
تفسير سورة الصافات
وهي مكية
قال النسائي
أخبرنا إسماعيل بن مسعود حدثنا خالد ـ يعني ابن الحارث ـ عن ابن أبي ذئب قال
أخبرنا الحارث بن عبد الرحمن عن سالم بن عبد الله عن عبد الله بن عمر رضي الله
عنهما قال : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يأمرنا بالتخفيف ويؤمنا بالصافات ، تفرد به النسائي .
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(وَالصَّافَّاتِ
صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢) فَالتَّالِياتِ
ذِكْراً (٣) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (٤) رَبُّ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ)
(٥)
قال سفيان الثوري
عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال : (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا) وهي الملائكة (فَالزَّاجِراتِ
زَجْراً) هي الملائكة (فَالتَّالِياتِ
ذِكْراً) هي الملائكة ، وكذا قال ابن عباس رضي الله عنهما ومسروق
وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد والسدي وقتادة والربيع بن أنس قال قتادة : الملائكة
صفوف في السماء.
وقال مسلم حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا محمد بن فضيل عن أبي مالك
الأشجعي عن ربعي عن حذيفة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «فضلنا على الناس بثلاث : جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة
وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا وجعل لنا ترابها طهورا إذا لم نجد الماء» وقد روى مسلم
أيضا وأبو داود والنسائي وابن ماجة من حديث الأعمش عن المسيب بن رافع عن تميم بن
طرفة عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربهم؟» قلنا وكيف تصف
الملائكة عند ربهم؟ قالصلىاللهعليهوسلم «يتمون الصفوف
المتقدمة ويتراصون في الصف» وقال السدي وغيره معنى قوله تعالى:
(فَالزَّاجِراتِ
زَجْراً) أنها تزجر السحاب ، وقال الربيع بن أنس (فَالزَّاجِراتِ زَجْراً) ما زجر الله تعالى عنه في القرآن ، وكذا روى مالك عن زيد
بن أسلم (فَالتَّالِياتِ
ذِكْراً) قال السدي
__________________
الملائكة يجيئون
بالكتاب والقرآن من عند الله إلى الناس وهذه الآية كقوله تعالى : (فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً عُذْراً أَوْ
نُذْراً) [المرسلات : ٥].
وقوله عزوجل : (إِنَّ إِلهَكُمْ
لَواحِدٌ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) هذا هو المقسم عليه أنه تعالى لا إله إلا هو رب السموات
والأرض (وَما بَيْنَهُما) أي من المخلوقات (وَرَبُّ الْمَشارِقِ) أي هو المالك المتصرف في الخلق بتسخيره بما فيه من كواكب
ثوابت وسيارات تبدو من المشرق وتغرب من المغرب. واكتفى بذكر المشارق عن المغارب
لدلالتها عليه وقد صرح بذلك في قوله عزوجل : (فَلا أُقْسِمُ
بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ) [المعارج : ٤٠]
وقال تعالى في الآية الأخرى : (رَبُّ
الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) [الرحمن : ١٧] يعني
في الشتاء والصيف للشمس والقمر.
(إِنَّا زَيَّنَّا
السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ
(٦) وَحِفْظاً
مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧)
لا
يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (٨) دُحُوراً وَلَهُمْ
عَذابٌ واصِبٌ (٩) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ
الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ)
(١٠)
يخبر تعالى أنه
زين السماء الدنيا للناظرين إليها من أهل الأرض بزينة الكواكب ، قرئ بالإضافة
وبالبدل وكلاهما بمعنى واحد فالكواكب السيارة والثوابت يثقب ضوؤها جرم السماء
الشفاف فتضيء لأهل الأرض كما قال تبارك وتعالى : (وَلَقَدْ زَيَّنَّا
السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ
وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ) [الملك : ٥] وقال عزوجل (وَلَقَدْ جَعَلْنا
فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ
شَيْطانٍ رَجِيمٍ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ) [الحجر : ١٦ ـ ١٨]
فقوله جل وعلا هاهنا : (وَحِفْظاً) تقديره وحفظناها حفظا (مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ
مارِدٍ) يعني المتمرد العاتي إذا أراد أن يسترق السمع أتاه شهاب
ثاقب فأحرقه ولهذا قال جل جلاله (لا يَسَّمَّعُونَ
إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى) أي لئلا يصلوا إلى الملأ الأعلى وهي السموات ومن فيها من
الملائكة إذا تكلموا بما يوحيه الله تعالى بما يقوله من شرعه وقدره كما تقدم بيان
ذلك في الأحاديث التي أوردناها عند قوله تبارك وتعالى : (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ
قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) [سبأ : ٢٣] ولهذا
قال تعالى : (وَيُقْذَفُونَ) أي يرمون (مِنْ كُلِّ جانِبٍ) أي من كل جهة يقصدون السماء منها (دُحُوراً) أي رجما يدحرون به ويزجرون ويمنعون من الوصول إلى ذلك
ويرجمون (وَلَهُمْ عَذابٌ
واصِبٌ) أي في الدار الآخرة لهم عذاب دائم موجع مستمر كما قال جلت
عظمته (وَأَعْتَدْنا لَهُمْ
عَذابَ السَّعِيرِ) [الملك : ٥].
وقوله تبارك
وتعالى : (إِلَّا مَنْ خَطِفَ
الْخَطْفَةَ) أي إلا من اختطف من الشياطين الخطفة وهي الكلمة يسمعها من
السماء فيلقيها إلى الذي تحته ويلقيها الآخر إلى الذي تحته فربما أدركه الشهاب قبل
أن يلقيها وربما ألقاها بقدر الله تعالى قبل أن يأتيه الشهاب فيحرقه فيذهب بها
الآخر إلى الكاهن كما تقدم في الحديث ولهذا قال (إِلَّا مَنْ خَطِفَ
الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ
ثاقِبٌ) أي مستنير.
قال ابن جرير حدثنا أبو كريب حدثنا وكيع عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن
سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان للشياطين مقاعد في السماء قال
فكانوا يستمعون الوحي قال وكانت النجوم لا تجري وكانت الشياطين لا ترمى قال فإذا
سمعوا الوحي نزلوا إلى الأرض فزادوا في الكلمة تسعا قال فلما بعث رسول الله صلىاللهعليهوسلم جعل الشيطان إذا قصد مقعده جاءه شهاب فلم يخطئه حتى يحرقه
قال فشكوا ذلك إلى إبليس لعنه الله فقال ما هو إلا من أمر حدث قال فبعث جنوده فإذا
رسول الله صلىاللهعليهوسلم قائم يصلي بين جبلي نخلة قال وكيع يعني بطن نخلة قال : فرجعوا إلى إبليس فأخبروه فقال هذا الذي حدث ،
وستأتي إن شاء الله تعالى الأحاديث الواردة مع الآثار في هذا المعنى عند قوله
تعالى إخبارا عن الجن أنهم قالوا (وَأَنَّا لَمَسْنَا
السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنَّا كُنَّا
نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ
شِهاباً رَصَداً وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ
أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً) [الجن : ٨ ـ ١٠].
(فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ
أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (١١) بَلْ عَجِبْتَ
وَيَسْخَرُونَ (١٢) وَإِذا ذُكِّرُوا لا
يَذْكُرُونَ (١٣) وَإِذا رَأَوْا
آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤) وَقالُوا إِنْ هذا
إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥) أَإِذا مِتْنا
وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآباؤُنَا
الْأَوَّلُونَ (١٧) قُلْ نَعَمْ
وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (١٨) فَإِنَّما هِيَ
زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ)
(١٩)
يقول تعالى : فسل
هؤلاء المنكرين للبعث أيهما أشد خلقا هم أم السموات والأرض وما بينهما من الملائكة
والشياطين والمخلوقات العظيمة؟ وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه «أم من عددنا» فإنهم يقرون أن هذه المخلوقات أشد خلقا منهم ، وإذا كان
الأمر كذلك فلم ينكرون البعث؟ وهم يشاهدون ما هو أعظم مما أنكروا كما قال عزوجل : (لَخَلْقُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يَعْلَمُونَ) [غافر : ٥٧] ثم
بين أنهم خلقوا من شيء ضعيف فقال : (إِنَّا خَلَقْناهُمْ
مِنْ طِينٍ لازِبٍ) قال مجاهد وسعيد بن جبير والضحاك : هو الجيد الذي يلتزق بعضه
ببعض ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما وعكرمة هو اللزج الجيد ، وقال قتادة هو الذي
يلزق باليد .
وقوله عزوجل : (بَلْ عَجِبْتَ
وَيَسْخَرُونَ) أي بل عجبت يا محمد من تكذيب هؤلاء
__________________
المنكرين للبعث
وأنت موقن مصدق بما أخبر الله تعالى من الأمر العجيب وهو إعادة الأجسام بعد فنائها
وهم بخلاف أمرك من شدة تكذيبهم ويسخرون مما تقول لهم من ذلك.
قال قتادة : عجب
محمد صلىاللهعليهوسلم وسخر ضلال بني آدم .
(وَإِذا رَأَوْا آيَةً) أي دلالة واضحة على ذلك (يَسْتَسْخِرُونَ) قال مجاهد وقتادة يستهزئون (وَقالُوا إِنْ هذا
إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي إن هذا الذي جئت به إلا سحر مبين (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً
وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ) يستبعدون ذلك ويكذبون به (قُلْ نَعَمْ
وَأَنْتُمْ داخِرُونَ) أي قل لهم يا محمد نعم تبعثون يوم القيامة بعد ما تصيرون
ترابا وعظاما وأنتم داخرون أي حقيرون تحت القدرة العظيمة كما قال تبارك وتعالى : (وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) [النمل : ٨٧] وقال : (إِنَّ الَّذِينَ
يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) [غافر: ٦٠]. ثم قال جلت عظمته : (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ
فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ) أي فإنما هو أمر واحد من الله عزوجل ، يدعوهم دعوة واحدة أن يخرجوا من الأرض ، فإذا هم بين
يديه ينظرون إلى أهوال يوم القيامة ، والله تعالى أعلم.
(وَقالُوا يا وَيْلَنا
هذا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ
الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١)
احْشُرُوا
الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللهِ
فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣)
وَقِفُوهُمْ
إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤) ما لَكُمْ لا
تَناصَرُونَ (٢٥) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ
مُسْتَسْلِمُونَ)
(٢٦)
يخبر تعالى عن قيل
الكفار يوم القيامة أنهم يرجعون على أنفسهم بالملامة ويعترفون بأنهم كانوا ظالمين
لأنفسهم في الدار الدنيا ، فإذا عاينوا أهوال القيامة ندموا كل الندم حيث لا
ينفعهم الندم (وَقالُوا يا وَيْلَنا
هذا يَوْمُ الدِّينِ) فتقول الملائكة والمؤمنون (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ
الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) وهذا يقال لهم على وجه التقريع والتوبيخ ويأمر الله تعالى
الملائكة أن تميز الكفار من المؤمنين في الموقف في محشرهم ومنشرهم ولهذا قال تعالى
: (احْشُرُوا الَّذِينَ
ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ) قال النعمان بن بشير رضي الله عنه يعني بأزواجهم أشباههم
وأمثالهم ، وكذا قال ابن عباس وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد والسدي وأبو صالح وأبو
العالية وزيد بن أسلم ، وقال سفيان الثوري عن سماك عن النعمان بن بشير عن عمر بن
الخطاب رضي الله عنه (احْشُرُوا الَّذِينَ
ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ) قال إخوانهم . وقال شريك عن سماك عن النعمان قال : سمعت عمر يقول (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا
وَأَزْواجَهُمْ) قال : أشباههم. قال يجيء أصحاب الزنا مع أصحاب الزنا
وأصحاب الربا مع أصحاب الربا ، وأصحاب الخمر مع أصحاب
__________________
الخمر ، وقال خصيف
عن مقسم عن ابن عباس رضي الله عنهما أزواجهم نساؤهم وهذا غريب والمعروف عنه الأول
كما رواه مجاهد وسعيد بن جبير عنه أزواجهم قرناؤهم وما كانوا يعبدون من دون الله
أي من الأصنام والأنداد تحشر معهم في أماكنهم.
وقوله تعالى : (فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) أي أرشدوهم إلى طريق جهنم وهذا كقوله تعالى : (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى
وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ
زِدْناهُمْ سَعِيراً) [الإسراء : ٩٧]
وقوله تعالى : (وَقِفُوهُمْ
إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) أي قفوهم حتى يسألوا عن أعمالهم وأقوالهم التي صدرت عنهم
في الدار الدنيا كما قال الضحاك عن ابن عباس يعني احبسوهم إنهم محاسبون. وقال ابن
أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا النفيلي حدثنا المعتمر بن سليمان قال سمعت ليثا يحدث عن
بشير عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم : «أيما داع دعا إلى شيء كان موقوفا معه إلى يوم القيامة
لا يغادره ولا يفارقه وإن دعا رجل رجلا» ثم قرأ (وَقِفُوهُمْ
إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) ورواه الترمذي من حديث ليث بن أبي سليم ، ورواه ابن جرير عن يعقوب بن إبراهيم عن معتمر عن ليث عن رجل عن أنس رضي
الله عنه مرفوعا.
وقال عبد الله بن
المبارك : سمعت عثمان بن زائدة يقول إن أول ما يسأل عنه الرجل جلساؤه ، ثم يقال
لهم على سبيل التقريع والتوبيخ (ما لَكُمْ لا
تَناصَرُونَ) أي كما زعمتم أنكم جميع منتصر (بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ) أي ينقادون لأمر الله لا يخالفونه ولا يحيدون عنه ، والله
أعلم.
(وَأَقْبَلَ
بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٧) قالُوا إِنَّكُمْ
كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (٢٨) قالُوا بَلْ لَمْ
تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩) وَما كانَ لَنا
عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (٣٠) فَحَقَّ عَلَيْنا
قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (٣١)
فَأَغْوَيْناكُمْ
إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (٣٢) فَإِنَّهُمْ
يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣)
إِنَّا
كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (٣٤)
إِنَّهُمْ
كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ (٣٥) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا
لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (٣٦) بَلْ جاءَ
بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ)
(٣٧)
يذكر تعالى أن
الكفار يتلاومون في عرصات القيامة كما يتخاصمون في دركات النار (فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ
اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا
نَصِيباً مِنَ النَّارِ قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ
اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ) [غافر : ٤٧ ـ ٤٨]
وقال تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذِ
الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ
الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا
__________________
لِلَّذِينَ
اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قالَ الَّذِينَ
اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى
بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا
لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا
أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا
رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ
يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [سبأ : ٣٣] وهكذا
قالوا لهم هاهنا (إِنَّكُمْ كُنْتُمْ
تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ) قال الضحاك عن ابن عباس يقولون كنتم تقهروننا بالقدرة منكم
علينا لأنا كنا أذلاء وكنتم أعزاء ، وقال مجاهد يعني عن الحق والكفار تقوله
للشياطين .
وقال قتادة قالت
الإنس للجن إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين قال من قبل الخير فتنهونا عنه وتبطئونا
عنه ، وقال السدي تأتوننا من قبل الحق وتزينون لنا الباطل وتصدونا عن الحق وقال الحسن في قوله تعالى : (إِنَّكُمْ كُنْتُمْ
تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ) أي والله يأتيه عند كل خير يريده فيصده عنه ، وقال ابن زيد
معناه تحولون بيننا وبين الخير ورددتمونا عن الإسلام والإيمان والعمل بالخير الذي
أمرنا به ، وقال يزيد الرشك من قبل لا إله إلا الله وقال خصيف يعنون
من قبل ميامنهم ، وقال عكرمة (إِنَّكُمْ كُنْتُمْ
تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ) قال من حيث نأمنكم.
وقوله تعالى : (قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) تقول القادة من الجن والإنس للأتباع ما الأمر كما تزعمون
بل كانت قلوبكم منكرة للإيمان قابلة للكفر والعصيان (وَما كانَ لَنا
عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) أي من حجة على صحة ما دعوناكم إليه (بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ) أي بل كان فيكم طغيان ومجاوزة للحق فلهذا استجبتم لنا
وتركتم الحق الذي جاءتكم به الأنبياء وأقاموا لكم الحجج على صحة ما جاءوكم به
فخالفتموهم.
(فَحَقَّ عَلَيْنا
قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ) يقول الكبراء للمستضعفين حقت علينا كلمة الله أنا من
الأشقياء الذائقين للعذاب يوم القيامة (فَأَغْوَيْناكُمْ) أي دعوناكم إلى الضلالة (إِنَّا كُنَّا
غاوِينَ) أي فدعوناكم إلى ما نحن فيه فاستجبتم لنا ، قال الله تبارك
وتعالى : (فَإِنَّهُمْ
يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ).
أي الجميع في
النار كل بحسبه (إِنَّا كَذلِكَ
نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ إِنَّهُمْ كانُوا) أي في الدار الدنيا (إِذا قِيلَ لَهُمْ لا
إِلهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ) أي يستكبرون أن يقولوها كما يقولها المؤمنون قال ابن أبي
حاتم حدثنا عبيد الله ابن أخي ابن وهب حدثنا عمي حدثنا الليث عن ابن مسافر
__________________
يعني عبد الرحمن
بن خالد عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول
الله صلىاللهعليهوسلم : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن
قال لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله عزوجل» وأنزل الله تعالى في كتابه العزيز وذكر قوما استكبروا فقال
تعالى : (إِنَّهُمْ كانُوا
إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ) وقال ابن أبي حاتم أيضا حدثنا أبي حدثنا أبو سلمة موسى بن
إسماعيل حدثنا حماد عن سعيد الجريري عن أبي العلاء قال : يؤتى باليهود يوم القيامة
فيقال لهم ما كنتم تعبدون؟ فيقولون نعبد الله وعزيرا فيقال لهم : خذوا ذات الشمال
، ثم يؤتى بالنصارى فيقال لهم ما كنتم تعبدون؟ فيقولون نعبد الله والمسيح فيقال
لهم : خذوا ذات الشمال ، ثم يؤتى بالمشركين فيقال لهم لا إله إلا الله فيستكبرون
ثم يقال لهم لا إله إلا الله فيستكبرون فيقال لهم خذوا ذات الشمال. قال أبو نضرة
فينطلقون أسرع من الطير. قال أبو العلاء ثم يؤتى بالمسلمين فيقال لهم ما كنتم
تعبدون؟ فيقولون كنا نعبد الله تعالى فيقال لهم هل تعرفونه إذا رأيتموه؟ فيقولون
نعم ، فيقال لهم فكيف تعرفونه ولم تروه؟ فيقولون نعلم أنه لا عدل له . قال فيتعرف لهم تبارك وتعالى وتقدس وينجي الله المؤمنين.
(وَيَقُولُونَ أَإِنَّا
لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ) أي أنحن نترك عبادة آلهتنا وآلهة آبائنا عن قول هذا الشاعر
المجنون يعنون رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال الله تعالى تكذيبا لهم وردا عليهم : (بَلْ جاءَ بِالْحَقِ) يعني رسول الله صلىاللهعليهوسلم جاء بالحق في جميع شرعة الله تعالى له من الأخبار والطلب (وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ) أي صدقهم فيما أخبروا عنه من الصفات الحميدة ، والمناهج
السديدة ، وأخبر عن الله تعالى في شرعه وأمره كما أخبروا (ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ
لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) الآية [فصلت : ٤٣].
(إِنَّكُمْ لَذائِقُوا
الْعَذابِ الْأَلِيمِ (٣٨) وَما تُجْزَوْنَ
إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَ اللهِ
الْمُخْلَصِينَ (٤٠) أُولئِكَ لَهُمْ
رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١) فَواكِهُ وَهُمْ
مُكْرَمُونَ (٤٢) فِي جَنَّاتِ
النَّعِيمِ(٤٣) عَلى سُرُرٍ
مُتَقابِلِينَ (٤٤) يُطافُ عَلَيْهِمْ
بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (٤٥) بَيْضاءَ لَذَّةٍ
لِلشَّارِبِينَ (٤٦) لا فِيها غَوْلٌ
وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (٤٧)
وَعِنْدَهُمْ
قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨)
كَأَنَّهُنَّ
بَيْضٌ مَكْنُونٌ)
(٤٩)
يقول تعالى مخاطبا
للناس : (إِنَّكُمْ لَذائِقُوا
الْعَذابِ الْأَلِيمِ وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ثم استثنى من ذلك عباده المخلصين كما قال تعالى : (وَالْعَصْرِ إِنَّ
الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ
__________________
إِلَّا
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [العصر : ١ ـ ٣] وقال
عزوجل : (لَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [التين : ٤ ـ ٦]
وقال تعالى : (وَإِنْ مِنْكُمْ
إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ
اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) [مريم : ٧١ ـ ٧٢]
وقال تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ بِما
كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ) [المدثر : ٣٨]
ولهذا قال جل وعلا هاهنا (إِلَّا عِبادَ اللهِ
الْمُخْلَصِينَ) أي ليسوا يذوقون العذاب الأليم ولا يناقشون في الحساب بل
يتجاوز عن سيئاتهم إن كان لهم سيئات ويجزون الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف
إلى أضعاف كثيرة إلى ما يشاء الله تعالى من التضعيف.
وقوله جل وعلا : (أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ) قال قتادة والسدي يعني الجنة ثم فسره بقوله تعالى : (فَواكِهُ) أي متنوعة (وَهُمْ مُكْرَمُونَ) أي يخدمون ويرفهون وينعمون (فِي جَنَّاتِ
النَّعِيمِ عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) قال مجاهد لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض. وقال ابن أبي حاتم
حدثنا يحيى بن عبدك القزويني حدثنا حسان بن حسان حدثنا إبراهيم بن بشر حدثنا يحيى
بن معين حدثنا إبراهيم القرشي عن سعيد بن شرحبيل عن زيد بن أبي أوفى رضي الله عنه
قال : خرج علينا رسول الله صلىاللهعليهوسلم فتلا هذه الآية (عَلى سُرُرٍ
مُتَقابِلِينَ) ينظر بعضهم إلى بعض حديث غريب.
وقوله تعالى : (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ
بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) كما قال عزوجل في الآية الأخرى (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ
وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ لا
يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ) [الواقعة : ٣٨ ـ ٣٩]
نزه الله سبحانه وتعالى خمر الجنة عن الآفات التي في خمر الدنيا من صداع الرأس
ووجع البطن وهو الغول وذهابها بالعقل جملة فقال تعالى هاهنا : (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ
مَعِينٍ) أي بخمر من أنهار جارية لا يخافون انقطاعها ولا فراغها.
قال مالك عن زيد بن أسلم : خمر جارية بيضاء أي لونها مشرق حسن بهي لا كخمر الدنيا
في منظرها البشع الرديء من حمرة أو سواد أو اصفرار أو كدورة إلى غير ذلك مما ينفر الطبع السليم.
وقوله عزوجل : (لَذَّةٍ
لِلشَّارِبِينَ) أي طعمها طيب كلونها وطيب الطعم دليل على طيب الريح بخلاف
خمر الدنيا في جميع ذلك وقوله تعالى : (لا فِيها غَوْلٌ) يعني لا تؤثر فيها غولا وهو وجع البطن قاله ابن عباس رضي
الله عنهما ومجاهد وقتادة وابن زيد كما تفعله خمر الدنيا من القولنج ونحوه لكثرة مائيتها ، وقيل المراد بالغول هاهنا صداع
الرأس وروي هكذا عن ابن
__________________
عباس رضي الله
عنهما وقال قتادة هو صداع الرأس ووجع البطن وعنه وعن السدي لا تغتال عقولهم كما
قال الشاعر : [المتقارب]
فما زالت الكأس
تغتالنا
|
|
وتذهب بالأوّل
الأوّل
|
وقال سعيد بن جبير
لا مكروه فيها ولا أذى ، والصحيح قول مجاهد أنه وجع البطن ، وقوله تعالى : (وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) قال مجاهد لا تذهب عقولهم وكذا قال ابن عباس ومحمد بن كعب
والحسن وعطاء بن أبي مسلم الخراساني والسدي وغيرهم وقال الضحاك عن ابن عباس في
الخمر أربع خصال السكر والصداع والقيء والبول فذكر الله خمر الجنة فنزهها عن هذه
الخصال كما ذكر في سورة الصافات.
وقوله تعالى : (وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ) أي عفيفات لا ينظرن إلى غير أزواجهن كذا قال ابن عباس رضي
الله عنهما ومجاهد وزيد بن أسلم وقتادة والسدي وغيرهم.
وقوله تبارك
وتعالى : (عِينٌ) أي حسان الأعين وقيل ضخام الأعين وهو يرجع إلى الأول وهي
النجلاء العيناء فوصف عيونهن بالحسن والعفة كقول زليخا في يوسف عليه الصلاة
والسلام حين جملته وأخرجته على تلك النسوة فأعظمنه وأكبرنه وظنن أنه ملك من
الملائكة لحسنه وبهاء منظره قالت : (فَذلِكُنَّ الَّذِي
لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ) [يوسف: ٣٢] أي هو
مع هذا الجمال عفيف تقي نقي وهكذا الحور العين (خَيْراتٌ حِسانٌ) [الرحمن: ٧٠]. ولهذا قال عزوجل : (وَعِنْدَهُمْ
قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ) وقوله جل جلاله : (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ
مَكْنُونٌ) وصفهن بترافة الأبدان بأحسن الألوان قال علي بن أبي طلحة
عن ابن عباس رضي الله عنهما (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ
مَكْنُونٌ) يقول اللؤلؤ المكنون وينشد هاهنا بيت أبي دهبل الشاعر وهو قوله في قصيدة له : [الخفيف]
وهي زهراء مثل
لؤلؤة الغواص
|
|
ميزت من جوهر
مكنون
|
وقال الحسن : (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ) يعني محصون لم تمسه الأيدي ، وقال السدي : البيض في عشه
مكنون وقال سعيد بن جبير (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ
مَكْنُونٌ) يعني بطن البيض وقال عطاء الخراساني هو السحاء الذي يكون
بين قشرته العليا ولباب البيضة ، وقال السدي (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ
__________________
مَكْنُونٌ) يقول بياض البيض حين ينزع قشرته واختاره ابن جرير لقوله
مكنون قال والقشرة العليا يمسها جناح الطير والعش وتنالها الأيدي بخلاف داخلها
والله أعلم.
وقال ابن جرير حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب حدثنا محمد بن الفرج
الصدفي الدمياطي عن عمرو بن هاشم عن ابن أبي كريمة عن هشام عن الحسن عن أمه عن أم
سلمة رضي الله عنهما قالت قلت يا رسول الله أخبرني عن قول الله عزوجل : (حُورٌ عِينٌ) قال : «العين الضخام العيون شفر الحوراء بمنزلة جناح النسر»
قلت يا رسول الله أخبرني عن قول الله عزوجل (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ
مَكْنُونٌ) قال : «رقتهن كرقة الجلدة التي رأسها في داخل البيضة التي
تلي القشر وهي الفرقئ». وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو غسان النهدي حدثنا
عبد السلام بن حرب عن ليث عن الربيع بن أنس عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول
الله صلىاللهعليهوسلم : «أنا أول الناس خروجا إذا بعثوا ، وأنا خطيبهم إذا وفدوا
، وأنا مبشرهم إذا حزنوا ، وأنا شفيعهم إذا حبسوا ، لواء الحمد يومئذ بيدي ، وأنا
أكرم ولد آدم على الله عزوجل ولا فخر ، يطوف عليّ ألف خادم كأنهن البيض المكنون ـ أو
اللؤلؤ المكنون ـ» ، والله تعالى أعلم بالصواب.
(فَأَقْبَلَ
بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٥٠)
قالَ
قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (٥١)
يَقُولُ
أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢)
أَإِذا
مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (٥٣) قالَ هَلْ أَنْتُمْ
مُطَّلِعُونَ (٥٤) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ
فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (٥٥) قالَ تَاللهِ إِنْ
كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦) وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي
لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧)
أَفَما
نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (٥٨) إِلاَّ مَوْتَتَنَا
الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٥٩)
إِنَّ
هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٠) لِمِثْلِ هذا
فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ)
(٦١)
يخبر تعالى عن أهل
الجنة أنه أقبل بعضهم على بعض يتساءلون أي عن أحوالهم وكيف كانوا في الدنيا وماذا
كانوا يعانون فيها وذلك من حديثهم على شرابهم واجتماعهم في تنادمهم ومعاشرتهم في
مجالسهم وهم جلوس على السرر والخدم بين أيديهم يسعون ويجيئون بكل خير عظيم من مآكل
ومشارب وملابس وغير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي
قَرِينٌ) قال مجاهد يعني شيطانا. وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله
عنهما هو الرجل المشرك يكون له صاحب من أهل الإيمان في الدنيا ، ولا تنافي بين
كلام مجاهد وابن عباس رضي الله عنهما فإن الشيطان يكون من الجن فيوسوس في النفس
ويكون من الإنس فيقول كلاما تسمعه الأذنان وكلاهما يتعاونان قال الله تعالى : (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ
الْقَوْلِ غُرُوراً) [الأنعام : ١١٢]
وكل منهما يوسوس كما قال الله عزوجل : (مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ
الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ
__________________
وَالنَّاسِ) [الناس : ٤ ـ ٦]
ولهذا (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ
إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ) أي أأنت تصدق بالبعث والنشور والحساب والجزاء يعني يقول
ذلك على وجه التعجب والتكذيب والاستبعاد والكفر والعناد.
(أَإِذا مِتْنا
وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ) قال مجاهد والسدي لمحاسبون. وقال ابن عباس رضي الله عنهما
ومحمد بن كعب القرظي لمجزيون بأعمالنا وكلاهما صحيح قال تعالى : (قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ) أي مشرفون يقول المؤمن لأصحابه وجلسائه من أهل الجنة (فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ
الْجَحِيمِ) قال ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير وخليد العصري
وقتادة والسدي وعطاء الخراساني يعني في وسط الجحيم ، وقال الحسن البصري في وسط
الجحيم كأنه شهاب يتقد ، وقال قتادة ذكر لنا أنه اطلع فرأى جماجم القوم تغلي ،
وذكر لنا أن كعب الأحبار قال في الجنة كوى إذا أراد أحد من أهلها أن ينظر إلى عدوه
في النار اطلع فيها فازداد شكرا (قالَ تَاللهِ إِنْ
كِدْتَ لَتُرْدِينِ) يقول المؤمن مخاطبا للكافر والله إن كدت لتهلكني لو أطعتك.
(وَلَوْ لا نِعْمَةُ
رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) أي ولولا فضل الله عليّ لكنت مثلك في سواء الجحيم حيث أنت
محضر معك في العذاب ولكنه تفضل عليّ ورحمني فهداني للإيمان وأرشدني إلى توحيده (وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ
هَدانَا اللهُ) [الأعراف : ٤٣].
وقوله تعالى : (أَفَما نَحْنُ
بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) هذا من كلام المؤمن مغبطا نفسه بما أعطاه الله تعالى من
الخلد في الجنة والإقامة في دار الكرامة بلا موت فيها ولا عذاب ولهذا قال عزوجل : (إِنَّ هذا لَهُوَ
الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).
وقال ابن أبي حاتم
حدثنا أبو عبد الله الظهراني حدثنا حفص بن عمر العدني حدثنا الحكم بن أبان عن
عكرمة قال : قال ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تبارك وتعالى لأهل الجنة : (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما
كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الطور : ١٩] قال
ابن عباس رضي الله عنهما قوله عزوجل : (هَنِيئاً) أي لا يموتون فيها فعندها قالوا : (أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ. إِلَّا
مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) وقال الحسن البصري : علموا أن كل نعيم فإن الموت يقطعه
فقالوا : (أَفَما نَحْنُ
بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) قيل لا (إِنَّ هذا لَهُوَ
الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).
وقوله جل جلاله (لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) قال قتادة هذا من كلام أهل الجنة ، وقال ابن جرير هو من كلام الله تعالى ومعناه لمثل هذا النعيم وهذا الفوز
فليعمل العاملون في
__________________
الدنيا ليصيروا
إليه في الآخرة وقد ذكروا قصة رجلين كانا شريكين في بني إسرائيل تدخل في ضمن عموم
هذه الآية الكريمة ، قال أبو جعفر بن جرير حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد حدثنا عتاب بن
بشير عن خصيف عن فرات بن ثعلبة النهراني في قوله : (إِنِّي كانَ لِي
قَرِينٌ) قال إن رجلين كانا شريكين فاجتمع لهما ثمانية آلاف دينار ،
وكان أحدهما له حرفة والآخر ليس له حرفة ، فقال الذي له حرفة للآخر ليس عندك حرفة
ما أراني إلا مفارقك ومقاسمك فقاسمه وفارقه ثم إن الرجل اشترى دارا بألف دينار
كانت لملك مات فدعا صاحبه فأراه فقال كيف ترى هذه الدار ابتعتها بألف دينار؟ قال
ما أحسنها ، فلما خرج قال اللهم إن صاحبي هذا قد ابتاع هذه الدار بألف دينار وإني
أسألك دارا من دور الجنة فتصدق بألف دينار ، ثم مكث ما شاء الله تعالى أن يمكث ،
ثم إنه تزوج بامرأة بألف دينار فدعاه وصنع له طعاما فلما أتاه قال إني تزوجت هذه
المرأة بألف دينار فقال ما أحسن هذا فلما انصرف قال يا رب إن صاحبي تزوج امرأة
بألف دينار ، وإني أسألك امرأة من الحور العين فتصدق بألف دينار ، ثم إنه مكث ما
شاء الله تعالى أن يمكث ثم اشترى بستانين بألفي دينار ثم دعاه فأراه فقال إني
ابتعت هذين البستانين بألفي دينار فقال ما أحسن هذا فلما خرج قال يا رب إن صاحبي
قد اشترى بستانين بألفي دينار وأنا أسألك بستانين في الجنة فتصدق بألفي دينار ، ثم
إن الملك أتاهما فتوفاهما ثم انطلق بهذا المتصدق فأدخله دارا تعجبه وإذا بامرأة
تطلع يضيء ما تحتها من حسنها ثم أدخله بستانين وشيئا الله به عليم فقال عند ذلك ما
أشبه هذا برجل كان من أمره كذا وكذا قال فإنه ذاك ولك هذا المنزل والبستانان
والمرأة ، قال فإنه كان لي صاحب يقول (أَإِنَّكَ لَمِنَ
الْمُصَدِّقِينَ) قيل له فإنه في الجحيم قال (هَلْ أَنْتُمْ
مُطَّلِعُونَ فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ) فقال عند ذلك (تَاللهِ إِنْ كِدْتَ
لَتُرْدِينِ وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) الآيات قال ابن جرير وهذا يقوي قراءة من قرأ «أإنك لمن
المصّدّقين» بالتشديد .
وقال ابن أبي حاتم
حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا عمرو بن عبد الرحمن الأبار أخبرنا أبو حفص قال سألت
إسماعيل السدي عن هذه الآية (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ
إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ) قال فقال لي ما ذكرك هذا؟ قلت قرأته آنفا فأحببت أن أسألك
عنه فقال : أما فاحفظ ، كان شريكان في بني إسرائيل أحدهما مؤمن والآخر كافر
فافترقا على ستة آلاف دينار لكل واحد منهما ثلاثة آلاف دينار ثم افترقا فمكثا ما
شاء الله تعالى أن يمكثا ، ثم التقيا فقال الكافر للمؤمن ما صنعت في مالك؟ أضربت
به شيئا اتجرت به في شيء؟ فقال له المؤمن لا فما صنعت أنت؟ فقال
اشتريت به أرضا ونخلا وثمارا وأنهارا بألف دينار ـ قال :
__________________
فقال له المؤمن أو
فعلت؟ قال نعم ، قال فرجع المؤمن حتى إذا كان الليل صلى ما شاء الله تعالى أن يصلي
فلما انصرف أخذ ألف دينار فوضعها بين يديه ثم قال : اللهم إن فلانا ـ يعني شريكه
الكافر ـ اشترى أرضا ونخلا وثمارا وأنهارا بألف دينار ثم يموت غدا ويتركها اللهم
إني اشتريت منك بهذه الألف دينار أرضا ونخلا وثمارا وأنهارا في الجنة ـ قال : ثم
أصبح فقسمها في المساكين ـ قال ـ ثم مكثا ما شاء الله تعالى أن يمكثا ثم التقيا
فقال الكافر للمؤمن ما صنعت في مالك أضربت به في شيء اتجرت به في شيء؟ قال لا قال
فما صنعت أنت؟ قال كانت ضيعتي قد اشتد علي مؤنتها فاشتريت رقيقا بألف دينار يقومون
لي فيها ويعملون لي فيها فقال له المؤمن أو فعلت؟ قال نعم ـ قال ـ فرجع المؤمن حتى
إذا كان الليل صلى ما شاء الله تعالى أن يصلي فلما انصرف أخذ ألف دينار فوضعها بين
يديه ثم قال اللهم إن فلانا ـ يعني شريكه الكافر ـ اشترى رقيقا من رقيق الدنيا
بألف دينار يموت غدا فيتركهم أو يموتون فيتركونه ، اللهم إني اشتريت منك بهذه
الألف الدينار رقيقا في الجنة ـ قال ـ ثم أصبح فقسمها في المساكين ـ قال ـ ثم مكثا
ما شاء الله تعالى أن يمكثا ثم التقيا فقال الكافر للمؤمن ما صنعت في مالك أضربت
به في شيء اتجرت به في شيء؟ قال لا فما صنعت أنت؟ قال كان أمري كله قد تم إلا شيئا
واحدا فلانة قد مات عنها زوجها فأصدقتها ألف دينار فجاءتني بها ومثلها معها فقال له
المؤمن أو فعلت؟ قال نعم قال فرجع المؤمن حتى إذا كان الليل صلى ما شاء الله تعالى
أن يصلي فلما انصرف أخذ الألف الدينار الباقية فوضعها بين يديه وقال اللهم إن
فلانا ـ يعني شريكه الكافر ـ تزوج زوجة من أزواج الدنيا بألف دينار فيموت غدا
فيتركها أو تموت غدا فتتركه اللهم وإني أخطب إليك بهذه الألف الدينار حوراء عيناء
في الجنة.
قال : ثم أصبح
فقسمها بين المساكين ـ قال ـ فبقي المؤمن ليس عنده شيء. قال فلبس قميصا من قطن
وكساء من صوف ثم أخذ مرّا فجعله على رقبته يعمل الشيء ويحفر الشيء بقوته. قال فجاءه
رجل فقال : له يا عبد الله أتؤاجرني نفسك مشاهرة شهرا بشهر تقوم على دواب لي
تعلفها وتكنس سرقينها قال نعم أفعل قال فواجره نفسه مشاهرة شهرا بشهر يقوم على
دوابه ، قال فكان صاحب الدواب يغدو كل يوم ينظر إلى دوابه فإذا رأى منها دابة
ضامرة أخذ برأسه فوجأ عنقه ثم يقول له سرقت شعير هذه البارحة قال فلما رأى المؤمن
هذه الشدة قال لآتين شريكي الكافر فلأعملن في أرضه فيطعمني هذه الكسرة يوما بيوم
ويكسوني هذين الثوبين إذا بليا ، قال فانطلق يريده فلما انتهى إلى بابه وهو ممس
فإذا قصر مشيد في السماء وإذا حوله البوابون فقال لهم استأذنوا لي صاحب هذا القصر
فإنكم إذا فعلتم سره ذلك ، فقالوا له انطلق إن كنت صادقا فنم في ناحية فإذا أصبحت
فتعرض له. قال فانطلق المؤمن فألقى نصف كسائه تحته ونصفه فوقه ثم نام فلما أصبح
أتى شريكه فتعرض له فخرج شريكه الكافر وهو راكب فلما
__________________
رآه عرفه فوقف
وسلم عليه وصافحه ثم قال له ألم تأخذ من المال مثل ما أخذت؟ قال بلى قال وهذه حالي
وهذه حالك؟ قال بلى قال أخبرني ما صنعت في مالك؟ قال لا تسألني عنه ، قال فما جاء
بك؟ قال جئت أعمل في أرضك هذه فتطعمني هذه الكسرة يوما بيوم وتكسوني هذين الثوبين
إذا بليا ، قال لا ولكن أصنع بك ما هو خير من هذا ولكن لا ترى مني خيرا حتى تخبرني
ما صنعت في مالك قال أقرضته قال من؟ قال المليء الوفي قال من؟ قال الله ربي قال وهو مصافحة فانتزع يده من
يده ثم قال (أَإِنَّكَ لَمِنَ
الْمُصَدِّقِينَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ) قال السدي محاسبون قال فانطلق الكافر وتركه ، قال فلما رآه
المؤمن وليس يلوي عليه رجع وتركه ، يعيش المؤمن في شدة من الزمان ويعيش الكافر في
رخاء من الزمان قال فإذا كان يوم القيامة وأدخل الله تعالى المؤمن الجنة يمر فإذا
هو بأرض ونخل وثمار وأنهار فيقول لمن هذا؟ فيقال هذا لك فيقول يا سبحان الله أو
بلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا؟ قال ثم يمر فإذا هو برقيق لا تحصى عدتهم فيقول
لمن هذا؟ فيقال هؤلاء لك ، فيقول يا سبحان الله أو بلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل
هذا ، قال ثم يمر فإذا هو بقبة من ياقوتة حمراء مجوفة فيها حوراء عيناء فيقول لمن
هذه فيقال هذه لك فيقول يا سبحان الله أو بلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا.
قال ثم يذكر
المؤمن شريكه الكافر فيقول : (إِنِّي كانَ لِي
قَرِينٌ يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً
وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ) قال فالجنة عالية والنار هاوية قال فيريه الله تعالى شريكه
في وسط الجحيم من بين أهل النار فإذا رآه المؤمن عرفه فيقول : (تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ وَلَوْ
لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ
إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ إِنَّ هذا لَهُوَ
الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) بمثل ما منّ عليه. قال فيتذكر المؤمن ما مر عليه في الدنيا
من الشدة فلا يذكر مما مر عليه في الدنيا من الشدة أشد عليه من الموت .
(أَذلِكَ خَيْرٌ
نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٦٢) إِنَّا جَعَلْناها
فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (٦٣) إِنَّها شَجَرَةٌ
تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (٦٤)
طَلْعُها
كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (٦٥)
فَإِنَّهُمْ
لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٦٦)
ثُمَّ
إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (٦٧) ثُمَّ إِنَّ
مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (٦٨) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا
آباءَهُمْ ضالِّينَ (٦٩) فَهُمْ عَلى
آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ)
(٧٠)
يقول الله تعالى أهذا
الذي ذكره من نعيم الجنة وما فيها من مآكل ومشارب ومناكح وغير ذلك من الملاذ خير
ضيافة وعطاء (أَمْ شَجَرَةُ
الزَّقُّومِ) أي التي في جهنم وقد يحتمل أن يكون
__________________
المراد بذلك شجرة
واحدة معينة كما قال بعضهم إنها شجرة تمتد فروعها إلى جميع محال جهنم كما أن شجرة
طوبى ما من دار في الجنة إلا وفيها منها غصن ، وقد يحتمل أن يكون المراد بذلك جنس
شجر يقال له الزقوم كقوله تعالى : (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ
مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) [المؤمنون : ٢٠]
يعني الزيتونة ويؤيد ذلك قوله تعالى : (ثُمَّ إِنَّكُمْ
أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ) [الواقعة : ٥١ ـ ٥٢].
وقوله عزوجل : (إِنَّا جَعَلْناها
فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ) قال قتادة ذكرت شجرة الزقوم فافتتن بها أهل الضلالة وقالوا
صاحبكم ينبئكم أن في النار شجرة والنار تأكل الشجر فأنزل الله تعالى : (إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ
الْجَحِيمِ) غذيت من النار ومنها خلقت. وقال مجاهد (إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً
لِلظَّالِمِينَ) قال أبو جهل لعنه الله : إنما الزقوم التمر والزبد أتزقمه.
قلت ومعنى الآية
إنما أخبرناك يا محمد بشجرة الزقوم اختبارا نختبر به الناس من يصدق منهم ممن يكذب
كقوله تبارك وتعالى : (وَما جَعَلْنَا
الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ
الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً
كَبِيراً) [الإسراء : ٦٠].
وقوله تعالى : (إِنَّها شَجَرَةٌ
تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ) أي أصل منبتها في قرار النار (طَلْعُها كَأَنَّهُ
رُؤُسُ الشَّياطِينِ) تبشيع لها وتكريه لذكرها. قال وهب بن منبه شعور الشياطين
قائمة إلى السماء ، وإنما شبهها برءوس الشياطين وإن لم تكن معروفة عند المخاطبين
لأنه قد استقر في النفوس أن الشياطين قبيحة المنظر ، وقيل المراد بذلك ضرب من
الحيات رؤوسها بشعة المنظر ، وقيل جنس من النبات طلعه في غاية الفحاشة وفي هذين
الاحتمالين نظر ، وقد ذكرهما ابن جرير والأول أقوى وأولى ، والله أعلم.
وقوله تعالى : (فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها
فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ). ذكر تعالى أنهم يأكلون من هذه الشجرة التي لا أبشع منها
ولا أقبح من منظرها مع ما هي عليه من سوء الطعم والريح والطبع فإنهم ليضطرون إلى
الأكل منها لأنهم لا يجدون إلا إياها وما في معناها كما قال تعالى : (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ
ضَرِيعٍ لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) وقال ابن أبي حاتم رحمهالله حدثنا أبي حدثنا عمرو بن مرزوق حدثنا شعبة عن الأعمش عن
مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم تلا هذه الآية وقال : «اتقوا الله حق تقاته فلو أن قطرة من
الزقوم قطرت في بحار الدنيا لأفسدت على أهل الأرض معايشهم فكيف بمن يكون طعامه؟»
ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجة من حديث شعبة وقال الترمذي حسن صحيح .
وقوله تعالى : (ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً
مِنْ حَمِيمٍ) قال ابن عباس رضي الله عنهما يعني
__________________
شرب الحميم على
الزقوم ، وقال في رواية عنه شوبا من حميم ، مزجا من حميم ، وقال
غيره يعني يمزج لهم الحميم بصديد وغساق مما يسيل من فروجهم وعيونهم وقال ابن أبي
حاتم حدثنا أبي حدثنا حيوة بن شريح الحضرمي حدثنا بقية بن الوليد عن صفوان بن عمرو
أخبرني عبيد الله بن بسر عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه كان يقول «يقرب ـ يعني إلى أهل النار ـ ماء فيتكرهه
فإذا أدني منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه فيه فإذا شربه قطع أمعاءه حتى تخرج من
دبره» .
وقال ابن أبي حاتم
حدثنا أبي حدثنا عمرو بن رافع حدثنا يعقوب بن عبد الله عن جعفر وهارون بن عنترة عن
سعيد بن جبير قال إذا جاع أهل النار استغاثوا بشجرة الزقوم فأكلوا منها فاختلست
جلود وجوههم فلو أن مارا يمر بهم يعرفهم لعرف وجوههم فيها ثم يصب عليهم العطش
فيستغيثون فيغاثون بماء كالمهل وهو الذي قد انتهى حره فإذا أدنوه من أفواههم اشتوى
من حره لحوم وجوههم التي قد سقطت عنها الجلود ويصهر ما في بطونهم فيمشون تسيل
أمعاؤهم وتتساقط جلودهم ثم يضربون بمقامع من حديد فيسقط كل عضو على حياله يدعون
بالثبور.
وقوله عزوجل : (ثُمَّ إِنَّ
مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ) أي ثم إن مردهم بعد هذا الفصل لإلى نار تتأجج وجحيم تتوقد
وسعير تتوهج فتارة في هذا وتارة في هذا كما قال تعالى : (يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ
آنٍ) [الرحمن : ٤٤]
هكذا تلا قتادة هذه الآية عند هذه الآية وهو تفسير حسن قوي ، وقال السدي في قراءة عبد الله رضي
الله عنه «ثم إن مقيلهم لإلى الجحيم» وكان عبد الله رضي الله عنه يقول والذي نفسي بيده لا ينتصف
النهار يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار ، ثم قرأ (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ
مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) [الفرقان : ٢٤]
وروى الثوري عن ميسرة عن المنهال بن عمرو عن أبي عبيدة عن عبد الله رضي الله عنه
قال : لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يقيل هؤلاء ويقيل هؤلاء قال سفيان أراه ثم
قرأ (أَصْحابُ الْجَنَّةِ
يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) [الفرقان : ٢٤] (ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى
الْجَحِيمِ) قلت على هذا التفسير تكون ثم عاطفة لخبر على خبر. وقوله
تعالى : (إِنَّهُمْ أَلْفَوْا
آباءَهُمْ ضالِّينَ) أي إنما جازيناهم بذلك لأنهم وجدوا آباءهم على الضلالة
فاتبعوهم فيها بمجرد ذلك من غير دليل ولا برهان ، ولهذا قال : (فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ) قال مجاهد شبيهة بالهرولة ، وقال سعيد بن جبير يسفهون.
__________________
(وَلَقَدْ ضَلَّ
قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (٧١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (٧٢) فَانْظُرْ كَيْفَ
كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) إِلاَّ عِبادَ اللهِ
الْمُخْلَصِينَ)
(٧٤)
يخبر تعالى عن الأمم
الماضية أن أكثرهم كانوا ضالين يجعلون مع الله آلهة أخرى ، وذكر تعالى أنه أرسل
فيهم منذرين ينذرون بأس الله ويحذرونهم سطوته ونقمته ممن كفر به وعبد غيره وأنهم
تمادوا على مخالفة رسلهم وتكذيبهم فأهلك المكذبين ودمرهم ونجى المؤمنين ونصرهم
وظفرهم ولهذا قال تعالى : (فَانْظُرْ كَيْفَ
كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ).
(وَلَقَدْ نادانا
نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥)
وَنَجَّيْناهُ
وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦)
وَجَعَلْنا
ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (٧٧)
وَتَرَكْنا
عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨) سَلامٌ عَلى نُوحٍ
فِي الْعالَمِينَ(٧٩) إِنَّا كَذلِكَ
نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠) إِنَّهُ مِنْ
عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١)
ثُمَّ
أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ)
(٨٢)
لما ذكر تعالى عن
أكثر الأولين أنهم ضلوا عن سبيل النجاة شرع يبين ذلك مفصلا فذكر نوحا عليه الصلاة
والسلام وما لقي من قومه من التكذيب ، وأنه لم يؤمن منهم إلا القليل مع طول المدة
لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فلما طال عليه ذلك واشتد عليه تكذيبهم ، وكلما
دعاهم ازدادوا نفرة فدعا ربه أني مغلوب فانتصر ، فغضب الله تعالى لغضبه عليهم ،
ولهذا قال عزوجل : (وَلَقَدْ نادانا
نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ) أي فلنعم المجيبون له (وَنَجَّيْناهُ
وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) وهو التكذيب والأذى (وَجَعَلْنا
ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما يقول : لم
تبق إلا ذرية نوح عليهالسلام .
وقال سعيد بن أبي
عروبة عن قتادة في قوله تبارك وتعالى : (وَجَعَلْنا
ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) قال الناس كلهم من ذرية نوح عليهالسلام ، وقد روى الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم من حديث سعيد بن بشير عن قتادة عن
الحسن عن سمرة رضي الله عنه عن النبي صلىاللهعليهوسلم في قوله تعالى : (وَجَعَلْنا
ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) قال سام وحام ويافث وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الوهاب عن سعيد عن قتادة عن الحسن عن سمرة رضي
الله عنه عن النبي من صلىاللهعليهوسلم قال : «سام أبو العرب وحام أبو الحبش ويافث أبو الروم»
ورواه الترمذي عن بشر بن معاذ العقدي عن يزيد بن زريع عن سعيد وهو ابن
أبي عروبة عن قتادة به ، قال الحافظ أبو عمر بن عبد البر ،
__________________
وقد روي عن عمران
بن حصين رضي الله عنه عن النبي صلىاللهعليهوسلم مثله ، والمراد بالروم هاهنا هم الروم الأول وهم اليونان
المنتسبون إلى رومي بن ليطي بن يونان بن يافث بن نوح عليهالسلام ثم روي من حديث إسماعيل بن عياش عن يحيى بن سعيد عن سعيد
بن المسيب قال : ولد نوح عليهالسلام ثلاثة : سام ويافث وحام ، وولد كل واحد من هؤلاء الثلاثة
فولد سام العرب وفارس والروم ، وولد يافث الترك والصقالبة ويأجوج ومأجوج ، وولد حام
القبط والسودان والبربر ، وروي عن وهب بن منبه نحو هذا والله أعلم. وقوله تبارك
وتعالى : (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ
فِي الْآخِرِينَ) قال ابن عباس رضي الله عنهما يذكر بخير ، وقال مجاهد يعني لسان صدق للأنبياء كلهم ، وقال قتادة
والسدي أبقى الله عليه الثناء الحسن في الآخرين. وقال الضحاك السلام والثناء الحسن
.
وقوله تعالى : (سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ) مفسر لما أبقى عليه الذكر الجميل والثناء الحسن أنه يسلم
عليه في جميع الطوائف والأمم (إِنَّا كَذلِكَ
نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي هكذا نجزي من أحسن من العباد في طاعة الله تعالى ونجعل
له لسان صدق يذكر به بعده بحسب مرتبته في ذلك ثم قال تعالى : (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) أي المصدقين الموحدين الموقنين (ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) أي أهلكناهم فلم تبق منهم عين تطرف ولا ذكر لهم ولا عين
ولا أثر ، ولا يعرفون إلا بهذه الصفة القبيحة.
(وَإِنَّ مِنْ
شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (٨٣)
إِذْ
جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ
وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ (٨٥)
أَإِفْكاً
آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ (٨٦) فَما ظَنُّكُمْ
بِرَبِّ الْعالَمِينَ)
(٨٧)
قال علي بن أبي
طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما (وَإِنَّ مِنْ
شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ) يقول من أهل دينه ، وقال مجاهد على منهاجه وسنته .
(إِذْ جاءَ رَبَّهُ
بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) قال ابن عباس رضي الله عنهما يعني شهادة أن لا إله إلا
الله. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو أسامة عن عوف قلت لمحمد
بن سيرين ما القلب السليم؟ قال يعلم أن الله حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن
الله يبعث من في القبور ، وقال الحسن : سليم من الشرك وقال عروة لا يكون لعانا.
وقوله تعالى : (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا
تَعْبُدُونَ) أنكر عليهم عبادة الأصنام والأنداد ولهذا قال عزوجل (أَإِفْكاً آلِهَةً
دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) قال قتادة يعني ما ظنكم أنه فاعل بكم إذا لقيتموه وقد
عبدتم معه غيره.
__________________
(فَنَظَرَ نَظْرَةً
فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقالَ إِنِّي
سَقِيمٌ (٨٩) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (٩٠) فَراغَ إِلى
آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٩١)
ما
لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (٩٢) فَراغَ عَلَيْهِمْ
ضَرْباً بِالْيَمِينِ (٩٣) فَأَقْبَلُوا
إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (٩٤) قالَ أَتَعْبُدُونَ
ما تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللهُ خَلَقَكُمْ
وَما تَعْمَلُونَ (٩٦) قالُوا ابْنُوا لَهُ
بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧) فَأَرادُوا بِهِ
كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ)
(٩٨)
إنما قال إبراهيم
عليه الصلاة والسلام لقومه ذلك ليقيم في البلد إذا ذهبوا إلى عيدهم فإنه كان قد
أزف خروجهم إلى عيد لهم فأحب أن يختلي بآلهتهم فيكسرها فقال لهم كلاما هو حق في
نفس الأمر فهموا منه أنه سقيم على مقتضى ما يعتقدونه (فَتَوَلَّوْا عَنْهُ
مُدْبِرِينَ) قال قتادة والعرب تقول لمن تفكر نظر في النجوم ، يعني
قتادة أنه نظر إلى السماء متفكرا فيما يلهيهم به فقال (إِنِّي سَقِيمٌ) أي ضعيف
فأما الحديث الذي
رواه ابن جرير هاهنا حدثنا أبو كريب حدثنا أبو أسامة حدثني هشام عن محمد
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «لم يكذب إبراهيم عليه الصلاة والسلام غير ثلاث
كذبات : ثنتين في ذات الله تعالى ، قوله (إِنِّي سَقِيمٌ) وقوله (بَلْ فَعَلَهُ
كَبِيرُهُمْ هذا) وقوله في سارة هي أختي» فهو حديث مخرج في الصحاح والسنن من طرق ولكن ليس هذا من
باب الكذب الحقيقي الذي يذم فاعله حاشا وكلا وإنما أطلق الكذب على هذا تجوزا وإنما
هو من المعاريض في الكلام لمقصد شرعي ديني كما جاء في الحديث «إن المعاريض لمندوحة
عن الكذب» وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا ابن أبي عمر حدثنا
سفيان عن علي بن زيد بن جدعان عن أبي نضرة عن أبي سعيد رضي الله عنه قال : قال
رسول الله صلىاللهعليهوسلم في كلمات إبراهيم عليه الصلاة والسلام الثلاث التي قال ما
منها كلمة إلا ما حل بها عن دين الله تعالى : (فَقالَ إِنِّي
سَقِيمٌ) وقال (بَلْ فَعَلَهُ
كَبِيرُهُمْ هذا) وقال للملك حين أراد امرأته هي أختي. قال سفيان في قوله (إِنِّي سَقِيمٌ) يعني طعين وكانوا يفرون من المطعون فأراد أن يخلو بآلهتهم
، وكذا قال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ
فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ) فقالوا له وهو في بيت آلهتهم : اخرج فقال إني مطعون فتركوه
مخافة الطاعون.
وقال قتادة عن
سعيد بن المسيب رأى نجما طلع فقال (إِنِّي سَقِيمٌ) كابد نبي الله عن دينه (فَقالَ إِنِّي
سَقِيمٌ) . وقال آخرون (فَقالَ إِنِّي
سَقِيمٌ) بالنسبة إلى ما يستقبل يعني مرض
__________________
الموت ، وقيل أراد
(إِنِّي سَقِيمٌ) أي مريض القلب من عبادتكم الأوثان من دون الله تعالى ،
وقال الحسن البصري : خرج قوم إبراهيم إلى عيدهم فأرادوه على الخروج فاضطجع على
ظهره وقال (إِنِّي سَقِيمٌ) وجعل ينظر في السماء فلما خرجوا أقبل إلى آلهتهم فكسرها.
رواه ابن أبي حاتم. ولهذا قال تعالى : (فَتَوَلَّوْا عَنْهُ
مُدْبِرِينَ) أي إلى عيدهم (فَراغَ إِلى
آلِهَتِهِمْ) أي ذهب إليها بعد أن خرجوا في سرعة واختفاء (فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ) وذلك أنهم كانوا قد وضعوا بين أيديها طعاما قربانا لتبارك
لهم فيه. قال السدي : دخل إبراهيم عليهالسلام إلى بيت الآلهة فإذا هم في بهو عظيم وإذا مستقبل باب البهو
صنم عظيم إلى جنبه أصغر منه بعضها إلى جنب بعض كل صنم يليه أصغر منه حتى بلغوا باب
البهو وإذا هم قد جعلوا طعاما وضعوه بين أيدي الآلهة وقالوا إذا كان حين نرجع وقد
باركت الآلهة في طعامنا أكلناه ، فلما نظر إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلى ما بين
أيديهم من الطعام قال (أَلا تَأْكُلُونَ ما
لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ).
وقوله تعالى : (فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ) قال الفراء معناه مال عليهم ضربا باليمين. وقال قتادة
والجوهري فأقبل عليهم ضربا باليمين. وإنما ضربهم باليمين لأنها أشد وأنكى ولهذا
تركهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون كما تقدم في سورة الأنبياء عليهم
الصلاة والسلام تفسير ذلك. وقوله تعالى هاهنا : (فَأَقْبَلُوا
إِلَيْهِ يَزِفُّونَ) قال مجاهد وغير واحد أي يسرعون ، وهذه القصة هاهنا مختصرة
وفي سورة الأنبياء مبسوطة فإنهم لما رجعوا ما عرفوا من أول وهلة من فعل ذلك حتى
كشفوا واستعلموا فعرفوا أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام هو الذي فعل ذلك. فلما
جاءوا ليعاتبوه أخذ في تأنيبهم وعيبهم فقال (أَتَعْبُدُونَ ما
تَنْحِتُونَ) أي أتعبدون من دون الله من الأصنام ما أنتم تنحتونها
وتجعلونها بأيديكم (وَاللهُ خَلَقَكُمْ
وَما تَعْمَلُونَ) يحتمل أن تكون ما مصدرية فيكون تقدير الكلام خلقكم وعملكم
ويحتمل أن تكون بمعنى الذي تقديره والله خلقكم والذي تعملونه وكلا القولين متلازم
، والأول أظهر لما رواه البخاري في كتاب أفعال العباد عن علي بن المديني عن مروان
بن معاوية عن أبي مالك عن ربعي بن خراش عن حذيفة مرفوعا قال : «إن الله تعالى يصنع
كل صانع وصنعته» وقرأ بعضهم (وَاللهُ خَلَقَكُمْ
وَما تَعْمَلُونَ) فعند ذلك لما قامت عليهم الحجة عدلوا إلى أخذه باليد
والقهر فقالوا (ابْنُوا لَهُ
بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ) وكان من أمرهم ما تقدم بيانه في سورة الأنبياء عليهم
الصلاة والسلام ونجاه الله من النار وأظهره عليهم وأعلى حجته ونصرها ولهذا قال
تعالى : (فَأَرادُوا بِهِ
كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ).
(وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ
إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (٩٩)
رَبِّ
هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠)
فَبَشَّرْناهُ
بِغُلامٍ حَلِيمٍ (١٠١) فَلَمَّا بَلَغَ
مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ
فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ
اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢) فَلَمَّا أَسْلَما
وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنادَيْناهُ أَنْ
يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ
الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ
نَجْزِي
الْمُحْسِنِينَ (١٠٥) إِنَّ هذا لَهُوَ
الْبَلاءُ الْمُبِينُ (١٠٦) وَفَدَيْناهُ
بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ
فِي الْآخِرِينَ)
(١٠٨) سَلامٌ
عَلى إِبْراهِيمَ (١٠٩) كَذلِكَ نَجْزِي
الْمُحْسِنِينَ (١١٠) إِنَّهُ مِنْ
عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١١١) وَبَشَّرْناهُ
بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٢) وَبارَكْنا عَلَيْهِ
وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ)
(١١٣)
يقول تعالى مخبرا
عن خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه بعد ما نصره الله تعالى على قومه وأيس
من إيمانهم بعد ما شاهدوا من الآيات العظيمة هاجر من بين أظهرهم وقال (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ
رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) يعني أولادا مطيعين عوضا من قومه وعشيرته الذين فارقهم ،
قال الله تعالى : (فَبَشَّرْناهُ
بِغُلامٍ حَلِيمٍ) وهذا الغلام هو إسماعيل عليهالسلام فإنه أول ولد بشر به إبراهيم عليهالسلام وهو أكبر من إسحاق باتفاق المسلمين وأهل الكتاب بل في نص
كتابهم أن إسماعيل عليهالسلام ولد ولإبراهيم عليهالسلام ست وثمانون سنة وولد إسحاق وعمر إبراهيم عليه الصلاة
والسلام تسع وتسعون سنة ، وعندهم أن الله تبارك وتعالى أمر إبراهيم أن يذبح ابنه
وحيده وفي نسخة أخرى بكره فأقحموا هاهنا كذبا وبهتانا إسحاق ولا يجوز هذا لأنه
مخالف لنص كتابهم وإنما أقحموا إسحاق لأنه أبوهم وإسماعيل أبو العرب فحسدوهم
فزادوا ذلك وحرفوا وحيدك بمعنى الذي ليس عندك غيره فإن إسماعيل كان ذهب به وبأمه
إلى جنب مكة وهذا تأويل وتحريف باطل فإنه لا يقال «وحيد» إلا لمن ليس له غيره ،
وأيضا فإن أول ولد له معزة ما ليس لمن بعده من الأولاد فالأمر بذبحه أبلغ في
الابتلاء والاختبار.
وقد ذهب جماعة من
أهل العلم إلى أن الذبيح هو إسحاق وحكي ذلك عن طائفة من السلف حتى نقل عن بعض
الصحابة أيضا وليس ذلك في كتاب ولا سنة وما أظن ذلك تلقى إلا عن أحبار أهل الكتاب
وأخذ ذلك مسلم من غير حجة وهذا كتاب الله شاهد ومرشد إلى أنه إسماعيل فإنه ذكر
البشارة بغلام حليم وذكر أنه الذبيح ثم قال بعد ذلك (وَبَشَّرْناهُ
بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) ولما بشرت الملائكة إبراهيم بإسحاق قالوا (إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) [الحجر: ٥٣].
وقال تعالى : (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ
إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) [هود : ٧١] أي
يولد له في حياتهما ولد يسمى يعقوب فيكون من ذريته عقب ونسل وقد قدمنا هناك أنه لا
يجوز بعد هذا أن يؤمر بذبحه وهو صغير لأن الله تعالى قد وعدهما بأنه سيعقب ويكون
له نسل فكيف يمكن بعد هذا أن يؤمر بذبحه صغيرا وإسماعيل وصف هاهنا بالحلم لأنه
مناسب لهذا المقام؟.
وقوله تعالى : (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ) أي كبر وترعرع وصار يذهب مع أبيه ويمشي معه وقد كان
إبراهيم عليه الصلاة والسلام يذهب في كل وقت يتفقد ولده وأم ولده ببلاد فاران
__________________
وينظر في أمرهما
وقد ذكر أنه كان يركب على البراق سريعا إلى هناك والله أعلم. وعن ابن عباس ومجاهد
وعكرمة وسعيد بن جبير وعطاء الخراساني وزيد بن أسلم وغيرهم (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ) بمعنى شب وارتحل وأطاق ما يفعله أبوه من السعي والعمل (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ
يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى) قال عبيد بن عمير
رؤيا الأنبياء وحي ثم تلا هذه الآية (قالَ يا بُنَيَّ
إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى).
وقد قال ابن أبي
حاتم حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد حدثنا أبو عبد الملك الكرندي حدثنا سفيان بن
عيينة عن إسرائيل بن يونس عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال
رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «رؤيا الأنبياء في المنام وحي» ليس هو في شيء من الكتب
الستة من هذا الوجه وإنما أعلم ابنه بذلك ليكون أهون عليه وليختبر صبره وجلده
وعزمه من صغره على طاعة الله تعالى وطاعة أبيه (قالَ يا أَبَتِ
افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) أي امض لما أمرك الله من ذبحي (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ
الصَّابِرِينَ) أي سأصبر وأحتسب ذلك عند الله عزوجل وصدق صلوات الله وسلامه عليه فيما وعد ولهذا قال الله
تعالى : (وَاذْكُرْ فِي
الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا
وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ
مَرْضِيًّا) [مريم : ٥٤ ـ ٥٥].
وقال تعالى : (فَلَمَّا أَسْلَما
وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) أي فلما تشهدا وذكرا الله تعالى إبراهيم على الذبح والولد
على شهادة الموت وقيل أسلما يعني استسلما وانقادا ، إبراهيم امتثل لأمر الله تعالى
وإسماعيل لطاعة الله وأبيه قاله مجاهد وعكرمة وقتادة والسدي وابن إسحاق وغيرهم
ومعنى (وَتَلَّهُ
لِلْجَبِينِ) أي صرعه على وجهه ليذبحه من قفاه ولا يشاهد وجهه عند ذبحه
ليكون أهون عليه. قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير والضحاك وقتادة (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) أكبّه على وجهه.
وقال الإمام أحمد حدثنا سريج ويونس قالا حدثنا حماد بن سلمة عن أبي عاصم
الغنوي عن أبي الطفيل عن ابن عباس أنه قال لما أمر إبراهيم عليه الصلاة والسلام
بالمناسك عرض له الشيطان عند السعي فسابقه فسبقه إبراهيم عليه الصلاة والسلام ثم
ذهب به جبريل عليه الصلاة والسلام إلى جمرة العقبة فعرض له الشيطان فرماه بسبع
حصيات حتى ذهب ثم عرض له عند الجمرة الوسطى فرماه بسبع حصيات وثم تله للجبين وعلى
إسماعيل عليه الصلاة والسلام قميص أبيض فقال له يا أبت إنه ليس لي ثوب تكفنني فيه
غيره فاخلعه حتى تكفنني فيه فعالجه ليخلعه فنودي من خلفه (أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ
الرُّؤْيا) فالتفت إبراهيم فإذا بكبش أبيض أقرن أعين قال ابن عباس لقد
رأيتنا نتّبع ذلك الضرب من الكباش ، وذكر تمام الحديث في المناسك بطوله.
__________________
ثم رواه أحمد
بطوله عن يونس عن حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي
الله عنهما فذكر نحوه إلا أنه قال إسحاق فعن ابن عباس رضي الله عنهما في تسمية
الذبيح روايتان والأظهر عنه إسماعيل لما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
وقال محمد بن
إسحاق عن الحسن بن دينار عن قتادة عن جعفر بن إياس عن ابن عباس رضي الله عنهما في
قوله تبارك وتعالى : (وَفَدَيْناهُ
بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) قال خرج عليه كبش من الجنة قد رعى قبل ذلك أربعين خريفا فأرسل إبراهيم عليه الصلاة والسلام
ابنه واتبع الكبش فأخرجه إلى الجمرة الأولى فرماه بسبع حصيات ثم أفلته عندها فجاء
إلى الجمرة الوسطى فأخرجه عندها فرماه بسبع حصيات ثم أفلته عندها فجاء إلى الجمة
الوسطى فأخرجه عندها فرماه بسبع حصيات ثم افلته فأدركه عند الجمرة الكبرى فرماه
بسبع حصيات فأخرجه عندها ثم أخذه فأتى به المنحر من منى فذبحه فو الذي نفس ابن
عباس بيده لقد كان أول الإسلام وأن رأس الكبش لمعلق بقرنيه في ميزاب الكعبة حتى
وحش يعني يبس .
وقال عبد الرزاق
أخبرنا معمر عن الزهري أخبرنا القاسم قال اجتمع أبو هريرة وكعب فجعل أبو هريرة رضي
الله عنه يحدث عن النبي صلىاللهعليهوسلم وجعل كعب يحدث عن الكتب فقال أبو هريرة رضي الله عنه قال
النبي صلىاللهعليهوسلم : «إن لكل نبي دعوة مستجابة وإني قد خبأت دعوتي شفاعة
لأمتي يوم القيامة» فقال له كعب أنت سمعت هذا من رسول الله صلىاللهعليهوسلم؟ قال نعم قال فداك أبي وأمي ـ أو فداه أبي وأمي ـ أفلا
أخبرك عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام؟ إنه لما أري ذبح ابنه إسحاق قال الشيطان إن
لم أفتن هؤلاء عند هذه لم أفتنهم أبدا فخرج إبراهيم عليه الصلاة والسلام بابنه
ليذبحه فذهب الشيطان فدخل على سارة فقال أين ذهب إبراهيم بابنك؟ قالت غدا به لبعض
حاجته قال فإنه لم يغد به لحاجة إنما ذهب به ليذبحه قالت ولم يذبحه؟ قال زعم أن
ربه أمره بذلك قالت فقد أحسن أن يطيع ربه فذهب الشيطان في أثرهما فقال للغلام أين
يذهب بك أبوك ، قال لبعض حاجته قال فإنه لا يذهب بك لحاجة ولكنه يذهب بك ليذبحك
قال ولم يذبحني؟ قال زعم أن ربه أمره بذلك قال فو الله لئن كان الله تعالى أمره
بذلك ليفعلن قال فيئس منه فتركه ولحق بإبراهيم عليه الصلاة والسلام فقال أين غدوت
بابنك ، قال لحاجة قال فإنك لم تغد به لحاجة وإنما غدوت به لتذبحه قال ولم أذبحه؟ قال
تزعم أن ربك أمرك
__________________
بذلك قال فو الله
لئن كان الله تعالى أمرني بذلك لأفعلن قال فتركه ويئس أن يطاع.
وقد رواه ابن جرير
عن يونس بن وهب عن يونس بن يزيد عن ابن شهاب قال إن عمرو بن أبي سفيان بن
أسيد بن جارية الثقفي أخبره أن كعبا قال لأبي هريرة فذكره بطوله وقال في آخره
وأوحى الله تعالى إلى إسحاق أني أعطيتك دعوة استجيب لك فيها قال إسحاق اللهم إني
أدعوك أن تستجيب لي أيما عبد لقيك من الأولين والآخرين لا يشرك بك شيئا فأدخله
الجنة.
وقال ابن أبي حاتم
حدثنا أبي حدثنا محمد بن الوزير الدمشقي حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا عبد الرحمن بن
زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة قال : قال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم «إن الله تبارك
وتعالى خيرني بين أن يغفر لنصف أمتي وبين أن يجيب شفاعتي فاخترت شفاعتي ورجوت أن
تكون أعلم لأمتي ولولا الذي سبقني إليه العبد الصالح لتعجلت فيها دعوتي إن الله
تعالى لما فرج عن إسحاق كرب الذبح قيل له يا إسحاق سل تعط فقال أما والذي نفسي
بيده لأتعجلنها قبل نزغات الشيطان ، اللهم من مات لا يشرك بك شيئا فاغفر له وأدخله
الجنة» هذا حديث غريب منكر وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف الحديث وأخشى أن يكون
في الحديث زيادة مدرجة وهي قوله إن الله تعالى لما فرج عن إسحاق إلى آخره والله
أعلم فهذا إن كان محفوظا فالأشبه أن السياق إنما هو عن إسماعيل وإنما حرفوه بإسحاق
حسدا منهم كما تقدم وإلا فالمناسك والذبائح إنما محلها بمنى من أرض مكة حيث كان
إسماعيل لا إسحاق فإنه إنما كان ببلاد كنعان من أرض الشام.
وقوله تعالى : (وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ
صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) أي قد حصل المقصود من رؤياك واضجاعك ولدك للذبح وذكر السدي
وغيره أنه أمرّ السكين على رقبته فلم تقطع شيئا بل حال بينها وبينه صفحة من نحاس
ونودي إبراهيم عليه الصلاة والسلام عند ذلك (قَدْ صَدَّقْتَ
الرُّؤْيا). وقوله تعالى : (إِنَّا كَذلِكَ
نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي هكذا نصرف عمن أطاعنا المكاره والشدائد ونجعل لهم من
أمرهم فرجا ومخرجا كقوله تعالى : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ
يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ
يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ
اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) [الطلاق : ٢ ـ ٣]
وقد استدل بهذه الآية والقصة جماعة من علماء الأصول على صحة النسخ قبل التمكن من
الفعل خلافا لطائفة من المعتزلة والدلالة من هذه ظاهرة لأن الله تعالى شرع
لإبراهيم عليه الصلاة والسلام ذبح ولده ثم نسخه عنه وصرفه إلى الفداء وإنما كان
المقصود من شرعه أولا إثابة الخليل على الصبر على ذبح ولده وعزمه على ذلك ولهذا
قال تعالى : (إِنَّ هذا لَهُوَ
الْبَلاءُ الْمُبِينُ) أي الاختبار الواضح الجلي حيث أمر بذبح ولده فسارع إلى
__________________
ذلك مستسلما لأمر
الله تعالى منقادا لطاعته ولهذا قال تعالى : (وَإِبْراهِيمَ
الَّذِي وَفَّى) [النجم: ٣٧].
وقوله تعالى : (وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) قال سفيان الثوري عن جابر الجعفي عن أبي الطفيل عن علي رضي
الله عنه (وَفَدَيْناهُ
بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) قال بكبش أبيض أعين أقرن قد ربط بسمرة قال أبو الطفيل :
وجدوه مربوطا بسمرة في ثبير ، وقال الثوري أيضا عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن سعيد
بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كبش قد رعى في الجنة أربعين خريفا. وقال
ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا يوسف بن يعقوب الصفار حدثنا داود العطار عن ابن خثيم
عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال الصخرة التي بمنى بأصل ثبير هي
الصخرة التي ذبح عليها إبراهيم فداء إسحاق ابنه هبط عليه من ثبير كبش أعين أقرن له
ثغاء فذبحه وهو الكبش الذي قربه ابن آدم فتقبل منه فكان مخزونا حتى فدي به إسحاق
وروي أيضا عن سعيد بن جبير أنه قال كان الكبش يرتع في الجنة حتى فدي به إسحاق ،
وروي أيضا عن سعيد بن جبير أنه قال كان الكبش يرتع في الجنة حتى شقق عنه ثبير وكان
عليه عهن أحمر ، وعن الحسن البصري أنه قال كان اسم كبش إبراهيم عليه الصلاة
والسلام جرير وقال ابن جريج قال عبيد بن عمير ذبحه بالمقام وقال مجاهد ذبحه بمنى
عند المنحر. وقال هشيم عن سيار عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما كان أفتى الذي
جعل عليه نذرا أن ينحر نفسه فأمره بمائة من الإبل. ثم قال بعد ذلك لو كنت أفتيته
بكبش لأجزأه أن يذبح كبشا فإن الله تعالى قال في كتابه : (وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ).
والصحيح الذي عليه
الأكثرون أنه فدي بكبش. وقال الثوري عن رجل عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله تعالى
: (وَفَدَيْناهُ
بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) قال وعل وقال محمد بن إسحاق عن عمرو بن عبيد عن الحسن أنه كان يقول
ما فدي إسماعيل عليهالسلام إلا بتيس من الأروي أهبط عليه من ثبير.
وقد قال الإمام
أحمد حدثنا سفيان حدثني منصور عن خاله مسافع عن صفية بنت شيبة قالت : أخبرتني
امرأة من بني سليم ولدت عامة أهل دارنا أرسل رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى عثمان بن طلحة رضي الله عنه ، وقالت مرة أنها سألت
عثمان لم دعاك النبي صلىاللهعليهوسلم؟ قال : قال لي رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إني كنت رأيت قرني الكبش حين دخلت البيت فنسيت أن آمرك
أن تخمر هما فخمرهما فإنه لا ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل المصلي» قال سفيان
لم يزل قرنا الكبش
__________________
معلقين في البيت حتى
احترق البيت فاحترقا وهذا دليل مستقل على أنه إسماعيل عليه الصلاة والسلام فإن
قريشا توارثوا قرني الكبش الذي فدى به إبراهيم خلفا عن سلف وجيلا بعد جيل إلى أن
بعث الله رسوله صلىاللهعليهوسلم.
[فصل] في ذكر الآثار الواردة عن السلف في أن الذبيح من هو
[ذكر من قال هو
إسحاق عليه الصلاة والسلام] قال حمزة الزيات عن أبي ميسرةرحمهالله قال : قال يوسف عليه الصلاة والسلام للملك في وجهه ترغب أن
تأكل معي وأنا والله يوسف بن يعقوب نبي الله ابن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل
الله ، وقال الثوري عن أبي سنان عن ابن أبي الهذيل أن يوسف عليهالسلام قال للملك كذلك أيضا وقال سفيان الثوري عن زيد بن أسلم عن
عبد الله بن عبيد بن عمير عن أبيه قال : قال موسى عليه الصلاة والسلام يا رب
يقولون يا إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب فبم قالوا ذلك؟ قال : «إن إبراهيم لم يعدل بي
شيء قط إلا اختارني عليه ، وإن إسحاق جاد لي بالذبح وهو بغير ذلك أجود ، وإن يعقوب
كلما زدته بلاء زادني حسن ظن».
وقال شعبة عن أبي
إسحاق عن أبي الأحوص قال افتخر رجل عند ابن مسعود رضي الله عنه فقال : أنا فلان بن
فلان ابن الأشياخ الكرام ، فقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ذاك يوسف بن يعقوب
بن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله. وهذا صحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه ،
وكذا روى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه إسحاق ، وعن أبيه العباس وعن علي
بن أبي طالب مثل ذلك ، وكذا قال عكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد والشعبي وعبيد بن عمير
وأبو ميسرة وزيد بن أسلم وعبد الله بن شقيق والزهري والقاسم بن أبي بزة ومكحول
وعثمان بن حاضر والسدي والحسن وقتادة وأبو الهذيل وابن سابط وهذا اختيار ابن جرير
، وتقدم روايته عن كعب الأحبار أنه إسحاق ، وهكذا روى ابن إسحاق عن عبد الله بن
أبي بكر عن الزهري عن أبي سفيان بن العلاء بن حارثة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن
كعب الأحبار أنه قال هو إسحاق.
وهذه الأقوال
والله أعلم كلها مأخوذة عن كعب الأحبار فإنه لما أسلم في الدولة العمرية جعل يحدث
عمر رضي الله عنه عن كتبه قديما فربما استمع له عمر رضي الله عنه فترخص الناس في
استماع ما عنده ونقلوا ما عنده عنه غثها وسمينها وليس لهذه الأمة والله أعلم حاجة
إلى حرف واحد مما عنده وقد حكى البغوي هذا القول بأنه إسحاق عن عمر وعلي وابن
مسعود
__________________
والعباس رضي الله
عنهم ومن التابعين عن كعب الأحبار وسعيد بن جبير وقتادة ومسروق وعكرمة وعطاء
ومقاتل والزهري والسدي قال وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس رضي الله عنهما وقد ورد
في ذلك حديث لو ثبت لقلنا به على الرأس والعين ولكن لم يصح سنده. قال ابن جرير :
حدثنا أبو كريب حدثنا زيد بن حباب عن الحسن بن دينار عن علي بن زيد بن جدعان عن
الحسن عن الأحنف بن قيس عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه عن النبي صلىاللهعليهوسلم في حديث ذكره قال هو إسحاق ففي إسناده ضعيفان وهما الحسن
بن دينار البصري متروك وعلي بن زيد بن جدعان منكر الحديث. وقد رواه ابن أبي حاتم
عن أبيه عن مسلم بن إبراهيم عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان به مرفوعا ،
ثم قال قد رواه مبارك بن فضالة عن الحسن عن الأحنف عن العباس رضي الله عنه قوله
وهذا أشبه وأصح.
[ذكر الآثار الواردة بأنه إسماعيل عليه الصلاة والسلام وهو الصحيح المقطوع به]
قد تقدمت الرواية
عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه إسحاق عليه الصلاة والسلام والله تعالى أعلم وقال
سعيد بن جبير وعامر الشعبي ويوسف بن مهران ومجاهد وعطاء وغير واحد عن ابن عباس رضي
الله عنهما هو إسماعيل عليه الصلاة والسلام وقال ابن جرير حدثني يونس أخبرنا ابن وهب أخبرني عمرو بن قيس عن عطاء بن
أبي رباح عن ابن عباس أنه قال المفدي إسماعيل عليهالسلام وزعمت اليهود أنه إسحاق وكذبت اليهود ، وقال إسرائيل عن
ثور عن مجاهد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال الذبيح إسماعيل وقال ابن أبي نجيح عن
مجاهد هو إسماعيل عليهالسلام وكذا قال يوسف بن مهران وقال الشعبي هو إسماعيل عليه
الصلاة والسلام وقد رأيت قرني الكبش في الكعبة.
وقال محمد بن
إسحاق عن الحسن بن دينار وعمرو بن عبيد عن الحسن البصري أنه كان لا يشك في ذلك أن
الذي أمر بذبحه من ابني إبراهيم إسماعيل عليهالسلام قال ابن إسحاق وسمعت محمد بن كعب القرظي وهو يقول إن الذي
أمر الله تعالى إبراهيم بذبحه من ابنيه إسماعيل وإنا لنجد ذلك في كتاب الله تعالى
وذلك أن الله تعالى حين فرغ من قصة المذبوح من ابني إبراهيم قال الله تعالى : (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ
الصَّالِحِينَ) ويقول الله تعالى : (فَبَشَّرْناها
بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) يقول بابن وابن ابن فلم يكن ليأمره بذبح إسحاق وله فيه
الموعد بما وعده وما الذي أمر بذبحه إلا إسماعيل قال ابن إسحاق سمعته يقول ذلك
كثيرا ، وقال ابن إسحاق عن بريدة بن سفيان بن فروة الأسلمي عن محمد بن كعب القرظي
أنه حدثهم أنه ذكر ذلك لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وهو خليفة إذ كان معه
بالشام فقال له عمر إن هذا لشيء ما كنت أنظر فيه ، وإني لأراه كما قلت ثم أرسل إلى
رجل كان عنده بالشام
__________________
كان يهوديا فأسلم
وحسن إسلامه وكان يرى أنه من علمائهم فسأله عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه عن ذلك
قال محمد بن كعب وأنا عند عمر بن عبد العزيز فقال له عمر أي ابني إبراهيم أمر
بذبحه فقال إسماعيل والله يا أمير المؤمنين وإن يهود لتعلم بذلك ولكنهم يحسدونكم
معشر العرب على أن يكون أباكم الذي كان من أمر الله فيه والفضل الذي ذكر الله
تعالى منه لصبره لما أمر به فهم يجحدون ذلك ويزعمون أنه إسحاق لكون إسحاق أباهم
والله أعلم أيهما كان وكل قد كان طاهرا طيبا مطيعا لله عزوجل.
وقال عبد الله ابن
الإمام أحمد بن حنبل رحمهالله سألت أبي عن الذبيح هل هو إسماعيل أو إسحاق فقال إسماعيل
ذكره في كتاب الزهد. وقال ابن أبي حاتم وسمعت أبي يقول الصحيح أن الذبيح إسماعيل
عليه الصلاة والسلام قال وروي عن علي وابن عمر وأبي هريرة وأبي الطفيل وسعيد بن
المسيب وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد والشعبي ومحمد بن كعب القرظي وأبي جعفر محمد
بن علي وأبي صالح رضي الله عنهم أنهم قالوا الذبيح إسماعيل. وقال البغوي في تفسيره
وإليه ذهب عبد الله بن عمر وسعيد بن المسيب والسدي والحسن البصري ومجاهد والربيع
بن أنس ومحمد بن كعب القرظي والكلبي وهو رواية عن ابن عباس وحكاه أيضا عن أبي عمرو
بن العلاء.
وقد روى ابن جرير في ذلك حديثا غريبا فقال حدثني محمد بن عمار الرازي حدثنا
إسماعيل بن عبيد بن أبي كريمة حدثنا عمر بن عبد الرحيم الخطابي عن عبيد الله بن
محمد العتبي من ولد عتبة بن أبي سفيان عن أبيه حدثني عبد الله بن سعيد عن الصنابحي
قال كنا عند معاوية بن أبي سفيان فذكروا الذبيح إسماعيل أو إسحاق فقال على الخبير
سقطتم : كنا عند رسول اللهصلىاللهعليهوسلم فجاءه رجل فقال : يا رسول الله عد علي مما أفاء الله عليك
يا ابن الذبيحين فضحك رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقيل له يا أمير المؤمنين وما الذبيحان؟ فقال إن عبد
المطلب لما أمر بحفر زمزم نذر الله إن سهل الله له أمرها عليه ليذبحن أحد ولده قال
فخرج السهم على عبد الله فمنعه أخواله وقالوا افد ابنك بمائة من الإبل ففداه بمائة
من الإبل والثاني إسماعيل .
وهذا حديث غريب
جدا وقد رواه الأموي في مغازيه حدثنا بعض أصحابنا أخبرنا إسماعيل بن عبيد بن أبي
كريمة حدثنا عمر بن عبد الرحمن القرشي حدثنا عبيد الله بن محمد العتبي من ولد عتبة
بن أبي سفيان حدثنا عبد الله بن سعيد حدثنا الصنابحي قال حضرنا مجلس معاوية رضي
الله عنه فتذاكر القوم إسماعيل وإسحاق وذكره ، كذا كتبته من نسخة مغلوطة وإنما عول
ابن جرير في اختياره أن الذبيح إسحاق على قوله تعالى : (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ) فجعل
__________________
هذه البشارة هي
البشارة بإسحاق في قوله تعالى : (وَبَشَّرُوهُ
بِغُلامٍ عَلِيمٍ) وأجاب عن البشارة بيعقوب بأنه قد كان بلغ معه السعي أي
العمل ، ومن الممكن أنه قد كان ولد له أولاد مع يعقوب أيضا قال وأما القرنان
اللذان كانا معلقين بالكعبة فمن الجائز أنهما نقلا من بلاد الشام قال وقد تقدم أن
من الناس من ذهب إلى أنه ذبح إسحاق هناك هذا ما اعتمد عليه في تفسيره وليس ما ذهب
إليه بمذهب ولا لازم بل هو بعيد جدا والذي استدل به محمد بن كعب القرظي على أنه
إسماعيل أثبت وأصح وأقوى والله أعلم.
وقوله تعالى : (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ
الصَّالِحِينَ) لما تقدمت البشارة بالذبيح وهو إسماعيل عطف بذكر البشارة
بأخيه إسحاق وقد ذكرت في سورتي هود والحجر ، وقوله تعالى : (نَبِيًّا) حال مقدرة أي سيصير منه نبي صالح.
وقال ابن جرير حدثني يعقوب حدثنا ابن علية عن داود عن عكرمة قال : قال
ابن عباس رضي الله عنهما الذبيح إسحاق قال وقوله تعالى : (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ
الصَّالِحِينَ) قال بشر بنبوته قال وقوله تعالى : (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ
هارُونَ نَبِيًّا) [مريم : ٥٣] قال
كان هارون أكبر من موسى ولكن أراد وهب له نبوته. وحدثنا ابن عبد الأعلى حدثنا
المعتمر بن سليمان قال سمعت داود يحدث عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه
الآية (وَبَشَّرْناهُ
بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) قال إنما بشر به نبيا حين فداه الله عزوجل من الذبح ولم تكن البشارة بالنبوة عند مولده. وقال ابن أبي
حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان الثوري عن داود عن عكرمة عن ابن عباس (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ
الصَّالِحِينَ) قال بشر به حين ولد وحين نبىء وقال سعيد بن أبي عروبة عن
قتادة في قوله تعالى : (وَبَشَّرْناهُ
بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ)؟؟ ما كان من أمره لما جاد لله تعالى بنفسه وقال الله عزوجل (وَبارَكْنا عَلَيْهِ
وَعَلى إِسْحاقَ) وقوله تعالى : (وَبارَكْنا عَلَيْهِ
وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ) كقوله تعالى : (قِيلَ يا نُوحُ
اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ
وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) [هود : ٤٨].
(وَلَقَدْ مَنَنَّا
عَلى مُوسى وَهارُونَ (١١٤) وَنَجَّيْناهُما
وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (١١٥) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا
هُمُ الْغالِبِينَ (١١٦) وَآتَيْناهُمَا
الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (١١٧)
وَهَدَيْناهُمَا
الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (١١٨)
وَتَرَكْنا
عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (١١٩) سَلامٌ عَلى مُوسى
وَهارُونَ (١٢٠) إِنَّا كَذلِكَ
نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٢١) إِنَّهُما مِنْ
عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ)
(١٢٢)
__________________
يذكر تعالى ما
أنعم به على موسى وهارون من النبوة والنجاة بمن آمن معهما من قهر فرعون وقومه وما
كان يعتمد في حقهم من الإساءة العظيمة من قتل الأبناء واستحياء النساء واستعمالهم
في أخس الأشياء ثم بعد هذا كله نصرهم عليهم وأقر أعينهم منهم فغلبوهم وأخذوا أرضهم
وأموالهم وما كانوا جمعوه طول حياتهم ثم أنزل الله عزوجل على موسى الكتاب العظيم الواضح الجلي المستبين وهو التوراة
كما قال تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا
مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً) [الأنبياء : ٤٨] وقال عزوجل هاهنا : (وَآتَيْناهُمَا
الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) أي في الأقوال والأفعال (وَتَرَكْنا
عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ) أي أبقينا لهما من بعدهما ذكرا جميلا وثناء حسنا ثم فسره
بقوله تعالى : (سَلامٌ عَلى مُوسى
وَهارُونَ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا
الْمُؤْمِنِينَ).
(وَإِنَّ إِلْياسَ
لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ
أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) أَتَدْعُونَ بَعْلاً
وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (١٢٥) اللهَ رَبَّكُمْ
وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (١٢٦) فَكَذَّبُوهُ
فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٢٧) إِلاَّ عِبادَ اللهِ
الْمُخْلَصِينَ (١٢٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ
فِي الْآخِرِينَ (١٢٩) سَلامٌ عَلى إِلْ
ياسِينَ (١٣٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ
(١٣١) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ)
(١٣٢)
قال قتادة ومحمد
بن إسحاق يقال إلياس هو إدريس ، وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو نعيم حدثنا
إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبيدة بن ربيعة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال :
إلياس هو إدريس ، وكذا قال الضحاك وقال وهب بن منبه هو إلياس بن ياسين بن فنحاص بن
العيزار بن هارون بن عمران بعثه الله تعالى في بني إسرائيل بعد حزقيل عليهماالسلام وكانوا قد عبدوا صنما يقال له بعل فدعاهم إلى الله تعالى
ونهاهم عن عبادة ما سواه ، وكان قد آمن به ملكهم ثم ارتد واستمروا على ضلالتهم ولم
يؤمن به منهم أحد فدعا الله عليهم فحبس عنهم القطر ثلاث سنين ثم سألوه أن يكشف ذلك
عنهم ووعدوه الإيمان به إن هم أصابهم المطر ، فدعا الله تعالى لهم فجاءهم الغيث
فاستمروا على أخبث ما كانوا عليه من الكفر فسأل الله أن يقبضه إليه ، وكان قد نشأ
على يديه اليسع بن أخطوب عليهما الصلاة والسلام فأمر إلياس أن يذهب إلى مكان كذا
وكذا فمهما جاءه فليركبه ولا يهبه فجاءته فرس من نار فركب وألبسه الله تعالى النور
وكساه الريش وكان يطير مع الملائكة ملكا إنسيا سماويا أرضيا هكذا حكاه وهب بن منبه
عن أهل الكتاب والله أعلم بصحته .
(إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ
أَلا تَتَّقُونَ) أي ألا تخافون الله عزوجل في عبادتكم غيره (أَتَدْعُونَ بَعْلاً
وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ) قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وعكرمة وقتادة والسدي
بعلا يعني ربا. قال عكرمة وقتادة وهي لغة أهل اليمن ، وفي رواية عن قتادة قال :
وهي لغة أزد
__________________
شنوءة. وقال ابن
إسحاق أخبرني بعض أهل العلم أنهم كانوا يعبدون امرأة اسمها بعل : وقال عبد الرحمن
بن زيد بن أسلم عن أبيه هو اسم صنم كان يعبده أهل مدينة يقال لها بعلبك غربي دمشق
، وقال الضحاك هو صنم كانوا يعبدونه. وقوله تعالى : (أَتَدْعُونَ بَعْلاً) أي أتعبدون صنما (وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ
الْخالِقِينَ اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) أي هو المستحق للعبادة وحده لا شريك له ، قال الله تعالى :
(فَكَذَّبُوهُ
فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) أي للعذاب يوم الحساب (إِلَّا عِبادَ اللهِ
الْمُخْلَصِينَ) أي الموحدين منهم وهذا استثناء منقطع من مثبت. وقوله تعالى
: (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ
فِي الْآخِرِينَ) أي ثناء جميلا (سَلامٌ عَلى إِلْ
ياسِينَ) كما يقال في إسماعيل إسماعين وهي لغة بني أسد ، وأنشد بعض
بني نمير في ضب صاده : [رجز]
يقول رب السوق
لما جينا
|
|
هذا وربّ البيت
إسرائينا
|
ويقال ميكال
وميكائيل وإبراهيم وإبراهام وإسرائيل وإسرائين وطور سيناء وطور سينين وهو موضع
واحد وكل هذا سائغ وقرأ آخرون «سلام على إدراسين» وهي قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، وقرأ آخرون «سلام
على آل ياسين» يعني آل محمد صلىاللهعليهوسلم ، وقوله تعالى : (إِنَّا كَذلِكَ
نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) قد تقدم تفسيره ، والله أعلم.
(وَإِنَّ لُوطاً
لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٣) إِذْ نَجَّيْناهُ
وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٣٤)
إِلاَّ
عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٣٥) ثُمَّ دَمَّرْنَا
الْآخَرِينَ (١٣٦) وَإِنَّكُمْ
لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا
تَعْقِلُونَ)
(١٣٨)
يخبر تعالى عن
عبده ورسوله لوط عليهالسلام أنه بعثه إلى قومه فكذبوه فنجاه الله تعالى من بين أظهرهم
هو وأهله إلا امرأته فإنها هلكت مع من هلك من قومها فإن الله تعالى أهلكهم بأنواع
من العقوبات وجعل محلتهم من الأرض بحيرة منتنة قبيحة المنظر والطعم والريح وجعلها
بسبيل مقيم يمر بها المسافرون ليلا ونهارا ولهذا قال تعالى : (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ
مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي أفلا تعتبرون بهم كيف دمر الله عليهم وتعلمون أن
للكافرين أمثالها.
__________________
(وَإِنَّ يُونُسَ
لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩) إِذْ أَبَقَ إِلَى
الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١٤٠) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ
الْمُدْحَضِينَ (١٤١) فَالْتَقَمَهُ
الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (١٤٢) فَلَوْ لا أَنَّهُ
كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣)
لَلَبِثَ
فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤٤) فَنَبَذْناهُ
بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (١٤٥)
وَأَنْبَتْنا
عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (١٤٦)
وَأَرْسَلْناهُ
إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧) فَآمَنُوا
فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ)
(١٤٨)
قد تقدمت قصة يونس
عليه الصلاة والسلام في سورة الأنبياء ، وفي الصحيحين عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «ما ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى»
ونسبه إلى أمه وفي رواية إلى أبيه. وقوله تعالى : (إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ
الْمَشْحُونِ) قال ابن عباس رضي الله عنهما هو الموقر أي المملوء
بالأمتعة.
(فَساهَمَ) أي قارع (فَكانَ مِنَ
الْمُدْحَضِينَ) أي المغلوبين ، وذلك أن السفينة تلعبت بها الأمواج من كل
جانب وأشرفوا على الغرق فساهموا على من تقع عليه القرعة يلقى في البحر لتخف بهم
السفينة فوقعت القرعة على نبي الله يونس عليه الصلاة والسلام ثلاث مرات وهم يضنون
به أن يلقى من بينهم فتجرد من ثيابه ليلقي نفسه وهم يأبون عليه ذلك ، وأمر الله
تعالى حوتا من البحر الأخضر أن يشق البحار وأن يلتقم يونس عليهالسلام فلا يهشم له لحما ولا يكسر له عظما فجاء ذلك الحوت وألقى
يونس عليهالسلام نفسه فالتقمه الحوت وذهب به فطاف به البحار كلها. ولما
استقر يونس في بطن الحوت حسب أنه قد مات ثم حرك رأسه ورجليه وأطرافه فإذا هو حي
فقام يصلي في بطن الحوت ، وكان من جملة دعائه يا رب اتخذت لك مسجدا في موضع لم
يبلغه أحد من الناس ، واختلفوا في مقدار ما لبث في بطن الحوت فقيل ثلاثة أيام قاله
قتادة. وقيل سبعة قاله جعفر الصادق رضي الله عنه ، وقيل أربعين يوما قاله أبو
مالك. وقال مجاهد عن الشعبي: التقمه ضحى ولفظه عشية ، والله تعالى أعلم بمقدار ذلك
، وفي شعر أمية بن أبي الصلت: [الطويل]
وأنت بفضل منك
نجيت يونسا
|
|
وقد بات في
أضعاف حوت لياليا
|
وقوله تعالى : (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ
لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) قيل لولا ما تقدم له من العمل في الرخاء قاله الضحاك بن
قيس وأبو العالية ووهب بن منبه وقتادة وغير واحد ، واختاره ابن جرير ، وقد ورد في
الحديث الذي سنورده إن شاء الله تعالى ما يدل على ذلك إن صح الخبر ، وفي حديث ابن
عباس «تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة». وقال
__________________
ابن عباس رضي الله
عنهما وسعيد بن جبير والضحاك وعطاء بن السائب والسدي والحسن وقتادة (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ
الْمُسَبِّحِينَ) يعني المصلين ، وصرح بعضهم بأنه كان من المصلين قبل ذلك ،
وقال بعضهم كان من المسبحين في جوف أبويه ، وقيل المراد (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ
الْمُسَبِّحِينَ) هو قوله عزوجل (فَنادى فِي
الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ
الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي
الْمُؤْمِنِينَ) [الأنبياء : ٨٨]
قاله سعيد بن جبير وغيره.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبو عبيد الله ابن أخي بن وهب حدثنا عمي حدثنا أبو صخر أن يزيد الرقاشي
حدثه أنه سمع أنس بن مالك رضي الله عنه ـ ولا أعلم إلا أن أنسا يرفع الحديث إلى
رسول الله صلىاللهعليهوسلم «إن يونس النبي
عليه الصلاة والسلام حين بدا له أن يدعو بهذه الكلمات وهو في بطن الحوت فقال :
اللهم لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ، فأقبلت الدعوة تحف بالعرش ،
قالت الملائكة يا رب هذا صوت ضعيف معروف من بلاد بعيدة غريبة فقال الله تعالى أما
تعرفون ذلك؟ قالوا يا رب ومن هو؟ قال عزوجل عبدي يونس قالوا عبدك يونس الذي لم يزل يرفع له عمل متقبل
ودعوة مستجابة قالوا يا رب أولا ترحم ما كان يصنع في الرخاء فتنجيه في البلاء ،
قال بلى فأمر الحوت فطرحه بالعراء» .
ورواه ابن جرير عن يونس عن ابن وهب به ، زاد ابن أبي حاتم قال أبو صخر
حميد بن زياد فأخبرني ابن قسيط وأنا أحدثه هذا الحديث أنه سمع أبا هريرة رضي الله
عنه يقول : طرح بالعراء وأنبت الله عزوجل عليه اليقطينة قلنا : يا أبا هريرة وما اليقطينة ، قال
شجرة الدباء. قال أبو هريرة رضي الله عنه : وهيأ الله له أرويّة وحشية تأكل من خشاش الأرض أو قال : هشاش الأرض ـ قال فتنفسخ عليه فترويه من لبنها كل عشية وبكرة حتى نبت وقال أمية بن
أبي الصلت في ذلك بيتا من شعره وهو : [الطويل]
فأنبت يقطينا
عليه برحمة
|
|
من الله لولا
الله ألقي ضاحيا
|
وقد تقدم حديث أبي
هريرة رضي الله عنه مسندا مرفوعا في تفسير سورة الأنبياء ، ولهذا قال تعالى : (فَنَبَذْناهُ) أي ألقيناه (بِالْعَراءِ) قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره وهي الأرض التي ليس بها
نبت ولا بناء قيل على جانب دجلة وقيل بأرض اليمن فالله أعلم.
__________________
(وَهُوَ سَقِيمٌ) أي ضعيف البدن ، قال ابن مسعود رضي الله عنه كهيئة الفرخ
ليس عليه ريش ، وقال السدي كهيئة الصبي حين يولد وهو المنفوس وقاله ابن عباس رضي
الله عنهما وابن زيد أيضا (وَأَنْبَتْنا
عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ) قال ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم ومجاهد وعكرمة
وسعيد بن جبير ووهب بن منبه وهلال بن يساف وعبد الله بن طاوس والسدي وقتادة
والضحاك وعطاء الخراساني وغير واحد قالوا كلهم : اليقطين هو القرع. وقال هشيم عن
القاسم بن أبي أيوب عن سعيد بن جبير كل شجرة لا ساق لها فهي من اليقطين وفي رواية
عنه كل شجرة تهلك من عامها فهي من اليقطين ، وذكر بعضهم في القرع فوائد منها سرعة نباته وتظليل ورقه
لكبره ونعومته وأنه لا يقربها الذباب وجودة تغذية ثمره ، وأنه يؤكل نيئا ومطبوخا
بلبه وقشره أيضا وقد ثبت أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان يحب الدباء ويتتبعه من نواحي الصحفة .
وقوله تعالى : (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ
أَوْ يَزِيدُونَ) روى شهر بن حوشب عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال :
إنما كانت رسالة يونس عليه الصلاة والسلام بعد ما نبذه الحوت ، رواه ابن جرير حدثني الحارث حدثنا أبو هلال عن شهر به ، وقال ابن أبي
نجيح عن مجاهد أرسل إليهم قبل أن يلتقمه الحوت.
(قلت) : ولا مانع
أن يكون الذين أرسل إليهم أولا أمر بالعود إليهم بعد خروجه من الحوت فصدقوه كلهم
وآمنوا به ، وحكى البغوي أنه أرسل إلى أمة أخرى بعد خروجه من الحوت كانوا مائة ألف
أو يزيدون وقوله تعالى : (أَوْ يَزِيدُونَ) قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عنه : بل يزيدون
وكانوا مائة وثلاثين ألفا وعنه مائة ألف وبضعة وثلاثين ألفا وعنه مائة ألف وبضعة
وأربعين ألفا والله أعلم ، وقال سعيد بن جبير يزيدون سبعين ألفا.
وقال مكحول كانوا
مائة ألف وعشرة آلاف رواه ابن أبي حاتم وقال ابن جرير حدثنا محمد بن عبد الرحيم البرقي حدثنا عمرو بن أبي سلمة
قال سمعت زهيرا يحدث عمن سمع أبا العالية يقول حدثني أبي بن كعب رضي الله عنه أنه
سأل رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن قوله تعالى : (وَأَرْسَلْناهُ إِلى
مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) قال يزيدون عشرين ألفا.
ورواه الترمذي عن
علي بن حجر عن الوليد بن مسلم عن زهير عن رجل عن أبي العالية عن أبي بن كعب به
وقال غريب. ورواه ابن أبي حاتم من حديث زهير به. قال ابن جرير : وكان
__________________
بعض أهل العربية
من أهل البصرة يقول في ذلك معناه إلى المائة الألف أو كانوا يزيدون عندكم ، يقول
كذلك كانوا عندكم ولهذا سلك ابن جرير هاهنا ما سلكه عند قوله تعالى : (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ
ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) [البقرة : ٧٤]
وقوله تعالى : (إِذا فَرِيقٌ
مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً) [النساء : ٧٧]
وقوله تعالى : (فَكانَ قابَ
قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) [النجم : ٩]
المراد ليس أنقص من ذلك بل أزيد وقوله تعالى : (فَآمَنُوا) أي فآمن هؤلاء القوم الذين أرسل إليهم يونس عليهالسلام جميعهم (فَمَتَّعْناهُمْ إِلى
حِينٍ) أي إلى وقت آجالهم كقوله جلت عظمته (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ
فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ
عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) [يونس : ٩٨].
(فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ
الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (١٤٩)
أَمْ
خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ(١٥٠)
أَلا
إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ
(١٥١) وَلَدَ
اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٥٢)
أَصْطَفَى
الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (١٥٣)
ما
لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (١٥٤) أَفَلا تَذَكَّرُونَ
(١٥٥) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (١٥٦) فَأْتُوا
بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٥٧)
وَجَعَلُوا
بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ
لَمُحْضَرُونَ (١٥٨) سُبْحانَ اللهِ
عَمَّا يَصِفُونَ (١٥٩) إِلاَّ عِبادَ اللهِ
الْمُخْلَصِينَ)
(١٦٠)
يقول تعالى منكرا
على هؤلاء المشركين في جعلهم لله تعالى البنات سبحانه ولهم ما يشتهون أي من الذكور
أي يودون لأنفسهم الجيد (وَإِذا بُشِّرَ
أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ) [النحل : ٥٨] أي
يسوؤه ذلك ولا يختار لنفسه إلا البنين ، يقول عزوجل فكيف نسبوا إلى الله تعالى القسم الذي لا يختارونه لأنفسهم
ولهذا قال تعالى : (فَاسْتَفْتِهِمْ) أي سلهم على سبيل الإنكار عليهم (أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ
الْبَنُونَ) كقوله عزوجل : (أَلَكُمُ الذَّكَرُ
وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) [النجم : ٢١ ـ ٢٢].
وقوله تبارك
وتعالى : (أَمْ خَلَقْنَا
الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ) أي كيف حكموا على الملائكة أنهم إناث وما شاهدوا خلقهم
كقوله جل وعلا (وَجَعَلُوا
الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ
سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ) [الزخرف : ١٩] أي
يسألون عن ذلك يوم القيامة. وقوله جلت عظمته : (أَلا إِنَّهُمْ مِنْ
إِفْكِهِمْ) أي من كذبهم (لَيَقُولُونَ وَلَدَ
اللهُ) أي صدر منه الولد (وَإِنَّهُمْ
لَكاذِبُونَ) فذكر الله تعالى عنهم في الملائكة ثلاثة أقوال في غاية
الكفر والكذب ، فأولا جعلوهم بنات الله فجعلوا لله ولدا تعالى وتقدس ، وجعلوا ذلك
الولد أنثى ثم عبدوهم من دون الله تعالى وتقدس وكل منها كاف في التخليد في نار
جهنم.
ثم قال تعالى
منكرا عليهم (أَصْطَفَى الْبَناتِ
عَلَى الْبَنِينَ) أي أيّ شيء يحمله على أن يختار البنات دون البنين كقوله عزوجل : (أَفَأَصْفاكُمْ
رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ
لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً) [الإسراء : ٤٠]
ولهذا قال تبارك وتعالى : (ما لَكُمْ كَيْفَ
تَحْكُمُونَ) أي ما لكم عقول تتدبرون بها ما تقولون (أَفَلا تَذَكَّرُونَ أَمْ لَكُمْ
سُلْطانٌ مُبِينٌ) أي حجة على
ما تقولونه ، (فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
صادِقِينَ) أي هاتوا برهانا على ذلك يكون مستندا إلى كتاب منزل من
السماء عن الله تعالى أنه اتخذ ما تقولونه فإن ما تقولونه لا يمكن استناده إلى عقل
بل لا يجوزه العقل بالكلية. وقوله تعالى : (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ
وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) قال مجاهد : قال المشركون الملائكة بنات الله تعالى فقال
أبو بكر رضي الله عنه فمن أمهاتهن ، قالوا بنات سروات الجن وكذا قال قتادة وابن
زيد ولهذا قال تبارك وتعالى : (وَلَقَدْ عَلِمَتِ
الْجِنَّةُ) أي الذين نسبوا إليهم ذلك (إِنَّهُمْ
لَمُحْضَرُونَ) أي إن الذين قالوا ذلك لمحضرون في العذاب يوم الحساب
لكذبهم في ذلك وافترائهم وقولهم الباطل بلا علم ، وقال العوفي عن ابن عباس رضي
الله عنهما في قوله تعالى : (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ
وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) قال زعم أعداء الله أنه تبارك وتعالى هو وإبليس أخوان
تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، حكاه ابن جرير .
وقوله جلت عظمته :
(سُبْحانَ اللهِ
عَمَّا يَصِفُونَ) أي تعالى وتقدس وتنزه عن أن يكون له ولد وعما يصفه به
الظالمون الملحدون علوا كبيرا. قوله تعالى : (إِلَّا عِبادَ اللهِ
الْمُخْلَصِينَ) استثناء منقطع وهو من مثبت إلا أن يكون الضمير قي قوله
تعالى : (عَمَّا يَصِفُونَ) عائد إلى الناس جميعهم ثم استثنى منهم المخلصين وهم
المتبعون للحق المنزل على كل نبي مرسل ، وجعل ابن جرير هذا الاستثناء من قوله
تعالى : (فَإِنَّهُمْ
لَمُحْضَرُونَ إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) وفي هذا الذي قاله نظر والله سبحانه وتعالى أعلم.
(فَإِنَّكُمْ وَما
تَعْبُدُونَ (١٦١) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ
بِفاتِنِينَ (١٦٢) إِلاَّ مَنْ هُوَ
صالِ الْجَحِيمِ(١٦٣) وَما مِنَّا إِلاَّ
لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤) وَإِنَّا لَنَحْنُ
الصَّافُّونَ (١٦٥) وَإِنَّا لَنَحْنُ
الْمُسَبِّحُونَ (١٦٦) وَإِنْ كانُوا
لَيَقُولُونَ (١٦٧) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا
ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨)
لَكُنَّا
عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٩)
فَكَفَرُوا
بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)
(١٧٠)
يقول تعالى مخاطبا
للمشركين : (فَإِنَّكُمْ وَما
تَعْبُدُونَ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ) أي إنما ينقاد لمقالتكم وما أنتم عليه من الضلالة والعبادة
الباطلة من هو أضل منكم ممن ذرئ للنار (لَهُمْ قُلُوبٌ لا
يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا
يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ
الْغافِلُونَ) [الأعراف : ١٩٧]
فهذا الضرب من الناس هو الذي ينقاد لدين الشرك والكفر والضلالة كما قال تبارك
وتعالى : (إِنَّكُمْ لَفِي
قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) [الذاريات : ٨ ـ ٩]
أي إنما يضل به من هو مأفوك ومبطل ، ثم قال تبارك وتعالى منزها للملائكة مما نسبوا
إليهم من الكفر بهم والكذب عليهم أنهم بنات الله (وَما مِنَّا إِلَّا
لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) أي له موضع مخصوص في السموات ومقامات العبادات
__________________
لا يتجاوزه ولا
يتعداه.
وقال ابن عساكر في
ترجمته لمحمد بن خالد بسنده إلى عبد الرحمن بن العلاء بن سعد عن أبيه وكان ممن
بايع يوم الفتح أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال يوما لجلسائه : «أطّت السماء وحق لها أن تئط ليس فيها موضع قدم إلا عليه ملك
راكع أو ساجد» ثم قرأ صلىاللهعليهوسلم (وَإِنَّا لَنَحْنُ
الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) وقال الضحاك في تفسيره (وَما مِنَّا إِلَّا
لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) قال كان مسروق يروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت :
قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ما من السماء الدنيا موضع إلا عليه ملك ساجد أو قائم»
فذلك قوله تعالى : (وَما مِنَّا إِلَّا
لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) .
وقال الأعمش عن
أبي إسحاق عن مسروق عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : إن في السموات لسماء ما فيها
موضع شبر إلا عليه جبهة ملك أو قدماه ثم قرأ عبد الله رضي الله عنه (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ
مَعْلُومٌ) وكذا قال سعيد بن
جبير وقال قتادة كانوا يصلون الرجال والنساء جميعا حتى نزلت (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ
مَعْلُومٌ) فتقدم الرجال وتأخر النساء (وَإِنَّا لَنَحْنُ
الصَّافُّونَ) أي نقف صفوفا في الطاعة كما تقدم عند قوله تبارك وتعالى : (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا) [الصافات : ١] قال
ابن جريج عن الوليد بن عبد الله بن أبي مغيث قال كانوا لا يصفون في الصلاة حتى نزل
(وَإِنَّا لَنَحْنُ
الصَّافُّونَ) فصفوا وقال أبو نضرة كان عمر رضي الله عنه إذا أقيمت
الصلاة استقبل الناس بوجهه ثم قال : أقيموا صفوفكم استووا قياما يريد الله تعالى
بكم هدى الملائكة ثم يقول (وَإِنَّا لَنَحْنُ
الصَّافُّونَ) تأخر يا فلان تقدم يا فلان ثم يتقدم فيكبر. رواه ابن أبي
حاتم وابن جرير .
وفي صحيح مسلم عن
حذيفة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «فضلنا على الناس بثلاث : جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة ،
وجعلت لنا الأرض مسجدا ، وتربتها طهورا» الحديث (وَإِنَّا لَنَحْنُ
الْمُسَبِّحُونَ) أي نصطف فنسبح الرب ونمجده ونقدسه وننزهه عن النقائص فنحن
عبيد له فقراء إليه خاضعون لديه. وقال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) الملائكة (وَإِنَّا لَنَحْنُ
الصَّافُّونَ) الملائكة (وَإِنَّا لَنَحْنُ
الْمُسَبِّحُونَ) الملائكة تسبح الله عزوجل.
وقال قتادة (وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) يعني المصلون يثبتون بمكانهم من العبادة كما قال تبارك
وتعالى : (وَقالُوا اتَّخَذَ
الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ
بِالْقَوْلِ وَهُمْ
__________________
بِأَمْرِهِ
يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ
إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ
إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي
الظَّالِمِينَ) [الأنبياء: ٢٦ ـ ٢٩] وقوله جل وعلا : (وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ لَوْ أَنَّ
عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) أي قد كانوا يتمنون قبل أن تأتيهم يا محمد لو كان عندهم من
يذكرهم بأمر الله وما كان من أمر القرون الأولى ويأتيهم بكتاب الله كما قال جل
جلاله (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ
جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى
الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً) [فاطر : ٤٢] وقال
تعالى : (أَنْ تَقُولُوا
إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ
دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا
الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ
وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ
عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا
يَصْدِفُونَ) [الأنعام : ١٥٦ ـ ١٥٧]
ولهذا قال تعالى هاهنا : (فَكَفَرُوا بِهِ
فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) وعيد أكيد وتهديد شديد على كفرهم بربهم عزوجل وتكذيبهم رسوله صلىاللهعليهوسلم.
(وَلَقَدْ سَبَقَتْ
كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١)
إِنَّهُمْ
لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢)
وَإِنَّ
جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (١٧٣)
فَتَوَلَّ
عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٤) وَأَبْصِرْهُمْ
فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٥) أَفَبِعَذابِنا
يَسْتَعْجِلُونَ (١٧٦) فَإِذا نَزَلَ
بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٧)
وَتَوَلَّ
عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٨) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ
يُبْصِرُونَ) (١٧٩)
يقول تبارك وتعالى
: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ
كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ) أي تقدم في الكتاب الأول أن العاقبة للرسل وأتباعهم في
الدنيا والآخرة كما قال تعالى : (كَتَبَ اللهُ
لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [المجادلة : ٢١]
وقال عزوجل : (إِنَّا لَنَنْصُرُ
رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ
الْأَشْهادُ) [غافر : ٥١] ولهذا
قال جل جلاله : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ
كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ) أي في الدنيا والآخرة كما تقدم بيان نصرتهم على قومهم ممن
كذبهم وخالفهم وكيف أهلك الله الكافرين ونجى عباده المؤمنين (وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) أي تكون لهم العاقبة. وقوله جل وعلا : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ) أي اصبر على أذاهم لك وانتظر إلى وقت مؤجل فإنا سنجعل لك
العاقبة والنصرة والظفر ، ولهذا قال بعضهم غيّا ذلك إلى يوم بدر وما بعدها أيضا في معناها.
وقوله جلت عظمته (وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) أي أنظرهم وارتقب ماذا يحل بهم من العذاب والنكال بمخالفتك
وتكذيبك ولهذا قال تعالى على وجه التهديد والوعيد (فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) ثم قال عزوجل : (أَفَبِعَذابِنا
يَسْتَعْجِلُونَ) أي هم إنما يستعجلون العذاب لتكذيبهم وكفرهم بك فإن الله
تعالى يغضب عليهم بذلك ويعجل لهم العقوبة ومع هذا أيضا كانوا من كفرهم وعنادهم
يستعجلون العذاب والعقوبة. قال الله تبارك وتعالى : (فَإِذا نَزَلَ
بِساحَتِهِمْ
__________________
فَساءَ
صَباحُ الْمُنْذَرِينَ) أي فإذا نزل العذاب بمحلتهم فبئس ذلك اليوم يومهم بإهلاكهم
ودمارهم ، وقال السدي (فَإِذا نَزَلَ
بِساحَتِهِمْ) يعني بدارهم (فَساءَ صَباحُ
الْمُنْذَرِينَ) أي فبئس ما يصبحون أي بئس الصباح صباحهم. ولهذا ثبت في
الصحيحين من حديث إسماعيل ابن علية عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس رضي الله عنه قال
: صبح رسول الله صلىاللهعليهوسلم خيبر فلما خرجوا بفئوسهم ومساحيهم ورأوا الجيش رجعوا وهم
يقولون : محمد والله محمد والخميس فقال النبيصلىاللهعليهوسلم : «الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح
المنذرين» ورواه البخاري من حديث مالك عن حميد عن أنس رضي الله عنه.
وقال الإمام أحمد حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس بن مالك عن أبي
طلحة رضي الله عنه قال : لما صبح رسول الله صلىاللهعليهوسلم خيبر وقد أخذوا مساحيهم وغدوا إلى حروثهم وأرضهم ، فلما
رأوا النبي صلىاللهعليهوسلم نكصوا مدبرين فقال نبي الله صلىاللهعليهوسلم : «الله أكبر الله أكبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح
المنذرين» لم يخرجوه من هذه الوجه وهو صحيح على شرط الشيخين ، وقوله تعالى : (وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ
وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) تأكيد لما تقدم من الأمر بذلك والله سبحانه وتعالى أعلم.
(سُبْحانَ رَبِّكَ
رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠)
وَسَلامٌ
عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعالَمِينَ) (١٨٢)
ينزه تبارك وتعالى
نفسه ويقدسها ويبرئها عما يقول الظالمون المكذبون المعتدون تعالى وتنزه وتقدس عن
قولهم علوا كبيرا ولهذا قال تبارك وتعالى : (سُبْحانَ رَبِّكَ
رَبِّ الْعِزَّةِ) أي ذي العزة التي لا ترام (عَمَّا يَصِفُونَ) أي عن قول هؤلاء المعتدين المفترين (وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ) أي سلام الله عليهم في الدنيا والآخرة لسلامة ما قالوه في
ربهم وصحته وحقيّته (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعالَمِينَ) أي له الحمد في الأولى والآخرة في كل حال ، ولما كان
التسبيح يتضمن التنزيه والتبرئة من النقص بدلالة المطابقة ويستلزم إثبات الكمال
كما أن الحمد يدل على إثبات صفات الكمال مطابقة ويستلزم التنزيه من النقص قرن
بينهما في هذا الموضع وفي مواضع كثيرة من القرآن ولهذا قال تبارك وتعالى : (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ
عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعالَمِينَ) ، وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إذا سلمتم عليّ فسلموا على المرسلين فإنما أنا رسول من
المرسلين». هكذا
__________________
رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث سعيد عنه كذلك.
وقد أسنده ابن أبي
حاتم رحمهالله فقال حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد حدثنا أبو بكر الأعين
ومحمد بن عبد الرحيم صاعقة قالا : حدثنا حسين بن محمد حدثنا شيبان عن قتادة قال
حدثنا أنس بن مالك عن أبي طلحة رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إذا سلمتم عليّ فسلموا على المرسلين» وقال الحافظ أبو
يعلى حدثنا محمد بن أبي بكر حدثنا نوح حدثنا أبو هارون عن أبي سعيد رضي الله عنه
عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه كان إذا أراد أن يسلم قال : «سبحان ربك رب العزة عما
يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين» ثم يسلم ، إسناده ضعيف.
وقال ابن أبي حاتم
حدثنا عمار بن خالد الواسطي حدثنا شبابة عن يونس بن أبي إسحاق عن الشعبي قال : قال
رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من سره أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة
فليقل آخر مجلسه حين يريد أن يقوم (سُبْحانَ رَبِّكَ
رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ). وروي من وجه آخر متصل موقوف على علي رضي الله عنه قال أبو
محمد البغوي في تفسيره : أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي أخبرنا أبو
إسحاق الثعلبي أخبرني ابن فنجويه حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان حدثنا إبراهيم بن
سهلويه حدثنا علي بن محمد الطنافسي حدثنا وكيع عن ثابت بن أبي صفية عن الأصبغ بن
نباتة عن علي رضي الله عنه قال : من أحب ان يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم
القيامة فليكن آخر كلامه في مجلسه (سُبْحانَ رَبِّكَ
رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).
وروى الطبراني من
طريق عبد الله بن صخر بن أنس عن عبد الله بن زيد بن أرقم عن أبيه عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم : أنه قال «من قال دبر كل صلاة (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ
عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعالَمِينَ) ثلاث مرات فقد اكتال بالجريب الأوفى من الأجر» وقد وردت أحاديث في كفارة المجلس : سبحانك اللهم وبحمدك لا
إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك. وقد أفردت لها جزءا على حدة والله سبحانه وتعالى
أعلم.
__________________
سورة ص
وهي مكية
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(ص وَالْقُرْآنِ ذِي
الذِّكْرِ (١) بَلِ الَّذِينَ
كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (٢)
كَمْ
أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ)
(٣)
أما الكلام على
الحروف المقطعة فقد تقدم في أول سورة البقرة بما أغنى عن إعادته هاهنا.
وقوله تعالى : (وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) أي والقرآن المشتمل على ما فيه ذكر للعباد ونفع لهم في
المعاش والمعاد قال الضحاك في قوله تعالى : (ذِي الذِّكْرِ) كقوله تعالى : (لَقَدْ أَنْزَلْنا
إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ) أي تذكيركم وكذا قال قتادة واختاره ابن جرير . وقال ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير وإسماعيل بن
أبي خالد وابن عيينة وأبو حصين وأبو صالح والسدي (ذِي الذِّكْرِ) ذي الشرف أي ذي الشأن والمكانة ، ولا منافاة بين القولين
فإنه كتاب شريف مشتمل على التذكير والإعذار والإنذار واختلفوا في جواب هذا القسم
فقال بعضهم هو قوله تعالى : (إِنْ كُلٌّ إِلَّا
كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ) [ص : ١٤] وقيل
قوله تعالى : (إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ
تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) [ص : ٦٤] حكاهما
ابن جرير وهذا الثاني فيه بعد كثير وضعفه ابن جرير ، وقال قتادة
جوابه (بَلِ الَّذِينَ
كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ) واختاره ابن جرير وقيل : جوابه ما تضمنه سياق السورة
بكمالها والله أعلم وقال قتادة جوابه (بَلِ الَّذِينَ
كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ) واختاره ابن جرير ثم حكى ابن جرير عن بعض أهل العربية أنه قال جوابه جعلها (ص) بمعنى صدق حق (وَالْقُرْآنِ ذِي
الذِّكْرِ).
وقوله : (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ
وَشِقاقٍ) أي : إن هذا القرآن لذكرا لمن يتذكر. وعبرة لمن يعتبر
وإنما لم ينتفع به الكافرون لأنهم من عزة أي استكبار عنه وحمية (وَشِقاقٍ) أي ومخالفة له ومعاندة ومفارقة ، ثم خوفهم ما أهلك به
الأمم المكذبة قبلهم بسبب مخالفتهم للرسل وتكذيبهم الكتب المنزلة من السماء ، فقال
تعالى : (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ
قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) أي من أمة مكذبة (فَنادَوْا) أي حين جاءهم العذاب استغاثوا وجأروا إلى الله تعالى وليس
ذلك بمجد عنهم شيئا كما قال عزوجل : (فَلَمَّا أَحَسُّوا
بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ) أي يهربون (لا تَرْكُضُوا
وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ) [الأنبياء : ١٢ ـ ١٣]
قال أبو داود الطيالسي حدثنا شعبة عن أبي إسحاق عن التميمي قال : سألت ابن عباس
رضي الله عنهما
__________________
عن قول الله تبارك
وتعالى : (فَنادَوْا وَلاتَ
حِينَ مَناصٍ) قال ليس بحين نداء ولا نزو ولا فرار. وقال علي بن أبي طلحة
عن ابن عباس رضي الله عنهما ليس بحين مغاث وقال شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس
نادوا النداء حين لا ينفعهم وأنشد :
تذكر ليلى لات حين
تذكر
وقال محمد بن كعب
في قوله تعالى : (فَنادَوْا وَلاتَ
حِينَ مَناصٍ) يقول نادوا بالتوحيد حين تولت الدنيا عنهم ، واستناصوا
للتوبة حين تولت الدنيا عنهم ، وقال قتادة لما رأوا العذاب أرادوا التوبة في غير حين
النداء.
وقال مجاهد (فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) ليس بحين فرار ولا إجابة وقد روي نحو هذا عن عكرمة وسعيد
بن جبير وأبي مالك والضحاك وزيد بن أسلم والحسن وقتادة ، وعن مالك عن زيد بن أسلم (وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) ولا نداء في غير حين النداء ، وهذه الكلمة وهي لات هي لا
التي للنفي زيدت معها التاء كما تزاد في ثم فيقولون ثمت ورب فيقولون ربت وهي
مفصولة والوقف عليها ، ومنهم من حكى عن المصحف الإمام فيما ذكره ابن جرير أنها
متصلة بحين ولا تحين مناص والمشهور الأول ثم قرأ الجمهور بنصب حين تقديره وليس
الحين حين مناص ومنهم من جوز النصب بها ، وأنشد : [الوافر]
تذكّر حبّ ليلى
لات حينا
|
|
وأضحى الشيب قد
قطع القرينا
|
ومنهم من جوز الجر
بها وأنشد : [الخفيف]
طلبوا صلحنا
ولات أوان
|
|
فأجبنا أن ليس
حين بقاء
|
وأنشد بعضهم أيضا
: [الطويل]
ولات ساعة مندم
__________________
بخفض الساعة وأهل
اللغة يقولون النوص التأخر والبوص التقدم ، ولهذا قال تبارك وتعالى : (وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) أي ليس الحين حين فرار ولا ذهاب والله سبحانه وتعالى
الموفق للصواب.
(وَعَجِبُوا أَنْ
جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٤)
أَجَعَلَ
الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (٥)
وَانْطَلَقَ
الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ
يُرادُ (٦) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ
إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (٧)
أَأُنْزِلَ
عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا
يَذُوقُوا عَذابِ (٨) أَمْ عِنْدَهُمْ
خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (٩) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (١٠)
جُنْدٌ
ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ)
(١١)
يقول تعالى مخبرا
عن المشركين في تعجبهم من بعثة رسول الله صلىاللهعليهوسلم بشيرا ونذيرا كما قالعزوجل : (أَكانَ لِلنَّاسِ
عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ
الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ
إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ) [يونس : ٢] وقال
جل وعلا هاهنا : (وَعَجِبُوا أَنْ
جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) أي بشر مثلهم وقال الكافرون (هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ
الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً) أي أزعم أن المعبود واحد لا إله إلا هو؟ أنكر المشركون ذلك
قبحهم الله تعالى وتعجبوا من ترك الشرك بالله فإنهم كانوا قد تلقوا عن آبائهم
عبادة الأوثان وأشربته قلوبهم فلما دعاهم الرسول صلىاللهعليهوسلم إلى خلع ذلك من قلوبهم وإفراد الإله بالوحدانية أعظموا ذلك
وتعجبوا وقالوا (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ
إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ) وهم سادتهم وقادتهم ورؤساؤهم وكبراؤهم قائلين (امْشُوا) أي استمروا على دينكم (وَاصْبِرُوا عَلى
آلِهَتِكُمْ) ولا تستجيبوا لما يدعوكم إليه محمد من التوحيد ، وقوله
تعالى : (إِنَّ هذا لَشَيْءٌ
يُرادُ) قال ابن جرير إن هذا الذي يدعونا إليه محمد صلىاللهعليهوسلم من التوحيد لشيء يريد به الشرف عليكم والاستعلاء وأن يكون
له منكم أتباع ولسنا نجيبه إليه.
[ذكر سبب نزول هذه الآيات الكريمة]
قال السدي إن ناسا
من قريش اجتمعوا فيهم أبو جهل بن هشام والعاص بن وائل والأسود بن المطلب والأسود
بن عبد يغوث في نفر من مشيخة قريش فقال بعضهم لبعض
__________________
انطلقوا بنا إلى
أبي طالب فلنكلمه فيه فلينصفنا منه فليكف عن شتم آلهتنا وندعه وإلهه الذي يعبده
فإنا نخاف أن يموت هذا الشيخ فيكون منا إليه شيء فتعيرنا به العرب يقولون تركوه
حتى إذا مات عنه تناولوه فبعثوا رجلا منهم يقال له المطلب فاستأذن لهم علي بن أبي
طالب فقال هؤلاء مشيخة قومك وسراتهم يستأذنون عليك قال أدخلهم فلما دخلوا عليه
قالوا يا أبا طالب أنت كبيرنا وسيدنا فأنصفنا من ابن أخيك فمره فليكف عن شتم
آلهتنا وندعه وإلهه ، قال فبعث إليه أبو طالب فلما دخل عليه رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : يا ابن أخي هؤلاء مشيخة قومك وسراتهم وقد سألوك أن
تكف عن شتم آلهتهم ويدعوك وإلهك قال صلىاللهعليهوسلم : «يا عم أفلا أدعوهم إلى ما هو خير لهم» قال وإلام تدعوهم؟
قال صلىاللهعليهوسلم «أدعوهم أن
يتكلموا بكلمة تدين لهم بها العرب ويملكون بها العجم» فقال أبو جهل لعنه الله من
بين القوم ما هي وأبيك لنعطينكها وعشرا أمثالها قال صلىاللهعليهوسلم : «تقولون لا إله إلا الله» فنفروا وقالوا سلنا غيرها قال صلىاللهعليهوسلم : «لو جئتموني بالشمس حتى تضعوها في يدي ما سألتكم غيرها»
فقاموا من عنده غضابا وقالوا والله لنشتمك وإلهك الذي أمرك بهذا (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ
امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ) ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير وزاد فلما خرجوا دعا رسول
الله صلىاللهعليهوسلم عمه إلى قوله لا إله إلا الله فأبى وقال بل على دين
الأشياخ ونزلت (إِنَّكَ لا تَهْدِي
مَنْ أَحْبَبْتَ) [القصص : ٥٦].
قال أبو جعفر بن
جرير حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا حدثنا أبو أسامة حدثنا الأعمش حدثنا عباد عن
سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لما مرض أبو طالب دخل عليه رهط من
قريش فيهم أبو جهل فقالوا : إن ابن أخيك يشتم آلهتنا ويفعل ويفعل ويقول ويقول ،
فلو بعثت إليه فنهيته فبعث إليه فجاء النبي صلىاللهعليهوسلم فدخل البيت وبينهم وبين أبي طالب قدر مجلس رجل قال فخشي
أبو جهل لعنه الله إن جلس إلى جنب أبي طالب أن يكون أرق له عليه فوثب فجلس في ذلك
المجلس ولم يجد رسول الله صلىاللهعليهوسلم مجلسا قرب عمه فجلس عند الباب فقال له أبو طالب أي ابن أخي
ما بال قومك يشكونك ويزعمون أنك تشتم آلهتهم وتقول وتقول؟ قال وأكثروا عليه من
القول وتكلم رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : «يا عم إني أريدهم على كلمة واحدة يقولونها تدين
لهم بها العرب وتؤدي إليهم بها العجم الجزية» ففزعوا لكلمته ولقوله فقال القوم
كلمة واحدة نعم وأبيك عشرا فقالوا وما هي؟ وقال أبو طالب وأي كلمة هي يا ابن أخي؟
قال صلىاللهعليهوسلم «لا إله إلا الله»
فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم وهم يقولون : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ
إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) قال ونزلت من هذا الموضع إلى قوله (بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ) لفظ أبي كريب.
__________________
وهكذا رواه الإمام
أحمد والنسائي من حديث محمد بن عبد الله بن نمير كلاهما عن أبي أسامة عن الأعمش عن
عباد غير منسوب به نحوه ، ورواه الترمذي والنسائي وابن أبي حاتم وابن جرير أيضا
كلهم في تفاسيرهم من حديث سفيان الثوري عن الأعمش عن يحيى بن عمارة الكوفي عن سعيد
بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما فذكر نحوه. وقال الترمذي حسن. وقولهم (ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ
الْآخِرَةِ) أي ما سمعنا بهذا الذي يدعونا إليه محمد من التوحيد في
الملة الآخرة.
قال مجاهد وقتادة
وأبو زيد يعنون دين قريش وقال غيرهم يعنون النصرانية قاله محمد بن كعب والسدي.
وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما (ما سَمِعْنا بِهذا
فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ) يعني النصرانية قالوا لو كان هذا القرآن حقا لأخبرتنا به
النصارى (إِنْ هذا إِلَّا
اخْتِلاقٌ) قال مجاهد وقتادة كذب وقال ابن عباس تخرص. وقولهم (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ
بَيْنِنا) يعني أنهم يستبعدون تخصيصه بإنزال القرآن عليه من بينهم
كلهم كما قال في الآية الأخرى : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا
الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) قال الله تعالى : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ
رَحْمَتَ رَبِّكَ؟ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ
الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) [الزخرف : ٣١ ـ ٣٢]
ولهذا لما قالوا هذا الذي دلّ على جهلهم وقلة عقلهم في استبعادهم إنزال القرآن على
الرسول من بينهم.
قال الله تعالى : (بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ) أي إنما يقولون هذا لأنهم ما ذاقوا إلى حين قولهم ذلك عذاب
الله تعالى ونقمته سيعلمون غب ما قالوا وما كذبوا به يوم يدعون إلى نار جهنم دعا.
ثم قال تعالى مبينا أنه المتصرف في ملكه الفعال لما يشاء الذي يعطي من يشاء ما
يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء ويهدي من يشاء ويضل من يشاء وينزل الروح من أمره
على من يشاء من عباده ويختم على قلب من يشاء فلا يهديه أحد من بعد الله ، وإن
العباد لا يملكون شيئا من الأمر وليس إليهم من التصرف في الملك ولا مثقال ذرة وما
يملكون من قطمير.
ولهذا قال تعالى
منكرا عليهم (أَمْ عِنْدَهُمْ
خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ) أي العزيز الذي لا يرام جنابه الوهاب الذي يعطي ما يريد
لمن يريد ، وهذه الآية الكريمة شبيهة بقوله تعالى : (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ
مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ
عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ
وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ
وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً) [النساء : ٥٣ ـ ٥٥]
وقوله تعالى : (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ
تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ
وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً) [الإسراء : ١٠٠]
وذلك بعد الحكاية عن الكفار أنهم أنكروا بعثة الرسول البشري صلىاللهعليهوسلم وكما أخبر عزوجل عن قوم
__________________
صالح عليهالسلام حين قالوا (أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ
عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا ، بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ. سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ
الْكَذَّابُ الْأَشِرُ) [القمر : ٢٥ ـ ٢٦].
وقوله تعالى : (أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ) أي إن كان لهم ذلك فليصعدوا في الأسباب. قال ابن عباس رضي
الله عنهما ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وغيرهم يعني طرق السماء ، وقال الضحاك رحمهالله تعالى فليصعدوا إلى السماء السابعة.
ثم قال عزوجل : (جُنْدٌ ما هُنالِكَ
مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ) أي هؤلاء الجند المكذبون الذين هم في عزة وشقاق سيهزمون
ويغلبون ويكبتون كما كبت الذين من قبلهم من الأحزاب المكذبين وهذه الآية كقوله جلت
عظمته : (أَمْ يَقُولُونَ
نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) كان ذلك يوم بدر (بَلِ السَّاعَةُ
مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ) [القمر : ٤٤ ـ ٤٦].
(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ
قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (١٢) وَثَمُودُ وَقَوْمُ
لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (١٣)
إِنْ
كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ
(١٤) وَما
يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (١٥)
وَقالُوا
رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ) (١٦)
يقول تعالى مخبرا
عن هؤلاء القرون الماضية وما حل بهم من العذاب والنكال والنقمات في مخالفة الرسل
وتكذيب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وقد تقدمت قصصهم مبسوطة في أماكن متعددة
وقوله تعالى : (أُولئِكَ الْأَحْزابُ) أي كانوا أكثر منكم وأشد قوة وأكثر أموالا وأولادا فما دفع
ذلك عنهم من عذاب الله من شيء لما جاء أمر ربك ولهذا قال عزوجل : (إِنْ كُلٌّ إِلَّا
كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ) فجعل علة إهلاكهم هو تكذيبهم بالرسل فليحذر المخاطبون من
ذلك أشد الحذر.
وقوله تعالى : (وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً
واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ) قال مالك عن زيد بن أسلم : أي ليس لها مثنوية أي ما ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها
أي فقد اقتربت ودنت وأزفت وهذه الصيحة هي نفخة الفزع التي يأمر الله تعالى إسرافيل
أن يطولها فلا يبقى أحد من أهل السموات والأرض إلا فزع إلا من استثنى الله عزوجل.
وقوله جل جلاله : (وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا
قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ) هذا إنكار من الله تعالى على المشركين في دعائهم على
أنفسهم بتعجيل العذاب فإن القط هو الكتاب وقيل هو الحظ والنصيب. قال ابن عباس رضي
الله عنهما ومجاهد والضحاك والحسن وغير واحد سألوا تعجيل العذاب ، زاد قتادة كما
قالوا (اللهُمَّ إِنْ كانَ
هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً
__________________
مِنَ
السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [الأنفال : ٣٢]
وقيل سألوا تعجيل نصيبهم من الجنة إن كانت موجودة ليلقوا ذاك في الدنيا وإنما خرج
هذا منهم مخرج الاستبعاد والتكذيب. وقال ابن جرير سألوا تعجيل ما يستحقونه من الخير أو الشر في الدنيا وهذا
الذي قاله جيد وعليه يدور كلام الضحاك وإسماعيل بن أبي خالد والله أعلم. ولما كان
هذا الكلام منهم على وجه الاستهزاء والاستبعاد. قال الله تعالى لرسوله صلىاللهعليهوسلم آمرا له بالصبر على أذاهم ومبشرا له على صبره بالعاقبة
والنصر والظفر.
(اصْبِرْ عَلى ما
يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (١٧) إِنَّا سَخَّرْنَا
الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (١٨) وَالطَّيْرَ
مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (١٩)
وَشَدَدْنا
مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ)
(٢٠)
يذكر تعالى عن
عبده ورسوله داود عليه الصلاة والسلام أنه كان ذا أيد والأيد القوة في العلم
والعمل. قال ابن عباس رضي الله عنهما والسدي وابن زيد ، الأيد القوة ، وقرأ ابن
زيد (وَالسَّماءَ
بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) [الذاريات : ٤٧]
وقال مجاهد الأيد القوة في الطاعة. وقال قتادة أعطي داود عليه الصلاة والسلام قوة
في العبادة وفقها في الإسلام ، وقد ذكر لنا أنه عليه الصلاة والسلام كان يقوم ثلث
الليل ويصوم نصف الدهر ، وهذا ثابت في الصحيحين عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال «أحب الصلاة إلى الله تعالى صلاة داود ، وأحب
الصيام إلى الله عزوجل صيام داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه ،
وكان يصوم يوما ويفطر يوما ولا يفر إذا لاقى وأنه كان أوابا» وهو الرجاع إلى الله عزوجل في جميع أموره وشؤونه.
وقوله تعالى : (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ
يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ) أي أنه تعالى سخر الجبال تسبح معه عند إشراق الشمس وآخر
النهار كما قال عزوجل : (يا جِبالُ أَوِّبِي
مَعَهُ وَالطَّيْرَ) [سبأ : ١٠] وكذلك
كانت الطير تسبح بتسبيحه وترجع بترجيعه إذا مر به الطير وهو سابح في الهواء فسمعه
وهو يترنم بقراءة الزبور لا يستطيع الذهاب بل يقف في الهواء ويسبح معه وتجيبه
الجبال الشامخات ترجع معه وتسبح تبعا له.
قال ابن جرير حدثنا أبو كريب حدثنا محمد بن بشر عن مسعر عن عبد الكريم
عن موسى بن أبي كثير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه بلغه أن أم هانئ رضي الله
عنها ذكرت أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم يوم فتح مكة صلى الضحى ثمان ركعات فقال ابن عباس رضي الله
عنهما قد
__________________
ظننت أن لهذه
الساعة صلاة يقول عزوجل : (يُسَبِّحْنَ
بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ) ثم رواه من حديث سعيد بن أبي عروبة عن أبي المتوكل عن أيوب
بن صفوان عن مولاه عبد الله بن الحارث بن نوفل أن ابن عباس رضي الله عنهما كان لا
يصلي الضحى فأدخلته على أم هانئ رضي الله عنها فقلت أخبري هذا ما أخبرتني به فقالت
: دخل علي رسول الله صلىاللهعليهوسلم يوم الفتح في بيتي ثم أمر بماء صب في قصعة ثم أمر بثوب
فأخذ بيني وبينه فاغتسل ثم رش ناحية البيت فصلى ثمان ركعات وذلك من الضحى قيامهن
وركوعهن وسجودهن وجلوسهن سواء قريب بعضهن من بعض فخرج ابن عباس رضي الله عنهما وهو
يقول : لقد قرأت ما بين اللوحين ما عرفت صلاة الضحى إلا الآن (يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ) وكنت أقول أين صلاة الإشراق وكان بعد يقول صلاة الإشراق
ولهذا قال عزوجل : (وَالطَّيْرَ
مَحْشُورَةً) أي محبوسة في الهواء (كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ) أي مطيع يسبح تبعا له ، وقال سعيد بن جبير وقتادة ومالك عن
زيد بن أسلم وابن زيد (كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ) أي مطيع.
