز أن يكون مشتهيا لما هو عليه في ذاته ، ولا بالفاعل.
فإن قالوا : لم لا
يجوز أن يكون مشتهيا لمعنى؟ قلنا : لأن ذلك المعنى لا يخلو ، إما أن يكون قديما ،
أو محدثا. لا يجوز أن يكون قديما ، لأن القدم صفة من صفات النفس ، والاشتراك فيها
يوجب التماثل ، وهذا يوجب في ذلك المعنى أن يكون مثلا لله تعالى ولا مثل له على ما
بنينه إن شاء الله تعالى. وبعد ، فكان يجب أن يكون مشتهيا فيما لم يزل ، وذلك
يقتضي أن يكون ملجأ إلى خلق المشتهى ، وفي ذلك لزوم قدم العالم وقد دللنا على
حدوثه. ولا يجوز أن يكون محدثا لأنه يجب أن يكون ملجأ إلى تحصيل ذلك المعنى وتحصيل
المشتهى جميعا ، وصار الحال في ذلك كالحال فيمن يرى بدرة على خطا منه ، فإنه كما
يكون ملجأ إلى تناولها ، يكون ملجأ إلى قطع تلك المسافة التي بينه وبينها ، كذلك
في مسألتنا ، لو كان القديم تعالى مشتهيا بشهوة محدثة لكان يجب أن يكون ملجأ إلى
تحصيل الشهوة والمشتهى ، وذلك محال.
وبهذه الطريقة
نعلم أنه تعالى لا يجوز أن يكون نافرا ، لأنه لو كان كذلك لكان ، إما أن يستحقه
ذاته ، وذلك يوجب أن يكون ملجأ إن أن لا يخلق شيئا من المنفرات التي خلقها وقد عرف
خلافه ، أو يستحقها لما هو عليه في ذاته أو بالفاعل ، وذلك أيضا يوجب ما ذكرناه ،
وإما أن يستحقه لمعنى ، وذلك المعنى إما أن يكون قديما وذلك يقتضي أن يكون مثلا
لله تعالى أو يكون محدثا وذلك لا يصح لما ذكرناه في الشهوة.
الإلجاء
ولما عرض في
الكلام الإلجاء تكلمنا عليه.
وجملة القول في
ذلك ، أن الإلجاء على ضربين : أحدهما يكون بطريقة المنع ، والثاني بطريقة المنافع
والمضار.
أما ما يكون
بطريقة المنع ، فهو كأن يعلم أحدنا أنه إذا حاول استنزال الملك عن سريره ، أو
الزنى بابنته بين يديه ، فإنه يمنع عن ذلك ويقتل دونه ، فإنه والحال هذه يكون ملجأ
إلى أن لا يفعل ، وإما أن يكون ملجأ بطريقة المنافع والمضار ، فهو كان يعلم أحدنا
أن تحت قدميه كنزا ، فإنه يكون ملجأ إلى استخراجه والانتفاع به.
ما يلزم معرفته من هذا الباب
ثم إنه رحمهالله بين في آخر الفصل ما يلزم المكلف معرفته في هذا الباب.
وجملة ذلك أنه يجب
أن يعلم أنه تعالى كان غنيا فيما لم يزل ، ويكون غنيا فيما لا يزال ، ولا يجوز
خروجه عنها بحال من الأحوال. والكلام في ذلك مثل الكلام في كونه حيا ، لأن المرجع
في كونه غنيا ليس إلا إلى كونه حيا لا تجوز عليه الحاجة. فهذه طريقة القول في هذا
الفصل.
فصل والغرض به الكلام في أنه تعالى لا يجوز أن يكون جسمه
ومما يجب نفيه عن
الله تعالى كونه جسما. وقيل الدلالة على ذلك وذكر الخلاف فيه ، نذكر حقيقة الجسم.
حقيقة الجسم
فاعلم أن الجسم ،
هو ما يكون طويلا عريضا عميقا ، ولا يحصل فيه الطول والعرض والعمق إلا إذا تركب من
ثمانية أجزاء ، بأن يحصل جزءان في قبالة الناظر ويسمى طولا وخطا ، ويحصل جزءان
آخران عن يمينه ويساره منضمان إليهما ، فيحصل العرض ويسمى سطحا أو صفحة ، ثم يحصل
فوقها أربعة أجزاء مثلها فيحصل العمق ، وتسمى الثمانية أجزاء المركبة على هذا
الوجه جسما. هذا هو حقيقة الجسم في اللغة. والذي يدل عليه ، أن أهل اللغة متى
شاهدوا جسمين قد اشتركا في الطول والعرض والعمق ، وكان لأحدهما مزية على الآخر
قالوا : هذا أجسم من ذلك ، يدل على هذا
قول الفرزدق :
وأجسم ما عاد
جسوم رجالهم
|
|
وأكثر إن عدوا
عديدا من الترب
|
وقال آخر :
لقد علم الحي من
عامر
|
|
بأن لنا ذروة
الأجسم
|
وأنا المصاليت
يوم الوغى
|
|
إذ ما العواوير
لم تقدم
|
وقال يعقوب في
إصلاح المنطق : تجسمت الأمر إذا ركبت أجسمه.
ولفظة أفعل إنما
تستعمل في شيئين اشتركا في صفة من الصفات وكان لأحدهما مزية على الآخر ، ولهذا
يقال العسل أحلى من الدبس لما اشتركا في الحلاوة وكان أحدهما أشد حلاوة من الآخر ،
ولا يقال العسل أحلى من الخل لما لم يشتركا في الحلاوة أصلا. فلو لا أن الجسم
عندهم هو الطويل العريض العميق وإلا لما استعملوا فيه لفظة أفعل عند الزيادة فيه.
الخلاف في هذه المسألة :
ثم إن الخلاف في
هذه المسألة لا يخلو ، إما أن يكون عن طريق المعنى كأن يقول.
١ ـ عن طريق المعنى
إن الله تعالى جسم
على معنى أنه طويل عريض عميق ، وأنه يجوز عليه ما يجوز على الأجسام من الصعود
والنزول والهبوط والحركة والسكون والانتقال من مكان إلى مكان.
٢ ـ أو طريق العبارة
وإما أن يكون عن
طريق العبارة ، يجوز أن يقول : إن الله تعالى جسم ليس بطويل ولا عريض ولا عميق ،
ولا يجوز عليه ما يجوز على الأجسام من الصعود والهبوط والحركة والسكون والانتقال
من مكان إلى مكان ، ولكن أسميه جسما لأنه قائم بنفسه.
فإن كان خلافه من
هذا الوجه ، فالكلام عليه ما ذكرناه من أن الجسم إنما يكون طويلا عريضا عميقا فلا
يوصف به القديم تعالى.
وإن كان خلافه من
طريق المعنى ، فالكلام عليه هو أنه تعالى لو كان جسما لكان محدثا ، وقد ثبت قدمه
لأن الأجسام كلها يستحيل انفكاكها من الحوادث التي هي الاجتماع والافتراق والحركة
والسكون ، وما لم ينفك من المحدث يجب حدوثه لا محالة.
ويمكن إيراد هذه
الجملة على وجه آخر ، فنقول : لو كان الله تعالى جسما ـ ومعلوم أن الأجسام كلها
متماثلة ـ لوجب أن يكون الله تعالى محدثا مثل هذه الأجسام والأجسام قديمة مثل الله
تعالى ، لأن المثلين لا يجوز افتراقهما في قدم ولا حدوث ، وقد عرف خلافه.
فإن قيل : دلوا
على أن الأجسام متماثلة ليتم ما ذكرتم. قيل له : الدليل على ذلك ، هو أن الأجسام
لو لم تكن متماثلة لكانت مختلفة إذ لا واسطة بينهما ، فكان يجب افتراقهما في صفة
الافتراق في تلك الصفة يكشف عن الاختلاف ، ومعلوم أنها لا تفترق في صفة الافتراق
فيها يكشف على الاختلاف ، فيجب أن نقضي بتماثلها.
فإن قال : ولم
قلتم ذلك ، وما أنكرتم أنها افترقت في صفة الافتراق فيها ينبئ عن الاختلاف. قلنا :
لأن ما يجب لهذا الجوهر في كل حال ، يجب لسائر الجواهر في سائر الأحوال ، وما يجب
لهذا بشرط يجب لسائرها كذلك ، وما يصح على هذا الجوهر يصح على سائرها ، وما يستحيل
على هذا الجوهر يستحيل على الكل ، فصح أنها تفترق في صفة الافتراق فيها ينبئ عن
الاختلاف.
بيان ذلك ، أنه
لما وجب كون الجوهر جوهرا في سائر الأحوال وجب ذلك في الجواهر كلها ، ولما وجب
كونه متميزا بشرط الوجود وجب ذلك في سائر الجواهر ، ولما صح كونه كائنا في هذه
الجهة بدلا من كونه كائنا في الجهة التي هو فيها صح ذلك في كل جوهر ، ولما استحال
في هذا الجوهر أن يكون في هذه الجهة وفي غيرها دفعة واحدة استحال ذلك في كل جوهر ،
فصح ما قلناه : من أن الجواهر لم تفترق في صفة الافتراق فيها يكشف عن الاختلاف.
فإن قيل : أليس أن
بعض الأجسام أسود وبعضها أبيض ، فكيف يصح قولكم : إنها لم تفترق في صفة تنبئ عن
الاختلاف ، وهل قضيتم باختلاف هذين الجسمين لافتراقهما في هذا الوجه؟ قلنا : إن
هذا الافتراق ليس براجع إلى الجسمين ، وإنما يرجع إلى ما يحلهما. يبين ذلك أن الأسود
ليس له بكونه أسود حال ، ولا الأبيض
بكونه أبيض حال ،
وإنما المرجع بهما إلى حلول السواد في أحد المحلين ، والبياض في المحل الآخر ،
وهذا مما لا تأثير له في اقتضاء الخلاف والوفاق. لو لا هذا وإلا كان يجب إذا انتفى
عن المحلين السواد والبياض أن يصير المحلان متماثلان بعد أن كانا مختلفين ، وذلك
مستحيل.
فإن قال : أليس أن
بعض الأجسام تحتمل ما لا يحتمله البعض الآخر ، فإن الحي يحتمل الحياة والجماد لا
يحتملها ، والقلب يحتمل الشهوة والعلم واليد لا تحتملهما ، فكيف حكمتم بتماثلهما؟
قيل له : إن الجسم
يحتمل ما يحتمله لتحيزه ، والتحيز ثابت في سائر الأجسام فلا جرم ما من جسم إلا
ويحتمل مثل ما يحتمله الآخر ، بل عين ما يحتمله الآخر على ما نقوله في التأليف.
فأما ما ذكرته في
الجماد والحي ، فلأن الحياة تحتاج في الوجود إلى بنية مخصوصة مركبة من لحم ودم
وليس كذلك الجماد ، لا لأن المحل لا يحتملهما.
وكذلك الكلام في
العلم فإنه إنما لم يصلح وجوده في اليد ، لاحتياجه في الوجود إلى بنية مثل بنية
القلب. يبين ذلك أنا لو قدرنا أن بنية اليد مثل بنية القلب ، أو الجماد مثل الحي ،
لصح وجود هذه المعاني فيها.
الله شيء لا كالأشياء :
فإن قيل : أليس عندكم
أنه تعالى شيء لا كالأشياء ، وقادر لا كالقادرين ، وعالم لا كالعالمين ، فهلا جاز
أن يكون جسما لا كالأجسام؟.
قيل له : إن الشيء
اسم يقع على ما يصح ما يعلم ويخبر عنه ، ويتناول المتماثل والمختلف والمتضاد ،
لهذا يقال في السواد والبياض أنهما شيئان متضادان. فإذا قلنا : إنه تعالى شيء لا
كالأشياء فلا يتناقض كلامنا ، لأنا لم نثبت بأول كلامنا ما نفيناه بآخره. وكذا إذا
قلنا : إنه تعالى قادر لا كالقادرين ، وعالم لا كالعالمين فالمراد به أنه قادر
لذاته ، وعالم لذاته ، وغيره قادر لمعنى وعالم لمعنى ، وليس كذلك ما ذكرتموه ، لأن
الجسم هو ما يكون طويلا عريضا عميقا ، فإذا قلتم : إنه جسم فقد أثبتم له الطول
والعرض والعمق ، ثم إذا قلتم : لا كالأجسام فكأنكم قلتم : ليس بطويل ولا عريض
ولا عميق ، فقد
نفيتم آخرا ما أثبتموه أولا ، وهذا هو حد المناقضة ففارق أحدهما الآخر.
أحد ما يدل على أنه تعالى ليس جسما :
وأحد ما يدل على
أنه تعالى لا يجوز أن يكون جسما ، هو أنه تعالى لو كان جسما لوجب أن يكون قادرا
بقدرة ، والقادر بالقدرة لا يقدر على فعل الأجسام ، فكان يجب أن لا يصح من الله
تعالى فعل الأجسام ، وقد عرف خلافه.
وهذه الدلالة
مبنية على أصلين : أحدهما : هو أنه تعالى لو كان جسما لكان قادرا بقدرة : والثاني
: أن القادر بالقدرة لا يصح منه فعل الجسم.
أما الذي يدل على
أنه تعالى لو كان جسما لوجب أن يكون قادرا بقدرة فهو أنه لو لم يكن قادرا بقدرة
لوجب أن يكون قادرا للذات ، وصفة الذات ترجع إلى الآحاد والأفراد دون الجمل ، من
حيث أنها هي الصفة التي يقع بها الخلاف والوفاق ، وذلك يرجع إلى كل جزء منه ، فكان
يجب أن يكون كل جزء منه قادرا ، وأن يكون بمنزلة أحياء قادرين ضم بعضهم إلى بعض ،
وهذا يقتضي أن لا يحصل الفعل بداع واحد بل يحصل بدواع كثيرة مختلفة وأن يقع بينهم
التمانع ، والمعلوم خلاف ذلك.
وبهذه الطريقة
يعلم أن الواحد منا لا يجوز أن يكون قادرا لذاته.
ويمكن سلوك طريقة
أخرى في الواحد منا ، فيقال : إنه حصل قادرا مع جواز أن لا يحصل قادرا والحال
واحدة والشرط واحد ، فلا بد من أمر ومخصص له ولمكانه حصل قادرا وإلا لم يكن بأن
يحصل على هذا الوجه أولى من خلافه ، وليس ذلك الأمر إلا وجود معنى هو القدرة ،
فهذا هو الكلام في أنه تعالى لو كان جسما لكان قادرا بقدرة.
وأما الكلام في أن
القادر بالقدرة لا يقدر على فعل الأجسام ، فهو أنه لو صح منه بما فيه من القدرة
فعل الأجسام ، لصح منا أيضا بما فينا من القدرة ، لأن القدر وإن اختلفت فمقدوراتها
متجانسة ، حتى ما من قدرة يصح أن يفعل بها جنس إلا وغيرها من القدر يصح ذلك الجنس
بها ، فيلزم في الواحد منا أن يخلق لنفسه ما شاء من الأموال والأولاد ، والمعلوم
خلاف ذلك.
ومما يدل على أن
القادر بالقدرة لا يصح منه فعل الجسم ، هو أن القادر بالقدرة
لا يصح منه الفعل
إلا على وجه المباشرة أو التوليد ، ولا يصح فعل الجسم على هذين الوجهين ، فليس إلا
أنه لا يقدر على فعل الجسم أصلا.
فإن قيل : ولم
قلتم إن القادر بالقدرة لا يقدر على الفعل إلا على هذين الوجهين؟.
الوجوه التي يصح أن يفعل عليها الفعل :
قلنا : لأن الوجوه
التي يصح أن يفعل عليها الفعل لا تعدو وجوها ثلاثة : الاختراع ، والمباشرة ،
والتوليد.
أما الاختراع ،
فلا شك أن القادر بالقدرة لا يقدر عليه ، لأنه إيجاد فعل متعد عنه من غير سبب ،
وهذا لا يتأتى من القادرين بالقدرة ، إذ لو صح ذلك لصح من أحدنا أن يمنع غيره من
التصرفات من غير أن يماسه ، أو يماس ما ماسه والمعلوم خلافه.
فإن قيل : لم لا
يجوز أن يفعل الجسم على وجه المباشرة؟
قلنا : لأن
المباشرة هو أن يفعل الفعل مبتدأ بالقدرة في محلها ، فلو فعل الجسم بهذه الطريقة
لزم حلول الجسم في الجسم ، وذلك محال.
فإن قال : لم لا
يفعل الجسم بطريقة التوليد؟ قلنا : التوليد على ضربين ، أحدهما : أن يكون متعديا
عن محل القدرة ، والآخر لا يكون متعديا ، فإن لم يتعد عن محل القدرة لزم ما ذكرناه
في المباشر ، وإن كان متعديا عن محل القدرة فالذي يتعدى به الفعل عن محل القدرة
ليس إلا الاعتماد ، والاعتماد مما لا خطر له في توليد الجسم.
فإن قال : ولم
قلتم ذلك؟ قلنا : لأن الاعتماد لو كان يولد الجسم لوجب إذا اعتمد أحدنا في سمت أن
يملأها جواهر وأجساما ، ومعلوم خلافه.
فإن قيل : إنه
يحصل عن اعتماداته الأجسام ، إلا أنها تتبدد وتتلاشى فلا ترى.
قلنا : فيجب على
هذا أن أحدنا إذا أدخل يده في زق وسد رأسه عليها ، ثم يعتمد أن يمتلئ الزق فينتفخ
كما لو نفخ فيه ، وقد عرف خلافه.
فإن قيل : إن
أحدنا يقدر على فعل الجسم ، غير أنه لا يتأتى منه لمنع ، وهو كون الجهات مشغولة
الجواهر ، فإن العالم ممتلئ جواهر. قلنا : لو كان الأمر كما ذكرتم
لوجب أن يتعذر
علينا التصرف البتة حتى لا يمكننا تحريك أيدينا ، والمعلوم خلاف ذلك فليس إلا أن
في العالم خلاء على ما نقوله.
فإن قيل : ما
أنكرتم أن أحدنا إنما لا يمكن فعل الجسم لمنع آخر؟ قلنا : لا منع إلا ويصح ارتفاعه
، فكان يجب صحة أن يفعل الجسم في بعض الحالات لارتفاع ذلك المنع ، وقد عرف خلافه.
فهذا هو الكلام على من خالف من جهة المعنى.
الخلاف في المسألة عن طريق العبارة.
وأما من خالف من
جهة العبارة ، فقال : إنه تعالى جسم على معنى أنه قائم بذاته ، فقد مر من الكلام
عليه شطر ، والذي نذكره هاهنا هو أنهم يستعملون من هذه اللفظة لفظة أفعل ، ولفظة
أفعل إنما تستعمل فيما يقبل التزايد ، وكونه قائما بذاته مما لا يقبل التزايد لأن
المرجع به إلى أنه لا يحتاج في وجوده إلى غيره ، وهذا نفي ، والنفي لا يصح دخول
التزايد فيه ، وهذه طريقة معتمدة ، والأولى من هذه الطريقة والأحسم للشغب أن نقول
: إن الجسم هو الطويل العريض العميق ، ولا يجوز أن يسمى بذلك إلا من كان طويلا
عريضا عميقا ، والله تعالى ليس كذلك ، فلا يجوز وصفه به.
الشبه : سمعية ، عقلية.
وللمخالف في هذا
الباب شبه من جهة السمع والعقل.
الشبه العقلية :
أما شبههم من جهة
العقل :
قالوا : قد ثبت
أنه تعالى عالم قادر ، والعالم القادر لا يكون إلا جسما ، دليله الشاهد. وربما
يغيرون العبارة فيقولون : إن من صح أن يعلم ويقدر مفارق لمن لا يصح أن يعلم ويقدر
مفارقة الجسم للعرض. والقديم تعالى ممن يصح أن يعلم ويقدر ، فيجب أن يكون جسما.
والأصل في الجواب
عن ذلك ، أن الواحد منا إذا كان عالما قادرا يجب أن يكون جسما لعلة ، تلك العلة
مفقودة في حق القديم تعالى ، وهو أن أحدنا عالم بعلم وقادر بقدرة. والعلم والقدرة
يحتاجان في الوجود إلى محل مبني مبنية مخصوصة ، والمحل المبني على هذا الوجه لا بد
من أن يكون جسما ، وليس كذلك القديم تعالى
لأنه عالم لذاته ،
قادر لذاته ، فلا يجب إذا كان عالما قادرا أن يكون جسما.
ثم يقال لهم :
الواحد منا إذا كان عالما قادرا كما يجب أن يكون جسما ، يجب أن يكون ذا قلب وضمير
، وأن يكون مركبا من لحم ودم ، فقولوا مثله في القديم تعالى ، والقوم لا يقولون
بذلك.
شبهة أخرى لهم في
المسألة ، وهو أنهم قالوا : المعقول إما الجسم وإما العرض والقديم تعالى يستحيل أن
يكون عرضا ، فيجب أن يكون جسما. قلنا : ما تعنون بالمعقول؟ فإن أردتم المعلوم ، ففيه
وقع النزاع وهلا جاز أن يكون هاهنا ذات معلوم مخالف للأجسام والأعراض وهو القديم
تعالى. وإن أردتم به ما يمكن اعتقاده ، فهو نفس التنازع فيه أيضا. وهلا جاز أن
يكون هاهنا ذات يمكن اعتقاده ولا يكون جسما ولا عرضا وهو الله تعالى.
فإن قيل : إنا
نعني بالمعقول ما قد شوهد نظيره ، قلنا : وهلا جاز أن يكون هاهنا ذات لم يشاهد
نظيره قط وهو الله تعالى. ثم يقال لهم ألستم قد أثبتم الحياة والقدرة وإن لم
تشاهدوا نظيرا قط ، فهلا جاز مثله في مسألتنا؟ هذا هو الكلام في شبههم من جهة
العقل.
الشبه السمعية :
وأما شبههم من جهة
السمع فكثيرة.
(الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى).
منها : قوله تعالى
: (الرَّحْمنُ عَلَى
الْعَرْشِ اسْتَوى (٥)) [طه : ٥] قالوا
الاستواء إنما هو القيام والانتصاب ، والانتصاب والقيام من صفات الأجسام ، فيجب أن
يكون الله تعالى جسما.
والأصل في الجواب
عن ذلك أن يقال لهم : أولا إن الاستدلال بالسمع على هذه المسألة غير ممكن ، لأن
صحة السمع موقوفة عليها ، لأنا ما لم نعلم القديم تعالى عدلا حكيما لا نعلم صحة
السمع ، وما لم نعلم أنه غني لا تجوز عليه الحاجة لا نعلمه عدلا ، وما لم نعلم أنه
ليس بحسم لا نعلمه غنيا ، فكيف يمكن الاستدلال بالسمع على هذه المسألة ، وهل هذا
إلا استدلال بالفرع على الأصل؟ وذلك محال من وجه آخر ، هو أنا ما لم نعلم به عالما
لذاته لا نعلمه عدلا ، والجسم يستحيل أن يكون
عالما لذاته. ثم
يقال لهم : الاستواء هاهنا بمعنى الاستيلاء والغلبة ، وذلك مشهور في اللغة. قال
الشاعر :
فلما علونا
واستوينا عليهم
|
|
تركناهم صرعى
لنسر وكاسر
|
وقال آخر :
قد استوى بشر
على العراق
|
|
من غير سيف ودم
مهراق
|
فالحمد للمهيمن
الخلاق فإن قالوا : إنه تعالى مستول على العالم جملة ، فما وجه تخصيص العرش بالذكر؟
قلنا : لأنه أعظم ما خلق الله تعالى فلهذا اختصه بالذكر.
وقد قيل : إن
العرش هاهنا بمعنى الملك ، وذلك ظاهر في اللغة يقال : ثلّ عرش بني فلان ، أي إذا
زال ملكهم. وفيه يقول الشاعر :
إذا ما بنو
مروان ثلت عروشهم
|
|
وأودت كما أودت
حمير
|
(وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي).
وقد تعلقوا أيضا
بقوله تعالى : (وَلِتُصْنَعَ عَلى
عَيْنِي) قالوا : فأثبت لنفسه العين ، وذو العين لا يكون إلا جسما.
والأصل في الجواب
عن ذلك ، أن المراد به لتقع الصنعة على علمي ، والعين قد تورد بمعنى العلم ، يقال
جرى هذا بعيني أي جرى بعلمي. ولو لا ما ذكرناه وإلا لزم أن يكون لله تعالى عيون
كثيرة ، لأنه قال : «بأعيننا»
والعلوم خلاف ذلك.
(كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ).
وقد تعلقوا بقوله
تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ
إِلَّا وَجْهَهُ) قالوا : فأثبت لنفسه الوجه ، وذو الوجه لا يكون إلا جسما.
وجوابنا عن هذا ،
أن المراد به كل شيء هالك إلا ذاته أي نفسه ، والوجه بمعنى الذات مشهور في اللغة ،
يقال : يقال : وجه هذا الثوب جيد ، أي ذاته جيدة وبعد ، فلو كان الأمر على ما
ذكروه ، للزم أن ينتفي كل شيء منه إلا الوجه ، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
(لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ).
وقد تعلقوا أيضا
بقوله تعالى : (لِما خَلَقْتُ
بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ) [ص : ٧٥] ، قالوا
فأثبت لنفسه اليدين ، وهذا يدل على كونه جسما.
والجواب عنه أن
البدن هاهنا بمعنى القوة ، وذلك ظاهر في اللغة ، يقال : ما لي على هذا الأمر يد ،
أي قوة. فإن قالوا فما وجه التشبيه إذا؟ قلنا : إن ذلك مستعمل في اللغة ، قال
الشاعر :
فقالا شفاك الله
والله ما بنا
|
|
لما حملت منك
الضلوع يدان
|
على أمن عادتهم
وضع المثنى مكان المفرد ، وعلى هذا قال الشاعر :
فإن بخلت سدوس
بدرهميها
|
|
فإن الريح طيبة
قبول
|
وقال أبو وهب ،
الوليد بن عقبة :
أرى الجزار يشحذ
شفرتيه
|
|
إذا هبت رياح
أبي عقيل
|
وإنما أراد شفرته
، ولكن ثنى.
(بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ).
وقد تعلقوا أيضا
بقوله تعالى : (بَلْ يَداهُ
مَبْسُوطَتانِ) [المائدة : ٦٤]
قالوا : فأثبت لنفسه اليد وذو اليد لا يكون إلا جسما.
والأصل في الجواب
عن ذلك ، أن اليد هاهنا بمعنى النعمة ، وذلك ظاهر في اللغة ، يقال : لفلان علي منة
، أي منة ونعمة. فإن قيل فما معنى التثنية؟ قلنا : قد أجبنا عن ذلك.
(يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ).
وقد تعلقوا أيضا
بقوله تعالى : (يا حَسْرَتى عَلى ما
فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) [الزمر : ٥٦]
قالوا : وذو الجنب لا يكون إلا جسما.
والجواب عنه ، أن
الجنب هاهنا بمعنى الطاعة ، وذلك مشهور في اللغة. وعلى هذا يقال : اكتسب هذا الحال
في جنب فلان ، أي في طاعته وخدمته.
(وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ).
وقد تعلقوا أيضا
بقوله تعالى : (وَالسَّماواتُ
مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) [الزمر : ٦٧]
قالوا : وذو اليمين لا يكون إلا جسما.
وجوابنا أن اليمين
بمعنى القوة ، وهذا كثير ظاهر في اللغة ، وعلى هذا قال الشاعر :
رأيت عرابة
الأوسي يسمو
|
|
إلى العلياء
منقطع القرين
|
إذا ما راية
رفعت لمجد
|
|
تلقاها عرابة
باليمين
|
(يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ).
وقد تعلقوا أيضا
بقوله تعالى : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ
ساقٍ) [القلم : ٤٢]
قالوا وذو الساق لا يكون إلا جسما.
والأصل في الجواب
عن ذلك ، أنه لا يقر لكم بالظاهر لأنه لم يضف الساق إلى نفسه ، فنقول : المراد به
الشدة ، يبين ذلك أنه تعالى يصف هول يوم القيامة وشدته جريا على عادة العرب ، فهو
بمنزلة قولهم قامت العرب على ساقها.
(وَجاءَ رَبُّكَ).
وقد تعلقوا بقوله
تعالى : (وَجاءَ رَبُّكَ) [الفجر : ٢٢]
قالوا : فالله تعالى وصف نفسه بالمجيء ، والمجيء لا يتصور إلا من الأجسام.
والأصل في الجواب
عن ذلك ، أنه تعالى ذكر نفسه وأراد غيره جريا على عادتهم في حذف المضاف وإقامة
المضاف إليه مقامه ، كما قال عزوجل : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] يعني
أهل القرية. وقال في موضع آخر : (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى
رَبِّي) [الصافات : ٩٩] أي
إلى حيث أمرني ربي.
ما يلزم المكلف معرفته :
ثم إن رحمهالله بين ما يلزم المكلف معرفته في هذا الباب.
وجملة القول في
ذلك ، أن الذي يلزمه أن يعلم ، أنه تعالى لم يكن جسما فيما لم يزل ، ولا يكون كذلك
فيما لا يزال ، ولا يجوز أن يكون على هذه الصفة بحال من الأحوال.
والذي يدل على ذلك
، هو أن ما دل على استحالة كونه جسما الآن ثابت في جميع الحالات فيجب استحالة كونه
جسما في سائر الحالات فهذه طريقة القول في ذلك.
فصل
: لما بين رحمهالله الكلام في أنه تعالى لا يجوز أن يكون جسما بين استحالة
كونه عرضا ، ونحن نبين أولا حقيقة العرض.
حقيقة العرض في اللغة :
اعلم أن العرض في
أصل اللغة هو ما يعرض في الوجود ولا يطول لبثه سواء كان جسما أو عرضا ، ولهذا يقال
للسحاب عارض ، قال الله تعالى : (هذا عارِضٌ
مُمْطِرُنا) [الأحقاف : ٢٤] أي
ممطرنا ، ولا بد من هذا التقدير لأن صفة النكرة نكرة ، وقيل : الدنيا عرض حاضر يأكل
منه البر والفاجر ، هذا في أصل اللغة.
في الاصطلاح :
وأما في الاصطلاح
، فهو ما يعرض في الوجود ولا يجب لبثة كلبث الجواهر والأجسام ، وقولنا ولا يجب
لبثه كلبث الجواهر والأجسام ، احتراز عن الأعراض الباقية فإنها تبقى ، ولكن لا على
حد بقاء الأجسام والجواهر لأنها تنتفي بأضدادها ، والجواهر والأجسام باقية ثابتة.
وإذ قد عرفت هذا ،
فالذي يدل على أنه تعالى لا يجوز أن يكون عرضا هو أنه لو كان كذلك ، لكان لا يخلو
، إما أن يكون شبيها بالأعراض جملة وذلك يقتضي كونه على صفات متضادة وذلك محال ،
أو يكون شبيها ببعضها دون بعض وذلك يقتضي أن يكون القديم تعالى محدثا مثلها أو هي
قديمة مثل الله تعالى ، وكلا القولين فاسد لأنا قد بينا قدم القديم وحدوث الأعراض.
وإن شئت قلت :
الأعراض على ضربين : باق ، وغير باق. ولا يجوز أن يكون القديم تعالى من قبيل ما لا
يبقى لما قد مر من قبل ، ولا أن يكون من قبيل ما يبقى لأنه ما من شيء منها إلا وهو
مختص بحكم ، وذلك الحكم مستحيل على الله تعالى.
وإن شئت ، قلت :
الأعراض على ضربين : مدرك ، وغير مدرك. لا يجوز أن يكون القديم تعالى من قبيل
المدركات لما سنبينه من بعد إن شاء الله تعالى ، ولا أن يكون من قبيل ما لا يدرك
لأنه ما من شيء منها إلا وهو مختص بحكم ، ذلك الحكم
مستحيل على الله
تعالى.
وإن شئت ، قلت :
الأعراض على ضربين : علة ، والآخر ليس بعلة ، والقديم تعالى لا يجوز أن يكون من
قبيل العلل لما بيناه من قبل ، ولا أن يكون من القبيل الآخر ، لأنه ما من شيء منها
إلا وهو مختص بصفة ، تلك الصفة مستحيلة على الله تعالى.
وتحقيق ذلك ، أن
يقال : قد ثبت حدوث الأعراض جملة ، وصح أن الله تعالى قديم ، فكيف يكون عرضا؟ وذكر
السيد الإمام أن هذا الجنس ليس بمعتمد.
ما يلزم المكلف معرفته :
ثم إنه رحمهالله أورد في آخر الفصل ما يلزم المكلف معرفته في هذا الباب.
وجملة القول فيما
يلزم ذلك ، أن يعلم أن الله تعالى لم يكن عرضا فيما يزل ، ولا يكون عرضا فيما لا
يزال ، ولا يجوز أن يكون على هذه الصفة بحال من الأحوال. والذي يدل على ذلك ، أن
ما دل على استحالة كونه عرضا الآن ثابت في جميع الأحوال ، ولا يجوز أن يكون عرضا
في وقت من الأوقات فهذه طريقة القول فيه.
فصل : في نفي الرؤية
نفي الرؤية :
وما يجب نفيه عن
الله تعالى الرؤية.
وهذه مسألة خلاف
بين الناس. وفي الحقيقة ، الخلاف في هذه المسألة إنما يتحقق بيننا وبين هؤلاء
الأشعرية الذين لا يكيفون الرؤية ، فأما المجسمة فهم يسلمون أن الله تعالى لو لم
يكن جسما لما صح أن يرى ، ونحن نسلم لهم أن الله تعالى لو كان جسما لصح أن يرى ،
والكلام معهم في هذه المسألة لغو.
يصح الاستدلال بالجمع والعقل فيها.
ويمكن أن نستدل
على هذه المسألة بالعقل والسمع جميعا ، لأن صحة السمع لا تقف عليها ، وكل مسألة لا
تقف عليها صحة السمع فالاستدلال عليها بالسمع ممكن. ولهذا جوزنا الاستدلال بالسمع
على كونه حيا ، لما لم تقف صحة السمع عليها ، يبين
ذلك ، أن أحدنا
يمكنه أن يعلم أن للعالم صانعا حكيما ، وإن لم يخطر بباله أنه هل يرى أم لا ،
ولهذا لم نكفر من خالفنا في هذه المسألة ، لما كان الجهل بأنه لا يرى لا يقتضي
جهلا بذاته ولا بشيء من صفاته. ولهذا جوزنا في قوله تعالى : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) [الأعراف : ١٤٣]
أن يكون سؤال موسى عليهالسلام سؤالا لنفسه ، لأن المرئي ليس له بكونه مرئيا حالة وصفة.
وعلى هذا لم نجهل شيخنا أبا علي بالأكوان حيث قال إنها مدركة بالبصر.
إذا ثبتت هذه
الجملة فاعلم أنه رحمهالله بدأ بالاستدلال على هذه المسألة بقوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ
يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣)) [الأنعام : ١٠٣]
ووجه الدلالة في الآية ، هو ما قد ثبت من أن الإدراك إذا قرن بالبصر لا يحتمل إلا
الرؤية وثبت أنه تعالى نفى عن نفسه إدراك البصر ، ونجد في ذلك تمدحا راجعا إلى
ذاته ، وما كان من نفيه تمدحا راجعا إلى ذاته كان إثباته نقصا ، والنقائص غير
جائزة على الله تعالى في حال من الأحوال.
فإن قيل : ولم
قلتم إن الإدراك إذا اقترن بالبصر لم يحتمل إلا بالرؤية؟ قلنا : لأن الرائي ليس
بكونه رائيا حاله زائدة على كونه مدركا ، لأنه لو كان أمرا زائدا عليه لصح انفصال
أحدهما عن الآخر إذ لا علاقة بينهما من وجه معقول ، والمعلوم خلافه.
وبعد : فإن
الإدراك إذا أطلق يحتمل معاني كثيرة ، فقد يذكر ويراد به البلوغ ، يقال : أدرك
الغلام أي بلغ الحلم ، وقد يذكر ويراد به النضج والإيناع ، يقال : أدرك الثمر إذا
أينع ، فأما إذا قيد بالبصر فلا يحتمل إلا الرؤية على ما ذكرناه ، وصار الحال فيه
كالحال في السكون فإنه إذا قرن بالنفس لا يحتمل إلا العلم ، وإن احتمل بإطلاقه
شيئا آخر.
يبين ما ذكرناه ،
أنه لا فرق بين قولهم أدركت ببصري هذا الشخص وبين قولهم رأيت ببصري هذا الشخص ،
ورأيت ببصري هذا الشخص ، أو أبصرت ببصري هذا الشخص ، حتى لو قال أدركت ببصري وما
رأيت ، أو رأيت وما أدركت ، لعد مناقضا.
ومن علامات اتفاق
اللفظين في الفائدة ، أن يثبتا في الاستعمال معا ويزولا معا ، حتى لو أثبت بأحدهما
ونفي بالآخر لتناقض الكلام ، وبهذه الطريقة نعلم اتفاق الجلوس والقعود في الفائدة
وغيرها من الأسامي.
فإن قيل : كيف يصح
قولكم إن من علامات اتفاق اللفظتين في الفائدة أن يثبتا في
الاستعمال معا
ويزولا معا ، ومعلوم أن الإرادة والمحبة واحدة ثم يستعمل أحدهما حيث لا يستعمل
الآخر ، فيقال : أحب جاريتي ولا يقال : أريدها ، قلنا : كلامنا فيما إذا استعملا
حقيقة ، وهذا فقد استعمل مجازا ، وحقيقته أحب الاستمتاع بها ، فلا جرم يجوز أن
يقول : أريد الاستمتاع بها ، وصار الحال فيما ذكرناه كالحال في الغائط فإنه المكان
المطمئن في الأصل ، ثم يتجوز به في الكتابة عن قضاء الحاجة ، ولا يستعمل بدله
المكان المطمئن في الكتابة عن قضاء الحاجة لما كان ذلك الاستعمال على سبيل التوسع
والمجاز لا على وجه الحقيقة ، كذلك هاهنا.
فإن قيل : أليس
أنهم يقولون : أدركت ببصري حرارة الميل ، فكيف يصح قولكم : إن الإدراك إذا قرن
بالبصر لا يحتمل إلا الرؤية؟ قلنا : ليس هذا من اللغة في شيء وإنما اخترعه ابن أبي
بشر الأشعري ليصحح مذهبه به ، إذ لم يرد في كلامهم لا المنظور ولا المنثور.
يبين ما ذكرناه
ويوضحه ، أن هذه الباء إذا دخلت على الأسامي أفادت أنها آلة فيما دخلت فيه ،
كقولهم مشيت برجلي وكتبت بقلمي. والبصر ليس بآلة في إدراك الحرارة إذ الخيشوم
يشاركه في ذلك ، فلو كان آلة فيه لم يجز ذلك. ألا ترى أن البصر لما كان آلة في
الرؤية لم يشاركه فيه آلة السمع وغيره من الحواس ، كذلك كان يجب مثله في مسألتنا.
على أنا لم نقل :
إن الإدراك إذا قرن بالبصر ، وقيد بالحرارة فإنه لا يفيد إلا الرؤية ، حتى يكون
هذا نقضا لكلامنا ، وإنما قلنا : إنه إذ اقترن بالبصر لا يحتمل إلا الرؤية ، فلا
يتوجه هذا على ما قلناه.
فإن قيل : ولم
قلتم إن هذه الآية وردت مورد التمدح؟ قلنا : لأن سياق الآية يقتضي ذلك. وكذلك ما
قبلها وما بعدها ، لأن جميعه في مدائح الله تعالى ، وغير جائز من الحكيم أن يأتي
بجملة مشتملة على المدح ثم يخلطها بما ليس بمدح البتة ، ألا ترى أنه لا يحسن أن
يقول أحدنا : فلان ورع تقي نقي الجيب مرضي الطريقة أسود يأكل الخبز يصلي الليل
ويصوم النهار ، لما لم يكن لكونه أسود يأكل الخبز تأثير في المدح.
يبين ذلك ، أنه
تعالى لما بين تميزه عما عداه من الأجناس بنفي الصاحبة والولد بين أنه يتميز عن
غيره من الذوات بأن لا يرى ويرى. وبعد ، فإن الأمة اتفقوا على أن
الآية واردة مورد
التمدح فلا كلام في ذلك ، وإنما الكلام في جهة المدح.
الأقوال في التمدح بعدم الرؤية.
فمنهم من قال : إن
التمدح هو بأن القديم عزوجل لا يرى لا في الدنيا ولا في الآخرة على ما نقوله ، ومنهم
من قال إن التمدح هو بأن لا يرى في دار الدنيا ، ومنهم من قال إن التمدح هو بأن لا
يرى بهذه الحواس وإن جاز أن يرى بحاسة أخرى. فصح أن الآية واردة مورد التمدح على
ما ذكرناه ، ولا تمدح إلا من الجهة التي نقولها.
التمدح لا يقع لكونه لا يرى :
فإن قيل : وأي مدح
في أنه لا يرى القديم تعالى وقد شاركه فيه المعدومات وكثير من الموجودات؟ قلنا :
لم يقع التمدح بمجرد أن لا يرى ، وإنما يقع التمدح بكونه رائيا ولا يرى ، ولا
يمتنع في الشيء أن لا يكون مدحا ثم بانضمام شيء آخر إليه يصير مدحا ، وهكذا فلا
مدح في نفي الصاحبة والولد مجردا ، ثم إذا انضم إليه كونه حيا لا آفة به صار مدحا.
وهكذا فلا مدح في أنه لا أول له ، فإن المعدومات تشاركه في ذلك ، ثم يصير مدحا
بانضمام شيء آخر إليه وهو كونه قادرا عالما حيا سميعا بصيرا موجودا ، كذلك في
مسألتنا.
وحاصل هذه الجملة
، أن التمدح إنما يقع لما تقع به البينونة بينه وبين غيره من الذوات ، والبينونة
لا تقع إلا بما نقوله ، لأن الذوات على أقسام ، منها ما يرى ويرى كالواحد منا ،
ومنها ما لا يرى ولا يرى كالمعدومات ، ومنها ما يرى ولا يرى كالجماد ، ومنها ما لا
يرى ويرى كالقديم سبحانه وتعالى. وعلى هذا الوجه صح التمدح بقوله : وهو يطعم ولا
يطعم.
فإن قيل : إن ما
ليس بمدح إذا انضم إلى ما هو مدح ، كيف يصير مدحا؟ قيل له : لا مانع من ذلك ،
فمعلوم أن قوله عزوجل (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ
وَلا نَوْمٌ) [البقرة : ٢٠٠]
بمجرده ليس بمدح ، ثم صار مدحا لانضمامه إلى قوله : (اللهُ لا إِلهَ
إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) ، وكذلك فقولنا في الله تعالى أنه موجود ليس بمدح ، ثم إذا
ضممنا إليه القول بأنه لا ابتداء له صار مدحا ونظائر ذلك أكثر من أن يذكر فالمنكر
له متجاهل.
فإن قيل : فلو جاز
فيما ليس بمدح أن يصير مدحا بانضمامه إلى غيره لكان لا يمتنع أن يصير الجهل مدحا
بانضمامه إلى الشجاعة وقوة القلب ، حتى يحسن أن يمدح
الواحد الغير بأنه
جاهل قوي القلب شجاع. قيل له : إن ما وضع للنقص من الأوصاف نحو قولنا ، جاهل وعاجز
وما شاكلها ، لا تختلف فائدته ، ولا تتغير حاله لا بالانضمام ولا عدم الانضمام ،
بل يفيد النقص بكل حال سواء ضم إلى غيره أو لم يضم ، وليس كذلك سبيل ما ليس بمدح
ولا نقص ، فإن ذلك مما لا يمتنع أن يصير مدحا بغيره على ما ذكرناه.
فإن قيل : فجوزوا
أن يصير قولنا أسود مدحا ، بأن ينضم إليه قولنا عالم ، ومعلوم أن ذلك لا يصير مدحا
لما لم يكن مدحا في نفسه ، فإذا لم يجز أن يصير مدحا ، فكذلك لا يجوز في قوله
تعالى : (لا تُدْرِكُهُ
الْأَبْصارُ) [الأنعام : ١٠٣]
أن يصير مدحا بأن ينضم إليه قوله : (وَهُوَ يُدْرِكُ
الْأَبْصارَ) قيل له : إنا لم نقل : إن ما ليس بمدح إذا انضم إلى ما هو
مدح صار مدحا على كل حال ، بل قلنا : إن ما ليس بمدح إذا انضم إلى ما هو مدح وحصل
بمجموعهما البينونة صار مدحا ، ولم تحصل البينونة بانضمام قولنا أسود إلى قولنا
عالم ، بخلاف مسألتنا ، لأنه حصل هاهنا بينونة على الوجه الذي ذكرناه.
فإن قيل : وما وجه
البينونة؟ قلنا وجه البينونة هو أنه يرى ولا يرى.
فإن قيل : هلا جاز
أن تكون جهة التمدح هو كونه قادرا على أن يمنعنا من رؤيته؟ قلنا : هذا تأويل بخلاف
تأويل سائر المفسرين ، وما هذا سبيله من التأويلات يكون فاسدا. وبعد ، فإن هذا حمل
خطاب الله تعالى على غير ما تقتضيه حقيقة اللغة ومجازها ، فلا يجوز.
يبين ذلك ، أن
أحدنا إذا قال : فلان لا يرى ، فإنه لا يقتضي كونه قادرا على أن يمنع من رؤيته ،
لا في حقيقة اللغة ولا في مجازها ، فكيف يصح ما ذكر.
فإن قيل : ولم
قلتم إن هذا المدح يرجع إلى الذات؟
قلنا : لأن المدح
على قسمين ، أحدهما : يرجع إلى الذات والآخر ، يرجع إلى الفعل. وما يرجع إلى الذات
فعلى قسمين ، أحدهما : يرجع إلى الإثبات ، نحو قولنا قادر عالم حي سميع بصير ،
والثاني : يرجع إلى النفي ، وذلك نحو قولنا لا يحتاج ولا يتحرك ولا يسكن. وأما ما
يرجع إلى الفعل فعلى ضربين أيضا ، أحدهما : يرجع إلى الإثبات ، نحو قولنا رازق
ومحسن ومتفضل والثاني : يرجع إلى النفي ، وذلك نحو قولنا لا يظلم ولا يكذب.
إذ ثبت هذا ،
فالواجب أن ننظر في قوله : (لا تُدْرِكُهُ
الْأَبْصارُ) من أي القبيلين هو. لا يجوز أن يكون هذا من قبيل ما يرجع
إلى الفعل لأنه تعالى لم يفعل فعلا حتى لا يرى ، وليس يجب في الشيء إذا لم يرى أن
يحصل منه فعل حتى لا يرى فإن كثيرا من الأشياء لا ترى وإن لم تفعل أمرا من الأمور
كالمعدومات وككثير من الأعراض ، والشيء إذا لم يرى فإنما يرى لما هو عليه في ذاته
، لا لأنه يفعل أمرا من الأمور ، وإذا كان الأمر كذلك صح أن هذا التمدح راجع إلى
ذاته على ما نقوله.
فإن قيل : ولم
قلتم : إن ما كان نفيه مدحا راجعا إلى ذاته كان إثباته نقصا ، قيل له : لأنه لو لم
يكن إثباته نقصا لم يكن نفيه مدحا ، ألا ترى أن نفي السنة والنوم لما كان مدحا كان
إثباته نقصا ، حتى لو قال أحدنا : إنه تعالى ينام ، كان هذا أيضا نقصا.
وبعد ، فإنه تعالى
إذا لم يرى فإنما لم يرى لما هو عليه في ذاته ، فلو رئي وجب أن يكون قد خرج عما هو
عليه في ذاته ، فكان نقصا.
فإن قيل : وأي نقص
في أن يرى القديم تعالى ، وما وجه النقص فيه؟ قلنا : لا يلزمنا أن نعلم ذلك مفصلا
، بل إذا علمنا على الجملة أنه تعالى يمدح بنفي الرؤية عن نفسه مدحا راجعا إلى
ذاته ، وعلمنا أن ما كان نفيه مدحا يرجع إلى الذات كان إثباته نقصا ، كفى. فإذا
أردت التفصيل فلأن فيه انقلابه وخروجه عما هو عليه في ذاته.
فإن قيل : وما
أنكرتم أن المراد بقوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ
الْأَبْصارُ) [الأنعام : ١٠٣]
أي لا تحيط به الأبصار؟ ونحن هكذا نقول : قلنا : الإحاطة ليس هو بمعنى الإدراك لا
في حقيقة اللغة ولا في مجازها ، ألا ترى أنهم يقولون السور أحاط بالمدينة ، ولا
يقولون : أدركها أو أدرك بها ، وكذلك يقولون : عين الميت أحاطت بالكافور ولا
يقولون أدركته. وبعد ، فإن هذا تأويل بخلاف تأويل المفسرين ، فلا يقبل. على أنه
كما لا تحيط به الأبصار فكذلك لا يحيط هو بالأبصار ، لأن المانع عن ذلك في
الموضعين واحد فلا يجوز حمل الإدراك المذكور في الآية على الإحاطة لهذه الوجوه.
فإن قيل : لا تعلق
لكم بالظاهر ، لأن الذي يقتضيه الظاهر هو أن الأبصار لا تراه ، ونحن كذلك نقول.
قيل له : إنه تعالى تمدح بنفي الرؤية عن نفسه ، فلا بد من أن يحمل على وجه يقع به
البينونة بينه وبين غيره من الذوات حتى يدخل في باب التمدح. ولا تقع البينونة بينه
وبين غيره من الذوات حتى يدخل في باب التمدح. ولا تقع
البينونة بينه
وبين غيره من الذوات بهذا الذي قد ذكرتموه ، لأن الأبصار كما لا تراه فكذلك لا ترى
غيره.
وبعد : فإن المراد
بالأبصار المبصرون ، إلا أنه تعالى علق الإدراك بما هو آلة فيه وعنى به الجملة ،
ألا ترى أنهم يقولون : مشت رجلي ، وكتبت يدي ، وسمعت أذني ، ويريدون الجملة ، وعلى
هذا المثل السائر ، يداك أوكتا وفوك نفخ.
ثم إن لتعليق
الشيء بما هو آلة فيه فائدة ظاهرة ، لا تحصل تلك الفائدة إذا علقت بالجملة. بيان
ذلك ، أن أحدنا إذا قال كتبت ، يحتمل أن يكون قد كتبه بنفسه ، ويحتمل أن يكون قد
استكتب غيره ، وليس كذلك كتبت بيدي ، ومشيت رجلي ، فإنه لا يحتمل ذلك.
وبعد : فإن هذا
تفسير بخلاف تأويل المفسرين ، فإن المفسرين من لدن الصحابة إلى يومنا هذا ، على أن
المراد بالإبصار المبصرون ، إلا أنهم اختلفوا ، فمن قائل إنه لا يدركه المبصرون في
دار الدنيا ، ومن قائل لا يدركه المبصرون في حال من الأحوال ، وكل تأويل بخلاف
تأويل المفسرين فهو كفتوى يكون بخلاف فتوى المفتين.
فإن قيل : لو كان
المراد بقوله تعالى (لا تُدْرِكُهُ
الْأَبْصارُ) ، المبصرون ، لوجب مثله في قوله (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) أن يكون المبصرين ، ليكون النفي مطابقا للإثبات ، وهذا
يقتضي أن يرى القديم نفسه لأنه من المبصرين ، وكل من قال إنه تعالى يرى نفسه قال
إنه يراه غيره.
قيل له : إنه
تعالى وإن كان مبصرا ، فإنما يرى ما تصح رؤيته ، ونفسه يستحيل أن ترى ، لما قد
بينا أنه يمدح بنفي الرؤية مدحا يرجع إلى ذاته ، وما كان نفيه نفيا راجعا إلى ذاته
فإن إثباته نقصا ، والنقص لا يجوز على الله تعالى.
وبعد : فإن المراد
بقوله (لا تُدْرِكُهُ
الْأَبْصارُ) المبصرون بالأبصار ، فكذلك في قوله (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) ، فيجب أن يكون هذا هو المراد ليكون النفي مطابقا للإثبات
، والله تعالى ليس من المبصرون بالأبصار ، فلا يلزم ما ذكرتموه.
وبعد : فلا يجوز
من الله تعالى أن يجمع بينه وبين غيره في الخطاب ، بل يجب أن يفرد بالذكر تأديبا
لنا وتعليما للتعظيم. وعلى هذا فإن أمير المؤمنين عليهالسلام لما سمع خطيبا يقول من أطاع الله ورسوله فقد رشد ، ومن
يعصهما فقد غوى ، قال ليس خطيب القوم أنت ، هلا قلت ومن يعصي الله ورسوله فقد غوى.
فنهى عن الجمع بين
الله ورسوله في
الذكر إعظاما وإجلالا لله جل ذكره.
بين العام والخاص في مجال التدليل على رؤية الله أو عدمها.
فإن قيل : قوله
تعالى : (لا تُدْرِكُهُ
الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) عام في دار الدنيا ودار الآخرة وقوله : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى
رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣)) [القيامة : ٢٢ ،
٢٣] خاص في دار الآخرة ، ومن حق العام أن يحمل على الخاص ، كما أن من حق المقيد أن
يحمل على المقيد.
وربما يستدلون
بهذه الآية ابتداء على أنه تعالى يرى في دار الآخرة.
وجوابنا ، أن
العام إنما يبنى على الخاص إذا أمكن تخصيصه ، وهذه الآية لا تحتمل التخصيص ، لأنه
تعالى يمدح بنفي الرواية عن نفسه مدحا راجعا إلى ذاته ، وما كان نفيه مدحا راجعا
إلى ذاته كان إثباته نقصا ، والنقص لا يجوز على الله تعالى على وجه ، وبعد ، فإن
هذه الآية إنما تخصص تلك الآية إذا أفادت أنه تعالى يرى في حال من الحالات ، وليس
في الآية ما يقتضي ذلك ، لأن النظر ليس هو بمعنى الرؤية. هذا هو الجواب عنه إذا
تعلقوا به على هذا الوجه.
فأما إذا استدلوا
به ابتداء ، فالكلام عليه أن يقال لهم : ما وجه الاستدلال بالآية؟ فإن قالوا : إنه
تعالى بين أن الوجوه يوم القيامة تنظر ، إليه والنظر هو بمعنى الرؤية ، قلنا :
لسنا نسلم أن النظر بمعنى الرؤية فما دليلكم عليه؟ فلا يجدون إلى ذلك سبيلا.
ثم يقال لهم : كيف
يعلم أن يكون النظر بمعنى الرؤية ، ومعلوم أنهم يقولون : نظرت إلى الهلال فلم أره
، فلو كان أحدهما هو الآخر لتناقض الكلام ، ونزل منزلة قول القائل : رأيت الهلال
وما رأيت ، وهذا مناقض فاسد.
وبعد : فإنهم
يجعلون الرؤية غاية للنظر فيقولون : نظرت حتى رأيت ، فلو كان أحدهما هو الآخر ،
لكان أحدهما بمنزلة أن يجعل الشيء غاية لنفسه وذلك لا يجوز ، ولذلك لا يصح أن يقال
: رأيت حتى رأيت.
وبعد : فإنهم
يعقبون النظر بالرؤية فيقولون : نظرت فرأيت ، فلو كان أحدهما هو الآخر ، لكان في
ذلك تعقيب الشيء بنفسه وينزل منزلة قولك رأيت فرأيت ، وهذا لا يستقيم.
وبعد : فإنهم
ينوعون النظر فيقولون : نظرت نظر راض ، ونظرت نظر غضبان ،
ونظرت نظر شزر
وعلى هذا قال الشاعر :
نظروا إليك
بأعين مزورة
|
|
نظر التيوس إلى
شفار الجازر
|
وقال آخر :
تخبرني العينان
ما الصدر كاتم
|
|
وما جن بالبغضاء
والنظر الشزر
|
وأيضا فإنهم
يقولون في تفسير الأقبل ، وهو الأحول ، وهو الذي إذا نظر إليك كأنه ينظر إلى غيرك
، فلو كان النظر هو الرؤية ، لكان تقديره : هو الذي إذا رآك كأنه يرى غيرك ، وهذا
لا يستقيم.
وبعد : فإنا نعلم
ضرورة كون الجماعة ناظرين إلى الهلال ، ولا نعلم كونهم رائين له ضرورة ، ولهذا يصح
أن نسأل عن ذلك ، فلو كان أحدهما بمعنى الآخر لم يجز ذلك.
ويدل على ذلك أيضا
، قوله تعالى : (وَتَراهُمْ
يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) [الأعراف : ١٩٨]
أثبت النظر ونفى الرؤية ، فلو كان أحدهما بمعنى الآخر لتناقض الكلام ، وينزل منزله
قول القائل يرونك ، وهذا خلف من الكلام.
فإن قيل : إن ذلك
مجاز لأنه ورد في شأن الأصنام ، قلنا : إنه وإن كان كذلك ، إلا أن المجاز كالحقيقة
في أنه لا يصح التناقض فيه.
وحاصل هذه الجملة
، أن النظر من الرؤية بمنزلة الإصغاء من السماع ، والذوق من إدراك الطعم ، والشم
من إدراك الرائحة.
فإن قيل : النظر
إذا أطلق يحتمل معاني كثيرة على ما ذكرتموه ، فأما إذا علق بالوجه فلا يحتمل إلا
الرؤية ، كما أنه إذا علق بالقلب لا يحتمل إلا الفكر. وربما يقولون : إن النظر إذا
علق بالوجه وعدي بإلى لم يحتمل إلا الرؤية.
قلنا : ما ذكرتموه
أولا مما لا نسلمه ، فما دليلكم عليه؟
فإن قالوا :
الدليل عليه ، هو أن الآلة التي يرى بها الشيء في الوجه ، فيجب في النظر إذا علق
به أن لا يحتمل إلا الرؤية ، لأنه لو لم يكن كذلك لا يثبت لتعليقه به فائدة ، قلنا
: لو وجب صحة ما ذكرتموه من حيث أن الآلة التي يرى بها الشيء في الوجه ، لوجب صحة
أن يقول القائل ذقت بوجهي ويريد به أدركت الطعم ، لأن آلة الذوق في الوجه ، وهكذا
في قوله شممت بوجهي ، وقد عرف خلافه.
وأما ما قالوه من
أن النظر إذا علق بالوجوه وعدي بإلى لم يحتمل إلا الرؤية فسنتكلم عليه إن شاء الله
تعالى.
فإن قيل : النظر
المذكور في الآية إذا لم يفد الرؤية فما تأويل الآية؟
قيل له : قد قيل
إن النظر المذكور هاهنا بمعنى الانتظار ، فكأنه تعالى قال : وجوه يومئذ ناضرة
لثواب ربها منتظرة ، والنظر بمعنى الانتظار قد ورد قال تعالى : (فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) [البقرة : ٢٨] أي
فانتظار ، وقال جل وعز فيما حكى عن بلقيس (فَناظِرَةٌ بِمَ
يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) [النمل : ٣٥] أي
منتظرة.
وقال الشاعر :
فإن بك صدر هذا
اليوم ولى
|
|
فإن غدا لناظره
قريب
|
أي لمنتظر.
وقال آخر :
وإن امرأ يرجو
السبيل إلى الغنى
|
|
بغيرك عن حد
الغنى حد جابر
|
تراه على قرب
وإن بعد المدى
|
|
بأعين آمال إليك
نواظر
|
وقال آخر :
وجوه يوم بدر
ناظرات
|
|
إلى الرحمن يأتي
بالخلاص
|
وقال الخليل :
إنما يقال انظر إلى الله تعالى وإلى فلان من بين الخلائق ، أي انتظر خبره ثم خبر
فلان.
فإن قيل : النظر
إذا عدي بإلى كيف يجوز أن يكون بمعنى الانتظار؟ قلنا : كما قال الله تعالى : (فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) [البقرة : ٢٨٠] ،
ذكر النظر وعداه بإلى وأراد به الانتظار ، كما يقول العرب على ما قاله الخليل :
إني إليك لما
وعدت لناظر
|
|
نظر الفقير إلى
الغني الموسر
|
فإن قيل : النظر
إذا علق بالوجه وعدي بإلى فكيف يراد به الانتظار؟ قلنا : إن ذلك غير ممتنع وعلى
هذا قول الشاعر :
وجوه يوم بدر
ناظرات
|
|
إلى الرحمن يأتي
بالخلاص
|
على أن إلى في
الآية على ما قيل ، هو حرف الجر ولا حرف البعدية ، وإنما هو
واحد الآلاء التي
هي النعم ، فكأنه تعالى قال : وجوه يومئذ ناظرة آلاء ربها منتظرة ، ونعمه مترقبة.
وقد أجاب شيخنا
أبو عبد الله البصري ، بأن النظر إذا كان بمعنى تقليب الحدقة الصحيحة يعدى بإلى ،
فكذلك إذا كان الانتظار لا يمتنع أن يعدى بإلى لأن المجازات يسلك بها مسلك الحقائق
، وهذا إشارة إلى أن النظر بمعنى الانتظار مجاز وحقيقته تقليب الحدقة ، وليس كذلك
، لأن النظر لفظة مشتركة بين معان كثيرة على ما مر.
وبعد : فلو جاز أن
يعلق النظر بالعين ويراد به الانتظار ، لجاز أن يعلق به الوجه أيضا ويراد به
الانتظار ، ومعلوم أنهم يعلقون النظر بالعين ويعدونه بإلى ويريدون به الانتظار.
وعلى هذا قال
الشاعر :
تراه على قرب
وإن بعد المدى
|
|
بأعين آمال إليك
نواظر
|
على أن الوجه
هاهنا ليس بمقصود ، وإنما المقصود صاحب الوجه قال الله تعالى : (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (٢٤)
تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (٢٥)) ومعلوم أن الوجوه لا تظن وإنما أصحاب الوجوه يظنون.
هذا هو التأويل
الأول والكلام عليه.
وأما التأويل
الثاني ، فهو أن النظر بمعنى تقليب الحدقة الصحيحة ، فكأنه تعالى قال : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢)) ذكر نفسه وأراد غيره ، كما قال في موضع آخر (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] أي
أهل القرية ، وقال : (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى
رَبِّي) أي إلى حيث أمرني ربي ، وقال : (وَجاءَ رَبُّكَ) [الفجر : ٢٢] أي
وجاء أمر ربك ، وقال عنترة :
هلا سألت الخيل
يا ابنة مالك
|
|
إن كنت جاهلة
بما لم تعلمي
|
أي أرباب الخيل ،
وقال آخر :
سل الربع أني
يممت أم مالك
|
|
وهل عادة للربع
أن يتكلما
|
وكلا التأويلين
مرويان عن أمير المؤمنين عليهالسلام ، وعن عبد الله بن عباس ، وجماعة من الصحابة والتابعين.
قالوا على التأويل
: إن هذه الآية وردت في شأن أهل الجنة فكيف يجوز أن يكون بمعنى الانتظار ، لأن
الانتظار يتضمن الغم والمشقة ، ويؤدي إلى التنغيص
والتكدير ، حتى
يقال في المثل : الانتظار يورث الاصفرار ، والانتظار الموت الأحمر ، وهذه الحالة
غير جائزة على أهل الجنة.
وجوابنا أن
الانتظار لا يقتضي تنغيص العيش على كل حال ، وإنما يوجب ذلك متى كان المنتظر لا
يتعين وصول ما ينتظره إليه ، أو يكون في جنس ولا يدري متى يتخلص من ذلك وهل يتخلص
أم لا ، فإنه والحال هذه يكون في غم وحسرة ، فأما إذا تيقن وصوله فلا يكون في غم
وحسرة ، خاصة إذا كان في حال انتظاره في أرغد عيش وأهنئه ، ألا ترى أن من كان على
مائدة وعليها ألوان الطعام اللذيذة يأكل منها ويلتذ بها ، وينتظر لونا آخر ويتيقن
وصوله إليه ، فإنه لا يكون في تنغيص ولا تكدير ، بل يكون في سرور متضاعف ، حتى لو
قدم إليه الأطعمة كلها لتبرم بها. كذلك حال أهل الجنة لا يكونون في غم وتنغيص إذا
كانوا يتقينون وصولهم إلى ما ينتظرون على كل حال.
الأدلة العقلية :
ولما فرغ رحمهالله من الاستدلال بالسمع على هذه المسألة استدل بالأدلة
العقلية.
دليل المقابلة الرؤية بالحاسة :
وبدأ منها بدلالة
المقابلة ، وتحريرها هو أن الواحد منا راء بحاسة ، والرائي بالحاسة لا يرى الشيء
إلا إذا كان مقابلا أو حالا في المقابل أو في حكم المقابل ، وقد ثبت أن الله تعالى
لا يجوز أن يكون مقابلا ، ولا حالا في المقابل ، ولا في حكم المقابل.
وهذه الدلالة
مبنية على أصول :
أحدها : أن الواحد منا راء بالحاسة.
والثاني : أن الرائي بالحاسة لا يرى الشيء إلا إذا كان مقابلا أو
حالا في المقابل أو في حكم المقابل.
والثالث : أن القديم تعالى لا يجوز أن يكون مقابلا ولا حالا في
المقابل.
أما الأول ، فالذي
يدل عليه أن أحدنا متى كان له حاسة صحيحة ، والموانع مرتفعة ، والمدرك موجود ، يجب
أن يرى ، ومتى لم يكن كذلك استحالة أن يرى ،
فيجب أن يكون لصحة
الحاسة في ذلك تأثير ، لأن بهذه الطريقة يعلم تأثير المؤثرات من الأسباب والعلل
والشروط.
وأما الكلام في أن
الرائي بالحاسة لا يرى الشيء إلا إذا كان مقابلا أو حالا في المقابل أو في حكم
المقابل ، هو أن الشيء متى كان مقابلا للرائي بالحاسة أو حالا في المقابل أو في
حكم المقابل وجب أن يرى ، وإذا لم يكن مقابلا ولا حالا في المقابل ولا في حكم
المقابل لم ير ، فيجب أن تكون المقابلة أو ما في حكمها شرطا في الرؤية ، لأن بهذه
الطريق يعلم تأثير الشرط.
وأما الكلام في
أنه تعالى لا يجوز أن يكون مقابلا ولا حالا في المقابل ولا في حكم المقابل ، فهو
أن المقابلة والحلول إنما تصح على الأجسام والأعراض والله تعالى ليس بجسم ولا عرض
، فلا يجوز أن يكون مقابلا ولا حالا في المقابل زلا في حكم المقابل.
فإن قيل : كيف يصح
قولكم أن الواحد منا لا يرى الشيء إلا إذا كان مقابلا أو حالا في المقابل أو في
حكم المقابل ، ومعلوم أنه لا يرى وجهه في المرآة مع أنه ليس بمقابل ولا حالا في
المقابل ولا في حكم المقابل؟
قلنا : إن وجهه في
حكم المقابل ، لأن الشعاع ينفصل من نقطته ويتصل بالمرآة فيصير كالعين ، ثم ينعكس
إلى العكس ، فيرى وجهه كأنه مقابل له. وعلى هذا لو جمع بين المرآتين لرأى قفاه ،
لأن الشعاع ينفصل من نقطة ويتصل بالمرآة المستقبلة ، ثم ينعكس إلى المستديرة فيصير
كالعين فترى قفاه.
فإن قيل : أليس أن
الله تعالى يرى الواحد منا ، وإن لم يكن مقابلا له ولا حالا في المقابل ولا في حكم
المقابل فهلا جاز في الواحد منا أن يرى الشيء وإن لم يكن مقابلا له ولا حالا في
المقابل ولا في حكم المقابل؟ قيل له : إنما وجبت هذه القضية في القديم تعالى لأنه
لا يجوز أن يكون رائيا بالحاسة ، والواحد منا راء بالحاسة ، فلا يعلم أن يرى إلا
كذلك.
فإن قيل : إن هذه
الدلالة تنبني على أن أحدنا يرى بالحاسة ونحن لا نسلم ذلك ، بل نقول إن أحدنا يرى
ما يراه برؤية خلقها الله تعالى في بصره. قلنا : قد مر في كلامنا ما هو جواب عن
ذلك ، لأنا قد بينا أن الواحد منا متى كانت حاسته صحيحة ، والمرئي بهذه الأوصاف
وجب أن يراه ، ومتى لم يكن كذلك لم يصح أن يراه ، فدل على أنه
إنما يرى ما يراه
بالحاسة على ما نقوله. يبين ذلك أنه لو رأى ما يراه برؤية خلقها الله تعالى فيه ،
لصح أن لا يخلقها مع هذه الأحوال كلها ، فلا يرى المرئي ، أو يراه مع فقد هذه
الأمور ، وذلك مستحيل.
ويمكن إيراد هذه
الدلالة على وجه آخر لا يلزمنا هذا السؤال ، فيقال : إن أحدنا إنما يرى الشيء عند
شرطين : أحدهما : يرجع إلى الرائي ، والآخر : يرجع إلى المرئي ، ما يرجع إلى
الرائي فهو صحة الحاسة ، وما يرجع إلى المرئي هو أن يكون للمرئي مع الرائي حكم ،
وذلك الحكم هو أن يكون مقابلا أو حالا في المقابل أو في حكم المقابل. وإذا أوردته
على هذا الوجه سقط عنك هذا السؤال. على أن هذا السؤال الذي أورده ينبني على أن
الإدراك معنى ، وسنبين الكلام ، في أن الإدراك ليس بمعنى إن شاء الله تعالى.
فإن قيل : ما
أنكرتم أن أحدنا إنما لا يرى الشيء إلا إذا كان مقابلا له أو حالا في المقابل أو
في حكم المقابل ، لأنه تعالى أجرى العادة بذلك ، فلا يمتنع أن يختلف الحال فيه ،
فيرى القديم جل وعز في دار الآخرة.
قيل له : إن ما
يكون بمجرى العادة يجوز اختلاف الحال فيه ، ألا ترى أن الحر والبرد والثلج والمطر
لما كان بمجرى العادة اختلف بحسب البلدان والأهوية ، فكان يجب مثله في مسألتنا لو
كان ذلك بالعادة. فيجب صحة أن يرى الشيء أحدنا. وإن لم يكن مقابلا له ولا حالا في
المقابل ولا في حكم المقابل في بعض الحالات ، لاختلاف العادة ، بل كان يجب أن يرى
المحجوب كما يرى المكشوف ، ويرى البعيد كما يرى القريب ، ويرى الرقيق كما يرى
الكثيف. ومتى ارتكبوا هذا كله ، فالواجب أن يرى المحجوب كما يرى المكشوف ، ومعلوم
خلافه.
فإن قيل : ما
أنكرتم أن ذلك من باب ما تستمر العادة فيه ، كما في حصول الولد من ذكر وأنثى ،
وكطلوع الشمس من مشرقها وغروبها مغربها ، وكحصول كل جنس من الحيوانات من جنسه ،
وكتاب الزرع وما يجري هذا المجرى.
وجوابنا : أنا لم
نوجب فيما طريقه العادة أن يختلف الحال على كل وجه ، بل إذا اختلفت من وجه واحد
كفى ، وما من شيء من هذه الأشياء التي ذكرتها إلا والحال فيه مختلف على وجه. ألا
ترى أن الولد قد يحصل لا من ذكر وأنثى ، فإن آدم عليهالسلام خلق لا من ذكر وأنثى ، وعيسى عليهالسلام خلق لا من ذكر ، وفيما بيننا فما من ولد
إلا والحال فيه
بخلاف الحال في غيره ، فواحد يولد تاما ، والآخر يولد ناقصا ، فكان يجب مثله في
مسألتنا حتى يصدق من أخبرنا أنه شاهد ما ليس بمقابل له ولا حال في المقابل ولا في
حكم المقابل ، أو شاهد أقواما يشاهدون الأشياء من دون أن تكون على هذا الوجه أو ما
يجرى مجراه ، وقد علم خلافه.
فإن قيل : ما
أنكرتم أن الواحد منا إنما لا يرى إلا ما كان مقابلا أو حالا في المقابل أو في حكم
المقابل ، لأمر برجع إلى المرئي لا إلى الرائي؟ قيل له : هذا الذي ذكرته لا يصح ،
لأنه كان يجب في القديم تعالى أن لا يرى هذه المرئيات لفقد هذا الحكم فيه ،
والمعلوم خلافه.
فإن قيل : إنا نرى
القديم تعالى بلا كيف كما نعلمه بلا كيف ، ولا يحتاج إلى أن يكون مقابلا أو حالا
في المقابل أو في الحكم المقابل ، قيل له : إن هذا قياس الرؤية على العلم من دون
علة تجمعهما ، فلا يصح. فإن للعلم أصلا في الشاهد وللرؤية أصلا ، فيجب أن يرد كل
واحد منهما إلى أصله. فالعلم من حقه أن يتعلق بالمعلوم على ما هو به ، ولهذا يتعلق
بالموجود والمعدوم والمحدث والقديم ، فإن كان معدوما علم معدوما ، وإن كان موجودا.
وكذلك الكلام إذا كان محدثا أو قديما ، وليس كذلك الرؤية ، فإنها لا تتعلق إلا
بالموجود ، ولهذا لا يصح في المعدوم أن يرى.
فإن قيل : هلا جاز
أن نرى القديم تعالى بحاسة سادسة ، فلا يجوز أن يكون مقابلا ولا حالا في المقابل
ولا في حكم المقابل ، لأن تلك الحاسة بخلاف هذه الحواس؟ قلنا : مخالفة تلك الحاسة
لهذه الحواس ليس بأكبر من مخالفة هذه الحواس بعضها لبعض فإن فيها شهلا وزرقا وملحا
، ومعلوم أن هذه الحواس مع اختلافها واختلاف بناها ، متفقة في أن لا يرى الشيء بها
إلا إذا كان مقابلا أو حالا في المقابل أو في المقابل ، على أنه لا دلالة تدل على
تلك الحاسة فلا يصح إثباتها. وبعد ، فلو جاز أن يرى القديم تعالى بحاسة سادسة ،
لجاز أن يذاق بحاسة سابعة ، وأن يلمس بحاسة ثامنة ، وأن يشم بحاسة تاسعة ، ويسمع
بحاسة عاشرة ، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
وقد مر في الكتاب
ما هو إشارة إلى دلالة الموانع لأنه قال الشيء إنما يرى لما هو عليه في ذاته ،
والقديم حاصل على ما هو عليه في ذاته فما المانع من أن يرى؟
وأجاب عنه بأن قال
: وما لا يرى ينقسم إلى ما لا يرى لمنع ، وإلى ما لا يرى
لاستحالة الرؤية
عليه. والقديم تعالى إنما لا يرى لاستحالة رؤية عليه لا لمنع.
فإن قال : ما في
هذه الدلالة إن أحدنا لا يرى الله عزوجل ، فمن أين أنه ليس بمرئي في نفسه؟ قلنا : كل من قال : إن
أحدنا لا يرى القديم تعالى ، قال إنه ليس بمرئي في نفسه.
دليل آخر : وهو أن
القديم تعالى ، لو جاز أن يرى في حال من الأحوال لوجب أن نراه الآن ، ومعلوم أنا
لا نراه الآن. وتحرير هذه الدلالة ، هو أن الواحد منا حاصل على الصفة التي لو رأى
المرئي لما رأى إلا لكونه عليها ، والقديم سبحانه وتعالى حاصل على الصفة التي لو
رئي لما رئي إلا لكونه عليها ، والموانع المعقولة مرتفعة ، فيجب أن نراه الآن ،
فمتى لم نره دل على استحالة كونه مرئيا.
وهذه الدلالة
مبينة على أصلين : أحدهما : أن الواحد منا حاصل على الصفة التي لو رأى لما رأى إلا
لكونه عليها ، والثاني : أن القديم تعالى حاصل عل الصفة التي لو رئي لما رئي إلا
لكونه عليها.
أما الذي يدل على
أن القديم تعالى حاصل على الصفة التي لو رئي لما رئي إلا لكونه عليها ، هو أن
الشيء إنما يرى على أخص ما تقتضيه صفة الذات ، والقديم تعالى على هذه الصفة بلا
خلاف بيننا وبين من خالفنا في هذه المسألة ، لأنه تعالى حاصل على ما هو عليه في
ذاته وموجود ، ونحن نقول : إن الشيء إنما يرى لما هو عليه في ذاته ، وهم يقولون
إنما يرى لوجوده ، والقديم تعالى حاصل على كل واحدة من هاتين الصفتين ، فإذا لا شك
أنه تعالى حاصل على الصفة التي لو رئي لما رئي إلا لكونه عليها ، فلا خلاف في أنه
حاصل على الصفة التي [لو] رئي لما رئي إلا لكونه عليها ، ولا تتجدد له صفة في الآخرة
يرى عليها ، فثبت ما قلناه. وأما الذي يدل على أن الواحد منا حاصل على الصفة التي
لو رئي لما رئي إلا لكونه عليهما ، هو أنه إنما يرى الشيء لكونه حيا ، بشرط صحة
الحاسة وارتفاع الموانع وهذا ثابت.
فإن قيل : ولم
قلتم ذلك؟ قلنا : لأنه متى كان على هذه الصفة وجب أن يرى ، ومتى لم يكن كذلك
استحال أن يرى ، فيجب أن تكون رؤيته لما يراه لكونه حيا بشرط
__________________
صحة الحاسة على ما
نقوله ، لأن بهذه الطريقة يعلم تأثير المؤثرات من الأسباب والعلل والشروط.
فإن قيل : نحن لا
نسلم ذلك ، بل نقول : إن الحي منا إذا كان صحيح الحاسة إنما يرى الشيء لرؤية خلقها
الله في بصره وإدراك يخلقه ، قلنا : الإدراك ليس بمعنى ، وليس بأمر زائد على ما
ذكرناه.
فإن قيل : ومن أين
أن الإدراك ليس بمعنى؟ قلنا : لو كان معنى لوجب في الواحد منا مع صحة الحاسة
وارتفاع الموانع ووجود المدرك ، أن لا يرى ما بين يديه في بعض الحالات بأن لا يخلق
الله له الإدراك ، وهذا يقتضي أن يكون بين أيدينا أجسام عظيمة كالفيلة والبعران
ونحوها ونحن لا نراها لفقد الإدراك وهذا يرفع الثقة بالمشاهدات ويلحق البصراء
بالعميان وذلك محال ، وما أدى إليه وجب أن يكون محالا.
فإن قيل : إنا
نقطع على أنه ليس بحضرتنا أجسام عظيمة ، فكيف يجوز أن تكون ولا نراها؟ قلنا : إن
العلم بأنه ليس بحضرتنا شيء يستند إلى طريق وهو العلم بأنه لو كان لرأيناه ، وقد
سددتم هذه الطريقة على أنفسكم لتجويزكم أن يكون ولا ترونه ، فلا يمكنكم القطع على
أنه ليس بحضرتكم شيء ، فيلزم ما ألزمناكم. يبين ذلك أن الأعمى لما فقد هذه الطريق
، وهو العلم بأنه لو كان رآه ، لم يمكنه القطع على أنه ليس بحضرته شيء من طريق
الإدراك ، وكذلك إذا جوزتم أن يكون ولا ترونه ، وجب أن يكون حالكم حال الأعمى.
فإن قيل : أليس
الأعمى مع تجويزه أن يكون ولا يرى ، يمكنه القطع على أنه ليس بحضرته شيء بأن يلمس
فيجد ذلك الموضع خاليا؟ قلنا : كلامنا في علمين يستند أحدهما إلى الآخر ، وكان
الأول طريقا إلى الثاني ، وهذا الذي ذكرتموه ليس كذلك فلا يصح. وهكذا الجواب إذا
قيل ، ليس يمكنه القطع على أنه ليس بحضرته شيء من طريق الخبر ، لأن كلامنا في
العلم الذي يستند إلى الإدراك.
فإن قيل : ألستم
جوزتم أن يقلب الله الجبال ذهبا مع أنكم قطعتم على أنه لم يفعل ، فهلا جاز مثله في
مسألتنا ، فيجوز أن يكون بين أيدينا شيء ونحن لا نراه ، ومع ذلك نقطع أنه ليس
بحضرتنا؟ قيل له : إن بين الموضعين فرقا ، لأن كلامنا في علمين يستند أحدهما إلى
الآخر ، والأول طريق إلى الثاني ، فقلنا : من أفسد على نفسه تلك الطريقة لم يحصل
له العلم الثاني الحاصل عن الطريق وليس كذلك ما أردتموه ، لأن
العلم بأنه تعالى
لم يقلب الجبال ذهبا ضروري خلقه الله تعالى فينا أبدا ، فلا يشبه ما ذكرناه.
فإن قيل : ألستم
جوزتم أن يقلب الله صورة زيد إلى صورة أخرى ثم قطعتم على أنه لم يفعل ، فهلا جاز
مثله في مسألتنا. والجواب عنه مثل الجواب عما مضى ، لأن كلامنا في علمين أحدهما
طريق إلى الآخر. فقلنا : من أفسد تلك الطريقة على نفسه ، لا يحصل له العلم الذي
يحصل من ذلك الطريق. والعلم بأن زيدا هو الذي شاهدناه من قبل ، لا يستند إلى طريقة
قد أفسدناها على أنفسنا ، فجاز أن نقطع على أنه هو.
فإن قيل : إن
العلم بذلك يستند إلى طريق وهو الإدراك ، وقد أفسدتم بتجويزكم على أنفسكم أن يقلب
الله صورته فلا يمكنكم القطع على أنه هو ، قيل له : ليس الأمر على ما ظننته لأن
هذا العلم لا يستند إلى الإدراك ، إذ لو كان كذلك لوجب فيمن أدرك زيدا ثم شاهده
بعد ذلك أن يثبته لا محالة والمعلوم خلافه ، فإن في الناس من يشاهد شخصا ، مرة ، ثم
إذا رآه ثانيا تبينه وتعرفه ، وفيهم من يشاهده مرارا ثم إذا رآه بعد ذلك لم يتبينه
ولم يعرفه ، ولا ذلك إلا لأن هذا العلم غير مستند إلى الإدراك ، فصح ما قلناه.
فإن قيل : ما
ألزمتمونا في الإدراك لازم لكم في الشعاع ، لأن من الجائز عندكم أن يقلب الله شعاع
أحدنا عن سمت المرئي ، ومع ذلك يمكنه القطع على أنه ليس بحضرته شيء ، كذلك في
مسألتنا ، قلنا : إن من قلب الله تعالى شعاعه عن سمت المرئي لا تكون حاسته صحيحة ،
بل يكون حاله وحال الأعمى سواء ، وكلامنا في الحي إذا كان صحيح الحاسة ، فلا
يلزمنا ما ذكرتموه.
فإن قيل : إن العلم
بأنه ليس بحضرتنا شيء علم يخلقه الله تعالى فينا ابتداء ، لا أنه يستند إلى طريق
قد أفسدناه ، قلنا : ليس الأمر على ما ظننته ، بل العلم بأنه ليس بحضرتنا شيء ،
يستند إلى أنه لو كان لرأيناه ، وعلى هذا فإن الأعمى لما فقد هذه الطريق لم يمكنه
القطع على أنه ليس بحضرته شيء ، والمبصر لما حصل له هذا العلم أمكنه القطع على أنه
ليس بحضرته شيء ، فعلمنا أن أحد العلمين يستند إلى الآخر ، والأول طريق إلى الثاني
، فمن أفسد على نفسه العلم الأول لا يحصل له العلم الثاني. فقد صح بهذا الجملة
ووضح أن الإدراك ليس بمعنى ، وأن أحدنا حاصل على الصفة التي لو رأى إلا لكونه
عليها ، والقديم تعالى حاصل على الصفة التي لو رئي إلا لكونه عليها ، والموانع
المعقولة مرتفعة.
معنى قولنا الموانع مرتفعة :
فإن قيل : ولم
قلتم إن الموانع المعقولة مرتفعة؟ قلنا : لأن الموانع المعقولة من الرؤية ستة :
الحجاب ، والرقة ، والكثافة ، والبصر المفرط ، وكون المرئي في غير جهة محاذاة
الرائي ، وكون محله ينقض هذه الأوصاف ، وشيء منها لا يجوز على الله تعالى بحال من
الأحوال.
وإنما قلنا إن
الحجاب منع ، لأن المرئي إذا كان محجوبا لا يمكن إدراكه ، ومتى كان مكشوفا إدراكه.
وهكذا الكلام في الرقة ، واللطافة والبعد المفرط ، وكون المرئي في غير جهة محاذاة
الرائي ، لأن المرئي إذا كان ببعض هذه الأوصاف لا يمكن أن يدرك ، وإن لم يكن كذلك
أمكن أن يدرك. وهكذا إذا كان محل المرئي ببعض هذه الأوصاف لأن اللون متى كان في
محل محجوب أو رقيق أو لطيف أو بعيد ، أو كان محله في غير جهة محاذاة الرائي لم
يمكن إدراكه ، ومتى لم يكن كذلك أمكن ، وبهذه الطريقة يعرف المنع مما ليس بمنع.
فإن قيل : كيف
قلتم إن الحجاب منع عن الرؤية مع أنا نرى ما وراء الزجاج؟ قلنا : لا يمكن إنكار أن
الحجاب منع ، ومن أنكر هذا فقد أنكر العيان وجحد الضرورة ، وأما ما ذكرته في
الزجاج فإنا نرى ما وراءه لأن فيه خللا على طريق الانعراج ، ويختص بضرب من الصقالة
والضياء فلا يحجب ما وراءه ، بل تحصل قاعدة الشعاع مع ما وراءه على وجه لا ساتر
بينهما وبينه ، ولا ما يجري مجرى الساتر. وإنما قلنا : إن فيه خللا على طريق
الانعراج ، لأنه إذا أملئ دهنا وشد رأسه وترك في الشمس فإنه يذهب ما فيه من الدهن
، فلو لا أن فيه خللا على ما قلناه ، وإلا لم يذهب. فلهذه العلة أمكن رؤية ما فيه
ورؤية ما وراءه ، كما أمكن رؤية المكشوف.
فإن قيل : كيف
قلتم إن الرقة منع عن الرؤية ، مع أن المحتضر يرى الملك ، والجن يرى بعضهم بعضا؟
قلنا : لأن الرقة لا تمنع بنفسها وإنما تمنع بغيرها وهو ضعف الشعاع وقلته ،
والمحتضر إنما يرى الملك لأن شعاعه أقوى وأكبر ، وكذلك حال الجن.
فإن قيل : كيف
قلتم إن اللطافة منع ، ومعلوم أن الجزء الواحد إذا انضم إليه غيره يدرك؟ قلنا :
الجزء الواحد إذا انضم إليه غيره خرج عن كونه لطيفا بل هو كثيف ، فللكثافة تصح
رؤيته.
فإن قيل : كيف
قلتم إن البعد المفرط منع؟ مع أنا نرى السماء وما فيها من الكواكب ، نحو زحل وغيره
من النجوم؟ قلنا : إنا إنما نرى السماء على بعد لأنها تختفي بجرم عظيم وضوء كثيف ،
فلا جرم أن هذا القدر من البعد لا يثبت في حقه بعدا مفرطا. وبعد فإن زحل ليس في
الجرم والعظم بهذه المنزلة التي نراها ، لا ذلك إلا لبعده عنا.
فإن قيل : كيف
قلتم إن كون المرئي في غير جهة محاذاة الرائي منع ، ومعلوم أن أحدنا يرى وجهه في
المرآة مع أنه في غير جهة محاذاة الرائي؟ قلنا : إنا قد أجبنا عن هذا من قبل
وتكلمنا عليه.
الموانع ضربان : إحداهما يمنع بنفسه والثاني يمنع بشرط
واعلم أن الموانع
على ضربين : أحدهما يمنع بنفسه والثاني يمنع بشرط ، أما المانع بنفسه ، فهو
كالحجاب ، وكون المرئي في غير جهة محاذاة الرائي. وأما المانع بشرط ، فهو على
قسمين : أحدهما ما يمنع لأمر يرجع إلى الرائي ، والثاني ما يمنع لأمر يرجع إلى
المرئي. ما يرجع إلى الرائي فهو كالرقة واللطافة ، فإنه إنما يمنع لأمر يرجع إلى
الرائي وهو ضعف الشعاع. وأما ما يرجع إلى المرئي ، فنحو البعد المفرط فإنه إنما لا
يرى لبعده حتى لو قرب لرئي.
فصار الحال في
المنع عن الرؤية كالحال في المنع عن الفعل ، فكما أن المنع عن الفعل على قسمين ،
أحدهما ، يمنع بنفسه وذلك كالقيد وما يجري مجراه ، والآخر ، يمنع بشرط. ثم ما يمنع
بشرط على ضربين ، أحدهما ، يرجع إلى الفاعل وذلك نحو قلة القدر والضعف ، والآخر
يرجع إلى الفعل ، نحو كثرة الثقل فيه ، كذلك الموانع عن الرؤية.
فإن قيل : ما
أنكرتم أنا إنما لا نرى القديم تعالى لمانع غير معقول؟ قلنا : لأن إثبات ما لا
يعقل يفتح باب الجهالات ، ويلزم عليه جواز أن يكون بحضرتنا أجسام عظيمة ونحن لا
نراها لمانع غير معقول ، ويلزم مثل ذلك في المعدوم ، ومعلوم خلافه.
فإن قيل : ما
أنكرتم أن المانع من رؤية الله تعالى هو أنه تعالى لم يشأ أن يرينا نفسه ، ولو شاء
لرأيناه؟ قلنا : المشيئة إنما تدخل فيما يصح دون ما يستحيل ، وقد بينا أن الرؤية
تستحيل عليه تعالى فلا يعلم ما ذكرتموه. وبعد ، فلو جاز ذلك في القديم تعالى لجاز
مثله في المعدوم ، فيقال : إن المعدوم إنما لا يرى لأنه تعالى لا يشاء أن
يريناه ولو شاء
لرأيناه ، فكما أن ذلك خلف من الكلام ، كذلك هاهنا.
فإن قال : ما
أنكرتم أن هذه الأمور التي عددتموها ليست بموانع؟ قلنا : إن كان الأمر على ما
ذكرته فقد ارتفع غرضنا ، لأن غرضنا بيان أن الموانع عن الرؤية مرتفعة ، وأنه تعالى
لو كان مرئيا في نفسه لوجب أن نراه الآن ، وهذا قد تم بما ذكرتموه ، على أن قد
بينا أن هذه الأمور موانع بما لا يمكن دفعه.
فإن قيل : ما أنكرتم
أنا نرى القديم تعالى الآن؟ قلنا : لو رأيناه لعلمناه ضرورة ، لأن الرؤية طريق إلى
العلم ، وهذا يوجب أن نجد كوننا عالمين به من أنفسنا ، وقد عرف خلافه.
فإن قيل أليس أنه
تعالى حاصل على الصفة التي لو علم لما علم إلا لكونه عليها ، والواحد منا حاصل على الصفة
التي لو علم ما علم إلا لكونه عليها ، والموانع المعقولة عن العلم مرتفعة ، ثم لا
يجب في كل عاقل أن يعلم القديم تعالى ، فهلا جاز مثله في مسألتنا ، أن يكون القديم
حاصلا على الصفة التي لو رئي لما رئي إلا لكونه عليها ، والواحد منا حاصل على
الصفة التي لو رئي لما رئي إلا لكونه عليها ، ثم لا يجب أن نراه الآن.
قلنا : إن بين
الموضعين فرقا ، لأن المصحح في كونه عالما غير الموجب له ، إذ المصحح له إنما هو
كونه حيا ، والموجب له إنما هو العلم ، وليس كذلك في كونه مدركا ، لأن المصحح له
هو كونه حيا ، وهو الموجب له أيضا ، ففارق أحدهما الآخر.
شبه القوم في هذا الباب
وللقوم شبه في هذا
الباب :
من جملتها قوله
تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣)) [القيامة : ٢٢ ،
٢٣].
قالوا : بين الله
تعالى أن الوجوه تنظر إليه يوم القيامة ، وهذا يدل على كونه مرئيا على ما نقوله.
والأصل في الكلام
عليهم أن نمنعهم من الاستدلال بالسمع أصلا ، لأن الاستدلال بالسمع ينبني على أنه
تعالى عدل حكيم لا يظهر المعجز على الكذابين ،
__________________
والقوم لا يقولون
بهذا ، فلا يمكنهم الاستدلال بالسمع على شيء أصلا. وعلى أنا قد بينا أن النظر ليس
هو الرؤية ، وتكلمنا عليه فلا وجه لإعادته.
ومما يتعلقون به
قوله تعالى : (رَبِّ أَرِنِي
أَنْظُرْ إِلَيْكَ) [الأعراف : ١٤٣]
قالوا : فهذا سؤال ، فقد سأل موسى الله الرؤية ، فدل ذلك على أنها جائزة على الله
تعالى ، فلو استحال ذلك لم يجز أن يسأله. قالوا : والذي يدل على أن السؤال سؤال
موسى عليهالسلام وجهان ، أحدهما هو أنه أضاف الرؤية إلى نفسه ، والثاني أنه
تاب ، والتوبة لا تصح إلا من فعل نفسه.
وقد أجاب شيخنا أبو
الهذيل عن هذا : بأن الرؤية هاهنا بمعنى العلم ولا اعتماد عليه ، لأن الرؤية إنما
تكون بمعنى العلم متى تجردت ، فأما إذا قارنها النظر فلا تكون بمعنى العلم.
فالأولى ما ذكره غيره من مشايخنا ، وهو أن السؤال لم يكن سؤال موسى وإنما كان
سؤالا عن قومه. والذي يدل عليه قوله عزوجل لمحمد صلىاللهعليهوآله : (يَسْئَلُكَ أَهْلُ
الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا
مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) [النساء : ١٥٣]
وقوله عزوجل : (وَإِذْ قُلْتُمْ يا
مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) [البقرة : ٥٥]
فصرح الله تعالى بأن القوم هم الذين حملوه على هذا السؤال.
ويدل عليه أيضا
قوله حاكيا عن موسى عليهالسلام : (أَتُهْلِكُنا بِما
فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا) [الأعراف : ١٥٥]
فبين أن السؤال سؤال عن قومه ، وأن الذنب ذنبهم.
فإن قيل : لو لا
أن الرؤية غير مستحيلة على الله تعالى وإلا لما جاز أن يسأله ذلك لا عن نفسه ولا
عن قومه ، كما لا يجوز أن يسأل الله عن الصاحبة والولد لما كانت مستحيلة عليه.
قلنا : فرق بينهما
: لأن مسألة الرؤية يمكن معرفتها بالسمع فجاز أن يطلب فيها دلالة سمعية ، بخلاف
مسألة الصاحبة والولد.
وقيل : إنه علم أن
الرؤية مستحيلة على الله ، ولكن سأله عن ذلك لأن الأمة لم يكن يقنعهم جوابه ،
فسأله الله سبحانه ليرد من جهته جوابا يقنعهم.
فأما ما ذكره في
الصاحبة ، والولد فلا يصح ، لأنه إنما لم يسأل لا لأن الصاحبة والولد مستحيل على
الله تعالى والرؤية غير مستحيلة ، بل لأنهم لم يطلبوا منه ذلك ، حتى لو قدرنا أنهم
طلبوا منه ذلك ، وعلم أنه لا يقنعهم جوابه لجاز أن يسأل الله تعالى
ذلك ، ليرد من
جهته جوابا يقنع.
وقد قيل : إن بين
الموضعين فرقا لأن إحدى المسألتين لا يمكن أن نستدل عليها بالسمع ، والأخرى يمكن
ذلك فيها ، ففارق أحدهما الآخر.
وأما ما ذكروه من
أن السؤال سؤال موسى عليهالسلام ، لأنه أضاف سؤال الرؤية إلى نفسه بقوله : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) [الأعراف : ١٤٣] ،
فلا يصح ، لأنه غير ممتنع أن يكون السؤال سؤال قومه ثم إنه يضيفه إلى نفسه ، وهذا
ظاهر في الشاهد. ألا ترى أن الكثير منا إذا شفع لغيره في حاجة ، ربما يقول : اقض
حاجتي وأنجح طلبتي وما جرى هذا المجرى ، فيضيفه إلى نفسه وإن كانت الحاجة حاجة
غيره. وأما ما قالوه من أن السؤال سؤال موسى ، لأنه تاب عن ذلك ، والتوبة لا تصح
إلا من فعل نفسه ، فلا يصح أيضا ، لأن توبته هو ، لأنه سأل الله بحضرة القوم من
غير إذن ، ولا يجوز من الأنبياء أن يسألوا الله تعالى بحضرة الأمة من غير إذن سمعي
، لأنه لا يمتنع أن يكون الصلاح أن لا يجابوا ، فيكون ذلك تنفيرا عن قبول قوله.
وأما الصاعقة فلم
يكن ذلك عقوبة ، وإنما كان ذلك امتحانا وابتلاء كما امتحن الله غيره من الأنبياء.
وهذه الآية حجة
لنا عليهم من وجهين :
أحدهما ، هو أنه
تعالى قال مجيبا لسؤاله (رَبِّ أَرِنِي
أَنْظُرْ إِلَيْكَ) قال لن تراني ولن موضوعة للتأبيد ، فقد نفى أن يكون مرئيا
البتة ، وهذا يدل على استحالة الرؤية عليه. فإن قالوا : أليس أنه تعالى قال حاكيا
عن اليهود (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ
أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) [البقرة : ٩٥] أي
لا يتمنون الموت ، ثم قال حاكيا عنهم (يا مالِكُ لِيَقْضِ
عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) [الزخرف : ٧٧]
فكيف يقال : إن لن موضوع للتأبيد؟ قلنا : إن لن موضوعة للتأبيد ثم ليس يجب أن لا
يصح استعماله إلا حقيقة ، بل لا يمتنع أن يستعمل مجازا ، وصار الحال فيه كالحال في
قولهم أسد وخنزير وحمار ، فكما أن موضعها وحقيقتها لحيوانات مخصوصة ثم تستعمل في
غيرها على سبيل المجاز والتوسع ، واستعمالهم في غيرها لا يقدح في حقيقتها ، كذلك
هاهنا.
والوجه الثاني من
الاستدلال بهذه الآية ، هو أنه تعالى قال : (لَنْ تَرانِي وَلكِنِ
انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) [الأعراف : ١٤٣]
علق الرؤية باستقرار الجبل. فلا يخلو ، إما أن يكون علقها باستقراره بعد تحركه ،
وتدكدكه ، أو علقها به حال
تحركه. لا يجوز أن
تكون الرؤية علقها باستقرار الجبل ، لأن الجبل قد استقر ولم ير موسى ربه ، فيجب أن
يكون قد علق ذلك باستقرار الجبل بحال تحركه ، دالا بذلك على أن الرؤية مستحيلة
عليه ، كاستحالة استقرار الجبل حال تحركه. ويكون هذا بمنزلة قوله تعالى : (وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى
يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ).
ومما يتعلقون به ،
قوله تعالى : (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ
يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ) [الأحزاب : ٤٤]
وقوله تعالى : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا
لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً) [الكهف : ١١٠] إلى
غير ذلك من الآيات التي ذكر فيها اللقاء.
والأصل في الجواب
عن ذلك أن اللقاء ليس هو بمعنى الرؤية ، ولهذا استعمل أحدهما حيث لا يستعمل الآخر
، ولهذا فإن الأعمى يقول : لقيت فلانا وجلست بين يديه وقرأت عليه ، ولا يقول
رأيته. وكذلك فقد يسأل أحدهم غيره هل لقيت الملك؟ فيقول : لا ، ولكن رأيته على
القصر. فلو كان أحدهما بمعنى الآخر لم يجز ذلك ، فثبت أن اللقاء ليس هو بمعنى
الرؤية ، وأنهم إنما يستعملونه فيها مجازا ، وإذا ثبت ذلك ، فيجب أن نحمل هذه
الآية على وجه يوافق دلالة العقل فنقول : المراد بقوله تعالى : (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ
سَلامٌ) [الأحزاب : ٤٤] أي
يوم يلقون ملائكته ، كما قال في موضع آخر (وَالْمَلائِكَةُ
يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) [الرعد : ٢٣ ، ٢٤].
وأما قوله عزوجل (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا
لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً) [الكهف : ١١٠] أي
ثواب ربه ، ذكر نفسه وأراد غيره. كما قال في موضع آخر (وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ
الْغَفَّارِ) [غافر : ٤٢] أي
إلى طاعة العزيز الغفار ، (وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ
إِلى رَبِّي) أي إلى حيث أرني ربي. وكقوله (وَجاءَ رَبُّكَ) [الفجر : ٢٢] أي
وجاء أمر ربك. وقوله (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) يعني أهل القرية. ونظائر هذا أكثر من أن تحصى.
وبعد ، فلو كانت
هذه الآية دالة على أن المؤمنين يرون الله تعالى ، لوجب في قوله (فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ
إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ) [التوبة : ٧٧] أن
يدل على أن المنافقين أيضا يرونه ، وهم ما لا يقولون بذلك. فليس إلا أن الرؤية
مستحيلة على الله تعالى في كل حال ، وأن لقاءه في هذه الآية محمول على عقابه ، كما
في تلك الآية محمول على لقاء ثواب الله أو لقاء الملائكة.
وفي الحكاية أن
قاضيا من القضاة استدل بقوله عزوجل : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا
لِقاءَ رَبِّهِ) [الكهف : ١١٠] على
أنه تعالى يرى ، فاعترض عليه ملاح فقال : ليس اللقاء بمعنى
الرؤية ، لأن
أحدهما يستعمل حيث لا يستعمل الآخر ، بل يثبت بأحدهما وينتفى بالآخر ، ولا يتناقض
الكلام ، وقال : لو كان اللقاء بمعنى الرؤية لم يختلف الحال فيه بالمؤمنين. وقد
قال الله تعالى : (فَأَعْقَبَهُمْ
نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ) فيجب أن يدل على أن المنافقين يرونه. فقال له القاضي : من
أين لك هذا؟ فقال له : من رجل بالبصرة يقال له أبو علي بن عبد الوهاب الجبائي ،
فقال : لعن الله ذلك الرجل. لقد بث الاعتزال في الدنيا حتى سلط الملاحين على
القضاة.
ومما يتعلقون به ،
قوله تعالى : (كَلَّا إِنَّهُمْ
عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥)) قالوا : بين الله تعالى أن الكفار يوم القيامة محجوبون عن
رؤية الله ، وهذا يدل على أن المؤمنين لا يحجبون ، وفي ذلك ما نقوله.
والأصل في جوابه ،
أن هذا استدلال بدليل الخطاب ، وذلك لا يعتمد في فروع الفقه فكيف في أصول الدين.
وبعد ، فليس في ظاهر الآية ما يدل على أن الكفار يوم القيامة محجوبون عن رؤية الله
، لأنه تعالى قال : (كَلَّا إِنَّهُمْ
عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥)) [المطففين : ١٥]
ولم يقل عن رؤية ربهم. ومتى قالوا : المراد بقوله عن ربهم ، عن رؤية ربهم ، قلنا :
ليس كذلك ، بل المراد عن ثواب ربهم ، لأنكم إذا عدلتم عن الظاهر فلستم بالتأويل
أولى منا ، فنحمله على وجه يوافق دلالة العقل.
ومما يتعلقون به ،
إجماع الصحابة على أنه تعالى يرى ، وإجماعهم حجة ، فيجب القضاء بأنه تعالى يرى.
قلنا : لا يمكن
ادعاء إجماع الصحابة على ذلك ، فقد روي عن عائشة أنها قالت لما سمعت قائلا يقول إن
محمدا رأى ربه ، فقالت : لقد قف شعري مما قلت ، ثلاثا من زعم أن محمدا رأى ربه فقد
أعظم الفرية على الله تعالى ، ثم تلت قوله تعالى (وَما كانَ لِبَشَرٍ
أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ
رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ) [الشورى : ٥١].
وبعد ، فمعلوم من
حال أمير المؤمنين علي عليهالسلام وكبار الصحابة ، أنهم كانوا ينفون الرؤية عن الله تعالى.
وأنت إذا نظرت في خطب أمير المؤمنين ، وجدتها مشحونة بنفي الرؤية عن الله تعالى ،
فيبطل ما قالوا.
أخبار مروية عن الرسول
ومما يتعلقون به ،
أخبار مروية عن النبي صلىاللهعليهوآله ، وأكثرها يتضمن الجبر والتشبيه ، فيجب القطع على أنه صلىاللهعليهوسلم لم يقله وإن قال فإنه قاله حكاية عن قوم ، والراوي حذف
الحكاية ونقل الخبر.
ومن جملتها وهو
أشف ما يتعلقون به ، ما يروى عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «سترون ربكم يوم
القيامة كما ترون القمر ليلة البدر».
ولنا في الجواب ثلاثة طرق :
أحدها ، هو أن هذا
الخبر يتضمن الجبر والتشبيه ، لأنا لا نرى القمر إلا مدورا عاليا منورا ، ومعلوم
أنه لا يجوز أن يرى القديم تعالى على هذا الحد ، فيجب أن نقطع على أنه كذب على
النبي صلىاللهعليهوسلم ، وأنه لم يقله ، وإن قاله فإنه قاله حكاية عن قوم كما
ذكرنا.
والطريقة الثانية
، هو أن هذا الخبر يروى عن قيس بن أبي حازم ، عن جرير بن عبد الله البجلي ، عن
النبي صلى الله عليه وعلى آله. وقيس هذا مطعون فيه من وجهين : أحدهما ، أنه كان
يرى رأي الخوارج ، يروى أنه قال : منذ سمعت عليا على منبر الكوفة يقول : انفروا
إلى بقية الأحزاب ـ يعني أهل النهروان ـ دخل بغضه قلبي ، ومن دخل بغض أمير
المؤمنين قلبه ، فأقل أحواله أن لا يعتمد على قوله ولا يحتج بخبره. والثاني ، قيل
إنه خولط في عقله آخر عمره ، والكتبة يكتبون عنه على عادتهم في حال عدم التمييز ،
ولا ندري أن هذا الخبر رواه وهو صحيح العقل أو مختلط العقل ، ويحكى عنه أنه قال
لبعض أصحابه : أعطني درهما اشتري به عصا ، أضرب بها الكلاب ، وهذا من أفعال
المجانين. ويقال أيضا إنه كان محبوسا في بيت فكان يضرب على الباب فكلما اصطفق
الباب ضحك ، فلا يمكن الاحتجاج بقوله لأن هذا دلالة الجنون عليه.
وأما الطريقة
الثالثة ، هو أن يقال : إن صح هذا الخبر وسلم ، فأكبر ما فيه أن يكون خبرا من
أخبار الآحاد ، وخبر الواحد مما لا يقتضي العلم ، ومسألتنا طريقها القطع والثبات ،
وإذا صحت هذه الجملة بطل ما يتعلقون به. ثم إن هذا الخبر معارض بأخبار رويت ، منها
ما روى أبو قلابة عن أبي ذر أنه قال : قلت للنبي : هل رأيت ربك ، فقال : نور هو ،
أنى أراه أي ، أنور هو؟ كيف أراه؟ فحذف همزة الاستفهام جريا
على عادتهم في
الاختصار ، وعلى هذا قال الشاعر :
فو الله ما أدري
وإن كنت داريا
|
|
بسبع رميت الجمر
أم بثمان
|
وعن جابر بن عبد
الله عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أنه قال : لن يرى الله أحد في الدنيا ولا في الآخرة. وقد
قيل لعلي عليهالسلام : هل رأيت ربك؟ فقال : ما كنت لأعبد شيئا لم أره. فقيل :
كيف رأيت؟ فقال ، لم تره الأبصار بمشاهدة العيان ، ولكن رأته القلوب بحقائق
الإيمان ، موصوف بالدلالات ، معروف بالآيات ، هو الله الذي لا إله إلا هو الحي
القيوم.
ثم نتأوله نحن على
وجه يوافق دلالة العقل ، فنقول : المراد به سترون ربكم يوم القيامة ، أي ستعلمون
ربكم يوم القيامة كما تعلمون القمر ليلة البدر. وعلى هذا قال : لا تضامون في رؤيته
، أي لا تشكون في رؤيته فعقبه بالشك ، ولو كان بمعنى رؤية البصر لم يجز ذلك.
والرؤية بمعنى العلم مما نطق به القرآن ، وورد به الشعر. فقال الله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ
الظِّلَ) [الفرقان : ٤٥]
وقال : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ
فَعَلَ رَبُّكَ)
(بِأَصْحابِ الْفِيلِ
(١)) وقال : (أَوَلَمْ يَرَ
الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما
وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (٣٠)) [الأنبياء : ٣٠]
وفي الشعر :
رأيت الله إذ
سمى نزارا
|
|
وأسكنهم بمكة
قاطنينا
|
أي علمت الله
تعالى.
وقال حاتم بن طي :
أماوي إن يصبح
صداي بقفرة
|
|
من الأرض لا ماء
لدي ولا خمر
|
ترى أن ما أنفقت
لم يك ضرني
|
|
وأن يدي مما
بخلت به صفر
|
أماوي ما يغني
الثراء عن الفتى
|
|
إذا حشرجت يوما
وضاق بها الصدر
|
أماوي إن المال
غاد ورائح
|
|
وباق من المال
الأحاديث والذكر
|
فإن قالوا : النبي
صلىاللهعليهوآله إنما أورد هذا الخبر مورد البشارة لأصحابه ، وأي بشارة في أن
يعلموا الله تعالى في دار الآخرة ، ومعلوم أنهم يعلمونه في دار الدنيا؟ قلنا :
إنما بشرنا بالعلم الضروري ، والعلم الضروري لا يثبت إلا في دار الآخرة. فإن قالوا
: أي بشارة في أن يعلم الله تعالى ضرورة؟ قلنا : لأن لا يلزم مئونة النظر وتعب
الفكر. فإن قال : فيجب على هذا أن يكون المنافقون والمؤمنون سواء ، لأنهم يعلمون
الله ضرورة كالمؤمنين. قلنا : إن المنافقين والكفار وإن علموا الله تعالى
ضرورة فلا يكون
حالهم وحال المؤمنين سواء ، لأن المؤمنين إذا عرفوا الله تعالى ضرورة ، وعلموا
دوام ثوابهم ، ازدادوا فرحا وسرورا ، ويكون عيشهم أهنأ وأرغد ، وليس كذلك حال
المنافقين ، لأنهم إذا عرفوا الله تعالى ضرورة ، وعلموا دوام عقابهم ، ازدادوا غما
وحسرة ، وكانوا في عقوبة وعذاب.
فإن قالوا :
الرؤية إذا كانت بمعنى العلم تتعدى إلى مفعولين ، نحو رأيت فلانا فاضلا ، ولا يجوز
الاقتصار على أحد مفعوليه إلا إذا كان بمعنى المشاهد ، قلنا : لا يمتنع أن يكون
الأصل ما ذكرتموه ، ثم يقتصر على أحد مفعوليه توسعا ومجازا ، كما أن همزة التعدية
إذا دخلت في الفعل الذي يتعدى إلى مفعولين ، يقتضي تعديه إلى ثلاثة مفعولين ، ثم
قد يدخل على الفعل الذي هذا حاله ويقتصر على مفعولين ، ولهذا قال تعالى : (وَأَرِنا مَناسِكَنا) [البقرة : ١٢٨]
فأدخل الهمزة على الرؤية واقتصر على مفعولين على أن حال الرؤية إذا كانت بمعنى
العلم ليس بأكثر من معنى حال العلم ، ومعلوم أنهم يقتصرون في العلم على أحد
مفعولين فيقولون أعلم ما في نفسك ، ولهذا قال تعالى : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ
ما فِي نَفْسِكَ) [المائدة : ١١٦]
فإن قال : إن العلم هاهنا بمعنى المعرفة ، فلهذا جاز أن يقتصر على أحد مفعولين؟
قلنا : فارض منا يمثل هذا الجواب ، فنقول : إن الرؤية في الخبر بمعنى المعرفة ،
لأن المراد بقوله : سترون ربكم يوم القيامة ، أي ستعرفون ربكم يوم القيامة كما
تعرفون القمر ليلة البدر ، فلا يجب أن يتعدى إلى مفعولين.
شبه المخالفين من جهة العقل
وللمخالف في هذا
الباب شبه من جهة العقل من جملتها ، قولهم : إن القديم تعالى عندكم راء لذاته فيجب
أن يرى نفسه فيما لم يزل ، وإلا خرج عن كونه رائيا لذاته ، وكل ما قال إنه يرى
نفسه قال إنه يراه غيره.
قلنا : لنا في هذه
المسألة طريقان : أحدهما ، هو أن يقول : إنا لا نسلم أنه راء لذاته ، بل القديم
تعالى إنما يرى الشيء لكونه حيا بشرط وجود المدرك ، وكونه حيا من مقتضى صفة الذات
، وكونه مدركا من مقتضى صفة الذات ، فكيف يصح أن يقال إنه عزوجل راء لذاته؟
والطريقة الثانية
، هو أن نقول : هب أن الله تعالى راء لذاته ، أليس أنه عزوجل لا يجب أن يرى المعدومات مع كونه رائيا لذاته؟ فإن قالوا :
إنما لا يجب أن يرى
المعدومات لأن
الرؤية مستحيلة على المعدومات ، قلنا : وكذلك القديم تعالى تستحيل عليه الرؤية ،
فلا يجب أن يرى نفسه فيما لم يزل.
ومما يتعلقون به ،
قولهم : قد ثبت أن الله تعالى راء لغيره فيجب أن يرى نفسه ، لأن العلة في صحة أن
يرى غيره هي العلة في صحة أن يرى نفسه دليله الشاهد ، فإن كل من صح أن يرى غيره
يصح أن يرى نفسه ، ومن لم يصح أن يرى غيره لم يصح أن يرى نفسه ، والعلة هو ما يثبت
الحكم بثباته ويزول بزواله ، ولم يكن هناك ما تعليق الحكم عليه أولى ، وفي مسألتنا
ما تعليق الحكم عليه ، فلا يصح ما ذكرتموه.
وبعد ، فإن هذا
قياس الرائي على المرئي ، وأحدهما مباين للآخر ، لأن الرائي إنما يصح أن يرى الشيء
لكونه حيا بشرط صحة الحاسة ، والمرئي إنما يرى لكونه مرئيا في نفسه بشرط أن يكون
موجودا في الحال ، وليس كذلك القديم تعالى ، فلا يصح ما أوردتموه. وهل هذا إلا كأن
يقال : إن من كان حيا ، كما يجب أن يكون رائيا للشيء ، يجب أن يكون مرئيا ، فكما
أن هذا خلف من الكلام ، كذلك هنا ، لأن المعلوم أن الشيء لا يرى لكونه حيا وإنما
يرى لكونه على الصفة التي يتعلق بها الإدراك ، والرائي إنما يرى الشيء لكونه حيا.
وبعد ، فما أنكرتم أن الواحد منا إنما يصح أن يرى نفسه لأنه مما تصح رؤية ، وليس
كذلك القديم تعالى لأن الرؤية مستحيلة عليه ، ففارق أحدهما الآخر.
ومما يتعلقون به
أيضا ، قولهم : قد ثبت أن القديم تعالى موجود ، فيجب أن يكون مرئيا.
وجوابنا عن ذلك هو
أن نقول : ولم قلتم : إن ما كان موجودا يجب أن يكون مرئيا؟ فإن قالوا : لأن مصحح
الرؤية إنما هو الوجود ، بدليل أن الشيء متى كان موجودا كان مرئيا ، ومتى لم يكن
كذلك لم يكن مرئيا ، وبهذه الطريقة يعلم تأثير المؤثرات من المصحح وغير المصحح.
قلنا : كيف يصح قولكم إن الشيء متى كان موجودا يرى ، ومعلوم أن كثيرا من الموجودات
لا ترى ، كالإرادات والكراهات وغير ذلك؟ ثم نقول لهم : ولم قلتم إنه إذا لم يكن
موجودا لم يصح أن يرى ، أو ليس عندكم أنه يجوز أن يرى المعدومات بأن يخلق الله
تعالى الإدراك المتعلق بها؟ ثم يقال لهم : كيف يصح قولكم إن المصحح للرؤية إنما هو
الوجود ، ومعلوم أن الشيء عند ما تصح رؤيته كما تتجدد له صفة الوجود تتجدد له صفات
أخرى ، فليس بأن تجعل الصفة المصححة للرؤية هي الوجود ، أولى من أن تجعل الصفات
الأخر ، فما أنكرتم أن
المصحح لها غير
هذه الصفة؟ فإن قيل : وما تلك الصفة قلنا : لا يلزمنا بيانه على طريق الجدل ، غير
أنا نتبرع فنقول : إن تلك الصفة إنما هو التحيز في الجوهر ، والهيئة في الكون. فإن
قالوا لو كان كذلك لأدى إلى اختلاف المصحح ، وذلك مما لا يجوز. ألا ترى أن كون
أحدنا حيا لما صحح كونه عالما قادرا لم يختلف البتة ، حتى وجب في كل عالم أن يكون
حيا ، كذلك في مسألتنا لو كان التحيز هو المصحح للرؤية في الجوهر ، لوجب في كل
مرئي أن يكون متحيزا ، والمعلوم خلافه. وجوابنا أنه لا يمتنع اختلاف المصحح ، ألا
ترى أن المصحح لكون أحدنا عالما قادرا حيا موجودا ، إنما هو كون القديم تعالى
قادرا عالما حيا. ثم ليس يجب أن يكون المصحح لهذه الصفات فيه تعالى ما ذكرناه ، بل
المصحح لها ما هو عليه في ذاته ، كذلك في مسألتنا.
ومما يتعلقون به
أيضا ، قولهم : إن إثبات الرؤية لله تعالى لا تؤدي إلى حدوثه ، ولا إلى حدوث معنى
فيه ، ولا إلى تشبيهه بخلقه ، ولا إلى تجويره في حكمه ، ولا إلى تكذيبه في خبره ،
فيجب أن تثبت الرؤية لله تعالى ويقال إنه مرئي.
وهذه شبهة مسترقة
من شيخنا أبي علي ، فإنه قال في كتاب «من يكفر ومن لا
يكفر» أن إثبات الرؤية لله تعالى على ما يقوله هؤلاء الأشعرية لا يكون كفرا لأنه لا يؤدي إلى حدوثه ولا إلى حدوث معنى فيه
وعدّ هذه الأمور ، فظن القوم لجهلهم أن هذا يدلهم على إثبات الرؤية.
فيقال لهم : إن
نفي الرؤية عن الله تعالى لا يؤدي إلى حدوثه ، ولا إلى حدوث معنى فيه ، ولا إلى
تشبيهه بخلقه ، ولا إلى تجويره في حكمه ، ولا إلى تكذيبه في خبره ، فيجب أن ننفي
عنه الرؤية ، وهذه الطريقة تسمى قلب التسوية.
وبعد ، فإن إثبات
جبريل عليهالسلام في السماء السابعة لا يؤدي إلى حدوث القديم تعالى ، ولا
إلى حدوث معنى فيه ، ولا إلى تشبيهه بخلقه ، ولا إلى تكذيبه في خبره. ثم لا يجب أن
يقال : إن جبريل في السماء السابعة ، وكذلك فإن إثبات بلدة عظيمة بين الري وأصفهان
أعظم منهما لا يؤدي إلى ذلك ففسدت هذه الطريقة.
ثم يقال لهم : إن
إثبات الرؤية يؤدي إلى حدوثه ، وإلى حدوث معنى فيه ، وإلى تشبيهه بخلقه ، وإلى
تجويره في حكمه ، وإلى تكذيبه في خبره ، لأن الشيء إنما يرى إذا كان مقابلا ، أو
حالا في المقابل ، وهذه من صفات الأجسام فيجب أن يكون القديم تعالى جسما وإذا كان
جسما يجب أن يكون محدثا ، لأن الأجسام لا تخلو من المعاني
المحدثة فيؤدي إلى
حدوثه ، وكذلك إذا كان جسما تجوز عليه الحاجة ، وتجوز عليه الزيادة والنقصان ،
وإذا جازت عليه الحاجة جاز أن يجور في حكمه ، ويكذب في خبره ، تعالى عن ذلك. فإذا
كان إثبات الرؤية لله تعالى يؤدي إلى كل هذه المحالات ، فيجب أن ينفي عنه على ما
نقوله.
اعلم أن من خالفنا
في هذه المسألة لا يخلو حاله من أحد أمرين ، إما أن يحقق الرؤية فيقول : إن الله
تعالى يرى مقابلا لنا أو حالا في المقابل أو في حكم المقابل ، أو لا يحقق فيقول :
إنه تعالى يرى بلا كيف. فمن ذهب إلى المذهب الأول فإنه يكون كافرا لأنه جاهل بالله
تعالى ، والجهل بالله كفر. والدليل على ذلك إجماع الأمة ، وإجماع الأمة حجة. ومن
قال إنه تعالى يرى بلا كيف فلا يكفر ، لأن التكفير إنما يعرف شرعا ، ولا دلالة من
جهة الشرع يدل على ذلك. والذي ألزمهم في الكتاب هو أنه تعالى لو جاز أن يرى لجاز
أن يلمس ويشم ، خاصة على مذهبهم أن رؤية الله تعالى من أعظم الثواب ، فيجب أن يكون
القديم تعالى مشتهى معشوقا ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، فهذه جملة الكلام في
هذا الفصل.
فصل في نفي الثاني
والغرض به ،
الكلام في أن الله تعالى واحد لا ثاني له يشاركه فيما يستحقه من الصفات نفيا
وإثباتا على الحد الذي يستحقه.
وقبل الشروع في
المسألة لا بد من أن نبين حقيقة الواحد.
اعلم أن الواحد قد
يستعمل في الشيء ويراد به أن لا يتجزأ ولا يتبعض على مثل ما نقوله في الجزء
المنفرد أنه جزء واحد ، وفي جزء من السواد والبياض أنه واحد. وقد يستعمل ويراد به
أن يختص بصفة لا يشاركه فيها غيره ، كما يقال فلان واحد في زمانه. وغرضنا إذا
وصفنا الله تعالى بأنه واحد إنما هو القسم الثاني لأن مقصودنا مدح الله تعالى بذلك
، ولا مدح في أن لا يتجزأ ولا يتبعض ، وإن كان كذلك ، لأن غيره يشاركه فيه.
إذا ثبت هذا
فالمخالف في المسألة لا يخلو ، إما أن يقول : إن مع الله قديما ثانيا يشاركه في
صفاته ، ولا قائل بهذا يقول ، وإن كان الإشكال في إبطاله كالإشكال في إبطال المذهب
الثاني ، بل أكثر. أو يقول : إن مع الله تعالى قديما ثانيا يشاركه في بعض صفاته ،
والقائل بهذا المذهب الديصانية ، والمانوية ، والمجوس. وسنفصل
الكلام عليهم إن
شاء الله تعالى وبه الثقة.
ونحن نورد دلالة
تعم كلا المذهبين بالافساد ، فنقول : لو كان مع الله تعالى قديم ثان لوجب أن يكون
مثلا له لأن القديم صفة من صفات النفس ، والاشتراك فيها يوجب التماثل والاشتراك في
سائر صفات النفس. وإذا كان كذلك ، والقديم تعالى قادرا لذاته وجب أن يكون الثاني
أيضا قادرا لذاته ، فيجب صحة وقوع التمانع بينهما ، لأن من حق القادر على الشيء أن
يكون قادرا على جنس ضده إذا كان له ضد ، ومن حقه أيضا أن يحصل مقدوره إذا حصل
داعيه إليه ولا منع وذلك يوجب ما ذكرناه. إذا ثبت هذا ، فلو قدّر وقوع التمانع
بينهما ، بأن يريد أحدهما تحريك جسمه والآخر يريد تسكينه لكان لا يخلو ، إما أن
يحصل مرادهما وذلك يؤدي إلى اجتماع الضدين ، أو لا يحصل مرادهما ، وذلك يقدح في كون
الواحد الذي يثبت بالدلالة قادرا لذاته ، أو يحصل مراد أحدهما دون الآخر. فمن حصل
مراده فهو الإله ، ومن لم يحصل مراده فهو الممنوع. والممنوع متناهي المقدور قادر
بقدرة والقادر بالقدرة لا يكون إلا جسما ، وخالق العالم لا يجوز أن يكون جسما.
وهذه الدلالة
مبنية على أصول : منها أن القديم قديم لنفسه ، ومنها أن الاشتراك في صفة صفات
الذات يوجب التماثل والاشتراك في سائر الصفات ، ومنها أن من حق كل قادرين صحة وقوع
التمانع بينهما ، ومنها أن من حق القادر على الشيء إذا دعاه الداعي أن يحصل لا
محالة ، حتى لو لم يحصل لخرج عن كونه قادرا ، ومنها أن من حق القادر على الشيء أن
يكون قادرا على جنس ضده إذا كان له ضد ، ومنها أن من لم يحصل مراده يكون ممنوعا
متناهي المقدور ، ومنها أن متناهي المقدور لا بد من أن يكون قادرا بقدرة ، ومنها
أن القادر بالقدرة لا بد من أن يكون جسما ، ومنها أن خالق العالم لا يجوز أن يكون
جسما.
أما الكلام في أن
القديم قديم لنفسه ، وأن الاشتراك فيها يوجب التماثل فقد تقدم.
وأما الكلام في أن
من حق كل قادرين صحة وقوع التمانع بينهما ، فهو لأن من حق القادر على الشيء أن
يكون قادرا على جنس ضده إذا كان له ضد ، وإذا قدر عليه صح وقوع التمانع بينهما على
ما ذكرنا.
فإن قيل : وما
التمانع؟ قلنا : هو أن يفعل كل واحد من القادرين ما يمنع به صاحبه.
وأما الكلام في أن
من حق القادر على الشيء إذا دعاه الداعي إليه أن يحصل لا محالة فظاهر ، لأن الواحد
منا إذا كان جائعا وبين يديه طعام شهي لذيذ ، وكان له داع إلى أكله لا بد من أن
يأكله حتى لو لم يأكله لخرج عن كونه قادرا.
وأما الكلام في أن
من لم يحصل مراده فإن يكون ممنوعا فظاهر لا إشكال فيه ، لأنه لو لم يكن ممنوعا
لحصل مراده ، فلما لم يحصل دل على أنه ممنوع.
وأما الكلام في أن
الممنوع متناهي المقدور ، فهو أنه لو لم يكن كذلك لحصل مراده ، فلما لم يحصل مراده
دل على أن مقدوره قد تناهى. ألا ترى أن أحدنا إذا حاول حمل الثقيل فلا بد من أن
تكون قدرته زائدة على ثقله حتى يمكنه رفعه ، ومتى لم يمكن رفعه علم أن مقدوره قد
تناهى.
وأما الكلام في أن
متناهي المقدور قادر بقدرة ، فهو أن الذي يحصل المقدورات في الجنس والعدد إنما هو
القدرة ، فإذا تناهى مقدوره دل على أنه قادر بقدرة.
وأما الكلام في أن
القادر بالقدرة لا بد من أن يكون جسما ، فهو أن القدرة لا يصح الفعل بها إلا بعد
استعمال محلها في الفعل أو في سببه ضربا من الاستعمال ، ألا ترى أنه لا يمكننا رفع
الثقيل بما في أيدينا من القدرة إلا بعد أن نستعملها في الفعل أو في سببه نوعا من
الاستعمال ، فإذا كان كذلك وجب أن يكون جسما.
وأما الكلام في أن
خالق العالم لا يجوز أن يكون جسما فقد تقدم.
فإن قيل ، ما
أنكرتم أن مقدورهما واحد ، لأنهما قادران للذات فلا يعلم وقوع التمانع؟ وصار الحال
فيه كالحال في الواحد منا مع نفسه ، فكما أنه لا يصح وقوع التمانع بينه وبين نفسه
لما كان مقدورهما واحدا ، كذلك هنا.
ولنا في الجواب عن
ذلك طرق :
أحدها ، ما سلكها
شيخنا إسحاق بن عياش ، وتحريرها ، هو أن من حق كل قادرين أن يكون مقدورهما متغايرا
، سواء كانا قادرين للذات أو لمعنى لأن الذي دل على استحالة مقدوري قادرين ، لم
يفصل بين أن يكونا قادرين للذات أو لمعنى وما دل على صحة وقوع التمانع بين
القادرين ، لم يفصل بين أن تكون هذه الصفة مستحقة
للذات أو لمعنى.
بيان ذلك ، أن من
حق القادر على الشيء إذا دعاه الداعي إلى فعل ، أن يحصل لا محالة ، وفي ذلك صحة ما
نقوله ، وكان يقول : إن هذه الصفة لا تقع في الذوات إلا مختلفة ، كما أن القدرة لا
تقع إلا مختلفة. إلا أن الاعتماد على هذه الطريقة لا يصح لأن هذا ينقض الأصل الذي
مهدناه من قبل ، وهو أن الاشتراك في صفة من صفات الذات يوجب الاشتراك في سائر صفات
الذات ، فكان يجب إذا قدر أحدهما على شيء لذاته ، أن يكون الآخر قادرا على ذلك
الشيء.
والطريقة الثانية
، ما ذكره قاضي القضاة. وتحريرها ، هو أنا نعلم صحة التمانع بين كل قادرين وإن لم
نعلم تغاير مقدورهما ، ولهذا فإن نفاة الأعراض يعرفون صحة التمانع ، وإن لم يخطر
ببالهم تغاير المقدوران ولا تماثلها ، إلا أن لقائل أن يقول : إنا ما لم نعلم
تغاير المقدورين لا نعلم صحة التمانع ، وأما ما ذكرتموه في نفاة الأعراض فليس يصح
، لأن نفاة الأعراض يعرفون تغاير المقدورات على سبيل الجملة وإن لم يعلموا على
سبيل التفصيل.
استحالة المقدور الواحد بين قادرين
والطريقة الثالثة
، وهو أن المقدور الواحد بين القادرين محال ، وإثبات الثاني يؤدي إليه ، فجب أن
يكون محالا ، لأن ما يؤدي إلى المحال يكون محالا مثله. وهذه الطريقة سهلة من طريق
العلم ، مشكلة من طريق الجدل ، لأن للخصم أن يقول هذا انتقال من دلالة التمانع إلى
دلالة أخرى. ويمكن أن يقال إن هذا ليس بانتقال ، وإنما هو استعانة ببعض ما يذكر في
دليل آخر ودفعا لسؤال السائل. يبين ذلك أنا لم نعتمد على هذا القدر ، بل قلنا : لو
كان مع الله قديم آخر لكان مثلا له ، فكان يجب أن يكون قادرا كهو ، ومن حق كل
قادرين صحة التمانع بينهما. ثم لما أورد علينا هذا السؤال أسقطناه بقولنا : إن
المقدور الواحد بين القادرين محال فلا يكون انتقالا.
والأحسم للشغب ،
هو أن نحرر دلالة التمانع تحريرا آخر فنقول : لو كان مع الله تعالى قديم آخر لوجب
أن يكون قادرا مثله ، فلا يخلو ، إما أن يكون مقدورهما واحدا ، أو يكون مقدورهما
متغايرا ، لا يجوز أن يكون مقدورهما واحدا لأن المقدور الواحد بين القادرين محال ،
فيجب أن يكون مقدورهما متغايرا وإذا تغاير مقدورهما وجب صحة التمانع بينهما ،
فيؤدي إلى تلك الوجوه التي ذكرناها.
فإن قيل : قد
بنيتم صحة وقوع التمانع بينهما على اختلافهما في الإرادة ، وهما لا يختلفان في ذلك
، لأن الإرادة الموجودة لا في محل كما توجب الصفة لهذا ، توجب الصفة لذاك ، إذ لا
اختصاص لها بأحدهما دون الآخر.
قلنا : إن من حكم
كل حيين صحة اختلافهما في الإرادة ، سواء كانا مريدين بإرادة موجودة لا في محل ،
أو لم يكونا كذلك. وإثبات الثاني يقتضي فساد هذا الأصل فيجب فساده. وليس لقائل أن
يقول : هذا انتقال من دلالة التمانع إلى غيرها ، لأن هذا استعانة ببعض ما تذكره في
دليل آخر دفعا لسؤال السائل على ما تقدم ، وذلك لا يعد انتقالا.
على أنا لم نبن
صحة وقوع التمانع على اختلافهما في الإرادة ، وإنما بنيناه على صحة اختلافهما في
الداعي ، وما من قادرين إلا ويصح اختلافهما في الداعي. ألا ترى أن النائمين قد
يتمانعان في تجاذب كساء مع فقد الإرادة.
مجرد الفعل لا يحتاج إلى القصد والإرادة
وبعد ، فإن
التمانع ليس بأكثر من أن يفعل أحدهما ضد ما يفعله الآخر ، وهذا يصح في مجرد الفعل
، ومجرد الفعل لا يحتاج إلى القصد والإرادة ، ولهذا فإن من وقف على شفير الجنة
والنار ، وعلم ما في الجنة من المنافع ، وما في النار من المضار ، وسلب عنه إرادة
دخول الجنة ، وخلق فيه إرادة دخول النار ، فإنه يدخل الجنة لا محالة مع فقد
الإرادة.
فإن قيل : ما
أنكرتم أنهما حكيمان لا يتمانعان؟ قلنا : إنا لم نبن الدلالة على وقوع التمانع
بينهما ، وكيف وفي ذلك إثبات ما نروم نفيه. وإنما بنينا على تقدير التمانع بينهما
، والتقدير كالتحقيق هاهنا ، وصار الحال في ذلك كالحال في تقدير الاصطلاح بين زيد
والأسد وإن علمنا أنهما لا يتصارعان البتة ، فكما أنا إذا قدرنا بينهما الاصطراع
أمكننا أن نعلم كون أحدهما غالبا وكون الآخر مغلوبا ، ونعلم أن من غلب فهو الممنوع
، والممنوع ضعيف متناهي المقدور وكذلك في مسألتنا.
واعلم أن التقدير
ربما يقوم مقام التحقيق وذلك مثل ما نحن فيه ، وربما لا يقوم مقامه ، وذلك كتقدير
وقع الظلم من جهة الله تعالى فإنه لا يقوم مقام الوقوع ، إذ لو وقع من الله تعالى
الظلم حقيقة لدل على الجهل والحاجة ، وليس كذلك إذا هو قدر وقوعه من قلبه ، فالوجه
في ذلك أن يحال السؤال ويقال : خطأ قول من يقول : إنه يدل على
الجهل والحاجة ،
وخطأ قول من يقول إنه لا يدل عليه ، فهذه هي الدلالة العقلية.
الدلالة السمعية
فأما دلالة السمع
فأكثر من أن تذكر ، نحو قوله جل وعز (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) [البقرة : ٢٥٥]
وأشباهه ، وكذلك فمعلوم ضرورة من دين النبي عليهالسلام ، فعلى هذا يجري الكلام في هذا الفصل.
هل يكون مع الله ثان يشاركه في بعض صفاته لا كلها
اعلم أنا قد ذكرنا
أنه لا خلاف في أنه ليس مع الله تعالى ثان يشاركه في جميع صفاته ، وإنما الخلاف في
أنه هل يجوز أن يكون مع الله ثان يشاركه في بعض صفاته دون البعض.
والمخالف في ذلك
هم الثنوية. ثم اختلفوا ، فمنهم من أثبت إلهين : النور والظلمة وقال بكونهما حيين
وهم المانوية ، ومنهم من أثبت إلهين النور والظلمة ، وقال : النور حي والظلمة موات
وهم الديصانية ولا خلاف بين هؤلاء وبين المانوية في قدمهما وأن العالم ممتزج منهما
، وأن جهة النور العلو وجهة الظلمة السفل ، ومنهم من قال بإثبات ثالث مع النور
والظلمة لأنهم لما رأوا أن العالم ممتزج منهما قالوا : لا بد من مازج يمزجه
فأثبتوا الثالث وهم المرقيونية. وأما المجوس فهم طائفة من الثنوية أيضا ، إلا أنهم
يغيرون العبارة ، فيسمون النور يزدان والظلمة أهرمن. ثم اختلفوا ، فمنهم من قال
بقدمها ، ومنهم من قال بقدم يزدان وحدوث أهرمن. ثم اختلفوا في كيفية حدوثه ، فمنهم
من قال إنه حدث من عفونات الأرض ، ومنهم من قال لا بل حدث من فكرته الردية ، فإن
يزدان لما استوى له الأمر واستتب ، فكر في نفسه فقال : لو كان مضاد ينازعني كيف
يكون حالي معه؟ فتولد من فكرته الردية هذه أهرمن ، فقال له : أنا منازعك ومخاصمك ،
وكادا يقتتلان فسفر هناك ملك فاصطلحا إلى أجل معلوم. وعندهم ، أنه إذا جاء ذلك
الوقت يغلب حينئذ يزدان أهرمن ويقتله ، ويصفو له العالم.
وعند هؤلاء الفرق
الأربع ، أن النور مطبوع على الخير لا يقدر على خلافه ، وأن الظلمة مطبوعة على
الشر لا يقدر إلا عليه. والذي أداهم إلى هذا المذهب ، أنهم اعتقدوا أن الآلام كلها
قبيحة لكونها آلاما ، والملاذ كلها حسنة لكونها ملاذا ، وأن
الفاعل الواحد
يستحيل أن يكون فاعلا للحسن والقبيح ، فأثبتوا لذلك فاعلين : يفعل أحدهما الحسن
بطبعه ، والآخر القبيح بطبعه.
الدلالة على فساد مذهبهم دلالة التمانع
ودلالة التمانع ،
كما تدل على فساد القول بأن مع الله تعالى ثانيا يشاركه في جميع صفاته ، تدل على
فساد مذهب هؤلاء أيضا.
النور والظلمة جسمان محدثان
وأحد ما يدل على
فساد مذهبهم أيضا ، هو أن النور جسم رقيق مضيء ، والظلمة جسم رقيق غير مضيء ،
والأجسام لا تخلو عن الحوادث ولا تنفك عنها ، وما لم ينفك عن الحوادث وجب حدوثه
مثلها ، فكيف يجوز أن يكونا قديمين.
لو كانا قديمين لوجب الاستغناء
وأحد ما يدل على
ذلك ، هو أنهما إذا كانا قديمين وكان أحدهما قادرا لذاته ، ومن يكون كذلك إلا
واخير والشر مقدوران لكل واحد منهما ، وهذا يوجب أن يقع الاستغناء بأحدهما عن
الآخر.
يبطل حسن الأمر والنهي
وأحد ما يدل على
ذلك ، هو أنه لو كان الأمر على ما قالوه لوجب أن يبطل حسن الأمر والنهي والمدح
والذم لأن الأمر لا يخلو ، إما أن يكون أمرا بالخير ، أو أمرا بالشر. فإن كان أمرا
بالخير فلا يخلو إما أن يكون أمرا للنور أو للظلمة لا يجوز أن يكون أمرا للظلمة
لأنها غير قادرة عليه ، ولا يجوز أن يكون أمرا للنور لأنه لا يمكنه الانفكاك عنه ،
والأمر بما هذا حاله ، بمنزلة إمرة المرمى به من شاهق بالنزول ، فكما أن ذلك قبيح
لما لم يمكنه الانفكاك من ذلك ، كذلك هاهنا ، وإن كان أمرا بالشر فلا يخلو ، إما
أن يكون أمرا للنور أو للظلمة ، والكلام فيه كالكلام في الأول.
وهذه القسمة تعود
في النهي وفي المدح وفي الذم ، فهذا هو الكلام على المانوية من الثنوية.
تخصيص في الرد على الديصانية :
وهكذا الكلام على
الديصانية يكون ، غير أنا نخصهم بوجه آخر فنقول : إن الظلمة إذا كانت فاعلة لا بد
من أن تكون قادرة ، وإذا كانت قادرة لا بد أن تكون حية ، فكيف يصح قولكم : إنها
موات؟
كلام يخص المرقيونية :
وأما المرقيونية
فالكلام عليهم مثل الكلام على أولئك ، ووجه آخر يخصهم ، وذلك الوجه هو أن نقول :
إن هذا الثالث إذا كان قديما وجب أن يكون مثلا لهما ، لأن القدم صفة من صفات النفس
، والاشتراك فيها يوجب التماثل ، وهذا يوجب أن يكون مثلا للنور والظلمة جميعا ،
فإذا كان أحدهما قادرا على الخير وجب أن يكون الآخر أيضا قادرا عليه ، ووجب أيضا
أن يكون الثالث قادرا عليه ، وهذا يؤذن بوقوع الاستغناء به عنهما.
وأما الكلام على
المجوس الذين يقولون بحدوث أهرمن ، فهو أن يقال لهم : إن يزدان إذا جاز أن يخلق ما
هو أصل لكل شر ، فهلا جاز أن يخلق الشر بنفسه من دون واسطة ، وليس يمكنهم أن
يقلبوا ذلك علينا فيقولوا : أليس الله عندكم خلق الشيطان وهو أصل لكل شر ، فلم لا
يجوز أن يخلق الشر بنفسه ، لأنا لم نقل : إن الشيطان موجب للشر وأنه مطبوع عليه ،
بل هو قادر على الخير قدرته على الشر ، إن شاء اختار هذا وإن شاء اختار ذلك ، فلا
يلزمنا ما ألزمناكم. وإن لزم هذا فإنما يلزم إخوانكم المجبرة ، لأنهم يقولون إن
القدرة موجبة ، وأن المؤمن لا يقدر إلا على الإيمان ، والكافر لا يقدر إلا على
الكفر ، وهذا هو أحد وجوه المضاهاة بين مذهب المجبرة وبين مذهب المجوس لأنهم
يقولون : النور مطبوع على الخير ولا يقدر على الشر البتة ، والظلمة مطبوعة على
الشر ولا تقدر إلا عليه. وهذا مذهب القوم بعينه.
ووجه آخر من
المضاهاة بين المذهبين ، هو أنهم يقولون : إن مزاج العالم حصل بفاعلين بالنور
والظلمة ، وأنه حسن من جهة النور ، قبيح من جهة الظلمة. وهذا هو مذهب القوم لأنهم
يقولون : إن الكفر حاصل بفاعلين بالله تعالى وبالعبد ، وهو حسن من جهة الله قبيح
من جهة العبد.
ووجه آخر من المضاهاة
، هو أن المجوس يستحسنون الأمر بما لا يقدر عليه ، والنهي عما لا يمكن الانفكاك
عنه. فإنهم ربما يصعدون ببقرة إلى موضع عال ،
ويشدون قوائمها ثم
يدهدونها من هناك إلى أسفل ، ثم يقولون : انزلي ولا تنزلي ، ثم إذا سقطت وماتت
يأكلونها ويقولون إنها يزدان كشت. وهذا هو بعينه مذهب القوم لأنهم يقولون : إن
الله تعالى أمر الكافر بالإيمان ، وهو لا يقدر عليه ، ونهاه عن الكفر وهو لا يمكنه
الانفكاك عنه.
ووجه آخر من
المضاهاة ، هو أنهم يقولون : إن نكاح الأم والبنات بقضاء الله تعالى وقدره ، كما
أن المجبرة يقولون فيه وفي جميع المقبحات ، أنها بقضاء الله وقدره ، بل حالهم أسوأ
من حال المجوس ، لأن المجوس اعتقدوا أن نكاح البنات والأمهات حسن ، ثم أضافوه إلى
الله تعالى ، والمجبرة اعتقدت فيه القبح ثم أضافته إلى الله تعالى.
