
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تفسير سورة الواقعة
وهي مكية
قال أبو إسحاق عن
عكرمة عن ابن عباس قال : قال أبو بكر : يا رسول الله قد شبت ، قال «شيبتني هود
والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت» رواه الترمذي وقال: حسن غريب قال الحافظ ابن عساكر في
ترجمة عبد الله بن مسعود بسنده إلى عمرو بن الربيع بن طارق المصري : حدثنا السري
بن يحيى الشيباني عن أبي شجاع عن أبي ظبية قال : مرض عبد الله مرضه الذي توفي فيه
، فعاده عثمان بن عفان فقال : ما تشتكي؟ قال : ذنوبي. قال : فما تشتهي؟ قال : رحمة
ربي. قال : ألا آمر لك بطبيب؟ قال : الطبيب أمرضني. قال : ألا آمر لك بعطاء؟ قال :
لا حاجة لي فيه؟ قال : يكون لبناتك من بعدك. قال : أتخشى على بناتي الفقر؟ إني
أمرت بناتي يقرأن كل ليلة سورة الواقعة ، إني سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا».
ثم قال ابن عساكر
: كذا قال ، والصواب عن شجاع كما رواه عبد الله بن وهب عن السري. وقال عبد الله بن
وهب : أخبرني السري بن يحيى أن شجاعا حدثه عن أبي ظبية عن عبد الله بن مسعود قال :
سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا»
فكان أبو ظبية لا يدعها ، وكذا رواه أبو يعلى عن إسحاق بن إبراهيم عن محمد بن منيب
عن السري بن يحيى عن شجاع عن أبي ظبية عن ابن مسعود به.
ثم رواه عن إسحاق
بن أبي إسرائيل عن محمد بن منيب العدني عن السري بن يحيى عن أبي ظبية عن ابن مسعود
أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال «من قرأ سورة الواقعة في كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا»
لم يذكر في مسنده شجاعا قال : وقد أمرت بناتي أن يقرأنها كل ليلة. وقد رواه ابن
عساكر أيضا من حديث حجاج بن نصير وعثمان بن اليمان عن السري بن يحيى عن شجاع عن
أبي فاطمة قال: مرض عبد الله فأتاه عثمان بن عفان يعوده ، فذكر الحديث بطوله ، قال
عثمان بن اليمان : كان أبو فاطمة هذا مولى لعلي بن أبي طالب.
__________________
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا إسرائيل ويحيى بن آدم ، حدثنا
إسرائيل عن سماك بن حرب أنه سمع جابر بن سمرة يقول : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يصلي الصلوات كنحو من صلاتكم التي تصلون اليوم ، ولكنه كان
يخفف ، وكانت صلاته أخف من صلاتكم ، وكان يقرأ في الفجر الواقعة ونحوها من السور.
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(إِذا وَقَعَتِ
الْواقِعَةُ (١) لَيْسَ لِوَقْعَتِها
كاذِبَةٌ (٢) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (٣) إِذا رُجَّتِ
الْأَرْضُ رَجًّا (٤) وَبُسَّتِ الْجِبالُ
بَسًّا (٥) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (٦) وَكُنْتُمْ
أَزْواجاً ثَلاثَةً (٧) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ
ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (٨) وَأَصْحابُ
الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (٩)
وَالسَّابِقُونَ
السَّابِقُونَ (١٠) أُولئِكَ
الْمُقَرَّبُونَ (١١) فِي جَنَّاتِ
النَّعِيمِ)
(١٢)
الواقعة من أسماء
يوم القيامة سميت بذلك لتحقق كونها ووجودها كما قال تعالى : (فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) [الحاقة : ١٥]
قوله تعالى : (لَيْسَ لِوَقْعَتِها
كاذِبَةٌ) أي ليس لوقوعها إذا أراد الله كونها صارف يصرفها ولا دافع
يدفعها كما قال : (اسْتَجِيبُوا
لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ) [الشورى : ٤٧]
وقال (سَأَلَ سائِلٌ
بِعَذابٍ واقِعٍ لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ) [المعارج : ١ ـ ٢]
وقال تعالى (وَيَوْمَ يَقُولُ
كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ
عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) [الأنعام : ٧٣].
ومعنى (كاذِبَةٌ) كما قال محمد بن كعب لا بد أن تكون ، وقال قتادة : ليس
فيها مثنوية ولا ارتداد ولا رجعة قال ابن جرير : والكاذبة مصدر كالعاقبة والعافية.
وقوله تعالى : (خافِضَةٌ رافِعَةٌ) أي تخفض أقواما إلى أسفل سافلين إلى الجحيم ، وإن كانوا في
الدنيا أعزاء ، وترفع آخرين إلى أعلى عليين إلى النعيم المقيم ، وإن كانوا في
الدنيا وضعاء ، هكذا قال الحسن وقتادة وغيرهما. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي
حدثنا يزيد بن عبد الرحمن بن مصعب المعني ، حدثنا حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي عن
أبيه عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس (خافِضَةٌ رافِعَةٌ) تخفض أقواما وترفع آخرين ، وقال عبيد الله العتكي عن عثمان
بن سراقة ابن خالة عمر بن الخطاب (خافِضَةٌ رافِعَةٌ) قال : الساعة خفضت أعداء الله إلى النار ورفعت أولياء الله
إلى الجنة. وقال محمد بن كعب : تخفض رجالا كانوا في الدنيا مرتفعين ، وترفع رجالا
كانوا في الدنيا مخفوضين ، وقال السدي : خفضت المتكبرين ورفعت المتواضعين ، وقال
العوفي عن ابن عباس (خافِضَةٌ رافِعَةٌ) أسمعت القريب والبعيد ،
__________________
وقال عكرمة : خفضت
فأسمعت الأدنى ، ورفعت فأسمعت الأقصى ، وكذا قال الضحاك وقتادة.
وقوله تعالى : (إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا) أي حركت تحريكا فاهتزت واضطربت بطولها وعرضها ، ولهذا قال
ابن عباس ومجاهد وقتادة وغير واحد في قوله تعالى : (إِذا رُجَّتِ
الْأَرْضُ رَجًّا) أي زلزلت زلزالا ، وقال الربيع بن أنس : ترج بما فيها كرج
الغربال بما فيه ، وهذا كقوله تعالى : (إِذا زُلْزِلَتِ
الْأَرْضُ زِلْزالَها) [الزلزلة : ١]
وقال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ
اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) [الحج : ١]. وقوله
تعالى : (وَبُسَّتِ الْجِبالُ
بَسًّا) أي فتتت فتا ، قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة وغيرهم
، وقال ابن زيد صارت الجبال كما قال الله تعالى : (كَثِيباً مَهِيلاً).
وقوله تعالى : (فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا) قال أبو إسحاق عن الحارث عن علي رضي الله عنه : هباء منبثا
كرهج الغبار يسطع ثم يذهب فلا يبقى منه شيء ، وقال العوفي عن ابن عباس في قوله (فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا) الهباء الذي يطير من النار إذا اضطرمت يطير منه الشرر فإذا
وقع لم يكن شيئا ، وقال عكرمة : المنبث الذي قد ذرته الريح وبثته. وقال قتادة (هَباءً مُنْبَثًّا) كيبيس الشجر الذي تذروه الرياح. وهذه الآية كأخواتها
الدالة على زوال الجبال عن أماكنها يوم القيامة وذهابها وتسييرها ونسفها أي قلعها
وصيرورتها كالعهن المنفوش.
وقوله تعالى : (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً) أي ينقسم الناس يوم القيامة إلى ثلاثة أصناف : قوم عن يمين
العرش. وهم الذين خرجوا من شق آدم الأيمن ، ويؤتون كتبهم بأيمانهم ويؤخذ بهم ذات
اليمين ، وقال السدي : وهم جمهور أهل الجنة ، وآخرون عن يسار العرش وهم الذين
خرجوا من شق آدم الأيسر ويؤتون كتبهم بشمائلهم ويؤخذ بهم ذات الشمال وهم عامة أهل
النار ـ عياذا بالله من صنيعهم ـ وطائفة سابقون بين يديه عزوجل ، وهم أخص وأحظى وأقرب من أصحاب اليمين الذين هم سادتهم ،
فيهم الرسل والأنبياء والصديقون والشهداء ، وهم أقل عددا من أصحاب اليمين ، ولهذا
قال تعالى : (فَأَصْحابُ
الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ
الْمَشْئَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) وهكذا قسمهم إلى هذه الأنواع الثلاثة في آخر السورة وقت
احتضارهم ، وهكذا ذكرهم في قوله تعالى : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا
الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ
وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ) [فاطر : ٣٢] الآية.
وذلك على أحد
القولين في الظالم لنفسه كما تقدم بيانه ، قال سفيان الثوري عن جابر الجعفي عن
مجاهد عن ابن عباس في قوله : (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً
ثَلاثَةً) قال : هي التي في سورة الملائكة (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ
اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ
وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ) [فاطر : ٣٢]. وقال
ابن جريج عن ابن عباس : هذه الأزواج الثلاثة هم المذكورون
في آخر السورة وفي
سورة الملائكة ، وقال يزيد الرقاشي : سألت ابن عباس عن قوله : (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً) قال : أصنافا ثلاثة.
وقال مجاهد (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً) يعني فرقا ثلاثة. وقال ميمون بن مهران : أفواجا ثلاثة ،
وقال عبيد الله العتكي عن عثمان بن سراقة ابن خالة عمر بن الخطاب (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً) اثنان في الجنة وواحد في النار . وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن الصباح ،
حدثنا الوليد بن أبي ثور عن سماك عن النعمان بن بشير قال : قال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم (وَإِذَا النُّفُوسُ
زُوِّجَتْ) [التكوير : ٧] قال
: الضرباء ، كل رجل من كل قوم كانوا يعملون عمله ، وذلك بأن الله تعالى يقول (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً
فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما
أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) قال : هم الضرباء.
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن عبد الله بن المثنى ، حدثنا البراء الغنوي
، حدثنا الحسن عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم تلا هذه الآية (وَأَصْحابُ
الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ) فقبض بيده قبضتين فقال : «هذه للجنة ولا أبالي وهذه للنار
ولا أبالي».
وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا حسن : حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا خالد بن أبي
عمران عن القاسم بن محمد عن عائشة عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «أتدرون من السابقون إلى ظل الله يوم القيامة؟»
قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : «الذين إذا أعطوا الحق قبلوه وإذا سئلوه بذلوه
وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم» وقال محمد بن كعب وأبو حرزة ويعقوب بن مجاهد (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) هم الأنبياء عليهمالسلام. وقال السدي : هم أهل عليين ، وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد
عن ابن عباس (وَالسَّابِقُونَ
السَّابِقُونَ) قال : يوشع بن نون ، سبق إلى موسى ومؤمن آل يس ، سبق إلى
عيسى وعلي بن أبي طالب سبق إلى محمد رسول الله صلىاللهعليهوسلم. رواه ابن أبي حاتم عن محمد بن هارون الفلاس عن عبد الله
بن إسماعيل المدائني البزاز ، عن شعيب بن الضحاك المدائني عن سفيان بن عيينة عن
ابن أبي نجيح به.
وقال ابن أبي حاتم
وذكر عن محمد بن أبي حماد : حدثنا مهران عن خارجة عن قرة عن ابن سيرين (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) الذين صلوا إلى القبلتين ورواه ابن جرير من حديث خارجة به. وقال الحسن وقتادة (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) أي من كل أمة ، وقال الأوزاعي عن عثمان بن أبي سودة أنه
قرأ هذه الآية (وَالسَّابِقُونَ
السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) ثم قال : أولهم رواحا إلى
__________________
المسجد وأولهم
خروجا في سبيل الله ، وهذه الأقوال كلها صحيحة فإن المراد بالسابقين هم
المبادرون إلى فعل الخيرات كما أمروا ، كما قال تعالى : (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ
وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) [آل عمران : ١٣٣]
وقال تعالى : (سابِقُوا إِلى
مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) [الحديد : ٢١]
وقال فمن سابق في هذه الدنيا وسبق إلى الخير كان في الآخرة من السابقين إلى
الكرامة ، فإن الجزاء من جنس العمل ، وكما تدين تدان ، ولهذا قال تعالى : (أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ
النَّعِيمِ).
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبي : حدثنا يحيى بن زكريا القزاز الرازي ، حدثنا خارجة بن مصعب عن زيد بن
أسلم عن عطاء بن يسار ، عن عبد الله بن عمرو قال : قالت الملائكة يا رب جعلت لبني
آدم الدنيا فهم يأكلون ويشربون ويتزوجون فاجعل لنا الآخرة ، فقال : لا أفعل ،
فراجعوا ثلاثا فقال : لا أجعل من خلقت بيدي كمن قلت له كن فكان. ثم قرأ عبد الله (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ
الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) وقد روى هذا الأثر الإمام عثمان بن سعيد الدارمي في كتابه
الرد على الجهمية ولفظه : فقال الله عزوجل : لن أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له كن فكان.
(ثُلَّةٌ مِنَ
الْأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ مِنَ
الْآخِرِينَ (١٤) عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ
(١٥) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (١٦) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ
وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (١٧) بِأَكْوابٍ
وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ(١٨)
لا
يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (١٩)
وَفاكِهَةٍ
مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (٢٠) وَلَحْمِ طَيْرٍ
مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢١) وَحُورٌ عِينٌ (٢٢)
كَأَمْثالِ
اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (٢٣) جَزاءً بِما كانُوا
يَعْمَلُونَ (٢٤) لا يَسْمَعُونَ
فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (٢٥)
إِلاَّ
قِيلاً سَلاماً سَلاماً)
(٢٦)
يقول تعالى مخبرا
عن هؤلاء السابقين المقربين أنهم ثلة أي جماعة من الأولين وقليل من الآخرين ، وقد
اختلفوا في المراد بقوله الأولين والآخرين فقيل : المراد بالأولين الأمم الماضية
وبالآخرين هذه الأمة ، وهذا رواية عن مجاهد والحسن البصري ، رواها عنهما ابن أبي
حاتم : وهو اختيار ابن جرير واستأنس بقوله صلىاللهعليهوسلم : «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة» ولم يحك غيره ولا
عزاه إلى أحد.
ومما يستأنس به
لهذا القول ما رواه الإمام أبو محمد بن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن عيسى
بن الطباع ، حدثنا شريك عن محمد بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال : لما
نزلت (ثُلَّةٌ مِنَ
الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) شق ذلك على أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم فنزلت (ثُلَّةٌ مِنَ
الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة ثلث أهل الجنة ، بل
أنتم نصف أهل الجنة أو شطر أهل الجنة وتقاسمونهم النصف الثاني» ورواه الإمام
__________________
أحمد عن أسود بن عامر عن شريك عن محمد بياع الملاء عن أبيه عن
أبي هريرة فذكره.
وقد روي من حديث
جابر نحو هذا ، ورواه الحافظ ابن عساكر من طريق هشام بن عمار ، حدثنا عبد ربه بن
صالح عن عروة بن رويم عن جابر بن عبد الله عن النبي صلىاللهعليهوسلم : لما نزلت (إِذا وَقَعَتِ
الْواقِعَةُ) ذكر فيها (ثُلَّةٌ مِنَ
الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) قال عمر : يا رسول الله ثلة من الأولين وقليل منا؟ قال :
فأمسك آخر السورة سنة ثم نزل (ثُلَّةٌ مِنَ
الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «يا عمر تعال فاسمع ما قد أنزل الله (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ
مِنَ الْآخِرِينَ) ألا وإن من آدم إلى ثلة وأمتي ثلة ، ولن نستكمل ثلتنا حتى
نستعين بالسودان من رعاة الإبل ممن شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له» هكذا
أورده في ترجمة عروة بن رويم إسنادا ومتنا ، ولكن في إسناده نظر ، وقد وردت طرق
كثيرة متعددة بقوله صلىاللهعليهوسلم : «إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة» الحديث بتمامه وهو
مفرد في صفة الجنة ، ولله الحمد والمنة. وهذا الذي اختاره ابن جرير هاهنا فيه نظر
بل هو قول ضعيف ، لأن هذه الأمة هي خير الأمم بنص القرآن ، فيبعد أن يكون المقربون
في غيرها أكثر منها ، اللهم إلا أن يقابل مجموع الأمم بهذه الأمة ، والظاهر أن
لمقربين من هؤلاء أكثر من سائر الأمم والله أعلم. فالقول الثاني في هذا المقام هو
الراجح ، هو أن يكون المراد بقوله تعالى : (ثُلَّةٌ مِنَ
الْأَوَّلِينَ) أي من صدر هذه الأمة (وَقَلِيلٌ مِنَ
الْآخِرِينَ) أي من هذه الأمة.
قال ابن أبي حاتم
: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا عفان ، حدثنا عبد الله بن بكر المزني ،
سمعت الحسن أتى على هذه الآية (وَالسَّابِقُونَ
السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) فقال: ما السابقون فقد مضوا ولكن اللهم اجعلنا من أصحاب
اليمين. ثم قال : حدثنا أبي ، حدثنا أبو لوليد ، حدثنا السري بن يحيى قال : قرأ
الحسن (وَالسَّابِقُونَ
السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ثُلَّةٌ مِنَ
الْأَوَّلِينَ) قال ثلة ممن مضى من هذه الأمة.
وحدثنا أبي حدثنا
عبد العزيز بن المغيرة المنقري حدثنا أبو هلال عن محمد بن سيرين أنه قال في هذه
الآية (ثُلَّةٌ مِنَ
الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) قال : كانوا يقولون أو يرجون أن يكونوا كلهم من هذه الأمة
، فهذا قول الحسن وابن سيرين أن الجميع من هذه الأمة ، ولا شك أن أول كل أمة خير
من آخرها ، فيحتمل أن تعم الآية جميع الأمم كل أمة بحسبها ، ولهذا ثبت في الصحاح
وغيرها من غير وجه أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» الحديث بتمامه.
__________________
فأما الحديث الذي
رواه الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا زياد أبو عمر عن الحسن عن عمار
بن ياسر قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «مثل أمتي مثل المطر لا يدري أوله خير أم آخره» فهذا
الحديث ، بعد الحكم بصحة إسناده ، محمول على أن الدين كما هو محتاج إلى أول الأمة
في إبلاغه إلى من بعدهم ، كذلك هو محتاج إلى القائمين به في أواخرها وتثبيت الناس
على السنة وروايتها وإظهارها ، والفضل للمتقدم وكذلك الزرع هو محتاج إلى المطر
الأول وإلى المطر الثاني ، ولكن العمدة الكبرى على الأول واحتياج الزرع إليه آكد ،
فإنه لو لاه ما نبت في الأرض ولا تعلق أساسه فيها ولهذا قال عليهالسلام «لا تزال طائفة من
أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى قيام الساعة» وفي لفظ «حتى
يأتي أمر الله تعالى وهم كذلك» والغرض أن هذه الأمة أشرف من سائر الأمم ، والمقربون فيها
أكثر من غيرها وأعلى منزلة لشرف دينها وعظم نبيها ، ولهذا ثبت بالتواتر عن رسول
الله صلىاللهعليهوسلم ، أنه أخبر أن في هذه الأمة سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير
حساب وفي لفظ «مع كل ألف سبعون ألفا ـ وفي آخر ـ مع كل واحد سبعون ألفا .
وقال الحافظ أبو
القاسم الطبراني : حدثنا هشام بن يزيد الطبراني ، حدثنا محمد هو ابن إسماعيل بن
عياش ، حدثني أبي ، حدثني ضمضم يعني ابن زرعة عن شريح هو ابن عبيد ، عن أبي مالك
قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أما والذي نفسي بيده ليبعثن منكم يوم القيامة مثل الليل
الأسود زمرة جميعها يحيطون الأرض ، تقول الملائكة لما جاء مع محمد صلىاللهعليهوسلم أكثر مما جاء مع الأنبياء عليهمالسلام».
وحسن أن يذكر
هاهنا عند قوله تعالى : (ثُلَّةٌ مِنَ
الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البيهقي في دلائل النبوة
حيث قال : أخبرنا أبو نصر بن قتادة ، أخبرنا أبو عمرو بن مطر ، أخبرنا جعفر بن
محمد بن المستفاض الفريابي ، حدثني أبو وهب الوليد بن عبد الملك بن عبد الله بن
مسرح الحراني ، حدثنا سليمان بن عطاء القرشي الحراني عن مسلمة بن عبد الله الجهني
، عن عمه أبي مشجعة بن ربعي ابن زمل الجهني رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم إذا صلى الصبح يقول وهو ثان رجليه «سبحان الله وبحمده
أستغفر الله إن الله كان توابا» سبعين مرة ثم يقول : «سبعين بسبعمائة لا خير لمن
كانت ذنوبه في يوم واحد أكثر من سبعمائة» ثم يقول ذلك مرتين ثم يستقبل الناس
بوجهه.
وكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم تعجبه الرؤيا ثم يقول «هل رأى أحد منكم شيئا؟» قال ابن زمل
:
__________________
فقلت أنا يا رسول
الله ، فقال «خير تلقاه ، وشر توقاه ، وخير لنا ، وشر على أعدائنا الحمد لله رب
العالمين اقصص رؤياك» فقلت : رأيت جميع الناس على طريق رحب سهل لا حب والناس على الجادة منطلقين ، فبينما هم كذلك إذ أشفى ذلك الطريق على مرج لم تر عيني مثله ، يرف رفيفا يقطر ماؤه
فيه من أنواع الكلأ ، قال وكأني بالرعلة الأولى حين أشفوا على المرج كبروا ثم أكبّوا رواحلهم في الطريق ، فلم يظلموه يمينا ولا شمالا ، قال فكأني أنظر إليهم منطلقين ، ثم جاءت
الرعلة الثانية ، وهم أكثر منهم أضعافا فلما أشفوا على المرج كبروا ثم أكبوا
رواحلهم في الطريق ، فمنهم المرتع ومنهم الآخذ الضغث ، ومضوا على ذلك ، قال ثم قدم عظم الناس ، فلما أشفوا على المرج كبروا وقالوا هذا خير المنزل ،
كأني أنظر إليهم يميلون يمينا وشمالا ، فلما رأيت ذلك لزمت الطريق حتى آتي أقصى
المرج ، فإذا أنا بك يا رسول الله على منبر فيه سبع درجات وأنت في أعلاها درجة ،
وإذا عن يمينك رجل آدم شثل أقنى إذا هو تكلم يسمو فيفرع الرجال طولا ، وإذا عن يسارك رجل ربعة باذ كثير خيلان الوجه ، كأنما حمّم شعره بالماء إذا هو تكلم أصغيتم إكراما له ، وإذا أمام ذلك رجل شيخ
أشبه الناس بك خلقا ووجها كلكم تأمونه تريدونه وإذا أمام ذلك ناقة عجفاء شارف ، وإذا أنت يا رسول الله كأنك تبعثها.
قال : فامتقع لون
رسول الله صلىاللهعليهوسلم ساعة ثم سري عنه ، وقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أما ما رأيت من الطريق السهل الرحب اللاحب ، فذاك ما
حملتكم عليه من الهدى وأنتم عليه ، وأما المرج الذي
__________________
رأيت فالدنيا
وغدارة عيشها ، مضيت أنا وأصحابي لم نتعلق منها بشيء ولم تتعلق منا ولم نردها ولم
تردنا ، ثم جاءت الرعلة الثانية من بعدنا وهم أكثر منا أضعافا ، فمنهم المرتع
ومنهم الآخذ الضغث ونجوا على ذلك ، ثم جاء عظم الناس فمالوا في المرج يمينا وشمالا
فإنا لله وإنا إليه راجعون. وأما أنت فمضيت على طريقة صالحة ، فلن تزال عليها حتى
تلقاني ، وأما المنبر الذي رأيت فيه سبع درجات وأنا في أعلاها درجة فالدنيا سبعة
آلاف سنة ، أنا في آخرها ألفا ، وأما الرجل الذي رأيت على يميني الآدم الشثل فذلك
موسى عليهالسلام ، إذا تكلم يعلو الرجال بفضل كلام الله إياه ، والذي رأيت
عن يساري الباذ الربعة الكثير خيلان الوجه كأنما حمم شعره بالماء ، فذلك عيسى ابن
مريم نكرمه لإكرام الله إياه ، وأما الشيخ الذي رأيت أشبه الناس بي خلقا ووجها
فذاك أبونا إبراهيم كلنا نؤمه ونقتدي به ، وأما الناقة التي رأيت ورأيتني أبعثها
فهي الساعة علينا تقوم لا نبي بعدي ولا أمة بعد أمتي «قال : فما سأل رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن رؤيا بعد هذا إلا أن يجيء الرجل فيحدثه بها متبرعا.
وقوله تعالى : (عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ) قال ابن عباس : أي مرمولة بالذهب يعني منسوجة به ، وكذا
قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وزيد بن أسلم وقتادة والضحاك وغيره ، وقال السدي :
مرمولة بالذهب واللؤلؤ ، وقال عكرمة : مشبكة بالدر والياقوت ، وقال ابن جرير : ومنه يسمى وضين الناقة الذي تحت بطنها ، وهو فعيل بمعنى
مفعول لأنه مضفور ، وكذلك السرر في الجنة مضفورة بالذهب واللئالئ.
وقوله تعالى : (مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ) أي وجوه بعضهم إلى بعض ليس أحد وراء أحد (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ
مُخَلَّدُونَ) أي مخلدون على صفة واحدة لا يتكبرون عنها ولا يشيبون ولا
يتغيرون (بِأَكْوابٍ
وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) أما الأكواب فهي الكيزان التي لا خراطيم لها ولا آذان ،
والأباريق التي جمعت الوصفين والكؤوس الهنابات ، والجميع من خمر من عين جارية معين
، ليس من أوعية تنقطع وتفرغ بل من عيون سارحة.
وقوله تعالى : (لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا
يُنْزِفُونَ) أي لا تصدع رؤوسهم ولا تنزف عقولهم ، بل هي ثابتة مع الشدة
المطربة واللذة الحاصلة ، وروى الضحاك عن ابن عباس أنه قال : في الخمر أربع خصال :
السكر ، والصداع ، والقيء ، والبول ، فذكر الله تعالى خمر الجنة ونزهها عن هذه
الخصال. وقال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وعطية وقتادة والسدي (لا يُصَدَّعُونَ عَنْها) يقول ليس لهم فيها صداع رأس وقالوا في قوله : (وَلا يُنْزِفُونَ) أي لا تذهب بعقولهم.
وقوله تعالى : (وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ
وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) أي ويطوفون عليهم بما يتخيرون من الثمار ، وهذه الآية دليل
على جواز أكل الفاكهة على صفة التخير لها ، ويدل على
__________________
ذلك حديث عكراش بن
ذؤيب الذي رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي رحمهالله في مسنده ، حدثنا العباس بن الوليد النرسي ، حدثنا العلاء
بن الفضل بن عبد الملك بن أبي سوية ، حدثنا عبيد الله بن عكراش عن أبيه عكراش بن
ذؤيب قال : بعثني بنو مرة في صدقات أموالهم إلى رسول اللهصلىاللهعليهوسلم ، فقدمت المدينة فإذا هو جالس بين المهاجرين والأنصار
وقدمت عليه بإبل كأنها عروق الأرطى قال : «من الرجل؟» قلت : عكراش بن ذؤيب ، قال «ارفع في
النسب» فانتسبت له إلى مرة بن عبيد وهذه صدقة مرة بن عبيد ، فتبسم رسول الله صلىاللهعليهوسلم وقال : «هذه إبل قومي هذه صدقات قومي» ثم أمر بها أن توسم
بميسم إبل الصدقة وتضم إليها ، ثم أخذ بيدي فانطلقنا إلى منزل أم سلمة فقال : «هل
من طعام؟» فأتينا بجفنة كالقصعة كثيرة الثريد والوذر ، فجعل يأكل منها فأقبلت أخبط بيدي في جوانبها فقبض رسول
الله صلىاللهعليهوسلم بيده اليسرى على يدي اليمنى فقال : يا عكراش ، كل من موضع
واحد فإنه طعام واحد. ثم أتينا بطبق فيه تمر أو رطب شك عبيد الله رطبا كان أو تمرا
، فجعلت آكل من بين يدي وجالت يد رسول اللهصلىاللهعليهوسلم في الطبق وقال : يا عكراش ، كل من حيث شئت فإنه غير لون
واحد. ثم أتينا بماء فغسل رسول اللهصلىاللهعليهوسلم يده ومسح ببلل كفيه وجهه وذراعيه ورأسه ثلاثا ثم قال : «يا
عكراش هذا الوضوء مما غيرت النار» .
وهكذا رواه
الترمذي مطولا وابن ماجة جميعا عن محمد بن بشار عن أبي الهذيل العلاء بن الفضل به
، وقال الترمذي : غريب لا نعرفه إلا من حديثه.
وقال الإمام أحمد : حدثنا بهز بن أسد وعفان ، وقال الحافظ أبو يعلى حدثنا
شيبان ، قالوا حدثنا سليمان بن المغيرة ، حدثنا ثابت قال : قال أنس كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم تعجبه الرؤيا ، فربما رأى الرجل الرؤيا فسأل عنه إذا لم
يكن يعرفه ، فإذا أثنى عليه معروف كان أعجب لرؤياه إليه ، فأتته امرأة فقالت : يا
رسول الله رأيت كأني أتيت فأخرجت من المدينة فأدخلت الجنة ، فسمعت وجبة انتحبت لها
الجنة ، فنظرت فإذا فلان بن فلان وفلان بن فلان فسمت اثني عشر رجلا ، كان النبي صلىاللهعليهوسلم قد بعث سرية قبل ذلك فجيء بهم عليهم ثياب طلس تشخب أوداجهم ، فقيل اذهبوا بهم إلى نهر البيدخ أو البيذخ
، قال فغمسوا فيه فخرجوا ووجوههم كالقمر ليلة البدر ، فأتوا بصحفة من ذهب فيها بسر
، فأكلوا من بسره ما شاؤوا فما يقلبونها من وجه إلا أكلوا من الفاكهة ما أرادوا ،
وأكلت معهم فأتى البشير من تلك السرية ، فقال ما كان
__________________
من رؤيا كذا وكذا
فأصيب فلان وفلان حتى عد اثني عشر رجلا ، فدعا رسول الله صلىاللهعليهوسلم المرأة ، فقال قصي رؤياك ، فقصتها وجعلت تقول فجيء بفلان
وفلان كما قال. هذا لفظ أبي يعلى ، قال الحافظ الضياء : وهذا على شرط مسلم.
وقال الحافظ أبو
القاسم الطبراني : حدثنا معاذ بن المثنى ، حدثنا علي بن المديني ، حدثنا ريحان بن
سعيد عن عباد بن منصور عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي أسماء ، عن ثوبان قال : قال
رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن الرجل إذا نزع ثمرة في الجنة عادت مكانها أخرى».
وقوله تعالى : (وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) قال الإمام أحمد : حدثنا سيار بن حاتم ، حدثنا جعفر بن سليمان الضبعي ،
حدثنا ثابت عن أنس قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «إن طير الجنة
كأمثال البخت يرعى في شجر الجنة» فقال أبو بكر : يا رسول الله إن هذه لطير ناعمة ،
فقال «آكلها أنعم منها ـ قالها ثلاثا ـ وإني لأرجو أن تكون ممن يأكل منها» انفرد به
أحمد من هذا الوجه.
وروى الحافظ أبو
عبد الله المقدسي في كتابه صفة الجنة من حديث إسماعيل بن علي الخطمي عن أحمد بن
علي الخيوطي عن عبد الجبار بن عاصم عن عبد الله بن زياد ، عن زرعة عن نافع عن ابن
عمر قال : ذكرت عند النبي صلىاللهعليهوسلم طوبى فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «يا أبا بكر هل بلغك ما طوبى؟» قال : الله ورسوله أعلم.
قال «طوبى شجرة في الجنة ما يعلم طولها إلا الله يسير الراكب تحت غصن من أغصانها
سبعين خريفا ورقها الحلل يقع عليها الطير كأمثال البخت» فقال أبو بكر : يا رسول
الله إن هناك لطيرا ناعما؟ قال «أنعم منه من يأكله وأنت منهم إن شاء الله تعالى»
وقال قتادة في قوله تعالى : (وَلَحْمِ طَيْرٍ
مِمَّا يَشْتَهُونَ) وذكر لنا أن أبا بكر قال : يا رسول الله إني أرى طيرها
ناعمة كأهلها ناعمون ، قال «من يأكلها والله يا أبا بكر أنعم منها وإنها لأمثال
البخت وإني لأحتسب على الله أن تأكل منها يا أبا بكر».
وقال أبو بكر بن
أبي الدنيا : حدثني مجاهد بن موسى ، حدثنا معن بن عيسى ، حدثني ابن أخي ابن شهاب
عن أبيه عن أنس بن مالك أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم سئل عن الكوثر فقال : «نهر أعطانيه ربي عزوجل في الجنة أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل ، فيه طيور
أعناقها يعني كأعناق الجزر» فقال عمر : إنها لناعمة ، قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «آكلها أنعم منها» وكذا رواه الترمذي عن عبد بن حميد عن القعنبي عن محمد بن
عبد الله بن مسلم بن شهاب عن أبيه عن أنس ، وقال حسن.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبي ، حدثنا علي بن محمد الطنافسي ، حدثنا أبو معاوية عن عبيد الله بن
الوليد الرصافي عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم
__________________
«إن في الجنة
لطيرا فيه سبعون ألف ريشة فيقع على صحفة الرجل من أهل الجنة فينتفض ، فيخرج من كل
ريشة يعني لونا أبيض من اللبن وألين من الزبد وأعذب من الشهد ، ليس منها لون يشبه
صاحبه ثم يطير» هذا حديث غريب جدا والرصافي وشيخه ضعيفان ، ثم قال ابن أبي حاتم:
حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن صالح كاتب الليث ، حدثني الليث ، حدثنا خالد بن
يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن أبي حازم عن عطاء عن كعب قال : إن طائر الجنة أمثال
البخت يأكل من ثمرات الجنة ويشرب من أنهار الجنة ، فيصطففن له فإذا اشتهى منها
شيئا أتى حتى يقع بين يديه ، فيأكل من خارجه وداخله ثم يطير لم ينقص منه شيء ،
صحيح إلى كعب وقال الحسن بن عرفة : حدثنا خلف بن خليفة عن حميد الأعرج عن عبد الله
بن الحارث عن عبد الله بن مسعود قال : قال لي رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إنك لتنظر إلى الطير في الجنة فتشتهيه فيخر بين يديك
مشويا».
وقوله تعالى : (وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ
الْمَكْنُونِ) قرأ بعضهم بالرفع وتقديره ولهم فيها حور عين! وقراءة الجر
تحتمل معنيين : أحدهما أن يكون الإعراب على الإتباع بما قبله كقوله تعالى : (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ
مُخَلَّدُونَ بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ لا يُصَدَّعُونَ
عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا
يَشْتَهُونَ وَحُورٌ عِينٌ) كما قال تعالى : (وَامْسَحُوا
بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ) [المائدة : ٦]
وكما قال تعالى : (عالِيَهُمْ ثِيابُ
سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ) [الإنسان : ٢١]
والاحتمال الثاني أن يكون مما يطوف به الولدان المخلدون عليهم الحور العين ، ولكن
يكون ذلك في القصور لا بين بعضهم بعضا ، بل في الخيام يطوف عليهم الخدام بالحور
العين ، والله أعلم. وقوله تعالى : (كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ
الْمَكْنُونِ) أي كأنهن اللؤلؤ الرطب في بياضه وصفائه كما تقدم في سورة
الصافات (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ
مَكْنُونٌ) [الصافات : ٤٩]
وقد تقدم في سورة الرّحمن وصفهن أيضا ، ولهذا قال : (جَزاءً بِما كانُوا
يَعْمَلُونَ) أي هذا الذي أتحفناهم به مجازاة لهم على ما أحسنوا من
العمل.
ثم قال تعالى : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا
تَأْثِيماً إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً) أي لا يسمعون في الجنة كلاما لاغيا أي عبثا خاليا عن
المعنى أو مشتملا على معنى حقير أو ضعيف كما قال (لا تَسْمَعُ فِيها
لاغِيَةً) [الغاشية : ١١] أي
كلمة لاغية (وَلا تَأْثِيماً) أي ولا كلاما فيه قبح (إِلَّا قِيلاً
سَلاماً سَلاماً) أي إلا التسليم منهم بعضهم على بعض كما قال تعالى : (تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) [إبراهيم : ٢٣]
وكلامهم أيضا سالم من اللغو والإثم.
(وَأَصْحابُ
الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (٢٧) فِي سِدْرٍ
مَخْضُودٍ (٢٨) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ(٢٩)
وَظِلٍّ
مَمْدُودٍ (٣٠) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (٣١) وَفاكِهَةٍ
كَثِيرَةٍ (٣٢) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا
مَمْنُوعَةٍ (٣٣) وَفُرُشٍ
مَرْفُوعَةٍ (٣٤) إِنَّا
أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (٣٥)
فَجَعَلْناهُنَّ
أَبْكاراً (٣٦) عُرُباً أَتْراباً (٣٧) لِأَصْحابِ
الْيَمِينِ (٣٨) ثُلَّةٌ مِنَ
الْأَوَّلِينَ (٣٩) وَثُلَّةٌ مِنَ
الْآخِرِينَ)
(٤٠)
لما ذكر تعالى مآل
السابقين وهم المقربون ، عطف عليهم بذكر أصحاب اليمين وهم
الأبرار ، كما قال
ميمون بن مهران أصحاب اليمين منزلتهم دون المقربين فقال (وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ
الْيَمِينِ) أي أي شيء أصحاب اليمين وما حالهم وكيف مآلهم. ثم فسر ذلك
فقال تعالى : (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ) قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد وأبو الأحوص وقسامة بن زهير
والسفر بن نسير ، والحسن وقتادة وعبد الله بن كثير والسدي وأبو حزرة وغيرهم : هو
الذي لا شوك فيه ، وعن ابن عباس : هو الموقر بالثمر ، وهو رواية عن عكرمة ومجاهد ،
وكذا قال قتادة أيضا : كنا نحدث أنه الموقر الذي لا شوك فيه ، والظاهر أن المراد
هذا وهذا ، فإن سدر الدنيا كثير الشوك قليل الثمر ، وفي الآخرة على عكس من هذا لا شوك
فيه وفيه الثمر الكثير الذي قد أثقل أصله.
كما قال الحافظ
أبو بكر أحمد بن سلمان النجّاد ، حدثنا محمد بن محمد هو البغوي ، حدثني حمزة بن
العباس ، حدثنا عبد الله بن عثمان حدثنا عبد الله بن المبارك ، أخبرنا صفوان بن
عمرو عن سليم بن عامر قال : كان أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقولون : إن الله لينفعنا بالأعراب ومسائلهم ، قال : أقبل
أعرابي يوما فقال : يا رسول الله ذكر الله في الجنة شجرة تؤذي صاحبها ، فقال رسول
الله : «وما هي؟» قال السدر فإن له شوكا مؤذيا. فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أليس الله تعالى يقول (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ) خضد الله شوكه فجعل مكان كل شوكة ثمرة ، فإنها لتنبت ثمرا
تفتق الثمرة منها عن اثنين وسبعين لونا من طعام ، ما فيها لون يشبه الآخر».
[طريق آخر] قال
أبو بكر بن أبي داود : حدثنا محمد بن المصفى ، حدثنا محمد بن المبارك ، حدثني يحيى
بن حمزة ، حدثني ثور بن يزيد ، حدثني حبيب بن عبيد عن عتبة بن عبد السلمي قال :
كنت جالسا مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم : فجاء أعرابي فقال : يا رسول الله أسمعك تذكر في الجنة
شجرة لا أعلم شجرة أكثر شوكا منها ، يعني الطلح ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «إن الله يجعل
مكان كل شوكة منها ثمرة مثل خصوة التيس الملبود ، فيها سبعون لونا من الطعام لا
يشبه لون آخر» وقوله (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) الطلح شجر عظام يكون بأرض الحجاز من شجر العضاه واحدته
طلحة ، وهو شجر كثير الشوك ، وأنشد ابن جرير لبعض الحداة : [البسيط]
بشّرها دليلها
وقالا
|
|
غدا ترين الطلح
والجبالا
|
وقال مجاهد (مَنْضُودٍ) أي متراكم الثمر يذكر بذلك قريشا لأنهم كانوا يعجبون من
وجّ ظلاله من طلح وسدر وقال السدي : (مَنْضُودٍ) مصفود. قال ابن عباس : يشبه طلح الدنيا ، ولكن له ثمر أحلى
من العسل ، قال الجوهري والطلح لغة في الطلع قلت : وقد روى ابن أبي حاتم من حديث
الحسن بن سعد عن شيخ من همدان قال : سمعت عليا يقول هذا الحرف في
__________________
(طَلْحٍ مَنْضُودٍ) ، قال : طلع منضود ، فعلى هذا يكون من صفة السدر ، فكأنه
وصفه بأنه مخضود ، وهو الذي لا شوك له ، وأن طلعه منضود وهو كثرة ثمره ، والله
أعلم. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو معاوية عن إدريس عن
جعفر بن إياس عن أبي نضرة عن أبي سعيد (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) قال الموز ، قال وروي عن ابن عباس وأبي هريرة والحسن
وعكرمة وقسامة بن زهير وقتادة وأبي حزرة مثل ذلك وبه قال مجاهد وابن زيد : وزاد
فقال : أهل اليمن يسمون الموز الطلح ، ولم يحك ابن جرير غير هذا القول.
وقوله تعالى : (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) قال البخاري : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا سفيان عن أبي
الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة ، يبلغ به النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا
يقطعها ، اقرءوا إن شئتم (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) ورواه مسلم من حديث الأعرج به. وقال الإمام أحمد : حدثنا سريج ، حدثنا فليح عن هلال بن علي ، عن عبد
الرّحمن بن أبي عمرة عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام ،
اقرءوا إن شئتم (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) وكذا رواه مسلم من حديث الأعرج به. وكذا رواه البخاري عن محمد بن سنان عن فليح به ، وكذا رواه عبد الرزاق عن
معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة ، وكذا رواه حماد بن سلمة عن محمد بن زياد عن
أبي هريرة والليث بن سعد عن سعيد المقبري ، عن أبيه عن أبي هريرة : وعوف عن ابن
سيرين ، عن أبي هريرة به.
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر وحجاج قالا : حدثنا شعبة ، سمعت أبا
الضحاك يحدث عن أبي هريرة عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها سبعين ـ أو
مائة ـ سنة هي شجرة الخلد». وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا يزيد
بن هارون عن محمد بن عمرو بن أبي سلمة عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام ما
يقطعها ، واقرءوا إن شئتم (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) إسناده جيد ولم يخرجوه ، وهكذا رواه ابن جرير عن أبي كريب
عن عبدة وعبد الرّحيم والبخاري ، كلهم عن محمد بن عمرو به ، وقد رواه الترمذي من
حديث عبد الرّحمن بن سليمان به.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا مهران ، حدثنا إسماعيل بن أبي
خالد عن زياد مولى بني مخزوم عن أبي هريرة قال : إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في
ظلها مائة عام
__________________
اقرءوا إن شئتم (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) فبلغ ذلك كعبا
فقال : صدق والذي أنزل التوراة على موسى والفرقان على محمد ، لو أن رجلا ركب حقة
أو جذعة ثم دار بأعلى تلك الشجرة ما بلغها حتى يسقط هرما ، إن الله غرسها بيده
ونفخ فيها من روحه ، وإن أفنانها لمن وراء ستار الجنة وما في الجنة نهر إلا وهو
يخرج من أصل تلك الشجرة.
وقال الحافظ أبو
يعلى الموصلي : حدثنا محمد بن منهال الضرير : حدثنا يزيد بن زريع عن سعيد بن أبي
عروبة عن قتادة عن أنس عن النبي صلىاللهعليهوسلم في قول الله تعالى : (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) قال : «في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا
يقطعها» وكذا رواه البخاري عن روح بن عبد المؤمن عن يزيد بن زريع ، وهكذا رواه أبو
داود الطيالسي عن عمران بن داود القطان عن قتادة به ، وكذا رواه معمر وأبو هلال عن
قتادة به ، وقد أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد وسهل بن سعد عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إن في الجنة شجرة يسير الراكب الجواد المضمّر السريع مائة عام ما يقطعها» فهذا حديث ثابت عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، بل متواتر مقطوع بصحته عند أئمة الحديث النقاد ، لتعدد
طرقه وقوة أسانيده وثقة رجاله.
وقد قال الإمام
أبو جعفر بن جرير : حدثنا أبو كريب ، حدثنا أبو بكر ، حدثنا أبو حصين قال :
كنا على باب في موضع ومعنا أبو صالح وشقيق يعني الضبي ، فحدث أبو صالح قال: حدثني
أبو هريرة قال : إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها سبعين عاما ، قال أبو صالح:
أتكذب أبا هريرة؟ قال : ما أكذب أبا هريرة ولكني أكذبك أنت ، فشق ذلك على القراء
يومئذ. قلت : فقد أبطل من يكذب بهذا الحديث مع ثبوته وصحته ورفعه إلى رسول اللهصلىاللهعليهوسلم وقال الترمذي : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا زياد بن
الحسن بن الفرات القزاز عن أبيه عن جده عن أبي حازم عن أبي هريرة قال : قال رسول
الله صلىاللهعليهوسلم : «ما في الجنة شجرة إلا ساقها من ذهب» ثم قال : حسن غريب.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا الحسن بن أبي الربيع ، حدثنا أبو عامر العقدي عن زمعة بن صالح عن سلمة بن
وهرام عن عكرمة عن ابن عباس قال : الظل الممدود شجرة في الجنة على ساق ظلها قدر ما
يسير الراكب في كل نواحيها ، مائة عام ، قال : فيخرج إليها أهل الجنة أهل
__________________
الغرف وغيرهم
فيتحدثون في ظلها ، قال : فيشتهي بعضهم ويذكر لهو الدنيا فيرسل الله ريحا من الجنة
، فتحرك تلك الشجرة بكل لهو في الدنيا. هذا أثر غريب إسناده جيد قوي حسن.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا ابن يمان حدثنا سفيان ، حدثنا أبو إسحاق عن عمرو
بن ميمون في قوله تعالى : (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) قال سبعون ألف سنة ، وكذا رواه ابن جرير عن بندار عن ابن
مهدي عن سفيان مثله ، ثم قال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا مهران عن سفيان عن أبي إسحاق عن
عمرو بن ميمون (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) قال : خمسمائة ألف سنة.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبي حدثنا أبو الوليد الطيالسي ، حدثنا حصين بن نافع عن الحسن في قول الله
تعالى : (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) قال : في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة لا
يقطعها ، وقال عوف عن الحسن : بلغني أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا
يقطعها» رواه ابن جرير وقال شبيب عن عكرمة عن ابن عباس : في الجنة شجر لا يحمل
يستظل به ، رواه ابن أبي حاتم ، وقال الضحاك والسدي وأبو حزرة في قوله تعالى : (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) لا ينقطع ، ليس فيها شمس ولا حر مثل قبل طلوع الفجر ، وقال
ابن مسعود : الجنة سجسج كما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، وقد تقدمت الآيات
كقوله تعالى : (وَنُدْخِلُهُمْ
ظِلًّا ظَلِيلاً) [النساء : ٥٧]
وقوله : (أُكُلُها دائِمٌ
وَظِلُّها) [الرعد : ٣٥] وقوله : (فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ) [المرسلات : ٤١]
إلى غير ذلك من الآيات وقوله تعالى : (وَماءٍ مَسْكُوبٍ) قال الثوري : يجري في غير أخدود ، وقد تقدم الكلام عند
تفسير قوله تعالى : (فِيها أَنْهارٌ مِنْ
ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ) [محمد : ١٥]
الآية. بما أغنى عن إعادته هاهنا.
وقوله تعالى : (وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقْطُوعَةٍ
وَلا مَمْنُوعَةٍ) أي وعندهم من الفواكه الكثيرة المتنوعة في الألوان مما لا
عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، كما قال تعالى : (كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ
رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) [البقرة : ٢٥] أي
يشبه الشكل الشكل ولكن الطعم غير الطعم ، وفي الصحيحين في ذكر سدرة المنتهى : «فإذا
ورقها كآذان الفيلة ونبقها مثل قلال هجر» . وفيهما أيضا من حديث مالك عن زيد عن عطاء بن يسار عن ابن
عباس قال : خسفت الشمس فصلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم والناس معه فذكر الصلاة ، وفيه قالوا : يا رسول الله
رأيناك تناولت شيئا في مقامك هذا ثم رأيناك تكعكعت ، قال : «إني رأيت الجنة
فتناولت منها عنقودا ، ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا».
__________________
وقال الحافظ أبو
يعلى : حدثنا أبو خيثمة ، حدثنا عبد الله بن جعفر ، حدثنا عبيد الله ، حدثنا ابن
عقيل عن جابر قال : بينا نحن في صلاة الظهر إذ تقدم رسول الله صلىاللهعليهوسلم فتقدمنا معه ، ثم تناول شيئا ليأخذه ثم تأخر ، فلما قضى
الصلاة قال أبي بن كعب : يا رسول الله صنعت اليوم في الصلاة شيئا ما كنت تصنعه ،
قال : «إنه عرضت علي الجنة وما فيها من الزهرة والنضرة ، فتناولت منها قطفا من عنب
لآتيكم به فحيل بيني وبينه ، ولو أتيتكم به لأكل منه من بين السماء والأرض لا ينقص
منه» وروى مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر نحوه.
وقال الإمام أحمد : حدثنا علي بن بحر ، حدثنا هشام بن يوسف ، أخبرنا معمر عن
يحيى بن أبي كثير عن عامر بن زيد البكالي أنه سمع عتبة بن عبد السلمي يقول : جاء
أعرابي إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فسأله عن الحوض وذكر الجنة ثم قال الأعرابي : فيها فاكهة؟
قال : «نعم وفيها شجرة تدعى طوبى». قال : فذكر شيئا لا أدري ما هو ، قال : أي شجر
أرضنا تشبه؟ قال : «ليست تشبه شيئا من شجر أرضك؟» فقال النبي صلىاللهعليهوسلم أتيت الشام؟ قال : لا. قال : «تشبه شجرة بالشام تدعى
الجوزة تنبت على ساق واحدة وينفرش أعلاها». قال : ما عظم العنقود؟ قال : «مسيرة
شهر للغراب الأبقع لا يفتر». قال : ما عظم أصلها؟ قال : «لو ارتحلت جذعة من إبل
أهلك ما أحاطت بأصلها حتى تنكسر ترقوتها هرما» قال : فيها عنب؟ قال : «نعم» قال :
فما عظم الحبة؟ قال : «هل ذبح أبوك تيسا من غنمه قط عظيما؟» قال : نعم ، قال : «فسلخ
إهابه فأعطاه أمك فقال اتخذي لنا منه دلوا؟» قال : نعم. قال الأعرابي : فإن تلك
الحبة لتشبعني وأهل بيتي؟ قال : «نعم وعامة عشيرتك».
وقوله تعالى : (لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ) أي لا تنقطع شتاء ولا صيفا بل أكلها دائم مستمر أبدا ،
مهما طلبوا وجدوا لا يمتنع عليهم بقدرة الله شيء ، وقال قتادة : لا يمنعهم من
تناولها عود ولا شوك ولا بعد ، وقد تقدم في الحديث «إذا تناول الرجل الثمرة عادت
مكانها أخرى» وقوله تعالى : (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) أي عالية وطيئة ناعمة قال النسائي وأبو عيسى الترمذي : حدثنا
أبو كريب ، حدثنا رشدين بن سعد عن عمرو بن الحارث عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي
سعيد عن النبي صلىاللهعليهوسلم في قوله تعالى : (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) قال : «ارتفاعها كما بين السماء والأرض ومسيرة ما بينهما
خمسمائة عام ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث
رشدين بن سعد ، قال : وقال بعض أهل العلم : معنى هذا الحديث ارتفاع الفرش في
الدرجات وبعد ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض ، هكذا قال إنه لا يعرف هذا
إلا من رواية رشدين بن سعد ، وهو المصري وهو ضعيف ، وهكذا رواه أبو جعفر بن جرير
عن أبي
__________________
كريب عن رشدين به.
ثم رواه هو وابن
أبي حاتم كلاهما عن يونس بن عبد الأعلى ، عن ابن وهب عن عمرو بن الحارث فذكره ،
وكذا رواه ابن أبي حاتم أيضا عن نعيم بن حماد عن ابن وهب ، وأخرجه الضياء في صفة
الجنة من حديث حرملة عن ابن وهب به مثله ، ورواه الإمام أحمد عن حسن بن موسى عن ابن لهيعة ، حدثنا دراج فذكره.
وقال ابن أبي حاتم أيضا : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو معاوية عن جويبر عن
أبي سهل يعني كثير بن زياد عن الحسن (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) قال : ارتفاع فراش الرجل من أهل الجنة مسيرة ثمانين سنة.
وقوله تعالى : (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً
فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً عُرُباً أَتْراباً لِأَصْحابِ الْيَمِينِ) جرى الضمير على غير مذكور. ولكن لما دل السياق وهو ذكر
الفرش على النساء اللاتي يضاجعن فيها اكتفى بذلك عن ذكرهن وعاد الضمير عليهن كما
في قوله تعالى : (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ
بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ
عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) [ص : ٣١ ـ ٣٢]
يعني الشمس على المشهور من قول المفسرين ، وقال الأخفش في قوله تعالى : (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً) أضمرهن ولم يذكرهن قبل ذلك ، وقال أبو عبيدة : ذكرن في
قوله تعالى : (وَحُورٌ عِينٌ
كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) فقوله تعالى : (إِنَّا
أَنْشَأْناهُنَ) أي أعدناهن في النشأة الأخرى بعد ما كن عجائز رمصا ، صرن أبكارا عربا أي بعد الثيوبة عدن أبكارا عربا متحببات
إلى أزواجهن بالحلاوة والظرافة والملاحة.
وقال بعضهم (عُرُباً) أي غنجات ، قال موسى بن عبيدة الربذي عن يزيد الرقاشي عن
أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : (إِنَّا
أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً) قال نساء عجائز كن في الدنيا عمشا رمصا» رواه الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم ثم قال الترمذي : غريب ، وموسى ويزيد ضعيفا
، وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عوف الحمصي ، حدثنا آدم يعني ابن أبي إياس ،
حدثنا شيبان عن جابر عن يزيد بن مرة عن سلمة بن يزيد قال : سمعت رسول اللهصلىاللهعليهوسلم يقول في قوله تعالى : (إِنَّا
أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً) يعني الثيب والأبكار اللاتي كن في الدنيا. وقال عبد بن
حميد : حدثنا مصعب بن مقدام ، حدثنا المبارك بن فضالة عن الحسن قال : أتت عجوز
فقالت يا رسول الله ادع الله تعالى أن يدخلني الجنة فقال : «يا أم فلان إن الجنة
لا تدخلها عجوز» قال : فولت تبكي. قال : «أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز ، إن
الله تعالى يقول (إِنَّا
أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً). وهكذا رواه الترمذي في الشمائل عن عبد بن حميد.
__________________
وقال أبو القاسم
الطبراني : حدثنا بكر بن سهل الدمياطي ، حدثنا عمرو بن هاشم البيروتي، أخبرنا
سليمان بن أبي كريمة عن هشام بن حسان عن الحسن عن أمه عن أم سلمة قالت: قلت يا
رسول الله أخبرني عن قول الله تعالى : (حُورٌ عِينٌ) قال : «حور بيض عين ضخام العيون شفر الحوراء بمنزلة جناح
النسر» قلت : أخبرني عن قوله تعالى : (كَأَمْثالِ
اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) قال : «صفاؤهن صفاء الدر الذي في الأصداف الذي لم تمسه
الأيدي» قلت : أخبرني عن قوله: (فِيهِنَّ خَيْراتٌ
حِسانٌ) قال «خيرات الأخلاق حسان الوجوه» قلت : أخبرني عن قوله (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ) قال : «رقتهن كرقة الجلد الذي رأيت في داخل البيضة مما يلي
القشر وهو الغرقئ» قلت : يا رسول الله أخبرني عن قوله (عُرُباً أَتْراباً) قال «هن اللواتي قبضن في الدار الدنيا عجائز رمصا شمصا ،
خلقهن الله بعد الكبر فجعلهن عذارى عربا متعشقات محببات أترابا على ميلاد واحد»
قلت : يا رسول الله نساء الدنيا أفضل أم الحور العين؟ قال : «بل نساء الدنيا أفضل
من الحور العين كفضل الظهارة على البطانة» قلت : يا رسول الله وبم ذاك؟ قال : «بصلاتهن
وصيامهن وعبادتهن الله عزوجل. ألبس الله وجوههن النور وأجسادهن الحرير. بيض الألوان خضر
الثياب صفر الحلي مجامرهن الدر وأمشاطهن الذهب ، يقلن نحن الخالدات فلا نموت أبدا
ونحن الناعمات فلا نبأس أبدا ، ونحن المقيمات فلا نظعن أبدا ألا ونحن الراضيات فلا
نسخط أبدا ، طوبى لمن كنا له وكان لنا» قلت : يا رسول الله المرأة منا تتزوج زوجين
والثلاثة والأربعة ثم تموت فتدخل الجنة ويدخلون معها ، من يكون زوجها؟ قال : «يا
أم سلمة إنها تخير فتختار أحسنهم خلقا ، فتقول يا رب إن هذا كان أحسن خلقا معي
فزوجنيه ، يا أم سلمة ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة».
وفي حديث الصور
الطويل المشهور أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، يشفع للمؤمنين كلهم في دخول الجنة ، فيقول الله تعالى قد
شفعتك وأذنت لهم بدخولها ، فكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «والذي بعثني بالحق ما أنتم في الدنيا بأعرف
بأزواجكم ومساكنكم من أهل الجنة بأزواجهم ومساكنهم ، فيدخل الرجل منهم على ثنتين
وسبعين زوجة سبعين مما ينشئ الله ، وثنتين من ولد آدم لهما فضل على من أنشأ الله
بعبادتهما الله في الدنيا ، يدخل على الأولى منهما في غرفة من ياقوتة على سرير من
ذهب مكلل باللؤلؤ عليه سبعون زوجا من سندس وإستبرق ، وإنه ليضع يده بين كتفيها ثم
ينظر إلى يده من صدرها من وراء ثيابها وجلدها ولحمها ، وإنه لينظر إلى مخ ساقها
كما ينظر أحدكم إلى السلك في قصبة الياقوت كبده لها مرآة ، يعني وكبدها له مرآة ،
فبينما هو عندها لا يملها ولا تمله ولا يأتيها من مرة إلا وجدها عذراء ، ما يفتر
ذكره ولا يشتكي قبلها إلا أنه لا مني ولا منية ، فبينما هو كذلك إذ نودي إنا قد
عرفنا أنك لا تمل ولا تمل ، إلا أن لك أزواجا غيرها فيخرج فيأتيهن واحدة واحدة ،
كلما جاء واحدة قالت : والله ما في الجنة شيء أحسن منك ، وما في الجنة شيء أحب إلي
منك» وقال عبد الله بن وهب :
أخبرني عمرو بن
الحارث عن دراج عن ابن حجيرة عن أبي هريرة عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال له : أنطأ في الجنة؟ قال «نعم ، والذي نفسي بيده
دحما دحما ، فإذا قام عنها رجعت مطهرة بكرا».
وقال الطبراني :
حدثنا إبراهيم بن جابر الفقيه البغدادي ، حدثنا محمد بن عبد الملك الدقيقي الواسطي
حدثنا معلى بن عبد الرّحمن الواسطي ، حدثنا شريك عن عاصم الأحول عن أبي المتوكل عن
أبي سعيد قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن أهل الجنة إذا جامعوا نساءهم عدن أبكارا».
وقال أبو داود
الطيالسي : أخبرنا عمران عن قتادة عن أنس قال : قال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم : «يعطى المؤمن في الجنة قوة كذا وكذا في النساء ، قلت :
يا رسول الله ويطيق ذلك؟ قال : يعطى قوة مائة» ورواه الترمذي من حديث أبي داود وقال : صحيح غريب. وروى
أبو القاسم الطبراني من حديث حسين بن علي الجعفي عن زائدة عن هشام بن حسان ، عن
محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال : قيل يا رسول الله هل نصل إلى نسائنا في الجنة؟
قال : «إن الرجل ليصل في اليوم إلى مائة عذراء» قال الحافظ أبو عبد الله المقدسي :
هذا الحديث عندي على شرط الصحيح والله أعلم.
وقوله : (عُرُباً) قال سعيد بن جبير عن ابن عباس : يعني متحببات إلى أزواجهن
، ألم تر إلى الناقة الضبعة هي كذلك ، وقال الضحاك عن ابن عباس : العرب العواشق
لأزواجهن وأزواجهن لهن عاشقون ، وكذا قال عبد الله بن سرجس ومجاهد وعكرمة وأبو
العالية ويحيى بن أبي كثير وعطية والحسن وقتادة والضحاك وغيرهم ، وقال ثور بن يزيد
عن عكرمة قال : سئل ابن عباس عن قوله : (عُرُباً) قال : هي الملقة لزوجها. وقال شعبة عن سماك عن عكرمة : هي
الغنجة. وقال الأجلح بن عبد الله عن عكرمة : هي الشكلة ، وقال صالح بن حيّان عن
عبد الله بن بريدة في قوله : (عُرُباً) قال : الشكلة بلغة أهل مكة والغنجة بلغة أهل المدينة ،
وقال تميم بن حذلم : هي حسن التبعل. وقال زيد بن أسلم وابنه عبد الرّحمن : العرب
حسنات الكلام وقال ابن أبي حاتم ذكر عن سهل بن عثمان العسكري ، حدثنا أبو علي عن
جعفر بن محمد عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : (عُرُباً) ـ قال ـ كلامهن عربي».
وقوله : (أَتْراباً) قال الضحاك عن ابن عباس : يعني في سن واحدة ثلاث وثلاثين
سنة ، وقال مجاهد : الأتراب المستويات ، وفي رواية عنه الأمثال ، وقال عطية
الأقران وقال السدي
__________________
(أَتْراباً) أي في الأخلاق المتواخيات بينهن ، ليس بينهن تباغض ولا
تحاسد ، يعني لا كما كن ضرائر متعاديات. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج
، حدثنا أبو أسامة عن عبد الله بن الكهف عن الحسن ومحمد (عُرُباً أَتْراباً) قالا : المستويات الأسنان يأتلفن جميعا ويلعبن جميعا.
وقد روى أبو عيسى
الترمذي عن أحمد بن منيع عن أبي معاوية عن عبد الرّحمن بن إسحاق عن النعمان بن سعد
عن علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن في الجنة لمجتمعا للحور العين يرفعن أصواتا لم تسمع
الخلائق بمثلها ـ قال ـ يقلن نحن الخالدات فلا نبيد ، ونحن الناعمات فلا نبأس ونحن
الراضيات فلا نسخط طوبى لمن كان لنا وكنا له» ثم قال : هذا حديث غريب.
وقال الحافظ أبو
يعلى : أخبرنا أبو خيثمة ، حدثنا إسماعيل بن عمر ، حدثنا ابن أبي ذئب عن فلان ابن
عبد الله بن رافع عن بعض ولد أنس بن مالك عن أنس أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إن الحور العين ليغنين في الجنة يقلن نحن خيرات
حسان خبئنا لأزواج كرام» قلت : إسماعيل بن عمر هذا هو أبو المنذر الواسطي أحد
الثقات الأثبات. وقد روى هذا الحديث الإمام عبد الرّحيم بن إبراهيم الملقب بدحيم
عن ابن أبي فديك ، عن ابن أبي ذئب عن عون بن الخطاب بن عبد الله بن رافع عن ابن
لأنس عن أنس قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن الحور العين يغنين في الجنة نحن الحور الحسان خلقنا
لأزواج كرام» وقوله تعالى : (لِأَصْحابِ
الْيَمِينِ) أي خلقن لأصحاب اليمين أو ادخرن لأصحاب اليمين أو زوجن
لأصحاب اليمين ، والأظهر أنه متعلق بقوله (إِنَّا
أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً عُرُباً أَتْراباً لِأَصْحابِ
الْيَمِينِ) فتقديره أنشأناهن لأصحاب اليمين ، وهذا توجيه ابن جرير.
وروي عن أبي
سليمان الداراني رحمهالله تعالى قال : صليت ليلة ثم جلست أدعو وكان البرد شديدا
فجعلت أدعو بيد واحدة ، فأخذتني عيني فنمت فرأيت حوراء لم ير مثلها وهي تقول : يا
أبا سليمان أتدعو بيد واحدة وأنا أغذى لك في النعيم منذ خمسمائة سنة.
قلت : ويحتمل أن
يكون قوله : (لِأَصْحابِ
الْيَمِينِ) متعلقا بما قبله وهو قوله : (أَتْراباً لِأَصْحابِ
الْيَمِينِ) أي في أسنانهم ، كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري
ومسلم من حديث جرير عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال : قال رسول
الله صلىاللهعليهوسلم : «أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر ،
والذين يلونهم على ضوء أشد كوكب دري في السماء إضاءة ، لا يبولون ولا يتغوطون ولا
يتفلون ولا يتمخطون ، أمشاطهم الذهب ورشحهم المسك ومجامرهم الألوة ، وأزواجهم
الحور العين ، أخلاقهم على خلق رجل واحد على صورة
__________________
أبيهم آدم ستون
ذراعا في السماء» .
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون وعفان قالا : حدثنا حماد بن سلمة
وروى الطبراني واللفظ له من حديث حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان عن سعيد بن
المسيب عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «يدخل أهل الجنة الجنة جردا مردا بيضا جعادا مكحلين
أبناء ثلاث وثلاثين ، وهم على خلق آدم ستون ذراعا في عرض سبعة أذرع».
وروى الترمذي من
حديث أبي داود الطيالسي عن عمران القطان عن قتادة عن شهر بن حوشب عن عبد الرّحمن
بن غنم عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «يدخل أهل الجنة الجنة جردا مردا مكحلين بني ثلاث
وثلاثين سنة» ثم قال : حسن غريب.
وقال ابن وهب :
أخبرنا عمرو بن الحارث أن دراجا أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم عن أبي سعيد قال :
قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من مات من أهل الجنة من صغير أو كبير يردون بني ثلاث
وثلاثين في الجنة لا يزيدون عليها أبدا وكذلك أهل النار» ورواه الترمذي عن سويد بن نصر عن ابن المبارك عن رشدين بن
سعد عن عمرو بن الحارث به.
وقال أبو بكر بن
أبي الدنيا : حدثنا القاسم بن هاشم ، حدثنا صفوان بن صالح ، حدثنا رواد بن الجراح
العسقلاني ، حدثنا الأوزاعي عن هارون بن رئاب عن أنس قال : قال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم : «يدخل أهل الجنة الجنة على طول آدم ستين ذراعا بذراع
الملك! على حسن يوسف ، وعلى ميلاد عيسى ثلاث وثلاثين سنة ، وعلى لسان محمد جرد مرد
مكحلون» وقال أبو بكر بن أبي داود : حدثنا محمود بن خالد وعباس بن الوليد قالا :
حدثنا عمر عن الأوزاعي عن هارون بن رئاب عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «يبعث أهل الجنة
على صورة آدم في ميلاد عيسى ثلاث وثلاثين جردا مردا مكحلين. ثم يذهب بهم إلى شجرة
في الجنة فيكسون منها لا تبلى ثيابهم ولا يفنى شبابهم».
وقوله تعالى : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ
مِنَ الْآخِرِينَ) أي جماعة من الأولين وجماعة من الآخرين.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا المنذر بن شاذان ، حدثنا محمد بن بكار ، حدثنا سعيد بن بشير عن قتادة عن
الحسن عن عمران بن حصين عن عبد الله بن مسعود ، قال وكان بعضهم يأخذ عن بعض قال :
أكرينا ذات ليلة عند رسول الله صلىاللهعليهوسلم ثم غدونا عليه فقال : «عرضت علي الأنبياء
__________________
وأتباعها بأممها
فيمر علي النبي والنبي في العصابة! والنبي في الثلاثة والنبي وليس معه أحد ـ وتلا
قتادة هذه الآية (أَلَيْسَ مِنْكُمْ
رَجُلٌ رَشِيدٌ) [هود : ٧٨] قال :
حتى مر علي موسى بن عمران في كبكبة من بني إسرائيل قال : قلت ربي من هذا؟ قال : هذا أخوك موسى
بن عمران ومن تبعه من بني إسرائيل! قال : قلت رب فأين أمتي؟ قال : انظر عن يمينك
في الظّراب قال فإذا وجوه الرجال قال : قال أرضيت؟ قال : قلت : قد
رضيت رب.
قال : انظر إلى
الأفق عن يسارك فإذا وجوه الرجال قال : أرضيت؟ قلت : قد رضيت رب. قال : فإن مع
هؤلاء سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب». قال وأنشأ عكاشة بن محصن من بني أسد
قال سعيد وكان بدريا قال : يا نبي الله ادع الله أن يجعلني منهم قال : فقال «اللهم
اجعله منهم» قال أنشأ رجل آخر قال : يا نبي الله ادع الله أن يجعلني منهم فقال :
«سبقك بها عكاشة» قال : فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «فإن استطعتم فداكم أبي وأمي أن تكونوا من أصحاب السبعين
فافعلوا ، وإلا فكونوا من أصحاب الظّراب ، وإلا فكونوا من أصحاب الأفق ، فإني قد
رأيت أناسا كثيرا قد تأشّبوا حوله ـ ثم قال ـ إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة»
فكبرنا ثم قال : «إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة» قال : فكبرنا قال : «إني
لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة» قال فكبرنا ، قال ثم تلا رسول الله صلىاللهعليهوسلم هذه الآية (ثُلَّةٌ مِنَ
الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) قال : فقلنا بيننا : من هؤلاء السبعون ألفا؟ فقلنا : هم
الذين ولدوا في الإسلام ولم يشركوا. قال : فبلغه ذلك فقال : «بل هم الذين لا
يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون».
وكذا رواه ابن
جرير من طريقين آخرين عن قتادة به نحوه ، وهذا الحديث له طرق كثيرة من غير هذا
الوجه في الصحاح وغيرها ، وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا مهران ، حدثنا سفيان عن أبان بن
أبي عياش عن سعيد بن جبير عن ابن عباس (ثُلَّةٌ مِنَ
الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «هما جميعا من أمتي».
(وَأَصْحابُ الشِّمالِ
ما أَصْحابُ الشِّمالِ (٤١) فِي سَمُومٍ
وَحَمِيمٍ (٤٢) وَظِلٍّ مِنْ
يَحْمُومٍ(٤٣) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (٤٤) إِنَّهُمْ كانُوا
قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (٤٥) وَكانُوا يُصِرُّونَ
عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (٤٦)
وَكانُوا
يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٤٧) أَوَآباؤُنَا
الْأَوَّلُونَ (٤٨) قُلْ إِنَّ
الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (٤٩) لَمَجْمُوعُونَ إِلى
مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٥٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ
أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (٥١) لَآكِلُونَ مِنْ
شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (٥٢) فَمالِؤُنَ مِنْهَا
الْبُطُونَ(٥٣) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ
مِنَ الْحَمِيمِ (٥٤) فَشارِبُونَ شُرْبَ
الْهِيمِ (٥٥) هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ)(٥٦)
لما ذكر تعالى حال
أصحاب اليمين عطف عليهم بذكر أصحاب الشمال فقال :
(وَأَصْحابُ
__________________
الشِّمالِ
ما أَصْحابُ الشِّمالِ) أي أيّ شيء هم فيه أصحاب الشمال؟ ثم فسر ذلك فقال : (فِي سَمُومٍ) وهو الهواء الحار (وَحَمِيمٍ) وهو الماء الحار (وَظِلٍّ مِنْ
يَحْمُومٍ) قال ابن عباس: ظل الدخان ، وكذا قال مجاهد وعكرمة وأبو
صالح وقتادة والسدي وغيرهم ، وهذه كقوله تعالى : (انْطَلِقُوا إِلى ما
كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ لا ظَلِيلٍ وَلا
يُغْنِي مِنَ اللهَبِ إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ كَأَنَّهُ جِمالَتٌ
صُفْرٌ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) [المرسلات : ٢٩ ـ ٣٤]
ولهذا قال هاهنا : (وَظِلٍّ مِنْ
يَحْمُومٍ) وهو الدخان الأسود (لا بارِدٍ وَلا
كَرِيمٍ) أي ليس طيب الهبوب ولا حسن المنظر كما قال الحسن وقتادة (وَلا كَرِيمٍ) أي ولا كريم المنظر ، قال الضحاك : كل شراب ليس بعذب فليس
بكريم.
وقال ابن جرير : العرب تتبع هذه اللفظة في النفي فيقولون : هذا الطعام
ليس بطيب ولا كريم ، هذا اللحم ليس بسمين ولا كريم. وهذه الدار ليست بنظيفة ولا
كريمة. وكذا رواه ابن جرير من طريقين آخرين عن قتادة به نحوه ، ثم ذكر تعالى
استحقاقهم لذلك فقال تعالى : (إِنَّهُمْ كانُوا
قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ) أي كانوا في الدار الدنيا منعمين مقبلين على لذات أنفسهم
لا يلوون ما جاءتهم به الرسل (وَكانُوا يُصِرُّونَ) أي يقيمون ولا ينوون توبة (عَلَى الْحِنْثِ
الْعَظِيمِ) وهو الكفر بالله وجعل الأوثان والأنداد أربابا من دون
الله. قال ابن عباس (الْحِنْثِ الْعَظِيمِ) : الشرك. وكذا قال مجاهد وعكرمة والضحاك وقتادة والسدي
وغيرهم. وقال الشعبي : هو اليمين الغموس.
(وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا
مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآباؤُنَا
الْأَوَّلُونَ) يعني أنهم يقولون ذلك مكذبين به مستبعدين لوقوعه ، قال
الله تعالى : (قُلْ إِنَّ
الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) أي أخبرهم يا محمد أن الأولين والآخرين من بني آدم سيجمعون
إلى عرصات القيامة لا يغادر منهم أحدا ، كما قال تعالى : (ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ
وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ يَوْمَ
يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) [هود : ١٠٣ ـ ١٠٥]
ولهذا قال هاهنا : (لَمَجْمُوعُونَ إِلى
مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) أي هو موقت بوقت محدود ، لا يتقدم ولا يتأخر ولا يزيد ولا
ينقص.
(ثُمَّ إِنَّكُمْ
أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ
فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) وذلك أنهم يقبضون ويسجرون حتى يأكلوا من شجر الزقوم حتى
يملؤوا منها بطونهم ، (فَشارِبُونَ عَلَيْهِ
مِنَ الْحَمِيمِ فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) وهي الإبل العطاش ، واحدها أهيم والأنثى هيماء ، ويقال :
هائم وهائمة ، قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة :
__________________
الهيم ، الإبل
العطاش الظماء ، وعن عكرمة أنه قال : الهيم الإبل المراض تمص الماء مصا ولا تروى.
وقال السدي : الهيم داء يأخذ الإبل فلا تروى أبدا حتى تموت ، فكذلك أهل جهنم لا
يروون من الحميم أبدا. وعن خالد بن معدان أنه كان يكره أن يشرب شرب الهيم عبة
واحدة من غير أن يتنفس ثلاثا ، ثم قال تعالى : (هذا نُزُلُهُمْ
يَوْمَ الدِّينِ) أي هذا الذي وصفنا هو ضيافتهم عند ربهم يوم حسابهم ، كما
قال تعالى في حق المؤمنين : (إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً) [الكهف : ١٠٧] أي
ضيافة وكرامة.
(نَحْنُ خَلَقْناكُمْ
فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ (٥٧) أَفَرَأَيْتُمْ ما
تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنْتُمْ
تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (٥٩) نَحْنُ قَدَّرْنا
بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠)
عَلى
أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (٦١)
وَلَقَدْ
عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ)
(٦٢)
يقول تعالى مقررا
للمعاد ، ورادا على المكذبين به من أهل الزيغ ، والإلحاد من الذين قالوا (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً
وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) [الصافات : ١٦]
وقولهم ذلك صدر منهم على وجه التكذيب والاستبعاد. فقال تعالى : (نَحْنُ خَلَقْناكُمْ) أي نحن ابتدأنا خلقكم بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا ، أفليس
الذي قدر على البداءة بقادر على الإعادة بطريق الأولى والأحرى؟ ولهذا قال : (فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ) أي فهلا تصدقون بالبعث! ثم قال مستدلا عليهم بقوله : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ
تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ) أي أنتم تقرونه في الأرحام وتخلقونه فيها أم الله الخالق
لذلك؟ ثم قال تعالى : (نَحْنُ قَدَّرْنا
بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ) أي صرفناه بينكم ، وقال الضحاك : ساوى فيه بين أهل السماء
والأرض (وَما نَحْنُ
بِمَسْبُوقِينَ) أي وما نحن بعاجزين (عَلى أَنْ نُبَدِّلَ
أَمْثالَكُمْ) أي نغير خلقكم يوم القيامة.
(وَنُنْشِئَكُمْ فِي
ما لا تَعْلَمُونَ) أي من الصفات والأحوال. ثم قال تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ
الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ) أي قد علمتم أن الله أنشأكم بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا
، فخلقكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة ، فهلا تتذكرون وتعرفون أن الذي قدر
على هذه النشأة وهي البداءة ، قادر على النشأة الأخرى وهي الإعادة بطريق الأولى
والأحرى ، كما قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي
يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم : ٢٧] وقال
تعالى : (أَوَلا يَذْكُرُ
الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) [مريم : ٦٧] وقال (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا
خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً
وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا
الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) [يس : ٧٧ ـ ٧٩]
وقال تعالى : (أَيَحْسَبُ
الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى ثُمَّ
كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ
وَالْأُنْثى أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) [القيامة : ٣٦ ـ ٤٠].
(أَفَرَأَيْتُمْ ما
تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ
تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤)
لَوْ
نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (٦٥)
إِنَّا
لَمُغْرَمُونَ (٦٦) بَلْ نَحْنُ
مَحْرُومُونَ (٦٧) أَفَرَأَيْتُمُ
الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (٦٨) أَأَنْتُمْ
أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (٦٩) لَوْ نَشاءُ
جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ (٧٠) أَفَرَأَيْتُمُ
النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١)
أَأَنْتُمْ
أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (٧٢) نَحْنُ جَعَلْناها
تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ
(٧٣) فَسَبِّحْ
بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ)
(٧٤)
يقول تعالى : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ) وهو شق الأرض وإثارتها والبذر فيها (أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ) أي تنبتونه في الأرض (أَمْ نَحْنُ
الزَّارِعُونَ) أي بل نحن الذين نقره قراره وننبته في الأرض. قال ابن جرير
: وقد حدثني أحمد بن الوليد القرشي ، حدثنا مسلم بن أبي مسلم الجرمي ، حدثنا
مخلد بن الحسين عن هشام عن محمد عن أبي هريرة قال : قال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم : «لا تقولن زرعت ولكن قل حرثت» قال أبو هريرة : ألم تسمع
إلى قوله تعالى : (أَفَرَأَيْتُمْ ما
تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) ورواه البزار عن محمد بن عبد الرّحيم عن مسلم الجرمي به ،
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد عن عطاء عن
أبي عبد الرّحمن : لا تقولوا زرعنا ولكن قولوا حدثنا وروي عن حجر المدري أنه كان
إذا قرأ (أَأَنْتُمْ
تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) وأمثالها يقول : بل أنت يا رب.
وقوله تعالى : (لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً) أي نحن أنبتناه بلطفنا ورحمتنا وأبقيناه لكم رحمة بكم بل
ولو نشاء لجعلناه حطاما أي لأيبسناه قبل استوائه واستحصاده (فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) ثم فسر ذلك بقوله : (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) أي لو جعلناه حطاما لظللتم تفكهون في المقالة تنوعون
كلامكم فتقولون تارة إنا لمغرمون أي لملقون.
وقال مجاهد وعكرمة
: إنا لموقع بنا. وقال قتادة : معذبون وتارة يقولون بل نحن محرومون. وقال مجاهد
أيضا : (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) ملقون للشر أي بل نحن محارفون ، قاله قتادة ، أي لا يثبت
لنا مال ولا ينتج لنا ربح ، وقال مجاهد : (بَلْ نَحْنُ
مَحْرُومُونَ) أي محدودون يعني لا حظ لنا ، وقال ابن عباس ومجاهد (فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) تعجبون. وقال مجاهد أيضا : (فَظَلْتُمْ
تَفَكَّهُونَ) تفجعون وتحزنون على ما فاتكم من زرعكم ، وهذا يرجع إلى
الأول ، وهو التعجب من السبب الذي من أجله أصيبوا في مالهم ، وهذا اختيار ابن جرير
. وقال عكرمة : (فَظَلْتُمْ
تَفَكَّهُونَ) تلاومون ، وقال الحسن وقتادة والسدي : (فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) تندمون ، ومعناه إما على ما أنفقتم أو على ما أسلفتم من
الذنوب ، قال الكسائي : تفكه من الأضداد ، تقول العرب تفكهت بمعنى تنعمت ، وتفكهت
بمعنى حزنت.
ثم قال تعالى : (أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي
تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ) يعني السحاب ، قاله ابن عباس ومجاهد وغير واحد (أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ) يقول بل نحن المنزلون (لَوْ نَشاءُ
__________________
جَعَلْناهُ
أُجاجاً) أي زعاقا مرا لا يصلح لشرب ولا زرع (فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ) أي فهلا تشكرون نعمة الله عليكم في إنزاله المطر عليكم
عذبا زلالا (لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ
وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ
وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً
لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [النحل : ١٠ ـ ١١].
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبي ، حدثنا عثمان بن سعيد بن مرة ، حدثنا فضيل بن مرزوق عن جابر عن أبي
جعفر عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه كان إذا شرب الماء قال : «الحمد لله الذي سقانا عذبا
فراتا برحمته ، ولم يجعله ملحا أجاجا بذنوبنا» ثم قال : (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي
تُورُونَ) أي تقدحون من الزناد وتستخرجونها من أصلها (أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها
أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ) أي بل نحن الذين جعلناها مودعة في موضعها. وللعرب شجرتان [إحداهما]
المرخ ، [والأخرى] العفار ، إذا أخذ منهما غصنان أخضران فحك أحدهما بالآخر تناثر
من بينهما شرر النار.
وقوله تعالى : (نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً) قال مجاهد وقتادة : أي تذكر النار الكبرى ، قال قتادة :
ذكر لنا أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «يا قوم ناركم هذه التي توقدون جزء من سبعين جزءا من
نار جهنم» قالوا : يا رسول الله إن كانت لكافية. قال : «إنها قد ضربت بالماء
ضربتين ـ أو مرتين ـ حتى يستنفع بها بنو آدم ويدنوا منها» وهذا الذي أرسله قتادة
قد رواه الإمام أحمد في مسنده فقال : حدثنا سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن
أبي هريرة عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «إن ناركم هذه جزء من سبعين جزءا من نار جهنم وضربت
بالبحر مرتين ، ولو لا ذلك ما جعل الله فيها منفعة لأحد» وقال الإمام مالك عن أبي
الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول اللهصلىاللهعليهوسلم قال : «نار بني آدم التي يوقدون جزء من سبعين جزءا من نار
جهنم» فقالوا : يا رسول الله إن كانت لكافية ، فقال : «إنها قد فضلت عليها بتسعة
وستين جزءا» رواه البخاري من حديث مالك ومسلم من حديث أبي الزناد ورواه
مسلم من حديث عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة به وفي لفظ «والذي نفسي
بيده لقد فضلت عليها بتسعة وستين جزءا كلهن مثل حرها» .
وقد قال أبو
القاسم الطبراني : حدثنا أحمد بن عمرو الخلال ، حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي ،
حدثنا معن بن عيسى القزار عن مالك عن عمه أبي سهل عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال
رسول الله صلىاللهعليهوسلم «أتدرون ما مثل
ناركم هذه من نار جهنم؟ لهي أشد سوادا من ناركم هذه بسبعين ضعفا» قال الضياء
المقدسي وقد رواه أبو مصعب عن مالك ولم يرفعه وهو عندي على
__________________
شرط الصحيح.
وقوله تعالى : (وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ) قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك والنضر بن عربي : يعني
بالمقوين المسافرين ، واختاره ابن جرير وقال : ومنه قولهم : أقوت الدار إذا رحل أهلها ، وقال غيره
: القي والقواء القفر الخالي البعيد من العمران. وقال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم
: المقوي هاهنا الجائع ، وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد : (وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ) ، للحاضر والمسافر لكل طعام لا يصلحه إلا النار ، وكذا روى
سفيان عن جابر الجعفي عن مجاهد ، وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد : قوله : (لِلْمُقْوِينَ) يعني المستمتعين من الناس أجمعين ، وكذا ذكر عن عكرمة ،
وهذا التفسير أعم من غيره ، فإن الحاضر والبادي من غني وفقير الجميع محتاجون إليها
للطبخ والاصطلاء والإضاءة وغير ذلك من المنافع ، ثم من لطف الله تعالى أن أودعها
في الأحجار وخالص الحديد بحيث يتمكن المسافر من حمل ذلك في متاعه وبين ثيابه ،
فإذا احتاج إلى ذلك في منزله أخرج زنده وأورى وأوقد ناره فأطبخ بها واصطلى بها
واشتوى ، واستأنس بها وانتفع بها سائر الانتفاعات ، فلهذا أفرد المسافرون وإن كان
ذلك عاما في حق الناس كلهم!
وقد يستدل له بما
رواه الإمام أحمد وأبو داود من حديث أبي خداش حبان بن زيد الشرعبي الشامي عن رجل
من المهاجرين من قرن أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «المسلمون شركاء في ثلاثة : النار والكلأ والماء» وروى ابن ماجة بإسناد جيد عن أبي هريرة قال : قال رسول
الله صلىاللهعليهوسلم : «ثلاث لا يمنعن : الماء والكلأ والنار» وله من حديث ابن عباس مرفوعا مثل هذا وزيادة «وثمنه حرام» ، ولكن في إسناده عبد الله بن خراش بن حوشب وهو ضعيف ،
والله أعلم.
وقوله تعالى : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) أي الذي بقدرته خلق هذه الأشياء المختلفة المتضادة : الماء
الزلال العذب البارد ولو شاء لجعله ملحا أجاجا كالبحار المغرقة ، وخلق النار
المحرقة وجعل ذلك مصلحة للعباد ، وجعل هذه منفعة لهم في معاش دنياهم وزجرا لهم في
المعاد.
(فَلا أُقْسِمُ
بِمَواقِعِ النُّجُومِ (٧٥) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ
لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ
كَرِيمٌ(٧٧) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (٧٨)
لا
يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (٧٩) تَنْزِيلٌ مِنْ
رَبِّ الْعالَمِينَ (٨٠) أَفَبِهذَا
الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (٨١)
وَتَجْعَلُونَ
رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ)
(٨٢)
__________________
قال جويبر عن
الضحاك : إن الله تعالى لا يقسم بشيء من خلقه ولكنه استفتاح يستفتح به كلامه ،
وهذا القول ضعيف ، والذي عليه الجمهور أنه قسم من الله يقسم بما شاء من خلقه ، وهو
دليل على عظمته ، ثم قال بعض المفسرين : لا هاهنا زائدة وتقديره أقسم بمواقع
النجوم ، ورواه ابن جرير عن سعيد بن جبير ويكون جوابه (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ
كَرِيمٌ) وقال آخرون : ليست لا زائدة لا معنى لها بل يؤتى بها في
أول القسم إذا كان مقسما به على منفي كقول عائشة رضي الله عنها. لا والله ما مست
يد رسول الله صلىاللهعليهوسلم يد امرأة قط ، وهكذا هاهنا تقدير الكلام : لا أقسم بمواقع
النجوم ، ليس الأمر كما زعمتم في القرآن أنه سحر أو كهانة بل هو قرآن كريم.
وقال ابن جرير وقال بعض أهل العربية : معنى قوله : (فَلا أُقْسِمُ) فليس الأمر كما تقولون ثم استأنف القسم بعد ذلك فقيل أقسم
واختلفوا في معنى قوله : (بِمَواقِعِ
النُّجُومِ) فقال حكيم بن جبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : يعني
نجوم القرآن فإنه نزل جملة ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء الدنيا ، ثم
نزل مفرقا في السنين بعد. ثم قرأ ابن عباس هذه الآية ، وقال الضحاك عن ابن عباس :
نزل القرآن جملة من عند الله من اللوح المحفوظ إلى السفرة الكرام الكاتبين في
السماء الدنيا ، فنجمته السفرة على جبريل عشرين ليلة ، ونجمه جبريل على محمدصلىاللهعليهوسلم عشرين سنة فهو قوله : (فَلا أُقْسِمُ
بِمَواقِعِ النُّجُومِ) نجوم القرآن ، وكذا قال عكرمة ومجاهد والسدي وأبو حزرة ،
وقال مجاهد أيضا : مواقع النجوم في السماء ويقال مطالعها ومشارقها.
وكذا قال الحسن
وقتادة وهو اختيار ابن جرير ، وعن قتادة : مواقعها منازلها ، وعن الحسن أيضا : أن
المراد بذلك انتثارها يوم القيامة. وقال الضحاك (فَلا أُقْسِمُ
بِمَواقِعِ النُّجُومِ) يعني بذلك الأنواء التي كان أهل الجاهلية إذا مطروا قالوا
: مطرنا بنوء كذا وكذا. وقوله : (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ
لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) أي وإن هذا القسم الذي أقسمت به لقسم عظيم ، لو تعلمون
عظمته لعظمتم المقسم به عليه (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ
كَرِيمٌ) أي إن هذا القرآن الذي نزل على محمد لكتاب عظيم (فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) أي معظم ، في كتاب معظم محفوظ موقر.
وقال ابن جرير حدثني إسماعيل بن موسى : أخبرنا شريك عن حكيم هو ابن جبير
عن سعيد بن جبير عن ابن عباس (لا يَمَسُّهُ إِلَّا
الْمُطَهَّرُونَ) قال : الكتاب الذي في السماء. وقال العوفي عن ابن عباس (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) يعني الملائكة ، وكذا قال أنس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير
والضحاك وأبو الشعثاء جابر بن زيد ، وأبو نهيك والسدي
__________________
وعبد الرّحمن بن
زيد بن أسلم وغيرهم.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن عبد الأعلى ، حدثنا ابن ثور ، حدثنا معمر عن
قتادة (لا يَمَسُّهُ إِلَّا
الْمُطَهَّرُونَ) قال : لا يمسه عند الله إلا المطهرون ، فأما في الدنيا
فإنه يمسه المجوسي النجس ، والمنافق الرجس ، وقال : وهي في قراءة ابن مسعود : ما
يمسه إلا المطهرون ، وقال أبو العالية (لا يَمَسُّهُ إِلَّا
الْمُطَهَّرُونَ) ليس أنتم ، أنتم أصحاب الذنوب ، وقال ابن زيد : زعمت كفار
قريش أن هذا القرآن تنزلت به الشياطين ، فأخبر الله تعالى أنه لا يمسه إلا
المطهرون كما قال تعالى : (وَما تَنَزَّلَتْ
بِهِ الشَّياطِينُ وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ
السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) [الشعراء : ٢١٢]
وهذا القول قول جيد ، وهو لا يخرج عن الأقوال التي قبله ، وقال الفراء : لا يجد
طعمه ونفعه إلا من آمن به.
وقال آخرون (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) أي من الجنابة والحدث قالوا : ولفظ الآية خبر ومعناها
الطلب ، قالوا : والمراد بالقرآن هاهنا المصحف ، كما روى مسلم عن ابن عمر أن رسول
الله صلىاللهعليهوسلم نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو واحتجوا في ذلك بما رواه الإمام مالك في موطئه عن عبد الله
بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلىاللهعليهوسلم لعمرو بن حزم أن لا يمس القرآن إلا طاهر .
وروى أبو داود في
المراسيل من حديث الزهري قال : قرأت في صحيفة عند أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم
أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «ولا يمس القرآن إلا طاهر» وهذه وجادة جيدة قد قرأها الزهري وغيره ، ومثل هذا ينبغي الأخذ به ،
وقد أسنده الدارقطني عن عمرو بن حزم وعبد الله بن عمر وعثمان بن أبي العاص وفي إسناد
كل منها نظر ، والله أعلم. وقوله تعالى : (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ
الْعالَمِينَ) أي هذا القرآن منزل من الله رب العالمين وليس هو كما
يقولون إنه سحر أو كهانة أو شعر ، بل هو الحق الذي لا مرية فيه وليس وراءه حق
نافع. وقوله تعالى : (أَفَبِهذَا
الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ) قال العوفي عن ابن عباس : أي مكذبون غير مصدقين ، وكذا قال
الضحاك وأبو حزرة والسدي ، وقال مجاهد (مُدْهِنُونَ) أي تريدون أن تمالئوهم فيه وتركنوا إليهم (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ
تُكَذِّبُونَ) قال بعضهم : معنى وتجعلون رزقكم بمعنى شكركم أنكم تكذبون
أي تكذبون بدل الشكر ، وقد روي عن علي وابن عباس أنهما قرءاها «وتجعلون شكركم أنكم
تكذبون» كما سيأتي وقال ابن جرير : وقد ذكر عن الهيثم بن عدي
__________________
أن من لغة
أزدشنوءة ما رزق فلان بمعنى ما شكر فلان.
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسين بن محمد ، حدثنا إسرائيل عن عبد الأعلى عن
أبي عبد الرّحمن عن علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : (وَتَجْعَلُونَ
رِزْقَكُمْ) يقول : شكركم (أَنَّكُمْ
تُكَذِّبُونَ) ، تقولون مطرنا بنوء كذا وكذا بنجم كذا وكذا» وهكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن مخول بن إبراهيم
النهدي ، وابن جرير عن محمد بن المثنى عن عبيد الله بن موسى ، وعن يعقوب بن
إبراهيم عن يحيى بن أبي بكير ، ثلاثتهم عن إسرائيل به مرفوعا ، وكذا رواه الترمذي
عن أحمد بن منيع عن حسين بن محمد وهو المروزي به ، وقال : حسن غريب ، وقد رواه
سفيان الثوري عن عبد الأعلى ولم يرفعه.
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة
عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، قال : ما مطر قوم قط إلا أصبح بعضهم
كافرا يقولون مطرنا بنوء كذا وكذا. وقرأ ابن عباس «وتجعلون شكركم أنكم تكذبون»
وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس.
وقال مالك في
الموطأ عن صالح بن كيسان عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن زيد بن
خالد الجهني أنه قال : صلى بنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم صلاة الصبح بالحديبية في أثر سماء كانت من الليل ، فلما
انصرف أقبل على الناس فقال : «هل تدرون ماذا قال ربكم» قالوا : الله ورسوله أعلم ،
قال : «قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ، فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته
فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب ، وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي ومؤمن
بالكواكب» أخرجاه في الصحيحين وأبو داود والنسائي ، كلهم من حديث
مالك به.
وقال مسلم : حدثنا
محمد بن سلمة المرادي وعمرو بن سواد ، حدثنا عبد الله بن وهب عن عمرو بن الحارث أن
أبا يونس حدثه عن أبي هريرة عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «ما أنزل الله من السماء من بركة إلا أصبح فريق
من الناس بها كافرين ، ينزل الغيث فيقولون بكوكب كذا وكذا» انفرد به مسلم من هذا الوجه.
__________________
وقال ابن جرير : حدثني يونس ، أخبرنا سفيان عن محمد بن إسحاق عن محمد بن
إبراهيم بن الحارث التيمي عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إن الله ليصبح القوم بالنعمة أو يمسيهم بها فيصبح
بها قوم كافرين ، يقولون مطرنا بنوء كذا وكذا» ، قال محمد : هو ابن إبراهيم ،
فذكرت هذا الحديث لسعيد بن المسيب فقال : ونحن قد سمعنا من أبي هريرة ، وقد أخبرني
من شهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يستسقي ، فلما استسقى التفت إلى العباس
فقال : يا عباس يا عم رسول الله كم أبقى من نوء الثريا؟ فقال : العلماء يزعمون
أنها تعترض في الأفق بعد سقوطها سبعا ، قال : فما مضت سابعة حتى مطروا ، وهذا
محمول على السؤال عن الوقت الذي أجرى الله فيه العادة بإنزال المطر ، لا أن ذلك
النوء مؤثر بنفسه في نزول المطر ، فإن هذا هو المنهي عن اعتقاده ، وقد تقدم شيء من
هذه الأحاديث عند قوله تعالى : (ما يَفْتَحِ اللهُ
لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها) [فاطر : ٢].
وقال ابن جرير : حدثني يونس ، أخبرنا سفيان عن إسماعيل بن أمية فيما
أحسبه أو غيره أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم سمع رجلا ومطروا يقول : مطرنا ببعض عثانين الأسد ، فقال : «كذبت
بل هو رزق الله» ثم قال ابن جرير : حدثني أبو صالح الصراري ، حدثنا أبو جابر محمد بن عبد
الملك الأزدي ، حدثنا جعفر بن الزبير عن القاسم ، عن أبي أمامة عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «ما مطر قوم من ليلة إلا أصبح قوم بها كافرين ـ ثم
قال ـ (وَتَجْعَلُونَ
رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) يقول قائل مطرنا بنجم كذا وكذا». وفي حديث عن أبي سعيد
مرفوعا : «لو قحط الناس سبع سنين ثم مطروا لقالوا مطرنا بنوء المجدح» . وقال مجاهد (وَتَجْعَلُونَ
رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) قال : قولهم في الأنواء مطرنا بنوء كذا ، وبنوء كذا ، يقول
: قولوا هو من عند الله وهو رزقه ، وهكذا قال الضحاك وغير واحد ، وقال قتادة : أما
الحسن فكان يقول بئس ما أخذ قوم لأنفسهم لم يرزقوا من كتاب الله إلا التكذيب ،
فمعنى قول الحسن هذا وتجعلون حظكم من كتاب الله أنكم تكذبون به ولهذا قال قبله : (أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ
مُدْهِنُونَ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ).
(فَلَوْ لا إِذا
بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (٨٣) وَأَنْتُمْ
حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (٨٤) وَنَحْنُ أَقْرَبُ
إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (٨٥) فَلَوْ لا إِنْ
كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (٨٦) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ
صادِقِينَ)(٨٧)
يقول تعالى : (فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ) أي الروح (الْحُلْقُومَ) أي الحلق وذلك حين الاحتضار ، كما قال تعالى : (كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ
وَقِيلَ مَنْ راقٍ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ
__________________
بِالسَّاقِ
إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ) [القيامة : ٢٦ ـ ٣٠]
ولهذا قال هاهنا : (وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ
تَنْظُرُونَ) أي إلى المحتضر وما يكابده من سكرات الموت (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ) أي بملائكتنا (وَلكِنْ لا
تُبْصِرُونَ) أي ولكن لا ترونهم ، كما قال تعالى في الآية الأخرى : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ
وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ
تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ
مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ) [الأنعام : ٦١ ـ ٦٢]
وقوله تعالى : (فَلَوْ لا إِنْ
كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَها) معناه فهلا ترجعون هذه النفس التي قد بلغت الحلقوم إلى
مكانها الأول ومقرها في الجسد إن كنتم غير مدينين. قال ابن عباس : يعني محاسبين ،
وروي عن مجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والضحاك والسدي وأبي حزرة مثله.
وقال سعيد بن جبير
والحسن البصري (فَلَوْ لا إِنْ
كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ) غير مصدقين أنكم تدانون وتبعثون وتجزون فردوا هذه النفس ،
وعن مجاهد (غَيْرَ مَدِينِينَ) غير موقنين. وقال ميمون بن مهران : غير معذبين مقهورين.
(فَأَمَّا إِنْ كانَ
مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ
وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (٨٩) وَأَمَّا إِنْ كانَ
مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩٠)
فَسَلامٌ
لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩١)
وَأَمَّا
إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (٩٢)
فَنُزُلٌ
مِنْ حَمِيمٍ (٩٣) وَتَصْلِيَةُ
جَحِيمٍ (٩٤) إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (٩٥)
فَسَبِّحْ
بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ)
(٩٦)
هذه الأحوال الثلاثة
هي أحوال الناس عند احتضارهم ، إما أن يكون من المقربين أو يكون ممن دونهم من
أصحاب اليمين ، وإما أن يكون من المكذبين بالحق الضالين عن الهدى الجاهلين بأمر
الله ، ولهذا قال تعالى : (فَأَمَّا إِنْ كانَ) أي المحتضر (مِنَ الْمُقَرَّبِينَ) وهم الذين فعلوا الواجبات والمستحبات ، وتركوا المحرمات
والمكروهات وبعض المباحات (فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ
وَجَنَّةُ نَعِيمٍ) أي فلهم روح وريحان وتبشرهم الملائكة بذلك عند الموت كما
تقدم في حديث البراء أن ملائكة الرحمة تقول : أيتها الروح الطيبة في الجسد الطيب
كنت تعمرينه ، اخرجي إلى روح وريحان ورب غير غضبان . قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (فَرَوْحٌ) يقول راحة وريحان يقول مستراحة ، وكذا قال مجاهد : إن
الروح الاستراحة ، وقال أبو حزرة : الراحة من الدنيا ، وقال سعيد بن جبير والسدي :
الروح الفرح ، وعن مجاهد (فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ) جنة ورخاء وقال قتادة : فروح فرحمة ، وقال ابن عباس ومجاهد
وسعيد بن جبير ، (وَرَيْحانٌ) رزق ، وكل هذه الأقوال متقاربة صحيحة ، فإن من مات مقربا
حصل له جميع ذلك من الرحمة والراحة والاستراحة ، والفرح والسرور والرزق الحسن ، (وَجَنَّةُ نَعِيمٍ) وقال أبو العالية : لا يفارق أحد من المقربين حتى يؤتى
بغصن من ريحان الجنة فيقبض روحه
__________________
فيه. وقال محمد بن
كعب : لا يموت أحد من الناس حتى يعلم من أهل الجنة هو أم من أهل النار.
وقد قدمنا أحاديث
الاحتضار عند قوله تعالى في سورة إبراهيم : (يُثَبِّتُ اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) [إبراهيم : ٢٧]
ولو كتبت هاهنا لكان حسنا ، ومن جملتها حديث تميم الداري عن النبي صلىاللهعليهوسلم يقول : «يقول الله تعالى لملك الموت انطلق إلى فلان فائتني
به فإنه قد جربته بالسراء والضراء فوجدته حيث أحب ، ائتني به فلأريحنة ـ قال ـ فينطلق
إليه ملك الموت ومعه خمسمائة من الملائكة معهم أكفان وحنوط من الجنة ، ومعهم ضبائر
الريحان ـ أصل الريحانة واحد ـ وفي رأسها عشرون لونا لكل لون منها ريح سوى ريح
صاحبه ، ومعهم الحرير الأبيض فيه المسك» وذكر تمام الحديث بطوله كما تقدم وقد وردت
أحاديث تتعلق بهذه الآية.
قال الإمام أحمد :
حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا هارون عن بديل بن ميسرة ، عن عبد الله بن شقيق ، عن
عائشة أنها سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقرأ فروح وريحان برفع الراء ، وكذا رواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث هارون ،
وهو ابن موسى الأعور به ، وقال الترمذي : لا نعرفه إلا من حديثه ، وهذه القراءة هي
قراءة يعقوب وحده وخالفه الباقون فقرؤوا (فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ) بفتح الراء.
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا أبو الأسود محمد بن
عبد الرّحمن بن نوفل أنه سمع درة بنت معاذ تحدث عن أم هانئ ، أنها سألت رسول الله صلىاللهعليهوسلم : أنتزاور إذا متنا ويرى بعضنا بعضا؟ فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «يكون النسم طيرا يعلق بالشجر حتى إذا كان يوم القيامة
دخلت كل نفس في جسدها». هذا الحديث فيه بشارة لكل مؤمن ، ومعنى يعلق يأكل ، ويشهد
له بالصحة أيضا ما رواه الإمام أحمد عن الإمام محمد بن إدريس الشافعي عن الإمام مالك بن أنس عن
الزهري ، عن عبد الرّحمن بن كعب بن مالك عن أبيه عن رسول اللهصلىاللهعليهوسلم قال : «إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه
الله إلى جسده يوم يبعثه». وهذا إسناد عظيم ومتن قويم.
وفي الصحيح أن
رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إن أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر تسرح في رياض
الجنة حيث شاءت ، ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش» الحديث. وقال الإمام
__________________
أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا همام ، حدثنا عطاء بن السائب قال :
كان أول يوم عرفت فيه عبد الرّحمن بن أبي ليلى رأيت شيخا أبيض الرأس واللحية على
حمار ، وهو يتبع جنازة فسمعته يقول : حدثني فلان بن فلان سمع رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ، ومن كره لقاء
الله كره الله لقاءه» قال : فأكب القوم يبكون ، فقال : «ما يبكيكم؟» فقالوا : إنا
نكره الموت ، قال : «ليس ذاك ولكنه إذا احتضر (فَأَمَّا إِنْ كانَ
مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ) فإذا بشر بذلك أحب لقاء الله عزوجل ، والله عزوجل للقائه أحب (وَأَمَّا إِنْ كانَ
مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ) فإذا بشر بذلك كره لقاء الله والله تعالى للقائه أكره» ، هكذا رواه الإمام أحمد ، وفي الصحيح عن عائشة رضي الله
عنها شاهد لمعناه.
وقوله تعالى : (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ
الْيَمِينِ) أي وأما إذا كان المحتضر من أصحاب اليمين (فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) أي تبشرهم الملائكة بذلك تقول لأحدهم: سلام لك أي لا بأس
عليك أنت إلى سلامة ، أنت من أصحاب اليمين ، وقال قتادة وابن زيد : سلم من عذاب
الله وسلمت عليه ملائكة الله ، كما قال عكرمة : تسلم عليه الملائكة وتخبره أنه من
أصحاب اليمين ، وهذا معنى حسن ، ويكون ذلك كقول الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ
ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا
وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي
الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ
وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) [فصلت : ٣٠ ـ ٣٢].
وقال البخاري (فَسَلامٌ لَكَ) أي مسلم لك أنك من أصحاب اليمين ، وألغيت أن وبقي معناها
كما تقول أنت مصدق مسافر عن قليل إذا كان قد قال إني مسافر عن قليل ، وقد يكون
كالدعاء له كقولك سقيا لك من الرجال إن رفعت السّلام ، فهو من الدعاء ، وقد حكاه
ابن جرير هكذا عن بعض أهل العربية ومال إليه والله أعلم.
وقوله تعالى : (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ
الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ) أي وأما إن كان المحتضر من المكذبين بالحق الضالين عن
الهدى (فَنُزُلٌ) أي فضيافة (مِنْ حَمِيمٍ) وهو المذاب الذي يصهر به ما في بطونهم والجلود (وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ) أي وتقرير له في النار التي تغمره من جميع جهاته. ثم قال
تعالى : (إِنَّ هذا لَهُوَ
حَقُّ الْيَقِينِ) أي إن هذا الخبر لهو حق اليقين الذي لا مرية فيه ولا محيد
لأحد عنه (فَسَبِّحْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الْعَظِيمِ).
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو عبد الرّحمن ، حدثنا موسى بن أيوب الغافقي ،
حدثني
__________________
عمي إياس بن عامر
عن عقبة بن عامر الجهني قال : لما نزلت على رسول الله صلىاللهعليهوسلم (فَسَبِّحْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الْعَظِيمِ) قال : «اجعلوها في ركوعكم» ولما نزلت (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) [الأعلى : ١] قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «اجعلوها في سجودكم» وكذا رواه أبو داود وابن ماجة من
حديث عبد الله بن المبارك عن موسى بن أيوب به ، وقال روح بن عبادة : حدثنا حجاج
الصواف عن أبي الزبير عن جابر قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من قال سبحان الله العظيم وبحمده غرست له نخلة في الجنة»
هكذا رواه الترمذي من حديث روح ، ورواه هو والنسائي أيضا من حديث حماد بن
سلمة ، من حديث أبي الزبير عن جابر عن النبي صلىاللهعليهوسلم به ، وقال الترمذي : حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث أبي
الزبير ، وقال البخاري في آخر كتابه : حدثنا أحمد بن إشكاب حدثنا محمد بن فضيل ،
حدثنا عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال : قال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم : «كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان
إلى الرّحمن : سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم» ورواه بقية الجماعة إلا أبا داود من حديث محمد بن فضيل
بإسناده مثله ، آخر تفسير سورة الواقعة ولله الحمد والمنة.
__________________
تفسير سورة الحديد
وهي مدنية
قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن عبد ربه ، حدثنا بقية بن الوليد ، حدثني
بجير بن سعد عن خالد بن معدان عن ابن أبي بلال عن عرباض بن سارية أنه حدثهم أن
رسول اللهصلىاللهعليهوسلم كان يقرأ المسبحات قبل أن يرقد وقال : «إن فيهن آية أفضل
من ألف آية» ، وهكذا رواه أبو داود والترمذي والنسائي من طرق عن بقية
به. وقال الترمذي : حسن غريب. ورواه النسائي عن ابن أبي السرح عن ابن وهب عن
معاوية بن صالح عن بجير بن سعد ، عن خالد بن معدان قال : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم فذكره مرسلا ، ولم يذكر عبد الله بن أبي بلال ولا العرباض
بن سارية ، والآية المشار إليها في الحديث هي والله أعلم قوله تعالى : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ
وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) كما سيأتي بيانه قريبا إن شاء الله تعالى ، وبه الثقة
وعليه التكلان ، وهو حسبنا ونعم الوكيل ..
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سَبَّحَ لِلَّهِ ما
فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١)
لَهُ
مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ (٢) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ
وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)
(٣)
يخبر تعالى أنه
يسبح له ما في السموات وما في الأرض أي من الحيوانات والنباتات ، كما قال في الآية
الأخرى : (تُسَبِّحُ لَهُ
السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا
يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً
غَفُوراً) [الإسراء : ٤٤]
وقوله تعالى: (وَهُوَ الْعَزِيزُ) أي الذي قد خضع له كل شيء (الْحَكِيمُ) في خلقه وأمره وشرعه (لَهُ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ) أي هو المالك المتصرف في خلقه فيحيي ويميت ويعطي من يشاء
ما يشاء (وَهُوَ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. وقوله تعالى : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ
وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) وهذه الآية هي المشار إليها في حديث عرباض بن سارية أنها
أفضل من ألف آية.
__________________
وقال أبو داود :
حدثنا عباس بن عبد العظيم ، حدثنا النضر بن محمد ، حدثنا عكرمة ـ يعني ابن عمار ـ حدثنا
أبو زميل قال : سألت ابن عباس فقلت : ما شيء أجده في صدري؟ قال : ما هو؟ قلت :
والله لا أتكلم به. قال : فقال لي : أشيء من شك؟ قال وضحك ، قال: ما نجا من ذلك
أحد ، قال : حتى أنزل الله تعالى : (فَإِنْ كُنْتَ فِي
شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ
قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) [يونس : ٩٤] الآية
، قال : وقال لي : إذا وجدت في نفسك شيئا فقل (هُوَ الْأَوَّلُ
وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) وقد اختلفت عبارات المفسرين في هذه الآية وأقوالهم على نحو
من بضعة عشر قولا.
وقال البخاري :
قال يحيى : الظاهر على كل شيء علما والباطن على كل شيء علما. وقال شيخنا الحافظ
المزي : يحيى هذا هو ابن زياد الفراء ، له كتاب سماه معاني القرآن ، وقد ورد في
ذلك أحاديث ، فمن ذلك ما قال الإمام أحمد : حدثنا خلف بن الوليد ، حدثنا ابن عياش عن سهيل بن أبي
صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان يدعو عند النوم «اللهم رب السموات السبع ورب العرش
العظيم ، ربنا ورب كل شيء ، منزل التوراة والإنجيل والفرقان ، فالق الحب والنوى لا
إله إلا أنت أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته ، أنت الأول ليس قبلك شيء وأنت
الآخر ليس بعدك شيء ، وأنت الظاهر ليس فوقك شيء ، وأنت الباطن ليس دونك شيء. اقض
عنا الدين ، وأغننا من الفقر» ورواه مسلم في صحيحه : حدثني زهير بن حرب ، حدثنا
جرير عن سهيل قال : كان أبو صالح يأمرنا إذا أراد أحدنا أن ينام أن يضطجع على شقه
الأيمن ، ثم يقول : اللهم رب السموات ورب الأرض ورب العرش العظيم ، ربنا ورب كل
شيء فالق الحب والنوى ، ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان ، أعوذ بك من شر كل ذي شر
أنت آخذ بناصيته ، اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت
الظاهر فليس فوقك شيء ، وأنت الباطن فليس دونك شيء ، اقض عنا الدين ، وأغننا من
الفقر ، وكان يروي ذلك عن أبي هريرة عن النبي صلىاللهعليهوسلم.
وقد روى الحافظ
أبو يعلى الموصلي في مسنده عن عائشة أم المؤمنين نحو هذا فقال : حدثنا عقبة ،
حدثنا يونس ، حدثنا السري بن إسماعيل عن الشعبي عن مسروق عن عائشة أنها قالت : كان
رسول الله صلىاللهعليهوسلم يأمر بفراشه فيفرش له مستقبل القبلة ، فإذا آوى إليه توسد
كفه اليمنى ثم همس ما يدرى ما يقول ، فإذا كان في آخر الليل رفع صوته فقال : «اللهم
رب السموات السبع ورب العرش العظيم ، إله كل شيء ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان
، فالق الحب والنوى. أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته. اللهم أنت الأول الذي
ليس قبلك شيء ، وأنت الآخر الذي
__________________
ليس بعدك شيء وأنت
الظاهر فليس فوقك شيء ، وأنت الباطن فليس دونك شيء ، اقض عنا الدين وأغننا من
الفقر» السري بن إسماعيل هذا هو ابن عم الشعبي وهو ضعيف جدا والله أعلم.
وقال أبو عيسى
الترمذي عند تفسير هذه الآية : حدثنا عبد بن حميد وغير واحد المعنى
واحد قالوا حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا شيبان بن عبد الرّحمن عن قتادة قال حدث
الحسن عن أبي هريرة قال : بينما نبي الله صلىاللهعليهوسلم جالس وأصحابه إذ أتى عليهم سحاب فقال نبي الله صلىاللهعليهوسلم : هل تدرون ما هذا؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : هذا
العنان هذه روايا الأرض تسوقه إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه . ثم قال : هل تدرون ما فوقكم؟ قالوا : الله ورسوله أعلم.
قال : فإنها الرقيع سقف محفوظ وموج مكفوف . ثم قال : هل تدرون كم بينكم وبينها؟ قالوا : الله ورسوله
أعلم. قال : بينكم وبينها خمسمائة سنة. ثم قال : هل تدرون ما فوق ذلك؟ قالوا :
الله ورسوله أعلم. قال : فإن فوق ذلك سماء بعد ما بينهما مسيرة خمسمائة سنة ـ حتى
عد سبع سماوات ـ ما بين كل سماءين كما بين السماء والأرض ثم قال : هل تدرون ما فوق
ذلك؟ قالوا : الله ورسوله أعلم قال : فإن فوق ذلك العرش وبينه وبين السماء مثل بعد
ما بين السماءين ، ثم قال : هل تدرون ما الذي تحتكم؟ قالوا : الله ورسوله أعلم.
قال فإنها الأرض. ثم قال : هل تدرون ما الذي تحت ذلك. قالوا : الله ورسوله أعلم.
قال : فإن تحتها أرضا أخرى بينهما مسيرة خمسمائة سنة ـ حتى عد سبع أرضين ـ بين كل
أرضين مسيرة خمسمائة سنة ، ثم قال : والذي نفس محمد بيده لو أنكم دليتم حبلا إلى
الأرض السفلى لهبط على الله ثم قرأ : (هُوَ الْأَوَّلُ
وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).
ثم قال الترمذي :
هذا حديث غريب من هذا الوجه ، ويروى عن أيوب ويونس يعني ابن عبيد وعلي بن زيد
وقالوا : لم يسمع الحسن من أبي هريرة. وفسر بعض أهل العلم هذا الحديث فقالوا :
إنما هبط على علم الله وقدرته وسلطانه ، وعلم الله وقدرته وسلطانه في كل مكان وهو
على العرش كما وصف في كتابه ، انتهى كلامه.
وقد روى الإمام
أحمد هذا الحديث عن سريج عن الحكم بن عبد الملك عن قتادة عن الحسن عن أبي هريرة عن
النبي صلىاللهعليهوسلم ، فذكره وعنده بعد ما بين الأرضين مسيرة سبعمائة عام
__________________
وقال : لو دليتم
أحدكم بحبل إلى الأرض السفلى السابعة لهبط على الله ثم قرأ (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ
وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ورواه ابن أبي حاتم والبزار من حديث أبي جعفر الرازي عن
قتادة عن الحسن عن أبي هريرة فذكر الحديث ولم يذكر ابن أبي حاتم آخره ، وهو قوله
لو دليتم بحبل وإنما قال حتى عد سبع أرضين بين كل أرضين مسيرة خمسمائة عام ، ثم
تلا (هُوَ الْأَوَّلُ
وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ). وقال البزار : لم يروه عن النبي صلىاللهعليهوسلم إلا أبو هريرة.
ورواه ابن جرير عن بشر عن يزيد عن سعيد عن قتادة (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ
وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ). وذكر لنا أن نبي الله صلىاللهعليهوسلم بينما هو جالس في أصحابه إذ مر عليهم سحاب فقال : هل تدرون
ما هذا؟ وذكر الحديث مثل سياق الترمذي سواء ، إلا أنه مرسل من هذا الوجه ، ولعل
هذا هو المحفوظ والله أعلم. وقد روي من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه وأرضاه ،
رواه البزار في مسنده والبيهقي في كتاب الأسماء والصفات ، ولكن في إسناده نظر وفي
متنه غرابة ونكارة ، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقال ابن جرير عند قوله تعالى : (وَمِنَ الْأَرْضِ
مِثْلَهُنَ) [الطلاق : ١٢] :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، حدثنا ابن ثور عن معمر عن قتادة قال : التقى أربعة من
الملائكة بين السماء والأرض فقال بعضهم لبعض : من أين جئت؟ قال أحدهم : أرسلني ربي
عزوجل من السماء السابعة وتركته ثمّ. قال الآخر : أرسلني ربي عزوجل من الأرض السابعة وتركته ثمّ. قال الآخر : أرسلني ربي من
المشرق وتركته ثمّ. قال الآخر : أرسلني ربي من المغرب وتركته ثمّ. وهذا حديث غريب
جدا ، وقد يكون الحديث الأول موقوفا على قتادة كما روي هاهنا من قوله ، والله
أعلم.
(هُوَ الَّذِي خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ
يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ
السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤) لَهُ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٥) يُولِجُ اللَّيْلَ
فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ
الصُّدُورِ)
(٦)
يخبر تعالى عن
خلقه السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ، ثم أخبر تعالى باستوائه على العرش
بعد خلقهن ، وقد تقدم الكلام على هذه الآية وأشباهها في سورة الأعراف بما أغنى عن
إعادته هاهنا.
وقوله تعالى : (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ) أي يعلم عدد ما يدخل فيها من حب وقطر (وَما يَخْرُجُ مِنْها) من نبات وزرع وثمار كما قال تعالى : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا
يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ
مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ
__________________
وَلا
رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [الأنعام : ٥٩].
وقوله تعالى : (وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ) أي من الأمطار. والثلوج والبرد والأقدار. والأحكام مع
الملائكة الكرام. وقد تقدم في سورة البقرة أنه ما ينزل من قطرة من السماء إلا
ومعها ملك يقررها في المكان الذي يأمر الله به حيث يشاء الله تعالى. وقوله تعالى ،
(وَما يَعْرُجُ فِيها) أي من الملائكة والأعمال كما جاء في الصحيح «يرفع إليه عمل
الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل» .
وقوله تعالى : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ
وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي رقيب عليكم شهيد على أعمالكم حيث كنتم وأين كنتم برا أو
بحرا ، في ليل أو نهار في البيوت أو القفار ، الجميع في علمه على السواء وتحت بصره
وسمعه فيسمع كلامكم ويرى مكانكم ، ويعلم سركم ونجواكم كما قال تعالى : (أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ
لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما
يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) [هود : ٥].
وقال تعالى : (سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ
وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ) [الرعد : ١٠] فلا
إله غيره ولا رب سواه ، وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال لجبريل لما سأله عن الإحسان : «أن تعبد الله كأنك تراه
فإن لم تكن تراه فإنه يراك» وروى الحافظ أبو بكر الإسماعيلي من حديث نصر بن خزيمة بن
جنادة بن محفوظ بن علقمة : حدثني أبي عن نصر بن علقمة عن أخيه عن عبد الرّحمن بن
عائذ قال : قال عمر : جاء رجل إلى النبي صلىاللهعليهوسلم فقال زودني حكمة أعيش بها فقال : «استح الله كما تستحي
رجلا من صالحي عشيرتك لا يفارقك» هذا حديث غريب ، وروى أبو نعيم من حديث عبد الله
بن معاوية الغاضري مرفوعا «ثلاث من فعلهن فقد طعم الإيمان إن عبد الله وحده وأعطى
زكاة ماله طيبة بها نفسه في كل عام ، ولم يعط الهرمة ولا الدرنة ولا الشّرط اللئيمة ولا المريضة ، ولكن من أوسط أموالكم وزكى نفسه» وقال رجل : يا رسول
الله ما تزكية المرء نفسه؟ فقال : «يعلم أن الله معه حيث كان».
وقال نعيم بن حماد
رحمهالله : حدثنا عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار الحمصي عن محمد بن
مهاجر عن عروة بن رويم ، عن عبد الرّحمن بن غنم عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول
اللهصلىاللهعليهوسلم : «إن أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيثما كنت» غريب ،
وكان الإمام أحمد
__________________
رحمهالله تعالى ينشد هذين البيتين : [الطويل]
إذا ما خلوت
الدهر يوما فلا تقل
|
|
خلوت ولكن قل
عليّ رقيب
|
ولا تحسبن الله
يغفل ساعة
|
|
ولا أن ما تخفي
عليه يغيب
|
وقوله تعالى : (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) أي هو المالك للدنيا والآخرة كما قال تعالى : (وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى) [الليل : ١٣] وهو
المحمود على ذلك كما قال تعالى : (وَهُوَ اللهُ لا
إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ) [القصص : ٧٠] وقال
تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي
الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) [سبأ : ١] ، فجميع
ما في السموات والأرض ملك له ، وأهلهما عبيد أرقاء أذلاء بين يديه كما قال تعالى :
(إِنْ كُلُّ مَنْ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً لَقَدْ أَحْصاهُمْ
وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) [مريم : ٩٣ ـ ٩٥]
ولهذا قال : (وَإِلَى اللهِ
تُرْجَعُ الْأُمُورُ) أي إليه المرجع يوم القيامة فيحكم في خلقه بما يشاء وهو
العادل الذي لا يجور ولا يظلم مثقال ذرة بل إن يكن عمل أحدهم حسنة واحدة يضاعفها
إلى عشرة أمثالها (وَيُؤْتِ مِنْ
لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) [النساء : ٤٠]
وكما قال تعالى : (وَنَضَعُ
الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ
كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) [الأنبياء : ٤٧]
وقوله تعالى : (يُولِجُ اللَّيْلَ
فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) أي هو المتصرف في الخلق يقلب الليل والنهار ويقدرهما
بحكمته كما يشاء ، فتارة يطول الليل ويقصر النهار وتارة بالعكس ، وتارة يتركهما
معتدلين ، وتارة يكون الفصل شتاء ثم ربيعا ثم صيفا ثم خريفا ، وكل ذلك بحكمته
وتقديره لما يريده بخلقه (وَهُوَ عَلِيمٌ
بِذاتِ الصُّدُورِ) أي يعلم السرائر وإن دقت وإن خفيت.
(آمِنُوا بِاللهِ
وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ
آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) وَما لَكُمْ لا
تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ
أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨)
هُوَ
الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ
إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٩) وَما لَكُمْ أَلاَّ
تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا
يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ
أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ
وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٠)
مَنْ
ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ
كَرِيمٌ)
(١١)
أمر تبارك وتعالى
بالإيمان به وبرسوله على الوجه الأكمل ، والدوام والثبات على ذلك والاستمرار ، وحث
على الإنفاق مما جعلكم مستخلفين فيه أي مما هو معكم على سبيل العارية ، فإنه قد
كان في أيدي من قبلكم ثم صار إليكم ، فأرشد الله تعالى إلى استعمال ما استخلفتم
فيه من المال في طاعته ، فإن تفعلوا وإلا حاسبكم عليه وعاقبكم لترككم الواجبات فيه
، وقوله تعالى : (مِمَّا جَعَلَكُمْ
مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) فيه إشارة إلى أنه سيكون مخلفا عنك ، فلعل وارثك أن يطيع
الله فيه فيكون أسعد بما أنعم الله به عليك منك ، أو يعصي الله فيه فتكون قد
سعيت في معاونته
على الإثم والعدوان.
قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، سمعت قتادة يحدث عن
مطرف يعني ابن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال : انتهيت إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو يقول : «ألهاكم التكاثر ، يقول ابن آدم مالي مالي وهل
لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت؟» ورواه مسلم من
حديث شعبة به وزاد : «وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس» .
وقوله تعالى : (فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ
وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) ترغيب في الإيمان والإنفاق في الطاعة ثم قال تعالى : (وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ
وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ) أي وأي شيء يمنعكم من الإيمان والرسول بين أظهركم يدعوكم
إلى ذلك ويبين لكم الحجج والبراهين على صحة ما جاءكم به ، وقد روينا في الحديث من
طرق في أوائل شرح كتاب الإيمان من صحيح البخاري أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال يوما لأصحابه : «أي المؤمنين أعجب إليكم إيمانا؟ قالوا
: الملائكة. قال : وما لهم لا يؤمنون وهم عند ربهم؟ قالوا : فالأنبياء. قال : وما
لهم لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم؟ قالوا : فنحن. قال : وما لكم لا تؤمنون وأنا بين
أظهركم؟ ولكن أعجب المؤمنين إيمانا قوم يجيئون بعدكم يجدون صحفا يؤمنون بما فيها»
وقد ذكرنا طرفا من هذه الرواية في أول سورة البقرة عند قوله تعالى : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) [البقرة : ٣].
وقوله تعالى : (وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ) كما قال تعالى : (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ
اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا
وَأَطَعْنا) [المائدة : ٧]
ويعني بذلك بيعة الرسولصلىاللهعليهوسلم ، وزعم ابن جرير أن المراد بذلك الميثاق الذي أخذ عليهم في صلب آدم وهو
مذهب مجاهد فالله أعلم.
وقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ
آياتٍ بَيِّناتٍ) أي حججا واضحات ودلائل باهرات وبراهين قاطعات (لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى
النُّورِ) أي من ظلمات الجهل والكفر والآراء المتضادة إلى نور الهدى
واليقين والإيمان (وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ
لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي في إنزاله الكتب وإرساله الرسل لهداية الناس وإزاحة
العلل وإزالة الشبه ، ولما أمرهم أولا بالإيمان والإنفاق ثم حثهم على الإيمان وبين
أنه قد أزال عنهم موانعه حثهم أيضا على الإنفاق فقال : (وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي
سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي أنفقوا ولا تخشوا فقرا وإقلالا فإن الذي أنفقتم في
سبيله هو مالك السموات والأرض وبيده مقاليدهما وعنده خزائنهما ، هو مالك العرش بما
حوى ، وهو القائل (وَما أَنْفَقْتُمْ
مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) [سبأ : ٣٩].
__________________
وقال : (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ
اللهِ باقٍ) [النحل : ٩٦] فمن
توكل على الله أنفق ولم يخش من ذي العرش إقلالا ، وعلم أن الله سيخلفه عليه ،
وقوله تعالى : (لا يَسْتَوِي
مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ) أي لا يستوي هذا ومن لم يفعل كفعله ، وذلك أن قبل فتح مكة
كان الحال شديدا فلم يكن يؤمن حينئذ إلا الصديقون ، وأما بعد الفتح فإنه ظهر
الإسلام ظهورا عظيما ودخل الناس في دين الله أفواجا. ولهذا قال تعالى : (أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ
الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) والجمهور على أن المراد بالفتح هاهنا فتح مكة ، وعن الشعبي
وغيره أن المراد بالفتح هاهنا صلح الحديبية ، وقد يستدل لهذا القول بما قال الإمام
أحمد : حدثنا أحمد بن عبد الملك ، حدثنا زهير ، حدثنا حميد الطويل عن أنس قال :
كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرّحمن بن عوف كلام ، فقال خالد لعبد الرّحمن :
تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها ، فبلغنا أن ذلك ذكر للنبي صلىاللهعليهوسلم فقال : «دعوا لي أصحابي ، فو الذي نفسي بيده لو أنفقتم مثل
أحد أو مثل الجبال ذهبا ما بلغتم أعمالهم».
ومعلوم أن إسلام
خالد بن الوليد المواجه بهذا الخطاب كان بين صلح الحديبية وفتح مكة ، وكانت هذه
المشاجرة بينهما في بني جذيمة الذين بعث إليهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم خالد بن الوليد بعد الفتح ، فجعلوا يقولون : صبأنا صبأنا ،
فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا ، فأمر خالد بقتلهم وقتل من أسر منهم ، فخالفه عبد
الرّحمن بن عوف وعبد الله بن عمر وغيرهما ، فاختصم خالد وعبد الرّحمن بسبب ذلك ، والذي في الصحيح عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «لا تسبوا أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أنفق
أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» .
وروى ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث ابن وهب ، أخبرنا هشام بن سعد عن
زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري أنه قال : خرجنا مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم عام الحديبية ، حتى إذا كنا بعسفان قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «يوشك أن يأتي قوم تحقرون أعمالكم مع أعمالهم» فقلنا من
هم يا رسول الله؟ أقريش؟ قال : «لا ولكن أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوبا»
فقلنا : أهم خير منا يا رسول الله؟ قال : «لو كان لأحدهم جبل من ذهب فأنفقه ما
أدرك مد أحدكم ولا نصيفه ألا إن هذا فضل ما بيننا وبين الناس (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ
مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا
مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ
خَبِيرٌ) وهذا الحديث غريب بهذا السياق والذي في الصحيحين من رواية
جماعة عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد ذكر الخوارج : «تحقرون صلاتكم مع صلاتهم
وصيامكم مع
__________________
صيامهم يمرقون من
الدين كما يمرق السهم من الرمية» . الحديث ، ولكن روى ابن جرير هذا الحديث من وجه آخر فقال : حدثني ابن البرقي حدثني ابن
أبي مريم ، أخبرنا محمد بن جعفر، أخبرني زيد بن أسلم عن أبي سعيد التمار عن أبي
سعيد الخدري أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «يوشك أن يأتي قوم تحقرون أعمالكم مع أعمالهم» قلنا
: من هم يا رسول الله؟ قريش؟ قال : «لا ولكن أهل اليمن لأنهم أرق أفئدة وألين
قلوبا» وأشار بيده إلى اليمن فقال : «هم أهل اليمن ألا إن الإيمان يمان والحكمة
يمانية» فقلنا : يا رسول الله هم خير منا؟ قال : «والذي نفسي بيده لو كان لأحدهم
جبل من ذهب ينفقه ما أدى مد أحدكم ولا نصيفه» ثم جمع أصابعه ومد خنصره وقال : «ألا
إن هذا فضل ما بيننا وبين الناس (لا يَسْتَوِي
مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ
دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ
الْحُسْنى وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).
فهذا السياق ليس
فيه ذكر الحديبية ، فإن كان ذلك محفوظا كما تقدم فيحتمل أنه أنزل قبل الفتح إخبارا
عما بعده كما في قوله تعالى في سورة المزمل وهي مكية من أوائل ما نزل (وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ
اللهِ) [المزمل : ٢٠]
الآية. فهي بشارة بما يستقبل وهكذا هذه والله أعلم.
وقوله تعالى : (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) يعني المنفقين قبل الفتح وبعده ، كلهم لهم ثواب على ما
عملوا ، وإن كان بينهم تفاوت في تفاضل الجزاء كما قال تعالى : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ
بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ
وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى
وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً) [النساء : ٩٥]
وهكذا الحديث الذي في الصحيح «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ،
وفي كل خير» وإنما نبه بهذا لئلا يهدر جانب الآخر بمدح الأول دون الآخر
، فيتوهم متوهم ذمه ، فلهذا عطف بمدح الآخر والثناء عليه مع تفضيل الأول عليه ،
ولهذا قال تعالى : (وَاللهُ بِما
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي فلخبرته فاوت بين ثواب من أنفق من قبل الفتح وقاتل ومن
فعل ذلك بعد ذلك وما ذاك إلا لعلمه بقصد الأول وإخلاصه التام وإنفاقه في حال الجهد
والقلة والضيق ، وفي الحديث «سبق درهم مائة ألف» ولا شك عند أهل الإيمان أن الصديق أبا بكر رضي الله عنه له
الحظ الأوفر من هذه الآية ، فإنه سيد من عمل بها من سائر أمم الأنبياء ، فإنه
__________________
أنفق ماله كله
ابتغاء وجه الله عزوجل ، ولم يكن لأحد عنده نعمة يجزيه بها.
وقد قال أبو محمد
الحسين بن مسعود البغوي عند تفسير هذه الآية : أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي ،
أخبرنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي ، أخبرنا عبد الله بن حامد بن
محمد ، أخبرنا أحمد بن إسحاق بن أيوب ، أخبرنا محمد بن يونس ، حدثنا العلاء بن
عمرو الشيباني ، حدثنا أبو إسحاق الفزاري ، حدثنا سفيان بن سعيد عن آدم بن علي عن
ابن عمر قال : كنت عند النبي صلىاللهعليهوسلم وعنده أبو بكر الصديق وعليه عباءة قد خلها في صدره بخلال ،
فنزل جبريل فقال : ما لي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خلها في صدره بخلال؟ فقال : «أنفق
ماله علي قبل الفتح» قال : فإن الله يقول : اقرأ عليهالسلام وقل له أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط؟ فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «يا أبا بكر إن الله يقرأ عليك السّلام ويقول لك : أراض
أنت عني في فقرك هذا أم ساخط؟» فقال أبو بكر رضي الله عنه : أسخط على ربي عزوجل؟ إني عن ربي راض. هذا الحديث ضعيف الإسناد من هذا الوجه
والله أعلم.
وقوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ
قَرْضاً حَسَناً) قال عمر بن الخطاب : هو الإنفاق في سبيل الله ، وقيل : هو
النفقة على العيال ، والصحيح أنه أعم من ذلك ، فكل من أنفق في سبيل الله بنية
خالصة ، وعزيمة صادقة دخل في عموم هذه الآية ، ولهذا قال تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ
قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ) كما قال في الآية الأخرى : (أَضْعافاً كَثِيرَةً
وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) [البقرة : ٢٤٥] أي
جزاء جميل ورزق باهر ، وهو الجنة يوم القيامة.
قال ابن أبي حاتم
: حدثنا الحسن بن عرفة ، حدثنا خلف بن خليفة عن حميد الأعرج عن عبد الله بن الحارث
عن عبد الله بن مسعود قال : لما نزلت هذه الآية (مَنْ ذَا الَّذِي
يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ) قال أبو الدحداح الأنصاري : يا رسول الله ، وإن الله ليريد
منا القرض؟ قال : «نعم يا أبا الدحداح» قال : أرني يدك يا رسول الله. قال : فناوله
يده. قال : فإني قد أقرضت ربي حائطي ، وله حائط فيه ستمائة نخلة ، وأم الدحداح فيه
وعيالها. قال : فجاء أبو الدحداح فناداها يا أم الدحداح. قالت : لبيك ، قال :
اخرجي فقد أقرضته ربي عزوجل ، وفي رواية أنها
قالت له : ربح بيعك يا أبا الدحداح. ونقلت منه متاعها وصبيانها وإن رسول اللهصلىاللهعليهوسلم قال : «كم من عذق رداح في الجنة لأبي الدحداح» وفي لفظ «رب
نخلة مدلاة عروقها در وياقوت لأبي الدحداح في الجنة».
(يَوْمَ تَرَى
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ
وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) يَوْمَ يَقُولُ
الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ
نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ
بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ
(١٣) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ
قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ
وَغَرَّتْكُمُ
الْأَمانِيُّ
حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (١٤)
فَالْيَوْمَ
لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ
هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)(١٥)
يقول تعالى مخبرا
عن المؤمنين المتصدقين أنهم يوم القيامة يسعى نورهم بين أيديهم في عرصات القيامة ،
بحسب أعمالهم كما قال عبد الله بن مسعود في قوله تعالى : (يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) قال : على قدر أعمالهم يمرون على الصراط ، منهم من نوره
مثل الجبل ، ومنهم من نوره مثل النخلة ومنهم من نوره مثل الرجل القائم ، وأدناهم
نورا من نوره في إبهامه يتّقد مرة ويطفأ مرة ، ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير ، وقال قتادة : ذكر لنا أن نبي الله صلىاللهعليهوسلم كان يقول «من المؤمنين من يضيء نوره من المدينة إلى عدن أبين
وصنعاء فدون ذلك حتى أن من المؤمنين من يضيء نوره موضع قدميه» وقال سفيان الثوري عن حصين ، عن مجاهد ، عن جنادة بن أبي
أمية قال : إنكم مكتوبون عند الله بأسمائكم وسيماكم وحلالكم ونجواكم ومجالسكم ،
فإذا كان يوم القيامة ، قيل : يا فلان هذا نورك ، يا فلان لا نور لك ، وقرأ (يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ).
وقال الضحاك : ليس
أحد إلا يعطى نورا يوم القيامة ، فإذا انتهوا إلى الصراط طفئ نور المنافقين ، فلما
رأى ذلك المؤمنون أشفقوا أن يطفأ نورهم كما طفئ نور المنافقين فقالوا : ربنا أتمم
لنا نورنا ، وقال الحسن : (يَسْعى نُورُهُمْ
بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) يعني على الصراط وقد قال ابن أبي حاتمرحمهالله : حدثنا أبو عبيد الله ابن أخي ابن وهب ، أخبرنا عمي عن
يزيد بن أبي حبيب عن سعيد بن مسعود أنه سمع عبد الرّحمن بن جبير يحدث ، أنه سمع
أبا الدرداء وأبا ذر يخبران عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «أنا أول من يؤذن له يوم القيامة بالسجود ، وأول من
يؤذن له برفع رأسه ، فأنظر من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي فأعرف أمتي من
بين الأمم» فقال له رجل : يا نبي الله كيف تعرف أمتك من بين الأمم ما بين نوح إلى
أمتك؟ فقال : أعرفهم محجلون من أثر الوضوء ولا يكون لأحد من الأمم غيرهم ، وأعرفهم
يؤتون كتبهم بأيمانهم ، وأعرفهم بسيماهم في وجوههم ، وأعرفهم بنورهم يسعى بين
أيديهم».
وقوله (وَبِأَيْمانِهِمْ) قال الضحاك أي وبأيمانهم كتبهم كما قال : (فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) [الإسراء : ٧١] وقوله
: (بُشْراكُمُ الْيَوْمَ
جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي يقال لهم : (بُشْراكُمُ الْيَوْمَ
جَنَّاتٌ) أي لكم البشارة بجنات تجري من تحتها الأنهار (خالِدِينَ فِيها) أي ماكثين فيها أبدا (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ) وقوله : (يَوْمَ يَقُولُ
الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ
نُورِكُمْ) وهذا إخبار منه تعالى عما يقع يوم القيامة في العرصات من
الأهوال
__________________
المزعجة والزلازل
العظيمة ، والأمور الفظيعة ، وأنه لا ينجو يومئذ إلا من آمن بالله ورسوله وعمل بما
أمر الله به وترك ما عنه زجر.
قال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبي حدثنا عبدة بن سليمان ، حدثنا ابن المبارك ، حدثنا صفوان بن عمرو ،
حدثني سليم بن عامر قال : خرجنا على جنازة في باب دمشق ومعنا أبو أمامة الباهلي ،
فلما صلّى على الجنازة وأخذوا في دفنها قال أبو أمامة أيها الناس إنكم قد أصبحتم
وأمسيتم في منزل تقتسمون فيه الحسنات والسيئات ، وتوشكون أن تظعنوا منه إلى منزل
آخر وهو هذا ـ يشير إلى القبر ـ بيت الوحدة وبيت الظلمة وبيت الدود وبيت الضيق إلا
ما وسع الله ، ثم تنتقلون منه إلى مواطن يوم القيامة ، فإنكم في بعض تلك المواطن
حتى يغشى الناس أمر من الله ، فتبيض وجوه وتسود وجوه ، ثم تنتقلون منه إلى منزل
آخر فيغشى الناس ظلمة شديدة ، ثم يقسم النور فيعطى المؤمن نورا ، ويترك الكافر
والمنافق فلا يعطيان شيئا ، وهو المثل الذي ضربه الله تعالى في كتابه فقال: (أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ
يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها
فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ
اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) [النور : ٤٠] فلا
يستضيء الكافر والمنافق بنور المؤمن كما لا يستضيء الأعمى ببصر البصير ، ويقول
المنافقون والمنافقات للذين آمنوا (انْظُرُونا
نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً) وهي خدعة الله التي يخدع بها المنافقين حيث قال : (يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ) فيرجعون إلى المكان الذي قسم فيه النور فلا يجدون شيئا ،
فينصرفون إليهم وقد ضرب بينهم (بِسُورٍ لَهُ بابٌ
باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ)
يقول سليم بن عامر
: فما يزال المنافق مغترا حتى يقسم النور ويميز الله بين المنافق والمؤمن ، ثم قال
: حدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن عثمان ، حدثنا ابن حيوة ، حدثنا أرطاة بن المنذر ،
حدثنا يوسف بن الحجاج عن أبي أمامة قال : يبعث الله ظلمة يوم القيامة فما من مؤمن
ولا كافر يرى كفه حتى يبعث الله بالنور إلى المؤمنين بقدر أعمالهم فيتبعهم
المنافقون فيقولون (انْظُرُونا
نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) وقال العوفي والضحاك وغيرهما عن ابن عباس : بينما الناس في
ظلمة إذ بعث الله نورا ، فلما رأى المؤمنون النور توجهوا نحوه ، وكان النور دليلا
من الله إلى الجنة ، فلما رأى المنافقون المؤمنين قد انطلقوا اتبعوهم فأظلم الله
على المنافقين فقالوا حينئذ (انْظُرُونا
نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) فإنا كنا معكم في الدنيا قال المؤمنون (ارْجِعُوا وَراءَكُمْ) من حيث جئتم من الظلمة فالتمسوا هنالك النور.
وقال أبو القاسم
الطبراني : حدثنا الحسن بن عرفة بن علوية العطار ، حدثنا إسماعيل بن عيسى العطار ،
حدثنا إسحاق بن بشر بن حذيفة ، حدثنا ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال :
قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن الله تعالى يدعو الناس يوم القيامة بأسمائهم سترا
منه على
عباده ، وأما عند
الصراط فإن الله تعالى يعطي كل مؤمن نورا وكل منافق نورا ، فإذا استووا على الصراط
سلب الله نور المنافقين والمنافقات ، فقال المنافقون (انْظُرُونا
نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) وقال المؤمنون (رَبَّنا أَتْمِمْ
لَنا نُورَنا) [التحريم : ٨] فلا
يذكر عند ذلك أحد أحدا».
وقوله تعالى : (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ
باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) قال الحسن وقتادة : هو حائط بين الجنة والنار ، وقال عبد
الرّحمن بن زيد بن أسلم هو الذي قال الله تعالى : (وَبَيْنَهُما حِجابٌ) [الأعراف : ٤٦]
وهكذا روي عن مجاهد رحمهالله وغير واحد وهو الصحيح (باطِنُهُ فِيهِ
الرَّحْمَةُ) ـ أي الجنة وما فيها ـ (وَظاهِرُهُ مِنْ
قِبَلِهِ الْعَذابُ) أي النار قاله قتادة وابن زيد وغيرهما ، قال ابن جرير وقد قيل إن ذلك السور سور بيت المقدس عند وادي جهنم. ثم قال
: حدثنا ابن البرقي ، حدثنا عمرو بن أبي سلمة عن سعيد بن عطية بن قيس عن أبي
العوام مؤذن بيت المقدس قال : سمعت عبد الله بن عمرو يقول : إن السور الذي ذكره
الله في القرآن (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ
بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) هو السور الشرقي باطنه المسجد وما يليه وظاهره وادي جهنم .
ثم روي عن عبادة
بن الصامت وكعب الأحبار وعلي بن الحسين زين العابدين نحو ذلك ، وهذا محمول منهم
على أنهم أرادوا بهذا تقريب المعنى ومثالا لذلك ، لا أن هذا هو الذي أريد من
القرآن هذا الجدار المعين نفسه ونفس المسجد ، وما وراءه من الوادي المعروف بوادي
جهنم ، فإن الجنة في السموات في أعلى عليين والنار في الدركات أسفل سافلين ، وقول
كعب الأحبار إن الباب المذكور في القرآن هو باب الرحمة الذي هو أحد أبواب المسجد
فهذا من إسرائيلياته وترهاته ، وإنما المراد بذلك سور يضرب يوم القيامة ليحجز بين
المؤمنين والمنافقين فإذا انتهى إليه المؤمنون دخلوه من بابه ، فإذا استكملوا
دخولهم أغلق الباب وبقي المنافقون من ورائه في الحيرة والظلمة والعذاب كما كانوا
في الدار الدنيا في كفر وجهل وشك وحيرة.
(يُنادُونَهُمْ أَلَمْ
نَكُنْ مَعَكُمْ) أي ينادي المنافقون المؤمنين أما كنا معكم في الدار الدنيا
نشهد معكم الجمعات ونصلي معكم الجماعات ، ونقف معكم بعرفات ، ونحضر معكم الغزوات
ونؤدي معكم سائر الواجبات؟ (قالُوا بَلى) أي فأجاب المؤمنون المنافقين قائلين : بلى قد كنتم معنا (وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ
وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُ) قال بعض السلف : أي فتنتم أنفسكم باللذات والمعاصي
والشهوات (وَتَرَبَّصْتُمْ) أي أخرتم التوبة من وقت إلى وقت.
__________________
وقال قتادة : (تَرَبَّصْتُمْ) بالحق وأهله (وَارْتَبْتُمْ) أي بالبعث بعد الموت (وَغَرَّتْكُمُ
الْأَمانِيُ) أي قلتم سيغفر لنا وقيل غرتكم الدنيا (حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ) أي ما زلتم في هذا حتى جاءكم الموت (وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) أي الشيطان قال قتادة : كانوا على خدعة من الشيطان والله
ما زالوا عليها حتى قذفهم الله في النار : ومعنى هذا الكلام من المؤمنين للمنافقين
أنكم كنتم معنا أي بأبدان لا نية لها ولا قلوب معها ، وإنما كنتم في حيرة وشك
فكنتم تراؤون الناس ولا تذكرون الله إلا قليلا ، قال مجاهد : كان المنافقون مع
المؤمنين أحياء يناكحونهم ويغشونهم ويعاشرونهم ، وكانوا معهم أمواتا ويعطون النور
جميعا يوم القيامة ، ويطفأ النور من المنافقين إذا بلغوا السور ويماز بينهم حينئذ.
وهذا القول من
المؤمنين لا ينافي قولهم الذي أخبر الله تعالى به عنهم حيث يقول ، وهو أصدق
القائلين (كُلُّ نَفْسٍ بِما
كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ عَنِ
الْمُجْرِمِينَ ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ
وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ وَكُنَّا
نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ) [المدثر : ٣٨ ـ ٤٧]
فهذا إنما خرج منهم على وجه التقريع لهم والتوبيخ. ثم قال تعالى : (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ
الشَّافِعِينَ) [المدثر : ٤٨] كما
قال تعالى هاهنا (فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ
مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي لو جاء أحدكم اليوم بملء الأرض ذهبا ومثله معه ليفتدي
به من عذاب الله ما قبل منه. وقوله تعالى : (مَأْواكُمُ النَّارُ) أي هي مصيركم وإليها منقلبكم ، وقوله تعالى : (هِيَ مَوْلاكُمْ) أي هي أولى بكم من كل منزل على كفركم وارتيابكم وبئس
المصير.
(أَلَمْ يَأْنِ
لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ
الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ
عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (١٦) اعْلَمُوا أَنَّ
اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ
لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)
(١٧)
يقول تعالى : أما
آن للمؤمنين أن تخشع قلوبهم لذكر الله ، أي تلين عند الذكر والموعظة وسماع القرآن
فتفهمه وتنقاد له وتسمع له وتطيعه. قال عبد الله بن المبارك : حدثنا صالح المري عن
قتادة عن ابن عباس أنه قال : إن الله استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث
عشرة من نزول القرآن فقال : (أَلَمْ يَأْنِ
لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ) الآية ، رواه ابن أبي حاتم عن الحسن بن محمد بن الصباح عن
حسين المروزي عن ابن المبارك به.
ثم قال هو ومسلم :
حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني عمرو بن الحارث عن سعيد بن
أبي هلال ، يعني الليثي ، عن عون بن عبد الله عن أبيه عن ابن مسعود رضي الله عنه
قال : ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ
تَخْشَعَ
قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ) الآية ، إلا أربع سنين ، كذا رواه مسلم في آخر الكتاب ، وأخرجه النسائي عند تفسير
هذه الآية عن هارون بن سعيد الأيلي عن ابن وهب به. وقد رواه ابن ماجة من حديث موسى
بن يعقوب الزمعي عن أبي حازم عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه مثله ، فجعله
من مسند ابن الزبير ، لكن رواه البزار في مسنده من طريق موسى بن يعقوب عن أبي حازم
عن عامر عن ابن الزبير عن ابن مسعود فذكره.
وقال سفيان الثوري
عن المسعودي عن القاسم قال : ملّ أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ملة فقالوا : حدثنا يا رسول الله ، فأنزل الله تعالى : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ
الْقَصَصِ) [يوسف : ٣] قال : ثم ملوا ملة فقالوا : حدثنا يا رسول الله
فأنزل الله تعالى (اللهُ نَزَّلَ
أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) [الزمر : ٢٣] ثم
ملوا ملة فقالوا : حدثنا يا رسول الله ، فأنزل الله تعالى : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ
تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ) وقال قتادة (أَلَمْ يَأْنِ
لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ) ذكر لنا أن شداد بن أوس كان يروي عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إن أول ما يرفع من الناس الخشوع» .
وقوله تعالى : (وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ) نهى الله تعالى المؤمنين أن يتشبهوا بالذين حملوا الكتاب
من قبلهم من اليهود والنصارى ، لما تطاول عليهم الأمد بدلوا كتاب الله الذي
بأيديهم واشتروا به ثمنا قليلا ونبذوه وراء ظهورهم ، وأقبلوا على الآراء المختلفة
والأقوال المؤتفكة ، وقلدوا الرجال في دين الله واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا
من دون الله ، فعند ذلك قست قلوبهم فلا يقبلون موعظة ولا تلين قلوبهم بوعد ولا
وعيد (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ
فاسِقُونَ) أي في الأعمال فقلوبهم فاسدة وأعمالهم باطلة كما قال تعالى
: (فَبِما نَقْضِهِمْ
مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ
عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) [المائدة : ١٣] أي
فسدت قلوبهم فقست وصار من سجيتهم تحريف الكلم عن مواضعه وتركوا الأعمال التي أمروا
بها ، وارتكبوا ما نهوا عنه ، ولهذا نهى الله المؤمنين أن يتشبهوا بهم في شيء من
الأمور الأصلية والفرعية.
وقد قال ابن أبي
حاتم : حدثنا أبي حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا شهاب بن خراش ، حدثنا حجاج بن دينار
عن منصور بن المعتمر عن الربيع بن عميلة الفزاري قال : حدثنا عبد الله بن مسعود
حديثا ما سمعت أعجب إلي منه إلا شيئا من كتاب الله أو شيئا قاله النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «إن بني إسرائيل لما طال عليهم الأمد فقست قلوبهم
اخترعوا كتابا من عند أنفسهم استهوته قلوبهم واستحلته ألسنتهم واستلذته ، وكان
الحق يحول بينهم وبين كثير من شهواتهم فقالوا تعالوا ندع بني إسرائيل إلى كتابنا
هذا ، فمن تابعنا عليه تركناه ومن كره أن يتابعنا قتلناه ، ففعلوا ذلك وكان
__________________
فيهم رجل فقيه.
فلما رأى ما
يصنعون عمد إلى ما يعرف من كتاب الله فكتبه في شيء لطيف ثم أدرجه ، فجعله في قرن
ثم علق ذلك القرن في عنقه ، فلما أكثروا القتل قال بعضهم لبعض : يا هؤلاء إنكم قد
أفشيتم القتل في بني إسرائيل فادعوا فلانا فأعرضوا عليه كتابكم ، فإنه إن تابعكم
فسيتابعكم بقية الناس وإن أبى فاقتلوه ، فدعوا فلانا ذلك الفقيه فقالوا : أتؤمن
بما في كتابنا هذا ، قال : وما فيه؟ اعرضوه علي فعرضوه عليه إلى آخره ، ثم قالوا :
أتؤمن بما في كتابنا هذا؟ قال : نعم آمنت بما في هذا وأشار بيده إلى القرن فتركوه
فلما مات فتشوه فوجدوه معلقا ذلك القرن ، فوجدوا فيه ما يعرف من كتاب الله فقال
بعضهم لبعض : يا هؤلاء ما كنا نسمع هذا أصابه فتنة ، فافترقت بنو إسرائيل على
اثنتين وسبعين ملة ، وخير مللهم ملة أصحاب ذي القرن» قال ابن مسعود : وإنكم أوشك
بكم إن بقيتم أو بقي من بقي منكم أن تروا أمورا تنكرونها لا تستطيعون لها غيرا ،
فبحسب المرء منكم أن يعلم الله من قلبه أنه لها كاره.
وروى أبو جعفر
الطبري حدثنا ابن حميد ، حدثنا جرير عن مغيرة عن أبي معشر عن
إبراهيم قال : جاء عتريس بن عرقوب إلى ابن مسعود فقال : يا عبد الله هلك من لم
يأمر بالمعروف وينه عن المنكر ، فقال عبد الله : هلك من لم يعرف قلبه معروفا ولم
ينكر قلبه منكرا. إن بني إسرائيل لما طال عليهم الأمد وقست قلوبهم اخترعوا كتابا
من بين أيديهم وأرجلهم استهوته قلوبهم واستحلته ألسنتهم ، وقالوا نعرض بني إسرائيل
على هذا الكتاب ، فمن آمن به تركناه ، ومن كفر به قتلناه ، قال فجعل رجل منهم كتاب
الله في قرن ثم جعل القرن بين ثندوتيه ، فلما قيل له أتؤمن بهذا؟ قال آمنت به
ويومئ إلى القرن بين ثندوتيه ، وما لي أؤمن بهذا الكتاب؟ فمن خير مللهم اليوم ملة صاحب
القرن.
وقوله تعالى : (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ
بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) فيه إشارة إلى أن الله تعالى يلين القلوب بعد قسوتها ويهدي
الحيارى بعد ضلتها ، ويفرج الكروب بعد شدتها ، فكما يحيي الأرض الميتة المجدبة
الهامدة بالغيث الهتان الوابل ، كذلك يهدي القلوب القاسية ببراهين القرآن والدلائل
، ويولج إليها النور بعد أن كانت مقفلة لا يصل إليها الواصل ، فسبحان الهادي لمن
يشاء بعد الضلال ، والمضل لمن أراد بعد الكمال ، الذي هو لما يشاء فعال ، وهو
الحكيم العدل في جميع الفعال ، اللطيف الخبير الكبير المتعال.
(إِنَّ
الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ
لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا
بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ
لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا
__________________
وَكَذَّبُوا
بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ)
(١٩)
يخبر تعالى عما
يثيب به المصدقين والمصدقات بأموالهم على أهل الحاجة والفقر والمسكنة (وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) أي دفعوه بنية خالصة ابتغاء مرضاة الله لا يريدون جزاء ممن
أعطوه ولا شكورا ، ولهذا قال : (يُضاعَفُ لَهُمْ) أي يقابل لهم الحسنة بعشر أمثالها ، ويزاد على ذلك إلى
سبعمائة ضعف ، وفوق ذلك (وَلَهُمْ أَجْرٌ
كَرِيمٌ) أي ثواب جزيل حسن ومرجع صالح ومآب كريم. وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ
أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ) هذا تمام الجملة وصف المؤمنين بالله ورسله بأنهم صديقون ،
قال العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا
بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ) هذه مفصولة (وَالشُّهَداءُ عِنْدَ
رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) وقال أبو الضحى (أُولئِكَ هُمُ
الصِّدِّيقُونَ) ثم استأنف الكلام فقال : (وَالشُّهَداءُ عِنْدَ
رَبِّهِمْ) وهكذا قال مسروق والضحاك ومقاتل بن حيان وغيرهم.
وقال الأعمش عن
أبي الضحى عن مسروق عن عبد الله بن مسعود في قوله تعالى ، (أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ
وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ) قال : هم ثلاثة أصناف : يعني المصدقين والصديقين والشهداء
، كما قال تعالى : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ
وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ
النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ) [النساء : ٦٩]
ففرق بين الصديقين والشهداء فدل على أنهما صنفان ولا شك أن الصديق أعلى مقاما من
الشهيد.
كما رواه الإمام
مالك بن أنس رحمهالله في كتابه الموطأ عن صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار ، عن
أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إن أهل الجنة ليتراؤون أهل الغرف من فوقهم كما
تتراؤون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم» قالوا
: يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم قال «بلى والذي نفسي بيده رجال
آمنوا بالله وصدقوا المرسلين» اتفق البخاري ومسلم على إخراجه من حديث مالك به ، وقال
آخرون : بل المراد من قوله تعالى : (أُولئِكَ هُمُ
الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ) فأخبر عن المؤمنين بالله ورسله بأنهم صديقون وشهداء ، حكاه
ابن جرير عن مجاهد.
ثم قال ابن جرير : حدثني صالح بن حرب أبو معمر ، حدثنا إسماعيل بن يحيى ،
حدثنا ابن عجلان عن زيد بن أسلم عن البراء بن عازب قال سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «مؤمنو أمتي شهداء» قال : ثم تلا النبي صلىاللهعليهوسلم هذه الآية (وَالَّذِينَ آمَنُوا
بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ) هذا حديث غريب. وقال أبو إسحاق عن عمرو بن ميمون في قوله
__________________
تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ
أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ
وَنُورُهُمْ) قال : يجيئون يوم القيامة معا كالأصبعين.
وقوله تعالى : (وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي في جنات النعيم كما جاء في الصحيحين «إن أرواح الشهداء
في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل فاطلع عليهم
ربك اطلاعة فقال : ماذا تريدون؟! فقالوا : نحب أن تردنا إلى الدار الدنيا فنقاتل
فيك فنقتل كما قتلنا أول مرة ، فقال : إني قد قضيت أنهم إليها لا يرجعون» .
وقوله تعالى : (لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) أي لهم عند الله أجر جزيل ونور عظيم يسعى بين أيديهم وهم
في ذلك يتفاوتون بحسب ما كانوا في الدار الدنيا من الأعمال كما قال الإمام أحمد ، حدثنا يحيى بن إسحاق ، حدثنا ابن لهيعة ، عن عطاء بن
دينار عن أبي يزيد الخولاني قال : سمعت فضالة بن عبيد يقول : سمعت عمر بن الخطاب
يقول : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «الشهداء أربعة رجل مؤمن جيد الإيمان لقي العدو
فصدق الله فقتل فذاك الذي ينظر الناس إليه هكذا» ورفع رأسه حتى سقطت قلنسوة رسول
الله صلىاللهعليهوسلم أو قلنسوة عمر «والثاني مؤمن لقي العدو فكأنما يضرب ظهره
بشوك الطلح جاءه سهم غرب فقتله فذاك في الدرجة الثانية ، والثالث رجل مؤمن خلط
عملا صالحا وآخر سيئا لقي العدو فصدق الله حتى قتل فذاك في الدرجة الثالثة ،
والرابع رجل مؤمن من أسرف على نفسه إسرافا كثيرا لقي العدو فصدق الله حتى قتل فذاك
في الدرجة الرابعة» وهكذا رواه علي بن المديني عن أبي داود الطيالسي عن ابن
المبارك عن ابن لهيعة ، وقال هذا إسناد مصري صالح ، ورواه الترمذي من حديث ابن
لهيعة وقال : حسن غريب.
وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا
بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) لما ذكر السعداء ومآلهم عطف بذكر الأشقياء وبين حالهم.
(اعْلَمُوا أَنَّمَا
الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ
فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ
ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ
شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ
مَتاعُ الْغُرُورِ (٢٠) سابِقُوا إِلى
مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ
أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ
مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)
(٢١)
يقول تعالى موهنا
أمر الحياة الدنيا ومحقرا لها : (أَنَّمَا الْحَياةُ
الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي
الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ) أي إنما حاصل أمرها عند أهلها هذا ، كما قال تعالى : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ
مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ
وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ
__________________
وَالْأَنْعامِ
وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) [آل عمران : ١٤] ثم ضرب تعالى مثل الحياة الدنيا في أنها
زهرة فانية ونعمة زائلة فقال : (كَمَثَلِ غَيْثٍ) وهو المطر الذي يأتي بعد قنوط الناس كما قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ
مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا) [الشورى : ٢٨].
وقوله تعالى : (أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ) أي يعجب الزراع نبات ذلك الزرع الذي نبت بالغيث ، وكما
يعجب الزراع ذلك كذلك تعجب الحياة الدنيا الكفار ، فإنهم أحرص شيء عليها وأميل
الناس إليها (ثُمَّ يَهِيجُ
فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً) أي يهيج ذلك الزرع فتراه مصفرا بعد ما كان خضرا نضرا ، ثم
يكون بعد ذلك كله حطاما أي يصير يبسا متحطما ، هكذا الحياة الدنيا تكون أولا شابة
ثم تكتهل ثم تكون عجوزا شوهاء ، والإنسان يكون كذلك في أول عمره وعنفوان شبابه غضا
طريا لين الأعطاف ، بهي المنظر ، ثم إنه يشرع في الكهولة فتتغير طباعه وينفد بعض
قواه ، ثم يكبر فيصير شيخا كبيرا ضعيف القوى ، قليل الحركة يعجزه الشيء اليسير كما
قال تعالى : (اللهُ الَّذِي
خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ
مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ
الْقَدِيرُ) [الروم : ٥٤].
ولما كان هذا
المثل دالا على زوال الدنيا وانقضائها وفراغها لا محالة ، وأن الآخرة كائنة لا
محالة ، حذر من أمرها ورغب فيما فيها من الخير فقال : (وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ
وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ
الْغُرُورِ) أي وليس في الآخرة الآتية القريبة إلا إما هذا وإما هذا :
إما عذاب شديد ، وإما مغفرة من الله ورضوان.
وقوله تعالى : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا
مَتاعُ الْغُرُورِ) أي هي متاع فان غارّ لمن ركن إليه ، فإنه يغتر بها وتعجبه
حتى يعتقد أنه لا دار سواها ولا معاد وراءها ، وهي حقيرة قليلة بالنسبة إلى دار
الآخرة. قال ابن جرير : حدثنا علي بن حرب الموصلي ، حدثنا المحاربي ، حدثنا محمد
بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها ، اقرءوا (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا
مَتاعُ الْغُرُورِ) وهذا الحديث ثابت في الصحيح بدون هذه الزيادة والله أعلم.
وقال الإمام أحمد : حدثنا ابن نمير ووكيع كلاهما عن الأعمش عن شقيق عن عبد
الله قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «للجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله والنار مثل ذلك»
انفرد بإخراجه البخاري في الرقاق من حديث الثوري عن الأعمش به.
__________________
ففي هذا الحديث
دليل على اقتراب الخير والشر من الإنسان ، وإذا كان الأمر كذلك فلهذا حثه الله
تعالى على المبادرة إلى الخيرات من فعل الطاعات وترك المحرمات التي تكفر عنه
الذنوب والزلات وتحصل له الثواب والدرجات فقال تعالى : (سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ
رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) والمراد جنس السماء والأرض كما قال تعالى في الآية الأخرى
: (وَسارِعُوا إِلى
مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ
لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران : ١٣٣]
وقال هاهنا : (أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ
آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو
الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) أي هذا الذي أهلهم الله له هو من فضله ومنه عليهم وإحسانه
إليهم ، كما قدمناه في الصحيح أن فقراء المهاجرين قالوا : يا رسول الله ذهب أهل
الدثور بالأجور بالدرجات العلى والنعيم المقيم قال «وما ذاك؟» قالوا : يصلون كما
نصلي ، ويصومون كما نصوم ، ويتصدقون ولا نتصدق ، ويعتقون ولا نعتق. قال : «أفلا
أدلكم على شيء إذا فعلتموه سبقتم من بعدكم ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل
ما صنعتم تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين» قال : فرجعوا فقالوا
: سمع إخواننا أهل الأموال ما فعلنا ففعلوا مثله ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ
يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) .
(ما أَصابَ مِنْ
مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ
أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ
(٢٢) لِكَيْلا
تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ
كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (٢٣) الَّذِينَ
يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ
هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)(٢٤)
يخبر تعالى عن
قدره السابق في خلقه قبل أن يبرأ البرية فقال : (ما أَصابَ مِنْ
مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ) أي في الآفاق وفي أنفسكم (إِلَّا فِي كِتابٍ
مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) أي من قبل أن نخلق الخليقة ونبرأ النسمة. وقال بعضهم : من
قبل أن نبرأها عائد على النفوس ، وقيل : عائد على المصيبة ، والأحسن عوده على
الخليقة والبرية لدلالة الكلام عليها كما قال ابن جرير : حدثني يعقوب ، حدثني ابن علية عن منصور بن عبد الرّحمن
قال : كنت جالسا مع الحسن فقال رجل سله عن قوله تعالى : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ
وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) فسألته عنها فقال : سبحان الله ومن يشك في هذا؟ كل مصيبة
بين السماء والأرض ففي كتاب الله من قبل أن يبرأ النسمة. وقال قتادة : ما أصاب من
مصيبة في الأرض قال : هي السنون يعني الجدب (وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ) يقول : الأوجاع والأمراض ، قال : وبلغنا أنه ليس أحد يصيبه
خدش عود ولا نكبة قدم ولا خلجان عرق إلا بذنب ، وما يعفو الله عنه أكثر.
وهذه الآية
الكريمة العظيمة من أدل دليل على القدرية نفاة العلم السابق ـ قبحهم الله ـ وقال
__________________
الإمام أحمد : حدثنا أبو عبد الرّحمن ، حدثنا حيوة وابن لهيعة قالا :
حدثنا أبو هانئ الخولاني أنه سمع أبا عبد الرّحمن الحبلي يقول : سمعت عبد الله بن
عمرو بن العاص يقول : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «قدر الله المقادير قبل أن يخلق السموات والأرض
بخمسين ألف سنة». ورواه مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن وهب وحيوة بن شريح
ونافع بن زيد وثلاثتهم عن أبي هانئ به ، وزاد ابن وهب «وكان عرشه على الماء» ورواه الترمذي وقال حسن صحيح.
وقوله تعالى : (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) أي إن علمه تعالى الأشياء قبل كونها وكتابته لها طبق ما
يوجد في حينها سهل على الله عزوجل ، لأنه يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف كان
يكون.
وقوله تعالى : (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ
وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) أي أعلمناكم بتقدم علمنا وسبق كتابتنا للأشياء قبل كونها ،
وتقديرنا الكائنات قبل وجودها ، لتعلموا أن ما أصابكم لم يكن ليخطئكم وما أخطأكم
لم يكن ليصيبكم ، فلا تأسوا على ما فاتكم لأنه لو قدر شيء لكان (وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) أي جاءكم ، وتفسير (آتاكُمْ) أي أعطاكم وكلاهما متلازم أي لا تفخروا على الناس بما أنعم
الله به عليكم ، فإن ذلك ليس بسعيكم ولا كدكم ، وإنما هو عن قدر الله ورزقه لكم
فلا تتخذوا نعم الله أشرا وبطرا تفخرون بها على الناس ، ولهذا قال تعالى : (وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ
فَخُورٍ) أي مختال في نفسه متكبر فخور أي على غيره. وقال عكرمة :
ليس أحد إلا هو يفرح ويحزن ولكن اجعلوا الفرح شكرا والحزن صبرا. ثم قال تعالى : (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ
النَّاسَ بِالْبُخْلِ) أي يفعلون المنكر ويحضون الناس عليه (وَمَنْ يَتَوَلَ) أي عن أمر الله وطاعته (فَإِنَّ اللهَ هُوَ
الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) كما قال موسى عليهالسلام (إِنْ تَكْفُرُوا
أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) [إبراهيم : ٨].
(لَقَدْ أَرْسَلْنا
رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ
النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ
لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ
قَوِيٌّ عَزِيزٌ)(٢٥)
يقول تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا
بِالْبَيِّناتِ) أي بالمعجزات ، والحجج الباهرات ، والدلائل القاطعات (وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ) وهو النقل المصدق (وَالْمِيزانَ) وهو العدل ، قاله مجاهد وقتادة وغيرهما ، وهو الحق الذي
تشهد به العقول الصحيحة المستقيمة المخالفة للآراء السقيمة كما قال تعالى : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ
رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) [هود : ١٧] وقال
تعالى : (فِطْرَتَ اللهِ
الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) [الروم : ٣٠] وقال
تعالى : (وَالسَّماءَ رَفَعَها
وَوَضَعَ الْمِيزانَ)
__________________
[الرّحمن : ٧]
ولهذا قال في هذه الآية : (لِيَقُومَ النَّاسُ
بِالْقِسْطِ) أي بالحق والعدل وهو اتباع الرسل فيما أخبروا به وطاعتهم
فيما أمروا به ، فإن الذي جاءوا به هو الحق الذي ليس وراءه حق كما قال : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً
وَعَدْلاً) [الأنعام : ١١٥]
أي صدقا في الأخبار وعدلا في الأوامر والنواهي ، ولهذا يقول المؤمنون إذا تبوءوا
غرف الجنات ، والمنازل العاليات ، والسرر المصفوفات (الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ لَقَدْ
جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ) [الأعراف : ٤٣].
وقوله تعالى : (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ
شَدِيدٌ) أي وجعلنا الحديد رادعا لمن أبى الحق وعانده بعد قيام
الحجة عليه ، ولهذا أقام رسول الله صلىاللهعليهوسلم بمكة بعد النبوة ثلاث عشرة سنة توحى إليه السور المكية ،
وكلها جدال مع المشركين وبيان وإيضاح للتوحيد وبينات ودلالات ، فلما قامت الحجة
على من خالف ، شرع الله الهجرة وأمرهم بالقتال بالسيوف وضرب الرقاب والهام لمن
خالف القرآن وكذب به وعانده.
وقد روى الإمام
أحمد وأبو داود من حديث عبد الرّحمن بن ثابت بن ثوبان عن حسان بن عطية عن أبي
المنيب الجرشي الشامي عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك
له ، وجعل رزقي تحت ظل رمحي ، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري ومن تشبه بقوم
فهو منهم» ولهذا قال تعالى : (فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) يعني السلاح كالسيوف والحراب والسنان والنصال والدروع
ونحوها (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) أي في معايشهم كالسكة والفأس والقدوم والمنشار والإزميل
والمجرفة والآلات التي يستعان بها في الحراثة والحياكة والطبخ والخبز ، وما لا
قوام للناس بدونه وغير ذلك. قال علباء بن أحمد عن عكرمة عن ابن عباس قال : ثلاثة
أشياء نزلت مع آدم : السندان والكلبتان والميقعة يعني المطرقة ، ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم ، وقوله تعالى : (وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ
وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ) أي من نيته في حمل السلاح نصرة الله ورسله (إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) أي هو قوي عزيز ينصر من نصره من غير احتياج منه إلى الناس
، وإنما شرع الجهاد ليبلو بعضكم ببعض.
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ
فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٦) ثُمَّ قَفَّيْنا
عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ
الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً
وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ
اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ
أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ)(٢٧)
يخبر تعالى أنه
منذ بعث نوحا عليهالسلام لم يرسل بعده رسولا ولا نبيا إلا من ذريته وكذلك
__________________
إبراهيم عليهالسلام خليل الرّحمن ، لم ينزل من السماء كتابا ولا أرسل رسولا
ولا أوحى إلى بشر من بعده إلا وهو من سلالته ، كما قال تعالى في الآية الأخرى : (وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ
النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) [العنكبوت : ٢٧] حتى كان آخر أنبياء بني إسرائيل عيسى ابن
مريم الذي بشر من بعده بمحمد صلوات الله وسلامه عليهما ، ولهذا قال تعالى : (ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ
بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ) وهو الكتاب الذي أوحاه الله إليه (وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ
اتَّبَعُوهُ) وهم الحواريون (رَأْفَةً) أي رقة وهي الخشية (وَرَحْمَةً) بالخلق. وقوله : (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها) أي ابتدعها أمة النصارى (ما كَتَبْناها
عَلَيْهِمْ) أي ما شرعناها لهم وإنما هم التزموها من تلقاء أنفسهم.
وقوله تعالى : (إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ) فيه قولان [أحدهما] أنهم قصدوا بذلك رضوان الله ، قاله
سعيد بن جبير وقتادة. [والآخر] ـ ما كتبنا عليهم ذلك إنما كتبنا عليهم ابتغاء
رضوان الله. وقوله تعالى : (فَما رَعَوْها حَقَّ
رِعايَتِها) أي فما قاموا بما التزموه حق القيام ، وهذا ذم لهم من
وجهين [أحدهما] ـ في الابتداع في دين الله ما لم يأمر به الله و [الثاني] ـ في عدم
قيامهم بما التزموه مما زعموا أنه قربة يقربهم إلى الله عزوجل.
وقد قال ابن أبي
حاتم : حدثنا إسحاق بن أبي حمزة أبو يعقوب الرازي حدثنا السندي بن عبدويه ، حدثنا
بكير بن معروف عن مقاتل بن حيان عن القاسم بن عبد الرّحمن بن عبد الله بن مسعود ،
عن أبيه عن جده ابن مسعود قال : قال لي رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «يا ابن مسعود» قلت : لبيك يا رسول الله. قال : «هل علمت
أن بني إسرائيل افترقوا على ثنتين وسبعين فرقة؟ لم ينج منها إلا ثلاث فرق ، قامت
بين الملوك والجبابرة بعد عيسى ابن مريم عليهالسلام ، فدعت إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم ، فقاتلت الجبابرة
فقتلت فصبرت ونجت ، ثم قامت طائفة أخرى لم تكن لها قوة بالقتال ، فقامت بين الملوك
والجبابرة فدعوا إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم فقتلت وقطعت بالمناشير وحرقت
بالنيران فصبرت ونجت ، ثم قامت طائفة أخرى لم يكن لها قوة بالقتال ولم تطق القيام
بالقسط ، فلحقت بالجبال فتعبدت وترهبت وهم الذين ذكر الله تعالى : (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما
كَتَبْناها عَلَيْهِمْ).
وقد رواه ابن جرير
بلفظ آخر من طريق أخرى فقال : حدثنا يحيى بن أبي طالب ، حدثنا داود بن المحبر
، حدثنا الصعق بن حزن ، حدثنا عقيل الجعدي عن أبي إسحاق الهمداني عن سويد بن غفلة
عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «اختلف من كان قبلنا على ثلاث وسبعين فرقة نجا منهم ثلاث
وهلك سائرهم» وذكر نحو ما تقدم وفيه (فَآتَيْنَا الَّذِينَ
آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ) هم الذين آمنوا بي وصدقوني (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ
فاسِقُونَ) وهم الذين كذبوني
__________________
وخالفوني» ولا
يقدح في هذه المتابعة لحال داود بن المحبر فإنه أحد الوضاعين للحديث ، لكن قد
أسنده أبو يعلى عن شيبان بن فروخ عن الصعق بن حزن به مثل ذلك ، فقوي الحديث من هذا
الوجه.
وقال ابن جرير وأبو عبد الرّحمن النسائي واللفظ له : أخبرنا الحسين بن
حريث ، حدثنا الفضل بن موسى عن سفيان بن سعيد عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان ملوك بعد عيسى عليهالسلام بدلت التوراة والإنجيل فكان منهم مؤمنون يقرءون التوراة
والإنجيل ، فقيل لملوكهم ما نجد شيئا أشد من شتم يشتموناه هؤلاء إنهم يقرءون (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ
اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) [المائدة : ٤٤]
هذه الآيات مع ما يعيبوننا به من أعمالنا في قراءتهم فادعهم فليقرءوا كما نقرأ
وليؤمنوا كما آمنا ، فدعاهم فجمعهم وعرض عليهم القتل أو يتركوا قراءة التوراة
والإنجيل إلا ما بدلوا منها ، فقالوا : ما تريدون إلى ذلك دعونا ، فقالت طائفة
منهم : ابنوا لنا أسطوانة ثم ارفعونا إليها ثم أعطونا شيئا نرفع به طعامنا وشرابنا
فلا نرد عليكم ، وقالت طائفة : دعونا نسيح في الأرض ونهيم ونشرب كما يشرب الوحش ،
فإن قدرتم علينا في أرضكم فاقتلونا ، وقالت طائفة : ابنوا لنا دورا في الفيافي
ونحتفر الآبار ونحترث البقول فلا نرد عليكم ولا نمر بكم ، وليس أحد من القبائل إلا
له حميم فيهم ، ففعلوا ذلك ، فأنزل الله تعالى : (وَرَهْبانِيَّةً
ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما
رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها).
والآخرون قالوا :
نتعبد كما تعبد فلان ونسيح كما ساح فلان ونتخذ دورا كما اتخذ فلان ، وهم على شركهم
لا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم ، فلما بعث الله النبي صلىاللهعليهوسلم ولم يبق منهم إلا القليل انحط منهم رجل من صومعته ، وجاء
سائح من سياحته ، وصاحب الدير من ديره فآمنوا به وصدقوه فقال الله عزوجل : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ
مِنْ رَحْمَتِهِ) أجرين بإيمانهم بعيسى ابن مريم وتصديقهم بالتوراة والإنجيل
، وبإيمانهم بمحمد صلىاللهعليهوسلم وتصديقهم قال (وَيَجْعَلْ لَكُمْ
نُوراً تَمْشُونَ بِهِ) القرآن واتباعهم النبي صلىاللهعليهوسلم قال : (لِئَلَّا يَعْلَمَ
أَهْلُ الْكِتابِ) الذين يتشبهون بكم (أَلَّا يَقْدِرُونَ
عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ
يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) هذا السياق فيه غرابة ، وسيأتي تفسير هاتين الآيتين على
غير هذا ، والله أعلم.
وقال الحافظ أبو
يعلى الموصلي : حدثنا أحمد بن عيسى ، حدثنا عبد الله بن وهب ، حدثني سعيد بن عبد
الرّحمن بن أبي العمياء أن سهل بن أبي أمامة حدثه أنه دخل هو وأبوه على أنس بن
مالك بالمدينة زمان عمر بن عبد العزيز وهو أمير ، وهو يصلي صلاة خفيفة كأنها
__________________
صلاة المسافر أو
قريبا منها ، فلما سلم قال : يرحمك الله أرأيت هذه الصلاة المكتوبة أم شيء تنفلته؟
قال : إنها المكتوبة وإنها صلاة رسول الله صلىاللهعليهوسلم ما أخطأت إلا شيئا سهوت عنه ، إن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان يقول : «لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم فإن
قوما شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات رهبانية
ابتدعوها ما كتبناها عليهم» ثم غدوا من الغد فقالوا : نركب فننظر ونعتبر ، قال :
نعم فركبوا جميعا فإذا هم بديار قفر قد باد أهلها وانقرضوا وفنوا خاوية على عروشها
، فقالوا : أتعرف هذه الديار؟ قال : ما أعرفني بها وبأهلها هؤلاء أهل الديار
أهلكهم البغي والحسد ، إن الحسد يطفئ نور الحسنات والبغي يصدق ذلك أو يكذبه ،
والعين تزني والكف تزني والقدم والجسد واللسان والفرج يصدق ذلك أو يكذبه.
وقال الإمام أحمد : حدثنا يعمر ، حدثنا عبد الله أخبرنا سفيان عن زيد العمي
عن أبي إياس ، عن أنس بن مالك أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «لكل نبي رهبانية ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل
الله عزوجل» ورواه الحافظ أبو يعلى عن عبد الله بن محمد ابن أسماء عن
عبد الله بن المبارك به ولفظه «لكل أمة رهبانية ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل
الله».
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسين ـ هو ابن محمد ـ حدثنا ابن عياش يعني إسماعيل
عن الحجاج بن مروان الكلاعي وعقيل بن مدرك السلمي ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله
عنه أن رجلا جاءه فقال : أوصني ، فقال : سألت عما سألت عنه رسول الله صلىاللهعليهوسلم من قبلك أوصيك بتقوى الله فإنه رأس كل شيء وعليك بالجهاد
فإنه رهبانية الإسلام ، وعليك بذكر الله وتلاوة القرآن فإنه روحك في السماء وذكرك
في الأرض. تفرد به أحمد ، والله أعلم.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ
مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ
وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٨)
لِئَلاَّ
يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ
وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ
الْعَظِيمِ)(٢٩)
قد تقدم في رواية
النسائي عن ابن عباس أنه حمل هذه الآية على مؤمني أهل الكتاب وأنهم يؤتون أجرهم
مرتين كما في الآية التي في القصص وكما في حديث الشعبي عن أبي بردة عن أبيه عن أبي
موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه
وآمن بي فله أجران ، وعبد مملوك أدى حق الله وحق مواليه فله أجران ، ورجل أدب أمته
فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران» أخرجاه في الصحيحين
__________________
ووافق ابن عباس
على هذا التفسير الضحاك وعتبة بن أبي حكيم وغيرهما وهو اختيار ابن جرير وقال سعيد
بن جبير : لما افتخر أهل الكتاب بأنهم يؤتون أجرهم مرتين أنزل الله تعالى عليه هذه
الآية في حق هذه الأمة : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ) أي ضعفين (مِنْ رَحْمَتِهِ) وزادهم (وَيَجْعَلْ لَكُمْ
نُوراً تَمْشُونَ بِهِ) يعني هدى يتبصر به من العمى والجهالة ويغفر لكم ، ففضلهم
بالنور والمغفرة رواه ابن جرير عنه.
وهذه الآية كقوله
تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ
عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الأنفال : ٢٩]
وقال سعيد بن عبد العزيز : سأل عمر بن الخطاب حبرا من أحبار اليهود كم أفضل ما
ضعّفت لكم حسنة؟ قال كفل ثلاثمائة وخمسين حسنة ، قال فحمد الله عمر على أنه أعطانا
كفلين ، ثم ذكر سعيد قول الله عزوجل : (يُؤْتِكُمْ
كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) قال سعيد : والكفلان في الجمعة مثل ذلك ، رواه ابن جرير . ومما يؤيد هذا القول ما رواه الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل ، حدثنا أيوب عن نافع عن ابن عمر قال :
قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «مثلكم ومثل اليهود والنصارى كمثل رجل استعمل عمالا فقال
من يعمل لي من صلاة الصبح إلى نصف النهار على قيراط قيراط؟ ألا فعملت اليهود ، ثم
قال من يعمل لي من صلاة الظهر إلى صلاة العصر على قيراط قيراط؟ ألا فعملت النصارى
، ثم قال من يعمل لي من صلاة العصر إلى غروب الشمس على قيراطين قيراطين؟ ألا فأنتم
الذين عملتم ، فغضبت النصارى واليهود وقالوا نحن أكثر عملا وأقل عطاء قال : هل
ظلمتكم من أجركم شيئا؟ قالوا : لا ، قال : فإنما هو فضلي أوتيه من أشاء».
قال أحمد وحدثناه مؤمل عن سفيان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر
نحو حديث نافع عنه انفرد بإخراجه البخاري فرواه عن سليمان بن حرب عن حماد عن أيوب عن نافع به ، وعن
قتيبة عن الليث عن نافع بمثله ، وقال البخاري : حدثني محمد بن العلاء حدثنا أبو أسامة عن بريد عن أبي
بردة عن أبي موسى عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استأجر
قوما يعملون له عملا يوما إلى الليل على أجر معلوم فعملوا إلى نصف النهار فقالوا
لا حاجة لنا في أجرك الذي شرطت لنا وما عملنا باطل ، فقال لهم لا تفعلوا أكملوا
بقية عملكم وخذوا أجركم كاملا ، فأبوا وتركوا واستأجر آخرين بعدهم فقال أكملوا
بقية
__________________
يومكم ولكم الذي
شرطت لهم من الأجر ، فعملوا حتى إذا كان حين صلوا العصر قالوا ما عملنا باطل ولك
الأجر الذي جعلت لنا فيه. فقال أكملوا بقية عملكم فإنما بقي من النهار شيء يسير
فأبوا. فاستأجر قوما أن يعملوا له بقية يومهم فعملوا له بقية يومهم حتى غابت الشمس
، فاستكملوا أجرة الفريقين كليهما فذلك مثلهم ومثل ما قبلوا من هذا النور» انفرد
به البخاري ولهذا قال تعالى : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ
الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ) أي ليتحققوا أنهم لا يقدرون على رد ما أعطاه الله ولا
إعطاء ما منع الله (وَأَنَّ الْفَضْلَ
بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).
قال ابن جرير (لِئَلَّا يَعْلَمَ
أَهْلُ الْكِتابِ) أي ليعلم وقد ذكر عن ابن مسعود أنه قرأها لكي يعلم وكذا
حطّان بن عبد الله وسعيد بن جبير. قال ابن جرير : لأن العرب تجعل لا صلة في كل
كلام دخل في أوله أو آخره جحد غير مصرح فالسابق كقوله : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) [الأعراف : ١٢] (وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ
لا يُؤْمِنُونَ) [الأنعام : ١٠٩]
بالله (وَحَرامٌ عَلى
قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) [الأنبياء : ٩٥].
آخر تفسير سورة
الحديد ولله الحمد والمنة.
__________________
تفسير سورة المجادلة
وهي مدنية
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(قَدْ سَمِعَ اللهُ
قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ
تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ)(١)
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش عن تميم بن سلمة عن
عروة عن عائشة قالت الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات ، لقد جاءت المجادلة إلى
النبي صلىاللهعليهوسلم تكلمه وأنا في ناحية البيت ما أسمع ما تقوله ، فأنزل الله عزوجل (قَدْ سَمِعَ اللهُ
قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها) إلى آخر الآية ، وهكذا رواه البخاري في كتاب التوحيد
تعليقا فقال ، وقال الأعمش عن تميم بن سلمة عن عروة عن عائشة فذكره وأخرجه النسائي
وابن ماجة وابن أبي حاتم وابن جرير من غير وجه عن الأعمش به. وفي رواية لابن أبي
حاتم عن الأعمش عن تميم بن سلمة عن عروة عن عائشة أنها قالت : تبارك الذي أوعى
سمعه كل شيء ، إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ويخفى علي بعضه وهي تشتكي زوجها إلى
رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وهي تقول يا رسول الله أكل مالي وأفنى شبابي ونثرت له
بطني حتى إذا كبر سني وانقطع ولدي ظاهر مني ، اللهم إني أشكو إليك ، قالت فما برحت
حتى نزل جبريل بهذه الآية (قَدْ سَمِعَ اللهُ
قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها).
قالت : وزوجها أوس
بن الصامت ، وقال ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة هو أوس بن الصامت : وكان أوس
امرءا به لمم ، فكان إذا أخذه لممه واشتد به يظاهر من امرأته ، وإذا ذهب لم يقل
شيئا فأتت رسول الله صلىاللهعليهوسلم تستفتيه في ذلك وتشتكي إلى الله ، فأنزل الله (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي
تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ) الآية. وهكذا روى هشام بن عروة عن أبيه أن رجلا كان به لمم
فذكر مثله.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبي : حدثنا موسى بن إسماعيل أبو سلمة ، حدثنا جرير يعني ابن حازم قال :
سمعت أبا يزيد يحدث قال : لقيت امرأة عمر يقال لها : خولة بنت ثعلبة ، وهو يسير مع
الناس فاستوقفته فوقف لها ودنا منها وأصغى إليها رأسه ووضع يديه على منكبيها حتى
قضت حاجتها وانصرفت ، فقال له رجل : يا أمير المؤمنين حبست رجالات قريش على هذه
العجوز ، قال ويحك وتدري من هذه؟ قال : لا. قال هذه امرأة سمع الله شكواها من فوق
سبع
__________________
سموات ، هذه خولة
بنت ثعلبة ، والله لو لم تنصرف عني إلى الليل ما انصرفت عنها حتى تقضى حاجتها إلا
أن تحضر صلاة فأصليها ثم أرجع إليها حتى تقضى حاجتها. هذا منقطع بين أبي يزيد وعمر
بن الخطاب وقد روي من غير هذا الوجه. وقال ابن أبي حاتم أيضا : حدثنا المنذر بن
شاذان ، حدثنا يعلى ، حدثنا زكريا عن عامر قال : المرأة التي جادلت في زوجها خولة
بنت الصامت وأمها معاذة التي أنزل الله فيها (وَلا تُكْرِهُوا
فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) [النور : ٣٣]
صوابه خولة امرأة أوس بن الصامت.
(الَّذِينَ يُظاهِرُونَ
مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ
اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ
وَزُوراً وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٢) وَالَّذِينَ
يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ
مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ
خَبِيرٌ(٣) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ
شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ
فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ
حُدُودُ اللهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ)
(٤)
قال الإمام أحمد : حدثنا سعد بن إبراهيم ويعقوب قالا : حدثنا أبي ، حدثنا
محمد بن إسحاق ، حدثني معمر بن عبد الله بن حنظلة عن يوسف بن عبد الله بن سلام ،
عن خويلة بنت ثعلبة قالت : فيّ والله وفي أوس بن الصامت أنزل الله صدر سورة
المجادلة ، قالت : كنت عنده وكان شيخا كبيرا قد ساء خلقه ، قالت : فدخل علي يوما
فراجعته بشيء ، فغضب فقال : أنت عليّ كظهر أمي. قالت : ثم خرج فجلس في نادي قومه
ساعة ، ثم دخل علي فإذا هو يريدني عن نفسي قالت : قلت كلا ، والذي نفس خويلة بيده
لا تخلص إلي ، وقد قلت ما قلت ، حتى يحكم الله ورسوله فينا بحكمه ، قالت : فواثبني
، فامتنعت منه فغلبته بما تغلب به المرأة الشيخ الضعيف فألقيته عني ، قالت : ثم
خرجت إلى بعض جاراتي فاستعرت منها ثيابا ، ثم خرجت حتى جئت إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فجلست بين يديه ، فذكرت له ما لقيت منه وجعلت أشكو إليه ما
ألقى من سوء خلقه ، قالت : فجعل رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «يا خويلة ابن عمك شيخ كبير فاتقي الله فيه».