وقوله تعالى : (وَشَدَدْنا مُلْكَهُ) أي جعلنا له ملكا كاملا من جميع ما يحتاج إليه الملوك ،
قال ابن أبي نجيح عن مجاهد كان أشد أهل الدنيا سلطانا ، وقال السدي كان يحرسه كل
يوم أربعة آلاف ، وقال بعض السلف بلغني أنه كان يحرسه في كل ليلة ثلاثة وثلاثين
ألفا لا تدور عليهم النوبة إلى مثلها من العام القابل ، وقال غيره أربعون ألفا
مشتملون بالسلاح.
وقد ذكر ابن جرير وابن أبي حاتم من رواية علباء بن أحمر عن عكرمة عن ابن
عباس رضي الله عنهما أن نفرين من بني إسرائيل استعدى أحدهما على الآخر إلى داود
عليه الصلاة والسلام أنه اغتصبه بقرا فأنكر الآخر ولم يكن للمدعي بينة فأرجأ
أمرهما فلما كان الليل أمر داود عليه الصلاة والسلام في المنام بقتل المدعي ، فلما
كان النهار طلبهما وأمر بقتل المدعي فقال يا نبي الله علام تقتلني وقد اغتصبني هذا
بقري؟ فقال له إن الله تعالى أمرني بقتلك فأنا قاتلك لا محالة ، فقال والله إن
الله لم يأمرك بقتلي لأجل هذا الذي ادعيت عليه وإني لصادق فيما ادعيت ولكني كنت قد
اغتلت أباه وقتلته ولم يشعر بذلك أحد فأمر به داود عليهالسلام فقتل ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : فاشتدت هيبته في بني
إسرائيل وهو الذي يقول الله عزوجل (وَشَدَدْنا مُلْكَهُ).
وقوله عز وعلا : (وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ) قال مجاهد يعني الفهم والعقل والفطنة ، وقال مرة : الحكمة
والعدل ، وقال مرة : الصواب ، وقال قتادة كتاب الله واتباع ما فيه ، فقال السدي (الْحِكْمَةَ) النبوة وقوله جل جلاله (وَفَصْلَ الْخِطابِ) قال شريح القاضي والشعبي : فصل الخطاب الشهود والأيمان
وقال قتادة شاهدان على المدعي أو يمين المدعي عليه هو فصل
__________________
الخطاب الذي فصل
به الأنبياء والرسل أو قال المؤمنون والصالحون وهو قضاء هذه الأمة إلى يوم القيامة
، وكذا قال أبو عبد الرحمن السلمي وقال مجاهد والسدي هو إصابة القضاء وفهم ذلك
وقال مجاهد أيضا هو الفصل في الكلام وفي الحكم وهذا يشمل هذا كله وهو المراد
واختاره ابن جرير وقال ابن أبي حاتم حدثنا عمر بن شبّة النميري حدثنا
إبراهيم بن المنذر حدثني عبد العزيز بن أبي ثابت عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن
أبيه عن بلال بن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى رضي الله عنه قال : أول من قال :
أما بعد داود عليهالسلام وهو فصل الخطاب ، وكذا قال الشعبي فصل الخطاب : أما بعد.
(وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ
الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (٢١)
إِذْ
دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا
عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ
الصِّراطِ (٢٢) إِنَّ هذا أَخِي
لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها
وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (٢٣) قالَ لَقَدْ
ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ
لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ
رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (٢٤)
فَغَفَرْنا
لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) (٢٥)
قد ذكر المفسرون
هاهنا قصة أكثرها مأخوذ من الإسرائيليات ولم يثبت فيها عن المعصوم حديث يجب اتباعه
ولكن روى ابن أبي حاتم حديثا لا يصح سنده لأنه من رواية يزيد الرقاشي عن أنس رضي
الله عنه ويزيد وإن كان من الصالحين لكنه ضعيف الحديث عند الأئمة فالأولى أن يقتصر
على مجرد تلاوة هذه القصة وأن يرد علمها إلى الله عزوجل فإن القرآن حق وما تضمن فهو حق أيضا.
وقوله تعالى : (فَفَزِعَ مِنْهُمْ) إنما كان ذلك لأنه كان في محرابه وهو أشرف مكان في داره
وكان قد أمر أن لا يدخل عليه أحد ذلك اليوم فلم يشعر إلا بشخصين قد تسورا عليه
المحراب أي احتاطا به يسألانه عن شأنهما وقوله عزوجل : (وَعَزَّنِي فِي
الْخِطابِ) أي غلبني يقال عز يعز إذا قهر وغلب. وقوله تعالى : (وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما أي
اختبرناه . وقوله تعالى (وَخَرَّ راكِعاً) أي ساجدا (وَأَنابَ) ويحتمل أنه ركع أولا ثم سجد بعد ذلك ، وقد ذكر أنه استمر
ساجدا أربعين صباحا (فَغَفَرْنا لَهُ
ذلِكَ) أي ما كان منه مما يقال فيه إن حسنات الأبرار سيئات
المقربين.
وقد اختلف الأئمة
في سجدة (ص) هل هي من عزائم السجود؟ على قولين الجديد من مذهب الشافعي
رضي الله عنه أنها ليست من عزائم السجود بل هي سجدة شكر ، والدليل على
__________________
ذلك ما رواه
الإمام أحمد حيث قال حدثنا إسماعيل وهو ابن علية عن أيوب عن عكرمة عن
ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال السجدة في (ص) ليست من عزائم السجود ، وقد رأيت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يسجد فيها. ورواه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي في
تفسيره من حديث أيوب به وقال الترمذي حسن صحيح. وقال النسائي أيضا عند تفسير هذه
الآية أخبرني إبراهيم بن الحسن هو المقسمي حدثنا حجاج بن محمد عن عمرو بن ذر عن
أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إن النبي صلىاللهعليهوسلم سجد في (ص) وقال : «سجدها داود عليه الصلاة والسلام توبة ونسجدها شكرا»
تفرد بروايته النسائي ورجال إسناده كلهم ثقات.
وقد أخبرني شيخنا
الحافظ أبو الحجاج المزي قراءة عليه وأنا أسمع ، أخبرنا أبو إسحاق المدرجي أخبرنا
زاهر بن أبي طاهر الثقفي حدثنا زاهر بن أبي طاهر الشحامي أخبرنا أبو سعيد
الكنجروذي أخبرنا الحاكم أبو أحمد محمد بن محمد الحافظ أخبرنا أبو العباس السراج
حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا محمد بن يزيد بن خنيس عن الحسن بن محمد بن عبيد
الله بن أبي يزيد قال : قال لي ابن جريج يا حسن حدثني جدك عبيد الله بن أبي يزيد
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال جاء رجل إلى النبي صلىاللهعليهوسلم فقال يا رسول الله إني رأيت فيما يرى النائم كأني أصلي خلف
شجرة فقرأت السجدة فسجدت ، فسجدت الشجرة بسجودي فسمعتها تقول وهي ساجدة : اللهم
اكتب لي عندك أجرا ، واجعلها لي عندك ذخرا ، وضع بها عني وزرا ، واقبلها مني كما
قبلتها من عبدك داود.
قال ابن عباس رضي
الله عنهما فرأيت النبي صلىاللهعليهوسلم قام فقرأ السجدة ثم سجد فسمعته يقول وهو ساجد كما حكى
الرجل عن كلام الشجرة ، رواه الترمذي عن قتيبة وابن ماجة عن أبي بكر بن خلاد كلاهما
عن محمد بن يزيد بن خنيس نحوه ، وقال الترمذي غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
وقال البخاري عند تفسيرها أيضا حدثنا محمد بن عبد الله حدثنا محمد بن
عبيد الطنافسي عن العوام قال سألت مجاهدا عن سجدة (ص) فقال : سألت ابن عباس رضي الله عنهما من أين سجدت فقال أو
ما تقرأ (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ
داوُدَ وَسُلَيْمانَ) [الأنعام : ٨٤] (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ
فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام : ٩٠]
فكان داود عليه الصلاة والسلام ممن أمر نبيكم صلىاللهعليهوسلم أن يقتدي به فسجدها داود عليه الصلاة والسلام فسجدها رسول
الله صلىاللهعليهوسلم.
وقال الإمام أحمد حدثنا عفان حدثنا يزيد بن زريع حدثنا حميد حدثنا بكر هو
ابن عبد الله المزني أنه أخبره أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه رأى رؤيا أنه يكتب
(ص) فلما بلغ إلى الآية التي يسجد بها رأى الدواة والقلم وكل
شيء بحضرته انقلب ساجدا قال فقصها
__________________
على النبي صلىاللهعليهوسلم فلم يزل يسجد بها بعد ، تفرد به أحمد ، وقال أبو داود حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث
عن سعيد بن أبي هلال عن عياض بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح عن أبي سعيد الخدري
رضي الله عنه قال : قرأ رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو على المنبر (ص) فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه فلما كان يوم آخر
قرأها فلما بلغ السجدة تشزّن الناس للسجود فقال صلىاللهعليهوسلم : «إنما هي توبة نبي ولكني رأيتكم تشزّنتم» فنزل وسجدوا
تفرد به أبو داود وإسناده على شرط الصحيحين.
وقوله تعالى : (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى
وَحُسْنَ مَآبٍ) أي وإن له يوم القيامة لقربة يقربه الله عزوجل بها وحسن مرجع وهو الدرجات العالية في الجنة لتوبته وعدله
التام في ملكه كما جاء في الصحيح «المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا
يديه يمين الذين يقسطون في أهليهم وما ولوا» وقال الإمام أحمد حدثنا يحيى بن آدم حدثنا فضيل عن عطية عن أبي سعيد الخدري
قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأقربهم منه مجلسا
إمام عادل ، وإن أبغض الناس إلى الله يوم القيامة وأشدهم عذابا إمام جائر» ورواه
الترمذي من حديث فضيل وهو ابن مرزوق الأغر عن عطية به ، وقال لا نعرفه مرفوعا إلا
من هذا الوجه. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو زرعة حدثنا عبد الله بن أبي زياد حدثنا
سيار حدثنا جعفر بن سليمان سمعت مالك بن دينار في قوله تعالى : (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى
وَحُسْنَ مَآبٍ) قال يقام داود يوم القيامة عند ساق العرش ثم يقول يا داود
مجدني اليوم بذلك الصوت الحسن الرخيم الذي كنت تمجدني به في الدنيا فيقول وكيف وقد
سلبته؟ فيقول الله عزوجل إني أرده عليك اليوم قال فيرفع داود عليه الصلاة والسلام
بصوت يستفرغ نعيم أهل الجنان.
(يا داوُدُ إِنَّا
جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا
تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ
عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ)
(٢٦)
هذه وصية من الله عزوجل لولاة الأمور أن يحكموا بين الناس بالحق المنزل من عنده
تبارك وتعالى ولا يعدلوا عنه فيضلوا عن سبيل الله ، وقد توعد تبارك وتعالى من ضل
عن سبيله وتناسى يوم الحساب بالوعيد الأكيد والعذاب الشديد. قال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبي حدثنا هشام بن خالد حدثنا الوليد حدثنا مروان بن جناح حدثني إبراهيم أبو
زرعة وكان قد قرأ الكتاب أن الوليد بن عبد الملك قال له : أيحاسب الخليفة فإنك قد
قرأت الكتاب الأول وقرأت القرآن
__________________
وفقهت فقلت يا
أمير المؤمنين أقول؟ قال : قل في أمان الله ، قلت يا أمير المؤمنين أنت أكرم على
الله أو داود عليه الصلاة والسلام ، إن الله تعالى جمع له النبوة والخلافة ثم
توعده في كتابه فقال تعالى : (يا داوُدُ إِنَّا
جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا
تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) الآية وقال عكرمة (لَهُمْ عَذابٌ
شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ) هذا من المقدم والمؤخر لهم عذاب شديد يوم الحساب بما نسوا
، وقال السدي لهم عذاب شديد بما تركوا أن يعملوا ليوم الحساب وهذا القول أمشى على
ظاهر الآية والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب.
(وَما خَلَقْنَا
السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧)
أَمْ
نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي
الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨)
كِتابٌ
أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا
الْأَلْبابِ) (٢٩)
يخبر تعالى أنه ما
خلق الخلق عبثا وإنما خلقهم ليعبدوه ويوحدوه ثم يجمعهم يوم الجمع فيثيب المطيع
ويعذب الكافر ولهذا قال تبارك وتعالى : (وَما خَلَقْنَا
السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي الذين لا يرون بعثا ولا معادا وإنما يعتقدون هذه الدار
فقط (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) أي ويل لهم يوم معادهم ونشورهم من النار المعدة لهم ، ثم
بين تعالى أنه عزوجل من عدله وحكمته لا يساوي بين المؤمنين والكافرين فقال
تعالى : (أَمْ نَجْعَلُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ
نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) أي لا نفعل ذلك ولا يستوون عند الله وإذا كان الأمر كذلك
فلا بد من دار أخرى يثاب فيها هذا المطيع ويعاقب فيها هذا الفاجر وهذا الإرشاد يدل
على العقول السليمة والفطر المستقيمة على أنه لا بد من معاد وجزاء فإنا نرى الظالم
الباغي يزداد ماله وولده ونعيمه ويموت كذلك ونرى المطيع المظلوم يموت بكمده فلا بد
في حكمة الحكيم العليم العادل الذي لا يظلم مثقال ذرة من إنصاف هذا من هذا ، وإذا
لم يقع هذا في هذه الدار فتعين أن هناك دارا أخرى لهذا الجزاء والمواساة.
ولما كان القرآن
يرشد إلى المقاصد الصحيحة والمآخذ العقلية الصريحة قال تعالى : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ
لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) أي ذوو العقول وهي الألباب جمع لب وهو العقل ، قال الحسن
البصري والله ما تدبره بحفظ حروفه وإضاعة حدوده حتى أن أحدهم ليقول قرأت القرآن
كله ما يرى له القرآن في خلق ولا عمل ، رواه ابن أبي حاتم.
(وَوَهَبْنا لِداوُدَ
سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٠)
إِذْ
عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (٣١) فَقالَ إِنِّي
أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (٣٢) رُدُّوها عَلَيَّ
فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ)
(٣٣)
يقول تعالى مخبرا
أنه وهب لداود سليمان أي نبيا كما قال عزوجل : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ
داوُدَ) [النمل : ١٦] أي
في النبوة وإلا فقد كان له بنون غيره فإنه قد كان عنده مائة امرأة حرائر. وقوله
تعالى : (نِعْمَ الْعَبْدُ
إِنَّهُ أَوَّابٌ) ثناء على سليمان بأنه كثير الطاعة والعبادة والإنابة إلى
الله عزوجل. قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا عمرو بن خالد حدثنا
الوليد حدثنا ابن جابر حدثنا مكحول قال لما وهب الله تعالى لداود سليمان قال له يا
بني ما أحسن؟ قال سكينة الله وإيمان؟ قال فما أقبح؟ قال كفر بعد إيمان قال فما
أحلى ، قال روح الله بين عباده قال فما أبرد؟ قال عفو الله عن الناس وعفو الناس
بعضهم عن بعض قال داود عليهالسلام فأنت نبي.
وقوله تعالى : (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ
الصَّافِناتُ الْجِيادُ) أي إذ عرض على سليمان عليه الصلاة والسلام في حال مملكته
وسلطانه الخيل الصافنات قال مجاهد وهي التي تقف على ثلاث وطرف حافر الرابعة
والجياد السراع وكذا قال غير واحد من السلف.
وقال ابن جرير حدثنا محمد بن بشار حدثنا مؤمل حدثنا سفيان عن أبيه سعيد
بن مسروق عن إبراهيم التيمي في قوله عزوجل : (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ
بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ) قال كانت عشرين فرسا ذات أجنحة كذا رواه ابن جرير.
وقال ابن أبي حاتم
حدثنا أبو زرعة حدثنا إبراهيم بن موسى حدثنا ابن أبي زائدة أخبرني إسرائيل عن سعيد
بن مسروق عن إبراهيم التيمي قال كانت الخيل التي شغلت سليمان عليه الصلاة والسلام
عشرين ألف فرس فعقرها وهذا أشبه ، والله أعلم ، وقال أبو داود حدثنا محمد بن عوف حدثنا سعيد بن أبي مريم أخبرنا يحيى بن
أيوب حدثنا عمارة بن غزية أن محمد بن إبراهيم حدثه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن
عائشة رضي الله عنها قالت قدم رسول الله صلىاللهعليهوسلم من غزوة تبوك أو خيبر وفي سهوتها ستر فهبت الريح فكشفت ناحية الستر عن بنات لعائشة رضي الله
عنها لعب فقال صلىاللهعليهوسلم : «ما هذا يا عائشة؟» قالت رضي الله عنها بناتي ورأى بينهن
فرسا له جناحان من رقاع فقال صلىاللهعليهوسلم : «ما هذا الذي أرى وسطهن؟» قالت رضي الله عنها فرس ، قال
رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «وما هذا الذي عليه؟» قالت رضي الله عنها جناحان قال
رسول اللهصلىاللهعليهوسلم «فرس له جناحان؟»
قالت رضي الله عنها أما سمعت أن سليمان عليه الصلاة والسلام كانت له خيل لها أجنحة
قالت رضي الله عنها فضحك صلىاللهعليهوسلم حتى رأيت نواجذه.
__________________
وقوله تبارك
وتعالى : (فَقالَ إِنِّي
أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) ذكر غير واحد من السلف والمفسرين أنه اشتغل بعرضها حتى فات
وقت صلاة العصر والذي يقطع به أنه لم يتركها عمدا بل نسيانا كما شغل النبي صلىاللهعليهوسلم يوم الخندق عن صلاة العصر حتى صلاها بعد الغروب وذلك ثابت
في الصحيحين من غير وجه من ذلك عن جابر رضي الله عنه قال جاء عمر رضي الله عنه يوم
الخندق بعد ما غربت الشمس فجعل يسب كفار قريش ويقول يا رسول الله ما كدت أصلي
العصر حتى كادت الشمس تغرب فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «والله ما صليتها» فقال : فقمنا إلى بطحان فتوضأ نبي الله صلىاللهعليهوسلم للصلاة وتوضأنا لها فصلى العصر بعد ما غربت الشمس ثم صلى
بعدها المغرب .
ويحتمل أنه كان
سائغا في ملتهم تأخير الصلاة لعذر الغزو والقتال ، والخيل تراد للقتال وقد ادعى
طائفة من العلماء أن هذا كان مشروعا فنسخ ذلك بصلاة الخوف ، ومنهم من ذهب إلى ذلك
في حال المسايفة والمضايقة حيث لا يمكن صلاة ولا ركوع ولا سجود كما فعل الصحابة
رضي الله عنهم في فتح تستر وهو منقول عن مكحول والأوزاعي وغيرهما والأول أقرب لأنه
قال بعده (رُدُّوها عَلَيَّ
فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) قال الحسن البصري : لا ، قال : والله لا تشغليني عن عبادة
ربي آخر ما عليك ، ثم أمر بها فعقرت وكذا قال قتادة ، وقال السدي : ضرب أعناقها
وعراقيبها بالسيوف.
وقال علي بن أبي
طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما جعل يمسح أعراف الخيل وعراقيبها حبالها.
وهذا القول اختاره
ابن جرير قال : لأنه لم يكن ليعذب حيوانا بالعرقبة ويهلك مالا من
ماله بلا سبب سوى أنه اشتغل عن صلاته بالنظر إليها ولا ذنب لها وهذا الذي رجح به
ابن جرير فيه نظر لأنه قد يكون في شرعهم جواز مثل هذا ولا سيما إذا كان غضبا لله
تعالى بسبب أنه اشتغل بها حتى خرج وقت الصلاة ولهذا لما خرج عنها لله تعالى عوضه
الله عزوجل ما هو خير منها وهي الريح التي تجري بأمره رخاء حيث أصاب
غدوها شهر ورواحها شهر فهذا أسرع وخير من الخيل.
وقال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل حدثنا سليمان بن المغيرة عن حميد بن هلال
عن
__________________
أبي قتادة وأبي
الدهماء وكانا يكثران السفر نحو البيت قالا أتينا على رجل من أهل البادية فقال لنا
البدوي : أخذ بيدي رسول الله صلىاللهعليهوسلم فجعل يعلمني مما علمه الله عزوجل وقال : «إنك لا تدع شيئا اتقاء الله تعالى إلا أعطاك الله عزوجل خيرا منه».
(وَلَقَدْ فَتَنَّا
سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (٣٤) قالَ رَبِّ اغْفِرْ
لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ
الْوَهَّابُ (٣٥) فَسَخَّرْنا لَهُ
الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (٣٦)
وَالشَّياطِينَ
كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧)
وَآخَرِينَ
مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٣٨)
هذا
عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٩)
وَإِنَّ
لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ)
(٤٠)
يقول تعالى : (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ) أي اختبرناه بأن سلبناه الملك مرة (وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً) قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن
وقتادة وغيرهم يعني شيطانا (ثُمَّ أَنابَ) أي رجع إلى ملكه وسلطانه وأبهته. قال ابن جرير ، وكان اسم ذلك الشيطان صخرا قاله ابن عباس رضي الله عنهما
وقتادة وقيل آصف قاله مجاهد وقيل أصروا قاله مجاهد أيضا وقيل حبقيق قاله السدي وقد
ذكروا هذه القصة مبسوطة ومختصرة.
وقد قال سعيد بن
أبي عروبة عن قتادة قال أمر سليمان عليه الصلاة والسلام ببناء بيت المقدس فقيل له
ابنه ولا يسمع فيه صوت حديد ، قال فطلب ذلك فلم يقدر عليه فقيل إن شيطانا في البحر
يقال له صخر شبه المارد قال فطلبه وكانت في البحر عين يردها في كل سبعة أيام مرة
فنزح ماءها وجعل فيها خمرا فجاء يوم ورده فإذا هو بالخمر فقال : إنك لشراب طيب إلا
أنك تصبين الحليم وتزيدين الجاهل جهلا ، قال ثم رجع حتى عطش عطشا شديدا ثم
أتاها فقال : إنك لشراب طيب إلا أنك تصبين الحليم وتزيدين الجاهل جهلا ، قال ثم
شربها حتى غلب على عقله قال فأري الخاتم أو ختم به بين كتفيه فذل ، قال وكان ملكه
في خاتمه فأتى به سليمان عليه الصلاة والسلام فقال إنا قد أمرنا ببناء هذا البيت
وقيل لنا لا يسمعن فيه صوت حديد قال فأتى ببيض الهدهد فجعل عليه زجاجة فجاء الهدهد
فدار حولها فجعل يرى بيضه ولا يقدر عليه فذهب فجاء بألماس فوضعه عليه فقطعها به
حتى أفضى إلى بيضه فأخذ الماس فجعلوا يقطعون به الحجارة وكان سليمان عليه الصلاة
والسلام إذا أراد أن يدخل الخلاء أو الحمام لم يدخل بخاتمه فانطلق يوما إلى الحمام
، وذلك الشيطان صخر معه وذلك عند مقارفة قارف فيها بعض نسائه قال فدخل الحمام
وأعطى الشيطان خاتمه فألقاه في البحر فالتقمته سمكة ونزع ملك سليمان منه وألقي على
الشيطان شبه سليمان قال فجاء فقعد على كرسيه وسريره وسلط على ملك سليمان كله غير
نسائه فجعل يقضي بينهم وجعلوا ينكرون منه
__________________
أشياء حتى قالوا
لقد فتن نبي الله وكان فيهم رجل يشبهونه بعمر بن الخطاب رضي الله عنه في القوة
فقال والله لأجربنه قال : فقال يا نبي الله وهو لا يرى إلا أنه نبي الله أحدنا
تصيبه الجنابة في الليلة الباردة فيدع الغسل عمدا حتى تطلع الشمس أترى عليه بأسا
قال : لا فبينما هو كذلك أربعين ليلة إذ وجد نبي الله خاتمه في بطن سمكة فأقبل
فجعل لا يستقبله جني ولا طير إلا سجد له حتى انتهى إليهم (وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً) قال هو الشيطان صخر .
وقال السدي (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ) أي ابتلينا سليمان (وَأَلْقَيْنا عَلى
كُرْسِيِّهِ جَسَداً) قال شيطانا جلس على كرسيه أربعين يوما قال كان لسليمان
عليه الصلاة والسلام مائة امرأة وكانت امرأة منهم يقال لها جرادة وهي آثر نسائه
وآمنهن عنده وكان إذا أجنب أو أتى حاجة نزع خاتمة ولم يأتمن عليه أحدا من الناس
غيرها فأعطاها يوما خاتمه ودخل الخلاء ، فخرج الشيطان في صورته فقال هاتي الخاتم
فأعطته فجاء حتى جلس على مجلس سليمان عليه الصلاة والسلام وخرج سليمان بعد ذلك
فسألها أن تعطيه خاتمه فقالت : ألم تأخذه قبل؟ قال : لا وخرج وكأنه تائه ومكث
الشيطان يحكم بين الناس أربعين يوما قال فأنكر الناس أحكامه فاجتمع قراء بني
إسرائيل وعلماؤهم فجاؤوا حتى دخلوا على نسائه فقالوا لهن إنا قد أنكرنا هذا فإن
كان سليمان فقد ذهب عقله وأنكرنا أحكامه قال فبكى النساء عند ذلك قال فأقبلوا
يمشون حتى أتوه فأحدقوا به ثم نشروا يقرءون التوراة قال فطار من بين أيديهم حتى
وقع على شرفة والخاتم معه ثم طار حتى ذهب إلى البحر فوقع الخاتم منه في البحر
فابتلعه حوت من حيتان البحر. قال وأقبل سليمان عليه الصلاة والسلام في حاله التي
كان فيها حتى انتهى إلى صياد من صيادي البحر وهو جائع وقد اشتد جوعه فاستطعمهم من
صيدهم وقال إني أنا سليمان فقام إليه بعضهم فضربه بعصى فشجه فجعل يغسل دمه وهو على
شاطئ البحر فلام الصيادون صاحبهم الذي ضربه فقالوا بئس ما صنعت حيث ضربته قال إنه
زعم أنه سليمان ، قال فأعطوه سمكتين مما قد مذر عندهم ولم يشغله ما كان به من
الضرب حتى قام إلى شاطئ البحر فشق بطونهما فجعل يغسل فوجد خاتمه في بطن إحداهما
فأخذه فلبسه فردّ الله عليه بهاءه وملكه فجاءت الطير حتى حامت عليه فعرف القوم أنه
سليمان عليه الصلاة والسلام فقام القوم يعتذرون مما صنعوا فقال ما أحمدكم على
عذركم ولا ألومكم على ما كان منكم كان هذا الأمر لا بد منه قال فجاء حتى أتى ملكه
وأرسل إلى الشيطان فجيء به فأمر به فجعل في صندوق من حديد ثم أطبق عليه وقفل عليه
بقفل وختم عليه بخاتمه ثم أمر به فألقي في البحر فهو فيه حتى تقوم الساعة وكان
اسمه حبقيق قال وسخر الله له الريح ولم تكن سخرت له قبل ذلك وهو قوله
: (وَهَبْ لِي مُلْكاً
لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ).
__________________
وقال ابن أبي نجيح
عن مجاهد في قوله تبارك وتعالى : (وَأَلْقَيْنا عَلى
كُرْسِيِّهِ جَسَداً) قال شيطانا يقال له آصف فقال له سليمان عليه الصلاة
والسلام كيف تفتنون الناس؟ قال أرني خاتمك أخبرك فلما أعطاه إياه نبذه آصف في البحر
فساح سليمان عليه الصلاة والسلام وذهب ملكه وقعد آصف على كرسيه ومنعه الله تبارك
وتعالى من نساء سليمان فلم يقربهنّ ولم يقربنه وأنكرنه. قال : فكان سليمان عليه
الصلاة والسلام يستطعم فيقول أتعرفوني؟ أطعموني أنا سليمان فيكذبونه حتى أعطته
امرأة يوما حوتا ففتح بطنه فوجد خاتمه في بطنه فرجع إليه ملكه وفر آصف فدخل البحر
فارا . وهذه كلها من الإسرائيليات ، ومن أنكرها ما قاله ابن أبي حاتم :
حدثنا علي بن
الحسين حدثنا محمد بن العلاء وعثمان بن أبي شيبة وعلي بن محمد قالوا : حدثنا أبو
معاوية أخبرنا الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله
عنهما في قوله تعالى : (وَأَلْقَيْنا عَلى
كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ) قال أراد سليمان عليه الصلاة والسلام أن يدخل الخلاء فأعطى
الجرادة خاتمه وكانت الجرادة امرأته وكانت أحب نسائه إليه فجاء الشيطان في صورة
سليمان فقال لها هاتي خاتمي فأعطته إياه فلما لبسه دانت له الإنس والجن والشياطين
فلما خرج سليمان عليهالسلام من الخلاء قال لها هاتي خاتمي قالت أعطيته سليمان قال أنا
سليمان قال كذبت ما أنت بسليمان فجعل لا يأتي أحدا يقول له أنا سليمان إلا كذبه
حتى جعل الصبيان يرمونه بالحجارة.
فلما رأى ذلك
سليمان عرف أنه من أمر الله عزوجل قال وقام الشيطان يحكم بين الناس فلما أراد الله تبارك
وتعالى أن يرد على سليمان سلطانه ألقى في قلوب الناس إنكار ذلك الشيطان قال
فأرسلوا إلى نساء سليمان فقالوا لهن : أتنكرن من سليمان شيئا ، قلن نعم إنه يأتينا
ونحن حيض وما كان يأتينا قبل ذلك فلما رأى الشيطان أنه قد فطن له ظن أن أمره قد
انقطع فكتبوا كتبا فيها سحر وكفر فدفنوها تحت كرسي سليمان ثم أثاروها وقرءوها على
الناس وقالوا بهذا كان يظهر سليمان على الناس ويغلبهم فأكفر الناس سليمان عليه
الصلاة والسلام فلم يزالوا يكفرونه وبعث ذلك الشيطان بالخاتم فطرحه في البحر
فتلقته سمكة فأخذته ، وكان سليمان عليهالسلام يحمل على شط البحر بالأجر فجاء رجل فاشترى سمكا فيه تلك
السمكة التي في بطنها الخاتم فدعا سليمان عليه الصلاة والسلام فقال : تحمل لي هذا
السمك؟ فقال نعم قال بكم؟ قال بسمكة من هذا السمك قال فحمل سليمان عليه الصلاة
والسلام السمك ثم انطلق به إلى منزله فلما انتهى الرجل إلى بابه أعطاه تلك السمكة
التي في بطنها الخاتم فأخذها سليمان عليه الصلاة والسلام فشق بطنها فإذا بالخاتم
في جوفها فأخذه فلبسه.
__________________
قال فلما لبسه
دانت له الجن والإنس والشياطين وعاد إلى حاله وهرب الشيطان حتى لحق بجزيرة من
جزائر البحر فأرسل سليمان عليه الصلاة والسلام في طلبه وكان شيطانا مريدا فجعلوا
يطلبونه ولا يقدرون عليه حتى وجدوه يوما نائما فجاؤوا فبنوا عليه بنيانا من رصاص
فاستيقظ فوثب فجعل لا يثيب في مكان من البيت إلا انماط معه الرصاص ، قال فأخذوه
فأوثقوه وجاءوا به إلى سليمان عليه الصلاة والسلام فأمر به فنقر له تخت من رخام ثم
أدخل في جوفه ثم سدّ بالنحاس ثم أمر به فطرح في البحر فذلك قوله تبارك وتعالى : (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ
وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ) قال : يعني الشيطان الذي كان سلط عليه ، إسناده إلى ابن
عباس رضي الله عنهما قوي ، ولكن الظاهر أنه إنما تلقاه ابن عباس رضي الله عنهما إن
صح عنه من أهل الكتاب وفيهم طائفة لا يعتقدون نبوة سليمان عليه الصلاة والسلام
فالظاهر أنهم يكذبون عليه ، ولهذا كان في هذا السياق منكرات من أشدها ذكر النساء
فإن المشهور عن مجاهد وغير واحد من أئمة السلف أن ذلك الجني لم يسلط على نساء
سليمان بل عصمهن الله عزوجل منه تشريفا وتكريما لنبيه عليهالسلام. وقد رويت هذه القصة مطولة عن جماعة من السلف رضي الله
عنهم كسعيد بن المسيب وزيد بن أسلم وجماعة آخرين وكلها متلقاة من قصص أهل الكتاب ،
والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
قال يحيى بن أبي
عمرو الشيباني : وجد سليمان خاتمه بعسقلان فمشى في خرقة إلى بيت المقدس تواضعا لله
عزوجل ، رواه ابن أبي حاتم. وقد روى ابن أبي حاتم عن كعب الأحبار
في صفة كرسي سليمان عليه الصلاة والسلام خبرا عجيبا فقال حدثنا أبي رحمهالله حدثنا أبو صالح كاتب الليث أخبرني أبو إسحاق المصري عن كعب
الأحبار أنه لما فرغ من حديث إرم ذات العماد قال له معاوية : يا أبا إسحاق أخبرني
عن كرسي سليمان عليه الصلاة والسلام وما كان عليه ومن أي شيء هو ، فقال كان كرسي
سليمان من أنياب الفيلة مرصعا بالدر والياقوت والزبرجد واللؤلؤ ، وقد جعل له درجة
منها مفصّصة بالدر والياقوت والزبرجد عن ثم أمر بالكرسي فحف من جانبيه بالنخل نخل
من ذهب شماريخها من ياقوت وزبرجد ولؤلؤ ، وجعل على رؤوس النخل التي عن يمين الكرسي
طواويس من ذهب ثم جعل على رؤوس النخل التي على يسار الكرسي نسورا من ذهب مقابلة
الطواويس ، وجعل على يمين الدرجة الأولى شجرتا صنوبر من ذهب وعلى يسارها أسدان من
ذهب وعلى رؤوس الأسدين عمودان من زبرجد ، وجعل من جانبي الكرسي شجرتا كرم من ذهب
قد أظلتا الكرسي وجعل عناقيدهما درا وياقوتا أحمر.
ثم جعل فوق درج
الكرسي أسدان عظيمان من ذهب مجوفان محشوان مسكا وعنبرا ، فإذا أراد سليمان عليهالسلام أن يصعد على كرسيه استدار الأسدان ساعة ثم يقعان فينضحان
ما في أجوافهما من المسك والعنبر حول كرسي سليمان عليه الصلاة والسلام ثم يوضع
منبران من
ذهب واحد لخليفته
والآخر لرئيس أحبار بني إسرائيل ذلك الزمان ، ثم يوضع أمام كرسيه سبعون منبرا من
ذهب يقعد عليها سبعون قاضيا من بني إسرائيل وعلمائهم وأهل الشرف منهم والطول ، ومن
خلف تلك المنابر كلها خمسة وثلاثون منبرا من ذهب ليس عليها أحد فإذا أراد أن يصعد
على كرسيه وضع قدميه على الدرجة السفلى فاستدار الكرسي كله بما فيه وما عليه ويبسط
الأسد يده اليمنى وينشر النسر جناحه الأيسر ثم يصعد سليمان عليه الصلاة والسلام
على الدرجة الثانية فيبسط الأسد يده اليسرى وينشر النسر جناحه الأيمن فإذا استوى
سليمان عليه الصلاة والسلام على الدرجة الثالثة وقعد على الكرسي أخذ نسر من تلك
النسور عظيم تاج سليمان عليه الصلاة والسلام فوضعه على رأسه فإذا وضعه على رأسه
استدار الكرسي بما فيه كما تدور الرحى المسرعة ، فقال معاوية رضي الله عنه : وما
الذي يديره يا أبا إسحاق؟ قال : تنين من ذهب ذلك الكرسي عليه وهو عظيم مما عمله
صخر الجني فإذا أحست بدورانه دارت تلك الأسود والنسور والطواويس التي في أسفل
الكرسي درن إلى أعلاه فإذا وقف وقفن كلهن منكسات رؤوسهن على رأس سليمان عليه
الصلاة والسلام وهو جالس ثم ينضحن جميعا ما في أجوافهن من المسك والعنبر على رأس
سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام. ثم تتناول حمامة من ذهب واقفة على عمود من
جوهر التوراة فتجعلها في يده فيقرؤها سليمان عليه الصلاة والسلام على الناس. وذكر
تمام الخبر وهو غريب جدا.
(قالَ رَبِّ اغْفِرْ
لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ
الْوَهَّابُ) قال بعضهم لا ينبغي لأحد من بعدي أي لا يصلح لأحد أن
يسلبنيه بعدي كما كان من قضية الجسد الذي ألقي على كرسيه لا أنه يحجر على من بعده
من الناس والصحيح أنه سأل من الله تعالى ملكا لا يكون لأحد من بعده من البشر مثله
وهذا هو ظاهر السياق من الآية وبذلك وردت الأحاديث الصحيحة من طرق عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
قال البخاري عند
تفسير هذه الآية : حدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا روح ومحمد بن جعفر عن شعبة عن
محمد بن زياد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «إن عفريتا من الجن تفلت عليّ البارحة ـ أو كلمة
نحوها ـ ليقطع علي الصلاة فأمكنني الله تبارك وتعالى منه وأردت أن أربطه إلى سارية
من سواري المسجد حتى تصبحوا وتنظروا إليه كلكم فذكرت قول أخي سليمان عليه الصلاة
والسلام (رَبِّ اغْفِرْ لِي
وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) قال روح فرده خاسئا وكذا رواه مسلم والنسائي من حديث شعبة
به.
وقال مسلم في
صحيحه حدثنا محمد بن سلمة المرادي حدثنا عبد الله بن وهب عن
__________________
معاوية بن صالح
حدثني ربيعة بن يزيد عن أبي إدريس الخولاني عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : قام
رسول الله صلىاللهعليهوسلم يصلي فسمعناه يقول : «أعوذ بالله منك ـ ثم قال ـ ألعنك
بلعنة الله» ثلاثا وبسط يده كأنه يتناول شيئا فلما فرغ من الصلاة قلنا : يا رسول
الله سمعناك تقول في الصلاة شيئا لم نسمعك تقوله قبل ذلك ورأيناك بسطت يدك قال صلىاللهعليهوسلم : «إن عدو الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي
فقلت أعوذ بالله منك ثلاث مرات ثم قلت ألعنك بلعنة الله التامة فلم يستأخر ثلاث
مرات ثم أردت أن آخذه والله لولا دعوة سليمان لأصبح موثقا يلعب به صبيان أهل
المدينة» .
وقال الإمام أحمد حدثنا أبو أحمد حدثنا ميسرة بن معبد حدثنا أبو عبيد حاجب
سليمان قال رأيت عطاء بن يزيد الليثي قائما يصلي فذهبت أمر بين يديه فردني ثم قال
حدثني أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قام يصلي صلاة الصبح وهو خلفه فقرأ فالتبست عليه القراءة
فلما فرغ من صلاته قال : «لو رأيتموني وإبليس فأهويت بيدي فما زلت أخنقه حتى وجدت
برد لعابه بين إصبعي هاتين ـ الإبهام والتي تليها ـ ولولا دعوة أخي سليمان لأصبح
مربوطا بسارية من سواري المسجد يتلاعب به صبيان المدينة فمن استطاع منكم أن لا
يحول بينه وبين القبلة أحد فليفعل».
وقد روى أبو داود منه «من استطاع منكم أن لا يحول بينه وبين القبلة أحد
فليفعل» عن أحمد بن أبي سريج عن أبي أحمد الزبيري به.
وقال الإمام أحمد حدثنا معاوية بن عمرو حدثنا إبراهيم بن محمد الفزاري حدثنا
الأوزاعي حدثني ربيعة بن يزيد عن عبد الله الديلمي قال دخلت على عبد الله بن عمرو
رضي الله عنهما وهو في حائط له بالطائف يقال له الوهط وهو مخاصر فتى من قريش يزنّ
بشرب الخمر فقلت بلغني عنك حديث أنه «من شرب شربة من الخمر لم يقبل الله عزوجل له توبة أربعين صباحا ، وإن الشقي من شقي في بطن أمه ،
وإنه من أتى البيت المقدس لا ينهزه إلا الصلاة فيه خرج من خطيئته مثل يوم ولدته
أمه» فلما سمع الفتى ذكر الخمر اجتذب يده من يده ثم انطلق فقال عبد الله بن عمرو
رضي الله عنهما إني لا أحل لأحد أن يقول علي ما لم أقل سمعت رسول الله يقول : «من
شرب من الخمر شربة لا تقبل له صلاة أربعين صباحا فإن تاب تاب الله عليه فإن عاد
كان حقا على الله تعالى أن يسقيه من طينة الخبال يوم القيامة» قال وسمعت رسول اللهصلىاللهعليهوسلم يقول : «إن الله عزوجل خلق خلقه في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره فمن أصابه
__________________
من نوره يومئذ
اهتدى ومن أخطأه ضل فلذلك أقول جف القلم على علم الله عزوجل» وسمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «إن سليمان عليهالسلام سأل الله تعالى ثلاثا فأعطاه اثنتين ونحن نرجو أن تكون لنا
الثالثة ، سأله حكما يصادف حكمه فأعطاه إياه وسأله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده ،
فأعطاه إياه وسأله أيما رجل خرج من بيته لا يريد إلا الصلاة في هذا المسجد خرج من
خطيئته كيوم ولدته أمه فنحن نرجو أن يكون الله عزوجل قد أعطانا إياها».
وقد روى هذا الفصل
الأخير من هذا الحديث النسائي وابن ماجة من طرق عن عبد الله بن فيروز الديلمي عن
عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : قال رسول الله : «إن سليمان عليه الصلاة
والسلام لما بنى بيت المقدس سأل ربه عزوجل خلالا ثلاثا» وذكره وقد روي من حديث رافع بن عمير رضي الله عنه بإسناد
وسياق غريبين.
فقال الطبراني
حدثنا محمد بن الحسن بن قتيبة العسقلاني حدثنا محمد بن أيوب بن سويد حدثني أبي
حدثنا إبراهيم بن أبي عبلة عن أبي الزاهرية عن رافع بن عمير قال سمعت رسول الله
يقول : «قال الله عزوجل لداود عليه الصلاة والسلام ابن لي بيتا في الأرض فبنى داود
بيتا لنفسه قبل البيت الذي أمر به فأوحى الله إليه يا داود نصبت بيتك قبل بيتي قال
يا رب هكذا قضيت من ملك استأثر ثم أخذ في بناء المسجد فلما تم السور سقط ثلاثا
فشكا ذلك إلى الله عزوجل فقال يا داود إنك لا تصلح أن تبني لي بيتا قال ولم يا رب؟
قال لما جرى على يديك من الدماء ، قال يا رب أو ما كان ذلك في هواك ومحبتك؟ قال
بلى ولكنهم عبادي وأنا أرحمهم فشق ذلك عليه فأوحى الله إليه لا تحزن فإني سأقضي
بناءه على يدي ابنك سليمان فلما مات داود أخذ سليمان في بنائه ولما تمّ قرّب
القرابين وذبح الذبائح وجمع بني إسرائيل فأوحى الله إليه قد أرى سرورك ببنيان بيتي
فسلني أعطك قال أسألك ثلاث خصال حكما يصادف حكمك وملكا لا ينبغي لأحد من بعدي ومن
أتى هذا البيت لا يريد إلا الصلاة فيه خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ـ قال رسول
اللهصلىاللهعليهوسلم ـ أما الثنتان فقد أعطيهما وأنا أرجو أن يكون قد أعطي
الثالثة».
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد حدثنا عمر بن راشد اليمامي حدثنا إياس
بن سلمة الأكوع عن أبيه رضي الله عنه قال : ما سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم دعا إلا استفتحه ب «سبحان الله ربي العلي الأعلى الوهاب»
وقد قال أبو عبيد : حدثنا علي بن ثابت عن جعفر بن برقان عن صالح بن مسمار قال لما
مات نبي الله داود عليهالسلام أوحى الله تبارك وتعالى إلى ابنه سليمان عليه الصلاة
والسلام أن سلني حاجتك قال أسألك أن تجعل لي قلبا يخشاك كما كان قلب أبي وأن تجعل
قلبي يحبك كما كان قلب أبي فقال الله عزوجل : أرسلت إلى عبدي
__________________
وسألته حاجته
فكانت حاجته أن أجعل قلبه يخشاني وأن أجعل قلبه يحبني ، لأهبن له ملكا لا ينبغي
لأحد من بعده.
قال الله جلت
عظمته : (فَسَخَّرْنا لَهُ
الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ) والتي بعدها قال فأعطاه ما أعطاه وفي الآخرة لا حساب عليه
هكذا أورده أبو القاسم ابن عساكر في ترجمة سليمان عليه الصلاة والسلام في تاريخه ،
وروي عن بعض السلف أنه قال بلغني عن داود عليه الصلاة والسلام أنه قال : إلهي كن
لسليمان كما كنت لي ، فأوحى الله عزوجل إليه : أن قل لسليمان أن يكون لي كما كنت لي أكون له كما
كنت لك. وقوله تبارك وتعالى : (فَسَخَّرْنا لَهُ
الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ) قال الحسن البصري رحمهالله لما عقر سليمان عليه الصلاة والسلام الخيل غضبا لله عزوجل عوضه الله تعالى ما هو خير منها وأسرع ، الريح التي غدوها
شهر ورواحها شهر.
وقوله جل وعلا : (حَيْثُ أَصابَ) أي حيث أراد من البلاد. وقوله جل جلاله : (وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ
وَغَوَّاصٍ) أي منهم ما هو مستعمل في الأبنية الهائلة من محاريب
وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات إلى غير ذلك من الأعمال الشاقة التي لا يقدر
عليها البشر ، وطائفة غواصون في البحار يستخرجون مما فيها من اللئالئ والجواهر
والأشياء النفيسة التي لا توجد إلا فيها (وَآخَرِينَ
مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) أي موثقون في الأغلال والأكبال ممن قد تمرد وعصى وامتنع من
العمل وأبى ، أو قد أساء في صنيعه واعتدى.
وقوله عزوجل : (هذا عَطاؤُنا
فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ) أي هذا الذي أعطيناك من الملك التام والسلطان الكامل كما
سألتنا فأعط من شئت واحرم من شئت لا حساب عليك أي مهما فعلت فهو جائز لك احكم بما
شئت فهو صواب.
وقد ثبت في
الصحيحين أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم لما خير بين أن يكون عبدا رسولا ـ وهو الذي يفعل ما يؤمر
به وإنما هو قاسم يقسم بين الناس كما أمره الله تعالى به ـ وبين أن يكون نبيا ملكا
يعطي من يشاء ويمنع من يشاء بلا حساب ولا جناح ، اختار المنزلة الأولى بعد ما
استشار جبريل عليه الصلاة والسلام فقال له تواضع فاختار المنزلة الأولى لأنها أرفع
قدرا عند الله عزوجل وأعلى منزلة في المعاد وإن كانت المنزلة الثانية وهي
النبوة مع الملك عظيمة أيضا في الدنيا والآخرة ، ولهذا لما ذكر تبارك وتعالى ما
أعطى سليمان عليه الصلاة والسلام في الدنيا نبه تعالى على أنه ذو حظ عند الله يوم
القيامة أيضا فقال تعالى : (وَإِنَّ لَهُ
عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) أي في الدنيا والآخرة.
(وَاذْكُرْ عَبْدَنا
أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (٤١) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ
هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (٤٢) وَوَهَبْنا لَهُ
أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٤٣)
وَخُذْ
بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا
تَحْنَثْ
إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ)
(٤٤)
يذكر تبارك وتعالى
عبده ورسوله أيوب عليه الصلاة والسلام وما كان ابتلاه تعالى به من الضر في جسده
وماله وولده حتى لم يبق في جسده مغرز إبرة سليمان سوى قلبه ، ولم يبق له من حال
الدنيا شيء يستعين به على مرضه وما هو فيه غير أن زوجته حفظت وده لإيمانها بالله
تعالى ورسوله فكانت تخدم الناس بالأجرة وتطعمه وتخدمه نحوا من ثماني عشرة سنة ،
وقد كان قبل ذلك في مال جزيل وأولاد وسعة طائلة في الدنيا ، فسلب جميع ذلك حتى آل
به الحال إلى أن ألقي على مزبلة من مزابل البلدة هذه المدة بكمالها ورفضه القريب
والبعيد سوى زوجته رضي الله عنها فإنها كانت لا تفارقه صباحا ومساء إلا بسبب خدمة
الناس ثم تعود إليه قريبا ، فلما طال المطال ، واشتد الحال ، وانتهى القدر المقدور
، وتم الأجل المقدر تضرع إلى رب العالمين وإله المرسلين فقال (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ
أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) وفي هذه الآية الكريمة قال : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا
أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ) قيل بنصب في بدني وعذاب في مالي وولدي فعند ذلك استجاب له
أرحم الراحمين وأمره أن يقوم من مقامه وأن يركض الأرض برجله ففعل فأنبع الله تعالى
عينا وأمره أن يغتسل منها فأذهبت جميع ما كان في بدنه من الأذى ، ثم أمره فضرب
الأرض في مكان آخر فأنبع له عينا أخرى وأمره أن يشرب منها فأذهبت جميع ما كان في
باطنه من السوء وتكاملت العافية ظاهرا وباطنا ، ولهذا قال تبارك وتعالى : (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ
بارِدٌ وَشَرابٌ).
قال ابن جرير وابن
أبي حاتم جميعا حدثنا يونس بن عبد الأعلى أخبرنا ابن وهب أخبرني نافع بن يزيد عن
عقيل عن ابن شهاب عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : إن رسول اللهصلىاللهعليهوسلم قال : «إن نبي الله أيوب عليه الصلاة والسلام لبث به بلاؤه
ثماني عشرة سنة فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين كانا من أخص إخوانه به كانا يغدوان
إليه ويروحان ، فقال أحدهما لصاحبه تعلم والله لقد أذنب أيوب ذنبا ما أذنبه أحد من
العالمين قال له صاحبه وما ذاك؟ قال منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمهالله فيكشف ما به فلما راحا إليه لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له
، فقال أيوب عليه الصلاة والسلام لا أدري ما تقول غير أن الله عزوجل يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران الله تعالى
فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما كراهية أن يذكر الله تعالى إلا في حق ، قال وكان يخرج
إلى حاجته فإذا قضاها أمسكت امرأته بيده حتى يبلغ فلما كان ذات يوم أبطأ عليها
فأوحى الله تبارك وتعالى إلى أيوب عليه الصلاة والسلام أن (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ
بارِدٌ وَشَرابٌ) فاستبطأته فالتفتت تنظر فأقبل عليها وقد أذهب الله ما به
من البلاء وهو على أحسن ما كان فلما رأته قالت أي بارك الله فيك هل رأيت نبي الله
هذا المبتلى ، فو الله على ذلك ما رأيت رجلا أشبه به منك إذ كان صحيحا قال فإني
أنا هو ، قال وكان له
أندران أندر للقمح وأندر للشعير فبعث الله تعالى سحابتين فلما
كانت إحداهما على أندر القمح أفرغت فيه الذهب حتى فاض وأفرغت الأخرى في أندر
الشعير حتى فاض ، هذا لفظ ابن جرير رحمهالله.
وقال الإمام أحمد حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن همام بن منبه قال : هذا ما
حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «بينما أيوب يغتسل عريانا خر عليه جراد من ذهب فجعل أيوب
عليه الصلاة والسلام يحثو في ثوبه فناداه ربه عزوجل يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى قال عليه الصلاة والسلام
بلى يا رب ولكن لا غنى بي عن بركتك» انفرد بإخراجه البخاري من حديث عبد الرزاق به ، ولهذا قال تبارك وتعالى : (وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ
مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) قال الحسن وقتادة أحياهم الله تعالى له بأعيانهم وزادهم
مثلهم معهم .
وقوله عزوجل : (رَحْمَةً مِنَّا) أي به على صبره وثباته وإنابته وتواضعه واستكانته (وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) أي لذوي العقول ليعلموا أن عاقبة الصبر الفرج والمخرج
والراحة. وقوله جلت عظمته : (وَخُذْ بِيَدِكَ
ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ) وذلك أن أيوب عليه الصلاة والسلام كان قد غضب على زوجته
ووجد عليها في أمر فعلته قيل باعت ضفيرتها بخبز فأطعمته إياه فلامها على ذلك وحلف
إن شفاه الله تعالى ليضربنها مائة جلدة ، وقيل لغير ذلك من الأسباب فلما شفاه الله
عزوجل وعافاه ما كان جزاؤها مع هذه الخدمة التامة والرحمة
والشفقة والإحسان أن تقابل بالضرب فأفتاه الله عزوجل أن يأخذ ضغثا وهو الشمراخ فيه مائة قضيب فيضربها به ضربة
واحدة وقد برت يمينه وخرج من حنثه ووفى بنذره ، وهذا من الفرج والمخرج لمن اتقى
الله تعالى وأناب إليه ، ولهذا قال جل وعلا : (إِنَّا وَجَدْناهُ
صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) أثنى الله تعالى عليه ومدحه بأنه (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) أي رجاع منيب ، ولهذا قال جل جلاله : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ
مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ
فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ
قَدْراً) [الطلاق : ٢ ـ ٣]
واستدل كثير من الفقهاء بهذه الآية الكريمة على مسائل في الإيمان وغيرها. وقد
أخذوها بمقتضاها والله أعلم بالصواب.
(وَاذْكُرْ عِبادَنا
إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (٤٥)
إِنَّا
أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦)
__________________
وَإِنَّهُمْ
عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (٤٧)
وَاذْكُرْ
إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ)
(٤٨)
يقول تبارك وتعالى
مخبرا عن فضائل عباده المرسلين وأنبيائه العابدين (وَاذْكُرْ عِبادَنا
إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ) يعني بذلك العمل الصالح والعلم النافع والقوة في العبادة
والبصيرة النافذة ، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما (أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ) يقول أولي القوة والعبادة. (وَالْأَبْصارِ) يقول الفقه في الدين . وقال مجاهد (أُولِي الْأَيْدِي) يعني القوة في طاعة الله تعالى والأبصار يعني البصر في
الحق وقال قتادة والسدي : أعطوا قوة في العبادة وبصرا في الدين.
وقوله تبارك
وتعالى : (إِنَّا
أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) قال مجاهد أي جعلناهم يعملون للآخرة ليس لهم همّ غيرها
وكذا قال السدي ذكرهم للآخرة وعملهم لها. وقال مالك بن دينار نزع الله تعالى من
قلوبهم حب الدنيا وذكرها وأخلصهم بحب الآخرة وذكرها ، وكذا قال عطاء الخراساني.
وقال سعيد بن جبير يعني بالدار الجنة يقول أخلصناها لهم بذكرهم لها ، وقال في
رواية أخرى ذكرى الدار عقبى الدار ، وقال قتادة كانوا يذكرون الناس الدار الآخرة
والعمل لها ، وقال ابن زيد جعل لهم خاصة أفضل شيء في الدار الآخرة.
وقوله تعالى : (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ
الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ) أي لمن المختارين المجتبين الأخيار فهم أخيار مختارون.
وقوله تعالى : (وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ
وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ) قد تقدم الكلام على قصصهم وأخبارهم مستقصاة في سورة
الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بما أغنى عن إعادته هاهنا.
وقوله عزوجل : (هذا ذِكْرٌ) أي هذا فصل فيه ذكر لمن يتذكر ، وقال السدي يعني القرآن
العظيم.
(هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ
لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (٤٩) جَنَّاتِ عَدْنٍ
مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (٥٠)
مُتَّكِئِينَ
فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (٥١)
وَعِنْدَهُمْ
قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (٥٢)
هذا
ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (٥٣) إِنَّ هذا
لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ)
(٥٤)
يخبر تعالى عن
عباده المؤمنين السعداء أن لهم في الدار الآخرة لحسن مآب وهو المرجع والمنقلب ثم
فسره بقوله تعالى : (جَنَّاتِ عَدْنٍ) أي جنات إقامة مفتحة لهم الأبواب والألف واللام هاهنا
بمعنى الإضافة كأنه يقول مفتحة لهم أبوابها أي إذا جاءوها فتحت لهم أبوابها ، قال
__________________
ابن أبي حاتم
حدثنا محمد بن ثواب الهباري حدثنا عبد الله بن نمير حدثنا عبد الله بن مسلم يعني
ابن هرمز عن ابن سابط عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن في الجنة قصرا يقال له عدن حوله البروج والمروج له
خمسة آلاف باب عند كل باب خمسة آلاف حبرة لا يدخله ـ أو لا يسكنه ـ إلا نبي أو صديق أو شهيد أو إمام
عدل» وقد ورد في ذكر أبواب الجنة الثمانية أحاديث كثيرة من وجوه عديدة.
وقوله عزوجل : (مُتَّكِئِينَ فِيها) قيل متربعين فيها على سرر تحت الحجال (يَدْعُونَ فِيها
بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ) أي مهما طلبوا وجدوا وأحضر كما أرادوا (وَشَرابٍ) أي من أي أنواعه شاؤوا أتتهم به الخدام (بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ
مَعِينٍ) [الواقعة : ١٨] (وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ) أي عن غير أزواجهن فلا يلتفتن إلى غير بعولتهن (أَتْرابٌ) أي متساويات في السن والعمر هذا معنى قول ابن عباس رضي
الله عنهما ومجاهد وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب والسدي (هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ) أي هذا الذي ذكرنا من صفة الجنة هي التي وعدها لعباده
المتقين التي يصيرون إليها بعد نشورهم وقيامهم من قبورهم وسلامتهم من النار. ثم
أخبر تبارك وتعالى عن الجنة أنه لا فراغ لها ولا زوال ولا انقضاء ولا انتهاء فقال
تعالى : (إِنَّ هذا لَرِزْقُنا
ما لَهُ مِنْ نَفادٍ) كقوله عزوجل (ما عِنْدَكُمْ
يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ) [النحل : ٩٦]
وكقوله جل وعلا (عَطاءً غَيْرَ
مَجْذُوذٍ) [هود : ١٠٨]
وكقوله تعالى : (لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ
مَمْنُونٍ) [فصلت : ٨] أي غير
مقطوع وكقوله عزوجل : (أُكُلُها دائِمٌ
وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ) [الرعد : ٣٥]
والآيات في هذا كثيرة جدا.
(هذا وَإِنَّ
لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (٥٥)
جَهَنَّمَ
يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (٥٦) هذا فَلْيَذُوقُوهُ
حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (٥٧) وَآخَرُ مِنْ
شَكْلِهِ أَزْواجٌ (٥٨) هذا فَوْجٌ
مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (٥٩) قالُوا بَلْ
أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (٦٠)
قالُوا
رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (٦١)
وَقالُوا
ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (٦٢) أَتَّخَذْناهُمْ
سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (٦٣)
إِنَّ
ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ)
(٦٤)
لما ذكر تبارك
وتعالى مآل السعداء ثنى بذكر حال الأشقياء ومرجعهم ومآبهم في دار معادهم وحسابهم
فقال عزوجل : (هذا وَإِنَّ
لِلطَّاغِينَ) وهم الخارجون عن طاعة الله عزوجل المخالفون لرسل الله صلىاللهعليهوسلم (لَشَرَّ مَآبٍ) أي لسوء منقلب ومرجع. ثم فسره بقوله جل وعلا : (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها) أي يدخلونها فتغمرهم من جميع جوانبهم (فَبِئْسَ الْمِهادُ هذا فَلْيَذُوقُوهُ
__________________
حَمِيمٌ
وَغَسَّاقٌ) أما الحميم فهو الحار الذي قد انتهى حره ، وأما الغساق فهو
ضده وهو البارد الذي لا يستطاع من شدة برده المؤلم.
ولهذا قال عزوجل : (وَآخَرُ مِنْ
شَكْلِهِ أَزْواجٌ) أي وأشياء من هذا القبيل : الشيء وضده يعاقبون بها. قال
الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى حدثنا ابن لهيعة حدثنا دراج عن أبي الهيثم
عن أبي سعيد رضي الله عنه عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «لو أن دلوا من غساق يهراق في الدنيا لأنتن أهل
الدنيا» ورواه الترمذي عن سويد بن نصر عن ابن المبارك عن رشدين بن سعد عن عمرو بن
الحارث عن دراج به ثم قال لا نعرفه إلا من حديث رشدين كذا قال وقد تقدم في غير
حديثه ، ورواه ابن جرير عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب عن عمرو بن الحارث به.
وقال كعب الأحبار
: غساق عين في جهنم يسيل إليها حمة كل ذات حمة من حية وعقرب وغير ذلك فيستنقع فيؤتى بالآدمي فيغمس فيها
غمسة واحدة فيخرج وقد سقط جلده ولحمه عن العظام ويتعلق جلده ولحمه في كعبيه وعقبيه
ويجر لحمه كله كما يجر الرجل ثوبه ، رواه ابن أبي حاتم. وقال الحسن البصري في قوله
تعالى : (وَآخَرُ مِنْ
شَكْلِهِ أَزْواجٌ) ألوان من العذاب ، وقال غيره كالزمهرير والسموم وشرب الحميم وأكل الزقوم
والصعود والهوي إلى غير ذلك من الأشياء المختلفة والمتضادة والجميع مما يعذبون به
، ويهانون بسببه.
وقوله عزوجل : (هذا فَوْجٌ
مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ) هذا إخبار من الله تعالى عن قيل أهل النار بعضهم لبعض كما
قال تعالى : (كُلَّما دَخَلَتْ
أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها) [الأعراف : ٣٨]
يعني بدل السلام يتلاعنون ويتكاذبون ويكفر بعضهم ببعض فتقول الطائفة التي تدخل قبل
الأخرى إذا أقبلت التي بعدها مع الخزنة من الزبانية (هذا فَوْجٌ
مُقْتَحِمٌ) أي داخل (مَعَكُمْ لا
مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ) أي لأنهم من أهل جهنم (قالُوا بَلْ أَنْتُمْ
لا مَرْحَباً بِكُمْ) أي فيقول لهم الداخلون (بَلْ أَنْتُمْ لا
مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا) أي أنتم دعوتمونا إلى ما أفضى بنا إلى هذا المصير (فَبِئْسَ الْقَرارُ) أي فبئس المنزل والمستقر والمصير (قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا
فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ) كما قال عزوجل : (قالَتْ أُخْراهُمْ
لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ
قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ) [الأعراف : ٣٨] أي لكل منكم عذاب بحسبه (وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً
كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ
عَنْهُمُ الْأَبْصارُ) هذا إخبار عن الكفار في النار أنهم يفقدون رجالا
__________________
كانوا يعتقدون
أنهم على الضلالة وهم المؤمنون في زعمهم قالوا ما لنا لا نراهم معنا في النار. قال
مجاهد : هذا قول أبي جهل يقول ما لي لا أرى بلالا وعمارا وصهيبا وفلانا وفلانا
وهذا ضرب مثل وإلا فكل الكفار هذا حالهم يعتقدون أن المؤمنين يدخلون النار ، فلما
دخل الكفار النار افتقدوهم فلم يجدوهم فقالوا (ما لَنا لا نَرى
رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا) أي في الدار الدنيا (أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ
الْأَبْصارُ) يسألون أنفسهم بالمحال يقولون أو لعلهم معنا في جهنم ولكن
لم يقع بصرنا عليهم ، فعند ذلك يعرفون أنهم في الدرجات العاليات وهو قوله عزوجل : (وَنادى أَصْحابُ
الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا
فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ
بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) ـ إلى قوله ـ (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ
لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) [الأعراف : ٤٤ ـ ٤٩]
وقوله تعالى : (إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ
تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) أي إن هذا الذي أخبرناك به يا محمد من تخاصم أهل النار
بعضهم في بعض ولعن بعضهم لبعض لحق لا مرية فيه ولا شك.
(قُلْ إِنَّما أَنَا
مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٦٥)
رَبُّ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٦٦) قُلْ هُوَ نَبَأٌ
عَظِيمٌ (٦٧) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٦٨)
ما
كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٦٩) إِنْ يُوحى إِلَيَّ
إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ)
(٧٠)
يقول تعالى آمرا
رسوله صلىاللهعليهوسلم أن يقول للكفار بالله المشركين به المكذبين لرسوله إنما
أنا منذر لست كما تزعمون (وَما مِنْ إِلهٍ
إِلَّا اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) أي هو وحده قد قهر كل شيء وغلبه (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما
بَيْنَهُمَا) أي هو مالك جميع ذلك ومتصرف فيه (الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) أي غفار مع عظمته وعزته (قُلْ هُوَ نَبَأٌ
عَظِيمٌ) أي خبر عظيم وشأن بليغ وهو إرسال الله تعالى إياي إليكم (أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ) أي غافلون ، قال مجاهد وشريح القاضي والسدي في قوله عزوجل : (قُلْ هُوَ نَبَأٌ
عَظِيمٌ) يعني القرآن.
وقوله تعالى : (ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ
الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ) أي لولا الوحي من أين كنت أدري باختلاف الملأ الأعلى؟ يعني
في شأن آدم عليه الصلاة والسلام وامتناع إبليس من السجود له ومحاجته ربه في تفضيله
عليه. فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد حيث قال : حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم حدثنا جهضم
اليمامي عن يحيى بن أبي كثير عن زيد بن أبي سلام عن أبي سلام عن عبد الرحمن بن
عائش عن مالك بن يخامر عن معاذ رضي الله عنه قال : احتبس علينا رسول الله صلىاللهعليهوسلم ذات غداة من صلاة الصبح حتى كدنا نتراءى قرن الشمس فخرج صلىاللهعليهوسلم سريعا فثوب بالصلاة فصلى
__________________
وتجوز في صلاته فلما سلم قال صلىاللهعليهوسلم : «كما أنتم على مصافكم» ثم أقبل إلينا فقال : «إني
سأحدثكم ما حبسني عنكم الغداة إني قمت من الليل فصليت ما قدر لي فنعست في صلاتي
حتى استيقظت فإذا أنا بربي عزوجل في أحسن صورة فقال : يا محمد أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى
، قلت لا أدري يا رب ـ أعادها ثلاثا ـ فرأيته وضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنا
مله بين صدري فتجلى لي كل شيء وعرفت فقال : يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت :
في الكفارات. قال : وما الكفارات؟ قلت : نقل الأقدام إلى الجماعات والجلوس في
المساجد بعد الصلوات وإسباغ الوضوء عند الكريهات. قال : وما الدرجات؟ قلت : إطعام
الطعام ولين الكلام والصلاة والناس نيام ، قال : سل ، قلت : اللهم إني أسألك فعل الخيرات
وترك المنكرات وحب المساكين وأن تغفر لي وترحمني ، وإذا أردت فتنة بقوم فتوفني غير
مفتون ، وأسألك حبك وحب من يحبك وحب عمل يقربني إلى حبك ـ وقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم ـ إنها حق فادرسوها وتعلموها» فهو حديث المنام المشهور ،
ومن جعله يقظة فقد غلط وهو في السنن من طرق ، وهذا الحديث بعينه قد رواه الترمذي
من حديث جهضم بن عبد الله اليمامي به ، وقال : حسن صحيح وليس هذا الاختصام هو
الاختصام المذكور في القرآن فإن هذا قد فسر ، وأما الاختصام الذي في القرآن فقد
فسر بعد هذا وهو في قوله تعالى :
(إِذْ قالَ رَبُّكَ
لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (٧١)
فَإِذا
سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٧٢)
فَسَجَدَ
الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣)
إِلاَّ
إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٧٤) قالَ يا إِبْلِيسُ
ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ
مِنَ الْعالِينَ (٧٥) قالَ أَنَا خَيْرٌ
مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٧٦)
قالَ
فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ عَلَيْكَ
لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٧٨)
قالَ
رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ(٧٩) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ
الْمُنْظَرِينَ (٨٠) إِلى يَوْمِ
الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٨١)
قالَ
فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلاَّ عِبادَكَ
مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣)
قالَ
فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (٨٤)
لَأَمْلَأَنَّ
جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ)
(٨٥)
هذه القصة ذكرها
الله تبارك وتعالى في سورة البقرة وفي أول سورة الأعراف وفي سورة الحجر وسبحان
والكهف وهاهنا وهي أن الله سبحانه وتعالى أعلم الملائكة قبل خلق آدم عليه الصلاة
والسلام بأنه سيخلق بشرا من صلصال من حمأ مسنون وتقدم إليهم بالأمر متى فرغ من
خلقه وتسويته فليسجدوا له إكراما وإعظاما واحتراما وامتثالا لأمر الله عزوجل فامتثل الملائكة كلهم ذلك سوى إبليس ولم يكن منهم جنسا.
كان من الجن فخانه طبعه وجبلته أحوج ما كان إليه فاستنكف عن السجود لآدم وخاصم ربه
عزوجل فيه وادعى أنه خير من آدم فإنه مخلوق من نار وآدم خلق من
طين والنار خير من الطين في زعمه ، وقد أخطأ في ذلك وخالف أمر الله
__________________
تعالى وكفر بذلك
فأبعده الله عزوجل وأرغم أنفه وطرده عن باب رحمته ومحل أنسه ، وحضرة قدسه ،
وسماه إبليس إعلاما له بأنه قد أبلس من الرحمة وأنزله من السماء مذموما مدحورا إلى الأرض فسأل
الله النظرة إلى يوم البعث فأنظره الحليم الذي لا يعجل على من عصاه. فلما أمن
الهلاك إلى يوم القيامة تمرد وطغى
وقال : (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ
أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) كما قال عزوجل : (أَرَأَيْتَكَ هذَا
الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ
لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً) [الإسراء : ٦٢] وهؤلاء هم المستثنون في الآية الأخرى وهي
قوله تعالى : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ
لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً) [الإسراء : ٦٥].
وقوله تبارك
وتعالى : (قالَ فَالْحَقُّ
وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ
أَجْمَعِينَ) قرأ ذلك جماعة منهم مجاهد برفع الحق الأول وفسره مجاهد بأن
معناه أنا الحق والحق أقول ، وفي رواية عنه : الحق مني وأقول الحق ، وقرأ آخرون
بنصبهما قال السدي هو قسم أقسم الله به.
(قلت) وهذه الآية
الكريمة كقوله تعالى : (وَلكِنْ حَقَّ
الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [السجدة : ١٣]
وكقوله عزوجل : (قالَ اذْهَبْ فَمَنْ
تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً) [الإسراء : ٦٣].
(قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦)
إِنْ
هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٨٧) وَلَتَعْلَمُنَّ
نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ)
(٨٨)
يقول تعالى قل يا
محمد لهؤلاء المشركين ما أسألكم على هذا البلاغ وهذا النصح أجرا تعطونيه من عرض
الحياة الدنيا (وَما أَنَا مِنَ
الْمُتَكَلِّفِينَ) أي وما أريد على ما أرسلني الله تعالى به ولا أبتغي زيادة
عليه بل ما أمرت به أديته لا أزيد عليه ولا أنقص منه ، وإنما أبتغي بذلك وجه الله عزوجل والدار الآخرة ، قال سفيان الثوري عن الأعمش ومنصور عن أبي
الضحى عن مسروق قال : أتينا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقال يا أيها الناس من
علم شيئا فليقل به ومن لم يعلم فليقل الله أعلم فإن من العلم أن يقول الرجل لما لا
يعلم ، الله أعلم ، فإن الله عزوجل قال لنبيكم صلىاللهعليهوسلم : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) أخرجاه من حديث الأعمش ، به وقوله تعالى : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) يعني القرآن ذكر لجميع المكلفين به من الإنس والجن ، قاله
ابن عباس رضي الله عنهما ، وروى ابن أبي حاتم عن أبيه عن أبي غسان مالك بن إسماعيل
: حدثنا قيس عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في
قوله تعالى : (لِلْعالَمِينَ) قال : الجن والإنس ، وهذه الآية الكريمة كقوله
__________________
تعالى : (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) [الأنعام : ١٩]
وكقوله عزوجل : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ
مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) [هود : ١٧] وقوله
تعالى : (وَلَتَعْلَمُنَّ
نَبَأَهُ) أي خبره وصدقه (بَعْدَ حِينٍ) أي عن قريب قال قتادة بعد الموت وقال عكرمة يعني يوم
القيامة ، ولا منافاة بين القولين فإن من مات فقد دخل في حكم القيامة ، وقال قتادة
في قوله تعالى : (وَلَتَعْلَمُنَّ
نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) قال الحسن يا ابن آدم عند الموت يأتيك الخبر اليقين .
__________________
تفسير سورة الزمر
وهي مكية
قال النسائي حدثنا محمد بن النضر بن مساور حدثنا حماد عن مروان أبي
لبابة عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يصوم حتى نقول : ما يريد أن يفطر ، ويفطر حتى نقول : ما
يريد أن يصوم ، وكان صلىاللهعليهوسلم يقرأ في كل ليلة بني إسرائيل والزمر.
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(تَنْزِيلُ الْكِتابِ
مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١)
إِنَّا
أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ
الدِّينَ (٢) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا
إِلَى اللهِ زُلْفى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ
يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ(٣) لَوْ أَرادَ اللهُ
أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ
الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (٤)
يخبر تعالى أن
تنزيل هذا الكتاب وهو القرآن العظيم من عنده تبارك وتعالى فهو الحق الذي لا مرية
فيه ولا شك كما قال عزوجل : (وَإِنَّهُ
لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ
لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) [الشعراء : ١٩٣ ـ ١٩٥]
وقال تبارك وتعالى : (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ
عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ
تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت : ٤٢] وقال
جل وعلا هاهنا : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ
مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ) أي المنيع الجناب (الْحَكِيمِ) أي في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ
بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) أي فاعبد الله وحده لا شريك له وادع الخلق إلى ذلك وأعلمهم
أنه لا تصلح العبادة إلا له وحده وأنه ليس له شريك ولا عديل ولا نديد ولهذا قال
تعالى : (أَلا لِلَّهِ
الدِّينُ الْخالِصُ) أي لا يقبل من العمل إلا ما أخلص فيه العامل لله وحده لا
شريك له.
وقال قتادة في
قوله تبارك وتعالى : (أَلا لِلَّهِ
الدِّينُ الْخالِصُ) شهادة أن لا إله إلا الله ثم أخبر عزوجل عن عباد الأصنام
من المشركين أنهم يقولون (ما نَعْبُدُهُمْ
إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) أي إنما يحملهم على عبادتهم لهم أنهم عمدوا إلى أصنام
اتخذوها على صور الملائكة المقربين في زعمهم فعبدوا تلك الصور تنزيلا لذلك منزلة
عبادتهم الملائكة ليشفعوا لهم عند الله تعالى في نصرهم ورزقهم وما ينوبهم من أمور
الدنيا فأما المعاد فكانوا جاحدين له كافرين به. قال قتادة والسدي ومالك عن زيد بن
أسلم وابن زيد : (إِلَّا
لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى)
__________________
أي ليشفعوا لنا
ويقربونا عنده منزلة ولهذا كانوا يقولون في تلبيتهم إذا حجوا في جاهليتهم لبيك لا
شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك. وهذه الشبهة هي التي اعتمدها المشركون
قديم الدهر وحديثه وجاءتهم الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين بردّها والنهي
عنها والدعوة إلى إفراد العبادة لله وحده لا شريك له وأنّ هذا شيء اخترعه المشركون
من عند أنفسهم لم يأذن الله فيه ولا رضي به بل أبغضه ونهى عنه (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ
رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [النحل : ٣٦] (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ
رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء : ٢٥]
وأخبر أن الملائكة التي في السموات من الملائكة المقربين وغيرهم كلهم عبيد خاضعون
لله لا يشفعون عنده إلا بإذنه لمن ارتضى وليسوا عنده كالأمراء عند ملوكهم يشفعون
عندهم بغير إذنهم فيما أحبه الملوك وأبوه (فَلا تَضْرِبُوا
لِلَّهِ الْأَمْثالَ) [النحل : ٧٤]
تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
وقوله عزوجل : (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ
بَيْنَهُمْ) أي يوم القيامة (فِي ما هُمْ فِيهِ
يَخْتَلِفُونَ) أي سيفصل بين الخلائق يوم معادهم ويجزي كل عامل بعمله ويوم
نحشرهم جميعا ثم نقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون (قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا
مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ) [سبأ : ٤٠ ـ ٤١]
وقوله عزوجل : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي
مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ) أي لا يرشد إلى الهداية من قصده الكذب والافتراء على الله
تعالى وقلبه كافر بآياته وحججه وبراهينه ، ثم بين تعالى أنه لا ولد له كما يزعمه
جهلة المشركين في الملائكة والمعاندون من اليهود والنصارى في العزير وعيسى فقال
تبارك وتعالى : (لَوْ أَرادَ اللهُ
أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ) أي لكان الأمر على خلاف ما يزعمون وهذا شرط لا يلزم وقوعه
ولا جوازه بل هو محال وإنما قصد تجهيلهم فيما ادعوه وزعموه كما قال عزوجل : (لَوْ أَرَدْنا أَنْ
نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ) [الأنبياء : ١٧] (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ
فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) [الزخرف : ٨١] كل
هذا من باب الشرط ويجوز تعليق الشرط على المستحيل لقصد المتكلم.
وقوله تعالى : (سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) أي تعالى وتنزه وتقدس عن أن يكون له ولد ، فإنه الواحد
الأحد الفرد الصمد ، الذي كل شيء عبد لديه فقير إليه وهو الغني عما سواه الذي قد
قهر الأشياء فدانت وذلت وخضعت تبارك وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوا
كبيرا.
(خَلَقَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ
النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي
لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٥) خَلَقَكُمْ مِنْ
نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ
ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ
خَلْقٍ
فِي
ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ
فَأَنَّى تُصْرَفُونَ)
(٦)
يخبر تعالى أنه
الخالق لما في السموات والأرض وما بين ذلك من الأشياء وبأنه مالك الملك المتصرف
فيه يقلب ليله ونهاره (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ
عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ) أي سخرهما يجريان متعاقبين لا يفتران كل منها يطلب الآخر
طلبا حثيثا كقوله تبارك وتعالى : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ
يَطْلُبُهُ حَثِيثاً) [الأعراف : ٥٤]
هذا معنى ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وقتادة والسدي وغيرهم .
وقوله عزوجل : (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) أي إلى مدة معلومة عند الله تعالى ثم ينقضي يوم القيامة (أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) أي مع عزته وعظمته وكبريائه وهو غفار لمن عصاه ثم تاب
وأناب إليه.
وقوله جلت عظمته :
(خَلَقَكُمْ مِنْ
نَفْسٍ واحِدَةٍ) أي خلقكم مع اختلاف أجناسكم وأصنافكم وألسنتكم وألوانكم من
نفس واحدة وهو آدم عليه الصلاة والسلام (ثُمَّ جَعَلَ مِنْها
زَوْجَها) وهي حواء عليهاالسلام كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ
اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها
زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً) [النساء : ١]
وقوله تعالى : (وَأَنْزَلَ لَكُمْ
مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) أي خلق لكم من ظهور الأنعام ثمانية أزواج وهي المذكورة في
سورة الأنعام ، (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ
مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ) ... (وَمِنَ الْإِبِلِ
اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ) [الأنعام : ١٤٣] وقوله
عزوجل : (يَخْلُقُكُمْ فِي
بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) أي قدركم في بطون أمهاتكم (خَلْقاً مِنْ بَعْدِ
خَلْقٍ) أي يكون أحدكم أولا نطفة ثم يكون علقة ثم يكون مضغة ثم
يخلق فيكون لحما وعظما وعصبا وعروقا وينفخ فيه الروح فيصير خلقا آخر (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : ١٤].
وقوله جل وعلا : (فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) يعني في ظلمة الرحم وظلمة المشيمة التي هي كالغشاوة
والوقاية على الولد وظلمة البطن. كذا قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وعكرمة
وأبو مالك والضحاك وقتادة والسدي وابن زيد. وقوله جل جلاله : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ) أي هذا الذي خلق السموات والأرض وما بينهما وخلقكم وخلق
آباءكم هو الرب له الملك والتصرف في جميع ذلك (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده لا شريك له (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) أي فكيف تعبدون معه غيره؟ أين يذهب بعقولكم؟
(إِنْ تَكْفُرُوا
فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ
تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى
رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ
عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ(٧)
وَإِذا
مَسَّ
__________________
الْإِنْسانَ
ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ
نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً
لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ
أَصْحابِ النَّارِ)
(٨)
يقول تبارك وتعالى
مخبرا عن نفسه أنه الغني عما سواه من المخلوقات كما قال موسى عليه الصلاة والسلام (إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي
الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) وفي صحيح مسلم «يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم
كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا» .
وقوله تعالى : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) أي لا يحبه ولا يأمر به (وَإِنْ تَشْكُرُوا
يَرْضَهُ لَكُمْ) أي يحبه منكم ويزدكم من فضله (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ
وِزْرَ أُخْرى) أي لا تحمل نفس عن نفس شيئا بل كل مطالب بأمر نفسه (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ
فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي فلا تخفى عليه خافية.
وقوله عزوجل : (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ
ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ) أي عند الحاجة يتضرع ويستغيث بالله وحده لا شريك له كما
قال تعالى : (وَإِذا مَسَّكُمُ
الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ
إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً) [الإسراء : ٦٧]
ولهذا قال تبارك وتعالى : (ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ
نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ) أي في حال الرفاهية ينسى ذلك الدعاء والتضرع كما قال جل
جلاله : (وَإِذا مَسَّ
الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا
كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ) [يونس : ١٣].
وقوله تعالى : (وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ
عَنْ سَبِيلِهِ) أي في حال العافية يشرك بالله ويجعل له أندادا (قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً
إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) أي قل لمن هذه حاله وطريقته ومسلكه تمتع بكفرك قليلا وهو
تهديد شديد ووعيد أكيد كقوله تعالى : (قُلْ تَمَتَّعُوا
فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) [إبراهيم : ٣٠]
وقوله تعالى : (نُمَتِّعُهُمْ
قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) [لقمان : ٢٤].
(أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ
آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ
رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ
إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ)
(٩)
يقول عزوجل أمّن هذه صفته كمن أشرك بالله وجعل له أندادا ، لا يستوون
عند الله كما قال تعالى : (لَيْسُوا سَواءً مِنْ
أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ
يَسْجُدُونَ) [آل عمران : ١١٣]
وقال تبارك وتعالى هاهنا : (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ
آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً) أي في حال
__________________
سجوده وفي حال
قيامه ولهذا استدل بهذه الآية من ذهب إلى أن القنوت هو الخشوع في الصلاة وليس هو
القيام وحده كما ذهب إليه آخرون. وقال الثوري عن فراس عن الشعبي عن مسروق عن ابن
مسعود رضي الله عنه أنه قال : القانت المطيع لله عزوجل ولرسوله صلىاللهعليهوسلم وقال ابن عباس رضي الله عنهما والحسن والسدي وابن زيد :
آناء الليل جوف الليل. وقال الثوري عن منصور بلغنا أن ذلك بين المغرب والعشاء ،
وقال الحسن وقتادة آناء الليل أوله وأوسطه وآخره.
وقوله تعالى : (يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا
رَحْمَةَ رَبِّهِ) أي في حال عبادته خائف راج ولا بد في العبادة من هذا وهذا
وأن يكون الخوف في مدة الحياة هو الغالب ولهذا قال تعالى : (يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا
رَحْمَةَ رَبِّهِ) فإذا كان عند الاحتضار فليكن الرجاء هو الغالب عليه كما
قال الإمام عبد بن حميد في مسنده : حدثنا يحيى بن عبد الحميد حدثنا جعفر بن سليمان
حدثنا ثابت عن أنس رضي الله عنه قال : دخل رسول الله صلىاللهعليهوسلم على رجل وهو في الموت فقال له : «كيف تجدك؟» فقال : أرجو
وأخاف ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه
الله عزوجل الذي يرجو وأمنه الذي يخافه» . ورواه الترمذي والنسائي في اليوم والليلة وابن ماجة من
حديث سيار بن حاتم عن جعفر بن سليمان به وقال الترمذي غريب ، وقد رواه بعضهم عن
ثابت عن أنس عن النبي مرسلا.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا عمر بن شبّة عن عبيدة النميري حدثنا أبو خلف عبد الله بن عيسى الخزاز
حدثنا يحيى البكاء أنه سمع ابن عمر رضي الله عنهما يقرأ (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ
ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ) قال ابن عمر ذاك عثمان بن عفان رضي الله عنه وإنما قال ابن
عمر رضي الله عنهما ذلك لكثرة صلاة أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه بالليل
وقراءته حتى أنه ربما قرأ القرآن في ركعة كما روى ذلك أبو عبيدة عنه رضي الله
تعالى عنه ، وقال الشاعر : [البسيط]
ضحّوا بأشمط
عنوان السجود به
|
|
يقطّع الليل
تسبيحا وقرآنا
|
وقال الإمام أحمد : كتب إليّ الربيع بن نافع حدثنا الهيثم بن حميد عن زيد بن
واقد عن سليمان بن موسى عن كثير بن مرة عن تميم الداري رضي الله عنه قال : قال
رسول اللهصلىاللهعليهوسلم : «من قرأ بمائة آية في ليلة كتب له قنوت ليلة» وكذا رواه
النسائي في اليوم والليلة عن إبراهيم بن يعقوب عن عبد الله بن يوسف والربيع بن
نافع كلاهما عن الهيثم بن حميد به. وقوله تعالى :
__________________
(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي
الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) أي هل يستوي هذا والذي قبله ممن جعل لله أندادا ليضل عن
سبيله (إِنَّما يَتَذَكَّرُ
أُولُوا الْأَلْبابِ) أي إنما يعلم الفرق بين هذا وهذا من له لب وهو العقل ،
والله أعلم.
(قُلْ يا عِبادِ
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا
حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ
بِغَيْرِ حِسابٍ (١٠) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ
أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (١١) وَأُمِرْتُ لِأَنْ
أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ)
(١٢)
يقول تعالى آمرا
عباده المؤمنين بالاستمرار على طاعته وتقواه (قُلْ يا عِبادِ
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا
حَسَنَةٌ) أي لمن أحسن العمل في هذه الدنيا حسنة في دنياهم وأخراهم ،
وقوله : (وَأَرْضُ اللهِ
واسِعَةٌ) قال مجاهد : فهاجروا فيها وجاهدوا واعتزلوا الأوثان .
وقال شريك عن
منصور عن عطاء في قوله تبارك وتعالى : (وَأَرْضُ اللهِ
واسِعَةٌ) قال : إذا دعيتم إلى معصية فاهربوا ثم قرأ (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً
فَتُهاجِرُوا فِيها) وقوله تعالى : (إِنَّما يُوَفَّى
الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) قال الأوزاعي ليس يوزن لهم ولا يكال لهم إنما يغرف لهم
غرفا ، وقال ابن جريح بلغني أنه لا يحسب عليهم ثواب عملهم قط ، ولكن يزادون على
ذلك ، وقال السدي (إِنَّما يُوَفَّى
الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) يعني في الجنة . وقوله : (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ
أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) أي إنما أمرت بإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له (وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ
الْمُسْلِمِينَ) قال السدي يعني من أمته صلىاللهعليهوسلم.
(قُلْ إِنِّي أَخافُ
إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣)
قُلِ
اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي(١٤)
فَاعْبُدُوا
ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا
أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ
الْمُبِينُ (١٥) لَهُمْ مِنْ
فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ
بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ)
(١٦)
يقول تعالى قل يا
محمد وأنت رسول الله (إِنِّي أَخافُ إِنْ
عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) وهو يوم القيامة وهذا شرط معناه التعريض بغيره بطريق
الأولى والأحرى (قُلِ اللهَ أَعْبُدُ
مُخْلِصاً لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ) وهذا أيضا تهديد وتبرّ منهم (قُلْ إِنَّ
الْخاسِرِينَ) أي إنما الخاسرون كل الخسران (الَّذِينَ خَسِرُوا
أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي تفارقوا فلا التقاء لهم أبدا وسواء ذهب أهلوهم إلى
الجنة وقد ذهبوا هم إلى النار أو أن الجميع أسكنوا النار ولكن لا اجتماع لهم ولا
سرور (أَلا ذلِكَ هُوَ
الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) أي هذا هو الخسران البيّن الظاهر
__________________
الواضح ثم وصف
حالهم في النار فقال : (لَهُمْ مِنْ
فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) كما قال عزوجل : (لَهُمْ مِنْ
جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) [الأعراف : ٤١].
وقال تعالى : (يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ
فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [العنكبوت : ٥٥]
وقوله جل جلاله : (ذلِكَ يُخَوِّفُ
اللهُ بِهِ عِبادَهُ) أي إنما يقص خبر هذا الكائن لا محالة ليخوف به عباده
لينزجروا عن المحارم والمآثم. وقوله تعالى : (يا عِبادِ
فَاتَّقُونِ) أي اخشوا بأسي وسطوتي وعذابي ونقمتي.
(وَالَّذِينَ
اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ
الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (١٧) الَّذِينَ
يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ
اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ)
(١٨)
قال عبد الرحمن بن
زيد بن أسلم عن أبيه (وَالَّذِينَ
اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها) نزلت في زيد بن عمرو بن نفيل وأبي ذر وسلمان الفارسي رضي
الله تعالى عنهم والصحيح أنها شاملة لهم ولغيرهم ممن اجتنب عبادة الأوثان
وأناب إلى عبادة الرحمن فهؤلاء هم الذين لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة
ثم قال عزوجل : (فَبَشِّرْ عِبادِ
الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) أي يفهمونه ويعملون بما فيه كقوله تبارك وتعالى لموسى عليه
الصلاة والسلام حين آتاه التوراة (فَخُذْها بِقُوَّةٍ
وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها) [الأعراف : ١٤٥]. (أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ) أي المتصفون بهذه الصفة هم الذين هداهم الله في الدنيا
والآخرة (وَأُولئِكَ هُمْ
أُولُوا الْأَلْبابِ) أي ذو والعقول الصحيحة والفطر المستقيمة.
(أَفَمَنْ حَقَّ
عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (١٩)
لكِنِ
الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ)
(٢٠)
يقول تعالى أفمن
كتب الله أنه شقي تقدر تنقذه مما هو فيه من الضلال والهلاك؟ أي لا يهديه أحد من
بعد الله لأنه من يضلل الله فلا هادي له ومن يهده فلا مضل له. ثم أخبر عزوجل عن عباده السعداء أن لهم غرفا في الجنة وهي القصور الشاهقة
(مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ
مَبْنِيَّةٌ) أي طباق فوق طباق مبنيات محكمات مزخرفات عاليات.
قال عبد الله ابن
الإمام أحمد : حدثنا عباد بن يعقوب الأسدي حدثنا محمد بن فضيل عن عبد الرحمن بن
إسحاق عن النعمان بن سعد عن علي رضي الله عنه قال : قال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم : «إن في الجنة لغرفا يرى بطونها من ظهورها وظهورها من
بطونها» فقال أعرابي لمن هي يا رسول الله؟ قال صلىاللهعليهوسلم : «لمن أطاب الكلام وأطعم الطعام وصلى بالليل والناس
__________________
نيام» ورواه الترمذي من حديث عبد الرحمن بن إسحاق وقال حسن غريب. وقد تكلم بعض
أهل العلم فيه من قبل حفظه وقال الإمام أحمد حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن يحيى بن أبي كثير عن ابن
معانق أو أبي معانق عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن في الجنة لغرفا يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من
ظاهرها أعدها لله تعالى لمن أطعم الطعام وألان الكلام وتابع الصيام وصلى والناس
نيام» تفرد به أحمد من حديث عبد الله بن معانق الأشعري عن أبي مالك الأشعري رضي الله
عنه به.
وقال الإمام أحمد : حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن عن أبي
حازم عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إن أهل الجنة ليتراءون في الغرفة في الجنة كما
تراءون الكوكب في أفق السماء» قال فحدثت بذلك النعمان بن أبي عياش فقال سمعت أبا
سعيد الخدري رضي الله عنه يقول : «كما تراءون الكوكب الدّرّي في الأفق الشرقي أو
الغربي» أخرجاه في الصحيحين من حديث أبي حازم وأخرجاه أيضا في
الصحيحين من حديث مالك عن صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد رضي الله عنه
عن النبي صلىاللهعليهوسلم.
وقال الإمام أحمد : حدثنا فزارة أخبرني فليح عن هلال بن علي عن عطاء بن يسار
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إن أهل الجنة ليتراءون في الجنة أهل الغرف كما
تراءون الكوكب الدري الغارب في الأفق الطالع في تفاضل أهل الدرجات ـ فقالوا يا
رسول الله أولئك النبيون؟ فقال صلىاللهعليهوسلم : «بلى والذي نفسي بيده أقوام آمنوا بالله وصدقوا الرسل»
ورواه الترمذي عن سويد عن ابن المبارك عن فليح به وقال حسن صحيح.
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو النضر وأبو كامل قالا حدثنا زهير حدثنا سعد
الطائي حدثنا أبو المدله مولى أم المؤمنين رضي الله عنهما أنه سمع أبا هريرة رضي
الله عنه يقول : قلنا يا رسول الله إنا إذا رأيناك رقت قلوبنا وكنا من أهل الآخرة
فإذا فارقناك أعجبتنا الدنيا وشممنا النساء والأولاد قال صلىاللهعليهوسلم : «لو أنكم تكونون على كل حال على الحال التي أنتم عليها
عندي لصافحتكم الملائكة بأكفهم ولزارتكم في بيوتكم ، ولو لم تذنبوا لجاء الله عزوجل بقوم يذنبون
__________________
كي يغفر لهم» قلنا
: يا رسول الله حدثنا عن الجنة ما بناؤها؟ قال صلىاللهعليهوسلم : «لبنة ذهب ولبنة فضة وملاطها المسك الأذفر وحصباؤها
اللؤلؤ والياقوت وترابها الزعفران من يدخلها ينعم ولا يبأس ويخلد ولا يموت ، لا
تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه ، ثلاث لا ترد دعوتهم : الإمام العادل والصائم حتى يفطر
ودعوة المظلوم تحمل على الغمام وتفتح لها أبواب السموات ويقول الرب تبارك وتعالى
وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين» وروى الترمذي وابن ماجة بعضه من حديث سعد بن أبي مجاهد
الطائي وكان ثقة عن أبي المدله وكان ثقة به.
وقوله تعالى : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي تسلك الأنهار من خلال ذلك كما يشاءون وأين أرادوا (وَعْدَ اللهِ) أي هذا الذي ذكرناه وعده الله عباده المؤمنين (لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ).
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ
يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا
ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٢١) أَفَمَنْ شَرَحَ
اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ
لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٢٢)
يخبر تعالى أن أصل
الماء من السماء كما قال عزوجل : (وَأَنْزَلْنا مِنَ
السَّماءِ ماءً طَهُوراً) [الفرقان : ٤٨]
فإذا أنزل الماء من السماء كمن في الأرض ثم يصرفه تعالى في أجزاء الأرض كما يشاء
وينبعه عيونا ما بين صغار وكبار بحسب الحاجة إليها ولهذا قال تبارك وتعالى : (فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ) قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين حدثنا عمرو بن علي
حدثنا أبو قتيبة عتبة بن يقظان عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى
: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ) قال ليس في الأرض ماء إلا نزل من السماء ولكن عروق في
الأرض تغيره فذلك قوله تعالى : (فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ
فِي الْأَرْضِ) فمن سره أن يعود الملح عذبا فليصعده ، وكذا قال سعيد بن
جبير وعامر الشعبي أن كل ماء في الأرض فأصله من السماء ، وقال سعيد بن جبير أصله
من الثلج يعني أن الثلج يتراكم على الجبال فيسكن في قرارها فتنبع العيون من
أسافلها.
وقوله تعالى : (ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً
مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ) أي ثم يخرج بالماء النازل من السماء والنابع من الأرض زرعا
مختلفا ألوانه أي أشكاله وطعومه وروائحه ومنافعه (ثُمَّ يَهِيجُ) أي بعد نضارته وشبابه يكتهل فتراه مصفرا قد خالطه اليبس (ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً) أي ثم يعود يابسا يتحطم (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) أي الذين يتذكرون بهذا فيعتبرون إلى أن الدنيا هكذا تكون
خضرة نضرة حسناء ثم تعود عجوزا شوهاء والشاب يعود شيخا هرما كبيرا ضعيفا
__________________
وبعد ذلك كله
الموت ، فالسعيد من كان حاله بعده إلى خير ، وكثيرا ما يضرب الله تعالى مثل الحياة
الدنيا بما ينزل الله من السماء من ماء وينبت به زروعا وثمارا ثم يكون بعد ذلك
حطاما كما قال تعالى : (وَاضْرِبْ لَهُمْ
مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ
نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللهُ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً) [الكهف : ٤٥].
وقوله تبارك
وتعالى : (أَفَمَنْ شَرَحَ
اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) أي هل يستوي هذا ومن هو قاسي القلب بعيد من الحق كقوله عزوجل : (أَوَمَنْ كانَ
مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ
مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) [الأنعام : ١٢٢]
ولهذا قال تعالى : (فَوَيْلٌ
لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ) أي فلا تلين عند ذكره ولا تخشع ولا تعي ولا تفهم (أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ).
(اللهُ نَزَّلَ
أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ
الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى
ذِكْرِ اللهِ ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ
فَما لَهُ مِنْ هادٍ)
(٢٣)
هذا مدح من الله عزوجل لكتابه القرآن العظيم المنزل على رسوله الكريم. قال الله
تعالى : (اللهُ نَزَّلَ
أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ) قال مجاهد يعني القرآن كله متشابه مثاني ، وقال قتادة :
الآية تشبه الآية ، والحرف يشبه الحرف وقال الضحاك : (مَثانِيَ) ترديد القول ليفهموا عن ربهم تبارك وتعالى وقال عكرمة
والحسن : ثنى الله فيه القضاء زاد الحسن تكون السورة فيها آية وفي السورة الأخرى
آية تشبهها ، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : (مَثانِيَ) مردد ردد موسى في القرآن وصالح وهود والأنبياء عليهم
الصلاة والسلام في أمكنة كثيرة.
وقال سعيد بن جبير
عن ابن عباس رضي الله عنهما : (مَثانِيَ) قال القرآن يشبه بعضه بعضا ويرد بعضه على بعض ، وقال بعض
العلماء ويروى عن سفيان بن عيينة معنى قوله تعالى :
(مُتَشابِهاً مَثانِيَ) أنّ سياقات القرآن تارة تكون في معنى واحد فهذان من
المتشابه وتارة تكون بذكر الشيء وضده كذكر المؤمنين ثم الكافرين وكصفة الجنة ثم
صفة النار وما أشبه هذا فهذا من المثاني كقوله تعالى : (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ
وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) [الانفطار : ١٣ ـ ١٤]
وكقوله عزوجل : (كَلَّا إِنَّ كِتابَ
الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) ـ إلى أن قال ـ (كَلَّا إِنَّ كِتابَ
الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) [المطففين : ٧ ـ ١٨]
(هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ
لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ) ـ إلى أن قال ـ (هذا وَإِنَّ
لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ) [ص : ٤٩ ـ ٥٥]
ونحو هذا من السياقات فهذا كله من المثاني أي في معنيين اثنين وأما إذا كان السياق
كله في معنى واحد يشبه بعضه بعضا فهو المتشابه وليس هذا من المتشابه المذكور في
قوله تعالى : (مِنْهُ آياتٌ
مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) [آل عمران : ٧]
ذاك معنى آخر. وقوله تعالى : (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ
يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ
__________________
جُلُودُهُمْ
وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ) أي هذه صفة الأبرار ، عند سماع كلام الجبار ، المهيمن
العزيز الغفار ، لما يفهمون من الوعد والوعيد ، والتخويف والتهديد تقشعر منه
جلودهم من الخشية والخوف (ثُمَّ تَلِينُ
جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ) لما يرجون ويؤملون من رحمته ولطفه فهم مخالفون لغيرهم من
الفجار من وجوه.
[أحدها] أن سماع
هؤلاء هو تلاوة الآيات وسماع أولئك نغمات الأبيات من أصوات القينات [الثاني] أنهم إذا
تليت عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا بأدب وخشية ورجاء ومحبة وفهم وعلم كما قال
تبارك وتعالى : (إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ
عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أُولئِكَ هُمُ
الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ
كَرِيمٌ) [الأنفال : ٢ ـ ٤]
وقال تعالى : (وَالَّذِينَ إِذا
ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً) [الفرقان : ٧٣] أي
لم يكونوا عند سماعها متشاغلين لاهين عنها بل مصغين إليها فاهمين بصيرين بمعانيها
فلهذا إنما يعملون بها ويسجدون عندها عن بصيرة لا عن جهل ومتابعة لغيرهم.
[الثالث] أنهم
يلزمون الأدب عند سماعها كما كان الصحابة رضي الله عنهم عند سماعهم كلام الله
تعالى من تلاوة رسول الله صلىاللهعليهوسلم تقشعر جلودهم ثم تلين مع قلوبهم إلى ذكر الله. ولم يكونوا
يتصارخون ولا يتكلفون بما ليس فيهم بل عندهم من الثبات والسكون والأدب والخشية ما
لا يلحقهم أحد في ذلك ولهذا فازوا بالمدح من الرب الأعلى في الدنيا والآخرة. قال
عبد الرزاق حدثنا معمر قال تلا قتادة رحمهالله (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ
جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ
إِلى ذِكْرِ اللهِ) قال هذا نعت أولياء الله ، نعتهم الله عزوجل بأن تقشعر جلودهم وتبكي أعينهم وتطمئن قلوبهم إلى ذكر الله
ولم ينعتهم بذهاب عقولهم والغشيان عليهم إنما هذا في أهل البدع ، وهذا من الشيطان.
وقال السدي (ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ
وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ) أي إلى وعد الله ، وقوله : (ذلِكَ هُدَى اللهِ
يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) أي هذه صفة من هداه الله ومن كان على خلاف ذلك فهو ممن
أضله الله (وَمَنْ يُضْلِلِ
اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) [الرعد : ٣٣].
(أَفَمَنْ يَتَّقِي
بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما
كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ(٢٤) كَذَّبَ الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٥) فَأَذاقَهُمُ اللهُ
الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا
يَعْلَمُونَ)
(٢٦)
يقول تعالى : (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ
الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) ويقرع فيقال له ولأمثاله من
__________________
الظالمين (ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) كمن يأتي آمنا يوم القيامة كما قال عزوجل : (أَفَمَنْ يَمْشِي
مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الملك : ٢٢] وقال
جل وعلا : (يَوْمَ يُسْحَبُونَ
فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) [القمر : ٤٨] وقال
تبارك وتعالى : (أَفَمَنْ يُلْقى فِي
النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ) [فصلت : ٤٠]
واكتفى في هذه الآية بأحد القسمين عن الآخر. كقول الشاعر : [الوافر]
فما أدري إذا
يمّمت أرضا
|
|
أريد الخير
أيهما يليني
|
يعني الخير أو
الشر. وقوله جلت عظمته : (كَذَّبَ الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) يعني القرون الماضية المكذبة للرسل أهلكهم الله بذنوبهم
وما كان لهم من الله من واق ، وقوله جل وعلا : (فَأَذاقَهُمُ اللهُ
الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي بما أنزل بهم من العذاب والنكال وتشفي المؤمنين بهم ،
فليحذر المخاطبون من ذلك فإنهم قد كذبوا أشرف الرسل وخاتم الأنبياء صلىاللهعليهوسلم والذي أعده الله جل جلاله لهم في الآخرة من العذاب الشديد
أعظم مما أصابهم في الدنيا ولهذا قال عزوجل : (وَلَعَذابُ
الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ).
(وَلَقَدْ ضَرَبْنا
لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٧)
قُرْآناً
عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٢٨)
ضَرَبَ
اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ
هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ
(٢٩)
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠)
ثُمَّ
إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ)
(٣١)
يقول تعالى : (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا
الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) أي بينا للناس فيه بضرب الأمثال (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) فإن المثل يقرب المعنى إلى الأذهان كما قال تبارك وتعالى :
(ضَرَبَ لَكُمْ
مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ) [الروم : ٢٨] أي
تعلمونه من أنفسكم ، وقال عزوجل : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ
نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) [العنكبوت : ٤٣].
وقوله جل وعلا : (قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) أي هو قرآن بلسان عربي مبين لا اعوجاج فيه ولا انحراف ولا
لبس بل هو بيان ووضوح وبرهان ، وإنما جعله الله تعالى كذلك ، وأنزله بذلك (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أي يحذرون ما فيه من الوعيد ويعملون بما فيه من الوعد. ثم
قال : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً
رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ) أي يتنازعون في ذلك العبد المشترك بينهم (وَرَجُلاً سَلَماً) أي سالما (لِرَجُلٍ) أي خالصا لرجل لا يملكه أحد غيره (هَلْ يَسْتَوِيانِ
__________________
مَثَلاً) أي لا يستوي هذا وهذا. كذلك لا يستوي المشرك الذي يعبد آلهة
مع الله والمؤمن المخلص الذي لا يعبد إلا الله وحده لا شريك له؟ فأين هذا من هذا؟
قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وغير واحد : هذه الآية ضربت مثلا للمشرك
والمخلص ، ولما كان هذا المثل ظاهرا بينا جليا قال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) أي على إقامة الحجة عليهم (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا
يَعْلَمُونَ) أي فلهذا يشركون بالله.
وقوله تبارك
وتعالى : (إِنَّكَ مَيِّتٌ
وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) هذه الآية من الآيات التي استشهد بها الصديق رضي الله عنه
عند موت الرسول صلىاللهعليهوسلم حتى تحقق الناس موته مع قوله عزوجل : (وَما مُحَمَّدٌ
إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ
انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ
يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) [آل عمران : ١٤٤]
ومعنى هذه الآية أنكم ستنقلون من هذه الدار لا محالة وستجتمعون عند الله تعالى في
الدار الآخرة وتختصمون فيما أنتم فيه في الدنيا من التوحيد والشرك بين يدي الله عزوجل فيفصل بينكم ويفتح بالحق وهو الفتاح العليم ، فينجي
المؤمنين المخلصين الموحدين. ويعذب الكافرين الجاحدين المشركين المكذبين. ثم إن
هذه الآية وإن كان سياقها في المؤمنين والكافرين وذكر الخصومة بينهم في الدار
الآخرة فإنها شاملة لكل المتنازعين في الدنيا فإنه تعاد عليهم الخصومة في الدار
الآخرة.
وقال ابن أبي حاتم
رحمهالله : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ حدثنا سفيان عن
محمد بن عمرو عن أبي حاطب ـ يعني يحيى بن عبد الرحمن ـ عن ابن الزبير رضي الله
عنهما قال لما نزلت (ثُمَّ إِنَّكُمْ
يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) قال الزبير رضي الله عنه : يا رسول الله أتكرر علينا
الخصومة؟ قال صلىاللهعليهوسلم : «نعم» قال رضي الله عنه : إن الأمر إذا لشديد :
وكذا رواه الإمام
أحمد عن سفيان وعنده زيادة ، ولما نزلت (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ
يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) [التكاثر : ٨] قال
الزبير رضي الله عنه : أي رسول الله أي نعيم نسأل عنه وإنما يعني هما الأسودان :
التمر والماء ، قال صلىاللهعليهوسلم : «أما إن ذلك سيكون» وقد روى هذه الزيادة الترمذي وابن
ماجة من حديث سفيان به وقال الترمذي : حسن وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا ابن نمير حدثنا محمد ـ يعني ابن عمرو ـ عن
يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن عبد الله بن الزبير عن الزبير بن العوام رضي الله
عنه قال : لما نزلت هذه السورة على رسول الله صلىاللهعليهوسلم (إِنَّكَ مَيِّتٌ
وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ
تَخْتَصِمُونَ) قال الزبير رضي الله عنه : أي رسول الله أيكرر
__________________
علينا ما كان
بيننا في الدنيا مع خواص الذنوب؟ قال صلىاللهعليهوسلم : «نعم ليكررن عليكم حتى يؤدى إلى كل ذي حق حقه» قال
الزبير رضي الله عنه : والله إن الأمر لشديد ، ورواه الترمذي من حديث محمد بن عمرو
به وقال حسن صحيح.
وقال الإمام أحمد : حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ابن لهيعة عن أبي عشّانة عن
عقبة بن عامر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أول الخصمين يوم القيامة جاران» تفرد به أحمد.
وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا حسن بن موسى حدثنا ابن لهيعة حدثنا دراج عن
أبي الهيثم عن أبي سعيد رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «والذي نفسي بيده إنه ليختصم حتى الشاتان فيما انتطحتا»
تفرد به أحمد رحمهالله.
وفي المسند عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال : رأى رسول الله صلىاللهعليهوسلم شاتين تنتطحان فقال : «أتدري فيم تنتطحان يا أبا ذر؟» قلت
: لا قال صلىاللهعليهوسلم : «ولكن الله يدري وسيحكم بينهما» وقال الحافظ أبو بكر
البزار حدثنا سهل بن بحر حدثنا حيان بن أغلب حدثنا أبي حدثنا ثابت عن أنس رضي الله
عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «يجاء بالإمام
الجائر الخائن يوم القيامة فتخاصمه الرعية فيفلجون عليه فيقال له سد ركنا من أركان
جهنم» ثم قال الأغلب بن تميم ليس بالحافظ.
وقال علي بن أبي
طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما (ثُمَّ إِنَّكُمْ
يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) يقول : يخاصم الصادق الكاذب ، والمظلوم الظالم ، والمهتدي
الضال ، والضعيف المستكبر ، وقد روى ابن مندة في كتاب «الروح» عن ابن عباس رضي الله
عنهما أنه قال : يختصم الناس يوم القيامة حتى تختصم الروح مع الجسد فتقول الروح
للجسد أنت فعلت ويقول الجسد للروح أنت أمرت وأنت سولت فيبعث الله ملكا يفصل بينهما
فيقول لهما إنّ مثلكما كمثل رجل مقعد بصير والآخر ضرير دخلا بستانا فقال المقعد
للضرير إني أرى هاهنا ثمارا ولكن لا أصل إليها فقال له الضرير اركبني فتناولها
فركبه فتناولها فأيهما المعتدي؟ فيقولان كلاهما فيقول لهما الملك فإنكما قد حكمتما
على أنفسكما ، يعني أن الجسد للروح كالمطية وهي راكبه.
وقال ابن أبي حاتم
حدثنا جعفر بن أحمد بن عوسجة حدثنا ضرار حدثنا أبو سلمة الخزاعي منصور بن سلمة
حدثنا القمي ـ يعني يعقوب بن عبد الله عن جعفر بن المغيرة عن سعيد بن
__________________
جبير عن ابن عمر
رضي الله عنهما قال : نزلت هذه الآية وما نعلم في أي شيء نزلت (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ
عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) قلنا من نخاصم؟ ليس بيننا وبين أهل الكتاب خصومة فمن نخاصم؟
حتى وقعت الفتنة فقال ابن عمر رضي الله عنهما : هذا الذي وعدنا ربنا عزوجل نختصم فيه. ورواه النسائي عن محمد بن عامر عن منصور بن
سلمة به ، وقال أبو العالية في قوله تبارك وتعالى : (ثُمَّ إِنَّكُمْ
يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) قال : يعني أهل القبلة ، وقال ابن زيد : يعني أهل الإسلام
وأهل الكفر ، وقد قدمنا أن الصحيح العموم والله سبحانه وتعالى أعلم.
(فَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي
جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٣٢) وَالَّذِي جاءَ
بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣٣) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ
عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٣٤) لِيُكَفِّرَ اللهُ
عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي
كانُوا يَعْمَلُونَ)
(٣٥)
يقول عزوجل مخاطبا المشركين الذين افتروا على الله وجعلوا معه آلهة
أخرى وادعوا أن الملائكة بنات الله وجعلوا لله ولدا تعالى الله عن قولهم علوا
كبيرا ، ومع هذا كذبوا بالحق إذ جاءهم على ألسنة رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم
أجمعين ولهذا قال عزوجل : (فَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ) أي لا أحد أظلم من هذا لأنه جمع بين طرفي الباطل كذب على
الله وكذب رسول الله قالوا الباطل وردوا الحق ولهذا قال جلت عظمته متوعدا لهم : (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً
لِلْكافِرِينَ) وهم الجاحدون المكذبون. ثم قال جل وعلا : (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ
بِهِ) قال مجاهد وقتادة والربيع بن أنس وابن زيد : الذي جاء
بالصدق هو الرسول صلىاللهعليهوسلم وقال السدي : هو جبريل عليهالسلام (وَصَدَّقَ بِهِ) يعني محمدا صلىاللهعليهوسلم .
وقال علي بن أبي
طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما (وَالَّذِي جاءَ
بِالصِّدْقِ) قال : من جاء بلا إله إلا الله (وَصَدَّقَ بِهِ) يعني رسول الله صلىاللهعليهوسلم وقرأ الربيع بن أنس والذين جاءوا بالصدق يعني الأنبياء
وصدقوا به يعني الأتباع. وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ
بِهِ) قال : أصحاب القرآن المؤمنون يجيئون يوم القيامة فيقولون
هذا ما أعطيتمونا فعملنا فيه بما أمرتمونا. وهذا القول عن مجاهد يشمل كل المؤمنين
فإن المؤمنين يقولون الحق ويعملون به والرسول صلىاللهعليهوسلم أولى الناس بالدخول في هذه الآية على هذا التفسير فإنه جاء
بالصدق وصدق المرسلين وآمن بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله
__________________
وملائكته وكتبه
ورسله.
وقال عبد الرحمن
بن زيد بن أسلم (وَالَّذِي جاءَ
بِالصِّدْقِ) هو رسول الله صلىاللهعليهوسلم (وَصَدَّقَ بِهِ) المسلمون (أُولئِكَ هُمُ
الْمُتَّقُونَ) قال ابن عباس رضي الله عنهما : اتقوا الشرك (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ
عِنْدَ رَبِّهِمْ) يعني في الجنة مهما طلبوا وجدوا (ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ
لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ
بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) كما قال عزوجل في الآية الأخرى : (أُولئِكَ الَّذِينَ
نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي
أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) [الأحقاف : ١٦].
(أَلَيْسَ اللهُ
بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ
فَما لَهُ مِنْ هادٍ(٣٦) وَمَنْ يَهْدِ اللهُ
فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (٣٧)
وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ
ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ
ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ
حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (٣٨)
قُلْ
يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٩) مَنْ يَأْتِيهِ
عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) (٤٠)
يقول تعالى : (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) وقرأ بعضهم «عباده» يعني أنه تعالى يكفي من عبده وتوكل عليه وقال ابن أبي حاتم
هاهنا : حدثنا أبو عبيد الله ابن أخي ابن وهب حدثنا عمي حدثنا أبو هانئ عن أبي علي
عمرو بن مالك الجنبي عن فضالة بن عبيد الأنصاري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «أفلح من هدي إلى الإسلام وكان عيشه كفافا وقنع به»
ورواه الترمذي والنسائي من حديث حيوة بن شريح عن أبي هانئ الخولاني به وقال
الترمذي صحيح.
(وَيُخَوِّفُونَكَ
بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) يعني المشركين يخوفون الرسول صلىاللهعليهوسلم ويتوعدونه بأصنامهم وآلهتهم التي يدعونها من دون الله جهلا
منهم وضلالا ولهذا قال عزوجل : (وَمَنْ يُضْلِلِ
اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ
اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ) أي منيع الجناب لا يضام من استند إلى جنابه ولجأ إلى بابه
فإنه العزيز الذي لا أعز منه ولا أشد انتقاما منه ممن كفر به وأشرك وعاند رسوله صلىاللهعليهوسلم ، وقوله تعالى :
(وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ
__________________
لَيَقُولُنَّ
اللهُ) يعني المشركين كانوا يعترفون بأن الله عزوجل هو الخالق للأشياء كلها ومع هذا يعبدون معه غيره مما لا
يملك لهم ضرا ولا نفعا ولهذا قال تبارك تعالى : (قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ
ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ
ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ) أي لا تستطيع شيئا من الأمر.
وذكر ابن أبي حاتم
هاهنا حديث قيس بن الحجاج عن حنش الصنعاني عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا «احفظ
الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ،
إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على
أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يضروك ، ولو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم
يكتبه الله لك لم ينفعوك ، جفت الصحف ورفعت الأقلام واعمل لله بالشكر في اليقين.
واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا. وأن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب
وأن مع العسر يسرا» (قُلْ حَسْبِيَ اللهُ) أي الله كافيّ عليه توكلت و (عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ
الْمُتَوَكِّلُونَ) كما قال هود عليه الصلاة والسلام حين قال له قومه (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ
آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا
تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ إِنِّي
تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ
بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [هود : ٥٤ ـ ٥٦].
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أحمد بن عصام الأنصاري حدثنا عبد الله بن بكر السهمي حدثنا محمد بن حاتم
عن أبي المقدام مولى آل عثمان عن محمد بن كعب القرظي حدثنا ابن عباس رضي الله
عنهما رفع الحديث إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «من أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله تعالى
، ومن أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله عزوجل أوثق منه بما في يديه ، ومن أحب أن يكون أكرم الناس فليتق
الله عزوجل».
وقوله تعالى : (قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى
مَكانَتِكُمْ) أي على طريقتكم وهذا تهديد ووعيد (إِنِّي عامِلٌ) أي على طريقتي ومنهجي (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) أي ستعلمون غب ذلك ووباله (مَنْ يَأْتِيهِ
عَذابٌ يُخْزِيهِ) أي في الدنيا (وَيَحِلُّ عَلَيْهِ
عَذابٌ مُقِيمٌ) أي دائم مستمر لا محيد له عنه وذلك يوم القيامة ، أعادنا
الله منها.
(إِنَّا أَنْزَلْنا
عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ
ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٤١) اللهُ يَتَوَفَّى
الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ
الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)
(٤٢)
__________________
يقول تعالى مخاطبا
رسوله محمدا صلىاللهعليهوسلم : (إِنَّا أَنْزَلْنا
عَلَيْكَ الْكِتابَ) يعني القرآن (لِلنَّاسِ بِالْحَقِ) أي لجميع الخلق من الإنس والجن لتنذرهم به (فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ) أي فإنما يعود نفع ذلك إلى نفسه (وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ
عَلَيْها) أي إنما يرجع وبال ذلك على نفسه (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) أي بموكل أن يهتدوا (إِنَّما أَنْتَ
نَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) [هود : ١٢] (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ
وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) [الرعد : ٤٠]. ثم
قال تعالى مخبرا عن نفسه الكريمة بأنه المتصرف في الوجود بما يشاء وأنه يتوفى
الأنفس الوفاة الكبرى بما يرسل من الحفظة الذين يقبضونها من الأبدان والوفاة
الصغرى عند المنام كما قال تبارك وتعالى : (وَهُوَ الَّذِي
يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ
يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ
يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ
وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ
رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) [الأنعام : ٦٠ ـ ٦١]
فذكر الوفاتين الصغرى ثم الكبرى وفي هذه الآية ذكر الكبرى ثم الصغرى ولهذا قال
تبارك وتعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى
الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ
الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) فيه دلالة على أنه تجتمع في الملأ الأعلى كما ورد بذلك
الحديث المرفوع الذي رواه ابن مندة وغيره.
وفي صحيحي البخاري
ومسلم من حديث عبيد الله بن عمر عن سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة رضي
الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إذا آوى أحدكم إلى فراشه فلينفضه بداخلة إزاره فإنه لا
يدري ما خلفه عليه ثم ليقل باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه إن أمسكت نفسي فارحمها
وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين» . وقال بعض السلف تقبض أرواح الأموات إذا ماتوا وأرواح
الأحياء إذا ناموا فتتعارف ما شاء الله تعالى أن تتعارف (فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا
الْمَوْتَ) التي قد ماتت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى. قال السدي إلى
بقية أجلها ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما يمسك أنفس الأموات ويرسل أنفس الأحياء
ولا يغلط (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).
(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ
دُونِ اللهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا
يَعْقِلُونَ (٤٣) قُلْ لِلَّهِ
الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
(٤٤) وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ
اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ
الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ)
(٤٥)
يقول تعالى ذاما
للمشركين في اتخاذهم شفعاء من دون الله وهم الأصنام والأنداد التي اتخذوها من
تلقاء أنفسهم بلا دليل ولا برهان حداهم على ذلك وهي لا تملك شيئا من الأمر بل
__________________
وليس لها عقل تعقل
به ولا سمع تسمع به ولا بصر تبصر به بل هي جمادات أسوأ من الحيوان بكثير ، ثم قال
: قل أي يا محمد لهؤلاء الزاعمين أن ما اتخذوه من شفعاء لهم عند الله تعالى أخبرهم
أن الشفاعة لا تنفع عند الله إلا لمن ارتضاه وأذن له فمرجعها كلها إليه (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ
إِلَّا بِإِذْنِهِ) [البقرة : ٢٥٥].
(لَهُ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي هو المتصرف في جميع ذلك (ثُمَّ إِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ) أي يوم القيامة فيحكم بينكم بعدله ويجزي كلا بعمله ، ثم
قال تعالى ذاما للمشركين أيضا : (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ
وَحْدَهُ) أي إذا قيل لا إله إلا الله وحده (اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) قال مجاهد اشمأزت انقبضت وقال السدي نفرت وقال قتادة كفرت
واستكبرت وقال مالك عن زيد بن أسلم استكبرت كما قال تعالى : (إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا
إِلهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ) [الصافات : ٣٥] أي عن المتابعة والانقياد لها فقلوبهم لا
تقبل الخير ومن لم يقبل الخير يقبل الشر ولذلك قال تبارك تعالى : (وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) أي من الأصنام والأنداد قاله مجاهد (إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) أي يفرحون ويسرون.
(قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ
عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٤٦) وَلَوْ أَنَّ
لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا
بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ
يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (٤٧) وَبَدا لَهُمْ
سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)
(٤٨)
يقول تبارك وتعالى
بعد ما ذكر عن المشركين ما ذكر من المذمة لهم في حبهم الشرك ونفرتهم عن التوحيد (قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي ادع أنت الله وحده لا شريك له الذي خلق السموات والأرض
وفطرها أي جعلها على غير مثال سبق (عالِمَ الْغَيْبِ
وَالشَّهادَةِ) أي السر والعلانية (أَنْتَ تَحْكُمُ
بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أي في دنياهم ستفصل بينهم يوم معادهم ونشورهم وقيامهم من
قبورهم.
قال مسلم في صحيحه : حدثنا عبد بن حميد حدثنا عمر بن يونس حدثنا
عكرمة بن عمار حدثنا يحيى بن أبي كثير حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن قال : سألت
عائشة رضي الله عنها بأي شيء كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يفتتح صلاته إذا قام من الليل؟ قالت رضي الله عنها كان
رسول الله صلىاللهعليهوسلم إذا قام من الليل افتتح صلاته «اللهم رب جبريل وميكائيل
وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا
فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم».
__________________
وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة وأخبرنا سهيل بن أبي صالح
وعبد الله بن عثمان بن خثيم عن عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن عبد الله بن
مسعود رضي الله عنه قال : إن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «من قال اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب
والشهادة إني أعهد إليك في هذه الدنيا أني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك
وأن محمدا عبدك ورسولك فإنك إن تكلني إلى نفسي تقربني من الشر وتباعدني من الخير ،
وإني لا أثق إلا برحمتك فاجعل لي عندك عهدا توفينيه يوم القيامة إنك لا تخلف
الميعاد ، إلا قال عزوجل لملائكته يوم القيامة : إن عبدي قد عهد إلي عهدا فأوفوه
إياه فيدخله الله الجنة» قال سهيل : فأخبرت القاسم بن عبد الرحمن أن عونا أخبر
بكذا وكذا فقال : ما في أهلنا جارية إلا وهي تقول هذا في خدرها انفرد به الإمام
أحمد.
وقال الإمام أحمد حدثنا حسن حدثنا ابن لهيعة حدثني حيي بن عبد الله أن أبا
عبد الرحمن حدثه قال أخرج لنا عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قرطاسا وقال : كان
رسول اللهصلىاللهعليهوسلم يعلمنا يقول : اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب
والشهادة أنت رب كل شيء وإله كل شيء أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأن
محمدا عبدك ورسولك والملائكة يشهدون ، أعوذ بك من الشيطان وشركه ، وأعوذ بك من أن
أقترف على نفسي إثما أو أجره إلى مسلم. قال أبو عبد الرحمن رضي الله عنه كان رسول
الله صلىاللهعليهوسلم يعلمه عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن يقول ذلك حين
يريد أن ينام ، تفرد به أحمد أيضا.
وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا خلف بن الوليد حدثنا ابن عياش عن محمد بن
زياد الألهاني عن أبي راشد الحبراني قال : أتيت عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما
فقلت له حدثنا ما سمعت من رسول الله صلىاللهعليهوسلم فألقى بين يدي صحيفة فقال : هذا ما كتب لي رسول الله فنظرت
فيها فإذا فيها أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال : يا رسول الله علمني ما أقول
إذا أصبحت وإذا أمسيت فقال له رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «يا أبا بكر قل اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب
والشهادة لا إله إلا أنت رب كل شيء ومليكه أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه
أو أقترف على نفسي سوءا أو أجره إلى مسلم» ورواه الترمذي عن الحسن بن عرفة عن إسماعيل بن عياش به وقال حسن غريب من
هذا الوجه.
وقال الإمام أحمد : حدثنا هاشم حدثنا شيبان عن ليث عن مجاهد قال : قال أبو
بكر
__________________
الصديق : أمرني
رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن أقول إذا أصبحت وإذا أمسيت وإذا أخذت مضجعي من الليل:
اللهم فاطر السموات والأرض إلخ.
وقوله عزوجل : (وَلَوْ أَنَّ
لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) وهم المشركون (ما فِي الْأَرْضِ
جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ) أي ولو أن جميع ما في الأرض وضعفه معه (لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ) أي الذي أوجبه الله تعالى لهم يوم القيامة ومع هذا لا يقبل
منهم الفداء ولو كان ملء الأرض ذهبا كما قال في الآية الأخرى : (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ
يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) أي وظهر لهم من الله من العذاب والنكال بهم ما لم يكن في
بالهم ولا في حسابهم (وَبَدا لَهُمْ
سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) أي وظهر لهم جزاء ما اكتسبوا في الدار الدنيا من المحارم
والمآثم (وَحاقَ بِهِمْ ما
كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي وأحاط بهم من العذاب والنكال ما كانوا يستهزئون به في
الدار الدنيا.
(فَإِذا مَسَّ
الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما
أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٩) قَدْ قالَهَا
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٥٠) فَأَصابَهُمْ
سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ
ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥١) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا
أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ
لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)
(٥٢)
يقول تبارك وتعالى
مخبرا عن الإنسان أنه في حال الضراء يتضرع إلى الله عزوجل وينيب إليه ويدعوه وإذا خوله نعمة منه بغى وطغى وقال (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ) أي لما يعلم الله تعالى من استحقاقي له ولو لا أني عند
الله خصيص لما خولني هذا ، قال قتادة على علم عندي على خير عندي قال الله عزوجل : (بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ) أي ليس الأمر كما زعم بل إنما أنعمنا عليه بهذه النعمة
لنختبره فيما أنعمنا عليه أيطيع أم يعصي مع علمنا المقتدم بذلك فهي فتنة أي اختبار
(وَلكِنَّ
أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) فلهذا يقولون ما يقولون ويدعون ما يدعون.
(قَدْ قالَهَا
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي قد قال هذه المقالة وزعم هذا الزعم وادعى هذه الدعوى
كثير ممن سلف من الأمم (فَما أَغْنى عَنْهُمْ
ما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي فما صح قولهم ولا منعهم جمعهم وما كانوا يكسبون (فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا
وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ) أي من المخاطبين (سَيُصِيبُهُمْ
سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) أي كما أصاب أولئك (وَما هُمْ
بِمُعْجِزِينَ) كما قال تبارك وتعالى مخبرا عن قارون أنه قال له قومه (لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ
الْفَرِحِينَ وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ
نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ
الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ قالَ إِنَّما
أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ
قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً
وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ)
__________________
[القصص : ٧٦ ـ ٧٨]
وقال تعالى : (وَقالُوا نَحْنُ
أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) [سبأ : ٣٥] وقوله
تبارك وتعالى : (أَوَلَمْ يَعْلَمُوا
أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) أي يوسعه على قوم ويضيقه على آخرين (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ) أي لعبرا وحججا.
(قُلْ يا عِبادِيَ
الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ
اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣) وَأَنِيبُوا إِلى
رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا
تُنْصَرُونَ (٥٤) وَاتَّبِعُوا
أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ
الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٥٥) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ
يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ
السَّاخِرِينَ (٥٦) أَوْ تَقُولَ لَوْ
أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٥٧) أَوْ تَقُولَ حِينَ
تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٨)
بَلى
قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ
الْكافِرِينَ)
(٥٩)
هذه الآية الكريمة
دعوة لجميع العصاة من الكفرة وغيرهم إلى التوبة والإنابة وإخبار بأن الله تبارك
وتعالى يغفر الذنوب جميعا لمن تاب منها ورجع عنها وإن كانت مهما كانت وإن كثرت
وكانت مثل زبد البحر ، ولا يصح حمل هذه على غير توبة لأن الشرك لا يغفر لمن لم يتب
منه.
وقال البخاري : حدثنا إبراهيم بن موسى أخبرنا هشام بن يوسف أن ابن جريج
أخبرهم قال يعلى أن سعيد بن جبير أخبره عن ابن عباس رضي الله عنهما أن ناسا من أهل
الشرك كانوا قد قتلوا فأكثروا ، وزنوا فأكثروا ، فأتوا محمدا صلىاللهعليهوسلم فقالوا : إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما
عملنا كفارة فنزل (وَالَّذِينَ لا
يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ
اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ) [الفرقان : ٦٨]
ونزل (قُلْ يا عِبادِيَ
الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) وهكذا رواه مسلم وأبو داود والنسائي من حديث ابن جريج عن
يعلى بن مسلم المكي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما به. والمراد من
الآية الأولى قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ تابَ
وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً) [الفرقان : ٧٠]
الآية.
وقال الإمام أحمد حدثنا حسن حدثنا ابن لهيعة حدثنا أبو قبيل قال : سمعت أبا
عبد الرحمن المزني يقول : سمعت ثوبان مولى رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا
عَلى أَنْفُسِهِمْ) إلى آخر الآية فقال رجل يا رسول الله فمن أشرك؟ فسكت النبي
صلىاللهعليهوسلم ثم قال : «ألا ومن أشرك»
__________________
ثلاث مرات تفرد به
الإمام أحمد.
وقال الإمام أحمد أيضا حدثنا سريج بن النعمان حدثنا نوح بن قيس عن أشعث بن
جابر الحداني عن مكحول عن عمرو بن عبسة رضي الله عنه قال : جاء رجل إلى النبي صلىاللهعليهوسلم شيخ كبير يدعم على عصا له فقال : يا رسول الله لي غدرات
وفجرات فهل يغفر لي؟ فقالصلىاللهعليهوسلم : «ألست تشهد أن لا إله إلا الله؟» قال : بلى وأشهد أنك
رسول الله فقال صلىاللهعليهوسلم : «قد غفر لك غدراتك وفجراتك» تفرد به أحمد.
وقال الإمام أحمد حدثنا يزيد بن هارون حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن شهر بن
حوشب عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها قالت سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقرأ : (إِنَّهُ عَمَلٌ
غَيْرُ صالِحٍ) وسمعته صلىاللهعليهوسلم يقول : (قُلْ يا عِبادِيَ
الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ
اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) ولا يبالي (إِنَّهُ هُوَ
الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) ورواه أبو داود والترمذي من حديث ثابت به. فهذه الأحاديث
كلها دالة على أن المراد أنه يغفر جميع ذلك مع التوبة ولا يقنطن عبد من رحمة الله
وإن عظمت ذنوبه وكثرت فإن باب الرحمة والتوبة واسع قال الله تعالى : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ
يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) [التوبة : ١٠٤].
وقال عزوجل : (وَمَنْ يَعْمَلْ
سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً
رَحِيماً) [النساء : ١١٠]
وقال جل وعلا في حق المنافقين : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ
فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً إِلَّا
الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا) [النساء : ١٤٥ ـ ١٤٦]
وقال جل جلاله : (لَقَدْ كَفَرَ
الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ
واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) ثم قال جلت عظمته : (أَفَلا يَتُوبُونَ
إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [المائدة : ٧٣ ـ ٧٤].
وقال تبارك وتعالى
: (إِنَّ الَّذِينَ
فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا) [البروج : ١٠] قال
الحسن البصري رحمة الله عليه انظروا إلى هذا الكرم والجود قتلوا أولياءه وهو
يدعوهم إلى التوبة والمغفرة والآيات في هذا كثيرة جدا.
وفي الصحيحين عن
أبي سعيد رضي الله عنه عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم حديث الذي قتل تسعا وتسعين نفسا ثم ندم وسأل عابدا من عباد
بني إسرائيل هل له من توبة ، فقال : لا فقتله وأكمل به مائة ثم سأل عالما من
علمائهم هل له من توبة فقال ومن يحول بينك وبين التوبة. ثم أمره بالذهاب إلى قرية
يعبد الله فيها فقصدها فأتاه الموت في أثناء الطريق فاختصمت فيه ملائكة الرحمة
وملائكة العذاب فأمر الله عزوجل أن يقيسوا ما بين الأرضين فإلى أيهما كان أقرب فهو
__________________
منها فوجدوه أقرب
إلى الأرض التي هاجر إليها بشير فقبضته ملائكة الرحمة ، وذكر أنه نأى بصدره عند الموت وأن الله تبارك وتعالى أمر
البلدة الخيرة أن تقترب وأمر تلك البلدة أن تتباعد ، هذا معنى الحديث وقد كتبناه
في موضع آخر بلفظه.
وقال علي بن أبي
طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عزوجل : (قُلْ يا عِبادِيَ
الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ
اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) إلى آخر الآية قال قد دعا الله تعالى إلى مغفرته من زعم أن
المسيح هو الله ومن زعم أن المسيح هو ابن الله ومن زعم أن عزيزا ابن الله ومن زعم
أن الله فقير ومن زعم أن يد الله مغلولة ومن زعم أن الله ثالث ثلاثة يقول الله
تعالى لهؤلاء : (أَفَلا يَتُوبُونَ
إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ثم دعا إلى توبته من هو أعظم قولا من هؤلاء ، من قال أنا
ربكم الأعلى وقال : (ما عَلِمْتُ لَكُمْ
مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من آيس عباد الله من
التوبة بعد هذا فقد جحد كتاب الله عزوجل ، ولكن لا يقدر العبد أن يتوب حتى يتوب الله عليه.
وروى الطبراني من
طريق الشعبي عن شتير بن شكل أنه قال سمعت ابن مسعود يقول إن أعظم آية في كتاب الله
(اللهُ لا إِلهَ
إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) [البقرة : ٢٥٥]
وإن أجمع آية في القرآن بخير وشر (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ
بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) [النحل : ٩٠] وإن
أكثر آية في القرآن فرجا في سورة الزمر (قُلْ يا عِبادِيَ
الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) وإن أشد آية في كتاب الله (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ
يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) [الطلاق: ٢] فقال
له مسروق صدقت. وقال الأعمش عن أبي سعيد عن أبي الكنود قال مر عبد الله يعني ابن
مسعود رضي الله عنه على قاص وهو يذكر الناس فقال يا مذكر لم تقنط الناس من رحمة
الله؟ ثم قرأ (قُلْ يا عِبادِيَ
الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) رواه ابن أبي حاتمرحمهالله.
[ذكر أحاديث فيها نفي القنوط]
قال الإمام أحمد : حدثنا سريج بن النعمان حدثنا أبو عبيدة عبد المؤمن بن
عبيد الله حدثني أخشن السدوسي قال : دخلت على أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه فقال
سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «والذي نفسي بيده لو أخطأتم حتى تملأ خطاياكم ما
بين السماء والأرض ثم استغفرتم الله تعالى لغفر لكم ، والذي نفس محمد صلىاللهعليهوسلم بيده لو لم تخطئوا لجاء الله عزوجل بقوم يخطئون ثم يستغفرون الله فيغفر لهم» تفرد به أحمد.
__________________
وقال الإمام أحمد : حدثنا إسحاق بن عيسى حدثني ليث حدثني محمد بن قيس قاص
عمر بن عبد العزيز عن أبي صرمة عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أنه قال حين
حضرته الوفاة قد كنت كتمت منكم شيئا سمعته من رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول «لولا أنكم تذنبون لخلق الله عزوجل قوما يذنبون فيغفر لهم» هكذا رواه الإمام أحمد وأخرجه مسلم في صحيحه والترمذي
جميعا عن قتيبة عن الليث بن سعد به. ورواه مسلم من وجه آخر به عن محمد بن كعب
القرظي عن أبي صرمة وهو الأنصاري صحابي عن أبي أيوب رضي الله عنهما به.
وقال الإمام أحمد حدثنا أحمد بن عبد الملك الحراني حدثنا يحيى بن عمرو بن
مالك النكري قال سمعت أبي يحدث عن أبي الجوزاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال :
قال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم : «كفارة الذنب الندامة» وقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لو لم تذنبوا لجاء الله تعالى بقوم يذنبون فيغفر لهم»
تفرد به أحمد. وقال عبد الله ابن الإمام أحمد حدثني عبد الأعلى بن حماد النرسي
حدثنا داود بن عبد الرحمن حدثنا أبو عبد الله مسلمة بن عبد الله الرازي عن أبي
عمرو البجلي عن عبد الملك بن سفيان الثقفي عن أبي جعفر محمد بن علي عن محمد ابن
الحنفية عن أبيه علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن الله تعالى يحب العبد المفتن التواب» ولم يخرجوه من هذا الوجه.
وقال ابن أبي حاتم
حدثنا أبي حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد حدثنا ثابت وحميد عن عبد الله بن عبيد
بن عمير قال : إن إبليس لعنه الله تعالى قال يا رب إنك أخرجتني من الجنة من أجل
آدم وإني لا أستطيعه إلا بسلطانك قال فأنت مسلط ، قال يا رب زدني ، قال لا يولد له
ولد إلا ولد لك مثله ، قال يا رب زدني قال أجعل صدورهم مساكن لكم وتجرون منهم مجرى
الدم قال يا رب زدني قال أجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد
وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا ، فقال آدم عليه الصلاة والسلام يا رب قد سلطته
علي وإني لا أمتنع إلا بك قال تبارك وتعالى لا يولد لك ولد إلا وكلت به من يحفظه
من قرناء السوء ، قال يا رب زدني قال الحسنة عشر أو أزيد والسيئة واحدة أو أمحوها
قال يا رب زدني قال باب التوبة مفتوح ما كان الروح في الجسد قال يا رب زدني قال : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى
أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ
جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).
وقال محمد بن
إسحاق قال نافع عن عبد الله بن عمر عن عمر رضي الله عنه في حديثه قال وكنا نقول ما
الله بقابل ممن افتتن صرفا ولا عدلا ولا توبة ، عرفوا الله ثم رجعوا إلى الكفر لبلاء
__________________
أصابهم قال وكانوا
يقولون ذلك لأنفسهم قال فلما قدم رسول الله صلىاللهعليهوسلم المدينة أنزل الله تعالى فيهم وفي قولنا وقولهم لأنفسهم (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى
أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ
جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ
وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ
وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) قال عمر رضي الله عنه فكتبتها بيدي في صحيفة وبعثت بها إلى
هشام بن العاص رضي الله عنه قال : فقال هشام لما أتتني جعلت أقرؤها بذي طوى أصعد
بها فيه وأصوت ولا أفهمها حتى قلت اللهم أفهمنيها فألقى الله عزوجل في قلبي أنها إنما نزلت فينا وفيما كنا نقول في أنفسنا
ويقال فينا قال فرجعت إلى بعيري فجلست عليه فلحقت برسول الله صلىاللهعليهوسلم بالمدينة.
ثم استحث تبارك
وتعالى عباده إلى المسارعة إلى التوبة فقال : (وَأَنِيبُوا إِلى
رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ) إلخ ، أي ارجعوا إلى الله واستسلموا له (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ
الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) أي بادروا بالتوبة والعمل الصالح قبل حلول النقمة (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ
إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) وهو القرآن العظيم (مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) أي من حيث لا تعلمون ولا تشعرون ثم قال عزوجل : (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ
يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) أي يوم القيامة يتحسر المجرم المفرط في التوبة والإنابة
ويود لو كان من المحسنين المخلصين المطيعين للهعزوجل.
وقوله تبارك
وتعالى : (وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ
السَّاخِرِينَ) أي إنما كان عملي في الدنيا عمل ساخر مستهزىء غير موقن
مصدق (أَوْ تَقُولَ لَوْ
أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى
الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) أي تود أن لو أعيدت إلى الدنيا لتحسن العمل.
قال علي بن أبي
طلحة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أخبر الله سبحانه وتعالى ما العباد قائلون
قبل أن يقولوه وعملهم قبل أن يعملوه. وقال تعالى : (وَلا يُنَبِّئُكَ
مِثْلُ خَبِيرٍ) [فاطر : ١٤] (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ
يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ
السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ
أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ
الْمُحْسِنِينَ).
وقد قال الإمام
أحمد حدثنا أسود حدثنا أبو بكر عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله تعالى
عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «كل أهل النار يرى مقعده من الجنة فيقول لو أن الله
هداني فتكون عليه حسرة ، قال وكل أهل الجنة يرى مقعده من النار فيقول لولا أن الله
هداني قال فيكون له الشكر» ورواه النسائي من حديث أبي بكر بن عياش به. ولما تمنى
أهل
__________________
الجرائم العود إلى
الدنيا وتحسروا على تصديق آيات الله واتباع رسله قال الله سبحانه وتعالى : (بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ
بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) أي قد جاءتك أيها العبد النادم على ما كان منه آياتي في
الدار الدنيا وقامت حججي عليك فكذبت بها واستكبرت عن اتباعها وكنت من الكافرين بها
الجاحدين لها.
(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ
تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي
جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (٦٠) وَيُنَجِّي اللهُ
الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ)
(٦١)
يخبر تعالى عن يوم
القيامة أنه تسود فيه وجوه وتبيض فيه وجوه ، تسود وجوه أهل الفرقة والاختلاف ،
وتبيض وجوه أهل السنة والجماعة قال تعالى هاهنا : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ
تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ) أي في دعواهم له شريكا وولدا (وُجُوهُهُمْ
مُسْوَدَّةٌ) أي بكذبهم وافترائهم وقوله تعالى : (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً
لِلْمُتَكَبِّرِينَ) أي أليست جهنم كافية لهم سجنا وموئلا لهم فيها الخزي
والهوان بسبب تكبرهم وتجبرهم وإبائهم عن الانقياد للحق.
قال ابن أبي حاتم
حدثنا أبو عبيد الله ابن أخي ابن وهب حدثنا عمي حدثنا عيسى بن أبي عيسى الخياط عن
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إن المتكبرين يحشرون يوم القيامة أشباه الذر في صور
الناس يعلوهم كل شيء من الصغار حتى يدخلوا سجنا من النار في واد يقال له بولس من
نار الأنيار ويسقون من عصارة أهل النار ومن طينة الخبال». وقوله تبارك وتعالى : (وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا
بِمَفازَتِهِمْ) أي بما سبق لهم من السعادة والفوز عند الله (لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ) أي يوم القيامة (وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ) أي ولا يحزنهم الفزع الأكبر بل هم آمنون من كل فزع مزحزحون
عن كل شر مؤملون كل خير.
(اللهُ خالِقُ كُلِّ
شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢)
لَهُ
مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ
هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٣) قُلْ أَفَغَيْرَ
اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ(٦٤)
وَلَقَدْ
أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ
لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٥) بَلِ اللهَ
فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ)
(٦٦)
يخبر تعالى أنه
خالق الأشياء كلها وربها ومليكها والمتصرف فيها وكل تحت تدبيره وقهره وكلاءته ،
وقوله عزوجل : (لَهُ مَقالِيدُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) قال مجاهد : المقاليد هي المفاتيح بالفارسية ، وكذا قال
قتادة وابن زيد وسفيان بن عيينة ، وقال السدي (لَهُ مَقالِيدُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي خزائن السموات والأرض ، والمعنى على كلا القولين أن
أزمة الأمور بيده تبارك وتعالى له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ولهذا قال
جل وعلا : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا
بِآياتِ اللهِ) أي حججه وبراهينه (أُولئِكَ هُمُ
الْخاسِرُونَ).