وقد ذكر وجوه في
المضاهاة بين مذهب المجبرة ومذهب المجوس تركناها كراهية الإطالة. وإذ قد تقرر ذلك
صح دخولهم تحت قول النبي صلىاللهعليهوآله «القدرية
مجوس هذه الأمة» وسنعود إلى هذه الجملة إن شاء الله تعالى. فهذا هو الكلام على الثنوية من
المانوية والديصانية والمرقيونية والمجوس.
وشبههم في هذا
الباب ، هو أن قالوا : إن الآلام قبيحة كلها ، والملاذ حسنة كلها ، والفاعل الواحد
لا يجوز أن يكون موصوفا بالخير والشر جميعا.
وجوابنا ، أنا لا
نسلم أن الآلام قبيحة كلها. وأن الملاذ حسنة كلها ، بل فيها ما يقبح وفيها ما يحسن
، لأنها إنما تقبح وتحسن لوقوعها على وجه ، ولهذا نستحسن بعقولنا تحمل المشاق في
الأسفار طلبا للعلوم والأرباح وأن نفتصد ونحتجم ، ونستقبح بعقولنا الانتفاع
بالأشياء المغصوبة.
اللذة والألم من جنس واحد :
وبعد : فلم لا
يجوز في الفاعل الواحد أن يكون موصوفا بالخير والشر؟ فإن قالوا : لأنهما متضادان ،
قلنا : ومن أين أن الألم واللذة يتضادان ونحن لا نسلم ذلك بل هما من جنس واحد.
وبعد فإن لم يجز في الفاعل الواحد أن يكون موصوفا بهذين دفعة واحدة ، يجوز أن يوصف
بهما على وقتين ، فهلا جاز في الفاعل الواحد أن يفعل الألم في وقت واللذة في وقت
آخر ، فلا تحتاج إلى فاعلين.
مسائل سألها مشايخ المعتزلة لخصومهم :
وقد سألهم مشايخنا
رحمهمالله مسائل لا محيص لهم عنها.
منها : هو أنا لو
قدرنا أن يكون هاهنا رجلان دفعا إلى ظلمة شديدة ، ضاع من أحدهما بدرة واستتر الآخر
من العدو ، فإن هذه الظلمة محسنة إلى من استتر من العدو ، ومسيئة إلى من ضاع منه
البدرة. وكذلك إذا طلعت الشمس فإن هذا النور محسن إلى من ضاع هذه البدرة منه ،
مسيء إلى من استتر عن العدو. وفي هذا فساد مذهبهم.
وهذا السؤال إنما
أورده شيخنا أبو الهذيل على بعض الثنوية فأسلم.
ومن ذلك أخذ أبو
الطيب قوله :
فكم لظلام الليل
عندك من يد
|
|
تخبر أن
المانوية تكذب
|
وقاك ردى
الأعذار يسرى إليهم
|
|
وزادك فيه ذو
الدلال المحجب
|
ومن هذه الأسئلة ،
أن أحدنا يعلم أنه كاذب ، فمن الذي يعلم ذلك؟ فإن قالوا : النور ، فقد وصفوه بخصلة
من خصال الشر وهو الكذب ، وإن قالوا : الظلمة ، فقد وصفوه بخصلة من خصال الخير وهو
العلم. ولا يملكهم أن يقولوا : إن العالم أحدهما والكاذب الآخر ، لأن كلامنا في
شخص واحد.
ومنها : أن أحدنا
يسيء ثم يعتذر فمن المسيء ومن المعتذر؟ فإن قالوا : النور ، فقد وصفوه بخصلة من
خصال الشر وهو الإساءة ، وإن قالوا : الظلمة ، فقد وصفوه بخصلة من خصال الخير وهو
الاعتذار ، فإن قالوا : الظلمة ، تسيء والنور يعتذر ، قلنا : الاعتذار من غير
الإساءة قبيح ، وهذا يقتضي وصف النور بخصلة من خصال الشر. فإن قالوا : الاعتذار من
غير صاحب الإساءة لا يقبح ، ولهذا فإن الوالد يعتذر من إساءة ولده ، والراكب يعتذر
من رفس دابته ، قلنا : الوالد يعتذر من إساءة نفسه حيث ترك تأديب ولده ، وكذلك
الراكب إنما يعتذر من إساءة نفسه حيث لم يجر فرسه في السمت الذي يكون أبعد من
الرفس.
ومنها : أن أحدنا
يغصب ثم يرد ، فمن الغاصب ومن الراد؟ فإن قالوا : النور ، قلنا قد وصفتموه بخصلة
من خصال الشر وهو الغصب ، وإن قالوا : الظلمة ، قلنا : قد وصفتموه بخصلة من خصال
الخير وهو رد المغصوب.
ومتى قالوا : أليس
قال تعالى في كتابكم : (اللهُ نُورُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [النور : ٣٥] وهذا
هو مرادنا ، قلنا : لا تعلق لكم بكتاب الله تعالى ، لأن الاستدلال بكتابه ينبني
على القول بتوحيده وعدله وأنتم لا تقولون بذلك. ثم إن المراد بقول الله تعالى : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي منور السموات والأرض ، فذكر الفعل وأراد به الفاعل وهذا
كثير في كلامهم. ألا ترى أنهم يقولون : رجل صوم وعدل ورضي. والذي يؤكد هذا أنه
أضاف النور إلى نفسه فقال : (مَثَلُ نُورِهِ) [النور : ٣٥] وهذا
يقتضي أن يكون النور غيره ولن يكون ذلك كذلك إلا وما قلناه على ما قلناه.
فصل : في الكلام على النصارى
اعلم أن مذهب
النصارى لا يكاد يتحصل على ما ذكره النوبختي في كتاب «الآراء والديانات» ، وكفى بالمذهب فسادا أن يصعب على العلماء ضبطه ، خاصة على
مثل هذا الرجل. فقد كان المشار إليه في معرفة المذاهب ، والكلام منهم يقع في
موضعين :
أحدهما : في
التثليث ، فإنهم يقولون : إنه تعالى جوهر واحد ، وثلاثة أقانيم : أقنوم الأب ،
يعنون به ذات الباري عز اسمه : وأقنوم الابن ، أي الكلمة ، وأقنوم روح القدس ، أي
الحياة. وربما يغيرون العبارة فيقولون إنه ثلاثة أقانيم ذات جوهر واحد.
الاتحاد :
والموضع الثاني في
الاتحاد : فقد اتفقوا على القول به ، وقالوا : إنه تعالى اتحد بالمسيح فحصل للمسيح
طبيعتان : طبيعة ناسوتية ، وأخرى لاهويتة.
رأى اليعقوبية والنسطورية في الاتحاد :
ثم اختلفوا فيه ،
فقال بعضهم : إنه إذا اتحد به ذاتا حتى صار ذاتا هما ذاتا واحدة ، وهم اليعقوبية.
وقال : الباقون وهم النسطورية : لا بل اتحدا مشيئة ، على معنى أن مشيئتهما صارت
واحدة ، حتى لا يريد أحدهما إلا ما يريده الآخر. ونحن نفسد كلامهم في الموضعين
جميعا بعون الله تعالى.
شرح التثليث والرد عليه :
أما الكلام عليهم
في التثليث فهو أن يقال : إن قولكم أنه تعالى جوهر واحد ثلاثة
أقانيم مناقضة
ظاهرة ، لأن قولنا في الشيء أنه واحد ، يقتضي أنه في الوجه الذي صار واحدا لا
يتجزأ ولا يتبعض ، وقولنا ثلاثة يقتضي أنه متجزئ ، وإذا قلتم : إنه واحد ثلاثة
أقانيم كان في التناقض بمنزلة أن يقال في الشيء : إنه موجود معدوم ، أو قديم محدث.
وعلى أنه تعالى
ليس بجوهر ، إذ لو كان جوهرا لكان محدثا وقد ثبت قدمه ، ففسد قولهم إنه جوهر واحد
ثلاثة أقانيم.
وبعد : فلو جاز في
الله تعالى أن يقال إنه جوهر واحد ، ثلاثة أقانيم لجاز أن يقال : إنه قادر واحد ،
ثلاثة قادرين ، وعالم واحد ثلاثة عالمين ، وحي واحد ثلاثة أحياء. ومتى قالوا كيف
يكون قادرا واحد ، ثلاثة قادرين؟ وعالم واحد ثلاثة عالمين؟ قلنا : كما يكون شيء
واحد ثلاثة أشياء ، فليس بعد أحدهما في العقل إلا كبعد الآخر ، فقد ظهر تناقض ما
يقولونه في ذلك.
فإن قيل : ألستم
تقولون : إنسان واحد وإن كان ذا أجزاء وأبعاض ، ودار واحد وإن اشتملت على بيوت
وأروقة ، وعشرة واحدة وإن اشتملت على آحاد كثيرة ثم لا يتناقض كلامكم ، فهلا جاز
أن نقول : جوهر واحد ثلاثة أقانيم ولا يتناقض كلامنا أيضا؟
قيل له : ولا سواء
، لأن هذه الأسماء كلها من أسماء الجمل. فالغرض بقولنا إنسان واحد أنه واحد من
جملة الناس لأنه شيء واحد ، وكذلك إذا قلنا دار واحدة وعشرة واحدة ، بخلاف ما
تقولونه في القديم تعالى فإنكم تجعلونه شيئا واحدا في الحقيقة ، ثلاثة أشياء في
الحقيقة ، فيلزمكم التناقض من الوجه الذي ذكرنا.
ثم يقال لهم : ما
تعنون بهذه الأقانيم؟
فإن قالوا : نعني
بأقنوم الأب ذات الباري ، قلنا : هب أنكم رجعتم بهذا الأقنوم إلى ذات الله تعالى
على بعد هذه العبارة وفسادها ، فإلى ما ذا ترجعون بالأقنومين الآخرين؟
فإن قالوا : نرجع
بهما إلى صفتين يستحقهما القديم تعالى وهو كونه متكلما حيا ، قلنا : إن الحي وإن
كان له بكونه حيا حال ، فليس له بكونه متكلما حال وإنما المرجع به إلى أنه فاعل
للكلام على ما هو مبين في موضعه.
على أن الذات لا
تتعدد بتعدد أوصافه ، فإن الجوهر الواحد وإن كان موصوفا بكونه جوهرا ومتحيزا
وموجودا وكائنا في جهة ، فإنه لا يتعدد بتعدد هذه الأوصاف ولا يخرج عن كونه واحدا
، فكيف أوجبتم تعدد الله لتعدد أوصافه ، ولم جعلتموه واحدا أو ثلاثة؟
وبعد ، فإن هذه
الطريقة توجب عليكم أن تزيدوا في عدد الأقانيم بعدد صفاته جل وعز وأن تثبتوا له
أقنوما بكونه قادرا ، وأقنوما بكونه عالما ، وآخر بكونه مدركا ، ورابعا وخامسا
بكونه مريدا وكارها حتى يبلغ عدد الأقانيم ثمانية أو تسعة ، وقد عرف فساه.
هذا إن رجعوا
بالأقانيم إلى الصفات. وإن قالوا : إنا إنما نرجع بها إلى معان قديمة هي الحياة
والكلمة ، فقد فسدت مقالتهم بدلالة التمانع ، وبما أوردنا على الكلابية.
النصارى والكلابية
واعلم ، أن أقرب
ما يحمل عليه كلام النصارى هو هذا الوجه ، وعلى هذا جعل شيوخنا رحمهمالله هذا الوضع وجها من المضاهاة بين الكلابية وبين القوم.
فقد حكي أن أبا
مجالد وكان من شيوخ العدل ، اجتمع مع ابن كلاب يوما من الأيام فقال له : ما تقول
في رجل قال لك بالفارسية : تو مردى وقال الآخر : أنت رجل ، هل اختلفا في وصفك إلا
من جهة العبارة؟ فقال : لا ، فقال : فكذا سبيلك مع النصارى ، لأنهم يقولون إنه
تعالى جوهر واحد ثلاثة أقانيم ، يعنون بها الحياة الأزلية ، ومتكلم بكلام أزلي ،
فليس بينكم خلاف إلا من جهة العبارة.
ردود على النصارى يؤدي لاستغناء الأقانيم عن بعضها
ويقال لهؤلاء
النصارى : يلزمكم أن تقتصروا على أقنوم واحد ، لأجل أن هذه الأقانيم إذا اشتركت في
القدم فلا بد من تماثلها ، ولا بد من أن يسد بعضها مسد البعض فيما يرجع إلى ذاتها
، وذلك يوجب أن يقع الاستغناء بأحدها عن الباقي ، حتى يقال : إنه تعالى جوهر واحد
وأقنوم واحد على ما نقوله للكلابية أنه يلزمكم أن تقتصروا على إثبات معنى من هذه
المعاني ، وأن لا تثبتوا سواه ، لأنه يقع الاستغناء عن الجميع لمشاركته إياها في
القدم. فعلى هذا يجرى الكلام في التثليث.
معنى الاتحاد
وأما الكلام في
الاتحاد ، فالأصل فيه أن نبين حقيقته أولا.
اعلم أن الاتحاد
في اللغة افتعال من الوحدة ، لأنهم متى اعتقدوا في الشيئين أنهما صارا شيئا واحدا
يقولون : إنهما اتحدا. والشيئان وإن استحال أن يصيرا شيئا واحدا ، إلا أنهم إذا
اعتقدوا صحته لم يكونوا مخطئين في التسمية ، وإنما خطؤهم في المعنى على مثل ما
نقوله في تسميتهم للأصنام آلهة ، وهذا لأن الأسامي تتبع اعتقادهم.
النساطرة : اتحاد المشيئة ، اليعقوبية : اتحاد الذات
وإذا قد عرفت ذلك
، فاعلم أنهم وإن اتفقوا في الاتحاد اختلفوا في كيفيته ، فمنهم من قال بالاتحاد من
جهة المشيئة وهم النسطورية ، ومنهم من قال إنه من جهة الذات وهم اليعقوبية.
النساطرة والاتحاد
ونحن نبدأ بالكلام
على النساطرة فنقول : قولكم أنه تعالى اتحد بالمسيح من حيث المشيئة ، لا يخلو ،
إما أن تريدوا به أنه تعالى مريد بإرادة المسيح ، وأن المسيح يريد بإرادة الله
تعالى الموجودة لا في محل ، أو تريدوا به أنهما لا يختلفان في الإرادة ، بل لا
يريد أحدهما إلا ما يريده صاحبه ، وأي هذه الوجوه أردتم فهو فاسد.
أما الأول ، فلأنه
تعالى لو جاز أن يريد بإرادة المسيح مع أنها موجودة في قلبه لجاز أن يريد بإرادة
موجودة في قلب غيره من الأنبياء ، وذلك يخرج المسيح من أن يتبين له مزية الاتحاد
والنبوة.
وبعد ، فلو جاز أن
يريد بإرادة في المسيح لجاز أن يكره بكراهة في إبراهيم عليهالسلام ، لأن بعد أحدهما في العقل كبعد الآخر ، وذلك يقتضي أن
يكون حاصلا على صفات متضادة ، وذلك مستحيل.
وأما الثاني ،
فلأن الإرادة لا توجب للغير حالا إلا إذا اختصت به غاية الاختصاص ، والاختصاص
بالمسيح هو بطريقة الحلول ، حتى يستحيل أن يريد بإرادة في قلب غيره ، لا لوجه سوى
أنها لم تحله ، فكيف يريد بالإرادة الموجودة لا في محل ولا اختصاص لها به.
وأما الثالث ،
فلأن القديم تعالى قد يريد ما لا يعلم المسيح ولا يعتقده ولا يظنه ولا يخطر بباله
أصلا ، وكذلك المسيح ، يريد ما لا يريده الله تعالى كالأكل والشرب وغيرهما من المباحات
، ففسد كلام النسطورية إذا قالوا بالاتحاد من جهة المشيئة.
اليعقوبية والاتحاد
وأما اليعقوبية ،
فالكلام عليهم إذا قالوا بالاتحاد من جهة الذات ، هو أن يقال لهم : لا يخلو الغرض
بذلك من أحد وجوه ثلاثة : فإما أن يراد به أن ذات الله تعالى وذات المسيح صارا ذاتا
واحدة ، أو يراد به أنهما تجاورا ، فحصل بينهما الاتحاد من طريق المجاورة ، أو
يراد به أنه تعالى حل بالمسيح ، فاتحد به على هذا السبيل.
والأقسام كلها
باطلة.
أما الأول ، فلأن
الشيئين لو صارا واحدا للزم خروج الذات عن صفتها الذاتية ، أو حصول الذات الواحدة
على صفتين مختلفتين للنفس وذلك مستحيل.
وأما الثاني ،
فلأن المجاورة إنما تصح على الجواهر لأجل أنها من أحكام التحيز ، ألا ترى أن العرض
والمعدوم لما استحال عليهما المجاورة ، فكذلك سبيل القديم تعالى ، لأن التحيز
مستحيل عليه. وعلى أن المجاورة لا تقتضي الاتحاد ، فإن الجوهرين على تجاورهما لا
يخرجان عن أن يكونا جوهرين ، ولا يصيران جوهرا واحدا.
وأما الحلول ،
فالمرجع به إلى الوجود بجنب الغير ، والغير متحيز ، والله تعالى يستحيل ذلك عليه
لأنه يترتب على الحدوث ، ويقتضي أن يكون من قبيل هذه الأعراض وذلك محال.
وقد ثبت فساد ما
يقوله النصارى في الاتحاد والتثليث جميعا.
والذي أداهم إلى
القول بالاتحاد ، هو أنهم رأوا أنه ظهر على عيسى عليهالسلام من المعجزات ما لا يصح دخوله تحت مقدور القدر : نحو إحياء
الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، وغير ذلك ، فظنوا أنه لا بد من أن يكون قد تغير
وخرج عن طبيعته الناسوتية إلى طبيعة اللاهوتية ، وذلك يوجب عليهم أن يقولوا بأنه
تعالى متحد بالأنبياء كلهم ، كإبراهيم وموسى وغيرهما عليهمالسلام ، فقد ظهرت عليهم الأعلام المعجزة التي لا يدخل جنسها تحت
مقدور القادرين بالقدرة ، والقوم لا يقولون بذلك ، فيجب
أن لا يقولوا في
المسيح أيضا. ولو لا عمى قلوبهم وجهلهم بأحوال المعجزات ، وإلا لعلموا أنها من جهة
الله تعالى يظهرها عليهم ليصدقهم بها. فعلى هذا يجري الكلام في مسائل التوحيد.
الأصل الثاني
العدل
الفصل الثاني
في العدل
وأما الأصل الثاني
من الأصول الخمسة ، وهو الكلام في العدل ، وهو كلام يرجع إلى أفعال القديم تعالى
جلّ وعزّ ، وما يجوز عليه وما لا يجوز ، فلذلك أوجبنا تأخير الكلام في العدل على
الكلام في التوحيد.
وقبل الاشتغال
بالدلالة على هذه المسألة وذكر الخلاف فيه ، نذكر حقيقة العدل.
حقيقة العدل :
اعلم أنّ العدل
مصدر عدل يعدل عدلا ، ثم قد يذكر ويراد به الفعل ، وقد يذكر ويراد به الفاعل.
فإذا وصف به الفعل
، فالمراد به كل فعل حسن يفعله الفاعل لينفع به غيره أو ليضره ، إلا أن هذا يقتضي
أن يكون خلق العالم من الله تعالى عدلا ، لأن هذا المعنى فيه. وليس كذلك ، فالأولى
أن نقول : هو توفير حق الغير ، واستيفاء الحق منه.
فأما إذا وصف به
الفاعل ، فعلى طريق المبالغة ، كقولهم : للصائم صوم ، وللراضي رضا ، وللنور نور ،
إلى غير ذلك. ونحن إذا وصفنا القديم تعالى بأنه عدل حكيم ، فالمراد به أنه لا يفعل
القبيح أو لا يختاره ، ولا يخل بما هو واجب عليه ، وأن أفعاله كلها حسنة. وقد
خالفنا في ذلك المجبرة وأضافت إلى الله تعالى كل قبيح.
وتحرير الدلالة
على ذلك ، هو أنه تعالى عالم بقبح القبيح ، ومستغن عنه ، عالم باستغنائه عنه ، ومن
كان هذه حاله لا يختار القبيح بوجه من الوجوه.
وهذه الدلالة
تنبني على أن الله تعالى عالم بقبح القبيح ، وأنه مستغن عنه ، وعالم باستغنائه عنه
، ومن كان هذه حاله لا يختار القبيح بوجه من الوجوه.
أما الذي يدل على
أنه تعالى عالم بقبح القبيح فقد مر ، لأنا قد ذكرنا أنه تعالى عالم لذاته ، ومن حق
العالم لذاته أن يعلم جميع المعلومات على الوجوه التي يصح أن تعلم عليها ، ومن
الوجوه التي يصح أن يعلم المعلوم عليه قبح القبائح ، فيجب أن يكون
القديم تعالى
عالما به.
وأما الذي يدل على
أنه تعالى مستغن عن القبيح ، فقد تقدم أيضا ، لأنا قد بينا أنه غني لا تجوز عليه
الحاجة أصلا.
وأما الذي يدل على
أنه تعالى عالم باستغنائه عن القبيح فقد دخل أيضا في ضمن ما تقدم.
وأما الذي يدل على
أن من كان هذا حاله لا يختار القبيح بوجه من الوجوه ، هو أنا نعلم ضرورة في الشهد
أن أحدنا إذا كان عالما بقبح القبيح ، مستغنيا عنه عالما باستغنائه عنه ، فإنه لا
يختار القبيح البتة. وإنما لا يختاره لعلمه بقبحه وبغناه عنه ، حتى لو انخرم شرط
من هذه الشروط لجاز أن يختاره. وعلى هذا تجد هؤلاء الظلمة يغتصبون أموال الناس ،
إما لأنهم لا يعرفون قبح الاغتصاب أو لاعتقادهم أنهم سيحوجون إليه في المستقبل.
يبين ما ذكرناه ويوضحه ، أن أحدنا لو خير بين الصدق والكذب وكان النفع في أحدهما
كالنفع في الآخر ، وقيل له : إن كذبت أعطيناك درهما وإن صدقت أعطيناك درهما ، وهو
عالم يقبح الكذب مستغن عنه عالم باستغنائه عنه فإنه قط لا يختار الكذب على الصدق.
لا ذلك إلا لعلمه بقبحه وبغناه عنه. وهذه العلة بعينها قائمة في حق القديم تعالى
فيجب أن لا يختاره البتة ، لأن طرق الأدلة لا تختلف شاهدا وغائبا.
فإن قيل : ومن أين
أن العلة في ذلك ما ذكرتموه حتى تقيسوا الغائب على الشاهد؟ قلنا : لأن العلة ليست
بأكثر من أن يثبت الحكم بثباتها ، ويزول بزوالها ، وليس هناك ما تعليق الحكم عليه
أولى.
فإن قيل : ومن أين
أن ما جعلتموه علة مما يقف عليه الحكم ، وأنه ليس هاهنا ما تعليق الحكم به أولى؟
قيل له : لأن الواحد منا إذا حصل فيه هذه الشروط فإنه لا يختار القبيح وإن عدم أي
ما عدم ، ومتى انخرم شرط من هذه الشروط جاز أن يختاره وإن وجد أي ما وجد ، فصح أن
هذا الحكم موقوف عليه ، وليس هاهنا ما تعليق الحكم به أولى.
فإن قالوا : إن
هذا بناء على أن الواحد منا مخير في تصرفاته ونحن لا نسلم ذلك ، فإن من مذهبنا أنه
مجبر عليه في هذه الأفعال ، وأنها مخلوقة فيه. قلنا : إنا لم نبن الدلالة على
مذهبكم الفاسد ، وإنما بنيناه على الدلالة.
وبعد ، فإنا لا
نتكلم في هذه المسألة مع من ينازع في أصل تلك المسألة ، لأن هذه المسألة من فروعات
تلك المسألة ، لا يحسن أن نتكلم في فرع من الفروع ولما نقرر أصله ، كما لا يحسن أن
نكالم اليهود في المسح على الخفين ، ولا المجسمة في نفي الرؤية ولما نثبت أنه
تعالى ليس بجسم ولما نثبت نبوة محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وبعد ، فلا خلاف
بيننا وبينكم في أن هذه التصرفات محتاجة إلينا ومتعلقة بنا ، وأنّا مختارون فيها.
وإنما الخلاف في وجهة التعلق أكسب أو حدوث؟ فعندنا أن جهة التعلق إنما هو الحدوث ،
وعندكم أن جهة التعلق إنما هو الكسب فلا حاجة للمنازعة.
وبعد ، فلو كان
الأمر على ما ذكرتموه ، لوجب صحة أن يخلق الله تعالى في أحدنا وهو عالم بقبح
القبيح ـ مستغن عنه عالم باستغنائه عنه ـ ذلك ، حتى يقع منه الكذب دون الصدق في
الصورة التي ذكرناها ، والمعلوم خلافه.
فإن قيل : هذه الدلالة
تبنى على أن أحدنا غني ، ونحن لا نسلم ذلك ، فكيف يكون غنيا وهو أبدا في أشد
الحاجة.
قلنا : إنا لم نبن
الدلالة على أن أحدنا غني على الإطلاق ، وإنما قلنا : متى استغنى بالحسن عن القبيح
، لا يختار القبيح أصلا ، وإذا وجب ذلك فيه مع أنه ليس بغني على الإطلاق ، وإنما
استغناؤه بشيء عن شيء ، فالقديم تعالى وهو أغنى الأغنياء أولى بذلك وأحق.
فإن قيل : كيف
عللتم الحكم الواحد بعلل كثيرة ، ولو جاز ذلك هاهنا لجاز في الحركة مع المتحرك ،
والشهوة على المشتهي؟.
وجوابنا ، أن ذلك
إنما لا يجوز إذا كانت العلة موجبة ، فأما إذا كانت كاشفة فإنه يجوز. ولهذا فإنا
عللنا الظلم بكونه ضررا لا نفع فيه ولا دفع ضرر ولا استحقاق ولا الظن لأحد الوجهين
المتقدمين.
فإن قالوا : قولكم
، أن الواحد منا لو خير بين الصدق والكذب وكان النفع في أحدهما كالنفع في الآخر
فإنه لا يختار الكذب على الصدق لأنه يستغنى بالصدق عن الكذب ، ليس بأولى من أن
يعكس عليكم فيقال : بل يستغنى بالكذب عن الصدق ، قيل له : لو كان ذلك كذلك ، لكان
يجب أن يختار أحدنا الكذب على الصدق في بعض الحالات مع وجود هذه الشرائع ، ومعلوم
خلاف ذلك.
وقد أورد رحمهالله في الكتاب المثال الذي ذكره شيخنا أبو علي ، وهو أنه يعلم
ضرورة أن أحدنا لا يشوه نفسه كأن يعلق العظام في رقبته ويركب القصب ويعدو في
الأسواق ، لا ذلك إلا لعلمه بقبحه وبغناه عنه.
إلا أن للخصم أن
يشغب فيه فيقول : إنه إنما لم يفعل ذلك لأنه يستضر به غاية الاستضرار ، حتى لولاه
لجاز أن يختاره.
فالأولى في المثال
ما ذكره شيخنا أبو هاشم : وهو أن أحدنا إذا كان عالما بقبح الكذب وحسن الصدق ،
وقيل له إن كذبت أعطيناك درهما وإن صدقت أعطيناك درهما ، فإنه لا يختار الكذب على
الصدق ، لا ذلك إلا لعلمه بقبحه وغناه عنه.
فإن قيل : إن هذا
ينبني على أن الصدق والكذب يتساويان ، فكيف يصح ذلك وأحدهما يستحق عليه المدح
والثواب والآخر يستحق عليه الذم والعقاب؟.
قيل له : أما ما
ذكرتموه في الصدق فلا يصح ، لأنه يجوز أن يكون في الصدق ما لا يستحق عليه المدح
والثواب ، ولهذا فإن أحدنا لو جلس طول نهاره يقول السماء فوقي والأرض تحتي فإنه لا
يستحق المدح والثواب إن لم يستحق الذم والعقاب. وعلى أنه يجوز أن يكون في الصدق ما
يستحق عليه الذم واللعنة ، كأن يتضمن الدلالة على نبي وقد توارى عن عدوه.
وأما ما ذكرته من
الكذب ، فهو وإن كان كذلك ، إلا أنه لا يجوز أن يكون المرء ممن لا يبالي بالمدح ولا
يحفل بالذم. هذا في الذم ، وأما العقاب فإن من الجائز أن يكون المرء ملحدا زنديقا
، لا يقر بالله تعالى ولا باليوم الآخر ، ولا يعتقد العقاب والثواب ، ومع ذلك فلو
علم قبح القبح واستغنى عنه لم يختره أصلا.
وقد أجاب عن ذلك
شيخنا أبو عبد الله البصري جوابا أدق من هذا فقال : إن أحدنا لو خير بين الصدق
والكذب وقيل له : إن صدقت أعطيناك درهما وإن كذبت أعطيناك درهما ودرهما آخر في
مقابلة ما يستحقه من الذم على الكذب ، فإنه لا يختار ذلك أيضا لا ذلك إلا لعلمه
بقبحه وبغناه عنه.
فإن قيل : كيف
يمكنكم قياس الغائب على الشاهد ، ومعلوم أن أحدنا كما لا يختار القبيح إلا لجهله
بقبحه وحاجته إلى ذلك ، كذلك لا يختار الحسن إلا لجر منفعة أو دفع مضرة ، فقولوا
مثله في الغائب. ولئن فرقتم بين الموضعين في تلك المسألة ، فافرقوا بينهما في هذه
المسألة.
ولنا في الجواب عن
ذلك طريقان :
إحداهما : طريقة جدلية ، وهي أن نقول : إن ما ذكرتموه من النفع غير
ما استدللنا به وبمعزل عما أوردناه ، فلا يلزمنا الجواب عن طريق الجدل.
والثانية : طريقة علمية ، وهي أن نقول تبرعا ، إن أحدنا كما يختار
الحسن لما ذكرتموه من النفع ودفع الضرر ، فقد يختاره لحسنه ولكونه إحسانا. والذي
يدل على ذلك وجوه : منها ما ذكره شيخنا أبو هاشم ، وهو أن أحدنا لو خير بين الصدق
والكذب وكان النفع في أحدهما كالنفع في الآخر ، فإنه يختار الصدق على الكذب ، لا
ذلك إلا لحسنه وكونه إحسانا ، وإلا فالنفع فيهما سواء. ومنها ما ذكره شيخنا أبو
الهذيل ، واستدل به أبو إسحاق بن عياش ، وغيره من مشايخنا ، وهو قولهم قد ثبت أن
الله تعالى فاعل للحسن وعالم به ، فلا يخلو ، إما أن يفعله لاحتياجه إليه وذلك
مستحيل عليه ، أو يفعله لحسنه وكونه إحسانا على ما نقوله. وهذا لأن العالم لما
يفعله لا يفعل إلا لهذين الوجهين ، فإذا بطل أحد الوجهين نفي الآخر.
الحسن للحسن لا للمنفعة :
وقد ذكر قاضي
القضاة أن أحدنا لو لم يفعل الحسن إلا لجر منفعة أو دفع مضرة لوجب أن لا يوجد في
عالم الله تعالى منعم على غيره ، لأن المنعم إنما يكون منعما إذا قصد بالمنفعة وجه
الإحسان إلى الغير ، حتى لو لم يكن كذلك لم يكن منعما. وعلى هذا فإن البزاز إذا
قدم الثياب الفاخرة إلى المشترين ليأخذ في مقابلها الذهب فإنه لا يكون منعما عليه
لما كان غرضه به نفع نفسه لا نفع المشتري ، وقد قيل : إن كل عاقل يستحسن بكمال
عقله إرشاد الضال ، وأن يقول للأعمى وقد أشرف على بئر يكاد يتردى فيه : يمنة أو
يسرة لا ذاك إلا لحسنه وكونه إحسانا فقط.
فإن قيل : ما
أنكرتم أنه إنما يفعله رجل للثواب ، أو طلبا للمدح ، أو هربا من النوم؟ قيل له :
إنا نفرض الكلام في رجل قاسي القلب ، جافي الفؤاد لا يبالي بهلاك الثقلين ، ولا
يحتفل بالمدح والذم ، ملحد زنديق ، لا يؤمن بالله واليوم الآخر ، ولا يقر بالثواب
والعقاب ، ومعلوم أنه والحال هذه يستحسن بكمال عقله إرشاد الضال وأن يقول للأعمى
والحال ما ذكرناه : يمينة أو يسرة ، ولا وجه لذلك إلا حسنه وكونه إحسانا.
وقد سلك شيخنا أبو
عبد الله البصري طريقة أخرى ، وهي أن كل عاقل ،
يستحسن بكمال عقله
التفرقة بين المحسن والمسيء. وإنما تفرق بينهما الحسنة ، وإلا فلا نفع في ذلك ولا
دفع ضرر.
وقد اعترض عليه
فقيل : إن هذه تفرقة ضرورية ، فكيف أضفته إلينا؟.
وأجاب عن ذلك :
بأن التفرقة إنما تكون ضرورية متى عرف المحسن والمسيء ضرورة ، فأما إذا لم نعرفهما
فغير ممتنع أن نعزم ونوطن أنفسنا على التفرقة بينهما.
وهذا أيضا غير
واضح ، فإن التفرقة بين المحسن والمسيء على الجملة ضرورية ، والعزم وتوطيد النفس
على معنى الخير محال ، فإذن لا تستقيم هذه الدلالة إلا أن نعرض الكلام في التفرقة
بينهما على سبيل التفصيل ، فحينئذ ربما يسلم ويستقيم.
وقد أورد قاضي
القضاة في الكتاب هذا السؤال على نفسه وأجاب عنه ببعض ما مر ، وألحق به ما لم يمر.
فمن ذلك ، هو أن
قال : إن الواحد منا إنما لا يختار الحسن إلا لجر منفعة أو دفع مضرة ، لأنه يلحقه
بذلك مشقة ، فلا جرم لا يختاره إلا إذا استجر به نفعا أو دفع به ضررا ، والقديم
تعالى يستحيل عليه المشقة ، فجاز أن يختار الحسن لحسنه وكونه إحسانا على ما نقوله
، وكل ما يفعله الله تعالى إنما يفعله لحسنه وكونه إحسانا إلا العقاب ، فإنه إنما
يفعله لحسنه فقط. ومن هاهنا أشبه العقاب في أفعال الله تعالى المباح وإن لم يسم
بذلك ، لأنه تعالى لم يعرف حاله ولا دل عليه ، وإنما يوصف العقل بأنه مباح متى كان
هذا سبيله.
فإن قيل : قولكم
إنه تعالى لا يختار القبيح لعلمه بقبحه وبغناه عنه ينبني على أنه يقبح من الله
تعالى فعل من الأفعال ، ونحن لا نساعدكم على ذلك.
قيل له : إن
القبيح إنما يقبح لوقوعه على وجه ، فمتى وقع على ذلك الوجه وجب قبحه سواء وقع من
الله تعالى ، أو من الواحد منا. وهذه مسألة كبيرة اختلف الناس فيها.
فعندنا أن القبيح
إنما يقبح لوقوعه على وجه نحو كونه ظما ، وعند أبي قاسم البلخي أن القبيح إنما
يقبح لوقوعه بصفته وعينه ، وإلى هذا ذهب بعض المجبرة ، وعند بعضهم أن القبيح إنما
يقبح للرأي ، أو لكوننا مملوكين مربوبين محدثين إلى أمثال هذا ، والحسن إنما يحسن
للأمر.
ونحن قبل الاشتغال
بإفساد هذه المذاهب نصحح ما نقوله.
فالذي يدل على ذلك
هو أنا نعلم أن الظلم قبيح ، وإنما قبح لكونه ظلما ، بدليل أنا متى عرفناه ظلما
عرفنا قبحه وإن لم نعرف أمرا آخر ، ومتى لم نعرف كونه ظلما لم نعرف قبحه وإن عرفنا
ما عرفنا. فبان أن الظلم إنما قبح لوقوعه على وجه وهو كونه ظلما ، هذا لأن العلم
بالقبح فرع على العلم بوجه القبح إما على جملة أو تفصيل ، فيجب متى وقع على ذلك
الوجه أن يكون قبيحا ، سواء وقع من الله تعالى أو من العباد ، لأن الحال فيه
كالحال في الحركة وإيجابها كون الجسم متحركا ، فكما لا يختلف ذلك بحسب اختلاف
الفاعلين لما كانت علة ، كذلك في مسألتنا.
فإن قيل : لم لا
يقبح القبيح بصفته وعينه على ما يقوله شيخكم أبو القاسم البلخي؟ قيل له : لأن
الفعل الواحد يجوز أن يقع قبيحا مرة ، بأن يقع على وجه مسببا وأخرى بأن يقع على
خلاف ذلك الوجه ، ألا ترى أن دخول الدار مع أنه شيء واحد لا يمتنع أن يقبح مرة ،
بأن يكون لا عن إذن ، ويحسن أخرى بأن يكون عن إذن ، وكذلك فالسجدة الواحدة لا
يمتنع أن تحسن بأن تكون سجدة لله تعالى ، وتقبح بأن تكون سجدة للشيطان ، ففسد ما
قاله أبو القاسم.
فإن قيل : ما
أنكرتم أن القبيح فإنما يقبح للنهي ، أو لكوننا مربوبين محدثين على ما يقوله هؤلاء
المجبرة قلنا : إنه لو كان كذلك لوجب إذا نهى الله تعالى عن العدل والإنصاف أن
يكون قبيحا ومتى أمر بالظلم والكذب أن يكون حسنا لأن العلة فيها واحدة ، والمعلوم
خلافه.
وبعد فلو حسن
الفعل للأمر وقبح للنهي ، لكان يجب كما لا يقبح من الله تعالى فعل لفقد النهي أن
لا يحسن منه فعل أيضا لفقد الأمر.
وبعد فلو كان كذلك
، لوجب فيمن لا يعرف النهي والناهي ، أن لا يعرف قبح الظلم والكذب ، لأن العلم
بالقبح يتفرع على العلم بوجه القبح ، إما على جملة أو تفصيل. ومعلوم أن الملحدة
يعرفون قبح الظلم ، وإن لم يعرفوا النهي والناهي.
فإن قيل : إنهم لا
يعرفون قبح الظلم ، وإنما يعتقدونه.
قيل له : لو أمكن
أن يقال ذلك هاهنا ، لأمكن أن يقال إنهم لا يعرفون الفرق بين السواد والبياض لأن
سكون النفس في أحدهما كسكون النفس في الآخر ، وقد عرف خلافه.
وبعد : فلو كان
كذلك ، لوجب إذا أمر أحدنا بالظلم والكذب أن يكون حسنا ، وإذا نهى عن العدل
والإنصاف أن يكون قبيحا ، وأن لا يفترق الحال بين أن يكون من قبلنا وبين أن يكون
من قبل الله تعالى ، لأن العلل في إيجابها الحكم لا تختلف بحسب اختلاف العاملين ،
ألا ترى أن الحركة لما كانت علية في كون الذات متحركا لم تفترق الحال بين أن تكون
من قبل الله تعالى وبين أن تكون من قبل غير الله تعالى ، كذلك هاهنا. وقد عرف
خلافه.
وبعد ، فلو كان
كذلك ، لوجب في الشيء الواحد أن يكون حسنا قبيحا دفعة واحدة ، بأن يأمر به بعضهم
وينهى عنه الآخرون ، والمعلوم خلافه. فهذا إذا جعلوا العلة النهي.
فأما إذا جعلوا
العلة في قبح القبيح كوننا مملوكين مربوبين محدثين ، كان الكلام عليهم أن حالنا مع
الظلم والكذب وغيرهما من القبائح كحالنا مع العدل والإنصاف ، فيجب أن يكون العدل
قبيحا لكوننا مملوكين مربوبين محدثين ، والمعلوم خلافه.
وبعد ، فلو كان
كذلك ، لوجب فيمن لا يعرف كوننا مملوكين مربوبين محدثين أن لا يعرف قبح الظلم
والكذب ، ومعلوم أن هؤلاء الدهرية يعرفون قبح الظلم ، وإن لم يعرفوا كوننا مملوكين
مربوبين محدثين.
فإن قيل : قولكم
إن القبيح إنما يقبح لوقوعه على وجه ، ومتى وقع على ذلك الوجه قبح من أي فاعل كان
، لا يصح لأن الإماتة بالهدم والغرق وغيره من الوجوه ، يحسن من الله تعالى ويقبح
منا ، وكذلك فإيلام الأطفال والبهائم يحسن منه ويقبح منا فبطل ما ذكرتموه.
قيل له : إنما
يحسن من الله تعالى الإماتة والإيلام لعلة ، تلك العلة مفقودة في حقنا ، وهي من
جهة الله تعالى تتضمن الاعتبار واللطف ويضمن الله تعالى في مقابلها من الأعواض ما
يوفي عليها. حتى لو خير أحدنا بين الألم مع تلك الأعواض وبين الصحة لاختار الألم
ليصل إلى تلك الأعواض ، وليس كذلك الواحد منا فإنه لا يعرف المصلحة من المفسدة ،
حتى يقال إن الإماتة والإيلام من جهته يتضمن اللطف والمصلحة ولا يضمن أيضا في
مقابلها الأعواض الموفية عليها ، ففارق حالنا حال القديم تعالى ، حتى لو قدرنا
وقوع ذلك من الله تعالى على الوجه الذي يقع منا لقبح ، أو وقوعه منا على الوجه
الذي يقع من الله تعالى لحسن.
فصل والغرض به الكلام في أنه تعالى موصوف بالقدرة على ما لو
فعل
لكان قبيحا
أبو الهذيل وأكثر المعتزلة ولا سيما البصريين على هذا الرأي
:
والخلاف فيه مع
النظام وأبي علي الأسواري والجاحظ ، فإنهم ذهبوا إلى أنه تعالى غير موصوف بالقدرة
على فعل ما لو فعله لكان قبيحا ، وإلى هذا ذهبت المجبرة ، فإن من مذهبهم ، أن الله
تعالى غير موصوف بالقدرة على التفرد بالقبيح ، وإن قدر على أن يجعله كسبا للعبد.
إلا أن حالهم بخلاف حال النظام وطبقته لأنهم ناقضوا من حيث أضافوا إلى الله تعالى
كل قبيح ، والنظام لم يناقض.
والدليل على صحة
ما نقوله ، هو ما قد ثبت أنه تعالى قادر على أن يخلق فينا العلم الضروري ، فيجب أن
يكون قادرا على أن يخلق بدله الجهل ، لأن من حق القادر على الشيء أن يكون قادرا
على جنس ضده إذا كان له ضد ، والجهل قبيح.
وإن شئت فرضت
الكلام في أهل الجنة فتقول : إنه تعالى قادر على خلق الشهوة فيهم ، فيجب أن يكون
قادرا على أن يخلق فيهم النفرة ، لأن من حق القادر على الشيء أن يكون قادرا على
جنس ضده إذا كان له ضد ، ومعلوم أنه تعالى لو خلق فيهم النفرة لكان قبيحا.
وإن شئت فرضت
الكلام في فعل يجوز أن يقع فيكون قبيحا ، وقع فيكون حسنا ، فتقول : إذا قدر على
إيقاعه على أحد الوجهين ، فيجب قدرته على أن يوقعه على الوجه الآخر ، لأن القدرة
إنما تتعلق بالإيجاد والإحداث دون وجوه الأفعال. يبين ذلك ، أن أحدنا كما يقدر على
أن يقول زيد في الدار وهو فيها يقدر على أن يقول ذلك وليس هو فيها. وكذلك الحال في
القديم تعالى إذا قدر على الصدق وجب قدرته على الكذب ، لأنهما شيء واحد لا يختلفان
إلا بحسب اختلاف المخبر عنه ، وذلك مما لا يوجب تغير القدرة عليه. وكذلك إذا قدر
على إحياء الميت عقب دعوى المدعي للنبوة وهو صادق ، وجب قدرته على إحيائه عقب
دعواه وهو كاذب.
وقد ألزمهم
مشايخنا رحمهمالله على هذا المذهب أن يكون أضعف القادرين منا أقوى من الله ،
تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. قالوا : بيان هذا ، أن الطفل الذي لا يقدر على أن
يحمل منّا ، يقدر على أن يزج الغير وهو واقف على شفير الغار فيوقعه فيها وإن لم
يستحق ذلك ، والقديم تعالى غير قادر عليه عندهم لأن ذلك قبيح ، فيجب
فساد قولهم.
قالوا : لو كان
الله تعالى قادرا على القبيح لوجب أن يوقعه.
الرد على من يقول إن الله لو قدر على القبيح لوجب أن يوقعه
:
قلنا ، ليس يجب في
كل من قدر على الشر أن يوقعه لا محالة ، ألا ترى أن أحدنا مع قدرته على القيام
ربما يكون قاعدا ، ومع قدرته على الكلام ربما يكون ساكتا ، فكيف أوجبتم في القادر
على الشيء أن يوقعه بكل وجه؟ وكذلك فالقديم تعالى قادر على أن يقيم القيامة الآن ،
ثم إذا لم تقم لم يقدح في كونه قادرا.
وقالوا : لو كان
القديم تعالى قادرا على القبيح لوجب صحة أن يوقعه ، قلنا : ما تريدون بالصحة؟ فإن
أردتم يجب أن يوقعه فقد أجبنا عن ذلك ، وإن أردتم أنه يجب أن يكون قادرا عليه فذلك
مجاب إليه.
فإن قالوا : إذا
كان القديم تعالى قادرا على القبيح فما الذي أمنكم من أن يوقعه؟ قلنا : دلالة
العدل ، وهو علمه بقبح القبيح واستغناؤه عنه هو الذي أمننا من ذلك ، فصح ما قلناه
، وصح أنه تعالى موصوف بالقدرة على ما لو فعله لكان قبيحا.
هناك أدلة من الكتاب على هذا وإن كانت الأدلة السمعية بعيدة
هنا :
وفي كتاب الله
تعالى ، ما يمكن أن يستدل به على أنه تعالى موصوف على ما لو فعله لكان قبيحا ، وإن
كان الاستدلال بالسمع على هذه المسألة يبعد.
وتحرير الدلالة
على ذلك ، أن الله تعالى تمدح بنفي الظلم عن نفسه مدحا يرجع إلى الفعل حيث قال : (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت : ٤٦] ،
وقال : (إِنَّ اللهَ لا
يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) [النساء : ٤٠]
وقال : (وَلا يَظْلِمُ
رَبُّكَ أَحَداً). ولا يحسن أن يتمدح بنفي الظلم عن نفسه ، وهو غير قادر
عليه ، كما أنه لا يحسن من العنين أن يتمدح بتركه افتضاض الأبكار ، لما لم يكن
قادرا على ذلك ، وكما أنه لا يحسن من الزمن المقعد مدح نفسه بتركه تسلق الحيطان
والهجوم على دور الجيران لما لم يكن قادرا عليه ، كذلك هاهنا ، إذا لم يكن القديم
تعالى قادرا على القبيح ، وجب أن لا يحسن منه أن يتمدح بترك الظلم.
فإن قيل : أليس
أنه تعالى تمدح بنفي السنّة والنوم والصاحبة والولد عن نفسه مع أنه غير قادر عليه
قلنا : فرق بين الموضعين ، فإن أحدهما مدح يرجع إلى ذاته ، والآخر
مدح يرجع إلى فعل
من أفعاله ، وهما مختلفان في هذا الباب. ألا ترى أنه لا يحسن من الزين أن يتمدح
بترك التسلق على ما ذكرناه لما لم يقدر عليه ويحسن منه أن يتمدح بنفي الخرس عن
نفسه ، وإن لم يقدر على ذلك ، لما كان أحد المدحين راجعا إلى ذاته والآخر راجعا
إلى الفعل ، كذلك في مسألتنا.
فصل
وقد أورد مشايخنا
وجوها من الإلزام على القول بأنه تعالى يفعل القبيح ، ويمكن أن يستدل ببعضها على
أنه لا يفعل القبيح.
فمن ذلك ما قد ثبت
في مقدور القديم تعالى من الحسن ما يستغنى به عن القبيح ، فيجب أن لا يختار القبيح
، لأن من استغنى بالحسن عن القبيح ، لا يختار القبيح بحال.
وهذه الدلالة
مبنية على أنه تعالى مستغن بالحسن عن القبيح ، وأن من كان هذا حاله فإنه لا يختار
القبيح.
في مقدور القديم أن يستغني عن القبيح :
أما الذي يدل على
الأصل الأول ، فهو ما قد ثبت أن الله تعالى قادر لذاته ، ومن حق القادر لذاته أن
يكون قادرا على سائر أجناس المقدورات ومن كل جنس على ما لا يتناهى ، وهذا يوجب أن
يكون في مقدوره من المحسن ما يستغني به عن القبيح ، إذ الحاجة إنما تتعلق بالضروب
والأجناس دون الأعيان ، ألا ترى أن من احتاج إلى حلاوة ، لا تختص حاجته بحلاوة
معينة لا يقوم غيره مقامها.
المستغني عن القبيح بالحسن لا يفعل القبيح :
وأما الكلام في أن
المستغني بالحسن عن القبيح لا يختار القبيح فظاهر ، لأنا نعلم في الشاهد ضرورة أن
أحدنا إذا استغنى باقتضاء دينه عن غصب مال الغير فإنه قط لا يغصب مال الغير ، لا
ذلك إلا لاستغنائه بالحسن عن القبيح.
وأوضح في المثال
من هذا ، هو من استغنى بماء الفرات عن اغتصاب شربة من ماء الغير بأن يكون على الشط
فإنه قط لا يغصب تلك الشربة من غيره ، ولا وجه له إلا استغناؤه بالحسن على القبيح
على ما ذكرناه. وهذه العلة بعينها قائمة في القديم تعالى ،
فوجب أن لا يختار
القبيح.
وهذه الدلالة غير
الدلالة الأولى ، لأنها كانت مبنية على استحالة الحاجة عليه وهذه غير مبنية عليها
، ولذلك قلنا : إن المجسمة يمكنهم الاستدلال على كونه عدلا حكيما بهذه الطريق مع
تجويزهم الحاجة عليه تعالى ، وجعلنا حال المجبرة أسوأ من حالهم ، لأنهم سدوا على
أنفسهم طريقة العلم بعدل الله تعالى وحكمته.
ومما أورده
مشايخنا في هذا الباب ، هو أن قالوا : لو فعل الله القبيح لكان يجب أن يكون جاهلا
أو محتاجا ، والجهل أو الحاجة لا يجوزان عليه تعالى ، فيجب أن لا يختار القبيح
بوجه من الوجوه.
ومما ألزمهم
مشايخنا رحمهمالله ، هو أنه تعالى لو جاز أن يكون فاعلا لبعض القبائح لوجب أن
يكون فاعلا لسائرها ، لأن الحال في الجميع واحدة وهذا يوجب تجويز الظلم والكذب
عليه حتى لا تقع الثقة بشيء من أوامره ونواهيه ووعده ووعيده ، وحتى يجوز أن يعاقب
الأنبياء بذنوب الفراعنة ويثيب الفراعنة بطاعات الأنبياء والأبرار ، لأن أكبر ما
في هذه الأمور أن يكون قبيحا والقوم قد جوزوا عليه كل قبيح ، ومن جوز هذا لزم أن
لا يقول بربويته ولا أن يعبده ، وفي ذلك من الفساد والكفر ما لا خفاء به.
وربما يورد هذا
الإلزام على وجه آخر ، فيقال : لا يخلو حال القديم إذا جاز أن يفعل القبيح من أحد
أمرين : إما أن يفعله ويقبح منه فعله ، أو يفعله ويحسن منه.
فإن قيل : بالأول
لزمه ما ذكرناه من الوجوه ، وإن قيل بالثاني لزم أيضا تجويز هذه القبائح وتحسن منه
، ومن بلغ في التجاهل إلى هذا الحد فهو عن حد الإسلام خارج.
ولما ألزمهم
مشايخنا تجويز الكذب على الله تعالى ، افترقوا فريقين.
فمنهم : من جوزه ، وهو العطوى من أصحاب الأشعري ، ولقد مر على
القياس واحتج عليهم بأن قال : ألستم قد جوزتم على لله تعالى الظلم والقبائح ، فكيف
لا يجوز عليه الكذب ، وليس الكذب بأعظم من الظلم وغيره من القبائح؟ وأوضح ذلك
بمثال فقال : إن أحدنا لو قال لصبي أدخل البيت ففيه رمان موضوع لأجلك ، وليس في
البيت ذلك ، فإن هذا ليس بأعظم من أن يقلع سنا من أسنانه أو يقطعه إربا إربا ، وقد
جوزتم على الله هذا ، فجوزوا الكذب عليه أيضا.
ومنهم : من لم يجوزه ، ثم افترقوا في علته ، فمنهم من قال : إنا
لم نجوز على الله تعالى الكذب لأنه يدل على الجهل والحاجة ، أو لأنه قبيح ، والله
تعالى غير موصوف بالقدرة على التفرد بالقبيح ، وهم النجارية.
الكلام على النجارية :
ومنهم : من قال : لا يجوز عليه الكذب ، لأنه صادق لذاته. والكلام
على النجارية في الوجه الأول ، هو أنه إذا جاز أن يفعل القديم تعالى سائر القبائح
ولا يدل على الجهل والحاجة ، فما أنكرتم أن يفعل الكذب أيضا ولا يدل على الجهل
والحاجة. وأما الكلام على من اعتل بالوجه الثاني فقد مضى ، لأنا قد بينا قدرته على
ما لو فعله لكان قبيحا.
وأما الكلام على
من قال إنه تعالى صادق لذاته ، فهو أن يقال : ما دليلكم على أنه تعالى صادق لذاته؟
فإن قالوا الدليل على ذلك أنه تعالى أخبر عن أشياء وكان كما أخبر. قلنا لهم : وما
تلك الأشياء التي ذكرها؟ فإن قالوا : إخباره عن خلقه السموات والأرضين حيث قال : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ
وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) قلنا له : ما أنكرتم أنه لم يرد بذلك السموات والأرضين
المخلوقة ، وإنما أراد بذلك السموات والأرضين التي لم يخلقها بعد ، فيكون كاذبا
فيه تعالى عن ذلك.
وبعد ، فليس للصدق
بكونه صادقا حال ، وإنما المرجع بذلك إلى أنه فاعل للصدق ، والقوم إذا جعلوه صادقا
لذاته فكأنهم قد نفوا عنه الصدق أصلا.
وبعد ، فلو كان
صادقا لذاته لكانت هذه الصفة ترجع إليه ، فما الذي يمنع أن يخبر بشيء ولا يكون كما
أخبر عنه ، فإن هذا يرجع إلى الفعل لا إلى الذات ، ولسنا نلزمكم أكثر من تجويز
هذا. ثم يقال لهم ، أليس الله تعالى آمرا لذاته عندكم ثم لا يمتنع أن يكون آمرا
ببعض الأشياء ناهيا عن البعض ، فهلا جاز أن يكون صادقا لذاته وإن كان لا يمنع أن
يكون صادقا في بعض الأشياء وكاذبا في البعض؟
ومما ألزمهم به
مشايخنا هو أنه لو جاز أن يفعل بعض القبائح لجاز أن يفعل سائرها ، وهذا يوجب عليهم
جواز أن يثيب الفراعنة بطاعات الأنبياء ، ويعاقب الأنبياء بذنوب الفراعنة ، فلا
يحسن من العباد عبادته.
وعند هذا الإلزام
تحزبوا حزبين وافترقوا فريقين :
فمنهم من قال : لا
يجوز هذا لأنه قبيح والله تعالى غير موصوف بالقدرة على التفرد بالقبح ، وهم
النجارية. وقد تقدم الكلام عليهم ، وذكرنا أنه لا معنى لقولهم أنه غير موصوف
بالقدرة على التفرد بالقبيح مع أن سائر القبائح واقعة من قبله على سائر وجوهها ،
لأنه لو تفرد به لكان لا يزيد حاله على هذه الحال.
وبعد ، فكان
يلزمهم تجويز أن يجعل الله ذلك كسبا لبعض الربانية فيعذبهم بذنوب الفراعنة ، ومن
بلغ إلى هذا الحد في التجاهل فقد انسلخ من الدين.
ومنهم من قال :
إنا لو خلينا وقضية العقل لكنا نجوز ذلك على الله تعالى إلا أن السمع منع منه.
وجوابنا عن هذا أن هذا مكابرة ، لأنه لا ظلم أفحش من معاقبة الغير بذنب الغير ،
وقد تقرر قبحه في عقل كل عاقل.
ثم يقال لهم ،
وكيف الثقة بالسمع؟ وما الذي أمنكم من أن يكون كاذبا فيما أخبر به في كتابه ،
وذكره على لسان رسوله؟ يبين ما ذكرناه ، أن إبليس لو بعث إلينا رسولا أو كتب كتابا
يقول فيه أجيبوني وأطيعوني فإني لا أضلكم عن سواء السبيل ، وأهديكم إلى الصراط
المستقيم ، فإنا لا نثق بقوله ولا نعتمد خبره لتجويزنا كل قبيح عليه. كذلك كان يجب
أن لا تقع لهم الثقة بالله تعالى عندهم ، فإن حاله تعالى الله عن ذلك أسوأ حالا من
إبليس.
ومما ألزمهم
مشايخنا ، تجويزا أن يبعث الله تعالى رسولا كاذبا إلى الناس ويظهر المعجزة على
يديه ليدعوهم إلى الضلال والكفر ، لأن ذلك ليس بأعظم من توليه الإضلال بنفسه.
فعند هذا الإلزام
افترقا فرقتين :
فمنهم من قال :
إنما لم نجز ذلك لأنه قبيح الله تعالى غير موصوف بالقدرة على التفرد بالقبح ، وهم
النجارية. والكلام عليهم قد مر ، ونعيد شطرا منه فنقول : أو ليس تقع في العالم
الأكاذيب ولا تقع إلا متولدة عن الاعتمادات ، وعندكم أن المتولد لا يتعلق بالعبد
أصلا لا اكتسابا ولا إحداثا فقد تفرد الله تعالى بها ، فكيف تقولون إنه غير موصوف
بالقدرة على التفرد بالقبيح؟.
وأيضا فإنه قادر
على إحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص عند دعوى المدعي للنبوة وهو صادق ، فيجب
أن يكون قادرا على ذلك وهو كاذب ، لأن القدرة على ذلك مما لا يتغير بكذب المدعي
ولا بصدقه.
يبين ذلك ويوضحه ،
أن الذي يخرج المقدور عن كونه مقدورا وجوه محصورة : منها ما يرجع إلى ما تحتاج
إليه القدرة كعدم البنية ، ومنها ما يرجع إلى الفاعل وهو عدم القدرة ، ومنها ما
يرجع إلى نفس المقدور وذلك وجوه ستة : وجوده ، أو وجود سببه ، أو حضور وقته ، أو
حضور سببه ، أو تقضيه ، أو تقضي وقت سببه. وشيء من هذه الوجوه غير حاصل في مسألتنا
، فيجب أن لا تتغير قدرة القديم تعالى على ذلك يكذب المدعي وصدقه.
ثم يقال لهم : هب
أنه تعالى غير موصوف بالقدرة على التفرد بالقبيح ، أو ليس أنه تعالى قادر على أن
يجعله كسبا لهذا المدعي فيلزم منه ما فررتم منه.
ومنهم من قال :
إنما لم يجز ذلك لأن المعجز موضوع للتصديق.
وجوابنا أنا لا
نسلم ذلك ، بل المعجز إنما يدل على صدق من ظهر عليه بشرط أن يكون المظهر له عدلا
حكيما ، فأما إذا لم يكن عدلا حكيما فلا. وقد أضفتم إلى الله تعالى سائر القبائح
فكيف يمكنك القول بذلك؟.
ثم يقال لهم : وما
دليلكم على أن المعجز دلالة التصديق؟ فإن قالوا : لأن الله تعالى قادر على أن يخلق
فينا العلم الضروري بصدق المدعي فيجب أن يكون قادرا على أن يعرفنا صدقه استدلالا ،
قلنا : ولم وجب ذلك؟ فإن قالوا : لأنه تعالى لما قدر على أن يعرفنا ذاته اضطرارا
قدر على أن يعرفناه استدلالا. قلنا ، ولم جمعتم بين الأمرين ، وهل هذا إلا جمع
الأمرين من غير علة جامعة؟ ثم يقال لهم : أليس أنه تعالى قدر على أن يعرفنا وجود
أنفسنا اضطرارا ولم يقدر على أن يعرفناه استدلالا ، فهلا جاز مثله في مسألتنا؟ فإن
قالوا : إن كلامنا في الغير ، قلنا : هذا قرار بمجرد دفع الالتزام ، وما هذا سبيله
من الاحترازات فإنها مما لا يقبل ، وصار الحال فيه كالحال في ما إذا قلنا للمجسمة
لو كان القديم تعالى جسما لوجب أن يكون محدثا ، فتقول المجسمة إنما يجب أن يكون
محدثا إذا كان الكلام في الشاهد فأما في الغائب فلا ، فكما أنّا نقول لهم هذا
احتزاز لمجرد دفع الإلزام فلا يقبل ، كذلك في مسألتنا.
وبعد ، فإنه تعالى
قادر على أن يعرفنا الألم اضطرارا ولم يقدر على أن يعرفنا به استدلالا ، فهلا جاز
مثله في مسألتنا؟ فلا يجدون له جوابا.
فصل في خلق الأفعال
والغرض به ،
الكلام في أن أفعال العباد غير مخلوقة فيهم وأنهم المحدثون لها.
الخلاف مع المجبرة :
والخلاف في ذلك مع
المجبرة :
فإن منهم من ذهب
إلى أن هذه الأفعال مخلوقة لله تعالى فينا لا تعلق لها بنا أصلا ، لا اكتسابا ولا
إحداثا وإنما نحن كالظروف لها ، وهم الجهمية أصحاب جهم بن صفوان.
ومنهم من ذهب إلى
أن لها بنا تعلقا من جهة الكسب وإن كانت مخلوقة فينا من جهة الله تعالى.
ثم اختلفوا ، فمنهم
من سوى في هذه القضية بين المباشر المتولد وهو ضرار بن عمرو ، ومنهم من قال : إن
المباشر خلق الله تعالى فينا متعلق بنا من حيث الكسب ، وأما المتولد فإن الله
تعالى منفرد بخلقه.
حقيق الفعل :
وقبل الشروع في
المسألة نذكر حقيقة الفعل.
فالفعل على ما
ذكره في الكتاب ، هو ما يحصل من قادر من الحوادث. وهذا يوهم أن الفاعل يجب أن يكون
قادرا حال وقوع الفعل لا محالة وليس كذلك ، فإن الرامي ربما يرمي ويموت قبل
الإصابة. فالأولى أن يقال في حقيقة الفعل : هو ما وجد وكان الغير قادرا عليه. فلا
يتوجه عليه الاعتراض الذي وجهناه على الأول.
ثم إن بين المحدث
وبين الفعل فرقا ، وهو أن المحدث يعلم محدثا وإن لم يعلم أن له محدثا ، وليس كذلك
الفعل ، فإنه إذا علم فعلا علم أن له فاعلا ما وإن لم يعلمه بعينه.
ولهذا عاب قاضي
القضاة علي الأشعري في نقض اللمع استدلاله على أن للعالم صنعا بقوله : قد ثبت أن
العالم صنع فلا بد له من صانع ، فقال : إن العلم بأن العالم صنع يتضمن العلم بأن
له صانعا ، فكيف يصح هذا الاستدلال؟.
فحصل من هذه
الجملة ، أنه إذا علم الفعل فعلا يعلم أن له فاعلا ما على الجملة وإنما يقع الكلام
بعد ذلك في تعيين الفاعل.
وإذا أردت أن تعلم
الفاعل بعينه ، فلك فيه طريقان : أحدهما : أن تختبر حاله ،
فإن وجدت الفعل
يقع بحسب قصده ودواعيه ، وينتفي بحسب كراهته وصارفه ، حكمت بأنه فعل له على
الخصوص. والطريقة الثانية ، هو أن تعلم أن هذا المقدور لا يجوز أن يكون مقدورا
للقادر بالقدرة ، فيجب أن يكون مقدورا للقادر لذاته وهو الله تعالى.
ثم إنه رحمهالله تعالى لما ذكر في حقيقة الفاعل القادر ، سأل نفسه على ذلك
فقال : كيف يصح ذلك وفي الناس من ذهب إلى أن الفعل إنما يقع بطبع المحل ، أو بقوة
له غالبة ، على ما ذكر عن الأوائل من المتفلسفين؟.
والجواب عن ذلك أن
الطبع غير معقول ، وقد تقدم ذلك. ثم يقال لهم : ما تريدون بالطبع؟ فإن أردتم به
الفاعل المختار ، فهو الذي نقوله ، ولكن العبارة فاسدة ، لأن العرب لا تسمى الفاعل
المختار طبعا ، وإن أردتم به أمرا موجبا ، فإنا قد ذكرنا أن الفعل إنما يصدر عن
الجملة ، فالمؤثر فيه لا بد من أن يكون راجعا إلى الجملة.
ثم إنه رحمهالله لما ذكر حقيقة الفعل ، ورأى أن الأفعال فيها ما يستحق عليه
المدح والثواب ، وفيها ما يستحق عليه الذم والعقاب. وفيها ما لا يستحق عليه واحد
منهما ، تكلم في أقسام الأفعال.
أقسام الأفعال :
وجملة الكلام في
ذلك أن الفعل ينقسم إلى : ما له صفة زائدة على حدوثه وصفة جنسه ، وإلى ما ليس له
صفة زائدة على ذلك. ما لا صفة له زائدة على حدوثه وصفة جنس ، فهو كالحركة اليسيرة
والكلام اليسير ، وذلك إنما يقع من الساهي ولا مدح فيه. وما له صفة زائدة على
حدوثه وصفة جنسه ، فهو فعل العام بما يفعله.
وذكر في الكتاب ،
أن العالم بما يفعله ، المميز بينه وبين غيره ، لا يخلو فعله من أحد وجهين ، إما
أن يكون له فعله ، أو لا يكون له فعله ، ولم يعتبر في ذلك زوال الإلجاء ، واقتصر
على اعتبار زوال الشهوة.
والأولى أن يعتبر
زوال الإلجاء أيضا.
فالقسمة الصحيحة في
ذلك أن يقال : إن فعل العالم بما يفعله المميز بينه وبين غيره إذا لم يكن ملجأ لا
يخلو من أمرين : إما أن يكون له فعله ، أو لا. فإن كان له فعله فهو الحسن ، وهو ما
لفاعله أن يفعله ولا يستحق عليه ذما. وإن لم يكن له فعله ، فهو القبيح ، وحده
وحقيقته قد تقدم.
الحسن [و] المباح.
ثم إن الحسن ينقسم
قسمين : فإما أن تكون له صفة زائدة على حسنه ، وأما أن لا يكون كذلك. فالأول هو
الذي يستحق عليه المدح ، والثاني هو الذي لا يستحق بفعله المدح ويسمى مباحا ،
وحدّه : ما عرف فاعله حسنه أو دل عليه ، ولهذا لا توصف أفعال القديم تعالى بالمباح
، وإن وجد فيها ما صورته صورة المباح كالعقاب.
وأما ما يستحق
عليه المدح فعلى قسمين : إما أن يستحق بفعله المدح ولا يستحق الذم بأن لا يفعل ،
وذلك كالنوافل وغيرها ، وإما أن يستحق المدح بفعله والذم بأن لا يفعل ، وذلك
كالواجبات. وقد تقدم حدود هذه الألفاظ.
الواجبات :
ثم إن الواجبات
تنقسم : ففيها ماله بدل وهو الواجب المخير ، وفيها ما لا بدل له وهو الواجب
المضيق. وقد تقدم ذلك في صدر الكتاب.
وتنقسم قسمة أخرى
: إلى ما يتعدى ، وذلك نحو رد الوديعة وشكر النعمة من العقليات ، ومن الشرعيات
كالزكاة وما شاكل ذلك ، وإلى ما لا يتعدى ، وذلك نحو النظر والمعرفة من العقليات ،
ومن الشرعيات كالصلاة والصيام وغيرهما.
وتنقسم قسمة أخرى
إلى ، عقلي ، وشرعي. فالعقلي هو ما أستفيد وجوبه بالشرع ، وذلك نحو الصلاة والصيام
والحج وما جرى هذا المجرى.
وتنقسم الواجبات
إلى : ما له سبب موجب ، وإلى ما ليس كذلك. وهذه القسمة تتأتى في العقليات
والشرعيات جميعا.
فمثال الأول من
العقليات فهو : كحفظ الوديعة ، فإن لها سببا موجبا وهو التكفل به ، وقضاء الدين ،
فإن الاستقراض سبب وجوبه ، وشكر المنعم فإن لوجوبه سببا وهو النعمة. ومن الشرعيات
، كالكفارات ، فإن لها سببا موجبا وهو اليمين أو الحنث على اختلاف في ذلك بين
الفقهاء ، وهذا في كفارة اليمين ، وأما في كفارة الظهار فسببها الظهار ، وفي كفارة
القتل سببها القتل.
ومثال الثاني من
العقليات : الإنصاف ، فإنه لا سبب له موجب ، ومثاله من الشرعيات الصلاة والصيام.
ثم ينقسم ما له
سبب من الواجبات إلى : ما يكون سبب وجوبه من جهتنا ، وإلى
ما يكون سبب وجوبه
من جهة الغير.
فالأول : ككفارة اليمين ، فإن سببه إما الحنث أو اليمين ، وأي ذلك
كان فهو من فعلتا.
والثاني : كالدية في قتل الخطأ ، فإن سبب وجوبه القتل ، وهو من جهة
الغير. ويمكن أن يعد في هذا القسم : النظر في طريق معرفة الله تعالى لأن سبب وجوبه
ربما يكون دعاء داع ، وقصة قاص ، وتخويف مخوف ، ويمكن عده في القسم الأول أيضا لأن
سبب وجوبه ربما يكون نظرا في كتاب ، أو تنبيها من ذي قبل. وعلى الحقيقة فهذا
المثال معدود في القسم الأول ، لأن سبب وجوب النظر إنما هو الخوف من تركه ضررا ،
وذلك الخوف نتركه ضررا ، وذلك أبدا يكون من فعلنا. وإنما يختلف الحال في سبب الخوف
فمرة يكون من فعلنا ، ومرة يكون من فعل غيرنا.
وتنقسم الواجبات :
ففيها ما يضاف إلى أسبابها ، وفيها ما يضاف إلى أوقاتها.
فالأول : كالكفارات ، فإنه يقال كفارة اليمين وكفارة الظهار.
والثاني : كالصلاة ، فإنه يقال صلاة الظهر وصلاة العصر. والفرق بين
الإضافتين ، أن أحدهما إضافة إلى سبب موجب ، والآخر إلى ما لا يوجب.
واعلم أن الأفعال
الشرعية قد توصف الصحة وقد توصف بالفساد ، والمراد به يختلف بحسب اختلاف مواضعه ،
فإذا وصفت به العقود ، نحو البيوعات والأنكحة ، فيقال إنها صحيحة أو فاسدة ،
فالمراد به أنه استوفى شرائطه على ما اقتضاه الشرع فأوجب له الملك حتى يجوز له
التصرف ويحل له الاستمتاع ، أو لم تستوف على اقتضاه الشرع فلم يفد الملك ولا يحل
له الاستمتاع. وإذا استعمل في الصلاة فالمراد به أنه يلزمه فيها الإعادة أو لا
يلزم ذلك فيها. وإذا استعمل ذلك في الشهادة فقيل شهادة صحيحة أو فاسدة ، فالمراد
به أن القاضي يلزمه الحكم بها أو لا يلزمه ذلك ، ولا يراد بذلك كونها صادقة أو
كاذبة ، لأنها قد تكون صادقة ولا تكون صحيحة ، كشهادة العبد عند الفقهاء ، وشهادة
الأب لابنه ، فلا يلزم الحاكم الحكم بها ، وقد تكون كاذبة ثم توصف بالصحة ، إذا
لزم الحاكم أن يحكم بها. وإذا استعمل في خبر الواحد ، فيقال إنه صحيح أو فاسد ،
فالمراد به أنه نقل على وجه يلزم العمل به ، أو لم ينقل على هذا الوجه فلا يلزم
العمل به ، ولا يفيد في ذلك كونه صدقا وكذبا ، لأنه قد يوصف بالصحة وإن كان كذبا
إذا لزم العمل به ، ويوصف بالفساد إذا لم يلزم العمل به
وإن كان صدقا في
نفسه. هذا هو القسم الأول.
أقسام القبيح :
وأما القسم الثاني
فهو من أقسام القبيح.
وجملة القول في
ذلك ، أن أقسام القبيح تنقسم إلى : ما يكون صغيرا ، وإلى ما يكون كبيرا. وما يكون
كبيرا ينقسم إلى : ما يكون كفرا ، وإلى ما لا يكون كفرا. والكلام في حقيقة هذه
الألفاظ وحدودها يعود في باب الوعيد إن شاء الله تعالى.
ثم إن القبائح
تنقسم إلى : ما يتغير حاله بالإكراه ، وإلى ما لا يتغير حاله بالإكراه.
فالأول : هو كل ما يتعدى عنه إلى غيره ، وذلك كإظهار كلمة الكفر ،
فإن ذلك قبيح ولا إكراه. ثم إذا أكره عليه يجوز له أن يقول ذلك ، لا على الاعتقاد
له والتدين به ، بل على أنكم كلفتموني إظهاره والقول به أو على أن النصارى يقولونه.
والثاني : من هذين القسمين ، هو ما يتعدى ضرره إلى الغير ، وذلك
نحو قتل الغير وما شاكل ذلك ، فإنما هذا سبيله لا يتغير بالإكراه ، بل يلزم المكره
أن يضع مع نفسه أن عقاب الله تعالى أعظم من عقاب هذا المكره ، فلو أقدمت على ما
يكرهني عليه استحققت عقوبة أشد من هذا.
وتنقسم القبائح
أيضا إلى : ما لا يمكنه الانفكاك عنه إلا بأن لا يفعله ، وإلى ما يمكنه الانفكاك
عنه بأن يفعله على وجه آخر مخالف له. فالأول كالجهل ، فإن الانفكاك منه لا يمكن
إلا بأن لا يفعله ، والثاني كالخبر الكذب ، فإنه يمكنه الانفكاك عنه بأن يوقعه على
وجه الصدق ، وكالسجدة ، فإنه يمكن الانفكاك منه بأن يوقعه سجدة للرحمن ولا يوقعه
سجدة للشيطان.
بيان الطريق إلى إزالة العقوبة :
ثم إنه رحمهالله ، لما رأى أن من حكم القبيح استحقاق الذم والعقاب عليه
وأنه لا بد من أن يكون للمكلف طريق إلى إزالة العقوبة عن نفسه ، بيّن الطريق إلى
ذلك على ضرب من الإجمال فقال : إن الطريق إلى ذلك : إما التوبة أو كثرة الطاعات.
والتوبة ، هي أن
يندم على ما فعله من القبيح لقبحه ، ويعزم على أن لا يعود إلى
أمثاله في القبح.
ثم إن هذا القدر كاف إذا كان القبيح بينه وبين الله تعالى ، وأما إذا كان بينه
وبين الآدميين بأن يكون إساءة إلى الغير ، فالواجب أن ينظر : فإن كان قتلا ، يلزمه
أن يندم عليه ويعزم على أن لا يعود إلى أمثاله في القبح ويسلم نفسه إلى ولي
المقتول. وإن كان غصبا ، يرد المغصوب بعينه إن كان باقيا ، وإلا فقيمته إن كان من
ذوات القيمة ، أو مثله إن كان من ذوات الأمثال ، ثم إذا تاب عن ذلك لا يستحق بعده
الذم والعقاب.
وإنما قلنا : إن
التوبة على الحد الذي ذكرناه تزيل العقاب ، لأن نظير التوبة من الشاهد إنما هو
الاعتذار ، ومعلوم أن أحدنا لو أساء إلى غيره ثم اعتذر إليه اعتذارا صحيحا فإنه لا
يستحق بعد ذلك الذم على الإساءة ، فكذلك في مسألتنا.
وأما كثرة الطاعات
، فإنها مما لا يؤثر في إزالة العقاب المستحق على الكبيرة والأعمار هذه الأعمار
على ما سيجيء في باب الوعيد إنشاء الله تعالى ، ولكنها تؤثر في إزالة العقوبة
المستحقة على الصغيرة ، لأن نظير كثرة الطاعات من الشاهد كثرة الإحسان إلى الغير ،
ومعلوم أن أحدنا لو أحسن إلى غيره ضروبا من الإحسان ثم كسر له رأس قلم فإن هذه
الإساءة تقع مكفرة في جنب ماله من الإحسان لديه ، وبالعكس من هذا فإنه لو قتل
واحدا من أعزته فإنه يخبط جميع ماله قبله من الإحسان.
عودة إلى أن أفعال العباد محدثة منهم :
وإذ قد فرغنا من
بيان أقسام الفعل وما يتصل به ، نعود إلى الدلالة على أن أفعال العباد غير مخلوفة
فيهم ، وأنهم هم المحدثون لها.
والذي يدل على ذلك
، أن نفصل بين المحسن والمسيء ، وبين حسن الوجه وقبيحه ، فمحمد المحسن على إحسانه
ونذم المسيء على إساءته ، ولا تجوز هذه الطريقة في حسن الوجه وقبيحه ، ولا في طول
القامة وقصرها ، حتى لا يحسن منا أن نقول للطويل لم طالت قامتك ، ولا للقصير لم
قصرت؟ كما يحسن أن نقول للظالم لم ظلمت؟ وللكاذب لم كذبت فلو لا أن أحدهما متعلق
بنا وموجود من جهتنا بخلاف الآخر ، وإلا لما وجب هذا الفصل ، ولكان الحال في طول
القامة وقصرها كالحال في الظلم والكذب ، وقد عرف فساده.
فإن قالوا : لا
يمكنكم أن تستدلوا بهذه الطريقة على أن هذه الأمثال متعلقة بكم ، فإنكم تحمدون
الله تعالى على الإيمان ، وإن كان الإيمان من فعلكم ومتعلق بكم ،
وكذلك فإنكم تذمون
أحدنا على الإماتة والغرق والحرق وغير ذلك مع أن شيئا من ذلك لا يتعلق به.
قلنا : أما الأول
فليس على ما تظنونه ، لأنا لا نحمد الله تعالى على الإيمان نفسه ، وإنما نحمده على
مقدماته من الإقدار. والتمكين وإزاحة العلة بأنواع الألطاف ، وذلك وذلك موجود من
قبل ومتعلق به فلا يلزم ، ولهذا قال بعض أصحابنا حين أورد بعضهم هذا السؤال عليه
بحضرة بعض الأكابر فقال : فإنا لا نحمد الله تعالى على ذلك وإنما الله يحمدنا عليه
، فانقطع السائل. فقال المسئول : شنعت المسألة فسهلت.
وأما ما ذكرته
ثانيا فليس كذلك أيضا ، لأنا لا نذم أحدنا على الإماتة والغرق والحرق ، وإنما
ذممناه على مقدمات ذلك : ألا ترى أن من وضع صبيا تحت برد ليموت فإن ذمنا إياه ليس
على الإماتة وإنما هو على إلقائه أو وضعه تحت البرد ، وكذلك من ألقى صبيا في تنور
ليحرقه الله تعالى ، فإنا لا نذمه على الإحراق الموجود من قبل الله تعالى ، وإنما
نذمه على تقريبه من جهة النار وإلقائه فيها؟ نفسد ما ظننته ، وصح الاستدلال بهذه
الطريقة.
فإن قال : ما
أنكرتم أن الفصل بين الإحسان والإساءة ، وبين حسن الوجه وقبيحه ، راجع إلى أن
أحدهما متعلق بنا من جهة الكسب بخلاف الآخر ، لا إلى ما قلتموه؟ قيل له : إن
مذهبكم في الكسب لا يعقل ، ولو عقل فإنه متعلق بالله تعالى فلا يبقى للفعل جهة
تضاف إلينا ، فكيف يصح ما ذكرتموه؟ فصح أن على هذا المذهب لا يتصور استحقاق المدح
والذم ، ويلزم أن يكون الظلم والكذب وغيرهما من الأفعال ، كطول القامة وقصرها في
أنه لا يصح استحقاق المدح والذم عليها البتة ، وذلك يوجب قبح بعثة الأنبياء وبطلان
الشرائع أصلا.
وكما يلزم القوم
على هذا المذهب أن لا يفرق بين المحسن والمسيء ، وأن يرتفع المدح والذم والثواب
والعقاب ، ويلزمهم قبح بعثة الأنبياء ، ويلزمهم أيضا أن يكون هو فاعل القبائح ،
لأنه إذا كان خالقا لأفعال العباد وفيها القبائح لزم ما ذكرناه ، وذلك يوجب أن لا
تقع لهم ثقة البتة بكتاب الله تعالى ، وأن يجوزوا أن يبعث إليهم رسولا كاذبا ويظهر
المعجز عليه ، ليضلهم عن سواء السبيل ، ويدعوهم إلى الكفر ، ويصرفهم عن الإسلام ،
لأنه إذا جاز أن يفعل بعض القبائح جاز أن يفعل سائرها ، إذ لا فرق بين بعضها وبين
البعض في القبح.
ومتى قيل : إن ذلك
قبيح ، والله تعالى غير موصوف بالقدرة على التفرد بالقبيح ، قلنا : قد أجبنا عن
هذا ، وبينا أن الله تعالى موصوف بالقدرة على ما لو فعله لكان قبيحا ، وذلك أنه لو
لم يقدر على التفرد بذلك تقديرا ، فإنه يقدر على أن يجعله كسبا لبعض العباد ،
فيلزم ما ذكرناه.
وكما أن هذا لازم
لهم ، فكذلك يلزمهم أن لا يثبت لرسل الله تعالى حجة على الكفرة ، لأن للكافر أن
يقول إن كنت رسولا فلا أقل من أن تكون رسالتك موافقة لمراد الرسل ، فكيف تدعونا
إلى الإسلام ، ومن أرسلك إلينا أراد منا الكفر وخلقه فينا ، وجعلنا بحيث لا يمكننا
الانفكاك عنه؟.
ويلزم انقطاع
الرسل من وجه آخر ، وهو أن يقال لهم : إلى ما ذا تدعونا إليه؟ فإن كنتم تدعونا إلى
ما خلقه الله تعالى فينا ، فإن ذلك مما لا فائدة فيه ، وإن كنتم تدعونا إلى ما لم
يخلقه الله تعالى فينا ، فذلك مما لا نطيق ولا نتمكن منه.
ويلزمهم التسوية
بين الرسول وبين إبليس ، لأن الرسول يدعوهم إلى خلاف ما أراده الله تعالى منهم ،
كما أن إبليس يدعوهم إلى ذلك. بل يلزمهم أن يكون حال الرسول أسوأ من حال إبليس ، لأن
إبليس إنما يدعوهم إلى خلافه ، وكل مذهب يقتضي ذلك ويؤدي إليه فكافيك به فسادا.
ويلزمهم أيضا قبح
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لأن الأمر لا يخلو :
إما أن يكون أمرا
بالواقع ، وذلك قبيح ويجري في القبح مجرى أمر المرمي من شاهق بالنزول.
وإن كان أمرا بما
لا يقع ، فإن المأمور غير قادر عليه عندهم لقولهم بالقدرة الموجبة ، فيكون الأمر
به أمرا بما لا يطاق ، وتكليف ما لا يطاق قبيح.
وهكذا الكلام في
النهي عن المنكر ، لأنه إن كان نهيا عن الواقع ، فإن ذلك قبيح ولا فائدة فيه ، وإن
كان نهيا عما لم يقع ، فإن ذلك نهي عما لم يقدر عليه وذلك قبيح أيضا ، ويجري في
القبيح مجرى نهي الزمن عن العدو.
فإن قيل :
الاستدلال بحسن المدح والذم والأمر والنهي على أن محدثون لتصرفاتنا استدلال بفرع
الشيء على أصله ، لأنا ما لم نعلم أن أحدنا محدث لتصرفه لم
نعلم حسن مدحه
وذمه وأمره ونهيه.
قيل له : إنا نعلم
حسن الأمر والنهي والمدح والذم على الجملة ضرورة ، وإن لم نعلم كونه محدثا على
التفصيل ، فلا يكون الاستدلال بذلك عليه استدلالا بفرع الشيء على أصله ، كما أنا
لما أمكننا أن نعلم كون الذات قادرا عالما وإن لم نعلم كونه حيا ، أمكننا
الاستدلال بذلك على كونه حيا ، ولا نكون مستدلين بفرع الشيء على أصله ، وإن لم يكن
الذات عالما وقادرا لم يكن حيا ، كذلك في مسألتنا.
ويلزم أيضا قبح
مجاهدة أهل الروم وغيرهم من الكفار ، لأن للكفرة أن يقولوا لما ذا تجاهدونا؟ فإن
كان جهادكم إيانا على ما لا يريده الله تعالى منا ولا يحبه فالجهاد لكم أولى وأوجب
، وإن كان الجهاد لنا على ما خلق فينا وجعلنا بحيث لا يمكننا مفارقته والانفكاك
عنه فذلك جهاد لا معنى له ، ولو وجب هذا الجهاد والحال ما ذكرناه لكان إنما يجب
لله.
طريقة أخرى في أن أفعال العباد غير مخلوقة فيهم :
طريقة أخرى في أن
أفعال العباد غير مخلوقة فيهم وأنهم المحدثون لها.
وتحريرها هو أن
هذه التصرفات يجب وقوعها بحسب قصودنا ودواعينا ويجب انتفاؤها بحسب كراهتنا وصارفنا
مع سلامة الأحوال إما محققا وإما مقدرا ، فلو لا أنها محتاجة إلينا ومتعلقة بنا
وإلا لما وجب ذلك فيها ، لأن هذه الطريقة تثبت احتياج الشيء إلى غيره ، كما لا
يعلم احتياج المتحرك إلى الحركة ، والساكن إلى السكون ، وهي هذه الدلالة المعتمدة
، وما تقدم كان على طريق الإلزام.
وقولنا في هذه
التصرفات أنه يجب وجودها بحسب قصدنا ودواعينا ، ويجب انتفاؤها عند كراهتنا وصارفنا
، فالمراد به طريقة الاستمرار ، لا ما نقوله في كون الجسم متحركا وأنه يجب عند
وجود الحركة. وقولنا مع سلامة الأحوال ، فالمراد به خلوص الدواعي وزوال الموانع.
وقولنا إما محققا ، فالمراد به فعل العالم لما يفعله ، فإنه يجب وجوده بحسب قصده
وداعيه تحقيقا. وقولنا وإما مقدرا ، فالمراد به فعل الساهي ، فإن فعله وإن لم يقع
بحسب قصده محققا ، فهو واقع بحسبه مقدرا ، فإنا لو قدرنا أن يكون له داع لكان لا
يقع فعله إلا موقوفا عليه وبحسبه.
إذا ثبت هذا ،
فالذي يدل على أن هذه التصرفات يجب وقوعها بحسب قصدنا
وداعينا هو ، أن
أحدنا إذا دعاه الداعي إلى القيام ، حصل منه القيام على طريقة واحدة ووتيرة مستمرة
، بحيث لا يختلف الحال فيه. وكذلك فلو دعاه الداعي إلى الأكل بأن يكون جائعا وبين
يديه ما يشتهيه ، فإنه يقع منه الأكل على كل وجه ، ولا يختلف الحال في ذلك. وهذه
أمارة كونه موقوفا على دواعينا ويقع بحسبها. وكما أنها تقع بحسب دواعينا وتقف
عليها ، فقد تقف على قصودنا أيضا ، وعلى آلاتنا ، وعلى الأسباب الموجودة من قبلنا
، ألا ترى أن قوله : محمد رسول الله ، لا تنصرف إلى محمد بن عبد الله دون غيره من
المحمدين ولا يكون خبرا عنه إلا بقصده ، وكذلك الكتابة لا تحصل منه إلا إذا علمها
، ولا يكفي ذلك حتى يكون مستكملا للآلات التي تحتاج الكتابة إليها نحو القلم وغيره
، وأيضا فإن الألم يقع بحسب الضرب الموجود من جهته ، يقل بقلته ويكثر بكثرته. فصح
حاجة هذه التصرفات إلينا وتعلقها بنا على الحد الذي ادعيناه.
فإن قال : لا يمكن
الاستدلال بهذه الطريقة على أن هذه التصرفات واقعة من جهتنا ، لأن فعل الملجأ يقع
بحسب قصد الملجئ وداعيه ، ثم لا يدل عندكم على أنه فعله. وكذلك فسير الدابة في
الجهة التي تسير فيها تابع لقصد الراكب وموقوف عليه. كذلك فنعيم أهل الجنة تابع
لاختيارهم وموقوف على قصودهم. وأيضا فإن اللون الحادث عند الضرب موقوف على الضرب ،
يقل بقلته ويكثر بكثرته. وهكذا ، فبياض القبيطي يقع بحسب الضرب من جهتنا. وسواد
الحبر يقف على أحوال خليط الزاج بالعفص ، وأيضا فإن الحرارة الحادثة عند حك إحدى
الراحتين بالأخرى موقوف على الحك ، يقل بقلته ويكثر بكثرته. ثم لم يدل شيء من ذلك
على أنه واقع من جهتنا ومتعلق بنا ، كذلك في مسألتنا.
قيل له : أما فعل
الملجأ ، فإنه يقع بحسب قصده وداعيه ، غير أن داعيه مطابق لداعي الملجئ فلا يصح ما
ذكرتموه ، وكذا الكلام في الدابة ، ولهذا فلو قصد الراكب أن يسيرها في وجه الأسد لما
سارت ، وإن كنتم تدعونا إلى ما خلقه الله تعالى فينا ، فإن ذلك مما لا فائدة فه ،
فصح أن سيرها تابع لقصدها وداعيها ، دون قصد الراكب وداعيه. وأما نعيم أهل الجنة
فمتعلق بالله تعالى وموقوف على قصده وداعيه دون قصودهم ودواعيهم ، لو لا ذلك وإلا
كان يجب إذا دعى بعضهم الداعي إلى أن يبلغ ثوابه ثواب بعض الأنبياء أن يحصل ذلك ،
ومعلوم خلافه. وأما ما ذكرته في اللون فمحال ، لأن ذلك اللون ليس بحادث ، وإنما هو
لون الدم الذي كان فيه فانزعج
بالضرب ، لو لا
ذلك وإلا كان يجب أن يحصل هذا اللون في الجماد عند الضرب ، لأن السبب حاصل والمحل
محتمل ، ولا منع معلوم خلافه.
فإن قيل : أليس لا
يجب في الضرب أن يولد الألم في الجماد وإن كان مولدا له في الحي ، فهلا جاز مثله
في اللون؟ قلنا : إنما لم يصح ذلك في الألم ، لأن الضرب إنما بشرط انتفاء الصحة ،
هذا إنما يتأتى في بدن الحي دون الجماد ، وليس كذلك في اللون ، فظهر الفرق بينهما.
وهكذا الكلام في
بياض القبيطي ، فإن ذلك اللون ليس بحادث بل هو لون كان فيه فظهر بالضرب ، ولهذا
يستعان في ذلك ببياض البيض ، لو لا ذلك وإلا يجب إذا صب الماء في الطنجير وضرب أن
يبيض لأن السبب حاصل ، والمحل محتمل ولا منع ، والمعلوم خلافه.
وكذا ما قالوه في
خلط الزاج بالعفص ، لأن ما ظهر من السواد كان كامنا فيها فظهر بالخلط ، لو لا ذلك
وإلا كان تشيع هذه القضية في كل ما يعين بخلط أحدهما بالآخر.
وكذا الجواب عما
ذكروه في الحرارة وحصولها عند حك إحدى الراحتين بالأخرى ، فإنها حرارة كانت فيه
فظهرت عند الحك ، لو لا ذلك وإلا كان يجب متى حككنا الجليد بعضه ببعض أن يحدث هناك
حرارة ، لحصول السبب وزوال الموانع.
فصح بهذه الجملة
أن أفعال العباد غير مخلوقة فيهم ، وأنهم هم المحدثون لها على ما ذكرناه ، فعلى
هذا يجري الكلام في هذا.
فإن قيل : ما أنكرتم
أن هذه التصرفات يخلقها الله تعالى فيكم مطابقا لقصودكم ودواعيكم بمجرى العادة ،
لا أنها متعلقة بكم تعلق الفعل بفاعله. قيل له : إن كل اعتراض لا يثبت إلا بعد
ثبات ما اعترض به عليه فهو فاسد ، لأنه إن صح ذلك المذهب المعترض عليه فالاعتراض
عليه فاسد ، وإن لم يصح فالاعتراض لا يثبت أصلا ، وهذا الاعتراض من ذلك القبيل ،
لأن ما لم نعلم المحدث في الشاهد ، لا يمكننا أن نعلم المحدث في الغائب ، فإن
الطريق إلى إثبات المحدث في الغائب ، هو أن هذه التصرفات محتاجة إلينا ومتعلقة بنا
في الاحتياج إلى محدث وفاعل ، وإنما احتاجت إلينا لحدوثها ، فكل ما شاركها في
الحدوث وجب أن يشاركها في الاحتياج إلى محدث وفاعل.
فإن قيل : جوزوا
قبل النظر في الدلالة على إثبات الصانع : أن يكون في الغائب محدث يحدث هذه
التصرفات فيكم عند قصودكم ودواعيكم لمجرى العادة. قيل له ، إن ذلك تجويز لما لا
يعقل ، إذ المعقول من المحدث هو من يقع الفعل منه بحسب قصده ودواعيه وينتفي بحسب
كراهته وصارفه ، وعندهم أن هذا المعنى يثبت في أحدنا ولا يكون محدثا ، وإذا كان
ذلك كذلك فقد أخرجوه عن كونه معقولا فكيف يجوزوه في الغائب. وعلى أنا إذا علمنا
بالدليل أن أحدنا محدث لتصرفاته نقول : من قال : جوزوا أن يكون في الغائب محدث
أحدثها فيكم لا إنكم أنتم المحدثون لها ، يجري مجرى أن يقال : جوزوا خلاف ما
علمتموه ، وذلك خلف من القول.
وبعد ، فلو كان
حدوث هذه التصرفات عند قصودنا ودواعينا بمجرى العادة لوجب صحة أن يختلف الحال فيه
، كما في الحر والبرد ، فإنه لما كان طريقة العادة اختلف بحسب البلدان ، وهكذا
سائر ما طريقة العادة ، نحو الإحراق وما يجري مجراه. وعلى هذا يقال في الحيوانات ،
إن في الحيوانات حيوانا يقال له السمندل ، يدخل النار ويتمرغ فيها فلا تؤذيه ولا
يحترق بها ، وحتى أنه يتخذ من وبره منديل غمر ، فكلما توسخ يلقى في النار فيعود
أنظف ما يكون ويمكن. وهكذا فإنه يقال أن بكرمان خشبة لا تحترقها النار ، كذلك في
مسألتنا ، لو كان حدوث هذه التصرفات عند قصودنا بمجرى العادة لجاز أن يختلف الحال
فيها حتى يصدق قول من قال : إنه شاهد في بعض البلاد الغائبة عنا من كان يقع منه
فعله عند صارفه ، وينتفي عند داعيه ، ويمكنه نقل الثقيل من الأجسام وهو ضعيف ، ولا
يمكنه نقل الخفيف منها إذا عاد إلى قوته ، ويتأتى منه الكتابة البديعة ولما تعلمها
ولا علمها ، فلما تعلمها لم يتأت منه ذلك ، ومن صدق هذا المخبر فهو متجاهل أو غير
عاقل.
فإن قيل : قولكم
إن أحدنا محدث لتصرفه لأن تصرفه يقع بحسب قصده وداعيه باطل بالساهي ، فإنه محدث
وإن لم تقع تصرفاته بسحب قصده ودواعيه.
وجوابنا ، أن هذا
الذي أوردتموه عكس الدلالة ، والأدلة لا يعتبر فيها العكس ، وإنما يعتبر فيها
الطرد والمنافضة ، وذلك هو أن يرينا شيئا وقع بحسب قصودنا ودواعينا ثم لم يتعلق
بنا تعلق العقل بفاعله ، فإما أن يرينا محدثا لم يقع فعله بحسب داعيه ، فإن هذا
عكس ما دللنا به في المسألة ، وذلك لا يقدح في كلامنا ، لأنه لا يمتنع في حكمين
مثلين أن يكونا معلومين مختلفين. وعلى هذا نعرف حدوث الأجسام بدلالة ، وهو استحالة
انفكاكها عن الحوادث ، وحدوث الأعراض بدلالة أخرى وهو جواز
العدم عليها. ونحن
وإن لم يمكننا أن نعلم بهذه الطريقة أن الساهي محدث ، فإن ذلك يمكن بطريق أخرى.
على أن في هذه الدلالة ما هو احتزاز عن الساهي ، لأنا قلنا هذه التصرفات تقع بحسب
قصودنا ودواعينا وتنتفي بحسب كراهتنا وصارفنا مع سلامة الأحوال إما محققا وإما
مقدرا ، ومعلوم أن تصرفات الساهي وإن لم تقع بحسب قصده محققا ، فقد تقع بحسب قصده
مقدرا ، لأنا لو قدرنا أن للساهي قصدا ، لكان لا بد في تصرفه من أن يكون واقعا
بحسب قصده. ثم الذي يدل على أنه محدث كالعالم ، هو ما قد ثبت أن فعله يقع بحسب
قدرة يقل بقلتها ويكثر بكثرتها ، وعلى هذا لو كان في منتهى رجله كوز يمكنه أن
يحركه ، ولو كان بدل الكوز حجر عظيم لم يمكنه نقله ولا تحريكه.
وأيضا فمعلوم أن
النائم وهو بالري مثلا يعتقد أنه ببغداد ، وهذا الاعتقاد جهل قبيح فلا يخلو ، إما
أن يكون من قبل الله تعالى ، أو من قبل غيره. لا يجوز أن يكون من جهة الله تعالى
لأنه قبيح ، والله تعالى لا يقبل القبيح ، ولا يجوز أن يكون من جهة غيره ، لأن
الغير إنما يعدي الفعل عن محل القدرة بالاعتماد ، والاعتماد لا حظ له في توليد
الاعتقاد ، فليس إلا أن يكون من جهته على ما قلناه.
فإن قيل : قد
بينتم أن هذه التصرفات متعلقة بنا ومحتاجة إلينا ، فبينوا أن جهة الحاجة إنما هو
الحدوث ليتم لكم ما ذكرتموه ، قلنا : الذي يدل عليه أن الذي يقف كونه على أحوالنا
نفيا وإثباتا إنما هو الحدوث ، فيجب أن تكون جهة الحاجة إنما هو الحدوث على ما
ذكرناه.
وبعد فإن حاجتها
إلينا لا تخلو ، إما أن تكون لاستمرار القدم أو لاستمرار الوجود ، أو لتجدد
الوجود. لا يجوز أن تكون محتاجة إلينا لاستمرار العدم ، لأنها كانت مستمرة العدم
وإن لم تكن ، ولا يجوز أن تكون محتاجة إلينا لاستمرار الوجود ، لأنا نخرج عن كوننا
قادرين وهي مستمرة الوجود ، فلم يبق إلا أن تكون محتاجة إلينا لتجدد الوجود على ما
نقوله.
فإن قيل : لم لا
يجوز أن تكون محتاجة إلينا ومتعلقة بنا من جهة الكسب؟ قلنا : إن الكسب غير معقول ،
وما لا يعقل لا يجوز أن يجعل جهة الحاجة.
وبعد ، فإن الذي
دلكم على أن هذه التصرفات متعلقة بنا من جهة الكسب ، ليس إلا وجوب وقوعها بحسب
قصدنا ودواعينا ، ووجوب انتفائها بحسب كراهتنا وصارفنا ،
هذا ثابت في
الحدوث فهلا جعلتموها محتاجة إلينا من هذا الوجه؟.
فإن قيل : ما
أنكرتم أنها متعلقة بنا من جهة الحلول؟ قلنا : لو كان كذلك لكان يجب أن لا نفرق
بين اللون وبين هذه التصرفات ، لأن الحلول ثابت فيه ، والمعلوم خلافه. فصح أن
الحاجة إلينا إنما هو للحدوث ، على ما ذكرناه.
أحد ما يدل على عدم خلق الله لأفعال العباد أن العاقل لا
يشوه نفسه ولا يريد من غيره ذلك :
وأحد ما يدل على
أن أفعال العباد غير مخلوقة فيهم ، هو ما قد ثبت من أن العاقل في الشاهد لا يشوه
نفسه ، كأنه يعلق العظام في رقبته ، ويركب القصب ويعدو في الأسواق. فكما لا يفعل
ذلك لا يتولاه ، فلا يتولى غيره أيضا ولا يريده منه. وإنما لا يفعل ذلك ولا يختاره
لعلمه بقبحه ولغناه عنه. وإذا وجب ذلك في الواحد منا ، فلأن يجب في حق القديم
تعالى وهو أحكم الحاكمين أولى وأحرى. وعلى مذهبهم أنه تعالى شوه نفسه وسوء الثناء
عليه ، وأراد منهم كل ذلك ، تعالى عما يقولون.
فإن قيل : إن هذه
الأشياء تقبح منا فأما من الله تعالى فلا ، وصار الحال فيه كالحال في الشرعيات ،
فكما أن فيها ما يقبح من بعضنا ويحسن من البعض كالصلاة فإنها تقبح من الحائض وتحسن
من الطاهر ، كذلك في مسألتنا.
قلنا : إنما وجب
ذلك في الشرعيات ، لأن الوجه في حسنها وقبحها كونها مصالح ومفاسد ، والمصالح
والمفاسد تختلف بحسب اختلاف الأشخاص والأوقات ، وليس كذلك في العقليات ، لأن الوجه
في حسنها وقبحها وجوه تختصها ، فمتى وجد ذلك الوجه وجب قبحه أو حسنه ، سواء كان من
الله تعالى أو من الواحد منا.
أحد ما يدل على أن الله لا يخلق أفعال العباد أن فيها ظلما
وجورا وهذا لا يصح على الله :
وأحد ما يدل على
أنه تعالى لا يجوز أن يكون خالقا لأفعال العباد ، هو أن في أفعال العباد ما هو ظلم
وجور ، فلو كان الله تعالى خالقا لها لوجب أن يكون ظالما جائرا ، تعالى الله عن
ذلك علوا كبيرا.
ونحن قبل أن نحقق
هذا الكلام عن الخصم نبين حقيقة الظلم.
اعلم ، أن الظلم
كل ضرر لا نفع فيه ولا دفع ضرر ، ولا استحقاق ، ولا الظن
للوجهين
المتقدمين. ولا يكون في الحكم كأنه من جهة المضرور به ، لا يكون في الحكم كأنه من
جهة غير فاعل الضرر.
لا بد من اعتبار
هذه الشرائط : من أن لا يكون فيه نفع ولا دفع ضرر ، لا معلوما ولا مظنونا ولا
استحقاقا ، لأن أحدنا لو كلف الأجير العمل بالأجرة لا يكون ظالما لما كان في
مقابلته من النفع ما يوازيه ، وكذلك فإن من شرط إذن الصبي دفعا للضرر عنه لا يكون
ظلما لتضمنه دفع الضرر عنه ، وكذلك فإن ذم المسيء والمرتكب للقبيح لا يكون ظلما
لأنه مستحق.
وقولنا : ولا الظن
لأحد الوجهين المتقدمين ، فمن أجل أنه لا فرق بين أن يكون النفع ودفع الضرر معلوما
وبين أن يكون مظنونا ، ألا ترى أنه يحسن من أحدنا أن يكلف ولده الاختلاف إلى
المكتب وإن شق ذلك عليه لا يكون ذلك منه ظلما ، لما كان في مقابلته نفع مظنون أو
دفع ضرر مظنون ، فصح أنه لا بد من اعتبار أن يكون الفعل ضررا لا نفع فيه ، ولا دفع
ضرر ، ولا استحقاق ، ولا الظن لأحد الوجهين المتقدمين حتى يكون ظلما.
وكما لا بد من
اعتبار ذلك ، فلا بد من أن لا يكون في الحكم كأنه من جهة المضرور به ، لأنه لو كان
كذلك لم يكن ظلما. ألا ترى أن من حاول مال غيره أو ذمه فأتى عليه ، فقتله دفعا ،
لم يكن ظالما له ، لما كان ذلك الضرر كأنه حل به من قبله.
وكما لا بد من
اعتبار هذا الشرط ، فلا بد من أن لا يكون في الحكم كأنه من جهة غير فاعل الضرر ،
لأنه لو كان بهذه الصفة لم يكن ظلما ألا ترى أنه تعالى لو أحرق صبيا ألقى به في
النار ، أو أماته وقد وضع تحت البرد لا يكون ظالما له ، لما كان هذا الإحراق وهذه
الإماتة في هذا الحكم كأنه من جهة غير الله تعالى.
ولو قلت : إن
الشرط الثاني ، وهو أن لا يكون في الحكم كأنه من جهة المضرور به داخل فيما تقدم ،
لأن المدفوع مستحق لأن يدفع بما أمكن. وهكذا فلو جعله داخلا تحت الشرط الأخير لصح
أيضا ، لأن الإتيان عليه وقتله في الحكم كأنه من جهة غير فاعل الضرر. فهذا هو
الكلام في حد وحقيقة الظلم.
والذي يدل على ما
ذكرنا ، هو أنهم متى عرفوا الضرر على الوجوه التي بيناها سموه ظلما ، ومتى لم يعرفوه
على هذا الوجه لم يسموه ظلما.
وعلى هذا فإنهم
لما اعتقدوا حصول هذا الضرر على هذا الوجه من الحية
بدخولها جحر
الفأرة وإخراجها منه ، قالوا : أظلم من حية.
هذا هو حقيقة
الظلم ، وإذا استعمل في غير ذلك فهو على سبيل المجاز ، وعلى هذا يقال للسحاب إذ
مطرت في غير حينها أنها ظلمت ، تشبيها بالظلم على الحقيقة. إلا أنه ليس يجب إذا
استعمل لفظ من الألفاظ في بعض المواضع مجازا أن يستعمل في سائر المواضع فيقال :
ظلمت الريح أو النار ، كما قالوا ذلك في السحاب ، لأن من حق المجاز أن يقر حيث
ورد.
حدود للظلم غير صحيحة :
وقد يذكر له حدود
ولا يصح شيء منها.
الظلم ما ليس لفاعله أن يفعله :
ومن جملتها ،
قولهم : إن الظلم هو ما ليس لفاعله أن يفعله ، وهذا لا يصح ، لأن العلم بالحد
ينبغي أن يكون علما بالمحدود ، لا أن يكون تابعا له ، وفي هذا الموضع ما لم يعلم
ظلما ، لا يعلم أنه ليس لفاعله فعله.
وبهذه الطريقة
عبنا على أبي علي تحديده الواجب بما به ترك قبيح ، فقلنا : إنا ما لم نعلم وجوبه
لا يمكننا أن نعلم قبح تركه ، فكيف حددت الواجب به ، وفيما ذكرت ترتب العلم بالحد
على العلم بالحدود ، وذلك مما لا يصح.
وبعد ، فإن
القبائح كلها اشتركت في أنه ليس لفاعلها فعلها ، ثم ليس يجب أن يكون الكل ظلما ،
فإن الكذب والعبث وغيرهما مما لا يسمى بذلك.
الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه :
وقيل في حده : هو
وضع الشيء في غير موضعه وهذا أبعد من الأول ، لأنه لو كان كذلك لوجب إذ وضع أحدنا
منديله على ركبته أو عظم أجنبيا على الحد الذي يعظم والده أن يكون ظالما ، لأنه
وضع الشيء في غير موضعه. إذا جعل البذرة في المحبرة أن يكون ظالما ، لأنه موضع
الشيء في غير موضعه ، وقد عرف خلافه. فيجب أن تكون حقيقة الظلم ما ذكرناه ، إما
لأنه موضوع له أصلا ، أو لأن بكثرة الاستعمال فيه صار حقيقة ، كالغائط في قضاء
الحاجة.
عودة إلى تحقيق الأدلة على القوم :
ثم إنه رحمهالله عاد إلى تحقيق هذا الإلزام على القوم.
والأصل فيه ، أن
هذا الإلزام إلزام العبارة دون المعنى ، لأن المعنى مما قد ذهب إليه القوم ، وإنما
امتنعوا من إجراء هذه العبارة على الله تعالى ، لما رأوا أن الأمة بأسرهم اتفقوا
على أن من أطلق هذه اللفظة على الله تعالى فقد كفر ، وهؤلاء القوم إذا اعتقدوا في
الله تعالى أنه فاعل للظلم ولما هو أفحش منه فقد كفروا ، سواء أجروا هذه اللفظة
على الله تعالى أو لم يجروا.
يبين ما ذكرناه
ويوضحه ، أن إطلاق هذه العبارة إنما صار كفرا لتضمنه إضافة الظلم إلى الله تعالى
لا لمجرد العبارة ، وعلى هذا فإنه لو كان الظالم في بعض اللغات اسما للعادل ، فوصف
المتكلم بتلك اللغة إلهه بالظلم. فقال : يا ظالم يا ظالم ، يريد به يا عادل يا
حكيم ، فإنه لا يكفر.
وربما وجه هذا
الإلزام على وجه آخر فقال : لو كان الله تعالى فاعلا للظلم لوجب أن يقال : إن
الظلم منه ومن عنده ، وهذا لا يرتكبه القوم.
وربما ألزمهم وجها
آخر فقال : لو كان الله تعالى فاعلا للظلم لوجب أن ترجع إليه أحكام الظلم من الذم
والاستخفاف وما يتعلق بذلك ، تعالى الله عن ذلك. وهذا جيد ، إلا أنه لا يختص الظلم
بل يضم جميع القبائح من الكذب والعبث وغيرهما ، فصح أن هذا الإلزام يعود إلى
العبارة على ما ذكرناه.
إذا ثبت هذا ،
وأردت أن تلزمهم إطلاق هذه العبارة على الله تعالى ، فلك فيه طريقان اثنان :
أحدهما : أن تقول : قد ثبت أن قولنا فاعل للظلم وقولنا ظالم واحد
، بدليل أنه لا فرق بين أن يقول القائل فلان فاعل للظلم ، وبين أن يقول إنه ظالم.
حتى لو قال فلان ظالم وليس بفاعل للظلم وليس بظالم ، لتناقض الكلام ، وهذه إمارة
اتفاق اللفظين في المعنى ، فإن بهذه الطريق يعرف أن معنى الجلوس والقعود واحد ،
وكذلك الكلام في كل لفظين متفقين في المعنى.
فإن قيل : كيف يصح
قولكم إنهما متفقان في المعنى ، ومعلوم أن قولنا ظالم اشتق من ظلم ، وقولنا فاعل
للظلم اشتق من فعل الظلم؟ قلنا : إنا ما ادعينا اتفاقهما في الاشتقاق وإنما قلنا ،
إنهما متفقان في المعنى ، ولا يمتنع في اللفظين اتفاقهما في
المعنى واختلافهما
في الاشتقاق ، ولهذا فإن القعود والجلوس معناها واحد ، ثم القعود مشتق من قعد ،
والجلوس مشتق من جلس.
الوجه
الثاني : في ذلك هو أن
نقول : إن أهل اللغة لما اعتقدوا في الواحد منا أنه أضر بالغير الضرر الذي ذكرناه
، سموه ظالما ، ومتى لم يعتقدوا ذلك فيه لم يسموه به كما أنهم لما اعتقدوا تعلق
الضرب والشتم بالواحد منا تعلق الفعل بفاعله سموه ضاربا وشاتما ، فكما أن الضرب
والشتم اسم لن فعل الضرب والشتم ، فكذلك الظالم يجب أن يكون اسما لمن فعل الظلم.
فإن قيل : إنهم
أخطئوا في الاعتقاد. قلنا : هب أنهم أخطئوا في الاعتقاد ، أليسوا قد أصابوا في هذه
التسمية؟ وهذا القدر كاف. وصار ذلك كتسمية الأصنام آلهة لاعتقادهم أنها تستحق
العبادة ، فكما أن خطأهم في الاعتقاد لم يمنع من إصابتهم في التسمية ، كذلك هاهنا.
فإن قيل : لم لا
يجوز أن يكون الظالم اسما لمن حله الظلم؟ قلنا لا لو كان كذلك لوجب لو تفرد الله
تعالى بالظلم أن لا يكون ظالما ، وعندكم أنه تعالى لو تفرد بالظلم لكان ظالما.
وبعد ، فإن الظالم
لو كان اسما لمن حله الظلم لوجب أن ترجع أحكامه إلى محله ، فيذم اللسان إذا شتم ،
والرجل إذا ركلت ، واليد إذا لطمت ، ومعلوم خلافه. وصار هذا كما تقوله الكلابية إذ
جعلوا التكلم اسما لمن حله الكلام ، وكان يجب أن يكون اللسان هو القاذف ، لأنه هو
الذي حله القذف ، أن يكون هو الرسول أيضا ، لأنه الرسالة والبلاغة إنما تحصلا له
به ، ويحلانه وهذا يوجب أن يجلد ويستخف به للقذف ، ويعظم ويبجل للرسالة ، وهذا
محال.
وبعد ، فإن حقيقة
الظلم : كل ضرر لا نفع فيه ولا دفع ضرر ، ولا استحقاق ، ولا الظن لأحد الوجهين
المتقدمين ، ولا يكون في الحكم كأنه من جهة المضرور ، ولا يكون كأنه من جهة غير
فاعل الضرر ، وهذا إنما يحل المظلوم دون غيره ، فيجب أن يكون هو الظالم.
وبعد ، فلو جاز أن
يقال إن الظالم اسم لمن حله الظلم لجاز مثله في العادل ، فيوجب أن لا يوصف الله
تعالى بأنه عادل ، كما لا يوصف بأنه ظالم.
فإن قيل : ما
أنكرتم أن الظالم اسم لمن جعل الظلم ظلما له؟ قلنا : لو كان
كذلك ، لوجب إذا
تفرد الله تعالى بالظلم أن لا يكون ظالما لأنه لم يجعل الظلم ظلما له ، وعندكم أنه
تعالى لو تفرد بالظلم لكان ظالما.
وبعد ، فإن الظلم
لو كان بجعل الجاعل ، لوجب أن يجعله ظلما لهذا دون ذاك ، أو ذاك دون هذا ، وصار
الحال فيه كالحال في كون الكلام أمرا ونهيا وخبرا ، فإنه لما تعلق بالفاعل ، صح من
الفاعل أن يوجده فيجعله أمرا ، وأن يوجده فيجعله نهيا ، وأن يوجده فيجعله أمرا ،
لهذا دون ذلك ، وقد عرف خلافه.
وبعد فلو كان كذلك
، لوجب في من لا يعلم أن الظالم هو من جعل الظلم ظلما له : أن لا يعلمه ظالما ،
ومعلوم أن العرب يعلمون الظالم ظالما وإن لم يعلموا أن الظلم جعل ظلما له.
وبعد ، فإنا نقول
لهم : ما تريدون بقولكم إن الظالم هو من جعل الظلم ظلما له؟ أتريدون به أن الظلم
خلق فيه؟ أو تريدون أنه جعل كسبا له؟ فإن أردتم به أنه جعل كسبا له ، فذلك مما لا
يعقل على ما سيجيء من بعد إن شاء الله تعالى ، وإن أردتم به أنه خلق فيه ، فهو نفس
مذهبكم الذي نروم إفساده بهذه الدلالة فلا يصح الاعتراض به عليها ، وهذا أصل كبير
: إن كل دلالة نصبت لإفساد مذهب من المذاهب ، فالاعتراض على تلك الدلالة بنفي ذلك
المذهب لا يصح ، فيجب أن يراعى هذا الأصل ويحافظ عليه.
وبعد ، فلو كان
الظالم اسما لمن جعل الظلم ظلما له ، لوجب أن يكون الرازق اسما لمن جعل الرزق رزقا
له ، والعادل اسما لمن جعل العدل عدلا له ، وكذلك الكلام في المحسن ، والمنعم ،
والمتفضل ، وما يجري هذا المجرى لأنه لا فرق بين الموضعين. ولو ارتكب ، قلنا ،
فكان يجب أن لا يوصف القديم تعالى بشيء من هذه الأسماء ، وقد عرف خلافه.
فإن قيل : ما
أنكرتم أن الظالم اسم لمن تفرد بالظلم ، والله تعالى غير منفرد بالظلم ، فلا يجب
أن يسمى ظالما. قلنا : لو كان كذلك لوجب أن لا يكون في عالم الله تعالى ظالم ، لأن
العباد غير منفردين بالظلم.
وبعد ، فلو وجب
هذا في الظالم ، لوجب أيضا في العادل ، والخالق ، والرازق ، ولو ارتكبوا ذلك ،
قلنا : فيجب على هذا أن لا يوصف القديم تعالى بشيء من هذه الأوصاف ، والمعلوم خلاف
ذلك.
وبعد ، فإن العرب
متى اعتقدوا أن الظلم تعلق بأحدنا تعلق الفعل بفاعله سموه ظالما وإن لم يعرفوا
تفرده به ، ومتى لم يعتقدوا ذلك لم يسموه به. يبين ذلك ، أنهم شاهدوا جماعة اشتركت
في قتل مسلم سموهم ظلمة ، وكل واحد منهم ظالما ، ولم يعتقدوا تفردهم بالظلم بل
عرفوا الاشتراك ، ففسد ما ظنوه.
وبعد ، فإن الله
تعالى لو تفرد بالظلم لما زاد حاله على حاله الآن ، وقد تعلق به سائر الظلامات على
سائر وجوهها وحقائقها.
لم لا يكون الظالم اسما لمن لم يجعل الظلم كسبا لغيره :
فإن قيل : ما
أنكرتم أن الظالم اسم لمن لم يجعل الظلم سكبا لغيره ، والله تعالى جعل الظلم كسبا
لنا فلا يجب أن يسمى ظالما. قلنا : إن هذا السؤال مع ركاكته يدل على عمى قلب
السائل ، لأن فحوى هذا الكلام ، أن الظالم اسم لمن جعل الظلم كسبا لنفسه ، وهذا
يوجب أن لا يكون أحدنا ظالما ، لأنه لم يجعل الظلم كسبا لنفسه ، وإنما جعل ذلك
كسبا له.
وبعد ، فإن قولنا
ظالم إثبات ، وأنه لم يجعل الظلم كسبا لغيره نفي ، ولا يجوز أن يرجع بالإثبات إلى
النفي ، كما في العادل والرازق.
وبعد ، فلو جاز أن
يكون الظالم اسما لمن لم يجعل الظلم كسبا لغيره ، لجاز أن يكون العادل اسما لمن لم
يجعل العدل كسبا لغيره ، وكذا الكلام في المحسن ، والمنعم ، والمتفضل ، والمعلوم
خلافه.
وأيضا ، فإن أهل
اللغة لم يعلموا أن الكسب على الوجه الذي تقولونه أصلا ، فكيف يقال إن الظالم
عندهم اسم لمن لم يجعل الظلم كسبا لغيره ، فإن قيل : إنهم كما لم يعلموا الكسب لم
يعلموا أيضا الحدوث فيجب أن لا يكون أحدنا محدثا لتصرفاته ، قلنا : إن العرب وإن
لم يعلموا صفة المحدث على الحد الذي نقوله ، فقد علموا الفرق بين ما يقف على قصدنا
ودواعينا ويثبت لأحوالنا فيه تأثير ، وبين ما لا يقف على قصدنا ودواعينا ولا يثبت
لشيء من أحوالنا فيه تأثير.
فإن قيل : أليس
أنه تعالى يخلق الحركة ولا يكون متحركا ، ويخلق الولد ولا يكون والدا ، فهلا جاز
أن يخلق الظلم ولا يكون ظالما؟ قلنا : هذا لا يصح ، لأنه ما من فعل من الأفعال
يفعله القديم تعالى إلا وقد اشتق له منه اسم ، إلا أفعالا معدودة
منع السمع من أن
يشتق لله تعالى من ذلك اسم ، نحو الفقه والفضل والحراسة والطب إلى ما شاكل ذلك ،
ولو لا السمع لكنا نجوز أن يوصف الله تعالى بهذه الأفعال أيضا.
وأما ما ذكرته من
الحركة والمتحرك فجهالة مفرطة ، لأن المتحرك ليس هو اسم لمن فعل الحركة وإنما هو
اسم لمن حلته الحركة ، والفاعل للحركة إنما يسمى محركا ، فلا جرم يجوز أن يسمى
الله تعالى به. وما ذكرت من أمر الوالد فأبعد ، لأنه اسم لمن خلق الولد من مائه ،
أو ولد الولد على فراشه ، وليس هو اسم لفاعل الولد ، وإنما الذي يشتق لفاعل الولد
من هذا الاسم إنما هو المولد ، وذلك إنما لا يجري على الله تعالى لإيهامه الخطأ ،
وهو أنه من جنس الأسباب ، لولاه وإلا كنا نجوز أن يسمى القديم جلّ وعزّ به.
آيات من القرآن تدل على أن الله لا يخلق أفعال العباد :
ثم إنه رحمهالله احتج بآيات من القرآن على أنه تعالى لا يجوز أن يكون خالقا
لأفعال العباد ، وذلك لم يورده على طريق الاستدلال والاحتجاج ، فإن الاستدلال
بالسمع على هذه المسألة متعذر ، لأنا ما لم نعلم القديم تعالى ، وأنه عدل حكيم لا
يظهر المعجز على الكذابين ، لا يمكننا الاستدلال بالقرآن ، وصحة هذه المسائل كلها
مبنية على هذه المسألة. ولأن إثبات المحدث في الغائب ينبني على إثبات المحدث في
الشاهد ، إذ الطريق إلى ذلك ليس إلا أن يقال : قد ثبت أن هذه التصرفات محتاجة
إلينا ومتعلقة بنا ، وإنما احتاجت إلينا لحدوثها ، فكل ما شاركها في الحدوث وجب أن
يشاركها في الاحتياج إلى محدث وفاعل ، وهذه الأجسام كلها محدثة فلا بد لها من محدث
وفاعل ، وفاعلها ليس إلا الله تعالى فكيف يستدل بالسمع عسى هذه المسألة والحال ما
ذكرناه؟ فوضح بهذه الجملة أنه رحمهالله تعالى لم يورد هذه الآيات على وجه الاستدلال والاحتجاج
وإنما أوردها على أن أدلة الكتاب موافقة لأدلة العقل ومقررة له.
(ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) :
فما يدل على ذلك
من جهة السمع قوله تعالى : (ما تَرى فِي خَلْقِ
الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) [الملك : ٣] نفى
الله التفاوت عن خلقه. فلا يخلو : إما أن يكون المراد بالتفاوت : من جهة الخلقة ،
أو من جهة الحكمة. لا يجوز أن يكون المراد به التفاوت من جهة الخلقة لأن في خلقة
المخلوقات من التفاوت ما لا يخفى ، فليس إلا أن
المراد به التفاوت
من جهة الحكمة على ما قلناه ، إذا ثبت هذا لم يصح في أفعال العباد أن تكون من جهة
الله تعالى لاشتمالها على التفاوت وغيره.
فإن قال : ما
أنكرتم أن التفاوت من جهة الخلقة على ما ذكره في آخر الآية حيث قال : (هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ)؟ قلنا : هذا الذي ذكرته لا يصح ، لأن تخصيص آخر الآية لا
يقدح في عموم أولها ، ألا ترى أن قوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) [البقرة : ٢٢٨]
عام في المطلقات البوائن منها والرجعيات ، ثم تخصيص قوله : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ) [البقرة : ٢٢٨] لا
يقدح في عموم الأول. كذلك في مسألتنا.
وبعد ، فإنه تعالى
تمدح بنفي التفاوت عن خلقه ، ولا مدح في نفي أن لا يكون في خلقه فطور وانشقاق.
فإن قيل : لو أمكن
الاستدلال بهذه الآية على أنه تعالى لا يجوز أن يكون خالقا لأفعال العباد لأن فيها
التفاوت وقد نفي التفاوت عن خلقه ، أمكن أيضا أن يستدل بها على أن طاعات العباد
كلها من جهة الله تعالى فلا تفاوت فيها.
قلنا : هذا
الاستدلال بدليل الخطاب ، وذلك مما لا يعتبر في فروع الفقه ، فكيف يعتبر في أصول
الدين؟ يبين ذلك ، أن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على أن ما عداه بخلافه ، ألا ترى أن
قائلا لو قال : فلان لا يظلم ولا يكذب ، فإنما يقتضي هذا الكلام أنه لا يختار ما
هو الظلم والكذب ، وليس فيه ، أنما هو خارج عن هذين النوعين فإنه هو الفاعل له ،
كذلك في مسألتنا ، ليس يجب إذا نفى الله تعالى التفاوت عن خلقه أن يضاف إليه كل ما
لا تفاوت فيه ، بل الواجب أن ينفي عنه جميع ما يتفاوت ، ويكون ما لا تفاوت فيه
موقوفا على الدلالة ، فإن دل على أنه هو الفاعل له قيل به ، فإن لم يدل ، بل دل
على خلافه لم يقل به ، وفي مسألتنا قامت دلالة على أن هذه التصرفات من الطاعات
وغيرها متعلقة بنا لوقوعها بحسب قصدنا وداعينا ، فيجب أن تكون فعلا لنا واقعا من
جهتنا على ما قلناه.
الذي أحسن كل شيء خلقه :
دليل آخر من جهة
السمع قوله تعالى : (الَّذِي أَحْسَنَ
كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) [السجدة : ٧] ،
وقد قرئ «خلقه»
، وكلا القراءتين
تدل على أن أفعال العباد غير مخلوقة فيهم.
ووجه الاستدلال به
أنه لا يخلو : إما أن يكون المراد به ، أن جميع ما فعله الله
تعالى فهو إحسان ،
أو المراد به أن جميعه حسن. لا يجوز أن يكون المراد به الإحسان ، لأن في أفعاله
تعالى ما لا يكون إحسانا كالعقاب ، فليس إلا أن المراد به الحسن على ما نقوله.
إذا ثبت هذا ،
ومعلوم أن أفعال العباد تشتمل على الحسن والقبيح ، فلا يجوز أن تكون مضافة إلى
الله تعالى.
فإن قال : لم لا
يجوز أن يكون المراد بقوله تعالى : «أحسن» أي «علم»
كما يقال : فلان
يحسن اللغة والنحو والتصريف والطب وغير ذلك. قلنا : هذا لا يصح ، لأن أحسن بمعنى
علم لم يجيء وإن جاء مضارعه ، وليس يمتنع أن يستعمل مضارع ما لم يستعمل ماضيه.
وعلى هذا استعملوا مضارع نحو : وذر ، وودع. فقالوا : يذر ويدع ، ولم يستعمل ماضيه.
فلم يقولوا : أوزر ولا أودع. وصار هذا في بابه كاستعمالهم الماضي من دون استعمال
المضارع ، نحو قولهم : عسى وليس ، فحسب.
وبعد ، فإن الذي
يسبق إلى أفهام السامعين من قوله أحسن ، ليس إلا الحسن على ما ندعيه ، فيجب أن
يحمل عليه ، لأن كلام الله تعالى هما أمكن حمله على ظاهره لا بعدل عنه إلى غيره.
وقد قال قاضي
القضاة رحمهالله : إن قوله : (أَحْسَنَ كُلَّ
شَيْءٍ) ، يتنزل في العربية منزلة قوله : أحسن في كل شيء ، ومعلوم
أنه لو قال : أحسن في كل شيء لكان لا يحمل إلا على الحسن ، فكذلك إذا كان هكذا.
قال : والذي يدل
على أن فائدة العبارة واحدة ، هو أنك لو قلت أحسن كذا وما أحسن فيه لتناقض الكلام
، وهذا هو علم الاتفاق بين اللفظين على ما ذكرناه في غير موضع.
(صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) :
ومما يستدل به
أيضا قوله تعالى : (صُنْعَ اللهِ الَّذِي
أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) [النمل : ٨٨]. بين
الله تعالى أن أفعاله كلها متقنة ، والإتقان يتضمن الاحكام والحسن جميعا ، حتى لو
كان محكما ولا يكون حسنا لكان لا يوصف بالإتقان. ألا ترى أن أحدنا لو تكلم بكلام
فصيح يشتمل على الفحش والخنا ، فإنه وإن وصف بالإحكام لا يوصف بالإتقان.
إذا ثبت هذا ،
ومعلوم أن في أفعال العباد ما يشتمل على التهود والتنصر والتمجس ، ولي شيء من ذلك
متقنا ، فلا يجوز أن يكون الله تعالى خالقا لها.
فإن قال : ما
أنكرتم أن هذه الأشياء متقنة لتضمنها الدلالة على أن الله تعالى جعلها متناقضة
فاسدة؟.
قلنا : إن ذلك لا
يصح من وجوه :
أحدها : أن هذه الأشياء التي هي التهود والتنصر والتمجس وغير ذلك
، كلها مخلوقة فيكم من جهة الله تعالى على سائر الوجوه عندكم ، فكيف يقال إن الله
تعالى جعلها على وجه ولم يجعلها على وجه؟.
ومنها : أن التناقض والفساد مما لا تأثير لجعل الجاعل فيه ، فكيف
يصح قولكم إن الله تعالى جعله متناقضا؟ يبين ذلك ، أنه لو كان لجعل الجاعل تأثير
في تناقض الشيء وفساده ، لكان لا يمتنع أن يجعل الظلم متناقضا فاسدا في بعض
الحالات ، والعدل في بعضها ، وذلك محال.
وأيضا ، فليس يكفي
في كون الفعل متقنا أن يكون دلالة على أمر من الأمور بل لا بد أن يكون حسنا ، ألا
ترى أن الكلام الفصيح الذي يشتمل على الفحش والخنا لا يوصف بالإتقان مع تضمنه
الدلالة على أن فاعله قادر عالم ، ففسد ما قالوه.
ثم إنه رحمهالله ، ذكر : أن جميع القرآن يشهد على ما قلناه ويؤذن بفساد
مذهبهم ، لأن جميع القرآن أو أكثره يتضمن المدح والذم والوعد والوعيد والثواب
والعقاب ، فلو كانت هذه التصرفات من جهة الله تعالى مخلوقة في العباد ، لكان لا
يحسن المدح ولا الذم ولا الثواب ولا العقاب ، لأن مدح الغير وذمه على فعل لا يتعلق
به لا يحسن.
فإن قيل : ما
أنكرتم أن هذه التصرفات متعلقة بنا من جهة الكسب؟ قلنا : إن الكسب غير معقول ، وما
لا يعقل لا يجوز أن يكون جهة الحاجة.
وبعد ، فإن الكسب
عندكم يجب مع الصحة ، وما يجب عند الصحة لا يجوز أن ينصرف إليه المدح والذم ويستحق
عليه الثواب والعقاب.
(وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا).
ومن جملتها ، قوله
تعالى : (وَما مَنَعَ النَّاسَ
أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى) [الإسراء : ٩٤]
فلو كان الإيمان من جهة الله تعالى وموقوفا على اختياره ، حتى إن خلق كان ، وإن لم
يخلق لم يكن ، لكان لا يكون لهذا الكلام معنى ، لأن للمكلف أن يقول : الذي منعني
منه أنك لم تخلقه فيّ ، وخلقت في ضده الذي هو الكفر ، وصار الحال فيه كالحال في
أحدنا إذا شديدي غلامه إلى رجليه ، ويطرحه في مقر بيت مظلم ، ويغلق عليه الأبواب ،
ويقول : يا شقي لم لا تخرج من هذا البيت ، وما منعك منه؟ فكما أن هذا سخف منه ،
كذلك في مسألتنا.
(كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ
يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ).
ومن ذلك أيضا ،
قوله تعالى : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ
بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) أورد ذلك متعجبا منهم في الكفر ، مع ماله عزوجل عليه من النعم. ولو كان كما قالوه لم يكن للاستعجاب موضع
ولكان بمنزلة قوله كيف تسودون ، وقد أنعمت عليكم وفعلت وصنعت ، فكما أن ذلك مما لا
وجه له لما لم يكن الاسوداد متعلقا بهم وموقوفا على اختيارهم ، وكذلك في مسألتنا.
على أن مع هذا
المذهب لا يثبت لله تعالى نعمة على الكفار ، لا نعمة الدين ولا نعمة الدنيا. أما
نعمة الدين فلا إشكال فيه ، لأنه قد خلق فيهم الكفر ، والقدرة الموجبة له ، وسلبهم
الإيمان وقدرته وإرادته ، وجعلهم من الأشقياء ، فكيف يثبت له عليه نعمة. وأما نعمة
الدنيا ، فلأن هذه المنافع وإن كانت تصل إليهم في الحال ، فإنها من حيث توصلهم إلى
النار الأبد ، والعقاب السرمد ، بمنزلة الخبيص المسموم الذي يؤدي إلى الهلاك ،
فكما أن من قدمه إلى غيره لا يكون منعما بذلك عليه ، كذلك في هذا الموضع. وأيضا
فلا بد من أن يكون غرض الموصل النفع إلى الغير نفعه ، حتى يكون منعما عليه ، وعلى
مذهبهم لا يعلم أن غرض القديم تعالى بذلك نفع الكافر ، بل من المجوز أن يكون ذلك
لكي يكون أدخل في إضلاله وإغوائه ، فمتى تثبت لله والحال هذه نعمة على الكفار بل
على المؤمن أيضا؟.
(جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ).
ومن ذلك ، قوله : (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤)) وقوله : (هَلْ جَزاءُ
الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ (٦٠)) [الرحمن : ٦٠] فلو
لا أنا نعمل ونصنع ، وإلا كان هذا الكلام كذبا ، وكان
الجزاء على ما
يخلقه فينا قبيحا.
(وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ).
ومن ذلك ، قوله
تعالى : (وَما ذا عَلَيْهِمْ
لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [النساء : ٧٩]
وقوله : (وَما لَكُمْ لا
تُؤْمِنُونَ بِاللهِ) [الحديد : ٨] فلو
لا أن الإيمان موقوف على اختيارنا وإلا كان لا يستقيم هذا الكلام ، ويجري مجرى أن
يقول لهم : ما لهم لا يسودّون ، وما ذا عليهم لو اسودوا؟ وذلك مما لا يجوز. وكان
للخصم أن يقول : أنت الذي منعتني عن الإيمان بأشد منه ، لم تخلقه فيّ وخلقت فيّ
ضده الذي هو الكفر.
(فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ).
ومن ذلك ، قوله
تبارك وتقدس وتعالى : (فَما لَهُمْ عَنِ
التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (٤٩)) [المدثر : ٤٩]
وذلك إنما يصح إذا لم يكن الإعراض من قبله ، فأما إذا كان هو الذي منعهم عن
التذكرة وخلق فيهم الإعراض عنه ، فلا وجه لهذا التوبيخ والسؤال.
(فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ).
ومن ذلك ، قوله : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ
فَلْيَكْفُرْ) [الكهف : ٢٩] فقد
فوض الأمر في ذلك إلى اختيارنا. فلو لا أن الكفر والإيمان متعلقان بنا ومحتاجان
إلينا ، وإلا كان لا معنى لهذا الكلام ولتنزل منزلة قوله : من شاء فليسود ، ومن
شاء فليبيض ، فكما أن ذلك سخف لأن الاسوداد والإبياض غير متعلقين بنا ، كذلك في
مسألتنا.
(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ).
ومن جملة ذلك ،
قوله تعالى وتقدس : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ
فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) [التغابن : ٢]
أورد الآية على وجه التوبيخ ، وذلك لا يحسن إلا بعد احتياج الكفر والإيمان إلينا
وتعلقهما بنا ، وإلا كان ذلك بمنزلة أن يوبخ أحدنا على طول قامته وقصرها ، فيقال :
قد أنعمنا عليك وصنعنا بك وفعلنا ، فقصرت قامتك أو طالت.
(وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً).
ومن ذلك ، قوله
تعالى وتنزه : (وَما خَلَقْنَا
السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً) [ص : ٢٧] نفى الله
تعالى أن يكون في خلقه باطل ، فلو لا أن هذه القبائح وغيرها من التصرفات
من جهتنا ومتعلقة
بنا ، وإن كان يجب أن تكون الأباطيل كلها من قبله فيكون مبطلا كاذبا تعالى عما
يقولون علوا كبيرا.
(وَما خَلَقْتُ
الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ :)
ومن ذلك ، قوله
تعالى وتنزه وتقدس (وَما خَلَقْتُ
الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦)) [الذاريات : ٥٦]
وهذا يدل على أن الله تعالى لا يريد من العباد إلا العبادة والطاعة ، لأن هذه
اللام لام الغرض ، الذي يسميه أهل اللغة : لام كي ، بدليل أنهم لا يفصلون بين قول
القائل : دخلت بغداد لطلب العلم ، وبين قوله دخلت وغرضي طلب العلم. ويدل أيضا على
أن هذه الأفعال محدثة من جهتنا ومتعلقة بنا ، وإلا كان لا معنى لهذا الكلام.
الكلام في الكسب :
ثم إنه رحمهالله ، تكلم في الكسب وما يتصل بذلك.
فقد علم عقلا
وسمعا فساد ما تقوله المجبرة المدبرة الذين ينسبون أفعال العباد إلى الله تعالى.
وجملة القول في ذلك
، أن تصرفاتنا محتاجة إلينا ومتعلقة بنا لحدوثها.
وعند جهم بن صفوان
أنها لا تتعلق بنا ، ويقول إنما نحن كالظروف لها حتى إن خلق فينا كان ، وإن لم
يخلق لم يكن.
وعند ضرار بن عمرو
أنها متعلقة بنا ومحتاجة إلينا ، ولكن جهة الحاجة إنما هو الكسب ، وقد شارك جهما
في المذهب ، وزاد عليه في الإحالة ، لأن ما ذكره جهم على فساد معقول ، وما ذكره هو
غير معقول أصلا.
فأما المتخلفون من
المجبرة ، فقد قسموا التصرفات قسمين : فجعلوا أحد القسمين متعلقا بنا وهو المباشر
، والقسم الآخر غير متعلق بنا وهو المتولد. فشاركوا الأولين في المذهب ، وزادوا
عليهم في الإحالة ، حيث فصلوا بين المباشر المتولد ، مع أنه لا سبيل إلى الفصل
بينهما.
ونحن قبل الاشتغال
بإفساد هذا المذهب نبين حقيقة الكسب.
حقيقة الكسب :
اعلم ، أن الكسب
كل فعل يستجلب به نفع ، أو يستدفع به ضرر. يدلك على ذلك ، هو أن العرب إذا اعتقدوا
في فعل أنه يستجلب به نفع أو يستدفع به ضرر سموه كسبا ، ولهذا سموا هذه الحرف
مكاسب ، والمتحرف بها كاسبا ، والجوارح من الطير كواسب.
ومتى قيل إن هذه
حقيقة الكسب من طريق العربية ، وليس الكلام إلا في الكسب الاصطلاحي ، قلنا :
الاصطلاح على ما لا يعقل غير ممكن ، لأن الشيء يعقل معناه أولا ، ثم إن لم يوجد له
اسم في اللغة يصطلح عليه ، فأما والمعنى لم يثبت بعد ولم يعقل فلا وجه للاصطلاح
عليه. وأيضا فلا بد من أن يكون للاصطلاح شبه بأصل الوضع ، ما يقوله مخالفونا لا
شبه له بأصل الوضع. إذا ثبت هذا ، عدنا إلى الكلام على إفساد هذه المذاهب.
فأما مذهب جهم ،
فقد دخل فساده تحت ما تقدم.
وأما الكلام على
القائلين بالكسب ، فالأصل في أن تعلم أن فساد المذهب قد يكون بأحد طريقين :
أحدهما : بأن تبين فساده بالدلالة.
والثاني : بأن تبين أنه غير معقول في نفسه. وإذا ثبت أنه غير معقول
في نفسه كفيت نفسك مئونة الكلام عليه ، لأن الكلام على ما لا يعقل لا يمكن. وهذه
الطريق هي التي سلكناها في فساد القول بالطبع والقول بالتثليث ، فقلنا للطبيعيين :
إن مذهبكم في الطبع غير معقول ، وقلنا للنصارى : إن اعتقاد واحد ثلاثة مما لا يمكن
، ومذهبكم في ذلك مما لا يعقل ، والكلام عليه مما لا وجه له ، وبهذه الطريق يفسد
القول بالكسب ، فإن ذلك غير معقول كما عددناه من المذاهب.
والذي يبين لك صحة
ما نقوله ، أنه لو كان معقولا لكان يجب أن يعقله مخالفو المجبرة في ذلك ، من
الزيدية ، والمعتزلة ، والخوارج ، والإمامية ، والمعلوم أنهم لا يعقلونه. فلو لا
أنه غير معقول في نفسه ، وإلا كان يجب أن يعقله هؤلاء ، فإن دواعيهم متوفرة ،
وحرصهم شديد في البحث عن هذا المعنى ، فلما لم يوجد في واحد من هذه الطوائف على
اختلاف مذاهبهم ، وتنائي ديارهم ، وتباعد أوطانهم ، وطول مجادلتهم في هذه المسألة
من ادعى أنه عقل هذا المعنى أو ظنه أو توهمه ، دل على أن ذلك مما لا
يمكن اعتقاده
والإخبار عنه البتة.
فلو قالوا : إنهم
عقلوا هذا المعنى واعتقدوه ، غير أنهم لعجزهم عن الكلام عليه وإبطاله كتموه وجحدوه
وادعوا أننا لا نهتدي إليه ولا نعقله.
قلنا : إن هذه
الطريق إنما تجوز على العدد اليسير بطريق التواطؤ ، فأما على العدد الكثير والجم
الغفير ، فإن ذلك مما لا يتصور خاصة وبعض هؤلاء المخبرين من الشرق ، والبعض من
الغرب.
وأحد ما يدل على
أن الكسب غير معقول ، هو أنه لو كان معقولا ، لوجب كما عقله أهل اللغة وعبروا عنه
، أن يعقله غيرهم من أرباب اللغات وأن يضعوا له عبارة تنبئ عن معناه ، لأنه لا
يجوز في معنى عقلوه أن يخلوه عن لفظة تنبئ عنه ، فلما لم يوجد في شيء من اللغات ما
يفيد هذه الفائدة البتة ، دل على أنه غير معقول.
وهذه طرقة ذكرها
شيخنا أبو هاشم. ولا ينقلب ذلك عليه في الحال ، لأنه لم يثبت الحال معقولة بمجردها
، وإنما جعل الذات على الحال معقولا ، فلا جرم ما من أحد من أرباب اللسان إلا وقد
وضعوا للموصوف اسما ، وللصفة اسما ، وفصلوا بين كل واحد منهما بعبارة.
على أن ما ذكره
شيخنا أبو هاشم لا يمكن معرفته إلا بدليل دقيق ، ولا يمتنع أن يعرفه بعضهم ولا
يعرفه الباقون ، وليس كذلك الكسب ، لأنه لو كان معقولا لعقله العوام والخواص جميعا
، ولوضعوا له عبارة تنبئ عنه لشدة الحاجة إليه.
ثم إنا نقول لهم :
عقّلونا معنى الكسب وخبرونا عنه ، فإن اشتغلوا بالتحديد ، قلنا : الشيء يعقل أولا
ثم يحد ، لأن التحديد ليس إلا تفصيل لفظ مشكل بلفظ واضح ، فكيف توصلتم إلى معناه
بطريق التحديد؟.