قالت : فو الله ما
برحت حتى نزل في القرآن ، فتغشى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ما كان يتغشاه ثم سري عنه فقال لي : «يا خويلة قد أنزل
الله فيك وفي صاحبك قرآنا ـ ثم قرأ علي (قَدْ سَمِعَ اللهُ
قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ
تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) ـ إلى قوله تعالى ـ (وَلِلْكافِرِينَ
عَذابٌ أَلِيمٌ) قالت : فقال لي رسول الله صلىاللهعليهوسلم «مريه فليعتق رقبة»
قالت : فقلت يا رسول الله ما عنده ما يعتق ، قال «فليصم شهرين متتابعين» قالت :
فقلت والله إنه لشيخ كبير ما به من صيام قال «فليطعم ستين مسكينا وسقا من تمر»
قالت : فقلت والله يا رسول الله
__________________
ما ذاك عنده ،
قالت : فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «فإنا سنعينه بعرق
من تمر» قالت : فقلت يا رسول الله وأنا سأعينه بعرق آخر قال «قد أصبت وأحسنت
فاذهبي فتصدقي به عنه ثم استوصي بابن عمك خيرا» قالت : ففعلت.
ورواه أبو داود في كتاب الطلاق من سننه من طريقين عن محمد بن إسحاق بن
يسار به ، وعنده خولة بنت ثعلبة ويقال فيها خولة بنت مالك بن ثعلبة ، وقد تصغر
فيقال خويلة ، ولا منافاة بين هذه الأقوال فالأمر فيها قريب والله أعلم. هذا هو
الصحيح في سبب نزول صدر هذه السورة ، فأما حديث سلمة بن صخر فليس فيه أنه كانت سبب
النزول ولكن أمر بما أنزل الله في هذه السورة ، من العتق أو الصيام أو الإطعام ،
كما قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا محمد بن إسحاق عن محمد بن
عمرو بن عطاء عن سليمان بن يسار عن سلمة بن صخر الأنصاري قال : كنت امرأ قد أوتيت
من جماع النساء ما لم يؤت غيري ، فلما دخل رمضان ظاهرت من امرأتي حتى ينسلخ رمضان
فرقا من أن أصيب في ليلتي شيئا فأتتابع في ذلك إلى أن يدركني النهار وأنا لا أقدر
أن أنزع ، فبينما هي تخدمني من الليل إذ تكشف لي منها شيء فوثبت عليها ، فلما
أصبحت غدوت على قومي فأخبرتهم خبري وقلت : انطلقوا معي إلى النبي صلىاللهعليهوسلم فأخبره بأمري ، فقالوا : لا والله لا نفعل نتخوف أن ينزل
فينا ، أو يقول فينا رسول اللهصلىاللهعليهوسلم مقالة يبقى علينا عارها ، ولكن اذهب أنت ، فاصنع ما بدا
لك.
قال : فخرجت حتى
أتيت النبي صلىاللهعليهوسلم فأخبرته خبري فقال لي «أنت بذاك» فقلت : أنا بذاك فقال «أنت
بذاك» فقلت أنا بذاك قال «أنت بذاك» قلت نعم ، ها أنا ذا فأمض في حكم الله عزوجل فإني صابر له قال «أعتق رقبة» قال : فضربت صفحة رقبتي بيدي
وقلت : لا والذي بعثك بالحق ما أصبحت أملك غيرها ، قال «فصم شهرين متتابعين» قلت :
يا رسول الله وهل أصابني ما أصابني إلا في الصيام قال «فتصدق» فقلت : والذي بعثك
بالحق لقد بتنا ليلتنا هذه وحشي ما لنا عشاء ، قال «اذهب إلى صاحب صدقة بني زريق
فقل له فليدفعها إليك فأطعم عنك منها وسقا من تمر ستين مسكينا ثم استعن بسائره
عليك وعلى عيالك» قال : فرجعت إلى قومي فقلت : وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي ،
ووجدت عند رسول الله صلىاللهعليهوسلم السعة والبركة قد أمر لي بصدقتكم فادفعوها إليّ فدفعوها إليّ
، وهكذا رواه أبو داود وابن ماجة واختصره الترمذي وحسنه ، وظاهر السياق أن
هذه القصة كانت بعد قصة أوس بن الصامت وزوجته خويلة بنت ثعلبة ، كما دل عليه سياق
تلك وهذه بعد التأمل.
__________________
قال خصيف عن مجاهد
عن ابن عباس : أول من ظاهر من امرأته أوس بن الصامت أخو عبادة بن الصامت ، وامرأته
خولة بنت ثعلبة بن مالك فلما ظاهر منها خشيت أن يكون ذلك طلاقا ، فأتت رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقالت : يا رسول الله ، إن أوسا ظاهر مني ، وإنا إن
افترقنا هلكنا وقد نثرت بطني منه وقدمت صحبته ، وهي تشكو ذلك وتبكي ولم يكن جاء في
ذلك شيء ، فأنزل الله تعالى : (قَدْ سَمِعَ اللهُ
قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ) ـ إلى قوله تعالى ـ (وَلِلْكافِرِينَ
عَذابٌ أَلِيمٌ) فدعاه رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : «أتقدر على رقبة تعتقها» قال : لا والله يا رسول
الله ما أقدر عليها. قال : فجمع له رسول الله صلىاللهعليهوسلم حتى أعتق عنه ثم راجع أهله ، رواه ابن جرير ولهذا ذهب ابن عباس والأكثرون إلى ما قلناه والله أعلم.
فقوله تعالى : (الَّذِينَ
يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ) أصل الظهار مشتق من الظهر ، وذلك أن الجاهلية كانوا إذا
تظاهر أحد من امرأته قال لها : أنت علي كظهر أمي ثم في الشرع كان الظهار في سائر الأعضاء
قياسا على الظهر ، وكان الظهار عند الجاهلية طلاقا فأرخص الله لهذه الأمة وجعل فيه
كفارة ولم يجعله طلاقا كما كانوا يعتمدونه في جاهليتهم ، هكذا قال غير واحد من
السلف.
قال ابن جرير : حدثنا أبو كريب ، حدثنا عبيد الله بن موسى عن أبي حمزة
عن عكرمة عن ابن عباس قال : كان الرجل إذا قال لامرأته في الجاهلية أنت علي كظهر
أمي حرمت عليه فكان أول من ظاهر في الإسلام أوس ، وكانت تحته ابنة عم له يقال لها
خويلة بنت ثعلبة ، فظاهر منها فأسقط في يديه ، وقال ما أراك إلا قد حرمت علي وقالت
له مثل ذلك ، قال : فانطلقي إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فأتت رسول الله صلىاللهعليهوسلم فوجدت عنده ماشطة تمشط رأسه فقال : «يا خويلة» ما أمرنا في
أمرك بشيء ، فأنزل الله على رسوله فقال : «يا خويلة أبشري» قالت : خيرا ـ فقرأ
عليها (قَدْ سَمِعَ اللهُ
قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ
تَحاوُرَكُما) ـ إلى قوله تعالى ـ (وَالَّذِينَ
يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ
مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) قالت : وأي رقبة لنا والله ما يجد رقبة غيري قال (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ
مُتَتابِعَيْنِ) قالت : والله لو لا أنه يشرب في اليوم ثلاث مرات لذهب بصره
قال : (فَمَنْ لَمْ
يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً) قالت : من أين ما هي إلا أكلة إلي مثلها ، قال : فدعا بشطر
وسق ثلاثين صاعا والوسق ستون صاعا فقال : ليطعم ستين مسكينا وليراجعك وهذا إسناد
قوي وسياق غريب ، وقد روي عن أبي العالية نحو هذا.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا محمد بن عبد الرّحمن الهروي ، حدثنا علي بن العاصم عن داود بن أبي هند عن
أبي العالية قال : كانت خولة بنت دليج تحت رجل من الأنصار ، وكان ضرير البصر فقيرا
سيئ الخلق ، وكان طلاق أهل الجاهلية إذا أراد رجل أن يطلق امرأته قال :
__________________
أنت علي كظهر أمي
، وكان لها منه عيل أو عيلان فنازعته يوما في شيء فقال : أنت علي كظهر أمي ،
فاحتملت عليها ثيابها حتى دخلت على النبي صلىاللهعليهوسلم وهو في بيت عائشة ، وعائشة تغسل شق رأسه فقدمت عليه ومعها
عيلها ، فقالت : يا رسول الله إن زوجي ضرير البصر فقير لا شيء له سيئ الخلق ، وإني
نازعته في شيء ، فغضب فقال : أنت علي كظهر أمي ولم يرد به الطلاق ، ولي منه عيل أو
عيلان فقال : «ما أعلمك إلا قد حرمت عليه».
فقالت : أشكو إلى
الله ما نزل بي أنا وصبيتي ، قالت : ودارت عائشة فغسلت شق رأسه الآخر ، فدارت معها
فقالت : يا رسول الله زوجي ضرير البصر فقير سيئ الخلق وإن لي منه عيلا أو عيلان
وإني نازعته في شيء فغضب وقال : أنت علي كظهر أمي ولم يرد به الطلاق ، قالت : فرفع
إلي رأسه وقال : «ما أعلمك إلا قد حرمت عليه» فقالت : أشكو إلى الله ما نزل بي أنا
وصبيتي قال : ورأت عائشة وجه النبي صلىاللهعليهوسلم تغير ، فقالت لها : وراءك وراءك فتنحت ، فمكث رسول الله صلىاللهعليهوسلم في غشيانه ذلك ما شاء الله ، فلما انقطع الوحي قال : يا
عائشة أين المرأة فدعتها ، فقال لها رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «اذهبي فأتيني بزوجك» فانطلقت تسعى ، فجاءت به فإذا هو
كما قالت ضرير البصر فقير سيئ الخلق.
فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «أستعيذ بالله السميع العليم (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها) ـ إلى قوله ـ (وَالَّذِينَ
يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «أتجد رقبة تعتقها من قبل أن تمسها» قال لا ، قال : «أفلا
تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟» قال : والذي بعثك بالحق إني إذا لم آكل المرتين
والثلاث يكاد يعشو بصري. قال : «أفتستطيع أن تطعم ستين مسكينا؟» قال : لا ، إلا أن
تعينني. قال : فأعانه رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : «أطعم ستين مسكينا» قال : وحول الله الطلاق فجعله
ظهارا ، ورواه ابن جرير عن ابن المثنى عن عبد الأعلى عن داود سمعت أبا العالية
فذكر نحوه بأخصر من هذا السياق ، وقال سعيد بن جبير : كان الإيلاء والظهار من طلاق
الجاهلية ، فوقت الله الإيلاء أربعة أشهر وجعل في الظهار الكفارة ، رواه ابن أبي
حاتم بنحوه ، وقد استدل الإمام مالك على أن الكافر لا يدخل في هذه الآية بقوله (مِنْكُمْ) فالخطاب للمؤمنين ، وأجاب الجمهور بأن هذا خرج مخرج الغالب
فلا مفهوم له ، واستدل الجمهور عليه بقوله : (مِنْ نِسائِهِمْ) على أن الأمة لإظهار منها ولا تدخل في هذا الخطاب.
وقوله تعالى : (ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ
أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ) أي لا تصير المرأة بقول الرجل أنت علي كأمي أو مثل أمي أو
كظهر أمي وما أشبه ذلك ، لا تصير أمه بذلك إنما أمه التي ولدته ، ولهذا قال تعالى
: (وَإِنَّهُمْ
لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً) أي كلاما فاحشا باطلا
__________________
(وَإِنَّ اللهَ
لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) أي عما كان منكم في حال الجاهلية ، وهكذا أيضا عما خرج من
سبق اللسان ، ولم يقصد إليه المتكلم ، كما رواه أبو داود أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم سمع رجلا يقول لامرأته يا أختي ، فقال : «أختك هي؟» فهذا
إنكار ، ولكن لم يحرمها عليه بمجرد ذلك لأنه لم يقصده ولو قصده لحرمت عليه لأنه لا
فرق على الصحيح بين الأم وبين غيرها من سائر المحارم من أخت وعمة وخالة وما أشبه
ذلك.
وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ
نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) اختلف السلف والأئمة في المراد بقوله تعالى : (ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) فقال بعض الناس : العود هو أن يعود إلى لفظ الظهار فيكرره
، وهذا القول باطل وهو اختيار ابن حزم وقول داود وحكاه أبو عمر بن عبد البر عن
بكير بن الأشج والفراء وفرقة من أهل الكلام ، وقال الشافعي : هو أن يمسكها بعد
الظهار زمانا يمكنه أن يطلق فيه فلا يطلق ، وقال أحمد بن حنبل : هو أن يعود إلى
الجماع أو يعزم عليه فلا تحل له حتى يكفر بهذه الكفارة ، وقد حكي عن مالك أنه
العزم على الجماع والإمساك ، وعنه أنه الجماع ، وقال أبو حنيفة : هو أن يعود إلى
الظهار بعد تحريمه ورفع ما كان عليه أمر الجاهلية ، فمتى ظاهر الرجل من امرأته فقد
حرمها تحريما لا يرفعه إلا الكفارة ، وإليه ذهب أصحابه والليث بن سعد وقال ابن
لهيعة : حدثني عطاء عن سعيد بن جبير (ثُمَّ يَعُودُونَ
لِما قالُوا) يعني يريدون أن يعودوا في الجماع الذي حرموه على أنفسهم.
وقال الحسن البصري
: يعني الغشيان في الفرج وكان لا يرى بأسا أن يغشى فيما دون الفرج قبل أن يكفر ،
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : (مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَتَمَاسَّا) والمس النكاح ، وكذا قال عطاء والزهري وقتادة ومقاتل بن
حيان ، وقال الزهري : ليس له أن يقبلها ولا يمسها حتى يكفر.
وقد روى أهل السنن
من حديث عكرمة عن ابن عباس أن رجلا قال : يا رسول الله ، إني ظاهرت من امرأتي
فوقعت عليها قبل أن أكفر. فقال : «ما حملك على ذلك يرحمك الله» قال :
رأيت خلخالها في
ضوء القمر. قال : «فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله عزوجل» ، وقال الترمذي : حسن غريب صحيح ، ورواه أبو داود والنسائي
من حديث عكرمة مرسلا ، قال النسائي : وهو أولى بالصواب.
وقوله تعالى : (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) أي فإعتاق رقبة كاملة من قبل أن يتماسا ، فههنا الرقبة
مطلقة غير مقيدة بالإيمان وفي كفارة القتل مقيدة بالإيمان ، فحمل الشافعي رحمهالله ما أطلق هاهنا على ما قيد هناك لاتحاد الموجب وهو عتق
الرقبة ، واعتضد في ذلك بما رواه عن مالك بسنده
__________________
عن معاوية بن
الحكم السلمي في قصة الجارية السوداء ، وأن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «أعتقها فإنها مؤمنة» وقد رواه أحمد في مسنده ومسلم في صحيحه.
وقال الحافظ أبو
بكر البزار : حدثنا يوسف بن موسى ، حدثنا عبد الله بن نمير عن إسماعيل بن يسار عن
عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس ، قال : أتى رسول الله صلىاللهعليهوسلم رجل فقال إني تظاهرت من امرأتي ثم وقعت عليها قبل أن أكفر
، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ألم يقل الله تعالى : (مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَتَمَاسَّا) قال : أعجبتني ، قال : «أمسك حتى تكفر» ثم قال البزار : لا
يروى عن ابن عباس بأحسن من هذا ، وإسماعيل بن مسلم تكلم فيه وروى عنه جماعة كثيرة
من أهل العلم ، وفيه من الفقه أنه لم يأمره إلا بكفارة واحدة.
وقوله تعالى : (ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ) أي تزجرون به (وَاللهُ بِما
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي خبير بما يصلحكم عليم بأحوالكم ، وقوله تعالى : (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ
مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ
سِتِّينَ مِسْكِيناً) قد تقدمت الأحاديث الواردة بهذا على الترتيب كما ثبت في
الصحيحين في قصة الذي جامع امرأته في رمضان (ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا
بِاللهِ وَرَسُولِهِ) أي شرعنا هذا لهذا. وقوله تعالى : (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ) أي محارمه فلا تنتهكوها. وقوله تعالى : (وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي الذين لم يؤمنوا ولا التزموا بأحكام هذه الشريعة ، لا
تعتقدوا أنهم ناجون من البلاء كلا ليس الأمر كما زعموا بل لهم عذاب أليم أي في
الدنيا والآخرة.
(إِنَّ الَّذِينَ
يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٥) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ
اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ
عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٦)
أَلَمْ
تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ
نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ
وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا
ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيمٌ)
(٧)
يخبر تعالى عمن
شاقوا الله ورسوله وعاندوا شرعه (كُبِتُوا كَما كُبِتَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي أهينوا ولعنوا وأخزوا كما فعل بمن أشبههم ممن قبلهم (وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ) أي واضحات لا يعاندها ولا يخالفها إلا كافر فاجر مكابر (وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ) أي في مقابلة ما استكبروا عن اتباع شرع الله والانقياد له
والخضوع لديه.
ثم قال تعالى : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً) وذلك يوم القيامة يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد
(فَيُنَبِّئُهُمْ بِما
عَمِلُوا) أي فيخبرهم بالذي صنعوا من خير وشر (أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ) أي ضبطه الله وحفظه عليهم وهم قد نسوا ما كانوا عملوا (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)
__________________
أي لا يغيب عنه
شيء ولا يخفى ولا ينسى شيئا.
ثم قال تعالى
مخبرا عن إحاطة علمه بخلقه واطلاعه عليهم وسماعه كلامهم ، ورؤيته مكانهم حيث كانوا
وأين كانوا فقال تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ) أي من سر ثلاثة (إِلَّا هُوَ
رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا
أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا) أي مطلع عليهم يسمع كلامهم وسرهم ونجواهم ورسله أيضا مع
ذلك تكتب ما يتناجون به مع علم الله به وسمعه لهم ، كما قال تعالى : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ
سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) [التوبة : ٧٨]
وقال تعالى: (أَمْ يَحْسَبُونَ
أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ
يَكْتُبُونَ) [الزخرف : ٨٠]
ولهذا حكى غير واحد الإجماع على أن المراد بهذه الآية معية علمه تعالى ولا شك في
إرادة ذلك ، ولكن سمعه أيضا مع علمه بهم محيط بهم وبصره نافذ فيهم فهو سبحانه
وتعالى مطلع على خلقه لا يغيب عنه من أمورهم شيء ، ثم قال تعالى (ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا
يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) وقال الإمام أحمد : افتتح الآية بالعلم واختتمها بالعلم.
(أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ
وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ
حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا
يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ
الْمَصِيرُ (٨) يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ
وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ
الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩) إِنَّمَا النَّجْوى
مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً
إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)(١٠)
قال ابن أبي نجيح
عن مجاهد (أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ) قال اليهود ، وكذا قال مقاتل بن حيان وزاد : كان بين النبي صلىاللهعليهوسلم وبين اليهود موادعة ، وكانوا إذا مر بهم الرجل من أصحاب
النبي صلىاللهعليهوسلم جلسوا يتناجون بينهم حتى يظن المؤمن أنهم يتناجون بقتله أو
بما يكره المؤمن ، فإذا رأى المؤمن ذلك خشيهم فترك طريقه عليهم ، فنهاهم النبي صلىاللهعليهوسلم عن النجوى فلم ينتهوا وعادوا إلى النجوى ، فأنزل الله
تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ).
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبي ، حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي حدثني سفيان بن حمزة عن كثير بن
زيد عن ربيح بن عبد الرّحمن بن أبي سعيد الخدري ، عن أبيه عن جده قال : كنا نتناوب
رسول الله صلىاللهعليهوسلم نبيت عنده يطرقه من الليل أمر وتبدو له حاجة فلما كانت ذات
ليلة كثر أهل النوب والمحتسبون حتى كنا أندية نتحدث ، فخرج علينا رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : «ما هذه النجوى؟ ألم تنهوا عن النجوى؟» قلنا : تبنا
إلى الله يا رسول الله ، إنا كنا في ذكر المسيح فرقا
__________________
منه. فقال : «ألا
أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي منه؟» قلنا : بلى يا رسول الله! قال : «الشرك الخفي
أن يقوم الرجل يعمل لمكان رجل» هذا إسناد غريب وفيه بعض الضعفاء.
وقوله تعالى : (وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ
وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) أي يتحدثون فيما بينهم (بِالْإِثْمِ) وهو ما يختص بهم (وَالْعُدْوانِ) وهو ما يتعلق بغيرهم ، ومنه معصية الرسول ومخالفته يصرون
عليها ويتواصون بها وقوله تعالى : (وَإِذا جاؤُكَ
حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ) قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا ابن نمير
عن الأعمش عن مسلم عن مسروق عن عائشة قالت : دخل على رسول الله صلىاللهعليهوسلم يهود فقالوا السام عليك يا أبا القاسم فقالت عائشة : وعليكم
السام قالت : فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «يا عائشة إن الله لا يحب الفحش ولا التفحش» قلت : ألا
تسمعهم يقولون السام عليك؟ فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «أو ما سمعت أقول
وعليكم» فأنزل الله تعالى : (وَإِذا جاؤُكَ
حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ) وفي رواية في الصحيح أنها قالت لهم : عليكم السام والذام
واللعنة ، وأن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال «إنه يستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم فينا» .
وقال ابن جرير : حدثنا بشر ، حدثنا يزيد ، حدثنا سعيد عن قتادة عن أنس بن
مالك أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم بينما هو جالس مع أصحابه إذ أتى عليهم يهودي ، فسلم عليهم
فردوا عليه فقال نبي الله صلىاللهعليهوسلم «هل تدرون ما قال؟»
قالوا سلم يا رسول الله قال «بل قال سام عليكم» أي تسامون دينكم. قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «ردوه» فردوه عليه
فقال نبي الله «أقلت سام عليكم؟» قال : نعم فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «إذا سلم عليكم
أحد من أهل الكتاب فقولوا عليك» أي عليك ما قلت ، وأصل حديث أنس مخرج في الصحيح
وهذا الحديث في الصحيح عن عائشة بنحوه.
وقوله تعالى : (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا
يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ) أي يفعلون هذا ويقولون ما يحرفون من الكلام وإيهام السّلام
وإنما هو شتم في الباطن ، ومع هذا يقولون في أنفسهم لو كان هذا نبيا لعذبنا الله
بما نقول له في الباطن لأن الله يعلم ما نسره ، فلو كان هذا نبيا حقا لأوشك أن
يعاجلنا الله بالعقوبة في الدنيا فقال الله تعالى : (حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ) أي جهنم كفايتهم في الدار الآخرة (يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ).
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا حماد عن عطاء بن السائب عن أبيه
عن عبد الله بن عمر ، أن اليهود كانوا يقولون لرسول الله صلىاللهعليهوسلم سام عليك ، ثم يقولون في أنفسهم (لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما
نَقُولُ)؟ فنزلت هذه الآية (وَإِذا جاؤُكَ
حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ
__________________
وَيَقُولُونَ
فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ
يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) إسناد حسن ولم يخرجوه.
وقال العوفي عن
ابن عباس (وَإِذا جاؤُكَ
حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ) قال : كان المنافقون يقولون لرسول الله صلىاللهعليهوسلم إذا حيوه سام عليك ، قال الله تعالى : (حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها
فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) ثم قال الله تعالى مؤدبا عباده المؤمنين أن لا يكونوا مثل
الكفرة والمنافقين (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ
وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) أي كما يتناجى به الجهلة من كفرة أهل الكتاب ومن مالأهم
على ضلالهم من المنافقين (وَتَناجَوْا
بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي فيخبركم بجميع أعمالكم وأقوالكم التي قد أحصاها عليكم
وسيجزيكم بها.
قال الإمام أحمد : حدثنا بهز وعفان قالا : أخبرنا همام عن قتادة عن صفوان
بن محرز قال : كنت آخذا بيد ابن عمر إذ عرض له رجل فقال كيف سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول في النجوى يوم القيامة؟ قال سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره من
الناس ويقرره بذنوبه ويقول له أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ حتى
إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلك قال فإني قد سترتها عليك في الدنيا ،
وأنا أغفرها لك اليوم ثم يعطى كتاب حسناته ، وأما الكفار والمنافقون فيقول الأشهاد
هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين» أخرجاه في الصحيحين من حديث قتادة.
ثم قال تعالى : (إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ
لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ
وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أي إنما النجوى وهي المسارة حيث يتوهم مؤمن بها سوءا (مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا) يعني إنما يصدر هذا من المتناجين عن تسويل الشيطان وتزيينه
(لِيَحْزُنَ الَّذِينَ
آمَنُوا) أي ليسوءهم وليس ذلك بضارهم شيئا إلا بإذن الله ومن أحسّ
من ذلك شيئا فليستعذ بالله وليتوكل على الله فإنه لا يضره شيء بإذن الله.
وقد وردت السنة
بالنهي عن التناجي حيث يكون في ذلك تأذ على مؤمن ، كما قال الإمام أحمد : حدثنا وكيع وأبو معاوية قالا : حدثنا الأعمش عن أبي وائل
عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «إذا كنتم ثلاثة
فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما فإن ذلك يحزنه» اخرجاه من حديث الأعمش وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن
أيوب عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «إذا كنتم ثلاثة
فلا يتناجى اثنان دون الثالث إلا بإذنه فإن ذلك يحزنه»
__________________
انفرد بإخراجه
مسلم عن أبي الربيع وأبي كامل ، كلاهما عن حماد بن زيد عن أيوب به.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا
يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)(١١)
يقول تعالى مؤدبا
عباده المؤمنين وآمرا لهم أن يحسن بعضهم إلى بعض في المجالس (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا
قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ) وقرئ «في المجلس» (فَافْسَحُوا يَفْسَحِ
اللهُ لَكُمْ) وذلك أن الجزاء من جنس العمل كما جاء في الحديث الصحيح : «من
بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة» وفي الحديث الآخر : «ومن يسر على معسر يسر الله عليه في
الدنيا والآخرة ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما
كان العبد في عون أخيه» ولهذا أشباه كثيرة ، ولهذا قال تعالى : (فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ) قال قتادة: نزلت هذه الآية في مجالس الذكر ، وذلك أنهم
كانوا إذا رأوا أحدهم مقبلا ضنوه بمجالسهم عند رسول الله صلىاللهعليهوسلم فأمرهم الله تعالى أن يفسح بعضهم لبعض .
وقال مقاتل بن
حيان : أنزلت هذه الآية يوم الجمعة ، وكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يومئذ في الصفة وفي المكان ضيق ، وكان يكرم أهل بدر من
المهاجرين والأنصار فجاء ناس من أهل بدر وقد سبقوه إلى المجالس ، فقاموا حيال رسول
الله صلىاللهعليهوسلم فقالوا السّلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، فرد
النبي صلىاللهعليهوسلم عليهم ، ثم سلموا على القوم بعد ذلك فردوا عليهم ، فقاموا
على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم ، فعرف النبي صلىاللهعليهوسلم ما يحملهم على القيام فلم يفسح لهم ، فشق ذلك على النبي صلىاللهعليهوسلم فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار من غير أهل بدر : «قم
يا فلان وأنت يا فلان» فلم يزل يقيمهم بعدة النفر الذين هم قيام بين يديه من
المهاجرين والأنصار أهل بدر ، فشق ذلك على من أقيم من مجلسه وعرف النبي صلىاللهعليهوسلم الكراهة في وجوههم ، فقال المنافقون ألستم تزعمون أن
صاحبكم هذا يعدل بين الناس؟ والله ما رأيناه قبل عدل على هؤلاء إن قوما أخذوا
مجالسهم وأحبوا القرب من نبيهم فأقامهم وأجلس من أبطأ عنه ، فبلغنا أن رسول اللهصلىاللهعليهوسلم قال : «رحم الله رجلا فسح لأخيه» فجعلوا يقومون بعد ذلك
سراعا فيفسح القوم لإخوانهم ونزلت هذه الآية يوم الجمعة. رواه ابن أبي حاتم.
وقد قال الإمام
أحمد والشافعي حدثنا سفيان عن أيوب عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه فيجلس فيه ولكن
تفسحوا وتوسعوا»
__________________
وأخرجاه في
الصحيحين من حديث نافع به. وقال الشافعي : أخبرنا عبد المجيد عن ابن جريج قال : قال
سليمان بن موسى عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «لا يقيمن أحدكم أخاه يوم الجمعة ولكن ليقل افسحوا»
على شرط السنن ولم يخرجوه وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الملك بن عمرو ، حدثنا فليح عن أيوب بن عبد
الرّحمن بن أبي صعصعة عن يعقوب بن أبي يعقوب عن أبي هريرة عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «لا يقم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه ولكن
افسحوا يفسح الله لكم» ورواه أيضا عن سريج بن يونس ويونس بن محمد المؤدب عن فليح
به ولفظه : «لا يقوم الرجل للرجل من مجلسه ولكن افسحوا يفسح الله لكم» تفرد به
أحمد .
وقد اختلف الفقهاء
في جواز القيام للوارد إذا جاء على أقوال : فمنهم من رخص في ذلك محتجا بحديث «قوموا
إلى سيدكم» ومنهم من منع من ذلك محتجا بحديث «من أحب أن يتمثل له
الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار» ومنهم من فصل فقال يجوز عند القدوم من سفر وللحاكم في محل
ولايته ، كما دل عليه قصة سعد بن معاذ ، فإنه لما استقدمه النبي حاكما في بني
قريظة فرآه مقبلا قال للمسلمين «قوموا إلى سيدكم» وما ذاك إلا ليكون أنفذ لحكمه
والله أعلم. فأما اتخاذه ديدنا فإنه من شعار العجم ، وقد جاء في السنن أنه لم يكن
شخص أحب إليهم من رسول الله صلىاللهعليهوسلم وكان إذا جاء لا يقومون له لما يعلمون من كراهته لذلك.
وفي الحديث المروي
في السنن أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان يجلس حيث انتهى به المجلس ، ولكن حيث يجلس يكون صدر
ذلك المجلس فكان الصحابة رضي الله عنهم يجلسون منه على مراتبهم ، فالصديق رضي الله
عنه يجلسه عن يمينه وعمر عن يساره ، وبين يديه غالبا عثمان وعلي لأنهما كانا ممن
يكتب الوحي ، وكان يأمرهما بذلك كما رواه مسلم من حديث الأعمش عن عمارة بن عمير عن
أبي معمر عن أبي مسعود أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان يقول : «ليليني منكم أولو الأحلام والنهى ثم الذين
يلونهم ، ثم الذي يلونهم» وما ذاك إلا ليعقلوا عنه ما يقوله صلوات الله وسلامه عليه
، ولهذا أمر أولئك النفر بالقيام ليجلس الذين وردوا من أهل بدر ، إما لتقصير أولئك
في حق البدريين أو ليأخذ البدريون من العلم نصيبهم ، كما أخذ أولئك قبلهم أو
__________________
تعليما بتقديم
الأفاضل إلى الأمام.
وقال الإمام أحمد : حدثنا وكيع عن الأعمش عن عمارة بن عمير التيمي عن أبي
معمر عن أبي مسعود قال : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول : «استووا ولا تختلفوا
فتختلف قلوبكم ، ليليني منكم أولو الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم ، ثم الذين
يلونهم» قال أبو مسعود : فأنتم اليوم أشد اختلافا ، وكذا رواه مسلم وأهل السنن إلا الترمذي من طرق عن الأعمش
به ، وإذا كان هذا أمره لهم في الصلاة أن يليه العقلاء منهم والعلماء فبطريق
الأولى أن يكون ذلك في غير الصلاة.
وروى أبو داود من
حديث معاوية بن صالح عن أبي الزاهرية عن كثير بن مرة عن عبد الله بن عمر أن رسول
الله صلىاللهعليهوسلم قال : «أقيموا الصفوف وحاذوا بين المناكب وسدوا الخلل
ولينوا بأيدي إخوانكم ولا تذروا فرجات للشياطين ومن وصل صفا وصله الله ، ومن قطع
صفا قطعه الله» ولهذا كان أبي بن كعب سيد القراء إذا انتهى إلى الصف الأول
انتزع منه رجلا يكون من أفناء الناس ، ويدخل هو في الصف المتقدم ويحتج بهذا الحديث
: «ليليني منكم أولو الأحلام والنهى».
وأما عبد الله بن
عمر فكان لا يجلس في المكان الذي يقوم له صاحبه عنه عملا بمقتضى ما تقدم من روايته
الحديث الذي أوردناه ، ولنقتصر على هذا المقدار من الأنموذج المتعلق بهذه الآية ،
وإلا فبسطه يحتاج إلى غير هذا الموضع. وفي الحديث الصحيح : بينا رسول الله صلىاللهعليهوسلم جالس إذ أقبل ثلاثة نفر ، فأما أحدهم فوجد فرجة في الحلقة
فدخل فيها ، وأما الآخر فجلس وراء الناس ، وأدبر الثالث ذاهبا فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ألا أنبئكم بخبر الثلاثة ، أما الأول فآوى إلى الله
فآواه الله ، وأما الثاني فاستحيا فاستحيا الله منه ، وأما الثالث فأعرض فأعرض
الله عنه» .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عتاب بن زياد أخبرنا عبد الله ، أخبرنا أسامة بن
زيد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «لا يحل لرجل أن يفرق بين اثنين إلا بإذنهما» ورواه أبو داود والترمذي من حديث أسامة بن زيد الليثي به
وحسنه الترمذي وقد روي عن ابن عباس والحسن البصري وغيرهما أنهم قالوا في قوله
تعالى : (إِذا
__________________
قِيلَ
لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ) يعني في مجالس الحرب قالوا : ومعنى قوله : (وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا) أي انهضوا للقتال. وقال قتادة (وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا) أي إذا دعيتم إلى خير فأجيبوا وقال مقاتل إذا دعيتم إلى
الصلاة فارتفعوا إليها. وقال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم كانوا إذا كانوا عند
النبي صلىاللهعليهوسلم في بيته فأرادوا الانصراف ، أحب كل منهم أن يكون هو آخرهم
خروجا من عنده ، فربما يشق ذلك عليه ، عليهالسلام وقد تكون له الحاجة فأمروا أنهم إذا أمروا بالانصراف أن
ينصرفوا كقوله تعالى : (وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ
ارْجِعُوا فَارْجِعُوا) [النور : ٢٨].
وقوله تعالى : (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا
مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي لا تعتقدوا أنه إذا أفسح أحد منكم لأخيه إذا أقبل أو
إذا أمر بالخروج فخرج ، أن يكون ذلك نقصا في حقه بل هو رفعة ورتبة عند الله ،
والله تعالى لا يضيع ذلك له ، بل يجزيه بها في الدنيا والآخرة فإن من تواضع لأمر
الله رفع الله قدره ونشر ذكره ، ولهذا قال تعالى : (يَرْفَعِ اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي خبير بمن يستحق ذلك وبمن لا يستحقه.
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو كامل حدثنا إبراهيم حدثنا ابن شهاب عن أبي
الطفيل عامر بن واثلة أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر بن الخطاب بعسفان ، وكان عمر
استعمله على مكة ، فقال له عمر : من استخلفت على أهل الوادي؟ قال : استخلفت عليهم
ابن أبزى قال : وما ابن أبزى فقال : رجل من موالينا ، فقال عمر : استخلفت عليهم
مولى؟ فقال : يا أمير المؤمنين إنه قارئ لكتاب الله عالم بالفرائض قاض ، فقال عمر
رضي الله عنه : أما إن نبيكمصلىاللهعليهوسلم قد قال : «إن الله يرفع بهذا الكتاب قوما ويضع به آخرين»
وهكذا رواه مسلم من غير وجه عن الزهري به ، وروي من غير وجه عن عمر بنحوه ،
وقد ذكرت فضل العلم وأهله وما ورد في ذلك من الأحاديث مستقصاة في شرح كتاب العلم
من صحيح البخاري ، ولله الحمد والمنة.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ
نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ
اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ
تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ
اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ
وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ)(١٣)
يقول تعالى آمرا
عباده المؤمنين إذا أراد أحدهم أن يناجي رسول الله صلىاللهعليهوسلم أي يسارّه فيما بينه وبينه ، أن يقدم بين يدي ذلك صدقة
تطهره وتزكيه وتؤهله لأن يصلح لهذا المقام ، ولهذا قال
__________________
تعالى : (ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ) ثم قال تعالى : (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا) أي إلا من عجز عن ذلك لفقره (فَإِنَّ اللهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ) فما أمر بها إلا من قدر عليها. ثم قال تعالى : (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ
يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ) أي أخفتم من استمرار هذا الحكم عليكم من وجوب الصدقة قبل
مناجاة الرسول (فَإِذْ لَمْ
تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ
وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) فنسخ وجوب ذلك عنهم ، وقد قيل إنه لم يعمل بهذه الآية قبل
نسخها سوى علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
قال ابن أبي نجيح
عن مجاهد قال : نهوا عن مناجاة النبي صلىاللهعليهوسلم حتى يتصدقوا فلم يناجه إلا علي بن أبي طالب قدم دينارا
صدقة تصدق به ، ثم ناجى النبي صلىاللهعليهوسلم ، فسأله عن عشر خصال ثم أنزلت الرخصة ، وقال ليث بن أبي
سليم عن مجاهد قال علي رضي الله عنه : آية في كتاب اللهعزوجل لم يعمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي ، كان عندي
دينار فصرفته بعشرة دراهم ، فكنت إذا ناجيت رسول الله صلىاللهعليهوسلم تصدقت بدرهم ، فنسخت ولم يعمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها
أحد بعدي ، ثم تلا هذه الآية : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ
نَجْواكُمْ صَدَقَةً) الآية.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا مهران عن سفيان عن عثمان بن
المغيرة عن سالم بن أبي الجعد عن علي بن علقمة الأنماري عن علي رضي الله عنه قال :
قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «ما ترى ، دينار؟» قال : لا يطيقون. قال «نصف دينار» قال
: لا يطيقون. قال «ما ترى»؟ قال : شعيرة. فقال له النبي صلىاللهعليهوسلم «إنك لزهيد» قال :
فنزلت (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ
تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ) قال علي : فبي خفف الله عن هذه الأمة.
ورواه الترمذي عن
سفيان بن وكيع عن يحيى بن آدم عن عبيد الله الأشجعي ، عن سفيان الثوري عن عثمان بن
المغيرة الثقفي عن سالم بن أبي الجعد عن علي بن علقمة الأنماري عن علي بن أبي طالب
رضي الله عنه قال : لما نزلت (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ
نَجْواكُمْ صَدَقَةً) إلى آخرها قال لي النبي صلىاللهعليهوسلم : «ما ترى ، دينار» قلت : لا يطيقونه وذكره بتمامه مثله ، ثم قال : هذا حديث حسن غريب إنما
نعرفه من هذا الوجه ، ثم قال : ومعنى قوله شعيرة يعني وزن شعيرة من ذهب ، ورواه
أبو يعلى عن أبي بكر بن أبي شيبة عن يحيى بن آدم به.
وقال العوفي عن
ابن عباس في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ
نَجْواكُمْ صَدَقَةً) ـ إلى ـ (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). كان المسلمون يقدمون بين يدي
__________________
النجوى صدقة فلما
نزلت الزكاة نسخ هذا وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله : (فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ
صَدَقَةً) وذلك أن المسلمين أكثروا المسائل على رسول اللهصلىاللهعليهوسلم حتى شقوا عليه ، فأراد الله أن يخفف عن نبيه عليهالسلام ، فلما قال ذلك جبن كثير من المسلمين وكفوا عن المسألة ،
فأنزل الله بعد هذا (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ
تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ
اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) فوسع الله عليهم ولم يضيق.
وقال عكرمة والحسن
البصري في قوله تعالى : (فَقَدِّمُوا بَيْنَ
يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) نسختها الآية التي بعدها (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ
تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ) إلى آخرها. وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة ومقاتل بن
حيان : سأل الناس رسول الله صلىاللهعليهوسلم حتى أحفوه بالمسألة ففطمهم الله بهذه الآية ، فكان الرجل
منهم إذا كانت له الحاجة إلى نبي الله صلىاللهعليهوسلم فلا يستطيع أن يقضيها حتى يقدم بين يديه صدقة ، فاشتد ذلك
عليهم ، فأنزل الله الرخصة بعد ذلك (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا
فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
وقال معمر عن
قتادة (إِذا ناجَيْتُمُ
الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) إنها منسوخة ما كانت إلا ساعة من نهار. وهكذا روى عبد
الرزاق : أخبرنا معمر عن أيوب عن مجاهد قال علي : ما عمل بها أحد غيري حتى نسخت ،
وأحسبه قال : وما كانت إلا ساعة.
(أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا
مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤)
أَعَدَّ
اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٥)
اتَّخَذُوا
أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ
(١٦) لَنْ
تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ
أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٧) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ
اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ
أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٨) اسْتَحْوَذَ
عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ
أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ)(١٩)
يقول الله تعالى
منكرا على المنافقين في موالاتهم الكفار في الباطن. وهم في نفس الأمر لا معهم ولا
مع المؤمنين كما قال تعالى : (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ
ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ
لَهُ سَبِيلاً) [النساء : ١٤٣]
وقال هاهنا : (أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) يعني اليهود الذين كان المنافقون يمالئونهم ويوالونهم في
الباطن ثم قال تعالى : (ما هُمْ مِنْكُمْ
وَلا مِنْهُمْ) أي هؤلاء المنافقون ليسوا في الحقيقة لا منكم أيها
المؤمنون ، ولا من الذين يوالونهم وهم اليهود ، ثم قال تعالى : (وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ
يَعْلَمُونَ) يعني المنافقين يحلفون على الكذب ، وهم عالمون بأنهم
كاذبون فيما حلفوا وهي اليمين الغموس ، ولا سيما في مثل حالهم اللعين عياذا بالله
منه ، فإنهم كانوا إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ، وإذا جاءوا الرسول حلفوا له
بالله أنهم مؤمنون ، وهم في ذلك يعلمون أنهم يكذبون فيما حلفوا به ، لأنهم لا
يعتقدون صدق ما قالوه وإن كان في نفس الأمر مطابقا ، ولهذا شهد الله
بكذبهم في أيمانهم
وشهادتهم لذلك.
ثم قال تعالى : (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً
إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي أرصد الله لهم على هذا الصنيع العذاب الأليم على
أعمالهم السيئة وهي موالاة الكافرين ونصحهم ومعاداة المؤمنين ، وغشهم ، ولهذا قال
تعالى : (اتَّخَذُوا
أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر واتقوا بالأيمان الكاذبة
، فظن كثير ممن لا يعرف حقيقة أمرهم صدقهم فاغتر بهم ، فحصل بهذا صد عن سبيل الله
لبعض الناس (فَلَهُمْ عَذابٌ
مُهِينٌ) أي في مقابلة ما امتهنوا من الحلف باسم الله العظيم في
الأيمان الكاذبة الحانثة.
ثم قال تعالى : (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ
وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي لن يدفع ذلك عنهم بأسا إذا جاءهم (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها
خالِدُونَ) ثم قال تعالى : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ
اللهُ جَمِيعاً) أي يحشرهم يوم القيامة عن آخرهم فلا يغادر منهم أحدا (فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ
لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ) أي يحلفون بالله عزوجل أنهم كانوا على الهدى والاستقامة كما كانوا يحلفون للناس
في الدنيا لأن من عاش على شيء مات عليه وبعث عليه ، ويعتقدون أن ذلك ينفعهم عند
الله كما كان ينفعهم عند الناس فيجرون عليهم الأحكام الظاهرة ولهذا قال : (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ) أي حلفهم بذلك لربهم عزوجل.
ثم قال تعالى :
منكرا عليهم حسبانهم (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ
الْكاذِبُونَ) فأكد الخبر عنهم بالكذب. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ،
حدثنا ابن نفيل ، حدثنا زهير عن سماك بن حرب ، حدثني سعيد بن جبير ، أن ابن عباس
حدثه أن النبي صلىاللهعليهوسلم كان في ظل حجره من حجره وعنده نفر من المسلمين قد كاد يقلص
عنهم الظل قال : «إنه سيأتيكم إنسان ينظر بعيني شيطان فإذا أتاكم فلا تكلموه» فجاء
رجل أزرق فدعاه رسول الله فكلمه فقال : «علام تشتمني أنت وفلان وفلان» نفر دعاهم
بأسمائهم ، قال فانطلق الرجل فدعاهم فحلفوا له واعتذروا إليه ، قال فأنزل الله عزوجل (فَيَحْلِفُونَ لَهُ
كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ
الْكاذِبُونَ).
وهكذا رواه الإمام
أحمد من طريقين عن سماك به ، ورواه ابن جرير عن محمد بن المثنى عن غندر عن شعبة عن سماك به نحوه ،
وأخرجه أيضا من حديث سفيان الثوري عن سماك بنحوه إسناد جيد ولم يخرجوه ، وحال
هؤلاء كما أخبر الله تعالى عن المشركين حيث يقول : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ
فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ انْظُرْ
كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) [الأنعام : ٢٣ ـ ٢٤].
ثم قال تعالى : (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ
فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ) أي استحوذ على قلوبهم الشيطان
__________________
حتى أنساهم أن
يذكروا الله عزوجل ، وكذلك يصنع بمن استحوذ عليه ، ولهذا قال أبو داود : حدثنا
أحمد بن يونس ، حدثنا زائدة ، حدثنا السائب بن حبيش عن معدان بن أبي طلحة اليعمري
، عن أبي الدرداء قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة
إلا قد استحوذ عليهم الشيطان فعليك بالجماعة فإنما يأكل الذئب القاصية» قال زائدة: قال السائب : يعني الصلاة في الجماعة. ثم قال
تعالى : (أُولئِكَ حِزْبُ
الشَّيْطانِ) يعني الذين استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله ثم قال
تعالى : (أَلا إِنَّ حِزْبَ
الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ).
(إِنَّ الَّذِينَ
يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (٢٠)
كَتَبَ
اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢١)
لا
تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ
اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ
أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ
بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ
خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ
أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(٢٢)
يقول تعالى مخبرا
عن الكفار المعاندين المحادين لله ورسوله ، يعني الذين هم في حد والشرع في حد ، أي
مجانبون للحق مشاقون له هم في ناحية والهدى في ناحية (أُولئِكَ فِي
الْأَذَلِّينَ) أي في الأشقياء المبعدين المطرودين عن الصواب الأذلين في
الدنيا والآخرة. (كَتَبَ اللهُ
لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) أي قد حكم وكتب في كتابه الأول وقدره الذي لا يخالف ولا
يمانع ولا يبدل ، بأن النصرة له ولكتابه ورسله وعباده المؤمنين في الدنيا والآخرة و
(إِنَّ الْعاقِبَةَ
لِلْمُتَّقِينَ) كما قال تعالى : (إِنَّا لَنَنْصُرُ
رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ
الْأَشْهادُ يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ
اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) [غافر : ٥١ ـ ٥٢].
وقال هاهنا : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا
وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) أي كتب القوي العزيز أنه الغالب لأعدائه ، وهذا قدر محكم
وأمر مبرم أن العاقبة والنصرة للمؤمنين في الدنيا والآخرة ثم قال تعالى : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا
آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) أي لا يوادّون المحادّين ولو كانوا من الأقربين كما قال
تعالى : (لا يَتَّخِذِ
الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ
يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ
تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) [آل عمران : ٢٨]
الآية.
وقال الله تعالى :
(قُلْ إِنْ كانَ
آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ
وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ
تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ
فَتَرَبَّصُوا حَتَّى
__________________
يَأْتِيَ
اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) [التوبة : ٢٤] وقد
قال سعيد بن عبد العزيز وغيره : أنزلت هذه الآية (لا تَجِدُ قَوْماً
يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) إلى آخرها في أبي عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح حين
قتل أباه يوم بدر ، ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين جعل الأمر شورى بعده
في أولئك الستة رضي الله عنهم : ولو كان أبو عبيدة حيا لاستخلفته. وقيل في قوله
تعالى : (وَلَوْ كانُوا
آباءَهُمْ) نزلت في أبي عبيدة قتل أباه يوم بدر (أَوْ أَبْناءَهُمْ) في الصديق هم يومئذ بقتل ابنه عبد الرّحمن (أَوْ إِخْوانَهُمْ) في مصعب بن عمير ، قتل أخاه عبيد بن عمير يومئذ (أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) في عمر قتل قريبا له يومئذ أيضا ، وفي حمزة وعلي وعبيدة بن
الحارث قتلوا عتبة وشيبة والوليد بن عتبة يومئذ ، فالله أعلم.
قلت : ومن هذا
القبيل حين استشار رسول الله المسلمين في أسارى بدر ، فأشار الصديق بأن يفادوا
فيكون ما يؤخذ منهم قوة للمسلمين ، وهم بنو العم والعشيرة ، ولعل الله تعالى أن
يهديهم ، وقال عمر : أرى ما أرى ، يا رسول الله هل تمكنني من فلان قريب لعمر
فأقتله ، وتمكن عليا من عقيل وتمكن فلانا من فلان ليعلم الله أنه ليست في قلوبنا
موادة للمشركين القصة بكمالها. وقوله تعالى : (أُولئِكَ كَتَبَ فِي
قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) أي من اتصف بأنه لا يواد من حاد الله ورسوله ولو كان أباه
أو أخاه ، فهذا ممن كتب الله في قلبه الإيمان أي كتب له السعادة وقررها في قلبه
وزين الإيمان في بصيرته. قال السدي : (كَتَبَ فِي
قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) جعل في قلوبهم الإيمان. وقال ابن عباس (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) أي قواهم.
وقوله تعالى : (وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) كل هذا تقدم تفسيره غير مرة ، وفي قوله تعالى : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) سر بديع وهو أنه لما سخطوا على القرائب والعشائر في الله
تعالى عوضهم الله بالرضا عنهم وأرضاهم عنه بما أعطاهم من النعيم المقيم والفوز
العظيم والفضل العميم. وقوله تعالى : (أُولئِكَ حِزْبُ
اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي هؤلاء حزب الله أي عباد الله وأهل كرامته. وقوله تعالى
: (أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ
هُمُ الْمُفْلِحُونَ) تنويه بفلاحهم وسعادتهم ونصرتهم في الدنيا والآخرة في
مقابلة ما ذكر عن أولئك بأنهم حزب الشيطان ثم قال : (أَلا إِنَّ حِزْبَ
الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ).
وقد قال ابن أبي
حاتم : حدثنا هارون بن حميد الواسطي ، حدثنا الفضل بن عنبسة عن رجل قد سماه فقال :
هو عبد الحميد بن سليمان ـ انقطع من كتابي ـ عن الذيال بن عباد قال : كتب أبو حازم
الأعرج إلى الزهري : اعلم أن الجاه جاهان جاه يجريه الله تعالى على أيدي أوليائه
لأوليائه ، وأنهم الخامل ذكرهم الخفية شخوصهم ، ولقد جاءت صفتهم على لسان رسول
اللهصلىاللهعليهوسلم «إن الله يحب
الأخفياء الأتقياء الأبرياء الذين إذا غابوا لم يفتقدوا ، وإذا حضروا
لم يدعوا ، قلوبهم
مصابيح الهدى يخرجون من كل فتنة سوداء مظلمة» فهؤلاء أولياء الله تعالى الذين قال الله : (أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ
حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) وقال نعيم بن حماد : حدثنا محمد بن ثور عن يونس عن الحسن
قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «اللهم لا تجعل لفاجر ولا لفاسق عندي يدا ولا نعمة فإني
وجدت فيما أوحيته إلي (لا تَجِدُ قَوْماً
يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ
وَرَسُولَهُ) قال سفيان : يرون أنها نزلت فيمن يخالط السلطان رواه أبو
أحمد العسكري. آخر تفسير سورة المجادلة ولله الحمد والمنة.
__________________
تفسير سورة الحشر
وهي مدنية
وكان ابن عباس يقول : سورة بني النضير
قال سعيد بن
المنصور : حدثنا هشيم عن أبي بشر عن سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس سورة الحشر
، قال : أنزلت في بني النضير ، ورواه البخاري ومسلم من وجه آخر عن هشيم به ، ورواه
البخاري من حديث أبي عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير : قال قلت لابن عباس سورة
الحشر؟ قال سورة بني النضير .
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سَبَّحَ لِلَّهِ ما
فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) هُوَ الَّذِي
أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ
الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ
حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ
فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي
الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (٢)
وَلَوْ
لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ
فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ
الْعِقابِ (٤) ما قَطَعْتُمْ مِنْ
لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ
وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ)(٥)
يخبر تعالى أن
جميع ما في السموات وما في الأرض من شيء يسبح له ويمجده ويقدسه ويصلي له ويوحده
كقوله تعالى : (تُسَبِّحُ لَهُ
السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا
يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [الإسراء : ٤٤]
وقوله تعالى : (وَهُوَ الْعَزِيزُ) أي منيع الجناب (الْحَكِيمُ) في قدره وشرعه.
وقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) يعني يهود بني النضير. قاله ابن عباس ومجاهد والزهري وغير
واحد : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم لما قدم المدينة هادنهم وأعطاهم عهدا وذمة على أن لا
يقاتلهم ولا يقاتلوه ، فنقضوا العهد الذي كان بينهم وبينه فأحل الله بهم بأسه الذي
لا مرد له ، وأنزل عليهم قضاءه الذي لا يصد ، فأجلاهم النبي صلىاللهعليهوسلم وأخرجهم من
__________________
حصونهم الحصينة
التي ما طمع فيها المسلمون وظنوا هم أنها مانعتهم من بأس الله ، فما أغنى عنهم من
الله شيئا وجاءهم من الله ما لم يكن ببالهم ، وسيرهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأجلاهم من المدينة ، فكان منهم طائفة ذهبوا إلى أذرعات من
أعالي الشام ، وهي أرض المحشر والمنشر ، ومنهم طائفة ذهبوا إلى خيبر ، وكان قد
أنزلهم منها على أن لهم ما حملت إبلهم ، فكانوا يخربون ما في بيوتهم من المنقولات
التي لا يمكن أن تحمل معهم ، ولهذا قال تعالى : (يُخْرِبُونَ
بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي
الْأَبْصارِ) أي تفكروا في عاقبة من خالف أمر الله وخالف رسوله وكذب
كتابه كيف يحل به من بأسه المخزي له في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة من العذاب
الأليم.
قال أبو داود : حدثنا محمد بن داود بن سفيان ، حدثنا عبد الرزاق ،
أخبرنا معمر عن الزهري عن عبد الرّحمن بن كعب بن مالك ، عن رجل من أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم أن كفار قريش كتبوا إلى ابن أبي ومن كان معه يعبد الأوثان
من الأوس ، والخزرج ، ورسول الله صلىاللهعليهوسلم يومئذ بالمدينة قبل وقعة بدر : إنكم آويتم صاحبنا وإنا
نقسم بالله لنقاتلنه أو لنخرجنكم أو لنسيرن إليكم بأجمعنا حتى نقتل مقاتلتكم ونسبي
نساءكم ، فلما بلغ ذلك عبد الله بن أبي ومن كان معه من عبدة الأوثان اجتمعوا لقتال
النبي صلىاللهعليهوسلم ، فلما بلغ ذلك النبي صلىاللهعليهوسلم لقيهم فقال : «لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ ما كانت
تكيدكم بأكثر مما تريد أن تكيدوا به أنفسكم يريدون أن يقاتلوا أبناءكم وإخوانكم»
فلما سمعوا ذلك من النبي تفرقوا ، فبلغ ذلك كفار قريش فكتبت كفار قريش بعد وقعة
بدر إلى اليهود : إنكم أهل الحلقة والحصون وإنكم لتقاتلن مع صاحبنا أو لنفعلن كذا
وكذا ، ولا يحول بيننا وبين خدم نسائكم شيء وهو الخلاخل ، فلما بلغ كتابهم النبي صلىاللهعليهوسلم أيقنت بنو النضير بالغدر ، فأرسلوا إلى النبي صلىاللهعليهوسلم : أخرج إلينا في ثلاثين رجلا من أصحابك وليخرج منا ثلاثون
حبرا حتى نلتقي بمكان المنصف ، وليسمعوا منك فإن صدقوك وآمنوا بك آمنا بك.
فلما كان الغد غدا
عليهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم بالكتائب فحصرهم فقال لهم : «إنكم والله لا تأمنوا عندي
إلا بعهد تعاهدونني عليه فأبوا أن يعطوه عهدا فقاتلهم يومهم ذلك ، ثم غدا من الغد
على بني قريظة بالكتائب وترك بني النضير ودعاهم إلى أن يعاهدوه فعاهدوه ، فانصرف
عنهم وغدا إلى بني النضير بالكتائب فقاتلهم حتى نزلوا على الجلاء ، فجلت بنو النضير
واحتملوا ما أقلت الإبل من أمتعتهم وأبواب بيوتهم وخشبها ، وكان نخل بني النضير
لرسول الله صلىاللهعليهوسلم خاصة أعطاه الله إياها وخصه بها فقال تعالى : (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ
مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ) يقول بغير قتال ، فأعطى النبي صلىاللهعليهوسلم أكثرها للمهاجرين قسمها بينهم وقسم منها لرجلين من الأنصار
، وكانا ذوي حاجة ولم يقسم من الأنصار غيرهما ، وبقي منها صدقة رسول اللهصلىاللهعليهوسلم التي في أيدي بني فاطمة ، ولنذكر ملخص غزوة بني النضير على
وجه الاختصار
__________________
وبالله المستعان.
وكان سبب ذلك فيما
ذكره أصحاب المغازي والسير أنه لما قتل أصحاب بئر معونة من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم وكانوا سبعين وأفلت منهم عمرو بن أمية الضمري ، فلما كان
في أثناء الطريق راجعا إلى المدينة قتل رجلين من بني عامر ، وكان معهما عهد من
رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأمان لم يعلم به عمرو ، فلما رجع أخبر رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال له رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لقد قتلت رجلين لأدينهما» وكان بين بني النضير وبني
عامر حلف وعهد ، فخرج رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى بني النضير ليستعينهم في دية ذينك الرجلين ، وكانت
منازل بني النضير ظاهر المدينة على أميال منها شرقيها.
وقال محمد بن
إسحاق بن يسار في كتابه السيرة : ثم خرج رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى بني النضير يستعينهم في دية ذينك القتيلين من بني عامر
الذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري للجوار الذي كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم عقد لهما فيما حدثني يزيد بن رومان ، وكان بين بني النضير
وبني عامر عقد وحلف ، فلما أتاهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم يستعينهم في دية ذينك القتيلين قالوا : نعم يا أبا القاسم
نعينك على ما أحببت مما استعنت بنا عليه ، ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا : إنكم لن
تجدوا الرجل على مثل حاله هذه ـ ورسول الله صلّى الله تعالى عليه وعلى آله وسلّم
إلى جنب جدار من بيوتهم ـ فمن رجل يعلو على هذا البيت فيلقي عليه صخرة فيريحنا منه؟
فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب أحدهم فقال أنا لذلك فصعد ليلقي عليه صخرة كما
قال ورسول الله صلىاللهعليهوسلم في نفر من أصحابه فيهم أبو بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم
فأتى رسول الله صلىاللهعليهوسلم الخبر من السماء بما أراد القوم فقام وخرج راجعا إلى
المدينة.
فلما استلبث النبي
صلىاللهعليهوسلم أصحابه قاموا في طلبه فلقوا رجلا مقبلا من المدينة ،
فسألوه عنه ، فقال رأيته داخلا المدينة ، فأقبل أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم حتى انتهوا إليه ، فأخبرهم الخبر بما كانت يهود أرادت من
الغدر به ، وأمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم بالتهيؤ لحربهم والمسير إليهم ، ثم سار حتى نزل بهم
فتحصنوا منه في الحصون ، فأمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم بقطع النخل والتحريق فيها ، فنادوه أن يا محمد قد كنت تنهى
عن الفساد في الأرض وتعيبه على من يصنعه ، فما بال قطع النخل وتحريقها؟ وقد كان رهط
من بني عوف بن الخزرج منهم عبد الله بن أبي ابن سلول ووديعة ومالك بن أبي قوقل
وسويد وداعس قد بعثوا إلى بني النضير أن اثبتوا وتمنعوا ، فإنا لن نسلمكم إن
قوتلتم قاتلنا معكم ، وإن خرجتم خرجنا معكم ، فتربصوا ذلك من نصرهم فلم يفعلوا
فقذف الله في قلوبهم الرعب ، فسألوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن يجليهم ويكف عن دمائهم على أن لهم ما حملت الإبل من
أموالهم إلا الحلقة ففعل ، فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به
__________________
الإبل ، فكان
الرجل منهم يهدم بيته عن إيجاف بابه فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به ، فخرجوا إلى
خبير ومنهم من سار إلى الشام وخلوا الأموال لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فكانت لرسول الله صلىاللهعليهوسلم خاصة يضعها حيث يشاء ، فقسمها على المهاجرين الأولين دون
الأنصار إلا سهل بن حنيف وأبا دجانة ـ سماك بن خرشة ـ ذكرا فقرا فأعطاهما رسول
الله صلىاللهعليهوسلم ، قال : ولم يسلم من بني النضير إلا رجلان : يامين بن عمرو
بن كعب بن عمرو بن جحاش وأبو سعد بن وهب أسلما على أموالهما فأحرزاها.
قال ابن إسحاق :
وقد حدثني بعض آل يامين أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال ليامين : «ألم تر ما لقيت من ابن عمك وما هم به من
شأني» فجعل يامين بن عمرو لرجل جعلا على أن يقتل عمرو بن جحاش فقتله فيما يزعمون.
قال ابن إسحاق : ونزل في بني النضير سورة الحشر بأسرها وهكذا روى يونس بن بكير عن
ابن إسحاق بنحو ما تقدم.
فقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) يعني بني النضير (مِنْ دِيارِهِمْ
لِأَوَّلِ الْحَشْرِ). قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي عمر ،
حدثنا سفيان عن أبي سعد عن عكرمة عن ابن عباس قال : من شك في أن أرض المحشر هاهنا
يعني الشام فليقرأ هذه الآية (هُوَ الَّذِي
أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ
الْحَشْرِ) قال لهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم «اخرجوا» قالوا :
إلى أين؟ قال : «إلى أرض المحشر» وحدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو أسامة عن عوف
عن الحسن قال : لما أجلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم بني النضير قال : «هذا أول الحشر وإنا على الأثر» ورواه
ابن جرير عن بندار عن ابن أبي عدي عن عوف عن الحسن به.
وقوله تعالى : (ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا) أي في مدة حصاركم لهم وقصرها وكانت ستة أيام مع شدة حصونهم
ومنعتها ، ولهذا قال تعالى : (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ
مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ
يَحْتَسِبُوا) أي جاءهم من أمر الله ما لم يكن لهم في بال كما قال تعالى
في الآية الأخرى : (قَدْ مَكَرَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ
عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا
يَشْعُرُونَ) [النحل : ٢٦].
وقوله تعالى : (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) أي الخوف والهلع والجزع وكيف لا يحصل لهم ذلك وقد حاصرهم
الذي نصر بالرعب مسيرة شهر صلوات الله وسلامه عليه. وقوله : (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ
وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) قد تقدم تفسير ابن إسحاق لذلك ، وهو نقض ما استحسنوه من
سقوفهم وأبوابهم وتحملها على الإبل ، وكذلك قال عروة بن الزبير وعبد الرّحمن بن
زيد بن أسلم وغير واحد ، وقال مقاتل بن حيان كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقاتلهم فإذا ظهر على درب أو دار هدم حيطانها ليتسع المكان
للقتال ، وكان اليهود إذا علوا مكانا أو
__________________
غلبوا على درب أو
دار نقبوا من أدبارها ثم حصنوها ودربوها ، يقول الله تعالى : (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ).
وقوله : (وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ
الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا) أي لو لا أن كتب الله عليهم هذا الجلاء وهو النفي من
ديارهم وأموالهم لكان لهم عند الله عذاب آخر من القتل والسبي ونحو ذلك ، قاله
الزهري عن عروة والسدي وابن زيد لأن الله قد كتب عليهم أنه سيعذبهم في الدار
الدنيا مع ما أعد لهم في الدار الآخرة من العذاب في نار جهنم.
قال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن صالح كاتب الليث ، حدثني الليث عن عقيل عن ابن
شهاب قال : أخبرني عروة بن الزبير قال : ثم كانت وقعة بني النضير ، وهم طائفة من
اليهود على رأس ستة أشهر من وقعة بدر ، وكان منزلهم بناحية من المدينة فحاصرهم
رسول اللهصلىاللهعليهوسلم حتى نزلوا على الجلاء ، وأن لهم ما أقلت الإبل من الأموال
والأمتعة إلا الحلقة وهي السلاح ، فأجلاهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم قبل الشام ، قال : والجلاء كتب عليهم في آي من التوراة
وكانوا من سبط لم يصبهم الجلاء قبل ما سلط عليهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأنزل الله فيهم (سَبَّحَ لِلَّهِ ما
فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ـ إلى قوله ـ (وَلِيُخْزِيَ
الْفاسِقِينَ) وقال عكرمة : الجلاء القتل ، وفي رواية عنه الفناء ، وقال
قتادة : الجلاء خروج الناس من البلد إلى البلد. وقال الضحاك : أجلاهم إلى الشام
وأعطى كل ثلاثة بعيرا وسقاء ، فهذا الجلاء.
وقد قال الحافظ
أبو بكر البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، أخبرنا أحمد بن كامل القاضي ،
حدثنا محمد بن سعيد العوفي حدثني أبي عن عمي ، حدثنا أبي عن جدي عن ابن عباس ، قال
: كان النبي صلىاللهعليهوسلم قد حاصرهم حتى بلغ منهم كل مبلغ ، فأعطوه ما أراد منهم
فصالحهم على أن يحقن دماءهم وأن يخرجهم من أرضهم ومن ديارهم وأوطانهم ، وأن يسيرهم
إلى أذرعات الشام ، وجعل لكل ثلاثة منهم بعيرا وسقاء ، والجلاء إخراجهم من أرضهم
إلى أرض أخرى.
وروي أيضا من حديث
يعقوب بن محمد الزهري عن إبراهيم بن جعفر عن محمود بن محمد بن مسلمة عن أبيه عن
جده ، عن محمد بن مسلمة أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم بعثه إلى بني النضير وأمره أن يؤجلهم في الجلاء ثلاثة
أيام.
وقوله تعالى : (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ
النَّارِ) أي حتم لازم لا بد لهم منه. وقوله تعالى: (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ
وَرَسُولَهُ) أي إنما فعل الله بهم ذلك وسلط عليهم رسوله وعباده
المؤمنين ، لأنهم خالفوا الله ورسوله وكذبوا بما أنزل الله على رسله المتقدمين في
البشارة بمحمدصلىاللهعليهوسلم ، وهم يعرفون ذلك كما يعرفون أبناءهم. ثم قال : (وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ
شَدِيدُ الْعِقابِ).
وقوله تعالى : (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ
تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ
الْفاسِقِينَ) اللين نوع من التمر وهو جيد قال أبو عبيدة : وهو ما خالف
العجوة والبرني من التمر ، وقال كثيرون من المفسرين : اللينة ألوان التمر سوى
العجوة. قال ابن جرير : هو جميع النخل ونقله عن مجاهد وهو البويرة أيضا ، وذلك أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم لما حاصرهم أمر بقطع نخيلهم إهانة لهم وإرهابا وإرعابا
لقلوبهم ، فروى محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان وقتادة ومقاتل بن حيان أنهم قالوا
: فبعث بنو النضير يقولون لرسول الله صلىاللهعليهوسلم إنك تنهى عن الفساد فما بالك تأمر بقطع الأشجار؟ فأنزل
الله هذه الآية الكريمة أي (ما قَطَعْتُمْ مِنْ
لِينَةٍ) وما تركتم من الأشجار فالجميع بإذنه ومشيئته وقدرته ورضاه
وفيه نكاية بالعدو وخزي لهم ، وإرغام لأنوفهم.
وقال مجاهد : نهى
بعض المهاجرين بعضا عن قطع النخل ، وقالوا : إنما هي مغانم المسلمين ، فنزل القرآن
بتصديق من نهى عن قطعه وتحليل من قطعه من الإثم ، وإنما قطعه وتركه بإذنه ، وقد
روي نحو هذا مرفوعا ، فقال النسائي : أخبرنا الحسن بن محمد عن عفان ، حدثنا حفص بن
غياث ، حدثنا حبيب بن أبي عمرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله : (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ
تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ
الْفاسِقِينَ) قال : يستنزلونهم من حصونهم وأمروا بقطع النخل فحاك في
صدورهم ، فقال المسلمون : قطعنا بعضا وتركنا بعضا فلنسألن رسول الله صلىاللهعليهوسلم هل لنا فيما قطعنا من أجر؟ وهل علينا فيما تركنا من وزر؟
فأنزل الله (ما قَطَعْتُمْ مِنْ
لِينَةٍ) وقال الحافظ أبو يعلى في مسنده : حدثنا سفيان بن وكيع ،
حدثنا حفص عن ابن جريج عن سليمان بن موسى عن جابر وعن أبي الزبير عن جابر ، قال : رخص
لهم في قطع النخل ثم شدد عليهم ، فأتوا النبي صلىاللهعليهوسلم فقالوا يا رسول الله علينا إثم فيما قطعنا أو علينا وزر
فيما تركنا ، فأنزل الله عزوجل (ما قَطَعْتُمْ مِنْ
لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ).
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرّحمن ، حدثنا سفيان عن موسى بن عقبة عن
نافع عن ابن عمر ، أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قطع نخل بني النضير وحرق ، وأخرجه صاحبا الصحيح من رواية
موسى بن عقبة بنحوه ، ولفظ البخاري من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج عن موسى بن
عقبة عن نافع عن ابن عمر ، قال : حاربت النضير وقريظة فأجلى بني النضير وأقر قريظة
ومن عليهم حتى حاربت قريظة ، فقتل من رجالهم وسبى وقسم نساءهم وأولادهم وأموالهم
بين المسلمين إلا بعضهم لحقوا بالنبي صلىاللهعليهوسلم فأمنهم وأسلموا وأجلى يهود المدينة كلهم بني قينقاع ، وهم
رهط
__________________
عبد الله بن سلام
ويهود بني حارثة وكل يهود بالمدينة ، ولهما أيضا عن قتيبة عن الليث بن سعد عن نافع عن ابن عمر
أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم حرق نخل بني النضير ، وقطع وهي البويرة ، فأنزل الله عزوجل فيه (ما قَطَعْتُمْ مِنْ
لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ
وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ).
وللبخاري رحمهالله من رواية جويرية ابن أسماء عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي
الله عنهما أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم حرق نخل بني النضير ، ولها يقول حسان بن ثابت رضي الله عنه
: [الوافر]
وهان على سراة
بني لؤيّ
|
|
حريق بالبويرة
مستطير
|
فأجابه أبو سفيان
بن الحارث يقول : [الوافر]
أدام الله ذلك
من صنيع
|
|
وحرّق في
نواحيها السعير
|
ستعلم أينّا منها
بنزه
|
|
وتعلم أي أرضينا
نضير
|
وكذا رواه البخاري
ولم يذكره ابن إسحاق ، وقال محمد بن إسحاق وقال كعب بن مالك يذكر إجلاء بني النضير
وقتل ابن الأشرف : [الوافر]
لقد خزيت
بغدرتها الحبور
|
|
كذاك الدهر ذو
صرف يدور
|
وذلك أنهم كفروا
برب
|
|
عظيم أمره أمر
كبير
|
وقد أوتوا معا
فهما وعلما
|
|
وجاءهم من الله
النذير
|
نذير صادق أدى
كتابا
|
|
وآيات مبينة
تنير
|
فقالوا ما أتيت
بأمر صدق
|
|
وأنت بمنكر منا
جدير
|
فقال بلى لقد
أديت حقا
|
|
يصدقني به الفهم
الخبير
|
فمن يتبعه يهد
لكل رشد
|
|
ومن يكفر به يجز
الكفور
|
فلما أشربوا
غدرا وكفرا
|
|
وجد بهم عن الحق
النفور
|
أرى الله النبي
برأي صدق
|
|
وكان الله يحكم
لا يجور
|
__________________
فأيده وسلطه
عليهم
|
|
وكان نصيره نعم
النصير
|
فغودر منهمو كعب
صريعا
|
|
فذلت بعد مصرعه
النضير
|
على الكفين ثم
وقد علته
|
|
بأيدينا مشهرة
ذكور
|
بأمر محمد إذ دس
ليلا
|
|
إلى كعب أخا كعب
يسير
|
فما كره فأنزله
بمكر
|
|
ومحمود أخو ثقة
جسور
|
فتلك بنو النضير
بدار سوء
|
|
أبادهم بما
اجترموا المبير
|
غداة أتاهم في
الزحف رهوا
|
|
رسول الله وهو
بهم بصير
|
وغسان الحماة
موازروه
|
|
على الأعداء وهو
لهم وزير
|
فقال السلم
ويحكم فصدوا
|
|
وخالف أمرهم كذب
وزور
|
فذاقوا غب أمرهم
وبالا
|
|
لكل ثلاثة منهم
بعير
|
وأجلوا عامدين
لقينقاع
|
|
وغودر منهم نخل
ودور
|
قال : وكان مما
قيل من الأشعار في بني النضير قول ابن لقيم العبسي ، ويقال : قالها قيس بن بحر بن
طريف ، قال ابن هشام : الأشجعي : [الطويل]
أهلي فداء لامرئ
غير هالك
|
|
أجلى اليهود
بالحسيّ المزنّم
|
يقيلون في جمر
الغضاة وبدلوا
|
|
أهيضب عودا
بالودي المكمم
|
فإن يك ظني
صادقا بمحمد
|
|
يروا خيله بين
الصلا ويرمرم
|
يؤم بها عمرو بن
بهثة إنهم
|
|
عدو وما حي صديق
كمجرم
|
__________________
عليهن أبطال
مساعير في الوغى
|
|
يهزون أطراف
الوشيج المقوم
|
وكل رقيق
الشفرتين مهند
|
|
تورث من أزمان
عاد وجرهم
|
فمن مبلغ عني
قريشا رسالة
|
|
فهل بعدهم في
المجد من متكرم
|
بأن أخاكم
فاعلمن محمدا
|
|
تليد الندى بين
الحجون وزمزم
|
فدينوا له بالحق
تحسم أموركم
|
|
وتسمو من الدنيا
إلى كل معظم
|
نبي تلاقته من
الله رحمة
|
|
ولا تسألوه أمر
غيب مرجم
|
فقد كان في بدر
لعمري عبرة
|
|
لكم يا قريش
والقليب الملمم
|
غداة أتى في
الخزرجية عامدا
|
|
إليكم مطيعا
للعظيم المكرم
|
معانا بروح
القدس ينكي عدوه
|
|
رسولا من
الرّحمن حقا بمعلم
|
رسولا من
الرّحمن يتلو كتابه
|
|
فلما أنار الحق
لم يتلعثم
|
أرى أمره يزداد
في كل موطن
|
|
علوا لأمر حمه
الله محكم
|
وقد أورد ابن
إسحاق رحمهالله هاهنا أشعارا كثيرة فيها آداب ومواعظ وحكم وتفاصيل للقصة ،
تركنا باقيها اختصارا واكتفاء بما ذكرناه ، ولله الحمد والمنة. قال ابن إسحاق :
كانت وقعة بني النضير بعد وقعة أحد وبعد بئر معونة ، وحكى البخاري عن الزهري عن
عروة أنه قال : كانت وقعة بني النضير بعد بدر بستة أشهر .
(وَما أَفاءَ اللهُ
عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ
وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ (٦) ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ
أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى
وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ
مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا
وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ)
(٧)
يقول تعالى مبينا
مال الفيء وما صفته وما حكمه ، فالفيء كل مال أخذ من الكفار من غير قتال ولا إيجاف
خيل ولا ركاب ، كأموال بني النضير هذه فإنها مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا
ركاب ، أي لم يقاتلوا الأعداء فيها بالمبارزة والمصاولة بل نزل أولئك من الرعب
الذي ألقى الله في قلوبهم من هيبة رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فأفاءه الله على رسوله ، ولهذا تصرف فيه كما يشاء فرده
على المسلمين في وجوه البر والمصالح التي ذكرها الله عزوجل في هذه الآيات فقال تعالى : (وَما أَفاءَ اللهُ
عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ) أي من بني النضير (فَما أَوْجَفْتُمْ
عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ
__________________
وَلا
رِكابٍ)
يعني الإبل (وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى
مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي هو قدير لا يغالب ولا يمانع بل هو القاهر لكل شيء.
ثم قال تعالى : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ
أَهْلِ الْقُرى) أي جميع البلدان التي تفتح هكذا فحكمها حكم أموال بني
النضير ولهذا قال تعالى : (فَلِلَّهِ
وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) إلى آخرها والتي بعدها فهذه مصارف أموال الفيء ووجوهه.
قال الإمام أحمد : حدثنا سفيان عن عمرو ومعمر عن الزهري عن مالك بن أوس بن
الحدثان عن عمر رضي الله عنه قال : كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله
مما لو يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب ، فكانت لرسول الله صلىاللهعليهوسلم خالصة ، فكان ينفق على أهله منها نفقة سنته ، وقال مرة قوت
سنته وما بقي جعله في الكراع والسلاح في سبيل الله عزوجل ، هكذا أخرجه أحمد هاهنا مختصرا ، وقد أخرجه الجماعة في
كتبهم إلا ابن ماجة من حديث سفيان عن عمرو بن دينار عن الزهري به ، وقد رويناه
مطولا.
وقال أبو داود رحمهالله : حدثنا الحسن بن علي ومحمد بن يحيى بن فارس المعنى واحد
قالا : حدثنا بشر بن عمر الزهراني حدثني مالك بن أنس عن ابن شهاب عن مالك بن أوس
قال : أرسل إليّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين تعالى النهار فجئته فوجدته جالسا
على سرير مفضيا إلى رماله فقال حين دخلت عليه : يا مالك إنه قد دفّ أهل أبيات من قومك وقد أمرت فيهم بشيء فأقسم فيهم ، قلت لو
أمرت غيري بذلك فقال خذه ، فجاءه يرفأ فقال يا أمير المؤمنين هل لك في عثمان بن عفان وعبد
الرّحمن بن عوف والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص؟ قال : نعم.
فأذن لهم فدخلوا
ثم جاءه يرفأ فقال : يا أمير المؤمنين هل لك في العباس وعلي؟ قال : نعم ، فأذن
لهما فدخلا فقال العباس : يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا يعني عليا ، فقال
بعضهم : أجل يا أمير المؤمنين اقض بينهما وأرحهما ، قال مالك بن أوس : خيل إلي
أنهما قدما أولئك النفر لذلك ، فقال عمر رضي الله عنه اتئدا ثم أقبل على أولئك
الرهط فقال : أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعلمون أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «لا نورث ما تركنا صدقة» قالوا : نعم. ثم أقبل على
علي والعباس فقال : أنشدكما بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض
__________________
هل تعلمان أن رسول
الله صلىاللهعليهوسلم قال : «لا نورث ما تركنا صدقة» فقالا : نعم. فقال : إن
الله خص رسوله بخاصة لم يخص بها أحدا من الناس فقال تعالى : (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ
مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللهَ
يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فكان الله تعالى أفاء على رسوله أموال بني النضير فو الله
ما استأثر بها عليكم ولا أحرزها دونكم ، فكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يأخذ منها نفقة سنة أو نفقته ونفقة أهله سنة ، ويجعل ما
بقي أسوة المال.
ثم أقبل على أولئك
الرهط فقال : أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعلمون ذلك؟ قالوا :
نعم. ثم أقبل على علي والعباس فقال : أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض
هل تعلمان ذلك؟ قالا : نعم. فلما توفي رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال أبو بكر : أنا ولي رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فجئت أنت وهذا إلى أبي بكر تطلب أنت ميراثك من ابن أخيك
ويطلب هذا ميراث امرأته من أبيها ، فقال أبو بكر رضي الله عنه : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لا نورث ما تركنا صدقة» والله يعلم إنه لصادق بار راشد
تابع للحق فوليها أبو بكر ، فلما توفي قلت أنا ولي رسول الله صلىاللهعليهوسلم وولي أبي بكر فوليتها ما شاء الله أن أليها ، فجئت أنت
وهذا وأنتما جميع وأمركما واحد فسألتمانيها ، فقلت إن شئتما فأنا أدفعها إليكما
على أن عليكما عهد الله أن تلياها بالذي كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يليها ، فأخذتماها مني على ذلك ثم جئتماني لأقضي بينكما
بغير ذلك والله لا أقضي بينكما بغير ذلك حتى تقوم الساعة فإن عجزتما عنها فرداها
إلي ، أخرجوه من حديث الزهري به.
وقال الإمام أحمد : حدثنا عارم وعفان قالا : أخبرنا معتمر سمعت أبي يقول :
حدثنا أنس بن مالك عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : إن الرجل كان يجعل له من ماله النخلات أو كما شاء
الله حتى فتحت عليه قريظة والنضير قال فجعل يرد بعد ذلك ، قال وإن أهلي أمروني أن
آتي النبي صلىاللهعليهوسلم فأسأله الذي كان أهله أعطوه أو بعضه ، وكان نبي الله صلىاللهعليهوسلم قد أعطاه أم أيمن أو كما شاء الله قال ، فسألت النبي صلىاللهعليهوسلم فأعطانيهن ، فجاءت أم أيمن فجعلت الثوب في عنقي وجعلت تقول
كلا والله الذي لا إله إلا هو لا يعطيكهن وقد أعطانيهن ، أو كما قالت فقال نبي
الله : «لك كذا وكذا» قال وتقول كلا والله قال ويقول «لك كذا وكذا» قال وتقول كلا
والله ، قال : «ويقول لك كذا وكذا» قال حتى أعطاها حسبت أنه قال عشرة أمثاله أو
قال قريبا من عشرة أمثاله ، أو كما قال رواه البخاري ومسلم من طرق عن معتمر به ، وهذه المصارف
المذكورة في هذه الآية هي المصارف المذكورة في خمس الغنيمة ، وقد قدمنا الكلام
عليها في سورة الأنفال بما
__________________
أغنى عن إعادته
هاهنا ولله الحمد.
وقوله تعالى : (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ
الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ) أي جعلنا هذه المصارف لمال الفيء كيلا يبقى مأكلة يتغلب
عليها الأغنياء ويتصرفون فيها بمحض الشهوات والآراء ، ولا يصرفون منه شيئا إلى
الفقراء. وقوله تعالى : (وَما آتاكُمُ
الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) أي مهما أمركم به فافعلوه ومهما نهاكم عنه فاجتنبوه ، فإنه
إنما يأمر بخير وإنما ينهى عن شر.
قال ابن أبي حاتم
: حدثنا يحيى بن أبي طالب ، حدثنا عبد الوهاب ، حدثنا سعيد عن قتادة عن الحسن
العوفي عن يحيى بن الجزار عن مسروق قال : جاءت امرأة إلى ابن مسعود قالت : بلغني أنك
تنهى عن الواشمة والواصلة ، أشيء وجدته في كتاب الله تعالى أو عن رسول اللهصلىاللهعليهوسلم؟ قال : بلى شيء وجدته في كتاب الله وعن رسول الله صلىاللهعليهوسلم. قالت : والله لقد تصفحت ما بين دفتي المصحف فما وجدت فيه
الذي تقول. قال : فما وجدت فيه (وَما آتاكُمُ
الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)؟ قالت : بلى. قال : فإني سمعت رسول اللهصلىاللهعليهوسلم ينهى عن الواصلة والواشمة والنامصة ، قالت : فلعله في بعض أهلك ، قال فادخلي فانظري ، فدخلت
فنظرت ثم خرجت قالت : ما رأيت بأسا ، فقال لها : أما حفظت وصية العبد الصالح (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما
أَنْهاكُمْ عَنْهُ) [هود : ٨٨].
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرّحمن ، حدثنا سفيان عن منصور عن إبراهيم عن
علقمة عن عبد الله هو ابن مسعود قال : لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات
والمتفلجات للحسن ، المغيرات خلق الله عزوجل ، قال فبلغ امرأة من بني أسد في البيت يقال لها أم يعقوب ،
فجاءت إليه فقالت بلغني أنك قلت كيت وكيت ، قال ما لي لا ألعن من لعن رسول اللهصلىاللهعليهوسلم وفي كتاب الله تعالى ، فقالت إني لأقرأ ما بين لوحيه فما
وجدته ، فقال إن كنت قرأته فقد وجدته أما قرأت (وَما آتاكُمُ
الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) قالت : بلى. قال : فإن رسول الله صلىاللهعليهوسلم نهى عنه. قالت : إني لأظن أهلك يفعلونه ، قال : اذهبي
فانظري فذهبت فلم تر من حاجتها شيئا ، فجاءت فقالت : ما رأيت شيئا ، قال : لو كان
كذا لما تجامعنا . أخرجاه في الصحيحين من حديث سفيان الثوري.
وقد ثبت في
الصحيحين أيضا عن أبي هريرة أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم ، وما
نهيتكم عنه فاجتنبوه» وقال النسائي : أخبرنا أحمد بن سعيد ، حدثنا يزيد ، حدثنا
منصور بن حيان عن سعيد بن جبير» ، عن ابن عمر وابن عباس أنهما شهدا على
__________________
رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه نهى عن الدباء والحنتم والنقير والمزفت ، ثم تلا رسول الله صلىاللهعليهوسلم (وَما آتاكُمُ
الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) وقوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ
إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) أي اتقوه في امتثال أوامره وترك زواجره فإنه شديد العقاب
لمن عصاه وخالف أمره وأباه وارتكب ما عنه زجره ونهاه.
(لِلْفُقَراءِ
الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ
فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ
الصَّادِقُونَ (٨) وَالَّذِينَ
تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ
إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ
عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ
فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٩)
وَالَّذِينَ
جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ
سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا
رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ)(١٠)
يقول تعالى مبينا
حال الفقراء المستحقين لمال الفيء أنهم (الَّذِينَ أُخْرِجُوا
مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً) أي خرجوا من ديارهم وخالفوا قومهم ابتغاء مرضاة الله
ورضوانه (وَيَنْصُرُونَ اللهَ
وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) أي هؤلاء الذين صدقوا قولهم بفعلهم وهؤلاء هم سادات
المهاجرين. ثم قال تعالى مادحا للأنصار ومبينا فضلهم وشرفهم وكرمهم ، وعدم حسدهم
وإيثارهم مع الحاجة فقال تعالى : (وَالَّذِينَ
تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي سكنوا دار الهجرة من قبل المهاجرين وآمنوا قبل كثير
منهم. قال عمر : وأوصي الخليفة بعدي بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم حقهم ويحفظ
لهم كرامتهم ، وأوصيه بالأنصار خيرا الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبل ، أن يقبل
من محسنهم وأن يعفو عن مسيئهم رواه البخاري هاهنا أيضا.
قوله تعالى : (يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ) أي من كرمهم وشرف أنفسهم يحبون المهاجرين ويواسونهم
بأموالهم قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد حدثنا حميد عن أنس قال : قال المهاجرون يا
رسول الله ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل ولا أحسن بذلا في
كثير ، لقد كفونا المؤنة وأشركونا في المهنأ حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله.
قال «لا ما أثنيتم عليهم ودعوتم الله لهم» لم أره في الكتب من هذا الوجه.
وقال البخاري : حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا سفيان عن يحيى بن سعيد سمع
أنس بن
__________________
مالك حين خرج معه
إلى الوليد قال دعا النبي صلىاللهعليهوسلم الأنصار أن يقطع لهم البحرين. قالوا لا إلا أن تقطع
لإخواننا من المهاجرين مثلها قال «إما لا فاصبروا حتى تلقوني فإنه سيصيبكم بعدي
أثرة» تفرد به البخاري من هذا الوجه. وقال البخاري : حدثنا الحكم بن نافع أخبرنا
شعيب حدثنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال : قالت الأنصار اقسم بيننا وبين
إخواننا النخيل ، قال : لا. فقالوا : أتكفوننا المؤنة ونشرككم في الثمرة. قالوا :
سمعنا وأطعنا . تفرد به دون مسلم.
(وَلا يَجِدُونَ فِي
صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا) أي ولا يجدون في أنفسهم حسدا للمهاجرين فيما فضلهم الله به
من المنزلة والشرف والتقديم في الذكر والرتبة.
قال الحسن البصري (وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً) يعني الحسد (مِمَّا أُوتُوا) قال قتادة يعني فيما أعطى إخوانهم. وكذا قال ابن زيد ومما
يستدل به على هذا المعنى ما رواه الإمام أحمد حيث قال : حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن أنس
قال : كنا جلوسا مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : «يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة» فطلع رجل من
الأنصار تنطف لحيته من وضوئه قد تعلق نعليه بيده الشمال ، فلما كان الغد قال رسول
الله صلىاللهعليهوسلم مثل ذلك ، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى ، فلما كان في
اليوم الثالث قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم مثل مقالته أيضا ، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى ،
فلما قام رسول الله صلىاللهعليهوسلم تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص فقال : إني لاحيت أبي
فأقسمت أن لا أدخل عليه ثلاثا ، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي فعلت قال «نعم».
قال أنس : فكان
عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الليالي الثلاث فلم يره يقوم من الليل شيئا غير أنه
إذا تعار تقلب على فراشه ذكر الله وكبر حتى يقوم لصلاة الفجر قال عبد الله : غير
أني لم أسمعه يقول إلا خيرا ، فلما مضت الليالي الثلاث وكدت أن أحتقر عمله ، قلت
يا عبد الله لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجر ، ولكن سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول لك ثلاث مرات «يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة»
فطلعت أنت الثلاث المرات ، فأردت أن آوي إليك لأنظر ما عملك فأقتدي به ، فلم أرك
تعمل كبير عمل ، فما الذي بلغ بك ما قال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم قال : ما هو إلا ما رأيت ، فلما وليت دعاني فقال : ما هو
إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشا ولا أحسد أحدا على خير
أعطاه الله إياه. قال عبد الله : فهذه التي بلغت بك وهي التي لا تطاق ، ورواه
النسائي في اليوم والليلة عن سويد بن نصر عن ابن المبارك عن معمر به ، وهذا إسناد
صحيح على شرط الصحيحين لكن رواه عقيل وغيره عن الزهري عن رجل عن
__________________
أنس ، فالله أعلم.
وقال عبد الرّحمن
بن زيد بن أسلم في قوله تعالى : (وَلا يَجِدُونَ فِي
صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا) يعني مما أوتوا المهاجرين ، قال وتكلم في أموال بني النضير
بعض من تكلم في الأنصار فعاتبهم الله في ذلك فقال تعالى : (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ
مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللهَ
يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) قال : وقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن إخوانكم قد تركوا الأموال والأولاد وخرجوا إليكم»
فقالوا أموالنا بيننا قطائع ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أو غير ذلك» قالوا : وما ذاك يا رسول الله؟ قال : «هم
قوم لا يعرفون العمل فتكفونهم وتقاسمونهم الثمر» فقالوا : نعم يا رسول الله. وقوله
تعالى : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى
أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) يعني حاجة أي يقدمون المحاويج على حاجة أنفسهم ويبدؤون
بالناس قبلهم في حال احتياجهم إلى ذلك.
وقد ثبت في الصحيح
عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «أفضل الصدقة جهد المقل» وهذا المقام أعلى من حال الذين وصف الله تعالى : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ) [الإنسان: ٨]
وقوله (وَآتَى الْمالَ عَلى
حُبِّهِ) [البقرة : ١٧٧]
فإن هؤلاء تصدقوا وهم يحبون ما تصدقوا به ، وقد لا يكون لهم حاجة إليه ولا ضرورة
به ، وهؤلاء آثروا على أنفسهم مع خصاصتهم وحاجتهم إلى ما أنفقوه ، ومن هذا المقام
تصدق الصديق رضي الله عنه بجميع ماله ، فقال له رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ما أبقيت لأهلك؟» فقال رضي الله عنه : أبقيت لهم الله
ورسوله ، وهكذا الماء الذي عرض على عكرمة وأصحابه يوم اليرموك فكل
منهم يأمر بدفعه إلى صاحبه ، وهو جريح مثقل أحوج ما يكون إلى الماء ، فرده الآخر
إلى الثالث فما وصل إلى الثالث حتى ماتوا عن آخرهم ولم يشربه أحد منهم رضي الله
عنهم وأرضاهم.
وقال البخاري :
حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن كثير حدثنا أبو أسامة حدثنا فضيل بن غزوان حدثنا أبو
حازم الأشجعي عن أبي هريرة قال : أتى رجل لرسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال يا رسول الله أصابني الجهد ، فأرسل إلى نسائه فلم يجد
عندهن شيئا ، فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «ألا رجل يضيف هذه الليلة رحمهالله» فقام رجل من الأنصار فقال : أنا يا رسول الله ، فذهب إلى
أهله فقال لامرأته :
هذا ضيف رسول الله
صلىاللهعليهوسلم لا تدخريه شيئا ، فقالت : والله ما عندي إلا قوت الصبية.
قال : فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم ، وتعالي فأطفئ السراج ونطوي بطوننا الليلة
، ففعلت ثم غدا الرجل على رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : «لقد عجب الله عزوجل ـ أو ضحك ـ من فلان وفلانة» وأنزل الله تعالى : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ
كانَ بِهِمْ
__________________
خَصاصَةٌ)
وكذا رواه البخاري في موضع آخر ومسلم والترمذي والنسائي من طرق عن فضيل بن
غزوان به نحوه وفي رواية لمسلم تسمية هذا الأنصاري بأبي طلحة رضي الله عنه.
وقوله تعالى : (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ
هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي من سلم من الشح فقد أفلح وأنجح.
قال أحمد : حدثنا عبد الرزاق أخبرنا داود بن قيس الفراء عن عبيد
الله بن مقسم ، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إياكم والظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ، واتقوا
الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم»
انفرد بإخراجه مسلم فرواه عن القعنبي عن داود بن قيس به.
وقال الأعمش وشعبة
عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن الحارث عن زهير بن الأقمر عن عبد الله بن عمرو قال
: قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «اتقوا الظلم فإن
الظلم ظلمات يوم القيامة ، واتقوا الفحش فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش ،
وإياكم والشح فإنه أهلك من كان قبلكم ، أمرهم بالظلم فظلموا ، وأمرهم بالفجور
ففجروا ، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا» ورواه أحمد وأبو داود من طريق شعبة والنسائي من طريق
الأعمش ، كلاهما عن عمرو بن مرة به ، وقال الليث عن يزيد بن الهاد عن سهيل بن أبي
صالح عن صفوان بن أبي يزيد عن القعقاع بن اللجلاج عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف عبد
أبدا ، ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدا» .
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبي ، حدثنا عبدة بن سليمان ، أخبرنا ابن المبارك ، حدثنا المسعودي عن
جامع بن شداد عن الأسود بن هلال قال : جاء رجل إلى عبد الله فقال : يا أبا عبد
الرّحمن إني أخاف أن أكون قد هلكت ، فقال له عبد الله : وما ذاك؟ قال : سمعت الله
يقول (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ
نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) وأنا رجل شحيح لا أكاد أن أخرج من يدي شيئا ، فقال عبد
الله : ليس ذلك بالشح الذي ذكره الله في القرآن ، إنما الشح الذي ذكر الله في
القرآن أن تأكل مال أخيك ظلما ، ولكن ذاك البخل وبئس الشيء البخل.
وقال سفيان الثوري
عن طارق بن عبد الرّحمن عن سعيد بن جبير عن أبي الهياج الأسدي
__________________
قال : كنت أطوف
بالبيت فرأيت رجلا يقول : اللهم قني شح نفسي لا يزيد على ذلك ، فقلت له ، فقال :
إني إذا وقيت شح نفسي لم أسرق ولم أزن ولم أفعل ، وإذا الرجل عبد الرّحمن بن عوف رضي
الله عنه. رواه ابن جرير .
وقال ابن جرير : حدثني محمد بن إسحاق ، حدثنا سليمان بن عبد الرّحمن
الدمشقي ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، حدثنا مجمع بن جارية الأنصاري عن عمه يزيد بن
جارية عن أنس بن مالك عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «برىء من الشح من أدى الزكاة وقرى الضيف وأعطى في
النائبة».
وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ
يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا
بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا
إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) هؤلاء هم القسم الثالث ممن يستحق فقراؤهم من مال الفيء وهم
المهاجرون ثم الأنصار ثم التابعون لهم بإحسان كما قال في آية براءة (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ
الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ
عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) [التوبة : ١٠٠]
فالتابعون لهم بإحسان هم المتبعون لآثارهم الحسنة وأوصافهم الجميلة الداعون لهم في
السر والعلانية ، ولهذا قال تعالى : في هذه الآية الكريمة (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ
يَقُولُونَ) أي قائلين (رَبَّنَا اغْفِرْ
لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي
قُلُوبِنا غِلًّا) أي بغضا وحسدا (لِلَّذِينَ آمَنُوا
رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) وما أحسن ما استنبط الإمام مالك رحمهالله من هذه الآية الكريمة أن الرافضي الذي يسب الصحابة ليس له
في مال الفيء نصيب ، لعدم اتصافه بما مدح الله به هؤلاء في قولهم (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا
الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ
آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ).
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا موسى بن عبد الرّحمن المسروقي ، حدثنا محمد بن بشر ، حدثنا إسماعيل بن
إبراهيم بن مهاجر عن أبيه عن عائشة أنها قالت : أمروا أن يستغفروا لهم فسبوهم ثم
قرأت هذه الآية (وَالَّذِينَ جاؤُ
مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ
سَبَقُونا بِالْإِيمانِ) الآية. وقال إسماعيل ابن علية عن عبد الملك بن عمير عن
مسروق عن عائشة قالت : أمرتم بالاستغفار لأصحاب محمد صلىاللهعليهوسلم فسببتموهم. سمعت نبيكم صلىاللهعليهوسلم يقول : «لا تذهب هذه الأمة حتى يلعن آخرها أولها» ورواه
البغوي ، وقال أبو داود : حدثنا مسدد حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، حدثنا أيوب عن
الزهري قال : قال عمر رضي الله عنه (وَما أَفاءَ اللهُ
عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ) قال الزهري : قال عمر رضي الله عنه : هذه لرسول الله صلىاللهعليهوسلم خاصة قرى عربية فدك وكذا فما أفاء الله على رسوله من أهل
القرى ، فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ـ وللفقراء
المهاجرين الذي أخرجوا من ديارهم وأموالهم ـ (وَالَّذِينَ
تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ـ (وَالَّذِينَ
__________________
جاؤُ
مِنْ بَعْدِهِمْ) فاستوعبت هذه الآية الناس فلم يبق أحد من المسلمين إلا له
فيها حق. قال أيوب ـ أو قال حظّ ـ إلا بعض من تملكون من أرقائكم . كذا رواه أبو داود وفيه انقطاع.
وقال ابن جرير :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، حدثنا ابن ثور عن معمر عن أيوب عن عكرمة بن خالد عن مالك
بن أوس بن الحدثان قال : قرأ عمر بن الخطاب (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ
لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ) ـ حتى بلغ ـ (عَلِيمٌ حَكِيمٌ) ثم قال : هذه لهؤلاء ، ثم قرأ (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ
شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى) [الأنفال : ٤١]
الآية. ثم قال : هذه لهؤلاء ، ثم قرأ (ما أَفاءَ اللهُ عَلى
رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى) ـ حتى بلغ ـ (لِلْفُقَراءِ) ... (وَالَّذِينَ
تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ـ (وَالَّذِينَ جاؤُ
مِنْ بَعْدِهِمْ) ثم قال : استوعبت هذه المسلمين عامة وليس أحد إلا له فيها
حق ثم قال : لئن عشت ليأتين الراعي وهو بسرو حمير نصيبه فيها لم يعرق فيها جبينه.
(أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ
أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ
لَكاذِبُونَ(١١) لَئِنْ أُخْرِجُوا
لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ
نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١٢) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ
رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٣) لا يُقاتِلُونَكُمْ
جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ
بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (١٤) كَمَثَلِ الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٥)
كَمَثَلِ
الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ
مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (١٦)
فَكانَ
عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ
الظَّالِمِينَ)
(١٧)
يخبر تعالى عن
المنافقين كعبد الله بن أبي وأضرابه حين بعثوا إلى يهود بني النضير يعدونهم النصر
من أنفسهم فقال تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ
أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ) قال الله تعالى : (وَاللهُ يَشْهَدُ
إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) أي لكاذبون فيما وعدوهم به إما لأنهم قالوا لهم قولا ، ومن
نيتهم أن لا يفوا لهم به ، وإما لأنهم لا يقع منهم الذي قالوه ، ولهذا قال تعالى :
(وَلَئِنْ قُوتِلُوا
لا يَنْصُرُونَهُمْ) أي لا يقاتلون معهم (وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ) أي قاتلوا معهم (لَيُوَلُّنَّ
الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) وهذه بشارة مستقلة بنفسها ، وقوله تعالى : (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي
صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ) أي يخافون منكم أكثر من خوفهم من الله كقوله : (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ
النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً) [النساء : ٧٧]
ولهذا قال تعالى (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) ثم قال تعالى : (لا يُقاتِلُونَكُمْ
جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ) يعني أنهم من جبنهم
__________________
وهلعهم لا يقدرون
على مواجهة جيش الإسلام بالمبارزة والمقاتلة بل إما في حصون أو من وراء جدر
محاصرين فيقاتلون للدفع عنهم ضرورة.
ثم قال تعالى : (بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ) أي عداوتهم فيما بينهم شديدة ، كما قال تعالى: (وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) [الأنعام : ٦٥]
ولهذا قال تعالى : (تَحْسَبُهُمْ
جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) أي تراهم مجتمعين فتحسبهم مؤتلفين وهم مختلفون غاية الاختلاف
، قال إبراهيم النخعي : يعني أهل الكتاب والمنافقين (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) ثم قال تعالى : (كَمَثَلِ الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) قال مجاهد والسدي ومقاتل بن حيان : يعني كمثل ما أصاب كفار
قريش يوم بدر ، وقال ابن عباس : (كَمَثَلِ الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ) يعني يهود بني قينقاع ، وكذا قال قتادة ومحمد بن إسحاق ،
وهذا القول أشبه بالصواب فإن يهود بني قينقاع كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم قد أجلاهم قبل هذا.
وقوله تعالى : (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ
لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ) يعني مثل هؤلاء اليهود في اغترارهم بالذين وعدوهم النصر من
المنافقين وقول المنافقين لهم (إِنْ قُوتِلْتُمْ
لَنَنْصُرَنَّكُمْ) ، ثم لما حقت الحقائق وجد بهم الحصار والقتال ، تخلوا عنهم
وأسلموهم للهلكة ، مثالهم في هذا كمثل الشيطان إذ سول للإنسان ـ والعياذ بالله ـ الكفر
، فإذا دخل فيما سول له تبرأ منه وتنصل وقال (إِنِّي أَخافُ اللهَ
رَبَّ الْعالَمِينَ). وقد ذكر بعضهم هاهنا قصة لبعض عباد بني إسرائيل هي
كالمثال لهذا المثل ، لا أنها المرادة وحدها بالمثل ، بل هي منه مع غيرها من
الوقائع المشاكلة لها.
فقال ابن جرير : حدثنا خلاد بن أسلم أخبرنا النضر بن شميل أخبرنا شعبة عن
أبي إسحاق سمعت عبد الله بن نهيك قال : سمعت عليا رضي الله عنه يقول إن راهبا تعبد
ستين سنة ، وإن الشيطان أراده فأعياه فعمد إلى امرأة فأجنها ، ولها إخوة فقال
لإخوتها عليكم بهذا القس فيداويها ، قال فجاؤوا بها إليه فداواها وكانت عنده ،
فبينما هو يوما عندها إذ أعجبته فأتاها فحملت ، فعمد إليها فقتلها فجاء إخوتها ،
فقال الشيطان للراهب : أنا صاحبك إنك أعييتني أنا صنعت هذا بك فأطعني أنجك مما
صنعت بك ، فاسجد لي سجدة ، فسجد له فلما سجد له قال إني بريء منك إني أخاف الله رب
العالمين ، فذلك قوله : (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ
إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ
إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ).
وقال ابن جرير : حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي حدثنا أبي عن أبيه عن
جده عن الأعمش عن عمارة عن عبد الرّحمن بن يزيد عن عبد الله بن مسعود في هذه الآية
(كَمَثَلِ
__________________
الشَّيْطانِ
إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ
إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) قال : كانت امرأة ترعى الغنم وكان لها أربعة إخوة ، وكانت
تأوي بالليل إلى صومعة راهب ، قال فنزل الراهب ففجر بها فحملت ، فأتاه الشيطان
فقال له اقتلها ثم ادفنها فإنك رجل مصدق يسمع قولك ، فقتلها ثم دفنها قال فأتى
الشيطان إخوتها في المنام ، فقال لهم إن الراهب صاحب الصومعة فجر بأختكم ، فلما
أحبلها قتلها ثم دفنها في مكان كذا وكذا ، فلما أصبحوا قال رجل منهم : والله لقد
رأيت البارحة رؤيا ما أدري أقصها عليكم أم أترك؟ قالوا : لا بل قصها علينا.
قال فقصها فقال
الآخر : وأنا والله لقد رأيت ذلك ، فقال الآخر : وأنا والله لقد رأيت ذلك ، فقالوا
: فو الله ما هذا إلا لشيء قال فانطلقوا فاستعدوا ملكهم على ذلك الراهب ، فأتوه
فأنزلوه ثم انطلقوا به فلقيه الشيطان ، فقال إني أنا الذي أوقعتك في هذا ولن ينجيك
منه غيري ، فاسجد لي سجدة واحدة وأنجيك مما أوقعتك فيه ، قال فسجد له ، فلما أتوا
به ملكهم تبرأ منه وأخذ فقتل. وكذا روي عن ابن عباس وطاوس ومقاتل بن حيان نحو ذلك
، واشتهر عند كثير من الناس أن هذا العابد هو برصيصا فالله أعلم.
وهذه القصة مخالفة
لقصة جريج العابد فإن جريجا اتهمته امرأة بغي بنفسها ، وادعت أن حملها منه ورفعت
أمرها إلى ولي الأمر فأمر به فأنزل من صومعته وخربت صومعته وهو يقول ما لكم ما لكم؟
قالوا يا عدو الله فعلت بهذه المرأة كذا وكذا ، فقال جريج اصبروا ثم أخذ ابنها وهو
صغير جدا ، ثم قال يا غلام من أبوك. قال أبي الراعي وكانت قد أمكنته من نفسها
فحملت منه ، فلما رأى بنو إسرائيل ذلك عظموه كلهم تعظيما بليغا وقالوا نعيد صومعتك
من ذهب ، قال لا بل أعيدوها من طين كما كانت.
وقوله تعالى : (فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي
النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها) أي فكان عاقبة الآمر بالكفر والفاعل له ومصيرهما إلى نار
جهنم خالدين فيها (وَذلِكَ جَزاءُ
الظَّالِمِينَ) أي جزاء كل ظالم.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ
وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨) وَلا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (١٩) لا يَسْتَوِي
أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ)
(٢٠)
قال الإمام أحمد :
حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة عن عون بن أبي جحيفة عن المنذر بن جرير عن أبيه
قال : كنا عند رسول الله صلىاللهعليهوسلم في صدر النهار ، قال : فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار
أو العباء متقلدي السيوف ، عامتهم من مضر بل كلهم من مضر ، فتغير وجه رسول الله صلىاللهعليهوسلم لما رأى بهم من الفاقة ، قال : فدخل ثم خرج ، فأمر بلالا
فأذن وأقام الصلاة فصلى ثم خطب فقال : (يا أَيُّهَا النَّاسُ
اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) ـ إلى آخر الآية (إِنَّ اللهَ كانَ
عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء : ١] وقرأ
الآية التي في الحشر (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ
ما قَدَّمَتْ
لِغَدٍ) تصدق رجل من ديناره من درهمه من ثوبه من صاع بره من صاع
تمره ـ حتى قال ـ ولو بشق تمرة» قال : فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز
عنها ، بل قد عجزت ، ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب ، حتى رأيت رسول
الله صلىاللهعليهوسلم يتهلل وجهه كأنه مذهبة ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها
بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها
ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء» انفرد بإخراجه مسلم من حديث شعبة بإسناده مثله ، فقوله
تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) أمر بتقواه وهو يشمل فعل ما به أمر وترك ما عنه زجر.
وقوله تعالى : (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ
لِغَدٍ) أي حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وانظروا ماذا ادخرتم
لأنفسكم من الأعمال الصالحة ليوم معادكم وعرضكم على ربكم (وَاتَّقُوا اللهَ) تأكيد ثان (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ
بِما تَعْمَلُونَ) أي اعلموا أنه عالم بجميع أعمالكم وأحوالكم ، لا تخفى عليه
منكم خافية ولا يغيب من أموركم جليل ولا حقير وقوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا
اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) أي لا تنسوا ذكر الله تعالى : فينسيكم العمل لمصالح أنفسكم
التي تنفعكم في معادكم ، فإن الجزاء من جنس العمل ، ولهذا قال تعالى : (أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) أي الخارجون عن طاعة الله الهالكون يوم القيامة الخاسرون
يوم معادهم ، كما قال تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ
اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) [المنافقون : ٩].
وقال الحافظ أبو
القاسم الطبراني : حدثنا أحمد بن عبد الوهاب بن نجدة الحوطي ، حدثنا المغيرة ،
حدثنا حريز بن عثمان عن نعيم بن نمحة قال : كان في خطبة أبي بكر الصديق رضي الله
عنه : أما تعلمون أنكم تغدون وتروحون لأجل معلوم ، فمن استطاع أن يقضي الأجل وهو
في عمل الله عزوجل فليفعل ، ولن تنالوا ذلك إلا بالله عزوجل ، إن قوما جعلوا آجالهم لغيرهم فنهاكم الله عزوجل أن تكونوا أمثالهم (وَلا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) أين من تعرفون من إخوانكم؟ قدموا على ما قدموا في أيام
سلفهم وخلوا بالشقوة والسعادة ، وأين الجبارون الأولون الذين بنوا المدائن وحصنوها
بالحوائط؟ قد صاروا تحت الصخر والآبار ، هذا كتاب الله لا تفنى عجائبه فاستضيئوا
منه ليوم ظلمة ، واستنصحوا بكتابه وتبيانه ، إن الله تعالى أثنى على زكريا وأهل
بيته فقال تعالى : (إِنَّهُمْ كانُوا
يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا
خاشِعِينَ) [الأنبياء : ٩٠]
لا خير في قول لا يراد به وجه الله ولا خير في مال لا ينفق في سبيل الله ، ولا خير
فيمن يغلب جهله حلمه ، ولا خير فيمن يخاف في الله لومة
__________________
لائم. هذا إسناد
جيد ورجاله كلهم ثقات ، وشيخ حريز بن عثمان وهو نعيم بن نمحة لا أعرفه بنفي ولا
إثبات ، غير أن أبا داود السجستاني قد حكم بأن شيوخ حريز كلهم ثقات ، وقد روي لهذه
الخطبة شواهد من وجوه أخر والله أعلم.
وقوله تعالى : (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ
وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ) أي لا يستوي هؤلاء وهؤلاء في حكم الله تعالى يوم القيامة ،
كما قال تعالى : (أَمْ حَسِبَ
الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ) [الجاثية : ٢١]
وقال تعالى : (وَما يَسْتَوِي
الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا
الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ) [غافر : ٥٨] وقال
تعالى : (أَمْ نَجْعَلُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ
نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) [ص : ٢٨]. في آيات
أخر دالات على أن الله تعالى يكرم الأبرار ويهين الفجار ، ولهذا قال تعالى هاهنا :
(أَصْحابُ الْجَنَّةِ
هُمُ الْفائِزُونَ) أي الناجون المسلمون من عذاب الله عزوجل.
(لَوْ أَنْزَلْنا هذَا
الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ
وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٢١)
هُوَ
اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ
الرَّحِيمُ (٢٢) هُوَ اللهُ الَّذِي
لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ
الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٢٣) هُوَ اللهُ
الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما
فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)
(٢٤)
يقول تعالى معظما
لأمر القرآن ومبينا علو قدره ، وأنه ينبغي أن تخشع له القلوب وتتصدع عند سماعه ،
لما فيه من الوعد الحق والوعيد الأكيد (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا
الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) أي فإذا كان الجبل في غلظته وقساوته لو فهم هذا القرآن
فتدبر ما فيه لخشع وتصدع من خوف الله عزوجل ، فكيف يليق بكم أيها البشر أن لا تلين قلوبكم وتخشع
وتتصدع من خشية الله ، وقد فهمتم عن الله أمره وتدبرتم كتابه ، ولهذا قال تعالى : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها
لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) قال العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى
جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً) إلى آخرها يقول لو أني أنزلت هذا القرآن على جبل حملته
إياه لتصدع وخشع من ثقله ومن خشية الله ، فأمر الله الناس إذا نزل عليهم القرآن أن
يأخذوه بالخشية الشديدة والتخشع ، ثم قال تعالى : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ
نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) وكذا قال قتادة وابن جرير.
وقد ثبت في الحديث
المتواتر أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم لما عمل له المنبر ، وقد كان يوم الخطبة يقف إلى جانب جذع
من جذوع المسجد ، فلما وضع المنبر أول ما وضع وجاء النبي صلىاللهعليهوسلم ليخطب فجاوز الجذع إلى نحو المنبر ، فعند ذلك حن الجذع
وجعل يئن كما يئن الصبي الذي
يسكنّ لما كان
يسمع من الذكر والوحي عنده ، ففي بعض روايات هذا الحديث قال الحسن البصري بعد
إيراده : فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم من الجذع وهكذا هذه الآية الكريمة إذا كانت الجبال الصم لو
سمعت كلام الله وفهمته لخشعت وتصدعت من خشيته ، فكيف بكم وقد سمعتم وفهمتم؟ وقد
قال تعالى : (وَلَوْ أَنَّ
قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ
بِهِ الْمَوْتى) [الرعد : ٣١]
الآية. وقد تقدم أن معنى ذلك أي لكان هذا القرآن ، وقد قال تعالى : (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما
يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ
الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) [البقرة : ٧٤].
ثم قال تعالى : (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا
هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) أخبر تعالى أنه الذي لا إله إلا هو فلا رب غيره ولا إله
للوجود سواه ، وكل ما يعبد من دونه فباطل ، وأنه عالم الغيب والشهادة أي يعلم جميع
الكائنات المشاهدات لنا والغائبات عنا ، فلا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء
من جليل وحقير وصغير وكبير حتى الذر في الظلمات.
وقوله تعالى : (هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) قد تقدم الكلام على ذلك في أول التفسير بما أغنى عن إعادته
هاهنا ، والمراد أنه ذو الرحمة الواسعة الشاملة لجميع المخلوقات ، فهو رحمن الدنيا
والآخرة ورحيمهما ، وقد قال تعالى : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ
كُلَّ شَيْءٍ) [الأعراف : ١٥٦]
وقال تعالى : (كَتَبَ رَبُّكُمْ
عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) [الأنعام : ٥٤]
وقال تعالى : (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ
وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس : ٥٨] ثم
قال تعالى : (هُوَ اللهُ الَّذِي
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ) أي المالك لجميع الأشياء المتصرف فيها بلا ممانعة ولا
مدافعة. وقوله تعالى : (الْقُدُّوسُ) قال وهب بن منبه أي الطاهر. وقال مجاهد وقتادة أي المبارك
وقال ابن جريج تقدسه الملائكة الكرام (السَّلامُ) أي من جميع العيوب والنقائص لكماله في ذاته وصفاته
وأفعاله.
وقوله تعالى : (الْمُؤْمِنُ) قال الضحاك عن ابن عباس : أي أمن خلقه من أن يظلمهم. وقال
قتادة : أمن بقوله أنه حق. وقال ابن زيد : صدق عباده المؤمنين في إيمانهم به.
وقوله تعالى : (الْمُهَيْمِنُ) قال ابن عباس وغير واحد : أي الشاهد على خلقه بأعمالهم
بمعنى هو رقيب عليهم كقوله (وَاللهُ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ شَهِيدٌ) [البروج : ٩]
وقوله (ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ
عَلى ما يَفْعَلُونَ) [يونس : ٤٦] وقوله
(أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ
عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) [الرعد : ٣٣]
الآية.
وقوله تعالى : (الْعَزِيزُ) أي الذي قد عز كل شيء فقهره وغلب الأشياء فلا ينال جنابه
لعزته وعظمته وجبروته وكبريائه ، ولهذا قال تعالى : (الْجَبَّارُ
الْمُتَكَبِّرُ) أي الذي لا تليق الجبرية إلا له ولا التكبر إلا لعظمته ،
كما تقدم في الصحيح «العظمة إزاري والكبرياء ردائي فمن نازعني واحدا منهما عذبته» وقال قتادة : الجبار الذي جبر خلقه على ما يشاء. وقال ابن
__________________
جرير : الجبار
المصلح أمور خلقه المتصرف فيهم بما فيه صلاحهم. وقال قتادة : المتكبر يعني عن كل
سوء ثم قال تعالى : (سُبْحانَ اللهِ
عَمَّا يُشْرِكُونَ) وقوله تعالى : (هُوَ اللهُ الْخالِقُ
الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ) الخلق التقدير والبرء هو الفري ، وهو التنفيذ وإبراز ما
قدره وقرره إلى الوجود وليس كل من قدر شيئا ورتبه يقدر على تنفيذه وإيجاده سوى
الله عزوجل. قال الشاعر يمدح آخر : [الكامل]
ولأنت تفري ما
خلقت وبعض
|
|
القوم يخلق ثم
لا يفري
|
أي أنت تنفذ ما
خلقت أي قدرت ، بخلاف غيرك فإنه لا يستطيع ما يريد ، فالخلق التقدير والفري
التنفيذ ، ومنه يقال قدر الجلاد ثم فرى أي قطع على ما قدره بحسب ما يريده. وقوله
تعالى : (الْخالِقُ الْبارِئُ
الْمُصَوِّرُ) أي الذي إذا أراد شيئا قال له كن فيكون على الصفة التي
يريد ، والصورة التي يختار كقوله تعالى : (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما
شاءَ رَكَّبَكَ) ولهذا قال (الْمُصَوِّرُ) أي الذي ينفذ ما يريد إيجاده على الصفة التي يريدها.
وقوله تعالى : (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) قد تقدم الكلام على ذلك في سورة الأعراف. ونذكر الحديث
المروي في الصحيحين عن أبي هريرة عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم «إن لله تعالى
تسعة وتسعين اسما ، مائة إلا واحدا ، من أحصاها دخل الجنة وهو وتر يحب الوتر» وتقدم سياق الترمذي وابن ماجة له عن أبي هريرة أيضا وزاد
بعد قوله : «وهو وتر يحب الوتر». واللفظ للترمذي : «هو الله الذي لا إله إلا هو
الرّحمن ، الرّحيم ، الملك ، القدوس ، السّلام ، المؤمن ، المهيمن ، العزيز ،
الجبار ، المتكبر ، الخالق ، البارئ ، المصور ، الغفار ، القهار ، الوهاب ، الرزاق
، الفتاح ، العليم ، القابض الباسط ، الخافض ، الرافع ، المعز ، المذل ، السميع ،
البصير ، الحكم ، العدل ، اللطيف ، الخبير ، الحليم ، العظيم ، الغفور ، الشكور ،
العلي ، الكبير ، الحفيظ ، المقيت ، الحسيب ، الجليل ، الكريم ، الرقيب ، المجيب ،
الواسع ، الحكيم ، الودود ، المجيد ، الباعث ، الشهيد ، الحق ، الوكيل ، القوي ،
المتين ، الولي ، الحميد ، المحصي ، المبدئ ، المعيد ، المحيي ، المميت ، الحي ،
القيوم ، الواجد ، الماجد ، الواحد ، الصمد ، القادر ، المقتدر ، المقدم ، المؤخر
، الأول ، الآخر ، الظاهر ، الباطن ، الوالي ، المتعالي ، البر ، التواب ، المنتقم
، العفو ، الرؤوف ، مالك الملك ، ذو الجلال والإكرام ، المقسط الجامع ، الغني ،
المغني ، المعطي ، المانع ، الضار ، النافع ، النور ، الهادي ، البديع ،
__________________
الباقي ، الوارث ،
الرشيد ، الصبور». وسياق ابن ماجة بزيادة ونقصان وتقديم وتأخير وقد قدمنا ذلك
مبسوطا مطولا بطرقه وألفاظه بما أغنى عن إعادته هاهنا.
وقوله تعالى : (يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) كقوله تعالى : (تُسَبِّحُ لَهُ
السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا
يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً
غَفُوراً) [الإسراء : ٤٤]
وقوله تعالى : (وَهُوَ الْعَزِيزُ) أي فلا يرام جنابه (الْحَكِيمُ) في شرعه وقدره ، وقد قال الإمام أحمد : حدثنا أبو أحمد الزبيري حدثنا خالد يعني ابن طهمان أبو
العلاء الخفاف حدثنا نافع بن أبي نافع ، عن معقل بن يسار عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «من قال حين يصبح ثلاث مرات أعوذ بالله السميع
العليم من الشيطان الرجيم ، ثم قرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر وكل الله به سبعين
ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي ، وإن مات في ذلك اليوم مات شهيدا ، ومن قالها حين
يمسي كان بتلك المنزلة» ورواه الترمذي عن محمود بن غيلان عن أبي أحمد الزبيري به. وقال غريب لا
نعرفه إلا من هذا الوجه. آخر تفسير سورة الحشر ، ولله الحمد والمنة.
__________________
تفسير سورة الممتحنة
وهي مدنية
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ
إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ
الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ
بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ
يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ
يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ
بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (٢) لَنْ تَنْفَعَكُمْ
أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ
بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)
(٣)
كان سبب نزول صدر
هذه السورة الكريمة قصة حاطب بن أبي بلتعة ، وذلك أن حاطبا هذا كان رجلا من
المهاجرين ، وكان من أهل بدر أيضا ، وكان له بمكة أولاد ومال ولم يكن من قريش
أنفسهم ، بل كان حليفا لعثمان ، فلما عزم رسول الله صلىاللهعليهوسلم على فتح مكة لما نقض أهلها العهد ، فأمر النبي صلىاللهعليهوسلم المسلمين بالتجهيز لغزوهم وقال «اللهم عم عليهم خبرنا»
فعمد حاطب هذا فكتب كتابا وبعثه مع امرأة من قريش إلى أهل مكة ، يعلمهم بما عزم
عليه رسول اللهصلىاللهعليهوسلم من غزوهم ، ليتخذ بذلك عندهم يدا فأطلع الله تعالى على ذلك
رسول الله صلىاللهعليهوسلم استجابة لدعائه ، فبعث في أثر المرأة فأخذ الكتاب منها ،
وهذا بين في هذا الحديث المتفق على صحته.
قال الإمام أحمد : حدثنا سفيان عن عمرو ، أخبرني حسن بن محمد بن علي ،
أخبرني عبيد الله بن أبي رافع وقال مرة إن عبيد الله بن أبي رافع أخبره أنه سمع
عليا رضي الله عنه يقول : بعثني رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنا والزبير والمقداد فقال «انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها ، فانطلقنا تعادى بنا
خيلنا حتى أتينا الروضة ، فإذا نحن بالظعينة قلنا أخرجي الكتاب ، قالت : ما معي كتاب ، قلنا لتخرجن
الكتاب أو لنلقين الثياب ، قال : فأخرجت الكتاب من عقاصها ، فأخذنا الكتاب فأتينا به رسول الله صلىاللهعليهوسلم فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين بمكة
، يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم ،
__________________
فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «يا حاطب ما هذا؟»
قال : لا تعجل علي إني كنت امرأ ملصقا في قريش ولم أكن من أنفسهم ، وكان من كان
معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم بمكة ، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب
فيهم ، أن أتخذ فيهم يدا يحمون بها قرابتي ، وما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن
ديني ولا رضا بالكفر بعد الإسلام ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إنه صدقكم».
فقال عمر : دعني
أضرب عنق هذا المنافق ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إنه قد شهد بدرا وما يدريك لعل الله اطلع إلى أهل بدر ،
فقال : «اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» وهكذا أخرجه الجماعة إلا ابن ماجة من غير وجه عن سفيان بن
عيينة به ، وزاد البخاري في كتاب المغازي : فأنزل الله السورة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ) وقال في كتاب التفسير : قال عمرو ونزلت فيه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ) وقال لا أدري الآية في الحديث أو قال عمرو. قال البخاري
قال علي يعني ابن المديني قيل لسفيان في هذا نزلت (لا تَتَّخِذُوا
عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ) فقال سفيان : هذا في حديث الناس حفظته من عمرو ، ما تركت
منه حرفا ولا أدري أحدا حفظه غيري.
وقد أخرجاه في
الصحيحين من حديث حصين بن عبد الرّحمن عن سعد بن عبيدة ، عن أبي عبد الرّحمن
السلمي عن علي قال : بعثني رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأبا مرثد والزبير بن العوام وكلنا فارس ، وقال انطلقوا
حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها امرأة من المشركين معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى
المشركين ، فأدركناها تسير على بعير لها حيث قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقلنا : الكتاب؟ فقالت : ما معي كتاب ، فأنخناها فالتمسنا
فلم نر كتابا ، فقلنا ما كذب رسول اللهصلىاللهعليهوسلم لتخرجن الكتاب أو لنجردنك فلما رأت الجد أهوت إلى حجزتها
وهي محتجزة بكساء فأخرجته ، فانطلقنا بها إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال عمر : يا رسول الله قد خان الله ورسوله والمؤمنين
فدعني فلأضرب عنقه فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «ما حملك على ما صنعت؟» قال حاطب : والله ما بي إلا أن
أكون مؤمنا بالله ورسوله صلىاللهعليهوسلم ، أردت أن تكون لي عند القوم يد يدفع الله بها عن أهلي
ومالي وليس أحد من أصحابك إلا له هنالك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله وماله ،
فقال : «صدق لا تقولوا له إلا خيرا».
فقال عمر : إنه قد
خان الله ورسوله والمؤمنين فدعني فلأضرب عنقه ، فقال : «أليس من أهل بدر؟ ـ فقال ـ
لعل الله قد اطلع إلى أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة ـ أو قد
غفرت لكم ـ» فدمعت عينا عمر وقال : الله ورسوله أعلم ، هذا لفظ البخاري في المغازي
في غزوة بدر ، وقد روي من وجه آخر عن علي قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن
__________________
الحسن الهسنجاني ،
حدثنا عبيد بن يعيش ، حدثنا إسحاق بن سليمان الرازي عن أبي سنان هو سعيد بن سنان
عن عمرو بن مرة الجملي عن أبي البختري الطائي ، عن الحارث عن علي قال : لما ذا
أراد النبي صلىاللهعليهوسلم أن يأتي مكة أسر إلى أناس من أصحابه أنه يريد مكة منهم
حاطب بن أبي بلتعة ، وأفشى في الناس أنه يريد خيبر ، قال : فكتب حاطب بن أبي بلتعة
إلى أهل مكة أن رسول اللهصلىاللهعليهوسلم يريدكم ، فأخبر رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، قال فبعثني رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأبا مرثد وليس منا رجل إلا وعنده فرس فقال : «ائتوا روضة
خاخ فإنكم ستلقون بها امرأة معها كتاب فخذوه منها».
فانطلقنا حتى
رأيناها بالمكان الذي ذكر رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقلنا لها هات الكتاب فقالت ما معي كتاب ، فوضعنا متاعها
وفتشناها فلم نجده في متاعها ، فقال أبو مرثد لعله أن لا يكون معها ، فقلت ما كذب
رسول الله صلىاللهعليهوسلم ولا كذبنا فقلنا لها لتخرجنه أو لنعرينك. فقالت أما تتقون
الله!ألستم مسلمين! فقلنا لتخرجنه أو لنعرينك. قال عمرو بن مرة. فأخرجته من
حجزتها. وقال حبيب بن أبي ثابت : أخرجته من قبلها ، فأتينا به رسول الله صلىاللهعليهوسلم فإذا الكتاب من حاطب بن أبي بلتعة ، فقام عمر فقال يا رسول
الله خان الله ورسوله فائذن لي فلأضرب عنقه ، فقال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم : «أليس قد شهد بدرا؟ قالوا : بلى ، وقال عمر : بلى ولكنه
قد نكث وظاهر أعداءك عليك ، فقال يا رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «فلعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم إني
بما تعملون بصير» ففاضت عينا عمر وقال : الله ورسوله أعلم فأرسل رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى حاطب فقال : «يا حاطب ما حملك على ما صنعت؟» فقال : يا
رسول الله إني كنت امرأ ملصقا في قريش ، وكان لي بها مال وأهل ولم يكن من أصحابك
أحد إلا وله بمكة من يمنع أهله وماله ، فكتبت بذلك إليهم والله يا رسول الله إني
لمؤمن بالله ورسوله ، فقال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم : «صدق حاطب فلا تقولوا لحاطب إلا خيرا» قال حبيب بن أبي
ثابت : فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ
إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) الآية. وهكذا رواه ابن جرير عن ابن حميد عن مهران ، عن أبي سنان سعيد بن سنان بإسناده
مثله.
وقد ذكر ذلك أصحاب
المغازي والسير فقال محمد بن إسحاق بن يسار في السيرة : حدثني محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير وغيره
من علمائنا قال : لما أجمع رسول اللهصلىاللهعليهوسلم المسير إلى مكة ، كتب حاطب بن أبي بلتعة كتابا إلى قريش
يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله صلىاللهعليهوسلم من الأمر في السير إليهم ثم أعطاه امرأة ، زعم محمد بن
جعفر أنها من مزينة ، وزعم غيره أنها سارة مولاة لبني عبد المطلب وجعل لها جعلا
على أن تبلغه لقريش ، فجعلته في رأسها ثم فتلت عليه قرونها ، ثم خرجت به ، وأتى
رسول الله صلىاللهعليهوسلم الخبر من السماء
__________________
بما صنع حاطب ،
فبعث علي بن أبي طالب والزبير بن العوام فقال : «أدركا امرأة قد كتب معها حاطب
كتابا إلى قريش يحذرهم ما قد أجمعنا له من أمرهم».
فخرجا حتى أدركاها
بالخليفة ، خليفة بني أبي أحمد ، فاستنزلاها بالحليفة فالتمسا في رحلها فلم يجدا
شيئا ، فقال لها علي بن أبي طالب : إني أحلف بالله ما كذب رسول الله وما كذبنا ،
ولتخرجن لنا هذا الكتاب أو لنكشفنك. فلما رأت الجد منه قالت : أعرض ، فأعرض فحلت
قرون رأسها فاستخرجت الكتاب منها فدفعته إليه ، فأتى به رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فدعا رسول اللهصلىاللهعليهوسلم حاطبا فقال : «يا حاطب ما حملك على هذا؟ فقال : يا رسول
الله أما والله إني لمؤمن بالله وبرسوله ما غيرت ولا بدلت ولكني كنت امرأ ليس لي
في القوم من أهل ولا عشيرة ، وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل فصانعتهم عليهم ، فقال
عمر بن الخطاب : يا رسول الله دعني فلأضرب عنقه فإن الرجل قد نافق ، فقال رسول
الله صلىاللهعليهوسلم : «وما يدريك يا عمر؟ لعل الله قد اطلع إلى أصحاب بدر يوم
بدر فقال «اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم».
فأنزل الله عزوجل في حاطب (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ
إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) ـ إلى قوله ـ (قَدْ كانَتْ لَكُمْ
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ
إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ
وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى
تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ) إلى آخر القصة.
وروى معمر عن
الزهري عن عروة نحو ذلك ، وهكذا ذكر مقاتل بن حيان أن هذه الآيات نزلت في حاطب بن
أبي بلتعة أنه بعث سارة مولاة بني هاشم ، وأنه أعطاها عشرة دراهم ، وأن رسول الله صلىاللهعليهوسلم بعث في أثرها عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله
عنهما فأدركاها بالجحفة وذكر تمام القصة كنحو ما تقدم ، وعن السدي قريبا منه ،
وهكذا قال العوفي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وغير واحد أن هذه الآيات نزلت في حاطب
بن أبي بلتعة.
فقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ
بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِ) يعني المشركين والكفار الذين هم محاربون لله ولرسوله
وللمؤمنين الذين شرع الله عداوتهم ومصارمتهم ونهى أن يتخذوا أولياء وأصدقاء وأخلاء
كما قال تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ
أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) [المائدة : ٥١]
وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد وقال تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً
وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ
أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [المائدة : ٥٧]
وقال تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ
الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً
مُبِيناً)؟ [النساء : ١٤٤]
وقال تعالى : (لا يَتَّخِذِ
الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ
يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ
تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) [آل عمران : ٢٨]
ولهذا قبل رسول الله صلىاللهعليهوسلم عذر حاطب ، لما
ذكر أنه إنما فعل
ذلك مصانعة لقريش لأجل ما كان له عندهم من الأموال والأولاد.
ويذكر هاهنا
الحديث الذي رواه الإمام أحمد : حدثنا مصعب بن سلام ، حدثنا الأجلح عن قيس بن أبي مسلم
عن ربعي بن خراش سمعت حذيفة يقول : ضرب لنا رسول اللهصلىاللهعليهوسلم أمثالا واحدا وثلاثة وخمسة وسبعة وتسعة وأحد عشر ، قال
فضرب لنا منها مثلا وترك سائرها قال : «إن قوما كانوا أهل ضعف ومسكنة قاتلهم أهل
تجبر وعداء فأظهر الله أهل الضعف عليهم فعمدوا إلى عدوهم فاستعملوهم وسلطوهم ،
فأسخطوا الله عليهم إلى يوم يلقونه» وقوله تعالى : (يُخْرِجُونَ
الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ) هذا مع ما قبله من التهييج على عداوتهم وعدم موالاتهم
لأنهم أخرجوا الرسول وأصحابه من بين أظهرهم كراهة لما هم عليه من التوحيد وإخلاص
العبادة لله وحده ، ولهذا قال تعالى : (أَنْ تُؤْمِنُوا
بِاللهِ رَبِّكُمْ) أي لم يكن لكم عندهم ذنب إلا إيمانكم بالله رب العالمين
كقوله تعالى : (وَما نَقَمُوا
مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) [البروج : ٨] وكقوله تعالى : (الَّذِينَ أُخْرِجُوا
مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ) [الحج : ٤٠].
وقوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي
سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي) أي إن كنتم كذلك فلا تتخذوهم أولياء ، إن كنتم خرجتم
مجاهدين في سبيلي باغين لمرضاتي عنكم ، فلا توالوا أعدائي وأعداءكم وقد أخرجوكم من
دياركم وأموالكم حنقا عليكم وسخطا لدينكم. وقوله تعالى : (تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ
وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ) أي تفعلون ذلك وأنا العالم بالسرائر والضمائر والظواهر (وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ
ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً
وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ) أي لو قدروا عليكم لما اتقوا فيكم من أذى ينالونكم به
بالمقال والفعال (وَوَدُّوا لَوْ
تَكْفُرُونَ) أي ويحرصون على أن لا تنالوا خيرا فهم عداوتهم لكم كامنة
وظاهرة فكيف توالون مثل هؤلاء؟ وهذا تهييج على عداوتهم أيضا.
وقوله تعالى : (لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا
أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ
بَصِيرٌ) أي قراباتكم لا تنفعكم عند الله إذا أراد الله بكم سوءا ،
ونفعهم لا يصل إليكم إذا أرضيتموهم بما يسخط الله ، ومن وافق أهله على الكفر
ليرضيهم فقد خاب وخسر وضل عمله ولا ينفعه عند الله قرابته من أحد ، ولو كان قريبا
إلى نبي من الأنبياء. قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا حماد عن ثابت عن أنس أن رجلا قال :
يا رسول الله أين أبي؟ قال «في النار» فلما قفّى دعاه فقال «إن أبي وأباك في النار»
ورواه مسلم وأبو داود من حديث حماد بن سلمة به.
__________________
(قَدْ كانَتْ لَكُمْ
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ
إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ
وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى
تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ
لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا
وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٤) رَبَّنا لا
تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٥) لَقَدْ كانَ لَكُمْ
فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ
وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)
(٦)
يقول تعالى لعباده
المؤمنين الذين أمرهم بمصارمة الكافرين وعداوتهم ومجانبتهم والتبري منهم : (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ
فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ) أي وأتباعه الذين آمنوا معه (إِذْ قالُوا
لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ) أي تبرأنا منكم (وَمِمَّا تَعْبُدُونَ
مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ) أي بدينكم وطريقكم (وَبَدا بَيْنَنا
وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً) يعني وقد شرعت العداوة والبغضاء من الآن بيننا وبينكم ، ما
دمتم على كفركم فنحن أبدا نتبرأ منكم ونبغضكم (حَتَّى تُؤْمِنُوا
بِاللهِ وَحْدَهُ) أي إلى أن توحدوا الله فتعبدوه وحده لا شريك له وتخلعوا ما
تعبدون معه من الأوثان والأنداد.
وقوله تعالى : (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ
لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) أي لكم في إبراهيم وقومه أسوة حسنة تتأسون بها إلا في
استغفار إبراهيم لأبيه ، فإنه إنما كان عن موعدة وعدها إياه ، فلما تبين له أنه
عدو لله تبرأ منه ، وذلك أن بعض المؤمنين كانوا يدعون لآبائهم الذين ماتوا على
الشرك ويستغفرون لهم ويقولون إن إبراهيم كان يستغفر لأبيه ، فأنزل الله عزوجل (ما كانَ لِلنَّبِيِّ
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي
قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ وَما كانَ
اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ
فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ
إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) [التوبة : ١١٣ ـ ١١٤].
وقال تعالى في هذه
الآية : (قَدْ كانَتْ لَكُمْ
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ
إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ) ـ إلى قوله ـ (إِلَّا قَوْلَ
إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ
شَيْءٍ) أي ليس لكم في ذلك أسوة أي في الاستغفار للمشركين هكذا قال
ابن عباس ومجاهد وقتادة ومقاتل بن حيان والضحاك وغير واحد.
ثم قال تعالى
مخبرا عن قول إبراهيم والذين معه حين فارقوا قومهم وتبرؤوا منهم ، فلجؤوا إلى الله
وتضرعوا إليه فقالوا (رَبَّنا عَلَيْكَ
تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) أي توكلنا عليك في جميع الأمور وسلمنا أمورنا إليك
وفوضناها إليك وإليك المصير أي المعاد في الدار الآخرة (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً
لِلَّذِينَ كَفَرُوا) قال مجاهد : معناه لا تعذبنا بأيديهم ولا بعذاب من عندك
فيقولوا : لو كان هؤلاء على حق ما أصابهم هذا ، وكذا قال الضحاك ، وقال قتادة : لا
تظهرهم علينا فيفتنونا بذلك يرون أنهم إنما ظهروا علينا لحق هم عليه ، واختاره ابن
جرير ، وقال
علي بن أبي طلحة
عن ابن عباس : لا تسلطهم علينا فيفتنونا.
وقوله تعالى : (وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي واستر ذنوبنا عن غيرك واعف عنها فيما بيننا وبينك (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) أي الذي لا يضام من لاذ بجنابك (الْحَكِيمُ) في أقوالك وأفعالك وشرعك وقدرك ثم قال تعالى : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ
حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) [الأحزاب : ٢١]
وهذا تأكيد لما تقدم ومستثنى منه ما تقدم أيضا لأن هذه الأسوة المثبتة هاهنا هي
الأولى بعينها ، وقوله تعالى : (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا
اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) تهييج إلى ذلك لكل مؤمن بالله والمعاد.
وقوله تعالى : (وَمَنْ يَتَوَلَ) أي عما أمر الله به (فَإِنَّ اللهَ هُوَ
الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) كقوله تعالى : (إِنْ تَكْفُرُوا
أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) [إبراهيم : ٨]
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : الغني الذي قد كمل في غناه وهو الله ، هذه
صفته لا تنبغي إلا له ليس له كفء وليس كمثله شيء سبحان الله الواحد القهار الحميد
المستحمد إلى خلقه أي هو المحمود في جميع أقواله وأفعاله لا إله غيره ولا رب سواه.
(عَسَى اللهُ أَنْ
يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللهُ
قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ(٧) لا يَنْهاكُمُ اللهُ
عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ
دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ
الْمُقْسِطِينَ (٨) إِنَّما يَنْهاكُمُ
اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ
وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ
هُمُ الظَّالِمُونَ)(٩)
يقول تعالى لعباده
المؤمنين بعد أن أمرهم بعداوة الكافرين (عَسَى اللهُ أَنْ
يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً) أي محبة بعد البغضة ومودة بعد النفرة وألفة بعد الفرقة (وَاللهُ قَدِيرٌ) أي على ما يشاء من الجمع بين الأشياء المتنافرة والمتباينة
والمختلفة فيؤلف بين القلوب بعد العداوة والقساوة فتصبح مجتمعة متفقة ، كما قال
تعالى ممتنا على الأنصار (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ
اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ
فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ
النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها) [آل عمران : ١٠٣]
الآية.
وكذا قال لهم
النبي صلىاللهعليهوسلم : «ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي وكنتم متفرقين فألفكم
الله بي؟» وقال الله تعالى : (هُوَ الَّذِي
أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ
أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ
اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [الأنفال : ٦٣]
وفي الحديث «أحبب حبيبك هونا ما فعسى أن يكون بغيضك يوما ما ، وأبغض بغيضك هونا ما
فعسى أن يكون حبيبك يوما ما»
__________________
وقال الشاعر : [الطويل]
وقد يجمع الله
الشتيتين بعد ما
|
|
يظنّان كل الظنّ
أن لا تلاقيا
|
وقوله تعالى : (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي يغفر للكافرين كفرهم إذا تابوا منه وأنابوا إلى ربهم
وأسلموا له ، وهو الغفور الرّحيم بكل من تاب إليه من أي ذنب كان.
وقد قال مقاتل بن
حيان : إن هذه الآية نزلت في أبي سفيان صخر بن حرب ، فإن رسول الله صلىاللهعليهوسلم تزوج ابنته ، فكانت هذه مودة ما بينه وبينه ، وفي هذا الذي
قاله مقاتل نظر ، فإن رسول الله صلىاللهعليهوسلم تزوج بأم حبيبة بنت أبي سفيان قبل الفتح ، وأبو سفيان إنما
أسلم ليلة الفتح بلا خلاف ، وأحسن من هذا ما رواه ابن أبي حاتم حيث قال : قرئ على
محمد بن عزيز ، حدثني سلامة ، حدثني عقيل ، حدثني ابن شهاب أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم استعمل أبا سفيان صخر بن حرب على بعض اليمن ، فلما قبض
رسول الله صلىاللهعليهوسلم أقبل فلقي ذا الخمار مرتدا فقاتله ، فكان أول من قاتل في
الردة وجاهد عن الدين ، قال ابن شهاب : وهو ممن أنزل الله فيه (عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ
وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ
غَفُورٌ رَحِيمٌ) الآية. وفي صحيح مسلم عن ابن عباس أن أبا سفيان قال : يا رسول الله ثلاث أعطنيهن
قال : «نعم» قال : تأمرني أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين ، قال : «نعم» قال
: ومعاوية تجعله كاتبا بين يديك ، قال : «نعم» قال : وعندي أحسن العرب وأجمله أم
حبيبة بنت أبي سفيان أزوجكها ـ الحديث ـ وقد تقدم الكلام عليه.
وقوله تعالى : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ
لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) أي يعاونوا على إخراجكم أي لا ينهاكم عن الإحسان إلى
الكفرة الذين لا يقاتلونكم في الدين كالنساء والضعفة منهم (أَنْ تَبَرُّوهُمْ) أي تحسنوا إليهم (وَتُقْسِطُوا
إِلَيْهِمْ) أي تعدلوا (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ
الْمُقْسِطِينَ).
قال الإمام أحمد :
حدثنا أبو معاوية حدثنا هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر عن أسماء بنت أبي بكر
رضي الله عنهما قالت : قدمت أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا ، فأتيت النبي صلىاللهعليهوسلم فقلت يا رسول الله إن أمي قدمت وهي راغبة أفأصلها؟ قال : «نعم
صلي أمك» أخرجاه.
__________________
وقال الإمام أحمد : حدثنا عارم ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، حدثنا مصعب بن
ثابت ، حدثنا عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال : قدمت قتيلة على ابنتها
أسماء بنت أبي بكر بهدايا صناب وأقط وسمن وهي مشركة ، فأبت أسماء أن تقبل هديتها
وأن تدخلها بيتها. فسألت عائشة النبي صلىاللهعليهوسلم ، فأنزل الله تعالى : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ
عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ) إلى آخر الآية. فأمرها أن تقبل هديتها وأن تدخلها بيتها.
وهكذا رواه ابن
جرير وابن أبي حاتم من حديث مصعب بن ثابت به ، وفي رواية لأحمد ولابن جرير قتيلة
بنت عبد العزى بن عبد أسعد من بني مالك بن حسل ، وزاد ابن أبي حاتم في المدة التي
كانت بين قريش ورسول الله صلىاللهعليهوسلم.
وقال أبو بكر أحمد
بن عمرو بن عبد الخالق البزار : حدثنا عبد الله بن شبيب حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة
حدثنا أبو قتادة العدوي عن ابن أخي الزهري عن الزهري عن عروة عن عائشة وأسماء
أنهما قالتا : قدمت علينا أمنا المدينة وهي مشركة في الهدنة التي كانت بين رسول
اللهصلىاللهعليهوسلم وبين قريش فقلنا يا رسول الله إن أمنا قدمت علينا المدينة
وهي راغبة أفنصلها؟ قال : «نعم فصلاها؟» ثم قال : وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن
الزهري عن عروة عن عائشة إلا من هذا الوجه.
(قلت) : وهو منكر
بهذا السياق لأن أم عائشة هي أم رومان وكانت مسلمة مهاجرة وأم أسماء غيرها كما هو
مصرح باسمها في هذه الأحاديث المتقدمة والله أعلم. وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) قد تقدم تفسير ذلك في سورة الحجرات وأورد الحديث الصحيح «المقسطون
على منابر من نور عن يمين العرش ، الذين يعدلون في حكمهم وأهاليهم وما ولوا» .
وقوله تعالى : (إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ
الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا
عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ) أي إنما ينهاكم عن موالاة هؤلاء الذين ناصبوكم بالعداوة
فقاتلوكم وأخرجوكم وعاونوا على إخراجكم ينهاكم الله عزوجل عن موالاتهم ويأمركم بمعاداتهم ، ثم أكد الوعيد على
موالاتهم فقال : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ
فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ
أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ
لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [المائدة : ٥١].
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ
اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا
تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ
لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ
إِذا
__________________
آتَيْتُمُوهُنَّ
أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ
وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ
عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠) وَإِنْ فاتَكُمْ
شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ
ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ
بِهِ مُؤْمِنُونَ)(١١)
تقدم في سورة
الفتح في ذكر صلح الحديبية الذي وقع بين رسول الله صلىاللهعليهوسلم وبين كفار قريش فكان فيه : على أن لا يأتيك منا رجل وإن
كان على دينك إلا رددته إلينا ، وفي رواية : على أنه لا يأتيك منا أحد وإن كان على
دينك إلا رددته إلينا ، وهذا قول عروة والضحاك وعبد الرّحمن بن زيد والزهري ومقاتل
بن حيان والسدي ، فعلى هذه الرواية تكون هذه الآية مخصصة للسنة ، وهذا من أحسن
أمثلة ذلك وعلى طريقة بعض السلف ناسخة ، فإن الله عزوجل أمر عباده المؤمنين إذا جاءهم النساء مهاجرات أن يمتحنوهن
، فإن علموهن مؤمنات فلا يرجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن.
وقد ذكرنا في ترجمة
عبد الله بن أبي أحمد بن جحش من المسند الكبير من طريق أبي بكر بن أبي عاصم عن
محمد بن يحيى الذهلي عن يعقوب بن محمد عن عبد العزيز بن عمران عن مجمع بن يعقوب عن
حنين بن أبي لبانة عن عبد الله بن أبي أحمد قال : هاجرت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي
معيط في الهجرة فخرج أخواها عمارة والوليد حتى قدما على رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فكلماه فيها أن يردها إليهما فنقض الله العهد بينه وبين
المشركين في النساء خاصة ، فمنعهم أن يردوهن إلى المشركين وأنزل الله آيات
الامتحان.
قال ابن جرير : حدثنا أبو كريب ، حدثنا يونس بن بكير عن قيس بن الربيع
عن الأغر بن الصباح عن خليفة بن حصين عن أبي نصر الأسدي قال سئل ابن عباس كيف كان
امتحان رسول الله صلىاللهعليهوسلم النساء ، قال : كان يمتحنهن بالله ما خرجت من بغض زوج
وبالله ما خرجت رغبة عن أرض إلى أرض ، وبالله ما خرجت التماس دنيا ، وبالله ما
خرجت إلا حبا لله ولرسوله ، ثم رواه من وجه آخر عن الأغر بن الصباح به ، وكذا رواه
البزار من طريقه وذكر فيه أن الذي كان يحلفهن عن أمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم له عمر بن الخطاب ، وقال العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى
: (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَ) وكان امتحانهن أن يشهدن أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبد
الله ورسوله ، وقال مجاهد : (فَامْتَحِنُوهُنَ) فاسألوهن عما جاء بهن ، فإذا كان جاء بهن غضب على أزواجهن
أو سخطة أو غيره ولم يؤمن فأرجعوهن إلى أزواجهن ، وقال عكرمة : يقال لها ما جاء بك
إلا حب الله ورسوله ، وما جاء بك عشق رجل منا ولا فرار من زوجك فذلك قوله : (فَامْتَحِنُوهُنَ) وقال قتادة : كانت محنتهن أن يستحلفن بالله ما أخرجكن
النشوز وما أخرجكن إلا حب الإسلام وأهله وحرص عليه ، فإذا
__________________
قلن ذلك قبل ذلك
منهن.
وقوله تعالى : (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ
فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ) فيه دلالة على أن الإيمان يمكن الاطلاع عليه يقينا.
وقوله تعالى : (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ
يَحِلُّونَ لَهُنَ) هذه الآية هي التي حرمت المسلمات على المشركين وقد كان
جائزا في ابتداء الإسلام أن يتزوج المشرك المؤمنة ، ولهذا كان أبو العاص بن الربيع
زوج ابنة النبي صلىاللهعليهوسلم زينب رضي الله عنها ، قد كانت مسلمة وهو على دين قومه ،
فلما وقع في الأسارى يوم بدر بعثت امرأته زينب في فدائه بقلادة لها كانت لأمها
خديجة فلما رآها رسول الله صلىاللهعليهوسلم رق لها رقة شديدة وقال للمسلمين : «إن رأيتم أن تطلقوا لها
أسيرها فافعلوا» ففعلوا فأطلقه رسول الله صلىاللهعليهوسلم على أن يبعث ابنته إليه ، فوفى له بذلك وصدقه فيما وعده
وبعثها إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم مع زيد بن حارثة رضي الله عنه ، فأقامت بالمدينة من بعد
وقعة بدر. وكانت سنة اثنتين إلى أن أسلم زوجها أبو العاص بن الربيع سنة ثمان فردها
عليه بالنكاح الأول ولم يحدث لها صداقا.
كما قال الإمام
أحمد : حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي ، حدثنا ابن إسحاق حدثنا داود بن الحصين عن عكرمة
عن ابن عباس أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم رد ابنته زينب على أبي العاص بن الربيع ، وكانت هجرتها قبل
إسلامه بست سنين على النكاح الأول ولم يحدث شهادة ولا صداقا ، ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجة ومنهم من يقول بعد
سنتين ، وهو صحيح ، لأن إسلامه كان بعد تحريم المسلمات على المشركين بسنتين وقال
الترمذي : ليس بإسناده بأس ولا نعرف وجه هذا الحديث ولعله جاء من حفظ داود بن
الحصين ، وسمعت عبد بن حميد يقول : سمعت يزيد بن هارون يذكر عن ابن إسحاق هذا
الحديث وحديث ابن الحجاج يعني ابن أرطاة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول
الله صلىاللهعليهوسلم رد ابنته على أبي العاص بن الربيع بمهر جديد ونكاح جديد ،
فقال يزيد : حديث ابن عباس أجود إسنادا والعمل على حديث عمرو بن شعيب ، ثم قلت وقد
روى حديث الحجاج بن أرطاة عن عمرو بن شعيب الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة وضعفه
الإمام أحمد وغير واحد ، والله أعلم.
وأجاب الجمهور عن
حديث ابن عباس بأن ذلك كان قضية عين ، يحتمل أنه لم تنقض عدتها منه لأن الذي عليه
الأكثرون أنها متى انقضت العدة ولم يسلم انفسخ نكاحها منه. وقال آخرون بل إذا
انقضت العدة هي بالخيار ، إن شاءت أقامت على النكاح واستمرت ، وإن شاءت
__________________
فسخته وذهبت
فتزوجت وحملوا عليه حديث ابن عباس ، والله أعلم.
وقوله تعالى : (وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا) يعني أزواج المهاجرات من المشركين ادفعوا إليهم الذي غرموه
عليهن من الأصدقة ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والزهري وغير واحد ، وقوله تعالى:
(وَلا جُناحَ
عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) يعني إذا أعطيتموهن أصدقتهن فانكحوهن أي تزوجوهن بشرطه من
انقضاء العدة والولي وغير ذلك. وقوله تعالى : (وَلا تُمْسِكُوا
بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) تحريم من الله عزوجل على عباده المؤمنين نكاح المشركات والاستمرار معهن.
وفي الصحيح عن الزهري
عن عروة عن المسور ومروان بن الحكم أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم لما عاهد كفار قريش يوم الحديبية ، جاءه نساء من المؤمنات
فأنزل الله عزوجل (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ) ـ إلى قوله ـ (وَلا تُمْسِكُوا
بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) فطلق عمر بن الخطاب يومئذ امرأتين تزوج إحداهما معاوية بن
أبي سفيان والأخرى صفوان بن أمية .
وقال ابن ثور عن
معمر عن الزهري : أنزلت هذه الآية على رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو بأسفل الحديبية حين صالحهم ، على أنه من أتاه منهم رده
إليهم ، فلما جاءه النساء نزلت هذه الآية وأمره أن يرد الصداق إلى أزواجهن ، وحكم
على المشركين مثل ذلك إذا جاءتهم امرأة من المسلمين أن يردوا الصداق إلى زوجها
وقال (وَلا تُمْسِكُوا
بِعِصَمِ الْكَوافِرِ).
وهكذا قال عبد
الرّحمن بن زيد بن أسلم وقال : وإنما حكم الله بينهم بذلك لأجل ما كان بينهم
وبينهم من العهد. وقال محمد بن إسحاق عن الزهري : طلق عمر يومئذ قريبة بنت أبي
أمية بن المغيرة. فتزوجها معاوية وأم كلثوم بنت عمرو بن جرول الخزاعية ، وهي أم
عبيد الله فتزوجها أبو جهم بن حذيفة بن غانم رجل من قومه وهما على شركهما ، وطلق
طلحة بن عبيد الله أروى بنت ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب فتزوجها بعده خالد بن
سعيد بن العاص .
وقوله تعالى : (وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ
وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا) أي وطالبوا بما أنفقتم على أزواجكم اللاتي يذهبن إلى
الكفار إن ذهبن وليطالبوا بما أنفقوا على أزواجهم اللاتي هاجرن إلى المسلمين.
وقوله تعالى : (ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ
بَيْنَكُمْ) أي في الصلح واستثناء النساء منه والأمر بهذا كله هو حكم
الله يحكم به بين خلقه (وَاللهُ عَلِيمٌ
حَكِيمٌ) أي عليم بما يصلح عباده حكيم في ذلك ، ثم قال تعالى : (وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ
أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ
__________________
أَزْواجُهُمْ
مِثْلَ ما أَنْفَقُوا)
قال مجاهد وقتادة
: هذا في الكفار الذين ليس لهم عهد إذا فرت إليهم امرأة ولم يدفعوا إلى زوجها شيئا
، فإذا جاءت منهم امرأة لا يدفع إلى زوجها شيء حتى يدفع إلى زوج الذاهبة إليهم مثل
نفقته عليها.
وقال ابن جرير : حدثنا يونس ، حدثنا ابن وهب أخبرني يونس عن الزهري قال :
أقر المؤمنون بحكم الله فأدوا ما أمروا به من نفقات المشركين التي أنفقوا على
نسائهم ، وأبي المشركون أن يقروا بحكم الله فيما فرض عليهم من أداء نفقات المسلمين
، فقال الله تعالى للمؤمنين به (وَإِنْ فاتَكُمْ
شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ
ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ
بِهِ مُؤْمِنُونَ).
فلو أنها ذهبت بعد
هذه الآية امرأة من أزواج المؤمنين إلى المشركين ، رد المؤمنون إلى زوجها النفقة
التي أنفق عليها من العقب الذي بأيديهم الذي أمروا أن يردوه على المشركين من
نفقاتهم ، التي أنفقوا على أزواجهم اللاتي آمن وهاجرن ، ثم ردوا إلى المشركين فضلا
إن كان بقي لهم ، والعقب ما كان بأيدي المؤمنين من صداق نساء الكفار حين آمن
وهاجرن.
وقال العوفي عن
ابن عباس في هذه الآية ، يعني إن لحقت امرأة رجل من المهاجرين بالكفار أمر له رسول
الله صلىاللهعليهوسلم أنه يعطى مثل ما أنفق من الغنيمة ، وهكذا قال مجاهد (فَعاقَبْتُمْ) أصبتم غنيمة من قريش أو غيرهم (فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ
أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا) يعني مهر مثلها. وهكذا قال مسروق وإبراهيم وقتادة ومقاتل
والضحاك وسفيان بن حسين والزهري أيضا. وهذا لا ينافي الأول لأنه إن أمكن الأول فهو
أولى وإلا فمن الغنائم اللاتي تؤخذ من أيدي الكفار ، وهذا أوسع وهو اختيار ابن
جرير ، ولله الحمد والمنة.
(يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ
بِاللهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ
وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ
وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ
اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)
(١٢)
قال البخاري :
حدثنا إسحاق حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن أخي ابن شهاب عن عمه قال : أخبرني
عروة أن عائشة زوج النبي صلىاللهعليهوسلم أخبرته أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان يمتحن من هاجر إليه من المؤمنات بهذه الآية (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ
الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ) ـ إلى قوله ـ (غَفُورٌ رَحِيمٌ)
قال عروة : قالت
عائشة فمن أقر بهذا الشرط من المؤمنات قال لها رسول اللهصلىاللهعليهوسلم : «قد بايعتك» كلاما ، ولا والله ما مست يده يد امرأة في
المبايعة قط ، وما يبايعهن إلا بقوله : «قد
__________________
بايعتك على ذلك»
هذا لفظ البخاري .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرّحمن بن مهدي ، حدثنا سفيان عن محمد بن
المنكدر عن أميمة بنت رقيقة قالت : أتيت رسول الله صلىاللهعليهوسلم في نساء لنبايعه ،
فأخذ علينا ما في القرآن أن لا نشرك بالله شيئا الآية وقال «فيما استطعتن وأطقتن»
قلنا الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا ، قلنا : يا رسول الله ألا تصافحنا؟ قال «إني
لا أصافح النساء إنما قولي لامرأة واحدة كقولي لمائة امرأة» هذا إسناد صحيح وقد رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة من
حديث سفيان بن عيينة والنسائي أيضا من حديث الثوري ومالك بن أنس ، كلهم عن محمد بن
المنكدر عن أميمة به ، وقال الترمذي : حسن صحيح لا نعرفه إلا من حديث محمد بن
المنكدر ، وقد رواه أحمد أيضا من حديث محمد بن إسحاق عن محمد بن المنكدر عن أميمة
به وزاد : ولم يصافح منا امرأة ، وكذا رواه ابن جرير من طريق موسى بن عقبة عن محمد
بن المنكدر به.
ورواه ابن أبي
حاتم من حديث أبي جعفر الرازي عن محمد بن المنكدر ، حدثتني أميمة بنت رقيقة وكانت
أخت خديجة خالة فاطمة من فيها إلى فيّ فذكره.
وقال الإمام أحمد : حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن ابن إسحاق حدثني سليط بن أيوب
بن الحكم بن سليم عن أمه سلمى بنت قيس ، وكانت إحدى خالات رسول الله صلىاللهعليهوسلم وقد صلت معه القبلتين ، وكانت إحدى نساء بني عدي بن النجار
قالت : جئت رسول الله صلىاللهعليهوسلم نبايعه في نسوة من الأنصار ، فلما شرط علينا ألا نشرك
بالله شيئا ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا
وأرجلنا ولا نعصيه في معروف قال : «ولا تغششن أزواجكن» قالت: فبايعناه ثم انصرفنا
فقلت لامرأة منهن ارجعي فسلي رسول الله صلىاللهعليهوسلم ما غش أزواجنا؟ قالت: فسألته فقال «تأخذ ماله فتحابي به
غيره».
وقال الإمام أحمد : حدثنا إبراهيم بن أبي العباس ، حدثنا عبد الرّحمن بن
عثمان بن إبراهيم بن محمد بن حاطب ، حدثني أبي عن أمه عائشة بنت قدامة يعني ابن
مظعون قالت أنا مع أمي رائطة ابنة سفيان الخزاعية والنبي صلىاللهعليهوسلم يبايع النسوة ويقول : «أبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئا
ولا تسرقن ولا تزنين ولا تقتلن أولادكن ولا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن
وأرجلكن ولا تعصينني في معروف قالت : فأطرقن فقال لهن النبي صلىاللهعليهوسلم : ـ قلن نعم ـ فيما استطعتن» فكن يقلن وأقول معهن وأمي
تقول لي أي بنية نعم ، فيما استطعت فكنت أقول كما يقلن.
__________________
وقال البخاري :
حدثنا أبو معمر ، حدثنا عبد الوارث ، حدثنا أيوب عن حفصة بنت سيرين عن أم عطية
قالت : بايعنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقرأ علينا (أَنْ لا يُشْرِكْنَ
بِاللهِ شَيْئاً) ونهانا عن النياحة فقبضت امرأة يدها قالت : أسعدتني فلانة
فأريد أن أجزيها ، فما قال لها رسول اللهصلىاللهعليهوسلم شيئا ، فانطلقت ورجعت فبايعها ، ورواه مسلم. وفي رواية : فما وفي منهن امرأة غيرها وغير
أم سليم ابنة ملحان.
وللبخاري عن أم عطية قالت : أخذ علينا رسول الله صلىاللهعليهوسلم عند البيعة أن لا ننوح ، فما وفت منا امرأة غير خمسة نسوة.
أم سليم وأم العلاء وابنة أبي سبرة امرأة معاذ وامرأتان أو ابنة أبي سبرة وامرأة
معاذ وامرأة أخرى.
وقد كان رسول الله
صلىاللهعليهوسلم يتعاهد النساء بهذه البيعة يوم العيد ، كما قال البخاري : حدثنا محمد بن عبد الرّحيم ، حدثنا هارون بن معروف ،
حدثنا عبد الله بن وهب ، أخبرني ابن جريج أن الحسن بن مسلم أخبره عن طاوس عن ابن
عباس قال : شهدت الصلاة يوم الفطر مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأبي بكر وعمر وعثمان ، فكلهم يصليها قبل الخطبة ثم يخطب
بعد ، فنزل نبي اللهصلىاللهعليهوسلم فكأني أنظر إليه حين يجلس الرجال بيده ، ثم أقبل يشقهم حتى
أتى النساء مع بلال فقال: (يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ
بِاللهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ
وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ
وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) حتى فرغ من الآية كلها ثم قال حين فرغ «أنتن على ذلك؟»
فقالت امرأة واحدة ولم يجبه غيرها : نعم يا رسول الله ، لا يدري الحسن من هي ، قال
: فتصدقن ، قال : وبسط بلال ثوبه فجعلن يلقين الفتخ والخواتيم في ثوب بلال.
وقال الإمام أحمد : حدثنا خلف بن الوليد ، حدثنا ابن عياش عن سليمان بن سليم
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : جاءت أميمة بنت رقيقة إلى رسول الله تبايعه
على الإسلام فقال : «أبايعك على أن لا تشركي بالله شيئا ولا تسرقي ولا تزني ولا
تقتلي ولدك ولا تأتي ببهتان تفترينه بين يديك ورجليك ولا تنوحي ولا تبرجي تبرج
الجاهلية الأولى».
وقال الإمام أحمد : حدثنا سفيان عن الزهري عن أبي إدريس الخولاني عن عبادة بن
الصامت قال : كنا عند رسول الله صلىاللهعليهوسلم في مجلس فقال : تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا
تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ـ قرأ الآية التي أخذت على النساء : (إِذا جاءَكَ
__________________
الْمُؤْمِناتُ)
ـ فمن وفي منكم
فأجره على الله ، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به فهو كفارة له ، ومن أصاب من ذلك
شيئا فستره الله عليه فهو إلى الله إن شاء الله غفر له وإن شاء عذبه» أخرجاه في الصحيحين.
وقال محمد بن
إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن مرثد بن عبد الله اليزني ، عن أبي عبد الله عبد
الرّحمن بن عسيلة الصنابحي عن عبادة بن الصامت قال : كنت فيمن حضر العقبة الأولى ،
وكنا اثني عشر رجلا فبايعنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم على بيعة النساء ، وذلك قبل أن يفرض الحرب على أن لا نشرك
بالله شيئا ولا نسرق ولا نزني ، ولا نقتل أولادنا ولا نأتي ببهتان نفتريه بين
أيدينا وأرجلنا ولا نعصيه في معروف ، وقال «فإن وفيتم فلكم الجنة» رواه ابن أبي
حاتم.
وقد روى ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أمر عمر بن الخطاب فقال : «قل لهن إن رسول الله صلىاللهعليهوسلم يبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئا» وكانت هند بنت عتبة
بن ربيعة التي شقت بطن حمزة متنكرة في النساء فقالت : إني إن أتكلم يعرفني وإن
عرفني قتلني ، وإنما تنكرت فرقا من رسول الله صلىاللهعليهوسلم فسكت النسوة اللاتي مع هند وأبين أن يتكلمن فقالت هند وهي
متنكرة : كيف تقبل من النساء شيئا لم تقبله من الرجال؟.
ففطن إليها رسول
الله صلىاللهعليهوسلم وقال لعمر «قل لهن ولا يسرقن» قالت هند : والله إني لأصيب
من أبي سفيان الهنات ما أدري أيحلهن لي أم لا؟ قال أبو سفيان : ما أصبت من شيء مضى
أو قد بقي فهو لك حلال ، فضحك رسول الله صلىاللهعليهوسلم وعرفها فدعاها فأخذت بيده فعاذت به فقال : «أنت هند؟» قالت
: عفا الله عما سلف ، فصرف عنها رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : «ولا يزنين» فقالت : يا رسول الله ، وهل تزني امرأة
حرة؟ قال «لا والله ما تزني الحرة ـ قال ـ ولا يقتلن أولادهن» قالت هند : أنت
قتلتهم يوم بدر فأنت وهم أبصر ، قال : (وَلا يَأْتِينَ
بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَ) قال (وَلا يَعْصِينَكَ فِي
مَعْرُوفٍ) قال : منعهن أن ينحن ، وكان أهل الجاهلية يمزقن الثياب
ويخدشن الوجوه ويقطعن الشعور ، ويدعون بالويل والثبور. وهذا أثر غريب وفي بعضه
نكارة والله أعلم ، فإن أبا سفيان وامرأته لما أسلما لم يكن رسول الله يخيفهما بل
أظهر الصفاء والود لهما ، وكذلك كان الأمر من جانبه عليهالسلام لهما.
وقال مقاتل بن
حيان : أنزلت هذه الآية يوم الفتح ، بايع رسول الله صلىاللهعليهوسلم الرجال على الصفا ، وعمر بايع النساء تحتها عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم فذكر بقيته كما تقدم وزاد : فلما قال : ولا تقتلن أولادكن.
قالت هند : ربيناهم صغارا فقتلتموهم كبارا ، فضحك عمر بن الخطاب حتى استلقى. رواه
ابن أبي حاتم. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا نصر بن علي حدثتني
__________________
غبطة بنت سليمان ،
حدثتني عمتي عن جدتها عن عائشة قالت : جاءت هند بنت عتبة إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم لتبايعه فنظر إلى يدها فقال «اذهبي فغيري يدك» فذهبت
فغيرتها بحناء ثم جاءت فقال «أبايعك على أن لا تشركي بالله شيئا» فبايعها وفي يدها
سواران من ذهب ، فقالت : ما تقول في هذين السوارين؟ فقال «جمرتان من نار جهنم».
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا ابن فضيل عن حصين عن عامر هو الشعبي قال : بايع
رسول الله صلىاللهعليهوسلم النساء وفي يده ثوب قد وضعه على كفه ثم قال «ولا تقتلن
أولادكن» فقالت امرأة : تقتل آباءهم وتوصينا بأولادهم؟ قال ، وكان بعد ذلك إذا جاء
النساء يبايعنه جمعهن فعرض عليهن ، فإذا أقررن رجعن ، فقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ
الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ) أي من جاءك منهن يبايع على هذه الشروط فبايعها (عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ
شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ) أموال الناس الأجانب ، فأما إذا كان الزوج مقصرا في نفقتها
فلها أن تأكل من ماله بالمعروف ما جرت به عادة أمثالها وإن كان من غير علمه عملا
بحديث هند بنت عتبة أنها قالت : يا رسول الله ، إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني
من النفقة ما يكفيني ويكفي بني ، فهل عليّ جناح إن أخذت من ماله بغير علمه؟ فقال
رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك» أخرجاه في الصحيحين.
وقوله تعالى : (وَلا يَزْنِينَ) كقوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا
الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً) [الإسراء : ٣٢]
وفي حديث سمرة : ذكر عقوبة الزناة بالعذاب الأليم في نار الجحيم. وقال الإمام أحمد
: حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت : جاءت
فاطمة بنت عتبة تبايع رسول الله صلىاللهعليهوسلم فأخذ عليها (أَنْ لا يُشْرِكْنَ
بِاللهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ) الآية ، قالت : فوضعت يدها على رأسها حياء فأعجبه ما رأى
منها ، فقالت عائشة: أقري أيتها المرأة فو الله ما بايعنا إلا على هذا ، قالت :
فنعم إذا ، فبايعها بالآية. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا ابن
فضيل عن حصين عن عامر هو الشعبي قال : بايع رسول الله صلىاللهعليهوسلم النساء وعلى يده ثوب قد وضعه على كفه ثم قال «ولا تقتلن
أولادكن» فقالت امرأة : تقتل آباءهم وتوصي بأولادهم؟ قال : وكان بعد ذلك إذا جاءت
النساء يبايعنه جمعهن فعرض عليهن فإذا أقررن رجعن. وقوله تعالى : (وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَ) وهذا يشمل قتله بعد وجوده كما كان أهل الجاهلية يقتلون
أولادهم خشية الإملاق ويعم قتله وهو جنين ، كما قد يفعله بعض الجهلة من النساء
تطرح نفسها لئلا تحبل إما لغرض فاسد أو ما أشبهه.
وقوله تعالى : (وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ
يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَ) قال ابن عباس : يعني لا يلحقن بأزواجهن غير أولادهم وكذا
قال مقاتل. ويؤيد هذا الحديث الذي رواه أبو
__________________
داود : حدثنا أحمد بن صالح ، حدثنا ابن وهب. حدثنا عمرو يعني
ابن الحارث عن ابن الهاد عن عبد الله بن يونس عن سعيد المقبري عن أبي هريرة أنه
سمع رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول حين نزلت آية الملاعنة «أيما امرأة أدخلت على قوم من
ليس منهم فليست من الله في شيء ولن يدخلها الله الجنة ، وأيما رجل جحد ولده وهو
ينظر إليه احتجب الله منه وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين».
وقوله تعالى : (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) يعني فيما أمرتهن به من معروف ونهيتهن عنه من منكر. قال
البخاري : حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا وهب بن جرير حدثنا أبي قال
: سمعت الزبير عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى : (وَلا يَعْصِينَكَ فِي
مَعْرُوفٍ) قال : إنما هو شرط شرطه الله للنساء. وقال ميمون بن مهران
: لم يجعل الله طاعة لنبيه إلا في المعروف والمعروف طاعة ، وقال ابن زيد : أمر
الله بطاعة رسوله وهو خيرة الله من خلقه في المعروف. وقد قال غيره عن ابن عباس
وأنس بن مالك وسالم بن أبي الجعد وأبي صالح وغير واحد : نهاهن يومئذ عن النوح ،
وقد تقدم حديث أم عطية في ذلك أيضا.
وقال ابن جرير : حدثنا بشر حدثنا يزيد حدثنا سعيد عن قتادة في هذه الآية
ذكر لنا أن النبي صلىاللهعليهوسلم أخذ عليهن النياحة ولا تحدثن الرجال إلا رجلا منكن محرما ،
فقال عبد الرّحمن بن عوف : يا رسول الله إن لنا أضيافا وإنا نغيب عن نسائنا فقال
رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ليس أولئك عنيت ، ليس أولئك عنيت» وقال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبو زرعة حدثنا إبراهيم بن موسى الفراء أخبرنا ابن أبي زائدة حدثني مبارك عن
الحسن قال : كان فيما أخذ النبي صلىاللهعليهوسلم ألا تحدثن الرجال إلا أن تكون ذات محرم ، فإن الرجل لا
يزال يحدث المرأة حتى يمذي بين فخذيه.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد حدثنا هارون عن عمرو عن عاصم عن ابن
سيرين عن أم عطية الأنصارية قالت : كان فيما اشترط علينا رسول الله من المعروف حين
بايعناه أن لا ننوح فقالت امرأة من بني فلان إن بني فلان أسعدوني فلا حتى أجزيهم ،
فانطلقت فأسعدتهم ثم جاءت فبايعت ، قالت فما وفي منهن غيرها وغير أم سليم ابنة
ملحان أم أنس بن مالك.
وقد روى البخاري
هذا الحديث من طريق حفصة بنت سيرين عن أم عطية نسيبة الأنصارية رضي الله عنها. وقد
روي نحوه من وجه آخر أيضا.
وقال ابن جرير حدثنا أبو كريب حدثنا أبو نعيم حدثنا عمر بن فروخ القتات
حدثني
__________________
مصعب بن نوح
الأنصاري قال : أدركت عجوزا لنا كانت فيمن بايع رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، قالت فأتيته لأبايعه فأخذ علينا فيما أخذ أن لا تنحن ،
فقالت عجوز يا رسول الله إن أناسا قد كانوا أسعدوني على مصائب أصابتني وإنهم قد
أصابتهم مصيبة فأنا أريد أسعدهم قال : «فانطلقي فكافئيهم» فانطلقت فكافأتهم ثم
إنها أتته فبايعته وقال هو المعروف الذي قال الله عزوجل : (وَلا يَعْصِينَكَ فِي
مَعْرُوفٍ) وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن منصور الرمادي حدثنا
القعنبي حدثنا الحجاج بن صفوان عن أسيد بن أبي أسيد البراد عن امرأة من المبايعات
قالت كان فيما أخذ علينا رسول اللهصلىاللهعليهوسلم أن لا نعصيه في معروف أن لا نخمش وجها ولا ننشر شعرا ولا
نشق جيبا ولا ندعوا ويلا.
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن سنان القزاز حدثنا إسحاق بن إدريس حدثنا
إسحاق بن عثمان أبو يعقوب ، حدثني إسماعيل بن عبد الرّحمن بن عطية عن جدته أم عطية
قالت : لما قدم رسول الله صلىاللهعليهوسلم جمع نساء الأنصار في بيت ثم أرسل إلينا عمر بن الخطاب رضي
الله عنه ، فقام على الباب وسلّم علينا فرددن أو فرددنا عليهالسلام ، ثم قال أنا رسول رسول الله صلىاللهعليهوسلم إليكن قالت فقلنا : مرحبا برسول الله وبرسول رسول الله ،
فقال : تبايعن على أن لا تشركن بالله شيئا ولا تسرقن ولا تزنين ، قالت : فقلنا نعم
، قالت فمد يده من خارج الباب أو البيت ومددنا أيدينا من داخل البيت ثم قال :
اللهم اشهد ، قالت ، وأمرنا في العيدين أن نخرج فيه الحيض والعواتق ولا جمعة علينا
، ونهانا عن اتباع الجنائز قال إسماعيل فسألت جدتي عن قوله تعالى : (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) قالت : النياحة.
وفي الصحيحين من
طريق الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول
الله صلىاللهعليهوسلم : «ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية»
وفي الصحيحين أيضا عن أبي موسى أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم برىء من الصالقة والحالقة والشاقة . وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا هدبة بن خالد حدثنا أبان بن
يزيد حدثنا يحيى بن أبي كثير أن زيدا حدثه أن أبا سلام حدثه أن أبا مالك الأشعري
حدثه أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن : الفخر
في الأحساب والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة على الميت ـ وقال ـ النائحة
إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب» .
ورواه مسلم في
صحيحه منفردا به من حديث أبان بن يزيد العطار به وعن أبي سعيد أن
__________________
رسول الله صلىاللهعليهوسلم لعن النائحة والمستمعة رواه أبو داود . وقال ابن جرير : حدثنا أبو كريب حدثنا وكيع عن يزيد مولى الصهباء عن شهر
بن حوشب عن أم سلمة عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم في قول الله تعالى : (وَلا يَعْصِينَكَ فِي
مَعْرُوفٍ) قال النوح ، ورواه الترمذي في التفسير عن عبد بن حميد عن أبي نعيم
وابن ماجة عن أبي بكر بن أبي شيبة عن وكيع كلاهما عن يزيد بن عبد الله الشيباني
مولى الصهباء به وقال الترمذي حسن غريب.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا
مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ)
(١٣)
ينهى تبارك وتعالى
عن موالاة الكافرين في آخر هذه السورة كما نهى عنها في أولها فقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) يعني اليهود والنصارى وسائر الكفار ممن غضب الله عليه
ولعنه واستحق من الله الطرد والإبعاد ، فكيف توالونهم وتتخذونهم أصدقاء وأخلاء وقد
يئسوا من الآخرة أي من ثواب الآخرة ونعيمها في حكم الله عزوجل.
وقوله تعالى : (كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ
الْقُبُورِ) فيه قولان : أحدهما كما يئس الكفار الأحياء من قراباتهم
الذين في القبور أن يجتمعوا بهم بعد ذلك لأنهم لا يعتقدون بعثا ولا نشورا ، فقد
انقطع رجاؤهم منهم فيما يعتقدونه. قال العوفي عن ابن عباس (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) إلى آخر السورة يعني من مات من الذين كفروا فقد يئس
الأحياء من الذين كفروا أن يرجعوا إليهم أو يبعثهم الله عزوجل ، وقال الحسن البصري (كَما يَئِسَ
الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) قال : الكفار الأحياء قد يئسوا من الأموات ، وقال قتادة :
كما يئس الكفار أن يرجع إليهم أصحاب القبور الذين ماتوا وكذا قال الضحاك ، رواهن
ابن جرير .
والقول الثاني
معناه كما يئس الكفار الذين هم في القبور من كل خير ، قال الأعمش عن أبي الضحى عن
مسروق عن ابن مسعود (كَما يَئِسَ
الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) قال كما يئس هذا الكافر إذا مات وعاين ثوابه واطلع عليه ،
وهذا قول مجاهد وعكرمة ومقاتل وابن زيد والكلبي ومنصور ، وهو اختيار ابن جرير رحمهالله.
آخر تفسير سورة
الممتحنة ، ولله الحمد والمنة.
__________________
تفسير سورة الصف
وهي مدنية
قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن آدم حدثنا ابن المبارك عن الأوزاعي عن
يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة وعن عطاء بن يسار ، عن أبي سلمة عن عبد الله بن سلام
قال تذاكرنا أيكم يأتي رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فيسأله أي الأعمال أحب إلى الله ، فلم يقم أحد منا فأرسل
رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلينا رجلا ، فجمعنا فقرأ علينا هذه السورة يعني سورة الصف
كلها ، هكذا رواه الإمام أحمد.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا العباس بن الوليد بن مزيد البيروتي قراءة قال أخبرني أبي سمعت الأوزاعي
حدثني يحيى بن أبي كثير ، حدثني أبو سلمة بن عبد الرّحمن حدثني عبد الله بن سلام
أن أناسا من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم قالوا : لو أرسلنا إلى رسول الله نسأله عن أحب الأعمال إلى
الله عزوجل ، فلم يذهب إليه أحد منا وهبنا أن نسأله عن ذلك ، قال فدعا
رسول الله صلىاللهعليهوسلم أولئك النفر رجلا رجلا حتى جمعهم ونزلت فيهم هذه السورة (سَبَّحَ لِلَّهِ) الصف. قال عبد الله بن سلام : فقرأها علينا رسول الله صلىاللهعليهوسلم كلها .
قال أبو سلمة :
وقرأها علينا عبد الله بن سلام كلها. قال يحيى بن أبي كثير : وقرأها علينا أبو
سلمة كلها. قال الأوزاعي وقرأها علينا يحيى بن أبي كثير كلها ، قال أبي وقرأها
علينا الأوزاعي كلها وقد رواه الترمذي عن عبد الله بن عبد الرّحمن الدارمي حدثنا محمد
بن كثير عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن عبد الله بن سلام قال :
قعدنا نفرا من أصحاب رسول اللهصلىاللهعليهوسلم فتذاكرنا فقلنا لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله عزوجل لعملناه فأنزل الله تعالى : (سَبَّحَ لِلَّهِ ما
فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ).
قال عبد الله بن
سلام : فقرأها علينا رسول الله صلىاللهعليهوسلم. قال أبو سلمة فقرأها علينا ابن سلام ، قال يحيى فقرأها
علينا أبو سلمة ، قال ابن كثير فقرأها علينا الأوزاعي ، قال عبد الله فقرأها علينا
ابن كثير. ثم قال الترمذي ، وقد خولف محمد بن كثير في إسناد هذا الحديث عن
الأوزاعي ، فروى ابن المبارك عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن هلال بن أبي
ميمونة عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن سلام أو عن أبي سلمة عن عبد الله بن سلام ،
قلت : وهكذا رواه الإمام
__________________
أحمد عن يعمر عن
ابن المبارك به ، قال الترمذي وروى الوليد بن مسلم هذا الحديث عن الأوزاعي نحو
رواية محمد بن كثير.
قلت وكذا رواه الوليد
بن يزيد عن الأوزاعي كما رواه ابن كثير ، قلت وقد أخبرني بهذا الحديث الشيخ المسند
أبو العباس أحمد بن أبي طالب الحجار قراءة عليه ، وأنا أسمع ، أخبرنا أبو المنجا
عبد الله بن عمر بن اللتي ، أخبرنا أبو الوقت عبد الأول بن عيسى بن شعيب السجزي
قال: أخبرنا أبو الحسن بن عبد الرّحمن بن المظفر بن محمد بن داود الداودي ، أخبرنا
أبو محمد عبد الله بن أحمد بن حمويه السرخسي ، أخبرنا عيسى بن عمر بن عمران
السمرقندي. أخبرنا الإمام الحافظ أبو محمد عبد الله بن عبد الرّحمن الدارمي بجميع
مسنده ، أخبرنا محمد بن كثير عن الأوزاعي فذكر بإسناده مثله ، وتسلسل لنا قراءتها
إلى شيخنا أبي العباس الحجار ولم يقرأها لأنه كان أميا ، وضاق الوقت عن تلقينها
إياه ولكن أخبرني الحافظ الكبير أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي رحمهالله ، أخبرنا القاضي تقي الدين بن سليمان ابن الشيخ أبي عمر ،
أخبرنا أبو المنجا بن اللتي ، فذكره بإسناده وتسلسل لي من طريقه وقرأها علي
بكمالها ولله الحمد والمنة.
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سَبَّحَ لِلَّهِ ما
فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (٢)
كَبُرَ
مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (٣)
إِنَّ
اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ
مَرْصُوصٌ)
(٤)
قد تقدم الكلام
على قوله تعالى : (سَبَّحَ لِلَّهِ ما
فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) غير مرة بما أغنى عن إعادته. وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ
تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) إنكار على من يعد وعدا أو يقول قولا لا يفي به ، ولهذا
استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب من علماء السلف إلى أنه يجب الوفاء بالوعد مطلقا
، سواء ترتب عليه عزم للموعود أم لا ، واحتجوا أيضا من السنة بما ثبت في الصحيحين
أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «آية المنافق ثلاث إذا وعد أخلف ، وإذا حدث كذب ،
وإذا اؤتمن خان» . وفي الحديث الآخر في الصحيح «أربع من كن فيه كان منافقا
خالصا ومن كانت فيه واحدة منهن كانت فيه خصلة من نفاق حتى يدعها» فذكر منهن إخلاف الوعد ، وقد استقصينا الكلام على هذين
الحديثين
__________________
في أول شرح
البخاري ولله الحمد والمنة ، ولهذا أكد الله تعالى هذا الإنكار عليهم بقوله تعالى
: (كَبُرَ مَقْتاً
عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ).
وقد روى الإمام أحمد
وأبو داود عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال : أتانا رسول اللهصلىاللهعليهوسلم وأنا صبي فذهبت لأخرج لألعب فقالت أمي : يا عبد الله تعال
أعطك فقال لها رسول اللهصلىاللهعليهوسلم : «وما أردت أن تعطيه؟» قالت : تمرا. فقال : «أما إنك لو
لم تفعلي كتبت عليك كذبة» وذهب الإمام مالك رحمهالله تعالى إلى أنه إذا تعلق بالوعد غرم على الموعود وجب الوفاء
به كما لو قال لغيره تزوج ولك علي كل يوم كذا فتزوج وجب عليه أن يعطيه ما دام كذلك
، لأنه تعلق به حق آدمي وهو مبني على المضايقة ، وذهب الجمهور إلى أنه لا يجب
مطلقا ، وحملوا الآية على أنها نزلت حين تمنوا فريضة الجهاد عليهم فلما فرض نكل
عنه بعضهم كقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا
الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ
النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ
عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ
الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً
أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ
مُشَيَّدَةٍ) [النساء : ٧٦ ـ ٧٧].
وقال تعالى : (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا
نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا
الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ
الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) [محمد : ٢٠] الآية. وهكذا هذه الآية معناها كما قال علي بن
أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) قال : كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون
لوددنا أن الله عزوجل دلنا على أحب الأعمال إليه فنعمل به ، فأخبر الله نبيه أن
أحب الأعمال إيمان به لا شك فيه ، وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإيمان ولم
يقروا به ، فلما نزل الجهاد كره ذلك ناس من المؤمنين وشق عليهم أمره فقال الله سبحانه
وتعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) وهذا اختيار ابن جرير.
وقال مقاتل بن
حيان : قال المؤمنون لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لعملنا به ، فدلهم الله على أحب
الأعمال إليه فقال : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ
الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا) فبين لهم فابتلوا يوم أحد بذلك ، فولوا عن النبي صلىاللهعليهوسلم مدبرين فأنزل الله في ذلك (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) وقال : أحبكم إلي من قاتل في سبيلي.
ومنهم من يقول :
أنزلت في شأن القتال ، يقول الرجل قاتلت ولم يقاتل وطعنت ولم يطعن وضربت ولم يضرب
وصبرت ولم يصبر. وقال قتادة والضحاك : نزلت توبيخا لقوم كانوا يقولون قتلنا وضربنا
وطعنا وفعلنا ، ولم يكونوا فعلوا ذلك. وقال ابن زيد : نزلت في قوم من
__________________
المنافقين كانوا
يعدون المسلمين النصر ولا يفون لهم بذلك ، وقال مالك عن زيد بن أسلم (لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) قال : في الجهاد.
وقال ابن أبي نجيح
عن مجاهد (لِمَ تَقُولُونَ ما
لا تَفْعَلُونَ) ـ إلى قوله ـ (كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ
مَرْصُوصٌ) فما بين ذلك في نفر من الأنصار فيهم عبد الله بن رواحة
قالوا في مجلس لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله لعملنا بها حتى نموت فأنزل الله
تعالى هذا فيهم ، فقال عبد الله بن رواحة لا أبرح حبيسا في سبيل الله حتى أموت ،
فقتل شهيدا.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبي حدثنا فروة بن أبي المغراء ، حدثنا علي بن مسهر عن داود بن أبي هند ،
عن أبي حرب بن أبي الأسود الديلي عن أبيه قال : بعث أبو موسى إلى قراء أهل البصرة
، فدخل عليه منهم ثلاثمائة رجل كلهم قد قرأ القرآن ، فقال أنتم قراء أهل البصرة
وخيارهم. وقال كنا نقرأ سورة كنا نشبهها بإحدى المسبحات فأنسيناها غير أني قد حفظت
منها (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة ولهذا
قال تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ
الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) فهذا إخبار من الله تعالى بمحبة عباده المؤمنين إذا صفوا
مواجهين لأعداء الله في حومة الوغى ، يقاتلون في سبيل الله من كفر بالله لتكون
كلمة الله هي العليا ودينه هو الظاهر العالي على سائر الأديان.