وقد روى ابن أبي
حاتم هاهنا حديثا غريبا جدا وفي صحته نظر ولكن نحن نذكره كما ذكره فإنه قال حدثنا
يزيد بن سنان البصري بمصر حدثنا يحيى بن حماد حدثنا الأغلب بن تميم عن مخلد بن
هذيل العبدي عن عبد الرحمن المدني عن عبد الله بن عمر عن عثمان بن عفان رضي الله
عنه أنه سأل رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن تفسير قوله تعالى : (لَهُ مَقالِيدُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فقال «ما سألني عنها أحد قبلك يا عثمان» قال صلىاللهعليهوسلم : «تفسيرها لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله وبحمده
، أستغفر الله ولا قوة إلا بالله ، الأول والآخر والظاهر والباطن ، بيده الخير
يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير. من قالها يا عثمان إذا أصبح عشر مرار أعطي خصالا
ستا : أما أولاهن فيحرس من إبليس وجنوده وأما الثانية فيعطى قنطارا من الأجر ،
وأما الثالثة فترفع له درجة في الجنة ، وأما الرابعة فيتزوج من الحور العين ، وأما
الخامسة فيحضره اثنا عشر ملكا ، وأما السادسة فيعطى من الأجر كمن قرأ القرآن
والتوراة والإنجيل والزبور ، وله مع هذا يا عثمان من الأجر ، كمن حج وتقبلت حجته
واعتمر فتقبلت عمرته فإن مات من يومه طبع عليه بطابع الشهداء» ورواه أبو يعلى الموصلي من حديث يحيى بن حماد به مثله وهو
غريب وفيه نكارة شديدة والله أعلم.
وقوله تبارك
وتعالى : (قُلْ أَفَغَيْرَ
اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) ذكروا في سبب نزولها ما رواه ابن أبي حاتم وغيره عن ابن
عباس رضي الله عنهما أن المشركين من جهلهم دعوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى عبادة آلهتهم ويعبدوا معه إلهه فنزلت (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي
أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ
الْخاسِرِينَ) وهذه كقوله تعالى : (وَلَوْ أَشْرَكُوا
لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام : ٨٨]. وقوله
عزوجل : (بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ
وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) أي أخلص العبادة لله وحده لا شريك له أنت ومن معك أنت ومن
اتبعك وصدقك.
(وَما قَدَرُوا اللهَ
حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ
مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ)
(٦٧)
يقول تبارك وتعالى
: (وَما قَدَرُوا اللهَ
حَقَّ قَدْرِهِ) أي ما قدر المشركون الله حق قدره حين عبدوا معه غيره وهو
العظيم الذي لا أعظم منه القادر على كل شيء المالك لكل شيء وكل شيء تحت قهره
وقدرته ، قال مجاهد : نزلت في قريش ، وقال السدي : ما عظموه حق عظمته.
__________________
وقال محمد بن كعب
: لو قدروه حق قدره ما كذبوه ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) هم الكفار الذين لم يؤمنوا بقدرة الله عليهم.
فمن آمن أن الله
على كل شيء قدير فقد قدر الله حق قدره ، ومن لم يؤمن بذلك فلم يقدر الله حق قدره
وقد وردت أحاديث كثيرة متعلقة بهذه الآية الكريمة والطريق فيها وفي أمثالها مذهب
السلف وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تحريف.
قال البخاري قوله
تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ
حَقَّ قَدْرِهِ) حدثنا آدم حدثنا شيبان عن منصور عن إبراهيم عن عبيدة عن
عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : يا محمد إنا نجد أن الله عزوجل يجعل السموات على إصبع والأرضين على إصبع ، والشجر على
إصبع ، والماء والثرى على إصبع ، وسائر الخلق على إصبع فيقول أنا الملك ، فضحك
رسول الله صلىاللهعليهوسلم حتى بدت نواجذه تصديقا لقول الحبر ثم قرأ رسول الله صلىاللهعليهوسلم (وَما قَدَرُوا اللهَ
حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) الآية ورواه البخاري أيضا في غير هذا الموضع من صحيحه
والإمام أحمد ومسلم والترمذي والنسائي في التفسير من سننيهما كلهم من حديث سليمان
بن مهران الأعمش عن إبراهيم عن عبيدة عن ابن مسعود رضي الله عنه بنحوه.
وقال الإمام أحمد حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد
الله رضي الله عنه قال : جاء رجل إلى النبي صلىاللهعليهوسلم من أهل الكتاب فقال : يا أبا القاسم أبلغك أن الله تعالى
يحمل الخلائق على إصبع والسموات على إصبع والأرضين على إصبع والشجر على إصبع
والماء والثرى على إصبع ، قال فضحك رسول الله صلىاللهعليهوسلم حتى بدت نواجذه قال وأنزل الله عزوجل (وَما قَدَرُوا اللهَ
حَقَّ قَدْرِهِ) إلى آخر الآية ، وهكذا رواه البخاري ومسلم والنسائي من طرق
عن الأعمش به.
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسين بن حسن الأشقر حدثنا أبو كدينة عن عطاء عن
أبي الضحى عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : مر يهودي برسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو جالس فقال : كيف تقول يا أبا القاسم يوم يجعل الله
سبحانه وتعالى السماء على ذه ـ وأشار بالسبابة ـ والأرض على ذه والجبال على ذه
وسائر الخلق على ذه ـ كل ذلك يشير بأصابعه ـ قال فأنزل اللهعزوجل (وَما قَدَرُوا اللهَ
حَقَّ قَدْرِهِ) الآية وكذا رواه الترمذي في التفسير عن عبد الله بن عبد
الرحمن الدارمي عن محمد بن الصلت أبي جعفر عن أبي كدينة يحيى بن المهلب عن عطاء بن
السائب
__________________
عن أبي الضحى مسلم
بن صبيح به وقال حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
ثم قال البخاري : حدثنا سعيد بن غفير حدثنا الليث حدثني عبد الرحمن بن
خالد بن مسافر عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة رضي الله عنه
قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «يقبض الله تعالى الأرض ويطوي السماء بيمينه ثم
يقول أنا الملك أين ملوك الأرض» تفرد به من هذا الوجه ورواه مسلم من وجه آخر.
وقال البخاري في موضع آخر حدثنا مقدم بن محمد حدثنا عمي القاسم بن يحيى
عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إن الله تبارك وتعالى يقبض يوم القيامة الأرضين على
إصبع وتكون السموات بيمينه ثم يقول أنا الملك» تفرد به أيضا من هذا الوجه ورواه
مسلم من وجه آخر.
وقد رواه الإمام
أحمد من طريق أخرى بلفظ آخر أبسط من هذا السياق وأطول فقال : حدثنا عفان حدثنا
حماد بن سلمة حدثنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن عبيد الله بن مقسم عن ابن
عمر رضي الله عنهما قال : إن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قرأ هذه الآية ذات يوم على المنبر (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ
وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ
بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) ورسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول هكذا بيده يحركها يقبل بها ويدبر «يمجد الرب نفسه أنا
الجبار أنا المتكبر أنا الملك أنا العزيز أنا الكريم» فرجف برسول اللهصلىاللهعليهوسلم المنبر حتى قلنا ليخرنّ به وقد رواه مسلم والنسائي وابن
ماجة من حديث عبد العزيز بن أبي حازم زاد مسلم ويعقوب بن عبد الرحمن كلا هما عن
أبي حازم عن عبيد الله بن مقسم عن ابن عمر رضي الله عنهما به نحوه. ولفظ مسلم عن
عبيد الله بن مقسم في هذا الحديث أنه نظر إلى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كيف
يحكي النبي صلىاللهعليهوسلم قال : يأخذ الله تبارك وتعالى سماواته وأرضيه بيده ويقول
أنا الملك ويقبض أصابعه ويبسطها أنا الملك حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء
منه حتى أني لأقول أساقط هو برسول الله صلىاللهعليهوسلم.
وقال البزار :
حدثنا سليمان بن سيف حدثنا أبو علي الحنفي حدثنا عباد المنقري حدثني محمد بن
المنكدر قال حدثنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال إن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قرأ هذه الآية على المنبر (وَما قَدَرُوا اللهَ
حَقَّ قَدْرِهِ) ـ حتى بلغ ـ (سُبْحانَهُ وَتَعالى
عَمَّا يُشْرِكُونَ) فقال المنبر هكذا فجاء وذهب ثلاث مرات والله أعلم ، ورواه
الإمام الحافظ أبو القاسم الطبراني من حديث عبيد بن عمير عن عبد الله بن عمرو رضي
الله عنهما وقال صحيح. وقال الطبراني في
__________________
المعجم الكبير
حدثنا عبد الرحمن بن معاوية العتبي حدثنا حيان بن نافع عن صخر بن جويرية حدثنا سعيد
بن سالم القداح عن معمر بن الحسن عن بكر بن خنيس عن أبي شيبة عن عبد الملك بن عمير
عن جرير رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم لنفر من أصحابه رضي الله عنهم : «إني قارئ عليكم آيات من
آخر سورة الزمر فمن بكى منكم وجبت له الجنة» فقرأها صلىاللهعليهوسلم من عند قوله : (وَما قَدَرُوا اللهَ
حَقَّ قَدْرِهِ) إلى آخر السورة فمنا من بكى ومنا من لم يبك فقال الذين لم
يبكوا يا رسول الله لقد جهدنا أن نبكي فلم نبك فقال صلىاللهعليهوسلم : «إني سأقرؤها عليكم فمن لم يبك فليتباك» هذا حديث غريب
جدا.
وأغرب منه ما رواه
في المعجم الكبير أيضا حدثنا هاشم بن زيد حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش حدثني أبي
حدثني ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن الله تعالى يقول ثلاث خلال غيبتهن عن عبادي لو رآهن
رجل ما عمل بسوء أبدا : لو كشفت غطائي فرآني حتى استيقن ويعلم كيف أفعل بخلقي إذا
أتيتهم وقبضت السموات بيدي ثم قبضت الأرضين ثم قلت أنا الملك من ذا الذي له الملك
دوني فأريهم الجنة وما أعددت لهم فيها من كل خير فيستيقنوها وأريهم النار وما
أعددت لهم فيها من كل شر فيستيقنوها ولكن عمدا غيبت ذلك عنهم لأعلم كيف يعملون وقد
بينته لهم» وهذا إسناد متقارب وهي نسخة تروى بها أحاديث جمة والله أعلم.
(وَنُفِخَ فِي
الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ
اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (٦٨) وَأَشْرَقَتِ
الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ
وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٩)
وَوُفِّيَتْ
كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ)
(٧٠)
يقول تبارك وتعالى
مخبرا عن هول يوم القيامة وما يكون فيه من الآيات العظيمة والزلازل الهائلة فقوله
تعالى : (وَنُفِخَ فِي
الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ
اللهُ) هذه النفخة هي الثانية وهي نفخة الصعق وهي التي يموت بها
الأحياء من أهل السموات والأرض إلا من شاء الله كما جاء مصرحا به مفسرا في حديث
الصور المشهور ثم يقبض أرواح الباقين حتى يكون آخر من يموت ملك الموت وينفرد الحي
القيوم الذي كان أولا وهو الباقي آخرا بالديمومة والبقاء ويقول (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) [غافر : ١٦] ثلاث
مرات ثم يجيب نفسه بنفسه فيقول (لِلَّهِ الْواحِدِ
الْقَهَّارِ) [غافر : ١٦] أنا
الذي كنت وحدي وقد قهرت كل شيء وحكمت بالفناء على كل شيء ، ثم يحيي أول من يحيي
إسرافيل ويأمره أن ينفخ بالصور مرة أخرى وهي النفخة الثالثة نفخة البعث قال الله عزوجل : (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى
فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) أي أحياء بعد ما كانوا عظاما ورفاتا صاروا أحياء ينظرون
إلى أهوال يوم القيامة ، كما قال تعالى : (فَإِنَّما هِيَ
زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) [النازعات : ١٣ ـ ١٤].
وقالعزوجل :
(يَوْمَ يَدْعُوكُمْ
فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً) [الإسراء : ٥٢]
وقال جل وعلا : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ
تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ
الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) [الروم : ٢٥].
قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن النعمان بن سالم قال :
سمعت يعقوب بن عاصم بن عروة بن مسعود قال سمعت رجلا قال لعبد الله بن عمرو رضي
الله عنهما إنك تقول الساعة تقوم إلى كذا وكذا قال لقد هممت أن لا أحدثكم شيئا
إنما قلت سترون بعد قليل أمرا عظيما ثم قال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. قال
رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «يخرج الدجال في أمتي فيمكث فيهم أربعين لا أدري أربعين
يوما أو أربعين شهرا أو أربعين عاما أو أربعين ليلة فيبعث الله تعالى عيسى ابن
مريم عليه الصلاة والسلام كأنه عروة بن مسعود الثقفي فيظهر فيهلكه الله تعالى ثم
يلبث الناس بعده سنين سبعا ليس بين اثنين عداوة ثم يرسل الله تعالى ريحا باردة من
قبل الشام فلا يبقى أحد في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلا قبضته حتى لو أنّ أحدهم
كان في كبد جبل لدخلت عليه» قال سمعتها من رسول الله صلىاللهعليهوسلم «ويبقى شرار الناس
في خفة الطير وأحلام السباع لا يعرفون معروفا ولا ينكرون منكرا قال فيتمثل لهم
الشيطان فيقول ألا تستجيبون فيأمرهم بعبادة الأوثان فيعبدونها وهم في ذلك دارة
أرزاقهم حسن عيشهم ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى له وأول من يسمعه رجل
يلوط حوضه فيصعق ثم لا يبقى أحد إلا صعق ، ثم يرسل الله تعالى أو ينزل الله عزوجل مطرا كأنه الطل ـ أو الظل شك نعمان ـ فتنبت منه أجساد
الناس ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون ، ثم يقال أيها الناس هلموا إلى ربكم (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) [الصافات : ٢٤]
قال ثم يقال أخرجوا بعث النار قال فيقال كم؟ فيقال من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين
فيومئذ تبعث الولدان شيبا ويومئذ يكشف عن ساق» انفرد بإخراجه مسلم في صحيحه.
[حديث أبي هريرة رضي الله عنه]
وقال البخاري حدثنا عمر بن حفص بن غياث حدثنا أبي حدثنا الأعمش قال سمعت
أبا صالح قال سمعت أبا هريرة رضي الله تعالى عنه يحدث عن النبي صلىاللهعليهوسلم وقال «ما بين النفختين أربعون» قالوا يا أبا هريرة أربعون
يوما؟ قال رضي الله تعالى عنه أبيت ، قالوا أربعون سنة؟ قال أبيت ، قالوا أربعون
شهرا؟ قال أبيت ويبلى كل شيء من الإنسان إلا عجب ذنبه فيه يركب الخلق.
__________________
وقال أبو يعلى :
حدثنا يحيى بن معين حدثنا أبو اليمان حدثنا إسماعيل بن عياش عن عمر بن محمد عن زيد
بن أسلم عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «سألت جبريل عليه الصلاة والسلام عن هذه الآية (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ
فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) من الذين لم يشاء الله تعالى أن يصعقهم؟ قال هم الشهداء
يتقلدون أسيافهم حول عرشه تتلقاهم ملائكة يوم القيامة إلى المحشر بنجائب من ياقوت نمارها ألين من الحرير مد خطاها مد أبصار الرجال يسيرون في الجنة
يقولون عند طول النزهة انطلقوا بنا إلى ربنا عزوجل لننظر كيف يقضي بين خلقه يضحك إليهم إلهي وإذا ضحك إلى عبد
في موطن فلا حساب عليه» رجاله كلهم ثقات إلا شيخ إسماعيل بن عياش فإنه غير معروف
والله سبحانه وتعالى أعلم. وقوله تبارك وتعالى : (وَأَشْرَقَتِ
الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها) أي أضاءت يوم القيامة إذا تجلى الحق جل وعلا للخلائق لفصل
القضاء (وَوُضِعَ الْكِتابُ) قال قتادة كتاب الأعمال (وَجِيءَ
بِالنَّبِيِّينَ) قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يشهدون على الأمم بأنهم
بلغوا رسالات الله إليهم (وَالشُّهَداءِ) أي الشهداء من الملائكة الحفظة على أعمال العباد من خير
وشر (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ
بِالْحَقِ) أي بالعدل (وَهُمْ لا
يُظْلَمُونَ) قال الله تعالى : (وَنَضَعُ
الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ
كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) [الأنبياء : ٤٧]
وقال جل وعلا : (إِنَّ اللهَ لا
يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ
لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) [النساء : ٤٠]
ولهذا قال عزوجل : (وَوُفِّيَتْ كُلُّ
نَفْسٍ ما عَمِلَتْ) أي من خير وشر (وَهُوَ أَعْلَمُ بِما
يَفْعَلُونَ).
(وَسِيقَ الَّذِينَ
كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ
لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ
رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ
كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (٧١) قِيلَ ادْخُلُوا
أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ)
(٧٢)
يخبر تعالى عن حال
الأشقياء الكفار كيف يساقون إلى النار وإنما يساقون سوقا عنيفا. بزجر وتهديد ووعيد
كما قال عزوجل : (يَوْمَ يُدَعُّونَ
إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا) [الطور : ١٣] أي
يدفعون إليها دفعا ، هذا وهم عطاش ظماء كما قال جل وعلا في الآية الأخرى : (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى
الرَّحْمنِ وَفْداً وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً) [مريم : ٨٥ ـ ٨٦]
وهم في تلك الحال صم وبكم وعمي منهم من يمشي على وجهه (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى
وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ
زِدْناهُمْ سَعِيراً) [الإسراء : ٩٧].
وقوله تبارك
وتعالى : (حَتَّى إِذا جاؤُها
فُتِحَتْ أَبْوابُها) أي بمجرد وصولهم إليها فتحت
__________________
لهم أبوابها سريعا
لتعجل لهم العقوبة ثم يقول لهم خزنتها من الزبانية الذين هم غلاظ الأخلاق شداد
القوى على وجه التقريع والتوبيخ والتنكيل (أَلَمْ يَأْتِكُمْ
رُسُلٌ مِنْكُمْ) أي من جنسكم تتمكنون من مخاطبتهم والأخذ عنهم (يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ) أي يقيمون عليكم الحجج والبراهين على صحة ما دعوكم إليه (وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ
هذا) أي ويحذرونكم من شر هذا اليوم ، فيقول الكفار لهم (بَلى) أي قد جاءونا وأنذرونا وأقاموا علينا الحجج والبراهين (وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ
عَلَى الْكافِرِينَ) أي ولكن كذبناهم وخالفناهم لما سبق لنا من الشقوة التي كنا
نستحقها حيث عدلنا عن الحق إلى الباطل كما قال عزوجل مخبرا عنهم في الآية الأخرى : (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ
سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ
فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي
ضَلالٍ كَبِيرٍ وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ. ما كُنَّا فِي أَصْحابِ
السَّعِيرِ) [الملك : ٨ ـ ١٠]
أي رجعوا على أنفسهم بالملامة والندامة (فَاعْتَرَفُوا
بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ) [الملك : ١١] أي
بعدا لهم وخسارا.
وقوله تبارك
وتعالى هاهنا (قِيلَ ادْخُلُوا
أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) أي كل من رآهم وعلم حالهم يشهد عليهم بأنهم مستحقون للعذاب
ولهذا لم يسند هذا القول إلى قائل معين بل أطلقه ليدل على أن الكون شاهد عليهم
بأنهم يستحقون ما هم فيه بما حكم العدل الخبير عليهم ولهذا قال جل وعلا : (قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ
خالِدِينَ فِيها) أي ماكثين فيها لا خروج لكم منها ولا زوال لكم عنها (فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) أي فبئس المصير وبئس المقيل لكم بسبب تكبركم في الدنيا
وإبائكم عن اتباع الحق فهو الذي صيركم إلى ما أنتم فيه فبئس الحال وبئس المآل.
(وَسِيقَ الَّذِينَ
اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ
أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها
خالِدِينَ (٧٣) وَقالُوا الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ
الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ)
(٧٤)
وهذا إخبار عن حال
السعداء المؤمنين حين يساقون على النجائب وفدا إلى الجنة زمرا أي جماعة بعد جماعة
: المقربون ثم الأبرار ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم كل طائفة مع من يناسبهم :
الأنبياء مع الأنبياء والصديقون مع أشكالهم والشهداء مع أضرابهم ، والعلماء مع
أقرانهم وكل صنف مع صنف كل زمرة تناسب بعضها بعضا (حَتَّى إِذا جاؤُها) أي وصلوا إلى أبواب الجنة بعد مجاوزة الصراط حبسوا على
قنطرة بين الجنة والنار فاقتص لهم مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا
أذن لهم في دخول الجنة وقد ورد في حديث الصور أن المؤمنين إذا انتهوا إلى أبواب
الجنة تشاوروا فيمن يستأذن لهم في الدخول فيقصدون آدم ثم نوحا ثم إبراهيم ثم موسى
ثم عيسى ثم محمدا صلىاللهعليهوسلم وعليهم أجمعين كما فعلوا في العرصات عند
استشفاعهم إلى
الله عزوجل أن يأتي لفصل القضاء ليظهر شرف محمد صلىاللهعليهوسلم على سائر البشر في المواطن كلها وقد ثبت في صحيح مسلم عن
أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أنا أول شفيع في الجنة» وفي لفظ لمسلم «وأنا أول من يقرع باب الجنة» .
وقال الإمام أحمد : حدثنا هاشم حدثنا سليمان عن ثابت عن أنس بن مالك رضي
الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح فيقول الخازن من أنت؟
فأقول محمد ـ قال ـ فيقول بك أمرت أن لا افتح لأحد قبلك» ورواه مسلم عن عمرو بن محمد الناقد وزهير بن حرب كلاهما عن أبي النضر
هاشم بن القاسم عن سليمان وهو ابن المغيرة القيسي عن ثابت عن أنس رضي الله عنه به.
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن همام بن منبه عن أبي
هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أول زمرة تلج الجنة صورهم على صورة القمر ليلة البدر لا
يبصقون فيها ولا يمتخطون فيها ولا يتغوطون فيها ، آنيتهم وأمشاطهم الذهب والفضة
ومجامرهم الألوة ورشحهم المسك ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ ساقهما من وراء اللحم
من الحسن لا اختلاف بينهم ولا تباغض قلوبهم على قلب واحد يسبحون الله تعالى بكرة
وعشيا» ورواه البخاري عن محمد بن مقاتل عن ابن المبارك. ورواه مسلم عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق كلا هما عن معمر بإسناده
نحوه وكذا رواه أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن رسول
الله صلىاللهعليهوسلم.
وقال الحافظ أبو
يعلى حدثنا أبو خيثمة حدثنا جرير عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن أبي هريرة
رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر
والذين يلونهم على ضوء أشد كوكب درّيّ في السماء إضاءة لا يبولون ولا يتغوطون ولا
يتفلون ولا يمتخطون أمشاطهم الذهب والفضة ورشحهم المسك ومجامرهم الألوة وأزواجهم
الحور العين أخلاقهم على خلق رجل واحد على صورة أبيهم آدم ستون ذراعا في السماء».
وأخرجاه أيضا من
حديث جرير وقال الزهري عن سعيد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «يدخل الجنة من أمتي زمرة هم سبعون ألفا تضيء وجوههم
إضاءة القمر
__________________
ليلة البدر» فقام
عكاشة بن محصن فقال يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فقال : «اللهم اجعله
منهم» ثم قام رجل من الأنصار فقال يا رسول الله ادع الله تعالى أن يجعلني منهم
فقالصلىاللهعليهوسلم : «سبقك بها عكاشة» أخرجاه.
وقد روي هذا
الحديث ـ في السبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ـ البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي
الله عنهما وجابر بن عبد الله وعمران بن حصين وابن مسعود ورفاعة بن عرابة الجهني
وأم قيس بنت محصن رضي الله عنهم ولهما عن أبي حازم عن سهل بن سعد رضي الله تعالى
عنه أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال «ليدخلن الجنة من أمتي سبعون ألفا أو سبعمائة ألف آخذ
بعضهم ببعض حتى يدخل أولهم وآخرهم الجنة وجوههم على صورة القمر ليلة البدر». وقال
أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا إسماعيل بن عياش عن محمد بن زياد قال : سمعت أبا أمامة
الباهلي رضي الله عنه يقول سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «وعدني ربي عزوجل أن يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا مع كل ألف سبعون ألفا لا
حساب عليهم ولا عذاب وثلاث حثيات من حثيات ربي عزوجل» وكذا رواه الوليد بن مسلم عن صفوان بن عمرو عن سليم بن
عامر عن أبي اليمان عامر بن عبد الله بن لحيّ عن أبي أمامة ورواه الطبراني عن عتبة
بن عبد السلمي «ثم يشفع مع كل ألف سبعين ألفا» ويروى مثله عن ثوبان وأبي سعيد
الأنماري وله شواهد من وجوه كثيرة.
وقوله تعالى : (حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ
أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها
خالِدِينَ) لم يذكر الجواب هاهنا ، وتقديره حتى إذا جاءوها وكانت هذه
الأمور من فتح الأبواب لهم إكراما وتعظيما وتلقتهم الملائكة الخزنة بالبشارة
والسلام والثناء لا كما تلقى الزبانية الكفرة بالتثريب والتأنيب فتقديره إذا كان هذا سعدوا وطابوا وسروا وفرحوا
بقدر كل ما يكون لهم فيه نعيم ، وإذا حذف الجواب هاهنا ذهب الذهن كل مذهب في
الرجاء والأمل ، ومن زعم أن الواو في قوله تبارك وتعالى : (وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) واو الثمانية واستدل به على أن أبواب الجنة ثمانية فقد
أبعد النجعة وأغرق في النزع ، وإنما يستفاد كون أبواب الجنة ثمانية من الأحاديث
الصحيحة.
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن حميد بن عبد
الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من أنفق زوجين من ماله في سبيل الله تعالى دعي من أبواب
الجنة وللجنة أبواب ، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة ، ومن كان من أهل
الصدقة دعي من باب الصدقة ، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب
__________________
الجهاد ، ومن كان
من أهل الصيام دعي من باب الريان» فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه يا رسول الله
ما على أحد من ضرورة دعي من أيها دعي فهل يدعى منها كلها أحد يا رسول الله؟ قال صلىاللهعليهوسلم : «نعم وأرجو أن تكون منهم» رواه البخاري ومسلم من حديث الزهري بنحوه وفيهما من حديث
أبي حازم سلمة بن دينار عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول اللهصلىاللهعليهوسلم قال : «إن في الجنة ثمانية أبواب باب منها يسمى الريان لا
يدخله إلا الصائمون» وفي صحيح مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : قال
رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ أو فيسبغ الوضوء ثم يقول
أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية
يدخل من أيها شاء» وقال الحسن بن عرفة حدثنا إسماعيل بن عياش عن عبد الله بن
عبد الرحمن بن أبي حسين عن شهر بن حوشب عن معاذ رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «مفتاح الجنة لا إله إلا الله».
ذكر سعة أبواب الجنة ـ نسأل الله من فضله العظيم أن يجعلنا من أهلها
وفي الصحيحين من
حديث أبي زرعة عن أبي هريرة رضي الله عنه في حديث الشفاعة الطويل «فيقول الله
تعالى يا محمد أدخل من لا حساب عليه من أمتك من الباب الأيمن وهم شركاء الناس في
الأبواب الأخر والذي نفس محمد بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة ما بين
عضادتي الباب لكما بين مكة وهجر ـ أو هجر ومكة ـ وفي رواية ـ مكة وبصرى» وفي صحيح مسلم عن عتبة بن غزوان أنه خطبهم خطبة فقال فيها
ولقد ذكر لنا أن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين سنة وليأتين عليه
يوم وهو كظيظ من الزحام ، وفي المسند عن حكيم بن معاوية عن أبيه رضي الله عنه عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم مثله.
وقال عبد بن حميد
حدثنا الحسن بن موسى حدثنا ابن لهيعة حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد رضي
الله عنه عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إن ما بين مصراعين في الجنة مسيرة أربعين سنة» .
وقوله تبارك
وتعالى : (وَقالَ لَهُمْ
خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ) أي طابت أعمالكم وأقوالكم
__________________
وطاب سعيكم وطاب
جزاؤكم كما أمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن ينادي بين المسلمين في بعض الغزوات «إن الجنة لا يدخلها
إلا نفس مسلمة ـ وفي رواية ـ مؤمنة» .
وقوله : (فَادْخُلُوها خالِدِينَ) أي ماكثين فيها أبدا لا يبغون عنها حولا (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
صَدَقَنا وَعْدَهُ) أي يقول المؤمنون إذا عاينوا في الجنة ذلك الثواب الوافر
والعطاء العظيم والنعيم المقيم والملك الكبير يقولون عند ذلك (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا
وَعْدَهُ) أي الذي كان وعدنا على ألسنة رسله الكرام كما دعوا في
الدنيا (رَبَّنا وَآتِنا ما
وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ
الْمِيعادَ) [آل عمران : ١٩٤] (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ لَقَدْ جاءَتْ
رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ) [الأعراف : ٤٣] (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنا
دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها
لُغُوبٌ) [فاطر : ٣٤ ـ ٣٥].
وقوله : (وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ
مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ). قال أبو العالية وأبو صالح وقتادة والسدي وابن زيد أي أرض
الجنة فهذه الآية كقوله تعالى : (وَلَقَدْ كَتَبْنا
فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ
الصَّالِحُونَ) [الأنبياء : ١٠٥]
ولهذا قالوا (نَتَبَوَّأُ مِنَ
الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ) أي أين شئنا حللنا فنعم الأجر أجرنا على عملنا.
وفي الصحيحين من
حديث الزهري عن أنس رضي الله عنه في قصة المعراج قال النبيصلىاللهعليهوسلم : «أدخلت الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ وإذا ترابها المسك» .
وقال عبد الرحمن
بن حميد : حدثنا روح بن عبادة حدثنا حماد بن سلمة حدثنا الجريري عن أبي نضرة عن
أبي سعيد رضي الله عنه قال : إن رسول الله صلىاللهعليهوسلم سأل ابن صائد عن تربة الجنة فقال در مكة بيضاء مسك خالص
فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «صدق» وكذا رواه مسلم من حديث أبي سلمة عن أبي نضرة عن أبي سعيد
رضي الله عنه به ، ورواه مسلم أيضا عن أبي بكر بن أبي شيبة عن أبي أسامة عن
الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد رضي الله عنه قال إن ابن صائد سأل رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن تربة الجنة فقال : «در مكة بيضاء مسك خالص» .
وقال ابن أبي حاتم
حدثنا أبي حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل حدثنا إسرائيل عن أبي
__________________
إسحاق عن عاصم بن
ضمرة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله تعالى : (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ
إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً) قال سيقوا حتى انتهوا إلى باب من أبواب الجنة فوجدوا عندها
شجرة يخرج من تحت ساقها عينان فعمدوا إلى إحداهما فتطهروا منها فجرت عليهم نضرة
النعيم فلم تغير أبشارهم بعدها أبدا ولم تشعث أشعارهم أبدا بعدها كأنما دهنوا
بالدهان ثم عمدوا إلى الأخرى كأنما أمروا بها فشربوا منها فأذهبت ما كان في بطونهم
من أذى أو قذى وتلقتهم الملائكة على أبواب الجنة (سَلامٌ عَلَيْكُمْ
طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ) ويلقى كل غلمان صاحبهم يطيفون به فعل الولدان بالحميم جاء
من الغيبة أبشر قد أعد الله لك من الكرامة كذا وكذا وقد أعد الله لك من الكرامة
كذا وكذا ، قال وينطلق غلام من غلمانه إلى أزواجه من الحور العين فيقول هذا فلان
باسمه في الدنيا فيقلن أنت رأيته فيقول نعم فيستخفهن الفرح حتى تخرج إلى أسكفة الباب قال فيجيء فإذا هو بنمارق مصفوفة وأكواب موضوعة
وزرابي مبثوثة ، قال ثم ينظر إلى تأسيس بنيانه فإذا هو قد أسس على جندل اللؤلؤ بين
أحمر وأخضر وأصفر وأبيض ومن كل لون ثم يرفع طرفه إلى سقفه فلولا أن الله تعالى
قدره له لألم أن يذهب ببصره إنه لمثل البرق ثم ينظر إلى أزواجه من الحور العين ثم
يتكئ على أريكة من أرائكه ثم يقول : (الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ) [الأعراف : ٤٣].
ثم قال : حدثنا
أبي حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل النهدي حدثنا مسلمة بن جعفر البجلي قال : سمعت
أبا معاذ البصري يقول إن عليا رضي الله عنه كان ذات يوم عند رسول اللهصلىاللهعليهوسلم فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «والذي نفسي بيده إنهم إذا خرجوا من قبورهم يستقبلون ـ أو
يؤتون ـ بنوق لها أجنحة وعليها رحال الذهب شراك نعالهم نور يتلألأ كل خطوة منها مد البصر فينتهون إلى شجرة
ينبع من أصلها عينان فيشربون من إحداهما فتغسل ما في بطونهم من دنس ويغتسلون من
الأخرى فلا تشعث أبشارهم ولا أشعارهم بعدها أبدا وتجري عليهم نضرة النعيم فينتهون
ـ أو فيأتون ـ باب الجنة فإذا حلقة من ياقوتة حمراء على صفائح الذهب فيضربون
بالحلقة على الصفيحة فيسمع لها طنين يا علي فيبلغ كل حوراء أن زوجها قد أقبل فتبعث
قيمها فيفتح له فإذا رآه خرّ له ـ قال مسلمة أراه قال ساجدا ـ.
فيقول ارفع رأسك
فإنما أنا قيمك وكلت بأمرك فيتبعه ويقفو أثره فتستخف الحوراء العجلة فتخرج من خيام
الدر الياقوت حتى تعتنقه ثم تقول أنت حبي وأنا حبّك وأنا الخالدة التي لا أموت
وأنا الناعمة التي لا أبأس وأنا الراضية التي لا أسخط وأنا المقيمة التي لا أظعن
فيدخل بيتا من أسه إلى سقفه مائة ألف ذراع بناؤه على جندل اللؤلؤ طرائق أصفر وأخضر
وأحمر ليس فيها طريقة تشاكل صاحبتها في البيت سبعون سريرا على كل سرير سبعون حشية
__________________
على كل حشية سبعون
زوجة على كل زوجة سبعون حلة يرى مخ ساقها من باطن الحلل يقضي جماعها في مقدار ليلة
من لياليكم هذه ، الأنهار من تحتهم تطرد «أنهار من ماء غير آسن» ـ قال صاف لا كدر
فيه ـ «وأنهار من لبن لم يتغير طعمه» ـ قال لم يخرج من ضروع الماشية ـ «وأنهار من
خمرة لذة للشاربين» ـ قال لم تعصرها الرجال بأقدامهم ـ «وأنهار من عسل مصفى» ـ قال
لم يخرج من بطون النحل ، يستجني الثمار فإن شاء قائما وإن شاء قاعدا وإن شاء متكئا
ـ ثم تلا (وَدانِيَةً
عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً) [الإنسان : ١٤]
فيشتهي الطعام فيأتيه طير أبيض قال وربما قال أخضر قال فترفع أجنحتها فيأكل من
جنوبها أي الألوان شاء ثم يطير فيذهب فيدخل الملك فيقول : سلام عليكم تلكم الجنة
أورثتموها بما كنتم تعملون ولو أن شعرة من شعر الحوراء وقعت في الأرض لأضاءت الشمس
معها سوادا في نور» هذا حديث غريب وكأنه مرسل ، والله أعلم.
(وَتَرَى
الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ
وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)
(٧٥)
لما ذكر تعالى
حكمه في أهل الجنة والنار وأنه نزّل كلا في المحل الذي يليق به ويصلح له وهو
العادل في ذلك الذي لا يجور ، أخبر عن ملائكته أنهم محدقون من حول العرش المجيد
يسبحون بحمد ربهم ويمجدونه ويعظمونه ويقدسونه وينزهونه عن النقائص والجور وقد فصل
القضية وقضي الأمر وحكم بالعدل ولهذا قال عزوجل : (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي بين الخلائق (بِالْحَقِ). ثم قال (وَقِيلَ الْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي ونطق الكون أجمعه ناطقه وبهيمة لله رب العالمين بالحمد
في حكمه وعدله ولهذا لم يسند القول إلى قائل بل أطلقه فدل على أن جميع المخلوقات
شهدت له بالحمد قال قتادة افتتح الخلق بالحمد في قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [الأنعام : ١]
واختتم بالحمد في قوله تبارك وتعالى : (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ
بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).
تفسير سورة غافر
وهي مكية
قد كره بعض السلف
منهم محمد بن سيرين أن يقال الحواميم وإنما يقال آل حم قال عبد الله بن مسعود رضي
الله عنه : آل حم ديباج القرآن وقال ابن عباس رضي الله عنهما : إن لكل شيء لبابا
ولباب القرآن آل حم أو قال الحواميم وقال مسعر بن كدام كان يقال لهن العرائس وروى
ذلك كله الإمام العالم أبو عبيد القاسم بن سلام رحمهالله تعالى في كتاب فضائل القرآن.
وقال حميد بن
زنجويه : حدثنا عبيد الله بن موسى حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن
عبد الله رضي الله عنه قال : إن مثل القرآن كمثل رجل انطلق يرتاد لأهله منزلا فمر
بأثر غيث فبينما هو يسير فيه ويتعجب منه إذ هبط على روضات دمثات فقال عجبت من الغيث الأول فهذا أعجب وأعجب فقيل له إن مثل
الغيث الأول مثل عظم القرآن ، وإن مثل هؤلاء الروضات الدمثات مثل آل حم في القرآن
أورده البغوي. وقال ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب أن الجراح بن أبي الجراح حدثه
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لكل شيء لباب ولباب القرآن الحواميم وقال ابن
مسعود رضي الله عنه : إذا وقعت في آل حم فقد وقعت في روضات أتأنق فيهن .
وقال أبو عبيد
حدثنا الأشجعي حدثنا مسعر هو ابن كدام عمن حدثه أن رجلا رأى أبا الدرداء رضي الله
عنه يبني مسجدا فقال له ما هذا؟ فقال أبنيه من أجل آل حم وقد يكون هذا المسجد الذي
بناه أبو الدرداء رضي الله عنه هو المسجد المنسوب إليه داخل قلعة دمشق ، وقد يكون
صيانتها وحفظها ببركته وبركة ما وضع له فإن هذا الكلام يدل على النصر على الأعداء
كما قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم لأصحابه في بعض الغزوات : «إن بيتم الليلة فقولوا حم لا
ينصرون ـ وفي رواية ـ لا تنصرون» .
وقال الحافظ أبو
بكر البزار حدثنا أحمد بن الحكم بن ظبيان بن خلف المازني ومحمد بن الليث الهمداني
قالا : حدثنا موسى بن مسعود حدثنا عبد الرحمن بن أبي بكر المليكي عن زرارة بن مصعب
عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من قرأ آية الكرسي وأول حم المؤمن عصم ذلك اليوم من كل
سوء» ثم قال لا نعلمه يروى إلا بهذا
__________________
الإسناد ورواه
الترمذي من حديث المليكي وقال تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه.
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(حم (١)
تَنْزِيلُ
الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢) غافِرِ الذَّنْبِ
وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ
إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (٣)
أما الكلام على
الحروف المقطعة فقد تقدم في أول سورة البقرة بما أغنى عن إعادته هاهنا وقد قيل إن (حم) اسم من أسماء الله عزوجل وأنشدوا في ذلك بيتا : [الطويل]
يذكّرني حم
والرّمح شاجر
|
|
فهلّا تلاحم قبل
التقدّم
|
وقد ورد في الحديث
الذي رواه أبو داود والترمذي من حديث الثوري عن أبي إسحاق عن المهلب بن أبي صفرة
قال : حدثني من سمع رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «إن بيتم الليلة فقولوا وحم لا ينصرون» وهذا إسناد صحيح ، صفرة واختار أبو عبيد أن يروى فقولوا حم
لا ينصروا أي إن قلتم ذلك لا ينصروا جعله جزاء لقوله فقولوا.
وقوله تعالى : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ
الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) أي تنزيل هذا الكتاب وهو القرآن من الله ذي العزة والعلم
فلا يرام جنابه ولا يخفى عليه الذر وإن تكاثف حجابه. وقوله عزوجل : (غافِرِ الذَّنْبِ
وَقابِلِ التَّوْبِ) أي يغفر ما سلف من الذنب ويقبل التوبة في المستقبل لمن تاب
إليه وخضع لديه. وقوله جل وعلا : (شَدِيدِ الْعِقابِ) أي لمن تمرد وطغى وآثر الحياة الدنيا وعتا عن أوامر الله
تعالى وبغى وهذه كقوله : (نَبِّئْ عِبادِي
أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) [الحجر : ٤٩ ، ٥٠]
يقرن هذين الوصفين كثيرا في مواضع متعددة من القرآن ليبقى العبد بين الرجاء والخوف
، وقوله تعالى : (ذِي الطَّوْلِ) قال ابن عباس رضي الله عنهما يعني السعة والغنى ، وهكذا
قال مجاهد وقتادة ، وقال يزيد بن الأصم ذي الطول يعني الخير الكثير. وقال عكرمة (ذِي الطَّوْلِ) ذي المن. وقال قتادة ذي النعم والفواضل ، والمعنى أنه المتفضل
على عباده المتطول عليهم بما هم فيه من المنة والإنعام التي لا يطيقون القيام بشكر
واحدة منها (وَإِنْ تَعُدُّوا
نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) [إبراهيم : ٣٤]
الآية.
وقوله جلت عظمته :
(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي لا نظير له في جميع صفاته فلا إله غيره فلا إله
__________________
ولا رب سواه (إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) أي إليه المرجع والمآب فيجازى كل عامل بعمله (وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ) [الرعد : ٤٦] وقال
أبو بكر بن عياش : سمعت أبا إسحاق السبيعي يقول : جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي
الله عنه فقال : يا أمير المؤمنين إني قتلت فهل لي من توبة فقرأ عمر رضي الله عنه (حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ
الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ) وقال اعمل ولا تيأس. رواه ابن أبي حاتم : واللفظ له وابن
جرير .
وقال ابن أبي حاتم
حدثنا أبي حدثنا موسى بن مروان الرقي حدثنا عمر يعني ابن أيوب حدثنا جعفر بن برقان
عن يزيد بن الأصم قال : كان رجل من أهل الشام ذو بأس وكان يفد إلى عمر بن الخطاب
رضي الله عنه ففقده عمر فقال ما فعل فلان بن فلان ، فقالوا يا أمير المؤمنين تتابع
في هذا الشراب. قال فدعا عمر كاتبه : فقال اكتب من عمر بن الخطاب إلى فلان بن فلان
سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو غافر الذنب وقابل التوب شديد
العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير. ثم قال لأصحابه ادعوا الله لأخيكم أن
يقبل بقلبه وأن يتوب الله عليه ، فلما بلغ الرجل كتاب عمر رضي الله عنه جعل يقرؤه
ويردده ويقول : غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ، قد حذرني عقوبته ووعدني أن
يغفر لي. ورواه الحافظ أبو نعيم من حديث جعفر بن برقان وزاد فلم يزل يرددها على نفسه
ثم بكى ثم نزع فأحسن النزع ، فلما بلغ عمر خبره قال هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أخا
لكم زل زلة فسد دوه ووثقوه وادعوا الله له أن يتوب عليه ولا تكونوا أعوانا للشيطان
عليه.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا عمر بن شبّة حدثنا حماد بن واقد حدثنا أبو عمر الصفار حدثنا ثابت البناني
قال كنت مع مصعب بن الزبير رضي الله عنه في سواد الكوفة قد خلت حائطا أصلي ركعتين
فافتتحت حم المؤمن حتى بلغت لا إله إلا هو إليه المصير فإذا رجل خلفي على بغلة
شهباء عليه مقطعات يمنية فقال إذا قلت غافر الذنب فقل يا غافر الذنب اغفر لي ذنبي
، وإذا قلت وقابل التوب فقل يا قابل التوب اقبل توبتي ، وإذا قلت شديد العقاب فقل
يا شديد العقاب لا تعاقبني ، قال فالتفت فلم أر أحدا فخرجت إلى الباب فقلت مر بكم
رجل عليه مقطعات يمنية ، قالوا ما رأينا أحدا فكانوا يرون أنه إلياس ، ثم رواه من
طريق أخرى عن ثابت بنحوه وليس فيه ذكر إلياس والله سبحانه وتعالى أعلم.
(ما يُجادِلُ فِي
آياتِ اللهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي
الْبِلادِ (٤) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ
قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ
بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ
فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٥) وَكَذلِكَ حَقَّتْ
كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ)
(٦)
__________________
يقول تعالى ما
يدفع الحق ويجادل فيه بعد البيان وظهور البرهان (إِلَّا الَّذِينَ
كَفَرُوا) أي الجاحدون لآيات الله وحججه وبراهينه (فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي
الْبِلادِ) أي في أموالها ونعيمها وزهرتها كما قال جل وعلا : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ
كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ
الْمِهادُ) [آل عمران : ١٩٦ ـ
١٩٧] وقال عزوجل : (نُمَتِّعُهُمْ
قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) [لقمان : ٢٤] ثم
قال تعالى مسليا لنبيه محمدصلىاللهعليهوسلم في تكذيب من كذبه من قومه بأن له أسوة فيمن سلف من
الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فإنه قد كذبهم أممهم وخالفوهم وما آمن بهم منهم إلا
قليل فقال : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ
قَوْمُ نُوحٍ) وهو أول رسول بعثه الله ينهى عن عبادة الأوثان (وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي من كل أمة (وَهَمَّتْ كُلُّ
أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ) أي حرصوا على قتله بكل ممكن ومنهم من قتل رسوله (وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا
بِهِ الْحَقَ) أي ما حلوا بالشبهة ليردوا الحق الواضح الجلي.
وقد قال أبو
القاسم الطبراني حدثنا علي بن عبد العزيز حدثنا عارم أبو النعمان حدثنا معتمر بن
سليمان قال سمعت أبي يحدث عن حنش عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «من أعان باطلا ليدحض به حقا فقد برئت منه ذمة الله
تعالى وذمة رسوله صلىاللهعليهوسلم» وقوله جلت عظمته : (فَأَخَذْتُهُمْ) أي أهلكتهم على ما صنعوا من هذه الآثام والذنوب العظام (فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) أي فكيف بلغك عذابي لهم ونكالي بهم قد كان شديدا موجعا
مؤلما. قال قتادة كان والله شديدا. وقوله جل جلاله : (وَكَذلِكَ حَقَّتْ
كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ) أي كما حقت كلمة العذاب على الذين كفروا من الأمم السالفة
كذلك حقت على المكذبين من هؤلاء الذين كذبوك وخالفوك يا محمد بطريق الأولى والأحرى
لأن من كذبك فلا وثوق له بتصديق غيرك ، والله أعلم.
(الَّذِينَ
يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ
بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ
رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ
عَذابَ الْجَحِيمِ (٧) رَبَّنا
وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ
آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
(٨) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ
السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٩)
يخبر تعالى عن
الملائكة المقربين من حملة العرش الأربعة ومن حوله من الملائكة الكروبيين بأنهم يسبحون بحمد ربهم أي يقرنون بين التسبيح الدال على
نفي النقائص
__________________
والتحميد المقتضي
لإثبات صفات المدح (وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) أي خاشعون له أذلاء بين يديه وأنهم (يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي من أهل الأرض ممن آمن بالغيب فقيض الله تعالى ملائكته
المقربين أن يدعوا للمؤمنين بظهر الغيب ولما كان هذا من سجايا الملائكة عليهم
الصلاة والسلام كانوا يؤمنون على دعاء المؤمن لأخيه بظهر الغيب كما ثبت في صحيح
مسلم «إذا دعا المسلم لأخيه بظهر الغيب قال الملك آمين ولك بمثله» .
وقد قال الإمام
أحمد حدثنا عبد الله بن محمد وهو ابن أبي شيبة حدثنا عبدة بن سليمان عن محمد بن
إسحاق عن يعقوب بن عتبة عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال أن رسول
الله صلىاللهعليهوسلم قال : «صدق أمية بن أبي الصلت في شيء من شعره» فقال :
[الطويل]
زحل وثور تحت
رجل يمينه
|
|
والنسر للأخرى
وليث مرصد
|
فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «صدق» فقال : [الطويل]
والشمس تطلع كل
آخر ليلة
|
|
حمراء يصبح
لونها يتورد
|
تأبى فما تطلع
لنا في رسلها
|
|
إلا معذبة وإلا
تجلد
|
فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «صدق» وهذا إسناد جيد وهو يقتضي أن حملة العرش اليوم
أربعة فإذا كان يوم القيامة كانوا ثمانية كما قال تعالى : (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ
يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) [الحاقة : ١٧].
وهنا سؤال وهو أن
يقال ما الجمع بين المفهوم من هذه الآية ودلالة هذا الحديث؟ وبين الحديث الذي رواه
أبو داود حدثنا محمد بن الصباح البزار حدثنا الوليد بن أبي ثور عن سماك عن عبد
الله بن عميرة عن الأحنف بن قيس عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال : كنت
بالبطحاء في عصابة فيهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم فمرت بهم سحابة فنظر إليها فقال : «ما تسمون هذه؟» قالوا
السحاب ، قال : «والمزن» قالوا والمزن قال : «والعنان» قالوا والعنان ، قال أبو داود ولم أتقن العنان جيدا ، قال : «هل تدرون
بعد ما بين السماء والأرض؟» قالوا لا ندري ، قال «بعد ما بينهما إما واحدة أو
اثنتان أو ثلاث وسبعون سنة ثم السماء فوقها كذلك حتى عد سبع سموات ، ثم فوق السماء
السابعة بحر ما بين أسفله وأعلاه مثل بين سماء إلى سماء ، ثم فوق ذلك ثمانية أو
عال بين أظلافهن وركبهن مثل ما بين سماء إلى سماء ثم على ظهور هن
__________________
العرش بين أسفله
وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء ثم الله تبارك وتعالى فوق ذلك». ثم رواه أبو داود
والترمذي وابن ماجة من حديث سماك بن حرب به وقال الترمذي حسن غريب.
وهذا يقتضي أن
حملة العرش ثمانية كما قال شهر بن حوشب رضي الله عنه : حملة العرش ثمانية : أربعة
منهم يقولون سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك ، وأربعة يقولون
سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك ولهذا يقولون إذا استغفروا للذين
آمنوا (رَبَّنا وَسِعْتَ
كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) أي إن رحمتك تسع ذنوبهم وخطاياهم وعلمك محيط بجميع أعمالهم
وأقوالهم وحركاتهم وسكناتهم (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ
تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ) أي فاصفح عن المسيئين إذا تابوا وأنابوا وأقلعوا عما كانوا
فيه واتبعوا ما أمرتهم به من فعل الخيرات وترك المنكرات (وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) أي وزحزحهم عن عذاب الجحيم وهو العذاب الموجع الأليم (رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ
الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ
وَذُرِّيَّاتِهِمْ) أي اجمع بينهم وبينهم لتقر بذلك أعينهم بالاجتماع في منازل
متجاورة كما قال تبارك وتعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما
أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) [الطور : ٢١] أي
ساوينا بين الكل في المنزلة لتقر أعينهم وما نقصنا العالي حتى يساوي الداني بل
رفعنا ناقص العمل فساويناه بكثير العمل تفضلا منا ومنة.
وقال سعيد بن جبير
إن المؤمن إذا دخل الجنة سأل عن أبيه وابنه وأخيه وأين هم؟ فيقال إنهم لم يبلغوا
طبقتك في العمل فيقول إني إنما عملت لي ولهم فيلحقون به في الدرجة ثم تلا سعيد بن
جبير هذه الآية (رَبَّنا
وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ
آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) قال مطرف بن عبد الله بن الشخير : أنصح عباد الله للمؤمنين
الملائكة ثم تلا هذه الآية (رَبَّنا
وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ) الآية وأغش عباده للمؤمنين الشياطين. وقوله تبارك وتعالى :
(إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي الذي لا يمانع ولا يغالب وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن
الحكيم في أقوالك وأفعالك من شرعك وقدرك (وَقِهِمُ
السَّيِّئاتِ) أي فعلها أو وبالها ممن وقعت منه (وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ) أي يوم القيامة (فَقَدْ رَحِمْتَهُ) أي لطفت به ونجيته من العقوبة (وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).
(إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ
تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (١٠) قالُوا رَبَّنا
أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا
فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (١١)
ذلِكُمْ
بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا
فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ(١٢) هُوَ الَّذِي
يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ
إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (١٣) فَادْعُوا اللهَ
مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) (١٤)
يقول تعالى مخبرا
عن الكفار أنهم ينادون يوم القيامة وهم في غمرات النيران يتلظون وذلك
عند ما باشروا من
عذاب الله تعالى ما لا قبل لأحد به فمقتوا عند ذلك أنفسهم وأبغضوها غاية البغض
بسبب ما أسلفوا من الأعمال السيئة التي كانت سبب دخولهم إلى النار فأخبرتهم
الملائكة عند ذلك إخبارا عاليا نادوهم نداء بأن مقت الله تعالى لهم في الدنيا حين
كان يعرض عليهم الإيمان فيكفرون أشد من مقتكم أيها المعذبون أنفسكم اليوم في هذه
الحالة.
قال قتادة في قوله
تعالى : (لَمَقْتُ اللهِ
أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ
فَتَكْفُرُونَ) يقول لمقت الله أهل الضلالة حين عرض عليهم الإيمان في
الدنيا فتركوه وأبوا أن يقبلوه أكبر مما مقتوا أنفسهم حين عاينوا عذاب الله يوم
القيامة ، وهكذا قال الحسن البصري ومجاهد والسدي وذر بن عبيد الله
الهمداني وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وابن جرير الطبري رحمة الله عليهم أجمعين.
وقوله : (قالُوا رَبَّنا
أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) قال الثوري عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن ابن مسعود رضي
الله عنه هذه الآية كقوله تعالى : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ
بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ
ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [البقرة : ٢٨]
وكذا قال ابن عباس والضحاك وقتادة وأبو مالك وهذا هو الصواب الذي لا شك فيه ولا
مرية. وقال السدي أميتوا في الدنيا ثم أحيوا في قبورهم فخوطبوا ، ثم أميتوا ثم
أحيوا يوم القيامة ، وقال ابن زيد : أحيوا حين أخذ عليهم الميثاق من صلب آدم عليهالسلام ثم خلقهم في الأرحام ثم أماتهم ثم أحياهم يوم القيامة ،
وهذان القولان من السدي وابن زيد ضعيفان لأنه يلزمهما على ما قالا ثلاث إحياءات وإماتات
، والصحيح قول ابن مسعود وابن عباس ومن تابعهما ، والمقصود من هذا كله أن الكفار
يسألون الرجعة وهم وقوف بين يدي الله عزوجل في عرصات القيامة كما قال عزوجل : (وَلَوْ تَرى إِذِ
الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا
فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ) [السجدة : ١٢] فلا يجابون ثم إذا رأوا النار وعاينوها
ووقفوا عليها ونظروا إلى ما فيها من العذاب والنكال سألوا الرجعة أشد مما سألوا
أول مرة فلا يجابون قال الله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذْ
وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ
رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ
قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) [الأنعام : ٢٧ ـ ٢٨]
فإذا دخلوا النار وذاقوا مسّها وحسيسها ومقامعها وأغلالها كان سؤالهم للرجعة أشد
وأعظم (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ
فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ
نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ
فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) [فاطر : ٣٧] (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ
عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) [المؤمنون : ١٠٧ ـ
١٠٨].
وفي هذه الآية
الكريمة تلطفوا في السؤال وقدموا بين يدي كلامهم مقدمة وهي قولهم (رَبَّنا
__________________
أَمَتَّنَا
اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) أي قدرتك عظيمة فإنك أحييتنا بعد ما كانا أمواتا ثم أمتنا
ثم أحييتنا فأنت قادر على ما تشاء ، وقد اعترفنا بذنوبنا وإننا كنا ظالمين لأنفسنا
في الدار الدنيا (فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ
مِنْ سَبِيلٍ) أي فهل أنت مجيبنا إلى أن تعيدنا إلى الدار الدنيا فإنك
قادر على ذلك لنعمل غير الذي كنا نعمل فإن عدنا إلى ما كنا فيه فإنا ظالمون ،
فأجيبوا أن لا سبيل إلى عودكم ومرجعكم إلى الدار الدنيا ، ثم علل المنع من ذلك بأن
سجاياكم لا تقبل الحق ولا تقتضيه بل تجحده وتنفيه ، ولهذا قال تعالى : (ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ
وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا) أي أنتم هكذا تكونون وإن رددتم إلى الدار الدنيا كما قال عزوجل : (وَلَوْ رُدُّوا
لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) [الأنعام : ٢٨].
وقوله جل وعلا : (فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ
الْكَبِيرِ) أي هو الحاكم في خلقه العادل الذي لا يجور فيهدي من يشاء
ويضل من يشاء ويرحم من يشاء ويعذب من يشاء لا إله إلا هو ، وقوله جل جلاله : (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ) أي يظهر قدرته لخلقه بما يشاهدونه في خلقه العلوي والسفلي
من الآيات العظيمة الدالة على كمال خالقها ومبدعها ومنشئها (وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ
رِزْقاً) وهو المطر الذي يخرج به من الزروع والثمار ما هو مشاهد
بالحس من اختلاف ألوانه وطعومه وروائحه وأشكاله وألوانه وهو ماء واحد فبالقدرة
العظيمة فاوت بين هذه الأشياء (وَما يَتَذَكَّرُ) أي يعتبر ويتفكر في هذه الأشياء ويستدل بها على عظمة
خالقها (إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) أي من هو بصير منيب إلى الله تبارك وتعالى.
وقوله عزوجل : (فَادْعُوا اللهَ
مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) أي فأخلصوا لله وحده العبادة والدعاء وخالفوا المشركين في
مسلكهم ومذهبهم. قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن نمير حدثنا هشام يعني ابن عروة بن
الزبير عن أبي الزبير محمد بن مسلم بن مدرس المكي قال : كان عبد الله بن الزبير
يقول في دبر كل صلاة حين يسلم لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله
الحمد وهو على كل شيء قدير لا حول ولا قوة إلا بالله لا إله إلا الله ولا نعبد إلا
إياه له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن ، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو
كره الكافرون ، قال : وكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يهلل بهن دبر كل صلاة ، ورواه مسلم وأبو داود والنسائي من
طرق عن هشام بن عروة وحجاج بن أبي عثمان وموسى بن عقبة ثلاثتهم عن أبي الزبير عن
عبد الله بن الزبير قال : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول في دبر كل صلاة : «لا إله إلا الله وحده لا شريك له» وذكر تمامه. وقد ثبت في الصحيح عن ابن الزبير رضي الله
عنهما أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان يقول عقب الصلوات المكتوبات : «لا إله إلا الله وحده
لا شريك له ، له
__________________
الملك وله الحمد
وهو على كل شيء قدير لا حول ولا قوة إلا بالله ، لا إله إلا الله ، ولا نعبد إلا
إياه ، له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن ، لا إله إلا الله مخلصين له الدين
ولو كره الكافرون». وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الربيع حدثنا الخصيب بن ناصح
حدثنا صالح يعني المري عن هشام بن حسان عن ابن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن
النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «ادعوا الله تبارك وتعالى وأنتم موقنون بالإجابة
واعلموا أن الله تعالى لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه».
(رَفِيعُ الدَّرَجاتِ
ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ
لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ
(١٥) يَوْمَ
هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ
لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ(١٦) الْيَوْمَ تُجْزى
كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ)
(١٧)
يقول تعالى مخبرا
عن عظمته وكبريائه وارتفاع عرشه العظيم العالي على جميع مخلوقاته كالسقف لها كما
قال تعالى : (مِنَ اللهِ ذِي
الْمَعارِجِ تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ
مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) [المعارج : ٣ ـ ٤]
وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان أن هذه مسافة ما بين العرش إلى الأرض السابعة في
قول جماعة من السلف والخلف وهو الأرجح إن شاء الله وقد ذكر غير واحد أن العرش من
ياقوتة حمراء اتساع ما بين قطريه مسيرة خمسين ألف سنة. وارتفاعه عن الأرض السابعة
مسيرة خمسين ألف سنة وقد تقدم في حديث الأوعال ما يدل على ارتفاعه عن السموات
السبع بشيء عظيم.
وقوله تعالى : (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى
مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) كقوله جلت عظمته : (يُنَزِّلُ
الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ
أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ) [النحل : ٢]
وكقوله تعالى : (وَإِنَّهُ
لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ
لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) [الشعراء : ١٩٢ ـ ١٩٤]
ولهذا قال عزوجل : (لِيُنْذِرَ يَوْمَ
التَّلاقِ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس يوم التلاق اسم من أسماء
يوم القيامة حذر الله منه عباده .
وقال ابن جريج قال
ابن عباس رضي الله عنهما يلتقي فيه آدم وآخر ولده وقال ابن زيد يلتقي فيه العباد.
وقال قتادة والسدي وبلال بن سعد وسفيان بن عيينة يلتقي فيه أهل السماء وأهل الأرض
وقال قتادة أيضا : يلتقي فيه أهل السماء وأهل الأرض وقال قتادة أيضا : يلتقي فيه
أهل السماء وأهل الأرض والخالق والخلق ، وقال ميمون بن مهران يلتقي الظالم
والمظلوم ، وقد يقال إن يوم التلاق يشمل هذا كله ويشمل أن كل عامل سيلقى ما عملها
من خير وشر كما قاله آخرون.
__________________
وقوله جل جلاله : (يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ) أي ظاهرون بادون كلهم لا شيء يكنهم ولا يظلهم ولا يسترهم
ولهذا قال : (يَوْمَ هُمْ
بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) أي الجميع في علمه على السواء. وقوله تبارك وتعالى : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ
الْواحِدِ الْقَهَّارِ) قد تقدم في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه تعالى يطوي
السموات والأرض بيده ثم يقول أنا الملك أنا الجبار أنا المتكبر ، أين ملوك الأرض؟
أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ وفي حديث الصور أنه عزوجل إذا قبض أرواح جميع خلقه فلم يبق سواه وحده لا شريك له
حينئذ يقول لمن الملك اليوم؟ ثلاث مرات ثم يجيب نفسه قائلا (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) أي الذي هو وحده قد قهر كل شيء وغلبه. وقد قال ابن أبي
حاتم : حدثنا محمد بن غالب الدقاق حدثنا عبيد بن عبيدة حدثنا معتمر عن أبيه حدثنا
أبو نضرة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ينادي مناد بين يدي الساعة يا أيها
الناس أتتكم الساعة فيسمعها الأحياء والأموات قال وينزل الله عزوجل إلى السماء الدنيا ويقول : (لِمَنِ الْمُلْكُ
الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ).
وقوله جلت عظمته :
(الْيَوْمَ تُجْزى
كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) يخبر تعالى عن عدله في حكمه بين خلقه أنه لا يظلم مثقال
ذرة من خير ولا من شر بل يجزي بالحسنة عشر أمثالها وبالسيئة واحدة ولهذا قال تبارك
وتعالى : (لا ظُلْمَ الْيَوْمَ) كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه عن رسول الله
صلىاللهعليهوسلم فيما يحكي عن ربه عزوجل أنه قال : «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم
محرما فلا تظالموا ـ إلى أن قال ـ يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم ثم
أوفيكم إياها ، فمن وجد خيرا فليحمد الله تبارك وتعالى ، ومن وجد غير ذلك فلا
يلومن إلا نفسه» وقوله عزوجل : (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ
الْحِسابِ) أي يحاسب الخلائق كلهم كما يحاسب نفسا واحدة كما قال جل
وعلا : (ما خَلْقُكُمْ وَلا
بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) [لقمان : ٢٨] وقال
جل جلاله : (وَما أَمْرُنا إِلَّا
واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) [القمر : ٥٠].
(وَأَنْذِرْهُمْ
يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ
مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (١٨) يَعْلَمُ خائِنَةَ
الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (١٩) وَاللهُ يَقْضِي
بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللهَ
هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)
(٢٠)
يوم الآزفة اسم من
أسماء يوم القيامة وسميت بذلك لاقترابها كما قال تعالى : (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ لَيْسَ لَها مِنْ
دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ) [النجم : ٥٧ ـ ٥٨]
وقال عزوجل : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ
وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) [القمر : ١] وقال
جل وعلا : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ
حِسابُهُمْ) [الأنبياء : ١]
وقال :
__________________
(أَتى أَمْرُ اللهِ
فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) [النحل : ١] وقال
جل جلاله : (فَلَمَّا رَأَوْهُ
زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ
تَدَّعُونَ) [الملك : ٢٧]
الآية. وقوله تبارك وتعالى: (إِذِ الْقُلُوبُ
لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ) قال قتادة وقفت القلوب في الحناجر من الخوف فلا تخرج ولا
تعود إلى أماكنها ، وكذا قال عكرمة والسدي وغير واحد ، ومعنى كاظمين أي ساكتين لا
يتكلم أحد إلا بإذنه (يَوْمَ يَقُومُ
الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ
الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) [النبأ : ٣٨] وقال
ابن جريج (كاظِمِينَ) أي باكين. وقوله سبحانه وتعالى : (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا
شَفِيعٍ يُطاعُ) أي ليس للذين ظلموا أنفسهم بالشرك بالله من قريب منهم
ينفعهم ولا شفيع يشفع فيهم بل قد تقطعت بهم الأسباب من كل خير.
وقوله تعالى : (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما
تُخْفِي الصُّدُورُ) يخبر عزوجل عن علمه التام المحيط بجميع الأشياء جليلها وحقيرها ،
صغيرها وكبيرها ، دقيقها ولطيفها ليحذر الناس علمه فيهم فيستحيوا من الله تعالى حق
الحياء ويتقوه حق تقواه ، ويراقبوه مراقبة من يعلم أنه يراه فإنه عزوجل يعلم العين الخائنة وإن أبدت أمانة ويعلم ما تنطوي عليه
خبايا الصدور من الضمائر والسرائر. قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما
تُخْفِي الصُّدُورُ) هو الرجل يدخل على أهل البيت بيتهم وفيهم المرأة الحسناء
أو تمر به وبهم المرأة الحسناء فإذا غفلوا لحظ إليها فإذا فطنوا غض بصره عنها فإذا
غفلوا لحظ فإذا فطنوا غض ، وقد اطلع الله تعالى من قلبه أنه ود أن لو اطلع على
فرجها. رواه ابن أبي حاتم ، وقال الضحاك (خائِنَةَ الْأَعْيُنِ) هو الغمز وقول الرجل رأيت ولم ير. أو لم أر وقد رأى. وقال
ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يعلم الله تعالى من العين في نظرها هل تريد الخيانة
أم لا؟ وكذا قال مجاهد وقتادة ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : (وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) يعلم إذا أنت قدرت عليها هل تزني بها أم لا؟ وقال السدي (وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) أي من الوسوسة.
وقوله عزوجل : (وَاللهُ يَقْضِي
بِالْحَقِ) أي يحكم بالعدل ، قال الأعمش عن سعيد بن جبير عن ابن عباس
في قوله تعالى : (وَاللهُ يَقْضِي
بِالْحَقِ) قادر على أن يجزي بالحسنة الحسنة وبالسيئة السيئة (إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) وهذا الذي فسر به ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية
كقوله تبارك وتعالى : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ
أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) [النجم : ٣١]
وقوله جل وعلا : (وَالَّذِينَ
يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) أي من الأصنام والأوثان والأنداد (لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ) أي لا يملكون شيئا ولا يحكمون بشيء (إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) أي سميع لأقوال خلقه بصير بهم فيهدي من يشاء ويضل من يشاء
وهو الحاكم العادل في جميع ذلك.
(أَوَلَمْ يَسِيرُوا
فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ
كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ
بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ (٢١)
ذلِكَ
بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا
فَأَخَذَهُمُ اللهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ)
(٢٢)
يقول تعالى : (أَوَلَمْ يَسِيرُوا) هؤلاء المكذبون برسالتك يا محمد (فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ
عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ) أي من الأمم المكذبة بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام ما حل
بهم من العذاب والنكال مع أنهم كانوا أشد من هؤلاء قوة (وَآثاراً فِي الْأَرْضِ) أي أثروا في الأرض من البنايات والمعالم والديارات ما لا
يقدر هؤلاء عليه كما قال عزوجل : (وَلَقَدْ
مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ) [الأحقاف : ٢٦]
وقال تعالى : (وَأَثارُوا الْأَرْضَ
وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها) [الروم : ٩] أي مع
هذه القوة العظيمة والبأس الشديد أخذهم الله بذنوبهم وهي كفرهم برسلهم (وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ) أي وما دفع عنهم عذاب الله أحد ولا رده عنهم راد ، ولا
وقاهم واق ، ثم ذكر علقة أخذه إياهم وذنوبهم التي ارتكبوها واجترموها فقال تعالى: (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ
رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي بالدلائل الواضحات والبراهين القاطعات (فَكَفَرُوا) أي مع هذا البيان والبرهان كفروا وجحدوا (فَأَخَذَهُمُ اللهُ) تعالى أي أهلكهم ودمر عليهم وللكافرين أمثالها (إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ) أي ذو قوة عظيمة وبطش شديد وهو شديد العقاب أي عقابه أليم
شديد وجيع ، أعاذنا الله تبارك وتعالى منه.
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢٣)
إِلى
فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٢٤) فَلَمَّا جاءَهُمْ
بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ
وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٢٥)
وَقالَ
فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ
يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (٢٦) وَقالَ مُوسى إِنِّي
عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ
الْحِسابِ)
(٢٧)
يقول تعالى مسليا
لنبيه محمد صلىاللهعليهوسلم في تكذيب من كذبه من قومه ومبشرا له بأن العاقبة والنصرة
له في الدنيا والآخرة كما جرى لموسى بن عمران عليهالسلام فإن الله تعالى أرسله بالآيات البينات. والدلائل الواضحات.
ولهذا قال تعالى : (بِآياتِنا وَسُلْطانٍ
مُبِينٍ) والسلطان هو الحجة والبرهان (إِلى فِرْعَوْنَ) وهو ملك القبط بالديار المصرية (وَهامانَ) وهو وزيره في مملكته (وَقارُونَ) وكان أكثر الناس في زمانه مالا وتجارة (فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ) أي كذبوه وجعلوه ساحرا مجنونا ممحزقا مموها كذابا في أن
الله أرسله وهذه كقوله تعالى : (كَذلِكَ ما أَتَى
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَواصَوْا
بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) [الذاريات : ٥٢ ـ ٥٣].
(فَلَمَّا جاءَهُمْ
بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا) أي بالبرهان القاطع الدال على أن الله عزوجل أرسله إليهم (قالُوا اقْتُلُوا
أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ) وهذا أمر ثان من فرعون بقتل ذكور بني إسرائيل. أما الأول
فكان لأجل الاحتراز من وجود موسى أو لإذلال هذا الشعب وتقليل عددهم أو لمجموع
الأمرين ، وأما الأمر الثاني فللعلة الثانية لإهانة هذا الشعب ولكي يتشاءموا بموسى
عليهالسلام ولهذا قالوا : (أُوذِينا مِنْ قَبْلِ
أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ
عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) [الأعراف : ١٢٩]
قال قتادة هذا أمر بعد أمر.
قال الله عزوجل : (وَما كَيْدُ
الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) أي وما مكرهم وقصدهم الذي هو تقليل عدد بني إسرائيل لئلا
ينصروا عليهم إلا ذاهب وهالك في ضلال (وَقالَ فِرْعَوْنُ
ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) وهذا عزم من فرعون لعنه الله تعالى إلى قتل موسى عليه
الصلاة والسلام أي قال لقومه دعوني حتى أقتل لكم هذا (وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) أي لا أبالي به ، وهذا في غاية الجحد والتجهرم والعناد ،
قوله قبحه الله : (إِنِّي أَخافُ أَنْ
يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ) يعني موسى ، يخشى فرعون أن يضل موسى الناس ويغير رسومهم
وعاداتهم ، وهذا كما يقال في المثل : صار فرعون مذكرا ، يعني واعظا يشفق على الناس
من موسى عليهالسلام. وقرأ الأكثرون أن يبدل دينكم وأن يظهر في الأرض الفساد
وقرأ آخرون (أَوْ أَنْ يُظْهِرَ
فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ) وقرأ بعضهم (يُظْهِرَ فِي
الْأَرْضِ الْفَسادَ) بالضم (وَقالَ مُوسى إِنِّي
عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ
الْحِسابِ) أي لما بلغه قول فرعون (ذَرُونِي أَقْتُلْ
مُوسى) قال موسى عليهالسلام استجرت بالله وعذت به من شره وشر أمثاله ولهذا قال : (إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ) أيها المخاطبون (مِنْ كُلِّ
مُتَكَبِّرٍ) أي عن الحق مجرم «لا يؤمن بيوم الحساب» ولهذا جاء في
الحديث عن أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان إذا خاف قوما قال : «اللهم إنا نعوذ بك من شرورهم
وندرأ بك في نحورهم» .
(وَقالَ رَجُلٌ
مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ
يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ
كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي
يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (٢٨)
يا
قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا
مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما
أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ)
(٢٩)
المشهور أن هذا
الرجل المؤمن كان قبطيا من آل فرعون قال السدي : كان ابن عم فرعون
__________________
ويقال إنه الذي
نجا مع موسى عليه الصلاة والسلام ، واختاره ابن جرير ورد قول من ذهب إلى أنه كان
إسرائيليا لأن فرعون انفعل لكلامه واستمعه وكف عن قتل موسى عليهالسلام ، ولو كان إسرائيليا لأوشك أن يعاجل بالعقوبة لأنه منهم
وقال ابن جريج عن ابن عباس رضي الله عنهما لم يؤمن من آل فرعون سوى هذا الرجل
وامرأة فرعون والذي قال : (يا مُوسى إِنَّ
الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ) رواه ابن أبي حاتم وقد كان هذا الرجل يكتم إيمانه عن قومه
القبط فلم يظهر إلا هذا اليوم حين قال فرعون (ذَرُونِي أَقْتُلْ
مُوسى) فأخذت الرجل غضبة لله عزوجل. وأفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر كما ثبت بذلك الحديث.
ولا أعظم من هذه
الكلمة عند فرعون وهي قوله : (أَتَقْتُلُونَ
رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ) اللهم إلا ما رواه البخاري في صحيحه حيث قال حدثنا علي بن
عبد الله حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا الأوزاعي حدثني يحيى بن أبي كثير حدثني محمد
بن إبراهيم التيمي حدثني عروة بن الزبير رضي الله تعالى عنهما قال قلت لعبد الله
بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون برسول الله صلىاللهعليهوسلم قال بينا رسول الله صلىاللهعليهوسلم يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب
رسول الله صلىاللهعليهوسلم ولوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا فأقبل أبو بكر رضي
الله عنه فأخذ بمنكبه ودفعه عن النبي صلىاللهعليهوسلم ثم قال : (أَتَقْتُلُونَ
رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ
رَبِّكُمْ) انفرد به البخاري من حديث الأوزاعي.
قال وتابعه محمد
بن إسحاق عن يحيى بن عروة عن أبيه به. وقال ابن أبي حاتم حدثنا هارون بن إسحاق
الهمداني حدثنا عبدة عن هشام يعني ابن عروة عن أبيه عن عمرو بن العاص رضي الله عنه
أنه سئل ما أشد ما رأيت قريشا بلغوا من رسول الله صلىاللهعليهوسلم؟ قال مر صلىاللهعليهوسلم بهم ذات يوم فقالوا له أنت تنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا؟
فقال : «أنا ذاك» فقاموا إليه فأخذوا بمجامع ثيابه فرأيت أبا بكر رضي الله عنه
محتضنه من ورائه وهو يصيح بأعلى صوته وإن عينيه لتسيلان وهو يقول : يا قوم (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ
رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ) حتى فرغ من الآية كلها وهكذا رواه النسائي من حديث عبدة
فجعله من مسند عمرو بن العاص رضي الله عنه.
وقوله تعالى : (وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ
رَبِّكُمْ) أي كيف تقتلون رجلا لكونه يقول ربي الله وقد أقام لكم
البرهان على صدق ما جاءكم به من الحق؟ ثم تنزل معهم في المخاطبة فقال: (وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ
كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) يعني إذا لم يظهر لكم
__________________
صحة ما جاءكم به
فمن العقل والرأي التام والحزم أن تتركوه ونفسه فلا تؤذوه فإن يك كاذبا فإن الله
سبحانه وتعالى سيجازيه على كذبه بالعقوبة في الدنيا والآخرة وإن يكن صادقا وقد
آذيتموه يصبكم بعض الذي يعدكم فإنه يتوعدكم إن خالفتموه بعذاب في الدنيا والآخرة
فمن الجائز عندكم أن يكون صادقا فينبغي على هذا أن لا تتعرضوا له بل اتركوه وقومه
يدعوهم ويتبعونه. وهكذا أخبر الله عزوجل عن موسى عليهالسلام أنه طلب من فرعون وقومه الموادعة في قوله : (وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ
فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ إِنِّي
لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ إِنِّي آتِيكُمْ
بِسُلْطانٍ مُبِينٍ وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ.
وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ) [الدخان : ١٧ ـ ٢١] وهكذا قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم لقريش أن يتركوه يدعو إلى الله تعالى عباد الله ولا يمسوه
بسوء وأن يصلوا ما بينه وبينهم من القرابة في ترك أذيته.
قال الله عزوجل : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) [الشورى : ٣٢] أي
إلا أن لا تؤذوني فيما بيني وبينكم من القرابة فلا تؤذوني وتتركوا بيني وبين الناس
، وعلى هذا وقعت الهدنة يوم الحديبية وكان فتحا مبينا ، وقوله جل وعلا : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ
مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) أي لو كان هذا الذي يزعم أن الله تعالى أرسله إليكم كاذبا
كما تزعمون لكان أمره بينا يظهر لكل أحد في أقواله وأفعاله فكانت تكون في غاية
الاختلاف والاضطراب وهذا نرى أمره سديدا ومنهجه مستقيما ، ولو كان من المسرفين
الكذابين لما هداه الله وأرشده إلى ما ترون من انتظام أمره وفعله ، ثم قال المؤمن
محذرا قومه زوال نعمة الله عنهم وحلول نقمة الله بهم : (يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ
ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ) أي قد أنعم الله عليكم بهذا الملك والظهور في الأرض
بالكلمة النافذة والجاه العريض فراعوا هذه النعمة بشكر الله تعالى وتصديق رسولهصلىاللهعليهوسلم واحذروا نقمة الله إن كذبتم رسوله.
(فَمَنْ يَنْصُرُنا
مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا) أي لا تغني عنكم هذه الجنود وهذه العساكر ولا ترد عنا شيئا
من بأس الله إن أرادنا بسوء قال فرعون لقومه رادا على ما أشار به هذا الرجل الصالح
البار الراشد الذي كان أحق بالملك من فرعون (ما أُرِيكُمْ إِلَّا
ما أَرى) أي ما أقول لكم وأشير عليكم إلا ما أراه لنفسي وقد كذب
فرعون فإنه كان يتحقق صدق موسى عليهالسلام فيما جاء به من الرسالة (قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ
ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ) [الإسراء: ١٠٢] وقال الله تعالى : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها
أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) [النمل: ١٤] فقوله : (ما أُرِيكُمْ إِلَّا
ما أَرى) كذب فيه وافترى وخان الله تبارك وتعالى ورسولهصلىاللهعليهوسلم ورعيته فغشهم وما نصحهم وكذا قوله : (وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ
الرَّشادِ) أي وما أدعوكم إلا إلى طريق الحق والصدق والرشد وقد كذب
أيضا في ذلك وإن كان قومه قد أطاعوه واتبعوه قال الله تبارك وتعالى : (فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما
أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) [هود : ٩٧] وقال
جلت عظمته : (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ
قَوْمَهُ وَما هَدى) [طه : ٧٩] وفي
الحديث «ما من إمام يموت يوم يموت وهو غاش
لرعيته إلا لم يرح
رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام» والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب.
(وَقالَ الَّذِي آمَنَ
يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (٣٠) مِثْلَ دَأْبِ
قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ يُرِيدُ
ظُلْماً لِلْعِبادِ (٣١) وَيا قَوْمِ إِنِّي
أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (٣٢) يَوْمَ تُوَلُّونَ
مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ
مِنْ هادٍ(٣٣) وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ
بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ
قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ
هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (٣٤)
الَّذِينَ
يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ
اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ
مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ)
(٣٥)
هذا إخبار من الله
عزوجل عن هذا الرجل الصالح مؤمن آل فرعون أنه حذر قومه بأس الله
تعالى في الدنيا والآخرة فقال : (يا قَوْمِ إِنِّي
أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ) أي الذين كذبوا رسل الله في قديم الدهر كقوم نوح وعاد
وثمود والذين من بعدهم من الأمم المكذبة كيف حل بهم بأس الله وما رده عنهم راد ولا
صده عنهم صاد (وَمَا اللهُ يُرِيدُ
ظُلْماً لِلْعِبادِ) أي إنما أهلكهم الله تعالى بذنوبهم وتكذيبهم رسله
ومخالفتهم أمره فأنفذ فيهم قدره ثم قال : (وَيا قَوْمِ إِنِّي
أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ) يعني يوم القيامة وسمي بذلك ، قال بعضهم لما جاء في حديث
الصور أن الأرض إذا زلزلت وانشقت من قطر إلى قطر وماجت وارتجت فنظر الناس إلى ذلك
ذهبوا هاربين ينادي بعضهم بعضا وقال آخرون منهم الضحاك بل ذلك إذا جيء بجهنم ذهب
الناس هرابا منهم فتتلقاهم الملائكة فتردهم إلى مقام المحشر وهو قوله تعالى : (وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها) [الحاقة : ١٧]
وقوله : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ
وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ) [الرحمن : ٣٣].
وقد روي عن ابن
عباس رضي الله عنه والحسن والضحاك أنهم قرءوا يوم التناد بتشديد الدال من ند
البعير إذا شرد وذهب وقيل لأن الميزان عنده ملك وإذا وزن عمل العبد فرجح
نادى بأعلى صوته ألا قد سعد فلان بن فلان سعادة لا يشقى بعدها أبدا ، وإن خف عمله
نادى ألا قد شقي فلان بن فلان وقال قتادة : ينادي كل قوم بأعمالهم ، ينادي أهل
الجنة أهل الجنة وأهل النار أهل النار ، وقيل سمي بذلك لمناداة أهل الجنة أهل النار (أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا
حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ) [الأعراف : ٤٤]
ومناداة أهل النار أهل
__________________
الجنة (أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ
أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ) [الأعراف : ٥٠] والمناداة أصحاب الأعراف أهل الجنة وأهل
النار كما هو مذكور في سورة الأعراف ، واختار البغوي وغيره أنه سمي بذلك لمجموع
ذلك وهو قول حسن جيد ، والله أعلم.
وقوله تعالى : (يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ) أي ذاهبين هاربين (كَلَّا لا وَزَرَ
إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ) [القيامة : ١١ ـ ١٢]
ولهذا قال عزوجل : (ما لَكُمْ مِنَ اللهِ
مِنْ عاصِمٍ) أي لا مانع يمنعكم من بأس الله وعذابه (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ
هادٍ) [الرعد : ٣٣ ،
الزمر : ٢٣] أي من أضله الله فلا هادي له غيره.
وقوله تبارك
وتعالى : (وَلَقَدْ جاءَكُمْ
يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ) يعني أهل مصر قد بعث الله فيهم رسولا من قبل موسى عليه
الصلاة والسلام وهو يوسف عليه الصلاة والسلام كان عزيز أهل مصر وكان رسولا يدعو
إلى الله تعالى أمته القبط فما أطاعوه تلك الطاعة إلا لمجرد الوزارة والجاه
الدنيوي ولهذا قال تعالى : (فَما زِلْتُمْ فِي
شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ
بَعْدِهِ رَسُولاً) أي يئستم فقلتم طامعين : (لَنْ يَبْعَثَ اللهُ
مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً) وذلك لكفرهم وتكذيبهم (كَذلِكَ يُضِلُّ
اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ) أي كحالكم هذا يكون حال من يضله الله لإسرافه في أفعاله
وارتياب قلبه.
ثم قال عزوجل : (الَّذِينَ
يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ) أي الذين يدفعون الحق بالباطل ويجادلون بالحجج بغير دليل
وحجة معهم من الله تعالى فإن الله عزوجل يمقت على ذلك أشد المقت ولهذا قال تعالى : (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ
الَّذِينَ آمَنُوا) أي والمؤمنون أيضا يبغضون من تكون هذه صفته فإن من كانت
هذه صفته يطبع الله على قلبه فلا يعرف بعد ذلك معروفا ولا ينكر منكرا ولهذا قال
تبارك وتعالى : (كَذلِكَ يَطْبَعُ
اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ) أي على اتباع الحق (جَبَّارٍ) وروى ابن أبي حاتم عن عكرمة وحكي عن الشعبي أنهما قالا : لا
يكون الإنسان جبارا حتى يقتل نفسين وقال أبو عمران الجوني وقتادة : آية الجبابرة
القتل بغير حق ، والله تعالى أعلم.
(وَقالَ فِرْعَوْنُ يا
هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (٣٦) أَسْبابَ
السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ
زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ
فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ)
(٣٧)
يقول تعالى مخبرا
عن فرعون وعتوه وتمرده وافترائه في تكذيبه موسى عليه الصلاة والسلام أنه أمر وزيره
هامان أن يبني له صرحا وهو القصر العالي المنيف الشاهق وكان اتخاذه من الآجر
المضروب من الطين المشوي كما قال تعالى : (فَأَوْقِدْ لِي يا
هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي
صَرْحاً) [القصص : ٣٨]
ولهذا قال إبراهيم النخعي كانوا يكرهون البناء بالآجر وأن يجعلوه في قبورهم رواه
ابن أبي حاتم ، وقوله (لَعَلِّي أَبْلُغُ
الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ) إلخ قال سعيد بن جبير وأبو صالح أبواب السموات وقيل طرق
السموات (فَأَطَّلِعَ إِلى
إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً) وهذا من كفره وتمرده أنه كذب موسى عليه الصلاة والسلام في
أن الله عزوجل أرسله إليه قال الله تعالى : (وَكَذلِكَ زُيِّنَ
لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ) أي بصنيعه هذا الذي أراد أن يوهم به الرعية أنه يعمل شيئا
يتوصل به إلى تكذيب موسى عليه الصلاة والسلام ولهذا قال تعالى : (وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي
تَبابٍ) قال ابن عباس ومجاهد يعني إلا في خسار.
(وَقالَ الَّذِي آمَنَ
يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (٣٨) يا قَوْمِ إِنَّما
هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (٣٩) مَنْ عَمِلَ
سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ
أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها
بِغَيْرِ حِسابٍ)
(٤٠)
يقول المؤمن لقومه
ممن تمرد وطغى وآثر الحياة الدنيا ونسي الجبار الأعلى فقال لهم : (يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ
سَبِيلَ الرَّشادِ) لا كما كذب فرعون في قوله : (وَما أَهْدِيكُمْ
إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ) ثم زهدهم في الدنيا التي قد آثروها على الآخرة وصدتهم عن
التصديق برسول الله موسى عليه الصلاة والسلام فقال : (يا قَوْمِ إِنَّما
هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ) أي قليلة زائلة فانية عن قريب تذهب وتضمحل (وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ) أي الدار التي لا زوال لها ولا انتقال منها ولا ظعن عنها
إلى غيرها بل إما نعيم وإما جحيم ولهذا قال جلت عظمته : (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى
إِلَّا مِثْلَها) أي واحدة مثلها (وَمَنْ عَمِلَ
صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ
الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ) أي لا يتقدر بجزاء بل يثيبه الله عزوجل ثوابا كثيرا لا انقضاء له ولا نفاد والله تعالى الموفق
للصواب.
(وَيا قَوْمِ ما لِي
أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (٤١) تَدْعُونَنِي
لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا
أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (٤٢) لا جَرَمَ أَنَّما
تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ
وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٤٣)
فَسَتَذْكُرُونَ
ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ
بِالْعِبادِ (٤٤) فَوَقاهُ اللهُ
سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (٤٥)
النَّارُ
يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا
آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ)
(٤٦)
يقول لهم المؤمن
ما بالي أدعوكم إلى النجاة وهي عبادة الله وحده لا شريك له وتصديق رسوله الله الذي
بعثه (وَتَدْعُونَنِي إِلَى
النَّارِ تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ
عِلْمٌ) أي جهل بلا دليل (وَأَنَا أَدْعُوكُمْ
إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ) أي هو في عزته وكبريائه يغفر ذنب من تاب
إليه (لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي
إِلَيْهِ) يقول حقا؟ قال السدي وابن جرير معنى قوله (لا جَرَمَ) حقا.
وقال الضحاك (لا جَرَمَ) لا كذب وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (لا جَرَمَ) يقول : بلى إن الذي تدعونني إليه من الأصنام والأنداد (لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا
وَلا فِي الْآخِرَةِ) قال مجاهد : الوثن ليس له شيء ، وقال قتادة يعني الوثن لا
ينفع ولا يضر ، وقال السدي : لا يجيب داعيه لا في الدنيا ولا في الآخرة ، وهذا
كقوله تبارك وتعالى : (وَمَنْ أَضَلُّ
مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ
الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا
لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ) [الأحقاف : ٥ ـ ٦]
(إِنْ تَدْعُوهُمْ لا
يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ) [فاطر : ١٤] وقوله
: (وَأَنَّ مَرَدَّنا
إِلَى اللهِ) أي في الدار الآخرة فيجازي كلا بعمله ولهذا قال : (وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ
النَّارِ) أي خالدين فيها بإسرافهم وهو شركهم بالله عزوجل : (فَسَتَذْكُرُونَ ما
أَقُولُ لَكُمْ) أي سوف تعلمون صدق ما أمرتكم به ونهيتكم عنه ونصحتكم ووضحت
لكم وتتذكرونه وتندمون حيث لا ينفع الندم (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي
إِلَى اللهِ) أي وأتوكل على الله وأستعينه وأقاطعكم وأباعدكم (إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) أي هو بصير بهم تعالى وتقدس فيهدي من يستحق الهداية ويضل
من يستحق الإضلال وله الحجة البالغة والحكمة التامة والقدر النافذ.
وقوله تبارك
وتعالى : (فَوَقاهُ اللهُ
سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا) أي في الدنيا والآخرة ، وأما في الدنيا فنجاه الله تعالى
مع موسى عليه الصلاة والسلام وأما في الآخرة فبالجنة (وَحاقَ بِآلِ
فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ) وهو الغرق في اليم ثم النقلة منه إلى الجحيم ، فإن أرواحهم
تعرض على النار صباحا ومساء إلى قيام الساعة فإذا كان يوم القيامة اجتمعت أرواحهم
وأجسادهم في النار ولهذا قال : (وَيَوْمَ تَقُومُ
السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) أي أشده ألما وأعظمه نكالا ، وهذه الآية أصل كبير في
استدلال أهل السنة على عذاب البرزخ في القبور وهي قوله تعالى : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا
وَعَشِيًّا).
ولكن هاهنا سؤال
وهو أنه لا شك أن هذه الآية مكية وقد استدلوا بها على عذاب القبر في البرزخ وقد
قال الإمام أحمد حدثنا هاشم هو ابن القاسم أبو النضر حدثنا إسحاق بن سعيد
هو ابن عمرو بن سعيد بن العاص حدثنا سعيد يعني أباه عن عائشة رضي الله عنها أن
يهودية كانت تخدمها فلا تصنع عائشة رضي الله عنها إليها شيئا من المعروف إلا قالت
لها اليهودية وقال الله عذاب القبر قالت رضي الله عنها : فدخل رسول الله صلىاللهعليهوسلم علي فقلت : يا رسول الله هل للقبر عذاب قبل يوم القيامة؟
قال صلىاللهعليهوسلم : «لا ، من زعم ذلك؟» قالت هذه اليهودية لا أصنع إليها
__________________
شيئا من المعروف
إلا قالت وقاك الله عذاب القبر قال صلىاللهعليهوسلم : «كذبت يهود وهم على الله أكذب لا عذاب دون يوم القيامة»
ثم مكث بعد ذلك ما شاء الله أن يمكث فخرج ذات يوم نصف النهار مشتملا بثوبه محمرة
عيناه وهو ينادي بأعلى صوته «القبر كقطع الليل المظلم ، أيها الناس لو تعلمون ما
أعلم بكيتم كثيرا وضحكتم قليلا ، أيها الناس استعيذوا بالله من عذاب القبر فإن
عذاب القبر حق» وهذا إسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم ولم يخرجاه.
وروى أحمد حدثنا يزيد حدثنا سفيان عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي
الله عنها قالت سألتها امرأة يهودية فأعطتها فقالت لها وقاك الله من عذاب القبر
فأنكرت عائشة رضي لله عنها ذلك فلما رأت النبي صلىاللهعليهوسلم قالت له فقال صلىاللهعليهوسلم «لا» قالت عائشة
رضي الله عنها ثم قال لنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم بعد ذلك «وإنه أوحي إلي أنكم تفتنون في قبوركم» وهذا أيضا
على شرطهما. فيقال فما الجمع بين هذا وبين كون الآية مكية وفيها دلالة على عذاب
البرزخ؟ والجواب أن الآية دلت على عرض الأرواح على النار غدوا وعشيا في البرزخ
وليس فيها دلالة على اتصال تألمها بأجسادها في القبور إذ قد يكون ذلك مختصا بالروح
فأما حصول ذلك للجسد في البرزخ وتألمه بسببه فلم يدل عليه إلا السنة في الأحاديث
المرضية الآتي ذكرها. وقد يقال إن هذه الآية إنما دلت على عذاب الكفار في البرزخ
ولا يلزم من ذلك أن يعذب المؤمن في قبره بذنب.
ومما يدل على ذلك
ما رواه الإمام أحمد حدثنا عثمان بن عمر حدثنا يونس عن الزهري عن عروة عن عائشة
رضي الله عنها أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم دخل عليها وعندها امرأة من اليهود وهي تقول أشعرت أنكم
تفتنون في قبوركم ، فارتاع رسول الله صلىاللهعليهوسلم وقال : «إنما يفتن يهود» قالت عائشة رضي الله عنها فلبثنا
ليالي ثم قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ألا إنكم تفتنون في القبور» وقالت عائشة رضي الله عنها
فكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم بعد يستعيذ من عذاب القبر ، وهكذا رواه مسلم عن هارون بن سعيد وحرملة كلاهما عن ابن وهب عن يونس بن
يزيد الأيلي عن الزهري به.
وقد يقال إن هذه
الآية دلت على عذاب الأرواح في البرزخ ولا يلزم من ذلك أن يتصل بالأجساد في قبورها
فلما أوحي إلى النبي صلىاللهعليهوسلم في ذلك بخصوصه استعاذ منه والله سبحانه وتعالى أعلم. وقد
روى البخاري من حديث شعبة عن أشعث بن أبي الشعثاء عن أبيه عن مسروق عن
عائشة رضي الله عنها أن يهودية دخلت عليها فقالت نعوذ بالله من عذاب القبر فسألت
عائشة رضي الله عنها رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن عذاب القبر فقال صلىاللهعليهوسلم : «نعم عذاب القبر حق» قالت عائشة رضي الله عنها : فما
رأيت رسول الله صلىاللهعليهوسلم بعد صلى صلاة إلا تعوذ من عذاب القبر.
__________________
فهذا يدل على أنه
بادر صلىاللهعليهوسلم إلى تصديق اليهودية في هذا الخبر وقرر عليه ، وفي الأخبار
المتقدمة أنه أنكر ذلك حتى جاءه الوحي فلعلهما قضيتان والله سبحانه أعلم وأحاديث
عذاب القبر كثيرة جدا وقال قتادة في قوله تعالى : (غُدُوًّا وَعَشِيًّا) صباحا ومساء ما بقيت الدنيا يقال لهم يا آل فرعون هذه
منازلكم توبيخا ونقمة وصغارا لهم ، وقال ابن زيد هم فيها اليوم يغدى بهم ويراح إلى أن تقوم
الساعة.
وقال : ابن أبي
حاتم حدثنا أبو سعيد حدثنا المحاربي حدثنا ليث عن عبد الرحمن بن ثروان عن هذيل عن
عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : إن أرواح الشهداء في أجواف طيور خضر تسرح
بهم في الجنة حيث شاؤوا ، وإن أرواح ولدان المؤمنين في أجواف عصافير تسرح في الجنة
حيث شاءت فتأوي إلى قناديل معلقة في العرش ، وإن أرواح آل فرعون في أجواف طيور سود
تغدو على جهنم وتروح عليها فذلك عرضها ، وقد رواه الثوري عن أبي قيس عن الهذيل بن
شرحبيل من كلامه في أرواح آل فرعون وكذلك قال السدي.
وفي حديث الإسراء
من رواية أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال فيه «ثم انطلق بي إلى خلق كثير من خلق الله رجال كل
رجل منهم بطنه مثل البيت الضخم مصفدون على سابلة آل فرعون وآل فرعون يعرضون على
النار غدوا وعشيا (وَيَوْمَ تَقُومُ
السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) وآل فرعون كالإبل المسومة يخبطون الحجارة والشجر ولا
يعقلون» وقال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين حدثنا زيد بن أخرم حدثنا عامر بن
مدرك الحارثي حدثنا عتبة ـ يعني ابن يقظان ـ عن قيس بن مسلم عن طارق عن شهاب عن
ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «ما أحسن محسن من مسلم أو كافر إلا أثابه الله تعالى»
قال قلنا يا رسول الله ما إثابة الله الكافر؟ فقال : «إن كان قد وصل رحما أو تصدق
بصدقة أو عمل حسنة أثابه الله تبارك وتعالى المال والولد والصحة وأشباه ذلك» قلنا
فما إثابته في الآخرة؟ قال صلىاللهعليهوسلم : «عذابا دون العذاب» وقرأ (أَدْخِلُوا آلَ
فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) ورواه البزار في مسنده عن زيد بن أخرم ثم قال : لا نعلم له
إسنادا غير هذا.
وقال ابن جرير حدثنا عبد الكريم بن أبي عمير حدثنا حماد بن محمد الفزاري
البلخي قال سمعت الأوزاعي وسأله رجل فقال : رحمك الله رأينا طيورا تخرج من البحر
تأخذ ناحية الغرب بيضا فوجا فوجا لا يعلم عددها إلا الله عزوجل فإذا كان العشي رجع مثلها سودا قال وفطنتم إلى ذلك؟ قال
نعم ، قال إن ذلك الطير في حواصلها أرواح آل فرعون يعرضون على
__________________
النار غدوا وعشيا
فترجع إلى وكورها وقد احترقت أرياشها وصارت سودا فينبت عليها من الليل ريش أبيض
ويتناثر الأسود ثم تغدو على النار غدوا وعشيا ثم ترجع إلى وكورها ، فذلك دأبهم في
الدنيا فإذا كان يوم القيامة قال الله تعالى : (أَدْخِلُوا آلَ
فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) قال وكانوا يقولون إنهم ستمائة ألف مقاتل.
وقال الإمام أحمد حدثنا إسحاق حدثنا مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما
قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان
من أهل الجنة فمن أهل الجنة ، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار فيقال هذا مقعدك
حتى يبعثك الله عزوجل إليه يوم القيامة» أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك به.
(وَإِذْ يَتَحاجُّونَ
فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا
لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ
(٤٧) قالَ
الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ
الْعِبادِ (٤٨) وَقالَ الَّذِينَ فِي
النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ
الْعَذابِ (٤٩) قالُوا أَوَلَمْ
تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما
دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ)
(٥٠)
يخبر تعالى عن
تحاج أهل النار في النار وتخاصمهم وفرعون وقومه من جملتهم فيقول الضعفاء وهم
الأتباع للذين استكبروا وهم القادة والسادة والكبراء (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ
تَبَعاً) أي أطعناكم فيما دعوتمونا إليه في الدنيا من الكفر والضلال
(فَهَلْ أَنْتُمْ
مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ) أي قسطا تتحملونه عنا (قالَ الَّذِينَ
اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها) أي لا نتحمل عنكم شيئا كفى بنا ما عندنا وما حملنا من
العذاب والنكال (إِنَّ اللهَ قَدْ
حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ) أي يقسم بيننا العذاب بقدر ما يستحقه كل منا كما قال تعالى
: (قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ
وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ
ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ) [الأعراف : ٣٨ ـ ٣٩]
لما علموا أن الله عزوجل لا يستجيب منهم ولا يستمع لدعائهم بل قد قال : (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) [المؤمنون : ١٠٨] سألوا الخزنة وهم كالسجانين لأهل النار
أن يدعوا لهم الله تعالى أن يخفف عن الكافرين ولو يوما واحدا من العذاب فقالت لهم
الخزنة رادين عليهم (أَوَلَمْ تَكُ
تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي أو ما قامت عليكم الحجج في الدنيا على ألسنة الرسل (قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا) أي أنتم لأنفسكم فنحن لا ندعو لكم ولا نسمع منكم ولا نود
خلاصكم ونحن منكم براء ثم نخبركم أنه سواء دعوتم أو لم تدعوا لا يستجاب لكم ولا
يخفف عنكم ولهذا قالوا :
__________________
(وَما دُعاءُ
الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) أي إلا في ذهاب ولا يتقبل ولا يستجاب.
(إِنَّا لَنَنْصُرُ
رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ
الْأَشْهادُ (٥١) يَوْمَ لا يَنْفَعُ
الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٥٢)
وَلَقَدْ
آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (٥٣) هُدىً وَذِكْرى
لِأُولِي الْأَلْبابِ (٥٤) فَاصْبِرْ إِنَّ
وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ
بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٥٥) إِنَّ الَّذِينَ
يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ
إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ
الْبَصِيرُ)
(٥٦)
قد أورد أبو جعفر
بن جرير رحمهالله تعالى عند قوله تعالى : (إِنَّا لَنَنْصُرُ
رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) سؤالا فقال قد علم أن بعض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
قتله قومه بالكلية كيحيى وزكريا وشعياء ومنهم من خرج من بين أظهرهم إما مهاجرا
كإبراهيم ، وإما إلى السماء كعيسى فأين النصرة في الدنيا ثم أجاب عن ذلك بجوابين [أحدهما]
أن يكون الخبر خرج عاما والمراد به البعض قال وهذا سائغ في اللغة [الثاني] أن يكون
المراد بالنصر الانتصار لهم ممن آذاهم وسواء كان ذلك بحضرتهم أو في غيبتهم أو بعد
موتهم كما فعل بقتلة يحيى وزكريا وشعياء سلط عليهم من أعدائهم من أهانهم وسفك
دماءهم وقد ذكر أن النمرود أخذه الله تعالى أخذ عزيز مقتدر ، وأما الذين راموا صلب
المسيح عليهالسلام من اليهود فسلط الله تعالى عليهم الروم فأهانوهم وأذلوهم
وأظهرهم الله تعالى عليهم ثم قبل يوم القيامة سينزل عيسى ابن مريم عليه الصلاة
والسلام إماما عادلا وحكما مقسطا فيقتل المسيح الدجال وجنوده من اليهود ويقتل
الخنزير ويكسر الصليب ، ويضع الجزية فلا يقبل إلا الإسلام وهذه نصرة عظيمة وهذه
سنة الله تعالى في خلقه في قديم الدهر وحديثه أنه ينصر عباده المؤمنين في الدنيا
ويقر أعينهم ممن آذاهم.
ففي صحيح البخاري
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «يقول الله تبارك وتعالى من عادى لي وليا فقد
بارزني بالحرب» وفي الحديث الآخر : «إني لأثأر لأوليائي كما يثأر الليث
بالحرب» ولهذا أهلك الله عزوجل قوم نوح وعاد وثمود وأصحاب الرس وقوم لوط وأهل مدين
وأشباههم وأضرابهم ممن كذب الرسل وخالف الحق. وأنجى الله تعالى من بينهم المؤمنين
فلم يهلك منهم أحدا وعذب الكافرين فلم يفلت منهم أحدا.
__________________
قال السدي لم يبعث
الله عزوجل رسولا قط إلى قوم فيقتلونه أو قوما من المؤمنين يدعون إلى
الحق فيقتلون فيذهب ذلك القرن حتى يبعث الله تبارك وتعالى لهم من ينصرهم فيطلب
بدمائهم ممن فعل ذلك بهم في الدنيا قال فكانت الأنبياء والمؤمنون يقتلون في الدنيا
وهم منصورون فيها. وهكذا نصر الله نبيه محمدا صلىاللهعليهوسلم وأصحابه على من خالفه وناوأه وكذبه وعاداه فجعل كلمته هي
العليا ودينه هو الظاهر على سائر الأديان ، وأمره بالهجرة من بين ظهراني قومه إلى
المدينة النبوية وجعل له فيها أنصارا وأعوانا ، ثم منحه أكتاف المشركين يوم بدر
فنصره عليهم وخذلهم له وقتل صناديدهم ، وأسر سراتهم فاستاقهم مقرنين في الأصفاد ،
ثم منّ عليهم بأخذه الفداء منهم ثم بعد مدة قريبة فتح عليه مكة فقرت عينه ببلده
وهو البلد المحرم الحرام المشرف المعظم فأنقذه الله تعالى به مما كان فيه من الكفر
والشرك وفتح له اليمن ودانت له جزيرة العرب بكاملها ودخل الناس في دين الله أفواجا
، ثم قبضه الله تعالى إليه لما له عنده من الكرامة العظيمة فأقام الله تبارك
وتعالى أصحابه خلفاء بعده فبلغوا عنه دين الله عزوجل ودعوا عباد الله تعالى إلى الله جل وعلا ، وفتحوا البلاد
والرساتيق والأقاليم والمدائن والقرى والقلوب حتى انتشرت الدعوة المحمدية في مشارق
الأرض ومغاربها. ثم لا يزال هذا الدين قائما منصورا ظاهرا إلى قيام الساعة ولهذا
قال تعالى : (إِنَّا لَنَنْصُرُ
رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ
الْأَشْهادُ) أي يوم القيامة تكون النصرة أعظم وأكبر وأجل ، قال مجاهد :
الأشهاد الملائكة.
وقوله تعالى : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ
مَعْذِرَتُهُمْ) بدل من قوله : (وَيَوْمَ يَقُومُ
الْأَشْهادُ) وقرأ آخرون يوم بالرفع كأنه فسره به (وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ يَوْمَ لا
يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ) وهم المشركون (مَعْذِرَتُهُمْ) أي لا يقبل منهم عذر ولا فدية (وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ) أي الإبعاد والطرد من الرحمة (وَلَهُمْ سُوءُ
الدَّارِ) وهي النار قاله السدي بئس المنزل والمقيل ، وقال علي بن
أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما (وَلَهُمْ سُوءُ
الدَّارِ) أي سوء العاقبة وقوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى) وهو ما بعثه الله عزوجل به من الهدى والنور (وَأَوْرَثْنا بَنِي
إِسْرائِيلَ الْكِتابَ) أي جعلنا لهم العاقبة وأورثناهم بلاد فرعون وأمواله
وحواصله وأرضه بما صبروا على طاعة الله تبارك وتعالى واتباع رسوله موسى عليه
الصلاة والسلام وفي الكتاب الذي أورثوه وهو التوراة (هُدىً وَذِكْرى
لِأُولِي الْأَلْبابِ) وهي العقول الصحيحة السليمة.
وقوله عزوجل : (فَاصْبِرْ) أي يا محمد (إِنَّ وَعْدَ اللهِ
حَقٌ) أي وعدناك أنا سنعلي كلمتك ونجعل العاقبة لك ولمن اتبعك
والله لا يخلف الميعاد وهذا الذي أخبرناك به حق لا مرية فيه ولا شك وقوله تبارك
وتعالى : (وَاسْتَغْفِرْ
لِذَنْبِكَ) هذا تهييج للأمة على الاستغفار (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِ) أي في أواخر النهار وأوائل الليل (وَالْإِبْكارِ) وهي أوائل النهار وأواخر الليل.
وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ
اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ) أي يدفعون الحق بالباطل ويردون الحج الصحيحة بالشبه
الفاسدة بلا برهان ولا حجة من الله (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ
إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ) أي ما في صدورهم إلا كبر على اتباع الحق واحتقار لمن جاءهم
به وليس ما يرومونه من إخماد الحق وإعلاء الباطل بحاصل لهم بل الحق هو المرفوع
وقولهم وقصدهم هو الموضوع (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) أي من حال مثل هؤلاء (إِنَّهُ هُوَ
السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) أو من شر مثل هؤلاء المجادلين في آيات الله بغير سلطان هذا
تفسير ابن جرير .
وقال كعب وأبو
العالية نزلت هذه الآية في اليهود (إِنَّ الَّذِينَ
يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ
إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ) قال أبو العالية وذلك أنهم ادعوا أن الدجال منهم وأنهم
يملكون به الأرض فقال الله تعالى لنبيه صلىاللهعليهوسلم آمرا له أن يستعيذ من فتنة الدجال ولهذا قال عزوجل : (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ
إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) وهذا قول غريب وفيه تعسف بعيد وإن كان قد رواه ابن أبي
حاتم في كتابه ، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(لَخَلْقُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يَعْلَمُونَ (٥٧) وَما يَسْتَوِي
الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ
قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ(٥٨) إِنَّ السَّاعَةَ
لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ)
(٥٩)
يقول تعالى منبها
على أنه يعيد الخلائق يوم القيامة وأن ذلك سهل عليه يسير لديه بأنه خلق السموات
والأرض وخلقهما أكبر من خلق الناس بدأة وإعادة فمن قدر على ذلك فهو قادر على ما
دونه بطريق الأولى والأحرى كما قال تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا
أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ
بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الأحقاف : ٣٣] وقال هاهنا : (لَخَلْقُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يَعْلَمُونَ) فلهذا لا يتدبرون هذه الحجة ولا يتأملونها كما كان كثير من
العرب يعترفون بأن الله تعالى خلق السموات والأرض وينكرون المعاد استبعادا وكفرا
وعنادا وقد اعترفوا بما هو أولى مما أنكروا ثم قال تعالى : (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ) أي كما لا يستوي الأعمى الذي لا يبصر شيئا والبصير الذي
يرى ما انتهى إليه بصره، بل بينهما فرق عظيم كذلك لا يستوي المؤمنون الأبرار
والكفرة الفجار (قَلِيلاً ما
تَتَذَكَّرُونَ) أي ما أقل ما يتذكر كثير من الناس ثم قال تعالى : (إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ) أي لكائنة وواقعة (لا رَيْبَ فِيها
وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) أي لا يصدقون بها بل يكذبون بوجودها. قال ابن أبي حاتم
حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم حدثنا أشهب حدثنا مالك عن شيخ قديم من أهل
اليمن
__________________
قدم من ثم قال :
سمعت أن الساعة إذا دنت اشتد البلاء على الناس واشتد حر الشمس ، والله أعلم.
(وَقالَ رَبُّكُمُ
ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي
سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ)
(٦٠)
هذا من فضله تبارك
وتعالى وكرمه أنه ندب عباده إلى دعائه وتكفل لهم بالإجابة كما كان سفيان الثوري
يقول : يا من أحب عباده إليه من سأله فأكثر سؤاله ، ويا من أبغض عباده إليه من لم
يسأله وليس أحد كذلك غيرك يا رب. رواه ابن أبي حاتم وفي هذا المعنى يقول الشاعر : [الطويل]
الله يغضب إن
تركت سؤاله
|
|
وبنيّ آدم حين
يسأل يغضب
|
وقال قتادة : قال
كعب الأحبار أعطيت هذه الأمة ثلاثا لم تعطهن أمة قبلها ولا نبي : كان إذا أرسل
الله نبيا قال له أنت شاهد على أمتك وجعلتكم شهداء على الناس ، وكان يقال له ليس
عليك في الدين من حرج وقال لهذه الأمة : (وَما جَعَلَ
عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج : ٧٨] وكان
يقال له ادعني أستجب لك وقال لهذه الأمة (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ
لَكُمْ) رواه ابن أبي حاتم. وقال الإمام الحافظ أبو يعلى أحمد بن
علي بن المثنى الموصلي في مسنده : حدثنا أبو إبراهيم الترجماني حدثنا صالح المرّي
قال : سمعت الحسن يحدث عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبيصلىاللهعليهوسلم فيما يروي عن ربه عزوجل قال : «أربع خصال واحدة منهن لي وواحدة لك وواحدة بيني
وبينك وواحدة فيما بينك وبين عبادي ، فأما التي لي فتعبدني لا تشرك بي شيئا وأما
التي لك علي فما عملت من خير جزيتك به وأما التي بيني وبينك فمنك الدعاء وعلي
الإجابة وأما التي بينك وبين عبادي فارض لهم ما ترضى لنفسك».
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن ذر عن يسيع الكندي عن
النعمان بن بشير رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن الدعاء هو العبادة» ثم قرأ (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ
لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ
داخِرِينَ) وهكذا رواه أصحاب السنن الترمذي والنسائي وابن ماجة وابن
أبي حاتم وابن جرير كلهم من حديث الأعمش به. وقال الترمذي : حسن صحيح ورواه أبو
داود والترمذي والنسائي وابن جرير أيضا من حديث شعبة عن منصور عن ذرّ به وأخرجه
الترمذي أيضا من حديث الثوري عن منصور والأعمش كلا هما عن ذر به ، وكذا رواه ابن
يونس عن أسيد بن عاصم بن مهران حدثنا
__________________
النعمان بن عبد
السلام حدثنا سفيان الثوري عن منصور عن ذر به ، ورواه ابن حبان والحاكم في
صحيحيهما وقال الحاكم صحيح الإسناد.
وقال الإمام أحمد : حدثنا وكيع أبو مليح المدني شيخ من أهل المدينة سمعه عن
أبي صالح وقال مرة سمعت أبا صالح يحدث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول
اللهصلىاللهعليهوسلم : «من لم يدع الله عزوجل غضب عليه» تفرد به أحمد وهذا إسناد لا بأس به ، وقال
الإمام أحمد أيضا : حدثنا مروان الفزاري حدثنا صبيح أبو المليح سمعت
أبا صالح يحدث عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من لا يسأله يغضب عليه» قال ابن معين أبو المليح هذا
اسمه صبيح كذا قيده بالضم عبد الغني بن سعيد وأما أبو صالح هذا فهو الخوزي سكن شعب
الخوز ، قاله البزار في مسنده ، وكذا وقع في روايته أبو المليح الفارسي عن أبي صالح
الخوزي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من لم يسأل الله يغضب عليه» وقال الحافظ أبو محمد الحسن
بن عبد الرحمن الرامهرمزي : حدثنا همام حدثنا إبراهيم عن الحسن حدثنا نائل بن نجيح
حدثني عائذ بن حبيب عن محمد بن سعيد قال : لما مات محمد بن مسلمة الأنصاري وجدنا
في ذؤابة سيفه كتابا بسم الله الرحمن الرحيم سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «إن لربكم في بقية أيام دهركم نفحات فتعرضوا له لعل
دعوة أن توافق رحمة فيسعد بها صاحبها سعادة لا يخسر بعدها أبدا».
وقوله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ
يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي) أي عن دعائي وتوحيدي سيد خلون جهنم داخرين أي صاغرين
حقيرين كما قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد عن ابن عجلان حدثني عمرو بن شعيب عن
أبيه عن جده عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الناس يعلوهم كل شيء من الصغار حتى يدخلوا سجنا في
جهنم يقال له بولس تعلوهم نار الأنيار يسقون من طينة الخبال عصارة أهل النار».
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا علي بن الحسين حدثنا أبو بكر بن محمد بن يزيد بن خنيس قال : سمعت أبي يحدث
عن وهيب بن الورد حدثني رجل قال : كنت أسير ذات يوم في أرض الروم فسمعت هاتفا من
فوق رأس جبل وهو يقول : يا رب عجبت لمن عرفك كيف يرجو أحدا غيرك يا رب عجبت لمن
عرفك كيف يطلب حوائجه إلى أحد غيرك. قال ثم ذهبت ثم جاءت الطامة الكبرى قال ثم عاد
الثانية فقال يا رب عجبت لمن عرفك كيف يتعرض لشيء من سخطك يرضي غيرك قال وهيب وهذه
الطامة الكبرى ، قال فناديته أجني أنت أم إنسي؟ قال بل
__________________
إنسي اشغل نفسك
بما يعنيك عما لا يعنيك.
(اللهُ الَّذِي جَعَلَ
لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللهَ لَذُو
فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٦١)
ذلِكُمُ
اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٦٢)
كَذلِكَ
يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٦٣)
اللهُ
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ
فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ
فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٦٤) هُوَ الْحَيُّ لا
إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعالَمِينَ)
(٦٥)
بقول تعالى ممتنا
على خلقه بما جعل لهم من الليل الذي يسكنون فيه يستريحون من حركات ترددهم في
المعايش بالنهار وجعل النهار مبصرا أي مضيئا ليتصرفوا فيه بالأسفار وقطع الأقطار
والتمكن من الصناعات (إِنَّ اللهَ لَذُو
فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) أي لا يقومون بشكر نعم الله عليهم ، ثم قال عزوجل : (ذلِكُمُ اللهُ
رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي الذي فعل هذه الأشياء هو الله الواحد الأحد خالق
الأشياء الذي لا إله غيره ولا رب سواه (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أي فكيف تعبدون غيره من الأصنام التي لا تخلق شيئا بل هي
مخلوقة منحوتة.
وقوله عزوجل : (كَذلِكَ يُؤْفَكُ
الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) أي كما ضل هؤلاء بعبادة غير الله كذلك أفك الذين من قبلهم
فعبدوا غيره بلا دليل ولا برهان بل بمجرد الجهل والهوى. وجحدوا حجج الله وآياته
وقوله تعالى : (اللهُ الَّذِي جَعَلَ
لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً) أي جعلها لكم مستقرا بساطا مهادا تعيشون عليها وتتصرفون
فيها وتمشون في مناكبها وأرساها بالجبال لئلا تميد بكم (وَالسَّماءَ بِناءً) أي سقفا للعالم محفوظا (وَصَوَّرَكُمْ
فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) أي فخلقكم في أحسن الأشكال ومنحكم أكمل الصور في أحسن
تقويم (وَرَزَقَكُمْ مِنَ
الطَّيِّباتِ) أي من المآكل والمشارب في الدنيا فذكر أنه خالق الدار والسكان
والأرزاق فهو الخالق الرازق كما قال تعالى في سورة البقرة : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا
رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ
ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ
أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة : ٢٠ ـ ٢١].
وقال تعالى هاهنا
بعد خلق هذه الأشياء : (ذلِكُمُ اللهُ
رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) أي فتعالى وتقدس وتنزه رب العالمين كلهم ثم قال تعالى : (هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي هو الحي أزلا وأبدا لم يزل ولا يزال وهو الأول والآخر
والظاهر والباطن (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي لا نظير له ولا عديل (فَادْعُوهُ
مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي موحدين له مقرين بأنه لا إله إلا هو الحمد لله رب
العالمين. قال ابن جرير : كان جماعة من أهل العلم يأمرون من قال لا إله إلا الله
أن يتبعها
بالحمد لله رب
العالمين عملا بهذه الآية. ثم روي عن محمد بن علي بن الحسن بن شقيق عن أبيه عن
الحسين بن واقد عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس قال : من قال لا إله إلا الله
فليقل على أثرها الحمد لله رب العالمين وذلك قوله تعالى : (فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).
وقال أبو أسامة
وغيره عن إسماعيل بن أبي خالد عن سعيد بن جبير قال إذا قرأت (فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ) فقل لا إله إلا الله وقل على أثرها الحمد لله رب العالمين
ثم قرأ هذه الآية (فَادْعُوهُ
مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ). قال الإمام أحمد : حدثنا ابن نمير حدثنا هشيم يعني ابن
عروة بن الزبير عن أبي الزبير محمد بن مسلم بن بدر المكي قال كان عبد الله بن
الزبير يقول في دبر كل صلاة حين يسلم لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك
وله الحمد وهو على كل شيء قدير لا حول ولا قوة إلا بالله ، لا إله إلا الله ولا
نعبد إلا إياه له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن ، لا إله إلا الله مخلصين له
الدين ولو كره الكافرون قال وكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يهل بهن دبر كل صلاة ورواه مسلم وأبو داود والنسائي من طرق
عن هشام بن عروة وحجاج بن أبي عثمان وموسى بن عقبة ثلاثتهم عن أبي الزبير عن عبد
الله بن الزبير قال : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول في دبر كل صلاة «لا إله إلا الله وحده لا شريك له»
وذكر تمامه.
(قُلْ إِنِّي نُهِيتُ
أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ
مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦٦)
هُوَ
الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ
يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً
وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى
وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦٧) هُوَ الَّذِي
يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)
(٦٨)
يقول تبارك وتعالى
قل يا محمد لهؤلاء المشركين إن الله عزوجل ينهى أن يعبد أحد سواه من الأصنام والأنداد والأوثان وقد
بين تبارك وتعالى أنه لا يستحق العبادة أحد سواه في قوله جلت عظمته : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ
ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ
لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً) أي هو الذي يقلبكم في هذه الأطوار كلها وحده لا شريك له
وعن أمره وتدبيره وتقديره يكون ذلك (وَمِنْكُمْ مَنْ
يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ) أي من قبل أن يوجد ويخرج إلى هذا العالم بل تسقطه أمه سقطا
ومنهم من يتوفى صغيرا وشابا وكهلا قبل الشيخوخة كقوله تعالى : (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي
الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) [الحج : ٥] وقال عزوجل هاهنا : (وَلِتَبْلُغُوا
أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) قال ابن جريج تتذكرون البعث ثم قال تعالى : (هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) أي هو المتفرد بذلك لا يقدر على ذلك أحد سواه (فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ
لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) أي لا يخالف ولا
يمانع بل ما شاء كان لا محالة.
(أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (٦٩)
الَّذِينَ
كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٧٠) إِذِ الْأَغْلالُ
فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١)
فِي
الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (٧٢) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ
أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٧٣)
مِنْ
دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً
كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ (٧٤) ذلِكُمْ بِما
كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ
تَمْرَحُونَ (٧٥) ادْخُلُوا أَبْوابَ
جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ)
(٧٦)
يقول تعالى ألا
تعجب يا محمد من هؤلاء المكذبين بآيات الله ويجادلون في الحق بالباطل كيف تصرف
عقولهم عن الهدى إلى الضلال (الَّذِينَ كَذَّبُوا
بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا) أي من الهدى والبيان (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) هذا تهديد شديد ، ووعيد أكيد ، من الرب جل جلاله لهؤلاء
كما قال تعالى : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ) [المرسلات : ١٥]
وقوله عزوجل : (إِذِ الْأَغْلالُ فِي
أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ) أي متصلة بالأغلال بأيدي الزبانية يسحبونهم على وجوههم
تارة إلى الحميم وتارة إلى الجحيم ولهذا قال تعالى : (يُسْحَبُونَ فِي
الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) كما قال تبارك وتعالى : (هذِهِ جَهَنَّمُ
الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) [الرحمن : ٤٣ ـ ٤٤]
وقال تعالى بعد ذكر أكلهم الزقوم وشربهم الحميم (ثُمَّ إِنَّ
مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ) [الصافات : ٦٨]
وقال : (وَأَصْحابُ الشِّمالِ
ما أَصْحابُ الشِّمالِ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لا بارِدٍ
وَلا كَرِيمٍ) ـ إلى أن قال ـ (ثُمَّ إِنَّكُمْ
أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ
فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشارِبُونَ
شُرْبَ الْهِيمِ هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ) [الواقعة : ٤١ ـ ٤٤
ـ ٥١ ـ ٥٦] وقال عزوجل : (إِنَّ شَجَرَةَ
الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ
الْحَمِيمِ خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ
رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ إِنَّ
هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ) [الدخان : ٤٣ ـ ٥٠]
أي يقال لهم ذلك على وجه التقريع والتوبيخ والتحقير والتصغير والتهكم والاستهزاء
بهم.
قال ابن أبي حاتم
: حدثنا علي بن الحسين حدثنا أحمد بن منيع حدثنا منصور بن عمار حدثنا بشير بن طلحة
الخزامي عن خالد بن دريك عن يعلى بن منبه رفع الحديث إلى رسول اللهصلىاللهعليهوسلم قال : «ينشئ الله عزوجل سحابة لأهل النار سوداء مظلمة ويقال يا أهل النار أي شيء
تطلبون؟ فيذكرون بها سحاب الدنيا فيقولون نسأل بارد الشراب فتمطرهم أغلالا تزيد في
أغلالهم وسلاسل تزيد في سلاسلهم وجمرا يلهب النار عليهم» هذا حديث غريب.
وقوله تعالى : (ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ
تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي قيل لهم أين الأصنام التي كنتم تعبدونها من دون الله هل
ينصرونكم اليوم (قالُوا ضَلُّوا
عَنَّا) أي ذهبوا فلم ينفعونا (بَلْ لَمْ نَكُنْ
نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً) أي جحدوا عبادتهم كقوله جلت عظمته : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ
إِلَّا
أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣]
ولهذا قال عزوجل : (كَذلِكَ يُضِلُّ
اللهُ الْكافِرِينَ). وقوله : (ذلِكُمْ بِما
كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ
تَمْرَحُونَ) أي تقول لهم الملائكة هذا الذي أنتم فيه جزاء على فرحكم في
الدنيا بغير حق ومرحكم وأشركم وبطركم (ادْخُلُوا أَبْوابَ
جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) أي فبئس المنزل والمقيل الذي فيه الهوان والعذاب الشديد
لمن استكبر عن آيات الله واتباع دلائله وحججه ، والله أعلم.
(فَاصْبِرْ إِنَّ
وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ
نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ(٧٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ
نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ
اللهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ
الْمُبْطِلُونَ)
(٧٨)
يقول تعالى آمرا
رسوله صلىاللهعليهوسلم بالصبر على تكذيب من كذبه من قومه فإن الله تعالى سينجز لك
ما وعدك من النصر والظفر على قومك وجعل العاقبة لك ولمن اتبعك في الدنيا والآخرة (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي
نَعِدُهُمْ) أي في الدنيا وكذلك وقع فإن الله تعالى أقر أعينهم من
كبرائهم وعظمائهم أبيدوا في يوم بدر ثم فتح الله عليه مكة وسائر جزيرة العرب في
حياتهصلىاللهعليهوسلم وقوله عزوجل : (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ
فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) أي فنذيقهم العذاب الشديد في الآخرة.
ثم قال تعالى
مسليا له : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ
نَقْصُصْ عَلَيْكَ) [النساء : ١٦٤]
كما قال جل وعلا في سورة النساء سواء أي منهم من أوحينا إليك خبرهم وقصصهم مع
قومهم كيف كذبوهم ثم كانت للرسل العاقبة والنصرة (وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ
نَقْصُصْ عَلَيْكَ) وهم أكثر ممن ذكر بأضعاف أضعاف كما تقدم التنبيه على ذلك
في سورة النساء ولله الحمد والمنة. وقوله تعالى : (وَما كانَ لِرَسُولٍ
أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي ولم يكن لواحد من الرسل أن يأتي قومه بخارق للعادات إلا
أن يأذن الله له في ذلك فيدل على صدقه فيما جاءهم به (فَإِذا جاءَ أَمْرُ
اللهِ) وهو عذابه ونكاله المحيط بالمكذبين (قُضِيَ بِالْحَقِ) فينجي المؤمنين ، ويهلك الكافرين ولهذا قال عزوجل : (وَخَسِرَ هُنالِكَ
الْمُبْطِلُونَ).
(اللهُ الَّذِي جَعَلَ
لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٧٩) وَلَكُمْ فِيها
مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى
الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٨٠) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ
فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ)
(٨١)
يقول تعالى ممتنا
على عباده بما خلق لهم من الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم (فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها
يَأْكُلُونَ) [يس : ٧٢] ،
فالإبل تركب وتؤكل وتحلب ويحمل عليها الأثقال في الأسفار والرحال إلى البلاد
النائية ، والأقطار الشاسعة والبقر تؤكل ويشرب لبنها وتحرث عليها
__________________
الأرض ، والغنم
تؤكل ويشرب لبنها والجميع تجز أصوافها وأشعارها وأوبارها فيتخذ منها الأثاث
والثياب والأمتعة كما فصل وبين في أماكن تقدم ذكرها في سورة الأنعام وسورة النحل
وغير ذلك ولذا قال عزوجل هاهنا (لِتَرْكَبُوا مِنْها
وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي
صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) وقوله جل وعلا : (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ) أي حججه وبراهينه في الآفاق وفي أنفسكم (فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ) أي لا تقدرون على إنكار شيء من آياته إلا أن تعاندوا
وتكابروا.
(أَفَلَمْ يَسِيرُوا
فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى
عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ
رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ
ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨٣) فَلَمَّا رَأَوْا
بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ
مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ
يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ
خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ)
(٨٥)
يخبر تعالى عن
الأمم المكذبة بالرسل في قديم الدهر وماذا حل بهم من العذاب الشديد مع شدة قواهم
وما آثروه في الأرض وجمعوه من الأموال فما أغنى عنهم ذلك شيئا ولا رد عنهم ذرة من
بأس الله وذلك لأنهم لما جاءتهم الرسل بالبينات ، والحجج القاطعات ، والبراهين
الدامغات ، لم يلتفتوا إليهم ولا أقبلوا عليهم واستغنوا بما عندهم من العلم في
زعمهم عما جاءتهم به الرسل قال مجاهد : قالوا نحن أعلم منهم لن نبعث ولن نعذب .
وقال السدي :
فرحوا بما عندهم من العلم بجهالتهم فأتاهم من بأس الله تعالى ما لا قبل لهم به (وَحاقَ بِهِمْ) أي أحاط بهم (ما كانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِؤُنَ) أي يكذبون ويستبعدون وقوعه (فَلَمَّا رَأَوْا
بَأْسَنا) أي عاينوا وقوع العذاب بهم (قالُوا آمَنَّا
بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ) أي وحدوا الله عزوجل وكفروا بالطاغوت ولكن حيث لا تقال العثرات ولا تنفع
المعذرة وهذا كما قال فرعون حين أدركه الغرق : (آمَنْتُ أَنَّهُ لا
إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ
الْمُسْلِمِينَ) [يونس : ٩٠] قال
الله تبارك وتعالى : (آلْآنَ وَقَدْ
عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) [يونس : ٩٠ ـ ٩١]
أي فلم يقبل الله منه لأنه قد استجاب لنبيه موسى عليه الصلاة والسلام دعاءه حين
قال : (وَاشْدُدْ عَلى
قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) [يونس : ٨٨] وهكذا
قال تعالى هاهنا : (فَلَمْ يَكُ
يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ
خَلَتْ فِي عِبادِهِ) أي هذا حكم الله في جميع من تاب عند معاينة العذاب أنه لا
يقبل ولهذا جاء في الحديث «إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم
__________________
يغرغر» أي فإذا غرغر وبلغت الروح الحنجرة وعاين الملك فلا توبة حينئذ
ولهذا قال تعالى : (وَخَسِرَ هُنالِكَ
الْكافِرُونَ) آخر سورة غافر ولله الحمد والمنة.
__________________
سورة فصلت
وهي مكية
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(حم (١) تَنْزِيلٌ مِنَ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتابٌ فُصِّلَتْ
آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ(٣) بَشِيراً وَنَذِيراً
فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٤)
وَقالُوا
قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ
بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ)
(٥)
يقول تعالى : (حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ
الرَّحِيمِ) يعني القرآن منزل من الرحمن الرحيم كقوله : (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ
رَبِّكَ بِالْحَقِ) [النحل : ١٠٢]
وقوله : (وَإِنَّهُ
لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ
لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) [الشعراء : ١٩٢ ـ ١٩٤]
وقوله تبارك وتعالى : (كِتابٌ فُصِّلَتْ
آياتُهُ) أي بينت معانيه وأحكمت أحكامه (قُرْآناً عَرَبِيًّا) أي في حال كونه قرآنا عربيا بينا واضحا فمعانيه مفصلة
وألفاظه واضحة غير مشكلة كقوله تعالى : (كِتابٌ أُحْكِمَتْ
آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) [هود : ١] أي هو
معجز من حيث لفظه ومعناه (لا يَأْتِيهِ
الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ
حَمِيدٍ) [فصلت : ٤٢].
وقوله تعالى : (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي إنما يعرف هذا البيان والوضوح العلماء الراسخون (بَشِيراً وَنَذِيراً) أي تارة يبشر المؤمنين وتارة ينذر الكافرين (فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا
يَسْمَعُونَ) أي أكثر قريش فهم لا يفهمون منه شيئا مع بيانه ووضوحه (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ) أي في غلف مغطاة (مِمَّا تَدْعُونا
إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) أي صمم عما جئتنا به (وَمِنْ بَيْنِنا
وَبَيْنِكَ حِجابٌ) فلا يصل إلينا شيء مما تقوله (فَاعْمَلْ إِنَّنا
عامِلُونَ) أي اعمل أنت على طريقتك ونحن على طريقتنا لا نتابعك.
قال الإمام العالم
عبد بن حميد في مسنده : حدثني ابن أبي شيبة حدثنا علي بن مسهر عن الأجلح عن الزيال
بن حرملة الأسدي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : اجتمعت قريش يوما فقالوا
انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر فليأت هذا الرجل الذي فرق جماعتنا وشتت
أمرنا وعاب ديننا فليكلمه ولننظر ماذا يرد عليه فقالوا ما نعلم أحدا غير عتبة بن
ربيعة ، فقالوا أنت يا أبا الوليد فأتاه عتبة فقال : يا محمد أنت خير أم عبد الله؟
فسكت رسول اللهصلىاللهعليهوسلم فقال أنت خير أم عبد المطلب ، فسكت رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال إن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي
عبت وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع قولك ، إنا والله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومك منك ،
__________________
فرقت جماعتنا وشتت
أمرنا ، وعبت ديننا وفضحتنا في العرب ، حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحرا وأن في
قريش كاهنا والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف حتى
نتفانى ، أيها الرجل إن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلا
واحدا ، وإن كان بك الباءة فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشرا ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «فرغت» قال نعم ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : (بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ـ حتى بلغ ـ (فَإِنْ أَعْرَضُوا
فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) فقال عتبة حسبك حسبك ما عندك غير هذا ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «لا» فرجع إلى
قريش فقالوا ما وراءك؟ قال ما تركت شيئا أرى أنكم تكلمونه به إلا كلمته ، قالوا
فهل أجابك؟ قال لا والذي نصبها بنية ما فهمت شيئا مما قاله غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد
وثمود ، قالوا ويلك يكلمك الرجل بالعربية لا تدري ما قال؟ قال لا والله ما فهمت
شيئا مما قال غير ذكر الصاعقة.
وهكذا رواه الحافظ
أبو يعلى الموصلي في مسنده عن أبي بكر بن أبي شيبة بإسناده مثله سواء ، وقد ساقه
البغوي في تفسيره بسنده عن محمد بن فضيل عن الأجلح وهو ابن عبد الله الكندي الكوفي
وقد ضعف بعض الشيء عن الزيال بن حرملة عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه فذكر
الحديث إلى قوله : (فَإِنْ أَعْرَضُوا
فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) فأمسك عتبة على فيه وناشده بالرحم ورجع إلى أهله ولم يخرج
إلى قريش واحتبس عنهم ، فقال أبو جهل يا معشر قريش والله ما نرى عتبة إلا قد صبأ
إلى محمد وأعجبه طعامه وما ذاك إلا من حاجة أصابته فانطلقوا بنا إليه فانطلقوا
إليه فقال أبو جهل : يا عتبة ما حبسك عنا إلا أنك صبأت إلى محمد وأعجبك طعامه فإن
كانت بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد ، فغضب عتبة وأقسم أن لا
يكلم محمدا أبدا وقال والله لقد علمتم أني من أكثر قريش مالا ولكني أتيته وقصصت
عليه القصة فأجابني بشيء والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر وقرأ السورة إلى قوله
تعالى : (فَإِنْ أَعْرَضُوا
فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) فأمسكت بفيه وناشدته بالرحم أن يكف وقد علمتم أن محمدا إذا
قال شيئا لم يكذب فخشيت أن ينزل بكم العذاب ، وهذا السياق أشبه من سياق البزار
وأبي يعلى والله تعالى أعلم.
وقد أورد هذه
القصة الإمام محمد بن إسحاق بن يسار في كتاب السيرة على خلاف هذا النمط فقال حدثني
يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي قال : حدثت أن عتبة بن ربيعة وكان سيدا قال
يوما وهو جالس في نادي قريش ورسول الله صلىاللهعليهوسلم جالس في المسجد وحده : يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد
فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله أن يقبل بعضها فنعطيه أيها
__________________
شاء ويكف عنا؟
وذلك حين أسلم حمزة رضي الله عنه ورأوا أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم يزيدون ويكثرون ، فقالوا بلى يا أبا الوليد فقم إليه فكلمه
، فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : يا ابن أخي إنك منا حيث علمت من السّطة في العشيرة والمكان في النسب ، وإنك قد أتيت قومك بأمر
عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم وكفرت به من مضى من
آبائهم فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضا. قال : فقال له
رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «قل يا أبا الوليد أسمع» قال يا ابن أخي إن كنت إنما
تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا ،
وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك وإن كنت تريد به ملكا
ملكناك علينا ، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك
الأطباء وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه أو كما قال له ، حتى إذا فرغ عتبة
ورسول اللهصلىاللهعليهوسلم يستمع منه قال : «أفرغت يا أبا الوليد؟» قال نعم. قال «فاستمع
مني» قال أفعل. قال : (بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كِتابٌ فُصِّلَتْ
آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ
أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) ثم مضى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فيها وهو يقرؤها عليه. فلما سمع عتبة أنصت لها وألقى يديه
خلف ظهره معتمدا عليهما يسمع منه حتى انتهى رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى السجدة منها فسجد ثم قال «قد سمعت يا أبا الوليد ما
سمعت فأنت وذاك» فقام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض نحلف بالله لقد جاءكم أبو
الوليد بغير الوجه الذي ذهب به فلما جلس إليهم قالوا ما وراءك يا أبا الوليد قال
ورائي أني سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط والله ما هو بالسحر ولا بالشعر ولا
بالكهانة ، يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها لي خلّوا بين الرجل وبين ما هو فيه
فاعتزلوه فو الله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم
وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس به. قالوا سحرك والله
يا أبا الوليد بلسانه ، قال هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم. وهذا السياق أشبه من
الذي قبله ، والله أعلم .
(قُلْ إِنَّما أَنَا
بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا
إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (٦)
الَّذِينَ
لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٧)
إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) (٨)
يقول تعالى : (قُلْ) يا محمد لهؤلاء المكذبين المشركين (إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى
إِلَيَّ
__________________
أَنَّما
إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) لا كما تعبدونه من الأصنام والأنداد والأرباب المتفرقين إنما
الله إله واحد (فَاسْتَقِيمُوا
إِلَيْهِ) أي أخلصوا له العبادة على منوال ما أمركم به على ألسنة
الرسل (وَاسْتَغْفِرُوهُ) أي لسالف الذنوب (وَوَيْلٌ
لِلْمُشْرِكِينَ) أي دمار لهم وهلاك عليهم (الَّذِينَ لا
يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس يعني الذين لا يشهدون أن
لا إله إلا الله وكذا قال عكرمة وهذا كقوله تبارك وتعالى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ
خابَ مَنْ دَسَّاها) [الشمس : ٩ ـ ١٠] وكقوله جلت عظمته : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ
اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) [الأعلى : ١٤ ـ ١٥]
وقوله عزوجل : (فَقُلْ هَلْ لَكَ
إِلى أَنْ تَزَكَّى) [النازعات : ١٨]
والمراد بالزكاة هاهنا طهارة النفس من الأخلاق الرذيلة ومن أهم ذلك طهارة النفس من
الشرك ، وزكاة المال إنما سميت زكاة لأنها تطهره من الحرام وتكون سببا لزيادته
وبركته وكثرة نفعه وتوفيقا إلى استعماله في الطاعات.
وقال السدي (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا
يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) أي لا يدينون بالزكاة ، وقال معاوية بن قرة ليس هم من أهل
الزكاة وقال قتادة يمنعون زكاة أموالهم وهذا هو الظاهر عند كثير من المفسرين
واختاره ابن جرير وفيه نظر لأن إيجاب الزكاة إنما كان في السنة الثانية من الهجرة
إلى المدينة على ما ذكره غير واحد وهذه الآية مكية اللهم إلا أن يقال لا يبعد أن
يكون أصل أصل الصدقة والزكاة وكان مأمورا به في ابتداء البعثة كقوله تبارك وتعالى
: (وَآتُوا حَقَّهُ
يَوْمَ حَصادِهِ) [الأنعام : ١٤١]
فأما الزكاة ذات النصب والمقادير فإنما بين أمرها بالمدينة ويكون هذا جمعا بين
القولين كما أن أصل الصلاة كان واجبا قبل طلوع الشمس وقبل غروبها في ابتداء البعثة
فلما كان ليلة الإسراء قبل الهجرة بسنة ونصف فرض الله تعالى على رسوله صلىاللهعليهوسلم الصلوات الخمس وفصل شروطها وأركانها وما يتعلق بها بعد ذلك
شيئا فشيئا والله أعلم. ثم قال جل جلاله بعد ذلك : (إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) قال مجاهد وغيره : لا مقطوع ولا مجبوب كقوله تعالى : (ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً) [الكهف : ٣] وكقوله
عزوجل : (عَطاءً غَيْرَ
مَجْذُوذٍ) [هود : ١٠٨] وقال
السدي (غَيْرُ مَمْنُونٍ) عليهم وقد رد عليه هذا التفسير بعض الأئمة فإن المنة لله
تبارك وتعالى على أهل الجنة قال الله تبارك وتعالى : (بَلِ اللهُ يَمُنُّ
عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ) [الحجرات : ١٧]
وقال أهل الجنة (فَمَنَّ اللهُ
عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ) [الطور : ٢٧] ،
وقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل».
(قُلْ أَإِنَّكُمْ
لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ
أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (٩) وَجَعَلَ فِيها
رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ
أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (١٠)
ثُمَّ
اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً
أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (١١) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ
سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى
__________________
فِي
كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً
ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)
(١٢)
هذا إنكار من الله
تعالى على المشركين الذين عبدوا معه غيره وهو الخالق لكل شيء القاهر لكل شيء
المقتدر على كل شيء فقال : (قُلْ أَإِنَّكُمْ
لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ
أَنْداداً) أي نظراء وأمثالا تعبدونها معه (ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ) أي الخالق للأشياء هو رب العالمين كلهم. وهذا المكان فيه
تفصيل لقوله تعالى : (خَلَقَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) [الأعراف : ٥٤]
ففصل هاهنا ما يختص بالأرض مما اختص بالسماء فذكر أنه خلق الأرض أولا لأنها
كالأساس والأصل أن يبدأ بالأساس ثم بعده بالسقف كما قال عزوجل : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ
لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ
سَبْعَ سَماواتٍ) [البقرة : ٢٩] الآية فأما قوله تعالى : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ
السَّماءُ بَناها رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ
ضُحاها وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها
وَالْجِبالَ أَرْساها مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) [النازعات : ٢٧ ـ ٢٣].
ففي هذه الآية أن
دحي الأرض كان بعد خلق السماء ، فالدحي هو مفسر بقوله (أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها) وكان هذا بعد خلق السماء فأما خلق الأرض فقبل خلق السماء
بالنص وبهذا أجاب ابن عباس رضي الله عنه فيما ذكره البخاري عند تفسير هذه الآية من
صحيحه فإنه قال : وقال المنهال عن سعيد بن جبير قال : قال رجل لابن عباس رضي الله
عنهما إني لأجد في القرآن أشياء تختلف علي ، قال : (فَلا أَنْسابَ
بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) [المؤمنون : ١٠١] (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ
يَتَساءَلُونَ) [الصافات : ٢٧] (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) [النساء : ٤٢] (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣]
فقد كتموا في هذه الآية وقال تعالى : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ
خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها) ـ إلى قوله ـ (وَالْأَرْضَ بَعْدَ
ذلِكَ دَحاها) [النازعات : ٢٧ ـ ٣٠]
فذكر خلق السماء قبل الأرض.