ثم يقال لهم : وما
هو الذي حددتم به الكسب؟ فإن قالوا : ما وقع بقدرة محدثة ، قلنا : ما تعنون بقولكم
ما وقع بقدرة محدثة؟ فإن أردتم به ما حدث فهو الذي نقوله ، وإن أردتم به ما وقع
كسبا فعن الكسب سألناكم فكيف تفسرونه بنفسه ، وهل هذا إلا إحالة بالمجهول على
المجهول؟
وأيضا ، فإن قولكم
ما وقع بقدرة محدثة ، ينبني على إثبات القدرة ، وإثبات القدرة يترتب على كون
الواحد منا قادرا ، وذلك ينبني على كونه فاعلا ، ومن مذهبكم أنه لا
فاعل في الشاهد.
وأيضا ، فإن هذا
يقتضي أن يكون للفاعل وقدرته فيه تأثير ، وذلك خلاف ما ذهبتم إليه ، لأن عندكم أن
هذا الفعل يتعلق بالله تعالى ، إن شاء أبصره مع القدرة ، وإن شاء أبصره ولا قدرة.
وأيضا : فلو جاز
أن يقال : هذه الأفعال كسب لنا مع أنها متعلقة بالله تعالى على سائر وجوهها ، لجاز
في القدرة مثله. فيقال : إنها كسب لنا وإن لم تتعلق بنا البتة. فإن قالوا : إن
الكسب ما وقع وكانت القدرة قدرة عليه على ما يقوله بعضهم ، فإن ما ذكرناه في الحد
الأول يعود هاهنا فلا معنى لإعادته.
ونقول أيضا : وعلى
أي وجه تكون القدرة قدرة عليه؟ فإن قالوا على وجه الإحداث ، فقد تركوا مذهبهم
ونقضوا غرضهم ، وإن قالوا على وجه الكسب ، فقد فسروا الكسب بنفسه.
فإن قالوا : الكسب
هو ما وقع باختيار الفاعل ، فإن ما ذكرناه من الوجوه الثلاثة على الحد الأول
والثاني يعود هاهنا ، ويختص هذا الحد وجهان آخران أو أكثر أحدهما ، أن هذا يوجب
فيما يقع من الساهي أن لا يكون كسبا له ، وقد عرف خلافه. والثاني ، أن هذا يقتضي
أن المتولد كسب لنا كالمباشر ، لأنه يقع باختيار الفاعل كما أن المباشر يقع
باختياره ، ألا ترى أن الكتابة والبناء يقعان باختيار الفاعل لهما مع أنهما من
التولدات.
وأيضا ، فإن هذا
يوهم أن الاختيار متعلق بالفاعل ، لأنكم أضفتموه إليه ، وعندكم أن الاختيار
كالمختار في أن لا يتعلق بالفاعل.
وأيضا ، فإن عندكم
أنه لا فاعل في الشاهد ، فكيف حددتم الكسب به؟ ومتى قلتم : إنا نعني به الكسب ،
فقد فسرتم الشيء بنفسه ، وذلك مما لا يخفى فساده.
فإن قالوا : قد
وجدنا تفرقة بين الحركة الاختيارية والحركة الاضطرارية ، وعلمنا تعلق إحداها بنا
دون الثانية ، فجعلنا الكسب عبارة عن هذه التفرقة.
قلنا : كيف يمكنكم
ذلك مع أن كلتي الحركتين موجودتان من جهة الله تعالى؟ ولئن ثبت هذه التفرقة ،
فإنما تثبت على مذهبنا ، إذا جعلنا إحدى الحركتين متعلقة بنا من طريق الحدوث دون
الطريق الأخرى.
وبعد ، فإذا كان
كل واحدة من الحركتين متعلقة بالله تعالى ، فليس إحداهما بأن تجعل كسبا لنا أولى
من الأخرى ، فكان يجب أن يجعل كل واحدة منهما كسبا لنا ، أو يقضي بأن شيئا من ذلك
لا يتعلق بنا لا من جهة الكسب ولا من غيره.
وبعد ، فإن هذه
التفرقة ثابتة في المتولدات ثباتها في المباشر ، فكان يجب أن يجعل المتولدات كسبا
لنا ، والمعلوم خلافه.
وبعد ، فإن دل هذا
على أن إحدى الحركتين متعلقة بنا من جهة الكسب ، ليدلن أيضا على أنها متعلقة بنا
من جهة الحدوث ، وإلا فما الفرق؟
فإن قالوا : إنا
نعني بالكسب وقوع هذه الحركات ، قياما مرة ، وقعودا أخرى ، هذا من أفعال من
الجوارح ، ومن أفعال القلوب ، فوقوع الاعتقاد علما مرة ، وجهلا أخرى.
قلنا : إن الوقوع
إن لم يفسر بالحدوث فلا بد من أن يفسر بالكسب ، فيكون تفسير الشيء بنفسه ، وذلك
مما لا يجوز.
بعد ، فإن القيام
والقعود راجع إلى جملة أفعال ، والكسب فمن حقه أن يرجع به إلى كل جزء من الفعل ،
فكيف يصح ما ذكرتموه؟.
وقد قال مشايخنا رحمهمالله : إن الكسب لو كان معقولا لكان يجب أن نسمي القديم تعالى
مكتسبا ، والمعلوم خلافه.
ووجه هذا الإلزام
وجهان :
أحدهما : أن الله تعالى قادر لذاته ، ومن حق القادر لذاته أن يكون
قادرا على جميع أجناس المقدورات ، وعلى جميع الوجوه التي يصح أن يقدر عليها ، ومن
الوجوه التي يقدر عليها الكسب ، فيجب أن يكون تعالى قادرا عليه ، فإذا قدر عليه
وفعله وجب أن يسمى مكتسبا على ما ذكرناه.
والوجه
الثاني : هو أن هذه
التصرفات عند القوم متعلقة بالله تعالى على سائر صفاتها ووجوهها ، ومن وجوه
الأفعال الكسب ، فيجب تعلقه به من هذا الوجه ، وفي ذلك ما نريده.
فإن قالوا : ليس
يجب أن يكون الله تعالى مكتسبا ، لأن الكسب هو ما يقع بقدرة محدثة.
قلنا : قد تكلمنا
على هذا بما لا فائدة في إعادته فلا معنى للتطويل.
فإن قالوا : إن
المكتسب اسم لمن يفعل بآلة ، والقديم تعالى لم يفعله بآلة فلا يجوز أن أن يسمى
مكتسبا.
قلنا : إن الاسم
الذي يشتق للفاعل من فعله يجب أن يجري عليه سواء فعله بآلة أو لم يفعله ، ألا ترى
أن المتكلم لما كان اسما لفاعل الكلام ، أجري على كل من فعل الكلام ، سواء فعله
بآلة أو بغير آلة ، ولهذا يسمى القديم تعالى متكلما.
وهكذا الكلام في
قولنا فاعل ، فإنه لما كان اسما مشتقا من قولنا فعل ، أجري على كل من فعل فعلا ،
سواء فعله بآلة أو لم يفعله بآلة. فصح بهذه الجملة أن الكسب غير معقول ، ولو ثبت
معقولا لكان لا يصح أن يكون جهة في استحقاق المدح والذم والثواب والعقاب أيضا ،
لأن عندهم أنه يجب عند وجود القدرة عليه ، حتى لا يجوز انفكاك أحدنا عنه بوجه من
الوجوه ، وما هذا سبيله لا يجوز أن يكون جهة ينصرف إليه المدح والذم ، ويستحق عليه
الثواب والعقاب ، لأن هذا كسبيل أمر المرمي به من شاهق بالنزول ، فكما أنه لا
يستحق على النزول المدح ولا الذم ولا الثواب ولا العقاب لما لم يمكنه الانفكاك منه
، كذلك في مسألتنا بل ما ذكرناه أولى ، لأن المرمي من شاهق ربما يتشبث بمكان
ويتعلق به فلا ينزل ، وليس كذلك من جدت فيه القدرة على الكسب ، فإنه لا بد من أن
يكتسب على وجه لا يمكنه الانفكاك عن البتة.
على أن الكسب لو
كان معقولا على الحد الذي قالوه ، لكان لا يمتنع من أن تكون هذه التصرفات متعلقة
بنا من طريق الحدوث على الحد الذي نقوله ، خاصة وما يدل عندهم على أن هذه التصرفات
كسب لنا ، يدل على أنها تتعلق من جهة الحدوث.
ثم إنه رحمهالله عاد بعد هذه الجملة إلى إثبات الكلام في حقيقة الكسب وما
يتعلق به. ونحن قد تكلمنا على ذلك ، وبينا أن الكسب عبارة عن فعل واقع على وجه ،
وهو أن يستجلب به نفعا أو يستدفع به ضررا ، كما أن الخلق عبارة عن خلق واقع مقدر
نوعا من التقدير ، وهو أن يكون مطابقا للصلاح لا يزاد ولا ينقص عنه ، فلا معنى
للإطالة بالإعادة.
شبه القوم :
وللقوم شبه في هذا
الباب ، يرومون بها إثبات الكسب مرة ، وإفساد مذهبنا
أخرى ، ونحن نذكر
من ذلك ما هو أشف وأروج وإلى الجواب أحوج.
فمن ذلك ، قولهم :
إن هاهنا حركة اختيارية واضطرارية ، فلو كانت إحداهما متعلقة بنا من طريق الحدوث ،
لوجب مثله في الأخرى لأن الحدوث ثابت فيهما ، وقد عرف خلافه ، فليس إلا أنها
متعلقة بنا من طريق الكسب.
وربما يؤكدون هذا
فيقولون : إن الحدوث في الذوات متماثل ، فلو تعلق حدوث الحركة بنا ، والحدوث ثابت
في الجوهر واللون ، لوجب تعلقهما بنا ، والمعلوم خلافه.
وجوابنا عن ذلك :
أول ما في هذا أن ذلك لا يستقيم على أصلكم فإن من مذهبكم أن كل واحدة من هاتين
الحركتين موجودتان من جهة الله تعالى وموقوفتان على اختياره حتى إن اختارهما كانتا
، وإن لم يخترهما لم تكونا. فكيف سميتم إحداهما اضطرارية والأخرى اكتسابية
واختيارية؟ وهل هذا إلا تسمية لا معنى تحتها ولا فائدة فيها.
وبعد ، فإن إثبات
حركة اضطرارية ينبني على إثبات محدث في الغائب ، وإثبات المحدث في الغائب يترتب
على إثبات محدث في الشاهد ، لأن الطريق الذي يتوصل به إلى ذلك ليس إلا أن يقاس
الغائب على الشاهد فيقال : إن هذه التصرفات محتاجة إلينا ومتعلقة بنا ، وإنما
احتاجت إلينا لحدوثها ، فكل ما شاركها في الحدوث وجب أن يشاركها في الاحتياج إلى محدث
وفاعل ، فالأجسام قد شاركتها في الحدوث ، فيجب أن تشاركها في الحاجة إلى محدث ،
ومحدثها لا يجوز أن يكون الواحد منا ولا مثله ، فيجب أن يكون لها فاعل مخالف لنا
وهو الله تعالى فأنتم قد سددتم على أنفسكم هذه الطريقة ، فكيف يمكنكم إثبات الحركة
الاضطرارية والاستدلال بها على إثبات الكسب.
ثم إنا نعود إلى
ما يختص بهذا الموضع فنقول : الاشتراك في الحدوث لا يقتضي الاشتراك في الحاجة إلى
محدث معين ، وإنما الذي يقتضيه ، الاشتراك في الحاجة إلى محدث ما غير معين. ثم
الكلام في تعيين المحدث يقف على الدلالة ، فإن قامت دلالة على أن محدث ذلك الفعل
الواحد منا قيل به ، وإن قامت على أن محدثه غيرنا قضي به ، فكيف يصح ما ذكرتموه؟
يبين ذلك ، أن الحال فيها كالحال في الحكم المستند إلى العلة ، فكما لا يجب
بالاشتراك في الحكم الاشتراك في الحاجة إلى تلك العلة بعينها ، وإنما يجب الاحتياج
إلى علة ما غير معينة ، كذلك في مسألتنا.
وأما قولهم : إن
الحدوث في الذوات متماثل ، فكلام لا معنى له ، لأن التماثل
والاختلاف إنما
يصحان على الذوات دون الصفات ، فكيف يصح وصف الحدوث به. على أن ما يتعلق بنا هو
ذات الحركة على وجه الحدوث. وإنما كان يجب ذلك ، لو ثبت في الذوات كلها من الجواهر
والألوان أنها تقف على قصدنا ودواعينا لا الحدوث ، فلا يجب إذا تعلق بنا ذات أن
تتعلق بنا سائر الذوات كالحركة. فأما إذا لم تثبت هذه الطريقة إلا في بعض الذوات
دون بعض فإنه لا يجب أن تتعلق كلها بنا.
ثم يقال لهم : أليس
أن وجه الكسب ثابت في هذه التصرفات على حد واحد ولم يجب في القادر على بعضها أن
يكون قادرا على سائرها ، فهلا جاز مثله في مسألتنا؟
ومما يتعلقون به
في هذا الباب ، قولهم : لو تعلقت هذه التصرفات بنا من جهة الحدوث لوجب تعلقها بنا
على سائر صفاتها التي هي كونها شيئا وعرضا وحسنا وقبيحا ، ومعلوم خلافه.
والجواب عنه ، أن
يقال لهم : أليس أنها تتعلق بنا من جهة الكسب ثم لا يجب تعلقها بنا من هذه الوجوه
التي ذكرتها ، فهلا جاز مثله في مسألتنا؟ ثم يقال لهم : ولم جمعتم بين بعض هذه
الوجوه وبين البعض؟ وما أنكرتم أن الفعل إنما يصح تعلقه بنا من جهة الحدوث لأنه لا
يجب مع الصحة ، وليس كذلك الوجوه التي ذكرتموها ، فإن كونه شيئا يجب عند الصحة ،
وكذلك كونه حسنا وقبيحا. على أن هذه الأمور ليست من الصفات في شيء ، لأن الشيء ليس
له بكونه شيئا حال ، وليس له بكونه عرضا ولا بكونه حسنا أو قبيحا حال ، بخلاف
الحدوث ففسد ما قالوه.
ومما يتعلقون به ،
قولهم : لو قدر الواحد منا على إيجاد هذه التصرفات وإخراجها من العدم إلى الوجود
لوجب قدرته على إعادتها ، بدليل أنه تعالى لما قدر على الإيجاد قدر على الإعادة.
وجوابنا من أين
ثبت لكم أنه تعالى إنما قدر على الإعادة لقدرته على الإيجاد؟ وهل هذا إلا دعوى
مجردة؟ ثم نقول لهم : إن في مقدور القديم تعالى ما لا يصح إعادته أيضا ، وهو
المفعول بسبب والأجناس التي لا تبقى ، كالصوت وغيره.
فإن قالوا : إنا
لا نجوز ذلك ولا نسلمه قلنا : لم نبن كلامنا على تسليمكم حتى يضرنا عدمه ، وإنما
بنيناه على الدلالة.
فإن قالوا : وما
الذي يدل على أن المفعول بسبب وما لا يبقى من الأخبار مما لا يصح إعادتها؟ قلنا :
أما ما لا يبقى : لو صح إعادته لانقلب باقيا ، لأنه إذا صح عليه
الوجود وقتين مع
تخلل العدم بينهما ، فكذلك من غير تخلل العدم بينهما لأن وجوده لا يمنع من وجوده فيصير
باقيا بعد ما كان مما لا يبقى ، وفي ذلك خروج مما هو عليه في ذاته. وأما المفعول
بسبب ، فلو أعيد ابتداء للزم أن يكون له بالحدوث وجهان : فيحصل على أحد الوجهين
بقادر ، وعلى الآخر بقادر آخر. وإذا أعيد بسبب : فإما أن يعاد بذلك السبب ومن حقه
أن يكون له في كل حال سبب غير ما كان ، يجب أن يكون قد تعدى من واحد إلى ما زاد
عليه ولا حاصر ، فيؤدي إلى ما لا نهاية له. وإما أن يعاد بسبب غيره ، وذلك يقتضي
اجتماع سببين على توليد مسبب واحد ، يؤدي إلى مقدور بين قادرين ، وهذا مما لا
يجوز.
ومما يتعلقون به ،
قولهم : قد ثبت أنه تعالى قادر لذاته ومن حق القادر لذاته أن يكون قادرا على سائر
أجناس المقدورات ، ومن جملة المقدورات أفعال العباد ، فيجب أن يكون قادرا عليها ،
في ذلك ما نريده.
الجواب ، قلنا :
لم وجب ذلك ومن أين ثبت؟ فإن قالوا الدليل على ذلك العلم ، فإنه تعالى لما كان
عالما لذاته كان عالما بجميع المعلومات فكذلك في القدرة ، قلنا : هذا جمع بين
أمرين من غير علة تجمعهما فلا يقبل.
ثم يقال لهم : ما
أنكرتم أن العلة في العلم هو أن المعلومات غير مقصورة على بعض العالمين دون بعض ،
فما من معلوم يصح أن يعلمه زيد إلا ويصح أن يعلمه عمرو وغيره من العالمين ، فإذا
كان كذلك فالقديم تعالى إذا صح أن يعلمه وجب أن نعلمه ، لأن صفة الذات متى صحت
وجبت ، وليس كذلك المقدورات ، فإنها مقصورة على بعض القادرين دون بعض ، حتى لا يصح
في مقدور زيد أن يقدر عليه غيره ، ففارق أحدها الآخر. على أن هذا لازم لهم في الكسب
، لأنه تعالى إذا كان قادرا لذاته وجب قدرته على سائر المقدورات ، ومن المقدورات
الكسب ، فيجب أن يكون قادرا عليه ، وذلك يوجب كونه مكتسبا.
فإن قالوا : لا
يجب أن يسمى القديم تعالى مكتسبا ، لأن الكسب اسم لمن يفعل الكسب بآلة ، والقديم
تعالى لم يفعله بآلة.
قلنا : قد ذكرنا
أن الذي يستحقه الفاعل من الاسم يجب أن يجرى عليه ، سواء فعله بآلة أو لم يفعله
بآلة ، فلا يصح ما ذكرتموه. وبعد ، فإن مجرد الكسب مما لا يحتاج إلى آلة ، وأكثر
ما فيه أنه لا يوجد إلا في محل القدرة وليس إذا لم يوجد إلا في
محل القدرة مما
يجب أن يكون واقعا بآلة ، لو لا ذلك وإلا كان يجب أن تكون الحياة آلة في العلم ،
فإنه لا يصح وجود العلم إلا في محل فيه حياة ، ولكان يجب في الجسم أن يكون آلة
للأكوان ، فإنها لا يصح وجودها إلا في محل ، وهذا يوجب على مرتكبه القول بأنه
تعالى فاعل بآلة ، وقد عرف فساده.
ومما يتعلقون به ،
قولهم : قد ثبت أن الله تعالى قادر على أن يقدرنا على هذه التصرفات ، فيجب أن يكون
عليها أقدر ، كما أنه لما كان قادرا على أن يعلمنا هذه الأمور ، كان بها أعلم.
الجواب ، قلنا :
بأية علة جمعتم بينهما؟ فلا يجدون إلى ذلك سبيلا.
ثم يقال لهم : ليس
إذا قدر القادر على مقدور أن يكون قادرا على غيره من المقدورات ، وليس في قدرته
تعالى على إقدارنا على هذه التصرفات سوى كونه قادرا على خلق القدرة فينا ، فمن أين
يجب إذا قدر على القدرة أن يكون قادرا على تصرفاتنا؟ هذا مما لا يجب.
فأما ما ذكروه في
العلم ، فإنما وجب أن يكون تعالى أعلم بسائر المعلومات منا لأنه عالم لذاته ،
والمعلومات غير مقصورة على بعض العالمين دون بعض ، فيجب في العالم للذات أن يعلمها
على الوجوه التي يصح أن تعلم عليها وإلا قدح في كونه عالما لذاته ، وليس كذلك في
القدرة ، لما قد ذكرنا أن المقدورات مقصورة على بعض القادرين دون بعض. على أن هذا
لازم لهم في الكسب ، فيقال : أليس أنه تعالى يقدر على إقدارنا على الكسب وإن لم
يقدر على الاكتساب ، فهلا جاز مثله في الحدوث؟ ومتى قالوا إنه تعالى قادر على
الاكتساب ، غير أنه لا يوصف به لأن هذا الوصف إنما يجري على من اكتسبه بآلة ، قلنا
: قد فرغنا من الكلام على هذا ، فلا معنى للتطويل.
ثم يقال لهم : أليس
أنه تعالى قادر على أن يخلق في الكافر إرادة الإيمان ولم يقدر على أن يريد منه
الإيمان؟ هلا جاز مثله في مسألتنا؟ وهذا الكلام للنجارية والأشعرية جميعا ، لأن
عند أحد الفريقين ـ وهم النجارية ـ أنه تعالى مريد لذاته ولا يقدر أن يريد تعالى
من الكافر خلاف ما أراده في الأزل لاستحالة خروجه عن صفته الذاتية ، وعند الفرقة
الثانية وهم الأشعرية ، أنه تعالى مريد بإرادة قديمة ولا يقدر على أن يريد من
الكافر خلاف ما أراده منه فيما لم يزل.
ومما يتعلقون به
أيضا ، قولهم : لو كان الواحد منا محدثا لتصرفاته لوجب أن
يكون عالما
بتفاصيل ما أحدثه ، كالقديم تعالى ، فإنه لما كان محدثا لأفعاله قادرا عليها كان
عالما بتفاصيلها.
قلنا : فرق بين
الوضعين ، لأنه تعالى عالم لذاته ، ومن حق العالم لذاته أن يكون عالما بجميع المعلومات
على الوجوه التي يصح أن تعلم عليها ، وليس كذلك الواحد منا فإنه عالم بعلم ، ففارق
أحدهما الآخر.
ثم يقال لهم : أليس
أن أحدنا يقدر على الاكتساب ولا يجب أن يكون عالما بتفاصيل ما اكتسبه ، فهلا جاز
مثله في الحدوث ، فيكون قادرا على الإحداث ، وإن لم يعلم بتفاصيل ما أحدثه.
وبعد ، فلو خلق
الله تعالى فينا العلم بتفاصيل ما أحدثه لوجب كون أحدنا محدثا له وخلق هذا العالم
لا يستحيل ، فوجب أن لا يستحيل كونه محدثا.
ومما يتعلقون به ،
قولهم : لو كان الواحد منا محدثا لتصرفاته لوجب صحة أن يحصل في الثاني مثل ما
أحدثه في الأول ، ومعلوم خلافه : فإن من كتب حرفا مرة لا يمكنه أن يكتب مثل ذلك
الحرف مرة أخرى.
والجواب ، قلنا :
ولم وجب ذلك؟ فإن قالوا : الذي يدل عليه القديم تعالى ، فإنه لما كان محدثا صح منه
أن يحدث في الثاني مثل ما أحدثه في الأول ، قلنا : ولم جمعتهم بيننا وبين القديم؟
فلا يجدون إليه سبيلا.
ثم نقول لهم : إن
في أفعالنا ما تتأتى فيه هذه الطريقة ، ألا ترى أن أحدنا إذا قال مرة باء ، يمكنه
أن يقول مثله مرات. وأظهر من هذا الإرادة ، فإنه إذا أراد قدوم زيد مرة يمكنه أن
يريد قدومه ثانيا وثالثا ، والإرادتان مثلان لتعلقهما بمتعلق واحد على أخص ما
يمكنه ، ففسد ما ظنوه.
وبعد ، فإن أحدنا
إذا كان حاذقا بالكتابة عالما بالخط ماهرا فيه ، فإنه يمكنه أن يكتب ثانيا مثل ما
كتب أولا بحيث لا يقع الفصل بينهما عند الإدراك ، فيجب أن يكون محدثا لها.
ثم يقال لهم : إن
دل هذا على شيء فإنما يدل على فقد العلم أو على عدم الآلة لا على فقد القدرة على
الأحداث ، فكيف يصح ما قالوه؟ وقد قال مشايخنا البغداديون : إنه إنما لا يمكنه
الخط في الثاني مثل ما كتبه أولا لعدم الآلة ، لأن القلم
كان في الأول
جديدا وفي الثاني كلا.
على أن هذا لازم
لهم في الكسب ، فيقال : كان يجب إن قدر أحدنا على الاكتساب ، أن يقدر في الثاني
على اكتساب مثل ما اكتسبه أولا ، فإذا لم يجب ذلك هاهنا كذلك في مسألتنا.
ومما يتعلقون به
أيضا ، قولهم : إن الواحد منا لو كان محدثا لتصرفاته لوجب أن يسمى خالقا لها
والأمة قد اتفقت على أن لا خالق إلا الله ، وقد نطق به الكتاب أيضا. قال الله
تعالى : (هَلْ مِنْ خالِقٍ
غَيْرُ اللهِ) [فاطر : ٣] وقال :
(أَمْ جَعَلُوا
لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ) [الرعد : ١٦]
الآية.
والأصل في الجواب
عن ذلك ، أنا لو خلينا وقضية اللغة ، لأجرينا هذا اللفظ على الواحد منا كما نجريه
على الله تعالى لأن الخلق ليس بأكثر من التقدير ، ولهذا يقال ، خلقت الأديم هل لحي
منه مطهرة أم لا؟ وقال زهير :
ولأنت تفري ما
خلقت
|
|
وبعض القوم يخلق
ثم لا يفري
|
وقيل للحجاج : إنك
إذا وعدت وفيت ، وإذا خلقت فريت ، أي إذا قدرت قطعت.
وأظهر من هذا كله
قوله تعالى : (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ
الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً
بِإِذْنِي) [المائدة : ١١٠]
وقوله تعالى : (فَتَبارَكَ اللهُ
أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : ١٤] ،
فلو لا أن هذا الاسم مما يجوز إجراؤه على غيره وإلا لتنزل ذلك منزلة قوله : فتبارك
الله أحسن الآلهة ، ومعلوم خلافه.
في الاصطلاح :
وأما في الاصطلاح
فإنما لم يجز أن نجري هذا اللفظ على الواحد منا ، لأنه عبارة عمن يكون فعله مطابقا
للمصلحة وليس كذلك أفعالنا ، فإن فيها ما يوافق المصلحة وفيها ما يخالفها ، فلهذا
لم يجز إجراء هذه اللفظة على الواحد منا لا لشيء آخر. وأما قوله تعالى : (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) فليس فيه ما ظنوه لأن فائدة الكلام معقودة بآخره ، وقد قال
تعالى : (هَلْ مِنْ خالِقٍ
غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ) [فاطر : ٣] ، ونحن
لا نثبت خالقا غير الله يرزق ، وقوله تعالى : (أَمْ جَعَلُوا
لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ) الآية. فإنها مما لا يصح التعلق بظاهرها لأنها نفي التساوي
، وما هذا سبيله من الآيات فهي مجملة
لا يصح التعلق
بظاهرها ، إذ لا شيئين إلا وهما متساويان في بعض الوجوه.
وبهذه الطريقة منع
قاضي القضاة الشافعية من التعلق بظاهر قوله : (لا يَسْتَوِي
أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ) [الحشر : ٢٠] على
أن الزّمن لا يقتل بالكفار. قال : لأن الآية واردة في نفس التساوي بينهما.
لا ندري ما المراد
بذلك ، ولأي وجه نفي ذلك؟ ولعله أراد عدم التساوي من جهة الفوز ، وعلى هذا قال : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) [الحشر : ٢٠] ،
كذلك في هذا الموضع.
ثم نقول : إن
المراد أن خلق أحدنا لا يشبه خلق الله تعالى ، فإن خلقه جلّ وعزّ يشتمل على
الأجسام والأعراض ، وليس كذلك خلقنا فإنا لا نقدر إلا على هذه التصرفات التي هي
القيام والقعود وما جرى مجراهما.
والقوم يتمسكون
بآيات من القرآن ويستدلون بها على أن أفعال العباد موجودة من جهة الله تعالى.
والجواب عنها من
طريق الجملة أن نقول : لا يمنكم الاستدلال بالسمع على هذه المسألة ، لأن صحة السمع
تنبني على كونه تعالى عدلا حكيما لا يظهر المعجز على الكذابين ، وأنتم قد جوزتم
ذلك على الله تعالى فكيف تقع لكم الثقة بكلامه؟ وهلا جوزتم أن يكون كذبا؟
وأيضا ، فإن إثبات
المحدث في الغائب ينبني على إثبات المحدث في الشاهد والقوم قد منعوا من ذلك ، فكيف
يمكنهم الاستدلال بكلام من لم يعلموه بعد؟
فهذه طريقة القوم
والجواب عن ذلك على وجه الجملة. ثم إنا نذكرها آية فآية ، ونتكلم عليها.
(أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ* وَاللهُ خَلَقَكُمْ
وَما تَعْمَلُونَ)
فمن جملة ما
يتمسكون به قوله تعالى : (قالَ أَتَعْبُدُونَ
ما تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦)) [الصافات : ٩٥ ،
٩٦].
والجواب عن ذلك ،
أنا لو استدللنا بهذه الآية على مذهبنا لكنا أسعد حالا منكم ، لأن القديم تعالى
أضاف إليهم العبادة والنحت ، فقال : أتعبدون ما تنحتون؟
وذمهم على ذلك ،
فلو لا أنها متعلقة بهم وإلا لما حسن إضافته إليهم وذمهم على ذلك.
وبعد ، فالأصل في
كلام الحكيم أن لا يحمل إلا على وجه لو أظهره لكان لائقا بالحكمة ، ومعلوم أنه لو
قال : أتعبدون ما تنحتون وأنا الذي خلقت فيكم عبادته ونحته لكان لا يليق هذا
الكلام بحكمته ، فلا يجوز حمل هذا على ظاهره ، ويجب أن يحمل على وجه يوافق الأدلة
العقلية ، فيقال : إن المراد بقوله : (وَما تَعْمَلُونَ) ، أي وما تعملون فيه ، وذلك كثير جاء في اللغة وفي كتاب
الله تعالى ، قال الله عزوجل : (يَعْمَلُونَ لَهُ ما
يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ) [سبأ : ١٣] فإنه
لا تتعلق بهم المحاريب لكونها أجساما ، والمراد به العمل في المحاريب. وكذلك قوله
تعالى : (فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ
ما يَأْفِكُونَ) [الأعراف : ١١٧]
الآية يعني العصا ، أي ما يأفكون فيه ، كذلك في مسألتنا.
(اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) :
ومما يتعلقون به ،
قوله تعالى : (اللهُ خالِقُ كُلِّ
شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢)) [الزمر : ٦٢] ،
قالوا : وهذا نص صريح في موضع التنازع والخلاف.
وجوابنا ، أن هذا
الظاهر متروك بالاتفاق ، لأنه تعالى من الأشياء ولم يخلق نفسه فلا يمكن التعلق
بظاهر هذه الآية. وعلى أن هذه الآية وردت مورد التمدح ، ولا مدح بأن يكون الله
تعالى خالقا لأفعال العباد وفيها الكفر والإلحاد والظلم ، فلا يحسن التعلق بظاهره.
فإذا عدلتم عن الظاهر فأخذتم بالتأويل ، فلستم بالتأويل أولى منا ، فنتأوله على
وجه يوافق الدليل العقلي ، فنقول : إن المراد به ، الله خالق كل شيء ، أي معظم
الأشياء ، والكل يذكر ويراد ما ذكرنا ، قال الله تعالى في قصة بلقيس (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) [النمل : ٢٣] مع
أنها لم تؤت كثيرا من الأشياء.
إن ربكم الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما :
ومما يتعلقون به ،
قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكُمُ
اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [الأعراف : ٥٤]
قالوا : وأعمال العباد فيما بين السموات والأرض فيجب أن تكون من خلق الله تعالى.
والجواب : أن
البين يستعمل حقيقة في الفصل والوصل ، وأي ذلك كان فغير متصور في أفعل العباد. على
أن الأمر لو كان على ما ظنوه لوجب أن تكون هذه الأفعال كلها مخلوقة في العباد في
ستة أيام ، وقد عرف خلافه.
ثم يقال لهم :
الآية وردت مورد التمدح ، ولا مدح في أن يكون الله تعالى خالقا لأفعال العباد مع
اشتمالها على القبيح والحسن. يبين ذلك أن إذا كان ينفي عن خلقه اللعب بقوله : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ
وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (١٦)) [الأنبياء : ١٦]
فلأن ينفى عنه أفعال العباد وما فيها من فضيحة وشنيعة أولى.
وبعد ، فإن الخلق
في التعارف إنما يجري على فعل وقع مطابقا للمصلحة ، ومعلوم أن أفعال العباد ليست
كذلك فكيف تجعل مخلوقة.
(إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) :
وربما يتعلقون
بقوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ
فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) [هود : ١٠٧] قالوا
: ففي أفعال العباد ما يريده الله تعالى ، فيجب أن يكون فاعلا لها.
وجوابنا ، أن هذا
كلام يقتضي كونه فاعلا لما يريده في الحال الذي يريده ، وهذا يوجب عليكم قدم العالم
، لاعتقادكم أنه تعالى مريد لذاته أو بإرادة قديمة. ومتى قلتم إنه تعالى إنما أراد
فيما لم يزل أن يخلق العالم قلنا : ذلك نفي ، والإرادة لا تتعلق بالنفي على ما
نبينه من بعد. وإن قلتم : إنه تعالى أراد فيما لم يزل أن يخلق العالم فيما لا يزال
فلا يلزم قدم العالم قيل لكم : ولم لم يرد خلقه في الحال وهو مريد لذاته ، والمراد
من فعله ، فيلزمهم قدم العالم على كل حال. ثم إننا نتأول الآية على وجه يوافق
الدلالة العقلية ، فنقول : المراد به أنه فاعل لما يريد من فعل نفسه ، ولا يجوز
غير هذا ، لأن الآية وردت مورد الامتداح ، لا مدح في أن يكون فاعلا لأفعال العبد
وفيها القبائح والمناكير ، فهذه جملة الكلام في ذلك.
(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي
كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) :
ومما يتعلقون به
قوله تعالى : (ما أَصابَ مِنْ
مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ
أَنْ نَبْرَأَها) [الحديد : ٢٢].
قالوا ففي هذه الآية دلالة على أن جميع المصائب من جهة الله تعالى على ما نقوله ،
وجوابنا أن الكتابة في قوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ
نَبْرَأَها) راجعة إلى الأنفس لا إلى المصائب لأنها أقرب المذكورين ،
والكتابة إنما ترجع إلى أقرب مذكور. فبين تعالى أنه قبل خلق الأنفس كان عالما بما
يصير أمرهم إليه وتصيبهم من المصائب مكتوبا في اللوح المحفوظ ، فلا تعلق لكم بها ،
وبعد فلو
رجعت الكتاب إلى
المصائب لكان لا بد من أن يكون المراد به ما يصيبنا من الآلام والانتقام من جهة
الله تعالى ، فقد تمدح بالآية ولا تمدح بالقبائح في موضع من المواضع.
ومما يتعلقون به ،
قوله تعالى : (وَاخْتِلافُ
أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ) [الروم : ٢٢] ،
ولا تعلق لهم أيضا به ، فإن المراد بذلك الآلات ومجاري الكلام ومجاري هذه الحروف ،
لا الحروف والأصوات. يزيده وضوحا أنه تعالى تمدح بذلك ، وليس في كون هذه الحروف
فعلا له ما يدل على المدح إن لم يدل على الجهل والحاجة.
ومما يتعلقون به ،
قوله جلّ وعزّ : (وَأَسِرُّوا
قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٣) أَلا
يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٤)) [الملك : ١٣ ، ١٤].
والجواب أن المراد به أنه الخالق للصدور ، بدليل أن الآية وردت مورد التوبيخ والذم
ولا ذم على سر أو جهر لم يتعلق بنا.
يبين ذلك أن هذا
الكلام إذا لم يحمل على ما قلناه يجري مجرى أن يقول : وأسروا قولكم أو اجهروا به
فإني عليم بما أنا فاعله ، وهذا لا يستقيم.
ومما يتعلقون به ،
قوله : (رَبَّنا وَاجْعَلْنا
مُسْلِمَيْنِ لَكَ) [البقرة : ١٢٨]
قالوا : وفي ذلك ما يدل على أن الإسلام من قبله تعالى ، وكل من قال بأن الإسلام من
قبل الله تعالى قال بذلك في جميع الأفعال. وجوابنا أنا لا نسلم أن الإسلام من قبل
الله تعالى ، وكيف يكون من قبله وقد مدح عليه وذم على خلافه ، ورغب في الثواب
بفعله والعقاب بتركه؟ وأيضا فإنه موقوف على أحوالنا ، ألا ترى أنه يقع بحسب قصدنا
ودواعينا وينتفي بحسب كراهتنا وصوارفنا فكيف يكون من جهته؟ فإذا لا بد من أن يؤول
ذلك ويقال : إن المراد به ، اللهم الطف لنا ووفق حتى نستسلم لك ونؤمن بك.
ومما يتعلقون به ،
قوله تعالى : (وَجَعَلْنا فِي
قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً) [الحديد : ٢٧] بين
تعالى أن الرأفة من قبله. وجوابنا أنه نهى في بعض المواضع عن الرأفة فقال : (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي
دِينِ اللهِ) [النور : ٢] ولو
كان من قبله لم يجز النهي عنه فيجب أن يؤول الجعل هاهنا فيقال : إن المراد الحكم
هاهنا والألطاف فلا يبقى لهم متمسك.
ومما يتعلقون به
قوله ، عزوجل : (وَأَنَّهُ هُوَ
أَضْحَكَ وَأَبْكى (٤٣)) [النجم : ٤٣] ،
قالوا : بين أن الضحك والبكاء من جهته جلّ وعزّ ، ومن قال بذلك لم يفصل بينه وبين
غيره من الأفعال.
وجوابنا أن الضحك تفتح في العينين وتقلص في الشفتين مع سرور يلحق القلب ، وذلك
قسمان : قسم لا يمكن الانفكاك منه وذلك من جهته عزوجل ، وقسم يمكننا الانفكاك منه وذلك من جهتنا وموقوف على
اختيارنا.
فأما البكار فهو
نزول العبرة عند لوعة تحدث في القلب وحزن ، وذلك أبدا يكون موقوف على اختيار
الباري ، ولهذا فإن أحدنا يجتهد كل الجهد لينزل العبرة فلا تجيبه ، ربما يغلب عليه
فلا يمكنه المنع منه. وإذا كان هذا هكذا فقد أجبنا القوم على ما أرادوه ، ولكن لم
يلزم مثله في سائر الأفعال ، لأن الطريقة فيها مختلفة. يبين ذلك ويوضحه ، أن
العلماء وإن اختلفوا في الأمر هل يقتضي أم لا يقتضيه؟ لم يختلفوا في أن الخبر لا
يقتضي التكرار ، فنحن إذا جوزنا أن يضحكنا ويبكينا مرة ، لم يلزمنا تجويزه على
طريق الدوام والتأبيد ، فعلى هذه الجملة يجب أخذ الكلام في هذه الآيات التي
يتعلقون بها.
والأصل فيها أجمع
، ما قدمناه من منعهم من الاستدلال بالسمع أصلا وخاصة في هذه المسألة.
الاختلاف في المتولدات من علقها بالطبع والرد عليه :
وأما المتولدات
ففيها نوع آخر من الاختلاف غير ما قدمناه.
ففي الناس من
علقها بالطبع على ما قاله أبو عثمان الجاحظ في أفعال الجوارح والمعرفة ، ولم يجعل
الواقع عند الاختيار سوى الإرادة دون الحركات وما شاكلها.
وفيهم من قال : إن
هذه الحوادث التي تحدث في الجمادات فإنها تحصل فيها بطبع المحل ، وهو النّظام ،
وإليه ذهب معمر.
فأما ثمامة بن
الأشرس ، فإنه جعل هذه الحوادث ما عدا الإرادة حدثا لا محدث له.
ولعل شبهة الجميع
واحدة ، فإنهم لما رأوا أن ما يتعلق بالفاعل أو يضاف إليه فلا بد أن يكون للاختيار
فيه مدخل ، ورأوا وجوب وقوع المراد عند حدوث الإرادة ، ووجوب وقوع المسبب عند حصول
سببه ، فأخرجوه عن التعلق بالفاعل أصلا. ثم افترقوا : فمنهم من علقه بالطباع ،
ومنهم من جعله حدثا لا محدث له. ولو أنهم أنعموا النظر لعلموا أن المتولدات مما
للاختيار فيه مدخل ، فيقع مرة بأن يختار الفاعل ما هو
كالواسطة فيه ،
ولا يقع أخرى بأن لا يختار الفاعل ما هو كالواسطة فيه.
يزيد ذلك توضيحا ،
أن السبب لا يمتنع حصوله ثم لا يحصل المسبب ، بأن يعرض عارض فيمنعه من التوليد ،
ومتى وجب حصوله عند حصول السبب وزوال الموانع فإن حاله كحال المبتدأ عند تكامل
الدواعي ، فإنه يحصل لا محالة ، فمن أين الفرق بينهما؟.
وبعد ، فإن
المتولد إذا كان مما يثبت لأحوالنا فيه تأثير حتى يقف على قصدنا ودواعينا ويثبت
فيه المدح والذم كما في المبتدأ سواء فما وجه الفرق؟ وكيف يعلق المراد بالطبع
والإرادة باختيار الفاعل مع أن الحالة فيهما على سواء. فإما أن يعلقا جميعا بالطبع
، أو يضافا إلى الفاعل. فأما أن يجعل أحدهما واقعا بالطبع ، والآخر باختيار الفاعل
فلا.
وبعد ففي تعليق
هذه الحوادث بالطبع تعليق لها بما لا يعقل على ما أبطلنا به قول أصحاب الطبائع ،
وإن كانوا عند التحقيق أدخل في العذر من هؤلاء ، لأنهم حين نفوا الصانع لم يكن لهم
بد من أن يعلقوا ذلك بأمر موجب ، فأما هؤلاء فقد أثبتوا الفاعل المختار ، فما
عذرهم في تعليق هذه الأمور بالطبع.
على أن هذا يوجب
عليهم أن لا تقع لهم الثقة بالنبوات لتجويزهم حصول المعجزات بطبع الحل ، ويوجب
عليهم القول : بأن هذه الأعراض التي هي أصول النعم من الحياة والقدرة الشهوة كلها
حاصلة بطبع المحل ، وفي ذلك إخراج القديم تعالى عن أن يكون مستحقا للعبادة ، بل
يلزمهم إضافة هذه القبائح التي تشتمل عليها المتولدات إلى الله ، تعالى عن ذلك
علوا كبيرا.
من جعل المتولدات حدثا لا محدث له :
وأما من جعل هذه
الحوادث حدثا لا محدث له فقد أبعد ، فيلزمه القول بذلك في جميع الحوادث ، لأنه لا
فرق بين بعضها والبعض في الاحتياج إلى محدث وفاعل ، ولئن راعى الجواز واعتبره ،
فإن ذلك ثابت في المتولدات ثباته في المبتدأ ، لما قد بينا أنه لا يمتنع حصل السبب
ولا يولد ، بأن يعرض له عارض فيمنعه من التوليد ، فإن المسبب يقع مع الجواز
كالمبتدإ سواء ، ولئن جاز إخراج المسبب عن التعلق بالفاعل لوجوب حصوله عند وجود
السبب وزوال الموانع لوجب إخراج المبتدأ أيضا عن تعلقه بالفاعل لوجوب وقوعه عند
توفر الدواعي وتكاملها ، وإلا فما الفرق؟ وبهذه الطريقة
نجيب عن قوله إذا
قال : كما لا يجوز أن نعلق معلول العلة بالفاعل لوجوبه عند وجود العلة ، كذلك في
مسألتنا ، فإنا قد ذكرنا أن وجود المسبب لا يجب عند حصول السبب ، فإنه لا يمتنع أن
يعرض عارض فيمنعه من التوليد ، وليس كذلك معلول العلة فإنه يجب عند وجود العلة ،
حتى يستحيل مع وجودها أن لا يثبت ، ففارق أحدهما الآخر.
يبين ذلك ، أن ذات
المسبب ذات منفصلة عن السبب ، حادثة كهو. فكما أن السبب يضاف إلى الفاعل فكذلك
المسبب ، فيجب أن تستوي الحوادث في كونها مضافة إلى الفاعل ، وإن كانت تختلف كيفية
الإضافة ، ففيها ما يتعلق به بلا واسطة كالمبتدإ ، وفيها ما لا يتعلق به إلا
بواسطة وهو المتولد. فهذا تمام الكلام في المتولدات ، وهذا آخر الفصل.
فصل في الاستطاعة :
وهو الكلام في أن
القدرة متقدمة لمقدورها غير مقارنة له.
ووجه اتصاله بباب
العدل ، أنه يلزم على القول بمقارنتها للمقدور تكليف ما لا يطاق ، وذلك قبيح ، ومن
العدل أن لا يفعل القبيح.
المقدورات نوعان :
١. مبتدأ كالإرادة
٢. متولد كالصوت :
فإذا عرفت هذا ،
فاعلم أن المقدورات على ضربين : مبتدأ كالإرادة ، ومتولد كالصوت.
فالمبتدأ يجب أن
تكون القدرة متقدمة عليه بوقت ، ثم في الثاني يصح منه فعله.
والمتولد على
ضربين :
أحدهما : يتراخى عن سببه كالإصابة مع الرمي.
الثاني : لا يتراخى كالمجاورة مع التأليف.
أما ما لا يتراخى
عن سببه فإن حاله كحال المبتدأ ، والمتراخي عن سببه فإنه لا يمنع أن تتقدمه القدرة
بأوقات ، وإن كان لا يجب أن يتقدم سببه إلا بوقت.
إذا ثبت هذا ،
فالكلام في أن القدرة يجب تقدمها على مقدورها أو لا يجب ، وذلك يترتب على إثباتها
أولا ، لأن الكلام في حكم الشيء يتفرع على إثباته.
طرق إثبات القدرة :
فالطريق إلى إثبات
القدرة طرق :
أحدها : ما قدمناه في إثبات الأعراض. وتحريره في هذا الموضع أن
نقول : إن الواحد منا حصل قادرا مع جواز أن لا يحصل قادرا والحال واحدة والشرط
واحد ، فلا بد من أمر وخصص له ، ولمكانه حصل على هذه الصفة ، وإلا لم يكن بأن يحصل
عليها أولى من خلافه ، وليس ذلك إلا وجود معنى هو القدرة.
والثاني : هو أن نقول : إن هاهنا عضوين ، يصح الفعل بأحدها ابتداء
، ولا يصح بالآخر ، فلو لا أن لأحدهما مزية على الآخر بأمر من الأمور ، وإلا لم
يكن هو بصحة الفعل به أولى من صاحبه ، وليس ذلك الأمر إلا القدرة.
والثالث : هو أن نقول : إن هاهنا قادرين ، يصح من أحدهما الفعل
أكثر مما يصح من الآخر مع استوائهما في كونه قادرين ، فلو لا أنه مختص بأمر زائد
على ما يختص به الآخر ، وإلا لم يكن هو بهذه المزية أولى من صاحبه ، وليس ذلك
الأمر إلا زيادة القدرة على ما نقوله.
مخالفة البغداديين :
وقد خالفنا بذلك
مشايخنا البغداديون ، وقالوا : إنما يصح من القادر الفعل لمكان الصحة لا لما
ظننتموه.
وقد بينا الكلام
عليهم في باب الصفات ، وذكرنا أن الصحة إما أن يراد به التأليف من جهة الالتئام ،
أو اعتدال المزاج ، أو زوال الأمراض والأسقام ، وشيء من ذلك مما لا يؤثر في وقوع
الفعل ولا في صحته لأن الفعل إنما يصدر عن الجملة ، فالمؤثر فيه لا بد من أن يكون
راجعا إلى الجملة ، وهذه الأمور كلها راجعة إلى المحل.
وأيضا ، فإن
اعتدال المزاج يرجع إلى أمور متضادة ، فكيف تؤثر في حكم واحد؟ وأما زوال الأسقام
فإنه نفي ، فكيف يعلق به هذا الحكم؟ وبعد فقد يقع في زوال الأسقام الاشتراك ، فكان
يوجب الاشتراك فيه الاشتراك في القدرة على ذلك المقدور ، فليس إلا أن يقال إن صحة
الفعل وقوعه إنما هو لكونه قادرا ، وكونه قادرا لا يصح إلا بالقدرة ، فثبتت القدرة
بهذه الطريقة.
شبهة البغداديين :
وشبهة البغداديين
في ذلك ، هو أن أحدنا إذا كان صحيح البدن يصح منه الفعل ، ومتى لم يكن صحيح البدن
لم يصح ، فيجب أن تكون صحة الفعل مستندة إلى الفعل.
إنما وجب ما ذكروه
في الواحد منا لأنه قادر بقدرة ، والقدرة محتاجة في وجودها إلى محل مبني بنية
مخصوصة ، وهذه البنية إنما ثبتت عند ثبات الصحة دون زوالها فلا يجب لهذه العلة أن
تستند صحة الفعل إليها. لو لا ذلك وإلا كان يجب إسنادها إلى كونه حيا ، فإنه ما لم
يكن حيا لم يصح منه الفعل ، لأن كونه قادرا يترتب عليه ، فكما أن هذا لا يجب كذلك
في مثلنا.
اختلاف في الأسماء الدالة على القدرة والمعنى واحد :
واعلم أن الأسماء
تختلف عليها ، فتسمى قوة واستطاعة وطاقة ، وإن كانت الطاقة إنا تستعمل فيما يوصل
إليها ، ولهذا لا يقال إنه تعالى مطيق لاستحالة المشقة عليه.
علامة اتفاق هذه
الألفاظ في المعنى ، أنك لو أثبت ببعضها ونفيت بالبعض لتناقض الكلام.
للقادر حالتان : حالة يصح منها الفعل وأخرى لا يصح :
ثم إن القادر له
حالتان : حالة يصح منه إيجاد ما قدر عليه ، وحالة لا يصح ذلك ، والأسماء تختلف
عليه بحسب اختلاف هاتين الحالتين ، ففي الحالة الأولى يسمى مطلقا مخلّى ، وفي
الثانية يسمى ممنوعا.
ثم إن الممنوع لا
يكون ممنوعا إلا بمنع ، والمنع هو ما يتعذر على القادر لمكانة الفعل على وجه لولاه
لما تعذر وحالته تلك ، ثم إنه لا يخلو ، إما أن يكون بطريقة القيد والحبس ، وذلك
كأن يحبس أحدنا ويقيد فلا يتأتى منه المشي ، وإما أن يكون
بالضد أو ما يجري
مجراه. إما يكون بطريقة القيد ، فيجوز أن يحاول أحدنا تحريك جسم وغيره يحاول
تسكينه ، فيحدث فيه من التسكينات ما يزيد على ما في مقدوره من الحركات ، فإنه يكون
والحال هذه ممنوعا من تحريكه بطريقة القيد ، وأما المنع بما يجري مجرى الضد ، فهو
كأن يمتنع على الكاتب الكتابة لفقد الآلة من القلم والقرطاس ، فعند هذه الأمور يكون
القادر ممنوعا ، وعند ارتفاعها يكون مطلقا ومخلّى.
حقيقة الجواز والصحة والتوهم :
ثم إنه رحمهالله ، أخذ يتكلم في حقيقة الجواز والصحة والتوهم ، لما رأى أن
المجبرة يتعلقون بهذه الألفاظ ، دفعا لإلزامنا إياهم أن يكون حال الكافر أسوأ من
حال العاجز ، فيقولون : إن الكافر يصح منه الإيمان أو يجوز أو يتوهم وليس كذلك
العاجز ، فبين معاني هذه الألفاظ ، ليعلم أنه لا فرج لهم فيها.
معنى الجوز :
وجملة القول في
ذلك ، أن الجواز في الأصل إنما هو الشك ، يقال : فلان مجوز أي شاك.
الشك ، الصحة الإمكان ، الوقوع موقع الصحيح ، الإباحة :
ثم يستعمل بمعنى
الصحة ، فيقال : يجوز منه الفعل ، أي يصح ، ويستعمل بمعنى الإمكان نحو قولنا :
المحل يجوز أن يبيض ويجوز أن يسود ، أي يمكن ، وربما يستعمل ويراد به أنه وقع موقع
الصحة ، نحو ما يقوله الفقهاء : يجوز التوضؤ بالماء المغصوب وتجوز الصلاة في الدار
المغصوبة ، أي لا يلزم فيها الإعادة بل وقع موقع الصحيح ، وربما يراد به الإباحة ،
كما يقال : يجوز للمضطر أن يتناول الميتة ، أي يباح له ذلك.
فهذه هي الوجوه
التي يستعمل فيها الجواز ، وحقيقته ما ذكرناه أولا.
ثم ليس يجب إذا
استعمل بمعنى الصحة في موضع أن يستعمل في سائر المواضع حتى يصح أن يقال : يجوز من
الله تعالى الظلم على معنى أنه يصح ، لأن المجازات مما لا يقاس عليها ، ولهذا لا
يقاس غير العربة من الدابة والحصيرة عليها في جواز السؤال.
وبعد ، فإن الأصل
أن كل لفظ يحتمل معنيين : يصح أحدهما على الله تعالى ولا
يصح الآخر عليه ،
فإنه لا يجوز لنا أن نجريه على الله تعالى ، وإن جاز له تعالى أن يجريه على نفسه ،
لأنه قد ثبتت حكمته.
معنى الصحة : نفي الاستحالة ، انتظار الوقوع :
وأما الصحة : فقد
تذكر ويراد بها نفي الاستحالة ، نحو ما يقال : يصح من القادر الفعل ، أي لا يستحيل
، وقد تذكر ويراد بها أنه مما ينتظر وقوعه ، كما يقال إنه كان يصح من الله تعالى
خلق العالم فيما لم يزل ، أي ينتظر وقوعه منه عزوجل.
معنى التوهم : الظن المخصوص ، (وهو غير الاعتقاد):
وأما التوهم :
فالمرجع به إلى ظن مخصوص. والظن ، فهو المعنى الذي إذا وجد في أحدنا أوجب كونه
ظانا ، والواحد منا يفصل بين كونه ظانا وبين غيره من الصفات ، نحو كونه مريدا أو
كارها أو ما يجري مجراهما.
اختلاف الشيخين أبي علي وأبي هاشم :
وقد اختلف الشيخان
في ذلك ، فعند شيخنا أبي علي أنه جنس برأسه سوى الاعتقاد وهو الصحيح ، وعند الشيخ
أبي هاشم المرجع به إلى اعتقاد مخصوص.
(التوهم غير الاعتقاد ـ أبو علي) (التوهم اعتقاد مخصوص ـ أبو
هاشم):
والذي يدل على
فساد مذهبه ، أنه لو كان من قبيل الاعتقاد لكان لا يحسن من الله تعالى أن يتعبدنا
بشيء من الظنون ، ومعلوم أنه قد تعبدنا بكثير من الظنون نحو الاجتهادات في جهة
القبلة وغير ذلك. وإنما قلنا هذا هكذا ، لأنه ما من اعتقاد يفعله الواحد منا إلا
ويجوز أن يكون معتقده على ما هو به ويجوز خلافه ، والتكليف بما هذا حاله قبيح.
عودة إلى المقصود وهو تقدم القدرة لمقدورها :
وبعد هذه الجملة
نعود إلى المقصود بالباب ، وهو الكلام في تقدم القدرة لمقدورها.
عند المعتزلة القدرة متقدمة وعند المجبرة القدرة مقارنة
للمقدور :
وجملة ذلك ، أن من
مذهبنا أن القدرة متقدمة لمقدورها ، وعند المجبرة أنا مقارنة
له. ولعلهم بنوا
ذلك على أن أحدنا لا يجوز أن يكون محدثا لتصرفه ، وأنهم لما أثبتوا الله تعالى
محدثا على الحقيقة ، قالوا : إن قدرته متقدمة لمقدورها غير مقارنة له.
ونحن إذا دللنا
على فساد مذهبهم دخل تحت ذلك صحة ما ذهبنا إليه ، لأنها إذا لم تكن مقارنة
لمقدورها لم يكن بد من أن تكون متقدمة له.
والذي يدل على
فساد مذهبهم ، هو أنه لو كانت القدرة مقارنة لمقدورها لوجب أن يكون تكليف الكافر
بالإيمان تكليفا لما لا يطاق ، إذ لو أطاقه لوقع منه ، فلما لم يقع منه دل على أنه
غير قادر عليه ، وتكليف ما لا يطاق قبيح ، والله تعالى لا يفعل القبيح.
وإن شئت بنيت هذه
الدلالة على أصل آخر ، فتقول : إن القدرة صالحة للضدين ، فلو كانت مقارنة لهما
لوجب بوجودها وجود الضدين ، فيجب في الكافر وقد كلف الإيمان أن يكون كافرا مؤمنا
دفعة واحدة ، وذلك محال.
ومتى قالوا : ومن
أين أن القدرة صالحة للضدين؟ قلنا : من حيث إنها لو لم تكن صالحة للضدين ، لوجب أن
يكون تكليف الكافر بالإيمان تكليفا لما لا يطاق ، وذلك قبيح ، والله تعالى لا يفعل
القبيح.
فإن قيل : لا يلزم
أن يكون تكليف الكافر بالإيمان تكليفا لما لا يطاق لأن فيه القدرة ، قيل له : إن
ما فيه من القدرة لا يخلو ، إما أن تكون قدرة على الإيمان ، أو على غير الإيمان.
فإن كانت قدرة عليه وجب حصوله لأنها موجبة عندكم ، وإن كانت قدرة على غيره فإن
وجود تلك القدرة وعدمها سواء ، أو يكون سبيله سبيل اللون إذا وجد فيه ، فكما أن
ذلك لا يوجب حسن التكليف ، كذلك هذا.
فإن ارتكبوا تكليف
ما لا يطاق ، كان في ذلك خروج عن الإسلام وانسلاخ عن الدين ، لأن الأمة من لدن
النبي صلىاللهعليهوسلم إلى اليوم الذي وقع فيه الخلاف لم يجوزوا ذلك على الله
تعالى. فإن قالوا : إنما لا يجوز عليه لما اعتقدوا فيه القبح ولم يثبت قبح هذا
التكليف ، قلنا : إن المنع من قبح ما هذا سبيله مما لا وجه له ، فإن كل عاقل يعلم
بكمال عقله أن تكليف الأعمى بنقط المصحف على جهة الصواب وتكليف الزمن بالمشي قبيح
، اللهم إلا إذا كان الكلام في وجه قبحه فينازع الخصم في ذلك ويقول : لا أسلم أنه
إنما قبح لكونه تكليفا لما لا يطاق. والذي يدل على إن هذا هو الوجه في قبحه لا
غيره ، هو أنه متى علمناه على هذه الصفة علمنا قبحه وإن لم نعلم شيئا آخر ،
ومتى لم نعلمه على
هذه الصفة لم نعلم قبحه وإن علمنا ما علمنا. فبان أنه إنما يقبح لكونه تكليفا لما
لا يطاق.
المجبرة على فرقتين :
١ ـ القدرة مقارنة
وغير صالحة للضدين.
٢ ـ القدرة مقارنة
وصالحة للضدين :
واعلم أن المجبرة
على فرقتين :
فرقة تقول : إن
القدرة مقارنة لمقدورها غير صالحة للضدين ، والكلام عليهم ما تقدم.
الأدلة على عدم جواز مقارنة القدرة لمقدورها ، سواء كانت
قادرة على الضدين أو غير قادرة :
وفرقة تقول : إن
القدرة مقارنة لمقدورها صالحة للضدين ، وهذا إنما أخذوه عن ابن الراوندي ، ظنا منهم
أنه ينجيهم عن ارتكاب القول بتكليف ما لا يطاق. ولا فرج لهم عن ذلك أيضا ، لأن
القدرة إذا كانت مقارنة لمقدورها صالحة للضدين ، يجب أن يوجد من الكافر الكفر
والإيمان معا ، أو يكون تكليفه بالإيمان تكليفا بما لا يطاق ، وأي القولين كان فهو
فاسد.
وبعد ، فإن قولهم
إن القدرة مقارنة لمقدورها صالحة للضدين متناقض ، لأنا إذا قلنا إن القدرة صالحة
للضدين فإنما نعني به أنه يصح من القادر أيهما شاء ، وذلك يقتضي تقدمها ، وهذا مع
القول بأن القدرة مقارنة لمقدورها مما لا يتأتى ، فتناقض.
وبعد ، فلو كانت
القدرة صالحة للضدين على ما ذكروه ، لكان لا يكون أحد الضدين بالوقوع أولى من
صاحبه إلا بأمر ومخصص ، وليس هاهنا أمر يمكن الإشارة إليه ، فيجب القول باجتماع
الضدين ، وذلك محال.
فإن قال : كما لا
يلزمكم على القول بأن القدرة صالحة للضدين أن يجتمع الضدان ، كذلك لا يلزمنا.
قلنا : إنكم جعلتم
القدرة موجبة لمقدورها مقارنة له فيلزمكم ذلك ولا يلزمنا لأنا
جعلناها متقدمة
لمقدورها صالحة للضدين ، ففسد كلامكم بهذا.
فإن قالوا : إن
هاهنا مخصصا وهو الاختيار. قلنا : الاختيار كالمختار في أنه لا يمكن أن يقع إلا
بقدرة ، وتلك القدرة أيضا صالحة للضدين فتحتاج إلى أمر آخر له ولمكانه يكون ذلك
الاختيار بالوقوع أولى مما يضاده ، والكلام في ذلك كالكلام في هذا فيتسلسل بما لا
يتناهى من الاختيار ، واختيار الاختيار ، أو ينتهي إلى اختيار ضروري ، وذلك يوجب
كون الواحد منا في بعض الحالات مدفوعا إلى اختيار ضروري ، والمعلوم أنه لا يوجد في
شيء من الحالات كونه على هذا الوصف.
وبعد ، فإن الساهي
قد عدم منه الاختيار ، فيجب أن يوجد منه الضدان وقد عرف فساده.
وبعد ، فإن قدرة
الاختيار منفصلة عن قدرة المختار ، فكان يجب أن يحصل أحدهما مع فقد الآخر ، وهذا
يؤدي إلى اجتماع الضدين في بعض الحالات على ما ذكرناه.
وبعد ، فإن الكافر
إذا وجد فيه اختيار الكفر وهو موجب للكفر عندهم كان يجب أن يكون تكليفه بالإيمان
تكليفا لما لا يطاق ، وذلك قبيح.
فإن قيل : إن
الكافر كما يصح منه اختيار الكفر يصح منه اختيار الإيمان. قلنا : كيف يصح منه ذلك؟
أيصح منه اختيار الإيمان مع أن فيه اختيار الكفر الموجب له ، أو يصح منه ذلك بشرط
أن لا يكون كان فيه الكفر واختياره والقدرة الموجبة له؟.
فإن قيل بالأول ،
ففي ذلك اجتماع المتضادات وذلك مما لا وجه له ، وإن قيل بالثاني ، كان ذلك تجويز
البدل عن الموجود الحاصل ، وذلك محال على ما سنذكره من بعد إن شاء الله.
وهذا إنما
ألزمناهم ، لأن مذهبهم أن الاختيار كالقدرة في باب الإيجاب.
انقسام المجبرة قسمين :
ـ ليس ذلك تكليفا بما لا يطاق
ـ ومنهم من جوز تكليفه بما لا يطاق
ثم المجبرة لما
ألزمت على القول بأن القدرة مقارنة لقدورها موجبة له أن يكون
تكليف الكافر
بالإيمان تكليفا لما لا يطاق افترقوا فرقتين :
فمنهم : من قال إن
ذلك ليس بتكليف لما لا يطاق.
ومنهم : من جوز أن
يكلف الله تعالى العبد ما لا يطيقه. وقال : إنه ليس في العقل قبحه ، وإنما المانع
منه السمع. وفي هؤلاء من جوز ذلك على الله تعالى ، واستدل بقوله تعالى : (فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ) [البقرة : ٣١] قال
إن الله تعالى كلفهم الإنباء مع أنهم لا يقدرون عليه ، وهو ابن أبي بشر المخذول
وأصحابه.
والكلام عليهم هو
أن نقول : كل عاقل يعلم بكمال عقله قبح تكليف الزّمن بالمشي وتكليف الأعمى بنقط
المصاحف على وجه الصواب ، والدافع له مكابر جاحد للضروريات ، ومن هذا سبيله فإنه
لا يناظر ، وعلى هذا فإن النّظام لما ناظره مجبر وانتهى بهما الكلام إلى أن قال له
المجبري : ما الدليل على قبح التكليف لما لا يطاق؟ سكت النظام وقال : إن الكلام
إذا بلغ إلى هذا الحد وجب أن نضرب عنه رأسا.
فإذا لا كلام في
ذلك ، وإنما الكلام في وجه قبحه.
لا كلام في تقبيح التكليف لما يطاق ، وإنما الكلام في وجه
قبحه :
فعندنا ، أنه إنما
يقبح لكونه تكليفا لما لا يطاق ، بدليل أنا متى عرفناه على هذه الصفة عرفنا قبحه
وإن لم نعلم شيئا آخر ، ومتى لم نعرفه على هذه الصفة لم نعرف قبحه وإن عرفنا ما
عرفنا. وأما قوله تعالى : (أَنْبِئُونِي
بِأَسْماءِ هؤُلاءِ) فإنما قال ذلك تعريفا لهم بالعجز عن الإنباء لا أن ذلك
تكليفا ، وعلى هذا لو كان تكليفا لكان تكليفا لما لا يعلم ، وذلك مما لا يجوزه
القوم وإن أجازوا تكليف ما لا يطاق.
ومن العجب أن هذا
المخذول كان يستدل بالسمع على المسائل ، وعلى هذه المسألة خاصة ، مع تجويزهم سائر
القبائح من الكذب وإظهار المعجز على الكذابين وغير ذلك على الله تعالى ، مع أن
كلام الله تعالى إنما يكون حجة إذا ثبت أنه لا يكذب ، فأما والكذب جائز عليه فكيف
تقع الثقة بقوله ، وما الأمان له من أن هذا الذي يقع الاحتجاج به من الكذب الصراح
ليس بالكذب؟.
ثم إن قاضي القضاة
عارضه بقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ
نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) [البقرة : ٢٨٦]
وإنما أورد هذه الآية على طريق المعارضة والاستئناس ، لا على طريق الاستدلال
والاحتجاج ، لأنا قد ذكرنا أن كل مسألة تقف صحة السمع عليها ،
فالاستدلال بالسمع
على تلك المسألة لا يصح.
فإن قالوا : لو
قبح تكليف ما لا يطاق لحسن تكليف ما يطاق. قلنا : لا يمتنع أن يقبح ذلك ، وينقسم
هذا كالكذب يقبح والصدق ينقسم ، وكإرادة القبيح تقبح وإرادة الحسن تنقسم. هذا هو
الكلام على الأشعرية.
الكلام على النجارية :
وأما الكلام على
النجارية فنقول : إن تكليف الكافر بالإيمان تكليف ما لا يطاق ، لأن الطاقة والقدرة
سواء ، وهو لا يقدر إلا على الكفر لأنه لم يقع منه إلا الكفر ، فليس فيه إلا قدرة
الكفر ، فيلزم أن يكون تكليفه بالإيمان تكليفا لما لا يطاق ، وذلك قبيح ، والله
تعالى لا يفعل القبيح.
فإن قالوا : إن
هذا إنما يلزم إذا لم يصح منه الإيمان أول يجوز أو لم يتوهم ، فأما إذا صح منه
الإيمان وجوز وتوهم فلا. قلنا : إن شيئا من ذلك مما لا يمكن أن يفعل به الإيمان ،
وإنما الإيمان يفعل بالقدرة عليه ، والكافر فقد عدمها.
بعد ، فهذه
الألفاظ من توابع القدرة ولا تستعمل إلا حيث تستعمل القدرة ، فكيف يصح ما قالوه؟
طريقة أخرى في
الكلام عليهم ، وهو أن نقول : إن الكافر إذا لم يقدر على الإيمان كان تكليفه به
كتكليف العاجز في القبح ، فإن قالوا : إنا وإياكم اتفقنا على حسن تكليف الكافر
بالإيمان فما غرضكم في هذه المنازعة؟ قلنا : إن غرضنا في ذلك أن تتبينوا فساد
مذهبكم لتتركوه ، وصار الحال في ذلك كالحال في إلزامنا المجسمة أنه تعالى لو كان
جسما لوجب أن يكون محدثا ، وقد ثبت قدمه ، فكم أنه ليس للمجسم أن يقول : إنا
وإياكم أجمعنا على قدم القديم فما وجه هذا الإلزام؟ لأنا نقول لهم : إنما ألزمناكم
لكي تتركوا مذهبكم الفاسد إلى مذهبنا ، كذلك هنا.
وما يبين لك أن
تكليف الكافر بالإيمان كتكليف العاجز في القبح ، هو أنهما قد اشتركا في تعذر
الإيمان عليها ، ومعلوم أن تكليف العاجز بالإيمان إنما يقبح لتعذره عليه ، فالكافر
إذا شاركه في ذلك وجب أن يقبح تكليفه أيضا لأن افتراقهما من وجه آخر لا يمنع من
اتفاقهما في هذا الوجه ، يبين ذلك ، أن الإيمان إنما يفعل بالقدرة ، وليس في
الكافر قدرة على الإيمان كما في العاجز ، فوجب استواؤهما في قبح
التكليف. فإن
قالوا : إن بينهما فرقا ، فإن العاجز فيه ضد الإيمان بخلاف الكافر ، قيل لهم : إذا
كان إنما لا يصح الإيمان من العاجز لأنه ليس فيه القدرة عليه بل فيه ضدها ،
والكافر إذا شاركه في أن لا قدرة له على الإيمان وجب أن لا يحسن تكليفه أيضا. يبين
ذلك ويوضحه ، أنه إذا لم يحسن تكليف العاجز لأن فيه ضدا واحدا ، فلأن لا يحسن
تكليف الكافر وفيه أربعة أضداد ، هي الكفر ، وقدرة الكفر وإرادة الكفر والقدرة
الموجبة للإرادة الموجبة للكفر أولى وأحق.
فإن قالوا : إن
الكافر يصح منه الإيمان ويجوز ويتوهم ، بخلاف العاجز. قلنا : إذا لم يصح الإيمان
بشيء من هذه الأشياء على ما ذكرناه ، فقد استويا على أن التجويز بما تقدم إنما هو
الشك ، والتوهم على ما مر ظن مخصوص ، والصحة إنما تستعمل في نفي الاستحالة ، وشيء
من ذلك فغير ثابت في الكافر ، إذ لا شك في أنه لا يمكنه الإيمان ولا يظن ، وينفي
عنه استحالة وقوع الإيمان مع ما فيه من الكفر والقدرة الموجبة له والقدرة الموجبة
للإرادة الموجبة له.
ثم يقال لهم : ما
تعنون بقولكم : إنه يصح منه الإيمان أو يجوز أو يتوهم؟ فإن أردتم به أنه يصح منه
مع ثبوت هذه الأضداد فيه فقد أحلتم ، لما في ذلك من اجتماع المتضادات فيه ، وإن
أردتم به أنه يصح منه ذلك بشرط أن لا يكون كان فيه الكفر والقدرة الموجبة له ،
وكان بدله الإيمان والقدرة الموجبة للإيمان ، فإن ذلك تجويز البدل عن الموجود ،
وتعليق وجود الشيء ، بانتفاء أم قد ثبت ، وذلك محال.
على أن هذه الطريقة
ثابتة في العاجز ، فيقال : صح منه الإيمان بشرط أن لا يكون كان فيه العجز وكان
بدله القدرة ، فكيف يقع الفرق بينهما والحال هذه؟ قالوا : الكافر مطلق مخلى ،
بخلاف العاجز فإنه ممنوع ، قلنا. أول ما في هذا ، أن الإيمان لا يفعل بالإطلاق
والتخلية وإنما يفعل بالقدرة ، وهو لم يعط القدرة.
ثم يقال لهم : ما
تريدون بقولكم إن الكافر مطلق مخلّى؟ فإن أردتم به أنه مطلق مع ثبوت هذه الأضداد
فيه فذلك لا يصح لاستحالة اجتماع الضدين فيه ، وإن أردتم به أنه مطلق بشرط أن لا
يكون كان فيه هذه الأضداد وكان بدلها الاطلاق والتخلية ، فذلك تجويز البدل عن
الموجود وتعليق وجود الشيء بانتفاء أمر آخر قد وجد. على أن الإطلاق والتخلية إنما
يوصف به القادر إذا لم يكن ممنوعا ، ألا ترى أنه لا يقال في الزمن أنه مطلق مخلى
بينه وبين المشي ، وكذلك لا يقال في المقصوص الجناح أنه مطلق مخلى بينه وبين الطيران
، والكافر غير قادر على الإيمان فكيف يوصف بالإطلاق
والتخلية؟.
وأما الممنوع فإنه
يستعمل فيمن يكون قادرا ثم يتعذر عليه الفعل لأمر من الأمور على وجه لولاه لصح منه
ذلك الفعل وحالته تلك ، والعاجز غير قادر على الإيمان البتة ، فكيف يصح وصفه
بالمنع؟.
وبعد ، فلو كان
العاجز ممنوعا لأن فيه ضدا واحدا ، فبأن يكون الكافر ممنوعا وفيه أربعة أضداد وهي
: الكفر والقدرة الموجبة له وإرادة الكفر والقدرة الموجبة لها ، أولى وأوجب.
فرق آخر بين الكافر العاجز :
فرق آخر ، الكافر
لو شاء لآمن وليس كذلك العاجز. قلنا : الإيمان لا يفعل بالمشيئة وإنما يفعل
بالقدرة ، والكافر لم يعط القدرة كالعجز سواء. وأيضا فليس بأن يقال : الكافر لو
شاء لآمن ، أولى من أن يعكس فقال : بل لو آمن لشاء إذ لا تأثير للمشيئة والاختيار
فيه ، وإنما يقع الإيمان بالقدرة الموجبة عندهم. ثم يقال لهم : ما تريدون بقولكم إن
الكافر لو شاء لآمن ، فإن أردتم به أنه لو شاء لآمن مع الكفر وقدرة الكفر وإرادة
الكفر والقدرة الموجبة لإرادة الكفر ، فذلك لا يصح لاجتماع المتضادات. وإن أردتم
به أنه لو شاء لآمن بشرط أن لا يكون كان فيه هذه الأشياء ، وكان بدلها أضدادها ،
فذلك تجويز البدل عن الموجود ، وتعليق وجود الشيء بانتفاء أمر قد وجد على ما مر في
نظائره ، فلا يصح.
وبعد ، فإن هذه
العبارة إنما تستعمل في القادر على الشيء ، حتى لا يقال في الزمن لو شاء لسعى ،
ولا في مقصوص الجناح لو شاء لطار ، لفقد القدرة فيهما ، والكافر غير قادر على
الإيمان ، فكيف يصح أن يقال لو شاء لآمن!.
وأيضا ، فإن
الكافر إذا لم يقدر لا على الإيمان ولا على مشيئة الإيمان ، فقولكم : إنه لو شاء
لآمن ، يجري مجرى أن يقال لو قدر على المشيئة لقدر على الإيمان ، وهذا لا يغني ولا
يقع به الفرق بينه وبين العاجز.
وأيضا ، فإن هذا
ثابت في العاجز ، لأنه من الممكن أن يقال : لو شاء لآمن ، بشرط أن لا يكون كان فيه
العجز وكان بدله القدرة ، فكيف يقع الفرق!.
وأيضا ، فإن قدرة
الإيمان منفصلة عن قدرة مشيئة الإيمان ، فجوزوا أن يخلق في
الكافر قدرة مشيئة
الإيمان ، ولا يخلق فيه قدرة الإيمان. فلا يمكن أن يقال لو شاء لآمن.
ثم إنه رحمهالله ، أجمل هذه الجملة التي فصلناها وقال : إن الإيمان لا يفعل
بالجواز ، لا بالصحة ، ولا بالتوهم ، ولا بالإطلاق ، ولا بالتخلية ، ولا بالمشيئة
، ولا بكونه غير ممنوع ، وإنما يفعل بالقدرة ، والكافر لم يعط القدرة ، فيكون
تكليفه والحال هذه تكليفا لما لا يطاق ، وينزل منزلة تكليف العاجز ، وقد تقرر في
عقل كل عاقل قبح تكليف من هذا حاله ، ففسد ما قالوه.
فرق آخر ، قالوا :
إن الكافر تارك للإيمان مشغول بضده ، فكأنه قد أتي في فقد الإيمان من جهته ، وليس
كذلك العاجز.
والأصل في الجواب
عن ذلك أن التارك إنما يستعمل في من لم يفعل ما يقدر عليه في الحال التي يقدر عليه
، ولهذا لا يقال في الزمن : إنه تارك للعدو ، ولا للمقصوص الجناح : إنه تارك
للطيران ، لما لم يقدرا عليه ، وأيضا فلا يقال : إن أحدنا تارك لخلق الأجسام
والألوان لما لم يقدر عليها.
إذا ثبت هذا ،
وعندهم أن الكافر غير قادر على الإيمان أصلا ولا يمكنه الانفكاك من الكفر ، فكيف
يوصف بأنه تارك له؟.
وأما الشغل ،
فإنما يستعمل حقيقة في الظروف والأواني ، يقال : هذا الجواب مشغول بالحنطة عن
الشعير والآنية مشغولة باللبن عن العسل.
ثم يستعمل في
القادر على الشيء إذا شغل بأحد الفعلين عن الآخر تشبيها بذلك ، فيقال : إنه مشغول
بالكتابة عن الصياغة ، وبالصلاة عن الأكل ، لما لم يمكنه الجمع بينهما.
وإذا كان لا تجرى
هذه العبارة إلا على القادر ، وعندكم أن الكافر غير قادر على الإيمان ، فكيف يصح
وصفه بذلك؟.
وأما قولهم : إن
الكافر أتي في فقد الإيمان من جهة نفسه بخلاف العاجز فلا يصح ، لأنه إذا لم يقدر
الكافر على الإيمان ، فسواء أتي في ذلك من قبل نفسه أو من قبل غيره فإنه لا يحسن
تكليفه به ، ألا ترى أن من عدم الرجل لم يحسن تكليفه بالقيام ، سواء أتى في فقد
الرجل من جهته أو من جهة غيره.
وأيضا ، فلو جاز
أن يقال في الكافر : إنه قد أتى في فقد الإيمان من جهته مع أنه غير قادر عليه فلا
يتعلق به ، لجاز أن يقال في الرومي : إنه قد أتي في فقد السواد من جهته ، ولجاز أن
يقال في الزنجي : إنه قد أتي في فقد البياض من جهته ، والمعلوم خلافه ، وأيضا ،
فلو جاز أن يقال في الكافر مع أنه لا يقدر على الإيمان إنه قد أتى في فقد الإيمان
من جهته ، لجاز مثله في العاجز.
ثم إنه رحم الله ،
حرر ما ذكرناه على وجه آخر فقال : إن الفعل إذا احتاج في وقوعه إلى أمر من الأمور
فإن التكليف به مع عدم ذلك الأمر قبيح ، ومثل ذلك بالزكاة ، قال : فكما أن التكليف
بها مع فقد المال يقبح ، كذلك يجب في التكليف بالإيمان مع فقد القدرة عليه أن يكون
قبيحا.
إلا أن هذا المثال
شرعي ، والشرعيات إنما تثبت بعد ثبات هذه المسألة ، فالأولى أن نورد في مثاله قضاء
الدين فنقول : إنه كما يحتاج إلى المال يحتاج إلى القدرة ، فكما أن التكليف به مع
فقد المال يقبح ، كذلك مع فقد القدرة.
وإن شئت فرضت
الكلام في الفعل المحكم ، فتقول : إن الفعل المحكم كما يحتاج في وقوعه إلى العلم
يحتاج إلى القدرة ، فكما أن التكليف به مع فقد العلم يقبح ، فكذلك مع فقد القدرة.
وإن شئت ذكرت
النظر والاستدلال فقلت : كما أن ذلك محتاج إلى كمال العقل فإنه محتاج إلى القدرة ،
فكما أنه يقبح التكليف مع زوال العقل ، وكذلك مع عدم القدرة. وإن شئت ذكرت الآلة
فتقول : إن الفعل كما يحتاج إلى الآلة فكذلك يحتاج إلى القدرة ، فكما أن التكليف
به مع فقد الآلة يقبح ، فكذلك مع فقد القدرة.
ثم إن قاضي القضاة
أورد على نفسه سؤالين ، فقال :
إذا جاز أن يكلف
الله تعالى الضعيف بل العاجز بل المعدوم عندكم مع أنهم غير قادرني عليه ، فلأن
يجوز أن يكلف الكافر مع عدم القدرة أولى.
والثاني : هو أن الفعل كما يحتاج إلى القدرة فإنه يحتاج إلى الآلة
، ثم إن الآلات بعضها متقدمة وبعضها مقارنة ، فلم لا يجوز أن يكون في القدرة أيضا
ما يتقدم وفيها ما يقارن ، حتى تكون قدرتنا مقارنة لمقدورها ، وقدرة القديم تعالى
متقدمة لها.
ونحن نجيب عن هذا
السؤال الثاني أولا ، لأنه أليق بما نحن فيه ، ثم نعطف عليه
الجواب عن الأول ،
فنقول.
أقسام الآلات :
فمنها : ما يجب تقدمها ولا يجب مقارنتها وذلك كلما يكون وصلة إلى
الفعل ، نحو القوس وما يجري مجراها ، فإنها لا بد أن تكون متقدمة على الإصابة حتى
يصح استعمالها فيها ، ولهذا يصح أن تنكسر ولما وقعت الإصابة بعد.
ومنها : ما يجب
تقدمها ومقارنتها جميعا ، وذلك كلما يكون محلا للفعل وما يجري مجراها ، نحو اللسان
، فإنه يجب تقدمه حتى يكون معينا على الكلام ، ويجب مقارنته حتى يكون محلا. وأما
ما يجري مجراه فكالسكين فإنه يجب تقدمه حتى يحصل به الذبح ، ويجب مقارنته لأن
الذبح إنما يحصل بأن يتخلل السكين في المحل المفري.
ومنها : ما يجب مقارنتها ولا يجوز فيها التقدم ، وذلك كصلابة
الأرض في التصرف فإنها ينبغي أن تكون ثابتة في الحال ولا يجب تقدمها.
فهذه قسمة الآلات.
أقسام المعاني : القدرة ، العلم ، الإرادة :
فكما أن الآلات
تنقسم هذه القسمة ، فكذلك المعاني التي يحتاج الفعل في الوقوع إليها من القدرة
والعلم والإرادة تنقسم.
فمنها : ما يجب تقدمها ، ومنها ما يجب مقارنتها ، ومنها ما يجب
فيه كلا الأمرين.
إذا ثبت هذا ،
فلنا أن ننظر أن القدرة من أي هذه الأقسام هي ، فنظرنا فإذا هي من قسمة ما يجب
تقدمها ، لأنها كالوصلة إلى الفعل ، كالقوس فإنها إنما وجب تقدمها على الإصابة لما
كانت وصلة إليه ، وإذا كان ذلك كذلك فقد فسد ما قالوه وصح الجواب عنه. هذا هو
الجواب عن السؤال الثاني.
وأما الجواب عن
السؤال الأول فعلى طريق الجملة ، هو أن نقول :
إن القديم لم يكلف
المعدوم ولا الضعيف ولا العاجز أن يأتي بالفعل وهو على هذه الأحوال ، وإنما كلفه
الفعل بعد الإيجاد والإحياء والإقدار والتمكين وإزاحة العلة باللطف وغيره ، ففسد
ظنكم.
وتفصيل هذه الجملة
، هو أن أوامر الله تعالى تنقسم إلى ما يكون أمرا على الإطلاق ، وإلى ما يكون أمرا
بشرط. فالمأمور بالشيء على الإطلاق يلزمه ذلك الفعل في الحال ؛ فأما المأمور به
بشرط فإن ذلك الفعل إنما يلزمه إذا حصل ذلك الشرط ، والشرط في مثلنا أن يوجد ويحصل
على صفة المكلفين.
فعلى هذا نقول :
إن الموجودين في زمن الرسول كانوا مكلفين بهذه العبارات في الحال ، حتى كان يلزمهم
التكفل بحفظه إلى أن يؤدوه إلى من بعدهم ، ثم كذلك في كل عصر ، وأما الذين لم
يوجدوا في الحال فلا تكليف عليهم بشيء من ذلك إلا إذا أوجدوا وصاروا بصفة
المكلفين.
والغرض بقولنا :
إن الخطاب متناول لهم والتكليف يجمعهم والموجودين في الحال جميعا ، أنه ليس يجب
تكرار الخطاب بهذه العبارات من جهة الله تعالى ولا من رسله في سائر الأعصار وحالا
بعد حال ، بل الخطاب الأول كاف ، ويكون السامعون له في الحال يلزمهم أداؤه إلى من
بعدهم ، وإذا كان هذا هو الغرض ، لم يصح ما ظنوه من أنا جعلنا العاجز والضعيف
والمعدوم مكلفا بالفعل وهو عاجز ضعيف معدوم ، بل إنما يكونون مكلفين إذا وجدوا
واستكملوا شرائط التكليف ، ولا شبهة في حسن التكليف على هذا الحد. ألا ترى أنه
يحسن من أحدنا أن يكلف غلامه الصعود إلى السطح غدا وإن لم يمكنه في الحال بإعطاء
ما يحتاج إليه من السلم وغيره ، وإنما يقبح تكليفه الصعود مع عدم التمكين وإعطاء
السلم وغيره ، لو كلفه به في الحال على ما يقوله القوم في الكافر ، ففارق حال
هؤلاء حال الكافر ، فإن عندهم أنه مكلف في الحال بالإيمان وتحصيله ، مع أنه لا
قدرة له عليه ولا له طاقة به ، بل لا يمكنه الانفكاك عن ضده الذي هو الكفر ، فأشبه
تكليفه تكليف الزمن بالمشي على الزمانة ، وتكليف الأعمى بنقط الصحف على جهة الصواب
على العمى.
ثم إنه رحمهالله أجاب عن السؤال الثاني ، فقال : إن الآلات تنقسم إلى ما
يجب تقدمها كالقوس وما يجري مجراها ، وإلى ما يجب مقارنتها كصلابة الأرض وغيرها ،
وإلى ما يجب فيه كلا الأمرين كاللسان في الكلام والسكين في الذبح وما شاكل ذلك ،
وكما أن هذه الآلات تنقسم هذه القسمة ، فكذلك المعاني التي يحتاج الفعل في الوقوع
إليها تنقسم إلى ما يجب فيها التقدم ، وإلى ما يجب فيها المقارنة ، وإلى ما يجب
فيه كلا الأمرين.
إذا ثبت هذا ،
وثبت احتياج الفعل إلى القدرة ، وجب أن تلحق القدرة بما هو
كالوصلة إلى الفعل
من الآلات نحو القوس وغيرها ؛ ومعلوم أن ما هذا سبيله يجب فيها التقدم. والذي يبين
لك أن القدرة كالوصلة إلى الفعل ، هو أن الفعل إنما يحتاج إلى القدرة لخروجه من
العدم إلى الوجود ، وإذا كان محتاجا إليها في هذا الوجه وجب ما ذكرناه ؛ والذي يدل
على أن الفعل إنما يحتاج إلى القدرة لخروجه عن العدم إلى الوجود ، هو أنه لا يخلو
؛ إما يكون محتاجا إليها لهذا الوجه ، أو لغيره : لا يجوز أن يكون محتاجا إليها
لغير هذا الوجه لأن احتياج الفعل إلى القدرة ظاهر ، فلا يخلو ، إما أن يكون محتاجا
إليها في حالة الوجود والحدوث ، أو في حالة العدم. لا يجوز أن يكون محتاجا إليها
في حالة الوجود لأن حالة الوجود حالة الاستغناء عنها ، فليس إلا أن يحتاج إليها في
حالة العدم على ما نقوله.
فإن قيل : ولم
قلتم : إن حالة الوجود وحالة الاستغناء؟ قلنا : لأن الفعل لو لم يستغن عن القدرة
في حالة الحدوث لم يستغن أيضا في حالة البقاء ، والمعلوم خلافه.
فإن قيل : ولم
جمعت بينهما؟ قلنا : لأن الذي أوجب احتياجه إلى القدرة في إحدى الحالتين ثابت في
الحالة الأخرى ومع ثبات ذلك الوجه لم يجز الافتراق في الحاجة بحسب اختلاف حالتي
الحدوث والبقاء ، لأن كل حكم ثبت للذات في حالة الحدوث لعلة من العلل يجب ثباته في
حالة البقاء لمكان تلك العلة ، ألا ترى أن الجوهر لما وجب أن يكون متحيزا في حالة
الحدوث لكونه مقتضى من صفة الذات وجب ذلك أيضا في حالة البقاء ، ولما صح أن يكون
كائنا في هذه الجهة بدلا من هذه لتحيزه في حالة الحدوث صح ذلك في حالة البقاء ،
ولما استحال أن يكون مجتمعا مفترقا في حالة الحدوث لاستحالة اجتماع الضدين استحال
ذلك في حالة البقاء أيضا؟ فصح بما قلناه : أن الفعل لو احتاج إلى القدرة في حالة
الحدوث لوجب احتياجه إلى القدرة في حالة البقاء ، والمعلوم خلافه.
فإن قيل : كيف يصح
هذا وعندكم أن الفعل يحسن في حالة الحدوث ولا يحسن في حالة البقاء؟ قلنا : إنما
كان ذلك كذلك لأن الفعل إنما يحسن لوقوعه على وجه ويقبح لوقوعه على وجه وذلك تابع
للحدوث ، فصح ما قلناه. وهكذا الجواب إذا قالوا : أليس المنع يكون منعا في حالة
الحدوث ولا يكون كذلك في حالة البقاء ، لأنه إنما يكون منعا لتعلقه بالفاعل ولذلك
اختص حالة الحدوث ، بخلاف الفعل عندهم فإنه إنما يتعلق بالقدرة لوجوده ، وذلك في
حالة البقاء كهو ، في حالة الحدوث.
وأحد ما يدل على
أن القدرة لا تتعلق بالموجود ، هو أنه لو تعلقت قدرتنا
بالموجود ، لوجب
أن تتعلق أيضا قدرة الله تعالى به ، فكان يجب صحة أن يوجد أحدنا وهو بالري في
الحالة الثانية بالصين ، ومعلوم خلافه.
وأيضا ، فلو كانت
قدرتنا تتعلق بالموجود لوجب مثله في قدرة الله تعالى ، وذلك يوجب قدم العالم أو أن
يكون القديم قادرا بقدرة محدثة ، وأي ذلك كان فهو محال وهذا لأن قدرته إن ثبتت جلّ
وعزّ قديمة في ما لم يزل وهي لا تتعلق إلا بالموجود ، وجب وجود العالم في ما لم
يزل ، وفي ذلك قدمه. وإن لم تثبت قدرته في ما لم يزل ، وجب كونه قادرا بقدرة محدثة
على ما ذكرناه.
فإن قيل : ولم
قلتم : إن هذه القضية لو وجبت في قدرتنا لوجبت في قدرة الله تعالى؟ قيل له : لأن
ما كان في حكم الصفة ، لا يختلف الحال فيه بحسب اختلاف الموصوفين بها : ألا ترى أن
علمنا لما كان من حقه أن يتعلق بالشيء على ما هو به ، كان علم الله تعالى بهذه
المنزلة.
فإن قال : إنما
وجبت هذه القضية في الشاهد لأن صفتنا بالقدرة مستندة إلى معنى وليس كذلك سبيل
القديم فإنه قادر لذاته ، قلنا : إن ما كان في حكم الصفة لا يختلف الحال فيه سواء
استندت إلى علة أو لم تستند إلى علة ، فإذا كانت القدرة لا تتعلق إلا بالموجود ،
فكذلك كونه قادرا إذا ثبت أن هذا من حكم الصفة في الشاهد ، وكذلك في الغائب.
صور ذكرها مشايخ القاضي :
وقد ذكر مشايخنا
لهذه المشكلة صورا يظهر الكلام عندها ، فقالوا : من قدر على أن يطلق امرأته لا
يخلو ؛ إما أن يكون قادرا على ذلك قبل وقوع الطلاق ، أو حال وقوع الطلاق. فإن قدر
على ذلك قبل وقوع الطلاق فهو الذي نقوله ، وإن قدر عليه حال الوقوع فالطلاق واقع
ولا يحتاج إلى القدرة.
وربما قالوا : من
قدر على إلقاء العصا من يده فلا يخلو ؛ إما أن يقدر عليه قبل وقوع الإلقاء ، أو
حالة الوقوع. فإن قدر قبل الإلقاء فهو الذي نقوله ، وإن قدر عليه حال الإلقاء
فالعصا ملقاة فلا يحتاج إلى القدرة.
وربما قالوا :
القادر على أن ينتقل من الشمس إلى الظل لا يخلو حاله من أحد أمرين : إما أن يقدر
عليه قبل الانتقال أو حالة الانتقال. فإن قدر عليه قبل الانتقال فهو
الذي نقوله ، وإن
قدر عليه حالة الانتقال فالانتقال قد وقع فلا حاجة به إلى القدرة.
فصح بهذه الوجوه
أن القدرة على مذهبهم إنما توجد حالة الاستغناء عنها ، فأما في حالة الحاجة إليها
فهي مفقودة.
فإن قالوا : إنما
يقدر على هذه الأمور حالة استحقاقه الأسماء المشتقة منها ، فكما أنه لا يسمى مطلقا
ولا ملقيا إلا حال وقوع الطلاق والإلقاء ، وكذلك لا يقدر عليها إلا في هذه الحالة؟
قلنا : إن هذا تكرار وتعليق الشيء بنفسه بخلاف ما يضاف ، فالقدرة غير الإلقاء
والطلاق.
وأحد ما يدل على
أن القدرة لا يجوز أن تكون مقارنة لمقدورها ، هو أنه لو وجب ذلك في الشاهد لوجب في
الغائب أيضا ، وذلك يقتضي إما قدم العالم ، أو أن يكون القديم قادرا بقدرة محدثة ،
وأي ذلك كان فهو فاسد وقد مضى ما في هذه الدلالة.
القدرة متعلقة بالمتماثل والمختلف والمتضاد :
واعلم ، أن القدرة
عندنا متعلقة بالمتماثل والمختلف والمتضاد ، ولا يفترق الحال في ذلك بين قدرة
القوي والضعيف ، وإنما يفترقان من حيث إن أحدهما يمكنه أن يفعل في كل جزء من
الثقيل الذي يريد رفعه بعدد ما فيه من الاعتماد وجزءا آخر زائدا على ذلك ، وليس
كذلك الآخر.
إذا ثبتت هذه
القضية ، فالقدرة إنما تتعلق والوقت واحد والمحل واحد بجزء واحد من المتماثل ، ولا
تتعلق بأزيد من ذلك ؛ إذ لو تعدت في التعلق عنه إلى ما زاد عليه ولا حاصر ، لوجب
تعلقها بما لا يتناهى كالاعتقاد ، وذلك يوجب صحة أن يمانع أحدنا القديم جلّ وعزّ ،
وأن يرتفع التفاضل بين القادرين ، وقد عرفت فساده. فأما وقد اختلفت هذه الشرائط
فإنه يصح أن يتعلق بأزيد من جزء واحد من المتماثل ، وعلى هذا يصح أن يؤلف بين
أجزاء كثيرة دفعة واحدة ، على أن ما فيها من التأليف متماثل ؛ هذا في المتماثلات.
فأما في المختلفات
؛ فإنه لا يجب أن نعتبر ما اعتبرناه في المتماثلات من الشرائط ، فإنه يصح أن نفعل
بالقدرة الواحدة جملة من المختلفات في المحل الواحد في وقت واحد. ألا ترى أنه يقدر
على أن يريد قدوم زيد ، وعمرو ، وبكر ، وخالد ، مع
أن هذه الإرادات
كلها مختلفة لتغاير متعلقاتها.
وأما في المتضادات
؛ فإن القدرة متعلقة بها ، ولكن لا يصح من القادر الجمع بين الضدين في محل واحد ،
وإنما يوجد أحدهما بدلا من الآخر. ولا يمكن المنع من تعلق القدرة بهما وإلا كان
يجب صحة أن يتحرك أحدنا عنه وإن كان لا يمكنه التحرك يسرة ، حتى يتأتى منه أن يقطع
من هذه الجهة مسافة ولا يمكنه أن يتحرك في تلك الجهة أصلا ، ومعلوم خلافه.
ومتى قيل إن
القدرة على الحركة في هذه الجهة غير القدرة على الحركة في الجهة الأخرى. قلنا :
فيجب أن لا يصح منه إيجاد إحدى الحركتين بدلا من الأخرى. ألا ترى أن الفعلين إذا
احتاج كل واحد منهما إلى الآلة ، فإنه لا يمكنه أن يفعل بإحدى الآلتين كل واحد من
الفعلين على طريقة البدل؟ كذلك في مثلنا.
وبعد ، فلو لم
تعلق القدرة بالضدين لوجب في الواحد منا إذا قدر على الضدين أن يكون حاصلا على
صفتين ضدين ، ولو ارتكبوا ذلك في الواحد منا قيل لهم : فكان يجب في القديم تعالى
وهو قادر على الضدين أن يكون حاصلا على صفتين ضدين ، ومتى قالوا : إنما وجب ذلك في
الشاهد لأن إحدى القدرتين تضاد القدرة الثانية وليس كذلك في القديم تعالى لأنه
قادر لذته ، قيل لهم : إن الصفتين إذا تضادتا لم يفترق الحال بين أن تكونا
مستحقتين للنفس وبين أن تكونا مستحقتين لمعنى ، ألا ترى أن كونه عالما وجاهلا لما
تضادتا لم يفترق الحال بين أن يكون مستحقا للنفس وبين أن يكون كذلك لمعنى ، حتى لم
يجز في القديم تعالى أن يكون عالما بالشيء جاهلا به دفعة واحدة كما في الواحد منا
كذلك هاهنا ، وهذا لأن تضاد الصفتين لأمر يرجع إليهما لا إلى ما يوجبهما ، كذلك
هاهنا.
فصل : واتصل بهذه الجملة الكلام في البدل عن الموجود
ووجه اتصال هذا
بما قبله ، أنا لما ألزمنا المجبرة على القول بالقدرة الموجبة أن يكون تكليف
الكافر كتكليف العاجز ، قالوا : إن الكافر يصح منه الإيمان بشرط أن لا يكون كان
فيه الكفر وكان بدله الإيمان بخلاف العاجز فجوزوا البدل عن الموجود وذلك لا يجوز
عندنا ؛ إذ لو جاز تجويز البدل عن الموجود لجاز مثله في صفات الأجناس ، وكان يجوز
في الجوهر أن يكون سوادا بشرط أن لا يكون كان جوهرا وكان بدله سوادا ، بل في صفات
القديم تعالى ، فيقال : إنه جلّ وعزّ يجوز أن يكون عاجزا
بشرط ألا يكون كان
قادرا وكان بدله عاجزا ، ويجوز أن يكون جاهلا بشرط أن لا يكون كان عالما وكان بدله
على صفة أخرى مضادة له ؛ ومن بلغ في التجاهل إلى هذا الحد فقد ارتكب عظيما.
وأيضا ، فلو جاز
البدل عن الموجود جاز البدل عن الماضي ، فيقال : أكلت الآن بدل الأكل الواقع
بالأمس ، والمعلوم خلافه. ويبين هذه الجملة ، أن البدل كالشرط في أن لا يدخل إلا
في المستقبل المنتظر ، فأما في الواقع الموجود فلا يصح ، فكيف ما قالوه؟.
إذا جاز أن يكلف الله الكافر بالإيمان مع علمه أنه لا يؤمن
ولا يقبح ذلك من جهة الله فهلا جاز أن يكلفه مع العلم بأنه لا يقدر عليه ولا يقبح
منه :
ثم إنه رحمهالله سأل نفسه فقال : إذا جاز أن يكلف الله الكافر بالإيمان مع
علمه أنه لا يؤمن ، ولا يقبح منه ، فهلا جاز أن يكلفه مع العلم بأنه لا يقدر عليه
، ولا يقبح منه.
والمجبرة يتعلقون
بهذه الشبهة على هذا الوجه ؛ وربما يوردونه على وجه آخر ، فيقولون : إن القدرة على
خلاف المعلوم محال ، وأتم فقد جوزتم التكليف به ، فكيف منعتم من أن يكلف الله
تعالى الكافر وإن لم يقدر عليه؟.
والأصل في الجواب
عن الأول ، هو أن نقول : إن بين الموضعين فرقا ، لأن تكليف الكافر مع العلم بأنه
لا يؤمن إنما يحسن ، لأن الله تعالى أقدره على الإيمان ، وأزاح علته ، وقوى دواعيه
، ومكنه من ذلك ، وفعل به كل ما يحتاج إليه في التكليف ، ثم إنه اختار الكفر لسوء
اختياره لنفسه. وليس كذلك من المعلوم من حاله أنه لا يقدر على الإيمان ، لأن
تكليفه بالإيمان تكليف بما لا يطيقه لا يقدر عليه لا يمكنه الانفكاك من ضده الذي
هو الكفر ، ففارق أحدهما الآخر.
وأما الجواب عن
الثاني ، فهو أن من حق القادر على الشيء أن يكون قادرا على جنس ضده إذا كان له ضد
، فالكافر إذا قدر على الكفر وجب أن يكون قادرا على الإيمان ، ومعلوم أنه تعالى لم
يعلم من حاله الضدين جميعا ، وإنما علم أحدهما دون الآخر ، ففسد إذا قولهم إن
القدرة على خلاف المعلوم مما لا يثبت.
وبعد ، فلو كان
كذلك ، لوجب أن يكون القديم تعالى غير قادر على أن يقيم
القيامة الآن
لعلمه أنه لا يقيمها ، ومعلوم خلافه.
وعند هذا الإلزام
افترقوا فمنهم من ارتكب ذلك وقال : إنه تعالى لا يقدر ومنهم من لم يرتكب ، فزعم
أنه قادر على ذلك.
فمن لم يرتكب ذلك
، لم يمكنه القول بأن القدرة على خلاف المعلوم محال ، لأنه لا فرق في هذه القضية
بيننا وبين الله تعالى.
ومن ارتكب ذلك ،
يلزمه القول أن يكون الله تعالى غير قادر على خلق البياض في الزنجي بدلا من السواد
، والسواد في الرومي بدلا من البياض ، وذلك يوجب أن لا يكون القديم تعالى مخيرا في
أفعاله ، وقد علمنا خلاف ذلك.
قالوا : القدرة
على خلاف المعلوم قدرة على تجهيل الله تعالى. قلنا : إن الجهل هو ما به يصير الذات
جاهلا ، والذات إنما يصير جاهلا بالجهل ، والإيمان ليس من الجهل في شيء ، فكيف يصح
قولهم : إن الكافر لو كان قادرا على الإيمان لوجب أن يكون قادرا على تجهيل الله
تعالى.
ثم يقال لهم :
يلزمكم على هذا القول إذا أقدر الله الكافر على الإيمان أن يكون قد أقدره على
تجهيل نفسه ، وإذا أمره بالإيمان ورغبه فيه ووعده بالثواب الجزيل عليه أن يكون قد
أمره بتجهيل نفسه ورغبه فيه ، وذلك كفر من مرتكبه.
ويلزمهم أيضا ، أن
يكون قد بعث الله الرسل إلى الكفرة ليجهلوه ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
قالوا : لو قدر
الكافر على خلاف ما علمه الله تعالى من حاله لصح وقوعه منه لأن هذا هو الواجب في
القادر على الشيء ، ولو صح وقوعه منه لوجب وقوعه في بعض الحالات ، وذلك يوجب كون
القديم تعالى جاهلا.
قيل له : لم وجب
إذا صح منه خلاف المعلوم أن يقع في بعض الحالات ، أليس أحدنا مع قدرته على السفر
لا يسافر البتة ، بل يقي طول عمره؟.
فإن قال : لو قدرنا
أن يقع منه خلاف ما علمه الله تعالى ولا يمكنكم المنع من هذا التقدير للزم أن يصير
جاهلا وأن يكون قد تغير حاله في كونه عالما ، لأنه كان يعلم أن هذا الفعل لا يوجد
، والآن فلا بد من أن يعلم وجوده ، وهذان الاعتقادان متضادان.
وجوابنا ، أن هذا
التقدير محال ، فلا جرم أن الجواب عنه أيضا محال. فنقول : خطأ قول من يقول : إنه
يدل على كونه جاهلا ، وخطأ قول من يقول : لا يدل على ذلك ، وهذا أولى مما يقوله
مشايخنا البغداديون : أنه تعالى يعلم وجود الإيمان منه ، لأن هذا والحال هذه تجويز
البدل على صفات الله تعالى ، وذلك شر مما تجوزه النجارية ، فالأولى ما قلناه.
وصار الحال في ذلك
، كالحال فيما إذا دلت الدلالة على أنه تعالى عدل حكيم لا يفعل القبيح ، ودلت
الدلالة أيضا على أن الظلم يدل على جهل فاعله ، ثم يقدر فيقال : لو وقع من جهة
الله تعالى الظلم ، هل يدل على جهله وحاجته أم لا يدل؟ فكما أنا نحيل السؤال ولا
نجيبه بلا ولا بنعم ، بل نقول خطأ قول من يقول : إنه يدل على جهله وحاجته ، وخطأ
قول من يقول : لا يدل ، كذلك في مثلنا.
ويمكن أن يكون
لذلك مثال في الشاهد فيقال : لو أخبرنا صادق بأن هذا البيت لا يدخله قرشي فإنا
نعلم ذلك ، فلو قال قائل : لو قدرنا أن يدخله قرشي ، أفتعلمون أنه لا يدخله قرشي
أم لا تعلمون ذلك؟ قلنا : إن هذا التقدير محال فنحيل السؤال عنه ، ولا نجيب بلا
ولا بنعم ، بل نقول : خطأ من يقول : نعلم أنه لا يدخله ، وخطأ قول من يقول : لا
نعلم أنه لا يدخله ، كذلك في مسألتنا.
شبه المخالفين :
وللمخالف في هذا
الباب شبه :
من جملتها ، هو
أنهم قالوا : إن الفعل كما يحتاج عند الصحة إلى أمر ، يجب أن يحتاج عند الوقوع إلى
أمر. كما أن كون الجوهر متحركا لما احتاج إلى أمر عند الصحة وهو الحيز ، وجب
احتياجه عند الوجوب إلى أمر وهو الحركة.
والأصل في الجواب
عن ذلك ، أن هذا جمع بين أمرين من غير علة تجمعهما ، فلا يصح.
ثم يقال لهم : لو
وجب ما ذكرتموه في الواحد منا ، لوجب مثله في القديم تعالى ، والمعلوم أنه تعالى
لا يحتاج في إيقاع الفعل إلى أمر زائد على ما يحتاج إليه في صحة الفعل. فإن قالوا
: إنه يحتاج إلى أمر زائد وهو الإرادة ، قلنا : لو كان كذلك لوجب قدم العالم ،
لأنه تعالى مريد لذاته عندكم أو بإرادة قديمة ، فيلزم قدم العالم.
فإن قالوا : إنه
تعالى يريد فيما لم يزل أن لا يخلق العالم ، قلنا : أن لا يخلق نفي ، والإرادة لا
تتعلق بالنفي على ما سيجيء في موضعه إن شاء الله تعالى. وبعد لو صح تعلق الإرادة
بالنفي لصح تعلقها بالإثبات ، فكان يصح أن يريد خلق العالم فيما لم يزل ، وإذا صح
، وجب قدم العالم.
ثم يقال لهم : لا
جاز فيما أثر في الصحة أن يكون هو الذي أثر في الوقوع وهو كونه قادرا ، فلا يحتاج
إلى أمر زائد. وكيف يجوز خلافه وذلك يقدح في كون الواحد منا متحيزا في أفعاله ،
ويوجب بطلان المدح والذم ، وذلك محال.
وأحد ما يتعلقون
به في هذا الباب ، هو أنهم قالوا : إنا نجد تفرقة بين الحركة الاختيارية والحركة
الاضطرارية ، ولا يمكن أن نرجع بهذه التفرقة إلا إلى أن أحدهما قد فارقته القدرة ،
بخلاف الأخرى.
وجوابنا : أن هذه
الطريقة لا تستقيم على أصولكم على ما سبق القول فيه. ثم يقال لهم : ما أنكرتم أن
هذه التفرقة راجعة إلى أن أحدهما قد تقدمتها القدرة بخلاف الأخرى. ولا يجوز غير
هذا ، لأن في خلافه إخراج الواحد منا عن التحيز في الأفعال ، وإبطال استحقاق المدح
والذم على ما بيناه من قبل.
وبهذا نجيب إذا
قالوا : إنا نجد تفرقة بين الفعل الذي يستحق عليه المدح والذم ، وبين الفعل الذي
لا يستحق عليه ذلك ولا يمكن أن نرجع بهذه التفرقة إلا إلى أن أحدهما قد فارقته
القدرة ، والآخر لم تفارقه القدرة ؛ فإنا نقول لهم : إن هذه التفرقة مع أنها لا
تثبت على قولكم إن سائر الأفعال متعلقة بالقديم تعالى على سائر وجوهها وحقائقها ،
يمكن أن نرجع بها إلى أن أحدهما متعلق بالواحد منا لتقدم قدرته عليه دون الآخر ،
ففسد ما ذكرتموه.
ومما يتعلقون به ،
قولهم : إن عند عدم القدرة يستحيل وقوع الفعل فيجب عند وجودها أن يكون واجبا ، لأن
الاستحالة والوجوب في طرفي نقيض.
والأصل في الجواب
، أن نقيض الاستحالة إنما هو الصحة لا الوجوب. ألا ترى أن عند عدم المحل يستحيل
حلول السواد فيه ، ثم إن عند وجود المحل لا يجب ، وكذلك فإن عند عدم الذات يستحيل
فيها التعلق ، وعند وجوده لا يجب ، فإن في الذات ما لا يتعلق. وكذلك فلو قدرنا أن
يكون القديم تعالى غير قادر يستحيل عليه الفعل ، ثم إذا كان قادرا لا يجب منه
الفعل ، وكذلك في مسألتنا.
وأحد ما يتعلقون
به ، قولهم : لو جاز الفعل بقدرة متقدمة لجاز بالقدرة المعدومة ، بل كان يجوز في
حالة العجز ، ومعلوم خلافه.
والأصل في الجواب
عن ذلك ، ما تريدون بقولكم : إنه لو جاز الفعل بقدرة متقدمة لجاز بالقدرة المعدومة؟
فإن أردتم به أن الفعل يصح بقدرة لم تكن موجودة قط ، فإن ذلك لا يجب ، وإن أردتم
به أنه يصح بقدرة كانت موجودة ثم عدمت ، فإن ذلك مما نرتكبه ونلتزمه فلا مانع لهذا
الإلزام ، وهذا ظاهر في أفعالنا ، المباشر منها والمتولد.
أما في المباشر ،
فلأن الفعل إنما يحتاج إلى القدرة لخروجه من العدم إلى الوجود ، فلو لم تتقدمه ،
بل توجد في حالة وقوع الفعل ، فإنه لا يحتاج إليها بل يستغنى عنها.
وأما في المتولدات
فأظهر ، ألا ترى أن الرامي ربما يرمي ويخرج عن كونه قادرا قبل الإصابة ، بل عن
كونه حيا.
وأما قولهم : بل
كان يصح في حالة العجز ، فإن أرادوا به أنه كان يصح في العجز ولما تقدمته القدرة
فإن ذلك مما لا يجب ، وإن أرادوا به وقد تقدمته قدرة فإنا نجوزه ، ألا ترى أن
الرامي قد يرمي ويعجز قبل مصادفة السهم رميته ، فبطل كلامهم.
وأحد ما يتعلقون
به ، قولهم : لو جاز أن تكون القدرة متقدمة لمقدورها في وقت واحد لجاز أن تكون
متقدمة في أوقات كثيرة ، وهذا يقتضي أن ينفك لواحد منا من الأخذ والترك ويوجب أن يكلف
ويخترم ، وإن لم يستحق مدحا ولا ذما ولا ثوبا ولا عقابا بأن لا يفعل بما فيه من
القدرة شيئا ، وذلك يوجب أن يعيده الله تعالى في عرصات يوم القيامة ولا شيء له ولا
عليه ، وهذا خرق الإجماع وترك الكتاب ، فقد قال تعالى : (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي
السَّعِيرِ) [الشورى : ٧].
والأصل في الجواب
عن ذلك ، أن لنا في هذا الباب مذهبين :
أحدهما : مذهب أبي علي ، وهو أنه لا يجوز خلو القادر بالقدرة من
الأخذ والترك إلا عند مانع ، ومذهبه مفارق لمذهب هؤلاء المجبرة ، فإنهم لا يجوزون
ذلك البتة من حيث اعتقدوا أنها موجبة.
والثاني : مذهب أبي هاشم ، وهو أنه يجوز خلو القادر بالقدرة من
الأخذ
والترك ، وهو
الصحيح الذي اخترناه.
فعلى المذهب الأول
لا يلزم ما ذكروه ، وعلى هذا المذهب لا يلزم أيضا.
إلا أنه عند شيخنا
أبي هاشم : أن لا يفعل ، جهة في استحقاق الثواب والعقاب كما أن الفعل جهة لذلك ،
ألا ترى أن أحدنا لو لم يرد الوديعة مع التمكن من ذلك فإنا نعلم استحقاقه للذم وإن
لم نعلم شيئا آخر ، ولو لم يطالب الغريم بالدين فإنا نعلم استحقاقه للمدح وإن لم
يفعل شيئا آخر. يبين ذلك ويوضحه ، أنا متى نعلم ذلك من حاله جوزنا أن يستحق الذم
وأن لا يستحق ، فوجب أن يكون استحقاقه للذم ، وإن لم نعلم شيئا آخر ، ومتى لم نعلم
ذلك من حاله جوزنا أن يستحق الذم ، وأن لا يستحق ، فوجب أن يكون استحقاقه للذم
مصروفا إلى أنه لم يفعل ما وجب عليه على ما نقوله ، وهكذا الكلام في استحقاق
المديح ، فبطل ما أوردوه وسقط تعلقهم.
شبهة أخرى لهم في
المسألة : وهي أنهم قالوا : الفعل كما يحتاج إلى القدرة فقد يحتاج إلى الآلة ، ثم
إن الآلات يجب فيها المقارنة ، فكذلك القدرة.
وقد مر ما هو جواب
هذا ، فإنا قد بينا أن الآلات تنقسم : إلى ما يجب تقدمها ، وهو كل ما يكون وصلة
إلى الفعل نحو القوس وغيرها ، وإلى ما يجب مقارنتها ، وهو كل ما يتمخض محلا ، نحو
صلابة الأرض وما شاكل ذلك ، وإلى ما يجب فيه كلا الأمرين ، وذلك كل ما يكون وصلة
إلى الفعل ، ويكون مع ذلك محلا ، نحو اللسان في الكلام والسكين في الذبح.
وبينا أن القدرة
إن ردت إلى شيء فإنما يجب ردها إلى ما هو كالوصلة إلى الفعل ، فإنها إنما يحتاج
إليها لإخراج الفعل من العدم إلى الوجود ، فسقط كلامهم.
وأحد ما يقولونه ،
إن القول بتقدم القدرة لمقدورها يوجب انقطاع الرغبات عند الله تعالى ، وذلك بخلاف
ما عليه المسلمون ، لأن رغبات المسلمين لا تنقطع ، بل تكون ممتدة نحو الباري.
وجوابنا : إنما
كان يلزم ما ذكرتموه إن لو لم يجز انتفاء القدرة بعد وجودها ، فأما ومن المجوز
انتفاؤها بأدنى تعب ، لفقد ما تحتاج في الوجود إليه فلا.
وبعد ، فإذا لم
يلزم على القول بتقدم اليد والرجل على البطش والمشي ، انقطاع رغبة من له هاتان
الآلتان عن الله تعالى ، فكذلك في القدرة.
والعجب من هؤلاء
أنهم يوردون علينا مثل هذا الكلام ، ومن مذهبهم أن الطريق منسدة إلى تخليص المكلف
نفسه من عقاب الأبد والفوز بالنعيم السرمدي ، لأنه إذا عصب الكفر بناصيته في الأزل
وجرى العلم بذلك ، كيف يمكنه إخراج نفسه عنه ، وكيف ينفك عنه؟ فأي رغبة تثبت إلى
الله تعالى والحال هذه ، ولو لا فرط جهلهم وقلة عقولهم ، وإلا فما وجه الميل إلى
التشيع لمثل هذا الكلام.
وأحد ما يتعلقون
به ، هو أن من حق الدلالة أن تكون مقارنة للمدلول ، ألا ترى أن صحة الفعل لما كانت
دلالة على كونه قادرا وجب فيها المقارنة ، وكذلك القدرة يجب أن تقارن مقدورها.
والأصل في الجواب
عن ذلك ، أن هذه الشبهة مع ركتها مبنية على أصل لا يصح ، وهو أن من حق الدلالة أن
تكون مقارنة للمدلول عليه ، وليس كذلك ، فإن المعجز دلالة على النبوة ، ثم لا بد
من أن يتقدمه المدلول ، إذ لو لم يتقدمه لكان في ذلك ظهور المعجز على من ليس بصادق
في دعواه. إن المعجز لا بد من أن يكون عقب دعوى المدعي للنبوة ، لا بد من أن يكون
نبيا حتى يدعيه ، وإلا كان كاذبا في الدعوى.
وأما قولهم في
الفعل ، فلا يصح ، لأن الفعل إنما يدل على أن فاعل كان قادرا ، فقد تقدم المدلول
وتبعته الدلالة ، فكيف أوجبوا في ذلك المقارنة؟ ثم يقال لهم : ومن أين وجب إذا
كانت هذه الطريقة واجبة في الدلالة أن تكون واجبة في القدرة أيضا؟ وله هذا إلا فرط
الجهل الذي لا دواء له.
وأحد ما يتعلقون
به ، قولهم : إن القدرة لو كانت صالحة للضدين لكان لا يكون أحدهما بالوقوع أولى من
صاحبه إلا بأمر ومخصص ، كما في الجوهر ، فإنه لما صح أن يكون كائنا في هذه الجهة ،
وصح أن يكون كائنا في غيرها ، ثم لم يختص ببعض الجهات دون بعض إلا بأمر ومخصص وهو
الكون ، فكان يجب مثله في مسألتنا.
والأصل في الجواب
عن ذلك ، أن هذا إنما كان يلزم إن لو كان تأثير القدرة على سبيل الإيجاد ، فأما
وتأثيرها فيما تؤثر فيه على طريق الصحة والاختيار ، فلا يمتنع أن يختار أحد الضدين
دون الآخر ، وإن لم يكن هناك أمر زائد على كونه قادرا ألا ترى أنه إذا قرب إليه
طبق وعليه جملة من الرطب فإنه يتناول من ذلك بعضها دون البعض ، مع أن الذي له
ولأجله تناول هذا ثابت في الباقي ، ثم لا يطلب لذلك أمر
زائد على كونه
قادرا ، كذلك في مسألتنا ، وهكذا فلو خير بين دينارين وهما في الجودة والرداءة على
سواء فإنه يختار أحدهما ، ثم لا يقال : إنه لا بد هنا أمر زائد على كونه قادرا ،
فكذلك في مسألتنا.
وأما قياس ذلك على
الجوهر وكونه كائنا فلا يصح ، إذ لدلالة قد دلت على أن التحيز غير كاف في اختصاصه
ببعض الجهات دون البعض ، لأنه ليس بأن يختص بهذه الجهة لتحيزه أولى من أن يختص
بالجهة الأخرى ، إذ لا يفعل في تأثيره سوى طريقة الإيجاب ، وليس كذلك كونه قادرا ،
فإن تأثيره في الفعل على طريق الصحة ، ففارق أحدهما الآخر.
وأحد ما يتعلقون
به ، قولهم : إن القدرة لو استحال الفعل بها في الحال ، لكان لا يخلو : إما أن
تكون هذه الاستحالة راجعة إلى القدرة أو إلى المقدور ، وأي ذلك كان فهو ثابت في
الحالة الثانية ، فإما أن يقال : إنه يستحيل الفعل بها على كل حال ، أو يقال :
بمقارنتها للمقدور وصحة الفعل بها في الحال ، على ما نقوله.
والأصل في الجواب
عن ذلك ، أنا نعلم هذا الحكم ولا نعلله ، لأنا بأي شيء عللناه فسد ، وليس يجب في
الأحكام كلها أن تكن معللة ، بل الأصل فيه أن يعرض على وجوه التعليل ، فإن قبل
التعليل علل ، وإن لم يقبل لم يعلل.
ثم يقال لهم : ليس
في هذا إلا استحالة الفعل بالقدرة في الحال ، وليس يجب إذا استحال الفعل بها في
الحال أن يستحيل أيضا في المستقبل ، فإنك تعلم أن الاعتماد يستحيل أن يولد في
الحال ثم يصح توليده في الثاني ، وكذلك فالنظر يستحيل أن يولد العلم في الحال ويصح
منه في الثاني.
ثم يقال لهم : أليس
أنه تعالى يستحيل أن يكون فاعلا فيما لم يزل؟ فلا يخلو ، إما أن يكون ذلك لأمر
يرجع إلى القدرة ، أو لأمر يرجع إلى المقدور ، وأي ذلك كان فهو ثابت فيما لا يزال
، فيجب استحالة الفعل منه فيما لا يزال ، فكما أنه لا بد من أن يقول إن هذا حكم لا
يعلل ، وكذلك نقول نحن.
وأحد ما يتعلقون
به ، قولهم : إن المتعلقات بالأغيار على اختلافها واختلاف أجناسها مشتركة في أنها
لا تتعلق بالضدين ، والقدرة من جملة المعاني المتعلقات بالأغيار فيجب أن لا تتعلق
بالضدين ، وكل من قال بأنها لا تتعلق بالضدين قال بأنها مقارنة للمقدور على ما
نقوله. والأصل في الجواب عن ذلك ، أن هذا باطل بالعجز ،
فإنه من المتعلقات
بالأغيار ، وعندكم أنه يتعلق بالضدين ، حتى إن العجز عن الشيء عجز عن ضده ، ومن
هاهنا استدل بعض مشايخنا على أن القدرة صالحة للضدين متقدمة للمقدور ، فقال : قد
ثبت أن العجز عن الشيء عجز عن ضده فيجب مثله في القدرة لأنهما ضدان ، ومن حق
الضدين أن يتعلق أحدهما بما يتعلق به صاحبه ، ويكون تعلق أحدهما على العكس من تعلق
الآخر. إذا ثبت هذا ، فلو كان العجز صالحا للضدين والقدرة غير صالحة لهما ، لكان
لا يمتنع أن يطرأ أحدهما على الآخر فينفيه من وجه دون وجه ، وذلك حال. وإذا صح
كونها صالحة للضدين ، وجب تقدمها للمقدور والإلزام وجود الضدين جميعا.
ثم يقال لهم :
وكيف أجريتم المتعلقات بالأغيار مجرى واحدا مع أن الشهوة والعلم يشتركان في التعلق
، ثم إن من حق الشهوة أن لا تتعلق إلا بالمدركات بخلاف العلم والإرادة ، فإنهما
يتعلقان بالمدركات وقد لا يتعلقان بذلك.
وأحد ما يتعلقون
به ، قولهم : إن القدرة عون على الفعل ، فكان يجب أن تكون مقارنة له. قلنا : لا
نسلم أن القدرة بمجردها عون ، وإنما العون هو التمكين من الفعل وإرادة الفعل ، حتى
لو يمكن غيره من قتل آدمي بأن يدفع إليه سكينا ولا يريد منه قتله ، وإنما دفع إليه
ذلك لأن يذبح به بقرة ، فإنه متى قتل آدميا لم نقل : إنه أعانه على قتله لما لم
يرد منه قتله فلا يصح ما ذكرتموه. وإذ قد صح أن العون ليس هو مجرد القدرة ، لم
يمكن قياس أحدهما على الآخر. وفي شبههم كثرة ، وأكثرها يرجع إلى بعض ما تقدم
فاقتصرنا بها.
فصل : في أنه تعالى لا يجوز أن يكون مريدا للمعاصي
الإرادة فعل :
واتصال هذا الفصل
بباب العدل ظاهر ، فإن الإرادة فعل من الأفعال ، ومتى تعلقت بالقبيح فتجب لا محالة
، وكونه تعالى عدلا يقتضي أن تنفي عنه هذه الإرادة.
وقبل البيان في
المسألة نبين حقيقة : الإرادة ، والكراهة ، والمريد ، والكاره. ثم نتكلم على إثبات
هذه الصفة لله عزوجل ، وفي كيفية استحقاقه له. ثم نتكلم من بعد ، فيما يجوز أن
يريده الله وما لا يجوز.
فالإرادة هو ما
يوجب كون الذات مريدا ، والكراهة ما يوجب كونه كارها.
والواحد منا إذا
رجع إلى نفسه فصل بين أن يكون على هذه الصفة وبين أن يكون على غيرها من الصافات ،
وأجلى الأمور ما يجده الإنسان من نفسه.
فإن قيل : قد
دخلتم فيما عبتم على الكلابية حيث قالت في حد العلم : هو ما يوجب كونه عالما.
قيل له : فرق
بيننا وبينهم ، فإنهم فسروا العلم بما يوجب كون الذات عالما ، والعالم بمن له
العلم ، فأحالوا بأحد المجهولين على الآخر ، وليس كذلك ما ذكرنا ، فإنا فسرنا
الإرادة بما يوجب كون الذات مريدا ، ثم لما سئلنا عن حقيقة المريد أحلناه إلى نفسه
، ففارق حالنا حالهم.
هذا هو حقيقة
الإرادة وكراهة.
وأما المريد ، فقد
قيل في حده : هو المختص بصفة لكونه عليها يصح منه الفعل على وجه دون وجه. وهذا وإن
كان كذلك ، إلا أن إيراده على طريق التحديد لا يصح ، لأن قولنا مريد أظهر منه ،
ومن حق الحد أن يكون أظهر من المحدود ، ولهذا لم يحد الموجود بشيء ، لأن كل ما
يذكر في حقيقته فقولنا موجود أظهر منه ، فيجب إذن أن لا نحد المريد أصلا ، لأن أي
ما يذكر في حده فقولنا مريد أظهر منه ، وهكذا الكلام في الكاره.
وإذ قد علم ذلك
فاعلم ، أن أحدنا إنما يريد ما يريده لمعنى هو الإرادة.
والطريق إلى إثبات
الإرادة نحو الطريق إلى إثبات الأكوان على ما مر في إثبات الأعراض. وتحريرها هاهنا
، هو أن الواحد منا حصل مريدا مع جواز أن لا يحصل مريدا والحال واحدة والشرط واحد
، فلا بد من أمر ومخصص له ولمكانه حصل على هذه الصفة ، وإلا لم يكن بأن يحصل عليها
أولى من خلافه ، وليس ذلك الأمر إلا وجود معنى وهو الإرادة. والكلام في أنه لا بد
هاهنا من معنى قد سلف ، وإنما الذي يجب أن نذكره هاهنا أن ذلك الأمر ليس إلا الإرادة
والكراهة.
الإرادة والكراهة لا يرجعان إلى الشهوة والنفار :
والذي يشتبه الحال
فيه من المعاني فيقال : إن المرجع بالإرادة إنما هو الشهوة فيجب أن نميز بين
الجنسين ، والذي يقع به هذا التمييز ، هو أن أحدنا قد يريد ما لا يشتهيه ككثير من
الأدوية الكريهة ، ولهذا قالوا : من محن الدنيا أن الله تعالى جعل الداء
في اللوزينج ،
والشفاء في الإهليلج ، وقد يشتهي ما لا يريده كالزنا وشرب الخمر وكالماء البارد في
الحر الشديد وهو صائم ، فصح أنه لا يمكن أن يرجع بالإرادة إلى الشهوة ، وكما لا
يمكن ذلك فكذلك لا يمكن أن يرجع بالكراهة إلى النفار ، فإن الحي قد يكره ما لا
ينفر طبعه عنه وهو الزنا وشرب الخمر ، وقد ينفر طبعه عما لا يكرهه وهو الدواء
الكريه ، فإذن لا يمكن أن يرجع بهما إلى الشهوة والنفار ولا يشتبه الحال فيما
عداهما ، فخلصتا معنيين.
إذا ثبت هذا ،
فاعلم أن الطريق إلى معرف هذه الصف في الشاهد إنما هو الضرورة ولا يمكن معرفتها
استدلالا لأن كل دلالة تدل عليها فمبنية على العدل والحكمة ، ولا يثبت كون أحدنا
عدلا حكيما : ولهذا فإن النبي صلىاللهعليهوسلم لما ثبتت حكمته جاز أن يعرف مراده استدلالا كما يجوز أن
يعرف ضرورة ، ومن هاهنا قلنا : إن من لم يثبت كونه عدلا حكيما ، لا يمكنه أن يعلم
كونه مريدا.
قولنا : الله مريد لا يعني كونه قادرا لا عالما :
ونحن إذا قلنا :
إن تعالى مريد فلا نعني به كونه قادرا ولا عالما ، لأنه قد يريد ما لا يقدر عليه
وقد يقدر على ما لا يريده ، وهكذا في العلم وإنما مرادنا أنه حاصل على مثل صفة
الواحد منا إذا كان مريدا.
وقد خالفنا في ذلك
شيخنا أبو القاسم البلخي والنظام ، وقالا : إنا إذا قلنا : إنه تعالى مريد لفعل
نفسه فمرادنا أنه يفعله لا على وجه السهو والغفلة ، وإذا قلنا إنه مريد لفعل غيره
فغرضنا أنه آمر به ناه عن خلافه ، فلم يثبتا معنى هذه الصفة في القديم تعالى
البتة. ونحن إذا أردنا إثباته لله تعالى فبأن نبين أولا صحته عليه جلّ وعزّ ، لأن
إثبات الصفة تترتب على صحتها. والذي يدل على أن هذه الصفة تصح على الله تعالى ، هو
ما قد ثبت أن المصحح لها إنما هو كونه حيا ، بدليل أن من كان حيا صح أن يريد ،
ومتى لم يكن حيا لم يصح أن يريد ، فيجب أن يكون المصحح لهذه الصفة إنما هو كونه
حيا.
إذا ثبت هذا
والقديم تعالى حي ، وجب صحة أن يريد ويكره.
فإن قيل : ما
أنكرتم أن المصحح لهذه الصفة في الواحد منا كونه ذا قلب؟ لأن هذه الصفة راجعة إلى
الجملة ، فالمصحح لها لا بد أن يكون راجعا إلى الجملة ، والقلب فليس كذلك فكيف
يصححها.
ومتى قيل : أليس
أنه إذا كان ذا قلب صح أن يريد ، ومتى لم يكن كذلك لم يصح؟ قلنا : إنه وإن كان
كذلك إلا أنه ليس يجب في القلب أن يكون مصححا لها ، لأن ذلك إنما وجب من حيث إن
الإرادة تفتقر في وجودها إلى محل مبني بنية مخصوصة نحو بنية القلب ، لا لأن القلب
مصحح لها.
وصار ذلك كما نقول
في كون عالما أنه لا يصح ما لم يكن ذا قلب ، ثم لا يقال : إن كونه ذا قلب هو
المصحح له ، لأن احتياجه إلى القلب هو من حيث إنه لا يكون عالما إلا بعلم ، العلم
في وجوده يحتاج إلى محل مبني بنية مخصوصة نحو بنية القلب فكيف يصح ما قالوه ، وهل
هذا إلا كما يقال : لما لم يصح في الواحد منا أن يكون عالما قادرا إلا إذا كان
جسما ، وجب في كونه جسما أن يكون هو المصحح لهاتين الصفتين ، فكما أن ذلك لا يجب
لأن احتياج كونه عالما قادرا إلى كونه جسما هو من حيث إنه عالم بعلم وقادر بقدرة ،
والعلم والقدرة يحتاجان في وجودهما إلى محل مبني بنية مخصوصة ، والمحل المبني بنية
مخصوصة لا يكون إلا جسما ، لا من حيث إن كونه جسما يصحح هاتين الصفتين ، كذلك في
مسألتنا.
وإذ قد صحت هذه
الصفة لله تعالى ، فالذي يدل على ثباتها له ، هو أن في أفعاله تعالى ما وقع على
وجه دون وجه ، والفعل لا يقع على وجه دون وجه إلا لمخصص هو الإرادة.
بيان ذلك ، أن خلق
القديم تعالى الحياة فينا إذا جاز أن يكون نعمة وجاز أن يكون نعمة ، لم يكن بد من
أمر ومخصص له ولمكانه يصير نعمة ، وإلا لم يكن بأحد الوجهين أحق منه بالآخر ، وليس
ذلك الأمر إلا الإرادة.
وإن شئت فرضت
الكلام في شهوة القبيح ونفرة الحسن فقلت : إنه إذا جاز أن يكون تكليفا وتعريضا
للمكلف إلى درجة الثواب ، وجاز أن يكون إغراء على القبيح ، لم يختص بأحد الوجهين
دون الآخر إلا لمخصص هو الإرادة.
وقد فرض مشايخنا
الكلام في الأمر والخبر ، لأن الأمر لا يكون أمرا إلا بالإرادة ، وكذلك الخبر.
وتحرير ذلك ، أن
قولنا : محمد رسول الله ، يجوز أن يكون خبرا عن محمد بن عبد الله ، ويجوز أن يكون
خبرا عن المحمدين ، وإذا كان كذلك ، لم يكن بأن يكون خبرا عنه أولى من أن يكون
خبرا عن غيره إلا بأمر ومخصص ، وليس ذلك الأمر إلا
الإرادة.
فإن قيل : ومن أين
أن قولنا محمد رسول الله كما يجوز أن يكون خبرا عن محمد بن عبد الله يجوز أن يكون
خبرا عن غيره من المحمدين؟ قلنا : لأنه لو لم يجز ذلك لارتفع التجوز عن الكلام
وبطل ، لأن التجوز هو أن يستعمل اللفظ في غير ما وضع له في الأصل ، فمتى لم يجز
استعمال اللفظ إلا على وجه واحد فقد بطل المجاز أصلا.
فإن قيل : ولم
قلتم : إن ذلك الأمر ليس إلا الإرادة؟ قلنا : لأنه لا يخلو ، إما أن يكون راجعا
إلى ذات الخبر وصفاته ، وذلك لا يجوز ، وإلا كان لا يجوز أن يقع مرة فيكون خبرا
ويقع مرة أخرى فلا يكون كذلك ، لأن هذا هو الواجب في الصفة التي تستحقها الذات
لنفسها ولما هو عليه في نفسه كما قلنا في السواد ، ألا ترى أن السواد لما استحق
كونه سوادا لذاته ، لم يجز أن يوجد مرة فيكون سوادا وأخرى فلا يكون سوادا.
وبعد ، فإن ذات
الخبر وما هو عليه حاله مع هذا المخبر كحاله مع غيره من المخبرين ، فكان يجب أن
يكون خبرا عن سائر المخبرين ، أو لا يكون خبرا عن واحد منهم ، أما أن يكون خبرا عن
البعض دون الثاني فلا.
وبعد ، فإن صفة
الذات ترجع إلى الآحاد والأفراد دون الجمل ، فكان يجب في كل حرف من هذه الحروف أن
يكون خبرا ، وقد عرف خلافه.
وهذه الوجوه التي
ذكرناها كما تدل على أن الخبر لا يكون خبرا لذاته ولا لما هو عليه في ذاته ، فإنها
تدل على أنه لا يجوز أن يكون خبرا لوجوده أو لعدمه أو حدوثه ، لأن حال هذه الأوصاف
مع المخبر كحاله مع غيره ، ولأنها ترجع إلى الآحاد والأفراد فكان يجب في كل حرف أن
يكون خبرا على ما مر ، ومعلوم خلافه.
وفي العدم وجه آخر
، وهو أنه يحيل الحكم ، وما أحال الحكم لا يجوز أن يكون مؤثرا فيه ، ألا ترى أن
الموت لما أحال كونه عالما لم يجز أن يكون مؤثرا فيه ، كذلك في مسألتنا ، أو يكون
راجعا إلى غيره ، ثم لا يخلو إما أن يكون تأثيره على طريق الإيجاب فهو المعنى ،
وذلك المعنى إما أن يكون موجودا أو معدوما ، وأي ذلك كان فإنه لا يجوز أن يؤثر فيه
، لأن حاله مع بعض المخبرين كحاله مع سائرها.
وبعد ، فإن
المعدوم مما لا يوجب الحكم ، لأن الإيجاب إنما يصدر عن الصفة المقتضاة عن صفة
الذات ، وهي مشروطة في سائر الذوات بالوجود ، أو يكون تأثيره على طريق التصحيح فهو
الفاعل ، وصفات الفاعل المتعلقة منها ـ فإن ما لا يتعلق لا يؤثر في الغير ـ محصورة
معدودة كونه قادرا عالما مريدا كارها مشتهيا نافرا ظانا ، وأي ذلك كان فلا يجوز أن
يؤثر فيه.
فإن قيل : لم لا
يجوز أن يكون المؤثر في كون الكلام أمرا وخبرا إنما هو كونه قادرا؟ قلنا : لأن
تأثير القادر لا يتعدى طريقة الإحداث ، وكون الكلام أمرا وخبرا أمر زائد على ذلك.
وبعد ، فإن كونه
قادرا ثابت في حال السهو ، ثم لا يصح منه الإخبار في تلك الحال.
فإن قيل : لم لا
يجوز أن يكون المؤثر في ذلك إنما هو كونه عالما؟ قيل : لأن حال كونه عالما مع هذا
المخبر كحاله مع غيره مع المخبرين ، فيجب أن يكون خبرا عن سائرهم أو لا يكون خبرا
عن واحد منهم ، فأما أن يكون خبرا عن واحد منهم دون ما عداه ، فلا. إلا أن هذا
إنما يجب في ما يكون تأثيره على طريق الإيجاب ، فأما ما يؤثر على طريق التصحيح فإن
ذلك لا يجب ، وكونه عالما إنما يؤثر على طريق التصحيح ، فالأولى أن نقول : إن
العلم يتبع المعلوم ويتعلق به على ما هو عليه ولا يؤثر فيه ، إذ لو أثر العلم في
المعلوم لوجب في المعلومات كلها ، نحو القديم والجوهر والأعراض أن تكون متعلقة
بعلومنا ، حتى إن زال العلم زال وإن ثبت ثبت ، وقد عرفنا فساده.
ولا شبهة في أن
كونه مشتهيا ونافرا وظانا مما لا يؤثر في كون الكلام أمرا خبرا ، أو كما لا يجوز
أن يكون المؤثر فيه هذه الأوصاف ، وفكذلك لا يجوز أن يكون المؤثر فيه كونه كارها ،
لأن الكراهة تمنع الفعل ، فضلا عن أن تكون مؤثرة فيه.
فهذا هو الكلام في
الإرادة.
وأما الكلام في
الكراهة فكمثل ، لأن كل ما ذكرناه في باب كونه مريدا يعود هاهنا ، وكما أن الدلالة
العقلية تدل هاهنا على هذه الجملة التي مضت ، فالدلالة السمعية توافقها. قال الله
تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ
الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة :
١٨٥] وقال في
الكراهية : (وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ
انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ) [التوبة : ٤٦]
وقال بعد عده المعاصي : (كُلُّ ذلِكَ كانَ
سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (٣٨)) [الإسراء : ٣٨] ،
فهذه جملة الكلام في ذلك.
وللمخالفين في هذا
الباب شبه نستقصي القول فيها من بعد إن شاء الله عزوجل.
ونذكر هاهنا ما لا
بد من ذكره ونتكلم عليه. فمن جملة ما نذكره هاهنا ، هو أنهم قالوا : لو كان القديم
تعالى مريدا وكارها لوجب أن يكون مشتهيا ونافرا ، لأن المرجع بالإرادة والكراهة
إلى الشهوة والنفار ، ونحن قد أجبنا عن ذلك وفصلنا بين هذه الأوصاف فلا نعيده.
وأحد ما يوردونه
في هذا الباب ، هو أنهم قالوا : لو كان الله تعالى مريدا ومعلوم أنه لم يكن كذلك
أبدا وإنما حصل على هذه الصفة بعد أن لم يكن عليها ، لوجب أن يكون قد تغير حاله ،
والتغير لا يجوز على الله تعالى ، فليس إلا أنه تعالى لا يكون مريدا أصلا. قلنا ما
تريدون بالتغير؟ فإن أردتم به أنه حصل مريدا بعد أن لم يكن فهو الذي نقوله ، وإن
أردتم به أنه حصل غير ما كان فلم وجب ذلك؟ فلا يجدون إلا ما يريدون سبيلا.
فصل : في كيفية استحقاقه تعالى لهذه الصفة
الله مريد بإرادة محدثة لا في محل :
واعلم أنه مريد
عندنا بإرادة محدثة موجودة لا في محل.
وقد ذهبت النجارية
إلى أنه تعالى مريد لذته ، وذهبت الأشعرية إلى أنه تعالى مريد بإرادة قديمة ،
وذهبت الكلابية إلى أنه تعالى مريد بإرادة أزلية ، ونحن إذا أفسدنا هذه المذاهب
كلها صح لنا ما قلناه.
فساد قول النجارية :
والذي يدل على
فساد ما ذهب إليه النجار ، هو أنه تعالى لو كان مريدا لذاته لوجب أن يكون مريدا
لجميع المرادات ، لأن المرادات غير مقصورة على بعض المريدين دون بعض ، فما من مراد
يصح أن يريده زيد إلا ويصح أن يريده عمرو وغيره من المريدين ، فيجب أن يكون مريدا
لسائر المرادات. كما أنه تعالى لما كان عالما
لذاته ، وكانت
المعلومات غير مقصورة على بعض العالمين دون بعض ، كان عالما بجميعها ، كذلك هاهنا.
فإن قيل : أو ليس
أنه تعالى قادر لذاته ثم لا يجب أن يكون قادرا على جميع المقدورات ، فهلا جاز مثل
في مسألتنا؟.
قلنا : إن بين
الوضعين فرقا ، لأن المقدورات مقصورة على بعض القادرين دون بعض ، حتى لا يجوز في
مقدور زيد أن يكون مقدورا لعمرو ، إذ لو جاز ذلك لكان يجب إذا خلص داعي أحدهما إلى
الإيجاد وداعي الآخر إلى أن لا يوجد ، أن يوجد وأن لا يوجد دفعة واحدة.
وليس كذلك
المرادات فإنها غير مقصورة على بعض المريدين دون بعض ، حتى ما من مراد إلا وكما
يصح أن يريده زيد يصح أن يريده عمرو وغيره من المريدين ، فنظير المرادات المعلومات
، فإن المعلومات أيضا غير مقصورة على بعض العالمين دون بعض ، حتى ما من معلوم يصح
أن يعلمه زيد إلا ويصح أن يعلمه عمرو غيره من العالمين ، فالفرق بين المرادات
والمقدورات ظاهر.