وقال الإمام أحمد : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا هشيم ، أخبرنا مجالد عن
أبي الوداك عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ثلاثة يضحك الله إليهم : الرجل يقوم من الليل ، والقوم
إذا صفوا للصلاة ، والقوم إذا صفوا للقتال» ورواه ابن ماجة من حديث مجالد عن أبي
الوداك جبر بن نوف به.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبي حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين حدثنا الأسود يعني ابن شيبان حدثني يزيد
بن عبد الله بن الشخير قال : قال مطرف كان يبلغني عن أبي ذر حديث كنت أشتهي لقاءه
فلقيته ، فقلت يا أبا ذر كان يبلغني عنك حديث فكنت أشتهي لقاءك ، فقال : لله أبوك
فقد لقيت فهات ، فقلت كان يبلغني عنك أنك تزعم أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم حدثكم أن الله يبغض ثلاثة ويحب ثلاثة ، قال أجل فلا إخالني
أكذب على خليلي صلىاللهعليهوسلم قلت فمن هؤلاء الثلاثة الذين يحبهم الله عزوجل؟ فقال : رجل غزا في سبيل الله خرج محتسبا مجاهدا فلقي
العدو فقتل وأنتم تجدونه في كتاب الله المنزل ثم قرأ (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ
الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) وذكر الحديث هكذا أورد هذا الحديث من هذا الوجه بهذا
السياق ، وهذا اللفظ واختصره ، وقد أخرجه الترمذي والنسائي من حديث شعبة عن منصور
بن المعتمر
__________________
عن ربعي بن خراش
عن زيد بن بيان عن أبي ذر بأبسط من هذا السياق وأتم ، وقد أوردناه في مواضع أخر
ولله الحمد.
وعن كعب الأحبار
أنه قال : يقول الله تعالى لمحمد صلىاللهعليهوسلم : «عبدي المتوكل المختار ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في
الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر ، مولده بمكة وهجرته بطابة وملكه
بالشام وأمته الحمادون يحمدون الله على كل حال ، وفي كل منزلة لهم دوي كدوي النحل
في جو السماء بالسحر ، يوضون أطرافهم ويأتزرون على أنصافهم صفهم في القتال مثل
صفهم في الصلاة» ثم قرأ (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ
الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) رعاة الشمس يصلون الصلاة حيث وأدركتهم لو على ظهر دابة.
رواه ابن أبي حاتم.
وقال سعيد بن جبير
في قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ
الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا) قال: كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم لا يقاتل العدو إلا أن يصافهم ، وهذا تعليم من الله
للمؤمنين. قال وقوله تعالى : (كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ
مَرْصُوصٌ) أي ملتصق بعضه في بعض من الصف في القتال ، وقال مقاتل بن
حيان : ملتصق بعضه إلى بعض ، وقال ابن عباس (كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ
مَرْصُوصٌ) مثبت لا يزول ملصق بعضه ببعض.
وقال قتادة (كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) ألم تر إلى صاحب البنيان كيف لا يحب أن يختلف بنيانه.
فكذلك الله عزوجل لا يحب أن يختلف أمره وإن الله صف المؤمنين في قتالهم
وصفهم في صلاتهم ، فعليكم بأمر الله فإنه عصمة لمن أخذ به ، أورد ذلك كله ابن أبي
حاتم ، وقال ابن جرير : حدثني سعيد بن عمرو السكوني ، حدثنا بقية بن الوليد عن
أبي بكر بن أبي مريم عن يحيى بن جابر الطائي عن أبي بحرية قال : كانوا يكرهون
القتال على الخيل ويستحبون القتال على الأرض لقول الله عزوجل : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ
الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) قال : وكان أبو بحرية يقول : إذا رأيتموني ألتفت في الصف
فجؤوا في لحيي.
(وَإِذْ قالَ مُوسى
لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ
إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي
الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٥) وَإِذْ قالَ عِيسَى
ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً
لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ
بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ
مُبِينٌ)(٦)
يقول تعالى مخبرا
عن عبده ورسوله وكليمه موسى بن عمران عليهالسلام أنه قال لقومه : (لِمَ تُؤْذُونَنِي
وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ) أي لم توصلون الأذى إلي وأنتم تعلمون صدقي فيما جئتكم به
من الرسالة. وفي هذا تسلية لرسول الله صلىاللهعليهوسلم فيما أصابه من الكفار من قومه وغيرهم ، وأمر له بالصبر
ولهذا قال «رحمة الله على موسى : لقد أوذي بأكثر من هذا
__________________
فصبر» وفيه نهي
للمؤمنين أن ينالوا من النبي صلىاللهعليهوسلم أو يوصلوا إليه أذى كما قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ
عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً) [الأحزاب : ٦٩].
وقوله تعالى : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ
قُلُوبَهُمْ) أي فلما عدلوا عن اتباع الحق مع علمهم به أزاغ الله قلوبهم
عن الهدى وأسكنها الشك والحيرة والخذلان كما قال تعالى : (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ
وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي
طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [الأنعام : ١١٠]
وقال تعالى : (وَمَنْ يُشاقِقِ
الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ
نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) [النساء : ١١٥]
ولهذا قال تعالى في هذه الآية (وَاللهُ لا يَهْدِي
الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ).
وقوله تعالى : (وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا
بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ
يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ
أَحْمَدُ) يعني التوراة قد بشرت بي وأنا مصداق ما أخبرت عنه ، وأنا
مبشر بمن بعدي وهو الرسول النبي الأمي العربي المكي أحمد. فعيسى عليهالسلام هو خاتم أنبياء بني إسرائيل ، وقد أقام في ملأ بني إسرائيل
مبشرا بمحمد وهو أحمد خاتم الأنبياء والمرسلين الذي لا رسالة بعده ولا نبوة.
وما أحسن ما أورد
البخاري الحديث الذي قال فيه : حدثنا أبو اليمان ، حدثنا شعيب عن الزهري قال :
أخبرني محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «إن لي أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي
يمحو الله به الكفر ، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب» ورواه مسلم من حديث الزهري به نحوه.
وقال أبو داود
الطيالسي : حدثنا المسعودي عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة عن أبي موسى قال : سمى لنا
رسول الله صلىاللهعليهوسلم نفسه أسماء منها ما حفظنا فقال «أنا محمد وأنا أحمد
والحاشر والمقفي ونبي الرحمة والتوبة والملحمة» ورواه مسلم من حديث الأعمش عن عمرو بن مرة به.
وقد قال الله
تعالى : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ
الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي
التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) [الأعراف : ١٥٧]
الآية ، وقال تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ
مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ
رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ
أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ
فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) [آل عمران : ٨١]
قال ابن عباس : ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه العهد لئن بعث محمد وهو حي ليتبعنه
وأخذ عليه أن يأخذ على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليتبعنه وينصرنه.
__________________
وقال محمد بن
إسحاق : حدثني ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن أصحاب رسول اللهصلىاللهعليهوسلم أنهم قالوا : يا رسول الله صلىاللهعليهوسلم أخبرنا عن نفسك قال : «دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ورأت
أمي حين حملت بي كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور بصرى من أرض الشام» وهذا إسناد جيد وروي له شواهد من وجوه أخر ، فقال الإمام
أحمد : حدثنا عبد الرّحمن بن مهدي ، حدثنا معاوية بن صالح عن سعيد بن سويد الكلبي
عن عبد الأعلى بن هلال السلمي عن العرباض ابن سارية قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «إني عند الله
لخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته وسأنبئكم بأول ذلك دعوة أبي إبراهيم وبشارة
عيسى بي ورؤيا أمي التي رأت وكذلك أمهات النبيين يرين».
وقال أحمد أيضا : حدثنا أبو النضر ، حدثنا الفرج بن فضالة ، حدثنا
لقمان بن عامر قال : سمعت أبا أمامة قال : قلت يا رسول الله ما كان بدء أمرك. قال «دعوة
أبي إبراهيم وبشرى عيسى ورأت أمي أنه يخرج منها نور أضاءت له قصور الشام».
وقال أحمد أيضا : حدثنا حسن بن موسى ، سمعت خديجا أخا زهير بن معاوية
عن أبي إسحاق عن عبد الله بن عتبة عن عبد الله بن مسعود قال : بعثنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى النجاشي ونحن نحو من ثمانين رجلا منهم عبد الله بن
مسعود وجعفر وعبد الله بن رواحة ، وعثمان بن مظعون وأبو موسى ، فأتوا النجاشي
وبعثت قريش عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد بهدية ، فلما دخلا على النجاشي سجدا له
ثم ابتدراه عن يمينه وعن شماله ثم قالا له : إن نفرا من بني عمنا نزلوا أرضك ورغبوا
عنا وعن ملتنا قال : فأين هم؟ قالا : هم في أرضك فابعث إليهم فبعث إليهم ، فقال
جعفر : أنا خطيبكم اليوم ، فاتبعوه فسلم ولم يسجد فقالوا له : ما لك لا تسجد
للملك. قال : إنا لا نسجد إلا لله عزوجل قال : وما ذاك؟ قال : إن الله بعث إلينا رسوله فأمرنا أن
لا نسجد لأحد إلا لله عزوجل وأمرنا بالصلاة والزكاة.
قال عمرو بن العاص
: فإنهم يخالفونك في عيسى ابن مريم ، قال : ما تقولون في عيسى ابن مريم وأمه.
قالوا : نقول كما قال الله عزوجل هو كلمة الله وروحه ألقاها إلى العذراء البتول التي لم
يمسها بشر ولم يعترضها ولد ، قال : فرفع عودا من الأرض ثم قال : يا معشر الحبشة
والقسيسين والرهبان والله ما يزيدون على الذي نقول فيه ما يساوي هذا ، مرحبا بكم
وبمن جئتم من عنده ، أشهد أنه رسول الله وأنه الذي نجد في الإنجيل وأنه الذي بشر
به عيسى ابن مريم انزلوا حيث شئتم ، والله لو لا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى
أكون أنا أحمل نعليه وأوضئه ، وأمر بهدية الآخرين فردت إليهما ، ثم تعجل عبد الله
بن مسعود حتى أدرك بدرا ، وزعم أن النبي صلىاللهعليهوسلم استغفر
__________________
له حين بلغه موته.
قد رويت هذه القصة
عن جعفر وأم سلمة رضي الله عنهما وموضع ذلك كتاب السيرة والمقصد أن الأنبياء عليهمالسلام لم تزل تنعته وتحكيه في كتبها على أممها وتأمرهم باتباعه
ونصره وموازرته إذا بعث ، وكان ما اشتهر الأمر في أهل الأرض على لسان إبراهيم
الخليل والد الأنبياء بعده حين دعا لأهل مكة أن يبعث الله فيهم رسولا منهم ، وكذا
على لسان عيسى ابن مريم ، ولهذا قالوا : أخبرنا عن بدء أمرك يعني في الأرض قال : «دعوة
أبي إبراهيم وبشارة عيسى ابن مريم ورؤيا أمي التي رأت» أي ظهر في أهل مكة أثر ذلك ،
والإرهاص فذكره صلوات الله وسلامه عليه.
وقوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ
قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) قال ابن جريج وابن جرير (فَلَمَّا جاءَهُمْ) أحمد أي المبشر به في الأعصار المتقادمة المنوه بذكره في
القرون السالفة. لما ظهر أمره وجاء بالبينات ، قال الكفرة والمخالفون (هذا سِحْرٌ مُبِينٌ).
(وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللهُ
لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٧) يُرِيدُونَ
لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ
الْكافِرُونَ (٨) هُوَ الَّذِي
أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ
كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)
(٩)
يقول تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى
اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ) أي : لا أحد أظلم ممن يفتري الكذب على الله ويجعل له
أندادا وشركاء وهو يدعي إلى التوحيد والإخلاص ، ولهذا قال تعالى : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ) ثم قال تعالى : (يُرِيدُونَ
لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ) أي يحاولون أن يردوا الحق بالباطل ، ومثلهم في ذلك كمثل من
يريد أن يطفئ شعاع الشمس بفيه ، وكما أن هذا مستحيل كذاك ذلك مستحيل ، ولهذا قال
تعالى : (وَاللهُ مُتِمُّ
نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى
وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ
الْمُشْرِكُونَ) وقد تقدم الكلام على هاتين الآيتين في سورة براءة بما فيه
كفاية ، ولله الحمد والمنة.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ
أَلِيمٍ (١٠) تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ
وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ
لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ(١١) يَغْفِرْ لَكُمْ
ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ
وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) وَأُخْرى
تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)
(١٣)
تقدم في حديث عبد
الله بن سلام أن الصحابة رضي الله عنهم أرادوا أن يسألوا رسول اللهصلىاللهعليهوسلم عن أحب الأعمال إلى الله عزوجل ليفعلوه ، فأنزل الله تعالى هذه السورة ومن جملتها هذه
الآية (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ
أَلِيمٍ) ثم فسر
__________________
هذه التجارة
العظيمة التي لا تبور ، التي هي محصلة للمقصود ومزيلة للمحذور فقال تعالى : (تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ
وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ
لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي من تجارة الدنيا والكد لها والتصدي لها وحدها ، ثم قال
تعالى : (يَغْفِرْ لَكُمْ
ذُنُوبَكُمْ) أي إن فعلتم ما أمرتكم به ودللتكم عليه غفرت لكم الزلات
وأدخلتكم الجنات والمساكن الطيبات والدرجات العاليات ، ولهذا قال تعالى : (وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ).
ثم قال تعالى : (وَأُخْرى تُحِبُّونَها) أي وأزيدكم على ذلك زيادة تحبونها وهي (نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) أي إذا قاتلتم في سبيله ونصرتم دينه تكفل الله بنصركم ،
قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) [محمد : ٧] وقال
تعالى : (وَلَيَنْصُرَنَّ
اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج : ٤٠] وقوله
تعالى : (وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) أي عاجل ، فهذه الزيادة هي خير الدنيا موصول بنعيم الآخرة
لمن أطاع الله ورسوله ونصر الله ودينه ، ولهذا قال تعالى : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ).
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ
لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ
أَنْصارُ اللهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ
فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ)(١٤)
يقول تعالى آمرا
عباده المؤمنين أن يكونوا أنصار الله في جميع أحوالهم بأقوالهم وأفعالهم وأنفسهم
وأموالهم وأن يستجيبوا لله ولرسوله كما استجاب الحواريون لعيسى حين قال : (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) أي من معيني في الدعوة إلى الله عزوجل؟ (قالَ الْحَوارِيُّونَ) وهم أتباع عيسى عليهالسلام (نَحْنُ أَنْصارُ
اللهِ) أي نحن أنصارك على ما أرسلت به وموازروك على ذلك ، ولهذا
بعثهم دعاة إلى الناس في بلاد الشام في الإسرائيليين واليونانيين ، وهكذا كان رسول
اللهصلىاللهعليهوسلم يقول في أيام الحج : «من رجل يؤويني حتى أبلغ رسالة ربي
فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ رسالة ربي» حتى قيض الله عزوجل له الأوس والخزرج من أهل المدينة فبايعوه ووازروه ،
وشارطوه أن يمنعوه من الأسود والأحمر إن هو هاجر إليهم ، فلما هاجر إليهم بمن معه
من أصحابه ، وفوا له بما عاهدوا الله عليه ، ولهذا سماهم الله ورسوله الأنصار وصار
ذلك علما عليهم رضي الله عنهم وأرضاهم.
وقوله تعالى : (فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي
إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ) أي لما بلغ عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسّلام رسالة ربه
إلى قومه وآزره من وازره من الحواريين ، اهتدت طائفة من بني إسرائيل بما جاءهم به
وضلت طائفة ، فخرجت عما جاءهم به وجحدوا نبوته ورموه وأمه بالعظائم ، وهم اليهود
عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة ، وغلت فيه طائفة ممن اتبعه
__________________
حتى رفعوه فوق ما
أعطاه الله من النبوة وافترقوا فرقا وشيعا فمن قائل منهم : إنه ابن الله ، وقائل
إنه ثالث ثلاثة : الأب والابن وروح القدس ، ومن قائل إنه الله ، وكل هذه الأقوال
مفصلة في سورة النساء.
وقوله تعالى : (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى
عَدُوِّهِمْ) أي نصرناهم على من عاداهم من فرق النصارى (فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) أي عليهم ، وذلك ببعثة محمد صلىاللهعليهوسلم ، كما قال الإمام أبو جعفر بن جرير رحمهالله : حدثني أبو السائب ، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش ، عن
المنهال يعني ابن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال :
لما أراد الله عزوجل أن يرفع عيسى إلى السماء خرج إلى أصحابه وهم في بيت اثنا
عشر رجلا من عين في البيت ورأسه يقطر ماء فقال : إن منكم من يكفر بي اثنتي عشرة
مرة بعد أن آمن بي ، قال : ثم قال أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني ويكون معي في
درجتي؟ قال : فقام شاب من أحدثهم سنا فقال : أنا. فقال له : اجلس. ثم أعاد عليهم
فقام الشاب فقال : أنا ، فقال له : «اجلس» ثم أعاد عليهم فقام الشاب فقال أنا ،
فقال : نعم أنت ذاك.
قال : فألقي عليه
شبه عيسى ورفع عيسى عليهالسلام من روزنة في البيت إلى السماء قال : وجاء الطلب من اليهود
فأخذوا شبيهه فقتلوه وصلبوه وكفر به بعضهم اثنتي عشرة مرة بعد أن آمنوا به ،
فتفرقوا فيه ثلاث فرق ، فقالت فرقة كان الله فينا ما شاء ثم صعد إلى السماء وهؤلاء
اليعقوبية ، وقالت فرقة كان فينا ابن الله ما شاء الله ثم رفعه إليه وهؤلاء
النسطورية ، وقالت فرقة كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء الله ثم رفعه الله إليه
وهؤلاء المسلمون ، فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقتلوها فلم يزل الإسلام طامسا
حتى بعث الله محمدا صلىاللهعليهوسلم (فَآمَنَتْ طائِفَةٌ
مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ) يعني الطائفة التي كفرت من بني إسرائيل في زمن عيسى
والطائفة التي آمنت في زمن عيسى (فَأَيَّدْنَا
الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) بإظهار محمد صلىاللهعليهوسلم دينهم على دين
الكفار.
هذا لفظه في كتابه
عند تفسير هذه الآية الكريمة ، وهكذا رواه النسائي عند تفسير هذه الآية من سننه عن
أبي كريب محمد بن العلاء عن أبي معاوية بمثله سواء.
فأمة محمد صلىاللهعليهوسلم لا يزالون ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله وهم كذلك ،
وحتى يقاتل آخرهم الدجال مع المسيح عيسى ابن مريم عليهالسلام كما وردت بذلك الأحاديث الصحاح ، والله أعلم. آخر تفسير
سورة الصف ولله الحمد والمنة.
__________________
تفسير سورة الجمعة
وهي مدنية
عن ابن عباس وأبي
هريرة رضي الله عنهما ، أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان يقرأ في صلاة الجمعة بسورة الجمعة والمنافقين ، رواه
مسلم في صحيحه.
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما
فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) هُوَ الَّذِي بَعَثَ
فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ
وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ
مُبِينٍ (٢) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا
بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) ذلِكَ فَضْلُ اللهِ
يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)
(٤)
يخبر تعالى أنه
يسبح له ما في السموات وما في الأرض ، أي من جميع المخلوقات ناطقها وجامدها ، كما
قال تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ
إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) [الإسراء : ٤٤] ثم
قال تعالى : (الْمَلِكِ
الْقُدُّوسِ) أي هو مالك السموات والأرض المتصرف فيهما بحكمه ، وهو
القدوس ، أي المنزه عن النقائص الموصوف بصفات الكمال (الْعَزِيزِ
الْحَكِيمِ) تقدم تفسيرهما غير مرة. وقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ
رَسُولاً مِنْهُمْ) الأميون هم العرب ، كما قال تعالى : (وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ
وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ
تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) [آل عمران : ٢٠]
وتخصيص الأميين بالذكر لا ينفي من عداهم ، ولكن المنة عليهم أبلغ وأكثر ، كما قال
تعالى في قوله : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ
لَكَ وَلِقَوْمِكَ) [الزخرف : ٤٤] وهو
ذكر لغيرهم يتذكرون به ، وكذا قال تعالى : (وَأَنْذِرْ
عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) [الشعراء : ٢١٤].
وهذا وأمثاله لا
ينافي قوله تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا
النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) [الأعراف : ١٥٨] وقوله : (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ
وَمَنْ بَلَغَ) [الأنعام : ١٩]
وقوله تعالى إخبارا عن القرآن : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ
مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) [هود : ١٧] إلى
غير ذلك من الآيات الدالة على عموم بعثته ، صلوات الله وسلامه عليه ، إلى جميع
الخلق أحمرهم وأسودهم ، وقد قدمنا تفسير ذلك في سورة الأنعام بالآيات والأحاديث
الصحيحة ، ولله الحمد والمنة.
وهذه الآية هي
مصداق إجابة الله لخليله إبراهيم ، حين دعا لأهل مكة أن يبعث الله فيهم رسولا
__________________
منهم ، يتلو عليهم
آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ، فبعثه الله سبحانه وتعالى وله الحمد
والمنة على حين فترة من الرسل وطموس من السبل ، وقد اشتدت الحاجة إليه ، وقد مقت
الله أهل الأرض عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب ، أي نزرا يسيرا ممن تمسك
بما بعث الله به عيسى ابن مريم عليهالسلام ، ولهذا قال تعالى : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ
فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ
وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ
مُبِينٍ).
وذلك أن العرب
كانوا قديما متمسكين بدين إبراهيم الخليل عليهالسلام ، فبدلوه وغيروه وقلبوه وخالفوه واستبدلوا بالتوحيد شركا
وباليقين شكا ، وابتدعوا أشياء لم يأذن بها الله ، وكذلك أهل الكتاب قد بدلوا
كتبهم وحرفوها وغيروها وأولوها ، فبعث الله محمدا صلوات الله وسلامه عليه بشرع
عظيم كامل شامل لجميع الخلق ، فيه هدايتهم والبيان لجميع ما يحتاجون إليه من أمر
معاشهم ومعادهم ، والدعوة لهم إلى ما يقربهم إلى الجنة ورضا الله عنهم ، والنهي
عما يقربهم إلى النار وسخط الله تعالى حاكم فاصل لجميع الشبهات والشكوك والريب في
الأصول والفروع ، وجمع له تعالى وله الحمد والمنة جميع المحاسن ممن كان قبله
وأعطاه ما لم يعط أحدا من الأولين ولا يعطيه أحدا من الآخرين ، فصلوات الله وسلامه
عليه دائما إلى يوم الدين.
وقوله تعالى : (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا
بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) قال الإمام أبو عبد الله البخاري رحمهالله تعالى : حدثنا عبد العزيز بن عبد الله ، حدثنا سليمان بن
بلال عن ثور عن أبي الغيث عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : كنا جلوسا عند النبي صلىاللهعليهوسلم فأنزلت عليه سورة الجمعة (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ
لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) قالوا : من هم يا رسول الله؟ فلم يراجعهم حتى سئل ثلاثا ،
وفينا سلمان الفارسي فوضع رسول الله صلىاللهعليهوسلم يده على سلمان الفارسي ثم قال : «لو كان الإيمان عند
الثريا لنا له رجال ـ أو رجل ـ من هؤلاء» ورواه مسلم والترمذي والنسائي وابن أبي حاتم وابن جرير من
طرق ، عن ثور بن زيد الديلي عن سالم أبي الغيث عن أبي هريرة به.
ففي هذا الحديث
دليل على أن هذه السورة مدنية وعلى عموم بعثته صلىاللهعليهوسلم إلى جميع الناس ، لأنه فسر قوله تعالى : (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ) بفارس ، ولهذا كتب كتبه إلى فارس والروم وغيرهم من الأمم ،
يدعوهم إلى الله عزوجل وإلى اتباع ما جاء به ، ولهذا قال مجاهد وغير واحد في قوله
تعالى : (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ
لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) قال : هم الأعاجم وكل من صدق النبي صلىاللهعليهوسلم من غير العرب.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبي ، حدثنا إبراهيم بن العلاء الزبيدي ، حدثنا الوليد بن مسلم،
__________________
حدثنا أبو محمد
عيسى بن موسى عن أبي حازم عن سهل بن سعد الساعدي قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن في أصلاب أصلاب رجال من أصحابي ورجالا ونساء من أمتي
يدخلون الجنة بغير حساب» ثم قرأ : (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ
لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) يعني بقية من بقي من أمة محمدصلىاللهعليهوسلم. وقوله تعالى : (وَهُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ) أي : ذو العزة والحكمة في شرعه وقدره ، وقوله تعالى : (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ
يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) يعني ما أعطاه الله محمداصلىاللهعليهوسلم من النبوة العظيمة وما خص به أمته من بعثته صلىاللهعليهوسلم إليهم.
(مَثَلُ الَّذِينَ
حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ
أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا
يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥) قُلْ يا أَيُّهَا
الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ
النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦)
وَلا
يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ
بِالظَّالِمِينَ (٧) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ
الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ
الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)
(٨)
يقول تعالى ذاما
لليهود الذين أعطوا التوراة وحملوها للعمل بها ثم لم يعملوا بها : مثلهم في ذلك
كمثل الحمار يحمل أسفارا ، أي كمثل الحمار إذا حمل كتبا لا يدري ما فيها ، فهو
يحملها حملا حسيا ولا يدري ما عليه ، وكذلك هؤلاء في حملهم الكتاب الذي أوتوه
حفظوه لفظا ولم يفهموه ولا عملوا بمقتضاه ، بل أولوه وحرفوه وبدلوه فهم أسوأ حالا
من الحمير ، لأن الحمار لا فهم له ، وهؤلاء لهم فهوم لم يستعملوها ، ولهذا قال
تعالى في الآية الأخرى : (أُولئِكَ
كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) [الأعراف : ١٧٩]
وقال تعالى هاهنا : (بِئْسَ مَثَلُ
الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ).
وقال الإمام أحمد رحمهالله : حدثنا ابن نمير عن مجالد عن الشعبي عن ابن عباس قال : قال
رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل
أسفارا والذي يقول له أنصت ليس له جمعة».
ثم قال تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ
زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا
الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي إن كنتم تزعمون أنكم على هدى ، وأن محمدا وأصحابه على
ضلالة ، فادعوا بالموت على الضال من الفئتين إن كنتم صادقين ، أي فيما تزعمونه.
قال الله تعالى : (وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما
قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) أي بما يعملون لهم من الكفر والظلم والفجور (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) وقد قدمنا الكلام في سورة البقرة على هذه المباهلة لليهود
، حيث قال تعالى : (قُلْ إِنْ كانَتْ
لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ
فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً
بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ وَلَتَجِدَنَّهُمْ
أَحْرَصَ
__________________
النَّاسِ
عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ
أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ
بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) [البقرة : ٩٤ ـ ٩٦]
، وقد أسلفنا الكلام هناك ، وبينا أن المراد أن يدعوا على الضلال من أنفسهم أو
خصومهم كما تقدمت مباهلة النصارى في آل عمران (فَمَنْ حَاجَّكَ
فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا
وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ
نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) [آل عمران : ٦١]
ومباهلة المشركين في سورة مريم (قُلْ مَنْ كانَ فِي
الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) [مريم : ٧٥].
وقد قال الإمام
أحمد : حدثنا إسماعيل بن يزيد الرقي ، أبو يزيد ، حدثنا فرات عن عبد الكريم بن
مالك الجزري ، عن عكرمة عن ابن عباس ، قال : قال أبو جهل لعنه الله : إن رأيت
محمدا عند الكعبة لآتينه حتى أطأ على عنقه ، قال : فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لو فعل لأخذته الملائكة عيانا ولو أن اليهود تمنوا
الموت لماتوا ورأوا مقاعدهم من النار ، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلىاللهعليهوسلم لرجعوا لا يجدون أهلا ولا مالا» رواه البخاري والترمذي والنسائي من حديث عبد الرزاق عن
معمر ، عن عبد الكريم ، قال البخاري وتبعه عمرو بن خالد عن عبيد الله بن عمرو عن
عبد الكريم ، ورواه النسائي أيضا عن عبد الرّحمن بن عبيد الله الحلبي عن عبيد الله
بن عمرو الرقي به أتم.
وقوله تعالى : (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي
تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ
وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) كقوله تعالى في سورة النساء (أَيْنَما تَكُونُوا
يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) [النساء : ٧٨] وفي
معجم الطبراني من حديث معاذ بن محمد الهذلي عن يونس عن الحسن عن سمرة مرفوعا «مثل
الذي يفر من الموت كمثل الثعلب تطلبه الأرض بدين ، فجاء يسعى حتى إذا أعيا وانبهر
دخل جحره فقالت له الأرض يا ثعلب ديني ، فخرج له حصاص فلم يزل كذلك حتى تقطعت عنقه فمات».
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا
إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ (٩) فَإِذا قُضِيَتِ
الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا
اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)
(١٠)
إنما سميت الجمعة
جمعة لأنها مشتقة من الجمع ، فإن أهل الإسلام يجتمعون فيه في كل أسبوع مرة
بالمعابد الكبار ، وفيه كمل جميع الخلائق فإنه اليوم السادس من الستة التي خلق
الله فيها السموات والأرض ، وفيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة ، وفيه أخرج منها وفيه
تقوم الساعة ،
__________________
وفيه ساعة لا
يوافقها عبد مؤمن يسأل الله فيها خيرا إلا أعطاه إياه ، كما ثبتت بذلك الأحاديث
الصحاح. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن عرفة ، حدثنا عبيدة بن حميد عن منصور
عن أبي معشر عن إبراهيم عن علقمة عن قرثع الضبي ، حدثنا سلمان قال : قال أبو
القاسم صلىاللهعليهوسلم : «يا سلمان ما يوم الجمعة؟» قلت : الله ورسوله أعلم. فقال
رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «يوم الجمعة يوم جمع الله فيه أبواكم ـ أو أبوكم ـ» وقد
روي عن أبي هريرة من كلامه نحو هذا فالله أعلم.
وقد كان يقال له
في اللغة القديمة يوم العروبة ، وثبت أن الأمم قبلنا أمروا به فضلوا عنه ، واختار
اليهود يوم السبت الذي لم يقع فيه خلق آدم ، واختار النصارى يوم الأحد الذي ابتدئ
فيه الخلق ، واختار الله لهذه الأمة يوم الجمعة الذي أكمل الله فيه الخليقة كما
أخرجه البخاري ومسلم من حديث عبد الرزاق عن معمر عن همام بن منبه قال : هذا ما
حدثنا أبو هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة ، بيد أنهم أوتوا
الكتاب من قبلنا ، ثم إن هذا يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله
له ، فالناس لنا فيه تبع ، اليهود غدا والنصارى بعد غد» لفظ البخاري وفي لفظ لمسلم «أضل الله عن
الجمعة من كان قبلنا ، فكان لليهود يوم السبت ، وكان للنصارى يوم الأحد ، فجاء
الله بنا فهدانا الله ليوم الجمعة ، فجعل الجمعة والسبت والأحد ، وكذلك هم تبع لنا
يوم القيامة نحن الآخرون من أهل الدنيا ، والأولون يوم القيامة المقضي بينهم قبل
الخلائق».
وقد أمر الله
المؤمنين بالاجتماع لعبادته يوم الجمعة فقال تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا
إِلى ذِكْرِ اللهِ) أي اقصدوا واعمدوا واهتموا في سيركم إليها ، وليس المراد
بالسعي هاهنا المشي السريع وإنما هو الاهتمام بها كقوله تعالى : (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها
سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ) [الإسراء : ١٩]
وكان عمر بن الخطاب وابن مسعود رضي الله عنهما يقرءانها «فامضوا إلى ذكر الله».
فأما المشي السريع
إلى الصلاة فقد نهي عنه لما أخرجاه في الصحيحين ، عن أبي هريرة عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم السكينة
والوقار ولا تسرعوا ، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا» لفظ البخاري وعن أبي قتادة قال : بينما نحن نصلي مع النبي صلىاللهعليهوسلم إذ سمع جلبة رجال ، فلما صلّى قال : «ما شأنكم؟» قالوا :
استعجلنا إلى الصلاة قال «فلا تفعلوا ، إذا أتيتم الصلاة فامشوا وعليكم السكينة
فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا»
__________________
أخرجاه. وقال عبد
الرزاق : أخبرنا معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال
: قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون ولكن ائتوها تمشون ،
وعليكم السكينة والوقار فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا» . رواه الترمذي من حديث عبد الرزاق كذلك ، وأخرجه من طريق
يزيد بن زريع عن معمر عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة بمثله ، قال الحسن : أما
والله ما هو بالسعي على الأقدام ولقد نهوا أن يأتوا الصلاة إلا وعليهم السكينة
والوقار ولكن بالقلوب والنية والخشوع. وقال قتادة في قوله : (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) يعني أن تسعى بقلبك وعملك وهو المشي إليها ، وكان يتأول
قوله تعالى : (فَلَمَّا بَلَغَ
مَعَهُ السَّعْيَ) أي المشي معه ، وروي عن محمد بن كعب وزيد بن أسلم وغيرهما
نحو ذلك.
ويستحب لمن جاء
إلى الجمعة أن يغتسل قبل مجيئه إليها ، لما ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن عمر أن
رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل» ولهما عن أبي سعيد رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم» وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «حق لله على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام ، يغسل
رأسه وجسده» رواه مسلم ، وعن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم : «على كل رجل مسلم في كل سبعة أيام غسل يوم وهو يوم
الجمعة» رواه أحمد والنسائي وابن حبان.
وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن آدم ، حدثنا ابن المبارك عن الأوزاعي عن
حسان بن عطية عن أبي الأشعث الصنعاني ، عن أوس بن أوس الثقفي قال : سمعت رسول الله
صلىاللهعليهوسلم يقول : «من غسل واغتسل يوم الجمعة وبكر وابتكر ومشى ولم
يركب ، ودنا من الإمام واستمع ولم يلغ ، كان له بكل خطوة أجر سنة أجر صيامها
وقيامها» وهذا الحديث له طرق وألفاظ ، وقد أخرجه أهل السنن الأربعة
وحسنه الترمذي ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : إن رسول اللهصلىاللهعليهوسلم قال : «من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح في الساعة
الأولى فكأنما قرب بدنة ، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ، ومن راح في
الساعة الثالثة فكأنما
__________________
قرب كبشا أقرن ،
ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما
قرب بيضة ، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر» أخرجاه.
ويستحب له أن يلبس
أحسن ثيابه ويتطيب ويتنظف ويتسوك ويتطهر. وفي حديث أبي سعيد المتقدم «غسل يوم
الجمعة واجب على كل محتلم والسواك وأن يمس من طيب أهله».
وقال الإمام أحمد : حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي عن محمد بن إسحاق ، حدثني محمد
بن إبراهيم التيمي عن عمران بن أبي يحيى ، عن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبي أيوب
الأنصاري : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «من اغتسل يوم الجمعة ومس من طيب أهله إن كان عنده
ولبس من أحسن ثيابه ثم خرج حتى يأتي المسجد فيركع إن بدا له ولم يؤذ أحدا ، ثم
أنصت إذا خرج إمامه حتى يصلي كانت كفارة لما بينها وبين الجمعة الأخرى» وفي سنن
أبي داود وابن ماجة عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه ، أنه سمع رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول على المنبر : «ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم
الجمعة سوى ثوبي مهنته» وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم خطب الناس يوم الجمعة ، فرأى عليهم ثياب النمار فقال : «ما
على أحدكم إن وجد سعة أن يتخذ ثوبين لجمعته سوى ثوبي مهنته» رواه ابن ماجة.
وقوله تعالى : (إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ
الْجُمُعَةِ) المراد بهذا النداء هو النداء الثاني الذي كان يفعل بين
يدي رسول الله صلىاللهعليهوسلم إذا خرج فجلس على المنبر ، فإنه كان حينئذ يؤذن بين يديه
فهذا هو المراد ، فأما النداء الأول الذي زاده أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي
الله عنه ، فإنما كان هذا لكثرة الناس كما رواه البخاري رحمهالله حيث قال : حدثنا آدم هو ابن أبي إياس ، حدثنا ابن أبي ذئب
عن الزهري عن السائب بن يزيد قال : كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على
المنبر على عهد رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأبي بكر وعمر ، فلما كان عثمان بعد زمن وكثر الناس ، زاد
النداء الثاني على الزوراء يعني يؤذن به على الدار التي تسمى بالزوراء ، وكانت أرفع
دار بالمدينة بقرب المسجد.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبي ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا إبراهيم ، حدثنا محمد بن راشد المكحولي عن
مكحول أن النداء كان في يوم الجمعة مؤذن واحد ، حين يخرج الإمام ثم تقام الصلاة
وذلك النداء الذي يحرم عنده الشراء والبيع إذا نودي به ، فأمر عثمان رضي الله عنه
أن ينادي قبل خروج الإمام حتى يجتمع الناس. وإنما يؤمر بحضور الجمعة الرجال
الأحرار دون
__________________
العبيد والنساء
والصبيان ، ويعذر المسافر والمريض وقيّم المريض وما أشبه ذلك من الأعذار ، كما هو
مقرر في كتب الفروع.
وقوله تعالى : (وَذَرُوا الْبَيْعَ) أي اسعوا إلى ذكر الله واتركوا البيع إذا نودي للصلاة ،
ولهذا اتفق العلماء رضي الله عنهم على تحريم البيع بعد النداء الثاني ، واختلفوا
هل يصح إذا تعاطاه متعاط أم لا؟ على قولين وظاهر الآية عدم الصحة كما هو مقرر في
موضعه ، والله أعلم. وقوله تعالى : (ذلِكُمْ خَيْرٌ
لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي ترككم البيع وإقبالكم إلى ذكر الله وإلى الصلاة خير لكم
أي في الدنيا والآخرة إن كنتم تعلمون.
وقوله تعالى : (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ) أي فرغ منها (فَانْتَشِرُوا فِي
الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) لما حجر عليهم في التصرف بعد النداء وأمرهم بالاجتماع أذن
لهم بعد الفراغ في الانتشار في الأرض والابتغاء من فضل الله ، كما كان عراك بن
مالك رضي الله عنه إذا صلّى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد فقال : اللهم إني
أجبت دعوتك وصليت فريضتك وانتشرت كما أمرتني فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين ،
رواه ابن أبي حاتم.
وروي عن بعض السلف
أنه قال : من باع واشترى في يوم الجمعة بعد الصلاة بارك الله له سبعين مرة لقول
الله تعالى : (فَإِذا قُضِيَتِ
الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) وقوله تعالى : (وَاذْكُرُوا اللهَ
كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي في حال بيعكم وشرائكم وأخذكم وإعطائكم اذكروا الله ذكرا
كثيرا ، ولا تشغلكم الدنيا عن الذي ينفعكم في الدار الآخرة ، ولهذا جاء في الحديث «من
دخل سوقا من الأسواق فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد
وهو على كل شيء قدير ، كتب الله له ألف ألف حسنة ومحي عنه ألف ألف سيئة» وقال مجاهد : لا يكون العبد من الذاكرين الله كثيرا حتى
يذكر الله قائما وقاعدا ومضطجعا.
(وَإِذا رَأَوْا
تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ
اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)
(١١)
يعاتب تبارك
وتعالى على ما كان وقع من الانصراف عن الخطبة يوم الجمعة إلى التجارة التي قدمت
المدينة يومئذ فقال تعالى : (وَإِذا رَأَوْا
تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً) أي على المنبر تخطب ، هكذا ذكره غير واحد من التابعين ،
منهم أبو العالية والحسن وزيد بن أسلم وقتادة ، وزعم مقاتل بن حيان أن التجارة
كانت لدحية بن خليفة قبل أن يسلم ، وكان معها طبل فانصرفوا إليها وتركوا رسول الله
صلىاللهعليهوسلم قائما على المنبر إلا القليل منهم ، وقد صح بذلك الخبر
فقال الإمام أحمد : حدثنا ابن إدريس عن حصين عن سالم بن أبي الجعد عن
__________________
جابر قال : قدمت
عير مرة المدينة ، ورسول الله صلىاللهعليهوسلم يخطب فخرج الناس وبقي اثنا عشر رجلا فنزلت (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً
انْفَضُّوا إِلَيْها) أخرجاه في الصحيحين من حديث سالم به.
وقال الحافظ أبو
يعلى : حدثنا زكريا بن يحيى ، حدثنا هشيم عن حصين عن سالم بن أبي الجعد وأبي سفيان
عن جابر بن عبد الله قال : بينما النبي صلىاللهعليهوسلم يخطب يوم الجمعة ، فقدمت عير إلى المدينة فابتدرها أصحاب
رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، حتى لم يبق مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلا اثنا عشر رجلا فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «والذي نفسي بيده لو تتابعتم حتى لم يبق منكم أحد لسال
بكم الوادي نارا» ونزلت هذه الآية (وَإِذا رَأَوْا
تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً) وقال : كان في الاثني عشر الذين ثبتوا مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم : أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.
وفي قوله تعالى : (وَتَرَكُوكَ قائِماً) دليل على أن الإمام يخطب يوم الجمعة قائما. وقد روى مسلم
في صحيحه عن جابر بن سمرة قال : كانت للنبي صلىاللهعليهوسلم خطبتان يجلس بينهما يقرأ القرآن ويذكر الناس ، ولكن هاهنا شيء ينبغي أن يعلم وهو : أن هذه القصة قد قيل
إنها كانت لما كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقدم الصلاة يوم الجمعة على الخطبة ، كما رواه أبو داود في
كتاب المراسيل ، حدثنا محمود بن خالد عن الوليد ، أخبرني أبو معاذ بكير بن معروف
أنه سمع مقاتل بن حيان يقول : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يصلي يوم الجمعة قبل الخطبة مثل العيدين ، حتى إذا كان يوم
والنبي صلىاللهعليهوسلم يخطب ، وقد صلّى الجمعة ، فدخل رجل فقال : إن دحية بن
خليفة قد قدم بتجارة ، يعني فانفضوا ولم يبق معه إلا نفر يسير وقوله تعالى : (قُلْ ما عِنْدَ اللهِ) أي الذي عند الله من الثواب في الدار الآخرة (خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ
وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) أي لمن توكل عليه وطلب الرزق في وقته. آخر تفسير سورة
الجمعة ولله الحمد والمنة ، وبه التوفيق والعصمة.
__________________
تفسير سورة المنافقون
وهي مدنية
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(إِذا جاءَكَ
الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ
لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (١)
اتَّخَذُوا
أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا
يَعْمَلُونَ(٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٣) وَإِذا رَأَيْتَهُمْ
تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ
خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ
فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)
(٤)
يقول تعالى مخبرا
عن المنافقين أنهم إنما يتفوهون بالإسلام إذا جاءوا النبي صلىاللهعليهوسلم ، فأما في باطن الأمر فليسوا كذلك بل على الضد من ذلك ،
ولهذا قال تعالى : (إِذا جاءَكَ
الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) أي إذا حضروا عندك واجهوك بذلك ، وأظهروا لك ذلك ، وليسوا
كما يقولون ، ولهذا اعترض بجملة مخبرة أنه رسول الله فقال : (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) ثم قال تعالى : (وَاللهُ يَشْهَدُ
إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) أي فيما أخبروا به وإن كان مطابقا للخارج لأنهم لم يكونوا
يعتقدون صحة ما يقولون ولا صدقه ، ولهذا كذبهم بالنسبة إلى اعتقادهم.
وقوله تعالى : (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً
فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي اتقوا الناس بالأيمان الكاذبة والحلفات الآثمة ليصدقوا
فيما يقولون ، فاغتر بهم من لا يعرف جلية أمرهم ، فاعتقدوا أنهم مسلمون ، فربما
اقتدى بهم فيما يفعلون وصدقهم فيما يقولون ، وهم من شأنهم أنهم كانوا في الباطن لا
يألون الإسلام وأهله خبالا ، فحصل بهذا القدر ضرر كبير على كثير من الناس ، ولهذا
قال تعالى : (فَصَدُّوا عَنْ
سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) ولهذا كان الضحاك بن مزاحم يقرؤها اتخذوا إيمانهم جنة أي
تصديقهم الظاهر جنة أي تقية يتقون به القتل ، والجمهور يقرؤها (أَيْمانَهُمْ) جمع يمين ، وقوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) أي إنما قدر عليهم النفاق لرجوعهم عن الإيمان إلى الكفران
، واستبدالهم الضلالة بالهدى ، فطبع الله (عَلى قُلُوبِهِمْ
فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ). أي فلا يصل إلى قلوبهم هدى ولا يخلص إليها خير فلا تعي
ولا تهتدي.
وقوله تعالى : (وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ
أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) أي وكانوا أشكالا حسنة وذوي فصاحة وألسنة ، وإذا سمعهم
السامع يصغي إلى قولهم لبلاغتهم ، وهم مع ذلك
في غاية الضعف
والخور والهلع والجزع والجبن ، ولهذا قال تعالى : (يَحْسَبُونَ كُلَّ
صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) أي كلما وقع أمر أو كائنة أو خوف يعتقدون لجبنهم أنه نازل
بهم كما قال تعالى : (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ
فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ
كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ
بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا
فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) [الأحزاب : ١٩]
فهم جهامات وصور بلا معاني ، ولهذا قال تعالى : (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ
قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي كيف يصرفون عن الهدى إلى الضلال.
وقد قال الإمام
أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا عبد الملك بن قدامة الجمحي عن إسحاق بن بكير بن أبي
الفرات عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي
صلىاللهعليهوسلم قال : «إن للمنافقين علامات يعرفون بها : تحيتهم لعنة
وطعامهم نهبة وغنيمتهم غلول ولا يقربون المساجد إلا هجرا ، ولا يأتون الصلاة إلا
دبرا ، مستكبرين لا يألفون ولا يؤلفون ، خشب بالليل صخب بالنهار» وقال يزيد بن مرة
: سخب بالنهار.
(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ
تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ
يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٥) سَواءٌ عَلَيْهِمْ
أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ
إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٦) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ
لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ
خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (٧)
يَقُولُونَ
لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ
وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا
يَعْلَمُونَ)
(٨)
يقول تعالى مخبرا
عن المنافقين عليهم لعائن الله أنهم (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ
تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ) أي صدوا وأعرضوا عما قيل لهم استكبارا عن ذلك واحتقارا لما
قيل لهم ، ولهذا قال تعالى : (وَرَأَيْتَهُمْ
يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) ثم جازاهم على ذلك فقال تعالى : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ
لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لا
يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) كما قال في سورة براءة ، وقد تقدم الكلام على ذلك وإيراد
الأحاديث المروية هنالك.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي عمر العدني قال : قال سفيان (لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ) قال ابن أبي عمر : وحوّل سفيان وجهه على يمينه ونظر بعينه شزرا
ثم قال : هو هذا. وقد ذكر غير واحد من السلف أن هذا السياق كله نزل في عبد الله بن
أبي ابن سلول كما سنورده قريبا إن شاء الله تعالى ، وبه الثقة وعليه التكلان.
وقد قال محمد بن
إسحاق في السيرة : ولما قدم رسول الله صلىاللهعليهوسلم المدينة ، يعني مرجعه
__________________
من أحد ، وكان عبد
الله بن أبي ابن سلول كما حدثني ابن شهاب الزهري له مقام يقومه كل جمعة ، لا ينكر
شوفا له من نفسه ومن قومه ، وكان فيهم شريفا ، إذا جلس النبي صلىاللهعليهوسلم يوم الجمعة وهو يخطب الناس قام فقال : أيها الناس ، هذا
رسول الله صلىاللهعليهوسلم بين أظهركم ، أكرمكم الله به وأعزكم به فانصروه وعزروه
واسمعوا له وأطيعوا ، ثم يجلس حتى إذا صنع يوم أحد ما صنع ، يعني مرجعه بثلث الجيش
ورجع الناس ، قام يفعل ذلك كما كان يفعله ، فأخذ المسلمون بثيابه من نواحيه وقالوا
: اجلس ، أي عدو الله لست لذلك بأهل وقد صنعت ما صنعت ، فخرج يتخطى رقاب الناس وهو
يقول : والله لكأنما قلت بجرا إن قمت أشدد أمره ، فلقيه رجال من الأنصار بباب
المسجد فقالوا : ويلك ما لك؟ قال : قمت أشدد أمره فوثب علي رجال من أصحابه
يجذبونني ويعنفونني ، لكأنما قلت بجرا إن قمت أشدد أمره. قالوا : ويلك ارجع يستغفر
لك رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فقال : والله ما أبتغي أن يستغفر لي.
وقال قتادة والسدي
: أنزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي ، وذلك أن غلاما من قرابته انطلق إلى رسول
الله صلىاللهعليهوسلم ، فحدثه بحديث عنه وأمر شديد ، فدعاه رسول الله صلىاللهعليهوسلم فإذا هو يحلف بالله ويتبرأ من ذلك ، وأقبلت الأنصار على
ذلك الغلام فلاموه وعذموه ، وأنزل الله فيه ما تسمعون ، وقيل لعدو الله : لو أتيت
رسول الله صلىاللهعليهوسلم فجعل يلوي رأسه ، أي لست فاعلا.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبي ، حدثنا أبو الربيع الزهراني ، حدثنا حماد بن زيد ، حدثنا أيوب عن
سعيد بن جبير أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان إذا نزل منزلا لم يرتحل حتى يصلي فيه ، فلما كانت غزوة
تبوك بلغه أن عبد الله بن أبي ابن سلول قال : (لَيُخْرِجَنَّ
الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ) ، فارتحل قبل أن ينزل آخر النهار ، وقيل لعبد الله بن أبي
: ائت النبي صلىاللهعليهوسلم حتى يستغفر لك ، فأنزل الله تعالى : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ) ـ إلى قوله ـ (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ
تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ) وهذا إسناد صحيح إلى سعيد بن جبير. وقوله : إن ذلك كان في
غزوة تبوك فيه نظر بل ليس بجيد ، فإن عبد الله بن أبي ابن سلول لم يكن ممن خرج في
غزوة تبوك ، بل رجع بطائفة من الجيش ، وإنما المشهور عند أصحاب المغازي والسير أن
ذلك في غزوة المريسيع ، وهي غزوة بني المصطلق.
وقال يونس بن بكير
عن ابن إسحاق : حدثني محمد بن يحيى بن حبان وعبد الله بن أبي بكر وعاصم بن عمر بن
قتادة في قصة بني المصطلق ، فبينا رسول الله صلىاللهعليهوسلم مقيم هناك اقتتل على الماء جهجاه بن سعيد الغفاري ، وكان
أجيرا لعمر بن الخطاب وسنان بن وبر قال ابن إسحاق : فحدثني محمد بن يحيى بن حبان
قال : ازدحما على الماء فاقتتلا ، فقال سنان : يا معشر الأنصار ، وقال الجهجاه :
يا معشر المهاجرين ، وزيد بن أرقم ونفر من الأنصار عند عبد الله بن أبي ، فلما
سمعها قال : قد ثاورونا في بلادنا ، والله ما مثلنا وجلابيب قريش هذه إلا كما قال
القائل : سمّن كلبك يأكلك ، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل
، ثم أقبل
على من عنده من
قومه وقال : هذا ما صنعتم بأنفسكم ، أحللتموهم بلادكم ، وقاسمتموهم أموالكم ، أما
والله لو كففتم عنهم لتحولوا عنكم من بلادكم إلى غيرها ، فسمعها زيد بن أرقم رضي
الله عنه فذهب بها إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم : وهو غليم عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فأخبره الخبر
، فقال عمر رضي الله عنه : يا رسول الله مر عباد بن بشر فليضرب عنقه ، قال رسول
الله صلىاللهعليهوسلم «فكيف إذا تحدث
الناس يا عمر أن محمدا يقتل أصحابه ، لا ، ولكن ناد يا عمر الرحيل» فلما بلغ عبد
الله بن أبي أن ذلك قد بلغ رسول الله صلىاللهعليهوسلم أتاه فاعتذر إليه ، وحلف بالله ما قال ، ما قال عليه زيد
بن أرقم ، وكان عند قومه بمكان فقالوا : يا رسول الله عسى أن يكون هذا الغلام أوهم
ولم يثبت ما قال الرجل.
وراح رسول الله صلىاللهعليهوسلم مهجرا في ساعة كان لا يروح فيها ، فلقيه أسيد بن الحضير
رضي الله عنه فسلم عليه بتحية النبوة ثم قال : والله لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت
تروح فيها ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أما بلغك ما قال صاحبك ابن أبي؟ زعم أنه إذا قدم
المدينة سيخرج الأعز منها الأذل» قال : فأنت يا رسول الله العزيز وهو الذليل. ثم
قال : ارفق به يا رسول الله ، فو الله لقد جاء الله بك وإنا لننظم له الخرز
لنتوّجه ، فإنه ليرى أن قد سلبته ملكا ، فسار رسول اللهصلىاللهعليهوسلم بالناس حتى أمسوا وليلته حتى أصبحوا ، وصدر يومه حتى اشتد
الضحى ثم نزل بالناس ليشغلهم عما كان من الحديث ، فلم يأمن الناس أن وجدوا مس
الأرض فناموا ونزلت سورة المنافقين .
وقال الحافظ أبو
بكر البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، أخبرنا أبو بكر بن إسحاق أخبرنا بشر
بن موسى ، حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان ، حدثنا عمر بن دينار ، سمعت جابر بن عبد
الله يقول : كنا مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم في غزاة فكسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار : فقال الأنصاري : يا
للأنصار! وقال المهاجري يا للمهاجرين فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ما بال دعوى الجاهلية؟ دعوها فإنها منتنة».
وقال عبد الله بن
أبي ابن سلول : وقد فعلوها ، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل
، قال جابر : وكان الأنصار بالمدينة أكثر من المهاجرين حين قدم رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ثم كثر المهاجرون بعد ذلك ، فقال عمر : دعني أضرب عنق
هذا المنافق ، فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه» ورواه الإمام أحمد عن حسين بن محمد المروزي عن سفيان بن
عيينة ، ورواه البخاري عن الحميدي ومسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وغيره عن سفيان به
نحوه.
__________________
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة عن الحكم ، عن محمد بن
كعب القرظي عن زيد بن أرقم قال : كنت مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم في غزوة تبوك فقال عبد الله بن أبي: لئن رجعنا إلى المدينة
ليخرجن الأعز منها الأذل ، قال : فأتيت النبي صلىاللهعليهوسلم فأخبرته ، قال : فحلف عبد الله بن أبي أنه لم يكن شيء من
ذلك ، قال : فلامني قومي وقالوا : ما أردت إلى هذا؟ قال : فانطلقت فنمت كئيبا
حزينا ، قال : فأرسل إلي نبي الله صلىاللهعليهوسلم فقال : «إن الله قد أنزل عذرك وصدقك» قال : فنزلت هذه
الآية (هُمُ الَّذِينَ
يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا) ـ حتى بلغ ـ (لَئِنْ رَجَعْنا
إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ) ورواه البخاري عند هذه الآية عن آدم بن أبي إياس عن شعبة ،
ثم قال : وقال ابن أبي زائدة عن الأعمش عن عمرو عن ابن أبي ليلى عن زيد عن النبي صلىاللهعليهوسلم ، ورواه الترمذي والنسائي عندها أيضا من حديث شعبة به.
[طريق أخرى عن زيد]
قال الإمام أحمد رحمهالله : حدثنا يحيى بن آدم ويحيى بن أبي بكير قالا : حدثنا إسرائيل
عن أبي إسحاق قال : سمعت زيد بن أرقم ، وقال ابن أبي بكير عن زيد بن أرقم قال :
خرجت مع عمي في غزاة فسمعت عبد الله بن أبي ابن سلول يقول لأصحابه : لا تنفقوا على
من عند رسول الله صلىاللهعليهوسلم ولئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، فذكرت
ذلك لعمي فذكره عمي لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فأرسل إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فحدثته ، فأرسل إلى عبد الله بن أبي ابن سلول وأصحابه
فحلفوا بالله ما قالوا ، فكذبني رسول الله صلىاللهعليهوسلم وصدقه فأصابني هم لم يصبني مثله قط ، وجلست في البيت فقال
عمي : ما أردت إلا أن كذبك رسول الله صلىاللهعليهوسلم ومقتك! قال حتى أنزل الله (إِذا جاءَكَ
الْمُنافِقُونَ) قال : فبعث إلي رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقرأها رسول اللهصلىاللهعليهوسلم علي ثم قال : «إن الله قد صدقك».
ثم قال أحمد أيضا : حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا زهير ، حدثنا أبو إسحاق
أنه سمع زيد بن أرقم يقول : خرجنا مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم في سفر فأصاب الناس شدة فقال عبد الله بن أبي لأصحابه : لا
تنفقوا على من عند رسول الله صلىاللهعليهوسلم حتى ينفضوا من حوله ، وقال لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن
الأعز منها الأذل ، فأتيت النبي صلىاللهعليهوسلم فأخبرته بذلك فأرسل إلى عبد الله بن أبي فسأله ، فاجتهد
يمينه ما فعل فقالوا : كذب زيد يا رسول الله ، فوقع في نفسي مما قالوا فأنزل الله
تصديقي (إِذا جاءَكَ
الْمُنافِقُونَ) قال ودعاهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم ليستغفر لهم فلووا رؤوسهم.
__________________
وقوله تعالى : (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) قال كانوا رجالا أجمل شيء ، وقد رواه البخاري ومسلم والنسائي من حديث زهير ورواه
البخاري أيضا والترمذي من حديث إسرائيل كلاهما عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله
السبيعي الهمداني الكوفي عن زيد به.
[طريق أخرى عن زيد]
قال أبو عيسى الترمذي : حدثنا عبد بن حميد ، حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل
عن السدي عن أبي سعيد الأزدي ، قال : حدثنا زيد بن أرقم قال : غزونا مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وكان معنا أناس من الأعراب ، فكنا نبتدر الماء وكان
الأعراب يسبقوننا إليه فسبق أعرابي أصحابه ليملأ الحوض ويجعل حوله حجارة ويجعل
النطع عليه حتى يجيء أصحابه ، قال : فأتى رجل من الأنصار الأعرابي فأرخى زمام
ناقته لتشرب ، فأبى أن يدعه فانتزع حجرا ففاض الماء ، فرفع الأعرابي خشبته فضرب
بها رأس الأنصاري فشجه ، فأتى عبد الله بن أبي رأس المنافقين فأخبره ، وكان من
أصحابه فغضب عبد الله بن أبي ثم قال : لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا
من حوله ، يعني الأعراب ، وكانوا يحضرون رسول الله صلىاللهعليهوسلم عند الطعام ، فقال عبد الله لأصحابه : إذا انفضوا من عند
محمد فائتوا محمدا بالطعام فليأكل هو ومن معه ، ثم قال لأصحابه : لئن رجعتم إلى
المدينة فليخرج الأعز منها الأذل.
قال زيد وأنا ردف
عمي ، قال فسمعت عبد الله بن أبي يقول ما قال ، فأخبرت عمي فانطلق فأخبر رسول الله
صلىاللهعليهوسلم فأرسل إليه رسول الله صلىاللهعليهوسلم فحلف وجحد ، قال فصدقه رسول اللهصلىاللهعليهوسلم وكذبني ، قال فجاء إلي عمي فقال ما أردت إلا أن مقتك رسول
الله صلىاللهعليهوسلم وكذبك والمسلمون ، قال فوقع علي من الغم ما لم يقع على أحد
قط ، قال فبينما أنا أسير مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم في سفر ، وقد خفقت برأسي من الهم ، إذ أتاني رسول الله صلىاللهعليهوسلم فعرك أذني وضحك في وجهي ، فما كان يسرني أن لي بها الخلد
في الدنيا ، ثم إن أبا بكر لحقني وقال : ما قال لك رسول الله صلىاللهعليهوسلم؟ قلت : ما قال شيئا إلا أنه عرك أذني وضحك في وجهي ، فقال
: أبشر ثم لحقني عمر فقلت له مثل قولي لأبي بكر ، فلما أن أصبحنا قرأ رسول الله صلىاللهعليهوسلم سورة المنافقين.
انفرد بإخراجه
الترمذي وقال : هذا حديث حسن صحيح. وهكذا رواه الحافظ البيهقي عن الحاكم عن أبي
العباس محمد بن أحمد المحبوبي عن سعيد بن مسعود عن عبيد الله بن موسى به ، وزاد
بعد قوله سورة المنافقين (إِذا جاءَكَ
الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) ـ حتى بلغ ـ (هُمُ الَّذِينَ
يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا) ـ حتى بلغ ـ (لَيُخْرِجَنَّ
الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ).
وقد روى عبد الله
بن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير في المغازي ، وكذا ذكر
__________________
موسى بن عقبة في
مغازيه أيضا هذه القصة بهذا السياق ، ولكن جعلا الذي بلغ رسول اللهصلىاللهعليهوسلم كلام عبد الله بن أبي ابن سلول إنما هو أوس بن أرقم من بني
الحارث بن الخزرج ، فلعله مبلغ آخر أو تصحيف من جهة السمع والله أعلم.
وقد قال ابن أبي
حاتم رحمهالله : حدثنا محمد بن عزيز الأيلي ، حدثني سلامة ، حدثني عقيل ،
أخبرني محمد بن مسلم أن عروة بن الزبير وعمرو بن ثابت الأنصاري أخبراه أن رسول
اللهصلىاللهعليهوسلم غزا غزوة المريسيع ، وهي التي هدم رسول الله صلىاللهعليهوسلم فيها مناة الطاغية التي كانت بين قفا المشلل وبين البحر ،
فبعث رسول الله صلىاللهعليهوسلم خالد بن الوليد فكسر مناة ، فاقتتل رجلان في غزوة رسول
الله صلىاللهعليهوسلم تلك أحدهما من المهاجرين والآخر من بهز ، وهم حلفاء
الأنصار ، فاستعلى الرجل الذي من المهاجرين على البهزي فقال البهزي : يا معشر
الأنصار ، فنصره رجال من الأنصار ، وقال المهاجري : يا معشر المهاجرين ، فنصره
رجال من المهاجرين حتى كان بين أولئك الرجال من المهاجرين والرجال من الأنصار شيء
من القتال ، ثم حجز بينهم فانكفأ كل منافق أو رجل في قلبه مرض إلى عبد الله بن أبي
ابن سلول فقال : قد كنت ترجى وتدفع فأصبحت لا تضر ولا تنفع ، قد تناصرت علينا
الجلابيب وكانوا يدعون كل حديث هجرة الجلابيب ، فقال عبد الله بن أبي عدو الله :
والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل.
قال مالك بن
الدخشم وكان من المنافقين : ألم أقل لكم لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى
ينفضوا ، فسمع بذلك عمر بن الخطاب فأقبل يمشي حتى أتى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : يا رسول الله ائذن لي في هذا الرجل الذي قد أفتن
الناس أضرب عنقه ، يريد عمر عبد الله بن أبي ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم لعمر : «أو قاتله أنت إن أمرتك بقتله؟» قال عمر : نعم
والله لئن أمرتني بقتله لأضربن عنقه ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «اجلس» فأقبل أسيد بن حضير وهو أحد الأنصار ثم أحد بني
عبد الأشهل حتى أتى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : يا رسول الله ائذن لي في هذا الرجل الذي قد أفتن
الناس أضرب عنقه ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أو قاتله أنت إن أمرتك بقتله؟» قال : نعم والله لئن
أمرتني بقتله لأضربن بالسيف تحت قرط أذنيه ، فقال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم : «اجلس» ثم قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «آذنوا بالرحيل» فهجر بالناس فسار يومه وليلته والغد حتى
متع النهار ، ثم نزل ثم هجر بالناس مثلها حتى صبح بالمدينة في ثلاث سارها من قفا
المشلل.
فلما قدم رسول
الله صلىاللهعليهوسلم المدينة أرسل إلى عمر فدعاه فقال له رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أي عمر أكنت قاتله لو أمرتك بقتله؟» قال عمر : نعم ،
فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «والله لو قتلته يومئذ لأرغمت أنوف رجال لو أمرتهم اليوم
بقتله امتثلوه ، فيتحدث الناس أني قد وقعت على أصحابي فأقتلهم صبرا» وأنزل الله عزوجل (هُمُ الَّذِينَ
يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ
حَتَّى
يَنْفَضُّوا)
ـ إلى قوله تعالى
ـ (يَقُولُونَ لَئِنْ
رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ) الآية. وهذا سياق غريب وفيه أشياء نفيسة لا توجد إلا فيه.
وقال محمد بن
إسحاق بن يسار : حدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن عبد الله بن عبد الله بن
أبي لما بلغه ما كان من أمر أبيه أتى رسول الله فقال : يا رسول الله إنه بلغني أنك
تريد قتل عبد الله بن أبي فيما بلغك عنه ، فإن كنت فاعلا فمرني به فأنا أحمل إليك
رأسه ، فو الله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبر بوالده مني ، إني أخشى أن
تأمر به غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس
فأقتله فأقتل مؤمنا بكافر فأدخل النار ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا».
وذكر عكرمة وابن
زيد وغيرهما أن الناس لما قفلوا راجعين إلى المدينة وقف عبد الله بن عبد الله هذا
على باب المدينة ، واستل سيفه فجعل الناس يمرون عليه ، فلما جاء أبوه عبد الله بن
أبي قال له ابنه : وراءك! فقال : ما لك ويلك؟ فقال : والله لا تجوز من هاهنا حتى
يأذن لك رسول الله صلىاللهعليهوسلم فإنه العزيز وأنت الذليل ، فلما جاء رسول الله صلىاللهعليهوسلم وكان إنما يسير ساقة فشكا إليه عبد الله بن أبي ابنه ،
فقال ابنه عبد الله : والله يا رسول الله لا يدخلها حتى تأذن له ، فأذن له رسول
الله صلىاللهعليهوسلم فقال : أما إذا أذن لك رسول الله صلىاللهعليهوسلم فجز الآن. وقال أبو بكر عبد الله بن الزبير الحميدي في
مسنده : حدثنا سفيان بن عيينة ، حدثنا أبو هارون المدني قال : قال عبد الله بن عبد
الله بن أبي ابن سلول لأبيه : والله لا تدخل المدينة أبدا حتى تقول : رسول اللهصلىاللهعليهوسلم الأعز وأنا الأذل ، قال وجاء إلى النبي صلىاللهعليهوسلم فقال يا رسول الله إنه بلغني أنك تريد أن تقتل أبي فو الذي
بعثك بالحق ، ما تأملت وجهه قط هيبة له ، ولئن شئت أن آتيك برأسه لأتيتك فإني أكره
أن أرى قاتل أبي.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ
اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٩) وَأَنْفِقُوا مِنْ
ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ
لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ
الصَّالِحِينَ (١٠) وَلَنْ يُؤَخِّرَ
اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ)
(١١)
يقول تعالى آمرا
لعباده المؤمنين بكثرة ذكره ، وناهيا لهم عن أن تشغلهم الأموال والأولاد عن ذلك ،
ومخبرا لهم بأنه من التهى بمتاع الحياة الدنيا وزينتها عما خلق له من طاعة ربه
وذكره ، فإنه من الخاسرين الذين يخسرون أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ، ثم حثهم على
الإنفاق في طاعته فقال : (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما
رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ
لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ
الصَّالِحِينَ) فكل مفرط يندم عند الاحتضار ويسأل طول المدة ولو شيئا
يسيرا ليستعتب ويستدرك ما فاته وهيهات ، كان ما كان وأتى ما هو آت ،
__________________
وكل بحسب تفريطه ،
أما الكفار فكما قال تعالى : (وَأَنْذِرِ النَّاسَ
يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا
إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا
أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ) [إبراهيم : ٤٤]
وقال تعالى : (حَتَّى إِذا جاءَ
أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما
تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى
يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [المؤمنون : ٩٩ ـ ١٠٠].
ثم قال تعالى : (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا
جاءَ أَجَلُها وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) أي لا ينظر أحدا بعد حلول أجله. وهو أعلم وأخبر بمن يكون
صادقا في قوله وسؤاله ممن لو رد لعاد إلى شر مما كان عليه ولهذا قال تعالى : (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ)
وقال أبو عيسى
الترمذي : حدثنا عبد بن حميد ، حدثنا جعفر بن عون ، حدثنا أبو جناب
الكلبي عن الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس قال : من كان له مال يبلغه حج بيت ربه أو
تجب عليه فيه زكاة فلم يفعل سأل الرجعة عند الموت ، فقال رجل : يا ابن عباس اتق
الله فإنما يسأل الرجعة الكفار ، فقال : سأتلو عليك بذلك قرآنا (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ
ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ
قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي
إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) ـ إلى قوله تعالى ـ (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما
تَعْمَلُونَ) قال : فما يوجب الزكاة؟ قال : إذا بلغ المال مائتين فصاعدا
، قال : فما يوجب الحج؟ قال : الزاد والبعير.
ثم قال : حدثنا
عبد بن حميد ، حدثنا عبد الرزاق عن الثوري عن يحيى بن أبي حية وهو أبو جناب الكلبي
عن الضحاك عن ابن عباس عن النبي صلىاللهعليهوسلم بنحوه ثم قال : وقد رواه سفيان بن عيينة وغيره عن أبي جناب
عن الضحاك عن ابن عباس من قوله وهو أصح ، وضعف أبا جناب الكلبي.
قلت : ورواية
الضحاك عن ابن عباس فيها انقطاع والله أعلم. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ،
حدثنا ابن نفيل ، حدثنا سليمان بن عطاء عن مسلمة الجهني عن عمه يعني أبا مشجعة بن
ربعي ، عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : ذكرنا عند رسول الله صلىاللهعليهوسلم الزيادة في العمر فقال «إن الله لا يؤخر نفسا إذا جاء
أجلها ، وإنما الزيادة في العمر أن يرزق الله العبد ذرية صالحة يدعون له فيلحقه
دعاؤهم في قبره». آخر تفسير سورة المنافقين. ولله الحمد والمنة وبه التوفيق
والعصمة.
__________________
تفسير سورة التغابن
وهي مدنية وقيل مكية
قال الطبراني :
حدثنا محمد بن هارون بن محمد بن بكار الدمشقي ، حدثنا العباس بن الوليد الخلال
حدثنا الوليد بن الوليد ، حدثنا ابن ثوبان عن عطاء بن أبي رباح عن عبد الله بن
عمرو رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ما من مولود يولد إلا مكتوب في تشبيك رأسه خمس آيات من
سورة التغابن» أورده ابن عساكر في ترجمة الوليد بن صالح ، وهو غريب جدا بل منكر.
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما
فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) هُوَ الَّذِي
خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ
بَصِيرٌ (٢) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ
بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) يَعْلَمُ ما فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللهُ
عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ)
(٤)
هذه السورة هي آخر
المسبحات وقد تقدم الكلام على تسبيح المخلوقات لبارئها ومالكها ، ولهذا قال تعالى
: (لَهُ الْمُلْكُ
وَلَهُ الْحَمْدُ) أي هو المتصرف في جميع الكائنات المحمود على جميع ما يخلقه
ويقدره. وقوله تعالى : (وَهُوَ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي ما أراد كان بلا ممانع ولا مدافع وما لم يشأ لم يكن.
وقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي
خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) أي هو الخالق لكم على هذه الصفة ، وأراد منكم ذلك فلا بد
من وجود مؤمن وكافر ، وهو البصير بمن يستحق الهداية ممن يستحق الضلال ، وهو شهيد
على أعمال عباده وسيجزيهم بها أتم الجزاء ، ولهذا قال تعالى : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) ثم قال تعالى : (خَلَقَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) أي بالعدل والحكمة (وَصَوَّرَكُمْ
فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) أي أحسن أشكالكم ، كقوله تعالى: (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ
بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ
ما شاءَ رَكَّبَكَ) [الانفطار : ٦ ـ ٨].
وكقوله تعالى : (اللهُ الَّذِي جَعَلَ
لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ
وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) [غافر : ٦٤] الآية
، وقوله تعالى : (وَإِلَيْهِ
الْمَصِيرُ) أي المرجع والمآب ، ثم أخبر تعالى عن علمه بجميع الكائنات
السمائية والأرضية والنفسية فقال تعالى : (يَعْلَمُ ما فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللهُ
عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ).
(أَلَمْ يَأْتِكُمْ
نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ
عَذابٌ أَلِيمٌ (٥) ذلِكَ بِأَنَّهُ
كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا
فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ)(٦)
يقول تعالى مخبرا
عن الأمم الماضين وما حل بهم من العذاب والنكال في مخالفة الرسل والتكذيب بالحق
فقال تعالى : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ
نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) أي خبرهم وما كان من أمرهم (فَذاقُوا وَبالَ
أَمْرِهِمْ) أي وخيم تكذيبهم ورديء أفعالهم وهو ما حل بهم في الدنيا من
العقوبة والخزي (وَلَهُمْ عَذابٌ
أَلِيمٌ) أي في الدار الآخرة مضاف إلى هذا الدنيوي ، ثم علل ذلك
فقال : (ذلِكَ بِأَنَّهُ
كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي بالحجج والدلائل والبراهين (فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا) أي استبعدوا أن تكون الرسالة في البشر وأن يكون هداهم على
يدي بشر مثلهم (فَكَفَرُوا
وَتَوَلَّوْا) أي كذبوا بالحق ونكلوا عن العمل (وَاسْتَغْنَى اللهُ) أي عنهم (وَاللهُ غَنِيٌّ
حَمِيدٌ).
(زَعَمَ الَّذِينَ
كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ
لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٧)
فَآمِنُوا
بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ
خَبِيرٌ (٨) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ
ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ
عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ
خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩)
وَالَّذِينَ
كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ
الْمَصِيرُ)
(١٠)
يقول تعالى مخبرا
عن الكفار والمشركين والملحدين أنهم يزعمون أنهم لا يبعثون (قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ
لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ) أي لتخبرن بجميع أعمالكم جليلها وحقيرها ، صغيرها وكبيرها (وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) أي بعثكم ومجازاتكم ، وهذه هي الآية الثالثة التي أمر الله
رسوله صلىاللهعليهوسلم أن يقسم بربه عزوجل على وقوع المعاد ووجوده ، فالأولى في سورة يونس (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ
إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) [يونس : ٥٣] والثانية
في سورة سبأ (وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ) [سبأ : ٣] الآية.
والثالثة هي هذه (زَعَمَ الَّذِينَ
كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ
لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ).
ثم قال تعالى : (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ
وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا) يعني القرآن (وَاللهُ بِما
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي فلا تخفى عليه من أعمالكم خافية. وقوله تعالى : (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ) وهو يوم القيامة ، سمي بذلك لأنه يجمع فيه الأولون
والآخرون في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر كما قال تعالى : (ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ
وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) [هود : ١٠٣] وقال تعالى : (قُلْ إِنَّ
الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) [الواقعة : ٤٩ ـ ٥٠].
وقوله تعالى : (ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ) قال ابن عباس : هو اسم من أسماء يوم القيامة ، وذلك أن
أهل الجنة يغبنون
أهل النار ، وكذا قال قتادة ومجاهد ، وقال مقاتل بن حيان : لا غبن أعظم من أن يدخل
هؤلاء إلى الجنة ويذهب بأولئك إلى النار. قلت : وقد فسر ذلك بقوله تعالى : (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ
صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ
فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) وقد تقدم تفسير مثل هذه غير مرة.
(ما أَصابَ مِنْ
مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(١١) وَأَطِيعُوا اللهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ
الْمُبِينُ (١٢) اللهُ لا إِلهَ
إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)
(١٣)
يقول تعالى مخبرا
بما أخبر به في سورة الحديد : (ما أَصابَ مِنْ
مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ
أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) [الحديد : ٢٢].
وهكذا قال هاهنا : (ما أَصابَ مِنْ
مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) قال ابن عباس : بأمر الله ، يعني عن قدره ومشيئته (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ
قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي ومن أصابته مصيبة فعلم أنها بقضاء الله وقدره فصبر
واحتسب واستسلم لقضاء الله هدى الله قلبه. وعوضه عما فاته من الدنيا هدى في قلبه
ويقينا صادقا ، وقد يخلف عليه ما كان أخذ منه أو خيرا منه. قال علي بن أبي طلحة عن
ابن عباس (وَمَنْ يُؤْمِنْ
بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) يعني يهد قلبه لليقين ، فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ،
وما أخطأه لم يكن ليصيبه .
وقال الأعمش عن
أبي ظبيان قال : كنا عند علقمة فقرىء عنده هذه الآية (وَمَنْ يُؤْمِنْ
بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) فسئل عن ذلك فقال : هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من
عند الله فيرضى ويسلم. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم في تفسيريهما ، وقال سعيد بن
جبير ومقاتل بن حيان (وَمَنْ يُؤْمِنْ
بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) يعني يسترجع يقول (إِنَّا لِلَّهِ
وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) [البقرة : ١٥٦].
وفي الحديث المتفق
عليه «عجبا للمؤمن لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرا له ، إن أصابته ضراء صبر
فكان خيرا له ، وإن أصابته سراء شكر فكان خيرا له ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن» .
وقال أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا الحارث بن يزيد عن
علي بن رباح أنه سمع جنادة بن أبي أمية يقول : سمعت عبادة بن الصامت يقول : إن
رجلا أتى رسول اللهصلىاللهعليهوسلم فقال : يا رسول الله أي العمل أفضل؟ قال : «إيمان بالله
وتصديق به وجهاد في سبيل الله» قال :
__________________
أريد أهون من هذا
يا رسول الله قال السماحة : والصبر. قال : أريد أهون من ذلك يا رسول الله قال : «لا
تتهم الله في شيء قضى لك به» لم يخرجوه.
وقوله تعالى : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ) أمر بطاعة الله ورسوله فيما شرع وفعل ما به أمر وترك ما
عنه نهى وزجر ، ثم قال تعالى : (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ
فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أي إن نكلتم عن العمل فإنما عليه ما حمل من البلاغ وعليكم
ما حملتم من السمع والطاعة قال الزهري : من الله الرسالة وعلى الرسول البلاغ
وعلينا التسليم.
ثم قال تعالى
مخبرا أنه الأحد الصمد الذي لا إله غيره فقال تعالى : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى
اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) فالأول خبر عن التوحيد ومعناه معنى الطلب أي وحدوا الإلهية
له وأخلصوها لديه وتوكلوا عليه ، كما قال تعالى : (رَبُّ الْمَشْرِقِ
وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) [المزمل : ٩].
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ
فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ (١٤) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ
فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ(١٥) فَاتَّقُوا اللهَ
مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ
وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٦) إِنْ تُقْرِضُوا
اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ
حَلِيمٌ (١٧) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)
(١٨)
يقول تعالى مخبرا
عن الأزواج والأولاد أن منهم من هو عدو الزوج والوالد بمعنى أنه يلتهي به عن العمل
الصالح كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ
اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) [المنافقون : ٩]
ولهذا قال تعالى هاهنا : (فَاحْذَرُوهُمْ) قال ابن زيد : يعني على دينكم ، وقال مجاهد (إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ
عَدُوًّا لَكُمْ) قال : يحمل الرجل على قطيعة الرحم أو معصية ربه فلا يستطيع
الرجل مع حبه إلا أن يطيعه .
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن خلف العسقلاني ، حدثنا الفريابي ، حدثنا إسرائيل
حدثنا سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس وسأله رجل عن هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ
مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) قال : فهؤلاء رجال أسلموا من مكة فأرادوا أن يأتوا رسول
الله صلىاللهعليهوسلم فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم ، فلما أتوا رسول الله
رأوا الناس قد فقهوا في الدين فهموا أن يعاقبوهم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية (وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا
وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وكذا رواه الترمذي عن محمد بن يحيى عن
__________________
الفريابي ، وهو
محمد بن يوسف به. وقال حسن صحيح. ورواه ابن جرير والطبراني من حديث إسرائيل به ، وروي من طريق العوفي عن
ابن عباس نحوه ، وهكذا قال عكرمة مولاه سواء.
وقوله تعالى : (إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ
فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) يقول تعالى : إنما الأموال والأولاد فتنة أي اختبار
وابتلاء من الله تعالى لخلقه ليعلم من يطيعه ممن يعصيه وقوله تعالى: (وَاللهُ عِنْدَهُ) أي يوم القيامة (أَجْرٌ عَظِيمٌ) كما قال تعالى : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ
حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ
مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ
وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) [آل عمران : ١٤]
والتي بعدها.
وقال الإمام أحمد : حدثنا زيد بن الحباب ، حدثني حسين بن واقد ، حدثني عبد
الله بن بريدة : سمعت أبا بريدة يقول : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يخطب ، فجاء الحسن والحسين رضي الله عنهما عليهما قميصان
أحمران يمشيان ويعثران ، فنزل رسول الله صلىاللهعليهوسلم من المنبر فحملهما فوضعهما بين يديه ثم قال : «صدق الله
ورسوله إنما أموالكم وأولادكم فتنة ، نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم
أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما» ورواه أهل السنن من حديث حسين بن واقد به ، وقال الترمذي :
حسن غريب ، إنما نعرفه من حديثه.
وقال الإمام أحمد : حدثنا سريج بن النعمان ، حدثنا هشيم ، أخبرنا مجالد عن
الشعبي ، حدثنا الأشعث بن قيس قال : قدمت على رسول الله صلىاللهعليهوسلم في وفد كندة فقال لي : «هل لك من ولد؟» قلت : غلام ولد لي
في مخرجي إليك من ابنة جمد ولوددت أن بمكانه شبع القوم ، فقال لي : «لا تقولن ذلك
فإن فيهم قرة عين وأجرا إذا قبضوا» ثم قال : «ولئن قلت ذاك إنهم لمجبنة محزنة»
تفرد به أحمد رحمهالله تعالى ، وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا محمود بن بكر
، حدثنا أبي عن عيسى عن ابن أبي ليلى عن عطية عن أبي سعيد قال : قال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم : «الولد ثمرة القلوب وإنهم مجبنة مبخلة محزنة» ثم قال :
لا نعرفه إلا بهذا الإسناد.
وقال الطبراني :
حدثنا هاشم بن مزيد ، حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش ، حدثني أبي ، حدثني ضمضم بن
زرعة عن شريح بن عبيد عن أبي مالك الأشعري أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «ليس عدوك الذي إن قتلته كان فوزا لك وإن قتلك دخلت
الجنة ، ولكن الذي لعله عدو لك ولدك الذي خرج من صلبك ، ثم أعدى عدو لك مالك الذي
ملكت يمينك».
__________________
وقوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) أي جهدكم وطاقتكم كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي
الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم وما نهيتكم عنه
فاجتنبوه» وقد قال بعض المفسرين كما رواه مالك عن زيد بن أسلم إن هذه
الآية ناسخة للتي في آل عمران ، وهي قوله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا
وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران : ١٠٢]
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثني يحيى بن عبد الله بن بكير ، حدثني ابن
لهيعة ، حدثني عطاء هو ابن دينار عن سعيد بن جبير في قوله : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا
تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) قال : لما نزلت هذه الآية اشتد على القوم العمل فقاموا حتى
ورمت عراقيبهم وتقرحت جباههم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية تخفيفا على المسلمين (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) فنسخت الآية الأولى وروي عن أبي العالية وزيد بن أسلم
وقتادة والربيع بن أنس والسدي ومقاتل بن حيان نحو ذلك. وقوله تعالى : (وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا) أي كونوا منقادين لما يأمركم الله به ورسوله ولا تحيدوا
عنه يمنة ولا يسرة ، ولا تقدموا بين يدي الله ورسوله ولا تتخلفوا عما به أمرتم.
ولا تركبوا ما عنه زجرتم.
وقوله تعالى : (وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ) أي وابذلوا مما رزقكم الله على الأرقاب والفقراء والمساكين
وذوي الحاجات ، وأحسنوا إلى خلق الله كما أحسن الله إليكم يكن خيرا لكم في الدنيا
والآخرة ، وإن لا تفعلوا يكن شرا لكم في الدنيا والآخرة.
وقوله تعالى : (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ
هُمُ الْمُفْلِحُونَ) تقدم تفسيره في سورة الحشر وذكر الأحاديث الواردة في معنى
هذه الآية بما أغنى عن إعادته هاهنا ، ولله الحمد والمنة ، وقوله تعالى : (إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً
يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ) أي مهما أنفقتم من شيء فهو يخلفه. ومهما تصدقتم من شيء
فعليه جزاؤه ، ونزل ذلك منزلة القرض له كما ثبت في الصحيحين أن الله تعالى يقول :
من يقرض غير ظلوم ولا عديم ، ولهذا قال تعالى يضاعفه لكم كما تقدم في سورة البقرة (فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) [البقرة : ٢٤٥] (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) أي ويكفر عنكم السيئات ولهذا قال تعالى : (وَاللهُ شَكُورٌ) أي يجزي على القليل بالكثير (حَلِيمٌ) أي يصفح ويغفر ويستر ويتجاوز عن الذنوب والزلات والخطايا
والسيئات (عالِمُ الْغَيْبِ
وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) تقدم تفسيره غير مرة ، آخر تفسير سورة التغابن ، ولله
الحمد والمنة.
__________________
تفسير سورة الطلاق
وهي مدنية
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا
الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا
يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ
وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ
يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً)
(١)
خوطب النبي صلىاللهعليهوسلم أولا تشريفا وتكريما ثم خاطب الأمة تبعا فقال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا
طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن ثواب بن سعيد الهباري ،
حدثنا أسباط بن محمد عن سعيد عن قتادة عن أنس قال طلق رسول الله صلىاللهعليهوسلم حفصة فأتت أهلها فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا
طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) فقيل له : راجعها فإنها صوامة قوامة وهي من أزواجك ونسائك
في الجنة ، ورواه ابن جرير عن ابن بشار عن عبد الأعلى عن سعيد عن قتادة فذكره مرسلا ،
وقد ورد من غير وجه أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم طلق حفصة ثم راجعها.
وقال البخاري :
حدثنا يحيى بن بكير ، حدثنا الليث ، حدثني عقيل عن ابن شهاب أخبرني سالم أن عبد
الله بن عمر أخبره أنه طلق امرأة له وهي حائض فذكر عمر لرسول اللهصلىاللهعليهوسلم فتغيظ رسول الله صلىاللهعليهوسلم ثم قال : «ليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر ،
فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرا قبل أن يمسها ، فتلك العدة التي أمر بها الله
عزوجل» هكذا رواه البخاري هاهنا وقد رواه في مواضع من كتابه ومسلم
ولفظه «فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء» ورواه أصحاب الكتب والمسانيد
من طرق متعددة وألفاظ كثيرة ، وموضع استقصائها كتب الأحكام.
وأمس لفظ يورد
هاهنا ما رواه مسلم في صحيحه من طريق ابن جريج : أخبرني أبو الزبير أنه
__________________
سمع عبد الرّحمن
بن أيمن مولى عزة يسأل ابن عمر وأبو الزبير يسمع : كيف ترى في الرجل طلق امرأته
حائضا؟ فقال : طلق ابن عمر امرأته حائضا على عهد رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم: «ليراجعها ـ فردها وقال ـ إذا طهرت فليطلق أو يمسك».
قال ابن عمر :
وقرأ النبي صلىاللهعليهوسلم (يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) وقال الأعمش عن مالك بن الحارث عن عبد الرّحمن بن يزيد عن
عبد الله في قوله تعالى : (فَطَلِّقُوهُنَّ
لِعِدَّتِهِنَ) قال : الطهر من غير جماع ، وروي عن ابن عمر وعطاء ومجاهد
والحسن وابن سيرين وقتادة ، وميمون بن مهران ومقاتل بن حيان مثل ذلك ، وهو رواية
عن عكرمة ، والضحاك.
وقال علي بن أبي
طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى : (فَطَلِّقُوهُنَّ
لِعِدَّتِهِنَ) قال : لا يطلقها وهي حائض ولا في طهر قد جامعها فيه ، ولكن
يتركها حتى إذا حاضت وطهرت طلقها تطليقة. وقال عكرمة (فَطَلِّقُوهُنَّ
لِعِدَّتِهِنَ) العدة الطهر والقرء الحيضة أن يطلقها حبلى مستبينا حملها
ولا يطلقها ، وقد طاف عليها ولا يدري حبلى هي أم لا.
ومن هاهنا أخذ
الفقهاء أحكام الطلاق وقسموه إلى طلاق سنة وطلاق بدعة ، فطلاق السنة أن يطلقها
طاهرة من غير جماع ، أو حاملا قد استبان حملها ، والبدعة هو أن يطلقها في حال
الحيض ، أو في طهر قد جامعها فيه ولا يدري أحملت أم لا ، وطلاق ثالث لا سنة فيه
ولا بدعة وهو طلاق الصغيرة والآيسة وغير المدخول بها ، وتحرير الكلام في ذلك وما
يتعلق به مستقصى في كتب الفروع والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقوله تعالى : (وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) أي احفظوها واعرفوا ابتداءها وانتهاءها ، لئلا تطول العدة
على المرأة فتمنع من الأزواج (وَاتَّقُوا اللهَ
رَبَّكُمْ) أي في ذلك. وقوله تعالى : (لا تُخْرِجُوهُنَّ
مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ) أي في مدة العدة لها حق السكنى على الزوج ما دامت معتدة
منه فليس للرجل أن يخرجها ولا يجوز لها أيضا الخروج لأنها معتقلة لحق الزوج أيضا.
وقوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ
مُبَيِّنَةٍ) أي لا يخرجن من بيوتهن إلا أن ترتكب المرأة فاحشة مبينة
فتخرج من المنزل ، والفاحشة المبينة تشمل الزنا كما قاله ابن مسعود وابن عباس
وسعيد بن المسيب والشعبي ، والحسن وابن سيرين ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وأبو
قلابة ، وأبو صالح والضحاك وزيد بن أسلم وعطاء الخراساني والسدي وسعيد بن أبي هلال
وغيرهم ، وتشمل ما إذا نشزت المرأة أو بذت على أهل الرجل وآذتهم في الكلام والفعال
كما قاله أبي بن كعب وابن عباس وعكرمة وغيرهم. وقوله تعالى : (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ) أي شرائعه ومحارمه (وَمَنْ يَتَعَدَّ
حُدُودَ اللهِ) أي يخرج عنها ويتجاوزها إلى غيرها ولا يأتمر بها (فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) أي بفعل ذلك.
وقوله تعالى : (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ
بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) أي إنما أبقينا المطلقة في منزل الزوج في مدة العدة لعل
الزوج يندم على طلاقها ويخلق الله تعالى في قلبه رجعتها ، فيكون ذلك أيسر وأسهل ،
قال الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن فاطمة بنت قيس في قوله تعالى : (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ
بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) قالت : هي الرجعة ، وكذا قال الشعبي وعطاء وقتادة والضحاك
ومقاتل بن حيان والثوري ، ومن هاهنا ذهب من ذهب من السلف ومن تابعهم كالإمام أحمد
بن حنبل رحمهمالله تعالى ، إلى أنه لا تجب السكنى للمبتوتة أي المقطوعة وكذا المتوفى عنها زوجها ، واعتمدوا أيضا على
حديث فاطمة بنت قيس الفهرية حين طلقها زوجها أبو عمرو بن حفص آخر ثلاث تطليقات
وكان غائبا عنها باليمن ، فأرسل إليها بذلك فأرسل إليها وكيله بشعير يعني نفقة
فتسخطته فقال : والله ليس لك علينا نفقة ، فأتت رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : «ليس لك عليه نفقة» ولمسلم «ولا سكنى» وأمرها أن
تعتد في بيت أم شريك ثم قال : «تلك امرأة يغشاها أصحابي اعتدي عند ابن أم مكتوم
فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك» الحديث.
وقد رواه الإمام
أحمد من طريق أخرى بلفظ آخر فقال : حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا مجالد ، حدثنا عامر
قال : قدمت المدينة فأتيت فاطمة بنت قيس فحدثتني أن زوجها طلقها على عهد رسول الله
صلىاللهعليهوسلم فبعثه رسول الله صلىاللهعليهوسلم في سرية قالت : فقال لي أخوه : أخرجي من الدار ، فقلت : إن
لي نفقة وسكنى حتى يحل الأجل ، قال : لا ، قالت : فأتيت رسول الله فقلت : إن فلانا
طلقني وإن أخاه أخرجني ومنعني السكنى والنفقة ، فأرسل إليه فقال له : «ما لك
ولابنة آل قيس؟» قال : يا رسول الله إن أخي طلقها ثلاثا جميعا ، قالت : فقال رسول
الله صلىاللهعليهوسلم : «انظري يا بنت آل قيس إنما النفقة والسكنى للمرأة على
زوجها ما كانت له عليها رجعة ، فإذا لم يكن له عليها رجعة فلا نفقة ولا سكنى اخرجي
فانزلي على فلانة» ثم قال إنه يتحدث إليها «انزلي على ابن أم مكتوم فإنه أعمى لا
يراك» وذكر تمام الحديث.
وقال أبو القاسم
الطبراني : حدثنا أحمد بن عبد الله البزار التستري ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم
الصواف ، حدثنا بكر بن بكار ، حدثنا سعيد بن يزيد البجلي ، حدثنا عامر الشعبي أنه
دخل على فاطمة بنت قيس ، أخت الضحاك بن قيس القرشي ، وزوجها أبو عمرو بن حفص بن
المغيرة المخزومي فقالت : إن أبا عمرو بن حفص أرسل إلي وهو منطلق في جيش إلى اليمن
بطلاقي ، فسألت أولياءه النفقة علي والسكنى فقالوا ما أرسل إلينا في ذلك شيئا ولا
أوصانا به ، فانطلقت إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقلت يا رسول الله إن أبا عمرو بن حفص أرسل إلي بطلاقي ،
__________________
فسألت أولياء
السكنى والنفقة علي فقال أولياؤه لم يرسل إلينا في ذلك بشيء ، فقال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم : «إنما السكنى والنفقة للمرأة إذا كان لزوجها عليها رجعة
فإذا كانت لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره فلا نفقة لها ولا سكنى» وكذا رواه النسائي عن أحمد بن يحيى الصوفي عن أبي نعيم
الفضل بن دكين عن سعيد بن يزيد وهو الأحمسي البجلي الكوفي ، قال أبو حاتم الرازي :
وهو شيخ يروى عنه.
(فَإِذا بَلَغْنَ
أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ
وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ
يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ
اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ
لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بالِغُ
أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً)
(٣)
يقول تعالى : فإذا
بلغت المعتدات أجلهن أي شارفن على انقضاء العدة وقاربن ذلك ، ولكن لم تفرغ العدة
بالكلية ، فحينئذ إما أن يعزم الزوج على إمساكها وهو رجعتها إلى عصمة نكاحه
والاستمرار بها على ما كانت عليه عنده (بِمَعْرُوفٍ) أي محسنا إليها في صحبتها ، وإما أن يعزم على مفارقتها
بمعروف أي من غير مقابحة ولا مشاتمة ولا تعنيف بل يطلقها على وجه جميل وسبيل حسن.
وقوله تعالى : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) أي على الرجعة إذا عزمتم عليها ، كما رواه أبو داود وابن
ماجة عن عمران بن حصين أنه سئل عن الرجل يطلق امرأته ثم يقع بها ولم يشهد على
طلاقها ولا على رجعتها ، فقال : طلقت لغير سنة ورجعت لغير سنة وأشهد على طلاقها
وعلى رجعتها ولا تعد ، وقال ابن جريج كان عطاء يقول : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) قال لا يجوز في نكاح ولا طلاق ولا رجاع إلا شاهدا عدل ،
كما قال الله عزوجل إلا أن يكون من عذر.
وقوله تعالى : (ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ
يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي هذا الذي أمرناكم به من الإشهاد وإقامة الشهادة إنما
يأتمر به من يؤمن بالله واليوم الآخر ، وأنه شرع هذا ومن يخاف عقاب الله في الدار
الآخرة ، ومن هاهنا ذهب الشافعي في أحد قوليه إلى وجوب الإشهاد في الرجعة كما يجب
عنده في ابتداء النكاح ، وقد قال بهذا طائفة من العلماء ومن قال بهذا يقول : إن
الرجعة لا تصح إلا بالقول ليقع الإشهاد عليها.
وقوله تعالى : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ
مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) أي ومن يتق الله فيما أمره به وترك ما نهاه عنه يجعل له من
أمره مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب أي من جهة لا تخطر بباله.
__________________
قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد أنبأنا كهمس بن الحسن ، حدثنا أبو السليل عن
أبي ذر قال : جعل رسول الله صلىاللهعليهوسلم يتلو علي هذه الآية (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ
يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) حتى فرغ من الآية ثم قال : «يا أبا ذر لو أن الناس كلهم
أخذوا بها كفتهم» وقال فجعل يتلوها ويرددها علي حتى نعست ، ثم قال : «يا أبا ذر
كيف تصنع إذا خرجت من المدينة؟» قلت إلى السعة والدعة أنطلق فأكون حمامة من حمام
مكة قال : «كيف تصنع إذا أخرجت من مكة؟» قلت : إلى السعة والدعة إلى الشام والأرض
المقدسة ، قال «وكيف تصنع إذا أخرجت من الشام؟» قلت : إذا والذي بعثك بالحق أضع
سيفي على عاتقي ، قال : «أو خير من ذلك» قلت : أو خير من ذلك؟ قال : «تسمع وتطيع
وإن كان عبدا حبشيا».
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أحمد بن منصور الرمادي ، حدثنا يعلى بن عبيد ، حدثنا زكريا عن عامر عن
شتير بن شكل قال : سمعت عبد الله بن مسعود يقول : إن أجمع آية في القرآن (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ
وَالْإِحْسانِ) [النحل : ٩٠] وإن
أكبر آية في القرآن فرجا : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ
يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً).
وفي المسند : حدثني مهدي بن جعفر ، حدثنا الوليد بن مسلم عن الحكم بن
مصعب عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس ، عن أبيه عن جده عبد الله بن عباس قال :
قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من أكثر من الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا ومن كل
ضيق مخرجا ورزقه من حيث لا يحتسب». وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ
مَخْرَجاً) يقول : ينجيه من كل كرب في الدنيا والآخرة (وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) وقال الربيع بن خيثم (يَجْعَلْ لَهُ
مَخْرَجاً) أي من كل شيء ضاق على الناس ، وقال عكرمة من طلق كما أمره الله يجعل له مخرجا ، وكذا
روي عن ابن عباس والضحاك ، وقال ابن مسعود ومسروق (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ
يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) يعلم أن الله إن شاء أعطى وإن شاء منع (مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) أي من حيث لا يدري. وقال قتادة : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ
مَخْرَجاً) أي من شبهات الأمور والكرب عند الموت (وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) ومن حيث لا يرجو ولا يأمل.
وقال السدي : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) يطلق للسنة ، ويراجع للسنة ، وزعم أن رجلا من أصحاب رسول
الله صلىاللهعليهوسلم يقال له عوف بن مالك الأشجعي كان له ابن ، وأن المشركين
أسروه فكان فيهم ، وكان أبوه يأتي رسول الله صلىاللهعليهوسلم فيشكو إليه مكان ابنه وحاله التي هو بها وحاجته ، فكان
__________________
رسول الله صلىاللهعليهوسلم يأمره بالصبر ويقول له : «إن الله سيجعل لك فرجا» فلم يلبث
بعد ذلك إلا يسيرا أن انفلت ابنه من أيدي العدو ، فمر بغنم من أغنام العدو
فاستاقها فجاء بها إلى أبيه وجاء معه بغنى قد أصابه من المغنم ، فنزلت فيه هذه
الآية (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ
يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) رواه ابن جرير : وروي أيضا من
طريق سالم بن أبي الجعد مرسلا نحوه.
وقال الإمام أحمد : حدثنا وكيع ، حدثنا سفيان ، عن عبد الله بن عيسى عن عبد
الله بن أبي الجعد عن ثوبان قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه ولا يرد القدر إلا
الدعاء ولا يزيد في العمر إلا البر» ورواه النسائي وابن ماجة من حديث سفيان وهو الثوري به.
وقال محمد بن
إسحاق : جاء مالك الأشجعي إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال له أسر ابني عوف فقال له رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أرسل إليه أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم يأمر أن تكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله» وكانوا قد
شدوه بالقد فسقط القد عنه ، فخرج فإذا هو بناقة لهم فركبها وأقبل ، فإذا بسرح
القوم الذين كانوا قد شدوه فصاح بهم ، فاتبع أولها آخرها فلم يفجأ أبويه إلا وهو
ينادي بالباب فقال أبوه : عوف ورب الكعبة ، فقالت : أمه : وا سوأتاه! وعوف كيف
يقدم لما هو فيه من القد ، فاستبقا الباب والخادم فإذا عوف قد ملأ الفناء إبلا ،
فقص على أبيه أمره وأمر الإبل فقال أبوه : قفا حتى آتي رسول الله صلىاللهعليهوسلم فأسأله عنها ، فأتى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فأخبره بخبر عوف وخبر الإبل ، فقال له رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «اصنع بها ما أحببت وما كنت صانعا بمالك» ونزل : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ
مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) رواه ابن أبي حاتم.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق ، حدثنا إبراهيم بن
الأشعث ، حدثنا الفضيل بن عياض عن هشام بن الحسن عن عمران بن حصين قال : قال رسول
الله صلىاللهعليهوسلم : «من انقطع إلى الله كفاه الله كل مؤنة ورزقه من حيث لا
يحتسب ومن انقطع إلى الدنيا وكله إليها».
وقوله تعالى : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ
حَسْبُهُ) قال الإمام أحمد : حدثنا يونس ، حدثنا ليث ، حدثنا قيس بن الحجاج عن حنش
الصنعاني ، عن عبد الله بن عباس أنه حدثه أنه ركب خلف رسول الله صلىاللهعليهوسلم يوما ، فقال له رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «يا غلام إني معلمك كلمات : احفظ الله يحفظك ، احفظ الله
تجده تجاهك ، وإذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الأمة
لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، ولو اجتمعوا على
أن
__________________
يضروك لم يضروك
إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف» وقد رواه الترمذي من حديث الليث بن سعد وابن لهيعة به وقال
: حسن صحيح.
وقال الإمام أحمد : حدثنا وكيع ، حدثنا بشير بن سلمان عن سيار أبي الحكم عن
طارق بن شهاب عن عبد الله هو ابن مسعود قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من نزل به حاجة فأنزلها بالناس كان قمنا ألا تسهل حاجته
، ومن أنزلها بالله تعالى أتاه الله برزق عاجل أو بموت آجل» ثم رواه عن عبد الرزاق
عن سفيان عن بشير عن سيار أبي حمزة ثم قال وهو الصواب ، وسيار أبو الحكم لم يحدث
عن طارق وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ بالِغُ
أَمْرِهِ) أي منفذ قضاياه وأحكامه في خلقه بما يريده ويشاؤه (قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ
قَدْراً) كقوله تعالى : (وَكُلُّ شَيْءٍ
عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) [الرعد : ٨].
(وَاللاَّئِي يَئِسْنَ
مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ
أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ
يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (٤)
ذلِكَ
أَمْرُ اللهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ
سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً)
(٥)
يقول تعالى مبينا
لعدة الآيسة ، وهي التي انقطع عنها المحيض لكبرها ، أنها ثلاثة أشهر عوضا عن الثلاثة
القروء في حق من تحيض ، كما دلت على ذلك آية البقرة ، وكذا الصغار اللائي لم يبلغن
سن الحيض أن عدتهن كعدة الآيسة ثلاثة أشهر ، ولهذا قال تعالى : (وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) ، وقوله تعالى : (إِنِ ارْتَبْتُمْ) فيه قولان [أحدهما] وهو قول طائفة من السلف كمجاهد والزهري
وابن زيد أي إن رأين دما وشككتم في كونه حيضا أو استحاضة وارتبتم فيه. [والقول
الثاني] إن ارتبتم في حكم عدتهن ولم تعرفوه فهو ثلاثة أشهر ، وهذا مروي عن سعيد بن
جبير وهو اختيار ابن جرير وهو أظهر في المعنى ، واحتج عليه بما رواه عن أبي كريب
وأبي السائب قالا : حدثنا ابن إدريس حدثنا مطرف عن عمرو بن سالم قال : قال أبي بن
كعب : يا رسول الله إن عددا من عدد النساء لم تذكر في الكتاب الصغار والكبار
وأولات الأحمال ، قال : فأنزل الله عزوجل (وَاللَّائِي يَئِسْنَ
مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ
أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ ، وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ
يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ).
ورواه ابن أبي
حاتم بأبسط من هذا السياق فقال : حدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن المغيرة حدثنا جرير عن
مطرف عن عمر بن سالم عن أبي بن كعب قال : قلت لرسول الله صلىاللهعليهوسلم إن ناسا من أهل المدينة لما أنزلت هذه الآية التي في
البقرة في عدة النساء قالوا : لقد بقي من عدة النساء عدد لم يذكرن في القرآن!
الصغار والكبار اللائي قد انقطع عنهن الحيض وذوات الحمل قال : فأنزلت
__________________
التي في النساء
القصرى (وَاللَّائِي يَئِسْنَ
مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ
أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ).
وقوله تعالى : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ
يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) يقول تعالى : ومن كانت حاملا فعدتها بوضعه ، ولو كان بعد
الطلاق أو الموت بفواق ناقة في قول جمهور العلماء من السلف والخلف ، كما هو نص هذه
الآية الكريمة وكما وردت به السنة النبوية ، وقد روي عن علي وابن عباس رضي الله
عنهم أنهما ذهبا في المتوفى عنها زوجها أنها تعتد بأبعد الأجلين من الوضع والأشهر
، عملا بهذه الآية والتي في سورة البقرة.
قال البخاري :
حدثنا سعيد بن حفص ، حدثنا شيبان عن يحيى قال : أخبرني أبو سلمة قال : جاء رجل إلى
ابن عباس وأبو هريرة جالس فقال : أفتني في امرأة ولدت بعد زوجها بأربعين ليلة ،
فقال ابن عباس : آخر الأجلين. قلت أنا (وَأُولاتُ
الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) قال أبو هريرة : أنا مع ابن أخي ـ يعني أبا سلمة ـ فأرسل
ابن عباس غلامه كريبا إلى أم سلمة يسألها فقالت : قتل زوج سبيعة الأسلمية وهي حبلى
فوضعت بعد موته بأربعين ليلة ، فخطبت فأنكحها رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وكان أبو السنابل فيمن خطبها ، هكذا أورد البخاري هذا الحديث هاهنا مختصرا ، وقد رواه
هو ومسلم وأصحاب الكتب مطولا من وجوه أخر.
وقال الإمام أحمد : حدثنا حماد بن أسامة أنبأنا هشام عن أبيه عن المسور بن
مخرمة أن سبيعة الأسلمية توفي عنها زوجها وهي حامل فلم تمكث إلا ليالي حتى وضعت ،
فلما تعلّت من نفاسها خطبت ، فاستأذنت رسول الله صلىاللهعليهوسلم في النكاح فأذن لها أن تنكح ، فنكحت ، ورواه البخاري في
صحيحه ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة من طرق عنها ، كما قال مسلم بن الحجاج :
حدثني أبو الطاهر أنبأنا ابن وهب ، حدثني يونس بن يزيد عن ابن شهاب ، حدثني عبيد
الله بن عبد الله بن عتبة أن أباه كتب إلى عمر بن عبد الله بن الأرقم الزهري يأمره
أن يدخل على سبيعة بنت الحارث الأسلمية ، فيسألها عن حديثها وعما قال لها رسول
الله صلىاللهعليهوسلم حين استفتته ، فكتب عمر بن عبد الله يخبره أن سبيعة أخبرته
أنها كانت تحت سعد بن خولة ، وكان ممن شهد بدرا فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل
، فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته ، فلما تعلت من نفاسها تجملت للخطاب ، فدخل
عليها أبو السنابل بن بعكك فقال لها : مالي أراك : متجملة؟ لعلك ترجين النكاح إنك
والله ما أنت بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشر.
__________________
قالت سبيعة : فلما
قال لي ذلك جمعت علي ثيابي حين أمسيت ، فأتيت رسول اللهصلىاللهعليهوسلم فسألته عن ذلك فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي وأمرني
بالتزويج إن بدا لي ، هذا لفظ مسلم ورواه البخاري مختصرا ، ثم قال البخاري بعد
روايته الحديث الأول عند هذه الآية ، وقال سليمان بن حرب وأبو النعمان : حدثنا
حماد بن زيد عن أيوب عن محمد هو ابن سيرين قال : كنت في حلقة فيها عبد الرّحمن بن
أبي ليلى رحمهالله ، وكان أصحابه يعظمونه فذكر آخر الأجلين ، فحدثت بحديث
سبيعة بنت الحارث عن عبد الله بن عتبة قال : فضمز لي بعض أصحابه. وقال محمد :
ففطنت له ، فقلت له : إني لجريء أن أكذب على عبد الله وهو في ناحية الكوفة ، قال
فاستحيا وقال : لكن عمه لم يقل ذلك ، فلقيت أبا عطية مالك بن عامر فسألته فذهب
يحدثني بحديث سبيعة ، فقلت : هل سمعت عن عبد الله فيها شيئا؟ فقال : كنا عند عبد
الله فقال : أتجعلون عليها التغليظ ولا تجعلون عليها الرخصة؟ فنزلت سورة النساء
القصرى بعد الطولى (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ
أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) ورواه ابن جرير من طريق سفيان بن عيينة وإسماعيل ابن علية
عن أيوب به مختصرا ، ورواه النسائي في التفسير عن محمد بن عبد الأعلى عن خالد بن
الحارث عن ابن عون عن محمد بن سيرين فذكره.
وقال ابن جرير : حدثني زكريا بن يحيى بن أبان المصري ، حدثنا سعيد بن أبي
مريم ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثني ابن شبرمة الكوفي عن إبراهيم عن علقمة بن قيس
أن عبد الله بن مسعود قال : من شاء لاعنته ما نزلت (وَأُولاتُ
الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) إلا بعد آية المتوفى عنها زوجها ، قال : وإذا وضعت المتوفى
عنها زوجها فقد حلت يريد بآية المتوفى عنها زوجها (وَالَّذِينَ
يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ
أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) [البقرة : ٢٣٤] وقد رواه النسائي من حديث سعيد بن أبي مريم به. ثم قال ابن جرير : حدثنا أحمد بن منيع ، حدثنا محمد بن عبيد ، حدثنا
إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال : ذكر عند ابن مسعود آخر الأجلين فقال : من شاء
قاسمته بالله إن هذه الآية التي في النساء القصرى نزلت بعد الأربعة الأشهر والعشر
ثم قال : أجل الحامل أن تضع ما في بطنها.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أحمد بن سنان الواسطي ، حدثنا عبد الرّحمن بن مهدي عن سفيان عن الأعمش عن
أبي الضحى عن مسروق قال : بلغ ابن مسعود أن عليا رضي الله عنه يقول آخر الأجلين
فقال : من شاء لاعنته إن التي في النساء القصرى نزلت بعد البقرة (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ
يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) ورواه أبو داود وابن ماجة من حديث أبي معاوية عن الأعمش.
__________________
وقال عبد الله ابن
الإمام أحمد : حدثني أحمد حدثني محمد بن أبي بكر المقدمي ، أنبأنا عبد الوهاب
الثقفي ، حدثني المثنى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو عن أبي بن كعب
قال : قلت للنبي صلىاللهعليهوسلم (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ
أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) المطلقة ثلاثا أو المتوفى عنها زوجها ، فقال : هي للمطلقة
ثلاثا والمتوفى عنها . هذا حديث غريب جدا بل منكر لأن في إسناده المثنى بن
الصباح وهو متروك الحديث بمرة ، ولكن رواه ابن أبي حاتم بسند آخر فقال : حدثنا
محمد بن داود السمناني ، حدثنا عمرو بن خالد يعني الحراني ، حدثنا ابن لهيعة عن
عمرو بن شعيب عن سعيد بن المسيب عن أبي بن كعب أنه لما نزلت هذه الآية ، قال لرسول
الله صلىاللهعليهوسلم : لا أدري أمشتركة أم مبهمة ، قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «أية آية؟» قال (أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) المتوفى عنها والمطلقة؟ قال نعم.
وكذا رواه ابن
جرير عن أبي كريب عن موسى بن داود عن ابن لهيعة به. ثم رواه عن أبي كريب أيضا عن
مالك بن إسماعيل عن ابن عيينة عن عبد الكريم بن أبي المخارق أنه حدث عن أبي بن كعب
قال : سألت رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن (وَأُولاتُ
الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) قال : «أجل كل حامل أن تضع ما في بطنها» عبد الكريم هذا
ضعيف ولم يدرك أبيا. وقوله تعالى : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ
يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) أي يسهل له أمره وييسره عليه ويجعل له فرجا قريبا ومخرجا
عاجلا ثم قال تعالى : (ذلِكَ أَمْرُ اللهِ
أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ) أي حكمه وشرعه أنزله إليكم بواسطة رسول الله صلىاللهعليهوسلم (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ
يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً) أي يذهب عنه المحذور ويجزل له الثواب على العمل اليسير.
(أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ
حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ
وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ
حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا
بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (٦) لِيُنْفِقْ ذُو
سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ
اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ
يُسْراً)
(٧)
يقول تعالى آمرا
عباده إذا طلق أحدهم المرأة أن يسكنها في منزل حتى تنقضي عدتها فقال: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ) أي عندكم (مِنْ وُجْدِكُمْ) قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد يعني سعتكم حتى قال قتادة : إن لم تجد إلا جنب بيتك فأسكنها فيه ،
وقوله تعالى : (وَلا تُضآرُّوهُنَّ
لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَ) قال مقاتل بن حيان : يعني يضاجرها لتفتدي منه بمالها أو
تخرج من مسكنه ، وقال الثوري عن منصور عن أبي الضحى : (وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا
__________________
عَلَيْهِنَ)
قال يطلقها فإذا
بقي يومان راجعها.
وقوله تعالى : (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ
فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) قال كثير من العلماء منهم ابن عباس وطائفة من السلف
وجماعات من الخلف : هذه في البائن إن كانت حاملا أنفق عليها حتى تضع حملها ، قالوا
بدليل أن الرجعية تجب نفقتها سواء كانت حاملا أو حائلا ، وقال آخرون : بل السياق
كله في الرجعيات وإنما نص على وجوب الإنفاق على الحامل ، وإن كانت رجعية ، لأن
الحمل تطول مدته غالبا فاحتيج إلى النص على وجوب الإنفاق إلى الوضع ، لئلا يتوهم
أنه إنما تجب النفقة بمقدار مدة العدة ، ثم اختلف العلماء هل النفقة لها بواسطة
الحمل أم للحمل وحده؟ على قولين منصوصين عن الشافعي وغيره ويتفرع عليها مسائل
كثيرة مذكورة في علم الفروع.
وقوله تعالى : (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ) أي إذا وضعن حملهن وهن طوالق فقد بنّ بانقضاء عدتهن ولها
حينئذ أن ترضع الولد ولها أن تمتنع منه ، ولكن بعد أن تغذيه باللبأ ، وهو باكورة
اللبن الذي لا قوام للمولود غالبا إلا به ، فإن أرضعت استحقت أجرة مثلها ، ولها أن
تعاقد أباه أو وليه على ما يتفقان عليه من أجرة ، ولهذا قال تعالى : (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ
أُجُورَهُنَ) وقوله تعالى : (وَأْتَمِرُوا
بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ) أي : ولتكن أموركم فيما بينكم بالمعروف من غير إضرار ولا
مضارة كما قال تعالى في سورة البقرة : (لا تُضَارَّ والِدَةٌ
بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ) [البقرة : ٢٣٣]
وقوله تعالى : (وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ
فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى) أي وإن اختلف الرجل والمرأة فطلبت المرأة في أجرة الرضاع
كثيرا ، ولم يجبها الرجل إلى ذلك أو بذل الرجل قليلا ولم توافقه عليه ، فليسترضع
له غيرها ، فلو رضيت الأم بما استؤجرت به الأجنبية فهي أحق بولدها.
وقوله تعالى : (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ) أي لينفق على المولود والده أو وليه بحسب قدرته (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ
فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها) كقوله تعالى: (لا يُكَلِّفُ اللهُ
نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) [البقرة : ٢٨٦]
روى ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا حكام عن أبي سنان قال : سأل عمر
بن الخطاب عن أبي عبيدة فقيل إنه يلبس الغليظ من الثياب ويأكل أخشن الطعام ، فبعث
إليه بألف دينار وقال للرسول : انظر ما يصنع بها إذا هو أخذها؟ فما لبث أن لبس
اللين من الثياب ، وأكل أطيب الطعام ، فجاءه الرسول فأخبره ، فقال رحمهالله تعالى تأول هذه الآية (لِيُنْفِقْ ذُو
سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ
اللهُ).
وقال الحافظ أبو
القاسم الطبراني في معجمه الكبير : حدثنا هاشم بن مزيد الطبراني حدثنا محمد بن
إسماعيل بن عياش ، أخبرني أبي ، أخبرني ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن
__________________
أبي مالك الأشعري
واسمه الحارث ، قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ثلاثة نفر كان لأحدهم عشرة دنانير فتصدق منها بدينار ،
وكان لآخر عشر أواق فتصدق منها بأوقية وكان لآخر مائة أوقية فتصدق منها بعشر أواق
ـ فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم ـ هم في الأجر سواء كل قد تصدق بعشر ماله قال الله تعالى :
(لِيُنْفِقْ ذُو
سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ) هذا حديث غريب من هذا الوجه.
وقوله تعالى : (سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) وعد منه تعالى ووعده حق لا يخلفه وهذه كقوله تعالى : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ
مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) [الشرح : ٥ ـ ٦]
وقد روى الإمام أحمد حديثا يحسن أن نذكره هاهنا : فقال : حدثنا هاشم بن القاسم
، حدثنا عبد الحميد بن بهرام ، حدثنا شهر بن حوشب قال : قال أبو هريرة : بينما رجل
وامرأة من السلف الخالي لا يقدران على شيء ، فجاء الرجل من سفره فدخل على امرأته
جائعا قد أصابته مسغبة شديدة ، فقال لامرأته عندك شيء؟ قالت : نعم أبشر أتانا رزق
الله فاستحثها فقال : ويحك ابتغي إن كان عندك شيء ، قالت : نعم هنيهة ترجو رحمة
الله ، حتى إذا طال عليه الطول قال : ويحك قومي فابتغي إن كان عندك شيء فائتيني به
فإني قد بلغت وجهدت ، فقالت : نعم ، الآن نفتح التنور فلا تعجل ، فلما أن سكت عنها
ساعة وتحينت أن يقول لها قالت من عند نفسها : لو قمت فنظرت إلى تنوري فقامت فنظرت
إلى تنورها ملآن من جنوب الغنم ورحييها تطحنان ، فقامت إلى الرحى فنفضتها واستخرجت
ما في تنورها من جنوب الغنم ، قال أبو هريرة : فو الذي نفس أبي القاسم بيده هو قول
محمد صلىاللهعليهوسلم : «لو أخذت ما في رحييها ولم تنفضها لطحنتها إلى يوم
القيامة».
وقال في موضع آخر : حدثنا أبو عامر ، حدثنا أبو بكر عن هشام عن محمد ، وهو
ابن سيرين عن أبي هريرة قال : دخل رجل على أهله فلما رأى ما بهم من الحاجة خرج إلى
البرية ، فلما رأت امرأته قامت إلى الرحى فوضعتها وإلى التنور فسجرته ، ثم قالت :
اللهم ارزقنا ، فنظرت ، فإذا الجفنة قد امتلأت قال : وذهبت إلى التنور فوجدته
ممتلئا ، قال فرجع الزوج فقال : أصبتم بعدي شيئا؟ قالت : امرأته : نعم من ربنا ،
فأمّ إلى الرحى فذكر ذلك للنبي صلىاللهعليهوسلم فقال النبي صلىاللهعليهوسلم «أما إنه لو لم
ترفعها لم تزل تدور إلى يوم القيامة».
(وَكَأَيِّنْ مِنْ
قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً
وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (٨) فَذاقَتْ وَبالَ
أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (٩)
أَعَدَّ
اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ
آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (١٠) رَسُولاً يَتْلُوا
عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ
صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها
أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً)
(١١)
يقول تعالى متوعدا
لمن خالف أمره وكذب رسله وسلك غير ما شرعه ، ومخبرا عما حل
__________________
بالأمم السالفة
بسبب ذلك ، فقال تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ
قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ) أي تمردت وطغت واستكبرت عن اتباع أمر الله ومتابعة رسله (فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً
وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً) أي منكرا فظيعا (فَذاقَتْ وَبالَ
أَمْرِها) أي غب مخالفتها وندموا حيث لا ينفعهم الندم (وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً
أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً) أي في الدار الآخرة مع ما عجل لهم من العذاب في الدنيا ،
ثم قال تعالى بعد ما قص من خبر هؤلاء (فَاتَّقُوا اللهَ يا
أُولِي الْأَلْبابِ) أي الأفهام المستقيمة لا تكونوا مثلهم فيصيبكم ما أصابهم
يا أولي الألباب (الَّذِينَ آمَنُوا) أي صدقوا بالله ورسله (قَدْ أَنْزَلَ اللهُ
إِلَيْكُمْ ذِكْراً) أي القرآن كقوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ
نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [الحجر : ٩].
وقوله تعالى : (رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ
اللهِ مُبَيِّناتٍ) قال بعضهم : رسولا منصوب على أنه بدل اشتمال وملابسة لأن
الرسول هو الذي بلغ الذكر.
قال ابن جرير : الصواب أن الرسول ترجمة عن الذكر يعني تفسيرا له ، ولهذا
قال تعالى : (رَسُولاً يَتْلُوا
عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ) أي في حال كونها بينة واضحة جلية (لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) كقوله تعالى : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ
إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) [إبراهيم : ١]
وقال تعالى : (اللهُ وَلِيُّ
الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) [البقرة : ٢٥٧] أي
من ظلمات الكفر والجهل إلى نور الإيمان والعلم ، وقد سمى الله تعالى الوحي الذي
أنزله نورا لما يحصل به من الهدى كما سماه روحا لما يحصل به من حياة القلوب فقال
تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا
إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ
وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ
لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الشورى : ٥٢]
وقوله تعالى : (وَمَنْ يُؤْمِنْ
بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً) قد تقدم تفسير مثل هذا غير مرة بما أغنى عن إعادته هاهنا ،
ولله الحمد والمنة.
(اللهُ الَّذِي خَلَقَ
سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ
لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ
بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً)
(١٢)
يقول تعالى مخبرا
عن قدرته التامة وسلطانه العظيم ليكون ذلك باعثا على تعظيم ما شرع من الدين القويم
(اللهُ الَّذِي خَلَقَ
سَبْعَ سَماواتٍ) كقوله تعالى إخبارا عن نوح أنه قال لقومه (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ
سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) [نوح : ١٥] وقوله
تعالى : (تُسَبِّحُ لَهُ
السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ) [الإسراء : ٤٤]
وقوله تعالى : (وَمِنَ الْأَرْضِ
مِثْلَهُنَ) أي سبعا أيضا كما ثبت في الصحيحين «من ظلم قيد شبر من
الأرض طوقه من سبع أرضين» وفي صحيح
__________________
البخاري «خسف به
إلى سبع أرضين» وقد ذكرت طرقه وألفاظه وعزوه في أول البداية والنهاية عند ذكر خلق
الأرض ولله الحمد والمنة ، ومن حمل ذلك على سبعة أقاليم فقد أبعد النجعة وأغرق في
النزع وخالف القرآن والحديث بلا مستند ، وقد تقدم في سورة الحديد عند قوله تعالى :
(هُوَ الْأَوَّلُ
وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) [الحديد : ٣] ذكر
الأرضين السبع وبعد ما بينهن وكثافة كل واحدة منهن خمسمائة عام. وهكذا قال ابن
مسعود وغيره وكذا في الحديث الآخر «ما السموات السبع وما فيهن وما بينهن والأرضون
السبع وما فيهن وما بينهن في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة».
وقال ابن جرير : حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا وكيع حدثنا الأعمش عن إبراهيم
بن مهاجر عن مجاهد عن ابن عباس في قوله تعالى : (سَبْعَ سَماواتٍ
وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) قال : لو حدثتكم بتفسيرها لكفرتم ، وكفركم تكذيبكم بها ،
وحدثنا ابن حميد : حدثنا يعقوب بن عبد الله بن سعد القمي الأشعري عن جعفر بن أبي
المغيرة الخزاعي عن سعيد بن جبير قال : قال رجل لابن عباس (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ
وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) الآية. فقال ابن عباس : ما يؤمنك إن أخبرتك بها فتكفر.
وقال ابن جرير : حدثنا عمرو بن علي ومحمد بن المثنى قالا : حدثنا محمد بن
جعفر ، حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي الضحى عن ابن عباس في هذه الآية (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ
وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) قال عمرو : قال في كل أرض مثل إبراهيم ونحو ما على الأرض
من الخلق. وقال ابن المثنى في حديثه في كل سماء إبراهيم ، وروى البيهقي في كتاب «الأسماء
والصفات» هذا الأثر عن ابن عباس بأبسط من هذا فقال : أنبأنا أبو عبد الله الحافظ ،
حدثنا أحمد بن يعقوب ، حدثنا عبيد بن غنام النخعي أنبأنا علي بن حكيم ، حدثنا شريك
عن عطاء بن السائب عن أبي الضحى عن ابن عباس قال (اللهُ الَّذِي خَلَقَ
سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) قال : سبع أرضين في كل أرض نبي كنبيكم وآدم كآدم ونوح كنوح
وإبراهيم كإبراهيم وعيسى كعيسى.
ثم رواه البيهقي
من حديث شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي الضحى عن ابن عباس في قول الله عزوجل : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ
سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) قال : في كل أرض نحو إبراهيم عليهالسلام ، ثم قال البيهقي : إسناد هذا عن ابن عباس صحيح وهو شاذ
بمرة لا أعلم لأبي الضحى عليه متابعا والله أعلم. قال الإمام أبو بكر عبد الله بن
محمد بن أبي الدنيا القرشي في كتابه «التفكر والاعتبار» ، حدثني إسحاق بن حاتم
المدائني حدثنا يحيى بن سليمان عن عثمان بن أبي دهرش قال : بلغني أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم انتهى إلى أصحابه وهم سكوت لا يتكلمون
__________________
فقال : «ما لكم لا
تتكلمون؟» فقالوا : نتفكر في خلق الله عزوجل قال : «فكذلك فافعلوا تفكروا في خلق الله ولا تتفكروا فيه
فإن بهذا المغرب أرضا بيضاء نورها ساحتها ـ أو قال ساحتها نورها ـ مسيرة الشمس
أربعين يوما بها خلق من خلق الله تعالى لم يعصوا الله طرفة عين قط» قالوا : فأين
الشيطان عنهم؟ قال : «ما يدرون خلق الشيطان أم لم يخلق؟» قالوا : أمن ولد آدم؟ قال
«لا يدرون خلق آدم أم لم يخلق؟».
وهذا حديث مرسل
وهو منكر جدا وعثمان بن أبي دهرش ذكره ابن أبي حاتم في كتابه ، فقال : روي عن رجل
من آل الحكم بن أبي العاص وعنه سفيان بن عيينة ويحيى بن سليم الطائفي وابن المبارك
سمعت أبي يقول ذلك. آخر تفسير سورة الطلاق ، ولله الحمد والمنة.
تفسير سورة التحريم
وهي مدنية
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ
وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١) قَدْ فَرَضَ اللهُ
لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٢) وَإِذْ أَسَرَّ
النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ
اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ
قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (٣) إِنْ تَتُوبا إِلَى
اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ
مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ
ظَهِيرٌ (٤) عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ
يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ
عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً)(٥)
اختلف في سبب نزول
صدر هذه السورة فقيل : نزلت في شأن مارية وكان رسول اللهصلىاللهعليهوسلم قد حرمها ، فنزل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ
ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ) الآية.
قال أبو عبد
الرّحمن النسائي : أخبرنا إبراهيم بن يونس بن محمد ، حدثنا أبي ، حدثنا حماد بن
سلمة عن ثابت عن أنس أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كانت له أمة يطؤها فلم تزل به عائشة وحفصة حتى حرمها ،
فأنزل الله عزوجل (يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) إلى آخر الآية. وقال ابن جرير : حدثني ابن عبد الرّحيم البرقي ، حدثنا ابن أبي مريم ،
حدثنا أبو غسان ، حدثني زيد بن أسلم أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أصاب أم إبراهيم في بيت بعض نسائه فقالت : أي رسول الله في
بيتي وعلى فراشي؟ فجعلها عليه حراما فقالت : أي رسول الله كيف يحرم عليك الحلال؟
فحلف لها بالله لا يصيبها فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) قال زيد بن أسلم : فقوله أنت علي حرام لغو وهكذا روى عبد
الرّحمن بن زيد عن أبيه.
وقال ابن جرير أيضا : حدثنا يونس ، حدثنا ابن وهب عن مالك عن زيد بن أسلم
قال: قال لها : «أنت علي حرام وو الله لا أطؤك» وقال سفيان الثوري وابن علية عن
داود بن أبي هند عن الشعبي عن مسروق قال : آلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم وحرم ، فعوتب في التحريم وأمر بالكفارة في
__________________
اليمين رواه ابن
جرير وكذا روي عن قتادة وغيره عن الشعبي نفسه ، وكذا قال غير واحد من السلف منهم الضحاك
والحسن وقتادة ومقاتل بن حيان ، وروى العوفي عن ابن عباس القصة مطولة.
وقال ابن جرير : حدثنا سعيد بن يحيى ، حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن إسحاق
عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال : قلت لعمر بن الخطاب : من
المرأتان؟ قال: عائشة وحفصة. وكان بدء الحديث في شأن أم إبراهيم مارية القبطية
أصابها النبي صلىاللهعليهوسلم في بيت حفصة في نوبتها ، فوجدت حفصة : فقالت : يا نبي الله
لقد جئت إليّ شيئا ما جئت إلى أحد من أزواجك في يومي وفي دوري وعلى فراشي قال : «ألا
ترضين أن أحرمها فلا أقربها» قالت : بلى فحرمها وقال لها «لا تذكري ذلك لأحد»
فذكرته لعائشة فأظهره الله عليه فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ) الآيات كلها. فبلغنا أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كفر عن يمينه وأصاب جاريته.
وقال الهيثم بن
كليب في مسنده : حدثنا أبو قلابة عبد الملك بن محمد الرقاشي ، حدثنا مسلم بن
إبراهيم ، حدثنا جرير بن حازم عن أيوب عن نافع عن ابن عمر عن عمر قال : قال النبي صلىاللهعليهوسلم لحفصة : «لا تخبري أحدا وإن أم إبراهيم علي حرام» فقالت : أتحرم
ما أحل الله لك؟ قال : «فو الله لا أقربها» قال : فلم يقربها حتى أخبرت عائشة. قال
: فأنزل الله تعالى : (قَدْ فَرَضَ اللهُ
لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) وهذا إسناد صحيح ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة ، وقد
اختاره الحافظ الضياء المقدسي في كتابه المستخرج.
وقال ابن جرير أيضا : حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن علية ، حدثنا
هشام الدستوائي قال : كتب إلي يحيى يحدث عن يعلى بن حكيم عن سعيد بن جبير أن ابن
عباس كان يقول في الحرام يمين تكفرها ، وقال ابن عباس (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب : ٢١] يعني أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم حرم جاريته فقال الله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ
ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) ـ إلى قوله ـ (قَدْ فَرَضَ اللهُ
لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) فكفر يمينه فصير الحرام يمينا ، ورواه البخاري عن معاذ بن فضالة عن هشام الدستوائي عن يحيى ، هو ابن أبي
كثير ، عن ابن حكيم وهو يعلى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في الحرام يمين تكفر
وقال ابن عباس : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ
فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) ورواه مسلم من حديث هشام الدستوائي
__________________
به. وقال النسائي : أنبأنا عبد الله بن عبد الصمد بن علي ، حدثنا مخلد وهو
ابن يزيد ، حدثنا سفيان عن سالم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : أتاه رجل فقال
إني جعلت امرأتي علي حراما ، قال : كذبت ليست عليك بحرام ثم تلا هذه الآية (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ
ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) عليك أغلظ الكفارات عتق رقبة ، تفرد به النسائي من هذا
الوجه بهذا اللفظ.
وقال الطبراني :
حدثنا محمد بن زكريا ، حدثنا عبد الله بن رجاء ، حدثنا إسرائيل عن مسلم عن مجاهد
عن ابن عباس في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) قال : حرم رسول الله صلىاللهعليهوسلم سريته ومن هاهنا ذهب من ذهب من الفقهاء ممن قال بوجوب
الكفارة على من حرم جاريته أو زوجته أو طعاما أو شرابا أو ملبسا أو شيئا من
المباحات ، وهو مذهب الإمام أحمد وطائفة ، وذهب الشافعي إلى أنه لا تجب الكفارة
فيما عدا الزوجة والجارية إذا حرم عينيهما أو أطلق التحريم فيهما في قوله ، فأما
إن نوى بالتحريم طلاق الزوجة أو عتق الأمة نفذ فيهما.
وقال ابن أبي حاتم
حدثني أبو عبد الله الظهراني أنبأنا حفص بن عمر العدني أنبأنا الحكم بن أبان
أنبأنا عكرمة عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية (يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) في المرأة التي وهبت نفسها للنبي صلىاللهعليهوسلم وهذا قول غريب ، والصحيح أن ذلك كان في تحريمه العسل كما
قال البخاري عند هذه الآية : حدثنا إبراهيم بن موسى أنبأنا هشام بن
يوسف عن ابن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير عن عائشة قالت : كان النبي صلىاللهعليهوسلم يشرب عسلا عند زينب بنت جحش ويمكث عندها ، فتواطأت أنا وحفصة
على أيتنا دخل عليها فلتقل له : أكلت مغافير إني أجد منك ريح مغافير ، قال : «لا
ولكني كنت أشرب عسلا عند زينب بنت جحش فلن أعود له وقد حلفت لا تخبري بذلك أحدا» (تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ) هكذا أورد هذا الحديث هاهنا بهذا اللفظ.
وقال في كتاب
الأيمان والنذور : حدثنا الحسن بن محمد ، حدثنا الحجاج عن ابن جريج قال زعم
عطاء أنه سمع عبيد بن عمير يقول : سمعت عائشة تزعم أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان يمكث عند زينب بنت جحش ويشرب عندها عسلا ، فتواطأت أنا
وحفصة أن أيتنا دخل عليها النبي صلىاللهعليهوسلم فلتقل له إني أجد منك ريح مغافير أكلت مغافير ، فدخل على
إحداهما النبي صلىاللهعليهوسلم فقالت ذلك له فقال : «لا بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش
ولن أعود له» فنزلت (يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) ـ إلى قوله تعالى ـ (إِنْ تَتُوبا إِلَى
اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) لعائشة وحفصة (وَإِذْ أَسَرَّ
النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً) لقوله : «بل شربت عسلا» وقال
__________________
إبراهيم بن موسى
عن هشام : «ولن أعود له وقد حلفت فلا تخبري بذلك أحدا».
وهكذا رواه في
كتاب الطلاق بهذا الإسناد ولفظه قريب منه ، ثم قال : المغافير شبيه
بالصمغ يكون في الرمث فيه حلاوة ، أغفر به الرمث إذا ظهر فيه ، واحدها مغفور ويقال
مغافير ، وهكذا قال الجوهري قال وقد يكون المغفور أيضا للعشر والثمام والسلم
والطلح ، قال والرمث بالكسر مرعى من مراعي الإبل وهو من المحض ، قال والعرفط شجر
من العضاه ينضح المغفور منه.
وقد روى مسلم هذا الحديث في كتاب الطلاق من صحيحه عن محمد بن حاتم عن
حجاج بن محمد عن ابن جريج ، أخبرني عطاء عن عبيد بن عمير عن عائشة به ، ولفظه كما
أورده البخاري في الأيمان والنذور.
ثم قال البخاري في كتاب الطلاق : حدثنا فروة بن أبي المغراء ، حدثنا علي
بن مسهر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يحب الحلوى والعسل ، وكان إذا انصرف من العصر دخل على
نسائه فيدنو من إحداهن ، فدخل على حفصة بنت عمر فاحتبس أكثر ما كان يحتبس ، فغرت
فسألت عن ذلك فقيل لي أهدت لها امرأة من قومها عكة عسل ، فسقت النبي صلىاللهعليهوسلم منه شربة فقلت : أما والله لنحتالن له ، فقلت لسودة بنت زمعة
: إنه سيدنو منك فإذا دنا منك فقولي أكلت مغافير فإنه سيقول لك لا ، فقولي له ما
هذه الريح التي أجد فإنه سيقول لك سقتني حفصة شربة عسل ، فقولي جرست نحله العرفط
وسأقول لك ، وقولي له أنت يا صفية ذلك ، قالت : تقول سودة فو الله ما هو إلا أن
قام على الباب ، فأردت أن أناديه بما أمرتني فرقا منك ، فلما دنا منها قالت له
سودة : يا رسول الله أكلت مغافير؟ قال : «لا» قالت : فما هذه الريح التي أجد منك؟
قال : «سقتني حفصة شربة عسل» قالت : جرست نحله العرفط ، فلما دار إلي قلت نحو ذلك
فلما دار إلى صفية قالت له مثل ذلك ، فلما دار إلى حفصة قالت له : يا رسول الله
ألا أسقيك منه؟ قال : «لا حاجة لي فيه» قالت : تقول سودة والله لقد حرمناه ، قلت
لها اسكتي ، هذا لفظ البخاري.
وقد رواه مسلم عن سويد بن سعيد عن علي بن مسهر به وعن أبي كريب وهارون بن
عبد الله والحسن بن بشر ثلاثتهم عن أبي أسامة حماد بن أسامة عن هشام بن عروة به ،
وعنده قالت : وكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يشتد عليه أن يوجد منه الريح ، يعني الريح الخبيثة ، ولهذا
قلن له أكلت مغافير لأن ريحها فيه شيء ، فلما قال : «بل شربت عسلا» قلن جرست نحله
العرفط أي
__________________
رعت نحله شجر
العرفط الذي صمغه المغافير ، فلهذا ظهر ريحه في العسل الذي شربته. قال الجوهري :
جرست النحل العرفط تجرس إذا أكلته ، ومنه قيل للنحل جوارس ، قال الشاعر : [الطويل]
تظلّ على الثمراء منها جوارس
وقال الجرس والجرس
الصوت الخفي ، ويقال : سمعت جرس الطير إذا سمعت صوت مناقيرها على شيء تأكله ، وفي
الحديث «فيسمعون جرس طير الجنة» قال الأصمعي : كنت في مجلس شعبة ، قال : فيسمعون
جرش طير الجنة بالشين فقلت جرس فنظر إلي فقال : خذوها عنه فإنه أعلم بهذا منا ،
والغرض أن هذا السياق فيه أن حفصة هي الساقية للعسل ، وهو من طريق هشام بن عروة عن
أبيه عن خالته عائشة ، وفي طريق ابن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير عن عائشة أن
زينب بنت جحش هي التي سقته العسل ، وأن عائشة وحفصة تواطأتا وتظاهرتا عليه فالله
أعلم. وقد يقال إنهما واقعتان ولا بعد في ذلك إلا أن كونهما سببا لنزول هذه الآية
فيه نظر ، والله أعلم.
ومما يدل على أن
عائشة وحفصة رضي الله عنهما هما المتظاهرتان الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده حيث قال : حدثنا عبد الرزاق أنبأنا معمر عن
الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور عن ابن عباس قال : لم أزل حريصا على
أن أسأل عمر عن المرأتين من أزواج النبي صلىاللهعليهوسلم اللتين قال الله تعالى : (إِنْ تَتُوبا إِلَى
اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) حتى حج عمر وحججت معه ، فلما كان ببعض الطريق عدل عمر
وعدلت معه بالإداوة فتبرز ، ثم أتاني فسكبت على يديه فتوضأ فقلت : يا أمير
المؤمنين ، من المرأتان من أزواج النبي صلىاللهعليهوسلم اللتان قال الله تعالى : (إِنْ تَتُوبا إِلَى
اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) فقال عمر : وا عجبا لك يا ابن عباس : قال الزهري: كره
والله ما سألته عنه ولم يكتمه قال : هي عائشة وحفصة.
قال : ثم أخذ يسوق
الحديث قال : كنا معشر قريش قوما نغلب النساء ، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما
تغلبهم نساؤهم فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم قال : وكان منزلي في دار أمية بن زيد
بالعوالي ، قال : فغضبت يوما على امرأتي فإذا هي تراجعني فأنكرت أن تراجعني فقالت
:
__________________
ما تنكر أن أراجعك
فو الله إن أزواج رسول الله صلىاللهعليهوسلم ليراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل. قال: فانطلقت
فدخلت على حفصة فقلت : أتراجعين رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقالت : نعم. قلت : وتهجره إحداكن اليوم إلى الليل؟ قالت :
نعم. قلت : قد خاب من فعل ذلك منكن وخسر ، أفتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب
رسوله فإذا هي قد هلكت ، لا تراجعي رسول اللهصلىاللهعليهوسلم ولا تسأليه شيئا وسليني من مالي ما بدا لك ، ولا يغرنك أن
كانت جارتك هي أوسم ـ أي أجمل ـ وأحب إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم منك ـ يريد عائشة ـ قال : وكان لي جار من الأنصار ، وكنا
نتناوب النزول إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ينزل يوما وأنزل يوما فيأتيني بخبر الوحي وغيره ، وآتيه
بمثل ذلك.
قال : وكنا نتحدث
أن غسان تنعل الخيل لتغزونا ، فنزل صاحبي يوما ثم أتى عشاء فضرب بابي ثم ناداني
فخرجت إليه فقال : حدث أمر عظيم ، فقلت : وما ذاك أجاءت غسان؟ قال : لا بل أعظم من
ذلك وأطول طلق رسول الله صلىاللهعليهوسلم نساءه. فقلت : قد خابت حفصة وخسرت قد كنت أظن هذا كائنا
حتى إذا صليت الصبح شددت علي ثيابي ، ثم نزلت فدخلت على حفصة وهي تبكي فقلت :
أطلقكن رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقالت : لا أدري هو هذا معتزل في هذه المشربة ، فأتيت
غلاما له أسود فقلت استأذن لعمر ، فدخل الغلام ثم خرج إلي فقال : ذكرتك له فصمت ،
فانطلقت حتى أتيت المنبر فإذا عنده رهط جلوس يبكي بعضهم ، فجلست عنده قليلا ثم
غلبني ما أجد ، فأتيت الغلام فقلت : استأذن لعمر ، فدخل ثم خرج فقال : قد ذكرتك له
فصمت ، فخرجت ، فجلست إلى المنبر ثم غلبني ما أجد ، فأتيت الغلام فقلت : استأذن
لعمر ، فدخل ثم خرج إلي فقال : قد ذكرتك له ، فصمت ، فوليت مدبرا ، فإذا الغلام
يدعوني فقال : ادخل قد أذن لك ، فدخلت فسلمت على رسول الله صلىاللهعليهوسلم فإذا هو متكئ على رمال الحصير ـ قال الإمام أحمد : وحدثناه
يعقوب في حديث صالح قال : رمال حصير ـ وقد أثر في جنبه فقلت : أطلقت يا رسول الله
نساءك؟ فرفع رأسه إلي وقال : «لا» فقلت : الله أكبر. ولو رأيتنا يا رسول الله وكنا
معشر قريش قوما نغلب النساء ، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم ، فطفق
نساؤنا يتعلمن من نسائهم فغضبت علي امرأتي يوما فإذا هي تراجعني ، فأنكرت أن
تراجعني فقالت : ما تنكر أن أراجعك؟ فو الله إن أزواج النبي صلىاللهعليهوسلم ليراجعنه ، وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل ، فقلت : قد خاب
من فعل ذلك منكن وخسرت ، أفتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسول الله فإذا هي
قد هلكت.
فتبسم رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقلت : يا رسول الله قد دخلت على حفصة فقلت لا يغرنك أن
كانت جارتك هي أوسم أو أحب إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم منك. فتبسم أخرى ، فقلت : استأنس يا رسول الله ، قال : «نعم»
فجلست فرفعت رأسي في البيت ، فو الله ما رأيت في البيت شيئا يرد البصر إلا أهبة
مقامه ، فقلت : ادع الله يا رسول الله أن يوسع على أمتك ، فقد وسع على فارس
والروم وهم لا
يعبدون الله ، فاستوى جالسا وقال : «أفي شك أنت يا ابن الخطاب. أولئك قوم عجلت لهم
طيباتهم في الحياة الدنيا» فقلت استغفر لي يا رسول الله. وكان أقسم أن لا يدخل عليهن
شهرا من شدة موجدته عليهن حتى عاتبه الله عزوجل.
وقد رواه البخاري
ومسلم والترمذي والنسائي من طرق عن الزهري به ، وأخرجه الشيخان من حديث يحيى بن
سعيد الأنصاري عن عبيد بن حنين ، عن ابن عباس ، قال : مكثت سنة أريد أن أسأل عمر
بن الخطاب عن آية فما أستطيع أن أسأله هيبة له ، حتى خرج حاجا فخرجت معه فلما
رجعنا وكنا ببعض الطريق عدل إلى الأراك لحاجة له ، قال : فوقفت حتى فرغ ثم سرت معه
، فقلت : يا أمير المؤمنين من اللتان تظاهرتا على النبي صلىاللهعليهوسلم. هذا لفظ البخاري ، ولمسلم : من المرأتان اللتان قال الله
تعالى : (وَإِنْ تَظاهَرا
عَلَيْهِ) قال عائشة وحفصة ، ثم ساق الحديث بطوله ومنهم من اختصره.
وقال مسلم أيضا : حدثني زهير بن حرب ، حدثنا عمر بن يونس الحنفي ،
حدثنا عكرمة بن عمار عن سماك بن الوليد أبي زميل ، حدثني عبد الله بن عباس ، حدثني
عمر بن الخطاب ، قال : لما اعتزل نبي الله صلىاللهعليهوسلم نساءه دخلت المسجد ، فإذا الناس ينكتون بالحصى ويقولون طلق
رسول الله صلىاللهعليهوسلم نساءه ، وذلك قبل أن يؤمر بالحجاب فقلت لأعلمن ذلك اليوم ،
فذكر الحديث في دخوله على عائشة وحفصة ووعظه إياهما ، إلى أن قال : فدخلت فإذا أنا
برباح غلام رسول الله صلىاللهعليهوسلم على أسكفة المشربة ، فناديت فقلت : يا رباح استأذن لي على
رسول اللهصلىاللهعليهوسلم ، فذكر نحو ما تقدم ـ إلى أن قال ـ فقلت : يا رسول الله ما
يشق عليك من أمر النساء ، فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكائيل
وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك ، وقلما تكلمت ـ وأحمد الله ـ بكلام إلا رجوت أن يكون
الله يصدق قولي ، فنزلت هذه الآية آية التخيير (عَسى رَبُّهُ إِنْ
طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَ وَإِنْ تَظاهَرا
عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) فقلت : أطلقتهن؟ قال : «لا» فقمت على باب المسجد فناديت
بأعلى صوتي : لم يطلق نساءه. ونزلت هذه الآية (وَإِذا جاءَهُمْ
أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى
الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ
يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء : ٨٣]
فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر.
وكذا قال سعيد بن
جبير وعكرمة ومقاتل بن حيان والضحاك وغيرهم (وَصالِحُ
الْمُؤْمِنِينَ) أبو بكر وعمر ، زاد الحسن البصري وعثمان ، وقال ليث بن أبي
سليم عن مجاهد (وَصالِحُ
الْمُؤْمِنِينَ) قال : علي بن أبي طالب.
__________________
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا محمد بن أبي عمر ، حدثنا محمد بن جعفر بن محمد بن
علي بن الحسين ، قال : أخبرني رجل ثقة يرفعه إلى علي قال : قال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم في قوله تعالى : (وَصالِحُ
الْمُؤْمِنِينَ) قال : «هو علي بن أبي طالب» إسناده ضعيف وهو منكر جدا.
وقال البخاري : حدثنا عمرو بن عون ، حدثنا هشيم عن حميد عن أنس قال :
قال عمر : اجتمع نساء النبي صلىاللهعليهوسلم في الغيرة عليه ، فقلت لهن (عَسى رَبُّهُ إِنْ
طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَ) فنزلت هذه الآية ، وقد تقدم أنه وافق القرآن في أماكن :
منها في نزول الحجاب ، ومنها في أسارى بدر ، ومنها قوله لو اتخذت من مقام إبراهيم
مصلى ، فأنزل الله تعالى: (وَاتَّخِذُوا مِنْ
مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا الأنصاري ، حدثنا
حميد عن أنس قال : قال عمر بن الخطاب : بلغني شيء كان بين أمهات المؤمنين وبين
النبي صلىاللهعليهوسلم فاستقريتهن أقول : لتكفن عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أو ليبدلنه الله أزواجا خيرا منكن ، حتى أتيت على آخر
أمهات المؤمنين فقالت : يا عمر أما في رسول الله ما يعظ نساءه حتى تعظهن ، فأمسكت
فأنزل الله عزوجل (عَسى رَبُّهُ إِنْ
طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ
قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً) وهذه المرأة التي ردته عما كان فيه من وعظ النساء هي أم
سلمة كما ثبت ذلك في صحيح البخاري.
وقال الطبراني :
حدثنا إبراهيم بن نائلة الأصبهاني ، حدثنا إسماعيل البجلي ، حدثنا أبو عوانة عن
أبي سنان عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : (وَإِذْ أَسَرَّ
النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً) قال : دخلت حفصة على النبي صلىاللهعليهوسلم في بيتها وهو يطأ مارية ، فقال لها رسول الله صلىاللهعليهوسلم: «لا تخبري عائشة حتى أبشرك ببشارة. إن أباك يلي الأمر من
بعد أبي بكر إذا أنا مت» فذهبت حفصة فأخبرت عائشة ، فقالت عائشة لرسول الله صلىاللهعليهوسلم : من أنبأك هذا؟ قال : (نَبَّأَنِيَ
الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) فقالت عائشة : لا أنظر إليك حتى تحرم مارية ، فحرمها ،
فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ) إسناده فيه نظر وقد تبين مما أوردناه تفسير هذه الآيات
الكريمات.
ومعنى قوله : (مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ
تائِباتٍ عابِداتٍ) ظاهر. وقوله تعالى : (سائِحاتٍ) أي : صائمات ، قاله أبو هريرة وعائشة وابن عباس وعكرمة
ومجاهد وسعيد بن جبير وعطاء ، ومحمد بن كعب القرظي وأبو عبد الرّحمن السلمي وأبو
مالك وإبراهيم النخعي والحسن وقتادة والضحاك والربيع بن أنس والسدي وغيرهم ، وتقدم
فيه حديث مرفوع عند قوله : (السَّائِحُونَ) في سورة براءة ، ولفظه «سياحة هذه الأمة الصيام» وقال زيد
بن أسلم وابنه عبد الرّحمن (سائِحاتٍ) أي مهاجرات ، وتلا عبد الرّحمن (السَّائِحُونَ) ، أي المهاجرون ،
__________________
والقول الأول أولى
، والله أعلم.
وقوله تعالى : (ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً) أي منهن ثيبات ومنهن أبكارا ليكون ذلك أشهى إلى النفس ،
فإن التنوع يبسط النفس ، ولهذا قال : (ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً) وقال أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير : حدثنا أبو بكر
بن صدقة ، حدثنا محمد بن محمد بن مرزوق ، حدثنا عبد الله بن أمية ، حدثنا عبد
القدوس عن صالح بن حيان ، عن ابن بريدة ، عن أبيه (ثَيِّباتٍ
وَأَبْكاراً) قال : وعد الله نبيه صلىاللهعليهوسلم في هذه الآية أن يزوجه ، فالثيب آسية امرأة فرعون
وبالأبكار مريم بنت عمران. وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة مريم عليهاالسلام من طريق سويد بن سعيد : حدثنا محمد بن صالح بن عمر عن
الضحاك ومجاهد عن ابن عمر قال : جاء جبريل إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فمرت خديجة فقال : إن الله يقرئها السّلام ويبشرها ببيت في
الجنة من قصب بعيد من اللهب لا نصب فيه ولا صخب ، من لؤلؤة جوفاء بين بيت مريم بنت
عمران وبيت آسية بنت مزاحم.
ومن حديث أبي بكر
الهذلي عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلىاللهعليهوسلم دخل على خديجة وهي في الموت فقال : «يا خديجة إذا لقيت
ضرائرك فأقرئيهن مني السّلام» ، فقالت : يا رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهل تزوجت قبلي؟ قال : «لا ، ولكن الله زوجني مريم بنت
عمران وآسية امرأة فرعون وكلثم أخت موسى» ضعيف أيضا ، وقال أبو يعلى : حدثنا
إبراهيم بن عرعرة ، حدثنا عبد النور بن عبد الله ، حدثنا يوسف بن شعيب عن أبي
أمامة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أعلمت أن الله زوجني في الجنة مريم بنت عمران وكلثم أخت
موسى وآسية امرأة فرعون؟» فقلت : هنيئا لك يا رسول الله ، وهذا أيضا ضعيف وروي
مرسلا عن ابن أبي داود.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ
عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ
وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٦)
يا
أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما
كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧) يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ
يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ
نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا
أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)
(٨)
قال سفيان الثوري
عن منصور عن رجل عن علي رضي الله عنه في قوله تعالى : (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) يقول : أدبوهم وعلموهم . وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) يقول اعملوا بطاعة الله واتقوا معاصي الله ، وأمروا أهليكم
بالذكر ينجكم الله من النار ، وقال مجاهد (قُوا أَنْفُسَكُمْ
وَأَهْلِيكُمْ ناراً) قال اتقوا الله وأوصوا أهليكم بتقوى الله ، وقال قتادة
تأمرهم بطاعة الله وتنهاهم عن معصية الله وأن تقوم عليهم بأمر الله
__________________
وتأمرهم به
وتساعدهم عليه فإذا رأيت لله معصية ردعتهم عنها وزجرتهم عنها ، وهكذا قال الضحاك
ومقاتل : حق على المسلم أن يعلم أهله من قرابته وإمائه وعبيده ما فرض الله عليهم
وما نهاهم الله عنه.
وفي معنى هذه
الآية الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود والترمذي من حديث عبد الملك ابن الربيع بن
سبرة عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين فإذا بلغ عشر سنين
فاضربوه عليها» هذا لفظ أبي داود ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن ، وروى
أبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم مثل ذلك ، قال الفقهاء وهكذا في الصوم ليكون ذلك تمرينا له
على العبادة لكي يبلغ وهو مستمر على العبادة والطاعة ومجانبة المعصية وترك المنكر
، والله الموفق.
وقوله تعالى : (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) وقودها أي حطبها الذي يلقى فيها جثث بني آدم (وَالْحِجارَةُ) قيل المراد بها الأصنام التي تعبد لقوله تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ
اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) [الأنبياء : ٩٨]
وقال ابن مسعود ومجاهد وأبو جعفر الباقر والسدي ، هي حجارة من كبريت ، زاد مجاهد :
أنتن من الجيفة ، وروى ذلك ابن أبي حاتم رحمهالله ثم قال حدثنا أبي حدثنا عبد الرّحمن بن سنان المنقري حدثنا
عبد العزيز ـ يعني ابن أبي روّاد ـ قال : بلغني أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم تلا هذه الآية (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ
وَالْحِجارَةُ) وعنده بعض أصحابه وفيهم شيخ فقال الشيخ : يا رسول الله
حجارة جهنم كحجارة الدنيا؟ فقال النبي صلىاللهعليهوسلم «والذي نفسي بيده
لصخرة من صخر جهنم أعظم من جبال الدنيا كلها» قال : فوقع الشيخ مغشيا عليه ، فوضع
النبي صلىاللهعليهوسلم يده على فؤاده فإذا هو حي فناداه قال : «يا شيخ قل لا إله
إلا الله» فقالها فبشره بالجنة. قال : فقال أصحابه يا رسول الله أمن بيننا؟ قال : «نعم
يقول الله تعالى : (ذلِكَ لِمَنْ خافَ
مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ) [إبراهيم : ١٤]
هذا حديث مرسل غريب.
وقوله تعالى : (عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ) أي طباعهم غليظة قد نزعت من قلوبهم الرحمة بالكافرين بالله
(شِدادٌ) أي تركيبهم في غاية الشدة والكثافة والمنظر المزعج. كما
قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا سلمة بن شبيب حدثنا إبراهيم بن الحكم بن أبان
حدثنا أبي عن عكرمة أنه قال : إذا وصل أول أهل النار إلى النار وجدوا على الباب
أربعمائة ألف من خزنة جهنم سود وجوههم ، كالحة أنيابهم ، قد نزع الله من قلوبهم
الرحمة ليس في قلب واحد منهم مثقال ذرة من الرحمة ، لو طير الطير من منكب أحدهم
لطار شهرين قبل أن يبلغ منكبه الآخر ثم يجدون على الباب التسعة عشر ، عرض صدر
أحدهم سبعون خريفا ثم يهوون من باب إلى باب خمسمائة سنة
__________________
ثم يجدون على كل
باب منها مثل ما وجدوا على الباب الأول حتى ينتهوا إلى آخرها.
وقوله : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ
وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) أي مهما أمرهم به تعالى يبادروا إليه لا يتأخرون عنه طرفة
عين وهم قادرون على فعله ليس بهم عجز عنه ، وهؤلاء هم الزبانية ـ عياذا بالله منهم
ـ وقوله : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ) أي يقال للكفرة يوم القيامة : لا تعتذروا فإنه لا يقبل
منكم ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون ، وإنما تجزون اليوم بأعمالكم ، ثم قال تعالى :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً) أي توبة صادقة جازمة تمحو ما قبلها من السيئات ، وتلم شعث
التائب وتجمعه وتكفه عما كان يتعاطاه من الدناءات.
قال ابن جرير : حدثنا ابن مثنى حدثنا محمد ، حدثنا شعبة عن سماك بن حرب
: سمعت النعمان بن بشير يخطب ، سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا
إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً) قال : يذنب الذنب ثم لا يرجع فيه ، وقال الثوري عن سماك عن
النعمان عن عمر قال : التوبة النصوح أن يتوب من الذنب ثم لا يعود فيه أو لا يريد
أن يعود فيه. وقال أبو الأحوص وغيره عن سماك عن النعمان : سئل عمر عن التوبة
النصوح فقال : أن يتوب الرجل من العمل السيئ ثم لا يعود إليه أبدا. وقال الأعمش عن
أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله (تَوْبَةً نَصُوحاً) قال : يتوب ثم لا يعود.
وقد روي هذا
مرفوعا فقال الإمام أحمد : حدثنا علي بن عاصم عن إبراهيم الهجري عن أبي الأحوص عن
عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «التوبة من الذنب أن يتوب منه ثم لا يعود فيه» تفرد به
أحمد من طريق إبراهيم بن مسلم الهجري ، وهو ضعيف ، والموقوف أصح والله أعلم. ولهذا
قال العلماء : التوبة النصوح هو أن يقلع عن الذنب في الحاضر ويندم على ما سلف منه
في الماضي ويعزم على أن لا يفعل في المستقبل ، ثم إن كان الحق لآدمي رده إليه
بطريقه.
قال الإمام أحمد : حدثنا سفيان عن عبد الكريم ، أخبرني زياد بن أبي مريم عن
عبد الله بن معقل قال : دخلت مع أبي على عبد الله بن مسعود فقال : أنت سمعت النبي صلىاللهعليهوسلم يقول : «الندم
توبة؟» قال : نعم وقال مرة : نعم سمعته يقول : «الندم توبة» ورواه ابن ماجة عن هشام بن عمار عن سفيان بن عيينة عن عبد
الكريم وهو ابن مالك الجزري به.
__________________
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا الحسن بن عرفة ، حدثني الوليد بن بكير أبو خباب عن عبد الله بن محمد
العدوي عن أبي سنان البصري عن أبي قلابة ، عن زر بن حبيش عن أبي بن كعب قال : قيل
لنا أشياء تكون في آخر هذه الأمة عند اقتراب الساعة ، منها نكاح الرجل امرأته أو
أمته في دبرها ، وذلك مما حرم الله عليه ورسوله ويمقت الله عليه ورسوله ومنها نكاح
الرجل الرجل وذلك مما حرم الله ورسوله ويمقت الله عليه ورسوله ، ومنها نكاح المرأة
المرأة وذلك مما حرم الله ورسوله ويمقت الله عليه ورسوله ، وليس لهؤلاء صلاة ما
أقاموا على هذا حتى يتوبوا إلى الله توبة نصوحا.
قال زر : فقلت
لأبي بن كعب : فما التوبة النصوح؟ فقال : سألت رسول اللهصلىاللهعليهوسلم عن ذلك فقال : «هو الندم على الذنب حين يفرط منك فتستغفر
الله بندامتك منه عند الحاضر ثم لا تعود إليه أبدا». وقال ابن أبي حاتم : حدثنا
أبي ، حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا عباد بن عمرو حدثنا أبو عمرو بن العلاء سمعت
الحسن يقول : التوبة النصوح أن تبغض الذنب كما أحببته وتستغفر منه إذا ذكرته ،
فأما إذا جزم بالتوبة وصمم عليها فإنها تجب ما قبلها من الخطيئات ، كما ثبت في
الصحيح «الإسلام يجب ما قبله ، والتوبة تجب ما قبلها» وهل من شرط التوبة النصوح الاستمرار على ذلك إلى الممات ـ كما
تقدم في الحديث وفي الأثر ـ ثم لا يعود فيه أبدا. أو يكفي العزم على أن لا يعود في
تكفير الماضي بحيث لو وقع منه ذلك الذنب بعد ذلك لا يكون ذلك ضارا في تكفير ما
تقدم لعموم قوله عليهالسلام : «التوبة تجب ما قبلها؟» وللأول أن يحتج بما ثبت في
الصحيح أيضا «من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية ، ومن أساء في
الإسلام أخذ بالأول والآخر» فإذا كان هذا في الإسلام الذي هو أقوى من التوبة فالتوبة
بطريق الأولى ، والله أعلم.
وقوله تعالى : (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ
سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) وعسى من الله موجبة (يَوْمَ لا يُخْزِي
اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) أي ولا يخزيهم معه يعني يوم القيامة (نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ
وَبِأَيْمانِهِمْ) كما تقدم في سورة الحديد (يَقُولُونَ رَبَّنا
أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [التحريم : ٨] قال
مجاهد والضحاك والحسن البصري وغيرهم : هذا يقوله المؤمنون حين يرون يوم القيامة
نور المنافقين قد طفئ. وقال الإمام أحمد : حدثنا إبراهيم بن إسحاق الطالقاني ، حدثنا ابن المبارك
عن يحيى بن حسان عن رجل من بني كنانة قال : صليت خلف رسول الله صلىاللهعليهوسلم عام الفتح فسمعته يقول : «اللهم لا تخزني يوم القيامة».
__________________
وقال محمد بن نصر
المروزي : حدثنا محمد بن مقاتل المروزي ، حدثنا ابن المبارك ، أنبأنا ابن لهيعة ،
حدثني يزيد بن أبي حبيب عن عبد الرّحمن بن جبير بن نفير أنه سمع أبا ذر وأبا
الدرداء قالا : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أنا أول من يؤذن له في السجود يوم القيامة ، وأول من
يؤذن له برفع رأسه ، فأنظر بين يدي فأعرف أمتي من بين الأمم وأنظر عن يميني فأعرف
أمتي من بين الأمم ، وأنظر عن شمالي فأعرف أمتي من بين الأمم ، فقال رجل : يا رسول
الله ، وكيف تعرف أمتك من بين الأمم؟ قال : غر محجلون من آثار الطهور ولا يكون من
الأمم كذلك غيرهم ، وأعرفهم أنهم يؤتون كتبهم بأيمانهم وأعرفهم بسيماهم في وجوههم
من أثر السجود ، وأعرفهم بنورهم يسعى بين أيديهم» .
(يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ
وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(٩) ضَرَبَ اللهُ
مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ
عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ
اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ)
(١٠)
يقول تعالى آمرا
رسوله صلىاللهعليهوسلم بجهاد الكفار والمنافقين ، هؤلاء بالسلاح والقتال ، وهؤلاء
بإقامة الحدود عليهم (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) أي في الدنيا (وَمَأْواهُمْ
جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي في الآخرة ثم قال تعالى : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً
لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي في مخالطتهم المسلمين ومعاشرتهم لهم أن ذلك لا يجدي
عنهم شيئا ولا ينفعهم عند الله إن لم يكن الإيمان حاصلا في قلوبهم ، ثم ذكر المثل
فقال : (امْرَأَتَ نُوحٍ
وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ) أي نبيين رسولين عندهما في صحبتهما ليلا ونهارا يؤاكلان
ويضاجعانهما ويعاشرانهما أشد العشرة والاختلاط (فَخانَتاهُما) أي في الإيمان لم يوافقاهما على الإيمان ولا صدقاهما في
الرسالة ، فلم يجد ذلك كله شيئا ولا دفع عنهما محذورا ، ولهذا قال تعالى : (فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ
شَيْئاً) أي لكفرهما (وَقِيلَ) أي للمرأتين (ادْخُلَا النَّارَ
مَعَ الدَّاخِلِينَ) وليس المراد بقوله : (فَخانَتاهُما) في فاحشة بل في الدين ، فإن نساء الأنبياء معصومات عن
الوقوع في الفاحشة لحرمة الأنبياء كما قدمنا في سورة النور.
قال سفيان الثوري
عن موسى بن أبي عائشة عن سليمان بن قتّة : سمعت ابن عباس يقول في هذه الآية (فَخانَتاهُما) قال : ما زنتا ، أما خيانة امرأة نوح فكانت تخبر أنه مجنون
، وأما خيانة امرأة لوط فكانت تدل قومها على أضيافه ، وقال العوفي عن ابن عباس قال
: كانت خيانتهما أنهما كانتا على غير دينهما ، فكانت امرأة نوح تطلع على سر نوح
فإذا آمن مع نوح أحد أخبرت الجبابرة من قوم نوح به ، وأما امرأة لوط فكانت إذا
أضاف لوط أحدا أخبرت به أهل المدينة ممن يعمل السوء.
__________________
وقال الضحاك عن
ابن عباس : ما بغت امرأة نبي قط إنما كانت خيانتهما في الدين ، وهكذا قال عكرمة
وسعيد بن جبير والضحاك وغيرهم ، وقد استدل بهذه الآية الكريمة بعض العلماء على ضعف
الحديث الذي يأثره كثير من الناس : من أكل مع مغفور له غفر له. وهذا الحديث لا أصل
له وإنما يروى هذا عن بعض الصالحين أنه رأى النبي صلىاللهعليهوسلم في المنام فقال : يا رسول الله أنت قلت من أكل مع مغفور له
غفر له؟ قال : لا ولكني الآن أقوله.
(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً
لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ
بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ
الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١١) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ
عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ
بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ)
(١٢)
وهذا مثل ضربه
الله للمؤمنين أنهم لا تضرهم مخالطة الكافرين إذا كانوا محتاجين إليهم كما قال
تعالى : (لا يَتَّخِذِ
الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ
يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ
تُقاةً) [آل عمران : ٢٨]
قال قتادة : كان فرعون أعتى أهل الأرض وأكفرهم فو الله ما ضر امرأته كفر زوجها حين
أطاعت ربها ، ليعلموا أن الله تعالى حكم عدل لا يؤاخذ أحدا إلا بذنبه. وقال ابن
جرير : حدثنا إسماعيل بن حفص الإربليّ ، حدثنا محمد بن جعفر عن سليمان التيمي عن
أبي عثمان النهدي عن سليمان قال : كانت امرأة فرعون تعذب في الشمس ، فإذا انصرف
عنها أظلتها الملائكة بأجنحتها ، وكانت ترى بيتها في الجنة ، ثم رواه عن محمد بن
عبيد المحاربي عن أسباط بن محمد عن سليمان التيمي به.
ثم قال ابن جرير : حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن علية عن هشام
الدستوائي ، حدثنا القاسم بن أبي بزة قال : كانت امرأة فرعون تسأل من غلب؟ فيقال :
غلب موسى وهارون ، فتقول : آمنت برب موسى وهارون ، فأرسل إليها فرعون فقال :
انظروا أعظم صخرة تجدونها ، فإن مضت على قولها فألقوها عليها ، وإن رجعت عن قولها
فهي امرأته ، فلما أتوها رفعت بصرها إلى السماء فأبصرت بيتها في الجنة ، فمضت على
قولها وانتزعت روحها وألقيت الصخرة على جسد ليس فيه روح ، فقولها (رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي
الْجَنَّةِ) قالت العلماء : اختارت الجار قبل الدار ، وقد ورد شيء من
ذلك في حديث مرفوع (وَنَجِّنِي مِنْ
فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ) أي خلصني منه فإني أبرأ إليك من عمله (وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ) وهذه المرأة هي آسية بنت مزاحم رضي الله عنها.
وقال أبو جعفر
الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية قال : كان إيمان امرأة فرعون من قبل إيمان
امرأة خازن فرعون ، وذلك أنها جلست تمشط ابنة فرعون فوقع المشط من يدها
__________________
فقالت : تعس من
كفر بالله! فقالت لها بنت فرعون : ولك رب غير أبي؟ قالت : ربي ورب أبيك ورب كل شيء
الله ، فلطمتها بنت فرعون وضربتها وأخبرت أباها ، فأرسل فرعون إليها فقال: تعبدين
ربا غيري؟ قالت : نعم ربي وربك ورب كل شيء الله وإياه أعبد ، فعذبها فرعون وأوتد
لها أوتادا فشد يديها ورجليها وأرسل عليها الحيات ، فكانت كذلك ، فأتى عليها يوما
فقال لها : ما أنت منتهية؟ فقالت له : ربي وربك ورب كل شيء الله.
فقال لها : إني
ذابح ابنك في فيك إن لم تفعلي فقالت له : اقض ما أنت قاض ، فذبح ابنها في فيها ،
وإن روح ابنها بشرها فقال لها : أبشري يا أمه فإن لك عند الله من الثواب كذا وكذا
، فصبرت ثم أتى عليها فرعون يوما آخر فقال لها مثل ذلك ، فقالت له مثل ذلك ، فذبح
ابنها الآخر في فيها ، فبشرها روحه أيضا وقال لها : اصبري يا أمه فإن لك عند الله
من الثواب كذا وكذا ، قال : وسمعت امرأة فرعون كلام روح ابنها الأكبر ثم الأصغر ،
فآمنت امرأة فرعون وقبض الله روح امرأة خازن فرعون ، وكشف الغطاء عن ثوابها
ومنزلتها وكرامتها في الجنة لامرأة فرعون حتى رأت ، فازدادت إيمانا ويقينا وتصديقا
فأطلع الله فرعون على إيمانها فقال للملأ : ما تعلمون من آسية بنت مزاحم؟ فأثنوا
عليها فقال لهم : إنها تعبد غيري ، فقالوا له : اقتلها.
فأوتد لها أوتادا
فشد يديها ورجليها فدعت آسية ربها فقالت (رَبِّ ابْنِ لِي
عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ) فوافق ذلك أن حضرها فرعون ، فضحكت حين رأت بيتها في الجنة
، فقال فرعون : ألا تعجبون من جنونها إنا نعذبها وهي تضحك ، فقبض الله روحها في
الجنة رضي الله عنها.
وقوله تعالى : (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي
أَحْصَنَتْ فَرْجَها) أي حفظته وصانته ، والإحصان هو العفاف والحرية (فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا) أي بواسطة الملك وهو جبريل فإن الله بعثه إليها فتمثل لها
في صورة بشر سوي ، وأمره الله تعالى أن ينفخ بفيه في جيب درعها ، فنزلت النفخة
فولجت في فرجها فكان منه الحمل بعيسى عليهالسلام ، ولهذا قال تعالى : (فَنَفَخْنا فِيهِ
مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ) أي بقدره وشرعه (وَكانَتْ مِنَ
الْقانِتِينَ).
قال الإمام أحمد : حدثنا يونس ، حدثنا داود بن أبي الفرات عن علباء عن
عكرمة عن ابن عباس قال : خط رسول الله صلىاللهعليهوسلم في الأرض أربعة خطوط وقال : «أتدرون ما هذا؟» قالوا : الله
ورسوله أعلم. فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أفضل نساء أهل الجنة : خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد
ومريم ابنة عمران وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون».
وقد ثبت في
الصحيحين من حديث شعبة عن عمرو بن مرة عن مرة الهمداني عن أبي موسى الأشعري عن
النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسية
امرأة فرعون ومريم ابنة عمران وخديجة بنت خويلد ، وإن فضل عائشة على النساء كفضل
الثريد على
__________________
سائر الطعام» . وقد ذكرنا طرق هذه الأحاديث وألفاظها والكلام عليها في
قصة عيسى ابن مريم عليهماالسلام في كتابنا [البداية والنهاية] ولله الحمد والمنة ، وذكرنا
ما ورد من الحديث من أنها تكون هي وآسية بنت مزاحم من أزواجه عليهالسلام في الجنة عند قوله تعالى (ثَيِّباتٍ
وَأَبْكاراً).
آخر تفسير سورة
التحريم ، ولله الحمد والمنة.
تفسير سورة الملك
وهي مكية
قال الإمام أحمد : حدثنا حجاج بن محمد وابن جعفر قالا : حدثنا شعبة عن
قتادة عن عباس الجشمي عن أبي هريرة عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إن سورة في القرآن ثلاثين آية شفعت لصاحبها حتى غفر
له : (تَبارَكَ الَّذِي
بِيَدِهِ الْمُلْكُ) ورواه أهل السنن الأربعة من حديث شعبة به ، وقال الترمذي :
هذا حديث حسن ، وقد روى الحافظ ابن عساكر في تاريخه في ترجمة أحمد بن نصر بن زياد
أبي عبد الله القرشي النيسابوري المقري الزاهد الفقيه ، أحد الثقات الذين روى عنهم
البخاري ومسلم لكن في غير الصحيحين.
وروى عنه الترمذي
وابن ماجة وابن خزيمة وعليه تفقه في مذهب أبي عبيد بن حربويه وخلق سواهم ، ساق
بسنده من حديثه عن فرات بن السائب عن الزهري عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن رجلا ممن كان قبلكم مات وليس معه شيء من كتاب الله
إلا تبارك ، فلما وضع في حفرته أتاه الملك فثارت السورة في وجهه ، فقال لها إنك من
كتاب الله وأنا أكره مساءتك ، وإني لا أملك لك ولا له ولا لنفسي ضرا ولا نفعا ،
فإن أردت هذا به فانطلقي إلى الرب تبارك وتعالى فاشفعي له ، فتنطلق إلى الرب فتقول
يا رب إن فلانا عمد إلي من بين كتابك فتعلمني وتلاني ، أفتحرقه أنت بالنار وتعذبه
وأنا في جوفه؟ فإن كنت فاعلا ذاك به فامحني من كتابك فيقول ألا أراك غضبت ، فتقول
وحق لي أن أغضب فيقول اذهبي فقد وهبته لك وشفعتك فيه ـ قال ـ فتجيء فتزجر الملك ،
فيخرج كاسف البال لم يحل منه بشيء ـ قال ـ فتجيء فتضع فاها على فيه فتقول مرحبا
بهذا الفم فربما تلاني ، مرحبا بهذا الصدر فربما وعاني ، ومرحبا بهاتين القدمين
فربما قامتا بي ، وتؤنسه في قبره مخافة الوحشة عليه» قال : فلما حدث بهذا رسول
الله صلىاللهعليهوسلم لم يبق صغير ولا كبير ولا حر ولا عبد إلا تعلمها وسماها
رسول الله صلىاللهعليهوسلم المنجية.
__________________
قلت وهذا حديث
منكر جدا وفرات بن السائب هذا ضعفه الإمام أحمد ويحيى بن معين والبخاري وأبو حاتم
والدارقطني وغير واحد ، وقد ذكره ابن عساكر من وجه آخر عن الزهري من قوله مختصرا ،
وروى البيهقي في كتاب إثبات عذاب القبر عن ابن مسعود موقوفا ومرفوعا ما يشهد لهذا
، وقد كتبناه في كتاب الجنائز من الأحكام الكبرى ولله الحمد والمنة.
وقد روى الطبراني
والحافظ الضياء المقدسي من طريق سلام بن مسكين عن ثابت عن أنس قال : قال رسول الله
صلىاللهعليهوسلم : «سورة في القرآن خاصمت عن صاحبها حتى أدخلته الجنة : (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ). وقال الترمذي : حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب
حدثنا يحيى بن مالك النكري عن أبيه عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس قال : ضرب بعض
أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم خباءه على قبر وهو لا يحسب أنه قبر ، فإذا قبر إنسان يقرأ
سورة الملك حتى ختمها ، فأتى النبي صلىاللهعليهوسلم فقال : يا رسول الله ضربت خبائي على قبر وأنا لا أحسب أنه
قبر فإذا إنسان يقرأ سورة الملك : تبارك حتى ختمها ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «هي المانعة هي المنجية تنجيه من عذاب القبر» ثم قال :
هذا حديث غريب من هذا الوجه وفي الباب عن أبي هريرة ، ثم روى الترمذي أيضا من طريق
ليث بن أبي سليم عن أبي الزبير عن جابر أن رسول اللهصلىاللهعليهوسلم كان لا ينام حتى يقرأ : (الم تَنْزِيلُ) ، و (تَبارَكَ الَّذِي
بِيَدِهِ الْمُلْكُ) ، وقال ليث عن طاوس : يفضلان كل سورة في القرآن بسبعين
حسنة.
وقال الطبراني :
حدثنا محمد بن الحسن بن علاف الأصبهاني ، حدثنا سلمة بن شبيب ، حدثنا إبراهيم بن
الحكم بن أبان عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس قال : قال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم : «لوددت أنها في قلب كل إنسان من أمتي» يعني (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) ، هذا الحديث غريب وإبراهيم ضعيف ، وقد تقدم مثله في سورة
يس ، وقد روى هذا الحديث عبد بن حميد في مسنده بأبسط من هذا فقال : حدثنا إبراهيم
بن الحكم عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال لرجل : ألا أتحفك بحديث تفرح به؟
قال : بلى ، قال : اقرأ (تَبارَكَ الَّذِي
بِيَدِهِ الْمُلْكُ) وعلمها أهلك وجميع ولدك وصبيان بيتك وجيرانك ، فإنها
المنجية والمجادلة تجادل أو تخاصم يوم القيامة عند ربها لقارئها ، وتطلب له أن
ينجيه من عذاب النار وينجي بها صاحبها من عذاب القبر ، قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لوددت أنها في قلب كل إنسان من أمتي».
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(تَبارَكَ الَّذِي
بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١)
الَّذِي
خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ
الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (٢) الَّذِي خَلَقَ
سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ
الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (٣) ثُمَّ ارْجِعِ
الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (٤)
وَلَقَدْ
زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ
وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ)(٥)
يمجد تعالى نفسه
الكريمة ويخبر أنه بيده الملك أي هو المتصرف في جميع المخلوقات بما يشاء لا معقب
لحكمه ولا يسأل عما يفعل لقهره وحكمته وعدله ، ولهذا قال تعالى : (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ثم قال تعالى : (الَّذِي خَلَقَ
الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) واستدل بهذه الآية من قال إن الموت أمر وجودي ، لأنه مخلوق
، ومعنى الآية أنه أوجد الخلائق من العدم ليبلوهم أي يختبرهم أيهم أحسن عملا ، كما
قال تعالى : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ
بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) [البقرة : ٢٨]
فسمى الحال الأول وهو العدم موتا وسمى هذه النشأة حياة ، ولهذا قال تعالى : (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ).
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبو زرعة حدثنا صفوان حدثنا الوليد حدثنا خليد عن قتادة في قوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) قال : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «إن الله أذل بني آدم بالموت وجعل الدنيا دار حياة
ثم دار موت وجعل الآخرة دار جزاء ثم دار بقاء» ورواه معمر عن قتادة.
وقوله تعالى : (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ
عَمَلاً) أي خير عملا كما قال محمد بن عجلان، ولم يقل أكثر عملا ثم
قال تعالى : (وَهُوَ الْعَزِيزُ
الْغَفُورُ) أي هو العزيز العظيم المنيع الجناب ، وهو مع ذلك غفور لمن
تاب إليه وأناب بعد ما عصاه وخالف أمره ، وإن كان تعالى عزيزا هو مع ذلك يغفر
ويرحم ويصفح ويتجاوز ، ثم قال تعالى : (الَّذِي خَلَقَ
سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) أي طبقة بعد طبقة وهل هن متواصلات بمعنى أنهن علويات بعضهن
على بعض أو متفاصلات بينهن خلاء ، فيه قولان أصحهما الثاني كما دل على ذلك حديث
الإسراء وغيره.
وقوله تعالى : (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ
تَفاوُتٍ) أي بل هو مصطحب مستو ليس فيه اختلاف ولا تنافر ولا مخالفة
ولا نقص ولا عيب ولا خلل ، ولهذا قال تعالى : (فَارْجِعِ الْبَصَرَ
هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) أي انظر إلى السماء فتأملها هل ترى فيها عيبا أو نقصا أو
خللا أو فطورا ، قال ابن عباس ومجاهد والضحاك والثوري وغيرهم في قوله تعالى : (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ
فُطُورٍ) أي شقوق ، وقال السدي (هَلْ تَرى مِنْ
فُطُورٍ) أي من خروق ، وقال ابن عباس في رواية (مِنْ فُطُورٍ) أي من وهاء ، وقال قتادة (هَلْ تَرى مِنْ
فُطُورٍ) أي هل ترى خللا يا ابن آدم.
وقوله تعالى : (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) قال قتادة : مرتين (يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ
الْبَصَرُ خاسِئاً) قال ابن عباس : ذليلا ، وقال مجاهد وقتادة : صاغرا (وَهُوَ حَسِيرٌ) قال ابن عباس: يعني وهو كليل ، وقال مجاهد وقتادة والسدي :
الحسير المنقطع من الإعياء ، ومعنى الآية أنك لو كررت البصر مهما كررت لانقلب إليك
أي لرجع إليك البصر (خاسِئاً) عن أن يرى عيبا أو خللا
__________________
(وَهُوَ حَسِيرٌ) أي كليل قد انقطع من الإعياء من كثرة التكرر ولا يرى نقصا
، ولما نفى عنها في خلقها النقص بين كمالها وزينتها فقال : (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا
بِمَصابِيحَ) وهي الكواكب التي وضعت فيها من السيارات والثوابت.
وقوله تعالى : (وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) عاد الضمير في قوله (وَجَعَلْناها) على جنس المصابيح لا على عينها لأنه لا يرمي بالكواكب التي
في السماء بل بشهب من دونها وقد تكون مستمدة منها ، والله أعلم. وقوله تعالى : (وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ) أي جعلنا للشياطين هذا الخزي في الدنيا وأعتدنا لهم عذاب
السعير في الآخرة كما قال تعالى في أول الصافات : (إِنَّا زَيَّنَّا
السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ
لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ
دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ
شِهابٌ ثاقِبٌ) [الصافات : ٦ ـ ١٠]
قال قتادة : إنما خلقت هذه النجوم لثلاث خصال خلقها الله زينة للسماء ورجوما
للشياطين وعلامات يهتدى بها فمن تأول فيها غير ذلك فقد قال برأيه وأضاع نصيبه
وتكلف ما لا علم له به ، رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
(وَلِلَّذِينَ
كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٦)
إِذا
أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (٧) تَكادُ تَمَيَّزُ
مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ
يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (٨) قالُوا بَلى قَدْ
جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ
إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (٩) وَقالُوا لَوْ
كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (١٠) فَاعْتَرَفُوا
بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ)(١١)
يقول تعالى : (وَ) أعتدنا (لِلَّذِينَ كَفَرُوا
بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي بئس المآل والمنقلب (إِذا أُلْقُوا فِيها
سَمِعُوا لَها شَهِيقاً) قال ابن جرير : يعني الصياح (وَهِيَ تَفُورُ) قال الثوري : تغلي بهم كما يغلي الحب القليل في الماء
الكثير.
وقوله تعالى : (تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) أي تكاد ينفصل بعضها عن بعض من شدة غيظها عليهم وحنقها بهم
(كُلَّما أُلْقِيَ
فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قالُوا بَلى قَدْ
جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ
إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ) يذكر تعالى عدله في خلقه ، وأنه لا يعذب أحدا إلا بعد قيام
الحجة عليه وإرسال الرسول إليه كما قال تعالى : (وَما كُنَّا
مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء : ١٥]
وقال تعالى : (حَتَّى إِذا جاؤُها
فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ
يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا
قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ) [الزمر : ٧١]
وهكذا عادوا على أنفسهم بالملامة وندموا حيث
__________________
لا تنفعهم الندامة
فقالوا : (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ
أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) أي لو كانت لنا عقول ننتفع بها أو نسمع ما أنزله الله من
الحق ، لما كنا على ما كنا عليه من الكفر بالله والاغترار به ، ولكن لم يكن لنا
فهم نعي به ما جاءت به الرسل ، ولا كان لنا عقل يرشدنا إلى اتباعهم. قال الله
تعالى : (فَاعْتَرَفُوا
بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ).
قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي
البختري الطائي قال : أخبرني من سمعه من رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «لن يهلك الناس حتى يعذروا من أنفسهم» وفي حديث
آخر «لا يدخل أحد النار إلا وهو يعلم أن النار أولى به من الجنة».
(إِنَّ الَّذِينَ
يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١٢)
وَأَسِرُّوا
قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٣)
أَلا
يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٤)
هُوَ
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ
رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)(١٥)
يقول تعالى مخبرا
عمن يخاف مقام ربه فيما بينه وبينه إذا كان غائبا عن الناس ، فينكف عن المعاصي
ويقوم بالطاعات حيث لا يراه أحد إلا الله تعالى بأنه له مغفرة وأجر كبير أي تكفر
عنه ذنوبه ويجازى بالثواب الجزيل ، كما ثبت في الصحيحين «سبعة يظلهم الله تعالى في
ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله» فذكر منهم رجلا دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال : إني
أخاف الله ، ورجلا تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه .
وقال الحافظ أبو
بكر البزار في مسنده : حدثنا طالوت بن عباد ، حدثنا الحارث بن عبيد عن ثابت عن أنس
قال : قالوا يا رسول الله ، إنا نكون عندك على حال فإذا فارقناك كنا على غيره قال
: «كيف أنتم وربكم؟» قالوا : الله ربنا في السر والعلانية ، قال : «ليس ذلكم
النفاق» لم يروه عن ثابت إلا الحارث بن عبيد فيما نعلمه ، ثم قال منبها على أنه
مطلع على الضمائر والسرائر (وَأَسِرُّوا
قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي بما يخطر في القلوب.
(أَلا يَعْلَمُ مَنْ
خَلَقَ) أي ألا يعلم الخالق ، وقيل معناه ألا يعلم الله مخلوقه؟
والأول أولى لقوله : (وَهُوَ اللَّطِيفُ
الْخَبِيرُ) ، ثم ذكر نعمته على خلقه في تسخيره لهم الأرض وتذليله
إياها لهم بأن جعلها قارة ساكنة لا تميد ولا تضطرب بما جعل فيها من الجبال وأنبع
فيها من العيون ، وسلك فيها من السبل ، وهيأ فيها من المنافع ومواضع الزروع
والثمار فقال تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ
لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها) أي فسافروا حيث شئتم من أقطارها وترددوا في أقاليمها
وأرجائها في أنواع المكاسب والتجارات ، واعلموا أن سعيكم لا يجدي
__________________
عليكم شيئا إلا أن
ييسره الله لكم.
ولهذا قال تعالى :
(وَكُلُوا مِنْ
رِزْقِهِ) فالسعي في السبب لا ينافي التوكل كما قال الإمام أحمد : حدثنا أبو عبد الرّحمن ، حدثنا حيوة ، أخبرني بكر بن
عمرو أنه سمع عبد الله بن هبيرة يقول : إنه سمع أبا تميم الجيشاني يقول : إنه سمع
عمر بن الخطاب يقول : إنه سمع رسول اللهصلىاللهعليهوسلم يقول : «لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما
يرزق الطير ، تغدو خماصا وتروح بطانا» رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة من حديث ابن هبيرة ، وقال
الترمذي : حسن صحيح ، فأثبت لها رواحا وغدوا لطلب الرزق مع توكلها على الله عزوجل وهو المسخر المسير المسبب.
(وَإِلَيْهِ
النُّشُورُ) أي المرجع يوم القيامة. قال ابن عباس ومجاهد والسدي وقتادة
: (مَناكِبِها) أطرافها وفجاجها ونواحيها ، وقال ابن عباس وقتادة أيضا : (مَناكِبِها) الجبال ، وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عمرو بن
حكام الأزدي ، حدثنا شعبة عن قتادة عن يونس بن جبير عن بشير بن كعب أنه قرأ هذه
الآية (فَامْشُوا فِي
مَناكِبِها) فقال لأم ولد له : إن علمت (مَناكِبِها) فأنت عتيقة فقالت : هي الجبال ، فسأل أبا الدرداء فقال :
هي الجبال.
(أَأَمِنْتُمْ مَنْ
فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (١٦)
أَمْ
أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ
كَيْفَ نَذِيرِ (١٧) وَلَقَدْ كَذَّبَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (١٨)
أَوَلَمْ
يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ
إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ)
(١٩)
وهذه أيضا من لطفه
ورحمته بخلقه أنه قادر على تعذيبهم بسبب كفر بعضهم به وعبادتهم معه غيره ، وهو مع
هذا يحلم ويصفح ويؤجل ولا يعجل كما قال تعالى : (وَلَوْ يُؤاخِذُ
اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ
يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ
بِعِبادِهِ بَصِيراً) [فاطر : ٤٥] وقال
هاهنا (أَأَمِنْتُمْ مَنْ
فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ) أي تذهب وتجيء وتضطرب (أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ
فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً) أي ريحا فيها حصباء تدمغكم كما قال تعالى : (أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ
جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ
وَكِيلاً) [الإسراء : ٦٨]
وهكذا توعدهم هاهنا بقوله (فَسَتَعْلَمُونَ
كَيْفَ نَذِيرِ) أي كيف يكون إنذاري وعاقبة من تخلف عنه وكذب به.
ثم قال تعالى : (وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي من الأمم السالفة والقرون الخالية
__________________
(فَكَيْفَ كانَ
نَكِيرِ) أي فكيف كان إنكاري عليهم ومعاقبتي لهم ، أي عظيما شديدا
أليما. ثم قال تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا
إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ) أي تارة يصففن أجنحتهن في الهواء وتارة تجمع وتنشر جناحا (ما يُمْسِكُهُنَ) أي في الجو (إِلَّا الرَّحْمنُ) أي بما سخر لهن من الهواء من رحمته ولطفه (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ) أي بما يصلح كل شيء من مخلوقاته ، وهذه كقوله تعالى (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ
مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللهُ إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [النحل : ٧٩].