ثم قال تعالى : (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ
بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) ـ إلى قوله ـ (طائِعِينَ) فذكر في هذه خلق الأرض قبل خلق السماء وقال : (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) [النساء : ٩٦] (عَزِيزاً حَكِيماً) [النساء : ٥٦ ـ ١٥٨]
(سَمِيعاً بَصِيراً) [النساء : ٥٨ ـ ١٣٤]
فكأنه كان ثم مضى فقال ابن عباس رضي الله عنهما (فَلا أَنْسابَ
بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) [المؤمنون : ١٠١]
في النفخة الأولى ، ثم ينفخ في الصور (فَصَعِقَ مَنْ فِي
السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) [الزمر : ٦٨] فلا
أنساب بينهم عند ذلك ولا يتساءلون بينهم ثم في النفخة الأخرى (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ
يَتَساءَلُونَ) وأما قوله : (ما كُنَّا
مُشْرِكِينَ وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) فإن الله تعالى يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم فيقول المشركون
تعالوا نقول لم نكن مشركين فيختم على أفواههم فتنطق أيديهم فعند ذلك يعرف أن الله
تعالى لا يكتم حديثا ، وعنده (يَوَدُّ الَّذِينَ
كَفَرُوا) [النساء : ٤٢
وغيرها] الآية ، وخلق الأرض في يومين ثم
خلق السماء ثم
استوى إلى السماء فسواهن في يومين آخرين ثم دحى الأرض ودحيها أن أخرج منها الماء
والمرعى وخلق الجبال والرمال والجماد والآكام وما بينهما في يومين آخرين فذلك قوله
تعالى (دَحاها).
وقوله : (خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) فخلق الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام وخلق السموات في
يومين (وَكانَ اللهُ
غَفُوراً رَحِيماً) [النساء : ٩٦] سمى
نفسه بذلك وذلك قوله أي لم يزل كذلك فإن الله تعالى لم يرد شيئا إلا أصاب به الذي
أراد فلا يختلفن عليك القرآن فإن كلا من عند الله عزوجل. قال البخاري حدثنيه يوسف بن عدي حدثنا عبيد الله بن عمرو
عن زيد بن أبي أنيسة عن المنهال هو ابن عمرو بالحديث.
وقوله : (خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) يعني يوم الأحد ويوم الاثنين (وَجَعَلَ فِيها
رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها) أي جعلها مباركة قابلة للخير والبذر والغراس وقدر فيها
أقواتها وهو ما ويحتاج أهلها إليه من الأرزاق والأماكن التي تزرع وتغرس يعني يوم
الثلاثاء والأربعاء فهما مع اليومين السابقين أربعة ولهذا قال : (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً
لِلسَّائِلِينَ) أي لمن أراد السؤال عن ذلك ليعلمه وقال عكرمة ومجاهد في
قوله عزوجل : (وَقَدَّرَ فِيها
أَقْواتَها) جعل في كل أرض ما لا يصلح في غيرها ومنه العصب باليمن والسابوري بسابور والطيالسة بالري وقال ابن عباس وقتادة والسدي في قوله تعالى : (سَواءً لِلسَّائِلِينَ) أي لمن أراد السؤال عن ذلك وقال ابن زيد معناه (وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي
أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ) أي على وفق مراد من له حاجة إلى رزق أو حاجة فإن الله
تعالى قدر له ما هو محتاج إليه وهذا القول يشبه ما ذكروه في قوله تعالى : (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ) [إبراهيم : ٣٤]
والله أعلم.
وقوله تبارك
وتعالى : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى
السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ) وهو بخار الماء المتصاعد منه حين خلقت الأرض (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا
طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) أي استجيبا لأمري وانفعلا لفعلي طائعتين أو مكرهتين قال
الثوري عن ابن جريج عن سليمان بن موسى عن مجاهد عن ابن عباس في قوله تعالى : (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا
طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) قال : قال الله تبارك وتعالى للسموات أطلعي شمسي وقمري
ونجومي وقال للأرض شققي أنهارك وأخرجي ثمارك (قالَتا أَتَيْنا
طائِعِينَ) واختاره ابن جرير رحمهالله قالتا أتينا طائعين أي بل نستجيب لك مطيعين بما
__________________
فينا مما تريد
خلقه من الملائكة والجن والإنس جميعا مطيعين لك ، حكاه ابن جرير عن بعض أهل
العربية قال وقيل تنزيلا لهن معاملة من يعقل بكلامهما وقيل إن المتكلم من الأرض
بذلك هو مكان الكعبة ومن السماء ما يسامته منها والله أعلم وقال الحسن البصري لو
أبيا عليه أمره عليه لعذبهما عذابا يجدان ألمه رواه ابن أبي حاتم.
(فَقَضاهُنَّ سَبْعَ
سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) أي ففرغ من تسويتهن سبع سموات في يومين أي آخرين وهما يوم
الخميس ويوم الجمعة (وَأَوْحى فِي كُلِّ
سَماءٍ أَمْرَها) أي ورتب مقررا في كل سماء ما تحتاج إليه من الملائكة وما
فيها من الأشياء التي لا يعلمها إلا هو (وَزَيَّنَّا
السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) وهي الكواكب المنيرة المشرقة على أهل الأرض (وَحِفْظاً) أي حرسا من الشياطين أن تستمع إلى الملأ الأعلى (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) أي العزيز الذي قد عز كل شيء فغلبه وقهره العليم بجميع
حركات المخلوقات وسكناتهم قال ابن جرير حدثنا هناد بن السري حدثنا أبو بكر بن عياش
عن أبي سعيد البقال عن عكرمة عن ابن عباس قال هناد : قرأت سائر الحديث أن اليهود
أتت النبي صلىاللهعليهوسلم فسألته عن خلق السموات والأرض فقال صلىاللهعليهوسلم : «خلق الله تعالى الأرض يوم الأحد ويوم الاثنين وخلق
الجبال يوم الثلاثاء وما فيهن من منافع وخلق يوم الأربعاء الشجر والماء والمدائن
والعمران والخراب فهذه أربعة (قُلْ أَإِنَّكُمْ
لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ
أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها
وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً
لِلسَّائِلِينَ) لمن سأله قال وخلق يوم الخميس السماء وخلق يوم الجمعة
النجوم والشمس والقمر والملائكة إلى ثلاث ساعات بقيت منه [فخلق في أول ساعة من هذه
الثلاثة الآجال حين يموت من مات] وفي الثانية ألقى الآفة على كل شيء مما ينتفع به
الناس وفي الثالثة آدم وأسكنه الجنة وأمر إبليس بالسجود له وأخرجه منها في آخر ساعة»
ثم قالت اليهود ثم ماذا يا محمد قال «ثم استوى على العرش» قالوا قد أصبت لو أتممت
، قالوا ثم استراح ، فغضب النبي صلىاللهعليهوسلم غضبا شديدا فنزل (وَلَقَدْ خَلَقْنَا
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ
لُغُوبٍ فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) [ق : ٣٨] هذا
الحديث فيه غرابة.
فأما حديث ابن
جريج عن إسماعيل بن أمية عن أيوب بن خالد عن عبد الله بن رافع عن أبي هريرة رضي
الله عنه قال أخذ رسول الله صلىاللهعليهوسلم بيدي فقال : «خلق الله التربة يوم السبت وخلق فيها الجبال
يوم الأحد وخلق الشجر يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم
الأربعاء وبث فيها الدواب يوم الخميس وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة آخر الخلق في
آخر ساعة من ساعات يوم الجمعة فيما بين العصر إلى الليل» فقد رواه مسلم والنسائي في كتابيهما من حديث ابن جريج به
وهو من غرائب الصحيح وقد علله البخاري في التاريخ فقال رواه بعضهم عن أبي هريرة
رضي الله عنه عن كعب الأحبار وهو الأصح.
__________________
(فَإِنْ أَعْرَضُوا
فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (١٣) إِذْ جاءَتْهُمُ
الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ
اللهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ
بِهِ كافِرُونَ (١٤) فَأَمَّا عادٌ
فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا
قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ
قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (١٥) فَأَرْسَلْنا
عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ
الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا
يُنْصَرُونَ(١٦) وَأَمَّا ثَمُودُ
فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ
الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ
(١٧) وَنَجَّيْنَا
الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ)
(١٨)
يقول تعالى قل يا
محمد لهؤلاء المشركين المكذبين بما جئتهم به من الحق إن أعرضتم عما جئتكم به من
عند الله تعالى فإني أنذركم حلول نقمة الله بكم كما حلت بالأمم الماضين من
المكذبين بالمرسلين (صاعِقَةً مِثْلَ
صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) أي ومن شاكلها ممن فعل كفعلهما (إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ
أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ) كقوله تعالى : (وَاذْكُرْ أَخا عادٍ
إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ
يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) [الأحقاف : ٢١] أي
في القرى المجاورة لبلادهم بعث الله إليهم الرسل يأمرون بعبادة الله وحده لا شريك
له ومبشرين ومنذرين ، ورأوا ما أحل الله بأعدائه من النقم ، وما ألبس أولياءه من
النعم ، ومع هذا ما آمنوا ولا صدقوا بل كذبوا وجحدوا وقالوا : (لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ
مَلائِكَةً) أي لو أرسل الله رسلا لكانوا ملائكة من عنده (فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ) أي أيها البشر (كافِرُونَ) أي لا نتبعكم وأنتم بشر مثلنا قال الله تعالى : (فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي
الْأَرْضِ) أي بغوا وعتوا وعصوا (وَقالُوا مَنْ
أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) أي منوا بشدة تركيبهم وقواهم واعتقدوا أنهم يمتنعون بها من
بأس الله (أَوَلَمْ يَرَوْا
أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً) أي أفما يتكفرون فيمن يبارزون بالعداوة فإنه العظيم الذي
خلق الأشياء وركب فيها قواها الحاملة لها وأن بطشه شديد كما قال عزوجل : (وَالسَّماءَ
بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) [الذاريات : ٤٧]
فبارزوا الجبار بالعداوة وجحدوا بآياته وعصوا رسوله فلهذا قال : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً
صَرْصَراً) قال بعضهم وهي الشديدة الهبوب ، وقيل الباردة. وقيل هي
التي لها صوت والحق أنها متصفة بجميع ذلك فإنها كانت ريحا شديدة قوية لتكون
عقوبتهم من جنس ما اغتروا به من قواهم وكانت باردة شديدة البرد جدا كقوله تعالى : (بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ) [الحاقة : ٦] أي
باردة شديدة وكانت ذات صوت مزعج ، ومنه سمي النهر المشهور ببلاد المشرق صرصرا لقوة
صوت جريه.
وقوله تعالى : (فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ) أي متتابعات (سَبْعَ لَيالٍ
وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً) [الحاقة : ٧] وكقوله : (فِي يَوْمِ نَحْسٍ
مُسْتَمِرٍّ) [القمر : ٦٩] أي
ابتدءوا العذاب في يوم نحس عليهم واستمر بهم هذا النحس (سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ
حُسُوماً) حتى أبادهم عن آخرهم واتصل بهم خزي الدنيا بعذاب الآخرة
ولهذا قال تعالى : (لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ
الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ
الْآخِرَةِ
أَخْزى) أي أشد خزيا لهم (وَهُمْ لا
يُنْصَرُونَ) أي في الآخرة كما لم ينصروا في الدنيا وما كان لهم من الله
من واق يقيهم العذاب ويدرأ عنهم النكال ، وقوله عزوجل : (وَأَمَّا ثَمُودُ
فَهَدَيْناهُمْ) قال ابن عباس رضي الله عنهما وأبو العالية وسعيد بن جبير
وقتادة والسدي وابن زيد : بينا لهم ، وقال الثوري دعوناهم (فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) أي بصرناهم وبينا لهم ووضحنا لهم الحق على لسان نبيهم صالح
عليه الصلاة والسلام فخالفوه وكذبوه وعقروا ناقة الله تعالى التي جعلها آية وعلامة
على صدق نبيهم (فَأَخَذَتْهُمْ
صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ) أي بعث الله عليهم صيحة ورجفة وذلا وهوانا وعذابا ونكالا (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي من التكذيب والجحود (وَنَجَّيْنَا
الَّذِينَ آمَنُوا) أي من بين أظهرهم لم يمسهم سوء ولا نالهم من ذلك ضرر بل
نجاهم الله تعالى مع نبيهم صالح عليه الصلاة والسلام بإيمانهم وتقواهم لله عزوجل.
(وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ
اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٩) حَتَّى إِذا ما
جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا
يَعْمَلُونَ (٢٠) وَقالُوا
لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي
أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢١) وَما كُنْتُمْ
تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا
جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا
تَعْمَلُونَ(٢٢) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ
الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣)
فَإِنْ
يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ
الْمُعْتَبِينَ)
(٢٤)
يقول تعالى : (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى
النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) أي اذكر لهؤلاء المشركين يوم يحشرون إلى النار (يُوزَعُونَ) أي تجمع الزبانية أولهم على آخرهم كما قال تبارك وتعالى : (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى
جَهَنَّمَ وِرْداً) [مريم : ٨٦] أي
عطاشا. وقوله عزوجل : (حَتَّى إِذا ما
جاؤُها) أي وقفوا عليها (شَهِدَ عَلَيْهِمْ
سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي بأعمالهم مما قدموه وأخروه لا يكتم منه حرف (وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ
عَلَيْنا) أي لاموا أعضاءهم وجلودهم حين شهدوا عليهم فعند ذلك
أجابتهم الأعضاء (قالُوا أَنْطَقَنَا
اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) أي فهو لا يخالف ولا يمانع وإليه ترجعون.
قال الحافظ أبو
بكر البزار حدثنا محمد بن عبد الرحيم حدثنا علي بن قادم حدثنا شريك عن عبيد المكتب
عن الشعبي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال ضحك رسول الله صلىاللهعليهوسلم ذات يوم وابتسم فقال صلىاللهعليهوسلم : «ألا تسألوني عن أي شيء ضحكت؟» قالوا يا رسول الله عن أي
شيء ضحكت؟ قال صلىاللهعليهوسلم : «عجبت من مجادلة العبد ربه يوم القيامة يقول أي ربي أليس
وعدتني أن لا تظلمني ، قال بلى فيقول فإني لا أقبل علي شاهدا إلا من نفسي فيقول
الله تبارك وتعالى أو ليس كفى بي شهيدا وبالملائكة الكرام الكاتبين ـ قال ـ فيردد
هذا الكلام مرارا ـ قال ـ فيختم على فيه وتتكلم أركانه بما كان يعمل ، فيقول بعدا
لكن وسحقا عنكن كنت أجادل» ثم رواه هو
وابن أبي حاتم من
حديث أبي عامر الأسدي عن الثوري عن عبيد المكتب عن فضيل بن عمرو عن الشعبي ثم قال
لا نعلم رواه عن أنس رضي الله عنه غير الشعبي وقد أخرجه مسلم والنسائي جميعا عن
أبي بكر بن أبي النضر عن أبي النضر عن عبيد الله بن عبد الرحمن الأشجعي عن الثوري
به.
ثم قال النسائي لا
أعلم أحدا رواه عن الثوري غير الأشجعي وليس كما قال كما رأيت والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبي حدثنا أحمد بن إبراهيم حدثنا إسماعيل ابن علية عن يونس بن عبيد عن
حميد بن هلال قال : قال أبو بردة : قال أبو موسى : ويدعى الكافر والمنافق للحساب
فيعرض عليه ربه عزوجل عمله فيجحد ويقول أي رب وعزتك لقد كتب عليّ هذا الملك ما
لم أعمل فيقول له الملك أما عملت كذا في يوم كذا في مكان كذا؟ فيقول لا وعزتك أي
رب ما عملته قال فإذا فعل ذلك ختم على فيه ، قال الأشعري رضي الله عنه : فإني
لأحسب أول ما ينطق منه فخذه اليمنى.
وقال الحافظ أبو
يعلى حدثنا زهير حدثنا حسن عن ابن لهيعة قال دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد
الخدري عنه عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «إذا كان يوم القيامة عرف الكافر بعمله فجحد وخاصم
فيقول هؤلاء جيرانك يشهدون عليك فيقول كذبوا فيقول أهلك وعشيرتك فيقول كذبوا فيقول
احلفوا فيحلفون ثم يصمتهم الله تعالى وتشهد عليهم ألسنتهم ويدخلهم النار» وقال ابن
أبي حاتم : وحدثنا أبي حدثنا أحمد بن إبراهيم حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث قال :
سمعت أبي يقول حدثنا علي بن زيد عن مسلم بن صبيح أبي الضحى عن ابن عباس رضي الله
عنهما أنه قال لابن الأزرق إن يوم القيامة يأتي على الناس منه حين لا ينطقون ولا
يعتذرون ولا يتكلمون حتى يؤذن لهم ثم يؤذن لهم فيختصمون فيجحد الجاحد بشركه بالله
تعالى فيحلفون له كما يحلفون لكم فيبعث الله تعالى عليهم حين يجحدون شهداء من
أنفسهم جلودهم وأبصارهم وأيديهم وأرجلهم ويختم على أفواههم ثم يفتح لهم الأفواه
فتخاصم الجوارح فتقول : (أَنْطَقَنَا اللهُ
الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ) فتقر الألسنة بعد الجحود.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبي حدثنا عبدة بن سليمان حدثنا ابن المبارك حدثنا صفوان بن عمرو عن عبد
الرحمن بن جبير الحضرمي ، عن رافع أبي الحسن قال وصف رجلا جحد قال فيشير الله
تعالى إلى لسانه فيربو في فمه حتى يملأه فلا يستطيع أن ينطق بكلمة ثم يقول لآرابه كلها تكلمي واشهدي عليه فيشهد عليه سمعه وبصره وجلده وفرجه
ويداه ورجلاه صنعنا عملنا فعلنا. وقد تقدم أحاديث كثيرة وآثار عند قوله تعالى في
سورة يس (الْيَوْمَ نَخْتِمُ
عَلى أَفْواهِهِمْ
__________________
وَتُكَلِّمُنا
أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) [يس : ٦٥] بما
أغنى عن إعادته هاهنا.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبي حدثنا سويد بن سعيد حدثنا يحيى بن سليم الطائفي عن ابن خثيم عن أبي
الزبير عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : لما رجعت إلى رسول اللهصلىاللهعليهوسلم مهاجرة البحر قال «ألا تحدثون بأعاجيب ما رأيتم بأرض
الحبشة؟» فقال فتية منهم : بلى يا رسول الله بينما نحن جلوس إذ مرت علينا عجوز من
عجائز رهابينهم تحمل على رأسها قلة من ماء فمرت بفتى منهم فجعل إحدى يديه بين
كتفيها ثم دفعها فخرت على ركبتيها فانكسرت قلتها فلما ارتفعت التفتت إليه فقالت
سوف تعلم يا غدر إذا وضع الله الكرسي وجمع الأولين والآخرين وتكلمت الأيدي والأرجل
بما كانوا يكسبون فسوف تعلم كيف أمري وأمرك عنده غدا؟ قال يقول رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «صدقت صدقت كيف يقدس الله قوما لا يؤخذ لضعيفهم من
شديدهم» هذا حديث غريب من هذا الوجه ورواه ابن أبي الدنيا في كتاب
الأهوال حدثنا إسحاق بن إبراهيم حدثنا يحيى بن سليم به.
وقوله تعالى : (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ
يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ) أي تقول لهم الأعضاء والجلود حين يلومونها على الشهادة
عليهم ما كنتم تتكتّمون منا الذي كنتم تفعلونه بل كنتم تجاهرون الله بالكفر
والمعاصي ولا تبالون منه في زعمكم لأنكم كنتم لا تعتقدون أنه يعلم جميع أفعالكم
ولهذا قال تعالى : (وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ
أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي
ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ) أي هذا الظن الفاسد وهو اعتقادكم أن الله تعالى لا يعلم
كثيرا مما تعملون هو الذي أتلفكم وأرداكم عند ربكم (فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ
الْخاسِرِينَ) أي في مواقف القيامة خسرتم أنفسكم وأهليكم.
قال الإمام أحمد حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن عمارة عن عبد الرحمن بن
يزيد عن عبد الله رضي الله عنه قال : كنت مستترا بأستار الكعبة فجاء ثلاثة نفر
قرشي وختناه ثقفيان ـ أو ثقفي وختناه قرشيان ـ كثير شحم بطونهم ، قليل فقه قلوبهم
فتكلموا بكلام لم أسمعه ، فقال أحدهم : أترون أن الله يسمع كلامنا هذا ، فقال
الآخر : إنا إذا رفعنا أصواتنا سمعه وإذا لم نرفعه لم يسمعه فقال الآخر : إن سمع
منه شيئا سمعه كله ـ قال ـ فذكرت ذلك للنبي صلىاللهعليهوسلم فأنزل الله عزوجل (وَما كُنْتُمْ
تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا
جُلُودُكُمْ) ـ إلى قوله ـ (مِنَ الْخاسِرِينَ) وهكذا رواه الترمذي عن هناد عن أبي معاوية بإسناده نحوه ، وأخرجه أحمد
__________________
ومسلم والترمذي أيضا من حديث سفيان الثوري عن الأعمش عن عمارة بن عمير عن
وهب بن ربيعة عن عبد الله بن مسعود بنحوه ، ورواه البخاري ومسلم أيضا من حديث السفيانين كلاهما عن منصور عن مجاهد عن أبي
معمر عبد الله بن سخبرة عن ابن مسعود رضي الله عنه به.
وقال عبد الرزاق :
حدثنا معمر عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي صلىاللهعليهوسلم في قوله تعالى : (أَنْ يَشْهَدَ
عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ) قال : «إنكم تدعون يوم القيامة مفدما على أفواهكم بالفدام
فأول شيء يبين عن أحدكم فخذه وكفه» قال معمر : وتلا الحسن (وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ
الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ) ثم قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «قال الله تعالى أنا مع عبدي عند ظنه بي وأنا معه إذا
دعاني» ثم افتر الحسن ينظر في هذا فقال : ألا إنما عمل الناس على قدر
ظنونهم بربهم فأما المؤمن فأحسن الظن بربه فأحسن العمل ، وأما الكافر والمنافق
فأساءا الظن بالله فأساءا العمل ثم قال : قال الله تبارك وتعالى : (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ
يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ) ـ إلى قوله ـ (وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ
الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) الآية.
وقال الإمام أحمد : حدثنا النضر بن إسماعيل القاص وهو أبو المغيرة حدثنا ابن
أبي ليلى عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لا يموتن أحد منكم إلا وهو يحسن بالله الظن فإن قوما قد
أرداهم سوء ظنهم بالله فقال الله تعالى : (وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ
الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) وقوله تعالى : (فَإِنْ يَصْبِرُوا
فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) أي سواء عليهم صبروا أم لم يصبروا هم في النار لا محيد لهم
عنها ولا خروج لهم منها ، وإن طلبوا ان يستعتبوا ويبدوا أعذارهم فما لهم أعذار ولا
تقال لهم عثرات. قال ابن جرير : ومعنى قوله تعالى : (وَإِنْ
يَسْتَعْتِبُوا) أي يسألوا الرجعة إلى الدنيا
__________________
فلا جواب لهم قال
وهذا كقوله تعالى إخبارا عنهم : (قالُوا رَبَّنا
غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ رَبَّنا أَخْرِجْنا
مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) [المؤمنون : ١٠٦ ـ
١٠٨].
(وَقَيَّضْنا لَهُمْ
قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ
عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ
وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (٢٥) وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ
تَغْلِبُونَ (٢٦) فَلَنُذِيقَنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا
يَعْمَلُونَ (٢٧) ذلِكَ جَزاءُ
أَعْداءِ اللهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا
بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٢٨) وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ
نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ)
(٢٩)
يذكر تعالى أنه هو
الذي أضل المشركين وأن ذلك بمشيئته وكونه وقدرته وهو الحكيم في أفعاله بما قيض لهم
من القرناء من شياطين الإنس والجن (فَزَيَّنُوا لَهُمْ
ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) أي حسنوا لهم أعمالهم في الماضي وبالنسبة إلى المستقبل فلم
يروا أنفسهم إلا محسنين كما قال تعالى : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ
ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ
لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) [الزخرف : ٣٦ ـ ٣٧].
وقوله تعالى : (وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) أي كلمة العذاب كما حق على أمم قد خلت من قبلهم ممن فعل
كفعلهم من الجن والإنس (إِنَّهُمْ كانُوا
خاسِرِينَ) أي استووا هم وإياهم في الخسار والدمار. وقوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا
تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ) أي تواصوا فيما بينهم أن لا يطيعوا للقرآن ولا ينقادوا
لأوامره (وَالْغَوْا فِيهِ) أي إذا تلي لا تستمعوا له كما قال مجاهد (وَالْغَوْا فِيهِ) يعني بالمكاء والصفير والتخليط في المنطق على رسول الله صلىاللهعليهوسلم إذا قرأ القرآن قريش تفعله .
وقال الضحاك عن
ابن عباس (وَالْغَوْا فِيهِ) عيبوه ، وقال قتادة : اجحدوا به وأنكروه وعادوه (لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) هذا حال هؤلاء الجهلة من الكفار ومن سلك مسلكهم عند سماع
القرآن وقد أمر الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين بخلاف ذلك فقال تعالى : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا
لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الأعراف : ٢٠٤].
ثم قال عزوجل منتصرا للقرآن ومنتقما ممن عاداه من أهل الكفران (فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
عَذاباً شَدِيداً) أي في مقابلة ما اعتمدوه في القرآن وعند سماعهم (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي
كانُوا يَعْمَلُونَ) ي بشر أعمالهم وسيئ أفعالهم (ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ
اللهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا
يَجْحَدُونَ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا
مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما
__________________
تَحْتَ
أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ)
قال سفيان الثوري
عن سلمة بن كهيل عن مالك بن الحصين الفزاري عن أبيه عن علي رضي الله عنه في قوله
تعالى : (الَّذَيْنِ
أَضَلَّانا) قال إبليس وابن آدم الذي قتل أخاه . وهكذا روى حبة العرني عن علي رضي الله عنه مثل ذلك.
وقال السدي عن علي
رضي الله عنه فإبليس يدعو به كل صاحب شرك وابن آدم يدعو به كل صاحب كبيرة فإبليس
لعنه الله هو الداعي إلى كل شر من شرك فما دونه وابن آدم الأول كما ثبت في الحديث «ما
قتلت نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل» . وقولهم : (نَجْعَلْهُما تَحْتَ
أَقْدامِنا) أي أسفل منا في العذاب ليكونا أشد عذابا منا ولهذا قالوا (لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ) أي في الدرك الأسفل من النار كما تقدم في الأعراف في سؤال
الاتباع من الله تعالى أن يعذب قادتهم أضعاف عذابهم (قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ
وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ) [الأعراف : ٣٨] أي
أنه تعالى قد أعطى كلا منهم ما يستحقه من العذاب والنكال بحسب عمله وإفساده كما
قال تعالى (الَّذِينَ كَفَرُوا
وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا
يُفْسِدُونَ) [النحل : ٨٨].
(إِنَّ الَّذِينَ
قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ
أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ
تُوعَدُونَ (٣٠) نَحْنُ
أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما
تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (٣١) نُزُلاً مِنْ
غَفُورٍ رَحِيمٍ)
(٣٢)
يقول تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ
ثُمَّ اسْتَقامُوا) أي أخلصوا العمل لله وعملوا بطاعة الله تعالى على ما شرع
الله لهم قال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا الجراح حدثنا سلم بن قتيبة أبو
قتيبة الشعيري حدثنا سهيل بن أبي حزم حدثنا ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال
: قرأ علينا رسول الله صلىاللهعليهوسلم هذه الآية : (إِنَّ الَّذِينَ
قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) قد قالها ناس ثم كفر أكثرهم فمن قالها حتى يموت فقد استقام
عليها ، وكذا رواه النسائي في تفسيره والبزار وابن جرير عن عمرو بن علي الفلاس عن
سلم بن قتيبة به. وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن الفلاس به.
ثم قال ابن جرير : حدثنا ابن بشار حدثنا عبد الرحمن حدثنا سفيان عن أبي
إسحاق عن عامر بن سعد عن سعيد بن نمران قال : قرأت عند أبي بكر الصديق رضي الله عنه هذه الآية :
__________________
(إِنَّ الَّذِينَ
قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) قال هم الذين لم يشركوا بالله شيئا ثم روى من حديث الأسود
بن هلال قال : قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه ما تقولون في هذه الآية : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ
ثُمَّ اسْتَقامُوا) قال فقالوا : (رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ
اسْتَقامُوا) من ذنب فقال : لقد حملتموه على غير المحمل قالوا ربنا الله
ثم استقاموا فلم يلتفتوا إلى إله غيره. وكذا قال مجاهد وعكرمة والسدي وغير واحد.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبو عبد الله الظهراني أخبرنا حفص بن عمر العدني عن الحكم بن أبان عن
عكرمة قال سئل ابن عباس رضي الله عنهما أي آية في كتاب الله تبارك وتعالى أرخص؟
قال قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا
رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) على شهادة أن لا إله إلا الله. وقال الزهري : تلا عمر رضي
الله عنه هذه الآية على المنبر ثم قال استقاموا والله لله بطاعته ولم يروغوا روغان
الثعالب.
وقال علي بن أبي
طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما (قالُوا رَبُّنَا
اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) على أداء فرائضه ، وكذا قال قتادة : قال وكان الحسن يقول اللهم أنت ربنا
فارزقنا الاستقامة ، وقال أبو العالية (ثُمَّ اسْتَقامُوا) أخلصوا له الدين والعمل.
وقال الإمام أحمد : حدثنا هشيم حدثنا يعلى بن عطاء عن عبد الله بن سفيان
الثقفي عن أبيه أن رجلا قال : يا رسول الله مرني بأمر في الإسلام لا أسأل عنه أحدا
بعدك قال صلىاللهعليهوسلم : «قل آمنت بالله ثم استقم» قلت فما أتقي؟ فأومأ إلى
لسانه. ورواه النسائي من حديث شعبة عن يعلى بن عطاء به. ثم قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا إبراهيم بن سعد حدثني ابن
شهاب عن محمد بن عبد الرحمن بن ماعز الغامدي عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت
يا رسول الله حدثني بأمر أعتصم به قال صلىاللهعليهوسلم «قل ربي الله ثم
استقم» قلت : يا رسول الله ما أكثر ما تخاف علي؟ فأخذ رسول الله بطرف لسان نفسه ثم
قال : «هذا» وهكذا رواه الترمذي وابن ماجة من حديث الزهري به وقال الترمذي حسن صحيح. وقد أخرجه مسلم في صحيحه والنسائي من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن سفيان
بن عبد الله الثقفي قال : قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه
أحدا بعدك قال صلىاللهعليهوسلم : «قل آمنت بالله ثم استقم» وذكر تمام الحديث.
__________________
وقوله تعالى : (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) قال مجاهد والسدي وزيد بن أسلم وابنه : يعني عند الموت
قائلين (أَلَّا تَخافُوا) قال مجاهد وعكرمة وزيد بن أسلم أي مما تقدمون عليه من أمر
الآخرة (وَلا تَحْزَنُوا) على ما خلفتموه من أمر الدنيا من ولد وأهل ومال أو دين
فإنا نخلفكم فيه (وَأَبْشِرُوا
بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) فيبشرونهم بذهاب الشر وحصول الخير : وهذا كما جاء في حديث
البراء رضي الله عنه قال : «إن الملائكة تقول لروح المؤمن اخرجي أيتها الروح
الطيبة في الجسد الطيب كنت تعمرينه اخرجي إلى روح وريحان ورب غير غضبان» وقيل إن الملائكة تتنزل عليهم يوم خروجهم من قبورهم حكاه
ابن جرير عن ابن عباس والسدي.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبو زرعة حدثنا عبد السلام بن مطهر حدثنا جعفر بن سليمان قال سمعت ثابتا
قرأ سورة «حم السجدة» حتى بلغ (إِنَّ الَّذِينَ
قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) فوقف فقال بلغنا أن العبد المؤمن حين يبعثه الله تعالى من
قبره يتلقاه الملكان اللذان كانا معه في الدنيا فيقولان له لا تخف ولا تحزن (وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي
كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) قال فيؤمن الله تعالى خوفه ويقر عينه فما عظيمة يخشى الناس
يوم القيامة إلا هي للمؤمن قرة عين لما هداه الله تبارك وتعالى ولما كان يعمل له
في الدنيا وقال زيد بن أسلم : يبشرونه عند موته وفي قبره وحين يبعث. رواه ابن أبي
حاتم وهذا القول يجمع الأقوال كلها وهو حسن جدا وهو الواقع.
وقوله تبارك
وتعالى : (نَحْنُ
أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) أي تقول الملائكة للمؤمنين عند الاحتضار نحن كنا أولياءكم
في الحياة الدنيا أي قرناءكم في الحياة الدنيا نسددكم ونوفقكم ونحفظكم بأمر الله
وكذلك نكون معكم في الآخرة نؤنس منكم الوحشة في القبور وعند النفخة في الصور
ونؤمنكم يوم البعث والنشور ونجاوز بكم الصراط المستقيم ونوصلكم إلى جنات النعيم (وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي
أَنْفُسُكُمْ) أي في الجنة من جميع ما تختارون مما تشتهيه النفوس وتقر به
العيون (وَلَكُمْ فِيها ما
تَدَّعُونَ) أي مهما طلبتم وجدتم وحضر بين أيديكم كما اخترتم (نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) أي ضيافة وعطاء وإنعاما من غفور لذنوبكم رحيم بكم رؤوف حيث
غفر وستر ورحم ولطف. وقد ذكر ابن أبي حاتم هاهنا حديث سوق الجنة عند قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي
أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) فقال :
حدثنا أبي حدثنا
هشام بن عمار حدثنا عبد الحميد بن حبيب بن أبي العشرين أبي سعيد حدثنا الأوزاعي
حدثني حسان بن عطية عن سعيد بن المسيب أنه لقي أبا هريرة رضي الله عنه
__________________
فقال أبو هريرة
رضي الله عنه أسأل الله أن يجمع بيني وبينك في سوق الجنة فقال سعيد : أو فيها سوق؟
فقال : نعم أخبرني رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن أهل الجنة إذا دخلوا فيها نزلوا بفضل أعمالهم فيؤذن لهم
في مقدار يوم الجمعة من أيام الدنيا فيزورون الله عزوجل ويبرز لهم عرشه ويتبدى لهم في روضة من رياض الجنة ويوضع
لهم منابر من نور ومنابر من لؤلؤ ومنابر من ياقوت ومنابر من زبرجد ومنابر من ذهب ومنابر
من فضة ويجلس أدناهم وما فيهم دنيء على كثبان المسك والكافور ما يرون بأن أصحاب الكراسي بأفضل
منهم مجلسا. قال أبو هريرة رضي الله عنه قلت يا رسول الله وهل نرى ربنا ، قال صلىاللهعليهوسلم : «نعم ، هل تتمارون في رؤية الشمس والقمر ليلة البدر»
قلنا لا ، قال صلىاللهعليهوسلم : «فكذلك لا تتمارون في رؤية ربكم تعالى ولا يبقى في ذلك
المجلس أحد إلا حاضره الله محاضرة حتى أنه ليقول للرجل منهم يا فلان بن فلان أتذكر
يوم عملت كذا وكذا يذكره ببعض غدراته في الدنيا ـ أي رب أفلم تغفر لي ، فيقول بلى
، فبسعة مغفرتي بلغت منزلتك هذه ـ قال ـ فبينما هم على ذلك غشيتهم سحابة من فوقهم
فأمطرت عليهم طيبا لم يجدوا مثل ريحه شيئا قط ـ قال ـ ثم يقول ربنا عزوجل قوموا إلى ما أعددت لكم من الكرامة وخذوا ما اشتهيتم ، قال
فنأتي سوقا قد حفت به الملائكة ، فيها ما لم تنظر العيون إلى مثله ولم تسمع الآذان
ولم يخطر على القلوب قال فيحمل لنا ما اشتهينا ليس يباع فيه شيء ولا يشتري وفي ذلك
السوق يلقى أهل الجنة بعضهم بعضا. قال فيقبل الرجل ذو المنزلة الرفيعة فيلقى من هو
دونه. وما فيهم دنيء فيروعه ما يرى عليه من اللباس فما ينقضي آخر حديثه حتى يتمثل عليه
أحسن منه وذلك لأنه لا ينبغي لأحد أن يحزن فيها ثم ننصرف إلى منازلنا فيتلقانا
أزواجنا فيقلن مرحبا وأهلا بحبيبنا لقد جئت وإن بك من الجمال والطيب أفضل مما
فارقتنا عليه فيقول إنا جالسنا اليوم ربنا الجبار تبارك وتعالى ويحقنا أن ننقلب
بمثل ما انقلبنا به» وقد رواه الترمذي في صفة الجنة من جامعه عن محمد بن
إسماعيل عن هشام بن عمار ورواه ابن ماجة عن هشام بن عمار به نحوه ثم قال الترمذي
هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
وقال الإمام أحمد : حدثنا ابن أبي عدي عن حميد عن أنس رضي الله عنه قال :
قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاءه الله
كره الله لقاءه» قلنا يا رسول الله : كلنا نكره الموت قال صلىاللهعليهوسلم : «ليس ذلك كراهية الموت ولكن المؤمن إذا حضر جاءه البشير
من الله تعالى بما هو صائر إليه فليس شيء أحب إليه من أن يكون قد لقي الله تعالى
فأحب الله لقاءه ـ قال ـ وإن الفاجر ـ أو الكافر ـ إذا حضر جاءه بما هو صائر إليه
من الشر أو
__________________
ما يلقى من الشر
فكره لقاء الله فكره الله لقاءه» وهذا حديث صحيح وقد ورد في الصحيح من غير هذا الوجه.
(وَمَنْ أَحْسَنُ
قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ
الْمُسْلِمِينَ (٣٣) وَلا تَسْتَوِي
الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي
بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ(٣٤) وَما يُلَقَّاها
إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥) وَإِمَّا
يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٣٦)
يقول عزوجل : (وَمَنْ أَحْسَنُ
قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ) أي دعا عباد الله إليه (وَعَمِلَ صالِحاً
وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أي هو في نفسه مهتد بما يقوله فنفعه لنفسه ولغيره لازم
ومتعد وليس هو من الذين يأمرون بالمعروف ولا يأتونه وينهون عن المنكر ويأتونه بل
يأتمر بالخير ويترك الشر ويدعو الخلق إلى الخالق تبارك وتعالى وهذه عامة في كل من
دعا إلى الخير وهو في نفسه مهتد ورسول الله صلىاللهعليهوسلم أولى الناس بذلك كما قال محمد بن سيرين والسدي وعبد الرحمن
بن زيد بن أسلم ، وقيل المراد بها المؤذنون الصلحاء كما ثبت في صحيح مسلم «المؤذنون
أطول الناس أعناقا يوم القيامة» وفي السنن مرفوعا «الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن فأرشد الله
الأئمة وغفر للمؤذنين».
وقال ابن أبي حاتم
حدثنا علي بن الحسين حدثنا محمد بن عروبة الهروي حدثنا غسان قاضي هراة وقال أبو
زرعة : حدثنا إبراهيم بن طهمان عن مطر عن الحسن عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه
أنه قال : «سهام المؤذنين عند الله تعالى يوم القيامة كسهام المجاهدين وهو بين
الآذان والإقامة كالمتشحط في سبيل الله تعالى في دمه» قال : وقال ابن مسعود رضي
الله عنه لو كنت مؤذنا ما باليت أن لا أحج ولا أعتمر ولا أجاهد قال : وقال عمر بن
الخطاب رضي الله عنه : لو كنت مؤذنا لكمل أمري وما باليت أن لا أنتصب لقيام الليل
ولا لصيام النهار سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «اللهم اغفر للمؤذنين» ثلاثا ، قال : فقلت يا رسول
الله تركتنا ونحن نجتلد على الأذان بالسيوف قال صلىاللهعليهوسلم : «كلا يا عمر إنه سيأتي على الناس زمان يتركون الأذان على
ضعافهم وتلك لحوم حرمها الله عزوجل على النار لحوم المؤذنين» قال وقالت عائشة رضي الله عنها
ولهم هذه الآية (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً
مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ
__________________
صالِحاً
وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) قالت : فهو المؤذن إذا قال حي على الصلاة فقد دعا إلى الله
وهكذا قال ابن عمر رضي الله عنهما وعكرمة إنها نزلت في المؤذنين وقد ذكر البغوي عن
أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أنه قال في قوله عزوجل (وَعَمِلَ صالِحاً) قال : يعني صلاة ركعتين بين الأذان والإقامة.
ثم أورد البغوي
حديث عبد الله بن المغفل رضي الله عنه قال : قال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم : «بين كل أذانين ـ صلاة ـ ثم قال في الثالثة ـ لمن شاء» وقد أخرجه الجماعة في كتبهم من حديث عبد الله بن بريدة عنه
وحديث الثوري عن زيد العمي عن أبي إياس معاوية بن قرة عن أنس بن مالك رضي الله عنه
قال قال الثوري : لا أراه إلا قد رفعه إلى النبي صلىاللهعليهوسلم «الدعاء لا يرد
بين الأذان والإقامة» ورواه أبو داود والترمذي والنسائي في اليوم والليلة كلهم من
حديث الثوري به وقال الترمذي : هذا حديث حسن ، ورواه النسائي أيضا من حديث سليمان
التيمي عن قتادة عن أنس به. والصحيح أن الآية عامة في المؤذنين وفي غيرهم فأما حال
نزول هذه الآية فإنه لم يكن الأذان مشروعا بالكلية لأنها مكية والأذان إنما شرع
بالمدينة بعد الهجرة حين أريه عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري رضي الله عنه
في منامه فقصه على رسول اللهصلىاللهعليهوسلم فأمره أن يلقيه على بلال رضي الله عنه فإنه أندى صوتا كما
هو مقرر في موضعه فالصحيح إذن أنها عامة كما قال عبد الرزاق عن معمر عن الحسن
البصري أنه تلا هذه الآية (وَمَنْ أَحْسَنُ
قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ
الْمُسْلِمِينَ) فقال هذا حبيب الله هذا ولي الله هذا صفوة الله هذا خيرة
الله هذا أحب أهل الأرض إلى الله أجاب الله في دعوته ودعا الناس إلى ما أجاب الله
فيه من دعوته وعمل صالحا في إجابته وقال إنني من المسلمين هذا خليفة الله.
وقوله تعالى : (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا
السَّيِّئَةُ) أي فرق عظيم بين هذه وهذه (ادْفَعْ بِالَّتِي
هِيَ أَحْسَنُ) أي من أساء إليك فادفعه عنك بالإحسان إليه كما قال عمر رضي
الله عنه :
ما عاقبت من عصى
الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه.
وقوله عزوجل : (فَإِذَا الَّذِي
بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) وهو الصديق أي إذا أحسنت إلى من أساء إليك قادته تلك
الحسنة إليه إلى مصافاتك ومحبتك والحنو عليك حتى يصير كأنه ولي لك حميم أي قريب
إليك من الشفقة عليك والإحسان إليك ، ثم قال عزوجل : (وَما يُلَقَّاها
إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) أي وما يقبل هذه الموصية ويعمل بها إلا من صبر على ذلك
فإنه يشق على النفوس (وَما يُلَقَّاها
إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) أي ذو نصيب وافر من السعادة في الدنيا والآخرة ، قال علي
بن أبي طلحة عن ابن عباس في تفسير هذه الآية : أمر الله المؤمنين بالصبر
__________________
عند الغضب والحلم
عند الجهل والعفو عند الإساءة فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله من الشيطان وخضع لهم
عدوهم كأنه ولي حميم .
وقوله تعالى : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ
الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) أي أن شيطان الإنس ربما ينخدع بالإحسان إليه فأما شيطان
الجن فإنه لا حيلة فيه إذا وسوس إلا الاستعاذة بخالقه الذي سلطه عليك فإذا استعذت
بالله ولجأت إليه كفه عنك ورد كيده ، وقد كان رسول اللهصلىاللهعليهوسلم إذا قام إلى الصلاة يقول : «أعوذ بالله السميع العليم من
الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه» ، وقد قدمنا أن هذا المقام لا نظير له في القرآن إلا في
سورة الأعراف عند قوله تعالى : (خُذِ الْعَفْوَ
وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ
الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأعراف : ١٩٩ ـ ٢٠٠]
وفي سورة المؤمنين عند قوله : (ادْفَعْ بِالَّتِي
هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ
بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ) [المؤمنون : ٩٧ ـ ٩٨].
(وَمِنْ آياتِهِ
اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا
لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ
تَعْبُدُونَ (٣٧) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا
فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا
يَسْأَمُونَ (٣٨) وَمِنْ آياتِهِ
أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ
وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ) (٣٩)
يقول تعالى منبها
خلقه على قدرته العظيمة وأنه الذي لا نظير له وأنه على ما يشاء قادر (وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ
وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) أي أنه خلق الليل بظلامه والنهار بضيائه وهما متعاقبان لا
يفترقان ، والشمس ونورها وإشراقها والقمر وضياءه وتقدير منازله في فلكه واختلاف
سيره في سمائه ليعرف باختلاف سيره وسير الشمس مقادير الليل والنهار والجمع والشهور
والأعوام ، ويتبين بذلك حلول الحقوق وأوقات العبادات والمعاملات. ثم لما كان الشمس
والقمر أحسن الأجرام المشاهدة في العالم العلوي والسفلي نبه تعالى على أنهما
مخلوقان عبدان من عبيده تحت قهره وتسخيره فقال : (لا تَسْجُدُوا
لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ
كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) أي ولا تشركوا به
فما تنفعكم عبادتكم له مع عبادتكم لغيره فإنه لا يغفر أن يشرك به ولهذا قال تعالى
: (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا) أي عن إفراد العبادة له وأبوا إلا أن يشركوا معه غيره (فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) يعني الملائكة (يُسَبِّحُونَ لَهُ
بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ
__________________
وَهُمْ
لا يَسْأَمُونَ) كقوله عزوجل : (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها
هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ).
وقال الحافظ أبو
يعلى حدثنا سفيان يعني ابن وكيع حدثنا أبي عن ابن أبي ليلى عن أبي الزبير عن جابر
رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لا تسبوا الليل ولا النهار ولا الشمس ولا القمر ولا
الرياح فإنها ترسل رحمة لقوم وعذابا لقوم». وقوله : (وَمِنْ آياتِهِ) أي على قدرته على إعادة الموتى (أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً) أي هامدة لا نبات فيها بل هي ميتة (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ
اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) أي أخرجت من جميع ألوان الزروع والثمار (إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ
الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
(إِنَّ الَّذِينَ
يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ
خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ
إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤٠) إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (٤١)
لا
يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ
حَكِيمٍ حَمِيدٍ(٤٢) ما يُقالُ لَكَ
إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ
وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ)
(٤٣)
قوله تبارك وتعالى
: (إِنَّ الَّذِينَ
يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا) قال ابن عباس : الإلحاد وضع الكلام على غير مواضعه. وقال
قتادة وغيره هو الكفر والعناد ، وقوله عزوجل : (لا يَخْفَوْنَ
عَلَيْنا) فيه تهديد شديد ووعيد أكيد أي إنه تعالى عالم بمن يلحد في
آياته وأسمائه وصفاته وسيجزيه على ذلك بالعقوبة والنكال ولهذا قال تعالى : (أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ
أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي أيستوي هذا وهذا؟ لا يستويان. ثم قال عزوجل تهديدا للكفرة : (اعْمَلُوا ما
شِئْتُمْ) قال مجاهد والضحاك وعطاء الخراساني (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) وعيد أي من خير أو شر إنه عالم بكم وبصير بأعمالكم ولهذا
قال : (إِنَّهُ بِما
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) ثم قال جل جلاله : (إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ) قال الضحاك والسدي وقتادة وهو القرآن (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ) أي منيع الجناب لا يرام أن يأتي أحد بمثله (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ
يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) أي ليس للبطلان إليه سبيل لأنه منزل من رب العالمين ولهذا
قال : (تَنْزِيلٌ مِنْ
حَكِيمٍ حَمِيدٍ) أي حكيم في أقواله وأفعاله حميد بمعنى محمود أي في جميع ما
يأمر به وينهى عنه الجميع محمودة عواقبه وغاياته.
ثم قال عزوجل : (ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ
لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) قال قتادة والسدي وغيرهما ما يقال لك من التكذيب إلا كما
قد قيل للرسل من قبلك فكما كذبت كذبوا وكما صبروا على أذى قومهم لهم فاصبر أنت على
أذى قومك لك. وهذا اختيار ابن جرير ولم
__________________
يحك هو ولا ابن
أبي حاتم غيره وقوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ لَذُو
مَغْفِرَةٍ) أي لمن تاب إليه (وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ) أي لمن استمر على كفره وطغيانه وعناده وشقاقه ومخالفته ،
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن علي بن زيد عن
سعيد بن المسيب قال لما نزلت هذه الآية (إِنَّ رَبَّكَ لَذُو
مَغْفِرَةٍ) قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لولا عفو الله وتجاوزه ما هنأ أحدا العيش ، ولولا وعيده
وعقابه لا تكل كل أحد».
(وَلَوْ جَعَلْناهُ
قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ
وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ
مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٤٤) وَلَقَدْ آتَيْنا
مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ
لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ)
(٤٥)
لما ذكر تعالى
القرآن وفصاحته وبلاغته وإحكامه في لفظه ومعناه ومع هذا لم يؤمن به المشركون نبه
على أن كفرهم به كفر عناد وتعنت كما قال عزوجل : (وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ
الْأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ) [الشعراء : ١٩٨ ـ ١٩٩]
وكذلك لو أنزل القرآن كله بلغة العجم لقالوا على وجه التعنت والعناد (لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ
أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌ) أي لقالوا هلا أنزل مفصلا بلغة العرب ولأنكروا ذلك فقالوا
أعجمي وعربي أي كيف ينزل كلام أعجمي على مخاطب عربي لا يفهمه؟ هكذا روي هذا المعنى
عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والسدي وغيرهم؟ وقيل المراد بقولهم (لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ
أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌ) أي هل أنزل بعضها بالأعجمي وبعضها بالعربي؟ هذا قول الحسن
البصري وكان يقرؤها كذلك بلا استفهام في قوله أعجمي وهو رواية عن سعيد بن جبير وهو
في التعنت والعناد أبلغ.
ثم قال عزوجل : (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ
آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ) أي قل يا محمد هذا القرآن لمن آمن به هدى لقلبه وشفاء لما
في الصدور من الشكوك والريب (وَالَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ) أي لا يفهمون ما فيه (وَهُوَ عَلَيْهِمْ
عَمًى) أي لا يهتدون إلى ما فيه من البيان كما قال سبحانه وتعالى
: (وَنُنَزِّلُ مِنَ
الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ
إِلَّا خَساراً) [الإسراء : ٨٢] (أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ
بَعِيدٍ) قال مجاهد يعني بعيد من قلوبهم قال ابن جرير معناه كأن من يخاطبهم يناديهم من مكان بعيد لا يفهمون ما
يقول.
وقلت وهذا كقوله
تعالى : (وَمَثَلُ الَّذِينَ
كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) [البقرة : ١٧١]
وقال الضحاك ينادون يوم القيامة بأشنع أسمائهم. وقال السدي كان عمر بن الخطاب رضي
الله عنه : جالسا عند رجل من المسلمين
__________________
يقضي إذ قال : يا
لبيكاه فقال له عمر رضي الله عنه لم تلبي ، هل رأيت أحدا أو دعاك أحد؟ فقال دعاني
داع من وراء البحر فقال عمر رضي الله عنه أولئك ينادون من مكان بعيد رواه ابن أبي
حاتم. وقوله تبارك وتعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا
مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ) أي كذب وأوذي (فَاصْبِرْ كَما
صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) [الأحقاف : ٣٥] (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ
رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) [الشورى : ١٤]
بتأخير الحساب إلى يوم المعاد (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا (وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) أي وما كان تكذيبهم له عن بصيرة منهم لما قالوا بل كانوا
شاكين فيما قالوا غير محققين لشيء كانوا فيه ، هكذا وجهه ابن جرير وهو محتمل ،
والله أعلم.
(مَنْ عَمِلَ صالِحاً
فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٤٦) إِلَيْهِ يُرَدُّ
عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ
مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي
قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (٤٧)
وَضَلَّ
عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ)
(٤٨)
يقول تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ) اي إنما يعود نفع ذلك على نفسه (وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) أي إنما يرجع وبال ذلك عليه (وَما رَبُّكَ
بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) أي لا يعاقب أحدا إلا بذنبه ولا يعذب أحدا إلا بعد قيام
الحجة عليه وإرسال الرسول إليه ثم قال جل وعلا : (إِلَيْهِ يُرَدُّ
عِلْمُ السَّاعَةِ) أي لا يعلم ذلك أحد سواه كما قال محمد صلىاللهعليهوسلم وهو سيد البشر لجبريل عليه الصلاة والسلام وهو من سادات
الملائكة حين سأله عن الساعة فقال «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل» وكما قال عزوجل : (إِلى رَبِّكَ
مُنْتَهاها) [النازعات : ٤٤]
وقال جل جلاله: (لا يُجَلِّيها
لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ) [الأعراف : ١٨٧].
وقوله تبارك وتعالى
: (وَما تَخْرُجُ مِنْ
ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا
بِعِلْمِهِ) أي الجميع بعلمه لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا
في السماء وقد قال سبحانه وتعالى : (وَما تَسْقُطُ مِنْ
وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها) [الأنعام : ٥٩]
وقال جلت عظمته : (يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ
كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ
بِمِقْدارٍ) [الرعد : ٨] وقال
تعالى : (وَما يُعَمَّرُ مِنْ
مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ
يَسِيرٌ) [فاطر : ١١] وقوله
جل وعلا : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ
أَيْنَ شُرَكائِي) أي يوم القيامة ينادي الله المشركين على رؤوس الخلائق أين
شركائي الذين عبدتموهم معي (قالُوا آذَنَّاكَ) أي أعلمناك (ما مِنَّا مِنْ
شَهِيدٍ) أي ليس أحد منا اليوم يشهد أن معك شريكا (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ
مِنْ قَبْلُ) أي
__________________
ذهبوا فلم ينفعوهم
(وَظَنُّوا ما لَهُمْ
مِنْ مَحِيصٍ) أي وظن المشركون يوم القيامة وهذا بمعنى اليقين (ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) أي لا محيد لهم عن عذاب الله كقوله تعالى : (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ
فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً) [الكهف : ٥٣].
(لا يَسْأَمُ
الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (٤٩)
وَلَئِنْ
أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي
وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي
عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا
وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ
(٥٠)
وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ
الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ)
(٥١)
يقول تعالى لا يمل
الإنسان من دعاء ربه بالخير وهو المال وصحة الجسم وغير ذلك فإن مسه الشر وهو
البلاء أو الفقر (فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ) أي يقع في ذهنه أنه لا يتهيأ له بعد هذا خير (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا
مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي) أي إذا أصابه خير ورزق بعد ما كان في شدة ليقولن هذا لي
إني كنت أستحقه عند ربي (وَما أَظُنُّ
السَّاعَةَ قائِمَةً) أي يكفر بقيام الساعة أي لأجل أنه خول نعمة يبطر ويفخر
ويكفر كما قال تعالى : (كَلَّا إِنَّ
الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) [العلق : ٦ ـ ٧] (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ
لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) أي ولئن كان ثم معاد فليحسنن إلي ربي كما أحسن إلي في هذه
الدار ، يتمنى على الله عزوجل مع إساءته العمل وعدم اليقين قال الله تبارك وتعالى : (فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) يتهدد تعالى من كان هذا عمله واعتقاده بالعقاب والنكال.
ثم قال تعالى : (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ
أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ) أي أعرض عن الطاعة واستكبر عن الانقياد لأوامر الله عزوجل كقوله جل جلاله : (فَتَوَلَّى
بِرُكْنِهِ) [الذاريات : ٣٩] (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ) أي الشدة (فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) أي يطيل المسألة في الشيء الواحد فالكلام العريض ما طال
لفظه وقل معناه والوجيز عكسه وهو ما قل ودل وقد قال تعالى : (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ
دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ
مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ) [يونس : ١٢]
الآية.
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي
شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٢) سَنُرِيهِمْ آياتِنا
فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ
يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣) أَلا إِنَّهُمْ فِي
مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ)
(٥٤)
يقول تعالى : (قُلْ) يا محمد لهؤلاء المشركين المكذبين بالقرآن (أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ) هذا القرآن (مِنْ عِنْدِ اللهِ
ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ؟) أي كيف ترون حالكم عند الذي أنزله على رسوله؟ ولهذا قال عزوجل : (مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ
هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) أي في كفر وعناد ومشاقة للحق ومسلك
بعيد من الهدى ثم
قال جل جلاله : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا
فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) أي سنظهر لهم دلالاتنا وحججنا على كون القرآن حقا منزلا من
عند الله على رسوله صلىاللهعليهوسلم بدلائل خارجية (فِي الْآفاقِ) من الفتوحات وظهور الإسلام على الأقاليم وسائر الأديان قال
مجاهد والحسن والسدي : ودلائل في أنفسهم قالوا : وقعة بدر وفتح مكة ونحو ذلك من
الوقائع التي حلت بهم نصر الله فيها محمدا صلىاللهعليهوسلم وصحبه وخذل فيها الباطل وحزبه ويحتمل أن يكون المراد من
ذلك ما الإنسان مركب منه وفيه وعليه من المواد والأخلاط والهيئات العجيبة كما هو
مبسوط في علم التشريح الدال على حكمة الصانع تبارك وتعالى وكذلك ما هو مجبول عليه
من الأخلاق المتباينة من حسن وقبيح وغير ذلك وما هو متصرف فيه تحت الأقدار التي لا
يقدر بحوله وقوته وحيله وحذره أن يجوزها ولا يتعداها كما أنشده ابن أبي الدنيا في
كتابه التفكر والاعتبار عن شيخه أبي جعفر القرشي حيث قال وأحسن المقال :
وإذا نظرت تريد
معتبرا
|
|
فانظر إليك ففيك
معتبر
|
أنت الذي تمسي
وتصبح في
|
|
الدنيا وكلّ
أموره عبر
|
أنت المصرف كان
في صغر
|
|
ثم استقلّ بشخصك
الكبر
|
أنت الذي تنعاه
خلقته
|
|
ينعاه منه
الشّعر والبشر
|
أنت الذي تعطي
وتسلب لا
|
|
ينجيه من أن
يسلب الحذر
|
أنت الذي لا شيء
منه له
|
|
وأحقّ منه بماله
القدر
|
وقوله تعالى : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ
الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي كفى بالله شهيدا على أفعال عباده وأقوالهم وهو يشهد أن
محمدا صلىاللهعليهوسلم صادق فيما أخبر به عنه كما قال : (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ
إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ) [النساء : ١٦٦]
الآية. وقوله تعالى : (أَلا إِنَّهُمْ فِي
مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ) أي في شك من قيام الساعة ولهذا لا يتفكرون فيه ولا يعلمون
له ولا يحذرون منه بل هو عندهم هدر لا يعبئون به وهو كائن لا محالة وواقع لا ريب
فيه قال ابن أبي الدنيا : حدثنا أحمد بن إبراهيم حدثنا خلف بن تميم حدثنا عبد الله
بن محمد حدثنا سعيد الأنصاري قال : إن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه صعد المنبر
فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد أيها الناس فإني لم أجمعكم لأمر أحدثه فيكم
، ولكن فكرت في هذا الأمر الذي أنتم إليه صائرون فعلمت أن المصدق بهذا الأمر أحمق
والمكذب به هالك ، ثم نزل.
ومعنى قوله رضي
الله عنه إن المصدق به أحمق أي لأنه لا يعمل له عمل مثله ولا يحذر منه ولا يخاف من
هوله وهو مع ذلك مصدق به موقن بوقوعه وهو مع ذلك يتمادى في لعبه وغفلته وشهواته
وذنوبه فهو أحمق بهذا الاعتبار والأحمق في اللغة ضعيف العقل ، وقوله والمكذب به
هالك هذا واضح ، والله أعلم. ثم قال تعالى مقررا أنه على كل شيء قدير وبكل شيء
محيط
وإقامة الساعة
لديه يسير سهل عليه تبارك وتعالى : (أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ مُحِيطٌ) أي المخلوقات كلها تحت قهره وفي قبضته وتحت طي علمه وهو
المتصرف فيها كلها بحكمه فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن لا إله إلا هو.
تفسير سورة الشورى
وهي مكية
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(حم (١) عسق (٢)
كَذلِكَ
يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣)
لَهُ
ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٤) تَكادُ السَّماواتُ
يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ
وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ
الرَّحِيمُ (٥) وَالَّذِينَ
اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ
عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ)
(٦)
قد تقدم الكلام
على الحروف المقطعة. وقد روى ابن جرير هاهنا أثرا غريبا عجيبا منكرا فقال أخبرنا
أحمد بن زهير حدثنا عبد الوهاب نجدة الحوطي حدثنا أبو المغيرة عبد القدوس بن
الحجاج عن أرطاة بن المنذر قال : جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنهما فقال له
وعنده حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه : أخبرني عن تفسير قول الله تعالى : (حم عسق) قال فأطرق ثم أعرض عنه ثم كرر مقالته فأعرض عنه فلم يجبه
بشيء وكره مقالته ، ثم كررها الثالثة فلم يحر إليه شيئا فقال له حذيفة رضي الله
عنه : أنا أنبئك بها قد عرفت لم كرهها؟ نزلت في رجل من أهل بيته يقال له عبد الإله
أو عبد الله ينزل على نهر من أنهار المشرق تبنى عليه مدينتان يشق النهر بينهما شقا
فإذا أذن الله تبارك وتعالى في زوال ملكهم وانقطاع دولتهم ومدتهم بعث الله عزوجل على إحداهما نارا ليلا فتصبح سوداء مظلمة قد احترقت كأنها
لم تكن مكانها وتصبح صاحبتها متعجبة كيف أفلتت؟ فما هو إلا بياض يومها ذلك حتى
يجتمع فيها كل جبار عنيد منهم ثم يخسف الله بها وبهم جميعا فذلك قوله تعالى : (حم عسق) يعني عزيمة من الله تعالى وفتنة وقضاء حم عين يعني عدلا
منه سين : يعني سيكون ق : يعني واقع بهاتين المدينتين.
وأغرب منه ما رواه
الحافظ أبو يعلى الموصلي في الجزء الثاني من مسند ابن عباس رضي الله عنه وعن أبي
ذر رضي الله عنه عن النبي صلىاللهعليهوسلم في ذلك ولكن إسناده ضعيف جدا ومنقطع فإنه قال : حدثنا أبو
طالب عبد الجبار بن عاصم حدثنا أبو عبد الله الحسن بن يحيى الخشني الدمشقي عن أبي
معاوية قال : صعد عمر بن الخطاب رضي الله عنه المنبر فقال : أيها الناس هل سمع
منكم أحد رسول الله صلىاللهعليهوسلم يفسر (حم عسق) فوثب ابن عباس رضي الله عنه فقال أنا ، قال حم اسم من
أسماء الله تعالى ، قال فعين؟ قال عاين المولون عذاب يوم بدر ، قال فسين؟ قال
سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ، قال فقاف؟ فسكت فقام أبو ذر ففسر كما قال
ابن عباس رضي الله عنهما وقال قاف قارعة من السماء تغشى الناس. وقوله عزوجل : (كَذلِكَ يُوحِي
إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي كما أنزل إليك هذا القرآن
كذلك أنزل الكتب
والصحف على الأنبياء قبلك. وقوله تعالى : (اللهُ الْعَزِيزُ) أي في انتقامه (الْحَكِيمُ) في أقواله وأفعاله.
قال الإمام مالك رحمهالله عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت : إن
الحارث بن هشام سأل رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : يا رسول صلىاللهعليهوسلم كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم : «أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني
وقد وعيت ما قال ، وأحيانا يأتيني الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول» قالت عائشة
رضي الله عنها فلقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن
جبينه صلىاللهعليهوسلم ليتفصد عرقا . أخرجاه في الصحيحين ولفظه للبخاري.
وقد رواه الطبراني
عن عبد الله ابن الإمام أحمد عن أبيه عن عامر بن صالح عن هشام بن عروة عن أبيه عن
عائشة رضي الله عنها عن الحارث بن هشام أنه سأل رسول الله صلىاللهعليهوسلم كيف ينزل عليك الوحي؟ فقال صلىاللهعليهوسلم : «في مثل صلصلة الجرس فيفصم عني وقد وعيت ما قاله ـ وقال
ـ وهو أشده علي ـ قال ـ وأحيانا يأتيني الملك فيتمثل لي فيكلمني فأعي ما يقول» . وقال الإمام أحمد : حدثنا قتيبة حدثنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن
عمرو بن الوليد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : سألت رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقلت : يا رسول الله هل تحس بالوحي؟ فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أسمع صلاصل ثم أسكت عند ذلك فما من مرة يوحى إلي إلا
ظننت أن نفسي تقبض» تفرد به أحمد ، وقد ذكرنا كيفية إتيان الوحي إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم في أول شرح البخاري بما أغنى عن إعادته هاهنا ولله الحمد
والمنة.
وقوله تبارك
وتعالى : (لَهُ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي الجميع عبيد له وملك له تحت قهره وتصريفه (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) كقوله تعالى : (الْكَبِيرُ
الْمُتَعالِ) [الرعد : ٩] (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) [سبأ : ٢٣]
والآيات في هذا كثيرة.
وقوله عزوجل : (تَكادُ السَّماواتُ
يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَ) قال ابن عباس رضي الله عنهما والضحاك وقتادة والسدي وكعب
الأحبار أي فرقا من العظيمة (وَالْمَلائِكَةُ
يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) كقوله جل وعلا : (الَّذِينَ
يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ
وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ
شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) [غافر : ٧] وقوله
جل جلاله : (أَلا إِنَّ اللهَ
هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) إعلام بذلك وتنويه به ، وقوله
__________________
سبحانه وتعالى : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ
أَوْلِياءَ) يعني المشركين (اللهُ حَفِيظٌ
عَلَيْهِمْ) أي شهيد على أعمالهم يحصيها ويعدها عدا ، وسيجزيهم بها
أوفر الجزاء (وَما أَنْتَ
عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) أي إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل.
(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا
إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها
وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ
فِي السَّعِيرِ (٧) وَلَوْ شاءَ اللهُ
لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ
وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) (٨)
يقول تعالى وكما
أوحينا إلى الأنبياء قبلك (أَوْحَيْنا إِلَيْكَ
قُرْآناً عَرَبِيًّا) أي واضحا جليا بينا (لِتُنْذِرَ أُمَّ
الْقُرى) وهي مكة (وَمَنْ حَوْلَها) أي من سائر البلاد شرقا وغربا ، وسميت مكة أم القرى لأنها
أشرف من سائر البلاد لأدلة كثيرة مذكورة في مواضعها ، ومن أوجز ذلك وأدله ما قال
الإمام أحمد : حدثنا أبو اليمان حدثنا شعيب عن الزهري حدثنا أبو سلمة
بن عبد الرحمن قال : إن عبد الله بن عدي بن الحمراء الزهري أخبره أنه سمع رسول
الله صلىاللهعليهوسلم يقول وهو واقف بالحزورة في سوق مكة «والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى
الله ولولا أني أخرجت منك ما خرجت» وهكذا رواية الترمذي والنسائي وابن ماجة من حديث الزهري به
وقال الترمذي حسن صحيح.
وقوله عزوجل : (وَتُنْذِرَ يَوْمَ
الْجَمْعِ) وهو يوم القيامة يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد
وقوله تعالى : (لا رَيْبَ فِيهِ) أي لا شك في وقوعه وأنه كائن لا محالة.
وقوله جل وعلا : (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي
السَّعِيرِ) كقوله تعالى : (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ
لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ) [التغابن : ٩] أي
يغبن أهل الجنة أهل النار ، وكقوله عزوجل : (ذلِكَ يَوْمٌ
مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا
لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ
فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) [هود : ١٠٣ ـ ١٠٥].
قال الإمام أحمد حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا ليث حدثني أبو قبيل المعافري
عن شفي الأصبحي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : خرج علينا رسول الله صلىاللهعليهوسلم وفي يده كتابان فقال : «أتدرون ما هذان الكتابان؟» قال :
قلنا لا إلا أن تخبرنا يا رسول الله. قال صلىاللهعليهوسلم للذي في يده اليمنى : «هذا كتاب من رب العالمين بأسماء أهل
الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم ـ ثم
__________________
أجمل على آخرهم ـ لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا ـ ثم قال صلىاللهعليهوسلم للذي في يساره : هذا كتاب أهل النار بأسمائهم وأسماء
آبائهم وقبائلهم ثم أجمل على آخرهم لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا» فقال أصحاب
رسول الله صلىاللهعليهوسلم فلأي شيء نعمل إن كان هذا الأمر قد فرغ منه فقال رسول الله
صلىاللهعليهوسلم «سددوا وقاربوا
فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل ، وإن صاحب النار يختم له
بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل» ثم قال صلىاللهعليهوسلم بيده فقبضها ثم قال «فرغ ربكم عزوجل من العباد ـ ثم قال باليمنى فنبذ بها فقال فريق في الجنة ـ
ونبذ باليسرى وقال ـ فريق في السعير» وهكذا رواه الترمذي والنسائي جميعا عن قتيبة عن الليث بن
سعد وبكر بن مضر كلاهما عن أبي قبيل عن شفي بن مانع الأصبحي عن عبد الله بن عمرو
رضي الله عنهما به.
وقال الترمذي حسن
صحيح غريب وساقه البغوي في تفسيره من طريق بشر بن بكر عن سعيد بن عثمان عن أبي
الزاهرية عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلىاللهعليهوسلم فذكره بنحوه وعنده زيادات منها ـ ثم قال : فريق في الجنة
وفريق في السعير عدل من الله عزوجل ـ ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن عبد الله بن صالح كاتب
الليث عن الليث به ورواه ابن جرير عن يونس عن ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن أبي قبيل عن شفي
عن رجل من الصحابة رضي الله عنهم فذكره.
ثم روى عن يونس عن
ابن وهب عن عمرو بن الحارث وحيوة بن شريح عن يحيى بن أبي أسيد أن أبا فراس حدثه
أنه سمع عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما يقول : إن الله تعالى يقول : إن الله
تعالى لما خلق آدم نفضه نفض المزود وأخرج منه كل ذريته فخرج أمثال النغف فقبضهم قبضتين ثم قال شقي وسعيد ثم ألقاهما ثم قبضهما فقال
فريق في الجنة وفريق في السعير وهذا الموقوف أشبه بالصواب والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقال الإمام أحمد حدثنا عبد الصمد حدثنا حماد يعني ابن سلمة أخبرنا الجريري
عن أبي نضرة قال : إن رجلا من أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم يقال له أبو عبد الله دخل عليه أصحابه يعني يزورونه
__________________
فوجدوه يبكي ،
فقالوا له ما يبكيك؟ ألم يقل لك رسول الله صلىاللهعليهوسلم خذ من شاربك ثم أقره حتى تلقاني ، قال بلى ولكن سمعت رسول
الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «إن الله تعالى قبض بيمينه قبضة وأخرى باليد الأخرى
قال هذه لهذه وهذه لهذه ولا أبالي» فلا أدري في أي القبضتين أنا وأحاديث القدر في
الصحاح والسنن والمسانيد كثيرة جدا منها حديث علي وابن مسعود وعائشة وجماعة جمة
رضي الله عنهم أجمعين.
وقوله تبارك
وتعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ
لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً) أي إما على الهداية أو على الضلالة ولكنه تعالى فاوت بينهم
فهدى من يشاء إلى الحق وأضل من يشاء عنه وله الحكمة والحجة البالغة ولهذا قال عزوجل : (وَلكِنْ يُدْخِلُ
مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ).
وقال ابن جرير حدثني يونس أخبرنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن أبي
سويد أنه حدثه عن ابن حجيرة أنه بلغه أن موسى عليه الصلاة والسلام قال : يا رب
خلقك الذين خلقتهم جعلت منهم فريقا في الجنة وفريقا في النار لو ما أدخلتهم كلهم
الجنة فقال يا موسى ارفع ذرعك فرفع قال قد رفعت قال ارفع فرفع فلم يترك شيئا قال
يا رب قد رفعت قال ارفع قال قد رفعت إلا ما لا خير فيه قال كذلك أدخل خلقي كلهم
الجنة إلا ما لا خير فيه.
(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ
دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(٩) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ
فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ
تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ(١٠)
فاطِرُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ
الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ
السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١) لَهُ مَقالِيدُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (١٢)
يقول تعالى منكرا
على المشركين في اتخاذهم آلهة من دون الله ومخبرا أنه هو الولي الحق الذي لا تنبغي
العبادة إلا له وحده فإنه هو القادر على إحياء الموتى وهو على كل شيء قدير ، ثم
قالعزوجل : (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ
فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ) أي مهما اختلفتم فيه من الأمور وهذا عام في جميع الأشياء (فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ) أي هو الحاكم فيه بكتابه وسنة نبيه صلىاللهعليهوسلم كقوله جل وعلا : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ
فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) [النساء : ٥٩] (ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي) أي الحاكم في كل شيء (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ
وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) أي أرجع في جميع الأمور.
وقوله جل جلاله : (فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي خالقهما وما بينهما (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ
أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) أي من جنسكم وشكلكم منة عليكم وتفضلا جعل من جنسكم ذكرا
وأنثى (وَمِنَ الْأَنْعامِ
أَزْواجاً) أي وخلق لكم من الأنعام ثمانية أزواج. وقوله تبارك وتعالى
:
__________________
(يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) أي يخلقكم فيه أي في ذلك الخلق على هذه الصفة لا يزال
يذرؤكم فيه ذكورا وإناثا خلقا من بعد خلق وجيلا بعد جيل ونسلا بعد نسل من الناس
والأنعام وقال البغوي رحمهالله يذرؤكم فيه أي في الرحم وقيل في البطن وقيل في هذا الوجه
من الخلقة. قال مجاهد نسلا من الناس والأنعام ، وقيل في بمعنى الباء أي يذرؤكم به (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) أي ليس كخالق الأزواج كلها شيء لأنه الفرد الصمد الذي لا
نظير له (وَهُوَ السَّمِيعُ
الْبَصِيرُ).
وقوله تعالى : (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) تقدم تفسيره في سورة الزمر وحاصل ذلك أنه المتصرف الحاكم
فيهما (يَبْسُطُ الرِّزْقَ
لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) أي يوسع على من يشاء ويضيق على من يشاء وله الحكمة والعدل
التام (إِنَّهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ).
(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ
الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا
بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا
فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي
إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (١٣) وَما تَفَرَّقُوا
إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ
سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ
الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) (١٤)
يقول تعالى لهذه
الأمة : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ
الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) فذكر أول الرسل بعد آدم عليهالسلام وهو نوح عليهالسلام وآخرهم محمد صلىاللهعليهوسلم. ثم ذكر من بين ذلك من أولي العزم وهم إبراهيم وموسى وعيسى
ابن مريم عليهمالسلام وهذه الآية انتظمت ذكر الخمسة كما اشتملت آية الأحزاب
عليهم في قوله تبارك وتعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ
النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى
ابْنِ مَرْيَمَ) [الأحزاب : ٧]
الآية والدين الذي جاءت به الرسل كلهم هو عبادة الله وحده لا شريك له كما قال عزوجل : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ
قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا
فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء : ٢٥].
وفي الحديث «نحن معشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد» أي القدر المشترك بينهم هو عبادة الله وحده لا شريك له وإن
اختلفت شرائعهم ومناهجهم كقوله جل جلاله : (لِكُلٍّ جَعَلْنا
مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) [المائدة : ٤٨]
ولهذا قال تعالى هاهنا : (أَنْ أَقِيمُوا
الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) أي وصى الله تعالى جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
بالائتلاف والجماعة. ونهاهم عن الافتراق والاختلاف.
وقوله عزوجل : (كَبُرَ عَلَى
الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) أي شق عليهم وأنكروا ما تدعوهم إليه يا محمد من التوحيد. ثم
قال جل جلاله : (اللهُ يَجْتَبِي
إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) أي هو الذي يقدر الهداية لمن يستحقها ويكتب الضلالة على من
آثرها على طريق الرشد ، ولهذا
__________________
قال تبارك وتعالى
: (فَمَا اخْتَلَفُوا
إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) أي إنما كان مخالفتهم للحق بعد بلوغه إليهم وقيام الحجة
عليهم وما حملهم على ذلك إلا البغي والعناد والمشقة ثم قال عزوجل : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ
سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي لولا الكلمة السابقة من الله تعالى بإنظار العباد
بإقامة حسابهم إلى يوم المعاد لعجل عليهم العقوبة في الدنيا سريعا. وقوله جلت
عظمته : (وَإِنَّ الَّذِينَ
أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ) يعني الجيل المتأخر بعد القرن الأول المكذب للحق (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) أي ليسوا على يقين من أمرهم وإيمانهم وإنما هم مقلدون
لآبائهم وأسلافهم بلا دليل ولا برهان وهم في حيرة من أمرهم وشك مريب وشقاق بعيد.
(فَلِذلِكَ فَادْعُ
وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما
أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنا
وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا
وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (١٥)
اشتملت هذه الآية
الكريمة على عشر كلمات مستقلات كل منها منفصلة عن التي قبلها حكم برأسه ، قالوا :
ولا نظير لها سوى آية الكرسي ، فإنها أيضا عشرة فصول كهذه. وقوله : (فَلِذلِكَ فَادْعُ) أي فللذي أوحينا إليك من الدين الذي وصينا به جميع
المرسلين قبلك ، أصحاب الشرائع الكبار المتبعة كأولي العزم وغيرهم فادع الناس
إليه. وقوله عزوجل : (وَاسْتَقِمْ كَما
أُمِرْتَ) أي واستقم أنت ومن اتبعك على عبادة الله تعالى كما أمركم
الله عزوجل ، وقوله تعالى : (وَلا تَتَّبِعْ
أَهْواءَهُمْ) يعني المشركين فيما اختلفوا فيه وكذبوه وافتروه من عبادة
الأوثان.
وقوله جل وعلا : (وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ
مِنْ كِتابٍ) أي صدقت بجميع الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء لا
نفرق بين أحد منهم. وقوله : (وَأُمِرْتُ
لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) أي في الحكم كما أمرني الله ، وقوله جلت عظمته : (اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ) أي هو المعبود لا إله غيره فنحن نقر بذلك اختيارا وأنتم
وإن لم تفعلوه اختيارا فله يسجد من في العالمين طوعا واختيارا. وقوله تبارك وتعالى
: (لَنا أَعْمالُنا
وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) أي نحن برآء منكم ، كما قال سبحانه وتعالى : (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي
وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا
تَعْمَلُونَ) [يونس : ٤١] وقوله تعالى : (لا حُجَّةَ بَيْنَنا
وَبَيْنَكُمُ) قال مجاهد : أي لا خصومة. قال السدي : وذلك قبل نزول آية
السيف ، وهذا متجه لأن هذه الآية مكية ، وآية السيف بعد الهجرة. وقوله عزوجل : (اللهُ يَجْمَعُ
بَيْنَنا) أي يوم القيامة ، كقوله : (قُلْ يَجْمَعُ
بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ
الْعَلِيمُ) وقوله جل وعلا : (وَإِلَيْهِ
الْمَصِيرُ) أي المرجع والمآب يوم الحساب.
(وَالَّذِينَ
يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ
عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (١٦)
اللهُ
الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ
السَّاعَةَ قَرِيبٌ (١٧) يَسْتَعْجِلُ بِهَا
الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها
وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ
لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) (١٨)
يقول تعالى متوعدا
الذين يصدون عن سبيل الله من آمن به : (وَالَّذِينَ
يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ) أي يجادلون المؤمنين المستجيبين لله ولرسوله ليصدوهم عما
سلكوه من طريق الهدى (حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ
عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي باطلة عند الله (وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ) أي منه (وَلَهُمْ عَذابٌ
شَدِيدٌ) أي يوم القيامة ، قال ابن عباس رضي الله عنه ومجاهد :
جادلوا المؤمنين بعد ما استجابوا لله ولرسوله ليصدوهم عن الهدى وطمعوا أن تعود
الجاهلية ، وقال قتادة : هم اليهود والنصارى قالوا لها : ديننا خير من دينكم ونبينا
قبل نبيكم ونحن خير منكم وأولى بالله منكم ، وقد كذبوا في ذلك. ثم قال تعالى : (اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ
بِالْحَقِ) يعني الكتب المنزلة من عنده على أنبيائه (وَالْمِيزانَ) وهو العدل والإنصاف ، قاله مجاهد وقتادة ، وهذه كقوله
تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنا
رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ
النَّاسُ بِالْقِسْطِ) [الحديد : ٢٥] وقوله : (وَالسَّماءَ رَفَعَها
وَوَضَعَ الْمِيزانَ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ
بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ) [الرحمن : ٧ ـ ٩].
وقوله تبارك
وتعالى : (وَما يُدْرِيكَ
لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) فيه ترغيب فيها وترهيب منها وتزهيد في الدنيا ، وقوله عزوجل : (يَسْتَعْجِلُ بِهَا
الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها) أي : يقولون (مَتى هذَا الْوَعْدُ
إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [سبأ : ٢٩] ،
وإنما يقولون ذلك تكذيبا واستبعادا وكفرا وعنادا (وَالَّذِينَ آمَنُوا
مُشْفِقُونَ مِنْها) أي خائفون وجلون من وقوعها (وَيَعْلَمُونَ
أَنَّهَا الْحَقُ) أي كائنة لا محالة ، فهم مستعدون لها عاملون من أجلها.
وقد روي من طرق
تبلغ درجة التواتر في الصحاح والحسان والسنن والمسانيد ، وفي بعض ألفاظه أن رجلا
سأل رسول الله صلىاللهعليهوسلم بصوت جهوري وهو في بعض أسفاره ، فناداه فقال : يا محمد ،
فقال له رسول الله صلىاللهعليهوسلم نحوا من صوته : «هاؤم» ، فقال له : متى الساعة؟ فقال رسول
الله صلىاللهعليهوسلم : «ويحك إنها كائنة فما أعددت لها؟» فقال : حب الله ورسوله
، فقال صلىاللهعليهوسلم : «أنت مع من أحببت» ، فقوله في الحديث «المرء مع من أحب» هذا متواتر لا محالة ،
__________________
والغرض أنه لم
يجبه عن وقت الساعة بل أمره بالاستعداد لها.
وقوله تعالى : (أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي
السَّاعَةِ) أي يجادلون في وجودها ويدفعون وقوعها (لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) أي في جهل بين ، لأن الذي خلق السموات والأرض قادر على
إحياء الموتى بطريق الأولى والأخرى ، كما قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ
ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم : ٢٧].
(اللهُ لَطِيفٌ
بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (١٩) مَنْ كانَ يُرِيدُ
حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا
نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ(٢٠) أَمْ لَهُمْ
شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ وَلَوْ لا
كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ
أَلِيمٌ (٢١) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا
كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي
رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ
الْكَبِيرُ)
(٢٢)
يقول تعالى مخبرا
عن لطفه بخلقه في رزقه إياهم عن آخرهم لا ينسى أحدا منهم ، سواء في رزقه البر
والفاجر ، كقوله عزوجل : (وَما مِنْ دَابَّةٍ
فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها
وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [هود : ٦] ولها
نظائر كثيرة ، وقوله جل وعلا : (يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ) أي يوسع على من يشاء (وَهُوَ الْقَوِيُّ
الْعَزِيزُ) أي لا يعجزه شيء ثم قال عزوجل : (مَنْ كانَ يُرِيدُ
حَرْثَ الْآخِرَةِ) أي عمل الآخرة (نَزِدْ لَهُ فِي
حَرْثِهِ) أي نقويه ونعينه على ما هو بصدده ونكثر نماءه ونجزيه
بالحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما يشاء الله (وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا
نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) أي ومن كان إنما سعيه ليحصل له شيء من الدنيا وليس له إلى
الآخرة هم البتة بالكلية حرمه الله الآخرة والدنيا إن شاء أعطاه منها وإن لم يشأ
لم يحصل لا هذه ولا هذه ، وفاز هذا الساعي بهذه النية بالصفقة الخاسرة في الدنيا
والآخرة ، والدليل على هذا أن هذه الآية هاهنا مقيدة بالآية التي في سبحان وهي
قوله تبارك وتعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ
الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ
جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها
سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً كُلًّا نُمِدُّ
هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً.
انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ
وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) [الإسراء : ١٨ ـ ٢١].
وقال الثوري عن
مغيرة عن أبي العالية عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال : قال
__________________
رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة والنصر والتمكين في
الأرض فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب» وقوله جل وعلا : (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ
شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ) أي هم لا يتبعون ما شرع الله لك من الدين القويم بل يتبعون
ما شرع لهم شياطينهم من الجن والإنس من تحريم ما حرموا عليهم من البحيرة والسائبة
والوصيلة والحام ، وتحليل أكل الميتة والدم والقمار إلى نحو ذلك من الضلالات
والجهالة الباطلة التي كانوا قد اخترعوها في جاهليتهم من التحليل والتحريم
والعبادات الباطلة والأقوال الفاسدة.
وقد ثبت في الصحيح
أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «رأيت عمرو بن لحي بن قمعة يجر قصبه في النار» لأنه أول من سيب السوائب ، وكان هذا الرجل أحد ملوك خزاعة
وهو أول من فعل هذه الأشياء وهو الذي حمل قريشا على عبادة الأصنام لعنه الله وقبحه
ولهذا قال تعالى : (وَلَوْ لا كَلِمَةُ
الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي لعوجلوا بالعقوبة لولا ما تقدم من الإنظار إلى يوم
المعاد (إِنَّ الظَّالِمِينَ
لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي شديد موجع في جهنم وبئس المصير.
ثم قال تعالى : (تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا
كَسَبُوا) أي في عرصات القيامة (وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ) أي الذي يخافون منه واقع بهم لا محالة هذا حالهم يوم
معادهم وهم في هذا الخوف والوجل (وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ
رَبِّهِمْ) فأين هذا من هذا؟ أين من هو في العرصات في الذل والهوان
والخوف المحقق عليه بظلمه ممن هو في روضات الجنات فيما يشاء من مآكل ومشارب وملابس
ومساكن ومناظر ومناكح وملاذ فيما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
قال الحسن بن عرفة : حدثنا عمرو بن عبد الرحمن الآبار ، حدثنا محمد بن سعد
الأنصاري عن أبي طيبة قال إن الشرب من أهل الجنة لتظلهم السحابة فتقول ما أمطركم؟
قال فما يدعو داع من القوم بشيء إلا أمطرتهم حتى أن القائل منهم ليقول أمطرينا
كواعب أترابا. ورواه ابن جرير عن الحسن بن عرفة به ، ولهذا قال تعالى : (ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) أي الفوز العظيم والنعمة التامة السابغة الشاملة العامة.
(ذلِكَ الَّذِي
يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا
أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ
يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (٢٣) أَمْ يَقُولُونَ
افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ
اللهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ
الصُّدُورِ) (٢٤)
يقول تعالى لما
ذكر روضات الجنات ، لعباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات (ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي هذا حاصل لهم كائن لا محالة ببشارة الله
__________________
تعالى لهم به.
وقوله عزوجل : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين من كفار قريش لا أسألكم على
هذا البلاغ والنصح لكم ما لا تعطونيه وإنما أطلب منكم أن تكفوا شركم عني وتذروني
أبلغ رسالات ربي إن لم تنصروني فلا تؤذوني بما بيني وبينكم من القرابة.
قال البخاري :
حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة عن عبد الملك بن ميسرة قال
: سمعت طاوسا يحدث عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن قوله تعالى (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) فقال سعيد بن جبير : قربى آل محمد فقال ابن عباس : عجلت إن
النبي صلىاللهعليهوسلم لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة فقال إلا أن
تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة ، انفرد به البخاري ، ورواه الإمام أحمد عن يحيى القطان عن
شعبة به ، وهكذا روى عامر الشعبي والضحاك وعلي بن أبي طلحة والعوفي ويوسف بن مهران
وغير واحد عن ابن عباس رضي الله عنهما مثله ، وبه قال مجاهد وعكرمة وقتادة والسدي
وأبو مالك وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم.
وقاله الحافظ أبو
القاسم الطبراني : حدثنا هشام بن القاسم بن يزيد الطبراني وجعفر القلانسي قالا :
حدثنا آدم بن أبي إياس ، حدثنا شريك عن خصيف عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله
عنهما قال : قال لهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لا أسألكم عليه أجرا إلا أن تودوني في نفسي لقرابتي
منكم وتحفظوا القرابة التي بيني وبينكم» وروى الإمام أحمد عن حسن بن موسى ، حدثنا قزعة يعني ابن سويد وبن أبي حاتم
عن أبيه عن مسلم بن إبراهيم عن قزعة بن سويد عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس
رضي الله عنهما أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «لا أسألكم على ما آتيتكم من البينات والهدى أجرا
إلا أن توادوا الله وأن تقربوا إليه بطاعته» وهكذا روى قتادة عن الحسن البصري مثله
وهذا كأنه تفسير بقول ثان كأنه يقول (إِلَّا الْمَوَدَّةَ
فِي الْقُرْبى) أي إلا أن تعملوا بالطاعة التي تقربكم عند الله زلفى. وقول
ثالث وهو ما حكاه البخاري وغيره رواية عن سعيد بن جبير ما معناه أنه قال معنى ذلك
أن تودوني في قرابتي أي تحسنوا إليهم وتبروهم.
وقال السدي عن أبي
الديلم قال : لما جيء بعلي بن الحسين رضي الله عنه أسيرا فأقيم على درج دمشق قام
رجل من أهل الشام فقال الحمد لله الذي قتلكم واستأصلكم وقطع قرني الفتنة فقال له علي بن الحسين رضي الله عنه : أقرأت القرآن؟ قال :
نعم ، قال : أقرأت آل حم؟ قال: قرأت القرآن ولم أقرأ آل حم ، قال : ما قرأت (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً
إِلَّا الْمَوَدَّةَ
__________________
فِي
الْقُرْبى) قال : وإنكم لأنتم هم؟ قال : نعم ، وقال أبو إسحاق السبيعي
: سألت عمرو بن شعيب عن قوله تبارك وتعالى : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) فقال : قربى النبي صلىاللهعليهوسلم رواهما ابن جرير .
ثم قال ابن جرير : حدثنا أبو كريب ، حدثنا مالك بن إسماعيل ، حدثنا عبد
السلام ، حدثني يزيد بن أبي زياد عن مقسم عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : قالت
الأنصار : فعلنا وفعلنا وكأنهم فخروا ، فقال ابن عباس أو العباس رضي الله عنهما ـ شك
عبد السلام ـ لنا الفضل عليكم فبلغ ذلك رسول الله صلىاللهعليهوسلم فأتاهم في مجالسهم فقال : «يا معشر الأنصار ألم تكونوا
أذلة فأعزكم الله بي؟» قالوا بلى يا رسول الله قال صلىاللهعليهوسلم : «ألم تكونوا ضلالا فهداكم الله بي؟» قالوا : بلى يا رسول
الله ، قال : «أفلا تجيبوني؟» قالوا : ما نقول يا رسول الله؟ قال : «ألا تقولون
ألم يخرجك قومك فآويناك أولم يكذبوك فصدقناك أولم يخذلوك فنصرناك» قال : فما زالصلىاللهعليهوسلم يقول حتى جثوا على الركب ، وقالوا : أموالنا في أيدينا لله
ولرسوله ، قال : فنزلت (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) وهكذا رواه ابن أبي حاتم عن علي بن الحسين عن عبد المؤمن
بن علي ، عن عبد السلام عن يزيد بن أبي زياد وهو ضعيف بإسناده مثله أو قريبا منه.
وفي الصحيحين في
قسم غنائم حنين قريب من هذا السياق ولكن ليس فيه ذكر نزول هذه الآية ، وذكر نزولها
في المدينة فيه نظر لأن السورة مكية وليس يظهر بين هذه الآية وبين السياق مناسبة ،
والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا رجل سماه ، حدثنا حسين الأشقر عن قيس عن الأعمش عن
سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنه ، قال : لما نزلت هذه الآية (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً
إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) قالوا : يا رسول الله ، من هؤلاء الذين أمر الله بمودتهم؟
قال : «فاطمة وولدها رضي الله عنهما» وهذا إسناد ضعيف فيه مبهم لا يعرف عن شيخ
شيعي مخترق وهو حسين الأشقر ولا يقبل خبره في هذا المحل ، وذكر نزول الآية في
المدينة بعيد فإنها مكية ولم يكن إذ ذاك لفاطمة رضي الله عنها أولاد بالكلية فإنها
لم تتزوج بعلي رضي الله عنه إلا بعد بدر من السنة الثانية من الهجرة والحق تفسير
هذه الآية بما فسرها به حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما
كما رواه عنه البخاري ولا تنكر الوصاة بأهل البيت والأمر بالإحسان إليهم واحترامهم
وإكرامهم ، فإنهم من ذرية طاهرة من أشرف بيت وجد على وجه الأرض فخرا وحسبا ونسبا ،
ولا سيما إذا كانوا متبعين للسنة النبوية
__________________
الصحيحة الواضحة
الجلية ، كما كان عليه سلفهم كالعباس وبنيه وعلي وأهل بيته وذريته رضي الله عنهم
أجمعين.
وقد ثبت في الصحيح
أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال في خطبته بغدير خم : «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله
وعترتي ، وإنهما لم يفترقا حتى يردا على الحوض» وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد عن يزيد
بن أبي زياد ، عن عبد الله بن الحارث عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال :
قلت : يا رسول الله إن قريشا إذا لقي بعضهم بعضا لقوهم ببشر حسن ، وإذا لقونا
لقونا بوجوه لا نعرفها ، قال : فغضب النبيصلىاللهعليهوسلم غضبا شديدا وقال «والذي نفسي بيده لا يدخل قلب الرجل
الإيمان حتى يحبكم لله ورسوله».
ثم قال أحمد : حدثنا جرير عن يزيد بن أبي زياد ، عن عبد الله بن الحارث
عن عبد المطلب بن ربيعة ، قال : دخل العباس رضي الله عنه على رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : إنا لنخرج فنرى قريشا تحدث ، فإذا رأونا سكتوا ،
فغضب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ودر عرق بين عينيه ثم قال صلىاللهعليهوسلم : «والله لا يدخل قلب امرئ مسلم إيمان حتى يحبكم لله
ولقرابتي» ، وقال البخاري : حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب ، حدثنا خالد ، حدثنا
شعبة عن واقد قال : سمعت أبي يحدث عن ابن عمر رضي الله عنهما عن أبي بكر الصديق
رضي الله عنه قال : ارقبوا محمدا صلىاللهعليهوسلم في أهل بيته . وفي الصحيح أن الصديق رضي الله عنه قال لعلي رضي الله عنه
: والله لقرابة رسول اللهصلىاللهعليهوسلم أحب إلي أن أصل من قرابتي ، وقال عمر بن الخطاب للعباس رضي الله عنهما والله لإسلامك
يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم ، لأن إسلامك كان أحب إلى رسول
الله صلىاللهعليهوسلم من إسلام الخطاب. فحال الشيخين رضي الله عنهما هو الواجب
على كل أحد أن يكون كذلك ، ولهذا كانا أفضل المؤمنين بعد النبيين والمرسلين رضي
الله عنهما وعن سائر الصحابة أجمعين.
وقال الإمام أحمد رحمهالله : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن أبي حيان التيمي ، حدثني
يزيد بن حيان قال : انطلقت أنا وحصين بن ميسرة وعمر بن مسلم إلى زيد بن أرقم رضي
الله عنه ، فلما جلسنا إليه قال حصين : لقد لقيت يا زيد خيرا كثيرا ، رأيت رسول
الله صلىاللهعليهوسلم وسمعت حديثه وغزوت معه وصليت معه ، لقد رأيت يا زيد خيرا
كثيرا ، حدثنا يا زيد ما سمعت من
__________________
رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فقال : يا ابن أخي والله لقد كبر سني وقدم عهدي ونسيت
بعض الذي كنت أعي من رسول الله صلىاللهعليهوسلم فما حدثتكم فاقبلوه وما لا فلا تكلفونيه ، ثم قال رضي الله
عنه : قام رسول الله صلىاللهعليهوسلم يوما خطيبا فينا بماء يدعى خما بين مكة والمدينة ، فحمد
الله تعالى وأثنى عليه وذكر ووعظ ، ثم قال صلىاللهعليهوسلم : «أما بعد ، ألا أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني
رسول ربي فأجيب ، وإني تارك فيكم الثقلين أولهما كتاب الله تعالى فيه الهدى والنور
فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به» فحث على كتاب الله ورغب فيه وقال صلىاللهعليهوسلم : «وأهل بيتي أذكركم في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل
بيتي» فقال له حصين : ومن أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال : إن
نساءه لسن من أهل بيته ولكن أهل بيته من حرم عليه الصدقة بعده ، قال : ومن هم؟ قال
: هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل العباس رضي الله عنهم ، قال : أكل هؤلاء حرم
عليه الصدقة؟ قال : نعم ، وهكذا رواه مسلم والنسائي من طرق يزيد بن حيّان به.
وقال أبو عيسى
الترمذي : حدثنا علي بن المنذر الكوفي ، حدثنا محمد بن فضيل ، حدثنا الأعمش عن
عطية عن أبي سعيد والأعمش عن حبيب بن أبي ثابت ، عن زيد بن أرقم رضي الله عنه ،
قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي : أحدهما
أعظم من الآخر : كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، والآخر عترة أهل بيتي
ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما» تفرد بروايته ثم قال : هذا حديث حسن غريب. وقال الترمذي أيضا : حدثنا نصر بن عبد الرحمن الكوفي ، حدثنا زيد بن
الحسن عن جعفر بن محمد بن الحسن عن أبيه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال :
رأيت رسول اللهصلىاللهعليهوسلم في حجته يوم عرفة وهو على ناقته القصواء يخطب ، فسمعته
يقول : «يا أيها الناس إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي
أهل بيتي» تفرد به الترمذي أيضا ، وقال : حسن غريب ، وفي الباب عن أبي ذر وأبي
سعيد وزيد بن أرقم وحذيفة بن أسيد رضي الله عنهم.
ثم قال الترمذي أيضا : حدثنا أبو داود سليمان بن الأشعث ، حدثنا يحيى بن
معين ، حدثنا هشام بن يوسف عن عبد الله بن سليمان النوفلي ، عن محمد بن علي بن عبد
الله بن عباس عن أبيه عن جده عبد الله بن عباس رضي الله عنهم ، قال : قال رسول
الله صلىاللهعليهوسلم : «أحبوا الله تعالى لما يغذوكم من نعمه ، وأحبوني بحب
الله وأحبوا أهل بيتي بحبي» ثم قال : حسن غريب إنما نعرفه من هذا الوجه ، وقد
أوردنا أحاديث أخر عند قوله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ
اللهُ لِيُذْهِبَ
__________________
عَنْكُمُ
الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) [الأحزاب : ٣٣]
بما أغنى عن إعادتها هاهنا ، ولله الحمد والمنة. وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا
سويد بن سعيد ، حدثنا مفضل بن عبد الله عن أبي إسحاق عن حنش ، قال : سمعت أبا ذر
رضي الله عنه وهو آخذ بحلقة الباب يقول : يا أيها الناس من عرفني فقد عرفني ، ومن
أنكرني فأنا أبو ذر سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «إنما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح عليه
الصلاة والسلام من دخلها نجا ، ومن تخلف عنها هلك» هذا بهذا الإسناد ضعيف.
وقوله عزوجل : (وَمَنْ يَقْتَرِفْ
حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً) أي ومن يعمل حسنة (نَزِدْ لَهُ فِيها
حُسْناً) أي أجرا وثوابا ، كقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ
ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) [النساء : ٤٠] ،
وقال بعض السلف : إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها ، ومن جزاء السيئة السيئة بعدها.
وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ
شَكُورٌ) أي يغفر الكثير من السيئات ويكثر القليل من الحسنات ،
فيستر ويغفر ويضاعف فيشكر ، وقوله جل وعلا : (أَمْ يَقُولُونَ
افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ) أي لو افتريت عليه كذبا كما يزعم هؤلاء الجاهلون (يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ) أي يطبع على قلبك ويسلبك ما كان آتاك من القرآن ، كقوله جل
جلاله : (وَلَوْ تَقَوَّلَ
عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا
مِنْهُ الْوَتِينَ فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) [الحاقة : ٤٠ ـ ٤٧]
أي لانتقمنا منه أشد الانتقام ، وما قدر أحد من الناس أن يحجز عنه.
وقوله جلت عظمته :
(وَيَمْحُ اللهُ
الْباطِلَ) ليس معطوفا على قوله (يَخْتِمْ) فيكون مجزوما بل هو مرفوع على الابتداء. قاله ابن جرير ،
قال : وحذفت من كتابته الواو في رسم مصحف الإمام ، كما حذفت في قوله : (سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) [العلق : ١٨]
وقوله تعالى : (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ
بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ) [الإسراء : ١١].
وقوله عزوجل (وَيُحِقُّ الْحَقَّ
بِكَلِماتِهِ) معطوف على (وَيَمْحُ اللهُ
الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَ) أي يحققه ويثبته ويبينه ويوضحه بكلماته ، أي بحججه
وبراهينه (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ
الصُّدُورِ) أي بما تكنه الضمائر وتنطوي عليه السرائر.
(وَهُوَ الَّذِي
يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما
تَفْعَلُونَ (٢٥) وَيَسْتَجِيبُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ
وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ(٢٦) وَلَوْ بَسَطَ اللهُ
الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما
يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (٢٧)
وَهُوَ
الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ
وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ)
(٢٨)
يقول تعالى ممتنا
على عباده بقبول توبتهم إليه إذا تابوا ورجعوا إليه أنه من كرمه وحلمه أن يعفو
ويصفح ويستر ويغفر ، وكقوله عزوجل : (وَمَنْ يَعْمَلْ
سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً
رَحِيماً) [النساء : ١١٠]
وقد ثبت في صحيح مسلم رحمة الله عليه ، حيث قال :
حدثنا محمد بن
الصباح وزهير بن حرب قالا : حدثنا عمر بن يونس ، حدثنا عكرمة بن عمار ، حدثنا
إسحاق بن أبي طلحة ، حدثني أنس بن مالك ، وهو عمه رضي الله عنه. قال : قال رسول
الله صلىاللهعليهوسلم : «لله تعالى أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم
كانت راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فأتى شجرة
فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته ، فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده ، فأخذ
بخطامها ثم قال من شدة الفرح : اللهم أنت عبدي وأنا ربك ـ أخطأ من شدة الفرح» . وقد ثبت أيضا في الصحيح من رواية عبد الله بن مسعود رضي
الله عنه نحوه.
وقال عبد الرزاق
عن معمر ، عن الزهري في قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي
يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) إن أبا هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لله أشد فرحا بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته في المكان
الذي يخاف أن يقتله فيه العطش» وقال همام بن الحارث : سئل ابن مسعود رضي الله عنه
عن الرجل يفجر بالمرأة ثم يتزوجها؟ قال : لا بأس به ، وقرأ (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ
عَنْ عِبادِهِ) الآية ، رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث شريح القاضي عن إبراهيم بن مهاجر عن
إبراهيم النخعي ، عن همام فذكره ، وقوله عزوجل : (وَيَعْفُوا عَنِ
السَّيِّئاتِ) أي يقبل التوبة في المستقبل ، ويعفو عن السيئات في الماضي (وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) أي هو عالم بجميع ما فعلتم وصنعتم وقلتم ومع هذا يتوب على
من تاب إليه.
وقوله تعالى : (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) قال السدي : يعني يستجيب لهم ، وكذا قال ابن جرير : معناه يستجيب الدعاء لهم ولأصحابهم وإخوانهم ، وحكاه عن
بعض النحاة ، وأنه جعلها كقوله عزوجل : (فَاسْتَجابَ لَهُمْ
رَبُّهُمْ) [آل عمران : ١٩٥]
ثم روى هو وابن أبي حاتم من حديث الأعمش عن شقيق بن سلمة ، عن سلمة بن سبرة قال :
خطبنا معاذ رضي الله عنه بالشام ، فقال : أنتم المؤمنون وأنتم أهل الجنة ، والله
إني لأرجو أن يدخل الله تعالى من تسبون من فارس والروم الجنة وذلك بأن أحدكم إذا
عمل له ـ يعني أحدهم عملا قال : أحسنت رحمك الله ، أحسنت بارك الله فيك ثم قرأ (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ).
وحكى ابن جرير عن
بعض أهل العربية أنه جعل قوله : (وَيَسْتَجِيبُ
الَّذِينَ آمَنُوا) كقوله (الَّذِينَ
يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ) [الزمر : ١٨] أي
هم الذين يستجيبون للحق ويتبعونه كقوله تبارك وتعالى : (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ
يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ) [الأنعام : ٣٦]
والمعنى الأول أظهر لقوله تعالى : (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ
فَضْلِهِ) أي يستجيب دعاءهم ويزيدهم فوق ذلك. ولهذا قال
__________________
ابن أبي حاتم :
حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا محمد بن المصفى ، حدثنا بقية ، حدثنا إسماعيل بن عبد
الله الكندي ، حدثنا الأعمش عن شقيق عن عبد الله رضي الله عنه قال : قال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم في قوله تعالى : (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ
فَضْلِهِ) قال «الشفاعة لمن وجبت له النار ممن صنع إليهم معروفا في
الدنيا» وقال قتادة عن إبراهيم النخعي اللخمي في قوله عزوجل : (وَيَسْتَجِيبُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) قال : يشفعون في إخوانهم (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ
فَضْلِهِ) قال : يشفعون في إخوان إخوانهم. وقوله عزوجل (وَالْكافِرُونَ
لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) لما ذكر المؤمنين وما لهم من الثواب الجزيل ذكر الكافرين
وما لهم عنده يوم القيامة من العذاب الشديد الموجع المؤلم يوم معادهم وحسابهم.
وقوله تعالى : (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ
لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) أي لو أعطاهم فوق حاجتهم من الرزق لحملهم ذلك على البغي
والطغيان من بعضهم على بعض أشرا وبطرا.
وقال قتادة : كان
يقال خير العيش ما لا يلهيك ولا يطغيك ، وذكر قتادة حديث «إنما أخاف عليكم ما يخرج
الله تعالى من زهرة الحياة الدنيا» وسؤال السائل : أيأتي الخير بالشر؟ الحديث.
وقوله عزوجل : (وَلكِنْ يُنَزِّلُ
بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) أي ولكن يرزقهم من الرزق ما يختاره مما فيه صلاحهم وهو
أعلم بذلك فيغني من يستحق الغنى ويفقر من يستحق الفقر كما جاء في الحديث المروي «إن
من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسدت عليه دينه وإن من عبادي من لا
يصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه».
وقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ
مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا) أي من بعد إياس الناس من نزول المطر ينزله عليهم في وقت
حاجتهم وفقرهم إليه كقوله عزوجل : (وَإِنْ كانُوا مِنْ
قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ) [الروم : ٤٩]
وقوله جل جلاله : (وَيَنْشُرُ
رَحْمَتَهُ) أي يعم بها الوجود على أهل ذلك القطر وتلك الناحية. قال
قتادة : ذكر لنا أن رجلا قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : يا أمير المؤمنين قحط
المطر وقنط الناس. فقال عمر رضي الله عنه : مطرتم ثم قرأ (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ
مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) أي هو المتصرف لخلقه بما ينفعهم في دنياهم وأخراهم وهو
المحمود العاقبة في جميع ما يقدره ويفعله.
(وَمِنْ آياتِهِ
خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى
جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (٢٩)
وَما
أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (٣٠) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ
فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ)
(٣١)
يقول تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ) الدالة على عظمته وقدرته العظيمة وسلطانه القاهر (خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما
بَثَّ فِيهِما) أي ذرأ فيهما في السموات والأرض (مِنْ دابَّةٍ) وهذا يشمل الملائكة والإنس والجن وسائر الحيوانات على
اختلاف أشكالهم وألوانهم ولغاتهم وطباعهم
وأجناسهم وأنواعهم
وقد فرقهم في أرجاء أقطار السموات والأرض (وَهُوَ) مع هذا كله (عَلى جَمْعِهِمْ إِذا
يَشاءُ قَدِيرٌ) أي يوم القيامة يجمع الأولين والآخرين وسائر الخلائق في
صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر فيحكم فيهم بحكمه العدل الحق.
وقوله عزوجل : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ
مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) أي مهما أصابكم أيها الناس من المصائب فإنما هي عن سيئات
تقدمت لكم (وَيَعْفُوا عَنْ
كَثِيرٍ) أي من السيئات فلا يجازيكم عليها بل يعفو عنها (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما
كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) [فاطر : ٤٥] وفي
الحديث الصحيح «والذي نفسي بيده ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن إلا
كفر الله عنه بها من خطاياه حتى الشوكة يشاكها» . وقال ابن جرير : حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن علية ، حدثنا أيوب
قال : قرأت في كتاب أبي قلابة قال نزلت (فَمَنْ يَعْمَلْ
مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة : ٧ ـ ٨]
وأبو بكر رضي الله عنه يأكل فأمسك وقال : يا رسول الله إني أرى ما عملت من خير وشر
، فقال : «أرأيت ما رأيت مما تكره ، فهو من مثاقيل ذر الشر وتدخر مثاقيل الخير حتى
تعطاه يوم القيامة» وقال : قال أبو إدريس : فإني أرى مصداقها في كتاب الله تعالى :
(وَما أَصابَكُمْ مِنْ
مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) ثم رواه من وجه آخر عن أبي قلابة عن أنس رضي الله عنه قال
والأول أصح.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبي حدثنا محمد بن عيسى بن الطباع ، حدثنا مروان بن معاوية الفزاري ،
حدثنا الأزهر بن راشد الكاهلي عن الخضر بن القواس البجلي عن أبي سخيلة عن علي رضي
الله عنه قال : ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله عزوجل ، وحدثنا به رسول اللهصلىاللهعليهوسلم ، قال : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ
مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) وسأفسرها لك يا علي : ما أصابكم من مرض أو عقوبة أو بلاء
في الدنيا فبما كسبت أيديكم والله تعالى أحلم من أن يثني عليه العقوبة في الآخرة
وما عفا الله عنه في الدنيا فالله تعالى أكرم من أن يعود بعد عفوه» وكذا رواه
الإمام أحمد عن مروان بن معاوية وعبدة عن أبي سخيلة قال : قال علي رضي
الله عنه فذكر نحوه مرفوعا.
ثم روى ابن أبي من
وجه آخر موقوفا فقال : حدثنا أبي ، حدثنا منصور بن أبي مزاحم ، حدثنا أبو سعيد بن
أبي الوضاح عن أبي الحسن عن أبي جحيفة قال دخلت على علي بن أبي طالب رضي الله عنه
فقال : ألا أحدثكم بحديث ينبغي لكل مؤمن أن يعيه؟ قال : فسألناه فتلا هذه الآية (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما
كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) قال ما عاقب الله تعالى به في الدنيا فالله أحلم من أن
يثني عليه بالعقوبة يوم القيامة وما عفا الله عنه في الدنيا فالله أكرم
__________________
من أن يعود عفوه
يوم القيامة. وقال الإمام أحمد : حدثنا يعلى بن عبيد ، حدثنا طلحة يعني ابن يحيى عن أبي
بردة عن معاوية هو ابن أبي سفيان رضي الله عنهما قال : سمعت رسول اللهصلىاللهعليهوسلم يقول : «ما من شيء يصيب المؤمن في جسده يؤذيه إلا كفر الله
تعالى عنه به من سيئاته» وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا حسين عن زائدة عن ليث عن مجاهد عن عائشة رضي
الله عنها قالت : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إذا كثرت ذنوب العبد ولم يكن له ما يكفرها ابتلاه الله
تعالى بالحزن ليكفرها».
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا عمرو بن عبد الله الأودي ، حدثنا أبو أسامة عن إسماعيل بن مسلم عن الحسن
هو البصري قال في قوله تبارك وتعالى : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ
مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) قال لما نزلت قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «والذي نفس محمد
بيده ما من خدش عود ولا اختلاج عرق ولا عثرة قدم إلا بذنب وما يعفو الله عنه أكثر». وقال
أيضا : حدثنا أبي ، حدثنا عمر بن علي ، حدثنا هشيم عن منصور عن الحسن عن عمران بن
حصين رضي الله عنه قال : دخل عليه بعض أصحابه وقد كان ابتلي في جسده فقال له بعضهم
إنا لنبتئس لك لما نرى فيك ، قال فلا تبتئس بما ترى فإن ما ترى بذنب وما يعفو الله
عنه أكثر ثم تلا هذه الآية (وَما أَصابَكُمْ مِنْ
مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ).
وحدثنا أبي ،
حدثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني ، حدثنا جرير عن أبي البلاد قال : قلت للعلاء بن
بدر (وَما أَصابَكُمْ مِنْ
مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) وقد ذهب بصري وأنا غلام؟ قال فبذنوب والديك. وحدثنا أبي ،
حدثنا علي بن محمد الطنافسي ، حدثنا وكيع عن عبد العزيز بن أبي رواد عن الضحاك قال
: ما نعلم أحدا حفظ القرآن ثم نسيه إلا بذنب ثم قرأ الضحاك (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما
كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) ثم يقول الضحاك : وأي مصيبة أعظم من نسيان القرآن.
(وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ
فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٣٢) إِنْ يَشَأْ
يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ
لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ
(٣٣) أَوْ
يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (٣٤) وَيَعْلَمَ
الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ)
(٣٥)
يقول تعالى ومن
آياته الدالة على قدرته الباهرة وسلطانه تسخيره البحر لتجري فيه الفلك بأمره وهي
الجواري في البحر كالأعلام أي كالجبال ، قاله مجاهد والحسن والسدي والضحاك : أي
هذه في البحر كالجبال في البر (إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ
الرِّيحَ) أي التي تسير في البحر
__________________
بالسفن لو شاء
لسكنها حتى لا تتحرك السفن بل تبقى راكدة لا تجيء ولا تذهب بل واقفة على ظهره أي
على وجه الماء (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ) أي في الشدائد (شَكُورٍ) أي إن في تسخيره البحر وإجرائه الهوى بقدر ما يحتاجون إليه
لسيرهم لدلالات على نعمة تعالى على خلقه لكل صبار أي في الشدائد (شَكُورٍ) في الرخاء. وقوله عزوجل (أَوْ يُوبِقْهُنَّ
بِما كَسَبُوا) أي ولو شاء لأهلك السفن وغرقها بذنوب أهلها الذين هم
راكبون عليها (وَيَعْفُ عَنْ
كَثِيرٍ) أي من ذنوبهم ولو أخذهم بجميع ذنوبهم لأهلك كل من ركب
البحر.
وقال بعض علماء
التفسير معنى قوله تعالى : (أَوْ يُوبِقْهُنَّ
بِما كَسَبُوا) أي لو شاء لأرسل الريح قوية عاتية فأخذت السفن وأحالتها عن
سيرها المستقيم فصرفتها ذات اليمين أو ذات الشمال آبقة لا تسير على طريق ولا إلى
جهة مقصد ، وهذا القول يتضمن هلاكها وهو مناسب للأول وهو أنه تعالى لو شاء لسكن
الريح فوقفت أو لقواه فشردت وأبقت وهلكت ، ولكن من لطفه ورحمته أنه يرسله بحسب
الحاجة كما يرسل المطر بقدر الكفاية ولو أنزله كثيرا جدا لهدم البنيان أو قليلا
لما أنبت الزرع والثمار حتى أنه يرسل إلى مثل بلاد مصر سيحا من أرض أخرى غيرها
لأنهم لا يحتاجون إلى مطر ولو أنزل عليهم لهدم بنيانهم وأسقط جدرانهم ، وقوله
تعالى : (وَيَعْلَمَ الَّذِينَ
يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) أي لا محيد لهم عن بأسنا ونقمتنا فإنهم مقهورون بقدرتنا.
(فَما أُوتِيتُمْ مِنْ
شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى
لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٣٦) وَالَّذِينَ
يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ
يَغْفِرُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ
اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ
وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٨)
وَالَّذِينَ
إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) (٣٩)
يقول تعالى محقرا
لشأن الحياة الدنيا وزينتها وما فيها من الزهرة والنعيم الفاني بقوله تعالى : (فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ
الْحَياةِ الدُّنْيا) أي مهما حصلتم وجمعتم فلا تغتروا به فإنما هو متاع الحياة
الدنيا وهي دار دنيئة فانية زائلة لا محالة (وَما عِنْدَ اللهِ
خَيْرٌ وَأَبْقى) أي وثواب الله تعالى خير من الدنيا وهو باق سرمدي فلا
تقدموا الفاني على الباقي ولهذا قال تعالى : (لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي للذين صبروا على ترك الملاذ في الدنيا (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) أي ليعينهم على الصبر في أداء الواجبات وترك المحرمات.
ثم قال تعالى : (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ
الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ) وقد قدمنا الكلام على الإثم والفواحش في سورة الأعراف (وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) أي سجيتهم تقتضي الصفح والعفو عن الناس ليس سجيتهم
الانتقام من الناس. وقد ثبت في الصحيح أن رسول اللهصلىاللهعليهوسلم ما انتقم لنفسه قط إلا أن تنتهك حرمات الله وفي حديث آخر كان يقول لأحدنا عند المعتبة : «ما له
__________________
تربت جبينه» وقال ابن أبي حاتم : حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان عن
زائدة عن منصور عن إبراهيم قال : كان المؤمنون يكرهون أن يستذلوا وكانوا إذا قدروا
عفوا.
وقوله عزوجل : (وَالَّذِينَ
اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ) أي اتبعوا رسله وأطاعوا أمره واجتنبوا زجره (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) وهي أعظم العبادات لله عزوجل (وَأَمْرُهُمْ شُورى
بَيْنَهُمْ) أي لا يبرمون أمرا حتى يتشاوروا فيه ليتساعدوا بآرائهم في
مثل الحروب وما جرى مجراها كما قال تبارك وتعالى : (وَشاوِرْهُمْ فِي
الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) [آل عمران : ١٥٩]
الآية ولهذا كانعليهالسلام يشاورهم في الحروب ونحوها ليطيب بذلك قلوبهم وهكذا لما
حضرت عمر بن الخطاب رضي الله عنه الوفاة حين طعن جعل الأمر بعده شورى في ستة نفر
وهم عثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم أجمعين
فاجتمع رأي الصحابة كلهم رضي الله عنهم على تقديم عثمان عليهم رضي الله عنهم (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) وذلك بالإحسان إلى خلق الله الأقرب إليهم منهم فالأقرب.
وقوله عزوجل : (وَالَّذِينَ إِذا
أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) أي فيهم قوة الانتصار ممن ظلمهم واعتدى عليهم ليسوا
بالعاجزين ولا الأذلين بل يقدرون على الانتقام ممن بغى عليهم وإن كانوا مع هذا إذا
قدروا عفوا كما قال يوسف عليه الصلاة والسلام لإخوته : (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ
يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ) [يوسف : ٩٢] مع
قدرته على مؤاخذتهم ومقابلتهم على صنيعهم إليه وكما عفا رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن أولئك النفر الثمانين الذين قصدوه عام الحديبية ونزلوا
من جبل التنعيم فلما قدر عليهم منّ عليهم مع قدرته على الانتقام وكذلك عفوه صلىاللهعليهوسلم عن غورث بن الحارث الذي أراد الفتك به حين اخترط سيفه وهو
نائم فاستيقظ عليهالسلام وهو في يده مصلتا فانتهره فوضعه من يده وأخذ رسول الله صلىاللهعليهوسلم السيف من يده ودعا أصحابه ثم أعلمهم بما كان من أمره وأمر
هذا الرجل وعفا عنه .
وكذلك عفا صلىاللهعليهوسلم عن لبيد بن الأعصم الذي سحره عليهالسلام ومع هذا لم يعرض له ولا عاتبه مع قدرته عليه وكذلك عفوه صلىاللهعليهوسلم عن المرأة اليهودية ـ وهي زينب أخت مرحب اليهودي الخيبري
الذي قتله محمود بن مسلمة ـ التي سمت الذراع يوم خيبر ـ فأخبره الذراع بذلك فدعاها
فاعترفت فقال صلىاللهعليهوسلم : «ما حملك على ذلك؟» قالت : أردت إن كنت نبيا لم يضرك وإن
لم تكن نبيا استرحنا منك فأطلقها عليه الصلاة والسلام ولكن لما مات منه بشر بن
البراء
__________________
رضي الله عنه
قتلها به ، والأحاديث والآثار في هذا كثيرة جدا ، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ
سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا
يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَلَمَنِ انْتَصَرَ
بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٤١)
إِنَّمَا
السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ
بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٢) وَلَمَنْ صَبَرَ
وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)
(٤٣)
قوله تبارك وتعالى
: (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ
سَيِّئَةٌ مِثْلُها) كقوله تعالى : (فَمَنِ اعْتَدى
عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) [البقرة : ١٩٤]
وكقوله : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ
فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ
لِلصَّابِرِينَ) [النحل : ١٢٦]
الآية ، فشرع العدل وهو القصاص وندب إلى الفضل وهو العفو كقوله جل وعلا : (وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ
بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) [المائدة : ٤٥]
ولهذا قال هاهنا : (فَمَنْ عَفا
وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) أي لا يضيع ذلك عند الله كما صح ذلك في الحديث «وما زاد
الله تعالى عبدا بعفو إلا عزا» وقوله تعالى : (إِنَّهُ لا يُحِبُّ
الظَّالِمِينَ) أي المعتدين وهو المبتدئ بالسيئة.
ثم قال جل وعلا : (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ
فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) أي ليس عليهم جناح في الانتصار ممن ظلمهم. قال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع ، حدثنا معاذ بن معاذ ،
حدثنا ابن عون قال : كنت أسأل عن الانتصار في قوله تعالى : (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ
فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) فحدثني علي بن زيد بن جدعان عن أم محمد امرأة أبيه قال ابن
عون : زعموا أنها كانت تدخل على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، قالت : قالت أم
المؤمنين رضي الله عنها : دخل علينا رسول الله صلىاللهعليهوسلم وعندنا زينب بنت جحش رضي الله عنها ، فجعل النبي صلىاللهعليهوسلم يصنع بيده شيئا فلم يفطن لها ، فقلت بيده حتى فطنته لها
فأمسك ، وأقبلت زينب رضي الله عنها تقحم لعائشة رضي الله عنها فنهاها ، فأبت أن تنتهي ، فقال
لعائشة رضي الله عنها «سبيها» فسبتها فغلبتها ، وانطلقت زينب رضي الله عنها فأتت
عليا رضي الله عنه فقالت إن عائشة تقع بكم وتفعل بكم فجاءت فاطمة رضي الله عنها
فقالصلىاللهعليهوسلم لها «إنها حبة أبيك ورب الكعبة» فانصرفت ، وقالت لعلي رضي
الله عنه : إني قلت لهصلىاللهعليهوسلم كذا وكذا ، فقال لي كذاو كذا ، فقال لي كذا وكذا ، قال :
وجاء علي إلى النبي صلىاللهعليهوسلم وكلمه في ذلك ، هكذا أورد هذا السياق ، وعلي بن زيد بن
جدعان ، يأتي في رواياته بالمنكرات غالبا ، وهذا فيه نكارة.
والصحيح خلاف هذا
السياق ، كما رواه النسائي وابن ماجة من حديث خالد بن سلمة
__________________
الفأفاء ، عن عبد
الله البهي عن عروة ، قال : قالت عائشة رضي الله عنها ، ما علمت حتى دخلت علي زينب
بغير إذن وهي غضبى ، ثم قالت لرسول الله صلىاللهعليهوسلم : حسبك إذا قلبت لك ابنة أبي بكر ذريّعتيها ، ثم أقبلت علي فأعرضت عنها ، حتى قال النبي صلىاللهعليهوسلم «دونك فانتصري»
فأقبلت عليها حتى رأيتها وقد يبس ريقها في فمها ما ترد علي شيئا ، فرأيت النبي صلىاللهعليهوسلم يتهلل وجهه ، وهذا لفظ النسائي.
وقال البزار :
حدثنا يوسف بن موسى ، حدثنا أبو غسان ، حدثنا أبو الأحوص عن أبي حمزة عن إبراهيم
عن الأسود عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من دعا على من ظلمه فقد انتصر» ورواه الترمذي من حديث أبي الأحوص عن أبي حمزة واسمه ميمون ، ثم قال : لا
نعرفه إلا من حديثه ، وقد تكلم فيه من قبل حفظه. وقوله عزوجل : (إِنَّمَا السَّبِيلُ) أي إنما الحرج والعنت (عَلَى الَّذِينَ
يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) أي يبدؤون الناس بالظلم ، كما جاء في الحديث الصحيح «المستبان
ما قالا فعلى البادئ ما لم يعتد المظلوم» (أُولئِكَ لَهُمْ
عَذابٌ أَلِيمٌ) أي شديد موجع.
قال أبو بكر بن
أبي شيبة : حدثنا الحسن بن موسى ، حدثنا سعيد بن زيد أخو حماد بن زيد ، حدثنا
عثمان الشحام ، حدثنا محمد بن واسع قال : قدمت مكة فإذا على الخندق منظرة ، فأخذت حاجتي فانطلق بي إلى مروان بن المهلب ، وهو أمير
على البصرة فقال ما حاجتك يا أبا عبد الله؟ قلت : حاجتي إن استطعت أن تكون كما قال
أخو بني عدي ، قال : ومن أخو بني عدي؟ قال العلاء بن زياد : استعمل صديقا له مرة
على عمل ، فكتب إليه : أما بعد ، فإن استطعت أن لا تبيت إلا وظهرك خفيف ، وبطنك
خميص ، وكفك نقية من دماء المسلمين وأموالهم ، فإنك إذا فعلت ذلك ، لم يكن عليك
سبيل (إِنَّمَا السَّبِيلُ
عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ
الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) فقال مروان : صدق والله ونصح ، ثم قال : ما حاجتك يا أبا
عبد الله ، قلت : حاجتي أن تلحقني بأهلي ، قال : نعم ، رواه ابن أبي حاتم ، ثم إن
الله تعالى ، لما ذم الظلم وأهله وشرع القصاص ، قال نادبا إلى العفو والصفح : (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ) ، أي صبر على الأذى ، وستر السيئة (إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) قال سعيد بن جبير : يعني لمن حق الأمور التي أمر الله بها
، أي لمن الأمور
__________________
المشكورة ،
والأفعال الحميدة التي عليها ثواب جزيل ، وثناء جميل.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبي ، حدثنا عمران بن موسى الطرسوسي ، حدثنا عبد الصمد بن يزيد خادم
الفضيل بن عياض قال : سمعت الفضيل بن عياض يقول : إذا أتاك رجل يشكو إليك رجلا ،
فقل : يا أخي اعف عنه فإن العفو أقرب للتقوى ، فإن قال : لا يحتمل قلبي العفو ،
ولكن أنتصر كما أمرني الله عزوجل ، فقل له : إن كنت تحسن أن تنتصر وإلا فارجع إلى باب العفو
، فإنه باب واسع ، فإنه من عفا وأصلح فأجره على الله ، وصاحب العفو ينام على فراشه
بالليل ، وصاحب الانتصار يقلب الأمور.
وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى يعني ابن سعيد القطان ، عن ابن عجلان ، حدثنا
سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : إن رجلا شتم أبا بكر رضي الله
عنه والنبيصلىاللهعليهوسلم جالس ، فجعل النبي صلىاللهعليهوسلم يعجب ويتبسم ، فلما أكثر رد عليه بعض قوله ، فغضب النبي
وقام ، فلحقه أبو بكر رضي الله عنه فقال : يا رسول الله إنه كان يشتمني وأنت جالس
، فلما رددت عليه بعض قوله غضبت وقمت ، قال : «إنه كان معك ملك يرد عنك ، فلما
رددت عليه بعض قوله حضر الشيطان فلم أكن لأقعد مع الشيطان ـ ثم قال ـ يا أبا بكر :
ثلاث كلهن حق : ما من عبد ظلم بمظلمة فيغضي عنها الله ، إلا أعزه الله تعالى بها
ونصره ، وما فتح رجل باب عطية يريد بها صلة إلا زاده الله بها كثرة ، وما فتح رجل
باب مسألة يريد بها كثرة ، إلا زاده الله عزوجل بها قلة» وكذا رواه أبو داود عن عبد الأعلى بن حماد عن
سفيان بن عيينة قال : ورواه صفوان بن عيسى كلاهما عن محمد بن عجلان ، ورواه من
طريق الليث عن سعيد المقبري عن بشير بن المحرر عن سعيد بن المسيب مرسلا ، وهذا
الحديث في غاية الحسن في المعنى ، وهو مناسب للصديق رضي الله عنه.
(وَمَنْ يُضْلِلِ
اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا
الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ
(٤٤)
وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ
خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا
أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي
عَذابٍ مُقِيمٍ (٤٥) وَما كانَ لَهُمْ
مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما
لَهُ مِنْ سَبِيلٍ)
(٤٦)
يقول تعالى مخبرا
عن نفسه الكريمة أنه ما يشاء كان ولا راد له ، وما لم يشأ لم يكن فلا موجد له ،
وأنه من هداه فلا مضل له ، ومن يضلل الله فلا هادي له ، كما قال عزوجل : (وَمَنْ يُضْلِلْ
فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً) [الكهف : ١٧] ثم
قال عزوجل مخبرا عن الظالمين وهم المشركون بالله : (لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) أي يوم القيامة تمنوا الرجعة إلى الدنيا (يَقُولُونَ هَلْ إِلى
__________________
مَرَدٍّ
مِنْ سَبِيلٍ) كما قال جل وعلا : (وَلَوْ تَرى إِذْ
وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا : يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ
رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ
قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) [الأنعام : ٢٧ ـ ٢٨].
وقوله عزوجل : (وَتَراهُمْ
يُعْرَضُونَ عَلَيْها) أي على النار (خاشِعِينَ مِنَ
الذُّلِ) أي الذي قد اعتراهم بما أسلفوا من عصيان الله تعالى (يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ) قال مجاهد : يعني ذليل أي ينظرون إليها مسارقة خوفا منها
والذي يحذرون منه واقع بهم لا محالة ، وما هو أعظم مما في نفوسهم ، أجارنا الله من
ذلك.
(وَقالَ الَّذِينَ
آمَنُوا) أي يقولون يوم القيامة (إِنَّ الْخاسِرِينَ) أي الخسار الأكبر (الَّذِينَ خَسِرُوا
أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي ذهب بهم إلى النار فعدموا لذتهم في دار الأبد وخسروا
أنفسهم ، وفرق بينهم وبين أحبابهم وأصحابهم وأهاليهم وقراباتهم فخسروهم (أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ
مُقِيمٍ) أي دائم سرمدي أبدي لا خروج لهم منها ولا محيد لهم عنها. وقوله
تعالى : (وَما كانَ لَهُمْ
مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) أي ينقذونهم مما هم فيه من العذاب والنكال (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ
سَبِيلٍ) أي ليس له خلاص.
(اسْتَجِيبُوا
لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ ما
لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (٤٧) فَإِنْ أَعْرَضُوا
فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا
إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ
سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ)
(٤٨)
لما ذكر تعالى ما
يكون في يوم القيامة من الأهوال والأمور العظام الهائلة ، حذر منه وأمر بالاستعداد
له ، فقال : (اسْتَجِيبُوا
لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ) أي إذا أمر بكونه فإنه كلمح البصر يكون ، وليس له دافع ولا
مانع. وقوله عزوجل : (ما لَكُمْ مِنْ
مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ) أي ليس لكم حصن تتحصنون فيه ولا مكان يستركم وتتنكرون فيه
فتغيبون عن بصره تبارك وتعالى ، بل هو محيط بكم بعلمه وبصره وقدرته ، فلا ملجأ منه
إلا إليه (يَقُولُ الْإِنْسانُ
يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ كَلَّا لا وَزَرَ إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ
الْمُسْتَقَرُّ) [القيامة : ١٠ ـ ١٢]
وقوله تعالى : (فَإِنْ أَعْرَضُوا) يعني المشركين (فَما أَرْسَلْناكَ
عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) أي لست عليهم بمسيطر ، وقال عزوجل : (لَيْسَ عَلَيْكَ
هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [البقرة : ٢٧٢] وقال تعالى : (فَإِنَّما عَلَيْكَ
الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) [الرعد : ٤٠] وقال
جل وعلا هاهنا : (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا
الْبَلاغُ) أي إنما كلفناك أن تبلغهم رسالة الله إليهم.
ثم قال تبارك
وتعالى : (وَإِنَّا إِذا
أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها) أي إذا أصابه رخاء ونعمة فرح بذلك (وَإِنْ تُصِبْهُمْ) يعني الناس (سَيِّئَةٌ) أي جدب وبلاء وشدة (فَإِنَّ الْإِنْسانَ
كَفُورٌ) أي يجحد ما تقدم من النعمة ولا يعرف إلا الساعة الراهنة ،
فإن أصابته نعمة أشر وبطر ، وإن أصابته محنة يئس وقنط ، كما قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم للنساء : «يا معشر النساء تصدقن فإني رأيتكن
أكثر أهل النار»
فقالت امرأة : ولم يا رسول الله؟ فقال صلىاللهعليهوسلم : «لأنكن تكثرن الشكاية وتكفرن العشير ، لو أحسنت إلى
إحداهن الدهر ثم تركت يوما ، قالت : ما رأيت منك خيرا قط» وهذا حال أكثر الناس ، إلا من هداه الله تعالى وألهمه رشده
، وكان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، فالمؤمن كما قال صلىاللهعليهوسلم : «إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له ، وإن أصابته ضراء صبر
فكان خيرا له ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن» .
(لِلَّهِ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً
وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ
(٤٩) أَوْ
يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ
عَلِيمٌ قَدِيرٌ)
(٥٠)
يخبر تعالى أنه
خالق السموات والأرض ومالكهما والمتصرف فيهما ، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن
، وأنه يعطي من يشأ ويمنع من يشاء ، ولا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع ، وأنه
يخلق ما يشاء (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ
إِناثاً) أي يرزقه البنات فقط. قال البغوي : ومنهم لوط عليه الصلاة
والسلام. (وَيَهَبُ لِمَنْ
يَشاءُ الذُّكُورَ) أي يرزقه البنين فقط ، قال البغوي : كإبراهيم الخليل عليه
الصلاة والسلام لم يولد له أنثى (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ
ذُكْراناً وَإِناثاً) أي ويعطي لمن يشاء من الناس الزوجين الذكر والأنثى أي من
هذا وهذا ، قال البغوي : كمحمد عليه الصلاة والسلام (وَيَجْعَلُ مَنْ
يَشاءُ عَقِيماً) أي لا يولد له.
قال البغوي : كيحيى
وعيسى عليهماالسلام ، فجعل الناس أربعة أقسام : منهم من يعطيه البنات ، ومنهم
من يعطيه البنين ، ومنهم من يعطيه من النوعين ذكورا وإناثا ، ومنهم من يمنعه هذا
وهذا فيجعله عقيما لا نسل له ولا يولد له. (إِنَّهُ عَلِيمٌ) أي بمن يستحق كل قسم من هذه الأقسام (قَدِيرٌ) أي على من يشاء من تفاوت الناس في ذلك ، وهذا المقام شبيه
بقوله تبارك وتعالى عن عيسى عليه الصلاة والسلام (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً
لِلنَّاسِ) [مريم : ٢١] أي
دلالة لهم على قدرته تعالى وتقدس حيث خلق الخلق على أربعة أقسام ، فآدم عليه
الصلاة والسلام مخلوق من تراب لا من ذكر ولا أنثى ، وحواء عليهاالسلام مخلوقة من ذكر بلا أنثى ، وسائر الخلق سوى عيسىعليهالسلام من أنثى بلا ذكر ، فتمت الدلالة بخلق عيسى ابن مريم عليهما
الصلاة والسلام. ولهذا قال تعالى : (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً
لِلنَّاسِ) فهذا المقام في الآباء والمقام الأول في الأبناء وكل منهما
أربعة أقسام ، فسبحان العليم القدير.
(وَما كانَ لِبَشَرٍ
أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ
رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ
__________________
إِنَّهُ
عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٥١) وَكَذلِكَ
أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا
الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا
وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ(٥٢)
صِراطِ
اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ
تَصِيرُ الْأُمُورُ)
(٥٣)
هذه مقامات الوحي
بالنسبة إلى جنات الله عزوجل ، وهو أنه تبارك وتعالى تارة يقذف في روع النبي صلىاللهعليهوسلم شيئا لا يتمارى فيه أنه من الله عزوجل ، كما جاء في صحيح ابن حبان عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «إن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى
تستكمل رزقها وأجلها ، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب». وقوله تعالى : (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) كما كلم موسى عليه الصلاة والسلام ، فإنه سأل الرؤية بعد
التكليم فحجب عنها.
وفي الصحيح أن
رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال لجابر بن عبد الله رضي الله عنهما : «ما كلم الله أحدا
إلا من وراء حجاب وإنه كلم أباك كفاحا» كذا جاء في الحديث ، وكان قد قتل يوم أحد ، ولكن هذا في
عالم البرزخ ، والآية إنما هي في الدار الدنيا. وقوله عزوجل : (أَوْ يُرْسِلَ
رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ) كما ينزل جبريل عليه الصلاة والسلام وغيره من الملائكة على
الأنبياء عليهم الصلاة والسلام (إِنَّهُ عَلِيٌّ
حَكِيمٌ) فهو علي عليم خبير حكيم. وقوله عزوجل : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا
إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) يعني القرآن (ما كُنْتَ تَدْرِي
مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) أي على التفصيل الذي شرع لك في القرآن (وَلكِنْ جَعَلْناهُ) أي القرآن (نُوراً نَهْدِي بِهِ
مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) كقوله تعالى : (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ
آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ
عَلَيْهِمْ عَمًى) [فصلت : ٤٤]
الآية.
وقوله تعالى : (وَإِنَّكَ) أي يا محمد (لَتَهْدِي إِلى
صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) وهو الخلق القويم ، ثم فسره بقوله تعالى : (صِراطِ اللهِ) أي وشرعه الذي أمر به الله (الَّذِي لَهُ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي ربهما ومالكهما والمتصرف فيهما والحاكم الذي لا معقب
لحكمه (أَلا إِلَى اللهِ
تَصِيرُ الْأُمُورُ) أي ترجع الأمور فيفصلها ويحكم فيها سبحانه وتعالى عما يقول
الظالمون والجاحدون علوا كبيرا.
__________________
سورة الزخرف
وهي مكية
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(حم (١) وَالْكِتابِ
الْمُبِينِ (٢) إِنَّا جَعَلْناهُ
قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٣) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ
الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (٤) أَفَنَضْرِبُ
عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (٥) وَكَمْ أَرْسَلْنا
مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (٦) وَما يَأْتِيهِمْ
مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٧)
فَأَهْلَكْنا
أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ)
(٨)
يقول تعالى : (حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) أي البين الواضح الجلي المعاني والألفاظ ، لأنه نزل بلغة
العرب التي هي أفصح اللغات للتخاطب بين الناس ، ولهذا قال تعالى : (إِنَّا جَعَلْناهُ) أي نزلناه (قُرْآناً عَرَبِيًّا) أي بلغة العرب فصيحا واضحا (لَعَلَّكُمْ
تَعْقِلُونَ) أي تفهمونه وتتدبرونه ، كما قال عزوجل : (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ
مُبِينٍ) [الشعراء : ١٩٥].
وقوله تعالى : (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا
لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) بين شرفه في الملأ الأعلى ليشرفه ويعظمه ويطيعه أهل الأرض
، فقال تعالى : (وَإِنَّهُ) أي القرآن (فِي أُمِّ الْكِتابِ) أي اللوح المحفوظ ، قاله ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد (لَدَيْنا) أي عندنا ، قاله قتادة وغيره (لَعَلِيٌ) أي ذو مكانة عظيمة وشرف وفضل قاله قتادة (حَكِيمٌ) أي محكم بريء من اللبس والزيغ. وهذا كله تنبيه على شرفه
وفضله ، كما قال تبارك وتعالى : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ
كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ
رَبِّ الْعالَمِينَ) [الواقعة : ٧٧ ـ ٨٠]
وقال تعالى : (كَلَّا إِنَّها
تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ
بِأَيْدِي سَفَرَةٍ. كِرامٍ بَرَرَةٍ) [عبس : ١١ ـ ١٦]
ولهذا استنبط العلماء رضي الله عنهم من هاتين الآيتين أن المحدث لا يمس المصحف كما
ورد به الحديث إن صح ، لأن الملائكة يعظمون المصاحف المشتملة على القرآن في الملأ الأعلى
، فأهل الأرض بذلك أولى وأحرى ، لأنه نزل عليهم ، وخطابه متوجه إليهم ، فهم أحق أن
يقابلوه بالإكرام والتعظيم ، والانقياد له بالقبول والتسليم ، لقوله تعالى : (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا
لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ).
وقوله عزوجل : (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ
الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ) اختلف المفسرون في معناها فقيل معناها أتحسبون أن نصفح
عنكم فلا نعذبكم ولم تفعلوا ما أمرتم به ، قاله ابن عباس رضي الله عنهما وأبو صالح
ومجاهد والسدي واختاره ابن جرير ، وقال
__________________
قتادة في قوله
تعالى : (أَفَنَضْرِبُ
عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً) والله لو أن هذا القرآن رفع حين ردته أوائل هذه الأمة
لهلكوا ، ولكن الله تعالى عاد بعائدته ورحمته فكرره عليهم ودعاهم إليه عشرين سنة
أو ما شاء الله من ذلك ، وقول قتادة لطيف المعنى جدا ، وحاصله أنه يقول في معناه
إنه تعالى من لطفه ورحمته بخلقه لا يترك دعاءهم إلى الخير وإلى الذكر الحكيم وهو
القرآن ، وإن كانوا مسرفين معرضين عنه بل أمر به ليهتدي به من قدر هدايته ، وتقوم
الحجة على من كتب شقاوته.
ثم قال جل وعلا
مسليا لنبيه صلىاللهعليهوسلم في تكذيب من كذبه من قومه وآمرا له بالصبر عليهم : (وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي
الْأَوَّلِينَ) أي في شيع الأولين (وَما يَأْتِيهِمْ
مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي يكذبونه ويسخرون به. وقوله تبارك وتعالى : (فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً) أي فأهلكنا المكذبين بالرسل ، وقد كانوا أشد بطشا من هؤلاء
المكذبين لك يا محمد ، كقوله عزوجل : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا
فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً) [غافر : ٨٢]
والآيات في ذلك كثيرة جدا. وقوله جل جلاله : (وَمَضى مَثَلُ
الْأَوَّلِينَ) قال مجاهد : سنتهم. وقال قتادة : عقوبتهم. وقال غيرهما :
عبرتهم ، أي جعلناهم عبرة لمن بعدهم من المكذبين أن يصيبهم ما أصابهم ، كقوله
تعالى في آخر هذه السورة : (فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً
وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ) [الزخرف : ٥٦]
وكقوله جلت عظمته : (سُنَّتَ اللهِ
الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ) [غافر : ٨٥] وقال عزوجل : (وَلَنْ تَجِدَ
لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) [الأحزاب : ٥٦].
(وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ
الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩) الَّذِي جَعَلَ
لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠)
وَالَّذِي
نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ
تُخْرَجُونَ (١١) وَالَّذِي خَلَقَ
الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ
(١٢) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ
تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ
الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (١٣)
وَإِنَّا
إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ)
(١٤)
يقول تعالى : ولئن
سألت يا محمد هؤلاء المشركين بالله ، العابدين معه غيره (مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ
لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) أي ليعترفن بأن الخالق لذلك هو الله وحده لا شريك له ، وهم
مع هذا يعبدون معه غيره من الأصنام والأنداد ، ثم قال تعالى : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ
مَهْداً) أي فراشا قرارا ثابتة تسيرون عليها وتقومون وتنامون
وتنصرفون ، مع أنها مخلوقة على تيار الماء ، لكنه أرساها بالجبال لئلا تميد هكذا
ولا هكذا (وَجَعَلَ لَكُمْ
فِيها سُبُلاً) أي طرقا بين الجبال والأودية (لَعَلَّكُمْ
تَهْتَدُونَ) أي في سيركم من بلد إلى بلد ، وقطر إلى قطر ، وإقليم إلى
إقليم (وَالَّذِي نَزَّلَ
مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ) أي بحسب الكفاية لزروعكم وثماركم وشربكم لأنفسكم
ولأنعامكم.