فإن قيل : إنا
نرتكب ذلك ونقول : إنه تعالى مريد لسائر المرادات فما الذي يلزم عليه؟ قلنا : يلزم
عليه أشياء كثيرة ووجوها من الفساد لا قبل لكم بها.
من جملتها ، أنه
كان يجب إذا أراد الواحد منا أن يرزقه الله تعالى الأموال والأولاد أن يكون الله
تعالى مريدا له ، وإذا كان مريدا له وجب وجوده ، سيما على مذهبهم أنما يريده الله
تعالى يجب حصوله سواء كان من فعله أو من فعل غيره وإلا اقتضى الضعف والعجز.
ومنها : أنه كان يجب أن يوجد من المرادات أكثر مما أوجد لأنه
تعالى يصح أن يريد أكثر ، وإذا صح أن يريده وجب أن يريده ، وإذا وجب أن يريده وجب
حصوله لا محالة.
فإن قيل : إرادة
ما لا يقع تمنّ ، وليس يجب إذا كان الله تعالى مريدا للمرادات أن يريد المتمنيات
أيضا.
قلنا : إن التمني
ليس من الإرادة في شيء ، وإنما هو من أقسام الكلام ، ولهذا يعده أهل اللغة في ذلك
فيقولون : الكلام أمر وخبر واستخبار وعرض وتمن.
وبعد ، فإن أحدنا
قد يريد وجود الحلاوة واللون في محل فيحصل أحدهما ولا يحصل الآخر ، ولو جاز أن
يقال إن أحدهما تمن لجاز مثله في الآخر ، إذ لا يمكن الفصل بينهما.
ومما يلزمهم على
القول بأنه تعالى مريد لسائر المرادات ، قدم العالم ، لأنه تعالى إذا كان مريدا
لذاته صح أن يريد وجود العالم فيما لم يزل ، وإذا صح أن يريده وجب أن يريده ، وإذا
وجب أن يريده وجب حصوله لا محالة ، فيلزم قدم العالم ويقدح في حدوثه.
إلا أن الأولى أن
يقال : يلزمهم أن يكون الله تعالى قد خلق العالم قبل الوقت الذي خلقه ، وقبل ذلك ،
وقبله ، فيكون أحسم للأشياء ، فإن حدوث العالم فيما لم يزل مستحيل ، فلا يصح
وجوده.
ومما يلزمهم ،
وجود الضدين ، لأن الضدين يصح أن يكونا مرادين لمريدين بل لمريد واحد إذا اعتقد
ارتفاع التضاد بينهما ، وإذا صح أن يكون مرادا لنا صح أن يكون مرادا لله تعالى
لأنه مريد لذاته ، وإذا صح وجب ، وإذا وجب ، وجب حصول الضدين.
فإن قيل : أليس
أنه تعالى عالم لذاته ثم لا يجب أن يكون عالما بوجود الضدين ، فهلا جاز أن يكون
مريدا لذاته ولا يجب أن يكون مريدا للضدين.
والجواب عن ذلك ،
أن بين الوضعين فرقا ، لأن وجود الضدين في محل واحد يستحيل أن يكون معلوما لعالم
واحد ولعالمين ، وليس كذلك في الإرادة ، لأن الضدين مما يصح أن يكونا مرادين
لمريدين بل لمريد واحد إذا اعتقد ارتفاع التضاد بينهما على ما مر.
فإن قيل : إرادة
حدوث الشيء تتبع العلم به ، والعلم بوجود الضدين مستحيل فلا يجب أن يكون مريدا
لهما.
والأصل في الجواب
، أن الضدين يصح أن يكونا مرادين لمريدين بل لمريد واحد إذا اعتقد ارتفاع التضاد
بينهما ، لأن إرادة الشيء تابع لصحة حدوثه ، وصحة الحدوث ثابتة في كل واحد من
الضدين ، فصح أن يعلم الله تعالى ذلك من حال كل واحد منهما ، وإذا صح ذلك صح أن
يريدهما ، وإذا صح وجب لأن صفة الذات إذا صحت وجبت ، فيجب حصولها كما ألزمنا.
ومتى قلتم : إن
على هذا يجب أن يكون القديم تعالى عالما بوجود الضدين وذلك محال ، قلنا : إن
مذهبكم في الإرادة يقتضي ذلك ويؤدي إليه ، فاتركوه كي لا يقتضيه فلا يلزمكم.
وأحد ما يلزمهم
على القول بأنه تعالى مريد لذاته ، أن يكون مريدا لسائر القبائح ، فكان يجب أن
يكون حاصلا على صفة من صفات النقص وذلك فاسد.
فإن قيل : وما
تعنون بالنقص؟ قلنا : التفرقة التي يجدها الواحد منا من نفسه إذا رجع إليها بين أن
يريد القبيح وبين أن لا يريده بل يريد الواجب.
فإن قيل : إن هذا
إنما يجب في الشاهد لأن أحدنا يستحق هذه الصفة لمعنى هو الإرادة ، والقديم تعالى
يستحقها لذاته فلا يجب ذلك فيه.
قلنا : الصفة إذا
كانت من صفات النقص لم يختلف الحال بين أن تكون مستحقة للذات وبين أن تكون مستحقة
لمعنى ، ألا ترى أن كونه جاهلا لما كانت من صفات النقص ، لم يختلف الحال بين أن
تكون مستحقة للذات أو مستحقة لمعنى ، كذلك هاهنا.
فإن قيل : قولكم
إنه تعالى إذا كان مريدا لذاته يجب أن يكون مريدا للضدين مما يصح ، لأنه يعلم أن
وجود الضدين في محل واحد دفعة واحدة مستحيل ، وإنما يعلم أين أحدهما دون الآخر ،
فما المعلوم من حاله أنه يقع فهو مراد ، وما المعلوم من حاله أنه لا يقع فهو
متمنّى ، والقديم تعالى إذا كان مريدا لذاته لا يجب أن يكون متمنيا.
والأصل في الجواب
عن ذلك ، أنه لا فرق بين ما المعلوم من حاله أنه يقع وبين ما المعلوم من حاله أنه
لا يقع في صحة الإرادة ، ولهذا فإن أحدنا قد يريد الضدين إذا اعتقد ارتفاع التضاد
بينهما ، مع أن المعلوم وقوعه من ذلك أحدهما دون الآخر ، وكذلك فقد يريد الحلاوة
والسواد في محل واحد ، بحيث لا يفصل بين إرادتيهما ثم يقع أحدهما دون الآخر ، ففسد
ما ظنوه.
وبعد ، فلو كان
كذلك لوجب أن لا يكون النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مريدا لإيمان أبي لهب ،
وإنما يكون متمنيا لأنه قد علم بإخبار الله تعالى إياه أنه لا يؤمن ، وقد اتفقت
الأمة على خلاف ذلك.
وبعد ، فإن التمني
من أقسام الكلام ، والمرجع به إلى قول القائل ليت كان كذا
أو ليت لم يكن كذا
، وإن كان يعتبر فيه الإرادة أن يكون هو الإرادة نفسها ، كما في الخبر لأنه مما
يعتبر فيه الإرادة ثم لا يقال هو الإرادة نفسها ، كذلك في مسألتنا.
وبعد ، فكان يجب
على ما قالوه أنه لا يصل أحدنا إلى متمناه البتة ، والمعلوم خلافه.
فإن قيل : إنا
نقول : إرادة الله تعالى تتعلق بالضدين ولكن على الوجه الذي يصح دون الوجه الذي
يستحيل ، فيريد أحد الضدين أن يكون ، والآخر بأن لا يكون.
قيل له : الإرادة
لا يصح تعلقها بالنفي ، لأنها لو تعدت في التعلق من وجه الحدوث إلى ما زاد عليه
ولا حاصر ، لوجب تعديها في التعلق إلى سائر الوجوه كالاعتقاد ، فتعلق بالقديم
والماضي والباقي ، وقد علم تعذر ذلك ، وأما إرادة أن لا يقوم زيد فهي متعلقة بضد
القيام وهو القعود ، ولذلك لا يصح أن يريد من الميت أن لا يقوم ، لما لم يتأت منه
القعود.
وبعد ، فلو كان
القديم مريدا لذاته والمرادات غير مقصورة ، فالواجب أن يريد كل واحد من الضدين على
كل وجه يصح أن يراد عليه ، فيريد كل واحد منهما أن يكون وأن لا يكون ، فيلزم
اجتماع الضدين لا محالة.
وبعد ، فليس بأن
يريد أحد الضدين أن يكون والآخر أن لا يكون أولى من خلافه ، فيجب أن يريد كل واحد
منهما أن يكون وأن لا يكون لأنه مريد لذاته لا بإرادة محدثة تختص أحدهما دون
الآخر.
فإن قيل : يريد
أحدهما ، ثم كونه مريدا له يحيل كونه لضده.
وقيل له : كيف
يكون بإرادة أحدهما أحق من إرادة الآخر مع كونه مريدا لذاته؟.
وبعد ، فإن هاهنا
أضدادا لم يرد الله تعالى شيئا منها ، ألا ترى أنه لم يرد خلق فعل بحضرتنا إذ لو
أراده يحصل فكنا ندركه ، ولا أراد ضده أيضا وهو الفناء إذ لو أراده لفنيت الأجسام
كلها ، لأن فناء بعض الأجسام فناء لسائرها ، وكذلك فلم يرد تحريك هذا الجسم ولو
أراده لتحرك فكنا نعلمه متحركا ، ولا أراد تسكينه أيضا وإلا كان يتعذر علينا
تحريكه ، لأن مراد الله تعالى بالوجود أولى ، وأيضا فلم يرد الله تعالى زيادة
شهوتنا للطعام ، وإلا ازدادت فكنا نجدهما من أنفسنا ونتبينها ، ولا أراد ما يضادها
من النفار وإلا كنا نجد أنفسنا نافرين عن الطعام ، فكيف يصح أن يقال في كل
ضدين أن الله
تعالى يريد أحدهما ، ثم كونه مريدا لأحدهما يحيل كونه مريدا لضده.
هذا هو الكلام على
النجارية.
الكلام على الأشعرية :
وأما الكلام على
الأشعرية حيث قالت : إنه تعالى مريد بإرادة قديمة فهو أن نقول :
لو كان القديم
تعالى مريد بإرادة قديمة ، لوجب أن تكون هذه الإرادة مثلا لله تعالى ، لأن القدم
صفة من صفات النفس ، والاشتراك فيها يوجب التماثل ، ألا ترى أن السود لما كان
سوادا لذاته ، وجب في كل ما شاركه في كونه سوادا أن يكون مثلا له ، ولأنه كان يجب
أن يكون هذا المعنى عالما قادرا حيا مثل القديم تعالى ، لأن الاشتراك في القديم
يوجب الاشتراك في سائر صفات النفس ، وقد عرف فساده.
وبعد ، فإن تلك
الإرادة القديمة كالإرادة المحدثة ، في أن لا تتعلق بأزيد من متعلق واحد مع طريق
التفصيل ، فكان يجب أن لا يكون لله تعالى إلا مراد واحد.
يحقق ذلك أنه لا
يخلو ، إما أن يكون القديم تعالى مريدا بإرادة واحدة ، أو بإرادات منحصرة ، أو
بإرادات لا نهاية لها.
لا يصح أن يكون
مريدا بإرادات لا نهاية لها ، لأن وجود ما لا يتناهى محال.
وإذا كان مريدا
بإرادة واحدة أو بإرادات منحصرة لزم أن تكون مراداته منحصرة ، حتى لا يصح أن يريد
أزيد من ذلك ، وقد عرف خلافه.
وعلى الجملة ، فكل
ما ألزمناه النجارية على القول بأنه تعالى مريد لذاته من اجتماع الضدين وغير ذلك
من الوجوه ، فهو لازم لهؤلاء أيضا.
لم لا يكون الله مريدا بإرادة معدومة؟
فإن قيل : قد
علمتم أنه تعالى لا يجوز أن يكون مريدا لذاته ولا لمعنى قديم ، فما دليلكم على أنه
تعالى لا يجوز أن يكون مريدا بإرادة معدومة.
قلنا : الذي يدل
على ذلك هو أن العدم لا اختصاص له ببعض المرادات دون البعض ، فكان يجب أن يكون
القديم تعالى مريدا لسائر المرادات لمكان ذلك المعنى المعدوم ، ومعلوم خلافه ، لأن
في العدم كراهة ، كما أن فيه إرادة ، فلو جاز أن يكون
الله تعالى مريدا
بإرادة معدومة ، لجاز أن يكون كارها بكراهة معدومة ، وهذا يوجب أن يكون مريدا
للشيء كارها له دفعة واحدة ، وهذا محال.
فإن قيل : لم لا
يجوز أن يكون مريدا لا لذاته ولا لمعنى؟ قلنا : لأنه لو كان كذلك لوجب أن يكون
مريدا لسائر المرادات ، كما في كونه مدركا فإنه تعالى لما استحق هذه الصفة لا
لذاته ولا لمعنى لم يختص ببعض المدركات دون البعض ، وقد بينا أنه تعالى لا يجوز أن
يكون مريدا لسائر المرادات عند الكلام على النجارية ، فثبت بهذه الجملة أنه تعالى
لا يجوز أن يستحق هذه الصفة لذاته ولا لما هو عليه في ذاته ولا لمعنى قديم ، فلم
يبق إلا أن يستحقها لمعنى محدث وهو الإرادة على ما نقوله.
ثم إن تلك الإرادة
لا تخلو ، إما أن تكون حالة في ذات القديم تعالى ، أو في غيره ، أو لا في محل.
لا يجوز أن تكون
حالة في ذاته تعالى وإلا كان يجب أن يكون محلا للحوادث ، وذلك يقتضي تحيزه وكونه
محدثا ، وقد ثبت قدمه.
وإذا كان حالا في
غيره ، فذلك الغير لا يخلو : إما أن يكون حيا أو جمادا ، لا يجوز أن يكون حالا في
الحي وإلا كان بإيجاب الحكم له أولى ، ولا أن يكون حالا في الجماد ، إذ لو صح
حلولها في الجماد لصح حلولها في بدن الحي أيضا ، لأنه ما من عرض من الأعراض يصح
حلوله في الجماد إلا ويصح حلوله في الحي ، وإن كان فيما يوجد في الحي ما لا يصح
حلوله في الجماد فكان يجب صحة أن توجد الإرادة في يد الواحد منا مثلا ، حتى يجد في
بعض الحالات هذه الصفة كأنها من ناحية يده ، والمعلوم خلافه فليس إلا أن الإرادة
موجودة لا في محل.
شبه المخالفين :
وللمخالف في هذا
الباب شبه ، وشبههم نوعان :
أحدهما : يشترك
فيه كلا الفريقين ، والآخر يتعلق به أحد الفريقين دون الآخر.
شبه يشترك فيها الفريقان :
فالأول ، نحو
قولهم : لو كان الله تعالى مريدا بإرادة محدثة ، لكان لا يخلو حال تلك الإرادة من
أحد وجوه :
إما أن تكون حالة
في ذات القديم ، وذلك لا يجوز ، لأن الحلول إنما يصح في المتحيز ، والله تعالى ليس
بمتحيز.
وإما أن تكون حالة
في الغير وقد أبطلتم ذلك.
وإما أن توجد لا
في محل ، وذلك لا يصح لأن وجود الأعراض لا في محل محال.
والأصل في الجواب
عن ذلك ، أنا لا نقول : إن هذه الإرادة تحل في ذات القديم أو في غيره ، بل نقول :
إنها توجد لا في محل ، فلم لا يجوز ذلك؟ فإن قالوا : لأنه عرض ، ووجود العرض لا في
محل محال ، واعتبر ذلك بالألوان والأكوان وغيرهما من أجناس الأعراض ، قلنا : هذا
قياس بعض الأعراض على البعض من غير علة تجمعها وذلك لا يصح ، على أن الفناء من جملة
الأعراض ، ثم إنه يوجد لا في محل.
وربما قالوا : إن
في الأعراض ما لا يصح وجوده إلا في محل بالاتفاق ، وإنما لا يصح ذلك فيها لكونها
عرضا ، فكل ما شاركه في ذلك وجب أن يشاركه في الحكم ، قلنا : إنا لا نسلم أن ما لا
يصح وجوده إلا في محل من الأعراض إنما لا يصح لأنه عرض فبينوا ذلك ، فلا يجدون إلى
تصحيح ذلك سبيلا.
ثم يقال لهم : ما
أنكرتم أن هذه الأعراض إنما لا يصح وجودها إلا في محل ، لأنه لو وجد شيء منها لا
في محل أدى إلى انقلابه عما هو عليه في ذاته ، أو إلى انقلاب غيره.
بيان هذه الجملة ،
أن السواد والبياض لو وجدا لا في محل لكان لا يخلو ، إما أن يتضادا أو لا ، فإن لم
يتضادا مع أن وجود أحدهما على حد وجود الآخر لم يصح لأن ذلك يقدح في تضادهما أحلا
ويخرجهما عما هما عليه في أنفسهما وإذا تضادا كان يجب أن يكون تضادهما على مجرد
الوجود ، فكان يجب استحالة أن يوجد لونان في العالم ، وقد عرف فساده. وهكذا الكلام
في الحركة والسكون وغيرهما من الأعراض لو وجدت لا في محل.
يبين ذلك ، أنهما
إذا وجدا لا في محل ، فإما أن يوجبا الحكم أو لا ، لا يجوز أن لا يوجبا الحكم لأن
إيجابهما الحكم لما هما عليه في ذاتهما ، فلو وجدا على حد
لا يصدر عنهما
الإيجاب لكان يكون قد انقلب جنسهما ، وإذا أوجب مع أنهما وجدا لا في محل لكان لم
يكونا بأن يوجبا الحكم لهذا المحل ، أولى من أن يوجبا لغيره من المحال لعدم
الاختصاص ، فكان يجب أن يوجبا كون الجواهر كلها متحركة ساكنة في وجهة واحدة ، وذلك
يوجب انقلابهما عما هما عليه في أنفسهما ، لأن الجوهرين لأمر يرجع إليهما لا يصح
وجودهما في جهة واحدة ، فبان بهذه الجملة صحة ما ادعيناه ، من أن هذه الأعراض إذا
لم توجد إلا في محل ، فإنما لا يصح ذلك فيها ، لأنها إذا وجدت لا في محل أدى إما
إلى انقلابها عما هي عليه في ذاتها ، أو إلى انقلاب غيرها ، وليس كذلك الإرادة ،
فإن الذي يقتضيه ما هي عليه في ذاتها هو أن توجب الحكم للحي ، وتضاد ضدها عليه ،
وهي مع أنها موجودة لا في محل ، توجب الحكم لله تعالى وتضاد ضدها عليه ، ولا تنقلب
عما هي عليه في ذاتها.
وأحد ما يتعلقون
به ، قولهم : إن الله تعالى لو كان مريدا بإرادة محدثة موجودة لا في محل ، لكان لا
تختص تلك الإرادة بالله تعالى ، وحالها مع الله تعالى كحالها معنا ، فإما أن توجب
الحكم لنا وله جميعا أو لا توجب الحكم لأحد أصلا ، فإما أن توجب لأحدهما دون الآخر
فلا.
والأصل في الجواب
عن ذلك ، أن الإرادة علة ، ومن حق العلة أن تختص بالمعلول غاية الاختصاص بطريقة
الحلول إذا كان ممكنا ، وطريقة الحلول فينا ممكنة ، فمتى لم تحلنا انقطع اختصاصها
بنا ، وإذا انقطع اختصاصها بنا وجب أن تختص بالله سبحانه وتعالى ، سيما إذا كان
وجودها على حد وجود القديم ، وإلا خرجت عن كونها علة موجبة واختصت به دوننا وصارت
بإيجاب الحكم له أولى وصار الحال فيها كالحال في جنس من الأجناس المقدورات ، إذا
ثبت كونه مقدورا ، وثبت أنه غير مقدور لنا فإنه والحال هذه لا بد من أن يكون
مقدورا لله تعالى ، وإلا خرج عن كونه مقدورا ، كذلك في مسألتنا.
وشبهة أخرى لهم في
المسألة ، وهي أنهم قالوا : لو كان اختصاص الإرادة بالقديم من حيث إن وجودها على
حد وجود القديم لوجب في الفناء أن يختص به ، لأن وجوده على حد وجود القديم تعالى
فيجب أن ينفيه تعالى الله عن ذلك كما ينفي الجواهر والأصل في الجواب عن ذلك ، أن
هذا لا يصح ، لان الفناء إنما ينفي الجواهر.
والأصل في الجواب
عن ذلك ، أن هذا لا يصح ، لأن الفناء إنما ينفي الجواهر
لا لأن وجوده على
حد وجود الجواهر بل لأنه ضد له ، وهذا غير ثابت في القديم إذ القديم لا يضاد
الفناء فلا يجب أن ينفيه وإن كان وجوده على حد وجوده ، وصار الحال في ذلك كالحال
في السواد والحلاوة إذا وجدا في محل واحد وطرأ عليهما بياض ، فكما أنه لا يجب في
البياض أن ينفيهما جميعا وإن كان وجوده على حد وجودهما لما لم يكن ضدا لهما وإنما
يجب أن ينفي ما يضاده وهو السواد ، كذلك هاهنا.
شبهة أخرى لهم في
المسألة ، وهي أنهم قالوا : لو كان القديم تعالى مريدا بإرادة محدثة ، لكان لا بد
لتلك الإرادة من محدث وفاعل ، فلا يخلو إما أن يكون فاعلها الواحد منا ، وذلك إما
أن يفعله في نفسه أو في غيره ، وإذا فعله في نفسه ، فبأن توجب الحكم له أولى ،
وإذا فعله في غيره لم يصح ، لأن تعدية الفعل عن محل القدرة لا يمكن إلا بالاعتماد
، والاعتماد مما لاحظ له في توليد الإرادة ، وإما أن يكون فاعلها القديم تعالى ،
وذلك يوجب أن يكون مريدا لتلك الإرادة ، والكلام في تلك الإرادة كالكلام في هذه
فيتسلسل.
والأصل في الجواب
عن ذلك ، أن هذا لا يصح ، لأن الإرادة جنس الفعل وجنس الفعل لا يحتاج إلى الإرادة
، فيصح من الله تعالى أن يريد ما يريد ، وإن لم يرد إرادته. يبين ذلك أن الإرادة
لا تقع مقصودة ، وإنما تقع تبعا ، ألا ترى أن الآكل إذا أراد الأكل فإن إرادته
تابعة للأكل لا أنها مقصودة ، بل المقصود هو الأكل ثم ما يدعو إليه يدعو إلى
إرادته ، فكذلك الحال في غير الأكل ، فكيف يجب أن يريد الإرادة حتى يلزم عليه ما
لا يتناهى.
على أن في
البغداديين من أصحابنا من أحال الإرادة ، وزعم أنها كالقديم والماضي في أنها لا
يصح إرادتها ، ونحن وإن صححنا إرادة الإرادة فلم نوجبه ، وليس يلزم على الجواز ما
يلزم على الوجوب.
ثم يقال لهم : أليس
أحدنا إذا اكتسب فلا بد من أن يريد الاكتساب بإرادة أخرى مكتسبة وإلا لزم وجود ما
لا نهاية له من الإرادة المكتسبة ، فهلا جاز مثله في مسألتنا ، أن يقال : إن الله
تعالى يريد ما يريده بإرادة محدثة ، ثم لا يريد تلك الإرادة بإرادة أخرى حتى لا
ينقطع.
ومتى قالوا :
انتهى ذلك في الواحد منا إلى إرادة ضرورية ، قلنا لهم : فكان يجب
أن يكون الواحد
منا في بعض الحالات مضطرا إلى الإرادة وغير مختار فيها ، وأن يجد ذلك الاضطرار من
نفسه ، ومعلوم خلافه.
ومما يتعلقون به ،
قولهم : لو كان الله تعالى مريدا بإرادة محدثة لكان قد حصل على هذه الصفة بعد إن
لم يكن عليها ، فيجب أن يكون قد تغير.
وجوابنا ، ما
تريدون بالتغير؟ فإن أردتم به أنه حصل على هذه الصفة بعد إن لم يكن عليها فهو الذي
نقوله ، وإن أردتم به أنه صار غير ما كان فليس يجب إذا حصل الذات على صفة من صفات
لم يكن عليها قبل ذلك أن يتغير ، ألا ترى أنه تعالى لم يكن فاعلا فيما لم يزل ، ثم
حصل فاعلا بعد أن لم يكن ، ولم يجب أن يكون قد تغير ، كذلك في مسألتنا.
فأما قولهم في
المحل إذا ابيض بعد أن كان أسود : إنه قد تغير ، فذاك على اعتقادهم أنه صار غير ما
كان ، والأسامي تتبع اعتقاداتهم.
فهذا هو الكلام
على ما يتعلق به كلا الفريقين.
وأما ما يتعلق به
أحد الفريقين دون الآخر ، فقولهم : إنه تعالى لم يكن ساهيا.
أفعال العباد
وأما أفعال العباد
فعلى ضربين : أحدهما صفة زائدة على حدوثه وصفة جنسه ، والآخر ليس له صفة زائدة على
ذلك ، وما هذا سبيله فإنه تعالى لا يريده ولا يكرهه.
وما له صفة زائدة
على حدوثه وصفة جنسه فعلى ضربين : أحدهما قبيح والآخر حسن فما كان قبيحا فإنه لا
يريده البتة بل يكرهه ويسخطه.
وما كان حسنا فهو
على ضربين : أحدهما له صفة زائدة على حسنه ، والآخر ليس له صفة زائدة على حسنه.
وهذا الثاني إنما
هو المباح ، والله تعالى لا يجوز أن يكون مريدا له على ما سنبينه من بعد إن شاء
الله تعالى.
وأما الأول ، وهو
ما يكون له صفة زائدة على حسنه فهو الواجب والمندوب إليه ، وكل ذلك مما يريده الله
تعالى ، بدليل أن غاية ما يعلم به مراد الغير إنما هو الأمر ، وقد صدر من جهة الله
الأمر وما يكون أكبر من الأمر ، لأنه تعالى كما أمر بذلك فقد
رغب فيه ووعد عليه
بالثواب العظيم ، ونهى عن خلافه وزجر عنه وتوعد عليه بالعقاب العظبم ، فيجب أن
يكون تعالى مريدا له على ما نقوله.
وبعد ، فإذا كان
العبد مطيعا لله تعالى بفعل الواجبات والنوافل وجب أن يكون الله تعالى مريدا لها ،
لأن المطيع هو من فعل ما أراده المطاع ، بدليل قوله تعالى : (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا
شَفِيعٍ يُطاعُ) [غافر : ١٨] أي لا
يفعل ما أراده ، ويدلك على ذلك أيضا قول سويد بن أبي كاهل :
رب من أنضحت
غيظا صدره
|
|
قد تمنى لي موتا
لم يطع
|
أي لم يفعل له ما
أراده.
وكذلك قد روي ، أن
النبيّ صلىاللهعليهوسلم ضرب بعقبه الأرض بين يدي عمه العباس فنبع الماء ، فقال له
عمه العباس : يا ابن أخ إن ربك ليطيعك ، فقال له النبيّ صلىاللهعليهوسلم : وأنت يا عم ، لو أطعت الله لأطاعك.
فإن قيل : هلا كان
المطيع هو من فعل ما أمر به الغير؟ قلنا : إن الأمر إذا تجرد عن الإرادة لم يتميز
عن النهي أو ما في معناه من التهديد ، فكان يجب أن يكون العصاة كلهم مطيعين لله
تعالى بأن يفعلوا ما شاءوا لقوله تعالى : (اعْمَلُوا ما
شِئْتُمْ) [فصلت : ٤٠]. وكان
يجب أن يكون إبليس مطيعا لله تعالى بأن يستفزّ من استطاع ، وبأن يجلب على المكلفين
بخيله ورجله لقوله : (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ
اسْتَطَعْتَ) [الإسراء : ٦٤]
الآية ، ومعلوم خلافه.
وبعد ، فإن العبد
إذا فعل ما أراد السيد يكون مطيعا له وإن لم يصدر من جهته أمر ، بأن بكون السيد
ساكتا بل أخرس ، والذي يوضح هذه الجملة ما قدمناه من قوله تعالى : (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا
شَفِيعٍ يُطاعُ) [غافر : ١٨]
استعمل الطاعة حيث لا يتصور الأمر ، وكذلك فقول سويد يدل على ما ذكرناه.
وأما المناجاة ،
فإنه تعالى لا يريدها ولا يكرهها لا في الدنيا ولا في الآخرة عند شيخنا أبي علي
لأنه لا فائدة في ذلك ، وحمل قوله تعالى لأهل الجنة (كُلُوا وَاشْرَبُوا
هَنِيئاً) [الطور : ١٩] على
الإباحة ولم يجعله أمرا.
وأما عند أبي هاشم
فإنه تعالى يريدها في دار الآخرة ، قال : لأنه يتضمن هناك فائدة ما يتضمن في دار
الدنيا ، وهو أن أهل الآخرة إذا عرفوا أن الله تعالى يريد تلك المباحات منهم كان
ذلك أهنى لهم وأطيب لهم ، فصار سبيلهم سبيل الضيف إذا علم
من حال المضيف أنه
يريد معه تناول ما قدمه إليه ، فكما أن ذلك يزيد في لذته كذلك في مسألتنا ، وأجرى
قوله عزوجل : (كُلُوا وَاشْرَبُوا
هَنِيئاً) [الطور : ١٩] على
ظاهره وقال : إنه أمر على الحقيقة.
وهذه الجملة كلها
عارضة في الكلام ، إذ المقصود بيان أنه تعالى لا يريد القبائح ولا يشاؤها ، بل
يكرهها ويسخطها ، الذي يدل على ذلك أن غاية ما به يعرف كراهة الغير إنما هو النهي
، وقد صدر من جهة الله تعالى النهي وما هو أكبر النهي ، لأنه تعالى كما نهى عن
القبيح فقد زجر عنه وتوعد عليه بالعقاب الأليم وأمر بخلافه ورغب فيه ووعد عليه
بالثواب العظيم ، كل ذلك منه أدلة على أنه تعالى لا يريد هذه القبائح بل يكرهها.
آيات في هذا الباب
وقد استدل رحمهالله بعد هذه الجملة ، بآيات من القرآن في هذا الباب تنبيها على
أن كتاب الله المحكم يوافق ما ذكرناه من القول بالتوحيد والعدل.
وما الله يريد ظلما للعباد
فمن جملتها ، قوله
تعالى : (وَمَا اللهُ يُرِيدُ
ظُلْماً لِلْعِبادِ) [غافر : ٣١] ووجه
الاستدلال به ، هو أن قوله ظلما نكرة ، والنكرة في النفي تعم ، فظاهر الآية يقتضي
أنه تعالى لا يريد شيئا مما وقع عليه اسم الظلم ، فصار ذلك بمنزلة قول القائل : ما
رأيت رجلا ، فكما أن ظاهره يقتضي أنه لم ير أحدا ممن يقع عليه اسم الرجل ، كذلك في
مسألتنا.
فإن قيل : أكثر ما
في هذا أنه تعالى لا يريد أن يظلم العباد ، فمن أين أنه لا يريد أن يتظالموا ،
قلنا : من حيث أن الآية عامة في سائر ما يقع عليه اسم الظلم ، فيجب القضاء بأنه لا
يريد شيئا منه.
(وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)
ومما يدل على أنه
تعالى مريد للطاعات من الواجبات والنوافل قوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ
إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦)) [الذاريات : ٥٦]
وهذه اللام لام الغرض والإرادة ، فكأنه قال : ما خلقتهم وأردت منهم إلا العبادة.
والله لا يحب الفساد
وقوله تعالى : (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) [البقرة : ٢٠٥]
يدل على أنه لا يريد الفساد ولا يحبه سواء كان من جهته أو من جهة غيره ، وسواء كان
متعديا أو غيره.
وأيضا ، لو أراد
هذه المعاصي والقبائح والكفر لوجب أن يكونوا مطيعين لله تعالى بمعاصيهم ، لأنهم
فعلوا ما أراده الله تعالى.
متى قالوا : إن
الله تعالى لم يأمرهم بهذه المعاصي فلذلك لم يكونوا مطيعين له ، قلنا : قد أجبنا
عنه فلا يلزمنا الإعادة.
واعلم أن الظلم
كما يقع على الضرر الذي يتعدى فقد يقع على ما لا يتعدى ، وعلى هذا حمل قوله تعالى
: (إِنَّ الشِّرْكَ
لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣]
وقوله تعالى : (قالا رَبَّنا
ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) [الأعراف : ٢٣]
وقال : (وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ
يَظْلِمُونَ) [آل عمران : ١١٧]
إلى غير ذلك.
وإن كان على
الحقيقة اسم لضرر متعد على الشرائط المذكورة ، فالآية متناولة للقسمين المتعدي
وغير المتعدي.
كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها
وأحد ما يدل عليه
من جهة السمع ، قوله تعالى بعد عده الفواحش والمعاصي (كُلُّ ذلِكَ كانَ
سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (٣٨)) [الإسراء : ٣٨]
بيّن أن المعاصي كلها مكروهة عنده ، ولن تكون كذلك إلا وهو كاره لها ، ولا يكون كارها
لها إلا وهو غير مريد لها ، إذ لو كان مريدا لها مع الكراهة لكان حاصلا على صفتين
ضدين وذلك مستحيل.
وأحد ما يدل على
أنه تعالى لا يريد القبائح ، هو أنه تعالى لو كان مريدا للقبيح لوجب أن يكون فاعلا
لإرادة القبيح ، وإرادة القبيح قبيحة ، والله تعالى لا يفعل القبيح لأنه عالم
بقبحه ومستغن عنه.
فإن قيل : إن هذا
ينبني على أنه تعالى مريد بإرادة يفعلها ونحن لا نسلم ذلك ، قلنا : إنا قد بينا
أنه تعالى مريد بإرادة محدثة موجودة لا في محل وتكلمنا عليه ، فلا نعيده.
فإن قيل : ومن أين
أن إرادة القبيح قبيحة؟ قلنا ، هذا معلوم على الجملة بالاضطرار ، لأنا لا نشك في
أن الأمر بالقبيح قبيح ، فيجب في كل ما يؤثر فيه ويوجبه
أن يكون بمثابته
في القبح ، والذي يؤثر في كون الكلام أمرا وخبرا ليس إلا الإرادة.
فإن قيل : يلزم
على هذا أن تكون القدرة على القبيح قبيحة ، لأنها تؤثر في ذلك.
قلنا : إن بينهما
فرقا ، فإن القدرة مصححة ، وتأثيرها على طريق التصحيح ، خلاف الإرادة.
فإن قيل : هلا
انقسمت إرادة القبيح إلى ما يكون قبيحا وإلى ما يكون حسنا كما تنقسم إرادة الحسن
إلى ما يكون حسنا وإلى ما يكون قبيحا؟
قلنا : إن إرادة
القبيح إنما تقبح لكونها إرادة للقبيح ، بدليل أنها متى عرف كونها على هذه الصفة
عرف قبحها وإن لم يعلم أمر آخر ، ومتى لم يعرف كونها على هذه الصفة جوز أن تكون
حسنة وجوز أن تكون قبيحة ، فلم يجز انقسامها إلى قبيح وحسن ، وليس كذلك إرادة
الحسن ، فإنها لا تحسن لكونها إرادة للحسن ، فلم تمتنع تلك القسمة التي ذكرناها.
ولهذا فإن المستحق للعقوبة ، لو أراد من الله تعالى أن يعاقبه فإن إرادته قبيحة
والعقوبة حسنة.
فإن قيل : لو وجب
في الإرادة المتعلقة بالقبيح أن تكون قبيحة كلها ، لوجب في الإرادة المتعلقة في
الحسن أن تكون حسنة كلها ، لأنهما في طرفي نقيض.
قلنا : غير ممتنع
في فعل من الأفعال إذا كان قبيحا كله أن لا يكون نقيضه حسنا كله ، فإن الكذب قبيح
كله ، ثم ليس يجب في الصدق أن يكون حسنا كله ، فإنك تعلم أن من الصدق المتضمن
لدلالة على نبي قد توارى عن عدوه يكون قبيحا ، وكذلك فإن تكليف ما لا يطاق قبيح
كله ، ولا يجب في تكليف ما يطاق أن يكون حسنا كله.
وأحد ما يدل على
أنه تعالى لا يجوز أن يكون مريدا للعاصي ، هو أنه تعالى لو كان مريدا لها لوجب أن
يكون حاصلا على صفة من صفات النقص وذلك لا يجوز على الله تعالى ، وبهذه الطريقة
نفينا الجهل عن الله تعالى.
فإن قيل : ولم
قلتم إذا كان مريدا للمعاصي وجب أن يكون حاصلا على صفة من صفات النقص؟
قلنا : الدليل على
ذلك الشاهد فإن أحدنا متى كان كذلك ، كان حاصلا على صفة من صفات النقص ، وإنما وجب
ذلك لكونه مريدا للقبيح ، فيجب مثله في الله تعالى.
فإن قيل : إنما
وجب ذلك في الواحد منا لأنه مريد بإرادة محدثة يستحق بفعلها
الذم إذا تعلقت
بالقبيح ، والقديم تعالى مريد لذاته ، فكيف يقاس أحدهما على الآخر؟
قلنا : إن هذا لا
يصح ، لأن الصفة إذا كانت من صفات النقص فلا يفترق الحال بين أن تكون مستحقة للنفس
وبين أن تكون مستحقة للمعنى ، ألا ترى أن كونه جاهلا لما كانت من صفات النقص ، لم
يفترق الحال بين أن تكون مستحقة للنفس ، وبين أن تكون صادرة عن علة في أنه في كلا
الحالين يقتضي النقص.
فإن قيل : إن الله
تعالى إنما يريد القبائح والمعاصي أن تكون متناقضة فاسدة ، لا أنه يريدها على الحد
الذي يريدها. قلنا : وأي مانع من أن يريدها على هذا الحد أيضا وهو مريد لذاته أو
بإرادة قديمة ، والإرادات غير مقصورة على بعض المريدين دون بعض ، على أن الإرادة
لا تتعلق بقبح القبيح وفساد الفاسد ، ولهذا لا يختلف الحال في القبح وفساده
بالإرادة وعدمها.
وأحد ما يدل على
أنه تعالى لا يجوز أن يكون مريدا للمعاصي ، هو أنه نهى عن ذلك ، فلو كان مريدا لها
لم يجز ذلك ، ألا ترى أن العاقل في الشاهد لو فعل ذلك لسخر منه وهزئ به ، وإذا لم
يجز ذلك فيما بيننا فلأن لا يجوز على الله تعالى وهو أحكم الحاكمين وأعدل العادلين
أولى وأحق.
وأيضا ، فلو كان
مريدا لها مع أنه نهى عنها لكان يجب أن يكون حاصلا على صفتين ضدين ، إذ النهي لا
يصير نهيا إلا بالكراهة ، وذلك محال.
وأحد ما يدل على
أنه تعالى لا يجوز أن يكون مريدا للمعاصي ، هو أنه لو كان كذلك لوجب أن يكون
مختارا لها ، لأن الاختيار والإرادة واحد.
ومتى قيل : إن
الاختيار إنما يستعمل في الإرادة المتعلقة بفعل نفسه فكيف يصح هذا الكلام؟ قلنا : أليس
من مذهبكم أن هذه المعاصي كلها من فعل الله تعالى ، فجوزوا ما ألزمناكم.
وأحد ما يدل على
أنه تعالى لا يجوز أن يكون مريدا للمعاصي ، هو أنه لو كان مريدا لها لوجب أن يكون
محبا لها وراضيا بها ، لأن المحبة والرضا والإرادة من باب واحد ، بدلالة أنه لا
فرق بين أن يقول القائل أحببت أو رضيت ، وبين أن يقول أردت ، حتى لو أثبت أحدهما
ونفى الآخر لعد متناقضا. فهذا جملة الكلام في ذلك.
شبه المخالفين
والقوم يتعلقون في
هذا الباب بشبه.
ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس
من جملتها ، قوله
تعالى : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا
لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) [الأعراف : ١٧٩]
ووجه تعلقهم به هو أنهم يقولون : إن هذه اللام لام الغرض ولها نظائر كبيرة في
اللغة فظاهر الآية يقتضي أنه تعالى خلق كثيرا من الجن والإنس ليعاقبهم في نار جهنم
، ولن يكون كذلك إلا ويريد منهم ما استوجبوا به لعقوبة ، وفي ذلك ما نريده.
والأصل في الجواب
عن ذلك ، أن أول ما في هذا أنه لا يمكنكم الاستدلال بالسمع ، لأن صحة السمع تنبني
على كونه تعالى عدلا حكيما ، وأنتم لا تقولون بذلك بل سددتم على أنفسكم طريقة
العلم بإثبات الصانع على ما مر فكيف يمكنكم الاحتجاج به؟ ثم نقول : قولكم أن هذه
اللام لام الغرض لا يصح ، لأن لام الغرض مما لا يدخل في الأسماء الجامدة وإنما
تدخل على المصادر والأفعال المضارعة ، وعلى هذا لا يقال : دخلت بغداد للسماء
والأرض كما يقال دخلت بغداد للعلم أو لطلب العلم ، وجهنم اسم جامد ، فكيف تدخله
لام الغرض؟
ومتى قالوا :
الغرض به المعاقبة بجهنم كان ذلك عدولا عن الظاهر ، وإذا عدلوا عن الظاهر فليسوا
بالتأويل أولى منا فنتأوله على وجه يوافق دلالة العقل والسمع ، فنقول : إن هذه
اللام لام العاقبة ، ولها نظائر كثيرة في القرآن وفي اللغة ، قال الله تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ
لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص : ٨] ،
ومعلوم أنهم لم يلتقطوه لهذا الوجه بل التقطوه ليكون لهم قرة عين على ما حكى الله
تعالى عنهم ذلك بقوله : (وَقالَتِ امْرَأَتُ
فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ) [القصص : ٩] وقوله
: (رَبَّنا إِنَّكَ
آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) [يونس : ٨٨]
وعاقبتهم يضلون عن سبيلك وقوله : (إِنَّما نُمْلِي
لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) [آل عمران : ١٧٨]
أي وعاقبتهم أن يزدادوا إثما قال الشاعر :
له ملك ينادي كل
يوم
|
|
لدوا للموت
وابنوا للخراب
|
وقال آخر :
وللموت تغذوا
الوالدات سخالها
|
|
كما لخراب الدهر
تبنى المساكن
|
وقال آخر :
أموالنا لذوي الميراث
نجمعها
|
|
ودورنا لخراب
الدهر نبنيها
|
ويقال في المثل :
رب ساع لقاعد ، آكل غير حامد
يوضح هذه الجملة ،
أن الآية وردت مورد الذم ، ولا يستحق أحدنا الذم على أنه تعالى خلقه للمعاقبة ،
فليس إلا أن تحمل على ما قلنا لتوافق دلالة العقل ، ولا يناقض قوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ
إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦)) [الذاريات : ٥٦].
وأحد ما يولعون
بإيراده في هذا الباب ، قولهم : لو وقع في العالم ما لا يريده الله تعالى ، أو لم
يقع ما أراده ، لدل على عجزه وضعفه ، كما في الشاهد ، فإن الملك إذا أراد من جنده
ورعيته أمرا من الأمور ثم لم يقع ، أو وقع ما لم يرده دل على عجزه وضعفه ، كذلك
يجب مثله في الغائب.
والأصل في الجواب
عن ذلك من طريق العلم ، هو أن نقول : ما يريده الله تعالى لا يخلو ، إما أن يكون
من فعل نفسه ، أو من فعل غيره ، فإن كان من فعل نفسه ثم لم يقع دل ذلك على عجزه
وضعفه ، لأن من حق القادر على الشيء إذا خلص داعيه إليه أن يقع لا محالة حتى إن لم
يقع دل على أنه غير قادر عليه وإن كان ما يريده من فعل غيره ، فإما أن يريده على
طريق الإكراه والحمل أو على طريق الاختيار فإن أراده على طريق الإكراه ثم لم يقع
دل على عجزه عن السبب الذي يوصله إلى الحمل والإكراه ، فأما إذا أراده على طريق
الاختيار من دون أن يعود نفعه أو ضرره إليه ثم لم يقع لم يدل على عجزه ونقصه ، لأن
المرجع بالعجز زوال القدرة ، وليس يجب إذا لم يقع أمر من الأمور من الفاعل المختار
أن يدل على عجزه.
وأما الجواب على
ما ذكروه في الملك فقد دخل فيما تقدم ، لأنه إما أن يريد ما يريده منهم على سبيل
الإكراه أو على سبيل الاختيار ، فإن أراده على سبيل الإكراه ثم لم يقع دل على عجزه
ونقصه وأنه غير قادر على السبب الذي يلجئهم إلى ذلك الفعل ، فأما إذا أراده على
طريق الاختيار ، كأن يريد منهم أن يعبدوا الله تعالى ويطيعوه ليسعدوا بذلك ويفوزوا
بالثواب الجزيل ثم لا يقع ، لا يدل على عجزه وضعفه إذ لا يعود إليه نفع ولا ضرر.
يزيد ما ذكرناه
وضوحا ، أن النبي صلىاللهعليهوسلم إذا أراد من أبي لهب الإيمان على طريق
الاختيار لكي لا
يستحق من الله تعالى العقوبة ، ثم إنه لشقاوته وسوء اختياره إذا لم يختر ذلك ، لم
يدل على عجز الرسول عليهالسلام ، وكذلك فإن المسلمين إذا أرادوا من النصارى واليهود أن
يتركوا المضي إلى الكنائس والبيع وأن يدخلوا في الإسلام على طريق الاختيار ، فإذا
لم يتركوا ذلك لم يدل على عجز المسلمين وضعفهم ، وإنما يدل على عجزهم أن لو رجع
إليهم بنفع أو ضر ، فأما إذا خلا عن هذين فلا.
ثم يقال لهم : أليس
الله تعالى أمر عباده بالطاعة ثم لم يقع ، لم يدل على ضعفه وعجزه ، مع أن الملك في
الشاهد لو أمر جنده بأمر من الأمور ثم لم يقع ، لكان ذلك أدخل في عجزه وضعفه من أن
لو أراد منهم ذلك الأمر ثم لم يقع ، فهلا فرقتم بين الشاهد والغائب في هذا الغاب.
فإن قالوا : فرق
بين الموضعين ، لأن أحدنا لا يأمر إلا مع الإرادة فلهذا يدل على عجزه وضعفه ، وليس
كذلك القديم تعالى فإنه قد يأمر بما لا يريده ، فلا يجب ما ذكرتموه ، قلنا لهم :
هذا لا يصح لأن الله تعالى لا يأمر بما لا يريده.
وبعد ، فلو كان
كذلك لكان يجب إذا أمر الملك بأمر من الأمور من دون الإرادة ثم لا يقع بأن لا
يلتفت إليه أن لا يدل على عجزه ونقصه ، والمعلوم خلافه ، على أنا قد بينا أن الأمر
لا يصدر أمرا إلا بالإرادة ، وأن هذه القضية تختلف شاهدا وغائبا ، ففسد ما قالوه.
ثم إنا نقول لهم
لو وجبت هذه الطريقة في الإرادة لوجبت أيضا في المحبة والرضى ، فكان يجب في الملك
إذا أحب فعلا من الأفعال من الرعية ثم لا يقع دل على عجزه ونقصه ، ومعلوم خلافه ،
إلا أن هذا مما يلتزمه الأشعري فلا معنى لإلزامه إياه ، وإنما يجب أن نلزمه
النجارية ، فإنهم يرومون الفرق بين الإرادة والمحبة والرضى ولا يتأتى ذلك لهم ،
فقد بينا فيما تقدم أن هذه الإرادة والمحبة والرضى كلها من باب واحد ، ودللنا عليه
بما لا طائل في إعادته.
فإن قالوا : كيف
يصح قولكم إن الإرادة والمحبة والرضى من باب واحد مع أن القائل يقول : أحب جاريتي
ولا يقول أريدها ولا أرضاها ، فلو كان معنى هذه الألفاظ واحدا لكان يجب جواز
استعمال بعضها مكان البعض ، كما في القعود والجلوس وغير ذلك.
قلنا لا شك في
أنها متفقة في المعنى حقيقة ، ولا يمتنع في اللفظتين المتفقتين في
المعنى أن تستعمل
إحداهما مجازا حيث لا تستعمل الأخرى ، وعلى هذا فإن الغائط والمكان المطمئن كان في
الأصل واحدا ، ثم استعمل أحدهم في الكناية عن قضاء الحاجة ولم يستعمل الآخر ، كذلك
في مسألتنا.
فهذه جملة ما يقال
في هذه الشبه من طريق العلم.
فأما إذا سلكنا
معهم طريقة الجدل ، فالأصل فيه أن نقول : ومن أين يجب إذا لم يقع ما أراده الله
تعالى أن يدل على عجزه؟ فإن قالوا : لأن في الشاهد إذا لم يقع ما أراده الملك من
جنده دل على عجزه ، وكذلك في الغائب ، قلنا : وبأية علة جمعتم بين الشاهد والغائب؟
فلا يجدون إلى تصحيح ذلك سبيلا.
ثم يقال لهم : ما
أنكرتم أن هذه القضية إنما وجبت في الشاهد لأن الملك يتقوى بما يريده من جنده
ويعود نفعه وضره إليه ، وليس كذلك القديم تعالى ، فإن المنافع والمضار مستحيلة
عليه ، يوضح ذلك ، أن الملك لو أراد من جنده ما لا يتقوى به ، كأن يريد منهم أن
يصلوا بالليل ويصوموا بالنهار ليستفيدوا بذلك ويستحقوا به عند الله المنزلة ثم لم
يقع لم يدل على عجزه وضعفه ، فكيف يصح ما ذكرتموه؟
ومما يتعلقون به ،
قولهم : أجمعت الأمة على أن قولهم : ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، وهذا يدل
على أن كل ما وقع في العالم من الكفر والمعاصي فبمشيئة الله تعالى وفي ذلك ما
نريده.
والأصل في الجواب
عن ذلك ، أن دعوى الإجماع فيها غير ممكن لأنا نخالف فيه ، وإنما هو من إطلاقات
المجبرة ، على أن الاستدلال بالإجماع على هذه المسألة غير ممكن ، لأن كون الإجماع
حجة إما أن يستند إلى الكتاب أو إلى السنة ، وكلاهما إنما يثبت حجة إذا ثبت عدل
الله وحكمته ، وأنه لا يفعل القبيح ولا يختاره ولا يشاؤه ، فكيف يصح هذا الإجماع.
ثم يقال لهم : إن
مراد الأمة بهذا القول لا يعلم ضرورة ، فمتى لم يعلم مرادهم بهذا القول ضرورة فلا
بد من أن يصار إلى التأويل كما في كتاب الله تعالى وسنة رسوله ، لأن الإجماع إن لم
ينقص عن الكتاب والسنة لا يزيد عليهما وإذا اشتغلوا بالتأويل ، فليسوا به أولى منا
، فنتأوله على وجه يوافق دلالة العقل والسمع ، فنقول :
إن مرادهم بذلك ما
شاء الله من فعل نفسه كان ، وما لم يشأ من فعل نفسه لم يكن ، ولا يجوز غير هذا ،
لأن مراد الأمة بذلك وصف اقتدار الله تعالى وبيان
امتداحه ، ولا يتم
ذلك إلا على الحد الذي قلناه.
يوضح ذلك ، أنه لا
يمتنع ضعف المريد وقوة من أريد منه الفعل ، فكيف يدل وقوع ما وقع من العباد على
اقتدار الله تعالى؟
ثم يقال لهم : أليس
الأمة قد اتفقت على قولهم لا مرد لأمر الله ثم لا يقدح في ذلك إصرار الكفرة على
الكفر وإقدام الفسقة على الفسق ، فهلا جاز مثله في مسألتنا؟
فإن قالوا : إنما
لا يقدح ذلك في الإجماع ، لأن المراد بذلك لا مرد لما يريده الله تعالى من فعل
نفسه لا من فعل غيره ، قلنا : فارضوا منا بمثل هذا الجواب.
ثم نعارضهم بقول
الأمة : أستغفر الله من جميع ما كره الله ، فنقول : لو كان الأمر على ما ذكرتم
لكان الاستغفار واقعا عما يريده الله تعالى ، وكان يجب أن يصح قولهم فيه : أستغفر
الله من جميع ما أراده الله بدل قولهم من جميع ما كره الله ، وقد عرف خلافه.
وأحد ما يتعلقون
به في هذا الباب ، قولهم : قد ثبت أن الله تعالى فاعل للقبائح وخالق له فيجب أن
يكون مريدا لها ، لأن العالم بما يفعله لا بد من أن يريده ، كما في الشاهد ، فإن
الواحد منا إذا كان فاعلا للقبيح عالما به كان مريدا له ، وكذلك القديم تعالى.
قلنا : وبأية علة
جمعتم بين الشاهد والغائب؟ فلا يجدون إلى ذلك سبيلا.
ثم نقول لهم : أليس
الواحد منا يفعل الإرادة والكراهة ثم لا يجب أن يكون مريدا لهما وإن علمهما ، فهلا
جاز مثله في القديم تعالى؟ على أن هذه الشبهة مبنية على أن الله تعالى فاعل
للقبائح وخالق لها ، ودون تصحيح ذلك خرط القتاد.
شبهة أخرى لهم في
المسألة ، قالوا : إن القديم تعالى إذا كان عالما بما في العالم من الكفر والمعصية
ثم لا يمنع من ذلك مع أن له المنع منه ، دل على أنه مريد له ، والذي يدل عليه
الشاهد ، فإن الملك إذا علم من جنده ورعيته أمرا من الأمور ثم لا يمنعهم من ذلك مع
أن له المنع منه ، دل على أنه مريد لذلك الأمر ، كذلك في مسألتنا.
وجوابنا ، أن هذا
باطل بالإمام والمسلمين إذا علموا بمضي اليهود والنصارى إلى الكنائس والبيع ،
لأنهم مع علمهم بذلك إذا لم يمنعوا لم يدل على أنهم أرادوا
مواظبتهم على ذلك.
فإن قالوا : إنا
قد احترزنا من ذلك بقولنا وله المنع ، وليس للإمام أن يمنع الذمي من المضي إلى
البيعة ، فلا يلزم. قلنا : هذا احتراز لمجرد دفع الإلزام فلا يقبل ، لو لا هذا
وإلا كان لا يعجز أحد من المبطلين عن دفع ما ألزم ، ففسد ما ظنوه بهذا الجنس من
الاحترازات.
وبعد ، فإنا نعرض
الكلام في الحربي فيسقط هذا الاعتراض.
ثم يقال لهم : إنا
لا نسلم أن للقديم تعالى أن يمنع الكفار عن الكفر مع أنه يريد تبقية التكليف عليهم
، لأن في ذلك رفع التكليف أصلا وإبطال استحقاق المدح والذم ، فكيف يصح ما قالوه.
ومما يحتجون به في
هذا الباب ، قولهم إن الله تعالى لو كان مريدا للطاعات ، لوجب إذا حلف الواحد منا
ليأتين بعض الطاعات ، وعلقه بمشيئة الله تعالى كأن يقول : والله لأصومن غدا إن شاء
الله تعالى ، أن يحنث إن لم يأت بتلك الطاعة ، وقد أجمعت الأمة على خلافه ، فدل على
أنه تعالى إنما يريد الواقعات كفرا كان أو إيمانا لا الطاعات على ما تقولونه.
والأصل في الجواب
عن ذلك على ما ذكره شيخنا أبو علي ، هو أن هذا الكلام لا يراد به حقيقة الشرط ،
وإنما يورد لقطع الكلام عن النفاذ ، وليعلم أنه شاك متردد في ذلك غير قاطع عليه
كما يقتضيه العرف ، وإذا كان كذلك لم يجب أن يحنث ، وهذه الطريقة سلكها شيخنا أبو
هاشم.
فأما شيخنا أبو
عبد الله البصري ، فقد أجاب بجواب آخر ، فقال : إن هذا الكلام وإن كان يراد به
حقيقة الشرط ، فإن غرض القائل بذلك : أفعل إن وفق الله تعالى لذلك وسهل إليه سبيلي
، وإذا لم يحصل ذلك دل على أنه لم يوفق إليه ، لأنه لم يكن له في المعلوم لطف
يختار عنده الملطوف فيه لا محالة ، ولهذا لا يحنث.
إلا أن ما ذكره
شيخنا أبو علي أسلم وأصح.
وأبو علي لما ذكر
في الجواب ما حكيناه ، قيل له : فلو أراد به حقيقة الشرط كيف يكون الحال؟ قال :
إنه كان يحنث ، فقيل له : خرقت الإجماع ، فقال : لا ، لأن الإجماع لم ينته إلى ما
انتهينا إليه ، فلو انتهوا إلى هذا الموضع لما أجابوا إلا بمثل ما
أجبت.
وبعد ، فإن دعوى
الإجماع في ذلك غير ممكن ، لأن عامة الزيدية على خلافه ، حتى أنهم نصوا في كتبهم
على أن رجلا لو قال لامرأته أنت طالق إن شاء الله ، فإنه ينظر ، فإن كان ممسكا لها
بالمعروف لم يقع الطلاق ، لأن الإمساك على هذا الوجه مباح ، والله تعالى لا يريد
المباح ، وإن لم يكن ممسكا بالمعروف وقع الطلاق ، وهكذا قالوا في العتق ، فقد نصوا
على أن السيد إذا قال لعبده أنت حر إن شاء الله ، ينظر فإن كان العبد خيرا عفيفا
صالحا بحيث يتقرب إلى الله تعالى بإعتاقه وتخليته لعبادة ربه عتق ، وإن لم يكن
كذلك لم يعتق ففسد قولهم من سائر الوجوه.
وأحد ما يوردونه
في هذا الباب ، قولهم : قد ثبت الله تعالى أمرنا بمجاهدة الكفار ، ولن يكون ذلك
كذلك إلا وهو مريد لما لا تتم المجاهدة إلا به ، وهو الكفر.
والأصل في الجواب
عن ذلك ، قلتم : إنه تعالى إذا أمرنا بمجاهدة الكفار لا بد أن يكون مريدا للكفر
الذي لا تتم المجاهدة إلا به ، أليس أن الرسول عليهالسلام إذا أمر الزناة بالاغتسال من الجنابة والتوبة من الزنا لا
يجب أن يكون مريدا منهم الزنا ولا يجب أن يكون مريدا لما لا يتم الاغتسال والتوبة
إلا به وهو الزنا ، كذلك في مسألتنا ، وأيضا فإن الحال فيه كالحال فيما لو أراد
إقامة الحد على الزاني والسارق وشارب الخمر ، فلا يجب أن يكون مريدا للزنا والشرفة
وشرب الخمر الذي لا تجب إقامة هذه الحدود إلا عندها ، كذلك في مسألتنا ، فصح لك
فساد ما يعتمدونه في هذا الباب.
ومما يتعلقون به
في هذا الباب ، قولهم : لو لم يكن القديم تعالى مريدا للمعاصي وكان كارها لها ،
لكان يصح أن يقال : إن هذه المعاصي وقعت شاءها القديم أم أباها رضيها أم سخطها ،
ومن ارتكب هذا فليس يلتبس كفره على أحد.
والأصل في الجواب
عن ذلك ، أن الإباء يذكر ويراد به كراهة الشيء مع المنع منه ، كما يقال فلان أبي
الظلم ، أي يمنعه ، فقد يذكر ويراد الكراهة فقط ، إذا ثبت هذا ، فقولهم : إن هذه
المعاصي وقعت شاءها الله أم أباها لا يخلو ، إن أردتم به أن هذه المعاصي وقعت مع
كراهة القديم تعالى فهذا ليس بمستبعد وليس بكفر ، وإن أردتم به أنها وقعت وهو غير
قادر على المنع من ذلك فإن ذلك ليس يجب ، فإنه تعالى قادر على أن يمنع منها ،
وإنما لم يفعل ذلك لكي لا يرتفع التكليف ولكي لا يبطل استحقاق الثواب والعقاب ،
ففسد كلامهم ، وبطلت شبهاتهم.
شبهة أخرى لهم في
المسألة ، وهو أنهم قالوا : أو ليس أن إبليس يريد موت الأنبياء ويقبح منه والقديم
تعالى يريده ولا يقبح ذلك منه ، فهلا جاز مثله في مسألتنا ، أن يريد القديم تعالى
هذه المعاصي ولا يكون حاله في النقص كحالنا إذا أردناها.
والأصل في الجواب
عن ذلك أن بين الموضعين فرقا ، لأنه تعالى إنما يريد إماتتهم لينقلهم من دار
الفناء إلى دار البقاء ، ومن دار الإهانة إلى دار الكرامة ولما علم في ذلك من
الصلاح واللطف ، وليس كذلك إبليس ، فإنه لا يريد هذا الذي يريده على الحد الذي
ذكرناه ، ففسد ما ظننتموه ، وإنما يريد على وجه يقتضي ضعف الإسلام والمسلمين.
فإن قيل : إنه
تعالى إذا أخبر أن فلانا يقتل ظلما فلا بد من أن يريد قتله ظلما ، وإلا كان مريدا
لأن يكون كاذبا تعالى عن ذلك وفي ذلك ما نريده. قيل له : ليس يجب في أن أخبر عن
أمر من الأمور أن يكون مريدا وقوع ما أخبر به لا محالة ، فمعلوم أن أحدنا قد يخبر
عن أن بعض أعزته يموت أو يموت هو ، وإن كان كارها لذلك أشد الكراهة ، وقولهم إنه
لو لم يرد وقوع ما أخبر عن وقوعه كان قد أراد كونه كاذبا مما لا أصل له ، بل إنما
يكون قد أراد كونه كاذبا في ذلك أن لو أراد الإخبار عن وقوع ما يعلمه أنه لا يقع ،
فحينئذ يكون قد أراد تكذيب نفسه ، لأن الكذب خبر مخبره لا على ما هو به ، فأما إذا
أخبر عن وقوع ما يعلمه أنه يقع غير أنه غير مريد وقوعه ، فإنه لا يكون مريدا لأن
يكون كاذبا ، ولهذا يصح أن يكره كونه كاذبا مع إرادته للأخبار عما يعلم وقوعه ،
ولو كان الأمر على ما ظننتم لكان في هذه الحالة حاصلا على صفتين ضدين.
يزيد ذلك وضوحا أن
النبي صلىاللهعليهوسلم أخبر أن حسينا يقتل ولم يرد أن يقتل حسين ، وكره أشد
الكراهة حتى روي أنه بكى ولم يرد كونه كاذبا ، فكيف يصح قولكم أنه إن لم يرد قتله
أراد كونه كاذبا.
الاستدلال على قولهم بالقرآن
وقد تعلقوا بآيات
من كتاب الله تعالى فيها ذكر المشيئة ، نحو قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ) [البقرة : ٢٥٣]
وقوله : (ما كانُوا
لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الأنعام : ١١١]
وقوله : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا
أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الإنسان : ٣٠]
وأشباه ذلك.
والأصل في الجواب
عن ذلك ، أنا نمنعهم من الاستدلال بالسمع أصلا ، فنقول :
إن إثبات محدث في
الغائب ينبني على إثبات محدث في الشاهد ، وأنتم لا تثبتون في الشاهد محدثا ، فكيف
أثبتم في الغائب محدثا حتى استدللتم بكلامه واحتججتم به؟
وأيضا فإن صحة
السمع تنبني على كون القديم تعالى عدلا حكيما لا يكذب لا يظلم ، وأنتم قد جوزتم
على الله ما هو أظهر وأعظم ، فكيف يمكنكم الاستدلال بالسمع على هذه المسألة ،
ولأنا لم نعرف هذه المسألة ، لا يمكننا أن نعرف صحة السمع ، وكل مسألة هذا سبيلها
فالاستدلال عليها بالسمع متعذر.
ووجه آخر في منعهم
عن الاستدلال بهذه الآيات ، أنها لا توافق مذهبهم في هذا الباب. لأن في الآية
الأولى أن في الواقعات ما لا يريده الله تعالى ، ألا ترى إلى قوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ) [البقرة : ٢٥٣]
وهذا ينبئ عما ذكرناه ، وذلك يقدح فيما أصلوه من أنه تعالى مريد لذاته.
وكذلك ففي الآية
الثانية لفظ : أن ، وأن إذا دخلت على الفعل المضارع أفدت الاستقبال ، وذلك يوجب أن
لا يكون كان القديم تعالى مريدا فيما لم يزل ، فلا بد من تأويل ، فنتأولها على وجه
يوافق دلالة العقل ، ونقول : إن المراد بالمشيئة المذكورة في هذه الآيات مشيئة
الإلجاء والإكراه ، ولها نظائر في كتاب الله عزوجل ، قوله تعالى : (إِنْ نَشَأْ
نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ
(٤)) [الشعراء : ٤]
وقال أيضا : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ
لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ
حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩)) [يونس : ٩٩] مبينا
على أنه لو شاء أن يكرههم على الإيمان ويحملهم على ذلك أمكنه غير أنه أمهلهم
ووكلهم إلى اختيارهم ، حتى إن أحسنوا الاختيار بأنفسهم استحقوا من الله الكرامة ،
وإن أساءوا الاختيار استحقوا الإهانة ، فيبقى التكليف ولا يبطل الاستحقاق أصلا
ورأسا.
الاستدلال بالقرآن على عكس قولهم
ثم بعد هذه الجملة
نعارضهم بما في كتاب الله تعالى مما يدل على فساد مذهبهم في هذا الباب ، وهو قوله
: (سَيَقُولُ الَّذِينَ
أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ) [الأنعام : ١٤٨]
وحسبك هي دلالة في هذا الباب. قال تعالى حاكيا عنهم : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ
شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ
كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) [الأنعام : ١٤٨]
الآية. حكى الله تعالى صريح مذهب هؤلاء القوم عن المشركين ، ثم كذبهم بقوله : (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ) ، وقال بعده (حَتَّى ذاقُوا
بَأْسَنا) والبأس هو
العذاب. فبين
استحقاقهم من جهة الله تعالى بهذه المقالة ، وقال بعد ذلك : (هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ
فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) [الأنعام : ١٤٨]
منبها بذلك أنهم على الضلالة. ثم قال : (إِنْ تَتَّبِعُونَ
إِلَّا الظَّنَ) بين في ذلك أنهم سلكوا في ذلك طريقة التقليد والظن ، وختم
الآية بقوله : (وَإِنْ أَنْتُمْ
إِلَّا تَخْرُصُونَ) [الأنعام : ١٤٨]
مقرعا لهم ودالا على كذبهم لأن الخرص إنما هو الكذب ، قال تعالى : (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (١٠)) [الذاريات : ١٠]
أي لعن الكذابون فهذه الآية على ما ترى تدل على فساد هذه المقالة من هذه الوجوه
كلها.
وما يهذى به أبو
بشر الأشعري وغيره ، من أن القديم تعالى إنما ذم هذه المقالة لأنها وردت منهم على
طريق الهزء فعدول عن الظاهر ، لأن في الظاهر ما يمنع من ذلك ، لأنه لا يكذب
المستهزئ ، ولا يقال له هل عندك من علم فيما تقوله؟ ولا يقال له إن أنت إلا متبع
الظن.
أطفال المشركين لا يعذبون بذنوب آبائهم
فصل في أنه تعالى لا يجوز أن يعذب أطفال المشركين بذنوب
آبائهم
وقد دخل جملة هذا
الكلام فيما تقدم ، غير أنه رحمهالله أفرده بالذكر لأن بعض المجبرة قد خالفت في ذلك وتعلقت بشبه
ركيكة سنذكرها من بعد إن شاء الله تعالى وبه الثقة.
ونحن قبل الاشتغال
بالدلالة على هذه المسألة نذكر حقيقة التعذيب.
اعلم أن التعذيب
إيصال العذاب إلى الغير ، والعذاب هو الضرر الخالص المستحق على طريق الاستخفاف
والإهانة ، إذا ثبت هذا ، فالذي يدل على أنه تعالى لا يجوز أن يعذب أطفال المشركين
بذنوب آبائهم ، هو أن تعذيب الغير من غير ذنب ظلم والله تعالى لا يجوز أن يكون
ظالما باتفاق الأمة ، ولأنه قبيح ، والله تعالى لا يفعل لعلمه بقبحه وبغناه عنه.
وقد استدل رحمهالله بالسمع على هذه المسألة تنبيها على أن الدلالة السمعية من
الكتاب والسنة توافق ما ذهبنا إليه واعتقدناه في ذلك.
فمما يدل على ما
ذكرناه من كتاب الله ، قوله تعالى : (وَما كُنَّا
مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء : ١٥]
ومعلوم أن الأطفال لم تبعث إليهم الرسل ، فيجب أن لا يعذبهم الله
تعالى على ما
نقوله ، وقوله : (كُلُّ نَفْسٍ بِما
كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (٣٨)) [المدثر : ٣٨]
والطفل لم يكتسب إثما حتى يعذب.
ومن السنة ، ما
روي عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «رفع القلم عن الصبي
حتى يبلغ»
فبيّن أن القلم
مرفوع عنه ، ولن يكون كذلك إلا ولا يحسن تعذيبه ، فصح أن تعذيب أطفال المشركين ظلم
، وأنه تعالى لا يختاره.
فإن قيل : إن ذلك
وإن كان صورته صورة الظلم ، فإنه لا يقبح من الله تعالى ، قلنا : الظلم إذا قبح
فإنما يقبح لوقوعه على وجه متى وقع على ذلك الوجه قبح من أي فاعل كان ، سواء وقع
من الله تعالى أو من غيره.
فإن قيل : ما
أنكرتم أن ذلك لا يقبح منه لأنه مالك الرقاب وللمالك أن يفعل في ملكه ما شاء ،
بخلاف الواحد منا.
قيل له : إنا كما
نعلم قبح الظلم على الجملة اضطرارا ونعلم أنه إنما قبح لكونه ظلما ، نعلم أنه لا
يختلف باختلاف الفاعلين له سواء كان مالكا أو لم يكن مالكا.
وبعد ، فإنا لا
نسلم أن للمالك أن يتصرف في ملكه كيف شاء ، فإن أحدنا لو أنفق عمره في بناء دار ،
وزخرفها وزينها وبذل الجهد في تزويقها وتحسينها ثم أخذ في هدمها ، فإنه يمنع من
ذلك ويزجر ولا يمكن منه وكذلك لو حمل نفسه على المشاق العظيمة حتى حصل لنفسه رزمة
من البرسيم ثم أراد أن يحرقها ، فإنه يمنع من إحراقها وإشعال النار فيها ولا يمكن
من ذلك ، بل يصفع دونه.
فإن قيل : إن
أحدنا إنما يمنع من هذه الأمور ولا يحسن منه ذلك لأنه ليس بمالك حقيقة ، قلنا :
المالك ليس بأكثر من أن يجوز له التصرف فيه لا على طريق النيابة ، وهذه حال الواحد
منا ، فكيف يمنع من كونه مالكا؟
فإن قيل : إن هذه
الأمور إنما تقبح من الواحد منا لأجل النهي وهو غير ثابت في الله تعالى. قيل له :
إنا قد ذكرنا أن النهي لا تأثير له في قبح شيء من الأشياء ، لو لا ذلك وإلا كان
يجب فيمن لا يعرف النهي ولا الناهي أن لا يعرف قبح هذه المقبحات من الظلم وغيره ،
ومعلوم أن هؤلاء الملحدة يعرفون قبح الظلم مع إنكارهم للأوامر والآمر والناهي ،
ومتى قالوا : إنهم لا يعرفون قبح الظلم على الحقيقة وإنما يعتقدونه ، قلنا : هذا
محال ، ولو أمكن أن يقال ذلك هاهنا ، لأمكن أن يقال مثله في التفرقة بين السواد
والبياض ، فيقال : إنهم لا يعرفون ذلك وإنما يعتقدونه ، وقد عرف خلافه ، ووجه
الجمع بينهما ، هو
لأن سكون النفي في أحدهما ، كسكون النفي في الآخر ، فهذه جملة الكلام في ذلك.
شبه المخالفين وللمخالف في هذا الباب شبه :
من جملتها ، قولهم
: إن الكفار أذنبوا فلهذا يحسن تعذيب أطفالهم.
قلنا : إن تعذيب
الغير من غير ذنب ظلم ، والله يتعالى عن أن يفعل الظلم وقد نوه نفسه عن ذلك بقوله
: (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ
وِزْرَ أُخْرى) [الأنعام : ١٦٤]
وقال : (وَلا يَظْلِمُ
رَبُّكَ أَحَداً) [الكهف : ٤٩].
وبعد ، فلو كان
الأمر كما ذكرتموه لكان يجب أن يعذبوا في الدنيا بذنوب آبائهم ، وقد علم خلافه.
وربما يوردون هذا
الكلام على وجه آخر فيقولون : إن الولد كالجزء من الوالد ، فلذلك يحسن تعذيبه بذنب
والده. قيل له : إن هذا خلف من الكلام وخطل من القول ، إذ لا شبهة في كونهما حيين
متغايرين ، ولا يألم أحدهما بألم الآخر ولا يلتذ هو به ، ولو أمكن هذا في دار
الآخرة لأمكن مثله في دار الدنيا ، فكان يجب أن يجلد الولد بتصرف والده ، وأن تقطع
يده بسرقته ، ومعلوم خلافه.
ومما يتعلقون به ،
قولهم : إن تعذيب أولاد الكفرة كتعذيب آبائهم ، لأن الكافر إذا رأى قرة عينه يعذب
بين أطباق النيران كان أشد عليه من أن يعذب نفسه ، فيحسن تعذيبهم لهذا الوجه.
وجوابنا : أنه وإن كان على ما ذكرته إلا أنه لا يخرج من أن يتضمن تعذيب من لا ذنب
له ، وتعذيب من لا ذنب له قبيح ، والله تعالى لا يفعل القبيح على ما مر.
وبعد ، فلو جاز
ذلك في الآخرة للعلة التي ذكرتموها لجاز في دار الدنيا مثله ، فكان يجب إذا زنا
أبوه أن يرجم هو ، وإذا سرق أن تقطع يده ، وإذا قذف أن يجلد ، وقد عرف خلاف ذلك.
وأحد ما يقولونه ،
أنه تعالى إذا علم من حالتهم أنهم إذا بلغوا كفروا ويحسن تعذيبهم. وجوابنا : أن
هذا ثابت في أطفال المسلمين فيجب أن يحسن تعذيبهم ، ومعلوم خلافه.
وبعد ، فإذا جوزتم
أن الله تعالى يعذب أطفال المشركين لأنه علم من حالتهم
أنهم إذا بلغوا
كفروا ، فهلا جوزتم أن يخلق الله تعالى كثيرا من الأحياء في نار جهنم ويعذبهم فيه
ويحسن ذلك منه ، لأنه علم من أحوالهم أنهم إذا خلقوا وكلفوا كفروا ، وقد عرفنا
فساده ، وبعد فكان يحب أن تقام عليهم هذه الحدود على وجه العقوبة ، لأن المعلوم من
حالهم أنهم لو بلغوا ارتكبوا هذه الكبائر من القذف والزنا والسرقة ، ومعلوم خلافه.
ومن بله المجبرة
من قال : إن الله تعال؟ يأمر أطفال المشركين يوم القيامة بدخول النار فلا يأتمرون
ويعصون الله تعالى ، فيستوجبون العقوبة بذلك. وجوابنا : لم خصصتم هذا بأولاد
الكفرة ، وهلا قلتم ذلك في غيرهم من الأطفال؟ على أن هذا يوجب أن تكون دار الآخرة
دار تكليف ، والدلالة قد دلت على خلافه.
الاستدلال بالأخبار
وربما يتعلقون
بالأخبار فيقولون : أليس أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال لما سألته خديجة عن أطفال لها كانوا في الجاهلية
: «لو شئت لأسمعتك في النار» وجوابنا أن هذا الخبر من أخبار الآحاد ، ومسألتنا طريقها العلم.
وبعد ، فلو صح هذا
الخبر فالمراد بالأطفال : والطفل قد يذكر ويراد به البالغ ، قال الشاعر :
عرصت بعامر
والخيل تردى
|
|
بأطفال الحروب
مشمرات
|
وأحد ما يتعلقون
به في هذا الباب ، أن حكم أطفال المشركين حكم آبائهم في الاسم والحكم ، فيجب أن
يكون حكمهم حكم آبائهم في التعذيب.
وجوابنا ، أنا لا
نسلم أن حكمهم حكم آبائهم في الاسم ، لأن المعلوم الذي لا يشكل أن ابن يومين لا
يسمى مشركا ولا يهوديا ولا نصرانيا ، وأما في الحكم فإنهم لا يذمون على كفر آبائهم
، ولا تؤخذ منهم الجزية ، وغير ذلك من الأحكام ، وأما المنع من المناكحة والموارثة
والدفن في مقابر المسلمين ، فلكي يكون تمييزا بينهم وبين أطفال المسلمين لا غير.
قالوا : كيف يصح
هذا ، ومعلوم أن حكمهم حكم آبائهم في السبي والقتل؟ قلنا : أما السبي فليس هو على
طريق العقوبة ، وإنما يكون على طريق الابتلاء والامتحان من جهة الله تعالى ، والله
تعالى يعوضهم على ذلك أعواضا عظيمة موفية على ذلك ، وصار
الحال فيه كالحال
في الآلام النازلة بالأطفال وغير الأطفال ، وأما القتل فلا نسلمه فإن النبي صلىاللهعليهوسلم نهى عن قتل أولاد الكفرة والنساء والبهائم ، ومتى تستروا
بأولادهم فإنما يجوز قتلهم لأن ذلك ليس بعقوبة لهم وإنما هو تشديد على الكفرة ،
والله تعالى يعوضهم على ذلك أعواضا توفى عليها.
فإن قيل : أليس قد
روي عن النبي صلىاللهعليهوسلم «كل
مولود يولد على الفطرة وإنما أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه» قلنا : هذا الخبر يدل على صحة ما نذهب إليه ولا تعلق لكم
بهذا الخبر ، ففيه أن كل مولود يولد على الفطرة ، ومن مذهبكم أن بعض المولودين
يولدون على الفطرة والبعض الآخر يولدون على الكفر ، فكيف يصح قولكم ذلك؟
وأيضا ، فيه أن
أبويه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ، ومن مذهبكم أنه تعالى المتولى كل ذلك ، وأنه
على الحقيقة يهوده ويمجسه وينصره. ثم نقول : إن المراد بالخبر أن أبويه يلقنانه
اليهودية والنصرانية والتمجس لا أنه يصير ذلك ، فعلى هذا يجري الكلام في هذا
الفصل.
فصل في الآلام
اعلم ، أن للجهل
بوجه حسن الآلام وقبحها ضل كثير من الناس.
واعتقد بعضهم أن
الآلام قبيحة كلها ، والملاذ حسنة كلها ، فأثبتوا لذلك فاعلين ، لما اعتقدوا أن
الفاعل الواحد لا يجوز أن يكون فاعلا لها جميعا ، وهم الثنوية.
واعتقد آخرون أن
الآلام لا تحسن إلا مستحقة وقصروا حسنها على هذا الوجه ، ثم لما رأوا وصول هذه
الآلام إلى الأطفال والبهائم الذين لا يستحقونها تحزبوا :
فقال بعضهم : إنهم
كانوا في قالب آخر فعصوا الله تعالى فيه فنقلهم إلى هذا القالب وعاقبهم بهذه
العقوبات ، وهم أصحاب التناسخ ، فنفوا أن يكون الحي والحساس هذه الجملة المشار
إليها وأثبتوا غيرها.
وآخرون استصغروا
هذه المقالة من أهل التناسخ ، فدفعوا المحسوسات ، وقالوا : إن الأطفال والبهائم لا
يحسون شيئا من هذه الآلام البتة ، وهم البكرية وينسبون إلى ابن أخت عبد الواحد.
واعتقد الجبرية أن
الآلام يعتبر حسنها وقبحها بحال فاعلها ، فإن كان فاعلها القديم جل وعز يحسن منه
سواء كان ظلما أو اعتبارا ، وإن كان فاعلها الواحد منا لا
يحسن ، واعتلوا
لذلك بأنه تعالى مالك ، وللمالك أن يفعل في ملكه ما يشاء. ونحن نمهد قبل الشروع في
المسألة أصلا يمكن تخريج كلام هؤلاء المخالفين عليه ، فنقول :
إن الآلام كغيرها
من الأفعال في أنها تقبح مرة وتحسن أخرى ، فإذا حسن فإنما يحسن لوجه ، متى وقع على
ذلك الوجه حسن من أي فاعل كان ، وهكذا في القبيح ، وجملة ذلك أن الألم إنما يحسن
إذا كان فيه نفع أو دفع ضرر أعظم منه ، واستحقاق ، أو الظن لأحد الوجهين المتقدمين
، فإن ظن الاستحقاق لا يقوم مقام العلم خلافا لما حكى عن شيخنا أبي هاشم ، لأن من
آلم غيره لظن الاستحقاق ، لا يأمن أن يكون مقدما على ظلم قبيح ، والإقدام على ما
لا يأمن كونه قبيحا بمنزلة الإقدام عليه مع القطع ، فلا يمكن إنكار ما قلناه من أن
في الآلام ما يقبح وفيها ما يحسن ، لأن كل عاقل يعلم بكمال عقله قبح كثير من
الآلام كالظلم الصريح وغيره ، وحسن كثير منها كذم المستحق للذم وما يجري مجراه.
إذا ثبت ذلك ،
فالذي يوضح أن الحسن منها إنما يحسن لما ذكرناه من النفع ودفع الضرر والاستحقاق ،
هو أن كل عاقل يستحسن بكمال عقله تحمل السفر ومعاناة السهر طلبا للأرباح ، والآداب
، ولا يستحسن ذلك إلا لما يرجوه من النفع ، وهكذا فإنه يستحسن شرط الأذنين
والحجامة والفصد ، وإنما يستحسن لما يعتقد فيه من ارتفاع الضرر ، ويستحسن منه ذم من
أساء إليه ، ولا وجه لحسنه إلا الاستحقاق ، فحصل من ذلك أن الألم متى حصل على وجه
من هذه الوجوه التي ذكرناها حسن لا محالة ، ومتى خرج عن هذه الوجوه لم يحسن بل
يكون قبيحا. ولسنا نجعل الوجه في حسنه حصول النفع ودفع الضرر على كل حال ، بل إن
حصل ذلك فهو الوجه في حسنه ، وإن لم يحصل فإن ظن ذلك يكون وجها في حسنه ، والدليل
عليه أن أحدنا يحسن منه تكلف المشاق وتحمل الأسفار طلبا للعلوم والآداب وغير ذلك
مع أنها كلها مظنونة ، وكذلك فقد يحسن منه القصد ، وإن لم يقطع على أنه يندفع به
ضرر عنه ، فإذن إنما يحسن منه ذلك للظن.
وإذا تقررت هذه
الجملة ، فقد بطل ما قالته الثنوية من أن الآلام كلها قبيحة لنفور الطبع عنها ،
وإن كنا قد أبطلنا مقالتهم هذه في موضع آخر وأوردنا عليهم المسائل التي أوردها
الشيوخ عليهم ، فلا طائل في تطويل الكلام.
وبطل أيضا قول أهل
التناسخ ، القائلين بتنقل الأرواح في الهياكل ، فقد بينا أن الألم قد يحسن للنفع
ولدفع الضرر كما يحسن للاستحقاق.
وبطل أيضا قول
البكرية.
وفسد أيضا قول
المجبرة ، حيث قالت : إن الاعتبار في حسن الآلام وقبحها لحال الفاعل فإن كان
الفاعل هو الله تعالى حسن وإلا لم يحسن ، لما ذكرناه من أن الألم إنما يحسن لهذه
الوجوه التي ذكرناها ويقبح لتعريه عن هذه الوجوه ، فلا يختلف الحال في ذلك بحسب
اختلاف الفاعلين.
ونعود بعد هذه
الجملة فنقول : إنما يفعله الله تعالى من الآلام لا يخلو ، إما أن يوصله إلى
المكلف أو إلى غير المكلف ، فإن أوصله إلى غير المكلف فلا بد من أن يكون في
مقابلته من الأعواض ما يوفى عليه ، وأن يكون فيه اعتبار المكلفين ، ليخرج بالأول
عن كونه ظلما ، وبالثاني عن كونه عبثا ، فإن أوصله إلى المكلف فلا بد فيه من
الأمرين جميعا : العوض والاعتبار ، إلا أن الاعتبار هاهنا إما أن يكون اعتبارا له
فقط ، أو لغيره ، أو له ولغيره جميعا ، وإن استبعد قاضي القضاة أن يكون اعتبارا
لغيره ، ولا يكون اعتبارا له مع أنه أخص به. وهذا وجه له ولمكانه يحسن من الله
تعالى الإيلام ، وقد يحسن لوجه آخر وهو الاستحقاق على ما نقوله في العقاب ، فأما
إذا خرج عن هذين الوجهين فلا ، حتى أنه لا يحسن من الله تعالى لدفع الضرر ، لأن
الله تعالى قادر على أن يدفع ذلك الضرر من دون هذا الألم ، فالإيلام والحال هذه
يكون عبثا لا فائدة فيه.
إلا أن هذه
الطريقة يمكن سلوكها في النفع ، فيقال : إنه تعالى قادر على إيصال هذا القدر من
النفع إليه فلا معنى للإيلام لكي يوصله إليه ، ومتى قلنا : إن مع النفع اعتبارا
كان له أن يجنب بمثله ، فالأولى أن نقول : إن ذلك الضرر إما أن يكون مصلحة أو
مفسدة ، فإن كان مصلحة فلا سبيل إلى دفعه بل يجب فعله ، وإن كان مفسدة فلا سبيل
إلى فعله لقبحه ، فكيف يحسن من الله تعالى الإيلام لئلا يفعل قبيحا.
هذا إذا كان كل
واحد من الضررين من جهة الله تعالى.
فأما إذا كان
الضرر المدفوع من جهة غير الله تعالى فلا يخلو ، إما أن يكون من جهة المكلف أو من
جهة غير المكلف ، فإن كان من جهة المكلف فلا يخلو إما أن يكون مصلحة أو مفسدة ،
فإن كان مصلحة فلا سبيل إلى دفعه ، وإن كان مفسدة فالواجب أن يدفعه الله تعالى
بالنهي والوعيد ، فأما أن يؤلمه ليندفع به عنه ذلك الضرر فلا ، وهكذا إذا كان من
جهة غير المكلف ، فإنه إما أن يكون مصلحة فلا سبيل إلى
دفعه ، أو يكون
مفسدة فالواجب أن يمنعه الله تعالى من ذلك ولا يمكنه منه ، لا أن يؤلمنا لمكانه ،
فصح أنه تعالى لا يصح أن يفعل الإيلام لدفع الضرر وإن حسن منه فعله للنفع
والاستحقاق على ما تقدم.
إذا ثبت هذا ،
فقول من قال إن الألم لا يحسن إلا إذا كان مستحقا لا يخلو ، إما أن يريد به أنه لا
يحسن إلا للاستحقاق سواء كان من جهة الله تعالى أو من جهة غيره ، وذلك فقد أبطلناه
بما تقدم ، فلقد ذكرنا أنه يحسن للنفع ولدفع الضرر كما يحسن للاستحقاق ، وإما أن
يريد به أنه وإن حسن من العباد لهذه الوجوه فلا يحسن من الله تعالى إلا مستحقا ،
فالكلام عليه هو أن نقول : لو كان الأمر على ذكرته لكان يجب ألا يحسن من الله
تعالى إيلام من لا يستحق الإيلام ، ومعلوم أن الأنبياء مع أنهم لا يستحقون ذلك
ربما تصيبهم الآلام العظيمة.
فإن قالوا : ما
أنكرتم أنهم يستحقون الألم لكبائر ارتكبوها قبل البعثة؟ قلنا : إن الأنبياء لا
تجوز عليهم الكبائر لا قبل البعثة ولا بعدها.
وأيضا ، فلو كان
كذلك لكان يجب إذا تاب المريض أن يبرأ ، لأن التوبة تزيل العقاب وتسقطه ، ومعلوم
خلافه.
ومما يوضح ذلك
فساد أصحاب النقل القائلين بأن هذه الأرواح تنتقل بهذه الهياكل وأن الإنسان متى
عصى الله تعالى في قالب نقله إلى قالب آخر وعذبه فيه ، هو أنه لو كان كذلك لكان
يجب أن يتذكر أحدنا ما كان يجري عليه من الأمور العظيمة ، نحو المصيبة بالوالدين ،
والمصادرة بالرغائب والأموال النفيسة ، ونحو الرئاسة والقضاء والتدريس وما جرى
مجراه وهو في ذلك القالب ، لأن ما ذكرناه من كمال العقل ، والمعلوم أن أحدا من
الناس لا يتذكر شيئا من هذه الأحوال وهو في هذا القالب ، ففسد ما قالوه.
ومتى قالوا : إن
تخلل زوال العقل يمنع من ذلك فليس الأمر على ما ظنوه ، فإن قاضي بلدة أو رئيس محلة
لو جنّ مدة من الزمان ، ثم أفاق وثاب إلى عقله ورجع إليه لبه ، لتذكر أنه كان قاضي
تلك البلدة أو رئيس تلك المحلة ، وهذا هو الجواب إذا قالوا إنما لا يذكر ما يجري
عليه لطول المدة ، لأن طول المدة مما لا يؤثر في مثل هذه الأمور العظام. وإنما
تأثيره فيما لا خطر له. فقد بطل قول أصحاب التناسخ.
ودخل فساد قول
البكرية أيضا تحت هذه الجملة ، على أنهم لجهلهم أخرجوا
أنفسهم من حد من
يكلم ، فإن غاية ما على المرء أن ينهى الكلام بخصمه إلى ما يعلمه ضرورة ، فمن دفع
المشاهدات ، وأنكر المعلومات ، وجحد الضروريات ، فلا سبيل إلى مكالمته.
ومن أقوى ما نورده
على هؤلاء أن يقال : إن التكليف ابتداء ، معلوم أنه لا ينفك عن المشقة ، فكيف يحسن
مع هذا ، القول بأن الألم لا يحسن إلا مستحقا؟ وهذا كما يمكن إيراده على القائلين
بالنقل ، يمكن إفساد كلام البكرية أيضا به.
ثم إنه رحمهالله ، سأل نفسه عن كلامنا الأول من أنه لا يحسن منه الإيلام
إلا للعوض والاعتبار والاستحقاق ، فقال إذا كان الله تعالى هو الذي خلقنا ، وخلق
فينا الحياة والقدرة والشهوة والسمع والبصر ، فهلا جاز له أن يؤلم من دون العوض أو
الاستحقاق على الحد الذي ذكرتموه؟
وهذا السؤال يمكن
أن يورد على وجهين :
أحدهما ، أن يقال : إذا كان الله تعالى هو المنعم المتفضل الذي
خلقنا وخلق فينا الحياة والقدرة والشهوة والمشتهى ، فإن له أن يسترد هذه النعم أو
واحدة منها كما في الشاهد فإن للمعير أن يسترد العارية ، فكذلك سبيل القديم تعالى
مع هذه النعم التي هي الحياة والقدرة وغيرهما لأنهما كالعواري ، وعلى هذا قالوا :
إنما الدنيا هبات وعوار مستردة
شدة بعد رخاء ورخاء بعد شدة
والثاني ، أن يقال : إنه تعالى إذا كان أنعم علينا بهذه الضروب من
النعم فله أن يمتحننا بهذا القدر من الإيلام ، وصار الحال فيه كالحال في الوالد
إذا أنعم على ولده بضروب من النعم ، ثم قال له مرة : ناولني الكوز ، أو اسقني
الماء ، فكما أن ذلك يحسن منه فلا يجب أن يكون في مقابلته عوض ولا استحقاق ، كذلك
هاهنا.
والجواب : أما
الأول فلا يصح ، لأنه ليس للمنعم سلب النعمة على الإطلاق ، بل لا بد من أن يكون
مشروطا بأن لا يتضمن ضرر المنعم عليه ضررا يجحف بحاله ويقع الاعتداد به ، وهكذا
نقول في استرداد العارية من جهة العقل ، على أن الشرع أباح لنا استردادها وإن اغتم
المستعير بردها ، وضمن له في مقابلة ما يلحقه من النعم أعواضا موفية عليه.
وأما الثاني ، فلا
يصح أيضا ، لأنه ليس للمنعم على غيره أن يؤلمه لمكان نعمته ، فمعلوم أن من تصدق
على غيره بدرهم ، لا يجوز له أن يكلفه من بعده التكاليف الشاقة ، كأن يأخذه مثلا
بتطيين سطوحه والقيام بعمارة دوره ، إلى غير ذلك ، بل للمنعم عليه أن ينكر عليه
ذلك ويقول له : كان من سبيلك أن لا تتصدق علي بذلك الدرهم ، ولا تؤذيني اليوم
لمكانه ، وأما حديث الوالد مع ولده ، فهو يحسن منه ما يأمره بهذا القدر لأن ذلك مما
لا يقع الاعتداد به ، ولو كان من باب ما يقع الاعتداد به فإنما يسوغ له ذلك شرعا ،
وقد ضمن الله تعالى للولد في مقابلته ما يوفي عليه حيث أباح للوالد ذلك.
فصل
اعلم أن من مذهب
عبّاد أن الإيلام يحسن من الله تعالى دون العوض ، وتجعل الوجه في حسن ذلك
الاعتبار.
والذي يدل على
فساد مذهبه ، هو أن هذا الألم ، إما أن يوصله الله تعالى إلى المكلف ، أو إلى غير
المكلف.
فإن أوصله إلى غير
المكلف كان ظلما لأنه لا يعتبر ، ومتى قال : إن في إيلامه اعتبارا للمكلفين كان لا
يخرج بذلك عن أن يكون ظلما ، لأنه ما من ظلم إلا وفيه منفعة للظالم أو لغيره. يوضح
ذلك ، أن الظلم ليس بأكثر من أن لا يكون فيه للمظلوم نفع ولا دفع ضرر ولا استحقاق
ولا الظن لأحد الوجهين المتقدمين ، وهذا صورة ما جوزه عباد.
وإن أوصله إلى
المكلف فإنه لا يخرج أيضا عن كونه ظلما ، لأنه وإن كان يجوز أن يعتبر به ، إلا أن
النفع الذي يصل إليه هو في مقابلة ما أتى به من الواجبات واجتنبه من المقبحات ،
فيقع حسه الألم خلوا عما يقابله ، فيكون ظلما قبيحا تعالى الله عن ذلك.
وله في هذا الباب
شبهتان اثنتان :
إحداهما ، أن
أحدنا يستحق ما يستحقه ثوابا أو عوضا بفعل نفسه ، والإيلام من فعل الله تعالى ،
فلا يجوز أن يستحق عوضا.
والثاني ، هو أنه
لو كان يحسن من الله تعالى الإيلام للعوض لكان يحسن منا
الألم للعوض ،
سيما على مذهبكم أن الحسن والقبيح إنما يحسن ويقبح لوقوعه على وجه متى وقع على ذلك
الوجه قبح أو حسن من أي فاعل كان.
والجواب : أما
الأول ، فلا يصح ، لأن الاستحقاق ينقسم إلى : ما لا يثبت لأحدنا إلا على فعل نفسه
نحو المدح والتعظيم وغير ذلك ، والثواب من هذا القبيل ، وإلى ما لا يستحقه إلا على
فعل الغير ، وذلك كأروش الجنايات وقيم المتلفات ، فإن ذلك لا يستحق إلا على فعل
الغير ، ولهذا فإن من فرق على غيره ثوبه يستحق عليه قيمته ، ولو مزقه على نفسه لم
يستحق العوض ، نظيره في الشاهد قيم المتلفات ، ففسد ما ظنوه.
وأما الثاني ،
فإنا نعارضهم أولا بالاعتبار ، فنقول : لو حسن من الله تعالى الإيلام للاعتبار
لحسن منا أيضا كذلك والمعلوم خلافه ، ثم نفصل الجواب عن ذلك فنقول :
إن ما يفعله
الواحد منا من الآلام إما أن يفعله بنفسه أو بغيره ، وإذا فعله بغيره فإما أن يكون
مفعولا بالمكلف أو بغير المكلف. فإن فعله بنفسه فإنه يحسن للنفع ولدفع الضرر ، ألا
ترى أنه يحسن تحمل المشاق طلبا للعلوم والآداب ، وكذلك فإنه يحسن منه الفصد والحجامة
ونحو ذلك ، ولا وجه في حسنه إلا النفع أو دفع الضرر على ما ذكرناه قبل. ولسنا نعني
بذلك أنه لا بد من حصول النفع ودفع الضرر ، فقد بينا أنه لا يفترق الحال في ذلك
بين أن يكون معلوما وبين أن يكون مظنونا ، وإن فعله بغير المكلف فإنه يحسن للعوض
ودفع الضرر.
فلا خلاف في هذا
بين أبي علي وأبي هاشم ، وإنما الخلاف في أن حسن ذلك هل يعلم عقلا أو شرعا ، فعند
أبي علي أنه يعلم شرعا ، وعند أبي هاشم أنه يعلم عقلا وهو الصحيح ، فإن الواحد منا
يستحسن بكمال عقله ركوب البهائم في تعهدها ، من سقيها وتحصيل العلف عليها وغير
ذلك. وبهذا أجاب أبو هاشم من سأله عن ركوب النبي صلىاللهعليهوسلم البهائم قبل البعثة وأنه لو لم يكن متعبد بشريعة من قبله
لكان لا يستحسن ذلك ، فقال : إن ركوب البهائم لمصالحها والمنافع العائدة إليها
مستحسنة عقلا ، فلا وجه لما ذكرتموه ، وإن فعله بالمكلف فإنه يحسن للنفع ودفع
الضرر والاستحقاق ، ولا شك في أنه يحسن من أحدنا إيلام الغير لمكان الاستحقاق ،
فإن المساء إليه يذم المسيء ويؤلمه بذمه ويحسن منه ذلك ، لا لوجه سوى الاستحقاق.
فإذن لا كلام في
هذا ، وإنما الكلام في أنه هل يحسن منه إيلامه للنفع ولدفع الضرر من دون اعتبار رضاه
أم لا.
فعند أبي علي أن
ذلك لا يحسن ، وإن بلغ النفع ودفع الضرر مبلغا عظيما إلا برضاه.
وقال أبو هاشم :
إن النفع ودفع الضرر إذا عظم لم يعتبر برضاه ، بل يحسن منا إيلامه لمكانه أراد
المؤلم ذلك أم كرهه ، وهو الصحيح من المذهب الذي نختاره فإن أحدنا لو قال لغيره :
قم من هذا المكان ولك ألوف دنانير ، ثم لم يختر هو ذلك ، فإن له أن يجبره على
القيام ويقيمه ثم يدفع إليه الدنانير الألوف.
إذا ثبت هذا وتقرر
، قلنا : إن القديم تعالى لسعة جوده وكرمه ، ولعلمه بتفاصيل ما يوصله إلينا من
الآلام ، وكمية ما يستحق أحدنا من الأعواض في مقابلته ، يحسن منه أن يؤلمنا من دون
اعتبار رضانا بذلك ، وليس كذلك حال الواحد منا ، فإن نفسه لا تطاوعه على بذل
الرغائب في مقابلة إقامة الغير من مقامه من دون أن يكون له في ذلك نفع يقابله ، أو
دفع ضرر أعظم منه ، ولا يعلم بتفاصيل ما يصل إليه من أجر الآلام ، ولا كمية ما
يستحقه عليه من العوض ، فلذلك افترق الحال فيما أورده بين الشاهد والغائب ، حتى لو
قدرنا أن يكون الحال في أحدنا كالحال في الغائب ، لحسن منا الإيلام للعوض كما حسن
من الله تعالى.
فصل
واعلم أن من مذهب
أبي علي ، أن الألم يحسن من الله تعالى لمجرد العوض ، لما اعتقد أن العوض بصفة لا
يجوز التفضل به ولا الابتداء بمثله.
وقال أبو هاشم :
لا بد فيه من غرض آخر وهو الاعتبار ، وهو الصحيح.
والذي يدل على
صحته ، هو أن العوض لا يبلغ حدا إلا ويجوز أن يتفضل به ويبدأ بمثله ، وإذا كان
كذلك والقديم تعالى قادر على أن يبتدئ بالعوض من دون هذا الألم ، فالإيلام لمكانه
والحال هذه يكون عبثا قبيحا ، وصار الحال فيه كالحال فيمن استأجر أجيرا ليصب الماء
من نهر إلى نهر من دون أن يتعلق له بذلك غرض ثم يعطيه الأجرة ، فكما أن ذلك يقبح
منه ، كذلك هاهنا.
فإن قال : إن
للاستحقاق مزية ، قلنا : لو حسن من الله تعالى ذلك لمزية الاستحقاق ، لحسن منا
الاستئجار على الحد الذي ذكرناه لهذه العلة ، ومعلوم خلافه ، على أن الاستحقاق
إنما يكون له مزية في الشاهد ، لأن أحدنا ربما يستنكف من قبول نعمة الغير ويلحقه
بذلك أنفة وغضاضة ، وهذا غير ثابت فيما بيننا وبين الله عزوجل
فلا يمكن قياس
أحدهما على الآخر.
فصل
في أحكام العوض
وما يتصل بذلك.
وجملة ذلك أنه لما
مر قطعة من الكلام في الآلام ، أردفه رحمهالله بالكلام في العوض.
وقبل الشروع في
المسألة نذكر حقيقة العوض ، لأن من البيع أن نذكر حكم الشيء ولا ندري ما هو.
اعلم ، أن العوض
كل منفعة مستحقة لا على طريق التعظيم والإجلال ، ولا يعتبر فيه الحسن وغير ذلك لكي
يضطرد وينعكس ويشمل ويعم ، وصار الحال فيه كالحال فينا إذا سئلنا عن حقيقة العبادة
، فقلنا : هي النهاية والغاية في التذلل والخضوع للغير ، ولا يعتبر فيه الحسن لكي
يشتمل على سائر العبادات ، عبادة الرحمن وعبادة الشيطان جميعا ، وذلك مما لا بد
منه ولأن من حق الحد أن يكون جامعا مانعا لا يخرج منه ما هو منه ، ولا يدخل فيه ما
ليس منه.
إذا ثبت هذا ،
فاعلم أنه لا يحسن من الله تعالى أن يؤلمنا من غير اعتبار رضانا إلا إذا كان في
مقابلته القدر الذي لا تختلف أحوال العقلاء في اختيار ذلك الألم لمكانه ، لأن
المعلوم أن أحدنا لا يختار أن يمزق عليه ثوبه لكي يقابل بثوب مثله ، أو ما يزيد
عليه زيادة متقاربة ، وإذا لم يحسن ذلك في الشاهد فكذلك في الغائب.
العوض عند أبي هاشم لا يستحق على طريق الدوام
وإذا صحت هذه
الجملة ، فاعلم أن العوض لا يستحق على طريق الدوام عند أبي هاشم ، وهو الصحيح ،
خلاف ما يقوله أبو علي وأبو الهذيل وقوم من البغدادية ، ويحكى عن الصاحب الكافي
أيضا أنه قال : يستحق على طريق الدوام ، وحكى عن أبي علي الرجوع عنه إلى ما
ذكرناه.
والذي يدل على
صحته ، هو أن نظير العوض في الشاهد قيم المتلف وأروش الجنايات ، ومعلوم أن ذلك لا
يستحق على طريقة الدوام ، فإن من مزق على غيره ثوبه لا يلزمه أن يعطيه كل يوم ثوبا
جديدا ، وأيضا فلو كان كذلك لكان يجب أن لا يحسن في الواحد منا تحمل المشاق طلبا
للأرباح والمنافع المنقطعة ، ومعلوم خلاف ذلك.
فإن قيل : إن ذلك
إنما يحسن من الواحد منا لأن القديم تعالى قد ضمن في مقابلته أعواضا دائمة ، قلنا
: لو كان كذلك لكان يجب في من لا يعلم أن القديم تعالى قد ضمن في مقابلته أعواضا
دائمة أن لا يحسن منه ذلك ، والمعلوم أن أحدنا يستحسن بكمال عقله تحمل المشاق في
الأسفار طلبا لمنافع منقطعة وإن لم يخطر بباله دوام العوض ، ففسد ما ظنوه.
فإن قيل : أليس
الواحد منا يرد الوديعة ويقضي الدين ويترك الظلم وإن لم يخطر بباله دوام الثواب
ويحسن منه ذلك ، فهلا جاز أن يتحمل المشاق ويحسن منه ذلك ، وإن لم يخطر بباله دوام
العوض؟ وجوابنا أن الفرق بين الموضعين ظاهر ، فإنك قد جعلت الوجه في حسن تحمل
الواحد منا المشاق في الأسفار دوام العوض ، فقلنا : فكان يجب فيمن لم يعلم ذلك
وجوز انقطاعه أنه لا يعلم حسنه ، وليس كذلك الحال في رد الوديعة وقضاء الدين ، فإن
وجه وجوبه ليس هو دوام الثواب ، بل الوديعة إنما يجب ردها لكونها ردا للوديعة ،
وكذلك الكلام في قضاء الدين ، فكيف يقاس أحدهما على الآخر؟
وأيضا فلو استحق
العوض على طريقة الدوام ، لكان يبلغ حال اللصوص في بعض الأوقات إلى حال المثاب
بحيث لا يمكن الفصل بينهما ، وذلك يقدح في حسن التكليف في الثواب ، لأنه ما من قدر
من العوض إلا ويجوز التفضل به والابتداء بمثله ، فكان يجب مثله في الثواب ، وذلك
يوجب قبح التكليف على ما ذكرناه. فهذه جملة ما يدل على أن العوض لا يستحق على
طريقة الدوام.
شبه المخالفين
وللمخالف في هذا
الباب شبه.
من جملتها ، هو
أنهم قالوا : إن القول بانقطاع العوض يدخلكم في القول بدوامه على أقبح الوجوه ،
لأن المعوّض إذا انقطع عن العوض يلحقه بذلك ألم وغم ويستحق بذلك الألم عوضا آخر ،
والكلام في ذلك العوض كالكلام في هذا فيدوم ولا ينقطع على ما ذكرناه.
والجواب عن ذلك :
ليس يجب إذا انقطع عنه العوض أن يلحقه بذلك ألم وغم لأنه يعلم القدر الذي يستحقه
في العوض ، فإذا وصل ما يستحقه وزيادة لا يغتم إذا انقطع عنه ولا يتألم به ، وصار
الحال فيه كالحال في الثواب ، فإن المثاب إذا رأى
ثواب من فوقه في
المنزلة لا يغتم ولا يلحقه بذلك حزن ، لأنه يعلم قدر ما يستحقه من الثواب ولا
يتمنى الزيادة عليه ويرضى بحظه ، كذلك هاهنا. وعلى أن هذا ينبني على أنه لا يتصور
انقطاع العوض إلا على حد يتألم به المعوض ، وليس كذلك ، فإن من الجائز أن يزيل
الله تعالى حياة بعضهم على حد لا يتألم بذلك ، بأن يغافص حياته وينقله إلى صورة
مستحسنة يسر أهل الجنة بالنظر إليه ، وإذا كان ذلك جائزا فقد فسد ما تعلقوا به.
فإن قيل : كيف
يجوز ذلك ومعلوم أن ما يفعله تعالى فلا بد من أن يكون له فيه غرض ولا غرض
في ذلك ، وأيضا فقد اتفقت الأمة على أن لا موت بعد الحشر ، وقد روى في ذلك الأخبار
«خلود ولا موت» ، قيل له : يجوز أن يكون
غرض القديم تعالى في ذلك زيادة سرور أهل الجنة وغم أهل النار ، فإن أهل الجنة إذا
رأوا انقطاع عوض بعض الحيوانات وقد علموا دوام ما هم فيه من النعم ازدادوا بذلك
فرحا وغبطة.
وهكذا الحال في
أهل النار ، فإن الكافر إذا رأى أن بعض الحيوانات وقد أزيل حياته مغافصة ونقل إلى
صورة يلتذ بها وبالنظر إليها ، وهو يعلم دوام ما هو فيه من العقاب ، يتمنى حاله ،
ولهذا حمل بعض المفسرين قوله : (يا لَيْتَنِي كُنْتُ
تُراباً) [النبأ : ٤٠] على
أن الكافر يشاهد ذلك فيتمنى تلك الحالة.
أما قولهم : لا
موت بعد الحشر فكذلك ، غير أن كلامنا في التجويز ، وإذا كان ما ذكرناه من باب
المجوز لم تسلم لهم الشبهة التي جعلوها دلالة في المسألة.
وبعد ، فليس يجب
في العوض أن يعلم أن ما يصل إليه من المنافع أعواضا يستحقها ، بل إذا علم أنه
تعالى عدل حكيم لا يبخس حقه بل يوفر عليه ما يستحقه إما في الأوقات أو دفعة واحدة
أو كما يرى الصلاح فيه ، كفى ، فإذا كان هكذا ، فليس يمتنع أن يوفر الله على
المعوض ما يستحقه من الأعواض في دار الدنيا وإن لم يشعر به ولا علم أنه هو الأعواض
التي يستحقها عليه تعالى ، وأيضا ، فليس يجب في المعوض إذا انقطع عنه العوض أن
يتألم بانقطاعه على كل حال ، سيما والقديم تعالى إنما يوفره عليه مفرقا على
الأوقات على حد ينتفع به ويقع له الاعتداد بمكانه ثم يقطعه عنه على حد لا يؤثر في
حاله ولا يعتد به ، إذ ليس يمتنع في النفع إذا حصل أن يقع به الاعتداد ، وأمكن به
الانتفاع ، وإذا انقطع لم يقع بذلك اعتداد ، ولا كان به مبالاة ، فإن من اعتاد أكل
جملة من الأطعمة الشهية كل يوم وزيادة لقمة ، فإنه متى تناول تلك اللقمة التذ
الالتذاذ اللائق بها ، ولو أنه انقطعت عنه لم يعتد بها ولا أثرت ، كذلك
الحال هاهنا ، على
أن من الجائز أن ينقطع عنه ما يستحقه من الأعواض ويتفضل الله تعالى بمقدار ما كان
يصل إليه من العوض حتى لا يتنغص عليه عيشه ، ولا تؤثر في حاله ، وليس ذلك من دوام
العوض.
ومما يذكرونه في
ذلك ، هو أنه لو لم يكن العوض دائما لكان لا يجوز أن يؤخره إلى الآخرة إلا لوجه ،
وليس ذلك الوجه إلا لكونه لا مستحقا على طريق الدوام كالثواب.
والأصل في الجواب
عن ذلك ، أن هذا ينبني على أن العوض لا بد من أن يؤخر إلى الآخرة ، ونحن لا نسلم
ذلك ، بل المجوز أن يوصله الله تعالى إليه في دار الدنيا إما في وقت واحد ، أو في
أوقات كثيرة ، وليس في ذلك ما يدل على دوام العوض البتة. على أن في الأعواض ما لا
يمكن فيه إلا التأخير إلى الآخرة ، وهو كالعوض المستحق بالإماتة ونحوها ، فكيف يصح
القول بأن تأخير العوض لا وجه له إلا استحقاقه على الدوام؟
ومما يقولونه في
ذلك أيضا ، هو أن الألم لا بد من أن يثبت فيه الاعتبار والعوض جميعا ، ثم إن النفع
بالاعتبار مستحق دائما ، وكذلك العوض ينبغي أن يكون دائما.
والأصل في الجواب
عن ذلك ، أن هذا جمع بين أمرين من غير علة جامعة فلا يصح ذلك ، ويوضحه ، أن النفع
بالاعتبار إنما يستحق لأدائه الواجبات ولاجتنابه المقبحات ، فلذلك استحقه الواحد
منا على طريقة التعظيم والإجلال ، ونظير ذلك في الشاهد المدح والذم ، والمدح والذم
إنما يستحقان على طريقة الدوام ، وليس كذلك العوض فإنه لا يستحق على طريقة التعظيم
والإجلال ، ونظيره في الشاهدة أروش الجنايات وقيم المتلفات ، وشيء من ذلك لا يستحق
على طريقة الدوام بالاتفاق.
ومما يتعلقون به
في هذا الباب ، قولهم : إن العوض لو لم يستحق دائما لكان يصح توفيره على المستحق
دفعة واحدة لأن كونه متناهيا منقطعا يقتضي ذلك وذلك يوجب أن يحسن من الله تعالى أن
يمرض أحدنا سنة كاملة لمنافع يصح توفيرها عليه في وقت واحد ، والمعلوم أن عاقلا من
العقلاء لا يختار مرض سنة لمنافع تصل إليه في وقت واحد ، وإن بلغ النفع ما بلغ.
وجوابنا على ذلك ،
أن هذا لو قدح في شيء فإنما يقدح في حسن إيصال الله
تعالى الأعواض إلى
المعوض على هذا الحد ، ونحن لا نجوز ذلك ، بل نقول : لا بد من أن يفرقه على
الأوقات ، ويوصل إليه على حد يقع له الاعتداد به ، فأما أن يجمعه جميعا ويوفره
عليه دفعة واحدة فإن ذلك لا يحسن ، فمن أين يقتضي ما ذكرتموه دوام العوض.
يبين ذلك ويوضحه ،
أن سبيل العوض من جهة الله تعالى ليس هو سبيل قيم المتلفات حتى تعتبر المقابلة ،
بل لا بد من أن يبلغ في الكثرة حدا لا تختلف أحوال العقلاء في اختيار الألم لمكانه
، وإذا كان الأمر بهذه الصفة فما من عاقل إلا ويستحسن بكمال عقله تحمل المشاق
العظيمة لتلك المنافع ، فكيف يصح ما ذكرتموه؟
شبهة الملاحدة في أصل الأعواض
وبعد ذلك شبهة
تتعلق بها الملحدة في أصل الأعواض ويشنعون بها علينا.
وجملة ذلك ، هو
أنهم قالوا : لو كان الأمر على ما ذكرتموه لكان يجب عوض كل معوض من جنس ما ألفه في
الدنيا واعتاد الانتفاع به هاهنا ، وذلك يوجب أن يخلق الله تعالى لنا في الجنة من
الأطعمة الشهية ما كنا ألفنا في دار الدنيا ، وأن يخلق للبهائم الحشائش والأتبان ،
وذلك خلف من الكلام وخطل من القول ، إذ لا خطر لشيء من هذه الأشياء.
وجوابنا أن
الشّنعة مما لا وجه له ، بل الواجب على العاقل أن ينظر فيعلم أن الله تعالى إذا
آلمنا فلا بد من أن يضمن في مقابلته من الأعواض ما يوفى عليه ، وأن يكون له فيه
غرض آخر وهو الاعتبار ، ليخرج بالعوض عن كونه ظلما ، وبالاعتبار عن كونه عبثا على
ما ذكرناه في غير موضع.
ثم نقول لهم : ليس
يجب في عوض كل معوض أن يكون من جنس ما ألفه واعتاد أكله والانتفاع به إذ لا وجه
يوجب ، وفارق الحال في ذلك الحال في الثواب إنما يستحق بطريقة الترهيب والترغيب
ولا يتصور إلا فيما يعتاد في دار الدنيا ، وليس كذلك العوض فليس يستحق بطريقة
الترغيب ، وإن كان الأقرب أن يكون عوض المكلفين من جنس ما ألفوه وعوّدوا أكله على
ما تقدم ، على أنه لا يمتنع أن يخلق الله تعالى للبهائم من الأتبان والحشائش ما
نستحقه ، لأن قدرته تعالى أوسع من ذلك ولا إشكال في هذا ، وإن المشكل أن يقال في
السباع الضارية وشهواتها متعلقة به في دار الدنيا أن يمكنها الله تعالى من افتراس
بعضها لبعض ، فشهواتها مقصورة عليه ، وذلك
قبيح من القول ،
فالأول أن لا نسلم ، ونقول : ليس يجب في العوض أن يكون من جنس المنافع التي كانوا
ألفوها وتعودوا الانتفاع بها ، فلا يمتنع أن يصرف الله تعالى شهواتها إلى منافع
أخر غير ذلك. على أنه تعالى قادر على أن يخلق للسباع من اللحوم ما يغنيها عن
افتراس الحيوانات وإيذائها ، فلا يصح ما قالوه بوجه ، فعلى هذا يجري الكلام في هذا
الفصل.
فصل ، لما مر جملة
من الكلام في الآلام الحاصلة من جهة الله تعالى ، والأعواض المستحقة في مقابلتها ،
ذكر جملة من الكلام في الآلام الحاصلة من جهتنا.
وجملة القول في
ذلك ، أن ما يفعله الواحد منا من الآلام لا يخلو ، إما أن يفعله بنفسه أو بغيره.
وإذا كان مفعولا
بنفسه فإما أن يكون حسنا أو قبيحا ، فإن كان قبيحا ، نحو أن يقتل نفسه أو يشج رأسه
أو يقطع عضوا من أعضائه ، لم يستحق عليه العوض أصلا على الله ولا على غيره ، وإن
كان حسنا ، فعلى ضربين : أحدهما ما يستحق عليه العوض ، والآخر ما لا يستحق العوض ،
الأول : هو كأن يشرب من الأدوية الكريهة المرة المنفرة دفعا للألم الحاصل من جهة
الله تعالى ، فإنه يستحق بذلك العوض على الله تعالى لما أحوجه إليها ، والثاني :
فهو كأن يتجرع الدواء الكريه ليزيد في شهوته وسمنه وما جرى مجراه ، فإنه لا يستحق
بذلك العوض أصلا لا على الله ولا على غيره ، إذ لا حاجة به إليه ، هذا إذا كان
مفعولا بنفسه.
وأما إذا كان
مفعولا بغيره فإنه لا يخلو ، إما أن يكون قبيحا أو حسنا ، وإذا كان قبيحا فإنه
يكون ظلما ، ويستحق المظلوم من الظالم العوض لما أوصله إليه من الآلام ، إما
بالاغتصاب أو بقتل ولده أوشج رأسه أو غير ذلك ، ولا تعتبر فيه الزيادة ، لأنه لو
زاد لخرج عن كونه ظلما وللحق بكونه إحسانا ، فإن من هزق على غيره ثوبه ليعطيه في
مقابلته عشرة أثواب لم يكن بذلك ظالما إن لم يكن محسنا. وأما إذا كان حسنا فعلى
ضربين : أحدهما يستحق عليه العوض ، والآخر لا يستحق ، الأول ، هو كإقامة الحد على
التائب ، فإن التائب يستحق بذلك العوض على الله تعالى حيث أمر الله تعالى الإمام
بإقامة الحد عليه امتحانا ، وأوجب ذلك عليه ، والثاني ، فكالحدود التي يقيمها
الإمام على مستحقيها على سبيل الجزاء والنكال ، فإن ذلك إيلام حد ، ولا يستحق
المؤلم في مقابلته العوض أصلا لا على الله ولا على غيره.
فقد حصل من ذلك أن
العوض قد ينتقل من فاعل الألم إلى غيره كما ذكرناه.
إن التائب إذا
أقيم عليه الحد فإنما يستحق العوض على الله تعالى لا على الإمام مع أنه هو الذي
آلمه ، ولذلك أخذنا في الوجوه الذي ينتقل بها العوض من فاعل الألم إلى غيره.
انتقال العوض من فاعل الألم إلى غيره
وجملة ذلك ، أن
العوض ينتقل من فاعل الألم إلى المبيح ، والنادب ، والموجب ، والملجئ ، ولكل من
ذلك مثال نذكره.
أما مثال الإباحة
، فهو كذبح البهائم ، فإن البهائم إنما تستحق العوض على الله تعالى إذا ذبحناها ،
دوننا ، من حيث أنه هو المبيح لذلك.
ومثال الندب ، هو
كالأضاحي فإنها تستحق العوض على الله تعالى ، دوننا ، لما كان الله تعالى هو الذي
ندبنا إليه.
ومثال الإيجاب ،
فهو كالهدايا ، فإنه لما كان تعالى الموجب لذبحها استحقت العوض عليه تعالى ،
دوننا.
ومثال الإلجاء ،
هو أن يلجئ أحدنا صاعقة أو برد حتى يعدو على زرع غيره فيفسده ، فإن صاحب الزرع
يستحق العوض ، إلا أنه إنما يستحقه على الله تعالى ، دون من يعدو على زرعه ، لأن
الله تعالى هو الذي ألجأه إلى العدو.
ولا يختلف الحال
في هذه الوجوه بيننا وبين القديم ، فإن أحدنا لو أباح أو أوجب أو ألجأ غيره إلى
إيلام الغير ، لكان العوض ينتقل إليه على الحد الذي انتقل إلى الله حين أوجب أو
ألجأ ، ولهذا فإن سبعا لو ألجأ أحدنا إلى العدو على زرع الغير ، فإن صاحب الزرع
إنما يستحق العوض على السبع إذ السبع هو الملجئ إلى ذلك ، وإن كنا نعتبر في الملجئ
أن لا يكون ملجأ ليستحق العوض عليه ، لأنه لو كان ملجأ كان العوض على من ألجأ
الأول.
فإن قيل : كيف يصح
استحقاق العوض على السبع مع أنه غير كامل العقل؟ وجوابنا : إن كمال العقل غير
معتبر في ذلك لأنه جار مجرى أروش الجنايات ، وفي أروش الجنايات لا يعتبر كمال
العقل ، فإنك تعلم أن صبيا لو مزق على غيره ثوبه يجب أن يدفع إليه قيمة الثوب من
ماله مع كونه غير كامل العقل ، فبطل ما أورده.
فصل في المستحق للعوض والمستحق عليه
وجملة ذلك هو أن
المستحق للعوض لا يخلو ، إما أن يكون مكلفا أو غير المستحق للعوض مكلف.
فإن كان مكلفا فلا
يخلو ، إما أن يكون من أهل الثواب أو من أهل العقاب.
فإن كان من أهل
الثواب فلا يخلو ، إما أن يكون مستحقا على الله تعالى ، أو يكون مستحقا على غير
الله تعالى. فإن استحقه على الله تعالى. فإنه تعالى يوصله إليه ويوفره عليه بتمامه
وكماله مفرقا على الأوقات ، بحيث يقع الاعتداد به ، على ما مر.
وإن استحقه على
غير الله تعالى ، فإنه تعالى يأخذ من ذلك الغير العوض مكلفا كان أو غير مكلف ،
ويوفره عليه بحيث لا يكون لأحد منهما كلام.
وإن كان من أهل
العقاب فلا يخلو ، إما أن يستحق العوض على الله تعالى أو على غيره ، فإن استحقه
على الله تعالى فإنه يوفره الله تعالى عليه إما في دار الدنيا وإما في دار الآخرة
، قبل دخول النار أو بعدها ، بحيث لا يقع له الاعتداد به ولا يلحقه بذلك سرور ولا
فرح ، خلاف ما قاله أبو علي من أن بالعقاب يسقط العوض وينحبط. وإن استحقه على غير
الله تعالى ، فإنه تعالى يأخذ من المستحق عليه مكلفا كان أو غير مكلف ، ويوصله
إليه على الوجه الذي ذكرناه.
هذا إذا كان
الكلام في المكلف ، فأما إذا كان في غير المكلف فلا يخلو ، إما أن يستحق العوض على
الله تعالى أو على غيره. فإن استحقه على الله تعالى يوفر عليه بكماله وتمامه ،
وإذا انقطع عوضه نقله إلى صورة يلتذ أهل الجنة بالنظر إليها على ما مر ، وإن كان
الأقرب أنه تعالى يديم الفضل عليه بعد ذلك ، فقد اتفقت الأمة على أن لا موت بعد
الحشر.
هذا هو القول في
المستحق للعوض.
المستحق عليه العوض
وأما المستحق عليه
فلا يخلو ، إما أن يكون هو الله تعالى أو غيره ، فإن كان الله تعالى فإنه يوفر على
المستحق ما يستحق من عنده ، وإن كان من غيره فإنه تعالى يأخذ منه العوض ويوفره على
المستحق ، سالكا في ذلك طريقة الانتصاف ، فحال القديم تعالى في هذا الباب كحال ولي
الأيتام ، فكما أنه إذا وقعت منه جناية قابلها بالأرش ،
وإذ جنى بعضهم على
بعض أخذ الأرش من مال الجاني وضمه إلى مال المجني عليه ، وكذلك القديم تعالى.
واعلم أنه تعالى
لا يجوز أن يمكن أحدا من إيصال الألم إلى غيره ، إلا إذا كان في المعلوم عوض
يستحقه ، إما على الله تعالى أو غيره.
لأنه إذا كان لا
بد من الانتصاف فليس يتصور إلا على الطريقة التي ذكرناها ، وهو أن يأخذ العوض من
المؤلم ويوفره على المؤلم ، فيكون قد سلك مع الحيوانات كلها طريقة الانتصاف على ما
ضمنه ، فقد روي على النبي صلىاللهعليهوسلم : أنه تعالى ينتصف يوم القيامة للمظلوم من الظالم ، حتى
الجماء من القرناء.
ومتى قيل : هلا
جاز أن يمكن أحد من الإيلام وإن لم يكن له في المعلوم عوض يستحقه ، ثم إذا وافى
عرصات يوم القيامة تفضل الله عليه بالقدر الذي يلزمه توفيره على ذلك المؤلم ، ثم
يأخذه منه ويضعه في المؤلم ، كان الجواب : إن ذلك ليس من الانتصاف في شيء ، إذ
الانتصاف هو أن تأخذ للمظلوم من الظالم حقه ، لا أن يتفضل الله على الظالم ليأخذ
منه المظلوم ، وعلى هذا فإن قاضي بلدة إذا سارع إليه خصمان فأراد القاضي الانتصاف
منهما فإنه يأخذ الحق من المستحق عليه ويضعه في المستحق ، فأما أن يوفر ذلك من
كيسه على المستحق دون أن يتعرض للمستحق عليه فإنه لا يكون منتصفا.
فصل
ثم إنه رحمهالله أورد شبهة متصلة بباب الآلام تتعلق بها الملحدة ، وهي أن
قالوا : لو كان لهذا العالم صانع حكيم لكان لا يحسن منه خلق هذه السباع الضارية
الخبيثة نحو الذئب والأسد والنمر ، والحيوانات المؤذية القتالة ، والصور القبيحة
المستنكرة مثل الحيات والعقارب ، وفي علمنا بوجود هذه الأشياء ، دليل على أن لا
صانع لها هاهنا.
وهذا كما تتعلق به
الملحدة فقد يتعلق بها المجبرة ، فإنهم يقولون : إن هذه الصور مع أنها قبيحة حسن
من الله تعالى خلقها ، فيجب أن تحسن منه سائر القبائح.
وجوابنا عن ذلك ،
هو أن نقول : إن هذه الصور وإن استقبحها بعض الناس لم يستقبحها البعض ، فلو كانت
قبيحة من جهة العقل والحكمة لم يختلف في استقباحها العقل ، كما في الظلم والكذب ،
فأما الاستحلاء وعدم الاستحلاء فمما لا يؤثر في قبح
شيء من الأشياء ،
لأنك تستحلي كثيرا من الأشياء وهو قبيح في نفسه ، وتستقبح أيضا كثيرا منها وهو حسن
، على ما مر في أول الكتاب.
يبين ذلك أن هذه
الصور وإن كانت قبيحة من جهة المرأى والمنظر ، فإن فيه أغراضا حكمية لا يعلمها إلا
من أنصف نفسه ، وأدى الفكر حقه.
فإن قيل : وما تلك
الأغراض؟ قلنا : نفع هذه الحيوانات أولا ، ثم نفع العباد ، فإن خلق هذه الحيوانات
كما تضمن التفضل عليها بالإحياء والإقدار ، وخلق الشهوة والمشتهي ، والتمكين من
الانتفاع به ، فقد تعلق بها منافع الغير الدينية والدنيوية.
فأما المنافع
الدنيوية فإنك تعلم أن هذه المعاجين الكبار إنما تتخذ من الحيات والعقارب ، ألا
ترى أن الترياق مع أنه أصل في دفع هذه المسمومات ، إنما يتخذ من بعض الحيات
والعقارب ، وهكذا الحال في واحد واحد من هذه الحيوانات ، فما من شيء منها إلا
وتتعلق به منفعة على حد لا تتعلق تلك المنفعة بغيرها. هذا هو الكلام في المنافع
الدنيوية.
وأما المنافع
الدينية ، فهو أنا إذا شاهدنا هذه الصور المنكرة ، والحيوانات المؤذية الكريهة
المنظر ، كنا إلى الاحتراز من عذاب الله تعالى المشتمل على أضر من هذه الحيوانات
كلها أقرب ، وعن الوقوع فيما يوجبه علينا ويجره إلينا أبعد ، بل كان لا يتصور من
الله تعالى تخويفنا بما لديه من العقوبات المعدة لمستحقيها إلا بهذه الطرق ، فإنا
ما لم نشاهد هذا الجنس فيما بيننا ، لا ننزجر عما توعدنا عليه كل الانزجار.
فإن قيل : ليس هذه
الحيوانات إلا الضر المحض ، فإنها مضرة مؤذية ، فيجب أن يقبح منه تعالى خلقها.
فجوابنا على ذلك ،
أن ضرر هذه الحيوانات ليس بأكثر من ضرر الناس ، فلو كان قبح من الله تعالى خلقها
لهذا الوجه ، كان يجب أن يقبح منه خلق أكثر الناس ، يوضح ذلك ، أن ضرر أكثر هذه
الحيوانات لا يفي بضرر الحجّاج وشبهه من الظلمة أبادهم الله تعالى ، ثم لم يحكم
بقبح خلق الناس. فقد بطل ما قلتموه.
فصل
وقد أورد رحمهالله سؤالا على نفسه يوشك أن يكون شبهة للمجبرة.
هل يجوز أن لا يبين الله للمكلف صفة ما كلفه
وهو أن قال : أتجوزون
على الله تعالى أن يكلف عبده ، ثم لا يبين له صفة ما كلفه؟
والأصل في ذلك ،
أنا لا نجوز على الله تعالى أن يكلف عبده ثم لا يبين له صفة ما قد كلفه ، بل نقول
: إنه تعالى إذا كلف عبده فلا بد من أن يبين له صفة ما قد كلفه وإلا لم يمكنه
الإتيان بما كلفه على الحد الذي كلفه ، حتى لو لم يبين ذلك لكان تكليفه إياه عبثا
لا فائدة فيه.
والذي يدل على صحة
ما نقوله ، هو أن الله تعالى إذا كلفنا أمرا من الأمور ، فإن تكليفه إيانا بذلك
الفعل لا يتعلق بعينه وذاته ، وإنما المبتغى إيقاعه على وجه دون وجه ، فمتى لم
يبين له الوجه الذي يريد أن يوقعه عليه كان عابثا من حيث أمره بما لا يمكنه
الانتفاع به والاهتداء إليه ، ويكون ظالما أيضا لأن تكليفه بالفعل والحال ما
ذكرناه كتكليفه به وهو لا يطيقه.
يزيد ما ذكرناه
وضوحا ، أنه لا يحسن من أحدنا أن يقول لعبده افعل شيئا ، ولا يبين له صفة ما يفعله
، حتى لو كلفه على هذا الوجه لسخر منه وهزئ ، وإذا ثبت هذا في الشاهد فكذلك في
الغائب ، فمن العجب أن جل المجبرة مع تجويزهم سائر القبائح على الله تعالى لا
يجوزون هذا لظهور الحال فيه ، إلا شرذمة قليلون فإنهم جرءوا على القياس ، وقالوا :
إن هذا ليس بأقبح من تكليف ما لا يطاق ، ولقد أصابوا في خطئهم هذا ، فإن تكليف ما
لا يطاق إن لم يزد في القبح على هذا لا ينقص عنه ، وقد جوزوا ذلك على الله تعالى.
والجواب عن ذلك ،
ما تعنون بالجواز؟ فإن أردتم به الحسن ، فذلك غير مسلم ، وإن أردتم به الوقوع ،
فلسنا نقول إن وقوعه مستحيل على الإطلاق. وإنما نقول إن وقوعه من الله تعالى
يستحيل ، وإنما يستحيل منه ذلك لأنه عدل حكيم لا يختار القبح أصلا ، ولم يثبت كون
الواحد منا عدلا حكيما حتى يقاس أحدهما على الآخر. وإنما يورد على كلامنا هذا ،
أنه تعالى إذا جاز أن يكلف العاجز والمعدوم فهلا جاز أن يكلفه وإن لم يبين له صفة
ما قد كلفه ، ولهذا أورد رحمهالله هذا الكلام عقب ما تقدم ، وهذا كما يمكن إيراده على هذا
الوجه ، فقد يمكن أن يورده المجبرة ابتداء ، ويقولوا : إذا جاز أن يكلف الله تعالى
العاجز والمعدوم وهو قبيح ، فهلا جاز أن يفعل
غيره من القبائح؟
وجوابنا عن الجملة
، هو أن نقول : إنا لا نجوز أن يكلف العاجز والمعدوم ، بل المراد بذلك أن قوله
تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ
وَآتُوا الزَّكاةَ) كما هو خطاب لمن كان في ذلك الزمان ، فهو خطاب للموجودين
في زماننا هذا ولمن يوجد من بعد ، ولا يحتاج القديم تعالى إلى تجديد الخطاب في كل
زمان ، وما هذا حاله فلا شك في جوازه وحسنه ، ولذلك نظائر في الشريعة ، فإنك تعلم
أن أحدنا ربما يوصي لأولاده وأولاد أولاده ما تناسلوا وتولدوا ، بشرط أن يكونوا من
أهل السداد والصلاح وإن لم يوجدوا بعد. ويكون فائدة ما ذكرناه في القديم تعالى.
فصل : الكلام في التكليف
وقد أورد رحمهالله بعد ذلك الكلام في التكليف وثمرته ، ليتهيأ إلى الكلام في
من المعلوم من حاله أنه يكفر ، فإن ذلك يشبه أن يكون شبهة لهؤلاء المجبرة شبيهة
بما تقدم من الشبهة. وهو وإن عرض في الكلام ، إلا أنا نشير إلى نبذ منه ونختصر
القول فيه ، بعد أن نبين حقيقته ، فمن البعيد أن نتكلم في أحكامه إما على الاختصار
أو على غير هذه الطريقة ولا نعلم ما هو.
وحقيقته ، إعلام
الغير في أن له أن يفعل أو أن لا يفعل نفعا أو دفع ضرر ، مع مشقة تلحقه في ذلك على
حد لا يبلغ الحال به حد الإلجاء ، ولا بد من هذه الشرائط ، حتى لو انخرم شرط منها
فسد الحد.
والإعلام ، إنما
يكون بخلق العلم الضروري ، أو بنصب الأدلة ، وأي ذلك كان لم يصح إلا من الله تعالى
، ولهذا قلنا : إنه لا يكلف على الحقيقة غير الله تعالى ، وإذا استعمل في الواحد
منا فإنما يستعمل على طريقة التوسع والمجاز.
فهذا هو حقيقة
التكليف.
ثمرة التكليف
وثمرته ، أنه
تعالى إذا خلقنا وأحيانا وأقدرنا وأكمل عقولنا وخلق فينا شهوة القبيح ونقرة الحسن
فلا بد من أن يكون له فيه غرض ، وغرضه إما أن يكون إغراء له بالقبيح ، والتكليف لا
يجوز أن يكون غرضه الإغراء بالقبيح لأن ذلك قبيح ، وقد ثبت أن الله تعالى لا يفعل
القبيح. فلم يبق إلا أن يكون غرضه بذلك التكليف ، وأن يعرضنا
بالتكليف إلى درجة
لا تنال إلا به.
واتصل بهذه الجملة
الكلام في أن الثواب لا يجوز الابتداء بمثله.
والذي يدل على ذلك
، هو أن الثواب نفع عظيم يستحق على طريق التعظيم ، وما هذا حاله لا يحسن الابتداء
بمثله ، ألا ترى أنه لا يحسن من أحدنا أن يعظم أجنبيا على الحد الذي يعظم والده ،
ولا أن يعظم والده على الحد الذي يعظم النبي ، وإنما لا يحسن ذلك لعدم الاستحقاق ،
وإنما يستحق على هذا الوجه لا يجوز التفضل به ولا الابتداء بمثله فإن قال : لو كان
الغرض بالتكليف الوصول إلى الثواب لكان يجب في من المعلوم من حاله أنه لا يصل إلى
الثواب أن لا يحسن تكليفه.
تكليف من المعلوم من حاله أنه يكفر
والجواب ، إنا لم
نقل إن الغرض بالتكليف إنما هو الوصول إلى الثواب ، وإنما الغرض في ذلك تعريض
المكلف إلى درجة لا تنال إلا بالتكليف ، وذلك ثابت في من المعلوم من حاله أنه يصل
إلى الثواب ومن المعلوم من حاله أنه لا يصل على سواء ، واتصل بهذه الجملة الكلام
في تكليف من المعلوم من حاله أن يكفر.
وللجهل بوجه حسن
هذا التكيف وقبحه ضل كثير من الناس ، حتى أن الملحدة تدرجوا بذلك إلى نفي الصانع ،
وقالوا : لو كان هاهنا صانع حكيم لما صدر من جهته مثل هذا التكليف.
وجعلت المجبرة هذه
المسألة من أعظم شبههم في الجبر وإضافة القبائح إلى الله تعالى ، وقالوا إن هذا
التكليف قبيح لا محالة ، وقد حسن من الله تعالى ، وكذلك الحال في سائر القبائح.
والأصل في هذا أن
نعلم أن من خالفنا إما أن يكون مقرا بالصانع أو منكرا ، ولا معنى لمكالمة من أنكر
الصانع في هذه المسألة كما لا يحسن أن نكالم اليهود في المسح على الخفين مع
إنكارهم النبوة ، وإذا كان من المقرين بالصانع ، فالكلام عليه إما أن يكون على
الجملة ، أو على التفصيل.
وطريقة الجملة في
هذا ، هي أن نقول : إن هذا التكليف صدر من جهة الله تعالى ، وقد ثبت عدله وحكمته
وأنه لا يختار القبيح ولا يفعله ، فلا بد أن يكون حسنا ،
إذ لو كان قبيحا
لم يفعله الله تعالى ، وبهذا الوجه نحل شبهة العامي من أصحابنا ، ونجيبهم بهذه
الطريقة ، ونقول له : إن هذا القدر كافيك ، ولست تحتاج إلى أن تعلم وجه الحسن في
ذلك على طريقة التفصيل ، فهذه طريقة الجملة.
وطريقة التفصيل ،
هو أن نقول : قد ثبت حسن تكليف المؤمن ، ولا وجه لحسنه إلا أنه تعالى أقدره على ما
كلفه وقوى دواعيه إليه وأزاح علله فيه ، وهذا كله في حق الكافر ثابت ثباته في حق
المؤمن ، ولا فرق بينهما إلا من حيث أن المؤمن أحسن الاختيار لنفسه واستعمل عقله
فآمن ، ولم يحسن الكافر الاختيار لنفسه لشقاوته فلم يؤمن ، وذلك لا يخرج القديم
تعالى من أن يكون متفضلا عليهما جميعا.
وصار الحال في ذلك
كالحال في من أدلى حبله إلى غريقين ليتشبثا به ، فتشبث أحدهما به وتخلص ، ولم
يتشبث به الآخر فعطب ، وكالحال في من قدم الطعام إلى جائعين قد استولى عليهما
الجوع وأشرفا على الهلاك لمكانه ، ثم تناول أحدهما من الطعام فلم يمت ، ولم يتناول
الآخر فمات وهلك. فكما أن المقدم للطعام والمدلي للحبل يكون منعما عليهما على سواء
، ولا يقال إنه إنما يكون منعا على الذي قبل دون من لم يقبل ، كذلك هاهنا.
فإن قيل : المؤمن
اختار الإيمان ، وهذا غير ثابت في الكافر قلنا : إن اختيار المؤمن الإيمان متأخر
عن التكليف فكيف يصير وجها في حسنه ، مع أن المعلوم أن وجه الحسن لا بد من أن
يقارن.
وعلى أن ذلك لو
مدح في حسن التكليف لوجب مثله في الشاهد ، حتى لا يحسن من أحدنا أن يقدم الطعام
إلى من لا يقبل ، ومعلوم خلافه.
فإن قيل : ما
أنكرتم أنه إنما قبح تكليف الكافر لأنه تعالى عالم من حاله أنه يكفر؟ وجوابنا على
ذلك لو قبح من الله تعالى تكليف الكافر للعلم بأنه يكفر ، لوجب أن يقبح من الواحد
منا تقديم الطعام إلى الغير للعلم بأنه لا يتناول ولا ينتفع به ، وكذلك يجب أن
يقبح إدلاء الحبل إلى الغريق للعلم بأنه لا يتشبث به.
فإن قال : وكذا
أقول ، قلنا : لو قبح مع العلم لقبح مع غلبة الظن ، لأن العلم والظن سيان فيما
طريقه المنافع والمضار ، ألا ترى أن أحدنا لو غلب على ظنه أنه يربح في سفره فإنه
يحسن منه ذلك السفر كما يحسن مع العلم.
وبالعكس من هذا ،
لو غلب على ظنه أنه يخسر ، فإنه لا يحسن منه أن يسافر كما
لا يحسن مع العلم
، فكان يجب أن يقبح من الواحد منا إدلاء الحبل إلى الفريق إذا غلب على ظنه أنه لا
يتشبث به ، وأن يقبح منه تقديم الطعام إلى الجائع إذا غلب على ظنه أنه لا ينتفع به
ولا يتناوله ، ومعلوم خلافه.
وبعد ، فلو كان
العلم بالقبول شرطا في كون النعمة نعمة ، لوجب إذا قبل هذا الشرط أن تخرج النعمة
عن كونها نعمة ، حتى لا يكون الواحد منا منعما على غيره وإن أوصل إليه ما ينتفع به
، بأن لا يعلم أنه هل يقبل أم لا ، وهذا يقتضي أن لا يحسن من الواحد منا تقديم
الطعام إلى الجائع وإن بلغ في الجوع الغاية ، ولا إدلاء الحبل إلى الغريق ، بأن لا
يكون عالما أنه هل يتناول ذلك الطعام أو يتشبث بذلك الحبل أو لا يتشبث ، ومعلوم
خلافه.
وبعد ، فإن العلم
تابع للمعلوم غير مؤثر فيه ، لو لا ذلك ، وإلا كان يجب إذ علم أحدنا القديم تعالى
بصفاته ، أن يكون كون القديم تعالى مستندا إلى علمه ، حتى إذا زال زال ، وذلك
محال. يبين ذلك ، أن العلم إنما يتعلق بالشيء على ما هو به ، وما هذا حاله لا يجوز
إلا أن يكون مؤثرا.
فإن قيل : إنه تعالى
إذا علم من حال الكافر أنه لا يؤمن فقد أضرّ به بالتكليف. وجوابنا أن الكافر إنما
استضر بفعل نفسه حيث أساء الاختيار لنفسه ولم يختر الإيمان ، مع أنه كان يمكنه
اختياره على الكفر.