(أَمَّنْ هذَا الَّذِي
هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ
فِي غُرُورٍ (٢٠) أَمَّنْ هذَا
الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (٢١)
أَفَمَنْ
يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ
مُسْتَقِيمٍ (٢٢) قُلْ هُوَ الَّذِي
أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً
ما تَشْكُرُونَ (٢٣) قُلْ هُوَ الَّذِي
ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤)
وَيَقُولُونَ
مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥)
قُلْ
إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٦)
فَلَمَّا
رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي
كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ)(٢٧)
يقول تعالى
للمشركين الذين عبدوا معه غيره يبتغون عندهم نصرا ورزقا ، منكرا عليهم فيما
اعتقدوه ومخبرا لهم أنه لا يحصل لهم ما أملوه ، فقال تعالى : (أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ
لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ) أي ليس لكم من دونه من ولي ولا واق ولا ناصر لكم غيره ،
ولهذا قال تعالى : (إِنِ الْكافِرُونَ
إِلَّا فِي غُرُورٍ) ثم قال تعالى : (أَمَّنْ هذَا الَّذِي
يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ) أي من هذا الذي إذا قطع الله عنكم رزقه يرزقكم بعده ، أي
لا أحد يعطي ويمنع ويخلق ويرزق وينصر إلا الله عزوجل وحده لا شريك له ، أي وهم يعلمون ذلك ومع هذا يعبدون غيره
، ولهذا قال تعالى : (بَلْ لَجُّوا) أي استمروا في طغيانهم وإفكهم وضلالهم (فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ) أي في معاندة واستكبار ونفور على إدبارهم عن الحق لا
يسمعون له ولا يتبعونه.
ثم قال تعالى : (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى
وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) وهذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر ، فالكافر مثله فيما هو
فيه كمثل من يمشي مكبا على وجهه ، أي يمشي منحنيا لا مستويا على وجهه أي لا يدري
أين يسلك ولا كيف يذهب بل تائه حائر ضال ، أهذا أهدى (أَمَّنْ يَمْشِي
سَوِيًّا) أي منتصب القامة (عَلى صِراطٍ
مُسْتَقِيمٍ) أي على طريق واضح بين وهو في نفسه مستقيم وطريقه مستقيمة ،
هذا مثلهم في الدنيا وكذلك يكونون في الآخرة ، فالمؤمن يحشر يمشي سويا على صراط
مستقيم مفض به إلى الجنة الفيحاء ، وأما الكافر فإنه يحشر يمشي على وجهه إلى نار
جهنم.
(احْشُرُوا الَّذِينَ
ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ
إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ ما لَكُمْ لا
تَناصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ) [الصافات : ٢٢ ـ
٢٦] الآيات.
أزواجهم : أشباههم. قال الإمام أحمد رحمهالله : حدثنا ابن نمير ، حدثنا إسماعيل عن نفيع ، قال : سمعت
أنس بن مالك يقول : قيل يا رسول الله كيف يحشر الناس على وجوههم؟ فقال : «أليس
الذي أمشاهم على أرجلهم قادرا على أن يمشيهم على وجوههم» وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من طريق يونس بن محمد عن
شيبان عن قتادة عن أنس به نحوه.
وقوله تعالى : (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ) أي ابتدأ خلقكم بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ
وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) أي العقول والإدراك (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) أي قلما تستعملون هذه القوى التي أنعم الله بها عليكم في
طاعته وامتثال أوامره وترك زواجره (قُلْ هُوَ الَّذِي
ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) أي بثكم ونشركم في أقطار الأرض وأرجائها مع اختلاف ألسنتكم
في لغاتكم وألوانكم ، وحلالكم وأشكالكم وصوركم (وَإِلَيْهِ
تُحْشَرُونَ) أي تجمعون بعد هذا التفرق والشتات ، يجمعكم كما فرقكم
ويعيدكم كما بدأكم. ثم قال تعالى مخبرا عن الكفار المنكرين للمعاد المستبعدين
وقوعه (وَيَقُولُونَ مَتى
هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي متى يقع هذا الذي تخبرنا بكونه من الاجتماع بعد هذا
التفرق (قُلْ إِنَّمَا
الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ) أي لا يعلم وقت ذلك على التعيين إلا الله عزوجل لكنه أمرني أن أخبركم أن هذا كائن وواقع لا محالة فاحذروه (وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي وإنما علي البلاغ وقد أديته إليكم.
قال تعالى : (فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ
وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي لما قامت القيامة وشاهدها الكفار ورأوا أن الأمر كان
قريبا لأن كل ما هو آت آت وإن طال زمنه ، فلما وقع ما كذبوا به ساءهم ذلك لما
يعلمون ما لهم هناك من الشر أي فأحاط بهم ذلك وجاءهم من أمر الله ما لم يكن لهم في
بال ولا حساب (وَبَدا لَهُمْ مِنَ
اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا
وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) [الزمر : ٤٧ ـ ٤٨]
ولهذا يقال لهم على وجه التقريع والتوبيخ (هذَا الَّذِي
كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ) أي تستعجلون.
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ
مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ(٢٨) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ
آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ
مُبِينٍ (٢٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ
ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ)(٣٠)
يقول تعالى : (قُلْ) يا محمد لهؤلاء المشركين بالله الجاحدين لنعمه (أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ
وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) أي خلصوا أنفسكم فإنه لا منقذ لكم من الله إلا التوبة
والإنابة والرجوع إلى دينه ولا ينفعكم وقوع ما تتمنون لنا من العذاب والنكال ،
فسواء عذبنا الله أو رحمنا فلا مناص لكم من نكاله وعذابه الأليم الواقع بكم. ثم
قال تعالى : (قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ
آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا) أي آمنا برب العالمين الرّحمن الرّحيم
__________________
وعليه توكلنا في
جميع أمورنا كما قال تعالى : (فَاعْبُدْهُ
وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) [هود : ١٢٣] ولهذا
قال تعالى : (فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ
هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي منا ومنكم ولمن تكون العاقبة في الدنيا والآخرة.
ثم قال تعالى
إظهارا للرحمة في خلقه : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً) أي ذاهبا في الأرض إلى أسفل فلا ينال بالفؤوس الحداد ولا
السواعد الشداد ، والغائر عكس النابع ولهذا قال تعالى : (فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) أي نابع سائح جار على وجه الأرض ، أي لا يقدر على ذلك إلا
الله عزوجل فمن فضله وكرمه أن أنبع لكم المياه وأجراها في سائر أقطار
الأرض بحسب ما يحتاج العباد إليه من القلة والكثرة ، فلله الحمد والمنة. آخر تفسير
سورة الملك ولله الحمد والمنة.
تفسير سورة القلم
وهي مكية
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(ن وَالْقَلَمِ وَما
يَسْطُرُونَ (١) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ
رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (٢) وَإِنَّ لَكَ
لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (٣) وَإِنَّكَ لَعَلى
خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤) فَسَتُبْصِرُ
وَيُبْصِرُونَ (٥) بِأَيِّكُمُ
الْمَفْتُونُ (٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ
أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)
(٧)
قد تقدم الكلام
على حروف الهجاء في أول سورة البقرة وأن قوله تعالى : (ن) كقوله (ص). (ق) ونحو ذلك من الحروف المقطعة في أوائل السور ، وتحرير القول
في ذلك بما أغنى عن إعادته هاهنا ، وقيل : المراد بقوله (ن) حوت عظيم على تيار الماء العظيم المحيط ، وهو حامل للأرضين
السبع كما قال الإمام أبو جعفر بن جرير : حدثنا ابن بشار ، حدثنا يحيى ، حدثنا سفيان هو الثوري ،
حدثنا سليمان هو الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال : أول ما خلق الله القلم قال
: اكتب. قال : وماذا أكتب؟ قال : اكتب القدر ، فجرى بما يكون من ذلك اليوم إلى
قيام الساعة ، ثم خلق النون ورفع بخار الماء ففتقت منه السماء وبسطت الأرض على ظهر
النون ، فاضطرب النون فمادت الأرض فأثبتت بالجبال فإنها لتفخر على الأرض ، وكذا
رواه ابن أبي حاتم عن أحمد بن سنان عن أبي معاوية عن الأعمش به ، وهكذا رواه شعبة
ومحمد بن فضيل ووكيع عن الأعمش به.
وزاد شعبة في
روايته ثم قرأ (ن وَالْقَلَمِ وَما
يَسْطُرُونَ) وقد رواه شريك عن الأعمش عن أبي ظبيان أو مجاهد عن ابن
عباس فذكر نحوه ، ورواه معمر عن الأعمش أن ابن عباس قال :
__________________
فذكره ثم قرأ (ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ) ثم قال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا جرير عن عطاء عن أبي الضحى عن
ابن عباس قال : إن أول شيء خلق ربي عزوجل القلم ثم قال له : اكتب ، فكتب ما هو كائن إلى أن تقوم
الساعة ، ثم خلق النون فوق الماء ثم كبس الأرض عليه. وقد روى الطبراني ذلك مرفوعا
، فقال : حدثنا أبو حبيب زيد بن المهتدي المرودي ، حدثنا سعيد بن يعقوب الطالقاني
، حدثنا مؤمل بن إسماعيل ، حدثنا حماد بن زيد عن عطاء بن السائب عن أبي الضحى مسلم
بن صبيح عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن أول ما خلق الله القلم والحوت فقال للقلم : اكتب.
قال : ما أكتب؟ قال : كل شيء كائن إلى يوم القيامة» ثم قرأ (ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ) فالنون الحوت ، والقلم القلم.
[حديث آخر] في ذلك
رواه ابن عساكر عن أبي عبد الله مولى بني أمية عن أبي صالح عن أبي هريرة : سمعت
رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «إن أول شيء خلقه الله القلم ثم خلق النون وهي
الدواة ثم قال له : اكتب ، قال : وما أكتب؟ قال : اكتب ما يكون ـ أو ما هو كائن ـ من
عمل أو رزق أو أثر أو أجل فكتب ذلك إلى يوم القيامة ، فذلك قوله : (ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ) ثم ختم على القلم فلم يتكلم إلى يوم القيامة ثم خلق العقل
وقال : وعزتي لأكملنك فيمن أحببت ولأنقصنك ممن أبغضت».
وقال ابن أبي نجيح
: إن إبراهيم بن أبي بكر أخبره عن مجاهد قال : كان يقال النون الحوت العظيم الذي
تحت الأرض السابعة ، وقد ذكر البغوي وجماعة من المفسرين أن على ظهر هذا الحوت صخرة
سمكها كغلظ السموات والأرض ، وعلى ظهرها ثور له أربعون ألف قرن وعلى متنه الأرضون
السبع وما فيهن وما بينهن ، والله أعلم.
ومن العجيب أن
بعضهم حمل على هذا المعنى الحديث الذي رواه الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل ، حدثنا حميد عن أنس أن عبد الله بن سلام
بلغه مقدم رسول الله صلىاللهعليهوسلم المدينة ، فأتاه فسأله عن أشياء قال إني سائلك عن أشياء لا
يعلمها إلا نبي ، قال : ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ وما
بال الولد ينزع إلى أبيه؟ وما بال الولد ينزع إلى أمه؟ قال : «أخبرني بهن جبريل
آنفا» قال ابن سلام : فذاك عدو اليهود من الملائكة. قال : «أما أول أشراط الساعة
فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب ، وأول طعام يأكله أهل الجنة زيادة كبد الحوت ،
وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد ، وإذا سبق ماء المرأة ماء
الرجل نزعت» ورواه البخاري من طرق عن حميد ورواه مسلم أيضا ، وله من
حديث ثوبان مولى رسول اللهصلىاللهعليهوسلم نحو هذا ، وفي صحيح مسلم من حديث أبي أسماء الرحبي عن
ثوبان أن حبرا
__________________
سأل رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن مسائل ، فكان منها أن قال : فما تحفتهم ، يعني أهل
الجنة حين يدخلون الجنة ، قال : «زيادة كبد الحوت» قال : فما غداؤهم على أثرها؟
قال : «ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها» قال : فما شرابهم عليه؟ قال «من
عين فيها تسمى سلسبيلا» وقيل : المراد بقوله : (ن) لوح من نور.
قال ابن جرير : حدثنا الحسن بن شبيب المكتب ، حدثنا محمد بن زياد الجزري
عن فرات بن أبي الفرات عن معاوية بن قرة عن أبيه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم (ن وَالْقَلَمِ وَما
يَسْطُرُونَ) لوح من نور وقلم من نور يجري بما هو كائن إلى يوم القيامة
، وهذا مرسل غريب ، وقال ابن جريج : أخبرت أن ذلك القلم من نور طوله مائة عام ،
وقيل المراد بقوله : (ن) دواة ، والقلم القلم. قال ابن جرير : حدثنا عبد الأعلى ، حدثنا ابن ثور عن معمر عن الحسن
وقتادة في قوله (ن) قالا هي الدواة ، وقد روي في هذا حديث مرفوع غريب جدا فقال
ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن خالد ، حدثنا الحسن بن يحيى ، حدثنا أبو
عبد الله مولى بني أمية عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «خلق الله النون وهي الدواة».
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا يعقوب ، حدثنا أخي عيسى بن عبد
الله حدثنا ثابت الثمالي عن ابن عباس قال : إن الله خلق النون وهي الدواة ، وخلق
القلم : فقال اكتب. قال : وما أكتب؟ قال : اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة من عمل
معمول به بر أو فجور أو رزق مقسوم حلال أو حرام ، ثم ألزم كل شيء من ذلك شأنه دخوله
في الدنيا ومقامه فيها كم وخروجه منها كيف ، ثم جعل على العباد حفظة وللكتاب خزانا
فالحفظة ينسخون كل يوم من الخزان عمل ذلك اليوم ، فإذا فني الرزق وانقطع الأثر
وانقضى الأجل أتت الحفظة الخزنة يطلبون عمل ذلك اليوم ، فتقول لهم الخزنة ما نجد
لصاحبكم عندنا شيئا ، فترجع الحفظة فيجدونهم قد ماتوا. قال : فقال ابن عباس :
ألستم قوما عربا تسمعون الحفظة يقولون (إِنَّا كُنَّا
نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الجاثية : ٢٩]
وهل يكون الاستنساخ إلا من أصل.
وقوله تعالى : (وَالْقَلَمِ) الظاهر أنه جنس القلم الذي يكتب به كقوله : (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي
عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) [العلق : ٣ ـ ٥]
فهو قسم منه تعالى وتنبيه لخلقه على ما أنعم به عليهم من تعليم الكتابة التي بها
تنال العلوم ، ولهذا قال : (وَما يَسْطُرُونَ) قال ابن عباس ومجاهد وقتادة : يعني وما يكتبون. وقال أبو
الضحى عن ابن عباس : (وَما يَسْطُرُونَ) أي
__________________
وما يعملون وقال
السدي : وما يسطرون يعني الملائكة وما تكتب من أعمال العباد ، وقال آخرون: بل
المراد هاهنا بالقلم الذي أجراه الله بالقدر حين كتب مقادير الخلائق ، قبل أن يخلق
السموات والأرضين بخمسين ألف عام.
وأوردوا في ذلك
الأحاديث الواردة في ذكر القلم فقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد بن يحيى بن
سعيد القطان ويونس بن حبيب قالا : حدثنا أبو داود الطيالسي ، حدثنا عبد الواحد بن
سليم السلمي عن عطاء ، هو ابن أبي رباح ، حدثني الوليد بن عبادة بن الصامت قال : دعاني
أبي ، حين حضره الموت فقال : إني سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «إن أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب ، قال يا
رب وما أكتب؟ قال اكتب القدر وما هو كائن إلى الأبد» وهذا الحديث قد رواه الإمام أحمد من طرق عن الوليد بن
عبادة عن أبيه به ، وأخرجه الترمذي من حديث أبي داود الطيالسي به ، وقال حسن صحيح
غريب. ورواه أبو داود في كتاب السنة من سننه عن جعفر بن مسافر عن يحيى بن حسان عن
ابن رباح عن إبراهيم بن أبي عبلة عن أبي حفصة ، واسمه حبيش بن شريح الحبشي الشامي
، عن عبادة فذكره.
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الله الطوسي ، حدثنا علي بن الحسن بن
شقيق ، أنبأنا عبد الله بن المبارك ، حدثنا رباح بن زيد عن عمر بن حبيب عن القاسم
بن أبي بزة ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه كان يحدث أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إن أول شيء خلقه الله القلم فأمره فكتب كل شيء»
غريب من هذا الوجه ولم يخرجوه ، وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد : (وَالْقَلَمِ) ، يعني الذي كتب به الذكر. وقوله تعالى : (وَما يَسْطُرُونَ) أي يكتبون كما تقدم.
وقوله : (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ
بِمَجْنُونٍ) أي لست ولله الحمد بمجنون كما يقوله الجهلة من قومك ،
المكذبون بما جئتهم به من الهدى والحق المبين ، فنسبوك فيه إلى الجنون ، (وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ
مَمْنُونٍ) أي بل إن لك الأجر العظيم والثواب الجزيل الذي لا ينقطع
ولا يبيد على إبلاغك رسالة ربك إلى الخلق وصبرك على أذاهم ، ومعنى (غَيْرَ مَمْنُونٍ) أي غير مقطوع كقوله (عَطاءً غَيْرَ
مَجْذُوذٍ) [هود : ١٠٨] (فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) [التين : ٦] أي
غير مقطوع عنهم. وقال مجاهد : غير ممنون أي غير محسوب وهو يرجع إلى ما قلناه.
وقوله تعالى : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) قال العوفي عن ابن عباس : وإنك لعلى دين عظيم وهو الإسلام
، وكذلك قال مجاهد وأبو مالك والسدي والربيع بن أنس ، وكذا قال الضحاك وابن زيد.
وقال عطية : لعلى أدب عظيم. وقال معمر عن قتادة : سئلت عائشة عن خلق
__________________
رسول الله صلىاللهعليهوسلم قالت : كان خلقه القرآن تقول كما هو في القرآن. وقال سعيد
بن أبي عروبة عن قتادة قوله : (وَإِنَّكَ لَعَلى
خُلُقٍ عَظِيمٍ) ذكر لنا أن سعد بن هشام سأل عائشة عن خلق رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقالت : ألست تقرأ القرآن؟ قال : بلى. قالت : فإن خلق رسول
الله صلىاللهعليهوسلم كان القرآن.
وقال عبد الرزاق
عن معمر عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن سعد بن هشام قال : سألت عائشة فقلت أخبرني
يا أم المؤمنين عن خلق رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقالت : أتقرأ القرآن؟ فقلت : نعم فقالت : كان خلقه القرآن
. هذا مختصر من حديث طويل ، وقد رواه الإمام مسلم في صحيحه من حديث قتادة
بطوله ، وسيأتي في سورة المزمل إن شاء الله تعالى وبه الثقة.
وقال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل حدثنا يونس عن الحسن قال : سألت عائشة عن
خلق رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقالت : كان خلقه القرآن. وقال الإمام أحمد : حدثنا أسود ، حدثنا شريك عن قيس بن وهب عن رجل من بني
سواد قال : سألت عائشة عن خلق رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقالت : أما تقرأ القرآن؟ (وَإِنَّكَ لَعَلى
خُلُقٍ عَظِيمٍ) قال : قلت حدثيني عن ذاك. قالت : صنعت له طعاما وصنعت له
حفصة طعاما ، فقلت لجاريتي اذهبي فإن جاءت هي بالطعام فوضعته قبل فاطرحي الطعام ،
قالت فجاءت بالطعام قالت فألقت الجارية فوقعت القصعة فانكسرت وكان نطع ، قالت
فجمعه رسول الله صلىاللهعليهوسلم وقال «اقتصوا ـ أو اقتصي شك أسود ـ ظرفا مكان ظرفك» قالت :
فما قال شيئا.
وقال ابن جرير : حدثنا عبيد بن آدم بن أبي إياس ، حدثنا أبي ، حدثنا
المبارك بن فضالة عن الحسن عن سعد بن هشام قال : أتيت عائشة أم المؤمنين رضي الله
عنها فقلت لها : أخبريني بخلق النبي صلىاللهعليهوسلم ، فقالت كان خلقه القرآن أما تقرأ (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) ؟ وقد روى أبو داود والنسائي من حديث الحسن نحوه. وقال ابن
جرير : حدثني يونس أنبأنا ابن وهب أخبرني معاوية بن صالح عن أبي الزاهرية عن جبير
بن نفير قال : حججت فدخلت على عائشة رضي الله عنها فسألتها عن خلق النبي صلىاللهعليهوسلم فقالت : كان خلق رسول الله صلىاللهعليهوسلم القرآن ، وهكذا رواه أحمد عن عبد الرّحمن بن مهدي ، ورواه النسائي في التفسير عن
إسحاق بن منصور عن
__________________
عبد الرّحمن بن
مهدي عن معاوية بن صالح به.
ومعنى هذا أنه
عليه الصلاة والسّلام صار امتثال القرآن أمرا ونهيا سجية له وخلقا تطبعه وترك طبعه
الجبلي ، فمهما أمره القرآن فعله ومهما نهاه عنه تركه ، هذا مع ما جبله الله عليه
من الخلق العظيم من الحياء والكرم والشجاعة والصفح والحلم ، وكل خلق جميل كما ثبت
في الصحيحين عن أنس قال : خدمت رسول الله صلىاللهعليهوسلم عشر سنين فما قال لي أف قط ، ولا قال لشيء فعلته : لم
فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله : ألا فعلته؟ وكان صلىاللهعليهوسلم أحسن الناس خلقا ولا مسست خزا ولا حريرا ولا شيئا كان ألين
من كف رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ولا شممت مسكا ولا عطرا كان أطيب من عرق رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وقال البخاري : حدثنا أحمد بن سعيد أبو عبد الله حدثنا إسحاق بن منصور ،
حدثنا إبراهيم بن يوسف عن أبيه عن أبي إسحاق قال : سمعت البراء يقول كان رسول الله
صلىاللهعليهوسلم أحسن الناس وجها وأحسن الناس خلقا ليس بالطويل ولا بالقصير
والأحاديث في هذا كثيرة ولأبي عيسى الترمذي في هذا كتاب الشمائل.
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر عن الزهري عن عروة عن
عائشة قالت : ما ضرب رسول الله صلىاللهعليهوسلم بيده خادما له قط ، ولا ضرب امرأة ، ولا ضرب بيده شيئا قط
إلا أن يجاهد في سبيل الله ، ولا خير بين شيئين قط إلا كان أحبهما إليه أيسرهما
حتى يكون إثما ، فإذا كان إثما كان أبعد الناس من الإثم ، ولا انتقم لنفسه من شيء
يؤتي إليه إلا أن تنتهك حرمات الله فيكون هو ينتقم لله عزوجل وقال الإمام أحمد : حدثنا سعيد بن منصور ، حدثنا عبد العزيز بن محمد عن محمد
بن عجلان ، عن القعقاع بن حكيم عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق» تفرد به.
وقوله تعالى : (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ
الْمَفْتُونُ) فستعلم يا محمد وسيعلم مخالفوك ومكذبوك من المفتون الضال
منك ومنهم ، وهذا كقوله تعالى : (سَيَعْلَمُونَ غَداً
مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ) [القمر : ٢٦]
وكقوله تعالى : (وَإِنَّا أَوْ
إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [سبأ : ٢٤] قال ابن جريج : قال ابن عباس في هذه الآية
ستعلم ويعلمون يوم القيامة ، وقال العوفي عن ابن عباس : (بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) أي المجنون ، وكذا قال مجاهد وغيره ، وقال قتادة وغيره :
بأيكم المفتون أي أولى بالشيطان ، ومعنى المفتون ظاهر أي الذي قد افتتن عن الحق
وضل عنه ، وإنما دخلت الباء في قوله (بِأَيِّكُمُ) لتدل على تضمين الفعل في قوله (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ)
__________________
وتقديره فستعلم
ويعلمون أو فستخبر ويخبرون بأيكم المفتون ، والله أعلم. ثم قال تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ
ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) أي هو يعلم تعالى أي الفريقين منكم ومنهم هو المهتدي ،
ويعلم الحزب الضال عن الحق.
(فَلا تُطِعِ
الْمُكَذِّبِينَ (٨) وَدُّوا لَوْ
تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (٩) وَلا تُطِعْ كُلَّ
حَلاَّفٍ مَهِينٍ (١٠) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ
بِنَمِيمٍ (١١) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ
مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) عُتُلٍّ بَعْدَ
ذلِكَ زَنِيمٍ (١٣) أَنْ كانَ ذا مالٍ
وَبَنِينَ (١٤) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ
آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٥) سَنَسِمُهُ عَلَى
الْخُرْطُومِ)(١٦)
يقول تعالى كما
أنعمنا عليك وأعطيناك الشرع المستقيم والخلق العظيم (فَلا تُطِعِ
الْمُكَذِّبِينَ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) قال ابن عباس : لو ترخص لهم فيرخصون. وقال مجاهد (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ) تركن إلى آلهتهم وتترك ما أنت عليه من الحق . ثم قال تعالى : (وَلا تُطِعْ كُلَّ
حَلَّافٍ مَهِينٍ) وذلك أن الكاذب لضعفه ومهانته إنما يتقي بإيمانه الكاذبة
التي يجترئ بها على أسماء الله تعالى واستعمالها في كل وقت في غير محلها ، قال ابن
عباس : المهين الكاذب ، وقال مجاهد : هو الضعيف القلب ، قال الحسن : كل حلاف مكابر
مهين ضعيف.
وقوله تعالى : (هَمَّازٍ) قال ابن عباس وقتادة : يعني الاغتياب (مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) يعني الذي يمشي بين الناس ويحرش بينهم وينقل الحديث لفساد
ذات البين وهي الحالقة ، وقد ثبت في الصحيحين من حديث مجاهد عن طاوس عن ابن عباس
قال : مر رسول الله صلىاللهعليهوسلم بقبرين فقال «إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير ، أما
أحدهما فكان لا يستتر من البول ، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة» الحديث. وأخرجه بقية الجماعة في كتبهم من طرق عن مجاهد به.
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن همام أن
حذيفة قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «لا يدخل الجنة قتات» رواه الجماعة إلا ابن ماجة من طرق عن إبراهيم به ، وحدثنا
عبد الرزاق ، حدثنا الثوري عن منصور عن إبراهيم عن همام عن حذيفة قال : سمعت رسول
الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «لا يدخل الجنة قتات» يعني نماما ، وحدثني يحيى بن سعيد القطان ، حدثنا أبو سعيد الأحول عن
الأعمش ، حدثني إبراهيم منذ نحو ستين سنة عن همام بن الحارث قال : مر رجل على
حذيفة ، فقيل إن هذا يرفع الحديث إلى الأمراء ،
__________________
فقال : سمعت رسول
الله صلىاللهعليهوسلم يقول ، أو قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لا يدخل الجنة قتات» وقال أحمد : حدثنا هشام ، حدثنا مهدي عن واصل الأحدب عن أبي وائل قال
: بلغ حذيفة عن رجل أنه ينم الحديث فقال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «لا يدخل الجنة نمام».
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر عن ابن خثيم عن شهر بن
حوشب ، عن أسماء بنت يزيد بن السكن أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «ألا أخبركم بخياركم؟» قالوا : بلى يا رسول الله.
قال : «الذين إذا رأوا ذكر الله عزوجل» ثم قال : «ألا أخبركم بشراركم المشاؤون بالنميمة المفسدون
بين الأحبة الباغون للبرآء العنت» ورواه ابن ماجة عن سويد بن سعيد عن يحيى بن سليم عن ابن
خثيم به.
وقال الإمام أحمد : حدثنا سفيان عن ابن أبي حسين عن شهر بن حوشب عن عبد
الرّحمن بن غنم يبلغ به النبي صلىاللهعليهوسلم «خيار عباد الله
الذين إذا رأوا ذكر الله ، وشرار عباد الله المشاؤون بالنميمة المفرقون بين الأحبة
الباغون للبرآء العنت».
وقوله تعالى : (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ) أي يمنع ما عليه وما لديه من الخير (مُعْتَدٍ) في تناول ما أحل الله له يتجاوز فيها الحد المشروع (أَثِيمٍ) أي يتناول المحرمات ، وقوله تعالى : (عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ) أما العتل فهو الفظ الغليظ الصحيح الجموع المنوع.
وقال الإمام أحمد : حدثنا وكيع وعبد الرّحمن عن سفيان عن معبد بن خالد عن
حارثة بن وهب قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ألا أنبئكم بأهل الجنة كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله
لأبره ، ألا أنبئكم بأهل النار كل عتل جواظ مستكبر» وقال وكيع «كل جواظ جعظري
مستكبر» أخرجاه في الصحيحين وبقية الجماعة إلا أبا داود من حديث
سفيان الثوري وشعبة كلاهما عن معبد بن خالد به. وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا أبو عبد الرّحمن ، حدثنا موسى بن علي قال :
سمعت أبي يحدث عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال عند ذكر أهل النار «كل جعظري جواظ مستكبر جماع مناع»
تفرد به أحمد.
__________________
قال أهل اللغة :
الجعظري الفظ الغليظ. والجواظ الجموع المنوع. وقال الإمام أحمد : حدثنا وكيع ، حدثنا عبد الحميد عن شهر بن حوشب عن عبد
الرّحمن بن غنم قال : سئل رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن العتل الزنيم فقال : «هو الشديد الخلق المصحح الأكول
الشروب الواجد للطعام والشراب ، الظلوم للناس رحيب الجوف» وبهذا الإسناد قال رسول
الله صلىاللهعليهوسلم : «لا يدخل الجنة الجواظ الجعظري والعتل الزنيم» وقد أرسله
أيضا غير واحد من التابعين :
وقال ابن جرير : حدثنا ابن عبد الأعلى ، حدثنا ابن ثور عن معمر عن زيد بن
أسلم قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «تبكي السماء من عبد أصح الله جسمه. وأرحب جوفه وأعطاه
من الدنيا مقضما فكان للناس ظلوما قال فذلك العتل الزنيم» وهكذا رواه ابن أبي حاتم
من طريقين مرسلين ونص عليه غير واحد من السلف ، منهم مجاهد وعكرمة والحسن وقتادة
وغيرهم أن العتل هو المصحح الخلق الشديد القوى في المأكل والمشرب والمنكح وغير
ذلك.
وأما الزنيم فقال
البخاري : حدثنا محمود حدثنا عبيد الله عن إسرائيل عن أبي حصين عن
مجاهد عن ابن عباس (عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ
زَنِيمٍ) قال : رجل من قريش له زنمة مثل زنمة الشاة ، ومعنى هذا أنه
كان مشهورا بالسوء كشهرة الشاة ذات الزنمة من بين أخواتها ، وإنما الزنيم في لغة
العرب هو الدعي في القوم ، قاله ابن جرير وغير واحد من الأئمة ، وقال : ومنه قول
حسان بن ثابت ، يعني يذم بعض كفار قريش : [الطويل]
وأنت زنيم نيط
في آل هاشم
|
|
كما نيط خلف
الراكب القدح الفرد
|
وقال آخر :
زنيم ليس يعرف
من أبوه
|
|
بغيّ الأم ذو
حسب لئيم
|
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا عمار بن خالد الواسطي ، حدثنا أسباط عن هشام عن عكرمة عن ابن عباس في قوله
: (زَنِيمٍ) قال : الدعي الفاحش اللئيم. ثم قال ابن عباس : [الطويل]
زنيم تداعاه
الرجال زيادة
|
|
كما زيد في عرض
الأديم الأكارع
|
__________________
وقال العوفي عن
ابن عباس : الزنيم الدعي ، ويقال : الزنيم رجل كانت به زنمة يعرف بها ، ويقال : هو
الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة ، وزعم أناس من بني زهرة أن الزنيم الأسود بن
عبد يغوث الزهري وليس به.
وقال ابن أبي نجيح
عن مجاهد عن ابن عباس أنه زعم أن الزنيم الملحق النسب ، وقال ابن أبي حاتم : حدثني
يونس حدثنا ابن وهب حدثني سليمان بن بلال عن عبد الرّحمن بن حرملة عن سعيد بن
المسيب أنه سمعه يقول في هذه الآية (عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ
زَنِيمٍ) قال سعيد : هو الملصق بالقوم ليس منهم ، وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا عقبة بن خالد عن عامر بن قدامة قال : سئل عكرمة عن
الزنيم قال : هو ولد الزنا.
وقال الحكم بن
أبان عن عكرمة في قوله تعالى : (عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ
زَنِيمٍ) قال : يعرف المؤمن من الكافر مثل الشاة الزنماء ، والزنماء
من الشياه التي في عنقها هنتان معلقتان في حلقها. وقال الثوري عن جابر عن الحسن عن
سعيد بن جبير قال : الزنيم الذي يعرف بالشر كما تعرف الشاة بزنمتها والزنيم
الملصق. رواه ابن جرير ، وروي أيضا من طريق داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس
أنه قال في الزنيم : نعت فلم يعرف حتى قيل زنيم. قال وكانت له زنمة في عنقه يعرف
بها قال : وقال آخرون كان دعيا.
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كريب حدثنا ابن إدريس عن أبيه عن أصحاب
التفسير قالوا : هو الذي تكون له زنمة مثل زنمة الشاة ، وقال الضحاك : كانت له
زنمة في أصل أذنه ويقال: هو اللئيم الملصق في النسب ، وقال أبو إسحاق عن سعيد بن
جبير عن ابن عباس : هو المريب الذي يعرف بالشر ، وقال مجاهد : الزنيم الذي يعرف
بهذا الوصف كما تعرف الشاة ، وقال أبو رزين : الزنيم علامة الكفر ، وقال عكرمة :
الزنيم الذي يعرف باللؤم كما تعرف الشاة بزنمتها.
والأقوال في هذا
كثيرة وترجع إلى ما قلناه وهو أن الزنيم هو المشهور بالشر الذي يعرف به من بين
الناس وغالبا يكون دعيا ولد زنا ، فإنه في الغالب يتسلط الشيطان عليه ما لا يتسلط
على غيره كما جاء في الحديث «لا يدخل الجنة ولد زنا» وفي الحديث الآخر «ولد الزنا شر الثلاثة إذا عمل بعمل
أبويه» .
وقوله تعالى : (أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ إِذا
تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) يقول تعالى : هذه مقابلة ما أنعم الله عليه من المال
والبنين كفر بآيات الله عزوجل وأعرض عنها ، وزعم أنها
__________________
كذب مأخوذ من
أساطير الأولين كقوله تعالى : (ذَرْنِي وَمَنْ
خَلَقْتُ وَحِيداً وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً وَبَنِينَ شُهُوداً
وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلَّا إِنَّهُ كانَ
لِآياتِنا عَنِيداً سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ
كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ
ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هذا
إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) [المدثر : ١١ ـ ٢٦].
وقال تعالى هاهنا
: (سَنَسِمُهُ عَلَى
الْخُرْطُومِ) قال ابن جرير : سنبين أمره بيانا واضحا حتى يعرفوه ولا يخفى عليهم كما
لا تخفى عليهم السمة على الخراطيم ، وهكذا قال قتادة :
(سَنَسِمُهُ عَلَى
الْخُرْطُومِ) شين لا يفارقه آخر ما عليه ، وفي رواية عنه. سيما على أنفه
، وكذا قال السدي وقال العوفي عن ابن عباس (سَنَسِمُهُ عَلَى
الْخُرْطُومِ) يقاتل يوم بدر فيخطم بالسيف في القتال.
وقال آخرون (سَنَسِمُهُ) سمة أهل النار يعني نسود وجهه يوم القيامة وعبر عن الوجه
بالخرطوم. حكى ذلك كله أبو جعفر بن جرير ، ومال إلى أنه لا مانع من اجتماع الجميع
عليه في الدنيا والآخرة وهو متجه.
وقد قال ابن أبي
حاتم في سورة (عَمَّ يَتَساءَلُونَ) [النبأ : ١] حدثنا
أبي حدثنا أبو صالح كاتب الليث حدثني خالد بن سعيد عن عبد الملك بن عبد الله ، عن
عيسى بن هلال الصدفي عن عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «إن العبد يكتب مؤمنا أحقابا ثم أحقابا ثم يموت
والله عليه ساخط ، وإن العبد يكتب كافرا أحقابا ثم أحقابا ثم يموت والله عليه راض
، ومن مات همازا لمازا ملقبا للناس كان علامته يوم القيامة أن يسمه الله على
الخرطوم من كلا الشفتين».
(إِنَّا بَلَوْناهُمْ
كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (١٧)
وَلا
يَسْتَثْنُونَ (١٨) فَطافَ عَلَيْها
طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (١٩)
فَأَصْبَحَتْ
كَالصَّرِيمِ (٢٠) فَتَنادَوْا
مُصْبِحِينَ (٢١) أَنِ اغْدُوا عَلى
حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (٢٢) فَانْطَلَقُوا
وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (٢٣) أَنْ لا
يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (٢٤) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ
قادِرِينَ (٢٥) فَلَمَّا رَأَوْها
قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (٢٦) بَلْ نَحْنُ
مَحْرُومُونَ (٢٧) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ
أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ
(٢٨)
قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٢٩) فَأَقْبَلَ
بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ(٣٠) قالُوا يا وَيْلَنا
إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (٣١) عَسى رَبُّنا أَنْ
يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (٣٢)
كَذلِكَ
الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)(٣٣)
هذا مثل ضربه الله
تعالى لكفار قريش فيما أهدى إليهم من الرحمة العظيمة وأعطاهم من النعم الجسيمة ،
وهو بعثة محمد صلىاللهعليهوسلم إليهم فقابلوه بالتكذيب والرد والمحاربة ، ولهذا قال تعالى
: (إِنَّا بَلَوْناهُمْ) أي اختبرناهم (كَما بَلَوْنا
أَصْحابَ الْجَنَّةِ) وهي البستان المشتمل على
__________________
أنواع الثمار
والفواكه (إِذْ أَقْسَمُوا
لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ) أي حلفوا فيما بينهم ليجذن ثمرها ليلا لئلا يعلم بهم فقير
ولا سائل ليتوفر ثمرها عليهم ولا يتصدقوا منه بشيء (وَلا يَسْتَثْنُونَ) أي فيما حلفوا به ، ولهذا حنثهم الله في أيمانهم فقال
تعالى : (فَطافَ عَلَيْها
طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ) أي أصابتها آفة سماوية (فَأَصْبَحَتْ
كَالصَّرِيمِ).
قال ابن عباس
كالليل الأسود وقال الثوري والسدي مثل الزرع إذا حصد أي هشيما يبسا. وقال ابن أبي
حاتم : ذكر عن أحمد بن الصباح أنبأنا بشير بن زاذان عن عمر بن صبح عن ليث بن أبي
سليم ، عن عبد الرّحمن بن سابط عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إياكم والمعاصي إن العبد ليذنب الذنب فيحرم به رزقا قد
كان هيئ له» ثم تلا رسول اللهصلىاللهعليهوسلم (فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ
مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) قد حرموا خير جنتهم بذنبهم.
(فَتَنادَوْا
مُصْبِحِينَ) أي لما كان وقت الصبح نادى بعضهم بعضا ليذهبوا إلى الجذاذ
أي القطع (أَنِ اغْدُوا عَلى
حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ) أي تريدون الصرام قال مجاهد : كان حرثهم عنبا (فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ) أي يتناجون فيما بينهم بحيث لا يسمعون أحدا كلامهم. ثم فسر
الله سبحانه وتعالى عالم السر والنجوى ما كانوا يتخافتون به فقال تعالى : (فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ
أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ) أي يقول بعضهم لبعض لا تمكنوا اليوم فقيرا يدخلها عليكم ،
قال الله تعالى : (وَغَدَوْا عَلى
حَرْدٍ) أي قوة وشدة.
وقال مجاهد (وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ) أي جد ، وقال عكرمة : على غيظ ، وقال الشعبي (عَلى حَرْدٍ) على المساكين ، وقال السدي (عَلى حَرْدٍ) أي كان اسم قريتهم حرد فأبعد السدي في قوله هذا (قادِرِينَ) أي عليها فيما يزعمون ويرومون (فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا
لَضَالُّونَ) أي فلما وصلوا إليها وأشرفوا عليها وهي على الحالة التي
قال الله عزوجل قد استحالت عن تلك النضارة والزهرة وكثرة الثمار إلى أن
صارت سوداء مدلهمة لا ينتفع بشيء منها فاعتقدوا أنهم قد أخطئوا الطريق ولهذا قالوا
(إِنَّا لَضَالُّونَ) أي قد سلكنا إليها غير الطريق فتهنا عنها قاله ابن عباس
وغيره ، ثم رجعوا عما كانوا فيه وتيقنوا أنها هي فقالوا (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) أي بل هي هذه ولكن نحن لا حظ لنا ولا نصيب.
(قالَ أَوْسَطُهُمْ) قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة ومحمد بن كعب
والربيع بن أنس والضحاك وقتادة : أي أعدلهم وخيرهم (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ
لَوْ لا تُسَبِّحُونَ) قال مجاهد والسدي وابن جريج (لَوْ لا تُسَبِّحُونَ) أي لو لا تستثنون قال السدي : وكان استثناؤهم في ذلك
الزمان تسبيحا وقال ابن جريج : هو قول القائل إن شاء الله ، وقيل معناه قال أوسطهم
(أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ
لَوْ لا تُسَبِّحُونَ) أي هلا تسبحون الله وتشكرونه على ما أعطاكم وأنعم به
عليكم.
(قالُوا سُبْحانَ
رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) أتوا بالطاعة حيث لا تنفع وندموا واعترفوا حيث لا ينجع ،
ولهذا قالوا (إِنَّا كُنَّا
ظالِمِينَ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ) أي يلوم بعضهم بعضا على ما كانوا أصروا اليه من منع
المساكين من حق الجذاذ ، فما كان جواب بعضهم لبعض إلا الاعتراف بالخطيئة والذنب (قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا
طاغِينَ) أي اعتدينا وبغينا وطغينا وجاوزنا الحد حتى أصابنا ما
أصابنا.
(عَسى رَبُّنا أَنْ
يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ) قيل : رغبوا في بدلها لهم في الدنيا وقيل احتسبوا ثوابها
في الدار الآخرة والله أعلم. ثم قد ذكر بعض السلف أن هؤلاء قد كانوا من أهل اليمن
، قال سعيد بن جبير : كانوا من قرية يقال لها ضروان على ستة أميال من صنعاء. وقيل
: كانوا من أهل الحبشة ، وكان أبوهم قد خلف لهم هذه الجنة وكانوا من أهل الكتاب.
وقد كان أبوهم
يسير فيها سيرة حسنة فكان ما يستغل منها يرد فيها ما يحتاج إليه ويدخر لعياله قوت
سنتهم ويتصدق بالفاضل ، فلما مات وورثه بنوه قالوا : لقد كان أبونا أحمق إذ كان
يصرف من هذه شيئا للفقراء ، ولو أنا منعناهم لتوفر ذلك علينا فلما عزموا على ذلك
عوقبوا بنقيض قصدهم ، فأذهب الله ما بأيديهم بالكلية رأس المال والربح والصدقة فلم
يبق لهم شيء.
قال الله تعالى : (كَذلِكَ الْعَذابُ) أي هكذا عذاب من خالف أمر الله وبخل بما آتاه الله وأنعم
به عليه ومنع حق المسكين والفقير وذوي الحاجات وبدل نعمة الله كفرا (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ
كانُوا يَعْلَمُونَ) أي هذه عقوبة الدنيا كما سمعتم وعذاب الآخرة أشق ، وقد ورد
في حديث رواه الحافظ البيهقي من طريق جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي
طالب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم نهى عن الجذاذ بالليل والحصاد بالليل.
(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ
عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٣٤) أَفَنَجْعَلُ
الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥)
ما
لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٦)
أَمْ
لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (٣٧)
إِنَّ
لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (٣٨) أَمْ لَكُمْ
أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما
تَحْكُمُونَ (٣٩) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ
بِذلِكَ زَعِيمٌ(٤٠) أَمْ لَهُمْ
شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ)
(٤١)
لما ذكر الله
تعالى حال أهل الجنة الدنيوية وما أصابهم فيها من النقمة حين عصوا الله عزوجل ، وخالفوا أمره بين أن لمن اتقاه وأطاعه في الدار الآخرة
جنات النعيم التي لا تبيد ولا تفرغ ولا ينقضي نعيمها ثم قال تعالى : (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ
كَالْمُجْرِمِينَ) أي أفنساوي بين هؤلاء وهؤلاء في الجزاء؟ كلا ورب الأرض
والسماء ولهذا قال : (ما لَكُمْ كَيْفَ
تَحْكُمُونَ) أي كيف تظنون ذلك؟
ثم قال تعالى : (أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ
إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ) يقول تعالى : أفبأيديكم كتاب منزل من السماء تدرسونه
وتحفظونه وتتداولونه بنقل الخلف عن السلف متضمن حكما مؤكدا كما تدعونه؟ (إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ
أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ
الْقِيامَةِ
إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ) أي أمعكم عهود منا ومواثيق مؤكدة؟ (إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ) أي أنه سيحصل لكم ما تريدون وتشتهون (سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ) أي قل لهم من هو المتضمن المتكفل بهذا؟ قال ابن عباس :
يقول أيهم بذلك كفيل (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ) أي من الأصنام والأنداد (فَلْيَأْتُوا
بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ).
(يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ
ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (٤٢) خاشِعَةً
أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ
وَهُمْ سالِمُونَ (٤٣) فَذَرْنِي وَمَنْ
يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (٤٤) وَأُمْلِي لَهُمْ
إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (٤٥) أَمْ تَسْئَلُهُمْ
أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٦)
أَمْ
عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ)
(٤٧)
لما ذكر تعالى أن
للمتقين عند ربهم جنات النعيم ، بيّن متى ذلك كائن وواقع فقال تعالى : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ
إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ) يعني يوم القيامة وما يكون فيه من الأهوال والزلازل
والبلاء ، والامتحان والأمور العظام.
وقد قال البخاري
هاهنا : حدثنا آدم حدثنا الليث عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن زيد بن
أسلم ، عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال : سمعت النبي صلىاللهعليهوسلم يقول: «يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة ويبقى
من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقا واحدا » وهذا الحديث مخرج في الصحيحين وفي غيرهما من طرق ، وله
ألفاظ وهو حديث طويل مشهور ، وقد قال عبد الله بن المبارك عن أسامة بن زيد عن
عكرمة عن ابن عباس (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ
ساقٍ) قال : هو يوم القيامة يوم كرب وشدة ، رواه ابن جرير ثم قال حدثنا ابن حميد ، حدثنا مهران عن سفيان عن المغيرة
عن إبراهيم عن ابن مسعود أو ابن عباس ـ الشك من ابن جرير ـ (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) قال : عن أمر عظيم ، كقول الشاعر : [الطويل]
مالت الحرب عن ساق
وقال ابن أبي نجيح
عن مجاهد (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ
ساقٍ) قال : شدة الأمر ، وقال ابن
__________________
عباس : هي أول
ساعة تكون في يوم القيامة ، وقال ابن جرير عن مجاهد (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ
ساقٍ) قال : شدة الأمر وجده ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس
قوله (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ
ساقٍ) هو الأمر الشديد الفظيع من الهول يوم القيامة ، وقال
العوفي عن ابن عباس : قوله : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ
ساقٍ) يقول حين يكشف الأمر وتبدو الأعمال ، وكشفه دخول الآخرة
وكشف الأمر عنه ، وكذا روى الضحاك وغيره عن ابن عباس : أورد ذلك كله أبو جعفر بن
جرير ، ثم قال : حدثني أبو زيد عمر بن شبّة ، حدثنا هارون بن عمر
المخزومي ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا أبو سعيد روح بن جناح عن مولى لعمر بن
عبد العزيز عن أبي بردة بن أبي موسى عن أبيه عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ
ساقٍ) يعني عن نور عظيم يخرّون له سجدا» ورواه أبو يعلى عن
القاسم بن يحيى عن الوليد بن مسلم به وفيه رجل مبهم والله أعلم.
وقوله تعالى : (خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ
ذِلَّةٌ) أي في الدار الآخرة بإجرامهم وتكبرهم في الدنيا فعوقبوا
بنقيض ما كانوا عليه ، ولما دعوا إلى السجود في الدنيا فامتنعوا منه مع صحتهم
وسلامتهم كذلك عوقبوا بعدم قدرتهم عليه في الآخرة ، إذا تجلى الرب عزوجل فيسجد له المؤمنون ولا يستطيع أحد من الكافرين ولا
المنافقين أن يسجد ، بل يعود ظهر أحدهم طبقا واحدا كلما أراد أحدهم أن يسجد خرّ
لقفاه عكس السجود ، كما كانوا في الدنيا بخلاف ما عليه المؤمنون.
ثم قال تعالى : (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا
الْحَدِيثِ) يعني القرآن ، وهذا تهديد شديد أي دعني وإياه مني ومنه أنا
أعلم به منه كيف أستدرجه وأمده في غيه وأنظر ثم آخذه أخذ عزيز مقتدر ، ولهذا قال
تعالى : (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ
مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) أي وهم لا يشعرون بل يعتقدون أن ذلك من الله كرامة وهو في
نفس الأمر إهانة ، كما قال تعالى : (أَيَحْسَبُونَ
أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ
بَلْ لا يَشْعُرُونَ) [المؤمنون : ٥٥ ـ ٥٦]
وقال تعالى : (فَلَمَّا نَسُوا ما
ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا
بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) [الأنعام : ٤٤]
ولهذا قال هاهنا : (وَأُمْلِي لَهُمْ
إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) أي وأؤخرهم وأنظرهم وأمدهم وذلك من كيدي ومكري بهم ، ولهذا
قال تعالى : (إِنَّ كَيْدِي
مَتِينٌ) أي عظيم لمن خالف أمري وكذب رسلي واجترأ على معصيتي.
وفي الصحيحين عن
رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «إن الله تعالى ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم
يفلته» ثم قرأ (وَكَذلِكَ أَخْذُ
رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود :
__________________
١٠٢] وقوله تعالى
: (أَمْ تَسْئَلُهُمْ
أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ
يَكْتُبُونَ) تقدم تفسيرها في سورة الطور ، والمعنى في ذلك أنك يا محمد
تدعوهم إلى الله عزوجل بلا أجر تأخذه منهم ، بل ترجو ثواب ذلك عند الله تعالى ،
وهم يكذبون بما جئتهم به بمجرد الجهل والكفر والعناد.
(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ
رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (٤٨) لَوْ لا أَنْ
تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (٤٩) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ
فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٥٠)
وَإِنْ
يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا
الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (٥١) وَما هُوَ إِلاَّ
ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ)
(٥٢)
يقول تعالى : (فَاصْبِرْ) يا محمد على أذى قومك لك وتكذيبهم ، فإن الله سيحكم لك
عليهم ويجعل العاقبة لك ولأتباعك في الدنيا والآخرة (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ
الْحُوتِ) يعني ذا النون وهو يونس بن متى عليهالسلام حين ذهب مغاضبا على قومه ، فكان من أمره ما كان من ركوبه
في البحر والتقام الحوت له وشرود الحوت به في البحار وظلمات غمرات اليم ، وسماعه
تسبيح البحر بما فيه للعلي القدير الذي لا يرد ما أنفذه من التقدير فحينئذ نادى في
الظلمات (أَنْ لا إِلهَ إِلَّا
أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء : ٨٧]
قال الله تعالى : (فَاسْتَجَبْنا لَهُ
وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) [الأنبياء : ٨٨]
وقال تعالى : (فَلَوْ لا أَنَّهُ
كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [الصافات : ١٤٣ ـ ١٤٤]
وقال هاهنا : (إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ) قال ابن عباس ومجاهد والسدي : وهو مغموم.
وقال عطاء
الخراساني وأبو مالك : مكروب وقد قدمنا في الحديث أنه لما قال : (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ
إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء : ٨٨]
خرجت الكلمة تحفّ حول العرش فقالت الملائكة : يا رب هذا صوت ضعيف معروف من بلاد
غريبة ، فقال الله تبارك وتعالى : أما تعرفون هذا؟ قالوا : لا ، قال : هذا يونس ،
قالوا : يا رب عبدك الذي لا يزال يرفع له عمل صالح ودعوة مجابة؟ قال : نعم ، قالوا
: أفلا ترحم ما كان يعمله في الرخاء فتنجيه من البلاء فأمر الله الحوت فألقاه
بالعراء ، ولهذا قال تعالى : (فَاجْتَباهُ رَبُّهُ
فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ).
وقد قال الإمام
أحمد : حدثنا وكيع ، حدثنا سفيان عن الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله قال : قال
رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى» ورواه البخاري من حديث سفيان الثوري وهو في الصحيحين من
حديث أبي هريرة ، وقوله تعالى :
__________________
(وَإِنْ يَكادُ
الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ) قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما (لَيُزْلِقُونَكَ) لينفذونك (بِأَبْصارِهِمْ) أي يعينونك بأبصارهم بمعنى يحسدونك لبغضهم إياك لو لا
وقاية الله لك وحمايته إياك منهم ، وفي هذه الآية دليل على أن العين إصابتها
وتأثيرها حق بأمر الله عزوجل ، كما وردت بذلك الأحاديث المروية من طرق متعددة كثيرة.
[حديث أنس بن مالك
رضي الله عنه] قال أبو داود : حدثنا سليمان بن داود العتكي ، حدثنا شريك (ح)
وحدثنا العباس العنبري ، حدثنا يزيد بن هارون ، أنبأنا شريك عن العباس بن ذريح عن
الشعبي ، قال العباس عن أنس قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لا رقية إلا من عين أو حمة أو دم لا يرقأ» لم يذكر العباس العين ، وهذا لفظ سليمان .
[حديث بريدة بن
الحصيب رضي الله عنه] قال أبو عبد الله بن ماجة : حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير
، حدثنا إسحاق بن سليمان عن أبي جعفر الرازي عن حصين عن الشعبي عن بريدة بن الحصيب
قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لا رقية إلا من عين أو حمة» هكذا رواه ابن ماجة ، وقد أخرجه مسلم في صحيحه عن سعيد بن
منصور عن هشيم عن حصين بن عبد الرّحمن عن عامر الشعبي عن بريدة موقوفا وفيه قصة ،
وقد رواه شعبة عن حصين عن الشعبي عن بريدة قاله الترمذي. وروى هذا الحديث الإمام
البخاري من حديث محمد بن فضيل وأبو داود من حديث مالك بن مغول والترمذي من حديث
سفيان بن عيينة ، ثلاثتهم عن حصين عن عامر الشعبي عن عمران بن حصين موقوفا «لا
رقية إلا من عين أو حمة».
[حديث أبي ذر جندب
بن جنادة رضي الله عنه] قال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا إبراهيم بن محمد بن
عرعرة بن البرند السامي ، حدثنا ديلم بن غزوان ، حدثنا وهب بن أبي دبى عن أبي حرب
عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن العين لتولع الرجل بإذن الله فيتصاعد حالقا ثم يتردى
منه» إسناده غريب ولم يخرجوه.
[حديث حابس
التميمي] قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا حرب حدثنا يحيى بن أبي كثير ،
حدثني حية بن حابس التميمي أن أباه أخبره أنه سمع رسول اللهصلىاللهعليهوسلم يقول :
__________________
«لا شيء في الهام
والعين حق ، وأصدق الطيرة الفأل» وقد رواه الترمذي عن عمرو بن علي عن أبي غسان يحيى بن أبي
كثير عن علي بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير به ثم قال غريب. وقال : وروى سنان عن
يحيى بن أبي كثير عن حية بن حابس عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلىاللهعليهوسلم ، قلت : كذلك رواه الإمام أحمد عن حسن بن موسى ، وحسين بن محمد عن شيبان عن يحيى بن أبي
كثير عن حيّة ، حدثه عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «لا بأس في الهام ، والعين حق وأصدق الطيرة الفأل».
[حديث ابن عباس
رضي الله عنه] قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن الوليد عن سفيان عن دويد ، حدثني
إسماعيل بن ثوبان عن جابر بن زيد عن ابن عباس قال : قال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم : «العين حق ، العين حق تستنزل الحالق» غريب.
[طريق أخرى] قال
مسلم في صحيحه حدثنا عبد الله بن عبد الرّحمن الدارمي ، أخبرنا مسلم بن إبراهيم ،
حدثنا وهيب عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «العين حق ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين وإذا
استغسلتم فاغسلوا» انفرد به دون البخاري. وقال عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن
منصور عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يعوذ الحسن والحسين يقول : «أعيذ كما بكلمات الله التامة
من كل شيطان وهامة ، ومن كل عين لامة» ويقول هكذا كان إبراهيم يعوذ إسحاق وإسماعيل عليهماالسلام أخرجه البخاري وأهل السنن من حديث المنهال به.
[حديث أبي أمامة
أسعد بن سهل بن حنيف رضي الله عنه] قال ابن ماجة : حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا
سفيان عن الزهري عن أبي أمامة أسعد بن سهل بن حنيف قال : مر عامر بن ربيعة بسهل بن
حنيف وهو يغتسل فقال : لم أر كاليوم ولا جلد مخبأة ، فما لبث أن لبط به فأتي به رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقيل له أدرك سهلا صريعا قال : «من تتهمون به» قالوا :
عامر بن ربيعة قال : «علام يقتل أحدكم أخاه؟ إذا رأى أحدكم من أخيه منا يعجبه
فليدع له بالبركة» ثم دعا بماء فأمر عامرا أن يتوضأ فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين
وركبتيه وداخلة إزاره ، وأمره أن يصب عليه ،
__________________
قال سفيان قال
معمر عن الزهري وأمر أن يكفأ الإناء من خلفه ، وقد رواه النسائي من حديث سفيان بن عيينة ومالك بن أنس
كلاهما عن الزهري به ، ومن حديث سفيان بن عيينة به أيضا عن معمر عن الزهري عن أبي
أمامة ويكفأ الإناء من خلفه ومن حديث ابن أبي ذئب عن الزهري عن أبي أمامة أسعد بن
سهل بن حنيف عن أبيه به ، ومن حديث مالك أيضا عن محمد بن أبي أمامة بن سهل عن أبيه
به.
[حديث أبي سعيد
الخدري] قال ابن ماجة : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا سعيد بن سليمان ، حدثنا
عباد عن الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال : كان رسول اللهصلىاللهعليهوسلم يتعوذ من أعين الجان وأعين الإنس ، فلما نزلت المعوذتان
أخذ بهما وترك ما سوى ذلك ، ورواه الترمذي والنسائي من حديث سعيد بن إياس أبي مسعود
الجريري به وقال الترمذي : حسن.
[حديث آخر عنه]
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث حدثني أبي حدثني عبد
العزيز بن صهيب ، حدثني أبو نضرة عن أبي سعيد أن جبريل أتى النبي صلىاللهعليهوسلم فقال : اشتكيت يا محمد؟ قال : «نعم» قال : «باسم الله
أرقيك من كل شيء يؤذيك ، ومن شر كل نفس وعين تشنيك والله يشفيك ، باسم الله أرقيك»
. ورواه عن عفان عن عبد الوارث مثله ، ورواه مسلم وأهل السنن إلا أبا داود من
حديث عبد الوارث به.
وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا عفان ، حدثنا وهيب حدثنا داود عن أبي نضرة عن
أبي سعيد أو عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم اشتكى فأتاه جبريل فقال : باسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك
، من كل حاسد وعين والله يشفيك. ورواه أيضا عن محمد بن عبد الرّحمن الطفاوي عن
داود عن أبي نضرة عن أبي سعيد به قال أبو زرعة الرازي : روى عبد الصمد بن عبد
الوارث عن أبيه عن عبد العزيز عن أبي نضرة وعن عبد العزيز عن أنس في معناه ،
وكلاهما صحيح.
[حديث أبي هريرة
رضي الله عنه] قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق أنبأنا معمر عن همام بن منبه قال هذا
ما حدثنا أبو هريرة عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إن العين حق» أخرجاه
__________________
من حديث عبد
الرزاق. وقال ابن ماجة : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا إسماعيل ابن علية عن
الجريري عن مضارب بن حزن عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «العين حق» تفرد به. ورواه أحمد عن إسماعيل ابن علية عن سعيد الجريري به ، وقال الإمام
أحمد حدثنا ابن نمير حدثنا ثور يعني ابن يزيد عن مكحول عن أبي هريرة قال : قال
رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «العين حق ويحضرها الشيطان وحسد ابن آدم» وقال أحمد : حدثنا خلف بن الوليد حدثنا أبو معشر عن محمد بن قيس :
سئل أبو هريرة هل سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : الطيرة في ثلاث : في المسكن والفرس والمرأة؟ قال :
قلت إذا أقول على رسول الله صلىاللهعليهوسلم ما لم يقل ، ولكني سمعت رسول اللهصلىاللهعليهوسلم يقول «أصدق الطيرة الفأل ، والعين حق».
[حديث أسماء بنت
عميس] قال الإمام أحمد : حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن عروة بن عامر عن عبيد
بن رفاعة الزرقي قال : قالت أسماء يا رسول الله إن بني جعفر تصيبهم العين أفأسترقي
لهم؟ قال : «نعم فلو كان شيء يسبق القدر لسبقته العين» وكذا رواه الترمذي وابن ماجة من حديث سفيان بن عيينة به ،
ورواه الترمذي أيضا والنسائي من حديث عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن عمرو بن دينار
عن عروة بن عامر عن عبيد بن رفاعة عن أسماء بنت عميس به. وقال الترمذي : حسن صحيح.
[حديث عائشة رضي
الله عنها] قال ابن ماجة : حدثنا علي بن أبي الخصيب حدثنا وكيع عن سفيان ومسعر ،
عن معبد بن خالد عن عبد الله بن شداد عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أمرها أن تسترقي من العين . ورواه البخاري عن محمد بن كثير عن سفيان عن معبد بن خالد
به ، وأخرجه مسلم من حديث سفيان ومسعر كلاهما عن معبد به ، ثم قال ابن ماجة حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا أبو هشام المخزومي حدثنا وهيب
عن أبي واقد عن أبي سلمة بن عبد الرّحمن عن عائشة قالت : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «استعيذوا بالله فإن العين حق» تفرد به. وقال أبو داود : حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن الأعمش عن
إبراهيم عن
__________________
الأسود عن عائشة
قالت : كان يؤمر العائن فيتوضأ ويغسل منه المعين. قلت كذلك رواه أحمد عن حسن بن
موسى وحسين بن محمد عن سنان أن ابن حسنة حدثه عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «لا بأس في الهام الهام ، والعين حق وأصدق الطيرة
الفأل».
[حديث سهل بن حنيف]
قال الإمام أحمد : حدثنا حسين بن محمد. حدثنا أبو أويس. حدثنا الزهري عن
أبي أمامة بن سهل بن حنيف ، أن أباه حدثه أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم خرج وساروا معه نحو مكة حتى إذا كانوا بشعب الخرار من
الجحفة ، اغتسل سهل بن حنيف ، وكان رجلا أبيض حسن الجسم والجلد ، فنظر إليه عامر
بن ربيعة أخو بني عدي بن كعب وهو يغتسل فقال : ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبأة ،
فلبط سهل فأتي رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقيل له : يا رسول الله هل لك في سهل! والله ما يرفع رأسه
ولا يفيق ، قال : «هل تتهمون فيه من أحد؟» قالوا : نظر إليه عامر بن ربيعة فدعا
رسول الله صلىاللهعليهوسلم عامرا فتغيظ عليه وقال : «علام يقتل أحدكم أخاه ، هلا إذا
رأيت ما يعجبك بركت؟ ـ ثم قال ـ اغتسل له» فغسل وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف
رجليه وداخلة إزاره في قدح ، ثم صب ذلك الماء عليه فصبه رجل على رأسه وظهره من
خلفه ، ثم يكفأ القدح وراءه ، ففعل ذلك فراح سهل مع الناس ليس به بأس.
[حديث عامر بن
ربيعة] قال الإمام أحمد في مسنده : حدثنا وكيع ، حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن
عيسى عن أمية بن هند بن سهل بن حنيف عن عبيد الله بن عامر قال : انطلق عامر بن
ربيعة وسهل بن حنيف يريدان الغسل ، قال فانطلقا يلتمسان الخمر . قال فوضع عامر جبة كانت عليه من صوف فنظرت إليه فأصبته
بعيني فنزل الماء يغتسل ، قال فسمعت له في الماء فرقعة فأتيته فناديته ثلاثا فلم
يجبني ، فأتيت النبي صلىاللهعليهوسلم فأخبرته ، قال فجاء يمشي فخاض الماء فكأني أنظر إلى بياض
ساقيه ، قال فضرب صدره بيده ثم قال : «اللهم اصرف عنه حرها وبردها ووصبها» قال فقام ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إذا رأى أحدكم من أخيه أو من نفسه أو من ماله ما يعجبه
فليبرك فإن العين حق».
[حديث جابر] قال
الحافظ أبو بكر البزار في مسنده : حدثنا محمد بن معمر ، حدثنا أبو داود ، حدثنا
طالب بن حبيب بن عمرو بن سهل الأنصاري ، ويقال له ابن الضجيع ضجيع حمزة رضي الله
عنه ، حدثني عبد الرّحمن بن جابر بن عبد الله عن أبيه قال : قال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم : «أكثر من يموت من أمتي بعد كتاب الله وقضائه وقدره
بالأنفس» قال البزار يعني
__________________
العين قال : ولا
نعلم يروى هذا الحديث عن النبي صلىاللهعليهوسلم إلا بهذا الإسناد. قلت : بل قد روي من وجه آخر عن جابر.
قال الحافظ أبو
عبد الرّحمن محمد بن المنذر الهروي المعروف بشكر في كتاب العجائب ، وهو مشتمل على
فوائد جليلة وغريبة : حدثنا الرهاوي ، حدثنا يعقوب بن محمد ، حدثنا علي بن أبي علي
الهاشمي ، حدثنا محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «العين حق لتورد الرجل القبر والجمل القدر وإن أكثر
هلاك أمتي في العين». ثم رواه عن شعيب بن أيوب عن معاوية بن هشام عن سفيان عن محمد
بن المنكدر عن جابر قال : قال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم : «قد تدخل الرجل العين في القبر وتدخل الجمل القدر». وهذا
إسناد رجاله كلهم ثقات ولم يخرجوه.
[حديث عبد الله بن
عمرو] قال الإمام أحمد : حدثنا قتيبة ، حدثنا رشدين بن سعد عن الحسن بن ثوبان عن
هشام بن أبي رقية عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم «لا عدوى ولا طيرة
ولا هامة ولا حسد والعين حق» تفرد به أحمد.
[حديث عن علي] روى
الحافظ ابن عساكر من طريق خيثمة بن سليمان الحافظ ، حدثنا عبيد بن محمد الكشوري ،
حدثنا عبد الله بن عبد الله بن عبد ربه البصري عن أبي رجاء عن شعبة ، عن أبي إسحاق
عن الحارث عن علي رضي الله عنه أن جبريل أتى النبي صلىاللهعليهوسلم فوافقه مغتما فقال : يا محمد ما هذا الغم الذي أراه في
وجهك : قال : «الحسن والحسين أصابتهما عين» قال : صدق بالعين فإن العين حق أفلا
عوذتهما بهؤلاء الكلمات؟ قال «وما هن يا جبريل؟» قال : قل اللهم ذا السلطان العظيم
والمن القديم ، ذا الوجه الكريم ولي الكلمات التامات والدعوات المستجابات ، عاف
الحسن والحسين من أنفس الجن وأعين الإنس ، فقالها النبي صلىاللهعليهوسلم ، فقاما يلعبان بين يديه فقال النبي صلىاللهعليهوسلم «عوذوا أنفسكم
ونساءكم وأولادكم بهذا التعويذ فإنه لم يتعوذ المتعوذون بمثله».
قال الخطيب البغدادي
: تفرد بروايته أبو رجاء محمد بن عبيد الله الحبطي من أهل تستر ، ذكره ابن عساكر
في ترجمة طراد بن الحسين من تاريخه ، وقوله تعالى : (وَيَقُولُونَ إِنَّهُ
لَمَجْنُونٌ) أي يزدرونه بأعينهم ويؤذونه بألسنتهم ويقولون (إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) أي لمجيئه بالقرآن قال الله تعالى : (وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) آخر تفسير سورة ن ولله الحمد والمنة.
__________________
تفسير سورة الحاقة
وهي مكية
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ
الرَّحِيمِ
(الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ (٢)
وَما
أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (٣)
كَذَّبَتْ
ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (٤)
فَأَمَّا
ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (٥)
وَأَمَّا
عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (٦)
سَخَّرَها
عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها
صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (٧) فَهَلْ تَرى لَهُمْ
مِنْ باقِيَةٍ (٨) وَجاءَ فِرْعَوْنُ
وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (٩)
فَعَصَوْا
رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (١٠) إِنَّا لَمَّا طَغَى
الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (١١)
لِنَجْعَلَها
لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ)
(١٢)
الحاقة من أسماء
يوم القيامة لأن فيها يتحقق الوعد والوعيد ولهذا عظم الله أمرها فقال : (وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ) ثم ذكر تعالى إهلاكه الأمم المكذبين بها فقال تعالى : (فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا
بِالطَّاغِيَةِ) وهي الصيحة التي أسكتتهم والزلزلة التي أسكنتهم ، هكذا قال
قتادة الطاغية الصيحة ، وهو اختيار ابن جرير ، وقال مجاهد : الطاغية الذنوب ، وكذا قال الربيع بن أنس
وابن زيد إنها الطغيان وقرأ ابن زيد (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها) [الشمس : ١١] وقال
السدي (فَأُهْلِكُوا
بِالطَّاغِيَةِ) قال يعني عاقر الناقة.
(وَأَمَّا عادٌ
فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ) أي باردة قال قتادة والسدي والربيع بن أنس والثوري (عاتِيَةٍ) أي شديدة الهبوب ، قال قتادة. عتت عليهم حتى نقبت عن
أفئدتهم. وقال الضحاك : (صَرْصَرٍ) باردة (عاتِيَةٍ) عتت عليهم بغير رحمة ولا بركة ، وقال علي وغيره : عتت على
الخزنة فخرجت بغير حساب.
(سَخَّرَها عَلَيْهِمْ) أي سلطها عليهم (سَبْعَ لَيالٍ
وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً) أي كوامل متتابعات مشائيم ، قال ابن مسعود وابن عباس ومجاهد
وعكرمة والثوري وغيرهم : (حُسُوماً) متتابعات ، وعن عكرمة والربيع بن خثيم مشائيم عليهم كقوله
تعالى : (فِي أَيَّامٍ
نَحِساتٍ) [فصلت : ١٦] قال الربيع : وكان أولها الجمعة وقال غيره
الأربعاء ، ويقال إنها التي تسميها الناس الأعجاز ، وكأن الناس أخذوا ذلك من قوله
تعالى : (فَتَرَى الْقَوْمَ
فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) وقيل لأنها تكون في عجز الشتاء ، ويقال أيام العجوز لأن
عجوزا من قوم عاد دخلت سربا فقتلها الريح في اليوم الثامن ، حكاه البغوي والله
أعلم.
قال ابن عباس : (خاوِيَةٍ) خربة ، وقال غيره : بالية أي جعلت الريح تضرب بأحدهم
__________________
الأرض فيخر ميتا
على أم رأسه ، فينشدخ رأسه وتبقى جثته هامدة كأنها قائمة النخلة إذا خرت بلا
أغصان. وقد ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور» وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا محمد بن يحيى بن
الضريس العبدي حدثنا ابن فضيل عن مسلم عن مجاهد عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ما فتح الله على عاد من الريح التي هلكوا بها إلا مثل
موضع الخاتم ، فمرت بأهل البادية فحملتهم ومواشيهم وأموالهم فجعلتهم بين السماء
والأرض ، فلما رأى ذلك أهل الحاضرة من عاد الريح وما فيها قالوا هذا عارض ممطرنا ،
فألقت أهل البادية ومواشيهم على أهل الحاضرة».
وقال الثوري عن
ليث عن مجاهد : الريح لها جناحان وذنب (فَهَلْ تَرى لَهُمْ
مِنْ باقِيَةٍ) أي هل تحس منهم من أحد من بقاياهم أو ممن ينتسب إليهم بل
بادوا عن آخرهم ولم يجعل الله لهم خلفا.
ثم قال تعالى : (وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ) قرئ بكسر القاف أي ومن عنده ممن في زمانه من أتباعه من
كفار القبط ، وقرأ آخرون بفتحها أي ومن قبله من الأمم المشبهين له. وقوله تعالى : (وَالْمُؤْتَفِكاتُ) وهم الأمم المكذبون بالرسل (بِالْخاطِئَةِ) بالفعلية الخاطئة وهي التكذيب بما أنزل الله قال الربيع (بِالْخاطِئَةِ) أي بالمعصية ، وقال مجاهد : بالخطايا ، ولهذا قال تعالى : (فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ) وهذا جنس أي كل كذب رسول الله إليهم كما قال تعالى (كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ
وَعِيدِ) [ق : ١٤] ومن كذب
برسول فقد كذب بالجميع كما قال تعالى: (كَذَّبَتْ قَوْمُ
نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) [الشعراء : ١٠٥] (كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ) [الشعراء : ١٢٣] (كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ) [الشعراء : ١٤١]
وإنما جاء إلى كل أمة رسول واحد ولهذا قال هاهنا : (فَعَصَوْا رَسُولَ
رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً) أي عظيمة شديدة أليمة ، قال مجاهد: (رابِيَةً) شديدة ، وقال السدي : مهلكة.
ثم قال تعالى : (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ) أي زاد على الحد بإذن الله وارتفع على الوجود ، وقال ابن
عباس وغيره : «طغى الماء» كثر ، وذلك بسبب دعوة نوح عليهالسلام على قومه حين كذبوه وخالفوه ، فعبدوا غير الله فاستجاب
الله له وعم أهل الأرض بالطوفان إلا من كان مع نوح في السفينة فالناس كلهم من
سلالة نوح وذريته.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا مهران عن أبي سنان سعيد بن سنان
عن غير واحد عن علي بن أبي طالب قال : لم تنزل قطرة من ماء إلا بكيل على يدي ملك ،
فلما كان يوم نوح أذن للماء دون الخزان فطغى الماء على الخزان ، فخرج فذلك قوله
تعالى : (إِنَّا لَمَّا طَغَى
__________________
الْماءُ)
أي زاد على الحد
بإذن الله (حَمَلْناكُمْ فِي
الْجارِيَةِ) ولم ينزل شيء من الريح إلا بكيل على يدي ملك إلا يوم عاد
فإنه أذن لها دون الخزان فخرجت ، فذلك قوله تعالى : (بِرِيحٍ صَرْصَرٍ
عاتِيَةٍ) أي عتت على الخزان ، ولهذا قال تعالى ممتنا على الناس : (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ
حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ) وهي السفينة الجارية على وجه الماء (لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً) عاد الضمير على الجنس لدلالة المعنى عليه أي وأبقينا لكم
من جنسها ما تركبون على تيار الماء في البحار كما قال : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ
وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا
نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ) [الزخرف : ١٣ ـ ١٤].
وقال تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا
ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما
يَرْكَبُونَ) [يس : ٤١ ـ ٤٢]
وقال قتادة : أبقى الله السفينة حتى أدركها أوائل هذه الأمة ، والأول أظهر ولهذا قال
تعالى : (وَتَعِيَها أُذُنٌ
واعِيَةٌ) أي وتفهم هذه النعمة وتذكرها أذن واعية ، قال ابن عباس :
حافظة سامعة. وقال قتادة : (أُذُنٌ واعِيَةٌ) عقلت عن الله فانتفعت بما سمعت من كتاب الله ، وقال الضحاك
(وَتَعِيَها أُذُنٌ
واعِيَةٌ) سمعتها أذن ووعت أي من له سمع صحيح وعقل رجيح ، وهذا عام
في كل من فهم ووعى.
وقد قال ابن أبي
حاتم : حدثنا أبو زرعة الدمشقي ، حدثنا العباس بن الوليد بن صبيح الدمشقي ، حدثنا
زيد بن يحيى ، حدثنا علي بن حوشب : سمعت مكحولا يقول : لما نزل على رسول الله صلىاللهعليهوسلم (وَتَعِيَها أُذُنٌ
واعِيَةٌ) قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «سألت ربي أن يجعلها أذن علي» قال مكحول : فكان علي يقول
: ما سمعت من رسول الله صلىاللهعليهوسلم شيئا قط فنسيته ، وهكذا رواه ابن جرير عن علي بن سهل عن
الوليد بن مسلم عن علي بن حوشب عن مكحول به وهو حديث مرسل.
وقد قال ابن أبي
حاتم أيضا : حدثنا جعفر بن محمد بن عامر ، حدثنا بشر بن آدم ، حدثنا عبد الله بن
الزبير أبو محمد يعني والد أبي أحمد الزبيري ، حدثني صالح بن الهيثم : سمعت بريدة
الأسلمي يقول : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم لعلي «إني أمرت أن أدنيك ولا أقصيك وأن أعلمك وأن تعي وحق
لك أن تعي» قال : فنزلت هذه الآية (وَتَعِيَها أُذُنٌ
واعِيَةٌ) ورواه ابن جرير عن محمد بن خلف عن بشر بن آدم به. ثم رواه
ابن جرير من طريق آخر عن أبي داود الأعمى عن بريدة به ولا يصح أيضا.
(فَإِذا نُفِخَ فِي
الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (١٣)
وَحُمِلَتِ
الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً(١٤)
فَيَوْمَئِذٍ
وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١٥) وَانْشَقَّتِ
السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (١٦) وَالْمَلَكُ عَلى
أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (١٧)
يَوْمَئِذٍ
تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ)(١٨)
يقول تعالى مخبرا
عن أهوال يوم القيامة وأول ذلك نفخة الفزع ثم يعقبها نفخة الصعق حين
يصعق من في
السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ، ثم بعدها نفخة القيام لرب العالمين والبعث
والنشور وهي هذه النفخة ، وقد أكدها هاهنا بأنها واحدة لأن أمر الله لا يخالف ولا
يمانع ولا يحتاج إلى تكرار ولا تأكيد ، وقال الربيع : هي النفخة الأخيرة والظاهر
ما قلناه ، ولهذا قال هاهنا : (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ
وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) أي فمدت مد الأديم العكاظي وتبدلت الأرض غير الأرض (فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) أي قامت القيامة (وَانْشَقَّتِ
السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ) قال سماك عن شيخ من بني أسد عن علي قال : تنشق السماء من
المجرة ، رواه ابن أبي حاتم.
وقال ابن جريج :
هي كقوله (وَفُتِحَتِ السَّماءُ
فَكانَتْ أَبْواباً) [النبأ : ١٢] وقال
ابن عباس : متخرقة والعرش بحذائها (وَالْمَلَكُ عَلى
أَرْجائِها) الملك اسم جنس أي الملائكة على أرجاء السماء ، قال ابن
عباس : على ما لم يه منها أي حافاتها ، وكذا قال سعيد بن جبير والأوزاعي ، وقال
الضحاك : أطرافها ، وقال الحسن البصري : أبوابها ، وقال الربيع بن أنس في قوله : (وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها) يقول : على ما استدق من السماء ينظرون إلى أهل الأرض.
وقوله تعالى : (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ
يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) أي يوم القيامة يحمل العرش ثمانية من الملائكة ، ويحتمل أن
يكون المراد بهذا العرش العظيم أو العرش الذي يوضع في الأرض يوم القيامة لفصل
القضاء ، والله أعلم بالصواب. وفي حديث عبد الله بن عميرة عن الأحنف بن قيس عن
العباس بن عبد المطلب في ذكر حملة العرش أنهم ثمانية أو عال .
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبو سعيد يحيى بن سعيد ، حدثنا زيد بن الحباب ، حدثني أبو السمح البصري ،
حدثنا أبو قبيل حيي بن هانئ أنه سمع عبد الله بن عمرو يقول : حملة العرش ثمانية ما
بين موق أحدهم إلى مؤخر عينه مسيرة مائة عام. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي قال :
كتب إلي أحمد بن حفص بن عبد الله النيسابوري ، حدثني أبي ، حدثنا إبراهيم بن طهمان
عن موسى بن عقبة عن محمد بن المنكدر عن جابر قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أذن لي أن أحدثكم عن ملك من حملة العرش بعد ما بين شحمة
أذنه وعنقه مخفق الطير سبعمائة عام» وهذا إسناد جيد رجاله كلهم ثقات.
وقد رواه أبو داود
في كتاب السنة من سننه ، حدثنا أحمد بن حفص بن عبد الله ، حدثنا أبي ، حدثنا
إبراهيم بن طهمان عن موسى بن عقبة عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله أن رسول
الله صلىاللهعليهوسلم قال : «أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله تعالى من
حملة العرش أن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام» هذا لفظ أبي داود.
__________________
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبو زرعة ، حدثنا يحيى بن المغيرة ، حدثنا جرير عن أشعث عن جعفر عن سعيد
بن جبير في قوله تعالى : (وَيَحْمِلُ عَرْشَ
رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) قال : ثمانية صفوف من الملائكة قال : وروي عن الشعبي
وعكرمة والضحاك وابن جريج مثل ذلك ، وكذا روى السدي عن أبي مالك عن ابن عباس : ثمانية
صفوف ، وكذا روى العوفي عنه ، وقال الضحاك عن ابن عباس : الكروبيون ثمانية أجزاء
كل جزء منهم بقدر الإنس والجن والشياطين والملائكة.
وقوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى
مِنْكُمْ خافِيَةٌ) أي تعرضون على عالم السر والنجوى الذي لا يخفى عليه شيء من
أموركم بل هو عالم بالظواهر والسرائر والضمائر ، ولهذا قال تعالى : (لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ) وقد قال ابن أبي الدنيا : أخبرنا إسحاق بن إسماعيل ،
أخبرنا سفيان بن عيينة عن جعفر بن برقان عن ثابت بن الحجاج قال : قال عمر بن
الخطاب رضي الله عنه : حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا ،
فإنه أخف عليكم في الحساب غدا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم وتزينوا للعرض الأكبر (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى
مِنْكُمْ خافِيَةٌ).
وقال الإمام أحمد : حدثنا وكيع ، حدثنا علي بن علي بن رفاعة عن الحسن عن أبي
موسى قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات ، فأما عرضتان فجدال
ومعاذير ، وأما الثالثة فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي فآخذ بيمينه وآخذ بشماله» ورواه ابن ماجة عن أبي بكر بن أبي شيبة عن وكيع به وقد
رواه الترمذي عن أبي كريب عن وكيع عن علي بن علي عن الحسن عن أبي هريرة به ، وقد
روى ابن جرير عن مجاهد بن موسى عن يزيد عن سليمان بن حيان عن مروان
الأصغر عن أبي وائل عن عبد الله قال : يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات : عرضتان
معاذير وخصومات ، والعرضة الثالثة تطير الصحف في الأيدي فآخذ بيمينه وآخذ بشماله ،
ورواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة مرسلا مثله.
(فَأَمَّا مَنْ
أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (١٩)
إِنِّي
ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (٢٠)
فَهُوَ
فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٢١) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ
(٢٢) قُطُوفُها دانِيَةٌ (٢٣) كُلُوا وَاشْرَبُوا
هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ)(٢٤)
يخبر تعالى عن
سعادة من يؤتى كتابه يوم القيامة بيمينه وفرحه بذلك ، وأنه من شدة فرحه يقول لكل
من لقيه (هاؤُمُ اقْرَؤُا
كِتابِيَهْ) أي خذوا اقرءوا كتابيه لأنه يعلم أن الذي فيه خير وحسنات
محضة ، لأنه ممن بدل الله سيئاته حسنات. قال عبد الرّحمن بن زيد : معنى (هاؤُمُ
__________________
اقْرَؤُا
كِتابِيَهْ) أي ها اقرءوا كتابيه وؤم زائدة كذا قال ، والظاهر أنها
بمعنى هاكم.
وقد قال ابن أبي
حاتم : حدثنا بشر بن مطر الواسطي ، حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا عاصم الأحول عن
أبي عثمان قال : المؤمن يعطى كتابه بيمينه في ستر من الله فيقرأ سيئاته ، فكلما
قرأ سيئة تغير لونه حتى يمر بحسناته فيقرؤها فيرجع إليه لونه ، ثم ينظر فإذا
سيئاته قد بدلت حسنات ، قال : فعند ذلك يقول : (هاؤُمُ اقْرَؤُا
كِتابِيَهْ). وحدثنا أبي ، حدثنا إبراهيم بن الوليد بن سلمة ، حدثنا
روح بن عبادة ، حدثنا موسى بن عبيدة ، أخبرني عبد الله بن عبد الله بن حنظلة غسيل
الملائكة قال : إن الله يوقف عبده يوم القيامة فيبدي أي يظهر سيئاته في ظهر صحيفته
فيقول له أنت عملت هذا ، فيقول نعم أي رب ، فيقول له إني لم أفضحك به وإني قد غفرت
لك فيقول عند ذلك (هاؤُمُ اقْرَؤُا
كِتابِيَهْ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) حين نجا من فضيحته يوم القيامة.
وقد تقدم في
الصحيح حديث ابن عمر حين سئل عن النجوى فقال : سمعت رسول اللهصلىاللهعليهوسلم يقول : «يدني الله العبد يوم القيامة فيقرره بذنوبه كلها
حتى إذا رأى أنه قد هلك قال الله تعالى إني سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك
اليوم ، ثم يعطى كتاب حسناته بيمينه ، وأما الكافر والمنافق فيقول الأشهاد هؤلاء
الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين» وقوله تعالى : (إِنِّي ظَنَنْتُ
أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) أي قد كنت موقنا في الدنيا أن هذا اليوم كائن لا محالة كما
قال تعالى : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ
أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) [البقرة : ٤٦] قال
الله تعالى : (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ
راضِيَةٍ) أي مرضية (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) أي رفيعة قصورها ، حسان حورها ، نعيمة دورها ، دائم
حبورها.
قال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبي ، حدثنا أبو عتبة الحسن بن علي بن مسلم السكوني ، حدثنا إسماعيل بن
عياش عن سعيد بن يوسف عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلام الأسود قال : سمعت أبا
أمامة قال : سأل رجل رسول الله صلىاللهعليهوسلم : هل يتزاور أهل الجنة؟ قال «نعم إنه ليهبط أهل الدرجة
العليا إلى أهل الدرجة السفلى فيحيونهم ويسلمون عليهم ، ولا يستطيع أهل الدرجة
السفلى يصعدون إلى الأعلين تقصر بهم أعمالهم». وقد ثبت في الصحيح «إن الجنة مائة
درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض» . وقال تعالى : (قُطُوفُها دانِيَةٌ) قال البراء بن عازب : أي قريبة يتناولها أحدهم وهو نائم
على سريره ، وكذا قال غير واحد.
قال الطبراني عن
عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن عبد الرّحمن بن زياد بن أنعم عن عطاء بن يسار عن
سلمان الفارسي قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لا يدخل أحد الجنة إلا بجواز :
__________________
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هذا كتاب من الله
لفلان بن فلان أدخلوه جنة عالية قطوفها دانية» وكذا رواه الضياء في صفة الجنة من
طريق سعدان بن سعيد عن سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي ، عن سلمان عن رسول الله
صلىاللهعليهوسلم قال : «يعطى المؤمن جوازا على الصراط : بسم الله الرّحمن
الرّحيم هذا كتاب من الله العزيز الحكيم لفلان أدخلوه جنة عالية قطوفها دانية».
وقوله تعالى : (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما
أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) أي يقال لهم ذلك تفضلا عليهم وامتنانا وإنعاما وإحسانا ،
وإلا فقد ثبت في الصحيح عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «اعملوا وسددوا وقاربوا واعلموا أن أحدا منكم لن
يدخله عمله الجنة» قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟ قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني
الله برحمة منه وفضل» .
(وَأَمَّا مَنْ
أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (٢٥)
وَلَمْ
أَدْرِ ما حِسابِيَهْ(٢٦) يا لَيْتَها كانَتِ
الْقاضِيَةَ (٢٧) ما أَغْنى عَنِّي
مالِيَهْ (٢٨) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (٢٩)
خُذُوهُ
فَغُلُّوهُ (٣٠) ثُمَّ الْجَحِيمَ
صَلُّوهُ (٣١) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها
سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (٣٢) إِنَّهُ كانَ لا
يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ (٣٣)
وَلا
يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣٤)
فَلَيْسَ
لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (٣٥)
وَلا
طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (٣٦) لا يَأْكُلُهُ
إِلاَّ الْخاطِؤُنَ)
(٣٧)
وهذا إخبار عن حال
الأشقياء إذا أعطي أحدهم كتابه في العرصات بشماله ، فحينئذ يندم غاية الندم (فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ
كِتابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ) قال الضحاك : يعني موتة لا حياة بعدها ، وكذا قال محمد بن
كعب والربيع والسدي ، وقال قتادة : تمنى الموت ولم يكن شيء في الدنيا أكره إليه
منه (ما أَغْنى عَنِّي
مالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ) أي لم يدفع عني مالي ولا جاهي عذاب الله وبأسه ، بل خلص
إلي وحدي فلا معين لي ولا مجير ، فعندها يقول الله عزوجل : (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ
ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ) أي يأمر الزبانية أن تأخذه عنفا من المحشر فتغله أي تضع
الأغلال في عنقه ثم تورده إلى جهنم فتصليه إياها أي تغمره فيها.
قال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو خالد عن عمرو بن قيس عن المنهال بن عمرو قال :
إذا قال الله تعالى خذوه ابتدره سبعون ألف ملك ، إن الملك منهم ليقول هكذا فيلقي
سبعين ألفا في النار. وروى ابن أبي الدنيا في الأهوال أنه يبتدره أربعمائة ألف ولا
يبقى شيء إلا دقه ، فيقول : ما لي ولك؟ فيقول : إن الرب عليك غضبان فكل شيء غضبان
عليك ، وقال الفضيل بن عياض : إذا قال الرب عزوجل خذوه فغلوه ابتدره سبعون ألف ملك أيهم يجعل الغل في عنقه (ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ) أي اغمروه فيها.
وقوله تعالى : (ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها
سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ) قال كعب الأحبار : كل حلقة
__________________
منها قدر حديد
الدنيا ، وقال العوفي عن ابن عباس وابن جريج : بذراع الملك ، وقال ابن جريج : قال
ابن عباس (فَاسْلُكُوهُ) تدخل في استه ثم تخرج من فيه ثم ينظمون فيها كما ينظم
الجراد في العود حين يشوى. وقال العوفي عن ابن عباس : يسلك في دبره حتى يخرج من
منخريه حتى لا يقوم على رجليه.
وقال الإمام أحمد : حدثنا علي بن إسحاق ، أخبرنا عبد الله ، أخبرنا سعيد بن
يزيد عن أبي السمح عن عيسى بن هلال الصدفي عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول
اللهصلىاللهعليهوسلم : «لو أن رصاصة مثل هذه ـ وأشار إلى جمجمة ـ أرسلت من
السماء إلى الأرض ، وهي مسيرة خمسمائة سنة ، لبلغت الأرض قبل الليل ولو أنها أرسلت
من رأس السلسلة لسارت أربعين خريفا الليل والنهار قبل أن تبلغ قعرها أو أصلها» وأخرجه الترمذي عن سويد بن نصر عن عبد الله بن المبارك به
، وقال : هذا حديث حسن.
وقوله تعالى : (إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ
الْعَظِيمِ وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) أي لا يقوم بحق الله عليه من طاعته وعبادته ولا ينفع خلقه
ويؤدي حقهم ، فإن لله على العباد أن يوحدوه ولا يشركوا به شيئا ، وللعباد بعضهم
على بعض حق الإحسان والمعاونة على البر والتقوى ، ولهذا أمر الله بإقام الصلاة
وإيتاء الزكاة ، وقبض النبي صلىاللهعليهوسلم وهو يقول : «الصلاة وما ملكت أيمانكم» وقوله تعالى : (فَلَيْسَ لَهُ
الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ لا يَأْكُلُهُ إِلَّا
الْخاطِؤُنَ) أي ليس له اليوم من ينقذه من عذاب الله تعالى لا حميم وهو
القريب ، ولا شفيع يطاع ، ولا طعام له هاهنا إلا من غسلين ، قال قتادة : هو شر
طعام أهل النار. وقال الربيع والضحاك : هو شجرة في جهنم ، وقال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبي ، حدثنا منصور بن أبي مزاحم ، حدثنا أبو سعيد المؤدب عن خصيف عن مجاهد
عن ابن عباس قال : ما أدري ما الغسلين ولكني أظنه الزقوم. وقال شبيب بن بشر عن عكرمة
عن ابن عباس قال : الغسلين الدم والماء يسيل من لحومهم. وقال علي بن أبي طلحة عنه
: الغسلين صديد أهل النار .
(فَلا أُقْسِمُ بِما
تُبْصِرُونَ (٣٨) وَما لا تُبْصِرُونَ (٣٩)
إِنَّهُ
لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠)
وَما
هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (٤١)
وَلا
بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٤٢) تَنْزِيلٌ مِنْ
رَبِّ الْعالَمِينَ)
(٤٣)
يقول تعالى مقسما
لخلقه بما يشاهدونه من آياته في مخلوقاته الدالة على كماله في أسمائه وصفاته ، وما
غاب عنهم مما لا يشاهدونه من المغيبات عنهم : إن القرآن كلامه ووحيه وتنزيله
__________________
على عبده ورسوله
الذي اصطفاه لتبليغ الرسالة وأداء الأمانة فقال تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا
تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) يعني محمدا صلىاللهعليهوسلم ، أضافه إليه على معنى التبليغ ، لأن الرسول من شأنه أن
يبلغ عن المرسل ولهذا أضافه في سورة التكوير إلى الرسول الملكي (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي
قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) [التكوير : ٢٠]
وهذا جبريل عليهالسلام ، ثم قال تعالى : (وَما صاحِبُكُمْ
بِمَجْنُونٍ) [التكوير : ٢٢]
يعني محمداصلىاللهعليهوسلم (وَلَقَدْ رَآهُ
بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) [التكوير : ٢٣]
يعني أن محمدا رأى جبريل على صورته التي خلقه الله عليها (وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) [التكوير : ٢٤] أي
بمتهم.
(وَما هُوَ بِقَوْلِ
شَيْطانٍ رَجِيمٍ) [التكوير : ١٩ ـ ٢٥]
وهكذا قال هاهنا (وَما هُوَ بِقَوْلِ
شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) فأضافه الله تارة إلى قول الرسول الملكي وتارة إلى الرسول
البشري ، لأن كلا منهما مبلغ عن الله ما استأمنه عليه من وحيه وكلامه ، ولهذا قال
تعالى : (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ
الْعالَمِينَ).
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا صفوان ، حدثنا شريح بن عبيد
قال : قال عمر بن الخطاب : خرجت أتعرض رسول الله صلىاللهعليهوسلم قبل أن أسلم ، فوجدته قد سبقني إلى المسجد فقمت خلفه
فاستفتح سورة الحاقة ، فجعلت أعجب من تأليف القرآن قال : فقلت هذا والله شاعر كما
قالت قريش ، قال : فقرأ (إِنَّهُ لَقَوْلُ
رَسُولٍ كَرِيمٍ وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ) قال : فقلت كاهن ، قال : فقرأ (وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما
تَذَكَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ
الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ
فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) إلى آخر السورة قال : فوقع الإسلام في قلبي كل موضع ، فهذا
من جملة الأسباب التي جعلها الله تعالى مؤثرة في هداية عمر بن الخطاب رضي الله عنه
، كما أوردنا كيفية إسلامه في سيرته المفردة ، ولله الحمد والمنة.
(وَلَوْ تَقَوَّلَ
عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنا مِنْهُ
بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنا
مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) فَما مِنْكُمْ مِنْ
أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (٤٧) وَإِنَّهُ
لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ
أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (٤٩)
وَإِنَّهُ
لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠)
وَإِنَّهُ
لَحَقُّ الْيَقِينِ (٥١) فَسَبِّحْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الْعَظِيمِ)
(٥٢)
يقول تعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا) أي محمد صلىاللهعليهوسلم لو كان كما يزعمون مفتريا علينا فزاد في الرسالة أو نقص
منها ، أو قال شيئا من عنده فنسبه إلينا وليس كذلك لعاجلناه بالعقوبة ، ولهذا قال
تعالى : (لَأَخَذْنا مِنْهُ
بِالْيَمِينِ) قيل : معناه لانتقمنا منه باليمين لأنها أشد في البطش ،
وقيل لأخذنا منه بيمينه (ثُمَّ لَقَطَعْنا
مِنْهُ الْوَتِينَ) قال ابن عباس : وهو نياط القلب وهو العرق الذي القلب معلق
فيه ، وكذا قال عكرمة وسعيد بن جبير والحكم وقتادة والضحاك ، ومسلم البطين
__________________
وأبو صخر حميد بن
زياد ، وقال محمد بن كعب هو القلب ومراقه وما يليه. وقوله تعالى : (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ
حاجِزِينَ) أي فما يقدر أحد منكم أن يحجز بيننا وبينه إذا أردنا به
شيئا من ذلك. والمعنى في هذا بل هو صادق بار راشد لأن الله عزوجل مقرر له ما يبلغه عنه ومؤيد له بالمعجزات الباهرات
والدلالات القاطعات.
ثم قال تعالى : (وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) يعني القرآن كما قال تعالى : (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ
آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ
عَلَيْهِمْ عَمًى) [فصلت : ٤٤] ثم
قال تعالى : (وَإِنَّا لَنَعْلَمُ
أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ) أي مع هذا البيان والوضوح سيوجد منكم من يكذب بالقرآن. ثم
قال تعالى : (وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ
عَلَى الْكافِرِينَ) قال ابن جرير : وإن التكذيب لحسرة على الكافرين يوم
القيامة. وحكاه عن قتادة بمثله ، وروى ابن أبي حاتم من طريق السدي عن أبي مالك (وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى
الْكافِرِينَ) يقول لندامة ، ويحتمل عود الضمير على القرآن ، أي وإن
القرآن والإيمان به لحسرة في نفس الأمر على الكافرين كما قال تعالى : (كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ
الْمُجْرِمِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهِ) [الشعراء : ٢٠٠ ـ ١٠١
:] وقال تعالى : (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ
وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) [سبأ : ٥٤] ولهذا
قال هاهنا (وَإِنَّهُ لَحَقُّ
الْيَقِينِ) أي الخبر الصادق الحق الذي لا مرية فيه ولا شك ولا ريب ،
ثم قال تعالى : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الْعَظِيمِ) أي الذي أنزل هذا القرآن العظيم. آخر تفسير سورة الحاقة
ولله الحمد والمنة
تفسير سورة المعارج
وهي مكية
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سَأَلَ سائِلٌ
بِعَذابٍ واقِعٍ (١) لِلْكافِرينَ لَيْسَ
لَهُ دافِعٌ (٢) مِنَ اللهِ ذِي
الْمَعارِجِ (٣) تَعْرُجُ
الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ
سَنَةٍ (٤) فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (٥)
إِنَّهُمْ
يَرَوْنَهُ بَعِيداً (٦) وَنَراهُ قَرِيباً)(٧)
(سَأَلَ سائِلٌ
بِعَذابٍ واقِعٍ) فيه تضمين دل عليه حرف الباء كأنه مقدر استعجل سائل بعذاب
واقع كقوله تعالى : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ
بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ) [الحج : ٤٧] أي
وعذابه واقع لا محالة. قال النسائي : حدثنا بشر بن خالد ، حدثنا أبو أسامة حدثنا
سفيان عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى : (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ) قال
النضر بن الحارث
بن كلدة وقال العوفي عن ابن عباس (سَأَلَ سائِلٌ
بِعَذابٍ واقِعٍ) قال : «ذلك سؤال الكفار عن عذاب الله» وهو واقع بهم ، وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى : (سَأَلَ سائِلٌ) دعا داع بعذاب واقع يقع في الآخرة قال وهو قولهم (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ
مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ
أَلِيمٍ) [الأنفال : ٣٢]
وقال ابن زيد وغيره (سَأَلَ سائِلٌ
بِعَذابٍ واقِعٍ) أي واد في جهنم يسيل يوم القيامة بالعذاب وهذا القول ضعيف
بعيد عن المراد ، والصحيح الأول لدلالة السياق عليه.
وقوله تعالى : (واقِعٍ لِلْكافِرينَ) أي مرصد معد للكافرين ، وقال ابن عباس : واقع جاء (لَيْسَ لَهُ دافِعٌ) أي لا دافع له إذا أراد الله كونه ولهذا قال تعالى : (مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ) قال الثوري عن الأعمش عن رجل عن سعيد بن جبير عن ابن عباس
في قوله تعالى : (ذِي الْمَعارِجِ) قال : ذو الدرجات ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : (ذِي الْمَعارِجِ) يعني العلو والفواضل ، وقال مجاهد : (ذِي الْمَعارِجِ) معارج السماء ، وقال قتادة : ذي الفواضل والنعم. وقوله
تعالى : (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ
وَالرُّوحُ إِلَيْهِ) قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة (تَعْرُجُ) تصعد ، وأما الروح فقال أبو صالح : هم خلق من خلق الله
يشبهون الناس وليسوا ناسا.
قلت ويحتمل أن
يكون المراد به جبريل ويكون من باب عطف الخاص على العام ، ويحتمل أن يكون اسم جنس
لأرواح بني آدم فإنها إذا قبضت يصعد بها إلى السماء كما دل عليه حديث البراء ، وفي
الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة من حديث المنهال عن
زاذان عن البراء مرفوعا الحديث بطوله في قبض الروح الطيبة قال فيه : «فلا يزال
يصعد بها من سماء إلى سماء حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها الله» والله أعلم
بصحته.
فقد تكلم في بعض
رواته ولكنه مشهور ، وله شاهد في حديث أبي هريرة فيما تقدم من رواية الإمام أحمد
والترمذي وابن ماجة من طريق ابن أبي ذئب ، عن محمد بن عمرو بن عطاء عن سعيد بن
يسار عنه ، وهذا إسناد رجاله على شرط الجماعة ، وقد بسطنا لفظه عند قوله تعالى : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا
بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ
الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) [إبراهيم : ٢٧].
وقوله تعالى : (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ
أَلْفَ سَنَةٍ) فيه أربعة أقوال : [أحدها] أن المراد بذلك مسافة ما بين
العرش العظيم إلى أسفل السافلين ، وهو قرار الأرض السابعة وذلك مسيرة خمسين ألف
سنة ، هذا ارتفاع العرش عن المركز الذي في وسط الأرض السابعة ، وكذلك اتساع العرش
من قطر إلى قطر مسيرة خمسين ألف سنة ، وإنه من ياقوتة حمراء كما ذكره ابن
__________________
أبي شيبة في كتاب
صفة العرش.
وقد قال ابن أبي
حاتم عند هذه الآية : حدثنا أحمد بن سلمة حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، أخبرنا حكام عن
عمر بن معروف عن ليث عن مجاهد عن ابن عباس في قوله تعالى : (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ
أَلْفَ سَنَةٍ) قال : منتهى أمره من أسفل الأرضين إلى منتهى أمره من فوق
السموات مقدار خمسين ألف سنة (وَإِنَّ يَوْماً
عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) يعني بذلك حين ينزل الأمر من السماء إلى الأرض ، ومن الأرض
إلى السماء في يوم واحد ، فذلك مقداره ألف سنة لأن ما بين السماء والأرض مقدار
مسيرة خمسمائة عام وقد رواه ابن جرير عن ابن حميد عن حكام بن سالم عن عمرو بن
معروف عن ليث عن مجاهد قوله ، لم يذكر ابن عباس.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبي ، حدثنا علي بن محمد الطنافسي ، حدثنا إسحاق بن منصور ، حدثنا نوح
المؤدب عن عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه عن ابن عباس قال : غلظ كل أرض خمسمائة عام
وبين كل أرض إلى أرض خمسمائة عام ، فذلك سبعة آلاف عام ، وغلظ كل سماء خمسمائة عام
وبين السماء إلى السماء خمسمائة عام ، فذلك أربعة عشر ألف عام ، وبين السماء
السابعة وبين العرش مسيرة ستة وثلاثين ألف عام ، فذلك قوله تعالى : (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ
أَلْفَ سَنَةٍ).
[القول الثاني] أن
المراد بذلك مدة بقاء الدنيا منذ خلق الله هذا العالم إلى قيام الساعة ، قال ابن
أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، أخبرنا إبراهيم بن موسى ، أخبرنا ابن أبي زائدة عن
ابن جريج عن مجاهد في قوله تعالى : (فِي يَوْمٍ كانَ
مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) قال : الدنيا عمرها خمسون ألف سنة ، وذلك عمرها يوم سماها
الله عزوجل يوما (تَعْرُجُ
الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ) قال : اليوم الدنيا ، وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن
ابن أبي نجيح عن مجاهد عن الحكم بن أبان عن عكرمة (فِي يَوْمٍ كانَ
مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) قال : الدنيا من أولها إلى آخرها مقدار خمسين ألف سنة لا
يدري أحدكم مضى ولا كم بقي إلا الله عزوجل.
[القول الثالث]
أنه اليوم الفاصل بين الدنيا والآخرة وهو قول غريب جدا. قال ابن أبي حاتم : حدثنا
أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القطان ، حدثنا بهلول بن المورق ، حدثنا موسى بن
عبيدة ، أخبرني محمد بن كعب (فِي يَوْمٍ كانَ
مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) قال : هو يوم الفصل بين الدنيا والآخرة.
[القول الرابع] أن
المراد بذلك يوم القيامة. قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان الواسطي ، حدثنا
عبد الرّحمن بن مهدي عن إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ
سَنَةٍ) قال : يوم القيامة وإسناده صحيح ورواه الثوري عن سماك بن
حرب عن عكرمة (فِي يَوْمٍ كانَ
مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) يوم القيامة وكذا قال
الضحاك وابن زيد.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى : (تَعْرُجُ
الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ
سَنَةٍ) قال : فهذا هو يوم القيامة جعله الله تعالى على الكافرين
مقدار خمسين ألف سنة.
وقد وردت أحاديث
في معنى ذلك. قال الإمام أحمد : حدثنا الحسن بن موسى ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا دراج عن
أبي الهيثم عن أبي سعيد قال : قيل لرسول اللهصلىاللهعليهوسلم (فِي يَوْمٍ كانَ
مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) ما أطول هذا اليوم ، فقال رسول الله : «والذي نفسي بيده
إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا» ورواه
ابن جرير عن يونس عن ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن دراج به ، إلا أن دراجا وشيخه
أبا الهيثم ضعيفان والله أعلم
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة عن قتادة عن أبي عمر
الغداني قال : كنت عند أبي هريرة فمر رجل من بني عامر بن صعصعة فقيل له هذا أكثر
عامري مالا ، فقال أبو هريرة ، ردوه إلي فردوه فقال : نبئت أنك ذو مال كثير. فقال
العامري : إي والله إن لي لمائة حمرا ومائة أدما حتى عد من ألوان الإبل وأفنان
الرقيق ورباط الخيل ، فقال أبو هريرة : إياك وأخفاف الإبل وأظلاف النعم ، يردد ذلك
عليه حتى جعل لون العامري يتغير فقال : ما ذاك يا أبا هريرة؟ قال : سمعت رسول الله
صلىاللهعليهوسلم يقول : «من كانت له إبل لا يعطي حقها في نجدتها ورسلها»
قلنا : يا رسول الله ما نجدتها ورسلها؟ قال : «في عسرها ويسرها فإنها تأتي يوم
القيامة كأغذّ ما كانت وأكثره وأسمنه وآشره ، ثم يبطح لها بقاع قرقر
فتطؤه بأخفافها فإذا جاوزته أخراها أعيدت عليه أولاها في يوم كان مقداره خمسين ألف
سنة ، حتى يقضى بين الناس فيرى سبيله ، وإذا كانت له بقر لا يعطي حقها في نجدتها
ورسلها ، فإنها تأتي يوم القيامة كأغذ ما كانت وأكثره وأسمنه وآشره ، ثم يبطح لها
بقاع قرقر فتطؤه كل ذات ظلف بظلفها وتنطحه كل ذات قرن بقرنها ، ليس فيها عقصاء ولا
عضباء ، إذا جاوزته أخراها أعيدت عليه أولاها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى
يقضى بين الناس فيرى سبيله ، وإذا كانت له غنم لا يعطي حقها في نجدتها ورسلها
فإنها تأتي يوم القيامة كأغذ ما كانت وأسمنه وآشره حتى يبطح لها بقاع قرقر فتطؤه
كل ذات ظلف بظلفها وتنطحه كل ذات قرن بقرنها ، ليس فيها
__________________
عقصاء ولا عضباء إذا جاوزته أخراها أعيدت عليه أولاها في يوم كان مقداره
خمسين ألف سنة ، حتى يقضى بين الناس فيرى سبيله» فقال العامري : وما حق الإبل يا
أبا هريرة؟ قال : أن تعطى الكريمة وتمنح الغزيرة وتفقر الظهر وتسقي اللبن وتطرق الفحل وقد رواه أبو داود من حديث شعبة والنسائي من حديث سعيد بن أبي عروبة كلاهما
عن قتادة به.
[طريق أخرى لهذا
الحديث] قال الإمام أحمد : حدثنا أبو كامل ، حدثنا حماد عن سهيل بن أبي صالح عن
أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ما من صاحب كنز لا يؤدي حقه إلا جعل صفائح يحمى عليها
في نار جهنم فتكوى بها جبهته وجنبه وظهره ، حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان
مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون ، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار»
وذكر بقية الحديث في الغنم والإبل كما تقدم ، وفيه : «الخيل لثلاثة : لرجل أجر ،
ولرجل ستر ، وعلى رجل وزر» إلى آخره ورواه مسلم في صحيحه بتمامه منفردا به دون
البخاري من حديث سهيل عن أبيه عن أبي هريرة وموضع استقصاء طرقه وألفاظه في كتاب
الزكاة في كتاب الأحكام ، والغرض من إيراده هاهنا قوله : «حتى يحكم الله بين عباده
في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة».
وقد روى ابن جرير عن يعقوب عن ابن علية وعبد الوهاب عن أيوب عن ابن أبي
مليكة قال : سأل رجل ابن عباس عن قوله (فِي يَوْمٍ كانَ
مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) فقال : ما يوم كان مقداره خمسين ألف سنة قال فاتهمه ، فقال
: إنما سألتك لتحدثني ، قال : ما يومان ذكرهما الله ، والله أعلم بهما وأكره أن
أقول في كتاب الله بما لا أعلم.
وقوله تعالى : (فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً) أي اصبر يا محمد على تكذيب قومك لك واستعجالهم العذاب
استبعادا لوقوعه كقوله : (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ
لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ
أَنَّهَا الْحَقُ) [الشورى : ١٨]
ولهذا قال : (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ
بَعِيداً) أي وقوع العذاب. وقيام الساعة يراه الكفرة بعيد الوقوع
بمعنى مستحيل الوقوع (وَنَراهُ قَرِيباً) أي
__________________
المؤمنون يعتقدون
كونه قريبا ، وإن كان له أمد لا يعلمه إلا الله عزوجل ، لكن كل ما هو آت فهو قريب وواقع لا محالة.
(يَوْمَ تَكُونُ
السَّماءُ كَالْمُهْلِ (٨) وَتَكُونُ الْجِبالُ
كَالْعِهْنِ (٩) وَلا يَسْئَلُ
حَمِيمٌ حَمِيماً(١٠) يُبَصَّرُونَهُمْ
يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (١١)
وَصاحِبَتِهِ
وَأَخِيهِ(١٢) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (١٣)
وَمَنْ
فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (١٤)
كَلاَّ
إِنَّها لَظى(١٥) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (١٦)
تَدْعُوا
مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (١٧) وَجَمَعَ فَأَوْعى)
(١٨)
يقول تعالى العذاب
واقع بالكافرين : (يَوْمَ تَكُونُ
السَّماءُ كَالْمُهْلِ) قال ابن عباس ومجاهد وعطاء وسعيد بن جبير وعكرمة والسدي
وغير واحد : أي كدردي الزيت (وَتَكُونُ الْجِبالُ
كَالْعِهْنِ) أي كالصوف المنفوش ، قاله مجاهد وقتادة والسدي ، وهذه
الآية كقوله تعالى : (وَتَكُونُ الْجِبالُ
كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) [القارعة : ٥]
وقوله تعالى : (وَلا يَسْئَلُ
حَمِيمٌ حَمِيماً يُبَصَّرُونَهُمْ) أي لا يسأل القريب قريبه عن حاله وهو يراه في أسوأ الأحوال
فتشغله نفسه عن غيره ، قال العوفي عن ابن عباس : يعرف بعضهم بعضا ويتعارفون بينهم
ثم يفر بعضهم من بعض بعد ذلك يقول الله تعالى : (لِكُلِّ امْرِئٍ
مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) [عبس : ٣٤ ـ ٣٧]
وهذه الآية الكريمة كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ
اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا
مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) [لقمان : ٣٣]
وكقوله تعالى : (وَإِنْ تَدْعُ
مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) [غافر : ١٨]
وكقوله تعالى: (فَإِذا نُفِخَ فِي
الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) [المؤمنون : ١٠١]
وكقوله تعالى : (يَوْمَ يَفِرُّ
الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ
امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) [عبس : ٣٤ ـ ٣٧].
وقوله تعالى : (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي
مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي
تُؤْوِيهِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ كَلَّا) أي لا يقبل منه فداء ولو جاء بأهل الأرض وبأعز ما يجده من
المال ولو بملء الأرض ذهبا ، أو من ولده الذي كان في الدنيا حشاشة كبده يود يوم
القيامة إذا رأى الأهوال أن يفتدي من عذاب الله به ولا يقبل منه.
قال مجاهد والسدي (فَصِيلَتِهِ) قبيلته وعشيرته ، وقال عكرمة : فخذه الذي هو منهم ، وقال
أشهب عن مالك : (فَصِيلَتِهِ) : أمه ، وقوله تعالى : (إِنَّها لَظى) يصف النار وشدة حرها (نَزَّاعَةً لِلشَّوى) قال ابن عباس ومجاهد : جلدة الرأس ، وقال العوفي عن ابن
عباس (نَزَّاعَةً لِلشَّوى) الجلود والهام ، وقال مجاهد : ما دون العظم من اللحم ،
وقال سعيد بن جبير: للعصب والعقب. وقال أبو صالح (نَزَّاعَةً لِلشَّوى) يعني أطراف اليدين والرجلين ، وقال أيضا (نَزَّاعَةً لِلشَّوى) لحم الساقين ، وقال الحسن البصري وثابت البناني (نَزَّاعَةً لِلشَّوى) أي مكارم وجهه ، وقال الحسن أيضا : تحرق كل شيء فيه ويبقى
فؤاده يصيح. وقال قتادة (نَزَّاعَةً لِلشَّوى) أي نزاعة لهامته ومكارم وجهه وخلقه وأطرافه. وقال الضحاك :
تبري اللحم والجلد
عن العظم حتى لا
تترك منه شيئا ، وقال ابن زيد : الشوى الآراب العظام ، فقوله (نَزَّاعَةً) قال: تقطع عظامهم ثم تبدل جلودهم وخلقهم.
وقوله تعالى : (تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى
وَجَمَعَ فَأَوْعى) أي تدعو النار إليها أبناءها الذين خلقهم الله لها ، وقدر
لهم أنهم في الدار الدنيا يعملون عملها ، فتدعوهم يوم القيامة بلسان طلق ذلق ثم تلتقطهم من بين أهل المحشر كما يلتقط الطير الحب ، وذلك
أنهم كما قال الله عزوجل : كانوا ممن أدبر وتولى أي كذب بقلبه وترك العمل بجوارحه (وَجَمَعَ فَأَوْعى) أي جمع المال بعضه على بعض فأوعاه أي أوكاه ومنع حق الله
منه من الواجب عليه في النفقات ومن إخراج الزكاة ، وقد ورد في الحديث «لا توعي
فيوعي الله عليك» وكان عبد الله بن عكيم لا يربط له كيسا ويقول : سمعت الله
يقول : (وَجَمَعَ فَأَوْعى) وقال الحسن البصري : يا ابن آدم سمعت وعيد الله ثم أوعيت
الدنيا. وقال قتادة في قوله : (وَجَمَعَ فَأَوْعى) قال : كان جموعا قموما للخبيث.
(إِنَّ الْإِنْسانَ
خُلِقَ هَلُوعاً (١٩) إِذا مَسَّهُ
الشَّرُّ جَزُوعاً (٢٠) وَإِذا مَسَّهُ
الْخَيْرُ مَنُوعاً(٢١) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ
(٢٢) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ
دائِمُونَ (٢٣) وَالَّذِينَ فِي
أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (٢٤) لِلسَّائِلِ
وَالْمَحْرُومِ (٢٥) وَالَّذِينَ
يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (٢٦) وَالَّذِينَ هُمْ
مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٢٧) إِنَّ عَذابَ
رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (٢٨) وَالَّذِينَ هُمْ
لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ(٢٩) إِلاَّ عَلى
أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٣٠)
فَمَنِ
ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٣١)
وَالَّذِينَ
هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٣٢) وَالَّذِينَ هُمْ
بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ
(٣٣)
وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٣٤)
أُولئِكَ
فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ)(٣٥)
يقول تعالى مخبرا
عن الإنسان وما هو مجبول عليه من الأخلاق الدنيئة (إِنَّ الْإِنْسانَ
خُلِقَ هَلُوعاً) ثم فسره بقوله : (إِذا مَسَّهُ
الشَّرُّ جَزُوعاً) أي إذا مسه الضر فزع وجزع وانخلع قلبه من شدة الرعب ، وأيس
أن يحصل له بعد ذلك خير (وَإِذا مَسَّهُ
الْخَيْرُ مَنُوعاً) أي إذا حصلت له نعمة من الله بخل بها على غيره ، ومنع حق
الله تعالى فيها.
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو عبد الرّحمن ، حدثنا موسى بن علي بن رباح ،
سمعت أبي يحدث عن عبد العزيز بن مروان بن الحكم قال : سمعت أبا هريرة يقول : قال
رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «شر ما في رجل :
شح هالع وجبن خالع» ورواه أبو داود عن عبد الله بن الجراح عن أبي
__________________
عبد الرّحمن
المقري به وليس لعبد العزيز عنده سواه.
ثم قال تعالى : (إِلَّا الْمُصَلِّينَ) أي الإنسان من حيث هو متصف بصفات الذم ، إلا من عصمه الله
ووفقه وهداه إلى الخير ويسر له أسبابه وهم المصلون.
(الَّذِينَ هُمْ عَلى
صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) قيل : معناه يحافظون على أوقاتها وواجباتها ، قاله ابن
مسعود ومسروق وإبراهيم النخعي ، وقيل : المراد بالدوام هاهنا السكون والخشوع كقوله
تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) [المؤمنون : ١ ـ ٢]
قاله عقبة بن عامر : ومنه الماء الدائم وهو الساكن الراكد ، وهذا يدل على وجوب
الطمأنينة في الصلاة فإن الذي لا يطمئن في ركوعه وسجوده ليس بدائم على صلاته ،
لأنه لم يسكن فيها ولم يدم بل ينقرها نقر الغراب فلا يفلح في صلاته.
وقيل : المراد
بذلك الذين إذا عملوا عملا داوموا عليه وأثبتوه كما جاء في الصحيح عن عائشة رضي
الله عنها عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل» وفي لفظ «ما
داوم عليه صاحبه» قالت : وكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم إذا عمل عملا داوم عليه ، وفي لفظ أثبته ، وقال قتادة في قوله تعالى : (الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ
دائِمُونَ) ذكر لنا أن دانيال عليهالسلام نعت أمة محمد صلىاللهعليهوسلم فقال : يصلون صلاة لو صلّاها قوم نوح ما غرقوا ، أو قوم
عاد ما أرسلت عليهم الريح العقيم ، أو ثمود ما أخذتهم الصيحة ، فعليكم بالصلاة
فإنها خلق للمؤمنين حسن.
وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ
مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) أي في أموالهم نصيب مقرر لذوي الحاجات ، وقد تقدم الكلام
على ذلك في سورة الذاريات. وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ
يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) أي يوقنون بالمعاد والحساب والجزاء فهم يعملون عمل من يرجو
الثواب ويخاف العقاب. ولهذا قال تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ
مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) أي خائفون وجلون (إِنَّ عَذابَ
رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ) أي لا يأمنه أحد ممن عقل عن الله أمره إلا بأمان من الله
تبارك وتعالى.
وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ
حافِظُونَ) أي يكفونها عن الحرام ويمنعونها أن توضع في غير ما أذن
الله فيه ولهذا قال تعالى : (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ
أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) أي من الإماء (فَإِنَّهُمْ غَيْرُ
مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) وقد تقدم تفسير هذا في أول سورة (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) [المؤمنون : ١]
بما أغنى عن إعادته هاهنا.
وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ
وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) أي إذا اؤتمنوا لم يخونوا ، وإذا عاهدوا لم يغدروا ، وهذه
صفات المؤمنين وضدها صفات المنافقين كما ورد في الحديث
__________________
الصحيح «آية
المنافق ثلاث : إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان» وفي رواية «إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر» وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ
بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ) أي محافظون عليها لا يزيدون فيها ولا ينقصون منها ولا
يكتمونها (وَمَنْ يَكْتُمْها
فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) [البقرة : ٢٨٣].
ثم قال تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ
يُحافِظُونَ) أي على مواقيتها وأركانها وواجباتها ومستحباتها ، فافتتح
الكلام بذكر الصلاة واختتمه بذكرها فدل على الاعتناء بها والتنويه بشرفها كما تقدم
في أول سورة (قَدْ أَفْلَحَ
الْمُؤْمِنُونَ) [المؤمنون : ١]
سواء ولهذا قال هناك : (أُولئِكَ هُمُ
الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ) [المؤمنون : ١٠ ـ ١١]
وقال هاهنا : (أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ
مُكْرَمُونَ) أي مكرمون بأنواع الملاذ والمسار.
(فَما لِ الَّذِينَ
كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (٣٦) عَنِ الْيَمِينِ
وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (٣٧)
أَيَطْمَعُ
كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ
(٣٨) كَلاَّ
إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (٣٩)
فَلا
أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (٤٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ
خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٤١) فَذَرْهُمْ
يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٤٢)
يَوْمَ
يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (٤٣)
خاشِعَةً
أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ)(٤٤)
يقول تعالى منكرا
على الكفار الذين كانوا في زمن النبي صلىاللهعليهوسلم وهم مشاهدون له ولما أرسله الله به من الهدى وما أيده الله
به من المعجزات الباهرات ، ثم هم مع هذا كله فارون منه متفرقون عنه ، شاردون يمينا
وشمالا فرقا فرقا ، وشيعا شيعا ، كما قال تعالى : (فَما لَهُمْ عَنِ
التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) [المدثر : ٤٩ ـ ٥١]
الآية. وهذه مثلها فإنه قال تعالى : (فَما لِ الَّذِينَ
كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ) أي فما لهؤلاء الكفار الذين عندك يا محمد مهطعين أي مسرعين
نافرين منك ، كما قال الحسن البصري : مهطعين أي منطلقين (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ
عِزِينَ) واحدها عزة أي متفرقين ، وهو حال من مهطعين أي في حال
تفرقهم واختلافهم كما قال الإمام أحمد في أهل الأهواء فهم مخالفون للكتاب مختلفون
في الكتاب متفقون على مخالفة الكتاب.
وقال العوفي عن
ابن عباس (فَما لِ الَّذِينَ
كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ) ، قال قبلك ينظرون (عَنِ الْيَمِينِ
وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ) قال : العزين العصب من الناس عن يمين وشمال معرضين
__________________
يستهزئون به ،
وقال ابن جرير : حدثنا ابن بشار حدثنا أبو عامر ، حدثنا قرة عن الحسن في
قوله : (عَنِ الْيَمِينِ
وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ) أي متفرقين يأخذون يمينا وشمالا يقولون : ما قال هذا الرجل؟
وقال قتادة (مُهْطِعِينَ) عامدين (عَنِ الْيَمِينِ
وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ) أي فرقا حول النبي صلىاللهعليهوسلم لا يرغبون في كتاب الله ولا في نبيه صلىاللهعليهوسلم وقال الثوري وشعبة وعبثر بن القاسم وعيسى بن يونس ومحمد بن
فضيل ووكيع ويحيى القطان وأبو معاوية ، كلهم عن الأعمش ، عن المسيب بن رافع ، عن
تميم بن طرفة ، عن جابر بن سمرة أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم خرج عليهم وهم حلق فقال : «ما لي أراكم عزين؟» رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي وابن جرير من حديث
الأعمش به.
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا مؤمل ، حدثنا سفيان عن عبد
الملك بن عمير ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم خرج على أصحابه وهم حلق فقال : «ما لي أراكم عزين؟» وهذا
إسناده جيد ولم أره في شيء من الكتب الستة من هذا الوجه.
وقوله تعالى : (أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ
يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ كَلَّا) أي : أيطمع هؤلاء والحالة هذه من فرارهم عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ونفارهم عن الحق أن يدخلوا جنات النعيم؟ كلا بل مأواهم
جهنم. ثم قال تعالى مقررا لوقوع المعاد والعذاب بهم الذي أنكروا كونه واستبعدوا
وجوده مستدلا عليهم بالبداءة التي الإعادة أهون منها ، وهم معترفون بها ، فقال
تعالى : (إِنَّا خَلَقْناهُمْ
مِمَّا يَعْلَمُونَ) أي من المني الضعيف ، كما قال تعالى : (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) [المرسلات : ٢٠] وقال : (فَلْيَنْظُرِ
الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ
وَالتَّرائِبِ إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ فَما
لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ) [الطارق : ٥ ـ ١٠]
ثم قال تعالى : (فَلا أُقْسِمُ
بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ) أي الذي خلق السموات والأرض وجعل مشرقا ومغربا وسخر
الكواكب تبدو من مشارقها وتغيب في مغاربها. وتقدير الكلام ليس الأمر كما تزعمون أن
لا معاد ولا حساب ولا بعث ولا نشور ، بل كل ذلك واقع وكائن لا محالة ، ولهذا أتى
بلا في ابتداء القسم ليدل على أن المقسم عليه نفي ، وهو مضمون الكلام وهو الرد على
زعمهم الفاسد في نفي يوم القيامة. وقد شاهدوا من عظيم قدرة الله تعالى ما هو أبلغ
من إقامة القيامة ، وهو خلق السموات والأرض وتسخير ما فيهما من المخلوقات من
الحيوانات والجمادات وسائر صنوف الموجودات ، ولهذا قال تعالى : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ
__________________
أَكْثَرَ
النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [غافر : ٥٧].
وقال تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ
يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وقال تعالى في الآية الأخرى : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ
الْعَلِيمُ إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ
فَيَكُونُ) [غافر : ٥٧] وقال
هاهنا : (فَلا أُقْسِمُ
بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ
خَيْراً مِنْهُمْ) أي يوم القيامة نعيدهم بأبدان خير من هذه فإن قدرته صالحة
لذلك (وَما نَحْنُ
بِمَسْبُوقِينَ) أي بعاجزين كما قال تعالى : (أَيَحْسَبُ
الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ
بَنانَهُ) [القيامة : ٣ ـ ٤]
وقال تعالى : (نَحْنُ قَدَّرْنا
بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ
أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) [الواقعة : ٦٠ ـ ٦١]
واختار ابن جرير (عَلى أَنْ نُبَدِّلَ
خَيْراً مِنْهُمْ) أي : أمة تطيعنا ولا تعصينا وجعلها كقوله : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ
قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) [محمد : ٣٨]
والمعنى الأول أظهر لدلالة الآيات الأخر عليه والله سبحانه وتعالى أعلم.
ثم قال تعالى : (فَذَرْهُمْ) أي يا محمد (يَخُوضُوا
وَيَلْعَبُوا) أي دعهم في تكذيبهم وكفرهم وعنادهم (حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي
يُوعَدُونَ) أي فسيعلمون غب ذلك ويذوقون وباله (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ
سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ) أي : يقومون من القبور إذا دعاهم الرب تبارك وتعالى لموقف
الحساب ينهضون سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون ، قال ابن عباس ومجاهد والضحاك : إلى
علم يسعون ، وقال أبو العالية ويحيى بن أبي كثير إلى غاية يسعون إليها ، وقد قرأ
الجمهور إلى نصب بفتح النون وإسكان الصاد وهو مصدر بمعنى المنصوب.
وقرأ الحسن البصري
نصب بضم النون والصاد وهو الصنم أي كأنهم في إسراعهم إلى الموقف كما كانوا في
الدنيا يهرولون إلى النصب إذا عاينوه ، يوفضون يبتدرون أيهم يستلمه أول. وهذا مروي
عن مجاهد ويحيى بن أبي كثير ومسلم البطين وقتادة والضحاك والربيع بن أنس وأبي صالح
وعاصم بن بهدلة وابن زيد وغيرهم ، وقوله تعالى : (خاشِعَةً
أَبْصارُهُمْ) أي خاضعة (تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) أي في مقابلة ما استكبروا في الدنيا عن الطاعة (ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا
يُوعَدُونَ). أخر تفسير سورة سأل سائل ، ولله الحمد والمنة.
تفسير سورة نوح
وهي مكية
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(إِنَّا أَرْسَلْنا
نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ
عَذابٌ أَلِيمٌ (١) قالَ يا قَوْمِ
إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ
مُبِينٌ
(٢) أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ
وَأَطِيعُونِ (٣) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ
ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ
لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)
(٤)
يقول تعالى مخبرا
عن نوح عليهالسلام أنه أرسله إلى قومه آمرا له أن ينذرهم بأس الله قبل حلوله
بهم ، فإن تابوا وأنابوا رفع عنهم. ولهذا قال تعالى : (أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ
أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي بين النذارة ظاهر الأمر واضحه ، (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ) ، أي اتركوا محارمه واجتنبوا مآثمه (وَأَطِيعُونِ) فيما آمركم به وأنهاكم عنه (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ
ذُنُوبِكُمْ) أي إذا فعلتم ما آمركم به وصدقتم ما أرسلت به إليكم غفر
الله لكم ذنوبكم ، ومن هاهنا قيل إنها زائدة ولكن القول بزيادتها في الإثبات قليل
، ومنه قول بعض العرب : قد كان من مطر ، وقيل إنها بمعنى عن تقديره يصفح لكم عن
ذنوبكم ، واختاره ابن جرير :
وقيل : إنها
للتبعيض ، أي يغفر لكم الذنوب العظيمة التي وعدكم على ارتكابكم إياها الانتقام (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي يمد في أعماركم ويدرأ عنكم العذاب الذي إن لم تجتنبوا
ما نهاكم عنه أوقعه بكم ، وقد يستدل بهذه الآية من يقول إن الطاعة والبر وصلة
الرحم يزاد بها في العمر حقيقة كما ورد به الحديث : «صلة الرحم تزيد في العمر»
وقوله تعالى : (إِنَّ أَجَلَ اللهِ
إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي بادروا بالطاعة قبل حلول النقمة فإنه إذا أمر تعالى
يكون ذلك لا يرد ولا يمانع ، فإنه العظيم الذي قد قهر كل شيء ، العزيز الذي دانت
لعزته جميع المخلوقات.
(قالَ رَبِّ إِنِّي
دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (٥)
فَلَمْ
يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (٦) وَإِنِّي كُلَّما
دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ
وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً(٧) ثُمَّ إِنِّي
دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (٨) ثُمَّ إِنِّي
أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (٩) فَقُلْتُ
اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (١٠) يُرْسِلِ السَّماءَ
عَلَيْكُمْ مِدْراراً (١١) وَيُمْدِدْكُمْ
بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (١٢) ما لَكُمْ لا
تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (١٣)
وَقَدْ
خَلَقَكُمْ أَطْواراً (١٤) أَلَمْ تَرَوْا
كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (١٥) وَجَعَلَ الْقَمَرَ
فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (١٦)
وَاللهُ
أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (١٧)
ثُمَّ
يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً(١٨) وَاللهُ جَعَلَ
لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (١٩)
لِتَسْلُكُوا
مِنْها سُبُلاً فِجاجاً)
(٢٠)
يخبر تعالى عن
عبده ورسوله نوح عليهالسلام أنه اشتكى إلى ربه عزوجل ما لقي من قومه ، وما صبر عليهم في تلك المدة الطويلة التي
هي ألف سنة إلا خمسين عاما ، وما بين لقومه ووضح لهم ودعاهم إلى الرشد والسبيل
الأقوم ، فقال : (رَبِّ إِنِّي
دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً
__________________
وَنَهاراً)
أي لم أترك دعاءهم
في ليل ولا نهار امتثالا لأمرك وابتغاء لطاعتك (فَلَمْ يَزِدْهُمْ
دُعائِي إِلَّا فِراراً) أي كلما دعوتهم ليقتربوا من الحق فروا منه وحادوا عنه (وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ
لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ) أي سدوا آذانهم لئلا يسمعوا ما أدعوهم إليه كما أخبر تعالى
عن كفار قريش : (وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ
تَغْلِبُونَ) [فصلت : ٣٦] (وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ) قال ابن جريج عن ابن عباس : تنكروا له لئلا يعرفهم. وقال
سعيد بن جبير والسدي : غطوا رؤوسهم لئلا يسمعوا ما يقول (وَأَصَرُّوا) أي استمروا على ما هم فيه من الشرك والكفر العظيم الفظيع (وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً) أي واستنكفوا عن اتباع الحق والانقياد له (ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً) أي جهرة بين الناس (ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ
لَهُمْ) أي كلاما ظاهرا بصوت عال (وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ
إِسْراراً) أي فيما بيني وبينهم ، فنوع عليهم الدعوة لتكون أنجع فيهم.
(فَقُلْتُ
اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً) أي ارجعوا إليه وارجعوا عما أنتم فيه وتوبوا إليه من قريب
فإنه من تاب إليه تاب عليه ، ولو كانت ذنوبه مهما كانت في الكفر والشرك ، ولهذا
قال : (فَقُلْتُ
اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ
مِدْراراً) أي متواصلة الأمطار ، ولهذا تستحب قراءة هذه السورة في
صلاة الاستسقاء لأجل هذه الآية ، وهكذا روي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي
الله عنه أنه صعد المنبر ليستسقي فلم يزد على الاستغفار وقراءة الآيات في
الاستغفار ومنها هذه الآية (فَقُلْتُ
اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ
مِدْراراً) ثم قال : لقد طلبت لغيث بمجاديح السماء التي يستنزل بها المطر.
وقال ابن عباس
وغيره : يتبع بعضه بعضا. وقوله تعالى : (وَيُمْدِدْكُمْ
بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً) أي إذا تبتم إلى الله واستغفرتموه وأطعتموه كثر الرزق
عليكم أسقاكم من بركات السماء ، وأنبت لكم من بركات الأرض وأنبت لكم الزرع ، وأدر
لكم الضرع وأمدكم بأموال وبنين أي أعطاكم الأموال والأولاد وجعل لكم جنات فيها
أنواع الثمار وخللها بالأنهار الجارية بينها ، هذا مقام الدعوة بالترغيب ، ثم عدل
بهم إلى دعوتهم بالترهيب فقال : (ما لَكُمْ لا
تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً) أي عظمة ، قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك ، وقال ابن عباس :
لا تعظمون الله حق عظمته أي لا تخافون من بأسه ونقمته (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) قيل معناه من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ، قاله ابن عباس
وعكرمة وقتادة ويحيى بن رافع والسدي وابن زيد.
وقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ
سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) أي واحدة فوق واحدة وهل هذا يتلقى من جهة السمع فقط؟ أو هو
من الأمور المدركة بالحس مما علم من التسيير
__________________
والكسوفات ، فإن
الكواكب السبعة السيارة يكسف بعضها بعضا فأدناها القمر في السماء الدنيا ، وهو
يكسف ما فوقه ، وعطارد في الثانية ، والزهرة في الثالثة ، والشمس في الرابعة ،
والمريخ في الخامسة ، والمشتري في السادسة ، وزحل في السابعة.
وأما بقية الكواكب
وهي الثوابت ففي فلك ثامن يسمونه فلك الثوابت ، والمتشرعون منهم يقولون هو الكرسي
، والفلك التاسع وهو الأطلس والأثير عندهم الذي حركته على خلاف حركة سائر الأفلاك
، وذلك أن حركته مبدأ الحركات وهي من المغرب إلى المشرق ، وسائر الأفلاك عكسه من
المشرق إلى المغرب ومعها يدور سائر الكواكب تبعا ولكن للسيارة حركة معاكسة لحركة
أفلاكها فإنها تسير من المغرب إلى المشرق ، وكل يقطع فلكه بحسبه ، فالقمر يقطع
فلكه في كل شهر مرة ، والشمس في كل سنة مرة ، وزحل في كل ثلاثين سنة مرة ، وذلك
بحسب اتساع أفلاكها وإن كانت حركة الجميع في السرعة متناسبة ، هذا ملخص ما يقولونه
في هذا المقام على اختلاف بينهم في مواضع كثيرة لسنا بصدد بيانها وإنما المقصود أن
الله سبحانه وتعالى خلق سبع سموات طباقا (وَجَعَلَ الْقَمَرَ
فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) أي فاوت بينهما في الاستنارة فجعل كلا منهما أنموذجا على
حدة ليعرف الليل والنهار بمطلع الشمس ومغيبها ، وقدر للقمر منازل وبروجا وفاوت
نوره فتارة يزداد حتى يتناهى ثم يشرع في النقص حتى يستتر ليدل على مضي الشهور
والأعوام ، كما قال تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ
الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ
السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ
الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [يونس : ٥].
وقوله تعالى : (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ
نَباتاً) هذا اسم مصدر والإتيان به هاهنا أحسن (ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها) أي إذا متم (وَيُخْرِجُكُمْ
إِخْراجاً) أي يوم القيامة يعيدكم كما بدأكم أول مرة (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ
بِساطاً) أي بسطها ومهدها وقررها وثبتها بالجبال الراسيات الشم
الشامخات (لِتَسْلُكُوا مِنْها
سُبُلاً فِجاجاً) أي خلقها لكم لتستقروا عليها وتسلكوا فيها أين شئتم من
نواحيها وأرجائها وأقطارها ، وكل هذا مما ينبههم به نوح عليهالسلام على قدرة الله وعظمته في خلق السموات والأرض ونعمه عليهم
فيما جعل لهم من المنافع السماوية والأرضية ، فهو الخالق الرزاق جعل السماء بناء
والأرض مهادا وأوسع على خلقه من رزقه ، فهو الذي يجب أن يعبد ويوحد ولا يشرك به
أحد لأنه لا نظير له ولا عديل ولا ند ولا كفء ، ولا صاحبة ولا ولد ولا وزير ولا
مشير بل هو العلي الكبير.
(قالَ نُوحٌ رَبِّ
إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ
خَساراً (٢١) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (٢٢)
وَقالُوا
لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ
وَيَعُوقَ وَنَسْراً(٢٣) وَقَدْ أَضَلُّوا
كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً)
(٢٤)
يقول تعالى مخبرا
عن نوح عليهالسلام أنه أنهى إليه ، وهو العليم الذي لا يعزب عنه شيء ، أنه مع
البيان المتقدم ذكره والدعوة المتنوعة المشتملة على الترغيب تارة والترهيب أخرى
أنهم عصوه وخالفوه وكذبوه ، واتبعوا أبناء الدنيا ممن غفل عن أمر الله ومتع بمال
وأولاد وهي في نفس الأمر استدراج وإنظار لا إكرام ولهذا قال : (وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ
وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً) قرئ وولده بالضم وبالفتح وكلاهما متقارب.
وقوله تعالى : (وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً) قال مجاهد : (كُبَّاراً) أي عظيما ، وقال ابن زيد : (كُبَّاراً) أي كبيرا والعرب تقول أمر عجيب وعجاب وعجّاب ، ورجل حسان
وحسّان وجمال وجمّال بالتخفيف والتشديد بمعنى واحد ، والمعنى في قوله تعالى : (وَمَكَرُوا مَكْراً
كُبَّاراً) أي بأتباعهم في تسويلهم لهم أنهم على الحق والهدى كما
يقولون لهم يوم القيامة (بَلْ مَكْرُ
اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ
أَنْداداً) [سبأ : ٣٣] ولهذا
قال هاهنا : (وَمَكَرُوا مَكْراً
كُبَّاراً وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً
وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً) وهذه أسماء أصنامهم التي كانوا يعبدونها من دون الله.
قال البخاري :
حدثنا إبراهيم ، حدثنا هشام عن ابن جريج ، وقال عطاء عن ابن عباس : صارت الأوثان
التي كانت في قوم نوح في العرب بعد : أما ود فكانت لكلب بدومة الجندل ، وأما سواع
فكانت لهذيل ، وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ ، وأما يعوق
فكانت لهمدان ، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي كلاع وهي أسماء رجال صالحين من قوم
نوحعليهالسلام ، فلما هلكوا اوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى
مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد حتى إذا
هلك أولئك وتنسّخ العلم عبدت . وكذا روي عن عكرمة والضحاك وقتادة وابن إسحاق نحو هذا ،
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : هذه أصنام كانت تعبد في زمن نوح.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا مهران عن سفيان عن موسى عن محمد
بن قيس (وَلا يَغُوثَ
وَيَعُوقَ وَنَسْراً) قال : كانوا قوما صالحين بين آدم ونوح وكان لهم أتباع
يقتدون بهم ، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم : لو صورناهم كان
أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم ، فصوروهم فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس
فقال : إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر فعبدوهم.
وروى الحافظ ابن عساكر
في ترجمة شيث عليهالسلام من طريق إسحاق بن بشر قال :
__________________
أخبرني جويبر
ومقاتل عن الضحاك عن ابن عباس أنه قال : ولد لآدم عليهالسلام أربعون ولدا ، عشرون غلاما وعشرون جارية ، فكان ممن عاش
منهم هابيل وقابيل وصالح وعبد الرّحمن والذي كان سماه عبد الحارث ، وود وكان ود
يقال له شيث ويقال له هبة الله ، وكان إخوته قد سودوه ، وولد له سواع ويغوث ويعوق
ونسر.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبي ، حدثنا أبو عمر الدوري ، حدثني أبو إسماعيل المؤدب عن عبد الله بن
مسلم بن هرمز عن أبي حزرة عن عروة بن الزبير قال : اشتكى آدم عليهالسلام وعنده بنوه ود ويغوث وسواع ونسر قال وكان ود أكبرهم وأبرهم
به وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن منصور ، حدثنا الحسن بن موسى ، حدثنا يعقوب
عن أبي المطهر قال : ذكروا عند أبي جعفر وهو قائم يصلي يزيد بن المهلب ، قال :
فلما انفتل من صلاته قال : ذكرتم يزيد بن المهلب أما إنه قتل في أول أرض عبد فيها
غير الله ، قال : ثم ذكروا رجلا مسلما وكان محببا في قومه فلما مات اعتكفوا حول
قبره في أرض بابل وجزعوا عليه ، فلما رأى إبليس جزعهم عليه تشبه في صورة إنسان ،
ثم قال إني أرى جزعكم على هذا الرجل فهل لكم أن أصور لكم مثله فيكون في ناديكم
فتذكرونه؟ قالوا نعم ، فصور لهم مثله ، قال : ووضعوه في ناديهم وجعلوا يذكرونه ،
فلما رأى ما بهم من ذكره قال : هل لكم أن أجعل في منزل كل رجل منكم تمثالا مثله
فيكون له في بيته فتذكرونه؟ قالوا : نعم ، قال : فمثل لكل أهل بيت تمثالا مثله ،
فأقبلوا فجعلوا يذكرونه به ، قال : وأدرك أبناؤهم فجعلوا يرون ما يصنعون به ، قال
: وتناسلوا ودرس أمر ذكرهم إياه حتى اتخذوه إلها يعبدونه من دون الله أولاد أولادهم
، فكان أول ما عبد من دون الله : الصنم الذي سموه ودا.
وقوله تعالى : (وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً) يعني الأصنام التي اتخذوها أضلوا بها خلقا كثيرا ، فإنه
استمرت عبادتها في القرون إلى زماننا هذا في العرب والعجم وسائر صنوف بني آدم ،
وقد قال الخليل عليهالسلام في دعائه (وَاجْنُبْنِي
وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ
النَّاسِ) [إبراهيم : ٣٥ ـ ٣٦] وقوله تعالى : (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا
ضَلالاً) دعاء منه على قومه لتمردهم وكفرهم وعنادهم كما دعا موسى
على فرعون وملئه في قوله : (رَبَّنَا اطْمِسْ
عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا
الْعَذابَ الْأَلِيمَ) [يونس : ٨٨] وقد
استجاب الله لكل من النبيين في قومه وأغرق أمته بتكذيبهم لما جاءهم به.
(مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ
أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً
(٢٥) وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى
الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (٢٦)
إِنَّكَ
إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (٢٧)
رَبِّ
اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً)
(٢٨)
يقول تعالى : (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ) وقرئ خطاياهم (أُغْرِقُوا) أي من كثرة ذنوبهم وعتوهم
وإصرارهم على
كفرهم ومخالفتهم رسولهم (أُغْرِقُوا
فَأُدْخِلُوا ناراً) أي نقلوا من تيار البحار إلى حرارة النار (فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ
اللهِ أَنْصاراً) أي لم يكن لهم معين ولا مغيث ولا مجير ينقذهم من عذاب الله
كقوله تعالى : (لا عاصِمَ الْيَوْمَ
مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ) [هود : ٤٣]
(وَقالَ نُوحٌ رَبِّ
لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) أي لا تترك على وجه الأرض منهم أحدا ولا دومريا وهذه من
صيغ تأكيد النفي ، قال الضحاك : (دَيَّاراً) واحدا ، وقال السدي: الديار الذي يسكن الدار ، فاستجاب
الله له فأهلك جميع من على وجه الأرض من الكافرين حتى ولد نوح لصلبه الذي اعتزل عن
أبيه ، وقال : (سَآوِي إِلى جَبَلٍ
يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ
رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) [هود : ٤٣].
وقال ابن أبي حاتم
: قرأ علي يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني شبيب بن سعيد عن أبي
الجوزاء عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لو رحم الله من قوم نوح أحدا لرحم امرأة لما رأت الماء
حملت ولدها ثم صعدت الجبل ، فلما بلغها الماء صعدت به منكبها فلما بلغ الماء
منكبها وضعت ولدها على رأسها ، فلما بلغ الماء رأسها رفعت ولدها بيدها ، فلو رحم
الله منهم أحدا لرحم هذه المرأة» هذا حديث غريب ورجاله ثقات ، ونجى الله أصحاب
السفينة الذين آمنوا مع نوح عليهالسلام وهم الذين أمره الله بحملهم معه.
وقوله تعالى : (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا
عِبادَكَ) أي إنك إن أبقيت منهم أحدا أضلوا عبادك ، أي الذين تخلقهم
بعدهم (وَلا يَلِدُوا إِلَّا
فاجِراً كَفَّاراً) أي فاجرا في الأعمال كافر القلب وذلك لخبرته بهم ومكثه بين
أظهرهم ألف سنة إلا خمسين عاما ، ثم قال : (رَبِّ اغْفِرْ لِي
وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً) قال الضحاك : يعني مسجدي ، ولا مانع من حمل الآية على
ظاهرها وهو أنه دعا لكل من دخل منزله وهو مؤمن.
وقد قال الإمام
أحمد : حدثنا أبو عبد الرّحمن ، حدثنا حيوة أنبأنا سالم بن غيلان أن الوليد بن قيس
التجيبي ، أخبره أنه سمع أبا سعيد الخدري أو عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد أنه سمع
رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «لا تصحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي» ورواه أبو داود والترمذي من حديث عبد الله بن المبارك عن
حيوة بن شريح به ، ثم قال الترمذي : إنما نعرفه من هذا الوجه.
وقوله تعالى : (وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) دعاء لجميع المؤمنين والمؤمنات وذلك يعم الأحياء منهم
والأموات ، ولهذا يستحب مثل هذا الدعاء اقتداء بنوح عليهالسلام وبما جاء في الآثار والأدعية المشهورة المشروعة ، وقوله
تعالى : (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ
إِلَّا تَباراً) قال السدي :
__________________
إلا هلاكا ، وقال
مجاهد : إلا خسارا أي في الدنيا والآخرة. آخر تفسير سورة نوح عليهالسلام ولله الحمد والمنة.
تفسير سورة الجن
وهي مكية
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ
أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً
عَجَباً (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا
بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (٢)
وَأَنَّهُ
تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (٣) وَأَنَّهُ كانَ
يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً (٤)
وَأَنَّا
ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً (٥)
وَأَنَّهُ
كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ
رَهَقاً (٦) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ
أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً)(٧)
يقول تعالى آمرا
رسوله صلىاللهعليهوسلم أن يخبر قومه أن الجن استمعوا القرآن ، فأمنوا به وصدقوه
وانقادوا له ، فقال تعالى : (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ
أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً
عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ) أي إلى السداد والنجاح (فَآمَنَّا بِهِ
وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً) وهذا المقام شبيه بقوله تعالى : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ
الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) [الأحقاف : ٢٩]
وقد قدمنا الأحاديث الواردة في ذلك بما أغنى عن إعادته هاهنا.
وقوله تعالى : (وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى : (جَدُّ رَبِّنا) أي فعله وأمره وقدرته. وقال الضحاك عن ابن عباس : جد الله
آلاؤه وقدرته ونعمته على خلقه ، وروي عن مجاهد وعكرمة : جلال ربنا ، وقال قتادة :
تعالى جلاله وعظمته وأمره ، وقال السدي : تعالى أمر ربنا : وعن أبي الدرداء ومجاهد
أيضا وابن جريج : تعالى ذكره وقال سعيد بن جبير : (تَعالى جَدُّ رَبِّنا) أي تعالى ربنا ، فأما ما رواه ابن أبي حاتم : حدثنا محمد
بن عبد الله بن يزيد المقرئ ، حدثنا سفيان عن عمرو ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، قال
: الجد أب ولو علمت الجن أن في الإنس جدا ما قالوا تعالى جد ربنا ، فهذا إسناد جيد
ولكن لست أفهم ما معنى هذا الكلام ولعله قد سقط شيء والله أعلم.
وقوله تعالى : (مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً) أي تعالى عن اتخاذ الصاحبة والأولاد ، أي قالت الجن : تنزه
الرب جل جلاله حين أسلموا وآمنوا بالقرآن عن اتخاذ الصاحبة والولد ثم قالوا (وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى
اللهِ شَطَطاً) قال مجاهد وعكرمة وقتادة والسدي (سَفِيهُنا) يعنون إبليس (شَطَطاً) قال السدي عن أبي مالك : (شَطَطاً) أي جورا ، وقال ابن زيد : أي ظلما كبيرا ويحتمل أن يكون
المراد بقولهم سفيهنا اسم جنس لكل من زعم أن لله صاحبة أو
ولدا ، ولهذا
قالوا (وَأَنَّهُ كانَ
يَقُولُ سَفِيهُنا) أي قبل إسلامه (عَلَى اللهِ شَطَطاً) أي باطلا وزورا ، ولهذا قالوا (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ
الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً) أي ما حسبنا أن الإنس والجن يتمالؤون على الكذب على الله
تعالى في نسبة الصاحبة والولد إليه ، فلما سمعنا هذا القرآن وآمنا به علمنا أنهم
كانوا يكذبون على الله في ذلك.
وقوله تعالى : (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ
يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً) أي كنا نرى أن لنا فضلا على الإنس لأنهم كانوا يعوذون بنا
إذا نزلوا واديا أو مكانا موحشا من البراري وغيرها ، كما كانت عادة العرب في
جاهليتها يعوذون بعظيم ذلك المكان من الجان أن يصيبهم بشيء يسوؤهم ، كما كان أحدهم
يدخل بلاد أعدائه في جوار رجل كبير وذمامه وخفارته ، فلما رأت الجن أن الإنس
يعوذون بهم من خوفهم منهم زادوهم رهقا أي خوفا وإرهابا وذعرا حتى بقوا أشد منهم
مخافة وأكثر تعوذا بهم ، كما قال قتادة (فَزادُوهُمْ رَهَقاً) أي إثما وازدادت الجن عليهم بذلك جراءة. وقال الثوري : عن
منصور عن إبراهيم : (فَزادُوهُمْ رَهَقاً) : اي ازدادت الجن عليهم جرأة وقال السدي : كان الرجل يخرج
بأهله فيأتي الأرض فينزلها فيقول : أعوذ بسيد هذا الوادي من الجن أن أضر أنا فيه
أو مالي أو ولدي أو ماشيتي ، قال قتادة : فإذا عاذبهم من دون الله رهقتهم الجن
الأذى عند ذلك.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبو سعيد يحيى بن سعيد القطان ، حدثنا وهب بن جرير ، حدثنا أبي ، حدثنا
الزبير بن الخريت عن عكرمة قال : كان الجن يفرقون من الإنس كما يفرق الإنس منهم أو
أشد ، فكان الإنس إذا نزلوا واديا هرب الجن فيقول سيد القوم نعوذ بسيد أهل هذا
الوادي ، فقال الجن نراهم يفرقون منا كما نفرق منهم فدنوا من الإنس فأصابوهم
بالخبل والجنون ، فذلك قول الله عزوجل : (وَأَنَّهُ كانَ
رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً) أي إثما. وقال أبو العالية والربيع وزيد بن أسلم (رَهَقاً) أي خوفا وقال العوفي عن ابن عباس (فَزادُوهُمْ رَهَقاً) أي إثما ، وكذا قال قتادة وقال مجاهد : زاد الكفار طغيانا.
وقال ابن حاتم :
حدثنا أبي ، حدثنا فروة بن أبي المغراء الكندي ، حدثنا القاسم بن مالك ـ يعني
المزني ـ عن عبد الرّحمن بن إسحاق عن أبيه عن كردم بن أبي السائب الأنصاري قال :
خرجت مع أبي من المدينة في حاجة وذلك أول ما ذكر رسول الله صلىاللهعليهوسلم بمكة ، فآوانا المبيت إلى راعي غنم ، فلما انتصف الليل جاء
ذئب فأخذ حملا من الغنم فوثب الراعي فقال : يا عامر الوادي جارك ، فنادى مناد لا
نراه يقول : يا سرحان أرسله. فأتى الحمل يشتد
__________________
حتى دخل في الغنم
لم تصبه كدمة. وأنزل الله تعالى على رسوله بمكة (وَأَنَّهُ كانَ
رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً) ثم قال : وروي عن عبيد بن عمير ومجاهد وأبي العالية والحسن
وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي نحوه وقد يكون هذا الذئب الذي أخذ الحمل ، وهو ولد
الشاة ، كان جنيا حتى يرهب الإنسي ويخاف منه ، ثم رده عليه لما استجار به ليضله
ويهينه ويخرجه عن دينه والله أعلم. وقوله تعالى : (وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا
كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً) أي لن يبعث الله بعد هذه المدة رسولا ، قاله الكلبي وابن
جرير .
(وَأَنَّا لَمَسْنَا
السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (٨)
وَأَنَّا
كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ
شِهاباً رَصَداً (٩) وَأَنَّا لا نَدْرِي
أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً)
(١٠)
يخبر تعالى عن
الجن حين بعث الله رسوله محمدا صلىاللهعليهوسلم وأنزل عليه القرآن ، وكان من حفظه له أن السماء ملئت حرسا
شديدا وحفظت من سائر أرجائها ، وطردت الشياطين عن مقاعدها التي كانت تقعد فيها قبل
ذلك لئلا يسترقوا شيئا من القرآن ، فيلقوه على ألسنة الكهنة فيلتبس الأمر ويختلط
ولا يدري من الصادق ، وهذا من لطف الله تعالى بخلقه ، ورحمته بعباده ، وحفظه
لكتابه العزيز ، ولهذا قال الجن (وَأَنَّا لَمَسْنَا
السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنَّا كُنَّا
نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ
شِهاباً رَصَداً) أي من يروم أن يسترق السمع يجد له شهابا مرصدا له لا
يتخطاه ولا يتعداه بل يمحقه اليوم ويهلكه.
(وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ
أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً) أي ما ندري هذا الأمر الذي قد حدث في السماء ، لا ندري أشر
أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا ، وهذا من أدبهم في العبارة حيث أسندوا
الشر إلى غير فاعل والخير أضافوه إلى الله عزوجل.
وقد ورد في الصحيح
«والشر ليس إليك» وقد كانت الكواكب يرمى بها قبل ذلك ، ولكن ليس بكثير بل في
الأحيان بعد الأحيان ، كما في حديث ابن عباس : بينما نحن جلوس مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم إذا رمي بنجم فاستنار فقال : «ما كنتم تقولون في هذا؟»
فقلنا : كنا نقول يولد عظيم ، يموت عظيم فقال : «ليس كذلك ، ولكن الله إذا قضى
الأمر في السماء» وذكر تمام الحديث وقد أوردناه في سورة سبأ بتمامه ، وهذا
هو السبب الذي حملهم على تطلب السبب في ذلك فأخذوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها ،
فوجدوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقرأ بأصحابه في الصلاة ، فعرفوا أن هذا هو الذي حفظت من
أجله السماء ، فآمن من آمن منهم وتمرد في طغيانه من بقي كما تقدم حديث ابن عباس في
ذلك عند قوله في سورة الأحقاف : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ
__________________
نَفَراً
مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) [الأحقاف : ٢٩]
الآية.
ولا شك أنه لما
حدث هذا الأمر ، وهو كثرة الشهب في السماء والرمي بها ، هال ذلك الإنس والجن
وانزعجوا له وارتاعوا لذلك ، وظنوا أن ذلك لخراب العالم ، كما قال السدي : لم تكن
السماء تحرس إلا أن يكون في الأرض نبي أو دين لله ظاهر ، فكانت الشياطين قبل محمدصلىاللهعليهوسلم قد اتخذت المقاعد في السماء الدنيا ، يستمعون ما يحدث في
السماء من أمر ، فلما بعث الله محمدا صلىاللهعليهوسلم نبيا رسولا رجموا ليلة من الليالي ففزع لذلك أهل الطائف
فقالوا : هلك أهل السماء لما رأوا من شدة النار في السماء واختلاف الشهب ، فجعلوا
يعتقون أرقاءهم ويسيبون مواشيهم ، فقال لهم عبد يا ليل بن عمرو بن عمير : ويحكم يا
معشر أهل الطائف أمسكوا عن أموالكم وانظروا إلى معالم النجوم ، فإن رأيتموها
مستقرة في أمكنتها فلم يهلك أهل السماء ، إنما هذا من أجل ابن أبي كبشة يعني محمدا
صلىاللهعليهوسلم ، وإن نظرتم فلم تروها فقد هلك أهل السماء.
فنظروا فرأوها
فكفوا عن أقوالهم وفزعت الشياطين في تلك الليلة ، فأتوا إبليس فحدثوه بالذي كان من
أمرهم فقال : ائتوني من كل أرض بقبضة من تراب أشمها ، فأتوه فشم فقال : صاحبكم
بمكة ، فبعث سبعة نفر من جن نصيبين فقدموا مكة فوجدوا نبي الله صلىاللهعليهوسلم قائما يصلي في المسجد الحرام يقرأ القرآن ، فدنوا منه حرصا
على القرآن حتى كادت كلاكلهم تصيبه ، ثم أسلموا فأنزل الله تعالى أمرهم على رسوله صلىاللهعليهوسلم ، وقد ذكرنا هذا الفصل مستقصى في أول البعث من (كتاب
السيرة) المطول ، والله أعلم ، ولله الحمد والمنة.
(وَأَنَّا مِنَّا
الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (١١) وَأَنَّا ظَنَنَّا
أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (١٢)
وَأَنَّا
لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ
بَخْساً وَلا رَهَقاً (١٣) وَأَنَّا مِنَّا
الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا
رَشَداً (١٤) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا
لِجَهَنَّمَ حَطَباً (١٥) وَأَنْ لَوِ
اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (١٦)
لِنَفْتِنَهُمْ
فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً)
(١٧)
يقول تعالى مخبرا
عن الجن أنهم قالوا مخبرين عن أنفسهم (وَأَنَّا مِنَّا
الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ) أي غير ذلك (كُنَّا طَرائِقَ
قِدَداً) أي طرائق متعددة مختلفة وآراء متفرقة ، قال ابن عباس
ومجاهد وغير واحد (كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً) أي منا المؤمن ومنا الكافر. وقال أحمد بن سليمان النجاد في
أماليه : حدثنا أسلم بن سهل بحشل ، حدثنا علي بن الحسن بن سليمان وهو أبو الشعثاء
الحضرمي شيخ مسلم ، حدثنا أبو معاوية قال : سمعت الأعمش يقول تروح إلينا جني فقلت
له : ما أحب الطعام إليكم؟ فقال الأرز ، قال : فأتيناهم به فجعلت أرى اللقم ترفع
ولا أرى أحدا ، فقلت فيكم من هذه الأهواء التي فينا؟ قال : نعم فقلت فما الرافضة
فيكم؟
__________________
قال : شرنا. عرضت
هذا الإسناد على شيخنا الحافظ أبي الحجاج المزّي فقال هذا إسناد صحيح إلى الأعمش ،
وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة العباس بن أحمد الدمشقي قال : سمعت بعض الجن وأنا
في منزل لي بالليل ينشد : [الطويل]
قلوب براها الحب
حتى تعلقت
|
|
مذاهبها في كل
غرب وشارق
|
تهيم بحبّ الله
والله ربها
|
|
معلّقة بالله
دون الخلائق
|
وقوله تعالى : (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ
اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً) أي نعلم أن قدرة الله حاكمة علينا وأنا لا نعجزه في الأرض
، ولو أمعنا في الهرب فإنه علينا قادر لا يعجزه أحد منا (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى
آمَنَّا بِهِ) يفتخرون بذلك وهو مفخر لهم وشرف رفيع وصفة حسنة ، وقولهم (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ
بَخْساً وَلا رَهَقاً) قال ابن عباس وقتادة وغيرهما : فلا يخاف أن ينقص من حسناته
أو يحمل عليه غير سيئاته كما قال تعالى : (فَلا يَخافُ ظُلْماً
وَلا هَضْماً) [طه : ١١٢] (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ
وَمِنَّا الْقاسِطُونَ) أي منا المسلم ومنا القاسط ، وهو الجائر عن الحق الناكب
عنه ، بخلاف المقسط فإنه العادل (فَمَنْ أَسْلَمَ
فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً) أي طلبوا لأنفسهم النجاة (وَأَمَّا
الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) أي وقودا تسعر بهم.
وقوله تعالى : (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى
الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) اختلف المفسرون في معنى هذا على قولين : [أحدهما] وأن لو
استقام القاسطون على طريقة الإسلام وعدلوا إليها واستمروا عليها (لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً) أي كثيرا ، والمراد بذلك سعة الرزق ، كقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ
وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ
فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) [المائدة : ٦٦]
وكقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ
الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ
وَالْأَرْضِ) [الأعراف : ٩٦]
وعلى هذا يكون معنى قوله : (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) أي لنختبرهم ، كما قال مالك عن زيد بن أسلم : (لِنَفْتِنَهُمْ) لنبتليهم من يستمر على الهداية ممن يرتد إلى الغواية.
[ذكر من قال بهذا
القول] قال العوفي عن ابن عباس : (وَأَنْ لَوِ
اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ) يعني بالاستقامة الطاعة ، وقال مجاهد (وَأَنْ لَوِ
اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ) قال : الإسلام وكذا قال سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب وعطاء
والسدي ومحمد بن كعب القرظي ، وقال قتادة (وَأَنْ لَوِ
اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ) يقول : لو آمنوا كلهم لأوسعنا عليهم من الدنيا وقال مجاهد
: (وَأَنْ لَوِ
اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ) أي : طريقة الحق ، وكذا قال الضحاك واستشهد على ذلك
بالآيتين اللتين ذكرناهما ، وكل هؤلاء أو أكثرهم قالوا في قوله : (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) أي لنبتليهم به. وقال مقاتل : نزلت في كفار قريش حين منعوا
المطر سبع سنين.
__________________
[والقول الثاني] (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى
الطَّرِيقَةِ) الضلال (لَأَسْقَيْناهُمْ
ماءً غَدَقاً) أي لأوسعنا عليهم الرزق استدراجا ، كما قال تعالى : (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ
فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا
أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) [الأنعام : ٤٤]
وكقوله : (أَيَحْسَبُونَ
أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ
بَلْ لا يَشْعُرُونَ) [المؤمنون : ٥٥ ـ ٥٦] وهذا قول أبي مجلز لاحق بن حميد ،
فإنه قال في قوله تعالى : (وَأَنْ لَوِ
اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ) أي طريقة الضلالة ، رواه ابن جرير وابن أبي حاتم ، وحكاه
البغوي عن الربيع بن أنس وزيد بن أسلم والكلبي وابن كيسان وله اتجاه ، ويتأيد
بقوله لنفتنهم فيه. وقوله : (وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ
ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً) أي عذابا مشقا شديدا موجعا مؤلما ، قال ابن عباس ومجاهد
وعكرمة وقتادة وابن زيد : (عَذاباً صَعَداً) أي مشقة لا راحة معها ، وعن ابن عباس : جبل في جهنم ، وعن
سعيد بن جبير : بئر فيها.
(وَأَنَّ الْمَساجِدَ
لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً (١٨) وَأَنَّهُ لَمَّا
قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (١٩) قُلْ إِنَّما
أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (٢٠)
قُلْ
إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (٢١) قُلْ إِنِّي لَنْ
يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٢)
إِلاَّ
بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ
نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (٢٣) حَتَّى إِذا رَأَوْا
ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً)
(٢٤)
يقول تعالى آمرا
عباده أن يوحدوه في محال عبادته ولا يدعى معه أحد ولا يشرك به ، كما قال قتادة في
قوله تعالى : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ
لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) قال : كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم
أشركوا بالله ، فأمر الله نبيه صلىاللهعليهوسلم أن يوحدوه وحده . وقال ابن أبي حاتم : ذكر علي بن الحسين ، حدثنا إسماعيل
ابن بنت السدي ، أخبرنا رجل سماه عن السدي ، عن أبي مالك أو أبي صالح ، عن ابن
عباس في قوله : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ
لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) قال : لم يكن يوم نزلت هذه الآية في الأرض مسجد إلا المسجد
الحرام ومسجد إيليا بيت المقدس. وقال الأعمش : قالت الجن : يا رسول الله ائذن لنا
فنشهد معك الصلوات في مسجدك ، فأنزل الله تعالى : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ
لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) يقول : صلوا لا تخالطوا الناس.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد حدثنا مهران ، حدثنا سفيان عن إسماعيل بن
أبي خالد عن محمود عن سعيد بن جبير (وَأَنَّ الْمَساجِدَ
لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) قال : قالت الجن لنبي الله صلىاللهعليهوسلم كيف لنا أن نأتي المسجد ونحن ناؤون؟ أي بعيدون عنك ، وكيف
نشهد الصلاة ونحن ناؤون عنك؟ فنزلت (وَأَنَّ الْمَساجِدَ
لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً).
__________________
وقال سفيان عن
خصيف عن عكرمة : نزلت في المساجد كلها ، وقال سعيد بن جبير : نزلت في أعضاء السجود
، أي هي لله فلا تسجدوا بها لغيره. وذكروا عند هذا القول الحديث الصحيح من رواية
عبد الله بن طاوس عن أبيه ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أمرت أن أسجد على سبعة أعظم : على الجبهة ـ أشار بيده
إلى أنفه ـ واليدين والركبتين وأطراف القدمين» ، وقوله تعالى : (وَأَنَّهُ لَمَّا
قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) قال العوفي عن ابن عباس يقول لما سمعوا النبي صلىاللهعليهوسلم يتلو القرآن كادوا يركبونه من الحرص لما سمعوه يتلو القرآن
ودنوا منه ، فلم يعلم بهم حتى أتاه الرسول فجعل يقرئه (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ
نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ) يستمعون القرآن هذا قول ، وهو مروي عن الزبير بن العوام
رضي الله عنه.
وقال ابن جرير : حدثني محمد بن معمر ، حدثنا أبو مسلم عن أبي عوانة عن
أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : قال الجن لقومهم : (لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ
كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) قال : لما رأوه يصلي وأصحابه يركعون بركوعه ويسجدون بسجوده
، قال : عجبوا من طواعية أصحابه له قال : فقالوا لقومهم (لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كادُوا
يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) وهذا قول ثان وهو مروي عن سعيد بن جبير أيضا ، وقال الحسن
: لما قام رسول اللهصلىاللهعليهوسلم يقول لا إله إلا الله ويدعو الناس إلى ربهم كادت العرب
تلبد عليه جميعا.
وقال قتادة في
قوله : (وَأَنَّهُ لَمَّا
قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) قال : تلبدت الإنس والجن على هذا الأمر ليطفئوه ، فأبى
الله إلا أن ينصره ويمضيه ويظهره على من ناوأه ، وهذا قول ثالث وهو مروي عن ابن
عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقول ابن زيد ، وهو اختيار ابن جرير وهو الأظهر لقوله بعده
: (قُلْ إِنَّما
أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً) أي قال لهم الرسول لما آذوه وخالفوه وكذبوه وتظاهروا عليه
ليبطلوا ما جاء به من الحق واجتمعوا على عداوته (إِنَّما أَدْعُوا
رَبِّي) أي إنما أعبد ربي وحده لا شريك له وأستجير به وأتوكل عليه (وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً).
وقوله تعالى : (قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا
وَلا رَشَداً) أي إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي وعبد من عباد الله ليس إلي
من الأمر شيء في هدايتكم ولا غوايتكم ، بل المرجع في ذلك كله إلى الله عزوجل ، ثم أخبر عن نفسه أيضا أنه لا يجيره من الله أحد أي لو
عصيته فإنه لا يقدر أحد على إنقاذي من عذابه (وَلَنْ أَجِدَ مِنْ
دُونِهِ مُلْتَحَداً) قال مجاهد وقتادة والسدي : لا ملجأ. وقال قتادة أيضا (قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ
أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) أي
__________________
لا نصير ولا ملجأ
وفي رواية : لا ولي ولا موئل.
وقوله تعالى : (إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ) قال بعضهم هو مستثنى من قوله : (قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا
وَلا رَشَداً إِلَّا بَلاغاً) ويحتمل أن يكون استثناء من قوله : (لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ) أي لا يجيرني منه ويخلصني إلا إبلاغي الرسالة التي أوجب
أداءها علي ، كما قال تعالى : (يا أَيُّهَا
الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما
بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة : ٦٧]
وقوله تعالى : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ
وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) أي إنما أبلغكم رسالة الله فمن يعص بعد ذلك فله جزاء على
ذلك نار جهنم ، خالدين فيها أبدا أي لا محيد لهم عنها ولا خروج لهم منها. وقوله
تعالى : (حَتَّى إِذا رَأَوْا
ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً) أي حتى إذا رأى هؤلاء المشركون من الجن والإنس ما يوعدون
يوم القيامة ، فسيعلمون يومئذ من أضعف ناصرا وأقل عددا ، هم أم المؤمنون الموحدون
لله تعالى ، أي بل المشركون لا ناصر لهم بالكلية وهم أقل عددا من جنود اللهعزوجل.
(قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ
ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (٢٥) عالِمُ الْغَيْبِ
فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (٢٦) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى
مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً(٢٧)
لِيَعْلَمَ
أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ
شَيْءٍ عَدَداً)(٢٨)
يقول تعالى آمرا
رسوله صلىاللهعليهوسلم أن يقول للناس إنه لا علم له بوقت الساعة ولا يدري أقريب
وقتها أم بعيد (قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ
ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً) أي مدة طويلة ، وفي هذه الآية الكريمة دليل على أن الحديث
الذي يتداوله كثير من الجهلة من أنه عليه الصلاة والسّلام لا يؤلف تحت الأرض كذب
لا أصل له ، ولم نره في شيء من الكتب.
وقد كان صلىاللهعليهوسلم يسأل عن وقت الساعة فلا يجيب عنها ، ولما تبدى له جبريل في
صورة أعرابي كان فيما سأله أن قال : يا محمد فأخبرني عن الساعة؟ قال : «ما المسؤول
عنها بأعلم من السائل» ولما ناداه ذلك الأعرابي بصوت جهوري فقال : يا محمد متى
الساعة؟ قال : «ويحك إنها كائنة فما أعددت لها؟» قال : أما إني لم أعد لها كثير
صلاة ولا صيام ولكني أحب الله ورسوله قال : «فأنت مع من أحببت» قال أنس : فما فرح
المسلمون بشيء فرحهم بهذا الحديث.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن مصفّى ، حدثنا محمد بن حمير ، حدثني أبو بكر بن أبي
مريم عن عطاء بن أبي رباح عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «يا بني آدم إن كنتم تعقلون فعدوا أنفسكم من الموتى
، والذي نفسي بيده إنما توعدون لآت».
__________________
وقد قال أبو داود في آخر كتاب الملاحم : حدثنا موسى بن سهل ، حدثنا حجاج بن
إبراهيم ، حدثنا ابن وهب ، حدثني معاوية بن صالح عن عبد الرّحمن بن جبير عن أبيه
عن أبي ثعلبة الخشني قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لن يعجز الله هذه الأمة من نصف يوم» انفرد به أبو داود
ثم قال أبو داود : حدثنا عمرو بن عثمان ، حدثنا أبو المغيرة ، حدثني صفوان عن شريح
بن عبيد عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «إني لأرجو أن لا تعجز أمتي عند ربها أن يؤخرهم
نصف يوم» قيل لسعد : وكم نصف يوم؟ قال : خمسمائة عام. انفرد به أبو داود.
وقوله تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى
غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) هذه كقوله تعالى : (وَلا يُحِيطُونَ
بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ) [البقرة : ٢٢٥]
وهكذا قال هاهنا إنه يعلم الغيب والشهادة وأنه لا يطلع أحد من خلقه على شيء من
علمه إلا مما أطلعه تعالى عليه ، ولهذا قال : (عالِمُ الْغَيْبِ
فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) وهذا يعم الرسول الملكي والبشري.
ثم قال تعالى : (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ
يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) أي يخصه بمزيد معقبات من الملائكة يحفظونه من أمر الله
ويساوقونه على ما معه من وحي الله ، ولهذا قال : (لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ
أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ
عَدَداً) وقد اختلف المفسرون في الضمير الذي في قوله : (لِيَعْلَمَ) إلى من يعود؟ فقيل إنه عائد على النبي صلىاللهعليهوسلم.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد حدثنا يعقوب القمي عن جعفر عن سعيد بن
جبير في قوله : (عالِمُ الْغَيْبِ
فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ
يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) قال : أربعة حفظة من الملائكة مع جبريل (لِيَعْلَمَ) محمدصلىاللهعليهوسلم (أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا
رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) ورواه ابن أبي حاتم من حديث يعقوب القمي به. وهكذا رواه
الضحاك والسدي ويزيد بن أبي حبيب.
وقال عبد الرزاق
عن معمر عن قتادة (لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ
أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ) قال : ليعلم نبي الله أن الرسل قد بلّغت عن الله وأن
الملائكة حفظتها ودفعت عنها ، وكذا رواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة واختاره ابن
جرير ، وقيل غير ذلك كما رواه العوفي عن ابن عباس في قوله : (إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ
فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) قال : هي معقبات من الملائكة يحفظون النبي صلىاللهعليهوسلم من الشيطان حتى يتبين الذي أرسل به إليهم ، وذلك حين يقول
ليعلم أهل الشرك أن قد أبلغوا رسالات ربهم. وكذا قال ابن أبي نجيح عن مجاهد (لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا
رِسالاتِ رَبِّهِمْ) قال : ليعلم من كذب الرسل أن قد أبلغوا رسالات ربهم ، وفي هذا
__________________
نظر. وقال البغوي
: قرأ يعقوب ليعلم بالضم أي ليعلم الناس أن الرسل قد أبلغوا. ويحتمل أن يكون
الضمير عائدا إلى الله عزوجل ، وهو قول حكاه ابن الجوزي في زاد المسير ، ويكون المعنى
في ذلك أنه يحفظ رسله بملائكته ليتمكنوا من أداء رسالاته ويحفظ ما ينزله إليهم من
الوحي ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم ، ويكون ذلك كقوله تعالى : (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي
كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ
عَلى عَقِبَيْهِ) [البقرة : ١٤٣]
وكقوله تعالى : (وَلَيَعْلَمَنَّ
اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ) [العنكبوت : ١١]
إلى أمثال ذلك مع العلم بأنه تعالى يعلم الأشياء قبل كونها قطعا لا محالة ، ولهذا
قال بعد هذا (وَأَحاطَ بِما
لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً). آخر تفسير سورة الجن ، ولله الحمد والمنة.
تفسير سورة المزمل
وهي مكية
قال الحافظ أبو
بكر بن عمرو بن عبد الخالق البزار : حدثنا محمد بن موسى القطان الواسطي ، حدثنا
معلى بن عبد الرّحمن ، حدثنا شريك عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر قال :
اجتمعت قريش في دار الندوة فقالوا : سموا هذا الرجل اسما يصد الناس عنه ، فقالوا :
كاهن. قالوا : ليس بكاهن. قالوا : مجنون. قالوا : ليس بمجنون. قالوا : ساحر. قالوا
: ليس بساحر ، فتفرق المشركون على ذلك فبلغ ذلك النبي صلىاللهعليهوسلم فتزمل في ثيابه وتدثر فيها. فأتاه جبريل عليهالسلام فقال: (يا أَيُّهَا
الْمُزَّمِّلُ يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) [المدثر : ١] ثم
قال البزار : معلى بن عبد الرّحمن قد حدث عنه جماعة من أهل العلم واحتملوا حديثه
لكنه تفرد بأحاديث لا يتابع عليها.
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(يا أَيُّهَا
الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ
إِلاَّ قَلِيلاً (٢) نِصْفَهُ أَوِ
انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (٣)
أَوْ
زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (٤)
إِنَّا
سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (٥)
إِنَّ
ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (٦) إِنَّ لَكَ فِي
النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (٧)
وَاذْكُرِ
اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (٨)
رَبُّ
الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً)(٩)
يأمر تعالى رسوله صلىاللهعليهوسلم أن يترك التزمل وهو التغطي في الليل وينهض إلى القيام لربه
عزوجل كما قال تعالى : (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ
عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ
يُنْفِقُونَ) [السجدة : ١٦]
وكذلك كان صلىاللهعليهوسلم ممتثلا ما أمره الله تعالى به من قيام الليل ، وقد كان
واجبا
عليه وحده كما قال
تعالى : (وَمِنَ اللَّيْلِ
فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) [الإسراء : ٧٩]
وهاهنا بيّن له مقدار ما يقوم فقال تعالى : (يا أَيُّهَا
الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً) قال ابن عباس والضحاك والسدي (يا أَيُّهَا
الْمُزَّمِّلُ) يعني يا أيها النائم. وقال قتادة : المزمل في ثيابه. وقال
إبراهيم النخعي : نزلت وهو متزمل بقطيفة ، وقال شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) قال : يا محمد زملت القرآن وقوله تعالى : (نِصْفَهُ) بدل من الليل (أَوِ انْقُصْ مِنْهُ
قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) أي أمرناك أن تقوم نصف الليل بزيادة قليلة أو نقصان قليل
لا حرج عليك في ذلك.
وقوله تعالى : (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) أي اقرأه على تمهل فإنه يكون عونا على فهم القرآن وتدبره.
وكذلك كان يقرأ صلوات الله وسلامه عليه ، قالت عائشة رضي الله عنها : كان يقرأ
السورة فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منها. وفي صحيح البخاري عن أنس أنه سئل عن قراءة رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : كانت مدا ثم قرأ (بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) يمد بسم الله ويمد الرّحمن ويمد الرّحيم.
وقال ابن جريج عن
ابن أبي مليكة عن أم سلمة رضي الله عنها أنها سئلت عن قراءة رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقالت : كان يقطع قراءته آية آية (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مالِكِ يَوْمِ
الدِّينِ) [الفاتحة : ١ ـ ٤]
رواه أحمد وأبو داود والترمذي.
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرّحمن عن سفيان عن عاصم عن زر عن عبد الله
بن عمرو عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : يقال لقارئ القرآن : اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في
الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها» ورواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث سفيان الثوري به
، وقال الترمذي : حسن صحيح.
وقد قدمنا في أول
التفسير الأحاديث الدالة على استحباب الترتيل وتحسين الصوت بالقراءة كما جاء في
الحديث زينوا القرآن بأصواتكم و «ليس منا من لم
يتغن بالقرآن» و «لقد أوتي
__________________
هذا مزمارا من
مزامير آل داود» يعني أبا موسى ، فقال أبو موسى : لو كنت أعلم أنك كنت تسمع
قراءتي لحبرته لك تحبيرا : وعن ابن مسعود أنه قال : لا تنثروه نثر الرمل ولا تهذوه
هذّ الشعر ، قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب ولا يكن هم أحدكم آخر السورة ،
رواه البغوي.
وقال البخاري :
حدثنا آدم ، حدثنا شعبة حدثنا عمرو بن مرة : سمعت أبا وائل قال : جاء رجل إلى ابن
مسعود فقال : قرأت المفصل الليلة في ركعة. فقال هذا كهذ الشعر لقد عرفت النظائر
التي كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقرن بينهن ، فذكر عشرين سورة من المفصل سورتين في ركعة .
وقوله تعالى : (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً
ثَقِيلاً) قال الحسن وقتادة : أي العمل به وقيل: ثقيل وقت نزوله من
عظمته ، كما قال زيد بن ثابت رضي الله عنه : أنزل على رسول اللهصلىاللهعليهوسلم وفخذه على فخذي فكادت ترض فخذي .
وقال الإمام أحمد : حدثنا قتيبة ، حدثنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن
عمرو بن الوليد عن عبد الله بن عمرو قال : سألت النبي صلىاللهعليهوسلم فقلت : يا رسول الله هل تحس بالوحي؟ فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أسمع صلاصل ثم أسكت عند ذلك فما من مرة يوحى إلي إلا
ظننت أن نفسي تقبض» تفرد به أحمد.
وفي أول صحيح
البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها : أن
الحارث بن هشام سأل رسول الله صلىاللهعليهوسلم : كيف يأتيك الوحي؟ فقال : «أحيانا يأتي في مثل صلصلة
الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال ، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا
فيكلمني فأعي ما يقول» قالت عائشة : ولقد رأيته ينزل عليه الوحيصلىاللهعليهوسلم في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا ، هذا لفظه.
وقال الإمام أحمد : حدثنا سليمان بن داود ، أخبرنا عبد الرّحمن عن هشام بن
عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت : إن كان ليوحى إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو على راحلته فتضرب بجرانها ، وقال ابن جرير : حدثنا ابن عبد الأعلى ، حدثنا ابن ثور عن معمر عن
__________________
هشام بن عروة عن
أبيه أن النبي صلىاللهعليهوسلم كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته وضعت جرانها ، فما تستطيع
أن تحرك حتى يسرى عنه وهذا مرسل ، الجران هو باطن العنق ، واختار ابن جرير أنه
ثقيل من الوجهين معا ، كما قال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم ، كما ثقل في الدنيا
ثقل يوم القيامة في الموازين.
وقوله تعالى : (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ
وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً) قال أبو إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : نشأ ، قام
بالحبشة ، وقال عمر وابن عباس وابن الزبير : الليل كله ناشئة ، وكذا قال مجاهد
وغير واحد ، يقال نشأ إذا قام من الليل وفي رواية عن مجاهد : بعد العشاء ، وكذا
قال أبو مجلز وقتادة وسالم وأبو حازم ومحمد بن المنكدر : والغرض أن ناشئة الليل هي
ساعاته وأوقاته وكل ساعة منه تسمى ناشئة وهي الآنات ، والمقصود أن قيام الليل هو
أشد مواطأة بين القلب واللسان وأجمع على التلاوة ، ولهذا قال تعالى : (هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً) أي أجمع للخاطر في أداء القراءة وتفهمها من قيام النهار ،
لأنه وقت انتشار الناس ولغط الأصوات وأوقات المعاش ، وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي
: حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري ، حدثنا أبو أسامة ، حدثنا الأعمش أن أنس بن مالك
قرأ هذه الآية إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأصوب قيلا فقال له رجل : إنما نقرؤها (وَأَقْوَمُ قِيلاً) ، فقال له : إن أصوب وأقوم وأهيأ وأشباه هذا واحد.
ولهذا قال تعالى :
(إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ
سَبْحاً طَوِيلاً) قال ابن عباس وعكرمة وعطاء بن أبي مسلم : الفراغ والنوم ،
وقال أبو العالية ومجاهد وأبو مالك والضحاك والحسن وقتادة والربيع بن أنس وسفيان
الثوري : فراغا طويلا. وقال قتادة : فراغا وبغية ومنقلبا. وقال السدي (سَبْحاً طَوِيلاً) تطوعا كثيرا. وقال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم في قوله
تعالى : (سَبْحاً طَوِيلاً) قال: لحوائجك فأفرغ لدينك الليل ، قال وهذا حين كانت صلاة
الليل فريضة ثم إن الله تبارك وتعالى منّ على عباده فخففها ووضعها وقرأ (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً) إلى آخر الآية ثم قرأ (إِنَّ رَبَّكَ
يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ) ـ حتى بلغ ـ (فَاقْرَؤُا ما
تَيَسَّرَ مِنْهُ) الليل نصفه أو ثلثه ثم جاء أمر أوسع وأفسح وضع الفريضة عنه
وعن أمته فقال وقال تعالى : (وَمِنَ اللَّيْلِ
فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) [الإسراء : ٧٩]
وهذا الذي قاله كما قاله.
والدليل عليه ما
رواه الإمام أحمد في مسنده حيث قال : حدثنا يحيى ، حدثنا سعيد بن أبي عروبة
عن قتادة عن زرارة بن أوفى ، عن سعيد بن هشام أنه طلق امرأته ثم ارتحل إلى المدينة
ليبيع عقارا له بها ، ويجعله في الكراع والسلاح ثم يجاهد الروم حتى يموت ، فلقي
رهطا من قومه فحدثوه أن رهطا من قومه ستة أرادوا ذلك على عهد رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : «أليس
__________________
لكم فيّ أسوة حسنة؟»
فنهاهم عن ذلك فأشهدهم على رجعتها ، ثم رجع إلينا فأخبرنا أنه أتى ابن عباس فسأله
عن الوتر فقال : ألا أنبئك بأعلم أهل الأرض بوتر رسول الله صلىاللهعليهوسلم؟ قال نعم ، قال : ائت عائشة فسلها ثم ارجع إليّ فأخبرني
بردها عليك. قال : فأتيت على حكيم بن أفلح فاستلحقته إليها فقال : ما أنا بقاربها إني نهيتها أن تقول في هاتين الشيعتين شيئا فأبت فيهما إلا مضيا ، فأقسمت عليه فجاء معي فدخلنا
عليها فقالت : حكيم وعرفته قال : نعم. قالت : من هذا الذي معك؟ قال : سعيد بن
هشام. قالت : من هشام؟ قال : ابن عامر. قالت : فترحمت عليه وقالت : نعم المرء كان
عامرا. قلت : يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول الله صلىاللهعليهوسلم؟ قالت : ألست تقرأ القرآن؟ قلت : بلى. قالت : فإن خلق رسول
الله صلىاللهعليهوسلم كان القرآن ، فهممت أن أقوم ثم بدا لي قيام رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، قلت : يا أم المؤمنين أنبئيني عن قيام رسول الله صلىاللهعليهوسلم. قالت : ألست تقرأ هذه السورة (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ)؟ قلت : بلى. قالت : فإن الله افترض قيام الليل في أول هذه
السورة ، فقام رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأصحابه حولا حتى انتفخت أقدامهم ، وأمسك الله خاتمتها في
السماء اثني عشر شهرا ، ثم أنزل الله التخفيف في آخر هذه السورة فصار قيام الليل
تطوعا من بعد فريضة.
فهممت أن أقوم ثم
بدا لي وتر رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقلت : يا أم المؤمنين أنبئيني عن وتر رسول الله صلىاللهعليهوسلم قالت : كنا نعد له سواكه وطهوره فيبعثه الله لما شاء أن
يبعثه من الليل فيتسوك ثم يتوضأ ثم يصلي ثمان ركعات ولا يجلس فيهن إلا عند الثامنة
، فيجلس ويذكر ربه تعالى ويدعو ثم ينهض ولا يسلم ، ثم يقول ليصلي التاسعة ثم يقعد
فيذكر الله وحده ثم يدعوه ثم يسلم تسليما يسمعنا ، ثم يصلي ركعتين وهو جالس بعد ما
يسلم ، فتلك إحدى عشرة ركعة يا بني ، فلما أسن رسول اللهصلىاللهعليهوسلم وأخذه اللحم أوتر بسبع ثم صلّى ركعتين وهو جالس بعد ما
يسلم فتلك تسع يا بني ، وكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم إذا صلّى صلاة أحب أن يداوم عليها ، وكان إذا شغله عن قيام
الليل نوم أو وجع أو مرض صلّى من النهار ثنتي عشرة ركعة ، ولا أعلم نبي الله صلىاللهعليهوسلم قرأ القرآن كله في ليلة ولا قام ليلة حتى أصبح ولا صام
شهرا كاملا غير رمضان. فأتيت ابن عباس فحدثته بحديثها فقال : صدقت أما لو كنت أدخل
عليها لأتيتها حتى تشافهني مشافهة ، هكذا رواه الإمام أحمد بتمامه وقد أخرجه مسلم في صحيحه من حديث قتادة بنحوه.
[طريق أخرى عن
عائشة رضي الله عنها في هذا المعنى] قال ابن جرير : حدثنا ابن وكيع ،
__________________
حدثنا زيد بن
الحباب ، وحدثنا ابن حميد ، حدثنا مهران قالا جميعا ، واللفظ لابن وكيع عن موسى بن
عبيدة ، حدثني محمد بن طحلاء عن أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها قالت : كنت أجعل
لرسول الله صلىاللهعليهوسلم حصيرا يصلي عليه من الليل فتسامع الناس به فاجتمعوا فخرج
كالمغضب ، وكان بهم رحيما ، فخشي أن يكتب عليهم قيام الليل فقال : «أيها الناس
اكلفوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل من الثواب حتى تملوا من العمل وخير
الأعمال ما ديم عليه» ونزل القرآن (يا أَيُّهَا
الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ
قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) حتى كان الرجل يربط الحبل ويتعلق ، فمكثوا بذلك ثمانية
أشهر فرأى الله ما يبتغون من رضوانه فرحمهم فردهم إلى الفريضة وترك قيام الليل.