وقوله تبارك
وتعالى : (فَأَنْشَرْنا بِهِ
بَلْدَةً مَيْتاً) أي أرضا ميتة ، فلما جاءها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل
زوج بهيج ، ثم نبه تعالى بإحياء الأرض على إحياء الأجساد يوم المعاد بعد موتها ،
فقال : (كَذلِكَ تُخْرَجُونَ).
ثم قال عزوجل : (وَالَّذِي خَلَقَ
الْأَزْواجَ كُلَّها) أي مما تنبت الأرض من سائر الأصناف من نبات وزروع وثمار
وأزاهير وغير ذلك من الحيوانات على اختلاف أجناسها وأصنافها (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ) أي السفن (وَالْأَنْعامِ ما
تَرْكَبُونَ) أي ذللها لكم وسخرها ويسرها لأكلكم لحومها وشربكم ألبانها
وركوبكم ظهورها ، ولهذا قال جل وعلا : (لِتَسْتَوُوا عَلى
ظُهُورِهِ) أي لتستووا متمكنين مرتفقين (عَلى ظُهُورِهِ) أي على ظهور هذا الجنس (ثُمَّ تَذْكُرُوا
نِعْمَةَ رَبِّكُمْ) أي فيما سخر لكم (إِذَا اسْتَوَيْتُمْ
عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ
مُقْرِنِينَ) أي مقاومين ، ولولا تسخير الله لنا هذا ما قدرنا عليه. قال
ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة والسدي وابن زيد : مقرنين ، أي مطيقين ، (وَإِنَّا إِلى
رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) أي لصائرون إليه بعد مماتنا وإليه سيرنا الأكبر ، وهذا من
باب التنبيه بسير الدنيا على سير الآخرة ، كما نبه بالزاد الدنيوي على الزاد
الأخروي في قوله تعالى : (وَتَزَوَّدُوا
فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى) [البقرة : ١٩٧]
وباللباس الدنيوي على الأخروي في قوله تعالى : (وَرِيشاً وَلِباسُ
التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ) [الأعراف : ٢٦].
ذكر الأحاديث الواردة عند ركوب الدابة
[حديث أمير
المؤمنين علي بن أبي طالب] رضي الله عنه. قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا شريك بن عبد الله عن أبي إسحاق ، عن
علي بن ربيعة قال : رأيت عليا رضي الله عنه أتى بدابة ، فلما وضع رجله في الركاب
قال : باسم الله ، فلما استوى عليها قال : الحمد لله (سُبْحانَ الَّذِي
سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلى رَبِّنا
لَمُنْقَلِبُونَ) ثم حمد الله تعالى ثلاثا وكبر ثلاثا ، ثم قال : سبحانك لا
إله إلا أنت قد ظلمت نفسي فاغفر لي ثم ضحك ، فقلت له : مم ضحكت يا أمير المؤمنين؟
فقال رضي الله عنه : رأيت رسول الله صلىاللهعليهوسلم فعل مثلما فعلت ثم ضحك ، فقلت : مم ضحكت يا رسول الله؟
فقال صلىاللهعليهوسلم : «يعجب الرب تبارك وتعالى من عبده إذا قال رب اغفر لي ،
ويقول علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب غيري» وهكذا رواه أبو
__________________
داود والترمذي والنسائي من حديث أبي الأحوص ، زاد النسائي ومنصور عن أبي إسحاق
السبيعي عن علي بن ربيعة الأسدي الوالبي به. وقال الترمذي : حسن صحيح ، وقد قال
عبد الرحمن بن مهدي عن شعبة : قلت لأبي إسحاق السبيعي : ممن سمعت هذا الحديث؟ قال
: من يونس بن خباب ، فلقيت يونس بن خباب فقلت : ممن سمعته؟ فقال : من رجل سمعه من
علي بن ربيعة ، ورواه بعضهم عن يونس بن خباب عن شقيق بن عقبة الأسدي عن علي بن
ربيعة الوالبي به.
[حديث عبد الله بن
عباس] رضي الله عنهما. قال الإمام أحمد : حدثنا أبو المغيرة «حدثنا أبو بكر بن عبد الله عن علي بن
أبي طلحة عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ، قال : إن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أردفه على دابته ، فلما استوى عليها كبر رسول الله صلىاللهعليهوسلم ثلاثا وحمد ثلاثا ، وهلل واحدة ، ثم استلقى عليه فضحك ، ثم
أقبل عليه فقال «ما من امرئ مسلم يركب فيصنع كما صنعت ، إلا أقبل الله عزوجل عليه ، فضحك إليه كما ضحكت إليك» تفرد به أحمد.
[حديث عبد الله بن
عمر] رضي الله عنهما. قال الإمام أحمد : حدثنا أبو كامل ، حدثنا حماد بن سلمة عن أبي الزبير عن
علي بن عبد الله البارقي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : إن النبي صلىاللهعليهوسلم كان إذا ركب راحلته كبر ثلاثا ثم قال (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما
كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) ـ ثم يقول ـ اللهم إني أسألك في سفري هذا البر والتقوى ،
ومن العمل ما ترضى ، اللهم هون علينا السفر واطو لنا البعيد ، اللهم أنت الصاحب في
السفر والخليفة في الأهل ، اللهم اصحبنا في سفرنا وأخلفنا في أهلنا». وكان صلىاللهعليهوسلم إذا رجع إلى أهله قال : «آئبون تائبون إن شاء الله عابدون
لربنا حامدون» وهكذا رواه مسلم وأبو داود والنسائي من حديث ابن جريج ،
والترمذي من حديث حماد بن سلمة ، كلاهما عن أبي الزبير به.
[حديث آخر] قال
الإمام أحمد : حدثنا محمد بن عبيد حدثنا محمد بن إسحاق عن محمد بن
إبراهيم عن عمرو بن الحكم بن ثوبان عن أبي لاس الخزاعي قال : حملنا رسول اللهصلىاللهعليهوسلم على إبل من إبل الصدقة إلى الحج ، فقلنا : يا رسول الله ما
نرى أن تحملنا هذه ،
__________________
فقال صلىاللهعليهوسلم : «ما من بعير إلا في ذروته شيطان ، فاذكروا اسم الله
عليها إذا ركبتموها كما آمركم ، ثم امتهنوها لأنفسكم فإنما يحمل الله عزوجل» أبو لاس اسمه محمد بن الأسود بن خلف.
[حديث آخر] في
معناه ـ قال أحمد : حدثنا عتاب ، أخبرنا عبد الله ، وعلي بن إسحاق ، أخبرنا
عبد الله يعني ابن المبارك ، أخبرنا أسامة بن زيد ، أخبرني محمد بن حمزة أنه سمع
أباه يقول : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «على ظهر كل بعير شيطان فإذا ركبتموها فسموا اللهعزوجل ثم لا تقصروا عن حاجاتكم».
(وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ
عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (١٥) أَمِ اتَّخَذَ
مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (١٦)
وَإِذا
بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا
وَهُوَ كَظِيمٌ(١٧) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا
فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (١٨)
وَجَعَلُوا
الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ
سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (١٩) وَقالُوا لَوْ شاءَ
الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ
يَخْرُصُونَ) (٢٠)
يقول تعالى مخبرا
عن المشركين فيما افتروه وكذبوه في جعلهم بعض الأنعام لطواغيتهم وبعضها لله تعالى
، كما ذكر الله عزوجل عنهم في سورة الأنعام في قوله تبارك وتعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ
الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا
لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَما كانَ لِلَّهِ
فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ) [الأنعام : ١٣٦]
وكذلك جعلوا له في قسمي البنات والبنين أخسهما وأردأهما وهو البنات ، كما قال
تعالى : (أَلَكُمُ الذَّكَرُ
وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) [النجم : ٢١ ـ ٢٢]
وقال جل وعلا هاهنا : (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ
عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ).
ثم قال جل وعلا : (أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ
وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ) وهذا إنكار عليهم غاية الإنكار. ثم ذكر تمام الإنكار ،
فقال جلت عظمته (وَإِذا بُشِّرَ
أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ
كَظِيمٌ) أي إذا بشر أحد هؤلاء بما جعلوه لله من البنات يأنف من ذلك
غاية الأنفة ، وتعلوه كابة من سوء ما بشر به ، ويتوارى من القوم من خجله من ذلك ،
يقول تبارك وتعالى : فكيف تأنفون من ذلك وتنسبونه إلى الله عزوجل ، ثم قال سبحانه وتعالى : (أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا
فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ) أي المرأة ناقصة يكمل نقصها بلبس الحلي منذ تكون طفلة وإذا
خاصمت فلا عبارة لها ، بل هي عاجزة عيية أو من يكون هكذا ينسب إلى جناب الله
العظيم ، فالأنثى ناقصة الظاهر والباطن في الصورة والمعنى ، فيكمل نقص ظاهرها
وصورتها بلبس الحلي وما في معناه ليجبر ما فيها من نقص كما قال بعض شعراء العرب :
__________________
[الطويل]
وما الحلي إلا
زينة من نقيصة
|
|
يتمّم من حسن
إذا الحسن قصّرا
|
وأمّا إذا كان
الجمال موفّرا
|
|
كحسنك لم يحتج
إلى أن يزوّرا
|
وأما نقص معناها
فإنها ضعيفة عاجزة عن الانتصار عند الانتصار لا عبارة لها ولا همة ، كما قال بعض
العرب وقد بشر ببنت : ما هي بنعم الولد نصرها بالبكاء ، وبرها سرقة ، وقوله تبارك
وتعالى : (وَجَعَلُوا
الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) أي اعتقدوا فيهم ذلك ، فأنكر عليهم تعالى قولهم ذلك فقال :
(أَشَهِدُوا
خَلْقَهُمْ) أي شاهدوه وقد خلقهم الله إناثا (سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ) أي بذلك (وَيُسْئَلُونَ) عن ذلك يوم القيامة وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد (وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما
عَبَدْناهُمْ) أي لو أراد الله لحال بيننا وبين عبادة هذه الأصنام التي
هي على صور الملائكة التي هي بنات الله ، فإنه عالم بذلك وهو يقرنا عليه ، فجمعوا
بين أنواع كثيرة من الخطأ :
[أحدها] جعلهم لله
تعالى ولدا ، تعالى وتقدس وتنزه عن ذلك علوا كبيرا.
[الثاني] دعواهم
أنه اصطفى البنات على البنين فجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا.
[الثالث] عبادتهم
لهم مع ذلك كله بلا دليل ولا برهان ولا إذن من الله عزوجل ، بل بمجرد الآراء والأهواء والتقليد للأسلاف والكبراء
والآباء والخبط في الجاهلية الجهلاء.
[الرابع] احتجاجهم
بتقريرهم على ذلك قدرا ، وقد جهلوا في هذا الاحتجاج جهلا كبيرا ، فإنه تعالى قد
أنكر ذلك عليهم أشد الإنكار فإنه منذ بعث الرسل وأنزل الكتب يأمر بعبادته وحده لا
شريك له ، وينهى عن عبادة ما سواه قال تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنا
فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ
فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ
فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) [النحل : ٣٦] وقال
عزوجل : (وَسْئَلْ مَنْ
أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً
يُعْبَدُونَ) [الزخرف : ٤٥]
وقال جل وعلا في هذه الآية بعد أن ذكر حجتهم هذه : (ما لَهُمْ بِذلِكَ
مِنْ عِلْمٍ) أي بصحة ما قالوه واحتجوا به (إِنْ هُمْ إِلَّا
يَخْرُصُونَ) أي يكذبون ويتقولون. وقال مجاهد في قوله تعالى : (ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ
هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) يعني ما يعلمون قدرة الله تبارك وتعالى على ذلك.
(أَمْ آتَيْناهُمْ
كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (٢١) بَلْ قالُوا إِنَّا
وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (٢٢) وَكَذلِكَ ما
أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها
إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ
__________________
وَإِنَّا
عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (٢٣) قالَ أَوَلَوْ
جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما
أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ
(٢٤) فَانْتَقَمْنا
مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)
(٢٥)
يقول تعالى منكرا
على المشركين في عبادتهم غير الله بلا برهان ولا دليل ولا حجة (أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ) أي من قبل شركهم (فَهُمْ بِهِ
مُسْتَمْسِكُونَ) أي فيما هم فيه ليس الأمر كذلك ، كقوله عزوجل : (أَمْ أَنْزَلْنا
عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ) [الروم : ٣٥] أي لم يكن ذلك. ثم قال تعالى : (بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى
أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) أي ليس لهم مستند فيما هم فيه من الشرك سوى تقليد الآباء
والأجداد بأنهم كانوا على أمة والمراد بها الدين هاهنا. وفي قوله تبارك وتعالى : (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً
واحِدَةً) [الأنبياء : ٩٢] وقولهم : (وَإِنَّا عَلى
آثارِهِمْ) أي وراءهم (مُهْتَدُونَ) دعوى منهم بلا دليل. ثم بين جل وعلا أن مقالة هؤلاء قد
سبقهم إليها أشباههم ونظراؤهم من الأمم السالفة المكذبة للرسل ، تشابهت قلوبهم
فقالوا مثل مقالتهم (كَذلِكَ ما أَتَى
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَواصَوْا
بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) [الذاريات : ٥٢ ـ ٥٣]
وهكذا قال هاهنا : (وَكَذلِكَ ما
أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها
إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ).
ثم قال عزوجل : قل أي يا محمد لهؤلاء المشركين (أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا
وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) أي ولو علموا وتيقنوا صحة ما جئتم به لما انقادوا لذلك
لسوء قصدهم ومكابرتهم للحق وأهله. قال الله تعالى : (فَانْتَقَمْنا
مِنْهُمْ) أي من الأمم المكذبة بأنواع من العذاب كما فصله تبارك
وتعالى في قصصهم (فَانْظُرْ كَيْفَ
كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) أي كيف بادوا وهلكوا وكيف نجى الله المؤمنين.
(وَإِذْ قالَ
إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (٢٦) إِلاَّ الَّذِي
فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (٢٧)
وَجَعَلَها
كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٨) بَلْ مَتَّعْتُ
هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (٢٩) وَلَمَّا جاءَهُمُ
الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (٣٠)
وَقالُوا
لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١) أَهُمْ يَقْسِمُونَ
رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ
الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ
بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٣٢)
وَلَوْ
لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ
بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ
(٣٣) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً
عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (٣٤) وَزُخْرُفاً وَإِنْ
كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ
لِلْمُتَّقِينَ)
(٣٥)
يقول تعالى مخبرا
عن عبده ورسوله وخليله إمام الحنفاء ووالد من بعث بعده من الأنبياء
الذي تنتسب إليه
قريش في نسبها ومذهبها أنه تبرأ من أبيه وقومه في عبادتهم الأوثان ، فقال : (إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ
إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي
عَقِبِهِ) أي هذه الكلمة وهي عبادة الله وحده لا شريك له وخلع ما
سواه من الأوثان ، وهي لا إله إلا الله أي جعلها دائمة في ذريته يقتدي به فيها من
هداه الله تعالى من ذرية إبراهيم عليه الصلاة والسلام (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي إليها.
قال عكرمة ومجاهد
والضحاك وقتادة والسدي وغيرهم في قوله عزوجل : (وَجَعَلَها كَلِمَةً
باقِيَةً فِي عَقِبِهِ) يعني لا إله إلا الله لا يزال في ذريته من يقولها ، وروي نحوه عن ابن عباس رضي الله عنهما. وقال ابن زيد :
كلمة الإسلام وهو يرجع إلى ما قاله الجماعة ، ثم قال جل وعلا : (بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ) يعني المشركين (وَآباءَهُمْ) أي فتطاول عليهم العمر في ضلالهم (حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ
مُبِينٌ) أي بيّن الرسالة والنذارة (وَلَمَّا جاءَهُمُ
الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ) أي كابروه وعاندوه ودفعوا بالصدور والراح كفرا وحسدا وبغيا
(وَقالُوا) أي كالمعترضين على الذي أنزله تعالى وتقدس (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى
رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) أي هلا كان إنزال هذا القرآن على رجل عظيم كبير في أعينهم
من القريتين؟ يعنون مكة والطائف ، قاله ابن عباس رضي الله عنهما وعكرمة ومحمد بن
كعب القرظي وقتادة والسدي وابن زيد ، وقد ذكر غير واحد منهم أنهم أرادوا بذلك
الوليد بن المغيرة وعروة بن مسعود الثقفي.
وقال مالك عن زيد
بن أسلم والضحاك والسدي : يعنون الوليد بن المغيرة ومسعود بن عمرو الثقفي. وعن
مجاهد : يعنون عمير بن عمرو بن مسعود الثقفي وعنه أيضا أنهم يعنون عتبة بن ربيعة.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : جبارا من جبابرة قريش ، وعنه رضي الله عنهما أنهم
يعنون الوليد بن المغيرة وحبيب بن عمرو بن عمير الثقفي ، وعن مجاهد : يعنون عتبة
بن ربيعة بمكة وابن عبد يا ليل بالطائف. وقال السدي : عنوا بذلك الوليد بن المغيرة
وكنانة بن عمرو بن عمير الثقفي ، والظاهر أن مرادهم رجل كبير من أي البلدتين كان
قال الله تبارك وتعالى رادا عليهم في هذا الاعتراض (أَهُمْ يَقْسِمُونَ
رَحْمَتَ رَبِّكَ) أي ليس الأمر مردودا إليهم. بل إلى الله عزوجل ، والله أعلم حيث يجعل رسالاته ، فإنه لا ينزلها إلا على
أزكى الخلق قلبا ونفسا. وأشرفهم بيتا ، وأطهرهم أصلا.
ثم قال عزوجل مبينا أنه قد فاوت بين خلقه فيما أعطاهم من الأموال
والأرزاق والعقول والفهوم وغير ذلك من القوى الظاهرة والباطنة ، فقال : (نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ
فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) الآية. وقوله جلت عظمته : (لِيَتَّخِذَ
بَعْضُهُمْ بَعْضاً
__________________
سُخْرِيًّا) قيل معناه ليسخر بعضهم بعضا في الأعمال لاحتياج هذا إلى هذا
، وهذا إلى هذا ، قاله السدي وغيره. وقال قتادة والضحاك ليملك بعضهم بعضا وهو راجع
إلى الأول : ثم قالعزوجل: (وَرَحْمَتُ رَبِّكَ
خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) أي رحمة الله بخلقه خير لهم مما بأيديهم من الأموال ومتاع
الحياة الدنيا ، ثم قال سبحانه وتعالى : (وَلَوْ لا أَنْ
يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) أي لولا أن يعتقد كثير من الناس الجهلة أن إعطاءنا المال
دليل على محبتنا لمن أعطيناه فيجتمعوا على الكفر لأجل المال هذا معنى قول ابن عباس
والحسن وقتادة والسدي وغيرهم (لَجَعَلْنا لِمَنْ
يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ) أي سلالم ودرجا من فضة قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي
وابن زيد وغيرهم (عَلَيْها يَظْهَرُونَ) أي يصعدون ولبيوتهم أبوابا أي أغلاقا على أبوابهم (وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ) أي جميع ذلك يكون فضة (وَزُخْرُفاً) أي وذهبا ، قاله ابن عباس وقتادة والسدي وابن زيد.
ثم قال تبارك
وتعالى : (وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ
لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي إنما ذلك من الدنيا الفانية الزائلة الحقيرة عند الله
تعالى ، أي يعجل لهم بحسناتهم التي يعملونها في الدنيا مآكل ومشارب ليوافوا الآخرة
، وليس لهم عند الله تبارك وتعالى حسنة يجزيهم بها كما ورد به الحديث الصحيح. وورد
في حديث آخر «لو أن الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرا شربة ماء»
أسنده البغوي من رواية زكريا بن منظور عن أبي حازم عن سهل بن سعد رضي الله عنه عن
النبي صلىاللهعليهوسلم فذكره. ورواه الطبراني من طريق زمعة بن صالح عن أبي حازم
عن سهل بن سعد عن النبيصلىاللهعليهوسلم «لو عدلت الدنيا
عند الله جناح بعوضة ما أعطى كافرا منها شيئا».
ثم قال سبحانه
وتعالى : (وَالْآخِرَةُ عِنْدَ
رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) أي هي لهم خاصة لا يشاركهم فيها أحد غيرهم ، ولهذا لما قال
عمر بن الخطاب رضي الله عنه لرسول الله صلىاللهعليهوسلم حين صعد إليه في تلك المشربة لما آلى صلىاللهعليهوسلم من نسائه فرآه على رمال حصير قد أثر بجنبه ، فابتدرت عيناه
بالبكاء وقال : يا رسول الله هذا كسرى وقيصر فيما هما فيه ، وأنت صفوة الله من
خلقه ، وكان رسول اللهصلىاللهعليهوسلم متكئا فجلس وقال : «أو فيّ شاك أنت يا ابن الخطاب؟» ثم قال
صلىاللهعليهوسلم أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا» وفي رواية «أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة» . وفي الصحيحين أيضا وغيرهما أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ، ولا تأكلوا في
صحافها فإنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة» وإنما خولهم الله تعالى
__________________
في الدنيا
لحقارتهم كما روى الترمذي وابن ماجة من طريق أبي حازم عن سهل بن سعد قال : قال
رسول الله صلىاللهعليهوسلم «لو كانت الدنيا
تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرا شربة ماء أبدا»قال الترمذي : حسن صحيح.
(وَمَنْ يَعْشُ عَنْ
ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ
(٣٦)
وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ
مُهْتَدُونَ (٣٧) حَتَّى إِذا جاءَنا
قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (٣٨)
وَلَنْ
يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٩)
أَفَأَنْتَ
تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ
(٤٠)
فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (٤١) أَوْ نُرِيَنَّكَ
الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (٤٢)
فَاسْتَمْسِكْ
بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٣) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ
لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (٤٤) وَسْئَلْ مَنْ
أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً
يُعْبَدُونَ)
(٤٥)
يقول تعالى : (وَمَنْ يَعْشُ) أي يتعامى ويتغافل ويعرض (عَنْ ذِكْرِ
الرَّحْمنِ) والعشا في العين ضعف بصرها ، والمراد هاهنا عشا البصيرة (نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ
قَرِينٌ) كقوله تعالى : (وَمَنْ يُشاقِقِ
الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ
الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) [النساء : ١١٥]
الآية ، وكقوله : (فَلَمَّا زاغُوا
أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) [الصف : ٥] وكقوله
جل جلاله : (وَقَيَّضْنا لَهُمْ
قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ
عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ
وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ) [فصلت : ٢٥] الآية
، ولهذا قال تبارك وتعالى هاهنا : (وَإِنَّهُمْ
لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ حَتَّى
إِذا جاءَنا) أي هذا الذي تغافل عن الهدى نقيض له من الشياطين من يضله
ويهديه إلى صراط الجحيم. فإذا وافى الله عزوجل يوم القيامة يتبرم بالشيطان الذي وكل به (قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ
الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ) وقرأ بعضهم «حتى إذا جاءانا» يعني القرين والمقارن.
قال عبد الرزاق :
أخبرنا معمر عن سعيد الجريري قال : بلغنا أن الكافر إذا بعث من قبره يوم القيامة
سفع بيده شيطان فلم يفارقه حتى يصيرهما الله تبارك وتعالى إلى النار ، فذلك حين
يقول (يا لَيْتَ بَيْنِي
وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ) والمراد بالمشرقين هاهنا هو ما بين المشرق والمغرب وإنما
استعمل هاهنا تغليبا كما يقال : القمران والعمران والأبوان ، قاله ابن جرير وغيره.
ثم قال تعالى : (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ
ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) أي لا يغني عنكم
__________________
اجتماعكم في النار
واشتراككم في العذاب الأليم. وقوله جلت عظمته : (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ
الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي ليس ذلك إليك إنما عليك البلاغ وليس عليك هداهم ، ولكن
الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء وهو الحكم العدل في ذلك ثم قال تعالى : (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا
مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ) أي لا بد أن ننتقم منهم ونعاقبهم ولو ذهبت أنت (أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ
فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ) أي نحن قادرون على هذا وعلى هذا ولم يقبض الله تعالى رسوله
صلىاللهعليهوسلم حتى أقر عينه من أعدائه وحكمه في نواصيهم ، وملكه ما
تضمنته صياصيهم! هذا معنى قول السدي واختاره ابن جرير.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن عبد الأعلى ، حدثنا ابن ثور عن معمر قال : تلا
قتادة (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ
بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ) فقال : ذهب النبي صلىاللهعليهوسلم وبقيت النقمة ، ولن يري الله تبارك وتعالى نبيه صلىاللهعليهوسلم في أمته شيئا يكرهه حتى مضى ، ولم يكن نبي قط إلا وقد رأى
العقوبة في أمته إلا نبيكم صلىاللهعليهوسلم. قال : وذكر لنا أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أري ما يصيب أمته من بعده فما رئي ضاحكا منبسطا حتى قبضه
الله عزوجل ، وذكر من رواية سعيد بن أبي عروبة عن قتادة نحوه ، ثم روى
ابن جرير عن الحسن نحو ذلك أيضا ، وفي الحديث «النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت
النجوم أتى السماء ما توعد ، وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون» ثم قال عزوجل (فَاسْتَمْسِكْ
بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي خذ بالقرآن المنزل على قلبك ، فإنه هو الحق وما يهدي
إليه هو الحق المفضي إلى صراط الله المستقيم الموصل إلى جنات النعيم والخير الدائم
المقيم.
ثم قال جل جلاله :
(وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ
لَكَ وَلِقَوْمِكَ) قيل معناه لشرف لك ولقومك ، قاله ابن عباس رضي الله عنهما
ومجاهد وقتادة والسدي وابن زيد ، واختاره ابن جرير ولم يحك سواه وأورد البغوي هاهنا حديث الزهري عن محمد بن
جبير بن مطعم عن معاوية رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «إن هذا الأمر في قريش لا ينازعهم فيه أحد إلا أكبه
الله تعالى على وجهه ما أقاموا الدين» رواه البخاري ومعناه أنه شرف لهم من حيث إنه أنزل بلغتهم ،
فهم أفهم الناس له فينبغي أن يكونوا أقوم الناس به وأعملهم بمقتضاه ، وهكذا كان
خيارهم وصفوتهم من الخلص من المهاجرين السابقين الأولين ومن شابههم وتابعهم ، وقيل
معناه (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ
لَكَ وَلِقَوْمِكَ) أي لتذكير لك ولقومك ، وتخصيصهم بالذكر لا ينفي من سواهم ،
كقوله تعالى : (لَقَدْ أَنْزَلْنا
إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ) [الأنبياء : ١٠]
وكقوله تبارك
__________________
وتعالى : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) [الشعراء : ٢١٤] (وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ) أي عن هذا القرآن ، وكيف كنتم في العمل به والاستجابة له.
وقوله سبحانه
وتعالى : (وَسْئَلْ مَنْ
أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً
يُعْبَدُونَ) أي جميع الرسل دعوا إلى ما دعوت الناس إليه من عبادة الله
وحده لا شريك له ، ونهوا عن عبادة الأصنام والأنداد ، كقوله جلت عظمته : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ
رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [النحل : ٣٦] قال
مجاهد في قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : واسأل الذين أرسلنا إليهم قبلك
من رسلنا. وهكذا حكاه قتادة والضحاك والسدي عن ابن مسعود رضي الله عنه ، وهذا كأنه
تفسير لا تلاوة ، والله أعلم. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : واسألهم ليلة
الإسراء ، فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام جمعوا له ، واختار ابن جرير الأول ، والله أعلم.
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ
الْعالَمِينَ (٤٦) فَلَمَّا جاءَهُمْ
بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (٤٧) وَما نُرِيهِمْ مِنْ
آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ
يَرْجِعُونَ (٤٨) وَقالُوا يا
أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا
لَمُهْتَدُونَ (٤٩) فَلَمَّا كَشَفْنا
عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ)
(٥٠)
يقول تعالى مخبرا
عبده ورسوله موسى عليهالسلام أنه ابتعثه إلى فرعون وملئه من الأمراء والوزراء والقادة
والأتباع والرعايا من القبط وبني إسرائيل يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له ،
وينهاهم عن عبادة ما سواه ، وأنه بعث معه آيات عظاما كيده وعصاه ، وما أرسل معه من
الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ، ومن نقص الزروع والأنفس والثمرات ، ومع
هذا كله استكبروا عن اتباعها والانقياد لها ، وكذبوها وسخروا منها وضحكوا ممن
جاءهم بها (وَما نُرِيهِمْ مِنْ
آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها) ومع هذا ما رجعوا عن غيهم وضلالهم ، وجهلهم وخبالهم وكلما
جاءتهم آية من هذه الآيات يضرعون إلى موسى عليه الصلاة والسلام ويتلطفون له في
العبارة بقولهم : (يا أَيُّهَا
السَّاحِرُ) أي العالم ، قاله ابن جرير .
وكان علماء زمانهم
هم السحرة. ولم يكن السحر في زمانهم مذموما عندهم فليس هذا منهم على سبيل الانتقاص
منهم لأن الحال حال ضرورة منهم إليه لا تناسب ذلك ، وإنما هو تعظيم في زعمهم ، ففي
كل مرة يعدون موسى عليهالسلام إن كشف عنهم هذا أن يؤمنوا به ويرسلوا معه بني إسرائيل وفي
كل مرة ينكثون ما عاهدوا عليه ، وهذا كقوله تبارك وتعالى :
__________________
(فَأَرْسَلْنا
عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ
مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ وَلَمَّا وَقَعَ
عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ
لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ
بَنِي إِسْرائِيلَ فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ
بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) [الأعراف : ١٣٣ ـ ١٣٥].
(وَنادى فِرْعَوْنُ
فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (٥١) أَمْ أَنَا خَيْرٌ
مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (٥٢) فَلَوْ لا أُلْقِيَ
عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (٥٣)
فَاسْتَخَفَّ
قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٥٤) فَلَمَّا آسَفُونا
انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٥) فَجَعَلْناهُمْ
سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ)
(٥٦)
يقول تعالى مخبرا
عن فرعون وتمرده وعتوه وكفره وعناده ، أنه جمع قومه فنادى فيهم متبجحا مفتخرا بملك
مصر وتصرفه فيها (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ
مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) قال قتادة : قد كانت لهم جنات وأنهار ماء (أَفَلا تُبْصِرُونَ) أي أفلا ترون ما أنا فيه من العظمة والملك ، يعني وموسى
وأتباعه فقراء ضعفاء وهذا كقوله تعالى : (فَحَشَرَ فَنادى
فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى) [النازعات : ٢٣ ـ ٢٥].
وقوله : (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي
هُوَ مَهِينٌ) قال السدي : يقول بل أنا خير من هذا الذي هو مهين ، وهكذا قال بعض نحاة البصرة : إن أم هاهنا بمعنى بل ،
ويؤيد هذا ما حكاه الفراء عن بعض القراء أنه قرأها أما أنا خير من هذا الذي هو
مهين قال ابن جرير : ولو صحت هذه القراءة لكان معناها صحيحا واضحا ، ولكنها
خلاف قراءة الأمصار فإنهم قرءوا (أَمْ أَنَا خَيْرٌ
مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ) على الاستفهام [قلت] وعلى كل تقدير فإنما يعني فرعون لعنه
الله بذلك أنه خير من موسى عليه الصلاة والسلام ، وقد كذب في قوله هذا كذبا بينا
واضحا ، فعليه لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة. ويعني بقوله (مَهِينٌ) كما قال سفيان حقير ، وقال قتادة والسدي : يعني ضعيف. وقال
ابن جرير : يعني لا ملك له ولا سلطان ولا مال (وَلا يَكادُ يُبِينُ) يعني لا يكاد يفصح عن كلامه فهو عيي حصر.
قال السدي (لا يَكادُ يُبِينُ) أي لا يكاد يفهم. وقال قتادة والسدي وابن جرير : يعني عيي
اللسان ، وقال سفيان : يعني في لسانه شيء من الجمرة حين وضعها في فيه وهو صغير ،
وهذا الذي قاله فرعون لعنه الله كذب واختلاق ، وإنما حمله على هذا الكفر والعناد
وهو ينظر إلى موسى عليه الصلاة والسلام بعين كافرة شقية ، وقد كان موسى عليهالسلام من الجلالة والعظمة
__________________
والبهاء في صورة
يبهر أبصار ذوي الألباب.
وقوله : (مَهِينٌ) كذب. بل هو المهين الحقير خلقة وخلقا ودينا ، وموسى هو
الشريف الصادق البار الراشد. وقوله : (وَلا يَكادُ يُبِينُ) افتراء أيضا فإنه وإن كان قد أصاب لسانه في حال صغره شيء
من جهة تلك الجمرة ، فقد سأل الله عزوجل أن يحل عقدة من لسانه ليفقهوا قوله ، وقد استجاب الله
تبارك وتعالى له ذلك في قوله : (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ
يا مُوسى) وبتقدير أن يكون قد بقي شيء لم يسأل إزالته ، كما قاله
الحسن البصري وإنما سأل زوال ما يحصل معه الإبلاغ والإفهام ، فالأشياء الخلقية
التي ليست من فعل العبد لا يعاب بها ولا يذم عليها ، وفرعون وإن كان يفهم وله عقل
، فهو يدري هذا ، وإنما أراد الترويج على رعيته فإنهم كانوا جهلة أغبياء وهكذا
قوله : (فَلَوْ لا أُلْقِيَ
عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ) وهي ما يجعل في الأيدي من الحلي.
قال ابن عباس رضي
الله عنهما وقتادة وغير واحد (أَوْ جاءَ مَعَهُ
الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) أي يكتنفونه خدمة له ويشهدون بتصديقه ، نظر إلى الشكل
الظاهر ولم يفهم السر المعنوي الذي هو أظهر مما نظر إليه لو كان يعلم ، ولهذا قال
تعالى : (فَاسْتَخَفَّ
قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ) أي استخف عقولهم فدعاهم إلى الضلالة فاستجابوا له (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) قال الله تعالى : (فَلَمَّا آسَفُونا
انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما : (آسَفُونا) أسخطونا ، وقال الضحاك عنه : أغضبونا ، وهكذا قال ابن عباس
أيضا ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب القرظي وقتادة والسدي وغيرهم من
المفسرين.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا عبيد الله ابن أخي ابن وهب ، حدثنا عمي ، حدثنا ابن لهيعة عن عقبة بن مسلم
التجيبي عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إذا رأيت الله تبارك وتعالى يعطي العبد ما يشاء وهو
مقيم على معاصيه ، فإنما ذلك استدراج منه له» ثم تلاصلىاللهعليهوسلم : (فَلَمَّا آسَفُونا
انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) وحدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني ، حدثنا
قيس بن الربيع عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب قال : كنت عند عبد الله رضي الله عنه
، فذكر عنده موت الفجأة ، فقال : تخفيف على المؤمن وحسرة على الكافر ، ثم قرأ رضي
الله عنه (فَلَمَّا آسَفُونا
انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه : وجدت النقمة مع
الغفلة يعني قوله تبارك وتعالى : (فَلَمَّا آسَفُونا
انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) وقوله سبحانه وتعالى : (فَجَعَلْناهُمْ
سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ) قال أبو مجلز : سلفا لمثل من عمل بعملهم. وقال هو ومجاهد :
(وَمَثَلاً) أي عبرة لمن بعدهم ، والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب ،
وإليه المراجع والمآب.
(وَلَمَّا ضُرِبَ
ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (٥٧) وَقالُوا أَآلِهَتُنا
خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (٥٨)
إِنْ
هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ
(٥٩) وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ
مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (٦٠)
وَإِنَّهُ
لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ
(٦١) وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ
إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ(٦٢)
وَلَمَّا
جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ
لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٦٣) إِنَّ اللهَ هُوَ
رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦٤)
فَاخْتَلَفَ
الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ
أَلِيمٍ)
(٦٥)
يقول تعالى مخبرا
عن تعنت قريش في كفرهم وتعمدهم العناد والجدل : (وَلَمَّا ضُرِبَ
ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) قال غير واحد عن ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وعكرمة
والسدي والضحاك : يضحكون أي أعجبوا بذلك ، وقال قتادة : يجزعون ويضحكون. وقال
إبراهيم النخعي : يعرضون ، وكان السبب في ذلك ما ذكره محمد بن إسحاق في السيرة حيث
قال : وجلس رسول الله صلىاللهعليهوسلم يوما مع الوليد بن المغيرة في المسجد ، فجاء النضر بن
الحارث حتى جلس معهم ، وفي المجلس غير واحد من رجال قريش ، فتكلم رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فعرض له النضر بن الحارث فكلمه رسول الله صلىاللهعليهوسلم حتى أفحمه ، ثم تلا عليه (إِنَّكُمْ وَما
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) [الأنبياء : ٩٨]
الآيات.
ثم قام رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأقبل عبد الله بن الزبعرى التميمي حتى جلس ، فقال الوليد
بن المغيرة له : والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب وما قعد ، وقد زعم
محمد أنا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم ، فقال عبد الله بن الزبعرى : أما والله
لو وجدته لخصمته ، سلوا محمدا أكل ما يعبد من دون الله في جهنم مع من عبده ، فنحن
نعبد الملائكة واليهود تعبد عزيرا ، والنصارى تعبد المسيح عيسى ابن مريم فعجب
الوليد ومن كان معه في المجلس من قول عبد الله بن الزبعرى ، ورأوا أنه قد احتج
وخاصم ، فذكر ذلك لرسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : «كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده ،
فإنهم إنما يعبدون الشيطان ومن أمرهم بعبادته» فأنزل اللهعزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ
سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) [الأنبياء : ١٠١]
أي عيسى وعزير ومن عبد معهما من الأحبار والرهبان ، الذين مضوا على طاعة الله عزوجل ، فاتخذهم من يعبدهم من أهل الضلالة أربابا من دون الله ،
ونزل فيما يذكر من أنهم يعبدون الملائكة وأنهم بنات الله (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً
سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) [الأنبياء : ٢٦]
الآيات.
ونزل فيما يذكر من
أمر عيسى عليه الصلاة والسلام ، وأنه يعبد من دون الله ، وعجب الوليد ومن حضر من
حجته وخصومته (وَلَمَّا ضُرِبَ
ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) أي يصدون عن أمرك بذلك من قوله. ثم ذكر عيسى عليه الصلاة
والسلام فقال : (إِنْ هُوَ إِلَّا
عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ وَلَوْ
نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ وَإِنَّهُ
لَعِلْمٌ
لِلسَّاعَةِ) أي ما وضعت على يديه من الآيات من إحياء الموتى وإبراء
الأسقام فكفى به دليلا على علم الساعة يقول : (فَلا تَمْتَرُنَّ
بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ).
وذكر ابن جرير من رواية العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله : (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً
إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) قال : يعني قريشا ، لما قيل لهم : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ
اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) [الأنبياء : ٩٨]
إلى آخر الآيات. فقالت له قريش : فما ابن مريم؟ قال «ذاك عبد الله ورسوله» فقالوا
: والله ما يريد هذا إلا أن نتخذه ربا كما اتخذت النصارى عيسى ابن مريم ربا ، فقال
الله عزوجل : (ما ضَرَبُوهُ لَكَ
إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ).
وقال الإمام أحمد : حدثنا هاشم بن القاسم ، حدثنا شيبان عن عاصم بن أبي
النجود ، عن أبي رزين ، عن أبي يحيى مولى ابن عقيل الأنصاري ، قال : قال ابن عباس
رضي الله عنهما : لقد علمت آية من القرآن ما سألني عنها رجل قط ، فما أدري أعلمها
الناس فلم يسألوا عنها أو لم يفطنوا لها فيسألوا عنها. قال : ثم طفق يحدثنا ، فلما
قام تلاومنا أن لا نكون سألناه عنها ، فقلت : أنا لها إذا راح غدا ، فلما راح الغد
قلت : يا ابن عباس ذكرت أمس أن آية من القرآن لم يسألك عنها رجل قط ، فلا تدري
أعلمها الناس أم لم يفطنوا لها ، فقلت : أخبرني عنها وعن اللاتي قرأت قبلها.
قال رضي الله عنه
: نعم إن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال لقريش «يا معشر قريش إنه ليس أحد يعبد من دون الله فيه
خير» وقد علمت قريش أن النصارى تعبد عيسى ابن مريم عليهما الصلاة والسلام ، وما
تقول في محمد صلىاللهعليهوسلم ، فقالوا : يا محمد ألست تزعم أن عيسى عليه الصلاة والسلام
كان نبيا وعبدا من عباد الله صالحا ، فإن كنت صادقا كان آلهتهم كما يقولون.
قال : فأنزل الله عزوجل : (وَلَمَّا ضُرِبَ
ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) قلت : ما يصدون؟ قال : يضحكون (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) قال : هو خروج عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام قبل يوم
القيامة. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن يعقوب الدمشقي ، حدثنا آدم ، حدثنا
شيبان عن عاصم بن أبي النجود عن أبي أحمد مولى الأنصار عن ابن عباس رضي الله عنهما
، قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «يا معشر قريش إنه ليس أحد يعبد من دون الله فيه خير»
فقالوا له : ألست تزعم أن عيسى كان نبيا وعبدا من عباد الله صالحا فقد كان يعبد من
دون الله؟ فأنزل الله عزوجل : (وَلَمَّا ضُرِبَ
ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) وقال مجاهد في قوله تعالى : (وَلَمَّا ضُرِبَ
ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) قالت قريش إنما يريد محمد أن نعبده كما عبد قوم عيسى عليهالسلام. ونحو هذا قال قتادة وقوله : (وَقالُوا
__________________
أَآلِهَتُنا
خَيْرٌ أَمْ هُوَ) قال قتادة : يقولون آلهتنا خير منه وقال قتادة : قرأ ابن
مسعود رضي الله عنه وقالوا أآلهتنا خير أم هذا ، يعنون محمدا صلىاللهعليهوسلم .
وقوله تبارك
وتعالى : (ما ضَرَبُوهُ لَكَ
إِلَّا جَدَلاً) أي مراء ، وهم يعلمون أنه بوارد على الآية ، لأنها لما لا
يعقل ، وهي قوله تعالى : (إِنَّكُمْ وَما
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) [الأنبياء : ٩٨]
ثم هي خطاب لقريش ، وهم إنما كانوا يعبدون الأصنام والأنداد ، ولم يكونوا يعبدون
المسيح حتى يوردوه ، فتعين أن مقالتهم إنما كانت جدلا منهم ليسوا يعتقدون صحتها.
وقد قال الإمام
أحمد رحمهالله تعالى : حدثنا ابن نمير ، حدثنا حجاج بن دينار عن أبي غالب
عن أبي أمامة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أورثوا الجدل» ثم تلا
رسول الله صلىاللهعليهوسلم هذه الآية (ما ضَرَبُوهُ لَكَ
إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) وقد رواه الترمذي وابن ماجة وابن جرير من حديث حجاج بن
دينار به ، ثم قال الترمذي : حسن صحيح لا نعرفه إلا من حديثه كذا قال وقد روي من
وجه آخر عن أبي أمامة رضي الله عنه بزيادة ، فقال ابن أبي حاتم : حدثنا حميد بن
عياش الرملي ، حدثنا مؤمل ، حدثنا حماد ، أخبرنا ابن مخزوم عن القاسم أبي عبد
الرحمن الشامي عن أبي أمامة رضي الله عنه ، قال حماد : لا أدري رفعه أم لا؟ قال :
ما ضلت أمة بعد نبيها إلا كان أول ضلالها التكذيب بالقدر ، وما ضلت أمة بعد نبيها
إلا أعطوا الجدل ، ثم قرأ (ما ضَرَبُوهُ لَكَ
إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) .
وقال ابن جرير أيضا : حدثنا أبو كريب ، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن عن
عبادة بن عباد عن جعفر عن القاسم عن أبي أمامة رضي الله عنه قال : إن رسول الله صلىاللهعليهوسلم خرج على الناس وهم يتنازعون في القرآن ، فغضب غضبا شديدا
حتى كأنما صب على وجهه الخل ، ثم قالصلىاللهعليهوسلم : «لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض فإنه ما ضل قوم قط إلا
أوتوا الجدل» ثم تلا صلىاللهعليهوسلم (ما ضَرَبُوهُ لَكَ
إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) وقوله تعالى : (إِنْ هُوَ إِلَّا
عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ) يعني عيسى عليه الصلاة والسلام. ما هو إلا عبد من عباد
الله عزوجل أنعم الله عليه بالنبوة والرسالة. (وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي
إِسْرائِيلَ) أي دلالة وحجة وبرهانا على قدرتنا على ما نشاء.
وقوله عزوجل : (وَلَوْ نَشاءُ
لَجَعَلْنا مِنْكُمْ) أي بدلكم (مَلائِكَةً فِي
الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ) قال السدي : يخلفونكم فيها ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما
وقتادة : يخلف بعضهم بعضا كما
__________________
يخلف بعضكم بعضا ،
وهذا القول يستلزم الأول ، قال مجاهد : يعمرون الأرض بدلكم.
وقوله سبحانه
وتعالى : (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ
لِلسَّاعَةِ) تقدم تفسير ابن إسحاق أن المراد من ذلك ما بعث به عيسى
عليه الصلاة والسلام ، من إحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص وغير ذلك من الأسقام
، وفي هذا نظر وأبعد منه ما حكاه قتادة عن الحسن البصري وسعيد بن جبير ، أن الضمير
في وأنه عائد على القرآن ، بل الصحيح أنه عائد على عيسى عليه الصلاة والسلام فإن
السياق في ذكره ، ثم المراد بذلك نزوله قبل يوم القيامة ، كما قال تبارك وتعالى : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا
لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) [النساء : ١٥٩] أي
قبل موت عيسى عليه الصلاة والسلام ثم (يَوْمَ الْقِيامَةِ
يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) ويؤيد هذا المعنى القراءة الأخرى وإنه لعلم للساعة أي
أمارة ودليل على وقوع الساعة. قال مجاهد وإنه لعلم للساعة أي آية للساعة خروج عيسى
ابن مريم عليهالسلام قبل يوم القيامة ، وهكذا روي عن أبي هريرة وابن عباس وأبي
العالية وأبي مالك وعكرمة والحسن وقتادة والضحاك وغيرهم ، وقد تواترت الأحاديث عن
رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه أخبر بنزول عيسى عليهالسلام قبل يوم القيامة إماما عادلا وحكما مقسطا.
وقوله تعالى : (فَلا تَمْتَرُنَّ بِها) أي لا تشكوا فيها أنها واقعة وكائنة لا محالة (وَاتَّبِعُونِ) أي فيما أخبركم به (هذا صِراطٌ
مُسْتَقِيمٌ وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ) أي عن اتباع الحق (إِنَّهُ لَكُمْ
عَدُوٌّ مُبِينٌ وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ
بِالْحِكْمَةِ) أي بالنبوة (وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ
بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) قال ابن جرير يعني من الأمور الدينية لا الدنيوية ، وهذا الذي قاله حسن
جيد ثم رد قول من زعم أن بعض هاهنا بمعنى كل ، واستشهد بقول لبيد الشاعر حيث قال: [الكامل]
ترّاك أمكنة إذا
لم أرضها
|
|
أو يعتلق بعض
النفوس حمامها
|
وأولوه على أنه
أراد جميع النفوس. قال ابن جرير إنما أراد نفسه فقط ، وعبر بالبعض عنها ، وهذا الذي قاله
محتمل. وقوله عزوجل : (فَاتَّقُوا اللهَ) أي فيما أمركم به (وَأَطِيعُونِ) فيما جئتكم به (إِنَّ اللهَ هُوَ
رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) أي أنا وأنتم عبيد له فقراء مشتركون في عبادته وحده لا
شريك له (هذا صِراطٌ
مُسْتَقِيمٌ) أي هذا الذي جئتكم به هو
__________________
الصراط المستقيم
وهو عبادة الرب جل وعلا وحده. وقوله سبحانه وتعالى : (فَاخْتَلَفَ
الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) أي اختلفت الفرق وصاروا شيعا فيه ، منهم من يقر بأنه عبد
الله ورسوله وهو الحق ومنهم من يدعي أنه ولد الله ، ومنهم من يقول إنه الله. تعالى
الله عن قولهم علوا كبيرا ولهذا قال تعالى : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ
ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ).
(هَلْ يَنْظُرُونَ
إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٦٦) الْأَخِلاَّءُ
يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (٦٧)
يا
عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٦٨)
الَّذِينَ
آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (٦٩)
ادْخُلُوا
الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (٧٠)
يُطافُ
عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ
وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (٧١)
وَتِلْكَ
الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧٢)
لَكُمْ
فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ)
(٧٣)
يقول تعالى : هل
ينتظر هؤلاء المشركون المكذبون للرسل (إِلَّا السَّاعَةَ
أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي فإنها كائنة لا محالة وواقعة ، وهؤلاء غافلون عنها غير
مستعدين فإذا جاءت إنما تجيء وهم لا يشعرون بها فحينئذ يندمون كل الندم حيث لا
ينفعهم ولا يدفع عنهم ، وقوله تعالى : (الْأَخِلَّاءُ
يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) أي كل صداقة وصحابة لغير الله فإنها تنقلب يوم القيامة
عداوة ، إلا ما كان لله عزوجل فإنه دائم بدوامه ، وهذا كما قال إبراهيم عليه الصلاة
والسلام لقومه : (إِنَّمَا
اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ
الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ
بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) [العنكبوت : ٢٥].
وقال عبد الرزاق :
أخبرنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي رضي الله عنه (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ
لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) قال : خليلان مؤمنان وخليلان كافران ، فتوفي أحد المؤمنين
وبشر بالجنة ، فذكر خليله فقال : اللهم إن فلانا خليلي كان يأمرني بطاعتك وطاعة
رسولك ويأمرني بالخير وينهاني عن الشر ، وينبئني أني ملاقيك ، اللهم فلا تضله بعدي
حتى تريه مثلما أريتني ، وترضى عنه كما رضيت عني ، فيقال له اذهب فلو تعلم ماله
عندي لضحكت كثيرا وبكيت قليلا قال : ثم يموت الآخر فتجتمع أرواحهما فيقال : ليثن أحدكما
على صاحبه فيقول كل واحد منهما لصاحبه : نعم الأخ ونعم الصاحب ونعم الخليل. وإذا
مات أحد الكافرين وبشر بالنار ذكر خليله فيقول : اللهم إن خليلي فلانا كان يأمرني
بمعصيتك ومعصية رسولك. ويأمرني بالشر وينهاني عن الخير ، ويخبرني أني غير ملاقيك. اللهم
فلا تهده بعدي حتى تريه مثل ما أريتني وتسخط عليه كما سخطت علي. قال : فيموت
الكافر الآخر فيجمع بين أرواحهما فيقال: ليثن كل واحد منكما على صاحبه فيقول كل
واحد منهما لصاحبه : بئس الأخ وبئس الصاحب وبئس الخليل! رواه ابن أبي حاتم ، وقال
ابن عباس
رضي الله عنهما
ومجاهد وقتادة : صارت كل خلة عداوة يوم القيامة إلا المتقين.
وروى الحافظ ابن
عساكر في ترجمة هشام بن أحمد عن هشام بن عبد الله بن كثير ، حدثنا أبو جعفر محمد
بن الخضر بالرقة عن معافى ، حدثنا حكيم بن نافع عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي
هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لو أن رجلين تحابا في الله أحدهما بالمشرق والآخر
بالمغرب لجمع الله تعالى بينهما يوم القيامة يقول هذا الذي أحببته فيّ».
وقوله تبارك
وتعالى : (يا عِبادِ لا خَوْفٌ
عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) ثم بشرهم فقال: (الَّذِينَ آمَنُوا
بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ) أي آمنت قلوبهم وبواطنهم وانقادت لشرع الله جوارحهم
وظواهرهم ، قال المعتمر بن سليمان عن أبيه : إذا كان يوم القيامة فإن الناس حين
يبعثون لا يبقى أحد منهم إلا فزع فينادي مناد (يا عِبادِ لا خَوْفٌ
عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) فيرجوها الناس كلهم ، قال : فيتبعها (الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا
مُسْلِمِينَ) قال : فييأس الناس منها غير المؤمنين .
(ادْخُلُوا الْجَنَّةَ) أي يقال لهم ادخلوا الجنة (أَنْتُمْ
وَأَزْواجُكُمْ) أي نظراؤكم (تُحْبَرُونَ) أي تتنعمون وتسعدون وقد تقدم في سورة الروم. (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ) أي زبادي آنية الطعام (وَأَكْوابٍ) وهي آنية الشراب أي من ذهب لا خراطيم لها ولا عرى وفيها ما
تشتهي الأنفس وقرأ بعضهم (تَشْتَهِيهِ
الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) أي طيب الطعام والريح وحسن المنظر.
قال عبد الرزاق :
أخبرنا معمر ، أخبرني إسماعيل بن أبي سعيد قال : إن عكرمة مولى ابن عباس رضي الله
عنهما أخبره أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إن أدنى أهل الجنة منزلة وأسفلهم درجة لرجل لا يدخل
الجنة بعده أحد ، يفسح له في بصرة مسيرة مائة عام في قصور من ذهب وخيام من لؤلؤ
ليس فيها موضع شبر إلا معمور يغدى عليه ويراح بسبعين ألف صحفة من ذهب ، ليس فيها
صحفة إلا فيها لون ليس في الأخرى مثله ، شهوته في آخرها كشهوته في أولها ، ولو نزل
به جميع أهل الأرض لوسع عليهم مما أعطي لا ينقص ذلك مما أوتي شيئا» .
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد ، حدثنا عمرو بن سواد السرحي ، حدثني عبد الله بن
وهب عن ابن لهيعة عن عقيل بن خالد عن الحسن عن أبي هريرة رضي الله عنه أن أبا
أمامة رضي الله عنه حدث أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم حدثهم وذكر الجنة فقال : «والذي نفس محمد بيده ، ليأخذن
أحدكم اللقمة فيجعلها في فيه ، ثم يخطر على باله طعام آخر فيتحول الطعام الذي في
فيه على الذي اشتهى» ثم قرأ رسول الله صلىاللهعليهوسلم
(وَفِيها
ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ
__________________
الْأَعْيُنُ
وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ).
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن هو ابن موسى حدثنا سكين بن عبد العزيز ، حدثنا
الأشعث الضرير عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم : «إن أدنى أهل الجنة منزلة إن له لسبع درجات وهو على
السادسة وفوقه السابعة ، وإن له ثلاثمائة خادم ويغدى عليه ويراح كل يوم بثلاثمائة
صحفة ـ ولا أعلمه إلا قال من ذهب في كل صحفة لون ليس في الأخرى ، وإنه ليلذ أوله
كما يلذ آخره ، ومن الأشربة ثلاثمائة إناء في كل إناء لون ليس في الآخر ، وإنه
ليلذ أوله كما يلذ آخره ، وإنه ليقول يا رب لو أذنت لي لأطعمت أهل الجنة وسقيتهم
لم ينقص مما عندي شيء ، وإن له من الحور العين لاثنين وسبعين زوجة سوى أزواجه من
الدنيا ، وإن الواحدة منهن لتأخذ مقعدها قدر ميل من الأرض».
وقوله تعالى : (وَأَنْتُمْ فِيها) أي في الجنة (خالِدُونَ) أي لا تخرجون منها ولا تبغون عنها حولا.
ثم قيل لهم على
وجه التفضل والامتنان (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ
الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي أعمالكم الصالحة كانت سببا لشمول رحمة الله إياكم ،
فإنه لا يدخل أحدا عمله الجنة ، ولكن برحمة الله وفضله ، وإنما الدرجات ينال
تفاوتها بحسب الأعمال الصالحات قال ابن أبي حاتم : حدثنا الفضل بن شاذان المقري ،
حدثنا يوسف بن يعقوب يعني الصفار ، حدثنا أبو بكر بن عياش عن الأعمش عن أبي صالح
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «كل أهل النار يرى منزله من الجنة ، فيكون له حسرة فيقول
(لَوْ أَنَّ اللهَ
هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [الزمر : ٥٧] وكل
أهل الجنة يرى منزله من النار فيقول (وَما كُنَّا
لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ) [الأعراف : ٤٣]
فيكون له شكرا» قال : وقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم ما من أحد إلا وله منزل في الجنة ومنزل في النار ، فالكافر
يرث المؤمن منزله من النار. والمؤمن يرث الكافر منزله من الجنة. وذلك قوله تعالى (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي
أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) وقوله تعالى : (لَكُمْ فِيها
فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ) أي من جميع الأنواع (مِنْها تَأْكُلُونَ) أي مهما اخترتم وأردتم. ولما ذكر الطعام والشراب ذكر بعده
الفاكهة لتتم النعمة والغبطة ، والله تعالى أعلم.
(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ
فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (٧٤)
لا
يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٥)
وَما
ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (٧٦)
وَنادَوْا
يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (٧٧) لَقَدْ جِئْناكُمْ
بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٨)
أَمْ
أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ(٧٩)
أَمْ
يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا
لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ)
(٨٠)
__________________
لما ذكر تعالى حال
السعداء ثنى بذكر الأشقياء فقال : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ
فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ) أي ساعة واحدة (وَهُمْ فِيهِ
مُبْلِسُونَ) أي آيسون من كل خير. (وَما ظَلَمْناهُمْ
وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) أي بأعمالهم السيئة بعد قيام الحجج عليهم. وإرسال الرسل
إليهم ، فكذبوا وعصوا فجوزوا بذلك جزاء وفاقا وما ربك بظلام للعبيد. (وَنادَوْا يا مالِكُ) وهو خازن النار. قال البخاري : حدثنا حجاج بن منهال حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن
عطاء عن صفوان بن يعلى عن أبيه رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقرأ على المنبر (وَنادَوْا يا مالِكُ
لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) أي ليقبض أرواحنا فيريحنا مما نحن فيه فإنهم كما قال تعالى
: (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ
فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) [فاطر : ٣٦] وقال عزوجل: (وَيَتَجَنَّبُهَا
الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا
يَحْيى) [الأعلى : ١١ ـ ١٣]
فلما سألوا أن يموتوا أجابهم مالك (قالَ إِنَّكُمْ
ماكِثُونَ) قال ابن عباس : مكث ألف سنة ثم قال : إنكم ماكثون رواه ابن
أبي حاتم أي لا خروج لكم منها ولا محيد لكم عنها ثم ذكر سبب شقوتهم ، وهو مخالفتهم
للحق ومعاندتهم له فقال : (لَقَدْ جِئْناكُمْ
بِالْحَقِ) أي بيناه لكم ووضحناه وفسرناه (وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ
كارِهُونَ) أي ولكن كانت سجاياكم لا تقبله ولا تقبل عليه ، وإنما
تنقاد للباطل وتعظمه ، وتصد عن الحق وتأباه وتبغض أهله ، فعودوا على أنفسكم
بالملامة. واندموا حيث لا تنفعكم الندامة.
ثم قال تبارك
وتعالى : (أَمْ أَبْرَمُوا
أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ) قال مجاهد : أرادوا كيد شر ، فكدناهم وهذا الذي قاله مجاهد كما قال تعالى : (وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً
وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) [النمل : ٥٠] وذلك
لأن المشركين كانوا يتحيلون في رد الحق بالباطل بحيل ومكر يسلكونه ، فكادهم الله
تعالى ورد وبال ذلك عليهم ، ولهذا قال : (أَمْ يَحْسَبُونَ
أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ) أي سرهم وعلانيتهم (بَلى وَرُسُلُنا
لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) أي نحن نعلم ما هم عليه والملائكة أيضا يكتبون أعمالهم
صغيرها وكبيرها.
(قُلْ إِنْ كانَ
لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (٨١)
سُبْحانَ
رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٨٢) فَذَرْهُمْ
يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٨٣) وَهُوَ الَّذِي فِي
السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٨٤) وَتَبارَكَ الَّذِي
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ
السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٥) وَلا يَمْلِكُ
الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ
وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٨٦) وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٨٧) وَقِيلِهِ يا رَبِّ
إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (٨٨)
فَاصْفَحْ
عَنْهُمْ
__________________
وَقُلْ
سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)
(٨٩)
يقول تعالى : (قُلْ) يا محمد (إِنْ كانَ
لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) أي لو فرض هذا لعبدته على ذلك ، لأني عبد من عبيده مطيع
لجميع ما يأمرني به ليس عندي استكبار ولا إباء عن عبادته ، فلو فرض هذا لكان هذا ،
ولكن هذا ممتنع في حقه تعالى والشرط لا يلزم منه الوقوع ولا الجواز أيضا كما قال عزوجل : (لَوْ أَرادَ اللهُ
أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ
اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) [الزمر : ٤] وقال
بعض المفسرين في قوله تعالى : (فَأَنَا أَوَّلُ
الْعابِدِينَ) أي الآنفين ، ومنهم سفيان الثوري والبخاري ، حكاه فقال ويقال أول العابدين الجاحدين من عبد يعبد.
وذكر ابن جرير لهذا القول من الشواهد ما رواه عن يونس بن عبد الأعلى عن
ابن وهب، حدثني ابن أبي ذئب عن أبي قسيط عن بعجة بن زيد الجهني أن امرأة منهم دخلت
على زوجها وهو رجل منهم أيضا ، فولدت له في ستة أشهر فذكر ذلك زوجها لعثمان بن
عفان رضي الله عنه ، فأمر بها أن ترجم ، فدخل عليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه
فقال : إن الله تعالى يقول في كتابه (وَحَمْلُهُ
وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) [الأحقاف : ١٥]
وقال عزوجل : (وَفِصالُهُ فِي
عامَيْنِ) [لقمان : ١٤] قال
: فو الله ما عبد عثمان رضي الله عنه أن بعث إليها ترد ، قال يونس : قال ابن وهب :
عبد استنكف. وقال الشاعر : [الطويل]
متى ما يشأ ذو
الودّ يصرم خليله
|
|
ويعبد عليه لا
محالة ظالما
|
وهذا القول فيه
نظر لأنه كيف يلتئم مع الشرط فيكون تقديره إن كان هذا فأنا ممتنع منه؟ هذا فيه نظر
فليتأمل اللهم إلا أن يقال : أن إن ليست شرطا وإنما هي نافية ، كما قال علي بن أبي
طلحة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : (قُلْ إِنْ كانَ
لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ) يقول : لم يكن للرحمن ولد ، فأنا أول الشاهدين.
وقال قتادة هي
كلمة من كلام العرب (إِنْ كانَ
لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) أي إن ذلك لم يكن فلا ينبغي ، وقال أبو صخر (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ
فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) أي فأنا أول من عبده بأن لا ولد له ، وأول من وحده ، وكذا
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وقال مجاهد (فَأَنَا أَوَّلُ
الْعابِدِينَ) أي أول من عبده ووحده وكذبكم ، وقال البخاري (فَأَنَا أَوَّلُ
الْعابِدِينَ) الآنفين وهما لغتان رجل عابد وعبد ، والأول أقرب على أنه
شرط وجزاء ولكن هو
__________________
ممتنع ، وقال
السدي (قُلْ إِنْ كانَ
لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) يقول : لو كان له ولد كنت أول من عبده بأن له ولدا ولكن لا
ولد له ، وهو اختيار ابن جرير ورد قول من زعم أن إن نافية. ولهذا قال تعالى : (سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) أي تعالى وتقدس وتنزه خالق الأشياء عن أن يكون له ولد فإنه
فرد أحد صمد ، لا نظير له ولا كفء له فلا ولد له.
وقوله تعالى : (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا) أي في جهلهم وضلالهم (وَيَلْعَبُوا) في دنياهم (حَتَّى يُلاقُوا
يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) وهو يوم القيامة أي فسوف يعلمون كيف يكون مصيرهم ومآلهم
وحالهم في ذلك اليوم قوله تبارك وتعالى : (وَهُوَ الَّذِي فِي
السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) أي هو إله من في السماء وإله من في الأرض يعبده أهلها
وكلهم خاضعون له أذلاء بين يديه (وَهُوَ الْحَكِيمُ
الْعَلِيمُ) وهذه الآية كقوله سبحانه وتعالى : (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي
الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) [الأنعام : ٣] أي
هو المدعو الله في السموات والأرض (وَتَبارَكَ الَّذِي
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) أي هو خالقهما ومالكهما ، والمتصرف فيهما بلا مدافعة ولا
ممانعة ، فسبحانه وتعالى عن الولد وتبارك ، أي استقر له السلامة من العيوب
والنقائص ، لأنه الرب العلي العظيم المالك للأشياء الذي بيده أزمة الأمور نقضا
وإبراما.
(وَعِنْدَهُ عِلْمُ
السَّاعَةِ) أي لا يجليها لوقتها إلا هو (وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ) أي فيجازي كلا بعمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
ثم قال تعالى : (وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ
دُونِهِ) أي من الأصنام والأوثان (الشَّفاعَةَ) أي لا يقدرون على الشفاعة لهم (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ
يَعْلَمُونَ) هذا استثناء منقطع. أي لكن من شهد بالحق على بصيرة وعلم ،
فإنه تنفع شفاعته عنده بإذنه له. ثم قال عزوجل : (وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي ولئن سألت هؤلاء المشركين بالله العابدين معه غيره (مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ) أي هم يعترفون أنه الخالق للأشياء جميعها وحده لا شريك له
في ذلك ، ومع هذا يعبدون معه غيره ممن لا يملك شيئا ولا يقدر على شيء ، فهم في ذلك
في غاية الجهل والسفاهة وسخافة العقل. ولهذا قال تعالى : (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ).
وقوله جل وعلا : (وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ
قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ) أي وقال محمدصلىاللهعليهوسلم ، قيله أي شكا إلى ربه شكواه من قومه الذين كذبوه فقال يا
رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون ، كما أخبر تعالى في الآية الأخرى : (وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ
قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) [الفرقان : ٣٠]
وهذا الذي قلناه هو قول ابن مسعود رضي الله عنه ومجاهد وقتادة ، وعليه فسر ابن
__________________
جرير ، قال البخاري : وقرأ عبد الله يعني ابن مسعود رضي الله عنه (وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِ) وقال مجاهد في قوله : (وَقِيلِهِ يا رَبِّ
إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ) قال فأبرّ الله عزوجل قول محمد صلىاللهعليهوسلم . وقال قتادة : هو قول نبيكم صلىاللهعليهوسلم يشكو قومه إلى ربه عزوجل. ثم حكى ابن جرير في قوله تعالى : (وَقِيلِهِ يا رَبِ) قراءتين إحداهما النصب ، ولها توجيهان : أحدهما أنه معطوف
على قوله تبارك وتعالى : (نَسْمَعُ سِرَّهُمْ
وَنَجْواهُمْ) والثاني أن يقدر فعل وقال قيله ، والثانية الخفض وقيله
عطفا على قوله : (وَعِنْدَهُ عِلْمُ
السَّاعَةِ) تقديره وعلم قيله. وقوله تعالى : (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ) أي المشركين (وَقُلْ سَلامٌ) أي لا تجاوبهم بمثل ما يخاطبونك به من الكلام السيئ ، ولكن
تألفهم واصفح عنهم فعلا وقولا (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) هذا تهديد من الله تعالى لهم ، ولهذا أحلّ بهم بأسه الذي
لا يرد وأعلى دينه وكلمته ، وشرع بعد ذلك الجهاد والجلاد حتى دخل الناس في دين
الله أفواجا ، وانتشر الإسلام في المشارق والمغارب والله أعلم. آخر تفسير سورة
الزخرف.
__________________
تفسير سورة الدخان
وهي مكية
قال الترمذي :
حدثنا سفيان بن وكيع ، حدثنا زيد بن الحباب عن عمر بن أبي خثعم عن يحيى بن أبي
كثير ، عن أبي سلمة عن أبي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم : «من قرأ حم الدخان في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك»
ثم قال غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وعمر بن أبي خثعم يضعف قال البخاري
منكر الحديث.
ثم قال : حدثنا
نصر بن عبد الرحمن الكوفي ، حدثنا زيد بن الحباب عن هشام أبي المقدام عن الحسن عن
أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من قرأ حم الدخان في ليلة الجمعة غفر له» ثم قال غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وهشام أبو
المقدام يضعف ، والحسن لم يسمع من أبي هريرة رضي الله عنه ، كذا قال أيوب ويونس بن
عبيد وعلي بن زيد رحمة الله عليهم أجمعين ، وفي مسند البزار من رواية أبي الطفيل
عامر بن واثلة عن زيد بن حارثة أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال لابن صياد : «إني قد خبأت خبأ فما هو؟» وخبأ له رسول
الله صلىاللهعليهوسلم سورة الدخان فقال : هو الدخ . فقال : «اخسأ ما شاء الله كان» ثم انصرف.
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(حم (١)
وَالْكِتابِ
الْمُبِينِ (٢) إِنَّا أَنْزَلْناهُ
فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (٣) فِيها يُفْرَقُ
كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (٤) أَمْراً مِنْ عِنْدِنا
إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٥)
رَحْمَةً
مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦)
رَبِّ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٧)
لا
إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) (٨)
يقول تعالى مخبرا
عن القرآن العظيم أنه أنزله في ليلة مباركة ، وهي ليلة القدر كما قالعزوجل: (إِنَّا أَنْزَلْناهُ
فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [القدر : ١] وكان
ذلك في شهر رمضان كما قال تبارك وتعالى: (شَهْرُ رَمَضانَ
الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) [البقرة : ١٨٥]
وقد ذكرنا في الأحاديث الواردة في ذلك في سورة البقرة بما أغنى عن إعادته ، ومن
قال : إنها ليلة النصف من شعبان كما روي عن عكرمة فقد أبعد النجعة ، فإن نص القرآن
أنها في رمضان ، والحديث الذي رواه عبد الله بن
__________________
صالح عن الليث عن
عقيل عن الزهري ، أخبرني عثمان بن محمد بن المغيرة بن الأخنس قال : إن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان حتى أن الرجل لينكح
ويولد له وقد أخرج اسمه في الموتى» فهو حديث مرسل ومثله لا يعارض به النصوص. وقوله عزوجل : (إِنَّا كُنَّا
مُنْذِرِينَ) أي معلمين الناس ما ينفعهم ويضرهم شرعا لتقوم حجة الله على
عباده.
وقوله : (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) أي في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى الكتبة أمر السنة ،
وما يكون فيها من الآجال والأرزاق وما يكون فيها إلى آخرها. وهكذا روي عن ابن عمر
ومجاهد وأبي مالك والضحاك وغير واحد من السلف وقوله جل وعلا : (حَكِيمٍ) أي محكم لا يبدل ولا يغير ، ولهذا قال جل جلاله : (أَمْراً مِنْ عِنْدِنا) أي جميع ما يكون ويقدره الله تعالى وما يوحيه فبأمره وإذنه
وعلمه (إِنَّا كُنَّا
مُرْسِلِينَ) أي إلى الناس رسولا يتلو عليهم آيات الله مبينات فإن
الحاجة كانت ماسة إليه ، ولهذا قال تعالى : (رَحْمَةً مِنْ
رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما
بَيْنَهُما) أي الذي أنزل هذا القرآن هو رب السموات والأرض وخالقهما
ومالكهما وما فيهما (إِنْ كُنْتُمْ
مُوقِنِينَ) أي إن كنتم متحققين ثم قال تعالى : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ
رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) وهذه الآية كقوله تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا
النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ) [الأعراف : ١٥٨]
الآية.
(بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ
يَلْعَبُونَ (٩) فَارْتَقِبْ يَوْمَ
تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (١٠) يَغْشَى النَّاسَ
هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (١١) رَبَّنَا اكْشِفْ
عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢)
أَنَّى
لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣)
ثُمَّ
تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (١٤) إِنَّا كاشِفُوا
الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (١٥)
يَوْمَ
نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ)
(١٦)
يقول تعالى : بل
هؤلاء المشركون في شك يلعبون أي قد جاءهم الحق اليقين وهم يشكون فيه ويمترون ولا
يصدقون به ، ثم قال عزوجل متوعدا لهم ومهددا : (فَارْتَقِبْ يَوْمَ
تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) قال سليمان بن مهران الأعمش عن أبي الضحى مسلم بن صبيح ،
عن مسروق قال : دخلنا المسجد ، يعني مسجد الكوفة عند أبواب كندة ، فإذا رجل يقص
على أصحابه (يَوْمَ تَأْتِي
السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) تدرون ما ذلك الدخان؟ ذلك دخان يأتي يوم القيامة فيأخذ
بأسماع المنافقين وأبصارهم ويأخذ المؤمنين منه شبه الزكام ، قال : فأتينا ابن
مسعود رضي الله عنه ، فذكرنا له ذلك وكان مضطجعا ، ففزع فقعد وقال : إن الله عزوجل قال لنبيكم صلىاللهعليهوسلم : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) [ص : ٨٦] إن من
العلم أن يقول الرجل لما
__________________
لا يعلم الله أعلم
سأحدثكم عن ذلك ، إن قريشا لما أبطأت عن الإسلام واستعصت على رسول الله صلىاللهعليهوسلم دعا عليهم بسنين كسني يوسف ، فأصابهم من الجهد والجوع حتى
أكلوا العظام والميتة ، وجعلوا يرفعون أبصارهم إلى السماء فلا يرون إلا الدخان ،
وفي رواية فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد.
قال الله تعالى : (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ
بِدُخانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ) فأتى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقيل يا رسول الله استسق الله لمضر فإنها قد هلكت ،
فاستسقى صلىاللهعليهوسلم لهم فسقوا فأنزل الله (إِنَّا كاشِفُوا
الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ) قال ابن مسعود رضي الله عنه : فيكشف عنهم العذاب يوم
القيامة فلما أصابهم الرفاهية عادوا إلى حالهم فأنزل الله عزوجل : (يَوْمَ نَبْطِشُ
الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) قال يعني يوم بدر .
قال ابن مسعود رضي
الله عنه : فقد مضى خمسة : الدخان والروم والقمر والبطشة واللزام ، وهذا الحديث
مخرج في الصحيحين ورواه الإمام أحمد في مسنده ، وهو عند الترمذي والنسائي في تفسيرهما ، وعند ابن جرير وابن أبي حاتم من
طرق متعددة عن الأعمش به ، وقد وافق ابن مسعود رضي الله عنه على تفسير الآية بهذا
، وأن الدخان مضى : جماعة من السلف كمجاهد وأبي العالية وإبراهيم النخعي والضحاك
وعطية العوفي ، وهو اختيار ابن جرير.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبي ، حدثنا جعفر بن مسافر ، حدثنا يحيى بن حسان ، حدثنا ابن لهيعة ،
حدثنا عبد الرحمن الأعرج في قوله عزوجل : (يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ
بِدُخانٍ مُبِينٍ) قال : كان يوم فتح مكة وهذا القول غريب جدا بل منكر.
وقال آخرون لم يمض
الدخان بعد بل هو من أمارات الساعة كما تقدم من حديث أبي سريحة حذيفة بن أسيد
الغفاري رضي الله عنه ، قال : أشرف علينا رسول الله صلىاللهعليهوسلم من عرفة ونحن نتذاكر الساعة فقال صلىاللهعليهوسلم : «لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات : طلوع الشمس من
مغربها ، والدخان والدابة وخروج يأجوج ومأجوج وخروج عيسى ابن مريم والدجال وثلاثة
خسوف : خسف بالمشرق ، وخسف بالمغرب ، وخسف بجزيرة العرب ، ونار تخرج من قعر عدن
تسوق الناس ـ أو تحشر الناس ـ تبيت معهم حيث باتوا ، وتقيل معهم حيث قالوا» . تفرد بإخراجه مسلم في صحيحه ، وفي الصحيحين أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال لابن الصياد : «إني
__________________
خبأت لك خبأ» قال
: هو الدخ ، فقال له صلىاللهعليهوسلم «اخسأ فلن تعدو
قدرك» قال : وخبأ له رسول الله صلىاللهعليهوسلم : (فَارْتَقِبْ يَوْمَ
تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) وهذا فيه إشعار بأنه من المنتظر المرتقب ، وابن صياد كاشف
على طريقة الكهان بلسان الجان ، وهم يقرطمون العبارة ، ولهذا قال هو الدخ ، يعني
الدخان ، فعندها عرف رسول الله صلىاللهعليهوسلم مادته وأنها شيطانية فقال صلىاللهعليهوسلم : «اخسأ فلن تعدو قدرك».
ثم قال ابن جرير : وحدثني عصام بن رواد بن الجراح ، حدثنا أبي ، حدثنا
سفيان بن أبي سعيد الثوري ، حدثنا منصور بن المعتمر عن ربعي بن خراش قال : سمعت
حذيفة بن اليمان رضي الله عنه يقول : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن أول الآيات الدجال ونزول عيسى ابن مريم عليهما
الصلاة والسلام ، ونار تخرج من قعر عدن أبين تسوق الناس إلى المحشر تقيل معهم إذا
قالوا ، والدخان ـ قال حذيفة رضي الله عنه يا رسول الله وما الدخان؟ فتلا رسول
الله صلىاللهعليهوسلم هذه الآية (فَارْتَقِبْ يَوْمَ
تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ) ـ يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يوما وليلة ،
أما المؤمن فيصيبه منه كهيئة الزكمة ، وأما الكافر فيكون بمنزلة السكران يخرج من
منخريه وأذنيه ودبره». قال ابن جرير : لو صح هذا الحديث لكان فاصلا وإنما لم أشهد له بالصحة
لأن محمد بن خلف العسقلاني حدثني أنه سأل روادا عن هذا الحديث هل سمعه من سفيان؟
فقال له : لا ، قال فقلت : أقرأته عليه؟ قال : لا ، قال فقلت له : أقرىء عليه وأنت
حاضر فأقر به؟ فقال : لا ، فقلت له : فمن أين جئت به؟ فقال : جاءني به قوم فعرضوه
علي وقالوا لي اسمعه منا ، فقرؤوه علي ثم ذهبوا به فحدثوا به عني أو كما قال وقد
أجاد ابن جرير في هذا الحديث هاهنا ، فإنه موضوع بهذا السند ، وقد أكثر ابن جرير
من سياقه في أماكن من هذا التفسير ، وفيه منكرات كثيرة جدا ، ولا سيما في أول سورة
بني إسرائيل في ذكر المسجد الأقصى ، والله أعلم.
وقال ابن جرير
أيضا : حدثنا محمد بن عوف ، حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش ، حدثني أبي ، حدثني
ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول
الله صلىاللهعليهوسلم : «إن ربكم أنذركم ثلاثا : الدخان يأخذ المؤمن كالزكمة ،
ويأخذ الكافر فينتفخ حتى يخرج من كل مسمع منه ، والثانية الدابة والثالثة الدجال».
ورواه الطبراني عن هاشم بن يزيد عن محمد بن إسماعيل بن عياش به وهذا إسناد جيد.
وقال ابن أبي حاتم :
__________________
حدثنا أبو زرعة ،
حدثنا صفوان ، حدثنا الوليد ، حدثنا خليل عن الحسن عن أبي سعيد الخدري رضي الله
عنه ، أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «يهيج الدخان بالناس ، فأما المؤمن فيأخذه الزكمة ،
وأما الكافر فينفخه حتى يخرج من كل مسمع منه». ورواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة
عن الحسن عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه موقوفا ، وروى سعيد بن عوف عن الحسن
مثله.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا عبد الله بن صالح بن مسلم ، حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي
رضي الله عنه قال : لم تمض آية الدخان بعد ، يأخذ المؤمن كهيئة الزكام وتنفخ
الكافر حتى ينفذ.
وروى ابن جرير من حديث الوليد بن جميع عن عبد الملك بن المغيرة ، عن عبد
الرحمن بن السليماني عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : يخرج الدخان فيأخذ المؤمن
كهيئة الزكام ، ويدخل في مسامع الكافر والمنافق حتى يكون كالرأس الحنيذ أي المشوي
على الرضف ، ثم قال ابن جرير : حدثني يعقوب ، حدثنا ابن علية عن ابن جريج عن عبد الله
بن أبي مليكة قال : غدوت على ابن عباس رضي الله عنهما ذات يوم فقال : ما نمت
الليلة حتى أصبحت. قلت : لم؟ قال : قالوا طلع الكوكب ذو الذنب ، فخشيت أن يكون
الدخان قد طرق فما نمت حتى أصبحت.
وهكذا رواه ابن
أبي حاتم عن أبيه عن ابن عمر عن سفيان عن عبد الله بن أبي يزيد ، عن عبد الله بن
أبي مليكة عن ابن عباس رضي الله عنهما فذكره ، وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس رضي
الله عنهما حبر الأمة وترجمان القرآن ، وهكذا قول من وافقه من الصحابة والتابعين
رضي الله عنهم أجمعين مع الأحاديث المرفوعة من الصحاح والحسان وغيرهما التي
أوردوها مما فيه مقنع ، ودلالة ظاهرة على أن الدخان من الآيات المنتظرة مع أنه
ظاهر القرآن ، قال الله تبارك وتعالى : (فَارْتَقِبْ يَوْمَ
تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) أي بين واضح يراه كل أحد ، وعلى ما فسر به ابن مسعود رضي
الله عنه إنما هو خيال رأوه في أعينهم من شدة الجوع والجهد ، وهكذا قوله تعالى : (يَغْشَى النَّاسَ) أي يتغشاهم ويعميهم ، ولو كان أمرا خياليا يخص أهل مكة
المشركين لما قيل فيه (يَغْشَى النَّاسَ).
وقوله تعالى : (هذا عَذابٌ أَلِيمٌ) أي يقال لهم ذلك تقريعا وتوبيخا كقوله عزوجل : (يَوْمَ يُدَعُّونَ
إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) [الطور : ١٣ ـ ١٤]
أو يقول بعضهم لبعض ذلك. وقوله سبحانه وتعالى : (رَبَّنَا اكْشِفْ
عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ) أي يقول الكافرون
__________________
إذا عاينوا عذاب
الله وعقابه سائلين رفعه وكشفه عنهم كقوله جلت عظمته (وَلَوْ تَرى إِذْ
وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ
رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الأنعام : ٢٧]
وكذا قوله جل وعلا : (وَأَنْذِرِ النَّاسَ
يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا
إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا
أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ) [إبراهيم : ٤٤]. وهكذا قال جل وعلا هاهنا : (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ
جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ). يقول : كيف لهم بالتذكر وقد أرسلنا إليهم رسولا بين
الرسالة والنذارة ، ومع هذا تولوا عنه وما وافقوه بل كذبوه وقالوا معلم مجنون ،
وهذا كقوله جلت عظمته : (يَوْمَئِذٍ
يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ
لِحَياتِي) [الفجر : ٢٣ ـ ٢٤]
الآية وكقوله عزوجل : (وَلَوْ تَرى إِذْ
فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ وَقالُوا آمَنَّا بِهِ
وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) إلى آخر السورة [سبأ : ٥١ ـ ٥٤].
وقوله تعالى : (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً
إِنَّكُمْ عائِدُونَ) يحتمل معنيين : (أحدهما) أنه يقول تعالى ولو كشفنا عنكم
العذاب ورجعناكم إلى الدار الدنيا ، لعدتم إلى ما كنتم فيه من الكفر والتكذيب
كقوله تعالى : (وَلَوْ رَحِمْناهُمْ
وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [المؤمنون : ٧٥]
وكقوله جلت عظمته : (وَلَوْ رُدُّوا
لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) [الأنعام : ٢٨]. و
(الثاني) أن يكون المراد إنا مؤخر والعذاب عنكم قليلا بعد انعقاد أسبابه ووصوله
إليكم. وأنتم مستمرون فيما أنتم فيه من الطغيان والضلال ، ولا يلزم من الكشف عنهم
أن يكون باشرهم كقوله تعالى : (إِلَّا قَوْمَ
يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ
الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) [يونس : ٩٨]. ولم
يكن العذاب باشرهم واتصل بهم بل كان قد انعقد سببه عليهم ، ولا يلزم أيضا أن
يكونوا قد أقلعوا عن كفرهم ثم عادوا إليه ، قال الله تعالى إخبارا عن شعيب عليهالسلام أنه قال لقومه حين قالوا : (لَنُخْرِجَنَّكَ يا
شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي
مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً
إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها) [الأعراف : ٨٨ ـ ٨٩]
وشعيب عليهالسلام لم يكن قط على ملتهم وطريقتهم ، وقال قتادة : إنكم عائدون
إلى عذاب الله .
وقوله عزوجل : (يَوْمَ نَبْطِشُ
الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) فسر ذلك ابن مسعود رضي الله عنه بيوم بدر ، وهذا قول جماعة
ممن وافق ابن مسعود رضي الله عنه على تفسيره الدخان بما تقدم ، وروي أيضا عن ابن
عباس رضي الله عنهما من رواية العوفي عنه وعن أبي بن كعب رضي الله عنه ، وهو محتمل
، والظاهر أن ذلك يوم القيامة وإن كان يوم بدر يوم بطشة أيضا قال ابن جرير : حدثني يعقوب حدثني ابن علية ، حدثنا خالد الحذاء عن
عكرمة قال : قال ابن
__________________
عباس رضي الله
عنهما قال ابن مسعود رضي الله عنه : البطشة الكبرى يوم بدر وأنا أقول هي يوم
القيامة ، وهذا إسناد صحيح عنه وبه يقول الحسن البصري وعكرمة في أصح الروايتين عنه
، والله أعلم.
(وَلَقَدْ فَتَنَّا
قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (١٧) أَنْ أَدُّوا
إِلَيَّ عِبادَ اللهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٨) وَأَنْ لا تَعْلُوا
عَلَى اللهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٩) وَإِنِّي عُذْتُ
بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (٢٠) وَإِنْ لَمْ
تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (٢١) فَدَعا رَبَّهُ
أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ(٢٢) فَأَسْرِ بِعِبادِي
لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٢٣) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ
رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ(٢٤) كَمْ تَرَكُوا مِنْ
جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ
كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (٢٧)
كَذلِكَ
وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (٢٨)
فَما
بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (٢٩)
وَلَقَدْ
نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (٣٠)
مِنْ
فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (٣١)
وَلَقَدِ
اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٢) وَآتَيْناهُمْ مِنَ
الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ)
(٣٣)
يقول تعالى : ولقد
اختبرنا قبل هؤلاء المشركين قوم فرعون وهم قبط مصر (وَجاءَهُمْ رَسُولٌ
كَرِيمٌ) يعني موسى كليمه
عليه الصلاة والسلام (أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ
عِبادَ اللهِ) كقوله عزوجل : (فَأَرْسِلْ مَعَنا
بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ
وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) [طه : ٤٧]. وقوله
جل وعلا : (إِنِّي لَكُمْ
رَسُولٌ أَمِينٌ) أي مأمون على ما أبلغكموه. وقوله تعالى : (وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ) أي لا تستكبروا عن اتباع آياته والانقياد لحججه والإيمان
ببراهينه كقوله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ
يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) [غافر : ٦٠] (إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي بحجة ظاهرة واضحة وهي ما أرسله الله تعالى به من الآيات
البينات والأدلة القاطعة.
(وَإِنِّي عُذْتُ
بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ) قال ابن عباس رضي الله عنهما وأبو صالح : هو الرجم باللسان
وهو الشتم. وقال قتادة : الرجم بالحجارة أي أعوذ بالله الذي خلقني وخلقكم من أن
تصلوا إلي بسوء من قول أو فعل (وَإِنْ لَمْ
تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ) أي فلا تتعرضوا لي ودعوا الأمر بيني وبينكم مسالمة إلى أن
يقضي الله بيننا. فلما طال مقامه صلىاللهعليهوسلم بين أظهرهم وأقام حجج الله تعالى عليهم. كل ذلك وما زادهم
ذلك إلا كفرا وعنادا ، دعا ربه عليهم دعوة نفذت فيهم كما قال تبارك وتعالى : (وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ
فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا
لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى
قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ قالَ قَدْ
أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما) [يونس : ٨٨ ـ ٨٩]
وهكذا قال هاهنا : (فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ
هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ) فعند ذلك أمره الله تعالى أن يخرج ببني إسرائيل من بين
أظهرهم من غير أمر فرعون ومشاورته واستئذانه ولهذا قال جل جلاله : (فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ
مُتَّبَعُونَ) كما قال تعالى : (وَلَقَدْ أَوْحَيْنا
إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ
يَبَساً
لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى) [طه : ٧٧].
وقوله عزوجل هاهنا : (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ
رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) وذلك أن موسى عليه الصلاة والسلام لما جاوز هو وبنو
إسرائيل البحر ، أراد موسى أن يضربه بعصاه حتى يعود كما كان ، ليصير حائلا بينهم
وبين فرعون فلا يصل إليهم ، فأمره الله تعالى أن يتركه على حاله ساكنا وبشره بأنهم
جند مغرقون فيه وأنه لا يخاف دركا ولا يخشى ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً) كهيئته وامضه ، وقال مجاهد : رهوا طريقا يبسا كهيئته. يقول : لا تأمره
يرجع اتركه حتى يرجع آخرهم ، وكذا قال عكرمة والربيع بن أنس والضحاك وقتادة وابن
زيد ، وكعب الأحبار وسماك بن حرب وغير واحد.
ثم قال تعالى : (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ) وهي البساتين (وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ) والمراد بها الأنهار والآبار (وَمَقامٍ كَرِيمٍ) وهي المساكن الأنيقة والأماكن الحسنة ، وقال مجاهد وسعيد
بن جبير (وَمَقامٍ كَرِيمٍ) المنابر ، وقال ابن لهيعة عن وهب بن عبد الله المعافري عن
عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما قال : نيل مصر سيد الأنهار سخر الله تعالى
له كل نهر بين المشرق والمغرب وذلله له ، فإذا أراد الله عزوجل أن يجري نيل مصر أمر كل نهر أن يمده فأمدته الأنهار بمائها
، وفجر الله تبارك وتعالى له الأرض عيونا ، فإذا انتهى جريه إلى ما أراد الله جل
وعلا أوحى الله تعالى إلى كل ماء أن يرجع إلى عنصره ، وقال في قول الله تعالى : (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ
وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ) قال : كانت الجنان بحافتي نهر النيل من أوله إلى آخره في
الشقين جميعا ، ما بين أسوان إلى رشيد ، وكان له تسع خلج : خليج الإسكندرية ،
وخليج دمياط ، وخليج سردوس ، وخليج منف ، وخليج الفيوم ، وخليج المنهي متصلة لا
ينقطع منها شيء عن شيء وزروع ما بين الجبلين كله من أول مصر إلى آخر ما يبلغه
الماء ، وكانت جميع أرض مصر تروى من ستة عشر ذراعا لما قدروا ودبروا من قناطرها
وجسورها وخلجها.
(وَنَعْمَةٍ كانُوا
فِيها فاكِهِينَ) أي عيشة كانوا يتفكهون فيها فيأكلون ما شاؤوا ويلبسون ما
أحبوا مع الأموال والجاهات والحكم في البلاد ، فسلبوا ذلك جميعه في صبيحة واحدة
وفارقوا الدنيا وصاروا إلى جهنم وبئس المصير ، واستولى على البلاد المصرية وتلك
الحواصل الفرعونية والممالك القبطية بنو إسرائيل كما قال تبارك وتعالى : (كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي
إِسْرائِيلَ) [الشعراء: ٥٩]. وقال في هذه الآية الأخرى (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ
كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها
وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا ،
وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ) [الأعراف : ١٣٧].
__________________
وقال عزوجل هاهنا : (كَذلِكَ
وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ) وهم بنو إسرائيل كما تقدم. وقوله سبحانه وتعالى : (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ
وَالْأَرْضُ) أي لم تكن لهم أعمال صالحة تصعد في أبواب السماء فتبكي على
فقدهم ، ولا لهم في الأرض بقاع عبدوا الله تعالى فيها فقدتهم ، فلهذا استحقوا أن
لا ينظروا ولا يؤخروا لكفرهم وإجرامهم وعتوهم وعنادهم. قال الحافظ أبو يعلى
الموصلي في مسنده : حدثنا أحمد بن إسحاق البصري ، حدثنا مكي بن إبراهيم ، حدثنا
موسى بن عبيدة ، حدثني يزيد الرقاشي حدثني أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «ما من عبد إلا وله في السماء بابان : باب يخرج منه
رزقه ، وباب يدخل منه عمله وكلامه ، فإذا مات فقداه وبكيا عليه». وتلا هذه الآية (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ
وَالْأَرْضُ) وذكر أنهم لم يكونوا عملوا على الأرض عملا صالحا يبكي
عليهم ، ولم يصعد لهم إلى السماء من كلامهم ولا من عملهم كلام طيب ولا عمل صالح
فتفقدهم فتبكي عليهم ، ورواه ابن أبي حاتم من حديث موسى بن عبيدة وهو الربذي.
وقال ابن جرير : حدثني يحيى بن طلحة ، حدثني عيسى بن يونس عن صفوان بن
عمرو عن شريح بن عبيد الحضرمي قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ. ألا لا
غربة على مؤمن ، ما مات مؤمن في غربة غابت عنه فيها بواكيه إلا بكت عليه السماء
والأرض» ثم قرأ رسول الله صلىاللهعليهوسلم (فَما بَكَتْ
عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ) ثم قال : «إنهما لا يبكيان على الكافر».
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أحمد بن عصام ، حدثنا أبو أحمد يعني الزبيري ، حدثنا العلاء بن صالح عن
المنهال بن عمرو عن عباد بن عبد الله قال : سأل رجل عليا رضي الله عنه هل تبكي
السماء والأرض على أحد؟ فقال له : لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك ، إنه
ليس من عبد إلا له مصلى في الأرض ومصعد عمله من السماء. وإن آل فرعون لم يكن لهم
عمل صالح في الأرض ولا عمل يصعد في السماء ثم قرأ علي رضي الله عنه (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ
وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ).
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كريب حدثنا طلق بن غنام عن زائدة عن منصور عن
منهال عن سعيد بن جبير قال : أتى ابن عباس رضي الله عنهما رجل فقال : يا أبا
العباس أرأيت قول الله تعالى : (فَما بَكَتْ
عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ) فهل تبكي السماء والأرض على أحد؟ قال رضي الله عنه : نعم
إنه ليس أحد من الخلائق إلا وله باب في السماء منه ينزل رزقه وفيه يصعد عمله ،
فإذا مات المؤمن فأغلق بابه من السماء الذي كان يصعد فيه
__________________
عمله وينزل منه
رزقه ففقده بكى عليه ، وإذا فقده مصلاه من الأرض التي كان يصلي فيها ويذكر الله عزوجل فيها بكت عليه ، وإن قوم فرعون لم تكن لهم في الأرض آثار
صالحة ولم يكن يصعد إلى الله عزوجل منهم خير ، فلم تبك عليهم السماء والأرض ، وروى العوفي عن
ابن عباس رضي الله عنهما نحو هذا.
وقال سفيان الثوري
عن أبي يحيى القتات عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان يقال تبكي
الأرض على المؤمن أربعين صباحا ، وكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير وغير واحد ، وقال
مجاهد أيضا : ما مات مؤمن إلا بكت عليه السماء والأرض أربعين صباحا ، قال فقلت له:
أتبكي الأرض؟ فقال : أتعجب وما للأرض لا تبكي على عبد كان يعمرها بالركوع والسجود؟
وما للسماء لا تبكي على عبد كان لتكبيره وتسبيحه فيها دوي كدوي النحل؟ وقال قتادة
: كانوا أهون على الله عزوجل من أن تبكي عليهم السماء والأرض. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا
علي بن الحسين ، حدثنا عبد السلام بن عاصم ، حدثنا إسحاق بن إسماعيل ، حدثنا
المستورد بن سابق عن عبيد المكتب عن إبراهيم قال : ما بكت السماء منذ كانت الدنيا
إلا على اثنين ، قلت لعبيد : أليس السماء والأرض تبكي على المؤمن؟ قال : ذاك مقامه
حيث يصعد عمله. قال : وتدري ما بكاء السماء! قلت : لا. قال : تحمر وتصير وردة
كالدهان ، إن يحيى بن زكريا عليه الصلاة والسلام لما قتل احمرت السماء وقطرت دما
وإن الحسين بن علي رضي الله عنهما لما قتل احمرت السماء.
وحدثنا علي بن
الحسين ، حدثنا أبو غسان محمد بن عمرو زنيج ، حدثنا جرير عن يزيد بن أبي زياد قال
: لما قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما احمرت آفاق السماء أربعة أشهر ، قال يزيد
: واحمرارها بكاؤها ، وهكذا قال السدي في الكبير ، وقال عطاء الخراساني : بكاؤها
أن تحمر أطرافها وذكروا أيضا في مقتل الحسين رضي الله عنه أنه ما قلب حجر يومئذ
إلا وجد تحته دم عبيط ، وأنه كسفت الشمس واحمر الأفق وسقطت حجارة ، وفي كل ذلك نظر
، والظاهر أنه من سخف الشيعة وكذبهم ليعظموا الأمر ولا شك أنه عظيم ، ولكن لم يقع
هذا الذي اختلقوه وكذبوه وقد وقع ما هو أعظم من قتل الحسين رضي الله عنه ولم يقع
شيء مما ذكروه ، فإنه قد قتل أبوه علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو أفضل منه
بالإجماع ، ولم يقع شيء من ذلك ، وعثمان بن عفان رضي الله عنه قتل محصورا مظلوما
ولم يكن شيء من ذلك. وعمر بن الخطاب رضي الله عنه قتل في المحراب في صلاة الصبح ،
وكأن المسلمين لم تطرقهم مصيبة قبل ذلك ولم يكن شيء من ذلك.
وهذا رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وهو سيد البشر في الدنيا والآخرة ، يوم مات لم يكن شيء
مما ذكروه. ويوم مات إبراهيم ابن النبي صلىاللهعليهوسلم خسفت الشمس فقال الناس : خسفت لموت إبراهيم!فصلى بهم رسول
الله صلىاللهعليهوسلم صلاة الكسوف وخطبهم وبين لهم أن الشمس والقمر لا ينخسفان
لموت أحد ولا
لحياته .
وقوله تبارك
وتعالى : (وَلَقَدْ نَجَّيْنا
بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ
عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ) يمتن عليهم تعالى بذلك حيث أنقذهم مما كانوا فيه من إهانة
فرعون ولإذلاله لهم ، وتسخيره إياهم في الأعمال المهينة الشاقة. وقوله تعالى : (مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً) أي مستكبرا جبارا عنيدا كقوله عزوجل : (إِنَّ فِرْعَوْنَ
عَلا فِي الْأَرْضِ) [القصص : ٤] وقوله
جلت عظمته (فَاسْتَكْبَرُوا
وَكانُوا قَوْماً عالِينَ) [المؤمنون : ٤٦]
من المسرفين أي مسرف في أمره سخيف الرأي على نفسه. وقوله جل جلاله : (وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ
عَلَى الْعالَمِينَ) قال مجاهد (اخْتَرْناهُمْ عَلى
عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ) على من هم بين ظهريه. وقال قتادة : اختيروا على أهل زمانهم
ذلك ، وكان يقال : إن لكل زمان عالما ، وهذا كقوله تعالى : (قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ
عَلَى النَّاسِ) [الأعراف : ١٤٤]
أي أهل زمانه ذلك كقوله عزوجل لمريم عليهاالسلام : (وَاصْطَفاكِ عَلى
نِساءِ الْعالَمِينَ) أي في أمانها فإن خديجة رضي الله عنها إما أفضل منها أو
مساوية لها في الفضل ، وكذا آسية بنت مزاحم امرأة فرعون ، وفضل عائشة رضي الله
عنها على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام .
وقوله جل جلاله : (وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ) أي الحجج والبراهين وخوارق العادات (ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ) أي اختبار ظاهر جلي لمن اهتدى به.
(إِنَّ هؤُلاءِ
لَيَقُولُونَ (٣٤) إِنْ هِيَ إِلاَّ
مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (٣٥)
فَأْتُوا
بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٦)
أَهُمْ
خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ
كانُوا مُجْرِمِينَ) (٣٧)
يقول تعالى منكرا
على المشركين في إنكارهم البعث والمعاد وأنه ما ثم إلا هذه الحياة الدنيا ولا حياة
بعد الممات ولا بعث ولا نشور ، ويحتجون بآبائهم الماضين الذين ذهبوا فلم يرجعوا
فإن كان البعث حقا (فَأْتُوا بِآبائِنا
إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) وهذه حجة باطلة وشبه فاسدة ، فإن المعاد إنما هو يوم
القيامة لا في هذه الدار الدنيا بل بعد انقضائها وذهابها وفراغها ، يعيد الله
العالمين خلقا جديدا ، ويجعل الظالمين لنار جهنم وقودا ، يوم تكونون شهداء على
الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا.
ثم قال تعالى
متهددا لهم ومتوعدا ومنذرا لهم بأسه الذي لا يرد كما حل بأشباههم ونظرائهم
__________________
من المشركين
والمنكرين للبعث كقوم تبع ، وهم سبأ ، حيث أهلكهم الله عزوجل وخرب بلادهم وشردهم في البلاد وفرقهم شذر مذر ، كما تقدم
ذلك في سورة سبأ وهي مصدرة بإنكار المشركين للمعاد ، وكذلك هاهنا شبههم بأولئك وقد
كانوا عربا من قحطان ، كما أن هؤلاء عرب من عدنان ، وقد كانت حمير وهم سبأ كلما
ملك فيهم رجل سموه تبعا ، كما يقال كسرى لمن ملك الفرس ، وقيصر لمن ملك الروم ، وفرعون
لمن ملك مصر كافرا ، والنجاشي لمن ملك الحبشة وغير ذلك من أعلام الأجناس.
ولكن اتفق أن بعض
تبابعتهم خرج من اليمن وسار في البلاد حتى وصل إلى سمرقند واشتد ملكه وعظم سلطانه
وجيشه ، واتسعت مملكته وبلاده وكثرت رعاياه وهو الذي مصر الحيرة ، فاتفق أنه مر
بالمدينة النبوية وذلك في أيام الجاهلية ، فأراد قتال أهلها فمانعوه وقاتلوه
بالنهار ، وجعلوا يقرونه بالليل فاستحيا منهم وكف عنهم ، واستصحب معه حبرين من
أحبار يهود كانا قد نصحاه وأخبراه أنه لا سبيل له على هذه البلدة ، فإنها مهاجر
نبي يكون في آخر الزمان ، فرجع عنها وأخذهما معه إلى بلاد اليمن ، فلما اجتاز بمكة
أراد هدم الكعبة فنهياه عن ذلك أيضا وأخبراه بعظمة هذا البيت ، وأنه من بناء
إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام ، وأنه سيكون له شأن عظيم على يدي ذلك النبي
المبعوث في آخر الزمان ، فعظمها وطاف بها وكساها الملاء والوصائل والحبير ، ثم كر راجعا إلى اليمن ودعا أهلها إلى التهود معه ، وكان
إذ ذاك دين موسى عليه الصلاة والسلام فيه من يكون على الهداية قبل بعثة المسيح
عليه الصلاة والسلام ، فتهود معه عامة أهل اليمن ، وقد ذكر القصة بطولها الإمام
محمد بن إسحاق في كتابه السيرة .
وقد ترجمه الحافظ
ابن عساكر في تاريخه ترجمة حافلة أورد فيها أشياء كثيرة مما ذكرنا ومما لم نذكر.
وذكر أنه ملك دمشق وأنه كان إذا استعرض الخيل صفت له من دمشق إلى اليمن. ثم ساق من
طريق عبد الرزاق عن معمر عن ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن
النبيصلىاللهعليهوسلم قال : «ما أدري الحدود طهارة لأهلها أم لا؟ ولا أدري تبع
لعينا كان أم لا؟ ولا أدري ذو القرنين نبيا كان أم ملكا؟» وقال غيره «عزيز أكان
نبيا أم لا؟» .
وهكذا رواه ابن
أبي حاتم عن محمد بن حماد الظهراني عن عبد الرزاق قال الدار قطني :
__________________
تفرد به عبد
الرزاق ، ثم روى ابن عساكر من طريق محمد بن كريب عن أبيه عن ابن عباس رضي الله
عنهما مرفوعا «عزير لا أدري أنبيا أم لا؟ ولا أدري ألعين تبع أم لا؟» ثم أورد ما
جاء في النهي عن سبه ولعنته كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وكأنه والله أعلم كان
كافرا ثم أسلم وتابع دين الكليم على يدي من كان من أحبار اليهود في ذلك الزمان على
الحق قبل بعثة المسيح عليهالسلام ، وحج البيت في زمن الجرهميين وكساه الملاء والوصائل من
الحرير والحبر ونحر عنده ستة آلاف بدنة وعظمه وأكرمه. ثم عاد إلى اليمن.
وقد ساق قصته
بطولها الحافظ ابن عساكر من طرق متعددة مطولة مبسوطة عن أبي بن كعب ، وعبد الله بن
سلام وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم ، وكعب الأحبار وإليه المرجع في ذلك كله ،
وإلى عبد الله بن سلام أيضا وهو أثبت وأكبر وأعلم. وكذا روى قصته وهب بن منبه
ومحمد بن إسحاق في السيرة كما هو مشهور فيها. وقد اختلط على الحافظ ابن عساكر في
بعض السياقات ترجمة تبع هذا بترجمة آخر متأخر عنه بدهر طويل ، فإن تبعا هذا المشار
إليه في القرآن أسلم قومه على يديه ، ثم لما توفي عادوا بعده إلى عبادة النيران
والأصنام فعاقبهم الله تعالى كما ذكره في سورة سبأ ، وقد بسطنا قصتهم هنالك ولله
الحمد والمنة ، وقال سعيد بن جبير : كسا تبع الكعبة وكان سعيد ينهى عن سبه ، وتبع
هذا هو تبع الأوسط ، واسمه أسعد أبو كريب بن ملكيكرب اليماني ، ذكروا أنه ملك على
قومه ثلاثمائة سنة وستا وعشرين سنة ، ولم يكن في حمير أطول مدة منه ، وتوفي قبل
مبعث رسول الله صلىاللهعليهوسلم بنحو من سبعمائة سنة. وذكروا أنه لما ذكر له الحبران من
يهود المدينة أن هذه البلدة مهاجر نبي في آخر الزمان اسمه أحمد ، قال في ذلك شعرا
واستودعه عند أهل المدينة ، فكانوا يتوارثونه ويروونه خلفا عن سلف ، وكان ممن
يحفظه أبو أيوب خالد بن زيد الذي نزل رسول الله صلىاللهعليهوسلم في داره وهو :
شهدت على أحمد
أنّه
|
|
رسول من الله
باري النّسم
|
فلو مدّ عمري
إلى عمره
|
|
لكنت وزيرا له
وابن عم
|
وجاهدت بالسيف
أعداءه
|
|
وفرّجت عن صدره
كل غم
|
وذكر ابن ابي
الدنيا أنه حفر قبر بصنعاء في الإسلام فوجدوا فيه امرأتين صحيحتين ، وعند رؤوسهما
لوح من فضة مكتوب فيه بالذهب : هذا قبر حبي ولميس ، وروي حيي وتماضر ابنتي تبع ،
ماتتا وهما تشهدان أن لا إله إلا الله ولا تشركان به شيئا ، وعلى ذلك مات الصالحون
قبلهما. وقد ذكرنا في سورة سبأ شعرا في ذلك أيضا.
قال قتادة : ذكر
لنا أن كعبا كان يقول في تبع نعت نعت الرجل الصالح : ذم الله تعالى قومه ولم يذمه.
قال : وكانت عائشة رضي الله عنها تقول : لا تسبوا تبعا فإنه قد كان رجلا صالحا. وقال
ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا صفوان ، حدثنا الوليد ، حدثنا عبد الله بن
لهيعة عن أبي زرعة ـ يعني عمرو بن جابر الحضرمي ، قال : سمعت سهل بن سعد الساعدي
رضي الله عنه يقول
: قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لا تسبوا تبعا فإنه قد كان أسلم» .
ورواه الإمام أحمد
في مسنده عن حسن بن موسى عن ابن لهيعة به وقال الطبراني : حدثنا أحمد بن علي
الأبار ، حدثنا أحمد بن محمد بن أبي برزة ، حدثنا مؤمل بن إسماعيل ، حدثنا سفيان
عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «لا تسبوا تبعا فإنه قد أسلم» وقال عبد الرزاق أيضا
: أخبرنا معمر عن ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال
رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ما أدري تبع نبيا كان لعينا أم غير نبي» وتقدم بهذا
السند من رواية ابن أبي حاتم كما أورده ابن عساكر «لا أدري تبع كان لعينا أم لا»
فالله أعلم ورواه ابن عساكر من طريق زكريا بن يحيى البدي عن عكرمة عن ابن عباس
موقوفا. وقال عبد الرزاق : أخبرنا عمران أبو الهذيل ، أخبرني تميم بن عبد الرحمن
قال : قال عطاء بن أبي رباح لا تسبوا تبعا فإن رسول الله صلىاللهعليهوسلم نهى عن سبه ، والله تعالى أعلم.
(وَما خَلَقْنَا
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (٣٨) ما خَلَقْناهُما
إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٩) إِنَّ يَوْمَ
الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٠) يَوْمَ لا يُغْنِي
مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤١)
إِلاَّ
مَنْ رَحِمَ اللهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (٤٢)
يقول تعالى مخبرا
عن عدله وتنزيهه نفسه عن اللعب والعبث والباطل كقوله جل وعلا : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ
وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) [ص : ٢٧] وقال
تعالى : (أَفَحَسِبْتُمْ
أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ فَتَعالَى
اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) [المؤمنون : ١١٥ ـ
١١٦] ثم قال تعالى : (إِنَّ يَوْمَ
الْفَصْلِ) وهو يوم القيامة يفصل الله تعالى فيه بين الخلائق ، فيعذب
الكافرين ويثيب المؤمنين. وقوله عزوجل : (مِيقاتُهُمْ
أَجْمَعِينَ) أي يجمعهم كلهم أولهم وآخرهم (يَوْمَ لا يُغْنِي
مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً) أي لا ينفع قريب قريبا كقوله سبحانه وتعالى : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا
أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) [المؤمنون : ١٠١]
وكقوله جلت عظمته : (وَلا يَسْئَلُ
حَمِيمٌ حَمِيماً يُبَصَّرُونَهُمْ) [المعارج : ١٠ ـ ١١]
أي لا يسأل أخا له عن حاله وهو يراه عيانا. وقوله جل وعلا : (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) أي لا ينصر القريب قريبه ولا يأتيه نصره من خارج ، ثم قال
: (إِلَّا مَنْ رَحِمَ
اللهُ) أي لا ينفع يومئذ إلا رحمة الله عزوجل بخلقه (إِنَّهُ هُوَ
الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) أي هو عزيز ذو رحمة واسعة.
(إِنَّ شَجَرَةَ
الزَّقُّومِ (٤٣) طَعامُ الْأَثِيمِ (٤٤) كَالْمُهْلِ يَغْلِي
فِي الْبُطُونِ (٤٥) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (٤٦)
__________________
خُذُوهُ
فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (٤٧)
ثُمَّ
صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (٤٨)
ذُقْ
إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (٤٩)
إِنَّ
هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ)
(٥٠)
يقول تعالى مخبرا
عما يعذب به الكافرين الجاحدين للقائه : (إِنَّ شَجَرَةَ
الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ) والأثيم : أي في قوله وفعله ، وهو الكافر ، وذكر غير واحد
أنه أبو جهل ، ولا شك في دخوله في هذه الآية ، ولكن ليست خاصة به. قال ابن جرير :
حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان عن الأعمش عن إبراهيم عن
همام بن الحارث أن أبا الدرداء كان يقرئ رجلا (إِنَّ شَجَرَةَ
الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ) فقال : طعام اليتيم ، فقال أبو الدرداء رضي الله عنه : قل
إن شجرة الزقوم طعام الفاجر أي ليس له طعام من غيرها ، قال مجاهد : ولو وقعت قطرة
في الأرض لأفسدت على أهل الأرض معيشتهم ، وقد تقدم نحوه مرفوعا ، وقوله : (كَالْمُهْلِ) قالوا : كعكر الزيت (يَغْلِي فِي
الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ) أي من حرارتها ورداءتها ، وقوله : (خُذُوهُ) أي الكافر ، وقد ورد أنه تعالى إذا قال للزبانية (خُذُوهُ) ابتدره سبعون ألفا منهم ، وقوله : (فَاعْتِلُوهُ) أي سوقوه سحبا ودفعا في ظهره ، قال مجاهد (خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ) أي خذوه فادفعوه ، وقال الفرزدق : [الكامل]
ليس الكرام
بناحليك أباهم
|
|
حتى تردّ إلى
عطيّة تعتل
|
(إِلى
سَواءِ الْجَحِيمِ) أي وسطها (ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ
رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ) كقولهعزوجل : (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ
رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ) [الحج : ١٩ ـ ٢٠]
وقد تقدم أن الملك يضربه بمقمعة من حديد ، فتفتح دماغه ثم يصب الحميم على رأسه
فينزل في بدنه ، فيسلت ما في بطنه من أمعائه حتى تمرق من كعبيه ، أعاذنا الله
تعالى من ذلك. وقوله تعالى : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) أي قولوا له ذلك على وجه التهكم والتوبيخ ، وقال الضحاك عن
ابن عباس رضي الله عنهما : أي لست بعزيز ولا كريم.
وقد قال الأموي في
مغازيه : حدثنا أسباط بن محمد ، حدثنا أبو بكر الهذلي عن عكرمة قال : لقي رسول
الله صلىاللهعليهوسلم أبا جهل لعنه الله فقال : «إن الله تعالى أمرني أن أقول لك
، (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى
ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) [القيامة : ٣٤ ـ ٣٥]
قال : فنزع ثوبه من يده وقال : ما تستطيع لي أنت ولا صاحبك من شيء ، ولقد علمت أني
أمنع أهل البطحاء وأنا العزيز الكريم ، قال فقتله الله يوم بدر وأذله وعيره بكلمته
وأنزل : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ). وقوله عزوجل : (إِنَّ هذا ما
كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ) كقوله تعالى : (يَوْمَ يُدَعُّونَ
إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ
هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ) [الطور : ١٣ ـ ١٥]
ولهذا قال تعالى هاهنا : (إِنَّ هذا ما
كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ).
__________________
(إِنَّ الْمُتَّقِينَ
فِي مَقامٍ أَمِينٍ (٥١) فِي جَنَّاتٍ
وَعُيُونٍ (٥٢) يَلْبَسُونَ مِنْ
سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (٥٣)
كَذلِكَ
وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٥٤) يَدْعُونَ فِيها
بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ
(٥٥) لا
يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ
الْجَحِيمِ (٥٦) فَضْلاً مِنْ
رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٥٧) فَإِنَّما
يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥٨) فَارْتَقِبْ
إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ)
(٥٩)
لما ذكر تعالى حال
الأشقياء عطف بذكر السعداء ولهذا سمي القرآن مثاني ، فقال : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ) أي لله في الدنيا (فِي مَقامٍ أَمِينٍ) أي في الآخرة وهو الجنة ، قد أمنوا فيها من الموت والخروج
، ومن كل هم وحزن وجزع وتعب ونصب ومن الشيطان وكيده وسائر الآفات والمصائب (فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) وهذا في مقابلة ما أولئك فيه من شجرة الزقوم وشرب الحميم.
وقوله تعالى : (يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ) وهو رفيع الحرير كالقمصان ونحوها (وَإِسْتَبْرَقٍ) وهو ما فيه بريق ولمعان وذلك كالرياش وما يلبس على أعالي
القماش (مُتَقابِلِينَ) أي على السرر لا يجلس أحد منهم وظهره إلى غيره. وقوله
تعالى : (كَذلِكَ
وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) أي هذا العطاء مع ما قد منحناهم من الزوجات الحسان الحور
العين اللاتي (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ
إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ) (كَأَنَّهُنَّ
الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ) (هَلْ جَزاءُ
الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) [الرحمن : ٥٦ ـ ٥٨ ـ ٦٠] قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ،
حدثنا نوح بن حبيب ، حدثنا نصر بن مزاحم العطار. حدثنا عمر بن سعد عن رجل عن أنس
رضي الله عنه رفعه نوح قال : لو أن حوراء بزقت في بحر لجي لعذب ذلك الماء لعذوبة
ريقها.
وقوله عزوجل : (يَدْعُونَ فِيها
بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ) أي مهما طلبوا من أنواع الثمار أحضر لهم وهم آمنون من
انقطاعه وامتناعه بل يحضر إليهم كلما أرادوا.
وقوله : (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا
الْمَوْتَةَ الْأُولى) هذا الاستثناء يؤكد النفي فإنه استثناء منقطع ، ومعناه
أنهم لا يذوقون فيها الموت أبدا كما ثبت في الصحيحين أن رسول اللهصلىاللهعليهوسلم قال : «يؤتى بالموت في صورة كبش أملح فيوقف بين الجنة
والنار ثم يذبح ثم يقال يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت» وقد تقدم الحديث في سورة مريم عليها الصلاة والسلام.
وقال عبد الرزاق :
حدثنا سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن أبي مسلم الأغر عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي
الله عنهما قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «يقال لأهل الجنة إن لكم أن تصحوا فلا
__________________
تسقموا أبدا ، وإن
لكم أن تعيشوا فلا تموتوا أبدا ، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا ، وإن لكم أن
تشبوا فلا تهرموا أبدا» رواه مسلم عن إسحاق بن راهويه وعبد بن حميد ، كلاهما عن
عبد الرزاق به. هكذا يقول أبو إسحاق ، وأهل العراق يقولون أبو مسلم الأغر ، وأهل
المدينة يقولون أبو عبد الله الأغر. وقال أبو بكر بن أبي داود السجستاني : حدثنا
أحمد بن حفص عن أبيه عن إبراهيم بن طهمان عن الحجاج هو ابن حجاج عن عبادة عن عبيد
الله بن عمرو عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من اتقى الله دخل الجنة ينعم فيها ولا يبأس ويحيا فيها
فلا يموت ، لا تبلى ثيابه ، ولا يفنى شبابه» .
وقال أبو القاسم
الطبراني : حدثنا أحمد بن يحيى ، حدثنا عمرو بن محمد الناقد ، حدثنا سليم بن عبد
الله الرقي ، حدثنا مصعب بن إبراهيم ، حدثنا عمران بن الربيع الكوفي عن يحيى بن
سعيد الأنصاري عن محمد بن المنكدر عن جابر رضي الله عنه قال : سئل نبي الله صلىاللهعليهوسلم : أينام أهل الجنة؟ فقال صلىاللهعليهوسلم : «النوم أخو الموت وأهل الجنة لا ينامون» وهكذا رواه أبو
بكر بن مردويه في تفسيره ، حدثنا أحمد بن القاسم بن صدقة المصري ، حدثنا المقدام
بن داود ، حدثنا عبد الله بن المغيرة ، حدثنا سفيان الثوري عن محمد بن المنكدر عن
جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «النوم أخو الموت وأهل الجنة لا ينامون» ، وقال أبو بكر
البزار في مسنده : حدثنا الفضل بن يعقوب ، حدثنا محمد بن يوسف الفريابي عن سفيان
عن محمد بن المنكدر عن جابر رضي الله عنه قال : قيل يا رسول الله : هل ينام أهل
الجنة؟ قال صلىاللهعليهوسلم : «لا ، النوم أخو الموت ، ثم قال : لا نعلم أحدا أسنده عن
ابن المنكدر عن جابر رضي الله عنه إلا الثوري ولا عن الثوري إلا الفريابي ، هكذا
قال ، وقد تقدم خلاف ذلك ، والله أعلم.
وقوله تعالى : (وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) أي مع هذا النعيم العظيم المقيم قد وقاهم وسلمهم ونجاهم
وزحزحهم عن العذاب الأليم في دركات الجحيم ، فحصل لهم المطلوب ونجاهم من المرهوب
ولهذا قال عزوجل : (فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ
ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي إنما كان هذا بفضله عليهم وإحسانه إليهم كما ثبت في
الصحيح عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «اعملوا وسددوا وقاربوا واعلموا أن أحدا لن
يدخله عمله الجنة» قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟ قال صلىاللهعليهوسلم : «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل» ، وقوله تعالى : (فَإِنَّما
يَسَّرْناهُ
__________________
بِلِسانِكَ
لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي إنما يسرنا هذا القرآن الذي أنزلناه سهلا واضحا بينا
جليا بلسانك الذي هو أفصح اللغات وأجلاها وأحلاها وأعلاها (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي يتفهمون ويعملون.
ثم لما كان مع هذا
الوضوح والبيان من الناس من كفر وخالف وعاند قال الله تعالى لرسولهصلىاللهعليهوسلم مسليا له وواعدا له بالنصر ، ومتوعدا لمن كذبه بالعطب
والهلاك : (فَارْتَقِبْ) أي انتظر (إِنَّهُمْ
مُرْتَقِبُونَ) أي فسيعملون لمن تكون النصرة والظفر وعلو الكلمة في الدنيا
والآخرة ، فإنها لك يا محمد ولإخوانك من النبيين والمرسلين ومن اتبعكم من المؤمنين
كما قال تعالى : (كَتَبَ اللهُ
لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [المجادلة : ٢١]
الآية. وقال تعالى : (إِنَّا لَنَنْصُرُ
رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ
الْأَشْهادُ يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ
اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) [غافر : ٥١ ـ ٥٣].
تفسير سورة الجاثية
وهي مكية
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ
مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢)
إِنَّ
فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (٣) وَفِي خَلْقِكُمْ
وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٤) وَاخْتِلافِ
اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا
بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)
(٥)
يرشد تعالى خلقه
إلى التفكر في آلائه ونعمه ، وقدرته العظيمة التي خلق بها السموات والأرض ، وما
فيهما من المخلوقات المختلفة الأجناس والأنواع من الملائكة والجن والإنس والدواب
والطيور والوحوش والسباع والحشرات ، وما في البحر من الأصناف المتنوعة واختلاف
الليل والنهار في تعاقبهما دائبين لا يفتران ، هذا بظلامه وهذا بضيائه ، وما أنزل
الله تبارك وتعالى من السحاب من المطر في وقت الحاجة إليه ، وسماه رزقا لأن به
يحصل الرزق (فَأَحْيا بِهِ
الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) أي بعد ما كانت هامدة لا نبات فيها ولا شيء. وقوله عزوجل : (وَتَصْرِيفِ
الرِّياحِ) أي جنوبا وشمالا ودبورا وصبا ، برية وبحرية ، ليلية ونهارية. ومنها ما هو للمطر ، ومنها
ما هو للقاح ، ومنها ما هو غذاء للأرواح ومنها ما هو عقيم لا ينتج ، وقال سبحانه
وتعالى أولا : (لَآياتٍ
لِلْمُؤْمِنِينَ) ثم يوقنون ثم يعقلون وهو ترق من حال شريف إلى ما هو أشرف
منه وأعلى ، وهذه الآيات شبيهة بآية البقرة وهي قوله تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي
الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ
فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ ،
وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ
لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [البقرة : ١٦٤]
وقد أورد ابن أبي حاتم هاهنا عن وهب بن منبه أثرا طويلا غريبا في خلق الإنسان من
الأخلاط الأربعة ، والله أعلم.
(تِلْكَ آياتُ اللهِ
نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ
يُؤْمِنُونَ (٦) وَيْلٌ لِكُلِّ
أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٧) يَسْمَعُ آياتِ
اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها
فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ
(٨)
وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ
مُهِينٌ (٩) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا
يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ
أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠) هذا هُدىً
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ)
(١١)
__________________
يقول تعالى : (تِلْكَ آياتُ اللهِ) يعني القرآن بما فيه من الحجج والبينات (نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِ) أي متضمنة الحق من الحق ، فإذا كانوا لا يؤمنون بها ولا
ينقادون لها فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون؟ ثم قال تعالى : (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) أي أفاك في قوله كذاب حلاف مهين أثيم في فعله وقلبه كافر
بآيات الله ولهذا قال : (يَسْمَعُ آياتِ اللهِ
تُتْلى عَلَيْهِ) أي تقرأ عليه (ثُمَّ يُصِرُّ) أي على كفره وجحوده استكبارا وعنادا (كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها) أي كأنه ما سمعها (فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ
أَلِيمٍ) أي فأخبره أن له عند الله تعالى يوم القيامة عذابا أليما
موجعا.
(وَإِذا عَلِمَ مِنْ
آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً) أي إذا حفظ شيئا من القرآن كفر به واتخذه سخريا وهزوا (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) أي في مقابلة ما استهان بالقرآن واستهزأ به ، ولهذا روى مسلم
في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : نهى رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو ، ثم فسر العذاب الحاصل له يوم معاده فقال : (مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ) أي كل من اتصف بذلك سيصيرون إلى جهنم يوم القيامة (وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا
شَيْئاً) أي لا تنفعهم أموالهم ولا أولادهم (وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ
أَوْلِياءَ) أي ولا تغني عنهم الآلهة التي عبدوها من دون الله شيئا (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) ثم قال تبارك وتعالى : (هذا هُدىً) يعني القرآن (وَالَّذِينَ كَفَرُوا
بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) وهو المؤلم الموجع. والله سبحانه وتعالى أعلم.
(اللهُ الَّذِي
سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا
مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢)
وَسَخَّرَ
لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١٣) قُلْ لِلَّذِينَ
آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً
بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) مَنْ عَمِلَ صالِحاً
فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ)
(١٥)
يذكر تعالى نعمه
على عبيده فيما سخر لهم من البحر (لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ) وهي السفن فيه بأمره تعالى. فإنه هو الذي أمر البحر بحملها
(وَلِتَبْتَغُوا مِنْ
فَضْلِهِ) أي في المتاجر والمكاسب (وَلَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ) أي على حصول المنافع المجلوبة إليكم من الأقاليم النائية
والآفاق القاصية ، ثم قال عزوجل : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما
فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي من الكواكب والجبال والبحار والأنهار ، وجميع ما
تنتفعون به أي الجميع من فضله وإحسانه وامتنانه ولهذا قال : (جَمِيعاً مِنْهُ) أي من عنده وحده لا شريك له في ذلك ، كما قال تبارك وتعالى
: (وَما بِكُمْ مِنْ
نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ) [النحل : ٥٣].
__________________
وروى ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى
: (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما
فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) كل شيء هو من الله. وذلك الاسم فيه اسم من أسمائه ، فذلك
جميعا منه ولا ينازعه فيه المنازعون ، واستيقن أنه كذلك. وقال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبي حدثنا محمد بن خلف العسقلاني ، حدثنا الفريابي عن سفيان عن الأعمش عن
المنهال بن عمرو عن أبي أراكة قال : سأل رجل عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال
: مم خلق الخلق؟ قال : من النور والنار والظلمة والثرى. قال : وائت ابن عباس رضي
الله عنهما فاسأله ، فأتاه فقال له مثل ذلك ، فقال : ارجع إليه فسله مما خلق ذلك
كله. فرجع إليه فسأله فتلا (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما
فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) هذا أثر غريب وفيه نكارة (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).
وقوله تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا
لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) أي يصفحوا عنهم ويتحملوا الأذى منهم وكان هذا في ابتداء
الإسلام ، أمروا أن يصبروا على أذى المشركين وأهل الكتاب ليكون ذلك كالتأليف لهم ،
ثم لما أصروا على العناد شرع الله للمؤمنين الجلاد والجهاد. هكذا روي عن ابن عباس
رضي الله عنهما وقتادة ، وقال مجاهد : (لا يَرْجُونَ
أَيَّامَ اللهِ) لا ينالون نعم الله تعالى ، وقوله تبارك وتعالى : (لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا
يَكْسِبُونَ) أي إذا صفحوا عنهم في الدنيا فإن الله عزوجل مجازيهم بأعمالكم السيئة في الآخرة ، ولهذا قال تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ
وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) أي تعودون إليه يوم القيامة فتعرضون بأعمالكم عليه فيجزيكم
بأعمالكم خيرها وشرها ، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(وَلَقَدْ آتَيْنا
بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ
الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٦)
وَآتَيْناهُمْ
بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ
الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ
الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٧)
ثُمَّ
جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ
الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (١٨) إِنَّهُمْ لَنْ
يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ
بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (١٩)
هذا
بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)
(٢٠)
يذكر تعالى ما
أنعم به على بني إسرائيل من إنزال الكتب عليهم وإرسال الرسل إليهم وجعله الملك
فيهم ، ولهذا قال تبارك وتعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا
بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ
الطَّيِّباتِ) أي من المآكل والمشارب (وَفَضَّلْناهُمْ
عَلَى الْعالَمِينَ) أي في زمانهم (وَآتَيْناهُمْ
بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ) أي حججا وبراهين وأدلة قاطعات ، فقامت عليهم الحجج ثم
اختلفوا بعد ذلك من بعد قيام الحجة ، وإنما كان ذلك بغيا منهم على بعضهم بعضا (إِنَّ رَبَّكَ)
__________________
يا محمد (يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ
فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أي سيفصل بينهم بحكمة العدل ، وهذا فيه تحذير لهذه الأمة
أن تسلك مسلكهم وأن تقصد منهجهم.
ولهذا قال جل وعلا
: (ثُمَّ جَعَلْناكَ
عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها) أي اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن
المشركين ، وقال جل جلاله هاهنا : (وَلا تَتَّبِعْ
أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ
شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) أي وماذا تغني عنهم ولايتهم لبعضهم بعضا فإنهم لا يزيدونهم
إلا خسارا ودمارا وهلاكا (وَاللهُ وَلِيُّ
الْمُتَّقِينَ) وهو تعالى يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا
أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات ، ثم قال عزوجل : (هذا بَصائِرُ
لِلنَّاسِ) يعني القرآن (وَهُدىً وَرَحْمَةٌ
لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ).
(أَمْ حَسِبَ
الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٢١)
وَخَلَقَ
اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ
وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٢) أَفَرَأَيْتَ مَنِ
اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ
وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا
تَذَكَّرُونَ)
(٢٣)
يقول تعالى : «لا
يستوي المؤمنون والكافرون» كما قال عزوجل : (لا يَسْتَوِي
أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) [الحشر : ٢٠] وقال
تبارك وتعالى : (أَمْ حَسِبَ
الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ) أي عملوها وكسبوها (أَنْ نَجْعَلَهُمْ
كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ) أي نساويهم بهم في الدنيا والآخرة (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) أي ساء ما ظنوا بنا وبعدلنا أن نساوي بين الأبرار والفجار
في الدار الآخرة وفي هذه الدار.
قال الحافظ أبو
يعلى : حدثنا مؤمل بن إهاب ، حدثنا بكير بن عثمان التنوخي ، حدثنا الوضين بن عطاء
عن يزيد بن مرثد الباجي عن أبي ذر رضي الله عنه قال : إن الله تعالى بنى دينه على
أربعة أركان ، فمن صبر عليهن ولم يعمل بهن لقي الله من الفاسقين ، قيل : وما هن يا
أبا ذر؟ قال يسلم حلال الله لله وحرام الله لله وأمر الله لله ونهي الله لله لا
يؤتمن عليهن إلا الله.
قال أبو القاسم صلىاللهعليهوسلم «كما أنه لا يجتني
من الشوك العنب كذلك لا ينال الفجار منازل الأبرار». هذا حديث غريب من هذا الوجه ،
وقد ذكر محمد بن إسحاق في كتاب السيرة أنهم وجدوا حجرا بمكة في أس الكعبة مكتوب
عليه : تعملون السيئات وترجون الحسنات أجل كما يجتني من الشوك العنب . وقد روى الطبراني من حديث شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي
الضحى عن مسروق أن تميما الداري قام ليلة حتى أصبح يردد هذه الآية (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ
__________________
اجْتَرَحُوا
السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) ولهذا قال تعالى : (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) وقال عزوجل : (وَخَلَقَ اللهُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) أي بالعدل (وَلِتُجْزى كُلُّ
نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ).
ثم قال جل وعلا : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ
هَواهُ) أي إنما يأتمر بهواه ، فما رآه حسنا فعله وما رآه قبيحا تركه
، وهذا قد يستدل به على المعتزلة في قولهم بالتحسين والتقبيح العقليين ، وعن مالك
فيما روي عنه من التفسير لا يهوي شيئا إلا عبده ، وقوله : (وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ) يحتمل قولين : أحدهما وأضله الله لعلمه أنه يستحق ذلك ،
والآخر وأضله الله بعد بلوغ العلم إليه وقيام الحجة عليه. والثاني يستلزم الأول
ولا ينعكس (وَخَتَمَ عَلى
سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) أي فلا يسمع ما ينفعه ولا يعي شيئا يهتدي به ولا يرى حجة
يستضيء بها. ولهذا قال تعالى : (فَمَنْ يَهْدِيهِ
مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) كقوله تعالى : (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ
فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [الأعراف : ١٨٦].
(وَقالُوا ما هِيَ
إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ
وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٢٤)
وَإِذا
تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا
ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥) قُلِ اللهُ
يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا
رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٢٦)
يخبر تعالى عن قول
الدهرية من الكفار ومن وافقهم من مشركي العرب في إنكار المعاد (وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا
الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا) أي ما ثم إلا هذه الدار ، يموت قوم ويعيش آخرون ، وما ثم
معاد ولا قيامة ، وهذا يقوله مشركو العرب المنكرون للمعاد ، وتقوله الفلاسفة
الإلهيون منهم ، وهم ينكرون البداءة والرجعة ، وتقوله الفلاسفة الدهرية الدورية
المنكرون للصانع ، المعتقدون أن في كل ستة وثلاثين ألف سنة يعود كل شيء إلى ما كان
عليه ، وزعموا أن هذا قد تكرر مرات لا تتناهى ، فكابروا المعقول وكذبوا المنقول
ولهذا قالوا (وَما يُهْلِكُنا
إِلَّا الدَّهْرُ) قال الله تعالى : (وَما لَهُمْ بِذلِكَ
مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) أي يتوهمون ويتخيلون.
فأما الحديث الذي
أخرجه صاحبا الصحيح وأبو داود والنسائي من رواية سفيان بن عيينة عن الزهري عن سعيد
بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «يقول تعالى يؤذيني ابن آدم ، يسب الدهر وأنا الدهر ،
بيدي الأمر أقلب ليله ونهاره» وفي رواية «لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر» وقد أورده ابن جرير بسياق غريب جدا فقال : حدثنا
__________________
أبو كريب ، حدثنا
سفيان بن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «كان أهل الجاهلية يقولون إنما يهلكنا الليل والنهار
وهو الذي يهلكنا يميتنا ويحيينا فقال الله تعالى في كتابه : (وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا
الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) ويسبون الدهر فقال الله عزوجل : يؤذيني ابن آدم ، يسب الدهر وأنا الدهر ، بيدي الأمر
أقلب الليل والنهار ، وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أحمد بن منصور عن شريح بن النعمان
عن ابن عيينة مثله.
ثم روى عن يونس عن
ابن وهب عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «قال الله تعالى :
يسب ابن آدم الدهر وأنا الدهر بيدي الليل والنهار» وأخرجه صاحبا الصحيح والنسائي
من حديث يونس بن يزيد به. وقال محمد بن إسحاق عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن
أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم : قال «يقول الله تعالى : استقرضت عبدي فلم يعطني وسبني
عبدي ، يقول وا دهراه وأنا الدهر» قال الشافعي وأبو عبيدة وغيرهما من الأئمة في
تفسير قوله عليه الصلاة والسلام «لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر» كانت العرب في
جاهليتها إذا أصابهم شدة أو بلاء أو نكبة قالوا يا خيبة الدهر ، فينسبون تلك
الأفعال إلى الدهر ويسبونه ، وإنما فاعلها هو الله تعالى فكأنهم إنما سبوا الله عزوجل ، لأنه فاعل ذلك في الحقيقة ، فلهذا نهي عن سب الدهر بهذا
الاعتبار ، لأن الله تعالى هو الدهر الذي يعنونه ويسندون إليه تلك الأفعال ، هذا
أحسن ما قيل في تفسيره وهو المراد ، والله أعلم ، وقد غلط ابن حزم ومن نحا نحوه من
الظاهرية في عدهم الدهر من الأسماء الحسنى أخذا من هذا الحديث.
وقوله تعالى : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا
بَيِّناتٍ) أي إذا استدل عليهم وبين لهم الحق ، وأن الله تعالى قادر
على إعادة الأبدان بعد فنائها وتفرقها (ما كانَ حُجَّتَهُمْ
إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي أحيوهم إن كان ما تقولونه حقا. قال الله تعالى : (قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ
يُمِيتُكُمْ) أي كما تشاهدون ذلك يخرجكم من العدم إلى الوجود (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ
أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) أي الذي قدر على البداءة قادر على الإعادة بطريق الأولى
والأحرى (وَهُوَ الَّذِي
يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم : ٢٧] (ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ
الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ) أي إنما يجمعكم إلى يوم القيامة لا يعيدكم في الدنيا حتى
تقولوا (ائْتُوا بِآبائِنا
إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ
لِيَوْمِ الْجَمْعِ) [التغابن : ٩] (لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ لِيَوْمِ
الْفَصْلِ) [المرسلات : ١٢ ـ ١٣]
(وَما نُؤَخِّرُهُ
إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ) [هود: ١٠٤] وقال هاهنا (ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ
إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ) أي لا شك فيه (وَلكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أي فلهذا ينكرون المعاد ويستبعدون قيام الأجساد قال الله
تعالى : (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ
بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً) [المعارج : ٦ ـ ٧]
أي يرون وقوعه بعيدا والمؤمنون يرون ذلك سهلا قريبا.
(وَلِلَّهِ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ
الْمُبْطِلُونَ (٢٧) وَتَرى كُلَّ
أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما
كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) هذا كِتابُنا
يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ)
(٢٩)
يخبر تعالى أنه
مالك السموات والأرض والحاكم فيهما في الدنيا والآخرة ، ولهذا قال عزوجل : (وَيَوْمَ تَقُومُ
السَّاعَةُ) أي يوم القيامة (يَخْسَرُ
الْمُبْطِلُونَ) وهم الكافرون بالله الجاحدون بما أنزله على رسله من الآيات
البينات والدلائل الواضحات.
وقال ابن أبي حاتم
: قدم سفيان الثوري المدينة فسمع المعافري يتكلم ببعض ما يضحك به الناس ، فقال له
: يا شيخ أما علمت أن لله تعالى يوما يخسر فيه المبطلون؟ قال : فما زالت تعرف في
المعافري حتى لحق بالله تعالى ، ذكره ابن أبي حاتم ثم قال تعالى : (وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً) أي على ركبها من الشدة والعظمة ، ويقال إن هذا إذا جيء
بجهنم فإنها تزفر زفرة ، لا يبقى أحد إلا جثا لركبتيه ، حتى إبراهيم الخليل عليه
الصلاة والسلام ويقول : نفسي نفسي نفسي! لا أسألك اليوم إلا نفسي. وحتى أن عيسى عليه
الصلاة والسلام ليقول : لا أسألك اليوم إلا نفسي لا أسألك مريم التي ولدتني! قال
مجاهد وكعب الأحبار والحسن البصري (كُلَّ أُمَّةٍ
جاثِيَةً) أي على الركب. وقال عكرمة : جاثية متميزة على ناحيتها وليس
على الركب ، والأول أولى.
قال ابن أبي حاتم
: حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ ، حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو عن عبد
الله بن باباه أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «كأني أراكم جاثين بالكوم دون جهنم» وقال إسماعيل بن أبي رافع المديني عن محمد بن
كعب عن أبي هريرة رضي الله عنه ، مرفوعا في حديث الصور : فيتميز الناس وتجثو الأمم
، وهي التي يقول الله تعالى : (وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ
جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا) وهذا فيه جمع بين القولين ولا منافاة ، والله أعلم.
وقوله عزوجل : (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى
إِلى كِتابِهَا) يعني كتاب أعمالها كقوله جل جلاله : (وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ
بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ) [الزمر : ٦٩]
ولهذا قال سبحانه وتعالى : (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ
ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي تجازون بأعمالكم خيرها وشرها كقوله عزوجل : (يُنَبَّؤُا
الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ
بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) [القيامة : ١٣ ـ ١٥]
ولهذا قال جلت عظمته : (هذا كِتابُنا
يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ) أي يستحضر جميع أعمالكم من غير زيادة ولا نقص كقوله جل
جلاله : (وَوُضِعَ الْكِتابُ
فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ ، وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما
لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها
وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا
__________________
حاضِراً
وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) [الكهف : ٤٩]
وقوله عزوجل : (إِنَّا كُنَّا
نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي إنا كنا نأمر الحفظة أن تكتب أعمالكم عليكم.
قال ابن عباس رضي
الله عنهما وغيره : تكتب الملائكة أعمال العباد ثم تصعد بها إلى السماء ، فيقابلون
الملائكة في ديوان الأعمال على ما بأيدي الكتبة ، مما قد أبرز لهم من اللوح
المحفوظ في كل ليلة قدر ، مما كتبه الله في القدم على العباد قبل أن يخلقهم فلا
يزيد حرفا ولا ينقص حرفا ثم قرأ (إِنَّا كُنَّا
نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).
(فَأَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ
هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (٣٠) وَأَمَّا الَّذِينَ
كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ
قَوْماً مُجْرِمِينَ (٣١) وَإِذا قِيلَ إِنَّ
وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا
السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (٣٢) وَبَدا لَهُمْ
سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ
(٣٣)
وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ
النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٤) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ
اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ
لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ(٣٥) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ
رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٦)
وَلَهُ
الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)
(٣٧)
يخبر تعالى عن
حكمه في خلقه يوم القيامة فقال تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي آمنت قلوبهم وعملت جوارحهم الأعمال الصالحات وهي
الخالصة الموافقة للشرع (فَيُدْخِلُهُمْ
رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ) وهي الجنة كما ثبت في الصحيح أن الله تعالى قال للجنة : أنت
رحمتي أرحم بك من أشاء .
(ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ
الْمُبِينُ) أي البين الواضح. ثم قال تعالى : (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ
تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ) أي يقال لهم ذلك تقريعا وتوبيخا ، أما قرئت عليكم آيات
الله تعالى فاستكبرتم عن اتباعها ، وأعرضتم عن سماعها ، وكنتم قوما مجرمين في
أفعالكم مع ما اشتملت عليه قلوبكم من التكذيب؟
(وَإِذا قِيلَ إِنَّ
وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها) أي إذا قال لكم المؤمنون ذلك (قُلْتُمْ ما نَدْرِي
مَا السَّاعَةُ) أي لا نعرفها (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا
ظَنًّا) أي إن نتوهم وقوعها إلا توهما أي مرجوحا ولهذا قال : (وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) أي بمتحققين. قال الله تعالى : (وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا) أي وظهر لهم عقوبة أعمالهم السيئة (وَحاقَ بِهِمْ) أي أحاط بهم (ما كانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِؤُنَ) أي من العذاب والنكال (وَقِيلَ الْيَوْمَ
نَنْساكُمْ) أي نعاملكم معاملة الناسي لكم في نار جهنم (كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) أي فلم تعملوا له لأنكم لم تصدقوا به (وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ
ناصِرِينَ). وقد ثبت في الصحيح أن الله تعالى يقول لبعض العبيد يوم
القيامة :
__________________
«ألم أزوجك؟ ألم
أكرمك؟ ألم أسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول : بلى يا رب. فيقول أفظننت
أنك ملاقي؟ فيقول : لا. فيقول الله تعالى : فاليوم أنساك كما نسيتني» .
قال الله تعالى : (ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ
اللهِ هُزُواً) أي إنما جازيناكم هذا الجزاء لأنكم اتخذتم حجج الله عليكم
سخريا تسخرون وتستهزءون بها (وَغَرَّتْكُمُ
الْحَياةُ الدُّنْيا) أي خدعتكم فاطمأننتم إليها فأصبحتم من الخاسرين ، ولهذا
قال عزوجل : (فَالْيَوْمَ لا
يُخْرَجُونَ مِنْها) أي من النار (وَلا هُمْ
يُسْتَعْتَبُونَ) أي لا يطلب منهم العتبى بل يعذبون بغير حساب ولا عتاب كما
تدخل طائفة من المؤمنين الجنة بغير عذاب ولا حساب ثم لما ذكر تعالى حكمه في
المؤمنين والكافرين ، قال : (فَلِلَّهِ الْحَمْدُ
رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ) أي المالك لهما وما فيهما ، ولهذا قال (رَبِّ الْعالَمِينَ) ثم قال جل وعلا : (وَلَهُ الْكِبْرِياءُ
فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) قال مجاهد : يعني السلطان أي هو العظيم الممجد الذي كل شيء
خاضع لديه فقير إليه. وقد ورد في الحديث الصحيح «يقول الله تعالى : العظمة إزاري ،
والكبرياء ردائي فمن نازعني واحدا منهما أسكنته ناري» ورواه مسلم من حديث الأعمش عن أبي إسحاق عن الأغر أبي مسلم
، عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما ، عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم بنحوه. وقوله تعالى : (وَهُوَ الْعَزِيزُ) أي الذي لا يغالب ولا يمانع (الْحَكِيمُ) في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره تعالى وتقدس لا إله إلا هو.