فإن قيل : أليس لو
لا التكليف لكان لا يستضر به الكافر؟ قلنا : إنه وإن كان كذلك ، إلا أن القديم
تعالى لا يخرج عن أن يكون منعما عليه بتكليفه إياه ، مع أن غرضه تعريضه إلى درجة
لا تنال إلا به ، وصار الحال فيه كالحال في من تفضل على غيره بدنانيره فضيعها ذلك
الغير واغتم لمكانها ، فكما لا يقال : إن المعطي يخرج بذلك عن كونه منعما متفضلا
عليه ، كذلك هاهنا. يبين ذلك ، أن المضيع للدنانير ليس هو المعطي فإنما ضيعها هو
بنفسه ، كذلك هاهنا ليس هو الله تعالى ، بل الكافر هو المضر بنفسه حيث اختار الكفر
حتى استوجب به العقوبة.
فإن قيل : إنه
تعالى إذا علم من حال الكافر أنه لا يؤمن فإن تكليفه له والحال هذه يكون عبثا ،
ونحن قبل أن نجيب عن ذلك نبين حقيقة العبث.
حقيقة العبث
اعلم أن العبث ،
كل فعل يفعله الفاعل من دون عوض مثله ، وذلك نحو أن يركب أحدنا الأهوال والأخطار
ليربح على درهم درهما ، مع أنه يقدر على تحصيل هذا القدر بسهولة ، ونحو أن يستأجر
أجيرا بأجرة تامة ليصب الماء من نهر إلى نهر ، من دون أن يكون له في ذلك غرض.
إذا ثبت هذا ،
ومعلوم أن التكليف غير مفعول على هذا الوجه ، فلم يجب أن يكون عبثا.
يبين ذلك ، أن غرض
القديم تعالى بالتكليف ليس إلا تعريض المكلف للثواب ، وذلك حاصل في هذا التكليف
حصوله في تكليف من المعلوم من حاله أنه يؤمن.
فإن قيل : إدلاء
الحبل إلى الفريق مع العلم أنه لا يستمسك به ، ودفع السكين إلى من المعلوم من حاله
أنه يقتل به نفسه قبيح ، وهذه صورة تكليف الله تعالى من المعلوم من حاله أنه يفكر
، فيجب أن يكون قبيحا.
قيل له : إن
المدلى إليه الحبل ، والمدفوع إليه السكين ينظر في حالهما ، فإن كانا متمكنين من
قتل أنفسهما قبل إدلاء الحبل ودفع السكين إليهما ولكن المعلوم من حالهما أنهما لا
يقتلان أنفسهما إلا عند إدلاء الحبل ودفع السكين ، فإن إدلاء الحبل ودفع السكين
إليهما قبيح ، لأنه يكون مفسدة ، وإن كانا لا يتمكنان من الخنق والقتل إلا بهذا
الحبل وهذا السكين ولا يتمكنان من التخلص إلا بهما ، فإنه يحسن إدلاء الحبل ودفع
السكين إليهما لأنه يكون مفسدة ، وإن كانا لا يتمكنان من الخنق والقتل إلا بهذا
الحبل وهذا السكين ولا يتمكنان من التخلص إلا بهما ، فإنه يحسن إدلاء الحبل ودفع
السكين إليهما لأنه يكون تمكينا ، وهذا الأخير هو صورة التكليف ، فلا يجب أن يكون
قبيحا. وليس يجوز أن يقال : إن هذا التمكين قبيح لأنه كما هو تمكين من الحسن فهو
تمكين من القبيح ، لأنه لو قبح لهذا الوجه للزم أن يقبح كل تمكين في العالم ، إذ
التمكين من الحسن لا يتصور إلا وهو تمكين من القبيح ، وهذا لأجل أن القدرة على
الشيء قدرة على جنس ضده ، فما من قدرة تمكن من أن يفعل بها الخير إلا ويمكن أن
يفعل بها الشر.
فإن قيل : إذا كان
يقبح من الله تعالى أن يكلف زيدا إذا علم من حالة عمرو أنه يكفر عند تكليفه إياه ،
فلأن يقبح تكليفه مع العلم أنه نفسه يكفر أولى وأحرى.
قيل له : ما ذكرته
أولا إنما يقبح لأنه يكون مفسدة ، وليس هذا الثاني من المفسدة في شيء ، بل هو
تمكين ، فلا يجب قبحه على ما ظننته.
فإن قيل : إن
القديم تعالى إذا ما كلفنا ، فلا بد من أن يريد منا ما يتعلق به التكليف ليحسن منه
تكليفه إيانا ، والإرادة لا تتعلق بما المعلوم من حاله أنه لا يقع ، فكيف يحسن من
تكليف من المعلوم من حاله أنه يكفر.
قيل له : إن هذا
ينبني على أن الإرادة لا تتعلق بما المعلوم أنه لا يقع ، وليس كذلك ، فإن الإرادة
تتعلق بما المعلوم أنه يقع وبما المعلوم أنه لا يقع على سواء. وقولهم : إنما يتعلق
بما المعلوم أنه لا يقع تمنّ فقد أبطلناه لما تقدم ، وذكرنا أن التمني من أقسام
الكلام وليس كذلك الإرادة. يبين ذلك ويوضحه ، أن الإرادة إذ تعلقت بالشيء ، فإنما
تتعلق به لصحة حدوثه ، وما المعلوم أنه لا يقع كما المعلوم أنه يقع في صحة الحدوث
، فكيف لا تتعلق به الإرادة والحال ما قلناه؟
فإن قيل : نحن لا
نسلم أن ما المعلوم أنه يقع كما المعلوم أنه يقع في صحة الحدوث ، فإن القدرة على
خلاف المعلوم محال عندنا.
وجوابنا عنه ، أنه
لو كانت القدرة على خلاف المعلوم محالا ، لكان يصح من القادر على الشيء أن يكون
قادرا على الضدين ، لأن المعلوم إنما يكون أحدهما لا محالة ، وفي علمنا بأن القادر
قادر على الضدين دليل على فساد ما قالوه.
فإن قيل : ومن أين
ثبت لكم أن القدرة تتعلق بالضدين ، وأن القادر على الشيء لا بد أن يكون قادرا
عليها؟
قلنا : إن هذه
المسألة قد استقصيناها فيما تقدم عند الكلام في الاستطاعة ، ولا معنى لذكرها.
فإن قيل : إذا كان
غرض القديم تعالى بالتكليف نفع العباد وأن يصلوا إلى الثواب ، فهلا كلفهم ما إذا
أتوا به استحقوا المدح والثواب ، وإذا لم يأتوا به لم يستحقوا الذم والعقاب؟
قيل له : إن ما
ذكرته هو النوافل ، ولا يحسن التكليف بها ابتداء ، إذ لا وجه لحسن التكليف بها إلا
كونها مسهلة للفرائض داعية إليها ، على أنا قد ذكرنا غير مرة ، أن التكليف ليس
الغرض به وصول المكلف إلى الثواب على كل حال ، وإنما الغرض تعريضه إلى درجة لا
تنال إلا به ، وهذا حاصل سواء وصل المكلف إلى الثواب أو لم يصل.
فإن قيل : إنه
تعالى إذا كلف الكافر وعلم من حاله أنه لا يؤمن فكأنه أمر بتجهيله ، وذلك فاسد ،
وأيضا فقد كلفه ما لا يطيقه ، لأن القدرة على خلاف المعلوم محال. وجوابنا ، أن ما
قلته أولا فلا يصح ، لأن التجهيل هو ما يصير الشيء جاهلا ، والإيمان لا حظ له في
ذلك ، وأيضا فإن القديم تعالى كما علم من حال الكافر أنه لا يؤمن ، فقد علم من
حاله أنه لو اختار الإيمان لقدر عليه ، وهذا هو الذي يحتاج إليه المكلف في اختيار
الإيمان ، لا علم الله تعالى به. وأما ما ذكرته ثانيا ، فقد أجبنا عنه ، وبينا أن
المعلوم أنه يقع ، كما المعلوم أنه لا يقع في تعلق القدرة به ، ففسد ما ذكرتموه.
وقد أورد رحمهالله وجها آخر على وجه الإيناس والتقريب ، فقال : لو لم يكلف
الله تعالى إلا من المعلوم من حاله أنه يؤمن كان ذلك إغراء بالقبيح ، والإغراق
بالقبيح قبيح. يبين ذلك ويوضحه ، أن المرء إذا علم أنه لا يكلفه الله تعالى إلا
وقد علم من حاله أنه يؤمن لا محالة وأنه يصل إلى الثواب كان مغرى بالقبيح ، وذلك
فاسد ، وفي فساده دليل على أنه تعالى كما يكلف من المعلوم من حاله أنه يؤمن ، فإنه
يكلف من المعلوم من حاله أنه يكفر ، ولا بد من ذلك ليعلم المكلف أن الأمر فيما
ينفعه أو يضره موكول إلى اختياره ومفوض إليه ، فإن أحسن الاختيار لنفسه واختار
الإيمان تخلص من العقاب وظفر بالثواب ، وإن أساء الاختيار واختيار الكفر استوجب من
الله العقوبة.
يحصل من هذه
الجملة أن تكليف الكافر كتكليف المؤمن في الحسن ولا خلاف في هذا ، وإنما الخلاف في
وجه حسن تكليف الله تعالى من المعلوم أنه يكفر ، فعندنا أنه إنما حسن تكليفه لأن
الله تعالى عرضه لدرجة لا تنال إلا بالتكليف وهي درجة الثواب ، وعند شيخنا أبي
القاسم أنه إنما حسن تكليفه لأنه أصلح ، وأراد بالأصلح الأنفع ، حتى قال : إنه
يحسن من الله تعالى تكليف زيد إذا علم أن عند تكليفه يؤمن جماعة من الناس وإن كان
المعلوم من حاله أنه لا يؤمن ، لأن الاعتبار بكثرة النفع ، وذلك فاسد عندنا ، لأن
تكليف الغير لنفع الغير يكون ظلما ، وإن بلغ ذلك النفع ، ما بلغ لو لا ذلك وإلا
كان لا يكون في العالم ظلم ، فما من شيء إلا وفيه نفع الظالم وأهل بيته ، وفي
عددهم كثرة.
الألطاف
فصل في وجوب الألطاف وذكر الخلاف فيه
وقبل الشروع في
المسألة نذكر حقيقة اللطف جريا على العادة المألوفة.
اعلم ، أن اللطف
هو كل ما يختار عنده المرء الواجب ويتجنب القبيح ، أو ما يكون عنده أقرب إما إلى
اختيار أو إلى ترك القبيح.
أسماء اللطف
والأسامي تختلف
عليه فربما يسمى توفيقا ، وربما يسمى عصمة ، إلى غير ذلك. وسنذكر حقيقة هذه
الألفاظ في مواضعها اللائقة بها إن شاء الله تعالى.
فاعله
ثم إن ما هذا حاله
لا يخلو ، إما أن يكون من فعل الله تعالى ، أو من فعل غير الله.
وإذا كان من فعل
غير الله جل جلاله ، فإما أن يكون من فعلنا ، أو من فعل غيرنا.
فإن كان من فعلنا
وكان لطفا لنا يجب علينا فعله إذا جرى مجرى التحرز من الضرر ، وقولنا إذا جرى مجرى
التحرز من الضرر احترازا عن النوافل ، فإنه ليس يجب أن نغفل ما هو لطف فيها ،
لأنها إذا كانت لا يستضر بتركها أصلا ، فلأن لا يستضر بترك ما هو لطف تابع لها
أولى. فإذا كان من فعل غيرنا فلا يخلو ، إما أن يكون المعلوم من حاله أنه يفعل ذلك
الفعل ، فإنه يحسن من الله تعالى أن يكلفنا التكليف الذي يكون ذلك الفعل لطفا لنا
فيه ، وإن كان المعلوم من حاله أنه لا يفعل فإنه لا يحسن بل يقبح ، فهذه جملة ما
نقدمه في هذه المسألة. ونعود بعد ذلك إلى ذكر الخلاف فيه.
اعلم ، أن المخالف
في هذه المسألة ، هم هؤلاء المجبرة ، وبشر بن المعتمر ، وأصحابه من البغداديين.
وإن كان لا يتحقق
الخلاف مع المجبرة في هذه المسألة ، لأن اللطف إذا كان لا يرجع به إلا إلى ما
يختار المرء عنده فعلا أو تركا ، أو يكون أقرب عنده إلى اختياره ،
والقوم قد أبطلوا
القول بالاختيار رأسا ، فلم يكن للكلام في ذلك معهم وجه ، وأيضا ، فإن اللطف إذا
كنا لا نوجبه إلا لأنه زيادة في تمكين المكلف أو إزاحة علته ، والقوم يجوزون على
الله تعالى تكليف ما لا يطاق ، لم يكن لمكالمتهم في هذه المسألة وجه.
الخلاف مع بشر بن المعتمر
فإذن لا يتحقق
الخلاف معهم ، وإنما يقع الخلاف من بشر بن المعتمر ومن تابعه.
وهم قد ذهبوا إلى
أن اللطف لا يجب على الله تعالى ، وجعلوا العلة في ذلك ، أن اللطف لو وجب على الله
تعالى لكان لا يوجد في العالم عاص ، لأنه ما من مكلف إلا وفي مقدور الله تعالى من
الألطاف ما لو فعل به لاختار الواجب وتجنب القبيح ، فلما وجدنا في المكلفين من عصى
الله تعالى ومن أطاعه ، تبيّنا أن ذلك اللطف لا يجب على الله تعالى.
فأما عندنا ، فإن
الأمر بخلاف ما يقوله بشر وأصحابه ، إذ ليس يمنع أن يكون في المكلفين من يعلم الله
تعالى من حاله أنه إن فعل به بعض الأفعال كان عند ذلك يختار الواجب ويتجنب القبيح
أو يكون أقرب إلى ذلك ، وفيهم من هو خلافه ، حتى إن فعل به كل ما فعل لم يختر عنده
واجبا ولا اجتنب قبيحا.
وإذ قد علمت هذا ،
فاعلم أن شيوخنا المتقدمين كانوا يطلقون القول بوجوب الألطاف إطلاقا ، ولا وجه
لذلك ، بل يجب أن يقسم الكلام فيه ويفصل ، فنقول :
إن اللطف إما أن
يكون متقدما للتكليف ، أو مقارنا له ، أو متأخرا عنه ، ولا رابع.
فإن كان متقدما
فلا شك في أنه لا يجب ، لأنه إذا كان لا يجب إلا لتضمنه إزاحة علة المكلف ، ولا
تكليف هناك حتى يجب هذا اللطف لمكانه. وأيضا فإنه إذا جرى مجرى التمكين ، ومعلوم
أن التمكين قبل التكليف لا يجب ، فكذلك اللطف.
وإذا كان مقارنا
له فلا شبهة أيضا في أنه لا يجب ، لأن أصل التكليف إذا كان لا يجب ، بل القديم
تعالى متفضل به مبتدأ ، فلأن لا يجب ما هو تابع له أولى ، فصح أن مراد المشايخ
بذلك الإطلاق ما ذكرناه.
ثم لا يفترق الحال
بين ما إذا كان لطفا في الواجبات ، وبين ما إذا كان لطفا في
النوافل ، فإنه
تعالى كما كلفنا الواجبات فقد كلفنا النوافل أيضا ، فكان يجب عليه اللطف سواء كان
لطفا في فريضة أو في نافلة ، خلاف الواحد منا ، إذا ثبت هذا ، فالذي يدل على صحة
ما اخترناه من المذهب ، هو أنه تعالى إذا كلف المكلف وكان غرضه بذلك تعريضه إلى
درجة الثواب ، وعلم أن في مقدوره ما لو فعل به لاختار عنده الواجب واجتنب القبيح
فلا بد من أن يفعل به ذلك الفعل ، وإلا عاد بالنقض على غرضه ، وصار الحال فيه
كالحال في أحدنا إذا أراد من بعض أصدقائه أن يجيبه إلى طعام قد اتخذه ، وعلم من
حاله أنه لا يجيبه إلى طعام قد اتخذه ، وعلم من حاله أنه لا يجيبه إلى طعامه إلا
إذا بعث إليه بعض أعزته من ولد أو غيره ، فإنه يجب عليه أن يبعث ، حتى إذا لم يفعل
عاد بالنقض على غرضه ، كذلك هاهنا.
فإن قيل : إن ذلك
إنما وجب في الشاهد لأنه يستضر بإنفاق ما أنفق إن لم يجبه صديقه ، وهذا غير ثابت
في القديم جل وعز.
وجوابنا ، إنا
نفرض الكلام فيمن لا يبالي بهذا القدر ولا يقع ذلك في عينه ، ونقول : إنه لو استمر
به ذلك الداعي ثم لا يفعل ما ذكرناه ، فإنه يكون عائدا بالنقض على غرضه ، كذلك كان
مثله في مسألتنا.
فإن قيل : لو كان
الأمر على ما ذكرتموه ، لكان يجب في الواحد منا إذا أراد أن يضيف غيره وعلم من
حاله أنه لا يجيبه إلا إذا بعث إليه بقبالات أملاكه أن يجب ذلك عليه ، وأيضا فكان
يجب إذا قال لعبده : اسقني شربة من ماء أو ناولني هذا الكوز ، وعلم من حاله أنه لا
يجيبه إلى ذلك إلا إذا مكنه نفسه أو أعتق رقبته أن يجب ذلك عليه ، ومعلوم خلافه.
وجوابنا عن الأول
، أن أحدنا إنما يفعل ذلك للنفع والذكر الجميل ، أما إذا بلغ الأمر إلى هذا الحد ،
فإن داعيه يتغير لا محالة ولا يستمر على ذلك ، لأن ما يلحقه بذلك من الضرر أضعاف
ما كان يرجوه منه من النفع والذكر الجميل ، ولا تسمح النفس ببذل الأموال النفيسة
في ادخار هذا القدر من الذكر ، ولهذا ، إن كان يريد ضيافة ملك وعلم أن في ضيافته
نفعا يوازي ذلك القدر ، فإنه يحسن بل يجب.
وهكذا الجواب عن
الثاني ، لأن المولى إذا علم من حاله أنه يموت من العطش إن لم يشرب تلك الشربة ،
وعلم أنه لا يسقيها إلا إذا أعتقه ، فإنه يجب عليه ذلك ، وإلا عاد بالنقض على
غرضه.
فإن قيل : لو كان
كذلك ، لكان يجب إذا أراد أحدنا استدعاء جماعة من الكفار إلى الإسلام ، وعلم من
حالهم أنهم لا يجيبون إلا إذا شاطرهم على ماله أن يجب عليه ، وإلا كان عائدا
بالنقض على غرضه على ما ذكرتموه في مسألتنا.
قيل له : إن أحدنا
إذا استدعى غيره إلى الإسلام ، فإنما يفعل ذلك لاقتناء الذكر الحسن والرئاسة ،
وربما لا تسمح نفسه ببذل نصف ماله في ذلك ، حتى لو قدرنا أن يكون هذا الذي يدعوه
إلى الإسلام له أعوان وأتباع يعظم أمر داعيه إلى الإسلام ويفخم شأنه ، لكان يجب
عليه أن يشاطره على ماله ، وإلا عاد على غرضه بالنقد على ما تقدم.
يبين ما ذكرناه
ويوضحه ، أنه إذا لم يقصد بدعوة الغير إلى الإسلام هذا الذي ذكرناه ، فلا وجه يذكر
إلا نفع الغير ، وليس يلزمه تحمل المشقة لنفع الغير لأنه ليس بمكلف ، وإنما الله
تعالى هو المكلف الذي لا غرض له في تكليفه إلا نفعه ، ففارق أحدهما الآخر.
ومن خالف في هذه
المسألة فقد بنى مذهبه على أصل فاسد ، وهو أنه ما من مكلف إلا وفي مقدور الله
تعالى من اللطف ما لو فعله به لاختار عنده الواجب واجتنب القبيح ، فلما وجدنا في
المكلفين من أطاع وفيهم من عصى ، تبينا أن الألطاف غير واجبة على الله تعالى. ونحن
قد أفسدنا هذا المذهب في أول المسألة ، وبينا أنه لا يمنع أن يعلم الله تعالى من
حال بعضهم أنه إن فعل به ما فعل فإنه لا يصير لطفا له.
ولذلك نظير في
الشاهد ، فإنه لا يمنع أن يكون لأحدنا ولدان ، علم من حال أحدهما أنه لو سلك معه
طريقة الرفق فإنه يختلف إلى المكتب ويقبل على التعليم ويشتغل بما يريده منه ،
ويعلم من حال الآخر أنه إن فعل به ما فعل من الرفق والعنف فإنه لا يختار ذلك ،
كذلك في مسألتنا ، ولا يمتنع أن يكون حال المكلفين مع الله تعالى هذا الحال.
ومن أسف ما
يتعلقون به في الأصل ويذكرونه في نصرة هذا المذهب ، قولهم : إنه تعالى قادر لذاته
، ومن حق القادر لذاته أن يكون قادرا على سائر أجناس المقدورات ، ومن المقدورات
الألطاف ، فيجب أن يكون قادرا عليها.
وجوابنا ، أن
اللطف ليس من أجناس المقدورات حتى إذا كان الله تعالى قادرا لذاته وجب قدرته عليه
، ففسد ما ظنوه.
يبين ما ذكرناه.
أن اللطف هو ما يختار المرء عنده الواجب ويجتنب القبيح ،
وليس هذا جنسا
مخصوصا يجب في القادر للذات أن يكون قادرا عليه لا محال.
ومن ذلك قياسهم
المصلحة على المفسدة ، فقالوا : إذا كان الله تعالى قادرا على أن يفعل من المفسدة
ما يفسد به كل أحد ، وجب أن يكون قادرا على أن يفعل من المصلحة ما يصلح به كل أحد.
وجوابنا ، أنا لو خلينا وقضية العقل لكنا لا نعلم أنه تعالى قادر على ما لو فعله
بجميع المكلفين لفسدوا عنده ، غير أن السمع ورد بذلك ، وهو قوله : (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦)
أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (٧)) [العلق : ٦ ، ٧]
وقوله : (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ
الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) [الشورى : ٢٧] ،
فلم يفصل بين عبد وعبد ، ومثل هذه الدلالة غير ثابت في المصلحة ، فبقي على أصل
العقل ، وإذا كان هذا هكذا فقد بطل القياس.
فإن قيل : ألسنا
ندبنا إلى أن نسأل الله تعالى العصمة والتوفق ، وأن نقول مثلا : اللهم وفقنا لما
تحب وترضى وجنبنا عما تكره وتسخط ، وغير ذلك من الدعوات؟ فلو كان الأمر على ما
ذكرتموه من أنه ليس في مقدور الله تعالى من الألطاف ما لو فعله بكل أحد لصلح عنده
ولاختار الواجب واجتنب القبيح ، لكان يجب أن لا يصح هذا القول وهذا الدعاء
والسؤال.
وجوابنا ، أنا
إنما ندبنا إلى هذا السؤال مشروطا بأن يكون ذلك في المقدور وإن كان الشرط غير
منطوق به ، فالشرط وإن لم ينطق به فهو في حكم المنطوق به ، فهذا جملة ما نذكره في
هذه المسألة.
فصل
أورد رحمهالله بعد هذه الجملة ، الكلام فيما بنا من النعم من جهة الله
تعالى.
وكان ينبغي أن
نذكر قبل الشروع في المسألة حقيقة النعمة والمنعم وما يتصل بذلك ، إلا أنا لما
فرغنا عنه في أول الكتاب ، لم نعده هاهنا كراهة التطويل ، والذي نذكره هاهنا ما
يختص هذا الموضع.
النعم نوعان
اعلم أن النعم على
ضربين :
أحدهما ، لا يقدر
عليه إلا الله تعالى ، وذلك نحو الإحياء والإقدار وخلق الشهوة والمشتهى وإكمال
العقل ، ولا شك في أن ما هذا حاله فإن الله تعالى هو المنفرد به ،
لأن غيره جل وعز
لا يقدر عليه.
والآخر ، يقدر
عليه غير الله تعالى ، كما يقدر هو جل وعز عليه.
وذلك ينقسم إلى :
ما يصل إلينا من جهة الله تعالى على الحقيقة ، وإلى ما يكون في الحكم كأنه من جهة
تعالى.
الأول ، نحو
المنافع التي تصل إلينا بطريقة الإرث ، فإنها إنما تصل إلينا من جهة الله تعالى ،
فلو شرعت الشريعة على هذا الوجه وإلا كنا نقول : إن المال وقد خلفه صاحبه ، لمن
سبق إليه وحازه أولا ، ولا يكون به الأقرباء أولى من الأجانب ، ولا بعضهم أولى من
بعض.
والثاني ، هو
كالهبات والصدقات والهدايا وغيرها ، فإنها في الحكم كأنها من قبل الله تعالى وإن كان
المتولي لها غيره تعالى ، فلو لا خلقه الواهب والموهوب والموهوب له ، وجعل أحدهما
بحيث يرغب في الهبة والآخر يقبل منه ذلك ويمكنهما من النفع والانتفاع ، وإلا كان
لا يصح من أحد هبته ، ولا يتمكن أحد من قبولها والانتفاع بها ، وإذا كان الواحد
منا يكون منعما على الغير بالهبة وإن كان لا يتعلق به إلا من وجه واحد ، فالقديم
تعالى بأن يكون منعما بها وقد تعلقت به من كل وجه أولى وأحرى.
فإن قيل : لو كان
الأمر على ما ذكرتموه لكان يجب أن يكون القديم تعالى منعما علينا بالتكليف ، فعليه
نستحق الثواب وبه نتوصل إليه. قلنا : هكذا نقول ، لأنه لا فرق في النعمة بين أن
تكون منفعة يمكن الالتذاذ بها ، وبين أن تكون مؤدية إلى المنفعة ، هذا على ما مر
في صدر الكتاب.
فإن قيل : يلزم
على هذا أن يكون القديم تعالى منعما علينا بالإيمان ، وأن يستحق من جهتنا الشكر
عليه ، قلنا : كذلك نقول ، إلا أنا لا نطلق القول به لأنه يوهم الخطأ. يبين ذلك ،
أنه هو الذي خلقنا وأحيانا وأقدرنا وأكمل عقولنا وخلق فينا شهوة القبيح أو نفرة
الحسن ، وكلفنا وجعلنا بحيث أمكننا اختيار الإيمان بدلا من الكفر ، والكفر بدلا من
الإيمان ، وعرضنا بذلك إلى درجة الثواب ، فكأنه هو الذي خلق فينا الإيمان وأنعم به
علينا ، إلا أنا لا نطلق القول بذلك لما ذكرناه من كونه موهما للخطأ ، حتى لو لم
يوهم ذلك ، وعرف من حالنا أنا لا نعني به أنه هو الذي خلق الإيمان فينا ، وأنه لا
يستحق الشكر عليه نفسه ، وإنما يستحق الشكر على مقدماته ، ولجوزنا إطلاق القول في
ذلك ، فهذه طريقة القول في هذا الفصل.
فصل في القرآن وذكر الخلاف فيه
ووجه اتصاله بباب
العدل هو ، أن القرآن فعل من أفعال الله يصح أن يقع على وجه فيقبح ، وعلى وجه آخر
فيحسن وباب العدل كلام في أفعاله ، وما يجوز أن يفعله وما لا يجوز.
وأيضا ، فإنه له
بما كنا فيه من قبل اتصالا شديدا ، فإنه من إحدى نعم الله بل من أعظم النعم ،
فإليه يرجع الحلال والحرام ، وبه تعرف الشرائع والأحكام ، وقد اختلف الناس فيه
اختلافا كبيرا.
فقد ذهبت الحشوية
النوابت من الحنابلة إلى أن هذا القرآن المتلو في المحاريب والمكتوب في المصاحف غير
مخلوق ولا محدث ، بل قديم مع الله تعالى.
وذهبت الكلابية
إلى أن كلام الله تعالى هو معنى أزلي قائم بذاته تعالى ، مع أنه شيء واحد توراة
وإنجيل وزبور وفرقان ، وأن هذا الذي نسمعه ونتلوه حكاية كلام الله تعالى ، وفرقوا
بين الشاهد والغائب ، وما دروا أن ذلك يوجب عليهم قدم الحكاية أو حدوث المحكى ،
فإن الحكاية والمحكى لا بد أن يكونا من جنس واحد ، ولا يجوز افتراقهما في قدم ولا
حدوث.
وقالوا : إن
كلامنا هو الذي نسمعه ، وليس هو بمعنى قائم بذات المتكلم ككلام الله تعالى ، وإلى
هذا المذهب ذهب الأشعري ، إلا أنه لما رأى أن قوله أن الذي نتلوه في المحاريب
ونكتبه في المصاحف حكاية كلام الله تعالى يوجب أن يكون كلامه أيضا محدثا وأصواتا
وحروفا ، لأن الحكاية يجب أن تكون من جنس المحكى ، قال : إن هذا المسموع هو عبارة
كلام الله تعالى ، ولم يدر أن العبارة يجب أن تكون من جنس المعبر عنه ، إلا أنه قد
جرى على القياس فقال : الكلام معنى قائم بذات المتكلم من دون فرق بين الشاهد
والغائب ، فلقد أصاب في خطئه هذا.
وأما مذهبنا في
ذلك ، فهو أن القرآن كلام الله تعالى ووحيه ، وهو مخلوق محدث ، أنزله الله على
نبيه ليكون علما ودالا على نبوته ، وجعله دلالة لنا على الأحكام لنرجع إليه في
الحلال والحرام ، واستوجب منا بذلك الحمد والشكر والتحميد والتقديس. وإذن هو الذي
نسمعه اليوم ونتلوه ، وإن لم يكن محدثا من جهة الله تعالى فهو مضاف إليه على
الحقيقة ، كما يضاف ما ننشده اليوم من قصيدة امرئ القيس على الحقيقة ، وإن لم يكن
محدثا لها من جهته الآن.
وإذ قد فرغنا عن
ذكر شطر الخلاف في هذه المسألة ، نعود إلى الكلام فيها ، ونذكر حقيقة الكلام ،
وأنه الحروف المنظومة والأصوات المقطعة.
حقيقة الكلام
إلا أن هذا لا يصح
إيراده على طريق التحديد ، لأن الحروف المنظومة هي الأصوات المقطعة ، والأصوات
المقطعة هي الحروف المنظومة على الصحيح من المذهب ، الذي اختاره شيخنا أبو هاشم ،
فيكون في محد تكرار لا فائدة فيه.
يبين ذلك ، أن
الأصوات المقطعة لو كانت أمرا زائدا على الحروف المنظومة لصح فيه طريقة الانفصال
إذ لا علاقة ، ولأن الحروف جمع ، وأقل الجمع ثلاثة ، وهذا يقتضي أن لا يكون
الحرفان كلاما ، وليس كذلك ، فإن قولنا : مر ، ومس ، وقل ، وكل ، حرفان مع أنه
كلام.
فالأولى أن نقول
في حده : هو ما انتظم من حرفين فصاعدا ، أو ما له نظام من الحروف مخصوص.
فلا يلزم على هذا
أن لا يكون قولهم ق ، وع ، كلاما ، لأن ق ، وع ، حرفان. يبين لك ذلك ، إذا وقفت
عليه ، فإنك تقول في الوقف : قه ، وعه. يدلك على هذا هو أنهم نصوا على أنه لا يصح
الابتداء إلا بالمتحرك ، ولا الوقف إلا على الساكن ، فلو لا أن : ق وع حرفان ،
وإلا فكيف يصح الابتداء به والوقف عليه ، فصح ما قلناه.
ولا يعاب علينا
تحديدنا الكلام بما له نظام ، فإن أكثر ما في ذلك أنه تحديد بالمجاز ، وذلك سائغ.
ولا يجب أن يكون
مفيدا ، بخلاف ما ذهب إليه شيخنا أبو هاشم ، وإلا كانوا لا يعدون المهمل من أقسام
الكلام وقد عرّوه منه.
وأيضا فلو كان
الكلام هو ما يفيد على ما يحكى عن أبي هاشم ، لكان يجب في عقد الأصابع والإشارة
بالرأس أنه يكون كلاما ، ومعلوم خلافه.
فهذا هو حقيقة
الكلام ، ولا فرق بين أن يكون مهملا أو مستعملا ، أو أن لا يكون من حرفين مختلفين
على ما مر لأبي هاشم في بعض المواضع ، لأن المركب من حرفين متماثلين قد يكون كلاما
أيضا ، ألا ترى أن قوله صلىاللهعليهوسلم «ما
أنا من دد ولا الدّد مني» كيف كان كلاما مع تركبه من دالتين؟ وهكذا فإنك تسمع الناس يقولون : كذلك ،
لهذا الحيوان
المخصوص ، وشش ، لهذا العدد المخصوص ، وسس للرنة ، وكذلك للبعوض ، وأشباه ذلك أكثر
من أن يأتي عليه العدد والحصر. فأما ما يقوله النحويون من أن الكلام هو ما يكون
مفيدا ، والمفيد هو ما تركب من حرف واسم أو اسم واسم كقولك زيد قائم ، أو من فعل
واسم كقولك قام زيد ، فإنما يعنون به الكلام الاصطلاحي دون اللغوي.
وإذ قد عرفت حقيقة
الكلام ، فاعلم أنه من نعم الله تعالى العظام ، لأنه به يتصور الإفهام والاستفهام
، ولا يقوم غيره هذا المقام ، ولا شيء يتسع اتساع الكلام ، لأن الذي يشتبه الحال
فيه ليس إلا عقد الأصابع والإشارة بالرأس ، ولا شك أنه لا يتسع اتساعه ، فمعلوم أن
الأخرس لا يمكنه أن يدل على توحيد الله تعالى وعدله ، ولا يتأتى منه ذلك على الحد
الذي يتأتى من المتكلم ، وأما الكتابة فإنه وإن عظم الانتفاع بها إلا أنها لا تبلغ
درجة الكلام ، وأيضا فإن الفائدة به تترتب على الفائدة بالكلام ، فلو لا أنه تعالى
بفضله وسعة جوده ألهمنا المواضعة على ذلك ، وإلا كنا لا نتمكن من شيء من هذه الأشياء
التي ذكرناها.
وإذ قد تبين لك
هذه الجملة في كلامنا ، فكلام الله تعالى المنزل على رسوله أدخل في باب النعمة ،
لأن به يعرف الحلال والحرام ، وإليه يرجع في الشرائع والأحكام ، ولذلك قلنا : إن
كلام الله تعالى لا يجوز أن يعرى عن الفائدة ، حتى لا يجوز أن يخاطبنا بخطاب ثم لا
يريد به شيئا أو يريد به غير ظاهره ولا يبينه ، لأن ذلك يتنزل في القبح منزلة
مخاطبة الزنجي بالعربية والعربي بالزنجية ، فكما أن ذلك لا يحسن بل يعد من باب
العبث ، كذلك في مسألتنا.
فحصل من هذه
الجملة ، أن كلام الله تعالى إنما يكون نعمة إذا كان على الحد الذي ذكرناه ، فأما
إذا كان الأمر في ذلك على ما يقوله هؤلاء المجبرة ، فإنه مما لا يثبت فيه شيء من
ذلك ، سيما إذا أثبتوه قديما ، فمعلوم أنه لا يصح الانتفاع بالقديم ، خاصة إذا
جوزوا عليه الكذب ، وأن يأتي بخطاب لا يريد به شيئا أصلا ، وأن يؤخر بيان المجمل عن
الحال الخطاب ، بل عن حال الحاجة.
ونعود بعد هذه
الجملة إلى إبطال هذه المذاهب.
إبطال قول من يقول إن القرآن قديم
أما الكلام على
الصنف الأول ، الذين قالوا : إن القرآن قديم مع الله تعالى ، فهو
أن نقول لهم :
إنكم قد بلغتم في الجهالة إلى أقصى الغاية ، فإن القرآن يتقدم بعضه على بعض ، وما
هذا سبيله لا يجوز أن يكون قديما ، إذ القديم هو ما لا يتقدمه غيره. يبين ذلك أن
الهمزة في قوله : الحمد لله ، متقدمة على اللام ، واللام على الحاء ، وذلك مما لا
يثبت معه القدم ، وهكذا الحال في جميع القرآن ، ولأنه سور مفصلة وآيات مقطعة ، له
أول وآخر ، ونصف ، وربع ، وسدس ، وسبع ، وما يكون بهذا الوصف كيف يجوز أن يكون
قديما.
وقد دل الله على
ذلك في محكم كتابه فقال : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ
ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) [الأنبياء : ٢]
والذكر هو القرآن ، بدليل قوله : (إِنَّا نَحْنُ
نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٩)) [الحجر : ٩] فقد
وصفه بأنه محدث ، ووصفه بأنه منزل ، والمنزل لا يكون إلا محدثا ، وفيه دلالة على
حدوثه من وجه آخر ، لأنه قال : (وَإِنَّا لَهُ
لَحافِظُونَ) فلو كان قديما لما احتاج إلى حافظ يحفظه.
ويدل أيضا على ذلك
قوله تعالى : (الر كِتابٌ
أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ) [هود : ١] بيّن
كونه مركبا من هذه الحروف ، وذلك دلالة حدوثه ، ثم وصفه بأنه كتاب أي ، مجتمع من
كتب ، ومنه سميت الكتيبة كتيبة لاجتماعها ، وما كان مجتمعا لا يجوز أن يكون قديما
، ووصفه بأنه محكم ، والمحكم من صفات الأفعال ، وقال بعد ذلك : (ثُمَّ فُصِّلَتْ) ، وما يكون مفصلا كيف يجوز أن يكون قديما.
وأظهر من هذا كله
قوله تعالى : (اللهُ نَزَّلَ
أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ) [الزمر : ٢٣] وصفه
بأنه منزل أولا ، ثم قال : أحسن الحديث ، وصفه بالحسن ، والحسن من صفات الأفعال ،
ووصفه بأنه حديث ، وهو والمحدث واحد ، فهذا صريح ما ادعيناه ، وسماه كتابا وذلك
يدل على حدوثه كما تقدم ، وقال : متشابها ، أي يشبه بعضه بعضا في الإعجاز والدلالة
على صدق من ظهر عليه ، وما هذا حاله لا بد من أن يكون محدثا ، فهذا هو الكلام على
الصنف الأول.
إبطال أن كلام الله معنى قائم بذاته
وأما الكلام على
من قال إن كلام الله معنى قائم بذاته ، فهو أن نقول : إن هذا دخول منكم في كل
جهالة ، لأن الكلام الذي أثبتموه مما لا يعقل ولا طريق إليه ، وإثبات ما لا طريق
إليه بفتح باب كل جهالة ، ويوجب عليكم تجويز المحالات ، نحو : أن تجوزوا أن يكون
في المحل معان ولا طريق إليها ، وأن يكون في بدن الميت حياة
وقدرة وشهوة إلا
أنه لا طريق إلى شيء من ذلك ، ومن بلغ إلى هذا الحد فقد تناهى في الجهالة.
فإن قيل : لم قلتم
إنه لا طريق إليه؟ قلنا : لأن المعنى إذا لم يعلم ضرورة ، فالطريق إليه إما أن
يكون صفة صادرة عنه ، أو حكما أوجبه هو ، وليس هاهنا صفة تصدر عن الكلام الذي
أثبتموه ، ولا حكم له يتوصل به إلى إثباته ، فإثباته والحال هذه يؤدي إلى ما
ذكرناه.
فإن قيل : إن
أحدنا إذا أراد أن يتكلم فإنه قبل الكلام يجد من نفسه شيئا ، ذلك الشيء هو الذي
أثبتناه كلاما ، وأجلى الأمور ما يجده الإنسان من نفسه. قيل له : إن ما ذكرتموه
يمكن أن يرجع به إلى شيء آخر ، وهو القصد إلى الكلام أو الإرادة له أو العزم عليه
أو العلم به أو التفكير في كيفية ترتيبه ، فإذا أمكن أن يرجع به إلى هذه الأمور ،
لم يجز أن ينصرف إلى ما ذكرتموه.
وحكى عن بعض
متأخريهم وهو ابن فورك الأصفهاني ، أنه ذهب إلى أن المرجع بالكلام إلى الفكر ،
وهذا يوجب عليه أن يكون الله تعالى موصوفا بالتكلم ، أو أن يكون متفكرا ، تعالى
الله عن ذلك. وهذا دخول منهم في المجوسية ، فهم الذين جوزوا الفكر على الباري
تعالى حيث قالوا : إنه تعالى فكر فكرة رديئة فتولد من فكرته الشيطان ، فيكون ذلك
أحد وجوه المضاهاة بينهم وبين المجوس.
فإن قيل : أو ليس
أهل اللغة يقولون : في نفسي كلام ، فكيف يصح ما ذكرتموه؟ قلنا : إن ما ذكرتموه عكس
الواجب ، فإن الأصل أن تثبت المعاني أولا ثم يعبر عنها بعبارات ، وأنتم فقد جعلتم
العبارات طريقا إلى إثبات المعاني ووصلة إليها ، وذلك مما لا وجه له ، لأنه لو لم
يخلق العرب أو خلقهم خرسا ، لكان لا بد من أن يمكننا معرفة الكلام وماهيته ، وعلى
ما قالوه لا يتصور ذلك.
وبعد ، فإن العرب
كما تقول : في نفس كلام ، فقد تقول في نفسي : بناء دار ، أو حج بيت الله تعالى ،
أو زيارة قبر رسول الله ، فكان يجب أن تكون هذه الأفعال كلها معاني في النفس قائمة
بذات فاعلها والمعلوم خلافه.
فإن قيل : إن
مرادهم بذلك ، في نفسي العزم على بناء دار ، وعلى حج بيت الله تعالى ، إلى ما شاكل
ذلك ، قلنا : فارض بمثل هذا الجواب.
فإن قيل : ما
أنكرتم أن هاهنا طريقا إلى إثبات الكلام ، وهو مضادته للخرس والسكوت؟ قلنا : ليس
للكلام ضد لا من جنسه ولا من غير جنسه ، وبعد ، فلو كان الخرس والسكوت يضادان
الكلام ، لكانا لا يضادان إلا هذا الذي نسمعه نحن وأنتم ولا يعدون ذلك كلاما ،
ويقال لهم أيضا : إن المرجع بالخرس إلى فساد يلحق آلة الكلام ، والسكوت هو أن لا
يستعمل آلة الكلام فيه حالة قدرته على استعماله ، فلو كان ذلك ضد الكلام لكان لا
ينبغي أن يصح من الله تعالى خلق الكلام في لسان الأخرس والساكت ، وإلا فقد اجتمع
الضدان ، والمعلوم خلافه ، فبطل كلامهم هذا من كل وجه.
وإذ قد فرغنا من
الكلام فيما يتعلق بالمعنى ، فإنا نتبع ما يستعملونه من العبارة ، ونحصل الكلام
عليهم فيها فنقول :
قولكم : إن الكلام
معنى قائم بذاته القديم تعالى يحتمل أمورا ، لأن القيام قد يذكر ويراد به الانتصاب
، كما يقال : فلان قائم ، أي منتصب ، وقد يذكر ويراد به الدوام ، كقوله : الحي
القيوم أي الدائم ، وقد يذكر ويراد به الحفظ ، كما يقال : السقف قائم بالسارية أي
محفوظ به على معنى أنه لولاه لسقط ، وقد يذكر ويراد به الحلول ، كما يقال : الكون
قائم بالمحل ، وشيء من ذلك لا يتصور في هذه المسألة ، لأن الانتصاب والحلول
وغيرهما مما لا يجوز على الله تعالى.
فإن قيل : إنا لا
نريد بهذه العبارة شيئا من الأشياء ، وإنما نعني بها أنه موجود به. قلنا : إن هذه
العبارة أيضا تستعمل في معنيين :
أحدهما : أنه واقع
من جهته وأنه هو الذي فعله ، على ما يقال في السموات والأرض أنها موجودة بالله.
والثاني : أنه
لولاه لما وجد ، كما يقال العرض موجود بمحله ، فإن أردتم به الأول ، فهو الذي
نقوله ، إلا أنه يقتضي حدوثه ، وإن أردتم به الثاني فلا يصح ، لأنه يوجب أن يكون
ذلك المعنى قائما بحياة القديم تعالى وبقدرته لا بذاته ، وقد عرف خلافه.
وقد دل بعد هذه
الجملة على أن المتكلم هو فاعل الكلام ، ليفسد به ما ذهبوا إليه في هذا الباب.
المتكلم هو فاعل الكلام
والذي يدل على صحة
ذلك ، هو أن أهل اللغة لما اعتقدوا تعلق الكلام بفاعله سموه متكلما ، ومتى لم
يعتقدوا ذلك فيه لم يسموه به. وعلى هذا فإنهم أضافوا كلام المصروع إلى الجني ،
فقالوا : إن الجني يتكلم على لسانه ، لما رأوا أن ذلك الكلام لا يتعلق به تعلق
الفعل بفاعله ، فلو جاز أن يقال في المتكلم إنه ليس هو فاعل الكلام ، لجاز مثله في
الشاتم والضارب والكاسر وغير ذلك ، فالطريقة في الجميع واحدة ، وإن كان البعض أظهر
من البعض ، وقد عرف خلافه.
ويدل على ذلك أيضا
، هو أن المتكلم لا يخلو ، إما أن يكون متكلما لأنه فعل الكلام ، أو لأن الكلام
أوجب له حالة أو صفة ، أو لأن الكلام حله أو بعضه ، أو لأن الكلام أثر في آلته على
معنى أنه نفى الخرس والسكوت عنه ، أو لأنه موجود به ، والأقسام كلها باطلة ، فلم
يبق إلا أن يكون المتكلم إنما كان متكلما لأنه فاعل الكلام على ما نقوله.
فإن قيل : لم لا
يجوز أن يكون المتكلم متكلما لأن الكلام أوجب له حالة أو صفة؟ قلنا : إنه لا حال
للمتكلم بكونه متكلما ، إذ لا طريق إليه ، وإثبات ما لا طريق إليه بفتح باب
الجهالات على ما مر.
فإن قيل : إن
هاهنا طريقا ، فإن الواحد منا يفصل بين كونه متكلما وبين أن لا يكون متكلما ،
وأجلى الأمور ما يجده الإنسان من نفسه.
قلنا إن هذه
التفرقة إذا أمكن أن نرجع بها إلى أنه يفعل في إحدى الحالتين الكلام ولا يفعل في
الحالة الثانية ، لم يمكن أن نرجع به إلى ما ذكرتموه.
ويدل على ذلك أيضا
، هو أنه لو كان للمتكلم بكونه متكلما حال وصفة ، لكان يجب أن يسبق العلم بتلك
الحال قبل العلم بالكلام ، كما في كونه عالما ، فإن العالم لما كان له بكونه عالما
حال ، يسبق علمنا بكونه عالما على العلم بما يوجبه وهو العلم. وكذلك في المتحرك ،
فإن المتحرك لما كان له بكونه متحركا حالة وصفه ، حصل العلم بكونه متحركا قبل
العلم بالحركة ، كذلك يجب مثله في مسألتنا ، فكان يجب أن نعلم كون المرء متكلما وإن
لم يخطر ببالنا الكلام ، والمعلوم خلافه ، فإنا ما لم نعلم تعلق الكلام به تعلق
الفعل بفاعله لم نعلم كونه متكلما.
فإن قيل : لم لا
يجوز أن يكون المتكلم متكلما لأن الكلام حله أو حل بعضه؟
قلنا : لأنه لو
كان كذلك لكان يجب أن يكون اللسان هو المتكلم ، لأن الكلام حله دون غيره ، وأن
يكون هو المبعوث بالرسالة ، المؤدي لها ، المستحق المدح والتعظيم عليها ، ولكان
يجب أن يكون اللسان هو القاذف المستحق الجلد ، والمعلوم خلافه ، وأيضا ، فكان يجب
أن يكون اللسان هو الشاعر ، لأن الشعر إنما يحله ، وذلك يوجب صحة الفعل المحكم وتأتيه
ممن ليس بعالم ، وقد عرف خلافه.
وأيضا ، فكان يحب
أن لا يوجد في العالم متكلم لأن أقل الكلام حرفان ، وما من حرف إلا وقد اختص بمخرج
مخصوص لا يمكن إخراجه من غير مخرجه فلا يجتمعان والحال ما قلناه في محل واحد حتى
يكون ذلك المحل متكلما ، وفي ذلك ما قلناه.
إنكار أن يكون متكلما لأنه أثر في آلته
فإن قيل : لم لا
يجوز أن يكون المتكلم متكلما لأنه أثر في آلته ، على معنى أنه نفي لخرسه وسكوته؟
قلنا : لما قد مر من أن الخرس والسكوت لا يضادان الكلام ، بل لا ضد للكلام أصلا.
إنكار أن يكون متكلما لأن الكلام يحتاج إليه
فإن قيل : لم لا
يجوز أن يكون المتكلم متكلما لأن الكلام يحتاج إليه؟
قلنا : إذا كان
المتكلم محتاجا إلى الكلام ، والكلام محتاجا إلى المتكلم ، فقد احتاج كل واحد
منهما إلى صاحبه ، ووجه الحاجة واحد ، وذلك في الاستحالة بمنزلة حاجة الشيء إلى
نفسه.
فإن قيل : لم لا
يجوز أن تكون حاجته حاجة التضمين؟ قلنا : لا يجوز ذلك ، لأن حاجة الشيء إلى نفسه.
فإن قيل : لم لا
يجوز أن تكون حاجته حاجة التضمين؟ قلنا : لا يجوز ذلك ، لأن حاجة التضمين هو أن لا
يحصل الذات إلا على صفة ، ولا يحصل على تلك الصفة إلا وهو حاصل على صفة أخرى ، ولا
يحصل على تلك الصفة إلا بمعنى ، فيقال : إن ذلك الشيء وجوده مضمن به ، كما يقال في
الجوهر أنه مضمن بالكون ، على معنى أنه لا يوجد إلا وهو متحيز ، ولا يكون متحيزا
وإلا وهو كائن ، ولا يكون كائنا إلا بكون ، وهذا مما لا يتصور في الكلام والمتكلم
، فلا يصح أن يكون بينهما حاجة التضمين.
إنكار أن يكون متكلما لأن الكلام موجود به أو قديم بذاته
فإن قيل : لم لا
يجوز أن يكون المتكلم متكلما لأن الكلام موجود به أو قديم بذاته؟ قلنا : قد أجبنا
عن كلتا العبارتين ، ويبينا فسادهما وفساد معانيهما في غير هذا الوضع.
إنكار أن يكون متكلما لأن الكلام كلامه إلا إذا قصد أنه
فعله
قيل : لم لا يجوز
أن يكون المتكلم متكلما لأن الكلام كلامه أو كلام له؟
قلنا : إن هذا
يستعمل على وجهين : أحدهما ، بمعنى الاتصال والاختصاص ، والثاني بمعنى الملك ، وأي
ذلك كان منهما فإنه لا يتصور في الكلام والمتكلم.
فإن قيل : إن
المراد بقولنا إن الكلام كلامه أو كلام له ، أي أنه فعله ، قلنا : هذا صريح مذهبنا
فلا ننازعكم فيه.
إذا ثبتت هذه
الجملة فاعلم ، أن الطريق الذي به يعرف أن الكلام كلام المتكلم طريقان : أحدهما ،
أن يسمع منه ويعلم وقوفه على دواعيه ، والثاني ، أن يخبرنا منبئ صادق بذلك ، هذا
إذا كان الكلام في الشاهد.
فأما في القديم
تعالى ، فإنا إنما نعلم أن الكلام كلامه بطريقين : أحدهما أن يكون واقعا على وجه
لا يصح وقوعه على ذلك الوجه من القادرين بالقدرة ، كأن يوجد في حصاة أو شجرة أو
حجر أو غير ذلك. والثاني ، كأن يخبرنا نبي صادق ، وبهذه الطريقة الأخيرة علمنا أن
القرآن كلام الله تعالى ، لأنه لو لم يخبرنا النبي صلىاللهعليهوسلم بذلك ، ولم يعرف من دينه ضرورة ، ولا دل عليه قوله تعالى :
(وَلَوْ كانَ مِنْ
عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء : ٨٢]
وإلا كنا نجوز أن يكون من جهته صلىاللهعليهوسلم ، لأنه ليس من ضرورة المعجز أن يكون من جهة الله تعالى ،
بل لا يمتنع أن يمكن الله نبيه أو غيره ، فيظهره على المدعي النبوة إذا كان صادقا
، وإنما الذي يجب في المعجز أن يكون ناقصا للعادة خارقا لها.
وقد ذكر رحمهالله بعد هذه الجملة ، أن هذا الكلام الذي أثبتوه قائما بذات
الباري إما أن يثبتوه حالا في الله تعالى ، فالله تعالى يستحيل أن يكون محلا ، لأن
المحل متحيز ، والمتحيز محدث ، وقد ثبت قدمه.
وإما أن يثبتوه
موجودا لا في محل ، وذلك أيضا محال ، فإن حكم الكلام مقصور
على محله ، منه
يسمع وعليه يضاد ضده ، فلو وجد لا في محل لانقلب جنسه ، وذلك محال.
وأيضا ، فلو صح
وجوده لا في محل وقدرنا فيه التضاد ، لكان لا يخلو حال الكلامين وقد وجدا لا في
المحل من أن يتضادا أو لا يتضادا ، فإن لم يتضادا مع أن وجود أحدهما على حد وجود
الآخر ، لم يصح ، لأن ذلك يقتضي قلب جنسهما ، وإن تضادا كان يجب أن يكون تضادهما
على مجرد الوجود ، وذلك يوجب أن لا يصح وجود كلامين مختلفين في العالم ، وقد عرف
خلافه. فصح لك في هذه الجملة أن الكلام لا يصح وجوده لا في محل.
وإما أن يثبتوه
موجودا في غيره وذلك يقتضي حدوثه ، لأن القديم لا يحل المحدث ، ومحله إذا وجد فلا
بد من أن يكون غير الله تعالى لاستحالة أن يكون الله تعالى محلا لشيء من الأشياء.
ثم لا يجب أن يكون
مبنيا بنية مخصوصة على ما يحكي عن أبي علي ، وكان يذهب إليه أبو هاشم أولا ثم رجع
عنه وقال : إن حكمه مقصور على محله على ما ذكرنا ، وما هذا سبيله فلا حاجة به إلى
أزيد من محله ، اعتبر به بالسواد وغيره من المعاني التي يكون حكمها مقصورا على
محلها.
ولهذه الطريقة لم
يجب في محله أن يكون متحركا لا محالة ، على ما يحكى عن أبي علي أن به حاجة إلى
الحركة.
يبين ما ذكرناه
ويوضحه ، أنه لو احتاج إلى الحركة لكان لا وجه له إلا أن الحركة سبب فيه ، وليس
كذلك ، فإن سببه على الصحيح من المذهب إنما هو الاعتماد بشرط الصّكة التي يرجع بها
إلى تأليف بين جسمين صلبين عقيب حركات متوالية ، أو حركات تقل السكنات بينها ،
وإنما كان هكذا لأنه يوجد بحسب الاعتماد الذي وصفناه ، يقل بقلته ويكثر بكثرته ،
فلو جاز والحال هذه أن يكون سببه غيره لكان لا يمكننا أن نثبت شيئا من الأسباب.
وبعد ، فإننا إذا
ضربنا جوزة على سندانة فإنا نسمع منها صوتا ، فقد وجد الصوت ولا حركه ، ولو كان
محتاجا إليها لم نجد ذلك.
ومتى قيل : إن
الصوت في السندات إنما تولد من حركة الجوزة ، قلنا : إن الحركة لا جهة لها ، فلو
ولدت الصوت لولدته في محلها ، وإلا لم تكن بالتوليد في هذه الجهة
أولى من التوليد
في غيرها ، وذلك يقتضي أن تولده في سائر الجهات ، ومعلوم خلافه.
فإن قيل : قد علما
أن من ضرب الطست فإن الصوت الذي يتولد فيه يقف على الحركة ويوجد بحسبها ، فلما ذا
وقف طنين الطست على الحركة يثبت بثباتها وينقطع بانقطاعها إن لم يحتج إليها ولم
يتولد عنها؟ قلنا : إنه إنما يتولد عن الاعتماد بشرط المصاكة ، وهي عبارة عن تأليف
مخصوص واقع عقيب حركات متوالية أو حركات يقل السكون بينها على ما ذكرنا ، فلفقد
الشرط ينبغي توليد الاعتماد ، لا لأن الحركة هي المولدة.
فإن قيل : كيف
يكون القديم تعالى متكلما بكلام يوجد في غيره ، قلنا : كما يكون منعما بنعمة توجد
في غيره ، ورازقا برزق يوجد في غيره ، وهذا لأن المتكلم هو فاعل الكلام ، وليس من
شرط الفاعل أن عليه فعله لا محالة. ولصحة هذه الطريقة التي سلكناها في هذه المسائل
من أن الكلام حكمه مقصور على محله فلا يحتاج إلا إلى مجرد المحل ، منعنا مما يوجبه
شيخنا أبو علي بن خلاد ، وهو أن لا يوجد الكلام إلا في الهواء ، وقلنا : إن الهواء
وغير الهواء سواء في صحة وجود الكلام فيه.
وعلى الجملة ، فإن
أحدنا إذا كان لا يمكنه أن يتكلم إلا بالفم واللسان ، وإلا إذا كان متمكنا من
النفس ، وإلا بسبب هو الاعتماد بشرط الصكة ، فلأنه لما كان قادرا بقدرة لم يستغن
عن مثل هذه الآلات لما بين في الكتب ، لا لأن الكلام في نفسه يفتقر إلى شيء من هذه
الأشياء نحو التنبه والحركة والهواء ، فهذه جملة ما يحتمله هذا الوضع.
شبه المخالفين في قدم القرآن
وللمخالف في قدم
القرآن شبه ، من جملتها :
قولهم : قد ثبت أن
القرآن مشتمل على أسماء الله تعالى ، والاسم والمسمى واحد ، فيجب في القرآن أن يكون
قديما مثل الله تعالى. قالوا : والذي يدل على أن الاسم والمسمى واحد ، هو أن أحدنا
عند الحلف يقول : تالله وو الله ، وهكذا يقول باسم الله ، ولا يكون كذلك إلا
والأمر على ما قلناه. وكذلك فقد قال لبيد :
إلى الحول ثم
اسم السلام عليكما
|
|
ومن يبك حولا
كاملا فقد اعتذر
|
أي السلام عليكما.
وهكذا فإن أحدنا إذا قال : طلقت زينب ، كان الطلاق واقعا
عليها ، فلو لم
يكن الاسم والمسمى واحدا لكان لا يكون ذلك كذلك.
وجوابنا أن هذه
جهالة منكم مفرطة ، لأن الاسم والمسمى لو كان واحدا لكان يجب إذا سمى أحدكم بعض
النجاسات أن ينجس فمه ، وإذا سمى بعض الحلاوات أن يحلو فمه ، وإذا سمى شيئا من
المحرقات أن يحترق فمه ، وليس الأمر كذلك ، فما كل من قال نارا أحرقت فمه وعلى هذا
قال بعضهم :
لو كان من قال
نارا أحرقت فمه
|
|
لما تفوه باسم
النار مخلوق
|
وأيضا ، فكيف
يتصور أن يكون الاسم والمسمى واحدا ، مع أن الاسم عرض والمسمى جسم.
وأما ما ذكره من
الحلف ، فإن أحدنا إذا أراد أن يظهر ذلك من نفسه لم يمكنه إلا بالعبارة عنه ، فكيف
يصح ما ذكرتموه؟ ولو كان الأمر على ما زعمتموه لكان يجب في الله تعالى أن يكون
محدثا فإن الحلف لا شك في حدوثه.
وأما قولنا : بسم الله
الرحمن الرحيم ، فإنا إنما نقرؤه لما لنا فيه من اللطف ، والله قد تعبدنا به.
وقول لبيد : إلى
الحول ثم اسم السلام عليكما ، مجاز ، ونحن لا ننكر استعمال المجازات.
وقولهم : ضرب زيد
عمرا وطلقت زينب ، فإن ذلك إنما انصرف إلى المسمى لأن أحدنا أراد أن يصرفه إليه.
فإن قيل : إن
كلامنا في الاسم ، وما ذكرتموه كلام في التسمية ، قلنا : لا فرق بين الاسم
والتسمية ، ألا ترى أنه لا فرق بين أن يقول القائل : سمى فلان فلانا تسمية حسنة ،
وبين أن يقول سماه اسما حسنا ، ولهذا لو أثبت بأحدهما ونفى بالآخر تناقض الكلام.
حكاية أبي الهذيل وبعض الحنابلة
وهاهنا حكاية جرت
بين بعضهم مع شيخ من شيوخنا ، هذا موضعها. ويحكى أن بعض الحنابلة ناظر أبا الهذيل
في هذه المسألة ، فأخذ لوحا وكتب عليه : الله ، قال : أفتنكر أن يكون هذا هو الله
وتدفع المحسوس؟ فأخذ أبو الهذيل اللوح من يده وكتب بجنبه : الله آخر ، فقال
للحنبيل أيهما الله إذن؟ فانقطع المدبر.
تعلق المخالفين بآيات من القرآن
وقد تعلقوا في ذلك
بآيات من القرآن ، من جملتها ، قوله تعالى : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ
وَالْأَمْرُ) قالوا : إنه تعالى فصل بين الخلق والأمر ، وفي ذلك دلالة
على أن الأمر غير مخلوق.
وجوابنا أن هذا
باطل ، لأن مجرد الفصل لا يدل على اختلاف الجنسين ، أو لا ترى أنه تعالى فصل بين
نبينا وبين غيره من الأنبياء عليهمالسلام بقوله : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ
النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ) [الأحزاب : ٧] ،
ثم لا يجب أن لا يكون نبيا من الأنبياء ، وكذلك فإنه فصل بين الفحشاء والمنكر ثم
لا يجب أن تكون الفحشاء غير المنكر ، وأيضا فإنه تعالى فصل بين الفاكهة والرمان
بقوله : (فِيهِما فاكِهَةٌ
وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (٦٨)) [الرحمن : ٦٨] ثم
لا يجب أن لا يكون الرمان من الفاكهة ، كذلك في مسألتنا.
فإن قيل : فما
فائدة الفصل؟ قلنا : قد يفصل للتعظيم والتفخيم كفصله بين جبريل وميكائيل وبين
غيرهما من الملائكة ، وكفصله بين نبينا وبين غيره من الأنبياء.
فإن قيل : فما
فائدة الفصل؟ قلنا : قد يفصل للتعظيم والتفخيم كفصله بين جبريل وميكائيل وبين
غيرهما من الملائكة ، وكفصله بين نبينا وبين غيره من الأنبياء.
فإن قيل : كما
يفصل للتعظيم فقد يفصل لاختلاف المذكورين ، فلم حملتم هذا الفصل على أنه للتعظيم؟
قلنا : لقيام الدلالة على أن الأمر مخلوق ، ولقوله : (وَكانَ أَمْرُ اللهِ
مَفْعُولاً) [الأحزاب : ٣٧].
ومن جملة ما
يتعلقون به ، قوله تعالى : (الرَّحْمنُ (١)
عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) خَلَقَ الْإِنْسانَ (٣)) [الرحمن : ١ ـ ٣]
قالوا : إن هذا يدل على أن القرآن غير مخلوق لأنه وصف الإنسان بالخلق ولم يصف
القرآن به.
وجوابنا عن ذلك ،
ليس يجب إذا وصف الله تعالى الإنسان بأنه مخلوق أن لا يكون ما عدا الإنسان مخلوقا
، فإن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على ما عداه. وبعد ، فلو استدللنا نحن بهذه الآية
لكنا أسعد حالا منكم ، فقد قال : (عَلَّمَ الْقُرْآنَ
(٢)) والتعليم لا يتصور إلا في المحدثات ، وكذلك فقد قال : (عَلَّمَهُ الْبَيانَ (٤)) والبيان فالمرجع به إلى الدلالة ، والدليل لا بد من أن
يكون محدثا أو في تقدير الحادث.
فإذا ثبتت هذه
الجملة ، وصح حدوث القرآن ووقوعه مطابقا للصلاح ، فاعلم أنه لا يمتنع وصفنا بأنه
مخلوق.
وفي الناس من أنكر
ذلك فخالف.
وخلافه لا يخلو ،
إما أن يكون من جهة المعنى ، وذلك تقدم الكلام فيه ، إما أن يكون خلافا من جهة
العبارة ، فيسلم حدوث القرآن ، ويقول : إن تسميته مخلوقا يوهم جواز الموت عليه كما
في سائر المخلوقات ، وذلك محال.
والجواب ، أنه ليس
يجب في المخلوقات أن تموت كلها ، فإن الجمادات مخلوقة ومع ذلك فإن الموت مستحيل
عليها ، وقد ألزمهم شيخنا أبو علي جواز الموت على الموت لأنه مخلوق ، بدليل قوله
تعالى : (الَّذِي خَلَقَ
الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) [الملك : ٣]
فالتزموا ذلك ، وتعلقوا فيه بخبر يروى عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «يؤتى يوم القيامة
بالموت على صورة كبش أملح فينادى بين أهل الجنة وأهل النار ، ويقال يا أهل الجنة
ويا أهل النار أتعرفون الموت؟ فيقولون : لا ، فيقال : هذا هو الموت ، ثم يذبح ،
وينادى يا أهل الجنة خلود ولا موت ، ويا أهل النار خلود ولا موت» ومن بلغ معه
الكلام إلى هذا الحد فإن
الواجب أن يضرب عنه ، ويطوى الكشح دونه.
فإن قيل : ما
أنكرتم إنما لا يجوز وصف القرآن بأنه مخلوق لأن الخلق هو الكذب ، ولهذا يقال :
قصيدة مخلوقة ومختلقة إذا كانت مشتملة على أكاذيب وأباطيل ، كذلك فقد قال تعالى : (إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ
(١٣٧)) [الشعراء : ١٣٧]
وقال : (إِنْ هذا إِلَّا
اخْتِلاقٌ) [ص : ٧].
وجوابنا عن ذلك ،
أن هذا لا يصح ، لأن الخلق إنما هو التقدير ، والمخلوق هو الفعل المقدر بالغرض
والداعي المطابق له على وجه لا يزيد عليه ولا ينقص عنه ، لهذا نراهم يقولون : خلقت
الأديم هل لحى منه مطهرة أم لا ، وقال الحجاج : إني إذا وعدت وفيت ، وإذا خلقت
فريت ، أي إذا قدرت قطعت ، وكذلك فقد قال زهير :
ولأنت تفرى ما
خلقت
|
|
وبعض القوم يخلق
ثم لا يفرى
|
وكذلك فقد قال
غيره :
ولا يئط بأيدي
الخالقين ولا
|
|
أيدي الخوالق
إلا جيد الأدم
|
وهذه الجملة كلها
دلالة على أن الخلق إنما هو التقدير على ما نقوله ، وإذ كان هذا هكذا صح وصف
القرآن بأنه مخلوق على ما ذكرناه. فأما قولهم قصيدة مخلوقة أو مختلقة ، فليس الغرض
به أنها كذلك في نفسها ، بل المراد به أنها منسوبة إلى غير قائلها ، وهذا كما يقال
: قصيدة منحولة ومصنوعة ، أي منسوبة إلى غير قائلها ، كذلك هاهنا. ولهذا فلو قدرنا
أن تكون القصيدة مشتملة على الأوامر والنواهي ، لكان يصح
وصفها بأنها
مخلوقة ومختلقة ، كما يصح وصفها بأنها مصنوعة ومنحولة مع أنه لا يتصور فيه الكذب
والصدق ، لأن الكذب والصدق لا يدخلان في الأوامر والنواهي وإنما يثبتان في الأخبار
وأما قوله تعالى : (إِنْ هذا إِلَّا
خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (١٣٧)) [الشعراء : ١٣٧]
فليس المراد به الكذب على ما قالوه ، وإنما هو قول منكري البعث والنشور ، الذين
قالوا : هل نحن إلا كالأولين ممن مضى.
وأما قوله تعالى :
(إِنْ هذا إِلَّا
اخْتِلاقٌ) [ص : ٧] فإنه وإن
أراد به الكذب مجازا ، فليس يجب أن لا يكون حقيقته ما قد بيناه ، وأن لا يوصف به
القرآن على المعنى الذي يصح ويسلم.
فإن قيل : ما
أنكرتم أن الخلق إنما هو إيقاع الفعل على وجه الاختراع على ما يقوله شيوخكم
البغداديون ويحكى عن عباد بن سليمان الصيمري؟ قلنا : لما قد تقدم من أنهم كانوا
يصفون الفعل المقدر بالغرض والداعي مقدرا مخلوقا ، ولهذا كان الحجاج يتمدح : بأني
إذا وعدت وفيت ، وإذا خلفت فريت.
وأيضا ، فلو كان
كما ذكروه لم يصح وصف غير القديم تعالى بذلك ، وكان لا يصح قوله تعالى : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : ١٤]
وقد أنكر عباد حين سمع هذه الآية أن يكون المراد به الجمع ، وقال : إن الياء
والنون زائدتان ، وذلك جهل منه باللغة وبمواضع الكلام.
الكلام في الخلق والمخلوق
ولولوع الناس
بالكلام في الخلق والمخلوق ، تكلم فيه شيوخنا أيضا.
فذهب شيخنا أبو
علي إلى أن الخلق إنما هو التقدير ، والمخلوق هو الفعل المقدر بالغرض والداعي
المطابق له على وجه لا يزيد عليه ولا ينقص عنه ، على ما اخترناه ، وهو الصحيح من
المذهب.
وأما شيخنا أبو
هاشم ، وأبو عبد الله البصري ، فقد ذهبا إلى أن المخلوق مخلوق يخلق ، ثم اختلفا :
فذهب أبو هاشم إلى
أن الخلق إنما هو الإرادة.
وقال أبو عبد الله
البصري : بل هو الفكر ، وقال : لو لا ورود السمع والأذن بإطلاق هذه اللفظة على
الله تعالى ، وإلا ما كنا نجوز إطلاقها عليه تعالى عقلا.
وحجته في هذا
الباب قول زهير :
ولأنت تفرى ما
خلقت
|
|
وبعض القوم يخلق
ثم لا يفرى
|
قالا : أثبت الخلق
ونفى الفرى ، فدل على أن الخلق معنى على ما نقوله.
والأصل في الجواب
عن ذلك ، أن هذا غير جائز على مذهبهما ، لأن أبا هاشم لا يجوز أن يحصل الخلق ولا
يحصل المخلوق ، وهكذا فإن أبا عبد الله لا يجوز حصول الفكر ثم لا يحصل الفعل. فإذا
إن دل ما أوردوه على فساد ما اخترناه ، ليدلن على فساد ما ذكروه ، على أنا قد بينا
أن مراد زهير بذلك ، أنك تقطع ما تقدر وفي الناس من هو بخلاف ذلك ، فلا مطعن على
كلامنا.
ونعود بعد هذه
الجملة إلى تمام الأدلة الدالة على أن كلام الله تعالى لا يجوز أن يكون قديما.
فمن جملة ما يدل
على ذلك ، هو أنه لو كان كلام الله تعالى قديما لوجب أن يكون مثلا لله تعالى لأن
القدم صفة من صفات النفس ، والاشتراك في صفة من صفات النفس يوجب التماثل ، ولا مثل
لله تعالى.
وأيضا ، فلو كان
قديما ، لوجب أن يكون عالما لذاته ، قادرا لذاته ، كالقديم تعالى سواء ، لما قد
ذكرناه فيما قبل أن الاشتراك في صفة من صفات النفس يوجب الاشتراك في سائر صفات
النفس ، ومعلوم خلافه.
وأيا ، فإن العدم
مستحيل على القديم تعالى ، فلو كان الكلام قديما لما جاز أن يعدم ، ومعلوم أنه لا
يمكن وقوعه على حد يعاد به ، إلا إذا وجد حرف عند عدم حرف ، يبين ما ذكرناه ويوضحه
، أن أحدنا إذا قال : الحمد لله فإنه لا بد من أن يقوم حال وجود اللام الهمزة ،
وحال وجود الحاء اللام ، وحال وجود الميم والدال اللام والحاء ، حتى لا يلتبس
الحمد بالمدح ، والمدح بالدمح ، ومعلوم أن ما هذا سبيله لا يجوز أن يكون قديما.
وأيضا ، فإن كلامه
عزوجل لا يخلو ، إما أن يكون مثلا لكلامنا ، أولا. فإن كان مثلا
لكلامنا ، فلا يجوز أن يكون قديما ، لأن المثلين لا يجوز افتراقهما في قدم ولا
حدوث. وإذا كان مخالفا لكلامنا فلا يعقل ، لأن الكلام هو هذا الذي نسمعه ، فلو جاز
أن يكون في الغائب كلام مخالف لا نسمعه فيما بيننا ، لجاز أن يكون هناك لون آخر
مخالف لهذه الألوان ، ولجاز أن يكون هناك معان آخر قديمة مخالفة لهذه
المعاني ، وذلك
محال.
وأيضا ، فإنه
تعالى قد منّ على رسوله موسى عليهالسلام بقوله : (إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ
عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي) [الأعراف : ١٤٤]
فالامتنان لا يقع إلا بالمحدث دون القديم.
وأيضا ، فإنا نقول
لهم : ما تقولون فيما نتلوه ونسمعه في المحاريب ونكتبه في المصاحف؟ أفتقولون : إنه
كلام الله تعالى؟ فإن قالوا : لا فقد انسلخوا عن الدين وخلعوا ربقة الإسلام عن
أعناقهم ، وأخرجوا كلام الله تعالى من أن يصح الرجوع إلى في الأحكام وتمييز الحلال
من الحرام ، وردوا على الله قوله : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) [التوبة : ٦] وعلى
النبي صلىاللهعليهوآله قوله : «إني تارك فيكم
الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا من بعدي أبدا كتاب الله وعترتي أهل بيتي» فإن هذا هو المتروك فيما بيننا دون ما هو قائم بذات الباري.
فإن قالوا : نعم ، ولا بد لهم من ذلك ، فلا شك في حدوثه.
فإن قالوا : إن
تحصيل مذهبنا في ذلك هو أن هذا حكاية كلام الله تعالى.
قلنا : إن هذا بخلاف
ما عليه الأمة ، وعلى أنه كان يجب أن يكون محدثا ، لأن الحكاية يجب أن تكون من جنس
المحكى ، والجنس الواحد لا يجوز أن يشتمل على القديم والمحدث.
فإن قالوا : إن
هذا عبارة كلام الله تعالى ، قلنا لهم : إن العبارة أيضا يجب أن تكون من جنس
المعبر عنه ، خاصة إذا كانا كلامين ، وذلك يقتضي حدوثه على ما نقوله ، فهذه جملة
الكلام في أنه تعالى لا يجوز أن يكون متكلما بكلام قديم.
وإذ قد عرفت ذلك ،
فاعلم أن في الناس من ذهب إلى أنه تعالى متكلم لذاته ، وهو محمد بن عيسى الملقب
بالبرغوث ، والذي يدل على فساد مذهبه في هذا الباب ، أن المتكلم بما بيناه إذا كان
فاعل الكلام لا أن له بكونه كذلك حالا ، فمن أثبت الله تعالى متكلما لذاته فقد
أخرجه عن كونه متكلما أصلا ، وصار الحال فيه كالحال فيما إذا قلنا إنه تعالى قادر
لذاته عالم لذاته ، فكما أن ذلك يقتضي نفي القدرة والعلم عن الله تعالى ، وإن كان
لا يفيد خروجه عن كونه عالما قادرا ، لما كان للعالم بكونه عالما حال ، وللقادر
بكونه قادرا حال ، كذلك في مسألتنا.
ويدل على ذلك أيضا
، هو أنه لو كان متكلما لذاته لوجب أن يكون متكلما بسائر ضروب الكلام وأجناسه ،
لأن ضروب الكلام وأجناسه غير مقصورة على بعض
المتكلمين دون بعض
، كما في كونه عالما ، فإنه لما كان عالما لذاته ، وكانت المعلومات غير مقصورة ،
وجب أن يكون عالما بسائر المعلومات ، فكان يجب أن يكون متكلما بالحسنى والرفث
والكذب ، وأن يكون شاتما لنفسه ومثنيا على نفسه سوء الثناء ، تعالى الله عن ذلك ،
ولوجب أن يكون مخبرا عن كل ما يصح الأخبار عنه ، والمعلوم خلافه ، فإنه تعالى قال
: (مِنْهُمْ مَنْ
قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) [غافر : ٧٨].
وأيضا ، فلو كان
القديم تعالى متكلما لذاته لوجب أن يكون مكلما لذاته ، لأن المكلم إنما يكون مكلما
بما به يكون متكلما ، وذلك يوجب أن يكون الله تعالى قد كلم المخلوقين أجمع جهرة ،
وذلك محال ، وما أدى إليه ويقتضيه يجب أن يكون محالا.
فإن قيل : أليس
أنه تعالى قادر لذاته عالم لذاته ، ثم لا يجب أن يكون معلما لذاته مقدرا لذاته ،
فهلا جاز أن يكون متكلما لذاته ولا يكون مكلما لذاته. وجوابنا عن ذلك ، أن هذا لا
يصح ، لأنا قد احترزنا عن ذلك بقولنا : إنه إنما يكون مكلما بما به يكون متكلما ،
وليس كذلك هاهنا ، لأن المقدر إنما يكون مقدرا بخلق القدرة ، والمعلم إنما يكون
معلما بخلق العلم ، ولم يثبت أنه خالق العلم والقدرة لذاته ، ففسد قياس أحدهما على
الآخر.
فإن قيل : إنما
يجوز في المتكلم أن يكون كاذبا إذا لم يثبت كونه صادقا لذاته ، وقد ثبت كون القديم
تعالى صادقا لذاته فاستحال عليه الكذب ، وصار الحال فيه كالحال فيما نقوله في كونه
حيا أنه يصحح كونه جاهلا وإنما يصحح ذلك بشرط أن لا يكون عالما لذاته ، كذلك
هاهنا. وجوابنا عن ذلك ، أن الدليل قد دلنا على أنه تعالى عالم لذاته فاستحال كونه
جاهلا ، ولم يثبت ذلك في كونه صادقا ، فصح قولنا أنه تعالى لو كان متكلما لذاته لم
يكن بأن يكون صادقا لذاته أولى من أن يكون كاذبا لذاته.
فإن قيل : إنه بأن
يكون صادقا لذاته أولى ، لأنه أخبر عن أشياء وكان كما أخبر ، قلنا : وما تلك
الأشياء؟ قالوا : خلقه السموات والأرضين ، فقد قال تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ) [ق : ٣٨] وكان كما
أخبر ، قلنا : أليس قد قال ذلك فيما لم يزل ولم يخلق السموات والأرضين ، فهلا
حكمتم عليه بالكذب.
وأيضا فما أنكرتم
أن يكون غرضه بقوله : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [ق : ٣٨] سماوات
وأرضين لم يخلقها بعد ، فيكون كاذبا على ما قلناه ، تعالى الله عن ذلك
علوا كبيرا.
وبعد ، فلو كان
الله تعالى متكلما لذاته ، لكان يجب أن يكون قائلا فيما لم يزل : (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) [نوح : ١] وإن لم
يكن قد أرسل ، وأهلك عادا وثمودا وإن لم يكن قد أهلك.
فإن قيل : ما
أنكرتم أن المواد بقوله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْنا
نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) أي سنرسل ، وأنه (أَهْلَكَ عاداً) [النجم : ٥٠] أي
سنهلك عادا ، جريا على طريقة أهل اللغة ، فإنهم يذكرون لفظ الماضي ويريدون به
الاستقبال نحو قوله تعالى : (وَنادى أَصْحابُ
الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ) [الأعراف : ٤٤].
وجوابنا عن ذلك ، أن الإرادة والكراهة إنما يؤثران في صفات الأفعال ، فأما في صفات
الذات فلا ، وعندكم أن كونه متكلما من صفات الذات ، فكيف يصير كونه مخبرا عما مضى
كونه مخبرا عما يستقبل بالإرادة؟ وبعد ، فلو كان المراد بقوله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً) أي سنرسل ، لكان يجب أن لا تتغير فائدته الآن ، حتى يكون
غرضه ، وأنه أرسل نوحا وأهلك عادا ، أنه سيرسله ويهلكهم ، وذلك يقتضي كونه كاذبا
تعالى الله عن ذلك.
فإن قيل : ألستم
تقولون : إن العلم بأن الشيء سيوجد علم بوجوده متى وجد ، فهلا جاز أن يكون الإخبار
بأن الشيء سيكون ، خبرا عن كونه إذا كان. وجوابنا أنه لا يصح قياس أحدهما على
الآخر ، لأن الدلالة قد دلت على أن العلم بأن الشيء سيوجد ، علم بوجوده ، متى وجد
، وأن المعلوم يتغير لا العلم ، ولم يقم مثل تلك الدلالة هاهنا ، بل قد علمنا أن
الخبر الموضوع للدلالة على الماضي غير الخبر الموضوع للدلالة على الاستقبال ، كما
أن صيغة الخبر في الجملة ، مخالفة لصيغة الأمر ، فافترقا.
ومن خالف في هذا
الباب فقد تعلق بأن قال : لو لم يكن القديم تعالى متكلما فيما لم يزل ، لكان يجب
أن يكون أخرس أو ساكتا ، كما في الشاهد فإن أحدنا إذا لم يكن متكلما يجب أن يكون
على أحد هذين الوجهين.
وربما يوردون هذا
على وجه آخر ، فيقولون : قد ثبت أنه تعالى حي ، فيجب أن لا يخرج عن كونه متكلما
إلا إلى ضد هذه الصفة ، وضد الكلام هو الخرس والسكوت ، فيجب أن يكون أخرس أو ساكتا
، وفي علمنا باستحالة أن يكون الله تعالى موصوفا بالخرس والسكوت دليل على أنه لا
بد من أن يكون متكلما لذاته على ما
قلناه. يبين ذلك
أن الحي لا يخلو عن الصفة. وضدها لأن خلوه عن الصفتين كحصوله عليهما ، فكما لا
يجوز أن يحصل على حالتين ضدين ، كذلك لا يجوز أن يخلو عنهما جميعا. وإنما جمعنا
بين الخلو والاجتماع ، لأن بعد أحدهما في العقل كبعد الآخر.
وربما أكدوا ذلك
بالمحل واستحالة خلوه من الأكوان.
وجوابنا عن ذلك ،
ما تريدون بقولكم أنه تعالى لو لم يكن متكلما فيما لم يزل لوجب أن يكون أخرس أو
ساكتا؟ أتريدون به أنه لو لم يكن متكلما ، مع صحة أن يكون متكلما أو مع استحالة أن
يكون ذلك فيه؟ فإن أردتم به مع الاستحالة فلا يصح ، وإلا كان يجب أن تكون الجمادات
كلها ساكتين خرسا ، والمعلوم خلافه.
وإن أردتم به مع
الصحة ، فمن أين ثبت لكم صحة هذه الصفة على الله تعالى فيما لم يزل ، وكيف يصح أن
يكون متكلما فيما لم يزل ، مع أن المتكلم ليس إلا فاعل الكلام ، فإن قالوا : لأنه
حاصل على هذه الصفة فيما لا يزال ، ولو لا صحتها فيما لم يزل ، وإلا كان لا يحصل
عليها الآن ، كما في كونه عالما ، فإنه لما كان عالما الآن وجب صحة أن يكون عالما
فيما لم يزل.
قلنا لهم : ولم
جمعتم بينهما ، ولم صار كونه متكلما بأن يكون مردودا إلى كونه عالما ، أولى من أن
يرد إلى كونه فاعلا؟
فإن قالوا : لأن
كل واحدة من الصفتين مستحقة للذات.
قلنا : وفي هذا
خولفتم ، وفيه وقع النزاع ، فكيف يصح هذا الاستدلال؟ ثم يقال لهم : إن أحدنا إذا
لم يكن متكلما ، فإنما يجب أن يكون أخرس أو ساكتا لأنه متكلم بآلة ، ومتى لم
يستعمل تلك الآلة في الكلام كان ساكتا ومتى لحقته ، آفة من رطوبة مفرطة أو جفاف
مفرط كان أخرس ، والقديم تعالى متكلم لا بآلة ، فلا يصح قياس أحدهما على الآخر ،
هذا هو الجواب عن الأول.
وأما الجواب عن
الثاني ، فإنا نقول لهم : قولكم إن الحي لا يخلو عن الشيء وعن ضده ليس يصح ، لأنا
قد ذكرنا أن الواحد منا مع صحة كونه عالما بتصرفات الناس في الأسواق قد لا يريدها
ولا يكرهها ، فقد خلا عن الصفة وضدها ، وأما ما قالوه من أن خلوه عن الصفتين
كحصوله عليهما ، فإن ذلك جمع بين أمرين من غير علة جامعة ، وأما قياسهم ذلك على
الجوهر والكون ، فلا وجه له ، لأن ذلك إنما وجب في الجوهر والكون عندنا ، لأن وجود
أحدهما مضمن بوجود الآخر ، وليس كذلك في
مسألتنا.
على أن هذه الجملة
تنبني على أن الخرس والسكوت ضدان للكلام ، وليس كذلك ، فإن الكلام لا ضد له من
جنسه ولا من غير جنسه ، أما من جنسه فلأن الذي يشتبه الحال فيه ليس إلا أن يقال ،
إن الراء مضاد للزاي لاستحالة اجتماعهما ويمكن أن يجعل الوجه في استحالة اجتماعهما
شيء آخر سوى تضادهما ، وهو أن كل حرف من الحروف لا يخرج إلا من مخرج مخصوص ، فإذا
أمكن أن يرجع باستحالة اجتماعهما إلى ما ذكرناه ، لم يمكن الدلالة بهذه الطريقة
على تضادهما.
يبين ذلك ، أن
استحالة اجتماع الشيئين إنما يدل على تضادهما إذا كان لا يكون لتلك الاستحالة وجه
سوى التضاد ، فأما إذا كان هناك وجه آخر فلا ، وعلى هذا فإنك تعلم استحالة حصول
الجوهرين في جهة واحدة على تماثلهما ، وأما من غير جنسه ، فلا شك أن الذي يشتبه
فيه الحال ليس إلا الخرس والسكوت ، وذلك لا يجوز أن يكون ضدا للكلام ، لأن المرجع
بالخرس إلى فساد يلحق آلة الكلام من رطوبة مفرطة أو جفاف مفرط ، والرطوبة واليبس
مما لا يضادان الكلام ، ولهذا يصح في الكلام أن يجامع الرطوبة مرة واليبس أخرى ،
والمرجع بالسكوت إلى تسكين آلة الكلام حال القدرة عليه ، والسكون ضد الحركة
والحركة مخالفة للكلام ، فلا يجوز أن يكون ضدا للكلام ، لأن الشيء الواحد لا يجوز
أن يكون ضدا لشيئين مختلفين ليسا بضدين ، وأيضا ، فلو كان الخرس والسكوت يضادان
الكلام ، لكان يجب استحالة أن يوجد الله الكلام في لسان الأخرس والساكت ، وقد عرف
خلافه.
وربما قال هؤلاء
الأشعرية الذين أثبتوا كلام الله تعالى معنى قديما قائما بذاته ، لو لم يكن متكلما
بكلام قديم لكان لا بد من أن يكون متكلما بكلام محدث ، وذلك الكلام المحدث لا يخلو
إما أن يكون حالا فيه أو في غيره ، أو لا في محل ، والأقسام كلها باطلة ، فلم يبق
إلا أن يكون متكلما بكلام قديم على ما نقوله.
وجوابنا ، أن من
حق القسمة أن تكون مشتملة على مذهب الخصم ، وليست هذه القسمة كذلك ، فإن هاهنا
قسمة قد أخللت بها ، وهو أنه لا يجوز أن يكون متكلما لذاته فلا يصح.
فإن قالوا : تلك
القسمة لا إشكال في فسادها ، فلو كان متكلما لذاته لكان يجب أن يكون متكلما بسائر
ضروب الكلام وأجناسه ، وذلك محال. قلنا : ولم وجب ذلك؟
أو لست قد أثبته
متكلما بكلام قديم ، ولم يكن يلزمك أن يكون متكلما بسائر ضروب الكلام وأجناسه ،
فهلا جاز أن يكون متكلما لذاته وإن لم يجب ذلك فيه ، وأيضا ، فلم لا يجوز أن يكون
متكلما بسائر ضروب الكلام وأجناسه ، وأكثر ما فيه أن يكون كاذبا شاتما لنفسه مثنيا
عليه بسوء الثناء ، تعالى الله عن ذلك ، وهذا كله مما يجوزونه.
ثم يقال لهم : لم
لا يجوز أن يكون متكلما بكلام محدث حال فيه؟
فإن قالوا : لأنه لو
صح حلول الكلام المحدث فيه لصح حلول غيره من المعاني فيه ، وذلك مستحيل. قلنا لهم
: أو ليس أنه يجوز عندكم أن تحله القدرة والعلم والحياة وليس يوجب ذلك صحة أن تحلة
سائر المعاني ، فهل جاز مثله في مسألتنا؟
ومتى قالوا : إنا
لا نقول بحلول القدرة القديمة والعلم فيه وإنما نجعله قائما به ، قلنا : فجوزوا في
الكلام المحدث مثله.
ويقال لهم : لم لا
يجوز أن يكون متكلما بكلام موجود لا في محل؟ فإن قالوا : لأن المحدث لا يصح حلوله
إلا في محل ، قلنا : إن هذا باطل بالجواهر فقد وجدت لا في محل مع حدوثها.
فإن قالوا : كلامه
من صفته ، والصفة لا تقوم إلا بموصوف قلنا : لم قلتم ذلك؟ ولا يجدون إلى تصحيح ذلك
سبيلا.
ويقال لهم : لم لا
يجوز أن يكون متكلما بكلام محدث موجود في غيره؟ فإن قالوا : لأن ذلك يوجب أن يكون
ذلك الغير المتكلم به دونه ، قيل له : ولم يجب ذلك؟ فإن قالوا : لأن المعنى إذا حصل
في محل فلا بد من أن يشتق لمحله منه اسم ، قلنا : هذا باطل بالرائحة والصوت ، وعلى
أن المتكلم ليس باسم مشتق لمحل الكلام ، وإنما هو اسم لفاعل الكلام ، بخلاف الأسود
والأبيض ، فهلا جوزتم ما ذكرناه ، ولا بد لكم من تجويزه.
ثم نقلب عليهم هذه
القصة في الكلام القديم فيقال لهم : ما هو قولكم فيه؟ أتقولون إنه حال فيه تعالى ،
أو في غيره ، أو لا في محل؟ وأي ذلك اختاروه فهو اختيارنا في الكلام المحدث ، وهذا
من طريق الجدل ، وإن كان المذهب في هذا الباب ما قد أوضحناه فيما تقدم.
ومما يذكرونه في
هذا الباب قوله تعالى : (إِنَّما أَمْرُهُ
إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ
فَيَكُونُ
(٨٢)) [يس : ٨٢] ،
ويقولون : لو لم يكن هذا «الكن»
قديما لوجب أن
يكون محدثا ، فكان لا يحدث إلا بكن آخر ، والكلام في ذلك الكن كالكلام فيه فيتسلسل
إلى ما لا نهاية له.
وجوابنا : ما هذا
الذي توجبون قدمه؟ أهو هذا المركب من الكاف والنون ، أو غيره ، فإن قالوا : هو
الذي يركب من هذين الحرفين ، فقد أحالوا ، ولا شك في حدوثه ، فكيف يلتبس الحال في
ذلك وأحدهما يتقدم على الآخر ويعدم عند وجوده ، ويمكننا الإتيان بمثله ، وكل هذه
الوجوه مما يقدح في قدمه ويدل على حدوثه.
فإن قالوا : لا بل
الذي أوجبنا فيه القدم هو المعنى القائم بذاته. قلنا : ليس في الآية ما يدل على
ذلك المعنى فضلا عن ما يدل على حدوثه أو قدمه ، فسقط تعلقهم به.
ثم يقال لهم : إن
«كن» لا يؤثر في كينونة شيء أصلا ، إذ لو أثر لكان مؤثرا سواء كان من جهتنا أو من
جهة الله تعالى ، فإن المؤثرات لا تختلف بحسب اختلاف الفاعلين. ألا ترى أن الحركة
لما كانت مؤثرة في كون الجسم متحركا لم تختلف بحسب اختلاف الفاعلين ، كذلك كان يجب
هاهنا ، ومعلوم أنا وإن أكثرنا من قول «كن» لم نحصل به شيئا.
وبعد ، فلو
استدللنا بهذه الآية لكنا أسعد حالا منكم ، لأن في
الآية لفظة «أن» ، وهذه اللفظة إذا دخلت
على الفعل المضارع أفادت الاستقبال ، وذلك يقتضي حدوثه ، وكما أن في الآية دليل
على حدوث «كن» ، ففيها دليل على حدوث الإرادة ، لأن لفظة «إذا» ، إذا دخلت على
الفعل في الماضي أفادته الاستقبال. وبعد ، فإنه تعالى عقب «كن» بالمكون ، وما
يعقبه المحدث لا يجوز أن يكون قديما ، لأن من حق القديم أن يتقدم على ما ليس بقديم بما لو قدر تقدير
الأوقات لكانت بلا حصر ، ففسد تعلقهم بهذه الآية من سائر الوجود.
ثم الغرض بهذه
الآية وما يجري مجراها إنما هو الدلالة على سرعة استجابة الأشياء له من غير امتناع
، ونظيرها من كتاب الله تعالى قوله تعالى : (فَقالَ لَها
وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) [فصلت : ١١] ومن
كلامهم ، قول الشاعر :
وقالت له
العينان سمعا وطاعة
|
|
وحدرتا كالدر
لما يثقب
|
فإن الغرض ليس إلا
سرعة استجابة الدمع له.
واعلم أن من مذهب
شيخنا أبي الهذيل أنه تعالى إذا أراد الإحداث ، فإنه إنما
يحدثه بقوله كن ،
وهذه طريقته في الإعادة والإفناء ، لكنه ليس يلزمه ما يقوله هؤلاء المجبرة بأنه
كان يجب أن لا يمكنه إحداث كن إلا بكن آخر ثم كذلك فلا ينقطع ، لأن غرضه بذلك أنه
تعالى إذا أراد فعلا من الأفعال فإنما يفعله بأن يقول له هذا القول لا أنه لا يقدر
على إحداثه إلا بهذه الطريقة ، وصار الحال فيه كالحال في أحدنا إذا قال : عطيتي
لمن زارني درهم ، فكما أنه لا يقتضي ذلك أن يعطي كل من زاره ، وإنما يقتضي أنه إن
أعطى فإنما يعطي هذا القدر ، كذلك في مسألتنا. وكذلك فلو قال : تعظيمي لمن دخل
عليّ القيام ، فكما أن ذلك لا يقتضي أن يقوم لكل من دخل عليه ، وإنما يقتضي أنه إن
عظم فإنما يعظم بهذه القدر ، كذلك في مسألتنا.
ما قاله رحمهالله فهذا هو العذر فيما ذكره ، غير أن طريقته هذه غير مرضية ،
فلو كان ل «كن» أثر في الأحداث ، لكان لا يتغير بحسب اختلاف الفاعلين له ، بل كان
يجب أن يؤثر ، سواء فعلناه أو فعله الله تعالى ، ومعلوم خلافه ، فصح لك أن هذه
الطريقة غير مستقيمة ، وأن الصحيح في هذا الباب هو أنه تعالى إنما يحدث ما يحدثه
بكونه قادرا على ما نقوله ، فهذه جملة ما يجب أن يحصل في هذا الباب.
الكلام في النبوات
ووجه اتصاله بباب
العدل ، هو أنه كلام في أنه تعالى إذا علم أن صلاحنا يتعلق بهذه الشرعيات ، فلا بد
من أن يعرفناها لكي لا يكون مخلا بما هو واجب عليه. ومن العدل أن لا يخل بما هو
واجب عليه.
وقد بدأ رحمهالله ، بالدلالة على نبوة محمد صلىاللهعليهوسلم وعلى آله وسلم لما كان هو المقصود بالباب. وقبل الشروع في
ذلك نذكر الخلاف فيه ، ونمهد قاعدة تكون توطئة للباب ، وجوابا للمخالف.
البراهمة
واعلم ، أن
المخالف في هذا الباب جماعة من البراهمة الذين يثبتون الصانع بتوحيده وعدله
وينكرون النبوات ، ويقولون : إن ما أتى به الأنبياء ، نحو أفعال الصلاة من القيام
والقعود والركوع والسجود ، وأعمال الحج نحو التلبية والهرولة ورمي الجمار والطواف
، كلها مستقبحة من جهة العقل منكرة ، لأن كل عاقل يستقبح بكمال عقله ذلك وينكره ،
فيجب أن ترد ولا تقبل.
وربما قالوا : إن
ما أتى به الأنبياء لا يخلو ، إما أن يكون موافقا للعقل ففي العقل غنية عنه وكفاية
، أو مخالفا له ، وذلك ما يوجب أن يرد عليهم وأن لا يقبل منهم.
وربما قالوا : إنه
تعالى إذا بعث إلينا رسولا فلا بد من أن يظهر عليه علما معجزا دالا على نبوته
ليكون فرقا بينه وبين المتنبي ، ولا يمكننا أن نميز بين المعجز والحيلة بوجه ،
لأنه ما من معجز إلا ويجوز أن يكون من باب الشعوذة وخفة اليد وما جرى مجراها ،
فيجب أن لا يقبل قولهم ويعتمد على العقول.
والأصل في هذا
الباب أن نقول : إنه قد تقرر في عقل كل عاقل وجوب دفع الضرر عن النفس ، وثبت أيضا
أن ما يدعو إلى الواجب ويصرف عن القبيح فإنه واجب لا محالة ، وما يصرف عن الواجب
ويدعو إلى القبيح فهو قبيح لا محالة ، إذا صح هذا ، وكنا نجوز أن يكون في الأفعال
ما إذا فعلناه كنا عند ذلك أقرب إلى أداء الواجبات واجتناب المقبحات ، وفيها ما
إذا فعلناه كنا بالعكس من ذلك ، ولم يكن في قوة العقل ما يعرف به ذلك ويفصل بين ما
هو مصلحة ولطف وبين ما لا يكون كذلك ، فلا بد من أن يعرفنا الله تعالى حال هذه
الأفعال كي لا يكون عائدا بالنقص على غرضه بالتكيف. وإذا كان لا يمكن تعريفنا ذلك
إلا بأن يبعث إلينا رسولا مؤيدا بعلم معجز دال على صدقه فلا بد من أن يفعل ذلك ،
ولا يجوز له الإخلال به ، ولهذه الجملة قال مشايخنا : إن البعثة متى حسنت وجبت على
معنى أنها متى لم تجب قبحت لا محالة ، وأنها كالثواب في هذا الباب ، فهو أيضا مما
لا ينفصل حسنه عن الوجوب ، فهذا فصل.
فصل آخر
وهو أن تعلم أن
الأفعال ما من شيء منها إلا ويجوز أن يقع على وجه فيحسن ، وعلى خلاف ذلك الوجه
فيقبح ، وأما أن نحكم على فعل من الأفعال بالقبح والحسن بمجرده ، فلا. إذا أثبت
هذان الأصلان بطل قول من قال : إن هؤلاء الرسل إن أتوا بما في العقل ففي العقل
كفاية عنهم ، وإن أتوا بخلافه فيجب أن يكون قولهم مردودا عليهم غير مقبول منهم ،
لأن ما تأتي به الرسل والحال ما قلناه ، لا يكون إلا تفصيل ما تقرر جملته في العقل
، فقد ذكرنا أن وجوب المصلحة وقبح المفسدة متقرران في العقل ، إلا أنا لما لم
يمكنا أن نعلم عقلا أن هذا الفعل مصلحة وذلك مفسدة ، بعث الله تعالى
إلينا الرسل
ليعرفونا ذلك من حال هذه الأفعال ، فيكونوا قد جاءوا بتقرير ما قد ركبه الله تعالى
في عقولنا ، وتفصيل ما قد تقرر فيها ، وصار الحال في ذلك كالحال في الأطباء إذا
قالوا إن هذا البقل ينفع وذلك يضر وكنا قد علمنا قبل ذلك أن دفع الضرر عن النفس
واجب ، وجر النفع إلى النفس حسن ، فكما لا يكون والحال ما قلناه قد أتوا بشيء
مخالف للعقل ، فكذلك حال هؤلاء الرسل.
يبين ما ذكرناه ،
أن اختلاف الطريق لا يقدح في حصول ما يكون طريقا إليه ، فسواء علمنا عقلا أن هذا الفعل
مصلحة وذلك مفسدة ، أو علمناه سمعا ، فإنا في الحالين جميعا نعلم وجوب هذا وقبح
ذلك.
يزيد ما ذكرناه
وضوحا ، أنه إذا كان تقرر في عقولنا وجوب دفع الضرر عن النفس معلوما كان أو مظلوما
، ثم أخبرنا مخبر بأن في الطريق سبعا ، فإنا نعلم وجوب الاجتناب من سلوك ذلك الطريق
، ثم لا يقال أنه إذ أتي بما في العقل ففي العقل كفاية عنه ، وإن أتي بخلافه فيجب
الرد عليه ، فكذلك الحال في ما أتى به الرسل ، فبطل ما قالوه أولا.
وأما ما ذكروه
ثانيا ، من أن هذه الأفاعيل كلها قبيحة في العقل فأبعد ، لأنا قد ذكرنا أن مجرد
الفعل لا يمكن أن يحكم عليه بالقبح والحسن ، حتى لو سألنا سائل عن القيام هل يقبح
أم لا ، فإنه مما لا يمكننا إطلاق القول في الجواب عن ذلك ، والواجب أن نقيد فنقول
: إن حصل فيه غرض وتعرى عن سائر وجوه القبح حسن ، وإلا كان قبيحا هذا وإذا كان ،
هكذا وكنا قد علمنا بقول الرسول المصدق بالمعجز أن لنا في هذه الأفعال مصالح
وألطافا فكيف يجوز أن يحكم فيها بالقبح ، يبين ذلك ويوضحه ، أنا نستحسن القيام في
كثير من الحالات نحو أن يكون تعظيما لصديق أو يتضمن غرضا من الأغراض ، وكذلك
القعود إذا تضمن انتظار الرفيق ، وكذلك الركوع والسجود والمشي والكلام والطواف
وغير ذلك ، فما من شيء من هذه الأفاعيل إلا ولها وجه في الحسن إذا تعلق به أدنى
غرض ، فإذا كان يحسن منا الطواف حول البيت لننظر هل اشترم أم لا ، وهذا غرض حقير ،
فكيف لا يحسن الطواف حول بيت الله تعالى وقد تضمن من المصلحة واللطف ما قد قامت به
الدلالة ، وهكذا فإذا كنا نرمي صيدا مع أن النفع فيه يسير ، ثم تستحسن الهرولة
إليه كيلا ينفلت فكيف لا تستحسن في أعمال الحج؟ وقد علم الله فيها من المصالح ما
قد أظهره على لسان رسوله صلىاللهعليهوسلم.
فدل على أن ما
قالوه في هذا الباب مما لا وجه له. وليس لأحد أن يقول : كان
يجب أن لا يتغير
الحال في هذه الأعمال ، أن لو كانت ألطافا ومصالح ، وأن تكون مستحسنة أبدا غير
مستقبحة في شيء من الحالات ، كما في رد الوديعة وشكر النعمة ، وقضاء الدين ، وكما
في الظلم والكذب ، وما جرى مجراهما ، وفي علمنا بخلاف ذلك دلالة على فساد ما ظننتموه
، لأن قياس هذه الأفعال على رد الوديعة وغير ذلك مما لا وجه له ، لأن هذه الأفعال
لا تفارقها وجوه الحسن والقبح بخلاف ما نحن فيه ، ففارق الحال في أحدهما الحال في
الآخر.
ثم إنه رحمهالله بين حقيقة الرسول والنبي ، ولا بد من ذلك.
اعلم أن الرسول ،
من الألفاظ المتعدية أي لا بد من أن يكون هناك مرسل ومرسل إليه ، وإذا أطلق فلا
ينصرف إلا إلى المبعوث من جهة الله تعالى دون غيره ، حتى إذا أردت غير ذلك فلا بد
من أن تقيد.
وأما النبي ، فقد
يكون مهموزا ومشددا ، وإذا كام مهموزا فهو من الإنباء ، وهو الإخبار ، وإذا وصف به
الرسول ، فالمراد به أنه المبعوث من جهة الله تعالى ، وإذا كان مشددا فإنه يكون من
النباوة وهو الرفعة والجلالة ، وإذا وصف به المبعوث فالمراد به أنه المعظم الذي
رفعه الله تعالى وعظمه. وفي الخبر أن بعضهم قال للرسول عليهالسلام يا نبيء الله مهموزا فقال له الرسول : لست نبيء الله وإنما
أنا نبيّ الله.
وإذ قد عرفت ذلك
فاعلم أنه لا فرق في الاصطلاح بين الرسول والنبي ، وقد خالف في ذلك بعضهم ، واستدل
بقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ
قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍ) [الحج : ٥٢] قالوا
: فصل القديم تعالى بين الرسول والنبي ، فيجب أن يكون أحدهما غير الآخر ، والذي
يدل على اتفاق الكلمتين في المعنى هو أنهما يثبتان معا ويزولان معا في الاستعمال ،
حتى لو أثبت أحدهما ونفى الآخر لتناقض الكلام ، وهذا هو أمارة إثبات كلتي اللفظين
المتفقتين في الفائدة ، وأما قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ
قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍ) فإنه لا يدل على ما ذكروه ، لأن مجرد الفعل لا يدل على
اختلاف الجنسين ، ألا ترى أنه تعالى فصل بين نبينا وغيره من الأنبياء ثم لا يدل
على أن نبينا ليس من الأنبياء ، وكذلك فإنه تعالى فصل بين الفاكهة وبين النخل
والرمان ، ولم يدل على أن النخل والرمان ليسا من الفاكهة ، كذلك هاهنا.
حقيقة المعجز لغة واصطلاحا
وقد ذكر رحمهالله بعد هذه الجملة ، أنه تعالى إذا بعث إلينا رسولا ليعرفنا
المصالح ، فلا بد من أن يدعي النبوة ، ويظهر عليه العلم المعجز الدال على صدقه
عقيب دعواه للنبوة ، وذلك يقتضي أن نبين حقيقة المعجز أولا.
اعلم أن المعجز هو
من يعجز الغير ، كما أن المقدر هو من يقدر الغير ، هذا في اللغة.
وأما في المصطلح
عليه ، فهو الفعل الذي يدل على صدق المدعي للنبوة ، وشبهه بأصل اللغة ، هو أن
البشر يعجزون عن الإتيان بما هذا سبيله فصار كأنه أعجزهم.
شرائط المعجز
إذا ثبت هذا ،
فالفعل لا يدل على صدق المدعي للنبوة ، إلا إذا كان على أوصاف وشرائط :
أحدها : أن يكون من جهة الله تعالى أو في الحكم كأنه من جهته جل
وعز ، وإنما قلنا هذا هكذا ، لأن المعجز ينقسم إلى ما لا يدخل جنسه تحت مقدور
القدر ، كإحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، وقلب العصا حية ، وما شاكل ،
وإلى ما يدخل جنسه تحت مقدور القدر وذلك نحو قلب المدن ونقل الجبال إلى أشباهه
وحنين الجذع وما جرى مجراه ، والقرآن من هذا القبيل ، فإن جنسه وهو الصوت داخل تحت
مقدور القدر ، ولهذا فإنا لو خلينا وقضيه العقل كنا نجوز أن يكون من جهة الرسول عليهالسلام ، أعطاه الله تعالى زيادة علم أمكنه معه الإتيان به ، فصح
أن المعجز ليس من شأنه كونه من جهة الله تعالى ، بل إذا جرى في الحكم كأنه من جهته
تعالى كفى ، وعلى كل حال ، فلا بد من أن يكون جاريا في الحكم مجرى فعل الله ليصح
كونه دلالة دالة على صدق من ظهر عليه ، وإلا ، فلو لم يجر هذا المجرى لم يكن نسبته
إلى صدق من ظهر عليه ، إلا كنسبته إلى كذبه.
والثاني : أن يكون واقعا عقيب دعوى المدعي للنبوة ، لأنه لو تقدم
الدعوى لم تتعلق به ، فلا يكون بالدلالة على صدقه أحق منه بالدلالة على صدق غيره ،
وبهذه الطريقة منعنا من تقديم المعجز على ما جوزه شيخنا أبو القاسم ، وكذلك فلو
تراخى عنه لم يتعلق به ، فلا يكون بالدلالة على صدقه أحق منه بالدلالة على صدق
غيره ، إلا أنه إذا ثبت صدق المدعي للنبوة بمعجز وتراخى عن دعواه معجز آخر جاز ، وعلى
هذا ، فإن إخبار
النبي عن الغيوب ، نحو إخباره عليا عليهالسلام : «إنك تقابل
الناكثين والمارقين والقاسطين» ، وقوله لعمار : «ستقتلك الفئة الباغية ، وآخر
زادكم ضياح من لبن» كلها أعلام معجزة دالة على صدقه مع تأخرها عن دعواه ، جاز ذلك لثبوت صدقه بدلالة أخرى غير
هذه الدلالة ، فهذه الطريقة التي أوجبناها ، من أن يكون المعجز واقعا عقيب دعوى
المدعي للنبوة ، وإنما أوجبناها إذا لم يكن المعجز نفس المدعي للدعوى فأما إذا كان
كذلك ، نحو كلام عيسى عليهالسلام في المهد ، فادعاؤه النبوة ، فلا. وإن كان من الناس من ذهب
إلى أن ذلك معجزا لزكريا عليهالسلام.
والثالث : أن يكون مطابقا لدعواه فإنه لو يكن كذلك وكان بالعكس ،
لم يكن يتعلق بدعواه فلا يدل على صدقه.
يبين ذلك ، أن
قائلا لو قال بحضرة جماعة : إني سول فلان إليكم ، وعلامته أن يحرك رأسه إذا بلغه
كلامي هذا ، فإنه إذا بلغه ولم يحرك ، وسكن رأسه ، لم يدل على صدقه ، إن لم يدل
على كذبه.
وفي أصحابنا من
ذهب إلى أن المعجز إذا لم يكن مطابقا وكان بالعكس فإنه يدل على التكذيب ، وحكى أن
مسيلمة لما ادعى بحضرة الناس : إني رسول الله إليكم ، ومعجزتي أني إذا بزقت في هذه
البئر فار ماؤها ، والله تعالى أمر حتى غاض ماء ذلك البئر وصار تكذيبا له ، وذلك
مما لا أصل له عندنا. وما هذا حاله فإنه لا يجوز على الله تعالى ، لأنه إذا أراد
تكذيب شخص كان يمكنه ذلك بأن لا يظهر عليه المعجز عقب دعواه ، فإحداث شيء آخر
والحال ما قلناه يكون عبثا لا فائدة فيه.
والرابع : أن يكون ناقضا لعادة من بين ظهرانيه ، لأنه لو لم يكن
كذلك لم يكن ليدل على صدق من ظهر عليه أصلا ، ألا ترى أن أحدنا إذا ادعى النبوة ،
وجعل معجزته طلوع الشمس من مشرقها وغروبها في مغربها لم تصح له دعواه ، ولم يدل
ذلك على صدقه ، وبالعكس من ذلك فلو ادعى النبوة وجعل معجزته طلوع الشمس من المغرب
وغروبها في المشرق ، فإنه يدل على صدقه لما انتقض في أحدهما ولم ينتقض في الآخر.
أن يكون المعجز من حكيم
وكما لا بد من
اعتبار هذه الشرائط في المعجز حتى يدل على صدق من ظهر
عليه ، فلا بد من
اعتبار أن يكون من جهة فاعل عدل حكيم أو في الحكم كأنه من جهته على ما سبق ، فإنه
لو لم يكن كذلك لم يكن في المعجز دلالة على صدق أحد. وإنما قلنا ذلك لأن دلالة
المعجز على ما يدل عليه بطريقة التصديق ، ألا ترى أن من ادعى بحضرة ملك أنه رسوله
إلى الرعية ، وجعل الدلالة على صدقه أنه متى أراد وضع التاج على رأسه فعل ، فإنه
متى فعل ذلك كان بمنزلة أن يقول له صدقت في دعواك ، وإذا كان هذا هكذا ، فلو جوزنا
أن يكون هذا المعجز من جهة من يصدق الكاذب لا يمكننا أن نعلم صدق من ظهر عليه.
ولهذا قلنا : إن هؤلاء المجبرة لا يمكنهم أن يعرفوا النبوات لتجويزهم القبائح على
الله تعالى.
فمتى حصل المعجز
على هذه الأوصاف والشرائط التي راعيناها كان دالا على صدق المدعي للنبوة ، وإذ قد
عرفت ذلك من حال المعجز ، فقد ظهر لك الفرق بينه وبين الشعوذة وما يتوصل إليه
بالحيلة ، لما قد ذكرنا من أن المعجز لا بد أن يكون من جهة الله تعالى أو في الحكم
كأنه من جهته جل وعلا ، وليس كذلك الحيلة. وكذلك فإن المعجز لا بد أن يكون ناقضا
للعادة خارقا لها ، وليس هكذا سبيل ما يتوصل إليه بالحيلة وخفة اليد. وكذلك فإن
الحيلة مما يمكن أن تتعلم وتعلم ، وهذا غير ثابت في المعجز. وكذلك فإن الحيل مما
يقع فيها الاشتراك ، وليس كذلك المعجز. وكذلك فإن الحيلة تفتقر إلى آلات وأدوات لو
فقدت واحدة منها لم تنفذ ، وليس كذلك المعجز.
وأقوى ما يذكر
هاهنا ، أن المشعوذ والمحتال إنما ينفذ حيلته على من لم يكن من أهل صناعته ولا
يكون له بها دراية ومعرفة ، وليس هذا حال المعجزة ، فقد جعل الله سبحانه وتعالى
معجزة كل نبي مما يتعاطاه أهل زمانه ، حتى جعل معجزة موسى عليهالسلام قلب العصا حية ، لما كان الغالب على أهل ذلك الزمان السحر
، وجعل معجزة عيسى عليهالسلام إبراء الأكمه والأبرص ، لما كان الغالب على أهل زمانه الطب
، وجعل معجزة نبينا محمد صلىاللهعليهوسلم القرآن وجعله في أعلى طبقات الفصاحة ، لما كان الغلبة
للفصاحة والفصحاء في ذلك الزمان ، وبها كان يفاخر أهله ويتباهى. فقد وضح لك بهذه
الوجوه الفرق بين المعجز والحيلة.
البعثة لطف للمكلفين
ثم إنه رحمهالله ، ذكر أن البعثة لا بد من أن تكون لطفا للمكلفين ، وأن
يكون مفعولا على أبلغ الوجوه وذكر الصفات التي يكون المبعوث عليها.
صفات الرسول
وجملة ذلك ، أن
الرسول لا بد من أن يكون منزها عن المنفرات جملة كبيرة أو صغيرة. لأن الغرض
بالبعثة ليس إلا لطف العباد ومصالحهم ، وما هذا سبيله فلا بد من أن يكون مفعولا
بالمكلف على أبلغ الوجوه ، ومن ذلك ما ذكرنا من أنه تعالى لا بد من أن يجنب رسوله عليهالسلام ما ينفر عن القبول منه لأنه لو لم يجنبه عما هذه حاله لم
يقع القبول منه ، ولأن المكلف لا يكون أقرب إلى ذلك إلا على ما قلناه ، فيجب أن
يجنبهم الله تعالى عن سائر ما له حظ في التنفير.
ولذلك جنب الله
تعالى رسوله عليهالسلام عن الغلظة والفظاظة ، وذكر علته فقال : (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ
لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران : ١٥٩].
وإذا قد صح لك ما
قلناه ، فقد ثبت أنه لا يجوز على الأنبياء الكبيرة لا قبل البعثة ولا بعدها ،
خلافا لما يقوله أهل الحشو ويجري في كلام أبي علي في مواضع ، فإن كلامه في مواضع
يقتضي أنه يجوز على الأنبياء الكبيرة قبل البعثة ، وإن كان لا يجوز بعدها.
فأما الحشوية ،
فقد جوزوا ذلك عليهم في الحالين ، ويتمسكون في ذلك بأباطيل لا أصل لها ، نحو قولهم
: إن داود هم بامرأة أوريا وعشقها ، ويوسف هم بامرأة العزيز كما همت هي به إلى غير
ذلك. وفساد ذلك ، قد دخل أثناء الكلام الذي قدمناه ، فقد ذكرنا أن الرسول لا بد من
أن يكون منزها عما ينفر عن القبول عنه ، والكبائر كلها منفرة ، فيجب أن يجنب الله
تعالى رسوله عنها. يبين ذلك أن النفوس مطبوعة على القبول ممن لم يتدنس بالمعاصي
ولا ارتكب شيئا من كبائرها ، كما هي مطبوعة على أن لا تقبل ، ممن يتعاطاها. فمعلوم
أن الناس إلى قبول قول الحسن ولم يتدنس عندهم بمعصية قط ، أقرب منهم إلى قبول قول
الحجاج وكان يرتكب من الفواحش ما كان يرتكبه.
فإن قيل : إن هذا
يوجب عليكم تجويز الكبائر على الأنبياء قبل البعثة ، فالمعلوم أن الناس إلى قبول
قول الحجاج وقد تاب وأناب ورجع وأقلع يكونون أقرب منهم إلى قبول قول الحسن ولم ير
قط إلا على الصلاح. وجوابنا ، أنا لا نسلم ذلك ، فإن الطباع على ما ذكرناه قبل ، وكيف
يمكن ذلك ، ولو ادعى ضرورة أن الناس يكونون إلى القبول ممن صفته ما ذكرنا أقرب من
القبول ممن كان يتعاطى الكبائر ويرتكبها أمكن أن الناس
ربما يسمعون كلام
الحجاج لكن لا على حد استماعهم كلام غيره ، فقد جعلت الطباع على الإصغاء إلى كلام
الرئيس دون المرءوس ، فإنك تعلم أن محفلا من المحافل لو اشتمل على الرأس والذنب ،
وتكلم كل منهم بكلام ، فإن إصغاء أهل المحفل إلى كلام الرئيس فأما القبول فلا ،
ففسد ما ظنوه.
قالوا : جوزوا
الكبيرة على الرسول سرا وبحيث لا يطلع عليه أحد ، فإنه والحال هذه مما لا ينفر
عنه. قيل : إن الرسول لا بد من أن يرسل الله تعالى إليه رسولا آخر ، فمتى جوز عليه
الكبيرة قياسا على نفسه ، لم يكن أقرب إلى القبول منه. وعلى أنا إذا جوزنا الكبيرة
على الأنبياء نفرنا ذلك عن القبول منهم كما لو قطعنا على ذلك فصح أن الكبيرة غير
جائزة على الأنبياء لا قبل البعثة ولا بعدها ، وكما لا يصح عليهم الكبيرة فكذلك لا
يصح عليهم شيء في المنفرات على ما سبق ، نحو الكذب والسرقة ونحو دمامة الخلقة وقبح
المنظر ، بحيث ينفر ، وليس يمتنع فيما ينفر في زمان ألا ينفر في زمان آخر ، فإن
للأزمنة والعادات تأثير في ذلك.
فأما الصغائر التي
لاحظ لها إلا في تقليل الثواب دون التنفير ، فإنها مجوزة على الأنبياء ، ولا مانع
يمنع منه ، لأن قلة الثواب مما لا يقدح في صدق الرسل ولا في القبول منهم.
وقد ذكر بعد هذا ،
أن البعثة لا بد من أن تكون لطفا لنا ، وكما تكون لطفا فلا بد أن تكون لطفا
للمبعوث ، لأنه لا يجوز من الحكيم تعالى أن يحمل المكلف مشقة لنفع مكلف آخر فقط ،
وذلك صحيح على ما تقدم. وذكر أنه تعالى إذا علم أن صلاحنا في بعثة شخص واحد بعينه
وجب أن يبعثه بعينه ولا يعدل عنه إلى الغير ، وإذا علم أن صلاحنا في بعثة شخصين
وجب بعثتهما لا محالة ، ولا يجوز له الإخلال بها ، وكذلك إذا علم أن صلاحنا في
بعثة جماعة وجب أن يبعث الكل فأما إذا علم أن الصلاح معلق ببعثة كل واحد من
الجماعة على انفراد ، فإنه يكون بالخيار ، إن شاء اختار هذا ، وإن شاء اختار غيره
، وليس يلزمه بعثة الأفضل إذا كان هو والمفضول سواء في المصلحة ، هذا قبل البعثة ،
فأما بعدها فإن المبعوث يصير أفضل لا محالة بتحمله الرسالة. وقد اتفقت الأمة على
أن المبعوث يكون أفضل من غير المبعوث لا محالة.
وقد أورد رحمهالله بعد هذا الجملة ، الكلام في نسخ الشرائع.
نسخ الشرائع
والسبب الداعي
إليه ، هو أن اليهود لما أنكروا نبوة المسيح والمصطفى عليهماالسلام افترقوا.
فمنهم من قال :
إنما أنكرنا نبوتهما لأنهما أتيا بنسخ شريعة موسى ، وذلك يقتضي أن يصير الحق باطلا
والباطل حقا ، وذلك محال.
وربما قالوا : إن
النسخ يقتضي البدء ، وهو أن يكون قد ظهر الله تعالى من حال تلك الشريعة ما كان
خافيا ، وذلك يخرجه عن كونه عالما لذاته.
ومنهم من قال : إن
نسخ الشريعة جائز من جهة العقل إلا أن السمع منع من ذلك ، وقد قال موسى عليهالسلام : شريعتي لن تنسخ أبدا ، فلهذا الوجه أنكرنا نبوة من جاء
بعده.
ومنهم من قال إن
نسخ الشرائع جائز من جهة العقل والشرع جميعا ، إلا أنا إنما أنكرنا نبوتهما لأنهما
عدما المعجز الدال على صدقهما.
وفي اليهود من ذهب
إلى أن محمدا عليهالسلام كان مبعوثا ، إلا أنه إنما بعث إلى العرب دون غيرهم.
ونحن نذكر جملة
تدلك على جواز النسخ ، ثم نتتبع كلام هؤلاء الفرق الثلاثة بعون الله تعالى وحسن
توفيقه ، فنقول ، إن الشرائع ألطاف ومصالح ، وما هذا سبيله فإنه يختلف بحسب اختلاف
الأزمان والأعيان ، فلا يمتنع أن يعلم القديم تعالى أن صلاح المكلفين في زمان في
شريعة ، وفي زمان آخر في شريعة أخرى ، وهذا ظاهر فيما بيّنا ، فإن من يدبر أمر
ولده ربما يعلم أن صلاحه في الرفق مرة وفي العنف أخرى ، وذلك في الأولاد الكثيرة
أظهر ، وصار الحال في ذلك كالحال في المرض والشفاء والحياة والموت ، فكما أنه
تعالى يمرضنا مرة ويشفينا أخرى لما تعلق صلاحنا بالمرض مرة وبالشفاء أخرى ، كذلك
هاهنا لا يمتنع أن يعلم أن صلاحنا بالمرض في أن يتعبدنا بشريعة مرة ، وفي ألا
يتعبدنا بها بل يتعبدنا بغيرها أخرى ، فصح بذلك ما قلناه في جواز نسخ الشرائع.
الكلام على من منع نسخ الشرائع
ونعود بعد ذلك إلى
الكلام على هؤلاء الفرق ، فنقول للفرق الذين قالوا إن نسخ
الشرائع يقتضي أن
يصير الحق باطلا والباطل حقا إن النسخ لم يتناول عين ما كان حقا حتى يجب انقلاب
الحق باطلا والباطل حقا ، وإنما يتناول مثل ما كان حقا ، ولا يمتنع في المثلين أن
يكون أحدهما حقا والآخر باطلا ، فإن دخول الدار قد يكون حقا حسنا بأن يكون عن إذن
صاحب الدار ، وقد يكون باطلا قبيحا بأن يكون لا عن إذن ، مع أن الدخولين مثلان.
بل يمكن ذلك في
الفعل ، فإن الدخلة الواحدة يجوز أن تقع فتكون حسنة بأن تكون عن إذن ، وتقع فتكون
قبيحة بأن لا تكون عن إذن.
وكذلك فإن
السجدتين مع أنهما مثلان ، ربما تكون إحداهما حسنة بأن تكون سجدة للرحمن ، والأخرى
بأن تكون سجدة للشيطان.
بل يمكن تصوير ما
قلناه في السجدة الواحدة ، فإنها إذا قصد بها عبادة الرحمن كانت حسنة ، وإن قصد
بها عبادة الشيطان كانت قبيحة.
ثم يقال لهم : أليس
كان لا يلزمنا اعتقاد نبوة موسى عليهالسلام قبل أن يبعث ، ثم لزمنا ذلك بعد البعثة ، ولم يقتض أن يكون
الحق قد صار باطلا والباطل قد صار حقا ، فهلا جاز مثله في مسألتنا.
فإن قالوا : إن
أحد الاعتقادين غير الآخر ، وأكثر ما فيه أنهما مثلان ، والمثلان لا يمتنع أن يكون
أحدهما حسنا والآخر قبيحا. قلنا : فهلا قنعتم بمثله في مسألتنا.
وإن قالوا : إن
هذا ليس من النسخ في شيء فلا تصح لكم هذه المعارضة. قلنا : إنه وإن كان لا يسمى
نسخا ، إلا أن معناه معنى النسخ ، فقد لزمنا اعتقاد لدلالة ما كان يلزمنا ذلك
الاعتقاد لو لا تلك الدلالة ، وهذه صورة النسخ من طريق المعنى والمعتبر إنما هو
بالمعنى لا بالتسمية.
وعلى نحو هذه
الطريقة يجري الكلام مع الذين أنكروا النسخ لاقتضائه البدء.
غير أنا نورد فصلا
نبين فيه الفصل بين النسخ والبدء وما يختص به كل واحد من الشروط والأوصاف ، إن شاء
الله وبه الثقة.
ويقال لهم أيضا :
ما قولكم في شريعة موسى ، هل نسخت ما قبلها من الشرائع أم لا؟ فإن قالوا : لا ، بل
لم يأت موسى إلا بما كان قد أتى به الأنبياء قبله ـ وهو مذهب بعضهم ـ قلنا : كيف
يمكنكم ذلك وقد علمتم أن آدم عليهالسلام زوج بناته من
بنيه وقد حظره
موسى ، وكذلك بعدها اختتن إبراهيم عليهالسلام في الكبر وأوجبه موسى في الصغر ، وجاز الجمع بين أختين في
شرع يعقوب ولم يجوز في شرع موسى. وعلى أن فيما ذكرتموه ما يقتضي ألا تضيفوا هذه
الشريعة إلى موسى ولا تنسبوها إليه ، وفي ذلك خروج عن اليهودية ، والمعلوم من
حالكم أنكم تضيفون هذا الشرع إلى موسى عليهالسلام ، وتقولون : لا يجوز أن تكون نسبته إلى موسى كنسبته إلى
يوشع.
فإن قالوا : نعم ،
قد أتى موسى بنسخ شرائع من قبله من الأنبياء ، ولا بد لهم من ذلك ـ وهو مذهب جماعة
منهم ـ قلنا : فهلا اقتضى انقلاب الحق باطلا والباطل حقا ، وهلا اقتضى أن يكون قد
بدا لله وظهر له من حال تلك الشرائع ما كان خافيا عليه تعالى الله عن ذلك.
وأما الكلام على
الفرقة الثانية ، الذين قالوا إن نسخ الشريعة جائز من جهة العقل غير أن السمع منع
منه ، وهو قول موسى : «شريعتي لا تنسخ أبدا» فهو أن نطالبهم بتصحيح هذا الخبر عن موسى عليهالسلام ، ولا يجدون إلى ذلك سبيلا. ومتى قالوا : إن هذا من
الأخبار المتواترة فلا معنى لإنكاره ، قلنا : لو كان كذلك لعرفناه نحن على طوال
اختلاطنا بكم ومناظرتنا إياكم ، ونحن لا نعرفه ، فكيف يمكنكم ادعاء التواتر فيها.
وقد أنكره
العنانية من أصحابكم ، وقالوا : إن نسخ الشريعة جائز من جهتي العقل والشرع ، وأن
من جاء بعد موسى من الأنبياء فإنما أنكرنا نبوتهم لما عدموا الأعلام المعجزة لا
غير ، ولو كان متواترا لعلموه.
ثم يقال لهم : لا
يخلو حال هذا الخبر من أحد وجهين ، فإما إن يكون المراد به أن شريعتي لا تنسخ على
يدي من معه معجز ، أو على يدي من لا معجز معه. فإن أردتم به أن شريعتي لا تنسخ على
يدي من لا معجز معه فإنا نوافقكم ، وإن أردتم به أنها لا تنسخ على يدي من معه معجز
، فإن ذلك مما لا يجوز أن يكون قد أراده موسى عليهالسلام ، لأن ذلك مما لا يجوز أن يكون قد أراده موسى عليهالسلام ، لأن ذلك يقدح في نبوته ، ويكون لأمته أن يقولوا : فلم
وجب اعتقاد نبوتك والانقياد لك ، وقد جوزنا أن يكون هاهنا صاحب معجزة ، لا يلزمنا
متابعته والاعتقاد لنبوته والانقياد له.
وإذا كان الأمر
بهذه الصفة فلا وجه للأخذ بظاهر الخبر لو ثبت صحته ، سيما وقد ثبتت نبوة محمد صلىاللهعليهوسلم بالأدلة القاطعة فيجب أن يتأول ، لأن كلام الأنبياء لا
يجوز
أن يتناقض.
وتأويله ، هو أن
شريعتي لا تنسخ على يدي من لا معجز معه ، وعلى أن يوشع كان نبيا في زمن موسى عليهالسلام وبقي بعده ، وقد نسخ شريعته بشريعة موسى ، ولا يمكن ادعاء
أنه لم يكن معه شريعة أصلا ، وإلا كان لا يثبت في بعثته والحال هذه فائدة ، فقد
ذكرنا أن البعثة إنما تجب إذا علم الله أن صلاحنا تتعلق بشريعة لا نعرفها نحن ،
فيبعث الرسول ليعرفنا ، فأما إذا عريت عن هذه الفائدة ، فإنها تكون عبثا.
وبعد ، فإن هذا
الخبر ليس هو من كلام موسى ، فإن المعلوم أنه كان لا يتكلم بلغة العرب وإنما كان
يتكلم باللغة العبرانية ، فلا يمكن الاحتجاج بظاهره ، سيما ومن المجوز أن يكون
المترجم قد أخل بقرينة كانت معه ، فلم يفسرها.
ومتى قالوا : إن
المترجم والناقل ما يألو جهدا في ترجمة كلام الأنبياء ، قلنا : إن حسن الظن به
يمنعنا من تجويز ما جوزناه ، فلا يستقيم لكم الاحتجاج بلفظ الخبر بوجه من الوجوه.
فإن قالوا : لو
أمكن أن يقال في كلام موسى عليهالسلام «شريعتي لا تنسخ» ما ذكرتموه ، ليمكن أيضا مثله في قول نبيكم محمد
«لا نبي بعدي» فما الفصل بيننا وبينكم في ذلك؟ قلنا : أول ما في هذا أنه لا يمكن إنكار أن هذا من كلام محمد صلىاللهعليهوسلم بخلاف ما أوردتموه. على أنا لم ندع أنه خاتم الأنبياء
لمكان هذا الخبر ، فإنا نعلم من دينه ضرورة أنه آخر الرسل وخاتم الأنبياء ، ولهذا
شاركتمونا في العلم بذلك مع إنكاركم نبوته ، وشككم في صدقه.
ومتى قالوا :
وكذلك نحن نعلم من دين موسى ضرورة أنه خاتم الأنبياء ، قلنا : إن هذا مما لا سبيل
لكم إليه ، فلو كان كذلك لشاركناكم في العلم به على طول مخالطتنا لكم ومناظرتنا
إياكم ، ونحن لا نعلم ذلك من دين موسى ضرورة ، فكيف يصح لكم ذلك ، ومعلوم أن يوشع
كان نبيا بعده كما كان نبيا في زمانه ، وأيضا فقد بشر عليهالسلام بمجيء كثير من الأنبياء بعده ، فكيف يقال : إن المعلوم من
دينه ضرورة أنه لا نبي بعده.
فإن قالوا : هب
أنكم علمتم من دين نبيكم ضرورة أنه آخر الرسل فبأي طريق علم ذلك نبيكم ، فلا بد
لكم أن ترجعوا إلى مثل ما احتججنا به عليكم. قلنا : إنما علم ذلك نبينا عليهالسلام بالاضطرار إلى قصد جبريل ومتى سألوا عن ذلك في جبريل عليه
السلام ، قلنا :
إنه إنما علم ذلك من جهة الله تعالى بأن يبين له أن صلاح أمة محمد لا يتغير عما هو
عليه ، ولا يمكنكم ادعاء هذه الطريقة في كلام موسى عليهالسلام ، فبان الفصل بين الموضعين.
فإن قالوا : إن
شريعة موسى تشتمل على الأوامر والنواهي ، والأمر بمطلقه يقتضي التكرار ، وما هذا
سبيله لا يصح ورود النسخ عليه. قلنا : أول ما في ذلك أن الأمر يقتضي التكرار
بمطلقه عندنا ، وإنما يفيد الفعل مرة واحدة ، لأنه يتنزل منزلة قول القائل : أريد
منك أن تفعل كذا ، ومعلوم أن ذلك مما لا يقتضي الفعل إلا مرة واحدة ، فكذلك الأمر
فإنه في مثل حاله.
وبعد ، فلو ثبت أن
الأمر بمطلقه يقتضي التكرار والدوام ، فإنه لا يمنع من ورود النسخ عليه ، بل يصح
أن ينسخ كما يصح أن ينسخ غيره ، لأجل أن دلالة الأمر على ما يدل عليه ، كما هو
مشروط بزوال العجز والمرض وما جانس ذلك ، فلا بد أن يكون مشروطا بألا يتغير الصلاح
، فأما إذا تغير فلا ، وفي ذلك صحة ما قلناه من أن ما هذا سبيله يصح ورود النسخ
عليه. وتفصيل الكلام في ذلك موضوعه أصول الفقه.
فصح لك بهذه
الجملة قول هؤلاء اليهود ، الذين قالوا : إن نسخ الشرائع جائز من جهة العقل ، غير
أن الشرع منع من ذلك.
وأما الكلام على
الفرقة الذين قالوا : إن نسخ الشريعة جاء من جهتي الشرع والعقل ، إلا أنا أنكرنا
نبوة محمد نبيكم حيث عدم المعجز ، فهو أن نبين لهم في فصل عقيب هذا الكلام ، أن
النبي صلىاللهعليهوسلم لم يعدم العلم المعجز الدال على صدقه ، وأن الله تعالى
أيده بالأعلام الباهرة.
وأما الذين قالوا
: إن محمدا كان مبعوثا إلى العرب من دون سواهم ، فإن الكلام عليهم هو أن نقول لهم
: إنه صلىاللهعليهوسلم إذا ادعى أنه مبعوث إلى الكافة ثم صدقه الله تعالى
بالأعلام المعجزة ، فإنه لا بد من أن يكون مبعوثا إلى الأحمر والأسود.
فصل
الفرق بين النسخ والبداء وحقيقتهما
إن قال قائل : ما
الفصل بين النسخ والبداء وما حقيقتهما ، فإن أكثر كلامكم المتقدم مبني عليه ويتعلق
به. قيل له :
النسخ
أما ، النسخ فهو
في الأصل الإزالة أو النقل ، على ما اختلف فيه أصحابنا ، فأما في الشرع ، فهو
إزالة مثل الحكم الثابت بدلالة شرعية بدليل آخر شرعي ، على وجه لولاه لثبت ولم يزل
مع تراخيه عنه ، فاعتبرنا أن يكون إزالة مثل الحكم الثابت ، لأنه لو زال عين ما
كان ثابتا من قبل ، لم يكن نسخا بل كان نقضا. واعتبرنا أن تكون الدلالتان شرعيتين
، لأنهما لو كانا عقليتين أو إحداهما عقلية والأخرى شرعية لم يعد نسخا ، ألا ترى
أن من لزمه رد الوديعة مثلا ، ثم لم يلزمه بعد ذلك لعجز طرأ عليه أو لمرض اعتراه ،
لم نقل : إنه قد نسخ عنه رد الوديعة.
وكذلك فإن من لزمه
الصلاة والصيام ثم عرض ما يمنعه من ذلك من جنون أو غيره حتى لا يلزمه ، لا يقال :
إنهما قد نسخا عنه ، فلا بد إذن مما اعتبرناه ، واعتبرنا أن يكون ذلك على وجه
لولاه لم يزل وكان ثابتا ، لينفصل حال النسخ عن حال تعليق الحكم بغاية لحركات في
اللفظ ، نحو قوله تعالى : (ثُمَّ أَتِمُّوا
الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) [البقرة : ١٨٨]
وما جرى مجراه ، فإن ذلك لا يكون من النسخ في شيء ، وأن لا ينفصل عنه إلا بما
ذكرناه ، واعتبرنا أن يكون متراخيا عنه ضربا من التراخي لأنه لو لم يعتبر ذلك
لالتبس الناسخ بالمخصص ، والمنسوخ بالعام ، وبينهما من الفرق ما لا يخفى ، فلا بد
إذن في اعتبار هذه الشرائط ، حتى لو انخرم شرط منها لكان لا يكون نسخا ، فهذه جملة
ما يجب اعتباره في النسخ حتى يكون نسخا.
وأما البداء ،
فإنه لا يكون بداء إلا عند اعتبار أمور ، نحو أن يكون المكلف واحدا والفعل واحدا
والوقت واحدا والوجه واحدا ، ثم يرد الأمر بعد النهي أو النهي بعد الأمر ، ومثاله
أن يقول أحدنا لغلامه : إذا زالت الشمس ودخلت السوق فاشتر اللحم ، ثم يقول له :
إذا زالت الشمس ودخلت السوق فلا تشتر اللحم ، وإنما يسمى بداء لأنه يقتضي أنه قد
ظهر له من حال اشتراء اللحم ما كان خافيا عليه من قبل.
البداء
والبداء ، هو
الظهور في اللغة ، ولا بد من اعتبار هذه الأمور الأربعة التي ذكرناها ، حتى لو
تغاير واحد من هذه الأمور الأربعة خرج البداء عن أن يكون بداء ، ألا ترى أنه لو
تغاير المكلف فقال لأحد الغلامين مثل ما قلناه أولا ، وللغلام الثاني مثل ما قلناه
ثانيا ، لم يكن من البداء في شيء ، وهكذا لو تغاير الفعل أو الوقت أو
الوجه ، فمعلوم
أنه لو قال له : إذا زالت الشمس فاشتر اللحم ، ثم قال بعده : ولا تشتر السمن
والإقط ، أو قال : إذا زالت الشمس فافعل الفعل الفلاني ، ثم قال بعده : إذا أصبحت
فلا تفعل الفعل ، فإنه لا يكون بداء البتة لتغاير أحد هذه الوجوه الأربعة.
وإذ قد تقرر هذا
لديك وأحطت به علما ، فقد استبان لك الفرق بين النسخ والبداء ، وعلمت أن النسخ لا
يتناول عين ما كانت ثابتا ، ولا المكلف الذي كان مكلفا بذلك الفعل في أغلب الأحوال
، فهذه جملة الكلام في هذا الفصل.
فصل
معجزات الرسول
فإن قيل : ما
دليلكم على نبوة محمد صلىاللهعليهوسلم وهذا كان مقصودكم بكل ما قدمتموه؟ قيل له : الدليل على
نبوته أنه قد ادعى النبوة وظهر عليه المعجز عقيب دعواه ، وقد بينا أن المعجز يدل
على صدق ما ظهر عليه إذا كان الحال ما ذكرناه.
فإن قيل : وما
المعجز الذي ظهر على محمد؟ قلنا : معجزات كثيرة ، من جملتها القرآن.
وجه الإعجاز في القرآن
فإن قيل : وما وجه
الإعجاز في القرآن؟ قلنا : هو أنه تحدى بمعارضة العرب مع أنهم كانوا هم الغاية في
الفصاحة ، والمشار إليهم في الطلاقة والذلاقة ، وقرعهم بالعجز عن الإتيان بمثله
فلم يعارضوه وعدلوا عنه ، لا لوجه سوى عجزهم عن الإتيان بمثله.
ولا يمكنك أن تعرف
صحة هذه الجملة إلا إذ عرفت وجود محمد صلىاللهعليهوسلم ، وأنه قد ادعى النبوة ، وظهر عليه القرآن ، وسمع منه ولم
يسمع من غيره ، وأنه تحدى العرب بمعارضته وقرعهم بالعجز عن الإتيان بمثله فلم
يأتوا به ، لا لوجه سوى عجزهم وقصورهم عن الإتيان بمثله ، فمتى عرفت هذه الوجوه
كلها كنت عارفا بنبوة محمد صلىاللهعليهوسلم.
أما وجوده ،
وادعاء النبوة ، وأن القرآن معجز ظهر عليه وسمع منه ولم يسمع من غيره فمعلوم ضرورة
، ولا مانع يمنع من حصول العلم بهذه الأشياء وما جانسها اضطرارا ، فإن العلم
بالملوك والبلدان وبكون المصنفات منسوبة إلى مصنفها ضرورة.
وأما تحديه العرب
بمعارضته القرآن ، وتقريعه إياهم بالعجز عن ذلك ، ففي أصحابنا من جعل العلم به
ضروريا ، ومن جعله مكتسبا. ومن جعله مكتسبا قال : ليس المرجع بالتحدي إلا أن يعتقد
أن له مزية على غيره بسبب ما معه ، وهذا كان حال النبي عليهالسلام مع القوم ، فكان يعتقد أنه خير الناس لمكان ما جاء به من
القرآن ، فكيف يمكن إنكار أنه لم يتحداهم بمعارضته ولم يقرعهم بالعجز عن الإتيان
بمثله؟
تحدي العرب بالقرآن
وأيضا ، فكتاب
الله تعالى مشحون بآيات التحدي ، نحو قوله عزوجل : (قُلْ لَئِنِ
اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ) [الإسراء : ٨٨]
الآية. وقوله : (فَأْتُوا بِعَشْرِ
سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ) [هود : ١٣] وقوله
: (فَأْتُوا بِسُورَةٍ
مِثْلِهِ) [يونس : ١٠] إلى
غير ذلك من الآيات التي معناها معنى هذه الآيات.
فإن قيل : ما
أنكرتم أن هذه الآيات التي هي آيات التحدي زيدت في القرآن. وجوابنا ، لو أمكن أن
يقال في هذه الآيات إنها مزيدة لأمكن أن يقال في قوله : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا
الزَّكاةَ) [البقرة : ٤٣]
وقوله : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى
الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) [المائدة : ٦]
وغيرهما من الآيات ، حتى يجوز ذلك في سائر القرآن ، ومعلوم فساده.
وأيضا ، فإن هذه
الآيات مسموعة الآن والتحدي قائم على وجه الدهر ، وفي الفصحاء كثرة في هذه الأزمان
فيجب أن يأتوا بمثله ، ومتى قالوا : إن الفصاحة تناقصت الآن كالشعر ، قلنا : إن
أمكن أن يقال ذلك في الشعر فلا يمكن في الفصاحة ، ففي خطباء هذه الأزمنة من لا
يداني كلامه كلام أفصح فصيح في ذلك الزمان. فهذا واصل بن عطاء ربما تفي خطبة من
خطبه بكثير من كلام فصحاء أولئك العرب ، وهذا أبو عثمان عمرو بن عبيد ، ففصل من
كلامه ربما يزيد على كلام أبينهم كلاما وأجزلهم لفظا وأفصحهم كلاما ، فكيف يصح ما
ذكرتموه.