ورواه ابن أبي
حاتم من طريق موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف ، والحديث في الصحيح بدون زيادة نزول
هذه السورة وهذا السياق قد يوهم أن نزول هذه السورة بالمدينة وليس كذلك ، وإنما هي
مكية وقوله في هذا السياق إن بين نزول أولها وآخرها ثمانية أشهر غريب ، فقد تقدم
في رواية أحمد أنه كان بينهما سنة.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو أسامة عن مسعر عن سماك الحنفي ، سمعت ابن عباس
يقول : أول ما نزل أول المزمل كانوا يقومون نحوا من قيامهم في شهر رمضان ، وكان
بين أولها وآخرها قريب من سنة ، وهكذا رواه ابن جرير عن أبي كريب عن أبي أسامة به
، وقال الثوري ومحمد بن بشر العبدي ، كلاهما عن مسعر عن سماك عن ابن عباس كان
بينهما سنة ، وروى ابن جرير عن أبي كريب عن وكيع عن إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن
ابن عباس مثله.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا مهران عن سفيان عن قيس بن وهب عن
أبي عبد الرّحمن قال : لما نزلت (يا أَيُّهَا
الْمُزَّمِّلُ) قاموا حولا حتى ورت أقدامهم وسوقهم حتى نزلت (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) قال : فاستراح الناس. وكذا قال الحسن البصري والسدي.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبو زرعة ، حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري ، حدثنا معاذ بن هشام ،
حدثنا أبي عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن سعيد بن هشام قال : فقلت يعني لعائشة
أخبرينا عن قيام رسول الله صلىاللهعليهوسلم. قالت : ألست تقرأ (يا أَيُّهَا
الْمُزَّمِّلُ) قلت بلى ، قالت : فإنها كانت قيام رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأصحابه حتى انتفخت أقدامهم وحبس آخرها في السماء ستة عشر
شهرا ثم نزل ، وقال معمر عن قتادة (قُمِ اللَّيْلَ
إِلَّا قَلِيلاً) قاموا حولا أو حولين حتى انتفخت سوقهم وأقدامهم ، فأنزل
الله تخفيفها بعد في آخر السورة.
__________________
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد حدثنا يعقوب القمي عن جعفر عن سعيد هو
ابن جبير قال : لما أنزل الله تعالى على نبيه صلىاللهعليهوسلم (يا أَيُّهَا
الْمُزَّمِّلُ) قال : مكث النبي صلىاللهعليهوسلم على هذه الحال عشر سنين يقوم الليل كما أمره ، وكانت طائفة
من أصحابه يقومون معه فأنزل الله تعالى عليه بعد عشر سنين (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ
أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ
مَعَكَ) ـ إلى قوله ـ (وَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ) فخفف الله تعالى عنهم بعد عشر سنين ، ورواه ابن أبي حاتم
عن أبيه عن عمرو بن رافع عن يعقوب القمي به.
وقال علي بن أبي
طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى : (قُمِ اللَّيْلَ
إِلَّا قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ
وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) فأمر الله نبيه والمؤمنين بقيام الليل إلا قليلا فشق ذلك
على المؤمنين ثم خفف الله تعالى عنهم ورحمهم فأنزل بعد هذا (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى
وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ) ـ إلى قوله تعالى ـ (فَاقْرَؤُا ما
تَيَسَّرَ مِنْهُ) فوسع الله تعالى وله الحمد ولم يضيق.
وقوله تعالى : (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ
إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) أي أكثر من ذكره وانقطع إليه وتفرغ لعبادته إذا فرغت من
أشغالك وما تحتاج إليه من أمور دنياك كما قال تعالى : (فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ) [الشرح : ٧] أي
إذا فرغت من أشغالك فانصب في طاعته وعبادته لتكون فارغ البال ، قاله ابن زيد
بمعناه أو قريب منه ، قال ابن عباس ومجاهد وأبو صالح وعطية والضحاك والسدي (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) أي أخلص له العبادة ، وقال الحسن : اجتهد وابتل إليه نفسك.
وقال ابن جرير : يقال للعابد متبتل ، ومنه الحديث المروي : نهى عن التبتل
يعني الانقطاع إلى العبادة وترك التزوج. وقوله تعالى : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا
إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) أي هو المالك المتصرف في المشارق والمغارب الذي لا إله إلا
هو ، وكما أفردته بالعبادة فأفرده بالتوكل (فَاتَّخِذْهُ
وَكِيلاً) كما قال تعالى في الآية الأخرى : (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) [هود : ١٢٣]
وكقوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ
وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة : ٤] وآيات
كثيرة في هذا المعنى فيها الأمر بإفراد العبادة والطاعة لله وتخصيصه بالتوكل عليه.
(وَاصْبِرْ عَلى ما
يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (١٠) وَذَرْنِي
وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (١١)
إِنَّ
لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (١٢) وَطَعاماً ذا
غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (١٣)
يَوْمَ
تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً
(١٤) إِنَّا
أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى
فِرْعَوْنَ رَسُولاً (١٥) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ
فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (١٦)
فَكَيْفَ
تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (١٧) السَّماءُ
مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً)
(١٨)
يقول تعالى آمرا
رسوله صلىاللهعليهوسلم بالصبر على ما يقوله من كذبه من سفهاء قومه ، وأن يهجرهم
__________________
هجرا جميلا وهو
الذي لا عتاب معه ثم قال له متهددا لكفار قومه ومتوعدا ، وهو العظيم الذي لا يقوم
لغضبه شيء (وَذَرْنِي
وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ) أي دعني والمكذبين المترفين أصحاب الأموال فإنهم على
الطاعة أقدر من غيرهم وهم يطالبون من الحقوق بما ليس عند غيرهم (وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً) أي رويدا كما قال تعالى : (نُمَتِّعُهُمْ
قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) [لقمان : ٢٤] ،
ولهذا قال هاهنا : (إِنَّ لَدَيْنا
أَنْكالاً) وهي القيود ، قاله ابن عباس وعكرمة وطاوس ومحمد بن كعب
وعبد الله بن بريدة وأبو عمران الجوني وأبو مجلز والضحاك وحماد بن أبي سليمان
وقتادة والسدي وابن المبارك والثوري وغير واحد.
(وَجَحِيماً) وهي السعير المضطرمة (وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ) قال ابن عباس : ينشب في الحلق فلا يدخل ولا يخرج (وَعَذاباً أَلِيماً يَوْمَ تَرْجُفُ
الْأَرْضُ وَالْجِبالُ) أي تزلزل (وَكانَتِ الْجِبالُ
كَثِيباً مَهِيلاً) أي تصير ككثبان الرمل بعد ما كانت حجارة صماء ثم إنها تنسف
نسفا فلا يبقى منها شيء إلا ذهب حتى تصير الأرض قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا أي
واديا ولا أمتا أي رابية ، ومعناه لا شيء ينخفض ولا شيء يرتفع.
ثم قال تعالى
مخاطبا لكفار قريش والمراد سائر الناس : (إِنَّا أَرْسَلْنا
إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ) أي بأعمالكم (كَما أَرْسَلْنا إِلى
فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً) قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي والثوري (أَخْذاً وَبِيلاً) أي شديدا أي فاحذروا أنتم أن تكذبوا هذا الرسول فيصيبكم ما
أصاب فرعون حيث أخذه الله أخذ عزيز مقتدر كما قال تعالى : (فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ
وَالْأُولى) [النازعات : ٢٥]
وأنتم أولى بالهلاك والدمار إن كذبتم رسولكم ، لأن رسولكم أشرف وأعظم من موسى بن
عمران ، ويروى عن ابن عباس ومجاهد.
وقوله تعالى : (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ
يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً) يحتمل أن يكون (يَوْماً) معمولا لتتقون كما حكاه ابن جرير عن قراءة ابن مسعود فكيف
تخافون أيها الناس يوما يجعل الولدان شيبا إن كفرتم بالله ولم تصدقوا به؟ ويحتمل
أن يكون معمولا لكفرتم فعلى الأول كيف يحصل لكم أمان من يوم هذا الفزع العظيم إن
كفرتم ، وعلى الثاني كيف يحصل لكم تقوى إن كفرتم يوم القيامة وجحدتموه ، وكلاهما
معنى حسن ، ولكن الأول أولى والله أعلم.
ومعنى قوله (يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً) أي من شدة أهواله وزلازله وبلابله ، وذلك حين يقول الله
تعالى لآدم ابعث النار فيقول من كم. فيقول من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى
النار وواحد إلى الجنة. قال الطبراني : حدثنا يحيى بن أيوب العلاف حدثنا سعيد بن
أبي مريم حدثنا نافع بن يزيد ، حدثنا عثمان بن عطاء الخراساني عن أبيه عن عكرمة عن
ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قرأ (يَوْماً يَجْعَلُ
الْوِلْدانَ شِيباً) قال : «ذلك يوم القيامة وذلك يوم يقول الله لآدم قم فابعث
من ذريتك بعثا إلى النار ، قال من كم يا رب؟ قال من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون
وينجو واحد» فاشتد ذلك على المسلمين وعرف ذلك
رسول الله صلىاللهعليهوسلم ثم قال حين أبصر ذلك في وجوههم «إن بني آدم كثير ، وإن
يأجوج ومأجوج من ولد آدم ، وإنه لا يموت منهم رجل حتى ينتشر لصلبه ألف رجل ففيهم
وفي أشباههم جنة لكم» هذا حديث غريب وقد تقدم في أول سورة الحج ذكر هذه الأحاديث.
وقوله تعالى : (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) قال الحسن وقتادة أي بسببه من شدته وهوله ، ومنهم من يعيد
الضمير على الله تعالى : وروي عن ابن عباس ومجاهد وليس بقوي لأنه لم يجر له ذكر
هاهنا ، وقوله تعالى : (كانَ وَعْدُهُ
مَفْعُولاً) أي كان وعد هذا اليوم مفعولا أي واقعا لا محالة وكائنا لا
محيد عنه.
(إِنَّ هذِهِ
تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (١٩)
إِنَّ
رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ
وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ
وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما
تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ
يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ
فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا
الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ
مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً
وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)
(٢٠)
يقول تعالى : (إِنَّ هذِهِ) أي السورة (تَذْكِرَةٌ) أي يتذكر بها أولو الألباب ، ولهذا قال تعالى : (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ
سَبِيلاً) أي ممن شاء الله تعالى هدايته كما قيده في السورة الأخرى (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ
إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) [الإنسان : ٣٠].
ثم قال تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ
أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ
مَعَكَ) أي تارة هكذا وتارة هكذا وذلك كله من غير قصد منكم ولكن لا
تقدرون على المواظبة على ما أمركم به من قيام الليل لأنه يشق عليكم ، ولهذا قال : (وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ
وَالنَّهارَ) أي تارة يعتدلان وتارة يأخذ هذا من هذا وهذا من هذا (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) أي الفرض الذي أوجبه عليكم (فَاقْرَؤُا ما
تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) أي من غير تحديد بوقت أي ولكن قوموا من الليل ما تيسر ،
وعبر عن الصلاة بالقراءة كما قال في سورة سبحان (وَلا تَجْهَرْ
بِصَلاتِكَ) أي بقراءتك (وَلا تُخافِتْ بِها) [الإسراء : ١١٠].
وقد استدل أصحاب
الإمام أبي حنيفة رحمهالله بهذه الآية وهي قوله : (فَاقْرَؤُا ما
تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) على أنه لا يجب تعين قراءة الفاتحة في الصلاة بل لو قرأ
بها أو بغيرها من القرآن ولو بآية، أجزأه واعتضدوا بحديث المسيء صلاته الذي في
الصحيحين «ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن» وقد أجابهم الجمهور بحديث عبادة بن الصامت وهو في الصحيحين
أيضا أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» ، وفي صحيح مسلم عن أبي
__________________
هريرة أن رسول
الله صلىاللهعليهوسلم قال : «كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج فهي خداج
فهي خداج غير تمام» وفي صحيح ابن خزيمة عن أبي هريرة مرفوعا «لا تجزئ صلاة من
لم يقرأ بأم القرآن».
وقوله تعالى : (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى
وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ
يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي علم أن سيكون من هذه الأمة ذوو أعذار في ترك قيام الليل
من مرضى لا يستطيعون ذلك ، ومسافرين في الأرض يبتغون من فضل الله في المكاسب
والمتاجر ، وآخرين مشغولين بما هو الأهم في حقهم من الغزو في سبيل الله ، وهذه
الآية بل السورة كلها مكية ولم يكن القتال شرع بعد ، فهي من أكبر دلائل النبوة
لأنه من باب الإخبار بالمغيبات المستقبلة ، ولهذا قال تعالى : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) أي قوموا بما تيسر عليكم منه.
قال ابن جرير : حدثنا يعقوب ، حدثنا ابن علية عن أبي رجاء محمد ، قال :
قلت للحسن : يا أبا سعيد ما تقول في رجل قد استظهر القرآن كله عن ظهر قلبه ولا
يقوم به إنما يصلي المكتوبة ، قال يتوسد القرآن لعن الله ذاك ، قال الله تعالى
للعبد الصالح (وَإِنَّهُ لَذُو
عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ) [يوسف : ٦٨] (وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا
أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ) [الأنعام : ٩١]
قلت : يا أبا سعيد ، قال الله تعالى : (فَاقْرَؤُا ما
تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) قال نعم ولو خمس آيات ، وهذا ظاهر من مذهب الحسن البصري
أنه كان يرى حقا واجبا على حملة القرآن أن يقوموا ولو بشيء منه في الليل ، ولهذا
جاء في الحديث أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم سئل عن رجل نام حتى أصبح ، فقال : «ذاك رجل بال الشيطان في
أذنه» فقيل معناه نام عن المكتوبة ، وقيل عن قيام الليل: وفي السنن «أوتروا يا أهل
القرآن» وفي الحديث الآخر «من لم يوتر فليس منا» وأغرب من هذا ما حكي عن أبي بكر بن عبد العزيز من الحنابلة
من إيجابه قيام شهر رمضان ، فالله أعلم.
وقال الطبراني :
حدثنا أحمد بن سعيد بن فرقد الجدّي ، حدثنا أبو محمد بن يوسف الزبيدي ، حدثنا عبد
الرّحمن عن محمد بن عبد الله بن طاوس من ولد طاوس ، عن أبيه عن طاوس ، عن ابن عباس
، عن النبي صلىاللهعليهوسلم (فَاقْرَؤُا ما
تَيَسَّرَ مِنْهُ) قال : «مائة آية» وهذا حديث غريب جدا لم أره إلا في معجم
الطبراني رحمهالله تعالى.
__________________
وقوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا
الزَّكاةَ) أي أقيموا صلاتكم الواجبة عليكم وآتوا الزكاة المفروضة ،
وهذا يدل لمن قال إن فرض الزكاة نزل بمكة لكن مقادير النصب والمخرج لم تبين إلا
بالمدينة والله أعلم. وقد قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد والحسن وقتادة وغير واحد من
السلف : إن هذه الآية نسخت الذي كان الله قد أوجبه على المسلمين أولا من قيام
الليل ، واختلفوا في المدة التي بينهما على أقوال كما تقدم ، وقد ثبت في الصحيحين
أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال لذلك الرجل : «خمس صلوات في اليوم والليلة» قال : هل
علي غيرها؟ قال : «لا إلا أن تطوع» .
وقوله تعالى : (وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) يعني من الصدقات ، فإن الله يجازي على ذلك أحسن الجزاء
وأوفره ، كما قال تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي
يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) [البقرة : ٢٤٥]
وقوله تعالى : (وَما تُقَدِّمُوا
لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ
أَجْراً) أي جميع ما تقدموه بين أيديكم فهو لكم حاصل وهو خير مما
أبقيتموه لأنفسكم في الدنيا.
وقال الحافظ أبو
يعلى الموصلي : حدثنا أبو خيثمة حدثنا جرير عن الأعمش عن إبراهيم عن الحارث بن
سويد قال : قال عبد الله : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أيكم ماله أحب إليه من مال وارثه؟» قالوا : يا رسول
الله ما منا من أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه قال : «اعلموا ما تقولون»
قالوا : ما نعلم إلا ذلك يا رسول الله؟ قال : «إنما مال أحدكم ما قدم ومال وارثه
ما أخر» ورواه البخاري من حديث حفص بن غياث والنسائي من طريق أبي
معاوية كلاهما عن الأعمش به ، ثم قال تعالى : (وَاسْتَغْفِرُوا
اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي أكثروا من ذكره واستغفاره في أموركم كلها فإنه غفور
رحيم لمن استغفره ، آخر تفسير سورة المزمل ، ولله الحمد والمنة.
تفسير سورة المدثر
وهي مكية
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(يا أَيُّهَا
الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢)
وَرَبَّكَ
فَكَبِّرْ (٣) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ
(٤) وَالرُّجْزَ
فَاهْجُرْ (٥) وَلا تَمْنُنْ
تَسْتَكْثِرُ (٦) وَلِرَبِّكَ
فَاصْبِرْ (٧) فَإِذا نُقِرَ فِي
النَّاقُورِ (٨) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ
يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩) عَلَى الْكافِرِينَ
غَيْرُ يَسِيرٍ)(١٠)
__________________
ثبت في صحيح
البخاري من حديث يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن جابر أنه كان يقول : أول شيء نزل
من القرآن (يا أَيُّهَا
الْمُدَّثِّرُ) وخالفه الجمهور فذهبوا إلى أن أول القرآن نزولا قوله تعالى
: (اقْرَأْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) [العلق : ١] كما
سيأتي ذلك هنالك إن شاء الله تعالى.
قال البخاري :
حدثنا يحيى ، حدثنا وكيع عن علي بن المبارك ، عن يحيى بن أبي كثير قال : سألت أبا
سلمة بن عبد الرّحمن عن أول ما نزل من القرآن فقال : (يا أَيُّهَا
الْمُدَّثِّرُ) قلت : يقولون (اقْرَأْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) [العلق : ١] فقال
أبو سلمة : سألت جابر بن عبد الله عن ذلك وقلت له مثل ما قلت لي فقال جابر : لا
أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «جاورت بحراء فلما قضيت جواري هبطت فنوديت ، فنظرت
عن يميني فلم أر شيئا ، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا ، ونظرت أمامي فلم أر شيئا
ونظرت خلفي فلم أر شيئا ، فرفعت رأسي فرأيت شيئا ، فأتيت خديجة فقلت دثروني وصبوا
عليّ ماء باردا ـ قال ـ فدثروني وصبوا علي ماء باردا ـ قال ـ فنزلت (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ
فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) هكذا ساقه من هذا الوجه. وقد رواه مسلم من طريق عقيل عن
ابن شهاب عن أبي سلمة قال : أخبرني جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله صلىاللهعليهوسلم يحدث عن فترة الوحي فقال في حديثه : «فبينا أنا أمشي إذ
سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري قبل السماء ، فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعد
على كرسي بين السماء والأرض فجثثت منه حتى هويت إلى الأرض ، فجئت إلى أهلي فقلت :
زملوني زملوني فزملوني ، فأنزل الله تعالى (يا أَيُّهَا
الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ) ـ إلى ـ (فَاهْجُرْ) قال أبو سلمة : والرجز الأوثان ـ ثم حمي الوحي وتتابع» هذا لفظ البخاري ، وهذا السياق هو المحفوظ وهو يقتضي أنه
قد نزل الوحي قبل هذا لقوله : «فإذا الملك الذي جاءني بحراء» وهو جبريل حين أتاه
بقوله : (اقْرَأْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ
الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) [العلق : ١ ـ ٥]
ثم إنه حصل بعد هذا فترة ثم نزل الملك بعد هذا.
ووجه الجمع أن أول
شيء نزل بعد فترة الوحي هذه السورة ، كما قال الإمام أحمد : حدثنا حجاج ، حدثنا ليث ، حدثنا عقيل عن ابن شهاب قال :
سمعت أبا سلمة بن عبد الرّحمن يقول : أخبرني جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «ثم فتر الوحي عني فترة فبينا أنا أمشي سمعت صوتا
من السماء ، فرفعت بصري قبل السماء فإذا الملك الذي جاءني بحراء الآن قاعد على
كرسي بين السماء والأرض فجثيت منه فرقا حتى هويت إلى الأرض ، فجئت أهلي فقلت لهم
زملوني زملوني فزملوني ، فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا
الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ
وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) ثم حمي الوحي
__________________
وتتابع» أخرجاه من حديث الزهري به.
وقال الطبراني :
حدثنا محمد بن علي بن شعيب السمسار ، حدثنا الحسن بن بشر البجلي ، حدثنا المعافي
بن عمران عن إبراهيم بن يزيد : سمعت ابن أبي مليكة يقول سمعت ابن عباس يقول : إن
الوليد بن المغيرة صنع لقريش طعاما ، فلما أكلوا منه قال : ما تقولون في هذا الرجل؟
فقال بعضهم : ساحر ، وقال بعضهم ليس بساحر ، وقال بعضهم كاهن ، وقال بعضهم ليس
بكاهن ، وقال بعضهم : شاعر ، وقال بعضهم : ليس بشاعر ، وقال بعضهم : بل سحر يؤثر ،
فأجمع رأيهم على أنه سحر يؤثر ، فبلغ ذلك النبي صلىاللهعليهوسلم فحزن وقنع رأسه وتدثر ، فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ
فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلا
تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) وقوله تعالى : (قُمْ فَأَنْذِرْ) أي شمر عن ساق العزم وأنذر الناس ، وبهذا حصل الإرسال كما
حصل بالأول النبوة.
(وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) أي عظم. وقوله تعالى : (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) قال الأجلح الكندي عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه أتاه رجل
فسأله عن هذه الآية (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) قال : لا تلبسها على معصية ولا على غدرة. ثم قال : أما
سمعت قول غيلان بن سلمة الثقفي : [الطويل]
فإني بحمد الله
لا ثوب فاجر
|
|
لبست ولا من
غدرة أتقنّع
|
وقال ابن جريج عن
عطاء عن ابن عباس في الآية (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) قال : في كلام العرب نقي الثياب وفي رواية بهذا الإسناد
فطهر من الذنوب ، وكذا قال إبراهيم والشعبي وعطاء ، وقال الثوري عن رجل عن عطاء عن
ابن عباس في هذه الآية (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) قال : من الإثم ، وكذا قال إبراهيم النخعي وقال مجاهد (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) قال : نفسك ليس ثيابك ، وفي رواية عنه (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) أي عملك فأصلح ، وكذا قال أبو رزين ، وقال في رواية أخرى (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) أي لست بكاهن ولا ساحر فأعرض عما قالوا. وقال قتادة (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) أي طهرها من المعاصي ، وكانت العرب تسمي الرجل إذا نكث ولم
يف بعهد الله إنه لدنس الثياب ، وإذا وفي وأصلح إنه لمطهر الثياب ، وقال عكرمة
والضحاك : لا تلبسها على معصية. وقال الشاعر: [الطويل]
__________________
إذا المرء لم
يدنس من اللؤم عرضه
|
|
فكل رداء يرتديه
جميل
|
وقال العوفي عن
ابن عباس (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) يعني لا تكن ثيابك التي تلبس من مكسب غير طائب ، ويقال :
لا تلبس ثيابك على معصية ، وقال محمد بن سيرين (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) أي اغسلها بالماء ، وقال ابن زيد : كان المشركون لا يتطهرون
فأمره الله أن يتطهر وأن يطهر ثيابه ، وهذا القول اختاره ابن جرير ، وقد تشمل
الآية جميع ذلك مع طهارة القلب ، فإن العرب تطلق الثياب عليه كما قال امرؤ القيس :
[الطويل]
أفاطم مهلا بعض
هذا التدلّل
|
|
وإن كنت قد
أزمعت هجري فأجملي
|
وإن تك قد ساءتك
مني خليقة
|
|
فسلّي ثيابي من
ثيابك تنسل
|
وقال سعيد بن جبير
(وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) وقلبك ونيتك فطهر ، وقال محمد بن كعب القرظي والحسن البصري
: وخلقك فحسن ، وقوله تعالى : (وَالرُّجْزَ
فَاهْجُرْ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : (وَالرُّجْزَ) وهو الأصنام فاهجر ، وكذا قال مجاهد وعكرمة وقتادة والزهري
وابن زيد : إنها الأوثان ، وقال إبراهيم والضحاك (وَالرُّجْزَ
فَاهْجُرْ) أي اترك المعصية ، وعلى كل تقدير فلا يلزم تلبسه بشيء من
ذلك كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) [الأحزاب : ١] (وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ
اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ). [الأعراف : ١٤٢].
وقوله تعالى : (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) قال ابن عباس : لا تعط العطية تلتمس أكثر منها ، وكذا قال
عكرمة ومجاهد وعطاء وطاوس وأبو الأحوص وإبراهيم النخعي والضحاك وقتادة والسدي
وغيرهم ، وروي عن ابن مسعود أنه قرأ ولا تمنن أن تستكثر وقال الحسن البصري : لا
تمنن بعملك على ربك تستكثره وكذا قال الربيع بن أنس واختاره ابن جرير ، وقال خصيف
عن مجاهد في قوله تعالى : (وَلا تَمْنُنْ
تَسْتَكْثِرُ) قال : لا تضعف أن تستكثر من الخير ، قال : تمنن في كلام
العرب تضعف ، وقال ابن زيد : لا تمنن بالنبوة على الناس تستكثرهم بها تأخذ عليه
__________________
عوضا من الدنيا.
فهذه أربعة أقوال والأظهر القول الأول ، والله أعلم.
وقوله تعالى : (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) أي اجعل صبرك على أذاهم لوجه ربك عزوجل قاله مجاهد. وقال إبراهيم النخعي : اصبر على عطيتك لله عزوجل. وقوله تعالى : (فَإِذا نُقِرَ فِي
النَّاقُورِ فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) قال ابن عباس ومجاهد والشعبي وزيد بن أسلم والحسن وقتادة
والضحاك والربيع بن أنس والسدي وابن زيد (النَّاقُورِ) الصور ، قال مجاهد : وهو كهيئة القرن.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أسباط بن محمد عن مطرف عن عطية العوفي عن ابن عباس
(فَإِذا نُقِرَ فِي
النَّاقُورِ) فقال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته ينتظر
متى يؤمر فينفخ؟» فقال : قال أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم : فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال : «قولوا حسبنا الله ونعم
الوكيل على الله توكلنا» وهكذا رواه الإمام أحمد عن أسباط به ، ورواه ابن جرير عن أبي كريب عن ابن فضيل وأسباط كلاهما عن مطرف به ، ورواه
من طريق أخرى عن العوفي عن ابن عباس به.
وقوله تعالى : (فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ) أي شديد (عَلَى الْكافِرِينَ
غَيْرُ يَسِيرٍ) أي غير سهل عليهم كما قال تعالى : (يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) [القمر : ٨] ، وقد
روينا عن زرارة بن أوفى قاضي البصرة أنه صلّى بهم الصبح ، فقرأ هذه السورة فلما
وصل إلى قوله تعالى : (فَإِذا نُقِرَ فِي
النَّاقُورِ فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) شهق شهقة ثم خرّ ميتا رحمهالله تعالى.
(ذَرْنِي وَمَنْ
خَلَقْتُ وَحِيداً (١١) وَجَعَلْتُ لَهُ
مالاً مَمْدُوداً (١٢) وَبَنِينَ شُهُوداً (١٣)
وَمَهَّدْتُ
لَهُ تَمْهِيداً (١٤) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ
أَزِيدَ (١٥) كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً
(١٦) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (١٧) إِنَّهُ فَكَّرَ
وَقَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَيْفَ
قَدَّرَ (١٩) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠) ثُمَّ نَظَرَ(٢١) ثُمَّ عَبَسَ
وَبَسَرَ (٢٢) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (٢٣) فَقالَ إِنْ هذا
إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤) إِنْ هذا إِلاَّ
قَوْلُ الْبَشَرِ (٢٥) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (٢٦) وَما أَدْراكَ ما
سَقَرُ (٢٧) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ(٢٨)
لَوَّاحَةٌ
لِلْبَشَرِ (٢٩) عَلَيْها تِسْعَةَ
عَشَرَ)(٣٠)
يقول تعالى متوعدا
لهذا الخبيث الذي أنعم الله عليه بنعم الدنيا فكفر بأنعم الله وبدلها كفرا وقابلها
بالجحود بآيات الله والافتراء عليها ، وجعلها من قول البشر وقد عدد الله عليه نعمه
حيث قال تعالى : (ذَرْنِي وَمَنْ
خَلَقْتُ وَحِيداً) أي خرج من بطن أمه وحده لا مال له ولا ولد ثم رزقه الله
تعالى : (مالاً مَمْدُوداً) أي واسعا كثيرا قيل ألف دينار وقيل مائه ألف دينار ، وقيل
أرضا يستغلها ، وقيل غير ذلك وجعل له بنين (شُهُوداً) قال مجاهد لا يغيبون أي حضورا عنده لا يسافرون بالتجارات
بل مواليهم وأجراؤهم يتولون ذلك عنهم : وهم قعود عند أبيهم يتمتع بهم ويتملى بهم ،
وكانوا فيما ذكره السدي وأبو مالك وعاصم بن عمر بن قتادة ثلاثة عشر ،
__________________
وقال ابن عباس
ومجاهد كانوا عشرة وهذا أبلغ في النعمة وهو إقامتهم عنده (وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً) أي مكنته من صنوف المال والأثاث وغير ذلك.
(ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ
أَزِيدَ كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً) أي معاندا وهو الكفر على نعمه بعد العلم قال الله تعالى : (سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً) قال الإمام أحمد : حدثنا حسن حدثنا ابن لهيعة عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي
سعيد عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «ويل واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفا ،
قبل أن يبلغ قعره ، والصعود جبل من نار يصعد فيه الكافر سبعين خريفا ، ثم يهوي به
كذلك فيه أبدا» وقد رواه الترمذي عن عبد بن حميد عن الحسن بن موسى الأشيب
به ، ثم قال غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة عن دراج ، كذا قال ، وقد رواه
ابن جرير عن يونس عن عبد الله بن وهب عن عمرو بن الحارث عن دراج
وفيه غرابة ونكارة.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبو زرعة وعلي بن عبد الرّحمن المعروف بعلان المصري قال : حدثنا منجاب ،
أخبرنا شريك عن عمار الدهني عن عطية العوفي عن أبي سعيد عن النبي صلىاللهعليهوسلم (سَأُرْهِقُهُ
صَعُوداً) قال : «هو جبل في النار من نار يكلف أن يصعده فإذا وضع يده
ذابت وإذا رفعها عادت ، فإذا وضع رجله ذابت وإذا رفعها عادت» ورواه البزار وابن
جرير من حديث شريك به. وقال قتادة عن ابن عباس : صعودا صخرة في جهنم يكلف أن
يصعدها وقال مجاهد (سَأُرْهِقُهُ
صَعُوداً) أي مشقة من العذاب ، وقال قتادة : عذابا لا راحة فيه ،
واختاره ابن جرير.
وقوله تعالى : (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ) أي إنما أرهقناه صعودا أي قربناه من العذاب الشاق لبعده عن
الإيمان لأنه فكر وقدر أي تروى ماذا يقول في القرآن حين سئل عن القرآن ففكر ما ذا
يختلق من المقال (وَقَدَّرَ) أي تروى (فَقُتِلَ كَيْفَ
قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) دعاء عليه (ثُمَّ نَظَرَ) أي أعاد النظرة والتروي (ثُمَّ عَبَسَ) أي قبض بين عينيه وقطب (وَبَسَرَ) أي كلح وكره ومنه قول توبة بن الحمير : [الطويل]
وقد رابني منها
صدود رأيته
|
|
وإعراضها عن
حاجتي وبسورها
|
وقوله : (ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ) أي صرف عن الحق ورجع القهقهرى مستكبرا عن الانقياد للقرآن (فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) أي هذا سحر ينقله محمد عن غيره ممن قبله ويحكيه عنهم ،
ولهذا قال : (إِنْ هذا إِلَّا
قَوْلُ الْبَشَرِ) أي ليس بكلام الله ، وهذا المذكور في هذا السياق
__________________
هو الوليد بن
المغيرة المخزومي أحد رؤساء قريش لعنه الله.
وكان من خبره في
هذا ما رواه العوفي عن ابن عباس قال دخل الوليد بن المغيرة على أبي بكر بن أبي
قحافة فسأله عن القرآن ، فلما أخبره خرج على قريش فقال يا عجبا لما يقول ابن أبي
كبشة ، فو الله ما هو بشعر ولا بسحر ولا بهذي من الجنون ، وإن قوله لمن كلام الله
فلما سمع بذلك النفر من قريش ائتمروا وقالوا : والله لئن صبأ الوليد لتصبو قريش ،
فلما سمع بذلك أبو جهل بن هشام قال : أنا والله أكفيكم شأنه فانطلق حتى دخل عليه
بيته ، فقال للوليد : ألم تر إلى قومك قد جمعوا لك الصدقة؟ فقال : ألست أكثرهم
مالا وولدا؟ فقال له أبو جهل : يتحدثون أنك إنما تدخل على ابن أبي قحافة لتصيب من
طعامه ، فقال الوليد : أقد تحدث به عشيرتي؟ فلا والله لا أقرب ابن أبي قحافة ولا
عمر ولا ابن أبي كبشة ، وما قوله (إِلَّا سِحْرٌ
يُؤْثَرُ) فأنزل الله على رسوله صلىاللهعليهوسلم (ذَرْنِي وَمَنْ
خَلَقْتُ وَحِيداً) ـ إلى قوله ـ (لا تُبْقِي وَلا
تَذَرُ).
وقال قتادة :
زعموا أنه قال : والله لقد نظرت فيما قال الرجل فإذا هو ليس بشعر وإن له لحلاوة ،
وإنه عليه لطلاوة ، وإنه ليعلو وما يعلى عليه وما أشك أنه سحر فأنزل الله : (فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) الآية.
(ثُمَّ عَبَسَ
وَبَسَرَ) قبض ما بين عينيه وكلح ، وقال ابن جرير : حدثنا ابن عبد الأعلى ، حدثنا محمد بن ثور عن معمر عن
عباد بن منصور عن عكرمة أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلىاللهعليهوسلم فقرأ عليه القرآن ، فكأنه رق له ، فبلغ ذلك أبا جهل بن
هشام فأتاه فقال أي عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا. قال : لم؟ قال يعطونكه
فإنك أتيت محمدا تتعرض لما قبله ، قال قد علمت قريش أني أكثرهم مالا ، قال : فقل
فيه قولا يعلم قومك أنك منكر لما قال وأنك كاره له ، قال فماذا أقول فيه ، فو الله
ما منكم رجل أعلم بالأشعار مني ولا أعلم برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن ، والله
ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا ، والله إن لقوله الذي يقوله لحلاوة ، وإنه ليحطم
ما تحته وإنه ليعلو وما يعلى ، وقال والله لا يرضى قومك حتى تقول فيه ، قال فدعني
حتى أتفكر فيه ، فلما فكر قال : إن هذا إلا سحر يؤثره عن غيره ، فنزلت : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) ـ حتى بلغ ـ (تِسْعَةَ عَشَرَ).
وقد ذكر محمد بن
إسحاق وغير واحد نحوا من هذا ، وقد زعم السدي أنهم لما اجتمعوا في دار الندوة
ليجمعوا رأيهم على قول يقولونه فيه قبل أن يقدم عليهم وفود العرب للحج ليصدوهم عنه
، فقال قائلون : شاعر وقال آخرون : ساحر وقال آخرون : كاهن وقال آخرون : مجنون كما
قال تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ
ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) [الإسراء : ٤٨] كل
هذا والوليد يفكر فيما يقوله فيه ، ففكر وقدر ونظر وعبس وبسر ، فقال : (إِنْ هذا إِلَّا
__________________
سِحْرٌ
يُؤْثَرُ إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) ، قال الله تعالى : (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) أي سأغمره فيها من جميع جهاته ، ثم قال تعالى : (وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ) وهذا تهويل لأمرها وتفخيم ، ثم فسر ذلك بقوله تعالى : (لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ) أي تأكل لحومهم وعروقهم وعصبهم وجلودهم ثم تبدل غير ذلك ،
وهم في ذلك لا يموتون ولا يحيون ، قاله ابن بريدة وأبو سنان وغيرهم.
وقوله تعالى : (لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ) قال مجاهد أي للجلد ، وقال أبو رزين : تلفح الجلد لفحة
فتدعه أسود من الليل ، وقال زيد بن أسلم : تلوح أجسادهم عليها. وقال قتادة : (لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ) أي حراقة للجلد وقال ابن عباس : تحرق بشرة الإنسان. وقوله
تعالى : (عَلَيْها تِسْعَةَ
عَشَرَ) أي من مقدمي الزبانية عظيم خلقهم غليظ خلقهم.
وقد قال ابن أبي
حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا إبراهيم بن موسى ، حدثنا ابن أبي زائدة ، أخبرني
حارث عن عامر عن البراء في قوله تعالى : (عَلَيْها تِسْعَةَ
عَشَرَ) قال : إن رهطا من اليهود سألوا رجلا من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن خزنة جهنم فقال : الله ورسوله أعلم ، فجاء الرجل فأخبر
النبي صلىاللهعليهوسلم فأنزل الله تعالى عليه ساعتئذ (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) فأخبر أصحابه وقال: «ادعهم أما إني سائلهم عن تربة الجنة
إن أتوني ، أما إنها در مكة بيضاء» فجاؤوه فسألوه عن خزنة جهنم فأهوى بأصابع كفيه
مرتين وأمسك الإبهام في الثانية ثم قال : «أخبروني عن تربة الجنة» فقالوا : أخبرهم
يا ابن سلام ، فقال : كأنها خبزة بيضاء : فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أما إن الخبز إنما يكون من الدرمك» هكذا وقع عند ابن
أبي حاتم عن البراء.
والمشهور عن جابر
بن عبد الله كما قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده حدثنا مندة ، حدثنا أحمد بن
عبدة ، أخبرنا سفيان ويحيى بن حكيم ، حدثنا سفيان عن مجالد عن الشعبي عن جابر بن
عبد الله رضي الله عنه قال : جاء رجل إلى النبي صلىاللهعليهوسلم فقال : يا محمد غلب أصحابك اليوم. فقال : «بأي شيء؟» قال :
سألتهم يهود هل أعلمكم نبيكم عدة خزنة أهل النار؟ قالوا : لا نعلم حتى نسأل نبينا صلىاللهعليهوسلم قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أفغلب قوم سئلوا عما لا يعلمون فقالوا لا نعلم حتى نسأل
نبينا صلىاللهعليهوسلم؟ علي بأعداء الله لكنهم قد سألوا نبيهم أن يريهم الله جهرة»
فأرسل إليهم فدعاهم قالوا : يا أبا القاسم كم عدة خزنة أهل النار؟ قال : «هكذا»
وطبق كفيه ثم طبق كفيه مرتين وعقد واحدة وقال لأصحابه : «إن سئلتم عن تربة الجنة
فهي الدرمك» فلما سألوه فأخبرهم بعدة خزنة أهل النار قال لهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ما تربة الجنة؟» فنظر بعضهم إلى بعض فقالوا : خبزة يا
أبا القاسم. فقال : «الخبز من الدرمك» وهكذا رواه الترمذي عند هذه الآية عن ابن أبي عمر عن سفيان
به ، وقال هو والبزار لا يعرف إلا من حديث مجالد ، وقد رواه الإمام أحمد عن علي بن
المديني عن سفيان فقص الدرمك فقط.
__________________
(وَما جَعَلْنا
أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً
لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ
الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ
وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما
ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ
يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى
لِلْبَشَرِ (٣١) كَلاَّ وَالْقَمَرِ (٣٢) وَاللَّيْلِ إِذْ
أَدْبَرَ (٣٣) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (٣٤) إِنَّها لَإِحْدَى
الْكُبَرِ (٣٥) نَذِيراً لِلْبَشَرِ
(٣٦) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ
أَوْ يَتَأَخَّرَ)
(٣٧)
يقول تعالى : (وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ) أي خزانها (إِلَّا مَلائِكَةً) زبانية غلاظا شدادا ، وذلك رد على مشركي قريش حين ذكروا
عدد الخزنة فقال أبو جهل : يا معشر قريش أما يستطيع كل عشرة منكم لواحد منهم
فتغلبونهم ، فقال الله تعالى : (وَما جَعَلْنا
أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً) أي شديدي الخلق لا يقاومون ولا يغالبون ، وقد قيل إن أبا
الأشدين واسمه كلدة بن أسيد بن خلف قال : يا معشر قريش اكفوني منهم اثنين وأنا
أكفيكم منهم سبعة عشر إعجابا منه بنفسه ، وكان قد بلغ من القوة فيما يزعمون أنه
كان يقف على جلد البقرة ويجاذبه عشرة لينتزعوه من تحت قدميه فيتمزق الجلد ولا
يتزحزح عنه ، قال السهيلي وهو الذي دعا رسول اللهصلىاللهعليهوسلم إلى مصارعته ، وقال إن صرعتني آمنت بك ، فصرعه النبي صلىاللهعليهوسلم مرارا فلم يؤمن ، قال وقد نسب ابن إسحاق خبر المصارعة إلى
ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب. (قلت) : ولا منافاة بين ما ذكراه والله
أعلم.
وقوله تعالى : (وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا
فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي إنما ذكرنا عدتهم أنهم تسعة عشر اختبارا منا للناس (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ) أي يعلمون أن هذا الرسول حق فإنه نطق بمطابقة ما بأيديهم
من الكتب السماوية المنزلة على الأنبياء قبله (وَيَزْدادَ الَّذِينَ
آمَنُوا إِيماناً) أي إلى إيمانهم أي بما يشهدون من صدق إخبار نبيهم محمد صلىاللهعليهوسلم (وَلا يَرْتابَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي من المنافقين (وَالْكافِرُونَ ما ذا
أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) أي يقولون ما الحكمة في ذكر هذا هاهنا؟ قال الله تعالى : (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ
وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) أي من مثل هذا وأشباهه يتأكد الإيمان في قلوب أقوام
ويتزلزل عند آخرين ، وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة.
وقوله تعالى : (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا
هُوَ) أي ما يعلم عددهم وكثرتهم إلا هو تعالى لئلا يتوهم متوهم
أنهم تسعة عشر فقط ، كما قد قاله طائفة من أهل الضلالة والجهالة من الفلاسفة
اليونانيين ومن شايعهم من الملتين الذين سمعوا هذه الآية فأرادوا تنزيلها على
العقول العشرة والنفوس التسعة التي اخترعوا دعواها وعجزوا عن إقامة الدلالة على
مقتضاها ، فأفهموا صدر هذه الآية وقد كفروا بآخرها وهو قوله : (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا
هُوَ).
وقد ثبت في حديث
الإسراء المروي في الصحيحين وغيرهما عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال في صفة البيت المعمور الذي في السماء السابعة : «فإذا
هو يدخله في كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه آخر ما عليهم» . وقال الإمام أحمد : حدثنا أسود ، حدثنا إسرائيل عن إبراهيم بن مهاجر عن
مجاهد عن مورق عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون أطت السماء وحق
لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا عليه ملك ساجد ، لو علمتم ما أعلم لضحكتم
قليلا ولبكيتم كثيرا ولا تلذذتم بالنساء على الفرشات ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون
إلى الله تعالى» فقال أبو ذر : والله لوددت أني شجرة تعضد ، ورواه الترمذي وابن ماجة من حديث إسرائيل ، وقال الترمذي
حديث حسن غريب ، ويروى عن أبي ذر موقوفا.
وقال الحافظ أبو
القاسم الطبراني : حدثنا خير بن عرفة المصري ، حدثنا عروة بن مروان الرقي ، حدثنا
عبيد الله بن عمرو عن عبد الكريم بن مالك عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله
قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ما في السموات السبع موضع قدم ولا شبر ولا كف إلا وفيه
ملك قائم أو ملك ساجد أو ملك راكع ، فإذا كان يوم القيامة قالوا جميعا سبحانك ما
عبدناك حق عبادتك إلا أنا لم نشرك بك شيئا».
وقال محمد بن نصر
المروزي في كتاب الصلاة : حدثنا عمرو بن زرارة ، أخبرنا عبد الوهاب بن عطاء عن
سعيد عن قتادة عن صفوان بن محرز عن حكيم بن حزام قال : بينما رسول اللهصلىاللهعليهوسلم مع أصحابه إذ قال لهم : «هل تسمعون ما أسمع؟» قالوا : ما
نسمع من شيء. فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أسمع أطيط السماء وما تلام أن تئط. ما فيها موضع شبر
إلا وعليه ملك راكع أو ساجد».
وقال أيضا : حدثنا
محمد بن عبد الله بن قهزاذ ، حدثنا أبو معاذ الفضل بن خالد النحوي ، حدثنا عبيد بن
سليمان الباهلي سمعت الضحاك بن مزاحم يحدث عن مسروق بن الأجدع عن عائشة أنها قالت
: قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ما في السماء الدنيا موضع قدم إلا وعليه ملك ساجد أو
قائم وذلك قول الملائكة : (وَما مِنَّا إِلَّا
لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ
الْمُسَبِّحُونَ) [الصافات : ١٦٥]
وهذا مرفوع غريب جدا ثم رواه عن محمود بن آدم عن أبي معاوية عن الأعمش عن أبي
الضحى عن مسروق عن ابن مسعود أنه قال : إن من السموات سماء ما فيها موضع شبر إلا
وعليه جبهة ملك أو قدماه قائم ثم قرأ (وَإِنَّا لَنَحْنُ
الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ).
__________________
ثم قال : حدثنا
أحمد بن سيار ، حدثنا أبو جعفر بن محمد بن خالد الدمشقي المعروف بابن أمه ، حدثنا
المغيرة بن عمر بن عطية من بني عمرو بن عوف ، حدثني سليمان بن أيوب عن سالم بن عوف
، حدثني عطاء بن زيد بن مسعود من بني الحبلى ، حدثني سليمان بن عمرو بن الربيع من
بني سالم ، حدثني عبد الرّحمن بن العلاء من بني ساعدة عن أبيه العلاء بن سعد وقد
شهد الفتح وما بعده ، أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : يوما لجلسائه : «هل تسمعون ما أسمع؟» قالوا : وما
تسمع يا رسول الله؟ قال «أطت السماء وحق لها أن تئط إنه ليس فيها موضع قدم إلا
وعليه ملك قائم أو راكع أو ساجد وقالت الملائكة (وَإِنَّا لَنَحْنُ
الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) وهذا إسناد غريب جدا.
ثم قال : حدثنا
إسحاق بن محمد بن إسماعيل الفروي ، حدثنا عبد الملك بن قدامة عن عبد الرّحمن بن
عبد الله بن دينار عن أبيه عن عبد الله بن عمر أن عمر جاء والصلاة قائمة ونفر
ثلاثة جلوس أحدهم أبو جحش الليثي ، فقال : قوموا فصلوا مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فقام اثنان وأبى أبو جحش أن يقوم وقال لا أقوم حتى يأتي
رجل هو أقوى مني ذراعين وأشد مني بطشا ، فيصرعني ثم يدسّ وجهي في التراب ، قال عمر
فصرعته ودسست وجهه في التراب ، فأتى عثمان بن عفان فحجزني عنه فخرج عمر مغضبا حتى
انتهى إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : «ما رأيك يا أبا حفص؟» فذكر له ما كان منه ، فقال
رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن رضي عمر رحمة ، والله على ذلك لوددت أنك جئتني برأس
الخبيث» فقام عمر يوجه نحوه فلما أبعد ناداه فقال : «اجلس حتى أخبرك بغنى الرب
تبارك وتعالى عن صلاة أبي جحش وإن لله تعالى في السماء الدنيا ملائكة خشوعا لا
يرفعون رؤوسهم حتى تقوم الساعة ، فإذا قامت رفعوا رؤوسهم ثم قالوا ربنا ما عبدناك
حق عبادتك وإن لله في السماء الثانية ملائكة سجودا لا يرفعون رؤوسهم حتى تقوم
الساعة فإذا قامت الساعة رفعوا رؤوسهم وقالوا سبحانك ربنا ما عبدناك حق عبادتك».
فقال له عمر : وما
يقولون يا رسول الله؟ فقال : «أما أهل السماء الدنيا فيقولون سبحان ذي الملك
والملكوت ، وأما أهل السماء الثانية فيقولون سبحان ذي العزة والجبروت ، وأما أهل
السماء الثالثة فيقولون سبحان الحي الذي لا يموت ، فقلها يا عمر في صلاتك ، فقال
عمر :
يا رسول الله فكيف
بالذي كنت علمتني وأمرتني أن أقوله في صلاتي؟ فقال : «قل هذا مرة وهذا مرة» وكان
الذي أمره به أن يقوله : «أعوذ بعفوك من عقابك ، وأعوذ برضاك من سخطك ، وأعوذ بك
منك جل وجهك» هذا حديث غريب جدا بل منكر نكارة شديدة ، وإسحاق الفروي روى عنه
البخاري ، وذكره ابن حبان في الثقات وضعفه أبو داود والنسائي والعقيلي والدارقطني.
وقال أبو حاتم
الرازي : كان صدوقا إلا أنه ذهب بصره فربما لقن وكتبه صحيحة ، وقال مرة هو مضطرب
وشيخه عبد الملك بن قدامة أبو قتادة الجمحي تكلم فيه أيضا ، والعجب من
الإمام محمد بن
نصر كيف رواه ولم يتكلم عليه ، ولا عرف بحاله ، ولا تعرض لضعف بعض رجاله ، غير أنه
رواه من وجه آخر عن سعيد بن جبير مرسلا بنحوه ومن طريق أخرى عن الحسن البصري مرسلا
قريبا منه.
ثم قال محمد بن
نصر : حدثنا محمد بن عبد الله بن قهزاذ ، أخبرنا النضر ، أخبرنا عباد بن منصور قال
: سمعت عدي بن أرطاة وهو يخطبنا على منبر المدائن قال سمعت رجلا من أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : إن لله تعالى ملائكة ترعد فرائصهم من خيفته ما منهم
ملك تقطر منه دمعة من عينه إلا وقعت على ملك يصلي ، وإن منهم ملائكة سجودا منذ خلق
الله السموات والأرض لم يرفعوا رؤوسهم ولا يرفعونها إلى يوم القيامة ، وإن منهم
ملائكة ركوعا لم يرفعوا رؤوسهم منذ خلق الله السموات والأرض ولا يرفعونها إلى يوم
القيامة ، فإذا رفعوا رؤوسهم نظروا إلى وجه الله عزوجل قالوا سبحانك ما عبدناك حق عبادتك» وهذا إسناد لا بأس به.
وقوله تعالى : (وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ) قال مجاهد وغير واحد : (وَما هِيَ) أي النار التي وصفت (إِلَّا ذِكْرى
لِلْبَشَرِ) ثم قال تعالى : (كَلَّا وَالْقَمَرِ
وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ) أي ولى (وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ) أي أشرق (إِنَّها لَإِحْدَى
الْكُبَرِ) أي العظائم يعني النار ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة
والضحاك وغير واحد من السلف (نَذِيراً لِلْبَشَرِ
لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) أي لمن شاء أن يقبل النذارة ويهتدي للحق أو يتأخر عنها ويولي
ويردها.
(كُلُّ نَفْسٍ بِما
كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (٣٨) إِلاَّ أَصْحابَ
الْيَمِينِ (٣٩) فِي جَنَّاتٍ
يَتَساءَلُونَ(٤٠) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (٤١) ما سَلَكَكُمْ فِي
سَقَرَ (٤٢) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ(٤٣)
وَلَمْ
نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (٤٤)
وَكُنَّا
نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (٤٥) وَكُنَّا نُكَذِّبُ
بِيَوْمِ الدِّينِ (٤٦) حَتَّى أَتانَا
الْيَقِينُ (٤٧) فَما تَنْفَعُهُمْ
شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (٤٨) فَما لَهُمْ عَنِ
التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (٤٩) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ
مُسْتَنْفِرَةٌ (٥٠) فَرَّتْ مِنْ
قَسْوَرَةٍ (٥١) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ
امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (٥٢)
كَلاَّ
بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (٥٣)
كَلاَّ
إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (٥٤) فَمَنْ شاءَ
ذَكَرَهُ (٥٥) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ
اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ)
(٥٦)
يقول تعالى مخبرا
أن (كُلُّ نَفْسٍ بِما
كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) أي معتقلة بعملها يوم القيامة قاله ابن عباس وغيره (إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ) فإنهم (فِي جَنَّاتٍ
يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ) أي يسألون المجرمين وهم في الغرفات وأولئك في الدركات
قائلين لهم : (ما سَلَكَكُمْ فِي
سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) أي ما عبدنا الله ولا أحسنا إلى خلقه من جنسنا (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ) أي نتكلم فيما لا نعلم. وقال قتادة : كلما غوى غاو غوينا
معه (وَكُنَّا نُكَذِّبُ
بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ) يعني الموت كقوله تعالى : (وَاعْبُدْ رَبَّكَ
حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر : ٩٩] وقال
رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أما هو ـ يعني عثمان بن مظعون ـ فقد جاءه اليقين من
ربه» .
قال الله تعالى : (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ
الشَّافِعِينَ) أي من كان متصفا بمثل هذه الصفات فإنه لا تنفعه يوم
القيامة شفاعة شافع فيه لأن الشفاعة إنما تنجع إذا كان المحل قابلا ، فأما من وافى
الله كافرا يوم القيامة فإنه له النار لا محالة خالدا فيها.
ثم قال تعالى : (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ
مُعْرِضِينَ) أي فما لهؤلاء الكفرة الذين قبلك عما تدعوهم إليه وتذكرهم
به معرضين (كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ
مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) أي كأنهم في نفارهم عن الحق وإعراضهم عنه حمر من حمر الوحش
إذا فرت ممن يريد صيدها من أسد ، قاله أبو هريرة وابن عباس في رواية عنه وزيد بن
أسلم وابنه عبد الرّحمن ، أو رام ، وهو رواية عن ابن عباس وهو قول الجمهور. وقال
حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس : الأسد بالعربية ،
ويقال له بالحبشية قسورة ، وبالفارسية شير ، وبالنبطية أويا.
وقوله تعالى : (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ
أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً) أي بل يريد كل واحد من هؤلاء المشركين أن ينزل عليه كتاب
كما أنزل الله على النبي صلىاللهعليهوسلم ، قاله مجاهد وغيره ، كقوله تعالى : (وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ
نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ
يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [الأنعام : ١٢٤]
وفي رواية عن قتادة : يريدون أن يؤتوا براءة بغير عمل ، فقوله تعالى : (كَلَّا بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ) أي إنما أفسدهم عدم إيمانهم بها وتكذيبهم بوقوعها.
ثم قال تعالى : (كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ) أي حقا إن القرآن تذكرة (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ
وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) كقوله : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا
أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الإنسان : ٣٠].
وقوله تعالى : (هُوَ أَهْلُ التَّقْوى
وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) [التكوير : ٢٩] أي
هو أهل أن يخاف منه وهو أهل أن يغفر ذنب من تاب إليه وأناب. قاله قتادة.
وقال الإمام أحمد : حدثنا زيد بن الحباب ، أخبرني سهيل أخو حزم ، حدثنا ثابت
البناني عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قرأ رسول الله صلىاللهعليهوسلم هذه الآية (هُوَ أَهْلُ
التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) وقال «قال ربكم أنا أهل أن أتقى فلا يجعل معي إله فمن اتقى
أن يجعل معي إلها كان أهلا أن أغفر له» ورواه الترمذي وابن ماجة من حديث زيد بن الحباب ، والنسائي
من حديث المعافى ابن عمران ، كلاهما عن سهيل بن عبد الله القطعي به ، وقال الترمذي
: حسن غريب وسهيل ليس بالقوي ، ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن هدبة بن خالد عن
سهيل به ، وهكذا رواه أبو يعلى
__________________
والبزار والبغوي
وغيرهم من حديث سهيل القطعي به. آخر تفسير سورة المدثر ، ولله الحمد والمنة.
تفسير سورة القيامة
وهي مكية
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ
الرَّحِيمِ
(لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ
الْقِيامَةِ (١) وَلا أُقْسِمُ
بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (٢) أَيَحْسَبُ
الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (٣) بَلى قادِرِينَ عَلى
أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (٤) بَلْ يُرِيدُ
الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (٥)
يَسْئَلُ
أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (٦) فَإِذا بَرِقَ
الْبَصَرُ (٧) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨)
وَجُمِعَ
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ(٩) يَقُولُ الْإِنْسانُ
يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (١٠)
كَلاَّ
لا وَزَرَ (١١) إِلى رَبِّكَ
يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ(١٢)
يُنَبَّؤُا
الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (١٣)
بَلِ
الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (١٤) وَلَوْ أَلْقى
مَعاذِيرَهُ)
(١٥)
قد تقدم غير مرة
أن المقسم عليه إذا كان منتفيا جاز الإتيان بلا قبل القسم لتأكيد النفي. والمقسم
عليه هاهنا هو إثبات المعاد والرد على ما يزعمه الجهلة من العباد ومن عدم بعث
الأجساد ، ولهذا قال تعالى : (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ
الْقِيامَةِ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) قال الحسن : أقسم بيوم القيامة ولم يقسم بالنفس اللوامة ،
وقال قتادة : بل أقسم بهما جميعا ، هكذا حكاه ابن أبي حاتم : وقد حكى ابن جرير عن
الحسن والأعرج أنهما قرءا «لأقسم بيوم القيامة» وهذا يوجه قول الحسن لأنه أثبت
القسم بيوم القيامة ونفى القسم بالنفس اللوامة ، والصحيح أنه أقسم بهما جميعا كما
قاله قتادة رحمهالله ، وهو المروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير ، واختاره ابن
جرير.
فأما يوم القيامة
فمعروف وأما النفس اللوامة فقال قرة بن خالد عن الحسن البصري في هذه الآية : إن
المؤمن والله ما نراه إلا يلوم نفسه. ما أردت بكلمتي ، ما أردت بأكلتي ، ما أردت
بحديث نفسي ، وإن الفاجر يمضي قدما ما يعاتب نفسه ، وقال جويبر : بلغنا عن الحسن
أنه قال في قوله : (وَلا أُقْسِمُ
بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) قال : ليس أحد من أهل السموات والأرضين إلا يلوم نفسه يوم
القيامة.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن صالح بن مسلم عن إسرائيل عن سماك أنه سأل عكرمة
عن قوله : (وَلا أُقْسِمُ
بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) قال : يلوم على الخير والشر لو فعلت كذا وكذا ، ورواه ابن
جرير عن أبي كريب عن وكيع عن إسرائيل به.
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا مؤمل ، حدثنا سفيان عن ابن
جريج عن الحسن بن مسلم عن سعيد بن جبير في قوله : (وَلا أُقْسِمُ
بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) قال : تلوم على الخير والشر ، ثم رواه من وجه آخر عن سعيد
أنه سأل ابن عباس عن ذلك فقال : هي النفس اللؤوم ، وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد
تندم على ما فات وتلوم عليه ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : اللوامة
المذمومة ، وقال قتادة (اللَّوَّامَةِ) الفاجرة. وقال ابن جرير : وكل هذه الأقوال متقاربة بالمعنى
والأشبه بظاهر التنزيل أنها التي تلوم صاحبها على الخير والشر وتندم على ما فات.
وقوله تعالى : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ
نَجْمَعَ عِظامَهُ) أي يوم القيامة أيظن أنا لا نقدر على إعادة عظامه وجمعها
من أماكنها المتفرقة (بَلى قادِرِينَ عَلى
أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) وقال سعيد بن جبير والعوفي عن ابن عباس : أن نجعله خفا أو
حافرا ، وكذا قال مجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والضحاك وابن جرير ، ووجهه ابن جرير
بأنه تعالى لو شاء لجعل ذلك في الدنيا ، والظاهر من الآية أن قوله تعالى : (قادِرِينَ) حال من قوله تعالى : (نَجْمَعَ) أي أيظن الإنسان أنا لا نجمع عظامه؟ بلى سنجمعها قادرين
على أن نسوي بنانه أي قدرتنا صالحة لجمعها ، ولو شئنا لبعثناه أزيد مما كان فنجعل
بنانه وهي أطراف أصابعه مستوية ، وهذا معنى قول ابن قتيبة والزجاج.
وقوله : (بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ
أَمامَهُ) قال سعيد عن ابن عباس : يعني يمضي قدما ، وقال العوفي عن
ابن عباس (لِيَفْجُرَ أَمامَهُ) يعني الأمل ، يقول الإنسان أعمل ثم أتوب قبل يوم القيامة ،
ويقال : هو الكفر بالحق بين يدي القيامة.
وقال مجاهد (لِيَفْجُرَ أَمامَهُ) ليمضي أمامه راكبا رأسه ، وقال الحسن : لا يلقى ابن آدم
إلا تنزع نفسه إلى معصية الله قدما قدما إلا من عصمه الله تعالى ، وروي عن عكرمة
وسعيد بن جبير والضحاك والسدي وغير واحد من السلف : هو الذي يعجل الذنوب ويسوف
التوبة ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : هو الكافر يكذب بيوم الحساب ، وكذا
قال ابن زيد وهذا هو الأظهر من المراد ، ولهذا قال بعده (يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ) أي يقول متى يكون يوم القيامة وإنما سؤاله سؤال استبعاد
لوقوعه وتكذيب لوجوده كما قال تعالى : (وَيَقُولُونَ مَتى
هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا
تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ) [سبأ : ٢٩ ـ ٣٠].
وقال تعالى هاهنا
: (فَإِذا بَرِقَ
الْبَصَرُ) قرأ أبو عمرو بن العلاء (بَرِقَ) بكسر الراء أي حار ، وهذا الذي قاله شبيه بقوله تعالى : (لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) [إبراهيم : ٤٣] أي
بل ينظرون من الفزع هكذا وهكذا لا يستقر لهم بصر على شيء من شدة الرعب ، وقرأ
آخرون برق بالفتح وهو
__________________
قريب في المعنى من
الأول ، والمقصود أن الأبصار تنبهر يوم القيامة وتخشع وتحار وتذل من شدة الأهوال
ومن عظم ما تشاهده يوم القيامة من الأمور.
وقوله تعالى : (وَخَسَفَ الْقَمَرُ) أي ذهب ضوؤه (وَجُمِعَ الشَّمْسُ
وَالْقَمَرُ) قال مجاهد : كورا ، وقرأ ابن زيد عند تفسير هذه الآية (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا
النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) [التكوير : ١]
وروي عن ابن مسعود أنه قرأ وجمع بين الشمس والقمر.
وقوله تعالى : (يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ
الْمَفَرُّ) أي إذا عاين ابن آدم هذه الأهوال يوم القيامة حينئذ يريد
أن يفر ويقول أين المفر أي هل من ملجأ أو موئل ، قال الله تعالى : (كَلَّا لا وَزَرَ إِلى رَبِّكَ
يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ) قال ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير وغير واحد من السلف
: أي لا نجاة ، وهذه الآية كقوله تعالى : (ما لَكُمْ مِنْ
مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ) [الشورى : ٤٧] أي
ليس لكم مكان تتنكرون فيه ، وكذا قال هاهنا : (لا وَزَرَ) أي ليس لكم مكان تعتصمون فيه ، ولهذا قال : (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ) أي المرجع والمصير.
ثم قال تعالى : (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما
قَدَّمَ وَأَخَّرَ) أي يخبر بجميع أعماله قديمها وحديثها ، أولها وآخرها ،
صغيرها وكبيرها ، كما قال تعالى : (وَوَجَدُوا ما
عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) [الكهف : ٤٩]
وهكذا قال هاهنا : (بَلِ الْإِنْسانُ
عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) أي هو شهيد على نفسه عالم بما فعله ولو اعتذر وأنكر ، وكما
قال تعالى : (اقْرَأْ كِتابَكَ
كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) [الإسراء : ١٤]
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (بَلِ الْإِنْسانُ
عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) يقول : سمعه وبصره ويداه ورجلاه وجوارحه. وقال قتادة : شاهد
على نفسه وفي رواية قال : إذا شئت والله رأيته بصيرا بعيوب الناس وذنوبهم غافلا عن
ذنوبه. وكان يقال : إن في الإنجيل مكتوبا يا ابن آدم تبصر القذاة في عين أخيك
وتترك الجذل في عينك لا تبصره!.
وقال مجاهد : (وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) ولو جادل عنها فهو بصير عليها. وقال قتادة (وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) ولو اعتذر يومئذ بباطل لا يقبل منه. وقال السدي (وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) حجته. وكذا قال ابن زيد والحسن البصري وغيرهم واختاره ابن
جرير. وقال قتادة عن زرارة عن ابن عباس (وَلَوْ أَلْقى
مَعاذِيرَهُ) يقول : لو ألقى ثيابه. وقال الضحاك : ولو ألقى ستوره وأهل
اليمن يسمون الستر المعذار. والصحيح قول مجاهد وأصحابه كقوله تعالى : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا
أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣]
كقوله تعالى : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ
اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ
أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) [المجادلة : ١٨] وقال العوفي عن ابن عباس (وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) هي الاعتذار ألم تسمع أنه قال (لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ
مَعْذِرَتُهُمْ) وقال (وَأَلْقَوْا إِلَى
اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ) [النحل : ٨٧]
(فَأَلْقَوُا
السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ) [النحل : ٢٨]
وقولهم (وَاللهِ رَبِّنا ما
كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣].
(لا تُحَرِّكْ بِهِ
لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦)
إِنَّ
عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذا قَرَأْناهُ
فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا
بَيانَهُ (١٩) كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (٢٠) وَتَذَرُونَ
الْآخِرَةَ (٢١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣) وَوُجُوهٌ
يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (٢٤) تَظُنُّ أَنْ
يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ)(٢٥)
هذا تعليم من الله
عزوجل لرسوله صلىاللهعليهوسلم في كيفية تلقيه الوحي من الملك ، فإنه كان يبادر إلى أخذه
ويسابق الملك في قراءته ، فأمره الله عزوجل إذا جاءه الملك بالوحي أن يستمع له وتكفل الله له أن يجمعه
في صدره وأن ييسره لأدائه على الوجه الذي ألقاه عليه ، وأن يبينه له ويفسره
ويوضحه. فالحالة الأولى جمعه في صدره والثانية تلاوته والثالثة تفسيره وإيضاح
معناه. ولهذا قال تعالى : (لا تُحَرِّكْ بِهِ
لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) أي بالقرآن كما قال تعالى : (وَلا تَعْجَلْ
بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي
عِلْماً) [طه : ١١٤] ثم قال
تعالى : (إِنَّ عَلَيْنا
جَمْعَهُ) أي في صدرك (وَقُرْآنَهُ) أي أن تقرأه (فَإِذا قَرَأْناهُ) أي إذا تلاه عليك الملك عن الله تعالى: (فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) أي فاستمع له ثم اقرأه كما أقرأك (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) أي بعد حفظه وتلاوته نبينه لك ونوضحه ونلهمك معناه على ما
أردنا وشرعنا.
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرّحمن عن أبي عوانة عن موسى بن أبي عائشة عن
سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يعالج من التنزيل شدة فكان يحرك شفتيه قال : فقال لي ابن
عباس : أنا أحرك شفتي كما كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يحرك شفتيه ، وقال لي سعيد : وأنا أحرك شفتي كما رأيت ابن
عباس يحرك شفتيه ، فأنزل الله عزوجل (لا تُحَرِّكْ بِهِ
لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) قال : جمعه في صدرك ثم تقرأه (فَإِذا قَرَأْناهُ
فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) أي فاستمع له وأنصت (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا
بَيانَهُ) فكان بعد ذلك إذا انطلق جبريل قرأه كما أقرأه . وقد رواه البخاري ومسلم من غير وجه عن موسى بن أبي عائشة
به. ولفظ البخاري فكان إذا أتاه جبريل أطرق فإذا ذهب قرأه كما وعده الله عزوجل.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو يحيى التيمي ، حدثنا موسى بن أبي عائشة عن
سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم إذا نزل عليه الوحي يلقى منه شدة ، وكان إذا نزل عليه عرف
في تحريكه شفتيه يتلقى أوله ويحرك به شفتيه ، خشية أن ينسى أوله قبل أن يفرغ من
آخره فأنزل الله تعالى : (لا تُحَرِّكْ بِهِ
لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) وهكذا قال الشعبي والحسن البصري وقتادة ومجاهد والضحاك
وغير واحد : إن هذه الآية نزلت في ذلك.
__________________
وقد روى ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس (لا تُحَرِّكْ بِهِ
لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) قال : كان لا يفتر من القراءة مخافة أن ينساه فقال الله
تعالى : (لا تُحَرِّكْ بِهِ
لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ) أن نجمعه لك (وَقُرْآنَهُ) أن نقرئك فلا تنسى ، وقال ابن عباس وعطية العوفي (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) تبيين حلاله وحرامه وكذا قال قتادة.
وقوله تعالى : (كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ
وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ) أي إنما يحملهم على التكذيب بيوم القيامة ومخالفة ما أنزله
الله عزوجل على رسوله صلىاللهعليهوسلم من الوحي الحق والقرآن العظيم ، أنهم إنما همتهم إلى الدار
الدنيا العاجلة وهم لاهون متشاغلون عن الآخرة.
ثم قال تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ) من النضارة أي حسنة بهية مشرقة مسرورة (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) أي تراه عيانا كما رواه البخاري رحمهالله تعالى في صحيحه «إنكم سترون ربكم عيانا» . وقد ثبتت رؤية المؤمنين لله عزوجل في الدار الآخرة في الأحاديث الصحاح من طرق متواترة عند
أئمة الحديث لا يمكن دفعها ولا منعها ، لحديث أبي سعيد وأبي هريرة وهما في
الصحيحين أنا ناسا قالوا : يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال : «هل
تضارون في رؤية الشمس والقمر ليس دونهما سحاب؟» قالوا : لا ، قال : «فإنكم ترون
ربكم كذلك» .
وفي الصحيحين عن
جرير قال : نظر رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى القمر ليلة البدر فقال : «إنكم ترون ربكم كما ترون هذا
القمر! فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس ولا قبل غروبها فافعلوا»
وفي الصحيحين عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما ، وجنتان من فضة
آنيتهما وما فيهما ، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى الله عزوجل إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن» . وفي إفراد مسلم عن صهيب عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «إذا دخل أهل الجنة الجنة ـ قال ـ يقول الله تعالى :
تريدون شيئا أزيدكم؟ فيقولون : ألم تبيض وجوهنا! ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار!
قال : فيكشف الحجاب ، فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم وهي الزيادة» ثم
تلا هذه الآية (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا
الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) وفي إفراد مسلم عن جابر في حديثه «إن الله يتجلى للمؤمنين
يضحك» يعني في عرصات القيامة ففي هذه الأحاديث أن المؤمنين ينظرون إلى ربهم عزوجل في العرصات وفي
__________________
روضات الجنات ،
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا عبد الملك بن أبحر ، حدثنا
ثوير بن أبي فاختة عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن أدنى أهل الجنة منزلة لينظر في ملكه ألفي سنة يرى
أقصاه كما يرى أدناه ، ينظر إلى أزواجه وخدمه ، وإن أفضلهم منزلة لينظر في وجه
الله كل يوم مرتين» ورواه الترمذي عن عبد بن حميد عن شبابة عن إسرائيل عن ثوير
قال : سمعت ابن عمر فذكره ، قال : ورواه عبد الملك بن أبحر عن ثوير عن مجاهد عن
ابن عمر ، وكذلك رواه الثوري عن ثوير عن مجاهد عن ابن عمر ولم يرفعه ، ولو لا خشية
الإطالة لأوردنا الأحاديث بطرقها وألفاظها من الصحاح والحسان والمسانيد والسنن ،
ولكن ذكرنا ذلك مفرقا في مواضع من هذا التفسير وبالله التوفيق.
وهذا بحمد الله
مجمع عليه بين الصحابة والتابعين وسلف هذه الأمة كما هو متفق عليه بين أئمة
الإسلام ، وهداة الأنام ، ومن تأول ذلك بأن المراد بإلى مفرد الآلاء وهي النعم كما
قال الثوري عن منصور عن مجاهد (إِلى رَبِّها
ناظِرَةٌ) قال : تنتظر الثواب من ربها ، رواه ابن جرير من غير وجه عن مجاهد وكذا قال أبو صالح أيضا فقد أبعد هذا
القائل النجعة وأبطل فيما ذهب إليه ، وأين هو من قوله تعالى : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ
يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) [المطففين : ١٥]
قال الشافعي رحمهالله تعالى : ما حجب الكفار إلا وقد علم أن الأبرار يرونه عزوجل ثم قد تواترت الأخبار عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم بما دل عليه سياق الآية الكريمة وهي قوله تعالى : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) قال ابن جرير : حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري ، حدثنا آدم
، حدثنا المبارك عن الحسن (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
ناضِرَةٌ) قال حسنة (إِلى رَبِّها
ناظِرَةٌ) قال : تنظر إلى الخالق وحق لها أن تنضر وهي تنظر إلى
الخالق.
وقوله تعالى : (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ تَظُنُّ
أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) هذه وجوه الفجار تكون يوم القيامة باسرة ، قال قتادة :
كالحة ، وقال السدي : تغير ألوانها ، وقال ابن زيد (باسِرَةٌ) أي عابسة (تَظُنُ) أي تستيقن (أَنْ يُفْعَلَ بِها
فاقِرَةٌ) قال مجاهد : داهية ، وقال قتادة : شر ، وقال السدي. تستيقن
أنها هالكة ، وقال ابن زيد : تظن أن ستدخل النار ، وهذا المقام كقوله تعالى : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ
وُجُوهٌ) [آل عمران : ١٠٦]
وكقوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ
تَرْهَقُها قَتَرَةٌ أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) [عبس : ٣٨ ـ ٤٢]
وكقوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
خاشِعَةٌ عامِلَةٌ ناصِبَةٌ تَصْلى ناراً حامِيَةً) ـ إلى قوله ـ (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
ناعِمَةٌ لِسَعْيِها راضِيَةٌ فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) [الغاشية : ٢ ـ ١٠] في أشباه ذلك من الآيات والسياقات.
__________________
(كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ
التَّراقِيَ (٢٦) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (٢٧) وَظَنَّ أَنَّهُ
الْفِراقُ (٢٨) وَالْتَفَّتِ
السَّاقُ بِالسَّاقِ (٢٩) إِلى رَبِّكَ
يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (٣٠) فَلا صَدَّقَ وَلا
صَلَّى (٣١) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى(٣٢) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى
أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (٣٣) أَوْلى لَكَ
فَأَوْلى (٣٤) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٥)
أَيَحْسَبُ
الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (٣٦)
أَلَمْ
يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (٣٧) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً
فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨) فَجَعَلَ مِنْهُ
الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣٩) أَلَيْسَ ذلِكَ
بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى)(٤٠)
يخبر تعالى عن
حالة الاحتضار وما عنده من الأهوال ثبتنا الله هنالك بالقول الثابت فقال تعالى : (كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ) إن جعلنا (كلا) رادعة فمعناها لست يا ابن آدم هناك تكذب
بما أخبرت به بل صار ذلك عندك عيانا ، وإن جعلناها بمعنى «حقّا» فظاهر ، أي حقا
إذا بلغت التراقي أي انتزعت روحك من جسدك وبلغت تراقيك ، والتراقي جمع ترقوة وهي
العظام التي بين ثغرة النحر والعاتق ، كقوله تعالى : (فَلَوْ لا إِذا
بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ
مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ
تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [الواقعة : ٨٣ ـ ٨٧]
وهكذا قال هاهنا : (كَلَّا إِذا بَلَغَتِ
التَّراقِيَ) ويذكر هاهنا حديث بسر بن جحاش الذي تقدم في سورة يس.
والتراقي جمع ترقوة وهي قريبة من الحلقوم.
(وَقِيلَ مَنْ راقٍ) قال عكرمة عن ابن عباس : أي من راق يرقى ، وكذا قال أبو
قلابة : (وَقِيلَ مَنْ راقٍ) أي من طبيب شاف ، وكذا قال قتادة والضحاك وابن زيد ، وقال
ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا نصر بن علي ، حدثنا روح بن المسيب أبو رجاء
الكلبي ، حدثنا عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء عن ابن عباس (وَقِيلَ مَنْ راقٍ) قال : قيل من يرقى بروحه ملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟
فعلى هذا يكون من كلام الملائكة.
وبهذا الإسناد عن
ابن عباس في قوله : (وَالْتَفَّتِ
السَّاقُ بِالسَّاقِ) قال : التفت عليه الدنيا والآخرة ، وكذا قال علي بن أبي
طلحة عن ابن عباس (وَالْتَفَّتِ
السَّاقُ بِالسَّاقِ) يقول آخر يوم من أيام الدنيا وأول يوم من أيام الآخرة
فتلتقي الشدة بالشدة إلا من رحمهالله . وقال عكرمة : (وَالْتَفَّتِ
السَّاقُ بِالسَّاقِ) الأمر العظيم بالأمر العظيم ، وقال مجاهد : بلاء ببلاء ،
وقال الحسن البصري في قوله تعالى : (وَالْتَفَّتِ
السَّاقُ بِالسَّاقِ) هما ساقاك إذا التفتا ، وفي رواية عنه ماتت رجلاه فلم
تحملاه وقد كان عليهما جوالا ، وكذا قال السدي عن أبي مالك ، وفي رواية عن الحسن :
هو لفهما في الكفن ، وقال الضحاك : (وَالْتَفَّتِ
السَّاقُ بِالسَّاقِ) اجتمع عليه أمران : الناس يجهزون جسده والملائكة يجهزون
روحه.
وقوله تعالى : (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ) أي المرجع والمآب وذلك أن الروح ترفع إلى السموات ، فيقول
الله عزوجل : ردوا عبدي إلى الأرض فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم
ومنها
__________________
أخرجهم تارة أخرى
، كما ورد في حديث البراء الطويل. وقد قال الله تعالى : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ
وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ
رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ
أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ) [الأنعام : ٦١ ـ ٦٢].
وقوله جل وعلا : (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلكِنْ
كَذَّبَ وَتَوَلَّى) هذا إخبار عن الكافر الذي كان في الدار الدنيا مكذبا للحق
بقلبه متوليا عن العمل بقالبه ، فلا خير فيه باطنا ولا ظاهرا ، ولهذا قال تعالى : (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلكِنْ
كَذَّبَ وَتَوَلَّى ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى) أي جذلا أشرا بطرا كسلانا لا همة له ولا عمل ، كما قال
تعالى : (وَإِذَا انْقَلَبُوا
إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ) [المطففين : ٣٤].
وقال تعالى : (إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً
إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ) أي يرجع (بَلى إِنَّ رَبَّهُ
كانَ بِهِ بَصِيراً) [الانشقاق : ١٣ ـ ١٥]
وقال الضحاك عن ابن عباس (ثُمَّ ذَهَبَ إِلى
أَهْلِهِ يَتَمَطَّى) أي يختال : وقال قتادة وزيد بن أسلم : يتبختر. قال الله
تعالى : (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى
ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) وهذا تهديد ووعيد أكيد من الله تعالى للكافر به المتبختر
في مشيه أي يحق لك أن تمشي هكذا وقد كفرت بخالقك وبارئك كما يقال في مثل هذا على
سبيل التهكم والتهديد ، كقوله تعالى : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) [الدخان : ٤٩]
وكقوله تعالى : (كُلُوا وَتَمَتَّعُوا
قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ) [المرسلات : ٤٦]
وكقوله تعالى : (فَاعْبُدُوا ما
شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ) [الزمر : ١٥]
وكقوله جل جلاله : (اعْمَلُوا ما
شِئْتُمْ) [فصلت : ٤٠] إلى
غير ذلك.
وقد قال ابن أبي
حاتم : حدثنا أحمد بن سنان الواسطي ، حدثنا عبد الرّحمن يعني ابن مهدي عن إسرائيل
عن موسى بن أبي عائشة قال : سألت سعيد بن جبير قلت (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى
ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) قال : قاله النبي صلىاللهعليهوسلم لأبي جهل ثم نزل به القرآن.
وقال أبو عبد
الرّحمن النسائي : حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا أبو النعمان ، حدثنا أبو عوانة (ح)
وحدثنا أبو داود ، حدثنا محمد بن سليمان ، حدثنا أبو عوانة عن موسى بن أبي عائشة
عن سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس : (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى
ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى)؟ قال : قاله رسول الله صلىاللهعليهوسلم لأبي جهل ثم أنزله الله عزوجل.
قال ابن أبي حاتم
: وحدثنا أبي ، حدثنا هشام بن خالد ، حدثنا شعيب عن إسحاق ، حدثنا سعيد عن قتادة
قوله : (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى
ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) وعيد على أثر وعيد كما تسمعون ، وزعموا أن عدو الله أبا
جهل أخذ نبي الله صلىاللهعليهوسلم بمجامع ثيابه ثم قال : (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى
ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) فقال عدو الله أبو جهل : أتوعدني يا محمد؟ والله لا تستطيع
أنت ولا ربك شيئا وإني لأعز من مشى بين جبليها.
وقوله تعالى : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ
سُدىً) قال السدي : يعني لا يبعث. وقال
مجاهد والشافعي
وعبد الرّحمن بن زيد بن أسلم : يعني لا يؤمر ولا ينهى ، والظاهر أن الآية تعم
الحالين أي ليس يترك في هذه الدنيا مهملا لا يؤمر ولا ينهى ، ولا يترك في قبره سدى
لا يبعث بل هو مأمور منهي في الدنيا محشور إلى الله في الدار الآخرة ، والمقصود
هنا إثبات المعاد والرد على من أنكره من أهل الزيغ والجهل والعناد ، ولهذا قال
تعالى مستدلا على الإعادة بالبداءة فقال تعالى : (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً
مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى) أي أما كان الإنسان نطفة ضعيفة من ماء مهين. يمنى : يراق
من الأصلاب في الأرحام.
(ثُمَّ كانَ عَلَقَةً
فَخَلَقَ فَسَوَّى) أي فصار علقة ثم مضغة ثم شكل ونفخ فيه الروح فصار خلقا آخر
سويا سليم الأعضاء ذكرا أو أنثى بإذن الله وتقديره. ولهذا قال تعالى : (فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ
الذَّكَرَ وَالْأُنْثى).
ثم قال تعالى : (أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ
يُحْيِيَ الْمَوْتى) أي أما هذا الذي أنشأ هذا الخلق السوي من هذه النطفة
الضعيفة بقادر على أن يعيده كما بدأه وتناول القدرة للإعادة إما بطريق الأولى
بالنسبة إلى البداءة وإما مساوية على القولين في قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ
ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم : ٣٧]
والأول أشهر كما تقدم في سورة الروم بيانه وتقريره والله أعلم.
قال ابن أبي حاتم
: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا شبابة عن شعبة ، عن موسى بن أبي عائشة عن
آخر أنه كان فوق سطح يقرأ ويرفع صوته بالقرآن ، فإذا قرأ (أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ
يُحْيِيَ الْمَوْتى) قال : سبحانك اللهم فبلى ، فسئل عن ذلك فقال : سمعت رسول
الله صلىاللهعليهوسلم يقول ذلك. وقال أبو داود رحمهالله حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة
عن موسى بن أبي عائشة قال : كان رجل يصلي فوق بيته فكان إذا قرأ (أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ
يُحْيِيَ الْمَوْتى) قال سبحانك فبلى ، فسألوه عن ذلك فقال : سمعته من رسول
الله صلىاللهعليهوسلم ، تفرد به أبو داود ولم يسم هذا الصحابي ولا يضر ذلك.
وقال أبو داود
أيضا : حدثنا عبد الله بن محمد الزهري ، حدثنا سفيان ، حدثني إسماعيل بن أمية ،
سمعت أعرابيا يقول : سمعت أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من قرأ منكم بالتين والزيتون فانتهى إلى آخرها (أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) فليقل بلى وأنا على ذلك من الشاهدين ، ومن قرأ (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) فانتهى إلى قوله (أَلَيْسَ ذلِكَ
بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) فليقل بلى ، ومن قرأ (وَالْمُرْسَلاتِ) [المرسلات : ١]
فبلغ (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ
بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) [المرسلات : ٥٠]
فليقل «آمنا بالله» ورواه أحمد عن سفيان بن عيينة ورواه الترمذي عن ابن أبي
عمر ، عن سفيان بن عيينة به وقد رواه شعبة عن إسماعيل بن أمية قال: قلت له من حدثك؟
قال : رجل
__________________
صدق عن أبي هريرة.
وقال ابن جرير : حدثنا بشر ، حدثنا يزيد ، حدثنا سعيد عن قتادة قوله
تعالى : (أَلَيْسَ ذلِكَ
بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) ذكر لنا أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان إذا قرأها قال «سبحانك وبلى» ثم قال ابن أبي حاتم :
حدثنا أحمد بن سنان الواسطي ، حدثنا أبو أحمد الزبيري ، حدثنا سفيان عن أبي إسحاق
، عن مسلم البطين ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، أنه مر بهذه الآية (أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ
يُحْيِيَ الْمَوْتى) قال : سبحانك فبلى. آخر تفسير سورة القيامة ولله الحمد
والمنة.
تفسير سورة الإنسان
وهي مكية
قد تقدم في صحيح
مسلم عن ابن عباس أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة (الم تَنْزِيلُ) السجدة و (هَلْ أَتى عَلَى
الْإِنْسانِ) وقال عبد الله بن وهب : أخبرنا ابن زيد أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قرأ هذه السورة (هَلْ أَتى عَلَى
الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ) وقد أنزلت عليه وعنده رجل أسود ، فلما بلغ صفة الجنان زفر
زفرة فخرجت نفسه ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أخرج نفس صاحبكم ـ أو قال أخيكم ـ الشوق إلى الجنة»
مرسل غريب.
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(هَلْ أَتى عَلَى
الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً
(١)
إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ
سَمِيعاً بَصِيراً (٢) إِنَّا هَدَيْناهُ
السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً)(٣)
يقول تعالى مخبرا
عن الإنسان أنه أوجده بعد أن لم يكن شيئا يذكر لحقارته وضعفه فقال تعالى : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ
الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) ثم بين ذلك فقال جل جلاله : (إِنَّا خَلَقْنَا
الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ) أي أخلاط ، والمشج والمشيج : الشيء المختلط بعضه في بعض ،
قال ابن عباس في قوله تعالى : (مِنْ نُطْفَةٍ
أَمْشاجٍ) يعني ماء الرجل وماء المرأة إذا اجتمعا واختلطا ، ثم ينتقل
بعد من طور إلى طور وحال إلى حال ولون إلى لون ، وهكذا قال عكرمة ومجاهد والحسن
والربيع بن أنس : الأمشاج هو اختلاط ماء الرجل بماء المرأة.
__________________
وقوله تعالى : (نَبْتَلِيهِ) أي نختبره كقوله جل جلاله : (لِيَبْلُوَكُمْ
أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [الملك : ٢] (فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً) أي جعلنا له سمعا وبصرا يتمكن بهما من الطاعة والمعصية.
وقوله جل وعلا : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ) أي بيناه له ووضحناه وبصرناه به كقوله جل وعلا : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ
فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) [فصلت : ١٧]
وكقوله جل وعلا : (وَهَدَيْناهُ
النَّجْدَيْنِ) [البلد : ١٠] أي
بينا له طريق الخير وطريق الشر ، وهذا قول عكرمة وعطية وابن زيد ومجاهد في المشهور
عنه والجمهور. وروي عن مجاهد وأبي صالح والضحاك والسدي أنهم قالوا في قوله تعالى :
(إِنَّا هَدَيْناهُ
السَّبِيلَ) يعني خروجه من الرحم ، وهذا قول غريب والصحيح المشهور
الأول.
وقوله تعالى : (إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) منصوب على الحال من الهاء في قوله : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ) تقديره فهو في ذلك إما شقي وإما سعيد ، كما جاء في الحديث
الذي رواه مسلم عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «كل الناس يغدو فبائع نفسه فموبقها أو معتقها» .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر عن ابن خثيم عن عبد
الرّحمن بن سابط عن جابر بن عبد الله أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال لكعب بن عجرة : «أعاذك الله من إمارة السفهاء» قال :
وما إمارة السفهاء؟ قال : «أمراء يكونون من بعدي لا يهتدون بهداي ، ولا يستنون
بسنتي فمن صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فأولئك ليسوا مني ولست منهم ولا يردون
على حوضي ، ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فأولئك مني وأنا منهم
وسيردون على حوضي. يا كعب بن عجرة ، الصوم جنة والصدقة تطفئ الخطيئة ، والصلاة قربات
ـ أو قال برهان ـ يا كعب بن عجرة إنه لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت ، النار أولى
به ، يا كعب ، الناس غاديان فمبتاع نفسه فمعتقها ، وبائع نفسه فموبقها» ورواه عن
عفان عن وهيب عن عبد الله بن عثمان بن خثيم به.
وقد تقدم في سورة
الروم عند قوله جل جلاله (فِطْرَتَ اللهِ
الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) [الروم : ٣٠] من رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال
: قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «كل مولود يولد
على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه فإذا أعرب عنه لسانه فإما شاكرا وإما كفورا» .
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو عامر ، حدثنا عبد الله بن جعفر عن عثمان بن
محمد عن
__________________
المقبري عن أبي
هريرة رضي الله عنه عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «ما من خارج يخرج إلا ببابه رايتان : راية بيد ملك
وراية بيد شيطان ، فإن خرج لما يحب الله اتبعه الملك برايته ، فلم يزل تحت راية
الملك حتى يرجع إلى بيته ، وإن خرج لما يسخط الله اتبعه الشيطان برايته فلم يزل
تحت راية الشيطان حتى يرجع إلى بيته».
(إِنَّا أَعْتَدْنا
لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً
(٤) إِنَّ
الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (٥)
عَيْناً
يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (٦)
يُوفُونَ
بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (٧)
وَيُطْعِمُونَ
الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (٨)
إِنَّما
نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (٩)
إِنَّا
نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (١٠) فَوَقاهُمُ اللهُ
شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (١١)
وَجَزاهُمْ
بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً)
(١٢)
يخبر تعالى عما
أرصده للكافرين من خلقه به من السلاسل والأغلال والسعير ، وهو اللهب والحريق في
نار جهنم كما قال تعالى : (إِذِ الْأَغْلالُ فِي
أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ
يُسْجَرُونَ) [غافر : ٧١ ـ ٧٢]
ولما ذكر ما أعده لهؤلاء الأشقياء من السعير قال بعده : (إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ
كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً) وقد علم ما في الكافور من التبريد والرائحة الطيبة مع ما
يضاف إلى ذلك من اللذاذة في الجنة. قال الحسن : برد الكافور في طيب الزنجبيل ولهذا
قال : (عَيْناً يَشْرَبُ
بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً) أي هذا الذي مزج لهؤلاء الأبرار من الكافور هو عين يشرب
بها المقربون من عباد الله صرفا بلا مزج ويروون بها ، ولهذا ضمن يشرب معنى يروى
حتى عداه بالباء ونصب عينا على التمييز ، قال بعضهم : هذا الشراب في طيبه كالكافور
، وقال بعضهم : هو من عين كافور ، وقال بعضهم : يجوز أن يكون منصوبا بيشرب حكى هذه
الأقوال الثلاثة ابن جرير .
وقوله تعالى : (يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً) أي يتصرفون فيها حيث شاؤوا وأين شاؤوا من قصورهم ودورهم
ومجالسهم ومحالهم ، والتفجير هو الإنباع كما قال تعالى : (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى
تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) [الإسراء : ٩٠]
وقال (وَفَجَّرْنا
خِلالَهُما نَهَراً) [الكهف : ٣٣].
وقال مجاهد : (يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً) يقودونها حيث شاؤوا وكذا قال عكرمة وقتادة ، وقال الثوري
يصرفونها حيث شاؤوا ، وقوله تعالى : (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ
وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً) أي يتعبدون لله فيما أوجبه عليهم من فعل الطاعات الواجبة
بأصل الشرع وما أوجبوه على أنفسهم بطريق النذر.
قال الإمام مالك
عن طلحة بن عبد الملك الأيلي عن القاسم بن مالك عن عائشة رضي الله
__________________
عنها أن رسول الله
صلىاللهعليهوسلم قال : «من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله
فلا يعصه» رواه البخاري من حديث مالك. ويتركون المحرمات التي نهاهم
عنها خيفة من سوء الحساب يوم المعاد وهو اليوم الذي شره مستطير أي منتشر عام على
الناس إلا من رحم الله ، قال ابن عباس : فاشيا ، وقال قتادة : استطار والله شر ذلك
اليوم حتى ملأ السموات والأرض ، وقال ابن جرير: ومنه قولهم : استطار الصدع في الزجاجة واستطال ، ومنه قول
الأعشى : [المتقارب]
فبانت وقد أسأرت
في الفؤاد
|
|
صدعا على نأيها
مستطيرا
|
يعني ممتدا فاشيا.
وقوله تعالى : (وَيُطْعِمُونَ
الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ) قيل على حب الله تعالى ، وجعلوا الضمير عائدا إلى الله عزوجل لدلالة السياق عليه ، والأظهر أن الضمير عائد على الطعام
أي ويطعمون الطعام في حال محبتهم وشهوتهم له ، قاله مجاهد ومقاتل واختاره ابن جرير
كقوله تعالى : (وَآتَى الْمالَ عَلى
حُبِّهِ) وكقوله تعالى : (لَنْ تَنالُوا
الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [البقرة : ١٧٧].
وروى البيهقي من
طريق الأعمش عن نافع قال : مرض ابن عمر فاشتهى عنبا أول ما جاء العنب فأرسلت صفية
، يعني امرأته ، فاشترت عنقودا بدرهم فاتبع الرسول سائل فلما دخل به قال السائل : السائل.
فقال ابن عمر : أعطوه إياه فأعطوه إياه ، فأرسلت بدرهم آخر فاشترت عنقودا فاتبع
الرسول السائل ، فلما دخل قال السائل : فقال ابن عمر : أعطوه إياه فأعطوه إياه ،
فأرسلت صفية إلى السائل فقالت والله إن عدت لا تصيب منه خيرا أبدا ، ثم أرسلت
بدرهم آخر فاشترت به.
وفي الصحيح «أفضل
الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر» أي في حال محبتك للمال وحرصك عليه وحاجتك إليه ، ولهذا قال
تعالى : (وَيُطْعِمُونَ
الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) أما المسكين واليتيم فقد تقدم بيانهما وصفتهما ، وأما
الأسير فقال سعيد بن جبير والحسن والضحاك : الأسير من أهل القبلة ، وقال ابن عباس
: كان أسراؤهم يومئذ مشركين ، ويشهد لهذا أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أمر أصحابه يوم بدر أن يكرموا الأسارى ، فكانوا يقدمونهم
على أنفسهم عند الغداء ، وقال عكرمة : هم العبيد ، واختاره ابن جرير لعموم الآية
للمسلم والمشرك ، وهكذا قال سعيد بن جبير وعطاء والحسن وقتادة.
__________________
وقد وصى رسول الله
صلىاللهعليهوسلم بالإحسان إلى الأرقاء في غير ما حديث ، حتى أنه كان آخر ما
أوصى أن جعل يقول : «الصلاة وما ملكت أيمانكم» قال مجاهد : هو المحبوس ، أي يطعمون الطعام لهؤلاء وهم
يشتهونه ويحبونه قائلين بلسان الحال (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ
لِوَجْهِ اللهِ) أي رجاء ثواب الله ورضاه (لا نُرِيدُ مِنْكُمْ
جَزاءً وَلا شُكُوراً) أي لا نطلب منكم مجازاة تكافئوننا بها ولا أن تشكرونا عند
الناس.
قال مجاهد وسعيد
بن جبير : أما والله ما قالوه بألسنتهم ولكن علم الله به من قلوبهم ، فأثنى عليهم
به. ليرغب في ذلك راغب (إِنَّا نَخافُ مِنْ
رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً) أي إنما نفعل هذا لعل الله أن يرحمنا ويتلقانا بلطفه في
اليوم العبوس القمطرير.
قال علي بن أبي
طلحة عن ابن عباس : (عَبُوساً) ضيقا ، (قَمْطَرِيراً) طويلا ، وقال عكرمة وغيره عنه في قوله (يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً) قال : يعبس الكافر يومئذ حتى يسيل من بين عينيه عرق مثل
القطران. وقال مجاهد (عَبُوساً) العابس الشفتين (قَمْطَرِيراً) قال : يقبيض الوجه بالبسور. وقال سعيد بن جبير وقتادة :
تعبس فيه الوجوه من الهول ، (قَمْطَرِيراً) تقليص الجبين وما بين العينين من الهول. وقال ابن زيد ،
العبوس الشر ، والقمطرير الشديد ، وأوضح العبارات ، وأجلاها ، وأحلاها ، وأعلاها
وأولاها قول ابن عباس رضي الله عنه.
قال ابن جرير : والقمطرير هو الشديد يقال : هو يوم قمطرير ويوم قماطر
ويوم عصيب وعصبصب ، وقد اقمطر اليوم يقمطر اقمطرارا ، وذلك أشد الأيام وأطولها في
البلاء والشدة ومنه قول بعضهم : [الطويل]
بني عمنا هل
تذكرون بلاءنا؟
|
|
عليكم إذا ما
كان يوم قماطر
|
قال الله تعالى : (فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ
وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً) وهذا من باب التجانس البليغ (فَوَقاهُمُ اللهُ
شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ) أي آمنهم مما خافوا منه (وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً) أي في وجوههم (وَسُرُوراً) أي في قلوبهم ، قاله الحسن البصري وقتادة وأبو العالية
والربيع بن أنس ، وهذه كقوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ) [عبس : ٣٨ ـ ٣٩]
وذلك أن القلب إذا سر استنار الوجه.
قال كعب بن مالك
في حديثه الطويل : وكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم إذا سر استنار وجهه حتى كأنه
__________________
فلقة قمر ، وقالت عائشة رضي الله عنها : دخل علي رسول الله صلىاللهعليهوسلم مسرورا تبرق أسارير وجهه الحديث.
وقوله تعالى : (وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا) أي بسبب صبرهم أعطاهم ونولهم وبوأهم (جَنَّةً وَحَرِيراً) أي منزلا رحبا وعيشا رغيدا ولباسا حسنا. وروى الحافظ ابن
عساكر في ترجمة هشام بن سليمان الداراني قال : قرئ على أبي سليمان الداراني سورة (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ) فلما بلغ القارئ إلى قوله تعالى : (وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً
وَحَرِيراً) قال : بما صبروا على ترك الشهوات في الدنيا ثم أنشد يقول :
[الطويل]
كم قتيل بشهوة
وأسير
|
|
أف من مشتهي
خلاف الجميل
|
شهوات الإنسان
تورثه الذل
|
|
وتلقيه في
البلاء الطويل
|
(مُتَّكِئِينَ
فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً
(١٣) وَدانِيَةً
عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (١٤)
وَيُطافُ
عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (١٥)
قَوارِيرَا
مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (١٦) وَيُسْقَوْنَ فِيها
كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (١٧) عَيْناً فِيها
تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (١٨) وَيَطُوفُ
عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً
مَنْثُوراً (١٩) وَإِذا رَأَيْتَ
ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (٢٠) عالِيَهُمْ ثِيابُ
سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ
رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (٢١)
إِنَّ
هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً)
(٢٢)
يخبر تعالى عن أهل
الجنة وما هم فيه من النعيم المقيم وما أسبغ عليهم من الفضل العميم فقال تعالى : (مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ) وقد تقدم الكلام على ذلك في سورة الصافات ، وذكر الخلاف في
الاتكاء هل هو الاضطجاع أو التمرفق أو التربع أو التمكن في الجلوس ، وأن الأرائك
هي السرر تحت الحجال.
وقوله تعالى : (لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا
زَمْهَرِيراً) أي ليس عندهم حر مزعج ولا برد مؤلم بل هي مزاج واحد دائم
سرمدي لا يبغون عنها حولا (وَدانِيَةً
عَلَيْهِمْ ظِلالُها) أي قريبة إليهم أغصانها (وَذُلِّلَتْ
قُطُوفُها تَذْلِيلاً) أي متى تعاطاه دنا القطف إليه وتدلى من أعلى غصنه كأنه
سامع طائع كما قال تعالى في الآية الأخرى : (وَجَنَى
الْجَنَّتَيْنِ دانٍ) [الرّحمن : ٥٤]
وقال جل وعلا : (قُطُوفُها دانِيَةٌ) [الحاقة : ٢٣] قال
مجاهد : (وَذُلِّلَتْ
قُطُوفُها تَذْلِيلاً) إن قام ارتفعت معه بقدره ، وإن قعد تذللت له حتى ينالها ،
وإن اضطجع تذللت له حتى ينالها فذلك قوله تعالى : (تَذْلِيلاً) وقال قتادة : لا يرد أيديهم عنها شوك ولا بعد ، وقال مجاهد
أرض الجنة من ورق وترابها من المسك ، وأصول شجرها من ذهب وفضة ، وأفنانها من
اللؤلؤ الرطب والزبرجد
__________________
والياقوت والورق
والثمر بين ذلك ، فمن أكل منها قائما لم تؤذه ، ومن أكل منها قاعدا لم تؤذه ، ومن
أكل منها مضطجعا لم تؤذه.
وقوله جلت عظمته :
(وَيُطافُ عَلَيْهِمْ
بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ) أي يطوف عليهم الخدم بأواني الطعام وهي من فضة وأكواب
الشراب وهي الكيزان التي لا عرى لها ولا خراطيم ، وقوله (قَوارِيرَا قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ) فالأول منصوب بخبر كان أي كانت قوارير ، والثاني منصوب إما
على البدلية أو تمييز لأنه بينه بقوله جل وعلا : (قَوارِيرَا مِنْ
فِضَّةٍ).
قال ابن عباس
ومجاهد والحسن البصري وغير واحد : بياض الفضة في صفاء الزجاج والقوارير لا تكون
إلا من زجاج ، فهذه الأكواب هي من فضة وهي مع هذا شفافة يرى ما في باطنها من
ظاهرها ، وهذا مما لا نظير له في الدنيا ، قال ابن المبارك عن إسماعيل عن رجل عن
ابن عباس : ليس في الجنة شيء إلا قد أعطيتم في الدنيا شبهه إلا قوارير من فضة.
رواه ابن أبي حاتم : وقوله تعالى : (قَدَّرُوها
تَقْدِيراً) أي على قدر ريهم لا تزيد عنه ولا تنقص بل هي معدة لذلك
مقدرة بحسب ري صاحبها ، وهذا معنى قول ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وأبي صالح
وقتادة وابن أبزى ، وعبد الله بن عبيد بن عمير وقتادة والشعبي وابن زيد ، وقاله
ابن جرير وغير واحد ، وهذا أبلغ في الاعتناء والشرف والكرامة ، وقال العوفي عن ابن
عباس (قَدَّرُوها تَقْدِيراً) قدرت للكف وهكذا قال الربيع بن أنس ، وقال الضحاك ، على
قدر أكف الخادم ، وهذا لا ينافي القول الأول فإنها مقدرة في القدر والري.
وقوله تعالى : (وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ
مِزاجُها زَنْجَبِيلاً) أي ويسقون يعني الأبرار أيضا في هذه الأكواب (كَأْساً) أي خمرا (كانَ مِزاجُها
زَنْجَبِيلاً) فتارة يمزج لهم الشراب بالكافور وهو بارد ، وتارة
بالزنجبيل وهو حار ليعتدل الأمر ، وهؤلاء يمزج لهم من هذا تارة ومن هذا تارة ،
وأما المقربون فإنهم يشربون من كل منهما صرفا كما قال قتادة وغير واحد : وقد تقدم
قوله جل وعلا (عَيْناً يَشْرَبُ
بِها عِبادُ اللهِ) وقال هاهنا : (عَيْناً فِيها
تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً) أي الزنجبيل عين في الجنة تسمى سلسبيلا ، وقال عكرمة : اسم
عين في الجنة ، وقال مجاهد : سميت بذلك لسلاسة سيلها وحدة جريها ، وقال قتادة : (عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً) عين سلسة مستفيد ماؤها ، وحكى ابن جرير عن بعضهم أنها سميت
بذلك لسلاستها في الحلق واختار هو أنها تعم ذلك كله وهو كما قال.
وقوله تعالى : (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ
مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً) أي يطوف على أهل الجنة للخدمة ولدان من ولدان الجنة (مُخَلَّدُونَ) أي على حالة واحدة مخلدون عليها لا يتغيرون عنها لا تزيد
أعمارهم عن تلك السن ، ومن فسرهم بأنهم مخرصون في آذانهم الأقرطة فإنما عبر عن
المعنى بذلك ، لأن الصغير هو الذي يليق له ذلك دون الكبير.
وقوله تعالى : (إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ
لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً) أي إذا رأيتهم في انتشارهم في قضاء حوائج السادة وكثرتهم
وصباحة وجوههم وحسن ألوانهم وثيابهم وحليهم حسبتهم لؤلؤا منثورا ، ولا يكون في
التشبيه أحسن من هذا ولا في المنظر أحسن من اللؤلؤ المنثور على المكان الحسن. وقال
قتادة عن أبي أيوب عن عبد الله بن عمرو : ما من أهل الجنة من أحد إلا يسعى عليه
ألف خادم كل خادم على عمل ما عليه صاحبه.
وقوله جل وعلا : (وَإِذا رَأَيْتَ) أي وإذا رأيت يا محمد (ثَمَ) أي هناك يعني في الجنة ونعيمها وسعتها وارتفاعها وما فيها
من الحبرة والسرور (رَأَيْتَ نَعِيماً
وَمُلْكاً كَبِيراً) أي مملكة لله هناك عظيمة وسلطانا باهرا. وثبت في الصحيح أن
الله تعالى يقول لآخر أهل النار خروجا منها وآخر أهل الجنة دخولا إليها : إن لك
مثل الدنيا وعشرة أمثالها. وقد قدمنا في الحديث المروي من طريق ثوير بن أبي فاختة
عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر في ملكه مسيرة ألف
سنة ينظر إلى أقصاه كما ينظر إلى أدناه» فإذا كان هذا عطاؤه تعالى لأدنى من يكون في الجنة فما ظنك
بما هو أعلى منزلة وأحظى عنده تعالى؟
وقد روى الطبراني
هاهنا حديثا غريبا جدا فقال : حدثنا علي بن عبد العزيز ، حدثنا محمد بن عمار
الموصلي ، حدثنا عقبة بن سالم عن أيوب بن عتبة عن عطاء عن ابن عمر قال : جاء رجل
من الحبشة إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال له رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «سل واستفهم» فقال : يا رسول الله فضلتم علينا بالصور
والألوان والنبوة ، أفرأيت إن آمنت بما آمنت به وعملت بما عملت به إني لكائن معك
في الجنة؟ قال : «نعم والذي نفسي بيده إنه ليرى بياض الأسود في الجنة من مسيرة ألف
عام» ثم قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من قال لا إله إلا الله كان له بها عهد عند الله ، ومن
قال سبحان الله وبحمده كتب له مائة ألف حسنة وأربعة وعشرون ألف حسنة» فقال رجل :
كيف نهلك بعد هذا يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «إن الرجل ليأتي
يوم القيامة بالعمل لو وضع على جبل لأثقله فتقوم النعمة أو نعم الله فتكاد تستنفد
ذلك كله إلا أن يتغمده الله برحمته» ونزلت هذه السورة (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ
الدَّهْرِ) ـ إلى قوله ـ (مُلْكاً كَبِيراً) فقال الحبشي : وإن عيني لترى ما ترى عيناك في الجنة قال «نعم»
فاستبكى حتى فاضت نفسه. قال ابن عمر : ولقد رأيت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يدليه في حفرته بيده.
وقوله جل جلاله : (عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ
وَإِسْتَبْرَقٌ) أي لباس أهل الجنة فيها الحرير ومنه سندس وهو رفيع الحرير
كالقمصان ونحوها مما يلي أبدانهم ، والإستبرق منه ما فيه بريق ولمعان وهو مما يلي
الظاهر كما هو المعهود في اللباس (وَحُلُّوا أَساوِرَ
مِنْ فِضَّةٍ) وهذه صفة
__________________
الأبرار ، وأما
المقربون فكما قال تعالى : (يُحَلَّوْنَ فِيها
مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) [الحج : ٢٣] ولما
ذكر تعالى زينة الظاهر بالحرير والحلي قال بعده : (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ
شَراباً طَهُوراً) أي طهر بواطنهم من الحسد والحقد والغل والأذى وسائر
الأخلاق الرديئة ، كما روينا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه
قال : إذا انتهى أهل الجنة إلى باب الجنة وجدوا هنالك عينين ، فكأنما ألهموا ذلك
فشربوا من إحداهما فأذهب الله ما في بطونهم من أذى ، ثم اغتسلوا من الأخرى فجرت
عليهم نضرة النعيم ، فأخبر سبحانه وتعالى بحالهم الظاهر وجمالهم الباطن.
وقوله تعالى : (إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ
سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً) أي يقال لهم ذلك تكريما لهم وإحسانا إليهم كما قال تعالى :
(كُلُوا وَاشْرَبُوا
هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) [الحاقة : ٢٤] وكقوله تعالى : (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ
أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الأعراف : ٤٣] وقوله تعالى : (وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً) أي جزاكم الله تعالى على القليل بالكثير.
(إِنَّا نَحْنُ
نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (٢٣) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ
رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (٢٤)
وَاذْكُرِ
اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٢٥)
وَمِنَ
اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً(٢٦)
إِنَّ
هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (٢٧) نَحْنُ خَلَقْناهُمْ
وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (٢٨)
إِنَّ
هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٢٩)
وَما
تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٣٠)
يُدْخِلُ
مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً)
(٣١)
يقول تعالى ممتنا
على رسوله صلىاللهعليهوسلم بما أنزله عليه من القرآن العظيم تنزيلا : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) أي كما أكرمتك بما أنزلت عليك فاصبر على قضائه وقدره واعلم
أنه سيدبرك بحسن تدبيره (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ
آثِماً أَوْ كَفُوراً) أي لا تطع الكافرين والمنافقين إن أرادوا صدك عما أنزل
إليك بل بلغ ما أنزل إليك من ربك وتوكل على الله فإن الله يعصمك من الناس ، فالآثم
هو الفاجر في أفعاله والكفور هو الكافر قلبه.
(وَاذْكُرِ اسْمَ
رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) أي أول النهار وآخره (وَمِنَ اللَّيْلِ
فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً) كقوله تعالى : (وَمِنَ اللَّيْلِ
فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) [الإسراء : ٧٩]
وكقوله تعالى : (يا أَيُّهَا
الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ
قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) [المزمل : ١ ـ ٤]
ثم قال تعالى منكرا على الكفار ومن أشبههم في حب الدنيا والإقبال عليها والانصباب
إليها وترك الدار الآخرة وراء ظهورهم (إِنَّ هؤُلاءِ
يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً) يعني يوم القيامة.
ثم قال تعالى : (نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا
أَسْرَهُمْ) قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد : يعني خلقهم (وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ
تَبْدِيلاً) أي وإذا شئنا بعثناهم يوم القيامة وبدلناهم
فأعدناهم خلقا
جديدا ، وهذا استدلال بالبداءة على الرجعة. وقال ابن زيد وابن جرير (وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ
تَبْدِيلاً) أي وإذا شئنا أتينا بقوم آخرين غيرهم كقوله تعالى : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا
النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً) [النساء : ١٣٣]
وكقوله تعالى : (إِنْ يَشَأْ
يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) [إبراهيم : ١٩ ـ ٢٠].
ثم قال تعالى : (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ) يعني هذه السورة تذكرة (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ
إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) أي طريقا ومسلكا أي من شاء اهتدى بالقرآن كقوله تعالى : (وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا
بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ وَكانَ اللهُ
بِهِمْ عَلِيماً) [النساء : ٣٩]
الآية ، ثم قال تعالى : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا
أَنْ يَشاءَ اللهُ) أي لا يقدر أحد أن يهدي نفسه ولا يدخل في الإيمان ولا يجر
لنفسه نفعا (إِلَّا أَنْ يَشاءَ
اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) أي عليم بمن يستحق الهداية فييسرها له ويقيض له أسبابها ،
ومن يستحق الغواية فيصرفه عن الهدى. وله الحكمة البالغة ، والحجة الدامغة ، ولهذا
قال تعالى : (إِنَّ اللهَ كانَ
عَلِيماً حَكِيماً) ثم قال : (يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ
فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) أي يهدي من يشاء ويضل من يشاء فمن يهده فلا مضل له ومن
يضلل فلا هادي له.
آخر تفسير سورة
الإنسان ، ولله الحمد والمنة.
تفسير سورة المرسلات
وهي مكية
قال البخاري :
حدثنا عمر بن حفص بن غياث ، حدثنا أبي حدثنا الأعمش ، حدثني إبراهيم عن الأسود عن
عبد الله ـ هو ابن مسعود ـ رضي الله عنه قال : بينما نحن مع رسول اللهصلىاللهعليهوسلم في غار بمنى إذ نزلت عليه (وَالْمُرْسَلاتِ) فإنه ليتلوها وإني لأتلقاها من فيه وإن فاه لرطب بها إذ
وثبت علينا حية ، فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «اقتلوها» فابتدرناها فذهبت فقال النبي صلىاللهعليهوسلم: «وقيت شركم كما وقيتم شرها» وأخرجه مسلم أيضا من طريق الأعمش.
وقال الإمام أحمد : حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن عبيد الله عن ابن
عباس عن أمه أنها سمعت النبي صلىاللهعليهوسلم يقرأ في المغرب بالمرسلات عرفا ، وفي رواية مالك عن الزهري
عن عبيد الله عن ابن عباس أن أم الفضل سمعته يقرأ (وَالْمُرْسَلاتِ
عُرْفاً) فقالت : يا بني أذكرتني بقراءتك هذه السورة إنها لآخر ما
سمعت من رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقرأ بها في المغرب . أخرجاه في الصحيحين من طريق مالك به.
__________________
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(وَالْمُرْسَلاتِ
عُرْفاً (١) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (٢)
وَالنَّاشِراتِ
نَشْراً (٣) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً(٤)
فَالْمُلْقِياتِ
ذِكْراً (٥) عُذْراً أَوْ نُذْراً (٦)
إِنَّما
تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (٧) فَإِذَا النُّجُومُ
طُمِسَتْ(٨) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (٩)
وَإِذَا
الْجِبالُ نُسِفَتْ (١٠) وَإِذَا الرُّسُلُ
أُقِّتَتْ (١١) لِأَيِّ يَوْمٍ
أُجِّلَتْ (١٢) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (١٣)
وَما
أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (١٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ)(١٥)
قال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبي ، حدثنا زكريا بن سهل المروزي ، حدثنا علي بن الحسن بن شقيق ، حدثنا
الحسين بن واقد ، حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً) قال : الملائكة ، وروي عن مسروق وأبي الضحى ومجاهد في إحدى
الروايات والسدي والربيع بن أنس مثل ذلك وروي عن أبي صالح أنه قال : هي الرسل ،
وفي رواية عنه أنها الملائكة ، وهكذا قال أبو صالح في العاصفات والناشرات
والفارقات والملقيات أنها الملائكة. وقال الثوري عن سلمة بن كهيل عن مسلم البطين
عن أبي العبيدين قال : سألت ابن مسعود عن المرسلات عرفا قال : الريح.
وكذا قال في (فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً وَالنَّاشِراتِ
نَشْراً) إنها الريح ، وكذا قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وأبو صالح
في رواية عنه وتوقف ابن جرير في (وَالْمُرْسَلاتِ
عُرْفاً) هل هي الملائكة إذا أرسلت بالعرف أو كعرف الفرس يتبع بعضهم
بعضا ، أو هي الرياح إذا هبت شيئا فشيئا؟ وقطع بأن العاصفات عصفا الرياح كما قاله
ابن مسعود ومن تابعه ، وممن قال ذلك في العاصفات عصفا أيضا علي بن أبي طالب والسدي
وتوقف في الناشرات نشرا هل هي الملائكة أو الريح كما تقدم؟ وعن أبي صالح أن
الناشرات نشرا هي المطر ، والأظهر أن المرسلات هي الرياح كما قال تعالى : (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) [الحجر : ٢٢] وقال
تعالى : (وَهُوَ الَّذِي
يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) [الأعراف : ٥٧]
وهكذا العاصفات هي الرياح ، يقال عصفت الرياح إذا هبت بتصويت ، وكذا الناشرات هي
الرياح التي تنشر السحاب في آفاق السماء كما يشاء الرب عزوجل.
وقوله تعالى : (فَالْفارِقاتِ فَرْقاً فَالْمُلْقِياتِ
ذِكْراً عُذْراً أَوْ نُذْراً) يعني الملائكة. قاله ابن مسعود وابن عباس ومسروق ومجاهد
وقتادة والربيع بن أنس والسدي والثوري ، ولا خلاف هاهنا فإنها تنزل بأمر الله على
الرسل تفرق بين الحق والباطل ، والهدى والغي ، والحلال والحرام ، وتلقي إلى الرسل
وحيا فيه إعذار إلى الخلق وإنذار لهم عقاب الله إن خالفوا أمره. وقوله تعالى : (إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ) هذا هو المقسم عليه بهذه الأقسام أي ما وعدتم به من قيام
الساعة والنفخ في الصور وبعث الأجساد وجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد ومجازاة
كل عامل بعمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، إن هذا كله (لَواقِعٌ) أي لكائن لا
محالة. ثم قال
تعالى : (فَإِذَا النُّجُومُ
طُمِسَتْ) أي ذهب ضوؤها كقوله تعالى : (وَإِذَا النُّجُومُ
انْكَدَرَتْ) [التكوير : ٢]
وكقوله تعالى : (وَإِذَا الْكَواكِبُ
انْتَثَرَتْ) [الانفطار : ٢]
(وَإِذَا السَّماءُ
فُرِجَتْ) أي انفطرت وانشقت وتدلت أرجاؤها ووهت أطرافها.
(وَإِذَا الْجِبالُ
نُسِفَتْ) أي ذهب بها فلا يبقى لها عين ولا أثر كقوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ
يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا
أَمْتاً) [طه : ١٠٥ ـ ١٠٧]
الآية. وقال تعالى : (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ
الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ
أَحَداً) [الكفه : ٤٧]
وقوله تعالى : (وَإِذَا الرُّسُلُ
أُقِّتَتْ) قال العوفي عن ابن عباس : جمعت. وقال ابن زيد : وهذه كقوله
تعالى : (يَوْمَ يَجْمَعُ
اللهُ الرُّسُلَ) [المائدة : ١٠٩]
وقال مجاهد : (أُقِّتَتْ) أجلت. وقال الثوري عن منصور عن إبراهيم (أُقِّتَتْ) أو عدت وكأنه يجعلها كقوله تعالى : (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها
وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ
بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) [الزمر : ٦٩].
ثم قال تعالى : (لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ لِيَوْمِ
الْفَصْلِ وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) يقول تعالى لأي يوم أجلت الرسل وأرجئ أمرها حتى تقوم
الساعة كما قال تعالى : (فَلا تَحْسَبَنَّ
اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ يَوْمَ
تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ
الْقَهَّارِ) [إبراهيم : ٤٧ ـ ٤٨]
وهو يوم الفصل كما قال تعالى: (لِيَوْمِ الْفَصْلِ) ثم قال تعالى معظما لشأنه : (وَما أَدْراكَ ما
يَوْمُ الْفَصْلِ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي ويل لهم من عذاب الله غدا وقد قدمنا في الحديث أن ويل
واد في جهنم ولا يصح.
(أَلَمْ نُهْلِكِ
الْأَوَّلِينَ (١٦) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ
الْآخِرِينَ (١٧) كَذلِكَ نَفْعَلُ
بِالْمُجْرِمِينَ (١٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ (١٩) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ
مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٢٠) فَجَعَلْناهُ فِي
قَرارٍ مَكِينٍ (٢١) إِلى قَدَرٍ
مَعْلُومٍ (٢٢) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ
الْقادِرُونَ (٢٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٤) أَلَمْ نَجْعَلِ
الْأَرْضَ كِفاتاً (٢٥) أَحْياءً وَأَمْواتاً
(٢٦) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ
وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (٢٧) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ)
(٢٨)
يقول تعالى : (أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ) يعني من المكذبين للرسل المخالفين لما جاءوهم به (ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ) أي ممن أشبههم ولهذا قال تعالى : (كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) قاله ابن جرير . ثم قال تعالى ممتنا على خلقه ومحتجا على الإعادة
بالبداءة: (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ
مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) أي ضعيف حقير بالنسبة إلى قدرة الباري عزوجل كما تقدم في سورة يس في حديث بسر بن جحاش «ابن آدم أنى
تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه؟» .
__________________
(فَجَعَلْناهُ فِي
قَرارٍ مَكِينٍ) يعني جمعناه في الرحم وهو قرار الماء من الرجل والمرأة
والرحم معد لذلك حافظ لما أودع فيه من الماء. وقوله تعالى : (إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ) يعني إلى مدة معينة من ستة أشهر أو تسعة أشهر ، ولهذا قال
تعالى : (فَقَدَرْنا فَنِعْمَ
الْقادِرُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) ثم قال تعالى : (أَلَمْ نَجْعَلِ
الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَأَمْواتاً) قال ابن عباس : (كِفاتاً) كنا وقال مجاهد : يكفت الميت فلا يرى منه شيء وقال الشعبي
بطنها لأمواتكم وظهرها لأحيائكم وكذا قال مجاهد وقتادة (وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ) يعني الجبال أرسى بها الأرض لئلا تميد وتضطرب (وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً) أي عذبا زلالا من السحاب أو مما أنبعه الله من عيون الأرض (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي ويل لمن تأمل هذه المخلوقات الدالة على عظمة خالقها ثم
بعد هذا يستمر على تكذيبه وكفره.
(انْطَلِقُوا إِلى ما
كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٩) انْطَلِقُوا إِلى
ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (٣٠)
لا
ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ (٣١)
إِنَّها
تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (٣٢) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ
صُفْرٌ (٣٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٤) هذا يَوْمُ لا
يَنْطِقُونَ (٣٥) وَلا يُؤْذَنُ
لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (٣٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٧) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ
جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (٣٨)
فَإِنْ
كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (٣٩)
وَيْلٌ
يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ)
(٤٠)
يقول تعالى مخبرا
عن الكفار المكذبين بالمعاد والجزاء والجنة والنار أنهم يقال لهم يوم القيامة : (انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ
تُكَذِّبُونَ انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ) يعني لهب النار إذا ارتفع وصعد معه دخان فمن شدته وقوته أن
له ثلاث شعب (لا ظَلِيلٍ وَلا
يُغْنِي مِنَ اللهَبِ) أي ظل الدخان المقابل للهب لا ظليل هو في نفسه ، ولا يغني
من اللهب يعني ولا يقيهم حر اللهب. وقوله تعالى : (إِنَّها تَرْمِي
بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ) أي يتطاير الشرر من لهبها كالقصر ، قال ابن مسعود :
كالحصون ، وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة ومالك عن زيد بن أسلم وغيرهم : يعني أصول
الشجر.
كأنه جمالات صفر
أي كالإبل السود ، قاله مجاهد والحسن وقتادة والضحاك واختاره ابن جرير ، وعن ابن
عباس ومجاهد وسعيد بن جبير : جمالات صفر يعني حبال السفن ، وعنه أعني ابن عباس : (جِمالَتٌ صُفْرٌ) قطع نحاس.
وقال البخاري : حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا يحيى أنبأنا سفيان عن عبد
الرّحمن بن عابس قال : سمعت ابن عباس رضي الله عنهما (إِنَّها تَرْمِي
بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ) قال : كنا نعمد إلى الخشبة ثلاثة أذرع وفوق ذلك فنرفعه
للبناء فنسميه القصر كأنه جمالات صفر حبال السفن تجمع حتى تكون كأوساط الرجال.
__________________
(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ) ثم قال تعالى : (هذا يَوْمُ لا
يَنْطِقُونَ) أي لا يتكلمون (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ
فَيَعْتَذِرُونَ) أي لا يقدرون على الكلام ولا يؤذن لهم فيه ليعتذروا بل قد
قامت عليهم الحجة ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون ، وعرصات القيامة
حالات ، والرب تعالى يخبر عن هذه الحالة تارة وعن هذه الحالة تارة ، ليدل على شدة
الأهوال والزلازل يومئذ ، ولهذا يقول بعد كل فصل من هذا الكلام : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ).
وقوله تعالى : (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ
وَالْأَوَّلِينَ فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ) وهذه مخاطبة من الخالق تعالى لعباده يقول لهم : (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ
وَالْأَوَّلِينَ) يعني أنه جمعهم بقدرته في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم
البصر. وقوله تعالى : (فَإِنْ كانَ لَكُمْ
كَيْدٌ فَكِيدُونِ) تهديد شديد ووعيد أكيد أي إن قدرتم على أن تتخلصوا من
قبضتي وتنجوا من حكمي فافعلوا فإنكم لا تقدرون على ذلك كما قال تعالى : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ
اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا
لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ) [الرّحمن: ٣٣] وقد قال تعالى : (وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً) [هود : ٥٧] وفي
الحديث : «يا عبادي إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني ولن تبلغوا ضري فتضروني».
وقد قال ابن أبي
حاتم : حدثنا علي بن المنذر الطريقي الأودي ، حدثنا محمد بن فضيل ، حدثنا حصين بن
عبد الرّحمن عن حسان بن أبي المخارق ، عن أبي عبد الله الجدلي قال : أتيت بيت
المقدس فإذا عبادة بن الصامت وعبد الله بن عمرو وكعب الأحبار يتحدثون في بيت
المقدس فقال عبادة : إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد
ينفذهم البصر ويسمعهم الداعي ، ويقول الله : (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ
جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ) اليوم لا ينجو مني جبار عنيد ، ولا شيطان مريد ، فقال عبد
الله بن عمرو : فإنا نحدث يومئذ أنها تخرج عنق من النار فتنطلق ، حتى إذا كانت بين
ظهراني الناس نادت : أيها الناس إني بعثت إلى ثلاثة أنا أعرف بهم من الأب بولده
ومن الأخ بأخيه لا يغيبهم عني وزر ولا تخفيهم عني خافية ، الذي جعل مع الله إلها
آخر ، وكل جبار عنيد وكل شيطان مريد ، فتنطوي عليهم فتقذف بهم في النار قبل الحساب
بأربعين سنة.
(إِنَّ الْمُتَّقِينَ
فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (٤١) وَفَواكِهَ مِمَّا
يَشْتَهُونَ (٤٢) كُلُوا وَاشْرَبُوا
هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣)
إِنَّا
كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٤٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٥) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا
قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (٤٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٧) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ
ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ(٤٨)
وَيْلٌ
يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٩)
فَبِأَيِّ
حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ)
(٥٠)
يقول تعالى مخبرا
عن عباده المتقين الذين عبدوه بأداء الواجبات ، وترك المحرمات ، أنهم يوم القيامة
يكونون في جنات وعيون أي بخلاف ما أولئك الأشقياء فيه من ظلل اليحموم وهو الدخان
الأسود المنتن ، وقوله تعالى : (وَفَواكِهَ مِمَّا
يَشْتَهُونَ) أي ومن سائر أنواع الثمار مهما
طلبوا وجدوا (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما
كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي يقال لهم ذلك على سبيل الإحسان إليهم ثم قال تعالى
مخبرا خبرا مستأنفا : (إِنَّا كَذلِكَ
نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي هذا جزاؤنا لمن أحسن العمل (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ).
وقوله تعالى : (كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً
إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ) خطاب للمكذبين بيوم الدين وأمرهم أمر تهديد ووعيد فقال
تعالى : (كُلُوا وَتَمَتَّعُوا
قَلِيلاً) أي مدة قليلة قريبة قصيرة (إِنَّكُمْ
مُجْرِمُونَ) أي ثم تساقون إلى نار جهنم التي تقدم ذكرها (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) كما قال تعالى : (نُمَتِّعُهُمْ
قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) [لقمان : ٢٤] :
وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ
إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا
يَكْفُرُونَ) [يونس : ٦٩ ـ ٧٠]
وقوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ
ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ) أي إذا أمر هؤلاء الجهلة من الكفار أن يكونوا من المصلين
مع الجماعة امتنعوا من ذلك واستكبروا عنه ، ولهذا قال تعالى : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) ثم قال تعالى : (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ
يُؤْمِنُونَ) أي إذا لم يؤمنوا بهذا القرآن فبأي كلام يؤمنون به؟ كقوله
تعالى : (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ
بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ) [الجاثية : ٦].
قال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبي حدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان عن إسماعيل بن أمية : سمعت رجلا
أعرابيا بدويا يقول : سمعت أبا هريرة يرويه إذا قرأ (وَالْمُرْسَلاتِ
عُرْفاً) ـ فقرأ ـ (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ
بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ)؟ فليقل آمنت بالله وبما أنزل. وقد تقدم هذا الحديث في سورة
القيامة. آخر تفسير سورة المرسلات ، ولله الحمد والمنة ، وبه التوفيق والعصمة.
تفسير سورة النبأ
وهي مكية
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(عَمَّ يَتَساءَلُونَ (١) عَنِ النَّبَإِ
الْعَظِيمِ (٢) الَّذِي هُمْ فِيهِ
مُخْتَلِفُونَ (٣) كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ(٤) ثُمَّ كَلاَّ
سَيَعْلَمُونَ (٥) أَلَمْ نَجْعَلِ
الْأَرْضَ مِهاداً (٦) وَالْجِبالَ أَوْتاداً
(٧) وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (٨)
وَجَعَلْنا
نَوْمَكُمْ سُباتاً (٩) وَجَعَلْنَا
اللَّيْلَ لِباساً (١٠) وَجَعَلْنَا
النَّهارَ مَعاشاً (١١) وَبَنَيْنا
فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (١٢)
وَجَعَلْنا
سِراجاً وَهَّاجاً (١٣) وَأَنْزَلْنا مِنَ
الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (١٤) لِنُخْرِجَ بِهِ
حَبًّا وَنَباتاً (١٥) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً)(١٦)
يقول تعالى منكرا
على المشركين في تساؤلهم عن يوم القيامة إنكارا لوقوعها (عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ
الْعَظِيمِ) أي عن أي شيء يتساءلون عن أمر القيامة وهو النبأ العظيم ،
يعني
الخبر الهائل
المفظع الباهر ، قال قتادة وابن زيد : النبأ العظيم البعث بعد الموت وقال مجاهد : هو
القرآن . والأظهر الأول لقوله : (الَّذِي هُمْ فِيهِ
مُخْتَلِفُونَ) يعني الناس فيه على قولين مؤمن به وكافر.
ثم قال تعالى
متوعدا لمنكري القيامة (كَلَّا سَيَعْلَمُونَ
ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد. ثم شرع تبارك وتعالى يبين
قدرته العظيمة على خلق الأشياء الغريبة والأمور العجيبة الدالة على قدرته على ما
يشاء من أمر المعاد وغيره فقال : (أَلَمْ نَجْعَلِ
الْأَرْضَ مِهاداً) أي ممهدة للخلائق ذلولا لهم قارة ساكنة ثابتة (وَالْجِبالَ أَوْتاداً) أي جعلها لها أوتادا أرساها بها وثبتها وقررها حتى سكنت
ولم تضطرب بمن عليها.
ثم قال تعالى : (وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً) يعني ذكرا وأنثى يتمتع كل منهما بالآخر ويحصل التناسل بذلك
كقوله : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ
خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ
بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) [الروم : ٢٠]
وقوله تعالى : (وَجَعَلْنا
نَوْمَكُمْ سُباتاً) أي قطعا للحركة لتحصل الراحة من كثرة الترداد والسعي في
المعايش في عرض النهار وقد تقدم مثل هذه الآية في سورة الفرقان (جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً) [الفرقان : ٤٧]
وجعلنا الليل لباسا أي يغشى الناس ظلامه وسواده كما قال : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها) [الشمس : ٤] وقال
الشاعر : [الطويل]
فلما لبسن الليل
أو حين نصّبت
|
|
له من خذا
آذانها وهو جانح
|
وقال قتادة في
قوله تعالى : (وَجَعَلْنَا
اللَّيْلَ لِباساً) أي سكنا ، وقوله تعالى : (وَجَعَلْنَا
النَّهارَ مَعاشاً) أي جعلناه مشرقا نيرا مضيئا ليتمكن الناس من التصرف فيه
والذهاب والمجيء للمعاش والتكسب والتجارات وغير ذلك. وقوله تعالى : (وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً) يعني السموات السبع في اتساعها وارتفاعها وإحكامها
وإتقانها وتزيينها بالكواكب الثوابت والسيارات ولهذا قال تعالى : (وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً) يعني الشمس المنيرة على جميع العالم التي يتوهج ضوؤها لأهل
الأرض كلهم.
وقوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً
ثَجَّاجاً) قال العوفي عن ابن عباس : (الْمُعْصِراتِ) الريح ، وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد حدثنا أبو داود
الحفري عن سفيان عن الأعمش عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس (وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ) قال : الرياح ، وكذا قال عكرمة ومجاهد وقتادة ومقاتل
والكلبي وزيد بن أسلم وابنه
__________________
عبد الرّحمن إنها
الرياح ، ومعنى هذا القول إنها تستدر المطر من السحاب ، وقال علي بن أبي طلحه عن
ابن عباس من المعصرات أي من السحاب ، وكذا قال عكرمة أيضا وأبو العالية والضحاك
والحسن والربيع بن أنس والثوري واختاره ابن جرير.
وقال الفراء : هي
السحاب التي تتحلب بالمطر ولم تمطر بعد ، كما يقال امرأة معصر إذا دنا حيضها ولم
تحض. وعن الحسن وقتادة : (مِنَ الْمُعْصِراتِ) يعني السموات وهذا قول غريب ، والأظهر أن المراد بالمعصرات
السحاب كما قال تعالى : (اللهُ الَّذِي
يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ
وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) [الروم : ٤٨] أي
من بينه.
وقوله جل وعلا : (ماءً ثَجَّاجاً) قال مجاهد وقتادة والربيع بن أنس : (ثَجَّاجاً) منصبا وقال الثوري : متتابعا وقال ابن زيد : كثيرا ، وقال
ابن جرير ولا يعرف في كلام العرب في صفة الكثرة الثج وإنما الثج
الصب المتتابع ومنه قول النبي صلىاللهعليهوسلم : «أفضل الحج العج والثج» يعني صب دماء البدن هكذا قال ، قلت وفي حديث المستحاضة حين
قال لها رسول اللهصلىاللهعليهوسلم : «أنعت لك الكرسف» يعني أن تحتشي بالقطن فقالت : يا رسول
الله هو أكثر من ذلك إنما أثج ثجا ، وهذا فيه دلالة على استعمال الثج في الصب المتتابع
الكثير ، والله أعلم.
وقوله تعالى : (لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً
وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً) أي لنخرج بهذا الماء الكثير الطيب النافع المبارك (حَبًّا) يدخر للأناسي والأنعام (وَنَباتاً) أي خضرا يؤكل رطبا (وَجَنَّاتٍ) أي بساتين وحدائق من ثمرات متنوعة وألوان مختلفة وطعوم
وروائح متفاوتة وإن كان ذلك في بقعة واحدة من الأرض مجتمعا ولهذا قال (وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً) ، قال ابن عباس وغيره : (أَلْفافاً) مجتمعة ، وهذه كقوله تعالى : (وَفِي الْأَرْضِ
قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ
وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي
الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [الرعد : ٤].
(إِنَّ يَوْمَ
الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (١٧)
يَوْمَ
يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (١٨)
وَفُتِحَتِ
السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (١٩) وَسُيِّرَتِ
الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (٢٠) إِنَّ جَهَنَّمَ
كانَتْ مِرْصاداً(٢١) لِلطَّاغِينَ مَآباً
(٢٢) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (٢٣) لا يَذُوقُونَ فِيها
بَرْداً وَلا شَراباً (٢٤) إِلاَّ حَمِيماً
وَغَسَّاقاً (٢٥) جَزاءً وِفاقاً (٢٦)
إِنَّهُمْ
كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (٢٧)
__________________
وَكَذَّبُوا
بِآياتِنا كِذَّاباً (٢٨) وَكُلَّ شَيْءٍ
أَحْصَيْناهُ كِتاباً (٢٩) فَذُوقُوا فَلَنْ
نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً)(٣٠)
يقول تعالى مخبرا
عن يوم الفصل وهو يوم القيامة أنه مؤقت بأجل معدود لا يزاد عليه ولا ينقص منه ولا
يعلم وقته على التعيين إلا الله عزوجل كما قال تعالى : (وَما نُؤَخِّرُهُ
إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ) [هود : ١٠٤] (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ
فَتَأْتُونَ أَفْواجاً) قال مجاهد : زمرا زمرا ، قال ابن جرير : يعني تأتي كل أمة
مع رسولها ، كقوله تعالى : (يَوْمَ نَدْعُوا
كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) [الإسراء : ٧١].
وقال البخاري (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي
الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً) حدثنا محمد ، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن
أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ما بين النفختين أربعون» قالوا : أربعون يوما؟ قال «أبيت»
قالوا : أربعون شهرا؟ قال «أبيت» قالوا : أربعون سنة؟ قال «أبيت» قال «ثم ينزل
الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل ليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظما
واحدا وهو عجب الذنب ومنه يركب الخلق يوم القيامة».
(وَفُتِحَتِ السَّماءُ
فَكانَتْ أَبْواباً) أي طرقا ومسالك لنزول الملائكة (وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً) كقوله تعالى : (وَتَرَى الْجِبالَ
تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) [النمل: ٨٨] وكقوله تعالى : (وَتَكُونُ الْجِبالُ
كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) [القارعة : ٥]
وقال هاهنا : (فَكانَتْ سَراباً) أي يخيل إلى الناظر أنها شيء وليست بشيء وبعد هذا تذهب بالكلية
فلا عين ولا أثر ، كما قال تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً لا تَرى
فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) [طه : ١٠٥ ـ ١٠٧]
، وقال تعالى : (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ
الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً) [الكهف : ٤٧]
وقوله تعالى : (إِنَّ جَهَنَّمَ
كانَتْ مِرْصاداً) أي مرصدة معدة (لِلطَّاغِينَ) وهم المردة العصاة المخالفون للرسل (مَآباً) أي مرجعا ومنقلبا ومصيرا ونزلا. وقال الحسن وقتادة في قوله
تعالى : (إِنَّ جَهَنَّمَ
كانَتْ مِرْصاداً) يعني أنه لا يدخل أحد الجنة حتى يجتاز بالنار فإن كان معه
جواز نجا وإلا احتبس ، وقال سفيان الثوري : عليها ثلاث قناطر.
وقوله تعالى : (لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً) أي ماكثين فيها أحقابا وهي جمع حقب وهو المدة من الزمان ،
وقد اختلفوا في مقداره فقال ابن جرير عن ابن حميد عن مهران عن سفيان الثوري عن
عمار الدهني عن سالم بن أبي الجعد قال : قال علي بن أبي طالب لهلال الهجري : ما
تجدون الحقب في كتاب الله المنزل؟ قال : نجده ثمانين سنة كل سنة اثنا عشر شهرا كل
شهر ثلاثون يوما كل يوم ألف سنة ، وهكذا روي عن أبي هريرة وعبد الله بن عمرو وابن
عباس وسعيد بن جبير وعمرو بن ميمون والحسن وقتادة والربيع بن أنس والضحاك ، وعن
الحسن والسدي أيضا سبعون سنة كذلك ، وعن عبد الله بن عمرو : الحقب أربعون سنة كل
يوم منها كألف سنة مما تعدون ، رواهما ابن أبي حاتم.
__________________
وقال بشير بن كعب
: ذكر لي أن الحقب الواحد ثلاثمائة سنة ، كل سنة اثنا عشر شهرا ، كل سنة ثلاثمائة
وستون يوما كل يوم منها كألف سنة ، رواه ابن جرير وابن أبي حاتم ، ثم قال ابن أبي حاتم : ذكر عن عمر بن علي
بن أبي بكر الأسفذني ، حدثنا مروان بن معاوية الفزاري عن جعفر بن الزبير عن القاسم
عن أبي أمامة عن النبي صلىاللهعليهوسلم في قوله تعالى : (لابِثِينَ فِيها
أَحْقاباً) قال : فالحقب شهر ، الشهر ثلاثون يوما والسنة اثنا عشر
شهرا ، والسنة ثلاثمائة وستون يوما ، كل يوم منها ألف سنة مما تعدون ، فالحقب
ثلاثون ألف ألف سنة ، وهذا حديث منكر جدا ، والقاسم هو والراوي عنه وهو جعفر بن
الزبير كلاهما متروك.
وقال البزار :
حدثنا محمد بن مرداس ، حدثنا سليمان بن مسلم أبو المعلّى قال : سألت سليمان التيمي
: هل يخرج من النار أحد؟ فقال : حدثني نافع عن ابن عمر عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال: «والله لا يخرج من النار أحد حتى يمكث فيها
أحقابا» قال : والحقب بضع وثمانون سنة كل سنة ثلاثمائة وستون يوما مما تعدون ، ثم
قال : سليمان بن مسلم بصري مشهور ، وقال السدي (لابِثِينَ فِيها
أَحْقاباً) سبعمائة حقب ، كل حقب سبعون سنة ، كل سنة ثلاثمائة وستون
يوما ، كل يوم كألف سنة مما تعدون ، وقد قال مقاتل بن حيان : إن هذه الآية منسوخة
بقوله تعالى : (فَذُوقُوا فَلَنْ
نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً).
وقال خالد بن
معدان : هذه الآية وقوله تعالى : (إِلَّا ما شاءَ
رَبُّكَ) في أهل التوحيد رواهما ابن جرير ثم قال : ويحتمل أن يكون قوله تعالى : (لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً) متعلقا بقوله تعالى : (لا يَذُوقُونَ فِيها
بَرْداً وَلا شَراباً) ثم يحدث الله لهم بعد ذلك عذابا من شكل آخر ونوع آخر ثم
قال : والصحيح أنها لا انقضاء لها كما قال قتادة والربيع بن أنس ، وقد قال قبل ذلك
: حدثني محمد بن عبد الرّحيم البرقي ، حدثنا عمرو بن أبي سلمة عن زهير عن سالم :
سمعت الحسن يسأل عن قوله تعالى : (لابِثِينَ فِيها
أَحْقاباً) قال : أما الأحقاب فليس لها عدة إلا الخلود في النار ،
ولكن ذكروا أن الحقب سبعون سنة كل يوم منها كألف سنة مما تعدون.
وقال سعيد عن
قتادة : قال الله تعالى : (لابِثِينَ فِيها
أَحْقاباً) وهو ما لا انقطاع له وكلما مضى حقب جاء حقب بعده. وذكر لنا
أن الحقب ثمانون سنة وقال الربيع بن أنس (لابِثِينَ فِيها
أَحْقاباً) لا يعلم عدة هذه الأحقاب إلا الله عزوجل ، وذكر لنا أن الحقب الواحد ثمانون سنة، والسنة ثلاثمائة
وستون يوما ، وكل يوم كألف سنة مما تعدون ، رواهما أيضا ابن جرير.
وقوله تعالى : (لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا
شَراباً) أي لا يجدون في جهنم بردا لقلوبهم ولا شرابا طيبا يتغذون
به ولهذا قال تعالى : (إِلَّا حَمِيماً
وَغَسَّاقاً) قال أبو العالية : استثنى من
__________________
البرد الحميم ومن
الشراب الغساق ، وكذا قال الربيع بن أنس ، فأما الحميم فهو الحار الذي قد انتهى
حره وحموّه والغساق هو ما اجتمع من صديد أهل النار وعرقهم ودموعهم وجروحهم فهو
بارد لا يستطاع من برده ولا يواجه من نتنه ، وقد قدمنا الكلام على الغساق في سورة (ص) بما أغنى عن إعادته ـ أجارنا الله من ذلك بمنه وكرمه ـ قال
ابن جرير وقيل المراد بقوله : (لا يَذُوقُونَ فِيها
بَرْداً) يعني النوم كما قال الكندي : [الكامل]
بردت مراشفها
عليّ فصدّني
|
|
عنها وعن
قبلاتها البرد
|
يعني بالبرد
النعاس والنوم. هكذا ذكره ولم يعزه إلى أحد. وقد رواه ابن أبي حاتم من طريق السدي
عن مرة الطيب ونقله عن مجاهد أيضا. وحكاه البغوي عن أبي عبيدة والكسائي أيضا.
وقوله تعالى : (جَزاءً وِفاقاً) أي هذا الذي صاروا إليه من هذه العقوبة وفق أعمالهم
الفاسدة التي كانوا يعملونها في الدنيا ، قاله مجاهد وقتادة وغير واحد.
ثم قال تعالى : (إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً) أي لم يكونوا يعتقدون أن ثم دارا يجازون فيها ويحاسبون (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً) أي وكانوا يكذبون بحجج الله ودلائله على خلقه التي أنزلها
على رسله ، فيقابلونها بالتكذيب والمعاندة. وقوله : (كِذَّاباً) أي تكذيبا ، وهو مصدر من غير الفعل ، قالوا : وقد سمع
أعرابي يستفتي الفراء على المروة : الحلق أحب إليك أو القصار؟ وأنشد بعضهم : [الطويل]
لقد طال ما
ثبّطتني عن صحابتي
|
|
وعن حوج قضاؤها
من شفائيا
|
وقوله تعالى : (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً) أي وقد علمنا أعمال العباد كلهم وكتبناها عليهم وسنجزيهم
على ذلك إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، وقوله تعالى : (فَذُوقُوا فَلَنْ
نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) أي يقال لأهل النار : ذوقوا ما أنتم فيه فلن نزيدكم إلا
عذابا من جنسه (وَآخَرُ مِنْ
شَكْلِهِ أَزْواجٌ) [ص : ٥٨] ، قال
قتادة عن أبي أيوب الأزدي عن عبد الله بن عمرو قال : لم ينزل على أهل النار آية
أشد من هذه الآية (فَذُوقُوا فَلَنْ
نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) قال : فهم في مزيد من العذاب أبدا ، وقال ابن أبي حاتم :
حدثنا محمد بن محمد بن مصعب الصوري ، حدثنا خالد بن عبد الرّحمن ، حدثنا جسر بن
فرقد عن الحسن قال : سألت أبا برزة الأسلمي عن أشد آية في كتاب الله على أهل النار
قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم قرأ (فَذُوقُوا فَلَنْ
نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) قال : «أهلك القوم بمعاصيهم الله عزوجل» جسر بن فرقد ضعيف الحديث بالكلية.
__________________
(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ
مَفازاً (٣١) حَدائِقَ وَأَعْناباً (٣٢) وَكَواعِبَ
أَتْراباً (٣٣) وَكَأْساً دِهاقاً (٣٤) لا يَسْمَعُونَ
فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (٣٥) جَزاءً مِنْ رَبِّكَ
عَطاءً حِساباً)(٣٦)
يقول تعالى مخبرا
عن السعداء وما أعد لهم تعالى من الكرامة والنعيم المقيم فقال تعالى : (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً) قال ابن عباس والضحاك : متنزها. وقال مجاهد وقتادة : فازوا
فنجوا من النار. والأظهر هاهنا قول ابن عباس لأنه قال بعده (حَدائِقَ) وهي البساتين من النخيل وغيرها (وَأَعْناباً وَكَواعِبَ أَتْراباً) أي وحورا كواعب ، قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد (كَواعِبَ) أي نواهد ، يعنون أن ثديهن نواهد لم يتدلين لأنهن أبكار
عرب أتراب أي في سن واحد كما تقدم بيانه في سورة الواقعة.
قال ابن أبي حاتم
: حدثنا عبد الله بن أحمد بن عبد الرّحمن الدشتكي ، حدثني أبي عن أبي سفيان عبد
الرّحمن بن عبد الله بن تيم ، حدثنا عطية بن سليمان أبو الغيث عن أبي عبد الرّحمن
القاسم بن أبي القاسم الدمشقي عن أبي أمامة أنه سمعه يحدث عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال «إن قمص أهل الجنة لتبدو من رضوان الله وإن
السحابة لتمر بهم فتناديهم يا أهل الجنة ماذا تريدون أن أمطركم؟ حتى أنها لتمطرهم
الكواعب الأتراب».
وقوله تعالى : (وَكَأْساً دِهاقاً) قال ابن عباس : مملوءة ومتتابعة. وقال عكرمة : صافية ،
وقال مجاهد والحسن وقتادة وابن زيد (دِهاقاً) الملأى المترعة ، وقال مجاهد وسعيد بن جبير هي المتتابعة.
وقوله تعالى : (لا يَسْمَعُونَ فِيها
لَغْواً وَلا كِذَّاباً) كقوله : (لا لَغْوٌ فِيها وَلا
تَأْثِيمٌ) [الطور : ٢٣] أي
ليس فيها كلام لاغ عار عن الفائدة ولا إثم كذب ، بل هي دار السّلام وكل ما فيها
سالم من النقص وقوله : (جَزاءً مِنْ رَبِّكَ
عَطاءً حِساباً) أي هذا الذي ذكرناه جازاهم الله به وأعطاهموه بفضله ومنه
وإحسانه ورحمته (عَطاءً حِساباً) أي كافيا وافيا شاملا كثيرا ، تقول العرب : أعطاني فأحسبني
أي كفاني ومنه حسبي الله أي الله كافيّ.
(رَبِّ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (٣٧) يَوْمَ يَقُومُ
الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ
الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (٣٨) ذلِكَ الْيَوْمُ
الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (٣٩)
إِنَّا
أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ
وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً)(٤٠)
يخبر تعالى عن
عظمته وجلاله وأنه رب السموات والأرض وما فيهما وما بينهما وأنه الرّحمن الذي شملت
رحمته كل شيء ، وقوله تعالى : (لا يَمْلِكُونَ
مِنْهُ خِطاباً) أي لا يقدر أحد على ابتداء مخاطبته إلا بإذنه كقوله تعالى
: (مَنْ ذَا الَّذِي
يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [البقرة : ٢٥٥]
وكقوله تعالى : (يَوْمَ يَأْتِ لا
تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [هود : ١٠٥] وقوله
تعالى. (يَوْمَ يَقُومُ
الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ) اختلف المفسرون في المراد بالروح هاهنا ما هو؟ على أقوال
[أحدها] ما رواه
العوفي عن ابن عباس أنهم أرواح بني أدم [الثاني] هم بنو آدم قاله الحسن وقتادة.
وقال قتادة : هذا مما كان ابن عباس يكتمه [الثالث] أنهم خلق من خلق الله على صور
بني آدم وليسوا بملائكة ولا ببشر ، وهم يأكلون ويشربون ، قاله ابن عباس ومجاهد
وأبو صالح والأعمش [الرابع] هو جبريل قاله الشعبي وسعيد بن جبير والضحاك ، ويستشهد
لهذا القول بقوله عزوجل : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ
الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) [الشعراء : ١٩٣ ـ ١٩٤]
وقال مقاتل بن حيان : الروح هو أشرف الملائكة وأقرب إلى الرب عزوجل وصاحب الوحي. [الخامس] أنه القرآن ، قاله ابن زيد كقوله : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً
مِنْ أَمْرِنا) [الشورى : ٥٢]
الآية. [والسادس] أنه ملك من الملائكة بقدر جميع المخلوقات ، قال علي بن أبي طلحة
عن ابن عباس قوله : (يَوْمَ يَقُومُ
الرُّوحُ) قال : هو ملك عظيم من أعظم الملائكة خلقا.
وقال ابن جرير : حدثني محمد بن خلف العسقلاني ، حدثنا رواد بن الجراح عن
أبي حمزة عن الشعبي عن علقمة عن ابن مسعود قال : الروح في السماء الرابعة هو أعظم
من السموات ومن الجبال ومن الملائكة يسبح كل يوم اثني عشر ألف تسبيحة ، يخلق الله
تعالى من كل تسبيحة ملكا من الملائكة يجيء يوم القيامة صفا وحده وهذا قول غريب
جدا.
وقد قال الطبراني
: حدثنا محمد بن عبد الله بن عرس المصري ، حدثنا وهب الله بن روق بن هبيرة ، حدثنا
بشر بن بكر ، حدثنا الأوزاعي ، حدثني عطاء عن عبد الله بن عباس : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «إن لله ملكا لو قيل له التقم السموات السبع
والأرضين بلقمة واحدة لفعل. تسبيحه سبحانك حيث كنت» وهذا حديث غريب جدا ، وفي رفعه
نظر ، وقد يكون موقوفا على ابن عباس ، ويكون مما تلقاه من الإسرائيليات ، والله
أعلم. وتوقف ابن جرير فلم يقطع بواحد من هذه الأقوال كلها والأشبه عندي والله أعلم
أنهم بنو آدم.
وقوله تعالى : (إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) كقوله : (لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ
إِلَّا بِإِذْنِهِ) [هود : ١٠٥] وكما
ثبت في الصحيح «ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل» وقوله تعالى : (وَقالَ صَواباً) أي حقا ومن الحق لا إله إلا الله كما قاله أبو صالح وعكرمة
، وقوله تعالى : (ذلِكَ الْيَوْمُ
الْحَقُ) أي الكائن لا محالة (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ
إِلى رَبِّهِ مَآباً) أي مرجعا طريقا يهتدي إليه ومنهجا يمر به عليه. وقوله
تعالى : (إِنَّا
أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً) يعني يوم القيامة لتأكد وقوعه صار قريبا لأن كل ما هو آت
آت (يَوْمَ يَنْظُرُ
الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ) أي يعرض عليه جميع أعماله خيرها وشرها. قديمها وحديثها
كقوله تعالى : (وَوَجَدُوا ما
عَمِلُوا حاضِراً) [الكهف : ٤٩]
وكقوله تعالى : (يُنَبَّؤُا
الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ) [القيامة : ١٣].
__________________
(وَيَقُولُ الْكافِرُ
يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) أي يود الكافر يومئذ أنه كان في الدار الدنيا ترابا ، ولم
يكن خلق ولا خرج إلى الوجود ، وذلك حين عاين عذاب الله ونظر إلى أعماله الفاسدة قد
سطرت عليه بأيدي الملائكة السفرة الكرام البررة ، وقيل إنما يود ذلك حين يحكم الله
بين الحيوانات التي كانت في الدنيا فيفصل بينها بحكمه العدل الذي لا يجور ، حتى
أنه ليقتص للشاة الجماء من القرناء فإذا فرغ من الحكم بينها قال لها : كوني ترابا
فتصير ترابا فعند ذلك يقول الكافر (يا لَيْتَنِي كُنْتُ
تُراباً) أي كنت حيوانا فأرجع إلى التراب ، وقد ورد معنى هذا في
حديث الصور المشهور ، وورد فيه آثار عن أبي هريرة وعبد الله بن عمرو وغيرهما. آخر
تفسير سورة النبأ. ولله الحمد والمنة. وبه التوفيق والعصمة.
تفسير سورة النازعات
وهي مكية
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(وَالنَّازِعاتِ
غَرْقاً (١) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (٢)
وَالسَّابِحاتِ
سَبْحاً (٣) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (٤) فَالْمُدَبِّراتِ
أَمْراً (٥) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (٦)
تَتْبَعُهَا
الرَّادِفَةُ (٧) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ
واجِفَةٌ (٨) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (٩) يَقُولُونَ أَإِنَّا
لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (١٠)
أَإِذا
كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (١١) قالُوا تِلْكَ إِذاً
كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (١٢) فَإِنَّما هِيَ
زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (١٣) فَإِذا هُمْ
بِالسَّاهِرَةِ)(١٤)
قال ابن مسعود
وابن عباس ومسروق وسعيد بن جبير وأبو صالح وأبو الضحى والسدي (وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً) الملائكة يعنون حين تنزع أرواح بني آدم ، فمنهم من تأخذ
روحه بعسر فتغرق في نزعها ، ومنهم من تأخذ روحه بسهولة وكأنما حلته من نشاط وهو
قوله : (وَالنَّاشِطاتِ
نَشْطاً) قاله ابن عباس ، وعن ابن عباس (وَالنَّازِعاتِ) هي أنفس الكفار تنزع ثم تنشط ثم تغرق في النار رواه ابن
أبي حاتم وقال مجاهد (وَالنَّازِعاتِ
غَرْقاً) الموت ، وقال الحسن وقتادة (وَالنَّازِعاتِ
غَرْقاً وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً) هي النجوم.
وقال عطاء بن أبي
رباح في قوله تعالى : (وَالنَّازِعاتِ
وَالنَّاشِطاتِ) هي القسي في القتال والصحيح الأول وعليه الأكثرون. وأما
قوله تعالى : (وَالسَّابِحاتِ
سَبْحاً) فقال ابن مسعود : هي الملائكة ، وروي عن علي ومجاهد وسعيد
بن جبير وأبي صالح مثل ذلك ، وعن مجاهد (وَالسَّابِحاتِ
سَبْحاً) الموت ، وقال قتادة : هي النجوم ، وقال عطاء بن أبي رباح ،
هي السفن.
وقوله تعالى : (فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً) روي عن علي ومسروق ومجاهد وأبي صالح والحسن البصري يعني
الملائكة ، قال الحسن : سبقت إلى الإيمان والتصديق به وعن مجاهد : الموت. وقال
قتادة : هي النجوم ، وقال عطاء : هي الخيل في سبيل الله. وقوله تعالى : (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) قال علي ومجاهد وعطاء وأبو صالح والحسن وقتادة والربيع بن
أنس والسدي : هي الملائكة ، زاد الحسن : تدبر الأمر من السماء إلى الأرض يعني بأمر
ربها عزوجل ، ولم يختلفوا في هذا ولم يقطع ابن جرير بالمراد في شيء من
ذلك ، إلا أنه حكى في «المدبرات أمرا» أنها الملائكة ولا أثبت ولا نفى.
وقوله تعالى : (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ
تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) قال ابن عباس : هما النفختان الأولى والثانية ، وهكذا قال
مجاهد والحسن وقتادة والضحاك وغير واحد ، وعن مجاهد : أما الأولى وهي قوله جل وعلا
: (يَوْمَ تَرْجُفُ
الرَّاجِفَةُ) فكقوله جلت عظمته : (يَوْمَ تَرْجُفُ
الْأَرْضُ وَالْجِبالُ) [المزمل : ١٤]
والثانية وهي الرادفة فهي كقوله (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ
وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) [الحاقة : ١٤].
وقد قال الإمام
أحمد : حدثنا وكيع ، حدثنا سفيان عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن الطفيل بن أبي بن
كعب عن أبيه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «جاءت الراجفة تتبعها الرادفة ، جاء الموت بما فيه» فقال
رجل : يا رسول الله أرأيت إن جعلت صلاتي كلها عليك ، قال : «إذا يكفيك الله ما
أهمك من دنياك وآخرتك» وقد رواه الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم من حديث سفيان
الثوري بإسناده مثله ، ولفظ الترمذي وابن أبي حاتم كان رسول اللهصلىاللهعليهوسلم إذا ذهب ثلثا الليل قام فقال : «يا أيها الناس اذكروا الله
جاءت الراجفة تتبعها الرادفة جاء الموت بما فيه».
وقوله تعالى : (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ) قال ابن عباس : يعني خائفة ، وكذا قال مجاهد وقتادة (أَبْصارُها خاشِعَةٌ) أي أبصار أصحابها وإنما أضيف إليها للملابسة أي ذليلة
حقيرة مما عاينت من الأهوال. وقوله تعالى : (يَقُولُونَ أَإِنَّا
لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ) يعني مشركي قريش ومن قال بقولهم في إنكار المعاد. يستعبدون
وقوع البعث بعد المصير إلى الحافرة وهي القبور ، قاله مجاهد ، وبعد تمزق أجسادهم
وتفتت عظامهم ونخورها ، ولهذا قالوا : (أَإِذا كُنَّا
عِظاماً نَخِرَةً) وقرئ ناخرة وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة : أي بالية ، قال
ابن عباس : وهو العظم إذا بلي ودخلت الريح فيه.
(قالُوا تِلْكَ إِذاً
كَرَّةٌ خاسِرَةٌ) وعن ابن عباس ومحمد بن كعب وعكرمة وسعيد بن جبير وأبي مالك
والسدي وقتادة : الحافرة الحياة بعد الموت ، وقال ابن زيد : الحافرة النار ، وما
أكثر
__________________
أسماءها! هي النار
والجحيم وسقر وجهنم والهاوية والحافرة ولظى والحطمة ، وأما قولهم : (تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ) فقال محمد بن كعب : قالت قريش لئن أحيانا الله بعد أن نموت
لنخسرن ، قال الله تعالى : (فَإِنَّما هِيَ
زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) أي فإنما هو أمر من الله لا مثنوية فيه ولا تأكيد ، فإذا
الناس قيام ينظرون وهو أن يأمر الله تعالى إسرافيل فينفخ في الصور نفخة البعث ،
فإذا الأولون والآخرون قيام بين يدي الرب عزوجل ينظرون ، كما قال تعالى : (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ
فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً) [الإسراء : ٥٢] (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ
بِالْبَصَرِ) [القمر : ٥٠] وقال
تعالى : (وَما أَمْرُ
السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) [النحل : ٧٧].
قال مجاهد : (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ) صيحة واحدة. وقال إبراهيم التيمي : أشد ما يكون الرب عزوجل غضبا على خلقه يوم يبعثهم ، وقال الحسن البصري : زجرة من
الغضب ، وقال أبو مالك والربيع بن أنس : زجرة واحدة هي النفخة الآخرة.
وقوله تعالى : (فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) قال ابن عباس : الساهرة الأرض كلها ، وكذا قال سعيد بن
جبير وقتادة وأبو صالح ، وقال عكرمة والحسن والضحاك وابن زيد : الساهرة وجه الأرض
، وقال مجاهد : كانوا بأسفلها فأخرجوا إلى أعلاها ، قال والساهرة المكان المستوي ،
وقال الثوري : الساهرة أرض الشام ، وقال عثمان بن أبي العاتكة : الساهرة أرض بيت
المقدس ، وقال وهب بن منبه : الساهرة جبل إلى جانب بيت المقدس ، وقال قتادة أيضا :
الساهرة جهنم ، وهذه أقوال كلها غريبة ، والصحيح أنها الأرض وجهها الأعلى.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا خزر بن المبارك الشيخ الصالح ، حدثنا بشر بن السري
، حدثنا مصعب بن ثابت عن أبي حازم عن سهل بن سعد الساعدي (فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) قال : أرض بيضاء عفراء خالية كالخبزة النقي ، وقال الربيع
بن أنس : (فَإِذا هُمْ
بِالسَّاهِرَةِ) يقول الله عزوجل : (يَوْمَ تُبَدَّلُ
الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ
الْقَهَّارِ) [إبراهيم : ٤٨]
ويقول تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً لا تَرى
فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) [طه : ١٠٥ ـ ١٠٧]
وقال تعالى : (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ
الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً) [الكهف : ٤٧] وبرزت
الأرض التي عليها الجبال وهي لا تعد من هذه الأرض وهي أرض لم يعمل عليها خطيئة ولم
يهراق عليها دم.
(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ
مُوسى (١٥) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ
الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٦) اذْهَبْ إِلى
فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (١٧)
فَقُلْ
هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (١٨) وَأَهْدِيَكَ إِلى
رَبِّكَ فَتَخْشى (١٩) فَأَراهُ الْآيَةَ
الْكُبْرى (٢٠) فَكَذَّبَ وَعَصى (٢١)
ثُمَّ
أَدْبَرَ يَسْعى (٢٢) فَحَشَرَ فَنادى (٢٣)
فَقالَ
أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (٢٤)
فَأَخَذَهُ
اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (٢٥) إِنَّ فِي ذلِكَ
لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى)
(٢٦)
يخبر تعالى رسوله
محمدا صلىاللهعليهوسلم عن عبده ورسوله موسى عليهالسلام أنه ابتعثه إلى فرعون ،
وأيده الله
بالمعجزات ، ومع هذا استمر على كفره وطغيانه حتى أخذه الله أخذ عزيز مقتدر ، وكذلك
عاقبة من خالفك وكذب بما جئت به ، ولهذا قال في آخر القصة : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ
يَخْشى) فقوله تعالى : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ
مُوسى) أي هل سمعت بخبره (إِذْ ناداهُ رَبُّهُ) أي كلمه نداء (بِالْوادِ
الْمُقَدَّسِ) أي المطهر (طُوىً) وهو اسم الوادي على الصحيح كما تقدم في سورة طه ، فقال له
: (اذْهَبْ إِلى
فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) أي تجبر وتمرد وعتا.
(فَقُلْ هَلْ لَكَ
إِلى أَنْ تَزَكَّى) أي قل له هل لك أن تجيب إلى طريقة ومسلك تزكى به وتسلم
وتطيع (وَأَهْدِيَكَ إِلى
رَبِّكَ) أي أدلك إلى عبادة ربك (فَتَخْشى) أي فيصير قلبك خاضعا له مطيعا خاشعا بعد ما كان قاسيا
خبيثا بعيدا من الخير (فَأَراهُ الْآيَةَ
الْكُبْرى) يعني فأظهر له موسى مع هذه الدعوة الحق حجة قوية ودليلا
واضحا على صدق ما جاءه به من عند الله (فَكَذَّبَ وَعَصى) أي فكذب بالحق وخالف ما أمره به من الطاعة ، وحاصله أنه
كفر بقلبه فلم ينفعل لموسى بباطنه ولا بظاهره وعلمه بأن ما جاء به حق لا يلزم منه
أنه مؤمن به ، لأن المعرفة علم القلب والإيمان عمله وهو الانقياد للحق والخضوع له.
وقوله تعالى : (ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى) أي في مقابلة الحق بالباطل وهو جمعه السحرة ليقابلوا ما
جاء به موسى عليهالسلام من المعجزات الباهرات (فَحَشَرَ فَنادى) أي في قومه (فَقالَ أَنَا
رَبُّكُمُ الْأَعْلى) قال ابن عباس ومجاهد : وهذه الكلمة قالها فرعون بعد قوله (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) [القصص : ٣٨]
بأربعين سنة قال الله تعالى : (فَأَخَذَهُ اللهُ
نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى) أي انتقم الله منه انتقاما جعله به عبرة ونكالا لأمثاله من
المتمردين في الدنيا (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ
بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) [هود : ٩٩] كما
قال تعالى : (وَجَعَلْناهُمْ
أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ) [القصص : ٤١] وهذا
هو الصحيح في معنى الآية أن المراد بقوله : (نَكالَ الْآخِرَةِ
وَالْأُولى) أي الدنيا والآخرة ، وقيل المراد بذلك كلمتاه الأولى
والثانية ، وقيل كفره وعصيانه والصحيح الذي لا شك فيه الأول ، وقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ
يَخْشى) أي لمن يتعظ وينزجر.
(أَأَنْتُمْ أَشَدُّ
خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (٢٧) رَفَعَ سَمْكَها
فَسَوَّاها (٢٨) وَأَغْطَشَ لَيْلَها
وَأَخْرَجَ ضُحاها (٢٩) وَالْأَرْضَ بَعْدَ
ذلِكَ دَحاها (٣٠) أَخْرَجَ مِنْها
ماءَها وَمَرْعاها (٣١) وَالْجِبالَ أَرْساها
(٣٢) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ)
(٣٣)
يقول تعالى محتجا
على منكري البعث في إعادة الخلق بعد بدئه : (أَأَنْتُمْ) أيها الناس (أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ
السَّماءُ) يعني بل السماء أشد خلقا منكم ، كما قال تعالى : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) [غافر : ٥٧] وقال
تعالى : (أَوَلَيْسَ الَّذِي
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى
وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) [يس : ٨١] وقوله
تعالى : (بَناها) فسره بقوله : (رَفَعَ سَمْكَها
فَسَوَّاها) أي جعلها عالية البناء بعيدة الفناء مستوية الأرجاء مكللة
بالكواكب في
الليلة الظلماء ،
وقوله تعالى : (وَأَغْطَشَ لَيْلَها
وَأَخْرَجَ ضُحاها) أي جعل ليلها مظلما أسود حالكا ونهارها مضيئا مشرقا نيرا
واضحا ، وقال ابن عباس : أغطش ليلها أظلمه ، وكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير
وجماعة كثيرون (وَأَخْرَجَ ضُحاها) أي أنار نهارها.
وقوله تعالى : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) فسره بقوله تعالى : (أَخْرَجَ مِنْها
ماءَها وَمَرْعاها) وقد تقدم في سورة حم السجدة أن الأرض خلقت قبل خلق السماء
ولكن إنما دحيت بعد خلق السماء ، بمعنى أنه أخرج ما كان فيها بالقوة إلى الفعل ،
وهذا معنى قول ابن عباس وغير واحد واختاره ابن جرير. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا
أبي حدثنا عبد الله بن جعفر الرقي ، حدثنا عبيد الله يعني ابن عمرو عن زيد بن أبي
أنيسة عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس (دَحاها) ودحيها أن أخرج منها الماء والمرعى وشقق فيها الأنهار ،
وجعل فيها الجبال والرمال والسبل والآكام ، فذلك قوله : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) وقد تقدم تقرير ذلك هنالك.
وقوله تعالى : (وَالْجِبالَ أَرْساها) أي قررها وأثبتها وأكدها في أماكنها وهو الحكيم العليم ،
الرؤوف بخلقه الرّحيم.
وقال الإمام أحمد
: حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا العوام بن حوشب عن سليمان بن أبي سليمان عن أنس بن
مالك عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «لما خلق الله الأرض جعلت تميد فخلق الجبال فألقاها
عليها فاستقرت فتعجبت الملائكة من خلق الجبال فقالت يا رب فهل من خلقك شيء أشد من
الجبال؟ قال نعم : الحديد ، قالت يا رب فهل من خلقك شيء أشد من الحديد؟ قال نعم :
النار ، قالت يا رب فهل من خلقك شيء أشد من النار ، قال : نعم الماء ، قالت يا رب
فهل من خلقك شيء أشد من الماء؟ قال : نعم الريح ، قالت يا رب فهل من خلقك شيء أشد
من الريح؟ قال : نعم ، ابن آدم يتصدق بيمينه يخفيها عن شماله» .
وقال أبو جعفر بن
جرير : حدثنا ابن حميد حدثنا جرير عن عطاء عن أبي عبد الرّحمن السلمي عن علي قال :
لما خلق الله الأرض قمصت وقالت تخلق عليّ آدم وذريته يلقون عليّ نتنهم ويعملون
عليّ بالخطايا ، فأرساها الله بالجبال فمنها ما ترون ومنها ما لا ترون ، وكان أول
قرار الأرض كلحم الجزور إذا نحر يختلج لحمه. غريب جدا.
وقوله تعالى : (مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) أي دحا الأرض فأنبع عيونها ، وأظهر مكنونها ، وأجرى
أنهارها ، وأنبت زروعها وأشجارها وثمارها. وثبت جبالها لتستقر بأهلها ويقر قرارها
، كل ذلك متاعا لخلقه ولما يحتاجون إليه من الأنعام التي يأكلونها ويركبونها مدة
احتياجهم إليها
__________________
في هذا الدار ،
إلى أن ينتهي الأمد وينقضي الأجل.
(فَإِذا جاءَتِ
الطَّامَّةُ الْكُبْرى (٣٤) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ
الْإِنْسانُ ما سَعى (٣٥) وَبُرِّزَتِ
الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (٣٦) فَأَمَّا مَنْ طَغى (٣٧)
وَآثَرَ
الْحَياةَ الدُّنْيا (٣٨) فَإِنَّ الْجَحِيمَ
هِيَ الْمَأْوى (٣٩) وَأَمَّا مَنْ خافَ
مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (٤٠) فَإِنَّ الْجَنَّةَ
هِيَ الْمَأْوى (٤١) يَسْئَلُونَكَ عَنِ
السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (٤٢) فِيمَ أَنْتَ مِنْ
ذِكْراها (٤٣) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (٤٤)
إِنَّما
أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (٤٥)
كَأَنَّهُمْ
يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها)(٤٦)
يقول تعالى : (فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى) وهو يوم القيامة ، قاله ابن عباس سميت بذلك لأنها تطم على
كل أمر هائل مفظع كما قال تعالى : (وَالسَّاعَةُ أَدْهى
وَأَمَرُّ) [القمر : ٤٦] (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى) أي حينئذ يتذكر ابن آدم جميع عمله خيره وشره كما قال تعالى
: (يَوْمَئِذٍ
يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى) [الفجر : ٢٣] (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى) أي أظهرت للناظرين فرآها الناس عيانا (فَأَمَّا مَنْ طَغى) أي تمرد وعتا (وَآثَرَ الْحَياةَ
الدُّنْيا) أي قدمها على أمر دينه وأخراه.
(فَإِنَّ الْجَحِيمَ
هِيَ الْمَأْوى) أي فإن مصيره إلى الجحيم وإن مطعمه من الزقوم ومشربه من
الحميم (وَأَمَّا مَنْ خافَ
مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى) أي خاف القيام بين يدي الله عزوجل وخاف حكم الله فيه ونهى نفسه عن هواها وردها إلى طاعة
مولاها (فَإِنَّ الْجَنَّةَ
هِيَ الْمَأْوى) أي منقلبه ومصيره ومرجعه إلى الجنة الفيحاء.
ثم قال تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ
مُرْساها فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها) أي ليس علمها إليك ولا إلى أحد من الخلق بل مردها ومرجعها
إلى الله عزوجل ، فهو الذي يعلم وقتها على التعيين (ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ
إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) [الأعراف : ١٨٧]
وقال هاهنا (إِلى رَبِّكَ
مُنْتَهاها) ولهذا لما سأل جبريل رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن وقت الساعة قال : «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل» .
وقوله تعالى : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) أي إنما بعثتك لتنذر الناس وتحذرهم من بأس الله وعذابه فمن
خشي الله وخاف مقامه ووعيده اتبعك فأفلح وأنجح ، والخيبة والخسار على من كذبك
وخالفك. وقوله تعالى : (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ
يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) أي إذا قاموا من قبورهم إلى المحشر يستقصرون مدة الحياة
الدنيا حتى كأنها عندهم كانت عشية من يوم أو ضحى من يوم ، وقال جويبر عن الضحاك عن
ابن عباس (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ
يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) أما عشية فما بين الظهر إلى غروب الشمس (أَوْ ضُحاها) ما بين طلوع
__________________
الشمس إلى نصف
النهار ، وقال قتادة : وقت الدنيا في أعين القوم حين عاينوا الآخرة . آخر تفسير سورة النازعات ، ولله الحمد والمنة.
تفسير سورة عبس
وهي مكية
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(عَبَسَ وَتَوَلَّى (١)
أَنْ
جاءَهُ الْأَعْمى (٢) وَما يُدْرِيكَ
لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ
فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (٤) أَمَّا مَنِ
اسْتَغْنى (٥) فَأَنْتَ لَهُ
تَصَدَّى (٦) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (٧) وَأَمَّا مَنْ
جاءَكَ يَسْعى (٨) وَهُوَ يَخْشى (٩) فَأَنْتَ عَنْهُ
تَلَهَّى (١٠) كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شاءَ
ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣)
مَرْفُوعَةٍ
مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرامٍ بَرَرَةٍ)(١٦)
ذكر غير واحد من
المفسرين أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان يوما يخاطب بعض عظماء قريش وقد طمع في إسلامه ، فبينما
هو يخاطبه ويناجيه إذ أقبل ابن أم مكتوم وكان ممن أسلم قديما ، فجعل يسأل رسول
الله صلىاللهعليهوسلم عن شيء ويلح عليه ، وود النبي صلىاللهعليهوسلم أن لو كف ساعته تلك ليتمكن من مخاطبة ذلك الرجل طمعا ورغبة
في هدايته. وعبس في وجه ابن أم مكتوم وأعرض عنه وأقبل على الآخر فأنزل الله تعالى
: (عَبَسَ وَتَوَلَّى
أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) أي يحصل له زكاة وطهارة في نفسه (أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى) أي يحصل له اتعاظ وانزجار عن المحارم (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى فَأَنْتَ لَهُ
تَصَدَّى) أي أما الغني فأنت تتعرض له لعله يهتدي.
(وَما عَلَيْكَ أَلَّا
يَزَّكَّى) أي ما أنت بمطالب به إذا لم يحصل له زكاة (وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى وَهُوَ
يَخْشى) أي يقصدك ويؤمك ليهتدي بما تقول له : (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) أي تتشاغل ، ومن هاهنا أمر الله تعالى رسوله صلىاللهعليهوسلم أن لا يخص بالإنذار أحدا ، بل يساوي فيه بين الشريف
والضعيف والفقير والغني والسادة والعبيد والرجال والنساء والصغار والكبار ، ثم
الله تعالى يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة. قال
الحافظ أبو يعلى في مسنده : حدثنا محمد بن مهدي ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر
عن قتادة عن أنس رضي الله عنه في قوله تعالى : (عَبَسَ وَتَوَلَّى) جاء ابن أم مكتوم إلى النبي صلىاللهعليهوسلم وهو يكلم أبي بن خلف فأعرض عنه ، فأنزل الله عزوجل (عَبَسَ وَتَوَلَّى
أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى) فكان النبي صلىاللهعليهوسلم بعد ذلك يكرمه.
قال قتادة :
أخبرني أنس بن مالك قال : رأيته يوم القادسية وعليه درع ومعه راية سوداء يعني ابن
أم مكتوم ، وقال أبو يعلى وابن جرير : حدثنا سعيد بن يحيى الأموي ، حدثني أبي قال :
__________________
هذا ما عرضنا على
هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : أنزلت (عَبَسَ وَتَوَلَّى) في ابن أم مكتوم الأعمى ، أتى إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فجعل يقول أرشدني ، قالت وعند رسول الله صلىاللهعليهوسلم رجل من عظماء المشركين ، قالت : فجعل النبي صلىاللهعليهوسلم يعرض عنه ويقبل على الآخر ويقول : «أترى بما أقول بأسا؟»
فيقول : لا! ففي هذا أنزلت (عَبَسَ وَتَوَلَّى) وقد روى الترمذي هذا الحديث عن سعيد بن يحيى الأموي
بإسناده مثله ، ثم قال : وقد رواه بعضهم عن هشام بن عروة عن أبيه قال : أنزلت (عَبَسَ وَتَوَلَّى) في ابن أم مكتوم ولم يذكر فيه عن عائشة. قلت : كذلك هو في
الموطأ.
ثم روى ابن جرير وابن أبي حاتم أيضا من طريق العوفي عن ابن عباس قوله : (عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ
الْأَعْمى) قال : بينا رسول الله صلىاللهعليهوسلم يناجي عتبة بن ربيعة وأبا جهل بن هشام والعباس بن عبد
المطلب ، وكان يتصدى لهم كثيرا ويحرص عليهم أن يؤمنوا فأقبل إليه رجل أعمى يقال له
عبد الله ابن أم مكتوم يمشي وهو يناجيهم ، فجعل عبد الله يستقرئ النبي صلىاللهعليهوسلم آية من القرآن ، وقال : يا رسول الله علمني مما علمك الله
، فأعرض عنه رسول الله صلىاللهعليهوسلم وعبس في وجهه وتولى وكره كلامه ، وأقبل على الآخرين فلما قضى
رسول الله صلىاللهعليهوسلم نجواه وأخذ ينقلب إلى أهله أمسك الله بعض بصره وخفق برأسه
ثم أنزل الله تعالى : (عَبَسَ وَتَوَلَّى
أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ
فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى).
فلما نزل فيه ما
نزل أكرمه رسول الله صلىاللهعليهوسلم وكلمه وقال له رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ما حاجتك؟ هل تريد من شيء؟ ـ وإذا ذهب من عنده قال ـ هل
لك حاجة في شيء؟» وذلك لما أنزل الله تعالى : (أَمَّا مَنِ
اسْتَغْنى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى. وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى) فيه غرابة ونكارة ، وقد تكلم في إسناده.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أحمد بن منصور الرمادي ، حدثنا عبد الله بن صالح ، حدثنا الليث ، حدثني
يونس عن ابن شهاب قال : قال سالم بن عبد الله عن عبد الله بن عمر يقول : سمعت رسول
الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان
ابن أم مكتوم» وهو الأعمى الذي أنزل الله تعالى فيه (عَبَسَ وَتَوَلَّى
أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى) وكان يؤذن مع بلال ، قال سالم : وكان رجلا ضرير البصر فلم
يك يؤذن حتى يقول له الناس حين ينظرون إلى بزوغ الفجر أذن. وهكذا ذكر عروة بن
الزبير ومجاهد وأبو مالك وقتادة والضحاك وابن زيد وغير واحد من السلف والخلف أنها
نزلت في ابن أم مكتوم ، والمشهور أن اسمه عبد الله ويقال عمرو ، والله أعلم.
__________________
وقوله تعالى : (كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ) أي هذه السورة أو الوصية بالمساواة بين الناس في إبلاغ العلم
من شريفهم ووضيعهم وقال قتادة والسدي (كَلَّا إِنَّها
تَذْكِرَةٌ) يعني القرآن (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) أي فمن شاء ذكر الله تعالى في جميع أموره ويحتمل عود
الضمير إلى الوحي لدلالة الكلام عليه.
وقوله تعالى : (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ
مُطَهَّرَةٍ) أي هذه السورة أو العظة وكلاهما متلازم بل جميع القرآن في (صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ) أي معظمة موقرة (مَرْفُوعَةٍ) أي عالية القدر (مُطَهَّرَةٍ) أي من الدنس والزيادة والنقص. وقوله تعالى : (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ) قال ابن عباس ومجاهد والضحاك وابن زيد : هي الملائكة. وقال
وهب بن منبه : هم أصحاب محمد صلىاللهعليهوسلم ، وقال قتادة : هم القراء. وقال ابن جريج عن ابن عباس :
السفرة بالنبطية القراء ، وقال ابن جرير : والصحيح أن السفرة الملائكة والسفرة يعني بين الله تعالى
وبين خلقه ومنه يقال السفير الذي يسعى بين الناس في الصلح والخير كما قال الشاعر :
[الوافر]
وما أدع السفارة
بين قومي
|
|
وما أمشي بغشّ
إن مشيت
|
وقال البخاري : سفرة : الملائكة ، سفرت أصلحت بينهم وجعلت الملائكة إذا
نزلت بوحي الله تعالى وتأديته كالسفير الذي يصلح بين القوم. وقوله تعالى : (كِرامٍ بَرَرَةٍ) أي خلقهم كريم حسن شريف وأخلاقهم وأفعالهم بارة طاهرة
كاملة ومن هاهنا ينبغي لحامل القرآن أن يكون في أفعاله وأقواله على السداد
والرشاد.
قال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل ، حدثنا هشام عن قتادة عن زرارة بن أوفى
عن سعد بن هشام عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة
، والذي يقرؤه وهو عليه شاق ، له أجران» أخرجه الجماعة من طريق قتادة به.
(قُتِلَ الْإِنْسانُ
ما أَكْفَرَهُ (١٧) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ
خَلَقَهُ (١٨) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩) ثُمَّ السَّبِيلَ
يَسَّرَهُ (٢٠) ثُمَّ أَماتَهُ
فَأَقْبَرَهُ (٢١) ثُمَّ إِذا شاءَ
أَنْشَرَهُ (٢٢) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ
ما أَمَرَهُ(٢٣) فَلْيَنْظُرِ
الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (٢٤) أَنَّا صَبَبْنَا
الْماءَ صَبًّا (٢٥) ثُمَّ شَقَقْنَا
الْأَرْضَ شَقًّا(٢٦) فَأَنْبَتْنا فِيها
حَبًّا (٢٧) وَعِنَباً وَقَضْباً
(٢٨)
وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (٢٩) وَحَدائِقَ غُلْباً (٣٠) وَفاكِهَةً وَأَبًّا
(٣١)
__________________
مَتاعاً
لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ)
(٣٢)
يقول تعالى ذاما
لمن أنكر البعث والنشور من بني آدم (قُتِلَ الْإِنْسانُ
ما أَكْفَرَهُ) قال الضحاك عن ابن عباس (قُتِلَ الْإِنْسانُ) لعن الإنسان ، وكذا قال أبو مالك : وهذا لجنس الإنسان
المكذب لكثرة تكذيبه بلا مستند بل بمجرد الاستبعاد وعدم العلم ، قال ابن جريج (ما أَكْفَرَهُ) أي ما أشد كفره ، وقال ابن جرير ويحتمل أن يكون المراد أي شيء جعله كافرا أي ما حمله على
التكذيب بالمعاد. وقد حكاه البغوي عن مقاتل والكلبي وقال قتادة (ما أَكْفَرَهُ) ما ألعنه ، ثم بين تعالى له كيف خلقه من الشيء الحقير وأنه
قادر على إعادته كما بدأه فقال تعالى: (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ
خَلَقَهُ؟ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ) أي قدر أجله ورزقه وعمله وشقي أو سعيد (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) قال العوفي عن ابن عباس : ثم يسر عليه خروجه من بطن أمه ،
وكذا قال عكرمة والضحاك وأبو صالح وقتادة والسدي واختاره ابن جرير وقال مجاهد : هذه
كقوله تعالى: (إِنَّا هَدَيْناهُ
السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) [الإنسان : ٣] أي
بيناه له وأوضحناه وسهلنا عليه عمله ، وكذا قال الحسن وابن زيد ، وهذا هو الأرجح
والله أعلم. وقوله تعالى : (ثُمَّ أَماتَهُ
فَأَقْبَرَهُ) أي أنه بعد خلقه له (أَماتَهُ
فَأَقْبَرَهُ) أي جعله ذا قبر ، والعرب تقول : قبرت الرجل إذا ولى ذلك
منه ، وأقبره الله ، وعضبت قرن الثور وأعضبه الله وبترت ذنب البعير وأبتره الله ،
وطردت عني فلانا وأطرده الله ، أي جعله طريدا ، قال الأعشى : [السريع]
لو أسندت ميتا
إلى صدرها
|
|
عاش ولم ينقل
إلى قابر
|
وقوله تعالى : (ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ) أي بعثه بعد موته ومنه يقال البعث والنشور (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ
تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) [الروم : ٢٠] ، (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ
نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً) [البقرة : ٢٥٩]
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أصبغ بن الفرج ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني
عمرو بن الحارث أن دراجا أبا السمح أخبره عن أبي الهيثم عن أبي سعيد عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «يأكل التراب كل شيء من الإنسان إلا عجب ذنبه» قيل :
وما هو يا رسول الله؟ قال : «مثل حبة خردل منه تنشؤون» وهذا الحديث ثابت في الصحيحين من رواية الأعمش عن أبي صالح
عن أبي هريرة بدون هذه الزيادة ولفظه «كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب منه خلق وفيه
يركب» .
__________________
وقوله تعالى : (كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ) قال ابن جرير : يقول جل ثناؤه كلا ليس الأمر كما يقول هذا الإنسان
الكافر من أنه قد أدى حق الله عليه في نفسه وماله (لَمَّا يَقْضِ ما
أَمَرَهُ) يقول : لم يؤدّ ما فرض عليه من الفرائض لربه عزوجل ثم روى هو وابن أبي حاتم من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد
قوله تعالى : (كَلَّا لَمَّا يَقْضِ
ما أَمَرَهُ) قال : لا يقضي أحدا أبدا كل ما افترض عليه ، وحكاه البغوي
عن الحسن البصري بنحو من هذا ، ولم أجد للمتقدمين فيه كلاما سوى هذا ، والذي يقع
لي في معنى ذلك ، والله أعلم ، أن المعنى (ثُمَّ إِذا شاءَ
أَنْشَرَهُ) أي بعثه (كَلَّا لَمَّا يَقْضِ
ما أَمَرَهُ) أي لا يفعله الآن حتى تنقضي المدة ويفرغ القدر من بني آدم
ممن كتب الله له أن سيوجد منهم ويخرج إلى الدنيا ، وقد أمر به تعالى كونا وقدرا
فإذا تناهى ذلك عند الله أنشر الله الخلائق وأعادهم كما بدأهم.
وقد روى ابن أبي
حاتم عن وهب بن منبه قال : قال عزير عليهالسلام قال الملك الذي جاءني فإن القبور هي بطن الأرض ، وإن الأرض
هي أم الخلق فإذا خلق الله ما أراد أن يخلق وتمت هذه القبور التي مد الله لها
انقطعت الدنيا ومات من عليها ولفظت الأرض ما في جوفها وأخرجت القبور ما فيها ،
وهذا شبيه بما قلناه من معنى الآية ، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
وقوله تعالى : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ) فيه امتنان وفيه استدلال بإحياء النبات من الأرض الهامدة
على إحياء الأجسام بعد ما كانت عظاما بالية وترابا متمزقا (أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا) أي أنزلناه من السماء على الأرض (ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا) أي أسكناه فيها فدخل في تخومها وتخلل في أجزاء الحب المودع
فيها فنبت وارتفع وظهر على وجه الأرض (فَأَنْبَتْنا فِيها
حَبًّا وَعِنَباً وَقَضْباً) فالحب كل ما يذكر من الحبوب والعنب معروف والقضب هو
الفصفصة التي تأكلها الدواب رطبة ، ويقال لها القت أيضا ، وقال ذلك ابن عباس
وقتادة والضحاك والسدي ، وقال الحسن البصري : القضب العلف.
(وَزَيْتُوناً) وهو معروف وهو أدم وعصيره أدم ويستصبح به ويدهن به (وَنَخْلاً) يؤكل بلحا وبسرا ورطبا وتمرا ونيئا ومطبوخا ويعتصر منه رب
وخل (وَحَدائِقَ غُلْباً) أي بساتين ، قال الحسن وقتادة : (غُلْباً) نخل غلاظ كرام ، وقال ابن عباس ومجاهد : الحدائق كل ما
التف واجتمع. وقال ابن عباس أيضا : (غُلْباً) الشجر الذي يستظل به ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (وَحَدائِقَ غُلْباً) أي طوال ، وقال عكرمة : غلبا أي غلاظ الأوساط. وفي رواية
غلاظ الرقاب ، ألم تر إلى الرجل إذا كان غليظ الرقبة قيل : والله إنه لأغلب ، رواه
ابن أبي حاتم
__________________
وأنشد ابن جرير
للفرزدق : [الوافر]
عوى فأثار أغلب
ضيغميا
|
|
فويل ابن
المراغة ما استثار
|
وقوله تعالى : (وَفاكِهَةً وَأَبًّا) أما الفاكهة فكل ما يتفكه به من الثمار ، قال ابن عباس: الفاكهة
كل ما أكل رطبا ، والأب ، ما أنبتت الأرض مما تأكله الدواب ولا يأكله الناس ، وفي
رواية عنه : هو الحشيش للبهائم.