__________________
سورة الأحقاف
وهي مكية
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ
مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢)
ما
خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ
مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (٣) قُلْ أَرَأَيْتُمْ
ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ
لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ
مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤) وَمَنْ أَضَلُّ
مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ
وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (٥) وَإِذا حُشِرَ
النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ)
(٦)
يخبر تعالى أنه
أنزل الكتاب على عبده ورسوله محمد صلىاللهعليهوسلم ، صلوات الله عليه دائما إلى يوم الدين ، ووصف نفسه بالعزة
التي لا ترام ، والحكمة في الأقوال والأفعال ، ثم قال تعالى : (ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ
وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) أي لا على وجه العبث والباطل (وَأَجَلٍ مُسَمًّى) أي وإلى مدة معينة مضروبة لا تزيد ولا تنقص ، وقوله تعالى
: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا
عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ) أي لا هون عما يراد بهم ، وقد أنزل الله تعالى إليهم كتابا
وأرسل إليهم رسولا ، وهم معرضون عن ذلك كله أي وسيعلمون غب ذلك.
ثم قال تعالى : (قُلْ) أي لهؤلاء المشركين العابدين مع الله غيره (أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ
اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) أي أرشدوني إلى المكان الذي استقلوا بخلقه من الأرض (أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ) أي ولا شرك لهم في السموات ولا في الأرض وما يملكون من
قطمير ، إن الملك والتصرف كله إلا لله عزوجل ، فكيف تعبدون معه غيره وتشركون به؟ من أرشدكم إلى هذا؟ من
دعاكم إليه؟ أهو أمركم به؟ أم هو شيء اقترحتموه من عند أنفسكم؟ ولهذا قال : (ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا) أي هاتوا كتابا من كتب الله المنزلة على الأنبياء عليهم
الصلاة والسلام يأمركم بعبادة هذه الأصنام (أَوْ أَثارَةٍ مِنْ
عِلْمٍ) أي دليل بين على هذا المسلك الذي سلكتموه (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي لا دليل لكم لا نقليا ولا عقليا على ذلك ، ولهذا قرأ
آخرون : أو أثرة من علم أي أو علم صحيح تؤثرونه عن أحد ممن قبلكم ، كما قال مجاهد
في قوله تعالى : (أَوْ أَثارَةٍ مِنْ
عِلْمٍ) أو أحد يأثر علما ، وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما : أو بينة من
الأمر.
__________________
وقال الإمام أحمد حدثنا يحيى عن سفيان عن صفوان بن سليم ، عن أبي سلمة بن
عبد الرحمن عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال سفيان : لا أعلم إلا عن النبي صلىاللهعليهوسلم ، أو أثرة من علم ، قال : الخط. وقال أبو بكر بن عياش : أو
بقية من علم. وقال الحسن البصري : أو أثارة شيء يستخرجه فيثيره. وقال ابن عباس رضي
الله عنهما ومجاهد وأبو بكر بن عياش أيضا : أو أثارة من علم يعني الخط. وقال قتادة
: أو أثارة من علم خاصة من علم وكل هذه الأقوال متقاربة. وهي راجعة إلى ما قلناه
وهو اختيار ابن جرير رحمهالله وأكرمه وأحسن مثواه.
وقوله تبارك
وتعالى : (وَمَنْ أَضَلُّ
مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ
الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ) أي لا أضل ممن يدعو من دون الله أصناما ، ويطلب ما لا
تستطيعه إلى يوم القيامة ، وهي غافلة عما يقول لا تسمع ولا تبصر ولا تبطش ، لأنها
جماد حجارة صم ، وقوله تبارك وتعالى : (وَإِذا حُشِرَ
النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ) كقوله عزوجل : (وَاتَّخَذُوا مِنْ
دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلَّا سَيَكْفُرُونَ
بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) [مريم : ٨١ ـ ٨٢]
أي سيخونونهم أحوج ما يكونون إليهم. وقال الخليل عليه الصلاة والسلام : (إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ
أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ
يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ
النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) [العنكبوت : ٢٥].
(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ
آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ
مُبِينٌ(٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ
افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما
تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ
الرَّحِيمُ (٨) قُلْ ما كُنْتُ
بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ
إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ) (٩)
يقول عزوجل مخبرا عن المشركين في كفرهم وعنادهم : أنهم إذا تتلى عليهم
آيات الله بينات أي في حال بيانها ووضوحها وجلائها يقولون (هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي سحر واضح وقد كذبوا وافتروا وضلوا وكفروا (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) يعنون محمدا صلىاللهعليهوسلم قال الله عزوجل : (قُلْ إِنِ
افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي لو كذبت عليه وزعمت أنه أرسلني وليس كذلك لعاقبني أشد
العقوبة ، ولم يقدر أحد من أهل الأرض لا أنتم ولا غيركم ، أن يجيرني منه ، كقوله
تبارك وتعالى : (قُلْ إِنِّي لَنْ
يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً إِلَّا
بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ) [الجن: ٢٢ ـ ٢٣] وقال تعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ
الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ
فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) [الحاقة : ٤٤ ـ ٤٧]
ولهذا قال سبحانه وتعالى هاهنا : (قُلْ إِنِ
افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما
تُفِيضُونَ فِيهِ
__________________
كَفى
بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ)
هذا تهديد لهم
ووعيد أكيد وترهيب شديد.
وقوله عزوجل : (وَهُوَ الْغَفُورُ
الرَّحِيمُ) ترغيب لهم إلى التوبة والإنابة أي ومع هذا كله إن رجعتم
وتبتم تاب عليكم وعفا عنكم وغفر ورحم ، وهذه الآية كقوله عزوجل في سورة الفرقان : (وَقالُوا أَساطِيرُ
الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً قُلْ أَنْزَلَهُ
الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً
رَحِيماً) [الفرقان : ٥ ـ ٦]
وقوله تبارك وتعالى : (قُلْ ما كُنْتُ
بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) أي لست بأول رسول طرق العالم بل جاءت الرسل من قبلي فما
أنا بالأمر الذي لا نظير له حتى تستنكروني وتستبعدوا بعثتي إليكم فإنه قد أرسل
الله جل وعلا قبلي جميع الأنبياء إلى الأمم ، قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد
وقتادة (قُلْ ما كُنْتُ
بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) ما أنا بأول رسول ، ولم يحك ابن جرير ولا ابن أبي حاتم غير ذلك.
وقوله تعالى : (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا
بِكُمْ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه
الآية : نزل بعدها (لِيَغْفِرَ لَكَ
اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) [الفتح : ٢] وهكذا قال عكرمة والحسن وقتادة : إنها منسوخة
بقوله تعالى : (لِيَغْفِرَ لَكَ
اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) قالوا : ولما نزلت هذه الآية قال رجل من المسلمين : هذا قد
بين الله تعالى ، ما هو فاعل بك يا رسول الله ، فما هو فاعل بنا؟ فأنزل الله تعالى
: (لِيُدْخِلَ
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ) [الفتح : ٥] هكذا
قال ، والذي هو ثابت في الصحيح أن المؤمنين قالوا : هنيئا لك يا رسول الله فما لنا؟
فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآية ، وقال الضحاك (وَما أَدْرِي ما
يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) أي ما أدري بما ذا أومر وبما ذا أنهى بعد هذا؟
وقال أبو بكر
الهذلي عن الحسن البصري في قوله تعالى : (وَما أَدْرِي ما
يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) قال : أما في الآخرة فمعاذ الله قد علم أنه في الجنة ،
ولكن قال : لا أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا ، أخرج كما أخرجت الأنبياء عليهم
الصلاة والسلام من قبلي؟ أم أقتل كما قتلت الأنبياء من قبلي؟ ولا أدري أيخسف بكم
أو ترمون بالحجارة ؟ وهذا القول هو الذي عول عليه ابن جرير وأنه لا يجوز غيره
ولا شك أن هذا هو اللائق به صلوات الله وسلامه عليه ، فإنه بالنسبة إلى الآخرة
جازم أنه يصير إلى الجنة هو ومن اتبعه ، وأما في الدنيا فلم يدر ما كان يؤول إليه
أمره وأمر مشركي قريش إلى ماذا ، أيؤمنون أم يكفرون فيعذبون فيستأصلون بكفرهم.
فأما الحديث الذي
رواه الإمام أحمد ، حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي عن ابن شهاب عن خارجة بن زيد بن
ثابت عن أم العلاء ، وهي امرأة من نسائهم أخبرته وكانت بايعت
__________________
رسول الله صلىاللهعليهوسلم قالت : طار لهم في السكنى حين اقترعت الأنصار على سكنى
المهاجرين عثمان بن مظعون رضي الله عنه فاشتكى عثمان رضي الله عنه عندنا فمرضناه ،
حتى إذا توفي أدرجناه في أثوابه فدخل علينا رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقلت رحمة الله عليك أبا السائب شهادتي عليك لقد أكرمك
الله عزوجل فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «وما يدريك أن الله تعالى أكرمه» فقلت : لا أدري بأبي
أنت وأمي ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «أما هو فقد جاءه
اليقين من ربه وإني لأرجو له الخير ، والله ما أدري وأنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم ما يفعل بي».
قالت : فقلت والله
لا أزكي أحدا بعده أبدا وأحزنني ذلك فنمت فرأيت لعثمان رضي الله عنه عينا تجري ،
فجئت إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فأخبرته بذلك ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ذلك عمله» فقد انفرد بإخراجه البخاري دون مسلم ، وفي
لفظ له «ما أدري وأنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم ما يفعل بي» وهذا أشبه أن يكون هو المحفوظ بدليل قولها فأحزنني ذلك ،
وفي هذا وأمثاله دلالة على أنه لا يقطع لمعين بالجنة إلا الذي نص الشارع على
تعيينهم كالعشرة وابن سلام والغميصاء وبلال وسراقة ، وعبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر ،
والقراء السبعين الذين قتلوا ببئر معونة ، وزيد بن حارثة وجعفر وابن رواحة وما
أشبه هؤلاء رضي الله عنهم ، وقوله (إِنْ أَتَّبِعُ
إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) أي إنما أتبع ما ينزله الله علي من الوحي (وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي بين النذارة وأمري ظاهر لكل ذي لب وعقل ، والله أعلم.
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي
إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠)
وَقالَ
الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ
وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (١١) وَمِنْ قَبْلِهِ
كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا
لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (١٢) إِنَّ الَّذِينَ
قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ (١٣) أُولئِكَ أَصْحابُ
الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ)
(١٤)
يقول تعالى : (قُلْ) يا محمد لهؤلاء المشركين الكافرين بالقرآن (أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ) هذا القرآن (مِنْ عِنْدِ اللهِ
وَكَفَرْتُمْ بِهِ) أي ما ظنكم أن الله صانع بكم إن كان هذا الكتاب الذي جئتكم
به قد أنزل علي لأبلغكموه ، وقد كفرتم به وكذبتموه. (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ
بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ) أي وقد شهدت بصدقه وصحته الكتب المتقدمة المنزلة على
الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قبلي ، بشرت به وأخبرت بمثل ما أخبر هذا القرآن به.
__________________
وقوله عزوجل : (فَآمَنَ) أي هذا الذي شهد بصدقه من بني إسرائيل لمعرفته بحقيته (وَاسْتَكْبَرْتُمْ) أنتم عن اتباعه ، وقال مسروق : فآمن هذا الشاهد بنبيه
وكتابه وكفرتم أنتم بنبيكم وكتابكم (إِنَّ اللهَ لا
يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) وهذا الشاهد اسم جنس يعم عبد الله بن سلام رضي الله عنه
وغيره ، فإن هذه الآية مكية نزلت قبل إسلام عبد الله بن سلام رضي الله عنه ، وهذه
كقوله تبارك وتعالى : (وَإِذا يُتْلى
عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ
قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ) [القصص : ٥٣] وقال
: (إِنَّ الَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ
سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً) قال مسروق والشعبي : ليس بعبد الله بن سلام هذه الآية مكية
، وإسلام عبد الله بن سلام رضي الله عنه كان بالمدينة. رواه عنهما ابن جرير وابن
أبي حاتم واختاره ابن جرير.
وقال مالك عن أبي
النضر عن عامر بن سعد عن أبيه قال : ما سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول لأحد يمشي على وجه الأرض إنه من أهل الجنة ، إلا لعبد
الله بن سلام رضي الله عنه .
قال : وفيه نزلت (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ
عَلى مِثْلِهِ) رواه البخاري ومسلم والنسائي من حديث مالك به ، وكذا قال
ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد والضحاك وقتادة وعكرمة ويوسف بن عبد الله بن سلام
وهلال بن يساف والسدي والثوري ومالك بن أنس ، وابن زيد أنهم كلهم قالوا : إنه عبد
الله بن سلام.
وقوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ
آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) أي قالوا عن المؤمنين بالقرآن لو كان القرآن خيرا ما سبقنا
هؤلاء إليه ، يعنون بلالا وعمارا وصهيبا وخبابا رضي الله عنهم ، وأشباههم وأقرانهم
من المستضعفين والعبيد والإماء ، وما ذلك إلا لأنهم عند أنفسهم يعتقدون أن لهم عند
الله وجاهة وله بهم عناية. وقد غلطوا في ذلك غلطا فاحشا وأخطئوا خطأ بينا كما قال
تبارك وتعالى : (وَكَذلِكَ فَتَنَّا
بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا) [الأنعام : ٥٣] أي
يتعجبون كيف اهتدى هؤلاء دوننا ولهذا قالوا : (لَوْ كانَ خَيْراً ما
سَبَقُونا إِلَيْهِ) وأما أهل السنة والجماعة ، فيقولون : في كل فعل وقول لم
يثبت عن الصحابة رضي الله عنهم هو بدعة لأنه لو كان خيرا لسبقونا إليه ، لأنهم لم
يتركوا خصلة من خصال الخير إلا وقد بادروا إليها.
وقوله تعالى : (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ) أي بالقرآن (فَسَيَقُولُونَ هذا
إِفْكٌ قَدِيمٌ) أي كذب قديم أي مأثور عن الناس الأقدمين فينتقصون القرآن
وأهله ، وهذا هو الكبر الذي قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم :
__________________
«بطر الحق وغمط
الناس» .
ثم قال تعالى : (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى) وهو التوراة (إِماماً وَرَحْمَةً
وَهذا كِتابٌ) يعني القرآن (مُصَدِّقٌ) أي لما قبله من الكتب (لِساناً عَرَبِيًّا) أي فصيحا بينا واضحا (لِيُنْذِرَ الَّذِينَ
ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ) أي مشتمل على النذارة للكافرين والبشارة للمؤمنين ، وقوله
تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) تقدم تفسيرها في سورة حم السجدة وقوله تعالى : (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) أي فيما يستقبلون (وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ) على ما خلفوا (أُولئِكَ أَصْحابُ
الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي الأعمال سبب لنيل الرحمة لهم وسبوغها عليهم ، والله
أعلم.
(وَوَصَّيْنَا
الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ
كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ
وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ
الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ
وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ
الْمُسْلِمِينَ(١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ
نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي
أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ)
(١٦)
لما ذكر تعالى في
الآية الأولى التوحيد له وإخلاص العبادة والاستقامة إليه ، عطف بالوصية بالوالدين
كما هو مقرون في غير ما آية من القرآن كقوله عزوجل : (وَقَضى رَبُّكَ
أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) [الإسراء : ٢٣]
وقوله جل جلاله : (أَنِ اشْكُرْ لِي
وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) [لقمان : ١٤] إلى
غير ذلك من الآيات الكثيرة. وقال عزوجل هاهنا (وَوَصَّيْنَا
الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً) أي أمرناه بالإحسان إليهما والحنو عليهما.
وقال أبو داود
الطيالسي حدثنا شعبة ، أخبرني سماك بن حرب قال : سمعت مصعب بن سعد يحدث عن سعد رضي
الله عنه قال : قالت أم سعد لسعد : أليس قد أمر الله بطاعة الوالدين فلا آكل طعاما
ولا أشرب شرابا حتى تكفر بالله تعالى ، فامتنعت من الطعام والشراب حتى جعلوا
يفتحون فاها بالعصا ونزلت هذه الآية (وَوَصَّيْنَا
الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً) الآية. ورواه مسلم وأهل السنن إلا ابن ماجة من حديث شعبة
بإسناده نحوه وأطول منه (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ
كُرْهاً) أي قاست بسببه في حال حمله مشقة وتعبا من وحام وغشيان وثقل
وكرب ، إلى غير ذلك مما تنال الحوامل من التعب والمشقة ، (وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً) أي بمشقة أيضا من الطلق وشدته (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ
شَهْراً).
وقد استدل علي رضي
الله عنه بهذه الآية مع التي في لقمان (وَفِصالُهُ فِي
عامَيْنِ) [لقمان :
__________________
١٤] وقوله تبارك
وتعالى : (وَالْوالِداتُ
يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ
الرَّضاعَةَ) [البقرة : ٢٣٣]
على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر وهو استنباط قوي وصحيح ، ووافقه عليه عثمان وجماعة
من الصحابة رضي الله عنهم.
قال محمد بن إسحاق
بن يسار عن يزيد بن عبيد الله بن قسيط عن بعجة بن عبد الله الجهني قال : تزوج رجل
منا امرأة من جهينة فولدت له لتمام ستة أشهر ، فانطلق زوجها إلى عثمان رضي الله
عنه ، فذكر ذلك له ، فبعث إليها ، فلما قامت لتلبس ثيابها بكت أختها فقالت: ما
يبكيك؟ فو الله ما التبس بي أحد من خلق الله تعالى غيره قط ، فيقضي الله سبحانه
وتعالى فيّ ما شاء ، فلما أتى بها عثمان رضي الله عنه أمر برجمها فبلغ ذلك عليا
رضي الله عنه : فأتاه فقال له ما تصنع ، قال : ولدت تماما لستة أشهر ، وهل يكون
ذلك ، فقال له علي رضي الله عنه : أما تقرأ القرآن : قال : بلى. قال : أما سمعت
الله عزوجل يقول (وَحَمْلُهُ
وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) وقال (حَوْلَيْنِ
كامِلَيْنِ) [البقرة : ٢٣٣]
فلم نجده بقي إلا ستة أشهر قال : فقال عثمان رضي الله عنه والله ما فطنت لهذا عليّ
بالمرأة فوجدوها قد فرغ منها قال : فقال بعجة : فو الله ما الغراب بالغراب ولا
البيضة بالبيضة بأشبه منه بأبيه ، فلما رآه أبوه قال : ابني والله لا أشك فيه. قال
: وابتلاه الله تعالى بهذه القرحة بوجهه الآكلة ، فما زالت تأكله حتى مات ، رواه ابن أبي حاتم ، وقد أوردناه من وجه آخر عند قوله عزوجل : (فَأَنَا أَوَّلُ
الْعابِدِينَ).
وقال ابن أبي حاتم
حدثنا أبي ، حدثنا فروة بن أبي المغراء ، حدثنا علي بن مسهر عن داود بن أبي هند عن
عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما : قال : إذا وضعت المرأة لتسعة أشهر كفاه من
الرضاع أحد وعشرين شهرا ، وإذا وضعته لسبعة أشهر كفاه من الرضاع ثلاثة وعشرون شهرا
، وإذا وضعته لستة أشهر فحولين كاملين لأن الله تعالى يقول (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ
شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ) أي قوي وشب وارتجل. (وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ
سَنَةً) أي تناهى عقله وكمل فهمه وحلمه. ويقال إنه لا يتغير غالبا
عما يكون عليه ابن الأربعين ، قال أبو بكر بن عياش عن الأعمش عن القاسم بن عبد
الرحمن قال : قلت لمسروق : متى يؤخذ الرجل بذنوبه؟ قال إذا بلغت الأربعين فخذ
حذرك.
وقال الحافظ أبو
يعلى الموصلي : حدثنا أبو عبد الله القواريري ، حدثنا عروة بن قيس الأزدي ، وكان
قد بلغ مائة سنة ، حدثنا أبو الحسن السلولي عمر بن أوس قال : قال محمد بن عمرو بن
عثمان عن عثمان رضي الله عنه ، عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «العبد المسلم إذا بلغ أربعين سنة خفف الله تعالى
حسابه ، وإذا بلغ الستين سنة رزقه الله تعالى الإنابة إليه ، وإذا بلغ سبعين سنة
أحبه أهل السماء وإذا بلغ ثمانين سنة ثبت الله تعالى حسناته ومحا سيئاته ، وإذا
بلغ تسعين سنة
__________________
غفر الله له ما
تقدم من ذنبه وما تأخر ، وشفعه الله تعالى في أهل بيته ، وكتب في السماء أسير الله
في أرضه» وقد روي هذا من غير وجه ، وهو في مسند الإمام أحمد ، وقد قال الحجاج بن عبد الله الحكمي أحد أمراء بني أمية
بدمشق ، تركت المعاصي والذنوب أربعين سنة حياء من الناس ، ثم تركتها حياء من الله عزوجل ، وما أحسن قول الشاعر : [الطويل]
صبا ما صبا حتى
علا الشيب رأسه
|
|
فلمّا علاه قال
للباطل : ابعد !
|
(قالَ
رَبِّ أَوْزِعْنِي) أي ألهمني (أَنْ أَشْكُرَ
نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً
تَرْضاهُ) أي في المستقبل (وَأَصْلِحْ لِي فِي
ذُرِّيَّتِي) أي نسلي وعقبي (إِنِّي تُبْتُ
إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) وهذا فيه إرشاد لمن بلغ الأربعين أن يجدد التوبة والإنابة
إلى اللهعزوجل ويعزم عليها ، وقد روى أبو داود في سننه عن ابن مسعود رضي
الله عنه أن رسول اللهصلىاللهعليهوسلم كان يعلمهم أن يقولوا في التشهد «اللهم ألف بين قلوبنا
وأصلح ذات بيننا ، واهدنا سبل السلام ونجنا من الظلمات إلى النور وجنبنا الفواحش
ما ظهر منها وما بطن ، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا وأزواجنا وذرياتنا ،
وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ، واجعلنا شاكرين لنعمتك مثنين بها عليك قابليها
وأتممها علينا».
قال الله عزوجل : (أُولئِكَ الَّذِينَ
نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ) أي هؤلاء المتصفون بما ذكرنا ، التائبون إلى الله تعالى
المنيبون إليه ، المستدركون ما فات بالتوبة والاستغفار ، هم الذين نتقبل عنهم أحسن
ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم فيغفر لهم الكثير من الزلل ويتقبل منهم اليسير من
العمل.
(فِي أَصْحابِ
الْجَنَّةِ) أي هم في جملة أصحاب الجنة ، وهذا حكمهم عند الله كما وعد
الله عزوجل من تاب إليه وأناب ، ولهذا قال تعالى : (وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا
يُوعَدُونَ) قال ابن جرير حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا المعتمر بن سليمان عن
الحكم بن أبان عن الغطريف ، عن جابر بن زيد عن ابن عباس رضي الله عنهما ، عن رسول الله
صلىاللهعليهوسلم ، عن الروح الأمين عليه الصلاة والسلام قال : «يؤتى بحسنات
العبد وسيئاته فيقتص بعضها ببعض ، فإن بقيت حسنة وسع الله تعالى له في الجنة» قال
: فدخلت على يزداد فحدث بمثل هذا قال : قلت فإن ذهبت الحسنة؟ قال (أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ
أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ
وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) وهكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن محمد بن عبد الأعلى
الصنعاني عن المعتمر بن سليمان بإسناده مثله وزاد عن الروح الأمين.
__________________
قال : قال الرب جل
جلاله : يؤتى بحسنات العبد وسيئاته فذكره ، وهو حديث غريب وإسناده جيد لا بأس به.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبي ، حدثنا سليمان بن معبد ، حدثنا عمرو بن عاصم الكلائي ، حدثنا أبو
عوانة عن أبي بشر جعفر بن أبي وحشية عن يوسف بن سعد ، عن محمد بن حاطب قال : ونزل
في داري حيث ظهر علي رضي الله عنه على أهل البصرة فقال له يوما : لقد شهدت أمير
المؤمنين عليا رضي الله عنه ، وعنده عمار وصعصعة والأشتر ومحمد بن أبي بكر رضي
الله عنهم ، فذكروا عثمان رضي الله عنه فنالوا منه ، فكان علي رضي الله عنه على
السرير ومعه عود في يده ، فقال قائل منهم : إن عندكم من يفصل بينكم ، فسألوه فقال
علي رضي الله عنه : كان عثمان رضي الله عنه من الذين قال الله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ
عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ
الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) قال : والله عثمان وأصحاب عثمان رضي الله عنهم ، قالها
ثلاثا. قال يوسف فقلت لمحمد بن حاطب : الله لسمعت هذا عن علي رضي الله عنه؟ قال :
الله لسمعت هذا عن علي رضي الله عنه.
(وَالَّذِي قالَ
لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ
مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ
فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٧)
أُولئِكَ
الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ
مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ(١٨)
وَلِكُلٍّ
دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٩) وَيَوْمَ يُعْرَضُ
الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ
الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما
كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ
تَفْسُقُونَ) (٢٠)
لما ذكر تعالى حال
الداعين للوالدين البارين بهما وما لهم عنده من الفوز ، والنجاة ، عطف بحال
الأشقياء العاقين للوالدين فقال : (وَالَّذِي قالَ
لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما) وهذا عام في كل من قال هذا ، ومن زعم أنها نزلت في عبد
الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما فقوله ضعيف ، لأن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي
الله عنهما أسلم بعد ذلك ، وحسن إسلامه وكان من خيار أهل زمانه ، وروى العوفي عن
ابن عباس رضي الله عنهما أنها نزلت في ابن لأبي بكر الصديق رضي الله عنهما وفي صحة
هذا نظر ، والله تعالى أعلم. وقال ابن جريج عن مجاهد : نزلت في عبد الله بن أبي
بكر رضي الله عنهما وهذا أيضا قاله ابن جريج. وقال آخرون عبد الرحمن بن أبي بكر
رضي الله عنهما ، وهذا أيضا قول السدي ، وإنما هذا عام في كل من عق والديه وكذب
بالحق ، فقال لوالديه (أُفٍّ لَكُما) عقهما.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا محمد بن العلاء ، حدثنا يحيى بن أبي زائدة ، عن
إسماعيل بن أبي خالد ، أخبرني عبد الله بن المديني ، قال : إني لفي المسجد حين خطب
مروان فقال : إن الله تعالى قد أرى أمير المؤمنين في يزيد رأيا حسنا ، وأن يستخلفه
فقد
استخلف أبو بكر
عمر رضي الله عنهما ، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما : أهرقلية؟ إن
أبا بكر رضي الله عنه والله ما جعلها في أحد من ولده ولا أحد من أهل بيته ، ولا جعلها
معاوية في ولده إلا رحمة وكرامة لولده ، فقال مروان : ألست الذي قال لوالديه أف
لكما؟ فقال عبد الرحمن رضي الله عنه : ألست ابن اللعين الذين لعن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أباك؟ قال وسمعتهما عائشة رضي الله عنها فقالت : يا مروان
أنت القائل لعبد الرحمن رضي الله عنه كذا وكذا؟ كذبت ما فيه نزلت ولكن نزلت في
فلان ابن فلان ، ثم انتحب مروان ثم نزل عن المنبر ، حتى أتى باب حجرتها ، فجعل
يكلمها حتى انصرف.
وقد رواه البخاري
بإسناد آخر ولفظ آخر فقال : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر
عن يوسف بن ماهك قال : كان مروان على الحجاز ، استعمله معاوية بن أبي سفيان ، رضي
الله عنهما ، فخطب وجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبايع له بعد أبيه فقال له عبد
الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما شيئا ، فقال : خذوه ، فدخل بيت عائشة رضي الله
عنها فلم يقدروا عليه ، فقال مروان : إن هذا الذي أنزل فيه (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ
لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي) فقالت عائشة رضي الله عنها من وراء الحجاب : ما أنزل الله عزوجل فينا شيئا من القرآن إلا أن الله تعالى أنزل عذري .
[طريق أخرى] قال
النسائي : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا أمية بن خالد ، حدثنا شعبة عن محمد بن زياد
قال : لما بايع معاوية رضي الله عنه لابنه ، قال مروان : سنة أبي بكر وعمر رضي
الله عنهما. فقال عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما : سنة هرقل وقيصر. فقال
مروان : هذا الذي أنزل الله تعالى فيه (وَالَّذِي قالَ
لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما) الآية. فبلغ ذلك عائشة رضي الله عنها فقالت : كذب مروان
والله ما هو به ، ولو شئت أن أسمي الذي أنزلت فيه لسميته ، ولكن رسول الله صلىاللهعليهوسلم لعن أبا مروان ومروان في صلبه فمروان فضض من لعنة الله.
وقوله : (أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ) أي أبعث (وَقَدْ خَلَتِ
الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي) أي قد مضى الناس فلم يرجع منهم مخبر (وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ) أي يسألان الله فيه أن يهديه ويقولان لولدهما (وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ
حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) قال الله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ
حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ
وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ) أي دخلوا في زمرة أشباههم وأضرابهم ، من الكافرين الخاسرين
أنفسهم وأهليهم يوم القيامة.
وقوله : (أُولئِكَ) بعد قوله : (وَالَّذِي قالَ) دليل على ما ذكرناه من أنه جنس يعم كل من كان كذلك. وقال
الحسن وقتادة : هو الكافر الفاجر العاق لوالديه المكذب بالبعث. وقد روى الحافظ ابن
عساكر في ترجمة سهل بن داود من طريق هشام بن عمار ، حدثنا حماد بن
__________________
عبد الرحمن ،
حدثنا خالد بن الزبرقان الحلبي عن سليمان بن حبيب عن أبي أمامة الباهلي رضي الله
عنه ، عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «أربعة لعنهم الله تعالى من فوق عرشه ، وأمنت عليهم
الملائكة : مضل المساكين» قال خالد الذي يهوي بيده إلى المسكين فيقول : هلم أعطيك
، فإذا جاءه قال : ليس معي شيء «والذي يقول للماعون ابن وليس بين يديه شيء ،
والرجل يسأل عن دار القوم فيدلونه على غيرها ، والذي يضرب الوالدين حتى يستغيثا»
غريب جدا.
وقوله تبارك
وتعالى : (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ
مِمَّا عَمِلُوا) أي لكل عذاب بحسب عمله (وَلِيُوَفِّيَهُمْ
أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي لا يظلمهم مثقال ذرة فما دونها. قال عبد الرحمن بن زيد
بن أسلم ، درجات النار تذهب سفالا ودرجات الجنة تذهب علوا ، وقوله عزوجل : (وَيَوْمَ يُعْرَضُ
الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ
الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها) أي يقال لهم ذلك تقريعا وتوبيخا ، وقد تورع أمير المؤمنين
عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن كثير من طيبات المآكل والمشارب. وتنزه عنها ويقول :
إني أخاف أن أكون كالذين قال الله لهم وبخهم وقرعهم : (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي
حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها) وقال أبو مجلز : ليفقدن أقوام حسنات كانت لهم في الدنيا
فيقال لهم (أَذْهَبْتُمْ
طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا) وقوله عزوجل : (فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ
بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ
تَفْسُقُونَ) فجوزوا من جنس عملهم فكما نعموا أنفسهم واستكبروا عن اتباع
الحق وتعاطوا الفسق والمعاصي ، جازاهم الله تبارك وتعالى بعذاب الهون ، وهو
الإهانة والخزي والآلام الموجعة والحسرات المتتابعة والمنازل في الدركات المفظعة ،
أجارنا الله سبحانه وتعالى من ذلك كله.
(وَاذْكُرْ أَخا عادٍ
إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ
يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ
عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٢١)
قالُوا
أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ
الصَّادِقِينَ (٢٢) قالَ إِنَّمَا
الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ
قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٣) فَلَمَّا رَأَوْهُ
عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا
اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٤) تُدَمِّرُ كُلَّ
شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ
نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ)
(٢٥)
يقول تعالى مسليا
لنبيه صلىاللهعليهوسلم في تكذيب من كذب من قومه (وَاذْكُرْ أَخا عادٍ) وهو هود عليه الصلاة والسلام ، بعثه الله عزوجل إلى عاد الأولى وكانوا يسكنون الأحقاف ، جمع حقف وهو الجبل
من الرمل ، قاله ابن زيد ، وقال عكرمة : الأحقاف الجبل والغار ، وقال علي بن أبي
طالب رضي الله عنه : الأحقاف واد بحضر موت يدعى برهوت تلقى فيه أرواح الكفار ،
وقال قتادة : ذكر لنا أن عادا كانوا حيا باليمن أهل رمل مشرفين على البحر بأرض
يقال لها
__________________
الشحر ، قال ابن ماجة : باب إذا دعا فليبدأ بنفسه. حدثنا الحسين
بن علي الخلال ، حدثنا أبي ، حدثنا زيد بن الحباب ، حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق عن
سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «يرحمنا الله وأخا
عاد» .
وقوله تعالى : (وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ
يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) يعني وقد أرسل الله تعالى إلى من حول بلادهم من القرى
مرسلين ومنذرين كقوله عزوجل : (فَجَعَلْناها نَكالاً
لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها) [البقرة : ٦٦]
وكقوله جل وعلا : (فَإِنْ أَعْرَضُوا
فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ إِذْ جاءَتْهُمُ
الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا
اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [فصلت : ١٣ ـ ١٤] أي
قال لهم هود ذلك فأجابه قومه قائلين (أَجِئْتَنا
لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا) أي لتصدنا عن آلهتنا (فَأْتِنا بِما
تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) استعجلوا عذاب الله وعقوبته استبعادا منهم وقوعه كقوله جلت
عظمته (يَسْتَعْجِلُ بِهَا
الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها) [الشورى : ١٨] (قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ) أي الله أعلم بكم إن كنتم مستحقين لتعجيل العذاب فسيفعل
ذلك بكم وأما أنا فمن شأني أني أبلغكم ما أرسلت به (وَلكِنِّي أَراكُمْ
قَوْماً تَجْهَلُونَ) أي لا تعقلون ولا تفهمون.
قال الله تعالى : (فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ
أَوْدِيَتِهِمْ) أي لما رأوا العذاب مستقبلهم ، اعتقدوا أنه عارض ممطر ،
ففرحوا واستبشروا به وقد كانوا ممحلين محتاجين إلى المطر. قال الله تعالى : (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ
رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ) أي هو العذاب الذي قلتم فأتنا بما تعدنا إن كنت من
الصادقين (تُدَمِّرُ) أي تخرب (كُلَّ شَيْءٍ) من بلادهم مما من شأنه الخراب (بِأَمْرِ رَبِّها) أي بإذن الله لها في ذلك كقوله سبحانه وتعالى : (ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ
إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) أي كالشيء البالي ولهذا قال عزوجل : (فَأَصْبَحُوا لا يُرى
إِلَّا مَساكِنُهُمْ) أي قد بادوا كلهم عن آخرهم ولم تبق لهم باقية.
(كَذلِكَ نَجْزِي
الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) أي هذا حكمنا فيمن كذب رسلنا وخالف أمرنا. وقد ورد حديث في
قصتهم وهو غريب جدا من غرائب الحديث وأفراده. قال الإمام أحمد : حدثنا زيد بن الحباب ، حدثني أبو المنذر سلام بن سليمان
النحوي قال : حدثنا عاصم بن أبي النجود عن أبي وائل عن الحارث البكري قال : خرجت
أشكو العلاء بن الحضرمي إلى رسول اللهصلىاللهعليهوسلم ، فمررت بالربذة فإذا عجوز من بني تميم منقطع بها فقالت لي
: يا عبد الله إن لي إلى رسول اللهصلىاللهعليهوسلم حاجة ، فهل أنت مبلغي إليه؟ قال فحملتها فأتيت بها المدينة
، فإذا المسجد غاص بأهله ، وإذا راية سواد تخفق ، وإذا بلال رضي الله عنه ، متقلدا
السيف بين يدي
__________________
رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقلت : ما شأن الناس؟ قالوا يريد أن يبعث عمرو بن العاص
رضي الله عنه وجها قال : فجلست فدخل منزله ، أو قال رحله ، فاستأذنت عليه فأذن لي
، فدخلت فسلمت ، فقالصلىاللهعليهوسلم : «هل كان بينكم وبين تميم شيء؟» قلت : نعم وكان لنا
الدائرة عليهم ، ومررت بعجوز من بني تميم منقطع بها ، فسألتني أن أحملها إليك فها
هي بالباب ، فأذن لها فدخلت فقلت : يا رسول الله إني رأيت أن تجعل بيننا وبين تميم
حاجزا فاجعل الدهناء فحميت العجوز واستوفزت وقالت : يا رسول الله فإلى أين يضطر
مضرك؟ قال : قلت إن مثلي ما قال الأول معزى حملت حتفها ، حملت هذه ولا أشعر أنها
كانت لي خصما ، أعوذ بالله ورسوله أن أكون كوافد عاد ، قال «هيه وما وافد عاد؟»
وهو أعلم بالحديث منه ، ولكن يستطعمه ، قلت : إن عادا قحطوا فبعثوا وفدا لهم يقال
له قيل ، فمر بمعاوية بن بكر فأقام عنده شهرا يسقيه الخمر وتغنيه جاريتان يقال
لهما الجرادتان ، فلما مضى الشهر خرج إلى جبال مهرة ، فقال : اللهم إنك تعلم أني
لم أجئ إلى مريض فأداويه ولا إلى أسير أفاديه ، اللهم اسق عادا ما كنت نسقيه ،
فمرت به سحابات سود فنودي منها اختر. فأومأ إلى سحابة منها سوداء فنودي منها ،
خذها رمادا رمددا ، لا تبقى من عاد أحدا ، قال : فلما بلغني أنه أرسل عليهم من
الريح إلا كقدر ما يجري في خاتمي هذا حتى هلكوا قال أبو وائل : وصدق وكانت المرأة
والرجل إذا بعثوا وافدا لهم قالوا : لا تكن كوافد عاد . ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجة كما تقدم في سورة
الأعراف.
وقال الإمام أحمد : حدثنا هارون بن معروف ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرنا عمرو أن
أبا النضر حدثه عن سليمان بن يسار عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : ما رأيت
رسول اللهصلىاللهعليهوسلم مستجمعا ضاحكا حتى رأيت منه لهواته إنما كان يبستم وقالت :
كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم إذا رأى غيما أو ريحا عرف ذلك في وجهه ، قالت : يا رسول
الله إن الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر وأراك إذا رأيته عرفت
في وجهك الكراهية ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «يا عائشة ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب قد عذب قوم بالريح
، وقد رأى قوم العذاب فقالوا هذا عارض ممطرنا» وأخرجاه من حديث ابن وهب.
[طريق أخرى] قال
الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن عن سفيان عن المقدام بن شريح عن أبيه
عن عائشة رضي الله عنها قالت : إن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان إذا رأى ناشئا في أفق من آفاق
__________________
السماء ترك عمله
وإن كان في صلاته ثم يقول : «اللهم إني أعوذ بك من شر ما فيه» فإن كشفه الله تعالى
حمد الله عزوجل ، وإن أمطر قال : «اللهم صيبا نافعا».
[طريق أخرى] قال
مسلم في صحيحه : حدثنا أبو بكر الطاهر ، أخبرنا ابن وهب قال : سمعت ابن جريج
يحدثنا عن عطاء بن أبي رباح عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول اللهصلىاللهعليهوسلم إذا عصفت الريح قال : «اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها
وخير ما أرسلت به ، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به» قالت : وإذا
تخيلت السماء تغير لونه وخرج ودخل وأقبل وأدبر ، فإذا أمطرت سري عنه ، فعرفت ذلك
عائشة رضي الله عنها ، فسألته فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لعله يا عائشة كما قال قوم عاد (فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ
أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا) وقد ذكرنا قصة هلاك قوم عاد في سورتي الأعراف وهود بما
أغنى عن إعادته هنا ، ولله تعالى الحمد والمنة.
وقال الطبراني :
حدثنا عبدان بن أحمد ، حدثنا إسماعيل بن زكريا الكوفي ، حدثنا أبو مالك بن مسلم
الملائي عن مجاهد وسعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم : «ما فتح على عاد من الريح إلا مثل موضع الخاتم ، ثم
أرسلت عليهم البدو إلى الحضر ، فلما رآها أهل الحضر قالوا هذا عارض ممطرنا مستقبل
أوديتنا ، وكان أهل البوادي فيها ، فألقى أهل البادية على أهل الحاضرة حتى هلكوا ـ
قال ـ عتت على خزانها حتى خرجت من خلال الأبواب ، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(وَلَقَدْ
مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً
وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا
أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ وَحاقَ بِهِمْ
ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٢٦)
وَلَقَدْ
أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ
يَرْجِعُونَ (٢٧) فَلَوْ لا
نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا
عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ)
(٢٨)
يقول تعالى : ولقد
مكنا الأمم السالفة في الدنيا من الأموال والأولاد ، وأعطيناهم منها ما لم نعطكم
مثله ولا قريبا منه ، (وَجَعَلْنا لَهُمْ
سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا
أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ
اللهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي وأحاط بهم العذاب ، والنكال الذي كانوا يكذبون به
ويستبعدون وقوعه ، أي فاحذروا أيها المخاطبون أن تكونوا مثلهم فيصيبكم مثل ما
أصابهم من العذاب في الدنيا والآخرة.
__________________
وقوله تعالى : (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ
الْقُرى) يعني أهل مكة ، وقد أهلك الله الأمم المكذبة بالرسل مما
حولها كعاد ، وكانوا بالأحقاف بحضرموت عند اليمن ، وثمود وكانت منازلهم بينهم وبين
الشام ، وكذلك سبأ وهم أهل اليمن ، ومدين وكانت في طريقهم وممرهم إلى غزة ، وكذلك
بحيرة قوم لوط كانوا يمرون بها أيضا ، وقوله عزوجل : (وَصَرَّفْنَا
الْآياتِ) أي بيناها وأوضحناها (لَعَلَّهُمْ
يَرْجِعُونَ فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ
قُرْباناً آلِهَةً) أي فهلا نصروهم عند احتياجهم إليهم. (بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ) أي بل ذهبوا عنهم أحوج ما كانوا إليهم (وَذلِكَ إِفْكُهُمْ) أي : كذبهم (وَما كانُوا
يَفْتَرُونَ) أي وافتراؤهم في
اتخاذهم إياهم آلهة وقد خابوا وخسروا في عبادتهم لها واعتمادهم عليها ، والله
أعلم.
(وَإِذْ صَرَفْنا
إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ
قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (٢٩) قالُوا يا قَوْمَنا
إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ
يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٠) يا قَوْمَنا
أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ
مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٣١) وَمَنْ لا يُجِبْ
داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ
أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)
(٣٢)
قال الإمام أحمد : حدثنا سفيان ، حدثنا عمرو ، سمعت عكرمة عن الزبير ، (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ
الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) قال : بنخلة ، ورسول الله صلىاللهعليهوسلم يصلي العشاء الآخرة (كادُوا يَكُونُونَ
عَلَيْهِ لِبَداً) [الجن : ١٩] قال
سفيان : اللّبد بعضهم على بعض كاللبد بعضه على بعض ، تفرد به أحمد ، وسيأتي من
رواية ابن جرير عن عكرمة ، عن ابن عباس أنهم سبعة من جن نصيبين.
وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا أبو عوانة (ح) وقال الإمام الشهير
الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه دلائل النبوة : أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن
عبدان ، أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار ، حدثنا إسماعيل القاضي أخبرنا مسدد حدثنا أبو
عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ما قرأ رسول
الله صلىاللهعليهوسلم على الجن ولا رآهم ، انطلق رسول الله صلىاللهعليهوسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ وقد حيل بين
الشياطين وبين خبر السماء ، وأرسلت عليهم الشهب فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا
ما لكم ، فقالوا حيل بيننا وبين خبر السماء ، وأرسلت علينا الشهب. قالوا : ما حال
بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها وانظروا ما هذا
الذي حال بينكم وبين خبر السماء
__________________
فانطلقوا يضربون
مشارق الأرض ومغاربها يبتغون ما هذا الذي حال بينهم وبين خبر السماء.
فانصرف أولئك
النفر الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو بنخلة عامدا إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر
، فلما سمعوا القرآن استمعوا له فقالوا : هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر
السماء ، فهنالك حين رجعوا إلى قومهم قالوا يا قومنا (إِنَّا سَمِعْنا
قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ
بِرَبِّنا أَحَداً) [الجن : ١] وأنزل
الله على نبيه صلىاللهعليهوسلم (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ
أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ) [الجن : ١] وإنما
أوحي إليه قول الجن رواه البخاري عن مسدد بنحوه ، وأخرجه مسلم عن شيبان بن فروخ عن
أبي عوانة به ، ورواه الترمذي والنسائي في التفسير من حديث أبي عوانة.
وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا أبو أحمد ، حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن
سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان الجن يستمعون الوحي فيسمعون
الكلمة فيزيدون فيها عشرا ، فيكون ما سمعوا حقا وما زادوا باطلا ، وكانت النجوم لا
يرمى بها قبل ذلك ، فلما بعث رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان أحدهم لا يأتي مقعده إلا رمي بشهاب يحرق ما أصاب ،
فشكوا ذلك إلى إبليس فقال : ما هذا إلا من أمر قد حدث ، فبث جنوده فإذا بالنبي صلىاللهعليهوسلم يصلي بين جبلي نخلة ، فأتوه فأخبروه فقال : هذا الحدث الذي
حدث في الأرض ، ورواه الترمذي والنسائي في كتابي التفسير من سننيهما من
حديث إسرائيل به ، وقال الترمذي : حسن صحيح ، وهكذا رواه أيوب عن سعيد بن جبير عن
ابن عباس رضي الله عنهما ، وكذا رواه العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضا بمثل
هذا السياق بطوله ، وهكذا قال الحسن البصري إنه عليهالسلام ما شعر بأمرهم حتى أنزل الله تعالى عليه بخبرهم.
وذكر محمد بن
إسحاق عن يزيد بن رومان عن محمد بن كعب القرظي قصة خروج النبيصلىاللهعليهوسلم إلى الطائف ودعائه إياهم إلى الله عزوجل وإبائهم عليه ، فذكر القصة بطولها وأورد ذلك الدعاء الحسن «اللهم
إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين أنت أرحم
الراحمين وأنت رب المستضعفين ، وأنت ربي إلى من تكلني؟ إلى عدو يتجهمني أم إلى
صديق قريب ملكته أمري ، إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي غير أن عافيتك أوسع لي ،
أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي
غضبك أو يحل بي سخطك ، ولك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك».
قال : فلما انصرف
عنهم بات بنخلة فقرأ تلك الليلة من القرآن فاستمعه الجن من أهل
__________________
نصيبين ، وهذا
صحيح ، ولكن قوله إن الجن كان استماعهم تلك الليلة فيه نظر ، لأن الجن كان
استماعهم في ابتداء الإيحاء كما دل عليه حديث ابن عباس رضي الله عنهما المذكور ،
وخروجهصلىاللهعليهوسلم إلى الطائف كان بعد موت عمه ، وذلك قبل الهجرة بسنة أو
سنتين كما قرره ابن إسحاق وغيره ، والله أعلم ، وقال أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا
أبو أحمد الزبيري ، حدثنا سفيان عن عاصم عن زر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه
قال : هبطوا على النبي صلىاللهعليهوسلم وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة (فَلَمَّا حَضَرُوهُ
قالُوا أَنْصِتُوا) قال صه ، وكانوا تسعة وأحدهم زوبعة ، فأنزل الله عزوجل : (وَإِذْ صَرَفْنا
إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ
قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) ـ إلى ـ (ضَلالٍ مُبِينٍ) فهذا مع الأول من رواية ابن عباس رضي الله عنهما يقتضي أن
رسول الله صلىاللهعليهوسلم لم يشعر بحضورهم في هذه المرة ، وإنما استمعوا قراءته ثم
رجعوا إلى قومهم ، ثم بعد ذلك وفدوا إليه إرسالا قوما بعد قوم وفوجا بعد فوج ، كما
ستأتي بذلك الأخبار في موضعها والآثار مما سنوردها إن شاء الله تعالى وبه الثقة.
فأما ما رواه
البخاري ومسلم جميعا عن أبي قدامة عبيد الله بن سعيد السرخسي ، عن أبي أسامة حماد
بن أسامة عن مسعر بن كدام ، عن معن بن عبد الرحمن ، قال : سمعت أبي يقول : سألت
مسروقا من آذن النبي صلىاللهعليهوسلم ليلة استمعوا القرآن؟ فقال : حدثني أبوك يعني ابن مسعود
رضي الله عنه أنه آذنته بهم شجرة ، فيحتمل أن يكون هذا في المرة الأولى ويكون إثباتا مقدما
على نفي ابن عباس رضي الله عنهما ، ويحتمل أن يكون هذا في بعض المرات المتأخرات
والله أعلم ويحتمل أن يكون في المرة الأولى ، ولكن لم يشعر بهم حال استماعهم حتى
آذنته بهم الشجرة أي أعلمته باستماعهم ، والله أعلم.
قال الحافظ
البيهقي : وهذا الذي حكاه ابن عباس رضي الله عنهما إنما هو أول ما سمعت الجن قراءة
رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وعلمت حاله ، وفي ذلك الوقت لم يقرأ عليهم ولم يرهم ، ثم
بعد ذلك أتاه داعي الجن فقرأ عليهم القرآن ودعاهم إلى الله عزوجل كما رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
[ذكر الروايات عنه بذلك]
قال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، حدثنا داود عن الشعبي وابن
أبي زائدة ، أخبرنا داود عن الشعبي عن علقمة قال : قلت لعبد الله بن مسعود رضي
الله عنه : هل صحب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ليلة الجن منكم أحد؟ فقال : ما صحبه منا أحد ولكنا فقدناه
ذات ليلة بمكة
__________________
فقلنا اغتيل؟
استطير؟ ما فعل؟ قال : فبتنا بشر ليلة بات بها قوم ، فلما كان في وجه الصبح ـ أو
قال ـ في السحر إذا نحن به يجيء من قبل حراء ، فقلنا : يا رسول الله ، فذكروا له
الذي كانوا فيه فقال : «إنه أتاني داعي الجن فأتيتهم فقرأت عليهم» قال : فانطلق
فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم قال : قال الشعبي : سألوه الزاد ، قال عامر : سألوه
بمكة وكانوا من جن الجزيرة فقال : «كل عظم ذكر اسم الله عليه أن يقع في أيديكم
أوفر ما يكون لحما ، وكل بعرة أو روثة علف لدوابكم ـ قال ـ فلا تستنجوا بهما
فإنهما زاد إخوانكم من الجن» وهكذا رواه مسلم في صحيحه عن علي بن حجر عن إسماعيل
ابن علية به نحوه.
وقال مسلم أيضا : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا عبد الأعلى ، حدثنا
داود وهو ابن أبي هند عن عامر قال : سألت علقمة : هل كان ابن مسعود رضي الله عنه
شهد مع رسول اللهصلىاللهعليهوسلم ليلة الحن؟ قال فقال علقمة : أنا سألت ابن مسعود رضي الله
عنه فقلت : هل شهد أحد منكم مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم ليلة الجن؟ قال : لا ولكنا كنا مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم ذات ليلة ففقدناه ، فالتمسناه في الأودية والشعاب فقيل
استطير؟ اغتيل؟ قال : فبتنا بشر ليلة بات بها قوم ، فلما أصبحنا إذ هو جاء من قبل
حراء ، قال : فقلنا : يا رسول الله فقدناك فطلبناك فلم نجدك ، فبتنا بشر ليلة بات
بها قوم ، فقال : «أتاني داعي الجن فذهبت معهم فقرأت عليهم القرآن». قال : فانطلق
بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم ، وسألوه الزاد فقال : «كل عظم ذكر اسم الله عليه
يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما ، وكل بعرة أو روثة علف لدوابكم» قال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم : «فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم».
[طريق أخرى] عن
ابن مسعود رضي الله عنه. قال أبو جعفر بن جرير : حدثني أحمد بن عبد الرحمن ، حدثني
عمي ، حدثني يونس عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله قال : إن عبد الله بن مسعود
رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «بت الليلة أقرأ على الجن ربعا بالحجون».
[طريق أخرى] فيها
أنه كان معه ليلة الجن. قال ابن جرير رحمهالله : حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ، حدثنا عمي عبد الله
بن وهب ، أخبرني يونس عن ابن شهاب عن أبي عثمان بن سنة الخزاعي ، وكان من أهل
الشام قال : إن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم لأصحابه وهو بمكة : «من أحب منكم أن يحضر أمر الجن الليلة
فليفعل» فلم يحضر منهم أحد غيري ، قال : فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة خطّ لي
برجله خطا ثم أمرني أن أجلس فيه ثم انطلق حتى قام ، فافتتح القرآن فغشيته أسودة
كثيرة حالت بيني وبينه
__________________
حتى ما أسمع صوته
، ثم طفقوا يتقطعون مثل قطع السحاب ، ذاهبين حتى بقي منهم رهط ، ففرغ رسول الله مع
الفجر فانطلق فتبرز ثم أتاني فقال : ما فعل الرهط. فقلت : هم أولئك يا رسول الله ،
فأعطاهم عظما وروثا زادا ، ثم نهى أن يستطيب أحد بروث أو عظم. ورواه ابن جرير عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم عن أبي زرعة وهب بن راشد
عن يونس بن يزيد الأيلي به.
ورواه البيهقي في
الدلائل من حديث عبد الله بن صالح كاتب الليث عن يونس به ، وقد روى إسحاق بن
راهويه عن جرير عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن مسعود رضي الله عنه ، فذكر
نحو ما تقدم ورواه الحافظ أبو نعيم من طريق موسى بن عبيدة عن سعيد بن الحارث عن
أبي المعلى عن ابن مسعود رضي الله عنه ، فذكر نحوه أيضا.
[طريق أخرى] قال
أبو نعيم : حدثنا أبو بكر بن مالك ، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، حدثني أبي
قال : حدثنا عفان وعكرمة قالا : حدثنا معتمر قال : قال أبي : حدثني أبو تميمة عن
عمرو ، ولعله قد يكون قال البكالي يحدثه عمرو عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه
قال : استتبعني رسول الله صلىاللهعليهوسلم فانطلقنا حتى أتينا مكان كذا وكذا ، فخط لي خطا فقال : «كن
بين ظهر هذه لا تخرج منها فإنك إن خرجت هلكت» فذكر الحديث بطوله وفيه غرابة شديدة.
[طريق أخرى] قال
ابن جرير : حدثنا ابن عبد الأعلى ، حدثنا ابن ثور عن معمر عن يحيى
بن أبي كثير ، عن عبد الله بن عمرو بن غيلان الثقفي أنه قال لابن مسعود رضي الله
عنه : حدثت أنك كنت مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم ليلة وفد الجن. قال : أجل ، قال : فكيف كان؟ فذكر الحديث
كله وذكر أن النبي صلىاللهعليهوسلم خط عليه خطا وقال : «لا تبرح منها» فذكر مثل العجاجة
السوداء غشيت رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فذعر ثلاث مرات حتى إذا كان قريبا من الصبح أتاني النبي صلىاللهعليهوسلم فقال : «أنمت؟» فقلت : لا والله ، ولقد هممت مرارا أن
أستغيث بالناس حتى سمعتك تقرعهم بعصاك تقول «اجلسوا» فقال صلىاللهعليهوسلم : «لو خرجت لم آمن أن يتخطفك بعضهم» ثم قال صلىاللهعليهوسلم «هل رأيت شيئا؟»
قلت : نعم رأيت رجالا سودا مستشعرين ثيابا بيضا قال صلىاللهعليهوسلم : «أولئك جن نصيبين سألوني المتاع ـ والمتاع الزاد ـ فمتعتهم
بكل عظم حائل أو بعرة أو روثة فقلت يا رسول الله وما يغني ذلك عنهم؟ فقال رسول
الله صلىاللهعليهوسلم : إنهم لا يجدون عظما إلا وجدوا عليه لحمه يوم أكل. ولا
روثا إلا وجدوا فيها حبها يوم أكلت ، فلا يستنقين أحد منكم إذا خرج من الخلاء بعظم
ولا بعرة ولا روثة».
[طريق أخرى] قال
الحافظ أبو بكر البيهقي : أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي وأبو نصر بن
__________________
قتادة قالا أخبرنا
أبو محمد يحيى بن منصور القاضي ، حدثنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم البوشنجي ،
حدثنا روح بن صلاح ، حدثنا موسى بن علي بن رباح عن أبيه عن عبد الله بن مسعود رضي
الله عنه قال : استتبعني رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : «إن نفرا من الجن خمسة عشر بني إخوة وبني عم
يأتونني الليلة فاقرأ عليهم القرآن» فانطلقت معه إلى المكان الذي أراد فخط لي خطا
وأجلسني فيه وقال لي «لا تخرج من هذا» فبت فيه حتى أتاني رسول الله صلىاللهعليهوسلم مع السحر في يده عظم حائل وروثة وحممة فقال لي : «إذا ذهبت
إلى الخلاء فلا تستنج بشيء من هؤلاء» قال : فلما أصبحت قلت لأعلمن علمي حيث كان
رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال فذهبت فرأيت موضع مبرك ستين بعيرا.
[طريق أخرى] قال
البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، أخبرنا أبو العباس الأصم ، حدثنا العباس
بن محمد الدوري ، حدثنا عثمان بن عمر عن الشمر بن الريان عن أبي الجوزاء عن عبد
الله بن مسعود رضي الله عنه قال : انطلقت مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم ليلة الجن حتى أتى الحجون ، فخط لي خطا ثم تقدم إليهم ،
فازدحموا عليه فقال سيد لهم يقال له وردان : أنا أرحلهم عنك. فقال : إني لن يجيرني
من الله أحد.
[طريق أخرى] قال
الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا سفيان بن أبي فزارة العبسي ،
حدثنا أبو زيد مولى عمرو بن حريث عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : لما كانت ليلة
الجن قال لي النبي صلىاللهعليهوسلم : «أمعك ماء؟» قلت : ليس معي ماء ولكن معي إداوة فيها نبيذ
فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «تمرة طيبة وماء طهور» فتوضأ رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة من حديث أبي زيد به.
[طريق أخرى] قال
الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن إسحاق ، أخبرنا ابن لهيعة عن قيس بن
الحجاج عن حنش الصنعاني عن ابن عباس عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم قال : إنه
كان مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم ليلة الجن فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «يا عبد الله أمعك ماء؟» قال : معي نبيذ في إداوة. قال صلىاللهعليهوسلم : «اصبب عليّ» فتوضأ. فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «يا عبد الله شراب وطهور» تفرد به أحمد من هذا الوجه ،
وقد أورده الدار قطني من طريق آخر عن ابن مسعود رضي الله عنه.
[طريق أخرى] قال
الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرني أبي عن ميناء عن عبد الله رضي
الله عنه قال كنت مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم ليلة وفد الجن ، فلما انصرف تنفس فقلت : ما شأنك؟ قال : «نعيت
إلي نفسي يا ابن مسعود» هكذا رأيته في المسند مختصرا ، وقد رواه
__________________
الحافظ أبو نعيم
في كتابه دلائل النبوة فقال : حدثنا سليمان بن أحمد بن أيوب ، حدثنا إسحاق بن
إبراهيم ، وحدثنا أبو بكر بن مالك حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، حدثنا أبي
قالا : حدثنا عبد الرزاق عن أبيه عن ميناء عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «نعيت إلي نفسي يا ابن مسعود» قلت : استخلف. قال : «من؟»
قلت : أبا بكر. قال : فسكت ثم مضى ساعة فتنفس فقلت : ما شأنك بأبي أنت وأمي يا
رسول الله؟ قال : «نعيت إلي نفسي يا ابن مسعود» قلت : استخلف. قال : «من؟» قلت :
عمر. فسكت ساعة ثم مضى ثم تنفس فقلت؟ ما شأنك؟ قال : «نعيت إلي نفسي» قلت :
فاستخلف قال صلىاللهعليهوسلم «من؟» قلت : علي
بن أبي طالب رضي الله عنه. قال صلىاللهعليهوسلم : «أما والذي نفسي بيده لئن أطاعوه ليدخلن الجنة أجمعين
أكتعين».
وهو حديث غريب جدا
وأحرى به أن لا يكون محفوظا ، وبتقدير صحته فالظاهر أن هذا بعد وفودهم إليه
بالمدينة على ما سنورده إن شاء الله تعالى ، فإن في ذلك الوقت كان في آخر الأمر
لما فتحت مكة ودخل الناس والجان أيضا في دين الله أفواجا نزلت سورة (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ
وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ
رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) [الفتح : ١ ـ ٣] وهي السورة التي نعيت نفسه الكريمة فيها
إليه كما نص على ذلك ابن عباس رضي الله عنهما ، ووافقه عمر بن الخطاب رضي الله عنه
عليه ، وقد ورد في ذلك حديث سنورده إن شاء الله تعالى عند تفسيرها ، والله أعلم
وقد رواه أبو نعيم أيضا عن الطبراني عن محمد بن عبد الله الحضرمي عن علي بن الحسين
بن أبي بردة ، عن يحيى بن سعيد الأسلمي ، عن حرب بن صبيح عن سعيد بن سلمة عن أبي
مرة الصنعاني ، عن أبي عبد الله الجدلي عن ابن مسعود رضي الله عنه فذكره وذكر فيه
قصة الاستخلاف ، وهذا إسناد غريب وسياق عجيب.
[طريق أخرى] قال
الإمام أحمد : حدثنا أبو سعيد ، حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن
أبي رافع عن ابن مسعود أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم خط حوله ، فكان أحدهم مثل سودا النخل وقال : «لا تبرح
مكانك فأقرئهم كتاب الله» فلما رأى الزّط قال : كأنهم هؤلاء وقال النبيصلىاللهعليهوسلم «أمعك ماء؟» قلت :
لا. قال : «أمعك نبيذ؟» قلت : نعم فتوضأ به.
[طريق أخرى مرسلة]
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو عبد الله الظهراني ، أخبرنا حفص بن عمر العدني ،
حدثنا الحكم بن أبان عن عكرمة في قوله تعالى : (وَإِذْ صَرَفْنا
إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِ) قال هم اثنا عشر ألفا جاءوا من جزيرة الموصل ، فقال النبي صلىاللهعليهوسلم لابن مسعود رضي الله عنه : «أنظرني حتى آتيك» وخط عليه خطا
وقال «لا تبرح حتى آتيك» فلما خشيهم ابن مسعود رضي الله عنه كاد أن يذهب ، فذكر
قول رسول الله صلىاللهعليهوسلم فلم يبرح ، فقال له النبي صلىاللهعليهوسلم : «لو ذهبت
__________________
ما التقينا إلى
يوم القيامة».
[طريق أخرى مرسلة
أيضا] : قال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قوله تعالى : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ
الْجِنِ) قال : ذكر لنا أنهم صرفوا إليه من نينوى وأن نبي الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إني أمرت أن أقرأ على الجن فأيكم يتبعني؟» فأطرقوا
ثم استتبعهم فأطرقوا ثم استتبعهم الثالثة فقال رجل : يا رسول الله إن ذاك لذو ندبة
، فأتبعه ابن مسعود رضي الله عنه أخو هذيل ، قال فدخل النبي صلىاللهعليهوسلم شعبا يقال له شعب الحجون وخط عليه ، وخط على ابن مسعود رضي
الله عنه خطا ليثبته بذلك ، قال : فجعلت أهال وأرى أمثال النسور تمشي في دفوفها
وسمعت لغطا شديدا حتى خفت على نبي الله صلىاللهعليهوسلم ثم تلا القرآن فلما رجع رسول الله صلىاللهعليهوسلم قلت يا رسول الله ما اللغط الذي سمعت؟ قال صلىاللهعليهوسلم : «اختصموا في قتيل فقضي بينهم بالحق» رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
فهذه الطرق كلها
تدل على أنه صلىاللهعليهوسلم ذهب إلى الجن قصدا فتلا عليهم القرآن ودعاهم إلى الله عزوجل وشرع الله تعالى لهم على لسانه ما هم محتاجون إليه في ذلك
الوقت وقد يحتمل أن أول مرة سمعوه يقرأ القرآن لم يشعر بهم ، كما قاله ابن عباس
رضي الله عنهما. ثم بعد ذلك وفدوا إليه كما رواه ابن مسعود رضي الله عنه ، وأما
ابن مسعود رضي الله عنه فإنه لم يكن مع رسول اللهصلىاللهعليهوسلم حال مخاطبته للجن ودعائه إياهم ، وإنما كان بعيدا منه ولم
يخرج مع النبي صلىاللهعليهوسلم أحد سواه ومع هذا لم يشهد حال المخاطبة ، هذه طريقة
البيهقي ، وقد يحتمل أن يكون أول مرة خرج إليهم لم يكن معه صلىاللهعليهوسلم ابن مسعود رضي الله عنه ولا غيره ، كما هو ظاهر سياق
الرواية الأولى من طريق الإمام أحمد ، وهي عند مسلم ، ثم بعد ذلك خرج معه ليلة
أخرى ، والله أعلم ، كما روى ابن أبي حاتم في تفسير «قل أوحي إلي» من حديث ابن
جريج قال : قال عبد العزيز بن عمر : أما الجن الذي لقوه بنخلة فجن نينوى ، وأما
الجن الذين لقوه بمكة فجن نصيبين ، وتأوله البيهقي على أنه يقول فبتنا بشر ليلة
بات بها قوم على غير ابن مسعود رضي الله عنه ممن لم يعلم بخروجه صلىاللهعليهوسلم إلى الجن ، وهو محتمل على بعد ، والله أعلم.
وقد قال الحافظ
أبو بكر البيهقي ، : أخبرنا أبو عمرو محمد بن عبد الله الأديب ، حدثنا أبو بكر
الإسماعيلي ، أخبرنا الحسن بن سفيان ، حدثنا سويد بن سعيد ، حدثنا عمرو بن يحيى عن
جده سعيد بن عمرو قال : كان أبو هريرة رضي الله عنه يتبع رسول الله صلىاللهعليهوسلم بإداوة لوضوئه وحاجته ، فأدركه يوما فقال «من هذا؟» قال :
أنا أبو هريرة. قال صلىاللهعليهوسلم : «ائتني بأحجار أستنج بها ولا تأتني بعظم ولا روثة».
فأتيته بأحجار في ثوبي فوضعتها إلى جنبه حتى إذا فرغ وقام اتبعته فقلت : يا رسول
الله ما بال العظم والروثة؟ قال صلىاللهعليهوسلم : «أتاني وقد جن نصيبين فسألوني الزاد
__________________
فدعوت الله تعالى لهم
أن لا يمروا بروثة ولا عظم إلا وجدوه طعاما» أخرجه البخاري في صحيحه عن موسى بن إسماعيل عن عمرو بن يحيى بإسناده
قريبا منه ، فهذا يدل على ما تقدم على أنهم وفدوا عليه بعد ذلك وسنذكر إن شاء الله
تعالى ما يدل على تكرار ذلك.
وقد روى ابن عباس
غير ما ذكر عنه أولا من وجه جيد ، فقال ابن جرير : حدثنا أبو كريب ، حدثنا عبد الحميد الحماني ، حدثنا
النضر بن عربي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ
الْجِنِ) الآية. قال : كانوا سبعة نفر من أهل نصيبين ، فجعلهم رسول
الله رسلا إلى قومهم. فهذا يدل على أنه روى القصتين. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا
علي بن الحسين ، حدثنا سويد بن عبد العزيز ، حدثنا رجل سماه عن ابن جريج عن مجاهد (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ
الْجِنِ) الآية ، قال كانوا سبعة نفر ثلاثة من أهل حران وأربعة من
أهل نصيبين ، وكانت أسماؤهم حيي وحسى ومنيثي وشاضر وماضر والأردوابيان والأحقم ،
وذكر أبو حمزة الثمالي أن هذا الحي من الجن كان يقال له بنو الشيصبان وكانوا أكثر
الجن عددا وأشرفهم نسبا ، وهم كانوا عامة جنود إبليس.
وقال سفيان الثوري
عن عاصم عن ذر عن ابن مسعود رضي الله عنه كانوا تسعة أحدهم زوبعة ، أتوه من أصل
نخلة ، وتقدم عنهم أنهم كانوا خمسة عشر ، وفي رواية أنهم كانوا على ستين راحلة ،
وتقدم عنه أن اسم سيدهم وردان ، وقيل : كانوا ثلاثمائة ، وتقدم عن عكرمة أنهم
كانوا اثني عشر ألفا ، فلعل هذا الاختلاف دليل على تكرر وفادتهم عليه صلىاللهعليهوسلم.
ومما يدل على ذلك
ما قاله البخاري في صحيحه : حدثنا يحيى بن سليمان حدثني ابن وهب ، حدثني
عمر هو ابن محمد قال : إن سالما حدثه عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما
قال : ما سمعت عمر رضي الله عنه يقول لشيء قط إني لأظنه هكذا إلا كان كما يظن
بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه جالس إذ مر به رجل جميل فقال : لقد أخطأ ظني أو
إن هذا على دينه في الجاهلية أو لقد كان كاهنهم ، علي بالرجل ، فدعي له ، فقال له
ذلك فقال : ما رأيت كاليوم استقبل به رجل مسلم قال : فإني أعزم عليك إلا ما
أخبرتني قال : كنت كاهنهم في الجاهلية قال : فما أعجب ما جاءتك به جنيتك ، قال :
بينما أنا يوما في السوق جاءتني أعرف فيها الفزع فقالت : [السريع]
ألم تر الجنّ
وإبلاسها
|
|
ويأسها من بعد
إنكاسها
|
ولحوقها بالقلاص
وأحلاسها
__________________
قال عمر رضي الله
عنه : صدق بينما أنا نائم عند آلهتهم إذ جاء رجل بعجل فذبحه فصرخ به صارخ لم أسمع
صارخا قط أشد صوتا منه يقول : يا جليح ، أمر نجيح رجل فصيح ، يقول لا إله إلا الله قال : فوثب
القوم فقلت : لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا ، ثم نادى يا جليح أمر نجيح رجل فصيح
يقول لا إله إلا الله ، فقمت فما نشبنا أن قيل هذا نبي. هذا سياق البخاري ، وقد رواه البيهقي من
حديث ابن وهب بنحوه ، ثم قال وظاهر هذه الرواية يوهم أن عمر رضي الله عنه بنفسه
سمع الصارخ يصرخ من العجل الذي ذبح ، وكذلك هو صريح في رواية ضعيفة عن عمر رضي
الله عنه ، في إسلامه وسائر الروايات تدل على أن هذا الكاهن هو الذي أخبر بذلك عن
رؤيته وسماعه ، والله أعلم ، وهذا الذي قاله البيهقي هو المتجه وهذا الرجل هو سواد
بن قارب ، وقد ذكرت هذا مستقصى في سيرة عمر رضي الله عنه فمن أراده فليأخذه من ثم
، ولله الحمد والمنة.
وقال البيهقي :
حديث سواد بن قارب ، ويشبه أن يكون هذا هو الكاهن الذي لم يذكر اسمه في الحديث
الصحيح ، أخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب المفسر من أصل سماعه ، أخبرنا
أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار الأصبهاني قراءة عليه ، حدثنا أبو جعفر أحمد
بن موسى الحمار الكوفي بالكوفة ، حدثنا زياد بن يزيد بن بادويه ، حدثنا أبو بكر
القصري حدثنا محمد بن النواس الكوفي ، حدثنا أبو بكر بن عياش عن أبي إسحاق عن البراء
رضي الله عنه قال : بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه يخطب الناس على منبر رسول
الله صلىاللهعليهوسلم إذ قال : أيها الناس أفيكم سواد بن قارب؟ قال : فلم يجبه
أحد تلك السنة. فلما كانت السنة المقبلة قال : أيها الناس أفيكم سواد بن قارب؟ قال
: فقلت يا أمير المؤمنين وما سواد بن قارب؟ قال فقال له عمر رضي الله عنه : إن
سواد بن قارب كان بدء إسلامه شيئا عجيبا ، قال فبينما نحن كذلك إذ طلع سواد بن
قارب قال : فقال له عمر رضي الله عنه : يا سواد حدثنا ببدء إسلامك كيف كان؟ قال
سواد رضي الله عنه : فإني كنت نازلا بالهند وكان لي رئي من الجن ، قال فبينما أنا
ذات ليلة نائم إذا جاءني في منامي ذلك ، قال قم فافهم واعقل إن كنت تعقل ، قد بعث
رسول من لؤي بن غالب ثم أنشأ يقول :
عجبت للجنّ
وتحساسها
|
|
وشدّها العيس
بأحلاسها
|
__________________
تهوي إلى مكة
تبغي الهدى
|
|
ما خير الجن
كأنحاسها
|
فانهض إلى
الصفوة من هاشم
|
|
واسم بعينيك إلى
رأسها
|
قال : ثم أنبهني
فأفزعني وقال يا سواد بن قارب ، إن الله عزوجل بعث نبيا فانهض إليه تهتد وترشد ، فلما كان من الليلة
الثانية أتاني فأنبهني ثم أنشأ يقول : [السريع]
عجبت للجن
وتطلابها
|
|
وشدها العيس
بأقتابها
|
تهوي إلى مكة
تبغي الهدى
|
|
ليس قدماها
كأذنابها
|
فانهض إلى
الصفوة من هاشم
|
|
واسم بعينيك إلى
قابها
|
فلما كان في
الليلة الثالثة أتاني فأنبهني ثم قال : [السريع]
عجبت للجن
وتخبارها
|
|
وشدها العيس
بأكوارها
|
تهوي إلى مكة
تبغي الهدى
|
|
ليس ذوو الشر
كأخيارها
|
فانهض إلى
الصفوة من هاشم
|
|
ما مؤمنو الجن
ككفارها
|
قال : فلما سمعته
تكرر ليلة بعد ليلة وقع في قلبي حب الإسلام من أمر رسول اللهصلىاللهعليهوسلم ما شاء الله ، قال فانطلقت إلى رحلي فشددته على راحلتي فما
حللت تسعة ولا عقدت أخرى حتى أتيت رسول الله صلىاللهعليهوسلم فإذا هو بالمدينة يعني مكة ، والناس عليه كعرف الفرس ،
فلما رآني النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «مرحبا بك يا سواد بن قارب قد علمنا ما جاء بك» قال
: قلت يا رسول الله قد قلت شعرا فاسمعه مني قال صلىاللهعليهوسلم : «قل يا سواد» فقلت : [الطويل]
أتاني رئيّ بعد
ليل وهجعة
|
|
ولم يك فيما قد
بلوت بكاذب
|
ثلاث ليال قوله
كل ليلة :
|
|
أتاك رسول من
لؤي بن غالب
|
فشمّرت عن ساقي
الإزار ووسطت
|
|
بي الدّعلب
الوجناء بين السباسب
|
فأشهد أن الله
لا رب غيره
|
|
وأنك مأمون على
كلّ غائب
|
وأنك أدنى
المرسلين شفاعة
|
|
إلى الله يا ابن
الأكرمين الأطايب
|
فمرنا بما يأتيك
يا خير مرسل
|
|
وإن كان فيما
جاء شيب الذوائب
|
وكن لي شفيعا
يوم لا ذو شفاعة
|
|
سواك بمغن عن
سواد بن قارب
|
__________________
قال : فضحك النبي صلىاللهعليهوسلم حتى بدت نواجذه وقال لي : «أفلحت يا سواد» فقال له عمر رضي
الله عنه : هل يأتيك رئيك الآن؟ فقال : منذ قرأت القرآن لم يأتني ونعم العوض كتاب
الله عزوجل من الجن. ثم أسنده البيهقي من وجهين آخرين.
ومما يدل على
وفادتهم إليه صلىاللهعليهوسلم بعد ما هاجر إلى المدينة الحديث الذي رواه الحافظ أبو نعيم
في كتاب دلائل النبوة ، حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا محمد بن عبدة المصيصي ، حدثنا
أبو توبة الربيع بن نافع حدثنا معاوية بن سلام عن زيد بن أسلم أنه سمع أبا سلام
يقول : حدثني من حدثه عمرو بن غيلان الثقفي قال : أتيت عبد الله بن مسعود رضي الله
عنه فقلت له : حدثت أنك كنت مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم ليلة وفد الجن. قال : أجل ، قلت : حدثني كيف كان شأنه!
فقال إن أهل الصفة أخذ كل رجل منهم رجل يعشيه ، وتركت فلم يأخذني أحد منهم ، فمر
بي رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : «من هذا؟» فقلت : أنا ابن مسعود ، فقال صلىاللهعليهوسلم : «ما أخذك أحد يعشيك؟» فقلت : لا ، قال صلىاللهعليهوسلم : «فانطلق لعلي أجد لك شيئا».
قال : فانطلقنا
حتى أتى رسول الله صلىاللهعليهوسلم حجرة أم سلمة رضي الله عنها ، فتركني قائما ودخل إلى أهله
ثم خرجت الجارية فقالت : يا ابن مسعود ، إن رسول الله صلىاللهعليهوسلم لم يجد لك عشاء فارجع إلى مضجعك ، قال فرجعت إلى المسجد
فجمعت حصباء المسجد فتوسدته والتففت بثوبي ، فلم ألبث إلا قليلا حتى جاءت الجارية
فقالت : أجب رسول الله. فاتبعتها وأنا أرجو العشاء حتى إذا بلغت مقامي خرج رسول
الله صلىاللهعليهوسلم وفي يده عسيب من نخل فعرض به على صدري فقالصلىاللهعليهوسلم : «انطلقت أنت معي حيث انطلقت» قلت : ما شاء الله فأعادها
علي ثلاث مرات. كل ذلك أقول ما شاء الله فانطلق ، وانطلقت معه حتى أتينا بقيع
الغرقد فخط صلىاللهعليهوسلم بعصاه خطا ثم قال : «اجلس فيها ولا تبرح حتى آتيك» ثم
انطلق يمشي وأنا أنظر إليه خلال النخل ، حتى إذا كان من حيث لا أراه ثارت قبله
العجاجة السوداء ففرقت فقلت : ألحق برسول اللهصلىاللهعليهوسلم فإني أظن أن هوازن مكروا برسول الله صلىاللهعليهوسلم ليقتلوه ، فأسعى إلى البيوت فأستغيث الناس ، فذكرت أن رسول
الله صلىاللهعليهوسلم أوصاني أن لا أبرح مكاني الذي أنا فيه ، فسمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقرعهم بعصاه ويقول : «اجلسوا» فجلسوا حتى كاد ينشق عمود
الصبح ثم ثاروا وذهبوا ، فأتاني رسول الله فقال : «أنمت بعدي؟» فقلت : لا ولقد
فزعت الفزعة الأولى حتى رأيت أن آتي البيوت ، فأستغيث الناس حتى سمعتك تقرعهم
بعصاك ، وكنت أظنها هوازن مكروا برسول اللهصلىاللهعليهوسلم ليقتلوه ، فقال «لو أنك خرجت من هذه الحلقة ما آمنهم عليك
أن يختطفك بعضهم ، فهل رأيت من شيء منهم؟».
__________________
فقلت : رأيت رجالا
سودا مستشعرين بثياب بيض ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أولئك وفد جن نصيبين أتوني فسألوني الزاد والمتاع
فمتعتهم بكل عظم حائل أو روثة أو بعرة» قلت : فما يغني عنهم ذلك؟ قال صلىاللهعليهوسلم «إنهم لا يجدون
عظما إلا وجدوا عليه لحمه الذي كان عليه يوم أكل ، ولا روثة إلا وجدوا فيها حبها
الذي كان فيها يوم أكلت فلا يستنقي أحد منكم بعظم ولا بعرة» وهذا إسناد غريب جدا
ولكن فيه رجل مبهم لم يسم ، والله تعالى أعلم. وقد روى الحافظ أبو نعيم من حديث
بقية بن الوليد : حدثني نمير بن زيد القنبر. حدثنا أبي ، حدثنا قحافة بن ربيعة ،
حدثني الزبير بن العوام رضي الله عنه قال : صلى بنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم صلاة الصبح في مسجد المدينة فلما انصرف قال : «أيكم يتبعني
إلى وفد الجن الليلة؟» فأسكت القوم ثلاثا ، فمر بي فأخذ بيدي فجعلت أمشي معه حتى
حبست عنا جبال المدينة كلها ، وأفضينا إلى أرض براز فإذا برجال طوال كأنهم الرماح
مستشعرين بثيابهم من بين أرجلهم ، فلما رأيتهم غشيتني رعدة شديدة ثم ذكر نحو حديث
ابن مسعود المتقدم ، وهذا حديث غريب ، والله أعلم.
ومما يتعلق بوفود
الجن ما رواه الحافظ أبو نعيم : حدثنا أبو محمد بن حبان ، حدثنا أبو الطيب أحمد بن
روح ، حدثنا يعقوب الدورقي ، حدثنا الوليد بن بكير التيمي ، حدثنا حصين بن عمر ،
أخبرني عبيد المكتب عن إبراهيم قال : خرج نفر من أصحاب عبد الله يريدون الحج حتى
إذا كانوا في بعض الطريق إذا هم بحية تنثني على الطريق أبيض ، ينفح منه ريح المسك
فقلت لأصحابي : امضوا فلست ببارح حتى أنظر إلى ما يصير إليه أمر هذه الحية. قال : فما
لبثت أن ماتت فعمدت إلى خرقة بيضاء فلففتها فيها ثم نحيتها عن الطريق فدفنتها
وأدركت أصحابي في المتعشى. قال : فو الله إنا لقعود إذ أقبل أربع نسوة من قبل
المغرب فقالت واحدة منهن : أيكم دفن عمرا. قلنا : ومن عمرو ، قالت : أيكم دفن
الحية؟ قال فقلت : أنا. قالت : أما والله لقد دفنت صواما قواما ، يأمر بما أنزل
الله تعالى ، ولقد آمن بنبيكم وسمع صفته من السماء قبل أن يبعث بأربعمائة عام. قال
الرجل : فحمدنا الله تعالى ثم قضينا حجتنا ثم مررت بعمر بن الخطاب رضي الله عنه
بالمدينة ، فأنبأته بأمر الحية فقال : صدقت سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «لقد آمن بي قبل أن أبعث بأربعمائة سنة» وهذا حديث
غريب جدا ، والله أعلم.
قال أبو نعيم ،
وقد روى الثوري عن أبي إسحاق عن الشعبي عن رجل من ثقيف بنحوه ، وروى عبد الله بن
أحمد والظهراني عن صفوان بن المعطل : هو الذي نزل ودفن تلك الحية من بين الصحابة
وأنهم قالوا إنه آخر التسعة موتا الذين أتوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم يستمعون القرآن ، وروى أبو نعيم من حديث الليث بن سعد عن
عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون عن عمه ، عن معاذ بن عبيد الله بن معمر قال : كنت
جالسا عند عثمان بن عفان رضي الله عنه ، فجاء رجل
فقال : يا أمير
المؤمنين إني كنت بفلاة من الأرض ، فذكر أنه رأى ثعبانين اقتتلا ثم قتل أحدهما
الاخر ، قال : فذهبت إلى المعترك فوجدت حيات كثيرة مقتولة ، وإذ ينفح من بعضها ريح
المسك ، فجعلت أشمها واحدة واحدة حتى وجدت ذلك من حية صفراء رقيقة ، فلففتها في
عمامتي ودفنتها ، فبينا أنا أمشي إذ ناداني مناد : يا عبد الله لقد هديت ، هذان
حيان من الجن بنو أشعيبان وبنو أقيش التقوا فكان من القتلى ما رأيت ، واستشهد الذي
دفنته وكان من الذين سمعوا الوحي من رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : فقال عثمان لذلك الرجل إن كنت صادقا فقد رأيت عجبا ،
وإن كنت كاذبا فعليك كذبك.
وقوله تبارك
وتعالى : (وَإِذْ صَرَفْنا
إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِ) أي طائفة من الجن (يَسْتَمِعُونَ
الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا) أي استمعوا وهذا أدب منهم.
وقد قال الحافظ
البيهقي : حدثنا الإمام أبو الطيب سهل بن محمد بن سليمان ، أخبرنا أبو الحسن محمد
بن عبد الله الدقاق ، حدثنا محمد بن إبراهيم البوشنجي ، حدثنا هشام بن عمار
الدمشقي ، حدثنا الوليد بن مسلم عن زهير بن محمد عن محمد بن المنكدر عن جابر بن
عبد الله رضي الله عنهما قال : قرأ رسول الله صلىاللهعليهوسلم سورة الرحمن حتى ختمها ثم قال : ما لي أراكم سكوتا؟ للجن
كانوا أحسن منكم ردا ، ما قرأت عليهم هذه الآية من مرة (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) [الرحمن : ٥٧] إلا
قالوا : ولا بشيء من آلائك أو نعمك ربنا نكذب فلك الحمد».
ورواه الترمذي في التفسير عن أبي مسلم عبد الرحمن بن واقد عن الوليد بن
مسلم به قال : خرج رسول الله صلىاللهعليهوسلم على أصحابه ، فقرأ عليهم سورة الرحمن فذكره ثم قال الترمذي
: غريب لا نعرفه إلا من حديث الوليد عن زهير كذا قال. وقد رواه البيهقي من حديث
مروان بن محمد الطاطري عن زهير بن محمد به مثله. وقوله عزوجل : (فَلَمَّا قُضِيَ) أي فرغ كقوله تعالى : (فَإِذا قُضِيَتِ
الصَّلاةُ) [الجمعة : ١٠] (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي
يَوْمَيْنِ) [فصلت : ١٢] (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ) [البقرة : ٢٠٠] (وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) أي رجعوا إلى قومهم فأنذروهم ما سمعوه من رسول الله صلىاللهعليهوسلم كقوله جل وعلا : (لِيَتَفَقَّهُوا فِي
الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ
يَحْذَرُونَ) [التوبة : ١٢٢]
وقد استدل بهذه الآية على أنه في الجن نذر وليس فيهم رسل ، ولا شك أن الجن لم يبعث
الله منهم رسولا لقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ
قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) [يوسف : ١٠٩].
وقال عزوجل : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ
الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي
الْأَسْواقِ) [الفرقان : ٢٠].
وقال عن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام (وَجَعَلْنا فِي
ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) [العنكبوت : ٢٧] فكل نبي
__________________
بعثه الله تعالى
بعد إبراهيم فمن ذريته وسلالته.
فأما قوله تبارك
وتعالى في الأنعام : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ
وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) [الأنعام : ١٣٠] فالمراد هنا مجموع الجنسين فيصدق على
أحدهما وهو الإنس كقوله : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا
اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) [الرحمن : ٢٢] أي
أحدهما ثم إنه تعالى فسر إنذار الجن لقومهم فقال مخبرا عنهم : (قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا
كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى) ولم يذكروا عيسى لأن عيسى عليهالسلام أنزل عليه الإنجيل فيه مواعظ وترقيقات وقليل من التحليل
والتحريم ، وهو في الحقيقة كالمتمم لشريعة التوراة فالعمدة هو التوراة ، فلهذا
قالوا أنزل من بعد موسى ، وهكذا قال ورقة بن نوفل حين أخبره النبي صلىاللهعليهوسلم بقصة نزول جبريل عليه الصلاة والسلام أول مرة فقال : بخ بخ!
هذا الناموس الذي كان يأتي موسى يا ليتني أكون فيه جذعا. (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أي في الكتب المنزلة على الأنبياء قبله ، وقوله : (يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) أي في الاعتقاد والإخبار (وَإِلى طَرِيقٍ
مُسْتَقِيمٍ) في الأعمال فإن القرآن مشتمل على شيئين خبر وطلب ، فخبره
صدق وطلبه عدل ، كما قال تعالى : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ
رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً) [الأنعام : ١١٥].
وقال سبحانه
وتعالى : (هُوَ الَّذِي
أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ) [التوبة : ٣٣]
فالهدى هو العلم النافع ، ودين الحق هو العمل الصالح ، وهكذا قالت الجن (يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) في الاعتقادات (وَإِلى طَرِيقٍ
مُسْتَقِيمٍ) أي في العمليات (يا قَوْمَنا
أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ) فيه دلالة على أنه تعالى أرسل محمدا صلىاللهعليهوسلم إلى الثقلين الجن والإنس ، حيث دعاهم إلى الله تعالى وقرأ
عليهم السورة التي فيها خطاب الفريقين وتكليفهم ووعدهم ووعيدهم وهي سورة الرحمن
ولهذا قال : (أَجِيبُوا داعِيَ
اللهِ وَآمِنُوا بِهِ) وقوله تعالى : (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ
ذُنُوبِكُمْ) قيل إن من هاهنا زائدة وفيه نظر لأن زيادتها في الإثبات
قليل ، وقيل إنها على بابها للتبعيض (وَيُجِرْكُمْ مِنْ
عَذابٍ أَلِيمٍ) أي ويقيكم من عذابه الأليم ، وقد استدل بهذه الآية من ذهب
من العلماء إلى أن الجن المؤمنين لا يدخلون الجنة ، وإنما جزاء صالحيهم أن يجاروا
من عذاب النار يوم القيامة ، ولهذا قالوا هذا في هذا المقام وهو مقام تبجح ومبالغة
، فلو كان لهم جزاء على الإيمان أعلى من هذا لأوشك أن يذكروه.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبي قال : حدثت عن جرير عن ليث عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال :
لا يدخل مؤمنو الجن الجنة لأنهم من ذرية إبليس ، ولا تدخل ذرية إبليس الجنة ،
والحق أن مؤمنيهم كمؤمني الإنس يدخلون الجنة كما هو مذهب جماعة من السلف ، وقد
استدل بعضهم لهذا بقوله عزوجل : (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ
إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ) [الرحمن : ٧٤] وفي
هذا الاستدلال نظر ، وأحسن منه قوله جل وعلا : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ
رَبِّهِ جَنَّتانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) [الرحمن : ٤٦ ـ ٤٧]
فقد امتن تعالى على الثقلين بأن جعل جزاء محسنهم الجنة ، وقد قابلت الجن هذه الآية
بالشكر القولي أبلغ من الإنس فقالوا : ولا بشيء من آلائك
ربنا نكذب فلك
الحمد ، فلم يكن تعالى ليمتن عليهم بجزاء لا يحصل لهم ، وأيضا فإنه إذا كان يجازي
كافرهم بالنار وهو مقام عدل فلأن يجازي مؤمنهم بالجنة وهو مقام فضل بطريق الأولى
والأحرى. ومما يدل أيضا على ذلك عموم قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً) [الكهف : ١٠٧] وما
أشبه ذلك من الآيات.
وقد أفردت هذه
المسألة في جزء على حدة ولله الحمد والمنة ، وهذه الجنة لا يزال فيها فضل حتى ينشئ
الله تعالى لها خلقا أفلا يسكنها من آمن به وعمل صالحا ، وما ذكروه هاهنا من
الجزاء على الإيمان من تكفير الذنوب والإجارة من العذاب الأليم هو يستلزم دخول
الجنة ، لأنه ليس في الآخرة إلا الجنة أو النار ، فمن أجير من النار دخل الجنة لا
محالة ، ولم يرد معنا نص صريح ولا ظاهر عن الشارع أن مؤمني الجن لا يدخلون الجنة ،
وإن أجيروا من النار ، ولو صح لقلنا به ، والله أعلم. وهذا نوح عليه الصلاة
والسلام يقول لقومه : (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ
ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) [نوح : ٤] ولا
خلاف أن مؤمني قومه في الجنة فكذلك هؤلاء. وقد حكي فيهم أقوال غريبة. فعن عمر بن
عبد العزيز رضي الله عنه أنهم لا يدخلون بحبوحة الجنة ، وإنما يكونون في ربضها
وحولها وفي أرجائها ، ومن الناس من زعم أنهم في الجنة يراهم بنو آدم ولا يرون بني
آدم بعكس ما كانوا عليه في الدار الدنيا.
ومن الناس من قال
: لا يأكلون في الجنة ولا يشربون وإنما يلهمون التسبيح والتحميد والتقديس عوضا عن
الطعام والشراب كالملائكة لأنهم من جنسهم ، وكل هذه الأقوال فيها نظر ولا دليل
عليها ، ثم قال مخبرا عنهم (وَمَنْ لا يُجِبْ
داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ) أي بل قدرة الله شاملة له ومحيطة به (وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ) أي لا يجيرهم منه أحد (أُولئِكَ فِي ضَلالٍ
مُبِينٍ) وهذا مقام تهديد وترهيب فدعوا قومهم بالترغيب والترهيب ،
ولهذا نجع في كثير منهم وجاءوا إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم وفودا وفودا كما تقدم بيانه ، ولله الحمد والمنة والله
أعلم.
(أَوَلَمْ يَرَوْا
أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ
بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٣)
وَيَوْمَ
يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى
وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٤) فَاصْبِرْ كَما
صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ
يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ
فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ)
(٣٥)
يقول تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا) هؤلاء المنكرون للبعث يوم القيامة المستبعدون لقيام
الأجساد يوم المعاد (أَنَّ اللهَ الَّذِي
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَ) أي ولم يكرثه خلقهن بل قال لها كوني فكانت بلا ممانعة ولا مخالفة بل
طائعة مجيبة خائفة وجلة ، أفليس ذلك بقادر
__________________
على أن يحيي
الموتى؟ كما قال عزوجل في الآية الأخرى : (لَخَلْقُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يَعْلَمُونَ) [غافر : ٥٧] ولهذا
قال تعالى : (بَلى إِنَّهُ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
ثم قال جل جلاله
مهددا ومتوعدا لمن كفر به (وَيَوْمَ يُعْرَضُ
الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِ) أي يقال لهم أما هذا حق أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون؟ (قالُوا بَلى وَرَبِّنا) أي لا يسعهم إلا الاعتراف (قالَ فَذُوقُوا
الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) ثم قال تبارك وتعالى آمرا رسوله صلىاللهعليهوسلم بالصبر على تكذيب من كذبه من قومه : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا
الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) أي على تكذيب قومهم لهم. وقد اختلفوا في تعداد أولي العزم
على أقوال وأشهرها أنهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وخاتم الأنبياء محمد صلىاللهعليهوسلم ، قد نص الله تعالى على أسمائهم من بين الأنبياء في آيتين
من سورتي الأحزاب والشورى ، وقد يحتمل أن يكون المراد بأولي العزم جميع الرسل
فتكون (من) في قوله (مِنَ الرُّسُلِ) لبيان الجنس ، والله أعلم.
وقد قال ابن أبي
حاتم : حدثنا محمد بن الحجاج الحضرمي ، حدثنا السري بن حيان ، حدثنا عباد بن عباد
، حدثنا مجالد بن سعيد عن الشعبي عن مسروق قال : قالت عائشة رضي الله عنها : ظل
رسول الله صلىاللهعليهوسلم صائما ثم طواه ثم ظل صائما ثم طواه ثم ظل صائما ثم قال : «يا
عائشة إن الدنيا لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد ، يا عائشة إن الله تعالى لم يرض من
أولي العزم من الرسل إلا بالصبر على مكروهها والصبر عن محبوبها ، ثم لم يرض مني
إلا أن يكلفني ما كلفهم فقال: (فَاصْبِرْ كَما
صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) وإني والله لأصبرن كما صبروا جهدي ولا قوة إلا بالله. (وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ) أي لا تستعجل لهم حلول العقوبة بهم كقوله تبارك وتعالى : (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي
النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً) [المزمل : ١١]
وكقوله تعالى : (فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ
أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) [الطارق : ١٧] (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما
يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ) كقوله جل وعلا : (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ
يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) [النازعات : ٤٦]
وكقوله عزوجل : (وَيَوْمَ
يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ
بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ وَما كانُوا
مُهْتَدِينَ) [يونس : ٤٥]
الآية. وقوله جل وعلا : (بَلاغٌ). قال ابن جرير يحتمل معنيين : أحدهما أن يكون تقديره ، وذلك لبث بلاغ ،
والآخر أن يكون تقديره هذا القرآن بلاغ. وقوله تعالى : (فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ
الْفاسِقُونَ) أي لا يهلك على الله إلا هالك ، وهذا من عدله عزوجل أنه لا يعذب إلا من يستحق العذاب ، والله أعلم.
__________________
سورة محمد
وهي مدنية
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(الَّذِينَ كَفَرُوا
وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (١) وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ
مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (٢)
ذلِكَ
بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا
اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ
أَمْثالَهُمْ)
(٣)
يقول تعالى : (الَّذِينَ كَفَرُوا) أي بآيات الله (وَصَدُّوا) غيرهم (عَنْ سَبِيلِ اللهِ
أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) أي أبطلها وأذهبها ولم يجعل لها ثوابا ولا جزاء كقوله
تعالى : (وَقَدِمْنا إِلى ما
عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) [الفرقان : ٢٣] ثم
قال جل وعلا : (وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي آمنت قلوبهم وسرائرهم وانقادت لشرع الله جوارحهم
وبواطنهم وظواهرهم (وَآمَنُوا بِما
نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ) عطف خاص على عام وهو دليل على أنه شرط في صحة الإيمان بعد
بعثته صلوات الله وسلامه عليه. وقوله وتبارك تعالى : (وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ
رَبِّهِمْ) جملة معترضة حسنة ولهذا قال جل جلاله : (كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ
وَأَصْلَحَ بالَهُمْ) قال ابن عباس رضي الله عنهما : أي أمرهم. وقال مجاهد :
شأنهم. وقال قتادة وابن زيد : حالهم والكل متقارب. وقد جاء في حديث تشميت العاطس «يهديكم
الله ويصلح بالكم» .
ثم قال عزوجل : (ذلِكَ بِأَنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ) أي إنما أبطلنا أعمال الكفار. وتجاوزنا عن سيئات الأبرار ،
وأصلحنا شؤونهم لأن الذين كفروا اتبعوا الباطل أي اختاروا الباطل على الحق (وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا
الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ) أي يبين لهم مآل أعمالهم ، وما يصيرون إليه في معادهم ،
والله سبحانه وتعالى أعلم.
(فَإِذا لَقِيتُمُ
الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا
الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ
أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا
بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ
أَعْمالَهُمْ (٤) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ
بالَهُمْ (٥) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها
لَهُمْ (٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ
تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ(٧) وَالَّذِينَ
كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (٨)
ذلِكَ
بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ)
(٩)
__________________
يقول تعالى مرشدا
للمؤمنين إلى ما يعتمدونه في حروبهم مع المشركين (فَإِذا لَقِيتُمُ
الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ) أي إذا واجهتموهم فاحصدوهم حصدا بالسيوف (حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ) أي أهلكتموهم قتلا (فَشُدُّوا الْوَثاقَ) الأسارى الذين تأسرونهم ، ثم أنتم بعد انقضاء الحرب
وانفصال المعركة مخيرون في أمرهم ، إن شئتم مننتم عليهم فأطلقتم أساراهم مجانا ،
وإن شئتم فاديتموهم بمال تأخذونه منهم وتشارطونهم عليه ، والظاهر أن هذه الآية
نزلت بعد وقعة بدر ، فإن الله سبحانه وتعالى عاتب المؤمنين على الاستكثار من
الأسارى يومئذ ، ليأخذوا منهم الفداء والتقليل من القتل يومئذ فقال : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ
أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ
يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ
لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) [الأنفال : ٦٧ ـ ٦٨]
ثم قد ادعى بعض العلماء أن هذه الآية المخيرة بين مفاداة الأسير والمن عليه منسوخة
بقوله تعالى : (فَإِذَا انْسَلَخَ
الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة : ٥]
الآية ، رواه العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما. وقاله قتادة والضحاك والسدي وابن
جريج وقال الآخرون وهم الأكثرون : ليست منسوخة ، ثم قال بعضهم : إنما الإمام مخير
بين المن على الأسير ومفاداته فقط ، ولا يجوز له قتله.
وقال آخرون منهم :
بل له أن يقتله إن شاء لحديث قتل النبي صلىاللهعليهوسلم النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط من أسارى بدر. وقال
ثمامة بن أثال لرسول الله صلىاللهعليهوسلم حين قال له : «ما عندك يا ثمامة؟» فقال إن تقتل تقتل ذا دم
، وإن تمنن تمنن على شاكر ، وإن كنت تريد المال فاسأل تعط منه ما شئت . وزاد الشافعي رحمة الله عليه فقال : الإمام مخير بين قتله
أو المن عليه أو مفاداته أو استرقاقه أيضا ، وهذه المسألة محررة في علم الفروع وقد
دللنا على ذلك في كتابنا «الأحكام» ولله سبحانه وتعالى الحمد والمنة.
وقوله عزوجل : (حَتَّى تَضَعَ
الْحَرْبُ أَوْزارَها) قال مجاهد : حتى ينزل عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام ، وكأنه أخذه من قوله صلىاللهعليهوسلم : «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يقاتل آخرهم
الدجال» . وقال الإمام أحمد : حدثنا الحكم بن نافع ، حدثنا إسماعيل بن عياش عن إبراهيم
بن سليمان ، عن الوليد بن عبد الرحمن الجرشي عن جبير بن نفير قال : إن سلمة بن
نفيل أخبرهم أنه أتى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال إني سيبت الخيل وألقيت السلاح ووضعت الحرب أوزارها
وقلت : لا قتال ، فقال له النبي صلىاللهعليهوسلم : «الآن جاء القتال لا تزال
__________________
طائفة من أمتي
ظاهرين على الناس يزيغ الله تعالى قلوب أقوام ، فيقاتلونهم ويرزقهم الله منهم حتى
يأتي أمر الله وهم على ذلك ، ألا إن عقد دار المؤمنين بالشام والخيل معقود في
نواصيها الخير إلى يوم القيامة» وهكذا رواه النسائي من طريقين عن جبير بن نفير عن سلمة بن
نفيل السكوني به.
وقال أبو القاسم
البغوي : حدثنا داود بن رشيد ، حدثنا الوليد بن مسلم عن محمد بن مهاجر ، عن الوليد
بن عبد الرحمن الجرشي عن جبير بن نفير عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال : لما
فتح على رسول الله صلىاللهعليهوسلم فتح قالوا يا رسول الله سيبت الخيل ووضعت السلاح ووضعت
الحرب أوزارها قالوا لا قتال قال : «كذبوا الآن جاء القتال ، لا يزال الله تعالى
يرفع قلوب قوم يقاتلونهم فيرزقهم منهم حتى يأتي أمر الله ، وهم على ذلك وعقر دار
المسلمين بالشام». وهكذا رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي عن داود بن رشيد به ،
والمحفوظ أنه من رواية سلمة بن نفيل كما تقدم ، وهذا يقوي القول بعدم النسخ كأنه
شرع هذا الحكم في الحرب إلى أن لا يبقى حرب. وقال قتادة (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) حتى لا يبقى شرك ، وهذا كقوله تعالى : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ
فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) [الأنفال : ٣٩].
ثم قال بعضهم : (حَتَّى تَضَعَ
الْحَرْبُ أَوْزارَها) أي أوزار المحاربين وهم المشركون بأن يتوبوا إلى الله عزوجل ، وقيل أوزار أهلها بأن يبذلوا الوسع في طاعة الله تعالى.
وقوله عزوجل : (ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ
اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ) أي هذا ولو شاء الله لانتقم من الكافرين بعقوبة ونكال من
عنده (وَلكِنْ لِيَبْلُوَا
بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) أي ولكن شرع لكم الجهاد وقتال الأعداء ليختبركم ، ويبلو
أخباركم كما ذكر حكمته في شرعية الجهاد في سورتي آل عمران وبراءة في قوله تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا
الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ
الصَّابِرِينَ) [آل عمران : ١٤٢].
وقال تبارك وتعالى
في سورة براءة : (قاتِلُوهُمْ
يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ
وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ
اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [التوبة : ١٤ ـ ١٥]
ثم لما كان من شأن القتال أن يقتل كثير من المؤمنين قال : (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ
فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ) أي لن يذهبها بل يكثرها وينميها ويضاعفها.
ومنهم من يجري
عليه عمله في طول برزخه ، كما ورد بذلك الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده حيث قال : حدثنا زيد بن يحيى الدمشقي ، حدثنا ابن
ثوبان عن أبيه عن مكحول عن كثير بن مرة عن قيس الجذامي ـ رجل كانت له صحبة ـ قال :
قال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم «يعطى الشهيد ست
خصال : عند أول قطرة من دمه تكفر عنه كل خطيئة ، ويرى مقعده من
__________________
الجنة ، ويزوج من
الحور العين ، ويأمن من الفزع الأكبر ، ومن عذاب القبر ، ويحلى حلة الإيمان» تفرد
به أحمد رحمهالله.
[حديث آخر] قال
أحمد أيضا : حدثنا الحكم بن نافع ، حدثنا إسماعيل بن عياش عن بحير بن سعيد عن خالد
بن معدان عن المقدام بن معد يكرب الكندي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن للشهيد عند الله ست خصال : أن يغفر له في أول دفعة
من دمه ، ويرى مقعده من الجنة ، ويحلى حلة الإيمان ، ويزوج الحور العين ويجار من
عذاب القبر ، ويأمن من الفزع الأكبر ، ويوضع على رأسه تاج الوقار مرصع بالدر
والياقوت ، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من
الحور العين ، ويشفع في سبعين إنسانا من أقاربه» . وقد أخرجه الترمذي وصححه ابن ماجة. وفي صحيح مسلم عن عبد
الله بن عمرو رضي الله عنهما وعن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «يغفر للشهيد كل شيء إلا الدّين» وروي من حديث جماعة من الصحابة رضي الله عنهم ، وقال أبو
الدرداء رضي الله عنه : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «يشفع الشهيد في سبعين من أهل بيته» ورواه أبو داود والأحاديث في فضل الشهيد كثيرة جدا.
وقوله تبارك
وتعالى : (سَيَهْدِيهِمْ) أي إلى الجنة كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) يونس : ٩]. وقوله عزوجل (وَيُصْلِحُ بالَهُمْ) أي أمرهم وحالهم (وَيُدْخِلُهُمُ
الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ) أي عرفهم بها وهداهم إليها. قال مجاهد : يهتدي أهلها إلى
بيوتهم ومساكنهم ، وحيث قسم الله لهم منها لا يخطئون كأنهم ساكنوها منذ خلقوا لا
يستدلون عليها أحدا ، وروى مالك عن ابن زيد بن أسلم نحو هذا ، وقال محمد بن
كعب : يعرفون بيوتهم إذا دخلوا الجنة كما تعرفون بيوتكم إذا انصرفتم من الجمعة.
وقال مقاتل بن حيان : بلغنا أن الملك الذي كان وكل بحفظ عمله في الدنيا يمشي بين
يديه في الجنة ويتبعه ابن آدم حتى يأتي أقصى منزل هو له فيعرفه كل شيء أعطاه الله
تعالى في الجنة ، فإذا انتهى إلى أقصى منزله في الجنة دخل منزله وأزواجه وانصرف
الملك عنه ، ذكره ابن أبي حاتم رحمهالله.
وقد ورد الحديث
الصحيح بذلك أيضا رواه البخاري من حديث قتادة عن أبي المتوكل
__________________
الناجي عن أبي
سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا بقنطرة بين الجنة
والنار ، يتقاصون مظالم كانت بينهم في الدنيا ، حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في
دخول الجنة ، والذي نفسي بيده إن أحدهم بمنزله في الجنة أهدى منه بمنزله الذي كان
في الدنيا» .
ثم قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ
تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) كقولهعزوجل : (وَلَيَنْصُرَنَّ
اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) [الحج : ٤٠] فإن
الجزاء من جنس العمل ولهذا قال تعالى : (وَيُثَبِّتْ
أَقْدامَكُمْ) كما جاء في الحديث «من بلغ ذا سلطان حاجة من لا يستطيع
إبلاغها ، ثبت الله تعالى قدميه على الصراط يوم القيامة» ثم قال تبارك وتعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ) عكس تثبيت الأقدام للمؤمنين الناصرين لله تعالى ولرسوله صلىاللهعليهوسلم ، وقد ثبت الحديث عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «تعس عبد الدينار ، تعس عبد الدرهم ، تعس عبد
القطيفة ، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش!» أي فلا شفاه الله عزوجل. وقوله سبحانه وتعالى : (وَأَضَلَّ
أَعْمالَهُمْ) أي أحبطها وأبطلها ، ولهذا قال : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ
اللهُ) أي لا يريدونه ولا يحبونه (فَأَحْبَطَ
أَعْمالَهُمْ).
(أَفَلَمْ يَسِيرُوا
فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (١٠)
ذلِكَ
بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (١١)
إِنَّ
اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما
تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (١٢) وَكَأَيِّنْ مِنْ
قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ
أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ)
(١٣)
يقول تعالى : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا) يعني المشركين بالله المكذبين لرسوله (فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ
عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ) أي عاقبهم بتكذيبهم وكفرهم ، أي ونجى المؤمنين من بين
أظهرهم ، ولهذا قال تعالى : (وَلِلْكافِرِينَ
أَمْثالُها).
ثم قال : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ
آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) ولهذا لما قال أبو سفيان صخر بن حرب رئيس المشركين يوم أحد
، حين سأل عن النبي صلىاللهعليهوسلم وعن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فلم يجب وقال : أما هؤلاء
فقد هلكوا ، وأجابه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : كذبت يا عدو الله بل أبقى
الله تعالى لك ما يسوؤك ، وإن الذين عددت لأحياء ، فقال أبو سفيان يوم بيوم بدر ،
والحرب سجال ، أما إنكم ستجدون مثلة لم آمر بها ، ولم تسوؤني ، ثم
__________________
ذهب يرتجز ويقول :
اعل هبل اعل هبل. فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ألا تجيبوه؟» فقالوا : يا رسول الله وما نقول قال صلىاللهعليهوسلم قولوا : «الله أعلى وأجل» ثم قال أبو سفيان : لنا العزى
ولا عزى لكم ، فقال صلىاللهعليهوسلم : «ألا تجيبوه؟» قالوا : وما نقول يا رسول الله؟ قال :
قولوا : «الله مولانا ولا مولى لكم» .
ثم قال سبحانه
وتعالى : (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ) أي يوم القيامة (وَالَّذِينَ كَفَرُوا
يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ) أي في دنياهم يتمتعون بها ويأكلون منها كأكل الأنعام خضما
وقضما ، وليس لهم همة إلا في ذلك ، ولهذا ثبت في الصحيح «المؤمن يأكل في معىّ واحد
، والكافر يأكل في سبعة أمعاء» ثم قال تعالى : (وَالنَّارُ مَثْوىً
لَهُمْ) أي يوم جزائهم ، وقوله عزوجل : (وَكَأَيِّنْ مِنْ
قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ) يعني مكة (أَهْلَكْناهُمْ فَلا
ناصِرَ لَهُمْ) وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد لأهل مكة في تكذيبهم لرسول
الله صلىاللهعليهوسلم ، وهو سيد المرسلين وخاتم الأنبياء ، فإذا كان الله عزوجل قد أهلك الأمم الذين كذبوا الرسل قبله بسببهم ، وقد كانوا
أشد قوة من هؤلاء فماذا ظن هؤلاء أن يفعل الله بهم في الدنيا والآخرة؟ فإن رفع عن
كثير منهم العقوبة في الدنيا لبركة وجود الرسول نبي الرحمة فإن العذاب يوفر على
الكافرين به في معادهم (يُضاعَفُ لَهُمُ
الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ) [هود : ٢٠].
وقوله تعالى : (مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ) أي الذين أخرجوك من بين أظهرهم. وقال ابن أبي حاتم : ذكر
أبي عن محمد بن عبد الأعلى عن المعتمر بن سليمان عن أبيه عن حنش ، عن عكرمة عن ابن
عباس رضي الله عنهما ، أن النبي صلىاللهعليهوسلم لما خرج من مكة إلى الغار أراه قال فالتفت إلى مكة وقال : «أنت
أحب بلاد الله إلى الله ، وأنت أحب بلاد الله إلي ، ولولا أن المشركين أخرجوني لم
أخرج منك» فأعدى الأعداء من عدا على الله تعالى في حرمه ، أو قتل غير قاتله ، أو
قتل بذحول الجاهلية ، فأنزل الله تعالى على نبيه صلىاللهعليهوسلم (وَكَأَيِّنْ مِنْ
قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ
أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ).
(أَفَمَنْ كانَ عَلى
بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا
أَهْواءَهُمْ (١٤) مَثَلُ الْجَنَّةِ
الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ
مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ
لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ
__________________
كُلِّ
الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ
وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (١٥)
يقول تعالى : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ
رَبِّهِ) أي على بصيرة ويقين من أمر الله ودينه بما أنزل في كتابه
من الهدى والعلم ، وبما جبله الله عليه من الفطرة المستقيمة ، (كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ
وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) أي ليس هذا كهذا ، كقوله تعالى : (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ
إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى) [الرعد : ١٩]
وكقوله تعالى : (لا يَسْتَوِي
أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) [الحشر : ٢٠] ثم
قال عزوجل (مَثَلُ الْجَنَّةِ
الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) قال عكرمة (مَثَلُ الْجَنَّةِ) أي نعتها (فِيها أَنْهارٌ مِنْ
ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ) قال ابن عباس رضي الله عنهما والحسن وقتادة : يعني غير
متغير . وقال قتادة والضحاك وعطاء الخراساني : غير منتن ، والعرب تقول : أسن الماء
إذ تغير ريحه ، وفي حديث مرفوع أورده ابن أبي حاتم : غير آسن يعني الصافي الذي لا
كدر فيه. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا وكيع عن الأعمش عن عبد
الله بن مرة ، عن مسروق قال : قال عبد الله رضي الله عنه : أنهار الجنة تفجر من
جبل من مسك.
(وَأَنْهارٌ مِنْ
لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ) أي بل في غاية البياض والحلاوة والدسومة ، وفي حديث مرفوع «لم
يخرج من ضروع الماشية» (وَأَنْهارٌ مِنْ
خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) أي ليست كريهة الطعم والرائحة كخمر الدنيا حسنة المنظر
والطعم والرائحة والفعل (لا فِيها غَوْلٌ وَلا
هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) [الصافات : ٤٧] (لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا
يُنْزِفُونَ) [الواقعة : ١٩] (بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) [الصافات : ٤٦]
وفي حديث مرفوع «لم يعصرها الرجال بأقدامهم» (وَأَنْهارٌ مِنْ
عَسَلٍ مُصَفًّى) أي وهو في غاية الصفاء وحسن اللون والطعم والريح. وفي حديث
مرفوع «لم يخرج من بطون النحل».
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا الجريري عن حكيم بن معاوية
عن أبيه ، قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «في الجنة بحر اللبن وبحر الماء وبحر العسل وبحر
الخمر ، ثم تشقق الأنهار منها بعد» ورواه الترمذي في صفة الجنة عن محمد بن بشار عن يزيد بن هارون ، عن سعيد
بن أبي إياس الجريري وقال : حسن صحيح. وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا أحمد بن
محمد بن عاصم ، حدثنا عبد الله بن محمد بن النعمان ، حدثنا مسلم بن إبراهيم ،
حدثنا الحارث بن عبيد أبو قدامة الإيادي ، حدثنا أبو عمران الجوني عن أبي بكر بن
عبد الله بن قيس عن أبيه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «هذه الأنهار تشخب من جنة عدن
__________________
في جوبة ثم تصدع بعد أنهارا» وفي الصحيح «إذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس فإنه
أوسط الجنة ، وأعلى الجنة ومنه تفجر أنهار الجنة وفوقه عرش الرحمن» .
وقال الحافظ أبو
القاسم الطبراني : حدثنا مصعب بن إبراهيم بن حمزة الزبيري وعبد الله بن الصقر
السكري قالا : حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي ، حدثنا عبد الرحمن بن المغيرة ،
حدثني عبد الرحمن بن عياش عن دلهم بن الأسود بن عبد الله بن حاجب بن عامر بن
المنتفق العقيلي عن أبيه عن عمه لقيط بن عامر قال دلهم ، وحدثنيه أيضا أبي الأسود
عن عاصم بن لقيط قال : إن لقيط بن عامر خرج وافدا إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم قلت : يا رسول الله فعلام نطلع من الجنة؟ قالصلىاللهعليهوسلم: «على أنهار عسل مصفى ، وأنهار من خمر ما بها من صداع ولا
ندامة ، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه ، وماء غير آسن ، وفاكهة لعمر إلهك ما تعلمون
وخير من مثله ، وأزواج مطهرة» قلت : يا رسول الله أولنا فيها زوجات مصلحات؟ قال «الصالحات
للصالحين تلذونهن مثل لذاتكم في الدنيا ويلذونكم ، غير أن لا توالد» وقال أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا : حدثنا
يعقوب بن عبيدة عن يزيد بن هارون ، أخبرني الجريري عن معاوية بن قرة عن أبيه عن
أنس بن مالك رضي الله عنه قال : لعلكم تظنون أن أنهار الجنة تجري في أخدود في
الأرض والله إنها لتجري سائحة على وجه الأرض ، حافاتها قباب اللؤلؤ وطينها المسك
الأذفر ، وقد رواه أبو بكر بن مردويه من حديث مهدي بن حكيم عن
يزيد بن هارون به مرفوعا.
وقوله تعالى : (وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) كقوله عزوجل : (يَدْعُونَ فِيها
بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ) [الدخان : ٥٥]
وقوله تبارك وتعالى : (فِيهِما مِنْ كُلِّ
فاكِهَةٍ زَوْجانِ) [الرحمن : ٥٢]
وقوله سبحانه وتعالى : (وَمَغْفِرَةٌ مِنْ
رَبِّهِمْ) أي مع ذلك كله. وقوله سبحانه وتعالى : (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ) أي هؤلاء الذين ذكرنا منزلتهم من الجنة كمن هو خالد في
النار؟ ليس هؤلاء كهؤلاء ، أي ليس من هو في الدرجات كمن هو في الدركات (وَسُقُوا ماءً حَمِيماً) أي حارا شديد الحر لا يستطاع (فَقَطَّعَ
أَمْعاءَهُمْ) أي قطع ما في بطونهم من الأمعاء والأحشاء ـ عياذا بالله
تعالى من ذلك.
(وَمِنْهُمْ مَنْ
يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ
__________________
عَلى
قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٦) وَالَّذِينَ
اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (١٧)
فَهَلْ
يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها
فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (١٨)
فَاعْلَمْ
أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِناتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ)
(١٩)
يقول تعالى مخبرا
عن المنافقين في بلادتهم وقلة فهمهم ، حيث كانوا يجلسون إلى رسول اللهصلىاللهعليهوسلم ويستمعون كلامه فلا يفهمون منه شيئا فإذا خرجوا من عنده (قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) من الصحابة رضي الله عنهم (ما ذا قالَ آنِفاً) أي الساعة. لا يعقلون ما قال ولا يكترثون له. قال الله
تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ
طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) أي فلا فهم صحيح ولا قصد صحيح. ثم قال عزوجل : (وَالَّذِينَ
اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) أي والذين قصدوا الهداية وفقهم الله تعالى لها فهداهم
إليها وثبتهم عليها وزادهم منها (وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) أي ألهمهم رشدهم. وقوله تعالى : (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ
أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً) أي وهم غافلون عنها (فَقَدْ جاءَ
أَشْراطُها) أي أمارات اقترابها كقوله تبارك وتعالى : (هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى
أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) [النجم : ٥٦ ـ ٥٧]
وكقوله جلت عظمته : (اقْتَرَبَتِ
السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) [القمر : ١] وقوله
سبحانه وتعالى : (أَتى أَمْرُ اللهِ
فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) [النحل : ١] وقوله
جل وعلا : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ
حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) [الأنبياء : ١]
فبعثة رسول الله صلىاللهعليهوسلم من أشراط الساعة ، لأنه خاتم الرسل الذي أكمل الله تعالى
به الدين وأقام به الحجة على العالمين.
وقد أخبر صلىاللهعليهوسلم بأمارات الساعة وأشراطها وأبان عن ذلك وأوضحه بما لم يؤته
نبي قبله ، كما هو مبسوط في موضعه. وقال الحسن البصري : بعثة محمد صلىاللهعليهوسلم من أشراط الساعة وهو كما قال ولهذا جاء في أسمائه صلىاللهعليهوسلم أنه نبي التوبة ونبي الملحمة ، والحاشر الذي يحشر الناس
على قدميه ، والعاقب الذي ليس بعده نبي .
وقال البخاري :
حدثنا أحمد بن المقدام ، حدثنا فضيل بن سليمان ، حدثنا أبو حازم ، حدثنا سهل بن
سعد رضي الله عنه قال : رأيت رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال بإصبعيه هكذا بالوسطى والتي تليها «بعثت أنا والساعة
كهاتين» ثم قال تعالى : (فَأَنَّى لَهُمْ إِذا
جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ) أي فكيف للكافرين بالتذكر إذا جاءتهم القيامة حيث لا
ينفعهم ذلك كقوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ
يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى) [الفجر : ٢٣]. (وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ
التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) [سبأ : ٥٢].
__________________
وقوله عزوجل : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا
إِلهَ إِلَّا اللهُ) هذا إخبار بأنه لا إله إلا الله ولا يتأتى كونه آمرا بعلم
ذلك ، ولهذا عطف عليه قوله عزوجل : (وَاسْتَغْفِرْ
لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) وفي الصحيح : أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان يقول : «اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري
وما أنت أعلم به مني ، اللهم اغفر لي هزلي وجدي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي» . وفي الصحيح أنه كان يقول في آخر الصلاة «اللهم اغفر لي ما
قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت ، وما أنت أعلم به مني أنت إلهي لا
إله إلا أنت» وفي الصحيح أنه قال : «يا أيها الناس توبوا إلى ربكم فإني
أستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة» .
وقال الإمام أحمد
: حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة عن عاصم الأحول قال : سمعت عبد الله بن سرجس
قال : أتيت رسول الله صلىاللهعليهوسلم فأكلت معه من طعامه فقلت غفر الله لك يا رسول الله فقال صلىاللهعليهوسلم : «ولك» فقلت أستغفر لك. فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «نعم ولكم» وقرأ (وَاسْتَغْفِرْ
لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) ثم نظرت إلى نغض كتفه الأيمن ـ أو كتفه الأيسر شعبة الذي شك ـ فإذا هو كهيئة
الجمع عليه الثآليل ، ورواه مسلم والترمذي والنسائي وابن جرير وابن أبي حاتم
من طرق عن عاصم الأحول به ، وفي الحديث الآخر الذي رواه أبو يعلى: حدثنا محمد بن
عون ، حدثنا عثمان بن مطر ، حدثنا عبد الغفور عن أبي نصيرة عن أبي رجاء عن أبي بكر
الصديق رضي الله عنه عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «عليكم بلا إله إلا الله والاستغفار ، فأكثروا
منهما فإن إبليس قال : إنما أهلكت الناس بالذنوب وأهلكوني بلا إله إلا الله
والاستغفار ، فلما رأيت ذلك أهلكتهم بالأهواء ، فهم يحسبون أنهم مهتدون».
وفي الأثر المروي «قال
إبليس وعزتك وجلالك لا أزال أغويهم ما دامت أرواحهم في أجسادهم. فقال الله عزوجل : وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني» والأحاديث في فضل الاستغفار كثيرة جدا. وقوله تبارك وتعالى
: (وَاللهُ يَعْلَمُ
مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ) أي يعلم تصرفكم في نهاركم ومستقركم في ليلكم كقوله تبارك
وتعالى : (وَهُوَ الَّذِي
يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ) [الأنعام : ٦٠]
وكقوله سبحانه وتعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ
فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها
وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [هود : ٦٠] وهذا
القول ذهب
__________________
إليه ابن جريج وهو
اختيار ابن جرير ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما متقلبكم في الدنيا ومثواكم
في الآخرة ، وقال السدي متقلبكم في الدنيا ومثواكم في قبوركم ، والأول أولى وأظهر
، والله أعلم.
(وَيَقُولُ الَّذِينَ
آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ
فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ
نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (٢٠)
طاعَةٌ
وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً
لَهُمْ (٢١) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ
أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (٢٢) أُولئِكَ الَّذِينَ
لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) (٢٣)
يقول تعالى مخبرا
عن المؤمنين أنهم تمنوا شرعية الجهاد ، فلما فرضه الله عزوجل وأمر به نكل عنه كثير من الناس كقوله تبارك وتعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ
لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا
كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ
كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا
الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ
وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) [النساء : ٧٧]
وقال عزوجل هاهنا : (وَيَقُولُ الَّذِينَ
آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ) أي مشتملة على حكم القتال ولهذا قال : (فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ
وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ
إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) أي من فزعهم ورعبهم وجبنهم من لقاء الأعداء ، ثم قال مشجعا
لهم (فَأَوْلى لَهُمْ
طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) أي وكان الأولى بهم أن يسمعوا ويطيعوا أي في الحالة
الراهنة (فَإِذا عَزَمَ
الْأَمْرُ) أي جد الحال ، وحضر القتال (فَلَوْ صَدَقُوا
اللهَ) أي خلصوا له النية (لَكانَ خَيْراً
لَهُمْ).
وقوله سبحانه
وتعالى : (فَهَلْ عَسَيْتُمْ
إِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أي عن الجهاد ونكلتم عنه (أَنْ تُفْسِدُوا فِي
الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ) أي تعودوا إلى ما كنتم فيه من الجاهلية الجهلاء تسفكون
الدماء وتقطعون الأرحام ، ولهذا قال تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ
لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) وهذا نهي عن الإفساد في الأرض عموما ، وعن قطع الأرحام
خصوصا ، بل قد أمر الله تعالى بالإصلاح في الأرض وصلة الأرحام ، وهو الإحسان إلى
الأقارب في المقال والأفعال وبذل الأموال ، وقد وردت الأحاديث الصحاح والحسان بذلك
عن رسول اللهصلىاللهعليهوسلم من طرق عديدة ووجوه كثيرة.
قال البخاري :
حدثنا خالد بن مخلد ، حدثنا سليمان ، حدثني معاوية بن أبي مزرد عن سعيد بن يسار عن
أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «خلق الله تعالى الخلق فلما فرغ منه قامت الرحم
فأخذت بحقوى الرحمن عزوجل فقال مه ، فقالت هذا مقام العائذ بك من
__________________
القطيعة فقال
تعالى : ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت : بلى ، قال : فذاك لك» قال أبو هريرة رضي الله عنه : اقرءوا إن شئتم (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ
أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ) ثم رواه البخاري من طريقين آخرين عن معاوية بن أبي مزرد به
قال قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «اقرءوا إن شئتم (فَهَلْ عَسَيْتُمْ
إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ). ورواه مسلم من حديث معاوية بن أبي مزرد به.
وقال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل ابن علية ، حدثنا عيينة بن عبد الرحمن بن
جوشن عن أبيه عن أبي بكرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ما من ذنب أحرى أن يعجل الله تعالى عقوبته في الدنيا مع
ما يدخر لصاحبه في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم» . أبو داود والترمذي وابن ماجة من حديث إسماعيل هو ابن علية
به ، وقال الترمذي : هذا حديث صحيح.
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن بكر ، حدثنا ميمون أبو محمد المرئي ،
حدثنا محمد بن عباد المخزومي عن ثوبان رضي الله عنه رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «من سره النسأ في الأجل والزيادة في الرزق فليصل رحمه». تفرد به أحمد وله
شاهد في الصحيح. وقال أحمد أيضا : حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا حجاج بن أرطاة عن عمرو
بن شعيب عن أبيه عن جده قال : جاء رجل إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال يا رسول الله إن لي ذوي أرحام ، أصل ويقطعون ، وأعفو
ويظلمون ، وأحسن ويسيئون أفأكافئهم؟ قال صلىاللهعليهوسلم : «لا ، إذن تتركون جميعا ولكن جد بالفضل وصلهم ، فإنه لن
يزال معك ظهير من الله عزوجل ما كنت على ذلك» تفرد به أحمد من هذا الوجه وله شاهد من
وجه آخر.
وقال الإمام أحمد : حدثنا يعلى ، حدثنا قطر عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو
رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن الرحم معلقة بالعرش وليس الواصل بالمكافئ ولكن
الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها» رواه البخاري . وقال أحمد : حدثنا بهز ، حدثنا
__________________
حماد بن سلمة ،
أخبرنا قتادة عن أبي ثمامة الثقفي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : قال
رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «توضع الرحم يوم القيامة لها حجنة كحجنة المغزل تتكلم بلسان طلق ذلق ، فتقطع من قطعها وتصل من وصلها».
وقال الإمام أحمد : حدثنا سفيان ، حدثنا عمرو عن أبي قابوس عن عبد الله بن
عمرو رضي الله عنهما يبلغ به النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «الراحمون يرحمهم الرحمن ، ارحموا أهل الأرض يرحمكم
أهل السماء ، والرحم شجنة من الرحمن من وصلها وصلته ومن قطعها بتته» وقد رواه أبو داود والترمذي من حديث سفيان بن عيينة عن
عمرو بن دينار به ، وهذا هو الذي يروي بتسلسل الأولية وقال الترمذي : حسن صحيح.
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون حدثنا هشام الدستوائي عن يحيى بن
أبي كثير عن إبراهيم بن عبد الله بن قارظ ، أن أباه حدثه أنه دخل على عبد الرحمن
بن عوف رضي الله عنه وهو مريض فقال له عبد الرحمن رضي الله عنه ، وصلت رحمك إن
رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «قال الله عزوجل : أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسمها من اسمي ، فمن
يصلها أصله ومن يقطعها أقطعه فأبته ـ أو قال ـ من بتها أبته» تفرد به أحمد من هذا الوجه ، ورواه أحمد أيضا من حديث الزهري عن أبي
سلمة عن الرداد ـ أو أبي الرداد ـ عن عبد الرحمن بن عوف به ، ورواه أبو داود
والترمذي من رواية أبي سلمة عن أبيه ، والأحاديث في هذا كثيرة جدا.
وقال الطبراني :
حدثنا علي بن عبد العزيز ، حدثنا محمد بن عمار الموصلي ، حدثنا عيسى ابن يونس عن
الحجاج بن يونس عن الحجاج بن الفرافصة ، عن أبي عمر البصري عن سليمان قال : قال
رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر
منها
__________________
اختلف» وبه قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «إذا ظهر القول
وخزن العمل وائتلفت الألسنة وتباغضت القلوب ، وقطع كل ذي رحم رحمه فعند ذلك لعنهم
الله وأصمهم وأعمى أبصارهم» والأحاديث في هذا كثيرة ، والله أعلم.
(أَفَلا
يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (٢٤)
إِنَّ
الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى
الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (٢٥)
ذلِكَ
بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي
بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (٢٦) فَكَيْفَ إِذا
تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (٢٧)
ذلِكَ
بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ
أَعْمالَهُمْ) (٢٨)
يقول تعالى آمرا
بتدبر القرآن وتفهمه وناهيا عن الإعراض عنه فقال : (أَفَلا
يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) أي بل على قلوب أقفالها ، فهي مطبقة لا يخلص إليها شيء من
معانيه ، قال ابن جرير : حدثنا بشر حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد قال : حدثنا حماد
بن زيد ، حدثنا هشام بن عروة عن أبيه رضي الله عنه قال : تلا رسول الله صلىاللهعليهوسلم يوما (أَفَلا
يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) فقال شاب من أهل اليمن : بل عليها أقفالها حتى يكون الله
تعالى يفتحها أو يفرجها ، فما زال الشاب في نفس عمر رضي الله عنه حتى ولي فاستعان
به.
ثم قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى
أَدْبارِهِمْ) أي فارقوا الإيمان ورجعوا إلى الكفر (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ
الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ) أي زين لهم ذلك وحسنه (وَأَمْلى لَهُمْ) أي غرهم وخدعهم (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ) أي مالؤوهم وناصحوهم في الباطن على الباطل وهذا شأن
المنافقين يظهرون خلاف ما يبطنون. ولهذا قال الله عزوجل : (وَاللهُ يَعْلَمُ
إِسْرارَهُمْ) أي ما يسرون وما يخفون ، الله مطلع عليه وعالم به كقوله
تبارك وتعالى : (وَاللهُ يَكْتُبُ ما
يُبَيِّتُونَ) [النساء : ٨١].
ثم قال تعالى : (فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ
الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) أي كيف حالهم إذا جاءتهم الملائكة لقبض أرواحهم وتعصت
الأرواح في أجسادهم واستخرجتها الملائكة بالعنف والقهر والضرب ، كما قال سبحانه
وتعالى : (وَلَوْ تَرى إِذْ
يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ
وَأَدْبارَهُمْ) [الأنفال : ٥٠]
الآية. وقال تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذِ
الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ) [الأنعام : ٩٣] أي
بالضرب (أَخْرِجُوا
أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ
عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) [الأنعام :
__________________
٩٣] ولهذا قال
هاهنا : (ذلِكَ بِأَنَّهُمُ
اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ).
(أَمْ حَسِبَ
الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ (٢٩) وَلَوْ نَشاءُ
لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ
الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (٣٠) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ
حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا
أَخْبارَكُمْ) (٣١)
يقول تعالى : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ
مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ) أي أيعتقد المنافقون أن الله لا يكشف أمرهم لعباده
المؤمنين ، بل سيوضح أمرهم ويجليه حتى يفهمهم ذوو البصائر ، وقد أنزل الله تعالى
في ذلك سورة براءة فبين فيها فضائحهم ، وما يعتمدونه من الأفعال الدالة على نفاقهم
، ولهذا إنما كانت تسمى الفاضحة. والأضغان : جمع ضغن وهو ما في النفوس من الحسد
والحقد للإسلام وأهله والقائمين بنصره.
وقوله تعالى : (وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ
فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ) يقول عزوجل ولو نشاء يا محمد لأريناك أشخاصهم فعرفتهم عيانا ، ولكن لم
يفعل تعالى ذلك في جميع المنافقين سترا منه على خلقه ، وحملا للأمور على ظاهر
السلامة وردا للسرائر إلى عالمها (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ
فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) أي فيما يبدو من كلامهم الدال على مقاصدهم يفهم المتكلم من
أي الحزبين هو بمعاني كلامه وفحواه ، وهو المراد من لحن القول كما قال أمير
المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه : ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله على
صفحات وجهه وفلتات لسانه.
وفي الحديث «ما
أسر أحد سريرة إلا كساه الله تعالى جلبابها إن خيرا فخير وإن شرا فشر» وقد ذكرنا
ما يستدل به على نفاق الرجل وتكلمنا على نفاق العمل والاعتقاد في أول شرح البخاري
بما أغنى عن إعادته هاهنا ، وقد ورد في الحديث تعيين جماعة من المنافقين.
قال الإمام أحمد : حدثنا وكيع ، حدثنا سفيان عن سلمة عن عياض بن عياض عن
أبيه عن أبي مسعود عقبة بن عمرو رضي الله عنه قال : خطبنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم خطبة فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال : «إن منكم
منافقين فمن سميت فليقم ـ ثم قال ـ قم يا فلان ، قم يا فلان قم يا فلان ـ حتى سمى
ستة وثلاثين رجلا ثم قال ـ إن فيكم أو منكم ـ منافقين فاتقوا الله» قال فمر عمر
رضي الله عنه برجل ممن سمى مقنع قد كان يعرفه فقال : ما لك؟ فحدثه بما قال رسول
الله صلىاللهعليهوسلم فقال : بعدا لك سائر اليوم. وقوله عزوجل : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) أي ولنختبرنكم بالأوامر والنواهي (حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ
مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) وليس في تقدم علم الله تعالى بما هو كائن أنه سيكون شك ولا
ريب ، فالمراد حتى نعلم وقوعه ولهذا يقول ابن عباس رضي الله عنهما في مثل هذا :
إلا لنعلم أي لنرى.
__________________
(إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما
تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ
(٣٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (٣٣) إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ
يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ(٣٤) فَلا تَهِنُوا
وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ
يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ)
(٣٥)
يخبر تعالى عمن
كفر وصد عن سبيل الله وخالف الرسول وشاقه ، وارتد عن الإيمان من بعد ما تبين له
الهدى أنه لن يضر الله شيئا ، وإنما يضر نفسه ويخسرها يوم معادها ، وسيحبط الله
عمله فلا يثيبه على سالف ما تقدم من عمله الذي عقبه بردته مثقال بعوضة من خير ، بل
يحبطه ويمحقه بالكلية كما أن الحسنات يذهبن السيئات.
وقد قال الإمام
أحمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة : حدثنا أبو قدامة ، حدثنا وكيع ، حدثنا
أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية قال كان أصحاب رسول اللهصلىاللهعليهوسلم يرون أنه لا يضر مع «لا إله إلا الله ذنب» كما لا ينفع مع
الشرك عمل فنزلت (أَطِيعُوا اللهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) فخافوا أن يبطل الذنب العمل ، ثم روي من طريق عبد الله بن
المبارك أخبرني بكير بن معروف عن مقاتل بن حيان عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما
قال : كنا معشر أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم نرى أنه ليس شيء من الحسنات إلا مقبول حتى نزلت (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ
وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) فقلنا : ما هذا الذي يبطل أعمالنا؟ فقلنا : الكبائر
الموجبات والفواحش حتى نزل قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا
يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨]
فلما نزلت كففنا عن القول في ذلك فكنا نخاف على من أصاب الكبائر والفواحش ونرجو
لمن لم يصبها.
ثم أمر تبارك
وتعالى عباده المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله التي هي سعادتهم في الدنيا والآخرة
ونهاهم عن الارتداد الذي هو مبطل للأعمال ، ولهذا قال تعالى : (وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) أي بالردة ، ولهذا قال بعدها : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا
عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) كقوله سبحانه وتعالى : (إِنَّ اللهَ لا
يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨]
الآية.
ثم قال جل وعلا
لعباده المؤمنين : (فَلا تَهِنُوا) أي لا تضعفوا عن الأعداء (وَتَدْعُوا إِلَى
السَّلْمِ) أي المهادنة والمسالمة ووضع القتال بينكم وبين الكفار في
حال قوتكم وكثرة عددكم
__________________
وعددكم ، .. ولهذا
قال : (فَلا تَهِنُوا
وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) أي في حال علوكم على عدوكم .. فأما إذا كان الكفار فيهم
قوة وكثرة بالنسبة إلى جميع المسلمين ، ورأى الإمام في المهادنة ، والمعاهدة مصلحة
فله أن يفعل ذلك ، كما فعل رسول الله صلىاللهعليهوسلم حين صده كفار قريش عن مكة ودعوه إلى الصلح ، ووضع الحرب
بينهم وبينه عشر سنين فأجابهم صلىاللهعليهوسلم إلى ذلك. وقوله جلت عظمته : (وَاللهُ مَعَكُمْ) فيه بشارة عظيمة بالنصر والظفر على الأعداء (وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ) أي ولن يحبطها ويبطلها ويسلبكم إياها بل يوفيكم ثوابها ولا
ينقصكم منها شيئا والله أعلم.
(إِنَّمَا الْحَياةُ
الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ
وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ(٣٦)
إِنْ
يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (٣٧) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ
تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ
يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ
الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا
يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ)
(٣٨)
يقول تعالى تحقيرا
لأمر الدنيا وتهوينا لشأنها (إِنَّمَا الْحَياةُ
الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) أي حاصلها ذلك إلا ما كان منها لله عزوجل ، ولهذا قال تعالى : (وَإِنْ تُؤْمِنُوا
وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ) أي هو غني عنكم لا يطلب منكم شيئا وإنما فرض عليكم الصدقات
من الأموال مواساة لإخوانكم الفقراء ، ليعود نفع ذلك عليكم ويرجع ثوابه إليكم ، ثم
قال جل جلاله : (إِنْ يَسْئَلْكُمُوها
فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا) أي يحرجكم تبخلوا (وَيُخْرِجْ
أَضْغانَكُمْ).
قال قتادة : قد
علم الله تعالى أن في إخراج الأموال إخراج الأضغان. وصدق قتادة فإن المال محبوب
ولا يصرف إلا فيما هو أحب إلى الشخص منه. وقوله تعالى : (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ
لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ) أي لا يجيب إلى ذلك (وَمَنْ يَبْخَلْ
فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ) أي إنما نقص نفسه من الأجر وإنما يعود وبال ذلك عليه (وَاللهُ الْغَنِيُ) أي عن كل ما سواه وكل شيء فقير إليه دائما ، ولهذا قال
تعالى : (وَأَنْتُمُ
الْفُقَراءُ) أي بالذات إليه ، فوصفه بالغنى وصف لازم له ، ووصف الخلق
بالفقر وصف لازم لهم لا ينفكون عنه.
وقوله تعالى : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا) أي عن طاعته واتباع شرعه (يَسْتَبْدِلْ قَوْماً
غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) أي ولكن يكونون سامعين مطيعين له ولأوامره. وقال ابن أبي
حاتم وابن جرير : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني مسلم
بن خالد عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : إن رسول
الله صلىاللهعليهوسلم تلا هذه الآية (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا
يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) قالوا : يا رسول الله من هؤلاء الذين إن تولينا
__________________
استبدل بنا ثم لا
يكونوا أمثالنا؟ قال : فضرب بيده على كتف سلمان الفارسي رضي الله عنه ثم قال «هذا
وقومه ولو كان الدين عند الثريا لتناوله رجال من الفرس» تفرد به مسلم بن خالد
الزنجي ، ورواه عنه غير واحد ، وقد تكلم فيه بعض الأئمة رحمة الله عليهم ، والله
أعلم.
آخر تفسير سورة
القتال ولله الحمد والمنة.
تفسير سورة الفتح
وهي مدنية
قال الإمام أحمد حدثنا وكيع حدثنا شعبة عن معاوية بن قرة قال سمعت عبد الله
بن مغفل يقول قرأ رسول الله صلىاللهعليهوسلم عام الفتح في مسيره سورة الفتح على راحلته فرجّع فيها قال معاوية لولا أني أكره أن يجتمع الناس علينا لحكيت
لكم قراءته ، أخرجاه من حديث شعبة به.
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(إِنَّا فَتَحْنا لَكَ
فَتْحاً مُبِيناً (١) لِيَغْفِرَ لَكَ
اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ
وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢) وَيَنْصُرَكَ اللهُ
نَصْراً عَزِيزاً)
(٣)
نزلت هذه السورة
الكريمة لما رجع رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، من الحديبية في ذي القعدة من سنة ست من الهجرة ، حين صده
المشركون عن الوصول إلى المسجد الحرام فيقضي عمرته فيه ، وحالوا بينه وبين ذلك ثم
مالوا إلى المصالحة والمهادنة ، وأن يرجع عامه هذا ثم يأتي من قابل ، فأجابهم إلى
ذلك على تكره من جماعة من الصحابة ، منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما سيأتي
تفصيله في موضعه من تفسير هذه السورة إن شاء الله تعالى ، فلما نحر هديه حيث أحصر
ورجع أنزل الله عزوجل هذه السورة فيما كان من أمره وأمرهم ، وجعل ذلك الصلح فتحا
باعتبار ما فيه من المصلحة وما آل الأمر إليه ، كما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه
وغيره أنه قال : إنكم تعدون الفتح فتح مكة ونحن نعد الفتح صلح الحديبية ، وقال
الأعمش عن أبي سفيان عن جابر رضي الله عنه قال : ما كنا نعد الفتح إلا يوم
الحديبية .
وقال البخاري : حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن
البراء رضي الله عنه قال : تعدون أنتم الفتح فتح مكة وقد كان فتح مكة فتحا ، ونحن
نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية ، كنا مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم أربع عشرة مائة. والحديبية بئر فنزحناها فلم نترك فيها
قطرة ، فبلغ ذلك رسول الله صلىاللهعليهوسلم فأتانا فجلس على شفيرها ثم دعا بإناء من ماء فتوضأ ثم
__________________
تمضمض ودعا ثم صبه
فيها فتركناها غير بعيد ، ثم إنها أصدرتنا ما شئنا نحن وركائبنا.