ترك العرب معارضة القرآن
وأما ترك العرب
معارضة القرآن ، وعدولهم عنه إلى المقاتلة فظاهر أيضا ، فإنهم حين أحسوا من أنفسهم
العجز عن الإتيان بمثل القرآن ، تركوه إلى المقاتلة ، وذلك يؤذن بعجزهم عن ذلك ،
وإلا فالعاقل إذا أمكنه دفع خصمه بأيسر الأمرين لا يعدل عنه
إلى أصعبهما.
فإن قيل : ومن أين
أنهم تركوا المعارضة ولم يعارضوه البتة؟ قيل له : إنهم لو عارضوه لكان يجب أن ينقل
إلينا معارضتهم ، فإنه لا يجوز في حادثتين عظيمتين تحدثان معا ، وكان الداعي إلى
نقل أحدهما كالداعي إلى نقل الأخرى أن تخص إحداهما بالنقل ، بل الواجب أن ينقلا
جميعا أو لا ينقلا ، فأما أن ينقل أحدهما دون الأخرى ، فلا.
يبين ذلك ، أن من
البعيد أن يسقط الخطيب من المنبر ويقع على بعض الحاضرين فيقتله ، ثم ينقل إلينا
سقوط الخطيب ولا ينقل قتله ، ولا وجه لذلك إلا أن الحادثين وقعا معا ، وكان الداعي
إلى نقل أحدهما هو كالداعي إلى نقل الآخر ، وكذلك كان يجب مثله في المعارضة لو
كانت أن تنقل إلينا كما نقل القرآن ، فلما لم تنقل دل على أنها لم تكن أصلا.
ولا يمكن إنكارا
ما قلناه من أن الداعي إلى نقل أحدهما كالداعي إلى نقل الآخر ، بل لو قيل : إن
الداعي إلى نقل المعارضة أقوى لكان أولى ، إذ المعارضة مما ينقلها المخالف
والموافق ، المخالف ينقله ليرى الناس أن فيه إبطال حجة محمد صلىاللهعليهوسلم ، والموافق ينقله ليتكلم عليه ويبين أن ذلك ليس من
المعارضة في شيء.
يزيد ما ذكرناه
وضوحا ، هو أن المعلوم أنهم قد نقلوا من المعارضات الركيكة كمعارضة مسيلمة وغيره
عليه لعنة الله ، فلو لا أن دواعيهم كانت متوفرة إلى ذلك وإلا كان لا ينقل إلينا
هذه المعارضة على ركتها ، كما لم ينقل ما هو أقوى منها.
وبعد ، فإن
المعارضة لو كانت لكانت هي الحجة ولكان القرآن هو الشبهة ، والله تعالى لا يجوز أن
يسلط علينا الشبهة على وجه لا سبيل لنا إلى حلها ، ويمكن من إخفاء الحجة على حد لا
يمكن الظفر بها ، بل كان يجب أن يقوي الدواعي إلى نقل المعارضة إن لو وقعت ، فلما
لم يفعل ، دلنا ذلك على أنها لم تقع البتة ، وأن ذلك تمن.
فإن قيل : إنما
ذكرتموه فينبني على أن العرب كانوا أهل حرص على إبطال أمره وتوهين شأنه ، ولم
يمكنهم ذلك إلا بالمعارضة ، ونحن لا نسلم ذلك. قيل له : إن ذلك معلوم بالاضطرار ،
فمعلوم أن النبي صلىاللهعليهوسلم ادعى منزلة رفيعة عليهم وهم كانوا في غاية الأنفة والحمية
والإباء ، فكيف لم يحرصوا والحال ما ذكرناه على إبطال أمره ورفع
حجته إن لو قدروا.
فإن قيل ، لم يقع
النزاع في ذلك ، فمعلوم أنهم كانوا في غاية الحرص على دفعه بما أمكن ، وإنما
الكلام في أن ذلك لم يمكنهم إلا بالمعارضة وذلك مما لا وجه ، فإن القوم لم يعلموا
طريقة المعارضة والحجاج ، ولو علموا ذلك تقديرا ، فلم يعلموا أن أمره يبطل
بالمعارضة.
قيل له : أما
الأول ، فلا يصح ، لأن المعارضة كانت عادتهم ، ولهذا لم يأت شاعر بقصيدة فيما
بينهم إلا وشاعر آخر يعارضه أو رام معارضته ، وهذا معلوم من حال شعرائهم ، نحو
امرئ القيس وعلقمة وأشباههما ، وأما الثاني ، فباطل أيضا ، لأن كل أحد يعلم أن
خصمه إذا أتاه بأمر وادعى لمكانه منزلة عظيمة عليه ، وتحداه بمعارضته ، فإنه متى
عارضه فقد أبطل دعواه ، وهذا مما لا يخفى على الصبيان فكيف على دهاة العرب ، فإن
صبيا لو تحدى صبيا آخر ، وقال : إني أطفر هذا الجدول أو أشيل هذا الحجر وأنت لا
تقدر عليه ، فإن الصبي الآخر يعلم أن دعواه تبطل بطفره ذلك الجدول أو بإشالته ذلك
الحجر ، فكيف يصح ما ذكره.
فإن قيل : إنهم
أرادوا استئصاله فلهذا عدلوا عن المعارضة إلى المقاتلة ، لا لأنهم عجزوا عن ذلك
ولم يقدروا عليه. قلنا : لو لا عجزهم عن الإتيان بمعارضة القرآن ، وإلا كانوا لا
يريدون استئصاله ، فلما أرادوا ذلك واشتغلوا به ، دلنا على عجزهم عن المعارضة على
ما ذكرناه.
يبين ذلك ويوضحه ،
أن هؤلاء الذين طولبوا بالمعارضة ، لو قدروا عليها لكان تكون المعارضة عليهم أسهل
من استئصال محمد عليهالسلام ومكانه في العرب المكان الذي كان ، ولا يليق بالعاقل
البالغ الكامل العقل العدول عن الأمر السهل إلى الأمر الصعب إلا إذا لم يرتفع غرضه
بالأمر السهل ، فحينئذ يعذر في العدول عنه إلى ما هو أصعب منه ، إلا فكيف اختاروا
المقاتلة وهو صعب جدا ، على المعارضة التي كانت أسهل عليهم من كل شيء؟ فلما
اشتغلوا بالمقاتلة وأبوا إلا المحاربة التي كانت من المجوز أن لا يرتفع غرضهم بها
بأن تكون الدائرة عليهم وتركوا المعارضة التي كانت عندهم بزعمهم بمنزلة الأكل
والشرب والقيام والقعود ، تبيّنا عجزهم وقصورهم عن المعارضة على ما ذكرنا.
فإن قيل : الغرض
بالمقاتلة إنما كان إبطال دعواه وحسم مادته ، والقوم فقد علموا
أن مادته لا تنقطع
بالمعارضة وأمره لا ينتهي بها ، وأن الخلاف يبقى ولا يزول ، والناس يكونون بعد
المعارضة بين رجلين : رجل له ، ورجل عليه ، فهذا يقول : المعارضة أفصح ، وذا يقول
: القرآن أفصح ، فتطول المنازعة ولا تنقطع ، فلهذا لم يشتغلوا بالمعارضة ، وعدلوا
عنها إلى المحاربة.
قيل لهم : إن هذه
الطريقة ، إن صرفت عن معارضة القرآن ، فلتصرفن عن سائر المعارضات لشمولها أجمع ،
وذلك يوجب أن لا يوجد في كلامهم معارضة ، والمعلوم من عاداتهم خلافه ، فلم يقل
علقمة : إذا اشتغلت بمعارضة امرئ القيس كان الناس بين متعصب لي ومتعصب عليّ ،
فيكون حالي وقد عارضت كلامه كحالي ولم أعارض كلامه ، وهكذا الحال في غيرهما من
الشعراء الذين قد اشتغلوا بهذه الطريقة.
فإن قيل : لا يخلو
حال المعارضة ، إما أن تكون مثل القرآن ، أو فوقه ، أو دونه ، وإذا كانت مثله كان
للخصم أن يقول : هذه حكاية القرآن وليس من المعارضة بسبيل ، وإن كانت فوقه أو دونه
كان للخصم أن يشغب فيها ويقول : لا بل الفوقية ثابتة للقرآن لا لها ، فكيف تجعل
ذلك معارضة ، فلا ينقطع التشاجر والمنازعة ، ولا بد في آخر الأمر من الرجوع إلى ما
بدأ به من المحاربة والإضراب عن المعارضة.
قيل : ليس يجب في
المعارضة أن تكون مثل ما تحصل المعارضة معارضة له ، ولا أن تكون فوقه ، بل إذا
قاربه وداناه بحيث يلتبس الحال فيه كفى ، وبعد معارضته اعتبر ذلك بسائر المعارضات
، فكيف يصح ما ذكرتموه؟ وعلى أن هذه الطريقة تسد باب المعارضات أصلا ، وذلك كما لا
وجه له.
فإن قيل : فإذا
تركوا المعارضة مع إمكانها أو عدلوا إلى المحاربة ، فليس إلا أن يحكم بأنهم أخطوا
في العدول عن عبادة الله تعالى إلى عبادة الأصنام ، فلا يكون فيما ذكرتموه دلالة
على أنهم إنما تركوا معارضة القرآن للعجز لا غير.
قيل له : ليس هذا
من الباب الذي قستم عليه بسبيل ، فإن ذلك أمر يستدرك بطريقة الاستدلال والاستنباط
، وليس كذلك حال المعارضة فإنه ضروري لا يتصور فيه الخطأ ، ففسد ما ظننتموه.
فإن قيل : إنما
تركوا معارضة القرآن لأنه كان مشتملا على أقاصيص لم يعرفوها ولا عرفوا أمثالها حتى
يجعلوها معارضة للقرآن على السبيل الذي ذكرتموه ، فلذلك امتنعوا عن المعارضة ، لا
لأجل العجز.
قيل له : إن
القرآن لا يختص بذكر القصص دون ما سواها بل كان مشتملا على كثير من أنواع الكلام ،
فلو كانت المعارضة ممكنة لهم لأتوا بسائر أنواع الكلام وجعلوها معارضة للقرآن ،
ولم يأخذهم في الأول باعتقاد تلك الأقاصيص وأنها كانت كما ذكر ، بل ورضى من جهتهم
بأن يضعوا من عندهم قصصا ويكسونها من العبارات الجيدة العظيمة الجزلة ما يقارب
القرآن في الفصاحة ويدانيه ، وليلتبس الحال فيه ، فلا معنى لما ذكرتموه.
وأيضا ، فلا إشكال
أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يتحدى اليهود بذلك ، وفيهم العلماء بالأخبار
والعارفون بالأقاصيص ، حتى أن كل قصة مجهولة تقص في عالم الله تعالى تنسب إليهم
وتؤخذ منهم.
وبعد ، فإن العرب
قد بعثوا إلى الفرس يطلبون منهم القصص ، نحو قصة رستم واسفنديل ، وجمعوا من ذلك
شيئا كثيرا ، ثم عجزوا في الآخرة أن يجعلوه معارضة القرآن ، فصح سقوط ما أوردوه.
فإن قيل : أكبر ما
في هذه الجملة التي أوردتموها ، أن القرآن قد بلغ في الفصاحة حدا لا يتمكن العرب
من معارضته ، وذلك لا يوجب كونه معجزا دالا على نبوته ، فإن من الجائز والحال ما
ذكرتموه أن يكون القرآن من جهته صلىاللهعليهوسلم لتقدم له في معرفة الفصاحة ، ولهذا قال :
«أنا أفصح العرب». وما الحال فيما أتى
به صلىاللهعليهوسلم ، كالحال فيما يأتي به بعض من تميز في صناعة من الصناعات ،
فكما أنه لا يستحق بهذا القدر النبوة ولا يدل على أنه مبعوث من جهة الله جل وعز ،
فكذلك الحال فيما نحن فيه.
قيل له : ليس
الأمر على ما ظننته ، فإنه يستحيل فيمن نشأ بين جماعة يتعاطون البلاغة ويتباهون
بالفصاحة أن يتعلمها ويأخذها منهم ، ثم يبلغ فيها حدا لا يوجد في كلام واحد منهم
بل في كلام جماعته فصل يساوي كلامه في الفصاحة ، أو يدانيه أو يقرب منه أو يشتبه
الحال فيه ، وهذا الحال حال القرآن مع سائر كلامهم ، فلا بد من أن تكون قد انتقضت
فيه عاداتهم ، ولن يكون كذلك إلا ويتضمن الدلالة على صدق من ظهر عليه ، سواء كان
من جهة الله تعالى أو من جهته على ما مضى ، وقد ذكرنا أنه ليس من قضية المعجزات أن
تكون من جهة الله تعالى على كل حال ، وهكذا الحال في سائر الصناعات عندنا ، فلو نشأ
غلام فيما بين جماعة من الصناع وتعلم منهم الصناعة ، ثم بلغ في العلم بالصناعة
مبلغا لا يوجد في أعمالهم عمل يساوي عمله ولا يقاربه ولا يدانيه ، ثم ادعى هو
لأجله النبوة ، فإنه لا بد من أن يصدق ، لمكان ما آتاه الله تعالى
من العلم بتلك
الصناعة.
فإن قيل : هب أن
القرآن معجزة ، وأن العرب علموا إعجازه لعلمهم بأنه قد تناهى في الفصاحة حدا ،
وأنتم فبأي طريق علمتم معناه فيه يا معشر العجم.
كيف يعلم غير العرب إعجاز القرآن.
قلنا : إن العلم
بذلك على وجهين : أحدهما علم تفصيل ، والآخر علم جملة ، والعرب علموا ذلك على سبيل
التفصيل ، ونحن فقد علمناه على سبيل الجملة.
وطريقته ، هو أن
محمدا صلىاللهعليهوسلم تحدى العرب بمعارضته فلم يمكنهم الإتيان بمثله ، فلو لا
كونه معجزا دالا على نبوته ، وإلا لما كانت ذلك كذلك.
وإذ قد ثبت إعجاز
القرآن ، فاعلم أن للمصطفى عليهالسلام معجزات أخر سواه ، غير أنا بدأنا بالقرآن الذي لا يبلى على
وجه الدهر ولا يندرس على مرور الأيام ، لما كان أظهر من سائر ما نورده في هذا
الباب ، ولا يمكن المخالف إنكاره بوجه.
بقية معجزات الرسول
وجملة ما له من
المعجزات سوى القرآن ينقسم إلى : ما يعلم ضرورة ، وإلى ما يكون الطريق إليه
الاستدلال.
ولا يمكن أن يقال
: لو كان في معجزاته ما يعلم ضرورة لاشترك فيه المخالف والموافق ولعلمه كل عاقل ،
فإن هذا هو الواجب في الضروريات ، لأن العلوم الضرورية تنقسم إلى : ما يكون من
بداية العقول فيجب اشتراك العقل فيه ، وإلى ما يكون مستندا إلى طريقة نحو العلم
بمخبر الأخبار ، ونحو العلم بالمدركات وغيرهما ، فإن ما هذا سبيله إنما يجب
الاشتراك فيها عند الاشتراك في طريقه ، ولهذا الذي ذكرناه جاز في أصحاب الحديث أن
يعلموا تقدم بعض غزوات النبي صلىاللهعليهوسلم على البعض ضرورة ، وإن كان لا يجب أن يعلمه كل واحد ، وهذا
ظاهر لا إشكال فيه. إذا ثبت هذا ، فمن معجزاته التي تعد من الضرب الأول : إشباعه
العدد الكبير والجم الغفير من الطعام اليسير ، وإشباع جماعة من الطعام لا يمكن إلا
بزيادة أجزاء الطعام ، وذلك مما لا يمكن من القادرين بالقدرة ، بلا بد من أن يكون
من جهة الله تعالى ، أظهره عليه ليدل على صدقه عليهالسلام.
فإن قيل : ما
أنكرتم أن الهواء استحال طعاما ، لا أنه كثرت أجزاؤه.
وجوابنا ، أول ما
في هذا ، أن الهواء لو استحال طعاما على يديه لكان لا بد من أن يكون معجزا له فلا
يقدح ذلك فيما قلناه.
وبعد فإن الهواء
شيء لطيف ، فكيف يستحيل إلى ما يشبع منه العدد الكبير.
وأيضا ، فلو
استحال الهواء هناك حطاما لكان يجب أن يستحيل طعاما في سائر المواضع ، ومعلوم
خلافه.
ومن الضرب الأول
أيضا ، إجابة الشجرة له حين دعاها ، وعودها إلى مكانهما ، ولا شك في كون ما هذا
حاله معجزا دالا على صدق من ظهر عليه.
فإن قالوا : ما
أنكرتم أنه كان معه جاذب؟
قلنا : فبأي طريق
عادت إلى مكانها؟
فإن قالوا : وكان
معه دافع أيضا؟
قلنا : لو كان
كذلك ، لكان يجب أن يرى الناس ذلك مع شدة حرصهم على التفحيص عن حاله.
وبعد ، فإن الجاذب
والدافع إذا اجتمعا كان يجب أن تقف الشجرة ولا تتحرك من مكانها.
ومن الضرب الأول
أيضا ، حنين الجذع ، فإن النبي صلىاللهعليهوسلم كان يخطب على جذع قبل أن ينصب له المنبر ، فلما أن نصب له
المنبر تحول إلى المنبر ، فحن الجذع حنين الناقة إلى ولدها ، ولم يسكنها حتى
احتضنه النبي صلىاللهعليهوسلم فسكن.
فإن قالوا : ما
أنكرتم أنه كان في الجذع خروق تتخرق الريح فيه ، فيسمع منه ذلك الصوت شبيها
بالحنين؟
قلنا : لو كان
كذلك لكان يجب أن يسمع قبل ذلك أو بعده ، ومعلوم أن ذلك لم يكن يسمع إلا في الحال
الذي قلناه.
ومن الضرب الأول ،
تسبيح الحصى في يده ، فإن ذلك غير مقدور للقادرين بالقدرة. وفي معجزاته عليهالسلام كثرة لو تكلمنا على جميعها لطال الكلام.
وقد ذكر رحمهالله بعد هذه الجملة ، أنه تعالى كما جعل القرآن معجزا دالا على
نبوة محمد صلىاللهعليهوسلم ، فقد جعله دليلا لنا على الأحكام ، وأوجب علينا الرجوع
إليه في
الحلال والحرام ،
فيجب الرجوع إليه والأخذ بما يوجبه ويقتضيه والإيمان به كله ، مجمله ومفصله ،
ومحكمه ومتشابهه ، ووعده ووعيده ، وأمره ونهيه.
وذلك كما ذكر ،
لأن القرآن إما أن يكون من باب الأقاصيص ، أو الأوامر والنواهي ، أو الوعد والوعيد
، وأي ذلك كله وجب الإيمان به على ما ذكرناه.
أما الأقاصيص ،
فلا بد من أن يعتقد صدقه فيها ، سيما وقد علمنا بدلالة العدل أنه لا يجوز عليه
الكذب بوجه من الوجوه.
وأما الأوامر
والنواهي ، فكذلك إذا علمنا عدله تعالى ، علمنا أنه لا يأمرنا إلا بما هو مصلحة ،
ولا ينهانا إلا عما هو مفسدة ، فلزمنا الامتثال بأوامره والانتهاء عن نواهيه.
وكذلك الوعد
والوعيد ، فإنا إذا كنا كما نعلم أنه تعالى عدل حكيم لا يلغز ولا يعمى ، ولا يخلف
في وعده ووعيده ، فلا بد من أن نعتقد أن ما وعد به المؤمنين من الثواب واصل إليهم
لا محالة ، وما توعد به العصاة نازل بهم ، وأنه لا شرط هاهنا ولا استثناء ، إذ لو
كان لبيّنه ، فلا يجوز وهو حكيم ، أن يخاطب بخطاب يفيد ظاهره من الأمور ولا يريده
به ثم لا يدل عليه ، فهذه جملة ما ذكره في هذا الموضع ولاستقصاء الكلام فيه موضع
يخصه.
فصل
شبه الملحدة
وإذا قد عرفت
إعجاز القرآن وما يتصل به ، فاعلم أن الملحدة يوردون وجوها من المطاعن فيه.
ومن جملتها ،
قدحهم في إعجازه ، وقولهم : إن كل من عرف شيئا من اللغة لا يعجز عن الإتيان بسورة
من مثله أو بعشر سور مثله.
وقد تقدم الكلام
في ذلك ، فقد بينا أن العرب مع معرفتهم بالفصاحة ، وحرصهم على إبطال أمره ، عجزوا
عن الإتيان بمثله ، فلو لا كونه معجزا ، وإلا لما وجب ذلك.
ومنها ، ادعاؤهم
أن القرآن يناقض بعضه بعضا ويدافعه ، وقولهم : إن المناقضة ليست بأكثر من أن يثبت
بأول الكلام ما ينفي بآخره ، وهذا حال القرآن ، فإن قوله :
(قُلْ هُوَ اللهُ
أَحَدٌ (١)) [الإخلاص : ١] يناقض
قوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ) [الشورى : ١١]
وهذا يوجب نفي الصانع الحكيم.
ونحن فقد ذكرنا
غير مرة أنا لا نكالم الملحدة في مسائل العدل وما يتصل به ، بل ننقل الكلام معهم
إلى إثبات الصانع. وعلى أن المناقضة لا تثبت في العبارة المجردة ، وإنما تثبت في
العبارة والمعنى جميعا ، ألا ترى أن قائلا لو قال : زيد في الدار وليس زيد في
الدار ، فإنه لا يتناقض كلامه ، إذا أراد بأحد الزيدين زيد ابن عبد الله ، وبالزيد
الآخر زيد بن خالد ، وهكذا إذا أردنا بأحد الدارين غير ما أراده أولا ، وهكذا لو
أراد كونه فيها في وقت وأن لا يكون فيها في وقت آخر.
ثم يقال لهم : لو
كان في القرآن التناقض الذي ذكرتموه لكان لا بد من أن تعرفه العرب ، والقوم كانوا
أعرف بوجوه المناقضات منكم ، وأن يجعلوا ذلك حجة على النبي صلىاللهعليهوسلم ودفعا لما أتى به ، سيما وكان يتكرر عليهم قوله تعالى : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ
لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء : ٨٢]
قالوا : المناقضة في القرآن ظاهرة ، لأن قوله : (قُلْ هُوَ اللهُ
أَحَدٌ (١)) [الإخلاص : ١]
يناقض قوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ) [الشورى : ١١] قيل
له ليس الأمر على ما ظننتموه ، فالآيتان تشتركان في الدلالة على تبرئة الله تعالى
عن المثل والند ، غير أن الكاف في أحدهما مزيدة ، وكثير ما يوجد ذلك في كلامهم
كقول الشاعر : وصاليات ككما يؤثفين.
المحكم من المتشابه
ومنها ، سؤالهم عن
وجه الحكمة في أن جعل الله القرآن بعضه محكما ، وبعضه متشابها.
وجوابنا عن ذلك ،
أنا نقول لهم : إنا إذا علمنا عدل الله تعالى وحكمته بالدلالة القاطعة التي لا
تحتمل ، نعلم أنه لا يفعل ما يفعله إلا وله وجه من الحكمة في أفعاله تعالى ، وقد
ذكر أصحابنا في وجه ذلك وجوها لا مزيد عليها.
أحد الوجوه : أنه
تعالى لما أن كلفنا النظر وحثنا عليه ، ونهانا عن التقليد ومنعنا منه ، جعل القرآن
بعضه محكما وبعضه متشابها ، ليكون ذلك داعيا لنا إلى البحث والنظر ، وصارفا عن
الجهل والتقليد.
والثاني : أنه جعل
القرآن على هذا الوجه ، ليكون تكليفنا به أشق ، ويكون في
باب الثواب أدخل ،
وذلك شائع ، فإن القديم تعالى إذا كان غرضه بالتكليف أن يعرضنا به إلى درجة لا
تنال إلا بالتكليف ، فكل ما كان أدخل في معناه كان أحسن لا محالة.
والثالث : أنه
تعالى أراد أن يكون القرآن في أعلى طبقات الفصاحة ليكون علما دالا على صدق النبي عليهالسلام ، وعلم أن ذلك لا يتم بالحقائق المجردة ، وأنه لا بد من
سلوك طريقة التجوز والاستعادة ، فسلك تلك الطريقة ليكون أشبه بطريقة العرب ، وأدخل
في الإعجاز.
وهذه الوجوه كلها
في غاية الحسن ، ويكفيك الجواب الأول في دفع سؤال الملحدة ، فإن الأصل أن لا
نكالمه في مسائل العدل وفي أفعال الله المحتملة ، وهو ينازعك في حدوث الأجسام
وإثبات الصانع.
حقيقة المحكم والمتشابه
ونذكر بعد ذلك
حقيقة المحكم والمتشابه ، فالمحكم ما أحكم المراد بظاهره ، والمتشابه ما لم يحكم
المراد بظاهره بل يحتاج في ذلك إلى قرينة ، والقرينة إما عقلية أو سمعية ،
والسمعية إما أن تكون في هذه الآية ، إما في أولها أو آخرها ، أو في آية أخرى من
هذه السورة أو من سورة أخرى ، أو في سنة رسول الله صلىاللهعليهوسلم وعلى آله وسلم من قول أو فعل ، أو في إجماع من الأمة ،
فهذه حال القرينة التي نعرف بها المراد بالمتشابه ونحمله على المحكم. ومشايخنا رحمهمالله ، قد بذلوا الجهد في إحكام هذه الأصول بما يضيق عنه هذا
الموضع ، فلهذا اقتصرنا على هذا المقدار والله ولي التوفيق.
الرد على الإمامية فيما خالفوا فيه حول القرآن
ونتبع هذه الجملة
بخلاف من خالفنا في القرآن ، ففيه أنواع من الخلاف.
منها خلاف جماعة
من الإمامية الروافض ، الذين جوزوا في القرآن الزيادة والنقصان وقالوا : إنه كان
على عهد رسول الله صلىاللهعليهوسلم أضعاف ما هو موجود فيما بيننا ، وحتى قالوا : إن سورة
الأحزاب كانت بحمل جمل ، وأنه قد زيد فيه ونقص وغير وحرف. وما أتوا في ذلك إلا من
جهة الملحدة الذين أخرجوهم من الدين من حيث لا يعلمون.
والذي يدل على
فساد مقالتهم هذه ، أن القرآن لو كان يجوز عليه الزيادة
والنقصان على هذا
الحد الذي جوزوه ، لكان لا يكون معجزا دالا على صدق محمد صلىاللهعليهوسلم ، ولكان لا يقع لنا الثقة بشيء يتضمنه من الشرائع والأحكام
، لتجويز أن يكون قد تعبدنا بصلاة سادسة ، وبصوم شهر آخر ، وبحج بيت بخراسان ،
وكان ما يدل عليها هو الذي لم ينقل إلينا من القرآن. بل كان يجب أن لا نثق بشيء من
الأحكام ، لتجويز أن تكون هذه الأحكام كلها منسوخة ، وقد نقل إلينا المنسوخ. وهكذا
الكلام إذا جوزنا الزيادة فيه ، فكنا نجوز أن لا يكون غسل الأيدي من واجبات الوضوء
، لتجويز أن يكون قوله : (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى
الْمَرافِقِ) [المائدة : ٦]
مزيدة ، وفي ذلك من الفساد ما لا خفاء به.
وبعد ، فلم يخل
زمان من الأزمان من لدن الرسول إلى يومنا هذا من جماعة يحفظون القرآن ويدرسونه
ويعلمونه الناس ، فكيف يصح مع ذلك الزيادة فيه والنقصان بحيث لا يشعر به الحفظة
ومعلوم أنه لو زيد في هذه الكتب التي يتداولها الناس فصل ، أو نقص منها فصل ،
لعرفه من كان من أهلها لا محالة وأنكره في الحال.
ومتى قالوا : كيف
يصح ما ذكرتموه ، ومعلوم أن عثمان هو الذي تلقف القرآن من الصحابة آية آية ثم تولى
جمعه ، وأنه كان متفرقا في الصحابة لا يدري عدد سوره ولا آياته.
قلنا : لم يكن
الأمر على ما ذكرتموه فقد كان في الصحابة جماعة يحفظون القرآن ، نحو أمير المؤمنين
عليهالسلام ، وأبيّ بن كعب ، ولهذا يروى أن النبي صلىاللهعليهوسلم قرأ على أبيّ القرآن ، وكذلك فقد روى أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال لأبيّ : أي سورة تقرأ في الصلاة؟ فقال : فاتحة الكتاب
، فقال : هو السبع المثاني. ولو كان الأمر على ما ظنوه لكان لا تصح هذه الجملة.
وأيضا ، فروي أن الصحابة كانوا يختمون القرآن في التراويح على عهد عمر ، فلو لا
أنه كان فيهم من يحفظه وإلا كان لا يتهيأ لهم ختمه ، وكذلك فقد روي أنه لما نزلت
سورة التوبة قال النبي : أثبتوها آخر سورة الأنفال ، فكيف يصح والحال هذه أن يدعي
أن المتولي لجمع القرآن إنما هو عثمان ، وأنه قد تلقفه آية من هذا وآية من ذاك؟
وهل هذا إلا دعوى لا تقوم بصحته حجة.
ومن الخلاف في
القرآن ، خلاف من يقول إنه مما لا يمكن معرفة المراد بظاهره البتة ، وإنما تعبدنا
بتلاوته لما لنا في ذلك من النفع.
الرد على من يدعي أنه لا يعرف المراد بظاهر القرآن :
وذلك مما لا إشكال
في فساده ، فالغرض بالكلام إنما هو الإفهام ، وما عداه من الأغراض يتبعه ، فإذا لم
يتعلق به هذا الغرض كان معدودا في العبث. على أن المعلوم من دين الأمة ضرورة خلافه
، وأنهم كانوا يرجعون إلى ظواهر القرآن في معرفة الأحكام من الحلال والحرام ، فلو
لا أنه مما يمكنهم معرفة المراد بظاهره وإلا كان لا يكون في رجوعهم إليه معنى.
وأيضا ، فمعلوم من
دين النبي صلىاللهعليهوسلم عليه أنا متعبدون بمعرفة الأحكام ، وأن كتاب الله هو الأصل
المرجوع إليه في معرفتها. فلو لم يمكن معرفة المراد به البتة ، لكان يكون التكليف
بذلك تكليفا لما لا يطاق ، وذلك قبيح لا يليق بالقديم جل وعز.
وبعد ، فلا بد في
الرسول من أن يكون قد عرف المراد به ، فلا يخلو ، إما أن يكون قد عرفه ضرورة ،
والاضطرار إلى قصد الله تعالى مع أن ذاته معلوم بالاستدلال محال ، فليس إلا أن
يكون قد عرفه بظاهر ، لعلمه باللغة وما يحتاج إليه ، وهذا يوجب في غيره أن يشاركه
في العلم بما يراد في القرآن ، إذا شاركه في العلم العربية وما يجوز على الله
تعالى وما لا يجوز ، فلا وجه لتطويل الكلام في هذا الفصل فقد بلغ في الوضوح
النهاية.
ولعل شبهة هؤلاء
الذين أنكروا أن يعرف بظاهر القرآن شيء قوله تعالى : (وَما يَعْلَمُ
تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) [آل عمران : ٧]
وظنهم أن قوله تعالى : (وَالرَّاسِخُونَ فِي
الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) مبتدأ غير معطوف على الأول ، وذلك مما لا وجه له ، لأن
قوله تعالى : (وَالرَّاسِخُونَ فِي
الْعِلْمِ) ، معطوف على الله تعالى ، فتكون الآية بأن تكون دلالة لنا
أولى.
وفرقة أخرى قالت :
إن القرآن مما لا يمكن معرفة المراد به ، فإن الألفاظ محتملة ، فما من لفظ من
الألفاظ إلا ويجوز أن يراد به الخصوص كما يجوز أن يراد به العموم ، وإذا كان هذا
هكذا فلا بد من أن نتوقف ، وننتظر القرينة المميزة للعام من الخاص ، والخاص من
العام ، وهؤلاء يسمون أصحاب الوقف.
والذي يدل على
فساد مقالتهم ، ما ذكرناه من أن الصحابة كانوا يرجعون إلى ظواهر الكتاب ولا
ينتظرون إلى ما ذكروه. وأيضا ، فإن هذا القول يخرج القرآن من أن يكون موصوفا بشيء
مما وصفه الله تعالى ، نحو كونه هدى وبيانا وشفاء نورا. وكذلك ففي قولهم هذا تكذيب
لله تعالى ، لأن الله تعالى يقول : (ما فَرَّطْنا فِي
الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ)
[الأنعام : ٣٨]
ولا تفريط أعظم من الإتيان بما لا يمكن معرفة المراد به البتة ، بل لا بد من
انتظار القرينة ، ويقال لهم أيضا : إن القرينة لا بد من أن تكون من قبيل الكلام ،
فبأي شيء يعرف المراد به؟ فلا بد من أن يقولوا : بظاهرة أو بقرينة أخرى ، فإن
جوزوا أن يعرف المراد بظاهره فهلا قالوا بذلك في القرآن حتى لا يحتاجوا إلى
القرينة ، وإن قالوا بقرينة أخرى أعدنا عليهم السؤال في تلك القرينة.
خلاف المرجئة :
ومما يذكر هاهنا
أيضا ، خلاف المرجئة الذين أنكروا أن يكون للعموم لفظة موضوعة له. وقالوا : ليس
يجوز في عمومات الوعيد أن تحمل على الشمول والاستغراق ، فلا لفظة موضوعة لهذا
المعنى.
والكلام في ذلك
يختص باب الوعد والوعيد ، غير أنا نشير هاهنا إليه ، فنقول : إن القائل إذا قال :
من دخل داري أكرمته صح له أن يستثني أي رجل شاء ، حتى إن شاء استثنى منه زيدا ،
وإن شاء عمرا ، وإن شاء بكرا ، أو خالدا ، فلو لا أن هذه اللفظة موضوعة للعموم
وإلا كان فيه الاستثناء على الحد الذي ذكرناه ، لأن من حق الاستثناء أن يخرج من الكلام
ما لولاه لوجب دخوله تحته.
والقوم ، فقد
أنكروا ألفاظ العموم وقالوا : لو كانت هذه الألفاظ موضوعة للعموم لم يصح استعمالها
في الخصوص الذي هو نقيضه ، فلما جاز ذلك دل على أنها غير موضوعة له البتة.
وجوابنا ، إن قدح
هذا في أن يكون هذا اللفظ موضوعا للعموم ليقدحن أيضا في أن تكون العشرة موضوعة
لهذا العدد المخصوص ، فإن لك أن تقول : عليّ لفلان عشرة إلا درهما ، فتكون قد أردت
التسعة دون العشرة.
ومتى قيل : فما
وجه التأكيد فيه أن لو كان موضوعا للعموم؟ قلنا : إن التأكيد لا يقدح في عمومه ،
إذ لو قدح فيه ليقدحن أيضا في الخصوص ، ومعلوم أن القائل كما يقول لقيت القوم
أجمعين؟ فقد يقول أيضا : جاءني زيد نفسه ، فليس إلا أن يعتمد ما قلناه.
ومما يذكر في هذه
الجملة أيضا ، خلاف المرجئة إذا قالوا : ليس يجب أن تحمل عمومات الوعيد على عمومها
، فمن الجائز أن يكون هاهنا شرط أو استثناء لم يبينه الله
تعالى.
وذلك مما لا وجه
له أيضا عندنا ، فإنه تعالى لا يجوز أن يخاطبنا بخطاب يريد به غير ما يقتضيه ظاهره
ثم لا يدل عليه ، لأن ذلك يقدح في حكمته ويصير ملغزا معميا.
ويقال لهم أيضا :
لو جاز أن يكون في عمومات الوعيد شرط أو استثناء لم يبينه الله تعالى ، لجاز مثله
في عمومات الوعد ، بل كان يجوز مثله في الأوامر والنواهي ، والمعلوم خلافه.
فإن قالوا : لا
تكليف علينا في عمومات الوعيد ، وليس كذلك الحال في الأوامر والنواهي ، قلنا : ليس
الحال على ما ظننته في عمومات الوعيد تكليفا ، وهو أن نعتقد أنه تعالى لا يخلف في
وعده ولا في وعيده ولا يغير قوله ولا يبدله ، كما أخبر به حيث يقول : (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما
أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (٢٩)).
فصل
وقد أورد رحمهالله بعد هذه الجملة فصلا ، وجملة ما يجب أن يحصل فيه الكلام في
الصفة التي يجب أن يكون عليها المفسر لكتاب الله عزوجل.
شروط المفسر لكتاب الله :
اعلم أنه لا يكفي
في المفسر أن يكون عالما باللغة العربية ، ما لم يعلم معها النحو والرواية ،
والفقه الذي هو العلم بأحكام الشرع وأسبابها ، ولن يكون المرء فقيها عالما بأحكام
الشرع وأسبابها إلا وهو عالم بأصول الفقه ، التي هي أدلة الفقه والكتاب والسنة
والإجماع والقياس والأخبار وما يتصل بذلك. ولن يكون عالما بهذه الأحوال إلا وهو
عالم بتوحيد الله تعالى وعدله ، وما يجب له من الصفات وما يصح وما يستحيل ، وما
يحسن منه فعله وما لا يحسن بل يقبح ، فمن اجتمع فيه هذه الأوصاف وكان عالما بتوحيد
الله وعدله وبأدلة الفقه وأحكام الشرع ، وكان بحيث يمكنه حمل المتشابه على المحكم
والفصل بينهما ، جاز له أن يشتغل بتفسير كتاب الله تعالى ، ومن عدم شيئا من هذه
العلوم فلن يحل له التعرض الكتاب الله جل وعز ، اعتمادا على اللغة المجردة ، أو
النحو المجرد ، أو الرواية فقط.
يبين ما ذكرناه
ويوضحه ، أن المفسر لا بد من أن يكون بحيث يمكنه حمل قوله
تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) على قوله : (قُلْ هُوَ اللهُ
أَحَدٌ (١)) وقوله : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا
لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) إلى قوله : (وَما خَلَقْتُ
الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦)) وهكذا الحال في غيرهما من الآيات المتشابهة والمحكمة.
فهذا هو الذي يجب
أن يكون عليه المفسر من الأوصاف.
وأما من عداه من
المكلفين ، فالذي يلزمه في القرآن أن يعتقد أنه كلام رب العزة على ما قاله جل وعز
: (وَلَوْ كانَ مِنْ
عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) وأن محكمه يوافق متشابهه ، وأنه لا تناقض فيه ولا كذب ،
وأنه محروس عن المطاعن ، لا زيادة فيه ولا نقصان ، وأن يؤمن به على الجملة.
إن سأل سائل فقال
: أليس من مذهبكم أن القرآن مما يعرف المراد بظاهره ، فكيف احتاج والحال ما قلتموه
إلى التفسير وهلا دلكم ذلك على ما قاله أصحاب الوقف والروافض ، الذين يقولون : إنه
مما لا يعلم تأويله ولا المراد بظاهره.
قيل له : إن
احتياج القرآن إلى مفسر بلفظ أوضح منه مما لا يخرجه عن إمكان أن يعرف المراد بظاهره
، لو لا ذلك وإلا كان لا يمكن المفسر أن يفسره وكان لا يكون التفسير تفسيرا له ،
فما ذكرتموه غير قادح فيما قلناه. وإنما احتيج إلى تفسير القرآن ، لأن دعوة النبي عليهالسلام انتشرت في عالم الله تعالى وبلغت العالم ولم تقتصر على
العرب ، فلم يكن بد من أن نفسر لهم ذلك حتى يمكنهم معرفته ، كما أنا إذا أردنا أن
نفهم العرب ما نقوله بلساننا فلا يمكننا ذلك إلا بأن نفسره لهم ، كذلك هاهنا.
فهذه جملة الكلام
في الأصل الثاني.
الأصل الثالث
الوعد والوعيد
الأصل الثالث من
الأصول الخمس وهو الكلام في الوعد والوعيد
كان يجب أن نذكر
حقيقة الوعد والوعيد على العادة ، غير أنا قد ذكرناه فيما تقدم فلا نعيده ، ونشتغل
بما يختص هذا الموضع.
وجملة الكلام في
هذا الباب يقع في ثلاثة مواضع :
أحدها : الكلام في المستحق بالأفعال.
والثاني : الكلام في الشروط التي معها تستحق.
والثالث : الكلام في كيفية الاستحقاق ، أهو على طريق الدوام ، أم
على طريق الانقطاع.
المستحق بالأفعال :
أما المستحق
بالأفعال ، فهو المدح والذم وما يتبعهما في الثواب والعقاب ، ولكل واحد في هذه
الألفاظ معنى.
أما الذم ، فهو
قول ينبئ عن اتضاع حال الغير ، وهو على ضربين :
الذم وضرباه :
ضرب يتبعه العقاب
من جهة الله تعالى ، وذلك لا يستحق إلا على المعصية ، وحقيقة المعصية فعل ما يكرهه
الغير مع نوع من الرتبة. وهو أن يكون العاصي دون المعصى ، ولهذا لا يقال عصى
الأمير فلانا كما يقال عصى فلان الأمير ، ولا يفهم من إطلاق هذه الكلمة غير معصية
الله تعالى ، حتى أنك لو أردت غيرها لقيدت فقلت : عصى فلان أباه أو جده أو الأمير
، إلى غير ذلك.
وضرب لا يتبعه
العقاب من جهة الله تعالى.
المدح :
وأما المدح فمعناه
، قول ينبئ عن عظم حال الغير ، وينقسم أيضا إلى :
ما يتبعه الثواب
من جهة الله تعالى ، وما لا يتبعه الثواب.
وما يتبعه الثواب
من جهة الله تعالى فإنه لا يستحق إلا على الطاعة ، وحقيقة الطاعة قد مر في غير هذا
الموضع.
وأما ما لا يتبعه
الثواب ، فهو المدح المقابل للنعمة ، المستحق ، فهذا فهو حقيقة هذه الألفاظ.
الشروط التي تستحق بها الأحكام :
وأما الكلام في
الشروط التي معها تستحق هذه الأحكام ، فاعلم : أنا قد ذكرنا أن الذم ينقسم إلى ما
يتبعه العقاب من جهة الله ، وإلى ما لا يتبعه العقاب.
ما يتبعه العقاب
فالشرط في استحقاقه شرطان : أحدهما يرجع إلى الفعل ، والآخر يرجع إلى الفاعل. ما
يرجع إلى الفعل فهو أن يكون قبيحا ، وما يرجع إلى الفاعل ، فهو أن يعلم قبحه أو
يتمكن من العلم بذلك ، ولهذا قلنا : إن الصبي لا يستحق على فعل القبيح الذم لما لم
يكن عالما بقبحه ، ولا متمكنا من العلم بذلك.
وقلنا : إن
الخارجي يستحق الذم على قتل المسلم وإن كان قد اعتقد أنه حسن ، لما كان متمكنا من
العلم بقبحه ، هذا في الذم الذي يتبعه العقوبة في جهة الله تعالى.
وما لا يتبعه
العقوبة من جهة الله تعالى فإن الشرط في استحقاقه أيضا شرطان : أحدهما يرجع إلى
الفعل ، وهو أن يكون إساءة ، والآخر يرجع إلى الفاعل وهو أن يكون قد قصد بفعلها
الإساءة إليه.
وكما ذكرنا : إن الذم
قسمان على ما ذكرنا : فقسم منه يتبعه العقاب ، وقسم منه لا يتبعه ذلك. فكذلك المدح
أيضا قسمان على ما ذكرنا ، فقسم يتبعه الثواب من جهة الله تعالى ، والشرط في
استحقاقه شرطان : أحدهما ، يرجع إلى الفعل وهو أن تكون له منفعة زائدة على حسنه ،
والآخر يرجع إلى الفاعل وهو أن يكون عالما بأن له صفة زائدة على حسنه ، فلا بد من
اعتبارهما معا كما في الذم ، ولهذا قلنا : إلى الصبيان لا يستحقون على أفعالهم
المدح ، لما لم يعلموا أن لها صفة زائدة على الحسن.
وأما ما لا يتبعه
الثواب من جهة الله تعالى ، فالشرط فيه أيضا شرطان : أحدهما ،
يرجع إلى الفعل ،
والآخر يرجع إلى الفاعل. والراجع إلى الفعل فهو أن يكون إحسانا ، والراجع إلى
الفاعل هو أن يكون قاصدا به وجه الإحسان إليه.
وهذه هي الشروط
التي معها يستحق المدح والذم على الأفعال.
وأما الشروط في
استحقاق الثواب والعقاب على الأفعال فكالشروط في استحقاق المدح والذم عليهما ، غير
أنه لا بد في اعتبار شرط آخر فيهما ، وهو أن يكون الفاعل ممن يصح أن يثاب ويعاقب ،
وإن شئت قلت الشرط : هو أن يكون الفاعل ممن يفعل ما يفعله لشهوة أو شبهة ، ولذلك
قلنا : إن الهنود يستحقون على إحراقهم أنفسهم العقوبة من جهة الله تعالى وإن كانوا
لا يفعلون ما يفعلونه لشهوة بل لشبهة اعترضتهم ، وهو أنهم يتخلصون بذلك من عالم
الظلمة إلى عالم النور ، وإنما لم يكن بد من اعتبار هذا الشرط ، لأنه لو لم يعتبر
للزم استحقاق القديم تعالى العقوبة ، ومعلوم أنه لو قدر وقوع القبيح من جهته لم يستحق
العقوبة ، وإن استحق الذم ، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
فهذه جملة الشروط
التي يجب اعتبارها في ذلك.
فإن قيل : هذه
الشروط المعتبرة في استحقاق المدح والذم والثواب والعقاب ، فما المؤثر في ذلك؟ قيل
له : فعله القبيح هو المؤثر ، وما عداه شرط.
وإنما قلنا : إن
هذا هكذا ، لأنه لا يجوز في علمه بقبح القبيح أو تمكينه من ذلك أن يكون مؤثرا في
استحقاق العقاب ، فإن ذلك مما يكون من قبل الله تعالى ، وفعل الله تعالى لا يجوز
أن يستحق عليه العقوبة ، وإنما يستحق العقاب على ما يفعله لا غير ، هذا في الذم
والعقاب.
المؤثر في استحقاق المدح والثواب :
وأما المؤثر في
استحقاق المدح والثواب ، فهو فعله للواجب ، واجتنابه للقبيح وما يجري هذا الجري ،
وما عداه شرط فيه.
وإذ قد عرفت هذه
الجملة ، فاعلم أنه تعالى إذا كلفنا الأفعال الشاقة فلا بد من أن يكون في مقابلها
من الثواب ما يقابله ، بل لا يكفي هذا القدر حتى يبلغ في الكثرة حدا لا يجوز
الابتداء بمثله ولا التفضل به ، وإلا كان لا يحسن التكليف لأجله.
وإنما قلنا : إن
هذا هكذا ، لأنه لو لم يكن في مقابلة هذه الأفعال الشاقة ما
ذكرناه ، كان يكون
القديم تعالى ظالما عابثا على ما تقدم عند الكلام في الآلام والأعواض.
فإن قيل : هلّا
كفى أن يستحق المكلف في مقابله هذه الأفعال الشاقة المدح؟ قيل له : لا ، لأن المدح
لا يقع به الاعتداد متى تجرد عن نفع يتبعه.
وأيضا ، فإن المدح
لا يستحق من الله تعالى على الخصوص ، بل القديم وغير القديم سواء في استحقاق المدح
من جهته ، وما يستحق في مقابلة التكليف فلا بد من أن يكون من فعل الله تعالى.
ومتى قالوا : هلّا
كفى المدح من جهة الله تعالى؟ قلنا : لا يقع الاعتداد به أيضا على ما ذكرناه.
فإن قيل : كيف يصح
قولكم هذا ومعلوم أن أحدنا يبذل جهده حتى يحمد السلطان أمره ويمدحه ولا يبالي بما
يتحمله من المشاق في ذلك؟ قيل له : إنما يرغب في ذلك لما يرجو في الجاه والحشمة
حتى لو تجرد المدح فإنه لا يرضى به ولا يختاره.
فإن قيل : أو ليس
العرب بذلوا مهجهم وأموالهم طلبا للمدح والذكر ، حتى عدوا الذكر عمرا ثانيا؟ قلنا
لهم : إن ذلك أحد جهالاتهم التي يوصفون بها ، وعلى كل حال فلا بد أن يكونوا
اعتقدوا في ذلك نفعا يزيد على ما يلحقهم من المشاق ، وصار ذلك كإيصائهم بعقر بعير
وحبس فرس أو جمل على قبورهم ، وبنصب الرماح ووضع السيوف ، عليها ، كل ذلك لما
يعتقدون فيه في النفع العظيم.
وبعد ، فلو لم يكن
في هذه الأفعال مشقة ، وكنا نأتي بالواجبات ونتجنب القبائح لاستحققنا المدح ، وإذا
اعتراك في الواحد منا شك فلا شبهة في أنه تعالى يستحق المدح على فعل الواجب وترك
القبيح ، وإن كان لا تلحقه مشقة ، فلا بد إذا من أن يكون بإزاء هذه المشقة ما
يقابلها وهو الثواب على ما نقوله.
وبعد ، فإن المدح
مما يمكن إيصاله إلى مستحقه من دون الإعادة ، فكان لا يثبت للإحياء بعد الإماتة
وجه ، وفي علمنا بأنه تعالى يعيد الإحياء بعد الإماتة قطعا دليل على أنه لا بد من
استحقاق الثواب ، الذي لا يمكن إيصاله إليهم إلا بالإعادة ، وهذا أيضا وجه.
وعلى هذا يجري
الجواب على قولهم : هلا جاز في المستحق على هذه الأفعال الشاقة أن يكون من جنس
السرور ، لأن السرور متى تجرد عن نفع ، لا يعتد به على ما ذكرناه.
فإن قيل : كيف يصح
قولكم : إن الثواب إنما يستحق على الأفعال الشاقة ، ومعلوم أن أحدنا يستحق الثواب
على ما لا مشقة فيه ، نحو معرفة الله تعالى وغير ذلك ، وكذلك فإن التقى الصالح
ربما لا تلحقه بهذه الطاعات كثير مشقة ، لما قد تعوده وألفه ، ثم لم يخرج بذلك عن
استحقاق الثواب عندكم.
قيل له : إنا لم
نوجب أن يكون في نفس الفعل مشقة ، بل يجوز أن يكون فيه أو في سببه ، أو في مقدمته
، أو فيما يتبعه ويتصل به ، ولا شبهة في أن معرفة الله تعالى بهذه المنزلة فإنها
وإن لم يثبت فيها مشقة ففي سببها وهو الفكر من المشقة ما لا يخفى ، وأيضا فإن
المحافظة عليها وتوطين النفس على حل الشبهة ودفع الخصوم مشاق عظيمة ، بل لو قيل :
بأن ما تتضمنه معرفة الله تعالى من المشقة ، لا يتضمنه غيرها في الأفعال لكان
ممكنا ، فكيف يصح ما ذكروه.
وقولهم : إن البر
التقي ربما لا يلحقه مشقة في أداء هذه الطاعات واجتناب المعاصي فكيف استحق عليه
الثواب بما لا معنى له ، فإن هذه الأفعال مما لا تعرى عن مشقة فيها أو فيما يتصل
بها على ذكرنا ، غير أنه من حيث راض نفسه على ذلك بأن وضع بين عينيه ما يستحقه على
الاشتغال بخلافها من العقاب ، وما يستحقه على الإتيان بها من الثواب ، سهل ذلك
عليه ، وصار كالتاجر الذي جعل ما يناله من الربح في تلك التجارة نصب عينيه ، فإنه
والحال هذه يسهل عليه ما يناله من مشاق السفر وغيره ، كذلك هاهنا ، وعلى هذا
المعنى قال الله تعالى : (وَإِنَّها
لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ).
وعلى هذه الطريقة
يجري الجواب عن قولهم : ألستم قد رويتم عن النبي صلىاللهعليهوسلم ، أن أحدنا يؤجر على قضاء وطره من الحلال ، ومعلوم أنه لا
مشقة في ذلك ، فإنا نقول : ليس يجب أن تكون المشقة في ذلك نفسه ، بل يكفي أن تتعلق
بتوطين النفس على الاقتصار عليها وأن لا يتجاوزها إلى من هي أشهى إليه منها ، فعلى
هذا يجري الكلام عندنا في استحقاق الثواب من جهة الله تعالى.
مخالفة أبي القاسم :
وأما شيخنا أبو
القاسم ، فقد خالف في هذه الجملة ، وقال : إن القديم تعالى إنما
كلفنا هذه الأفعال
الشاقة لما له علينا من النعم العظيمة فإن ذلك غير ممتنع ، فمعلوم أن من أخذ غيره
من قارعة الطريق فرباه وأحسن تربيته وخوله وموله وأنعم عليه بضروب من النعم ، جاز
له أن يكلفه فعلا يلحقه بذلك مشقة ، نحو أن يقول : ناوليني هذا الكوز ، أو تمم لي
هذا السطر ، ولا يجب أن يغرم في مقابل ذلك شيئا آخر ، كذلك في القديم تعالى فنعمه
عندنا لا تحصى وأياديه لدينا لا تحصر ولما ذهب في ذلك إلى ما ذكرناه قال : إنه
إنما يثبت المطيعين لا لأنهم استحقوا ذلك ، بل للجود.
والأصل في الجواب
عليه أن يقال : إن القديم تعالى إذا جعل هذه الأفعال الشاقة علينا وكان يمكنه ألا
يجعلها كذلك ، فلا بد من أن يكون في ذلك من الثواب ما ذكرناه. واستشهاده بالواحد
منا ، وأنه إذا أنعم على الغير بضروب من النعم فإنه يحسن منه أن يكلفه ما يلحق به
مشقة نحو أن يقول له : ناولني هذا الكوز أو ما يجري هذا المجرى فلا يصح ، لأنه
إنما يحسن منه ذلك في الموضع الذي لا يتبين للإنسان فيه كبير مشقة ، وليس كذلك
سبيل ما كلفنا الله تعالى ، ففي ذلك ما يتضمن الجود بالنفس ، والمخاطرة بالروح فلا
يقاس بما أورده ، ولهذا فلو كلف المنعم الذي وصفه المنعم عليه بما يتضمن المشقة
العظيمة ، نحو المواظبة على خدمته والقيام بين يديه آناء الليل والنهار وما شاء كل
ذلك ، لم يحسن إليه ، بل كان يكون للمنعم عليه أن يقول : كان من حقك ألا تتفضل
عليّ بالأول حتى لا تأخذني بهذه التكاليف من بعد.
أما قوله في
الثواب ، وأنه يجب إيصاله إلى المطيعين من حيث الجود ، فظاهر التناقض ، لأن الجود
هو التفضل ، والتفضل هو ما يجوز لفاعله أن يفعله وأن لا يفعله ، والواجب هو ما لا
يجوز له أن لا يفعله ، فكيف يقال : إن هذا يجب من حيث الجود ، وهل هذا إلا بمنزلة
أن يقال : يجب أن يفعل ولا يجب أن يفعل ، وذلك محال.
وإذ قد بينت هذه
الجملة ، فالذي نعلمه من حال الثواب المستحق من جهة الله تعالى ، أنه لا بد من أن
يكون من جنس الملاذ ، فأما أن يكون بالمآكل والمشارب والمناكح ، فإن طريقة السمع ،
ويمكن أن نعلمه أيضا بترغيب الله تعالى فيه ، فيقال : لو لم يكن من قبيل ما قد
اشتهيناه في الدنيا لكان لا يصح فيه الترغيب ، فهذا هو الذي نقوله في استحقاق
الثواب.
استحقاق العقاب :
وأما استحقاق
العقاب ، فالذي يدل عليه العقل والسمع أيضا.
أما الدلالة
العقلية في ذلك ، فدلالتان :
إحداهما : أن القديم تعالى أوجب علينا الواجبات والاجتناب عن المقبحات ،
وعرفنا وجوب ما يجب وقبح ما يقبح ، فلا بد من أن يكون لهذا التعريف والإيجاب وجه ،
ولا وجه له إلا أنا إذا أخللنا به أو أقدمنا على خلافه من قبيح ونحوه استحققنا من
جهته ضررا عظيما.
فإن قيل : ولم لا
يجوز أن يكون الوجه في ذلك ، أنا إذا أخللنا به وأقدمنا على خلافه استحققنا الذم
من الله تعالى ومن جهة العقلاء.
قيل له : إن الذم
إذا تعرى عن ضرر يتبعه لم يحتفل به ، ولهذا لا نبالي بذم هؤلاء المخالفين لنا لما
لم يتبعه مضرة.
فإن قيل : هلا جاز
أن يكون الوجه في الإيجاب هو لكي يستحق من جهته الثواب.
قيل له : لا ، لأن
الثواب نفع وطلب النفع لا يجب ، فالإيجاب لأجله لا يحسن ، لو لا ذلك وإلا كان يحسن
منه إيجاب النوافل ، فإن بها أيضا يستحق الثواب ، ومعلوم خلافه.
فإن قيل : هلا حسن
منه هذا الإيجاب لوجوب هذه الواجبات؟ قيل له : إن وجوب الشيء في نفسه لا يكفي في
حسن الإيجاب ، ولهذا فإن من خوفه السلطان بقطع عضو من أعضائه إن لم يشاطره على
ماله ، فإنه يجب عليه أن يشاطره على ما له وإن كان لا يحسن من السلطان ذلك
الإيجاب.
فإن قيل : يلزم
على هذا تجويز أن يوجب الله تعالى القبائح ، ويقبح الواجبات ، ومتى امتنعتم من ذلك
فلا ذلك : إلا لأن الإيجاب إنما يجوز ويحسن لوجوب الشيء في نفسه. قيل له : إن ما
ذكرته مما لا يلزمنا ، لأنا قلنا ، لا يكفي وجوب الشيء في حسن الإيجاب ، بل لا بد
من اعتبار أمر آخر وهو استحقاق الضرر إن أخللنا به ، وإنما كان يلزم ذلك ، أن لو
قلنا : لا يجب فيما أوجبه الله تعالى أن يكون واجبا أصلا ، وذلك مما لم نقله ،
فهذه دلالة.
والدلالة الثانية
: ما قاله الشيخ أبو هاشم ، وتحريرها ، أن القديم تعالى خلق فينا شهوة القبيح
ونفرة الحسن ، فلا بد من أن يكون في مقابلته من العقوبة ما يزجرنا عن
الإقدام على
المقبحات ، ويرغبنا في الإتيان بالواجبات ، وإلا كان يكون المكلف مغرى بالقبح
والإغراء بالقبيح لا يجوز على الله تعالى.
فإن قيل : إن
بالذم يزول الإغراء ويثبت الخوف ، قيل له : قد مضى ما هو جواب عن ذلك ، فقد ذكرنا
أن الذم المجرد مما لا يقع به الاعتداد.
فإن قيل : إن ظن
العقاب والخوف منه يزيل الإغراء ، فمن أين قطعتم على استحقاق العقوبة من جهة الله
تعالى؟ قيل إن ظن العقاب إنما يؤثر في زوال الإغراء متى كان استحقاق العقاب معلوما
ثم ظن أنه يفعل به ما يستحقه ، فحينئذ يؤثر في زوال الإغراء ، فأما على خلاف هذه
الطريقة فلا. وعلى هذا فإن أحدنا لو أخبر بأن في الطريق سبعا ، فإنه يخاف سلوك ذلك
الطرق متى علم مضرة السبع قطعا ، وأنه من الأجناس المضرة المؤذية ، ثم يظن أنه إن
سلك تلك الطريق ربما يناله ضرر ، فحينئذ يصرفه ذلك عن سلوك تلك الطريق ، فأما ذلك
إذا لم يكن الحيوان من الأجناس المؤذية ، ولا يكون هناك مضرة معلومة ، فإنه مما لا
يصرفه من سلوكها ، كذلك هاهنا ، وهذا هو الطريق العقلي.
أما الدلالة
السمعية في ذلك ، فهو أنه تعالى وعد المطيعين بالثواب ، وتوعد العصاة بالعقاب ،
فلو لم يجب لكان لا يحسن الوعد والوعيد بهما ، وقد اعتمد هذه الطريقة أبو القاسم
الموسوي ، وقال : لا يصح الاعتماد على غيرها في ذلك ، ونحن قد ذكرنا أن الدلالة
العقلية في هذا الباب كالدلالة السمعية في إمكان الاعتماد عليها.
شبه الملحدة :
وقد تعلقت الملحدة
في ذلك بشبه وهي أن قالوا : إن غرض القديم بالتكليف نفع المكلف فإذا لم ينتفع
المكلف بتكليف الله تعالى إياه ، فليس يجوز أن يعاقب ، وأكثر ما فيه أنه فوت على
نفسه النفع ، فكيف يحسن من الله تعالى أن يعاقبه لذلك ، وصار الحال فيه كالحال في
الأجير إذا فوت الأجرة على نفسه بأن ترك العمل ، فكما أنه لا يحسن من المستأجر أن
يجرده للسياط لتفويته الأجرة على نفسه ، كذلك هاهنا.
وجوابنا ، أن الله
تعالى لا يعاقب المكلف لأجل أنه فوت على نفسه النفع بالتكليف ، وإنما يعاقبه
لإقدامه على القبيح وإخلاله بالواجب ، ذلك وجه استحقاق العقاب كما في الذم ، ألا
ترى أن العقلاء لا يذمون المخل بالواجب والفاعل للقبيح على تفويت النفع بالواجب
على نفسه ، وإنما يذمونه لإخلاله بالواجب وإقدامه على
القبيح ، فكذلك في
العقاب ، وقياسهم ذلك على الشاهد لا يصح ، لأن العباد لا يستحق بعضهم من بعض
العقاب.
ومما يتعلقون به
في ذلك ، أن العقاب ضرر من جهة الله تعالى ، وإيصال الضرر إلى الغير إنما يحسن
لتشفي الغيظ ، أو لنفع المعاقب أو المعاقب ، وأي هذه الوجوه كان فهي مفقودة في
مسألتنا هذه ، فيجب القضاء بقبح العقاب من جهة الله تعالى.
والجواب ، أن هذه
القسمة محتملة للزيادة غير مترددة بين النفي والإثبات ، فلا يصح الاحتجاج بها ،
على أن هذه الوجوه التي ذكرتها مما لا تأثير لها في حسن العقاب فإن تشفى الغيظ مما
لا يتضمن وجها في حسن الإضرار بالغير ، وهكذا نفع المعاقب ، وبعد ، فقد خلت هذه
القسمة عن مذهب الخصم ، فإن من مذهب من خالف في هذه المسألة أنه إنما يحسن من الله
تعالى معاقبة المكلف لاستحقاقه له بإقدامه على القبائح وإخلاله بالواجبات ، ولم
يدخل هو هذا القسم في القسمة ، التي أوردها ففسد كلامه. ثم تقلب عليهم هذه القسمة
في الذم. فيقال : إن الذم أيضا ضرر فيجب أن لا يحسن إلا لتشفي الغيظ أو للنفع على
ما ذكرتموه ، ومعلوم خلافه. فإن قالوا : بل للاستحقاق ، قلنا : فارضوا منا بمثله
في العقاب ، فثبت بهذه الجملة استحقاق الثواب والعقاب ، وإذا صح ذلك ، فاعلم أن
الثواب إنما يستحق على الطاعات والعقاب على المعاصي.
فإن قيل : يجب على
هذا أنه لو جمع المكلف بين الطاعات والمعاصي أن يكون مثابا معاقبا في حالة واحدة ،
وذلك محال. وجوابنا أن هذا إنما يلزمه لو لم يسقط واحد منهما الآخر ، فأما إذا سقط
الأقل بالأكثر فإن ذلك مما لا يجب.
فإن قيل : فما
قولكم فيمن استويا في حقه أكان يجب أن يثاب ويعاقب دفعة واحدة؟ قيل له إنهما لا
يستويان ، ولا خلاف في ذلك بين أبي علي وبين أبي هاشم ، وإنما الخلاف في أن ذلك
يعلم عقلا وسمعا أو لا يعلم إلا سمعا.
فعند أبي علي. أن
ذلك يعلم عقلا وسمعا ، وقال أبو هاشم : لا يعلم إلا سمعا ، فإن الأمة أجمعت على أن
لا دار غير الجنة والنار ، فلو تساوت طاعات المكلف ومعاصيه لكان لا يخلو حاله من
أحد الأمرين : فإما أن يدخل النار وذلك ظلم ، وإما أن يدخل الجنة ثم لا يخلو حاله
وقد دخل الجنة ، إما أن يثاب وذلك لا يجوز ، لأن إثابة من لا يستحق الثواب قبيح ،
والله تعالى لا يفعل القبيح ، وإما أن يتفضل الله عليه
كما تفضل على
الأطفال ، والمجانين وذلك مما لا يصح أيضا وقد اتفقت الأمة على المكلف إذا دخل
الجنة فلا بد من أن يميز حاله من حال الولدان المخلدين ، وعن حال الأطفال
والمجانين ، فليس إلا أن نقطع أنه لا تتساوى طاعات المكلف ومعاصيه وقد خالف في هذه
الجملة الصوفية وبعض السادات وقالوا : إن بين الجنة والنار مواضع يقال لها الأعراف
، وعلى هذا قال تعالى : (وَنادى أَصْحابُ
الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ) وذلك مما لا وجه له لأنه خرق الإجماع. وأما الأعراف
المذكورة في القرآن فإنها مواضع في الجنة مرتفعة سميت بذلك لارتفاعها كما في عرف
الديك والدابة وغيرهما.
الإحباط والتكفير :
وإذ قد تقررت هذه
الجملة ، فاعلم أن المكلف لا يخلو ، إما تخلص طاعاته ومعاصيه ، أو يكون قد جمع
بينهما ، وإذا كان قد جمع بينهما فلا يخلو ، إما أن تتساوى طاعاته ، ومعاصيه ، أو
يزيد أحدهما على الآخر فإنه لا بد من أن يسقط الأقل بالأكثر ، وإن شئت أوردت ذلك
على وجه آخر ، فقلت : إن المكلف لا يخلو ، إما أن يستحق الثواب أو أن يستحق العقاب
من كل واحد منهما قدرا واحدا ، أو يستحق من أحدهما أكثر مما يستحق من الآخر. لا
يجوز أن يستحق من كل واحد منهما قدرا واحدا لما قد مر ، وإذا استحق من أحدهما أكثر
من الآخر فإن الأقل لا بد من أن يسقط بالأكثر ويزول ، وهذا هو القول بالإحباط
والتكفير على ما قاله المشايخ.
المخالفون في الإحباط والتكفير :
وقد خالفنا في ذلك
كثير من المرجئة ، وعباد بن سليمان الصيمري ، فإن مذهبه أن العقوبة لا تزول إلا
بالتوبة ، فأما كثرة الطاعات فمما لا تأثير لها في ذلك ، غير أنه يثبت مزية لمن
خلط الطاعات بالمعاصي لا يثبتها لمن خلصت معاصيه ، وتلك المزية والتفرقة إذا لم
يرجع بهما إلى ما ذكرناه من الإحباط والتكفير لا يعقل ولا يثبت لهما معنى.
وجملة القول في
ذلك ، هو أنا قد ذكرنا أن المكلف إما أن تخلص طاعاته أو معاصيه ، أو يجمع بينهما
ويخلطه ، فإذا جمع بينهما فلا سبيل إلى التساوي على ما تقدم ، فليس إلا أن يكون
أحدهما أكثر من الآخر والآخر أقل منه ، فيسقط الأقل بالأكثر ، وهذا هو الذي نعنيه
بالإحباط والتكفير.
فإن قيل : هذا
الذي ذكرتموه بيان المذهب ومعنى القول بالإحباط والتكفير ، فما الدلالة على ذلك؟
قيل له : الدليل عليه ، هو ما قد ثبت أن الثواب والعقاب يستحقان على طريق الدوام ،
فلا يخلو المكلف إما أن يستحق الثواب فيثاب ، أو يستحق العقاب فيعاقب ، أو لا
يستحق الثواب ولا العقاب فلا يثاب ولا يعاقب ، أو يستحق الثواب والعقاب فيثاب
ويعاقب دفعة واحدة ، أو يؤثر الأكثر في الأقل على ما نقوله. لا يجوز أن لا يستحق
الثواب ولا العقاب فإن ذلك خلاف ما اتفقت عليه الأمة ، وأيضا فقد أدللنا على
استحقاق المكلف الثواب والعقاب فلا وجه لذلك ، ولا يصح أيضا أن يستحق الثواب
والعقاب معا فيكون مثابا معاقبا دفعة واحدة لأن ذلك مستحيل ، والمستحيل مما لا
يستحق ، لأن الاستحقاق يترتب على صحته أن يفعل وإمكانه ، إذ المرجع به إلى حسن فعل
أو وجوبه لأمر متقدم على وجه لولاه لما حسن أو لما وجب ، وهذا كما ترى مبني على
الصحة ، فلا يصح إلا ما ذكرناه من أن الأقل يسقط بالأكثر.
وهذا هو الذي
يقوله الشيخان أبو علي وأبو هاشم ولا يختلفان فيه ، وإنما الخلاف بينهما في كيفية
ذلك على ما سيجيء من بعد إن شاء الله وحده.
فإن قيل هلّا كان
الحال في الثواب والعقاب عندكم في أن لا يقع بينهما الإحباط والتكفير كالحال في
العوض مع العقاب؟ قيل له : إن كان المذهب ما اختاره أبو علي فلا سؤال ، لأنه سوى
بينهما أو يجري على القياس ، وإن كان المذهب ما يقوله أبو هاشم ، فالفرق ظاهر ،
لأن الذي له ولأجله قال بأن الثواب يحبط بالعقاب ، هو أنهما يستحقان على طريق
الدوام ، وأن أحدهما يستحق على سبيل التعظيم والإجلال ، والآخر على سبيل الاستحقاق
والنكال ، ولا يمكن الجمع بينهما ، وهذا غير ثابت في العوض مع العقاب ، فلا معنى
لقياس أحدهما على الآخر.
يبين ذلك ، أن
العوض لا يستحق دائما ، ولا هو مستحق على سبيل التعظيم والإجلال حتى يثبت بينه
وبين العقاب منافاة ، وإذا كان هذا هكذا سقط ما قالوه ، وصح أن من يستحق العوض على
الله والعقاب منه ، فإنه إن شاء وفر عليه ما يستحق من العوض في الدنيا ، وإن شاء
في عرصات القيامة ، وإن شاء جعله تخفيفا من عقابه ، لا لأن العوض يستحق على هذا
الوجه ، لكن لأن إيصاله إليه على الوجه المستحق لا يمكن.
وأول هذه الوجوه
أوضح ، والثالث جيد ، فأما الثاني ففيه كلام ، لأن الأمة
اتفقت على أن من
فارق الدنيا مستحقا للعقوبة ، لم ينله بعد ذلك. روح ولا راحة ، ومتى قيل على الوجه
الغالب أن هذا يقتضي الفرار إلى ما فررتم منه ، وهو القول بوقوع الإحباط في العوض
والعقاب ، كان الجواب أن يقال : ولا كذلك ، فإنه لو استحق مثلا عشرة أجزاء من
العوض لا يسقط بهذا القدر من العقاب إلا وقتا واحدا ، خلاف ما لو كان الكلام في
الثواب والعقاب فلا يصح ما توهمه.
فهذا هو الجواب
عما أورده من السؤال علي أبي هاشم.
وأما أبو علي ،
فقد حكينا عنه التسوية بين العوض والثواب في هذا الباب ، ولعله إنما يسوى بينهما
من حيث كان يقول : إن العوض يستحق على طريقة الدوام كالثواب ، فأما بعد رجوعه عن
ذلك فلا يبقى للشبهة في هذه المسألة موقع.
اختلاف أبي علي وأبي هاشم :
فإن قيل : إذا كان
الشيخان لا يختلفان في وقوع الإحباط والتكفير ، ففي أي موضع اختلفا في هذه المسألة
قلنا في موضعين : أحدهما ، أن الإحباط والتكفير إذا وقعا في الطاعة والمعصية أم في
الثواب والعقاب ، فقال أبو علي : إنهما يقعان في الطاعة والمعصية لأنهما اللذان
يصح أن يؤثر أحدهما في الآخر ، دون الثواب والعقاب اللذين لا يوجدان معا حتى يصح
تأثير أحدهما في الآخر. وقال أبو هاشم : لا بل يقعان في الثواب والعقاب ، قال :
وذلك لأن الذي أوجب القول في الإحباط والتكفير هو امتناع الجمع بينهما للمنافاة ،
والذي امتنع الجمع بينهما إنما هو الثواب والعقاب ، حيث كان أحدهما مستحقا على
سبيل التعظيم والإجلال ، والآخر على سبيل الاستحقاق والنكال دون الطاعة والمعصية ،
فمعلوم أن الجمع بينهما ممكن غير متعذر ، فيجب أن لا يقع الإحباط والتكفير إلا في
المستحقين على ما ذكرته.
وقال أيضا : إن
الطاعة والمعصية متى خرجتا عن أن يستحق عليهما الثواب والعقاب ، كأن تقعا من صبي
أو مجنون لم يقع فيهما الإحباط والتفكير ، فمتى وقعا على الحد الذي يستحق عليه
الثواب والعقاب وقع فيهما الإحباط والتكفير فيجب أن لا يجب إلا في المستحقين ،
وذلك ظاهر.
وقال أيضا : إنا
لا نعني بالإحباط والتكفير إلا أنه لا يحسن من الله تعالى فعل ما كان قبيحا منه ،
أو يقبح منه فعل ما كان حسنا ، فلا بد من أن يقعا فيما يتغير حاله من حسن إلى قبح
ومن قبح إلى حسن ، دون الطاعة والمعصية فإنهما إذا وقعا لم يتغير
حالهما بعد ذلك.
وبهذه الطريقة
نجيب عن قول أبي علي ، أي كيف يقع الإحباط والتفكير بين المستحقين ، وهما معدومان
لا يصح أن يؤثر أحدهما في الآخر؟ فنقول : إنا إذا قلنا إن الأقل يسقط بالأكثر ،
فإن الأكثر يؤثر فيه ، فلسنا نعنى به إلا أنه لا يحسن من الله تعالى فعله
بالمكلفين بعد ما ما كان حسنا ، لا أن هناك تأثير مثل تأثير العلة في المعلول ، أو
السبب في المسبب ، فيسقط ما تعلق به ، ويسلم ما اختاره أبو هاشم.
الخلاف بين الشيخين في الموازنة :
وهنا موضع آخر وقع
فيه الخلاف بينهما ، وهو الكلام في الموازنة ، فإن أبا علي ينكره ، وأبا هاشم
يثبته ويقول به ، وصورته أن يأتي المكلف بطاعة استحق عليها عشرة أجزاء من الثواب ،
وبمعصية استحق عليها عشرين جزءا من العقاب ، فمن مذهب أبي علي أنه يحسن من الله
تعالى أن يفعل به في كل وقت عشرين جزءا من العقاب ، ولا يثبت لما كان قد استحقه
على الطاعة التي أتى بها تأثير ، بعد ما ازداد عقابه عليه. وقال أبو هاشم : لا ،
بل يقبح من الله تعالى ذلك ولا يحسن منه أن يفعل به من العقاب إلا عشرة أجزاء ،
فأما العشرة الأخرى فإنها تسقط بالثواب الذي قد استحقه على ما أتي به من الطاعة ،
وهذا هو الصحيح من المذهب ، ولعمري إنه القول اللائق بالله تعالى دون ما يقول أبو
علي ، والذي يدل على صحته هو أن المكلف أتى بالطاعات على الحد الذي أمر به ، وعلى
الحد الذي لو أتى بها منفردا عن المعصية لكان يستحق عليها الثواب ، فيجب أن يستحق
عليها الثواب وإن دنسها بالمعصية ، إلا أنه لا يمكن والحالة هذه أن يوفر عليه على
الحد الذي يستحقه لاستحالته ، فلا بد من أن يزول من العقاب بمقداره ، لأن دفع
المضرة كالنفع في أنه مما يعد في المنافع ، وعلى هذا يصح قوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ
خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨)).
فأما على مذهب أبي
علي ، يلزم أن لا يكون قد رأى صاحب الكبيرة شيئا مما أتى به من الطاعات ، وقد نص
الله تعالى على خلافه. ومتى قيل : فكيف لم يثبه أن لو كان الأمر على ما يظنونه ،
قلنا : لما قد ذكرنا من أن إثابته غير ممكن ولا متصور.
وأما شيخنا أبو
علي ، فقد تعلق في ذلك بوجوه : أحدها ، هو أن الفاسق بإقدامه على المعاصي وارتكابه
الكبائر قد جنى على نفسه. وأخرجها من أن تستحق الثواب
البتة ، وعلى هذا
المعنى قال تعالى : (أَنْ تَحْبَطَ
أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) وصار حاله كحال من خاط لغيره ثوبا ثم فتقه قبل أن يسلمه
إلى صاحبه ، فإنه لا يستحق على الخياطة الأجرة لما قد أفسدها على نفسه بالفتق ،
كذلك هاهنا. وربما استدل على ذلك بقوله تعالى : (وَقَدِمْنا إِلى ما
عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ) الآية. ويقول : لو لا أن الأمر في ذلك على ما ذكرته وإلا
كان لا يصح ما ذكره الله تعالى في أعمال الكفار والمرتكبين للكبائر ، وربما يقول :
إن الثواب إذا سقط فإنما يسقط إما بالندم على ما أتى به من الطاعة ، أو بعقاب أعظم
منه ، ثم سقط بالندم الكل ، فكذلك إذا سقط بالعقاب الذي هو أعظم منه وجب أن يسقط
الكل ، فلا فرق بينهما في قضية العقل.
والأصل في الجواب
عن ذلك.
أما ما ذكره أولا
، وهو أن الفاسق لإقدامه على المعاصي وارتكابه الكبائر أخرج نفسه من أن يستحق
الثواب فلا يصح ، لأن الفاسق أتى بالطاعة على الوجه الذي كلف وأمر به ، وعلى حد لو
تفرد عن الكبيرة لكان يستحق عليها الثواب ، وارتكابه الكبيرة بعد ذلك لا يخرجه من
أن يكون مستحقا للثواب ، ففسد ما ظنه.
وأما ما أورده في
مثال ذلك فلا يصح أيضا ، لأن الخياط لم يستحق الأجرة من حيث أنه إنما يستحق الأجرة
على تسليم العمل ، ولم يسلمه ، بل فتقه قبل التسليم ، حتى لو قدرنا أن فتق بعد
التسليم لكان يسلك في ذلك طريقة الموازنة على ما نقوله ، وقوله تعالى : (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ) فإنا لا ننكره فهو كلام الله تعالى ووحيه وتنزيله ، إلا
أنه لا يقتضي إلا الإحباط على الحد الذي نقوله دون ما ذهب إليه ، فذلك محض الظلم
والله تعالى منزه عنه ، وأما قوله تعالى : (وَقَدِمْنا إِلى ما
عَمِلُوا) الآية. فإنه لا تعلق له بظاهره لأن الهباء إنما يستعمل في
أجسام رقيقة ، وأفعال العباد أعراض ، فكيف تجعل أجساما ، وهل ذلك إلا قلب الأجناس؟
ومتى عدل عن الظاهر واشتغل بالتأويل لم يكن هو به أحق منا فنتأوله على وجه يوافق
دلالة العقل والشرع ، فنقول : إن المراد أن الفاسق لا يستحق بأعماله الثواب على
الحد الذي كان يستحقه لو لم يدنسه بالمعصية الكبيرة ، فلا ينفع به كما لا ينفع
بالهباء المنثور.
وأما ما ذكره من
أن الثواب إنما يسقط بالندم أو بعقاب أعظم منه ، ثم إذا سقط بالندم سقط كله ،
وكذلك إذا سقط بالعقاب وجب أن يسقط كله ، فجمع بين أمرين من غير علة جامعة فلا يصح
، ثم يقال : إن الندم إنما أثر في سقوط الثواب بأجمعه ، لأنه بذل المجهود في تلافي
ما وقع منه حتى يصير في الحكم كأنه لم يفعل ما قد فعل ،
وهذا غير ثابت في
العقاب ، وتأثيره في الثواب فإنه إنما يؤثر في إزالته بطريقة المقابلة على الحد
الذي كشفناه ، فهذه جملة ما ذكروه في هذه المسألة.
فصل
واتصل بهذه الجملة
الكلام في الصغيرة والكبيرة ، وما يتعلق بهما لأننا إذا قلنا : إن ما يستحقه المرء
على الكبيرة من العقاب يحبط ثواب طاعاته ، وما يستحقه على الصغيرة مكفر في جنب
ماله من الثواب لم يكن بد من بيان معنى الكبيرة والصغيرة.
وجملة ذلك ، أن
الكبيرة في عرف الشرع هو ما يكون عقاب فاعله أكثر من ثوابه إما محققا وإما مقدرا.
وقد يستعمل ذلك على وجهين آخرين لا نذكرهما هاهنا ، فليس المقصود هاهنا إلا ما
ذكرناه.
وأما الصغيرة ،
فهو ما يكون ثواب فاعله أكثر من عقابه ، إما محققا وإما مقدرا ، واحترزنا في
الموضعين بقولنا : إما محققا وإما مقدرا عن الكافر ومن لم يطع البتة ، فإنه قد وقع
في أفعاله الصغيرة والكبيرة ، على معنى أنه لو كان له ثواب لكان يكون محبطا بما
ارتكبه من المعصية ، أو يكون عقاب ما أتى به من الصغيرة مكفرا في جنب ما يستحقه من
الثواب.
وقد أنكرت الخوارج
أن يكون في المعاصي صغيرة ، وحكمت بأن الكل كبيرة.
الخلاف بين أبي علي وأبي هاشم حول العلم باشتمال المعاصي
على صغير وكبير :
ولا خلاف في ذلك
بين شيخنا أبي علي وأبي هاشم ، وإنما الخلاف بينهما في هل يعلم عقلا اشتمال
المعاصي على صغير وكبير أولا يعلم ذلك إلا شرعا.
فذهب أبو علي إلى
أن ذلك لا يعلم إلا شرعا ، وقال : لو خلينا وقضية العقل لكنا نحكم بأن المعاصي
كلها كبائر ، فمعلوم أن أقل قليل المعاصي يستحق عليها جزءان من العقاب ، وأقل قليل
الطاعات يستحق عليها جزءا واحدا من الثواب ذلك لما للقديم تعالى علينا من النعم ،
ويجعل ذلك أحد الوجوه التي تعظم المعصية لأجلها ، ويشبه ذلك بإساءة الولد إلى
الوالد الشفيق البار ، قال : فكما أن ذلك أعظم من الإساءة إلى الأجنبي ، كذلك
الحال هاهنا ،
فإن قيل : وما تلك
الدلالة الشرعية التي دلتكم على أن في المعاصي ما هو كبير
وفيها ما هو صغير
، أفي كتاب الله تعالى ذلك ، أم في سنة رسوله عليهالسلام ، أم في اتفاق الأمة؟
قيل له : أما
اتفاق الأمة فظاهر على أن أفعال العباد تشتمل على الصغير والكبير غير أنا نتبرك به
ونتلو آيات فيها ذكر الصغير والكبير وما في معناه ، قال الله سبحانه وتعالى : (ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ
صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) [الكهف : ٤٩] وو
قال تعالى : (وَكُلُّ صَغِيرٍ
وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (٥٣)) [القمر : ٥٣] وقال
: (وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ
الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ) [الحجرات : ٧]
فرتب المعاصي هذا الترتيب ، بدأ بالكفر الذي هو أعظم المعاصي وثناه بالفسق وختم
بالعصيان ، فلا بد من أن يكون قد أراد به الصغائر ، وقد صرح بذكر الكفر والفسق
قبله. وقال أيضا : (الَّذِينَ
يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) [النجم : ٣٢] فلا
بد من أن يكون المراد باللمم الصغائر ، وإلا كان لا يكون للاستثناء معنى وفائدة ،
إذ المستثنى لا بد أن يكون غير المستثنى منه. وقال أيضا : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ
بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨]
وأراد به الصغيرة على ما شرحه المفسرون لكتاب الله تعالى في تفاسيرهم. فبهذه
الوجوه التي ذكرناها علم أن في المعاصي صغيرا كما أن فيها كبيرا ، وإلا فلو خلينا
وقضية العقل لكنا نقطع على أن الكل كبير على ما ذكرناه ، وأبو هاشم كان يقول : كنا
نعلم عقلا أن سرقة درهم لا تكون كسرقة عشر دراهم ، وأن أحدهما كبير والآخر خلافه ،
وذلك مما لا يصح لما قد تقدم.
خلاف جعفر ابن حرب :
ومما يذكر هاهنا ،
خلاف جعفر بن حرب : أن كل عمد كبير ، وأظن أن ذلك مذهبا لبعض السلف من أصحابنا ،
والذي يدل على أن ذلك مما لا يصح ، هو أن الكبير الصغير كما بينا إذا كان كلاما في
مقادير الثواب والعقاب فلا بد من أن يكون الطريق إليه دلالة شرعية ، ولا دلالة
تدلنا على أن كلها عمد كبير فيجب التوقف فيه ، ويجوز أن يكون كبيرا ، ويجوز أن
يكون صغيرا.
وبعد ، فإن الكفر
يكون كفرا وإن لم يكن هناك عمد ، وكذلك الكبير لا يمتنع أن يكون كبيرا ، وإن لم يكن
هنا عمد ، فلا يثبت والحال هذه للعمد تأثير ، فكان يجب متى وقع الفعل الذي لا يمكن
القطع بكونه كبيرا ولا عمد هناك إلا بقطع بكونه كبيرا وإن كان هناك عمد ، لأن
العمد مما لا تأثير له في كون الفعل كبيرا أو صغيرا.
لا يجوز أن يعرفنا الله بأعيان الصغائر :
ومما يدخل في هذه
الجملة ، أن الله تعالى لا يجوز أن يعرفنا الصغائر بأعيانها ، والذي يدل على ذلك
أن الصغائر إغراء بالقبيح ، والإغراء بالقبيح مما لا يجوز على الله تعالى.
فإن قيل : ولم
قلتم أن تعريف الصغائر من الله تعالى إغراء بالقبيح؟ قلنا : إن المكلف إذ علمها
صغيرة وأنهما مما لا يجوز أن يستحق بفعلها العقاب بل يكون عقابها مكفرا في جنب ما
له من الثواب ، كان في الحكم كالمبعوث عليها ، ومغرى بها. يبين ذلك ، أنه إذا علم
أن له فيه نفعا في الحال ، ولا مضرة لا في الحال ولا في المآل ، كان في الحكم كمن
قيل له : لم لا تفعله ولا تبعه عليك فهذا إغراء على ما قلناه وليس لأحد أن يقول :
إن مع العلم بقبحه لا يثبت الإغراء ، لأنه إذا انتفع به في الحال ولا مضرة له في
الحال ولا في المستقبل كان مغرى بفعله.
فإن قيل : إنه إذا
علم أنما يستحق على الصغيرة من العقاب يسقط جملة من ثوابه على قولكم بالموازنة ،
لا يكون مغرى بفعله ولا مبعوثا عليه.
قيل له : أما على
مذهب أبي علي فلا كلام فإنه لا يقول بالموازنة ، وأما على مذهب أبي هاشم ، فالجواب
، إن المكلف إذا علم انتفاعه بالصغيرة في الحال ، وعلم أنه لا يشتهي شيئا في
الآخرة إلا وصل إليه ما يشتهيه ، فإنه لا يبالي بسقوط ما سقط من ثوابه.
فإن قيل : فيجب
على هذا أن لا يحسن من الله تعالى التكليف بالنوافل والترغيب وفيما يستحق عليها من
الثواب ، فإن المكلف إذا علم أنه يصل إلى ما يشتهيه في الآخرة متى فعل الواجبات
واجتنب المقبحات لم يعتد بما يستحق على النوافل من الثواب. يزيد ذلك وضوحا ، أنه
كما يمكن أن يقال : إنه لا يعتد بما يسقط من ثوابه بالصغيرة إذا علم أنه لا يشتهي
شيئا إلا وصل إليه مع أنه كالحاصل له بالاستحقاق ، فبأن لا يعتد بما يستحقه على
النوافل من الثواب أولى وأحق ، لأنه لم يحصل بعد.
قيل له : فرق
بينهما ، فإن القديم إنما كلفنا النوافل وحسن منه ذلك لما كانت مسهلة للفرائض
داعية إليها. لا لمجرد الثواب ، حتى إن لم يقع به اعتداد وجب أن لا يحسن ، وليس
ذلك الحال في الصغيرة على ما ذكرنا.
فإن قيل : أليس
أنه الله تعالى عرف الأنبياء الصغائر بأعيانها ، فكيف منعتم من
ذلك؟ قيل له :
إنهم إنما يعلمون ذلك بعد الوقوع ، ونحن لا ننكر أن يعلموا ذلك بعد الوقوع.
فإن قيل : إذا علم
بعد الوقوع أنها صغيرة قاس عليها مثلها فيكون مغرى على فعلها ، قلنا : إن ذلك لا
يمكن ، لأن مثل الصغيرة يجوز أن يكون كبيرا ، على أن النبي إذا علم أن بعض ما قد
استحقه من الثواب سقط وسيسقط بصغيرة أخرى بقدرها ، كان ذلك أقوى الصوارف له إلى أن
يختار أمثاله ، فصح لك بهذه الجملة أن تعريف الصغائر مما لا يجوز على الله تعالى.
فإن قيل : لم
جوزتم على الله تعالى ما هو شر من هذا ، وهو تعريف بعض المكلفين أنه يبقى مدة من
الدهر ، وبشارة للبعض بالجنة ، وذلك نحو إخبار الله تعالى عليا عليهالسلام على لسان رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه يبقى إلى أن يقابل الناكثين والقاسطين والمارقين ،
ونحو بشارته بالخير.
قيل له : إن الفرق
بين المسألتين ظاهر ، فإن تعريف الصغائر موضوع للإغراء على ما وصفناه ، وليس هكذا
الحال في تعريف البقاء والبشارة بالجنة لأنهما ليس بموضوعين للإغراء ، بل الحال في
تعريف البقاء والبشارة بالجنة لأنهما ليس بموضوعين للإغراء ، بل الحال فيه يختلف
بحسب اختلاف الأشخاص ، ففي الناس من يكون ذلك داعيا له إلى التكثير في العبادات وصارفا
عن ارتكاب الفواحش ، ومنهم من يكون حاله بخلافه ، والله تعالى إنما يعرف ذلك من
المعلوم من حاله أنه لا يدعو إلى قبيح بل يصرفه عنه إلى ما ذكرناه.
فإن قيل : كيف
يمكن ادعاء أن ذلك ليس بموضوع للإغراء ، مع أنه ما من مكلف إلا ومتى علم أنه يبقى
مائة سنة كان ذلك داعيا له إلى أن لا يتجنب المحارم رجاء أن يتوب في آخر عمره
ويدخل الجنة.
قيل له : علمه
بأنه يبقى إنما يدعوه إلى الاشتغال بالمناكير متى قطع على أنه لا يستفد بها البتة
بل يثوب في آخر عمره لا محالة ، فأما ومن المجوز أن لا يتوب بأن يعرض عارض فيمنعه
من التوبة ويحول بينه وبينها ، لم يكن ، بدعوة الداعي إلى شيء مما يستضر به في
المستقبل على ما ظننتموه.
وأما البشارة
بالجنة ، فإنه لا بد من أن يقطع على أنه إنما يكون من أهل الجنة
متى اجتنب الفواحش
، وأدى الفرائض ، فكيف يدعوه الداعي والحال ما قلنا إلى الفساد.
فصل
قد ذكرنا أن المدح
والذم والثواب والعقاب يستحقان على الطاعة والمعصية ، والذي نذكره هاهنا أن المدح
والثواب كما يستحقان على الطاعة فقد يستحقان على أنه لا يفعل القبيح ، وأن الذم
والعقاب كما يستحق على فعل المعصية فقد يستحق على الإخلال بالواجبات ، وهذه مسألة
خلاف بين شيخنا أبي علي وأبي هاشم ..
هل يستحق الثواب والعقاب على الفعل وعدمه :
فعند أبي علي ، أن
الثواب والعقاب لا يستحق إلا على الفعل ، فأما على أنه لا يفعل فلأننا على قوله إن
القادر بالقدرة لا يخلو من الأخذ والترك.
وأما عند أبي هاشم
، فإن لا يفعل كالفعل في أنه جهة الاستحقاق وهو الصحيح من المذهب.
والذي يدل على صحة
هذا أنا متى علمنا إخلاله بالواجبات علمنا استحقاقه للذم وإن لم نعلم أمرا آخر ،
كما أنا متى عرفنا كونه عارفا فاعلا للقبيح علمنا أنه يستحق الذم وإن لم نعلم شيئا
آخر ، فيجب أن يكون كل واحد من الأمرين مؤثرا في استحقاق الذم على ما نقوله.
يبين ذلك ويوضحه ،
أن من كان عنده وديعة وطولب بالرد فاستلقى على قفاه وتثاقل ولم يرد استحق الذم ،
كما لو ظلمه وغصب قطعة من ماله ، وليس هاهنا ما يصرف إليه استحقاقه الذم سوى
إخلاله بما هو واجب عليه ، فيجب أن يكون الإخلال بالواجب كفعل القبيح في استحقاق
الذم عليه.
وأيضا ، فإنه
تعالى لو لم يثبت ما استحق الثواب أو لم يلطف ، مع أن له في المعلوم لطفا بعد
التكليف لاستحق الذم تعالى عن ذلك ، وإنما استحق لإخلاله بالواجب. وليس هاهنا ما
يلتبس الحال فيه فيقال : إنما الذم عليه لا على الإخلال بالواجب ، ولكن استحق الذم
لهذا الوجه ، ولئن أمكن الشيخ أبا علي أن يقول في الواحد منا أنه لا يخلو عن الأخذ
والترك ، فلا يمكن ذلك في الله تعالى ، فليس هو من القادرين بالقدرة.
يزيد هذه الجملة
وضوحا ، أن العقلاء يستحسنون ذم من لم يرد الوديعة مع الإمكان وزوال الأعذار ، إذا
علموا ذلك من حاله ، وإن لم يخطر ببالهم شيء آخر ، فلو لا أن الإخلال بالواجب جهة
في استحقاق الذم ، وإلا كان لا يجوز ذلك ، لأن العلم بحسن ذمه يتفرع على العلم بما
يستحق عليه الذم وهم لا يعلمون شيئا آخر سوى إخلاله بما وجب عليه من إزاحة العلة
والتمكين ، صح ما اخترناه من المذهب.
وأما أبو علي فقد
بينا مذهبه ذلك على أصل قد حكيناه عنه غير مرة ، وهو استحالة خلو القادر بالقدرة
عن الأخذ والترك ، وذلك أصل قد ثبت عندنا فساده ، وأشرنا إلى طريقة القول في
إفساده.
حيث بينا أن أحدنا
مع علمه بتصرفات الناس في الأسواق قد لا يريدها ولا يكرهها ، فقد خلا من الأمرين
جميعا ، ففسد أصله هذا ، وفساد الأصل يؤذن بفساد ما بنى عليه ، لأن فساد الأصل
يؤذن بفساد الفرع لا محالة.
كيف يكون الحال لو لم يثب الله من استحق الثواب :
وكذلك فقد ذكرنا
أن القديم تعالى إن لم يثب من استحق الثواب ، كيف يكون الحال.
ومن خالف في ذلك
فقد تعلق بوجوه :
منها ، هو أن
مذهبكم هذا يضارع مذهب جهم ، حيث جوّز أن يعاقب العبد على ما لا يتعلق به أصلا ،
بل حالكم أسوأ من حاله لأن أكثر ما جوّزه أن يعاقب العبد على ما لا يتعلق به ،
فأما أن لا يكون هناك فعل ينصرف إليه استحقاق الذم والعقاب فلا ، وأنتم قد جوزتم
أن يذم ويعاقب وإن لم يكن هناك فعل ولا كف ولا أخذ ولا ترك ولا صغيرة ولا كبيرة ،
وذلك أدخل في الجهالة من قول جهم.
وجوابنا ، أنك إن
أردت بما أوردته أنا نجوز ذم من يستحق الذم أصلا فليس كذلك ، إن إخلاله بالواجب
جهة استحقاق الذم معقوله على ما بيناه ، وإن أردت به أنا جوزنا أن يذم المرء
ويعاقب لا على فعل فذلك مجاب إليه وهو الذي اتخذناه مذهبا فما الذي يبطله ، وهل
هذه الطريقة إلا الطريقة التشنيع الذي لا يعجز عنه عاجز؟
ثم الفرق بيننا
وبينه هو أنه جوز أن يعاقب المرء على ما لا يتعلق به ، ولا بدواعيه البتة ، بل على
ما لا يقدر عليه ولا يطيقه أصلا ، وليس كذلك حالنا ، فإنا إنما
جوزنا ذمه
ومعاقبته على إخلاله بما وجب عليه بعد ما أعطى القدرة على ذلك ، وخلي بين فعله وأن
لا يفعل ، وأزيحت علته ، فكيف يشبه أحد المذهبين الآخر ، وهل هذا إلا من قلة التمييز
والتحصيل.
ومن ذلك قولهم :
إنكم إذا جوزتم أن يعاقب المكلف على أن لا يفعل ما وجب عليه ، فكأنكم جوزتم أن
يعاقب على العدم وذلك محال ، لأن هذا الفعل كان معدوما ولم يستحق عليه ذما ولا
عقابا ، وأيضا ، فإن العدم لا يقع فيه اختصاص ، فكان يجب إذا أخل أحد بالواجب أن
يستحق جميع من في العالم الذم ومعلوم خلافه.
والجواب عنه
كالجواب عما سبق ، وهو أنه لم يستحق الذم والعقاب على العدم ، حتى يلزم ما ظنوه
وإنما استحق ذلك على إخلاله بالواجب مع التمكين وإزاحة العلة.
ومنها : ما
يقولونه في ذلك : أن المكلف لو استحق الذم والعقاب على الإخلال بما وجب عليه ،
لوجب أن يستحق المدح والثواب على أن لا يفعل ما هو قبيح منه ، وهذا يوجب في المكلف
إذا جمع بين هذين الأمرين أن يكون مستحقا للثواب والعقاب وذلك محال ، ما أدى إليه
ويقتضيه وجب أن يكون محالا ، وليس ذلك إلا القول بأن لا يفعل ليس حجة في استحقاق
المدح والذم والثواب والعقاب.
وجوابنا ، إنما
كان يلزم ما ذكرتموه إن لو لم يقل بالإحباط والتكفير فأما ومن قولنا أنه إذا جمع
بين هذين الأمرين كان الحكم للأغلب منهما ، على ما نقوله فيما لو جمع بين الفعلين
استحق على أحدهما الثواب وعلى الآخر العقاب. فإن هذا الكلام ساقط. ومتى قالوا : أن
لا يفعل نفي ، والنفي لا يقع فيه التزايد فكيف يكون أحدهما أغلب من الآخر ، وكيف
يثبت لأحدهما حكم لا يثبت مثله في الآخر؟
كان الجواب ، إن
التزايد والحال ما ذكرتموه إنما يقع في الثواب المستحق على أن لا يفعل القبيح
المستحق على الإخلال بالواجب ، على مذهبنا أن الإحباط والتكفير إنما يقعان بين
المستحقين ، لا على ما يقوله أبو علي أنهما إنما يقعان بين الفعلين أو بين الفعل
وأحد المستحقين ، فقد هذا السؤال أصلا.
ومما يورده أصحاب
أبو علي في هذا الباب ، عبارات لا متعلق لهم بها ، نحو قولهم : إن من لم يرد
الوديعة أو أخل بغيره من الواجبات ، يسمى ظالما وغاصبا ومتعديا إلى غير ذلك من
الألفاظ ، وهذه الألفاظ والأسامي ، إنما تشق عن الأفعال ،
فلو لا أن هناك
أفعالا أخذت منها هذه الأشياء واشتقت منها ، وإلا كان لا يصح هذه التسمية.
والجواب ، أن هذا
توصل منكم بالعبارات إلى إفساد ما قد ركبه الله تعالى في العقول ، وذلك مما لا
سبيل إليه ، يبين ذلك ويوضحه أنهم يسمون من لم يرد الوديعة ظالما وإن لم يعلموا
هناك فعل البتة ، فكيف يصح ما ذكرتموه؟ فهذه جملة ما نذكره نحن في هذه المسألة ،
ولاستقصاء الكلام فيها واستيعاب الأسئلة والأجوبة مكان آخر هو أخص به من هذا
المكان.
فصل
قد ذكرنا أن المدح
والثواب والذم والعقاب ، كما يستحقه الواحد منا على فعل الطاعة والمعصية فقد
يستحقه على أن لا يفعل ، وذكرنا الوجه من ذلك حسب ما يتحمله الموضع ، والذي نذكره
هاهنا ما يؤثر في إسقاط الثواب والعقاب.
سقوط الثواب والعقاب :
اعلم أن الثواب
يسقط بوجهين : أحدهما ، بالندم ، على ما أتى به من الطاعات ، والثاني بمعصية هي
أعظم منه.
وإنما قلنا : إن
الثواب يسقط بالندم على الطاعة ، لأن الحال في ذلك كالحال فيمن أحسن إلى غيره ، ثم
ندم على ما فعله من الإحسان ، فإن ندمه على ذلك يسقط ما كان يستحقه ، كذلك هاهنا.
وأما سقوطه بمعصية
هي أعظم من ذلك ، فظاهر أيضا ، لأن ذلك بمنزلة أن يحسن إلى غيره قدرا من الإحسان
ثم يسيء إليه إساءة هي أعظم من ذلك بكثير ، ومعلوم أنه والحال هذه لا يستحقه مدحا
ولا شكرا كما كان يستحق من قبل الإساءة كذلك الحال في مسألتنا.
هذا هو الكلام
فيما يسقط به الثواب المستحق ولا ثالث لهذين الوجهين ، إذ لا يسقط الثواب بإسقاط
الله تعالى البتة.
وأما العقاب
المستحق من جهة الله تعالى فإنه يسقط بالندم على ما فعله من المعصية ، أو بطاعة هي
أعظم منه.
والوجه فيه كالوجه
في الثواب ، لأن نظير الندم في الشاهد الاعتذار.
ومعلوم أن أحدنا
إذا أساء إلى غيره ثم اعتذر إليه اعتذارا صحيحا ، فإنه يسقط ما كان يستحقه من الذم
حتى لا يحسن من المساء إليه أن يذمه بعد ذلك ، فكذلك الحال في التوبة مع العقاب ،
هذا في الندم ..
وأما الطاعة التي
هي أعظم منه ، فإنما تؤثر في إسقاط العقوبة المستحقة ،
لأن الحال في ذلك
كالحال في من أساء إلى غيره بأن كسر له رأس قلم ، ثم أعطاه في مقابلته من الأموال
السنية ما لا تسمح نفس بها ، ولا ترخص في بذلها ، فإنه والحال هذه لا يستحق من
قبله الذم على تلك الإساءة الكبيرة لمكان هذه العطية الجزيلة فكذلك في مسألتنا
هذه. فهذان وجهان يؤثران في إسقاط العقاب كما في الثواب ، غير أن كثرة الطاعة إنما
تؤثر في سقوط ما يستحق من العقوبة إذا كان الكلام في الصغائر ، فأما الكبائر فإن
عقابها لا يزول بكثرة الطاعات المفعولة في مثل هذه الأعمال على ما سيجيء من بعد إن
شاء الله تعالى.
وهاهنا وجه آخر
يؤثر في سقوط العقاب المستحق من جهة الله تعالى ، وهو إسقاط الله تعالى وعفوه عن
المعاصي وهذا الوجه لا يثبت في الثواب على ما مر.
فإن قيل : أو يحسن
من الله تعالى أن يسقط ما يستحقه الكافر والفاسق من العقوبة ، أم كيف القول فيه ،
قلنا : قد اختلف العلماء في ذلك.
فمن مذهبنا ، أنه
يحسن من الله تعالى أن يعفو عن العصاة وأن لا يعاقبهم ، غير أنه أخبرنا أنه يفعل
بهم ما يستحقونه ، وقال البغداديون : إن ذلك لا يحسن من الله تعالى إسقاطه ، بل
يجب عليه أن يعاقب المستحق للعقوبة لا محالة على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
فصل
اعلم أن البغدادية
من أصحابنا ، أوجبت على الله تعالى أن يفعل بالعصاة ما يستحقونه لا محالة ، وقالت
: لا يجوز أن يعفو عنهم ، فصار العقاب عندهم أعلى حالا في الوجوب من الثواب ، فإن
الثواب عندهم لا يجب إلا من حيث الجود ، وليس هذا قولهم في العقاب ، فإنه يجب فعله
بكل حال.
والذي يدل على
فساد مذهبهم هذا وصحة ما أخذناه ، هو أن العقاب حق الله
تعالى على الخصوص
، وليس في إسقاطه إسقاط حق ليس من توابعه وإليه استبقاؤه ، فله إسقاطه كالدين ،
فإنه لما كان حقا لصاحب الدين خالصا ، ولم يتضمن إسقاط حق ليس من توابعه ، وكان
إليه استبقاؤه ، كان له أن يسقطه كما أن له أن يستوفيه ، كذلك في مسألتنا.
وقولنا : ليس في
إسقاطه إسقاط حق ليس من توابعه احتراز عن الذم ، فإنه من حيث يسقط بسقوط العقاب
سقط ، لأنه كان من توابعه ، كالأجل مع الدين.
فإن قيل : الحق هو
ما لصاحبه أن ينتفع به ، والنفع يستحيل على الله تعالى ، فكيف يصح قولكم إن العقاب
حق الله تعالى؟ قيل له : إن غرضنا بذلك أن الدلالة تدل على أن لله تعالى أن يعفو
عن العصاة كما أن له أن يعاقبهم ، خلافا لما يقوله البغداديون.
فإن قيل : أليس أن
الذم حق المساء إليه ثم لا يكون له إسقاطه ، فهلا جاز في العقاب أن يكون حقا لله
تعالى ، وإن لم يكن له إسقاطه؟ قيل له : إن فيما ذكرناه ما يسقط هذا السؤال فقد
قلنا : إن العقاب حق الله تعالى على الخصوص ، وليس هكذا سبيل الذم ، فإنه كما هو
حق المساء إليه فهو حتى للمسيء أيضا ولجميع العقلاء ، فإنهم متى تيقنوا أنهم يذمون
على الإساءة لا يقدمون عليها ، أو يكونون أقرب أن لا يقدموا عليها.
وهكذا الجواب إذا
قالوا : إن الشكر حق للمنعم ثم ليس له إسقاطه ، وكذلك العقاب ، لأن الشكر كما أنه
حق للمنعم فهو حق للمنعم عليه ، ولهذا يستحق به ثواب الله تعالى والمدح من العقلاء
، فكيف يدعى أنه حق المنعم.
فإن قيل : أليس أن
الثواب حق للعبد كما أن العقاب حق الله تعالى ، ثم لا يكون للعبد إسقاط ما يستحقه
من الثواب ، فهلا جاز مثله في العقاب؟ قيل له : إن الحق إنما كان يصح من استحقه
إسقاطه متى كان استيفاؤه إليه ولم يكن في الحكم كالمحجور عليه ، فلهذا فإن الصبي
لا يقدر على إسقاط حقه وإن كان الحق له ، لما لم يكن من أهل الاستيفاء ، إذا ثبت
هذا ، فحال الواحد منا مع الثواب كحال الطفل مع ما له من الحقوق ، فكما أنه ليس له
إسقاط شيء من حقوقه ، لما لم يكن إليه استيفاؤها وكان محجورا عليه ، كذلك هاهنا.
يزيد ذلك وضوحا أن العبد يكون في حكم الملجأ إلى أن لا يسقط ما يستحقه من الثواب ،
فسقط هذا السؤال أصلا ،
شبه البغداديين :
وأما شبه
البغداديين في هذا الباب فهو أن قالوا : إن العقاب لطف من جهة الله تعالى ، واللطف
يجب أن يكون مفعولا بالمكلف على أبلغ الوجوه ، ولن يكون كذلك إلا والعقاب واجب على
الله تعالى ، فمعلوم أن المكلف متى علم أنه يفعل به ما يستحقه من العقوبة على كل
وجه ، كان أقرب إلى أداء الواجبات واجتناب الكبائر.
وربما يؤكدون ذلك
بقولهم : إن العقاب إذا كان لطفا للمكلف فلا بد من أن يعرفه الله تعالى أنه يفعله
به ، وإلا كان مخلا بما وجب عليه.
والأصل في الجواب
عن ذلك ، هو أن يقال لهم : إن اللطف يجب أن يفعل بالمكلف على أبلغ الوجوه على ما
ذكرتموه ، ولكن إذا كان ممكنا ، وهاهنا لا يمكن ، لأنه لا حالة إلا والفاسق يجوز
أن يتوب إلى الله تعالى ، ويندم على ما أتى به ويقلع عنه ، فكيف يمكن تعريفه أنه
يفعل به العقوبة لا محالة. لو لا صحة هذه الجملة ، وإلا كان يجب أن يعرف أن توبته
لا تقبل إذا أقدم على الكبيرة وإن بالغ في الإنابة وبذل الجهد في تلافي ما وقع منه
، فمعلوم أن هذا في باب اللطف أقوى ، ومتى قيل : إن ذلك غير ممكن فلا يجوز ، قلنا
: فهلا رضيتم منا بمثله.
وبعد ، فإن اللطف
هو ما ثبت له حظ الدعاء والصرف ، ولاحظ للعقاب في ذلك ، وإنما الذي يثبت له هذا
الحظ هو العلم باستحقاق العقاب ، فكيف يصح ما ادعوه.
فصل
استحقاق الفاسق للعقوبة :
وقد ذكر رحمهالله بعد هذه الجملة أن الفاسق يفعل به ما يستحقه من العقوبة ،
وعطف على ذلك القول في أنه يستحق العقوبة.
والترتيب الصحيح
في ذلك ، هو أن نذكر أولا أنه يستحق العقوبة ، ثم ترتب عليه الكلام في أنه يفعل به
ما يستحقه.
والذي يدل على أن
الفاسق يستحق العقوبة قوله تعالى : (وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) [المائدة : ٣٨]
الآية ، ووجه الاستدلال به ، هو أنه تعالى أمر بقطع يد السارق عند حصول الشرائط
المعتبرة في هذا الباب عن طريق الجزاء والنكال ، فيجب
أن يكون مستحقا
للعقوبة ، وكذلك فقد قال تعالى : (الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا
تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ) [النور : ٢] وهذا
يدل على أن الزاني مستحق للعقوبة ، وكذلك فقد قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ
الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ) الآية ، واللعن هو الطرد والتبعيد من الرحمة والثواب ،
بدليل قول الشاعر :
دعوت به القطا
ونفيت عنه
|
|
مكان الذئب
كالرجل اللعين
|
ولن يكون ذلك كذلك
، إلا وهو مستحق للعقوبة من جهة الله عزوجل وهكذا فقد قال تعالى : (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما
طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) وهذا يدل على ما ذكرناه أيضا.
فإن قيل : كيف
يمكن الاستدلال بإقامة الحد على كون المحدود مستحقا للعقاب ، مع أن الحدود كما
تقام على الفاسق فقد تقام على التائب ، وعلى هذا يروى أن ما عزا رجم بعد التوبة ،
وكذلك لعامرية مع أنها تابت توبة نصوحا رجمت.
قيل له : أول ما
في ذلك ، أن هذه مسألة خلاف :
فمن مذهب بعض
الفقهاء أن التائب لا يقام عليه الحد ، اللهم إلا إذا كان من حقوق الآدميين نحو
القصاص وما جرى مجراه ، هذا أحد قولي الشافعي. فعلى هذا لا كلام.
وإذا قلنا بأنه
يقام عليه الحد كما يقام على الفاسق ، كان الجواب عنه : إنا لم نستدل بمجرد الحد
على استحقاقه للعقوبة ، بل قلنا : إنه يحد على طريق الجزاء والنكال ، ولن يكون
كذلك إلا وهو مستحق للعقوبة ، وليس هذا حال التائب ، فمعلوم أنه لا يحد بالآية
جزاء ونكالا ، وإنما يقام عليه الحد تطهيرا على طريق الابتلاء والامتحان ، فيكون
سبيل هذه الآلام النازلة به سبيل الأمراض التي ينزلها الله تعالى بالصالحين من
عباده ابتلاء وامتحانا.
وأما حديث ماعز
والعامرية ، فإن من خالف في إقامة الحد على التائب قال : إن ماعز لم يتب على
الحقيقة ، ولهذا لما أخذه حر الحجارة قال : غرني قومي وفر حتى قتله بعضهم بعظم
رماه به ، وليس هذا من كلام التائب في شيء ، ويذكر شيئا شبيها بهذا في توبة
العامرية ، فالأولى أن نسلك في الجواب على ذلك ما ذكرناه ، وهو أنهما إنما حدا
تطهيرا على طريق الابتلاء والامتحان ، لا على سبيل الجزاء والنكال ، فقد روي عن
النبي صلىاللهعليهوسلم في حق العامرية : أنها تابت توبة لو تابها من بين الأخشبين
لقبل
منهم.
فهذا هو الكلام في
أن الفاسق يستحق العقوبة من الله تعالى وأنه لا ينفعه ثواب إيمانه بالله تعالى
وبرسوله بعد ارتكابه الكبيرة إلا إذا تاب.
الفاسق يفعل به ما يستحقه :
وأما الكلام في
أنه يفعل به ما يستحقه ، فالخلاف فيه مع مقاتل بن سليمان وجماعة من الخراسانية
والكرامية ، فإنهم يذهبون إلى أن الفاسق لا يعاقب بل لا يعاقب أيضا المشرك ،
ويقولون : إن الشرك مما لا معنى له ، غير أنهم لا يظهرون هذا المذهب لكل أحد بل يسرونه.
والذي يدل على
فساد مذهبهم هذا ، العقل والشرع.
أما العقل ، فهو
أن الفاسق إذا علم أنه لا يعاقب وإن ارتكب الكبيرة كان يكون مغرى على القبيح ،
ويكون في الحكم كأن قيل له : افعل فلا بأس عليك.
وأما الشرع ، فهو
أن الأمة اتفقت على أن المشرك يعذب بين أطباق النيران ، ويعاقب أبد الآبدين ودهر
الداهرين ، فكيف يصح إطلاق القول بأنه لا يعاقب؟
وكما يقع الخلاف
في هذه المسألة مع هؤلاء فقد يقع مع طائفة أخرى يقولون : إن الله تعالى يجوز أن
يعفو عن الفاسق ، ويجوز أن يعاقب ، ولا ، يعلم حقيقة ذلك وهو الذي تقوله المرجئة
الأول.
والذي يدل على
فساد هذا المذهب ، طريقان اثنان : أحدهما طريقة مركبة من العقل والسمع ، والأخرى
طريقة سمعية.
أما المركبة ، فهي
أن الفاسق لا يخلو ، إما أن يدخل الجنة أو النار ، إذ لا دار بينهما. فإن دخل
النار فهو الذي نقوله ، وإن دخل الجنة فلا يخلو ، إما أن يكون مثابا أو متفضلا
عليه ، لا يجوز أن يكون مثابا لأن إثابة من لا يستحق الثواب يقبح ، ولا يجوز أن
يدخل الجنة متفضلا عليه لأن الأمة قد اتفقت على أن المكلف إذا دخل الجنة ، يجب أن
يكون حاله متميزا عن حال الولدان المخلدين ، فيجب أن يكون معاقبا على ما نقوله.
وأما السمعية في
هذا الباب ، فهو أن يستدل بعمومات الوعيد على ذلك. وإذا
أردت الاستدلال
بها فلا بد أن تبنى ذلك على أصلين : أحدهما ، هو أنه تعالى لا يجوز أن يخاطبنا
بخطاب لا يريد به ظاهره ثم لا يدل عليه ولا يبين المراد به ، لأن ذلك يكون إلغازا
وتعمية وتورية ، والألغاز والتعمية والتورية مما لا يجوز على الله تعالى ، وذلك
ظاهر لا إشكال فيه.
والثاني ، أن في
اللغة لفظة موضوعة للعموم ، وذلك فقد اختلف الناس فيه اختلافا شديدا ليس هذا موضع
ذكره ، وإنما الذي نذكره هاهنا ، الدلالة على ما اخترناه من المذهب ، وهو أن فيه
لفظة موضوعة له.
وتحرير الدلالة
على ذلك ، هو أن «ما»
و «من» إذا وقعتا نكرتين في المجازات أفادتا العموم والاستغراق ،
لأن أهل اللغة أطبقوا على أن قول القائل من دخل داري أكرمته ، بمنزلة قوله : إن
دخل داري زيد أكرمته وإن دخل عمر داري أكرمته ، حتى يأتي على جميع العقلاء ، ولن
يكون كذلك إلا وهو موضوع للعموم والاستغراق على ما نقوله.
وأيضا ، فإن له أن
يستثني من هذا الكلام من شاء من العقلاء ، فيقول : من دخل داري أكرمته إلا فلانا
وإلا فلانا ، ولو لا شمول هذه اللفظة للعقلاء واستغراقها لهم ، وإلا كان لا يجوز
ذلك ، لأن من حق الاستثناء أن يخرج ما لولاه لوجب دخوله تحته.
وهذا منا استدلال
ببعض كلامهم على البعض.
ونظيره ،
استدلالنا باستعمالهم لفظة أجسم من الجسم ، على أنه الطويل العريض العميق.
مناقشة حول الاستثناء والعموم والخصوص :
فإن قيل : إن ما
ذكرتموه ينبني على أن من حد الاستثناء أن يخرج من الكلام ما لولاه لاحتمله ولصلح
له ، لا ما ذكرتموه.
قيل لهم : الذي
يدل على صحة ما ادعيناه في الاستثناء ، هو أنه إذا دخل على أسماء الأعداد وأخرج من
الكلام ما لولاه لوجب دخوله تحته. ألا ترى أن القائل إذا قال : لفلان علي عشرة إلا
درهما ، فإنه يكون قد أخرج باستثنائه هذا ما لولاه لشمله ودخل تحته لا محالة ، حتى
لو لا هذا الاستثناء لكان يكون مقرا بالعشرة كمّلا ، والآن لم يلزمه بإقراره إلا
التسعة ، إذا صح ذلك في الاستثناء وقد دخل على أسماء الأعداد ،
فكذلك إذا دخل على
غيره ، لأن حقيقة اللفظ وفائدته لا تتغير بحسب دخوله في المواضع التي تدخل عليه.
وبعد ، فلو كان
الاستثناء لا يخرج من الكلام إلا ما لولاه لصلح دخوله تحته وكان الكلام محتملا له
، لم يمتنع استثناء الأعلام من النكرات ، فكان يصح أن يقول قائل : رأيت رجلا إلا
زيدا ، لأن قولنا رجل يحتمل زيدا ويصلح له كما يحتمل وغيره ويصلح له ، وفي علمنا
بفساد ذلك دليل على أن من حق الاستثناء ما ادعيناه.
وبعد ، فقد نص أهل
اللغة على أن الاستثناء هو إخراج بعض من جملة ، والبعض عندهم هو ما شمله وغيره اسم
واحد ، فلو أن هذه القضية التي ذكرناها واجبة في الاستثناء وإلا كان لا يصح ذلك.
فإن قيل : كيف يصح
أن يقال : إن قول القائل من دخل داري أكرمته يصح أن يستثنى منه أي عاقل ، ومعلوم
أنه لا يصح أن يستثنى منه الملائكة والجن ، فيقول : من دخل داري أكرمته إلا
الملائكة والجن ، ولا أن يستثنى منه اللصوص فيقول : إلا اللصوص.
قيل له : أما
الملائكة والجن فلا قدرة له على إكرامهم ولا على إهانتهم ، ولهذا لا يحسن منه أن
يستثنيهم ، ولهذا فإن القديم تعالى لما قدر على إكرامهم وإهانتهم كما قدر على
إكرام غيرهم وإهانتهم ، صح له أن يقول : من أطاعني أكرمته عاجلا وأثبته أجلا ، إلا
الملائكة فإني أؤخر إكرامهم وإثابتهم إلى دار السلام ، وكذلك يصح مثله في الشياطين
فيقول : من عصاني أهنته عاجلا وعاقبته آجلا إلا الشياطين فإني أؤخر عقوبتهم إلى
الآخرة ، وأما اللصوص فإنما لم يحسن منه استثناؤهم لأن المعلوم من حاله أنه لا
يكرمهم ولا يبرهم ، فهو في غنية عن التلفظ به ، ولهذا فلو كان ممن يرى اللصوص
ويكرمهم ، لكان يصح منه هذا الكلام ويحسن ، ولا يقدح هذا الكلام فيما قلناه.
فإن قيل : إن
استدلالكم بجواز الاستثناء من قول القائل : من دخل داري أكرمته وما جرى مجراه على
أنه موضوع للعموم ، يوجب عليكم القول بأن اسم الجمع والجنس موضوع للعموم المعلوم
الذي لا يشكل أنه يصح فيه الاستثناء فيقول القائل :
رأيت الناس إلا
زيدا وعمرا.
قيل له : فلا جرم
بأن ما يصح منه الاستثناء من أسماء الجمع موضوع للعموم
والاستغراق ، غير
أن الذي يصح ذلك فيه إنما هو اسم الجمع المعرف بالألف واللام ، إذا لم تكن اللام
فيه لتعريف العهد دون قوله : رأيت رجالا ، فمعلوم أنه لا يصح فيه الاستثناء ، فلا
يقول القائل : رأيت رجالا إلا زيدا ، لما لم يجب أن يكون قوله رجالا شاملا له لا
محالة ، اللهم إلا إذا أراد استئناف العقبة ، فيكون استثناؤه من تقدير ، لكن لا
يكون حينئذ استثناء حقيقيا.
دليل آخر ، وأحد
ما يدل على أن في اللغة لفظة موضوعة للعموم والاستغراق ، هو أن «من»
إذا وقعت نكرة في الاستفهام
أفادت العموم ، ولهذا نص أهل اللغة على أن قول القائل من عندك بمنزلة قولهم : أزيد
عندك ، أبكر ، أخالد ، حتى يأتي على جميع العقلاء ، فلو لا كونه موضوعا للعموم
والاستغراق ، وإلا كان لا يقوم هذا المقام على ما ذكرناه. فصح قول أبي هاشم ، إن
أهل العربية لما استطاعوا الاستفهام باسم الجمع ، أقاموا قولهم من عندك مقامه حتى
لا يحتاجوا إلى تعداد الأسماء.
فهذا وجه يدلك على
أن «من»
إذا وقعت نكرة في
الاستفهام أفادت العموم والاستغراق.
ويدل على ذلك أيضا
، أن للمجيب أن يجيب بذكر جماعة العقلاء ، كما أن له أن يجيب بذكر آحادهم ، فلو لا
أن السؤال مشتملا عليهم بأجمعهم ، ومتناولا لهم كلهم ، وإلا كان لا يكون الجواب
مطابقا للسؤال إلا إذا أجاب بذكر الجماعة ، ويجري ذلك مجرى أن يجيب بالحمار والفرس
في أنه لا يصح ، لما لم يكن السؤال متناولا له ، وفي علمنا بخلافه دليل على صحة ما
قلناه.
فإن قيل : هذا
الذي ذكرتموه دليل لنا ، ولو لا أن هذه اللفظة من الألفاظ المشتركة التي يحتمل أن
يراد بها الخصوص كما يحتمل أن يراد بها العموم ، وإلا لم يكن للمجيب أن يجيب إلا
بذكر الجماعة ، فلما كان له أن يجيب بذكر الجماعة مرة وبذكر فريق دون فريق أخرى ،
دل ذلك على أنه محتمل للخصوص احتماله للعموم. قالوا : ومما يؤكد هذه الجملة ، أن
قول القائل : أكل الناس عندك؟ لما كان مستغرقا عاما ، لم يجز أن يذكر في جوابه
الآحاد ، بل وجب أن يجاب إما بذكر الكل أو بنفي الكل ، كذا كان يجب مثله في هذا
المكان.
قيل له : إنا لم
نستدل إلا بالسؤال ، وقلنا : لو لا شموله للكل ، واشتماله على الجميع ، وإلا كان
لا يصح أن يجيب مرة بذكر الآحاد ومرة بذكر الجماعة ، كما أنه
لما لم يتناول
الحمار والفرس تناوله العقلاء لم يصح البتة أن يجاب بذكره ، وذلك واضح.
ومما يوضح هذه
الجملة ، أن السائل لما لم يدر من عنده ، وجوز أن يكون واحدا أو جماعة ، احتاج إلى
أن يورد لفظة شاملة للآحاد والجموع ، فقال : من عندك ، ثم المجيب يجيب بذكر
الحاضرين عنده ، فإن كان الحاضر عنده واحدا أجاب بذكره ، وإن كان من الحاضرين كثرة
أجاب بذكرهم ، ففسد ما ظنوه ، وهو قولهم : كان ينبغي أن لا يصح الجواب إلا بذكر
الجماعة ، كما في قوله : أكل الناس عندك ، فلا ذلك إلا أن قوله أكل الناس عندك لم
يتناول إلا الكل فقط دون كل واحد منهم ، فلذلك لم يجز أن يجيب بذكر واحد منهم ، بل
وجب أن يجيب إما بذكر الكل فيقول : نعم كل الناس عندي ، أو لا يجيب بذكر واحد منهم
، ويقول : ليس كل الناس عندي ، فأما أن يجيب بذكر بعضهم دون الباقين فلا. وليس
كذلك هاهنا ، فإن قولنا : من عندك ، شمل الكل وكل واحد منهم ، فصلح بالجواب أن
يذكر الآحاد كما يصلح أن يذكر الجميع ، فهذا هو الفرق بينهما والله أعلم.
فإن قيل : وأي
فائدة في التطويل ولا صورة لما ذكرتموه في كلام الله تعالى بل لا يجوز ذلك عليه
لأنه استفهام ، والاستفهام هو الاستعلام ، والاستعلام على العالم لذاته محال.
قلنا : هب أن
الأمر في ذلك على ما ذكرته ، أليس يوجد ذلك في كلام الرسول عليهالسلام وفي كلام الأمة على أن غرضنا لم يكن بإيراد ما أوردناه إلا
بيان أن في اللغة صيغة موضوعة للعموم والاستغراق ، وذلك قد سلم وصح. وأيضا فإن
العموم معنى قد عقلوه ومست حاجتهم إلى العبارة عنه ، كما مست الحاجة إلى العبارة
عن المعاني التي عقلوها ، من نحو الأسد والسيف والخمر ، فيجب كما وضعوا لكل واحد
من هذه الأشياء اسما مع اكتفائهم بالاسم الواحد أن يضعوا للعموم أيضا لفظا ، وفي
ذلك ما يدلنا على أن في اللغة لفظة موضوعة للعموم ، وهذه طريقة ذكرها شيخنا أبو
عبد الله رحمهالله تعالى.
وإذ مضى طرف من
الكلام في أن في اللفظ لفظة موضوعة للعموم ، فإنا نعود إلى الاستدلال بعمومات
الوعد على أن الفاسق يفعل به ما يستحقه من العقوبة لا محالة ، بتوفيق الله تعالى.
فمن جملة ما يمكن
الاستدلال به على ذلك قوله تعالى : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ
وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها) [النساء : ١٤]
فالله تعالى أخبر أن العصاة يعذبون بالنار ويخلدون فيها ، والعاصي اسم يتناول
الفاسق والكافر جميعا فيجب حمله عليهما ، لأنه تعالى لو أراد أحدهما دون الآخر
لبينه ، فلما لم يبينه دل على ما ذكرناه.
فإن قيل : إنما
أراد الله تعالى بالآية الكافر دون الفاسق ، ألا ترى إلى قوله تعالى : (وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ) وذلك لا يتصور إلا في الكفرة ، وإلا فالفاسق لا يتعدى حدود
الله تعالى أجمع.
قيل له : الخطاب
شامل لهما جميعا على ما ذكرناه ، فمن حصر فعليه الدليل.
ثم نقول : هذا
الذي ذكرتموه باطل لأنه تعالى قال : (يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) إلى قوله : (وَمَنْ يَتَعَدَّ
حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) ومن طلق امرأته لغير العدة وأخرجها من بيتها لا يكون
متعديا جميع الحدود ، وعلى أن الآية بالاتفاق في وعيد الفساق من أهل الصلاة ، فقد
وردت في قصة المواريث ، ولئن اشتبه الحال في هل يجب قصر الخطاب على سببه أم لا يجب
ذلك ، فلا شبهة في أن حمله على سببه واجب لا محالة ، وأما قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ) فذلك اسم جمع مضاف ، وقد ذهب أبو هاشم إلى أنه يحمل على
الثلاثة ، فعلى هذا لا كلام في أن الفاسق كالكافر في أنه ربما يتعدى ثلاثة بل
أربعة من حدود الله تعالى.
وأما أبو علي ،
فإنه وإن كان يحمل ما هذا سبيله على العموم والاستغراق إلا أن في هذا الموضع يقول
: لو حملته على الاستغراق لخرج الكلام عن الفائدة البتة ، لأنه لا يوجد في الكفار
من تعدى على حدود الله أجمع ، فلا يمكن حمله والحال هذه لا على الكفار ولا على
الفساق فحملته على الثلاثة للعرف الحاصل فيه ، فالمتعارف من حال الأمة أنهم يجرون
هذا الاسم على الفاسق فيقولون : قد تعدى من حدود الله تعالى وجاز الرسم ، فيسقط
هذا السؤال أصلا ، وعلى أن قوله تعالى في سورة الجن : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ
فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) [الجن : ٢٣] ليس
فيه ذكر التعدي لحدود الله ، فهلا دل على ما قلناه؟
فإن قيل : الآية
لا تدل على ذلك ، لأنه ورد في شأن الكفار ، ولهذا قال بعده : (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ
فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (٢٤)) [مريم : ٧٥] ولا
هذا يكون إلا مع الكفار.
قيل له : إن قوله
: (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ
وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) كلام مستقل بنفسه غير محتاج إلى ما بعده ، فتخصيص ما بعده
لا يمنع من عمومه ، والكلام في أن تخصيص آخر الآية لا يمنع من أن عموم أولها
موضوعه أصول الفقه ، غير أنا نذكر له مثالا وهو قوله : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) [البقرة : ٢٢٨]
وأورد ذلك على وجه شمل البوائن والرجعيات ثم خص آخر الآية بالرجعيات منهن دون
البوائن بقوله : (وَبُعُولَتُهُنَّ
أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ) ، ولا يمنع منه مانع فكذلك الحال في ما قلناه.
ومن ذلك ، قوله
تعالى : (وَمَنْ يَقْتُلْ
مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها) [النساء : ٩٣]
الآية. ووجه الاستدلال هو أنه تعالى بيّن أن من قتل مؤمنا عمدا جازاه وعاقبه وغضب
عليه ولعنه ، وفي ذلك ما قلناه.
فإن قيل : ليس في
الآية إلا الجزاء وهو الاستحقاق ، لأن تقدير الآية : فجزاؤه إن جازاه جهنم ، ونحن
لا ننكر الاستحقاق ولا نأباه ، وإنما كلامنا في هل يفعل به ما يستحقه أم لا ، فما
دليلكم على محل النزاع؟
قيل له : قولكم إن
تقدير الآية (فجزاؤه) إن جازاه تقدير شرط لم ينب عن الظاهر ولا دل عليه دليل ،
فكيف يجوز في هذا الشرط أن يكون معتبرا ، ومعلوم أنه لو كان له اعتبار لبينه الله
تعالى واعتبره ، فلما لم يعتبره ولا دل عليه علم أنه لا عبرة به.
وبعد ، فإن الجزاء
مصدر جزى أو جازى والمصدر لا بد من أن يكون أمرا حادثا أو فعلا قد وقع ، وليس هذه
حال الاستحقاق ، فكيف يحمل على قوله : (وَغَضِبَ اللهُ
عَلَيْهِ) ، فحمل الجزاء على الاستحقاق يقتضي أن يكون الفعل معطوفا
على الاسم ، والفعل لا يعطف على الاسم وإنما يعطف على الفعل ، أو ما يجري مجرى
الفعل ، وذلك لا يقال ، زيد وفعل ، وعمرو ويفعل. فيجب أن يكون تقدير الآية : ومن
يقتل مؤمنا متعمدا ، جوزي به ، وغضب الله عليه ، ولعنه ، وفي ذلك صحة ما ادعيناه.
فإن قيل : لا
يمكنكم حمل الآية على حقيقتها ولا التعلق بظاهرها ، وإلا كان يجب أن تكون المجازاة
عقيب القتل ، فإن الفاء للتعقيب ، وإذا لم يمكن حمله على حقيقته ولا التعلق بظاهره
فلستم بأن تحملوه على بعض المجازات أولى من أن نحمله على البعض ، فحملناه على
الاستحقاق.
قيل له : إن
الكلام متى لم يمكن حمله على ظاهره وحقيقته ، وهناك مجازان
أحدهما أقرب
والآخر أبعد ، فإن الواجب حمله على المجاز الأقرب دون الأبعد ، لأن المجاز الأبعد
مع الأقرب كالمجاز مع الحقيقة ، وكما لا يجوز في خطاب الله تعالى أن يحمل على
المجاز مع إمكان حمله على الحقيقة ، فكذلك لا يحمل على المجاز الأبعد وهناك ما هو
أقرب منه ، وعلى هذا فلو قال الله تعالى ، أو قال رسوله عليهالسلام : فلان يصلي ، فلا يمكن حمله على الصلاة الشرعية في الحال
، ولن يحمل على أنه يصلي غدا أو بعد غد ، فإنه يحمل عليه ولا يحمل على الدعاء ،
لما كان في حمله على الدعاء حملا للكلام على المجاز الأبعد مع إمكان حمله على
المجاز الأقرب ، وذلك في الفساد بمنزلة حمل الخطاب على المجاز مع إمكان حمله على
الحقيقة.
إذا ثبت هذا ،
وأمكن أن يحمل قوله : (فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ) على أنه سيجازى في الآخرة ، لا وجه لحمله على الاستحقاق ،
وإلا اقتضى أن يكون قد عدل بكلام الله تعالى عن الحقيقة إلى المجاز ، وذلك مما لا
يسوغ أصلا.
ومن جملة ما يمكن
الاستدلال به أيضا ، قوله : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ
فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (٧٤)) ووجه الاستدلال به ، هو أن المجرم اسم يتناول الكافر
والفاسق جميعا ، فيجب أن يكونا مرادين بالآية ، معنيين بالنار ، لأنه تعالى لو
أراد أحدهما دون الآخر لبينه ، فلما لم يبينه دل على أنه أرادهما جميعا.
والكلام في أن اسم
المجرم يتناول الكافر والفاسق جميعا ظاهر لا شك فيه من جهة اللغة والشرع جميعا.
أما من جهة اللغة
، فلأنهم لا يفرقون بين قولهم مذنب وبين قولهم مجرم ، فكما أن المذنب شامل لهما
جميعا فكذلك المجرم.
وأما من جهة الشرع
، فلأن أهل الشرع لا يفرقون بين قولهم مجرم لزناه ، وبين قولهم فاسق لزناه.
فإن قالوا : الآية
وردت في شأن الكفار ، وعلى هذا قال تعالى في آخرها : (لا يُفَتَّرُ
عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٥)) [الزخرف : ٧٥]
وقال بعد ذلك : (أَمْ يَحْسَبُونَ
أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ) [الزخرف : ٨٠]
وهذا لا يتأتى إلا في الكفرة.
قيل لهم : إن قوله
تعالى : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ
فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (٧٤)) [الزخرف : ٧٤]
كلام عام مستقل بنفسه ، فدخول التخصيص في آخره لا يمنع من عموم أوله ، وأوردنا
في مثاله قوله : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) وقوله : (وَبُعُولَتُهُنَّ
أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ) وله نظائر أخر في القرآن ومنه قوله : (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ
بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (٢٤١)) بعد قوله : (وَإِنْ
طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ) فإحدى الجملتين عامة شاملة للمالكات البالغات وغيرهن ،
والأخرى خاصة بالبالغات المالكات لأمر أنفسهن ، إذ العفو لا يصح إلا منهن ، ولم
يمنع عموم إحداهما من خصوص الأخرى ، فكذلك الحال هاهنا.
فإن قيل : لا ظاهر
لهذه الآية ، لأن في الآية لفظة إن ، وهي لتحقيق الحال ، ولذلك يدخل في خبره اللام
فيقتضي أن يكون المرء معاقبا في الحال ، وخلافه معلوم ، فليس إلا أن يعدل عن
الظاهر ، فإذا عدلتم عن الظاهر وأخذتم في التأويل فلستم بأولى منا فنحمله على
الاستحقاق.
وجوابنا عن ذلك ،
ليس الأمر على ما ظننتموه ، لأن «إن»
كما يرد يرد
لتحقيق الحال فقد يرد لتحقيق الخبر في المستقبل. بل الخبر في المستقبل إلى التحقيق
أحوج إليه منه في الحال ، وعلى هذا قوله تعالى : (وَإِنَّ رَبَّكَ
لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أورد في الكلام لفظة «إن»
وأدخل اللام في خبره ، ولم يقصد به
إلا تحقيق الحكم في المستقبل.
وبعد ، فإن في
الآية لفظة الخلود ، والخلود لا يتأتى إلا في المستقبل ، فكيف يقال إن ظاهر الآية
يوجب أن يكون المجرم معذبا في الحال؟ وبعد ، فإن أكبر ما فيه أن حمله على ظاهره لا
يمكن ، أو ليس لا بد من أن يحمل على المجاز الأقرب دون الأبعد ، فقد بينا أنه لا
يجوز حمل خطاب الله تعالى على المجاز الأبعد مع إمكان حمله على المجاز الأقرب ،
وأن حال المجاز الأبعد مع المجاز الأقرب كحال المجاز مع الحقيقة ، فكما أنه لا
يحمل كلام الله تعالى على المجاز مع إمكان حمله على الحقيقة ، كذلك هنا. وإذا كان
هذا هكذا ، ومعلوم أن حمله على أن يعذب في مستقبل الأوقات حمل له على المجاز
الأقرب ، وليس كذلك الحال في ما إذا حمل على الاستحقاق.
ومما يمكن
الاستدلال به من عمومات الوعيد في كتاب الله تعالى كثير ، فإنه يمكن أن يستدل
بقوله تعالى : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً
يُجْزَ بِهِ) الآية ، ويمكن الاستدلال بقوله : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) ويمكن أن يستدل بقوله تعالى : (وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (١٤)) الآية ، وفي ذلك كثرة على ما ذكرناه.
وطريقة الاستدلال
بالكل والاعتراض عليها ، ما نبهنا عليه ، فلا نطول به الكلام.
فإن قيل : ألستم
أخرجتم التائب وصاحب الصغيرة عن هذه ، وقلتم : إن الشرط ألا يكون مع العاصي توبة
أو طاعة أعظم من معصية ، حتى يدخل تحت هذه العمومات ، فهلا جاز لنا أن نقول : إن
الشرط في ذلك أيضا أن لا يسقط الله تعالى عنه العقوبة ولا يغفر ذنبه ، فأما إذا
أسقط عنه العقوبة وغفر له ذنبه فإنه لا يدخل تحت هذه العمومات ، ومتى أجبتم إلى
ذلك ، ومعلوم أن القديم تعالى يحسن منه التفضل بالعفو والإسقاط ، لم يمكنكم القطع
على أن العصاة وأصحاب الكبائر يدخلون تحت هذه العمومات ، وأنهم يعاقبون لا محالة.
قيل له : إن ما
اعتبرناه من الشروط شروطا ، اقتضته الدلالة وقامت عليها الحجة ، وليس كذلك الحال
فيما ذكرتموه ، فإن ذلك لا ينبئ عنه الظاهر ولا تقتضيه دلالة ، فلا يجوز إثباته
بوجه.
وبعد ، فإن فيما
ذكرتموه إخلاء كلام الله تعالى عن الفائدة ، وحملا له على ما يقتضيه مجرد العقل ،
ومهما أمكن حمله على فائدة مستجدة معلومة بالشرع فذلك هو الواجب.
وبعد ، فإن القديم
تعالى إذا توعد العصاة فإنما يتوعدهم بالعقاب الحسن ، ولا يجسن معاقبة التائب
وصاحب الصغيرة ، فلهذا أخرجا من عمومات الوعيد ، وليس كذلك الحال في صاحب الكبيرة
، فإنه عقابه يحسن ، وجواز أن يتفضل بالإسقاط لا يخرج العقاب من أن يكون حسنا ،
بخلاف التوبة ، وبخلاف ما إذا كانت طاعاته أعظم من معاصيه ، ففارق أحدهما الآخر.
وأيضا فإن ما
ذكرته يقتضي أن يكون الشيء مشروطا بنفسه ، لأنك إذا جعلت الشرط في أن يفعل الله
العقوبة بالفاسق أن لا يعفو عنه ولا يغفر لذنبه ، ومعلوم أن المرجع بأن لا يعفو
عنه إلى فعل العقوبة ، فقد شرطت الشيء بنفسه ، والشيء لا يجوز أن يجعل شرطا في
نفسه.
وبعد ، فإن هذا إن
أوجب التوقف في وعيد الفساق ، فليوجبن التوقف في وعيد الكفار ، لأن حسن التفضل
بالعفو والإسقاط ثابت في حق الكافر ثباته في حق الفاسق ، فيلزمهم أن يتوقفوا في
وعيد الكفار ، ومن توقف في ذلك فقد انسلخ عن الدين.
فإن قيل : إنما
قطعنا على وعيد الكفار ولم نتوقف فيه لأن ذلك معلوم من دين
النبي صلىاللهعليهوسلم ، وليس هكذا وعيد الفساق ، ولهذا كفرتم المتوقف في وعيد
الكفار ولم تكفروا المتوقف في وعيد الفساق.
قيل له : إن ذلك
مما لا يقدح مما أوردناه ، بل يزيد الإلزام تأكيدا ، فالواجب أن يتركوا المذهب
الذي يقتضيه.
ثم يقال لهم : هب
أن هذا معلوم من دين النبي عليهالسلام ضرورة ، فمن أين علمه النبي عليهالسلام حتى يتدين به.
فإن قالوا :
اضطرارا من قصد جبريل نقلنا معهم الكلام إليه ، وإن قالوا : اضطر هو إلى قصد الله
قلنا : إن هذا لا يصح ، والدار دار تكليف.
ومتى قالوا : إن
جبريل علم ذلك من حيث زاد الله تأكيدا حتى قطع ، لما كان ذلك التأكيد على المراد
به.
قلنا : ما من
تأكيد إلا وهو معرض للاحتمال ، فكيف يمكن ذلك ، ولا محيص للمرجئة عن هذا الكلام؟
فإن قيل : إنه
تعالى كما توعد العصاة بالعقاب فقد وعد المطيعين بالثواب والفاسق يستحق الأمرين
جميعا ، فلم يكن بالدخول في عمومات الوعيد أولى من الدخول في عمومات الوعد ،
فيتوقف فيه ، إن لم يقطع على أنه بفضله وسعة جوده وكرمه يدخله الجنة.