وقال مجاهد وسعيد
بن جبير وأبو مالك : الأب الكلأ ، وعن مجاهد والحسن وقتادة وابن زيد : الأب
للبهائم كالفاكهة لبني آدم ، وعن عطاء : كل شيء نبت على وجه الأرض فهو أب. وقال
الضحاك : كل شيء أنبتته الأرض سوى الفاكهة فهو الأب.
وقال ابن إدريس عن
عاصم بن كليب عن أبيه عن ابن عباس : الأب نبت الأرض مما تأكله الدواب ولا يأكله
الناس. ورواه ابن جرير من ثلاث طرق عن ابن إدريس ثم قال : حدثنا أبو كريب وأبو
السائب قالا : حدثنا ابن إدريس ، حدثنا عبد الملك عن سعيد بن جبير قال : عدّ ابن
عباس وقال : الأب ما أنبتت الأرض للأنعام وهذا لفظ حديث أبي كريب. وقال أبو السائب
في حديثه. ما أنبتت الأرض مما يأكل الناس وتأكل الأنعام.
وقال العوفي عن
ابن عباس : الأب الكلأ والمرعى ، وكذا قال مجاهد والحسن وقتادة وابن زيد وغير
واحد. وقال أبو عبيد القاسم بن سلام : حدثنا محمد بن يزيد ، حدثنا العوام بن حوشب
عن إبراهيم التيمي قال : سئل أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن قوله تعالى : (وَفاكِهَةً وَأَبًّا) فقال : أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إن قلت في كتاب الله
ما لا أعلم ، وهذا منقطع بين إبراهيم التيمي والصديق رضي الله عنه.
فأما ما رواه ابن
جرير حيث قال : حدثنا ابن بشار ، حدثنا ابن أبي عدي ، حدثنا حميد عن أنس قال : قرأ
عمر بن الخطاب رضي الله عنه (عَبَسَ وَتَوَلَّى) فلما أتى على هذه الآية (وَفاكِهَةً وَأَبًّا) قال : قد عرفنا الفاكهة فما الأب؟ فقال : لعمرك يا ابن
الخطاب إن هذا لهو التكلف فهو إسناد صحيح ، وقد رواه غير واحد عن أنس به ، وهذا
محمول على أنه أراد أن يعرف شكله وجنسه وعينه وإلا فهو وكل من قرأ هذه الآية يعلم
أنه من نبات الأرض لقوله : (فَأَنْبَتْنا فِيها
حَبًّا وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدائِقَ غُلْباً وَفاكِهَةً
وَأَبًّا) وقوله تعالى : (مَتاعاً لَكُمْ
وَلِأَنْعامِكُمْ) أي عيشة لكم ولأنعامكم في هذه الدار إلى يوم القيامة.
(فَإِذا جاءَتِ
الصَّاخَّةُ (٣٣) يَوْمَ يَفِرُّ
الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ
(٣٥) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦) لِكُلِّ امْرِئٍ
مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ
__________________
شَأْنٌ
يُغْنِيهِ (٣٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضاحِكَةٌ
مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩) وَوُجُوهٌ
يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (٤٠) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ
(٤١) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ)
(٤٢)
قال ابن عباس :
الصاخة اسم من أسماء يوم القيامة عظمه الله وحذره عباده ، وقال ابن جرير : لعله اسم للنفخة في الصور وقال البغوي : الصاخة يعني
صيحة يوم القيامة ، سميت بذلك لأنها تصخ الأسماع أي تبالغ في إسماعها حتى تكاد
تصمها (يَوْمَ يَفِرُّ
الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ) أي يراهم ويفر منهم ويبتعد عنهم لأن الهول عظيم والخطب جليل.
قال عكرمة : يلقى
الرجل زوجته فيقول لها : يا هذه أي بعل كنت لك؟ فتقول : نعم البعل كنت وتثني بخير
ما استطاعت فيقول لها : فإني أطلب إليك اليوم حسنة واحدة تهبينها لي لعلي أنجو مما
ترين ، فتقول له : ما أيسر ما طلبت ولكني لا أطيق أن أعطيك شيئا أتخوف مثل الذي
تخاف. قال : وإن الرجل ليلقى ابنه فيتعلق به فيقول : يا بني أي والد كنت لك؟ فيثني
بخير. فيقول له : يا بني إني احتجت إلى مثقال ذرة من حسناتك لعلي أنجو بها مما
ترى. فيقول ولده : يا أبت ما أيسر ما طلبت ولكني أتخوف مثل الذي تتخوف فلا أستطيع
أن أعطيك شيئا ، يقول الله تعالى : (يَوْمَ يَفِرُّ
الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ).
وفي الحديث الصحيح
في أمر الشفاعة أنه إذا طلب إلى كل من أولي العزم أن يشفع عند الله في الخلائق
يقول : نفسي نفسي لا أسألك اليوم إلا نفسي ، حتى أن عيسى ابن مريم يقول لا أسأله
اليوم إلا نفسي لا أسأله مريم التي ولدتني ، ولهذا قال تعالى : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ
وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ) قال قتادة : الأحب فالأحب والأقرب فالأقرب من هول ذلك
اليوم.
وقوله تعالى : (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ
شَأْنٌ يُغْنِيهِ) أي هو في شغل شاغل عن غيره ، قال ابن أبي حاتم : حدثنا
محمد بن عمار بن الحارث ، حدثنا الوليد بن صالح ، حدثنا ثابت أبو زيد العباداني عن
هلال بن خباب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : قال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم : «تحشرون حفاة عراة مشاة غرلا» قال : فقالت زوجته يا رسول
الله ننظر أو يرى بعضنا عورة بعض؟ قال : (لِكُلِّ امْرِئٍ
مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) ـ أو قال : ما أشغله عن النظر ـ» .
وقد رواه النسائي
منفردا به عن أبي داود عن عارم عن ثابت بن يزيد وهو أبو زيد الأحول البصري أحد
الثقات عن هلال بن خباب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس به. وقد رواه الترمذي عن عبد
بن حميد عن محمد بن الفضل عن ثابت بن يزيد عن هلال بن خباب عن عكرمة عن ابن عباس
عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «تحشرون حفاة عراة غرلا» فقالت امرأة : أيبصر أو يرى
بعضنا عورة بعض؟ قال : يا فلانة (لِكُلِّ امْرِئٍ
مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) ثم قال الترمذي :
__________________
وهذا حديث حسن
صحيح ، وقد روي من غير وجه عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وقال النسائي : أخبرني
عمرو بن عثمان ، حدثنا بقية ، حدثنا الزبيدي ، أخبرني الزهري عن عروة عن عائشة أن
رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «يبعث الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا» فقالت
عائشة : يا رسول الله فكيف بالعورات؟ فقال : (لِكُلِّ امْرِئٍ
مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) انفرد به النسائي من هذا الوجه.
ثم قال ابن أبي
حاتم أيضا : حدثنا أبي ، حدثنا أزهر بن حاتم ، حدثنا الفضل بن موسى عن عائذ بن
شريح عن أنس بن مالك قال : سألت عائشة رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقالت : يا رسول الله بأبي أنت وأمي ، إني ساءلتك عن حديث
فتخبرني أنت به قال : «إن كان عندي منه علم» قالت : يا نبي الله كيف يحشر الرجال؟
قال «حفاة عراة» ثم انتظرت ساعة فقالت : يا رسول الله كيف يحشر النساء؟ قال : كذلك
حفاة عراة» قالت : وا سوأتاه من يوم القيامة قال : «وعن أي ذلك تسألين إنه قد نزل
علي آية لا يضرك كان عليك ثياب أو لا يكون».
قالت : أية آية هي
يا نبي الله؟ قال : (لِكُلِّ امْرِئٍ
مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) وقال البغوي في تفسيره : أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي
أنبأنا أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي أخبرني الحسين بن عبد الله ، حدثنا عبد
الله بن عبد الرّحمن ، حدثنا محمد بن عبد العزيز ، حدثنا ابن أبي أويس ، حدثنا أبي
عن محمد بن أبي عياش ، عن عطاء بن يسار ، عن سودة زوج النبي صلىاللهعليهوسلم قالت : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «يبعث الناس حفاة عراة غرلا قد ألجمهم العرق وبلغ شحوم
الآذان ، فقلت يا رسول الله : وا سوأتاه ينظر بعضنا إلى بعض؟ فقال : «قد شغل الناس
لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه» هذا حديث غريب من هذا الوجه جدا وهكذا رواه ابن
جرير عن أبي عمار الحسين بن حريث المروزي عن الفضل بن موسى به ولكن قال أبو حاتم
الرازي عائذ بن شريح ضعيف وفي حديثه ضعف.
وقوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ
مُسْتَبْشِرَةٌ) أي يكون الناس هنالك فريقين وجوه مسفرة أي مستنيرة (ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ) أي مسرورة فرحة من السرور في قلوبهم قد ظهر البشر على
وجوههم وهؤلاء هم أهل الجنة (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ) أي يعلوها ويغشاها قترة أي سواد ، قال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبي حدثنا سهل بن عثمان العسكري حدثنا أبو علي محمد مولى جعفر بن محمد عن
جعفر بن محمد عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «يلجم الكافر العرق ثم تقع الغبرة على وجوههم» قال فهو
قوله تعالى : (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
عَلَيْها غَبَرَةٌ) وقال ابن عباس (تَرْهَقُها قَتَرَةٌ) أي يغشاها سواد الوجوه وقوله تعالى : (أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) أي الكفرة قلوبهم الفجرة في أعمالهم كما قال تعالى : (وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) [نوح : ٢٧]. آخر
تفسير سورة عبس ولله الحمد والمنة.
تفسير سورة التكوير
وهي مكية
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا عبد الله بن بحير القاص أن
عبد الرّحمن بن يزيد الصنعاني أخبره أنه سمع ابن عمر يقول : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين فليقرأ (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) و (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) و (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) وهكذا رواه الترمذي عن العباس بن عبد العظيم العنبري عن
عبد الرزاق به.
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(إِذَا الشَّمْسُ
كُوِّرَتْ (١) وَإِذَا النُّجُومُ
انْكَدَرَتْ (٢) وَإِذَا الْجِبالُ
سُيِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْعِشارُ
عُطِّلَتْ (٤) وَإِذَا الْوُحُوشُ
حُشِرَتْ (٥) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (٦) وَإِذَا النُّفُوسُ
زُوِّجَتْ(٧) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (٨)
بِأَيِّ
ذَنْبٍ قُتِلَتْ (٩) وَإِذَا الصُّحُفُ
نُشِرَتْ (١٠) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (١١) وَإِذَا الْجَحِيمُ
سُعِّرَتْ (١٢) وَإِذَا الْجَنَّةُ
أُزْلِفَتْ (١٣) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما
أَحْضَرَتْ)(١٤)
قال علي بن أبي
طلحة عن ابن عباس (إِذَا الشَّمْسُ
كُوِّرَتْ) يعني أظلمت. وقال العوفي عنه : ذهبت. وقال مجاهد : اضمحلت
وذهبت ، وكذا قال الضحاك وقال قتادة : ذهب ضوؤها ، وقال سعيد بن جبير : (كُوِّرَتْ) غورت. وقال الربيع بن خثيم : (كُوِّرَتْ) يعني رمي بها ، وقال أبو صالح : (كُوِّرَتْ) ألقيت ، وعنه أيضا : نكست ، وقال زيد بن أسلم : تقع في
الأرض قال ابن جرير : والصواب من القول عندنا في ذلك أن التكوير جمع الشيء
بعضه على بعض ، ومنه تكوير العمامة وجمع الثياب بعضها إلى بعض ، فمعنى قوله تعالى
: (كُوِّرَتْ) جمع بعضها إلى بعض
ثم لفت فرمي بها ، وإذا فعل بها ذلك ذهب ضوؤها.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبو سعيد الأشج وعمرو بن عبد الله الأودي حدثنا أبو أسامة عن مجالد عن شيخ
من بجيلة عن ابن عباس (إِذَا الشَّمْسُ
كُوِّرَتْ) قال يكور الله الشمس والقمر والنجوم يوم القيامة في البحر
، ويبعث الله ريحا دبورا فتضرمها نارا ، وكذا قال عامر الشعبي ، ثم قال ابن أبي
حاتم : حدثنا أبي حدثنا أبو صالح حدثني معاوية بن صالح عن ابن يزيد بن أبي
__________________
مريم عن أبيه أن
رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال في قول الله (إِذَا الشَّمْسُ
كُوِّرَتْ) قال : «كورت في جهنم».
وقال الحافظ أبو
يعلى في مسنده حدثنا موسى بن محمد بن حبان حدثنا درست بن زياد حدثنا يزيد الرقاشي
حدثنا أنس قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «الشمس والقمر نوران عقيران في النار» هذا حديث ضعيف لأن
يزيد الرقاشي ضعيف ، والذي رواه البخاري في الصحيح بدون هذه الزيادة ، ثم قال
البخاري حدثنا مسدد حدثنا عبد العزيز بن المختار حدثنا عبد الله الداناج حدثني أبو
سلمة بن عبد الرّحمن عن أبي هريرة عن النبي صلىاللهعليهوسلم : «الشمس والقمر يكوران يوم القيامة» انفرد به البخاري ، وهذا لفظه وإنما أخرجه في كتاب بدء الخلق وكان جديرا أن
يذكره هاهنا أو يكرره كما هي عادته في أمثاله.
وقد رواه البزار
فجود إيراده فقال : حدثنا إبراهيم بن زياد البغدادي حدثنا يونس بن محمد حدثنا عبد
العزيز بن المختار عن عبد الله الداناج قال : سمعت أبا سلمة بن عبد الرّحمن بن
خالد بن عبد الله القسري في هذا المسجد مسجد الكوفة ، وجاء الحسن فجلس إليه فحدث
قال حدثنا أبو هريرة أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إن الشمس والقمر نوران في النار عقيران يوم القيامة»
، فقال الحسن : وما ذنبهما؟ فقال : أحدثك عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم وتقول : ـ أحسبه قال ـ وما ذنبهما. ثم قال لا يروى عن أبي
هريرة إلا من هذا الوجه ولم يرو عبد الله الداناج عن أبي سلمة سوى هذا الحديث.
وقوله تعالى : (وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) أي انتثرت كما قال تعالى : (وَإِذَا الْكَواكِبُ
انْتَثَرَتْ) [الانفطار : ٢]
وأصل الانكدار الانصباب. قال الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب قال : ست
آيات قبل يوم القيامة ، بينا الناس في أسواقهم إذ ذهب ضوء الشمس فبينما هم كذلك إذ
تناثرت النجوم فبينما هم كذلك إذ وقعت الجبال على وجه الأرض فتحركت واضطربت
واختلطت ففزعت الجن إلى الإنس والإنس إلى الجن ، واختلطت الدواب والطير والوحوش
فماجوا بعضهم في بعض.
(وَإِذَا الْوُحُوشُ
حُشِرَتْ) قال : اختلطت (وَإِذَا الْعِشارُ
عُطِّلَتْ) قال : أهملها أهلها (وَإِذَا الْبِحارُ
سُجِّرَتْ) قال : قالت الجن نحن نأتيكم بالخبر ، قال فانطلقوا إلى
البحر فإذا هو نار تتأجج ، قال فبينما هم كذلك إذ تصدعت الأرض صدعة واحدة إلى
الأرض السابعة السفلى وإلى السماء السابعة العليا ، قال فبينما هم كذلك إذ جاءتهم
الريح فأماتتهم. رواه ابن جرير وهذا لفظه وابن أبي حاتم ببعضه ، وهكذا قال مجاهد والربيع
بن خثيم والحسن البصري وأبو
__________________
صالح وحماد بن أبي
سليمان والضحاك في قوله جلا وعلا : (وَإِذَا النُّجُومُ
انْكَدَرَتْ) أي تناثرت ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : (وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) أي تغيرت.
وقال يزيد بن أبي
مريم عن النبي صلىاللهعليهوسلم : (وَإِذَا النُّجُومُ
انْكَدَرَتْ) قال «انكدرت» في جهنم وكل من عبد من دون الله فهو في جهنم
إلا ما كان من عيسى وأمه ولو رضيا أن يعبدا لدخلاها» رواه ابن أبي حاتم بالإسناد
المتقدم.
وقوله تعالى : (وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ) أي زالت عن أماكنها ونسفت فتركت الأرض قاعا صفصفا وقوله : (وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ) قال عكرمة ومجاهد : عشار الإبل ، قال مجاهد : (عُطِّلَتْ) تركت وسيبت وقال أبي بن كعب والضحاك ، أهملها أهلها ، وقال
الربيع بن خثيم : لم تحلب ولم تصر تخلى منها أربابها ، وقال الضحاك : تركت لا راعي
لها والمعنى في هذا كله متقارب ، والمقصود أن العشار من الإبل وهي خيارها والحوامل
منها التي قد وصلت في حملها إلى الشهر العاشر ـ واحدتها عشراء ولا يزال ذلك اسمها
حتى تضع ـ قد اشتغل الناس عنها وعن كفالتها والانتفاع بها بعد ما كانوا أرغب شيء
فيها بما دهمهم من الأمر العظيم المفظع الهائل ، وهو أمر يوم القيامة وانعقاد
أسبابها ووقوع مقدماتها وقيل بل يكون ذلك يوم القيامة يراها أصحابها كذلك لا سبيل
لهم إليها ، وقد قيل في العشار إنها السحاب تعطل عن المسير بين السماء والأرض
لخراب الدنيا وقيل إنها الأرض التي تعشر ، وقيل إنها الديار التي كانت تسكن تعطلت
لذهاب أهلها. حكى هذه الأقوال كلها الإمام أبو عبد الله القرطبي في كتابه التذكرة
ورجح أنها الإبل وعزاه إلى أكثر الناس. (قلت) : لا يعرف عن السلف والأئمة سواه
والله أعلم.
وقوله تعالى : (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) أي جمعت كما قال تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ
فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما
فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) [الأنعام : ٣٨]
قال ابن عباس : يحشر كل شيء حتى الذباب رواه ابن أبي حاتم ، وكذا قال الربيع بن
خثيم والسدي وغير واحد ، وكذا قال قتادة في تفسير هذه الآية إن هذه الخلائق موافية
فيقضي الله فيها ما يشاء ، وقال عكرمة حشرها موتها.
وقال ابن جرير : حدثني علي بن مسلم الطوسي حدثنا عباد بن العوام حدثنا
حصين عن عكرمة عن ابن عباس في قوله : (وَإِذَا الْوُحُوشُ
حُشِرَتْ) قال حشر البهائم موتها ، وحشر كل شيء الموت غير الجن
والإنس فإنهما يوقفان يوم القيامة ، حدثنا أبو كريب حدثنا وكيع عن سفيان عن أبيه
عن أبي يعلى عن الربيع بن خثيم (وَإِذَا الْوُحُوشُ
حُشِرَتْ) قال أتى عليها أمر الله ، قال سفيان قال أبي فذكرته لعكرمة
فقال قال ابن عباس حشرها موتها ، وقد تقدم عن أبي بن كعب أنه قال
__________________
(وَإِذَا الْوُحُوشُ
حُشِرَتْ) اختلطت قال ابن جرير والأولى قول من قال (حُشِرَتْ) جمعت قال الله تعالى : (وَالطَّيْرَ
مَحْشُورَةً) أي مجموعة.
وقوله تعالى : (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) قال ابن جرير : حدثنا يعقوب حدثنا ابن علية عن داود عن سعيد بن المسيب
قال : قال علي رضي الله عنه لرجل من اليهود أين جهنم؟ قال البحر فقال ما أراه إلا
صادقا (وَالْبَحْرِ
الْمَسْجُورِ) [الطور : ٦] (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) وقال ابن عباس وغير واحد يرسل الله عليها الرياح الدبور
فتسعرها وتصير نارا تأجج ، وقد تقدم الكلام على ذلك عند قوله تعالى : (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) [الطور : ٦] وقال
ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد حدثنا أبو طاهر حدثني عبد الجبار بن
سليمان أبو سليمان النفاط ـ شيخ صالح يشبه مالك بن أنس ـ عن معاوية بن سعيد قال :
إن هذا البحر بركة ـ يعني بحر الروم ، وسط الأرض والأنهار كلها تصب فيه والبحر
الكبير يصب فيه ، وأسفله آبار مطبقة بالنحاس ، فإذا كان يوم القيامة أسجر وهذا أثر
غريب عجيب.
وفي سنن أبي داود «لا
يركب البحر إلا حاج أو معتمر أو غاز فإن تحت البحر نارا وتحت النار بحرا» الحديث. وقد تقدم الكلام عليه في سورة فاطر. وقال مجاهد
والحسن بن مسلم : (سُجِّرَتْ) أو قدت وقال الحسن : يبست وقال الضحاك وقتادة : غاض ماؤها
فذهب فلم يبق فيها قطرة ، وقال الضحاك أيضا : (سُجِّرَتْ) فجرت ، وقال السدي : فتحت وصيرت ، وقال الربيع بن خثيم : (سُجِّرَتْ) فاضت.
وقوله تعالى : (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) أي جمع كل شكل إلى نظيره كقوله تعالى : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا
وَأَزْواجَهُمْ) [الصافات : ٢٢٠]
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا محمد بن الصباح البزار حدثنا الوليد بن أبي
ثور عن سماك عن النعمان بن بشير أنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : (وَإِذَا النُّفُوسُ
زُوِّجَتْ) ـ قال ـ الضرباء كل رجل مع كل قوم كانوا يعملون عمله» وذلك
بأن الله عزوجل يقول : (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً
ثَلاثَةً فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحابُ
الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) [الواقعة : ٧ ـ ١٠]
قال هم الضرباء.
ثم رواه ابن أبي
حاتم من طرق أخر عن سماك بن حرب عن النعمان بن بشير أن عمر بن الخطاب خطب الناس
فقرأ (وَإِذَا النُّفُوسُ
زُوِّجَتْ) فقال : تزوجها أن تؤلف كل شيعة إلى شيعتهم ، وفي رواية هما
الرجلان يعملان العمل فيدخلان به الجنة أو النار ، وفي رواية عن النعمان قال : سئل
عمر عن قوله تعالى : (وَإِذَا النُّفُوسُ
زُوِّجَتْ) قال : يقرن بين الرجل الصالح
__________________
مع الرجل الصالح
ويقرن بين الرجل السوء مع الرجل السوء في النار فذلك تزويج الأنفس وفي رواية عن
النعمان أن عمر قال للناس : ما تقولون في تفسير هذه الآية (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ)؟ فسكتوا
قال : ولكن أعلمه
هو الرجل يزوج نظيره من أهل الجنة ، والرجل يزوج نظيره من أهل النار ثم قرأ (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا
وَأَزْواجَهُمْ) وقال العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى : (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) قال ذلك حين يكون الناس أزواجا ثلاثة ، وقال ابن أبي نجيح
عن مجاهد (وَإِذَا النُّفُوسُ
زُوِّجَتْ) قال ، والأمثال من الناس جمع بينهم ، وكذا قال الربيع بن
خثيم والحسن وقتادة واختاره ابن جرير وهو الصحيح.
[قول آخر] في قوله
تعالى : (وَإِذَا النُّفُوسُ
زُوِّجَتْ) قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد ، حدثنا
أحمد بن عبد الرّحمن ، حدثني أبي عن أبيه عن أشعث بن سرار عن جعفر عن سعيد بن جبير
عن ابن عباس قال : يسيل واد من أصل العرش من ماء فيما بين الصيحتين ومقدار ما
بينهما أربعون عاما ، فينبت منه كل خلق بلي من الإنسان أو طير أو دابة ، ولو مر
عليهم مار قد عرفهم قبل ذلك لعرفهم على وجه الأرض قد نبتوا ، ثم ترسل الأرواح
فتزوج الأجساد فذلك قول الله تعالى : (وَإِذَا النُّفُوسُ
زُوِّجَتْ) وكذا قال أبو العالية وعكرمة وسعيد بن جبير والشعبي والحسن
البصري أيضا في قوله تعالى : (وَإِذَا النُّفُوسُ
زُوِّجَتْ) أي زوجت بالأبدان. وقيل : زوج المؤمنون بالحور العين وزوج
الكافرون بالشياطين حكاه القرطبي في التذكرة.
وقوله تعالى : (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ
ذَنْبٍ قُتِلَتْ) هكذا قراءة الجمهور سئلت. والموؤودة هي التي كان أهل
الجاهلية يدسونها في التراب كراهية البنات ، فيوم القيامة تسأل الموؤودة على أي ذنب
قتلت ليكون ذلك تهديدا لقاتلها ، فإنه إذا سئل المظلوم فما ظن الظالم إذا؟ وقال
علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (وَإِذَا
الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ) أي سألت. وكذا قال أبو الضحى : سألت أي طالبت بدمها. وعن
السدي وقتادة مثله.
وقد وردت أحاديث
تتعلق بالموؤودة فقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن يزيد. حدثنا سعيد بن أبي أيوب ، حدثني
أبو الأسود وهو محمد بن عبد الرّحمن بن نوفل عن عروة عن عائشة عن جذامة بنت وهب
أخت عكاشة قالت : حضرت رسول الله صلىاللهعليهوسلم في ناس وهو يقول : «لقد هممت أن أنهى عن الغيلة فنظرت في الروم وفارس فإذا هم يغيلون أولادهم ولا يضر
__________________
أولادهم ذلك شيئا»
ثم سألوه عن العزل فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم ذلك الوأد الخفي وهو الموؤودة سئلت» ورواه مسلم من حديث أبي عبد الرّحمن المقري وهو عبد الله
بن يزيد عن سعيد بن أبي أيوب. ورواه أيضا ابن ماجة عن أبي بكر بن أبي شيبة عن يحيى
بن إسحاق السيلحيني عن يحيى بن أيوب ، ورواه مسلم أيضا وأبو داود والترمذي
والنسائي من حديث مالك بن أنس ثلاثتهم عن أبي الأسود به.
وقال الإمام أحمد : حدثنا ابن أبي عدي عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن
علقمة عن سلمة بن يزيد الجعفي قال : انطلقت أنا وأخي إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقلنا : يا رسول الله إن أمنا مليكة كانت تصل الرحم وتقري
الضيف وتفعل ، هلكت في الجاهلية فهل ذلك نافعها شيئا؟ قال : «لا» قلنا : فإنها
كانت وأدت أختا لنا في الجاهلية فهل ذلك نافعها شيئا؟ قال «الوائدة والموؤودة في
النار إلا أن يدرك الوائدة الإسلام فيعفو الله عنها» ورواه النسائي من حديث داود
بن أبي هند به.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أحمد بن سنان الواسطي ، حدثنا أبو أحمد الزبيري ، حدثنا إسرائيل عن أبي
إسحاق عن علقمة وأبي الأحوص عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «الوائدة والموؤودة في النار» وقال أحمد أيضا حدثنا إسحاق الأزرق ، أخبرنا عوف ، حدثتني حسناء ابنة
معاوية الصريمية عن عمها قال : قلت يا رسول الله من في الجنة؟ قال : «النبي في
الجنة والشهيد في الجنة والمولود في الجنة والموؤودة في الجنة».
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبي ، حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا قرة قال : سمعت الحسن يقول : قيل يا
رسول الله من في الجنة؟ قال : «الموؤودة في الجنة» هذا حديث مرسل من مراسيل الحسن
ومنهم من قبله. وقال ابن أبي حاتم : حدثني أبو عبد الله الظهراني ، حدثنا حفص بن
عمر العدني ، حدثنا الحكم بن أبان عن عكرمة قال : قال ابن عباس : أطفال المشركين
في الجنة فمن زعم أنهم في النار فقد كذب يقول الله تعالى : (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ
ذَنْبٍ قُتِلَتْ) قال ابن عباس : هي المدفونة.
وقال عبد الرزاق :
أخبرنا إسرائيل عن سماك بن حرب عن النعمان بن بشير عن عمر بن الخطاب في قوله تعالى
: (وَإِذَا
الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ) قال : جاء قيس بن عاصم إلى رسول اللهصلىاللهعليهوسلم فقال : يا رسول الله إني وأدت بنات لي في الجاهلية قال : «أعتق
عن كل واحدة منهن رقبة» قال : يا رسول الله إني صاحب إبل قال : «فانحر عن كل واحدة
منهن بدنة» قال الحافظ أبو بكر
__________________
البزار : خولف فيه
عبد الرزاق ولم يكتبه إلا عن الحسين بن مهدي عنه ، وقد رواه ابن أبي حاتم فقال :
أخبرنا أبو عبد الله الظهراني فيما كتب إلي قال : حدثنا عبد الرزاق فذكره بإسناده
مثله ، إلا أنه قال وأدت ثمان بنات لي في الجاهلية وقال في آخره «فأهد إن شئت عن
كل واحدة بدنة».
ثم قال : حدثنا
أبي ، حدثنا عبد الله بن رجاء حدثنا قيس بن الربيع عن الأغر بن الصباح عن خليفة بن
حصين قال : قدم قيس بن عاصم على رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : يا رسول الله إني وأدت اثنتي عشرة ابنة لي في
الجاهلية أو ثلاث عشرة قال : «أعتق عددهن نسما» قال : فأعتق عددهن نسما ، فلما كان
في العام المقبل جاء بمائة ناقة فقال : يا رسول الله هذه صدقة قومي على أثر ما
صنعت بالمسلمين قال علي بن أبي طالب : فكنا نريحها ونسميها القيسية.
وقوله تعالى : (وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ) قال الضحاك : أعطي كل إنسان صحيفته بيمينه أو بشماله ،
وقال قتادة : يا ابن آدم تملي فيها ثم تطوى ثم تنشر عليك يوم القيامة فلينظر رجل
ماذا يملي في صحيفته.
وقوله تعالى : (وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ) قال مجاهد : اجتذبت. وقال السدي : كشفت. وقال الضحاك :
تنكشط فتذهب. وقوله تعالى : (وَإِذَا الْجَحِيمُ
سُعِّرَتْ) قال السدي : أحميت ، وقال قتادة : أوقدت قال : وإنما
يسعرها غضب الله وخطايا بني آدم. وقوله تعالى : (وَإِذَا الْجَنَّةُ
أُزْلِفَتْ) قال الضحاك وأبو مالك وقتادة والربيع بن خثيم : أي قربت
إلى أهلها وقوله تعالى : (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما
أَحْضَرَتْ) هذا هو الجواب أي إذا وقعت هذه الأمور حينئذ تعلم كل نفس
ما عملت وأحضر ذلك لها كما قال تعالى : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ
نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ
أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً) [آل عمران : ٣٠]
وقال تعالى : (يُنَبَّؤُا
الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ) [القيامة : ١٣]
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبدة حدثنا ابن المبارك ، حدثنا محمد بن
مطرف عن زيد بن أسلم عن أبيه قال : لما نزلت (إِذَا الشَّمْسُ
كُوِّرَتْ) قال عمر : لما بلغ (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما
أَحْضَرَتْ) قال : لهذا أجري الحديث.
(فَلا أُقْسِمُ
بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوارِ
الْكُنَّسِ (١٦) وَاللَّيْلِ إِذا
عَسْعَسَ (١٧) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (١٨) إِنَّهُ لَقَوْلُ
رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ
ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) مُطاعٍ ثَمَّ
أَمِينٍ(٢١) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (٢٢) وَلَقَدْ رَآهُ
بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (٢٣) وَما هُوَ عَلَى
الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (٢٤) وَما هُوَ بِقَوْلِ
شَيْطانٍ رَجِيمٍ (٢٥) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ
(٢٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ
(٢٧) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨)
وَما
تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ)(٢٩)
روى مسلم في صحيحه
والنسائي في تفسيره عند هذه الآية من حديث مسعر بن كدام عن الوليد بن سريع عن عمرو
بن حريث قال : صليت خلف النبي صلىاللهعليهوسلم الصبح فسمعته يقرأ (فَلا أُقْسِمُ
بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذا
تَنَفَّسَ) ورواه النسائي عن بندار
__________________
عن غندر عن شعبة
عن الحجاج بن عاصم عن أبي الأسود عن عمرو بن حريث به نحوه ، قال ابن أبي حاتم وابن
جرير من طريق الثوري عن أبي إسحاق عن رجل من مراد عن علي (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ ، الْجَوارِ
الْكُنَّسِ) قال : هي النجوم تخنس بالنهار وتظهر بالليل.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن المثنى ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة عن
سماك بن حرب ، سمعت خالد بن عرعرة ، سمعت عليا وسئل عن لا (أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ
الْكُنَّسِ) فقال : هي النجوم تخنس بالنهار وتكنس بالليل. وحدثنا أبو
كريب ، حدثنا وكيع عن إسرائيل عن سماك عن خالد عن علي قال : هي النجوم ، وهذا
إسناد جيد صحيح إلى خالد بن عرعرة وهو السهمي الكوفي. قال أبو حاتم الرازي : روى
عن علي وروى عنه سماك والقاسم بن عوف الشيباني ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا فالله
أعلم ، وروى يونس عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي : أنها النجوم ، رواه ابن أبي
حاتم. وكذا روي عن ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة والسدي وغيرهم أنها النجوم.
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن
بشار حدثنا هوذة بن خليفة حدثنا عوف عن بكر بن عبد الله في قوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ
الْكُنَّسِ) قال : هي النجوم الدراري التي تجري تستقبل المشرق ، وقال
بعض الأئمة ، إنما قيل للنجوم الخنس أي في حال طلوعها ثم هي جوار في فلكها وفي حال
غيبوبتها يقال لها كنس ، من قول العرب أوى الظبي إلى كناسة إذا تغيب فيه.
وقال الأعمش عن
إبراهيم قال : قال عبد الله فلا أقسم بالخنس قال بقر الوحش ، وكذا قال الثوري عن
أبي إسحاق عن أبي ميسرة عن عبد الله (فَلا أُقْسِمُ
بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ) ما هي با عمرو؟ قلت البقر قال وأنا أرى ذلك ، وكذا روى
يونس عن أبي إسحاق عن أبيه وقال أبو داود الطيالسي عن عمرو عن أبيه عن سعيد بن
جبير عن ابن عباس (الْجَوارِ الْكُنَّسِ) قال البقر تكنس إلى الظل وكذا قال سعيد بن جبير ، وقال
العوفي عن ابن عباس هي الظباء ، وكذا قال سعيد أيضا ومجاهد والضحاك ، وقال أبو
الشعثاء جابر بن زيد هي الظباء والبقر.
وقال ابن جرير حدثنا يعقوب حدثنا هشيم أخبرنا مغيرة عن إبراهيم ومجاهد
أنهما تذاكرا هذه الآية (فَلا أُقْسِمُ
بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ) فقال إبراهيم لمجاهد قل فيها بما سمعت ، قال : فقال مجاهد
كنا نسمع فيها شيئا وناس يقولون إنها النجوم ، قال : فقال إبراهيم قل فيها بما
سمعت ، قال : فقال مجاهد كنا نسمع أنها بقر الوحش حين تكنس في حجرتها ، قال : فقال
__________________
إبراهيم إنهم
يكذبون على عليّ ، هذا كما رووا عن علي أنه ضمن الأسفل الأعلى والأعلى الأسفل ،
وتوقف ابن جرير في المراد بقوله : (بِالْخُنَّسِ
الْجَوارِ الْكُنَّسِ) هل هو النجوم أو الظباء وبقر الوحش قال ويحتمل أن يكون
الجميع مرادا.
وقوله تعالى : (وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ) فيه قولان أحدهما إقباله بظلامه وقال مجاهد أظلم وقال سعيد
بن جبير إذا نشأ ، وقال الحسن البصري إذا غشي الناس ، وكذا قال عطية العوفي وقال
علي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس (إِذا عَسْعَسَ) إذا أدبر ، وكذا قال مجاهد وقتادة والضحاك وكذا قال زيد بن
أسلم وابنه عبد الرّحمن (إِذا عَسْعَسَ) أي إذا ذهب فتولى.
وقال أبو داود
الطيالسي : حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي البختري سمع أبا عبد الرّحمن السلمي
قال : خرج علينا علي رضي الله عنه حين ثوب المثوب بصلاة الصبح فقال : أين السائلون
عن الوتر (وَاللَّيْلِ إِذا
عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) هذا حين أدبر حسن. وقد اختار ابن جرير أن المراد بقوله : (إِذا عَسْعَسَ) إذا أدبر قال لقوله (وَالصُّبْحِ إِذا
تَنَفَّسَ) أي أضاء ، واستشهد بقول الشاعر أيضا : [رجز]
حتى إذا الصبح
له تنفّسا
|
|
وانجاب عنها
ليلها وعسعسا
|
أي أدبر ، وعندي
أن المراد بقوله (إِذا عَسْعَسَ) إذا أقبل وإن كان يصح استعماله في الإدبار أيضا لكن
الإقبال هاهنا أنسب ، كأنه أقسم بالليل وظلامه إذا أقبل وبالفجر وضيائه إذا أشرق
كما قال تعالى : (وَاللَّيْلِ إِذا
يَغْشى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى) [الليل : ١ ـ ٢]
وقال تعالى : (وَالضُّحى
وَاللَّيْلِ إِذا سَجى) [الضحى : ١ ـ ٢]
وقال تعالى : (فالِقُ الْإِصْباحِ
وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً) [الأنعام : ٩٦]
وغير ذلك من الآيات ، وقال كثير من علماء الأصول : إن لفظة عسعس تستعمل في الإقبال
والإدبار على وجه الاشتراك ، فعلى هذا يصح أن يراد كل منهما والله أعلم. وقال ابن
جرير : وكان بعض أهل المعرفة بكلام العرب يزعم أن عسعس دنا من أوله وأظلم ، وقال
الفراء : كان أبو البلاد النحوي ينشد بيتا. [السريع]
عسعس حتى لو يشا
إدّنا
|
|
كان له من ضوئه
مقبس
|
يريد لو يشاء إذ
دنا أدغم الذال في الدال ، قال الفراء وكانوا يزعمون أن هذا البيت مصنوع وقوله
__________________
تعالى : (وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) قال الضحاك : إذا طلع ، وقال قتادة ، إذا أضاء وأقبل ،
وقال سعيد بن جبير : إذا نشأ ، وهو المروي عن علي رضي الله عنه. وقال ابن جرير :
يعني ضوء النهار إذا أقبل وتبين.
وقوله تعالى : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) يعني إن هذا القرآن لتبليغ رسول كريم أي ملك شريف حسن
الخلق بهي المنظر وهو جبريل عليه الصلاة والسّلام ، قاله ابن عباس والشعبي وميمون
بن مهران والحسن وقتادة والربيع بن أنس والضحاك وغيرهم (ذِي قُوَّةٍ) كقوله تعالى : (عَلَّمَهُ شَدِيدُ
الْقُوى ذُو مِرَّةٍ) [النجم : ٥ ـ ٦]
أي شديد الخلق شديد البطش والفعل (عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ
مَكِينٍ) أي له مكانة عند الله عزوجل ومنزلة رفيعة ، قال أبو صالح في قوله تعالى : (عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) قال جبريل يدخل في سبعين حجابا من نور بغير إذن (مُطاعٍ ثَمَ) أي له وجاهة وهو مسموع القول مطاع في الملأ الأعلى قال
قتادة (مُطاعٍ ثَمَ) أي في السموات يعني ليس هو من أفناد الملائكة بل هو من
السادة والأشراف معتنى به انتخب لهذه الرسالة العظيمة.
وقوله تعالى : (أَمِينٍ) صفة لجبريل بالأمانة ، وهذا عظيم جدا أن الرب عزوجل يزكي عبده ورسوله الملكي جبريل كما زكى عبده ورسوله البشري
محمدا صلىاللهعليهوسلم بقوله تعالى : (وَما صاحِبُكُمْ
بِمَجْنُونٍ) قال الشعبي وميمون بن مهران وأبو صالح ومن تقدم ذكرهم :
المراد بقوله : (وَما صاحِبُكُمْ
بِمَجْنُونٍ) يعني محمدا صلىاللهعليهوسلم ، وقوله تعالى : (وَلَقَدْ رَآهُ
بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) يعني ولقد رأى محمد جبريل الذي يأتيه بالرسالة عن الله عزوجل على الصورة التي خلقه الله عليها له ستمائة جناح (بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) أي البين وهي الرؤية الأولى التي كانت بالبطحاء وهي
المذكورة في قوله : (عَلَّمَهُ شَدِيدُ
الْقُوى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى ثُمَّ دَنا
فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) [النجم : ٥ ـ ١٠]
كما تقدم تفسير ذلك وتقريره ، والدليل عليه أن المراد بذلك جبريل عليهالسلام ، والظاهر والله أعلم أن هذه السورة نزلت قبل ليلة الإسراء
لأنه لم يذكر فيها إلا هذه الرؤيا وهي الأولى ، وأما الثانية وهي المذكورة في قوله
تعالى : (وَلَقَدْ رَآهُ
نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى إِذْ
يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى) [النجم : ١٣ ـ ١٦]
فتلك إنما ذكرت في سورة النجم وقد نزلت بعد سورة الإسراء.
وقوله تعالى : (وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) أي وما محمد على ما أنزله الله إليه بضنين أي بمتهم. ومنهم
من قرأ ذلك بالضاد أي ببخيل بل يبذله لكل أحد. قال سفيان بن عيينة : ظنين وضنين
سواء أي ما هو بكاذب وما هو بفاجر. والظنين المتهم والضنين البخيل. وقال قتادة : كان
القرآن غيبا فأنزله الله على محمد فما ضن به على الناس بل نشره وبلغه وبذله لكل من
أراده ، وكذا قال عكرمة وابن زيد وغير واحد واختار ابن جرير قراءة الضاد.
__________________
قلت : وكلاهما
متواتر ومعناه صحيح كما تقدم ، وقوله تعالى : (وَما هُوَ بِقَوْلِ
شَيْطانٍ رَجِيمٍ) أي وما هذا القرآن بقول شيطان رجيم أي لا يقدر على حمله
ولا يريده ولا ينبغي له كما قال تعالى : (وَما تَنَزَّلَتْ
بِهِ الشَّياطِينُ وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ
السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) [الشعراء : ٢١٠ ـ ٢١٢]
، وقوله تعالى : (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) أي فأين تذهب عقولكم في تكذيبكم بهذا القرآن مع ظهوره
ووضوحه وبيان كونه حقا من عند الله عزوجل كما قال الصديق رضي الله عنه لوفد بني حنيفة حين قدموا
مسلمين وأمرهم فتلوا عليه شيئا من قرآن مسيلمة الكذاب الذي هو في غاية الهذيان
والركاكة فقال : ويحكم أين تذهب عقولكم؟ والله إن هذا الكلام لم يخرج من إل ، أي
من إله ، وقال قتادة (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) أي عن كتاب الله وعن طاعته.
وقوله تعالى : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) أي هذا القرآن ذكر لجميع الناس يتذكرون به ويتعظون (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) أي من أراد الهداية فعليه بهذا القرآن فإنه منجاة له
وهداية ، ولا هداية فيما سواه (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا
أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) أي ليست المشيئة موكولة إليكم فمن شاء اهتدى ومن شاء ضل ،
بل ذلك كله تابع لمشيئة الله تعالى رب العالمين. قال سفيان الثوري عن سعيد بن عبد
العزيز عن سليمان بن موسى : لما نزلت هذه الآية (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ
أَنْ يَسْتَقِيمَ) قال أبو جهل : الأمر إلينا إن شئنا استقمنا وإن شئنا لم
نستقم فأنزل الله تعالى : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا
أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ). آخر تفسير سورة التكوير. ولله الحمد والمنة.
تفسير سورة الانفطار
وهي مكية
قال النسائي :
أخبرنا محمد بن قدامة حدثنا جرير عن الأعمش عن محارب بن دثار عن جابر قال : قام
معاذ فصلى العشاء الآخرة فطول فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «أفتان أنت يا معاذ؟ أين كنت عن سبح اسم ربك الأعلى ،
والضحى ، وإذا السماء انفطرت» وأصل الحديث مخرج في الصحيحين ولكن ذكر (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) في إفراد النسائي. وقد تقدم من رواية عبد الله بن عمر عن
النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «من سره أن ينظر إلى القيامة رأي عين فليقرأ إذا
الشمس كورت ، وإذا السماء انفطرت ، وإذا السماء انشقت» .
__________________
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(إِذَا السَّماءُ
انْفَطَرَتْ (١) وَإِذَا الْكَواكِبُ
انْتَثَرَتْ (٢) وَإِذَا الْبِحارُ
فُجِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْقُبُورُ
بُعْثِرَتْ (٤) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما
قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (٥) يا أَيُّهَا
الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ(٦) الَّذِي خَلَقَكَ
فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ
ما شاءَ رَكَّبَكَ (٨) كَلاَّ بَلْ
تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (٩) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ
لَحافِظِينَ (١٠) كِراماً كاتِبِينَ (١١) يَعْلَمُونَ ما
تَفْعَلُونَ)(١٢)
يقول تعالى : (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) أي انشقت كما قال تعالى : (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ
بِهِ) [المزمل : ١٨] (وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) أي تساقطت (وَإِذَا الْبِحارُ
فُجِّرَتْ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : فجر الله بعضها في بعض.
وقال الحسن : فجر الله بعضها في بعض فذهب ماؤها ، وقال قتادة : اختلط عذبها
بمالحها.
وقال الكلبي :
ملئت (وَإِذَا الْقُبُورُ
بُعْثِرَتْ) قال ابن عباس : بحثت ، وقال السدي : تبعثر تحرك فيخرج من
فيها (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما
قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) أي إذا كان هذا حصل هذا. وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ
بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) هذا تهديد لا كما يتوهمه بعض الناس من أنه إرشاد إلى
الجواب حيث قال الكريم حتى يقول قائلهم غره كرمه ، بل المعنى في هذه الآية : ما
غرك يا ابن آدم بربك الكريم أي العظيم حتى أقدمت على معصيته وقابلته بما لا يليق.
كما جاء في الحديث «يقول الله تعالى يوم القيامة يا ابن آدم ما غرك بي؟ يا ابن آدم
ماذا أجبت المرسلين؟».
قال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبي حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان أن عمر سمع رجلا يقرأ (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ
بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) فقال عمر : الجهل. وقال أيضا : حدثنا عمر بن شبّه ، حدثنا
أبو خلف ، حدثنا يحيى البكاء ، سمعت ابن عمر يقول وقرأ هذه الآية (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ
بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) قال ابن عمر : غره والله جهله ، قال : وروي عن ابن عباس
والربيع بن خثيم والحسن مثل ذلك وقال قتادة : (ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ
الْكَرِيمِ) شيء ، ما غر ابن آدم غير هذا العدو الشيطان.
وقال الفضيل بن
عياض : لو قال لي ما غرك بي لقلت : ستورك المرخاة. وقال أبو بكر الوراق : لو قال لي
(ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ
الْكَرِيمِ) لقلت : غرني كرم الكريم. قال البغوي : وقال بعض أهل
الإشارة : إنما قال (بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) دون سائر أسمائه وصفاته كأنه لقنه الإجابة وهذا الذي تخيله
هذا القائل ليس بطائل لأنه إنما أتى باسمه الكريم لينبه على أنه لا ينبغي أن يقابل
الكريم بالأفعال القبيحة وأعمال الفجور ، وقد حكى البغوي عن الكلبي ومقاتل أنهما
قالا : نزلت هذه الآية في الأخنس بن شريق ضرب النبي صلىاللهعليهوسلم ولم يعاقب في الحالة الراهنة فأنزل الله تعالى : (ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ).
وقوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ) أي ما غرك بالرب الكريم (الَّذِي خَلَقَكَ
فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ) أي جعلك سويا مستقيما معتدل القامة منتصبها في أحسن
الهيئات والأشكال. قال الإمام أحمد : حدثنا أبو النضر ، حدثنا حريز ، حدثني عبد الرّحمن بن
ميسرة عن جبير بن نفير ، عن بسر بن جحاش القرشي أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم بصق يوما في كفه فوضع عليها إصبعه ثم قال : «قال الله عزوجل : يا ابن آدم أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه؟ حتى إذا
سويتك وعدلتك مشيت بين بردين وللأرض منك وئيد ، فجمعت ومنعت حتى إذا بلغت التراقي
قلت أتصدق وأنى أوان الصدقة؟» وكذا رواه ابن ماجة عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن يزيد بن هارون ، عن حريز بن
عثمان به. قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي وتابعه يحيى بن حمزة عن ثور بن يزيد
عن عبد الرّحمن بن ميسرة.
وقوله تعالى : (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) قال مجاهد : في أي شبه أب أو أم أو خال أو عم. وقال ابن
جرير : حدثني محمد بن سنان القزاز ، حدثنا مطهر بن الهيثم ، حدثنا موسى بن علي بن
رباح ، حدثني أبي عن جدي أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال له : «ما ولد لك؟» قال : يا رسول الله ما عسى أن يولد
لي إما غلام وإما جارية. قال «فمن يشبه؟» قال : يا رسول الله من عسى أن يشبه إما
أباه وإما أمه. فقال النبي صلىاللهعليهوسلم عندها : «مه لا تقولن هكذا إن النطفة إذا استقرت في الرحم
أحضرها الله تعالى كل نسب بينها وبين آدم؟ أما قرأت هذه الآية في كتاب الله تعالى (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) قال : شكلك.
وهكذا رواه ابن
أبي حاتم والطبراني من حديث مطهر بن الهيثم به ، وهذا الحديث لو صح لكان فيصلا في
هذه الآية ولكن إسناده ليس بالثابت ، لأن مطهر بن الهيثم قال فيه أبو سعيد بن يونس
كان متروك الحديث ، وقال ابن حبان ، يروي عن موسى بن علي وغيره ما لا يشبه حديث
الأثبات ، ولكن في الصحيحين عن أبي هريرة أن رجلا قال : يا رسول الله إن امرأتي
ولدت غلاما أسود ، قال «هل لك من إبل؟» قال نعم ، قال : «فما ألوانها» قال : حمر ،
قال : «فهل فيها من أورق» قال : نعم ، قال : «فأنى أتاها ذلك» قال : عسى أن يكون
نزعة عرق. قال :
«وهذا عسى أن يكون
نزعة عرق» .
وقد قال عكرمة في
قوله تعالى : (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما
شاءَ رَكَّبَكَ) إن شاء في صورة قرد وإن شاء في صورة خنزير ، وكذا قال أبو
صالح (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما
شاءَ رَكَّبَكَ) إن شاء في صورة
__________________
كلب وإن شاء في
صورة حمار وإن شاء في صورة خنزير . وقال قتادة : (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما
شاءَ رَكَّبَكَ) قال : قادر والله ربنا على ذلك ، ومعنى هذا القول عند
هؤلاء أن الله عزوجل قادر على خلق النطفة على شكل قبيح من الحيوانات المنكرة
الخلق ، ولكن بقدرته ولطفه وحلمه يخلقه على شكل حسن مستقيم معتدل تام حسن المنظر
والهيئة.
وقوله تعالى : (كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ) أي إنما يحملكم على مواجهة الكريم ومقابلته بالمعاصي تكذيب
في قلوبكم بالمعاد والجزاء والحساب. وقوله تعالى : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ
لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) يعني وإن عليكم لملائكة حفظة كراما فلا تقابلوهم بالقبائح
فإنهم يكتبون عليكم جميع أعمالكم. قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا علي بن محمد
الطنافسي حدثنا وكيع سفيان ومسعر عن علقمة بن مرثد حدثنا عن مجاهد عن ابن عباس قال
: قال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم : «أكرموا الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلا عند
إحدى حالتين الجنابة والغائط ، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر بجرم حائط أو ببعيره أو
ليستره أخوه».
وقد رواه الحافظ
أبو بكر البزار فوصله بلفظ آخر فقال : حدثنا محمد بن عثمان بن كرامة حدثنا عبيد
الله بن موسى عن حفص بن سليمان عن علقمة بن مرثد عن مجاهد عن ابن عباس قال : قال رسول
الله صلىاللهعليهوسلم : «إن الله ينهاكم عن التعري فاستحيوا من ملائكة الله
الذين معكم الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلا عند ثلاث حالات : الغائط
والجنابة والغسل ، فإذا اغتسل أحدكم بالعراء فليستتر بثوبه أو بجرم حائط أو ببعيره»
ثم قال حفص بن سليمان : لين الحديث وقد روي عنه واحتمل حديثه.
وقال الحافظ أبو
بكر البزار حدثنا زياد بن أيوب حدثنا مبشّر بن إسماعيل الحلبي حدثنا تمام بن نجيح
عن الحسن يعني البصري عن أنس قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «ما من حافظين
يرفعان إلى الله عزوجل ما حفظا في يوم فيرى في أول الصحيفة وفي آخرها استغفارا
إلا قال الله تعالى قد غفرت لعبدي ما بين طرفي الصحيفة» ثم قال تفرد به تمام بن
نجيح وهو صالح الحديث.
(قلت) : وثقه ابن
معين وضعفه البخاري وأبو زرعة وابن أبي حاتم والنسائي وابن عدي ورماه ابن حبان
بالوضع وقال الإمام أحمد لا أعرف حقيقة أمره. وقال الحافظ أبو بكر البزار حدثنا
إسحاق بن سليمان البغدادي المعروف بالقلوسي حدثنا بيان بن حمران حدثنا سلام عن
منصور بن زاذان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن لله ملائكة يعرفون بني آدم ـ وأحسبه قال : ويعرفون
أعمالهم ـ فإذا نظروا إلى عبد يعمل بطاعة الله ذكروه بينهم وسموه وقالوا أفلح
الليلة فلان ، نجا الليلة فلان ، وإذا نظروا إلى عبد يعمل بمعصية الله
__________________
ذكروه بينهم وسموه
وقالوا هلك الليلة فلان» ، ثم قال البزار : سلام هذا أحسبه سلام المدائني وهو لين
الحديث.
(إِنَّ الْأَبْرارَ
لَفِي نَعِيمٍ (١٣) وَإِنَّ الْفُجَّارَ
لَفِي جَحِيمٍ (١٤) يَصْلَوْنَها يَوْمَ
الدِّينِ (١٥) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (١٦)
وَما
أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٧) ثُمَّ ما أَدْراكَ
ما يَوْمُ الدِّينِ (١٨) يَوْمَ لا تَمْلِكُ
نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ)
(١٩)
يخبر تعالى عما
يصير الأبرار إليه من النعيم ، وهم الذين أطاعوا الله عزوجل ولم يقابلوه بالمعاصي ، وقد روى ابن عساكر في ترجمة موسى
بن محمد عن هشام بن عمار عن عيسى بن يونس بن أبي إسحاق عن عبيد الله عن محارب عن
ابن عمر عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «إنما سماهم الله الأبرار لأنهم بروا الآباء
والأبناء» ثم ذكر ما يصير إليه الفجار من الجحيم والعذاب المقيم ولهذا قال : (يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ) أي يوم الحساب والجزاء والقيامة (وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) أي لا يغيبون عن العذاب ساعة واحدة ولا يخفف عنهم من
عذابها ولا يجابون إلى ما يسألون من الموت أو الراحة ولو يوما واحدا.
وقوله تعالى : (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ) تعظيم لشأن يوم القيامة ثم أكده بقوله تعالى: (ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ) ثم فسره بقوله : (يَوْمَ لا تَمْلِكُ
نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً) أي لا يقدر واحد على نفع أحد ولا خلاصه مما هو فيه إلا أن
يأذن الله لمن يشاء ويرضى ، ونذكر هاهنا حديث «يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار
لا أملك لكم من الله شيئا» وقد تقدم في آخر تفسير سورة الشعراء ولهذا قال : (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) كقوله (لِمَنِ الْمُلْكُ
الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) [غافر : ١٦]
وكقوله : (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ
الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ) [الفرقان : ١٦]
وكقوله : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) [الفاتحة : ٤] قال
قتادة (يَوْمَ لا تَمْلِكُ
نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) والأمر والله اليوم لله ، ولكنه لا ينازعه فيه يومئذ أحد.
آخر تفسير سورة الانفطار ، ولله الحمد والمنة وبه التوفيق والعصمة.
تفسير سورة المطففين
وهي مكية
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(وَيْلٌ
لِلْمُطَفِّفِينَ (١) الَّذِينَ إِذَا
اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢) وَإِذا كالُوهُمْ
أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (٣)
أَلا
يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (٤)
لِيَوْمٍ
عَظِيمٍ (٥) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ
الْعالَمِينَ)(٦)
قال النسائي وابن
ماجة : أخبرنا محمد بن عقيل ، زاد ابن ماجة وعبد الرّحمن بن بشر قالا : حدثنا علي
بن الحسين بن واقد ، حدثني أبي عن يزيد وهو ابن أبي سعيد النحوي مولى قريش
عن عكرمة عن ابن
عباس قال : لما قدم النبي صلىاللهعليهوسلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا فأنزل الله تعالى : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) فحسنوا الكيل بعد ذلك .
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا جعفر بن النضر بن حماد ، حدثنا محمد بن عبيد عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن
عبد الله بن الحارث عن هلال بن طلق قال : بينما أنا أسير مع ابن عمر فقلت : من
أحسن الناس هيئة وأوفاهم كيلا أهل مكة أو أهل المدينة قال : حق لهم ، أما سمعت
الله تعالى يقول : (وَيْلٌ
لِلْمُطَفِّفِينَ).
وقال ابن جرير : حدثنا أبو السائب ، حدثنا ابن فضيل عن ضرار عن عبد الله
المكتب عن رجل عن عبد الله قال : قال له رجل : يا أبا عبد الرّحمن إن أهل المدينة
ليوفون الكيل ، قال :
وما يمنعهم أن
يوفوا الكيل وقد قال الله تعالى : (وَيْلٌ
لِلْمُطَفِّفِينَ) ـ حتى بلغ ـ (يَوْمَ يَقُومُ
النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) والمراد بالتطفيف هاهنا البخس في المكيال والميزان إما
بالازدياد إن اقتضى من الناس وإما بالنقصان إن قضاهم ، ولهذا فسر تعالى المطففين
الذين وعدهم بالخسار والهلاك وهو الويل بقوله تعالى : (الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى
النَّاسِ) أي من الناس (يَسْتَوْفُونَ) أي يأخذون حقهم بالوافي والزائد (وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ
يُخْسِرُونَ) أي ينقصون ، والأحسن أن يجعل كالوا ووزنوا متعديا ويكون هم
في محل نصب ، ومنهم من يجعلها ضميرا مؤكدا للمستتر في قوله كالوا ووزنوا ويحذف
المفعول لدلالة الكلام عليه ، وكلاهما متقارب.
وقد أمر الله
تعالى بالوفاء في الكيل والميزان فقال تعالى : (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ
إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ
تَأْوِيلاً) [الإسراء : ٣٥]
وقال تعالى : (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ
وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) [الأنعام : ١٥٢]
وقال تعالى : (وَأَقِيمُوا
الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ) [الرّحمن : ٩]
وأهلك الله قوم شعيب ودمرهم على ما كانوا يبخسون الناس في الميزان والمكيال ثم قال
تعالى : متوعدا لهم : (أَلا يَظُنُّ
أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) أي ما يخاف أولئك من البعث والقيام بين يدي من يعلم
السرائر والضمائر في يوم عظيم الهول كثير الفزع جليل الخطب ، من خسر فيه أدخل نارا
حامية؟ وقوله تعالى : (يَوْمَ يَقُومُ
النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) أي يقومون حفاة عراة غرلا في موقف صعب حرج ضيق ضنك على
المجرم ويغشاهم من أمر الله تعالى ما تعجز القوى والحواس عنه.
قال الإمام مالك
عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : (يَوْمَ يَقُومُ
النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) حتى يغيب أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه» رواه البخاري من حديث مالك وعبد الله بن
__________________
عون كلاهما عن
نافع به ، ورواه مسلم من الطريقين أيضا ، وكذلك رواه أيوب بن يحيى وصالح بن كيسان
وعبد الله وعبيد الله ابنا عمر ومحمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر به. ولفظ الإمام
أحمد : حدثنا يزيد ، أخبرنا ابن إسحاق عن نافع عن ابن عمر سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : (يَوْمَ يَقُومُ
النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) لعظمة الرّحمن عزوجل يوم القيامة حتى أن العرق ليلجم الرجال إلى أنصاف آذانهم».
[حديث آخر] قال
الإمام أحمد : حدثنا إبراهيم بن إسحاق ، حدثنا ابن المبارك عن عبد
الرّحمن بن يزيد بن جابر ، حدثني سليم بن عامر ، حدثني المقداد يعني ابن الأسود
الكندي قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «إذا كان يوم القيامة أدنيت الشمس من العباد حتى
تكون قدر ميل أو ميلين ـ قال ـ فتصهرهم الشمس فيكونون في العرق كقدر أعمالهم ،
منهم من يأخذه إلى عقبيه ومنهم من يأخذه إلى ركبتيه ، ومنهم من يأخذه إلى حقويه ،
ومنهم من يلجمه إلجاما» رواه مسلم عن الحكم بن موسى عن يحيى بن حمزة والترمذي عن
سويد عن ابن المبارك ، كلاهما عن ابن جابر به.
[حديث آخر] قال
الإمام أحمد : حدثنا الحسن بن سوار ، حدثنا الليث بن سعد عن معاوية بن
صالح أن أبا عبد الرّحمن حدثه عن أبي أمامة أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «تدنو الشمس يوم القيامة على قدر ميل ويزاد في حرها
كذا كذا ، تغلي منها الهوام كما تغلي القدور يعرقون فيها على قدر خطاياهم ، منهم
من يبلغ إلى كعبيه ومنهم من يبلغ إلى ساقيه ، ومنهم من يبلغ إلى وسطه ، ومنهم من
يلجمه العرق». الفرد به أحمد.
[حديث آخر] قال
الإمام أحمد : حدثنا حسن حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا أبو عشانة حيي بن
يؤمن أنه سمع عقبة بن عامر يقول : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «تدنو الشمس من الأرض فيعرق الناس فمن الناس من
يبلغ عرقه عقبيه ومنهم من يبلغ إلى نصف الساق ، ومنهم من يبلغ إلى ركبتيه ومنهم من
يبلغ العجز ومنهم من يبلغ الخاصرة ، ومنهم من يبلغ منكبيه ، ومنهم من يبلغ وسط فيه
ـ وأشار بيده فألجمها فاه ، رأيت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يشير بيده هكذا ومنهم من يغطيه عرقه» وضرب بيده إشارة ،
انفرد به أحمد ، وفي حديث أنهم يقومون سبعين سنة لا يتكلمون ، وقيل يقومون
ثلاثمائة سنة ، وقيل يقومون أربعين ألف سنة ويقضي بينهم في مقدار عشرة آلاف سنة
كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة مرفوعا «في يوم كان مقداره خمسين ألف
__________________
سنة» .
وقد قال ابن أبي
حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو عون الزيادي ، أخبرنا عبد السّلام بن عجلان ، سمعت
أبا يزيد المدني عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم لبشير الغفاري : «كيف أنت صانع في يوم يقوم الناس فيه
ثلاثمائة سنة لرب العالمين من أيام الدنيا لا يأتيهم فيه خبر من السماء ولا يؤمر
فيهم بأمر؟» قال بشير : المستعان الله ، قال «فإذا أويت إلى فراشك فتعوذ بالله من
كرب يوم القيامة وسوء الحساب» ورواه ابن جرير من طريق عبد السّلام به.
وفي سنن أبي داود
أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان يتعوذ بالله من ضيق المقام يوم القيامة . وعن ابن مسعود يقومون أربعين سنة رافعي رؤوسهم إلى السماء
لا يكلمهم أحد قد ألجم العرق برهم وفاجرهم. وعن ابن عمر : يقومون مائة سنة رواهما
ابن جرير. وفي سنن أبي داود والنسائي وابن ماجة من حديث زيد بن الحباب عن معاوية
بن صالح عن أزهر بن سعيد الحواري عن عاصم بن حميد عن عائشة أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان يفتتح قيام الليل : يكبر عشرا ويحمد عشرا ، ويسبح عشرا
ويستغفر عشرا ويقول : «اللهم اغفر لي واهدني وارزقني وعافني» ويتعوذ من ضيق المقام
يوم القيامة .
(كَلاَّ إِنَّ كِتابَ
الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (٧) وَما أَدْراكَ ما
سِجِّينٌ (٨) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٩)
وَيْلٌ
يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٠)
الَّذِينَ
يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (١١) وَما يُكَذِّبُ بِهِ
إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ(١٢)
إِذا
تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٣)
كَلاَّ
بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤)
كَلاَّ
إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥)
ثُمَّ
إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (١٦)
ثُمَّ
يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ)
(١٧)
يقول تعالى حقا (إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) أي إن مصيرهم ومأواهم لفي سجين فعيل من السجن وهو الضيق ،
كما يقال : فسيق وشريب وخمير وسكير ونحو ذلك ، ولهذا عظم أمره فقال تعالى : (وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ) أي هو أمر عظيم وسجن مقيم وعذاب أليم ، ثم قد قال قائلون :
هي تحت الأرض السابعة ، وقد تقدم في حديث البراء بن عازب في حديثه الطويل : يقول
الله عزوجل في روح الكافر اكتبوا كتابه في سجين . وسجين هي تحت الأرض السابعة ، وقيل : صخرة تحت الأرض
السابعة خضراء ، وقيل بئر في جهنم.
__________________
وقد روى ابن جرير في ذلك حديثا غريبا منكرا لا يصح فقال : حدثنا إسحاق بن
وهب الواسطي ، حدثنا مسعود بن موسى بن مشكان الواسطي ، حدثنا نصر بن خزيمة الواسطي
عن شعيب بن صفوان عن محمد بن كعب القرظي عن أبي هريرة عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «الفلق جب في جهنم مغطى وأما سجين فمفتوح» والصحيح
أن سجينا مأخوذ من السجن وهو الضيق ، فإن المخلوقات كل ما تسافل منها ضاق وكل ما
تعالى منها اتسع ، فإن الأفلاك السبعة كل واحد منها أوسع وأعلى من الذي دونه ، وكذلك
الأرضون كل واحدة أوسع من التي دونها حتى ينتهي السفول المطلق والمحل الأضيق إلى
المركز في وسط الأرض السابعة ، ولما كان مصير الفجار إلى جهنم وهي أسفل السافلين
كما قال تعالى : (ثُمَّ رَدَدْناهُ
أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [التين : ٥] وقال
هاهنا : (كَلَّا إِنَّ كِتابَ
الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ) وهو يجمع الضيق والسفول كما قال تعالى : (وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً
ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً) [الفرقان : ١٣].
وقوله تعالى : (كِتابٌ مَرْقُومٌ) ليس تفسيرا لقوله (وَما أَدْراكَ ما
سِجِّينٌ) وإنما هو تفسير لما كتب لهم من المصير إلى سجين أي مرقوم
مكتوب مفروغ منه لا يزاد فيه أحد ولا ينقص منه أحد. قاله محمد بن كعب القرظي ثم
قال تعالى : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ) أي إذا صاروا يوم القيامة إلى ما أوعدهم الله من السجن
والعذاب المهين ، وقد تقدم الكلام على قوله ويل بما أغنى عن إعادته وأن المراد من
ذلك الهلاك والدمار كما يقال : ويل لفلان ، وكما جاء في المسند والسنن من رواية
بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة عن أبيه عن جده قال : قال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم : «ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك الناس ويل له ويل له» .
ثم قال تعالى
مفسرا للمكذبين الفجار الكفرة : (الَّذِينَ
يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) أي لا يصدقون بوقوعه ولا يعتقدون كونه ويستبعدون أمره ،
قال الله تعالى : (وَما يُكَذِّبُ بِهِ
إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ) أي معتد في أفعاله من تعاطي الحرام والمجاوزة في تناول
المباح والأثيم في أقواله إن حدث كذب ، وإن وعد أخلف ، وإن خاصم فجر.
وقوله تعالى : (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ
أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي إذا سمع كلام الله تعالى من الرسول يكذب به ويظن به ظن
السوء فيعتقد أنه مفتعل مجموع من كتب الأوائل ، كما قال تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ
رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [النحل : ٢٤] وقال
تعالى: (وَقالُوا أَساطِيرُ
الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) [الفرقان : ٥] قال
الله تعالى: (كَلَّا بَلْ
__________________
رانَ
عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي ليس الأمر كما زعموا ولا كما قالوا إن هذا القرآن
أساطير الأولين ، بل هو كلام الله ووحيه وتنزيله على رسوله صلىاللهعليهوسلم ، وإنما حجب قلوبهم عن الإيمان به ما عليها من الرين الذي
قد لبس قلوبهم من كثرة الذنوب والخطايا ، ولهذا قال تعالى : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما
كانُوا يَكْسِبُونَ).
والرين يعتري قلوب
الكافرين ، والغيم للأبرار والغين للمقربين ، وقد روى ابن جرير والترمذي والنسائي
وابن ماجة من طرق عن محمد بن عجلان عن القعقاع بن حكيم عن أبي صالح عن أبي هريرة
عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «إن العبد إذا أذنب ذنبا كانت نكتة سوداء في قلبه ،
فإن تاب منها صقل قلبه وإن زاد زادت ، فذلك قول الله تعالى : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما
كانُوا يَكْسِبُونَ) وقال الترمذي : حسن صحيح ، ولفظ النسائي «إن العبد إذا أخطأ
خطيئة نكت في قلبه نكتة سوداء ، فإن هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه ، فإن عاد زيد
فيها حتى تعلو قلبه فهو الران الذي قال الله تعالى : (كَلَّا بَلْ رانَ
عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ).
وقال أحمد : حدثنا صفوان بن عيسى ، أخبرنا ابن عجلان عن القعقاع بن
حكيم عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه ، فإن تاب
ونزع واستغفر صقل قلبه فإن زاد زادت حتى تعلو قلبه ، وذاك الران الذي ذكر الله في
القرآن (كَلَّا بَلْ رانَ
عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ). وقال الحسن البصري : هو الذنب على الذنب حتى يعمى القلب
فيموت ، وكذا قال مجاهد بن جبير وقتادة وابن زيد وغيرهم.
وقوله تعالى : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ
يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) أي لهم يوم القيامة منزل ونزل سجين ثم هم يوم القيامة مع ذلك
محجوبون عن رؤية ربهم وخالقهم ، قال الإمام أبو عبد الله الشافعي : وفي هذه الآية
دليل على أن المؤمنين يرونه عزوجل يومئذ وهذا الذي قاله الإمام الشافعيرحمهالله في غاية الحسن وهو استدلال بمفهوم هذه الآية.
كما دل عليه منطوق
قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) [القيامة : ٢٢ ـ ٢٣]
وكما دلت على ذلك الأحاديث الصحاح المتواترة في رؤية المؤمنين ربهم عزوجل في الدار الآخرة رؤية بالأبصار في عرصات القيامة وفي روضات
الجنات الفاخرة. وقد قال ابن جرير محمد بن عمار الرازي : حدثنا أبو معمر المنقري ، حدثنا عبد
الوارث بن سعيد عن عمرو بن عبيد عن الحسن في قوله تعالى : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ
يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) قال : يكشف الحجاب فينظر إليه المؤمنون والكافرون ثم يحجب
عنه الكافرون وينظر إليه المؤمنون كل يوم غدوة وعشية أو كلاما هذا
__________________
معناه ، وقوله
تعالى : (ثُمَّ إِنَّهُمْ
لَصالُوا الْجَحِيمِ) أي ثم هم مع هذا الحرمان عن رؤية الرّحمن من أهل النيران (ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ
بِهِ تُكَذِّبُونَ) أي يقال لهم ذلك على وجه التقريع والتوبيخ والتصغير
والتحقير.
(كَلاَّ إِنَّ كِتابَ
الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (١٨) وَما أَدْراكَ ما
عِلِّيُّونَ (١٩) كِتابٌ مَرْقُومٌ(٢٠) يَشْهَدُهُ
الْمُقَرَّبُونَ (٢١) إِنَّ الْأَبْرارَ
لَفِي نَعِيمٍ (٢٢) عَلَى الْأَرائِكِ
يَنْظُرُونَ (٢٣) تَعْرِفُ فِي
وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (٢٤)
يُسْقَوْنَ
مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (٢٥) خِتامُهُ مِسْكٌ
وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (٢٦) وَمِزاجُهُ مِنْ
تَسْنِيمٍ (٢٧) عَيْناً يَشْرَبُ
بِهَا الْمُقَرَّبُونَ)
(٢٨)
يقول تعالى : حقا (إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ) وهم بخلاف الفجار (لَفِي عِلِّيِّينَ) أي مصيرهم إلى عليين وهو بخلاف سجين. قال الأعمش عن شمر بن
عطية عن هلال بن يساف قال: سأل ابن عباس كعبا وأنا حاضر عن سجين قال : هي الأرض
السابعة وفيها أرواح الكفار ، وسأله عن عليين فقال : هي السماء السابعة وفيها
أرواح المؤمنين ، وهكذا قال غير واحد : إنها السماء السابعة ، وقال علي بن أبي
طلحة عن ابن عباس في قوله : (كَلَّا إِنَّ كِتابَ
الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) يعني الجنة. وفي رواية العوفي عنه أعمالهم في السماء عند
الله وكذا قال الضحاك ، وقال قتادة : عليون ساق العرش اليمنى ، وقال غيره : عليون
عند سدرة المنتهى ، والظاهر أن عليين مأخوذ من العلو ، وكلما علا الشيء وارتفع عظم
واتسع ، ولهذا قال تعالى معظما أمره ومفخما شأنه (وَما أَدْراكَ ما
عِلِّيُّونَ) ثم قال تعالى مؤكدا لما كتب لهم (كِتابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ
الْمُقَرَّبُونَ) وهم الملائكة قاله قتادة ، وقال العوفي عن ابن عباس :
يشهده من كل سماء مقربوها.
ثم قال تعالى : (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ) أي يوم القيامة هم في نعيم مقيم وجنات فيها فضل عميم (عَلَى الْأَرائِكِ) وهي السرر تحت الحجال (يَنْظُرُونَ) قيل : معناه ينظرون في ملكهم وما أعطاهم الله من الخير
والفضل الذي لا ينقضي ولا يبيد وقيل : معناه (عَلَى الْأَرائِكِ
يَنْظُرُونَ) إلى الله عزوجل ، وهذا مقابل لما وصف به أولئك الفجار (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ
يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) فذكر عن هؤلاء أنهم يباحون النظر إلى الله عزوجل وهم على سررهم وفرشهم ، كما تقدم في حديث ابن عمر «إن أدنى
أهل الجنة منزلة لمن ينظر في ملكه مسيرة ألفي سنة يرى أقصاه كما يرى أدناه ، وإن
أعلاه لمن ينظر إلى الله في اليوم مرتين» وقوله : (تَعْرِفُ فِي
وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) أي تعرف إذا نظرت إليهم في وجوههم نضرة النعيم أي صفة
الترافه والحشمة والسرور والدعة والرياسة مما هم فيه من النعيم العظيم.
وقوله تعالى : (يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ) أي يسقون من خمر من الجنة ، والرحيق من
__________________
أسماء الخمر ،
قاله ابن مسعود وابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة وابن زيد ، قال الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا زهير عن سعد أبي المجاهد الطائي عن
عطية بن سعد العوفي عن أبي سعيد الخدري أراه قد رفعه إلى النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «أيما مؤمن سقى مؤمنا شربة ماء على ظمأ سقاه الله
تعالى يوم القيامة من الرحيق المختوم ، وأيما مؤمن أطعم مؤمنا على جوع أطعمه الله
من ثمار الجنة ، وأيما مؤمن كسا مؤمنا ثوبا على عري كساه الله من خضر الجنة» وقال
ابن مسعود في قوله : (خِتامُهُ مِسْكٌ) أي خلطه مسك ، وقال العوفي عن ابن عباس : طيب الله لهم
الخمر فكان آخر شيء جعل فيها مسك ختم بمسك ، وكذا قال قتادة والضحاك ، وقال
إبراهيم والحسن (خِتامُهُ مِسْكٌ) أي عاقبته مسك.
وقال ابن جرير :
حدثنا ابن حميد ، حدثنا يحيى بن واضح ، حدثنا أبو حمزة عن جابر عن عبد
الرّحمن بن سابط ، عن أبي الدرداء (خِتامُهُ مِسْكٌ) قال : شراب أبيض مثل الفضة يختمون به شرابهم ، ولو أن رجلا
من أهل الدنيا أدخل إصبعه فيه ثم أخرجها لم يبق ذو روح إلا وجد طيبها ، وقال ابن
أبي نجيح عن مجاهد (خِتامُهُ مِسْكٌ) قال : طيبه مسك.
وقوله تعالى : (وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ
الْمُتَنافِسُونَ) أي وفي مثل هذا الحال فليتفاخر المتفاخرون وليتباهى ويكاثر
ويستبق إلى مثله المستبقون ، كقوله تعالى : (لِمِثْلِ هذا
فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) ، وقوله تعالى : (وَمِزاجُهُ مِنْ
تَسْنِيمٍ) أي : ومزاج هذا الرحيق الموصوف من تسنيم أي من شراب يقال
له تسنيم ، وهو أشرف شراب أهل الجنة وأعلاه ، قاله أبو صالح والضحاك ، ولهذا قال :
(عَيْناً يَشْرَبُ
بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) أي يشربها المقربون صرفا وتمزج لأصحاب اليمين مزجا ، قاله
ابن مسعود وابن عباس ومسروق وقتادة وغيرهم.
(إِنَّ الَّذِينَ
أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (٢٩)
وَإِذا
مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ(٣٠)
وَإِذَا
انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (٣١)
وَإِذا
رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (٣٢)
وَما
أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (٣٣)
فَالْيَوْمَ
الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (٣٤)
عَلَى
الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٣٥)
هَلْ
ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ)
(٣٦)
يخبر تعالى عن
المجرمين أنهم كانوا في الدار الدنيا يضحكون من المؤمنين ، أي يستهزئون بهم
ويحتقرونهم ، وإذا مروا بالمؤمنين يتغامزون عليهم ، أي محتقرين لهم (وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ
انْقَلَبُوا فَكِهِينَ) أي إذا انقلب أي رجع هؤلاء المجرمون إلى منازلهم انقلبوا
إليها فاكهين أي مهما طلبوا وجدوا ، ومع هذا ما شكروا نعمة الله عليهم بل اشتغلوا
بالقوم المؤمنين يحقرونهم ويحسدونهم (وَإِذا رَأَوْهُمْ
قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ) أي لكونهم على غير دينهم.
قال الله تعالى : (وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ) أي وما بعث هؤلاء المجرمون حافظين على
__________________
هؤلاء المؤمنين ما
يصدر منهم من أعمالهم وأقوالهم ولا كلفوا بهم؟ فلم اشتغلوا بهم وجعلوهم نصب أعينهم
، كما قال تعالى : (قالَ اخْسَؤُا فِيها
وَلا تُكَلِّمُونِ إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا
فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ
سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ إِنِّي
جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ) [المؤمنون : ١٠٨ ـ
١١١] ولهذا قال هاهنا (فَالْيَوْمَ) يعني يوم القيامة (الَّذِينَ آمَنُوا
مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) أي في مقابلة ما ضحك بهم أولئك (عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ) أي إلى الله عزوجل في مقابلة من زعم فيهم أنهم ضالون ليسوا بضالين بل هم من
أولياء الله المقربين ينظرون إلى ربهم في دار كرامته. وقوله تعالى : (هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا
يَفْعَلُونَ) أي هل جوزي الكفار على ما كانوا يقابلون به المؤمنين من
الاستهزاء والتنقيص أم لا ، يعني قد جوزوا أوفر الجزاء وأتمه وأكمله. آخر تفسير
سورة المطففين ، ولله الحمد والمنة.
تفسير سورة الانشقاق
وهي مكية
قال مالك عن عبد
الله بن يزيد عن أبي سلمة أن أبا هريرة قرأ بهم (إِذَا السَّماءُ
انْشَقَّتْ) فسجد فيها ، فلما انصرف أخبرهم أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم سجد فيها ، رواه مسلم والنسائي من طريق مالك به. وقال البخاري :
حدثنا أبو النعمان ، حدثنا معتمر عن أبيه عن بكر عن أبي رافع قال : صليت مع أبي
هريرة العتمة فقرأ (إِذَا السَّماءُ
انْشَقَّتْ) فسجد ، فقلت له. فقال : سجدت خلف أبي القاسم صلىاللهعليهوسلم فلا أزال أسجد بها حتى ألقاه ، ورواه أيضا عن مسدد عن
معتمر به. ثم رواه عن مسدد عن يزيد بن زريع عن التيمي عن بكر عن أبي رافع فذكره.
وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي من طرق عن سليمان بن طرخان التيمي به ، وقد رواه
مسلم وأهل السنن من حديث سفيان بن عيينة ، زاد النسائي وسفيان الثوري كلاهما عن
أيوب بن موسى عن عطاء بن ميناء عن أبي هريرة ، قال : سجدنا مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم في (إِذَا السَّماءُ
انْشَقَّتْ) و (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) [الأعلى : ١].
__________________
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(إِذَا السَّماءُ
انْشَقَّتْ (١) وَأَذِنَتْ
لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٢) وَإِذَا الْأَرْضُ
مُدَّتْ (٣) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ
(٤)
وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٥) يا أَيُّهَا
الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ(٦) فَأَمَّا مَنْ
أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (٧) فَسَوْفَ يُحاسَبُ
حِساباً يَسِيراً (٨) وَيَنْقَلِبُ إِلى
أَهْلِهِ مَسْرُوراً (٩) وَأَمَّا مَنْ
أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (١٠) فَسَوْفَ يَدْعُوا
ثُبُوراً (١١) وَيَصْلى سَعِيراً(١٢) إِنَّهُ كانَ فِي
أَهْلِهِ مَسْرُوراً (١٣) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ
لَنْ يَحُورَ (١٤) بَلى إِنَّ رَبَّهُ
كانَ بِهِ بَصِيراً)(١٥)
يقول تعالى : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) وذلك يوم القيامة (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها) أي : استمعت لربها وأطاعت أمره فيما أمرها به من الانشقاق
وذلك يوم القيامة (وَحُقَّتْ) أي وحق لها أن تطيع أمره لأنه العظيم الذي لا يمانع ولا
يغالب بل قد قهر كل شيء وذل له كل شيء ، ثم قال : (وَإِذَا الْأَرْضُ
مُدَّتْ) أي : بسطت وفرشت ووسعت.
قال ابن جرير : حدثنا ابن عبد الأعلى ، حدثنا ابن ثور عن معمر عن الزهري
، عن علي بن الحسين أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «إذا كان يوم القيامة مد الله الأرض مد الأديم حتى
لا يكون لبشر من الناس إلا موضع قدميه فأكون أول من يدعى وجبريل عن يمين الرّحمن
والله ما رآه قبلها ، فأقول يا رب إن هذا أخبرني أنك أرسلته إلي فيقول الله عزوجل صدق ثم أشفع ، فأقول : يا رب عبادك عبدوك في أطراف الأرض ـ
قال ـ وهو المقام المحمود».
وقوله تعالى : (وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ) أي ألقت ما في بطنها من الأموات وتخلت منهم ، قاله مجاهد
وسعيد وقتادة (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها
وَحُقَّتْ) كما تقدم.
وقوله : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ
إِلى رَبِّكَ كَدْحاً) أي إنك ساع إلى ربك سعيا وعامل عملا (فَمُلاقِيهِ) ثم إنك ستلقى ما عملت من خير أو شر. ويشهد لذلك ما رواه
أبو داود الطيالسي عن الحسن بن أبي جعفر عن أبي الزبير عن جابر ، قال : قال رسول
اللهصلىاللهعليهوسلم : «قال جبريل يا محمد عش ما شئت فإنك ميت وأحبب ما شئت
فإنك مفارقه ، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه» ومن الناس من يعيد الضمير على قوله (رَبِّكَ) أي فملاق ربك ، ومعناه فيجازيك بعملك ويكافئك على سعيك ،
وعلى هذا فكلا القولين متلازم ، قال العوفي عن ابن عباس (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ
إِلى رَبِّكَ كَدْحاً) يقول : تعمل عملا تلقى الله به خيرا كان أو شرا.
وقال قتادة : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ
إِلى رَبِّكَ كَدْحاً) إن كدحك يا ابن آدم لضعيف فمن استطاع أن يكون كدحه في طاعة
الله فليفعل ولا قوة إلا بالله ثم قال تعالى : (فَأَمَّا مَنْ
أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) أي سهلا بلا تعسير أي لا يحقق عليه جميع دقائق
__________________
أعماله فإن من
حوسب كذلك هلك لا محالة.
وقال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل ، أخبرنا أيوب عن عبد الله بن أبي مليكة
عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من نوقش الحساب عذب» قالت فقلت: أفليس قال الله تعالى :
(فَسَوْفَ يُحاسَبُ
حِساباً يَسِيراً) قال : «ليس ذاك بالحساب ولكن ذلك العرض من نوقش الحساب يوم
القيامة عذب» وهكذا رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير من حديث أيوب السختياني به.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن وكيع ، حدثنا روح بن عبادة ، حدثنا أبو عامر
الخزاز عن ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إنه ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا معذبا» فقلت : أليس
الله يقول (فَسَوْفَ يُحاسَبُ
حِساباً يَسِيراً) قال : «ذاك العرض إنه من نوقش الحساب عذب» وقال بيده على
إصبعه كأنه ينكت ، وقد رواه أيضا عن عمرو بن علي عن ابن أبي عدي عن أبي يونس
القشيري ، عن ابن أبي مليكة عن القاسم عن عائشة فذكر الحديث ، أخرجاه من طريق أبي
يونس القشيري واسمه حاتم بن أبي صغيرة به.
قال ابن جرير : حدثنا نصر بن علي الجهضمي ، حدثنا مسلم عن الحريش بن
الخريت أخي الزبير عن ابن أبي مليكة عن عائشة ، قالت : من نوقش الحساب ـ أو من
حوسب ـ عذب. قال : ثم قالت : إنما الحساب اليسير عرض على الله تعالى وهو يراهم.
وقال أحمد : حدثنا إسماعيل ، حدثنا محمد بن إسحاق ، حدثني عبد الواحد
بن حمزة بن عبد الله بن الزبير عن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن عائشة ، قالت :
سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول في بعض صلاته : «اللهم حاسبني حسابا يسيرا» فلما
انصرف قلت يا رسول الله ما الحساب اليسير؟ قال : «أن ينظر في كتابه فيتجاوز له عنه
إنه من نوقش الحساب يا عائشة يومئذ هلك» صحيح على شرط مسلم.
وقوله تعالى : (وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً) أي ويرجع إلى أهله في الجنة : قاله قتادة والضحاك : (مَسْرُوراً) أي فرحا مغتبطا بما أعطاه الله عزوجل. وقد روى الطبراني عن ثوبان مولى رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : إنكم تعملون أعمالا لا تعرف ويوشك الغائب أن
يثوب إلى أهله
__________________
فمسرور أو مكظوم.
وقوله تعالى : (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ
ظَهْرِهِ) أي بشماله من وراء ظهره تثنى يده إلى ورائه ويعطى كتابه
بها كذلك (فَسَوْفَ يَدْعُوا
ثُبُوراً) أي خسارا وهلاكا (وَيَصْلى سَعِيراً إِنَّهُ كانَ فِي
أَهْلِهِ مَسْرُوراً) أي فرحا لا يفكر في العواقب ولا يخاف مما أمامه ، فأعقبه
ذلك الفرح اليسير الحزن الطويل (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ
لَنْ يَحُورَ) أي كان يعتقد أنه لا يرجع إلى الله ولا يعيده بعد موته ،
قاله ابن عباس وقتادة وغيرهما ، والحور هو الرجوع قال الله : (بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً) يعني بلى سيعيده الله كما بدأه ويجازيه على أعماله خيرها
وشرها فإنه كان به بصيرا أي عليما خبيرا.
(فَلا أُقْسِمُ
بِالشَّفَقِ (١٦) وَاللَّيْلِ وَما
وَسَقَ (١٧) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (١٨)
لَتَرْكَبُنَّ
طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (١٩) فَما لَهُمْ لا
يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَإِذا قُرِئَ
عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (٢١)
بَلِ
الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (٢٢)
وَاللهُ
أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (٢٣)
فَبَشِّرْهُمْ
بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢٤) إِلاَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ)
(٢٥)
روي عن علي وابن
عباس وعبادة بن الصامت وأبي هريرة وشداد بن أوس وابن عمر ومحمد بن علي بن الحسين
ومكحول وبكر بن عبد الله المزني وبكير بن الأشج ومالك وابن أبي ذئب وعبد العزيز بن
أبي سلمة الماجشون أنهم قالوا : الشفق الحمرة ، وقال عبد الرزاق عن معمر عن ابن
خثيم عن ابن لبيبة عن أبي هريرة قال : الشفق البياض ، فالشفق هو حمرة الأفق إما
قبل طلوع الشمس كما قاله مجاهد وإما بعد غروبها كما هو معروف عند أهل اللغة قال
الخليل بن أحمد الشفق الحمرة من غروب الشمس إلى وقت العشاء الآخرة فإذا ذهب قيل
غاب الشفق وقال الجوهري : الشفق بقية ضوء الشمس وحمرتها في أول الليل إلى قريب من
العتمة ، وكذا قال عكرمة الشفق الذي يكون بين المغرب والعشاء.
وفي صحيح مسلم عن
عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «وقت المغرب ما لم يغب الشفق» ففي هذا كله دليل على أن الشفق هو كما قاله الجوهري
والخليل. ولكن صح عن مجاهد أنه قال في هذه الآية : (فَلا أُقْسِمُ
بِالشَّفَقِ) هو النهار كله وفي رواية عنه أيضا أنه قال الشفق الشمس
رواهما ابن أبي حاتم ، وإنما حمله على هذا قرنه بقوله تعالى : (وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ) أي جمع كأنه أقسم بالضياء والظلام وقال ابن جرير : أقسم الله بالنهار مدبرا وبالليل مقبلا. وقال ابن جرير :
وقال آخرون : الشفق اسم للحمرة والبياض وقالوا هو من الأضداد. قال ابن عباس ومجاهد
والحسن وقتادة : (وَما وَسَقَ) وما جمع ، قال قتادة : وما جمع من نجم ودابة ، واستشهد ابن
عباس بقول الشاعر : [رجز]
__________________
مستوسقات لو يجدن سائقا
وقد قال عكرمة : (وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ) يقول ما ساق من ظلمة إذا كان الليل ذهب كل شيء إلى مأواه ،
وقوله تعالى : (وَالْقَمَرِ إِذَا
اتَّسَقَ) قال ابن عباس : إذا اجتمع واستوى ، وكذا قال عكرمة ومجاهد
وسعيد بن جبير ومسروق وأبو صالح والضحاك وابن زيد (وَالْقَمَرِ إِذَا
اتَّسَقَ) إذا استوى. وقال الحسن : إذا اجتمع إذا امتلأ ، وقال قتادة
إذا استدار ومعنى كلامهم أنه إذا تكامل نوره وأبدر جعله مقابلا لليل وما وسق.
وقوله تعالى : (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) قال البخاري : أخبرنا سعيد بن النضر أخبرنا هشيم أخبرنا أبو
بشر عن مجاهد قال : قال ابن عباس (لَتَرْكَبُنَّ
طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) حالا بعد حال قال هذا نبيكم صلىاللهعليهوسلم ، هكذا رواه البخاري بهذا اللفظ. وهو محتمل أن يكون ابن
عباس أسند هذا التفسير عن النبي صلىاللهعليهوسلم كأنه قال سمعت هذا من نبيكم صلىاللهعليهوسلم فيكون قوله نبيكم مرفوعا على الفاعلية من قال ، وهو الأظهر
، والله أعلم كما قال أنس : لا يأتي عام إلا والذي بعده شر منه سمعته من نبيكم صلىاللهعليهوسلم.
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب بن إبراهيم حدثنا هشيم أخبرنا أبو بشر عن
مجاهد أن ابن عباس كان يقول : (لَتَرْكَبُنَّ
طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) قال يعني نبيكم صلىاللهعليهوسلم يقول حالا بعد حال ، وهذا لفظه ، وقال علي بن أبي طلحة عن
ابن عباس : (طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) حالا بعد حال. وكذا قال عكرمة ومرة الطيب ومجاهد والحسن
والضحاك ومسروق وأبو صالح ويحتمل أن يكون المراد (لَتَرْكَبُنَّ
طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) حالا بعد حال ، قال هذا يعني المراد بهذا نبيكم صلىاللهعليهوسلم فيكون مرفوعا على أن هذا ، ونبيكم يكونان مبتدأ وخبرا
والله أعلم ، ولعل هذا قد يكون هو المتبادر إلى كثير من الرواة كما قال أبو داود
الطيالسي وغندر حدثنا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) قال : محمد صلىاللهعليهوسلم ويؤيد هذا المعنى قراءة عمرو ابن مسعود وابن عباس وعامة
أهل مكة والكوفة (لَتَرْكَبُنَ) بفتح التاء والباء.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو أسامة عن إسماعيل عن الشعبي (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) قال : لتركبن يا محمد سماء بعد سماء. وهكذا روي عن ابن
مسعود ومسروق وأبي العالية (طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) سماء بعد سماء (قلت) : يعنون ليلة الإسراء.
وقال أبو إسحاق
والسدي عن رجل عن ابن عباس (طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) منزلا على منزل ، وكذا
__________________
رواه العوفي عن
ابن عباس مثله وزاد ويقال أمرا بعد أمر وحالا بعد حال ، وقال السدي نفسه (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) أعمال من قبلكم منزلا بعد منزل (قلت) : كأنه أراد معنى
الحديث الصحيح «لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب
لدخلتموه» قالوا يا رسول الله : اليهود والنصارى قال «فمن؟» وهذا محتمل.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبي حدثنا هشام بن عمار حدثنا صدقة حدثنا ابن جابر أنه سمع مكحولا يقول في
قول الله (لَتَرْكَبُنَّ
طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) قال في كل عشرين سنة تحدثون أمرا لم تكونوا عليه ، وقال
الأعمش حدثنا إبراهيم قال : قال عبد الله : (لَتَرْكَبُنَّ
طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ). قال السماء تنشق ثم تحمر ثم تكون لونا بعد لون وقال
الثوري عن قيس بن وهب عن مرة عن ابن مسعود : (لَتَرْكَبُنَّ
طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) قال السماء مرة كالدهان ومرة تنشق.
وروى البزار من
طريق جابر الجعفي عن الشعبي عن علقمة عن عبد الله بن مسعود (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) يا محمد يعني حالا بعد حال ، ثم قال ورواه جابر عن مجاهد
عن ابن عباس وقال سعيد بن جبير (لَتَرْكَبُنَّ
طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) قال قوم كانوا في الدنيا خسيس أمرهم فارتفعوا في الآخرة ،
وآخرون كانوا أشرافا في الدنيا فاتضعوا في الآخرة. وقال عكرمة (طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) حالا بعد حال فطيما بعد ما كان رضيعا ، وشيخا بعد ما كان
شابا ، وقال الحسن البصري (طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) يقول حالا بعد حال ، رخاء بعد شدة ، وشدة بعد رخاء ، وغنى
بعد فقر ، وفقرا بعد غنى ، وصحة بعد سقم ، وسقما بعد صحة.
وقال ابن أبي حاتم
ذكر عن عبد الله بن زاهر حدثني أبي عن عمرو بن شمر عن جابر هو الجعفي عن محمد بن
علي عن جابر بن عبد الله قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «إن ابن آدم لفي غفلة مما خلق له إن الله تعالى إذا
أراد خلقه قال للملك اكتب رزقه اكتب أجله اكتب أثره. اكتب شقيا أو سعيدا. ثم يرتفع
ذلك الملك ويبعث الله إليه ملكا آخر فيحفظه حتى يدرك ، ثم يرتفع ذلك الملك ثم يوكل
الله به ملكين يكتبان حسناته وسيئاته ، فإذا حضره الموت ارتفع ذانك الملكان وجاءه
ملك الموت فقبض روحه ، فإذا دخل قبره رد الروح في جسده ثم ارتفع ملك الموت وجاءه
ملكا القبر فامتحناه ثم يرتفعان ، فإذا قامت الساعة انحط عليه ملك الحسنات وملك
السيئات فانتشطا كتابا معقودا في عنقه ثم حضرا معه واحد سائقا وآخر شهيدا ، ثم قال
الله تعالى: (لَقَدْ كُنْتَ فِي
غَفْلَةٍ مِنْ هذا) قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم (لَتَرْكَبُنَّ
طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) قال: «حالا بعد حال» ثم قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «إن قدامكم لأمرا عظيما لا تقدرونه فاستعينوا بالله
العظيم» هذا حديث منكر وإسناده فيه ضعفاء ولكن معناه صحيح ، والله سبحانه وتعالى
أعلم.
__________________
ثم قال ابن جرير بعد ما حكى أقوال الناس في هذه الآية من القراء والمفسرين
: والصواب من التأويل قول من قال لتركبن أنت يا محمد حالا بعد حال وأمرا بعد أمر
من الشدائد ، والمراد بذلك وإن كان الخطاب موجها إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم جميع الناس وأنهم يلقون من شدائد يوم القيامة وأهواله
أحوالا.
وقوله تعالى : (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ وَإِذا
قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ) أي فماذا يمنعهم من الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر وما
لهم إذا قرئت عليهم آيات الله وكلامه وهو هذا القرآن لا يسجدون إعظاما وإكراما
واحتراما؟ وقوله تعالى : (بَلِ الَّذِينَ
كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ) أي من سجيتهم التكذيب والعناد والمخالفة للحق (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ) قال مجاهد وقتادة : يكتمون في صدورهم (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي فأخبرهم يا محمد بأن الله عزوجل قد أعد لهم عذابا أليما.
وقوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ) هذا استثناء منقطع يعني لكن الذين آمنوا أي بقلوبهم وعملوا
الصالحات أي بجوارحهم (لَهُمْ أَجْرٌ) أي في الدار الآخرة (غَيْرُ مَمْنُونٍ) قال ابن عباس غير منقوص ، وقال مجاهد والضحاك غير محسوب
وحاصل قولهما أنه غير مقطوع كما قال تعالى : (عَطاءً غَيْرَ
مَجْذُوذٍ) [هود : ١٠٨] وقال
السدي قال بعضهم (غَيْرُ مَمْنُونٍ) غير منقوص ، وقال بعضهم (غَيْرُ مَمْنُونٍ) عليهم ، وهذا القول الأخير عن بعضهم قد أنكره غير واحد ،
فإن الله عزوجل له المنة على أهل الجنة في كل حال وآن ولحظة ، وإنما
دخلوها بفضله ورحمته لا بأعمالهم فله عليهم المنة دائما سرمدا والحمد لله وحده
أبدا ، ولهذا يلهمون تسبيحه وتحميده كما يلهمون النفس ، وآخر دعواهم أن الحمد لله
رب العالمين. آخر تفسير سورة الانشقاق. ولله الحمد والمنة وبه التوفيق والعصمة.
تفسير سورة البروج
وهي مكية
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد حدثنا زريق بن أبي سلمى حدثنا أبو
المهزم عن أبي هريرة أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان يقرأ في العشاء الآخرة ب (السَّماءِ ذاتِ
الْبُرُوجِ وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ) وقال أحمد حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم حدثنا حماد بن
عباد السدوسي
__________________
سمعت أبا المهزم
يحدث عن أبي هريرة أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أمر أن يقرأ بالسموات في العشاء ، تفرد به أحمد.
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(وَالسَّماءِ ذاتِ
الْبُرُوجِ (١) وَالْيَوْمِ
الْمَوْعُودِ (٢) وَشاهِدٍ
وَمَشْهُودٍ (٣) قُتِلَ أَصْحابُ
الْأُخْدُودِ (٤) النَّارِ ذاتِ
الْوَقُودِ (٥) إِذْ هُمْ عَلَيْها
قُعُودٌ (٦) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ
بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (٧)
وَما
نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٨)
الَّذِي
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٩)
إِنَّ
الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ
عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ)
(١٠)
يقسم تعالى بالسماء
وبروجها وهي النجوم العظام كما تقدم بيان ذلك في قوله تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ
بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً) [الفرقان : ٦١]
قال ابن عباس ومجاهد والضحاك والحسن وقتادة والسدي : البروج النجوم وعن مجاهد أيضا
: البروج التي فيها الحرس. وقال يحيى بن رافع : البروج قصور في السماء ، وقال
المنهال بن عمرو (وَالسَّماءِ ذاتِ
الْبُرُوجِ) الخلق الحسن ، واختار ابن جرير أنها منازل الشمس والقمر وهي اثنا عشر برجا ، تسير الشمس
في كل واحد منها شهرا ويسير القمر في كل واحد منها يومين وثلثا ، فذلك ثمانية
وعشرون منزلة ويستمر ليلتين.
وقوله تعالى : (وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ وَشاهِدٍ
وَمَشْهُودٍ) اختلف المفسرون في ذلك وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا عبد
الله بن محمد بن عمرو الغزي ، حدثنا عبيد الله يعني ابن موسى ، حدثنا موسى بن
عبيدة عن أيوب بن خالد بن صفوان بن أوس الأنصاري ، عن عبد الله بن رافع عن أبي
هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : (وَالْيَوْمِ
الْمَوْعُودِ) يوم القيامة (وَشاهِدٍ) يوم الجمعة وما طلعت شمس ولا غربت على يوم أفضل من يوم
الجمعة ، وفيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها خيرا إلا أعطاه إياه ، ولا
يستعيذ فيها من شر إلا أعاذه (وَمَشْهُودٍ) يوم عرفة» وهكذا روى هذا الحديث ابن خزيمة من طرق عن موسى
بن عبيدة الربذي وهو ضعيف الحديث وقد روي موقوفا على أبي هريرة وهو أشبه.
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد ، حدثنا شعبة ، سمعت علي بن زيد ويونس بن
عبيد يحدثان عن عمار مولى بني هاشم عن أبي هريرة ، أما علي فرفعه إلى النبي صلىاللهعليهوسلم وأما يونس فلم يعد أبا هريرة أنه قال في هذه الآية (وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) قال يعني الشاهد يوم الجمعة ويوم مشهود يوم القيامة ، وقال
أحمد أيضا : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة عن يونس ،
__________________
سمعت عمارا مولى
بني هاشم يحدث عن أبي هريرة أنه قال في هذه الآية (وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) قال : الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة والموعود يوم
القيامة. وقد روي عن أبي هريرة أنه قال: اليوم الموعود يوم القيامة ، وكذلك قال
الحسن وقتادة وابن زيد ولم أرهم يختلفون في ذلك ولله الحمد ، ثم قال ابن جرير : حدثنا محمد بن عوف حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش ،
حدثني أبي ، حدثنا ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن أبي مالك الأشعري قال : قال
رسول اللهصلىاللهعليهوسلم : «اليوم الموعود يوم القيامة وإن الشاهد يوم الجمعة وإن
المشهود يوم عرفة ويوم الجمعة ذخره الله لنا».
ثم قال ابن جرير : حدثنا سهل بن موسى الرازي ، حدثنا ابن أبي فديك عن ابن
حرملة عن سعيد بن المسيب أنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن سيد الأيام يوم الجمعة وهو الشاهد والمشهود يوم عرفة».
وهذا مرسل من مراسيل سعيد بن المسيب ، ثم قال ابن جرير : حدثنا أبو كريب ، حدثنا وكيع عن شعبة عن علي بن زيد عن
يوسف المكي عن ابن عباس قال : الشاهد هو محمد صلىاللهعليهوسلم والمشهود يوم القيامة ، ثم قرأ (ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ
وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) وحدثنا ابن حميد : حدثنا جرير عن مغيرة عن شباك قال : سأل
رجل الحسن بن علي عن (وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) قال : سألت أحدا قبلي؟ قال : نعم ، سألت ابن عمرو ابن
الزبير فقالا : يوم الذبح ويوم الجمعة ، فقال : لا ، ولكن الشاهد محمد صلىاللهعليهوسلم ، ثم قرأ (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا
مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) والمشهود يوم القيامة ثم قرأ (ذلِكَ يَوْمٌ
مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) .
وهكذا قال الحسن
البصري وقال سفيان الثوري عن ابن حرملة عن سعيد بن المسيب : ومشهود يوم القيامة ،
وقال مجاهد وعكرمة والضحاك : الشاهد ابن آدم ، والمشهود يوم القيامة. وعن عكرمة
أيضا : الشاهد محمد صلىاللهعليهوسلم والمشهود يوم الجمعة ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس :
الشاهد الله والمشهود يوم القيامة ، وقال ابن أبي حاتم. حدثنا أبي ، حدثنا أبو
نعيم الفضل بن دكين ، حدثنا سفيان عن أبي يحيى القتات عن مجاهد عن ابن عباس (وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) قال : الشاهد الإنسان والمشهود يوم الجمعة ، هكذا رواه ابن
أبي حاتم.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا مهران عن سفيان عن ابن أبي نجيح
عن مجاهد عن ابن عباس (وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) الشاهد يوم عرفة والمشهود يوم القيامة ، وبه عن سفيان
__________________
الثوري عن مغيرة
عن إبراهيم قال : يوم الذبح ويوم عرفة يعني الشاهد والمشهود ، قال ابن جرير وقال آخرون : المشهود يوم الجمعة ، ورووا في ذلك ما حدثنا
أحمد بن عبد الرّحمن : حدثني عمي عبد الله بن وهب ، أخبرني عمرو بن الحارث عن سعيد
بن أبي هلال عن زيد بن أيمن عن عبادة بن نسي عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة فإنه يوم مشهود تشهده
الملائكة» وعن سعيد بن جبير الشاهد الله ، وتلا (وَكَفى بِاللهِ
شَهِيداً) والمشهود نحن ، حكاه البغوي ، وقال الأكثرون على أن الشاهد
يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة.
وقوله تعالى : (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) أي لعن أصحاب الأخدود وجمعه أخاديد وهي الحفير في الأرض ،
وهذا خبر عن قوم من الكفار عمدوا إلى من عندهم من المؤمنين بالله عزوجل ، فقهر وهم وأرادوهم أن يرجعوا عن دينهم ، فأبوا عليهم
فحفروا لهم في الأرض أخدودا وأججوا فيه نارا وأعدوا لها وقودا يسعرونها به ، ثم
أرادوهم فلم يقبلوا منهم فقذفوهم فيها ولهذا قال تعالى : (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ
ذاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ
بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ) أي مشاهدون لما يفعل بأولئك المؤمنين. قال الله تعالى : (وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ
يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) أي وما كان لهم عندهم ذنب إلا إيمانهم بالله العزيز الذي
لا يضام من لاذ بجنابه المنيع الحميد في جميع أقواله وأفعاله وشرعه وقدره ، وإن
كان قد قدر على عباده هؤلاء هذا الذي وقع بهم بأيدي الكفار به فهو العزيز الحميد
وإن خفي سبب ذلك على كثير من الناس.
ثم قال تعالى : (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) من تمام الصفة أنه المالك لجميع السموات والأرض وما فيهما
وما بينهما (وَاللهُ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي لا يغيب عنه شيء في جميع السموات والأرض ولا تخفى عليه
خافية.
وقد اختلف أهل التفسير
في أهل هذه القصة من هم؟ فعن علي أنهم أهل فارس حين أراد ملكهم تحليل تزويج
المحارم ، فامتنع عليهم علماؤهم فعمد إلى حفر أخدود فقذف فيه من أنكر عليه منهم
واستمر فيهم تحليل المحارم إلى اليوم. وعنه أنهم كانوا قوما باليمن اقتتل مؤمنوهم
ومشركوهم ، فغلب مؤمنوهم على كفارهم ثم اقتتلوا فغلب الكفار المؤمنين فخدوا لهم
الأخاديد وأحرقوهم فيها ، وعنه أنهم كانوا من أهل الحبشة واحدهم حبشي ، وقال
العوفي عن ابن عباس (قُتِلَ أَصْحابُ
الْأُخْدُودِ النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ) قال : ناس من بني إسرائيل خدوا أخدودا في الأرض ثم أوقدوا
فيه نارا ثم أقاموا على ذلك الأخدود رجالا ونساء فعرضوا عليها ، وزعموا أنه دانيال
وأصحابه وهكذا قال الضحاك بن مزاحم وقيل غير ذلك.
__________________
وقد قال الإمام
أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن عبد الرّحمن بن أبي ليلى عن
صهيب أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «كان فيمن كان قبلكم ملك وكان له ساحر فلما كبر
الساحر قال للملك إني قد كبر سني وحضر أجلي ، فادفع إلي غلاما لأعلمه السحر فدفع
إليه غلاما فكان يعلمه السحر ، وكان بين السحر وبين الملك راهب فأتى الغلام على
الراهب فسمع من كلامه فأعجبه نحوه وكلامه ، وكان إذا أتى الساحر ضربه وقال ما حسبك
وإذا أتى أهله ضربوه وقالوا ما حبسك ، فشكا ذلك إلى الراهب فقال إذا أراد الساحر
أن يضربك فقل حبسني أهلي ، وإذا أراد أهلك أن يضربوك فقل حبسني الساحر.
قال فبينما هو ذات
يوم إذ أتى على دابة عظيمة فظيعة قد حبست الناس فلا يستطيعون أن يجوزوا. فقال
اليوم أعلم أمر الراهب أحب إلى الله أم أمر السحر ، قال فأخذ حجرا فقال اللهم إن
كان أمر الراهب أحب إليك وأرضى من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يجوز الناس ،
ورماها فقتلها ومضى الناس فأخبر الراهب بذلك فقال أي بني أنت أفضل مني وإنك ستبتلى
، فإن ابتليت فلا تدل علي ، فكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص وسائر الأدواء
ويشفيهم ، وكان للملك جليس فعمي فسمع به فأتاه بهدايا كثيرة فقال اشفني ولك ما
هاهنا أجمع ، فقال ما أنا أشفي أحدا إنما يشفي الله عزوجل ، فإن آمنت به دعوت الله فشفاك فآمن فدعا الله فشفاه.
ثم أتى الملك فجلس
منه نحو ما كان يجلس فقال له الملك يا فلان من رد عليك بصرك؟ فقال ربي : فقال أنا
قال لا ، ربي وربك الله ، قال ولك رب غيري؟ قال نعم ربي وربك الله فلم يزل يعذبه
حتى دل على الغلام ، فبعث إليه فقال أي بني بلغ من سحرك أن تبرئ الأكمه والأبرص
وهذه الأدواء! قال ما أشفي أحدا إنما يشفي الله عزوجل ، قال أنا؟ قال لا. قال أولك رب غيري؟ قال ربي وربك الله ،
فأخذه أيضا بالعذاب فلم يزل به حتى دل على الراهب فأتى بالراهب فقال ارجع عن دينك
فأبى ، فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه ، وقال للأعمى: ارجع عن دينك فأبى
فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه إلى الأرض. وقال للغلام : ارجع عن دينك
فأبى فبعث به مع نفر إلى جبل كذا وكذا وقال إذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا
فدهدهوه من فوقه ، فذهبوا به فلما علوا به الجبل قال : اللهم
اكفنيهم بما شئت فرجف بهم الجبل فدهدهوا أجمعون ، وجاء الغلام يتلمس حتى دخل على
الملك فقال ما فعل أصحابك؟ فقال كفانيهم الله تعالى فبعث به مع نفر في قرقور فقال إذا لججتم به البحر فإن رجع عن دينه وإلا فغرقوه في
البحر فلججوا به البحر فقال الغلام : اللهم اكفنيهم بما شئت فغرقوا أجمعون.
__________________
وجاء الغلام حتى
دخل على الملك فقال ما فعل أصحابك؟ فقال كفانيهم الله تعالى ثم قال للملك : إنك
لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به فإن أنت فعلت ما آمرك به قتلتني وإلا فإنك لا
تستطيع قتلي ، قال وما هو؟ قال تجمع الناس في صعيد واحد ثم تصلبني على جذع وتأخذ
سهما من كنانتي ، ثم قل : باسم الله رب الغلام فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني. ففعل
ووضع السهم في كبد قوسه ثم رماه وقال : باسم الله رب الغلام ، فوقع السهم في صدغه
، فوضع الغلام يده على موضع السهم ومات ، فقال الناس : آمنا برب الغلام. فقيل
للملك : أرأيت ما كنت تحذر؟ فقد والله نزل بك قد آمن الناس كلهم ، فأمر بأفواه
السكك ، فخدت فيها الأخاديد وأضرمت فيها النيران ، وقال : من رجع عن دينه فدعوه
وإلا فأقحموه فيها ، قال فكانوا يتعادون فيها ويتدافعون فجاءت امرأة بابن لها
ترضعه ، فكأنها تقاعست أن تقع في النار فقال الصبي : اصبري يا أماه فإنك على الحق».
وهكذا رواه مسلم في آخر الصحيح عن هدبة بن خالد عن حماد بن سلمة به نحوه ،
ورواه النسائي عن أحمد بن سلمان عن عفان عن حماد بن سلمة ومن طريق حماد بن زيد
كلاهما عن ثابت به واختصروا أوله ، وقد جوده الإمام أبو عيسى الترمذي فرواه في
تفسير هذه السورة عن محمود بن غيلان وعبد بن حميد ـ المعنى واحد ـ قالا : أخبرنا
عبد الرزاق عن معمر عن ثابت البناني عن عبد الرّحمن بن أبي ليلى عن صهيب قال : كان
رسول الله صلىاللهعليهوسلم إذا صلى العصر همس والهمس في بعض قولهم تحريك شفتيه كأنه
يتكلم فقيل له إنك يا رسول الله إذا صليت العصر همست ، قال : «إن نبيا من الأنبياء
كان أعجب بأمته فقال : من يقوم لهؤلاء. فأوحى الله إليه أن خيرهم بين أن أنتقم
منهم ، وبين أن أسلط عليهم عدوهم ، فاختاروا النقمة ، فسلط الله عليهم الموت فمات
منهم في يوم سبعون ألفا» قال : وكان إذا حدث بهذا الحديث ، حدث بهذا الحديث الآخر
قال : كان ملك من الملوك وكان لذلك الملك كاهن يتكهن له ، فقال الكاهن : انظروا لي
غلاما فهما أو قال : فطنا لقنا فأعلمه علمي هذا ، فذكر القصة بتمامها ، وقال في
آخره : يقول الله عزوجل : (قُتِلَ أَصْحابُ
الْأُخْدُودِ النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ) ـ حتى بلغ ـ (الْعَزِيزِ
الْحَمِيدِ).
قال : فأما الغلام
فإنه دفن ، فيذكر أنه أخرج في زمان عمر بن الخطاب وإصبعه على صدغه كما وضعها حين
قتل ، ثم قال الترمذي : حسن غريب ، وهذا السياق ليس فيه صراحة ، أن سياق هذه
القصة من كلام النبي صلىاللهعليهوسلم قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي : فيحتمل أن يكون من
كلام صهيب الرومي ، فإنه كان عنده علم من أخبار النصارى والله أعلم.
__________________
وقد أورد محمد بن
إسحاق بن يسار هذه القصة في السيرة بسياق آخر فيها مخالفة لما تقدم فقال : حدثني يزيد بن زياد
عن محمد بن كعب القرظي ، وحدثني أيضا بعض أهل نجران عن أهلها أن أهل نجران كانوا
أهل شرك يعبدون الأوثان ، وكان في قرية من قراها قريبا من نجران ـ ونجران هي
القرية العظمى التي إليها جماع أهل تلك البلاد ـ ساحر يعلم غلمان أهل نجران السحر
، فلما نزلها فيمون ولم يسموه لي بالاسم الذي سماه ابن منبه ، قالوا : نزلها رجل
فابتنى خيمة بين نجران وبين تلك القرية التي فيها الساحر ، وجعل أهل نجران يرسلون
غلمانهم إلى ذلك الساحر يعلمهم السحر.
فبعث الثامر ابنه
عبد الله بن الثامر مع غلمان أهل نجران ، فكان إذا مر بصاحب الخيمة أعجبه ما يرى
من عبادته وصلاته فجعل يجلس إليه ويسمع منه حتى أسلم فوحد الله وعبده ، وجعل يسأله
عن شرائع الإسلام حتى إذا فقه فيه جعل يسأله عن الاسم الأعظم ، وكان يعلمه فكتمه
إياه وقال له : يا ابن أخي إنك لن تحمله أخشى ضعفك عنه ، والثامر أبو عبد الله لا
يظن إلا أن ابنه يختلف إلى الساحر كما يختلف الغلمان ، فلما رأى عبد الله أن صاحبه
قد ضن به عنه ، وتخوف ضعفه فيه عمد إلى أقداح فجمعها ثم لم يبق لله اسما يعلمه إلا
كتبه في قدح لكل اسم قدح ، حتى إذا حصاها أوقد نارا ثم جعل يقذفها فيها قدحا قدحا
، حتى إذا مر بالاسم الأعظم قذف فيها بقدحه ، فوثب القدح حتى خرج منها لم يضره شيء
، فأخذه ، ثم أتى به صاحبه فأخبره أنه قد علم الاسم الأعظم الذي قد كتمه ، فقال :
وما هو؟ قال : هو كذا وكذا ، قال : وكيف علمته؟ فأخبره بما صنع فقال أي ابن أخي قد
أصبته فأمسك على نفسك ، وما أظن أن تفعل.
فجعل عبد الله بن
الثامر إذا دخل نجران لم يلق أحدا به ضر إلا قال له : يا عبد الله أتوحد الله
وتدخل في ديني ، وأدعو الله لك فيعافيك مما أنت فيه من البلاء؟ فيقول نعم ، فيوحد
الله ويسلم ، فيدعو الله له ، فيشفى حتى لم يبق بنجران أحد به ضر إلا أتاه ،
فاتبعه على أمره ودعا له ، فعوفي حتى رفع شأنه إلى ملك نجران ، فدعاه فقال له :
أفسدت علي أهل قريتي وخالفت ديني ودين آبائي لأمثلن بك ، قال : لا تقدر على ذلك ،
قال : فجعل يرسل به إلى الجبل الطويل فيطرح على رأسه فيقع إلى الأرض ما به بأس ،
وجعل يبعث به إلى مياه نجران بحور لا يلقى فيها شيء إلا هلك فيلقى به فيها ، فيخرج
ليس به بأس ، فلما غلبه قال له عبد الله بن الثامر : إنك والله لا تقدر على قتلي
حتى تؤمن بما آمنت به وتوحد الله ، فإنك إن فعلت سلطت علي فقتلتني ، قال : فوحد
الله ذلك الملك وشهد شهادة عبد الله بن الثامر ، ثم ضربه بعصا في يده فشجه شجة غير
كبيرة فقتله ، وهلك الملك مكانه واستجمع أهل نجران
__________________
على دين عبد الله
بن الثامر ، وكان على ما جاء به عيسى ابن مريم عليهالسلام من الإنجيل وحكمه ، ثم أصابهم ما أصاب أهل دينهم من
الأحداث ، فمن هنالك كان أصل دين النصرانية بنجران.
قال ابن إسحاق :
فهذا حديث محمد بن كعب القرظي وبعض أهل نجران عن عبد الله بن الثامر فالله أعلم أي
ذلك كان ، قال فسار إليهم ذو نواس بجنده فدعاهم إلى اليهودية وخيرهم بين ذلك أو
القتل فاختاروا القتل ، فخد الأخدود فحرق بالنار وقتل بالسيف ، ومثل بهم حتى قتل
منهم قريبا من عشرين ألفا ، ففي ذي نواس وجنده أنزل الله عزوجل على رسوله صلىاللهعليهوسلم : (قُتِلَ أَصْحابُ
الْأُخْدُودِ النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ وَهُمْ عَلى ما
يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ
يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) هكذا ذكر محمد بن إسحاق في السيرة أن الذي قتل أصحاب
الأخدود هو ذو نواس واسمه زرعة ، ويسمى في زمان مملكته بيوسف ، وهو ابن تبان أسعد
أبي كرب وهو تبع الذي غزا المدينة وكسى الكعبة واستصحب معه حبرين من يهود المدينة
، فكان تهود من تهود من أهل اليمن على يديهما كما ذكره ابن إسحاق مبسوطا ، فقتل ذو
نواس في غداة واحدة في الأخدود عشرين ألفا ولم ينج منهم سوى رجل واحد يقال له دوس
ذو ثعلبان ، ذهب فارسا وطردوا وراءه فلم يقدروا عليه فذهب إلى قيصر ملك الشام فكتب
إلى النجاشي ملك الحبشة ، فأرسل معه جيشا من نصارى الحبشة يقدمهم أرياط وأبرهة
فاستنقذوا اليمن من أيدي اليهود ، وذهب ذو نواس هاربا فلجج في البحر فغرق ، واستمر
ملك الحبشة في أيدي النصارى سبعين سنة ، ثم استنقذه سيف بن ذي يزن الحميري من أيدي
النصارى لما استجاش بكسرى ملك الفرس ، فأرسل معه من في السجون فكانوا قريبا من
سبعمائة ، ففتح بهم اليمن ورجع الملك إلى حمير ، وسنذكر طرفا من ذلك إن شاء الله
في تفسير سورة (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ
فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ) [الفيل : ١].
وقال ابن إسحاق : وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أنه
حدث أن رجلا من أهل نجران كان في زمان عمر بن الخطاب حفر خربة من خرب نجران لبعض
حاجته ، فوجد عبد الله بن الثامر تحت دفن فيها قاعدا واضعا يده على ضربة في رأسه
ممسكا عليها بيده ، فإذا أخذت يده عنها تفجرت دما ، وإذا أرسلت يده ردت عليها
فأمسكت دمها وفي يده خاتم مكتوب فيه ربي الله ، فكتب فيه إلى عمر بن الخطاب يخبره
بأمره فكتب عمر إليهم أن أقروه على حاله وردوا عليه الدفن الذي كان عليه ففعلوا.
وقد قال أبو بكر
عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا رحمهالله : حدثنا أبو بلال الأشعري ،
__________________
حدثنا إبراهيم بن
محمد عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ، حدثني بعض أهل العلم أن أبا موسى لما
افتتح أصبهان وجد حائطا من حيطان المدينة قد سقط ، فبناه فسقط ثم بناه فسقط ، فقيل
له : إن تحته رجلا صالحا ، فحفر الأساس فوجد فيه رجلا قائما معه سيف فيه مكتوب : أنا
الحارث بن مضاض نقمت على أصحاب الأخدود ، فاستخرجه أبو موسى وبنى الحائط فثبت. (قلت)
: هو الحارث بن مضاض بن عمرو بن مضاض بن عمرو الجرهمي ، أحد ملوك جرهم الذين ولوا
أمر الكعبة بعد ولد نبت بن إسماعيل بن إبراهيم ، وولد الحارث هذا هو عمرو بن
الحارث بن مضاض هو آخر ملوك جرهم بمكة لما أخرجتهم خزاعة وأجلوهم إلى اليمن ، وهو
القائل في شعره الذي قال ابن هشام إنه أول شعر قالته العرب : [الطويل]
كأن لم يكن بين
الحجون إلى الصفا
|
|
أنيس ولم يسمر
بمكة سامر
|
بلى نحن كنا
أهلها فأبادنا
|
|
صروف الليالي
والجدود العواثر
|
وهذا يقتضي أن هذه
القصة كانت قديما بعد زمان إسماعيل عليهالسلام بقرب من خمسمائة سنة أو نحوها ، وما ذكره ابن إسحاق يقتضي
أن قصتهم كانت في زمن الفترة التي بين عيسى ومحمد عليهما من الله السّلام وهو أشبه
، والله أعلم. وقد يحتمل أن ذلك قد وقع في العالم كثيرا كما قال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبي ، حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا صفوان عن عبد الرّحمن بن جبير قال : كانت
الأخدود في اليمن زمان تبع وفي القسطنطينية زمان قسطنطين حين صرف النصارى قبلتهم
عن دين المسيح والتوحيد ، فاتخذوا أتونا وألقي فيه النصارى الذين كانوا على دين
المسيح والتوحيد ، وفي العراق في أرض بابل بختنصر الذي صنع الصنم وأمر الناس أن
يسجدوا له ، فامتنع دانيال وصاحباه عزريا وميشائيل فأوقد لهم أتونا وألقى فيه
الحطب والنار ثم ألقاهما فيه ، فجعلها الله تعالى عليهما بردا وسلاما وأنقذهما
منها وألقى فيها الذين بغوا عليه ، وهم تسعة رهط فأكلتهم النار.
وقال أسباط عن
السدي في قوله تعالى : (قُتِلَ أَصْحابُ
الْأُخْدُودِ) قال : كانت الأخدود ثلاثة : خد بالعراق ، وخد بالشام ، وخد
باليمن. رواه ابن أبي حاتم ، وعن مقاتل قال : كانت الأخدود ثلاثة : واحد بنجران
باليمن والأخرى بالشام والأخرى بفارس حرقوا بالنار ، أما التي بالشام فهو انطنانوس
الرومي ، وأما التي بفارس فهو بختنصر ، وأما التي بأرض العرب فهو يوسف ذو نواس ،
فأما التي بفارس والشام فلم ينزل الله تعالى فيهما قرآنا وأنزل في التي كانت
__________________
بنجران.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبي حدثنا أحمد بن عبد الرّحمن الدشتكي ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر عن
أبيه ، عن الربيع هو ابن أنس في قوله تعالى : (قُتِلَ أَصْحابُ
الْأُخْدُودِ) قال : سمعنا أنهم كانوا قوما في زمان الفترة ، فلما رأوا
ما وقع في الناس من الفتنة والشر وصاروا أحزابا (كُلُّ حِزْبٍ بِما
لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) [الروم : ٣٢] ،
اعتزلوا إلى قرية سكنوها وأقاموا على عبادة الله (مُخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ) [البينة : ٥] ،
فكان هذا أمرهم حتى سمع بهم جبار من الجبارين وحدث حديثهم فأرسل إليهم فأمرهم أن
يعبدوا الأوثان التي اتخذوا ، وأنهم أبوا عليه كلهم وقالوا لا نعبد إلا الله وحده
لا شريك له ، فقال لهم : إن لم تعبدوا هذه الآلهة التي عبدت فإني قاتلكم ، فأبوا
عليه فخد أخدودا من نار وقال لهم الجبار ووقفهم عليها : اختاروا هذه أو الذي نحن
فيه ، فقالوا : هذه أحب إلينا ، وفيهم نساء وذرية ففزعت الذرية ، فقالوا لهم أي
آباؤهم لا نار من بعد اليوم فوقعوا فيها ، فقبضت أرواحهم من قبل أن يمسهم حرها
وخرجت النار من مكانها فأحاطت بالجبارين فأحرقهم الله بها ففي ذلك أنزل الله عزوجل : (قُتِلَ أَصْحابُ
الْأُخْدُودِ النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ وَهُمْ عَلى ما
يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ
يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) ورواه ابن جرير : حدثت عن عمار عن عبد الله بن أبي جعفر به نحوه.
وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) أي حرقوا ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك وابن أبزى
(ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا) أي لم يقلعوا عما فعلوا ويندموا على ما أسلفوا (فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ
عَذابُ الْحَرِيقِ) وذلك أن الجزاء من جنس العمل ، قال الحسن البصري : انظروا
إلى هذا الكرم والجود قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة.
(إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ
ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ
(١١) إِنَّ
بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (١٢)
إِنَّهُ
هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (١٣)
وَهُوَ
الْغَفُورُ الْوَدُودُ(١٤) ذُو الْعَرْشِ
الْمَجِيدُ (١٥) فَعَّالٌ لِما
يُرِيدُ (١٦) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (١٧)
فِرْعَوْنَ
وَثَمُودَ(١٨) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ
(١٩) وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (٢٠)
بَلْ
هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ(٢١) فِي لَوْحٍ
مَحْفُوظٍ)
(٢٢)
يخبر تعالى عن
عباده المؤمنين أن (لَهُمْ جَنَّاتٌ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) بخلاف ما أعد لأعدائه من الحريق والجحيم ، ولهذا قال : (ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) ثم قال تعالى : (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ
لَشَدِيدٌ) أي إن بطشه وانتقامه من أعدائه الذين كذبوا رسله وخالفوا
أمره لشديد عظيم قوي ، فإنه تعالى ذو القوة المتين الذي ما شاء كان كما يشاء في
مثل لمح البصر أو هو أقرب ، ولهذا قال تعالى : (إِنَّهُ هُوَ
يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) أي من قوته وقدرته التامة يبدئ الخلق ويعيده كما
__________________
بدأه بلا ممانع
ولا مدافع.
(وَهُوَ الْغَفُورُ
الْوَدُودُ) أي يغفر ذنب من تاب إليه وخضع لديه ولو كان الذنب من أي
شيء كان ، والودود قال ابن عباس وغيره : هو الحبيب (ذُو الْعَرْشِ) أي صاحب العرش العظيم العالي على جميع الخلائق ، والمجيد
فيه قراءتان : الرفع على أنه صفة للرب عزوجل ، والجر على أنه صفة للعرش وكلاهما معنى صحيح (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) أي مهما أراد فعله لا معقب لحكمه ولا يسأل عما يفعل لعظمته
وقهره وحكمته وعدله كما روينا عن أبي بكر الصديق أنه قيل له وهو في مرض الموت : هل
نظر إليك الطبيب؟ قال : نعم. قالوا فما قال لك؟ قال : قال لي إني فعال لما أريد.
وقوله تعالى : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ
فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ) أي هل بلغك ما أحل الله بهم من البأس وأنزل عليهم من
النقمة التي لم يردها عنهم أحد؟ وهذا تقرير لقوله تعالى : (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) أي إذا أخذ الظالم أخذه أخذا أليما شديدا أخذ عزيز مقتدر
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا علي بن محمد الطنافسي حدثنا أبو بكر بن عياش
عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون قال : مر النبي صلىاللهعليهوسلم على امرأة تقرأ (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ
الْجُنُودِ) فقام يستمع فقال : «نعم قد جاءني».
وقوله تعالى : (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ) أي هم في شك وريب وكفر وعناد (وَاللهُ مِنْ
وَرائِهِمْ مُحِيطٌ) أي هو قادر عليهم قاهر لا يفوتونه ولا يعجزونه (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ) أي عظيم كريم (فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) أي هو في الملأ الأعلى محفوظ من الزيادة والنقص والتحريف
والتبديل.
قال ابن جرير : حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا قرة بن سليمان ، حدثنا حرب بن
سريج ، حدثنا عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك في قوله تعالى : (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ
مَحْفُوظٍ) قال : إن اللوح المحفوظ الذي ذكر الله (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ
مَحْفُوظٍ) في جبهة إسرافيل.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبي ، حدثنا أبو صالح ، حدثنا معاوية بن صالح أن أبا الأعبس هو عبد
الرّحمن بن سلمان قال : ما من شيء قضى الله : القرآن ، فما قبله وما بعده إلا وهو
في اللوح المحفوظ ، واللوح المحفوظ بين عيني إسرافيل لا يؤذن له بالنظر فيه.
وقال الحسن البصري
: إن هذا القرآن المجيد عند الله في لوح محفوظ ينزل منه ما يشاء على من يشاء من
خلقه ، وقد روى البغوي من طريق إسحاق بن بشر : أخبرني مقاتل وابن جريج عن مجاهد عن
ابن عباس قال : إن في صدر اللوح لا إله إلا الله وحده ، دينه الإسلام
__________________
ومحمد عبده ورسوله
، فمن آمن بالله وصدق بوعده واتبع رسله أدخله الجنة ، قال : واللوح لوح من درة
بيضاء طوله ما بين السماء والأرض ، وعرضه ما بين المشرق والمغرب ، وحافتاه من الدر
والياقوت ، ودفتاه ياقوتة حمراء ، وقلمه نور ، وكلامه معقود بالعرش ، وأصله في حجر
ملك.
وقال مقاتل :
اللوح المحفوظ عن يمين العرش ، وقال الطبراني : حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة ،
حدثنا منجاب بن الحارث ، حدثنا إبراهيم بن يوسف ، حدثنا زياد بن عبد الله عن ليث
عن عبد الملك بن سعيد بن جبير عن أبيه عن ابن عباس أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إن الله
تعالى خلق لوحا محفوظا من درة بيضاء صفحاتها من ياقوتة حمراء ، قلمه نور وكتابه
نور ، لله فيه في كل يوم ستون وثلاثمائة لحظة ، يخلق ويرزق ويميت ويحيي ويعز ويذل
ويفعل ما يشاء» آخر تفسير سورة البروج ، ولله الحمد والمنة.
تفسير سورة الطارق
وهي مكية
قال عبد الله ابن
الإمام أحمد : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن محمد قال عبد الله وسمعته أنا منه ،
حدثنا مروان بن معاوية الفزاري عن عبد الله بن عبد الرّحمن الطائفي عن عبد الرّحمن
بن خالد بن أبي جبل العدواني ، عن أبيه أنه أبصر رسول الله صلىاللهعليهوسلم في مشرق ثقيف وهو قائم على قوس أو عصى حين أتاهم يبتغي
عندهم النصر فسمعته يقول : (وَالسَّماءِ
وَالطَّارِقِ) حتى ختمها قال : فوعيتها في الجاهلية وأنا مشرك ، ثم
قرأتها في الإسلام قال : فدعتني ثقيف فقالوا : ماذا سمعت من هذا الرجل؟ فقرأتها
عليهم فقال من معهم من قريش ، نحن أعلم بصاحبنا لو كنا نعلم ما يقول حقا لاتبعناه ، وقال النسائي : حدثنا عمرو بن منصور ، حدثنا أبو نعيم عن
مسعر عن محارب بن دثار عن جابر قال : صلى معاذ المغرب فقرأ البقرة والنساء فقال
النبي صلىاللهعليهوسلم : «أفتان أنت يا معاذ! ما كان يكفيك أن تقرأ بالسماء
والطارق والشمس وضحاها ونحوها؟» .
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(وَالسَّماءِ
وَالطَّارِقِ (١) وَما أَدْراكَ مَا
الطَّارِقُ (٢) النَّجْمُ الثَّاقِبُ
(٣) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها
حافِظٌ (٤) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ
__________________
خُلِقَ
(٥) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (٦)
يَخْرُجُ
مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (٧)
إِنَّهُ
عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ(٨) يَوْمَ تُبْلَى
السَّرائِرُ (٩) فَما لَهُ مِنْ
قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ) (١٠)
يقسم تبارك وتعالى
بالسماء وما جعل فيها من الكواكب النيرة ولهذا قال تعالى : (وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ) ثم قال : (وَما أَدْراكَ مَا
الطَّارِقُ) ثم فسره بقوله : (النَّجْمُ الثَّاقِبُ) قال قتادة وغيره : إنما سمي النجم طارقا لأنه إنما يرى بالليل
ويختفي بالنهار ، ويؤيده ما جاء في الحديث الصحيح نهى أن يطرق الرجل أهله طروقا أي يأتيهم فجأة بالليل ، وفي الحديث الآخر المشتمل على
الدعاء «إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن» . وقوله تعالى : (الثَّاقِبُ) قال ابن عباس : المضيء وقال السدي : يثقب الشياطين إذا
أرسل عليها ، وقال عكرمة : هو مضيء ومحرق للشيطان.
وقوله تعالى : (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها
حافِظٌ) أي كل نفس عليها من الله حافظ يحرسها من الآفات كما قال
تعالى : (لَهُ مُعَقِّباتٌ
مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) [الرعد : ١١].
وقوله تعالى : (فَلْيَنْظُرِ
الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ) تنبيه للإنسان على ضعف أصله الذي خلق منه وإرشاد له إلى
الاعتراف بالمعاد ، لأن من قدر على البداءة فهو قادر على الإعادة بطريق الأولى كما
قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي
يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم : ٢٧] وقوله تعالى : (خُلِقَ مِنْ ماءٍ
دافِقٍ) يعني المني يخرج دفقا من الرجل والمرأة ، فيتولد منهما
الولد ، بإذن الله عزوجل ، ولهذا قال : (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ
الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) يعني صلب الرجل وترائب المرأة وهو صدرها.
وقال شبيب بن بشر
عن عكرمة عن ابن عباس (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ
الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) صلب الرجل وترائب المرأة أصفر رقيق لا يكون الولد إلا
منهما ، وكذا قال سعيد بن جبير وعكرمة وقتادة والسدي وغيرهم ، وقال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو أسامة عن مسعر ، سمعت الحكم ذكر عن ابن عباس (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ
وَالتَّرائِبِ) قال : هذه الترائب ، ووضع يده على صدره.
وقال الضحاك وعطية
عن ابن عباس : تريبة المرأة موضع القلادة ، وكذا قال عكرمة وسعيد بن جبير ، وقال
علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : الترائب بين ثدييها ، وعن مجاهد : الترائب ما بين
المنكبين إلى الصدر ، وعنه أيضا : الترائب أسفل من التراقي ، وقال سفيان الثوري :
فوق الثديين ، وعن سعيد بن جبير : الترائب أربعة أضلاع من هذا الجانب الأسفل وعن
الضحاك : الترائب بين الثديين والرجلين والعينين ، وقال الليث بن سعد عن معمر بن
أبي
__________________
حبيبة المدني أنه
بلغه في قول الله عزوجل : (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ
الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) قال : هو عصارة القلب من هناك يكون الولد ، وعن قتادة (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ
وَالتَّرائِبِ) من بين صلبه ونحره.
وقوله تعالى : (إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ) فيه قولان [أحدهما] على رجع هذا الماء الدافق ، إلى مقره
الذي خرج منه لقادر على ذلك. قاله مجاهد وعكرمة وغيرهما. [والقول الثاني] إنه على
رجع هذا الإنسان المخلوق من ماء دافق أي إعادته وبعثه إلى الدار الآخرة لقادر لأن
من قدر على البداءة قدر على الإعادة ، وقد ذكر الله عزوجل هذا الدليل في القرآن في غير ما موضع ، وهذا القول قال به
الضحاك واختاره ابن جرير ولهذا قال تعالى : (يَوْمَ تُبْلَى
السَّرائِرُ) أي يوم القيامة تبلى فيه السرائر أي تظهر وتبدو ويبقى السر
علانية والمكنون مشهورا.
وقد ثبت في
الصحيحين عن ابن عمر أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «يرفع لكل غادر لواء عند استه يقال هذه غدرة فلان بن
فلان» وقوله تعالى : (فَما لَهُ) أي الإنسان يوم القيامة (مِنْ قُوَّةٍ) أي في نفسه (وَلا ناصِرٍ) أي من خارج منه أي لا يقدر على أن ينقذ نفسه من عذاب الله
ولا يستطيع له أحد ذلك.
(وَالسَّماءِ ذاتِ
الرَّجْعِ (١١) وَالْأَرْضِ ذاتِ
الصَّدْعِ (١٢) إِنَّهُ لَقَوْلٌ
فَصْلٌ (١٣) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (١٤) إِنَّهُمْ
يَكِيدُونَ كَيْداً (١٥) وَأَكِيدُ كَيْداً (١٦) فَمَهِّلِ
الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً)(١٧)
قال ابن عباس :
الرجع المطر ، وعنه : هو السحاب فيه المطر ، وعنه (وَالسَّماءِ ذاتِ
الرَّجْعِ) تمطر ثم تمطر ، وقال قتادة : ترجع رزق العباد كل عام ولو
لا ذلك لهلكوا وهلكت مواشيهم ، وقال ابن زيد : ترجع نجومها وشمسها وقمرها يأتين من
هاهنا (وَالْأَرْضِ ذاتِ
الصَّدْعِ) قال ابن عباس : هو انصداعها عن النبات ، وكذا قال سعيد بن
جبير وعكرمة وأبو مالك والضحاك والحسن وقتادة والسدي وغير واحد.
وقوله تعالى : (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ) قال ابن عباس : حق ، وكذا قال قتادة ، وقال آخر : حكم عدل (وَما هُوَ بِالْهَزْلِ) أي بل هو جد حق ، ثم أخبر عن الكافرين بأنهم يكذبون به
ويصدون عن سبيله فقال : (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ
كَيْداً) أي يمكرون بالناس في دعوتهم إلى خلاف القرآن ، ثم قال
تعالى : (فَمَهِّلِ
الْكافِرِينَ) أي أنظرهم ولا تستعجل لهم (أَمْهِلْهُمْ
رُوَيْداً) أي قليلا أي وسترى ماذا أحل بهم من العذاب والنكال
والعقوبة والهلاك كما قال تعالى : (نُمَتِّعُهُمْ
قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) [لقمان : ٢٤] آخر
تفسير سورة الطارق ، ولله الحمد والمنة.
__________________
تفسير سورة الأعلى
وهي مكية
والدليل على ذلك
ما رواه البخاري : حدثنا عبدان ، أخبرني أبي عن شعبة عن أبي إسحاق عن البراء بن
عازب قال : أول من قدم علينا من أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم مصعب بن عمير وابن أم مكتوم ، فجعلا يقرئاننا القرآن ثم
جاء عمار وبلال وسعد ، ثم جاء عمر بن الخطاب في عشرين ثم جاء النبي صلىاللهعليهوسلم ، فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم به حتى رأيت
الولائد والصبيان يقولون : هذا رسول الله قد جاء فما جاء حتى قرأت (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) في سور مثلها .
وقال الإمام أحمد : حدثنا وكيع ، حدثنا إسرائيل عن ثوير بن أبي فاختة عن
أبيه عن علي رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يحب هذه السورة (سَبِّحِ اسْمَ
رَبِّكَ الْأَعْلَى) تفرد به أحمد. وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال لمعاذ : «هلا صليت ب (سَبِّحِ اسْمَ
رَبِّكَ الْأَعْلَى) ، و (الشَّمْسِ وَضُحاها) و (اللَّيْلِ إِذا يَغْشى) وقال الإمام أحمد : حدثنا سفيان عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر عن أبيه عن
حبيب بن سالم عن أبيه عن النعمان بن بشير أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قرأ في العيدين ب (سَبِّحِ اسْمَ
رَبِّكَ الْأَعْلَى) و (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ) [الغاشية : ١] وإن
وافق يوم الجمعة قرأهما جميعا .
هكذا وقع في مسند
الإمام أحمد إسناد هذا الحديث ، وقد رواه مسلم في صحيحه وأبو داود والترمذي
والنسائي من حديث أبي عوانة وجرير وشعبة ، ثلاثتهم عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر
عن أبيه عن حبيب بن سالم عن النعمان بن بشير به ، قال الترمذي : وكذا رواه الثوري
ومسعر عن إبراهيم ، قال ورواه سفيان بن عيينة عن إبراهيم عن أبيه عن حبيب بن سالم
عن أبيه عن النعمان ، ولا يعرف لحبيب رواية عن أبيه ، وقد رواه ابن ماجة عن محمد
بن الصباح عن سفيان بن عيينة عن إبراهيم بن المنتشر عن أبيه عن حبيب بن سالم عن
النعمان به ، كما رواه
__________________
الجماعة فالله
أعلم ، ولفظ مسلم وأهل السنن : كان يقرأ في العيدين ويوم الجمعة ب (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) و (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ) [الغاشية : ١] ،
وربما اجتمعا في يوم واحد فقرأهما.
وقد روى الإمام
أحمد في مسنده من حديث أبي بن كعب وعبد الله بن عباس وعبد الرّحمن ابن أبزى وعائشة
أم المؤمنين أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان يقرأ في الوتر ب (سَبِّحِ اسْمَ
رَبِّكَ الْأَعْلَى) و (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) [الكافرون : ١] ، و
(قُلْ هُوَ اللهُ
أَحَدٌ) [الإخلاص : ١] ،
زادت عائشة والمعوذتين. وهكذا روي هذا الحديث من طريق جابر وأبي أمامة صدي بن
عجلان وعبد الله ابن مسعود وعمران بن حصين ، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم ، ولو
لا خشية الإطالة لأوردنا ما تيسر لنا من أسانيد ذلك ومتونه ، ولكن في الإرشاد بهذا
الاختصار كفاية والله أعلم.
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سَبِّحِ اسْمَ
رَبِّكَ الْأَعْلَى (١) الَّذِي خَلَقَ
فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (٣)
وَالَّذِي
أَخْرَجَ الْمَرْعى (٤) فَجَعَلَهُ غُثاءً
أَحْوى (٥) سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (٦)
إِلاَّ
ما شاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (٧) وَنُيَسِّرُكَ
لِلْيُسْرى (٨) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ
الذِّكْرى (٩) سَيَذَّكَّرُ مَنْ
يَخْشى(١٠) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (١١) الَّذِي يَصْلَى
النَّارَ الْكُبْرى (١٢) ثُمَّ لا يَمُوتُ
فِيها وَلا يَحْيى)(١٣)
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو عبد الرّحمن حدثنا موسى يعني ابن أيوب الغافقي
، حدثنا عمي إياس بن عامر سمعت عقبة بن عامر الجهني : لما نزلت (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) [الواقعة : ٧٤] قال لنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «اجعلوها في ركوعكم» فلما نزلت (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) قال : «اجعلوها في سجودكم» ورواه أبو داود وابن ماجة من حديث ابن المبارك عن موسى بن
أيوب به. وقال الإمام أحمد : حدثنا وكيع حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن مسلم
البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان إذا قرأ (سَبِّحِ اسْمَ
رَبِّكَ الْأَعْلَى) قال : «سبحان ربي الأعلى» وهكذا رواه أبو داود عن زهير بن
حرب عن وكيع به قال وخولف فيه وكيع رواه أبو وكيع وشعبة عن أبي إسحاق عن سعيد عن
ابن عباس موقوفا. وقال الثوري عن السدي عن عبد خير قال : سمعت عليا قرأ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) فقال : سبحان ربي الأعلى.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا حكام عن عنبسة عن أبي إسحاق
الهمداني أن ابن عباس كان إذا قرأ (سَبِّحِ اسْمَ
رَبِّكَ الْأَعْلَى) يقول : سبحان ربي الأعلى ، وإذا قرأ
__________________
(لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ
الْقِيامَةِ) [القيامة : ١]
فأتى على آخرها (أَلَيْسَ ذلِكَ
بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) [القيامة : ٤٠]
يقول : سبحانك وبلى ، وقال قتادة (سَبِّحِ اسْمَ
رَبِّكَ الْأَعْلَى) ذكر لنا أن نبي الله صلىاللهعليهوسلم كان إذا قرأها قال : سبحان ربي الأعلى ، وقوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى) أي خلق الخليقة وسوى كل مخلوق في أحسن الهيئات.
وقوله تعالى : (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) قال مجاهد : هدى الإنسان للشقاوة والسعادة وهدى الأنعام
لمراتعها وهذه الآية كقوله تعالى إخبارا عن موسى أنه قال لفرعون : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ
خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) [طه : ٥٠] أي قدر
قدرا وهدى الخلائق إليه ، كما ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات
والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء» وقوله تعالى : (وَالَّذِي أَخْرَجَ
الْمَرْعى) أي من جميع صنوف النباتات والزروع (فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى) قال ابن عباس : هشيما متغيرا ، وعن مجاهد وقتادة وابن زيد
نحوه.
قال ابن جرير : وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يرى أن ذلك من المؤخر
الذي معناه التقديم ، وأن معنى الكلام والذي أخرج المرعى ، (أَحْوى) أخضر إلى السواد فجعله غثاء بعد ذلك ، ثم قال ابن جرير :
وهذا وإن كان محتملا إلا أنه غير صواب لمخالفته أقوال أهل التأويل ، وقوله تعالى :
(سَنُقْرِئُكَ) أي يا محمد (فَلا تَنْسى) وهذا إخبار من الله تعالى ووعد منه له. بأنه سيقرئه قراءة
لا ينساها (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) وهذا اختيار ابن جرير. وقال قتادة : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم لا ينسى شيئا إلا ما شاء الله : وقيل : المراد بقوله : (فَلا تَنْسى) طلب ، وجعل معنى الاستثناء على هذا ما يقع من النسخ أي لا
تنسى أي ما نقرئك إلا ما يشاء الله رفعه فلا عليك أن تتركه. وقوله تعالى : (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى) أي يعلم ما يجهر به العباد وما يخفونه من أقوالهم وأفعالهم
لا يخفى عليه من ذلك شيء.
وقوله تعالى : (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى) أي نسهل عليك أفعال الخير وأقواله ونشرع لك شرعا سهلا سمحا
مستقيما عدلا لا اعوجاج فيه ولا حرج ولا عسر. وقوله تعالى : (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) أي ذكر حيث تنفع التذكرة ، ومن هاهنا يؤخذ الأدب في نشر
العلم فلا يضعه عند غير أهله كما قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه : ما أنت
بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم ، وقال : حدث الناس بما
يعرفون أتحبون أن يكذّب الله ورسوله ، وقوله تعالى : (سَيَذَّكَّرُ مَنْ
يَخْشى) أي سيتعظ بما تبلغه يا محمد من قبله يخشى الله ويعلم أنه
ملاقيه (وَيَتَجَنَّبُهَا
الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا
يَحْيى) أي لا يموت فيستريح ولا يحيى حياة تنفعه بل هي مضرة عليه ،
لأن بسببها يشعر ما يعاقب به من أليم
__________________
العذاب وأنواع
النكال.
قال الإمام أحمد : حدثنا ابن أبي عدي عن سليمان يعني التيمي عن أبي نضرة عن
أبي سعيد قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أما أهل النار الذين هم أهلها لا يموتون ولا يحيون وأما
أناس يريد الله بهم الرحمة فيميتهم في النار فيدخل عليهم الشفعاء فيأخذ الرجل
أنصاره فينبتهم ـ أو قال ـ ينبتون ـ في نهر الحياة ـ أو قال الحياة ـ أو قال
الحيوان ـ أو قال نهر الجنة ـ فينبتون نبات الحبة في حميل السيل» قال : وقال النبي
صلىاللهعليهوسلم : «أما ترون الشجرة تكون خضراء ثم تكون صفراء ثم تكون
خضراء؟ قال : فقال بعضهم : كأن النبي صلىاللهعليهوسلم كان بالبادية.
وقال أحمد أيضا : حدثنا إسماعيل ، حدثنا سعيد بن يزيد عن أبي نضرة عن
أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا
يحيون ولكن أناس ـ أو كما قال ـ تصيبهم النار بذنوبهم ـ أو قال بخطاياهم ـ فيميتهم
إماتة حتى إذا صاروا فحما أذن في الشفاعة ، فجيء بهم ضبائر ضبائر فنبتوا على أنهار الجنة فيقال : يا أهل الجنة أفيضوا
عليهم ، فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل» قال : فقال رجل من القوم حينئذ :
كأن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان بالبادية ، ورواه مسلم من حديث بشر بن المفضل وشعبة كلاهما عن أبي
سلمة سعيد بن يزيد به مثله.
ورواه أحمد أيضا عن يزيد عن سعيد بن إياس الجريري عن أبي نضرة عن أبي
سعيد عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «إن أهل النار الذين لا يريد الله إخراجهم لا يموتون
فيها ولا يحيون ، وإن أهل النار الذين يريد الله إخراجهم يميتهم فيها إماتة حتى
يصيروا فحما ، ثم يخرجون ضبائر فيلقون على أنهار الجنة فيرش عليهم من أنهار الجنة
فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل». وقد قال الله تعالى إخبارا عن أهل النار :
(وَنادَوْا يا مالِكُ
لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) [الزخرف: ٧٧] وقال تعالى : (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ
فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) [فاطر : ٣٦] إلى غير ذلك من الآيات في هذا المعنى.
(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ
تَزَكَّى (١٤) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (١٥)
بَلْ
تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (١٦)
وَالْآخِرَةُ
خَيْرٌ وَأَبْقى (١٧) إِنَّ هذا لَفِي
الصُّحُفِ الْأُولى (١٨) صُحُفِ إِبْراهِيمَ
وَمُوسى)(١٩)
يقول تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) أي طهر نفسه من الأخلاق الرذيلة وتابع ما أنزل الله
__________________
على الرسول صلوات
الله وسلامه عليه (وَذَكَرَ اسْمَ
رَبِّهِ فَصَلَّى) أي أقام الصلاة في أوقاتها ابتغاء رضوان الله وطاعة لأمر
الله وامتثالا لشرع الله. وقد قال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا عباد بن أحمد
العزرمي ، حدثنا عمي محمد بن عبد الرّحمن عن أبيه عن عطاء بن السائب ، عن عبد
الرّحمن بن سابط عن جابر بن عبد الله عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ
تَزَكَّى) قال : «من شهد أن لا إله إلا الله وخلع الأنداد وشهد أني
رسول الله».
(وَذَكَرَ اسْمَ
رَبِّهِ فَصَلَّى) قال : «هي الصلوات الخمس والمحافظة عليها والاهتمام بها»
ثم قال : لا يروى عن جابر إلا من هذا الوجه ، وكذا قال ابن عباس : إن المراد بذلك
الصلوات الخمس ، واختاره ابن جرير.
وقال ابن جرير : حدثني عمرو بن عبد الحميد الآملي ، حدثنا مروان بن
معاوية عن أبي خلدة قال : دخلت على أبي العالية فقال لي : إذا غدوت غدا إلى العيد
فمر بي ، قال : فمررت به فقال : هل طعمت شيئا؟ قلت : نعم. قال : أفضت على نفسك من
الماء؟ قلت : نعم. قال: فأخبرني ما فعلت زكاتك! قلت : قد وجهتها قال : إنما أردتك
لهذا ثم قرأ (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ
تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) وقال : إن أهل المدينة لا يرون صدقة أفضل منها ومن سقاية
الماء.
(قلت) : وقد روينا
عن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز أنه كان يأمر الناس بإخراج صدقة الفطر ويتلو
هذه الآية (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ
تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) وقال أبو الأحوص : إذا أتى أحدكم سائل وهو يريد الصلاة
فليقدم بين يدي صلاته زكاته فإن الله تعالى يقول : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ
تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) وقال قتادة في هذه الآية (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ
تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) زكى ماله وأرضى خالقه.
ثم قال تعالى : (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) أي تقدمونها على أمر الآخرة وتبدونها على ما فيه نفعكم
وصلاحكم في معاشكم ومعادكم (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ
وَأَبْقى) أي ثواب الله في الدار الآخرة خير من الدنيا وأبقى ، فإن
الدنيا دنية فانية والآخرة شريفة باقية ، فكيف يؤثر عاقل ما يفنى على ما يبقى
ويهتم بما يزول عنه قريبا ويترك الاهتمام بدار البقاء والخلد.
قال الإمام أحمد : حدثنا حسين بن محمد ، حدثنا ذويد عن أبي إسحاق عن عروة
عن عائشة قالت : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «الدنيا دار من لا دار له ، ومال من لا مال له ، ولها
يجمع من لا عقل له».
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا يحيى بن واضح ، حدثنا أبو حمزة
عن عطاء
__________________
عن عرفجة الثقفي
قال استقرأت ابن مسعود (سَبِّحِ اسْمَ
رَبِّكَ الْأَعْلَى) ـ فلما بلغ ـ (بَلْ تُؤْثِرُونَ
الْحَياةَ الدُّنْيا) ترك القراءة وأقبل على أصحابه وقال : آثرنا الدنيا على
الآخرة ، فسكت القوم فقال : آثرنا الدنيا لأنا رأينا زينتها ونساءها وطعامها
وشرابها ، وزويت عنا الآخرة فاخترنا هذا العاجل وتركنا الآجل ، وهذا منه على وجه
التواضع والهضم أو هو إخبار عن الجنس من حيث هو والله أعلم.
وقد قال الإمام
أحمد : حدثنا سليمان بن داود الهاشمي ، حدثنا إسماعيل بن جعفر ، أخبرني عمرو بن
أبي عمرو عن المطلب بن عبد الله عن أبي موسى الأشعري أن رسول اللهصلىاللهعليهوسلم قال : «من أحب دنياه أضر بآخرته ، ومن أحب آخرته أضر
بدنياه فآثروا ما يبقى على ما يفنى» تفرد به أحمد ، وقد رواه أيضا عن أبي سلمة
الخزاعي عن الدراوردي عن عمرو بن أبي عمرو به مثله سواء.
وقوله تعالى : (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى
صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) قال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا نصر بن علي ، حدثنا
معتمر بن سليمان عن أبيه عن عطاء بن السائب عن عكرمة عن ابن عباس قال : لما نزلت (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى
صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «كان كل هذا ـ أو كان هذا ـ في صحف إبراهيم وموسى» ثم
قال : لا نعلم أسند الثقات عن عطاء بن السائب عن عكرمة عن ابن عباس غير هذا ،
وحديثا آخر رواه مثل هذا.
وقال النسائي
أخبرنا زكريا بن يحيى ، أخبرنا نصر بن علي ، حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه ، عن
عطاء بن السائب عن عكرمة عن ابن عباس قال : لما نزلت (سَبِّحِ اسْمَ
رَبِّكَ الْأَعْلَى) قال : كلها في صحف إبراهيم وموسى ، ولما نزلت (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) [النجم : ٣٦] قال
: وفّى إبراهيم (أَلَّا تَزِرُ
وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [النجم : ٣٧] يعني
أن هذه الآية كقوله تعالى في سورة النجم (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ
بِما فِي صُحُفِ مُوسى وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ
وِزْرَ أُخْرى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ
يُرى ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) [النجم : ٣٦ ـ ٤٢]
الآيات إلى آخرهن.
وهكذا قال عكرمة
فيما رواه ابن جرير عن ابن حميد عن مهران عن سفيان الثوري عن أبيه عن عكرمة في
قوله تعالى : (إِنَّ هذا لَفِي
الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) يقول : الآيات التي في سبح اسم ربك الأعلى ، وقال أبو
العالية : قصة هذه السورة في الصحف الأولى ، واختار ابن جرير أن المراد بقوله : (إِنَّ هذا) إشارة إلى قوله : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ
تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ
خَيْرٌ وَأَبْقى) ثم قال تعالى : (إِنَّ هذا) أي مضمون هذا الكلام (لَفِي الصُّحُفِ
الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) وهذا الذي اختاره حسن قوي ، وقد
__________________
روي عن قتادة وابن
زيد نحوه ، والله أعلم ، آخر تفسير سورة سبح ، ولله الحمد والمنة وبه التوفيق
والعصمة.
تفسير سورة الغاشية
وهي مكية
قد تقدم عن
النعمان بن بشير أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان يقرأ ب (سَبِّحِ اسْمَ
رَبِّكَ الْأَعْلَى) [الأعلى : ١]
والغاشية في صلاة العيد ويوم الجمعة وقال الإمام مالك عن ضمرة بن سعيد عن عبيد
الله بن عبد الله أن الضحاك بن قيس سأل النعمان بن بشير : بم كان رسول اللهصلىاللهعليهوسلم يقرأ في الجمعة مع سورة الجمعة؟ قال : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ) . ورواه أبو داود عن القعنبي والنسائي عن قتيبة كلاهما عن
مالك به ، ورواه مسلم وابن ماجة من حديث سفيان بن عيينة عن ضمرة بن سعيد به.
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ
الْغاشِيَةِ (١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
خاشِعَةٌ (٢) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (٣)
تَصْلى
ناراً حامِيَةً (٤) تُسْقى مِنْ عَيْنٍ
آنِيَةٍ (٥) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ
ضَرِيعٍ (٦) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ)(٧)
الغاشية : من
أسماء يوم القيامة. قاله ابن عباس وقتادة وابن زيد لأنها تغشى الناس وتعمهم ، وقد
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا علي بن محمد الطنافسي ، حدثنا أبو بكر بن
عياش عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون قال : مر النبي صلىاللهعليهوسلم على امرأة تقرأ (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ
الْغاشِيَةِ) فقام يستمع ويقول : «نعم قد جاءني» وقوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ) أي ذليلة قاله قتادة ، وقال ابن عباس : تخشع ولا ينفعها
عملها.
وقوله تعالى : (عامِلَةٌ ناصِبَةٌ) أي قد عملت عملا كثيرا ونصبت فيه وصليت يوم القيامة نارا
حامية. وقال الحافظ أبو بكر البرقاني : حدثنا إبراهيم بن محمد المزكّى ، حدثنا
محمد بن إسحاق السراج ، حدثنا هارون بن عبد الله ، حدثنا سيار ، حدثنا جعفر قال :
سمعت أبا عمران الجوني يقول : مر عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه بدير راهب ،
قال فناداه يا راهب ، فأشرف قال فجعل عمر ينظر إليه ويبكي ، فقيل له : يا أمير
المؤمنين ما يبكيك من هذا؟ قال : ذكرت قول الله عزوجل في كتابه : (عامِلَةٌ ناصِبَةٌ
تَصْلى ناراً حامِيَةً) فذاك الذي أبكاني.
__________________
وقال البخاري : قال ابن عباس (عامِلَةٌ ناصِبَةٌ) النصارى ، وعن عكرمة والسدي (عامِلَةٌ) في الدنيا بالمعاصي و (ناصِبَةٌ) في النار بالعذاب والإغلال ، قال ابن عباس والحسن وقتادة (تَصْلى ناراً حامِيَةً) أي حارة شديدة الحر (تُسْقى مِنْ عَيْنٍ
آنِيَةٍ) أي قد انتهى حرها وغليانها ، قاله ابن عباس ومجاهد والحسن
والسدي. وقوله تعالى : (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ
إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : شجر من النار ، وقال
سعيد بن جبير : هو الزقوم ، وعنه أنها الحجارة ، وقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وأبو
الجوزاء وقتادة : هو الشبرق ، قال قتادة : قريش تسميه في الربيع الشبرق وفي الصيف
الضريع ، قال عكرمة : وهو شجرة ذات شوك لاطئة بالأرض.
وقال البخاري : قال مجاهد : الضريع نبت يقال له الشبرق يسميه أهل الحجاز
الضريع إذا يبس وهو سم ، وقال معمر عن قتادة هو الشبرق إذا يبس سمي الضريع ، وقال
سعيد عن قتادة (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ
إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) من شر الطعام وأبشعه وأخبثه ، وقوله تعالى : (لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) يعني لا يحصل به مقصود ولا يندفع به محذور.
(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
ناعِمَةٌ (٨) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (٩)
فِي
جَنَّةٍ عالِيَةٍ (١٠) لا تَسْمَعُ فِيها
لاغِيَةً (١١) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (١٢) فِيها سُرُرٌ
مَرْفُوعَةٌ (١٣) وَأَكْوابٌ
مَوْضُوعَةٌ (١٤) وَنَمارِقُ
مَصْفُوفَةٌ (١٥) وَزَرابِيُّ
مَبْثُوثَةٌ)
(١٦)
لما ذكر حال
الأشقياء ثنى بذكر السعداء فقال : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ) أي يوم القيامة (ناعِمَةٌ) أي يعرف النعيم فيها وإنما حصل لها ذلك بسعيها ، وقال
سفيان (لِسَعْيِها راضِيَةٌ) قد رضيت عملها. وقوله تعالى : (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) أي رفيعة بهية في الغرفات آمنون (لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً) أي لا تسمع في الجنة التي هم فيها كلمة لغو كما قال تعالى
: (لا يَسْمَعُونَ فِيها
لَغْواً إِلَّا سَلاماً) [مريم : ٦٢] وقال
تعالى : (لا لَغْوٌ فِيها وَلا
تَأْثِيمٌ) [الطور: ٢٣] وقال تعالى : (لا يَسْمَعُونَ فِيها
لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً) [الواقعة : ٢٥ ـ ٢٦] (فِيها عَيْنٌ
جارِيَةٌ) أي سارحة وهذه نكرة في سياق الإثبات ، وليس المراد بها
عينا واحدة وإنما هذا جنس يعني فيها عيون جاريات.
وقال ابن أبي حاتم
: قرئ على الربيع بن سليمان ، حدثنا أسد بن موسى ، حدثنا ابن ثوبان عن عطاء بن قرة
عن عبد الله بن ضمرة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أنهار الجنة تفجر من تحت تلال ـ أو من تحت جبال ـ المسك»
(فِيها سُرُرٌ
مَرْفُوعَةٌ) أي عالية ناعمة كثيرة الفرش مرتفعة السمك عليها الحور
العين ، قالوا فإذا أراد ولي الله أن يجلس على تلك السرر العالية تواضعت له (وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ) يعني أواني الشرب معدة مرصدة لمن أرادها من أربابها.
__________________
(وَنَمارِقُ
مَصْفُوفَةٌ) قال ابن عباس : النمارق الوسائد ، وكذا قال عكرمة وقتادة
والضحاك والسدي والثوري وغيرهم ، وقوله تعالى : (وَزَرابِيُّ
مَبْثُوثَةٌ) قال ابن عباس الزرابي البسط ، وكذا قال الضحاك وغير واحد ،
ومعنى مبثوثة أي هاهنا وهاهنا لمن أراد الجلوس عليها ، وذكر هاهنا هذا الحديث الذي
رواه أبو بكر بن أبي داود ، حدثنا عمرو بن عثمان ، حدثنا أبي عن محمد بن مهاجر عن
الضحاك المعافري عن سليمان بن موسى ، حدثني كريب أنه سمع أسامة بن زيد يقول : قال
رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ألا هل من مشمر للجنة فإن الجنة لا خطر لها ، وهي ورب الكعبة نور يتلألأ ، وريحانة تهتز ، وقصر مشيد ،
ونهر مطرد ، وثمرة نضيجة ، وزوجة حسناء جميلة ، وحلل كثيرة ، ومقام في أبد في دار
سليمة ، وفاكهة وخضرة ، وحبرة ونعمة ، في محلة عالية بهية؟» قالوا : نعم يا رسول
الله صلىاللهعليهوسلم نحن المشمرون لها ، قال : «قولوا إن شاء الله» قال القوم:
إن شاء الله ، ورواه ابن ماجة عن العباس بن عثمان الدمشقي عن الوليد بن
مسلم عن محمد بن مهاجر به.
(أَفَلا يَنْظُرُونَ
إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧)
وَإِلَى
السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) وَإِلَى الْجِبالِ
كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩) وَإِلَى الْأَرْضِ
كَيْفَ سُطِحَتْ (٢٠) فَذَكِّرْ إِنَّما
أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ
بِمُصَيْطِرٍ (٢٢) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى
وَكَفَرَ (٢٣) فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ
الْأَكْبَرَ (٢٤) إِنَّ إِلَيْنا
إِيابَهُمْ (٢٥) ثُمَّ إِنَّ
عَلَيْنا حِسابَهُمْ)
(٢٦)
يقول تعالى آمرا
عباده بالنظر في مخلوقاته الدالة على قدرته وعظمته : (أَفَلا يَنْظُرُونَ
إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) فإنها خلق عجيب وتركيبها غريب ، فإنها في غاية القوة
والشدة وهي مع ذلك تلين للحمل الثقيل وتنقاد للقائد الضعيف وتؤكل وينتفع بوبرها
ويشرب لبنها ، ونبهوا بذلك لأن العرب غالب دوابهم كانت الإبل ، وكان شريح القاضي
يقول اخرجوا بنا حتى ننظر إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت! أي كيف رفعها
الله عزوجل عن الأرض هذا الرفع العظيم ، كما قال تعالى : (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ
فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) [ق : ٦].
(وَإِلَى الْجِبالِ
كَيْفَ نُصِبَتْ) أي جعلت منصوبة فإنها قائمة ثابتة راسية لئلا تميد الأرض
بأهلها ، وجعل فيها ما جعل من المنافع والمعادن (وَإِلَى الْأَرْضِ
كَيْفَ سُطِحَتْ) أي كيف بسطت ومدت ومهدت ، فنبه البدوي على الاستدلال بما
يشاهده من بعيره الذي هو راكب عليه والسماء التي فوق رأسه ، والجبل الذي تجاهه
والأرض التي تحته على قدرة خالق ذلك وصانعه وأنه الرب العظيم الخالق المالك
المتصرف ، وأنه الإله الذي لا يستحق العبادة سواه ، وهكذا أقسم ضمام في سؤاله على
رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
__________________
كما رواه الإمام أحمد
حيث قال : حدثنا هاشم بن القاسم ، حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس ،
قال : كنا نهينا أن نسأل رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن شيء ، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل
فيسأله ونحن نسمع.
فجاء رجل من أهل
البادية فقال : يا محمد إنه أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك ، قال : «صدق»
قال : فمن خلق السماء؟» قال : «الله» قال : فمن خلق الأرض؟ قال : «الله» قال : فمن
نصب هذه الجبال وجعل فيها ما جعل؟ قال : «الله» قال : فبالذي خلق السماء والأرض
ونصب هذه الجبال آلله أرسلك؟ قال : «نعم» قال : وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في
يومنا وليلتنا؟ قال : «صدق» قال : فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا؟ قال : «نعم» قال :
وزعم رسولك أن علينا زكاة أموالنا؟ قال «صدق» قال : فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا؟ قال
: «نعم» قال : وزعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلا. قال : «صدق»
قال : ثم ولى فقال : والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن شيئا ولا أنقص منهن شيئا؟
فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «إن صدق ليدخلن الجنة» .
وقد رواه مسلم عن
عمر الناقد عن أبي النضر هاشم بن القاسم به ، وعلقه البخاري ورواه الترمذي
والنسائي من حديث سليمان بن المغيرة به ورواه الإمام أحمد والبخاري وأبو داود
والنسائي وابن ماجة من حديث الليث بن سعد عن سعيد المقبري عن شريك بن عبد الله بن
أبي نمر عن أنس به بطوله وقال في آخره : وأنبأنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن
بكر.
وقال الحافظ أبو
يعلى : حدثنا إسحاق حدثنا عبد الله بن جعفر ، حدثني عبد الله بن دينار ، عن ابن
عمر قال : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم كثيرا ما كان يحدث عن امرأة في الجاهلية على رأس جبل معها
ابن صغير لها ترعى غنما ، فقال لها ابنها : يا أمه من خلقك؟ قالت : الله. قال :
فمن خلق أبي؟ قالت : الله. قال : فمن خلقني؟ قالت : الله ، قال : فمن خلق السماء؟
قالت : الله ، قال : فمن خلق الأرض؟ قالت : الله. قال : فمن خلق الجبل؟ قالت :
الله. قال : فمن خلق هذه الغنم؟ قالت : الله ، قال : فإني لأسمع لله شأنا وألقى
نفسه من الجبل فتقطع. قال ابن عمر : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم كثيرا ما يحدثنا هذا. قال ابن دينار : كان ابن عمر كثيرا
ما يحدثنا بهذا ، في إسناده ضعف وعبد الله بن جعفر هذا هو المديني ضعفه ولده
الإمام علي بن المديني وغيره.
وقوله تعالى : (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ
لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) أي فذكر يا محمد الناس بما
__________________
أرسلت به إليهم (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ
وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) ولهذا قال : (لَسْتَ عَلَيْهِمْ
بِمُصَيْطِرٍ) قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما : (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) [ق : ٤٥] أي لست
تخلق الإيمان في قلوبهم ، وقال ابن زيد : لست بالذي تكرههم على الإيمان.
قال الإمام أحمد :
حدثنا وكيع عن سفيان عن أبي الزبير عن جابر ، قال : قال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله فإذا
قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عزوجل» ثم قرأ : (فَذَكِّرْ إِنَّما
أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) وهكذا رواه مسلم في كتاب الإيمان والترمذي والنسائي في
كتابي التفسير من سننيهما من حديث سفيان بن سعيد الثوري به بهذه الزيادة ، وهذا
الحديث مخرج في الصحيحين من رواية أبي هريرة بدون ذكر هذه الآية.
وقوله تعالى : (إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ) أي تولى عن العمل بأركانه وكفر بالحق بجنانه ولسانه ، وهذه
كقوله تعالى : (فَلا صَدَّقَ وَلا
صَلَّى وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) [القيامة : ٣١ ـ ٣٢]
ولهذا قال : (فَيُعَذِّبُهُ اللهُ
الْعَذابَ الْأَكْبَرَ).
قال الإمام أحمد : حدثنا قتيبة ، حدثنا ليث عن سعيد بن أبي هلال عن علي بن
خالد أن أبا أمامة الباهلي مر على خالد بن يزيد بن معاوية ، فسأله عن ألين كلمة
سمعها من رسول اللهصلىاللهعليهوسلم فقال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «ألا كلكم يدخل الجنة إلا من شرد على الله شراد
البعير على أهله» ، تفرد بإخراجه الإمام أحمد ، وعلي بن خالد هذا ذكره ابن أبي
حاتم عن أبيه ولم يزد على ما هاهنا ، روى عن أبي أمامة وعنه سعيد بن أبي هلال ،
وقوله تعالى : (إِنَّ إِلَيْنا
إِيابَهُمْ) أي : مرجعهم ومنقلبهم (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا
حِسابَهُمْ) أي نحن نحاسبهم على أعمالهم ونجازيهم بها إن خيرا فخير وإن
شرا فشر.
آخر تفسير سورة
الغاشية ، ولله الحمد والمنة.
تفسير سورة الفجر
وهي مكية
قال النسائي :
أنبأنا عبد الوهاب بن الحكم أخبرني يحيى بن سعيد عن سليمان عن محارب بن دثار وأبي
صالح عن جابر قال : صلى معاذ صلاة ، فجاء رجل فصلى معه ، فطول
__________________
فصلى في ناحية
المسجد ثم انصرف ، فبلغ ذلك معاذا فقال منافق ، فذكر ذلك لرسول اللهصلىاللهعليهوسلم فسأل الفتى فقال : يا رسول الله : جئت أصلي معه فطول علي ،
فانصرفت وصليت في ناحية المسجد ، فعلفت ناقتي ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أفتان يا معاذ؟ أين أنت من (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) [الأعلى : ١] ـ (وَالشَّمْسِ وَضُحاها) [الشمس : ١] ـ (وَالْفَجْرِ) ـ (وَاللَّيْلِ إِذا
يَغْشى) [الليل : ١]» .
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(وَالْفَجْرِ (١)
وَلَيالٍ
عَشْرٍ (٢) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (٣)
وَاللَّيْلِ
إِذا يَسْرِ (٤) هَلْ فِي ذلِكَ
قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (٥) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ
فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (٦) إِرَمَ ذاتِ
الْعِمادِ (٧) الَّتِي لَمْ
يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (٨) وَثَمُودَ الَّذِينَ
جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (٩)
وَفِرْعَوْنَ
ذِي الْأَوْتادِ (١٠) الَّذِينَ طَغَوْا
فِي الْبِلادِ (١١) فَأَكْثَرُوا فِيهَا
الْفَسادَ (١٢) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ
رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (١٣) إِنَّ رَبَّكَ
لَبِالْمِرْصادِ)
(١٤)
أما الفجر فمعروف
وهو الصبح ، قاله علي وابن عباس وعكرمة ومجاهد والسدي ، وعن مسروق ومحمد بن كعب
ومجاهد : المراد به فجر يوم النحر خاصة ، وهو خاتمة الليالي العشر ، وقيل المراد
بذلك الصلاة التي تفعل عنده كما قاله عكرمة ، وقيل المراد به جميع النهار ، وهو
رواية عن ابن عباس ، والليالي العشر المراد بها عشر ذي الحجة كما قاله ابن عباس
وابن الزبير ومجاهد وغير واحد من السلف والخلف.
وقد ثبت في صحيح
البخاري عن ابن عباس مرفوعا «ما من أيام العمل الصالح أحب إلى الله
فيهن من هذه الأيام» يعني عشر ذي الحجة قالوا : ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال : «ولا
الجهاد في سبيل الله إلا رجلا خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء» وقيل :
المراد بذلك العشر الأول من المحرم ، حكاه أبو جعفر بن جرير ولم يعزه إلى أحد ،
وقد روى أبو كدينة عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس (وَلَيالٍ عَشْرٍ) قال : هو العشر الأول من رمضان ، والصحيح القول الأول.
قال الإمام أحمد : حدثنا زيد بن الحباب ، حدثنا عياش بن عقبة ، حدثني خير
بن نعيم عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «إن العشر عشر الأضحى ، والوتر يوم عرفة ، والشفع
يوم النحر» ، ورواه النسائي عن محمد بن رافع وعبدة بن عبد الله ، وكل منهما عن زيد
بن الحباب به ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث زيد بن الحباب به ، وهذا إسناد
__________________
رجاله لا بأس بهم
وعندي أن المتن في رفعه نكارة والله أعلم.
وقوله تعالى : (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) قد تقدم في هذا الحديث أن الوتر يوم عرفة لكونه التاسع ،
وأن الشفع يوم النحر لكونه العاشر ، وقاله ابن عباس وعكرمة والضحاك أيضا [قول ثان]
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثني عقبة بن خالد عن واصل بن السائب
قال : سألت عطاء عن قوله تعالى : (وَالشَّفْعِ
وَالْوَتْرِ) قلت : صلاتنا وترنا هذا؟ قال : لا ولكن الشفع يوم عرفة
والوتر ليلة الأضحى [قول ثالث] قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عامر بن إبراهيم
الأصبهاني ، حدثني أبي عن النعمان ، يعني ابن عبد السّلام ، عن أبي سعيد بن عوف ،
حدثني بمكة قال : سمعت عبد الله بن الزبير يخطب الناس ، فقام إليه رجل فقال : يا
أمير المؤمنين أخبرني عن الشفع والوتر ، فقال : الشفع قول الله تعالى : (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا
إِثْمَ عَلَيْهِ) [البقرة : ٢٠٣]
والوتر قوله تعالى : (وَمَنْ تَأَخَّرَ
فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) [البقرة : ٢٠٣]
وقال ابن جريج : أخبرني محمد بن المرتفع أنه سمع ابن الزبير يقول : الشفع أوسط
أيام التشريق والوتر آخر أيام التشريق.
وفي الصحيحين من
رواية أبي هريرة عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل
الجنة وهو وتر يحب الوتر» .
[قول رابع] قال
الحسن البصري وزيد بن أسلم : الخلق كلهم شفع ووتر أقسم تعالى بخلقه ، وهو رواية عن
مجاهد والمشهور عنه الأول ، وقال العوفي عن ابن عباس (وَالشَّفْعِ
وَالْوَتْرِ) قال : الله وتر واحد ، وأنتم شفع ، ويقال الشفع صلاة
الغداة والوتر صلاة المغرب.
[قول خامس] قال
ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي
يحيى عن مجاهد (وَالشَّفْعِ
وَالْوَتْرِ) قال : الشفع الزوج ، والوتر : الله عزوجل. وقال أبو عبد الله عن مجاهد : الله الوتر وخلقه الشفع
الذكر والأنثى وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد قوله : (وَالشَّفْعِ
وَالْوَتْرِ) كل شيء خلقه الله شفع. السماء والأرض والبر والبحر والجن
والإنس والشمس والقمر ونحو هذا ، ونحا مجاهد في هذا ما ذكروه في قوله تعالى : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا
زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [الذاريات : ٤٩]
أي لتعلموا أن خالق الأزواج واحد [قول سادس] قال قتادة عن الحسن (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) هو العدد منه شفع ومنه وتر.
[قول سابع في
الآية الكريمة] رواه ابن أبي حاتم وابن جرير من طريق ابن جريج ثم قال ابن جرير :
وروي عن النبي صلىاللهعليهوسلم خبر يؤيد القول الذي ذكرنا عن أبي الزبير ، حدثني عبد الله
بن أبي زياد القطواني ، حدثنا زيد بن الحباب أخبرني عياش بن عقبة ، حدثني خير بن
نعيم عن أبي
__________________
الزبير عن جابر أن
رسول الله قال : «الشفع اليومان والوتر اليوم الثالث» هكذا ورد هذا الخبر بهذا
اللفظ ، وهو مخالف لما تقدم من اللفظ في رواية أحمد والنسائي وابن أبي حاتم وما
رواه هو أيضا والله أعلم.
قال أبو العالية
والربيع بن أنس وغيرهما : هي الصلاة منها شفع كالرباعية والثنائية ، ومنها وتر
كالمغرب فإنها ثلاث وهي وتر النهار ، وكذلك صلاة الوتر في آخر التهجد من الليل.
وقد قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن عمران بن حصين (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) قال هي الصلاة المكتوبة منها شفع ومنها وتر وهذا منقطع
وموقوف ولفظه خاص بالمكتوبة وقد روي متصلا مرفوعا إلى النبي صلىاللهعليهوسلم ولفظه عام.
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو داود هو الطيالسي ، حدثنا همام عن قتادة عن
عمران بن عصام أن شيخا حدثه من أهل البصرة ، عن عمران بن حصين أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم سئل عن الشفع والوتر فقال : «هي الصلاة بعضها شفع وبعضها
وتر» هكذا وقع في المسند ، وكذا رواه ابن جرير عن بندار عن عفان وعن أبي كريب عن
عبيد الله بن موسى وكلاهما عن همام ، وهو ابن يحيى ، عن قتادة عن عمران بن عصام ،
عن شيخ عن عمران بن حصين ، وكذا رواه أبو عيسى الترمذي عن عمرو بن علي عن ابن مهدي وأبي داود ، كلاهما عن همام عن
قتادة عن عمران بن عصام عن رجل من أهل البصرة ، عن عمران بن حصين به ، ثم قال :
غريب لا نعرفه إلا من حديث قتادة ، وقد رواه خالد بن قيس أيضا عن قتادة ، وقد روي
عن عمران بن عصام عن عمران نفسه والله أعلم.
(قلت) : ورواه ابن
أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان الواسطي ، حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا همام عن
قتادة عن عمران بن عصام الضبعي شيخ من أهل البصرة عن عمران بن حصين عن النبي صلىاللهعليهوسلم ، فذكره ، هكذا رأيته في تفسيره فجعل الشيخ البصري هو
عمران بن عصام.
وهكذا رواه ابن
جرير : أخبرنا نصر بن علي ، حدثني أبي ، حدثني خالد بن قيس عن قتادة عن عمران بن
عصام عن عمران بن حصين عن النبي صلىاللهعليهوسلم في الشفع والوتر قال : «هي الصلاة منها شفع ومنها وتر»
فأسقط ذكر الشيخ المبهم ، وتفرد به عمران بن عصام الضبعي أبو عمارة البصري إمام
مسجد بني ضبيعة. وهو والد أبي جمرة نصر بن عمران الضبعي ، روى عنه قتادة وابنه أبو
جمرة والمثنى بن سعيد وأبو التياح يزيد بن حميد.
وذكره ابن حبان في
كتاب الثقات ، وذكره خليفة بن خياط في التابعين من أهل
__________________
البصرة ، وكان
شريفا نبيلا حظيا عند الحجاج بن يوسف ، ثم قتله يوم الزاوية سنة ثلاث وثمانين
لخروجه مع ابن الأشعث ، وليس له عند الترمذي سوى هذا الحديث الواحد ، وعندي أن وقفه
على عمران بن حصين أشبه والله أعلم ، ولم يجزم ابن جرير بشيء من هذه الأقوال في
الشفع والوتر.
وقوله تعالى : (وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) قال العوفي عن ابن عباس : أي إذا ذهب ، وقال عبد الله بن
الزبير (وَاللَّيْلِ إِذا
يَسْرِ) حتى يذهب بعضه بعضا ، وقال مجاهد وأبو العالية وقتادة
ومالك عن زيد بن أسلم وابن زيد (وَاللَّيْلِ إِذا
يَسْرِ) إذا سار ، وهذا يمكن حمله على ما قال ابن عباس أي ذهب ،
ويحتمل أن يكون المراد إذا سار أي أقبل ، وقد يقال إن هذا أنسب لأنه في مقابلة
قوله : (وَالْفَجْرِ) فإن الفجر هو إقبال النهار وإدبار الليل ، فإذا حمل قوله :
(وَاللَّيْلِ إِذا
يَسْرِ) على إقباله كان قسما بإقبال الليل وإدبار النهار وبالعكس
كقوله : (وَاللَّيْلِ إِذا
عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) [التكوير : ١٧ ـ ١٨]
وكذا قال الضحاك (وَاللَّيْلِ إِذا
يَسْرِ) أي يجري ، وقال عكرمة (وَاللَّيْلِ إِذا
يَسْرِ) يعني ليلة جمع ليلة المزدلفة. رواه ابن جرير وابن أبي
حاتم.
ثم قال ابن أبي
حاتم : حدثنا أحمد بن عصام ، حدثنا أبو عامر حدثنا كثير بن عبد الله بن عمرو قال :
سمعت محمد بن كعب القرظي يقول في قوله : (وَاللَّيْلِ إِذا
يَسْرِ) قال : أسر يا سار ولا تبيتن إلا بجمع ، وقوله تعالى : (هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) أي لذي عقل ولب ودين وحجا ، وإنما سمي العقل حجرا لأنه
يمنع الإنسان من تعاطي ما لا يليق به من الأفعال والأقوال ، ومنه حجر البيت لأنه
يمنع الطائف من اللصوق بجداره الشامي ، ومنه حجر اليمامة ، وحجر الحاكم على فلان
إذا منعه التصرف (وَيَقُولُونَ حِجْراً
مَحْجُوراً) [الفرقان : ٢٢] كل
هذا من قبيل واحد ، ومعنى متقارب ، وهذا القسم هو بأوقات العبادة وبنفس العبادة من
حج وصلاة وغير ذلك من أنواع القرب التي يتقرب بها إليه عباده المتقون المطيعون له
، الخائفون منه المتواضعون لديه الخاضعون لوجهه الكريم.
ولما ذكر هؤلاء
وعبادتهم وطاعتهم قال بعده : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ
فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ) وهؤلاء كانوا متمردين عتاة جبارين خارجين عن طاعته مكذبين
لرسله جاحدين لكتبه ، فذكر تعالى كيف أهلكهم ودمرهم وجعلهم أحاديث وعبرا فقال : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ
بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ) وهؤلاء عاد الأولى وهم أولاد عاد بن إرم بن عوص بن سام بن
نوح ، قاله ابن إسحاق ، وهم الذين بعث الله فيهم رسوله هودا عليهالسلام فكذبوه وخالفوه ، فأنجاه الله من بين أظهرهم ومن آمن معه
منهم وأهلكهم (بِرِيحٍ صَرْصَرٍ
عاتِيَةٍ سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً
فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ فَهَلْ تَرى
لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ) [الحاقة : ٧ ـ ١٠]
وقد ذكر الله قصتهم في القرآن في غير ما موضع ليعتبر بمصرعهم المؤمنون ، فقوله
تعالى : (إِرَمَ ذاتِ
الْعِمادِ) عطف بيان زيادة تعريف بهم.
وقوله تعالى : (ذاتِ الْعِمادِ) لأنهم كانوا يسكنون بيوت الشعر التي ترفع بالأعمدة الشداد
وقد كانوا أشد الناس في زمانهم خلقة وأقواهم بطشا ، ولهذا ذكرهم هود بتلك النعمة
وأرشدهم إلى أن يستعملوها في طاعة ربهم الذي خلقهم فقال : (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ
مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً) ... (فَاذْكُرُوا آلاءَ
اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) [الأعراف : ٦٩]
وقال تعالى : (فَأَمَّا عادٌ
فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا
قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ
قُوَّةً) [فصلت : ١٥] وقال
هاهنا : (الَّتِي لَمْ
يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ) أي القبيلة التي لم يخلق مثلها في بلادهم لقوتهم وشدتهم
وعظم تركيبهم. قال مجاهد : إرم ، أمة قديمة يعني عادا الأولى ، كما قال قتادة بن
دعامة والسدي : إن إرم بيت مملكة عاد ، وهذا قول حسن جيد وقوي ، وقال مجاهد وقتادة
والكلبي في قوله : (ذاتِ الْعِمادِ) كانوا أهل عمد لا يقيمون ، وقال العوفي عن ابن عباس : إنما
قيل لهم (ذاتِ الْعِمادِ) لطولهم ، واختار الأول ابن جرير ورد الثاني فأصاب.
وقوله تعالى : (الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي
الْبِلادِ) أعاد ابن زيد الضمير على العماد لارتفاعها وقال : بنوا
عمدا بالأحقاف لم يخلق مثلها في البلاد ، وأما قتادة وابن جرير فأعاد الضمير على
القبيلة أي لم يخلق مثل تلك القبيلة في البلاد يعني في زمانهم ، وهذا القول هو
الصواب ، وقول ابن زيد ومن ذهب مذهبه ضعيف لأنه لو كان أراد ذلك لقال التي لم يعمل
مثلها في البلاد وإنما قال : (لَمْ يُخْلَقْ
مِثْلُها فِي الْبِلادِ).
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبي ، حدثنا أبو صالح كاتب الليث ، حدثني معاوية بن صالح عمن حدثه عن
المقدام عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه ذكر إرم ذات العماد فقال : «كان الرجل منهم يأتي على
الصخرة فيحملها على الحي فيهلكهم» ثم قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ،
حدثنا أبو الطاهر ، حدثنا أنس بن عياض ، عن ثور بن زيد الديلي قال : قرأت كتابا
وقد سمى حيث قرأه أنا شداد بن عاد وأنا الذي رفعت العماد وأنا الذي شددت بذراعي
نظر واحد وأنا الذي كنزت كنزا على سبعة أذرع لا يخرجه إلا أمة محمد صلىاللهعليهوسلم.
(قلت) : فعلى كل
قول سواء كانت العماد أبنية بنوها أو أعمدة بيوتهم للبدو أو سلاحا يقاتلون به أو
طول الواحد منهم ، فهم قبيلة وأمة من الأمم ، وهم المذكورون في القرآن في غير ما
موضع المقرونون بثمود كما هاهنا ، والله أعلم.
ومن زعم أن المراد
بقوله : (إِرَمَ ذاتِ
الْعِمادِ) مدينة إما دمشق كما روي عن سعيد بن المسيب وعكرمة ، أو
إسكندرية كما روي عن القرظي أو غيرهما ففيه نظر ، فإنه كيف يلتئم الكلام على هذا (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ
بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ) إن جعل ذلك بدلا أو عطف بيان ، فإنه لا يتسق الكلام حينئذ
، ثم المراد إنما هو الإخبار عن إهلاك القبيلة المسماة بعاد
وما أحل الله بهم
من بأسه الذي لا يرد ، لا أن المراد الإخبار عن مدينة أو إقليم.
وإنما نبهت على
ذلك لئلا يغتر بكثير مما ذكره جماعة من المفسرين عند هذه الآية من ذكر مدينة يقال
لها : (إِرَمَ ذاتِ
الْعِمادِ) ، مبنية بلبن الذهب والفضة قصورها ودورها وبساتينها ، وأن
حصباءها لآلئ وجواهر وترابها بنادق المسك وأنهارها سارحة وثمارها ساقطة ، ودورها
لا أنيس بها وسورها وأبوابها تصفر ليس بها داع ولا مجيب ، وأنها تنتقل فتارة تكون
بأرض الشام وتارة باليمن وتارة بالعراق وتارة بغير ذلك من البلاد ، فإن هذا كله من
خرافات الإسرائيليين من وضع بعض زنادقتهم ليختبروا بذلك عقول الجهلة من الناس أن
تصدقهم في جميع ذلك.