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو نوح ، حدثنا مالك بن أنس عن زيد بن أسلم عن
أبيه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : كنا مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم في سفر قال : فسألته عن شيء ثلاث مرات فلم يرد عليّ ، قال
فقلت في نفسي : ثكلتك أمك يا ابن الخطاب ألححت رسول اللهصلىاللهعليهوسلم ثلاث مرات فلم يرد عليك؟ قال : فركبت راحلتي فحركت بعيري
فتقدمت مخافة أن يكون نزل فيّ شيء ، قال : فإذا أنا بمناد ينادي يا عمر ، أين عمر
قال : فرجعت وأنا أظن أنه نزل فيّ شيء قال : فقال النبي صلىاللهعليهوسلم «نزل علي البارحة
سورة هي أحب إلي من الدنيا وما فيها (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ
فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما
تَأَخَّرَ) ورواه البخاري والترمذي والنسائي من طرق عن مالك رحمهالله ، وقال علي بن المديني هذا إسناد مدني جيد لم نجده إلا
عندهم.
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر عن قتادة عن أنس بن مالك
رضي الله عنه قال : نزلت على النبي صلىاللهعليهوسلم (لِيَغْفِرَ لَكَ
اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) مرجعه من الحديبية. قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «لقد أنزلت علي الليلة آية أحب إلي مما على الأرض» ثم
قرأها عليهم النبي صلىاللهعليهوسلم فقالوا : هنيئا مريئا يا نبي الله لقد بين الله عزوجل ما يفعل بك فماذا يفعل بنا؟ فنزلت عليه صلىاللهعليهوسلم (لِيُدْخِلَ
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) ـ حتى بلغ ـ (فَوْزاً عَظِيماً) أخرجاه في الصحيحين من رواية قتادة به.
وقال الإمام أحمد : حدثنا إسحاق بن عيسى ، حدثنا مجمع بن يعقوب قال : سمعت
أبي يحدث عن عمه عبد الرحمن بن يزيد الأنصاري ، عن عمه مجمع بن حارثة الأنصاري رضي
الله عنه ، وكان أحد القراء الذين قرءوا القرآن قال : شهدنا الحديبية فلما انصرفنا
عنها إذا الناس ينفرون الأباعر فقال الناس بعضهم لبعض : ما للناس؟ قالوا : أوحي
إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فخرجنا مع الناس نوجف فإذا رسول الله صلىاللهعليهوسلم على راحلته عند كراع الغميم ، فاجتمع الناس عليه فقرأ
عليهم (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ
فَتْحاً مُبِيناً) قال : فقال : رجل من أصحاب رسول اللهصلىاللهعليهوسلم أي رسول الله أو فتح هو؟ قال صلىاللهعليهوسلم : «إي والذي نفس محمد بيده إنه لفتح» فقسمت خيبر على أهل
الحديبية لم يدخل معهم فيها أحد إلا من شهد الحديبية فقسمها رسول اللهصلىاللهعليهوسلم ثمانية عشر سهما. وكان الجيش ألفا وخمسمائة منهم ثلاثمائة
فارس أعطي الفارس سهمين وأعطي الراجل
__________________
سهما ورواه أبو
داود في الجهاد عن محمد بن عيسى عن مجمع بن يعقوب به.
وقال ابن جرير حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع ، حدثنا أبو بحر ، حدثنا
شعبة ، حدثنا جامع بن شداد عن عبد الرحمن بن أبي علقمة قال : سمعت عبد الله بن
مسعود رضي الله عنه يقول : لما أقبلنا من الحديبية أعرسنا فنمنا فلم نستيقظ إلا
والشمس قد طلعت ، فاستيقظنا ورسول الله صلىاللهعليهوسلم نائم قال : فقلنا أيقظوه فاستيقظ رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : «افعلوا ما كنتم تفعلون وكذلك يفعل من نام أو نسي»
قال : وفقدنا ناقة رسول الله صلىاللهعليهوسلم فطلبناها فوجدناها قد تعلق خطامها بشجرة ، فأتيته بها فركبها فبينا نحن نسير إذ أتاه الوحي
قال : وكان إذا أتاه الوحي اشتد عليه ، فلما سرى عنه أخبرنا أنه أنزل عليه (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) وقد رواه أحمد وأبو داود والنسائي من غير وجه عن جامع بن
شداد به.
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان عن زياد بن علاقة قال :
سمعت المغيرة بن شعبة يقول : كان النبي صلىاللهعليهوسلم يصلي حتى ترم قدماه فقيل له أليس قد غفر الله لك ما تقدم
من ذنبك وما تأخر؟ فقال صلىاللهعليهوسلم «أفلا أكون عبدا
شكورا؟» أخرجاه وبقية الجماعة إلا أبا داود من حديث زياد به.
وقال الإمام أحمد : حدثنا هارون بن معروف ، حدثنا ابن وهب ، حدثني أبو صخر
عن ابن قسيط عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم إذا صلى قام حتى تتفطر رجلاه ، فقالت له عائشة رضي الله
عنها : يا رسول الله صلىاللهعليهوسلم أتصنع هذا وقد غفر الله لك ما تقدم لك من ذنبك وما تأخر؟
فقال صلىاللهعليهوسلم : «يا عائشة أفلا أكون عبدا شكورا». أخرجه مسلم في الصحيح من رواية عبد الله بن وهب به.
وقال ابن أبي حاتم
حدثنا علي بن الحسين حدثنا عبد الله بن عون الخراز وكان ثقة بمكة حدثنا محمد بن
بشر حدثنا مسعر عن قتادة عن أنس قال قام رسول الله صلىاللهعليهوسلم حتى تورمت قدماه ـ أو قال ساقاه ـ فقيل له أليس قد غفر
الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال : «أفلا أكون
__________________
عبدا شكورا» غريب
من هذا الوجه فقوله : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ
فَتْحاً مُبِيناً) أي بينا ظاهرا والمراد به صلح الحديبية ، فإنه حصل بسببه
خير جزيل ، وآمن الناس واجتمع بعضهم ببعض ، وتكلم المؤمن مع الكافر وانتشر العلم
النافع والإيمان.
وقوله تعالى : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ
مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) هذا من خصائصه صلوات الله وسلامه عليه التي لا يشاركه فيها
غيره ، وليس في حديث صحيح في ثواب الأعمال لغيره غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر
، وهذا فيه تشريف عظيم لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وهو صلوات الله وسلامه عليه في جميع أموره على الطاعة
والبر والاستقامة التي لم ينلها بشر سواه لا من الأولين ولا من الآخرين ، وهو أكمل
البشر على الإطلاق وسيدهم في الدنيا والآخرة ، ولما كان أطوع خلق الله تعالى لله
وأشدهم تعظيما لأوامره ونواهيه قال حين بركت به الناقة : «حبسها حابس الفيل» ثم
قال صلىاللهعليهوسلم : «والذي نفسي بيده لا يسألوني اليوم شيئا يعظمون به حرمات
الله إلا أجبتهم إليها» فلما أطاع الله في ذلك وأجاب إلى الصلح قال الله تعالى له
: (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ
فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما
تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) أي في الدنيا والآخرة (وَيَهْدِيَكَ صِراطاً
مُسْتَقِيماً) أي بما يشرعه لك من الشرع العظيم والدين القويم (وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً) أي بسبب خضوعك لأمر الله عزوجل يرفعك الله وينصرك على أعدائك كما جاء في الحديث الصحيح «وما
زاد الله عبدا بعفو إلا عزا ، وما تواضع أحد لله عزوجل إلا رفعه الله تعالى» وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : ما عاقبت أي في
الدنيا والآخرة أحدا عصى الله تعالى فيك بمثل أن تطيع الله تبارك وتعالى فيه.
(هُوَ الَّذِي
أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ
إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً
حَكِيماً (٤) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها
وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً (٥)
وَيُعَذِّبَ
الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ
بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ
وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (٦)
وَلِلَّهِ
جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) (٧)
يقول تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ) أي جعل الطمأنينة ، قاله ابن عباس رضي الله عنهما وعنه :
الرحمة وقال قتادة : الوقار في قلوب المؤمنين ، وهم الصحابة رضي الله عنهم ، يوم
الحديبية الذين استجابوا لله ولرسوله وانقادوا لحكم الله ورسوله ، فلما اطمأنت
قلوبهم بذلك
__________________
واستقرت زادهم
إيمانا مع إيمانهم ، وقد استدل بها البخاري وغيره من الأئمة على تفاضل الإيمان في
القلوب ، ثم ذكر تعالى أنه لو شاء لانتصر من الكافرين فقال سبحانه وتعالى : (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) أي ولو أرسل عليهم ملكا واحدا لأباد خضراءهم ، ولكنه تعالى
شرع لعباده المؤمنين الجهاد والقتال ، لما له في ذلك من الحكمة البالغة والحجة
القاطعة والبراهين الدامغة ، ولهذا قال جلت عظمته : (وَكانَ اللهُ
عَلِيماً حَكِيماً).
ثم قال عزوجل : (لِيُدْخِلَ
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ
خالِدِينَ فِيها) قد تقدم حديث أنس رضي الله عنه حين قالوا : هنيئا لك يا
رسول الله ، هذا لك فما لنا؟ فأنزل الله تعالى : (لِيُدْخِلَ
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ
خالِدِينَ فِيها) أي ماكثين فيها أبدا (وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ
سَيِّئاتِهِمْ) أي خطاياهم وذنوبهم فلا يعاقبهم عليها ، بل يعفو ويصفح
ويغفر ويستر ويرحم ويشكر (وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ
اللهِ فَوْزاً عَظِيماً) كقوله جل وعلا : (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ
النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا
مَتاعُ الْغُرُورِ) [آل عمران : ١٨٥]
الآية.
وقوله تعالى : (وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ
وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ
السَّوْءِ) أي يتهمون الله تعالى في حكمه ويظنون بالرسول صلىاللهعليهوسلم وأصحابه رضي الله عنهم أن يقتلوا ويذهبوا بالكلية ، ولهذا
قال تعالى : (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ
السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ) أي أبعدهم من رحمته (وَأَعَدَّ لَهُمْ
جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) ثم قال عزوجل مؤكدا لقدرته على الانتقام من الأعداء أعداء الإسلام ومن
الكفرة والمنافقين (وَلِلَّهِ جُنُودُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً).
(إِنَّا أَرْسَلْناكَ
شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٨)
لِتُؤْمِنُوا
بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً
وَأَصِيلاً (٩) إِنَّ الَّذِينَ
يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ
نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ
اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً)
(١٠)
يقول تعالى لنبيه
محمد صلىاللهعليهوسلم : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ
شاهِداً) أي على الخلق (وَمُبَشِّراً) أي للمؤمنين (وَنَذِيراً) أي للكافرين وقد تقدم تفسيرها في سورة الأحزاب. (لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ
وَتُعَزِّرُوهُ) قال ابن عباس رضي الله عنهما وغير واحد : تعظموه (وَتُوَقِّرُوهُ) من التوقير وهو الاحترام والإجلال والإعظام (وَتُسَبِّحُوهُ) أي تسبحون الله (بُكْرَةً وَأَصِيلاً) أي أول النهار وآخره.
ثم قال عزوجل لرسوله صلىاللهعليهوسلم تشريفا له وتعظيما وتكريما : (إِنَّ الَّذِينَ
يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) كقوله جل وعلا : (مَنْ يُطِعِ
الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) [النساء : ٨٠] (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) أي هو حاضر معهم يسمع أقوالهم ويرى مكانهم ويعلم ضمائرهم
وظواهرهم فهو
تعالى هو المبايع
بواسطة رسوله الله صلىاللهعليهوسلم كقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ
يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ
حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ
مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ
الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة : ١١١].
وقد قال ابن أبي
حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا الفضل بن يحيى الأنباري : حدثنا علي بن بكار
عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم : «من سل سيفه في سبيل الله فقد بايع الله» وحدثنا أبي ،
حدثنا يحيى بن المغيرة ، أخبرنا جرير عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن سعيد بن
جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم في الحجر «والله ليبعثه الله عزوجل يوم القيامة له عينان ينظر بهما ولسان ينطق به ويشهد على
من استلمه بالحق فمن استلمه فقد بايع الله تعالى» ثم قرأ رسول الله صلىاللهعليهوسلم (إِنَّ الَّذِينَ
يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) ولهذا قال تعالى هاهنا : (فَمَنْ نَكَثَ
فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ) أي إنما يعود وبال ذلك على الناكث والله غني عنه (وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ
اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) أي ثوابا جزيلا. وهذه البيعة هي بيعة الرضوان وكانت تحت
شجرة سمر بالحديبية ، وكان الصحابة رضي الله عنهم الذين بايعوا رسول
الله صلىاللهعليهوسلم يومئذ قيل ألفا وثلاثمائة ، وقيل وأربعمائة ، وقيل
وخمسمائة ، والأوسط أصح.
ذكر الأحاديث الواردة في ذلك
قال البخاري : حدثنا قتيبة ، حدثنا سفيان عن عمرو عن جابر رضي الله عنه
قال : كنا يوم الحديبية ألفا وأربعمائة ورواه مسلم من حديث سفيان بن عيينة به ، وأخرجاه أيضا من حديث الأعمش
عن سالم بن أبي الجعد عن جابر رضي الله عنه قال : كنا يومئذ ألفا وأربعمائة ، ووضع
يده في ذلك الماء فجعل الماء ينبع من بين أصابعه حتى رووا كلهم ، وهذا مختصر من سياق آخر حين ذكر قصة عطشهم يوم الحديبية
، وأن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أعطاهم سهما من كنانته فوضعوه في بئر الحديبية ، فجاشت بالماء حتى كفتهم فقيل لجابر رضي الله عنه : كم كنتم يومئذ؟
قال : كنا ألفا وأربعمائة ولو كنا مائة ألف لكفانا ، وفي رواية في الصحيحين عن
__________________
جابر رضي الله عنه
أنهم كانوا خمس عشرة مائة .
وروى البخاري من
حديث قتادة قلت لسعيد بن المسيب : كم كان الذين شهدوا بيعة الرضوان؟ قال : خمس
عشرة مائة ، قلت فإن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال كانوا أربع عشرة مائة
قال رحمهالله : وهم ، هو حدثني أنهم كانوا خمس عشرة مائة ، قال البيهقي
: هذه الرواية تدل على أنه كان في القديم يقول خمس عشرة مائة ثم ذكر الوهم فقال
أربع عشرة مائة ، وروى العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنهم كانوا ألفا
وخمسمائة وخمسة وعشرين ، والمشهور الذي رواه غير واحد عنه أربع عشرة مائة ، وهذا
هو الذي رواه البيهقي عن الحاكم عن الأصم عن العباس الدوري عن يحيى بن معين عن
شبابة بن سوار عن شعبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال : كنا مع رسول الله
صلىاللهعليهوسلم تحت الشجرة ألفا وأربعمائة ، وكذلك هو الذي في رواية سلمة
بن الأكوع ومعقل بن يسار والبراء بن عازب رضي الله عنهم ، وبه يقول غير واحد من
أصحاب المغازي والسير ، وقد أخرج صاحبا الصحيح من حديث شعبة عن عمرو بن مرة قال :
سمعت عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه يقول : كان أصحاب الشجرة ألفا وأربعمائة
وكانت أسلم يومئذ ثمن المهاجرين.
وروى محمد بن
إسحاق في السيرة عن الزهري عن عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم
أنهما حدثاه قالا : خرج رسول الله صلىاللهعليهوسلم عام الحديبية يريد زيارة البيت لا يريد قتالا ، وساق معه
الهدي سبعين بدنة ، وكان الناس سبعمائة رجل كل بدنة عن عشرة نفر ، وكان جابر بن
عبد الله رضي الله عنهما فيما بلغني عنه يقول : كنا أصحاب الحديبية أربع عشرة مائة
، كذا قال ابن إسحاق وهو معدود من أوهامه فإن المحفوظ في الصحيحين أنهم كانوا
بضع عشرة مائة ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
ذكر سبب هذه البيعة العظيمة
قال محمد بن إسحاق
بن يسار في السيرة : ثم دعا رسول الله صلىاللهعليهوسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليبعثه إلى مكة ، ليبلغ عنه أشراف
قريش ما جاء له فقال : يا رسول الله إني أخاف قريشا على نفسي وليس بمكة من بني عدي
بن كعب من يمنعني ، وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظي عليها ، ولكني أدلك على رجل
أعز بها مني عثمان بن عفان رضي الله عنه ، فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم
أنه لم يأت لحرب ، وأنه إنما جاء زائرا لهذا البيت ومعظما لحرمته. فخرج عثمان رضي
الله عنه إلى مكة ، فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين
__________________
دخل مكة أو قبل أن
يدخلها ، فحمله بين يديه ثم أجاره حتى بلغ رسالة رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فانطلق عثمان رضي الله عنه حتى أتى أبا سفيان وعظماء
قريش ، فبلغهم عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ما أرسله به ، فقالوا لعثمان رضي الله عنه حين فرغ من
رسالة رسول الله صلىاللهعليهوسلم إليهم : إن شئت أن تطوف بالبيت فطف. فقال : ما كنت لأفعل
حتى يطوف به رسول الله صلىاللهعليهوسلم. واحتبسته قريش عندها ، فبلغ رسول الله صلىاللهعليهوسلم والمسلمين أن عثمان رضي الله عنه قد قتل ، قال ابن إسحاق :
فحدثني عبد الله بن أبي بكر أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال حين بلغه أن عثمان قد قتل : «لا نبرح حتى نناجز القوم».
ودعا رسول الله
الناس إلى البيعة ، فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة ، فكان الناس يقولون : بايعهم
رسول الله صلىاللهعليهوسلم على الموت ، وكان جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول :
إن رسول الله صلىاللهعليهوسلم لم يبايعهم على الموت ولكن بايعنا على أن لا نفر ، فبايع
الناس ولم يتخلف أحد من المسلمين حضرها إلا الجد بن قيس أخو بني سلمة ، فكان جابر
رضي الله عنه يقول : والله لكأني أنظر إليه لاصقا بإبط ناقته قد ضبأ إليها يستتر بها من الناس ، ثم أتى رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن الذي كان من أمر عثمان رضي الله عنه باطل .
وذكر ابن لهيعة عن
أبي الأسود عن عروة بن الزبير رضي الله عنهما قريبا من هذا السياق ، وزاد في سياقه
أن قريشا بعثوا وعندهم عثمان رضي الله عنه ، سهيل بن عمرو ، وحويطب بن عبد العزى ،
ومكرز بن حفص إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فبينما هم عندهم إذ وقع كلام بين بعض المسلمين وبعض
المشركين ، وتراموا بالنبل والحجارة وصاح الفريقان كلاهما ، وارتهن كل من الفريقين
من عنده من الرسل ، ونادى منادي رسول الله صلىاللهعليهوسلم : ألا إن روح القدس قد نزل على رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأمر بالبيعة ، فأخرجوا على اسم الله تعالى فبايعوا ، فسار
المسلمون إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو تحت الشجرة فبايعوه على أن لا يفروا أبدا. فأرعب ذلك
المشركين وأرسلوا من كان عندهم من المسلمين ، ودعوا إلى الموادعة والصلح.
وقال الحافظ أبو
بكر البيهقي : أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان ، أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار ، حدثنا
تمتام ، حدثنا الحسن بن بشر ، حدثنا الحكم بن عبد الملك عن قتادة عن أنس بن مالك
رضي الله عنه عنه قال : لما أمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم ببيعة الرضوان كان عثمان بن عفان رضي الله عنه رسول رسول
الله صلىاللهعليهوسلم إلى أهل مكة ، فبايع الناس فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «اللهم إن عثمان في حاجة الله تعالى وحاجة رسوله» فضرب
بإحدى يديه على الأخرى ، فكانت يد رسول الله صلىاللهعليهوسلم لعثمان رضي الله عنه خيرا من أيديهم لأنفسهم. قال ابن هشام
وحدثني من أثق به
__________________
عمن حدثه بإسناد
له عن ابن مليكة عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : بايع رسول اللهصلىاللهعليهوسلم لعثمان رضي الله عنه ، فضرب بإحدى يديه على الأخرى ، وقال
عبد الملك بن هشام النحوي : فذكر وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي قال :
إن أول من بايع رسول اللهصلىاللهعليهوسلم بيعة الرضوان أبو سنان الأسدي ، وقال أبو بكر عبد الله بن الزبير الحميدي : حدثنا سفيان
، حدثنا ابن أبي خالد عن الشعبي قال : لما دعا رسول الله صلىاللهعليهوسلم الناس إلى البيعة كان أول من انتهى إليه أبو سنان الأسدي
فقال : ابسط يدك أبايعك. فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «علام تبايعني؟ فقال أبو سنان رضي الله عنه : على ما في
نفسك ، هذا أبو سنان وهب الأسدي رضي الله عنه.
وقال البخاري : حدثنا شجاع بن الوليد أنه سمع النضر بن محمد يقول :
حدثنا صخر عن نافع رضي الله عنه قال : إن الناس يتحدثون أن ابن عمر رضي الله عنهما
أسلم قبل عمر وليس كذلك ، ولكن عمر رضي الله عنه يوم الحديبية أرسل عبد الله إلى
فرس له عند رجل من الأنصار ، أن يأتي به ، ليقاتل عليه ورسول الله صلىاللهعليهوسلم يبايع عند الشجرة ، وعمر رضي الله عنه لا يدري بذلك ،
فبايعه عبد الله رضي الله عنه ، ثم ذهب إلى الفرس فجاء به إلى عمر رضي الله عنه ،
وعمر رضي الله عنه يستلئم للقتال ، فأخبره أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم يبايع تحت الشجرة ، فانطلق فذهب معه حتى بايع رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهي التي يتحدث الناس أن ابن عمر أسلم قبل عمر رضي الله
عنهما. ثم قال البخاري ، وقال هشام بن عمار : حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا عمر بن
محمد العمري ، أخبرني نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : إن الناس كانوا مع
رسول اللهصلىاللهعليهوسلم يوم الحديبية قد تفرقوا في ظلال الشجر ، فإذا الناس محدقون
بالنبي صلىاللهعليهوسلم فقال يعني عمر رضي الله عنه : يا عبد الله انظر ما شأن
الناس قد أحدقوا برسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فوجدهم يبايعون فبايع ، ثم رجع إلى عمر رضي الله عنه ،
فخرج فبايع.
وقد أسنده البيهقي
عن أبي عمرو الأديب عن أبي بكر الإسماعيلي عن الحسن بن سفيان ، عن دحيم ، حدثني
الوليد بن مسلم فذكره ، وقال الليث عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه ، قال :
كنا يوم الحديبية ألفا وأربعمائة فبايعناه ، وعمر رضي الله عنه آخذ بيده تحت
الشجرة وهي سمرة وقال : بايعناه على أن لا نفر ولم نبايعه على الموت. رواه مسلم عن قتيبة عنه.
وروى مسلم عن يحيى بن يحيى عن يزيد بن زريع عن خالد عن الحكم بن عبد
الله الأعرج ، عن معقل بن يسار رضي الله عنه قال : لقد رأيتني يوم الشجرة والنبي صلىاللهعليهوسلم يبايع الناس ،
__________________
وأنا رافع غصنا من
أغصانها عن رأسه ، ونحن أربع عشرة مائة ، قال : ولم نبايعه على الموت ولكن بايعناه
على أن لا نفر. وقال البخاري : حدثنا المكي بن إبراهيم عن يزيد بن أبي عبيد عن سلمة بن
الأكوع رضي الله عنه قال : بايعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم تحت الشجرة. قال يزيد : قلت يا أبا مسلمة على أي شيء كنتم
تبايعون يومئذ؟ قال : على الموت.
وقال البخاري أيضا : حدثنا أبو عاصم! حدثنا يزيد بن أبي عبيد عن سلمة
رضي الله عنه قال : بايعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يوم الحديبية ، ثم تنحيت فقال صلىاللهعليهوسلم : «يا سلمة ألا تبايع؟» قلت : قد بايعت ، قال صلىاللهعليهوسلم : «أقبل فبايع». فدنوت فبايعته ، قلت : علام بايعته يا
سلمة؟ قال : على الموت. وأخرجه مسلم من وجه آخر عن يزيد بن أبي عبيد ، وكذا روى البخاري عن
عباد بن تميم أنهم بايعوه على الموت.
وقال البيهقي :
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، أخبرنا أبو الفضل بن إبراهيم ، حدثنا أحمد بن سلمة ،
حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا أبو عامر العقدي ، حدثنا عبد الملك بن عمرو ،
حدثنا عكرمة بن عمار اليمامي عن إياس بن سلمة عن أبيه سلمة بن الأكوع رضي الله عنه
قال : قدمنا الحديبية مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم ونحن أربع عشرة مائة ، وعليها خمسون شاة لا ترويها ، فقعد
رسول الله صلىاللهعليهوسلم على جباها يعني الركي ، فإما دعا وإما بصق فيها فجاشت فسقينا واستقينا. قال : ثم
إن رسول الله صلىاللهعليهوسلم دعا إلى البيعة في أصل الشجرة ، فبايعته أول الناس ثم بايع
وبايع حتى إذا كان في وسط الناس قال صلىاللهعليهوسلم : «بايعني يا سلمة قال : فقلت يا رسول الله : قد بايعتك في
أول الناس قال صلىاللهعليهوسلم : «وأيضا» قال ورآني رسول الله صلىاللهعليهوسلم : عزلا فأعطاني حجفة أو درقة ، ثم بايع حتى إذا كان في آخر الناس ، قال صلىاللهعليهوسلم : «ألا تبايع يا سلمة؟» قال : قلت يا رسول الله قد بايعتك
في أول الناس وأوسطهم ، قال صلىاللهعليهوسلم : «وأيضا» فبايعته الثالثة ، فقال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم : «يا سلمة أين حجفتك أو درقتك التي أعطيتك؟» قال : قلت يا
رسول الله لقيني عامر عزلا فأعطيتها إياه فضحك رسول الله صلىاللهعليهوسلم ثم قال : «إنك كالذي قال الأول اللهم ابغني حبيبا هو أحب
إلي من نفسي».
قال : ثم إن
المشركين من أهل مكة راسلونا في الصلح حتى مشى بعضنا في بعض فاصطلحنا. قال : وكنت
خادما لطلحة بن عبيد الله رضي الله عنه أسقي فرسه وأحسّه وآكل من
__________________
طعامه ، وتركت
أهلي ومالي مهاجرا إلى الله ورسوله ، فلما اصطلحنا نحن وأهل مكة واختلط بعضنا ببعض
أتيت شجرة فكسحت شوكها ، ثم اضطجعت في أصلها في ظلها ، فأتاني أربعة من مشركي أهل
مكة ، فجعلوا يقعون في رسول الله صلىاللهعليهوسلم فأبغضتهم وتحولت إلى شجرة أخرى فعلقوا سلاحهم واضطجعوا ،
فبينما هم كذلك إذ نادى مناد من أسفل الوادي : يا للمهاجرين قتل ابن زنيم! فاخترطت
سيفي فشددت على أولئك الأربعة ، وهم رقود ، فأخذت سلاحهم وجعلته ضغثا في يدي ثم
قلت : والذي كرم وجه محمد صلىاللهعليهوسلم لا يرفع أحد منكم رأسه إلا ضربت الذي فيه عيناه! قال : ثم
جئت بهم أسوقهم إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : وجاء عمي عامر برجل من العبلات يقال له مركز من
المشركين يقوده حتى وقفنا بهم على رسول الله صلىاللهعليهوسلم في سبعين من المشركين ، فنظر إليهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم وقال : «دعوهم يكن لهم بدء الفجور وثناه» فعفا عنهم رسول
الله صلىاللهعليهوسلم وأنزل الله عزوجل : (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ
أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ
أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) الآية ، وهكذا رواه مسلم عن إسحاق بن إبراهيم بن راهويه بسنده نحوه أو قريبا منه.
وثبت في الصحيحين
من حديث أبي عوانة عن طارق عن سعيد بن المسيب قال : كان أبي ممن بايع رسول الله صلىاللهعليهوسلم تحت الشجرة ، قال : فانطلقنا من قابل حاجين فخفي علينا
مكانها ، فإن كان تبينت لكم فأنتم أعلم ، وقال أبو بكر الحميدي : حدثنا سفيان ،
حدثنا أبو الزبير ، حدثنا جابر رضي الله عنه قال ، لما دعا رسول الله صلىاللهعليهوسلم الناس إلى البيعة وجدنا رجلا منا يقال له الجد بن قيس
مختبئا تحت إبط بعيره ، رواه مسلم من حديث ابن جريج عن ابن الزبير به. وقال الحميدي أيضا :
حدثنا سفيان عن عمرو أنه سمع جابرا رضي الله عنه قال : كنا يوم الحديبية ألفا
وأربعمائة فقال لنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أنتم خير أهل الأرض اليوم» قال جابر رضي الله عنه : لو كنت أبصر لأريتكم موضع الشجرة
، قال سفيان إنهم اختلفوا في موضعها أخرجاه من حديث سفيان ، وقال الإمام أحمد : حدثنا يونس حدثنا الليث عن أبي الزبير عن جابر رضي الله
عنه عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة».
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا محمد بن هارون الفلاس المخرمي ، حدثنا سعيد بن عمرو الأشعثي حدثنا محمد بن
ثابت العبدي عن خداش بن عياش عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول
الله صلىاللهعليهوسلم : «يدخل من بايع تحت الشجرة كلهم الجنة إلا صاحب الجمل
الأحمر» قال : فانطلقنا نبتدره فإذا رجل قد أضل بعيره فقلنا تعال فبايع. فقال :
أصيب بعيري
__________________
أحب إلي من أن
أبايع وقال عبد الله بن أحمد : حدثنا عبيد الله بن معاذ ، حدثنا أبي ، حدثنا قرة
عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «من يصعد الثنية ثنية المرار فإنه يحط عنه ما حط عن بني إسرائيل» فكان أول من صعد خيل
بني الخزرج ثم تبادر الناس بعد ، فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «كلكم مغفور له إلا صاحب الجمل الأحمر» فقلنا : تعال
يستغفر لك رسول الله صلىاللهعليهوسلم. فقال : والله لأن أجد ضالتي أحب إلي من أن يستغفر لي
صاحبكم ، فإذا هو رجل ينشد ضالة ، رواه مسلم عن عبيد الله به.
وقال ابن جريج :
أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابرا رضي الله عنه يقول : أخبرتني أم مبشر أنها سمعت
رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول عند حفصة رضي الله عنها : «لا يدخل النار إن شاء الله
تعالى من أصحاب الشجرة الذين بايعوا تحتها أحد» قالت : بلى يا رسول الله ،
فانتهرها فقالت لحفصة رضي الله عنها (وَإِنْ مِنْكُمْ
إِلَّا وارِدُها) [مريم : ٧١] فقال
النبي صلىاللهعليهوسلم : قد قال الله تعالى : (ثُمَّ نُنَجِّي
الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) [مريم : ٧٢] رواه
مسلم ، وفيه أيضا عن قتيبة عن الليث عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه قال : إن
عبدا لحاطب بن أبي بلتعة جاء يشكو حاطبا فقال : يا رسول الله ليدخلن حاطب النار
فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «كذبت لا يدخلها فإنه قد شهد بدرا والحديبية» ولهذا قال تعالى في الثناء عليهم : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما
يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما
يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ
أَجْراً عَظِيماً) كما قال عزوجل في الآية الأخرى : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ
عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي
قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) [الفتح : ١٨].
(سَيَقُولُ لَكَ
الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا
فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ
فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ
بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١١) بَلْ ظَنَنْتُمْ
أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ
ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (١٢)
وَمَنْ
لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (١٣)
وَلِلَّهِ
مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ
وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً)
(١٤)
يقول تعالى مخبرا
رسوله صلوات الله وسلامه عليه بما يعتذر به المخلفون من الأعراب الذين اختاروا
المقام في أهليهم وشغلهم وتركوا المسير مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم فاعتذروا بشغلهم لذلك وسألوا أن يستغفر لهم الرسول صلىاللهعليهوسلم وذلك قول منهم لا على سبيل الاعتقاد بل على وجه
__________________
التقية والمصانعة
، ولهذا قال تعالى : (يَقُولُونَ
بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ
اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً) أي لا يقدر أحد أن يرد ما أراده الله فيكم تعالى وتقدس ،
وهو العليم بسرائركم وضمائركم وإن صانعتمونا ونافقتمونا ، ولهذا قال تعالى : (بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ
خَبِيراً).
ثم قال تعالى : (بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ
الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً) أي لم يكن تخلفكم تخلف معذور ولا عاص بل تخلف نفاق (بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ
الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً) أي اعتقدتم أنهم يقتلون وتستأصل شأفتهم ، وتستباد خضراؤهم
ولا يرجع منهم مخبر (وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ
السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً) أي هلكى ، قاله ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وغير واحد
، وقال قتادة : فاسدين ، وقيل هي بلغة عمان. ثم قال تعالى : (وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ
وَرَسُولِهِ) أي من لم يخلص العمل في الظاهر والباطن لله فإن الله تعالى
سيعذبه في السعير ، وإن أظهر للناس ما يعتقدون خلاف ما هو عليه في نفس الأمر. ثم
بين تعالى أنه الحاكم المالك المتصرف في أهل السموات والأرض (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ
مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) أي لمن تاب إليه وأناب وخضع لديه.
(سَيَقُولُ
الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا
نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا
كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا
لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً)
(١٥)
يقول تعالى مخبرا
عن الأعراب الذين تخلفوا عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم في غزوة الحديبية ، إذ ذهب النبي صلىاللهعليهوسلم وأصحابه رضي الله عنهم إلى خيبر يفتتحونها أنهم يسألون أن
يخرجوا معهم إلى المغنم ، وقد تخلفوا عن وقت محاربة الأعداء ومجالدتهم ومصابرتهم ،
فأمر الله تعالى رسولهصلىاللهعليهوسلم أن لا يأذن لهم في ذلك معاقبة لهم من جنس ذنبهم فإن الله
تعالى قد وعد أهل الحديبية بمغانم خيبر وحدهم ، لا يشاركهم فيها غيرهم من الأعراب
المتخلفين ، فلا يقع غير ذلك شرعا ولا قدرا ولهذا قال تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ
اللهِ) قال مجاهد وقتادة وجويبر وهو الوعد الذي وعد به أهل
الحديبية واختاره ابن جرير .
وقال ابن زيد هو
قوله تعالى : (فَإِنْ رَجَعَكَ
اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ
تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ
بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ) [التوبة : ٨٣]
وهذا الذي قاله ابن زيد فيه نظر ، لأن هذه الآية التي في براءة نزلت في غزوة تبوك
وهي متأخرة عن غزوة الحديبية ، وقال ابن جريج (يُرِيدُونَ أَنْ
يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ) يعني بتثبيطهم
__________________
المسلمين عن
الجهاد (قُلْ لَنْ
تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ) أي وعد الله أهل الحديبية قبل سؤالكم الخروج معهم (فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا) أي أن نشرككم في المغانم (بَلْ كانُوا لا
يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلاً) أي ليس الأمر كما زعموا ولكن لا فهم لهم.
(قُلْ
لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ
شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ
أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ
يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦) لَيْسَ عَلَى
الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ
وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً) (١٧)
اختلف المفسرون في
هؤلاء القوم الذين يدعون إليهم الذين هم أولو بأس شديد على أقوال [أحدها] أنهم
هوازن ، رواه شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير أو عكرمة أو جميعا ، ورواه هشيم عن
أبي بشر عنهما وبه يقول قتادة في رواية عنه [الثاني] ثقيف ، قاله الضحاك. [الثالث]
بنو حنيفة ، قاله جويبر ورواه محمد بن إسحاق عن الزهري وروي مثله عن سعيد وعكرمة. [الرابع]
هم أهل فارس ، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وبه يقول عطاء
ومجاهد وعكرمة في إحدى الروايات عنه. وقال كعب الأحبار : هم الروم ، وعن ابن أبي
ليلى وعطاء والحسن وقتادة : وهم فارس والروم ، وعن مجاهد : هم أهل الأوثان ، وعنه
أيضا : هم رجال أولو بأس شديد ، ولم يعين فرقة ، وبه يقول ابن جريج وهو اختيار ابن
جرير. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الأشج ، حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق القواريري عن
معمر عن الزهري في قوله تعالى : (سَتُدْعَوْنَ إِلى
قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) قال : لم يأت أولئك بعد.
وحدثنا أبي ،
حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان عن ابن أبي خالد عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله
عنه في قوله تعالى : (سَتُدْعَوْنَ إِلى
قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) قال : هم البارزون قال وحدثنا سفيان عن الزهري عن سعيد بن
المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيصلىاللهعليهوسلم قال : «لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوما صغار الأعين ذلف
الآنف ، كأن وجوههم المجان المطرقة» قال سفيان : هم الترك ، قال ابن أبي عمر :
وجدت في مكان آخر ، حدثنا ابن أبي خالد عن أبيه قال : نزل علينا أبو هريرة رضي
الله عنه ففسر قول رسول اللهصلىاللهعليهوسلم : «تقاتلوا قوما نعالهم الشعر» قال : هم البارزون يعني
الأكراد ، وقوله تعالى : (تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ
يُسْلِمُونَ) يعني شرع لكم جهادهم وقتالهم ، فلا يزال ذلك مستمرا عليهم
، ولكم النصرة عليهم أو يسلمون فيدخلون في دينكم بلا قتال بل باختيار.
ثم قال عزوجل : (فَإِنْ تُطِيعُوا) أي تستجيبوا وتنفروا في الجهاد وتؤدوا الذي عليكم فيه (يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً
وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ) يعني زمن الحديبية حيث دعيتم فتخلفتم (يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً). ثم ذكر تعالى الأعذار في ترك الجهاد فمنها لازم كالعمى
والعرج المستمر ،
وعارض كالمرض الذي يطرأ أياما ثم يزول ، فهو في حال مرضه ملحق بذوي الأعذار
اللازمة حتى يبرأ. ثم قال تبارك وتعالى مرغبا في الجهاد وطاعة الله ورسوله : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ
يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَ) أي ينكل عن الجهاد ويقبل على المعاش (يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً) في الدنيا بالمذلة وفي الآخرة بالنار ، والله تعالى أعلم.
(لَقَدْ رَضِيَ اللهُ
عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي
قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (١٨) وَمَغانِمَ
كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً)
(١٩)
يخبر تعالى عن
رضاه عن المؤمنين الذين بايعوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم تحت الشجرة ، وقد تقدم ذكر عدتهم وأنهم كانوا ألفا
وأربعمائة ، وأن الشجرة كانت سمرة بأرض الحديبية ، قال البخاري : حدثنا محمود ، حدثنا عبيد الله عن إسرائيل عن طارق أن عبد
الرحمن رضي الله عنه قال : انطلقت حاجا فمررت بقوم يصلون فقلت : ما هذا المسجد؟
قالوا هذه الشجرة حيث بايع رسول اللهصلىاللهعليهوسلم بيعة الرضوان ، فأتيت سعيد بن المسيب فأخبرته فقال سعيد :
حدثني أبي أنه كان فيمن بايع رسول الله صلىاللهعليهوسلم تحت الشجرة ، قال : فلما خرجنا من العام المقبل نسيناها
فلم نقدر عليها ، فقال سعيد : إن أصحاب محمد صلىاللهعليهوسلم لم يعلموها وعلمتموها أنتم ، فأنتم أعلم.
وقوله تعالى : (فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ) أي من الصدق والوفاء والسمع والطاعة (فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ) وهي الطمأنينة (عَلَيْهِمْ
وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) وهو ما أجرى الله عزوجل على أيديهم من الصلح بينهم وبين أعدائهم ، وما حصل بذلك من
الخير العام المستمر المتصل بفتح خيبر وفتح مكة ، ثم فتح سائر البلاد والأقاليم
عليهم وما حصل لهم من العز والنصر والرفعة في الدنيا والآخرة ، ولهذا قال تعالى : (وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها
وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً).
قال ابن أبي حاتم
: حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القطان ، حدثنا عبيد الله بن موسى أخبرنا
موسى يعني ابن عبيدة ، حدثني إياس بن سلمة عن أبيه قال : بينما نحن قائلون إذ نادى
منادي رسول الله صلىاللهعليهوسلم : أيها الناس ، البيعة البيعة نزل روح القدس ، قال : فثرنا
إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو تحت شجرة سمرة فبايعناه ، فذلك قول الله تعالى : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ
الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) قال : فبايع رسول الله صلىاللهعليهوسلم لعثمان رضي الله عنه بإحدى يديه على الأخرى فقال الناس :
هنيئا لابن عفان يطوف بالبيت ونحن هاهنا فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لو مكث كذا وكذا سنة ما طاف حتى أطوف».
(وَعَدَكُمُ اللهُ
مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ
النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً
__________________
لِلْمُؤْمِنِينَ
وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢٠) وَأُخْرى لَمْ
تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيراً (٢١) وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا
لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً(٢٢) سُنَّةَ اللهِ
الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (٢٣)
وَهُوَ
الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ
مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً)
(٢٤)
قال مجاهد في قوله
تعالى : (وَعَدَكُمُ اللهُ
مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها) هي جميع المغانم إلى اليوم (فَعَجَّلَ لَكُمْ
هذِهِ) يعني فتح خيبر ، وروى العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما (فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ) يعني صلح الحديبية (وَكَفَّ أَيْدِيَ
النَّاسِ عَنْكُمْ) أي لم ينلكم سوء مما كان أعداؤكم أضمروه لكم من المحاربة
والقتال ، وكذلك كف أيدي الناس عنكم الذين خلفتموهم وراء ظهوركم عن عيالكم وحريمكم
(وَلِتَكُونَ آيَةً
لِلْمُؤْمِنِينَ) أي يعتبرون بذلك ، فأن الله تعالى حافظهم وناصرهم على سائر
الأعداء مع قلة عددهم ، وليعلموا بصنيع الله هذا بهم إنه العالم بعواقب الأمور ،
وإن الخيرة فيما يختاره لعباده المؤمنين وإن كرهوه في الظاهر كما قال عزوجل (وَعَسى أَنْ
تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) [البقرة : ٢١٦] (وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) أي بسبب انقيادكم لأمره واتباعكم طاعته ، وموافقتكم رسوله صلىاللهعليهوسلم.
وقوله تبارك
وتعالى : (وَأُخْرى لَمْ
تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيراً) أي وغنيمة أخرى وفتحا آخر معينا لم تكونوا تقدرون عليها ،
قد يسرها الله عليكم وأحاط بها لكم ، فإنه تعالى يرزق عباده المتقين له من حيث لا
يحتسبون ، وقد اختلف المفسرون في هذه الغنيمة ما المراد بها فقال العوفي عن ابن
عباس رضي الله عنهما هي خيبر ، وهذا على قوله عزوجل : (فَعَجَّلَ لَكُمْ
هذِهِ) إنها صلح الحديبية ، وقاله الضحاك وابن إسحاق وعبد الرحمن
بن زيد بن أسلم ، وقال قتادة : هي مكة واختاره ابن جرير ، وقال ابن أبي ليلى والحسن البصري : هي فارس والروم ،
وقال مجاهد : هي كل فتح وغنيمة إلى يوم القيامة. وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا
شعبة عن سماك الحنفي عن ابن عباس رضي الله عنهما (وَأُخْرى لَمْ
تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها) قال : هذه الفتوح التي تفتح إلى اليوم.
وقوله تعالى : (وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا
لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) يقول عزوجل مبشرا لعباده المؤمنين ، بأنه لو ناجزهم المشركون لنصر
الله رسوله وعباده المؤمنين عليهم ، ولا نهزم جيش الكفر فارا مدبرا لا يجدون وليا
ولا نصيرا ، لأنهم محاربون لله ولرسوله ولحزبه المؤمنين. ثم قال تبارك وتعالى : (سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ
قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) أي هذه سنة الله وعادته في خلقه ، ما تقابل الكفر والإيمان
في موطن إلا نصر الله
__________________
الإيمان على الكفر
فرفع الحق ووضع الباطل ، كما فعل تعالى يوم بدر بأوليائه المؤمنين نصرهم على
أعدائه من المشركين مع قلة عدد المسلمين وعددهم وكثرة المشركين وعددهم.
وقوله سبحانه
وتعالى : (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ
أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ
أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) هذا امتنان من الله على عباده المؤمنين حين كف أيدي
المشركين عنهم فلم يصل إليهم منهم سوء ، وكف أيدي المؤمنين عن المشركين فلم
يقاتلوهم عند المسجد الحرام ، بل صان كلا من الفريقين وأوجد بينهم صلحا فيه خير
للمؤمنين وعاقبة لهم في الدنيا والآخرة ، وقد تقدم في حديث سلمة بن الأكوع رضي
الله عنه حين جاءوا بأولئك السبعين الأسارى ، فأوقفوهم بين يدي رسول الله صلىاللهعليهوسلم فنظر إليهم فقال : «أرسلوهم يكن لهم بدء الفجور وثناه».
قال وفي ذلك أنزل الله عزوجل : (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ
أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ) الآية.
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا حماد عن ثابت عن أنس بن
مالك رضي الله عنه قال : لما كان يوم الحديبية هبط على رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأصحابه ثمانون رجلا من أهل مكة بالسلاح ، من قبل جبل
التنعيم ، يريدون غرة رسول الله صلىاللهعليهوسلم فدعا عليهم فأخذوا. قال عفان : فعفا عنهم ونزلت هذه الآية
: (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ
أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ
أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) ورواه مسلم وأبو داود في سننه والترمذي والنسائي في
التفسير من سننيهما من طرق عن حماد بن سلمة به.
وقال أحمد أيضا : حدثنا زيد بن الحباب ، حدثنا الحسين بن واقد ،
حدثنا ثابت البناني عن عبد الله بن مغفل المزني رضي الله عنه قال : كنا مع رسول
الله صلىاللهعليهوسلم في أصل الشجرة التي قال الله تعالى في القرآن ، وكان يقع
من أغصان تلك الشجرة على ظهر رسول الله صلىاللهعليهوسلم وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه. وسهيل بن عمرو بين يديه
فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم لعلي رضي الله عنه : «اكتب بسم الله الرحمن الرحيم» فأخذ
سهيل بيده وقال : ما نعرف الرحمن الرحيم ، اكتب في قضيتنا ما نعرف فقال : «اكتب
باسمك اللهم ـ وكتب ـ هذا ما صالح عليه محمد رسول الله أهل مكة» فأمسك سهيل بن
عمرو بيده وقال : لقد ظلمناك إن كنت رسوله اكتب في قضيتنا ما نعرف فقال اكتب هذا
ما صالح عليه محمد بن عبد الله «فبينا نحن كذلك إذ خرج علينا ثلاثون شابا عليهم
السلاح ، فثاروا في وجوهنا فدعا عليهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فأخذ الله تعالى بأسماعهم فقمنا إليهم فأخذناهم فقال
رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «هل جئتم في عهد أحد؟ أو هل جعل لكم أحدا أمانا؟»
__________________
فقالوا : لا ،
فخلى سبيلهم فأنزل الله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ
أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ
أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) الآية رواه النسائي من حديث حسين بن واقد به.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا يعقوب القمي ، حدثنا جعفر عن ابن
أبزى قال : لما خرج النبي صلىاللهعليهوسلم بالهدي وانتهى إلى ذي الحليفة قال له عمر رضي الله عنه :
يا نبي الله ، تدخل على قوم لك حرب بغير سلاح ولا كراع؟ قال : فبعث صلىاللهعليهوسلم إلى المدينة فلم يدع فيها كراعا ولا سلاحا إلا حمله ، فلما
دنا من مكة منعوه أن يدخل فسار حتى أتى منى ، فنزل بمنى فأتاه عينه أن عكرمة بن
أبي جهل قد خرج عليك في خمسمائة ، فقال لخالد بن الوليد رضي الله عنه : «يا خالد
هذا ابن عمك قد أتاك في الخيل» فقال خالد رضي الله عنه : أنا سيف الله وسيف رسوله
، فيومئذ سمي سيف الله ، فقال : يا رسول الله ابعثني أين شئت ، فبعثه على خيل فلقي
عكرمة في الشعب فهزمه حتى أدخله حيطان مكة ، ثم عاد في الثانية فهزمه حتى أدخله
حيطان مكة ، ثم عاد في الثالثة فهزمه حتى أدخله حيطان مكة ، فأنزل الله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ
عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ) ـ إلى قوله تعالى ـ (عَذاباً أَلِيماً) قال فكف الله عزوجل النبي صلىاللهعليهوسلم عنهم من بعد أن أظفره عليهم لبقايا من المسلمين كانوا بقوا
فيها كراهية أن تطأهم الخيل.
ورواه ابن أبي
حاتم عن ابن أبزى بنحوه ، وهذا السياق فيه نظر فإنه لا يجوز أن يكون عام الحديبية
، لأن خالدا رضي الله عنه لم يكن أسلم بل قد كان طليعة المشركين يومئذ ، كما ثبت
في الصحيح ، ولا يجوز أن يكون في عمرة القضاء لأنهم قاضوه على أن يأتي في العام
المقبل فيعتمر ، ويقيم بمكة ثلاثة أيام ، ولما قدم صلىاللهعليهوسلم لم يمانعوه ولا حاربوه ولا قاتلوه.
فإذا قيل : فيكون
يوم الفتح؟ فالجواب : ولا يجوز أن يكون يوم الفتح لأنه لم يسق عام الفتح هديا ،
وإنما جاء محاربا مقاتلا في جيش عرمرم ، فهذا السياق فيه خلل وقد وقع فيه شيء
فليتأمل والله أعلم.
وقال ابن إسحاق :
حدثني من لا أتهم عن عكرمة مولى ابن عباس رضي الله عنه قال : إن قريشا بعثوا
أربعين رجلا منهم أو خمسين ، وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله صلىاللهعليهوسلم ليصيبوا من أصحابه أحدا فأخذوا أخذا ، فأتي بهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم فعفا عنهم وخلى سبيلهم ، وقد كانوا رموا إلى عسكر رسول
الله صلىاللهعليهوسلم بالحجارة والنبل. قال ابن إسحاق : وفي ذلك أنزل الله تعالى
: (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ
أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ) الآية. وقال قتادة : ذكر لنا أن رجلا يقال له ابن زنيم
اطلع على الثنية من الحديبية ، فرماه المشركون بسهم فقتلوه ، فبعث رسول الله صلىاللهعليهوسلم خيلا
__________________
فأتوه باثني عشر
فارسا من الكفار فقال لهم : «هل لكم علي عهد؟ هل لكم علي ذمة؟» قالوا : لا ،
فأرسلهم وأنزل الله تعالى في ذلك : (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ
أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ) الآية .
(هُمُ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ
مَحِلَّهُ وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ
أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ
اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٢٥) إِذْ جَعَلَ
الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ
فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ
وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللهُ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً)
(٢٦)
يقول تعالى مخبرا
عن الكفار من مشركي العرب من قريش ، ومن مالأهم على نصرتهم على رسول الله صلىاللهعليهوسلم (هُمُ الَّذِينَ
كَفَرُوا) أي هم الكفار دون غيرهم (وَصَدُّوكُمْ عَنِ
الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي أنتم أحق به وأنتم أهله في نفس الأمر (وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ
مَحِلَّهُ) أي وصدوا الهدي أن يصل إلى محله وهذا من بغيهم وعنادهم ،
وكان الهدي سبعين بدنة كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
وقوله عزوجل : (وَلَوْ لا رِجالٌ
مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ) أي بين أظهرهم ممن يكتم إيمانه ويخفيه منهم خيفة على
أنفسهم من قومهم ، لكنا سلطناكم عليهم فقتلتموهم وأبدتم خضراءهم ولكن بين إفنائهم
من المؤمنين والمؤمنات أقوام لا تعرفونهم حالة القتل ، ولهذا قال تعالى : (لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ
فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ) أي إثم وغرامة (بِغَيْرِ عِلْمٍ
لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) أي يؤخر عقوبتهم ليخلص من بين أظهرهم المؤمنين ، وليرجع
كثير منهم إلى الإسلام ، ثم قال تبارك وتعالى : (لَوْ تَزَيَّلُوا) أي لو تميز الكفار من المؤمنين الذين بين أظهرهم (لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا
مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) أي لسلطناكم عليهم فلقتلتموهم قتلا ذريعا.
قال الحافظ أبو
القاسم الطبراني : حدثنا أبو الزنباع روح بن الفرج ، حدثنا عبد الرحمن بن أبي عباد
المكي ، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن سعد مولى بني هاشم ، حدثنا حجر بن خلف
قال : سمعت عبد الله بن عوف يقول : سمعت جنيد بن سبع يقول : قاتلت رسول اللهصلىاللهعليهوسلم أول النهار كافرا ، وقاتلت معه آخر النهار مسلما ، وفينا
نزلت (وَلَوْ لا رِجالٌ
مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ) قال : كنا تسعة نفر سبعة رجال وامرأتين ، ثم رواه من طريق
أخرى عن محمد بن عباد المكي به ، وقال فيه عن أبي جمعة جنيد بن سبع فذكره ،
والصواب أبو جعفر حبيب بن سباع ، ورواه ابن أبي حاتم من حديث حجر بن خلف به : وقال
: كنا ثلاثة رجال وتسع نسوة ،
__________________
وفينا نزلت (وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ
مُؤْمِناتٌ) وقال ابن أبي حاتم ، حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا محمد بن
إسماعيل البخاري. حدثنا عبد الله بن عثمان بن جبلة عن أبي حمزة عن عطاء عن سعيد بن
جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : (لَوْ تَزَيَّلُوا
لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) يقول لو تزيل الكفار من المؤمنين لعذبهم الله عذابا أليما
بقتلهم إياهم.
وقوله عزوجل : (إِذْ جَعَلَ
الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ) وذلك حين أبوا أن يكتبوا بسم الله الرحمن الرحيم ، وأبوا
أن يكتبوا هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله (فَأَنْزَلَ اللهُ
سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ
التَّقْوى) وهي قول «لا إله إلا الله» كما قال ابن جرير وعبد الله ابن
الإمام أحمد . حدثنا الحسن بن قزعة أبو علي البصري حدثنا سفيان بن حبيب
، حدثنا شعبة عن ثوير عن أبيه عن الطفيل ، يعني ابن أبي بن كعب عن أبيه رضي الله
عنه ، أنه سمع رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «وألزمهم كلمة التقوى» قال «لا إله إلا الله» وكذا رواه الترمذي عن الحسن بن قزعة ، وقال غريب لا نعرفه
إلا من حديثه ، وسألت أبا زرعة عنه فلم يعرفه إلا من هذا الوجه.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أحمد بن منصور الرمادي ، حدثنا عبد الله بن صالح ، حدثني الليث ، حدثني
عبد الرحمن بن خالد عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أن أبا هريرة رضي الله عنه
أخبره أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ،
فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله عزوجل» وأنزل الله في كتابه وذكر قوما فقال : (إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا
إِلهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ) [الصافات : ٣٥]
وقال الله جل ثناؤه : (وَأَلْزَمَهُمْ
كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها) وهي لا إله إلا الله محمد رسول الله ، فاستكبروا عنها ،
واستكبر عنها المشركون يوم الحديبية فكاتبهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم على قضية المدة ، وكذا رواه بهذه الزيادات ابن جرير من حديث الزهري ، والظاهر أنها مدرجة من كلام الزهري والله
أعلم.
وقال مجاهد : كلمة
التقوى الإخلاص ، وقال عطاء بن أبي رباح هي «لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له
الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير» وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق عن الزهري
عن عروة عن المسور (وَأَلْزَمَهُمْ
كَلِمَةَ التَّقْوى) قال «لا إله إلا الله وحده لا شريك له» وقال الثوري عن
سلمة بن كهيل عن عباية بن ربعي عن علي رضي الله عنه (وَأَلْزَمَهُمْ
كَلِمَةَ التَّقْوى) قال : «لا إله إلا الله والله اكبر» وكذا قال ابن عمر رضي
الله عنهما ،
__________________
وقال علي بن أبي
طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله تعالى : (وَأَلْزَمَهُمْ
كَلِمَةَ التَّقْوى) قال : يقول شهادة أن لا إله إلا الله وهي رأس كل تقوى.
وقال سعيد بن جبير
(وَأَلْزَمَهُمْ
كَلِمَةَ التَّقْوى) قال «لا إله إلا الله والجهاد في سبيله» وقال عطاء
الخراساني هي «لا إله إلا الله محمد رسول الله» وقال عبد الله بن المبارك عن معمر
عن الزهري (وَأَلْزَمَهُمْ
كَلِمَةَ التَّقْوى) قال «بسم الله الرحمن الرحيم». وقال قتادة (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) قال «لا إله إلا الله» (وَكانُوا أَحَقَّ
بِها وَأَهْلَها) كان المسلمون أحق بها وكانوا أهلها (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) أي هو عليم بمن يستحق الخير ممن يستحق الشر ، وقد قال
النسائي : حدثنا إبراهيم بن سعيد ، حدثنا شبابة بن سوار عن أبي رزين عن عبد الله
بن العلاء بن زبر عن بسر بن عبد الله عن أبي إدريس عن أبي بن كعب رضي الله عنه أنه
كان يقرأ (إِذْ جَعَلَ
الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ) ولو حميتم كما حموا لفسد المسجد الحرام ، فبلغ ذلك عمر رضي
الله عنه فأغلظ له فقال إنك لتعلم أني كنت أدخل على رسول اللهصلىاللهعليهوسلم فيعلمني مما علمه الله تعالى ، فقال عمر رضي الله عنه : بل
أنت رجل عندك علم وقرآن ، فاقرأ وعلم مما علمك الله تعالى ورسوله.
وهذا ذكر الأحاديث الواردة في قصة الحديبية وقضية الصلح
قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون. أخبرنا محمد بن إسحاق بن يسار عن
الزهري عن عروة بن الزبير ، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم رضي الله عنهما
قالا : خرج رسول اللهصلىاللهعليهوسلم عام الحديبية يريد زيارة البيت لا يريد قتالا ، وساق معه
الهدي سبعين بدنة ، وكان الناس سبعمائة رجل ، فكانت كل بدنة عن عشرة ، وخرج رسول
الله صلىاللهعليهوسلم حتى إذا كان بعسفان لقيه بشر بن سفيان الكعبي فقال : يا
رسول الله هذه قريش ، قد سمعت بمسيرك فخرجت معها العوذ المطافيل ، قد لبست جلود النمور يعاهدون الله تعالى أن لا تدخلها
عليهم عنوة أبدا ، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدموه إلى كراع
الغميم ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «يا ويح قريش! قد أكلتهم الحرب ، ماذا عليهم لو خلوا
بيني وبين سائر الناس؟ فإن أصابوني كان الذي أرادوا ، وإن أظهرني الله تعالى دخلوا
في الإسلام وهم وافرون ، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة ، فماذا تظن قريش فو الله
لا أزال أجاهدهم على الذي بعثني الله تعالى به حتى يظهرني الله عزوجل أو تنفرد هذه السالفة».
__________________
ثم أمر الناس
فسلكوا ذات اليمين بين ظهري الحمض على طريق تخرجه على ثنية المرار والحديبية من
أسفل مكة ، قال فسلك بالجيش تلك الطريق ، فلما رأت خيل قريش قترة الجيش قد خالفوا
عن طريقهم ، ركضوا راجعين إلى قريش ، فخرج رسول الله صلىاللهعليهوسلم حتى إذا سلك ثنية المرار بركت ناقته فقال الناس خلأت ،
فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ما خلأت وما ذلك لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل عن
مكة ، والله لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألوني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم
إياها».
ثم قال صلىاللهعليهوسلم للناس : «انزلوا» قالوا : يا رسول الله ما بالوادي من ماء
ينزل عليه الناس ، فأخرج رسول الله صلىاللهعليهوسلم سهما من كنانته فأعطاه رجلا من أصحابه ، فنزل في قليب من
تلك القلب فغرزه فيه ، فجاش بالماء حتى ضرب الناس عنه بعطن. فلما اطمأن رسول الله صلىاللهعليهوسلم إذا بديل بن ورقاء في رجال من خزاعة ، فقال لهم كقوله لبشر
بن سفيان ، فرجعوا إلى قريش فقالوا : يا معشر قريش إنكم تعجلون على محمد صلىاللهعليهوسلم ، وإن محمدا لم يأت لقتال إنما جاء زائرا لهذا البيت معظما
لحقه ، فاتهموهم.
قال محمد بن إسحاق
: قال الزهري : كانت خزاعة في عيبة رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، مشركها ومسلمها لا يخفون على رسول الله صلى الله تعالى
عليه وسلم شيئا كان بمكة ، فقالوا : وإن كان إنما جاء لذلك فو الله لا يدخلها أبدا
علينا عنوة ، ولا يتحدث بذلك العرب ، ثم بعثوا إليه مكرز بن حفص أحد بني عامر بن
لؤي ، فلما رآه رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «هذا رجل غادر» فلما انتهى إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، كلمه رسول الله صلىاللهعليهوسلم بنحو مما كلّم به أصحابه ، ثم رجع إلى قريش فأخبرهم بما
قال له رسول الله صلىاللهعليهوسلم فبعثوا إليه الحليس بن علقمة الكناني ، وهو يومئذ سيد
الأحابيش ، فلما رآه رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «هذا من قوم يتألهون فابعثوا الهدي» في وجهه فبعثوا
الهدي فلما رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده قد أكل أوتاره من طول
الحبس عن محله ، رجع ولم يصل إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم إعظاما لما رأى
فقال : يا معشر قريش لقد رأيت ما لا يحل صده الهدي في قلائده قد أكل أوتاره من طول
الحبس عن محله ، قالوا : اجلس إنما أنت أعرابي لا علم لك.
فبعثوا إليه عروة
بن مسعود الثقفي فقال : يا معشر قريش إني قد رأيت ما يلقى منكم من تبعثون إلى محمد
إذا جاءكم من التعنيف وسوء اللفظ ، وقد عرفتم أنكم والد وأني ولد ، وقد سمعت بالذي
نابكم فجمعت من أطاعني من قومي ثم جئت حتى آسيتكم بنفسي. قالوا : صدقت ما أنت
عندنا بمتهم. فخرج حتى أتى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فجلس بين يديه فقال : يا محمد جمعت أوباش الناس ثم جئت بهم
لبيضتك لتفضها ، إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل ، قد لبسوا جلود النمور
يعاهدون الله تعالى أن لا تدخلها عليهم عنوة أبدا ، وأيم الله لكأني بهؤلاء قد
انكشفوا عنك غدا ، قال وأبو بكر رضي الله عنه قاعد خلف رسول الله صلىاللهعليهوسلم
فقال : امصص بظر اللات
أنحن ننكشف عنه؟ قال من هذا يا محمد؟ قالصلىاللهعليهوسلم : «هذا ابن أبي قحافة «قال : أما والله لولا يد كانت لك
عندي لكافأتك بها ، ولكن هذه بها.
ثم تناول لحية
رسول الله صلىاللهعليهوسلم والمغيرة بن شعبة رضي الله عنه واقف على رأس رسول اللهصلىاللهعليهوسلم بالحديد ، قال : فقرع يده ثم قال أمسك يدك عن لحية رسول
الله صلىاللهعليهوسلم قبل والله أن لا تصل إليك قال ويحك ما أفظك وأغلظك! فتبسم
رسول الله قال : من هذا يا محمد؟ قال صلىاللهعليهوسلم : «هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة» قال : أغدر ، وهل غسلت
سوأتك إلا بالأمس؟ قال : فكلمه رسول الله صلىاللهعليهوسلم بمثل ما كلم به أصحابه ، وأخبره بأنه لم يأت يريد حربا.
قال فقام من عند رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وقد رأى ما يصنع به أصحابه لا يتوضأ وضوءا إلا ابتدروه ،
ولا يبصق بصاقا إلا ابتدروه ، ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه ، فرجع إلى قريش
فقال : يا معشر قريش إني جئت كسرى في ملكه وجئت قيصر والنجاشي في ملكهما ، والله
ما رأيت ملكا قط مثل محمد صلىاللهعليهوسلم في أصحابه ، ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشيء أبدا فروا
رأيكم.
قال : وقد كان
رسول الله صلىاللهعليهوسلم قبل ذلك بعث خراش
بن أمية الخزاعي إلى مكة ، وحمله على جمل له يقال له الثعلب ، فلما دخل مكة عقرت
به قريش وأرادوا قتل خراش ، فمنعتهم الأحابيش حتى أتى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فدعا عمر رضي الله عنه ليبعثه إلى مكة فقال : يا رسول
الله إني أخاف قريشا على نفسي وليس بها من بني عدي أحد يمنعني. وقد عرفت قريش
عداوتي إياها وغلظتي عليها ، ولكن أدلك على رجل هو أعز مني بها عثمان بن عفان رضي
الله عنه.
قال : فدعاه رسول
الله صلىاللهعليهوسلم ، فبعثه يخبرهم أنه لم يأت لحرب أحد ، وإنما جاء زائرا
لهذا البيت معظما لحرمته ، فخرج عثمان رضي الله عنه حتى أتى مكة ، فلقيه أبان بن
سعيد بن العاص ، فنزل عن دابته وحمله بين يديه أردفه خلفه وأجاره حتى بلغ رسالة
رسول اللهصلىاللهعليهوسلم ، فانطلق عثمان رضي الله عنه حتى أتى أبا سفيان وعظماء
قريش ، فبلغهم عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ما أرسله به ، فقالوا لعثمان رضي الله عنه : إن شئت أن
تطوف بالبيت فطف به ، فقال : ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلىاللهعليهوسلم. قال : واحتبسته قريش عندها قال : وبلغ رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن عثمان رضي الله عنه قد قتل.
قال محمد : فحدثني
الزهري أن قريشا بعثوا سهيل بن عمرو وقالوا : ائت محمدا فصالحه ولا تلن في صلحه
إلا أن يرجع عنا عامه هذا ، فو الله لا تحدث العرب أنه دخلها علينا عنوة أبدا ،
فأتاه سهيل بن عمرو فلما رآه رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل». فلما
انتهى إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، تكلما وأطالا الكلام وتراجعا حتى جرى بينهما الصلح.
فلما التأم الأمر
ولم يبق إلا الكتاب ، وثب عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فأتى أبا بكر
رضي الله عنه فقال
: يا أبا بكر أو ليس برسول الله؟ أولسنا بالمسلمين؟ أوليسوا بالمشركين؟ قال : بلى.
قال : فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ فقال أبو بكر رضي الله عنه : يا عمر الزم غرزه
حيث كان فإني أشهد أنه رسول الله. فقال عمر رضي الله عنه : وأنا أشهد ، ثم أتى
رسول اللهصلىاللهعليهوسلم فقال : يا رسول الله أولسنا بالمسلمين؟ أو ليسوا بالمشركين؟
قال صلىاللهعليهوسلم «بلى» قال : فعلام
نعطي الدنية في ديننا؟ فقال صلىاللهعليهوسلم : «أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيعني» ثم قال
عمر رضي الله عنه : ما زلت أصوم وأصلي وأتصدق وأعتق من الذي صنعت مخافة كلامي الذي
تكلمت به يومئذ ، حتى رجوت أن يكون خيرا.
قال : ثم دعا رسول
الله صلىاللهعليهوسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال : اكتب «بسم الله
الرحمن الرحيم» فقال سهيل بن عمرو : لا أعرف هذا ، ولكن اكتب : باسمك اللهم. فقال
رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «اكتب باسمك اللهم. هذا ما صالح عليه محمد رسول الله
سهيل بن عمرو» فقال له سهيل بن عمرو : لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك ، ولكن
اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله وسهيل بن عمرو على وضع الحرب عشر سنين ،
يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض ، على أنه من أتى رسول الله صلىاللهعليهوسلم من أصحابه بغير إذن وليه رده عليهم ، ومن أتى قريشا ممن مع
رسول الله صلىاللهعليهوسلم لم يردوه عليه وأن بيننا عيبة مكفوفة وأنه لا إسلال ولا
إغلال. وكان في شرطهم حين كتبوا الكتاب : أنه من أحب أن يدخل في عقد محمد صلىاللهعليهوسلم وعهده دخل فيه ، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل
فيه ، فتواثبت خزاعة فقالوا ، نحن في عقد رسول الله صلىاللهعليهوسلم وعهده ، وتواثبت بنو بكر فقالوا : نحن في عقد قريش وعهدهم
، وأنك ترجع عنا عامنا هذا فلا تدخل علينا مكة ، وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك
فتدخلها بأصحابك وأقمت بها ثلاثا ، معك سلاح الراكب لا تدخلها بغير السيوف في
القرب.
فبينا رسول الله صلىاللهعليهوسلم يكتب الكتاب إذ جاءه أبو جندل بن سهيل بن عمرو في الحديد
قد انفلت إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، قال وقد كان أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم خرجوا وهم لا يشكون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فلما رأوا ما رأوا من الصلح والرجوع وما تحمل رسول الله صلىاللهعليهوسلم على نفسه ، دخل الناس من ذلك أمر عظيم حتى كادوا أن
يهلكوا. فلما رأى سهيل أبا جندل قام إليه فضرب وجهه قال : يا محمد قد لجت القضية
بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا. قال «صدقت» فقام إليه فأخذ بتلابيبه قال وصرخ أبو
جندل بأعلى صوته : يا معشر المسلمين أتردونني إلى أهل الشرك فيفتنوني في ديني؟ قال
فزاد الناس شرا إلى ما بهم. فقال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم «يا أبا جندل اصبر
واحتسب فإن الله تعالى جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا. إنا قد عقدنا
بيننا وبين القوم صلحا ، فأعطيناهم على ذلك وأعطونا عليه عهدا وإنا لن نغدر بهم».
قال : فوثب إليه
عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فجعل يمشي مع أبي جندل ، وهو يقول
اصبر أبا جندل
فإنما هم المشركون وإنما دم أحدهم دم كلب ، قال : ويدني قائم السيف منه ، قال يقول
: رجوت أن يأخذ السيف فيضرب به أباه. قال : فضن الرجل بأبيه ، قال ونفذت القضية ،
فلما فرغا من الكتاب ، وكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يصلي في الحرم وهو مضطرب في الحل ، قال : فقام رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : «يا أيها الناس انحروا واحلقوا» قال : فما قام أحد
، قال ثم عاد صلىاللهعليهوسلم بمثلها ، فما قام رجل ، حتى عاد صلىاللهعليهوسلم بمثلها فما قام رجل ، فرجع رسول الله صلىاللهعليهوسلم فدخل على أم سلمة رضي الله عنها فقال «يا أم سلمة ما شأن
الناس؟» قالت : يا رسول الله قد دخلهم ما رأيت ، فلا تكلمن منهم إنسانا واعمد إلى
هديك حيث كان فانحره واحلق ، فلو قد فعلت ذلك فعل الناس ذلك ، فخرج رسول الله صلىاللهعليهوسلم لا يكلم أحدا حتى إذا أتى هديه فنحره ثم جلس فحلق ، قال :
فقام الناس ينحرون ويحلقون ، قال حتى إذا كان بين مكة والمدينة في وسط الطريق نزلت
سورة الفتح.
هكذا ساقه أحمد من
هذا الوجه ، وهكذا رواه يونس بن بكير وزياد البكائي عن ابن إسحاق بنحوه وفيه إغراب.
وقد رواه أيضا عن
عبد الرزاق عن معمر عن الزهري به نحوه ، وخالفه في أشياء ، وقد رواه البخاري رحمهالله في صحيحه فساقه سياقة حسنة مطولة بزيادات جيدة ، فقال في
كتاب الشروط من صحيحه : حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ،
أخبرني الزهري أخبرني عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم ، يصدق
كل واحد منهما حديث صاحبه ، قالا : خرج رسول الله صلىاللهعليهوسلم زمن الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه.
فلما أتى ذا
الحليفة قلد الهدي وأشعره وأحرم منها بعمرة ، وبعث عينا له من خزاعة وسار حتى إذا
كان بغدير الأشطاط أتاه عينه فقال : إن قريشا قد جمعوا لك جموعا وقد جمعوا لك
الأحابيش ، وهم مقاتلوك وصادوك ومانعوك. فقال صلىاللهعليهوسلم : «أشيروا أيها الناس علي ، أترون أن نميل على عيالهم
وذراري هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت؟» وفي لفظ : «أترون أن نميل على
ذراري هؤلاء الذين أعانوهم ، فإن يأتونا كان الله قد قطع عنقا من المشركين ، وإلا تركناهم
محزونين» ، وفي لفظ «فإن قعدوا قعدوا موتورين مجهودين
__________________
محروبين ، وإن نجوا يكن عنقا قطعها الله عزوجل. أم ترون أن نؤم البيت فمن صدنا عنه قاتلناه».
فقال أبو بكر رضي
الله عنه : يا رسول الله خرجت عامدا لهذا البيت لا تريد قتل أحد ولا حربا ، فتوجه
له فمن صدنا عنه قاتلناه ، وفي لفظ : فقال أبو بكر رضي الله عنه : الله ورسوله علم
إنما جئنا معتمرين ولم نجيء لقتال أحد ، ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه ،
فقال النبيصلىاللهعليهوسلم : «فروحوا إذن» وفي لفظ «فامضوا على اسم الله تعالى» حتى إذا
كانوا ببعض الطريق قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «إن خالد بن الوليد في خيل لقريش طليعة فخذوا ذات اليمين
فو الله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة الجيش فانطلق يركض نذيرا لقريش.
وسار النبي صلىاللهعليهوسلم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته
، فقال الناس : حل حل فألحت ، فقالوا : خلأت القصواء خلأت القصواء. فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق ولكن حبسها حابس
الفيل ، ثم قال صلىاللهعليهوسلم : والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله
تعالى إلا أعطيتهم إياها». ثم زجرها فوثبت فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على
ثمد قليل الماء يتبرضه الناس تبرضا ، فلم يلبث الناس حتى نزحوه ، وشكي إلى رسول
الله صلىاللهعليهوسلم العطش ، فانتزع صلىاللهعليهوسلم من كنانته سهما ثم أمرهم أن يجعلوه فيه فو الله ما زال
يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه.
فبينما هم كذلك إذ
جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه من خزاعة ، وكانوا عيبة نصح رسول الله صلىاللهعليهوسلم من أهل تهامة ، فقال : إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي
نزلوا أعداد مياه الحديبية ، معهم العوذ المطافيل وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت.
فقال النبيصلىاللهعليهوسلم : «إننا لم نجيء لقتال أحد ، ولكن جئنا معتمرين ، وإن
قريشا قد نهكتهم الحرب ، فأضرت بهم ، فإن شاؤوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين
الناس ، فإن أظهر ، فإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا وإلا فقد جمّوا ، وإن هم أبوا فو الذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا
حتى تنفرد سالفتي ولينفذن الله أمره». قال بديل : سأبلغهم ما تقول. فانطلق حتى أتى
قريشا فقال : إنا قد جئنا من عند هذا الرجل وسمعناه يقول قولا ، فإن شئتم أن نعرضه
عليكم فعلنا ، فقال
__________________
سفهاؤهم : لا حاجة
لنا أن تخبرنا عنه بشيء.
وقال ذوو الرأي
منهم : هات ما سمعته يقول. قال : سمعته يقول كذا وكذا ، فحدثهم بما قاله رسول الله
صلىاللهعليهوسلم فقام عروة بن مسعود فقال : أي قوم ألستم بالوالد؟ قالوا :
بلى ، قال : أولست بالولد؟ قالوا : بلى ، قال : فهل تتهمونني؟ قالوا : لا ، قال :
ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ ، فلما بلّحوا علي جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني؟ قالوا : بلى. قال: فإن
هذا قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ودعوني آته. قالوا : ائته ، فأتاه فجعل يكلم
النبيصلىاللهعليهوسلم فقال النبي صلىاللهعليهوسلم له نحوا من قوله لبديل بن ورقاء ، فقال عروة عند ذلك : أي
محمد ، أرأيت إن استأصلت أمر قومك ، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله قبلك؟ وإن
تك الأخرى فإني والله لأرى وجوها ، وإني لأرى أشوابا من الناس خليقا أن يفروا ويدعوك ، فقال له أبو بكر رضي
الله عنه : امصص بظر اللات أنحن نفر وندعه؟ قال : من ذا؟ قالوا أبو بكر.
قال : أما والذي
نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك. قال : وجعل يكلم النبي صلىاللهعليهوسلم فكلما كلمه أخذ بلحيته صلىاللهعليهوسلم ، والمغيرة بن شعبة رضي الله عنه قائم على رأس النبي صلىاللهعليهوسلم ، ومعه السيف وعليه المغفر ، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي صلىاللهعليهوسلم ضرب يده بنعل السيف وقال له : أخر يدك عن لحية رسول الله صلىاللهعليهوسلم. فرفع عروة رأسه وقال : من هذا؟ قال : المغيرة بن شعبة.
قال : أي غدر ألست أسعى في غدرتك؟ وكان المغيرة بن شعبة رضي الله عنه صحب قوما في
الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم ، ثم جاء فأسلم ، فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «أما الإسلام فأقبل ، وأما المال فلست منه في شيء».
ثم إن عروة جعل
يرمق أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم بعينيه قال : فو الله ما تنخم رسول الله صلىاللهعليهوسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده ، وإذا
أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلم خفضوا
أصواتهم عنده وما يحدون النظر إليه تعظيما لهصلىاللهعليهوسلم فرجع عروة إلى أصحابه. فقال : أي قوم! والله لقد وفدت على
الملوك ووفدت على كسرى وقيصر والنجاشي ، والله إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما
يعظم أصحاب محمد محمدا ، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها
وجهه وجلده ، وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه وإذا
تكلم خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدون النظر إليه تعظيما له ، وإنه قد عرض عليكم
خطة رشد فاقبلوها.
__________________
فقال رجل منهم من
بني كنانة : دعوني آته. فقالوا : ائته. فلما أشرف على النبيصلىاللهعليهوسلم وأصحابه رضي الله عنهم ، قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «هذا فلان وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له». فبعثت
له واستقبله الناس يلبون. فلما رأى ذلك قال : سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا
عن البيت ، فلما رجع إلى أصحابه قال : رأيت البدن قد قلدت وأشعرت فما أرى أن يصدوا
عن البيت. فقام رجل منهم يقال له مكرز بن حفص ، فقال : دعوني آته. فقالوا : ائته.
فلما أشرف عليهم قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «هذا مكرز وهو رجل فاجر» فجعل يكلم النبي صلىاللهعليهوسلم ، فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو.
وقال معمر :
أخبرني أيوب عن عكرمة أنه قال : لما جاء سهيل بن عمرو قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «قد سهل لكم من أمركم» قال معمر قال الزهري في حديثه
فجاء سهيل بن عمرو فقال : هات اكتب بيننا وبينك كتابا. فدعا النبي صلىاللهعليهوسلم بعلي رضي الله عنه وقال : «اكتب بسم الله الرحمن الرحيم»
فقال سهيل بن عمرو : أما الرحمن فو الله ما أدري ما هو ، ولكن اكتب باسمك اللهم
كما كنت تكتب. فقال المسلمون : والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم. فقال
النبيصلىاللهعليهوسلم «اكتب باسمك اللهم
ـ ثم قال ـ هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله» فقال سهيل : والله لو كنا نعلم أنك
رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ، ولكن اكتب محمد بن عبد الله. فقال له
النبي صلىاللهعليهوسلم : «والله إني لرسول الله وإن كذبتموني ، اكتب محمد بن عبد
الله» قال الزهري : وذلك لقوله : «والله لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله
تعالى إلا أعطيتهم إياها» فقال له النبي صلىاللهعليهوسلم : على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به. فقال سهيل :
والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة ولكن ذلك من العام المقبل ، فكتب فقال سهيل : وعلى أن لا
يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا فقال المسلمون : سبحان الله كيف
يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما؟.
فبينما هم كذلك إذ
جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده قد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين
أظهر المسلمين فقال سهيل : هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إلي. فقال
النبي صلىاللهعليهوسلم : «إنا لم نقض الكتاب بعد» قال : فو الله إذا لا أصالحك
على شيء أبدا ، فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «فأجزه لي» قال : ما أنا بمجيز ذلك لك قال «بلى فافعل»
قال : ما أنا بفاعل. قال مكرز : بلى قد أجزناه لك. قال أبو جندل : أي معشر
المسلمين أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما ، ألا ترون ما قد لقيت؟ وكان قد عذب
عذابا شديدا في الله عزوجل. قال عمر رضي الله عنه : فأتيت نبي الله صلىاللهعليهوسلم فقلت ألست نبي الله حقا؟ قال صلىاللهعليهوسلم : «بلى» قلت : ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال صلىاللهعليهوسلم «بلى» قلت فلم
نعطي الدنية في ديننا إذا؟
__________________
قال صلىاللهعليهوسلم : «إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري» قلت : أو لست كنت
تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال صلىاللهعليهوسلم : «بلى أفأخبرتك أنا نأتيه العام؟». قلت : لا. قال صلىاللهعليهوسلم : فإنك آتيه ومطوف به. قال : فأتيت أبا بكر فقلت يا أبا
بكر أليس هذا نبي الله حقا؟ قال : بلى. قلت : ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟
قال : بلى. قلت : فلم نعطي الدنية في ديننا إذا؟ قال : أيها الرجل إنه رسول الله
وليس يعصي ربه ، وهو ناصره فاستمسك بغرزه ، فو الله إنه على الحق. قلت : أو ليس
كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال بلى ، قال : أفأخبرك أنك تأتيه العام؟
قلت : لا. قال : فإنك تأتيه وتطوف به.
قال الزهري قال
عمر رضي الله عنه : فعملت لذلك أعمالا. قال فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله
صلىاللهعليهوسلم لأصحابه : «قوموا فانحروا ثم احلقوا» قال : فو الله ما قام
منهم رجل حتى قال صلىاللهعليهوسلم ذلك ثلاث مرات ، فلما لم يقم منهم أحد دخل صلىاللهعليهوسلم على أم سلمة رضي الله عنها ، فذكر لها ما لقي من الناس ،
قالت له أم سلمة رضي الله عنها : يا نبي الله أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحدا منهم
كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك ، فخرج رسول اللهصلىاللهعليهوسلم ، فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك ، نحر بدنه ودعا حالقه
فحلقه. فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا
غما ، ثم جاءه نسوة مؤمنات فأنزل الله عزوجل : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ) ـ حتى بلغ ـ (بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) [الممتحنة : ١٠]
فطلق عمر رضي الله عنه يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك ، فتزوج إحداهما معاوية بن
أبي سفيان ، والأخرى صفوان بن أمية.
ثم رجع النبي صلىاللهعليهوسلم إلى المدينة فجاءه أبو بصير رجل من قريش وهو مسلم ،
فأرسلوا في طلبه رجلين فقالوا : العهد الذي جعلت لنا ، فدفعه إلى الرجلين فخرجا به
حتى إذا بلغا ذا الحليفة فنزلوا يأكلون من تمر لهم ، فقال أبو بصير لأحد الرجلين :
والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيدا ، فاستله الآخر فقال : أجل والله إنه لجيد ،
لقد جربت منه ثم جربت. فقال أبو بصير : أرني أنظر إليه فأمكنه منه فضربه حتى برد
وفر الآخر حتى أتى المدينة ، فدخل المسجد يعدو فقال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم حين رآه «لقد رأى هذا ذعرا» فلما انتهى إلى النبي صلىاللهعليهوسلم قال : قتل والله صاحبي وإني لمقتول. فجاء أبو بصير فقال :
يا رسول الله قد والله أوفى الله ذمتك ، قد رددتني إليهم ثم نجاني الله تعالى
منهم. فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد».
فلما سمع ذلك عرف
أنه سيرده إليهم ، فخرج حتى أتى سيف البحر قال وتفلت منهم أبو جندل بن سهيل ، فلحق
بأبي بصير ، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير ، حتى اجتمعت
منهم عصابة ، فو الله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها ،
فقتلوهم وأخذوا أموالهم. فأرسلت قريش إلى النبي صلىاللهعليهوسلم تناشده الله والرحم لما أرسل إليهم : «فمن أتاه منهم فهو
آمن» فأرسل النبي صلىاللهعليهوسلم إليهم وأنزل الله عزوجل : (وَهُوَ الَّذِي
كَفَّ
أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ) ـ حتى بلغ ـ (حَمِيَّةَ
الْجاهِلِيَّةِ) وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه رسول الله ، ولم يقروا
ببسم الله الرحمن الرحيم ، وحالوا بينهم وبين البيت.
هكذا ساقه البخاري
هاهنا.
وقد أخرجه في
التفسير وفي عمرة الحديبية وفي الحج وغير ذلك من حديث معمر وسفيان بن عيينة ،
كلاهما عن الزهري به. ووقع في بعض الأماكن عن الزهري عن عروة عن مروان والمسور عن
رجال من أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم بذلك وهذا أشبه والله أعلم ، ولم يسقه أبسط من هاهنا ،
وبينه وبين سياق ابن إسحاق تباين في مواضع ، وهناك فوائد ينبغي إضافتها إلى ما
هاهنا ، ولذلك سقنا تلك الرواية وهذه والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا
قوة إلا بالله العزيز الحكيم.
وقال البخاري في التفسير : حدثنا أحمد بن إسحاق السلمي ، حدثنا يعلى ،
حدثنا عبد العزيز بن سياه عن حبيب بن أبي ثابت قال : أتيت أبا وائل أسأله ، فقال
كنا بصفين ، فقال رجل : ألم تر إلى الذين يدعون إلى كتاب الله ، فقال علي بن أبي
طالب رضي الله عنه : نعم ، فقال سهل بن حنيف : اتهموا أنفسكم فلقد رأيتنا يوم
الحديبية يعني الصلح الذي كان بين النبيصلىاللهعليهوسلم والمشركين ، ولو نرى قتالا لقاتلنا ، فجاء عمر رضي الله
عنه فقال : ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟
فقال : بلى. قال : ففيم نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا؟ فقال صلىاللهعليهوسلم : «يا ابن الخطاب إني رسول الله ولن يضيعني الله أبدا»
فرجع متغيظا فلم يصبر حتى جاء أبا بكر رضي الله عنه فقال : يا أبا بكر ألسنا على
الحق وهم على الباطل؟ فقال : يا ابن الخطاب إنه رسول الله ولن يضيعه الله أبدا ،
فنزلت سورة الفتح.
وقد رواه البخاري
أيضا في مواضع أخر ومسلم والنسائي من طرق أخر عن أبي وائل سفيان بن سلمة عن سهل بن
حنيف به ، وفي بعض ألفاظه : يا أيها الناس اتهموا الرأي فلقد رأيتني يوم أبي جندل
، ولو أقدر على أن أرد على رسول الله صلىاللهعليهوسلم أمره لرددته ، وفي رواية : فنزلت سورة الفتح فدعا رسول
الله صلىاللهعليهوسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقرأها عليه .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان حدثنا حماد عن ثابت عن أنس رضي الله عنه قال
: إن قريشا صالحوا النبي صلىاللهعليهوسلم وفيهم سهيل بن عمرو ، فقال النبي صلىاللهعليهوسلم لعلي رضي الله عنه : «اكتب
__________________
بسم الله الرحمن
الرحيم» فقال سهيل : لا ندري ما بسم الله الرحمن الرحيم ، ولكن اكتب ما نعرف باسمك
اللهم. فقال صلىاللهعليهوسلم : «اكتب من محمد رسول الله» قال : لو نعلم أنك رسول الله
لا تبعناك ، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك ، فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «اكتب من محمد بن عبد الله» واشترطوا على النبي صلىاللهعليهوسلم أن من جاء منكم لا نرده عليكم ، ومن جاءكم منا رددتموه
علينا ، فقال: يا رسول الله أنكتب هذا؟ قال صلىاللهعليهوسلم : «نعم إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله» رواه مسلم من حديث حماد بن سلمة به.
وقال أحمد أيضا ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا عكرمة بن عمار قال
حدثني سماك عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال : لما خرجت الحرورية اعتزلوا
فقلت لهم إن رسول الله صلىاللهعليهوسلم يوم الحديبية صالح المشركين ، فقال لعلي رضي الله عنه : «اكتب
يا علي هذا ما صالح عليه محمد رسول الله» قالوا لو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك
فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «امح يا علي اللهم إنك تعلم أني رسولك امح يا علي واكتب
هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله» والله لرسول الله خير من علي وقد محا نفسه ولم
يكن محوه ذلك يمحوه من النبوة أخرجت من هذه؟ قالوا نعم ورواه أبو داود من حديث
عكرمة بن عمار اليمامي بنحوه.
وروى الإمام أحمد عن يحيى بن آدم حدثنا زهير بن حرب عن محمد بن عبد الرحمن
بن أبي ليلى عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : نحر رسول الله صلىاللهعليهوسلم يوم الحديبية سبعين بدنة فيها جمل لأبي جهل فلما صدت عن
البيت حنت كما تحن إلى أولادها.
(لَقَدْ صَدَقَ اللهُ
رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ
اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما
لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (٢٧) هُوَ الَّذِي
أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ
كُلِّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً)
(٢٨)
كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم قد رأى في المنام أنه دخل مكة وطاف بالبيت فأخبر أصحابه
بذلك وهو بالمدينة فلما ساروا عام الحديبية لم يشك جماعة منهم أن هذه الرؤيا تتفسر
هذا العام فلما وقع ما وقع من قضية الصلح ورجعوا عامهم ذلك على أن يعودوا من قابل
وقع في نفوس بعض الصحابة رضي الله عنهم من ذلك شيء ، حتى سأل عمر بن الخطاب رضي
الله عنه في ذلك فقال له فيما قال أفلم تكن تخبرنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال
: «بلى أفأخبرتك أنك تأتيه عامك هذا؟» قال لا ، قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «فإنك آتيه ومطوف به» وبهذا أجاب الصديق رضي الله
__________________
عنه أيضا حذو
القذة بالقذة ولهذا قال تبارك وتعالى : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ
رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ
اللهُ) هذا لتحقيق الخبر وتوكيده وليس هذا من الاستثناء في شيء.
وقوله عزوجل : (آمِنِينَ) أي في حال دخولكم. وقوله : (مُحَلِّقِينَ
رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ) حال مقدرة لأنهم في حال حرمهم لم يكونوا محلقين ومقصرين
وإنما كان هذا في ثاني الحال. كان منهم من حلق رأسه ومنهم من قصره ، وثبت في
الصحيحين أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «رحم الله المحلقين» قالوا والمقصرين يا رسول الله؟
قال صلىاللهعليهوسلم : «رحم الله المحلقين» قالوا والمقصرين يا رسول الله؟ قال صلىاللهعليهوسلم : «رحم الله المحلقين» قالوا والمقصرين يا رسول الله؟ قال صلىاللهعليهوسلم : «والمقصرين» في الثالثة أو الرابعة .
وقوله سبحانه وتعالى
: (لا تَخافُونَ) حال مؤكدة في المعنى فأثبت لهم الأمن حال الدخول ونفى عنهم
الخوف حال استقرارهم في البلد لا يخافون من أحد وهذا كان في عمرة القضاء في ذي
القعدة سنة سبع فإن النبي صلىاللهعليهوسلم لما رجع من الحديبية في ذي القعدة رجع إلى المدينة. فأقام
بها ذا الحجة والمحرم وخرج في صفر إلى خيبر ، ففتحها الله عليه بعضها عنوة وبعضها
صلحا ، وهي إقليم عظيم كثير النخل والزروع ، فاستخدم من فيها من اليهود عليها على
الشطر وقسمها بين أهل الحديبية وحدهم ، ولم يشهدها أحد غيرهم إلا الذين قدموا من
الحبشة جعفر بن أبي طالب وأصحابه ، وأبو موسى الأشعري وأصحابه رضي الله عنهم ، ولم
يغب منهم أحد ، قال ابن زيد : إلا أبا دجانة سماك بن خرشة ، كما هو مقرر في موضعه
ثم رجع إلى المدينة.
فلما كان في ذي
القعدة سنة سبع خرج صلىاللهعليهوسلم إلى مكة معتمرا هو وأهل الحديبية ، فأحرم من ذي الحليفة
وساق معه الهدي ، قيل : كان ستين بدنة ، فلبى وسار أصحابه يلبون. فلما كانصلىاللهعليهوسلم قريبا من مر الظهران بعث محمد بن مسلمة بالخيل والسلاح
أمامه. فلما رآه المشركون رعبوا رعبا شديدا ، وظنوا أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم يغزوهم ، وأنه قد نكث العهد الذي بينهم وبينه من وضع
القتال عشر سنين ، وذهبوا فأخبروا أهل مكة ، فلما جاء رسول الله صلىاللهعليهوسلم فنزل بمر الظهران حيث ينظر إلى أنصاب الحرم ، بعث السلاح
من القسي والنبل والرماح إلى بطن يأجج وسار إلى مكة بالسيوف مغمدة في قربها كما
شارطهم عليه. فلما كان في أثناء الطريق بعثت قريش مكرز بن حفص فقال : يا محمد ما
عرفناك تنقض العهد ، فقال صلىاللهعليهوسلم : «وما ذاك؟» قال «دخلت علينا بالسلاح والقسي والرماح.
__________________
فقال صلىاللهعليهوسلم : «لم يكن ذلك وقد بعثنا به إلى يأجج». فقال : بهذا عرفناك
بالبر والوفاء ، وخرجت رؤوس الكفار من مكة لئلا ينظروا إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم وإلى أصحابه رضي الله عنهم غيظا وحنقا. وأما بقية أهل مكة
من الرجال والنساء والولدان ، فجلسوا في الطرق وعلى البيوت ينظرون إلى رسول الله
وأصحابه ، فدخلها عليه الصلاة والسلام وبين يديه أصحابه يلبون ، والهدي قد بعثه
إلى ذي طوى وهو راكب ناقته القصواء التي كان راكبها يوم الحديبية ، وعبد الله بن
رواحة الأنصاري آخذ بزمام ناقة رسول الله يقودها وهو يقول : [رجز]
باسم الذي لا
دين إلا دينه
|
|
باسم الذي محمد
رسوله
|
خلّوا بني
الكفّار عن سبيله
|
|
اليوم نضربكم
على تأويله
|
كما ضربناكم على
تنزيله
|
|
ضربا يزيل الهام
عن مقيله
|
ويذهل الخليل عن
خليله
|
|
قد أنزل الرحمن
في تنزيله
|
في صحف تتلى على
رسوله
|
|
بأن خير القتل
في سبيله
|
يا
رب إني مؤمن بقيله
|
فهذا مجموع من
روايات متفرقة. قال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق : حدثني عبد الله بن أبي بكر بن
حزم قال : لما دخل رسول الله صلىاللهعليهوسلم مكة في عمرة القضاء دخلها وعبد الله بن رواحة رضي الله عنه
آخذ بخطام ناقته صلىاللهعليهوسلم وهو يقول :
خلوا بني الكفار
عن سبيله
|
|
إني شهيد أنه
رسوله
|
خلوا فكل الخير
في رسوله
|
|
يا رب إني مؤمن
بقيله
|
نحن قتلناكم على
تأويله
|
|
كما قتلناكم على
تنزيله
|
ضربا يزيل الهام
عن مقيله
|
|
ويذهل الخليل عن
خليله
|
وقال عبد الرزاق :
حدثنا معمر عن الزهري عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، قال : لما دخل رسول الله صلىاللهعليهوسلم مكة في عمرة القضاء مشى عبد الله بن رواحة رضي الله عنه
بين يديه وفي رواية : وابن رواحة آخذ بغرزه وهو رضي الله عنه يقول :
خلوا بني الكفار
عن سبيله
|
|
قد نزل الرحمن
في تنزيله
|
بأن خير القتل
في سبيله
|
|
يا رب إني مؤمن
بقيله
|
نحن قتلناكم على
تأويله
|
|
كما قتلناكم على
تنزيله
|
اليوم نضربكم
على تأويله
|
|
ضربا يزيل الهام
عن مقيله
|
ويذهل
الخليل عن خليله
|
__________________
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن الصباح ، حدثنا إسماعيل يعني ابن زكريا عن
عبد الله ، يعني ابن عثمان عن أبي الطفيل عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : إن
رسول اللهصلىاللهعليهوسلم لما نزل مر الظهران في عمرته بلغ أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن قريشا تقول ما يتباعثون من العجف ، فقال أصحابه لو انتحرنا من ظهرنا فأكلنا من لحمه وحسونا من مرقه أصبحنا غدا حين
ندخل على القوم وبنا جمامة . قال صلىاللهعليهوسلم : لا تفعلوا ولكن اجمعوا لي من أزوادكم ، فجمعوا له وبسطوا
الأنطاع فأكلوا حتى تركوا وحثا كل واحد منهم في جرابه ، ثم أقبل
رسول اللهصلىاللهعليهوسلم حتى دخل المسجد وقعدت قريش نحو الحجر فاضطبع صلىاللهعليهوسلم بردائه ثم قال «لا يرى القوم فيكم غميرة» فاستلم الركن ثم رمل حتى إذا تغيب بالركن اليماني مشى إلى
الركن الأسود ، فقالت قريش : ما ترضون بالمشي أما إنكم لتنقزون نقز الظباء ، ففعل ذلك ثلاثة أشواط فكانت سنة. قال أبو الطفيل :
فأخبرني ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم فعل ذلك في حجة الوداع :
وقال أحمد أيضا : حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا حماد بن زيد ، حدثنا
أيوب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قدم رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأصحابه مكة وقد وهنتهم حمى يثرب ولقوا منها سوءا ، فقال
المشركون : إنه يقدم عليكم قوم قد وهنتهم حمى يثرب ولقوا منها شرا وجلس المشركون
من الناحية التي تلي الحجر ، فأطلع الله نبيه صلىاللهعليهوسلم على ما قالوا ، فأمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم أصحابه أن يرملوا الأشواط الثلاثة ليرى المشركون جلدهم ، قال : فرملوا ثلاثة
أشواط ، وأمرهم أن يمشوا بين الركنين حيث لا يراهم المشركون ، ولم يمنع النبيصلىاللهعليهوسلم أن يرملوا الأشواط كلها إلا إبقاء عليهم. فقال المشركون : أهؤلاء
الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم هؤلاء أجلد من كذا وكذا أخرجاه في الصحيحين من حديث حماد بن زيد به.
__________________
وفي لفظ : قدم
النبي صلىاللهعليهوسلم وأصحابه رضي الله عنهم صبيحة رابعة يعني من ذي القعدة ،
فقال المشركون إنه يقدم عليكم وفد قد وهنتم حمى يثرب فأمرهم النبي صلىاللهعليهوسلم أن يرملوا الأشواط الثلاثة ، ولم يمنعهم أن يرملوا الأشواط
كلها إلا الإبقاء عليهم.
قال البخاري : وزاد ابن سلمة. يعني حماد بن سلمة ، عن أيوب عن سعيد بن
جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لما قدم النبي صلىاللهعليهوسلم لعامه الذي استأمن قال ارملوا ، ليري المشركين قوتهم
والمشركون من قبل قعيقعان ، وحدثنا محمد ، حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن
عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إنما سعى النبي صلىاللهعليهوسلم بالبيت وبالصفا والمروة ليري المشركون قوته .
ورواه في مواضع
أخر ومسلم والنسائي من طرق عن سفيان بن عيينة به. وقال أيضا : حدثنا علي بن عبد
الله ، حدثنا سفيان حدثنا إسماعيل بن أبي خالد أنه سمع ابن أبي أوفى يقول : لما
اعتمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم سترناه من غلمان المشركين ومنهم ، أن يؤذوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، انفرد به البخاري دون مسلم.
وقال البخاري أيضا : حدثنا محمد بن رافع ، حدثنا سريج بن النعمان ،
حدثنا فليح وحدثني محمد بن الحسين بن إبراهيم ، حدثنا أبي ، حدثنا فليح بن سليمان
عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : إن رسول الله صلىاللهعليهوسلم خرج معتمرا ، فحال كفار قريش بينه وبين البيت ، فنحر هديه
وحلق رأسه بالحديبية وقاضاهم على أن يعتمر العام المقبل ، ولا يحمل سلاحا عليهم
إلا سيوفا ولا يقيم بها إلا ما أحبوا. فاعتمر صلىاللهعليهوسلم من العام المقبل فدخلها كما كان صالحهم ، فلما أن أقام بها
ثلاثا أمروه أن يخرج فخرج صلىاللهعليهوسلم ، وهو في صحيح مسلم أيضا.
وقال البخاري أيضا : حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق
عن البراء رضي الله عنه قال : اعتمر النبي صلىاللهعليهوسلم في ذي القعدة فأبى أهل مكة أن يدعوه يدخل مكة ، حتى قاضاهم
على أن يقيموا بها ثلاثة أيام ، فلما كتبوا الكتاب كتبوا : هذا ما قاضانا عليه
محمد رسول الله ، قالوا : لا نقر بهذا ولو نعلم أنك رسول الله ما منعناك شيئا ،
ولكن أنت محمد بن عبد الله. قال صلىاللهعليهوسلم : «أنا رسول الله وأنا محمد بن عبد الله» ثم قال صلىاللهعليهوسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: «امح رسول الله» قال رضي
الله عنه : لا والله لا أمحوك أبدا ، فأخذ
__________________
رسول الله صلىاللهعليهوسلم الكتاب وليس يحسن يكتب فكتب «هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد
الله أن لا يدخل مكة بالسلاح إلا بالسيف في القراب ، وأن لا يخرج من أهلها بأحد
أراد أن يتبعه ، وأن لا يمنع من أصحابه أحدا إن أراد أن يقيم بها».
فلما دخلها ومضى
الأجل أتوا عليا فقالوا : قل لصاحبك اخرج عنا فقد مضى الأجل ، فخرج النبي صلىاللهعليهوسلم فتبعته ابنة حمزة رضي الله عنه تنادي يا عم يا عم ،
فتناولها علي رضي الله عنه فأخذ بيدها وقال لفاطمة رضي الله عنها : دونك ابنة عمك
فحملتها ، فاختصم فيها علي وزيد وجعفر رضي الله عنهم فقال علي رضي الله عنه : أنا
أخذتها وهي ابنة عمي. وقال جعفر رضي الله عنه : ابنة عمي وخالتها تحتي ، وقال زيد
رضي الله عنه : ابنة أخي ، فقضى بها النبيصلىاللهعليهوسلم لخالتها وقال : «الخالة بمنزلة الأم» وقال لعلي رضي الله
عنه : «أنت مني وأنا منك» وقال لجعفر رضي الله عنه «أشبهت خلقي وخلقي وقال صلىاللهعليهوسلم لزيد رضي الله عنه : «أنت أخونا ومولانا» قال علي رضي الله
عنه : ألا تتزوج ابنة حمزة رضي الله عنه؟ قال صلىاللهعليهوسلم : «إنها ابنة أخي من الرضاعة» تفرد به من هذا الوجه.
وقوله تعالى : (فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ
مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً) أي فعلم الله عزوجل من الخيرة والمصلحة في صرفكم عن مكة ودخولكم إليها عامكم
ذلك ما لم تعلموه أنتم (فَجَعَلَ مِنْ دُونِ
ذلِكَ) أي قبل دخولكم الذي وعدتم به في رؤيا النبي صلىاللهعليهوسلم فتحا قريبا ، وهو الصلح الذي كان بينكم وبين أعدائكم من
المشركين.
ثم قال تبارك
وتعالى مبشرا للمؤمنين بنصرة الرسول صلىاللهعليهوسلم على عدوه ، وعلى سائر أهل الأرض : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى
وَدِينِ الْحَقِ) أي بالعلم النافع والعمل الصالح ، فإن الشريعة تشتمل على
شيئين : علم وعمل ، فالعلم الشرعي صحيح ، والعمل الشرعي مقبول ، فإخباراتها حق
وإنشاءاتها عدل (لِيُظْهِرَهُ عَلَى
الدِّينِ كُلِّهِ) أي على أهل جميع الأديان من سائر أهل الأرض من عرب وعجم
ومليين ومشركين (وَكَفى بِاللهِ
شَهِيداً) أي أنه رسوله وهو ناصره ، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(مُحَمَّدٌ رَسُولُ
اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ
تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ
فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ
وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ
فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ
الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ
مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً)
(٢٩)
يخبر تعالى عن
محمد صلىاللهعليهوسلم أنه رسوله حقا بلا شك ولا ريب فقال : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) وهذا مبتدأ وخبر ، وهو مشتمل على كل وصف جميل ، ثم ثنى
بالثناء على أصحابه رضي الله عنهم فقال : (وَالَّذِينَ مَعَهُ
أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) كما قال عزوجل : (فَسَوْفَ
يَأْتِي
اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) [المائدة : ٥٤]
وهذه صفة المؤمنين أن يكون أحدهم شديدا عنيفا على الكفار ، رحيما برا بالأخيار ،
غضوبا عبوسا في وجه الكافر ضحوكا بشوشا في وجه أخيه المؤمن كما قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا
الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) [التوبة : ١٢٣]
وقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد ،
إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر» . وقال صلىاللهعليهوسلم : «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا» . وشبكصلىاللهعليهوسلم بين أصابعه ، كلا الحديثين في الصحيح.
وقوله سبحانه
وتعالى : (تَراهُمْ رُكَّعاً
سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً) وصفهم بكثرة العمل وكثرة الصلاة وهي خير الأعمال ، ووصفهم
بالإخلاص فيها لله عزوجل والاحتساب عند الله تعالى جزيل الثواب ، وهو الجنة
المشتملة على فضل الله عزوجل وهو سعة الرزق عليهم ورضاه تعالى عنهم ، وهو أكبر من الأول
كما قال جل وعلا : (وَرِضْوانٌ مِنَ
اللهِ أَكْبَرُ) [التوبة : ٧٢].
وقوله جل جلاله : (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ
السُّجُودِ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما : (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ) يعني السمت الحسن . وقال مجاهد وغير واحد : يعني الخشوع والتواضع. وقال ابن
أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا علي بن محمد الطنافسي ، حدثنا حسين الجعفي عن زائدة
عن منصور عن مجاهد (سِيماهُمْ فِي
وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) قال : الخشوع. قلت : ما كنت أراه إلا هذا الأثر في الوجه ،
فقال : ربما كان بين عيني من هو أقسى قلبا من فرعون. وقال السدي : الصلاة تحسن
وجوههم ، وقال بعض السلف : من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار ، وقد أسنده ابن
ماجة في سننه عن إسماعيل بن محمد الطلحي عن ثابت بن موسى عن شريك ، عن الأعمش عن
أبي سفيان عن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار» والصحيح أنه موقوف. وقال بعضهم : إن للحسنة نورا في القلب
وضياء في الوجه وسعة في الرزق ومحبة في قلوب الناس.
وقال أمير
المؤمنين عثمان رضي الله عنه : ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله تعالى على صفحات
وجهه وفلتات لسانه ، والغرض أن الشيء الكامن في النفس يظهر على صفحات الوجه ،
فالمؤمن إذا كانت سريرته صحيحة مع الله تعالى أصلح الله عزوجل ظاهره للناس ، كما
__________________
روي عن عمر بن
الخطاب رضي الله عنه أنه قال : من أصلح سريرته أصلح الله تعالى علانيته. وقال أبو
القاسم الطبراني : حدثنا محمود بن محمد المروزي ، حدثنا حامد بن آدم المروزي ،
حدثنا الفضل بن موسى عن محمد بن عبيد الله العرزمي عن سلمة بن كهيل ، عن جندب بن
سفيان البجلي رضي الله عنه قال : قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «ما أسر أحد سريرة إلا ألبسه الله تعالى رداءها ، إن
خيرا فخير وإن شرا فشر» العرزمي متروك.
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا دراج عن
أبي الهيثم عن أبي سعيد رضي الله عنه عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا
كوة لخرج عمله للناس كائنا ما كان».
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا زهير ، حدثنا قابوس بن أبي ظبيان أن
أباه حدثه عن ابن عباس رضي الله عنهما ، عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «إن الهدي الصالح والسمت الصالح والاقتصاد جزء من
خمسة وعشرين جزءا من النبوة» ورواه أبو داود عن عبد الله بن محمد النفيلي عن زهير به ، فالصحابة رضي
الله عنهم خلصت نياتهم وحسنت أعمالهم فكل من نظر إليهم أعجبوه في سمتهم وهديهم.
وقال مالك رضي الله عنه : بلغني أن النصارى كانوا إذا رأوا الصحابة رضي الله عنهم
الذين فتحوا الشام يقولون : والله لهؤلاء خير من الحواريين فيما بلغنا ، وصدقوا في
ذلك فإن هذه الأمة معظمة في الكتب المتقدمة ، وأعظمها وأفضلها أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وقد نوه الله تبارك وتعالى بذكرهم في الكتب المنزلة
والأخبار المتداولة ، ولهذا قال سبحانه وتعالى هاهنا : (ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ) ثم قال (وَمَثَلُهُمْ فِي
الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ) أي فراخه (فَآزَرَهُ) أي شده (فَاسْتَغْلَظَ) أي شب وطال (فَاسْتَوى عَلى
سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) أي فكذلك أصحاب محمد صلىاللهعليهوسلم آزروه وأيدوه ونصروه فهم معه كالشطء مع الزرع (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ).
ومن هذه الآية
انتزع الإمام مالك رحمة الله عليه في رواية عنه ، بتكفير الروافض الذين يبغضون
الصحابة رضي الله عنهم قال : لأنهم يغيظونهم ومن غاظ الصحابة رضي الله عنهم فهو
كافر لهذه الآية ، ووافقه طائفة من العلماء رضي الله عنهم على ذلك ، والأحاديث في
فضائل الصحابة رضي الله عنهم والنهي عن التعرض لهم بمساءة كثيرة ، ويكفيهم ثناء
الله عليهم ورضاه عنهم :
ثم قال تبارك
وتعالى : (وَعَدَ اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ) من هذه لبيان
__________________
الجنس (مَغْفِرَةً) أي لذنوبهم (وَأَجْراً عَظِيماً) أي ثوابا جزيلا ورزقا كريما. ووعد الله حق وصدق لا يخلف
ولا يبدل ، وكل من اقتفى أثر الصحابة رضي الله عنهم فهو في حكمهم ، ولهم الفضل
والسبق والكمال الذي لا يلحقهم فيه أحد من هذه الأمة ، رضي الله عنهم وأرضاهم وجعل
جنات الفردوس مأواهم ، وقد فعل. قال مسلم في صحيحه : حدثنا يحيى بن يحيى ، حدثنا
أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم «لا تسبوا أصحابي
فو الذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه» . آخر تفسير سورة الفتح ولله الحمد والمنة.
__________________
تفسير سورة الحجرات
وهي مدنية
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا
اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١)
يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ
وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ
أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٢) إِنَّ الَّذِينَ
يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ
قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ)
(٣)
هذه آيات أدب الله
تعالى بها عباده المؤمنين ، فيما يعاملون به الرسول صلىاللهعليهوسلم من التوقير والاحترام والتبجيل والإعظام ، فقال تبارك
وتعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) أي لا تسارعوا في الأشياء بين يديه أي قبله ، بل كونوا
تبعا له في جميع الأمور حتى يدخل في عموم هذا الأدب الشرعي حديث معاذ رضي الله عنه
حيث قال له النبي صلىاللهعليهوسلم حين بعثه إلى اليمن : «بم تحكم؟» قال : بكتاب الله تعالى ،
قال صلىاللهعليهوسلم : «فإن لم تجد؟» قال : بسنة رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، قال صلىاللهعليهوسلم : «فإن لم تجد؟» قال رضي الله عنه : أجتهد رأيي ، فضرب في
صدره وقال «الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله صلىاللهعليهوسلم لما يرضي رسول الله صلىاللهعليهوسلم». وقد رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة فالغرض منه
أنه أخر رأيه ونظره واجتهاده إلى ما بعد الكتاب والسنة ، ولو قدمه قبل البحث عنهما
لكان من باب التقديم بين يدي الله ورسوله.
قال علي بن أبي
طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما (لا تُقَدِّمُوا
بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة ، وقال العوفي عنه : نهى أن
يتكلموا بين يدي كلامه ، وقال مجاهد : لا تفتاتوا على رسول الله صلىاللهعليهوسلم بشيء حتى يقضي الله تعالى على لسانه ، وقال الضحاك : لا
تقضوا أمرا دون الله ورسوله من شرائع دينكم ، وقال سفيان الثوري (لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ
وَرَسُولِهِ) بقول ولا فعل ، وقال الحسن البصري (لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ
وَرَسُولِهِ) قال : لا تدعوا قبل الإمام ، وقال قتادة : ذكر لنا أن ناسا
كانوا يقولون لو أنزل في كذا كذا وكذا ، لو صنع كذا ، فكره الله تعالى ذلك وتقدم
فيه (وَاتَّقُوا اللهَ) أي فيما أمركم به (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) أي لأقوالكم (عَلِيمٌ) بنياتكم.
وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) هذا أدب ثان أدب الله تعالى به المؤمنين أن لا يرفعوا
أصواتهم بين يدي النبي صلىاللهعليهوسلم فوق صوته ، وقد روي أنها نزلت في الشيخين أبي بكر وعمر رضي
الله عنهما.
وقال البخاري : حدثنا بسرة بن صفوان اللخمي ، حدثنا نافع بن عمر عن ابن
أبي مليكة ، قال : كاد الخيران أن يهلكا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ، رفعا
أصواتهما عند النبيصلىاللهعليهوسلم حين قدم عليه ركب بني تميم ، فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس
رضي الله عنه أخي بني مجاشع ، وأشار الآخر برجل آخر ، قال نافع : لا أحفظ اسمه ،
فقال أبو بكر لعمر رضي الله عنهما ، ما أردت إلا خلافي ، قال : ما أردت خلافك ،
فارتفعت أصواتهما في ذلك فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا
تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ
أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) الآية قال ابن الزبير رضي الله عنهما فما كان عمر رضي الله
عنه يسمع رسول الله صلىاللهعليهوسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه ، ولم يذكر ذلك عن أبيه يعني
أبا بكر رضي الله عنه. انفرد به دون مسلم.
ثم قال البخاري : حدثنا حسن بن محمد ، حدثنا حجاج عن ابن جريج ، حدثني ابن
أبي ملكية أن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أخبره أنه قدم ركب من بني تميم
على النبيصلىاللهعليهوسلم فقال أبو بكر رضي الله عنه : أمر القعقاع بن معبد ، وقال
عمر رضي الله عنه : بل أمر الأقرع بن حابس ، فقال أبو بكر رضي الله عنه : ما أردت
إلا خلافي ، فقال عمر رضي الله عنه: ما أردت خلافك ، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما
فنزلت في ذلك (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) حتى انقضت الآية (وَلَوْ أَنَّهُمْ
صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ) الآية. وهكذا رواه هاهنا منفردا به أيضا.
وقال الحافظ أبو
بكر البزار في مسنده : حدثنا الفضل بن سهل ، حدثنا إسحاق بن منصور ، حدثنا حصين بن
عمر عن مخارق عن طارق بن شهاب عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال : لما نزلت هذه
الآية (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) قلت : يا رسول الله والله لا أكلمك إلا كأخي السرار . حصين بن عمر ، هذا وإن كان ضعيفا لكن قد رويناه من حديث
عبد الرحمن بن عوف وأبي هريرة رضي الله عنهما بنحو ذلك ، والله أعلم.
وقال البخاري : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا أزهر بن سعد ، أخبرنا ابن
عون ، أنبأني موسى بن أنس عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، أن النبي صلىاللهعليهوسلم افتقد ثابت بن قيس رضي الله عنه فقال رجل : يا رسول الله
أنا أعلم لك علمه ، فأتاه فوجده في بيته منكسا رأسه فقال له :
ما شأنك؟ فقال :
شر كان يرفع صوته فوق صوت النبي صلىاللهعليهوسلم فقد حبط عمله فهو من أهل النار ، فأتى الرجل النبي صلىاللهعليهوسلم فأخبره أنه قال كذا وكذا ، قال موسى : فرجع إليه المرة
الآخرة ببشارة
__________________
عظيمة فقال : «اذهب
إليه فقل له إنك لست من أهل النار ولكن من أهل الجنة» تفرد به البخاري من هذا
الوجه.
وقال الإمام أحمد : حدثنا هاشم ، حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس بن
مالك رضي الله عنه قال : لما نزلت هذه الآية (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) ـ إلى قوله ـ (وَأَنْتُمْ لا
تَشْعُرُونَ) وكان ثابت بن قيس بن الشماس رفيع الصوت فقال : أنا الذي
كنت أرفع صوتي على رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، أنا من أهل النار حبط عملي وجلس في أهله حزينا ففقده
رسول الله صلىاللهعليهوسلم فانطلق بعض القوم إليه فقالوا له : تفقدك رسول اللهصلىاللهعليهوسلم ما لك؟ قال : أنا الذي أرفع صوتي فوق صوت النبي صلىاللهعليهوسلم وأجهر له بالقول حبط عملي أنا من أهل النار ، فأتوا النبي صلىاللهعليهوسلم فأخبروه بما قال ، فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «لا ، بل هو من أهل الجنة» قال أنس رضي الله عنه : فكنا
نراه يمشي بين أظهرنا ونحن نعلم أنه من أهل الجنة ، فلما كان يوم اليمامة كان فينا
بعض الانكشاف فجاء ثابت بن قيس بن شماس ، وقد تحنط ولبس كفنه فقال : بئسما تعودون
أقرانكم فقاتلهم حتى قتل رضي الله عنه.
وقال مسلم : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا الحسن بن موسى ،
حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : لما نزلت
هذه الآية (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) إلى آخر الآية ، جلس ثابت رضي الله عنه في بيته قال : أنا
من أهل النار ، واحتبس عن النبي صلىاللهعليهوسلم فقال النبي صلىاللهعليهوسلم لسعد بن معاذ : «يا أبا عمرو ما شأن ثابت أشتكى؟» فقال سعد
رضي الله عنه : إنه لجاري وما علمت له بشكوى. قال : فأتاه سعد رضي الله عنه فذكر
له قول رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال ثابت رضي الله عنه : أنزلت هذه الآية ولقد علمتم أني
من أرفعكم صوتا على رسول الله صلىاللهعليهوسلم فأنا من أهل النار ، فذكر ذلك سعد رضي الله عنه للنبي صلىاللهعليهوسلم فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «بل هو من أهل الجنة» ثم رواه مسلم عن أحمد بن سعيد الدرامي
عن حيان بن هلال عن سليمان بن المغيرة به قال ولم يذكر سعد بن معاذ رضي الله عنه ،
وعن قطن بن نسير عن جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس رضي الله عنه بنحوه ، وقال ليس
فيه ذكر سعد بن معاذ رضي الله عنه. حدثنا هريم بن عبد الأعلى الأسدي ، حدثنا
المعتمر بن سليمان ، سمعت أبي يذكر عن ثابت عن أنس رضي الله عنه قال : لما نزلت
هذه الآية فاقتص الحديث ولم يذكر سعد بن معاذ رضي الله عنه وزاد : فكنا نراه يمشي
بين أظهرنا رجل من أهل الجنة.
فهذه الطرق الثلاث
معللة لرواية حماد بن سلمة فيما تفرد به من ذكر سعد بن معاذ
__________________
رضي الله عنه ،
والصحيح أن حال نزول هذه الآية لم يكن سعد بن معاذ رضي الله عنه موجودا ، لأنه كان
قد مات بعد بني قريظة بأيام قلائل سنة خمس ، وهذه الآيات نزلت في وفد بني تميم ،
والوفود إنما تواتروا في سنة تسع من الهجرة ، والله أعلم.
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كريب ، حدثنا زيد بن الحباب ، حدثنا أبو ثابت
بن ثابت بن قيس بن شماس ، حدثني عمي إسماعيل بن محمد بن ثابت بن قيس بن شماس عن
أبيه رضي الله عنه قال : لما نزلت هذه الآية (لا تَرْفَعُوا
أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ) قال : قعد ثابت بن قيس رضي الله عنه في الطريق يبكي ، قال
: فمر به عاصم بن عدي من بني العجلان فقال : ما يبكيك يا ثابت؟ قال : هذه الآية
أتخوف أن تكون نزلت فيّ وأنا صيت رفيع الصوت. قال : فمضى عاصم بن عدي رضي الله عنه
إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، قال : وغلبه البكاء فأتى امرأته جميلة ابنة عبد الله بن
أبي ابن سلول ، فقال لها : إذا دخلت بيت فرسي فشدي على الضبة بمسمار ، فضربته
بمسمار حتى إذا خرج عطفه وقال : لا أخرج حتى يتوفاني الله تعالى ، أو يرضى عني
رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
قال : وأتى عاصم
رضي الله عنه رسول الله صلىاللهعليهوسلم فأخبره خبره فقال : «اذهب فادعه لي» فجاء عاصم رضي الله
عنه إلى المكان فلم يجده ، فجاء إلى أهله ، فوجده في بيت الفرس فقال له: إن رسول
الله صلىاللهعليهوسلم يدعوك ، فقال : اكسر الضبة ، قال : فخرجا فأتيا النبي صلىاللهعليهوسلم فقال له رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ما يبكيك يا ثابت؟» فقال رضي الله عنه : أنا صيت وأتخوف
أن تكون هذه الآية نزلت فيّ (لا تَرْفَعُوا
أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ) فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «أما ترضى أن تعيش حميدا وتقتل شهيدا وتدخل الجنة؟» فقال
: رضيت ببشرى الله تعالى ورسوله صلىاللهعليهوسلم ولا أرفع صوتي أبدا على صوت رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
قال : وأنزل الله
تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ
قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى) الآية.
وقد ذكر هذه القصة
غير واحد من التابعين كذلك ، فقد نهى الله عزوجل عن رفع الأصوات بحضرة رسول الله صلىاللهعليهوسلم وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه
أنه سمع صوت رجلين في مسجد النبي صلىاللهعليهوسلم قد ارتفعت أصواتهما ، فجاء فقال : أتدريان أين أنتما؟ ثم
قال : من أين أنتما؟ قالا : من أهل الطائف ، فقال : لو كنتما من أهل المدينة
لأوجعتكما ضربا. وقال العلماء : يكره رفع الصوت عند قبره صلىاللهعليهوسلم كما كان يكره في حياته عليه الصلاة والسلام ، لأنه محترم
حيا وفي قبره صلوات الله وسلامه عليه دائما ، ثم نهى عن الجهر له بالقول كما يجهر
الرجل لمخاطبه ممن عداه ، بل يخاطب بسكينة ووقار وتعظيم ، ولهذا قال
__________________
تبارك وتعالى : (وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ
كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ) كما قال تعالى : (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ
الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً) [النور : ٦٣].
وقوله عزوجل : (أَنْ تَحْبَطَ
أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) أي إنما نهيناكم عن رفع الصوت عنده ، خشية أن يغضب من ذلك
فيغضب الله تعالى لغضبه ، فيحبط الله عمل من أغضبه وهو لا يدري كما جاء في الصحيح
: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى لا يلقي لها بالا يكتب له بها
الجنة ، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يلقي لها بالا يهوي بها في
النار أبعد ما بين السماء والأرض» ثم ندب الله تعالى إلى خفض الصوت عنده وحث على ذلك ، وأرشد
إليه ، ورغب فيه فقال : (إِنَّ الَّذِينَ
يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ
قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى) أي أخلصها لها وجعلها أهلا ومحلا (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ).
وقد قال الإمام
أحمد في كتاب الزهد : حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان عن منصور عن مجاهد قال : كتب
إلى عمر : يا أمير المؤمنين ، رجل لا يشتهي المعصية ، ولا يعمل بها أفضل ، أم رجل
يشتهي المعصية ولا يعمل بها فكتب عمر رضي الله عنه : إن الذين يشتهون المعصية ولا
يعملون بها (أُولئِكَ الَّذِينَ
امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ).
(إِنَّ الَّذِينَ
يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٤) وَلَوْ أَنَّهُمْ
صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ
رَحِيمٌ)
(٥)
ثم إنه تبارك
وتعالى ذم الذين ينادونه من وراء الحجرات وهي بيوت نسائه ، كما يصنع أجلاف الأعراب
فقال : (أَكْثَرُهُمْ لا
يَعْقِلُونَ) ثم أرشد تعالى إلى الأدب في ذلك فقال عزوجل : (وَلَوْ أَنَّهُمْ
صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) أي لكان لهم في ذلك الخيرة والمصلحة في الدنيا والآخرة. ثم
قال جل ثناؤه داعيا لهم إلى التوبة والإنابة (وَاللهُ غَفُورٌ
رَحِيمٌ) وقد ذكر أنها نزلت في الأقرع بن حابس التميمي رضي الله عنه
فيما أورده غير واحد.
قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا وهيب ، حدثنا موسى بن عقبة عن أبي
سلمة بن عبد الرحمن عن الأقرع بن حابس رضي الله عنه ، أنه نادى رسول الله صلىاللهعليهوسلم من وراء الحجرات فقال : يا محمد يا محمد ، وفي رواية : يا
رسول الله ، فلم يجبه فقال : يا رسول الله إن حمدي لزين ، وإن ذمي لشين ، فقال صلىاللهعليهوسلم : «ذاك الله عزوجل».
__________________
وقال ابن جرير : حدثنا أبو عمار الحسين بن حريث المروزي ، حدثنا الفضل بن
موسى عن الحسين بن واقد ، عن أبي إسحاق عن البراء في قوله تبارك وتعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ
الْحُجُراتِ) قال : جاء رجل إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : يا محمد ، إن حمدي زين وذمي شين ، فقال صلىاللهعليهوسلم : «ذاك الله عزوجل» وهكذا ذكره الحسن البصري وقتادة مرسلا.
وقال سفيان الثوري
عن حبيب بن أبي عمرة قال : كان بشر بن غالب ولبيد بن عطارد أو بشر بن عطارد ولبيد
بن غالب ، وهما عند الحجاج جالسان ، فقال بشر بن غالب للبيد بن عطارد : نزلت في
قومك بني تميم (إِنَّ الَّذِينَ
يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ) قال : فذكرت ذلك لسعيد بن جبير ، فقال : أما إنه لو علم
بآخر الآية أجابه (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ
أَنْ أَسْلَمُوا) قالوا : أسلمنا ولم يقاتلك بنو أسد ، وقال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبي ، حدثنا عمرو بن علي الباهلي. حدثنا المعتمر بن سليمان قال : سمعت داود
الطفاوي يحدث عن أبي مسلم البجلي عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال : اجتمع أناس من
العرب فقالوا : انطلقوا بنا إلى هذا الرجل فإن يك نبيا فنحن أسعد الناس به ، وإن
يك ملكا نعش بجناحه. قال : فأتيت رسول اللهصلىاللهعليهوسلم فأخبرته بما قالوا فجاؤوا إلى حجرة النبي صلىاللهعليهوسلم فجعلوا ينادونه وهو في حجرته : يا محمد يا محمد ، فأنزل
الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) قال : فأخذ رسول اللهصلىاللهعليهوسلم بأذني ، فمدها فجعل يقول «لقد صدق الله تعالى قولك يا زيد
، لقد صدق الله قولك يا زيد» ورواه ابن جرير عن الحسن بن عرفة ، عن المعتمر بن سليمان به.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا
قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (٦) وَاعْلَمُوا أَنَّ
فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ
اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ
إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧)
فَضْلاً
مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)
(٨)
يأمر تعالى
بالتثبت في خبر الفاسق ليحتاط له لئلا يحكم بقوله ، فيكون في نفس الأمر كاذبا أو
مخطئا ، فيكون الحاكم بقوله قد اقتفى وراءه ، وقد نهى الله عزوجل عن اتباع سبيل المفسدين ، ومن هاهنا امتنع طوائف من
العلماء من قبول رواية مجهول الحال لاحتمال فسقه في نفس الأمر ، وقبلها آخرون لأنا
إنما أمرنا بالتثبت عند خبر الفاسق ، وهذا ليس بمحقق الفسق لأنه مجهول الحال ، وقد
قررنا هذه المسألة في كتاب العلم من شرح البخاري ولله تعالى الحمد والمنة ، وقد
ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط ،
__________________
حين بعثه رسول
الله صلىاللهعليهوسلم على صدقات بني المصطلق ، وقد روي ذلك من طرق ومن أحسنها ما
رواه الإمام أحمد في مسنده من رواية ملك بني المصطلق ، وهو الحارث بن ضرار والد
جويرية بنت الحارث أم المؤمنين رضي الله عنها.
قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن سابق ، حدثنا عيسى بن دينار ، حدثني أبي
أنه سمع الحارث بن ضرار الخزاعي رضي الله عنه يقول : قدمت على رسول الله فدعاني
إلى الإسلام فدخلت فيه وأقررت به. ودعاني إلى الزكاة فأقررت بها وقلت يا رسول الله
أرجع إليهم فأدعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة فمن استجاب لي جمعت زكاته. ويرسل إلي
يا رسول الله رسولا لإبّان كذا وكذا ليأتيك بما جمعت من الزكاة.
فلما جمع الحارث
الزكاة ممن استجاب له وبلغ الإبّان الذي أراد رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن يبعث إليه احتبس عليه الرسول فلم يأته وظن الحارث أنه
قد حدث فيه سخطة من الله تعالى ورسوله ، فدعا بسروات قومه فقال لهم إن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان وقت لي وقتا يرسل إلي رسوله ليقبض ما كان عندي من
الزكاة وليس من رسول الله صلىاللهعليهوسلم الخلف ، ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطة كانت ، فانطلقوا بنا
نأتي رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وبعث رسول الله صلىاللهعليهوسلم الوليد بن عقبة إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من
الزكاة ، فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فرق أي خاف ، فرجع حتى أتى رسول
الله صلىاللهعليهوسلم فقال يا رسول الله إن الحارث قد منعني الزكاة وأراد قتلي ،
فغضب رسول الله صلىاللهعليهوسلم فضرب البعث إلى الحارث رضي الله عنه وأتى الحارث بأصحابه
حتى إذا استقبل البعث وفصل عن المدينة لقيهم الحارث فقالوا : هذا الحارث ، فلما
غشيهم قال لهم : إلى من بعثتم؟ قالوا : إليك. قال : ولم؟ قالوا : إن رسول الله صلىاللهعليهوسلم بعث إليك الوليد بن عقبة فزعم أنك منعته الزكاة وأردت
قتله. قال رضي الله عنه : لا والذي بعث محمدا بالحق ما رأيته بتة ولا أتاني.
فلما دخل الحارث
على رسول الله قال : «منعت الزكاة وأردت قتل رسولي؟» قال : لا والذي بعثك بالحق ما
رأيته ولا أتاني وما أقبلت إلا حين احتبس علي رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، خشيت أن يكون كانت سخطة من الله تعالى ورسوله. قال فنزلت
الحجرات (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ) ـ إلى قوله ـ (حَكِيمٌ).
ورواه ابن أبي
حاتم عن المنذر بن شاذان التمار عن محمد بن سابق به. ورواه الطبراني من حديث محمد
بن سابق به ، غير أنه سماه الحارث بن سرار والصواب أنه الحارث بن ضرار كما تقدم.
__________________
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كريب ، حدثنا جعفر بن عون عن موسى بن عبيدة عن
ثابت مولى أم سلمة ، عن أم سلمة رضي الله عنها قالت : بعث رسول الله صلىاللهعليهوسلم رجلا في صدقات بني المصطلق بعد الوقيعة فسمع بذلك القوم
فتلقوه يعظمون أمر رسول الله قالت فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله ، قالت فرجع إلى
رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : إن بني المصطلق قد منعوني صدقاتهم. فغضب رسول الله صلىاللهعليهوسلم والمسلمون ، قالت فبلغ القوم رجوعه ، فأتوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم فصفوا له حين صلى الظهر ، فقالوا : نعوذ بالله من سخط الله
وسخط رسوله ، بعثت إلينا رجلا مصدقا فسررنا بذلك وقرت به أعيننا ، ثم إنه رجع من بعض الطريق
فخشينا أن يكون ذلك غضبا من الله تعالى ومن رسوله صلىاللهعليهوسلم ، فلم يزالوا يكلمونه حتى جاء بلال رضي الله عنه فأذن
بصلاة العصر قالت ونزلت (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا
قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ).
وروى ابن جرير أيضا من طريق العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه
الآية قال: كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط إلى بني المصطلق ليأخذ
منهم الصدقات ، وإنهم لما أتاهم الخبر فرحوا وخرجوا يتلقون رسول رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وإنه لما حدث الوليد أنهم خرجوا يتلقونه رجع الوليد إلى
رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فقال : يا رسول الله إن بني المصطلق قد منعوا الصدقة ،
فغضب رسول الله صلىاللهعليهوسلم من ذلك غضبا شديدا ، فبينا هو يحدث نفسه أن يغزوهم إذ أتاه
الوفد فقالوا : يا رسول الله ، إنا حدثنا أن رسولك رجع من نصف الطريق ، وإنا خشينا
أن ما رده كتاب جاء منك لغضب غضبته علينا ، وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله ،
وإن النبي صلىاللهعليهوسلم استغشهم وهم بهم ، فأنزل الله تبارك وتعالى عذرهم في
الكتاب فقال : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) إلى آخر الآية.
وقال مجاهد وقتادة
: أرسل رسول الله صلىاللهعليهوسلم الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق ليصدقهم ، فتلقوه بالصدقة
فرجع فقال إن بني المصطلق قد جمعت لك لتقاتلك ، زاد قتادة : وإنهم قد ارتدوا عن
الإسلام. فبعث رسول الله صلىاللهعليهوسلم خالد بن الوليد رضي الله عنه إليهم ، وأمره أن يتثبت ولا
يعجل ، فانطلق حتى أتاهم ليلا فبعث عيونه فلما جاءوا أخبروا خالدا رضي الله عنه
أنهم مستمسكون بالإسلام ، وسمعوا أذانهم وصلاتهم ، فلما أصبحوا أتاهم خالد رضي
الله عنه فرأى الذي يعجبه فرجع إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فأخبره الخبر فأنزل الله تعالى هذه الآية. قال قتادة :
فكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول «التثبت من الله والعجلة من الشيطان» وكذا ذكر غير واحد من السلف
__________________
منهم ابن أبي ليلى
ويزيد بن رومان والضحاك ، ومقاتل بن حيان ، وغيرهم في هذه الآية أنها أنزلت في
الوليد بن عقبة ، والله أعلم.
وقوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ
اللهِ) أي اعلموا أن بين أظهركم رسول الله فعظموه ووقروه وتأدبوا
معه وانقادوا لأمره ، فإنه أعلم بمصالحكم وأشفق عليكم منكم ، ورأيه فيكم أتم من
رأيكم لأنفسكم كما قال تبارك وتعالى : (النَّبِيُّ أَوْلى
بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) [الأحزاب : ٦] ثم بين أن رأيهم سخيف بالنسبة إلى مراعاة
مصالحهم فقال : (لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي
كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ) أي لو أطاعكم في جميع ما تختارونه لأدى ذلك إلى عنتكم
وحرجكم ، كما قال سبحانه وتعالى : (وَلَوِ اتَّبَعَ
الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ
أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ) [المؤمنون : ٧١]
وقوله عزوجل : (وَلكِنَّ اللهَ
حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) أي حببه إلى نفوسكم وحسنه في قلوبكم.
قال الإمام أحمد : حدثنا بهز حدثنا علي بن مسعدة ، حدثنا قتادة عن أنس رضي
الله عنه قال : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «الإسلام علانية والإيمان في القلب ـ قال ثم يشير
بيده إلى صدره ثلاث مرات ثم يقول ـ التقوى هاهنا التقوى هاهنا» (وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ
وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ) أي وبغض إليكم الكفر والفسوق وهي الذنوب الكبار والعصيان ،
وهي جميع المعاصي وهذا تدريج لكمال النعمة ، وقوله تعالى : (أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) أي المتصفون بهذه الصفة هم الراشدون الذين قد آتاهم الله
رشدهم.
قال الإمام أحمد : حدثنا مروان بن معاوية الفزاري ، حدثنا عبد الواحد بن
أيمن المكي عن أبي رفاعة الزرقي عن أبيه قال : لما كان يوم أحد وانكفأ المشركون
قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «استووا حتى أثني على ربي عزوجل» فصاروا خلفه صفوفا فقال صلىاللهعليهوسلم : «اللهم لك الحمد كله ، اللهم لا قابض لما بسطت ولا باسط
لما قبضت ، ولا هادي لمن أضللت ، ولا مضل لمن هديت ، ولا معطي لما منعت ولا مانع
لما أعطيت ، ولا مقرب لما باعدت ، ولا مباعد لما قربت. اللهم ابسط علينا من بركاتك
ورحمتك وفضلك ورزقك ، اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول. اللهم
إني أسألك النعيم يوم العيلة والأمن من يوم الخوف. اللهم إني عائذ بك من شر ما
أعطيتنا ومن شر ما منعتنا. اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا
الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين. اللهم توفنا مسلمين وأحينا مسلمين
وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين ، اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك
ويصدون عن سبيلك واجعل عليهم رجزك وعذابك ، اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب إله
__________________
الحق» ورواه
النسائي في اليوم والليلة عن زياد بن أيوب عن مروان بن معاوية عن عبد الواحد بن
أيمن عن عبيد بن رفاعة عن أبيه به.
وفي الحديث
المرفوع : «من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن» ثم قال : (فَضْلاً مِنَ اللهِ
وَنِعْمَةً) أي هذا العطاء الذي منحكموه هو فضل منه عليكم ونعمة من
لدنه (وَاللهُ عَلِيمٌ
حَكِيمٌ) أي عليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الغواية حكيم في
أقواله وأفعاله وشرعه وقدره.
(وَإِنْ طائِفَتانِ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ
إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى
أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا
إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ
(٩) إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ
لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)
(١٠)
يقول تعالى آمرا
بالإصلاح بين الفئتين الباغين بعضهم على بعض : (وَإِنْ طائِفَتانِ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) فسماهم مؤمنين مع الاقتتال ، وبهذا استدل البخاري وغيره
على أنه لا يخرج من الإيمان بالمعصية وإن عظمت ، لا كما يقوله الخوارج ومن تابعهم
من المعتزلة ونحوهم ، وهكذا ثبت في صحيح البخاري من حديث الحسن عن أبي بكرة رضي
الله عنه قال : إن رسول الله صلىاللهعليهوسلم خطب يوما ، ومعه على المنبر الحسن بن علي رضي الله عنهما ،
فجعل ينظر إليه مرة ، وإلى الناس أخرى ويقول : «إن ابني هذا سيد ولعل الله تعالى
أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» . فكان كما قال صلوات الله وسلامه عليه ، أصلح الله به بين
أهل الشام وأهل العراق بعد الحروب الطويلة ، والواقعات المهولة.
وقوله تعالى : (فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى
الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) أي حتى ترجع إلى أمر الله ورسوله ، وتسمع للحق وتطيعه ،
كما ثبت في الصحيح عن أنس رضي الله عنه ، أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «انصر أخاك ظالما أو مظلوما» قلت : يا رسول الله ،
هذا نصرته مظلوما ، فكيف أنصره ظالما؟ قال صلىاللهعليهوسلم : «تمنعه من الظلم فذاك نصرك إياه».
وقال الإمام أحمد : حدثنا عارم ، حدثنا معتمر قال : سمعت أبي يحدث أن أنسا
رضي الله عنه قال : قيل للنبي صلىاللهعليهوسلم ، لو أتيت عبد الله بن أبي ، فانطلق إليه النبي صلىاللهعليهوسلم ، وركب حمارا وانطلق المسلمون يمشون ، وهي أرض سبخة ، فلما
انطلق النبي صلىاللهعليهوسلم إليه قال : «إليك عني فو الله لقد آذاني ريح حمارك» فقال
رجل من الأنصار : والله لحمار رسول الله صلىاللهعليهوسلم أطيب
__________________
ريحا منك. قال :
فغضب لعبد الله رجال من قومه ، فغضب لكل واحد منهما أصحابه ، قال : فكان بينهم ضرب
بالجريد والأيدي والنعال ، فبلغنا أنه أنزلت فيهم (وَإِنْ طائِفَتانِ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) ورواه البخاري في الصلح عن مسدد ومسلم في المغازي عن محمد
بن عبد الأعلى كلاهما عن المعتمر بن سليمان عن أبيه به نحوه.
وذكر سعيد بن جبير
أن الأوس والخزرج كان بينهما قتال بالسعف والنعال ، فأنزل الله تعالى هذه الآية
فأمر بالصلح بينهما ، وقال السدي : كان رجل من الأنصار يقال له عمران ، كانت له
امرأة تدعى أم زيد ، وإن المرأة أرادت أن تزور أهلها ، فحبسها زوجها وجعلها في
علية له لا يدخل عليها أحد من أهلها. وإن المرأة بعثت إلى أهلها ، فجاء قومها
وأنزلوها لينطلقوا بها ، وإن الرجل كان قد خرج ، فاستعان أهل الرجل ، فجاء بنو عمه
ليحولوا بين المرأة وبين أهلها ، فتدافعوا واجتلدوا بالنعال فنزلت فيهم الآية ،
فبعث إليهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأصلح بينهم وفاؤوا إلى أمر الله تعالى.
وقوله عزوجل : (فَإِنْ فاءَتْ
فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ
الْمُقْسِطِينَ) أي اعدلوا بينهم فيما كان أصاب بعضهم لبعض بالقسط وهو
العدل (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ
الْمُقْسِطِينَ).
قال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبو زرعة ، حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي ، حدثنا عبد الأعلى عن معمر عن
الزهري عن سعيد بن المسيب عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : إن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إن المقسطين في الدنيا على منابر من لؤلؤ بين يدي
الرحمن عزوجل بما أقسطوا في الدنيا» ورواه النسائي عن محمد بن المثنى عن عبد الأعلى به. وهذا
إسناد جيد قوي رجاله على شرط الصحيح ، وحدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد ، حدثنا
سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار ، عن عمرو بن أوس عن عبد الله بن عمرو رضي الله
عنهما عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «المقسطون عند الله تعالى يوم القيامة على منابر من
نور على يمين العرش ، الذين يعدلون في حكمهم وأهاليهم وما ولوا» ورواه مسلم والنسائي من حديث سفيان بن عيينة به. وقوله
تعالى: (إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) أي الجميع إخوة في الدين ، كما قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه» وفي الصحيح «والله في عون العبد ما كان العبد في عون
__________________
أخيه» وفي الصحيح أيضا «إذا دعا المسلم لأخيه بظهر الغيب قال
الملك آمين ولك مثله» والأحاديث في هذا كثيرة ، وفي الصحيح «مثل المؤمنين في
توادهم وتراحمهم وتواصلهم كمثل الجسد الواحد ، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر
الجسد بالحمى والسهر» وفي الصحيح أيضا «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا»
وشبك بين أصابعه صلىاللهعليهوسلم .
وقال أحمد : حدثنا أحمد بن الحجاج ، حدثنا عبد الله ، أخبرنا مصعب بن
ثابت حدثني أبو حازم قال : سمعت سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه يحدث عن رسول
اللهصلىاللهعليهوسلم قال : «إن المؤمن من أهل الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ،
يألم المؤمن لأهل الإيمان كما يألم الجسد لما في الرأس» تفرد به أحمد ولا بأس بإسناده
، وقوله تعالى : (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ
أَخَوَيْكُمْ) يعني الفئتين المقتتلتين (وَاتَّقُوا اللهَ) أي في جميع أموركم (لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ) وهذا تحقيق منه تعالى للرحمة لمن اتقاه.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً
مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا
تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ
بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (١١)
ينهى تعالى عن
السخرية بالناس وهو احتقارهم والاستهزاء بهم ، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «الكبر بطر الحق وغمص الناس ـ ويروى ـ وغمط
الناس» والمراد من ذلك احتقارهم واستصغارهم ، وهذا حرام فإنه قد
يكون المحتقر أعظم قدرا عند الله تعالى ، وأحب إليه من الساخر منه المحتقر له ،
ولهذا قال تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً
مِنْهُمْ ، وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَ) فنص على نهي الرجال ، وعطف نهي النساء. وقوله تبارك وتعالى
: (وَلا تَلْمِزُوا
أَنْفُسَكُمْ) أي لا تلمزوا الناس. والهماز اللماز من الرجال مذموم ملعون
كما قال تعالى : (وَيْلٌ لِكُلِّ
هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ)
__________________
[الهمزة : ١]
والهمز بالفعل واللمز بالقول ، كما قال عزوجل : (هَمَّازٍ مَشَّاءٍ
بِنَمِيمٍ) [القلم : ١١] أي
يحتقر الناس ويهمزهم طاغيا عليهم ويمشي بينهم بالنميمة وهي اللمز بالمقال ، ولهذا
قال هاهنا : (وَلا تَلْمِزُوا
أَنْفُسَكُمْ) كما قال : (وَلا تَقْتُلُوا
أَنْفُسَكُمْ) [النساء : ٢٩] أي
لا يقتل بعضكم بعضا.