قيل له : فكيف يصح
القول بأن الفاسق مستحق للثواب ، ولو كان كذلك لكان لا يستحق معه العقاب ، وقد
دللنا على استحقاقه للعقوبة ، وبينا أن السارق إذا سرق عشرة دراهم من حرز على
الشروط المعتبرة في هذا الباب ، وظفر به الإمام وهو مصر على ذلك ، قطع يده بالآية
على سبيل الجزاء والنكال ، ولن يكون ذلك كذلك إلا وما كان يستحقه من الثواب
بطاعاته قد سقط بارتكابه الكبيرة ، فهذه جملة ما نقوله في هذا الفصل.
فصل
تخليد الفاسق بالنار :
وقد أورد رحمهالله بعد هذه الجملة الكلام في أن الفاسق يخلد في النار ويعذب
فيها أبد الآبدين
ودهر الداهرين ، وعطف عليه الكلام في أنه يستحق العقاب على طريق الدوام ، وكان
الترتيب الصحيح في ذلك هو أن يذكر أولا أن الفاسق يستحق العقوبة على طريقة الدوام
ثم يرتب على ذلك الكلام في أنه يعذب بالنار أبدا ، غير أنا نسلك طريقته ونجري على
منهاجه ، فنبدأ بما بدأ به.
والذي يدل على أن
الفاسق يخلد في النار ويعذب فيها أبدا ما ذكرناه من عمومات الوعيد ، فإنها كما تدل
على أن الفاسق يفعل به ما يستحقه من العقوبة ، تدل على أنه يخلد ، إذ ما من آية من
هذه الآيات التي مرت ، إلا وفيها ذكر الخلود والتأبيد أو ما يجري مجراهما.
وهنا طريقة أخرى
مركبة من السمع وتحريرها هو أن العاصي لا يخلو حاله من أحد أمرين : إما أن يعفى
عنه ، أو لا يعفى عنه ، فإن لم يعف عنه فقد بقي في النار خالدا ، وهو الذي نقوله ،
وإن عفي عنه فلا يخلو إما أن يدخل الجنة أولا ، فإن لم يدخل الجنة لم يصح لأنه لا دار
بين الجنة والنار ، فإذا لم يكن في النار وجب أن يكون في الجنة لا محالة. وإذا دخل
الجنة فلا يخلو ، إما أن يدخلها مثابا أو متفضلا عليه ، لا يجوز أن يدخل الجنة
متفضلا عليه لأن الأمة اتفقت على أن المكلف إذا دخل الجنة فلا بد من أن يكون حاله
متميزا عن حال الولدان المخلدين وعن حال الأطفال والمجانين ، ولا يجوز أن يدخل
الجنة مثابا لأنه غير مستحق ، وإثابة من لا يستحق الثواب قبيح ، والله تعالى لا
يفعل القبيح.
فإن قيل : ومن أين
أن إثابة من لا يستحق الثواب قبيح؟
قلنا : لأن الثواب
إنما يستحق على طريقة التعظيم والإجلال ، وما هذا سبيله لا يحسن دون الاستحقاق ،
ولهذا فإنه لا يحسن من الواحد منا أن يعظم أجنبيا على الحد الذي يعظم والده ، وأن
يعظم والده على الحد الذي يعظم به النبي صلىاللهعليهوسلم ، وأن يعظم النبي على الحد الذي يعظم ربّ العزة.
فهذا هو الكلام في
أن الفاسق يعذب بالنار أبد الآبدين.
وأما الكلام في أن
العقاب يستحق على طريقة الدوام ، فهو أنه لو لم يستحق على طريقة الدوام لكان لا
يحسن من الله تعالى أن يعذب الفساق بالنار ويخلدهم فيها ، وقد دللنا على أن الفاسق
يعذبه الله تعالى أبد الآبدين ، فدل على أن استحقاق العقاب على طريقة الدوام.
ودلالة على أخرى
وهو المعتمد في هذا الباب ، وتحريره أن العقاب كالذم يثبتان في الاستحقاق معا
ويزولان معا ، حتى لا يجوز أن يثبت أحدهما مع سقوط الآخر ، ومعلوم أن الذم يستحق
على طريقة الدوام فكذلك كان يجب مثله في العقاب.
فإن قيل : ولم
قلتم إن الذم والعقاب يثبتان معا ، يزولان معا ، حتى لا يجوز أن يثبت أحدهما ويسقط
الآخر.
قيل له : لأن
المثبت لأحدهما هو المثبت للآخر ، والمسقط لأحدهما هو المسقط للآخر ، ألا ترى أن
المثبت للذم والمؤثر في استحقاقه إنما هو الإقدام على المعاصي والإخلال بالواجبات
، وهذا بعينه هو المثبت للعقاب ، وهكذا فإن المسقط للذم إنما هو التوبة أو طاعة هي
أعظم من المعصية ، وهذا هو المسقط للعقاب ، فصح أن المؤثر في استحقاقهما واحد ،
وإذا كان كذلك وجب إذا استحق أحدهما على طريق الدوام ، وجب أن يستحق الآخر أيضا
على سبيل الدوام ، لأنه لا يجوز في شيئين استحقا على وجه واحد ، وكان المؤثر في
إثبات أحدهما وإسقاطه هو المؤثر في الآخر ، وإسقاطه أنه يستحق أحدهما دائما والآخر
منقطعا ، بل لا بد أن يستحقا منقطعين أو دائمين. فأما أن يستحق أحدهما دائما
والآخر منقطعا فمحال ، إذا ثبت هذا ، ومعلوم أن الذم يستحق دائما فكذلك العقاب.
فإن قيل : ومن أين
أن الذم يستحق دائما؟ قيل له : إن ذلك مما لا يقع في إشكال ، فمعلوم أن من لطم
والده كان مصرا عليه يحسن منه ومن غيره أن يذمه على ذلك الصنيع دائما ، حتى لو قدر
أن يميته الله تعالى ثم أحياه لكان يحسن من الوالد ذمه على صنيعه به ، وكذلك يحسن
من العقلاء أن يذموه به.
فإن قيل : كيف يصح
قولكم إن العقاب يتبع الذم ، وأنهما يثبتان معا ويزولان معا ، ومعلوم أن القديم لو
أقدم على قبيح لا يستحق الذم تعالى عن ذلك ، ولا يستحق العقوبة. وجوابنا عن ذلك ،
أنا لم ندع أنهما يثبتان معا ويزولان معا على كل وجه ، وأن أحدهما لا ينفصل عن
الآخر بحال ، وإنما قلنا : إنهما إن ثبتا واستحقا جميعا ثبتا معا وزالا معا ، فإن
الذي يؤثر في استحقاق أحدهما هو المؤثر في استحقاق الآخر ، وما أثر في إسقاط
أحدهما هو المؤثر في إسقاط الآخر ، وما هذا حاله فلا بد من أن يكون مستحقا على وجه
واحد ، فإما أن يستحقا منقطعين أو دائمين ، وأما أن يكون أحدهما على سبيل الدوام
والآخر على سبيل الانقطاع فلا.
فإن قيل : كيف يصح
قولكم : إن الذم يستحق على طريق الدوام ، وقياسكم العقاب عليه ، ومعلوم أن المسيء
والمساء إليه لو ماتا لسقط الذم ، قيل له : إن سقط بموتهما شيء فإنما يسقط فعل
الذم لا الاستحقاق ، وكلامنا في الاستحقاق ، ولا حال ينتهي إليه المسيء إلا ويحسن
من المساء إليه ذمه وإن أماتهما الله تعالى مرارا وأحياهما مرارا. وبعد ، فلو لم
يستحق العقاب على طريقة الدوام ، لكان لا يفترق الحال في ذلك بين الكافر والفاسق ،
فكان لا يحسن من الله تعالى معاقبة الكفار على التأبيد ، وفي علمنا يحسن ذلك منه ،
دليل على أن العقاب يستحق منه على طريقة الدوام سواء أكان الكلام في الكافر ، أو
الفاسق.
فإن قيل : إن
بينهما فرقا ، لأن طاعة الفاسق ترد عقاب معاصيه من الدوام إلى الانقطاع ، وهذا غير
ثابت في حق الكافر. قيل له : هذا لا يصح لأنه لا تأثير لطاعات الفاسق في رد
العقوبة من الدوام إلى الانقطاع ، ولو لا ذلك وإلا كان يجب أن تنقطع عقوبة الكافر
أيضا ، لأن في أفعاله أيضا ما هو طاعة فإن قيل : إن هذا ينبني على أن للكافر طاعة
، ونحن لا نسلم ذلك.
قلنا : إن الطاعة
ليست أكثر من أن يفعل ما أراده الله تعالى ، وفي أفعاله ما قد يريده الله تعالى ،
نحو رد الوديعة وشكر النعمة وبر الوالدين إلى غير ذلك ، فكان يجب أن يرد عقاب
معاصيه من الدوام إلى الانقطاع ، كما في طاعات الفاسق ، وقد عرف خلافه.
فإن قيل : إن
الشرط في الطاعة أن يعلم المطيع المطاع ، وليس كذلك حال الكافر.
قلنا : إن في
الكفرة من يعرف الله تعالى ويقر به ، نحو اليهود والنصارى ، فكان يجب أن ينقطع
عقابهم ، ومعلوم خلاف ذلك.
وبعد ، فقد يقال
في الملحد أنه مطيع الشيطان بارتكابه الكبيرة وإقدامه على الفواحش وإن لم يعلمه
ولا اعترف به.
وبعد ، فلو ردّت
طاعات الفاسق عقاب معاصيه من الدوام إلى الانقطاع لوجب أن تردّ ذمه من الدوام إلى
الانقطاع ، وفي علمنا بأنه يستحق الذم دائما وأنه لا تأثير لطاعاته في الذم البتة
، دليل على أن مقارنة الطاعة للمعصية مما لا يرد عقابها من الدوام إلى الانقطاع
على ما قاله الخالدي.
وأما الذي يقوله
الخالدي في هذا الباب : فهو أن للطاعة مزية على المعصية من حيث أن ما يستحق على
الطاعة يجب فعله ولا يجوز الإخلال به ، وليس كذلك ما يستحق على المعصية ، فإنه
يجوز التفضل بإسقاطه وعفوه ، فلهذا صح أن ترد طاعات الفاسق عقاب معاصيه من الدوام
إلى الانقطاع.
قيل له : إن هذه
المزية التي ذكرتها ثابتة لسائر الطاعات على سائر المعاصي ، ولا فرق بين طاعات
الفاسق وطاعات الكافر ، فهلا رد عقاب معاصيه من الدوام إلى الانقطاع؟.
ويقال له أيضا :
إن الطاعة إذا كانت لا تؤثر بنفسها ، فالمعلوم أنه لو لم يستحق عليها الثواب لكان
لا يكون لها تأثير البتة ، وكذلك الثواب ، فإن الثواب إنما يثبت له تأثير بطريقة
الكثرة ، حتى لو كان العقاب أكبر لحبط به الثواب ، ولو تساويا سقطا جميعا ، حتى لا
يبقى هاهنا إلا المزية التي أثبتها للطاعة على المعصية ، وهي وجوب أن يفعل به ما
يستحق على الطاعة ، وحسن التفضل بإسقاط ما يستحق على المعصية ، وحال هذه المزية مع
الطاعة كحالها مع معصية أخرى ، فكان يجب إذا قارنت معصية أخرى أن ترد عقابها من
الدوام إلى الانقطاع ، بل كان يجب أن ترد طاعات الغير عقاب معاصيه من الدوام إلى
الانقطاع ، لما ذكرناه أن هذه المزية حالها مع طاعاته كحالها مع طاعة الغير ، وقد
عرف خلافه.
فإن قيل : أو ليس
من مذهبكم أن ثواب طاعاته يؤثر في عقاب معصيته ولا يؤثر ثواب الغير في ذلك ، فهلا
جاز مثله في مسألتنا؟ قلنا : إن بينهما فرقا ظاهرا ، لأنه إنما وجب في ثوابه أنه
يؤثر في عقابه لا محالة من حيث لا يمكن أن يستحقهما معا لأن الاستحقاق يترتب على
صحة الجمع بينهما ، وصحة الجمع بينهما لا يمكن ، لأن أحدهما يستحق على طريق الجزاء
والنكال ، والآخر على طريق التعظيم والإجلال وهما متنافيان ، وليس كذلك فيما ذكرته
، فغير ممتنع أن يستحق أحد الشخصين الثواب ، والآخر العقاب ، فسقط ما أورده.
وقد تمسكت المرجئة
في ذلك بوجوه ، من جملتها :
أدلة المرجئة :
ما روي عن النبي صلىاللهعليهوسلم وعلى آله أنه قال :
«فخرج من النار قوم بعد ما امتحشوا وصاروا فحما وحمما» وهو يدل على ما اخترناه من المذهب.
وجوابنا ، أن هذا
الخبر لم تثبت صحته ، ولو صح فإنه منقول بطريق الآحاد ، وخبر الواحد مما لا يوجب
القطع ، ومسألتنا طريقها العلم فلا يمكن الاحتجاج به.
فإن قيل : كيف
يمكن ادعاء أن هذا الخبر منقول بطريق الآحاد ، ومعلوم أن المرجئة على كثرتهم
ينقلونه ، ويستدلون به على أن الفاسق لا يخلد في النار أبدا ، ويخرج منها.
قيل له : إن كثرة
نقلة الخبر في الطريق الأخير مما لا اعتبار به ، بل لا بد من أن يستوي طرفاه ووسطه
، ففسد هذا الكلام.
ثم إنا نعارضهم
بأخبار رويت عن النبي صلىاللهعليهوسلم في هذا الباب ، من جملتها قوله صلىاللهعليهوسلم :
«لا يدخل الجنة مدمن خمر ولا نمام ولا
عاق»
وهذا يدفع ما
احتجوا به في المسألة ، ومن ذلك ما روي عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «من تردى من جبل فهو
يتردى من جبل في نار جهنم خالدا مخلدا» ومن ذلك قوله صلىاللهعليهوسلم : «من قتل نفسه بحديدة
فحديدته في يده يجأ بها بطنه في نار جهنم خالدا أبدا» أو قوله أيضا : «من يحتسي سما
يحتسي سما في نار جهنم خالدا أبدا» إلى غير ذلك من الأخبار المروية في هذا الباب.
ولئن أمكن ادعاء
التواتر في الخبر الذي أورده ليتمكن به في هذه الأخبار فإن الحال فيها أظهر ،
ونقلها أكثر.
إنا نتأول هذا
الخبر الذي أورده على وجه يوافق الأدلة ، فنقول : إن المراد : يخرج من النار ، أي
يخرج من عمل أهل النار قوم ، ونظير ذلك موجود في كلام الله تعالى وكلام رسوله صلىاللهعليهوسلم.
أما من كتاب الله
تعالى ، فقوله تعالى : (وَكُنْتُمْ عَلى شَفا
حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها) يعني على عمل من استحق ذلك.
وأما من كلام
الرسول عليهالسلام ، فهو أنه مرّ بمؤذن يؤذن ويقول : أشهد أن لا إله إلا الله
، فقال : على الفطرة ، فقال المؤذن : أشهد أن محمدا رسول الله ، فقال صلىاللهعليهوسلم : خرج من النار ، أي من عمل أهل النار ، كذلك الحال هاهنا
، ولا يجوز غير ما ذكرناه.
ومما يتعلق به
المرجئة قوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ
شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦) خالِدِينَ فِيها ما
دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) [هود : ١٠٦ ـ ١٠٧]
وتعلقهم بهذه الآية على بعدها من وجهين : أحدهما هو أنه علق دوام عقاب الأشقياء
بدوام
السماوات والأرض
وهما منقطعتان لا محالة ، فيجب على العقاب المعلق دوامه بدوامهما أن يكون منقطعا
أيضا ، والثاني هو أنه تعالى قال : (إِلَّا ما شاءَ
رَبُّكَ) فاستثنى وعلق بالمشيئة ، وهذا يدل على أن العقوبات مما لا
يدوم وينقطع على الحد الذي نقوله ونذهب إليه.
ومتى قلتم : إن
هذا إن أوجب انقطاع عقاب الفساق ، فليوجبن انقطاع عقاب الكفار أيضا فالشقاء
يتناولهما جميعا.
قيل لكم : إنا
نعلم ضرورة من دين النبي صلىاللهعليهوسلم أن عقابهم لا ينقطع بل يدوم ، ولهذا لا يخالفنا فيه الملحد
والموحد ، فيجب أن يكون المراد بالآية الفساد دون من عداهم.
وجوابنا عن ذلك ،
أن تعليق عقاب الأشقياء بدوام السموات والأرض لو دل على انقطاع عقاب أهل النار ليدلن
على انقطاع ثواب أهل الجنة أيضا ، فقد علق الله ثواب السعداء بدوام السموات والأرض
، حيث قال : (وَأَمَّا الَّذِينَ
سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) [هود : ١٠٨] ثم
قال من بعده : (إِلَّا ما شاءَ
رَبُّكَ) فاستثنى منه وعلق بالمشيئة كما في الآية التي قبلها ،
ومعلوم أن ذلك لا يقتضي انقطاع ثواب السعداء ، وكذلك ما قيل ، فيجب أن لا يدل على
انقطاع عقاب الأشقياء ، ثم يقال لهم : إن هذا جهل منكم باللغة وبموضوعها ، لأن
المراد بقوله : (ما دامَتِ
السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) التبعيد لا التوقيت ، يدلك على ذلك من كتاب الله تعالى
قوله تعالى : (حَتَّى يَلِجَ
الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) فالمعلوم أنه تعالى لم يرد بهذا الكلام إلا التبعيد فقط ،
ومن كلام أهل اللسان قولهم : لا أفعل ذلك ما درّ شارق وما لاح كوكب وما ناح قمري
وما هتفت حمامة وما لاح عارض وما لبّى الله ملبّ وما دعا الله داع وما بلّ البحر
صوفة ، إلى غير ذلك.
ومن شعر الشعراء
قول بشر بن أبي حازم :
فرج الخير
وانتظري إيابي إذا
|
|
ما الفارط
الغيرى أبا
|
وقال آخر :
وأقسم المجد حقا
لا يحالفهم
|
|
حتى يحالف بطن
الراحة الشعر
|
وقال آخر :
إذا شاب الغراب
أتيت أهلي
|
|
وصار القار
كاللبن الحليب
|
وقال أيضا :
إلى أن يئوب
الفارطان كلاها
|
|
وينشر في القتلى
كليب بن وائل
|
وقد قال شيخنا أبو
علي : إن المراد بالسماوات والأرض المذكورة سماوات الآخرة وأرضها وذلك مما يدوم
ولا ينقطع ، ولا معنى لاستبعاد هذا الكلام ، فليست السماء بأكثر مما علاك فأظلك ،
ولا الأرض إلا ما هو تحتك فأقلك ففسد تعلقهم بالآية والحال ما قلناه.
ومتى سألوا عن
الاستثناء وما وجهه وكيف علق بالمشيئة قيل في الجواب : المراد به القدر الذي
يحاسبون فيه ، ويقفون للحساب ، فهذا ظاهر ، فهذه جملة الكلام في الجواب عن هذه
الآية.
ومن قوى ما يعتمده
المرجئة :
قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ
بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨]
وتعلقهم بهذه الآية من وجوه :
أحدها : أنه لا بد من أن يكون التفضل مضمرا في قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ
بِهِ) وإلا فمتى تاب الكافر وأسلم وندم على ما كان عليه من الكفر
فإنه يجب غفرانه لا محالة ، وإذا ثبت أن التفضل مضمر في هذه الجملة فكذلك في
الجملة الثانية أيضا ، لتطابق النفي الإثبات ، ليوافق آخر الكلام أوله ، فيقضي
ظاهر الآية أنه تعالى لا يغفر الشرك ويغفر ما دونه تفضلا. والذي يصح غفرانه تفضلا
مما دون الشرك ليس إلا الكبيرة ، فإن الصغيرة تقع مغفورة لا محالة وفي ذلك ما
أوردناه ، فهذا وجه.
والثاني : هو أنه تعالى علق غفران ما دون الشرك بالمشيئة ، فقال :
ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء والمشيئة لا تدخل في غفران الصغائر فإنها مكفرة في جنب
ما لصاحبها من الثواب ، فلا بد من أن يكون المراد به الكبائر دون ما عداها من
الصغائر ، يزيد ذلك وضوحا ، أنه لا يقال يثيب الله تعالى الملائكة والأنبياء إن
شاء ، كما يقال يرزق فلانا مالا وولدا إن شاء ، لا ذلك إلا لأن ما يجب فإنه لا
مجال للمشيئة فيه ، إذا ثبت هذا ومعلوم أن الصغيرة واجب غفرانها فالكبيرة تدخل تحت
هذه الآية ، وكذلك التائب لا يجوز أن يكون مرادا بالآية فإن غفرانه أيضا مما يجب ،
فليس إلا أن يحمل على الكبيرة على الحد الذي نقوله.
والثالث : أنه تعالى أضاف في الآية الغفران إلى نفسه فقال : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ
يَشاءُ) والذي يتعلق به من المغفرة ليس إلا مغفرة أصحاب الكبائر
دون التائب وأصحاب الصغائر ، فإن التائب بتوبته قد أزال ما استحق من العقاب ،
وكذلك صاحب الصغيرة باجتنابه الكبائر قد أزال عن نفسه ما استحق من العقوبة ، ولا
حاجة بهما إلى من يزيل عنهما العقوبة ، والمغفرة إنما هو إزالة ما يستحق المرء من
العقوبة ، ولا يتصور والحال ما قلناه إلا في صاحب الكبيرة دون من سواه.
والرابع : هو أن قوله : (يَغْفِرُ ما دُونَ
ذلِكَ) عام ، يتناول الصغائر والكبائر جميعا ، ألا ترى أن القائل
إذا قال : ما في كيسي فهو لفلان عمّ جميع ما فيه وشمل ، حتى أن له أن يستثني أي
قدر شاء ، فيجب القضاء بأنه تعالى يغفر ما دون الشرك صغيرا كان أو كبيرا.
والخامس : هو أن لفظة دون لا تستعمل إلا فيما قرب من الشيء دون ما
بعد عنه ، ألا ترى أن القائل إذا قال : الألف فما دونه ليس يجوز أن يريد به الألف
، والشعيرة ، وإن كان يجوز أن يريد به الألف وتسع مائة أو ما يجري هذا المجرى.
فهذه هي الوجوه
التي أوردوها في هذا الباب ، ونحن نجيب عن فصل من ذلك ، بعد أن نجيب عن الكل بجواب
مقنع إن شاء الله تعالى.
اعلم أن مشايخنا رحمهمالله قالوا : إن الآية مجملة مفتقرة إلى البيان ، لأنه قال : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ
يَشاءُ) ولم يبين من الذي يغفر له ، فاحتمل أن يكون المراد به
أصحاب الصغائر ، واحتمل أن يكون المراد به أصحاب الكبائر ، فسقط احتجاجهم بالآية.
وإذا سئلنا عن
بيانه في قوله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا
كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) [النساء : ٣١]
وعلى هذا قال الحسن البصري لما سئل عن هذه الآية : يا لكع ، أما سمعت بيانه في
قوله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا
كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) الآية ، فهذا أحد ما نمنعهم به من الاستدلال بهذه الآية.
ووجه آخر ، هو أن
أكثر ما في الآية تجويز أن يغفر الله تعالى ما دون الشرك على ما هو مقرر في العقل
، فلو خلينا وقضية العقل لكنا نجوز أن يغفر الله تعالى ما دون الشرك لمن يشاء إذا
سمعنا هذه الآية ، غير أن عمومات الوعيد تنقلنا من التجويز إلى القطع على أن أصحاب
الكبائر يفعل بهم ما يستحقونه ، وأنه تعالى لا يغفر لهم إلا
بالتوبة والإنابة.
ومتى قيل : فما
تلك العمومات؟ قلنا : قد احتججنا بها في المسألة ، نحو قوله : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ
فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) ونحو قوله : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً
يُجْزَ بِهِ) ونحو قوله : (بَلى مَنْ كَسَبَ
سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها
خالِدُونَ (٨١)) ونحو قوله : (إِنَّ الْأَبْرارَ
لَفِي نَعِيمٍ (١٣)) الآية ، إلى غير ذلك مما يكثر عدّه.
ونعود بعد هذه
الجملة إلى تفصيل الكلام عليهم في التعلق بهذه الآية ، فنقول : إن ما ذكرتموه أولا
، أن التفضل إذا كان مضمرا في الجملة الأولى يجب أن يكون مضمرا في الجملة الثانية
دعوى ، فما دليلكم عليها؟
فإن قالوا : لا
إشكال في ذلك ، فمعلوم أن القائل إذا قال لا آكل الفاكهة على الشبع وآكل الحلوى ،
كان مراده وآكل الحلوى على الشبع ، وكذلك هاهنا.
قلنا : إن هذا ليس
بوزان ، مسألتنا ، فإن الشبع مذكور في الجملة الأولى مظهر فيها ، فلا يمتنع أن
يكون مضمرا في الجملة الثانية ، وليس كذلك ما نحن فيه ، فإن التفضل غير مذكور في
الجملة الأولى ولا مظهر فيها حتى يجب أن يكون مضمرا في الجملة الثانية ، بل إنما
أثبتناه في الجملة الأولى لدلالة دلت عليه ، وحجة قامت به ، ووجه اقتضاه ، ولم
يثبت مثل تلك الأدلة فيما دون الشرك ، فبطل احتجاجهم من هذا الوجه. وبعد ، فليس
يجب إذا كان الشيء مظهرا في الجملة الأولى من الكلام أن يكون مضمرا في الجملة
الثانية لا محالة ، فإن قائلا لو قال : لا أعطي أهل الريّ شيئا وأعطي العلماء ، لم
يقتض قوله هذا كون العلماء من الريّ ، بل يجوز أن يكونوا من البصرة أو غيرها من
البلدان ، كذلك هاهنا. وبهذه الجملة أجبنا الحنفية عن قولهم : إن قول النبي صلىاللهعليهوسلم : «ألا لا يقتل مؤمن
بكافر» يجب أن يكون محمولا على الحربي لأنه قال بعد ذلك : «ولا ذو عهد في عهده» ، فيكون المراد به ولا ذو عهد في عهده بكافر ، لأن الكافر
إذا كان مذكورا في الجملة الأولى فلا بد من أن يكون مضمرا في الجملة الثانية لا
محالة ، ولن يكون كذلك إلا والمراد بالكافر المذكور في الخبر الحربي ، فالمعلوم أن
الذمي يقتل بالذمي وإنما الذي لا يقتل بالذمي هو الحربي.
وقلنا : إن قوله
ألا لا يقتل مؤمن بكافر ، كلام مستقل بنفسه ، وليس يجب إذا كان فيه ذكر الكافر أن
يكون ذلك مضمرا في الجملة التي تليه لا محالة.
وبعد ، فلو كان
التفضل مضمرا في الجملتين جميعا على ما ظنوه ، لوجب إذا أظهر في الجملة الثانية ما
يخالفه ، فيقول : ويغفر ما دون ذلك لمجتنبي الكبائر أن يتناقض كلامه كما في قوله
تعالى : (فَلا تَقُلْ لَهُما
أُفٍ) [الإسراء : ٢٣]
فإنه لما اقتضى بظاهره نفي التأفيف وبفحواه نفي الشتم والضرب ، لم يجز أن ينضم إلى
ما يخالف فحواه فيقول : فلا تقل لهما أف واضربهما ، لأنه يعد كلامه في المناقضة ،
كذلك كان يجب مثله هاهنا ، ولهذا الوجه منعنا من القول بدليل الخطاب ، وقلنا : إن
قوله عليهالسلام : «في سائمة الغنم
الزكاة»
لو دل على ما لا
زكاة فيه ، لكان يجب إذا قال : في سائمة الغنم زكاة وفي المعلوفة أيضا زكاة أن
يتناقص كلامه لأن المناقضة هي أن يثبت بآخر الكلام ما نفى بأوله أو ينفي بآخره ما
أثبته بأوله ، وعلى زعمهم هذا ، لو قال : في سائمة الغنم زكاة ، كان قد أثبت
الزكاة في السوائم بالظاهر ، ونفاه عن المعلوفات بدليل الخطاب ، ومتى قال بعده :
في المعلوفة أيضا زكاة ، كان قد أثبت بآخر الكلام ما نفاه بأوله ، وهذا صريح
المناقضة على ما ذكرناه. كذلك في هذه المسألة التي نحن بصددها.
وبعد ، فلو كان
الأمر على ما ذكرتموه ، لكان يجب أن لا يغفر الله تعالى ما دون الشرك بالتوبة ،
لأنه وعد أن يغفره تفضلا ، والمعلوم خلافه ، فهذا هو الكلام على الوجه الأول.
وأما ما ذكروه
ثانيا ، من أن الواجب لا يعلق بالمشيئة ، فلا يصح ، لأنه كما يراد التفضل ويعلق
بالمشيئة ، فقد يراد الواجب ويعلق بالمشيئة ، وعلى هذا قوله تعالى : (وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ
أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) فعلق قوله : (أَوْ يَتُوبَ
عَلَيْهِمْ) بالمشيئة ، مع أنه إما أن يراد به قبول التوبة أو اللطف
للتوبة ، وأي ذلك كان فهو واجب عليه ، فصح أن تعليق الشيء بالمشيئة لا يقدح في
وجوبه ، والغرض بهذا الجنس من الكلام الإبهام على السامع ، وذلك مما لا مانع يمنع
منه إذا تعلق به الصلاح ، ونظيره قوله تعالى : (وَأَرْسَلْناهُ إِلى
مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧)) [الصافات : ١٤٧]
أبهم على السامع لما كان الصلاح تعلق بأنهم لا يعلموا كم كانوا.
وأما ما قالوه
ثالثا ، من أنه أضاف الغفران إلى نفسه ، فالذي له ولأجله جاز تلك الإضافة ، هو أنه
تعالى لما كان هو المعاقب ، وكان هو الذي لا يختار أن يعاقب المكلف العقوبة التي
كان يستحقها من قبل ، لم يمتنع أن يضيفه إلى نفسه سواء كان واجبا أو من باب التفضل
، وعلى هذا صح قوله تعالى : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ
لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ
صالِحاً
ثُمَّ اهْتَدى (٨٢)) فأضاف الغفران إلى نفسه ، مع أنه واجب عليه فكيف يصح ما
قالوه؟
ومتى قيل : إن
استعمال الغفران في هذا الموضع مجاز ، قلنا : إن ذلك مما لا وجه يقتضيه ، وكيف
يقال إنه مجاز في هذا الموضع ، مع أنه يطرد على هذا اطراده في غير هذا الموضع.
وأما ما قالوه
رابعا : من أن «ما»
عام ، فإنه وإن
كان كذلك ، إلا أنه لا يجوز أن يعم هاهنا لأنه قال في آخره : (لِمَنْ يَشاءُ) فيجب أن يكون المراد به ويغفر لبعض مرتكبي ما دون الشرك ،
وجرى في ذلك مجرى قول القائل : لا أعطي الزيدين شيئا ، وأعطي العمرين من أشاء ،
فكما أنه يريد به التبعيض دون العموم ، فكذلك هاهنا.
وأما ما قالوه
خامسا ، من أن لفظ دون ، إنما تستعمل في ما قرب من الشيء دون ما بعد عنه ، فلا يصح
، لأنه يجوز استعماله في الموضعين جميعا حقيقة ، ولهذا فإن أحدنا إذا قال :
السلطان فمن دونه في بلد كذا لما شملهم من القحط في شدة وبلية لم يجب أن يريد به
السلطان ووزيره ، بل يريد به من عداه من الأكابر والأصاغر ، وإذا كان هذا هكذا فقد
سقط تعلقهم بالآية من هذه الوجوه ، وثبت أن المراد بها التائب وصاحب الصغيرة على
ما ذكرناه.
وأحد ما يتعلقون
به ، قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ
الذُّنُوبَ جَمِيعاً) وجوابنا أنه لا تعلق لكم بظاهر الآية ، لأن ظاهرها يقتضي
أن يغفر الله تعالى الذنوب كلها سواء كان ذنبا للكفرة أو الفسقة.
ومتى قالوا : إن
الكافر مستثنى منه بقوله : (إِنَّ اللهَ لا
يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) قلنا : فكذلك الفاسق المرتكب الكبيرة المصرّ على ذلك
مستثنى منه بقوله : (إِنْ تَجْتَنِبُوا
كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) الآية. وعلى ما قالوه إغراء للمكلف بالقبيح ، وذلك لا يحسن
من الله تعالى ، فيجب أن يكون المراد به أنه يغفر الذنوب جميعا بالتوبة. وعلى هذا
قال عقيبه : (وَأَنِيبُوا إِلى
رَبِّكُمْ) وأكده بقوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) ، فلو لا أن المراد به ، ما ذكرناه ، وإلا كان لا يكون
لقوله جل وعز : (مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ) معنى ، ومتى قالوا : إن المراد بقوله : (وَأَنِيبُوا) الإنابة إلى الإسلام لا الإنابة التي هي التوبة ، بدليل
الآيات التي ذكرها الله تعالى بعده ، نحو قوله : (وَأَسْلِمُوا لَهُ
مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ) إلى قوله : (أَلَيْسَ فِي
جَهَنَّمَ مَثْوىً
لِلْمُتَكَبِّرِينَ) قيل لهم : إن الإنابة تحتمل أن تكون إنابة إلى الإسلام ،
وتحتمل أن تكون الرجوع عن المعصية ، فمن خصصه بالرجوع إلى أحد الوجهين دون الثاني
، فقد خصصه بغير دلالة. ومتى قيل : ليس هذا من ألفاظ في العموم ، حتى يقال : إنكم
قد خصصتم من دون دلالة ، وإنما هو من باب ما يقال : إن العبارة الواحدة أريد بها
معنيان مختلفان ، فكيف يصح لكم ذلك؟ قيل له : الإنابة إذا كان يراد بها الرجوع ،
وذلك يحتمل أن يراد به الرجوع إلى الإسلام ، وأن يراد به الرجوع عن المعصية ، فإن
كل واحد منهما رجوع إلى الله تعالى ، لم يكن لتخصيص أحد الوجهين دون الثاني وجه.
وأحد ما يتعلقون
به قوله تعالى : (وَإِنَّ رَبَّكَ
لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) [الرعد : ٦] قالوا
: بيّن أنه يغفر للظلمة في حال ظلمهم ، وفي ذلك ما نريده.
وجوابنا عن ذلك ،
أن الأخذ بظاهر الآية مما لا يجوز بالاتفاق ، لأنه يقتضي الإغراء على الظلم ، وذلك
مما لا يجوز على الله تعالى فلا بد من أن يؤوّل ، وتأويله هو أنه يغفر للظالم على
ظلمه إذا تاب.
فإن قيل : إن هذا
الذي ذكرتموه ينبني على أن لفظة «الناس»
المذكورة في الآية
تقتضي العموم ، ونحن لا نسلم ذلك.
قيل له : قد بينا
أن اللام إذا دخل على اسم جنس ولم يكن هناك معهود ينصرف إليه ، فلا بد من أن يفيد
استغراق الجنس فيقتضي الإغراء على ما ذكرناه ، فليس إلا أن يقال في تأويله ما
بيناه.
ومتى قالوا : ليس
يجوز أن يسمى التائب ظلما ، والآية تقتضي جواز ذلك ففسد تأويلكم.
قلنا : ليس يمتنع
أن يسمى التائب ظالما ، فإن من رمى مسلما وتاب قبل الإصابة يسمى ظالما على توبته ،
فكيف يصح ما ذكرتموه؟ يزيد ذلك وضوحا ، أن الظالم اسم مشتق غير منقول من اللغة إلى
الشرع ، فيجوز أن يسمى به التائب وغير التائب ، وعلى هذا قال آدم عليهالسلام : (رَبَّنا ظَلَمْنا
أَنْفُسَنا) الآية ، فسمى نفسه ظالما وإن كان قد تاب. وقال موسى عليهالسلام : (رَبِّ إِنِّي
ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي) [القصص : ١٦] فغفر
له على توبته.
غير أنا لا نطلق
هذا اللفظ على التائب لأنه يوهم الخطأ ، ويقتضي استحقاقه للذم
وهو غير مستحق
للذم ، وإذا كان الذي له ولأجله لم يجز للواحد أن يصف التائب بأنه ظالم هو ما
ذكرنا من إيهامه الخطأ ، وذلك مرفوع عن كلام الله جل ذكره ، لما قد ثبت عدله وحكمته
، لم يمتنع أن يصفه الله تعالى به ، إذ لا يريد به إلا المعنى الصحيح ، وجرى ذلك
مجرى قوله تعالى : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ
فَغَوى) فكما أنه جاز له إجراء لفظ العاصي على آدم لثبوت حكمته جل
وعز ، لأنه لم يرد به إلا المعنى الصحيح دون الفاسد ، ولم يجز لنا ذلك لما لم تثبت
حكمتنا ، كذلك هاهنا ، فهذا تمام القول في هذه الآية.
وأجد ما يتعلقون
به قوله تعالى : (فَأَنْذَرْتُكُمْ
ناراً تَلَظَّى (١٤) لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى (١٥) الَّذِي كَذَّبَ
وَتَوَلَّى (١٦)) والفاسق لم يكذب ولم يتول ، فيجب أن لا يعذب على الحد الذي
نقول. وجوابنا عن ذلك ، لا تعلق لكم بظاهر هذه الآية ، لأن ظاهر الآية يقتضي أن لا
يعذب بالنار قطعا وأنتم لا تقطعون بذلك ، وعلى أن في الكفر ما لا يكون تكذيبا نحو
الزنا بين يدي رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ونحو الاستخفاف به بالشتم أو الضرب أو غير ذلك ، فيجب في
الكافر الذي هذا سبيله أن لا يصلى النار ، وقد عرف خلافه.
وأيضا ، فإن قوله
تعالى : (فَأَنْذَرْتُكُمْ
ناراً تَلَظَّى (١٤)) نكرة ، فأكثر ما فيه أن لا يصلى تلك النار إلا الأشقياء
الذين يكذبون ، فمن أين أنه لا يجوز أن يصلى الفاسق بغيرها من النيران ، فبطل ما ذكرتموه
، وعلى أن ظاهر الآية يقتضي الإغراء ، لأن الفاسق متى اعتقد وعلم أنه وإن أتى بكل
فاحشة وبلغ في الفسق كل مبلغ لا يصلى بالنار ، كان مغرى على القبيح ومحرضا عليه ،
وذلك لا يجوز على الله تعالى.
فإن قيل : إن
الإغراء يزول بالخوف من أن يعاقبه في الموقف بالتعطيش وغيره من أنواع العقوبات ،
قلنا : إن هذا خرق الإجماع ، لأن الأمة اتفقت على أن من استحق العقوبة إذا لم
يعاقبه الله تعالى بالنار في دار الآخرة لا يعاقبه خارج النار.
وعلى أن شيخنا أبا
الهذيل ، ذكر أن الآية تتناول الكافر والفاسق جميعا ، لأن قوله : (تَوَلَّى) يجوز أن يكون المراد به الفاسق ، غير أن هذا الكلام يضعف
من طريق العربية.
ومما يتمسكون به
قوله تعالى : (وَلا تَيْأَسُوا مِنْ
رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ
الْكافِرُونَ) قالوا : إن الآية تدل على أن الذي يجب أن يكون آيسا من روح
الله إنما هو الكافر دون الفاسق.
وجوابنا ، إن
اليأس المذكور في الآية ، إنما هو إنكار الجنة والنار ، فأكثر ما تتضمنه الآية أن
الفاسق لا ينكره ، ونحن لا نقول إنه ينكره ، فلا يصح التعلق به.
فإن قيل : إن هذا
تخصيص من دون دلالة ، قيل له : إنا خصصناه بذلك للأدلة الدالة عليه ، وهي عمومات
الوعيد.
فإن قيل : إن هذه
الآية ليس بأن تحمل على عمومات الوعيد أولى من أن تحمل عمومات الوعيد على هذه
الآية ، فيجب أن يتوقف فيهما ، فقد وقف القولان موقفا واحدا. قيل لهم : إن الدلالة
قد دلت على أن الفاسق ييأس من رحمة الله يوم القيامة لا محالة ، فلم يكن بد من أن
يحمل اليأس المذكور في الآية على إنكار الجنة والنار ، ففسد ما قالوه.
وقد قالت المرجئة
: لو أمكن الاستدلال بعمومات الوعيد والأخذ بظاهرها لأمكن مثله في قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ
اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) فلو أخذتم بذلك ، وأجبتم إلى هذا الكلام لزمكم القول بأن
من لم يحكم بما أنزل الله فهو كافر ، وذلك دخول في مذهب الخوارج ، وأنتم لا
تقولونه ولا ترضونه مذهبا. قيل له : إنما خصصنا هذه الآية لدلالة دلت عليه وحجة
قامت به ، ولم تقم مثل الدلالة في عمومات الوعيد ، وليس يجب إذا خصصنا عاما لدلالة
اقتضته ووجه أوجبه ، أن نخص كل عام في كتاب الله تعالى ، وإن لم تقتضيه دلالة.
وبعد ، فإن قوله (بِما أَنْزَلَ اللهُ) عام ، كما أن قوله : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ) عام ، فيقتضي ظاهر الآية أن كل من لم يحكم بجميع ما أنزل الله
فهو كافر ، ونحن هكذا نقول ، فعلى هذه الطريقة يجري الكلام في هذا الباب.
فصل في الشفاعة
ووجه اتصاله بباب
الوعيد ، هو أن هذا أحد شبه المرجئة الذين يوردون علينا طعنا في القول بدوام عقاب
الفساق. وجملة القول في ذلك ، هو أنه لا خلاف بين الأمة في أن شفاعة النبي صلىاللهعليهوسلم ثابتة للأمة ، وإنما الخلاف في أنها ثبتت لمن؟
فعندنا أن الشفاعة
للتائبين من المؤمنين ، وعند المرجئة أنها للفساق من أهل الصلاة.
ونحن قبل الاشتغال
بالدلالة على صحة ما اخترناه من المذهب ، نذكر الشفاعة.
اعلم أن الشفاعة
في أصل اللغة مأخوذة من الشفع الذي هو نقيض الوتر ، فكأن صاحب الحاجة بالشفيع صار
شفعا.
وأما في الاصطلاح
، فهو مسألة الغير أن ينفع غيره أو أن يدفع عنه مضرة ، ولا بد من شافع ومشفوع له ،
ومشفوع فيه ومشفوع إليه. وقد سأل رحمهالله نفسه ، إن المشفوع إليه إذا أجاب الشفيع هل يكون مكرما له
أم لا؟ والأصل فيه ، أنه يكون مكرما له ، لأنه لا بد من أن يكون قد قصد بالإجابة
إكرامه ، وإلا لم يكن إيصاله تلك المنفعة إلى الغير ودفعه ذلك الضرر بشفاعته.
إذا ثبت هذا ،
فالذي يدل على ما ذكرناه ، هو أن شفاعة الفساق الذين ماتوا على الفسوق ولم يتوبوا
يتنزل منزلة الشفاعة لمن قتل ولد الغير وترصد للآخر حتى يقتله ، فكما أن ذلك يقبح
فكذلك هاهنا هذا ، الذي ذكره قاضي القضاة.
والذي يذهب إليه
أبو هاشم ، هو أنه تحسن الشفاعة مع إصرار المذنب على الذنب كما في العفو ، ولعل
الصحيح في هذا الباب ما اختاره قاضي القضاة.
وأحد ما يدل على
ذلك أيضا ، أن الرسول إذا شفع لصاحب الكبيرة فلا يخلو ، إما أن يشفع أو لا ، فإن
لم يشفع لم يجز لأنه يقدح بإكرامه ، وإن شفع فيه لم يجز أيضا لأنا قد دللنا على أن
إثابة من لا يستحق الثواب قبيح ، وأن المكلف لا يدخل الجنة تفضلا.
وأيضا فقد دلت
الدلالة على أن العقوبة تستحق على طريق الدوام ، فكيف يخرج الفاسق من النار بشفاعة
النبي عليهالسلام والحال ما تقدم ، ومما يدل على ذلك قوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ
عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) الآية ، وقوله تعالى : (ما لِلظَّالِمِينَ
مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) فالله تعالى نفى أن يكون للظالمين شفيع البتة ، فلو كان
النبي شفيعا للظلمة لكان لا أجل وأعظم منه.
ويدل على ذلك أيضا
قوله تعالى : (أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ
مَنْ فِي النَّارِ) وقوله : (وَلا يَشْفَعُونَ
إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى).
فائدة الشفاعة وموضوعها
وقد أورد رحمهالله بعد هذه الجملة الكلام في فائدة الشفاعة وموضوعها.
وجملة ذلك أن
فائدة الشفاعة رفع مرتبة الشفيع ، والدلالة على منزلته من المشفوع.
وأما موضوعها فقد
اختلف الناس فيه ، فعندنا أن موضوع الشفاعة هو لكي يصل المشفوع له إلى حاجته ، ثم
أن حاجته ، إما أن تكون نفعا يناله من مال وحشمة وتمييز وخلعة ، أو ضرر يدفع عنه.
وقد خالف في ذلك
المرجئة ، وقالت : إن موضوعها إنما هو لدفع الضرر عن المشفوع له لا غير ، وذلك
ظاهر الفساد ، فإن الوزير مثلا كما يشفع إلى السلطان ليزيل عن حاجب من حجابه الضرر
، فقد يشفع ليخلع عليه ويميزه من الحجاب ، ففسد ما ظنوه.
ومتى قيل : إن
الشفاعة التي هذه سبيلها ترجع إلى ما ذكرناه ، فإن الحاجب لو لم يستضر بانحطاط
رتبته لكان لا يكون للشفاعة في رفع مرتبته وتميزه عن غيره معنى.
قلنا : إن هذا
تعسف ولا وجه له ، بل لو جعل الأصل في هذا الباب النفع ، ويرجع بدفع الضرر إليه ،
لكان أولى وأوجب.
فحصل لك بهذه
الجملة العلم بأن الشفاعة ثابتة للمؤمنين دون الفساق من أهل الصلاة ، خلاف ما
تقوله المرجئة.
وقد تعلقوا في ذلك
بما روي عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «شفاعتي لأهل
الكبائر من أمتي» وقالوا : إن النبي
صلىاللهعليهوسلم قد نص على صريح ما ذهبنا إليه.
والجواب : أن هذا
الخبر لم تثبت صحته أولا ، ولو صح فإنه منقول بطريق الآحاد عن النبي ، ومسألتنا
طريقها العلم ، فلا يصح الاحتجاج به.
ثم إنه معارض
بأخبار رويت عن النبي صلىاللهعليهوسلم في باب الوعيد ، نحو قوله : «لا
يدخل الجنة نمام ولا مدمن خمر ولا عاق» وقوله : «من قتل نفسه بحديدة فحديدته في
يده يجأ بها بطنه يوم القيامة في نار جهنم خالدا مخلدا» إلى غير ذلك ، فليس بأن
يوجد بما أوردوه أولى
من أن يوجد بما رويناه ، فيجب اطراحهما جميعا ، أو حمل أحدهما على الآخر ، فنحمله
على ما يقتضيه كتاب الله وسنة رسوله ، ونقول : المراد به شفاعتي لأهل الكبائر من
أمتي إذا تابوا. ومتى قالوا : إن التائب في غنى عن الشفاعة ولا فائدة فيها ، قلنا
ليس كذلك ، فإن ما استحق التائب من الثواب قد انحبط بارتكابه الكبيرة ،
ولا ثوب إلا مقدار
ما قد استحقه بالتوبة ، فيه حاجة إلى نفع التفضل عليه. فإن قالوا : إن ذلك شيء قد
وعده الله به حيث يقول : (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ
فَضْلِهِ) فلا يثبت للشفاعة والحال ما ذكرتموه تأثير.
قلنا : إنه تعالى
لم يذكر أنه يزيدهم من فضله دون شفاعة النبي ص ، فلا يمتنع تجويز أن يكون التفضل
هو هذا الذي قد وعد به ، بل لا يمنع أن يتفضل عليهم نوعا آخر من التفضل ، ففضله
أوسع مما يظنونه. وقد قال أبو الهذيل : إن الشفاعة إنما ثبتت لأصحاب الصغائر وذلك
لا يصح ، لأن الصغائر تقع مكفرة في جنب الطاعات.
فإن قيل : إن
النبي ص يشفع ليعاد ما قد انحبط بصغيرته من الثواب.
قيل له : إن ذلك
قد انحبط وبطل وخرج من أن يستحق ، فكيف يصح عوده بالشفاعة؟ ثم يقال لهؤلاء المرجئة
: أليس أن الأمة اتفقت على قولهم : اللهم اجعلنا من أهل الشفاعة ، فلو كان الأمر
على ما ذكرتموه لكان يجب أن يكون هذا الدعاء دعاء لأن يجعلهم الله تعالى من الفساق
وذلك خلف.
فإن قالوا : أليس
أن الأمة قد اتفقت على هذا فقد اتفقت على قولهم : اللهم اجعلنا من التوابين ومن
أهل التوبة ، ثم لم يلزم أن يكون هذا الدعاء لأن يجعلهم فساقا ملعونين ، فهلا جاز
مثله هاهنا؟
قلنا : إن بين
الموضعين فرقا عندكم أن الشفاعة لا تصح ولا يثبت لها معنى إلا للفساق ، فسؤال الله
تعالى ودعاؤه حتى يجعله من أهل الشفاعة دعاء له حتى يجعله من أهل الفسوق ، وليس
كذلك الحال في قولنا اللهم اجعلنا من التوابين ومن أهل التوبة ، لأن هذا القول
يحسن من أصحاب الصغائر والكبائر جميعا ، حتى يحسن من الأنبياء.
وأيضا ، فما من
شيء نفعله من المباحات إلا ويجوز أن يقع فيها ما هو معصية ، وإذا كان ذلك مجوزا ،
حسن منا الدعاء بهذه الدعوة ، ولم يتضمن الدعاء بأن يجعلنا الله تعالى من
المتعاطين للأفعال القبيحة والمخلين بالواجبات ، فقد ذكرنا أن التوبة قد تحسن عما
لا يقبح أصلا ، وليس هكذا حال الشفاعة عندكم ، فإن النبي صلىاللهعليهوسلم لا بد من أن يعلم أنه إن لم يشفع له ، عاقبه الله تعالى
بما ارتكبه من الكبائر.
على أن غرض الأمة
بهذه الدعوة لو ثبت اتفاقهم عليها ، أن يسهل الله لهم السبيل إلى التوبة بالألطاف
أو ما يجري مجراها لما هو غرضهم بتلك الدعوة ، ولا يمكنهم أن يكيلوا علينا بهذا
الكيل ، فالمرء ما لم يكن من أهل الكبيرة لا تحسن
شفاعته على موضوع
مقالتهم ، ويقال لهم أيضا : ما قولكم فيمن حلف بطلاق امرأته ، أنه ليفعل ما يستحق
به الشفاعة؟ أليس يلزمه أن يرتكب الكبيرة ، ويصير من أهل الفسوق والعصيان ولا بد
من بلاء ، وحسبك من مذهب هذه حاله فسادا. فعلى هذه الطريقة يجري الكلام في هذا
الباب.
الأصل الرابع
المنزلة بين المنزلتين
الأصل
الرابع
وهو
الكلام في المنزلة بين المنزلين
فصل
لم سمى بالأسماء والأحكام :
اعلم أن هذا الفصل
كلام في الأسماء والأحكام ويلقب بالمنزلة بين المنزلتين.
ومعنى قولنا : إنه
كلام في الأسماء والأحكام ، هو أنه كلام في أن صاحب الكبيرة له اسم بين الاسمين
وحكم بين الحكمين ، لا يكون اسمه اسم الكافر ، ولا اسمه اسم المؤمن ، وإنما يسمى
فاسقا. وكذلك فلا يكون حكمه حكم الكافر ، ولا حكم المؤمن ، بل يفرد له حكم ثالث ،
وهذا الحكم الذي ذكرناه هو سبب تلقيب المسألة بالمنزلة بين المنزلتين ، فإن صاحب
الكبيرة له منزلة تتجاذبها هاتان المنزلتان ، فليست منزلته منزلة الكافر ولا منزلة
المؤمن ، بل له منزلة بينهما.
إذا ثبت هذا ،
فاعلم ، أن المكلف لا يخلو حاله من أحد أمرين : فإما أن يكون مستحقا للثواب ، أو
يكون مستحقا للعقاب ، فإن كان مستحقا للثواب فهو من أولياء الله ، وإن كان مستحقا
للعقاب فهو من أعداء الله تعالى.
ثم إنه إن كان
مستحقا للثواب فلا يخلو : إما أن يستحق الثواب العظيم ، أو يستحق ثوابا دون ذلك ،
فإن استحق الثواب العظيم فلا يخلو : إما أن يكون من بني آدم ، أو لا يكون. فإن لم
يكن من بني آدم فإنه يسمى ملكا ومقربا. وما يجري هذا المجرى ، وإن كان من بني آدم
، سمي نبيا ومصطفى ومختارا ، إلى غير ذلك.
وإذا استحق ثوابا
دون ذلك ، فإنه يسمى مؤمنا برا تقيا صالحا ، سواء كان من الجن أو من الإنس.
وإن كان من أعداء
الله تعالى ، فلا يخلو : إما أن يكون مستحقا للعقاب العظيم ، أو لعقاب دون ذلك.
فإن كان مستحقا
للعقاب العظيم ، فإنه يسمى كافرا ، والكفر أنواع : من ذلك النفاق ، وهو أن يسر
صاحبه خلاف ما يظهره ، ومنه الارتداد ، وهو أن يكون كان مؤمنا
ثم خرج عنه إلى
الكفر ، ومنه التهود والتنصر والتمجس ، وتعداد ذلك وشرحه يطول.
وإن استحق عقابا
دون ذلك سمي فاسقا.
ولما اقتضت هذه
الجملة التي تقدمت أن يذكر حقيقة المدح والذم ، والتعظيم والتبجيل ، والاستخفاف
والإهانة ، والثواب والعقاب ، والموالاة والمعاداة ، أخذ رحمهالله يتكلم عليها وأكثرها قد تقدم ، غير أنا نجمعها هاهنا ،
فنقول :
المدح :
إن المدح هو كل
قول ينبئ عن عظم حال الغير ، فهو إذن قول وقع على وجه دون وجه ، وكل وجه وقع على
وجه دون وجه فلا بد أن يقصد كما في كون الكلام خبرا ، فإنه لما جاز أن يقع خبرا
وجاز أن يقع ولا يكون خبرا ، لم يكن بد من قصد له ولمكانه صار خبرا.
ثم إن المدح على
ضربين : أحدهما ، ضرب مدح يستحق بالطريق الذي يستحق به الثواب ، وذلك نحو المدح
المستحق على أداء الواجبات واجتناب المقبحات ، والثاني ، مدح لا يستحق بهذه
الطريقة وعلى هذا الوجه ، وذلك كالمدح على استواء الأعضاء وحسن الوجه والقد
والقامة وغير ذلك.
الذم :
وأما الذم ، فهو
قول ينبئ عن اتضاع حال الغير ، ويعتبر فيه القصد كما في المدح.
وهو أيضا على
وجهين : أحدهما ، يستحق على الطريقة التي يستحق بها العقاب ، وذلك كالذم المستحق
على الإخلال بالواجبات والإقدام على المقبحات ، والثاني ، لا يستحق على هذه
الطريقة ، وذلك نحو الذم على دمامة الخلقة والشكل والعرج وما شاكل ذلك.
وأما التعظيم
والاستخفاف فهما كالمدح والذم سواء ، غير أنهما إنما يستعملان في القول ، والفعل
جميعا ، والمدح والذم لا يستعملان إلا في الأقوال.
وأما التعجيل ،
فهو رفع منزلة الغير ، فهو إذن يخالف المدح والتعظيم ، ولهذا لا يقال : فلان يبجل
الله تعالى كما يقال يعظمه ويمدحه ، لما كان المرجع به إلى رفع
منزلة الغير وذلك
في الله غير متصور ، وليس كذلك المدح والتعظيم ، فإنه ليس بأكثر من قول أو فعل
ينبئ عن عظم حال الغير ، فيتأتّى في الله تعالى وفي غيره.
الثواب :
وأما الثواب ، فهو
كل نفع مستحق على طريق التعظيم والإجلال ، ولا بد من اعتبار هذه الشرائط ، ولو لم
يكن منفعة وكان مضرة لم يكون ثوابا ، ولو لم يكن مستحقا لم ينفصل عن التفضل ،
وكذلك فلو لم يكن مستحقا على سبيل التعظيم والإجلال لم ينفصل عن العوض ، وإذا حصل
هذه الشرائط كلها فهو ثواب.
العقاب :
وأما العقاب ، فهو
كل ضرر محض يستحق على طريق الاستخفاف والنكال. فلا بد من أن يكون ضررا ، لأنه لو
كان منفعة لم يكن عقابا ، وكذلك فلو لم يكن مستحقا لم ينفصل عن الظلم ، وهكذا فلو
لم يستحق على سبيل الاستخفاف والنكال ، لم ينفصل عن الحدود التي تقام على التائب
وعن هذه الآلام والمصائب النازلة من جهة الله تعالى.
الموالاة :
وأما الموالاة فهي
مفاعلة من الولاية ، والولاية قد تذكر ويراد بها النصرة ، كما قال الله تعالى : (لا مَوْلى لَهُمْ) [محمد : ١١] أي لا
ناصر لهم ، وقد تذكر ويراد بها الأولى ، قال الله تعالى : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ) [المائدة : ٥٥]
الآية ، أي الأولى بكم إنما هو الله ورسوله والمؤمنون بهذا الوصف ، وقد تذكر ويراد
بها المحبة ، وهو إرادة نفع الغير ، يقال : فلان ولى فلان ، أي يريد خيره ، ولذلك
لا تستعمل في القديم تعالى لأن النفع والضرر مستحيلان عليه ، وإذا استعمل فقيل :
فلان من أولياء الله ، فذلك على طريق التوسع ، والمراد به أنه يريد نصرة أولياء
الله أو يريد خيرهم. وإذا قيل : إن الله ولي عبده ، فالمراد به أنه يريد إثابته
والتفضل عليه.
المعاداة :
وأما المعاداة
فمفاعلة من العداوة أيضا ، ومعناه إرادة نزول الضرر بالغير ، وإذا قيل : فلان
يعادي الله تعالى ، فالمراد به أنه يريد نزول الضرر بأوليائه ، وإذا قيل في الله
تعالى أنه عدوه ،
فالمراد به أنه يريد معاقبته.
فصل
في المقصود من الباب :
وإذ قد فرغنا عن
حقيقة هذه الألفاظ وما يتصل بها ، عدنا إلى المقصود بالباب.
وجملة القول في
ذلك أن الغرض بهذا الباب هو أن صاحب الكبيرة لا يسمى مؤمنا ولا كافرا ، وإنما يسمى
فاسقا.
فصلان
١ ـ الفاسق لا يسمى مؤمنا خلافا للمرجئة :
٢ ـ ولا يسمى كافرا خلافا للخوارج :
وقد جعل رحمهالله الكلام في ذلك في فصلين : أحدهما ، في أنه لا يسمى مؤمنا
خلاف ما يقوله المرجئة. والثاني ، في أنه لا يسمى كافرا على ما يقوله الخوارج.
والذي يدل على
الفصل الأول ، وهو الكلام في أن صاحب الكبيرة لا يسمى مؤمنا ، هو ما قد ثبت أنه
يستحق بارتكاب الكبيرة الذم واللعن والاستخفاف والإهانة ، وثبت أن اسم المؤمن صار
بالشرع اسما لمن يستحق المدح والتعظيم والموالاة ، فإذا قد ثبت هذان الأصلان ، فلا
إشكال في أن صاحب الكبيرة لا يجوز أن يسمى مؤمنا.
ونحن وإن منعنا من
إطلاق هذا الاسم على صاحب الكبيرة ، فلا نمنع من إطلاقه عليه مقيدا ، فيجوز وصفه
بأنه مؤمن بالله ورسوله لأنه لا يمنع أن يفيد هذا الاسم بإطلاقه ما لا يفيده إذا
قيد ، فإنك تعلم أن الرب إذا أطلق لا ينصرف إلا إلى القديم تعالى ، وإذا قيد يجوز
أن يراد به غير الله تعالى ، فيقال : رب الدار ورب البيت.
وقد خالفنا بذلك
أبو القاسم ، وقال : إن هذا الاسم يفيد مقيده ما يفيد مطلقه ، واستدل على ذلك
بقوله : (وَجَنَّةٍ عَرْضُها
كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) ، وذلك مما لا وجه
له ، فإن المعلوم أن المراد بالآية ، أن الجنة التي ذكرها الله تعالى إنما أعدها
للذين آمنوا بالله ورسله بشرط أداء الواجبات واجتناب المحرمات ، وإنما اقتصر على
هذا القدر في الآية لما قد بينه في آية أخرى ، وركب
أصله في العقل.
وهذه الجملة تنبنى
على أن المؤمن صار بالشرع اسما لمن يستحق المدح والتعظيم ، وأنه غير مبقى على
موضوع اللغة ، وأما الذي يدل على أنه صار بالشرع اسما لمن يستحق المدح والتعظيم ،
هو أنه تعالى لم يذكر اسم المؤمن إلا وقد قرن إليه المدح والتعظيم ، ألا ترى إلى
قوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ
الْمُؤْمِنُونَ (١)) وقوله : (إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) وقوله : (إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى
أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) إلى غير ذلك من الآيات ، وأما الذي يدل أنه غير مبقي على
الأصل ، هو أنه لو كان مبقي على ما كان عليه في اللغة ، لكان يجب إذا صدق المرء
غيره أو أمنه من الخوف أن يسمى مؤمنا وإن كان كافرا ، ولكان يجب أن لا يسمى الأخرس
مؤمنا ، لأنه لم يصدر من جهة التصديق ، ولكان يجب أن لا يزول بالندم ولا يرتفع به
، لأن الأسماء المشتقة هذه سبيلها ، ألا ترى أن الضارب لما كان اسما مشتقا من
الضرب ، ووقع من أحدنا الضرب لم يزل عنه هذا الاسم بالندم وغيره؟ وكذلك الشاتم
والكاتب.
ومتى قيل : أليس
أن الظالم مع أنه اسم مشتق من الظلم ، لم يجز إجراؤه على التائب وزال بالتوبة
والندم ، فقد أجبنا عن ذلك ، وبينا أنه إنما لم يجز إجراؤه على التائب لا لأمر
يرجع إلى موضوع اللغة ، بل لأنه يوهم الخطأ ، ولهذا يجوز من الله تعالى أن يسمي
التائب ظالما لم لم يثبت في حقه هذا المعنى.
وأيضا ، فكان يجب
ألا يسمى المرء مؤمنا إلا حال اشتغاله بالإيمان ، فإن هذا هو الواجب في الأسماء
المشتقة من الأفعال ، ألا ترى أنه لا يسمى الضارب ضاربا وإلا وهو مشتغل بالضرب ،
والمصلي مصليا إلا وهو في الصلاة ، فأما الضرب المتقدم والصلاة التي قد أتى الفراغ
عليها ، فإنه لا يشتق له منها اسم ، فكان يجب فيمن آمن بالأمس أن لا يسمى اليوم
مؤمنا ، بل يقال كان مؤمنا ، وقريب من هذا الكلام ما يحكى أن بعض مشايخنا ألزم ابن
فورك في كلام جرى بينهما ، أن يؤذن المؤذن ويقول : أشهد أن محمدا كان رسول الله ،
فارتكب المدبر ذلك وافتضح ، فأمر به محمود حتى نكل وجر برجله.
وأحد ما يدل على
ذلك أيضا ، هو أنه لو كان مبقي على الأصل ، لكان يجب أن لا يقع الفصل بين مطلق هذا
الاسم ومقيده ، ومعلوم خلاف ذلك.
واعلم أن هاهنا
أسماء أخر غير الإيمان ، نقلت من الاسم إلى الشرع ، والكلام في ذلك إنما يتضح إذا
بينا جواز نقل الأسماء من اللغة إلى الشرع ، وأن ما هو جائز فهو ثابت.
أما الذي يدل على
أن نقل الأسماء جائز ، هو ما قد ثبت أن أهل الشرع عقلوا معان لم يعقلها أهل اللغة
ولا وضعوا لها أسماء ، فلا يمتنع أن ينتزع أهل الشرع من اللغة أسامي لما قد عرفوه
بالشرع ، بل الحكمة تقتضي ذلك. وصار الحال فيه كالحال فيمن استحدث صناعة من
الصناعات ولها آلات مختلفة ليس لها في اللغة أسماء تعرف بها ويقع التمييز بينها
وبين غيرها ، فكما أن له أن يضع لكل واحد منها اسما ، بل الحكمة تقتضي ذلك ، كذلك
هاهنا.
وأما الذي يدل على
أن ما هو جائز فهو موجود ثابت فظاهر ، لأن الصلاة كان في الأصل عبارة عن الدعاء ،
والآن صارت بالشرع اسما لهذه العبادة مشتملا على هذه الأركان المخصوصة ، وكذلك
الصوم فقد كان في الأصل عبارة عن الإمساك ، والآن صار بالشرع اسما لإمساك مخصوص في
وقت مخصوص ، وكذلك الزكاة كان في الأصل عبارة عن الزيادة والنماء والآن صار بالشرع
اسما لإخراج قطعة من المال مخصوصة.
إذا ثبت هذا ، فإن
قولنا مؤمن ، من الأسماء التي نقلت من اللغة إلى الشرع وصار بالشرع اسما لمن يستحق
المدح والتعظيم.
وكما أن قولنا
مؤمن ، جعل بالشرع اسما لمن يستحق التعظيم والإجلال ، فكذلك قولنا مسلم ، جعل
بالشرع اسما لمن يستحق المدح والتعظيم حتى لا فرق بينهما إلا من جهة اللفظ.
والكلام في ذلك
يقع في موضعين : أحدهما ، أن قولنا مسلم غير مبقي على ما كان عليه في الأصل ،
والثاني ، أن الشرع جعله اسما لمن يستحق المدح والتعظيم.
أما الذي يدل على
أنه غير مبقي على الأصل هو أنه لو كان مبقي على الأصل لكان يجوز إجراؤه على الكافر
إذا انقاد للغير ، ومعلوم خلافه ، ولكان يجب أن لا يجري على النائم والساهي لأن
الانقياد غير مقصود منهما ، ولكان يجب أن لا يسمى الآن بهذا الاسم إلا المشتغل به
دون من سبق منه الإسلام.
ومتى قيل كذا ، نقول
: قلنا : يلزم على هذا أن لا نسمي أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم الآن
مسلمين حقيقة وقد
عرف خلاف ذلك ، ولكان يجب أيضا أن لا يزول هذا الاسم بالندم وغيره وقد عرف خلافه.
ومما يدل على ذلك
قوله تعالى : (وَما أُمِرُوا إِلَّا
لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ) الآية ، سمى هذه الجمل دينا ، ثم بين في آية أخرى أن الدين
عند الله الإسلام ، ولو كان مبقي على أصل اللغة لم يصح ذلك لأنه في الأصل غير
مستعمل في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، وهذا كما يدل على أنه غير مبقي على الأصل
فإنه يدل على أنه لا يجوز إجراؤه إلا على من يستحق المدح والتعظيم كالمؤمن سواء.
ومما يدل على أن
الدين والإسلام واحد ، قوله تعالى : (وَمَنْ يَبْتَغِ
غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) والمعلوم أنه لو اتخذ الإيمان دينا لقبل منه.
ويدل على ذلك أيضا
قوله تعالى : (فَأَخْرَجْنا مَنْ
كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٣٥) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ (٣٦)) فلو لم يكن أحدهما هو الآخر ، لكان لا يصح الاستثناء على
هذا الوجه.
ومما يدل على ذلك
، أخبار رويت عن النبي صلىاللهعليهوسلم ، من جملتها قوله
: «بني الإسلام على خمس ، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وإقام
الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج بيت الله» وفي بعض الروايات ، والعمرة. ومن ذلك قوله :
«الإسلام بضع وسبعون بابا أعلاه شهادة أن لا إله إلا الله ، وأدناه إماطة الأذى عن
الطريق» والذي يدل على أن اسم
المسلم صار بالشرع اسما لمن يستحق المدح والتعظيم كالمؤمن ، هو أنه لم يذكره إلا
وقد قرن إليه من يدل على أنه مستحق للمدح ، قال الله تعالى : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ
وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ) وقال تعالى : (عَسى رَبُّهُ إِنْ
طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ
قانِتاتٍ).
وقد خالفنا في ذلك
بعض الناس ، وفرق بين المؤمن والمسلم ، واستدل على ذلك بقوله تعالى : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ
تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) فالله تعالى فصل بين الإيمان والإسلام ، فلو كانا جميعا
بمعنى واحد لم يكن للفصل بينهما وجه.
وجوابنا عن ذلك ،
أكثر ما فيه أنه تعالى استعمل الإسلام في هذا الموضع على الحد الذي يستعمله أهل
اللغة مجازا ، ونحن لا نمنع من وجود المجاز في كتاب الله تعالى ، فصار الحال فيه
كالحال في المؤمن فقد استعمله الله كثيرا في كتابه وأراد به ما وضع له في الأصل ،
نحو قوله : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) إلى غير ذلك
من الآيات.
وقد اتصل بهذه
الجملة الكلام في حقيقة الإيمان.
وجملة ذلك ، أن
الإيمان عند أبي علي وأبي هاشم عبارة عن أداء الطاعات ، الفرائض دون النوافل
واجتناب المقبحات ، وعند أبي الهذيل عبارة عن أداء الطاعات ، الفرائض منها
والنوافل واجتناب المقبحات ، وهو الصحيح من المذهب الذي اختاره قاضي القضاة.
والذي يدل على
صحته هو أن الأمة اتفقت على أن ركعتي الفجر من الدين ، وإذا ثبت أنه من الدين ثبت
أنه من الإيمان ، لأن الدين والإيمان واحد. وقد احتج أبو علي وأبو هاشم لما ذهبا
إليه بأن قالا : لو كانت النوافل من الإيمان لكان يجب إذا ترك المرء نافلة وأخل
لها أن يكون تاركا لبعض الإيمان ويصير بذلك ناقص الإيمان غير كامله ، وقد عرف
خلافه.
وجوابنا عن ذلك أن
هذا لا يصح ، لأنه إنما لم يجب أن يجري عليه هذا الاسم ويقال تارك للإيمان أو أنه
غير تارك الإيمان أو أنه غير كامل الإيمان ، لأنه يوهم الخطأ ويقتضي أن يكون
مستحقا للذم ، حتى أنه لو لم يقتض ذلك جاز أن يوصف به تارك النوافل ، فسقط ما
قالاه. يبيّن ذلك ويوضحه ، أن البر والتقوى يقعان على الطاعات جملة الفرائض منها
والنوافل ، ثم ليس يجب إذا أخل المرء بالنافلة أو تركها أن يقال إنه غير كامل
التقوى وأنه ناقص البر ، لا لوجه سوى ما أشرنا إليه من أن ذلك يوهم استحقاقه للذم
واللعن ، كذلك هاهنا ، فهذا هو حقيقة الإيمان عندنا.
أقوال المرجئة وغيرهم :
وقد ذكر رحمهالله بعد ذلك ما يقوله المرجئة وغيرهم في حقيقة الإيمان.
وجملة ذلك ، أن
كلام المخالفين في حقيقة الإيمان مختلف :
فعند النجارية
وجهم ، أن الإيمان هو المعرفة بالقلب وذلك مما لا يصح ، لأنه لو كان كذلك لكان يجب
في من علم الله تعالى وجحده أو لم يجحده ولم يأت بشيء من الفرائض ، وتعدى حدود
الله تعالى أن يكون مؤمنا ، وقد عرف خلاف ذلك.
وعند الكرامية أن
الإيمان إنما هو الإقرار باللسان. وهذا يوجب عليهم أن يكون المنافق الذي يظهر
الإسلام بلسانه ويقر به مؤمنا ، ومعلوم من دين النبي صلىاللهعليهوسلم ودين الأمة
خلافه ضرورة.
وقد ذهب الأشعرية
إلى أن الإيمان هو التصديق بالقلب ، وهذا كما أنه فاسد من حيث الاعتقاد فهو خطأ من
طريق العربية لأن التصديق هو قول القائل لغيره صدقت ، وهذا إنما يتصور باللسان دون
القلب. وبعد ، فلو كان كذلك لوجب فيمن لا يقر بالله تعالى وبرسوله ولا عمل
بالجوارح أن يكون مؤمنا بأن يكون قد صدق بقلبه ، وذلك خلف من القول. وإنما بنى
القوم كلامهم ، هذا على مذهبهم في الكلام أنه معنى قائم بذات المتكلم ، وأنه ليس
يرجع به إلى ما نعقله من الحروف المنظومة والأصوات المقطعة ، وقد أفسدنا مقالتهم
هذه وصححنا ما اخترناه في ذلك عند الكلام في الكلام فلا نعيده هاهنا.
أقسام الأسماء :
وقد تكلم رحمهالله بعد هذه الجملة في تقسيم الأسماء.
وجملة ذلك ، أن
الأسماء تنقسم إلى شرعي وإلى عرفي وإلى لغوي.
فاللغوي نحو
تسميتهم هذه الجارحة المخصوصة يدا ، والجارحة الأخرى رجلا.
والعرفي نحو
تسميتهم هذه الحيوان المخصوصة دابة ، مع أن هذا الاسم في الأصل كان اسما لكل ما
يدب على وجه الأرض ، وتسميتهم هذه الآنية المخصوصة قارورة ، مع أنها كانت في الأصل
عبارة عما يستقر فيه الشيء.
والشرعي ينقسم إلى
ما يكون من الأسماء الدينية ، وذلك نحو الأسماء التي تجري على الفاعلين ، نحو
قولنا مؤمن وفاسق وكافر ، وإلى ما لا يكون كذلك نحو الصلاة ، وقد كانت في الأصل
عبارة عن الدعاء ، ثم صارت في الشرع اسما لهذه العبادة المخصوصة ، والزكاة فقد
كانت في الأصل عبارة عن النماء والطهارة ، ثم صارت بالشرع اسما لإخراج طائفة من
المال ، إلى غيرهما من الأسماء نحو الصوم والحج وما شاكلهما.
قسمة أخرى للأسماء :
وتنقسم الأسماء
قسمة أخرى : إلى ما يفيد المدح والتعظيم ، وإلى ما يفيد الذم والاستخفاف ، وإلى ما
لا يفيد واحدا منهما.
فالأول ، ينقسم
إلى ما لا يفيد المدح بمجرده ، وذلك نحو قولنا مؤمن برّ تقي ، وإلى ما يفيده
بواسطة وقرينة ، وذلك نحو قولنا : مصلي ومطيع ، فإن دلالته على استحقاق صاحبه
المدح والتعظيم مشروطة باجتنابه الكبائر وما يجري مجراها.
والثاني ينقسم ،
إلى ما يفيد الذم بمجرده ، وذلك نحو قولنا فاسق ومتهتك وملعون وما يجري هذا المجرى
، وإلى ما يفيده بواسطة وقرينة ، وذلك نحو قولنا ظالم وعاصي ، فإن دلالته على
استحقاق الذم مشروطة بأن لا يكون معه طاعة أعظم من تلك المعصية ، ولذلك صح من الأنبياء
أن يصفوا أنفسهم بالظلم على علم منهم بأنهم لا يرتكبون الكبائر ولا يستحقون ذما
ولا لعنا. فإن قالوا : إذا لم يفد هذا الاسم الذي بمجرده فهلا أطلقوه على التائب
وغيره من المؤمنين؟
قلنا : إنه لو لم
يوهم الخطأ جاز ، غير أنه موهم له على ما ذكرناه في مواضع.
وأما ما لا يفيد
واحدا منهما ، فنحو قولك آكل وشارب وماش وساع وداخل وخارج وقائم وقاعد ، فإن هذه
الأسماء مما لاحظ لها في إفادة المدح والذم ، ويجوز إجراؤه على المؤمن والفاسق
جميعا.
وإذ قد عرفت من
حال الأسماء هذه الجملة التي عرفنا اسمها ، فاعلم أن ما يفيد المدح بمجرده لا يجوز
إجراؤه إلا على من يستحق المدح والتعظيم ، وكذا ما يفيد الذم بمجرده لا يجوز
إجراؤه إلا على من يستحق الذم ، فأما ما لا يفيد المدح والذم بمجرده وإنما يقتضيه
بقرينة. فإنه يصح إجراؤه على القبيلين إلا إذا منع منه مانع.
وإذا قد فرغنا من
الكلام من أن صاحب الكبيرة لا يجوز أن يسمى مؤمنا وما يتصل به ، فإنا نذكر بعده
الكلام في أنه لا يسمى كافرا على ما سبق الوعد به إن شاء الله.
فصل
صاحب الكبيرة لا يسمى كافرا :
والغرض به الكلام
في أن صاحب الكبيرة لا يسمى كافرا.
حقيقة الكفر في اللغة والشرع :
والخلاف فيه مع الخوارج
على ما تقدم ، ونحن نذكر أولا حقيقة الكفر.
اعلم أن الكفر في
أصل اللغة إنما هو الستر والتغطية ، ومنه سمي الليل كافرا لما ستر ضوء الشمس عنا
وقال الشاعر :
حتى إذا ألقت ذكاء
يمينها في كافر وقال آخر :
حتى إذا ألقت
يدا في كافر
|
|
وأجن عورات
الثغور ظلامها
|
ومنه سمي الزراع
كافرا لستره البذر في الأرض ، قال الله تعالى : (لِيَغِيظَ بِهِمُ
الْكُفَّارَ) [التوبة : ١٢٠] أي
الزراع ، هذا في اللغة.
وأما في الشرع
فإنه جعل الكافر اسما لمن يستحق العقاب العظيم ، ويختص بأحكام مخصوصة نحو المنع من
المناكحة والموارثة والدفن في مقابر المسلمين ، وله شبه بالأصل ، فإن من هذه حالة
صار كأنه جحد نعم الله تعالى عليه وأنكرها ورام سترها.
إذا ثبت هذا ،
ومعلوم أن صاحب الكبيرة ممن لا يستحق العقاب العظيم ، ولا تجري عليه هذه الأحكام ،
فلم يجز أن يسمى كافرا.
الكلام على الخوارج :
والأصل في الكلام
على الخوارج أن نحقق عليهم الخلاف ، فنقول : إن هذا الخلاف إما أن يكون خلافا من
جهة اللفظ ، أو من طريق المعنى.
فإن خالفتمونا من
حيث اللفظ ، وقلتم : إن صاحب الكبيرة يسمى كافرا فلا يصح ، لأنا قد ذكرنا أن
الكافر اسم لمن يستحق العقاب العظيم ويستحق أن تجري عليه هذه الأحكام المخصوصة ،
وليس كذلك الفاسق.
وإن خالفتمونا من
جهة المعنى ، وقلتم : إنه يستحق العقاب العظيم ويستحق إجراء هذه الأحكام عليه
كالكافر سواء ، قلنا : إن هذا خلاف ما عليه الصحابة والتابعون ، فإنهم اتفقوا على
أن صاحب الكبيرة لا يحرم الميراث ولا يمنع من المناكحة والدفن في مقابر المسلمين.
هذا على الجملة ،
وإذا أردت تفصيل ذلك فعليك بسيرة أمير المؤمنين عليهالسلام في أهل البغي ، ومعلوم أنه لم يبدأ بقتالهم ولم يتبع
مدبريهم ، وكذلك فلم يسمهم
كفرة ، ولهذا فإنه
لما سئل عليهالسلام عنهم أكفار هم؟ قال : من الكفر فرّوا. فقالوا : أمسلمين هم؟
قال : لو كانوا مسلمين ما قاتلناهم ، كانوا إخواننا بالأمس بغوا علينا ، فلم يسمهم
كفارا ولا مسلمين ، وإنما سماهم بغاة ، وقوله عليهالسلام حجة ، غير أن الاحتجاج به على الخوارج غير ممكن ، فإنهم
ربما يكفرونه ، وربما يتوقفون في إسلامه.
وأحد ما يدل على
أن صاحب الكبيرة لا يجوز أن يسمى كافرا آية اللعان ، فإن اللعان إنما ثبتت بين
الزوجين ، فلو كان القذف كفرا ، لكان لا بد من أن يخرج أحد الزوجين بفسقه عن
الإسلام فتنقطع بينهما عصمة الزوجية ، فلا يحتاج إلى اللعان ، فإنه لم يشرع بين
الأجنبيّين ، وإنما يجري بين الزوجين ، فصح بهذه الجملة أن صاحب الكبيرة لا يجوز
أن يسمى كافرا ، ولا يجوز أن يجري عليه أحكام الكفرة.
وكما لا يجوز أن
يسمى بذلك ، فإنه لا يجوز أن يجري عليه ما يفيد كفرا مخصوصا ، فلا يسمى يهوديا ولا
نصرانيا ولا متمجسا لأن هذه الأسماء تقتضي اختصاصه بأحكام مخصوصة ، وليس يستحق
الفاسق شيئا من تلك الأحكام.
وكما لا تجري عليه
هذه الأسماء فكذلك لا يجوز أن يسمى كافرا نعم الله تعالى ، خلاف ما يحكى عن الناصر
وجماعة من الخوارج ، لأن هذا اللفظ في نقيض قولنا : شاكر نعم الله ، ومعنى قولنا
شاكر نعم الله تعالى أنه ، معترف بنعم الله ومعظم له ، فنقيضه هو أنه لا يعترف
بنعم الله تعالى ولا يعظمه عليها ، ولا شك في كفر من هذا حاله ، فكيف يطلق هذا
الاسم على الفاسق ، فكما لا يجوز أن يجري عليه شيء من هذه الأسماء والأحكام التي
تتبعها ، فكذلك لا يجوز أن يسمى منافقا ، خلافا لما يذهب إليه الحسن والبكرية.
مناظرة بين الحسن وابن عبيد :
والذي يدل على
فساد هذا المذهب ، المناظرة التي جرت بين عمرو بن عبيد والحسن ، فإنه قال للحسن : أفتقول
إن كل نفاق كفر ، قال : نعم ، قال : أفتقول إن كل فسق نفاق ، قال : نعم. قال :
فيجب في كل فسق أن يكون كفرا وذلك مما لم يقل به أحد.
وتحقيق هذه الجملة
، أن المنافق صار بالشرع اسما لمن يستحق العقاب العظيم
لأنه أبطن الكفر
وأظهر الإسلام ، وصاحب الكبيرة ليس هذه حاله فلا يستحق هذا الاسم.
فإن قيل : إن
النفاق ليس بأكثر من أن يظهر خلاف ما أسره وأبطنه ، وهذا حال من يرائي ويظهر للناس
أنه دين ، وإذا هو بخلافه.
قلنا : إن هذا
الذي تقوله إنما يصح من طريق اللغة ، ونحن قد بينّا أن المنافق صار بالشرع اسما
لهذا الكافر المخصوص. يبين ذلك أن أهل اللغة لم تفصل بين ما هو أبطنه من الإسلام
أو الكفر ، فكان يجب إذا أبطن بعض الناس الإسلام وأظهر الكفر لضرورة ، أن يسمى
منافقا ، والمعلوم خلافه.
وقد احتج الحسن
لمذهبه بوجهين لا يصح واحد منهما :
الأول : هو أن الفاسق يستحق الذم واللعن كالمنافق سواء ، فلا
يمتنع إجراء هذا الاسم عليه.
وجوابنا ، ليس يجب
إذا شارك الفاسق المنافق في استحقاق الذم ، أن يشاركه في الاسم ، فمعلوم أنه يشارك
الكافر في ذلك ثم لا يسمى كافرا. وبعد ، فإنه لا يستحق الذم والعقاب على الحد الذي
يستحقه المنافق ، وأيضا فإن المنافق يستحق إجراء أحكام الكفرة عليه إذا علم نفاقه
وليس كذلك صاحب الكبيرة ، فأنى يتساويان والحال ما قلناه.
والثاني : مما يعتمده الحسن في المسألة قوله : إني بارتكاب الفاسق
الكبيرة ، علمت أن في اعتقاده خللا ، وأنه إذا أظهر الإسلام فذلك عن ظهر قلبه لا
أنه قد انطوى عليه ، قال : يبين ذلك أنه لو كان معتقدا لله تعالى والثواب والعقاب
لكان يكون في حكم الممنوع من ارتكابه الكبيرة ، فمعلوم أن أحدنا إذا قال له غيره :
إن فعلت هذا أو تركته عاقبتك بهذه النيران المؤججة في هذا البيت ، وهو عالم بقدرته
عليه وأنه لا يخلف في وعده ولا وعيده ، فإنه يكون كالمدفوع إلى أن لا يفعل ما
يهدده بفعله ولا يترك ما تعلق الوعيد به ، وكذلك هاهنا ، وهذا الوجه ظاهر الفساد
لأنه ليس يجب فيمن اعتقد الله تعالى بصفاته وعدله وحكمته واعتقد صدقه في وعده
ووعيده أن يكون ممنوعا من ارتكاب الكبيرة ، كيف ولو كان لخرج عن كونه مكلفا ، بل
لم يستحق المدح والذم والثواب والعقاب ، وكيف يصح المنع من أن يرتكب المقر بالله
تعالى وعدله وحكمته وصدقه في قوله الكبيرة مع أنه يجوز أن يتوب الله تعالى عليه
ويلطف له حتى يقلع عن
ذلك ويندم عليه.
وأما ما ذكره في الشاهد ، فإنما ذلك لأنه يصير به ممنوعا ملجأ ، حتى لو لم يصر
ملجأ لكان الحال فيه كالحال فيما نحن بصدده.
وربما يحتج بوجه
ثالث ، وهو قوله تعالى : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ
هُمُ الْفاسِقُونَ) [التوبة : ٦٧]
وهذا لا يدل على موضع الخلاف ، فإن أكثر ما فيه أن المنافق فاسق ، فمن أين أن
الفاسق منافق وفيه وقع النزاع؟ ومن هاهنا قال بعض أصحابنا : إن ما اخترناه من
المذهب مجمع عليه متفق ، فإن الناس على اختلافهم في صاحب الكبيرة وقول بعضهم إنه
كافر ، وقول البعض إنه مؤمن ، وقول آخر إنه منافق ، لم يختلفوا في أنه فاسق ،
فأخذنا نحن بالإجماع وتركنا لهم الخلاف ، وإلى هذا أشار الصاحب بقوله :
فالكل في تفسيقه
موافق
|
|
قولي إجماع
وخصمي خارق
|
وقد أعاد رحمهالله الكلام في الأسماء الدينية فأعدناها نحن ، ولا نخليها من
فائدة جديدة إن شاء الله تعالى.
واعلم أن المكلف
إما أن يستحق الثواب أو يستحق العقاب ، فإن استحق الثواب ، فإما أن يستحق الثواب
العظيم أو يستحق ثوابا دون ذلك ، فإن استحق الثواب العظيم فلا يخلو ، إما أن يكون
من بني آدم ، أو لا. فإن لم يكن من بني آدم سمي ملكا ، ويتبعه قولنا مقرب وما
شابهه ، وإن كان من بني آدم سمي نبيا ويتبعه قولنا مختار ومصطفى ومجتبى وما يجري
هذا المجرى ، فإن استحق ثوابا دون ذلك فإنه يسمى مؤمنا ، ويتبعه من الأسماء ما
يقاربه نحو قولنا برّ تقيّ صالح إلى غير ذلك ، هذا في المستحق للثواب.
فأما المستحق
للعقاب فلا يخلو ، إما أن يستحق العقاب العظيم ، أو يستحق عقابا دون ذلك. فإن
استحق العقاب العظيم سمي كافرا ، ويتبعه من الأسماء نظائره ، نحو قولنا مشرك زنديق
ملحد إلى غير ذلك. وإن استحق عقابا دون ذلك سمي فاسقا ، ويتبعه قولنا متهتك ملعون
فاجر ، إلى غير ذلك. والغرض بتحقيق الكلام في هذه الأسماء وتكريرها ، هو أن يعلم
أنه لا يجوز إجراؤها إلا على مستحقيها ، فلا يسمى صاحب الكبيرة مؤمنا ولا كافرا.
وإذ قد عرفت ذلك من حال هذه الأسماء ، فقد وضح لك أنه لا يجوز إجراؤها إلا على
المكلفين الذين يستحقون المدح والذم والثواب والعقاب دون من لا تكليف عليه البتة.
وفارق الحال فيها الحال في الأسماء المشتقة ، نحو قولنا ضارب وشاتم وكاسر ، فإنه
يجوز إجراؤها على المكلف وغير المكلف ،
وعلى المستحق
الثواب وعلى من لا يستحقه اللهم إلا إذا منع منه مانع ، نحو قولنا ظالم وعاص وزان
وسارق ، فإنه لا يجوز أن يجري على المؤمنين المستحقين للثواب وإن كان مبقي على
الأصل غير منقول إلى الشرع لمنع ، هو أنه جار بالعرف اسما لمن يستحق الذم ، فكأنه
موضوع لهذا المعنى.
ولهذه الجملة التي
ذكرناها من أن هذه الأسماء تتضمن استحقاق المدح والذم والثواب والعقاب لم يجز
إجراؤها على الله تعالى لأنها من أسماء المكلفين إذا كانوا على أوصاف مخصوصة ،
وليس هذا حال الله تعالى.
فإن قالوا :
اعتراضا على كلامنا هذا أو ليس أن المؤمن اسم من أسماء الله تعالى ، قلنا : إن هذا
اللفظ إذا أطلق على الله تعالى فالمراد به أنه يصدق مصدقيه ورسله ، أو أنه يؤمن
عباده من ظلمه وعذابه ، فأما على غير هذين المعنيين ، فلا يستعمل فيه تعالى.
الكلام في الدعاء :
ومما أورده رحمهالله بعد هذه الجملة ، وهو من لواحق هذا الباب ، الكلام في
الدعاء.
اعلم ، أن الدعاء
هو طلب المراد من الغير ، شرط أن يكون المطلوب منه فوق الطالب في الرتبة ، ولا بد
من اعتبار الرتبة ليتميز عن السؤال ، وإلا فالسؤال أيضا طلب المراد من الغير.
أقسام الدعاء :
وينقسم إلى ما
يكون دعاء للغير ، وإلى ما يكون دعاء عليه.
والدعاء للغير إما
أن يكون دعاء له لمنافع دينية ، أو دعاء له لمنافع دنيوية ، فإن كان دعاء بمنافع
دينية من المدح والثواب فإنه لا يخلو ، إما أن يكون الداعي قاطعا على استحقاق
المدعو له لتلك المنافع ، كأن يكون علم ذلك من حاله بدلالة من كتاب الله تعالى
وسنة رسوله عليهالسلام على مثل ما نقوله في عليّ عليهالسلام وغيره أو لا ، فإن قطع على كون المدعو له مستحقا ، جاز له
الدعاء من غير اعتبار شرط ، وإن لم يقطع ولكن غلب على ظنه استحقاقه لذلك حسن منه
الدعاء له أيضا ، ويكون مشروطا بالاستحقاق وإن لم ينطق به فهو في حكم المنطوق به ،
هذا في الدعاء
بالمنافع الدينية.
أما الدعاء في
المنافع الدنيوية فلا يجب اعتبار شيء من هذه الأشياء التي اعتبرناها ، بل يجوز ذلك
للمؤمن والفاسق والكافر جميعا ، فهذا الدعاء للغير.
وأما الدعاء على
الغير ، فإنه تعول فيه القسمة التي ذكرناها في الدعاء للغير ، فإن الداعي إما أن
يقطع على استحقاقه لما يدعو عليه ، فيحسن منه الدعاء عليه فلا يحتاج هاهنا إلى
دلالة يقطع لمكانها على أنه مستحق له ، فإن ذلك مما يمكن معرفته بالمشاهدة ، وذلك
كأن يشاهده يشرب الخمر أو يزني أو يقذف أو يسرق إلى غير ذلك ، بخلاف الأول ، فإن
كون الغير مستحقا للثواب والرحمة لا يعرف بمثل هذه الطريقة ، فمن المجوز أن يكون
المرء مع تمسكه بمكارم الأخلاق ، واشتغاله بهذه العبادات غير نقي الجيب ، ولا
مأمون العيب ، وإما أن لا يقطع على ذلك بل يجوز استحقاقه للعقاب ويجوز خلافه ،
وذلك بأن يكون قد شاهده مرة يشرب الخمر أو يسرق أو يزني أو يقذف إنسانا ، ثم غاب
عنه أو لم يدر هل تاب أم لم يتب ، فيحسن أيضا والحال ما ذكرناه لعنه والدعاء عليه
، ويكون مشروطا بالاستحقاق ، ولا يجب النطق بهذه الشريطة ، فهي في الحكم كأنه
منطوق بها.
وقد أردف رحمهالله هذه الجملة بذكر اللعنة وكان الأليق بهذه الكلمة أن تذكر
مع أخواتها من الذم والاستحقاق وما جرى هذا المجرى ، ونحن فقد ذكرنا حقيقة الطرد
واستشهدنا له بيتا ، وهو :
ذعرت به القطا
ونفيت عنه
|
|
مكان الذئب
كالرجل اللعين
|
وفي الجملة ، إنه
لا يستعمل في الطرد عن كل خير بل عن خير مخصوص وهو الثواب ، ولهذا لا يقال فيمن
حرم مالا وولدا أو لم يرزق أحدا منهما أنه ملعون ، فهو إذن أخص من الذم والذم أعم
منه وأوسع ، فإنه يستعمل في كل ضرر سواء كان من مضار الدين أو الدنيا ، فعلى هذا
يجري الكلام في ذلك.
شبه الخوارج :
وللخوارج في هذا
الباب شبه ، منها ، قولهم : إن الكافر إنما سمي كافرا لأنه ترك الواجبات وأقدم على
المقبحات وهذه حال الفاسق ، فيجب أن يسمى كافرا.
وجوابنا ، أنا لا
نسلم أن الكافر إنما سمي كافرا لإخلاله بالواجبات وإقدامه على
المقبحات ، بل
الشرع جعله اسما لمن يستحق العقاب العظيم ويجرى عليه أحكام مخصوصة على ما تقدم ،
وليس كذلك حال الفاسق فإنه لا يستحق العقاب على هذا الحد ولا يجري عليه هذه
الأحكام ، ففارق أحدهما الآخر ، فهذه شبهة عقلية.
ولهم شبه من جهة
السمع كثيرة ، ويجري الجواب عنها أو عن أكثرها على نمط واحد. من جملتها : قوله
تعالى : (إِنَّ اللهَ لا
يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) قالوا : بيّن الله تعالى أنه لا يغفر الشرك ويغفر ما دون
ذلك ، وقد اتفقنا على أن الكبائر غير مغفورة فيجب أن تكون ممدودة في الشرك ، وفي
ذلك ما نقوله.
ومتى قلتم : إن
الآية مجملة مفتقرة إلى البيان ، فإننا لا ننازعكم في ذلك بل نقول : إن قد اتفقنا
على أن التي تقع مغفورة إنما هي الصغائر دون الكبيرة ، فيجب أن تكون الكبائر ملحقة
بالقبيل الذي لا يغفره الله تعالى وهو الشرك.
قيل لهم : إن هذا
الذي ذكرتموه إنما وجب إن لو ثبت أنّ الشرك إنما يكون شركا لأنه غير مغفور ، حتى
يصح القياس عليه فيقال : والكبيرة أيضا غير مغفورة فيجب أن تكون شركا ، وليس كذلك
، فلا يصح هذا الاستدلال.
وبعد ، فليس تميز
الكبيرة عن الصغيرة بكونه غير مغفور ، فإن صغيرة الكفار غير مغفورة ثم لم تكن
كبيرة ، فكيف يصح هذا الكلام؟
(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) :
ومن جملتها ، قوله
تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ
بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) [المائدة : ٤٧]
قالوا : وهذا نص صريح في موضع النزاع.
وجوابنا ، لا تعلق
لكم بظاهر هذه الآية لأنه يقتضي أن لا يكون في العالم كافر لأن «ما» موضوع أيضا للعموم والاستغراق ، كما أن «من» موضوع أيضا للعموم ، فكأنه قال : ومن لم يحكم بجميع ما أنزل
الله فأولئك هم الكافرون ، فلا بد أن يعدل عن الظاهر ، وإذا عدلتم عن الظاهر ،
فلستم بالتأويل أولى فنتأوله على وجه يوافق الأدلة. فنقول : إن المراد به ، ومن لم
يحكم بما أنزل الله على وجه الاستحلال فهو كافر ، ولا خلاف فيه.
وبعد ، فإن الآية
وردت في شأن اليهود ، ولا شك في كفر اليهود.
(وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) :
وأحد ما يتلقون به
قوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى
النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ
اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) [آل عمران : ٩٧]
قالوا بيّن الله تعالى أن تارك الحج كافر وفي ذلك ما نريده. قلنا : لا تعلق لكم به
فإنه لم يقل ولله على الناس حج البيت ومن ترك فهو كافر ، وإذا أخذتم في تفسيره
وحمله على ما تذهبون إليه فسرناه على الحد الذي يوافق الأدلة ، فنقول : إن المراد
به ومن ترك ذلك على وجه الاستحلال فهو كافر ، ولا شك في كفر من هذا سبيله.
(يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) :
ومن جملتها ، قوله
تعالى : (يَوْمَ تَبْيَضُّ
وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ
بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦)) [آل عمران : ١٠٦]
قالوا : بيّن أن مسودي الوجوه إنما هم الكفرة ، ولا إشكال في كون الفساق من مسودي
الوجوه فيجب أن يكونوا كفرة.
وجوابنا ، أن
الآية لا تعم سائر الكفرة ، لأنه تعالى قال : (أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ
إِيمانِكُمْ) ، فما قولكم في الكافر الأصلي؟ وكل ما هو اعتذاركم عن ذلك
فهو عذرنا هاهنا ، ثم نقول لهم : ليس في تخصيص الله تعالى بعض مسودي الوجوه بالذكر
ما يدل على أن لا مسودي الوجوه ، غيره ، فإن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي ما
عداه على ما نسمي مثاله فيما بعد إن شاء الله تعالى.
(فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى) :
ومن جملتها ، قوله
تعالى : (فَأَنْذَرْتُكُمْ
ناراً تَلَظَّى (١٤) لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى (١٥) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى
(١٦)) قالوا : بين الله تعالى أن النار لا يدخلها إلا كافر ،
وبالاتفاق إن صاحب الكبيرة من أهل النار فيجب أن يسمى كافرا.
وجوابنا ، لا تعلق
: لكم بظاهر الآية لأنه قال : (لا يَصْلاها إِلَّا
الْأَشْقَى (١٥) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٦)) وليس هذا حال الفاسق ، فإذا لو كنا مستدلين بها عليكم لكان
أولى. وبعد ، فأكثر ما فيه أن جهنم نارا لا يصلاها إلا الأشقياء الذين ذكرهم الله
تعالى ، فمن أين أنه ليس هناك نيران أخر يصلاها غير الموصوفين بهذه الصفة ، فقد
ذكرنا أن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي ما عداه.
(فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) :
ومن جملتها قوله
تعالى : (فَأَصْحابُ
الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (٨) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما
أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) [الواقعة : ٨ ، ٩]
قالوا : قسم الله تعالى المكلفين إلى هذين القسمين ، ومعلوم أن صاحب الكبيرة ليس
هو من القسم الأول ، فيجب أن يكون من القسم الثاني ، وفي ذلك ما نقوله. وجوابنا ،
إن أكثر ما في الآية أن صاحب الكبيرة من أصحاب المشأمة ، فمن أين أنه يجب أن يسمى
كافرا وفيه وقع الخلاف ، فإن جعلوا الدلالة على ذلك قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ
أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (١٩)) فذلك لا يدلهم على أن غير الكفرة لا يجوز أن يكونوا من
أصحاب المشأمة ، وفيه تنازعنا.
(وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) :
ومن جملة ذلك ،
قوله تعالى : (وَهَلْ نُجازِي
إِلَّا الْكَفُورَ) [سبأ : ١٧] قالوا
لا شك أن صاحب الكبيرة مجازي فيجب أن يكون من الكفرة.
وجوابنا أن هذه
الآية لا تدل على ما يريدونه ، فإن الأنبياء عليهمالسلام من المجازين أيضا ، ومتى قلتم إن المراد وهل يجازى بالنار
إلا الكفور! كان في ذلك عدول عن الظاهر وترك له ، فلم يكونوا والحال هذه بالتأويل
أولى منا ، فنقول : إن المراد وهل يجازى بعذاب الاستئصال إلا الكفور!
(فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) :
ومن جملة ما
يتعلقون به قوله تعالى : ٠٤٦. (فَأَمَّا مَنْ
أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (٨) وَأَمَّا
مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (١٠) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (١١)) الآية. ولا متعلق لهم بهذه الآية أصلا ، فلسنا نمنع من
دخول صاحب الكبيرة النار ولا تقتضي الآية أكثر من ذلك.
ومما يتعلقون به ،
قوله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ
أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (١٩)) وقوله : (إِنَّهُ كانَ لا
يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ (٣٣)) قالوا : إنه تعالى قسم المكلفين قسمين ، ولقد اتفقنا على
أن الفاسق ليس هو من القسم الأول ، فيجب أن يكون من القسم الثاني في ذلك ما قلناه.
وجوابنا ، أنا كما
اتفقنا على أن الفاسق ليس من القسم الأول ، فكذلك اتفقنا على أنه ليس من الذين لا
يؤمنون بالله العظيم ، فكيف يصح هذا الاحتجاج ، ثم نقول :
إن أكثر ما في ذلك
هو أنه قسم الكلام قسمين فمن أين أنه لا ثالث لهما ، وقد ذكرنا أن إثبات صنفين لا
يدل على نفي ثالث.
بيانه ، قال الله تعالى
في قسمة الحيوانات : (فَمِنْهُمْ مَنْ
يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ
يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ) [النور : ٤٥] ثم
لا يدل على أن المشاة لا يخرجون عن هذه الأقسام ، كذلك فيما أورده.
(وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) :
ومن جملتها قوله
تعالى : (وَإِنَّ جَهَنَّمَ
لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) [العنكبوت : ٥٤]
بيّن القديم تعالى أن الذين تحيط بهم النار إنما هم الكفرة ، ولا شك أن الفاسق ممن
تحيط به النار فيجب أن يكون كافرا.
والجواب ، أن
الآية تدل على أن النار محيطة بالكفرة ، فمن أين أنها لا تحيط بالفسقة مع الكفرة؟
وفيه وقع الخلاف. يبين ذلك ، أن القائل إذا قال : الدار محيطة بالعلماء ليس يجب أن
لا يكون في الدار إلا العلماء ، بل يجوز ألا يكون فيها العلماء وغير العلماء ،
كذلك هاهنا.
(فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) :
وأحد ما يتعلقون
به قوله تعالى : (فَمَنْ ثَقُلَتْ
مَوازِينُهُ) ، (وَمَنْ خَفَّتْ
مَوازِينُهُ) الآية إلى قوله : (أَلَمْ تَكُنْ آياتِي
تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٠٥)) [المؤمنون : ١٠٥]
قالوا : بين الله تعالى أن من خفت موازينه فهو كافر ، والمعلوم أن موازين أهل
الكبائر قد خفت فيجب أن يكونوا كفرة.
وجوابنا ، أن الذي
يقتضيه ظاهر الآية ، ليس إلا أن من خفت موازينه فهو خاسر ، ونحن نقول : إن صاحب
الكبيرة خاسر ، ومتى قالوا : إن الآية وردت في شأن الكفار ، فقد قال تعالى بعدها :
(أَلَمْ تَكُنْ آياتِي
تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٠٥)) كان الجواب ، أن هذه الآية مستقلة بنفسها منفصلة عما قبلها
فكيف يصح ما ذكرتموه؟
وبعد ، فلا خلاف
بيننا وبينكم أن صاحب الكبيرة ليس من المكذبين بآيات الله تعالى ، فكيف يمكن هذا
الاستدلال.
ومن جملة ما
يذكرونه ، قوله تعالى : (وَلا تَيْأَسُوا مِنْ
رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ
الْكافِرُونَ) قالوا : يبين الله تعالى أنه لا ييأس من رحمة الله إلا
الكافرون ومعلوم
أن صاحب الكبيرة آيس من رحمة الله تعالى ، فيجب أن يكون كافرا.
وجوابنا أنا لا
نسلم أنه آيس من روح الله ، فكيف يكون كذلك مع أنه على رجاء أن يتوب الله تعالى
ويلطف له فيه فينجو من عذابه ، ويستحق ثوابه.
(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ) :
وأحد ما يستدلون
به ، قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي
خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) قالوا : إن الله تعالى صنف المكلفين هذين الصنفين ، وصاحب
الكبيرة لا بد أن يكون من أحد الصنفين ، وقد ثبت أنه ليس بمؤمن ، فيجب أن يكون
كافرا.
وجوابنا ، أنا قد
ذكرنا غير مرة ، أن إثبات صنفين لا يدل على نفي ثالث ، وبعد ، فإن لفظة
«من» في قوله : (فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) للتبعيض ، فكأنه قال : هو الذي خلقكم فبعضكم كفر وبعضكم
آمن ، وليس فيه أنه لا ثالث لهذين القسمين.
فهذه جملة ما
يتعلق به الخوارج.
شبه المرجئة :
وأما المرجئة فقد
تعلقت في أن صاحب الكبيرة مؤمن بشبه : من جملتها ، لو كانت الصلاة من الإيمان ،
لوجب فيمن ترك صلاة واحدة أن يوصف بأنه تارك للإيمان ، وقد عرف خلافه.
وجوابنا : أن هذا
إنما يلزم أن لو قلنا : إن الإيمان هو الصلاة فقط ، وأن الصلاة بمجردها هي الإيمان
، فأما إذا قلنا إن الصلاة من الإيمان وجزء من أجزائه ، فإن الذي يجب في تاركه أن
يكون تاركا لجزء من أجزاء الإيمان ، وخصلة من خصال الإيمان ، ومتى امتنعنا من
إطلاق هذا اللفظ على من أدى الواجبات واجتنب المقبحات ، فلأن ذلك يوهم الخطأ
ويقتضي استحقاقه للذم وإن كان إذا أريد به هذا المعنى كان صحيحا ، وغير ممتنع في
الكلمة إذا كان لها معنيان يصح أحدهما ولا يصح الآخر ، أن لا يجوز من الواحد منا
استعمالها ، كقولنا عاص ، فإن العصيان في الحقيقة يتناول الصغيرة والكبيرة جميعا ،
غير أنه لا يجوز لنا أن نطلقه على الأنبياء عليهمالسلام ، وإن أردنا به المعنى الصحيح لإيهامه الخطأ ، والقديم
تعالى لما ثبتت حكمته ولم يثبت في حقه هذا المانع ، جاز منه إطلاق ما هذا سبيله
ولهذا قال : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ
فَغَوى).
ويزيد ما ذكرناه
وضوحا ، أن الخشبة والزجاجة حجتان من حجج الله تعالى ، ثم
ليس يجب إذا
انكسرتا أو انكسرت إحداهما أن يقال : قد انكسرت حجة من حجج الله تعالى ، كذلك
هاهنا. ثم إنا نقلب عليهم هذا في البر والتقوى ، فنقول : أليس أن الصلاة من البر
والتقوى ، ثم ليس يجب فيمن ترك الصلاة أن يكون تاركا للبر والتقوى ، فهلا كان كذلك
هاهنا؟
وأحد ما يتعلقون
به ، قولهم : لو كانت الصلاة من الإيمان لوجب في من فسدت صلاته أن يكون قد فسد
إيمانه ، ومعلوم خلاف ذلك. والجواب عن هذا مثل الجواب عما تقدم.
وأحد ما يذكرونه
في هذا الباب ، قولهم : لو كان المرجح بالإيمان إلى الإيمان بالواجبات والاجتناب
عن المقبحات ، لكان يجب إذا أتى القديم تعالى بهذه الأشياء التي تعدونها إيمانا أن
يسمى مؤمنا ، وقد عرف خلاف ذلك.
قلنا : قد ذكرنا
أن المؤمن اسم لمن يستحق المدح والثواب لإتيانه بالواجبات واجتنابه عن المقبحات ،
والقديم تعالى ليس هو من هذا القبيل فلا يلزم.
قالوا : لو كان
الإيمان هو أداء الواجبات وترك المحرمات ، لوجب أن لا يجوز من الواحد منا أن يقول
أنا مؤمن على الإطلاق ، لأنه لا يعلم هل أدى ما يجب أم لا ، فكان يجب أن يقيد
فيقول : أنا مؤمن إن شاء الله ، وذلك يوجب الشك ، والمرء لا بد أن يقطع على أنه
ليس من الكفرة. وجوابنا ، أن هذا مجاب إليه فإنا نقول : لا يجوز أن يقول أحدنا
لنفسه أنا مؤمن قطعا ، إذ لا يعلم ذلك من حاله ، فأما تقييده بإن شاء الله ، فليس
يقتضي الشك ، لأن هذه اللفظة موضوعة في العرف لقطع الكلام عن النفاذ ، فهذه جملة
ما يتعلقون به من جهة العقل.
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) :
وأحد ما يتعلقون
به من جهة السمع ، قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) قالوا فلو كان الإيمان منقولا من اللغة إلى الشرع على الحد
الذي يدعونه ، لكان لا يثبت لهذا العطف معنى ، وليتنزل منزلة قوله : إن الذين
آمنوا وآمنوا ، وعملوا الصالحات وعملوا الصالحات ، وذلك مما لا وجه له ، فليس إلا
أن الإيمان مبقى على أصل الوضع.
وجوابنا ، أنا لم
ندع أن كل لفظة اشتقت من الإيمان فإنها لا تستعمل إلا في
المعنى الذي قلناه
وأنه لا يجوز استعمالها في ما وضعت له في الأصل ، وإنما قلنا : إن قولنا مؤمن صار
بالشرع اسما لمن يستحق المدح والتعظيم والثواب من جهة الله تعالى ، وإذا كان كذلك
، فلا مانع يمنع من أن تكون هذه اللفظة التي ذكرها في هذه الآيات مبقاة على أصل
الوضع ، فلا يقدح في كلامنا ، وعلى أنه ليس ببعيد أن يكون الغرض بذكر ذلك وعطف ما
عطف عليه ، وإن كان معناه أو طريقه التفخيم ، وصار ذلك كعطفه تعالى جبريل وميكائيل
على سائر الملائكة ، حيث قال : (وَمَلائِكَتِهِ
وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) وكعطفه الصلاة الوسطى على الصلوات ، في قوله : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ
الْوُسْطى) [البقرة : ٢٣٨]
وكقوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ
النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ) [الأحزاب : ٧]
فهذه جملة الكلام في هذا الفصل.
فصل
في عذاب القبر :
وجملة ذلك أنه لا
خلاف فيه بين الأمة ، إلا شيء يحكى عن ضرار بن عمرو وكان من أصحاب المعتزلة ثم
التحق بالمجبرة ، ولهذا ترى ابن الراوندي يشنع علينا ، ويقول : إن المعتزلة ينكرون
عذاب القبر ولا يقرون به.
والكلام فيه يقع
في أربعة مواضع :
أحدهما : في ثبوته.
والثاني : في كيفية ثبوته.
والثالث : في الوقت الذي يقع فيه.
والرابع : في فائدته.
ثبوت العذاب :
أما ثبوته ، فالذي
يدل عليه قوله تعالى : (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ
أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا) فالفاء للتعقيب من غير مهلة ، وإدخال النار لا وجه له إلا
التعذيب ، ويدل عليه أيضا قوله تعالى : (النَّارُ يُعْرَضُونَ
عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) الآية ، ووجه دلالته على عذاب القبر ظاهر غير أنه يختص بآل
فرعون ولا يعم جميع المكلفين.
والدلالة التي تعم
، قوله تعالى : (رَبَّنا أَمَتَّنَا
اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) ولا تكون
الإماتة والإحياء
مرتين إلا وفي إحدى المرتين إما التعذيب في القبر أو التبشير على ما نقوله.
ومتى قالوا : إن
إحدى الإماتتين إنما هو خلق الله تعالى الخلق من نطفة هي موات ، قلنا : إن الإماتة
في الحقيقة إنما هو إبطال الحياة وإزالتها وتفريق البنية التي تحتاج هي في الوجود
إليها ، وذلك لا يتصور في النطفة التي لم تكن حية أصلا. وبعد فقد أثبت الله تعالى
الإماتة مرتين ، وعلى هذا الذي ذكرتموه يقتضي أن يكون ذلك مرارا ، ولقد قال الله
تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢)) الآية ، ولم يصر حيا بعد ذلك بل صار علقة ، على ما قال
تعالى : (ثُمَّ خَلَقْنَا
النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً
فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً) الآية.
ومما يدل على ذلك
ما روي أن النبي صلىاللهعليهوسلم مر بقبرين فقال :
«إنهما ليعذبان وما يعذبان من كبير كان أحدهما يمشي بالنميمة والآخر كان لا يستنزه
من البول»
وروي لا يستتر.
فإن قالوا : كيف
يصح الاستدلال بهذا الخبر مع أنه يقتضي تعذيب عبده على الصغائر التي من شأنها أن
تقع مغفورة؟ قلنا : المراد بقوله وما يعذبان من كبير عندهما ، لأن المعصية في
نفسها غير كبيرة ، فهذا هو الكلام في ثبوت عذاب القبر.
كيفية ثبوته :
وأما الكلام في
كيفية ثبوته ، فاعلم أنه تعالى إذا أراد تعذيبهم ، فإنه لا بد من أن يحييهم لأن
تعذيب الجماد محال لا يتصور ، ولا يعترض ذلك ما روي عن النبي صلىاللهعليهوسلم في الميت أنه يسمع خفق النعال ، وأنه ليعذب على بكاء أهله
عليه ، لأن الإدراك يترتب على الحياة ، وتعذيب القبر بذنب الغير ظلم ، والله تعالى
لا يفعل ذلك ، وتفسير قوله صلىاللهعليهوسلم : أن الميت ليعذب على بكاء أهله ، أي على الوصية بذلك ،
فكان من عادة القوم الوصية بالبكاء والنوح عليهم.
وكما لا بد من
الإحياء ليصح التعذيب ، فلا بد من أن يخلق الله فيهم العقل ليحسن التعذيب ، وإلا
اعتقد المعاقب المعذب أنه مظلوم ، ولهذا المعنى قلنا : إن أهل النار لا بد من أن
يكونوا عقلاء ، هذا هو الذي نعلمه من جهة العقل.
فأما الكلام في أن
ذلك كيف يكون ، وأنه تعالى يبعث إليه ملكين يقال لأحدهما
منكر وللآخر نكير
فيسألانه ثم يعذبانه أو يبشرانه حسب ما وردت به الأخبار ، فإن ذلك مما لا يهتدى
إليه من جهة العقل ، وإنما الطريق إليه السمع.
وأما الوقت الذي
يثبت فيه التعذيب ، وتعيين ذلك ، فما لا طريق إليه.
ومن الجائز أن
يكون بين النفختين على ما قال الله تعالى : (وَمِنْ وَرائِهِمْ
بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ
بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (١٠١)) والبرزخ في اللغة إنما هو الأمر الهائل العظيم ، ولا معنى
له إلا العذاب.
فائدته :
وأما فائدة عذاب
القبر وكونه مصلحة للمكلفين ، فإنهم متى علموا أنهم إن أقدموا على المقبحات وأخلوا
بالواجبات عذبوا في القبر ثم بعد ذلك في نار جهنم ، كان ذلك صارفا لهم عن القبائح
داعيا إلى الواجبات ، وما هذا سبيله وكان في مقدور الله تعالى فلا بد من أن يفعله
، وكما يكون العلم باستحقاق ذلك داعيا ولطفا للمعذب ، فإن تعذيبه يكون لطفا للملك
الموكل إليه ذلك ، فهذه فائدته.
وأما القوم الذين
دفعوا عذاب القبر وأنكروه ، فقالوا : لو كان له أصل لكان يجب في النّباش أن يرى
العقوبة أو المثوبة للمعاقب والمثاب ، فكان يشاهد عليه أثر الضرب وغيره ، وفي
علمنا بخلافه دليل على أن ذلك مما لا أصل له. قالوا : ومما يؤكد هذا الكلام أنه لو
كان كذلك لكان يجب في المصلوب والميت الذي لم يدفن أن يسمع أنينه وأن يشاهد
اضطرابه كل واحد ، والمعلوم أنه لا يرى مضطربا اضطراب المعاقب ، ولا يسمع له أنين
البتة ، فكيف يكون معذبا والحال ما قلناه؟.
والجواب ، أن أكثر
ما في هذا أن النّباش وغيره لا يرون أثر العقوبة على الميت ، ومن المجوز أن لا
يعذبه الله تعالى في هذه الحالات التي يطلع عليها النباش أو غيره ، أو يعذبه على
وجه يستتر عنهم لوجه من المصلحة يرى في ذلك ، وعلى أنا قد ذكرنا أن القوى في هذا
الباب أنه تعالى يؤخر ذلك إلى ما بين النفختين على ما دل عليه كلامه تعالى.
ومما يذكرونه في
هذا الباب ، أن فيما تدعونه من أنه تعالى يبعث ملكين أحدهما منكر والآخر نكير حتى
يسألا صاحب القبر ثم يعذبانه أو يبشرانه تسمية ملائكة الله تعالى بما لا يليق بهم
وبما يقتضي استحقاق الذم ، وذلك مما لا وجه له.
وجوابنا ، أن ما
قدمناه من الدلالة يدل على العذاب ولا بد له من معذب ، ثم إن المعذب يجوز أن يكون
هو الله تعالى ويجوز أن يكون غيره ، هذا في العقل.
غير أن السمع ورد
بأنه يكل ذلك إلى ملكين : يسمى أحدهما منكرا والآخر نكيرا ، ولا شيء في ذلك مما
يدعونه علينا ، لأن هذا بمنزلة غيره من الألقاب التي لا حظ لها في إفادة المدح
والذم والثواب والعقاب ، وهو جار على طريق العرب وتسميتهم أبنائهم وأعزتهم بالصخر
والكلب والذئب وغير ذلك من غير أن يفيدوا به مدحا ولا ذما ، بل لكي يقوم مقام
الإشارة على ما هو موضوع التلقيب. وعلى أنا لو جعلنا هذا الاسم من الأسماء المفيدة
، فإنه ليس يفيد قولنا منكر أكثر من أن الغير لا يعرفه ، وبأن لا يعرف شخص من
الأشخاص ملكا من الملائكة لم يدخل الملك في استحقاق الذم ، وهكذا في قولنا نكير ،
فإنه فعيل بمعنى مفعل ، وفعيل بمعنى مفعل شائع ، قال الشاعر :
* وقصيدة تأتي الملوك حكيمة *
أي محكمة ، فهذه طريقة
القول في هذا الفصل.
فصل
أحوال القيامة :
وقد اتصل بهذه
الجملة الكلام في أحوال القيامة ، وما يجري هناك من وضع الموازين والمسألة
والمحاسبة وإنطاق الجوارح ونشر الصحف ، وما جرى هذا المجرى.
وجملة ذلك أن كل
هذه الأمور حق يجب اعتقاده والإقرار به.
أما وضع الموازين
، فقد صرح الله تعالى : (وَنَضَعُ
الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ) [الأنبياء : ٤٧].
وقوله : (فَمَنْ ثَقُلَتْ
مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ) [المؤمنون : ١٠٢]
الآية ، إلى غير ذلك من الآيات التي تتضمن هذا المعنى ، ولم يرد الله تعالى
بالميزان إلا المعقول منه المتعارف فيما بيننا دون العدل وغيره على ما يقوله بعض
الناس ، لأن الميزان وإن ورد بمعنى العدل في قوله : (وَأَنْزَلْنا
مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ) ، فذلك على طريق التوسع والمجاز ، وكلام الله تعالى مهما
أمكن حمله على الحقيقة لا يجوز أن يعدل به عنه إلى المجاز.
يبين ذلك ويوضحه ،
أنه لو كان الميزان إنما هو العدل ، لكان لا يثبت للثقل والخفة فيه معنى ، فدل على
أن المراد به الميزان المعروف الذي يشتمل على ما تشمل عليه الموازين فيما بيننا.
فإن قالوا : وأي
فائدة في وضع الموازين التي أثبتموها ، ومعلوم أنه إنما يوضع ليوزن به الشيء ، ولا
شيء هناك يخذله الوزن ويتأتى فيه ، فإن أعمال العباد طاعاتهم ومعاصيهم أعراض لا
يتصور فيها الوزن.
قيل له : ليس
يمتنع أن يجعل الله تعالى النور علما للطاعة والظلم أمارة للمعصية ، ثم يجعل النور
في إحدى الكفتين والظلم في الكفة الأخرى ، فإن ترجحت كفة النور حكم لصاحبه بالثواب
، وإن ترجحت الأخرى حكم له بالأخرى ، وكما لا يمتنع ذلك فكذلك لا يمتنع أن يجعل
الطاعات في الصحائف ثم توضع صحائف الطاعات في كفة وصحائف المعاصي في كفة ، فأيهما
ترجحت حكم لصاحبه به ، هذا هو كيفية ذلك.
فائدة عذاب القبر :
وأما فائدته ، فهو
تعجيل مسرة المؤمن وغم الكافر ، هذا في القيامة.
وفيه فائدة أخرى
تتعلق بالتكليف ، وهي أن المرء مع علمه أن أعماله توزن على الملأ كان عند ذلك أقرب
إلى أداء الواجبات واجتناب المقبحات ، وهذه فائدة عظيمة.
وأما الحساب فمما
لا يجوز إنكاره فقد قال تعالى : (فَأَمَّا مَنْ
أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً وَيَنْقَلِبُ
إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً) غير أن محاسبة الله تعالى إيانا لا تجري على حد ما تجري
المحاسبة بين الشريكين والمتعاملين فإن ذلك فيما بيننا إنما يكون بعقد الأصابع أو
ما يجري مجراه ، وليس هكذا محاسبة الله تعالى عبارة ، فإن ذلك يكون بخلق العلم
الضروري في قلبه أنه يستحق من الثواب كذا ومن العقوبة كذا ، فيسقط الأقل بالأكثر ،
وعلى هذا صح ذلك بسرعة على ما دل عليه قوله تعالى : (اللهُ سَرِيعُ
الْحِسابِ) ومن هاهنا استدل بعض مشايخنا بهذه الآية على أنه تعالى لا
يجوز أن يكون جسما ، وإلا كان لا يتأتى منه محاسبة الخلائق بسرعة ولا يمكنه خلق
العلم فيهم ، فكان يتعثر عليه ولا يمكنه إلا بمدة مديدة وزمان طويل ، وفي علمنا
بأنه تعالى سريع الحساب دليل على أنه تعالى ليس من قبيل هذه الأجسام ، والفائدة في
المحاسبة نحو الفائدة ووضع الموازين.
وأما المسألة ،
فمما يجب اعتقاده أيضا ، فقد قال تعالى : (فَوَ رَبِّكَ
لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢)) وقال : (وَقِفُوهُمْ
إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) وقال : (لِيَسْئَلَ
الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ) [الأحزاب : ٨] إلى
غير ذلك.
والفائدة في ذلك
كالفائدة في نظائره ، مما تقدم.
وأما نشر الصحف ،
فقد نطق به القرآن قال الله تعالى : (وَإِذَا الصُّحُفُ
نُشِرَتْ (١٠)) [التكوير : ١٠].
نطق الجوارح :
وأما نطق الجوارح
فقد دل عليه قوله تعالى : (يَوْمَ تَشْهَدُ
عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ
(٢٤)) [النور : ٧٤]
وقوله : (أَنْطَقَنَا اللهُ
الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) [فصلت : ٢٢] وذلك
يكون على وجهين : إما أن يتولى الله تعالى خلق الكلام في جوارحه فتشهد عليه ، وإما
أن يجعل كل عضو من أعضائه حيا بانفراده فيشهد عليه ، وإن كان شيخنا أبو هاشم قد
استبعد هذا الوجه ومال إلى الوجه الأول ، وقال : إن الذي تقتضيه هذه الآية ليس إلا
شهادة جوارحه عليه ، ولو صار كل عضو من أعضائه حيا بانفراده لم يكن سمعه ولا بصره
، اللهم إلا أن يقال أراد بقوله يشهد عليهم سمعهم ، أي ما كان سمعا لهم من قبل ،
وذلك على الأحوال كلها عدول عن ظاهر كلام الله تعالى ، فلا وجه له مع إمكان أن
يجري على ظاهره.
الصراط :
ومن جملة ما يجب
الإقرار به واعتقاده ، الصراط ، وهو طريق بين الجنة والنار يتسع على أهل الجنة
ويضيق على أهل النار إذا راموا المرور عليه ، وقد دل عليه القرآن ، قال الله تعالى
: (اهْدِنَا الصِّراطَ
الْمُسْتَقِيمَ (٦)). فلسنا نقول في الصراط ما يقوله الحشوية ، من أن ذلك أدق
من الشعر وأحد من السيف ، وأن المكلفين يكلفون اجتيازه والمرور به ، فمن اجتازه
فهو من أهل الجنة ، ومن لم يمكنه ذلك فهو من أهل النار ، فإن تلك الدار ليست هي
بدار تكليف ، حتى يصح إيلام المؤمن وتكليفه المرور على ما هذا سبيله في الدقة
والحدة ، وأيضا فقد ذكرنا أن الصراط هو الطريق ، وما وصفوه ليس من الطريق بسبيل ،
ففسد كلامهم فيه.
وقد حكي في الكتاب
عن كثير من مشايخنا أن الصراط إنما هو الأدلة الدالة على
هذه الطاعات التي
من تمسك بها نجا وأفضى إلى الجنة ، والأدلة الدالة على المعاصي التي من ركبها هلك
واستحق من الله تعالى النار.
وذلك مما لا وجه
له ، لأن فيه حملا لكلام الله تعالى على ما ليس يقتضيه ظاهره ، وقد كررنا القول في
أن كلام الله تعالى مهما أمكن حمله على حقيقته ، فذلك هو الواجب دون أن يصرف عنه
إلى المجاز.
وعلى أنا لا نعرف
من الأصحاب من ذكر ذلك إلا شيئا يحكى عن عباد ، أن الصراط إنما هو الأدلة الدالة
على وجوب هذه الواجبات والتمسك بها ، وقبح هذه المقبحات والاجتناب منها ، والفائدة
في أن جعل الله تعالى إلى دار الجنة طريقا حاله ما ذكرنا ، هو لكي يتعجل به للمؤمن
مسرة وللكافر غما ، وليضمنه اللطف في المصلحة على ما سبق في نظائره.
وأحوال القيامة
وكيفية الإعادة ، أكبر من أن يحتمله هذا الموضع ، فنقتصر منها على هذا المقدار ، ونسأل
الله السلامة عن عذابه والفوز بثوابه إن سائله لا يخيب ، وهو قريب مجيب.
الأصل الخامس
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الأصل
الخامس
وهو
الكلام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وكان من حقنا أن نذكر حقيقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،
غير أنا قد قدمناها في أول الكتاب فلا نعيدها هاهنا.
وجملة ما نقوله في
هذا الموضع ، أنه لا خلاف بين الأمة في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،
إلا ما يحكى عن شرذمة من الإمامية لا يقع بهم وبكلامهم اعتداد. والذي يدل على ذلك
بعد الإجماع قوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ
أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [آل عمران : ١٨٠]
الآية وقوله تعالى حاكيا عن لقمان : (يا بُنَيَّ أَقِمِ
الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ) ومما يدل على ذلك مما روي عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «ليس لعين ترى الله
يعصي فتطرف حتى تغير أو تنتقل».
والغرض بالأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر أن لا يضيع المعروف ولا يقع المنكر ، فمتى حصل هذا
الغرض بالأمر السهل لا يجوز العدول عنه إلى الأمر الصعب ، وهذا مقرر في العقول ،
وإلى هذا أشار تعالى بقوله : (وَإِنْ طائِفَتانِ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ
إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى
أَمْرِ اللهِ) ، الآية ، فبدأ أولا بإصلاح ذات البين ، ثم بالمقاتلة إن
لم يرتفع الغرض إلا بها حسب ما ذكرناه.
ولا خلاف في هذه
الجملة بين شيخنا أبي علي وأبي هاشم ، وإنما الخلاف بينهما في أن وجوب الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر يعلم عقلا أو شرعا؟.
فذهب أبو علي إلى
أن ذلك يعلم عقلا.
وقال أبو هاشم :
بل لا يعلم عقلا إلا في موضع واحد ، وهو أن يرى أحدنا غيره يظلم أحدا فيلحقه بذلك
غم ، فإنه يجب عليه النهي ودفعه دفعا لذلك الضرر الذي لحقه من الغم عن نفسه ، فأما
فيما عدا هذا الموضع فلا يجب إلا شرعا ، وهو الصحيح من المذهب.
والذي يدل على أن
ذلك مما لا سبيل إلى وجوبه من جهة العقل إلا في الموضع
الذي ذكرنا ، هو
أنه إن وجب عقلا فإما أن يجب للنفع أو لدفع الضرر ، ولا يجوز أن يجب للنفع لأن طلب
النفع لا يجب فلأن لا يجب الإيجاب لأجله أولى ، فليس إلا أن يكون وجوبه لدفع الضرر
على ما نقوله.
فإن قيل : هلا جاز
أن يكون الوجه في وجوبه هو أن لا يقع المنكر ولا يضيع المعروف فيكون وجوبه معلوما
عقلا فإن ذلك أمر معقول؟ قيل له : لأنه لو كان كذلك لكان يجب أن يمنعنا الله تعالى
عن المنكر ويلجئنا إلى المعروف ، ومعلوم خلافه.
فإن قيل : لم لا
يجوز أن يكون الوجه في وجوبه كونه لطفا لنا ومصلحة؟.
قلنا : إن هذا وإن
كان هو الوجه في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، غير أنا لا نعلم ذلك من
حاله إلا بالشرع ، لأنه ليس في قوة العقل أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
يدعونا إلى الواجب ويصرفنا عن القبيح.
فإن قيل : أو لستم
قد عرفتم بالعقول أن معرفة الله تعالى لطف ، وأن نعته من هو كافر في الحال أو كان
كافرا من قبل مفسدة ، فهلا جاز مثله في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قلنا :
إن هذا اقتراح على العقل وذلك مما لا وجه له ، فليس يجب إذا علمنا أمرا من الأمور
عقلا ، بأن قرر الله تعالى في عقولنا ، أن نعلم أيضا بالعقل ما لم يقرره فيه ،
ففسد هذا الكلام.
يبين ذلك ، أن ما
قالوه جمع بين أمرين من غير علة جامعة بينهما ، فيقال لهم : ما أنكرتم أنا إنما
علمنا كون المعرفة لطفا لنا بالعقل ، لأنه قرر تعالى كونه لطفا في عقولنا ، وهذا
غير ثابت فيما نحن فيه ، فلا يجب أن نعلمه أيضا بالعقل.
وأما ما يقوله أبو
علي في هذا الباب ، فهو أنه لو لم يكن الطريق إلى وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر العقل ، لكان يجب أن يكون المكلف مغرى بالقبيح ، ويكون في الحكم كمن أبيح
له ذلك ، فليس يصح ، لأن ذلك يقتضي أن لا يجب واجب ولا يقبح قبيح إلا والطريق إلى
وجوبه أو قبحه العقل ، والإلزام أن يكون المكلف مغرى على القبيح وعلى الإخلال بما
هو واجب عليه ، ويكون كأنه أبيح له ذلك ، ومعلوم خلاف ذلك.
يبين ذلك ويوضحه ،
أن وجوب الصلاة وقبح الزنا إنما نعلمه شرعا ، ثم لم يقتض أن يكون المرء من قبل كان
مغرى على القبيح أو الإخلال بالواجب ، أو يكون في الحكم كمن أبيح له شيء من ذلك.
وبعد ، فكيف تصح
هذه العبارة ، مع أن الإباحة ليس المرجع بها إلا إلى تعريف المكلف حسن الفعل وأنه
لا صفة له زائدة على حسنه ، إما بخلق العلم الضروري أو بنصب الأدلة ، فكيف يصح
إباحة ما ليس بمباح.
ومما يقوله أيضا :
هو أنه قد ثبت أن الامتناع عن المنكر واجب ، فيجب أن يكون المنع منه أيضا واجبا ،
لأنه لا فرق في قضية العقل بينهما.
وجوابنا ، لو كان
الأمر على ما ذكرتموه ، لكان يجب كما يمتنع القديم تعالى عن هذه القبائح أن يمنعنا
عن ذلك ويضطرنا إلى خلافه ، ومعلوم خلاف ذلك. فثبت بهذه الجملة أن الطريق إلى وجوب
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنما هو السمع إلا في الموضع الذي ذكرناه ، على
ما يقوله أبو هاشم.
والشرائط المعتبرة
في هذا الباب قد ذكرناها في أول الكتاب ، فمن استكمل تلك الشرائط لزمه الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر ، ومن لم يستكملها لم يلزمه.
واعلم أن بين
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرقا من حيث أن في الأمر بالمعروف يكفي مجرد
الأمر به ، ولا يلزمنا حمل من ضيعه عليه ، حتى ليس يجب علينا أن نحمل تارك الصلاة
على الصلاة حملا ، وليس كذلك النهي عن المنكر فإنه لا يكفي فيه مجرد النهي عند
استكمال الشرائط ، حتى نمنعه منعا ، ولهذا فلو ظفرنا بشارب خمر وحصلت الشرائط
المعتبرة في ذلك ، فإن الواجب علينا أن ننهاه بالقول اللين ، فإن لم ينته خشّنا له
القول ، فإن لم ينته ضربناه ، فإن لم ينته قاتلناه إلى أن يترك ذلك.
واعلم أن مشايخنا
أطلقوا القول في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والواجب أن يفصل القول
فيه فيقال :
أقسام المعروف :
المعروف ينقسم إلى
ما يجب ، وإلى ما هو مندوب إليه ، فإن الأمر بالواجب واجب ، وبالمندوب إليه مندوب
غير واجب ، لأن حال الأمر لا يزيد على حال الفعل المأمور به في الوجوب.
المناكير ضرب واحد ولكنها تتنوع حسب المكلف :
وأما المناكير فهي
كلها من باب واحد في وجوب النهي عنها ، فإن النهي إنما يجب لقبحها ، والقبح ثابت
في الجميع.
غير أنها تنقسم
إلى ما يختص المكلف ، وإلى ما يتعداه.
وما يختصه فينقسم
إلى ما يقع به الاعتداد ، وإلى ما لا يقع به الاعتداد.
فأما ما يقع به
الاعتداد ، فإن النهي عنه واجب من جهتي العقل والشرع جميعا ، أما من جهة العقل
فلأنه يدفع عن نفسه بالنهي عنه الضرر ، ودفع الضرر عن النفس واجب ، وأما من جهة
الشرع فلأن قوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ
أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ
الْمُنْكَرِ) لم يفصل بين أن يكون هذا الضرر مما يختصه وبين أن يكون مما
يتعداه.
وأما ما لا يقع به
الاعتداد ، فذلك كأن يحاول أحدنا اغتصاب دانق من ماله وهو بمنزلة قارون في اليسار
، فإنه لا يجب النهي عنه إلا سمعا ، فأما من جهة العقل وهو غير مستضر به فلا يجب ،
هذا فيما يختصه.
وأما ما يتعداه ،
فإنه ينقسم إلى ما يقع به الاعتداد فيجب النهي عنه شرعا وعقلا إن لحق قلبه به مضض
، وإلى ما لا يقع به الاعتداد فلا يجب النهي عنه إلا شرعا ، وهذه بقية القول في
هذا الفصل.
فصل
وقد أورد رحمهالله بعد هذه الجملة ، الكلام في أن المنكر إذا كان من باب
الاعتقادات وكيفية النهي عنه ، ثم عطف عليه الكلام فيمن أراد التوبة عنه كيف يتوب.
وهذا الفصل الأخير بباب التوبة أليق وبذلك الموضع أخص غير أنا لا نخالفه في ذلك بل
نوافقه عليه.
وجملة القول في
ذلك ، أنه لا فرق في باب المناكير بين أن تكون من أفعال القلوب ، وبين أن تكون من
أفعال الجوارح في أنه يجب النهي عنها ، إذ النهي عنها إنما وجب لقبحها ، والقبح
يعمها.
ومتى فصل بينها
بأن أفعال القلوب مما لا يمكن الاطلاع عليها ، فذلك أمور مغيبة عنا ، وما هذا
سبيله لا يجب النهي عنه.
قلنا : إن في
أفعال القلوب ما يمكن الاطلاع عليه ، فقد علمنا من حال العلوية بغضهم لبني أمية
واعتقادهم فيهم ، وكذلك فإنما نعلم ضرورة من حال من يدرس طول عمره مذهبا من
المذاهب وينصره ويدعو الناس إليه ويبذل جهده فيه وفي الدعاء إليه أنه
معتقد لذلك المذهب
، وإذ قد تقرر أن الاطلاع على الاعتقاد ممكن ، وصح لدينا خطأ بعض الاعتقادات
وفسادها ، وكونها من باب المناكير ، فإنه يلزمنا النهي عنها على حد لزوم النهي عن
غيرها من المناكير ، فهذا جملة ما يلزم تحصيله في الفصل الأول.
أما الفصل الثاني
كيفية التوبة :
فالأصل فيه ، أن
من اعتقد اعتقادا ثم ظهر له فساده وكونه خطأ باطلا ، فإن الواجب عليه أن يتوب عنه
ويندم عليه لا محالة ، إلا أنه لا يخلو ، إما أن يكون قد أظهره من نفسه فظهر
وانتشر واطلع عليه الناس ، أو لم يظهره لأحد ولم يطلع عليه أحد كفاه التوبة بينه
وبين الله تعالى ، وإن أظهره حتى أطلع عليه غيره ، فلا يخلو ، إما أن يكون قد دعا
إليه أو لم تكن منه الدعوة ، فإن لم يدع غيره إليه غير أنه ظهر منه ذلك وعرف هو به
، فإن الواجب عليه أن يتوب من ذلك سرا وبين يدي الذين قد عرفوه بذلك المذهب
والاعتقاد الفاسد كيلا يتهموه به بعد ذلك ، وإن كان منه إلى ذلك المذهب والاعتقاد
الفاسد دعوة فلا يخلو ، إما أن يكون قد قبل منه غيره أو لا ، فإن لم يقبل منه غيره
كفاه التوبة بين يديه على الحد الذي ذكرناه ، فإن قبل ، فإنّ الواجب عليه أن يتوب
عن ذلك ويعرف ذلك الغير الذي قبل منه توبته عنه ، وأنه قد تبين له فساد ذلك
الاعتقاد. ثم هل يجب عليه إفساد ذلك المذهب ، وحل تلك الشبهة التي ألقاها إليه؟
ينظر ، فإن كان في الناس من يقوم مقامه في حل تلك الشبهة عليه لم يلزمه إلا القدر
الذي ذكرناه ، ويكون حل تلك الشبهة عليه من فروض الكفايات ، وإن لم يكن في العلماء
من يقوم مقامه في حل تلك الشبهة ، أو كان في العلماء الذين يقومون مقامه في الحل
كثرة ، غير أن لبيانه مزية على بيانهم ، فإن الواجب أن يظهر من ذلك الاعتقاد
التوبة ، ثم يبين وجه الخطأ فيه ويحل له الشبهة التي ألقاها إليه ، فهذه طريقة
القول في ذلك.
ومما يشبه هذه
الجملة ، الكلام في المفتي إذا أخطأ ، ما الذي يلزمه إذا أراد التوبة عنه؟ وجملة
القول فيه : أن من أفتى ، فإما أن تكون فتواه فيهما الحق فيه واحد وأخطأ فيلزمه
التوبة عنه وأن يذكر للمستفتي خطأه في ذلك ، وإما أن تكون فتواه فيما لا يتعين
الحق فيه واحد بل يكون طريقه الاجتهاد ، ثم إنه في ذلك بين أن يكون قد وفي
الاجتهاد حقه غير أنه ترجح لديه وجه على الوجه الذي أفتى به فلا يلزمه والحال
هذه شيء ، إذ لم
يكن عليه غير تأدية الاجتهاد حقه وقد فعل ، وبين أن لا يكون قد وفي الاجتهاد حقه
بل أفتى فيما بدا له ، فيلزمه والحال هذه أن يتوب عن ذلك ، ويبين للمستفتي أني قد
قصرت في الجوانب ولم أؤد الاجتهاد حقه.
وقريب من هذا ،
الكلام في الحاكم إذا أخطأ في الحكومة ، لأنه إما أن يكون قد حكم بما الحق فيه
واحد ، أو بما طريقه الاجتهاد. فإن كان قد حكم بما ألحق فيه واحد وأخطأ لزمه أن
يتوب عن ذلك ويظهر للمحكوم له والمحكوم عليه خطأه في الحكم ، وإن حكم بما في طريقه
الاجتهاد ، فإما أن يكون قد وفي الاجتهاد حقه وحكم بما أدى إليه الاجتهاد ثم تغير
حاله في الاجتهاد ورأى القوة في خلاف ما حكم به ، وإما أن لا يكون قد وفى الاجتهاد
حقه بل حكم بما بدا له ، فإن كان الأول فلا شيء عليه البتة ، إذ الاجتهاد لا ينقض
الاجتهاد ، اللهم إلا أن يكون قد ظهر له أن القوة في أحد الوجهين قبل الحكم إلا
أنه حكم بالأضعف عنده ، فحينئذ يلزمه الحكم بالأقوى والرجوع إلى المحكوم عليه
وبيان أن الحكم كيت كيت ، وإن كان الثاني فإن الواجب أن يتوب عن ذلك ويبين للمحكوم
له والمحكوم عليه أن الحكم كذا وكذا وأني لم أحكم يوم حكمت عن اجتهاد. فهذه طريقة
القول في ذلك.
فصل في الإمامة
وقد اتصل بباب
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الكلام في الإمامة ، ووجه اتصاله بهذا الباب أن
أكثر ما يدخل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقوم بها إلا الأئمة.
وجملة ذلك أن
معرفة الإمام واجب ، ولسنا نعني به أنه يجب معرفته سواء كان أو لم يكن ، وإنما
المراد إذا كان ظاهرا يدعو إلى نفسه ، ولا خلاف في هذا إلا شيء يحكى عن قاضي
القضاة أبي الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني ، ومن البعيد أن يكون قد أنكر ما
قلناه ، وإنما الذي يقوله أن ذلك لا يجب على الكافة والعوام ، وإنما هو من تكليف
العلماء.
فقد حصل لك أنما
ادعيناه من وجوب معرفة الإمام على الحد الذي نقوله مجمع عليه.
خمسة فصول :
واعلم أن الكلام
في الإمامة يقع في خمسة مواضع : أحدها : في حقيقة الإمام ، والثاني : فيما له
ولأجله يحتاج إلى الإمام ، والثالث : في صفات الإمام ، والرابع : في طرق الإمامة ،
والخامس : في تعيين الإمام.