وذكر الثعلبي
وغيره أن رجلا من الأعراب وهو عبد الله بن قلابة في زمان معاوية ذهب في طلب أباعر
له شردت ، فبينما هو يتيه في ابتغائها إذ اطلع على مدينة عظيمة لها سور وأبواب ،
فدخلها فوجد فيها قريبا مما ذكرناه من صفات المدينة الذهبية التي تقدم ذكرها ،
وأنه رجع فأخبر الناس فذهبوا معه إلى المكان الذي قال فلم يروا شيئا.
وقد ذكر ابن أبي
حاتم قصة (إِرَمَ ذاتِ
الْعِمادِ) هاهنا مطولة جدا فهذه الحكاية ليس يصح إسنادها ، ولو صح
إلى ذلك الأعرابي فقد يكون اختلق ذلك أو أنه أصابه نوع من الهوس والخبال ، فاعتقد
أن ذلك له حقيقة في الخارج وليس كذلك ، وهذا مما يقطع بعدم صحته ، وهذا قريب مما
يخبر به كثير من الجهلة والطامعين والمتحيلين من وجود مطالب تحت الأرض ، فيها
قناطير الذهب والفضة وألوان الجواهر واليواقيت واللئالئ والإكسير الكبير ، لكن
عليها موانع تمنع من الوصول إليها والأخذ منها ، فيحتالون على أموال الأغنياء
والضعفة والسفهاء فيأكلونها بالباطل في صرفها في بخاخير وعقاقير ونحو ذلك من
الهذيانات ويطنزون بهم ، والذي يجزم به أن في الأرض دفائن جاهلية وإسلامية وكنوزا
كثيرة من ظفر بشيء منها أمكنه تحويله ، فأما على الصفة التي زعموها فكذب وافتراء
وبهت ولم يصح في ذلك شيء مما يقولونه إلا عن نقلهم أو نقل من أخذ عنهم والله سبحانه
وتعالى الهادي للصواب.
وقول ابن جرير يحتمل أن يكون المراد بقوله : (إِرَمَ) قبيلة أو بلدة كانت عاد تسكنها فلذلك لم تصرف ، فيه نظر
لأن المراد من السياق إنما هو الإخبار عن القبيلة ، ولهذا قال بعده : (وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ
بِالْوادِ) يعني يقطعون الصخر بالوادي ، قال ابن عباس ينحتونها
ويخرقونها ، وكذا قال مجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد ومنه يقال مجتابي النمار إذا
خرقوها ، واجتاب الثوب إذا فتحه ومنه الجيب أيضا وقال الله تعالى : (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً
فارِهِينَ) [الشعراء : ١٤٩] ،
وأنشد ابن جرير وابن أبي حاتم هاهنا قول الشاعر : [الطويل]
__________________
ألا كل شيء ما
خلا الله بائد
|
|
كما باد حي من
شنيف ومارد
|
هم ضربوا في كل
صمّاء صعدة
|
|
بأيد شداد
أيّدات السواعد
|
وقال ابن إسحاق :
كانوا عربا وكان منزلهم بوادي القرى ، وقد ذكرنا قصة عاد مستقصاة في سورة الأعراف
بما أغنى عن إعادته.
وقوله تعالى : (وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ) قال العوفي عن ابن عباس : الأوتاد الجنود الذين يشدون له
أمره ، ويقال كان فرعون يوتد أيديهم وأرجلهم في أوتاد من حديد يعلقهم بها ، وكذا قال مجاهد : كان يوتد الناس بالأوتاد ، وهكذا قال
سعيد بن جبير والحسن والسدي. قال السدي : كان يربط الرجل في كل قائمة من قوائمة في
وتد ثم يرسل عليه صخرة عظيمة فتشدخه ، وقال قتادة : بلغنا أنه كان له مطال وملاعب
يلعب له تحتها من أوتاد وحبال ، وقال ثابت البناني عن أبي رافع : قيل لفرعون ذي
الأوتاد لأنه ضرب لامرأته أربعة أوتاد ، ثم جعل على ظهرها رحى عظيمة حتى ماتت.
وقوله تعالى : (الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ
فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ) أي تمردوا وعتوا وعاثوا في الأرض بالإفساد والأذية للناس (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ
عَذابٍ) أي أنزل عليهم رجزا من السماء وأحل بهم عقوبة ، لا يردها
عن القوم المجرمين.
وقوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) قال ابن عباس : يسمع ويرى يعني يرصد خلقه فيما يعملون
ويجازي كلا بسعيه في الدنيا والآخرة ، وسيعرض الخلائق كلهم عليه فيحكم فيهم بعدله
ويقال كلا بما يستحقه ، وهو المنزه عن الظلم الجور. وقد ذكر ابن أبي حاتم هاهنا
حديثا غريبا جدا وفي إسناده نظر وفي صحته ، فقال : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن أبي
الحواري ، حدثنا يونس الحذاء ، عن أبي حمزة البيساني ، عن معاذ بن جبل قال : قال
رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «يا معاذ إن المؤمن لدى الحق أسير ، يا معاذ إن المؤمن
لا يسكن روعه ولا يأمن اضطرابه حتى يخلف جسر جهنم خلف ظهره ، يا معاذ إن المؤمن
قيده القرآن عن كثير من شهواته وعن أن يهلك فيها هو بإذن الله عزوجل فالقرآن دليله ، والخوف محجته ، والشوق مطيته ، والصلاة
كهفه ، والصوم جنته ، والصدقة فكاكه ، والصدق أميره ، والحياء وزيره ، وربه عزوجل من وراء ذلك كله بالمرصاد».
قال ابن أبي حاتم
: يونس الحذاء وأبو حمزة مجهولان وأبو حمزة عن معاذ مرسل. ولو كان عن أبي حمزة
لكان حسنا أي لو كان من كلامه لكان حسنا ، ثم قال ابن أبي حاتم : حدثنا
__________________
أبي ، حدثنا صفوان
بن صالح حدثنا الوليد بن مسلم عن صفوان بن عمرو عن أيفع عن ابن عبد الكلاعي أنه
سمعه وهو يعظ الناس يقول : إن لجهنم سبع قناطر قال : والصراط عليهن ، قال : فيحبس
الخلائق عند القنطرة الأولى فيقول (قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ
مَسْؤُلُونَ) قال : فيحاسبون على الصلاة ويسألون عنها ، قال : فيهلك فيها
من هلك وينجو من نجا ، فإذا بلغوا القنطرة الثانية حوسبوا على الأمانة كيف أدوها
وكيف خانوها ، قال : فيهلك من هلك وينجو من نجا ، فإذا بلغوا القنطرة الثالثة
سئلوا عن الرحم كيف وصلوها وكيف قطعوها ، قال : فيهلك من هلك وينجو من نجا ، قال :
والرحم يومئذ متدلية إلى الهوى في جهنم تقول : اللهم من وصلني فصله ، ومن قطعني
فاقطعه ، قال : وهي التي يقول الله عزوجل : (إِنَّ رَبَّكَ
لَبِالْمِرْصادِ) هكذا أورد هذا الأثر ولم يذكر تمامه.
(فَأَمَّا الْإِنْسانُ
إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ
(١٥) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ
عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (١٦) كَلاَّ بَلْ لا
تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (١٧)
وَلا
تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (١٨)
وَتَأْكُلُونَ
التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (١٩) وَتُحِبُّونَ الْمالَ
حُبًّا جَمًّا)
(٢٠)
يقول تعالى منكرا
على الإنسان في اعتقاده إذا وسع الله تعالى عليه في الرزق ليختبره في ذلك ، فيعتقد
أن ذلك من الله إكرام له وليس كذلك بل هو ابتلاء وامتحان كما قال تعالى : (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ
مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ) [المؤمنون : ٥٥ ـ ٥٦]
وكذلك في الجانب الآخر إذا ابتلاه وامتحنه وضيق عليه في الرزق يعتقد أن ذلك من
الله إهانة له. قال الله تعالى : (كَلَّا) أي ليس الأمر كما زعم لا في هذا ولا في هذا ، فإن الله
تعالى يعطي المال من يحب ومن لا يحب ، ويضيق على من يحب ومن لا يحب ، وإنما المدار
في ذلك على طاعة الله في كل من الحالين : إذا كان غنيا بأن يشكر الله على ذلك وإذا
كان فقيرا بأن يصبر.
وقوله تعالى : (بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ) فيه أمر بالإكرام له كما جاء في الحديث الذي رواه عبد الله
بن المبارك عن سعيد بن أبي أيوب عن يحيى بن أبي سليمان عن يزيد بن أبي عتاب عن أبي
هريرة عن النبي صلىاللهعليهوسلم «خير بيت في
المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه ، وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه ـ ثم
قال بإصبعه ـ أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا».
وقال أبو داود : حدثنا محمد بن الصباح بن سفيان ، أخبرنا عبد العزيز يعني
ابن أبي حازم ، حدثني أبي عن سهل يعني ابن سعيد أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة» وقرن بين إصبعيه
الوسطى والتي تلي الإبهام ، (وَلا تَحَاضُّونَ
عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) يعني لا يأمرون بالإحسان إلى الفقراء والمساكين ويحث بعضهم
على بعض في ذلك (وَتَأْكُلُونَ
__________________
التُّراثَ)
يعني الميراث (أَكْلاً لَمًّا) أي من أي جهة حصل لهم ذلك من حلال أو حرام (وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا) أي كثيرا ، زاد بعضهم فاحشا.
(كَلاَّ إِذا دُكَّتِ
الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (٢١)
وَجاءَ
رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (٢٢) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ
بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (٢٣)
يَقُولُ
يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (٢٤) فَيَوْمَئِذٍ لا
يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (٢٥)
وَلا
يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (٢٦) يا أَيَّتُهَا
النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إِلى
رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (٢٨) فَادْخُلِي فِي
عِبادِي (٢٩) وَادْخُلِي جَنَّتِي)
(٣٠)
يخبر تعالى عما
يقع يوم القيامة من الأهوال العظيمة ، فقال تعالى : (كَلَّا) أي حقا (إِذا دُكَّتِ
الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا) أي وطئت ومهدت وسويت الأرض والجبال وقام الخلائق من قبورهم
لربهم (وَجاءَ رَبُّكَ) يعني لفصل القضاء بين خلقه وذلك بعد ما يستشفعون إليه بسيد
ولد آدم على الإطلاق محمد صلوات الله وسلامه عليه ، بعد ما يسألون أولي العزم من
الرسل واحدا بعد واحد ، فكلهم يقول : لست بصاحب ذاكم حتى تنتهي النوبة إلى محمد صلىاللهعليهوسلم فيقول : «أنا لها أنا لها» فيذهب فيشفع عند الله تعالى في
أن يأتي لفصل القضاء ، فيشفعه الله تعالى في ذلك.
وهي أول الشفاعات
وهي المقام المحمود كما تقدم بيانه في سورة سبحان ، فيجيء الرب تبارك وتعالى : لفصل
القضاء كما يشاء المقام المحمود والملائكة يجنئون بين يديه صفوفاً وصفوفاً.
وقوله تعالى : (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) قال الإمام مسلم بن الحجاج في صحيحه : حدثنا عمر بن حفص بن
غياث ، حدثنا أبي عن العلاء بن خالد الكاهلي عن شقيق عن عبد الله هو ابن مسعود قال
: قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون
ألف ملك يجرونها» وهكذا رواه الترمذي عن عبد الله بن عبد الرّحمن الدارمي عن
عمر بن حفص به. ورواه أيضا عن عبد بن حميد عن أبي عامر عن سفيان الثوري عن العلاء
بن خالد عن شقيق بن سلمة ، وهو أبو وائل ، عن عبد الله بن مسعود قوله ولم يرفعه ،
وكذا رواه ابن جرير عن الحسن بن عرفة عن مروان بن معاوية الفزاري عن العلاء بن
خالد عن شقيق عن عبد الله قوله.
وقوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ) أي عمله وما كان أسلفه في قديم دهره وحديثه (وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى) أي وكيف تنفعه الذكرى (يَقُولُ يا لَيْتَنِي
قَدَّمْتُ لِحَياتِي) يعني يندم على ما كان سلف منه من المعاصي إن كان عاصيا
ويود لو كان ازداد من الطاعات إن كان طائعا كما قال الإمام أحمد بن حنبل : حدثنا علي بن إسحاق ، حدثنا عبد الله يعني ابن المبارك ،
حدثنا ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن جبير بن نفير عن محمد بن أبي عميرة ، وكان
من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، قال : لو أن عبدا خرّ على وجهه من يوم ولد إلى أن يموت
هرما في طاعة الله
__________________
لحقره يوم القيامة
، ولودّ أنه رد إلى الدنيا كيما يزداد من الأجر والثواب.
ورواه بحير بن سعد
عن خالد بن معدان عن عتبة بن عبد الله عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
قال الله تعالى : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ
أَحَدٌ) أي ليس أحد أشد عذابا من تعذيب الله من عصاه (وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ) أي وليس أحد أشد قبضا ووثقا من الزبانية لمن كفر بربهمعزوجل ، وهذا في حق المجرمين من الخلائق والظالمين ، فأما النفس
الزكية المطمئنة وهي الساكنة الثابتة الدائرة مع الحق فيقال لها : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ
الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) أي إلى جواره وثوابه وما أعد لعباده في جنته (راضِيَةً) أي في نفسها (مَرْضِيَّةً) أي قد رضيت عن الله ورضي عنها وأرضاها (فَادْخُلِي فِي عِبادِي) أي في جملتهم (وَادْخُلِي جَنَّتِي) وهذا يقال لها عند الاحتضار وفي يوم القيامة أيضا ، كما أن
الملائكة يبشرون المؤمن عند احتضاره وعند قيامه من قبره ، فكذلك هاهنا.
ثم اختلف المفسرون
فيمن نزلت هذه الآية ، فروى الضحاك عن ابن عباس : نزلت في عثمان بن عفان ، وعن
بريدة بن الحصيب : نزلت في حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه. وقال العوفي عن ابن
عباس : يقال للأرواح المطمئنة يوم القيامة (يا أَيَّتُهَا
النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) يعني صاحبك وهو بدنها الذي كانت تعمره في الدنيا (راضِيَةً مَرْضِيَّةً) وروي عنه أنه كان يقرؤها فادخلي في عبدي (وَادْخُلِي جَنَّتِي) وكذا قال عكرمة والكلبي ، واختاره ابن جرير وهو غريب ،
والظاهر الأول لقوله تعالى : (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى
اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ) [الأنعام : ٦٢] (وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ) [غافر : ٤٣] أي
إلى حكمه والوقوف بين يديه.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا أحمد بن عبد الرّحمن بن عبد الله الدشتكي ، حدثني
أبي عن أبيه عن أشعث عن جعفر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ
الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً) قال : نزلت وأبو بكر جالس فقال : يا رسول الله ما أحسن هذا
، فقال : «أما إنه سيقال لك هذا» ثم قال : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا ابن يمان
عن أشعث عن سعيد بن جبير قال : قرأت عند النبي صلىاللهعليهوسلم (يا أَيَّتُهَا
النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً) فقال أبو بكر رضي الله عنه إن هذا لحسن ، فقال له النبي صلىاللهعليهوسلم : «أما إن الملك سيقول لك هذا عند الموت» وكذا رواه ابن
جرير عن أبي كريب عن ابن يمان به وهذا مرسل حسن.
ثم قال ابن أبي
حاتم وحدثنا الحسن بن عرفة حدثنا مروان بن شجاع الجزري عن سالم الأفطس عن سعيد بن
جبير قال : مات ابن عباس بالطائف فجاء طير لم ير على خلقته فدخل نعشه ثم لم ير
خارجا منه فلما دفن تليت هذه الآية على شفير القبر لا يدري من تلاها (يا أَيَّتُهَا
__________________
النَّفْسُ
الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي
عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي) ورواه الطبراني عن عبد الله بن أحمد عن أبيه عن مروان بن
شجاع عن سالم بن عجلان الأفطس به فذكره.
وقد ذكر الحافظ
محمد بن المنذر الهروي المعروف بشكر في كتاب العجائب بسنده عن قباث بن رزين أبي
هاشم قال : أسرت في بلاد الروم فجمعنا الملك وعرض علينا دينه على أن من امتنع ضربت
عنقه فارتد ثلاثة وجاء الرابع فامتنع فضربت عنقه وألقي رأسه في نهر هناك فرسب في
الماء ثم طفا على وجه الماء ونظر إلى أولئك الثلاثة فقال : يا فلان ويا فلان ويا
فلان يناديهم بأسمائهم قال الله تعالى في كتابه : (يا أَيَّتُهَا
النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً
فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي) ثم غاص في الماء ، قال فكادت النصارى أن يسلموا ووقع سرير
الملك ورجع أولئك الثلاثة إلى الإسلام قال وجاء الفداء من عند الخليفة أبي جعفر
المنصور فخلصنا.
وروى الحافظ ابن
عساكر في ترجمة رواحة بنت أبي عمرو الأوزاعي عن أبيها حدثني سليمان بن حبيب
المحاربي حدثني أبو أمامة أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال لرجل : «قل اللهم إني أسألك نفسا بك مطمئنة تؤمن
بلقائك وترضى بقضائك وتقنع بعطائك» ثم روى عن أبي سليمان بن وبر أنه قال : حديث
رواحة هذا واحد أمه ، آخر تفسير سورة الفجر ، ولله الحمد والمنة.
تفسير سورة البلد
وهي مكية
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(لا أُقْسِمُ بِهذَا
الْبَلَدِ (١) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (٢) وَوالِدٍ وَما
وَلَدَ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي
كَبَدٍ (٤) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ
عَلَيْهِ أَحَدٌ (٥) يَقُولُ أَهْلَكْتُ
مالاً لُبَداً (٦) أَيَحْسَبُ أَنْ
لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (٧) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ
عَيْنَيْنِ (٨) وَلِساناً
وَشَفَتَيْنِ (٩) وَهَدَيْناهُ
النَّجْدَيْنِ)(١٠)
هذا قسم من الله
تبارك وتعالى بمكة أم القرى في حال كون الساكن فيها حالا لينبه على عظمة قدرها في
حال إحرام أهلها ، قال خصيف عن مجاهد (لا أُقْسِمُ بِهذَا
الْبَلَدِ) لا رد عليهم. أقسم بهذا البلد. وقال شبيب بن بشر عن عكرمة
عن ابن عباس (لا أُقْسِمُ بِهذَا
الْبَلَدِ)
يعني مكة (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ) قال أنت يا محمد يحل لك أن تقابل به ، وكذا روي عن سعيد بن
جبير وأبي صالح وعطية والضحاك وقتادة والسدي وابن زيد ، وقال مجاهد ما أصبت فيه
فهو حلال لك.
وقال قتادة : (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ) قال : أنت به من غير حرج ولا إثم ، وقال الحسن البصري
أحلها الله له ساعة من نهار ، وهذا المعنى الذي قالوه ورد به الحديث المتفق على
صحته. «إن هذا البلد حرم الله يوم خلق السموات والأرض ، فهو حرام بحرمة الله إلى
يوم القيامة لا يعضد شجره ولا يختلى خلاه ، وإنما أحلت لي ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم
كحرمتها بالأمس ، ألا فليبلغ الشاهد الغائب» وفي لفظ آخر : «فإن أحد ترخص بقتال
رسول الله فقولوا إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم» .
وقوله تعالى : (وَوالِدٍ وَما وَلَدَ) قال ابن جرير : حدثنا أبو كريب ، حدثنا ابن عطية عن شريك عن خصيف عن
عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى : (وَوالِدٍ وَما وَلَدَ) الوالد الذي يلد وما ولد العاقر الذي لا يولد له ، ورواه
ابن أبي حاتم من حديث شريك وهو ابن عبد الله القاضي به ، وقال عكرمة الوالد العاقر
وما ولد الذي يلد رواه ابن أبي حاتم. وقال مجاهد وأبو صالح وقتادة والضحاك وسفيان
الثوري وسعيد بن جبير والسدي والحسن البصري وخصيف وشرحبيل بن سعد وغيرهم : يعني
بالوالد آدم وما ولد ولده ، وهذا الذي ذهب إليه مجاهد وأصحابه حسن قوي ، لأنه
تعالى لما أقسم بأم القرى وهي أم المساكن أقسم بعده بالساكن وهو آدم أبو البشر
وولده ، وقال أبو عمران الجوني : هو إبراهيم وذريته ، رواه ابن جرير وابن أبي حاتم
، واختار ابن جرير أنه عام في كل والد وولده وهو محتمل أيضا.
وقوله تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي
كَبَدٍ) روي عن ابن مسعود وابن عباس وعكرمة ومجاهد وإبراهيم النخعي
وخيثمة والضحاك وغيرهم يعني منتصبا ، زاد ابن عباس في رواية عنه منتصبا في بطن أمه
، والكبد الاستواء والاستقامة ، ومعنى هذا القول لقد خلقناه سويا مستقيما كقوله
تعالى : (يا أَيُّهَا
الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ
فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) [الانفطار : ٦ ـ ٧]
وكقوله تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) [التين : ٤] وقال
ابن جريج وعطاء عن ابن عباس : في كبد قال في شدة خلق ألم تر إليه وذكر مولده ونبات
أسنانه ، وقال مجاهد (فِي كَبَدٍ) نطفة ثم علقة ثم مضغة يتكبد في الخلق ، قال مجاهد : وهو
كقوله تعالى : (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ
كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً) وأرضعته كرها ومعيشته كره فهو يكابد ذلك.
__________________
وقال سعيد بن جبير
(لَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) في شدة وطلب معيشة ، وقال عكرمة : في شدة وطول ، وقال
قتادة : في مشقة. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن عصام حدثنا أبو عاصم أخبرنا
عبد الحميد بن جعفر سمعت محمد بن علي أبا جعفر الباقر سأل رجلا من الأنصار عن قول
الله تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) قال : في قيامه واعتداله فلم ينكر عليه أبو جعفر ، وروي من
طريق أبي مودود سمعت الحسن قرأ هذه الآية (لَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) قال : يكابد أمرا من أمر الدنيا وأمرا من أمر الآخرة ، وفي
رواية : يكابد مضايق الدنيا وشدائد الآخرة ، وقال ابن زيد : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي
كَبَدٍ) قال : آدم خلق في السماء فسمي ذلك الكبد ، واختار ابن جرير
أن المراد بذلك مكابدة الأمور ومشاقها.
وقوله تعالى : (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ
أَحَدٌ) قال الحسن البصري : يعني (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ
يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ) يأخذ ماله. وقال قتادة (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ
يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ) قال : ابن آدم يظن أن لن يسأل عن هذا المال من أين اكتسبه
، وأين أنفقه ، وقال السدي (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ
يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ) قال الله عزوجل ، وقوله تعالى : (يَقُولُ أَهْلَكْتُ
مالاً لُبَداً) أي يقول ابن آدم أنفقت مالا لبدا أي كثيرا قاله مجاهد
والحسن وقتادة والسدي وغيرهم (أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ
يَرَهُ أَحَدٌ) قال مجاهد أي أيحسب أن لم يره الله عزوجل وكذا قال غيره من السلف : وقوله تعالى : (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ) أي يبصر بهما (وَلِساناً) أي ينطق به فيعبر عما في ضميره (وَشَفَتَيْنِ) يستعين بهما على الكلام وأكل الطعام وجمالا لوجهه وفمه.
وقد روى الحافظ
ابن عساكر في ترجمة أبي الربيع الدمشقي عن مكحول قال : قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «يقول الله تعالى يا ابن آدم قد أنعمت عليك نعما عظاما
لا تحصي عددها ولا تطيق شكرها ، وإن مما أنعمت عليك أن جعلت لك عينين تنظر بهما
وجعلت لهما غطاء ، فانظر بعينيك إلى ما أحللت لك ، وإن رأيت ما حرمت عليك فأطبق
عليهما غطاءهما ، وجعلت لك لسانا وجعلت له غلافا فانطق بما أمرتك وأحللت لك ، فإن
عرض عليك ما حرمت عليك فأغلق عليك لسانك. وجعلت لك فرجا وجعلت لك سترا ، فأصب
بفرجك ما أحللت لك ، فإن عرض عليك ما حرمت عليك فأرخ عليك سترك ، ابن آدم إنك لا
تحمل سخطي ولا تطيق انتقامي».
(وَهَدَيْناهُ
النَّجْدَيْنِ) الطريقين قال سفيان الثوري عن عاصم عن زر عن عبد الله هو
ابن مسعود (وَهَدَيْناهُ
النَّجْدَيْنِ) قال : الخير والشر ، وكذا روي عن علي وابن عباس ومجاهد
وعكرمة وأبي وائل وأبي صالح ومحمد بن كعب والضحاك وعطاء الخراساني في آخرين ، وقال
عبد الله بن وهب : أخبرني ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن سنان بن سعد عن أنس بن
مالك قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «هما نجدان فما جعل نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير»
تفرد به سنان بن سعد ، ويقال سعد بن سنان ، وقد وثقه ابن معين ، وقال الإمام أحمد
والنسائي
والجوزجاني منكر
الحديث ، وقال أحمد : تركت حديثه لاضطرابه ، وروى خمسة عشر حديثا منكرة كلها ما
أعرف منها حديثا واحدا يشبه حديثه حديث الحسن ـ يعني البصري ـ لا يشبه حديث أنس.
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب حدثنا ابن علية عن أبي رجاء قال : سمعت
الحسن يقول (وَهَدَيْناهُ
النَّجْدَيْنِ) قال : ذكر لنا أن نبي الله صلىاللهعليهوسلم كان يقول : «يا أيها الناس إنهما النجدان نجد الخير ونجد
الشر ، فما جعل نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير» وكذا رواه حبيب ابن الشهيد ومعمر
ويونس بن عبيد وأبو وهب عن الحسن مرسلا ، وهكذا أرسله قتادة وقال ابن أبي حاتم
حدثنا أحمد بن عصام الأنصاري حدثنا أبو أحمد الزبيري حدثنا عيسى بن عفان عن أبيه
عن ابن عباس في قوله تعالى : (وَهَدَيْناهُ
النَّجْدَيْنِ) قال الثديين ، وروي عن الربيع بن خثيم وقتادة وأبي حازم
مثل ذلك ، ورواه ابن جرير عن أبي كريب عن وكيع عن عيسى بن عفان به ثم قال : والصواب
القول الأول ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : (إِنَّا خَلَقْنَا
الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً
إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) [الإنسان : ٢ ـ ٣].
(فَلا اقْتَحَمَ
الْعَقَبَةَ (١١) وَما أَدْراكَ مَا
الْعَقَبَةُ (١٢) فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣) أَوْ إِطْعامٌ فِي
يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيماً ذا
مَقْرَبَةٍ (١٥) أَوْ مِسْكِيناً ذا
مَتْرَبَةٍ (١٦) ثُمَّ كانَ مِنَ
الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (١٧)
أُولئِكَ
أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (١٨) وَالَّذِينَ
كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (١٩)
عَلَيْهِمْ
نارٌ مُؤْصَدَةٌ)
(٢٠)
قال ابن جرير : حدثني عمر بن إسماعيل بن مجالد ، حدثنا عبد الله بن
إدريس عن أبيه عن أبي عطية عن ابن عمر في قوله تعالى : (فَلَا اقْتَحَمَ) أي دخل (الْعَقَبَةَ) قال : جبل في جهنم. وقال كعب الأحبار : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) هو سبعون درجة في جهنم وقال الحسن البصري : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) قال عقبة في جهنم ، وقال قتادة : إنها عقبة قحمة شديدة
فاقتحموها بطاعة الله تعالى. وقال قتادة : (وَما أَدْراكَ مَا
الْعَقَبَةُ) ثم أخبر تعالى عن اقتحامها فقال (فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ) وقال ابن زيد (فَلَا اقْتَحَمَ
الْعَقَبَةَ) أي أفلا سلك الطريق التي فيها النجاة والخير ثم بينها فقال
تعالى : (وَما أَدْراكَ مَا
الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ) قرئ فك رقبة بالإضافة ، وقرئ على أنه فعل وفيه ضمير الفاعل
والرقبة مفعوله ، وكلتا القراءتين معناهما متقارب.
قال الإمام أحمد : حدثنا علي بن إبراهيم ، حدثنا عبد الله يعني ابن سعيد بن
أبي هند عن إسماعيل بن أبي حكيم ، مولى آل الزبير عن سعيد بن مرجانة أنه سمع أبا
هريرة يقول : قال
__________________
رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل إرب ـ أي عضو ـ منها
إربا منه من النار حتى أنه ليعتق باليد اليد وبالرجل الرجل وبالفرج الفرج» .
فقال علي بن
الحسين : أنت سمعت هذا من أبي هريرة؟ فقال سعيد : نعم. فقال علي بن الحسين لغلام
له أفره غلمانه : ادع مطرفا ، فلما قام بين يديه قال : اذهب فأنت حر لوجه الله ،
وقد رواه البخاري ، ومسلم والترمذي والنسائي من طرق عن سعيد بن مرجانة به ، وعند
مسلم أن هذا الغلام الذي أعتقه علي بن الحسين زين العابدين كان قد أعطي فيه عشرة
آلاف درهم.
وقال قتادة عن
سالم بن أبي الجعد عن معدان بن أبي طلحة عن أبي نجيح قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : أيّما مسلم أعتق رجلا مسلما فإن الله جاعل وفاء كل
عظم من عظامه عظما من عظامه محررا من النار ، وأيما امرأة أعتقت امرأة مسلمة فإن
الله جاعل وفاء كل عظم من عظامها عظما من عظامها من النار» رواه ابن جرير هكذا وأبو نجيح هذا هو عمرو بن عبسة السلمي رضي الله عنه.
قال الإمام أحمد : حدثنا حيوة بن شريح ، حدثنا بقية حدثني بجير بن سعد عن
خالد بن معدان عن كثير بن مرة عن عمرو بن عبسة أنه حدثهم أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «من بنى مسجدا ليذكر الله فيه بنى الله له بيتا في
الجنة. ومن أعتق نفسا مسلمة كانت فديته من جهنم ، ومن شاب شيبة في الإسلام كانت له
نورا يوم القيامة».
[طريق أخرى] قال
أحمد : حدثنا الحكم بن نافع ، حدثنا حريز عن سليم بن عامر أن شرحبيل بن السمط قال
لعمرو بن عبسة : حدثنا حديثا ليس فيه تزيد ولا نسيان. قال عمرو : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «من أعتق رقبة مسلمة كانت فكاكه من النار عضوا بعضو
، ومن شاب شيبة في سبيل الله كانت له نورا يوم القيامة ، ومن رمى بسهم فبلغ فأصاب
أو أخطأ كان كمعتق رقبة من بني إسماعيل» وروى أبو داود والنسائي بعضه.
[طريق أخرى] قال
أحمد : حدثنا هاشم بن القاسم ، حدثنا الفرج ، حدثنا لقمان عن أبي أمامة عن عمرو بن
عبسة ، قال السلمي : قلت له : حدثنا حديثا سمعته من رسول اللهصلىاللهعليهوسلم ليس فيه انتقاص ولا وهم ، قال سمعته يقول : «من ولد له
ثلاثة أولاد في الإسلام فماتوا قبل أن يبلغوا الحنث أدخله الله الجنة بفضل رحمته
إياهم ، ومن شاب شيبة في سبيل الله كانت له نورا
__________________
يوم القيامة ، ومن
رمى بسهم في سبيل الله بلغ به العدو أصاب أو أخطأ كان له عتق رقبة ، ومن أعتق رقبة
مؤمنة أعتق الله بكل عضو منه عضوا منه من النار ، ومن أنفق زوجين في سبيل الله فإن
للجنة ثمانية أبواب يدخله الله من أي باب شاء منها» وهذه أسانيد جيدة قوية ، ولله
الحمد.
[حديث آخر] قال
أبو داود : حدثنا عيسى بن محمد الرملي ، حدثنا ضمرة عن ابن أبي عبلة
عن الغريف بن عياش الديلمي ، قال : أتينا واثلة بن الأسقع فقلنا له : حدثنا حديثا
ليس فيه زيادة ولا نقصان ، فغضب وقال : إن أحدكم ليقرأ ومصحفه معلق في بيته فيزيد
وينقص ، قلنا : إنما أردنا حديثا سمعته من رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، قال : أتينا رسول الله صلىاللهعليهوسلم في صاحب لنا قد أوجب يعني النار بالقتل فقال : «أعتقوا عنه
يعتق الله بكل عضو منه عضوا من النار» ، وكذا رواه النسائي من حديث إبراهيم بن أبي
عبلة ، عن الغريف بن عياش الديلمي ، عن واثلة به.
[حديث آخر] قال
أحمد : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا هشام عن قتادة عن قيس الجذامي عن عقبة بن عامر
الجهني أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «من أعتق رقبة مسلمة فهو فداؤه من النار» ، وحدثنا
عبد الوهاب الخفاف عن سعيد عن قتادة ، قال : ذكر لنا أن قيسا الجذامي حدث عن عقبة
بن عامر أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «من أعتق رقبة مؤمنة فهي فكاكه من النار» تفرد به
أحمد من هذا الوجه.
[حديث آخر] قال
الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن آدم وأبو أحمد قالا : حدثنا عيسى بن عبد
الرّحمن البجلي من بني بجيلة من بني سليم عن طلحة بن مصرف عن عبد الرّحمن بن عوسجة
عن البراء بن عازب قال : جاء أعرابي إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : يا رسول الله علمني عملا يدخلني الجنة ، فقال : «لئن
كنت أقصرت الخطبة لقد أعرضت المسألة ، أعتق النسمة وفك الرقبة» فقال : يا رسول
الله أو ليستا بواحدة ، قال : «لا إن عتق النسمة أن تنفرد بعتقها ، وفك الرقبة أن
تعين في عتقها ، والمنحة الوكوف ، والفيء على ذي الرحم الظالم فإن لم تطق ذلك فأطعم الجائع
، واسق الظمآن ، وأمر بالمعروف وانه عن المنكر ، فإن لم تطق ذلك فكف لسانك إلا من
الخير».
وقوله تعالى : (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي
مَسْغَبَةٍ) قال ابن عباس : ذي مجاعة ، وكذا قال عكرمة ومجاهد والضحاك
وقتادة وغير واحد ، والسغب هو الجوع ، وقال إبراهيم النخعي : في يوم
__________________
الطعام فيه عزيز ،
وقال قتادة : في يوم مشتهى فيه الطعام .
وقوله تعالى : (يَتِيماً) أي أطعم في مثل هذا اليوم يتيما (ذا مَقْرَبَةٍ) أي ذا قرابة منه ، قاله ابن عباس وعكرمة والحسن والضحاك
والسدي ، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، أخبرنا هشام عن حفصة بنت سيرين عن
سلمان بن عامر قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم اثنتان :
صدقة وصلة» وقد رواه الترمذي والنسائي وهذا إسناد صحيح.
وقوله تعالى : (أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ) أي فقيرا مدقعا لاصقا بالتراب ، وهو الدقعاء أيضا. قال ابن
عباس : (ذا مَتْرَبَةٍ) هو المطروح في الطريق الذي لا بيت له ولا شيء يقيه من
التراب ، وفي رواية هو الذي لصق بالدقعاء من الفقر والحاجة ليس له شيء ، وفي رواية
عنه : هو البعيد التربة ، قال ابن أبي حاتم : يعني الغريب عن وطنه ، وقال عكرمة :
هو الفقير المديون المحتاج ، وقال سعيد بن جبير ، هو الذي لا أحد له ، وقال ابن
عباس وسعيد وقتادة ومقاتل بن حيان : هو ذو العيال ، وكل هذه قريبة المعنى.
وقوله تعالى : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) أي ثم مع هذه الأوصاف الجميلة الطاهرة مؤمن بقلبه محتسب
ثواب ذلك عند الله عزوجل كما قال تعالى : (وَمَنْ أَرادَ
الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ
مَشْكُوراً) [الإسراء : ١٩]
وقال تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً
مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ) [النحل : ٩٧]
الآية.
وقوله تعالى : (وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا
بِالْمَرْحَمَةِ) أي كان من المؤمنين العاملين صالحا «المتواصين بالصبر على
أذى الناس وعلى الرحمة بهم كما جاء في الحديث الشريف الراحمون يرحمهم الرّحمن ،
ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء» وفي الحديث الآخر «لا يرحم الله من لا يرحم الناس» . وقال أبو داود : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا سفيان
عن ابن أبي نجيح عن ابن عامر عن عبد الله بن عمرو يرويه قال : «من لم يرحم صغيرنا
ويعرف حق كبيرنا فليس منا» .
وقوله تعالى (أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) أي المتصفون بهذه الصفات من أصحاب اليمين.
__________________
ثم قال (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ
أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ) أي أصحاب الشمال (عَلَيْهِمْ نارٌ
مُؤْصَدَةٌ) أي مطبقة عليهم فلا محيد لهم عنها ولا خروج لهم منها! قال
أبو هريرة وابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد ومحمد بن كعب القرظي وعطية
العوفي والحسن وقتادة والسدي (مُؤْصَدَةٌ) أي مطبقة قال ابن عباس : مغلقة الأبواب ، وقال مجاهد : أصد
الباب بلغة قريش أي أغلقه وسيأتي في ذلك حديث في سورة (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) [الهمزة : ١].
وقال الضحاك (مُؤْصَدَةٌ) حيط لا باب له ، وقال قتادة (مُؤْصَدَةٌ) مطبقة فلا ضوء فيها ولا فرج ولا خروج منها آخر الأبد ،
وقال أبو عمران الجوني إذا كان يوم القيامة أمر الله بكل جبار وكل شيطان وكل من
كان يخاف الناس في الدنيا شره ، فأوثقوا بالحديد ثم أمر بهم إلى جهنم ثم أوصدوها
عليهم أي أطبقوها ، قال : فلا والله لا تستقر أقدامهم على قرار أبدا ، ولا والله
لا ينظرون فيها إلى أديم سماء أبدا ، ولا والله لا تلتقي جفون أعينهم على غمض نوم
أبدا ، ولا والله لا يذوقون فيها بارد شراب أبدا ، رواه ابن أبي حاتم.
آخر تفسير سورة
البلد ، ولله الحمد والمنة.
تفسير سورة الشمس
وهي مكية
تقدم حديث جابر
الذي في الصحيحين أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال لمعاذ : «هلا صليت بسبح اسم ربك الأعلى والشمس وضحاها
والليل إذا يغشى؟» .
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(وَالشَّمْسِ وَضُحاها
(١) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (٢)
وَالنَّهارِ
إِذا جَلاَّها (٣) وَاللَّيْلِ إِذا
يَغْشاها (٤) وَالسَّماءِ وَما بَناها (٥)
وَالْأَرْضِ
وَما طَحاها (٦) وَنَفْسٍ وَما
سَوَّاها (٧) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (٨) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ
زَكَّاها (٩) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها)
(١٠)
قال مجاهد (وَالشَّمْسِ وَضُحاها) أي وضوئها. وقال قتادة (وَضُحاها) النهار كله. قال ابن جرير : والصواب أن يقال : أقسم الله بالشمس ونهارها لأن ضوء الشمس
الظاهر هو النهار (وَالْقَمَرِ إِذا
تَلاها) قال مجاهد : تبعها ، وقال العوفي عن ابن عباس (وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها) قال : يتلو النهار ، وقال قتادة : (إِذا تَلاها) ليلة الهلال إذا سقطت الشمس رؤي الهلال ، وقال ابن
__________________
زيد ، هو يتلوها
في النصف الأول من الشهر ثم هي تتلوه وهو يتقدمها في النصف الأخير من الشهر ، وقال
مالك عن زيد بن أسلم : إذا تلاها ليلة القدر. وقوله تعالى : (وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها) قال مجاهد : أضاء. وقال قتادة (وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها) إذا غشيها النهار ، وقال ابن جرير : وكان بعض أهل العربية
يتأول ذلك بمعنى والنهار إذا جلا الظلمة لدلالة الكلام عليها.
(قلت) ولو أن هذا
القائل تأول ذلك بمعنى (وَالنَّهارِ إِذا
جَلَّاها) أي البسيطة لكان أولى ولصح تأويله في قوله تعالى : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها) فكان أجود وأقوى ، والله أعلم. ولهذا قال مجاهد (وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها) إنه كقوله تعالى : (وَالنَّهارِ إِذا
تَجَلَّى) وأما ابن جرير فاختار عود الضمير في ذلك كله على الشمس
لجريان ذكرها ، وقالوا في قوله تعالى : (وَاللَّيْلِ إِذا
يَغْشاها) يعني إذا يغشى الشمس حين تغيب فتظلم الآفاق.
وقال بقية بن
الوليد عن صفوان : حدثني يزيد بن ذي حمامة قال : إذا جاء الليل قال الرب جل جلاله
غشى عبادي خلقي العظيم فالليل يهابه والذي خلقه أحق أن يهاب. رواه ابن أبي حاتم ،
وقوله تعالى : (وَالسَّماءِ وَما
بَناها) يحتمل أن تكون ما هاهنا مصدرية بمعنى والسماء وبنائها ،
وهو قول قتادة : ويحتمل أن تكون بمعنى من يعني والسماء وبانيها ، وهو قول مجاهد ،
وكلاهما متلازم والبناء هو الرفع كقوله تعالى : (وَالسَّماءَ
بَنَيْناها بِأَيْدٍ) ـ أي بقوة ـ (وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ
وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) [الذاريات : ٤٧ ـ ٤٨]
وهكذا قوله تعالى : (وَالْأَرْضِ وَما
طَحاها) قال مجاهد : (طَحاها) دحاها ، وقال العوفي عن ابن عباس (وَما طَحاها) أي خلق فيها. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : (طَحاها) قسمها. وقال مجاهد وقتادة والضحاك والسدي والثوري وأبو
صالح وابن زيد (طَحاها) بسطها ، وهذا أشهر الأقوال وعليه الأكثر من المفسرين ، وهو
المعروف عند أهل اللغة ، قال الجوهري : طحوته مثل دحوته أي بسطته.
وقوله تعالى : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها) أي خلقها سوية مستقيمة على الفطرة القويمة كما قال تعالى :
(فَأَقِمْ وَجْهَكَ
لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ
لِخَلْقِ اللهِ) [الروم : ٣٠] وقال
رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو
يمجسانه ، كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟» أخرجاه من رواية أبي هريرة ، وفي صحيح مسلم من رواية عياض
بن حمار المجاشعي عن رسول اللهصلىاللهعليهوسلم قال : «يقول الله عزوجل : إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن
دينهم» .
__________________
وقوله تعالى : (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) أي فأرشدها إلى فجورها وتقواها أي بين ذلك لها وهداها إلى
ما قدر لها. قال ابن عباس (فَأَلْهَمَها
فُجُورَها وَتَقْواها) بين لها الخير والشر ، وكذا قال مجاهد وقتادة والضحاك
والثوري ، وقال سعيد بن جبير : ألهمها الخير والشر ، وقال ابن زيد : جعل فيها
فجورها وتقواها.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن بشار ، حدثنا صفوان بن عيسى وأبو عاصم النبيل
قالا : حدثنا عزرة بن ثابت ، حدثني يحيى بن عقيل عن يحيى بن يعمر عن أبي الأسود
الديلي قال : قال لي عمران بن حصين : أرأيت ما يعمل الناس فيه ويتكادحون فيه أشيء
قضي عليهم ومضى عليهم من قدر قد سبق أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم صلىاللهعليهوسلم وأكدت عليهم الحجة؟
قلت : بل شيء قضي
عليهم ، قال : فهل يكون ذلك ظلما؟ قال : ففزعت منه فزعا شديدا قال : قلت له ليس
شيء إلا وهو خلقه وملك يده لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ، قال: سددك الله إنما
سألتك لأخبر عقلك ، إن رجلا من مزينة أو جهينة أتى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال: يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس فيه ويتكادحون ، أشيء
قضي عليهم ومضى عليهم من قدر قد سبق أم شيء مما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم صلىاللهعليهوسلم وأكدت به عليهم الحجة؟ قال : «بل شيء قد قضي عليهم» قال :
ففيم نعمل؟ قال : «من كان الله خلقه لإحدى المنزلتين يهيئه لها وتصديق ذلك في كتاب
الله تعالى : (وَنَفْسٍ وَما
سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) رواه أحمد ومسلم من حديث عزرة بن ثابت به.
وقوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ
خابَ مَنْ دَسَّاها) يحتمل أن يكون المعنى قد أفلح من زكى نفسه أي بطاعة الله
كما قال قتادة : وطهرها من الأخلاق الدنيئة والرذائل ، ويروى نحوه عن مجاهد وعكرمة
وسعيد بن جبير وكقوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ
تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) [الأعلى : ١٤ ـ ١٥]
(وَقَدْ خابَ مَنْ
دَسَّاها) أي دسسها أي أخملها ووضع منها بخذلانه إياها عن الهدى حتى
ركب المعاصي وترك طاعة الله عزوجل ، وقد يحتمل أن يكون المعنى قد أفلح من زكى الله نفسه ،
وقد خاب من دسى الله نفسه كما قال العوفي وعلي بن أبي طلحة عن ابن عباس.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبي وأبو زرعة قالا : حدثنا سهل بن عثمان ، حدثنا أبو مالك يعني عمرو بن
هشام عن جويبر ، عن الضحاك عن ابن عباس قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول في قول الله عزوجل : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ
زَكَّاها) قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «أفلحت نفس زكاها الله عزوجل» ورواه ابن أبي حاتم من حديث مالك به ، وجويبر هذا هو ابن
سعيد متروك الحديث ، والضحاك
__________________
لم يلق ابن عباس ،
وقال الطبراني ، حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح ، حدثنا أبي ، حدثنا ابن لهيعة عن
عمرو بن دينار عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم إذا مر بهذه الآية (وَنَفْسٍ وَما
سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) وقف ثم قال : «اللهم آت نفسي تقواها ، أنت وليها ومولاها ،
وخير من زكاها».
[حديث آخر] قال
ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة حدثنا يعقوب بن حميد المدني ، حدثنا عبد الله بن
عبد الله الأموي ، حدثنا معن بن محمد الغفاري عن حنظلة بن علي الأسلمي عن أبي
هريرة قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقرأ (فَأَلْهَمَها
فُجُورَها وَتَقْواها) قال «اللهم آت نفسي تقواها ، وزكها أنت خير من زكاها ، أنت
وليها ومولاها» لم يخرجوه من هذا الوجه ، وقال الإمام أحمد : حدثنا وكيع عن نافع عن ابن عمر عن صالح بن سعيد عن عائشة
أنها فقدت النبي صلىاللهعليهوسلم من مضجعه فلمسته بيدها فوقعت عليه وهو ساجد وهو يقول «رب
أعط نفسي تقواها ، وزكها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها» تفرد به.
[حديث آخر] قال
الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا عبد الواحد بن زياد ، حدثنا عاصم
الأحول عن عبد الله بن الحارث عن زيد بن أرقم ، قال : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل ، والهرم
والجبن والبخل وعذاب القبر. اللهم آت نفسي تقواها ، وزكها أنت خير من زكاها ، أنت
وليها ومولاها. اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع ، ومن نفس لا تشبع. وعلم لا ينفع
ودعوة لا يستجاب لها» قال زيد : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يعلمناهن ونحن نعلمكموهن ، رواه مسلم من حديث أبي معاوية عن عاصم الأحول ، عن عبد
الله بن الحارث وأبي عثمان النهدي عن زيد بن أرقم به.
(كَذَّبَتْ ثَمُودُ
بِطَغْواها (١١) إِذِ انْبَعَثَ
أَشْقاها (١٢) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ناقَةَ
اللهِ وَسُقْياها (١٣) فَكَذَّبُوهُ
فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (١٤) وَلا يَخافُ
عُقْباها)(١٥)
يخبر تعالى عن
ثمود أنهم كذبوا رسولهم بسبب ما كانوا عليه من الطغيان والبغي ، وقال محمد بن كعب
: (بِطَغْواها) أي بأجمعها ، والأول أولى ، قاله مجاهد وقتادة وغيرهما ،
فأعقبهم ذلك تكذيبا في قلوبهم بما جاءهم به رسولهم عليه الصلاة والسّلام من الهدى
واليقين (إِذِ انْبَعَثَ
أَشْقاها) أي أشقى القبيلة وهو قدار بن سالف عاقر الناقة ، وهو أحيمر
ثمود ، وهو الذي قال الله تعالى : (فَنادَوْا صاحِبَهُمْ
فَتَعاطى فَعَقَرَ) [القمر : ٢٩]
الآية. وكان هذا الرجل عزيزا
__________________
فيهم شريفا في
قومه نسيبا رئيسا مطاعا ، كما قال الإمام أحمد : حدثنا ابن نمير ، حدثنا هشام عن أبيه عن عبد الله بن
زمعة قال : خطب رسول الله صلىاللهعليهوسلم فذكر الناقة وذكر الذي عقرها فقال : (إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها) انبعث لها رجل عارم عزيز منيع في رهطه مثل أبي زمعة» ورواه البخاري في التفسير ومسلم في صفة النار والترمذي
والنسائي في التفسير من سننيهما ، وكذا ابن جرير وابن أبي حاتم عن هشام بن عروة به.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبو زرعة ، حدثنا إبراهيم بن موسى ، حدثنا عيسى بن يونس ، حدثنا محمد بن
إسحاق ، حدثني يزيد بن محمد بن خثيم عن محمد بن كعب القرظي عن محمد بن خثيم أبي
يزيد ، عن عمار بن ياسر قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم لعلي : «ألا أحدثك بأشقى الناس؟» قال : بلى. قال : «رجلان
أحيمر ثمود الذي عقر الناقة والذي يضربك يا علي على هذا ـ يعني قرنه ـ حتى تبتل
منه هذه» يعني لحيته.
وقوله تعالى : (فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ) يعني صالحا عليهالسلام (ناقَةَ اللهِ) أي احذروا ناقة الله أن تمسوها بسوء (وَسُقْياها) أي لا تعتدوا عليها في سقياها فإن لها شرب يوم ولكم شرب
يوم معلوم ، قال الله تعالى : (فَكَذَّبُوهُ
فَعَقَرُوها) أي كذبوه فيما جاءهم به فأعقبهم ذلك أن عقروا الناقة التي
أخرجها الله من الصخرة آية لهم وحجة عليهم (فَدَمْدَمَ
عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ) أي غضب عليهم فدمر عليهم (فَسَوَّاها) أي فجعل العقوبة نازلة عليهم على السواء.
قال قتادة : بلغنا
أن أحيمر ثمود لم يعقر الناقة حتى بايعه صغيرهم وكبيرهم وأنثاهم وذكرهم ، فلما
اشترك القوم في عقرها دمدم الله عليهم بذنبهم فسواها. وقوله تعالى : (وَلا يَخافُ) وقرئ فلا يخاف (عُقْباها) قال ابن عباس : لا يخاف الله من أحد تبعة ، وكذا قال مجاهد
والحسن وبكر بن عبد الله المزني وغيرهم ، وقال الضحاك والسدي : (وَلا يَخافُ عُقْباها) أي لم يخف الذي عقرها عاقبة ما صنع ، والقول الأول أولى
لدلالة لسياق عليه والله أعلم. آخر تفسير سورة والشمس وضحاها ، ولله الحمد والمنة.
تفسير سورة الليل
وهي مكية
تقدم قوله عليه
الصلاة والسّلام لمعاذ : «فهلا صليت ب (سَبِّحِ اسْمَ
رَبِّكَ الْأَعْلَى) [الأعلى :
__________________
١] ، (وَالشَّمْسِ وَضُحاها) ، (وَاللَّيْلِ إِذا
يَغْشى) [الليل : ١].
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى
(١) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (٢)
وَما
خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣) إِنَّ سَعْيَكُمْ
لَشَتَّى (٤) فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (٥)
وَصَدَّقَ
بِالْحُسْنى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ
لِلْيُسْرى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ
وَاسْتَغْنى (٨) وَكَذَّبَ
بِالْحُسْنى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ
لِلْعُسْرى (١٠) وَما يُغْنِي عَنْهُ
مالُهُ إِذا تَرَدَّى)
(١١)
قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا شعبة عن المغيرة عن إبراهيم
، عن علقمة أنه قدم الشام ، فدخل مسجد دمشق فصلى فيه ركعتين وقال : اللهم ارزقني
جليسا صالحا قال فجلس إلى أبي الدرداء فقال له أبو الدرداء : ممن أنت؟ قال : من
أهل الكوفة ، قال : كيف سمعت ابن أم عبد يقرأ (وَاللَّيْلِ إِذا
يَغْشى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى) قال علقمة : والذكر والأنثى فقال أبو الدرداء : لقد سمعتها
من رسول الله صلىاللهعليهوسلم فما زال هؤلاء حتى شككوني ثم قال ألم يكن فيكم صاحب الوساد
وصاحب السر الذي لا يعلمه أحد غيره ، والذي أجير من الشيطان على لسان محمد صلىاللهعليهوسلم ، وقد رواه البخاري هاهنا ومسلم من طريق الأعمش عن إبراهيم قال قدم أصحاب عبد
الله على أبي الدرداء فطلبهم فوجدهم فقال : أيكم يقرأ عليّ قراءة عبد الله؟ قالوا
كلنا ، قال : أيكم أحفظ؟ فأشاروا إلى علقمة فقال : كيف سمعته يقرأ (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) ـ قال ـ والذكر والأنثى قال : أشهد أني سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقرأ هكذا ، وهؤلاء يريدون أن أقرأ (وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) والله لا أتابعهم ، هذا لفظ البخاري. وهكذا قرأ ذلك ابن
مسعود وأبو الدرداء ورفعه أبو الدرداء ، وأما الجمهور فقرؤوا ذلك كما هو المثبت في
المصحف الإمام العثماني في سائر الآفاق (وَما خَلَقَ
الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) فأقسم تعالى ب (اللَّيْلِ إِذا يَغْشى) أي إذا غشى الخليقة بظلامه (وَالنَّهارِ إِذا
تَجَلَّى) أي بضيائه وإشراقه.
(وَما خَلَقَ
الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) كقوله تعالى : (وَخَلَقْناكُمْ
أَزْواجاً) [النبأ : ٨]
وكقوله: (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ
خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) [الذاريات : ٤٩]
ولما كان القسم بهذه الأشياء المتضادة كان المقسم عليه أيضا متضادا ، ولهذا قال
تعالى : (إِنَّ سَعْيَكُمْ
لَشَتَّى) أي أعمال العباد التي اكتسبوها متضادة أيضا ومتخالفة فمن
فاعل خيرا ومن فاعل شرا. قال الله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى
وَاتَّقى) أي أعطى ما أمر بإخراجه واتقى الله في أموره (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى) أي بالمجازاة على ذلك قاله قتادة ، وقال خصيف بالثواب.
وقال ابن عباس
ومجاهد وعكرمة وأبو صالح وزيد بن أسلم (وَصَدَّقَ
بِالْحُسْنى) أي
__________________
بالخلف. وقال أبو
عبد الرّحمن السلمي والضحاك (وَصَدَّقَ
بِالْحُسْنى) أي بلا إله إلا الله وفي رواية عن عكرمة (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى) أي بما أنعم الله عليه ، وفي رواية عن زيد بن أسلم (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى) قال : الصلاة والزكاة والصوم وقال مرة وصدقة الفطر. وقال
ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا صفوان بن صالح الدمشقي ، حدثنا الوليد بن
مسلم ، حدثنا زهير بن محمد ، حدثني من سمع أبا العالية الرياحي يحدث عن أبي بن كعب
قال : سألت رسول اللهصلىاللهعليهوسلم عن الحسنى قال : «الحسنى : الجنة».
وقوله تعالى : (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) قال ابن عباس : يعني للخير ، وقال زيد بن أسلم : يعني
للجنة ، وقال بعض السلف : من ثواب الحسنة الحسنة بعدها ، ومن جزاء السيئة السيئة
بعدها ، ولهذا قال تعالى : (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ) أي بما عنده (وَاسْتَغْنى) قال عكرمة عن ابن عباس : أي بخل بماله واستغنى عن ربه عزوجل. رواه ابن أبي حاتم (وَكَذَّبَ
بِالْحُسْنى) أي بالجزاء في الدار الآخرة (فَسَنُيَسِّرُهُ
لِلْعُسْرى) أي لطريق الشر كما قال تعالى : (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ
وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي
طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [الأنعام : ١١٠]
والآيات في هذا المعنى كثيرة دالة على أن الله عزوجل يجازي من قصد الخير بالتوفيق له ، ومن قصد الشر بالخذلان ،
وكل ذلك بقدر مقدر والأحاديث الدالة على هذا المعنى كثيرة.
[رواية أبي بكر
الصديق رضي الله عنه] قال الإمام أحمد : حدثنا علي بن
عياش ، حدثني العطاف بن خالد ، حدثني رجل من أهل البصرة عن طلحة بن عبد الله بن
عبد الرّحمن بن أبي بكر الصديق عن أبيه قال : سمعت أبي يذكر أن أباه سمع أبا بكر
وهو يقول : قلت لرسول اللهصلىاللهعليهوسلم : يا رسول الله أنعمل على ما فرغ منه أو على أمر مؤتنف؟
قال «بل على أمر قد فرغ منه» قال : ففيم العمل يا رسول الله؟ قال : «كل ميسر لما
خلق له».
[رواية علي رضي
الله عنه] قال البخاري : حدثنا أبو نعيم ، حدثنا سفيان عن الأعمش عن سعد بن عبيدة
عن أبي عبد الرّحمن السلمي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : كنا مع رسول
الله صلىاللهعليهوسلم في بقيع الغرقد في جنازة فقال : «ما منكم من أحد إلا وقد
كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار» فقالوا : يا رسول الله أفلا نتكل؟ فقال : «اعملوا
فكل ميسر لما خلق له» قال : ثم قرأ (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى
وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) إلى قوله (لِلْعُسْرى).
وكذا رواه من طريق
شعبة ووكيع عن الأعمش بنحوه. ثم رواه عن عثمان بن أبي شيبة عن جرير عن منصور عن
سعيد بن عبيدة عن أبي عبد الرّحمن عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : كنا في
جنازة في بقيع الغرقد فأتى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فقعد وقعدنا حوله ومعه
__________________
مخصرة فنكس ، فجعل ينكت بمخصرته ثم قال : «ما منكم من أحد ـ أو
ما من نفس منفوسة ـ إلا كتب مكانها من الجنة والنار وإلا قد كتبت شقية أو
سعيدة» فقال رجل : يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ فمن كان منا من
أهل السعادة فسيصير إلى أهل السعادة ، ومن كان منا من أهل الشقاء فسيصير إلى أهل
الشقاء؟ فقال : «أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة ، وأما أهل الشقاء
فيسيرون إلى عمل أهل الشقاء ، ثم قرأ (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى
وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ
وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) وقد أخرجه بقية الجماعة من طرق عن سعيد بن عبيدة به.
[رواية عبد الله
بن عمر] قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرّحمن ، حدثنا شعبة عن عاصم بن عبيد الله
قال سمعت سالم بن عبد الله يحدث عن ابن عمر قال : قال عمر : يا رسول الله أرأيت ما
نعمل فيه أفي أمر قد فرغ أو مبتدأ أو مبتدع؟ قال : «فيما قد فرغ منه ، فاعمل يا ابن
الخطاب ، فإن كلا ميسر ، أما من كان من أهل السعادة فإنه يعمل للسعادة وأما من كان
من أهل الشقاء فإنه يعمل للشقاء ، ورواه الترمذي في القدر عن بندار عن ابن مهدي به ، وقال
: حسن صحيح.
[حديث آخر من
رواية جابر] قال ابن جرير : حدثني يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني عمرو بن الحارث عن
أبي الزبير عن جابر بن عبد الله أنه قال : يا رسول الله أنعمل لأمر قد فرغ منه أو
لأمر نستأنفه؟ فقال : «لأمر قد فرغ منه» فقال سراقة : ففيم العمل إذا؟ فقال رسول
الله صلىاللهعليهوسلم : كل عامل ميسر لعمله» ورواه مسلم عن أبي الطاهر عن ابن وهب به.
[حديث آخر] قال
ابن جرير : حدثني يونس ، حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن طلق بن
حبيب عن بشير بن كعب العدوي قال : سأل غلامان شابان النبي صلىاللهعليهوسلم فقالا : يا رسول الله أنعمل فيما جفت به الأقلام وجرت به
المقادير أو في شيء يستأنف؟ فقال : «بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير»
قالا : ففيم العمل إذا؟ قال : «اعملوا فكل عامل ميسر
__________________
لعمله الذي خلق له»
قالا : فالآن نجد ونعمل.
[رواية أبي
الدرداء] قال الإمام أحمد : حدثنا هشيم بن خارجة ، حدثنا أبو الربيع سليمان بن عتبة
السلمي عن يونس بن ميسرة بن حلبس عن أبي إدريس عن أبي الدرداء قال : قالوا يا رسول
الله أرأيت ما نعمل أمر قد فرغ منه أم شيء نستأنفه؟ قال «بل أمر قد فرغ منه» فقالوا
: فكيف بالعمل يا رسول الله؟ قال : «كل امرئ مهيأ لما خلق له» تفرد به أحمد من هذا
الوجه.
[حديث آخر] قال
ابن جرير : حدثني الحسن بن سلمة بن أبي كبشة ، حدثنا عبد الملك بن
عمرو ، حدثنا عباد بن راشد عن قتادة ، حدثني خليد العصري عن أبي الدرداء قال : قال
رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ما من يوم غربت فيه شمسه إلا وبجنبتيها ملكان يناديان
يسمعهما خلق الله كلهم إلا الثقلين : اللهم أعط منفقا خلفا وأعط ممسكا تلفا» وأنزل
الله في ذلك القرآن (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى
وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ
وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن ابن أبي كبشة بإسناده مثله.
[حديث آخر] قال
ابن أبي حاتم : حدثنا أبو عبد الله الطهراني ، حدثنا حفص بن عمر العدني ، حدثني
الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس أن رجلا كان له نخيل ، ومنها نخلة فرعها في
دار رجل صالح فقير ذي عيال ، فإذا جاء الرجل فدخل داره فيأخذ التمرة من نخلته
فتسقط التمرة ، فيأخذها صبيان الرجل الفقير ، فينزل من نخلته فينزع التمرة من
أيديهم ، وإن أدخل أحدهم التمرة في فمه أدخل إصبعه في حلق الغلام ونزع التمرة من
حلقه ، فشكا ذلك الرجل إلى النبي صلىاللهعليهوسلم وأخبره بما هو فيه من صاحب النخلة فقال له النبي صلىاللهعليهوسلم : «اذهب» ولقي النبي صلىاللهعليهوسلم صاحب النخلة فقال له : «أعطني نخلتك التي فرعها في دار
فلان ولك بها نخلة في الجنة» فقال له : لقد أعطيت ولكن يعجبني ثمرها وإن لي لنخلا
كثيرا ما فيها نخلة أعجب إلي ثمرة من ثمرها ، فذهب النبي صلىاللهعليهوسلم فتبعه رجل كان يسمع الكلام من رسول الله صلىاللهعليهوسلم ومن صاحب النخلة فقال الرجل : يا رسول الله إن أنا أخذت
النخلة فصارت لي النخلة فأعطيتك إياها أتعطيني ما أعطيته بها نخلة في الجنة؟ قال :
«نعم».
ثم إن الرجل لقي
صاحب النخلة ولكلاهما نخل ، فقال له : أخبرك أن محمدا أعطاني بنخلتي المائلة في
دار فلان نخلة في الجنة ، فقلت له قد أعطيت ولكن يعجبني ثمرها ، فسكت عنه الرجل
فقال له : أراك إذا بعتها ، قال لا إلا أن أعطى بها شيئا ولا أظنني أعطاه ، قال : وما
مناك؟ قال : أربعون نخلة ، فقال الرجل : لقد جئت بأمر عظيم ، نخلتك تطلب بها
أربعين
__________________
نخلة؟ ثم سكتا
وأنشآ في كلام آخر ، ثم قال : أنا أعطيتك أربعين نخلة ، فقال : أشهد لي إن كنت
صادقا ، فأمر بأناس فدعاهم فقال : اشهدوا إني قد أعطيته من نخلي أربعين نخلة
بنخلته التي فرعها في دار فلان بن فلان.
ثم قال : ما تقول؟
فقال صاحب النخلة : قد رضيت ، ثم قال بعد ليس بيني وبينك بيع لم نفترق ، فقال له :
قد أقالك الله ولست بأحمق حين أعطيتك أربعين نخلة بنخلتك المائلة ، فقال صاحب
النخلة : قد رضيت على أن تعطيني الأربعين على ما أريد ، قال : تعطينيها على ساق ،
ثم مكث ساعة ثم قال : هي لك على ساق ، وأوقف له شهودا وعد له أربعين نخلة على ساق
، فتفرقا ، فذهب الرجل إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : يا رسول الله إن النخلة المائلة في دار فلان قد
صارت لي فهي لك ، فذهب رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى الرجل صاحب الدار فقال له «النخلة لك ولعيالك» قال
عكرمة : قال ابن عباس فأنزل الله عزوجل : (وَاللَّيْلِ إِذا
يَغْشى) ـ إلى قوله ـ (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى
وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ
وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) إلى آخر السورة ، هكذا رواه ابن أبي حاتم وهو حديث غريب
جدا.
قال ابن جرير : وذكر أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه
: حدثنا هارون بن إدريس الأصم ، حدثنا عبد الرّحمن بن محمد المحاربي ، حدثنا محمد
بن إسحاق عن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرّحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله
عنه ، عن عامر بن عبد الله بن الزبير قال : كان أبو بكر رضي الله عنه يعتق على
الإسلام بمكة ، فكان يعتق عجائز ونساء إذا أسلمن ، فقال له أبوه : أي بني أراك
تعتق أناسا ضعفاء فلو أنك تعتق رجالا جلداء يقومون معك ويمنعونك ويدفعون عنك ،
فقال : أي أبت إنما أريد ـ أظنه قال ـ ما عند الله ، قال : فحدثني بعض أهل بيتي أن
هذه الآية أنزلت فيه (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى
وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى).
وقوله تعالى : (وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا
تَرَدَّى) قال مجاهد : أي إذا مات وقال أبو صالح ومالك عن زيد بن
أسلم : إذا تردى في النار.
(إِنَّ عَلَيْنا
لَلْهُدى (١٢) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (١٣)
فَأَنْذَرْتُكُمْ
ناراً تَلَظَّى (١٤) لا يَصْلاها إِلاَّ
الْأَشْقَى (١٥) الَّذِي كَذَّبَ
وَتَوَلَّى (١٦) وَسَيُجَنَّبُهَا
الْأَتْقَى (١٧) الَّذِي يُؤْتِي
مالَهُ يَتَزَكَّى (١٨) وَما لِأَحَدٍ
عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (١٩) إِلاَّ ابْتِغاءَ
وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (٢٠) وَلَسَوْفَ يَرْضى)
(٢١)
قال قتادة : (إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى) أي نبين الحلال والحرام ، وقال غيره : من سلك طريق الهدى
وصل إلى الله وجعله كقوله تعالى : (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ
السَّبِيلِ) حكاه ابن جرير ، وقوله
__________________
تعالى : (وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى) أي الجميع ملكنا وأنا المتصرف فيهما وقوله تعالى : (فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى) قال مجاهد : أي توهج.
قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة عن سماك بن حرب ، سمعت
النعمان بن بشير يخطب يقول : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يخطب يقول : «أنذرتكم النار» حتى لو أن رجلا كان بالسوق
لسمعه من مقامي هذا ، قال : حتى وقعت خميصة كانت على عاتقه عند رجليه.
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثني شعبة ، حدثني أبو إسحاق ،
سمعت النعمان بن بشير يخطب ويقول : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «إن أهون أهل النار عذابا يوم. القيامة رجل توضع في
أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه». رواه البخاري .
وقال مسلم : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا أبو أسامة عن الأعمش
عن أبي إسحاق عن النعمان بن بشير قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن أهون أهل النار عذابا من له نعلان وشراكان من نار
يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل ، ما يرى أن أحدا أشد منه عذابا وإنه لأهونهم
عذابا».
وقوله تعالى : (لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى) أي لا يدخلها دخولا يحيط به من جميع جوانبه إلا الأشقى ثم
فسره فقال : (الَّذِي كَذَّبَ) أي بقلبه (وَتَوَلَّى) أي عن العمل بجوارحه وأركانه.
قال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا عبد ربه بن
سعيد عن المقبري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لا يدخل النار إلا شقي» قيل : ومن الشقي؟ قال : «الذي
لا يعمل بطاعة ولا يترك لله معصية».
وقال الإمام أحمد : حدثنا يونس وسريج قالا : حدثنا فليح عن هلال بن علي عن
عطاء بن يسار عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «كل أمتي تدخل الجنة يوم القيامة إلا من أبى» قالوا :
ومن يأبى يا رسول الله؟ قال : «من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى» رواه
البخاري عن محمد بن سنان عن فليح به.
__________________
وقوله تعالى : (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى) أي وسيزحزح عن النار التقي النقي الأتقى ثم فسره بقوله : (الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى) أي يصرف ماله في طاعة ربه ليزكي نفسه وماله وما وهبه الله
من دين ودنيا (وَما لِأَحَدٍ
عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى) أي ليس بذله ماله في مكافأة من أسدى إليه معروفا ، فهو
يعطي في مقابلة ذلك وإنما دفعه ذلك (ابْتِغاءَ وَجْهِ
رَبِّهِ الْأَعْلى) أي طمعا في أن يحصل له رؤيته في الدار الآخرة في روضات
الجنات قال الله تعالى : (وَلَسَوْفَ يَرْضى) أي ولسوف يرضى من اتصف بهذه الصفات.
وقد ذكر غير واحد
من المفسرين أن هذه الآيات نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، حتى أن بعضهم
حكى الإجماع من المفسرين على ذلك ، ولا شك أنه داخل فيها وأولى الأمة بعمومها فإن
لفظها لفظ العموم ، وهو قوله تعالى : (وَسَيُجَنَّبُهَا
الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ
نِعْمَةٍ تُجْزى) ولكنه مقدم الأمة وسابقهم في جميع هذه الأوصاف وسائر
الأوصاف الحميدة ، فإنه كان صديقا تقيا كريما جوادا بذالا لأمواله في طاعة مولاه
ونصرة رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فكم من دراهم ودنانير بذلها ابتغاء وجه ربه الكريم ، ولم
يكن لأحد من الناس عنده منة يحتاج إلى أن يكافئه بها ، ولكن كان فضله وإحسانه على
السادات والرؤساء من سائر القبائل ، ولهذا قال له عروة بن مسعود وهو سيد ثقيف يوم
صلح الحديبية : أما والله لو لا يدلك كانت عندي لم أجزك بها لأجبتك .
وكان الصديق قد
أغلظ له في المقالة ، فإن كان هذا حاله مع سادات العرب ورؤساء القبائل فكيف بمن
عداهم ، ولهذا قال تعالى : (وَما لِأَحَدٍ
عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى
وَلَسَوْفَ يَرْضى). وفي الصحيحين أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «من أنفق زوجين في سبيل الله دعته خزنة الجنة يا عبد
الله هذا خير» فقال أبو بكر : يا رسول الله ما على من يدعى منها ضرورة فهل يدعى
منها كلها أحد؟ قال : «نعم وأرجو أن تكون منهم» .
آخر تفسير سورة
الليل ولله الحمد والمنة.
تفسير سورة الضحى
وهي مكية
روينا من طريق أبي
الحسن أحمد بن محمد بن عبد الله بن أبي بزة المقرئ قال : قرأت على عكرمة بن سليمان
، وأخبرني أنه قرأ على إسماعيل بن قسطنطين وشبل بن عباد ، فلما
__________________
بلغت والضحى قالا
لي : كبر حتى تختم مع خاتمة كل سورة فإنا قرأنا على ابن كثير فأمرنا بذلك وأخبرنا
أنه قرأ على مجاهد فأمره بذلك. وأخبره مجاهد أنه قرأ على ابن عباس فأمره بذلك ،
وأخبره ابن عباس أنه قرأ على أبي بن كعب فأمره بذلك وأخبره أبي أنه قرأ على رسول
اللهصلىاللهعليهوسلم فأمره بذلك ، فهذه سنة تفرد بها أبو الحسن أحمد بن محمد بن
عبد الله البزي من ولد القاسم بن أبي بزة ، وكان إماما في القراءات ، فأما في
الحديث فقد ضعفه أبو حاتم الرازي وقال : لا أحدث عنه.
وكذلك أبو جعفر
العقيلي قال : هو منكر الحديث ، لكن حكى الشيخ شهاب الدين أبو شامة في شرح
الشاطبية عن الشافعي أنه سمع رجلا يكبر هذا التكبير في الصلاة فقال له : أحسنت
وأصبت السنة ، وهذا يقتضي صحة هذا الحديث ، ثم اختلف القراء في موضع هذا التكبير
وكيفيته فقال بعضهم : يكبر من آخر (وَاللَّيْلِ إِذا
يَغْشى) [الليل : ١] ،
وقال آخرون : من آخر (وَالضُّحى) ، وكيفية التكبير عند بعضهم أن يقول الله أكبر ويقتصر ،
ومنهم من يقول الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر. وذكر القراء في مناسبة
التكبير من أول سورة الضحى أنه لما تأخر الوحي عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم وفتر تلك المدة ثم جاء الملك فأوحى إليه (وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى) السورة بتمامها كبر فرحا وسرورا ، ولم يرو ذلك بإسناد يحكم
عليه بصحة ولا ضعف ، فالله أعلم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ
الرَّحِيمِ
(وَالضُّحى (١) وَاللَّيْلِ إِذا
سَجى (٢) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (٣)
وَلَلْآخِرَةُ
خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (٤)
وَلَسَوْفَ
يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (٥) أَلَمْ يَجِدْكَ
يَتِيماً فَآوى (٦) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ
فَهَدى (٧) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (٨)
فَأَمَّا
الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (٩)
وَأَمَّا
السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ(١٠) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ
رَبِّكَ فَحَدِّثْ)
(١١)
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو نعيم ، حدثنا سفيان عن الأسود بن قيس قال سمعت
جندبا يقول : اشتكى النبي صلىاللهعليهوسلم فلم يقم ليلة أو ليلتين ، فأتت امرأة فقالت يا محمد ما أرى
شيطانك إلا قد تركك ، فأنزل الله عزوجل : (وَالضُّحى
وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن أبي حاتم وابن
جرير من طرق عن الأسود بن
__________________
قيس عن جندب ، هو
ابن عبد الله البجلي ، ثم العلقي به وفي رواية سفيان بن عيينة عن الأسود بن قيس
سمع جندبا قال أبطأ جبريل على رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال المشركون ودع محمدا ربه ، فأنزل الله تعالى : (وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ما
وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى).
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبو سعيد الأشج وعمرو بن عبد الله الأودي قالا حدثنا أبو أسامة حدثني
سفيان ، حدثني الأسود بن قيس أنه سمع جندبا يقول رمى رسول الله صلىاللهعليهوسلم بحجر في إصبعه فقال : «هل أنت إلا إصبع دميت ، وفي سبيل
الله ما لقيت؟».
قال فمكث ليلتين
أو ثلاثا لا يقوم ، فقالت له امرأة ما أرى شيطانك إلا قد تركك فنزلت (وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ما
وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) والسياق لأبي سعيد ، قيل : إن هذه المرأة هي أم جميل امرأة
أبي لهب ، وذكر أن إصبعه عليهالسلام دميت ، وقوله هذا الكلام الذي اتفق أنه موزون ثابت في
الصحيحين ولكن الغريب هاهنا جعله سببا لتركه القيام ونزول هذه السورة.
فأما ما رواه ابن
جرير : حدثنا ابن أبي الشوارب ، حدثنا عبد الواحد بن زياد ، حدثنا سليمان الشيباني
عن عبد الله بن شداد أن خديجة قالت للنبي صلىاللهعليهوسلم : ما أرى ربك إلا قد قلاك ، فأنزل الله (وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ما
وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) وقال أيضا : حدثنا أبو كريب ، حدثنا وكيع عن هشام بن عروة عن أبيه
قال أبطأ جبريل على النبي صلىاللهعليهوسلم فجزع جزعا شديدا فقالت خديجة إني أرى ربك قد قلاك مما نرى
من جزعك ، قال فنزلت (وَالضُّحى
وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) إلى آخرها فإنه حديث مرسل من هذين الوجهين ولعل ذكر خديجة ليس
محفوظا أو قالته على وجه التأسف والحزن ، والله أعلم.
وقد ذكر بعض السلف
منهم ابن إسحاق أن هذه السورة هي التي أوحاها جبريل إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم حين تبدى له في صورته التي خلقه الله عليها ، ودنا إليه
وتدلى منهبطا عليه وهو بالأبطح (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ
ما أَوْحى) قال : قال له هذه السورة (وَالضُّحى
وَاللَّيْلِ إِذا سَجى) قال العوفي عن ابن عباس : لما نزل على رسول الله صلىاللهعليهوسلم القرآن أبطأ عنه جبريل أياما فتغير بذلك ، فقال المشركون :
ودعه ربه وقلاه فأنزل الله (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ
وَما قَلى) وهذا قسم منه تعالى بالضحى وما جعل فيه من الضياء (وَاللَّيْلِ إِذا سَجى) أي سكن فأظلم وادلهم؟ قاله مجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد
وغيرهم ، وذلك دليل ظاهر على قدرة خالق هذا وهذا كما قال تعالى : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالنَّهارِ
إِذا تَجَلَّى) [الليل : ١ ـ ٢]
وقال تعالى : (فالِقُ الْإِصْباحِ
وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ
الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) [الأنعام : ٩٦].
__________________
وقوله تعالى : (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ) أي ما تركك (وَما قَلى) أي وما أبغضك.
(وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ
لَكَ مِنَ الْأُولى) أي وللدار الآخرة خير لك من هذه الدار ، ولهذا كان رسول
الله صلىاللهعليهوسلم أزهد الناس في الدنيا وأعظمهم لها إطراحا كما هو معلوم
بالضرورة من سيرته ، ولما خير عليهالسلام في آخر عمره بين الخلد في الدنيا إلى آخرها ثم الجنة وبين
الصيرورة إلى الله عزوجل ، اختار ما عند الله على هذه الدنيا الدنية.
قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا المسعودي عن عمرو بن مرة عن إبراهيم
النخعي عن علقمة عن عبد الله هو ابن مسعود قال : اضطجع رسول الله صلىاللهعليهوسلم على حصير فأثر في جنبه ، فلما استيقظ جعلت أمسح جنبه وقلت
: يا رسول الله ألا آذنتنا حتى نبسط لك على الحصير شيئا؟ فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ما لي وللدنيا إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب ظل تحت شجرة
ثم راح وتركها» ورواه الترمذي وابن ماجة من حديث المسعودي به وقال الترمذي
حسن صحيح.
وقوله تعالى : (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) أي في الدار الآخرة يعطيه حتى يرضيه في أمته ، وفيما أعده
له من الكرامة ، ومن جملته نهر الكوثر الذي حافتاه قباب اللؤلؤ المجوف وطينه مسك
أذفر كما سيأتي ، وقال الإمام أبو عمرو الأوزاعي عن إسماعيل بن عبيد الله بن أبي
المهاجر المخزومي عن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه قال : عرض على رسول اللهصلىاللهعليهوسلم ما هو مفتوح على أمته من بعده كنزا كنزا فسر بذلك ، فأنزل
الله (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ
رَبُّكَ فَتَرْضى) فأعطاه في الجنة ألف ألف قصر في كل قصر ما ينبغي له من
الأزواج والخدم ، رواه ابن جرير من طريقه.
وهذا إسناد صحيح
إلى ابن عباس ومثل هذا ما يقال إلا عن توقيف ، وقال السدي عن ابن عباس من رضاء
محمد صلىاللهعليهوسلم أن لا يدخل أحد من أهل بيته النار ، رواه ابن جرير وابن أبي حاتم وقال الحسن : يعني بذلك الشفاعة ، وهكذا قال
أبو جعفر الباقر وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا معاوية بن هشام عن علي بن صالح
عن يزيد بن أبي زياد عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إنا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا ، (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى).
ثم قال تعالى يعدد
نعمه على عبده ورسوله محمد صلوات الله وسلامه عليه : (أَلَمْ يَجِدْكَ
__________________
يَتِيماً
فَآوى) وذلك أن أباه توفي وهو حمل في بطن أمه ، وقيل بعد أن ولد عليهالسلام ثم توفيت أمه آمنة بنت وهب وله من العمر ست سنين ، ثم كان
في كفالة جده عبد المطلب إلى أن توفي وله من العمر ثمان سنين ، فكفله عمه أبو طالب
، ثم لم يزل يحوطه وينصره ويرفع من قدره ويوقره ويكف عنه أذى قومه بعد أن ابتعثه
الله على رأس أربعين سنة من عمره ، هذا وأبو طالب على دين قومه من عبادة الأوثان ،
وكل ذلك بقدر الله وحسن تدبيره إلى أن توفي أبو طالب قبل الهجرة بقليل ، فأقدم
عليه سفهاء قريش وجهالهم فاختار الله له الهجرة من بين أظهرهم إلى بلد الأنصار من
الأوس والخزرج ، كما أجرى الله سنته على الوجه الأتم الأكمل ، فلما وصل إليهم آووه
ونصروه وحاطوه وقاتلوا بين يديه رضي الله عنهم أجمعين ، وكل هذا من حفظ الله له
وكلاءته وعنايته به.
وقوله تعالى : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) كقوله : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا
إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ
وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) [الشورى : ٥٢] الآية. ومنهم من قال إن المراد بهذا أن
النبي صلىاللهعليهوسلم ضل في شعاب مكة وهو صغير ثم رجع ، وقيل إنه ضل وهو مع عمه
في طريق الشام ، وكان راكبا ناقة في الليل ، فجاء إبليس فعدل بها عن الطريق ، فجاء
جبريل فنفخ إبليس نفخة ذهب منها إلى الحبشة ، ثم عدل بالراحلة إلى الطريق حكاهما
البغوي ، وقوله تعالى : (وَوَجَدَكَ عائِلاً
فَأَغْنى) أي كنت فقيرا ذا عيال فأغناك الله عمن سواه فجمع له بين
مقامي الفقير الصابر والغني الشاكر صلوات الله وسلامه عليه.
وقال قتادة في
قوله : (أَلَمْ يَجِدْكَ
يَتِيماً فَآوى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى) قال : كانت هذه منازل رسول الله صلىاللهعليهوسلم قبل أن يبعثه الله عزوجل. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم وفي الصحيحين من طريق عبد الرزاق عن معمر عن
همام بن منبه قال هذا ما حدثنا أبو هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس» وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما آتاه» .
ثم قال تعالى : (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) أي كما كنت يتيما فآواك الله فلا تقهر اليتيم أي لا تذله
وتنهره وتهنه ولكن أحسن إليه وتلطف به ، قال قتادة : كن لليتيم كالأب الرّحيم (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) أي وكما كنت ضالا فهداك الله فلا تنهر السائل في العلم
المسترشد قال ابن إسحاق : (وَأَمَّا السَّائِلَ
فَلا تَنْهَرْ) أي وكما كنت ضالا فهداك الله فلا تنهر السائل في العلم
__________________
المسترشد.
قال ابن إسحاق (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) أي فلا تكن جبارا ولا متكبرا ولا فحاشا ولا فظا على
الضعفاء من عباد الله ، وقال قتادة يعني رد المسكين برحمة ولين (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) أي وكما كنت عائلا فقيرا فأغناك الله فحدث بنعمة الله عليك
كما جاء في الدعاء المأثور النبوي : «واجعلنا شاكرين لنعمتك مثنين بها عليك
قابليها وأتمها علينا» وقال ابن جرير : حدثنا يعقوب ، حدثنا ابن علية ، حدثنا سعيد بن إياس
الجريري عن أبي نضرة قال : كان المسلمون يرون أن من شكر النعم أن يحدث بها.
وقال عبد الله ابن
الإمام أحمد : حدثنا منصور بن أبي مزاحم ، حدثنا الجراح بن مليح عن أبي عبد
الرّحمن عن الشعبي عن النعمان بن بشير قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم على المنبر : «من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير ، ومن لم
يشكر الناس لم يشكر الله ، والتحدث بنعمة الله شكر وتركها كفر ، والجماعة رحمة
والفرقة عذاب» إسناده ضعيف وفي الصحيحين عن أنس أن المهاجرين قالوا يا
رسول الله ذهب الأنصار بالأجر كله ، قال : «لا ما دعوتم الله لهم وأثنيتم عليهم» . وقال أبو داود : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا الربيع بن
مسلم عن محمد بن زياد عن أبي هريرة عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «لا يشكر الله من لا يشكر الناس» ورواه الترمذي عن أحمد بن محمد عن ابن المبارك عن الربيع
بن مسلم وقال صحيح.
وقال أبو داود : حدثنا عبد الله بن الجراح ، حدثنا جرير عن الأعمش عن أبي
سفيان عن جابر عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «من أبلى بلاء فذكره فقد شكره ، ومن كتمه فقد كفره»
تفرد به أبو داود. وقال أبو داود : حدثنا مسدد ، حدثنا بشر ، حدثنا عمارة بن غزية
، حدثني رجل من قومي عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من أعطي عطاء فوجد فليجز به ، فإن لم يجد فليثن به فمن
أثنى به فقد شكره ومن كتمه فقد كفره» قال أبو داود : ورواه يحيى بن أيوب عن عمارة
بن غزية عن شرحبيل عن جابر كرهوه فلم يسموه ، تفرد به أبو داود.
وقال مجاهد : يعني
النبوة التي أعطاك ربك وفي رواية عنه القرآن ، وقال ليث عن رجل عن الحسن بن علي (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) قال : ما عملت من خير فحدث إخوانك ، وقال
__________________
محمد بن إسحاق ،
ما جاءك الله من نعمة وكرامة من النبوة فحدث بها واذكرها وادع إليها ، قال : فجعل
رسول الله صلىاللهعليهوسلم يذكر ما أنعم به عليه من النبوة سرا إلى من يطمئن إليه من
أهله ، وافترضت عليه الصلاة فصلى. آخر تفسير سورة الضحى ، ولله الحمد والمنة.
تفسير سورة الشرح
وهي مكية
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ
صَدْرَكَ (١) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (٢)
الَّذِي
أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (٣) وَرَفَعْنا لَكَ
ذِكْرَكَ (٤) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٥) إِنَّ مَعَ
الْعُسْرِ يُسْراً (٦) فَإِذا فَرَغْتَ
فَانْصَبْ (٧) وَإِلى رَبِّكَ
فَارْغَبْ)
(٨)
يقول تعالى : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) يعني أما شرحنا لك صدرك أي نورناه وجعلناه فسيحا رحيبا
واسعا كقوله : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ
أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) [الأنعام : ١٢٥]
وكما شرح الله صدره كذلك جعل شرعه فسيحا واسعا سمحا سهلا لا حرج فيه ولا إصر ولا
ضيق وقيل : المراد بقوله : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ
صَدْرَكَ) شرح صدره ليلة الإسراء كما تقدم من رواية مالك بن صعصعة ،
وقد أورده الترمذي هاهنا ، وهذا وإن كان واقعا ليلة الإسراء كما رواه مالك بن
صعصعة ، ولكن لا منافاة فإن من جملة شرح صدره الذي فعل بصدره ليلة الإسراء وما نشأ
عنه من الشرح المعنوي أيضا ، فالله أعلم.
قال عبد الله ابن
الإمام أحمد : حدثنا محمد بن عبد الرّحيم أبو يحيى البزاز ، حدثنا يونس
بن محمد ، حدثنا معاذ بن محمد بن معاذ بن محمد بن أبي بن كعب ، حدثني أبو محمد بن
معاذ عن معاذ عن محمد عن أبي بن كعب أن أبا هريرة كان جريئا على أن يسأل رسول اللهصلىاللهعليهوسلم عن أشياء لا يسأله عنها غيره فقال : يا رسول الله ما أول
ما رأيت من أمر النبوة؟ فاستوى رسول الله صلىاللهعليهوسلم جالسا وقال «لقد سألت يا أبا هريرة ، إني لفي الصحراء ابن
عشر سنين وأشهر وإذا بكلام فوق رأسي وإذا رجل يقول لرجل أهو هو؟ قال نعم
فاستقبلاني بوجوه لم أرها لخلق قط وأرواح لم أجدها من خلق قط ، وثياب لم أرها على
أحد قط فأقبلا إلي يمشيان حتى أخذ كل واحد منهما بعضدي لا أجد لأحدهما مسا ، فقال
أحدهما لصاحبه : أضجعه فأضجعاني بلا قصر ولا هصر ، فقال أحدهما لصاحبه : افلق صدره
فهوى أحدهما إلى صدري ففلقه فيما أرى بلا دم ولا وجع ، فقال له : أخرج الغل والحسد
، فأخرج شيئا كهيئة العلقة ثم نبذها فطرحها ، فقال له أدخل الرأفة والرحمة فإذا
مثل الذي أخرج شبه الفضة ثم هز إبهام
__________________
رجلي اليمني فقال
: أغد واسلم ، فرجعت بها أعدو رقة على الصغير ورحمة للكبير».
وقوله تعالى : (وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ) بمعنى (لِيَغْفِرَ لَكَ
اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ)(الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ) الإنقاض الصوت ، وقال غير واحد من السلف في قوله : (الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ) أي أثقلك حمله ، وقوله تعالى : (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) قال مجاهد : لا أذكر إلا ذكرت معي أشهد أن لا إله إلا الله
وأشهد أن محمدا رسول الله ، وقال قتادة : رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة فليس
خطيب ولا متشهد ولا صاحب صلاة إلا ينادي بها أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا
رسول الله.
وقال ابن جرير : حدثني يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرنا عمرو بن الحارث عن
دراج ، عن أبي الهيثم عن أبي سعيد عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «أتاني جبريل فقال : إن ربي وربك يقول كيف رفعت
ذكرك؟ قال : الله أعلم ، قال : إذا ذكرت ذكرت معي» وكذا رواه ابن أبي حاتم عن يونس
عن عبد الأعلى به. ورواه أبو يعلى من طريق ابن لهيعة عن دراج.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبو زرعة ، حدثنا أبو عمر الحوضي ، حدثنا حماد بن زيد ، حدثنا عطاء بن
السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «سألت ربي مسألة وددت أني لم أسأله ، قلت قد كان قبلي
أنبياء منهم من سخرت له الريح ومنهم من يحيي الموتى ، قال : يا محمد ألم أجدك
يتيما فآويتك؟ قلت : بلى يا رب ، قال : ألم أجدك ضالا فهديتك؟ قلت : بلى يا رب ،
قال : ألم أجدك عائلا فأغنيتك؟ قلت : بلى يا رب ، قال ألم أشرح لك صدرك؟ ألم أرفع
لك ذكرك؟ قلت : بلى يا رب».
وقال أبو نعيم في
دلائل النبوة : حدثنا أبو أحمد الغطريفي ، حدثنا موسى بن سهل الجويني ، حدثنا أحمد
بن القاسم بن بهزان الهيتي : حدثنا نصر بن حماد عن عثمان بن عطاء عن الزهري عن أنس
قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لما فرغت مما أمرني الله به من أمر السموات والأرض قلت
يا رب إنه لم يكن نبي قبلي إلا وقد كرمته جعلت إبراهيم خليلا وموسى كليما ، وسخرت
لداود الجبال ، ولسليمان الريح والشياطين ، وأحييت لعيسى الموتى فما جعلت لي؟ قال
أو ليس قد أعطيتك أفضل من ذلك كله أني لا أذكر إلا ذكرت معي وجعلت صدور أمتك
أناجيل يقرءون القرآن ظاهرا ولم أعطها أمة ، وأعطيتك كنزا من كنوز عرشي لا حول ولا
قوة إلا بالله العلي العظيم» وحكى البغوي عن ابن عباس ومجاهد أن المراد بذلك
الأذان يعني ذكره فيه وأورد من شعر حسان بن ثابت : [الطويل]
__________________
أغرّ عليه
للنبوة خاتم
|
|
من الله من نور
يلوح ويشهد
|
وضم الإله اسم
النبي إلى اسمه
|
|
إذا قال في
الخمس المؤذن أشهد
|
وشقّ له من اسمه
ليجلّه
|
|
فذو العرش محمود
وهذا محمد
|
وقال آخرون : رفع
الله ذكره في الأولين والآخرين ونوه به حين أخذ الميثاق على جميع النبيين أن
يؤمنوا به ، وأن يأمروا أممهم بالإيمان به ، ثم شهد ذكره في أمته فلا يذكر الله
إلا ذكر معه ، وما أحسن ما قال الصرصري رحمهالله :
لا يصحّ الأذان
في الفرض إلا
|
|
باسمه العذب في
الفم المرضي
|
وقال أيضا :
ألم تر أنا لا
يصحّ أذاننا
|
|
ولا فرضنا إن لم
نكرّره فيهما
|
وقوله تعالى : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ
مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) أخبر تعالى أن مع العسر يوجد اليسر ثم أكد هذا الخبر. قال
ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا محمود بن غيلان ، حدثنا حميد بن حماد بن
أبي خوار أبو الجهم ، حدثنا عائذ بن شريح قال : سمعت أنس بن مالك يقول كان النبي صلىاللهعليهوسلم جالسا وحياله حجر ، فقال : لو جاء العسر فدخل هذا الحجر
لجاء اليسر حتى يدخل عليه فيخرجه» فأنزل الله عزوجل : (فَإِنَّ مَعَ
الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) ورواه أبو بكر البزار في مسنده عن محمد بن معمر ، عن حميد
بن حماد ولفظه : «لو جاء العسر حتى يدخل هذا الحجر لجاء اليسر حتى يخرجه» ثم قال :
(فَإِنَّ مَعَ
الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) ثم قال البزار : لا نعلم رواه عن أنس إلا عائذ بن شريح.
[قلت] وقد قال فيه
أبو حاتم الرازي : في حديثه ضعف ، ولكن رواه شعبة عن معاوية بن قرة عن رجل عن عبد
الله بن مسعود موقوفا. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا
أبو قطن ، حدثنا المبارك بن فضالة عن الحسن قال : كانوا يقولون لا يغلب عسر واحد
يسرين اثنين.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن عبد الأعلى ، حدثنا ابن ثور عن معمر عن الحسن
، قال: خرج النبي صلىاللهعليهوسلم يوما مسرورا فرحا وهو يضحك وهو يقول : «لن يغلب عسر يسرين
، لن يغلب عسر يسرين ، فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا» وكذا رواه من حديث عوف
الأعرابي ويونس بن عبيد عن الحسن مرسلا.
وقال سعيد عن
قتادة : ذكر لنا أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم بشر أصحابه بهذه الآية فقال : «لن يغلب
__________________
عسر يسرين» ومعنى
هذا أن العسر معرّف في الحالتين فهو مفرد واليسر منكر ، فتعدد ولهذا قال: «لن يغلب
عسر يسرين» يعني قوله : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ
يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) فالعسر الأول عين الثاني واليسر تعدد. وقال الحسن بن سفيان
: حدثنا يزيد بن صالح ، حدثنا خارجة عن عباد بن كثير عن أبي الزناد عن أبي صالح عن
أبي هريرة أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «نزلت المعونة من السماء على قدر المؤونة ، ونزل
الصبر على قدر المصيبة» ومما يروى عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال :
صبرا جميلا ما
أقرب الفرجا
|
|
من راقب الله في
الأمور نجا
|
من صدق الله لم
ينله أذى
|
|
ومن رجاه يكون
حيث رجا
|
وقال ابن دريد :
أنشدني أبو حاتم السجستاني :
إذا اشتملت على
اليأس القلوب
|
|
وضاق لما به
الصدر الرحيب
|
وأوطأت المكاره
واطمأنت
|
|
وأرسلت في
أماكنها الخطوب
|
ولم تر لانكشاف
الضر وجها
|
|
ولا أغنى بحيلته
الأريب
|
أتاك على قنوط
منك غوث
|
|
يمن به اللطيف
المستجيب
|
وكل الحادثات
إذا تناهت
|
|
فموصول بها الفرج
القريب
|
وقال آخر :
ولرب نازلة يضيق
بها الفتى
|
|
ذرعا وعند الله
منها المخرج
|
كملت فلما
استحكمت حلقاتها
|
|
فرجت وكان يظنها
لا تفرج
|
وقوله تعالى : (فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلى
رَبِّكَ فَارْغَبْ) أي إذا فرغت من أمور الدنيا وأشغالها وقطعت علائقها فانصب
إلى العبادة وقم إليها نشيطا فارغ البال وأخلص لربك النية والرغبة ، ومن هذا
القبيل قوله صلىاللهعليهوسلم في الحديث المتفق على صحته : «لا صلاة بحضرة الطعام ولا
وهو يدافعه الأخبثان» وقوله صلىاللهعليهوسلم : «إذا أقيمت الصلاة وحضر العشاء فابدؤوا بالعشاء» قال مجاهد في هذه الآية : إذا فرغت من أمر الدنيا فقمت إلى
الصلاة فانصب لربك ، وفي رواية عنه : إذا قمت إلى الصلاة فانصب في حاجتك ، وعن ابن
مسعود : إذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل ، وعن ابن عياض نحوه ، وفي رواية
عن ابن مسعود : (فَانْصَبْ وَإِلى
__________________
رَبِّكَ
فَارْغَبْ)
بعد فراغك من
الصلاة وأنت جالس. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : (فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ) ، يعني في الدعاء ، وقال زيد بن أسلم والضحاك : (فَإِذا فَرَغْتَ) أي من الجهاد (فَانْصَبْ) أي في العبادة (وَإِلى رَبِّكَ
فَارْغَبْ) وقال الثوري : اجعل نيتك ورغبتك إلى الله عزوجل.
آخر تفسير سورة
ألم نشرح ، ولله الحمد والمنة.
تفسير سورة التين
وهي مكية
قال مالك وشعبة عن
عدي بن ثابت ، عن البراء بن عازب : كان النبي صلىاللهعليهوسلم يقرأ في سفره في إحدى الركعتين بالتين والزيتون فما سمعت
أحدا أحسن صوتا أو قراءة منه ، أخرجه الجماعة في كتبهم.
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(وَالتِّينِ
وَالزَّيْتُونِ (١) وَطُورِ سِينِينَ (٢) وَهذَا الْبَلَدِ
الْأَمِينِ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤) ثُمَّ رَدَدْناهُ
أَسْفَلَ سافِلِينَ (٥) إِلاَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٦)
فَما
يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (٧)
أَلَيْسَ
اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ)
(٨)
اختلف المفسرون
هاهنا على أقوال كثيرة فقيل المراد بالتين مسجد دمشق ، وقيل : هي نفسها ، وقيل الجبل
الذي عندها ، وقال القرطبي : هو مسجد أصحاب الكهف ، وروى العوفي عن ابن عباس أنه مسجد
نوح الذي على الجودي ، وقال مجاهد : هو تينكم هذا (وَالزَّيْتُونِ) قال كعب الأحبار وقتادة وابن زيد وغيرهم : هو مسجد بيت
المقدس. وقال مجاهد وعكرمة : هو هذا الزيتون الذي تعصرون (وَطُورِ سِينِينَ) قال كعب الأحبار وغير واحد : هو الجبل الذي كلم الله عليه
موسى عليهالسلام ، (وَهذَا الْبَلَدِ
الْأَمِينِ) يعني مكة ، قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن وإبراهيم
النخعي وابن زيد وكعب الأحبار ولا خلاف في
__________________
ذلك ، وقال بعض
الأئمة : هذه محال ثلاثة بعث الله في كل واحد منها نبيا مرسلا من أولي العزم أصحاب
الشرائع الكبار :
[فالأول] محلة التين
والزيتون وهي بيت المقدس التي بعث الله فيها عيسى ابن مريمعليهالسلام. [والثاني] طور سينين ، وهو طور سيناء الذي كلم الله عليه
موسى بن عمران. [والثالث] مكة ، وهو البلد الأمين الذي من دخله كان آمنا ، وهو
الذي أرسل فيه محمداصلىاللهعليهوسلم ، قالوا : وفي آخر التوراة ذكر هذه الأماكن الثلاثة : جاء
الله من طور سيناء ـ يعني الذي كلم الله عليه موسى بن عمران ـ وأشرق من ساعير ـ يعني
جبل بيت المقدس الذي بعث الله منه عيسى ـ واستعلن من جبال فاران ـ يعني جبال مكة
التي أرسل الله منها محمداصلىاللهعليهوسلم فذكرهم مخبرا عنهم على الترتيب الوجودي بحسب ترتيبهم في
الزمان ، ولهذا أقسم بالأشرف ثم الأشرف منه ثم بالأشرف منهما.
وقوله تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي
أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) هذا هو المقسم عليه ، وهو أنه تعالى خلق الإنسان في أحسن
صورة وشكل منتصب القامة سوي الأعضاء حسنها (ثُمَّ رَدَدْناهُ
أَسْفَلَ سافِلِينَ) أي إلى النار ، قاله مجاهد وأبو العالية والحسن وابن زيد
وغيرهم ، ثم بعد هذا الحسن والنضارة مصيره إلى النار إن لم يطع الله ويتبع الرسل
ولهذا قال : (إِلَّا الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) وقال بعضهم (ثُمَّ رَدَدْناهُ
أَسْفَلَ سافِلِينَ) أي إلى أرذل العمر ، وروي هذا عن ابن عباس وعكرمة حتى قال
عكرمة : من جمع القرآن لم يرد إلى أرذل العمر ، واختار ذلك ابن جرير ، ولو كان هذا
هو المراد لما حسن استثناء المؤمنين من ذلك لأن الهرم قد يصيب بعضهم ، وإنما المراد
ما ذكرناه كقوله تعالى : (وَالْعَصْرِ إِنَّ
الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [العصر : ١ ـ ٣]
وقوله : (فَلَهُمْ أَجْرٌ
غَيْرُ مَمْنُونٍ) أي غير مقطوع كما تقدم.
ثم قال : (فَما يُكَذِّبُكَ) أي يا ابن آدم (بَعْدُ بِالدِّينِ) أي بالجزاء في المعاد ، ولقد علمت البداءة وعرفت أن من قدر
على البداءة فهو قادر على الرجعة بطريق الأولى ، فأي شيء يحملك على التكذيب
بالمعاد وقد عرفت هذا؟ قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان حدثنا عبد الرّحمن
عن سفيان عن منصور قال : قلت لمجاهد (فَما يُكَذِّبُكَ
بَعْدُ بِالدِّينِ) عنى به النبي صلىاللهعليهوسلم قال : معاذ الله ، عنى به الإنسان وهكذا قال عكرمة وغيره.
وقوله تعالى : (أَلَيْسَ اللهُ
بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) أي أما هو أحكم الحاكمين الذي لا يجور ولا يظلم أحدا ، ومن
عدله أن يقيم القيامة فينصف للمظلوم في الدنيا ممن ظلمه. وقد قدمنا في حديث أبي
هريرة مرفوعا «فإذا قرأ أحدكم والتين والزيتون فأتى على آخرها (أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) فليقل بلى وأنا على ذلك من الشاهدين».
آخر تفسير سورة
التين والزيتون ولله الحمد والمنة.
تفسير سورة العلق
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(اقْرَأْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١)
خَلَقَ
الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ
الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ
بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسانَ
ما لَمْ يَعْلَمْ)
(٥)
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة
قالت : أول ما بدئ به رسول الله صلىاللهعليهوسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا
جاءت مثل فلق الصبح ، ثم حبب إليه الخلاء فكان يأتي حراء فيتحنث فيه ـ وهو التعبد
ـ الليالي ذوات العدد ويتزود لذلك ، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى فاجأه
الوحي وهو في غار حراء فجاءه الملك فيه فقال اقرأ : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «فقلت ما أنا بقارئ ـ قال فأخذني فغطني حتى بلغ مني
الجهد ثم أرسلني فقال : اقرأ ، فقلت : ما أنا بقارئ ، فغطني الثانية حتى بلغ مني
الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ ، فقلت : ما أنا بقارئ ، فغطني مني الجهد ثم أرسلني
فقال (اقْرَأْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) ـ حتى بلغ ـ (ما لَمْ يَعْلَمْ) قال : فرجع بها ترجف بوادره حتى دخل على خديجة فقال : «زمّلوني
زملوني» فزملوه حتى ذهب عنه الروع فقال : «يا خديجة ما لي؟» وأخبرها الخبر وقال : «قد
خشيت على نفسي».
فقالت له : كلا
أبشر فو الله لا يخزيك الله أبدا ، إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكلّ وتقري
الضيف ، وتعين على نوائب الحق ، ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن
أسد بن عبد العزى بن قصي وهو ابن عم خديجة أخي أبيها ، وكان امرأ قد تنصر في
الجاهلية وكان يكتب الكتاب العربي ، وكتب بالعربية من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب
، وكان شيخا كبيرا قد عمي فقالت خديجة : أي ابن عم اسمع من ابن أخيك. فقال ورقة :
ابن أخي ما ترى؟ فأخبره رسول الله صلىاللهعليهوسلم بما رأى فقال ورقة : هذا الناموس الذي أنزل على موسى ،
ليتني فيها جذعا ليتني أكون حيا حين يخرجك قومك ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أو مخرجي هم؟» فقال ورقة : نعم لم يأت رجل قط بما جئت
به إلا عودي وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا.
ثم لم ينشب ورقة
أن توفي وفتر الوحي فترة حتى حزن رسول الله صلىاللهعليهوسلم فيما بلغنا ، حزنا غدا منه مرارا كي يتردى من رؤوس شواهق
الجبال ، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه منه تبدى له جبريل فقال : يا محمد
إنك رسول الله حقا ، فيسكن بذلك جأشه وتقر نفسه فيرجع ، فإذا طالت عليه فترة الوحي
غدا لمثل ذلك فإذا أوفى بذروة الجبل تبدى له جبريل فقال له مثل
__________________
ذلك وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من حديث الزهري.
وقد تكلمنا على
هذا الحديث من جهة سنده ومتنه ومعانيه في أول شرحنا للبخاري مستقصى ، فمن أراده
فهو هناك محرر ولله الحمد والمنة.
فأول شيء نزل من
القرآن هذه الآيات الكريمات المباركات ، وهن أول رحمة رحم الله بها العباد وأول
نعمة أنعم الله بها عليهم ، وفيها التنبيه على ابتداء خلق الإنسان من علقة ، وأن
من كرمه تعالى أن علم الإنسان ما لم يعلم ، فشرفه وكرمه بالعلم وهو القدر الذي
امتاز به أبو البشرية آدم على الملائكة ، والعلم تارة يكون في الأذهان ، وتارة
يكون في اللسان ، وتارة يكون في الكتابة بالبنان ذهني ولفظي ورسمي والرسمي
يستلزمهما من غير عكس ، فلهذا قال : (اقْرَأْ وَرَبُّكَ
الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) وفي الأثر : «قيدوا العلم بالكتابة» ، وفيه أيضا : «من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يكن
يعلم».
(كَلاَّ إِنَّ
الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى
(٧) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (٨) أَرَأَيْتَ الَّذِي
يَنْهى (٩) عَبْداً إِذا صَلَّى (١٠) أَرَأَيْتَ إِنْ
كانَ عَلَى الْهُدى (١١) أَوْ أَمَرَ
بِالتَّقْوى(١٢) أَرَأَيْتَ إِنْ
كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٣) أَلَمْ يَعْلَمْ
بِأَنَّ اللهَ يَرى (١٤) كَلاَّ لَئِنْ لَمْ
يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ(١٥)
ناصِيَةٍ
كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (١٦) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ
(١٧) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (١٨)
كَلاَّ
لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ)
(١٩)
يخبر تعالى عن
الإنسان أنه ذو فرح وأشر وبطر وطغيان إذا رأى نفسه قد استغنى وكثر ماله ، ثم تهدده
وتوعده ووعظه فقال : (إِنَّ إِلى رَبِّكَ
الرُّجْعى) أي إلى الله المصير والمرجع وسيحاسبك على مالك من أين
جمعته وفيم صرفته. قال ابن أبي حاتم : حدثنا زيد بن إسماعيل الصائغ ، حدثنا جعفر
بن عون حدثنا أبو عميس عن عون قال : قال عبد الله : منهومان لا يشبعان صاحب العلم
وصاحب الدنيا ولا يستويان ، فأما صاحب العلم فيزداد رضى الرّحمن وأما صاحب الدنيا
فيتمادى في الطغيان قال ثم قرأ عبد الله (إِنَّ الْإِنْسانَ
لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) وقال للآخر (إِنَّما يَخْشَى
اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) وقد روي هذا مرفوعا إلى رسول اللهصلىاللهعليهوسلم «منهومان لا
يشبعان طالب علم وطالب دنيا» .
ثم قال تعالى : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا
صَلَّى) نزلت في أبي جهل لعنه الله ، توعد النبي صلىاللهعليهوسلم على الصلاة عند البيت فوعظه تعالى بالتي هي أحسن أولا فقال
: (أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ
عَلَى الْهُدى) أي فما ظنك إن كان هذا الذي تنهاه على الطريق المستقيمة في
فعله (أَوْ أَمَرَ
بِالتَّقْوى)
__________________
وأنت تزجره
وتتوعده على صلاته ، ولهذا قال : (أَلَمْ يَعْلَمْ
بِأَنَّ اللهَ يَرى) أي أما علم هذا الناهي لهذا المهتدي أن الله يراه ويسمع
كلامه. وسيجازيه على فعله أتم الجزاء. ثم قال تعالى متوعدا ومتهددا : (كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ) أي لئن لم يرجع عما هو فيه من الشقاق والعناد (لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ) أي لنسمنها سوادا يوم القيامة ثم قال : (ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ) يعني ناصية أبي جهل كاذبة في مقالها خاطئة في أفعالها (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ) أي قومه وعشيرته أي ليدعهم يستنصر بهم (سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) وهم ملائكة العذاب حتى يعلم من يغلب أحزبنا أو حزبه؟.
قال البخاري :
حدثنا يحيى حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن عبد الكريم الجزري عن عكرمة عن ابن عباس
قال : قال أبو جهل لئن رأيت محمدا يصلي عند الكعبة لأطأن على عنقه ، فبلغ النبي صلىاللهعليهوسلم فقال : «لئن فعل لأخذته الملائكة» ثم قال تابعه عمرو بن
خالد عن عبيد الله يعني ابن عمرو عن عبد الكريم . وكذا رواه الترمذي والنسائي في تفسيرهما من طريق عبد
الرزاق به. وهكذا رواه ابن جرير عن أبي كريب عن زكريا بن عدي عن عبيد الله بن عمرو به.
وروى أحمد
والترمذي والنسائي وابن جرير وهذا لفظه من طريق داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن
عباس قال : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يصلي عند المقام فمر به أبو جهل بن هشام ، فقال يا محمد
ألم أنهك عن هذا؟ وتوعده فأغلظ له رسول الله صلىاللهعليهوسلم وانتهره ، فقال يا محمد بأي شيء تهددني؟ أما والله إني
لأكثر هذا الوادي ناديا فأنزل الله (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ
سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) وقال ابن عباس : لو دعا ناديه لأخذته ملائكة العذاب من
ساعته (٤). وقال الترمذي : حسن صحيح.
وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا
إسماعيل بن يزيد أبو يزيد ، حدثنا فرات عن عبد الكريم عن عكرمة عن ابن عباس قال :
قال أبو جهل لئن رأيت رسول الله يصلي عند الكعبة لآتينه حتى أطأ على عنقه قال :
فقال : «لو فعل لأخذته الملائكة عيانا ، ولو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ورأوا
مقاعدهم من النار ، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلىاللهعليهوسلم لرجعوا لا يجدون مالا ولا أهلا».
وقال ابن جرير أيضا : حدثنا ابن حميد ، حدثنا يحيى بن واضح ، أخبرنا يونس
بن أبي إسحاق عن الوليد بن العيزار عن ابن عباس قال : قال أبو جهل لئن عاد محمد
يصلي عند المقام
__________________
لأقتلنه ، فأنزل
الله عزوجل (اقْرَأْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) حتى بلغ هذه الآية (لَنَسْفَعاً
بِالنَّاصِيَةِ ، ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ ، فَلْيَدْعُ نادِيَهُ ، سَنَدْعُ
الزَّبانِيَةَ) فجاء النبي صلىاللهعليهوسلم فصلى ، فقيل: ما يمنعك؟ قال : قد اسود ما بيني وبينه من
الكتائب ، قال ابن عباس : والله لو تحرك لأخذته الملائكة والناس ينظرون إليه.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن عبد الأعلى ، حدثنا المعتمر عن أبيه ، حدثنا
نعيم بن أبي هند عن أبي حازم عن أبي هريرة قال : قال أبو جهل : هل يعفر محمد وجهه
بين أظهركم؟ قالوا : نعم ، قال : فقال واللات والعزى لئن رأيته يصلي كذلك لأطأن
على رقبته ، ولأعفرن وجهه في التراب ، فأتى رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو يصلي ليطأ على رقبته ، قال : فما فجأهم منه إلا وهو
ينكص على عقبيه ويتقي بيديه ، قال فقيل له : ما لك؟ فقال : إن بيني وبينه خندقا من
نار ، وهولا وأجنحة قال : فقال رسول الله : «لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا
عضوا» قال : وأنزل الله لا أدري في حديث أبي هريرة أم لا (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى) إلى آخر السورة ، وقد رواه أحمد بن حنبل ومسلم والنسائي وابن أبي حاتم من
حديث معتمر بن سليمان به.
وقوله تعالى : (كَلَّا لا تُطِعْهُ) يعني يا محمد لا تطعه فيما ينهاك عنه من المداومة على
العبادة وكثرتها ، وصل حيث شئت ، ولا تباله فإن الله حافظك وناصرك وهو يعصمك من
الناس (وَاسْجُدْ
وَاقْتَرِبْ) كما ثبت في الصحيح عند مسلم من طريق عبد الله بن وهب عن
عمرو بن الحارث عن عمارة بن غزية ، عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء»
وتقدم أيضا أن رسول اللهصلىاللهعليهوسلم كان يسجد في (إِذَا السَّماءُ
انْشَقَّتْ) و (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ).
آخر تفسير سورة
اقرأ ، ولله الحمد والمنة ، وبه التوفيق والعصمة.
تفسير سورة القدر
وهي مكية
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(إِنَّا أَنْزَلْناهُ
فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١)
وَما
أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (٢) لَيْلَةُ الْقَدْرِ
خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (٣)
تَنَزَّلُ
الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (٤) سَلامٌ هِيَ حَتَّى
مَطْلَعِ الْفَجْرِ)(٥)
__________________
يخبر تعالى أنه
أنزل القرآن ليلة القدر ، وهي الليلة المباركة التي قال الله عزوجل (إِنَّا أَنْزَلْناهُ
فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) [الدخان : ٣] وهي
ليلة القدر وهي من شهر رمضان كما قال تعالى : (شَهْرُ رَمَضانَ
الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) [البقرة : ١٨٥]
قال ابن عباس وغيره : أنزل الله القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة
من السماء الدنيا ، ثم نزل مفصلا بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة على رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ثم قال تعالى معظما لشأن ليلة القدر التي اختصها بإنزال
القرآن العظيم فيها فقال : (وَما أَدْراكَ ما
لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ).
قال أبو عيسى
الترمذي عند تفسير هذه الآية : حدثنا محمود بن غيلان ، حدثنا أبو
داود الطيالسي ، حدثنا القاسم بن الفضل الحداني عن يوسف بن سعد قال : قام رجل إلى
الحسن بن علي بعد ما بايع معاوية فقال : سودت وجوه المؤمنين ، أو يا مسود وجوه
المؤمنين ، فقال : لا تؤنبني رحمك الله ، فإن النبي صلىاللهعليهوسلم أري بني أمية على منبره فساءه ذلك فنزلت (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) [الكوثر : ١] يا
محمد ، يعني نهرا في الجنة ونزلت (إِنَّا أَنْزَلْناهُ
فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ
خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) يملكها بعدك بنو أمية يا محمد ، قال القاسم : فعددنا فإذا
هي ألف شهر لا تزيد يوما ولا تنقص يوما. ثم قال الترمذي : هذا حديث غريب لا نعرفه
إلا من هذا الوجه من حديث القاسم بن الفضل ، وقد قيل عن القاسم بن الفضل عن يوسف
بن مازن والقاسم بن الفضل الحداني هو ثقة وثقه يحيى القطان وعبد الرّحمن بن مهدي
قال : وشيخه يوسف بن سعد ، ويقال يوسف بن مازن رجل مجهول ولا يعرف هذا الحديث على
هذا اللفظ إلا من هذا الوجه.
وقد روى هذا
الحديث الحاكم في مستدركه من طريق القاسم بن الفضل عن يوسف بن مازن به ، وقول
الترمذي : إن يوسف هذا مجهول فيه نظر ، فإنه قد روى عنه جماعة ، منهم حماد بن سلمة
وخالد الحذاء يونس بن عبيد ، وقال فيه يحيى بن معين : هو مشهور ، وفي رواية عن ابن
معين قال : هو ثقة. ورواه ابن جرير من طريق القاسم بن الفضل عن يوسف بن مازن كذا
قال وهذا يقتضي اضطرابا في هذا الحديث والله أعلم ، ثم هذا الحديث على كل تقدير
منكر جدا ، قال شيخنا الإمام الحافظ الحجة أبو الحجاج المزي : هو حديث منكر.
(قلت) وقول القاسم
بن الفضل الحداني إنه حسب مدة بني أمية فوجدها ألف شهر لا تزيد يوما ولا تنقص ليس
بصحيح ، فإن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه استقل بالملك حين سلم إليه الحسن بن
علي الإمرة سنة أربعين ، واجتمعت البيعة لمعاوية وسمي ذلك عام الجماعة ثم استمروا
فيها متتابعين بالشام وغيرها لم تخرج عنهم إلا مدة دولة عبد الله بن الزبير في
الحرمين ، والأهواز وبعض البلاد قريبا من تسع سنين ، لكن لم تزل يدهم عن الإمرة بالكلية
،
__________________
بل عن بعض البلاد
إلى أن استلبهم بنو العباس الخلافة في سنة اثنتين وثلاثين ومائة ، فيكون مجموع
مدتهم اثنتين وتسعين سنة وذلك أزيد من ألف شهر ، فإن الألف شهر عبارة عن ثلاثة
وثمانين سنة وأربعة أشهر ، وكأن القاسم بن الفضل أسقط من مدتهم أيام ابن الزبير
وعلى هذا فيقارب ما قاله للصحة في الحساب والله أعلم.
ومما يدل على ضعف
هذا الحديث أنه سيق لذم دولة بني أمية ، ولو أريد ذلك لم يكن بهذا السياق ، فإن
تفضيل ليلة القدر على أيامهم لا يدل على ذم أيامهم ، فإن ليلة القدر شريفة جدا
والسورة الكريمة إنما جاءت لمدح ليلة القدر ، فكيف تمدح بتفضيلها على أيام بني
أمية التي هي مذمومة بمقتضى هذا الحديث ، وهل هذا إلا كما قال القائل :
ألم تر أن السيف
ينقص قدره
|
|
إذا قيل إن
السيف أمضى من العصا
|
وقال آخر :
إذا أنت فضلت
امرأ ذا براعة
|
|
على ناقص كان
المديح من النقص
|
ثم الذي يفهم من
الآية أن الألف شهر المذكورة في الآية هي أيام بني أمية والسورة مكية ، فكيف يحال
على ألف شهر هي دولة بني أمية ، ولا يدل عليها لفظ الآية ولا معناها ، والمنبر
إنما صنع بالمدينة بعد مدة من الهجرة فهذا كله مما يدل على ضعف الحديث ونكارته
والله أعلم وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا إبراهيم بن موسى ، أخبرنا
مسلم يعني ابن خالد عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أن النبي صلىاللهعليهوسلم ، ذكر رجلا من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف
شهر قال : فعجب المسلمون من ذلك قال : فأنزل الله عزوجل (إِنَّا أَنْزَلْناهُ
فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ
خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) التي لبس ذلك الرجل السلاح في سبيل الله ألف شهر.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا حكام بن مسلم عن المثنى بن
الصباح ، عن مجاهد قال : كان في بني إسرائيل رجل يقوم الليل حتى يصبح ثم يجاهد
العدو بالنهار حتى يمسي ، ففعل ذلك ألف شهر ، فأنزل الله هذه الآية (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ
شَهْرٍ) قيام تلك الليلة خير من عمل ذلك الرجل.
وقال ابن أبي حاتم
: أخبرنا يونس أخبرنا ابن وهب ، حدثني مسلمة بن علي عن علي بن عروة قال : ذكر رسول
الله صلىاللهعليهوسلم يوما أربعة من بني إسرائيل عبدوا الله ثمانين عاما ، لم
يعصوه طرفة عين فذكر أيوب وزكريا وحزقيل ابن العجوز ويوشع بن نون ، قال : فعجب
أصحاب رسول اللهصلىاللهعليهوسلم من ذلك فأتاه جبريل فقال : يا محمد عجبت أمتك من عبادة
هؤلاء النفر ثمانين سنة لم يعصوه طرفة عين ، فقد أنزل الله خيرا من ذلك فقرأ عليه (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ
الْقَدْرِ
__________________
وَما
أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) هذا أفضل مما عجبت أنت وأمتك ، قال : فسر بذلك رسول الله صلىاللهعليهوسلم والناس معه.
وقال سفيان الثوري
: بلغني عن مجاهد (لَيْلَةُ الْقَدْرِ
خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) قال : عملها وصيامها وقيامها خير من ألف شهر ، رواه ابن
جرير وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا إبراهيم بن موسى ، أخبرنا ابن
أبي زائدة عن ابن جريج عن مجاهد : (لَيْلَةُ الْقَدْرِ
خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) ليس في تلك الشهور ليلة القدر ، وهكذا قال قتادة بن دعامة
والشافعي وغير واحد وقال عمرو بن قيس الملائي : عمل فيها خير من عمل ألف شهر ،
وهذا القول بأنها أفضل من عبادة ألف شهر ليس فيها ليلة القدر هو اختيار ابن جرير ،
وهو الصواب لا ما عداه وهو كقولهصلىاللهعليهوسلم : «رباط ليلة في سبيل الله خير من ألف ليلة فيما سواه من
المنازل» رواه أحمد وكما جاء في قاصد الجمعة بهيئة حسنة ، ونية صالحة أنه يكتب
له عمل سنة أجر صيامها وقيامها إلى غير ذلك من المعاني المشابهة لذلك.
وقال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، حدثنا أيوب عن أبي قلابة عن
أبي هريرة رضي الله عنه قال : لما حضر رمضان قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «قد جاءكم شهر رمضان شهر مبارك افترض الله عليكم صيامه ،
تفتح فيه أبواب الجنة وتغلق فيه أبواب الجحيم وتغل فيه الشياطين ، فيه ليلة خير من
ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم» ورواه النسائي من حديث أيوب به. ولما كانت ليلة
القدر تعدل عبادتها عبادة ألف شهر ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم
من ذنبه» .
وقوله تعالى : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ
فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) أي يكثر تنزل الملائكة في هذه الليلة لكثرة بركتها ،
والملائكة يتنزلون مع تنزل البركة والرحمة كما يتنزلون عند تلاوة القرآن ، ويحيطون
بحلق الذكر ، ويضعون أجنحتهم لطالب العلم بصدق تعظيما له ، وأما الروح فقيل المراد
به هاهنا جبريل عليهالسلام ، فيكون من باب عطف الخاص على العام ، وقيل هم ضرب من
الملائكة كما تقدم في سورة النبأ والله أعلم.
وقوله تعالى : (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) قال مجاهد : سلام هي من كل أمر ، وقال سعيد بن منصور : حدثنا
عيسى بن يونس ، حدثنا الأعمش عن مجاهد في قوله : (سَلامٌ هِيَ) قال : هي سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءا أو
يعمل فيها أذى ، وقال قتادة وغيره : تقضى فيها الأمور وتقدر الآجال والأرزاق كما
قال تعالى : (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ
أَمْرٍ حَكِيمٍ) [الدخان : ٤].
__________________
وقوله تعالى : (سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) قال سعيد بن منصور : حدثنا هشيم عن أبي إسحاق عن الشعبي في
قوله تعالى : (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ
سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) قال تسليم الملائكة ليلة القدر على أهل المساجد حتى يطلع
الفجر ، وروى ابن جرير عن ابن عباس أنه كان يقرأ من كل امرى (سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) وروى البيهقي في كتابه فضائل الأوقات عن علي أثرا غريبا في
نزول الملائكة ومرورهم على المصلين ليلة القدر وحصول البركة للمصلين ، وروى ابن
أبي حاتم عن كعب الأحبار أثرا غريبا عجيبا مطولا جدا ، في تنزل الملائكة من سدرة
المنتهى صحبة جبريل عليهالسلام إلى الأرض ودعائهم للمؤمنين والمؤمنات.
وقال أبو داود
الطيالسي : حدثنا عمران يعني القطان عن قتادة عن أبي ميمونة عن أبي هريرة أن رسول
الله صلىاللهعليهوسلم قال في ليلة القدر : «إنها ليلة سابعة أو تاسعة وعشرين وإن
الملائكة تلك الليلة في الأرض أكثر من عدد الحصى». وقال الأعمش عن المنهال عن عبد
الرّحمن بن أبي ليلى في قوله : (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ
سَلامٌ) قال : لا يحدث فيها أمر. وقال قتادة وابن زيد في قوله : (سَلامٌ هِيَ) يعني هي خير كلها ليس فيها شر إلى مطلع الفجر.
ويؤيد هذا ما رواه
الإمام أحمد : حدثنا حيوة بن شريح ، حدثنا بقية ، حدثني بحير بن سعد عن
خالد بن معدان عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «ليلة القدر في العشر البواقي ، من قامهن ابتغاء
حسبتهن فإن الله يغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وهي ليلة وتر : تسع أو سبع أو
خامسة أو ثالثة أو آخر ليلة».
وقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن أمارة ليلة القدر أنها صافية بلجة كأن فيها قمرا
ساطعا ساكنة ساجية لا برد فيها ولا حر ، ولا يحل لكوكب يرمى به فيها حتى تصبح ،
وإن أمارتها أن الشمس صبيحتها تخرج مستوية ليس لها شعاع مثل القمر ليلة البدر ولا
يحل للشيطان أن يخرج معها يومئذ» وهذا إسناد حسن ، وفي المتن غرابة وفي بعض ألفاظه
نكارة.
وقال أبو داود
الطيالسي : حدثنا زمعة عن سلمة بن وهرام عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال في ليلة القدر «ليلة سمحة طلقة بلجة لا حارة ولا باردة
وتصبح شمس صبيحتها ضعيفة حمراء» وروى ابن أبي عاصم النبيل بإسناده عن جابر بن عبد
الله أن رسول اللهصلىاللهعليهوسلم قال : «إني رأيت ليلة القدر فأنسيتها وهي في العشر الأواخر
من لياليها وهي طلقة بلجة لا حارة ولا باردة كأن فيها قمرا لا يخرج شيطانها حتى
يضيء فجرها».
[فصل] اختلف
العلماء هل كانت ليلة القدر في الأمم السالفة أو هي من خصائص هذه
__________________
الأمة؟ على قولين
: قال أبو مصعب أحمد بن أبي بكر الزهري : حدثنا مالك أنه بلغه أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أري أعمار الناس قبله أو ما شاء الله من ذلك فكأنه تقاصر
أعمار أمته أن لا يبلغوا من العمل الذي بلغ غيرهم في طول العمر ، فأعطاه الله ليلة
القدر خيرا من ألف شهر. وقد أسند من وجه آخر ، وهذا الذي قاله مالك يقتضي تخصيص
هذه الأمة بليلة القدر ، وقد نقله صاحب العدة أحد أئمة الشافعية عن جمهور العلماء
فالله أعلم ، وحكى الخطابي عليه الإجماع ونقله الراضي جازما به عن المذهب ، والذي
دل عليه الحديث أنها كانت في الأمم الماضين كما هي في أمتنا.
قال الإمام أحمد
بن حنبل : حدثنا يحيى بن سعيد عن عكرمة بن عمار ، حدثني أبو زميل
سماك الحنفي ، حدثني مالك بن مرثد بن عبد الله ، حدثني مرثد قال : سألت أبا ذر قلت
: كيف سألت رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن ليلة القدر؟ قال : أنا كنت أسأل الناس عنها قلت : يا
رسول الله ، أخبرني عن ليلة القدر أفي رمضان هي أو في غيره؟ قال : «بل هي في رمضان»
قلت : تكون مع الأنبياء ما كانوا فإذا قبضوا رفعت أم هي إلى يوم القيامة؟ قال : «بل
هي إلى يوم القيامة» قلت : في أي رمضان هي؟ قال : «التمسوها في العشر الأول والعشر
الآخر» ثم حدث رسول الله صلىاللهعليهوسلم. وحدث ثم اهتبلت غفلته قلت : في أي العشرين هي؟ قال : «ابتغوها
في العشر الأواخر ، لا تسألني عن شيء بعدها».
ثم حدث رسول الله
ثم اهتبلت غفلته فقلت : يا رسول الله أقسمت عليك بحقي عليك لما أخبرتني في أي
العشر هي؟ فغضب عليّ غضبا لم يغضب مثله منذ صحبته وقال : «التمسوها في السبع
الأواخر ، لا تسألني عن شيء بعدها» ورواه النسائي عن الفلاس عن يحيى بن سعيد
القطان به ، ففيه دلالة على ما ذكرناه وفيه أنها تكون باقية إلى يوم القيامة في كل
سنة بعد النبي صلىاللهعليهوسلم ، لا كما زعمه بعض طوائف الشيعة من رفعها بالكلية على ما
فهموه من الحديث الذي سنورده بعد من قوله عليهالسلام «فرفعت وعسى أن
يكون خيرا لكم» لأن المراد رفع علم وقتها عينا. وفيه دلالة على أن ليلة القدر يختص
وقوعها بشهر رمضان من بين سائر الشهور ، لا كما روي عن ابن مسعود ومن تابعه من
علماء أهل الكوفة من أنها توجد في جميع السنة وترتجي في جميع الشهور على السواء.
وقد ترجم أبو داود
في سننه على هذا فقال : «باب بيان أن ليلة القدر في كل رمضان» حدثنا حميد بن
زنجويه النسائي ، أخبرنا سعيد بن أبي مريم ، حدثنا محمد بن جعفر بن أبي كثير ،
حدثني موسى بن عقبة عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن عمر قال : سئل
رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأنا أسمع عن ليلة القدر فقال : «هي في كل رمضان» ، وهذا
إسناد رجاله ثقات،
__________________
إلا أن أبا داود
قال رواه شعبة وسفيان عن أبي إسحاق فأوقفاه ، وقد حكي عن أبي حنيفة. رحمهالله رواية أنها ترتجى في كل شهر رمضان وهو وجه حكاه الغزالي
واستغربه الرافعي جدا.
[فصل] ثم قد قيل
إنها تكون في أول ليلة من شهر رمضان ، يحكى هذا عن أبي رزين ، وقيل إنها تقع ليلة
سبع عشرة ، وروى فيه أبو داود حديثا مرفوعا عن ابن مسعود ، وروى موقوفا عليه وعلى
زيد بن أرقم وعثمان بن أبي العاص وهو قول عن محمد بن إدريس الشافعي ويحكى عن الحسن
البصري ، ووجهوه بأنها ليلة بدر وكانت ليلة جمعة هي السابعة عشرة من شهر رمضان ،
وفي صبيحتها كانت وقعة بدر وهي اليوم الذي قال الله تعالى فيه : (يَوْمَ الْفُرْقانِ). وقيل ليلة تسع عشرة يحكى عن علي وابن مسعود أيضا رضي الله
عنهما.
وقيل ليلة إحدى
وعشرين لحديث أبي سعيد الخدري قال : اعتكف رسول الله صلىاللهعليهوسلم في العشر الأول من رمضان واعتكفنا معه فأتاه جبريل فقال :
إن الذي تطلب أمامك ، فاعتكف العشر الأوسط فاعتكفنا معه ، فأتاه جبريل فقال : الذي
تطلب أمامك ثم قام رسول اللهصلىاللهعليهوسلم خطيبا صبيحة عشرين من رمضان قال : «من كان اعتكف معي
فليرجع فإني رأيت ليلة القدر وإني أنسيتها وإنها في العشر الأواخر في وتر وإني
رأيت كأني أسجد في طين وماء». وكان سقف المسجد جريدا من النخل وما نرى في السماء
شيئا ، فجاءت قزعة فمطرنا ، فصلى بنا النبي صلىاللهعليهوسلم حتى رأيت أثر الطين والماء على جبهة رسول الله صلىاللهعليهوسلم تصديق رؤياه ، وفي لفظ في صبح إحدى وعشرين ، أخرجاه في الصحيحين.
قال الشافعي :
وهذا الحديث أصح الروايات ، وقيل ليلة ثلاث وعشرين لحديث عبد الله بن أنيس في صحيح
مسلم ، وهو قريب السياق من رواية أبي سعيد فالله أعلم ، وقيل ليلة أربع وعشرين ،
قال أبو داود الطيالسي : حدثنا حماد بن سلمة عن الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد
أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «ليلة القدر ليلة أربع وعشرين» إسناده رجاله ثقات.
وقال أحمد : حدثنا موسى بن داود ، حدثنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي
حبيب عن أبي الخير عن الصنابحي عن بلال قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ليلة القدر ليلة أربع وعشرين» ابن لهيعة ضعيف ، وقد
خالفه ما رواه البخاري عن أصبغ عن ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن يزيد بن أبي حبيب
، عن أبي الخير عن أبي عبد الله الصنابحي قال : قال أخبرني بلال مؤذن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنها أول السبع من العشر الأواخر فهذا الموقوف أصح والله
أعلم.
وهكذا روي عن ابن
مسعود وابن عباس وجابر والحسن وقتادة وعبد الله بن وهب أنها ليلة
__________________
أربع وعشرين ، وقد
تقدم في سورة البقرة حديث واثلة بن الأسقع مرفوعا : «إن القرآن أنزل ليلة أربع
وعشرين» وقيل تكون ليلة خمس وعشرين لما رواه البخاري عن عبد الله بن عباس أن رسول
الله صلىاللهعليهوسلم قال : «التمسوها في العشر الأواخر من رمضان في تاسعة تبقى
في سابعة تبقى في خامسة تبقى» فسره كثيرون بليالي الأوتار وهو أظهر وأشهر ، وحمله
آخرون على الإشفاع كما رواه مسلم عن أبي سعيد أنه حمله على ذلك والله أعلم ، وقيل
إنها تكون ليلة سبع وعشرين لما رواه مسلم في صحيحه عن أبي بن كعب عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنها ليلة سبع وعشرين.
وقال الإمام أحمد : حدثنا سفيان سمعت عبدة وعاصما عن زر سألت أبي بن كعب قلت
أبا المنذر إن أخاك ابن مسعود يقول من يقم الحول يصب ليلة القدر ، قال يرحمهالله لقد علم أنها في شهر رمضان وأنها ليلة سبع وعشرين ، ثم حلف
، قلت وكيف تعلمون ذلك؟ قال بالعلامة أو بالآية التي أخبرنا بها ، تطلع ذلك اليوم
لا شعاع لها يعني الشمس ، وقد رواه مسلم من طريق سفيان بن عيينة وشعبة والأوزاعي
عن عبدة عن زر عن أبي فذكره وفيه فقال : والله الذي لا إله إلا هو إنها لفي رمضان
يحلف ما يستثني ، وو الله إني لأعلم أي ليلة القدر هي التي أمرنا رسول اللهصلىاللهعليهوسلم بقيامها هي ليلة سبع وعشرين ، وأمارتها أن تطلع الشمس في
صبيحتها بيضاء لا شعاع لها.
وفي الباب عن
معاوية وابن عمر وابن عباس وغيرهم عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنها ليلة سبع وعشرين ، وهو قول طائفة من السلف وهو الجادة
من مذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمهالله وهو رواية عن أبي حنيفة أيضا وقد حكي عن بعض السلف أنه
حاول استخراج كونها ليلة سبع وعشرين من القرآن من قوله : (هِيَ) لأنها الكلمة السابعة والعشرون من السورة فالله أعلم.
وقد قال الحافظ
أبو القاسم الطبراني : حدثنا إسحاق بن إبراهيم الدبري أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا
معمر عن قتادة وعاصم أنهما سمعا عكرمة يقول : قال ابن عباس دعا عمر بن الخطاب
أصحاب محمد صلىاللهعليهوسلم فسألهم عن ليلة القدر ، فأجمعوا على أنها في العشر الأواخر
، قال ابن عباس فقلت لعمر إني لأعلم ـ أو إني لأظن ـ أي ليلة القدر هي فقال عمر : وأي
ليلة هي؟ فقلت سابعة تمضي ـ أو سابعة تبقى ـ من العشر الأواخر فقال عمر : من أين
علمت ذلك؟ قال ابن عباس فقلت خلق الله سبع سموات وسبع أرضين وسبعة أيام ، وإن
الشهر يدور على سبع وخلق الإنسان من سبع ، ويأكل من سبع ويسجد على سبع ، والطواف
بالبيت سبع ورمي الجمار سبع لأشياء ذكرها ، فقال عمر لقد فطنت لأمر ما فطنا له ،
وكان قتادة يزيد عن ابن عباس في قوله ويأكل من سبع ، قال هو قول الله تعالى : (فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً) [عبس : ٢٧] الآية.
وهذا إسناد جيد قوي ومتن غريب جدا فالله أعلم.
__________________
وقيل إنها تكون في
ليلة تسع وعشرين. وقال الإمام أحمد بن حنبل : حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم ، حدثنا سعيد بن سلمة ،
حدثنا عبد الله بن محمد بن عقيل عن عمر بن عبد الرّحمن عن عبادة بن الصامت أنه سأل
رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن ليلة القدر ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «في رمضان التمسوها في العشر الأواخر فإنها في وتر إحدى
وعشرين أو ثلاث وعشرين أو خمس وعشرين أو سبع وعشرين أو تسع وعشرين أو في آخر ليلة».
وقال الإمام أحمد : حدثنا سليمان بن داود وهو أبو داود الطيالسي ، حدثنا
عمران القطان عن قتادة عن أبي ميمونة عن أبي هريرة أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال في ليلة القدر : «إنها في ليلة سابعة أو تاسعة وعشرين
وإن الملائكة تلك الليلة في الأرض أكثر من عدد الحصى» تفرد به أحمد وإسناده لا بأس
به.
وقيل إنها تكون في
آخر ليلة لما تقدم من هذا الحديث آنفا ، ولما رواه الترمذي والنسائي من حديث عيينة
بن عبد الرّحمن عن أبيه عن أبي بكرة أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «في تسع يبقين أو سبع يبقين أو خمس يبقين أو ثلاث
يبقين أو آخر ليلة يعني التمسوا ليلة القدر» وقال الترمذي: حسن صحيح ، وفي المسند من طريق أبي سلمة عن
أبي هريرة عن النبي صلىاللهعليهوسلم في ليلة القدر «إنها آخر ليلة».
[فصل] قال الشافعي
في هذه الروايات : صدرت من النبي صلىاللهعليهوسلم جوابا للسائل إذا قيل له أنلتمس ليلة القدر في الليلة
الفلانية؟ يقول «نعم» وإنما ليلة القدر معينة لا تنتقل. نقله الترمذي عنه بمعناه
وروي عن أبي قلابة أنه قال : ليلة القدر تنتقل في العشر الأواخر وهذا الذي حكاه عن
أبي قلابة نص عليه مالك والثوري وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور والمزني
وأبو بكر بن خزيمة وغيرهم ، وهو محكي عن الشافعي نقله القاضي عنه وهو الأشبه والله
أعلم.
وقد يستأنس لهذا
القول بما ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن عمر أن رجالا من أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر من رمضان ،
فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر فمن كان متحريها
فليتحرها في السبع الأواخر» وفيهما أيضا عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من
رمضان» ولفظه للبخاري.
ويحتج للشافعي
أنها لا تنتقل وأنها معينة من الشهر بما رواه البخاري في صحيحه عن
__________________
عبادة بن الصامت
قال : خرج رسول الله صلىاللهعليهوسلم ليخبرنا بليلة القدر فتلاحى رجلان من المسلمين. فقال : «خرجت
لأخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرفعت وعسى أن يكون خيرا لكم فالتمسوها في
التاسعة والسابعة والخامسة» وجه الدلالة منه أنها لو لم تكن معينة مستمرة التعيين
لما حصل لهم العلم بعينها في كل سنة ، إذ لو كانت تنتقل لما علموا تعيينها إلا ذلك
العام فقط ، اللهم إلا أن يقال إنه إنما خرج ليعلمهم بها تلك السنة فقط وقوله : «فتلاحى
فلان وفلان فرفعت» فيه استئناس لما يقال إن المماراة تقطع الفائدة والعلم النافع
كما جاء في الحديث «إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه» وقوله «فرفعت» أي رفع علم تعيينها لكم لا أنها رفعت
بالكلية من الوجود كما يقوله جهلة الشيعة لأنه قد قال بعد هذا : «فالتمسوها في
التاسعة والسابعة والخامسة».
وقوله : «وعسى أن
يكون خيرا لكم» يعني عدم تعيينها لكم فإنها إذا كانت مبهمة اجتهد طلابها في
ابتغائها في جميع محال رجائها ، فكان أكثر للعبادة بخلاف ما إذا علموا عينها فإنها
كانت الهمم تتقاصر على قيامها فقط ، وإنما اقتضت الحكمة إبهامها لتعم العبادة جميع
الشهر في ابتغائها ، ويكون الاجتهاد في العشر الأخير أكثر ، ولهذا كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عزوجل ، ثم اعتكف أزواجه من بعده ، أخرجاه من حديث عائشة. ولهما عن ابن عمر كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان ، وقالت عائشة : كان رسول
الله صلىاللهعليهوسلم إذا دخل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله وشد المئزر أخرجاه ، ولمسلم عنها كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يجتهد في العشر ما لا يجتهد في غيره وهذا معنى قولها وشد
المئزر: وقيل المراد بذلك اعتزال النساء ويحتمل أن يكون كناية عن الأمرين لما رواه
الإمام أحمد : حدثنا سريج ، حدثنا أبو معشر عن هشام بن عروة عن أبيه عن
عائشة قالت : كان رسول اللهصلىاللهعليهوسلم إذا بقي عشر من رمضان شد مئزره واعتزل نساءه انفرد به
أحمد.
وقد حكي عن مالك رحمهالله أن في جميع ليالي العشر تطلب ليلة القدر على السواء لا
يترجح منها ليلة على أخرى رأيته في شرح الرافعي رحمهالله ، والمستحب الإكثار من الدعاء في جميع الأوقات وفي شهر
رمضان أكثر ، وفي العشر الأخير منه ثم في أوتاره أكثر والمستحب أن يكثر من هذا
الدعاء : اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني.
لما رواه الإمام
أحمد : حدثنا يزيد هو ابن هارون ، حدثنا الجريري وهو سعيد بن إياس
__________________
عن عبد الله بن
بريدة أن عائشة قالت : يا رسول الله إن وافقت ليلة القدر فما أدعو؟ قال : «قولي
اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني» وقد رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة من طريق كهمس بن
الحسن عن عبد الله بن بريدة عن عائشة قالت : قلت يا رسول الله أرأيت إن علمت أي
ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال «قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني» وهذا لفظ
الترمذي ثم قال هذا حديث حسن صحيح وأخرجه الحاكم في مستدركه وقال هذا صحيح على شرط
الشيخين ، ورواه النسائي أيضا من طريق سفيان الثوري عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن
بريدة عن عائشة قالت : قلت يا رسول الله أرأيت إن وافقت ليلة القدر ما أقول فيها؟
قال : «قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني».
[ذكر أثر غريب
ونبأ عجيب يتعلق بليلة القدر] رواه الإمام أبو محمد بن أبي حاتم عند تفسير هذه
السورة الكريمة فقال : حدثنا أبي حدثنا عبد الله بن أبي زياد القطواني ، حدثنا
سيار بن حاتم حدثنا موسى بن سعيد يعني الراسبي عن هلال بن أبي جبلة ، عن أبي عبد
السّلام عن أبيه عن كعب أنه قال : إن سدرة المنتهى على حد السماء السابعة مما يلي
الجنة فهي على حد هواء الدنيا وهواء الآخرة ، علوها في الجنة وعروقها وأغصانها من
تحت الكرسي ، فيها ملائكة لا يعلم عدتهم إلا الله عزوجل ، يعبدون الله عزوجل على أغصانها في كل موضع شعرة منها ملك ومقام جبريلعليهالسلام في وسطها فينادي الله جبريل أن ينزل في كل ليلة القدر مع
الملائكة الذين يسكنون سدرة المنتهى وليس فيهم ملك إلا قد أعطي الرأفة والرحمة
للمؤمنين.
فينزلون مع جبريل
في ليلة القدر حين تغرب الشمس ، فلا تبقى بقعة في ليلة القدر إلا وعليها ملك إما
ساجد وإما قائم يدعو للمؤمنين والمؤمنات ، إلا أن تكون كنيسة أو بيعة أو بيت نار
أو وثن أو بعض أماكنكم التي تطرحون فيها الخبث ، أو بيت فيه سكران أو بيت فيه مسكر
أو بيت فيه وثن منصوب ، أو بيت فيه جرس معلق أو مبولة أو مكان فيه كساحة البيت ،
فلا يزالون ليلتهم تلك يدعون للمؤمنين والمؤمنات وجبريل لا يدع أحدا من المؤمنين
إلا صافحه ، وعلامة ذلك من اقشعر جلده ورق قلبه ودمعت عيناه فإن ذلك من مصافحة
جبريل.
وذكر كعب أن من
قال في ليلة القدر : لا إله إلا الله ثلاث مرات غفر الله له بواحدة ونجاه من النار
بواحدة وأدخله الجنة بواحدة ، فقلنا لكعب الأحبار يا أبا إسحاق صادقا ، فقال كعب
الأحبار : وهل يقول لا إله إلا الله في ليلة القدر إلا كل صادق؟ والذي نفسي بيده
إن ليلة القدر لتثقل على الكافر والمنافق حتى كأنها على ظهره جبل ، فلا تزال
الملائكة هكذا حتى يطلع الفجر ، فأول من يصعد جبريل حتى يكون في وجه الأفق الأعلى
من الشمس فيبسط جناحيه وله جناحان أخضران لا ينشرهما إلا في تلك الساعة ، فتصير
الشمس لا شعاع لها ثم يدعو ملكا
__________________
ملكا فيصعد فيجتمع
نور الملائكة ونور جناحي جبريل ، فلا تزال الشمس يومها ذلك متحيرة ، فيقيم جبريل
ومن معه بين الأرض وبين السماء الدنيا يومهم ذلك في دعاء ورحمة واستغفار للمؤمنين
والمؤمنات ولمن صام رمضان إيمانا واحتسابا ، ودعا لمن حدث نفسه إن عاش إلى قابل
صام رمضان لله ، فإذا أمسوا دخلوا إلى السماء الدنيا فيجلسون حلقا حلقا فتجتمع
إليهم ملائكة سماء الدنيا ، فيسألونهم عن رجل رجل وعن امرأة امرأة ، فيحدثونهم حتى
يقولوا ما فعل فلان وكيف وجدتموه العام؟
فيقولون : وجدنا
فلانا عام أول في هذه الليلة متعبدا ، ووجدناه العام مبتدعا ، ووجدنا فلانا مبتدعا
ووجدناه العام عابدا ، قال : فيكفون عن الاستغفار لذلك ويقبلون على الاستغفار لهذا
، ويقولون : وجدنا فلانا وفلانا يذكران الله ووجدنا فلانا راكعا وفلانا ساجدا ،
ووجدناه تاليا لكتاب الله ، قال : فهم كذلك يومهم وليلتهم حتى يصعدون إلى السماء
الثانية ، ففي كل سماء يوم وليلة حتى ينتهوا مكانهم من سدرة المنتهى : فتقول لهم
سدرة المنتهى ، يا سكاني حدثوني عن الناس وسموهم لي ، فإن لي عليكم حقا ، وإني أحب
من أحب الله ، فذكر كعب الأحبار أنهم يعدون لها ويحكون لها الرجل والمرأة بأسمائهم
وأسماء آبائهم ، ثم تقبل الجنة على السدرة فتقول : أخبريني بما أخبرك سكانك من
الملائكة فتخبرها.
قال : فتقول الجنة
رحمة الله على فلان ورحمة الله على فلانة ، اللهم عجلهم إلي فيبلغ جبريل مكانه
قبلهم ، فيلهمه الله فيقول : وجدت فلانا ساجدا فاغفر له ، فيغفر له ، فيسمع جبريل
جميع حملة العرش فيقولون : رحمة الله على فلان ورحمة الله على فلانة ومغفرته لفلان
، ويقول : يا رب وجدت عبدك فلانا الذي وجدته عام أول على السنة والعبادة ، ووجدته
العام قد أحدث حدثا وتولى عما أمر به فيقول الله : يا جبريل إن تاب فأعتبني قبل أن
يموت بثلاث ساعات غفرت له. فيقول جبريل لك الحمد إلهي أنت أرحم من جميع خلقك وأنت
أرحم بعبادك من عبادك بأنفسهم ، قال : فيرتج العرش وما حوله والحجب والسموات ومن
فيهن تقول الحمد لله الرّحيم الحمد لله الرّحيم. قال وذكر كعب أنه من صام رمضان
وهو يحدث نفسه إذا أفطر بعد رمضان أن لا يعصي الله ، دخل الجنة بغير مسألة ولا
حساب ، آخر تفسير سورة ليلة القدر. ولله الحمد والمنة.
تفسير سورة البينة
مدنية
قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا حماد هو ابن سلمة ، أخبرنا علي هو
ابن زيد عن
__________________
عمار بن أبي عمار
قال : سمعت أبا حية البدري وهو مالك بن عمرو بن ثابت الأنصاري قال : لما نزلت (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ
أَهْلِ الْكِتابِ) إلى آخرها قال
جبريل : يا رسول الله إن ربك يأمرك أن تقرئها أبيا. فقال النبي صلىاللهعليهوسلم لأبي «إن جبريل أمرني أن أقرئك هذه السورة» قال أبي : وقد
ذكرت ثم يا رسول الله؟ قال «نعم» قال : فبكى أبي.
[حديث آخر] وقال
الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، سمعت قتادة يحدث أن
أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم لأبي بن كعب : «إن الله أمرني أن أقرأ عليك (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ
أَهْلِ الْكِتابِ) قال : وسماني لك؟ قال «نعم» فبكى ورواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي من حديث شعبة به.
[حديث آخر] قال
الإمام أحمد : حدثنا مؤمل ، حدثنا سفيان ، حدثنا أسلم المنقري عن عبد
الله بن عبد الرّحمن بن أبزى عن أبيه عن أبي بن كعب قال : قال لي رسول اللهصلىاللهعليهوسلم : «إني أمرت أن أقرأ عليك سورة كذا وكذا» قلت : يا رسول
الله وقد ذكرت هناك؟ قال «نعم» فقلت له : يا أبا المنذر ففرحت بذلك. قال : وما
يمنعني والله يقول : (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ
وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس : ٥٨] قال
مؤمل : قلت لسفيان القراءة في الحديث؟ قال : نعم. تفرد به من هذا الوجه.
[طريق أخرى] قال
أحمد : حدثنا محمد بن جعفر وحجاج قالا : حدثنا شعبة عن عاصم بن بهدلة عن زر بن
حبيش عن أبي بن كعب قال : إن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال لي : «إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن ـ قال فقرأ ـ
(لَمْ يَكُنِ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) ـ قال فقرأ فيها ـ ولو أن ابن آدم سأل واديا من مال فأعطيه
لسأل ثانيا ، ولو سأل ثانيا فأعطيه لسأل ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ،
ويتوب الله على من تاب. وإن ذلك الدين عند الله الحنيفية غير المشركة ولا اليهودية
ولا النصرانية ومن يفعل خيرا فلن يكفره» ورواه الترمذي من حديث أبي داود الطيالسي عن شعبة به وقال
: حسن صحيح.
[طريق أخرى] قال
الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا أحمد بن خليد الحلبي ، حدثنا محمد بن عيسى
الطباع ، حدثنا معاذ بن محمد بن معاذ بن أبي بن كعب عن أبيه عن جده عن أبي بن كعب
قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «يا أبا المنذر إني أمرت أن أعرض عليك القرآن» قال:
__________________
بالله آمنت وعلى
يدك أسلمت ومنك تعلمت ، قال : فرد النبي صلىاللهعليهوسلم القول ، قال : فقال : يا رسول الله أذكرت هناك؟ قال : «نعم
باسمك ونسبك في الملأ الأعلى» قال : فاقرأ إذا يا رسول الله ، هذا غريب من هذا
الوجه.
والثابت ما تقدم
وإنما قرأ عليه النبي صلىاللهعليهوسلم هذه السورة تثبيتا له وزيادة لإيمانه ، فإنه كما رواه أحمد
والنسائي من طريق أنس عنه ، ورواه أحمد وأبو داود من حديث سليمان بن صرد عنه ،
ورواه أحمد عن عفان عن حماد عن حميد عن أنس عن عبادة بن الصامت عنه ، ورواه أحمد
ومسلم وأبو داود والنسائي من حديث إسماعيل بن أبي خالد عن عبد الله بن عيسى عن عبد
الرّحمن بن أبي ليلى عنه ـ كان قد أنكر على إنسان وهو عبد الله بن مسعود قراءة شيء
من القرآن على خلاف ما أقرأه رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فرفعه إلى النبي صلىاللهعليهوسلم فاستقرأهما وقال لكل منهما «أصبت» قال أبي : فأخذني من
الشك ولا إذ كنت في الجاهلية ، فضرب رسول الله صلىاللهعليهوسلم في صدره ، قال أبي : ففضت عرقا وكأنما أنظر إلى الله فرقا
، وأخبره رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن جبريل أتاه فقال : إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن
على حرف. فقلت : أسأل الله معافاته ومغفرته فقال : على حرفين» فلم يزل حتى قال : «إن
الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على سبعة أحرف» ، كما قدمنا ذكر هذا الحديث بطرقه
ولفظه في أول التفسير ، فلما نزلت هذه السورة وفيها (رَسُولٌ مِنَ اللهِ
يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) [البينة : ٣]
قرأها عليه رسول الله صلىاللهعليهوسلم قراءة إبلاغ وتثبيت وإنذار ، لا قراءة تعلم واستذكار والله
أعلم.
وهذا كما أن عمر
بن الخطاب لما سأل رسول الله صلىاللهعليهوسلم يوم الحديبية عن تلك الأسئلة وكان فيما قال أو لم تكن
تخبرنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ، قال : «بلى أفأخبرتك أنك تأتيه عامك هذا» قال :
لا. قال : «فإنك آتيه ومطوف به» فلما رجعوا من الحديبية وأنزل الله على النبي صلىاللهعليهوسلم سورة الفتح دعا عمر بن الخطاب فقرأها عليه وفيها قوله : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ
الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ
آمِنِينَ) [الفتح : ٢٧]
الآية كما تقدم.
وروى الحافظ أبو
نعيم في كتابه أسماء الصحابة من طريق محمد بن إسماعيل الجعفري المدني حدثنا عبد
الله بن سلمة بن أسلم عن ابن شهاب عن إسماعيل بن أبي حكيم المدني ، حدثني فضيل :
سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «إن الله ليسمع قراءة (لَمْ يَكُنِ
الَّذِينَ كَفَرُوا) فيقول أبشر عبدي فوعزتي لأمكنن لك في الجنة حتى ترضى» حديث
غريب جدا ، وقد رواه الحافظ أبو موسى المديني وابن الأثير من طريق الزهري عن
إسماعيل بن أبي حكيم عن نظير المزني ـ أو المدني ـ عن النبي صلىاللهعليهوسلم : «إن الله ليسمع قراءة (لَمْ يَكُنِ
الَّذِينَ كَفَرُوا) ، ويقول أبشر عبدي ، فوعزتي لا أنساك على حال من أحوال
الدنيا والآخرة ولأمكنن لك في الجنة حتى ترضى».
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(لَمْ يَكُنِ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى
تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (١)
رَسُولٌ
مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (٢) فِيها كُتُبٌ
قَيِّمَةٌ (٣) وَما تَفَرَّقَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (٤) وَما أُمِرُوا
إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا
الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)
(٥)
أما أهل الكتاب
فهم اليهود والنصارى والمشركون عبدة الأوثان والنيران من العرب ومن العجم ، وقال
مجاهد : لم يكونوا (مُنْفَكِّينَ) يعني منتهين حتى يتبين لهم الحق وهكذا قال قتادة (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) أي هذا القرآن ، ولهذا قال تعالى : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ
أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ). ثم فسر البينة بقوله : (رَسُولٌ مِنَ اللهِ
يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً) يعني محمدا صلىاللهعليهوسلم وما يتلوه من القرآن العظيم الذي هو مكتتب في الملأ الأعلى
في صحف مطهرة ، كقوله : (فِي صُحُفٍ
مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرامٍ بَرَرَةٍ) [عبس: ١٣ ـ ١٦] ، وقوله تعالى : (فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) قال ابن جرير : أي في الصحف المطهرة كتب من الله قيمة
عادلة مستقيمة ليس فيها خطأ لأنها من عند الله عزوجل.
قال قتادة : (رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً
مُطَهَّرَةً) يذكر القرآن بأحسن الذكر ، ويثني عليه بأحسن الثناء ، وقال
ابن زيد (فِيها كُتُبٌ
قَيِّمَةٌ) مستقيمة معتدلة ، وقوله تعالى : (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) كقوله : (وَلا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ
وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) [آل عمران : ١٠٥]
يعني بذلك أهل الكتب المنزلة على الأمم قبلنا ، بعد ما أقام الله عليهم الحجج
والبينات تفرقوا واختلفوا في الذي أراده الله من كتبهم واختلفوا اختلافا كثيرا ،
كما جاء في الحديث المروي من طرق : «إن اليهود اختلفوا على إحدى وسبعين فرقة ، وإن
النصارى اختلفوا على ثنتين وسبعين فرقة ، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة
كلها في النار إلا واحدة» قالوا : من هم يا رسول الله؟ قال : «ما أنا عليه وأصحابي»
.
وقوله تعالى : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا
اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) كقوله : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ
قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا
فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء : ٢٥]
ولهذا قال : (حُنَفاءَ) أي متحنفين عن الشرك إلى التوحيد كقوله : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ
رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [النحل : ٣٦] وقد
تقدم تقرير الحنيف في سورة الأنعام بما أغنى عن إعادته هاهنا (وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ) وهي أشرف عبادات البدن (وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ) وهي الإحسان إلى الفقراء والمحاويج (وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) أي الملة القائمة العادلة أو الأمة المستقيمة المعتدلة ،
وقد استدل كثير من الأئمة كالزهري والشافعي بهذه الآية الكريمة أن الأعمال داخلة
في الإيمان ، ولهذا قال :
__________________
(إِلَّا لِيَعْبُدُوا
اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا
الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ).
(إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ
فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (٦)
إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (٧) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ
رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها
أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ)
(٨)
يخبر تعالى عن مآل
الفجار من أهل كفرة الكتاب والمشركين المخالفين لكتب الله المنزلة وأنبياء الله
المرسلة أنهم يوم القيامة (فِي نارِ جَهَنَّمَ
خالِدِينَ فِيها) أي ماكثين لا يحولون عنها ولا يزولون (أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ) أي شر الخليقة التي برأها الله وذرأها ثم أخبر تعالى عن
حال الأبرار الذين آمنوا بقلوبهم وعملوا الصالحات بأبدانهم بأنهم خير البرية ، وقد
استدل بهذه الآية أبو هريرة وطائفة من العلماء على تفضيل المؤمنين من البرية على
الملائكة لقوله : (أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ
الْبَرِيَّةِ).
ثم قال تعالى : (جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي يوم القيامة (جَنَّاتُ عَدْنٍ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) أي بلا انفصال ولا انقضاء ولا فراغ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) ومقام رضاه عنهم أعلى مما أوتوه من النعيم المقيم (وَرَضُوا عَنْهُ) فيما منحهم من
الفضل العميم.
وقوله تعالى : (ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) أي هذا الجزاء حاصل لمن خشي الله واتقاه حق تقواه ، وعبده
كأنه يراه وعلم أنه إن لم يره فإنه يراه.
وقال الإمام أحمد : حدثنا إسحاق بن عيسى ، حدثنا أبو معشر عن أبي وهب مولى
أبي هريرة ، عن أبي هريرة. قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ألا أخبركم بخير البرية؟» قالوا بلى يا رسول الله. قال
: «رجل آخذ بعنان فرسه في سبيل الله كلما كانت هيعة استوى عليه. ألا أخبركم بخير
البرية؟» قالوا : بلى يا رسول الله. قال : «رجل في ثلة من غنمه يقيم الصلاة ويؤتي
الزكاة. ألا أخبركم بشر البرية؟» قالوا : بلى قال : «الذي يسأل بالله ولا يعطي به».
آخر تفسير سورة لم
يكن ، ولله الحمد والمنة.
تفسير سورة الزلزلة
وهي مكية
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو عبد الرّحمن ، حدثنا سعيد ، حدثنا عياش بن
عباس عن
__________________
عيسى بن هلال
الصدفي عن عبد الله بن عمرو قال : أتى رجل إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : «أقرئني يا رسول الله» ، قال له : «اقرأ ثلاثا من
ذوات الراء» فقال له الرجل : كبر سني واشتد قلبي وغلظ لساني ، قال : «فاقرأ من
ذوات حم» فقال مثل مقالته الأولى ، فقال «اقرأ ثلاثا من المسبحات» فقال مثل مقالته
، فقال الرجل : ولكن أقرئني يا رسول الله سورة جامعة فأقرأه : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) حتى إذا فرغ منها قال الرجل : والذي بعثك بالحق نبيا لا
أزيد عليها أبدا ، ثم أدبر الرجل فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أفلح الرويجل ، أفلح الرويجل ـ ثم قال ـ علي به ـ فجاءه
فقال له ـ أمرت بيوم الأضحى جعله الله عيدا لهذه الأمة» فقال له الرجل : أرأيت إن
لم أجد إلا منيحة أنثى فأضحي بها؟ قال : «لا ولكنك تأخذ من شعرك وتقلم أظافرك وتقص
شاربك وتحلق عانتك فذاك تمام أضحيتك عند الله عزوجل» وأخرجه أبو داود والنسائي من حديث أبي عبد الرّحمن المقرئي
به.
وقال الترمذي : حدثنا محمد بن موسى الحرشي البصري حدثنا الحسن بن سلم بن
صالح العجلي ، حدثنا ثابت البناني عن أنس قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من قرأ إذا زلزلت عدلت له بنصف القرآن» ثم قال : هذا
حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث الحسن بن سلم ، وقد رواه البزار عن محمد بن موسى
الحرشي عن الحسن بن سلم عن ثابت عن أنس قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) تعدل ثلث القرآن ، و (إِذا زُلْزِلَتِ) تعدل ربع القرآن» هذا لفظه.
وقال الترمذي أيضا : حدثنا علي بن حجر. حدثنا يزيد بن هارون حدثنا يمان
بن المغيرة العنزي ، حدثنا عطاء عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إذا زلزلت تعدل نصف القرآن ، وقل هو الله أحد تعدل ثلث
القرآن ، وقل يا أيها الكافرون تعدل ربع القرآن ، ثم قال غريب لا نعرفه إلا من
حديث يمان بن المغيرة.
وقال أيضا حدثنا
عقبة بن مكرم العمي البصري حدثني ابن أبي فديك أخبرني سلمة بن وردان عن أنس بن
مالك أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال لرجل من أصحابه : «هل تزوجت يا فلان» قال : لا والله
يا رسول الله ولا عندي ما أتزوج؟ ـ قال : «أليس معك قل هو الله أحد ـ قال بلى ـ قال
ـ ثلث القرآن ـ قال أليس معك إذا جاء نصر الله والفتح؟ ـ قال بلى. قال ربع القرآن
ـ قال ـ أليس معك قل يا أيها الكافرون؟ ـ قال بلى قال ـ ربع القرآن ـ قال ـ أليس
معك إذا زلزلت الأرض ـ قال بلى ، قال ـ ربع القرآن ، تزوج تزوج» ثم قال هذا حديث
حسن ، تفرد بهن ثلاثتهن الترمذي لم يروهن غيره من أصحاب الكتب.
__________________
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(إِذا زُلْزِلَتِ
الْأَرْضُ زِلْزالَها (١) وَأَخْرَجَتِ
الْأَرْضُ أَثْقالَها (٢) وَقالَ الْإِنْسانُ
ما لَها (٣) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (٤)
بِأَنَّ
رَبَّكَ أَوْحى لَها (٥) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ
النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ(٦) فَمَنْ يَعْمَلْ
مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ
مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)
(٨)
قال ابن عباس : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) أي تحركت من أسفلها (وَأَخْرَجَتِ
الْأَرْضُ أَثْقالَها) يعني ألقت ما فيها من الموتى قاله غير واحد من السلف ،
وهذه كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ
اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) [الحج : ١] وكقوله
: (وَإِذَا الْأَرْضُ
مُدَّتْ وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ) [الانشقاق : ٣ ـ ٤].
وقال مسلم في
صحيحه : حدثنا واصل بن عبد الأعلى حدثنا محمد بن فضيل عن أبيه عن أبي حازم عن أبي
هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «تلقي الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوان من الذهب والفضة
، فيجيء القاتل فيقول في هذا قتلت ، ويجيء القاطع فيقول في هذا قطعت رحمي ويجيء
السارق فيقول في هذا قطعت يدي ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئا» .
وقوله عزوجل : (وَقالَ الْإِنْسانُ
ما لَها) أي استنكر أمرها بعد ما كانت قارة ساكنة ثابتة وهو مستقر
على ظهرها أي تقلبت الحال فصارت متحركة مضطربة قد جاءها من أمر الله تعالى ما قد
أعده لها من الزلزال الذي لا محيد لها عنه ، ثم ألقت ما في بطنها من الأموات من
الأولين والآخرين ، وحينئذ استنكر الناس أمرها وتبدلت الأرض غير الأرض والسموات
وبرزوا لله الواحد القهار.
وقوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها) أي تحدث بما عمل العاملون على ظهرها. قال الإمام أحمد : حدثنا إبراهيم حدثنا ابن المبارك وقال الترمذي وأبو عبد
الرّحمن النسائي واللفظ له حدثنا سويد بن نصر أخبرنا عبد الله هو ابن المبارك عن
سعيد بن أبي أيوب عن يحيى بن أبي سليمان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال : قرأ
رسول الله صلىاللهعليهوسلم هذه الآية : (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ
أَخْبارَها) قال : «أتدرون ما أخبارها؟» قالوا : الله ورسوله أعلم. قال
: «فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد وأمة بما عمل على ظهرها أن تقول عمل كذا وكذا
يوم كذا وكذا فهذه أخبارها» ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح غريب ، وفي معجم
الطبراني من حديث ابن لهيعة حدثني الحارث بن يزيد سمع ربيعة الجرشي أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «تحفظوا
__________________
من الأرض فإنها
أمكم وإنه ليس من أحد عامل عليها خيرا أو شرا إلا وهي مخبرة».
وقوله تعالى : (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) قال البخاري : أوحى لها وأوحى إليها ووحى لها ووحى إليها واحد ، وكذا
قال ابن عباس : (أَوْحى لَها) أي أوحى إليها ، والظاهر أن هذا مضمن بمعنى أذن لها. وقال
شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ
أَخْبارَها) قال : قال لها ربها قولي فقالت ، وقال مجاهد : (أَوْحى لَها) أي أمرها ، وقال القرظي : أمرها أن تنشق عنهم.
وقوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً) أي يرجعون عن موقف الحساب (أَشْتاتاً) أي أنواعا وأصنافا ما بين شقي وسعيد مأمور به إلى الجنة
ومأمور به إلى النار ، قال ابن جريج : يتصدعون أشتاتا فلا يجتمعون آخر ما عليهم ،
وقال السدي : (أَشْتاتاً) فرقا. وقوله تعالى : (لِيُرَوْا
أَعْمالَهُمْ) أي ليعلموا بما عملوه في الدنيا من خير وشر ، ولهذا قال : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ
خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ).
قال البخاري : حدثنا إسماعيل بن عبد الله ، حدثني مالك عن زيد بن أسلم
عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «الخيل لثلاثة ، لرجل أجر ولرجل ستر وعلى رجل وزر.
فأما الذي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله فأطال طيلها في مرج أو روضة فما أصابت
في طيلها ذلك في المرج والروضة كان له حسنات ، ولو أنها قطعت طيلها فاستنت شرفا أو
شرفين كانت آثارها وأرواثها حسنات له ، ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ولم يرد أن
تسقى به كان ذلك حسنات له ، وهي لذلك الرجل أجر. ورجل ربطها تغنيا وتعففا ولم ينس
حق الله في رقابها ولا ظهورها فهي له ستر ، ورجل ربطها فخرا ورياء ونواء فهي على
ذلك وزر» فسئل رسول اللهصلىاللهعليهوسلم عن الحمر فقال : «ما أنزل الله فيها شيئا إلا هذه الآية
الفاذة الجامعة (فَمَنْ يَعْمَلْ
مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) ورواه مسلم من حديث زيد بن أسلم به.
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا جرير بن حازم ، حدثنا
الحسن عن صعصعة بن معاوية عم الفرزدق أنه أتى النبي صلىاللهعليهوسلم فقرأ عليه (فَمَنْ يَعْمَلْ
مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) قال : حسبي لا أبالي أن لا أسمع غيرها. وهكذا رواه النسائي
في التفسير عن إبراهيم بن محمد بن يونس المؤدب عن أبيه ، عن جرير بن حازم عن الحسن
البصري قال : حدثنا صعصعة عم الفرزدق فذكره.
__________________
وفي صحيح البخاري
عن عدي مرفوعا «اتقوا النار ولو بشق تمرة ولو بكلمة طيبة» وله أيضا في الصحيح «لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تفرغ
من دلوك في إناء المستسقي ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط» وفي الصحيح أيضا «يا معشر نساء المؤمنات لا تحقرن جارة لجارتها
ولو فرسن شاة» يعني ظلفها ، وفي الحديث الآخر «ردوا السائل ولو بظلف محرق»
.
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري ، حدثنا كثير بن زيد عن
المطلب بن عبد الله عن عائشة أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «يا عائشة استتري من النار ولو بشق تمرة فإنها تسد
من الجائع مسدها من الشبعان» تفرد به أحمد. وروي عن عائشة أنها تصدقت بعنبة وقالت
: كم فيها من مثقال ذرة .
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو عامر ، حدثنا سعيد بن مسلم ، سمعت عامر بن عبد
الله بن الزبير ، حدثني عوف بن الحارث بن الطفيل ، أن عائشة أخبرته أن النبي صلىاللهعليهوسلم كان يقول : «يا عائشة إياك ومحقرات الذنوب فإن لها من الله
طالبا» ورواه النسائي وابن ماجة من حديث سعيد بن مسلم بن بانك به.
وقال ابن جرير : حدثني أبو الخطاب الحساني ، حدثنا الهيثم بن الربيع ،
حدثنا سماك بن عطية ، عن أيوب عن أبي قلابة عن أنس قال : كان أبو بكر يأكل مع
النبي صلىاللهعليهوسلم فنزلت هذه الآية (فَمَنْ يَعْمَلْ
مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) فرفع أبو بكر يده وقال : يا رسول الله إنّي أجزى بما عملت
من مثقال ذرة من شر فقال : «يا أبا بكر ما رأيت في الدنيا مما تكره فبمثاقيل ذر
الشر ، ويدخر الله لك مثاقيل ذر الخير حتى توفاه يوم القيامة» ورواه ابن أبي حاتم
عن أبيه عن أبي الخطاب به ، ثم قال ابن جرير : حدثنا ابن بشار ، حدثنا عبد الوهاب
، حدثنا أيوب قال : في كتاب أبي قلابة عن أبي إدريس ، إن أبا
__________________
بكر كان يأكل مع
النبي صلىاللهعليهوسلم فذكره ، ورواه أيضا عن يعقوب عن ابن علية عن أيوب عن قلابة
أن أبا بكر وذكره.
[طريق أخرى] قال
ابن جرير : حدثني يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني حيي
بن عبد الله عن أبي عبد الرّحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال لما
نزلت (إِذا زُلْزِلَتِ
الْأَرْضُ زِلْزالَها) وأبو بكر الصديق رضي الله عنه قاعد فبكى حين أنزلت ، فقال
له رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ما يبكيك يا أبا بكر» قال : يبكيني هذه السورة : فقال
له رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لو لا أنكم تخطئون وتذنبون فيغفر الله لكم لخلق الله
أمة يخطئون ويذنبون فيغفر لهم».
[حديث آخر] قال
ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة وعلي بن عبد الرّحمن بن محمد بن المغيرة المعروف
بعلان المصري قالا حدثنا عمرو بن خالد الحراني ، حدثنا ابن لهيعة أخبرني هشام بن
سعد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال : لما أنزلت (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ
خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) قلت : يا رسول الله إني لراء عملي؟ قال «نعم» قلت : تلك
الكبار الكبار. قال «نعم» قلت : الصغار الصغار قال «نعم» قلت : وأثكل أمي! قال : «أبشر
يا أبا سعيد فإن الحسنة بعشرة أمثالها ـ يعني إلى سبعمائة ضعف ـ ويضاعف الله لمن
يشاء والسيئة بمثلها أو يعفو الله ولن ينجو أحد منكم بعمله» قلت : ولا أنت يا رسول
الله؟ قال «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه برحمة» قال أبو زرعة : لم يرو هذا غير
ابن لهيعة.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبو زرعة ، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير ، حدثني ابن لهيعة ، حدثني
عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير في قول الله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ
مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) وذلك لما نزلت هذه الآية (وَيُطْعِمُونَ
الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) [الإنسان : ٨] كان
المسلمون يرون أنهم لا يؤجرون على الشيء القليل إذا أعطوه ، فيجيء المسكين إلى
أبوابهم ، فيستقلون أن يعطوه التمرة والكسرة والجوزة ونحو ذلك فيردونه ، ويقولون :
ما هذا بشيء ، إنما نؤجر على ما نعطي ونحن نحبه ، وكان آخرون يرون أنهم لا يلامون
على الذنب اليسير : الكذبة والنظرة والغيبة وأشباه ذلك. يقولون : إنما وعد الله
النار على الكبائر فرغبهم في القليل من الخير أن يعملوه ، فإنه يوشك أن يكثر ،
وحذرهم اليسير من الشر فإنه يوشك أن يكثر ، فنزلت (فَمَنْ يَعْمَلْ
مِثْقالَ ذَرَّةٍ) يعني وزن أصغر النمل (خَيْراً يَرَهُ) يعني في كتابه ويسره ذلك ، قال : يكتب لكل بر وفاجر بكل
سيئة سيئة واحدة ، وبكل حسنة عشر حسنات ، فإذا كان يوم القيامة ضاعف الله حسنات
المؤمنين أيضا بكل واحد عشر ويمحو عنه بكل حسنة عشر سيئات فإذا زادت حسناته على
سيئاته مثقال ذرة دخل الجنة.
__________________
وقال الإمام أحمد : حدثنا سليمان بن داود حدثنا عمران عن قتادة عن عبد ربه
عن أبي عياض عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إياكم ومحقرات الذنوب فإنهنّ يجتمعن على الرجل حتى
يهلكنه» وإن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ضرب لهنّ مثلا كمثل قوم نزلوا أرض فلاة فحضر صنيع القوم
فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود والرجل يجيء بالعود حتى جمعوا سوادا وأججوا نارا
وأنضجوا ما قذفوا فيها.
آخر تفسير سورة الزلزلة ولله الحمد
والمنة.
تفسير سورة العاديات
وهي مكية
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(وَالْعادِياتِ
ضَبْحاً (١) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (٢) فَالْمُغِيراتِ
صُبْحاً (٣) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً(٤)
فَوَسَطْنَ
بِهِ جَمْعاً (٥) إِنَّ الْإِنْسانَ
لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (٦) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ
لَشَهِيدٌ (٧) وَإِنَّهُ لِحُبِّ
الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (٨) أَفَلا يَعْلَمُ إِذا
بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (٩) وَحُصِّلَ ما فِي
الصُّدُورِ (١٠) إِنَّ رَبَّهُمْ
بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ)
(١١)
يقسم تعالى بالخيل
إذا أجريت في سبيله فعدت وضبحت وهو الصوت الذي يسمع من الفرس حين تعدو (فَالْمُورِياتِ قَدْحاً) يعني اصطكاك نعالها للصخر فتقدح منه النار (فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً) يعني الإغارة وقت الصباح كما كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يغير صباحا ويستمع الأذان فإن سمع أذانا وإلا أغار. وقوله
تعالى : (فَأَثَرْنَ بِهِ
نَقْعاً) يعني غبارا في مكان معترك الخيول (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً) أي توسطن ذلك المكان كلهن جمع. قال ابن أبي حاتم : حدثنا
أبو سعيد الأشج ، حدثنا عبدة عن الأعمش ، عن إبراهيم عن عبد الله (وَالْعادِياتِ ضَبْحاً) قال: الإبل ، وقال علي : هي الإبل. وقال ابن عباس : هي
الخيل ، فبلغ عليا قول ابن عباس فقال : ما كانت لنا خيل يوم بدر. قال ابن عباس :
إنما كان في سرية بعثت.
قال ابن أبي حاتم
وابن جرير : حدثنا يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني أبو صخر عن أبي
معاوية البجلي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس حدثه قال : بينا أنا في الحجر جالسا
جاءني رجل فسألني عن (الْعادِياتِ ضَبْحاً) فقلت له : الخيل حين تغير في سبيل الله ، ثم تأوي إلى
الليل فيصنعون طعامهم ويورون نارهم فانفتل عني فذهب إلى علي رضي الله عنه وهو عند
سقاية زمزم فسأله عن (الْعادِياتِ ضَبْحاً) فقال : سألت عنها أحدا قبلي؟ قال : نعم ، سألت
__________________
ابن عباس فقال
الخيل حين تغير في سبيل الله ، قال : اذهب فادعه لي ، فلما وقف على رأسه قال : أتفتي
الناس بما لا علم لك ، والله لئن كان أول غزوة في الإسلام بدر وما كان معنا إلا
فرسان فرس للزبير وفرس للمقداد ، فكيف تكون العاديات ضبحا؟ إنما العاديات ضبحا من
عرفة إلى المزدلفة ومن المزدلفة إلى منى ، قال ابن عباس : فنزعت عن قولي ورجعت إلى
الذي قال علي رضي الله عنه ، وبهذا الإسناد عن ابن عباس قال : قال علي : إنما
العاديات ضبحا من عرفة إلى المزدلفة فإذا أووا إلى المزدلفة أوروا النيران ، وقال
العوفي وغيره عن ابن عباس : هي الخيل.
وقد قال بقول علي
إنها الإبل جماعة منهم إبراهيم وعبيد بن عمير ، وقال بقول ابن عباس آخرون منهم
مجاهد وعكرمة وعطاء وقتادة والضحاك واختاره ابن جرير ، وقال ابن عباس وعطاء : ما
ضبحت دابة قط إلا فرس أو كلب. وقال ابن جريج عن عطاء : سمعت ابن عباس يصف الضبح أح
أح ، وقال أكثر هؤلاء في قوله : (فَالْمُورِياتِ
قَدْحاً) يعني بحوافرها ، وقيل أسعرن الحرب بين ركبانهن ، قاله
قتادة وعن ابن عباس ومجاهد (فَالْمُورِياتِ
قَدْحاً) يعني مكر الرجال وقيل هو إيقاد النار إذا رجعوا إلى
منازلهم من الليل ، وقيل المراد بذلك نيران القبائل ، وقال : من فسرها بالخيل هو
إيقاد النار بالمزدلفة. قال ابن جرير : والصواب الأول أنها الخيل حين تقدح
بحوافرها.
وقوله تعالى : (فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً) قال ابن عباس ومجاهد وقتادة : يعني إغارة الخيل صبحا في
سبيل الله ، وقال من فسرها بالإبل هو الدفع صبحا من المزدلفة إلى منى. وقالوا كلهم
في قوله : (فَأَثَرْنَ بِهِ
نَقْعاً) هو المكان الذي إذا حلت فيه ، أثارت به الغبار إما في حج
أو غزو وقوله تعالى : (فَوَسَطْنَ بِهِ
جَمْعاً) قال العوفي عن ابن عباس وعطاء وعكرمة وقتادة والضحاك :
يعني جمع الكفار من العدو ، ويحتمل أن يكون فوسطن بذلك المكان جميعهن ويكون جمعا
منصوبا على الحال المؤكدة ، وقد روى أبو بكر البزار هاهنا حديثا غريبا جدا ، فقال
: حدثنا أحمد بن عبدة ، حدثنا حفص بن جميع ، حدثنا سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال
: بعث رسول اللهصلىاللهعليهوسلم خيلا فأشهرت شهرا لا يأتيه منها خبر ، فنزلت (وَالْعادِياتِ ضَبْحاً) ضبحت بأرجلها (فَالْمُورِياتِ
قَدْحاً) قدحت بحوافرها الحجارة فأورت نارا (فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً) صبحت القوم بغارة (فَأَثَرْنَ بِهِ
نَقْعاً) أثارت بحوافرها التراب (فَوَسَطْنَ بِهِ
جَمْعاً) قال : صبحت القوم جميعا.
وقوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) هذا هو المقسم عليه بمعنى إنه بنعم ربه لكفور جحود قال ابن
عباس ومجاهد وإبراهيم النخعي وأبو الجوزاء وأبو العالية وأبو الضحى وسعيد بن جبير
ومحمد بن قيس ، والضحاك والحسن وقتادة والربيع بن أنس وابن زيد : الكنود الكفور ،
قال الحسن : الكنود هو الذي يعد المصائب وينسى نعم الله عليه.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبو كريب ، حدثنا عبيد الله عن إسرائيل عن جعفر بن الزبير عن القاسم عن
أبي أمامة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : (إِنَّ الْإِنْسانَ
لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) ـ قال ـ الكنود الذي يأكل وحده ويضرب عبده ويمنع رفده»
رواه ابن أبي حاتم من طريق جعفر بن الزبير ، وهو متروك فهذا إسناد ضعيف ، وقد رواه
ابن جرير أيضا من حديث جرير بن عثمان عن حمزة بن هانئ عن أبي أمامة موقوفا. وقوله
تعالى : (وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ
لَشَهِيدٌ) قال قتادة وسفيان الثوري : وإن الله على ذلك لشهيد ويحتمل
أن يعود الضمير على الإنسان ، قاله محمد بن كعب القرظي فيكون تقديره وإن الإنسان
على كونه كنودا لشهيد أي بلسان حاله أي ظاهر ذلك عليه في أقواله وأفعاله كما قال
تعالى : (ما كانَ
لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ
بِالْكُفْرِ) [التوبة : ١٧].
قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) أي وإنه لحب الخير وهو المال لشديد ، وفيه مذهبان [أحدهما]
أن المعنى وإنه لشديد المحبة للمال [والثاني] وإنه لحريص بخيل من محبة المال
وكلاهما صحيح. ثم قال تبارك وتعالى مزهدا في الدنيا ومرغبا في الآخرة ومنبها على
ما هو كائن بعد هذه الحال وما يستقبله الإنسان من الأهوال : (أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي
الْقُبُورِ) أي أخرج ما فيها من الأموات (وَحُصِّلَ ما فِي
الصُّدُورِ) قال ابن عباس وغيره : يعني أبرز وأظهر ما كانوا يسرون في
نفوسهم (إِنَّ رَبَّهُمْ
بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) أي لعالم بجميع ما كانوا يصنعون ويعملون ومجازيهم عليه
أوفر الجزاء ولا يظلم مثقال ذرة.
آخر تفسير سورة
العاديات ، ولله الحمد والمنة.
تفسير سورة القارعة
وهي مكية
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(الْقارِعَةُ (١) مَا الْقارِعَةُ (٢)
وَما
أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (٣) يَوْمَ يَكُونُ
النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (٤)
وَتَكُونُ
الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (٥) فَأَمَّا مَنْ
ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (٦) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ
راضِيَةٍ (٧) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (٨)
فَأُمُّهُ
هاوِيَةٌ (٩) وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (١٠) نارٌ حامِيَةٌ)(١١)
القارعة من أسماء
يوم القيامة كالحاقة والطامة والصاخة والغاشية وغير ذلك. ثم قال تعالى معظما أمرها
ومهولا لشأنها : (وَما أَدْراكَ مَا
الْقارِعَةُ) ثم فسر ذلك بقوله : (يَوْمَ يَكُونُ
النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) أي في انتشارهم وتفرقهم وذهابهم ومجيئهم من حيرتهم مما هم
فيه كأنهم فراش مبثوث كما قال تعالى في الآية الأخرى : (كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) [القمر : ٧].
وقوله تعالى : (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ
الْمَنْفُوشِ) يعني قد صارت كأنها الصوف المنفوش الذي قد شرع في الذهاب
والتمزق. قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وقتادة وعطاء الخراساني والضحاك
والسدي : العهن الصوف ثم أخبر تعالى عما يؤول إليه عمل العاملين وما يصيرون إليه
من الكرامة والإهانة بحسب أعمالهم فقال : (فَأَمَّا مَنْ
ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) أي رجحت حسناته على سيئاته (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ
راضِيَةٍ) يعني في الجنة (وَأَمَّا مَنْ
خَفَّتْ مَوازِينُهُ) أي رجحت سيئاته على حسناته.
وقوله تعالى : (فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) قيل معناه فهو ساقط هاو بأم رأسه في نار جهنم وعبر عنه
بأمه يعني دماغه ، روي نحو هذا عن ابن عباس وعكرمة وأبي صالح وقتادة ، وقال قتادة
: يهوي في النار على رأسه وكذا قال أبو صالح يهوون في النار على رؤوسهم ، وقيل
معناه (فَأُمُّهُ) التي يرجع إليها ويصير في المعاد إليها (هاوِيَةٌ) وهي اسم من أسماء النار ، قال ابن جرير : وإنما قيل للهاوية أمه لأنه لا مأوى له غيرها ، وقال ابن
زيد : الهاوية النار هي أمه ومأواه التي يرجع إليها ويأوي إليها وقرأ (وَمَأْواهُمُ النَّارُ) قال ابن أبي حاتم وروي عن قتادة أنه قال : هي النار وهي
مأواهم ، ولهذا قال تعالى مفسرا للهاوية : (وَما أَدْراكَ ما
هِيَهْ نارٌ حامِيَةٌ).
قال ابن جرير : حدثنا ابن عبد الأعلى ، حدثنا ابن ثور عن معمر عن الأشعث
بن عبد الله الأعمى قال : إذا مات المؤمن ذهب بروحه إلى أرواح المؤمنين فيقولون
روحوا أخاكم فإنه كان في غم الدنيا ، قال ويسألونه ما فعل فلان؟ فيقول : مات ، أو
ما جاءكم فيقولون ذهب به إلى أمه الهاوية ، وقد رواه ابن مردويه من طريق أنس بن
مالك مرفوعا بأبسط من هذا ، وقد أوردناه في كتاب صفة النار ـ أجارنا الله تعالى
منها بمنه وكرمه ـ وقوله تعالى : (نارٌ حامِيَةٌ) أي حارة شديدة الحر قوية اللهب والسعير.
قال أبو مصعب عن
مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «نار بني آدم التي توقدون جزء من سبعين جزءا من نار
جهنم» قالوا : يا رسول الله إن كانت لكافية؟ فقال : «إنها فضلت عليها بتسعة وستين
جزاء» ورواه البخاري عن إسماعيل بن أبي أويس عن مالك ورواه مسلم عن قتيبة عن
المغيرة بن عبد الرّحمن عن أبي الزناد به ، وفي بعض ألفاظه : «أنها فضلت عليها
بتسعة وستين جزءا كلهن مثل حرها» .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرّحمن ، حدثنا حماد وهو ابن سلمة عن محمد بن
زياد
__________________
سمعت أبا هريرة
يقول سمعت أبا القاسم صلىاللهعليهوسلم يقول : «نار بني آدم التي توقدون جزء من سبعين جزءا من نار
جهنم» فقال رجل : إن كانت لكافية؟ فقال : «لقد فضلت عليها بتسعة وستين جزءا حرا
فحرا» تفرد به أحمد من هذا الوجه وهو على شرط مسلم ، وروى الإمام أحمد أيضا : حدثنا سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة
عن النبي صلىاللهعليهوسلم ، وعمرو عن يحيى بن جعدة : «إن ناركم هذه جزء من سبعين
جزءا من نار جهنم وضربت بالبحر مرتين ولو لا ذلك ما جعل الله فيها منفعة لأحد»
وهذا على شرط الصحيحين ولم يخرجوه من هذا الوجه ، وقد رواه مسلم في صحيحه من طريق ورواه البزار من حديث عبد الله بن مسعود وأبي سعيد الخدري
: «ناركم هذه جزء من سبعين جزءا».
وقد قال الإمام
أحمد : حدثنا قتيبة ، حدثنا عبد العزيز هو ابن محمد الدراوردي عن سهل عن أبيه عن
أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «هذه النار جزء من مائة جزء من جهنم» تفرد به أيضا
من هذا الوجه وهو على شرط مسلم أيضا.
وقال أبو القاسم
الطبراني حدثنا أحمد بن عمرو الخلال ، حدثنا إبراهيم بن المنذر الخزامي حدثنا معن
بن عيسى القزاز عن مالك عن عمه أبي سهيل عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله
صلىاللهعليهوسلم : «أتدرون ما مثل ناركم هذه من نار جهنم؟ لهي أشد سوادا من
دخان ناركم هذه بسبعين ضعفا» وقد رواه أبو مصعب عن مالك ولم يرفعه.
وروى الترمذي وابن
ماجة عن عباس الدوري عن يحيى بن بكير حدثنا شريك عن عاصم عن أبي صالح عن أبي هريرة
قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أو قد على النار ألف سنة حتى احمرت ثم أوقد عليها ألف
سنة حتى ابيضت ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت فهي سوداء مظلمة» وقد روي هذا من حديث أنس وعمر بن الخطاب.
وجاء في الحديث
عند الإمام أحمد من طريق أبي عثمان
النهدي عن أنس وأبي نضرة العبدي عن ابن أبي سعيد وعجلان مولى المشمعل عن أبي هريرة
عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «إن أهون أهل النار عذابا من له نعلان يغلي
منهما دماغه».
وثبت في الصحيحين
أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «اشتكت النار إلى ربها فقالت يا رب أكل بعضي بعضا
فأذن لها بنفسين : نفس في الشتاء ونفس في الصيف ، فأشد ما تجدون في الشتاء
__________________
من بردها وأشد ما
تجدون في الصيف من حرها» وفي الصحيحين : «إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة فإن شدة
الحر من فيح جهنم» .
آخر تفسير سورة
القارعة ، ولله الحمد والمنة.
تفسير سورة التكاثر
وهي مكية
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(أَلْهاكُمُ
التَّكاثُرُ (١) حَتَّى زُرْتُمُ
الْمَقابِرَ (٢) كَلاَّ سَوْفَ
تَعْلَمُونَ (٣) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ
تَعْلَمُونَ (٤) كَلاَّ لَوْ
تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (٥)
لَتَرَوُنَّ
الْجَحِيمَ (٦) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها
عَيْنَ الْيَقِينِ (٧) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ
يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ)
(٨)
يقول تعالى :
أشغلكم حب الدنيا ونعيمها وزهرتها عن طلب الآخرة وابتغائها ، وتمادى بكم ذلك حتى
جاءكم الموت وزرتم المقابر وصرتم من أهلها.
قال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبي حدثنا زكريا بن يحيى الوقاد المصري حدثني خالد بن عبد الدائم عن زيد
بن أسلم عن أبيه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم (أَلْهاكُمُ
التَّكاثُرُ) ـ عن الطاعة ـ (حَتَّى زُرْتُمُ
الْمَقابِرَ) ـ حتى يأتيكم الموت» وقال الحسن البصري (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) في الأموال والأولاد.
وفي صحيح البخاري
في الرقاق منه وقال أخبرنا أبو الوليد ، حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس بن
مالك عن أبي بن كعب قال كنا نرى هذا من القرآن حتى نزلت (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) يعني «لو كان لابن آدم واد من ذهب» .
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة سمعت قتادة يحدث عن مطرف
يعني ابن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال : انتهيت إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو يقول : (أَلْهاكُمُ
التَّكاثُرُ) يقول ابن آدم مالي مالي ، وهل لك من مالك إلا ما أكلت
فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت؟» ورواه مسلم والترمذي والنسائي من طريق شعبة به.
__________________
وقال مسلم في
صحيحه : حدثنا سويد بن سعيد حدثنا حفص بن ميسرة عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة
رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «يقول العبد مالي مالي ، وإنما له من ماله ثلاث : ما أكل
فأفنى أو لبس فأبلى أو تصدق فأمضى ، وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس» تفرد به مسلم
.
وقال البخاري :
حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ،
سمع أنس بن مالك يقول : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «يتبع الميت ثلاثة فيرجع اثنان ويبقى معه واحد : يتبعه
أهله وماله وعمله فيرجع أهله وماله ويبقى عمله» وكذا رواه مسلم والترمذي والنسائي من حديث سفيان بن عيينة
به.
وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى عن شعبة حدثنا قتادة عن أنس أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «يهرم ابن آدم ويبقى منه اثنتان الحرص والأمل» أخرجاه في الصحيحين وذكر الحافظ بن عساكر في ترجمة الأحنف
بن قيس واسمه الضحاك أنه رأى في يد رجل درهما فقال : لمن هذا الدرهم؟ فقال الرجل :
لي ، فقال : إنما هو لك إذا أنفقته في أجر أو ابتغاء شكر ، ثم أنشد الأحنف متمثلا
قول الشاعر :
أنت للمال إذا
أمسكته
|
|
فإذا أنفقته
فالمال لك
|
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو أسامة قال صالح بن حبان حدثني عن ابن بريدة في
قوله : (أَلْهاكُمُ
التَّكاثُرُ) قال : نزلت في قبلتين من قبائل الأنصار في بني حارثة وبني
الحارث تفاخروا وتكاثروا فقالت إحداهما فيكم مثل فلان ابن فلان وفلان ، وقال
الآخرون مثل ذلك ، تفاخروا بالأحياء ثم قالوا انطلقوا بنا إلى القبور فجعلت إحدى
الطائفتين تقول : فيكم مثل فلان يشيرون إلى القبور ، ومثل فلان ، وفعل الآخرون مثل
ذلك فأنزل الله (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ
حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) لقد كان لكم فيما رأيتم عبرة وشغل وقال قتادة : (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ
الْمَقابِرَ) كانوا يقولون : نحن أكثر من بني فلان ، ونحن أعد من بني
فلان ، وهم كل يوم يتساقطون إلى آخرهم ، والله ما زالوا كذلك حتى صاروا من أهل
القبور كلهم ، والصحيح أن المراد بقوله : (زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) أي صرتم إليها ودفنتم فيها ، كما جاء في الصحيح أن رسول
الله صلىاللهعليهوسلم دخل على رجل من الأعراب يعوده فقال : «لا بأس طهور إن شاء
الله» فقال :
__________________
قلت طهور بل هي
حمى تفور ، على شيخ كبير ، تزيره القبور ، قال : «فنعم إذن» .
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبو زرعة ، حدثنا محمد بن سعيد الأصبهاني ، أخبرنا حكام بن سلم الرازي عن
عمرو بن أبي قيس عن الحجاج عن المنهال عن زر بن حبيش عن علي قال : ما زلنا نشك في
عذاب القبر حتى نزلت (أَلْهاكُمُ
التَّكاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) ورواه الترمذي عن أبي كريب عن حكام بن سالم به ، وقال غريب.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبي ، حدثنا سلمة بن أبي داود العرضي ، حدثنا أبو المليح الرقي عن ميمون
بن مهران قال : كنت جالسا عند عمر بن عبد العزيز فقرأ (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ
الْمَقابِرَ) فلبث هنيهة ثم قال : يا ميمون ما أرى المقابر إلا زيارة ،
وما للزائر بد من أن يرجع إلى منزله. وقال أبو محمد : يعني أن يرجع إلى منزله أي
إلى جنة أو إلى نار ، وهكذا ذكر أن بعض الأعراب سمع رجلا يتلو هذه الآية : (حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) ، فقال بعث اليوم ورب الكعبة أي إن الزائر سيرحل من مقامه
ذلك إلى غيره.
وقوله تعالى : (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا
سَوْفَ تَعْلَمُونَ) قال الحسن البصري هذا وعيد بعد وعيد ، وقال الضحاك : (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) يعني أيها الكفار (ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ
تَعْلَمُونَ) يعني أيها المؤمنون ، وقوله تعالى : (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ
الْيَقِينِ) أي لو علمتم حق العلم لما ألهاكم التكاثر عن طلب الدار
الآخرة حتى صرتم إلى المقابر ، ثم قال : (لَتَرَوُنَّ
الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ) هذا تفسير الوعيد المتقدم ، وهو قوله : (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا
سَوْفَ تَعْلَمُونَ) توعدهم بهذا الحال ، وهي رؤية أهل النار إذا زفرت زفرة
واحدة خر كل ملك مقرب ونبي مرسل على ركبتيه من المهابة والعظمة ومعاينة الأهوال
على ما جاء به الأثر المروي في ذلك ، وقوله تعالى : (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ
يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) أي ثم لتسألن يومئذ عن شكر ما أنعم الله به عليكم من الصحة
والأمن والرزق وغير ذلك ما إذا قابلتم به نعمه من شكره وعبادته.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبو زرعة ، حدثنا زكريا بن يحيى الخزاز المقري ، حدثنا عبد الله بن عيسى
أبو خالد الخزاز ، حدثنا يونس بن عبيد عن عكرمة عن ابن عباس أنه سمع عمر بن الخطاب
يقول : خرج رسول الله صلىاللهعليهوسلم عند الظهيرة فوجد أبا بكر في المسجد فقال : «ما أخرجك هذه
الساعة؟» فقال : أخرجني الذي أخرجك يا رسول الله صلىاللهعليهوسلم. قال : وجاء عمر بن الخطاب فقال : «ما أخرجك يا ابن الخطاب؟»
قال أخرجني الذي أخرجكما ، قال :
__________________
فقعد عمر وأقبل
رسول الله صلىاللهعليهوسلم يحدثهما ثم قال : «هل بكما من قوة تنطلقان إلى هذا النخل
فتصيبان طعاما وشرابا وظلا؟» قلنا : نعم.
قال : «مروا بنا
إلى منزل ابن التيهان أبي الهيثم الأنصاري» قال : فتقدم رسول اللهصلىاللهعليهوسلم بين أيدينا فسلم واستأذن ثلاث مرات ، وأم الهيثم من وراء
الباب تسمع الكلام تريد أن يزيدها رسول الله صلىاللهعليهوسلم من السّلام ، فلما أراد أن ينصرف خرجت أم الهيثم تسعى
خلفهم فقالت : يا رسول الله قد والله سمعت تسليمك ولكن أردت أن تزيدني من سلامك ،
فقال لها رسول اللهصلىاللهعليهوسلم : «خيرا» ثم قال : «أين أبو الهيثم لا أراه؟» قالت : يا
رسول الله هو قريب ذهب يستعذب الماء ، ادخلوا فإنه يأتي الساعة إن شاء الله فبسطت
بساطا تحت شجرة ، فجاء أبو الهيثم ففرح بهم وقرّت عيناه بهم ، فصعد على نخلة فصرم
لهم أعذاقا فقال له رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «حسبك يا أبا الهيثم» فقال : يا رسول الله تأكلون من
بسره ومن رطبه ومن تذنوبه ، ثم أتاهم بماء فشربوا عليه ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «هذا من النعيم الذي تسألون عنه» ، هذا غريب من هذا
الوجه.
وقال ابن جرير : حدثني الحسين بن علي الصدائي ، حدثنا الوليد بن القاسم
عن يزيد بن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : بينما أبو بكر وعمر
جالسان إذ جاءهما النبي صلىاللهعليهوسلم فقال : «ما أجلسكما هاهنا؟» قالا : والذي بعثك بالحق ما
أخرجنا من بيوتنا إلا الجوع. قال : «والذي بعثني بالحق ما أخرجني غيره» فانطلقوا
حتى أتوا بيت رجل من الأنصار ، فاستقبلتهم المرأة فقال لها النبي صلىاللهعليهوسلم : «أين فلان؟» فقالت : ذهب يستعذب لنا ماء ، فجاء صاحبهم
يحمل قربته فقال : مرحبا ، ما زار العباد شيء أفضل من نبي زارني اليوم ، فعلق
قربته بكرب نخلة وانطلق فجاءهم بعذق ، فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «ألا كنت اجتنيت؟» فقال : أحببت أن تكونوا الذين تختارون
على أعينكم ، ثم أخذ الشفرة فقال له النبي صلىاللهعليهوسلم : «إياك والحلوب» فذبح لهم يومئذ فأكلوا ، فقال له النبي صلىاللهعليهوسلم «لتسألن عن هذا
يوم القيامة أخرجكم من بيوتكم الجوع فلم ترجعوا حتى أصبتم هذا فهذا من النعيم» ورواه مسلم من حديث يزيد بن كيسان به ، ورواه أبو يعلى
وابن ماجة من حديث المحاربي عن يحيى بن عبيد الله عن أبيه عن أبي هريرة عن أبي بكر
الصديق به ، وقد رواه أهل السنن الأربعة من حديث عبد الملك بن عمير عن أبي سلمة عن
أبي هريرة رضي الله عنه بنحو من هذا السياق وهذه القصة.
وقال الإمام أحمد : حدثنا سريج ، حدثنا حشرج عن أبي نصيرة عن أبي عسيب ،
يعني مولى رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : خرج رسول الله صلىاللهعليهوسلم ليلا فمر بي فدعاني فخرجت إليه ، ثم مر بأبي
__________________
بكر فدعاه فخرج
إليه ، ثم مر بعمر فدعاه فخرج إليه ، فانطلق حتى دخل حائطا لبعض الأنصار فقال
لصاحب الحائط : «أطعمنا بسرا» فجاء بعذق فوضعه فأكل رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأصحابه ثم دعا بماء بارد فشرب وقال : «لتسألن عن هذا يوم
القيامة» قال : فأخذ عمر العذق فضرب به الأرض حتى تناثر البسر قبل رسول الله صلىاللهعليهوسلم ثم قال : يا رسول الله إنا لمسئولون عن هذا يوم القيامة؟ قال
: «نعم إلا من ثلاثة : خرقة لف بها الرجل عورته ، أو كسرة سد بها جوعته ، أو جحر
يدخل فيه من الحر والقر» تفرد به أحمد.
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا حماد ، حدثنا عمار سمعت جابر بن
عبد الله يقول : أكل رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأبو بكر وعمر رطبا وشربوا ماء ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «هذا من النعيم الذي تسألون عنه» ورواه النسائي من حديث حماد بن سلمة عن عمار بن أبي عمار عن جابر به.
وقال الإمام أحمد : حدثنا أحمد حدثنا يزيد ، حدثنا محمد بن عمرو عن صفوان بن
سليم عن محمود بن الربيع قال : لما نزلت (أَلْهاكُمُ
التَّكاثُرُ) فقرأ حتى بلغ (لَتُسْئَلُنَّ
يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) قالوا : يا رسول الله عن أي نعيم نسأل؟ وإنما هما الأسودان
الماء والتمر ، وسيوفنا على رقابنا والعدو حاضر فعن أي نعيم نسأل؟ قال : «أما إن
ذلك سيكون».
وقال أحمد : حدثنا أبو عامر عبد الملك بن عمرو ، حدثنا عبد الله بن
سليمان ، حدثنا معاذ بن عبد الله بن حبيب ، عن أبيه عن عمه قال كنا في مجلس فطلع
علينا النبي صلىاللهعليهوسلم وعلى رأسه أثر ماء ، فقلنا يا رسول الله نراك طيب النفس ،
قال : «أجل» ثم خاض الناس في ذكر الغنى ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لا بأس بالغنى لمن اتقى الله والصحة لمن اتقى الله خير
من الغنى وطيب النفس من النعيم» ورواه ابن ماجة عن أبي بكر بن أبي شيبة عن خالد بن مخلد عن عبد الله بن
سليمان به.
وقال الترمذي : حدثنا عبد بن حميد ، حدثنا شبابة عن عبد الله بن العلاء
عن الضحاك بن عبد الرّحمن بن عزرم الأشعري قال : سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول
: قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «إن أول ما يسأل عنه ـ يعني يوم القيامة ـ العبد من
النعيم أن يقال له ألم نصح لك بدنك ونروك من الماء البارد؟» تفرد به الترمذي ورواه
ابن حبان في صحيحه من طريق الوليد بن مسلم عن
__________________
عبد الله بن
العلاء بن زبير به.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبو زرعة ، حدثنا مسدد ، حدثنا سفيان عن محمد بن عمرو ، عن يحيى بن حاطب
عن عبد الله بن الزبير قال : قال الزبير : لما نزلت (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ
يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) قالوا يا رسول الله لأي نعيم نسأل عنه وإنما هما الأسودان
التمر والماء قال : «إن ذلك سيكون» وقد رواه الترمذي وابن ماجة من حديث سفيان هو ابن عيينة به
ورواه أحمد عنه وقال الترمذي حسن وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو عبد الله الظهراني
حدثنا حفص بن عمر العدني عن الحكم بن أبان عن عكرمة قال لما نزلت هذه الآية (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ
النَّعِيمِ) قالت الصحابة : يا رسول الله ، وأي نعيم نحن فيه وإنما
نأكل في أنصاف بطوننا خبز الشعير؟ فأوحى الله إلى نبيه صلىاللهعليهوسلم قل لهم أليس تحتذون النعال وتشربون الماء البارد؟ فهذا من
النعيم.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبو زرعة ، حدثنا إبراهيم بن موسى ، أخبرنا محمد بن سليمان بن الأصبهاني
عن ابن أبي ليلى أظنه عن عامر عن ابن مسعود عن النبي صلىاللهعليهوسلم في قوله : (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ
يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) قال «الأمن والصحة» وقال زيد بن أسلم عن رسول اللهصلىاللهعليهوسلم (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ
يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) يعني شبع البطون وبارد الشراب وظلال المساكن واعتدال الخلق
ولذة النوم ، ورواه ابن أبي حاتم بإسناده المتقدم عنه في أول السورة.
وقال سعيد بن جبير
: حتى عن شربة عسل وقال مجاهد : عن كل لذة من لذات الدنيا ، وقال الحسن البصري :
من النعيم الغداء والعشاء. وقال أبو قلابة. من النعيم أكل السمن والعسل بالخبز
النقي وقول مجاهد هذا أشمل هذه الأقوال. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ
النَّعِيمِ) قال : النعيم صحة الأبدان والأسماع والأبصار يسأل الله
العباد فيما استعملوها وهو أعلم بذلك منهم وهو قوله تعالى : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ
وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً).
وثبت في صحيح
البخاري وسنن الترمذي والنسائي وابن ماجة من حديث عبد الله بن سعيد بن أبي هند عن
أبيه عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة والفراغ» ومعنى هذا أنهم مقصرون في شكر هاتين النعمتين لا يقومون
بواجبهما ومن لا يقوم بحق ما وجب عليه فهو مغبون. وقال الحافظ أبو بكر البزار :
حدثنا القاسم بن محمد بن يحيى المروزي ، حدثنا علي بن الحسين بن شقيق ، حدثنا أبو
حمزة عن ليث عن أبي فزارة ، عن يزيد بن الأصم عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ما فوق الإزار
__________________
وظل الحائط والخبز
، يحاسب به العبد يوم القيامة أو يسأل عنه» ثم قال : لا نعرفه إلا بهذا الإسناد.
وقال الإمام أحمد : حدثنا بهز وعفان قالا : حدثنا حماد ، قال عفان في حديثه
، قال إسحاق بن عبد الله عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «يقول الله عزوجل ـ قال عفان يوم القيامة ـ يا ابن آدم حملتك على الخيل
والإبل وزوجتك النساء وجعلتك تربع وترأس فأين شكر ذلك؟» تفرد به من هذا الوجه. آخر
تفسير سورة التكاثر ، ولله الحمد والمنة.
تفسير سورة العصر
وهي مكية
ذكروا أن عمرو بن
العاص وقد على مسيلمة الكذاب ، وذلك بعد ما بعث رسول اللهصلىاللهعليهوسلم وقبل أن يسلم عمرو ، فقال له مسليمة : ماذا أنزل على
صاحبكم في هذه المدة؟ فقال : لقد أنزل عليه سورة وجيزة بليغة فقال : وما هي؟ فقال
: (وَالْعَصْرِ إِنَّ
الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) ففكر مسيلمة هنيهة ثم قال : وقد أنزل علي مثلها ، فقال له
عمرو : وما هو؟ فقال : يا وبر يا وبر ، إنما أنت أذنان وصدر وسترك حفر نقر ، ثم
قال : كيف ترى يا عمرو؟ فقال له عمرو : والله إنك لتعلم أني أعلم أنك تكذب.
وقد رأيت أبا بكر
الخرائطي أسند في كتابه المعروف (بمساوئ الأخلاق) في الجزء الثاني منه شيئا من هذا
أو قريبا منه. والوبر دويبة تشبه الهر أعظم شيء فيه أذناه وصدره وباقيه دميم ، فأراد
مسيلمة أن يركب من هذا الهذيان ما يعارض به القرآن. فلم يرج ذلك على عابد الأوثان
في ذلك الزمان. وذكر الطبراني من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن عبيد الله بن حصن
قال : كان الرجلان من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم إذا التقيا لم يفترقا إلا على أن يقرأ أحدهما على الآخر
سورة العصر إلى آخرها ، ثم يسلم أحدهما على الآخر ، وقال الشافعي رحمهالله : لو تدبر الناس هذه السورة لوسعتهم.
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(وَالْعَصْرِ
(١) إِنَّ
الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلاَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ)
(٣)
__________________
العصر : الزمان
الذي يقع فيه حركات بني آدم من خير وشر ، وقال مالك عن زيد بن أسلم : هو العشي ،
والمشهور الأول فأقسم تعالى بذلك على أن الإنسان لفي خسر أي في خسارة وهلاك (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ) فاستثنى من جنس الإنسان عن الخسران الذين آمنوا بقلوبهم
وعملوا الصالحات بجوارحهم (وَتَواصَوْا
بِالْحَقِ) وهو أداء الطاعات ، وترك المحرمات (وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) أي على المصائب والأقدار وأذى من يؤذي ممن يأمرونه
بالمعروف وينهونه عن المنكر.
آخر تفسير سورة
العصر ، ولله الحمد والمنة.
تفسير سورة الهمزة
وهي مكية
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(وَيْلٌ لِكُلِّ
هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (١) الَّذِي جَمَعَ مالاً
وَعَدَّدَهُ (٢) يَحْسَبُ أَنَّ
مالَهُ أَخْلَدَهُ (٣) كَلاَّ
لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (٤)
وَما
أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (٥) نارُ اللهِ
الْمُوقَدَةُ (٦) الَّتِي تَطَّلِعُ
عَلَى الْأَفْئِدَةِ(٧) إِنَّها عَلَيْهِمْ
مُؤْصَدَةٌ (٨) فِي عَمَدٍ
مُمَدَّدَةٍ)
(٩)
الهماز بالقول
واللماز بالفعل يعني يزدري الناس وينتقص بهم ، وقد تقدم بيان ذلك في قوله تعالى : (هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) [القلم : ١١] قال
ابن عباس : همزة لمزة ، طعان معياب. وقال الربيع بن أنس : الهمزة يهمزة قي وجهه
واللمزة من خلفه وقال قتادة : الهمزة واللمزة لسانه وعينه ويأكل لحوم الناس ويطعن
عليهم . وقال مجاهد : الهمزة باليدين والعين واللمزة باللسان وهكذا قال ابن زيد.
وقال مالك عن زيد بن أسلم : همزة لحوم الناس ، ثم قال بعضهم : المراد بذلك الأخنس
بن شريق وقيل غيره وقال مجاهد هي عامة.
وقوله تعالى : (الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ) أي جمعه بعضه على بعض وأحصى عدده كقوله تعالى : (وَجَمَعَ فَأَوْعى) [المعارج : ١٨]
قاله السدي وابن جرير ، وقال محمد بن كعب في قوله : (جَمَعَ مالاً
وَعَدَّدَهُ) ألهاه ماله بالنهار هذا إلى هذا فإذا كان الليل نام كأنه
جيفة منتنة.
وقوله تعالى : (يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ) أي يظن أن جمعه المال يخلده في هذه الدار (كَلَّا) أي ليس الأمر كما زعم ولا كما حسب. ثم قال تعالى : (لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ) أي ليلقين هذا الذي جمع مالا فعدده في الحطمة وهي اسم صفة
من أسماء النار لأنها تحطم من فيها ولهذا قال : (وَما أَدْراكَ مَا
الْحُطَمَةُ نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) قال ثابت البناني :
__________________
تحرقهم إلى
الأفئدة وهم أحياء ثم يقول لقد بلغ منهم العذاب ثم يبكي ، وقال محمد بن كعب : تأكل
كل شيء من جسده حتى إذا بلغت فؤاده حذو حلقه ترجع على جسده.
وقوله تعالى : (إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ) أي مطبقة كما تقدم تفسيره في سورة البلد. وقال ابن مردويه
: حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا علي بن سراج ، حدثنا عثمان بن خرزاذ ، حدثنا
شجاع بن أشرس ، حدثنا شريك عن عاصم عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن
النبي صلىاللهعليهوسلم (إِنَّها عَلَيْهِمْ
مُؤْصَدَةٌ) قال : مطبقة. وقد رواه أبو بكر بن أبي شيبة عن عبد الله بن
أسيد عن إسماعيل بن خالد عن أبي صالح قوله ولم يرفعه.
وقوله تعالى : (فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) قال عطية العوفي : عمد من حديد ، وقال السدي من نار ، وقال
شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس (فِي عَمَدٍ
مُمَدَّدَةٍ) يعني الأبواب هي الممددة ، وقال قتادة في قراءة عبد الله
بن مسعود : إنها عليهم مؤصدة بعمد ممددة ، وقال العوفي عن ابن عباس : أدخلهم في
عمد ممددة عليهم بعماد وفي أعناقهم السلاسل فسدت بها الأبواب : وقال قتادة : كنا
نحدث أنهم يعذبون بعمد في النار واختاره ابن جرير ، وقال أبو صالح (فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) يعني القيود الثقال.
آخر تفسير سورة
ويل لكل همزة لمزة ، ولله الحمد والمنة.
تفسير سورة الفيل
وهي مكية
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ
فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (١) أَلَمْ يَجْعَلْ
كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (٢) وَأَرْسَلَ
عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (٣) تَرْمِيهِمْ
بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (٤) فَجَعَلَهُمْ
كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ)
(٥)
هذه من النعم التي
امتن الله بها على قريش فيما صرف عنهم من أصحاب الفيل الذين كانوا قد عزموا على
هدم الكعبة ، ومحو أثرها من الوجود فأبادهم الله وأرغم أنوفهم وخيب سعيهم وأضل
عملهم ، وردهم بشر خيبة ، وكانوا قوما نصارى وكان دينهم إذ ذاك أقرب حالا مما كان
عليه قريش من عبادة الأوثان ، ولكن كان هذا من باب الإرهاص والتوطئة لمبعث رسول
الله صلىاللهعليهوسلم فإنه في ذلك العام ولد على أشهر الأقوال ولسان حال القدر
يقول : لم ننصركم يا معشر قريش على الحبشة لخيرتكم عليهم ، ولكن صيانة للبيت
العتيق الذي سنشرفه ونعظمه ونوقره ببعثة النبي الأمي محمد صلوات الله وسلامه عليه
خاتم الأنبياء.
وهذه قصة أصحاب
الفيل على وجه الإيجاز والاختصار والتقريب : قد تقدم في قصة أصحاب الأخدود أن ذا
نواس ، وكان آخر ملوك حمير وكان مشركا وهو الذي قتل أصحاب
الأخدود ، وكانوا
نصارى وكانوا قريبا من عشرين ألفا فلم يفلت منهم إلا دوس ذو ثعلبان فذهب فاستغاث
بقيصر ملك الشام ، وكان نصرانيا ، فكتب له إلى النجاشي ملك الحبشة لكونه أقرب
إليهم ، فبعث معه أميرين أرياط وأبرهة بن الصباح أبا يكسوم في جيش كثيف ، فدخلوا
اليمن فجاسوا خلال الديار واستلبوا الملك من حمير وهلك ذو نواس غريقا في البحر.
واستقل الحبشة
بملك اليمن وعليهم هذان الأميران أرياط وأبرهة ، فاختلفا في أمرهما وتصاولا
وتقاتلا وتصافا فقال أحدهما للآخر : إنه لا حاجة بنا إلى اصطدام الجيشين بيننا
ولكن ابرز إلي وأبرز إليك ، فأينا قتل الآخر استقل بعده بالملك ، فأجابه إلى ذلك
فتبارزا وخلف كل واحد منهما قناة ، فحمل أرياط على أبرهة فضربه بالسيف فشرم أنفه
وفمه وشق وجهه ، وحمل عتودة مولى أبرهة على أرياط فقتله ورجع أبرهة جريحا فداوى
جرحه فبرأ واستقل بتدبير جيش الحبشة باليمن.
فكتب إليه النجاشي
يلومه على ما كان منه ويتوعده ويحلف ليطأن بلاده ويجزن ناصيته ، فأرسل إليه أبرهة
يترقق له ويصانعه وبعث مع رسوله بهدايا وتحف وبجراب فيه من تراب اليمن. وجز ناصيته
، فأرسلها معه ويقول في كتابه ليطأ الملك على هذا الجراب فيبر قسمه ، وهذه ناصيتي
قد بعثت بها إليك فلما وصل ذلك إليه أعجبه منه ورضي عنه وأقره على عمله.
وأرسل أبرهة يقول
للنجاشي إني سأبني لك كنيسة بأرض اليمن لم يبن قبلها مثلها ، فشرع في بناء كنيسة
هائلة بصنعاء رفيعة البناء عالية الفناء مزخرفة الأرجاء سمتها العرب القليس
لارتفاعها لأن الناظر إليها تكاد تسقط قلنسوته عن رأسه من ارتفاع بنائها ، وعزم
أبرهة الأشرم على أن يصرف حج العرب إليها كما يحج إلى الكعبة بمكة ، ونادى بذلك في
مملكته فكرهت العرب العدنانية والقحطانية ذلك ، وغضبت قريش لذلك غضبا شديدا حتى
قصدها بعضهم وتوصل إلى أن دخلها ليلا ، فأحدث فيها وكرّ راجعا ، فلما رأى السدنة
ذلك الحدث رفعوا أمره إلى ملكهم أبرهة ، وقالوا له إنما صنع هذا بعض قريش غضبا
لبيتهم الذي ضاهيت هذا به ، فأقسم أبرهة ليسيرن إلى بيت مكة وليخربنه حجرا حجرا.
وذكر مقاتل بن
سليمان أن فتية من قريش دخلوها فأججوا فيها نارا وكان يوما فيه هواء شديد ،
فاحترقت وسقطت إلى الأرض ، فتأهب أبرهة لذلك وسار في جيش كثيف عرمرم لئلا يصده أحد
عنه ، واستصحب معه فيلا عظيما كبير الجثة لم ير مثله ، يقال له محمود ، وكان قد
بعثه إليه النجاشي ملك الحبشة لذلك ، ويقال كان معه أيضا ثمانية أفيال ، وقيل اثنا
عشر فيلا غيره فالله أعلم. يعني ليهدم به الكعبة بأن يجعل السلاسل في الأركان
وتوضع في عنق الفيل ثم يزجر ليلقي الحائط جملة واحدة ، فلما سمعت العرب بمسيره
أعظموا ذلك جدا ورأوا أن حقا عليهم المحاجبة دون البيت ، ورد من أراده بكيد.
فخرج إليه رجل من
أشراف أهل اليمن وملوكهم يقال له ذو نفر ، فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب إلى
حرب أبرهة وجهاده عن بيت الله ، وما يريده من هدمه وخرابه ، فأجابوه وقاتلوا أبرهة
فهزمهم لما يريده الله عزوجل من كرامة البيت وتعظيمه وأسر ذو نفر ، فاستصحبه معه ثم مضى
لوجهه حتى إذا كان بأرض خثعم اعترض له نفيل بن حبيب الخثعمي في قومه شهران وناهس
فقاتلوه ، فهزمهم أبرهة وأسر نفيل بن حبيب فأراد قتله ثم عفا عنه واستصحبه معه
ليدله في بلاد الحجاز.
فلما اقترب من أرض
الطائف خرج إليه أهلها ثقيف وصانعوه خيفة على بيتهم الذي عندهم الذي يسمونه اللات
، فأكرمهم وبعثوا معه أبا رغال دليلا ، فلما انتهى أبرهة إلى المغمس وهو قريب من
مكة نزل به. وأغار جيشه على سرح أهل مكة من الإبل وغيرها فأخذوه ، وكان في السرح
مائتا بعير لعبد المطلب ، وكان الذي أغار على السرح بأمر أبرهة أمير المقدمة ،
وكان يقال له الأسود بن مقصود فهجاه بعض العرب فيما ذكره ابن إسحاق ، وبعث أبرهة
حناطة الحميري إلى مكة وأمره أن يأتيه بأشرف قريش وأن يخبره أن الملك لم يجئ
لقتالكم إلا أن تصدوه عن البيت ، فجاء حناطة فدل على عبد المطلب بن هاشم وبلغه عن
أبرهة ما قال ، فقال له عبد المطلب : والله ما نريد حربه وما لنا بذلك من طاقة ،
هذا بيت الله الحرام وبيت خليله إبراهيم فإن يمنعه منه فهو بيته وحرمه ، وإن يخلي
بينه وبينه فو الله ما عندنا دفع عنه ، فقال له حناطة فاذهب معي إليه ، فذهب معه.
فلما رآه أبرهة
أجله ، وكان عبد المطلب رجلا جسيما حسن المنظر ، ونزل أبرهة عن سريره وجلس معه على
البساط وقال لترجمانه : قل له ما حاجتك؟ فقال للترجمان : إن حاجتي أن يرد علي
الملك مائتي بعير أصابها لي ، فقال أبرهة لترجمانه : قل له لقد كنت أعجبتني حين
رأيتك ، ثم قد زهدت فيك حين كلمتني ، أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك وتترك بيتا
هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه لا تكلمني فيه؟ فقال له عبد المطلب : إني أنا رب
الإبل وإن للبيت ربا سيمنعه.
قال : ما كان
ليمتنع مني. قال : أنت وذاك ، ويقال إنه ذهب مع عبد المطلب جماعة من أشراف العرب
فعرضوا على أبرهة ثلث أموال تهامة على أن يرجع عن البيت ، فأبى عليهم ورد أبرهة
على عبد المطلب إبله ، ورجع عبد المطلب إلى قريش فأمرهم بالخروج من مكة والتحصن في
رؤوس الجبال تخوفا عليهم من معرة الجيش ، ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة
، وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرون على أبرهة وجنده ، فقال عبد المطلب
وهو آخذ بحلقة باب الكعبة : [مجزوء الكامل]
لا همّ إنّ
المرء يمنع
|
|
رحله فامنع
حلالك
|
__________________
لا يغلبنّ
صليبهم
|
|
ومحالهم أبدا
محالك
|
قال ابن إسحاق :
ثم أرسل عبد المطلب حلقة الباب ثم خرجوا إلى رؤوس الجبال ، وذكر مقاتل بن سلمان
أنهم تركوا عند البيت مائة بدنة مقلدة لعل بعض الجيش ينال منها شيئا بغير حق
فينتقم الله منهم ، فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة وهيأ فيله ، وكان اسمه محمودا
، وعبأ جيشه فلما وجهوا الفيل نحو مكة أقبل نفيل بن حبيب حتى قام إلى جنبه ، ثم أخذ
بإذنه وقال : ابرك محمود وارجع راشدا من حيث جئت ، فإنك في بلد الله الحرام ثم
أرسل إذنه فبرك الفيل وخرج نفيل بن حبيب يشتد حتى أصعد في الجبل ، وضربوا الفيل
ليقوم فأبى ، فضربوا في رأسه بالطبرزين وأدخلوا محاجن لهم في مراقه فنزعوه بها
ليقوم فأبى ، فوجهوه راجعا إلى اليمن فقام يهرول ، ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك
ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك ، ووجهوه إلى مكة فبرك.
وأرسل الله عليهم
طيرا من البحر أمثال الخطاطيف والبلسان مع كل طائر منها ثلاثة أحجار يحملها : حجر
في منقاره وحجران في رجليه أمثال الحمص والعدس ولا يصيب منهم أحدا إلا هلك. وليس
كلهم أصابت وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق ويسألون عن نفيل ليدلهم على الطريق ، هذا
ونفيل على رأس الجبل مع قريش وعرب الحجاز ينظرون ماذا أنزل الله بأصحاب الفيل من
النقمة ، وجعل نفيل يقول : [رجز]
أين المفرّ
والإله الطالب
|
|
والأشرم المغلوب
ليس الغالب
|
قال ابن إسحاق
وقال نفيل في ذلك أيضا : [الوافر]
ألا حيّيت عنا
يا ردينا
|
|
نعمناكم مع
الإصباح عينا
|
ودينة لو رأيت
ولا تريه
|
|
لدى جنب المحصب
ما رأينا
|
إذا لعذرتني
وحمدت أمري
|
|
ولم تأس على ما
فات بينا
|
حمدت الله إذ
أبصرت طيرا
|
|
وخفت حجارة تلقى
علينا
|
فكل القوم تسأل
عن نفيل
|
|
كأن علي للحبشان
دينا
|
وذكر الواقدي
بإسناده أنهم لما تعبئوا لدخول الحرم وهيئوا الفيل جعلوا لا يصرفونه إلى جهة من
سائر الجهات إلا ذهب فيها ، فإذا وجهوه إلى الحرم ربض وصاح ، وجعل أبرهة يحمل على
سائس الفيل وينهره ويضربه ليقهر الفيل على دخول الحرم ، وطال الفصل في ذلك ، هذا
__________________
وعبد المطلب
وجماعة من أشراف مكة فيهم المطعم بن عدي وعمرو بن عائد بن عمران بن مخزوم ومسعود
بن عمرو الثقفي على حراء ينظرون ما الحبشة يصنعون ، وماذا يلقون من أمر الفيل وهو
العجب العجاب ، فبينما هم كذلك إذ بعث الله عليهم طيرا أبابيل أي قطعا قطعا صفرا
دون الحمام وأرجلها حمر ، ومع كل طائر ثلاثة أحجار وجاءت فحلقت عليهم وأرسلت تلك
الأحجار عليهم فهلكوا.
وقال محمد بن كعب
جاءوا بفيلين فأما محمود فربض وأما الآخر فشجع فحصب.
وقال وهب بن منبه
: كان معهم فيلة فأما محمود وهو فيل الملك فربض ليقتدي به بقية الفيلة ، وكان فيها
فيل تشجع فحصب فهربت بقية الفيلة. وقال عطاء بن يسار وغيره. ليس كلهم أصابه العذاب
في الساعة الراهنة بل منهم من هلك سريعا ومنهم من جعل يتساقط عضوا عضوا وهم هاربون
، وكان أبرهة ممن تساقط عضوا عضوا حتى مات ببلاد خثعم وقال ابن إسحاق : فخرجوا
يتساقطون بكل طريق ويهلكون على كل منهل وأصيب أبرهة في جسده وخرجوا به معهم يسقط
أنملة أنملة حتى قدموا به صنعاء ، وهو مثل فرخ الطائر ، فما مات حتى انصدع صدره عن
قلبه فيما يزعمون.
وذكر مقاتل بن
سليمان أن قريشا أصابوا مالا جزيلا من أسلابهم وما كان معهم ، وأن عبد المطلب أصاب
يومئذ من الذهب ما ملأ حفرة. قال ابن إسحاق : وحدثني يعقوب بن عتبة أنه حدث أن أول
ما رؤيت الحصبة والجدري بأرض العرب ذلك العام ، وأنه أول ما رؤي به مرائر الشجر
الحرمل والحنظل والعشر ذلك العام ، وهكذا روي عن عكرمة من طريق جيد.
قال ابن إسحاق :
فلما بعث الله محمدا صلىاللهعليهوسلم كان فيما يعد به على قريش من نعمته عليهم وفضله ما رد عنهم
من أمر الحبشة لبقاء أمرهم ومدتهم فقال : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ
فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ
وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ
فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) ... (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ
إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ
الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) [قريش : ١ ـ ٤] أي
لئلا يغير شيئا من حالهم التي كانوا عليها لما أراد الله بهم من الخير لو قبلوه.
قال ابن هشام : الأبابيل الجماعات ولم تتكلم العرب بواحدة. قال : وأما
السجيل فأخبرني يونس النحوي وأبو عبيدة أنه عند العرب الشديد الصلب. قال : وذكر
بعض المفسرين أنهما كلمتان بالفارسية جعلتهما العرب كلمة واحدة ، وإنما هو سنج وجل
يعني بالسنج الحجر والجل الطين. يقول الحجارة من هذين الجنسين الحجر والطين. قال :
والعصف ورق الزرع الذي لم يقضب واحدته عصفة ، انتهى ما ذكره.
__________________
وقد قال حماد بن
سلمة عن عاصم عن زر عن عبد الله وأبو سلمة بن عبد الرّحمن (طَيْراً أَبابِيلَ) قال الفرق ، وقال ابن عباس والضحاك : أبابيل يتبع بعضها
بعضا. وقال الحسن البصري وقتادة : الأبابيل الكثيرة. وقال مجاهد : أبابيل شتى
متتابعة مجتمعة وقال ابن زيد الأبابيل المختلفة تأتي من هاهنا ومن هاهنا أتتهم من
كل مكان ، وقال الكسائي : سمعت بعض النحويين يقول : واحد الأبابيل إبيل.
وقال ابن جرير : حدثني عبد الأعلى ، حدثني داود عن إسحاق بن عبد الله بن
الحارث بن نوفل أنه قال في قوله تعالى : (وَأَرْسَلَ
عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ) هي الأقاطيع كالإبل المؤبلة ، وحدثنا أبو كريب : حدثنا
وكيع عن ابن عون عن ابن سيرين عن ابن عباس (وَأَرْسَلَ
عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ) قال : لهم خراطيم كخراطيم الطير وأكف كأكف الكلب. وحدثنا
يعقوب بن إبراهيم : حدثنا هشيم ، أخبرنا حصين عن عكرمة في قوله تعالى : (طَيْراً أَبابِيلَ). قال : كانت طيرا خضرا خرجت من البحر لها رؤوس كرؤوس
السباع وحدثنا ابن بشار : حدثنا ابن مهدي عن سفيان عن الأعمش عن أبي سفيان عن عبيد
بن عمير (طَيْراً أَبابِيلَ) قال : هي طيور سود بحرية في مناقيرها وأظافرها الحجارة ، وهذه أسانيد صحيحة.
وقال سعيد بن جبير
: كانت طيرا خضرا لها مناقير صفر تختلف عليهم ، وعن ابن عباس ومجاهد وعطاء : كانت
الطير الأبابيل مثل التي يقال لها عنقاء مغرب . ورواه عنهم ابن أبي حاتم : وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو
زرعة ، حدثنا عبد الله بن محمد بن أبي شيبة ، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي
سفيان عن عبيد بن عمير قال : لما أراد الله أن يهلك أصحاب الفيل بعث عليهم طيرا
أنشئت من البحر أمثال الخطاطيف كل طير منها يحمل ثلاثة أحجار مجزعة حجرين في رجليه
وحجرا في منقاره ، قال : فجاءت حتى صفت على رؤوسهم ثم صاحت وألقت ما في أرجلها
ومناقيرها ، فما يقع حجر على رأس رجل إلا خرج من دبره ، ولا يقع على شيء من جسده
إلا خرج من الجانب الآخر ، وبعث الله ريحا شديدة فضربت الحجارة فزادتها شدة
فأهلكوا جميعا ، وقال السدي عن عكرمة عن ابن عباس : حجارة من سجيل ، قال طين في
حجارة سنك وكل وقد قدمنا بيان ذلك بما أغنى عن إعادته هاهنا.
وقوله تعالى : (فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) قال سعيد بن جبير : يعني التبن الذي تسميه العامة هبور ،
وفي رواية عن سعيد : ورق الحنطة ، وعنه أيضا : العصف التبن والمأكول القصيل يجز
للدواب ، وكذلك قال الحسن البصري ، وعن ابن عباس : العصف القشرة التي على الحبة
__________________
كالغلاف على
الحنطة.
وقال ابن زيد :
العصف ورق الزرع وورق البقل إذا أكلته البهائم فراثته فصار درينا والمعنى أن الله
سبحانه وتعالى أهلكهم ودمرهم وردّهم بكيدهم وغيظهم ، لم ينالوا خيرا ، وأهلك
عامتهم ولم يرجع منهم مخبر إلا وهو جريح كما جرى لملكهم أبرهة فإنه انصدع صدره عن
قلبه حين وصل إلى بلده صنعاء ، وأخبرهم بما جرى لهم ثم مات فملك بعده ابنه يكسوم
ثم من بعده أخوه مسروق بن أبرهة ، ثم خرج سيف بن ذي يزن الحميري إلى كسرى فاستعانه
على الحبشة فأنفذ معه من جيوشه فقاتلوا معه فرد لله إليهم ملكهم ، وما كان في
آبائهم من الملك وجاءته وفود العرب للتهنئة ، وقد قال محمد بن إسحاق : حدثنا عبد
الله بن أبي بكر عن عمرة بنت عبد الرّحمن بن أسعد بن زرارة عن عائشة قالت : لقد
رأيت قائد الفيل وسائسه بمكة أعميين مقعدين يستطعمان ورواه الواقدي عن عائشة مثله
، ورواه أيضا عن أسماء بنت أبي بكر أنها قالت : كانا مقعدين يستطعمان الناس عند
إساف ونائلة حيث يذبح المشركون ذبائحهم.
(قلت) : كان اسم
قائد الفيل أنيسا. وقد ذكر الحافظ أبو نعيم في كتاب دلائل النبوة من طريق ابن وهب
عن ابن لهيعة عن عقيل بن خالد عن عثمان بن المغيرة قصة أصحاب الفيل ، ولم يذكر أن
أبرهة قدم من اليمن وإنما بعث على الجيش رجلا يقال له شمر بن مقصود ، وكان الجيش
عشرين ألفا ، وذكر أن الطير طرقتهم ليلا فأصبحوا صرعى ، وهذا السياق غريب جدا وإن
كان أبو نعيم قد قواه ورجحه على غيره ، والصحيح أن أبرهة الأشرم الحبشي قدم مكة
كما دل على ذلك السياقات والأشعار ، وهكذا روي عن ابن لهيعة عن الأسود عن عروة أن
أبرهة بعث الأسود بن مقصود على كتيبة معهم الفيل ، ولم يذكر قدوم أبرهة نفسه ،
والصحيح قدومه ولعل ابن مقصود كان على مقدمة الجيش والله أعلم. ثم ذكر ابن إسحاق شيئا من أشعار العرب فيما كان من قصة أصحاب الفيل فمن ذلك
شعر عبد الله بن الزبعرى : [الطويل]
تنكلوا عن بطن
مكة إنها
|
|
كانت قديما لا
يرام حريمها
|
لم تخلق الشعرى
ليالي حرمت
|
|
إذ لا عزيز من
الأنام يرومها
|
سائل أمير الجيش
عنها ما رأى
|
|
فلسوف ينبي
الجاهلين عليمها
|
ستون ألفا لم
يؤوبوا أرضهم
|
|
بل لم يعش بعد
الإياب سقيمها
|
كانت بها عاد
وجرهم قبلهم
|
|
والله من فوق
العباد يقيمها
|
وقال أبو قيس بن
الأسلت الأنصاري المري : [المتقارب]
ومن صنعه يوم
فيل الحبوش
|
|
إذ كل ما بعثوه
رزم
|
__________________
محاجنهم تحت
أقرابه
|
|
وقد شرموا أنفه
فانخرم
|
وقد جعلوا سوطه
مغولا
|
|
إذا يمموه قفاه
كلم
|
فولى وأدبر
أدراجه
|
|
وقد باء بالظلم
من كان ثم
|
فأرسل من فوقهم
حاصبا
|
|
يلفهم مثل لف
القزم
|
يحض على الصبر
أحبارهم
|
|
وقد ثأجوا كثؤاج
الغنم
|
وقال أبو الصلت بن
ربيعة الثقفي ، ويروى لأمية بن أبي الصلت بن أبي ربيعة : [الخفيف]
إن آيات ربنا
باقيات
|
|
ما يماري فيهن
إلا الكفور
|
خلق الليل
والنهار فكل
|
|
مستبين حسابه
مقدور
|
ثم يجلو النهار
رب رحيم
|
|
بمهاة شعاعها
منشور
|
حبس الفيل
بالمغمّس حتى
|
|
صار يحبو كأنه
معقور
|
لازما حلقه
الجران كما قطر
|
|
من ظهر كبكب محذور
|
حوله من ملوك
كندة أبطال
|
|
ملاويث في
الحروب صقور
|
خلفوه ثم
ابذعروا جميعا
|
|
كلهم عظم ساقه
مكسور
|
كل دين يوم
القيامة عند
|
|
الله إلا دين
الحنيفة بور
|
وقد قدمنا في
تفسير سورة الفتح أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم لما أطل يوم الحديبية على الثنية التي تهبط به على قريش
بركت ناقته فزجروها فألحت ، فقالوا : خلأت القصواء أي حرنت ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق ولكن حبسها حابس
الفيل ـ ثم قال ـ والذي نفسي بيده لا يسألوني اليوم خطة يعظمون فيها حرمات الله
إلا أجبتهم إليها» ثم زجرها فقامت . والحديث من أفراد البخاري وفي الصحيحين أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال يوم فتح مكة : «إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها
رسوله والمؤمنين ، وإنه قد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس ألا فليبلغ الشاهد
الغائب» .
آخر تفسير سورة
الفيل ، ولله الحمد والمنة.
__________________
تفسير سورة قريش
وهي مكية
[ذكر حديث غريب في
فضلها] قال البيهقي في كتاب الخلافيات : حدثنا أبو عبد الله الحافظ ، حدثنا بكر بن
محمد بن حمدان الصيرفي بمرو ، حدثنا أحمد بن عبد الله المديني ، حدثنا يعقوب بن
محمد الزهري ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن ثابت بن شرحبيل ، حدثني عثمان بن عبد الله
أبي عتيق عن سعيد بن عمرو بن جعدة بن هبيرة عن أبيه عن جدته أم هانئ بنت أبي طالب
أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «فضل الله قريشا بسبع خلال : إني منهم وإن النبوة
فيهم والحجابة والسقاية فيهم ، وإن الله نصرهم على الفيل ، وإنهم عبدوا الله عزوجل عشر سنين لا يعبده غيرهم ، وإن الله أنزل فيهم سورة من
القرآن ـ ثم تلا رسول الله صلىاللهعليهوسلم : (بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. لِإِيلافِ قُرَيْشٍ. إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ
وَالصَّيْفِ. فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ. الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ
جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ).
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (١) إِيلافِهِمْ
رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (٢) فَلْيَعْبُدُوا
رَبَّ هذَا الْبَيْتِ(٣) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ
مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ)
(٤)
هذه السورة مفصولة
عن التي قبلها في المصحف الإمام كتبوا بينهما سطر بسم الله الرّحمن الرّحيم ، وإن
كانت متعلقة بما قبلها كما صرح بذلك محمد بن إسحاق وعبد الرّحمن بن زيد بن أسلم ،
لأن المعنى عندهما حبسنا عن مكة الفيل وأهلكنا أهله (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ) أي لائتلافهم واجتماعهم في بلدهم آمنين ، وقيل المراد بذلك
ما كانوا يألفونه من الرحلة في الشتاء إلى اليمن وفي الصيف إلى الشام في المتاجر
وغير ذلك ، ثم يرجعون إلى بلدهم آمنين في أسفارهم لعظمتهم عند الناس لكونهم سكان
حرم الله ، فمن عرفهم احترمهم بل من صوفي إليهم وسار معهم أمن بهم ، وهذا حالهم في
أسفارهم ورحلتهم في شتائهم وصيفهم ، وأما في حال إقامتهم في البلد فكما قال الله
تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا
أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) [العنكبوت : ٦٧]
ولهذا قال تعالى : (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ
إِيلافِهِمْ) بدل من الأول ومفسر له ولهذا قال تعالى : (إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ
وَالصَّيْفِ).
قال ابن جرير : الصواب أن اللام لام التعجب كأنه يقول اعجبوا لإيلاف
قريش ونعمتي عليهم في ذلك ، قال وذلك لإجماع المسلمين على أنهما سورتان منفصلتان
مستقلتان.
__________________
ثم أرشدهم إلى شكر
هذه النعمة العظيمة فقال : (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ
هذَا الْبَيْتِ) أي فليوحدوه بالعبادة كما جعل لهم حرما آمنا وبيتا محرما
كما قال تعالى : (إِنَّما أُمِرْتُ
أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ
وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [النمل : ٩١]
وقوله تعالى : (الَّذِي أَطْعَمَهُمْ
مِنْ جُوعٍ) أي هو رب البيت ، وهو الذي أطعمهم من جوع (وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) أي تفضل عليهم بالأمن والرخص فليفردوه بالعبادة وحده لا
شريك له ، ولا يعبدوا من دونه صنما ولا ندا ولا وثنا ، ولهذا من استجاب لهذا الأمر
جمع الله له بين أمن الدنيا وأمن الآخرة ، ومن عصاه سلبهما منه كما قال تعالى : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ
آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ
بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا
يَصْنَعُونَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ
الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ) [النحل : ١١٢ ـ ١١٣].
وقد قال ابن أبي
حاتم : حدثنا عبد الله بن عمرو العدني حدثنا قبيصة حدثنا سفيان عن ليث عن شهر بن
حوشب عن أسماء بنت يزيد قالت سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «ويل لكم قريش لإيلاف قريش» ثم قال : حدثنا أبي
حدثنا المؤمل بن الفضل الحراني حدثنا عيسى يعني ابن يونس عن عبيد الله بن أبي زياد
عن شهر بن حوشب عن أسامة بن زيد قال سمعت رسول اللهصلىاللهعليهوسلم يقول : (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ
إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ) ويحكم يا معشر قريش اعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمكم من
جوع وآمنكم من خوف» هكذا رأيته عن أسامة بن زيد وصوابه عن أسماء بنت يزيد بن السكن
أم سلمة الأنصارية رضي الله عنها فلعله وقع غلط في النسخة أو في أصل الرواية والله
أعلم.
آخر تفسير سورة
لإيلاف قريش ولله الحمد والمنة.
تفسير سورة الماعون
وهي مكية
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(أَرَأَيْتَ الَّذِي
يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (١) فَذلِكَ الَّذِي
يَدُعُّ الْيَتِيمَ (٢) وَلا يَحُضُّ عَلى
طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣) فَوَيْلٌ
لِلْمُصَلِّينَ (٤) الَّذِينَ هُمْ عَنْ
صَلاتِهِمْ ساهُونَ (٥) الَّذِينَ هُمْ
يُراؤُنَ (٦) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ)(٧)
يقول تعالى : أرأيت
يا محمد الذي يكذب بالدين وهو المعاد والجزاء والثواب (فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ) أي هو الذي يقهر اليتيم ويظلمه حقه ولا يطعمه ولا يحسن
إليه (وَلا يَحُضُّ عَلى
طَعامِ الْمِسْكِينِ) كما قال تعالى : (كَلَّا بَلْ لا
تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) [الفجر : ١٧ ـ ١٨]
يعني الفقير الذي لا شيء له يقوم بأوده وكفايته ، ثم قال
تعالى : (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ
عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) قال ابن عباس وغيره : يعني المنافقين الذين يصلون في
العلانية ولا يصلون في السر ولهذا قال : (لِلْمُصَلِّينَ) الذين هم من أهل الصلاة وقد التزموا بها ثم هم عنها ساهون
، إما عن فعلها بالكلية كما قاله ابن عباس ، وإما عن فعلها في الوقت المقدر لها
شرعا فيخرجها عن وقتها بالكلية ، كما قاله مسروق وأبو الضحى.
وقال عطاء بن
دينار : الحمد لله الذي قال : (عَنْ صَلاتِهِمْ
ساهُونَ) ولم يقل في صلاتهم ساهون ، وإما عن وقتها الأول فيؤخرونها
إلى آخره دائما أو غالبا ، وإما عن أدائها بأركانها وشروطها على الوجه المأمور به
، وإما عن الخشوع فيها والتدبر لمعانيها ، فاللفظ يشمل ذلك كله ولكن من اتصف بشيء
من ذلك قسط من هذه الآية ، ومن اتصف بجميع ذلك فقد تم له نصيبه منها وكمل له
النفاق العملي.
كما ثبت في
الصحيحين أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «تلك صلاة المنافق ، تلك صلاة المنافق ، تلك صلاة
المنافق ، يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقر أربعا لا يذكر
الله فيها إلا قليلا» فهذا آخر صلاة العصر التي هي الوسطى كما ثبت به النص إلى
آخر وقتها ، وهو وقت الكراهة ، ثم قام إليها فنقرها نقر الغراب لم يطمئن ولا خشع
فيها أيضا ، ولهذا قال لا يذكر الله فيها إلا قليلا ، ولعله إنما حمله على القيام
إليها مراءاة الناس لا ابتغاء وجه الله ، فهو كما إذا لم يصل بالكلية. قال الله
تعالى : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ
يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى
يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً) [النساء : ١٤٢]
وقال تعالى هاهنا : (الَّذِينَ هُمْ
يُراؤُنَ).
وقال الطبراني :
حدثنا يحيى بن عبد الله بن عبدويه البغدادي ، حدثني أبي ، حدثنا عبد الوهاب بن
عطاء ، عن يونس عن الحسن عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «إن في جهنم لواديا تستعيذ جهنم من ذلك الوادي في كل
يوم أربعمائة مرة أعد ذلك للمرائين من أمة محمد لحامل كتاب الله وللمصدق في غير
ذات الله وللحاج إلى بيت الله وللخارج في سبيل الله».
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو نعيم حدثنا الأعمش عن عمرو بن مرة قال كنا
جلوسا عند أبي عبيدة ، فذكروا الرياء فقال رجل يكنى بأبي يزيد : سمعت عبد الله بن
عمرو يقول : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : من سمّع الناس بعمله سمع الله به سامع خلقه وحقره وصغره»
ورواه أيضا عن غندر ويحيى القطان عن شعبة عن عمرو بن مرة عن رجل عن عبد الله بن
عمرو عن النبي صلىاللهعليهوسلم
__________________
فذكره ، ومما
يتعلق بقوله تعالى : (الَّذِينَ هُمْ
يُراؤُنَ) أن من عمل عملا لله فأطلع عليه الناس فأعجبه ذلك أن هذا لا
يعد رياء ، والدليل على ذلك ما رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده ، حدثنا
هارون بن معروف ، حدثنا مخلد بن يزيد ، حدثنا سعيد بن بشير ، حدثنا الأعمش عن أبي
صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كنت أصلي فدخل علي رجل فأعجبني ذلك ، فذكرته
لرسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : «كتب لك أجران : أجر السر وأجر العلانية».
قال أبو علي هارون
بن معروف بلغني أن ابن المبارك قال نعم الحديث للمرائين ، وهذا حديث غريب من هذا
الوجه ، وسعيد بن بشير متوسط ، وروايته عن الأعمش عزيزة ، وقد رواه غيره عنه ، قال
أبو يعلى أيضا : حدثنا محمد بن المثنى بن موسى ، حدثنا أبو داود ، حدثنا أبو سنان
عن حبيب بن أبي ثابت ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رجل : يا
رسول الله الرجل يعمل العمل يسره ، فإذا اطلع عليه أعجبه قال قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «له أجران أجر السر وأجر العلانية» . وقد رواه الترمذي عن محمد بن المثنى وابن ماجة عن بندار
كلاهما عن أبي داود الطيالسي عن أبي سنان الشيباني ، واسمه ضرار ابن مرة ، ثم قال
الترمذي غريب وقد رواه الأعمش وغيره عن حبيب عن أبي صالح مرسلا.
وقد قال أبو جعفر
بن جرير : حدثني أبو كريب ، حدثنا معاوية بن هشام عن شيبان النحوي
عن جابر الجعفي ، حدثني رجل عن أبي برزة الأسلمي قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم لما نزلت هذه الآية (الَّذِينَ هُمْ عَنْ
صَلاتِهِمْ ساهُونَ) قال : «الله أكبر هذا خير لكم من أن لو أعطي كل رجل منكم
مثل جميع الدنيا هو الذي إن صلّى لم يرج خير صلاته وإن تركها لم يخف ربه» فيه جابر
الجعفي وهو ضعيف وشيخه مبهم لم يسم ، والله أعلم.
وقال ابن جرير أيضا : حدثني زكريا بن أبان المصري ، حدثنا عمرو بن طارق ،
حدثنا عكرمة بن إبراهيم حدثني عبد الملك بن عمير عن مصعب بن سعد عن سعد بن أبي
وقاص قال : سألت رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن (الَّذِينَ هُمْ عَنْ
صَلاتِهِمْ ساهُونَ) قال : «هم الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها» قلت : وتأخير
الصلاة عن وقتها يحتمل تركها بالكلية ويحتمل صلاتها بعد وقتها شرعا أو تأخيرها عن
أول الوقت ، وكذا رواه الحافظ أبو يعلى عن شيبان بن فروخ عن عكرمة بن إبراهيم به ،
ثم رواه عن أبي الربيع عن جابر عن عاصم عن مصعب عن أبيه موقوفا : سهوا عنها حتى
ضاع الوقت ، وهذا أصح إسنادا وقد ضعف البيهقي رفعه وصحح وقفه وكذلك الحاكم.
__________________
وقوله تعالى : (وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) أي لا أحسنوا عبادة ربهم ولا أحسنوا إلى خلقه حتى ولا
بإعارة ما ينتفع به ، ويستعان به مع بقاء عينه ورجوعه إليهم ، فهؤلاء لمنع الزكاة
وأنواع القربات أولى وأولى ، وقد قال ابن أبي نجيح عن مجاهد قال علي : الماعون
الزكاة ، وكذا رواه السدي عن أبي صالح عن علي ، وكذا روي من غير وجه عن ابن عمر ،
وبه يقول محمد بن الحنيفة وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد وعطاء وعطية العوفي ،
والزهري والحسن وقتادة والضحاك وابن زيد ، وقال الحسن البصري : إن صلّى راءى وإن
فاتته لم يأس عليها ويمنع زكاة ماله وفي لفظ صدقة ماله.
وقال زيد بن أسلم
: هم المنافقون ظهرت الصلاة فصلوها ، وضمنت الزكاة فمنعوها. وقال الأعمش وشعبة عن
الحكم عن يحيى بن الجزار أن أبا العبيدين سأل عبد الله بن مسعود عن الماعون فقال :
هو ما يتعاوره الناس بينهم من الفأس والقدر. وقال المسعودي عن سلمة بن كهيل عن أبي
العبيدين أنه سئل ابن مسعود عن الماعون فقال : هو ما يتعاطاه الناس بينهم من الفأس
والقدر والدلو وأشباه ذلك.
وقال ابن جرير : حدثني محمد بن عبيد المحاربي ، حدثنا أبو الأحوص عن أبي
إسحاق عن أبي العبيدين وسعد بن عياض عن عبد الله قال : كنا أصحاب محمد صلىاللهعليهوسلم نتحدث أن الماعون الدلو والفأس والقدر لا يستغنى عنهن ،
وحدثنا خلاد بن أسلم ، أخبرنا النضر بن شميل ، أخبرنا شعبة عن أبي إسحاق قال :
سمعت سعد بن عياض يحدث عن أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم مثله وقال الأعمش عن إبراهيم عن الحارث بن سويد عن عبد
الله أنه سئل عن الماعون فقال : ما يتعاوره الناس بينهم الفأس والدلو وشبهه.
وقال ابن جرير : حدثنا عمرو بن علي الفلاس ، حدثنا أبو داود الطيالسي ،
حدثنا أبو عوانة عن عاصم بن بهدلة عن أبي وائل عن عبد الله قال : كنا مع نبينا صلىاللهعليهوسلم ونحن نقول منع الماعون منع الدلو وأشباه ذلك .
وقد رواه أبو داود
والنسائي عن قتيبة عن أبي عوانة بإسناده نحوه ولفظ النسائي عن عبد الله قال : كل
معروف صدقة ، وكنا نعد الماعون على عهد رسول الله صلىاللهعليهوسلم عارية الدلو والقدر.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبي ، حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة عن عاصم عن زر عن عبد الله قال :
الماعون العواري القدر والميزان والدلو. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس (وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) يعني متاع البيت ، وكذا قال مجاهد وإبراهيم النخعي وسعيد
بن
__________________
جبير وأبو مالك
وغير واحد إنها العارية للأمتعة.
وقال ليث بن أبي
سليم عن مجاهد عن ابن عباس (وَيَمْنَعُونَ
الْماعُونَ) قال : لم يجيء أهلها بعد : وقال العوفي عن ابن عباس (وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) قال : اختلف الناس في ذلك فمنهم من قال يمنعون الزكاة ،
ومنهم من قال يمنعون الطاعة ، ومنهم من قال يمنعون العارية ، رواه ابن جرير ثم روي
عن يعقوب بن إبراهيم عن ابن علية عن ليث بن أبي سليم عن أبي إسحاق عن الحارث عن
علي : الماعون منع الناس الفأس والقدر والدلو ، وقال عكرمة رأس الماعون زكاة المال
وأدناه المنخل والدلو والإبرة ، رواه ابن أبي حاتم وهذا الذي قاله عكرمة حسن ،
فإنه يشمل الأقوال كلها وترجع كلها إلى شيء واحد ، وهو ترك المعاونة بمال أو منفعة
، ولهذا قال محمد بن كعب (وَيَمْنَعُونَ
الْماعُونَ) قال : المعروف. ولهذا جاء في الحديث «كل معروف صدقة».
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا وكيع عن ابن أبي ذئب عن الزهري (وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) قال بلسان قريش : المال وروي هاهنا حديثا غريبا عجيبا في
إسناده ومتنه فقال : حدثنا أبي وأبو زرعة قالا ، حدثنا قيس بن حفص الدارمي ، حدثنا
دلهم بن دهثم العجلي، حدثنا عائذ بن ربيعة النميري. حدثني قرة بن دعموص النميري
أنهم وفدوا على رسول اللهصلىاللهعليهوسلم فقالوا : يا رسول الله ما تعهد إلينا! قال : «لا تمنعوا
الماعون» قالوا : يا رسول الله وما الماعون؟ قال : «في الحجر وفي الحديدة وفي
الماء» قالوا : فأي الحديدة؟ قال : «قدروكم النحاس وحديد الفأس الذي تمتهنون به»
قالوا : وما الحجر؟ قال : «قدروكم الحجارة» غريب جدا ورفعه منكر ، وفي إسناده من
لا يعرف والله أعلم.
وقد ذكر ابن
الأثير في الصحابة ترجمة علي النميري فقال : روى ابن قانع بسنده إلى عامر بن ربيعة
بن قيس النميري عن علي بن فلان النميري ، سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «المسلم أخو المسلم إذا لقيه حيّاه بالسلام ويرد
عليه ما هو خير منه لا يمنع الماعون» قلت : يا رسول الله ما الماعون؟ قال «الحجر
والحديد وأشباه ذلك» والله أعلم.
آخر تفسير سورة
الماعون ولله الحمد والمنة.
تفسير سورة الكوثر
وهي مكية
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(إِنَّا أَعْطَيْناكَ
الْكَوْثَرَ (١) فَصَلِّ لِرَبِّكَ
وَانْحَرْ (٢) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ
الْأَبْتَرُ)(٣)
قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن فضيل عن المختار بن فلفل عن أنس بن مالك
قال: أغفى رسول الله إغفاءة ، فرفع رأسه متبسما إما قال لهم وإما قالوا له : لم
ضحكت؟ فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إنه أنزلت علي آنفا سورة» فقرأ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) حتى ختمها فقال : «هل تدرون ما الكوثر؟» قالوا : الله
ورسوله أعلم. قال «هو نهر أعطانيه ربي عزوجل في الجنة عليه خير كثير ، ترد عليه أمتي يوم القيامة آنيته
عدد الكواكب يختلج العبد منهم ، فأقول يا رب إنه من أمتي ، فيقال إنك لا تدري ما
أحدثوا بعدك» هكذا رواه الإمام أحمد بهذا الإسناد الثلاثي ، وهذا السياق عن محمد
بن فضيل عن المختار بن فلفل عن أنس بن مالك.
وقد ورد في صفة
الحوض يوم القيامة أنه يشخب فيه ميزابان من السماء من نهر الكوثر وأن آنيته عدد
نجوم السماء ، وقد روى هذا الحديث مسلم وأبو داود والنسائي من طريق علي بن مسهر ومحمد
بن فضيل ، كلاهما عن المختار بن فلفل عن أنس ، ولفظ مسلم قال : بينا رسول الله صلىاللهعليهوسلم بين أظهرنا في المسجد إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه متبسما ،
قلنا : ما أضحك يا رسول الله. قال : «لقد أنزلت علي آنفا سورة» فقرأ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شانِئَكَ هُوَ
الْأَبْتَرُ) ثم قال «أتدرون ما هو الكوثر؟ قلنا الله ورسوله أعلم قال :
ـ فإنه نهر وعدنيه ربي عزوجل عليه خير كثير وهو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة آنيته
عدد النجوم في السماء ، فيختلج العبد منهم فأقول رب إنه من أمتي ، فيقول إنك لا
تدري ما أحدث بعدك» .
وقد استدل به كثير
من القراء على أن هذه السورة مدنية وكثير من الفقهاء على أن البسملة من السورة ،
وأنها منزلة معها.
فأما قوله تعالى :
(إِنَّا أَعْطَيْناكَ
الْكَوْثَرَ) فقد تقدم في هذا الحديث أنه نهر في الجنة ، وقد رواه
الإمام أحمد من طريق أخرى عن أنس فقال : حدثنا عفان ، حدثنا حماد
أخبرنا ثابت عن أنس أنه قرأ هذه الآية (إِنَّا أَعْطَيْناكَ
الْكَوْثَرَ) قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أعطيت الكوثر فإذا هو نهر يجري ولم يشق شقا وإذا حافتاه
قباب اللؤلؤ فضربت بيدي في تربته فإذا مسك أذفر وإذا حصباؤه اللؤلؤ».
وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا محمد بن أبي عدي عن حميد عن أنس قال : قال
__________________
رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «دخلت الجنة فإذا أنا بنهر حافتاه خيام اللؤلؤ فضربت
بيدي إلى ما يجري فيه الماء فإذا مسك أذفر قلت : ما هذا يا جبريل؟ قال : هذا
الكوثر الذي أعطاكه الله عزوجل» ورواه البخاري في صحيحه ومسلم من حديث شيبان بن عبد
الرّحمن عن قتادة عن أنس بن مالك قال : لما عرج بالنبي صلىاللهعليهوسلم إلى السماء قال : «أتيت على نهر حافتاه قباب اللؤلؤ المجوف
فقلت ما هذا يا جبريل؟ قال : هذا الكوثر» وهو لفظ البخاري رحمهالله.
وقال ابن جرير : حدثنا الربيع ، أخبرنا ابن وهب عن سليمان بن بلال عن
شريك بن أبي نمر ، قال : سمعت أنس بن مالك يحدثنا قال : لما أسري برسول الله صلىاللهعليهوسلم مضى به جبريل إلى السماء الدنيا ، فإذا هو بنهر عليه قصر
من اللؤلؤ وزبرجد ، فذهب يشم ترابه فإذا هو مسك قال: «يا جبريل ما هذا النهر؟ قال
: هو الكوثر الذي خبأ لك ربك» وقد تقدم حديث الإسراء في سورة سبحان من طريق شريك
عن أنس عن النبي صلىاللهعليهوسلم وهو مخرج في الصحيحين. وقال سعيد عن قتادة عن أنس أن رسول
الله صلىاللهعليهوسلم قال : «بينما أنا أسير في الجنة إذ عرض لي نهر حافتاه قباب
اللؤلؤ المجوف ، فقال الملك ـ الذي معه ـ أتدري ما هذا؟ هذا الكوثر الذي أعطاك
الله ، وضرب بيده إلى أرضه فأخرج من طينه المسك» وكذا رواه سليمان بن طرخان ومعمر
وهمام وغيرهم عن قتادة به.
قال ابن جرير : حدثنا أحمد بن أبي سريج ، حدثنا أبو أيوب العباس ، حدثنا
إبراهيم بن سعد ، حدثني محمد بن عبد الوهاب ابن أخي ابن شهاب عن أبيه عن أنس قال :
سئل رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن الكوثر فقال : «هو نهر أعطانيه الله تعالى في الجنة
ترابه مسك أبيض من اللبن وأحلى من العسل ترده طير أعناقها مثل أعناق الجزر» وقال
أبو بكر : يا رسول الله إنها لناعمة قال «آكلها أنعم منها».
وقال أحمد : حدثنا أبو سلمة الخزاعي ، حدثنا الليث عن يزيد بن الهاد
عن عبد الوهاب عن عبد الله بن مسلم بن شهاب عن أنس أن رجلا قال : يا رسول الله ما
الكوثر؟ قال : «هو نهر في الجنة أعطانيه ربي لهو أشد بياضا من اللبن وأحلى من
العسل فيه طيور أعناقها كأعناق الجزر» قال عمر : يا رسول الله إنها لناعمة. قال : «آكلها
أنعم منها يا عمر» رواه ابن جرير من حديث الزهري عن أخيه عبد الله عن أنس أنه سأل
رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن الكوثر فذكر مثله سواء.
وقال البخاري :
حدثنا خالد بن يزيد الكاهلي ، حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي
__________________
عبيدة عن عائشة
رضي الله عنها قال : سألتها عن قوله تعالى : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ
الْكَوْثَرَ) قالت: نهر أعطيه نبيكم صلىاللهعليهوسلم ، شاطئاه عليه در مجوف ، آنيته كعدد النجوم ، ثم قال البخاري : رواه زكريا وأبو الأحوص ومطرف عن أبي
إسحاق ، ورواه أحمد والنسائي من طريق مطرف به.
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كريب ، حدثنا وكيع عن سفيان وإسرائيل عن أبي
إسحاق عن أبي عبيدة عن عائشة قالت : الكوثر نهر في الجنة شاطئاه در مجوف ، وقال
إسرائيل : هو نهر في الجنة عليه من الآنية عدد نجوم السماء. وحدثنا ابن حميد :
حدثنا يعقوب القمي عن حفص بن حميد عن شمر بن عطية عن شقيق أو مسروق قال : قلت
لعائشة يا أم المؤمنين حدثيني عن الكوثر قالت : نهر في بطنان الجنة ، قلت وما
بطنان الجنة؟ قالت : وسطها حافتاه قصور اللؤلؤ والياقوت وترابه المسك وحصباؤه
اللؤلؤ والياقوت ، وحدثنا أبو كريب ، حدثنا وكيع عن أبي جعفر الرازي عن ابن أبي
نجيح عن عائشة رضي الله عنها قالت : من أحب أن يسمع خرير الكوثر فليجعل إصبعيه في
أذنيه ، هذا منقطع بين ابن أبي نجيح وعائشة وفي بعض الروايات عن رجل عنها ، ومعنى
هذا أنه يسمع نظير ذلك لا أنه يسمعه نفسه والله أعلم قال السهيلي ورواه الدارقطني
مرفوعا من طريق مالك بن مغول عن الشعبي عن مسروق عن عائشة عن النبي صلىاللهعليهوسلم.
ثم قال البخاري : حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا هشيم أخبرنا أبو بشر عن
سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في الكوثر : هو الخير الذي أعطاه
الله إياه ، قال أبو بشر : قلت لسعيد بن جبير : فإن ناسا يزعمون أنه نهر في الجنة
قال سعيد : النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه ، ورواه أيضا من
حديث هشيم عن أبي بسر وعطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما
قال : الكوثر الخير الكثير ، وقال الثوري عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن
ابن عباس قال : الكوثر الخير الكثير.
وهذا التفسير يعم
النهر وغيره لأن الكوثر من الكثرة وهو الخير الكثير ، ومن ذلك النهر كما قال ابن
عباس وعكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد ومحارب بن دثار والحسن بن أبي الحسن البصري ،
حتى قال مجاهد : هو الخير الكثير في الدنيا والآخرة ، وقال عكرمة : هو النبوة ،
والقرآن وثواب الآخرة وقد صح عن ابن عباس أنه فسره بالنهر أيضا ، فقال ابن جرير :
حدثنا أبو كريب ، حدثنا عمر بن عبيد عن عطاء عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال :
الكوثر نهر في الجنة حافتاه ذهب وفضة يجري على الياقوت والدر ، ماؤه أبيض من الثلج
وأحلى من العسل ، وروى العوفي عن ابن عباس نحو ذلك.
__________________
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب ، حدثنا هشيم أخبرنا عطاء بن السائب عن
محارب بن دثار عن ابن عمر أنه قال : الكوثر نهر في الجنة ، حافتاه ذهب وفضة ، يجري
على الدر والياقوت ، ماؤه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل ، وكذا رواه الترمذي
عن ابن حميد عن جرير عن عطاء بن السائب به مثله موقوفا ، وقد روي مرفوعا فقال
الإمام أحمد : حدثنا علي بن حفص ، حدثنا ورقاء قال : وقال عطاء عن
محارب بن دثار عن ابن عمر قال : قال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم : «الكوثر نهر في الجنة حافتاه من ذهب والماء يجري على
اللؤلؤ وماؤه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل» وهكذا رواه الترمذي وابن ماجة وابن أبي حاتم وابن جرير من
طريق محمد بن فضيل عن عطاء بن السائب به مرفوعا ، وقال الترمذي : حسن صحيح.
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب ، حدثنا ابن علية ، أخبرنا عطاء بن السائب
قال : قال لي محارب بن دثار ما قال سعيد بن جبير في الكوثر؟ قلت : حدثنا عن ابن
عباس أنه قال : هو الخير الكثير ، فقال : صدق والله إنه للخير الكثير ، ولكن حدثنا
ابن عمر قال : لما نزلت (إِنَّا أَعْطَيْناكَ
الْكَوْثَرَ) قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «الكوثر نهر في الجنة حافتاه من ذهب يجري على الدر
والياقوت».
وقال ابن جرير : حدثني ابن البرقي ، حدثنا ابن أبي مريم ، حدثنا محمد بن
جعفر بن أبي كثير ، أخبرني حرام بن عثمان عن عبد الرّحمن الأعرج عن أسامة بن زيد ،
أن رسول اللهصلىاللهعليهوسلم أتى حمزة بن عبد المطلب يوما فلم يجده ، سأل عنه امرأته
وكانت من بني النجار فقالت : خرج يا نبي الله آنفا عامدا نحوك فأظنه أخطأك في بعض
أزقة بني النجار ، أو لا تدخل يا رسول الله؟ فدخل فقدمت إليه حيسا فأكل منه ،
فقالت : يا رسول الله صلىاللهعليهوسلم هنيئا لك ومريئا ، لقد جئت وأنا أريد أن آتيك فأهنيك
وأمريك أخبرني أبو عمارة أنك أعطيت نهرا في الجنة يدعى الكوثر فقال : «أجل وعرضه ـ
يعني أرضه ـ ياقوت ومرجان وزبرجد ولؤلؤ».
حرام بن عثمان
ضعيف ، ولكن هذا سياق حسن ، وقد صح أصل هذا بل قد تواتر من طرق تفيد القطع عند
كثير من أئمة الحديث ، وكذلك أحاديث الحوض ، وهكذا روي عن أنس وأبي العالية ومجاهد
وغير واحد من السلف أن الكوثر نهر في الجنة ، وقال عطاء : هو حوض في الجنة.
__________________
وقوله تعالى : (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) أي كما أعطيناك الخير الكثير في الدنيا والآخرة ومن ذلك
النهر الذي تقدم صفته ، فأخلص لربك صلاتك المكتوبة والنافلة ونحرك فاعبده وحده لا
شريك له ، وانحر على اسمه وحده لا شريك له كما قال تعالى : (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي
وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ
أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) [الأنعام : ١٦٢ ـ ١٦٣]
قال ابن عباس وعطاء ومجاهد وعكرمة والحسن : يعني بذلك نحر البدن ونحوها.
وكذا قال قتادة
ومحمد بن كعب القرظي والضحاك والربيع وعطاء الخراساني والحكم وإسماعيل بن أبي خالد
وغير واحد من السلف ، وهذا بخلاف ما كان عليه المشركون من السجود لغير الله والذبح
على غير اسمه كما قال تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا
مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) [الأنعام : ١٢١]
الآية ، وقيل : المراد بقوله (وَانْحَرْ) وضع اليد اليمنى على اليد اليسرى تحت النحر ، يروى هذا عن
علي ولا يصح ، وعن الشعبي مثله وعن أبي جعفر الباقر (وَانْحَرْ) يعني رفع اليدين عند افتتاح الصلاة ، وقيل (وَانْحَرْ) أي واستقبل بنحرك القبلة ، ذكر هذه الأقوال الثلاثة ابن
جرير.
وقد روى ابن أبي
حاتم هاهنا حديثا منكرا جدا فقال : حدثنا وهب بن إبراهيم القاضي سنة خمس وخمسين
ومائتين ، حدثنا إسرائيل بن حاتم المروزي ، حدثنا مقاتل بن حيان عن الأصبغ بن
نباتة عن علي بن أبي طالب قال : لما نزلت هذه السورة على النبي صلىاللهعليهوسلم (إِنَّا أَعْطَيْناكَ
الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : يا جبريل ما هذه النحيرة التي أمرني بها ربي؟» فقال :
ليست بنحيرة ولكنه يأمرك إذا تحرمت للصلاة ارفع يديك إذا كبرت وإذا ركعت وإذا رفعت
رأسك من الركوع ، وإذا سجدت فإنها صلاتنا وصلاة الملائكة الذين في السموات السبع ،
وإن لكل شيء زينة وزينة الصلاة رفع اليدين عند كل تكبيرة.
وهكذا رواه الحاكم
في المستدرك من حديث إسرائيل بن حاتم به ، وعن عطاء الخراساني : (وَانْحَرْ) أي ارفع صلبك بعد الركوع واعتدل وأبرز نحرك يعني به
الاعتدال ، رواه ابن أبي حاتم وكل هذه الأقوال غريبة جدا ، والصحيح القول الأول أن
المراد بالنحر ذبح المناسك ، ولهذا كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يصلي العيد ثم ينحر نسكه ويقول : «من صلّى صلاتنا ونسك
نسكنا فقد أصاب النسك ، ومن نسك قبل الصلاة فلا نسك له» فقام أبو بردة بن نيار
فقال : يا رسول الله إني نسكت شاتي قبل الصلاة ، وعرفت أن اليوم يوم يشتهى فيه
اللحم. قال : «شاتك شاة لحم» قال : فإن عندي عناقا هي أحب إلي من شاتين أفتجزئ عني؟
قال : «تجزئك ولا تجزئ أحدا بعدك» .
__________________
قال أبو جعفر بن
جرير : والصواب قول من قال إن معنى ذلك فاجعل صلاتك كلها لربك خالصا دون ما سواه
من الأنداد والآلهة ، وكذلك نحرك اجعله له دون الأوثان شكرا له على ما أعطاك من
الكرامة والخير الذي لا كفاء له وخصك به ، وهذا الذي قاله في غاية الحسن ، وقد
سبقه إلى هذا المعنى محمد بن كعب القرظي وعطاء. وقوله تعالى : (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) أي إن مبغضك يا محمد ومبغض ما جئت به من الهدى والحق
والبرهان الساطع والنور المبين هو الأبتر الأقل الأذل المنقطع ذكره ، قال ابن عباس
ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة : نزلت في العاص بن وائل ، وقال محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان قال : كان العاص بن وائل إذا ذكر رسول
الله صلىاللهعليهوسلم يقول : دعوه فإنه رجل أبتر لا عقب له ، فإذا هلك انقطع
ذكره فأنزل الله هذه السورة ، وقال شمر بن عطية : نزلت في عقبة بن أبي معيط.
وقال ابن عباس
أيضا وعكرمة : نزلت في كعب بن الأشرف وجماعة من كفار قريش ، وقال البزار : حدثنا
زياد بن يحيى الحساني ، حدثنا ابن أبي عدي عن داود عن عكرمة عن ابن عباس قال : قدم
كعب بن الأشرف مكة فقالت له قريش : أنت سيدهم ألا ترى إلى هذا الصبي المنبتر من
قومه؟ يزعم أنه خير منا ونحن أهل الحجيج وأهل السدانة وأهل السقاية فقال : أنتم
خير منه ، قال فنزلت (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ
الْأَبْتَرُ) وهكذا رواه البزار وهو إسناد صحيح ، وعن عطاء قال : نزلت
في أبي لهب ، وذلك حين مات ابن لرسول الله صلىاللهعليهوسلم فذهب أبو لهب إلى المشركين فقال بتر محمد الليلة فأنزل
الله في ذلك (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ
الْأَبْتَرُ).
وعن ابن عباس :
نزلت في أبي جهل ، وعنه : (إِنَّ شانِئَكَ) يعني عدوك ، وهذا يعم جميع من اتصف بذلك ممن ذكر وغيرهم ،
وقال عكرمة : الأبتر الفرد ، وقال السدي : كانوا إذا مات ذكور الرجل قالوا بتر ،
فلما مات أبناء رسول الله صلىاللهعليهوسلم قالوا بتر محمد ، فأنزل الله (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ
الْأَبْتَرُ) وهذا يرجع إلى ما قلناه من أن الأبتر الذي إذا مات انقطع
ذكره ، فتوهموا لجهلهم أنه إذا مات بنوه انقطع ذكره ، وحاشا وكلا بل قد أبقى الله
ذكره على رؤوس الأشهاد ، وأوجب شرعه على رقاب العباد ، مستمرا على دوام الآباد ،
إلى يوم المحشر والمعاد ، صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم التناد. آخر تفسير
سورة الكوثر ، ولله الحمد والمنة.
تفسير سورة الكافرون
وهي مكية
ثبت في صحيح مسلم عن جابر أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قرأ بهذه السورة وب (قُلْ هُوَ اللهُ
أَحَدٌ)
__________________
في ركعتي الطواف ،
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قرأ بهما في ركعتي الفجر. وقال الإمام أحمد : حدثنا وكيع ، حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن مجاهد عن
ابن عمر أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قرأ في الركعتين ، قبل الفجر والركعتين بعد المغرب بضعا
وعشرين مرة أو بضع عشرة مرة ، (قُلْ يا أَيُّهَا
الْكافِرُونَ) و (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ).
وقال أحمد أيضا : حدثنا محمد بن عبد الله بن الزبير ، حدثنا إسرائيل
عن أبي إسحاق عن مجاهد عن ابن عمر قال : رمقت النبي صلىاللهعليهوسلم أربعا وعشرين مرة أو خمسا وعشرين مرة يقرأ في الركعتين قبل
الفجر والركعتين بعد المغرب ب (قُلْ يا أَيُّهَا
الْكافِرُونَ) و (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) وقال أحمد : حدثنا أبو أحمد هو محمد بن عبد الله بن الزبيري ، حدثنا
سفيان هو الثوري عن أبي إسحاق عن مجاهد عن ابن عمر قال : رمقت النبي صلىاللهعليهوسلم شهرا ، وكان يقرأ في الركعتين قبل الفجر ب (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) و (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) ، وكذا رواه الترمذي وابن ماجة من حديث أبي أحمد الزبيري ،
وأخرجه النسائي من وجه آخر عن أبي إسحاق به ، وقال الترمذي: هذا حديث حسن ، وقد
تقدم في الحديث أنها تعدل ربع القرآن وإذا زلزلت تعدل ربع القرآن.
وقال الإمام أحمد : حدثنا هاشم بن القاسم ، حدثنا زهير ، حدثنا أبو إسحاق عن
فروة بن نوفل هو ابن معاوية عن أبيه أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال له : «هل لك في ربيبة لنا تكفلها؟» قال : أراها زينب ،
قال ثم جاء فسأله النبي صلىاللهعليهوسلم عنها قال : «ما فعلت الجارية؟» قال : تركتها عند أمها. قال
: «فمجيء ما جاء بك» قال : جئت لتعلمني شيئا أقوله عند منامي قال: «اقرأ (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) ثم نم على خاتمتها فإنها براءة من الشرك» تفرد به أحمد.
وقال أبو القاسم
الطبراني : حدثنا أحمد بن عمرو القطراني حدثنا محمد بن الطفيل ، حدثنا شريك عن أبي
إسحاق عن جبلة بن حارثة ، وهو أخو زيد بن حارثة أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «إذا أويت إلى فراشك فاقرأ (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) حتى تمر بآخرها فإنها براءة من الشرك». وروى الطبراني من
طريق شريك عن جابر عن معقل الزبيدي عن عبد الرّحمن بن زيد أن رسول اللهصلىاللهعليهوسلم كان إذا أخذ مضجعه قرأ (قُلْ يا أَيُّهَا
الْكافِرُونَ) حتى يختمها.
وقال الإمام أحمد : حدثنا حجاج ، حدثنا شريك عن أبي إسحاق عن فروة بن نوفل
عن
__________________
الحارث بن جبلة
قال : قلت يا رسول الله علمني شيئا أقوله عند منامي ، قال : «إذا أخذت مضجعك من
الليل فاقرأ (قُلْ يا أَيُّهَا
الْكافِرُونَ) فإنها براءة من الشرك» والله أعلم.
وروى الطبراني من
طريق شريك عن جابر عن معقل الزبيدي عن عبد البر أخضر أو أحمر أن رسول الله كان إذا
أخذ مضجعه قرأ (قُلْ يا أَيُّهَا
الْكافِرُونَ) حتى يختمها.
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(قُلْ يا أَيُّهَا
الْكافِرُونَ (١) لا أَعْبُدُ ما
تَعْبُدُونَ (٢) وَلا أَنْتُمْ
عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٣) وَلا أَنا عابِدٌ ما
عَبَدْتُّمْ (٤) وَلا أَنْتُمْ
عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٥) لَكُمْ دِينُكُمْ
وَلِيَ دِينِ)
(٦)
هذه السورة سورة
البراءة من العمل الذي يعمله المشركون ، وهي آمرة بالإخلاص فيه فقوله تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) يشمل كل كافر على وجه الأرض ، ولكن المواجهين بهذا الخطاب
هم كفار قريش ، وقيل إنهم من جهلهم دعوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى عبادة أوثانهم سنة ، ويعبدون معبوده سنة ، فأنزل الله
هذه السورة وأمر رسوله صلىاللهعليهوسلم فيها أن يتبرأ من دينهم بالكلية فقال: (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) يعني من الأصنام والأنداد (وَلا أَنْتُمْ
عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) وهو الله وحده لا شريك له ، فما هاهنا بمعنى من ، ثم قال :
(وَلا أَنا عابِدٌ ما
عَبَدْتُّمْ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) أي ولا أعبد عبادتكم أي لا أسلكها ولا أقتدي بها وإنما
أعبد الله على الوجه الذي يحبه ويرضاه ، ولهذا قال : (وَلا أَنْتُمْ
عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) أي لا تقتدون بأوامر الله وشرعه في عبادته ، بل قد اخترعتم
شيئا من تلقاء أنفسكم كما قال : (إِنْ يَتَّبِعُونَ
إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ
الْهُدى) [النجم : ٢٣].
فتبرأ منهم في
جميع ما هم فيه ، فإن العابد لا بد له من معبود يعبده وعبادة يسلكها إليه ،
فالرسول صلىاللهعليهوسلم وأتباعه يعبدون الله بما شرعه ، ولهذا كان كلمة الإسلام لا
إله إلا الله محمد رسول الله أي لا معبود إلا الله ولا طريق إليه إلا ما جاء به
الرسول صلىاللهعليهوسلم ، والمشركون يعبدون غير الله عبادة لم يأذن بها الله ،
ولهذا قال لهم الرسول صلىاللهعليهوسلم : (لَكُمْ دِينُكُمْ
وَلِيَ دِينِ) كما قال تعالى : (وَإِنْ كَذَّبُوكَ
فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ
وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) [يونس : ٤٤] وقال
: (لَنا أَعْمالُنا
وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) [الشورى : ١٥].
وقال البخاري يقال : (لَكُمْ دِينُكُمْ) الكفر (وَلِيَ دِينِ) الإسلام ولم يقل ديني لأن الآيات بالنون فحذف الياء كما
قال : (فَهُوَ يَهْدِينِ) و (يَشْفِينِ) [الشعراء : ٨٠]
وقال غيره : لا أعبد ما تعبدون الآن ولا أجيبكم فيما بقي من عمري ولا أنتم عابدون
ما أعبد ، وهم الذين قال : (وَلَيَزِيدَنَّ
كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً) [المائدة : ٦٤]
انتهى ما ذكره.
__________________
ونقل ابن جرير عن بعض أهل العربية أن ذلك من باب التأكيد كقوله : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ
مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) [الشرح : ٥ ـ ٦]
وكقوله (لَتَرَوُنَّ
الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ) [التكاثر : ٦ ـ ٧]
وحكاه بعضهم كابن الجوزي وغيره عن ابن قتيبة ، فالله أعلم.
فهذه ثلاثة أقوال [أولها]
ما ذكرناه أولا [والثاني] ما حكاه البخاري وغيره من المفسرين أن المراد (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ وَلا
أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) في الماضي (وَلا أَنا عابِدٌ ما
عَبَدْتُّمْ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) في المستقبل [الثالث] إن ذلك تأكيد محض [وثم قول رابع]
نصره أبو العباس بن تيمية في بعض كتبه ، وهو أن المراد بقوله : (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) نفي الفعل لأنها جملة فعلية (وَلا أَنا عابِدٌ ما
عَبَدْتُّمْ) نفي قبوله لذلك بالكلية لأن النفي بالجملة الاسمية آكد ،
فكأنه نفى الفعل وكونه قابلا لذلك ، ومعناه نفي الوقوع ونفي الإمكان الشرعي أيضا ،
وهو قول حسن أيضا ، والله أعلم.
وقد استدل الإمام
أبو عبد الله الشافعي وغيره بهذه الآية الكريمة (لَكُمْ دِينُكُمْ
وَلِيَ دِينِ) على أن الكفر ملة واحدة ، تورثه اليهود من النصارى وبالعكس
إذ كان بينهما نسب أو سبب يتوارث به لأن الأديان ما عدا الإسلام كلها كالشيء
الواحد في البطلان. وذهب أحمد بن حنبل ومن وافقه إلى عدم توريث النصارى من اليهود
، وبالعكس لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لا يتوارث أهل ملتين شتى» .
آخر تفسير سورة قل
يا أيها الكافرون.
تفسير سورة النصر
وهي مدنية
قد تقدم أنها تعدل
ربع القرآن ، وإذا زلزلت تعدل ربع القرآن. وقال النسائي : أخبرنا محمد بن إسماعيل
بن إبراهيم ، أخبرنا جعفر عن أبي العميس ح وأخبرنا محمد بن سليمان ، حدثنا جعفر بن
عون ، حدثنا أبو العميس عن عبد المجيد بن سهيل عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة
قال : قال لي ابن عباس : يا ابن عتبة ، أتعلم آخر سورة من القرآن نزلت؟ قلت : نعم
، (إِذا جاءَ نَصْرُ
اللهِ وَالْفَتْحُ) قال صدقت .
وروى الحافظان أبو
بكر البزار والبيهقي من حديث موسى بن عبيدة الربذي عن صدقة بن
__________________
يسار عن ابن عمر
قال : أنزلت هذه السورة (إِذا جاءَ نَصْرُ
اللهِ وَالْفَتْحُ) على رسول اللهصلىاللهعليهوسلم أوسط أيام التشريق ، فعرف أنه الوداع فأمر براحلته القصواء
فرحلت ، ثم قام فخطب الناس فذكر خطبته المشهورة وقال الحافظ البيهقي : أخبرنا علي
بن أحمد بن عبدان ، أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار ، حدثنا الأسفاطي ، حدثنا سعيد بن
سليمان ، حدثنا عباد بن العوام عن هلال بن خباب عن عكرمة عن ابن عباس قال : لما
نزلت (إِذا جاءَ نَصْرُ
اللهِ وَالْفَتْحُ) دعا رسول الله صلىاللهعليهوسلم فاطمة وقال : «إنه قد نعيت إلي نفسي» فبكت ثم ضحكت وقالت :
أخبرني أنه نعيت إليه نفسه فبكيت ثم قال : «اصبري فإنك أول أهلي لحاقا بي» فضحكت ،
وقد رواه النسائي كما سيأتي بدون ذكر فاطمة.
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(إِذا جاءَ نَصْرُ
اللهِ وَالْفَتْحُ (١) وَرَأَيْتَ النَّاسَ
يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً (٢)
فَسَبِّحْ
بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً)(٣)
قال البخاري : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن
سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر ، فكأن بعضهم وجد في
نفسه فقال :
لم يدخل هذا معنا ولنا
أبناء مثله؟ فقال عمر : إنه ممن قد علمتم ، فدعاهم ذات يوم فأدخلني معهم فما رأيت
أنه دعاني فيهم يومئذ إلا ليريهم ، فقال : ما تقولون في قول الله عزوجل : (إِذا جاءَ نَصْرُ
اللهِ وَالْفَتْحُ)؟ فقال بعضهم : أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح
علينا ، وسكت بعضهم فلم يقل شيئا ، فقال لي : أكذلك تقول يا ابن عباس؟ فقلت : لا ،
فقال : ما تقول؟ فقلت : هو أجل رسول الله صلىاللهعليهوسلم أعلمه له ، قال : (إِذا جاءَ نَصْرُ
اللهِ وَالْفَتْحُ) فذلك علامة أجلك (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ
رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) فقال عمر بن الخطاب : لا أعلم منها إلا ما تقول ، تفرد به
البخاري. وروى ابن جرير عن محمد بن حميد عن مهران عن الثوري عن عاصم عن أبي رزين
عن ابن عباس ، فذكر مثل هذه القصة أو نحوها.
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن فضيل ، حدثنا عطاء عن سعيد بن جبير عن ابن
عباس قال : لما نزلت (إِذا جاءَ نَصْرُ
اللهِ وَالْفَتْحُ) قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «نعيت إلي نفسي» فإنه مقبوض في تلك السنة ، تفرد به أحمد
: وروى العوفي عن ابن عباس مثله وهكذا قال مجاهد وأبو العالية والضحاك وغير واحد
إنها أجل رسول الله صلىاللهعليهوسلم نعي إليه.
__________________
وقال ابن جرير : حدثني إسماعيل بن موسى ، حدثنا الحسن بن عيسى الحنفي ،
عن معمر عن الزهري عن أبي حازم عن ابن عباس قال : بينما رسول الله صلىاللهعليهوسلم في المدينة إذ قال : «الله أكبر! الله أكبر! جاء نصر الله
والفتح! جاء أهل اليمن ـ قيل يا رسول الله وما أهل اليمن؟ قال ـ قوم رقيقة قلوبهم
، لينة طباعهم ، الإيمان يمان ، والفقه يمان ، والحكمة يمانية» ثم رواه عن الأعلى
عن ابن ثور عن معمر عن عكرمة مرسلا.
وقال الطبراني :
حدثنا زكريا بن يحيى ، حدثنا أبو كامل الجحدري ، حدثنا أبو عوانة عن هلال بن خباب
عن عكرمة عن ابن عباس قال : لما نزلت (إِذا جاءَ نَصْرُ
اللهِ وَالْفَتْحُ) حتى ختم السورة قال : نعيت لرسول الله صلىاللهعليهوسلم نفسه حين نزلت ، قال : فأخذ بأشد ما كان قط اجتهادا في أمر
الآخرة ، وقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم بعد ذلك «جاء الفتح ونصر الله ، وجاء أهل اليمن» فقال رجل
: يا رسول الله وما أهل اليمن؟ قال : «قوم رقيقة قلوبهم ، لينة طباعهم ، الإيمان
يمان ، والفقه يمان».
وقال الإمام أحمد : حدثنا وكيع عن سفيان عن عاصم عن أبي رزين عن ابن عباس
قال: لما نزلت (إِذا جاءَ نَصْرُ
اللهِ وَالْفَتْحُ) علم النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قد نعيت إليه نفسه ، فقيل إذا جاء نصر الله والفتح
السورة كلها ، حدثنا وكيع عن سفيان عن عاصم عن أبي رزين أن عمر سأل ابن عباس عن
هذه الآية (إِذا جاءَ نَصْرُ
اللهِ وَالْفَتْحُ) قال : لما نزلت نعيت إلى رسول اللهصلىاللهعليهوسلم نفسه .
وقال الطبراني :
حدثنا إبراهيم بن أحمد بن عمر الوكيعي ، حدثنا أبي ، حدثنا جعفر بن عون عن أبي
العميس ، عن أبي بكر بن أبي الجهم عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس
قال : آخر سورة نزلت من القرآن جميعا (إِذا جاءَ نَصْرُ
اللهِ وَالْفَتْحُ).
وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة عن
أبي البختري الطائي ، عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : لما نزلت هذه السورة (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) قرأها رسول الله صلىاللهعليهوسلم حتى ختمها فقال : «الناس حيّز وأنا وأصحابي حيّز ـ وقال ـ لا
هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية» فقال له مروان : كذبت ، وعنده رافع بن خديج وزيد
بن ثابت قاعدان معه على السرير ، فقال أبو سعيد : لو شاء هذان لحدثاك ، ولكن هذا
يخاف أن تنزعه عن عرافة قومه. وهذا يخشى أن تنزعه عن الصدقة. فرفع مروان عليه
الدرة
__________________
ليضربه فلما رأيا
ذلك قالا : صدق. تفرد به أحمد.
وهذا الذي أنكره
مروان على أبي سعيد ليس بمنكر ، فقد ثبت من رواية ابن عباس أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال يوم الفتح : «لا هجرة ولكن جهاد ونية ، ولكن إذا
استنفرتم فانفروا» أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما.
فالذي فسر به بعض
الصحابة من جلساء عمر رضي الله عنهم أجمعين من أنه قد أمرنا إذا فتح الله علينا
المدائن والحصون أن نحمد الله ونشكره ونسبحه ، يعني نصلي له ونستغفره. معنى مليح
صحيح وقد ثبت له شاهد من صلاة النبي صلىاللهعليهوسلم يوم فتح مكة وقت الضحى ثماني ركعات ، فقال قائلون : هي
صلاة الضحى ، وأجيبوا بأنه لم يكن يواظب عليها فكيف صلاها ذلك اليوم ، وقد كان
مسافرا لم ينو الإقامة بمكة ، ولهذا أقام فيها إلى آخر شهر رمضان قريبا من تسع عشر
يوما ، يقصر الصلاة ويفطر هو وجميع الجيش ، وكانوا نحوا من عشرة آلاف ، قال هؤلاء
: وإنما كانت صلاة الفتح.
قالوا : فيستحب
لأمير الجيش إذا فتح بلدا أن يصلي فيه أول ما يدخله ثماني ركعات ، وهكذا فعل سعد
بن أبي وقاص يوم فتح المدائن ، ثم قال بعضهم : يصليها كلها بتسليمة واحدة ،
والصحيح أنه يسلم من كل ركعتين كما ورد في سنن أبي داود أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان يسلم يوم الفتح من كل ركعتين.
وأما ما فسر به
ابن عباس وعمر رضي الله تعالى عنهما من أن هذه السورة نعي فيها إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم روحه الكريمة ، واعلم أنك إذا فتحت مكة وهي قريتك التي
أخرجتك ودخل الناس في دين الله أفواجا ، فقد فرغ شغلنا بك في الدنيا فتهيأ للقدوم
علينا والوفود إلينا ، فالآخرة خير لك من الدنيا ، ولسوف يعطيك ربك فترضى ، ولهذا
قال : (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ
رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً).
قال النسائي
أخبرنا عمرو بن منصور حدثنا محمد بن محبوب ، حدثنا أبو عوانة عن هلال بن خباب عن
عكرمة عن ابن عباس قال : لما نزلت (إِذا جاءَ نَصْرُ
اللهِ وَالْفَتْحُ) إلى آخر السورة قال : نعيت لرسول الله صلىاللهعليهوسلم نفسه حين أنزلت فأخذ في أشد ما كان اجتهادا في أمر الآخرة
، وقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم بعد ذلك : «جاء الفتح وجاء نصر الله وجاء أهل اليمن ، فقال
رجل : يا رسول الله وما أهل اليمن؟ قال : «قوم رقيقة قلوبهم لينة قلوبهم ، الإيمان
يمان والحكمة يمانية والفقه يمان».
وقال البخاري :
حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن منصور عن أبي الضحى عن مسروق عن عائشة قالت
: كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده «سبحانك
__________________
اللهم ربنا وبحمدك
اللهم اغفر لي» يتأول القرآن وأخرجه بقية الجماعة إلا الترمذي من حديث منصور به.
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن أبي عدي عن داود عن الشعبي عن مسروق قال :
قالت عائشة كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يكثر في آخر أمره من قوله : «سبحان الله وبحمده أستغفر
الله وأتوب إليه» وقال : «إن ربي كان أخبرني أني سأرى علامة في أمتي وأمرني إذا
رأيتها أن أسبح بحمده وأستغفره إنه كان توابا ، فقد رأيتها (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ
وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ
رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) ورواه مسلم من طريق داود بن أبي هند به.
وقال ابن جرير : حدثنا أبو السائب حدثنا حفص حدثنا عاصم عن الشعبي ، عن
أم سلمة قالت كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم في آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ولا يذهب ولا يجيء إلا قال :
«سبحان الله وبحمده» فقلت : يا رسول الله رأيتك تكثر من سبحان الله وبحمده ، لا
تذهب ولا تجيء ولا تقوم ولا تقعد إلا قلت : سبحان الله وبحمده قال : «إني أمرت بها
ـ فقال : (إِذا جاءَ نَصْرُ
اللهِ وَالْفَتْحُ) إلى آخر السورة ، غريب ، وقد كتبنا حديث كفارة المجلس من
جميع طرقه وألفاظه في جزء مفرد فيكتب هاهنا.
وقال الإمام أحمد : حدثنا وكيع عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة عن عبد
الله قال لما نزلت على رسول الله صلىاللهعليهوسلم (إِذا جاءَ نَصْرُ
اللهِ وَالْفَتْحُ) كان يكثر إذا قرأها وركع أن يقول : «سبحانك اللهم ربنا
وبحمدك ، اللهم اغفر لي إنك أنت التواب الرّحيم» ثلاثا تفرد به أحمد. ورواه ابن
أبي حاتم عن أبيه عن عمرو بن مرة عن شعبة عن أبي إسحاق به ، والمراد بالفتح هاهنا
فتح مكة قولا واحدا ، فإن أحياء العرب كانت تتلوم بإسلامها فتح مكة يقولون إن ظهر
على قومه فهو نبي ، فلما فتح الله عليه مكة دخلوا في دين الله أفواجا ، فلم تمض سنتان
حتى استوسقت جزيرة العرب إيمانا ، ولم يبق في سائر قبائل العرب إلا مظهر للإسلام
ولله الحمد والمنة.
وقد روى البخاري في صحيحه عن عمرو بن سلمة قال : لما كان الفتح بادر كل قوم
__________________
بإسلامهم إلى رسول
الله صلىاللهعليهوسلم وكانت الأحياء تتلوم بإسلامها فتح مكة ، يقولون دعوه وقومه
فإن ظهر عليهم فهو نبي الحديث ، وقد حررنا غزوة الفتح في كتابنا «السيرة» فمن
أراده فليراجعه هناك ولله الحمد والمنة.
وقال الإمام أحمد : حدثنا معاوية بن عمرو حدثنا أبو إسحاق عن الأوزاعي ،
حدثني أبو عمار حدثني جار لجابر بن عبد الله قال قدمت من سفر فجاءني جابر بن عبد
الله فسلّم علي ، فجعلت أحدثه عن افتراق الناس وما أحدثوا ، فجعل جابر يبكي ثم قال
سمعت رسول اللهصلىاللهعليهوسلم يقول : «إن الناس دخلوا في دين الله أفواجا وسيخرجون منه
أفواجا».
آخر تفسير سورة
النصر ، ولله الحمد والمنة.
تفسير سورة المسد
وهي مكية
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(تَبَّتْ يَدا أَبِي
لَهَبٍ وَتَبَّ (١) ما أَغْنى عَنْهُ
مالُهُ وَما كَسَبَ (٢) سَيَصْلى ناراً ذاتَ
لَهَبٍ (٣) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (٤)
فِي
جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ)
(٥)
قال البخاري : حدثنا محمد بن سلام ، حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش
عن عمرو بن مرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي صلىاللهعليهوسلم خرج إلى البطحاء فصعد الجبل فنادى : «يا صباحاه» فاجتمعت
إليه قريش فقال : «أرأيتم إن حدثتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم أكنتم تصدقوني؟ ـ قالوا
: نعم ، قال : ـ فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» فقال أبو لهب : ألهذا جمعتنا؟
تبّا لك فأنزل الله : (تَبَّتْ يَدا أَبِي
لَهَبٍ وَتَبَ) إلى آخرها وفي رواية فقام ينفض يديه وهو يقول : تبا لك
سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله : (تَبَّتْ يَدا أَبِي
لَهَبٍ وَتَبَ) الأول دعاء عليه والثاني خبر عنه ، فأبو لهب هذا هو أحد
أعمام رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، واسمه عبد العزى بن عبد المطلب ، وكنيته أبو عتيبة وإنما
سمي أبا لهب لإشراق وجهه ، وكان كثير الأذية لرسول الله صلىاللهعليهوسلم والبغضة له والازدراء به والتنقص له ولدينه.
قال الإمام أحمد : حدثنا إبراهيم بن أبي العباس ، حدثنا عبد الرّحمن بن أبي
الزناد عن أبيه قال : أخبرني رجل يقال له ربيعة بن عباد من بني الديل وكان جاهليا
فأسلم قال : رأيت
__________________
النبي صلىاللهعليهوسلم في الجاهلية في سوق ذي المجاز وهو يقول : «يا أيها الناس
قولوا لا إله إلا الله تفلحوا» والناس مجتمعون عليه ووراءه رجل وضيء الوجه أحول ذو
غديرتين يقول : إنه صابئ كاذب ، يتبعه حيث ذهب ، فسألت عنه فقالوا هذا عمه أبو لهب
، ثم رواه عن سريج عن ابن أبي الزناد عن أبيه فذكره قال أبو الزناد قلت لربيعة كنت
يومئذ صغيرا؟ قال : لا والله إني يومئذ لأعقل أني أزفر القربة ، تفرد به أحمد .
وقال محمد بن
إسحاق : حدثني حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس قال : سمعت ربيعة بن عباد
الديلي يقول : إني لمع أبي رجل شاب أنظر إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم يتبع القبائل ووراءه رجل أحول وضيء الوجه ذو جمة ، يقف
رسول الله صلىاللهعليهوسلم على القبيلة فيقول : «يا بني فلان إني رسول الله إليكم
آمركم أن تعبدوا الله لا تشركوا به شيئا وأن تصدقوني وتمنعوني حتى أنفذ عن الله ما
بعثني به» وإذا فرغ من مقالته قال الآخر من خلفه : يا بني فلان هذا يريد منكم أن
تسلخوا اللات والعزى ، وحلفاءكم من الجن من بني مالك بن أقيش إلى ما جاء به من
البدعة والضلالة ، فلا تسمعوا له ولا تتبعوه ، فقلت لأبي : من هذا؟ قال : عمه أبو
لهب ، رواه أحمد أيضا والطبراني بهذا اللفظ ، فقوله تعالى : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) أي خسر وخاب وضل عمله وسعيه (وَتَبَ) أي وقد تب تحقق خسارته وهلاكه.
وقوله تعالى : (ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ) قال ابن عباس وغيره (وَما كَسَبَ) يعني ولده ، وروي عن عائشة ومجاهد وعطاء والحسن وابن سيرين
مثله ، وذكر عن ابن مسعود أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم لما دعا قومه إلى الإيمان ، قال أبو لهب : إن كان ما يقول
ابن أخي حقا فإني أفتدي نفسي يوم القيامة من العذاب الأليم بمالي وولدي فأنزل الله
تعالى (ما أَغْنى عَنْهُ
مالُهُ وَما كَسَبَ).
وقوله تعالى : (سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ) أي ذات لهب وشرر وإحراق شديد (وَامْرَأَتُهُ
حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) وكانت زوجته من سادات نساء قريش وهي أم جميل ، واسمها أروى
بنت حرب بن أمية ، وهي أخت أبي سفيان وكانت عونا لزوجها على كفره وجحوده وعناده.
فلهذا تكون يوم القيامة عونا عليه في عذابه في نار جهنم ، ولهذا قال تعالى : (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِها
حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) يعني تحمل الحطب فتلقي على زوجها ليزداد على ما هو فيه ،
وهي مهيأة لذلك مستعدة له (فِي جِيدِها حَبْلٌ
مِنْ مَسَدٍ) قال مجاهد وعروة : من مسد النار ، وعن مجاهد وعكرمة والحسن
وقتادة والثوري والسدي (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) كانت تمشي بالنميمة واختاره ابن جرير.
__________________
وقال العوفي عن
ابن عباس وعطية الجدلي والضحاك وابن زيد : كانت تضع الشوك في طريق رسول الله صلىاللهعليهوسلم. قال ابن جرير : كانت تعير النبي صلىاللهعليهوسلم بالفقر ، وكانت تحتطب فعيرت بذلك ، كذا حكاه ولن يعزه إلى
أحد ، والصحيح الأول والله أعلم. قال سعيد بن المسيب : كانت لها قلادة فاخرة فقالت
لأنفقنها في عداوة محمد يعني فأعقبها الله بها حبلا في جيدها من مسد النار. وقال
ابن جرير : حدثنا أبو كريب حدثنا وكيع عن سليم مولى الشعبي عن الشعبي قال : المسد
الليف ، وقال عروة بن الزبير : المسد سلسلة ذرعها سبعون ذراعا ، وعن الثوري : هي
قلادة من نار طولها سبعون ذراعا ، وقال الجوهري : المسد الليف ، والمسد أيضا حبل
من ليف أو خوص وقد يكون من جلود الإبل أو أوبارها ، ومسدت الحبل أمسده مسدا إذا
أجدت فتله.
وقال مجاهد (فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) أي طوق من حديد ، ألا ترى أن العرب يسمون البكرة مسدا؟
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي وأبو زرعة قالا حدثنا عبد الله بن الزبير الحميدي ،
حدثنا سفيان حدثنا الوليد بن كثير عن أبي بدوس عن أسماء بنت أبي بكر قالت : لما
نزلت (تَبَّتْ يَدا أَبِي
لَهَبٍ) أقبلت العوراء أم جميل بنت حرب ، ولها ولولة وفي يدها فهر
وهي تقول : [رجز]
مذمما أبينا
|
|
ودينه قلينا
|
وأمره
عصينا
|
ورسول الله صلىاللهعليهوسلم جالس في المسجد ، ومعه أبو بكر ، فلما رآها أبو بكر قال :
يا رسول الله لقد أقبلت وأنا أخاف عليك أن تراك. فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إنها لن تراني» وقرأ قرآنا اعتصم به كما قال تعالى : (وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا
بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً) [الإسراء : ٤٥]
فأقبلت حتى وقفت على أبي بكر ولم تر رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقالت : يا أبا بكر إني أخبرت أن صاحبك هجاني ، فقال : لا
ورب هذا البيت ما هجاك ، فولت وهي تقول : قد علمت قريش أني ابنة سيدها قال : وقال
الوليد في حديثه أو غيره : فعثرت أم جميل في مرطها وهي تطوف بالبيت فقالت : تعس
مذمم ، فقالت أم حكيم بنت عبد المطلب: إني لحصان فما أكلم ، وثقاف فما أعلم ،
وكلتانا من بني العم ، وقريش بعد أعلم.
وقال الحافظ أبو
بكر البزار : حدثنا إبراهيم بن سعيد وأحمد بن إسحاق قالا : حدثنا أبو أحمد ، حدثنا
عبد السّلام بن حرب ، عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لما
نزلت (تَبَّتْ يَدا أَبِي
لَهَبٍ) جاءت امرأة أبي لهب ورسول الله صلىاللهعليهوسلم جالس ومعه أبو بكر ، فقال له أبو بكر : لو تنحيت لا تؤذيك
بشيء فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إنه سيحال بيني وبينها» فأقبلت حتى وقفت على أبي بكر
فقالت : يا أبا بكر هجانا صاحبك ، فقال أبو بكر ، لا ورب هذه البنية ما ينطق
بالشعر ولا يتفوه به ، فقالت : إنك لمصدق ، فلما ولّت قال أبو بكر: ما رأتك؟ قال :
«لا ، ما زال ملك يسترني حتى ولت».
ثم قال البزار :
لا نعلمه يروى بأحسن من هذا الإسناد عن أبي بكر رضي الله عنه. وقد قال بعض أهل
العلم في قوله تعالى : (فِي جِيدِها حَبْلٌ
مِنْ مَسَدٍ) أي في عنقها حبل من نار جهنم ترفع به إلى شفيرها ثم ترمى
إلى أسفلها ، ثم كذلك دائما ، قال أبو الخطاب بن دحية في كتاب التنوير ، وقد روى
ذلك وعبر بالمسد عن حبل الدلو ، كما قال أبو حنيفة الدينوري في كتاب النبات : كل
مسد رشاء ، وأنشد في ذلك : [رجز]
وبكرة ومحورا
صرارا
|
|
ومسدا من أبق
مغارا
|
قال : والأبق
القنب. وقال الآخر : [رجز]
يا مسد الخوص
تعوّذ مني
|
|
إن تك لدنا لينا
فإني
|
ما
شئت من أشمط مقسئنّ
|
قال العلماء : وفي
هذه السورة معجزة ظاهرة ودليل واضح على النبوة ، فإنه منذ نزل قوله تعالى : (سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ
وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) فأخبر عنهما بالشقاء وعدم الإيمان لم يقيض لهما أن يؤمنا
ولا واحد منهما لا باطنا ولا ظاهرا ، لا مسرا ولا معلنا ، فكان هذا من أقوى الأدلة
الباهرة الباطنة على النبوة الظاهرة ، آخر تفسير السورة ، ولله الحمد والمنة.
تفسير سورة الإخلاص
وهي مكية
(ذكر سبب نزولها
وفضلها)
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو سعيد محمد بن ميسر الصاغاني ، حدثنا أبو جعفر
الرازي ، حدثنا الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب أن المشركين قالوا
للنبي صلىاللهعليهوسلم : يا محمد «انسب لنا ربك ، فأنزل الله تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ
لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) وكذا رواه الترمذي وابن جرير عن أحمد بن منيع ، زاد ابن جرير ومحمود بن خداش عن أبي
سعيد محمد بن ميسر به زاد ابن جرير والترمذي قال (الصَّمَدُ)
__________________
الذي لم يلد ولم
يولد لأنه ليس شيء يولد إلا سيموت ، وليس شيء يموت إلا سيورث ، وإن اللهعزوجل لا يموت ولا يورث (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ
كُفُواً أَحَدٌ) ولم يكن له شبيه ولا عدل وليس كمثله شيء.
ورواه ابن أبي
حاتم من حديث أبي سعيد محمد بن ميسر به ، ثم رواه الترمذي عن عبد بن حميد عن عبيد
الله بن موسى عن أبي جعفر عن الربيع عن أبي العالية ، فذكره مرسلا ثم لم يذكر
حدثنا ، ثم قال الترمذي : وهذا أصح من حديث أبي سعيد.
[حديث آخر في
معناه] قال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا سريج بن يونس حدثنا إسماعيل بن مجالد
، عن مجالد عن الشعبي عن جابر رضي الله عنه أن أعرابيا جاء إلى النبي صلىاللهعليهوسلم فقال : انسب لنا ربك ، فأنزل الله عزوجل (قُلْ هُوَ اللهُ
أَحَدٌ) إلى آخرها إسناد متقارب ، وقد رواه ابن جرير عن محمد بن
عوف عن سريج فذكره ، وقد أرسله غير واحد من السلف ، وروى عبيد بن إسحاق العطار عن
قيس بن الربيع عن عاصم ، عن أبي وائل ، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قالت قريش
لرسول الله صلىاللهعليهوسلم : انسب لنا ربك فنزلت هذه السورة (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) قال الطبراني : ورواه الفريابي وغيره عن قيس عن أبي عاصم ،
عن أبي وائل مرسلا ، ثم روى الطبراني من حديث عبد الرّحمن بن عثمان الطائفي ، عن
الوازع بن نافع عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لكل شيء نسبة ونسبة الله (قُلْ هُوَ اللهُ
أَحَدٌ. اللهُ الصَّمَدُ) والصمد ليس بأجوف».
[حديث آخر في
فضلها] قال البخاري : حدثنا محمد هو الذهلي ، حدثنا أحمد بن صالح ، حدثنا ابن
وهب ، أخبرنا عمرو عن ابن أبي هلال أن أبا الرّجال محمد بن عبد الرّحمن ، حدثه عن
أمه عمرة بنت عبد الرّحمن ، وكانت في حجر عائشة زوج النبي صلىاللهعليهوسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلىاللهعليهوسلم بعث رجلا على سرية ، وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم
بقل هو الله أحد ، فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلىاللهعليهوسلم فقال : «سلوه لأي شيء يصنع ذلك» فسألوه فقال لأنها صفة
الرّحمن وأنا أحب أن أقرأ بها فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «أخبروه أن الله تعالى يحبه» هكذا رواه في كتاب التوحيد
، ومنهم من يسقط ذكر محمد الذهلي ويجعله من روايته عن أحمد بن صالح ، وقد رواه
مسلم والنسائي أيضا من حديث عبد الله بن وهب عن عمرو بن الحارث ، عن سعيد
بن أبي هلال به.
[حديث آخر] قال
البخاري في كتاب الصلاة ، وقال عبيد الله عن ثابت عن أنس رضي الله
__________________
عنه قال : كان رجل
من الأنصار يؤمهم في مسجد قباء ، فكان كلما افتتح سورة يقرأ بها لهم في الصلاة مما
يقرأ به افتتح بقل هو الله أحد ، حتى يفرغ منها ثم كان يقرأ سورة أخرى معها ، وكان
يصنع ذلك في كل ركعة : فكلمه أصحابه فقالوا : إنك تفتتح بهذه السورة ثم لا ترى
أنها تجزئك حتى تقرأ بالأخرى ، فإما أن تقرأ بها ، وإما تدعها وتقرأ بأخرى ، فقال
: ما أنا بتاركها ، إن أحببتم أن أؤمكم بذلك فعلت ، وإن كرهتم تركتكم ، وكانوا
يرون أنه من أفضلهم وكرهوا أن يؤمهم غيره ، فلما أتاهم النبي صلىاللهعليهوسلم أخبروه الخبر فقال : «يا فلان ما يمنعك أن تفعل ما يأمرك
به أصحابك وما حملك على لزوم هذه السورة في كل ركعة» قال إني أحبها ، قال : «حبك
إياها أدخلك الجنة».
هكذا رواه البخاري
تعليقا مجزوما به. وقد رواه أبو عيسى الترمذي في جامعه عن البخاري عن إسماعيل بن أبي أويس عن عبد العزيز
بن محمد الدراوردي ، عن عبيد الله بن عمر فذكر بإسناده مثله سواء ، ثم قال الترمذي
: غريب من حديث عبيد الله عن ثابت. قال : وروى مبارك بن فضالة عن ثابت عن أنس أن
رجلا قال : يا رسول الله إني أحب هذه السورة (قُلْ هُوَ اللهُ
أَحَدٌ) قال : «إن حبك إياها أدخلك الجنة» وهذا الذي علقه الترمذي
قد رواه الإمام أحمد في مسنده متصلا ، فقال : حدثنا أبو النضر ، حدثنا مبارك بن
فضالة عن ثابت عن أنس رضي الله عنه قال : جاء رجل إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : إنّي أحب هذه السورة (قُلْ هُوَ اللهُ
أَحَدٌ) فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «حبك إياها أدخلك الجنة».
[حديث في كونها
تعدل ثلث القرآن] قال البخاري : حدثنا إسماعيل ، حدثنا مالك عن عبد الرّحمن بن عبد الله
بن عبد الرّحمن بن أبي صعصعة عن أبيه عن أبي سعيد أن رجلا سمع رجلا يقرأ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) يرددها ، فلما أصبح جاء إلى النبي صلىاللهعليهوسلم فذكر ذلك له ، وكأن الرجل يتقالها فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن» زاد إسماعيل بن
جعفر عن مالك عن عبد الرّحمن بن عبد الله عن أبيه عن أبي سعيد قال : أخبرني أخي
قتادة بن النعمان عن النبي صلىاللهعليهوسلم وقد رواه البخاري أيضا عن عبد الله
بن يوسف والقعنبي ، ورواه أبو داود عن القعنبي والنسائي عن قتيبة كلهم عن مالك به ، وحديث
قتادة بن النعمان أسنده النسائي من طريقين عن إسماعيل بن جعفر عن مالك به.
__________________
[حديث آخر] قال
البخاري : حدثنا عمر بن حفص ، حدثنا أبي حدثنا الأعمش ، حدثنا
إبراهيم والضحاك المشرقي عن أبي سعيد رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم لأصحابه: «أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة» فشق
ذلك عليهم وقالوا : أينا يطيق ذلك يا رسول الله. فقال : «الله الواحد الصمد ثلث
القرآن» تفرد بإخراجه البخاري من حديث إبراهيم بن يزيد النخعي والضحاك بن شرحبيل
الهمداني المشرقي ، كلاهما عن أبي سعيد ، قال الفربري : سمعت أبا جعفر محمد بن أبي
حاتم وراق أبي عبد الله قال : قال أبو عبد الله البخاري عن إبراهيم مرسل وعن
الضحاك مسند.
[حديث آخر] قال
الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن إسحاق ، حدثنا ابن لهيعة عن الحارث بن
يزيد عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، قال : بات قتادة بن
النعمان يقرأ الليل كله بقل هو الله أحد ، فذكر ذلك للنبي صلىاللهعليهوسلم فقال : «والذي نفسي بيده إنها لتعدل نصف القرآن ـ أو ثلثه
ـ».
[حديث آخر] قال
الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا حيي بن عبد الله عن
أبي عبد الرّحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو أن أبا أيوب الأنصاري كان في مجلس وهو
يقول : ألا يستطيع أحدكم أن يقوم بثلث القرآن كل ليلة»؟ فقالوا : وهل يستطيع ذلك
أحد؟ قال : فإن (قُلْ هُوَ اللهُ
أَحَدٌ) ثلث القرآن. قال : فجاء النبي صلىاللهعليهوسلم وهو يسمع أبا أيوب فقال : «صدق أبو أيوب».
[حديث آخر] قال
أبو عيسى الترمذي : حدثنا محمد بن بشار حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا يزيد بن
كيسان ، أخبرني أبو حازم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم : «احشدوا فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن» فحشد من حشد ثم
خرج نبي الله صلىاللهعليهوسلم فقرأ (قُلْ هُوَ اللهُ
أَحَدٌ) ثم دخل فقال بعضنا لبعض : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن» إني لأرى هذا خبرا جاء من
السماء ، ثم خرج نبي الله صلىاللهعليهوسلم فقال : «إني قلت سأقرأ عليكم ثلث القرآن الا وإنها تعدل ثلث
القرآن» وهكذا رواه مسلم في صحيحه عن محمد بن بشار به. وقال الترمذي : حسن صحيح
غريب ، واسم أبي حازم سلمان.
[حديث آخر] قال
الإمام أحمد : حدثنا عبد الرّحمن بن مهدي عن زائدة بن قدامة عن
__________________
منصور ، عن هلال
بن يساف ، عن الربيع بن خثيم عن عمرو بن ميمون ، عن عبد الرّحمن بن أبي ليلى عن
امرأة من الأنصار عن أبي أيوب ، عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة؟ فإنه من
قرأ (قُلْ هُوَ اللهُ
أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ) في ليلة فقد قرأ ليلتئذ ثلث القرآن» هذا حديث تساعي
الإسناد للإمام أحمد ورواه الترمذي والنسائي كلاهما عن محمد بن بشار بندار زاد الترمذي وقتيبة كلاهما
عن عبد الرّحمن بن مهدي به فصار لهما عشاريا ، وفي رواية الترمذي عن امرأة أبي
أيوب عن أبي أيوب به ، وحسنه ثم قال وفي الباب عن أبي الدرداء وأبي سعيد وقتادة بن
النعمان وأبي هريرة وأنس وابن عمر وأبي مسعود ، وهذا حديث حسن ولا نعلم أحدا روى
هذا الحديث أحسن من رواية زائدة ، وتابعه على روايته إسرائيل والفضيل بن عياض ،
وقد روى شعبة وغير واحد من الثقات هذا الحديث عن منصور واضطربوا فيه.
[حديث آخر] قال
أحمد : حدثنا هشيم عن حصين عن هلال بن يساف ، عن عبد الرّحمن بن أبي ليلى عن أبي
بن كعب أو رجل من الأنصار قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من قرأ بقل هو الله أحد فكأنما قرأ بثلث القرآن» ورواه
النسائي في اليوم والليلة من حديث هشيم عن حصين عن ابن أبي ليلى به. ولم يقع في
روايته هلال بن يساف.
[حديث آخر] قال
الإمام أحمد : حدثنا وكيع عن سفيان عن أبي قيس ، عن عمرو بن ميمون عن
أبي مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن» وهكذا رواه ابن ماجة عن علي بن محمد الطنافسي عن وكيع به. ورواه النسائي في
اليوم والليلة من طرق أخر عن عمرو بن ميمون مرفوعا وموقوفا.
[حديث آخر] قال
الإمام أحمد : حدثنا بهز ، حدثنا بكير بن أبي السميط حدثنا قتادة عن
سالم بن أبي الجعد عن معدان بن أبي طلحة عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول اللهصلىاللهعليهوسلم قال : «أيعجز أحدكم أن يقرأ كل يوم ثلث القرآن؟» قالوا :
نعم يا رسول الله نحن أضعف من ذلك وأعجز ، قال : «فإن الله جزأ القرآن ثلاثة أجزاء
فقل هو الله أحد ثلث القرآن» ورواه مسلم والنسائي من حديث قتادة به.
__________________
[حديث آخر] قال
الإمام أحمد : حدثنا أمية بن خالد ، حدثنا محمد بن عبد الله بن مسلم
ابن أخي ابن شهاب عن عمه الزهري ، عن حميد بن عبد الرّحمن هو ابن عوف ، عن أمه وهي
أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ، قالت : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : (قُلْ هُوَ اللهُ
أَحَدٌ) ، تعدل ثلث القرآن» وكذا رواه النسائي في اليوم والليلة عن
عمرو بن علي عن أمية بن خالد به ، ثم رواه من طريق مالك عن الزهري ، عن حميد بن
عبد الرّحمن قوله. ورواه النسائي أيضا في اليوم والليلة من حديث محمد بن إسحاق عن
الحارث بن الفضيل الأنصاري عن الزهري ، عن حميد بن عبد الرّحمن أن نفرا من أصحاب
محمد صلىاللهعليهوسلم حدثوه عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن لمن صلّى بها».
[حديث آخر في كون
قراءتها توجب الجنة] قال الإمام مالك بن أنس عن عبيد الله بن عبد الرّحمن عن عبيد بن حنين قال : سمعت
أبا هريرة يقول : أقبلت مع النبي صلىاللهعليهوسلم فسمع رجلا يقرأ قل هو الله أحد ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «وجبت ـ قلت وما وجبت قال ـ الجنة» ورواه الترمذي والنسائي من حديث مالك ، وقال الترمذي : حسن صحيح غريب لا
نعرفه إلا من حديث مالك ، وتقدم حديث «حبك إياها أدخلك الجنة».
[حديث في تكرار
قراءتها] قال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا قطر بن نسير ، حدثنا عيسى بن ميمون
القرشي ، حدثنا يزيد الرقاشي عن أنس رضي الله عنه قال : سمعت رسول اللهصلىاللهعليهوسلم يقول : «ألا يستطيع أحدكم أن يقرأ قل هو الله أحد ثلاث
مرات في ليلة فإنها تعدل ثلث القرآن» هذا إسناد ضعيف وأجود منه.
[حديث آخر] قال
عبد الله ابن الإمام أحمد : حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي ، حدثنا الضحاك بن مخلد
، حدثنا ابن أبي ذئب عن أسيد بن أبي أسيد ، عن معاذ بن عبد الله بن خبيب عن أبيه
قال : أصابنا عطش وظلمة فانتظرنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم يصلي بنا ، فخرج فأخذ بيدي فقال: «قل» فسكت. قال «قل» قلت
: ما أقول؟ قال «قل هو الله أحد والمعوذتين حين تمسي وحين تصبح ثلاثا ، تكفيك كل
يوم مرتين» ورواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث ابن أبي ذئب به.
وقال الترمذي : حسن صحيح غريب من هذا الوجه. وقد رواه النسائي من طريق أخرى عن
معاذ بن عبد الله بن خبيب عن أبيه عن عقبة بن عامر فذكره ولفظه «تكفك كل شيء».
__________________
[حديث آخر في ذلك]
قال الإمام أحمد : حدثنا إسحاق بن عيسى ، حدثني ليث بن سعد ، حدثني الخليل
بن مرة عن الأزهر بن عبد الله عن تميم الداري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من قال لا إله إلا الله واحدا أحدا صمدا لم يتخذ صاحبة
ولا ولدا ولم يكن له كفوا أحد ، عشر مرات كتب الله له أربعين ألف ألف حسنة» تفرد
به أحمد والخليل بن مرة ، ضعفه البخاري وغيره بمرة.
[حديث آخر] قال
الإمام أحمد أيضا : حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا زبان
بن فائد عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه ، عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «من قرأ قل هو الله أحد حتى يختمها عشر مرات بنى
الله له قصرا في الجنة» فقال عمر : إذا نستكثر يا رسول الله ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «الله أكثر وأطيب» تفرد به أحمد.
ورواه أبو محمد
الدارمي في مسنده فقال : حدثنا عبد الله بن يزيد ، حدثنا حيوة ، حدثنا أبو عقيل
زهرة بن معبد ، قال الدارمي : وكان من الأبدال أنه سمع سعيد بن المسيب يقول : إن
نبي الله صلىاللهعليهوسلم قال : من قرأ قل هو الله أحد عشر مرات بنى الله له قصرا في
الجنة ، ومن قرأها. عشرين مرة بنى الله له قصرين في الجنة ، ومن قرأها ثلاثين مرة
بنى الله له ثلاثة قصور في الجنة» فقال عمر بن الخطاب : إذا نكثر قصورنا ، فقال
رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «الله أوسع من ذلك» وهذا مرسل جيد.
[حديث آخر] قال
الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا نصر بن علي ، حدثني نوح بن قيس ، أخبرني محمد
العطار ، أخبرتني أم كثير الأنصارية عن أنس بن مالك عن رسول اللهصلىاللهعليهوسلم قال : «من قرأ قل هو الله أحد خمسين مرة غفر الله له ذنوب
خمسين سنة» إسناده ضعيف.
[حديث آخر] قال
أبو يعلى : حدثنا أبو الربيع : حدثنا حاتم بن ميمون ، حدثنا ثابت عن أنس رضي الله
عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من قرأ قل هو الله أحد في يوم مائتي مرة كتب الله له
ألفا وخمسمائة حسنة إلا أن يكون عليه دين» ، إسناد ضعيف ، حاتم بن ميمون ضعفه
البخاري وغيره ، ورواه الترمذي عن محمد بن مرزوق البصري عن حاتم بن ميمون به. ولفظه : «من
قرأ كل يوم مائتي مرة قل هو الله أحد محي عنه ذنوب خمسين سنة إلا أن يكون عليه دين».
__________________
قال الترمذي :
وبهذا الإسناد عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «من أراد أن ينام على فراشه فنام على يمينه ، ثم قرأ
قل هو الله أحد مائة مرة ، فإذا كان يوم القيامة يقول له الرب عزوجل : يا عبدي ادخل على يمينك الجنة» ثم قال غريب من حديث ثابت
، وقد روي من غير هذا الوجه عنه ، وقال أبو بكر البزار : حدثنا سهل بن بحر ، حدثنا
حبان بن أغلب ، حدثنا أبي ، حدثنا ثابت عن أنس قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من قرأ قل هو الله أحد مائتي مرة حط الله عنه ذنوب
مائتي سنة» ثم قال : لا نعلم رواه عن ثابت إلا الحسن بن أبي جعفر والأغلب ابن تميم
، وهما متقاربان في سوء الحفظ.
[حديث آخر] في
الدعاء بما تضمنته من الأسماء. قال النسائي عند تفسيرها : حدثنا عبد الرّحمن بن
خالد ، حدثنا زيد بن الحباب ، حدثني مالك بن مغول ، حدثنا عبد الله بن بريدة عن
أبيه أنه دخل مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم المسجد ، فإذا رجل يصلي يدعو يقول : اللهم إني أسألك بأني
أشهد أن لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. قال
: «والذي نفسي بيده لقد سأله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب»
وقد أخرجه بقية أصحاب السنن من طرق عن مالك بن مغول عن عبد الله بن بريدة عن أبيه
به ، وقال الترمذي : حسن غريب.
[حديث آخر] في
قراءتها عشر مرات بعد المكتوبة. قال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا عبد الأعلى ،
حدثنا بشر بن منصور عن عمر بن شيبان عن أبي شداد عن جابر بن عبد الله : قال قال
رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ثلاث من جاء بهن مع الإيمان دخل من أي أبواب الجنة شاء
، وزوج من الحور العين حيث شاء ، من عفا عن قاتله ، وأدى دينا خفيا ، وقرأ في دبر
كل صلاة مكتوبة عشر مرات : قل هو الله أحد» قال : فقال أبو بكر : أو إحداهن يا
رسول الله ، قال «أو إحداهن».
[حديث] في قراءتها
عند دخول المنزل. قال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا محمد بن عبد الله بن بكر
السراج العسكري ، حدثنا محمد بن الفرج ، حدثنا محمد بن الزبرقان عن مروان بن سالم
عن أبي زرعة عن عمرو بن جرير ، عن جرير بن عبد الله قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من قرأ قل هو الله أحد حين يدخل منزله نفت الفقر عن أهل
ذلك المنزل والجيران» إسناده ضعيف.
[حديث] في الإكثار
من قراءتها في سائر الأحوال. قال الحافظ أبو يعلى : حدثنا محمد بن إسحاق المسيبي ،
حدثنا يزيد بن هارون عن العلاء أبي محمد الثقفي. قال : سمعت أنس بن مالك يقول : كنا
مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم بتبوك فطلعت الشمس بضياء وشعاع ونور ، لم نرها طلعت فيما
مضى بمثله ، فأتى جبريل إلى النبي صلىاللهعليهوسلم فقال : «يا جبريل مالي أرى الشمس طلعت اليوم بضياء وشعاع
ونور لم أرها طلعت بمثله فيما مضى؟» قال : إن ذلك معاوية بن معاوية الليثي ،
مات بالمدينة
اليوم فبعث الله إليه سبعين ألف ملك يصلون عليه. قال : «وفيم ذلك؟» قال : كان يكثر
قراءة قل هو الله أحد في الليل وفي النهار وفي ممشاه وقيامه وقعوده فهل لك يا رسول
الله أن أقبض لك الأرض فتصلي عليه؟ قال : «نعم» فصلى عليه ، وكذا رواه الحافظ أبو
بكر البيهقي في كتاب دلائل النبوة من طريق يزيد بن هارون عن العلاء أبي محمد وهو
متهم بالوضع ، والله أعلم.
[طريق أخرى] قال
أبو يعلى : حدثنا محمد بن إبراهيم الشامي أبو عبد الله حدثنا عثمان بن الهيثم مؤذن
مسجد الجامع بالبصرة عندي عن محمود أبي عبد الله عن عطاء بن أبي ميمونة عن أنس قال
: نزل جبريل على النبي صلىاللهعليهوسلم فقال مات معاوية بن معاوية الليثي ، فتحب أن تصلي. عليه؟
قال : «نعم» فضرب بجناحه الأرض فلم تبق شجرة ولا أكمة إلا تضعضعت ، فرفع سريره
فنظر إليه فكبر عليه وخلفه صفان من الملائكة في كل صف سبعون ألف ملك ، فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «يا جبريل بم نال هذه المنزلة من الله تعالى؟» قال :
بحبه قل هو الله أحد ، وقراءته إياها ذاهبا وجائيا قائما وقاعدا وعلى كل حال.
ورواه البيهقي من رواية عثمان بن الهيثم المؤذن عن محبوب بن هلال عن عطاء بن أبي ميمونة
عن أنس فذكره ، وهذا هو الصواب ومحبوب بن هلال قال أبو حاتم الرازي ليس بالمشهور ،
وقد روي هذا من طرق أخر تركناها اختصارا وكلها ضعيفة.
[حديث آخر] في
فضلها مع المعوذتين. قال الإمام أحمد : حدثنا أبو المغيرة حدثنا معاذ بن رفاعة ، حدثني علي بن
يزيد عن القاسم عن أبي أمامة عن عقبة بن عامر قال لقيت رسول الله صلىاللهعليهوسلم فابتدأته فأخذته بيده فقلت : يا رسول الله صلىاللهعليهوسلم بم نجاة المؤمن؟ قال : يا عقبة أخرس لسانك وليسعك بيتك
وابك على خطيئتك» قال : ثم لقيني رسول الله صلىاللهعليهوسلم فابتدأني فأخذ بيدي فقال : «يا عقبة بن عامر ألا أعلمك خير
ثلاث سور أنزلت في التوراة والإنجيل والزبور والقرآن العظيم»؟ قال : قلت بلى جعلني
الله فداك. قال : فأقرأني (قُلْ هُوَ اللهُ
أَحَدٌ) و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) ثم قال : «يا عقبة لا تنسهن ولا تبت ليلة حتى تقرأهن» قال
: فما نسيتهن منذ قال لا تنسهن وما بت ليلة قط حتى أقرأهن ، قال عقبة : ثم لقيت
رسول الله صلىاللهعليهوسلم فابتدأته فأخذت بيده ، فقلت يا رسول الله أخبرني بفواضل
الأعمال فقال : «يا عقبة صل من قطعك وأعط من حرمك وأعرض عمن ظلمك» روى الترمذي بعضه في الزهد من حديث عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد ،
فقال : هذا حديث حسن وقد رواه أحمد من طريق آخر : حدثنا حسين بن محمد حدثنا ابن
عياش عن أسيد بن عبد الرّحمن الخثعمي عن فروة بن مجاهد اللخمي عن عقبة بن عامر عن
النبي صلىاللهعليهوسلم ، فذكر مثله سواء تفرد به أحمد.
__________________
[حديث آخر] في
الاستشفاء بهن قال البخاري : حدثنا قتيبة حدثنا المفضل عن عقيل عن ابن شهاب عن
عروة عن عائشة أن النبي صلىاللهعليهوسلم كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما ،
وقرأ فيهما قل هو الله أحد ، وقل أعوذ برب الفلق ، وقل أعوذ برب الناس ، ثم يمسح
بهما ما استطاع من جسده يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده ، يفعل ذلك
ثلاث مرات» وهكذا رواه أهل السنن من حديث عقيل به.
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(قُلْ هُوَ اللهُ
أَحَدٌ (١) اللهُ الصَّمَدُ (٢)
لَمْ
يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ
كُفُواً أَحَدٌ)(٤)
قد تقدم ذكر سبب
نزولها ، وقال عكرمة. لما قالت اليهود نحن نعبد عزيرا ابن الله ، وقالت النصارى :
نحن نعبد المسيح ابن الله ، وقالت المجوس : نحن نعبد الشمس والقمر ، وقالت
المشركون : نحن نعبد الأوثان ، أنزل الله على رسوله صلىاللهعليهوسلم (قُلْ هُوَ اللهُ
أَحَدٌ) يعني هو الواحد الأحد الذي لا نظير له ولا وزير ولا نديد
ولا شبيه ولا عديل ، ولا يطلق هذا اللفظ على أحد في الإثبات إلا على الله عزوجل لأنه الكامل في جميع صفاته وأفعاله.
وقوله تعالى : (اللهُ الصَّمَدُ) قال عكرمة عن ابن عباس : يعني الّذي يصمد إليه الخلائق في
حوائجهم ومسائلهم قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : هو السيد الذي قد كمل في
سؤدده ، والشريف الذي قد كمل في شرفه ، والعظيم الذي قد كمل في عظمته ، والحليم
الذي قد كمل في حلمه ، والعليم الذي قد كمل في علمه ، والحكيم الذي قد كمل في
حكمته. وهو الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد ، وهو الله سبحانه هذه صفته لا
تنبغي إلا له ليس له كفء وليس كمثله شيء سبحان الله الواحد القهار ، وقال الأعمش
عن شقيق عن أبي وائل (الصَّمَدُ) السيد الذي قد انتهى سؤدده ، ورواه عاصم عن أبي وائل عن
ابن مسعود مثله.
وقال مالك عن زيد
بن أسلم (الصَّمَدُ) السيد ، وقال الحسن وقتادة : هو الباقي بعد خلقه ، وقال
الحسن أيضا (الصَّمَدُ) الحي القيوم الذي لا زوال له وقال عكرمة : (الصَّمَدُ) الذي لم يخرج منه شيء ولا يطعم وقال الربيع بن أنس هو الذي
لم يلد ولم يولد كأنه جعل ما بعده تفسيرا له وهو قوله : (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) وهو تفسير جيد ، وقد تقدم الحديث من رواية ابن جرير عن أبي
بن كعب في ذلك وهو صريح فيه ، وقال ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن المسيب ومجاهد
وعبد الله بن بريدة وعكرمة أيضا ، وسعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح وعطية
__________________
العوفي والضحاك
والسدي (الصَّمَدُ) الذي لا جوف له.
وقال سفيان عن
منصور عن مجاهد (الصَّمَدُ) المصمت الذي لا جوف له ، وقال الشعبي : هو الذي لا يأكل الطعام ، ولا يشرب
الشراب. وقال عبد الله بن بريدة أيضا (الصَّمَدُ) نور يتلألأ ، روى ذلك كله وحكاه ابن أبي حاتم والبيهقي
والطبراني ، وكذا أبو جعفر بن جرير ساق أكثر ذلك بأسانيده ، وقال : حدثني العباس
بن أبي طالب ، حدثنا محمد بن عمرو بن رومي عن عبيد الله بن سعيد قائد الأعمش ،
حدثنا صالح بن حبان عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال : لا أعلم إلا قد رفعه قال :
«الصمد الذي لا جوف له» وهذا غريب جدا والصحيح أنه موقوف على عبد الله بن بريدة.
وقد قال الحافظ
أبو القاسم الطبراني في كتاب السنة له بعد إيراده كثيرا من هذه الأقوال في تفسير
الصمد : وكل هذه صحيحة وهي صفات ربنا عزوجل ، هو الذي يصمد إليه في الحوائج وهو الذي قد انتهى سؤدده ،
وهو الصمد الذي لا جوف له ولا يأكل ولا يشرب ، وهو الباقي بعد خلقه. وقال البيهقي
نحو ذلك. وقوله تعالى : (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ
يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) أي ليس له ولد ولا والد ولا صاحبة. قال مجاهد (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) يعني لا صاحبة له وهذا كما قال تعالى : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى
يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) [الأنعام : ١٠١]
أي هو مالك كل شيء وخالقه فكيف يكون له من خلقه نظير يساميه أو قريب يدانيه تعالى
وتقدس وتنزه.
قال الله تعالى : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً
لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ
وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ
وَلَداً وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إِنْ كُلُّ مَنْ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً لَقَدْ أَحْصاهُمْ
وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) [مريم : ٨٨ ـ ٩٥].
وقال تعالى : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً
سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ
بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) [الأنبياء : ٢٦ ـ ٢٧]
وقال تعالى : (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ
وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً ، وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ
لَمُحْضَرُونَ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) [الصافات : ١٥٨ ـ ١٥٩]
وفي صحيح البخاري «لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله إنهم يجعلون له ولدا وهو
يرزقهم ويعافيهم» وقال البخاري : حدثنا أبو اليمان حدثنا شعيب حدثنا أبو
الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «قال الله عزوجل كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك ، وشتمني ولم يكن له ذلك ،
فأما تكذيبه
__________________
إياي فقوله لن
يعيدني كما بدأني ، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته ، وأما شتمه إياي فقوله : «اتخذ
الله ولدا وأنا الأحد الصمد لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوا أحد» ورواه أيضا من حديث عبد الرزاق عن معمر عن همام بن منبه عن
أبي هريرة مرفوعا بمثله تفرد بهما من هذين الوجهين. آخر تفسير سورة الإخلاص ، ولله
الحمد والمنة.
تفسير سورة الفلق
وهي مدنية
قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا حماد بن سلمة ، أخبرنا عاصم بن بهدلة
عن زر بن حبيش قال : قلت لأبي بن كعب إن ابن مسعود لا يكتب المعوذتين في مصحفه
فقال : أشهد أن رسول الله أخبرني أن جبريل عليهالسلام قال له : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ
الْفَلَقِ) فقلتها ، قال : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ
النَّاسِ) ، فقلتها ، فنحن نقول ما قال النبي صلىاللهعليهوسلم.
ورواه أبو بكر
الحميدي في مسنده عن سفيان بن عيينة ، حدثنا عبدة بن أبي لبابة وعاصم بن بهدلة
أنهما سمعا زر بن حبيش قال : سألت أبي بن كعب عن المعوذتين فقلت : يا أبا المنذر
إن أخاك ابن مسعود يحكي المعوذتين من المصحف ، فقال : إني سألت رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال لي : «قيل لي قل فقلت» فنحن نقول كما قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم. وقال أحمد : حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن عاصم عن زر قال :
سألت ابن مسعود عن المعوذتين فقال : سألت النبي صلىاللهعليهوسلم عنهما فقال : «قيل لي فقلت لكم فقولوا» قال أبي : فقال لنا
النبي صلىاللهعليهوسلم فنحن نقول.
وقال البخاري :
حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا سفيان ، حدثنا عبدة بن أبي لبابة عن زر بن حبيش ،
وحدثنا عاصم عن زر قال : سألت أبي بن كعب فقلت : أبا المنذر إن أخاك ابن مسعود
يقول كذا وكذا ، فقال : إني سألت النبي صلىاللهعليهوسلم فقال : «قيل لي فقلت» فنحن نقول كما قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم . ورواه البخاري أيضا والنسائي عن قتيبة عن سفيان بن عيينة
عن عبدة وعاصم بن أبي النجود ، عن زر بن حبيش عن أبي بن كعب به.
وقال الحافظ أبو
يعلى : حدثنا الأزرق بن علي ، حدثنا حسان بن إبراهيم ، حدثنا الصلت بن بهرام عن
إبراهيم عن علقمة قال : كان عبد الله يحكي المعوذتين من المصحف ويقول : إنما أمر
رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن يتعوذ بهما. ولم يكن عبد الله يقرأ بهما ، ورواه عبد
الله بن أحمد من حديث الأعمش عن أبي إسحاق عن عبد الرّحمن بن يزيد قال : كان عبد
الله يحكي
__________________
المعوذتين من
مصاحفه ويقول : إنهما ليستا من كتاب الله. قال الأعمش : وحدثنا عاصم عن زر بن حبيش
عن أبي بن كعب قال : سألنا عنهما رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «قيل لي فقلت» وهذا مشهور عند كثير من القراء والفقهاء وأن ابن مسعود كان
لا يكتب المعوذتين في مصحفه ، فلعله لم يسمعهما من النبي صلىاللهعليهوسلم ولم يتواتر عنده ، ثم لعله قد رجع عن قوله ذلك إلى قول
الجماعة ، فإن الصحابة رضي الله عنهم أثبتوهما في المصاحف الأئمة ونفذوها إلى سائر
الآفاق كذلك ولله الحمد والمنة.
وقد روى مسلم في
صحيحه : حدثنا قتيبة ، حدثنا جرير عن بيان عن قيس بن أبي حازم عن عقبة بن عامر قال
: قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ألم تر آيات أنزلت هذه الليلة لم ير مثلهن قط (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) ورواه أحمد ومسلم أيضا والترمذي والنسائي من حديث إسماعيل
بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن عقبة به ، وقال الترمذي : حسن صحيح.
[طريق أخرى] قال
الإمام أحمد : حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا ابن جابر عن القاسم أبي
عبد الرّحمن عن عقبة بن عامر قال : بينا أنا أقود برسول الله صلىاللهعليهوسلم في نقب من تلك النقاب إذ قال لي «يا عقبة ألا تركب» قال :
فأشفقت أن تكون معصية ، قال : فنزل رسول الله صلىاللهعليهوسلم وركبت هنيهة ثم ركب ثم قال : «يا عقبة ألا أعلمك سورتين من
خير سورتين قرأ بهما الناس» قلت : بلى يا رسول الله ، فأقرأني (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) ثم أقيمت الصلاة فتقدم رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقرأ بهما ثم مربي فقال : «كيف رأيت يا عقبة اقرأ بهما
كلما نمت وكلما قمت» ورواه النسائي من حديث الوليد بن مسلم وعبد الله بن
المبارك كلاهما عن ابن جابر به ، ورواه أبو داود والنسائي أيضا من حديث ابن وهب عن
معن بن صالح عن العلاء بن الحارث عن القاسم بن عبد الرّحمن عن عقبة به.
[طريق أخرى] قال
أحمد : حدثنا أبو عبد الرّحمن ، حدثنا سعيد بن أبي أيوب ، حدثني يزيد بن عبد
العزيز الرعيني وأبو مرحوم عن يزيد بن محمد القرشي عن علي بن رباح عن عقبة بن عامر
قال : أمرني رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن أقرأ بالمعوذات في دبر كل صلاة ، ورواه أبو داود والترمذي والنسائي من طرق عن علي بن رباح
، وقال الترمذي : غريب.
__________________
[طريق أخرى] قال
أحمد : حدثنا محمد بن إسحاق ، حدثنا ابن لهيعة عن مشرح بن هاعان عن عقبة بن عامر
قال : قال لي رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «اقرأ بالمعوذتين فإنك لن تقرأ بمثلهما» تفرد به أحمد.
[طريق أخرى] قال
أحمد : حدثنا حيوة بن شريح ، حدثنا بقية حدثنا بحير بن سعد عن خالد بن معدان عن
جبير بن نفير عن عقبة بن عامر أنه قال : إن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أهديت له بغلة شهباء فركبها ، فأخذ عقبة يقودها له فقال
رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «اقرأ قل أعوذ برب الفلق» فأعادها له حتى قرأها فعرف أني
لم أفرح بها جدا فقال : «لعلك تهاونت بها؟ فما قمت تصلي بشيء مثلها» ورواه النسائي
عن عمرو بن عثمان عن بقية به ، ورواه النسائي أيضا من حديث الثوري عن معاوية
بن صالح عن عبد الرّحمن بن نفير عن أبيه عن عقبة بن عامر أنه سأل رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن المعوذتين فذكر نحوه.
[طريق أخرى] قال
النسائي : أخبرنا محمد بن عبد الأعلى ، حدثنا المعتمر ، سمعت
النعمان عن زياد أبي الأسد عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إن الناس لم يتعوذوا بمثل هذين (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ).
[طريق أخرى] قال
النسائي : أخبرنا قتيبة ، حدثنا الليث عن أبي عجلان عن سعيد
المقبري عن عقبة بن عامر قال : كنت أمشي مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : «يا عقبة قل» قلت : ماذا أقول؟ فسكت عني ثم قال «قل»
قلت : ماذا أقول يا رسول الله؟ قال «قل أعوذ برب الفلق» فقرأتها حتى أتيت على
آخرها ، ثم قال : «قل فقلت : ماذا أقول يا رسول الله؟ قال : «قل أعوذ برب الناس»
فقرأتها ثم أتيت على آخرها ثم قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم عند ذلك : «ما سأل سائل بمثلها ولا استعاذ مستعيذ بمثلها».
[طريق أخرى] قال
النسائي أخبرنا محمد بن بشار حدثنا عبد الرّحمن حدثنا معاوية عن
العلاء بن الحارث عن مكحول عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قرأ بهما في صلاة الصبح.
[طريق أخرى] قال
النسائي : أخبرنا قتيبة حدثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي
عمران أسلم عن عقبة بن عامر قال اتبعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو راكب فوضعت يدي على قدميه
__________________
فقلت : أقرئني
سورة هود أو سورة يوسف فقال : «لن تقرأ شيئا أنفع عند الله من قل أعوذ برب الفلق».
[حديث آخر] قال
النسائي : أخبرنا محمود بن خالد حدثنا الوليد حدثنا أبو عمرو
الأوزاعي عن يحيى ابن أبي كثير عن محمد بن إبراهيم بن الحارث عن أبي عبد الله عن
ابن عائش الجهني أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال له : «يا ابن عائش ألا أدلك ـ أو ألا أخبرك ـ بأفضل ما
يتعوذ به المتعوذون» قال : بلى يا رسول الله. قال : «قل أعوذ برب الفلق ـ وقل أعوذ
برب الناس هاتان السورتان» فهذه طرق عن عقبة كالمتواترة عنه تفيد القطع عند كثير
من المحققين في الحديث.
وقد تقدم في رواية
صدي بن عجلان وفروة بن مجاهد عنه «ألا أعلمك ثلاث سور لم ينزل في التوراة ولا في
الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلهن (قُلْ هُوَ اللهُ
أَحَدٌ) ـ و ـ (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ
الْفَلَقِ) ـ و ـ (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ
النَّاسِ).
[حديث آخر] قال
الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل ، حدثنا جريري عن أبي العلاء قال: قال رجل
كنا مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم في سفر والناس يعتقبون وفي الظهر قلة ، فحانت نزلة رسول
الله صلىاللهعليهوسلم ونزلتي ، فلحقني فضرب من بعدي منكبي فقال : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) فقرأها رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقرأتها معه ثم قال : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ
النَّاسِ) فقرأها رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقرأتها معه فقال : «إذا صليت فاقرأ بهما» الظاهر أن هذا
الرجل هو عقبة بن عامر والله أعلم. ورواه النسائي عن يعقوب بن إبراهيم عن ابن علية
به.
[حديث آخر] قال
النسائي : أخبرنا محمد بن المثنى ، حدثنا محمد بن جعفر عن عبد الله
بن سعيد ، حدثني يزيد بن رومان عن عقبة بن عامر عن عبد الله الأسلمي هو ابن أنيس
أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم وضع يده على صدره ثم قال : «قل» فلم أدر ما أقول ثم قال لي
«قل» قلت :
(هُوَ اللهُ أَحَدٌ) ثم قال لي : قل. قلت (أَعُوذُ بِرَبِّ
الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) حتى فرغت منها ثم قال لي «قل» قلت : (أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) حتى فرغت منها. فقال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم : «هكذا فتعوذ وما تعوذ المتعوذون بمثلهن قط».
[حديث آخر] قال
النسائي : أنبأنا عمرو بن علي أبو حفص ، حدثنا بدل ، حدثنا شداد بن
سعيد أبو طلحة عن سعيد الجريري ، حدثنا أبو نضرة عن جابر بن عبد الله قال : قال لي
رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «اقرأ يا جابر» قلت : وما أقرأ بأبي أنت وأمي؟ قال «اقرأ
(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ
__________________
الْفَلَقِ)
ـ و ـ (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) فقرأتهما فقال : «اقرأ بهما ولن تقرأ بمثلهما» وتقدم حديث
عائشة أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان يقرأ بهن وينفث في كفيه ، ويمسح بهما رأسه ووجهه وما
أقبل من جسده.
وقال الإمام مالك
عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذتين وينفث ، فلما اشتد
وجعه كنت أقرأ عليه بالمعوذات وأمسح بيده عليه رجاء بركتها ، ورواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى بن
يحيى وأبو داود عن القعنبي والنسائي عن قتيبة ، ومن حديث ابن القاسم وعيسى بن يونس
وابن ماجة من حديث معن وبشر بن عمر ثمانيتهم عن مالك به.
وتقدم في آخر سورة
(ن) من حديث أبي نضرة عن أبي سعيد أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان يتعوذ من أعين الجان وأعين الإنسان ، فلما نزلت
المعوذتان أخذ بهما وترك ما سواهما ، رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة ، وقال الترمذي : حديث
حسن صحيح.
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ
الْفَلَقِ (١) مِنْ شَرِّ ما
خَلَقَ (٢) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (٣) وَمِنْ شَرِّ
النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (٤) وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ
إِذا حَسَدَ)(٥)
قال ابن أبي حاتم
: حدثنا أحمد بن عصام ، حدثنا أبو أحمد الزبيري ، حدثنا حسن بن صالح عن عبد الله
بن محمد بن عقيل عن جابر قال الفلق الصبح ، وقال العوفي عن ابن عباس (الْفَلَقِ) الصبح ، وروي عن مجاهد وسعيد بن جبير وعبد الله بن محمد بن
عقيل والحسن وقتادة ومحمد بن كعب القرظي ، وابن زيد ومالك عن زيد بن أسلم مثل هذا
، قال القرظي وابن زيد وابن جرير : وهي كقوله تعالى : (فالِقُ الْإِصْباحِ) [الأنعام : ٩٦]
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (الْفَلَقِ) الخلق ، وكذا قال الضحاك : أمر الله نبيه أن يتعوذ من
الخلق كله ، وقال كعب الأحبار (الْفَلَقِ) بيت في جهنم ، إذا فتح صاح جميع أهل النار من شدة حره ،
ورواه ابن أبي حاتم ، ثم قال : حدثنا أبي ، حدثنا سهيل بن عثمان عن رجل سماه ، عن
السدي ، عن زيد بن علي ، عن آبائه أنهم قالوا (الْفَلَقِ) جب في قعر جهنم عليه غطاء ، فإذا كشف عنه ، خرجت منه نار
تضج منه جهنم من شدة حر ما يخرج منه ، وكذا روي عن عمرو بن عنبسة وابن
__________________
عباس والسدي وغيرهم.
وقد ورد في ذلك
حديث مرفوع منكر ، فقال ابن جرير : حدثني إسحاق بن وهب الواسطي ، حدثنا مسعود بن موسى بن
مشكان الواسطي ، حدثنا نصر بن خزيمة الخراساني عن شعيب بن صفوان ، عن محمد بن كعب
القرظي ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «الفلق جب في جهنم مغطى» إسناده غريب ولا يصح رفعه.
وقال أبو عبد الرّحمن الحبلي (الْفَلَقِ) من أسماء جهنم ، وقال ابن جرير : والصواب القول الأول إنه
فلق الصبح ، وهذا هو الصحيح ، وهو اختيار البخاري في صحيحه رحمهالله تعالى.
وقوله تعالى : (مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) أي من شر جميع المخلوقات ، وقال ثابت البناني والحسن
البصري : جهنم وإبليس وذريته مما خلق (وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ
إِذا وَقَبَ) قال مجاهد : غاسق الليل إذا وقب غروب الشمس ، حكاه البخاري
عنه ، وكذا رواه ابن أبي نجيح عنه ، وكذا قال ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي والضحاك
وخصيف والحسن وقتادة : إذا وقب إنه الليل إذا أقبل بظلامه.
وقال الزهري (وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ) الشمس إذا غربت ، وعن عطية وقتادة : إذا وقب الليل إذا ذهب
، وقال أبو المهزم عن أبي هريرة (وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ
إِذا وَقَبَ) الكوكب ، وقال ابن زيد : كانت العرب تقول الغاسق سقوط
الثريا ، وكانت الأسقام والطواعين تكثر عند وقوعها ، وترتفع عند طلوعها .
قال ابن جرير : ولهؤلاء من الآثار ما حدثني نصر بن علي ، حدثني بكار بن
عبد الله ابن. أخي همام ، حدثنا محمد بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرّحمن بن عوف
عن أبيه عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : (وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ
إِذا وَقَبَ) ـ النجم الغاسق» (قلت) وهذا الحديث لا يصح رفعه إلى النبي صلىاللهعليهوسلم ، قال ابن جرير وقال آخرون : هو القمر.
(قلت) وعمدة أصحاب
هذا القول ما رواه الإمام أحمد : حدثنا أبو داود الحفري عن ابن أبي ذئب عن الحارث بن أبي
سلمة قال : قالت عائشة رضي الله عنها : أخذ رسول اللهصلىاللهعليهوسلم بيدي فأراني القمر حين طلع وقال : «تعوذي بالله من شر هذا
الغاسق إذا وقب» ورواه الترمذي والنسائي في كتابي التفسير من سننيهما من
حديث محمد بن عبد الرّحمن بن أبي ذئب عن خاله
__________________
الحارث بن عبد
الرّحمن به. وقال الترمذي حديث حسن صحيح ولفظه «تعوذي بالله من شر هذا فإن هذا
الغاسق إذا وقب» ولفظ النسائي «تعوذي بالله من شر هذا ، هذا الغاسق إذا وقب» قال
أصحاب القول الأول : وهو آية الليل إذا ولج هذا لا ينافي قولنا لأن القمر آية
الليل ولا يوجد له سلطان إلا فيه ، وكذلك النجوم لا تضيء إلا بالليل فهو يرجع إلى
ما قلناه والله أعلم.
وقوله تعالى : (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي
الْعُقَدِ) قال مجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والضحاك : يعني السواحر ،
قال مجاهد : إذا رقين ونفثن في العقد. وقال ابن جرير : حدثنا ابن عبد الأعلى ، حدثنا ابن ثور عن معمر عن ابن
طاوس عن أبيه قال : ما من شيء أقرب إلى الشرك من رقية الحية والمجانين ، وفي
الحديث الآخر أن جبريل جاء إلى النبي صلىاللهعليهوسلم فقال : اشتكيت يا محمد؟ فقال «نعم» فقال : باسم الله أرقيك
من كل داء يؤذيك ، ومن شر كل حاسد وعين ، الله يشفيك ، ولعل هذا كان من شكواه عليهالسلام حين سحر ، ثم عافاه الله تعالى وشفاه ورد كيد السحرة
الحساد من اليهود في رؤوسهم ، وجعل تدميرهم في تدبيرهم وفضحهم ، ولكن مع هذا لم
يعاتبه رسول الله صلىاللهعليهوسلم يوما من الدهر ، بل كفى الله وشفى وعافى.
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش عن يزيد بن حبان عن زيد
بن أرقم قال : سحر النبي صلىاللهعليهوسلم رجل من اليهود فاشتكى لذلك أياما. قال : فجاءه جبريل فقال
: إن رجلا من اليهود سحرك وعقد لك عقدا في بئر كذا وكذا ، فأرسل إليها من يجيء بها
، فبعث رسول الله صلىاللهعليهوسلم عليا رضي الله عنه فاستخرجها فجاءه بها فحللها ، قال :
فقام رسول الله صلىاللهعليهوسلم كأنما نشط من عقال ، فما ذكر ذلك لليهودي ، ولا رآه في
وجهه حتى مات ، ورواه النسائي عن هناد عن أبي
معاوية محمد بن حازم الضرير.
وقال البخاري في
كتاب الطب من صحيحه : حدثنا عبد الله بن محمد قال : سمعت سفيان بن عيينة يقول :
أول من حدثنا به ابن جريج يقول : حدثني آل عروة عن عروة ، فسألت هشاما عنه ،
فحدثنا عن أبيه عن عائشة قالت : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم سحر حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن ، قال سفيان :
وهذا أشد ما يكون من السحر إذا كان كذا فقال : «يا عائشة أعلمت أن الله قد أفتاني
فيما استفتيته فيه؟ أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي ، فقال الذي
عند رأسي للآخر : ما بال الرجل؟ قال : مطبوب ، قال : ومن طبه ، قال
__________________
لبيد بن أعصم رجل
من بني زريق حليف اليهود كان منافقا ، قال : وفيم؟ قال : في مشط ومشاقة ، قال : وأين؟ قال : في جف طلعة ذكر تحت رعوفة في بئر ذروان» قالت : فأتىصلىاللهعليهوسلم البئر حتى استخرجه فقال : «هذه البئر التي أريتها وكأن
ماءها نقاعة الحناء وكأن نخلها رؤوس الشياطين» قال : فاستخرج فقلت :
أفلا تنشرت؟ فقال : «أما الله فقد شفاني وأكره أن أثير على أحد من
الناس شرا» .
وأسنده من حديث
عيسى بن يونس وأبي ضمرة أنس بن عياض وأبي أسامة ويحيى القطان وفيه قالت حتى كان
يخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يفعله ، وعنده فأمر بالبئر فدفنت ، وذكر أنه رواه عن
هشام أيضا ابن أبي الزناد والليث بن سعد ، وقد رواه مسلم من حديث أبي أسامة حماد
بن أسامة وعبد الله بن نمير ، ورواه أحمد عن عفان عن وهيب عن هشام به. ورواه
الإمام أحمد أيضا عن إبراهيم بن خالد عن معمر عن هشام عن أبيه عن عائشة
قالت : لبث النبي صلىاللهعليهوسلم ستة أشهر يرى أنه يأتي ولا يأتي ، فأتاه ملكان فجلس أحدهما
عند رأسه والآخر عند رجليه ، فقال أحدهما للآخر : ما باله؟ قال : مطبوب ، قال :
ومن طبه؟ قال : لبيد بن الأعصم ، وذكر تمام الحديث. وقال الأستاذ المفسر الثعلبي
في تفسيره ، قال ابن عباس وعائشة رضي الله عنهما : كان غلام من اليهود يخدم رسول
الله صلىاللهعليهوسلم ، فدبت إليه اليهود فلم يزالوا به حتى أخذ مشاطة رأس النبي
صلىاللهعليهوسلم وعدة من أسنان مشطه ، فأعطاها اليهود فسحروه فيها.
وكان الذي تولى
ذلك رجل منهم يقال له ابن أعصم ، ثم دسها في بئر لبني زريق يقال له ذروان ، فمرض
رسول الله صلىاللهعليهوسلم وانتثر شعر رأسه ولبث ستة أشهر يرى أنه يأتي النساء ولا
يأتيهن ، وجعل يذوب ولا يدري ما عراه ، فبينما هو نائم إذ أتاه ملكان ، فجلس
أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه ، فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه : ما بال
الرجل؟ قال : طب ، قال : وما طب؟ قال : سحر؟ قال : ومن سحره؟ قال : لبيد بن الأعصم
اليهودي. قال : وبم طبه؟ قال: بمشط ومشاطة قال : وأين هو؟ قال : في جف طلعة ذكر
تحت رعوفة في بئر ذروان. والجف قشر الطلع ، والرعوفة حجر في أسفل البئر ناتئ يقوم
عليه الماتح ،
__________________
فانتبه رسول الله صلىاللهعليهوسلم مذعورا ، وقال : «يا
عائشة أما شعرت أن الله أخبرني بدائي» ثم بعث رسول الله صلىاللهعليهوسلم عليا والزبير وعمار بن ياسر فنزحوا ماء البئر كأنه نقاعة
الحناء ، ثم رفعوا الصخرة وأخرجوا الجف فإذا فيه مشاطة رأسه وأسنان من مشطه ، وإذا
فيه وتر معقود فيه اثنا عشر عقدة مغروزة بالإبر ، فأنزل الله تعالى السورتين فجعل
كلما قرأ آية انحلت عقدة ، ووجد رسول اللهصلىاللهعليهوسلم خفة حين انحلت العقدة الأخيرة ، فقام كأنما نشط من عقال
وجعل جبريل عليهالسلام يقول : باسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك من حاسد وعين ،
الله يشفيك. فقالوا : يا رسول اللهصلىاللهعليهوسلم أفلا نأخذ الخبيث نقتله؟ فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أما أنا فقد شفاني الله وأكره أن أثير على الناس شرا»
هكذا أورده بلا إسناد وفيه غرابة ، وفي بعضه نكارة شديدة ولبعضه شواهد مما تقدم ،
والله أعلم.
تفسير سورة الناس
وهي مكية
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ
النَّاسِ (١) مَلِكِ النَّاسِ (٢)
إِلهِ
النَّاسِ (٣) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ(٤) الَّذِي يُوَسْوِسُ
فِي صُدُورِ النَّاسِ (٥) مِنَ الْجِنَّةِ
وَالنَّاسِ)(٦)
هذه ثلاث صفات من
صفات الرب عزوجل : الربوبية والملك والإلهية ، فهو رب كل شيء ومليكه وإلهه
فجميع الأشياء مخلوقة له مملوكة عبيد له ، فأمر المستعيذ أن يتعوذ بالمتصف بهذه
الصفات من شر الوسواس الخناس ، وهو الشيطان الموكل بالإنسان ، فإنه ما من أحد من
بني آدم إلا وله قرين يزين له الفواحش ولا يألوه جهدا في الخبال ، والمعصوم من
عصمه الله.
وقد ثبت في الصحيح
أنه «ما منكم من أحد إلا قد وكل به قرينه» قالوا : وأنت يا رسول الله؟ قال : «نعم
إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير» ، وثبت في الصحيح عن أنس في قصة زيارة صفية للنبي صلىاللهعليهوسلم وهو معتكف ، وخروجه معها ليلا ليردها إلى منزلها ، فلقيه
رجلان من الأنصار ، فلما رأيا النبي صلىاللهعليهوسلم أسرعا فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «على رسلكما إنها صفية بنت حيي» فقالا : سبحان الله يا
رسول الله. فقال : «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وإني خشيت أن يقذف في
قلوبكما شيئا ـ أو قال شرا» ، وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا محمد بن بحر حدثنا
عدي بن أبي عمارة حدثنا زياد النميري عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن الشيطان واضع
__________________
خطمه على قلب ابن آدم فإن ذكر الله خنس ، وإن نسي التقم قلبه
فذلك الوسواس الخناس» غريب.
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن عاصم سمعت أبا تميمة
يحدث عن رديف رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال عثر بالنبي صلىاللهعليهوسلم حماره فقلت تعس الشيطان ، فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «لا تقل تعس الشيطان فإنك إذا قلت : تعس الشيطان تعاظم
وقال : بقوتي صرعته وإذا قلت : باسم الله تصاغر حتى يصير مثل الذباب وغلب ، تفرد
به أحمد إسناده جيد قوي ، وفيه دلالة على أن القلب متى ذكر الله تصاغر الشيطان
وغلب ، وإن لم يذكر الله تعاظم وغلب.
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو بكر الحنفي حدثنا الضحاك بن عثمان عن سعيد
المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن أحدكم إذا كان في المسجد جاءه الشيطان فأبس به كما
يبسّ الرجل بدابته ، فإذا سكن له زنقه أو ألجمه» قال أبو هريرة رضي الله عنه :
وأنتم ترون ذلك أما المزنوق فتراه مائلا كذا لا يذكر الله ، وأما الملجم ففاتح فاه
لا يذكر الله عزوجل ، تفرد به أحمد. وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله : (الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ) قال : الشيطان جاثم على قلب ابن آدم ، فإذا سها وغفل وسوس
، فإذا ذكر الله خنس ، وكذا قال مجاهد وقتادة وقال المعتمر بن سليمان عن أبيه :
ذكر لي أن الشيطان أو الوسواس ينفث في قلب ابن آدم عند الحزن وعند الفرح ، فإذا
ذكر الله خنس. وقال العوفي عن ابن عباس في قوله : (الْوَسْواسِ) قال : هو الشيطان يأمر فإذا أطيع خنس .
وقوله تعالى : (الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ
النَّاسِ) هل يختص هذا ببني آدم كما هو الظاهر أو يعم بني آدم والجن؟
فيه قولان ويكونون قد دخلوا في لفظ الناس تغليبا ، وقال ابن جرير : وقد استعمل فيهم رجال من الجن فلا بدع في إطلاق الناس
عليهم. وقوله تعالى : (مِنَ الْجِنَّةِ
وَالنَّاسِ) هل هو تفصيل لقوله : (الَّذِي يُوَسْوِسُ
فِي صُدُورِ النَّاسِ) ثم بينهم فقال : (مِنَ الْجِنَّةِ
وَالنَّاسِ) وهذا يقوي القول الثاني وقيل لقوله : (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) تفسير للذي
__________________
يوسوس في صدور
الناس من شياطين الإنس والجن كما قال تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا
لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى
بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) [الأنعام : ١١٢].
وكما قال الإمام
أحمد : حدثنا وكيع حدثنا المسعودي حدثنا أبو عمر الدمشقي ، حدثنا عبيد بن الخشخاش
عن أبي ذر قال : أتيت رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو في المسجد فجلست فقال : «يا أبا ذر هل صليت؟» قلت : لا
قال : «قم فصل» قال : فقمت فصليت ثم جلست فقال : «يا أبا ذر تعوذ بالله من شر
شياطين الإنس والجن» قال : فقلت يا رسول الله وللإنس شياطين؟ قال : «نعم» قال :
فقلت يا رسول الله الصلاة؟ قال : «خير موضوع من شاء أقل ومن شاء أكثر» قلت يا رسول
الله فالصوم قال : «فرض مجزئ وعند الله مزيد» قلت : يا رسول الله فالصدقة؟ قال : «أضعاف
مضاعفة» قلت : يا رسول الله فأيها أفضل ، قال : «جهد من مقل أو سر إلى فقير» قلت :
يا رسول الله أي الأنبياء كان أول؟ قال : «آدم». قلت : يا رسول الله ونبيا كان؟ قال
: نعم نبي مكلم» قلت : يا رسول الله كم المرسلون؟ قال «ثلاثمائة وبضعة عشر جما
غفيرا» وقال مرة : «خمسة عشر» قلت : يا رسول الله أيما أنزل عليك أعظم ، قال «آية
الكرسي (اللهُ لا إِلهَ
إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) [البقرة : ٢٥٥].
ورواه النسائي من حديث أبي عمر الدمشقي به وقد أخرج هذا الحديث مطولا جدا
أبو حاتم بن حبان في صحيحه بطريق آخر ولفظ آخر مطول جدا. فالله أعلم.
وقال الإمام أحمد : حدثنا وكيع عن سفيان عن منصور عن ذر بن عبد الله
الهمداني عن عبد الله بن شداد عن ابن عباس قال : جاء رجل إلى النبي صلىاللهعليهوسلم فقال : يا رسول الله إني لأحدث نفسي بالشيء لأن أخرّ من
السماء أحب إلي من أن أتكلم به قال : فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «الله أكبر الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة» ورواه أبو داود والنسائي من حديث منصور زاد النسائي
والأعمش كلاهما عن ذر به.
آخر التفسير ولله
الحمد والمنة والحمد لله رب العالمين.
__________________
فهرس المحتويات
تفسير
سورة الواقعة
الآيات
: ١ ـ ١٢................................................................ ٤
الآيات : ١٣ ـ ٢٦.............................................................. ٧
الآيات : ٢٧ ـ ٤٠............................................................. ١٤
الآيات : ٤١ ـ ٥٦............................................................. ٢٥
الآيات : ٥٧ ـ ٦٢............................................................. ٢٧
الآيات : ٦٣ ـ ٧٤............................................................. ٢٨
الآيات : ٧٥ ـ ٨٢............................................................. ٣٠
الآيات : ٨٣ ـ ٨٧............................................................. ٣٤
الآيات : ٨٨ ـ ٩٦............................................................. ٣٥
تفسير سورة الحديد
الآيات : ١ ـ ٣................................................................ ٣٩
الآيات : ٤ ـ ٦................................................................ ٤٢
الآيات : ٧ ـ ١١.............................................................. ٤٤
الآيات : ١٢ ـ ١٥............................................................. ٤٨
الآيتان : ١٦ و١٧............................................................. ٥٢
الآيتان : ١٨ و١٩............................................................. ٥٤
الآيتان : ٢٠ و٢١............................................................. ٥٦
الآيات : ٢٢ ـ ٢٤............................................................. ٥٨
الآية : ٢٥.................................................................... ٥٩
الآيتان : ٢٦ و٢٧............................................................. ٦٠
الآيتان : ٢٨ و٢٩............................................................. ٦٣
تفسير سورة المجادلة
الآية : ١...................................................................... ٦٦
الآيات : ٢ ـ ٤................................................................ ٦٧
الآيات : ٥ ـ ٧................................................................ ٧٢
الآيات : ٨ ـ ١٠.............................................................. ٧٣
الآية : ١١.................................................................... ٧٦
الآيتان : ١٢ و١٣............................................................. ٧٩
الآيات : ١٤ ـ ١٩............................................................. ٨١
الآيات : ٢٠ ـ ٢٢............................................................. ٨٣
تفسير سورة الحشر
الآيات : ١ ـ ٥................................................................ ٨٦
الآيتان : ٦ و٧................................................................ ٩٤
الآيات : ٨ ـ ١٠.............................................................. ٩٨
الآيات : ١١ ـ ١٧........................................................... ١٠٣
الآيات : ١٨ ـ ٢٠........................................................... ١٠٥
الآيات : ٢١ ـ ٢٤........................................................... ١٠٧
تفسير سورة الممتحنة
الآيات : ١ ـ ٣.............................................................. ١١١
الآيات : ٤ ـ ٦.............................................................. ١١٦
الآيات : ٧ ـ ٩.............................................................. ١١٧
الآيتان : ١٠ و١١........................................................... ١٢٠
الآية : ١٢.................................................................. ١٢٣
الآية : ١٣.................................................................. ١٣٠
تفسير سورة الصف
الآيات : ١ ـ ٤.............................................................. ١٣٢
الآيتان : ٥ و٦.............................................................. ١٣٥
الآيات : ٧ ـ ١٣............................................................. ١٣٨
الآية : ١٤.................................................................. ١٣٩
تفسير سورة الجمعة
الآيات : ١ ـ ٤.............................................................. ١٤١
الآيات : ٥ ـ ٨.............................................................. ١٤٣
الآيتان : ٩ و١٠............................................................. ١٤٤
الآية : ١١.................................................................. ١٤٨
تفسير سورة المنافقون
الآيات : ١ ـ ٤.............................................................. ١٥٠
الآيات : ٥ ـ ٨.............................................................. ١٥١
الآيات : ٩ ـ ١١............................................................. ١٥٧
تفسير سورة التغابن
الآيات : ١ ـ ٤.............................................................. ١٥٩
الآيات : ٥ ـ ١٠............................................................. ١٦٠
الآيات : ١١ ـ ١٣........................................................... ١٦١
الآيات : ١٤ ـ ١٨........................................................... ١٦٢
تفسير سورة الطلاق
الآية : ١.................................................................... ١٦٥
الآيتان : ٢ و٣.............................................................. ١٦٨
الآيتان : ٤ و٥.............................................................. ١٧١
الآيتان : ٦ و٧.............................................................. ١٧٤
الآيات : ٨ ـ ١١............................................................. ١٧٦
الآية : ١٢.................................................................. ١٧٧
تفسير سورة التحريم
الآيات : ١ ـ ٥.............................................................. ١٨٠
الآيات : ٦ ـ ٨.............................................................. ١٨٨
الآيتان : ٩ و١٠............................................................. ١٩٢
الآيتان : ١١ و١٢........................................................... ١٩٣
تفسير سورة الملك
الآيات : ١ ـ ٥.............................................................. ١٩٦
الآيات : ٦ ـ ١١............................................................. ١٩٨
الآيات : ١٢ ـ ١٥........................................................... ١٩٩
الآيات : ١٦ ـ ١٩........................................................... ٢٠٠
الآيات : ٢٠ ـ ٢٧........................................................... ٢٠١
الآيات : ٢٨ ـ ٣٠........................................................... ٢٠٢
تفسير سورة القلم
الآيات : ١ ـ ٧.............................................................. ٢٠٣
الآيات : ٨ ـ ١٦............................................................. ٢٠٩
الآيات : ١٧ ـ ٣٣........................................................... ٢١٣
الآيات : ٣٤ ـ ٤١........................................................... ٢١٥
الآيات : ٤٢ ـ ٤٧........................................................... ٢١٦
الآيات : ٤٨ ـ ٥٢........................................................... ٢١٨
تفسير سورة الحاقة
الآيات : ١ ـ ١٢............................................................. ٢٢٥
الآيات : ١٣ ـ ١٨........................................................... ٢٢٧
الآيات : ١٩ ـ ٢٤........................................................... ٢٢٩
الآيات : ٢٥ ـ ٣٧........................................................... ٢٣١
الآيات : ٣٨ ـ ٤٣........................................................... ٢٣٢
الآيات : ٤٤ ـ ٥٢........................................................... ٢٣٣
تفسير سورة المعارج
الآيات : ١ ـ ٧.............................................................. ٢٣٤
الآيات : ٨ ـ ١٨............................................................. ٢٣٩
الآيات : ١٩ ـ ٣٥........................................................... ٢٤٠
الآيات : ٣٦ ـ ٤٤........................................................... ٢٤٢
تفسير سورة نوح
الآيات : ١ ـ ٤.............................................................. ٢٤٤
الآيات : ٥ ـ ٢٠............................................................. ٢٤٥
الآيات : ٢١ ـ ٢٤........................................................... ٢٤٧
الآيات : ٢٥ ـ ٢٨........................................................... ٢٤٩
تفسير سورة الجن
الآيات : ١ ـ ٧.............................................................. ٢٥١
الآيات : ٨ ـ ١٠............................................................. ٢٥٣
الآيات : ١١ ـ ١٧........................................................... ٢٥٤
الآيات : ١٨ ـ ٢٤........................................................... ٢٥٦
الآيات : ٢٥ ـ ٢٨........................................................... ٢٥٨
تفسير سورة المزمل
الآيات : ١ ـ ٩.............................................................. ٢٦٠
الآيات : ١٠ ـ ١٨........................................................... ٢٦٦
الآيتان : ١٩ و٢٠........................................................... ٢٦٨
تفسير سورة المدثر
الآيات : ١ ـ ١٠............................................................. ٢٧٠
الآيات : ١١ ـ ٣٠........................................................... ٢٧٤
الآيات : ٣١ ـ ٣٧........................................................... ٢٧٨
الآيات : ٣٨ ـ ٥٦........................................................... ٢٨١
تفسير سورة القيامة
الآيات : ١ ـ ١٥............................................................. ٢٨٣
الآيات : ١٦ ـ ٢٥........................................................... ٢٨٦
الآيات : ٢٦ ـ ٤٠........................................................... ٢٨٩
تفسير سورة الإنسان
الآيات : ١ ـ ٣.............................................................. ٢٩٢
الآيات : ٤ ـ ١٢............................................................. ٢٩٤
الآيات : ١٣ ـ ٢٢........................................................... ٢٩٧
الآيات : ٢٣ ـ ٣١........................................................... ٣٠٠
تفسير سورة المرسلات
الآيات : ١ ـ ١٥............................................................. ٣٠٢
الآيات : ١٦ ـ ٢٨........................................................... ٣٠٣
الآيات : ٢٩ ـ ٤٠........................................................... ٣٠٤
الآيات : ٤١ ـ ٥٠........................................................... ٣٠٥
تفسير سورة النبأ
الآيات : ١ ـ ١٦............................................................. ٣٠٦
الآيات : ١٧ ـ ٣٠........................................................... ٣٠٨
الآيات : ٣١ ـ ٤٠........................................................... ٣١٢
تفسير سورة النازعات
الآيات : ١ ـ ١٤............................................................. ٣١٤
الآيات : ١٥ ـ ٢٦........................................................... ٣١٦
الآيات : ٢٧ ـ ٣٣........................................................... ٣١٧
الآيات : ٣٤ ـ ٤٦........................................................... ٣١٩
تفسير سورة عبس
الآيات : ١ ـ ١٦............................................................. ٣٢٠
الآيات : ١٧ ـ ٣٢........................................................... ٣٢٢
الآيات : ٣٣ ـ ٤٢........................................................... ٣٢٦
تفسير سورة التكوير
الآيات : ١ ـ ١٤............................................................. ٣٢٨
الآيات : ١٥ ـ ٢٩........................................................... ٣٣٤
تفسير سورة الانفطار
الآيات : ١ ـ ١٢............................................................. ٣٣٩
تفسير سورة المطففين
الآيات : ١ ـ ٦.............................................................. ٣٤٢
الآيات : ٧ ـ ١٧............................................................. ٣٤٥
الآيات : ١٨ ـ ٢٨........................................................... ٣٤٨
الآيات : ٢٩ ـ ٣٦........................................................... ٣٤٩
تفسير سورة الانشقاق
الآيات : ١ ـ ١٥............................................................. ٣٥١
الآيات : ١٦ ـ ٢٥........................................................... ٣٥٣
تفسير سورة البروج
الآيات : ١ ـ ١٠............................................................. ٣٥٧
الآيات : ١١ ـ ٢٢........................................................... ٣٦٥
تفسير سورة الطارق
الآيات : ١ ـ ١٠............................................................. ٣٦٧
الآيات : ١١ ـ ١٧........................................................... ٣٦٩
تفسير سورة الأعلى
الآيات : ١ ـ ١٣............................................................. ٣٧١
الآيات : ١٤ ـ ١٩........................................................... ٣٧٣
تفسير سورة الغاشية
الآيات : ١ ـ ٧.............................................................. ٣٧٦
الآيات : ٨ ـ ١٦............................................................. ٣٧٧
الآيات : ١٧ ـ ٢٦........................................................... ٣٧٨
تفسير سورة الفجر
الآيات : ١ ـ ١٤............................................................. ٣٨١
الآيات : ١٥ ـ ٢٠........................................................... ٣٨٨
الآيات : ٢١ ـ ٣٠........................................................... ٣٨٩
تفسير سورة البلد
الآيات : ١ ـ ١٠............................................................. ٣٩١
الآيات : ١١ ـ ٢٠........................................................... ٣٩٤
تفسير سورة الشمس
الآيات : ١ ـ ١٠............................................................. ٣٩٨
الآيات : ١١ ـ ١٥........................................................... ٤٠١
تفسير سورة الليل
الآيات : ١ ـ ١١............................................................. ٤٠٣
الآيات : ١٢ ـ ٢١........................................................... ٤٠٧
تفسير سورة الضحى
الآيات : ١ ـ ١١............................................................. ٤١٠
تفسير سورة الشرح
الآيات : ١ ـ ٨.............................................................. ٤١٥
تفسير سورة التين
الآيات : ١ ـ ٨.............................................................. ٤١٩
تفسير سورة العلق
الآيات : ١ ـ ٥.............................................................. ٤٢١
الآيات : ٦ ـ ١٩............................................................. ٤٢٢
تفسير سورة القدر
الآيات : ١ ـ ٥.............................................................. ٤٢٤
تفسير سورة البينة
الآيات : ١ ـ ٥.............................................................. ٤٣١
الآيات : ٦ ـ ٨.............................................................. ٤٣٩
تفسير سورة الزلزلة
الآيات : ١ ـ ٨.............................................................. ٤٤١
تفسير سورة العاديات
الآيات : ١ ـ ١١............................................................. ٤٤٥
تفسير سورة القارعة
الآيات : ١ ـ ١١............................................................. ٤٤٧
تفسير سورة التكاثر
الآيات : ١ ـ ٨.............................................................. ٤٥٠
تفسير سورة العصر
الآيات : ١ ـ ٣.............................................................. ٤٥٦
تفسير سورة الهمزة
الآيات : ١ ـ ٩.............................................................. ٤٥٧
تفسير سورة الفيل
الآيات : ١ ـ ٥.............................................................. ٤٥٨
تفسير سورة قريش
الآيات : ١ ـ ٤.............................................................. ٤٦٦
تفسير سورة الماعون
الآيات : ١ ـ ٧.............................................................. ٤٦٧
تفسير سورة الكوثر
الآيات : ١ ـ ٣.............................................................. ٤٧١
تفسير سورة الكافرون
الآيات : ١ ـ ٦.............................................................. ٤٧٩
تفسير سورة النصر
الآيات : ١ ـ ٣.............................................................. ٤٨١
تفسير سورة المسد
الآيات : ١ ـ ٥.............................................................. ٤٨٥
تفسير سورة الإخلاص
ذكر سبب نزولها
وفضلها...................................................... ٤٨٨
الآيات : ١ ـ ٤.............................................................. ٤٩٧
تفسير سورة الفلق
الآيات : ١ ـ ٤.............................................................. ٥٠٣
تفسير سورة الناس
الآيات : ١ ـ ٦.............................................................. ٥٠٧
|