حقيقة الإمام :
أما الفصل الأول
وهو أن الإمام في
أصل اللغة هو المقدم ، سواء كان مستحقا للتقديم أو لم يكن مستحقا. وأما في الشرع
فقد جعله اسما لمن له الولاية على الأمة والتصرف في أمورهم على وجه لا يكون فوق
يده يد ، احترازا عن القاضي والمتولي. فإنهما يتصرفان في أمر الأمة ولكن يد الإمام
فوق أيديهم. هذا هو الفصل الأول.
الحاجة إلى الإمام :
وأما الفصل الثاني
وهو الكلام فيما
له ولأجله يحتاج إلى الإمام. اعلم أن الإمام إنما يحتاج إليه لتنفيذ هذه الأحكام
الشرعية ، نحو إقامة الحد وحفظ بيضة البلد وسد الثغور وتجييش الجيوش والغزو وتعديل
الشهود وما يجري هذا المجرى.
ولا خلاف في أن
هذه الأمور لا يقوم بها إلا الأئمة ، إلا في إقامة الحد والغزو ، فعندنا أن إقامة
الحدود والغزو كغيرهما من هذه الأشياء التي عددناها في أنه لا يقوم بها إلا الأئمة
، والدليل عليه إجماع أهل البيت عليهمالسلام وإجماعهم حجة على ما سيجيء من بعد إن شاء الله تعالى.
وقد ذهبت الإمامية
إلى أن الإمام إنما يحتاج إليه لتعرف من جهته الشرائع ، والذي يدل على فساد
مقالتهم هذه ، هو أن الشرائع معروفة أدلتها من كتاب الله تعالى وسنة الرسول عليهالسلام وإجماع أهل البيت وإجماع الأمة؟ فأي حاجة بالأمة إلى
الإمام؟ وفيهم من قال بأن الحاجة إلى الإمام هو لأنه لطف في الدين وذلك مما لا
دلالة عليه. وبعد ، فكيف يجوز أن يغيب الإمام عن الأمة طوال هذه المدة ، مع كونه
لطفا في الدين ، ومع أن الحاجة إليه بهذه الشدة.
فإن قيل : إن هذا
الذي ذكرتموه إنما يدل على فساد ما يقوله هؤلاء ، فما دليلكم على صفحة ما اخترتموه
مذهبا.
قلنا : الإجماع ،
فقد اتفقت الأمة على اختلافها في أعيان الأئمة أنه لا بد من إمام يقوم بهذه
الأحكام وينفذها ، وإجماع الأمة حجة لقوله صلىاللهعليهوسلم : «عليكم بالسواد
الأعظم» ، وقوله : «لا تجتمع أمتي على الضلالة».
ومما يدل عليه
أيضا آية المشاقة والاستدلال بها مشروح في مجموع العمد.
صفات الإمام :
وأما الفصل الثالث :
في صفات الإمام ،
اعلم أن الإمام يجب أن يكون من منصب مخصوص خلاف ما يحكى عن طائفة من الخوارج ، ولا
يكفي هذا القدر حتى يكون فاطميا ، ثم لا يجب أن يكون حسنيا أو حسينيا بل الذي لا
بد منه هو أن يكون من أحد البطنين ، ويجب أن يكون مبرزا في العلم مجتهدا ولا خلاف
فيه وإنما اختلفوا في القاضي. وقد حكي عن أبي حنيفة ، أنه لا يجب في القاضي أن
يكون مجتهدا ، وإن كان قاضي القضاة استبعد عنه هذه الحكاية وقال : إنما أراد به
أنه ليس يجب أن يكون حافظا لكتب الفقهاء وترتيب أبوابها ، وهكذا غرضنا إذا اعتبرنا
كون الإمام مجتهدا ، فليس من ضرورته أن يكون حافظا لكتب الفقهاء وحكاياتهم وترتيب
أبواب الفقه بل إذا كان بحيث يمكنه المراجعة إلى العلماء وترجيح بعض أقوال بعضهم
على البعض كفى ، غير أنه لا يكون على هذا الوصف حتى يعلم شيئا من اللغة ، ليمكنه
النظر في كتاب الله تعالى ومعرفة ما أراده بخطابه وما لم يرده ، وإن كان في معرفة
مراد الله بخطابه وغير ذلك يحتاج إلى أمور أخر غير العلم بالعربية المجردة ، وهو
أن يكون عالما بتوحيد الله تعالى وعدله ، وما يجوز على الله تعالى من الصفات وما
لا يجوز ، وما يجب له من الصفات وما لا يجب ، ويكون عالما بنبوة محمد صلىاللهعليهوسلم ، فإذن قولنا ينبغي أن يكون مجتهدا يجمع هذه الأمور كلها.
ولا بد مع هذه
الشرائط أن يكون ورعا شديدا ، يوثق بقوله ويؤمن منه ويعتمد عليه ، وأن يكون ذا بأس
وشدة وقوة قلب وثبات في الأمور.
فهذه جملة ما
يعتبر من الأوصاف في الشخص حتى يصلح للإمامة.
فأما الأول ، وهو
أنه يكون من منصب مخصوص فلا بد من اعتباره لدلالة الإجماع ، فإن أبا بكر لما ادعى
بحضرة الجماعة أن الأئمة من قريش لم ينكر عليه أحد.
وأما كونه عالما
بحيث يصح معه مراجعة العلماء والفرق بين ضعيف الأقوال وقويها ، فإنه لو لم يكن
عالما لم يمكنه القيام بشيء من هذه الأحكام التي احتيج إليه لمكانها ، فما من شيء
منها إلا ومن لا علم له بهذه الجملة التي عددناها لا يتأتى منه تنفيذها.
وأما العفاف
والورع ، فلأنه لو كان متهتكا لم يجز له تولية القضاة ولا تعديل الشهود وإقامة
الحدود وسد الثغور بالإجماع. يبين ذلك ويوضحه ، أن بالاتفاق منع من جواز التولية
من قبل قطاع الطريق ، فلا وجه لذلك إلا تهتكهم وتظاهرهم بالفسق ، فإذا كان الإمام
بهذه الصفة لم يكن إماما ولا جاز التولي من قبله.
وأما الشجاعة وقوة
القلب ، فلأنه لو لم يكن كذلك لم يمكنه تجييش الجيوش وسد الثغور والغزو إلى ديار
الكفرة ، وقد ذكرنا أن هذه الأحكام هي التي أحوجت إلى الإمام.
طرق الإمامة :
وأما الفصل الرابع :
وهو الكلام في طرق
الإمامة. فقد اختلف فيه ، فعندنا : أنه النص في الأئمة الثلاثة والدعوة والخروج في
الباقي ، وعند المعتزلة : أنه العقد والاختيار وإليه ذهبت المجبرة ، ويحكى عن
الجاحظ أن الطريق إلى الإمامة إنما هو كثرة الأعمال ، وإلى قريب من هذا ذهب عباد
في طريق النبوة ، فقد قال : إن طريقها الجزاء على الأعمال ، وقالت الخوارج : إن
طريقها الغلبة ، وقالت العباسية : بل طريقها الإرث ، وقالت الإمامية. والبكرية :
إن طريقها النصر.
ونحن إذا أردنا
تصحيح ما اخترناه من المذهب فلنا طريقان : أحدهما : هو أن نبدأ بالدلالة عليه ، والثاني : أن نبين فساد هذه المقالات كلها حتى لا يبقى إلا ما
نقوله.
أما الذي يدل على
ما ذهبنا إليه ابتداء : الإجماع ، فلا خلاف بين الأمة أن من
انتدب لنصرة
الإسلام ونابذ الظلمة وكان مستكملا لهذه الشرائط التي اعتبرناها ، فإنه يجب على
الناس مبايعته والانقياد له ، وكذلك فقد اتفق أهل النبي صلىاللهعليهوسلم على أن طريق الإمامة إنما هو الدعوة والخروج على الحد الذي
ذكرناه ، هذا إذا أردت ابتداء الدلالة على ذلك.
فأما إذا أردت هذه
المقالات ، فإن الذي يشتبه الحال فيه ليس إلا مقالة المعتزلة ، وما عداها فظاهر
السقوط.
وإذا أردت إفساد
مقالتهم فلك فيه طريقان :
أحدهما : هو أن تطالبهم بتصحيح ذلك وتفسد عليهم ما يحتجون به.
والثاني : هو أن تبدأ بالدلالة على فساد مقالتهم.
أما الطريق الأول
، فهو أن نقول : ما دليلكم على أن العقد والاختيار طريق الإمامة؟ فإن قالوا : إن
الإمامة عقد من العقود ، بل هي من أقلها رتبة وأعظمها منزلة فلا بد من عاقد يعقدها
للمعقود له ، قلنا : هب أن الأمر على ما ذكرتموه فمن أين أن الإمامة عقد ، وأن
العقد لا بد له من عاقد يعقده ، فمن أين أنه لا يجوز أن يكون العاقد نفس الإمام
حتى يعقد لنفسه على الحد الذي نقوله ، وصار الحال فيه كالحال في النذور. وهكذا
نتبع كلامهم ونفسد عليهم الوجوه التي يذكرونها في هذا الباب ، فهذه طريقة القول في
ذلك.
وإذا أردت ابتداء
الدلالة على فساد مذهبهم ، فالأصل فيه أن تقول :
لو كان الأصل في
الإمامة إنما هو العقد والاختيار لكان لا بد من أن يكون إليه طريق ، والطريق إليه
إما العقل أو الشرع ، والعقل مما لا يجوز أن يكون طريقا إليه لأن الإمامة حكم شرعي
فيجب أن يكون الطريق إليه أيضا شرعيا ، وإذا كان الطريق إليه الشرع ، فإما أن يكون
الكتاب أو السنة أو الإجماع ، وشيء من ذلك غير ثابت هناك.
قالوا : إن
الاجماع حاصل على ذلك ، فمعلوم أن نفرا من الصحابة حضروا السقيفة وعقدوا لأبي بكر
الإمامة ولم ينكر عليهم أحد ، ولم يقل أن العقد ليس بطريق إلى الإمامة ، وفي ذلك
ما نقوله ، يبين ذلك ويوضحه ، أن الصحابة يومئذ كانوا بين مبايع عاقد ، وبين متابع
، وبين ساكت سكوتا يدل على الرضى ، وهذه صورة الإجماع.
وربما يؤكدون ذلك
، بأن عمر جعل الأمر شورى بين ستة ولم ينكر عليه أحد ،
ولو كان طريق
الإمامة غير العقد والاختيار لأنكروا عليه ، بل كان لا يدخل علي بن أبي طالب تحت
الشورى ، ويقول : إن الله قد نص عليّ في محكم كتابه وكذا الرسول ، فلم أدخل معكم
في الشورى ، وهذا الأمر لا حق لغيري فيه؟.
وجوابنا ، أن هذا
إنما يصح لو ثبت أن الصحابة كانوا بين مبايع ومتابع وساكت سكوتا يدل على الرضى ،
وهذه صورة الإجماع ، ونحن لا نسلم ذلك ، فمعلوم أن عليا عليهالسلام لما امتنع عن البيعة هجموا على دار فاطمة ، وكذلك ، فإن
عمارا ضرب وأن زبيرا كسر سيفه ، وسلمان استخف به ، فكيف يدعى الإجماع مع هذا كله ،
وكيف يجعل سكوت من سكت دليلا على الرضى؟ وأما دخوله عليهالسلام في الشورى ، فلأنه كان صاحب الحق ، ولصاحب الحق أن يطلب
حقه بما يمكنه ، فلا يصح ما ذكرتموه.
وقد اعترضت
المعتزلة على الذي اخترناه من وجوه تقدم بعضها ولم يتقدم البعض.
فمما لم يتقدم
قولهم : إنما قد فسرتم به الدعوة والخروج من حكم الإمامة ، فكيف يجعل طريقا إليها؟
قلنا : لا يمتنع ذلك ، فإن أحد الأمرين ينفصل عن الآخر.
ومن ذلك قولهم :
إن الدعوة والخروج لو كان طريقا للإمامة ، لكان يجب إذا اتفق الدعوة من شخصين يصلح
كل واحد منهما لذلك ، أن ينعقد أمرهما ويصيرا إمامين لحصول الدعوة والخروج ، وذلك
لم يذكره أحد سوى ناصركم وأنتم فقد تأولتم كلامه كيلا يلحقه خرق الإجماع. وجوابنا
، إن ذلك قلما يتفق في وقت واحد ، ولو اتفق فالواجب أن ينظر فيمن سبقت دعوته ،
فأيهما سبقت دعوته فهو الإمام. وإن اتفق منهما الدعوة في وقت واحد ، فإنه لا تنعقد
إمامة واحد منهما ، وصار الحال في ذلك كالحال في ولي النكاح ، فكما أنه لا ينعقد النكاح
ما لم يسبق أحد العقدين على الآخر ، كذلك هاهنا.
وعلى أن هذا لازم
لهم في العقد والاختيار ، فيقال لهم : ما تقولون لو اتفق العقد والاختيار على
شخصين يصلحان للإمامة ، وكل ما ذكروه من عذر هناك فهو عذر لنا هاهنا.
واعلم أن أبا علي
وأبا هاشم لم يختلفا في أن الشخصين إذا عقد لهما فإن الإمام هو من عقد له أولا ،
وإنما الخلاف فيما إذا اتفق العقد لهما دفعة واحدة. فعند أبي
هاشم أنه لا ينعقد
إمامة واحد منهما كما في ولي النكاح فلا بد أن يعقد ثانيا لأحدهما ، وقد قال أبو
علي : إنه لو اتفق العقد لهما جميعا في حالة واحدة فإن الواجب أن يقرع بينهما ،
وعلى الأحوال كلها فما أمكنهم ذكره في العقد يمكنا أن نذكره في الدعوة إذ لا فصل.
تعيين الإمام :
وأما الفصل الخامس
في تعيين الإمام ،
اعلم أن مذهبنا ، أن الإمام بعد النبي صلىاللهعليهوسلم ، علي بن أبي طالب ، ثم الحسين ثم الحسن ، ثم زيد بن علي ،
ثم من سار بسيرتهم.
وعند المعتزلة ،
أن الإمام بعد رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي عليهالسلام ، ثم من اختارته الأمة وعقدت له ، ممن تخلق بأخلاقهم وسار
بسيرتهم ، ولهذا تراهم يعتقدون إمامة عمر بن عبد العزيز ، لما سلك طريقهم.
وعند الإمامية أن
الإمام بعد الرسول صلىاللهعليهوسلم ، عليّ ثم الحسن ثم الحسين إلى تمام اثني عشر ، فهذه طريقة
القول في تعيين الإمام وذكر الخلاف.
فصل هل يجوز خلو الزمان عن إمام :
اعلم أن من مذهبنا
أن الزمان لا يخلو عن إمام ، ولسنا نعني به أنه لا بد من إمام متصرف فالمعلوم أنه
ليس ، وإنما المراد به ليس يجوز خلو الزمان ممن يصلح للإمامة.
ثم إن العلم
بالحاجة إلى الإمام لا يجوز أن يكون عقليا ، بل إنما نعلمه شرعا.
وقد خالفنا في ذلك
أبو القاسم ، وقال : إنا نعلم وجوب الحاجة إلى الإمام عقلا ، وإليه ذهبت الإمامية.
ويقولون : إن
الإمام لا بد من أن ينص الله تعالى عليه لحاجة الناس إليه.
وأبو القاسم يقول
: يجب على الناس أن ينصبوه إن لم ينص الله تعالى عليه ، لأن مصلحتهم في ذلك ، وهذا
يحتمل أن يريد به المصلحة الدنياوية على ما تقوله الإمامية إن الإمام لطف في الدين
، ويحتمل أن يريد به المصلحة الدينية على ما يقوله بعض
أصحابه. فإن أراد
به الأول ، فالفرق بينه وبين الإمامية هو من الوجه الذي ذكرته ، ولأجل ذلك لا يجب
في الإمام أن يكون معصوما وأوجبت الإمامية ذلك ، وإن أراد الثاني ، فالفرق بينه
وبين الإمامية ظاهر ، لأنهم يقولون إن الإمام لطف في الدين كمعرفة الله بتوحيده
وعدله وغير ذلك من الألطاف ، وهو لا يقول به.
والذي يدل على
فساد مقالتهم ، هو أنه لو كان العلم بوجوب وجود الإمام عقليا ، لكان لا بد من أن
تكون الحاجة إلى الإمام أيضا في العقليات ، ومعلوم أن الإمام إنما يحتاج إليه
لتنفيذ الأحكام الشرعية ، فكيف يصح أن تعلم الحاجة إليه عقلا.
فإن قيل : هلا جاز
أن يحتاج إلى الإمام في العقليات؟ قلنا : إنه لو احتيج إليه في ذلك لكان لا تخلو
الحاجة إليه من أن تكون لمنافع دينية أو دنياوية.
ولم يجز أن تكون
الحاجة إليه للمنافع الدنياوية ، كأن يقال يحتاج إليه لتعرف من جهته الأغذية من
السمومات وما يضر مما ينفع ، فإن ذلك مما يمكن معرفته بالسير والأخبار ، ولذلك
يشترك في معرفته العقلاء وغير العقلاء من البهائم ونحوها ، ولأن ذلك يمكن أن يعرف
من واحد فلا يحتاج إلى غيره فيقدح في حاجة الناس إلى الإمام في سائر الأزمان.
وإذا قيل بالحاجة
إليه للمنافع الدينية فلا يخلو : إما أن يحتاج إليه في التكاليف العقلية أو
السمعية ، فإن احتيج إليه في التكاليف العقلية لم يجز وإلا احتاج الإمام إلى إمام
آخر ، والكلام في ذلك الإمام كالكلام فيه فيتسلسل ، ولأنه لا يحتاج في شيء من
التكاليف العقلية إلا إلى الأقدار والتمكين وإزاحة العلة بالألطاف ، ولا تأثير
للإمام في شيء من ذلك بل حاله وحال غيره في هذه الأمور على سواء.
فإن قيل : ما
أنكرتم أن له مزية على غيره من حيث يتعلق بوجوده لطف للمكلف. قلنا : إذا قيل
بوجوده لطف للمكلفين وصلاحهم ، فإن المراد أن يؤدي عليهم عن الله تعالى ما فيه
صلاحهم أو يقوم بمصالحهم ، وأي ذلك من هذين الأمرين فلاحظ للإمام فيه.
وبعد ، فلا يكون
ذلك كذلك إلا والطريق إليه الشرع وفي ذلك ما نقوله.
فإن قيل : إن وجود
الإمام لطف من وجه آخر ، وهو أن الناس يطيعون الله تعالى ويتجنبون المعاصي انقيادا
لأمره واتباعا له وانخراطا في سلك طاعته ، قلنا : إن ذلك مما لا نعلمه من حال جميع
الناس ، بل في الآدميين من إذا ولي عليه غيره كان ذلك
داعيا إلى الفساد
، وعلى هذا فإن أبا جهل لما بعث إليه النبي صلىاللهعليهوسلم ، كان قد بلغ في العناد وترك الاستسلام والانقياد كل مبلغ
ولم يطع كغيره وكذا الحال في غيره من الكفرة.
وبعد ، فهذا
الكلام يوجب على قائله وجود الأئمة الكثيرة ، فإن هذا الغرض لا يندفع بإمام واحد
والناس في العالم مفترقون ، بل الواجب أن ينصب في كل محلة إمام ، ليكون أهل تلك
المحلة إلى الطاعة أقرب ، انقيادا له وطاعة لرضاه ، وفي ذلك الفساد ما لا يخفى على
أحد.
فصل
اعلم أنا قد قدمنا
الكلام في طريق الإمامة واختلاف الأقوال فيها ، غير أنا نعيده هاهنا على نوع من
الاختصار ، ونضم إليه ما يشذ ويسقط ، فنقول :
إن الزيدية اتفقوا
على أن الطريق إلى إمامة علي بن أبي طالب والحسن والحسين عليهمالسلام النص الخفي ، وأن الطريق إلى إمامة الباقين الدعوة
والخروج. ثم اختلفوا في أنه هل يجب تفسيق من أنكر النص على هؤلاء الثلاثة؟ فقال
بعضهم : يجب تفسيقه وهم الجارودية ، وقال آخرون لا يجب وهم الصالحية.
وأما الإمامية فقد
ذهبت إلى أن الطريق إلى إمامة الاثني عشر النص الجلي الذي يكفر من أنكره ، ويجب
تكفيره ، فكفروا لذلك صحابة النبي عليهالسلام.
وقد وافقتهم
البكرية والكرامية في أن طريق الإمامة إنما هو النص ، غير أنهم ذهبوا إلى أن
المنصوص عليه بعد النبي عليهالسلام أبو بكر ، وإليه ذهب الحسن البصري.
واستدلوا على ذلك
بقوله تعالى : (قُلْ
لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ
شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) [الفتح : ١٦]
فيقولون : إنه ورد في أبي بكر ، فهو أول من دعا إلى أهل الردة بعد رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وذلك مما لا يسلم لهم أن المراد به أبو بكر ، بل الصحيح
أنه في عليّ عليهالسلام ودعائه إلى قتال من قاتلهم من القاسطين والمارقين
والناكثين.
ومتى قيل : إن
الآية تقتضي إمامة من دعا إلى قتال الكفرة وعليّ لم يدع إلا إلى قتال أهل القبلة
من أهل البغي ، قلنا : ليس في قوله تعالى : (أَوْ يُسْلِمُونَ ما
ظننتموه).
وربما يستدلون
بتقديم النبي صلىاللهعليهوسلم إياه في الصلاة ، وذلك أيضا فمن البعيد ، لأن النبي صلىاللهعليهوسلم قدم كثيرا من الصحابة للصلاة ولم يدل على إمامتهم. وبعد ،
فإن الإمامة في الصلاة بمعزل عن القيام بالإمامة الكبرى والقيام بأمر الأمة ،
ولهذا يصلح لأحدهما العبد دون الآخر ، فكيف قاسوا أحد الأمرين على الآخر ، وما وجه
الشبه بينهما.
وأما المعتزلة ،
فقد ذهبت إلى أن طريق الإمامة العقد والاختيار ، ورامت تصحيح ذلك بوجوه تقدم بعضها
وهذا باقيها :
قالوا : طريق
الإمام بالاتفاق إما العقد والاختيار ، أو النص ، وقد بطل النص فلم يبق إلا العقد
والاختيار.
قالوا : والذي يدل
على أنه لا نص ، هو أنه لو كان كذلك لكان لا يخلو : إما أن يكون نصا جليا أو خفيا.
لا يجوز أن يكون نصا جليا ، لأنه لو كان كذلك لكان يجب أن يكون الراد كافرا لرده
ما هو معلوم ضرورة من دين النبي صلىاللهعليهوسلم ، وفي ذلك تكفير الصحابة على فحش القول به ، ولكان لا يجوز
أن يخفى الحال فيه لأن هذا هو الواجب فيما علم ضرورة ، لو لا ذلك وإلا كان يجوز أن
يكون الله تعالى قد تعبدنا بصلاة سادسة وبحج إلى غير بيته الحرام إلا أنه خفي على
الناس أمره ولم يظهر ، وذلك شنع بمرة. فبطل النص الجلي.
وأما النص الخفي
فإنه كان يجب أن لا يذهب الصحابة بأسرهم عن الغرض به ، فقد كانوا في غاية المعرفة
بالمقاصد وما يجري هذا المجرى ، وفي علمنا بأنهم لم يعرفوا هناك نصا ولا أقروا به
دليل على أنه لم يكن له أصل ، وبعد ، فلو كان هناك نص لأورده المنصوص عليه واستدل
به على إمامته ، والمعلوم أنه لم يورده ولم يحتج به وفي ذلك دلالة على أن ذلك لم
يكن. والجواب أنكم ألزمتم الإمامية ما يلتزموه فلا معنى له.
وأما النص الخفي
على ما نقوله فإنه ليس يجب أن يعرفه كل أحد ، فإن ذلك إنما يجب فيما العلم به
ضروري ، ولسنا ندعي أن الصحابة اضطرت إلى قصد النبي بذلك.
فإن قالوا : فلم
ذهبوا عن الغرض به ولم يعرفه أحد؟ قلنا : لأنهم لم ينظروا فيه أو حملوه على وجه
آخر غير الإمامة ، وعلى أنا لا نسلم أن الصحابة بأسرهم ذهبوا عن الغرض به ، فمعلوم
أن أصحاب علي عليهالسلام كانوا يعرفون ذلك ، وكذلك فكان عليّ يدعيه ويعتقده ، فكيف
صح لهم ما قالوه؟
وقد دخل في الجواب
عن قولهم : لو كان هناك نص لاحتج به المنصوص عليه تحت هذه الجملة. وقد سأل قاضي
القضاة نفسه حين دل على أنه لا نص ، بأنه لو كان لأظهره المنصوص عليه واستدل على
إمامته وفي علمنا بأنه لم يفعل دليل على أنه لم يكن ، وقال : ما أنكرتم أنه لم
يورده ولم يتمسك به في تثبيت إمامته لعلمه أو لغلبة ظنه أنهم لا يصغون إليه ولا
ينظرون فيه؟ وأجاب عن ذلك : بأن هذا مما لا يمكن ، مع أن حال الصحابة في الاستسلام
للحق والانقياد له والرجوع إليه بحيث لا يخفى على أحد ، وعلى هذا فالمعلوم أن عليا
لما أنكر على عمر إقامة الحد على الحامل ، فقال : هب أن لك عليها سلطانا فما
سلطانك على ما في بطنها ، أصغى إليه فرجع إلى قوله ، وقال : لو لا علي لهلك عمر.
وكذا فقد روي أنه رجع في بعض الحوادث إلى قول معاذ لما بين له أن الحق في قوله ،
وقال : لو لا معاذ لهلك عمر. وهكذا فقد روي أنه على محله في القلوب ومكانه فيها
ومنزلته في العلم ، ترك قوله لقول امرأة أنكرت عليه بعض الحوادث ، وقال : كلكم
أفقه من عمر حتى المخدرات في البيوت ، إلى غير ذلك من الأحاديث التي لا يلتبس
الحال فيها. فلو كان مع المنصوص عليه نص ، لكان من سبيله أن يورده عليهم ويحتج به
عندهم ، سيما وقد عرف من حالهم أنهم يرجعون إلى قول كل أحد إذا تبين لهم الحق في
جنبته ، فلما لم يظهره ولا احتج علم أنه لم يكن أصلا.
وقد جرى في كلامنا
ما هو جواب عن هذا ، فقد ذكرنا أن عليا أورد النصوص وأظهر الاستدلال بها ، فكيف
يمكن ادعاء أنه لم يظهر ذلك ، وحديث الشورى يشتمل على نيف وسبعين دلالة وفضيلة
أوردها علي بن أبي طالب مستدلا ببعضها على إمامته ، وببعضها على فضله على الصحابة
، وهذا واضح عند من أنصف.
وربما قالوا : إن
الصحابة وإن اختلفوا في المختار لم يختلفوا في الاختيار وهذا دعوى منهم ، فمن خالف
في إمامة أبي بكر لم يعتقد الاختيار طريقا للإمامة.
وربما يؤكدون
كلامهم المتقدم بقول العباس بن عبد المطلب لعلي بن أبي طالب عليهالسلام : امدد يدك أبايعك ، وقول علي : لو كان عمي حمزة وأخي جعفر
حيين لفعلت ، وباحتجاج عليّ على طلحة والزبير بالبيعة وقوله لهما : بايعتماني ثم
نكثتماني ، ويقولون : إن هذا كله ينافي النص ويؤذن أصحابهم بأن طريق الإمامة عند
علي وغيره العقد والاختيار على الحد الذي نقوله وقريب من هذا احتجاجهم بدخول عليّ عليهالسلام تحت الشورى ، فقد ذكرنا أن الوجه فيه أنه كان لا يصل إلى
حقه إلا بالدخول
فيه وهذا سائغ ،
وعلى أنه وإن دخل في الشورى فلم يجعل الأمر موقوفا على اختيارهم إياه وعقدهم
للإمامة ، وأما احتجاجه على طلحة والزبير بالبيعة فلكي يبين لهم أنهم لا يثبتون
على الحق أصلا. فهذه جملة ما يحتمله هذا المجمل.
فإن قيل : فما ذلك
النص الذي دلكم على إمامة عليّ عليهالسلام؟ قيل له : نصوص كثيرة من كتاب الله تعالى نحو قوله : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ) [المائدة : ٥٥]
الآية. بين الله تعالى أن الولاية له عزوجل ثم لرسوله ثم للموصوف بإيتاء الزكاة في حال الركوع ، ولا
خلاف في أن الموصوف بذلك عليّ عليهالسلام دون سواه. فإن قال قوله تعالى : (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) الجماعة ، فكيف يصح حمله على الواحد؟ قيل له : لا بد من أن
يحمل على واحد وإلا لزم أن يكون المولى والمولى عليه واحدا وذلك مما لا سبيل إليه
، وبعد فإن في آخر الآية ما يمنع من حمله على الجماعة لأن الواو في قوله : (وَهُمْ راكِعُونَ) ، واو الحال ، فيجب أن يكون المراد به من أدى الزكاة في
حال الركوع ، ومتى قيل : إن الآية محمولة على المحبة والنصرة ، قلنا : لا تنافي
بين بعض هذه الأمور وبين البعض ، فنحمله على الجميع.
ومن ذلك قول النبي
صلىاللهعليهوسلم : «أنت مني بمنزلة
هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي» أثبتت لعلي عليهالسلام جميع المنازل التي كانت ثابتة لهارون من موسى عليهماالسلام واستثنى النبوة. ومن المنازل التي كانت ثابتة لهارون من
موسى الإمامة ، فوجب ثبوتها لعلي عليهالسلام. وفي ساداتنا من ادعى بأن الخبر متواتر ، وفيهم من قال إنه
متلقى بالقبول وهو الصحيح.
ومن ذلك حديث غدير
خم بطوله ، وموضع الدلالة منه قوله : «من
كنت مولاه»
، والمولى والأولى
في اللغة وعرف الشرع واحد ، قال الله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ هُوَ
مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) [التحريم : ٤]
وقال لبيد :
مولى المخافة حلفها وإمامها
ولتطويل الإمامة
واستيفاء القول فيها موضع آخر.
فصل في التفضيل
اعلم أن الأفضل في
الشرع ، هو الأكثر ثوابا ، ولذلك قال مشايخنا : إن طريق معرفته الشرع ، لأنه لا
مجال للعقل في مقادير الثواب والعقاب.
إذا ثبت هذا ،
فاعلم أن المتقدمين من المعتزلة ذهبوا إلى أن أفضل الناس بعد رسول الله صلىاللهعليهوسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي عليهالسلام ، إلا واصل بن عطاء فإنه يفضل أمير المؤمنين على عثمان
فلذلك سموه شيعيا.
وأما أبو علي وأبو
هاشم فقد توقفا في ذلك ، وقالا : ما من خصلة ومنقبة ذكرت في أحد هؤلاء الأربعة إلا
ومثله مذكور لصاحبه.
وأما شيخنا أبو
عبد الله البصري فقد قال : إن أفضل الناس بعد رسول الله صلىاللهعليهوسلم علي بن أبي طالب ثم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ، ولهذا كان
يلقب بالمفضل ، وله كتاب في التفضيل طويل.
وقد كان قاضي
القضاة يتوقف في الأفضل من هؤلاء الأربعة كالشيخين ، إلى أن شرح هذا الكتاب فقطع
على أن أفضل الصحابة أمير المؤمنين عليّ عليهالسلام.
فأما عندنا : إن
أفضل الصحابة أمير المؤمنين عليّ ثم الحسن ، ثم الحسين عليهمالسلام.
والذي يدل على ذلك
الآيات والأخبار المروية في علي عليهالسلام ، نحو خبر الطير وخبر المنزلة وغيرهما ، وأيضا فما منقبة
من المناقب كانت متفرقة في الصحابة إلا وقد كانت مجتمعة في أمير المؤمنين من العلم
والورع والشجاعة والسخاء وغير ذلك ، ومما يدل على ذلك إجماع أهل البيت ، وهذا كما
يدل على أنه أفضل الصحابة ، فإنه يدل على أن الحسن كان أفضل الصحابة بعده ، ثم
الحسين عليهمالسلام. فهذه جملة ما هو له في هذا الموضع.
فصل
الكلام في الأخبار :
في الكلام في
الأخبار ، ووجه اتصاله بما تقدم ، هو أن الإمامة لا تثبت إلا بالأخبار لأنه لا
طريق لها سواها.
وجملة القول في
ذلك ، أن الأخبار لا تخلو ، إما أن يعلم صدقها ، أو يعلم كذبها ، أو لا يعلم صدقها
ولا يعلم كذبها.
والقسم الأول
ينقسم إلى ما يعلم صدقه اضطرارا ، وإلى ما يعلم اكتسابا.
ما يعلم صدقه
اضطرارا فكالأخبار المتواترة ، نحو الخبر عن البلدان والملوك وما يجري هذا المجرى
، ونحو خبر من يخبرنا أن النبي صلىاللهعليهوسلم كان يتدين بالصلوات الخمس وإيتاء الزكاة والحج إلى بيت
الله الحرام وغير ذلك ، فإن ما هذا سبيله يعلم اضطرارا. وأقل العدد الذين يحصل
العلم بخبرهم خمسة ، حتى لا يجوز حصوله بخبر الأربعة. ولا يكفي خبر الخمسة على أي
وجه أخبروا ، بل لا بد من أن يكون خبرهم مما عرفوه اضطرارا ، ولهذا لا يجوز أن
يحصل لنا العلم الضروري بتوحيد الله وعدله بخبر من يخبرنا عن ذلك ، لما لم يعرفوه
اضطرارا.
وما يعلم صدقه
استدلالا فهو كالخبر بتوحيد الله تعالى وعدله ونبوة نبيه عليهالسلام وما يجري هذا المجرى ، وكالخبر عما يتعلق بالديانات إذا
أقر النبي صلىاللهعليهوسلم ولم يزجره عنه ولا أنكر عليه ، فإنا نعلم صدق ما هذا حاله
من الأخبار استدلالا ، وطريقة الاستدلال عليه ، هو أنه لو كان كذبا لأنكره النبي صلىاللهعليهوسلم ، فلما لم ينكره دل على صدقه فيه ، وهذا هو القسم الأول.
وأما القسم الثاني
، فهو ما يعلم كذبه من الأخبار ، وذلك ينقسم إلى : ما يعلم كذبه اضطرارا ، وإلى ما
يعلم اكتسابا.
ما يعلم كذبه
اضطرارا ، فكخبر من أخبرنا أن السماء تحتنا والأرض فوقنا وما جرى هذا المجرى.
وما يعلم كذبه
استدلالا ، فكأخبار المجبرة والمشبهة عن مذاهبهم الفاسدة المتضمنة للجبر والتشبيه
والتجسيم إلى غير ذلك من الضلالات.
وأما ما لا يعلم
كونه صدقا ولا كذبا ، فهو كأخبار الآحاد. وما هذه سبيله يجوز العمل به إذا ورد
بشرائطه فأما قبوله فيما طريقه الاعتقادات فلا ، وفي هذه الجملة أيضا خلاف ، فإن
في الناس من يجوز ورود التعبد بخبر الواحد ، وفيهم من ينكر ثبوت التعبد به.
أما الذي يدل على
جواز ورود التعبد بخبر الواحد ، فهو أنه لا مانع يمنع أن يتعلق الصلاح بأن يتعبدنا
الله تعالى به ، وأكثر ما فيه أنه تعبد على طريقة الظن وذلك ثابت جائز : بل لو قيل
: بأن أكثر العبادات الشرعية تنبني على الظن كان ممكنا. وبعد ، فمعلوم أن القاضي
قد تعبد بالحكم عند شهادة الشاهدين ، وإن لم يقتض ذلك العلم وإنما يقتضي غالب
الظن.
وأما الذي يدل على
ثبوت التعبد به : الإجماع ، وهاهنا أصل آخر ، وهو أن ما هذا سبيله من الأخبار فإنه
يجب أن ينظر فيه ، فإن كان مما طريقه العمل عمل به إذا أورد بشرائطه ، وإن كان مما
طريقه الاعتقادات ينظر ، فإن كان موافقا لحجج العقول قبل واعتقد موجبه ، لا لمكانه
بل للحجة العقلية وإن لم يكن موافقا لها ، فإن الواجب أن يرد ويحكم بأن النبي لم
يقله ، وإن قاله فإنما قاله على طريق الحكاية عن غيره ، هذا إذا لم يحتمل التأويل
إلا بتعسف ، فأما إذا احتمله فالواجب أن يتأول ، وفصيل هذه الجملة موضعه أصول
الفقه.
فصل
في القضاء والقدر :
وجملة القول في
ذلك أن القضاء قد يذكر ويراد به الفراغ عن الشيء وإتمامه. قال الله تعالى : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي
يَوْمَيْنِ) [فصلت : ١٢] وقال
: (فَلَمَّا قَضى مُوسَى
الْأَجَلَ) [القصص : ٢٩] الآية
، وقال أبو ذؤيب :
وعليهما
مسرودتان قضاهما
|
|
داود أو صنع
التوابع تبع
|
وقد يذكر ويراد به
الإيجاب. قال الله تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ
أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) [الإسراء : ٢٣]
وقد يذكر ويراد به الإعلام والإخبار كقوله : (وَقَضَيْنا إِلى
بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ
وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (٤)) [الإسراء : ٤]
واستعماله في هذه الوجوه لا يمنع من أن يكون حقيقة في بعضها متعارفا بها في الباقي
، كالإثبات فإنه حقيقة في الإيجاب ثم قد يذكر بمعنى الخبر عن وجود الشيء ، وقد
يذكر بمعنى العلم.
وأما القدر فقد
يذكر ويراد به البيان ، قال الله تعالى : (إِلَّا امْرَأَتَهُ
قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ) [النمل : ٥٧] وقال
الشاعر.
واعلم بأن ذا
الجلال قد قدر
|
|
في الصحف الأولى
التي كان سطر
|
أمرك هذا فاجتنب منه التبر
وإذا قد عرفت ذلك
، وسألك سائل عن أفعال العباد أهي بقضاء الله تعالى وقدره أم لا؟ كان الواجب في
الجواب عنه أن تقول ، إن أردت بالقضاء والقدر الخلق فمعاذ الله من ذلك ، وكيف تكون
أفعال العباد مخلوقة لله تعالى وهي موقوفة على قصورهم
ودواعيهم ، إن
شاءوا فعلوها وإن كرهوا تركوها؟ فلو جاز والحال هذه أن لا تكون أفعال العباد من
جهتهم لجاز في أفعال الله تعالى ذلك ، فإن بهذه الطريقة يعرف أن الفعل فعل لفاعله.
وبعد ، فلو كانت
مخلوقة لله تعالى لما استحق العباد عليها المدح والذم والثواب والعقاب.
وأيضا ، فلو كانت
أفعال العباد كلها بقضاء الله تعالى وقدره للزم الرضا بها أجمع وفيها الكفر
والإلحاد ، والرضى بالكفر كفر.
فإن قيل : إنا
نرضى بالكفر من حيث خلقه الله تعالى ولا نرضى به من حيث أنه قبيح فاسد مناقض.
قلنا : دعنا من
هذه الترهات ، أو ليس أن الكفر على سائر أوصافه وجهاته وقع بالله تعالى وبقضائه
وقدره فكيف رضيتم به من وجه دون وجه؟
فإن قيل : الرضا
بقضاء الله تعالى واجب ، وإنما يجب على الجملة لا على التفصيل فلا يلزم ، قلنا إذا
كان لا فعل من أفعال العباد حقا كان أو باطلا إيمانا كان أو كفرا إلا وهو بقضاء
الله وقدره ، فقولكم : نرضى بجملته نرضى بتفصيله مناقضة كمناقضة الملحدة ، الذين
يقولون إن لكل واحدة من حركات الفلك أولا وليس لجملتها أول ، فكما أن ذلك خلف كذلك
هنا ، هذا إذا أريد بالقضاء والقدر والخلق.
فإذا أريد به
الإيجاب وقيل هل تقولون بأن أفعال العباد بقضاء الله تعالى وقدره ، كان كالجواب أن
في الأفعال ما لا يجب بل لا يحسن ، فكيف أوجبه الله تعالى وقضاه وقدره؟
وإذا أريد به
الإعلام والإخبار ، فإن ذلك يصح على بعض الوجوه ، غير أنه لا يجوز له إطلاق هذه
العبارة لما قد بينا أن العبارة متى كانت مستعملة في معنيين أحدهما صحيح والآخر
فاسد فإنه لا يجوز إطلاقه إلا لمن ثبتت حكمته وصح عدله ، فأما الواحد منا ولو لم
يثبت ذلك فيه فلا. فهذه جملة الكلام في هذا الفصل.
فصل
وقد اتصل بهذه
الجملة الكلام في من القدرية من الأمة :
اعلم أن القدرية
عندنا إنما هم المجبرة والمشبهة ، وعندهم المعتزلة ، فنحن
نرميهم بهذا اللقب
، وهم يرموننا به. وقد حكي عن بعضهم أنه قال : إن المعتزلة كانت تلقبنا بالقدرية ،
فقلبناها عليهم ، وقد أعاننا السلطان على ذلك.
والذي يدل على
أنهم هم القدرية ، ما ذكره قاضي القضاة في مجلس بعضهم وقد سئل عن هذه المسألة ،
وتحريره أن الاسم اسم ذم ، فيجب أن يجري على من له مذهب مذموم في القدر ، وليس ذلك
إلا مذهب المجبرة.
ومما يدل على ذلك
أيضا ، قول النبي صلىاللهعليهوسلم : القدرية مجوس هذه الأمة فشبه القدرية بالمجوس على وجه لا
يشاركهم فيه غيرهم ، فبناء ننظر أي المذاهب يشبه المجوس على هذا الحد ، فليس ذلك
إلا مذهب هؤلاء المجبرة فإنه يضاهي مذهب المجوس من وجوه :
شبه المجبرة مع المجوس :
أحدها : هو أن المجوس يقولون في نكاح البنات والأمهات : بقضاء
الله وقدره ، ولا يشاركهم في القول بذلك إلا هؤلاء المجبرة ، إذ لا أحد سواهم يقول
فيما يجري هذا المجرى أنه بقضاء الله تعالى وقدره.
وأحدها : هو أن المجوس يقولون إن مزاج العالم وهو شيء واحد حسن من
النور قبيح من الظلمة ، ولا يشاركهم في القول بذلك إلا المجبرة لأنهم هم الذين
يقولون إن الكفر وهو شيء واحد يحسن من الله تعالى ويقبح من الواحد منا ، يحسن من
حيث خلقه الله تعالى ويقبح من حيث كسبه.
وأحدها : هو أن المجوس يجوزون الأمر بما ليس في الوسع ولا في
الطاقة ، والنهي عما لا يمكنه الانفكاك منه ، يقال : إنهم يصعدون ببقرة إلى شاهق ،
ويشدون قوائمها ثم يدهدونها ، ويقولون : انزلي ولا تنزلي ، مع أن البقرة لا يمكنها
الانفكاك من النزول ولا الإتيان بخلافه ، وهذه حال القوم ، لأنهم يقولون إن الله
تعالى كلف الكافر الإيمان مع أنه لا يمكنه فعله ولا الإتيان به ، ونهاه عن الكفر
مع أنه لا يتصور الانفكاك منه.
وأحدها : هو أن المجوس قالوا : إن القادر على الخير لا يقدر على
خلافه بل يكون مطبوعا عليه ، وكذلك القادر على الإيمان لا يقدر على الكفر بل يكون
محمولا عليه ، والقادر على الكفر لا يقدر على الإيمان بل يكون مطبوعا عليه لا
يمكنه مفارقته
ولا الانفكاك منه.
ومما يدل على أن
القوم هم القدرية وهم مجوس الأمة ، قول الرسول عليهالسلام في آخر الخبر : «وهم
خصماء الرحمن وشهود الزور وجنود إبليس» وهذه الأوصاف لا توجد إلا فيهم ، لأنهم هم الذين يخاصمون الله
تعالى إذا عاقبهم على المعاصي وسألهم عنها ، ويقولون : إنك أنت الذي خلقت فينا
المعصية وأردتها منا فما لك تعذبنا وتعاقبنا. وكذلك فإنهم هم الذين يشهدون الزور
لإبليس وغيره من الشياطين إذا سألهم الله عن الإضلال والإغراء والإفساد ، وقال لهم
: أضللتم عبادي وأغويتموهم ، فيجيبون بأنا لم يكن لنا في شيء من ذلك ذنب ، بل كنت
أنت المتولي لجميع ذلك ، فيطالبهم الله تعالى بإقامة الحجة فلا يجدون إلا شهادة
هؤلاء القوم سبيلا. وهم الذي يتعصبون للشياطين في الدارين جميعا ، ألا ترى أنا إذا
أردنا ذمهم ولعنهم يمنعوننا عن ذلك ويقولون ما بالكم تلعنون من لا يتعلق به من
الإخلال أو الإغراء إلا مجرد هذه الإضافة دون المعنى ، وأما في الدار الآخرة فإنه
تعالى إذا رام عقابهم على ذلك ومعاتبتهم عليه ، قالوا : إنك أنت الذي خلقت فيهم
الضلال ، وأقدرتهم على الاضلال ، فما بالك تعذبهم به.
ويدل على ذلك أيضا
، ما روي عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : لعن الله القدرية على لسان سبعين نبيا ، قيل من
القدرية يا رسول الله ، قال : الذين يعصون الله تعالى ويقولون : كان ذلك بقضاء
الله وقدره.
ومما يدل على ذلك
أيضا هو أن القدري اسم نسبة ، والنسبة قد تكون نسبة قرابة كنسبة الرجل إلى أبيه أو
جده أو أحد أقربائه المعروفين كقولهم : هاشميّ وعربيّ وعلوي ، وقد تكون نسبة الرجل
إلى حرفته وصناعته المعروف هو بها ، نحو باقلاني وقلانسي وصيدلاني وما يجري هذا
المجرى ، وقد تكون نسبته إلى بلده الذي يسكنه هو أو كان قد سكنه أبوه أو جده نحو
بغدادي وبصري ورازي وما يجري مجراه ، وقد تكون نسبته إلى لهجة بكلمة وحرصه على
تكريرها وذلك نحو ما نقوله : الخارجي حكمي لولوعه وشدة حرصه على قول : لا حكم إلا
لله. إذا ثبت هذا ، ووجوه النسبة كلها مفقودة في هذا الاسم إلا هذا الوجه الأخير ،
فالواجب أن ينظر أن لهج أي القوم بالقضاء والقدر أكبر ، وحرص أيهم أشد ، ومعلوم أن
القوم هم الذين يولعون بالإكثار من قولهم : لا تسقط ورقة ولا تنبت شجرة ولا تحدث حادثة
إلا بقضاء الله وقدره ، فيجب أن يكونوا هم القدرية.
ومما يدل على أنهم
هم المستحقون لهذا الاسم ، هو أنه اسم إثبات فلا يستحقه إلا المثبت للقدر ، والذي
يثبتون القدر هم المجبرة ، فأما نحن فإنا ننفيه وننزه الله تعالى عن أن تكون
الأفعال بقضائه وقدره ، فيجب أن يكونوا هم الموسومون بهذا الاسم.
وبهذا أبطلنا
قولهم لنا : إنكم المستحقون لهذا الاسم فقد نفيتم القدر وقلتم لا قدر ، فقلنا :
القدري اسم إثبات ، ولا يجري إلا على من أثبت القدر على الوجه المذموم دون من نفاه
تنزيها لربه عن الأفعال القبيحة.
قالوا : أنتم بهذا
الاسم أحق منا فقد أثبتم القدر لأنفسكم ، قلنا : إن القدر بمعزل عن القدرة ، فما
هذه الجهالة؟ وعلى أنه لا يخلو حالنا وقد أثبتنا القدر لأنفسنا من أحد أمرين : إما
أن نكون صادقين ، أو كاذبين. فإن صدقنا لم نستحق به اسم ذم وصار سبيلنا سبيل من
أثبت القدرة لله تعالى ، وحكم بكونه تعالى قادرا ، فكما أنه لا يستحق بذلك أن يسمى
قدريا ويجري عليه اسم من أسماء الذم ، كذلك إذا أثبتنا القدرة لأنفسنا وإن كذبنا
لم يجز إجراء هذا الاسم علينا ، وصار الحال فيه كالحال فيمن أثبت الصناعة لنفسه
ولا علم له بها البتة ، فكما أنه لا يستحق بذلك أن يسمى صانعا ، كذلك في مسألتنا.
قالوا : فهلا
رضيتم منا بمثل هذا الكلام؟ قلنا : ولا سواء ، لأنا إنما سميناكم القدرية لقوله صلىاللهعليهوسلم : «القدرية مجوس هذه
الأمة» ولأن الاسم اسم نسبة
ووجوه النسبة كلها مفقودة سوى اللهج بذكر القضاء والقدر ، والذين يلهجون بذلك ليس
إلا أنتم ، فاستحققتم هذا الاسم لا محالة.
قالوا : أنتم
القدرية من الأمة ، فمذهبكم الذي يضاهي مذهب المجوس حيث أثبتم فاعلين صانعين ، كما
أنهم أثبتوا فاعلين أحدهما النور والآخر الظلمة.
قلنا : إن مذهبنا
هذا لا يضاهي مذهب المجوس ، فلسنا نثبت صانعين على الحد الذي أثبتوه ، لأن القوم
جعلوا النور فاعلا للخير بطبعه على حد لا يمكنه مفارقته ، والظلمة فاعلة للشر
بطبعها على حد لا يصح منها الانفكاك على حد لا يمكنه مفارقته ، والظلمة فاعلة للشر
بطبعها على حد لا يصح منها الانفكاك منه ، فليس هذا حالنا : فإنا إنما أثبتنا
فاعلين يفعلان ما يفعلانه على طريقة الاختيار والإيثار. وعلى أن مذهبنا إن كان
يشبه مذهب المجوس من هذا الوجه فهو مشبه لمذهب اليهود والنصارى ، فالكل يوافقوننا
على أن هذه الأفعال تتعلق بنا ونحن الموجودون لها ، وقد شبه النبي صلىاللهعليهوسلم القدرية بالمجوس على حد لا يشارك مذهبهم مذهب غيرهم ، وذلك
ثابت في المجبرة
الذين جعلوا
القديم مجبولا على فعل الخير بحيث لا يقدر على قبيح حتى أنه لا يصح أن ينفرد الله
تعالى بالظلم ، والشيطان مجبول على الشر بحيث لا يمكنه مفارقته والانفكاك عنه.
ولجعفر بن حرب
كلام في هؤلاء المجبرة هذا موضعه ، فقد ذكر أن حالهم أسوأ من حال سائر أرباب الملل
، وذلك ظاهر ، فإن كل فرقة من الفرق لا يضيفون إلى معبودهم إلا ما اعتقدوا فيه
الحسن سواهم.
ألا ترى أن
الملحدة لما اعتقدت قبح هذه الصور قالوا : لو كان هاهنا صانع حكيم لما جاز أن يخلق
مثل هذه الصور القبيحة لأنه يقدح في حكمته ، فنفوا الصانع كيلا يلزمهم إضافة
القبيح إليه.
وكذلك فإن اليهود
لما اعتقدوا حسن القول بنبوة موسى عليهالسلام والعمل بما في التوراة ، وقبح الصيد في السبت ، وتحريم
المكاسب فيه ، أضافوا إليه الأول ونفوا عنه الثاني.
وكذلك ، فإن النصارى
لما اعتقدوا حسن القول بالتثليث وقبح ما عداه أضافوا الأول إليه ونزهوه عن الثاني.
وهؤلاء المجبرة مع
علمهم بقبح هذه المقبحات أضافوها إلى الله تعالى من غير حشمة ولا مراقبة ، حتى أنك
تراهم يفتخرون بذلك ، ولا يأنفون منه فقد صار حالهم أسوأ من حال سائر الكفرة.
ومما يوضح لك سوء
حالهم في الإسلام ، أنهم بإضافتهم الأفعال كلها حسنها وقبيحها إلى الله تعالى ،
سدوا على أنفسهم طريق معرفته أصلا ، فإن الطريق إلى إثبات المحدث في الغائب هو
إثبات المحدث في الشاهد على ما مضى في غير موضع.
وكذلك ، فبنسبتهم
القبائح إليه أخرجوا أنفسهم من صحة العلم بنبوة الأنبياء فإن صحة العلم بذلك يترتب
على عدل الله وحكمته ، وأنه لا يختار القبح ولا يفعله ولا يصدق الكذابين ولا يظهر
عليهم الأعلام المعجزة ، فصار حالهم لهذه الوجوه شرا من حال سائر المبطلين من
الملحدة والمجسمة وغيرهم.
أفعال العباد لا توصف أنها من الله :
وقريب من هذه
الجملة الكلام في أن أفعال العباد لا يجوز أن توصف بأنها من
الله تعالى ومن
عنده ومن قبله ، وذلك واضح ، فإن أفعالهم حدثت من جهتهم وحصلت بدواعيهم وقصودهم ،
واستحقوا عليها المدح والذم والثواب والعقاب ، فلو كانت من جهته تعالى أو من عنده
أو من قبله لما جاز ذلك ، فإذن لا يجوز إضافتها إلى الله تعالى إلا على ضرب من
التوسع والمجاز ، وذلك بأن تقيد بالطاعات فيقال إنها من جهة الله تعالى ومن قبله ،
على معنى أنه أعاننا على ذلك ، ولطف لنا ، ووفقنا ، وعصمنا عن خلافه.
فصل
حقيقة الألفاظ : ـ المعونة ـ اللطف ـ المصلحة ـ التوفيق ـ العصمة.
واتصل بهذه الجملة
، الكلام في حقيقة هذه الألفاظ التي هي المعونة واللطف والمصلحة والتوفيق والعصمة.
اعلم أن المعونة
هي تمكين الغير من الفعل مع الإرادة له ، ولا بد من اعتبار الإرادة ، فإن من دفع
إلى غيره سكينا ليذبح بها بقرة أو شاة وأراد منه ذلك ، يقال إنه أعانه على ذبح
البقرة والشاة لما أراد منه ذلك ، وهذا يقوي كلامنا المتقدم ، فإنا قد ذكرنا أنه
لا يجوز إطلاق القول بأن أفعالنا كلها من جهة الله تعالى على معنى أنه أعاننا
عليها ، لأنه لا يصح أن يقال إنه أعاننا على المعاصي لأنه لم يردها ، وإنما يتصور
ذلك في الطاعات ، فلا جرم أجزنا استعمال هذه الألفاظ إذا أريد بها ذلك المعنى.
وأما اللطف
والمصلحة فواحد ، ومعناها ما يختار المرء عنده واجبا أو يجتنب عنده قبيحا على وجه
لولاه لما اختار ولما اجتنب ، أو يكون أقرب إلى أداء الواجب واجتناب القبيح. ثم إن
ما هذا حاله ينقسم إلى ما يكون من فعلنا فيلازمنا فعله سواء كان عقليا أو شرعيا
لأنه يجري مجرى دفع الضرر ، وإلى ما يكون من فعل القديم جل وعز ولا بد من أن يفعله
الله تعالى ليكون مزيحا لعلة المكلف ولكي لا ينتقض غرضه بمقدمات التكليف.
والمفسدة في نقيضة
، فإن معناها هو ما يختار المرء عنده قبيحا أو يجتنب واجبا أو يكون أقرب إلى ذلك ،
وما هذا حاله فلا شك في أنه يجب على الله تعالى الامتناع منه ، وفي هل يجب المنع
منه ينظر ، فإن كان من جهة غير المكلف وجب على الله تعالى المنع منه بلا خلاف بين
شيخينا أبي علي وأبي هاشم ، وإن كان من جهة المكلف اختلفا فيه ، فعند أبي علي أنه
يجب المنع منه كما لو كان من جهة غير
المكلف ، وعند أبي
هاشم لا يجب ، وكان الحال فيه كالحال في غيره من القبائح في أنه ليس يجب على الله
تعالى المنع منها ، وهو الصحيح من المذهب.
وأما التوفيق ،
فهو اللطف الذي يوافق الملطوف فيه في الوقوع ، ومنه سمي توفيقا. وهذا الاسم قد يقع
على من ظاهره السداد ، وليس يجب أن يكون مأمون الغيب حتى يجري عليه ذلك.
وأما العصمة ، فهي
في الأصل المنع ، ولهذا قال الله تعالى : (لا عاصِمَ الْيَوْمَ
مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ) ، أي لا مانع ، ومنه قيل للذي يشد به رأس الدابة : عصام ،
وقد صار بالعرف عبارة عن لطف يقع معه الملطوف فيه لا محالة ، حتى يكون المرء معه
كالمدفوع إلى أن لا يرتكب الكبائر ، ولهذا لا يطلق إلا على الأنبياء أو من يجري
مجراهم.
فصل في الآجال
الآجال :
ووجه اتصاله بما
تقدم ، هو أنه ربما يسأل عن الآجال هل هي بقضاء الله وقدره.
وقبل الدخول في
المسألة نبين حقيقة الأجل.
الأجل :
اعلم أن الأجل
إنما هو الوقت ، وأما في العرف فإنما يستعمل في أوقات مخصوصة ، نحو أجل الحياة
وأجل الموت وأجل الدين ، ولا يكادون يستعملونه في غير ذلك. وذلك مما لا مانع منه ،
فإن الدابة كان في الأصل عبارة عن كل ما يدب على وجه الأرض ، والآن فقد خص ببعض ما
يدب دون بعض ، وكذلك الملك كان مستعملا في كل رسول ، والآن فقد خص به بعض الرسل ،
وهكذا الجن والقارورة.
وإذ قد فسرنا
الأجل بالوقت فإنا نفسر الوقت أيضا.
الوقت :
اعلم أن الوقت هو
كل حادث يعرف به المخاطب حدوث الغير عنده أو ما يجري مجرى الحادث ، وإنما أوجبنا
في الوقت أن يكون حادثا ، لأنه لو كان باقيا لم يصح التوقيت به ، ألا ترى أنه لا
يصح أن يقال أجيئك إذا السماء أو الأرض لما كانا
باقيين ، ثم لا
يجب أن يكون حادثا على كل حال بل إذا جرى مجراه كفى ، ولهذا لا فرق بين قولهم
أجيئك إذا طلعت الشمس أو صحت السماء ، وبين قولهم آتيك إذا أمسك المطر ، وبهذه
الطريقة التي ذكرناها أبطلنا قول ابن زكريا المتطبب في الوقت : إن الشيء لا يتقدم
على غيره إلا بوقت ومدة ، وقلنا له : إذا كان لا يجوز التوقيت بالباقي حتى لا يسمع
قول القائل أجيئك إذا السماء ، فكيف يصح أن يوقت بالقديم وهل هذا إلا الجهل المحض.
ويقال له : ـ وإن كان الكلام عليه هاهنا كالعارض ـ لا يخلو الوقت عندك من أن يكون
شيئا واحدا أو أشياء ، وإذا كان أشياء لا يتقدم البعض منها على البعض كانت الحوادث
كلها واقعة في وقت واحد ، وأما ما يجري مجرى الوقت الواحد ، فلا يثبت فيها التقدم
والتأخر ، وإن كان أشياء يتقدم بعضها على البعض ، كان يجب أن لا يتقدم بعضها بعضا
إلا بوقت ، والكلام في ذلك الوقت كالكلام فيه فيتسلسل بما لا نهاية له ، وذلك
محال.
واعلم أن الموقت
كالوقت في أنه ينبغي أن يكون حادثا أو ما يجري مجرى الحادث ، ولهذا يصح أن يجعل
الوقت وقتا مرة ومؤقتا أخرى. بيان ذلك ، أن الإنسان ربما يقول : دخول زيد الدار
حين طلوع الشمس ، وربما يقول : طلوع الشمس حين دخول زيد الدار ، فيوقت الأول
بالثاني مرة ويوقت الثاني بالأول أخرى ، فيكون طلوع الشمس في إحدى الحالتين وقتا
وفي الأخرى مؤقتا ، وذلك مما لا مانع يمنع منه.
الميت والمقتول ماتا بأجلهما :
وإذ قد عرفت هذه
الجملة من حقيقة الأجل والوقت ، فاعلم أن من مات حتف أنفه مات بأجله ، وكذا من قتل
فقد مات بأجله أيضا ، ولا خلاف في هذا.
والدليل عليه ، أن
الأجل ليس المراد به هاهنا إلا وقت الموت ، وهما قد ماتا جميعا في وقت موتهما.
وإنما الخلاف في المقتول لو لم يقتل كيف كان يكون حاله في الحياة والموت؟ فعند
شيخنا أبي الهذيل أنه كان يموت قطعا لولاه وإلا يكون القاتل قاطعا لأجله وذلك غير
ممكن ، وعند البغدادية أنه كان يعيش قطعا ، والذي عند ما أنه كان يجوز أن يحيا
ويجوز أن يموت ، ولا يقطع على واحد من الأمرين فليس إلا التجويز.
وأما ما قاله أبو
الهذيل فليس يصح ، لأن ذلك الأجل الذي لو لم يقتل فيه لبقي إليه أجل مقدر غير محقق
، فكيف يلزم أن يكون قاطعا لأجله والحال ما ذكرناه؟ ولو
جاز أن يقال إنه
قد أفنى ولده ، بأن يكون المعلوم من حاله أنه لو لم يقتل ، لرزق ولدا ، وأنه يكون
قد اغتصب ماله بأن يكون المعلوم من حاله أنه كان يرزق مالا لو لم يمت ، ومعلوم
خلافه.
وبعد ، فكان يجب
في الواحد منا إذا دخل حظيرة غيره وأتى على أغنامه أن يكون منعما عليه بذبحها أجمع
، لأنه قد جعلها مذكاة بعد أن كانت بفرض الموت ، والمعلوم خلافه.
وأما البغداديون
فقد قالوا : إنه يعيش قطعا ، لأنه لو لم يعش لكان لا يكون القاتل ظالما له ، وفي
علمنا لخلافه دليل على أنه كان يعيش لا محالة ، وربما يقولون : إنا نعلم من حيث
العادة أن الجماعة الكبيرة لا تموت دفعة واحدة ، وإن كنا نجوز أن يقتلوا دفعة
واحدة ، فكيف يصح ما ذكرتموه؟ والجواب :
أما الأول فدعوى
منكم فمن أين؟ فلا يجدون إلى تصحيحه سبيلا ، يقال لهم : كيف لا يكون ظالما له وقد
أوصل إليه ضررا لا نفع فيه ولا دفع ضرر ولا استحقاق ولا الظن لأحد الوجهين
المتقدمين؟ وهذه صورة الظلم. وبعد ، فإنه فوت عليه الأعواض التي كان يستحقها
بالإمامة من جهة الله تعالى ، فهلا صار له ظالما ، وعلى أنا نجوز أن يعيش بعد ذلك
مدة فينتفع بحياته ، فهلا جعلوه ظالما والحال ما نقوله.
وأما الثاني فهو
بيّن ، لأن الجماعة كما يقتلون دفعة واحدة فقد يموتون دفعة واحدة أيضا ، والعادة
قد جرت بذلك فكيف ينكرها من يعرف أحوال البلدان وعرف طواعين الشام ووباء المواضع
الوبيئة نعوذ بالله منها.
وإذ قد تحقق لك هذه
الجملة ، وقال لك قائل : هل الآجال بقضاء الله وقدره؟ فمن الواجب عليك أن تفصل
عليه الكلام فتقول : إن أردت بالقضاء الخلق فنعم ، لأن الأجل بما قد تقدم عبارة عن
حركات الفلك وهي من فضل الله تعالى ، وإن أردت به الإيجاب فلا ، وإن أردت به
الإعلام فمن المجوز أن يرى الله تعالى الصلاح في أن يعلم بعض الملائكة حالنا في
الحياة والموت وأنا نعيش إلى مدة ونموت بعدها ، فعلى هذه الجملة يجري الكلام في
هذا الفصل.
فصل
الكلام في الأرزاق :
وقد عطف على ما
تقدم الكلام في الأرزاق ، ووجه اتصاله به هو أن يجري في كلام الناس ، أن الآجال
والأرزاق والأسعار كلها بقضاء الله تعالى وقدره ، فأراد أن يتكلم عليه.
وقبل الشروع في
المسألة نذكر حقيقة الرزق.
اعلم أن الرزق هو
ما ينتفع به وليس للغير المنع منه ، ولذلك لم يفترق الحال بين أن يكون المرزوق
بهيمة أو آدميا.
وهو ينقسم إلى ما
يكون رزقا على الإطلاق وذلك نحو الكلاء والماء وما يجري مجراهما ، وإلى ما يكون
رزقا على التعيين وذلك نحو الأشياء المملوكة.
ثم إن سبب الملك
ربما يكون الحيازة ، وربما يكون الإرث ، وربما يكون المبايعة وربما يكون الهبة ،
هذا في الآدميين.
وأما في البهائم
فإنه ينقسم أيضا إلى ما يكون رزقا على الإطلاق وذلك نحو الكلأ والماء وغير ذلك ،
وإلى ما يكون رزقا على التعيين وذلك ما حواه فمه وحازه بهذه الطريقة.
فإن قيل : إنكم
فسرتم الرزق بما ينتفع به ، فما معنى الانتفاع؟ قلنا : الالتذاذ.
فإن قيل : ما
حقيقة الالتذاذ؟ قلنا : إدراك الشيء مع الشهوة.
ثم إن ما يدرك مع
الشهوة ينقسم إلى ما يكون حادثا وإلى ما يكون باقيا ، ما يكون حادثا ، فهو المعنى
الحاصل عند حك الجرب وما يجري هذا المجري ، وهو الذي يسمى لذة مرة وألما أخرى ،
يسمى لذة إذا أدرك مع الشهوة وألما إذا أدرك مع النفار. أما ما يكون باقيا فهو
كالطعوم والأراييح ، فإن الالتذاذ إنما يقع بإدراكها مع الشهوة ولا يحدث هناك معنى
يلتذ به. هذا هو الذي ذهب إليه أبو هاشم.
وقد خالفه فيه أبو
علي وقال : بل يحدث عند إدراك هذه الباقيات معاني يقع بها الالتذاذ ، والصحيح ما
اختاره أبو هاشم.
والذي يدل على
صحته ، هو أنه لو كان على ما ذكره أبو علي ، لكان يجوز
اختلاف الحال فيه
، فكان يجب أن يتناول في بعض الحالات بعض الأطعمة الشهية ثم لا يقع بها الالتذاذ
بأن يحدث ذلك المعنى ، وقد عرف خلافه ، فليس إلا القضاء بأن الالتذاذ إنما يقع
بإدراك هذه الباقيات نفسها لا غير.
وإذ قد عرفت هذه
الجملة فاعلم أن الأرزاق كلها كأنها من جهة الله تعالى ، فهو الذي خلقها وجعلها
بحيث يمكن الانتفاع بها ، فهو الرزاق حقيقة وإذا وصف به الواحد منا فيقال : رزق
الأمير جنده والسلطان رعيته ، كان على نوع من التوسع والمجاز.
غير أنه ينقسم إلى
ما يحصل من جهة الله تعالى ابتداء ، وإلى ما يحصل بالطلب.
فالأول ، نحو ما
يصل إلينا من المنافع بطريقة الإرث ونحوه مما وصل بغير علاج. والثاني فكما يحصل
بالتجارات والزراعات وغير ذلك.
ثم إن الطلب ينقسم
إلى ما يلحقه بتركه ضرر وإلى ما لا يلحقه بتركه ضرر ، فإنه يجب عليه الاشتغال به
دفعا للضرر عن نفسه ، وما لا يلحقه بتركه ضرر فإنه وإن اشتغل به جاز وحسن وإن لم
يشتغل به جاز أيضا وحسن.
واعلم أن جماعة من
المتآكلة الذين سموا أنفسهم المتوكلة ، خالفوا في هذه الجملة ، وذهبوا إلى أن
الطلب قبيح. واحتجوا لذلك بوجهين : أحدهما : هو أن الطلب يضاد التوكل وينافيه
ويمنع منه فيجب القضاء بقبحه ، والثاني : هو أن الطالب لا يأمن فيما يجمعه ويتعب
فيه نفسه أن تغصبه الظلمة فيكون في الحكم كأنه أعانهم على الظلم وذلك قبيح ، وهذا
الذي ذكروه بخلاف ما في العقول.
التوكل طلب القوت من وجهه :
أما قولهم إن
الطلب ينافي التوكل ويضاده فمحال ، بل التوكل هو طلب القوت من وجهه ، وعلى هذا قال
رسول الله صلىاللهعليهوسلم : لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو
خماصا وتروح بطانا ، جعل التوكل هو أن تغدوا وتروح في طلب المعيشة من حله.
وأما قولهم : إن
ذلك في الحكم كأنه أعان الظلمة على ظلمهم فيجب قبحه فمما تدفعه العقول ، وقد تقرر
في عقل كل عاقل حسن التجارات والفلاحات طلبا للأرباح ، يؤكد ذلك ويوضحه أن التاجر
إنما يتجر ليربح على درهم درهما أو أقل من ذلك أو أكثر ، لا ليغصبه السلطان ،
وكذلك الزراع فإنه إنما يزرع ليرزقه الله تعالى بدل حبة
أضعافها لا
ليحوزها الجورة والظلمة ، فكيف يصح والحال ما قلناه أن يقال : إن التجارة والفلاحة
وغيرهما من أنواع الطلب إعانة الظلمة على ظلمهم ، على أنا قد ذكرنا في غير موضع أن
الإعانة لا تثبت إلا مع الإرادة ، وبينا في مثاله أن من رفع سكينا إلى غيره ليذبح
بها شاة فذبح به مسلما لم يقل إنه أعانه على قتل المسلم وذبحه ، وإن كان هو الذي
رفع إليه السكين لهذا الغرض وإنما دفعه إليه لوجه آخر ، ففسد هذا الكلام من كل
وجه.
فهذا هو الرزق وما
يتعلق به من الأقسام حسب ما يحتمله هذا المكان.
وقد خالفنا في ذلك
بعضهم وقالوا : إن الرزق هو ما يتغذى به ويؤكل ، وذلك مما لا وجه له ، فإن الأولاد
والأملاك أرزاق من جهة الله تعالى ، ثم لا يقع به الاغتذاء.
وبعد ، فإن الحرام
مما يقع به الاغتذاء ، ثم لا يجوز أن يكون رزقا.
فإن قيل : من أين
أن الحرام لا يجوز أن يكون رزقا؟ قلنا : لأن الله تعالى منعنا من إنفاقه واكتسابه
، فلو كان رزقا لم يجز ذلك.
وبعد ، فإن الله
تعالى قال : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما
أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً) وأيضا ، فإنه تعالى مدحنا بإنفاق ما رزقناه ، حيث قال : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) ومعلوم أنه لا يجوز أن يمدح على الإنفاق من الحرام ، فصح
لنا ما ذكرناه ، فهذه طريقة القول فيه.
فصل في الأسعار
وقد ذكرنا وجه
اتصاله بما تقدم.
الأسعار :
والذي نذكره هاهنا
هو أن السعر شيء والثمن شيء آخر غيره ، فالسعر هو ما تقع عليه المبايعة بين الناس
، والثمن هو الشيء الذي يستحق في مقابله المبيع ، ثم إن السعر يوصف بالغلاء مرة
وبالرخص أخرى ، فالرخص هو بيع الشيء بأقل مما اعتيد بيعه في ذلك الوقت وفي ذلك
البلد ، والغلاء بالعكس من ذلك. ولا بد من اعتبار البلد والوقت فتأثيرهما مما لا
يخفى.
ثم إن الغلاء
والرخص ربما يكون من قبل الله تعالى ، وربما يكون من قبل السلطان. ما يكون من قبل
الله تعالى هو أن يقل ذلك الشيء وتكثر حاجة المحتاجين إليه ، أو يكثر ذلك الشيء
وتقل حاجة المحتاجين إليه. وأما ما يكون من قبل السلطان فهو أن يسوم رعيته أن لا
يبيعوا إلا بقدر معلوم.
وإذ قد عرفت ذلك
وسئلت عن الأسعار أهي بقضاء الله وقدره أم لا؟ قلت : نعم ولم تحتج فيه إلى التقييد
الذي مر في نظائره.
فإن قال : إذا
قلتم إن الآجال والأرزاق والأسعار كلها بقضاء الله وقدره فهلا سميتم أنفسكم قدرية
ودخلتم تحت قول النبي عليهالسلام : القدرية مجوس هذه الأمة؟ قلنا : لا لأن ذلك الاسم اسم ذم
فلا يستحق إلا على مذهب مذموم ، ونحن براء من ذلك على ما سبق القول فيه.
فصل في التوبة
وهو آخر فصول
الكتاب.
التوبة :
وإنما أخر هذا
الفصل وختم به الكتاب رغبة في أن تكون عاقبة أمره وخاتمة أعماله التوبة ، وترغيبا
لنا أيضا في ذلك.
وجملة القول في
ذلك أن ، المكلف لا تخلو حاله من أمور ثلاثة : إما أن تكون طاعاته أكثر من معاصيه
، أو معاصيه أكثر من طاعاته ، أو يكونا متساويين.
لا يجوز أن يكونا
متساويين وإن اختلف في علته على ما تقدم.
وإذا كانت طاعاته
أكثر من معاصيه كانت معصيته صغيرة فلا يجب التوبة عنها عقلا وإنما يجب سمعا ،
خلافا لما يقوله أبو علي فإن من مذهبه أن التوبة عن الصغائر تجب عقلا وسمعا ، وقال
أبو هاشم : بأنه لا تجب إلا سمعا ، وهو الصحيح من المذهب. والذي يدل على صحته أن
التوبة إنما تجب لدفع الضرر عن النفس ، ولا ضرر في الصغيرة فلا تجب التوبة عنها.
يبين ذلك ، أنه لا تأثير لها إلا في تقليل الثواب ، ولا ضرر في ذلك.
وإذا كانت معاصيه
أكثر من طاعاته فهو صاحب كبيرة وتلزمه التوبة لكي يسقط
عنه ما يستحقه من
العقوبة.
وصورتها ، أن يندم
على القبيح لقبحه ويعزم على أن لا يعود إلى أمثاله في القبح.
وفي هل التوبة
تسقط العقوبة كلام :
فالذي عليه
البغداديون من أصحابنا أنها لا تأثير لها في إسقاط العقاب وإنما الله يتفضل
بإسقاطه عند التوبة.
وأما عندنا فإنها
هي التي تسقط العقوبة لا غير ، والذي يدل على ذلك هو أن نظير التوبة في الشاهد
الاعتذار ، ومعلوم أن الجاني إذا اعتذر إلى المجنى عليه اعتذارا صحيحا فإنه ليس له
أن يذمه بعد ذلك ، لا لوجه سوى أنه اعتذر إليه ، وهذا يدل على أن الاعتذار هو
المسقط للذم الذي استحقه على الجناية ، وإذا ثبت ذلك في الاعتذار فكذلك في التوبة.
يبين ما ذكرناه
ويوضحه ، أنه إذا تاب لا بد من أن يسقط عنه العقوبة على حد لولاها لما أسقطت ، ولن
يكون كذلك إلا والمسقط لها إنما هي التوبة ، فإن بهذه الطريقة ينكشف تأثير
المؤثرات ، وهو أن يقف الحكم عليه حتى يثبت بثباته ويزول بزواله.
وأحد ما يدل على
ذلك ، هو أنها لو لم تكن مسقطة للعقاب ، لكان يجب أن يحسن من الله تعالى أن لا
يتفضل بل يعاقب عند التوبة ، لأن التفضل إنما يبين عما ليس بتفضل بهذه الطريقة :
وهو أن لفاعله أن يفعل وأن لا يفعل ، والمعلوم خلافه.
فإن قيل : إنه
تعالى يتفضل ولا يعاقب لأن الأصلح أن لا يعاقب ، قلنا إن الأصلح مما لا يجب عندنا
فكان يجب حسن المعاقبة بعد التوبة ، وذلك مما قد عرف خلافه.
وإذا قد تقررت هذه
الجملة ، فاعلم أنه لا فرق في هذه القضية التي ذكرناها بين معصية ومعصية ، إذ
التوبة إذا أسقطت عقاب بعض المعاصي فإنما تسقطها لأنها بذل المجهود في تلافي ما
وقع منه ، وهذا لا يختص ببعض المعاصي دون بعض ، ولا خلاف في ذلك إلا شيء يحكى عن
بعضهم أن التوبة لا تسقط عقاب القتل ، ونسب هذا المذهب إلى ابن عباس ، فقيل إنه
قال : لا توبة لمن قتل نفسا بغير حق ، وذلك
على بعده منه لا
يصح ، لأن التوبة بما ذكرناه من أنها بذل الجهد في تلافي ما فرط منه لا بد من أن
تسقط عقوبة سائر المعاصي ، ولهذا تسقط عقوبة الكفر مع أنه أعظم حالا من القتل ، لا
لوجه سوى ما قلناه.
واعلم أن التوبة
إن كانت توبة عن القبيح فإن صورته أن يندم على القبح لقبحه ويعزم على أن لا يعود
إلى أمثاله في القبح ، وإن كانت توبة عن الإخلال بالواجب فإن صورته أن يندم على
الإخلال به لكونه إخلالا بالواجب ويعزم على أن لا يعود إلى أمثاله في ذلك.
شروط التوبة :
ولا بد من اعتبار
الندم والعزم جميعا حتى تكون التوبة توبة صحيحة ، فإنه إن ندم ولم يعزم أو عزم ولم
يندم لم يكن تائبا توبة نصوحا.
وكما لا بد من
اعتبارهما جميعا فلا بد من أن يكون الندم ندما على القبيح لقبحه ، وكذلك العزم
عزما على أن لا يعود إلى أمثاله في القبح ، إذ لو ندم على القبيح لا لقبحه بل لوجه
آخر ، أو عزم على أن لا يعود إلى أمثاله لا لقبحه ، لم يكن تائبا فحصل لك أن المرء
لا يكون تائبا توبة نصوحا إلا إذا ندم على القبيح لقبحه وعزم على أن لا يعود إلى
مثله في القبح.
اقتران الندم بالعزم :
ولسنا نعني به أن
يندم على القبيح اليوم ويعزم على ترك أمثاله غدا ، بل لا بد من اقتران الأمرين
أحدهما بالآخر ، فلو انفصلا لم تصح توبته ، وهذا كله لأن من حق التائب أن يجعل
نفسه في الحكم كأنه لم يفعل من القبيح ما فعله ، ولن يتأتى ذلك إلا على الطريقة
التي ذكرناها من قبل. فإن قيل : وما الأصل في التوبة من هذين الأمرين : الندم أو
العزم ، أو كل واحد منهما أصل برأسه؟ قيل له : بل الأصل بينهما إنما هو الندم
والعزم شرط.
العزم أصل والندم شرط :
فإن قيل : فمن أين
ذلك ولا تتم التوبة إلا بمجموع الأمرين؟ قلنا : لأن التوبة إنما تجب على ما مضى
فلا بد من أن يكون الأصل فيهما أمرا يتعلق بالماضي ، والذي يتعلق بالماضي من هذين
الأمرين ليس إلا الندم فإن العزم لا يتعلق بالماضي البتة ، إذ
المرجع به إلى
إرادة مخصوصة وحالها ما ذكرناه.
فإن قيل : وما
الندم ومن أي جنس هو قلنا : إنه أمر معقول يجده كل أحد من نفسه.
فإن قيل : كيف
يوجد من النفس مع أن الناس مختلفون فيه وفي جنسه ، وقال بعضهم : هو من قبيل
الاعتقادات وهو الذي قال شيخكم أبو هاشم ، وقال الآخرون : بل هو جنس برأسه وهو
الذي اختاره شيخكم أبو علي.
قيل له : إن الأمر
في اختلاف الناس في الندم على ما ذكرته ، غير أن ذلك لا يمنع من أن يكون معلوما
بالاضطرار موجودا من النفس ، فمعلوم أن العلم قد يوجد من النفس في بعض الحالات ،
مع أن العقلاء اختلفوا في جنسه ، حتى ظن أبو الهذيل أنه جنس برأسه غير الاعتقاد ،
وكذلك فاللون مع أنه مدرك لحاسة العين قد اختلف فيه ، فقال بعضهم : إنه جسم رقيق ،
وظن آخرون أنه صفة الجسم ، وهكذا فالظن يعلم ضرورة ثم إن الناس اختلفوا فيه :
فمنهم من ظنه من قبيل الاعتقاد ، ومنهم من أثبته جنسا برأسه. وعلى الأحوال كلها
فإن اختلاف الناس في الندم مما لا يقدح في كونه معلوما بالاضطرار على الجملة.
فإن قيل : فما
قولكم في الندم أهو جنس برأسه على ما قاله أبو علي أم الصحيح ما قاله أبو هاشم من
أنه من قبيل الاعتقادات؟ قلنا : بل الصحيح ما قاله أبو هاشم ، والذي يدل على صحته
هو أنه لو كان أمرا آخر سوى الاعتقاد لكان لا يمتنع انفصال أحدهما عن الآخر ، فكان
يصح أن يعتقد الواحد منا استضراره بالفعل المتقدم مع التأسف على ذلك ثم لا يكون
نادما ، أو يكون نادما ولا يكون معتقدا هذا الاعتقاد ، فإن هذه الطريقة هي الواجبة
في كل أمرين لا علاقة بينهما في وجه معقول ، ومعلوم خلافه.
فإن قيل : كيف يصح
قولكم إن الشرط في صحة التوبة أن يعزم على أن لا يعود إلى أمثال ما أتى به من
القبيح ، مع أن العزم لا يتعلق بأن لا يعود إلى أمثاله في القبح ، فإنه نفي والعزم
إرادة والإرادة لا تتعلق بالنفي؟ قيل له : إن المراد بذلك أن يعزم على ترك أمثاله
في القبح ، والترك فعل يصح تعلق العزم به.
فإن قيل : هلا كفى
في صحة التوبة أن يندم على القبيح لقبحه ويعزم على أن لا يعود إلى أمثاله في
الصورة لا في القبح؟ قيل له : لأنه لو كان كذلك لكان لا يصح
توبة المحجوب عن
الزنا ، فإن صورة الزنا مما لا تتصور منه ، فكان يجب أن تستحيل التوبة عنه ، وفي
علمنا بصحة توبته عن الزنا وغيره دليل على أن ذلك مما لا يصح ، وعلى أن في
الواجبات ما هو بصورة القبيح ، فكيف يصح هذا الذي ذكرتموه.
واعلم أن من أراد
التوبة فإما أن تتميز له الصغائر من الكبائر أو لا تتميز ، فإن تميز له الصغيرة من
الكبيرة لم يلزمه التوبة عنها إلا سمعا على ما سبق القول فيه ، وهؤلاء الذين تتميز
لهم الصغائر من الكبائر إنما هم الأنبياء دون سواهم ، وإن لم تتميز له الصغيرة من
الكبيرة تلزمه التوبة من كل معصية أتى بها لتجويز أن يكون كبيرا.
واعلم أن من اعتقد
في بعض الكبائر أنها حسنة وتاب عن غيرها فإن توبته عنها تصح ، غير أنها تقع محبطة
في جنب هذا الاعتقاد ، وذلك كتوبة الخارجي عن الزنا وشرب الخمر مع اعتقاده حسن
القتل.
وقريب من هذه
الجملة الكلام في ، هل تصح التوبة عن بعض الكبائر مع الإصرار على البعض أو لا تصح
، والذي عليه شيخنا أبو علي أنه تصح ما لم يصرّ على شيء من ذلك الجنس ، فلو أنه
تاب من شرب الخمر وأصر على الزنا كانت توبته عن الأول توبة نصوحا صحيحة ، فأما إذا
أصر على شيء من ذلك الجنس لم تصح توبته ، وذلك لأنه لو تاب عن شرب هذا القدح من
الخمر مع إصراره على شرب قدح آخر فلا إشكال في أن لا تصح توبته هذه.
وأما شيخنا أبو
هاشم ، فقد ذهب إلى أنه لا تصح التوبة عن بعض القبائح مع الإصرار على البعض وهو
الصحيح من المذهب. والذي يدل على صحته أن التوبة عن القبيح يجب أن تكون ندما عليه
لقبحه وعزما على أن لا يعود إلى أمثاله في القبح على ما تقدم ، وإذا كان هذا هكذا
فليس تصح توبته عن بعض القبائح مع الإصرار على البعض ، إذ لا يصح أن يترك أحدنا
بعض الأفعال لوجه ، ثم لا يترك ما سواه في ذلك الوجه ، ألا ترى أنه لا يصح أن
يتجنب سلوك طريق لأن فيها سبعا ، ثم لا يتجنب سلوك طريقة أخرى فيها سبع ، وكذلك لا
يصح أن لا يتناول طعاما لأن فيه سما ، ثم يتناول طعاما آخر مع أن فيه سما.
فإن قيل : أليس أن
أحدنا يفعل فعلا لوجه ثم لا يجب أن يفعل كل ما ساواه في ذلك الوجه ، فهلا جاز مثله
في الترك؟
قلنا : إن لكل
واحد منهما حكما مقررا في العقل وموضعا يخصه فيجب أن يفرد
كل واحد منهما
بحكمه ويقر في موضعه ، فلا يقاس أحدهما على الآخر.
يبين ذلك ويوضحه ،
أنه قد تقرر في عقل كل عاقل أن من تجنب سلوك طريق لأنها مسبعة لا بد من أن يترك
سلوك كل طريق هذه سبيلها وإلا علم أنه لم يترك هذه الطريق لهذه العلة ، وكذلك من
لم يتناول بعض الأطعمة لأنه مسموم لا بد من أن يترك كل طعام فيه سم ، وإلا آذن
بأنه لم يترك تناول الطعام الأول لهذا الوجه.
وكما أن هذا مقرر
في العقول فكذلك فقد تقرر في عقل كل عاقل أن من تفضل على غيره بدرهم لأنه حسن لم
يجب أن يتفضل عليه بجميع دراهمه لثبات هذا الوجه وهذه الطريقة فيه ، ولا إشكال في
ذلك وإنما الكلام في علته.
فالذي يذكره أبو
هاشم في علة ذلك ، أن الفعل مشقة ، فليس يجب إذا فعل فعلا لوجه أن يفعل كل ما
شاركه في ذلك الوجه للمشقة ، وليس كذلك الترك فلا مشقه فيه ، لذلك افترق الحال في
الفعل والترك ، وذلك مما لا يصح ، فإن المشقة غير حاصلة في حق القديم تعالى ، ثم
إنه ليس يجب إذا تفضل نوعا من التفضل لجنسه ولكونه إحسانا يتفضل بسائر أنواع
التفضل.
فإن قيل : فما
العلة الصحيحة في ذلك إذا ، فقد أفسدتم كلام أبي هاشم؟ قلنا : الحكم معلوم ، فإن
أمكن أن يطلب له علة صحيحة فذاك ، وإلا لم يقدح في صحة الحكم ، ويكون من الأحكام
التي لا يمكن أن تعلل لأنه بأي شيء علل فسد.
وأما أبو علي فقد
احتج لمذهبه بوجوه ، من جملتها : أن الذي نقوله يقتضي أن لا تصح توبة أحدنا عن
القبيح إلا إذا تاب عن الواجب أو الحسن أيضا ، وذلك خلف. قال : وبيان ذلك ، أن من
ارتكب كبيرة وأراد أن يتوب عنها وعنده أن اعتقاد نبوة نبينا مثلا قبيح ، فإنه لا
تصح توبته عن تلك الكبيرة إلا إذا تاب عن هذا الاعتقاد الذي هو واجب ، وذلك فاحش
من الكلام. والجواب أن هذا الالزام إما أن يكون من جهة الداعي ، أو من حيث التكليف
فإن كان من حيث الداعي فملتزم ، والدليل عليه الأمثلة المتقدمة. وإن كان من حيث
التكليف ، فليس يلزم لأنه يصح توبة هذا الذي ذكرته على وجه لا يكو تائبا عن هذا
الاعتقاد ، وذلك بأن يتوب عن القبائح جملة فلا يدخل هذا الاعتقاد تحته ، أو يتوب
عن الكبيرة ولا يتعرض لهذا الاعتقاد أصلا ، أو يتوب عما يعلم قبحه وقطع عليه ولا
يتعرض لما لا يمكنه القطع على قبحه ، وإذا أمكنه أن يتوب على الكبيرة على هذه
الوجوه ، كيف يصح ما ادعاه أبو علي علينا؟
ومما يقوله أبو
علي في هذا الباب أن الذي يذهبون إليه خرق الإجماع ، وذلك فمنه دعوى مجردة ، وكيف
يمكن ادعاء الإجماع على ما يقوله مع أن أمير المؤمنين عليهالسلام يخالف فيه ، والقاسم بن إبراهيم وعلي موسى الرضى وواصل بن
عطاء وجعفر بن مبشر وبشر بن المعتمر ، وهؤلاء كلهم من أجل الصحابة والتابعين
وتابعي التابعين فكيف ينعقد الإجماع بدونهم؟ وعلى أن الأمة لا تجوز إجماعهم على ما
تقرر خلافه في العقل ، وقد تقرر في العقل أنه ليس يصح أن يترك أحدنا بعض القبائح
لقبحه ثم لا يترك البعض مع مساواتها في القبح.
ومن جملة ما يتعلق
به أبو علي ، هو أن ما ذكرتموه من التوبة عن بعض القبائح لا يصح مع الإصرار على
البعض ، فوجب أن لا تصح توبة اليهودي مع إصراره على غصب دانق ، فكان يجب أن يبقى
يهوديا وأن تجري عليه أحكام اليهود ، ومعلوم خلاف ذلك.
وجوابنا ما تعني
بهذا الكلام؟ فإن أردت به أن عقابه لا بد أن يكون عقاب اليهود ولم يسقط من عقوبته
شيء فإن ذلك مجاب إليه ، لأنه لم يأت بما يسقط العقوبة عامة فبقيت عقوبته كما كانت
، وإن أردت به أنه كان يجب أن تجري عليه أحكام اليهود ولما كانت تجري عليه من قبل
، فإن ذلك مما لا يجب.
فإن قيل : كيف لا
تجري عليه أحكام اليهود ومعلوم أنه يستحق من العقوبة ما يستحقه اليهود ، قلنا :
إنه وإن استحق العقوبة على هذا الحد إلا أنه ليس يجب أن تجري عليه أحكام اليهود
فإن أحدهما بمعزل عن الآخر وعلى هذا فإن المنافق يستحق من العقوبة ما يستحقه
اليهودي ثم لا يجب أن تجري عليه أحكام اليهود ، ويؤكد ذلك قوله صلىاللهعليهوسلم : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا
قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله تعالى وهذا يدل على
ما قلناه من أن استحقاقه للعقوبة مما لا تعلق له بإقامة الحدود عليها أو أن لا
تقام ، فهذه جملة ما يتعلق به أبو علي.
واعلم أن التوبة
إذا حصلت بشرائطها كأن تكون ندما على القبيح وعزما على أن لا يعود إلى أمثاله في
القبح ، لا يعتبر فيه الموافاة ، خلاف ما يقوله بشر بن المعتمر وأصحابه ، لأن
التوبة بذلك الجهد في تلافي ما فرط منه حتى يصير به المرء في الحكم كأنه لم يفعل
ما قد فعل ، وما هذا سبيله لا يعتبر في إسقاط العقوبة أن يوافي بها الآخرة. يبين
ذلك ويوضحه ، أن نظير التوبة في الشاهد الاعتذار ، ومعلوم أن المسيء
إذا اعتذر إلى
المساء إليه اعتذارا صحيحا سقط الذم الذي كان يستحقه من دون اعتبار الموافاة ،
فكذلك التوبة.
واعلم أن من لزمته
التوبة لا يخلو حاله من أحد أمرين :
إما أن يكون ذلك
لأمر بينه وبين الله تعالى ، أو لأمر يتعلق بالآدميين ، فإن كان ذلك الشيء بينه
وبين الله تعالى ، فإما أن يكون من باب الاعتقادات أو من باب الأفعال ، وأي ذلك
كان فإن الذي يجب عليه أن يندم عليه لقبحه أو لكونه إخلالا بالواجب ، ويعزم على أن
لا يعود إلى أمثاله في القبح أو في كونه إخلالا بالواجب. وعلى الجملة فإن المأخوذ
عليه أن يبذل مجهوده في تلافي ما وقع منه حتى يصير نفسه في الحكم كأن لم يأت بشيء
مما أتى به ، ولا أقدم على ما أقدم عليه.
وإن كانت التوبة
تلزمه لأمر بينه وبين الآدميين فإن الواجب عليه الندم والعزم أن يتلافى ما وقع
بجهده ، ثم إن تلافي ما وقع منه يختلف ، فإن كان الواقع منه القتل فتلافيه هو أن
يسلم نفسه إلى ولي الدم إن طالبه بها ولم يعف عنه ، وإن كان الواقع منه الغصب
فتلافيه هو أن يرد المغصوب بعينه إلى صاحبه إن كان العين باقيا ، وإن لم يكن فمثله
إن كان من ذوات الأمثال ، وإلا فقيمته إن كان من ذوات القيم ، هذا إن كان صاحبه
حيا ، فإن لم يكن فإلى ورثته ، فإن لم يكونوا فإلى الإمام ، فإن لم يكن فإلى
الفقراء ، وصار سبيله سبيل العشور والزكوات.
وإن كان الذي وقع
منه كلام يوحش الغير ، فلا يخلو ، إما أن يكون قد بلغ الذي قصده بذلك الكلام أو لم
يبلغ ، فإن بلغه لزمه الاعتذار الصحيح بعد الندم والعزم ، وإن لم يبلغه كفاه الندم
عليه والعزم ولا يجب أن يبلغه ذلك ويعلمه فإن ذلك ابتداء وحشة وهو في إزالتها ،
ولتفصيل الكلام في ذلك مكان آخر أبسط منه وأطول.
فصل
مسائل متعلقة بالتوبة وغيرها :
وقد وصل بهذه
الجملة مسائل تتعلق بعضها بالتوبة وبعضها بالوعيد وغيره.
من جملتها ،
الصغائر هل تصير كبيرة بانضمام بعضها إلى بعض؟ والأصل فيه أنه لا يمتنع أن تصير
كبيرة لأنه لا فرق بين أن يسرق عشرة دراهم من حرز دفعة واحدة ، وبين أن يسرق في
دفعات إلى أن يتممه عشرة ، في أنه إذا ظفر به الإمام وعلم ذلك من
حاله قطع يده على
سبيل الجزاء والنكال.
ومن ذلك ، الكلام
في أن الكبائر هل يجوز أن تصير كفرا بانضمام البعض إلى البعض ، ولعل الأقرب أنها
لا تصير كفرا وإن انضم بعضها إلى بعض في مثل هذه الأعمال ، فمعلوم أن صاحب الكبيرة
وإن بلغ في ارتكابه الكبائر كل مبلغ لم يجز إجراء أحكام الكفار عليه ، فلو لا أن
الكبائر لا تصير كفرا بانضمام البعض منها إلى البعض وإلا كان يجب ما ذكرناه.
ومن ذلك الكلام ،
في هل يبلغ ثواب طاعات أحدنا حدا يصير عقاب الكبيرة مكفرا في جنبها والأعمال هذه؟
والأصل فيه أنه لا يبلغ ، لأن أحدنا وإن بلغ في الطاعة كل مبلغ وسرق بعده عشرة
دراهم من حرز على الشرائط المعتبرة فإن الإمام يقطع يده على سبيل الجزاء والنكال ،
فلو لا أن ما كان قد استحقه من الثواب لم يبلغ حدا يصير عقاب السرقة مكفرا في جنبه
، وإلا كان لا يجوز ذلك.
ومن ذلك ، الكلام
في هل يجوز أن يبلغ ثواب أحدنا ثواب بعض الأنبياء؟ والأصل فيه أنه لا يجوز ،
والدليل عليه الإجماع.
ومن ذلك ، الكلام
في هل يصح أن يعلم أحدنا الصغيرة من الكبيرة ، وقد تكلمنا على ذلك وبيننا أنه لا
يجوز ، وإلا كان يكون المكلف مغري بفعلها لأنه لا ضرر فيها ، فكأن من عرفها بعينها
قال له : افعلها ولا ضرر عليك فيها ، وذلك مما لا يجوز. فعلى هذا ما من معصية إلا
ويجوز أن يكون كبيرا أو يجوز أن يكون صغيرا إذا لم يكن هناك دلالة على أنها من
الكبائر.
ومن ذلك ، الكلام
في هل يصح أن يعلم أحدنا حال الغير في استحقاق الثواب والعقاب؟ ولا خلاف في أنه
يصح أن يعلم كون الغير مستحقا للعقاب ، فإنه إذا رآه يزني ويشرب الخمر ويسرق لا بد
من أن يقطع على أنه مستحق للعقاب ، وإنما الكلام في أنه هل يصح أن يعلم استحقاقه
للثواب ، والأصل في أنه لا طريق إلى ذلك من جهة العقل وإنما يعلم سمعا ، فإن وجد
في حق بعض الأشخاص دلالة سمعية على أنه من أهل الجنة علم استحقاقه للثواب وإلا فلا
، وعلى هذا نعلم استحقاق الملائكة والأنبياء الثواب ، وبهذه الطريقة علمنا أن عليا
وفاطمة والحسن والحسين عليهمالسلام من أهل الجنة.
والكلام في هل يصح
أن نعلم كون أنفسنا من أهل الثواب والعقاب كالحال فيما
ذكرناه ، فإن من
الممكن أن نقطع على استحقاقنا للعقوبة ولا يمكننا القطع على استحقاقنا للثواب
وكوننا من أهل الجنة إلا سمعا. ولا خلاف في هذا وإنما الخلاف في علته ، فالذي قاله
الشيخ أبو علي في علة ذلك : أن الطريق إلى ذلك ليس إلا علمه بأنه أدى ما وجب عليه
، ولا يعلم أنه أدى ما وجب عليه الآن إلا في الحالة الثانية ، وفي الحالة الثالثة
لا يعلم أنه هل أدى ما وجب عليه في تلك الحالة إلا بعدها فلا ينتهي إلى حالة يعلم
ذلك من نفسه ، فلهذا تعذر عليه العلم باستحقاقه للثواب وكونه من أهل الجنة. وأبو
هاشم يقول : إن كانت هذه العلة علة صحيحة فكذلك ، وإلا فالحكم معلوم ولا أعلله ،
ولا مانع يمنع من ذلك وسنرى هذا الكلام في غير هذا الموضع إن شاء الله.
ومن ذلك ، الكلام
في أن الإيمان هل يزيد وينقص؟ وجملة ذلك أن المرجع بالإيمان إذا كان إلى أداء
الطاعات الفرائض منها والنوافل وإلى اجتناب المقبحات فإن ذلك مما يدخله الزيادة
والنقصان بلا إشكال ، والذي يدل على أن الإيمان يزيد وينقص قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا
ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) الآية ، وقوله تعالى : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ
سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا
الَّذِينَ آمَنُوا) الآية ، وأيضا قوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ
الْمُؤْمِنُونَ (١)) إلى قوله : (هُمْ فِيها خالِدُونَ) ووجه دلالته على ما ذكرناه واضح.
ويدل عليه أيضا
قوله صلىاللهعليهوسلم : «الإيمان بضع وسبعون
خصلة أعلاها كلمة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق» ، وقوله صلىاللهعليهوسلم : «بني الإسلام على خمس
شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ،
وصوم شهر رمضان وحج بيت الله» ومما يدل على ذلك قوله صلىاللهعليهوسلم : «المسلم من سلم
المسلمون من لسانه» وقوله : «المؤمن من أمن جاره بوائقه» وقوله : «لا إيمان لمن لا
أمانة له». هذه كلها كما ترى
تدلك على أن الإيمان ما ادعيناه ، وكما تدل على ذلك فإنها تدل على أنه يزيد وينقص.
ومن ذلك ، الكلام
في أن أحدنا هل يجوز أن يقول أنا مؤمن إن شاء الله تعالى؟ والأصل فيه أنه يجوز ،
بل لا يجوز خلافه ، وقد خالفنا في ذلك جماعة من الكرامية ، ونحن فقد ذكرنا ما في
هذا اللفظ في باب الإرادة ، وبينا أن معناه قطع الكلام عن النفاذ ، وقد يرد ويراد
به الشرط وذلك في نحو قول أحدنا : أنا أحج بيت الله إن شاء الله تعالى ، وأزور قبر
الرسول إن شاء الله ، فإنه والحال هذه يعني به الشرط ويكون
المراد به إن سهل
الله تعالى لي ذلك ولطف لي فيه. فهذه جملة ما يجب أن يحصل في هذا الباب. وإذ قد
أتينا على ذلك وفرغنا منه فإنا نقطع عنده الكلام ونختم به الكتاب.
وأسأل الله تعالى
أن يختم أمورنا بالحسنى ، ويوفقنا لخير الدارين ، ويرزقنا نعم الدنيا والآخرة وصلى
الله على محمد وآله الطيبين الأخيار الأبرار ، الذين قضوا بالحق وبه يعدلون ، ولا
حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وحسبنا الله ونعم الوكيل.
كمل نساخة وقراءة
وتصحيحا بحمد الله تعالى ومنه ، فالحمد لمن أعان على تمامه. إذ كمل من فضله
وإنعامه يوم الثلاثاء من شهر جمادى الأولى من شهور سنة ست وخمسين وسبعمائة ، بخط
مالكه أضعف عبيد الله وأحوجهم إلى رضاه ليستر الذنوب ، الراجي رحمة علام الغيوب
قاسم بن محمد بن أحمد بن علي بن يحيى بن الحسين.
كان تمامه بالمشهد
المقدس المنصوري على ساكنه السلام. وصلى على محمد وآله وسلم.
محتوی كتاب شرح الأصول
الخمسة
المقدمة........................................................................ ٥
مؤلف الكتاب.................................................................. ٧
منزلة
القاضي في الفكر الإسلامي :.............................................. ٨
أساتذته
وتلاميذه :............................................................ ٩
مؤلفات
القاضي :............................................................. ٩
وصف
الكتاب :............................................................ ١٠
فصول
الكتاب وأبوابه :...................................................... ١١
أول
الواجبات :............................................................. ١٥
الواجب
وحده وحقيقته :..................................................... ١٥
معنى
الواجب :.............................................................. ١٥
كيف
يفسر عمل الملجأ في ضوء تعريف الواجب :............................... ١٥
سبب
اعتماد هذا التعريف للواجب :........................................... ١٦
مفهوم
القبح :............................................................... ١٦
القول
الذي وضح الواجب وجوده قبيح :....................................... ١٧
نوعا
الواجب : أ ـ موسع مخير ب ـ معين مضيق.................................. ١٧
مثال
الواجب المخير في العقل :................................................ ١٧
مثال
الواجب المخير في الشرع.................................................. ١٧
مثال
الواجب المضيق ، في العقل :............................................. ١٧
مثال
الواجب المضيق ، في الشرع :............................................. ١٨
معرفة
الله من الواجبات المضيقة :............................................... ١٨
الرد
على الاعتماد على قولهم : الواجب لا يجب بإيجاب موجب................... ١٨
حقيقة
النظر ، وأنواعه........................................................ ١٩
النظر
:..................................................................... ١٩
الانتظار
:.................................................................. ١٩
العطف
والرحمة :............................................................. ١٩
المقابلة
:.................................................................... ١٩
التفكر
بالقلب :............................................................. ١٩
كيف
نميز بين أنواع النظر :................................................... ٢٠
أسماء
النظر بالقلب :......................................................... ٢٠
أقسام
النظر :............................................................... ٢٠
معنى
الفكر :................................................................ ٢٠
حقيقة
المعرفة :.............................................................. ٢٠
هذا
التعريف أولى من التعريف الذي أورده في العمد :............................. ٢١
العلم
غير الاعتقاد :......................................................... ٢١
معنى
سكون النفس :......................................................... ٢١
صلة
السكون الحقيقي بمعنى سكون النفس :..................................... ٢١
السكون
يقصد منه المعنى الحقيقي إذا كان مطلقا :............................... ٢٢
معنى
الضرورة والمشاهدة :..................................................... ٢٢
الضرورة
معناها في أصل اللغة : الإلجاء :........................................ ٢٢
إذا
قيدت الضرورة فقيل : العلم الضروري....................................... ٢٢
اعتراض
البعض وقبول البعض لتحديد العلم الضروري :........................... ٢٣
قول
المؤيدين لحد العلم الضروري :............................................. ٢٣
قول
المعارضين للحد :........................................................ ٢٣
أقسام
العلوم الضرورية :...................................................... ٢٣
أقسام
العلم الضروري الحاصل فينا مبتدأ......................................... ٢٤
الأدلة
على أنه تعالى لا يعرف ضرورة ولا بالمشاهدة............................... ٢٤
مخالفته
للجاحظ والأسواري :.................................................. ٢٥
مخالفته
لأبي القاسم البلخي :.................................................. ٢٥
عودة
إلى الأدلة على أن الله لا يعرف ضرورة :................................... ٢٥
تتمة
الأدلة على أنه تعالى لا يعرف ضرورة :..................................... ٢٦
ما
يتصل بهذا الدليل من الكلام على أصحاب المعارف وأبي القاسم................. ٢٧
الكلام
على أبي القاسم البلخي فيما يتعلق بمعرفة الله ضرورة........................ ٢٨
هل
يكون أهل الجنة ملجئين إلى هذه المعرفة..................................... ٢٩
تتمة
الرد على اعتراض أبي القاسم البلخي....................................... ٣٠
الرد
على من يقول : إن الله قد يعرف تقليدا..................................... ٣١
الرد
على القول بتقليد الأزهدين................................................ ٣١
الرد
على القول بتقليد الأكثرين................................................ ٣١
شبهة
الخلط بتقليد الرسول.................................................... ٣٢
تقليد
العامي للعالم........................................................... ٣٢
الرد
على شبهة أن الله لا يجب معرفته أصلا..................................... ٣٣
الدليل
على أن معرفة الله واجبة................................................ ٣٣
فهرس
لما ينبغي فيه النظر...................................................... ٣٣
رأي
أبي الهذيل : وجود المحدث................................................ ٣٤
رأي
أبي علي : وجود المحدث المخالف لنا....................................... ٣٤
١
ـ أنه قادر................................................................. ٣٤
٢
ـ أنه عالم................................................................. ٣٤
٣
ـ أنه حي : سميع ، بصير ، مدرك............................................ ٣٤
٤
ـ أنه موجود وقديم......................................................... ٣٤
٥
ـ ليس جسما ولا عرضا ولا يجوز عليه ما يجوز عليهما........................... ٣٤
٧
ـ غني.................................................................... ٣٥
٨
ـ لا يرى ولا يبصر ولا يدرك بالحواس......................................... ٣٥
١٠
ـ واحد لا ثاني له......................................................... ٣٥
١١
ـ أنه عادل.............................................................. ٣٥
عودة
إلى أن معرفة الله واجبة ليدلل على أن النظر في طريق معرفة الله واجب......... ٣٥
النظر
في طريق معرفة الله ليس مقصودا لذاته..................................... ٣٦
مخالفة
أصحاب المعارف ومن قال بالإلهام أو طبع المحل............................ ٣٦
الضرر
الذي يندفع بالنظر..................................................... ٣٦
هل
يدفع الضرر بالتقليد أو الاضطرار أو المشاهدة؟.............................. ٣٧
الربط
بين الكلام في أن النظر أول الواجبات وبين وجوب النظر.................... ٣٧
النظر
في طريق معرفة الله من الواجبات التي لا ينفك عنها المكلف بوجه من الوجوه.... ٣٨
سؤال
: هلا جعلتم النظر في وجوب النظر أول الواجبات؟ والرد :.................. ٣٩
هلا
يكون العلم بالله أول الواجبات؟........................................... ٣٩
هلا
يكون الخوف الذي يحصل عند ترك النظر أول الواجبات؟..................... ٤٠
هلا
تكون مشاهدة الأدلة والنظر في أحوال القادرين أول الواجبات................. ٤١
الحسن
لا ينفك عن الوجوب في الواجبات الشرعية إلا في بعض الواجبات........... ٤٢
ما
أول ما أنعم الله على الإنسان؟.............................................. ٤٢
قصد
الإحسان :............................................................ ٤٤
معنى
المنفعة :................................................................ ٤٤
معنى
المنعم :................................................................ ٤٥
متى
يستحق المنعم الشكر من المنعم عليه :...................................... ٤٥
حقيقة
الشكر............................................................... ٤٥
أول
نعم الله علينا............................................................ ٤٧
الرد
على من يقول : إن أول النعم هي الجملة التي يصير بها الحي حيا............... ٤٨
الرد
على من يقول : إن الشهوة أول النعم....................................... ٤٨
المنافع
مستحقة أو غير مستحقة............................................... ٤٨
مناقشة
حول قول أبي علي بأن معرفة الله تترتب على الشكر....................... ٤٩
إذا
لزم النظر ففيم النظر؟..................................................... ٥٠
أنواع
الدلالة ، وكون معرفة الله لا تنال إلا بالعقل................................ ٥٠
الظروف
التي إذا نظر الله تعالى فيها أوصلته إلى العلم بالله......................... ٥١
أقسام
الأفعال............................................................... ٥١
ما
لا يدخل تحت مقدورنا..................................................... ٥١
ما
يدخل تحت مقدورنا....................................................... ٥٢
الفعل
الذي يستدل به على الله مع أن جنسه يقع تحت مقدورنا.................... ٥٢
الاستدلال
بالأعراض على الله................................................. ٥٣
إثبات
الأعراض.............................................................. ٥٣
إثبات
حدوث الأعراض....................................................... ٥٤
إثبات
أنها تحتاج لمحدث....................................................... ٥٤
حدوث
الأجسام............................................................. ٥٥
الكلام
في إثبات الأكوان..................................................... ٥٦
الرد
على من اعترض على دعوى الاضطرار...................................... ٥٧
لم
لا يكون الجسم مجتمعا لوجوده؟............................................. ٥٨
لم
لا يكون الجسم مجتمعا لحدوثه؟............................................. ٥٨
لم
لا يكون الجسم مجتمعا على وجه؟........................................... ٥٩
لم
لا يكون الجسم مجتمعا لعدمه؟.............................................. ٥٩
لم
لا يكون مجتمعا بالفاعل؟................................................... ٥٩
لم
لا يكون اجتماع الجسم لعدم معنى؟.......................................... ٦٠
نهاية
إثبات الأكوان.......................................................... ٦٢
الكلام
في حدوث الأعراض................................................... ٦٢
لم
لا يكون الاجتماع باقيا فيه كما كان؟........................................ ٦٣
لم
لا يكون زائلا بطريق الانتقال؟.............................................. ٦٣
الدليل
على أن القديم لا يجوز عليه العدم........................................ ٦٤
لم
لا يكون القديم قديما لمعنى؟................................................. ٦٤
الدليل
على أن الموصوف بصفة من صفات النفس لا يجوز خروجه عنها بحال من الأحوال ٦٥
استدلال
من وجه آخر........................................................ ٦٦
من
الأدلة على حدوث الأكوان................................................ ٦٧
الكلام
في أن الأجسام لا تخلو من الأكوان...................................... ٦٧
الخلاف
مع أصحاب الهيولى................................................... ٦٧
الجسم
لا يخلو من الأكوان.................................................... ٦٧
الدلالة
على أن الجسم لا يخلو من الأكوان...................................... ٦٨
الجسم
إذا لم ينفك عن الحوادث كان مثلها محدثا................................. ٦٩
لا
يكون الجسم محلا للحوادث وإن لم يكن محدثا................................ ٧٠
الشبه
التي تورد في قدم العالم................................................... ٧٠
تسلسل
الفاعلين محال........................................................ ٧٠
لو
كان العالم محدثا كان ذلك لغاية أو حكمة وهي مرتبطة بوجود العالم فيكون الفاعل محدثا ٧١
استحالة
وجود العالم فيما لم يزل لو كان محدثا والجواب عن ذلك................... ٧١
شبهة
عوام الملحدة........................................................... ٧٢
الأجسام
لأنها محدثة تحتاج إلى محدث هو الله.................................... ٧٢
هل
تكون تصرفاتنا في حاجة إلى محدث......................................... ٧٢
لم
يكون فاعلها هو الله....................................................... ٧٣
لم
لا يكون الجسم قد حدث بالطبع............................................ ٧٤
حول
القائلين بالنفس والعقل والعلة وأصحاب النجوم............................. ٧٥
فصل
فيما يلزم المكلف معرفته من أصول الدين................................... ٧٦
كيف
تلزم هذه الأصول جميع المكلفين.......................................... ٧٦
وسبب
الاقتصار على الأصول الخمسة.......................................... ٧٧
بيان
حكم مخالفه في هذا الباب................................................ ٧٧
إذا
عرف المكلف الأصول لزم معرفة الفقه والشرع................................. ٧٩
التوحيد
:................................................................... ٧٩
التوحيد
في اصطلاح المتكلمين :............................................... ٨٠
علوم
التوحيد وما يلزم المكلف منها :........................................... ٨٠
ما
يستحقه من الصفات :.................................................... ٨٠
ما
يستحيل عليه من الصفات :................................................ ٨١
ما
يستحقه في وقت دون وقت :.............................................. ٨١
قسمة
أخرى لصفات القديم :................................................. ٨١
فصل
والغرض به الكلام في العدل.............................................. ٨٢
العدل
في اصطلاح المتكلمين :................................................ ٨٢
علوم
العدل :............................................................... ٨٣
موقف
البغداديين من إطلاق القول بأن الله أحسن نظرا للناس من أنفسهم :......... ٨٣
فصل
والغرض به الكلام في الوعد والوعيد....................................... ٨٤
علوم
الوعد والوعيد :........................................................ ٨٥
المخالف
في هذا الباب :...................................................... ٨٥
فصل
والغرض به الكلام في المنزلة بين المنزلتين.................................... ٨٦
سبب
تسمية أهل العدل بالمعتزلة :............................................. ٨٦
المخالف
في هذا الباب :...................................................... ٨٧
فصل
والغرض به الكلام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر...................... ٨٨
الخلاف
حول العلم بوجوب ذلك سمعا وعقلا :.................................. ٨٩
شرائط
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :....................................... ٨٩
إذا
تأمن ذلك بالأسهل فلا يجب تجاوزه إلى الأصعب :........................... ٩٠
إذا
فقدت هذه الشرائط فهل يجب عليه تكليف آخر في هذا الباب :............... ٩٠
المنكرات
على قسمين :....................................................... ٩١
قسمة
أخرى للمناكير :...................................................... ٩١
إذا
سقط الوجوب فهل يبقى الحسن :.......................................... ٩١
المعروف
على قسمين :....................................................... ٩٢
المنكر
كله في باب واحد في أنه يجب النهي عنه :................................ ٩٢
واعلم
أن المناكير على ضربين : عقلية وشرعية :.................................. ٩٣
كيف
يقال بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفي الناس من لم يقل بوجوبه إلا مع إمام ٩٣
الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر ضربان :....................................... ٩٤
الأصل
الأول : التوحيد........................................................ ٩٥
الكلام
في الصفات........................................................... ٩٧
فصل
والغرض به الكلام في أن الله تعالى قادر.................................... ٩٧
شبهات
وردود............................................................... ٩٧
ما
يلزم المكلف معرفته في هذا الباب........................................... ١٠٠
الذي
يدل على أنه تعالى كان قادرا فيما لم يزل................................. ١٠٠
فصل
والغرض به الكلام في أن الله تعالى عالم.................................. ١٠١
سؤال
حول اختلاف الغائب عن الشاهد...................................... ١٠٢
الغرض
من خلق الصور القبيحة.............................................. ١٠٢
ما
يلزم المكلف معرفته في هذا الباب........................................... ١٠٣
فصل
والغرض به الكلام في أنه تعالى حي..................................... ١٠٤
حول
نفاة الأحوال.......................................................... ١٠٤
الواحد
منا حي وجسم فهل يكون الله كذلك؟................................. ١٠٥
ما
يلزم المكلف معرفته في هذا الباب........................................... ١٠٨
فصل
والغرض به الكلام في كونه تعالى سميعا بصيرا مدركا للمدركات............... ١٠٨
الخلاف
بين البصريين والبغدادين حول الإدراك................................. ١٠٩
شبه
حول الإدراك وكونه صفة لله............................................. ١١١
ما
يلزم المكلف معرفته في هذا الباب........................................... ١١٣
خلاف
بين القاضي وشيخه أبي القاسم....................................... ١١٣
فصل
والغرض به الكلام في كونه تعالى موجودا................................. ١١٤
ما
يلزم المكلف معرفته....................................................... ١١٧
فصل
والغرض به الكلام في كونه تعالى قديما................................... ١١٧
ما
يلزم معرفته في هذا الباب.................................................. ١١٨
فصل
والغرض به الكلام في كيفية استحقاقه تعالى لهذه الصفات.................. ١١٨
الدليل
على أنه لا يكون عالما بعلم معدوم..................................... ١٢٠
الدليل
على أنه لا يستحق هذه الصفات لمعان محدثة............................ ١٢١
قول
أبي الهذيل مخالفا القاضي : العلم غير الاعتقاد............................. ١٢٢
شبهتان
لأبي الهذيل......................................................... ١٢٣
الكلام
في أن العلم إنما هو اعتقاد واقع على وجه............................... ١٢٤
الوجوه
التي يقع عليها الاعتقاد فيصير علما كثيرة............................... ١٢٤
الاعتقاد
لا يقع إلا ممن هو عالم.............................................. ١٢٥
من
كل هذا ثبت أن العلم اعتقاد واقع على وجه مخصوص ووقوعه على هذا الوجه لا يمكن إلا ممن
هو عالم ١٢٦
شبه
المخالفين العقلية....................................................... ١٢٦
الكلام
في أن الله لا يستحق هذه الصفات لمعان قديمة........................... ١٢٧
ما
يدل على أن الله لا يجوز أن يكون عالما بعلم................................ ١٣٠
تفصيل
الحديث على كل صفة من صفات الله.................................. ١٣١
حي
لا بحياة............................................................... ١٣١
قادر
لا بقدرة.............................................................. ١٣١
عالم
لا بعلم............................................................... ١٣١
استدلال
المخالف على أنه عالم بعلم.......................................... ١٣٣
الرد
على الشبه............................................................ ١٣٤
الضرب
الثاني من شبههم على أنه تعالى عالم لذاته وقولهم إنه عالم بعلم............ ١٣٨
من
شبههم السمعية........................................................ ١٣٩
نفي
الحاجة عن الله......................................................... ١٤٠
الحاجة
إنما تجوز على الأجسام............................................... ١٤١
أبو
هاشم والشهوة والنفار................................................... ١٤١
اعتراض
أبي إسحاق بن عياش............................................... ١٤١
تغليب
رأي أبي إسحاق..................................................... ١٤٢
الإلجاء.................................................................... ١٤٣
ما
يلزم معرفته من هذا الباب................................................. ١٤٣
فصل
والغرض به الكلام في أنه تعالى لا يجوز أن يكون جسمه................... ١٤٣
حقيقة
الجسم.............................................................. ١٤٣
الخلاف
في هذه المسألة :.................................................... ١٤٤
١
ـ عن طريق المعنى......................................................... ١٤٤
٢
ـ أو طريق العبارة......................................................... ١٤٤
الله
شيء لا كالأشياء :..................................................... ١٤٦
أحد
ما يدل على أنه تعالى ليس جسما :..................................... ١٤٧
الوجوه
التي يصح أن يفعل عليها الفعل :...................................... ١٤٨
الخلاف
في المسألة عن طريق العبارة........................................... ١٤٩
الشبه
: سمعية ، عقلية...................................................... ١٤٩
الشبه
العقلية :............................................................. ١٤٩
الشبه
السمعية :........................................................... ١٥٠
(الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ
اسْتَوى)............................................. ١٥٠
(وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي)..................................................... ١٥١
(كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا
وَجْهَهُ)............................................... ١٥١
(لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ)....................................................... ١٥٢
(بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ)..................................................... ١٥٢
(يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ
فِي جَنْبِ اللهِ)................................... ١٥٢
(وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ
بِيَمِينِهِ)............................................. ١٥٣
(يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ
ساقٍ).................................................. ١٥٣
(وَجاءَ رَبُّكَ)............................................................ ١٥٣
ما
يلزم المكلف معرفته :..................................................... ١٥٣
حقيقة
العرض في اللغة :.................................................... ١٥٤
في
الاصطلاح :............................................................ ١٥٤
ما
يلزم المكلف معرفته :..................................................... ١٥٥
فصل
: في نفي الرؤية....................................................... ١٥٥
نفي
الرؤية :............................................................... ١٥٥
يصح
الاستدلال بالجمع والعقل فيها.......................................... ١٥٥
الأقوال
في التمدح بعدم الرؤية................................................ ١٥٨
التمدح
لا يقع لكونه لا يرى :............................................... ١٥٨
بين
العام والخاص في مجال التدليل على رؤية الله أو عدمها....................... ١٦٢
الأدلة
العقلية :............................................................ ١٦٦
دليل
المقابلة الرؤية بالحاسة :................................................. ١٦٦
معنى
قولنا الموانع مرتفعة :................................................... ١٧٣
الموانع
ضربان : إحداهما يمنع بنفسه والثاني يمنع بشرط........................... ١٧٤
شبه
القوم في هذا الباب..................................................... ١٧٥
أخبار
مروية عن الرسول..................................................... ١٨٠
ولنا
في الجواب ثلاثة طرق :................................................. ١٨٠
شبه
المخالفين من جهة العقل................................................ ١٨٢
فصل
في نفي الثاني......................................................... ١٨٥
استحالة
المقدور الواحد بين قادرين............................................ ١٨٨
مجرد
الفعل لا يحتاج إلى القصد والإرادة........................................ ١٨٩
الدلالة
السمعية............................................................ ١٩٠
هل
يكون مع الله ثان يشاركه في بعض صفاته لا كلها........................... ١٩٠
الدلالة
على فساد مذهبهم دلالة التمانع...................................... ١٩١
النور
والظلمة جسمان محدثان................................................ ١٩١
لو
كانا قديمين لوجب الاستغناء.............................................. ١٩١
يبطل
حسن الأمر والنهي.................................................... ١٩١
تخصيص
في الرد على الديصانية :............................................ ١٩٢
كلام
يخص المرقيونية :...................................................... ١٩٢
اللذة
والألم من جنس واحد :................................................ ١٩٣
مسائل
سألها مشايخ المعتزلة لخصومهم :....................................... ١٩٤
فصل
: في الكلام على النصارى............................................. ١٩٥
الاتحاد
:.................................................................. ١٩٥
رأى
اليعقوبية والنسطورية في الاتحاد :......................................... ١٩٥
شرح
التثليث والرد عليه :................................................... ١٩٥
النصارى
والكلابية......................................................... ١٩٧
ردود
على النصارى يؤدي لاستغناء الأقانيم عن بعضها.......................... ١٩٧
معنى
الاتحاد............................................................... ١٩٨
النساطرة
: اتحاد المشيئة ، اليعقوبية : اتحاد الذات.............................. ١٩٨
النساطرة
والاتحاد........................................................... ١٩٨
اليعقوبية
والاتحاد........................................................... ١٩٩
الأصل
الثاني............................................................... ٢٠١
العدل.................................................................... ٢٠١
الفصل
الثاني : في العدل.................................................... ٢٠٣
حقيقة
العدل :............................................................ ٢٠٣
الحسن
للحسن لا للمنفعة :................................................. ٢٠٧
فصل
والغرض به الكلام في أنه تعالى موصوف بالقدرة على ما لو فعل لكان قبيحا.. ٢١١
أبو
الهذيل وأكثر المعتزلة ولا سيما البصريين على هذا الرأي :.................... ٢١١
الرد
على من يقول إن الله لو قدر على القبيح لوجب أن يوقعه :................. ٢١٢
هناك
أدلة من الكتاب على هذا وإن كانت الأدلة السمعية بعيدة هنا :........... ٢١٢
فصل..................................................................... ٢١٣
في
مقدور القديم أن يستغني عن القبيح :...................................... ٢١٣
المستغني
عن القبيح بالحسن لا يفعل القبيح :................................... ٢١٣
الكلام
على النجارية :...................................................... ٢١٥
فصل
في خلق الأفعال....................................................... ٢١٧
الخلاف
مع المجبرة :......................................................... ٢١٨
حقيق
الفعل :............................................................. ٢١٨
أقسام
الأفعال :............................................................ ٢١٩
الحسن
[و] المباح........................................................... ٢٢٠
الواجبات
:................................................................ ٢٢٠
أقسام
القبيح :............................................................. ٢٢٢
بيان
الطريق إلى إزالة العقوبة :............................................... ٢٢٢
عودة
إلى أن أفعال العباد محدثة منهم :....................................... ٢٢٣
طريقة
أخرى في أن أفعال العباد غير مخلوقة فيهم :.............................. ٢٢٦
أحد
ما يدل على عدم خلق الله لأفعال العباد أن العاقل لا يشوه نفسه ولا يريد من غيره ذلك
: ٢٣١
أحد
ما يدل على أن الله لا يخلق أفعال العباد أن فيها ظلما وجورا وهذا لا يصح على الله
: ٢٣١
حدود
للظلم غير صحيحة :................................................. ٢٣٣
الظلم
ما ليس لفاعله أن يفعله :............................................. ٢٣٣
الظلم
هو وضع الشيء في غير موضعه :....................................... ٢٣٣
عودة
إلى تحقيق الأدلة على القوم :........................................... ٢٣٤
لم
لا يكون الظالم اسما لمن لم يجعل الظلم كسبا لغيره :........................... ٢٣٧
آيات
من القرآن تدل على أن الله لا يخلق أفعال العباد :......................... ٢٣٨
(ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ
مِنْ تَفاوُتٍ) :.................................... ٢٣٨
الذي
أحسن كل شيء خلقه :............................................... ٢٣٩
(صُنْعَ اللهِ الَّذِي
أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) :......................................... ٢٤٠
(وَما مَنَعَ النَّاسَ
أَنْ يُؤْمِنُوا)................................................ ٢٤٢
(كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ
وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ).............. ٢٤٢
(جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ).................................................. ٢٤٢
(وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ
آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ).................................. ٢٤٣
(فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ
مُعْرِضِينَ)............................................ ٢٤٣
(فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ
وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ)....................................... ٢٤٣
(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ
فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ)............................... ٢٤٣
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما
بَيْنَهُما باطِلاً................................... ٢٤٣
الكلام
في الكسب :....................................................... ٢٤٤
حقيقة
الكسب :.......................................................... ٢٤٥
شبه
القوم :............................................................... ٢٤٩
في
الاصطلاح :............................................................ ٢٥٥
(أَتَعْبُدُونَ ما
تَنْحِتُونَ* وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ)............................. ٢٥٦
(اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) :................................................... ٢٥٧
إن
ربكم الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما :............................ ٢٥٧
(إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ
لِما يُرِيدُ) :................................................ ٢٥٨
(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ
فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) : ٢٥٨
الاختلاف
في المتولدات من علقها بالطبع والرد عليه :........................... ٢٦٠
من
جعل المتولدات حدثا لا محدث له :....................................... ٢٦١
فصل
في الاستطاعة :....................................................... ٢٦٢
المقدورات
نوعان :.......................................................... ٢٦٢
١.
مبتدأ كالإرادة.......................................................... ٢٦٢
٢.
متولد كالصوت :....................................................... ٢٦٢
طرق
إثبات القدرة :........................................................ ٢٦٣
مخالفة
البغداديين :......................................................... ٢٦٣
شبهة
البغداديين :.......................................................... ٢٦٤
اختلاف
في الأسماء الدالة على القدرة والمعنى واحد :............................ ٢٦٤
للقادر
حالتان : حالة يصح منها الفعل وأخرى لا يصح :....................... ٢٦٤
حقيقة
الجواز والصحة والتوهم :.............................................. ٢٦٥
معنى
الجوز :............................................................... ٢٦٥
الشك
، الصحة الإمكان ، الوقوع موقع الصحيح ، الإباحة :................... ٢٦٥
معنى
الصحة : نفي الاستحالة ، انتظار الوقوع :............................... ٢٦٦
معنى
التوهم : الظن المخصوص ، (وهو غير الاعتقاد):.......................... ٢٦٦
اختلاف
الشيخين أبي علي وأبي هاشم :...................................... ٢٦٦
(التوهم
غير الاعتقاد ـ أبو علي) (التوهم اعتقاد مخصوص ـ أبو هاشم):........... ٢٦٦
عودة
إلى المقصود وهو تقدم القدرة لمقدورها :.................................. ٢٦٦
عند
المعتزلة القدرة متقدمة وعند المجبرة القدرة مقارنة للمقدور :.................... ٢٦٦
المجبرة
على فرقتين :......................................................... ٢٦٨
١ ـ القدرة مقارنة وغير صالحة للضدين........................................ ٢٦٨
٢
ـ القدرة مقارنة وصالحة للضدين :.......................................... ٢٦٨
الأدلة
على عدم جواز مقارنة القدرة لمقدورها ، سواء كانت قادرة على الضدين أو غير قادرة : ٢٦٨
انقسام
المجبرة قسمين :...................................................... ٢٦٩
ـ
ليس ذلك تكليفا بما لا يطاق............................................... ٢٦٩
ـ
ومنهم من جوز تكليفه بما لا يطاق.......................................... ٢٦٩
لا
كلام في تقبيح التكليف لما يطاق ، وإنما الكلام في وجه قبحه :................ ٢٧٠
الكلام
على النجارية :...................................................... ٢٧١
فرق
آخر بين الكافر العاجز :............................................... ٢٧٣
أقسام
الآلات :............................................................ ٢٧٦
أقسام
المعاني : القدرة ، العلم ، الإرادة :...................................... ٢٧٦
صور
ذكرها مشايخ القاضي :................................................ ٢٧٩
القدرة
متعلقة بالمتماثل والمختلف والمتضاد :.................................... ٢٨٠
فصل
: واتصل بهذه الجملة الكلام في البدل عن الموجود......................... ٢٨١
إذا
جاز أن يكلف الله الكافر بالإيمان مع علمه أنه لا يؤمن ولا يقبح ذلك من جهة الله فهلا
جاز أن يكلفه مع العلم بأنه لا يقدر عليه ولا يقبح منه :........................................................ ٢٨٢
شبه
المخالفين :............................................................ ٢٨٤
فصل
: في أنه تعالى لا يجوز أن يكون مريدا للمعاصي........................... ٢٩٠
الإرادة
فعل :.............................................................. ٢٩٠
الإرادة
والكراهة لا يرجعان إلى الشهوة والنفار :................................ ٢٩١
قولنا
: الله مريد لا يعني كونه قادرا لا عالما :................................... ٢٩٢
فصل
: في كيفية استحقاقه تعالى لهذه الصفة................................... ٢٩٦
الله
مريد بإرادة محدثة لا في محل :............................................. ٢٩٦
فساد
قول النجارية :....................................................... ٢٩٦
الكلام
على الأشعرية :..................................................... ٣٠١
لم
لا يكون الله مريدا بإرادة معدومة؟.......................................... ٣٠١
شبه
المخالفين :............................................................ ٣٠٢
شبه
يشترك فيها الفريقان :.................................................. ٣٠٢
أفعال
العباد............................................................... ٣٠٦
آيات
في هذا الباب......................................................... ٣٠٨
وما
الله يريد ظلما للعباد..................................................... ٣٠٨
(وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ
وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).................................... ٣٠٨
والله
لا يحب الفساد........................................................ ٣٠٩
كل
ذلك كان سيئه عند ربك مكروها........................................ ٣٠٩
شبه
المخالفين.............................................................. ٣١٢
ولقد
ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس........................................ ٣١٢
الاستدلال
على قولهم بالقرآن................................................ ٣١٩
الاستدلال
بالقرآن على عكس قولهم.......................................... ٣٢٠
أطفال
المشركين لا يعذبون بذنوب آبائهم...................................... ٣٢١
فصل
في أنه تعالى لا يجوز أن يعذب أطفال المشركين بذنوب آبائهم............... ٣٢١
شبه
المخالفين وللمخالف في هذا الباب شبه :................................. ٣٢٣
الاستدلال
بالأخبار........................................................ ٣٢٤
فصل
في الآلام............................................................. ٣٢٥
العوض
عند أبي هاشم لا يستحق على طريق الدوام............................. ٣٣٣
شبه
المخالفين.............................................................. ٣٣٤
شبهة
الملاحدة في أصل الأعواض............................................. ٣٣٧
انتقال
العوض من فاعل الألم إلى غيره......................................... ٣٣٩
فصل
في المستحق للعوض والمستحق عليه...................................... ٣٤٠
المستحق
عليه العوض....................................................... ٣٤٠
هل
يجوز أن لا يبين الله للمكلف صفة ما كلفه................................. ٣٤٣
فصل
: الكلام في التكليف.................................................. ٣٤٤
ثمرة
التكليف............................................................... ٣٤٤
تكليف
من المعلوم من حاله أنه يكفر......................................... ٣٤٥
حقيقة
العبث.............................................................. ٣٤٨
الألطاف.................................................................. ٣٥١
فصل
في وجوب الألطاف وذكر الخلاف فيه................................... ٣٥١
أسماء
اللطف............................................................... ٣٥١
فاعله..................................................................... ٣٥١
الخلاف
مع بشر بن المعتمر.................................................. ٣٥٢
النعم
نوعان............................................................... ٣٥٥
فصل
في القرآن وذكر الخلاف فيه............................................ ٣٥٧
حقيقة
الكلام.............................................................. ٣٥٨
إبطال
قول من يقول إن القرآن قديم.......................................... ٣٥٩
إبطال
أن كلام الله معنى قائم بذاته........................................... ٣٦٠
المتكلم
هو فاعل الكلام..................................................... ٣٦٣
إنكار
أن يكون متكلما لأنه أثر في آلته....................................... ٣٦٤
إنكار
أن يكون متكلما لأن الكلام يحتاج إليه................................. ٣٦٤
إنكار
أن يكون متكلما لأن الكلام موجود به أو قديم بذاته..................... ٣٦٥
إنكار
أن يكون متكلما لأن الكلام كلامه إلا إذا قصد أنه فعله.................. ٣٦٥
شبه
المخالفين في قدم القرآن................................................. ٣٦٧
حكاية
أبي الهذيل وبعض الحنابلة............................................. ٣٦٨
تعلق
المخالفين بآيات من القرآن.............................................. ٣٦٩
الكلام
في الخلق والمخلوق.................................................... ٣٧١
الكلام
في النبوات.......................................................... ٣٨٠
البراهمة.................................................................... ٣٨٠
حقيقة
المعجز لغة واصطلاحا................................................. ٣٨٤
شرائط
المعجز.............................................................. ٣٨٤
أن
يكون المعجز من حكيم.................................................. ٣٨٥
البعثة
لطف للمكلفين...................................................... ٣٨٦
صفات
الرسول............................................................. ٣٨٧
نسخ
الشرائع.............................................................. ٣٨٩
الكلام
على من منع نسخ الشرائع............................................ ٣٨٩
الفرق
بين النسخ والبداء وحقيقتهما........................................... ٣٩٣
النسخ.................................................................... ٣٩٤
البداء..................................................................... ٣٩٤
معجزات
الرسول........................................................... ٣٩٥
وجه
الإعجاز في القرآن..................................................... ٣٩٥
تحدي
العرب بالقرآن........................................................ ٣٩٦
ترك
العرب معارضة القرآن................................................... ٣٩٦
كيف
يعلم غير العرب إعجاز القرآن.......................................... ٤٠١
بقية
معجزات الرسول....................................................... ٤٠١
شبه
الملحدة............................................................... ٤٠٣
المحكم
من المتشابه.......................................................... ٤٠٤
حقيقة
المحكم والمتشابه...................................................... ٤٠٥
الرد
على الإمامية فيما خالفوا فيه حول القرآن.................................. ٤٠٥
الرد
على من يدعي أنه لا يعرف المراد بظاهر القرآن :........................... ٤٠٧
خلاف
المرجئة :........................................................... ٤٠٨
شروط
المفسر لكتاب الله :.................................................. ٤٠٩
الأصل
الثالث : الوعد والوعيد............................................... ٤١١
الأصل الثالث من الأصول الخمس وهو
الكلام في الوعد والوعيد................. ٤١٣
المستحق
بالأفعال :......................................................... ٤١٣
الذم
وضرباه :............................................................. ٤١٣
المدح
:................................................................... ٤١٤
الشروط
التي تستحق بها الأحكام :........................................... ٤١٤
المؤثر
في استحقاق المدح والثواب :............................................ ٤١٥
مخالفة
أبي القاسم :......................................................... ٤١٧
استحقاق
العقاب :........................................................ ٤١٨
شبه
الملحدة :............................................................. ٤٢٠
الإحباط
والتكفير :......................................................... ٤٢٢
المخالفون
في الإحباط والتكفير :............................................. ٤٢٢
اختلاف
أبي علي وأبي هاشم :............................................... ٤٢٤
الخلاف
بين الشيخين في الموازنة :............................................ ٤٢٥
الخلاف
بين أبي علي وأبي هاشم حول العلم باشتمال المعاصي على صغير وكبير :... ٤٢٧
خلاف
جعفر ابن حرب :................................................... ٤٢٨
لا
يجوز أن يعرفنا الله بأعيان الصغائر :........................................ ٤٢٩
هل
يستحق الثواب والعقاب على الفعل وعدمه :............................... ٤٣١
كيف
يكون الحال لو لم يثب الله من استحق الثواب :.......................... ٤٣٢
سقوط
الثواب والعقاب :.................................................... ٤٣٤
شبه
البغداديين :........................................................... ٤٣٧
استحقاق
الفاسق للعقوبة :.................................................. ٤٣٧
الفاسق
يفعل به ما يستحقه :................................................ ٤٣٩
مناقشة
حول الاستثناء والعموم والخصوص :................................... ٤٤٠
تخليد
الفاسق بالنار :....................................................... ٤٤٩
أدلة
المرجئة :.............................................................. ٤٥٣
فصل
في الشفاعة.......................................................... ٤٦٣
فائدة
الشفاعة وموضوعها................................................... ٤٦٤
الأصل
الرابع : المنزلة بين المنزلتين.......................................... ٤٦٩
الأصل الرابع : وهو الكلام
في المنزلة بين المنزلين................................ ٤٧١
لم
سمى بالأسماء والأحكام :.................................................. ٤٧١
المدح
:................................................................... ٤٧٢
الذم
:.................................................................... ٤٧٢
الثواب
:.................................................................. ٤٧٣
العقاب
:................................................................. ٤٧٣
الموالاة
:.................................................................. ٤٧٣
المعاداة
:.................................................................. ٤٧٣
في
المقصود من الباب :..................................................... ٤٧٤
فصلان................................................................... ٤٧٤
١
ـ الفاسق لا يسمى مؤمنا خلافا للمرجئة :................................... ٤٧٤
٢
ـ ولا يسمى كافرا خلافا للخوارج :......................................... ٤٧٤
أقوال
المرجئة وغيرهم :...................................................... ٤٧٨
أقسام
الأسماء :............................................................ ٤٧٩
قسمة
أخرى للأسماء :...................................................... ٤٧٩
صاحب
الكبيرة لا يسمى كافرا :............................................. ٤٨٠
حقيقة
الكفر في اللغة والشرع :.............................................. ٤٨٠
الكلام
على الخوارج :....................................................... ٤٨١
مناظرة
بين الحسن وابن عبيد :............................................... ٤٨٢
الكلام
في الدعاء :......................................................... ٤٨٥
أقسام
الدعاء :............................................................ ٤٨٥
شبه
الخوارج :.............................................................. ٤٨٦
(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ
بِما أَنْزَلَ اللهُ) :........................................... ٤٨٧
(وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ
حِجُّ الْبَيْتِ) :........................................... ٤٨٨
(يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ
وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) :......................................... ٤٨٨
(فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً
تَلَظَّى) :.................................................. ٤٨٨
(فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ
ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) :.................................. ٤٨٩
(وَهَلْ نُجازِي إِلَّا
الْكَفُورَ) :............................................... ٤٨٩
(فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ
كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) :.............................................. ٤٨٩
(وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ
بِالْكافِرِينَ) :.......................................... ٤٩٠
(فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) :................................................... ٤٩٠
(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ
فَمِنْكُمْ كافِرٌ) :......................................... ٤٩١
شبه
المرجئة :.............................................................. ٤٩١
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) :..................................... ٤٩٢
في
عذاب القبر :........................................................... ٤٩٣
ثبوت
العذاب :............................................................ ٤٩٣
كيفية
ثبوته :.............................................................. ٤٩٤
فائدته
:.................................................................. ٤٩٥
أحوال
القيامة :............................................................ ٤٩٦
فائدة
عذاب القبر :........................................................ ٤٩٧
نطق
الجوارح :............................................................. ٤٩٨
الصراط
:................................................................. ٤٩٨
الأصل
الخامس : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر........................... ٥٠١
الأصل الخامس : وهو الكلام
في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر................ ٥٠٣
أقسام
المعروف :........................................................... ٥٠٥
المناكير
ضرب واحد ولكنها تتنوع حسب المكلف :............................. ٥٠٥
أما
الفصل الثاني........................................................... ٥٠٧
كيفية
التوبة :............................................................. ٥٠٧
فصل
في الإمامة............................................................ ٥٠٨
خمسة
فصول :............................................................ ٥٠٩
حقيقة
الإمام :............................................................. ٥٠٩
أما
الفصل الأول........................................................... ٥٠٩
الحاجة
إلى الإمام :......................................................... ٥٠٩
وأما
الفصل الثاني.......................................................... ٥٠٩
صفات
الإمام :............................................................ ٥١٠
وأما
الفصل الثالث :....................................................... ٥١٠
طرق
الإمامة :............................................................. ٥١١
وأما
الفصل الرابع :......................................................... ٥١١
تعيين
الإمام :............................................................. ٥١٤
وأما
الفصل الخامس........................................................ ٥١٤
هل
يجوز خلو الزمان عن إمام :.............................................. ٥١٤
فصل
في التفضيل.......................................................... ٥١٩
الكلام
في الأخبار :........................................................ ٥٢٠
في
القضاء والقدر :......................................................... ٥٢٢
شبه
المجبرة مع المجوس :...................................................... ٥٢٤
أفعال
العباد لا توصف أنها من الله :.......................................... ٥٢٧
حقيقة
الألفاظ : ـ المعونة ـ اللطف ـ المصلحة ـ التوفيق ـ العصمة................... ٥٢٨
فصل
في الآجال........................................................... ٥٢٩
الآجال
:.................................................................. ٥٢٩
الأجل
:.................................................................. ٥٢٩
الوقت
:.................................................................. ٥٢٩
الميت
والمقتول ماتا بأجلهما :................................................ ٥٣٠
الكلام
في الأرزاق :........................................................ ٥٣٢
التوكل
طلب القوت من وجهه :.............................................. ٥٣٣
فصل
في الأسعار........................................................... ٥٣٤
الأسعار
:................................................................. ٥٣٤
فصل
في التوبة............................................................. ٥٣٥
التوبة
:................................................................... ٥٣٥
شروط
التوبة :............................................................. ٥٣٧
اقتران
الندم بالعزم :........................................................ ٥٣٧
العزم
أصل والندم شرط :.................................................... ٥٣٧
مسائل
متعلقة بالتوبة وغيرها :............................................... ٥٤٢
|