قال ابن عباس
ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة ومقاتل بن حيان (وَلا تَلْمِزُوا
أَنْفُسَكُمْ) أي لا يطعن بعضكم على بعض ، وقوله تعالى : (وَلا تَنابَزُوا
بِالْأَلْقابِ) أي لا تتداعوا بالألقاب ، وهي التي يسوء الشخص سماعها.
قال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل ، حدثنا داود بن أبي هند عن الشعبي قال :
حدثني أبو جبيرة بن الضحاك ، قال فينا نزلت في بني سلمة (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) قال : قدم رسول الله صلىاللهعليهوسلم المدينة ، وليس فينا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة ، فكان
إذا دعي أحد منهم باسم من تلك الأسماء ، قالوا : يا رسول الله إنه يغضب من هذا ،
فنزلت (وَلا تَنابَزُوا
بِالْأَلْقابِ) ورواه أبو داود عن موسى بن إسماعيل عن وهيب عن داود به.
وقوله جل وعلا : (بِئْسَ الِاسْمُ
الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ) أي بئس الصفة والاسم الفسوق. وهو التنابز بالألقاب كما كان
أهل الجاهلية يتناعتون بعد ما دخلتم في الإسلام وعقلتموه (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ) أي من هذا (فَأُولئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ).
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ
إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ
أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ
اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ)
(١٢)
يقول تعالى ناهيا
عباده المؤمنين عن كثير من الظن ، وهو التهمة والتخون للأهل والأقارب والناس في
غير محله لأن بعض ذلك يكون إثما محضا ، فليجتنب كثير منه احتياطا وروينا عن أمير
المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك
المسلم إلا خيرا ، وأنت تجد لها في الخير محملا. وقال أبو عبد الله بن ماجة :
حدثنا أبو القاسم بن أبي ضمرة نصر بن محمد بن سليمان الحمصي ، حدثنا أبي ، حدثنا
عبد الله بن أبي قيس النضري ، حدثنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : رأيت
النبي صلىاللهعليهوسلم يطوف بالكعبة ويقول : «ما أطيبك وأطيب ريحك ما أعظمك وأعظم
حرمتك ، والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله تعالى حرمة منك ، ماله
ودمه وأن يظن به إلا خيرا» تفرد به ابن ماجة
__________________
من هذا الوجه ،
وقال مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله
صلىاللهعليهوسلم : «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ، ولا تجسسوا ولا
تحسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ، ولا تباغضوا ولا تدابروا ، وكونوا عباد الله
إخوانا» رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى بن يحيى
وأبو داود عن العتبي عن مالك به.
وقال سفيان بن
عيينة عن الزهري عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا ،
وكونوا عباد الله إخوانا ، ولا يحل للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام» رواه مسلم والترمذي وصححه من حديث سفيان بن عيينة به. وقال
الطبراني : حدثنا محمد بن عبد الله القرمطي العدوي ، حدثنا بكر بن عبد الوهاب
المدني ، حدثنا إسماعيل بن قيس الأنصاري ، حدثني عبد الرحمن بن محمد بن أبي الرجال
عن أبيه ، عن جده حارثة بن النعمان رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ثلاث لازمات لأمتي : الطيرة والحسد وسوء الظن» فقال رجل
: وما يذهبهن يا رسول الله ممن هن فيه؟ قال صلىاللهعليهوسلم : «إذا حسدت فاستغفر الله ، وإذا ظننت فلا تحقق ، وإذا
تطيرت فامض».
وقال أبو داود : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش
عن زيد رضي الله عنه قال : أتي ابن مسعود رضي الله عنه برجل فقيل له : هذا فلان
تقطر لحيته خمرا ، فقال عبد الله رضي الله : إنا قد نهينا عن التجسس ولكن إن يظهر
لنا شيء نأخذ به. سماه ابن أبي حاتم في روايته الوليد بن عقبة بن أبي معيط.
وقال الإمام أحمد : حدثنا هاشم ، حدثنا ليث عن إبراهيم بن نشيط الخولاني عن
كعب بن علقمة عن أبي الهيثم عن دخين كاتب عقبة قال : قلت لعقبة : إن لنا جيرانا
يشربون الخمر وأنا داع لهم الشرط فيأخذونهم. قال : لا تفعل ولكن عظهم وتهددهم ،
قال : ففعل فلم ينتهوا. قال : فجاءه دخين فقال : إني قد نهيتهم فلم ينتهوا وإني
داع لهم الشرط فتأخذهم ، فقال له عقبة : ويحك لا تفعل؟ فإني سمعت رسول الله يقول :
«من ستر عورة مؤمن فكأنما استحيا موؤودة من قبرها» ورواه أبو داود والنسائي من حديث الليث بن سعد به نحوه ،
وقال سفيان الثوري عن ثور عن راشد بن سعد عن معاوية رضي الله عنه قال : سمعت رسول
الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «إنك إن
اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم» فقال أبو الدرداء رضي الله
__________________
عنه كلمة سمعها
معاوية رضي الله عنه من رسول الله صلىاللهعليهوسلم نفعه الله تعالى بها ، ورواه أبو داود منفردا به من حديث الثوري به.
وقال أبو داود
أيضا : حدثنا سعيد بن عمرو الحضرمي ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، حدثنا ضمضم بن زرعة
عن شريح بن عبيد عن جبير بن نفير وكثير بن مرة ، وعمرو بن الأسود والمقدام بن معد
يكرب وأبي أمامة رضي الله عنهم عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم» .
(وَلا تَجَسَّسُوا) أي على بعضكم بعضا والتجسس غالبا يطلق في الشر ومنه
الجاسوس. وأما التحسس فيكون غالبا في الخير كما قال عزوجل إخبارا عن يعقوب أنه قال (يا بَنِيَّ اذْهَبُوا
فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ) [يوسف : ٨٧] وقد
يستعمل كل منهما في الشر كما ثبت في الصحيح أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «لا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ،
وكونوا عباد الله إخوانا» وقال الأوزاعي : التجسس البحث عن الشيء. والتحسس
الاستماع إلى حديث القوم وهم له كارهون أو يستمع على أبوابهم ، والتدابر : الصرم ،
رواه ابن أبي حاتم عنه.
وقوله تعالى : (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) فيه نهي عن الغيبة ، وقد فسرها الشارع كما جاء في الحديث
الذي رواه أبو داود : حدثنا القعنبي ، حدثنا عبد العزيز بن محمد عن العلاء عن أبيه
عن أبي هريرة قال : قيل يا رسول الله ما الغيبة؟ قال صلىاللهعليهوسلم : «ذكرك أخاك بما يكره» قيل : أفرأيت إن كان في أخي ما
أقول؟ قال صلىاللهعليهوسلم إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه ما تقول
فقد بهته» ورواه الترمذي عن قتيبة عن الدراوردي به وقال : حسن صحيح.
ورواه ابن جرير عن بندار عن غندر عن شعبة عن العلاء. وهكذا قال ابن عمر رضي الله
عنهما ومسروق وقتادة وأبو إسحاق ومعاوية بن قرة. وقال أبو داود : حدثنا مسدد ،
حدثنا يحيى عن سفيان ، حدثني علي بن الأقمر عن أبي حذيفة عن عائشة رضي الله عنها
قالت : قلت للنبيصلىاللهعليهوسلم حسبك من صفية كذا وكذا. قال غير مسدد : تعني قصيرة ، فقال صلىاللهعليهوسلم : «لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته» قالت : وحكيت
له إنسانا فقال صلىاللهعليهوسلم : «ما أحب أني حكيت إنسانا وإن لي كذا وكذا» ورواه الترمذي من حديث يحيى القطان وعبد الرحمن بن مهدي
ووكيع ثلاثتهم عن سفيان الثوري ، عن علي بن الأقمر عن أبي حذيفة سلمة بن صهيب
الأرحبي عن عائشة رضي الله عنها به وقال : حسن صحيح.
__________________
وقال ابن جرير : حدثني ابن أبي الشوارب ، حدثنا عبد الواحد بن زياد ،
حدثنا سليمان الشيباني ، حدثنا حسان بن المخارق أن امرأة دخلت على عائشة رضي الله
عنها ، فلما قامت لتخرج أشارت عائشة رضي الله عنها بيدها إلى النبي صلىاللهعليهوسلم أي إنها قصيرة فقال النبي صلىاللهعليهوسلم «اغتبتها» والغيبة محرمة بالإجماع ، ولا يستثنى من ذلك إلا
من رجحت مصلحته ، كما في الجرح والتعديل والنصيحة كقوله صلىاللهعليهوسلم ، لما استأذن عليه ذلك الرجل الفاجر : «ائذنوا له بئس أخو
العشيرة!» وكقوله صلىاللهعليهوسلم لفاطمة بنت قيس رضي الله عنها ، وقد خطبها معاوية وأبو
الجهم : «أما معاوية فصعلوك ، وأما أبو الجهم فلا يضع عصاه عن عاتقه» وكذا ما جرى مجرى ذلك ، ثم بقيتها على الترحيم الشديد ،
وقد ورد فيها الزجر الأكيد ، ولهذا شبهها تبارك وتعالى بأكل اللحم من الإنسان
الميت كما قال عزوجل : (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ
أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ) [الحجرات : ١٢] أي
كما تكرهون هذا طبعا فاكرهوه ذاك شرعا ، فإن عقوبته أشد من هذا ، وهذا من التنفير
عنها والتحذير منها كما قال صلىاللهعليهوسلم في العائد في هبته : «كالكلب يقيء ثم يرجع في قيئه» وقد قال : «ليس لنا مثل السوء» وثبت في الصحاح والحسان والمسانيد من غير وجه أنه صلىاللهعليهوسلم قال في خطبة الوداع : «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم
حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا» .
وقال أبو داود :
حدثنا واصل بن عبد الأعلى ، حدثنا أسباط بن محمد عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن
أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «كل المسلم على المسلم حرام ماله وعرضه ودمه ، حسب امرئ
من الشر أن يحقر أخاه المسلم» ورواه الترمذي عن عبيد بن أسباط بن محمد عن أبيه به وقال :
حسن غريب.
وحدثنا عثمان بن
أبي شيبة : حدثنا الأسود بن عامر ، حدثنا أبو بكر بن عياش عن الأعمش
__________________
عن سعيد بن عبد
الله بن جريج عن أبي برزة الأسلمي قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «يا معشر من آمن
بلسانه ولم يدخل الإيمان في قلبه ، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم ، فإنه
من يتبع عوراتهم يتبع الله عورته ، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته» تفرد به أبو داود وقد روي من حديث البراء بن عازب. فقال
الحافظ أبو يعلى في مسنده : حدثنا إبراهيم بن دينار ، حدثنا مصعب بن سلام عن حمزة
بن حبيب الزيات ، عن أبي إسحاق السبيعي عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال :
خطبنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم حتى أسمع العواتق في بيوتها ـ أو قال ـ في خدورها ، فقال :
يا معشر من آمن بلسانه ، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم ، فإنه من يتبع
عورة أخيه يتبع الله عورته ، ومن يتبع الله عورته يفضحه في جوف بيته».
[طريق أخرى] عن
ابن عمر. قال أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي : حدثنا عبد الله بن ناجية ،
حدثنا يحيى بن أكثم ، حدثنا الفضل بن موسى الشيباني عن الحسين بن واقد عن أوفى بن
دلهم عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «يا معشر من آمن بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه ،
لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم ، فإنه من يتبع عورات المسلمين يتبع الله
عورته ، ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله» قال : ونظر ابن عمر يوما إلى
الكعبة فقال : ما أعظمك وأعظم حرمتك وللمؤمن أعظم حرمة عند الله منك .
قال أبو داود :
حدثنا حيوة بن شريح ، حدثنا قتيبة عن ابن ثوبان عن أبيه عن مكحول ، عن وقاص بن
ربيعة عن المستورد أنه حدثه أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «من أكل برجل مسلم أكلة فإن الله يطعمه مثلها في
جهنم ، ومن كسي ثوبا برجل مسلم فإن الله يكسوه مثله في جهنم ، ومن قام برجل مقام
سمعة ورياء فإن الله تعالى يقوم به مقام سمعة ورياء يوم القيامة» تفرد به أبو داود. وحدثنا ابن مصفى حدثنا بقية وأبو
المغيرة ، قالا : حدثنا صفوان ، حدثني راشد بن سعد وعبد الرحمن بن جبير عن أنس بن
مالك قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم
وصدورهم ، قلت : من هؤلاء يا جبرائيل؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون
في أعراضهم» تفرد به أبو داود وهكذا رواه الإمام أحمد عن أبي المغيرة عبد القدوس بن الحجاج الشامي به.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن عبدة ، أخبرنا أبو عبد الصمد عبد العزيز بن عبد الصمد
العمي ، أخبرنا أبو هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري قال : قلنا
__________________
يا رسول الله
حدثنا ما رأيت ليلة أسري بك؟ قال : ثم انطلق بي إلى خلق من خلق الله كثير ، رجال
ونساء موكل بهم رجال يعمدون إلى عرض جنب أحدهم ، فيجذون منه الجذة من مثل النعل ثم
يضعونه في أحدهم. فيقال له كل كما أكلت وهو يجد من أكله الموت يا محمد لو يجد
الموت وهو يكره عليه ، فقلت : يا جبرائيل من هؤلاء؟ قال : هؤلاء الهمازون
واللمازون أصحاب النميمة ، فيقال : (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ
أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ) وهو يكره على أكل لحمه ، هكذا أورد هذا الحديث وقد سقناه
بطوله في أول تفسير سورة سبحان ولله الحمد والمنة.
وقال أبو داود
الطيالسي في مسنده : حدثنا الربيع عن يزيد عن أنس أن رسول اللهصلىاللهعليهوسلم أمر الناس أن يصوموا يوما ولا يفطرن أحد حتى آذن له ، فصام
الناس ، فلما أمسوا جعل الرجل يجيء إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فيقول ظللت منذ اليوم صائما فائذن لي فأفطر فأذن له ويجيء
الرجل فيقول ذلك ، فيأذن له حتى جاء رجل فقال : يا رسول الله إن امرأتين من أهلك
ظلتا منذ اليوم صائمتين ، فائذن لهما فليفطرا ، فأعرض عنه ثم أعاد ، فقال رسول
الله صلىاللهعليهوسلم : «ما صامتا ، وكيف صام ظل يأكل من لحوم الناس؟ اذهب
فمرهما إن كانتا صائمتين أن يستقيئا» ففعلتا ، فقاءت كل واحدة منهما علقة علقة ،
فأتى النبي صلىاللهعليهوسلم فأخبره ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لو ماتتا وهما فيهما لأكلتهما النار» إسناد ضعيف ومتن
غريب. وقد رواه الحافظ البيهقي من حديث يزيد بن هارون.
حدثنا سليمان
التيمي قال : سمعت رجلا يحدث في مجلس أبي عثمان النهدي عن عبيد مولى رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن امرأتين صامتا على عهد رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وأن رجلا أتى رسول اللهصلىاللهعليهوسلم فقال : يا رسول الله إن هاهنا امرأتين صامتا وإنهما كادتا
تموتان من العطش ، أراه قال بالهاجرة ، فأعرض عنه أو سكت عنه ، فقال : يا نبي الله
إنهما والله قد ماتتا أو كادتا تموتان ، فقال : ادعهما. فجاءتا قال : فجيء بقدح أو
عس ، فقال لإحداهما قيئي. فقاءت من قيح ودم وصديد حتى قاءت نصف القدح ، ثم قال
للأخرى : قيئي ، فقاءت قيحا ودما وصديدا ولحما ودما عبيطا وغيره حتى ملأت القدح ، ثم قال : «إن هاتين صامتا عما أحل
الله تعالى لهما وأفطرنا على ما حرم الله عليهما ، جلست إحداهما إلى الأخرى فجعلتا
تأكلان لحوم الناس». وهكذا قد رواه الإمام أحمد عن يزيد بن هارون وابن أبي عدي ، كلاهما عن سليمان بن
طرخان التيمي به مثله أو نحوه ، ثم رواه أيضا من حديث مسدد عن يحيى القطان عن عثمان
بن غياث. حدثني رجل أظنه في حلقة أبي عثمان عن سعد مولى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، أنهم أمروا بصيام ، فجاء رجل في نصف النهار فقال : يا
رسول الله فلانة وفلانة قد بلغتا الجهد فأعرض عنه مرتين أو
__________________
ثلاثا ثم قال «ادعهما»
فجاء بعس أو قدح فقال لإحداهما : قيئي. فقاءت لحما ودما عبيطا وقيحا ، وقال للأخرى
مثل ذلك ثم قال : إن هاتين صامتا عما أحل الله لهما وأفطرتا على ما حرم الله
عليهما. أتت إحداهما للأخرى فلم تزالا تأكلان لحوم الناس حتى امتلأت أجوافهما
قيحا. قال البيهقي : كذا قال عن سعد ، والأول وهو عبيد أصح.
وقال الحافظ أبو
يعلى : حدثنا عمرو بن الضحاك بن مخلد ، حدثنا أبي ، حدثنا أبو عاصم ، حدثنا ابن
جريج ، أخبرني أبو الزبير عن ابن عمّ لأبي هريرة أنّ ماعزا جاء إلى رسول اللهصلىاللهعليهوسلم فقال : يا رسول الله إني قد زنيت ، فأعرض عنه حتى قالها
أربعا ، فلما كان في الخامسة قال : زنيت؟ قال : نعم قال : وتدري ما الزنا؟ قال :
نعم أتيت منها حراما ما يأتي الرجل من امرأته حلالا. قال : ما تريد إلى هذا القول؟
قال : أريد أن تطهرني. قال : فقال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم : أدخلت ذلك منك في ذلك منها كما يغيب الميل في المكحلة
والرشا في البئر؟ قال : نعم يا رسول الله قال : فأمر برجمه ، فرجم ، فسمع النبي صلىاللهعليهوسلم رجلين يقول أحدهما لصاحبه : ألم تر إلى هذا الذي ستر الله
عليه ، فلم تدعه نفسه حتى رجم رجم الكلب؟ ثم سار النبيصلىاللهعليهوسلم حتى مر بجيفة حمار فقال : «أين فلان وفلان؟ انزلا فكلا من
جيفة هذا الحمار» قالا : غفر الله لك يا رسول الله وهل يؤكل هذا؟ قال صلىاللهعليهوسلم : «فما نلتما من أخيكما آنفا أشد أكلا منه ، والذي نفسي
بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها» إسناد صحيح.
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد ، حدثني أبي. حدثنا واصل مولى ابن عيينة
، حدثني خالد بن عرفطة عن طلحة بن نافع عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال :
كنا مع النبيصلىاللهعليهوسلم فارتفعت ريح جيفة منتنة. فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أتدرون ما هذه الريح؟ هذه ريح الذين يغتابون الناس».
[طريق أخرى] قال
عبد بن حميد في مسنده : حدثنا إبراهيم بن الأشعث ، حدثنا الفضيل بن عياض عن سليمان
عن أبي سفيان وهو طلحة بن نافع عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : كنا مع
النبي صلىاللهعليهوسلم في سفر فهاجت ريح منتنة ، فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «إن نفرا من المنافقين اغتابوا ناسا من المسلمين فلذلك
بعثت هذه الريح» وربما قال «فلذلك هاجت هذه الريح» وقال السدي في قوله تعالى : (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ
لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً) زعم أن سلمان الفارسي رضي الله عنه كان مع رجلين من أصحاب
النبي صلىاللهعليهوسلم في سفر يخدمهما ويخف لهما وينال من طعامهما ، وأن سلمان
رضي الله عنه لما سار الناس ذات يوم ، وبقي سلمان رضي الله عنه نائما لم يسر معهم
، فجعل صاحباه يكلمانه فلم يجداه ، فضربا الخباء فقالا : ما يريد سلمان أو هذا
__________________
العبد شيئا غير
هذا أن يجيء إلى طعام مقدور وخباء مضروب ، فلما جاء سلمان أرسلاه إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم يطلب لهما إداما ، فانطلق فأتى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ومعه قدح له فقال : يا رسول الله بعثني أصحابي لتؤدمهم إن
كان عندك. قال صلىاللهعليهوسلم : «ما يصنع أصحابك بالأدم؟ قد ائتدموا» فرجع سلمان رضي
الله عنه يخبرهما بقول رسول الله صلىاللهعليهوسلم فانطلقا حتى أتيا رسول الله فقالا : والذي بعثك بالحق ما
أصبنا طعاما منذ نزلنا. قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إنكما قد ائتدمتما بسلمان بقولكما» قال : ونزلت (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ
لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً) إنه كان نائما.
وروى الحافظ
الضياء المقدسي في كتابه المختار من طريق حبّان بن هلال عن حماد بن سلمة عن ثابت ،
عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، قال : كانت العرب تخدم بعضها بعضا في الأسفار ،
وكان مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، رجل يخدمهما فناما فاستيقظا ولم يهيئ لهما
طعاما فقالا : إن هذا لنؤوم فأيقظاه ، فقالا له : ائت رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقل له إن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما يقرئانك السلام
ويستأدمانك فقال صلىاللهعليهوسلم : «إنهما قد ائتدما» فجاءا فقالا يا رسول الله بأي شيء
ائتدمنا؟ فقال صلىاللهعليهوسلم : «بلحم أخيكما ، والذي نفسي بيده إني لأرى لحمه بين ثناياكما»
فقالا رضي الله عنهما : استغفر لنا يا رسول الله ، فقال صلىاللهعليهوسلم «مراه فليستغفر
لكما».
وقال الحافظ أبو
يعلى : حدثنا الحكم بن موسى ، حدثنا محمد بن مسلم عن محمد بن إسحاق ، عن عمه موسى
بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من أكل من لحم أخيه في الدنيا قرب الله إليه لحمه في
الآخرة فيقال له كله ميتا كما أكلته حيا ـ قال ـ فيأكله ويكلح ويصيح» غريب جدا.
وقوله عزوجل : (وَاتَّقُوا اللهَ) أي فيما أمركم به ونهاكم عنه فراقبوه في ذلك واخشوا منه (إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) أي تواب على من تاب إليه رحيم لمن رجع إليه واعتمد عليه.
قال الجمهور من العلماء : طريق المغتاب للناس في توبته أن يقلع عن ذلك ويعزم على
أن لا يعود ، وهل يشترط الندم على ما فات؟ فيه نزاع ، وأن يتحلل من الذي اغتابه.
وقال آخرون : لا يشترط أن يتحلله فإنه إذا أعلمه بذلك ربما تأذى أشد مما إذا لم
يعلم بما كان منه فطريقه إذا أن يثني عليه بما فيه في المجالس التي كان يذمه فيها
، وأن يرد عنه الغيبة بحسبه وطاقته ، فتكون تلك بتلك كما قال الإمام أحمد ، حدثنا أحمد بن الحجاج ، حدثنا عبد الله ، أخبرنا يحيى بن
أيوب عن عبد الله بن سليمان أن إسماعيل بن يحيى المعافري أخبره أن سهل بن معاذ بن
أنس الجهني أخبره عن أبيه رضي الله عنه عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «من حمى مؤمنا من منافق يغتابه ، بعث الله تعالى
إليه ملكا يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنم ، ومن رمى مؤمنا بشيء
__________________
يريد سبه حبسه
الله تعالى على جسر جهنم حتى يخرج مما قال» وكذا رواه أبو داود من حديث عبد الله وهو ابن المبارك به
بنحوه. وقال أبو داود أيضا : حدثنا إسحاق بن الصباح ، حدثنا ابن أبي مريم ، أخبرنا
الليث ، حدثني يحيى بن سليم أنه سمع إسماعيل بن بشير يقول : سمعت جابر بن عبد الله
وأبا طلحة بن سهل الأنصاري رضي الله عنهما يقولان قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ما من امرئ يخذل امرءا مسلما في موضع تنتهك فيه حرمته
وينتقص فيه من عرضه ، إلا خذله الله تعالى في مواطن يحب فيها نصرته ، وما من امرئ
ينصر امرءا مسلما في موضع ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا نصره عزوجل في مواطن يحب فيها نصرته» تفرد به أبو داود .
(يا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ
لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ
خَبِيرٌ) (١٣)
يقول تعالى مخبرا
للناس أنه خلقهم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ، وهما آدم وحواء ، وجعلهم شعوبا
وهي أعم من القبائل ، وبعد القبائل مراتب أخر كالفصائل والعشائر والعمائر والأفخاذ
وغير ذلك ، وقيل : المراد بالشعوب بطون العجم ، وبالقبائل بطون العرب ، كما أن
الأسباط بطون بني إسرائيل ، وقد لخصت هذا في مقدمة مفردة جمعتها من كتاب الإنباه
لأبي عمر بن عبد البر ، ومن كتاب (القصد والأمم في معرفة أنساب العرب والعجم)
فجميع الناس في الشرف بالنسبة الطينية إلى آدم وحواء عليهماالسلام سواء ، وإنما يتفاضلون بالأمور الدينية وهي طاعة الله
تعالى ومتابعة رسوله صلىاللهعليهوسلم ، ولهذا قال تعالى بعد النهي عن الغيبة واحتقار بعض الناس
بعضا ، منبها على تساويهم في البشرية (يا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ
لِتَعارَفُوا) أي ليحصل التعارف بينهم كل يرجع إلى قبيلته ، وقال مجاهد
في قوله عزوجل (لِتَعارَفُوا) كما يقال فلان بن فلان من كذا وكذا أي من قبيلة كذا وكذا ،
وقال سفيان الثوري : كانت حمير ينتسبون إلى مخاليفها ، وكانت عرب الحجاز ينتسبون
إلى قبائلها.
وقد قال أبو عيسى
الترمذي : حدثنا أحمد بن محمد ، حدثنا عبد الله بن المبارك عن عبد الملك بن عيسى
الثقفي ، عن يزيد مولى المنبعث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيصلىاللهعليهوسلم قال : «تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم ، فإن صلة
الرحم محبة في الأهل مثراة في المال منسأة في الأثر» ثم قال غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
__________________
وقوله تعالى : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ
أَتْقاكُمْ) أي إنما تتفاضلون عند الله تعالى بالتقوى لا بالأحساب ،
وقد وردت الأحاديث بذلك عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
قال البخاري رحمهالله : حدثنا محمد بن سلام ، حدثنا عبدة عن عبيد الله عن سعيد
بن أبي سعيد رضي الله عنه عن أبي هريرة قال : سئل رسول الله صلىاللهعليهوسلم أي الناس أكرم؟ قال : «أكرمهم عند الله أتقاهم» قالوا :
ليس عن هذا نسألك. قال : «فأكرم الناس يوسف نبي الله ، ابن نبي الله ، ابن نبي
الله ابن خليل الله» قالوا : ليس عن هذا نسألك. قال : «فعن معادن العرب تسألوني»؟ قالوا
: نعم. قال : «فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا» وقد رواه البخاري في غير موضع من طرق عن عبدة بن سليمان ،
ورواه النسائي في التفسير من حديث عبيد الله وهو ابن عمر العمري به.
[حديث آخر] قال
مسلم رحمهالله : حدثنا عمرو الناقد ، حدثنا كثير بن هشام ، حدثنا جعفر بن
برقان عن يزيد بن الأصم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم : «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى
قلوبكم وأعمالكم» ورواه ابن ماجة عن أحمد بن سنان عن كثير بن هشام به.
[حديث آخر] وقال
الإمام أحمد : حدثنا وكيع عن أبي هلال عن بكر عن أبي ذر رضي الله عنه
قال : إن النبي صلىاللهعليهوسلم قال له : «انظر فإنك لست بخير من أحمر ولا أسود إلا أن
تفضله بتقوى الله» تفرد به أحمد رحمهالله.
[حديث آخر] وقال
الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا أبو عبيدة عبد الوارث بن إبراهيم العسكري ،
حدثنا عبد الرحمن بن عمرو بن جبلة ، حدثنا عبيد بن حنين الطائي ، سمعت محمد بن
حبيب بن خراش العصري يحدث عن أبيه رضي الله عنه أنه سمع رسول اللهصلىاللهعليهوسلم يقول : «المسلمون إخوة لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى».
[حديث آخر] قال
أبو بكر البزار في مسنده : حدثنا أحمد بن يحيى الكوفي ، حدثنا الحسن بن الحسين ،
حدثنا قيس يعني ابن الربيع عن شبيب بن غرقدة ، عن المستظل بن حصين عن حذيفة رضي
الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «كلكم بنو آدم وآدم خلق من تراب ، ولينتهين قوم يفخرون
بآبائهم أو ليكونن أهون على الله تعالى من الجعلان» . ثم قال لا نعرفه
__________________
عن حذيفة إلا من
هذا الوجه.
[حديث آخر] قال
ابن أبي حاتم : حدثنا الربيع بن سليمان ، حدثنا أسد بن موسى ، حدثنا يحيى بن زكريا
القطان ، حدثنا موسى بن عبيدة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر رضي الله عنهما قال
: طاف رسول الله صلىاللهعليهوسلم يوم فتح مكة على ناقته القصواء يستلم الأركان بمحجن في يده ، فما وجد لها مناخا في المسجد حتى نزل صلىاللهعليهوسلم على أيدي الرجال ، فخرج بها إلى بطن المسيل فأنيخت ، ثم إن
رسول الله صلىاللهعليهوسلم خطبهم على راحلته فحمد الله تعالى وأثنى عليه بما هو له
أهل ثم قال : «يا أيها الناس إن الله تعالى قد أذهب عنكم عبّيّة الجاهلية وتعظمها
بآبائها ، فالناس رجلان : رجل بر تقي كريم على الله تعالى ، ورجل فاجر شقي هين على
الله تعالى ، إن الله عزوجل يقول : (يا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ
لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ
خَبِيرٌ) ـ ثم قال صلىاللهعليهوسلم ـ أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم» هكذا رواه عبد بن
حميد عن أبي عاصم الضحاك عن مخلد عن موسى بن عبيدة به.
[حديث آخر] قال
الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن إسحاق ، حدثنا ابن لهيعة عن الحارث بن
يزيد عن علي بن رباح ، عن عقبة بن عامر رضي الله عنهما قال إن رسول اللهصلىاللهعليهوسلم قال : «إن أنسابكم هذه ليست بمسبة على أحد ، كلكم بنو آدم
طف الصاع لم يملؤوه ، ليس لأحد على أحد فضل إلا بدين وتقوى ، وكفى
بالرجل أن يكون بذيا بخيلا فاحشا». وقد رواه ابن جرير عن يونس عن ابن وهب عن ابن لهيعة به ولفظه «الناس لآدم
وحواء طف الصاع لم يملؤوه ، إن الله لا يسألكم عن أحسابكم ولا عن أنسابكم يوم
القيامة ، إن أكرمكم عند الله أتقاكم». وليس هو في شيء من الكتب الستة من هذا
الوجه.
[حديث آخر] قال
الإمام أحمد : حدثنا أحمد بن عبد الملك ، حدثنا شريك عن سماك عن عبد
الله بن عميرة زوج درة بنت أبي لهب ، عن درة بنت أبي لهب رضي الله عنها قالت : قام
رجل إلى النبي صلىاللهعليهوسلم وهو على المنبر فقال : يا رسول الله أي الناس خير؟ قال صلىاللهعليهوسلم : «خير الناس أقرأهم وأتقاهم لله عزوجل ، وآمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأوصلهم للرحم».
[حديث آخر] قال
الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا أبو الأسود عن
__________________
القاسم بن محمد عن
عائشة رضي الله عنها قالت : ما أعجب رسول الله صلىاللهعليهوسلم شيء من الدنيا ولا أعجبه أحد قط إلا ذو تقى ، تفرد به
أحمد.
وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) أي عليم بكم خبير بأموركم ، فيهدي من يشاء ويضل من يشاء ،
ويرحم من يشاء ، ويعذب من يشاء ، ويفضل من يشاء على من يشاء ، وهو الحكيم العليم
الخبير في ذلك كله ، وقد استدل بهذه الآية الكريمة وهذه الآحاديث الشريفة من ذهب
من العلماء إلى أن الكفاءة في النكاح لا تشترط ولا يشترط سوى الدين لقوله تعالى : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ
أَتْقاكُمْ) وذهب الآخرون إلى أدلة أخرى مذكورة في كتب الفقه ، وقد
ذكرنا طرفا من ذلك في (كتاب الأحكام) ولله الحمد والمنة ، وقد روى الطبراني عن عبد
الرحمن أنه سمع رجلا من بني هاشم يقول : أنا أولى الناس برسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال غيره : أنا
أولى به منك ولك منه نسبة.
(قالَتِ الْأَعْرابُ
آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ
الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ
مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا
وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ
الصَّادِقُونَ (١٥) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ
اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ
وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٦) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ
أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ
عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٧)
إِنَّ
اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ)
(١٨)
يقول تعالى منكرا
على الأعراب الذين أول ما دخلوا في الإسلام ادعوا لأنفسهم مقام الإيمان ولم يتمكن
الإيمان في قلوبهم بعد : (قالَتِ الْأَعْرابُ
آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ
الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) وقد استفيد من هذه الآية الكريمة أن الإيمان أخص من
الإسلام كما هو مذهب أهل السنة والجماعة ، ويدل عليه حديث جبريل عليه الصلاة
والسلام حين سأل عن الإسلام ثم عن الإيمان ثم عن الإحسان ، فترقى من الأعم إلى
الأخص ثم للأخص منه.
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر عن الزهري عن عامر بن
سعد بن أبي وقاص عن أبيه رضي الله عنهما قال : أعطى رسول الله صلىاللهعليهوسلم رجالا ولم يعط رجلا منهم شيئا ، فقال سعد رضي الله تعالى
عنه : يا رسول الله أعطيت فلانا وفلانا ولم تعط فلانا شيئا ، وهو مؤمن ، فقال
النبي صلىاللهعليهوسلم : أو مسلم؟ حتى أعادها سعد رضي الله عنه ثلاثا والنبي صلىاللهعليهوسلم يقول : أو مسلم؟ ثم قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «إني لأعطي رجالا وأدع من هو أحب إلي منهم ، فلا أعطيه
شيئا
__________________
مخافة أن يكبوا في
النار على وجوههم» أخرجاه في الصحيحين من حديث الزهري به ، فقد فرق النبي صلىاللهعليهوسلم بين المؤمن والمسلم ، فدل على أن الإيمان أخص من الإسلام ،
وقد قررنا ذلك بأدلته في أول شرح كتاب الإيمان من صحيح البخاري ولله الحمد والمنة.
ودل ذلك على أن ذاك الرجل كان مسلما ليس منافقا لأنه تركه من العطاء ، ووكله إلى
ما هو فيه من الإسلام ، فدل هذا على أن هؤلاء الأعراب المذكورين في هذه الآية
ليسوا بمنافقين وإنما هم مسلمون لم يستحكم الإيمان في قلوبهم ، فادعوا لأنفسهم
مقاما أعلى مما وصلوا إليه فأدبوا في ذلك ، وهذا معنى قول ابن عباس رضي الله عنهما
وإبراهيم النخعي وقتادة واختاره ابن جرير . وإنما قلنا هذا لأن البخاري رحمهالله ذهب إلى أن هؤلاء كانوا منافقين يظهرون الإيمان وليسوا
كذلك.
وقد روي عن سعيد
بن جبير ومجاهد وابن زيد أنهم قالوا في قوله تبارك وتعالى : (وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) أي استسلمنا خوف القتل والسبي. قال مجاهد : نزلت في بني
أسد بن خزيمة. وقال قتادة : نزلت في قوم امتنوا بإيمانهم على رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، والصحيح الأول أنهم قوم ادعوا لأنفسهم مقام الإيمان ، ولم
يحصل لهم بعد فأدبوا وأعلموا أن ذلك لم يصلوا إليه بعد ، ولو كانوا منافقين لعنفوا
وفضحوا كما ذكر المنافقون في سورة براءة ، وإنما قيل لهؤلاء تأديبا : (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا
أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) أي لم تصلوا إلى حقيقة الإيمان بعد. ثم قال تعالى : (وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا
يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً) أي لا ينقصكم من أجوركم (شَيْئاً) كقوله عزوجل : (وَما أَلَتْناهُمْ
مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) [الطور : ٢١]
وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ) أي لمن تاب إليه وأناب.
وقوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) أي إنما المؤمنون الكمل (الَّذِينَ آمَنُوا
بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا) أي لم يشكوا ولا تزلزلوا بل ثبتوا على حال واحدة هي
التصديق المحض (وَجاهَدُوا
بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي وبذلوا مهجهم ونفائس أموالهم في طاعة الله ورضوانه (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) أي في قولهم إذا قالوا إنهم مؤمنون ، لا كبعض الأعراب
الذين ليس لهم من الإيمان إلا الكلمة الظاهرة.
وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن غيلان ، حدثنا رشدين ، حدثنا عمرو بن
الحارث عن أبي السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد رضي الله عنه قال : إن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «المؤمنون في الدنيا على ثلاثة أجزاء : الذين آمنوا
بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ، والذي يأمنه
الناس على أموالهم وأنفسهم ، والذي إذا أشرف على طمع تركه لله
__________________
عزوجل» وقوله سبحانه وتعالى : (قُلْ أَتُعَلِّمُونَ
اللهَ بِدِينِكُمْ) أي أتخبرونه بما في ضمائركم (وَاللهُ يَعْلَمُ ما
فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي لا يخفى عليه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا
أصغر من ذلك ولا أكبر (وَاللهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ).
ثم قال تعالى : (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا) يعني الأعراب الذين يمنون بإسلامهم ومتابعتهم ونصرتهم على
الرسول صلىاللهعليهوسلم يقول الله تعالى ردا عليهم : (قُلْ لا تَمُنُّوا
عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ) فإن نفع ذلك إنما يعود عليكم ولله المنة عليكم فيه (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ
هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي في دعواكم ذلك كما قال النبي صلىاللهعليهوسلم للأنصار يوم حنين : «يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلّالا
فهداكم الله بي؟ وكنتم متفرقين فألفكم الله بي؟ وكنتم عالة فأغناكم الله بي؟» كلما
قال شيئا قالوا : الله ورسوله أمن .
وقال الحافظ أبو
بكر البزار : حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري ، حدثنا يحيى بن سعيد الأموي عن محمد
بن قيس عن أبي عون ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاءت بنو
أسد إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقالوا : يا رسول الله أسلمنا وقاتلتك العرب ولم تقاتلك.
فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : إن فقههم قليل وإن الشيطان ينطق على ألسنتهم. ونزلت هذه
الآية (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ
أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ
عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ثم قال : لا نعلمه يروى إلا من هذا الوجه ، ولا نعلم روى
أبو عون محمد بن عبيد الله عن سعيد بن جبير غير هذا الحديث ثم كرر الإخبار بعلمه
بجميع الكائنات وبصره بأعمال المخلوقات فقال : (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ
غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) آخر تفسير سورة الحجرات ، ولله الحمد والمنة وبه التوفيق
والعصمة.
__________________
تفسير سورة ق
وهي مكية
وهذه السورة هي
أول الحزب المفصل على الصحيح وقيل من الحجرات. وأما ما يقوله العامة إنه من (عم)
فلا أصل له ولم يقله أحد من العلماء رضي الله عنهم المعتبرين فيما نعلم.
والدليل على أن
هذه السورة هي أول المفصل ما رواه أبو داود في سننه باب تحزيب القرآن ثم قال :
حدثنا مسدد ، حدثنا قران بن تمام ، وحدثنا عبد الله بن سعيد أبو سعيد الأشج ،
حدثنا أبو خالد ، سليمان بن حيّان ، وهذا لفظه عن عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى
عن عثمان بن عبد الله بن أوس عن جده ، قال عبد الله بن سعيد : حدثنيه أوس بن حذيفة
ثم اتفقا قال : قدمنا على رسول الله صلىاللهعليهوسلم في وفد ثقيف ، قال فنزلت الأحلاف على المغيرة بن شعبة رضي
الله عنه ، وأنزل الرسول صلىاللهعليهوسلم بني مالك في قبة له ، قال مسدد : وكان في الوفد الذين
قدموا على رسول الله صلىاللهعليهوسلم من ثقيف ، قال كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم كل ليلة يأتينا بعد العشاء يحدثنا ، قال أبو سعيد ، قائما
على رجليه حتى يراوح بين رجليه من طول القيام ، فأكثر ما يحدثنا بهصلىاللهعليهوسلم ما لقي من قومه قريش ثم يقول صلىاللهعليهوسلم : «لا سواء وكنا مستضعفين مستذلين ـ قال مسدد بمكة ـ فلما
خرجنا إلى المدينة كانت الحرب سجالا بيننا وبينهم ندال عليهم ويدالون علينا» فلما
كانت ليلة أبطأ صلىاللهعليهوسلم عن الوقت الذي كان يأتينا فيه ، فقلنا : لقد أبطأت علينا
الليلة ، قال صلىاللهعليهوسلم: «إنه طرأ على حزبي من القرآن فكرهت أن أجيء حتى أتمه» . قال أوس : سألت أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم كيف تحزبون القرآن؟ فقالوا : ثلاث وخمس وسبع وتسع وإحدى
عشرة وثلاث عشرة. وحزب المفصل وحده ، ورواه ابن ماجة عن أبي بكر بن أبي شيبة عن
أبي خالد الأحمر به ، ورواه الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن مهدي عن عبد الله بن عبد
الرحمن هو ابن يعلى الطائفي به. إذا علم هذا فإذا عددت ثمانيا وأربعين سورة فالتي
بعدهن سورة ق. بيانه ثلاث : البقرة وآل عمران والنساء. وخمس : المائدة والأنعام
والأعراف والأنفال وبراءة. وسبع : يونس وهود ويوسف والرعد وإبراهيم والحجر والنحل.
وتسع : سبحان والكهف ومريم وطه والأنبياء والحج والمؤمنون والنور والفرقان. وإحدى
عشرة : الشعراء والنمل والقصص والعنكبوت والروم ولقمان والم السجدة والأحزاب وسبأ
وفاطر ويس. وثلاث عشرة : الصافات وص والزمر وغافر وحم السجدة وحم عسق والزخرف
والدخان والجاثية والأحقاف والقتال والفتح والحجرات. ثم بعد ذلك الحزب المفصل كما
قاله الصحابة رضي الله عنهم. فتعين أن أوله سورة ق. وهو الذي قلنا ولله الحمد
والمنة.
__________________
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا مالك عن ضمرة بن سعيد
عن عبيد الله بن عبد الله أن عمر بن الخطاب سأل أبا واقد الليثي : ما كان رسول
اللهصلىاللهعليهوسلم يقرأ في العيد؟ قال : بقاف واقتربت ، ورواه مسلم وأهل السنن الأربعة من حديث مالك به. وفي
رواية لمسلم عن فليح عن ضمرة عن عبيد الله عن أبي واقد قال : سألني عمر رضي الله
عنه ، فذكره.
[حديث آخر] وقال
أحمد : حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي عن ابن إسحاق ، حدثني عبد الله بن محمد بن أبي بكر
بن عمرو بن حزم عن يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة ، عن أم هشام
بنت حارثة قالت : لقد كان تنورنا وتنور النبي صلىاللهعليهوسلم واحدا سنتين أو سنة وبعض سنة ، وما أخذت (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) إلا على لسان رسول الله ، وكان يقرؤها كل يوم جمعة على
المنبر إذا خطب الناس ، رواه مسلم من حديث ابن إسحاق به. وقال أبو داود : حدثنا
محمد بن بشار حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة عن خبيب عن عبد الله بن محمد بن معن
عن ابنة الحارث بن النعمان قالت ما حفظت (ق) إلا من في رسول الله صلىاللهعليهوسلم يخطب بها كل جمعة. قالت : وكان تنورنا وتنور رسول الله صلىاللهعليهوسلم واحدا ، وكذا رواه مسلم والنسائي وابن ماجة من حديث شعبة
به ، والقصد أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان يقرأ بهذه السورة في المجامع الكبار كالعيد والجمع
لاشتمالها على ابتداء الخلق ، والبعث والنشور والمعاد والقيام والحساب ، والجنة
والنار والثواب والعقاب والترغيب والترهيب ، والله أعلم.
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ
(١) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ
مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢) أَإِذا مِتْنا
وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (٣) قَدْ عَلِمْنا ما
تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (٤) بَلْ كَذَّبُوا
بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ)
(٥)
(ق) : حرف من حروف الهجاء المذكورة في أوائل السور كقوله تعالى
: (ص) ـ (ن) ـ (الم) ـ (حم) ـ (طس) ونحو ذلك ، قاله مجاهد وغيره وقد أسلفنا الكلام عليها في
أول سورة البقرة بما أغنى عن إعادته ، وقد روي عن بعض السلف أنهم قالوا : (ق) جبل
__________________
محيط بجميع الأرض
يقال له جبل قاف ، وكأن هذا ، والله أعلم ، من خرافات بني إسرائيل التي أخذها عنهم
بعض الناس لما رأى من جواز الرواية عنهم مما لا يصدق ولا يكذب ، وعندي أن هذا
وأمثاله وأشباهه من اختلاق بعض زنادقتهم ، يلبسون به على الناس أمر دينهم ، كما افترى
في هذه الأمة مع جلالة قدر علمائها وحفاظها وأئمتها أحاديث عن النبي صلىاللهعليهوسلم وما بالعهد من قدم فكيف بأمة بني إسرائيل مع طول المدى
وقلة الحفاظ النقاد فيهم وشربهم الخمور ، وتحريف علمائهم الكلم عن مواضعه وتبديل
كتب الله وآياته ، وإنما أباح الشارع الرواية عنهم في قوله : «وحدثوا عن بني
إسرائيل ولا حرج» فيما قد يجوزه العقل ، فأما فيما تحيله العقول ويحكم عليه
بالبطلان ويغلب على الظنون كذبه فليس من هذا القبيل ، والله أعلم.
وقد أكثر كثير من
السلف من المفسرين ، وكذا طائفة كثيرة من الخلف من الحكاية عن كتب أهل الكتاب في
تفسير القرآن المجيد ، وليس بهم احتياج إلى أخبارهم ، ولله الحمد والمنة ، حتى أن
الإمام أبا محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي ، رحمة الله عليه ، أورد هاهنا
أثرا غريبا لا يصح سنده عن ابن عباس رضي الله عنهما فقال : حدثنا أبي قال : حدثت
عن محمد بن إسماعيل المخزومي ، حدثنا ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن ابن عباس رضي
الله عنهما قال : خلق الله تبارك وتعالى من وراء هذه الأرض بحرا محيطا بها ، ثم
خلق من وراء ذلك البحر جبلا يقال له (ق) ، السماء الدنيا مرفوفة عليه ، ثم خلق الله تعالى من وراء ذلك الجبل أرضا مثل تلك الأرض
سبع مرات ، ثم خلق من وراء ذلك بحرا محيطا بها ، ثم خلق من وراء ذلك جبلا يقال له (ق) السماء الثانية مرفوفة عليه ، حتى عد سبع أرضين وسبعة أبحر
وسبعة أجبل وسبع سموات ، قال وذلك في قوله تعالى : (وَالْبَحْرُ
يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ) فإسناد هذا الأثر فيه انقطاع ، والذي رواه علي ابن أبي
طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عزوجل (ق) هو اسم من أسماء الله عزوجل والذي ثبت عن مجاهد أنه حرف من حروف الهجاء كقوله تعالى : (ص) ـ (ن) ـ (حم) ـ (طس) ـ (الم) ونحو ذلك ، فهذه تبعد ما تقدم عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وقيل : المراد قضي الأمر والله ، وأن قوله جل ثناؤه (ق) قال : دلت على المحذوف من بقية الكلم كقول الشاعر : [الرجز]
قلت لها قفي فقالت
قاف
وفي هذا التفسير
نظر لأن الحذف في الكلام إنما يكون إذا دل دليل عليه ، ومن أين
__________________
يفهم هذا من ذكر
هذا الحرف؟ وقوله تعالى : (وَالْقُرْآنِ
الْمَجِيدِ) أي الكريم العظيم الذي (لا يَأْتِيهِ
الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ
حَمِيدٍ) [فصلت : ٤٢]
واختلفوا في جواب القسم ما هو؟ فحكى ابن جرير عن بعض النحاة أنه قوله تعالى : (قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ
مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) وفي هذا نظر بل الجواب هو مضمون الكلام بعد القسم ، وهو
إثبات النبوة وإثبات المعاد وتقريره وتحقيقه ، وإن لم يكن القسم ملتقي لفظا ، وهذا
كثير في أقسام القرآن كما تقدم في قوله : (ص وَالْقُرْآنِ ذِي
الذِّكْرِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ) [ص : ٢] وهكذا قال
هاهنا : (ق وَالْقُرْآنِ
الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ
هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ) أي تعجبوا من إرسال رسول إليهم من البشر ، كقوله جل جلاله
: (أَكانَ لِلنَّاسِ
عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) [يونس : ٢] أي وليس هذا بعجيب فإن الله يصطفي من الملائكة
رسلا ومن الناس.
ثم قال عزوجل مخبرا عنهم في تعجبهم أيضا من المعاد واستبعادهم لوقوعه (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ
رَجْعٌ بَعِيدٌ) أي يقولون أإذا متنا وبلينا وتقطعت الأوصال منا وصرنا
ترابا ، كيف يمكن الرجوع بعد ذلك إلى هذه البنية والتركيب؟ (ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) أي بعيد الوقوع. ومعنى هذا أنهم يعتقدون استحالته وعدم
إمكانه. قال الله تعالى رادا عليهم : (قَدْ عَلِمْنا ما
تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ) أي ما تأكل من أجسادهم في البلى نعلم ذلك ولا يخفى علينا
أين تفرقت الأبدان وأين ذهبت وإلى أين صارت (وَعِنْدَنا كِتابٌ
حَفِيظٌ) أي حافظ لذلك فالعلم شامل والكتاب أيضا فيه كل الأشياء
مضبوطة. قال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : (قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ
مِنْهُمْ) أي ما تأكل من لحومهم وأبشارهم ، وعظامهم وأشعارهم ، وكذا قال مجاهد وقتادة والضحاك وغيرهم ، ثم بين تبارك
وتعالى سبب كفرهم وعنادهم واستبعادهم ما ليس ببعيد فقال : (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا
جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) أي وهذا حال كل من خرج عن الحق مهما قال بعد ذلك فهو باطل
، والمريج : المختلف المضطرب الملتبس المنكر خلاله كقوله تعالى : (إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ
يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) [الذاريات : ٨ ـ ٩].
(أَفَلَمْ يَنْظُرُوا
إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ
فُرُوجٍ (٦) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا
فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧)
تَبْصِرَةً
وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ(٨)
وَنَزَّلْنا
مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩) وَالنَّخْلَ
باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠) رِزْقاً لِلْعِبادِ
وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ) (١١)
__________________
يقول تعالى منبها
للعباد على قدرته العظيمة التي أظهر بها ما هو أعظم مما تعجبوا مستبعدين لوقوعه (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ
فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها) أي بالمصابيح (وَما لَها مِنْ
فُرُوجٍ) قال مجاهد : يعني من شقوق ، وقال غيره : فتوق ، وقال غيره
: صدوع ، والمعنى متقارب كقوله تبارك وتعالى : (الَّذِي خَلَقَ
سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ
الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ
إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) [الملك : ٣ ـ ٤]
أي كليل عن أن يرى عيبا أو نقصا.
وقوله تبارك
وتعالى : (وَالْأَرْضَ
مَدَدْناها) أي وسعناها وفرشناها (وَأَلْقَيْنا فِيها
رَواسِيَ) وهي الجبال لئلا تميد بأهلها وتضطرب ، فإنها مقرة على تيار
الماء المحيط بها من جميع جوانبها (وَأَنْبَتْنا فِيها
مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) أي من جميع الزروع والثمار والنبات والأنواع (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا
زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [الذاريات : ٤٩]
وقوله (بَهِيجٍ) أي حسن نضر (تَبْصِرَةً وَذِكْرى
لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) أي ومشاهدة خلق السموات والأرض وما جعل الله فيهما من
الآيات العظيمة تبصرة ودلالة (وَذِكْرى لِكُلِّ
عَبْدٍ مُنِيبٍ) أي خاضع خائف وجل رجاع إلى الله عزوجل.
وقوله تعالى : (وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً
مُبارَكاً) أي نافعا (فَأَنْبَتْنا بِهِ
جَنَّاتٍ) أي حدائق من بساتين ونحوها (وَحَبَّ الْحَصِيدِ) وهو الزرع الذي يراد لحبه وادخاره (وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ) أي طوالا شاهقات ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد
وعكرمة والحسن وقتادة والسدي وغيرهم : الباسقات الطوال (لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ) أي منضود (رِزْقاً لِلْعِبادِ) أي للخلق (وَأَحْيَيْنا بِهِ
بَلْدَةً مَيْتاً) وهي الأرض التي كانت هامدة ، فلما نزل الماء اهتزت وربت
وأنبتت من كل زوج بهيج من أزاهير وغير ذلك ، مما يحار الطرف في حسنها ، وذلك بعد
ما كانت لا نبات بها فأصبحت تهتز خضراء ، فهذا مثال للبعث بعد الموت والهلاك ،
كذلك يحيي الله الموتى وهذا المشاهد من عظيم قدرته بالحس أعظم مما أنكره الجاحدون
للبعث ، كقوله عزوجل : (لَخَلْقُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) [غافر : ٥٧] وقوله
تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا
أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ
بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الأحقاف : ٣٣]
وقال سبحانه وتعالى : (وَمِنْ آياتِهِ
أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ
وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ) [فصلت : ٣٩].
(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ
قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (١٢) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ
وَإِخْوانُ لُوطٍ(١٣) وَأَصْحابُ
الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (١٤)
أَفَعَيِينا
بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ)
(١٥)
__________________
يقول تعالى مهددا
لكفار قريش ، بما أحله بأشباههم ونظرائهم وأمثالهم من المكذبين قبلهم ، من النقمات
والعذاب الأليم في الدنيا كقوم نوح وما عذبهم الله تعالى به من الغرق العام لجميع
أهل الأرض وأصحاب الرس ، وقد تقدمت قصتهم في سورة الفرقان (وَثَمُودُ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ
وَإِخْوانُ لُوطٍ) وهم أمته الذين بعث إليهم من أهل سدوم ومعاملتها من الغور
، وكيف خسف الله تعالى بهم الأرض ، وأحال أرضهم بحيرة منتنة خبيثة بكفرهم وطغيانهم
ومخالفتهم الحق. (وَأَصْحابُ
الْأَيْكَةِ) وهم قوم شعيب عليه الصلاة والسلام (وَقَوْمُ تُبَّعٍ) وهو اليماني ، وقد ذكرنا من شأنه في سورة الدخان ما أغنى
عن إعادته هاهنا ، ولله الحمد والشكر.
(كُلٌّ كَذَّبَ
الرُّسُلَ) أي كل من هذه الأمم وهؤلاء القرون كذب رسوله ، ومن كذب
رسولا فكأنما كذب جميع الرسل كقوله جل وعلا : (كَذَّبَتْ قَوْمُ
نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) [الشعراء : ١٠٥]
وإنما جاءهم رسول واحد فهم في نفس الأمر لو جاءهم جميع الرسل كذبوهم (فَحَقَّ وَعِيدِ) أي فحق عليهم ما أوعدهم الله تعالى على التكذيب من العذاب
والنكال ، فليحذر المخاطبون أن يصيبهم ما أصابهم فإنهم قد كذبوا رسولهم كما كذب
أولئك. وقوله تعالى : (أَفَعَيِينا
بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ) أي أفأعجزنا ابتداء الخلق حتى هم في شك من الإعادة (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ
جَدِيدٍ) والمعنى أن ابتداء الخلق لم يعجزنا والإعادة أسهل منه كما
قال عزوجل : (وَهُوَ الَّذِي
يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم : ٢٧] وقال
الله جل جلاله : (وَضَرَبَ لَنا
مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ
يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) [يس : ٧٨ ـ ٧٩]
وقد تقدم في الصحيح «يقول الله تعالى يؤذيني ابن آدم يقول لن يعيدني كما بدأني
وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته».
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ
مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ(١٦) إِذْ يَتَلَقَّى
الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (١٧) ما يَلْفِظُ مِنْ
قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٨)
وَجاءَتْ
سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (١٩) وَنُفِخَ فِي
الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (٢٠) وَجاءَتْ كُلُّ
نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (٢١) لَقَدْ كُنْتَ فِي
غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)
(٢٢)
يخبر تعالى عن
قدرته على الإنسان بأنه خالقه وعلمه محيط بجميع أموره ، حتى أنه تعالى يعلم ما
توسوس به نفوس بني آدم من الخير والشر. وقد ثبت في الصحيح عن رسول اللهصلىاللهعليهوسلم أنه قال «إن الله تعالى تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما
لم تقل أو تعمل» وقوله عزوجل : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ
إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) يعني ملائكته تعالى أقرب إلى الإنسان من حبل وريده
__________________
إليه ، ومن تأوله
على العلم فإنما فر لئلا يلزم حلول أو اتحاد وهما منفيان بالإجماع ، تعالى الله
وتقدس ، ولكن اللفظ لا يقتضيه فإنه لم يقل : وأنا أقرب إليه من حبل الوريد وإنما
قال : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ
إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) كما قال في المحتضر (وَنَحْنُ أَقْرَبُ
إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ) [الواقعة : ٨٥]
يعني ملائكته.
وكما قال تبارك
وتعالى : (إِنَّا نَحْنُ
نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [الحجر : ٩]
فالملائكة نزلت بالذكر وهو القرآن بإذن الله عزوجل ، وكذلك الملائكة أقرب إلى الإنسان من حبل وريده إليه
بإقدار الله جل وعلا لهم على ذلك. فللملك لمة في الإنسان كما أن للشيطان لمة ، وكذلك الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق ولهذا قال تعالى هاهنا : (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ) يعني الملكين الذين يكتبان عمل الإنسان.
(عَنِ الْيَمِينِ
وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ) أي مترصد (ما يَلْفِظُ) أي ابن آدم (مِنْ قَوْلٍ) أي ما يتكلم بكلمة (إِلَّا لَدَيْهِ
رَقِيبٌ عَتِيدٌ) أي إلا ولها من يراقبها معتد لذلك يكتبها لا يترك كلمة ولا
حركة كما قال تعالى : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ
لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) [الانفطار : ١٠ ـ ١٢]
وقد اختلف العلماء هل يكتب الملك كل شيء من الكلام. وهو قول الحسن وقتادة ، أو
إنما يكتب ما فيه ثواب وعقاب كما هو قول ابن عباس رضي الله عنهما ، فعلى قولين
وظاهر الآية الأول لعموم قوله تبارك وتعالى : (ما يَلْفِظُ مِنْ
قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ).
وقد قال الإمام
أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا محمد بن عمرو بن علقمة الليثي عن أبيه عن جده
علقمة عن بلال بن الحارث المزني رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان صلىاللهعليهوسلم تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله عزوجل له بها رضوانه إلى يوم يلقاه ، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة
من سخط الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت ، يكتب الله تعالى عليه بها سخطه إلى
يوم يلقاه» قال : فكان علقمة يقول : كم من كلام قد منعنيه حديث بلال
بن الحارث ، ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجة من حديث محمد بن عمرو به ، وقال
الترمذي : حسن صحيح وله شاهد في الصحيح.
__________________
وقال الأحنف بن
قيس : صاحب اليمين يكتب الخير وهو أمير على صاحب الشمال فإن أصاب العبد خطيئة قال
له أمسك ، فإن استغفر الله تعالى نهاه أن يكتبها وإن أبى كتبها ، رواه ابن أبي
حاتم ، وقال الحسن البصري وتلا هذه الآية (عَنِ الْيَمِينِ
وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ) يا ابن آدم بسطت لك صحيفة ووكل بك ملكان كريمان أحدهما عن
يمينك والآخر عن شمالك ، فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك ، وأما الذي عن يسارك
فيحفظ سيئاتك ، فاعمل ما شئت أقلل أو أكثر حتى إذا مت طويت صحيفتك وجعلت في عنقك
معك في قبرك حتى تخرج يوم القيامة فعند ذلك يقول تعالى : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ
فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً
اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) ثم يقول : عدل والله فيك من جعلك حسيب نفسك.
وقال علي بن أبي
طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما (ما يَلْفِظُ مِنْ
قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) قال : يكتب كل ما تكلم به من خير أو شر حتى أنه ليكتب قوله
أكلت شربت ذهبت جئت رأيت ، حتى إذا كان يوم الخميس عرض قوله وعمله فأقر منه ما كان
فيه من خير أو شر وألقي سائره ، وذلك قوله تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما
يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) [الرعد : ٣٩] وذكر
عن الإمام أحمد أنه كان يئن في مرضه فبلغه عن طاوس أنه قال يكتب الملك كل شيء حتى
الأنين فلم يئن أحمد حتى مات رحمهالله. وقوله تبارك وتعالى : (وَجاءَتْ سَكْرَةُ
الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) يقول عزوجل : وجاءت أيها الإنسان سكرة الموت بالحق أي كشفت لك عن
اليقين الذي كنت تمتري فيه (ذلِكَ ما كُنْتَ
مِنْهُ تَحِيدُ) أي هذا هو الذي كنت تفر منه قد جاءك فلا محيد ولا مناص ولا
فكاك ولا خلاص.
وقد اختلف
المفسرون في المخاطب بقوله : (وَجاءَتْ سَكْرَةُ
الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) فالصحيح أن المخاطب بذلك الإنسان من حيث هو ، وقيل الكافر
، وقيل غير ذلك ، وقال أبو بكر بن أبي الدنيا : حدثنا إبراهيم بن زياد سبلان ،
أخبرنا عباد بن عباد عن محمد بن عمرو بن علقمة عن أبيه ، عن جده علقمة بن وقاص قال
: إن عائشة رضي الله عنها قالت : حضرت أبي رضي الله عنه وهو يموت ، وأنا جالسة عند
رأسه فأخذته غشية ، فتمثلت ببيت من الشعر :
من لا يزال دمعه
مقنّعا
|
|
فإنه لا بدّ
مرّة مدقوق
|
__________________
قالت : فرفع رضي
الله عنه رأسه فقال : يا بنية ليس كذلك ولكن كما قال الله تعالى : (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ
ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) وحدثنا خلف بن هشام ، حدثنا أبو شهاب الخياط عن إسماعيل بن
أبي خالد عن البهي قال : لما أن ثقل أبو بكر رضي الله عنه جاءت عائشة رضي الله
عنها فتمثلت بهذا البيت : [الطويل]
لعمرك ما يغني
الثراء عن الفتى
|
|
إذا حشرجت يوما
وضاق بها الصدر
|
فكشف عن وجهه وقال
رضي الله عنه : ليس كذلك ، ولكن قولي (وَجاءَتْ سَكْرَةُ
الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) وقد أوردت لهذا الأثر طرقا كثيرة في سيرة الصديق رضي الله
عنه عند ذكر وفاته ، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه لما تغشاه الموت جعل يمسح العرق عن وجهه ويقول : «سبحان
الله إن للموت لسكرات» وفي قوله : (ذلِكَ ما كُنْتَ
مِنْهُ تَحِيدُ) قولان : [أحدهما] أن ما هاهنا موصولة أي الذي كنت منه تحيد
بمعنى تبتعد وتنأى وتفر قد حل بك ونزل بساحتك [والقول الثاني] أن «ما» نافية بمعنى
ذلك ما كنت تقدر على الفرار منه ولا الحيد عنه وقد قال الطبراني في المعجم الكبير
: حدثنا محمد بن علي الصائغ المكي ، حدثنا حفص عن ابن عمر الحدي ، حدثنا معاذ بن
محمد الهذلي عن يونس بن عبيد عن الحسن عن سمرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «مثل الذي يفر من الموت مثل الثعلب تطلبه الأرض بدين ،
فجاء يسعى حتى إذا أعيى وأسهر دخل جحره فقالت له الأرض يا ثعلب ديني ، فخرج وله
حصاص فلم يزل كذلك حتى تقطعت عنقه ومات» ومضمون هذا المثل كما لا انفكاك له ولا
محيد عن الأرض ، كذلك الإنسان لا محيد له عن الموت.
وقوله تبارك
وتعالى : (وَنُفِخَ فِي
الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ) قد تقدم الكلام على حديث النفخ في الصور والفزع والصعق
والبعث ، وذلك يوم القيامة. وفي الحديث أن رسول اللهصلىاللهعليهوسلم قال : «كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته
وانتظر أن يؤذن له» قالوا : يا رسول الله كيف نقول؟ قال صلىاللهعليهوسلم : «قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل» فقال القوم : حسبنا الله
__________________
ونعم الوكيل.
(وَجاءَتْ كُلُّ
نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) أي ملك يسوقه إلى المحشر وملك يشهد عليه بأعماله هذا هو
الظاهر من الآية الكريمة ، وهو اختيار ابن جرير ثم روي من حديث إسماعيل بن أبي
خالد عن يحيى بن رافع مولى لثقيف قال : سمعت عثمان بن عفان رضي الله عنه يخطب فقرأ
هذه الآية (وَجاءَتْ كُلُّ
نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) فقال سائق يسوقها إلى الله تعالى وشاهد يشهد عليها بما
عملت ، وكذا قال مجاهد وقتادة وابن زيد. وقال مطرف عن أبي جعفر مولى أشجع عن أبي
هريرة رضي الله عنه قال : السائق الملك والشهيد العمل ، وكذا قال الضحاك والسدي ،
وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما : السائق من الملائكة والشهيد الإنسان
نفسه ، يشهد على نفسه ، وبه قال الضحاك بن مزاحم أيضا.
وحكى ابن جرير ثلاثة أقوال في المراد بهذا الخطاب في قوله تعالى : (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا
فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) [أحدها] أن المراد
بذلك الكافر ، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وبه يقول الضحاك
بن مزاحم وصالح بن كيسان. [والثاني] أن المراد بذلك كل أحد من بر وفاجر لأن الآخرة
بالنسبة إلى الدنيا كاليقظة ، والدنيا كالمنام ، وهذا اختيار ابن جرير ، ونقله عن
حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس رضي الله عنهما. [والثالث] أن المخاطب بذلك
النبي صلىاللهعليهوسلم وبه يقول زيد بن أسلم وابنه ، والمعنى على قولهما : لقد
كنت في غفلة من هذا الشأن قبل أن يوحى إليك ، فكشفنا عنك غطاءك بإنزاله إليك فبصرك
اليوم حديد.
والظاهر من السياق
خلاف هذا بل الخطاب مع الإنسان من حيث هو ، والمراد بقوله تعالى : (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا) يعني من هذا اليوم (فَكَشَفْنا عَنْكَ
غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) أي قوي لأن كل أحد يوم القيامة يكون مستبصرا حتى الكفار في
الدنيا ، يكونون يوم القيامة على الاستقامة ، لكن لا ينفعهم ذلك ، قال الله تعالى
: (أَسْمِعْ بِهِمْ
وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا) [مريم : ٣٨]. وقال
عزوجل : (وَلَوْ تَرى إِذِ
الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا
وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ) [السجدة : ١٢].
(وَقالَ قَرِينُهُ هذا
ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (٢٣) أَلْقِيا فِي
جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (٢٤) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ
مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (٢٥) الَّذِي جَعَلَ مَعَ
اللهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (٢٦) قالَ قَرِينُهُ
رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٢٧) قالَ لا
تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ(٢٨)
ما
يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ) (٢٩)
يقول تعالى مخبرا
عن الملك الموكل بعمل ابن آدم أنه يشهد عليه يوم القيامة بما فعل
__________________
ويقول : (هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ) أي معتمد محضر بلا زيادة ولا نقصان. وقال مجاهد : هذا كلام
الملك السائق ، يقول ابن آدم الذي وكلتني به قد أحضرته وقد اختار ابن جرير أنه يعم
السائق والشهيد ، وله اتجاه وقوة ، فعند ذلك يحكم الله تعالى في الخليقة بالعدل
فيقول : (أَلْقِيا فِي
جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ) وقد اختلف النحاة في قوله : (أَلْقِيا) فقال بعضهم هي لغة لبعض العرب يخاطبون المفرد بالتثنية كما
روي عن الحجاج أنه كان يقول يا حرسي اضربا عنقه ، ومما أنشد ابن جرير على هذه قول الشاعر : [الطويل]
فإن تزجراني يا
ابن عفان أنزجر
|
|
وإن تتركاني أحم
عرضا ممنّعا
|
وقيل : بل هي نون
التأكيد سهلت إلى الألف ، وهذا بعيد لأن هذا إنما يكون في الوقف ، والظاهر أنها
مخاطبة مع السائق والشهيد ، فالسائق أحضره إلى عرصة الحساب ، فلما أدى الشهيد عليه
أمرهما الله تعالى بإلقائه في نار جهنم ، وبئس المصير (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ
عَنِيدٍ) أي كثير الكفر والتكذيب بالحق عنيد معاند للحق ، معارض له
بالباطل مع علمه بذلك (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) أي لا يؤدي ما عليه من الحقوق ولا بر فيه ولا صلة ولا صدقة
(مُعْتَدٍ) أي فيما ينفقه ويصرفه يتجاوز فيه الحد.
وقال قتادة : معتد
في منطقه وسيره وأمره (مُرِيبٍ) أي شاك في أمره مريب لمن نظر في أمره (الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) أي أشرك بالله فعبد معه غيره (فَأَلْقِياهُ فِي
الْعَذابِ الشَّدِيدِ) وقد تقدم في الحديث أن عنقا من النار يبرز للخلائق فينادي
بصوت يسمع الخلائق : إني وكلت بثلاثة : بكل جبار عنيد ، ومن جعل مع الله إلها آخر
، وبالمصورين ، ثم تلوى عليهم ، قال الإمام أحمد : حدثنا معاوية هو ابن هشام ، حدثنا شيبان عن فراس عن عطية
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن نبي الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «يخرج عنق من النار يتكلم يقول وكلت اليوم
بثلاثة : بكل جبار عنيد ، ومن جعل مع الله إلها آخر ، ومن قتل نفسا بغير نفس
فتنطوي عليهم فتقذفهم في غمرات جهنم».
(قالَ قَرِينُهُ) قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وقتادة وغيرهم : هو
الشيطان الذي وكل به (رَبَّنا ما
أَطْغَيْتُهُ) أي يقول عن الإنسان الذي قد وافى القيامة كافرا يتبرأ منه
شيطانه فيقول : (رَبَّنا ما
أَطْغَيْتُهُ) أي ما أضللته (وَلكِنْ كانَ فِي
ضَلالٍ بَعِيدٍ) أي بل كان هو في نفسه ضالا قابلا للباطل معاندا للحق ، كما
أخبر سبحانه وتعالى في الآية الأخرى في قوله: (وَقالَ
__________________
الشَّيْطانُ
لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ
فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ
دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما
أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما
أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [إبراهيم : ٢٢].
وقوله تبارك
وتعالى : (قالَ لا تَخْتَصِمُوا
لَدَيَ) يقول الرب عزوجل للإنسي وقرينه من الجن ، وذلك أنهما يختصمان بين يدي الحق
تعالى ، فيقول الإنسي يا رب هذا أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني ، ويقول الشيطان : (رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ
فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) أي عن منهج الحق ، فيقول الرب عزوجل لهما : (لا تَخْتَصِمُوا
لَدَيَ) أي عندي (وَقَدْ قَدَّمْتُ
إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ) أي قد أعذرت إليكم على ألسنة الرسل ، وأنزلت الكتب وقامت
عليكم الحجج والبينات والبراهين (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ
لَدَيَ) قال مجاهد : يعني قد قضيت ما أنا قاض (وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) أي لست أعذب أحدا إلا بذنب أحد ولكن لا أعذب أحد إلا بذنبه
بعد قيام الحجة عليه.
(يَوْمَ نَقُولُ
لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (٣٠) وَأُزْلِفَتِ
الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (٣١)
هذا
ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (٣٢) مَنْ خَشِيَ
الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (٣٣) ادْخُلُوها بِسَلامٍ
ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (٣٤)
لَهُمْ
ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ)
(٣٥)
يخبر تعالى أنه
يقول لجهنم يوم القيامة : هل امتلأت؟ وذلك أنه تبارك وعدها أن سيملؤها من الجنة
والناس أجمعين ، فهو سبحانه وتعالى يأمر بمن يأمر به إليها ويلقى وهي تقول : (هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) أي هل بقي شيء تزيدوني؟ هذا هو الظاهر في سياق الآية وعليه
تدل الأحاديث.
قال البخاري عند تفسير هذه الآية : حدثنا عبد الله بن أبي الأسود ،
حدثني حرمي بن عمارة ، حدثنا شعبة عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «يلقى في النار وتقول هل من مزيد؟» حتى يضع قدمه
فيها فتقول : قط قط».
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الوهاب عن سعيد عن قتادة عن أنس رضي الله عنه
قال: قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد؟ حتى يضع رب
العزة قدمه فيها فينزوي بعضها إلى بعض وتقول : قط قط وعزتك وكرمك ، ولا يزال في
الجنة فضل حتى ينشئ الله لها خلقا آخر فيسكنهم الله تعالى في فضول الجنة» ثم رواه مسلم من حديث قتادة بنحوه ، ورواه أبان العطار
وسليمان التيمي عن قتادة بنحوه.
__________________
[حديث آخر] قال
البخاري : حدثنا محمد بن موسى القطان ، حدثنا أبو سفيان الحميري
سعيد بن يحيى بن مهدي ، حدثنا عوف عن محمد عن أبي هريرة رضي الله عنه ، رفعه وأكثر
ما كان يوقفه أبو سفيان : «يقال لجهنم هل امتلأت ، وتقول هل من مزيد فيضع الرب
تبارك وتعالى قدمه عليها فتقول قط قط» ورواه أبو أيوب وهشام بن حسان عن محمد بن
سيرين به.
[طريق أخرى] قال
البخاري : وحدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا
معمر عن همام بن منبه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «تحاجت الجنة والنار فقالت النار أوثرت بالمتكبرين
والمتجبرين ، وقالت الجنة : ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم. قال الله عزوجل للجنة أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي ، وقال للنار
إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ولكل واحدة منكما ملؤها ، فأما النار فلا
تمتلئ حتى يضع رجله فيها فتقول قط قط فهنالك تمتلئ وينزوي بعضها إلى بعض ولا يظلم
الله عزوجل من خلقه أحدا ، وأما الجنة فإن الله عزوجل ينشئ لها خلقا آخر».
[حديث آخر] قال
مسلم في صحيحه. حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا جرير عن الأعمش عن أبي صالح عن
أبي سعيد رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «احتجت الجنة والنار فقالت النار : فيّ الجبارون
والمتكبرون ، وقالت الجنة فيّ ضعفاء الناس ومساكينهم فقضي بينهما فقال للجنة إنما
أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي ، وقال للنار إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء
من عبادي ولكل واحدة منكما ملؤها» انفرد به مسلم دون البخاري من هذا الوجه والله
سبحانه وتعالى أعلم.
وقد رواه الإمام
أحمد من طريق أخرى عن أبي سعيد رضي الله عنه بأبسط من هذا السياق فقال : حدثنا حسن
وروح قالا : حدثنا حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب ، عن عبيد الله بن عبد الله بن
عتبة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه : أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «افتخرت الجنة والنار فقالت النار يا رب يدخلني
الجبابرة والمتكبرون والملوك والأشراف ، وقالت الجنة أي رب يدخلني الضعفاء
والفقراء والمساكين فيقول الله تبارك وتعالى للنار أنت عذابي أصيب بك من أشاء ،
وقال للجنة أنت رحمتي وسعت كل شيء ولكل واحدة منكما ملؤها فيلقى في النار أهلها
فتقول هل من مزيد ، قال ويلقى فيها وتقول هل من مزيد ، ويلقى فيها وتقول هل من
مزيد ، حتى يأتيها عزوجل فيضع قدمه عليها فتنزوي وتقول قدني قدني ، وأما الجنة فيبقى
__________________
فيها ما شاء تعالى
أن يبقى فينشئ الله سبحانه وتعالى لها خلقا ما يشاء».
[حديث آخر] وقال
الحافظ أبو يعلى في مسنده : حدثني عقبة بن مكرم ، حدثنا يونس ، حدثنا عبد الغفار
بن القاسم عن عدي بن ثابت ، عن زر بن حبيش ، عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال : إن
رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «يعرفني الله تعالى نفسه يوم القيامة ، فأسجد سجدة
يرضى بها عني ثم أمدحه مدحة يرضى بها عني ، ثم يؤذن لي في الكلام ، ثم تمر أمتي
على الصراط مضروب بين ظهراني جهنم ، فيمرون أسرع من الطرف والسهم وأسرع من أجود
الخيل ، حتى يخرج الرجل منها يحبو وهي الأعمال ، وجهنم تسأل المزيد حتى يضع فيها
قدمه فينزوي بعضها إلى بعض وتقول : قط قط وأنا على الحوض» قيل : وما الحوض يا رسول
الله؟ قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «والذي نفسي بيده إن شرابه أبيض من اللبن وأحلى من العسل
، وأبرد من الثلج. وأطيب ريحا من المسك ، وآنيته أكثر من عدد النجوم لا يشرب منه
إنسان فيظمأ أبدا ولا يصرف فيروى أبدا» وهذا القول هو اختيار ابن جرير.
وقد قال ابن أبي
حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو يحيى الحماني عن نضر الخزاز عن عكرمة عن
ابن عباس رضي الله عنهما (يَوْمَ نَقُولُ
لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) قال : ما امتلأت قال تقول وهل فيّ من مكان يزاد في ، وكذا
رواه الحاكم بن أبان عن عكرمة (وَتَقُولُ هَلْ مِنْ
مَزِيدٍ) وهل في مدخل واحد قد امتلأت. قال الوليد بن مسلم عن يزيد
بن أبي مريم أنه سمع مجاهدا يقول : لا يزال يقذف فيها حتى تقول قد امتلأت فتقول :
هل من مزيد ، وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم نحو هذا فعند هؤلاء أن قوله تعالى : (هَلِ امْتَلَأْتِ) إنما هو بعد ما يضع عليها قدمه فتنزوي وتقول حينئذ هل بقي
في مزيد يسع شيئا؟ قال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما : وذلك حين لا يبقى فيها
موضع يسع إبرة ، والله أعلم.
وقوله تعالى : (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ
غَيْرَ بَعِيدٍ) قال قتادة وأبو مالك والسدي (وَأُزْلِفَتِ) أدنيت وقربت من المتقين (غَيْرَ بَعِيدٍ) وذلك يوم القيامة ، وليس ببعيد لأنه واقع لا محالة وكل ما
هو آت قريب (هذا ما تُوعَدُونَ
لِكُلِّ أَوَّابٍ) أي راجع تائب مقلع (حَفِيظٍ) أي يحفظ العهد فلا ينقضه ولا ينكثه ، وقال عبيد بن عمير :
الأواب الحفيظ الذي لا يجلس مجلسا فيقوم حتى يستغفر الله عزوجل (مَنْ خَشِيَ
الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) أي من خاف الله في سره حيث لا يراه أحد إلا الله عزوجل كقوله صلىاللهعليهوسلم : «ورجل ذكر الله تعالى خاليا ، ففاضت عيناه».
(وَجاءَ بِقَلْبٍ
مُنِيبٍ) أي ولقي الله عزوجل يوم القيامة بقلب منيب سليم إليه خاضع لديه
__________________
(ادْخُلُوها) أي الجنة (بِسَلامٍ) قال قتادة سلموا من عذاب الله عزوجل ، وسلم عليهم ملائكة الله ، وقوله سبحانه وتعالى : (ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ) أي يخلدون في الجنة فلا يموتون أبدا ، ولا يظعنون أبدا ولا
يبغون عنها حولا ، وقوله جلت عظمته : (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ
فِيها) أي مهما اختاروا وجدوا من أي أصناف الملاذ طلبوا أحضر لهم.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا عمرو بن عثمان ، حدثنا بقية عن بحير بن
سعد عن خالد بن معدان عن كثير بن مرة قال : من المزيد أن تمر السحابة بأهل الجنة
فتقول : ماذا تريدون فأمطره لكم؟ فلا يدعون بشيء إلا أمطرتهم ، قال كثير : لئن
أشهدني الله تعالى ذلك لأقولن أمطرينا جواري مزينات.
وفي الحديث عن ابن
مسعود رضي الله عنه قال : إن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال له : «إنك لتشتهي الطير في الجنة فيخر بين يديك مشويا»
وقال الإمام أحمد : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا معاذ بن هشام ، حدثني أبي
عن عامر الأحول عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه
قال : إن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إذا اشتهى المؤمن الولد في الجنة كان حمله ووضعه
وسنه في ساعة واحدة» ورواه الترمذي وابن ماجة عن بندار عن معاذ بن هشام به.
وقال الترمذي حسن غريب وزاد : كما يشتهي.
وقوله تعالى : (وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) كقوله عزوجل : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا
الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس : ٢٦] وقد تقدم في صحيح مسلم عن صهيب بن سنان الرومي
أنها النظر إلى وجه الله الكريم. وقد روى البزار وابن أبي حاتم من حديث شريك
القاضي عن عثمان بن عمير أبي اليقظان عن أنس بن مالك رضي الله عنه في قوله عزوجل : (وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) قال : يظهر لهم الرب عزوجل في كل جمعة.
وقد رواه الإمام
أبو عبد الله الشافعي مرفوعا فقال في مسنده : أخبرنا إبراهيم بن محمد ، حدثني موسى
بن عبيدة ، حدثني أبو الأزهر معاوية بن إسحاق بن طلحة عن عبد الله بن عمير أنه سمع
أنس بن مالك رضي الله عنه يقول : أتى جبرائيل عليه الصلاة والسلام بمرآة بيضاء
فيها نكتة إلى رسول الله فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ما هذه؟» فقال : هذه الجمعة فضلت بها أنت وأمتك ،
فالناس لكم فيها تبع اليهود والنصارى ولكم فيها خير ، ولكم فيها ساعة لا يوافقها
مؤمن ، يدعو الله تعالى فيها بخير إلا استجيب له وهو عندنا يوم المزيد.
قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «يا جبريل وما يوم المزيد؟» قال عليهالسلام : إن ربك تبارك وتعالى اتخذ في الفردوس واديا أفيح فيه كثب المسك ، فإذا كان يوم الجمعة أنزل الله تعالى ما
شاء من
__________________
ملائكته ، وحوله
منابر من نور عليها مقاعد النبيين ، وحفت تلك المنابر من ذهب مكللة بالياقوت
والزبرجد عليها الشهداء والصديقون ، فجلسوا من ورائهم على تلك الكثب ، فيقول اللهعزوجل : أنا ربكم قد صدقتكم وعدي فسلوني أعطكم ، فيقولون : ربنا
نسألك رضوانك ، فيقول : قد رضيت عنكم ولكم علي ما تمنيتم ولدي مزيد. فهم يحبون يوم
الجمعة لما يعطيهم فيه ربهم تبارك وتعالى من الخير ، وهو اليوم الذي استوى فيه
ربكم على العرش وفيه خلق آدم وفيه تقوم الساعة.
هكذا أورده الإمام
الشافعي رحمهالله في كتاب الجمعة من الأم ، وله طرق عن أنس بن مالك رضي الله
عنه ، وقد أورد ابن جرير هذا الحديث من رواية عثمان بن عمير عن أنس رضي الله عنه
بأبسط من هذا ، وذكر هاهنا أثرا مطولا عن أنس بن مالك رضي الله عنه موقوفا وفيه
غرائب كثيرة.
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا دراج عن أبي الهيثم
عن أبي سعيد رضي الله عنه ، عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إن الرجل في الجنة ليتكئ في الجنة سبعين سنة قبل أن
يتحول ، ثم تأتيه امرأة فتضرب على منكبه فينظر وجهه في خدها أصفى من المرآة ، وإن
أدنى لؤلؤة عليها تضيء ما بين المشرق والمغرب فتسلم عليه فيرد السلام فيسألها من
أنت؟ فتقول أنا من المزيد وإنه ليكون عليها سبعون حلة أدناها مثل النعمان من طوبى
فينفذها بصره حتى يرى مخ ساقها من وراء ذلك ، وإن عليها من التيجان إن أدنى لؤلؤة
منها لتضيء ما بين المشرق والمغرب» وهكذا رواه عبد الله بن وهب عن عمرو بن الحارث
عن دراج به.
(وَكَمْ أَهْلَكْنا
قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ
هَلْ مِنْ مَحِيصٍ(٣٦) إِنَّ فِي ذلِكَ
لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (٣٧) وَلَقَدْ خَلَقْنَا
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ
لُغُوبٍ (٣٨) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ
وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (٣٩) وَمِنَ اللَّيْلِ
فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ)
(٤٠)
يقول تعالى : وكم
أهلكنا قبل هؤلاء المكذبين (مِنْ قَرْنٍ هُمْ
أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً) أي كانوا أكثر منهم وأشد قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر
مما عمروها ولهذا قال تعالى هاهنا : (فَنَقَّبُوا فِي
الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ) قال ابن عباس رضي الله عنهما : أثروا فيها. وقال مجاهد (فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ) ضربوا في الأرض وقال قتادة : فساروا في البلاد أي ساروا
فيها يبتغون الأرزاق والمتاجر والمكاسب أكثر مما طفتم أنتم فيها ، ويقال لمن طوف
في البلاد نقب فيها ، قال امرؤ
__________________
القيس : [الوافر]
لقد نقّبت في
الآفاق حتى
|
|
رضيت من الغنيمة
بالإياب
|
وقوله تعالى : (هَلْ مِنْ مَحِيصٍ) أي هل من مفر كان لهم من قضاء الله وقدره وهل نفعهم ما
جمعوه ورد عنهم عذاب الله إذ جاءهم لما كذبوا الرسل فأنتم أيضا لا مفر لكم ولا
محيد ولا مناص ولا محيص. وقوله عزوجل : (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَذِكْرى) أي لعبرة (لِمَنْ كانَ لَهُ
قَلْبٌ) أي لب يعي به وقال مجاهد : عقل (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) أي استمع الكلام فوعاه وتعقله بعقله وتفهمه بلبه ، وقال
مجاهد : (أَوْ أَلْقَى
السَّمْعَ) يعني لا يحدث نفسه بغيره ، (وَهُوَ شَهِيدٌ) وقال شاهد بالقلب ، وقال الضحاك : العرب تقول ألقى فلان سمعه إذا استمع
بأذنيه ، وهو شاهد بقلب غير غائب ، وهكذا قال الثوري وغير واحد.
وقوله سبحانه
وتعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ
لُغُوبٍ) فيه تقرير للمعاد لأن من قدر على خلق السموات والأرض ولم
يعي بخلقهن قادر على أن يحيي الموتى بطريق الأولى والأحرى ، وقال قتادة : قالت
اليهود ـ عليهم لعائن الله ـ خلق الله السموات والأرض في ستة أيام ثم استراح في
اليوم السابع وهو يوم السبت ، وهم يسمونه يوم الراحة فأنزل الله تعالى تكذيبهم
فيما قالوه وتأولوه (وَما مَسَّنا مِنْ
لُغُوبٍ) أي من إعياء ولا تعب ولا نصب ، كما قال تبارك وتعالى في
الآية الأخرى : (أَوَلَمْ يَرَوْا
أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ
بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الأحقاف : ٣٣]
وكما قال عزوجل : (لَخَلْقُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) [غافر : ٥٧] وقال تعالى : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ
خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها) [النازعات : ٢٧].
وقوله عزوجل : (فَاصْبِرْ عَلى ما
يَقُولُونَ) يعني المكذبين اصبر عليهم واهجرهم هجرا جميلا (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ
طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) وكانت الصلاة المفروضة قبل الإسراء ثنتين قبل طلوع الشمس
في وقت الفجر وقبل الغروب في وقت العصر ، وقيام الليل كان واجبا على النبي صلىاللهعليهوسلم وعلى أمته حولا ثم نسخ في حق الأمة وجوبه ثم بعد ذلك نسخ
الله تعالى ذلك كله ليلة الإسراء بخمس صلوات ، ولكن منهن صلاة الصبح والعصر فهما
قبل طلوع
__________________
الشمس وقبل
الغروب.
وقد قال الإمام
أحمد : حدثنا وكيع ، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد
الله رضي الله عنهما قال : كنا جلوسا عند النبي صلىاللهعليهوسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال : «أما إنكم ستعرضون على
ربكم فترونه كما ترون هذا القمر لا تضامون فيه ، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على
صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا» ثم قرأ (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ
رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) ورواه البخاري ومسلم وبقية الجماعة من حديث إسماعيل به.
وقوله تعالى : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ) أي فصل له كقوله : (وَمِنَ اللَّيْلِ
فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) [الإسراء : ٧٩] (وَأَدْبارَ السُّجُودِ) قال ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما :
هو التسبيح بعد الصلاة.
ويؤيد هذا ما ثبت
في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : جاء فقراء المهاجرين فقالوا : يا
رسول الله ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم ، فقال النبيصلىاللهعليهوسلم : «وما ذاك؟» قالوا : يصلون كما نصلي ، ويصومون كما نصوم ،
ويتصدقون ولا نتصدق ، ويعتقون ولا نعتق. قال صلىاللهعليهوسلم : «أفلا أعلمكم شيئا إذا فعلتموه سبقتم من بعدكم ولا يكون
أحد أفضل منكم إلا من فعل مثل ما فعلتم؟ تسبحون وتحمدون وتكبرون دبر كل صلاة ثلاثا
وثلاثين» قال : فقالوا يا رسول الله سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا
مثله. فقالصلىاللهعليهوسلم : «ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء» والقول الثاني أن المراد بقوله تعالى : (وَأَدْبارَ السُّجُودِ) هما الركعتان بعد المغرب روي ذلك عن عمر وعلي وابنه الحسن
وابن عباس وأبي هريرة وأبي أمامة رضي الله عنهم وبه يقول مجاهد وعكرمة والشعبي
والنخعي والحسن وقتادة وغيرهم.
قال الإمام أحمد حدثنا وكيع وعبد الرحمن عن سفيان عن أبي إسحاق ، عن عاصم
بن ضمرة عن علي رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يصلي على أثر كل صلاة مكتوبة ركعتين إلا الفجر والعصر ،
وقال عبد الرحمن دبر كل صلاة. ورواه أبو داود والنسائي من حديث
__________________
سفيان الثوري به ،
زاد النسائي ومطرف عن أبي إسحاق به. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا هارون بن إسحاق
الهمداني ، حدثنا ابن فضيل عن رشدين بن كريب عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما
قال : بت ليلة عند رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فصلى ركعتين خفيفتين اللتين قبل الفجر ، ثم خرج إلى
الصلاة فقال يا ابن عباس «ركعتين قبل صلاة الفجر إدبار النجوم ، وركعتين بعد
المغرب إدبار السجود» ورواه الترمذي عن أبي هشام الرفاعي عن محمد بن فضيل به. وقال
: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
وحديث ابن عباس
رضي الله عنهما ، وأنه بات في بيت خالته ميمونة رضي الله عنها ، وصلى تلك الليلة
مع النبي صلىاللهعليهوسلم ثلاث عشرة ركعة ثابت في الصحيحين وغيرهما. فأما هذه الزيادة فغريبة لا
تعرف إلا من هذا الوجه ورشدين بن كريب ضعيف ، ولعله من كلام ابن عباس رضي الله
عنهما موقوفا عليه ، والله أعلم.
(وَاسْتَمِعْ يَوْمَ
يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٤١) يَوْمَ يَسْمَعُونَ
الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (٤٢)
إِنَّا
نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (٤٣)
يَوْمَ
تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (٤٤)
نَحْنُ
أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ
بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ)
(٤٥)
يقول تعالى : (وَاسْتَمِعْ) يا محمد (يَوْمَ يُنادِ
الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) قال قتادة : قال كعب الأحبار يأمر الله تعالى ملكا أن
ينادي على صخرة بيت المقدس أيتها العظام البالية والأوصال المتقطعة ، إن الله
تعالى يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء (يَوْمَ يَسْمَعُونَ
الصَّيْحَةَ بِالْحَقِ) يعني النفخة في الصور التي تأتي بالحق الذي كان أكثرهم فيه
يمترون (ذلِكَ يَوْمُ
الْخُرُوجِ) أي من الأجداث (إِنَّا نَحْنُ
نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ) أي هو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وإليه مصير
الخلائق كلهم ، فيجازي كلّا بعمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
وقوله تعالى : (يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ
سِراعاً) وذلك أن الله عزوجل ينزل مطرا من السماء ينبت به أجساد الخلائق كلها في قبورها
، كما ينبت الحب في الثرى بالماء ، فإذا تكاملت الأجساد أمر الله تعالى إسرافيل
فينفخ في الصور وقد أودعت الأرواح في ثقب في الصور فإذا نفخ إسرافيل فيه خرجت
الأرواح تتوهج بين السماء والأرض ، فيقول الله عزوجل : وعزتي وجلالي لترجعن كل روح إلى الجسد الذي كانت تعمره
فترجع كل روح إلى جسدها ، فتدب فيه كما يدب السم في اللديغ وتنشق الأرض عنهم
فيقومون إلى موقف الحساب سراعا مبادرين إلى أمر الله عزوجل (مُهْطِعِينَ إِلَى
الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) [القمر : ٨] وقال
تعالى : (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ
فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً) [الإسراء : ٥٢].
__________________
وفي صحيح مسلم عن
أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أنا أول من تنشق عنه الأرض» ، وقوله عزوجل : (ذلِكَ حَشْرٌ
عَلَيْنا يَسِيرٌ) أي تلك إعادة سهلة علينا ، يسيرة لدينا كما قال جل جلاله :
(وَما أَمْرُنا إِلَّا
واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) [القمر : ٥٠].
وقال سبحانه
وتعالى : (ما خَلْقُكُمْ وَلا
بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) [لقمان : ٢٨]
وقوله جل وعلا : (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما
يَقُولُونَ) أي نحن علمنا محيط بما يقول لك المشركون من التكذيب فلا
يهولنك ذلك كقوله : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ
أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ
السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر : ٩٧ ـ ٩٩].
وقوله تبارك وتعالى : (وَما أَنْتَ
عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) أي ولست بالذي تجبر هؤلاء على الهدى ، وليس ذلك مما كلفت
به. وقال مجاهد وقتادة والضحاك (وَما أَنْتَ
عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) أي لا تتجبر عليهم ، والقول الأول أولى ، ولو أراد ما
قالوه لقال : ولا تكن جبارا عليهم ، وإنما قال : (وَما أَنْتَ
عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) بمعنى وما أنت بمجبرهم على الإيمان إنما أنت مبلغ ، وقال
الفراء : سمعت العرب تقول جبر فلان فلانا على كذا بمعنى أجبره ، ثم قال عزوجل : (فَذَكِّرْ
بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) أي بلغ أنت رسالة ربك فإنما يتذكر من يخاف الله ووعيده
ويرجو وعده ، كقوله تعالى : (فَإِنَّما عَلَيْكَ
الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) [الرعد : ٤٠]
وقوله جل جلاله : (فَذَكِّرْ إِنَّما
أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) [الغاشية : ٢١ ـ ٢٢]
(لَيْسَ عَلَيْكَ
هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [البقرة : ٢٧٢] (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ
وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [القصص : ٥٦]
ولهذا قال تعالى هاهنا : (وَما أَنْتَ
عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) كان قتادة يقول : اللهم اجعلنا ممن يخاف وعيدك ويرجو
موعودك يا بار يا رحيم.
آخر تفسير سورة ق
والحمد لله وحده وحسبنا الله ونعم الوكيل.
__________________
تفسير سورة الذاريات
وهي مكية
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(وَالذَّارِياتِ
ذَرْواً (١) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (٢) فَالْجارِياتِ
يُسْراً (٣) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً(٤) إِنَّما تُوعَدُونَ
لَصادِقٌ (٥) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (٦) وَالسَّماءِ ذاتِ
الْحُبُكِ (٧) إِنَّكُمْ لَفِي
قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (٨) يُؤْفَكُ عَنْهُ
مَنْ أُفِكَ (٩) قُتِلَ
الْخَرَّاصُونَ (١٠) الَّذِينَ هُمْ فِي
غَمْرَةٍ ساهُونَ (١١) يَسْئَلُونَ
أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (١٢) يَوْمَ هُمْ عَلَى
النَّارِ يُفْتَنُونَ (١٣) ذُوقُوا
فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ)
(١٤)
قال شعبة بن
الحجاج عن سماك عن خالد بن عرعرة أنه سمع عليا رضي الله عنه ، وشعبة أيضا عن
القاسم بن أبي بزة عن أبي الطفيل أنه سمع عليا رضي الله عنه ، وثبت أيضا من غير
وجه عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، أنه صعد منبر الكوفة فقال :
لا تسألوني عن آية في كتاب الله تعالى ، ولا عن سنة عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلا أنبأتكم بذلك ، فقام إليه ابن الكواء ، فقال : يا أمير
المؤمنين ما معنى قوله تعالى : (وَالذَّارِياتِ
ذَرْواً) قال علي رضي الله عنه ، الريح ، قال : (فَالْحامِلاتِ وِقْراً) قال رضي الله عنه : السحاب ، قال : (فَالْجارِياتِ يُسْراً) قال رضي الله عنه : السفن ، قال : (فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً) قال رضي الله عنه الملائكة .
وقد روي في ذلك
حديث مرفوع ، فقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا إبراهيم بن هانئ ، حدثنا سعيد بن
سلام العطار ، حدثنا أبو بكر بن أبي سبرة عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب ، قال
: جاء صبيغ التميمي إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : يا أمير المؤمنين ، فأخبرني
عن الذاريات ذروا ، فقال رضي الله عنه : هي الرياح ، ولولا أني سمعت رسول اللهصلىاللهعليهوسلم يقول ما قلته. قال : فأخبرني عن المقسمات أمرا ، قال رضي
الله عنه هي الملائكة ، ولولا أني سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقوله ما قلته ، قال : فأخبرني عن الجاريات يسرا ، قال رضي
الله عنه : هي السفن ، ولولا أني سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقوله ما قلته. ثم أمر بضربه فضرب مائة وجعل في بيت ، فلما
برأ دعا به فضربه مائة أخرى وحمله على قتب وكتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه
: امنع الناس من مجالسته ، فلم يزل كذلك حتى أتى أبا موسى رضي الله عنه ، فحلف
بالأيمان الغليظة ما يجد في نفسه مما كان يجد شيئا ، فكتب في ذلك إلى عمر رضي الله
عنه ، فكتب عمر : ما إخاله إلا قد صدق فخل بينه وبين مجالسة الناس.
قال أبو بكر
البزار : فأبو بكر بن أبي سبرة لين ، وسعيد بن سلام ليس من أصحاب
__________________
الحديث. قلت :
فهذا الحديث ضعيف رفعه وأقرب ما فيه أنه موقوف على عمر رضي الله عنه ، فإن قصة
صبيغ بن عسل مشهورة مع عمر رضي الله عنه ، وإنما ضربه لأنه ظهر له من أمره فيما
يسأل تعنتا وعنادا ، والله أعلم. وقد ذكر الحافظ ابن عساكر هذه القصة في ترجمة
صبيغ مطولة ، وهكذا فسرها ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم ، ومجاهد وسعيد بن جبير
والحسن وقتادة والسدي وغير واحد ، ولم يحك ابن جرير وابن أبي حاتم غير ذلك ، وقد
قيل إن المراد بالذاريات الريح كما تقدم ، وبالحاملات وقرا السحاب كما تقدم ،
لأنها تحمل الماء كما قال زيد بن عمرو بن نفيل : [المتقارب]
وأسلمت نفسي لمن
أسلمت
|
|
له المزن تحمل
عذبا زلالا
|
فأما الجاريات
يسرا فالمشهور عن الجمهور كما تقدم أنها السفن ، تجري ميسرة في الماء جريا سهلا ،
وقال بعضهم : هي النجوم تجري يسرا في أفلاكها ليكون ذلك ترقيا من الأدنى إلى
الأعلى إلى ما هو أعلى منه ، فالرياح فوقها السحاب ، والنجوم فوق كذلك ، والمقسمات
أمرا الملائكة فوق ذلك تنزل بأوامر الله الشرعية والكونية ، وهذا قسم من الله عزوجل على وقوع المعاد ، ولهذا قال تعالى : (إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ) أي لخبر صدق (وَإِنَّ الدِّينَ) وهو الحساب (لَواقِعٌ) أي لكائن لا محالة.
ثم قال تعالى : (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ) قال ابن عباس رضي الله عنهما : ذات الجمال والبهاء والحسن
والاستواء ، وكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وأبو مالك وأبو صالح والسدي
وقتادة وعطية العوفي والربيع بن أنس وغيرهم. وقال الضحاك والمنهال بن عمرو وغيرهما
مثل تجعد الماء والرمل والزرع ، إذا ضربته الريح فينسج بعضه بعضا طرائق ، فذلك
الحبك.
قال ابن جرير : حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن علية ، حدثنا أيوب عن
أبي قلابة عن رجل من أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «إن من ورائكم الكذاب المضل ، وإن رأسه من ورائه
حبك حبك» يعني بالحبك الجعودة : وعن أبي صالح : (ذاتِ الْحُبُكِ) الشدة وقال خصيف : (ذاتِ الْحُبُكِ) ذات الصفاقة. وقال الحسن بن أبي الحسن البصري : ذات الحبك
حبكت بالنجوم ، وقال قتادة عن سالم بن أبي الجعد عن معدان بن أبي طلحة عن عمرو
البكالي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما (وَالسَّماءِ ذاتِ
الْحُبُكِ) يعني السماء السابعة ، وكأنه والله أعلم أراد بذلك السماء
التي فيها الكواكب الثابتة ، وهي عند كثير من علماء الهيئة في الفلك الثامن الذي
فوق السابع ، والله أعلم.
وكل هذه الأقوال
ترجع إلى شيء واحد وهو الحسن والبهاء كما قال ابن عباس رضي الله عنهما ، فإنها من
حسنها مرتفعة شفافة صفيقة شديدة البناء متسعة الأرجاء أنيقة البهاء ، مكللة
__________________
بالنجوم الثوابت
والسيارات موشحة بالشمس والقمر والكواكب الزاهرات وقوله تعالى : (إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) أي إنكم أيها المشركون المكذبون للرسل لفي قول مختلف مضطرب
لا يلتئم ولا يجتمع ، وقال قتادة : إنكم لفي قول مختلف ما بين مصدق بالقرآن ومكذب
به.
(يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ
أُفِكَ) أي إنما يروج على من هو ضال في نفسه ، لأنه قول باطل إنما
ينقاد له ويضل بسببه ، ويؤفك عنه من هو مأفوك ضال غمر لا فهم له كما قال تعالى : (فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ ما
أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ) [الصافات : ١٦١ ـ ١٦٢]
قال ابن عباس رضي الله عنهما والسدي (يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ
أُفِكَ) يضل عنه من ضل. وقال مجاهد (يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ
أُفِكَ) يؤفن عنه من أفن ، وقال الحسن البصري : يصرف عن هذا القرآن
من كذب به. وقوله تعالى : (قُتِلَ
الْخَرَّاصُونَ) قال مجاهد : الكذابون ، قال : وهي مثل التي في عبس (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ) [عبس : ١٧]
والخراصون الذين يقولون لا نبعث ولا يوقنون. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي
الله عنهما (قُتِلَ
الْخَرَّاصُونَ) أي لعن المرتابون. وهكذا كان معاذ رضي الله عنه يقول في
خطبته. هلك المرتابون. وقال قتادة : الخراصون أهل الغرة والظنون.
وقوله تبارك
وتعالى : (الَّذِينَ هُمْ فِي
غَمْرَةٍ ساهُونَ) قال ابن عباس رضي الله عنهما وغير واحد في الكفر والشك
غافلون لاهون (يَسْئَلُونَ أَيَّانَ
يَوْمُ الدِّينِ) وإنما يقولون هذا تكذيبا وعنادا وشكا واستبعادا ، قال الله
تعالى : (يَوْمَ هُمْ عَلَى
النَّارِ يُفْتَنُونَ) قال ابن عباس ومجاهد والحسن وغير واحد (يُفْتَنُونَ) يعذبون. كما يفتن الذهب على النار ، وقال جماعة آخرون
كمجاهد أيضا وعكرمة وإبراهيم النخعي وزيد بن أسلم وسفيان الثوري : (يُفْتَنُونَ) يحرقون (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ) قال مجاهد : حريقكم ، وقال غيره : عذابكم (هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ
تَسْتَعْجِلُونَ) أي يقال لهم ذلك تقريعا وتوبيخا وتحقيرا وتصغيرا ، والله
أعلم.
(إِنَّ الْمُتَّقِينَ
فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٥)
آخِذِينَ
ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (١٦) كانُوا قَلِيلاً
مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (١٧) وَبِالْأَسْحارِ
هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (١٨) وَفِي أَمْوالِهِمْ
حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (١٩)
وَفِي
الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠)
وَفِي
أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٢١)
وَفِي
السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (٢٢) فَوَ رَبِّ
السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ)
(٢٣)
يقول تعالى مخبرا
عن المتقين لله عزوجل أنهم يوم معادهم يكونون في جنات وعيون بخلاف ما أولئك
الأشقياء فيه من العذاب والنكال والحريق والأغلال. وقوله تعالى : (آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ) قال ابن جرير : أي عاملين بما آتاهم الله من الفرائض (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ
مُحْسِنِينَ) أي قبل أن يفرض عليهم الفرائض كانوا محسنين في الأعمال
أيضا ، ثم روي عن
__________________
ابن حميد حدثنا
مهران عن سفيان عن أبي عمر عن مسلم البطين ، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله
تعالى : (آخِذِينَ ما آتاهُمْ
رَبُّهُمْ) قال : من الفرائض (إِنَّهُمْ كانُوا
قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ) قبل الفرائض يعملون ، وهذا الإسناد ضعيف ولا يصح عن ابن
عباس رضي الله عنهما.
وقد رواه عثمان بن
أبي شيبة عن معاوية بن هشام عن سفيان ، عن أبي عمر البزار عن مسلم البطين عن سعيد
بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنهما فذكره ، والذي فسر به ابن جرير فيه نظر ،
لأن قوله تبارك وتعالى : (آخِذِينَ) حال من قوله في (جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) فالمتقون في حال كونهم في الجنات والعيون آخذين ما آتاهم
ربهم ، أي من النعيم والسرور والغبطة.
وقوله عزوجل : (إِنَّهُمْ كانُوا
قَبْلَ ذلِكَ) أي في الدار الدنيا (مُحْسِنِينَ) كقوله جل جلاله : (كُلُوا وَاشْرَبُوا
هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) [الحاقة : ٢٤] ثم
إنه تعالى بين إحسانهم في العمل فقال جل وعلا : (كانُوا قَلِيلاً مِنَ
اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) اختلف المفسرون في ذلك على قولين : [أحدهما] أن (ما) نافية تقديره كانوا قليلا من الليل لا يهجعونه ، قال ابن
عباس رضي الله عنهما : لم تكن تمضي عليهم ليلة إلا يأخذون منها ولو شيئا ، وقال
قتادة عن مطرف بن عبد الله : قل ليلة لا تأتي عليهم إلا يصلون فيها لله عزوجل ، إما من أولها وإما من أوسطها. وقال مجاهد : قل ما يرقدون
ليلة حتى الصباح لا يتهجدون ، وكذا قال قتادة ، وقال أنس بن مالك رضي الله عنه
وأبو العالية : كانوا يصلون بين المغرب والعشاء. وقال أبو جعفر الباقر كانوا لا
ينامون حتى يصلوا العتمة ، [والقول الثاني] أن (ما) مصدرية تقديره كانوا قليلا من الليل هجوعهم ونومهم ،
واختاره ابن جرير.
وقال الحسن البصري
(كانُوا قَلِيلاً مِنَ
اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) كابدوا قيام الليل فلا ينامون من الليل إلا أقله ، ونشطوا
فمدوا إلى السحر حتى كان الاستغفار بسحر ، وقال قتادة : قال الأحنف بن قيس (كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما
يَهْجَعُونَ) كانوا لا ينامون إلا قليلا ثم يقول : لست من أهل هذه
الآية. وقال الحسن البصري : كان الأحنف بن قيس يقول عرضت عملي على عمل أهل الجنة ،
فإذا قوم قد باينونا بونا بعيدا ، إذا قوم لا نبلغ أعمالهم كانوا قليلا من الليل
ما يهجعون ، وعرضت عملي على عمل أهل النار ، فإذا قوم لا خير فيهم يكذبون بكتاب
الله وبرسل الله ، مكذبون بالبعث بعد الموت ، فقد وجدت من خيرنا منزلة قوما خلطوا
عملا صالحا وآخر سيئا.
وقال عبد الرحمن
بن زيد بن أسلم : قال رجل من بني تميم لأبي : يا أبا أسامة صفة لا أجدها فينا ذكر
الله تعالى قوما فقال : (كانُوا قَلِيلاً مِنَ
اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) ونحن والله قليلا من الليل ما نقوم ، فقال له أبي رضي الله
عنه : طوبى لمن رقد إذا نعس واتقى الله إذا استيقظ. وقال عبد الله بن سلام رضي
الله عنه : لما قدم رسول الله صلىاللهعليهوسلم المدينة انجفل الناس إليه ، فكنت فيمن انجفل ، فلما رأيت
وجهه صلىاللهعليهوسلم عرفت أن وجهه ليس بوجه رجل كذاب ، فكان أول
ما سمعته صلىاللهعليهوسلم يقول : «يا أيها الناس أطعموا الطعام ، وصلوا الأرحام ،
وأفشوا السلام ، وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام».
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا ابن لهيعة حدثني حيي بن عبد
الله عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : إن رسول
اللهصلىاللهعليهوسلم قال : «إن في الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من
ظاهرها» فقال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه : لمن هي يا رسول الله؟ قال صلىاللهعليهوسلم : «لمن ألان الكلام ، وأطعم الطعام ، وبات لله قائما
والناس نيام» وقال معمر في قوله تعالى : (كانُوا قَلِيلاً مِنَ
اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) كان الزهري والحسن يقولان كانوا كثيرا من الليل ما يصلون ،
وقال ابن عباس رضي الله عنهما وإبراهيم النخعي (كانُوا قَلِيلاً مِنَ
اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) ما ينامون. وقال الضحاك (إِنَّهُمْ كانُوا
قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ كانُوا قَلِيلاً) ثم ابتدأ فقال : (مِنَ اللَّيْلِ ما
يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) وهذا القول فيه بعد وتعسف.
وقوله عزوجل : (وَبِالْأَسْحارِ هُمْ
يَسْتَغْفِرُونَ) قال مجاهد وغير واحد : يصلون وقال آخرون : قاموا الليل
وأخروا الاستغفار إلى الأسحار كما قال تبارك وتعالى : (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ) فإن كان الاستغفار في صلاة فهو أحسن. وقد ثبت في الصحاح
وغيرها عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم ، عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «إن الله تعالى ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا
حين يبقى ثلث الليل الأخير ، فيقول هل من تائب فأتوب عليه ، هل من مستغفر فأغفر له
، هل من سائل فيعطى سؤله؟ حتى يطلع الفجر» وقال كثير من المفسرين في قوله تعالى
إخبارا عن يعقوب أنه قال لبنيه (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ
لَكُمْ رَبِّي) قالوا أخرهم إلى وقت السحر.
وقوله تبارك
وتعالى : (وَفِي أَمْوالِهِمْ
حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) لما وصفهم بالصلاة ثنى بوصفهم بالزكاة والبر والصلة فقال :
(وَفِي أَمْوالِهِمْ
حَقٌ) أي جزء مقسوم قد أفرزوه للسائل والمحروم. أما السائل
فمعروف وهو الذي يبتدئ بالسؤال ، وله حق كما قال الإمام أحمد : حدثنا وكيع وعبد الرحمن قالا : حدثنا سفيان عن مصعب بن
محمد عن يعلى بن أبي يحيى ، عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها الحسين بن علي رضي الله
عنهما قال : قال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم : «للسائل حق وإن جاء على فرس» ورواه أبو داود من حديث سفيان الثوري به. ثم أسنده من وجه
آخر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وروي من حديث الهرماس بن زياد مرفوعا.
وأما المحروم فقال
ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد : هو المحارف الذي ليس له في
__________________
الإسلام سهم ،
يعني لا سهم له في بيت المال ولا كسب له ولا حرفة يتقوت منها ، وقالت أم المؤمنين
عائشة رضي الله عنها : هو المحارف الذي لا يكاد يتيسر له مكسبه ، وقال الضحاك : هو
الذي لا يكون له مال إلا ذهب ، قضى الله تعالى له ذلك. وقال أبو قلابة : جاء سيل
باليمامة فذهب بمال رجل ، فقال رجل من الصحابة رضي الله عنهم : هذا المحروم وقال
ابن عباس رضي الله عنهما أيضا وسعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي ونافع مولى ابن عمر
رضي الله عنهما وعطاء بن أبي رباح : المحروم المحارف. وقال قتادة والزهري :
المحروم الذي لا يسأل الناس شيئا.
قال الزهري وقد
قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ليس المسكين بالطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان
والتمرة والتمرتان ، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه»
وهذا الحديث قد أسنده الشيخان في صحيحيهما من وجه آخر.
وقال سعيد بن جبير
: هو الذي يجيء وقد قسم المغنم فيرضخ له. وقال محمد بن إسحاق : حدثني بعض أصحابنا
قال : كنا مع عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه في طريق مكة ، فجاء كلب ، فانتزع عمر
رضي الله عنه كتف شاة فرمى بها إليه وقال : يقولون إنه المحروم ، وقال الشعبي :
أعياني أن أعلم ما المحروم ، واختار ابن جرير أن المحروم الذي لا مال له بأي سبب كان وقد ذهب ماله ،
سواء كان لا يقدر على الكسب أو قد هلك ماله أو نحوه بآفة أو نحوها. وقال الثوري عن
قيس بن مسلم عن الحسن بن محمد رضي الله عنه قال : إن رسول الله صلىاللهعليهوسلم بعث سرية فغنموا ، فجاء قوم لم يشهدوا الغنيمة ، فنزلت هذه
الآية (وَفِي أَمْوالِهِمْ
حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) وهذا يقتضي أن هذه مدنية وليس كذلك بل هي مكية شاملة لما
بعدها.
وقوله عزوجل : (وَفِي الْأَرْضِ
آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ) أي فيها من الآيات الدالة على عظمة خالقها وقدرته الباهرة
مما قد ذرأ فيها من صنوف النبات والحيوانات والمهاد والجبال والقفار والأنهار
والبحار ، واختلاف ألسنة الناس وألوانهم وما جبلوا عليه من الإرادات والقوى ، وما
بينهم من التفاوت في العقول والفهوم والحركات والسعادة والشقاوة ، وما في تركيبهم
من الحكم في وضع كل عضو من أعضائهم في المحل الذي هو محتاج إليه فيه ، ولهذا قال عزوجل : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا
تُبْصِرُونَ) قال قتادة : من تفكر في خلق نفسه عرف أنه إنما خلق ولينت
مفاصله للعبادة.
ثم قال تعالى : (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ) يعني المطر (وَما تُوعَدُونَ) يعني الجنة ، قاله ابن
__________________
عباس رضي الله
عنهما ومجاهد وغير واحد. وقال سفيان الثوري : قرأ واصل الأحدب هذه الآية (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما
تُوعَدُونَ) فقال : ألا إني أرى رزقي في السماء وأنا أطلبه في الأرض؟
فدخل خربة فمكث ثلاثا لا يصيب شيئا ، فلما أن كان اليوم الثالث إذا هو بدوخلة من رطب ، وكان له أخ أحسن نية منه ، فدخل معه فصارتا
دوخلتين ، فلم يزل ذلك دأبهما حتى فرق بينهما الموت .
وقوله تعالى : (فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ
إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) يقسم تعالى بنفسه الكريمة أن ما وعدهم به من أمر القيامة
والبعث والجزاء كائن لا محالة ، وهو حق لا مرية فيه ، فلا تشكوا فيه كما لا تشكوا
في نطقكم حين تنطقون ، وكان معاذ رضي الله عنه إذا حدث بالشيء يقول لصاحبه : إن
هذا لحق كما أنك هاهنا ، قال مسدد عن ابن أبي عدي عن عوف عن الحسن البصري قال :
بلغني أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «قاتل الله أقواما أقسم لهم ربهم ثم لم يصدقوا»
ورواه ابن جرير عن بندار عن ابن أبي عدي عن عوف عن الحسن فذكره مرسلا.
(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ
ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (٢٤)
إِذْ
دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٢٥) فَراغَ إِلى
أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (٢٦) فَقَرَّبَهُ
إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ(٢٧)
فَأَوْجَسَ
مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٢٨)
فَأَقْبَلَتِ
امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (٢٩) قالُوا كَذلِكَ قالَ
رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ)
(٣٠)
هذه القصة قد
تقدمت في سورة هود والحجر أيضا فقوله : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ
ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ) أي الذين أرصد لهم الكرامة ، وقد ذهب الإمام أحمد وطائفة
من العلماء إلى وجوب الضيافة للنزيل ، وقد وردت السنة بذلك كما هو ظاهر التنزيل.
وقوله تعالى : (فَقالُوا سَلاماً
قالَ سَلامٌ) الرفع أقوى وأثبت من النصب ، فرده أفضل من التسليم ولهذا
قال تعالى : (وَإِذا حُيِّيتُمْ
بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها) [النساء : ٨٦]
فالخليل اختار الأفضل.
وقوله تعالى : (قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) وذلك أن الملائكة وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل قدموا عليه
في صورة شبان حسان عليهم مهابة عظيمة ولهذا قال : (قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) وقوله عزوجل : (فَراغَ إِلى أَهْلِهِ) أي انسل خفية في سرعة (فَجاءَ بِعِجْلٍ
سَمِينٍ) أي من خيار ماله ، وفي الآية الأخرى : (فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) [هود : ٦٩] أي
مشوي على الرضف (فَقَرَّبَهُ
إِلَيْهِمْ) أي أدناه منهم (قالَ أَلا
تَأْكُلُونَ؟) تلطف في العبارة وعرض حسن ، وهذه الآية انتظمت آداب
الضيافة فإنه جاء بطعامه من حيث لا يشعرون بسرعة ، ولم يمتن عليهم أولا فقال :
نأتيكم بطعام بل جاء به بسرعة وخفاء ، وأتى بأفضل ما وجد من ماله ، وهو عجل فتي
سمين مشوي ،
__________________
فقربه إليهم لم
يضعه وقال اقتربوا ، بل وضعه بين أيديهم ولم يأمرهم أمرا يشق على سامعه بصيغة
الجزم بل قال : (أَلا تَأْكُلُونَ) على سبيل العرض والتلطف ، كما يقول القائل اليوم إن رأيت
أن تتفضل وتحسن وتتصدق فافعل.
وقوله تعالى : (فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) هذا محال على ما تقدم في القصة في السورة الأخرى وهي قوله
تعالى : (فَلَمَّا رَأى
أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا
لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ) [هود : ٧٠ ـ ٧١]
أي استبشرت بهلاكهم لتمردهم وعتوهم على الله تعالى ، فعند ذلك بشرتها الملائكة
بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب (قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ
وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قالُوا أَتَعْجَبِينَ
مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ
إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) [هود : ٧٢ ـ ٧٣]
ولهذا قال الله سبحانه وتعالى هاهنا : (وَبَشَّرُوهُ
بِغُلامٍ عَلِيمٍ) فالبشارة له هي بشارة لها. لأن الولد منها فكل منهما بشر
به.
وقوله تعالى : (فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ) أي في صرخة عظيمة ورنّة ، قاله ابن عباس رضي الله عنهما
ومجاهد وعكرمة وأبو صالح والضحاك وزيد بن أسلم والثوري والسدي وهي قولها (يا وَيْلَتى) ... (فَصَكَّتْ وَجْهَها) أي ضربت بيدها على جبينها قاله مجاهد وابن سابط ، وقال ابن
عباس رضي الله عنهما : لطمت أي تعجبا كما تتعجب النساء من الأمر الغريب (وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ) أي كيف ألد وأنا عجوز وقد كنت في حال الصبا عقيما لا أحبل؟
(قالُوا كَذلِكَ قالَ
رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) أي عليم بما تستحقون من الكرامة حكيم في أقواله وأفعاله.
(قالَ فَما خَطْبُكُمْ
أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٣١)
قالُوا
إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٣٢)
لِنُرْسِلَ
عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (٣٣) مُسَوَّمَةً عِنْدَ
رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (٣٤)
فَأَخْرَجْنا
مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٣٥) فَما وَجَدْنا فِيها
غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٦) وَتَرَكْنا فِيها
آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ)
(٣٧)
قال الله تعالى
مخبرا عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام : (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ
إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ إِنَّ
إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ
قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) [هود : ٧٤ ، ٧٦]
وقال هاهنا : (قالَ فَما خَطْبُكُمْ
أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) أي ما شأنكم وفيم جئتم (قالُوا إِنَّا
أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) يعنون قوم لوط (لِنُرْسِلَ
عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ مُسَوَّمَةً) أي معلمة (عِنْدَ رَبِّكَ
لِلْمُسْرِفِينَ) أي مكتتبة عنده بأسمائهم كل حجر عليه اسم صاحبه ، فقال في
سورة العنكبوت : (قالَ إِنَّ فِيها
لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا
امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) [العنكبوت : ٣٢] وقال تعالى هاهنا : (فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ) وهم لوط وأهل بيته إلا امرأته.
(فَما وَجَدْنا فِيها
غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) احتج بهذه من ذهب إلى رأي المعتزلة ممن لا يفرق بين مسمى
الإيمان والإسلام ، لأنه أطلق عليهم المؤمنين والمسلمين ، وهذا الاستدلال ضعيف لأن
هؤلاء كانوا قوما مؤمنين ، وعندنا أن كل مؤمن مسلم ولا ينعكس فاتفق الاسمان هاهنا
لخصوصية الحال ، ولا يلزم ذلك في كل حال ، وقوله تعالى : (وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ
يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ) أي جعلناها عبرة لما أنزلنا بهم من العذاب والنكال وحجارة
السجيل ، وجعلنا محلتهم بحيرة منتنة خبيثة ، ففي ذلك عبرة للمؤمنين الذين (يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ)
(وَفِي مُوسى إِذْ
أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) فَتَوَلَّى
بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٣٩) فَأَخَذْناهُ
وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (٤٠) وَفِي عادٍ إِذْ
أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (٤١) ما تَذَرُ مِنْ
شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (٤٢)
وَفِي
ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (٤٣)
فَعَتَوْا
عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٤٤)
فَمَا
اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (٤٥)
وَقَوْمَ
نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ)
(٤٦)
يقول تعالى : (وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى
فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي بدليل باهر وحجة قاطعة (فَتَوَلَّى
بِرُكْنِهِ) أي فأعرض فرعون عما جاءه به موسى من الحق المبين استكبارا
وعنادا. وقال مجاهد : تعزز بأصحابه ، وقال قتادة : غلب عدو الله على قومه ، وقال
ابن زيد (فَتَوَلَّى
بِرُكْنِهِ) أي بجموعه التي معه ثم قرأ (لَوْ أَنَّ لِي
بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ) والمعنى الأول قوي كقوله تعالى : (ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ
اللهِ) [الحج : ٩] أي
معرض عن الحق مستكبر (وَقالَ ساحِرٌ أَوْ
مَجْنُونٌ) أي لا يخلو أمرك فيما جئتني به من أن تكون ساحرا أو مجنونا
قال الله تعالى : (فَأَخَذْناهُ
وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ) أي ألقيناهم (فِي الْيَمِ) وهو البحر (وَهُوَ مُلِيمٌ) أي وهو ملوم كافر جاحد فاجر معاند.
ثم قال عزوجل (وَفِي عادٍ إِذْ
أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ) أي المفسدة التي لا تنتج شيئا قاله الضحاك وقتادة وغيرهما
ولهذا قال تعالى : (ما تَذَرُ مِنْ
شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ) أي مما تفسده الريح (إِلَّا جَعَلَتْهُ
كَالرَّمِيمِ) أي كالشيء الهالك البالي ، وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا
أبو عبيد الله ابن أخي ابن وهب ، حدثنا عمي عبد الله بن وهب ، حدثني عبد الله يعني
ابن عياش القتباني ، حدثني عبد الله بن سليمان عن دراج عن عيسى بن هلال الصدفي عن
عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «الريح مسخرة من الثانية ـ يعني من الأرض الثانية ـ ،
فلما أراد الله تعالى أن يهلك عادا أمر خازن الريح أن يرسل عليهم ريحا تهلك عادا
قال أي رب أرسل عليهم الريح قدر منخر الثور؟ قال له الجبار تبارك وتعالى لا إذا
تكفأ الأرض ومن عليها ولكن أرسل عليهم بقدر خاتم فهي التي قال الله عزوجل في كتابه : (ما تَذَرُ مِنْ
شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) هذا الحديث رفعه منكر والأقرب أن يكون موقوفا على
عبد الله بن عمرو
رضي الله عنهما من زاملتيه اللتين أصابهما يوم اليرموك ، والله أعلم.
قال سعيد بن
المسيب وغيره في قوله تعالى : (إِذْ أَرْسَلْنا
عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ) قالوا : هي الجنوب. وقد ثبت في الصحيح من رواية شعبة عن
الحكم عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور» (وَفِي ثَمُودَ إِذْ
قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ) قال ابن جرير : يعني إلى وقت فناء آجالكم.
والظاهر أن هذه
كقوله تعالى : (وَأَمَّا ثَمُودُ
فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ
الْعَذابِ الْهُونِ) [فصلت : ١٧] وهكذا
قال هاهنا : (وَفِي ثَمُودَ إِذْ
قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) وذلك أنهم انتظروا العذاب ثلاثة أيام فجاءهم في صبيحة
اليوم الرابع بكرة النهار (فَمَا اسْتَطاعُوا
مِنْ قِيامٍ) أي من هرب ولا نهوض (وَما كانُوا
مُنْتَصِرِينَ) أي لا يقدرون على أن ينتصروا مما هم فيه. وقولهعزوجل : (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ
قَبْلُ) أي وأهلكنا قوم نوح من قبل هؤلاء (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) وكل هذه القصص قد تقدمت مبسوطة في أماكن كثيرة من سور
متعددة ، والله أعلم.
(وَالسَّماءَ
بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (٤٧)
وَالْأَرْضَ
فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (٤٨)
وَمِنْ
كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٤٩) فَفِرُّوا إِلَى
اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠)
وَلا
تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ)
(٥١)
يقول تعالى منبها
على خلق العالم العلوي والسفلي (وَالسَّماءَ
بَنَيْناها) أي جعلناها سقفا محفوظا رفيعا (بِأَيْدٍ) أي بقوة ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والثوري وغير واحد (وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) أي قد وسعنا أرجاءها فرفعناها بغير عمد حتى استقلت كما هي (وَالْأَرْضَ فَرَشْناها) أي جعلناها فراشا للمخلوقات (فَنِعْمَ
الْماهِدُونَ) أي وجعلناها مهدا لأهلها.
(وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ
خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) أي جميع المخلوقات أزواج سماء وأرض وليل ونهار ، وشمس وقمر
وبر وبحر وضياء وظلام ، وإيمان وكفر وموت وحياة وشقاء وسعادة وجنة ونار ، حتى
الحيوانات والنباتات ، ولهذا قال تعالى : (لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ) أي لتعلموا أن الخالق واحد لا شريك له (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) أي الجؤوا إليه واعتمدوا في أموركم عليه (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ.
وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) أي لا تشركوا به شيئا (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ
نَذِيرٌ مُبِينٌ).
(كَذلِكَ ما أَتَى
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٥٢)
أَتَواصَوْا
بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٥٣)
فَتَوَلَّ
عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (٥٤) وَذَكِّرْ فَإِنَّ
الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (٥٥)
وَما
خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ
__________________
لِيَعْبُدُونِ
(٥٦) ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما
أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧) إِنَّ اللهَ هُوَ
الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (٥٨) فَإِنَّ لِلَّذِينَ
ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (٥٩) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ)
(٦٠)
يقول تعالى مسليا
لنبيه صلىاللهعليهوسلم وكما قال لك هؤلاء المشركون قال المكذبون الأولون لرسلهم :
(كَذلِكَ ما أَتَى
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) قال الله عزوجل : (أَتَواصَوْا بِهِ؟) أي أوصى بعضهم بعضا بهذه المقالة (بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) أي لكن هم قوم طغاة تشابهت قلوبهم ، فقال متأخرهم كما قال
متقدمهم.
قال الله تعالى : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) أي فأعرض عنهم يا محمد (فَما أَنْتَ
بِمَلُومٍ) يعني فما نلومك على ذلك (وَذَكِّرْ فَإِنَّ
الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) أي إنما تنتفع بها القلوب المؤمنة ، ثم قال جل جلاله : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ
إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) أي إنما خلقتهم لآمرهم بعبادتي لا لاحتياجي إليهم. وقال
علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) أي إلا ليقروا بعبادتي طوعا أو كرها. وهذا اختيار ابن جرير
وقال ابن جريج : إلا ليعرفون ، وقال الربيع بن أنس (إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) أي إلا للعبادة ، وقال السدي : من العبادة ما ينفع ومنها
ما لا ينفع (وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) هذا منهم عبادة وليس ينفعهم مع الشرك ، وقال الضحاك :
المراد بذلك المؤمنون.
وقوله تعالى : (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما
أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن آدم وأبو سعيد قالا : حدثنا إسرائيل عن
أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن يزيد ، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال :
أقرأني رسول اللهصلىاللهعليهوسلم «إني لأنا الرزاق
ذو القوة المتين» ورواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث إسرائيل ، وقال
الترمذي : حسن صحيح. ومعنى الآية أنه تبارك وتعالى خلق العباد ليعبدوه وحده لا
شريك له فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء ، ومن عصاه عذبه أشد العذاب. وأخبر أنه غير
محتاج إليهم بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم. فهو خالقهم ورازقهم. قال الإمام
أحمد : حدثنا محمد بن عبد الله ، حدثنا عمران ـ يعني ابن زائدة بن نشيط عن أبيه عن
أبي خالد ـ هو الوالبي ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال الله تعالى ـ «يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى
وأسد فقرك ، وإلا تفعل ملأت صدرك شغلا ولم أسد
__________________
فقرك» ورواه الترمذي وابن ماجة من حديث عمران بن زائدة ، وقال
الترمذي : حسن غريب.
وقد روى الإمام
أحمد عن وكيع وأبي معاوية عن الأعمش عن سلام بن شرحبيل : سمعت حبة وسواء ابني خالد
يقولان : أتينا رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو يعمل عملا أو يبني بناء ، وقال أبو معاوية : يصلح شيئا
، فأعناه عليه فلما فرغ دعا لنا وقال : «لا تيأسا من الرزق ما تهززت رؤوسكما فإن
الإنسان تلده أمه أحمر ليس عليه قشرة ثم يعطيه الله ويرزقه» . وقد ورد في بعض الكتب الإلهية : يقول الله تعالى : ابن
آدم خلقتك لعبادتي فلا تلعب ، وتكفلت برزقك فلا تتعب فاطلبني تجدني فإن وجدتني
وجدت كل شيء وإن فتك فاتك كل شيء ، وأنا أحب إليك من كل شيء. وقوله تعالى : (فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً) أي نصيبا من العذاب (مِثْلَ ذَنُوبِ
أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ) أي فلا يستعجلوا ذلك فإنه واقع لا محالة (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ
يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) يعني يوم القيامة. آخر تفسير سورة الذاريات ولله الحمد
والمنة.
تفسير سورة الطور
وهي مكية
قال مالك عن
الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه : سمعت النبي صلىاللهعليهوسلم يقرأ في المغرب بالطور ، فما سمعت أحدا أحسن صوتا أو قراءة
منه ، أخرجاه من طريق مالك. وقال البخاري : حدثنا عبد الله بن يوسف ، أخبرنا مالك
عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل عن عروة عن زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة قالت :
شكوت إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم أني أشتكي فقال : «طوفي من وراء الناس وأنت راكبة» فطفت
ورسول الله يصلي إلى جنب البيت يقرأ بالطور وكتاب مسطور .
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(وَالطُّورِ (١) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ
(٣) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (٤)
وَالسَّقْفِ
الْمَرْفُوعِ (٥) وَالْبَحْرِ
__________________
الْمَسْجُورِ
(٦) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (٧)
ما
لَهُ مِنْ دافِعٍ (٨) يَوْمَ تَمُورُ
السَّماءُ مَوْراً (٩) وَتَسِيرُ الْجِبالُ
سَيْراً (١٠) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١١)
الَّذِينَ
هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (١٢) يَوْمَ يُدَعُّونَ
إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (١٣)
هذِهِ
النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٤) أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ
أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (١٥)
اصْلَوْها
فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ)
(١٦)
قسم تعالى
بمخلوقاته الدالة على قدرته العظيمة أن عذابه واقع بأعدائه ، وأنه لا دافع له عنهم
، فالطور هو الجبل الذي يكون فيه أشجار مثل الذي كلم الله عليه موسى وأرسل منه
عيسى ، وما لم يكن فيه شجر لا يسمى طورا إنما يقال له جبل (وَكِتابٍ مَسْطُورٍ) قيل : هو اللوح المحفوظ ، وقيل : الكتب المنزلة المكتوبة
التي تقرأ على الناس جهارا ولهذا قال : (فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ
وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ).
ثبت في الصحيحين
أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال في حديث الإسراء بعد مجاوزته إلى السماء السابعة : «ثم
رفع بي إلى البيت المعمور ، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألفا لا يعودون إليه آخر
ما عليهم» يعني يتعبدون فيه ويطوفون به كما يطوف أهل الأرض بكعبتهم ،
كذلك ذاك البيت المعمور هو كعبة أهل السماء السابعة ، ولهذا وجد إبراهيم الخليل
عليه الصلاة والسلام مسندا ظهره إلى البيت المعمور ، لأنه باني الكعبة الأرضية ،
والجزاء من جنس العمل ، وهو بحيال الكعبة ، وفي كل سماء بيت يتعبد فيه أهلها
ويصلون إليه والذي في السماء الدنيا يقال له بيت العزة ، والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا روح بن جناح عن
الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «في السماء السابعة بيت يقال له المعمور بحيال
الكعبة ، وفي السماء الرابعة نهر يقال له الحيوان يدخله جبريل كل يوم فينغمس فيه
انغماسة ، ثم يخرج فينتفض انتفاضة ، يخر عنه سبعون ألف قطرة ، يخلق الله من كل
قطرة ملكا يؤمرون أن يأتوا البيت المعمور ، فيصلوا فيه فيفعلون ثم يخرجون فلا
يعودون إليه أبدا ، ويولي عليهم أحدهم يؤمر أن يقف بهم من السماء موقفا يسبحون
الله فيه إلى أن تقوم الساعة ،» هذا حديث غريب جدا ، تفرد به روح بن جناح هذا وهو
القرشي الأموي مولاهم أبو سعد الدمشقي.
وقد أنكر عليه هذا
الحديث جماعة من الحفاظ ، منهم الجوزجاني والعقيلي والحاكم أبو عبد الله
النيسابوري وغيرهم ، قال الحاكم : لا أصل له من حديث أبي هريرة ولا سعيد ولا
الزهري.
__________________
وقال ابن جرير : حدثنا هناد بن السري ، حدثنا أبو الأحوص عن سماك بن حرب
عن خالد بن عرعرة ، أن رجلا قال لعلي : ما البيت المعمور؟ قال : بيت في السماء
يقال له الضراح ، وهو بحيال الكعبة من فوقها ، حرمته في السماء كحرمة البيت في
الأرض ، يصلي فيه كل يوم سبعون ألفا من الملائكة ثم لا يعودون فيه أبدا ، وكذا
رواه شعبة وسفيان الثوري عن سماك ، وعندهما أن ابن الكواء هو السائل عن ذلك ثم
رواه ابن جرير عن أبي كريب عن طلق بن غنام ، عن زائدة عن عاصم عن علي بن ربيعة قال
: سأل ابن الكواء عليا عن البيت المعمور قال : مسجد في السماء يقال له الضراح ،
يدخله كل يوم سبعون ألفا من الملائكة ثم لا يعودون فيه أبدا. ورواه من حديث أبي
الطفيل عن علي بمثله وقال العوفي عن ابن عباس : هو بيت حذاء العرش تعمره الملائكة
، يصلي فيه كل يوم سبعون ألفا من الملائكة ثم لا يعودون إليه. وكذا قال عكرمة
ومجاهد والربيع بن أنس والسدي وغير واحد من السلف.
وقال قتادة : ذكر
لنا أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال يوما لأصحابه : «هل تدرون ما البيت المعمور؟ قالوا :
الله ورسوله أعلم. قال : «فإنه مسجد في السماء بحيال الكعبة لو خر لخر عليها ،
يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا منه لم يعودوا آخر ما عليهم» وزعم الضحاك
أنه يعمره طائفة من الملائكة يقال لهم الجن من قبيلة إبليس ، فالله أعلم. وقوله
تعالى : (وَالسَّقْفِ
الْمَرْفُوعِ) قال سفيان الثوري وشعبة وأبو الأحوص عن سماك عن خالد بن
عرعرة عن علي (وَالسَّقْفِ
الْمَرْفُوعِ) يعني السماء. قال سفيان ثم تلا (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً
مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ) وكذا قال مجاهد وقتادة والسدي وابن جريج وابن زيد واختاره
ابن جرير : وقال الربيع بن أنس : هو العرش ، يعني أنه سقف لجميع المخلوقات ، وله
اتجاه وهو مراد مع غيره كما قاله الجمهور.
وقوله تعالى : (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) قال الربيع بن أنس : هو الماء الذي تحت العرش الذي ينزل
الله منه المطر ، الذي يحيي به الأجساد في قبورها يوم معادها ، وقال الجمهور : هو
هذا البحر ، واختلف في معنى قوله المسجور فقال بعضهم : المراد أنه يوقد يوم
القيامة نارا كقوله : (وَإِذَا الْبِحارُ
سُجِّرَتْ) أي أضرمت فتصير نارا تتأجج محيطة بأهل الموقف. ورواه سعيد
بن المسيب عن علي بن أبي طالب. وروي عن ابن عباس وبه يقول سعيد بن جبير ومجاهد
وعبد الله بن عبيد بن عمير وغيرهم. وقال العلاء بن بدر : إنما سمي البحر المسجور
لأنه لا يشرب منه ماء ولا يسقى به زرع وكذلك البحار يوم القيامة. كذا رواه عنه ابن
أبي حاتم. وعن سعيد بن جبير (وَالْبَحْرِ
الْمَسْجُورِ) يعني المرسل ، وقال قتادة : المسجور المملوء ،
__________________
واختاره ابن جرير ووجهه بأنه ليس موقدا اليوم فهو مملوء. وقيل : المراد به
الفارغ.
قال الأصمعي عن
أبي عمرو بن العلاء عن ذي الرمة عن ابن عباس في قوله تعالى : (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) قال : الفارغ خرجت أمة تستسقي فرجعت فقالت : إن الحوض
مسجور يعني فارغا. رواه ابن مردويه في مسانيد الشعراء. وقيل : المراد بالمسجور
الممنوع المكفوف عن الأرض لئلا يغمرها فيغرق أهلها قاله علي بن أبي طلحة عن ابن
عباس وبه يقول السدي وغيره ، وعليه يدل الحديث الذي رواه الإمام أحمد ، رحمهالله ، في مسنده فإنه قال : حدثنا يزيد ، حدثنا العوام ، حدثني
شيخ كان مرابطا بالساحل قال : لقيت أبا صالح مولى عمر بن الخطاب فقال : حدثنا عمر
بن الخطاب عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «ليس من ليلة إلا والبحر يشرف فيها ثلاث مرات ،
يستأذن الله تعالى أن ينفضخ عليهم ، فيكفه الله عزوجل».
وقال الحافظ أبو
بكر الإسماعيلي : حدثنا الحسن بن سفيان عن إسحاق بن راهويه عن يزيد ، وهو ابن
هارون ، عن العوام بن حوشب ، حدثني شيخ مرابط قال : خرجت ليلة لحرسي لم يخرج أحد
من الحرس غيري ، فأتيت الميناء فصعدت فجعل يخيل إلي أن البحر يشرف يحاذي رؤوس
الجبال ، فعل ذلك مرارا وأنا مستيقظ ، فلقيت أبا صالح فقال : حدثنا عمر بن الخطاب
أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «ما من ليلة إلا والبحر يشرف ثلاث مرات يستأذن الله
تعالى أن ينفضخ عليهم ، فيكفه الله عزوجل» فيه رجل مبهم لم يسم.
وقوله تعالى : (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ) هذا هو المقسم عليه أي الواقع بالكافرين كما قال في الآية
الأخرى : (ما لَهُ مِنْ دافِعٍ) أي ليس له دافع يدفعه عنهم إذا أراد الله بهم ذلك. قال
الحافظ أبو بكر بن أبي الدنيا : حدثنا أبي ، حدثنا موسى بن داود عن صالح المري عن
جعفر بن زيد العبدي قال : خرج عمر يعس في المدينة ذات ليلة ، فمر بدار رجل من المسلمين
فوافقه قائما يصلي فوقف يستمع قراءته فقرأ (وَالطُّورِ) ـ حتى إذا بلغ ـ (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ
لَواقِعٌ ما لَهُ مِنْ دافِعٍ) قال : قسم ورب الكعبة حق ، فنزل عن حماره واستند إلى حائط
فمكث مليا ثم رجع إلى منزله ، فمكث شهرا يعوده الناس لا يدرون ما مرضه رضي الله
عنه.
وقال الإمام أبو
عبيد في فضائل القرآن : حدثنا محمد بن صالح ، حدثنا هشام بن حسان عن الحسن أن عمر
قرأ (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ
لَواقِعٌ ما لَهُ مِنْ دافِعٍ) فربا لها ربوة عيد منها عشرين يوما. وقوله تعالى : (يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً) قال ابن عباس وقتادة : تتحرك تحريكا. وعن ابن عباس : هو
تشققها. وقال مجاهد : تدور دورا وقال الضحاك : استدارتها وتحركها لأمر الله وموج
بعضها في بعض. وهذا اختيار ابن جرير أنه التحرك في استدارة. قال : وأنشد أبو عبيدة
__________________
معمر بن المثنى
بيت الأعشى فقال : [البسيط]
كأنّ مشيتها من
بيت جارتها
|
|
مور السحابة لا
ريث ولا عجل
|
(وَتَسِيرُ
الْجِبالُ سَيْراً) أي تذهب فتصير هباء منبثا وتنسف نسفا (فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي ويل لهم ذلك اليوم من عذاب الله ونكاله بهم وعقابه لهم (الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ) أي هم في الدنيا يخوضون في الباطل ويتخذون دينهم هزوا
ولعبا (يَوْمَ يُدَعُّونَ) أي يدفعون ويساقون (إِلى نارِ جَهَنَّمَ
دَعًّا) وقال مجاهد والشعبي ومحمد بن كعب والضحاك والسدي والثوري :
يدفعون فيها دفعا (هذِهِ النَّارُ
الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) أي تقول لهم الزبانية ذلك تقريعا وتوبيخا (أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا
تُبْصِرُونَ اصْلَوْها) أي ادخلوها دخول من تغمره من جميع جهاته (فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ
عَلَيْكُمْ) أي سواء صبرتم على عذابها ونكالها أم لم تصبروا لا محيد
لكم عنها ولا خلاص لكم منها و (إِنَّما تُجْزَوْنَ
ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي ولا يظلم الله أحدا بل يجازي كلا بعمله.
(إِنَّ الْمُتَّقِينَ
فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (١٧)
فاكِهِينَ
بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (١٨)
كُلُوا
وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٩)
مُتَّكِئِينَ
عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ)
(٢٠)
أخبر الله تعالى
عن حال السعداء فقال (إِنَّ الْمُتَّقِينَ
فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ) وذلك بضد ما أولئك فيه من العذاب والنكال (فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ) أي يتفكهون بما آتاهم الله من النعيم من أصناف الملاذ من
مآكل ومشارب وملابس ومساكن ومراكب وغير ذلك (وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ
عَذابَ الْجَحِيمِ) أي وقد نجاهم من عذاب النار ، وتلك نعمة مستقلة بذاتها على
حدتها مع ما أضيف إليها من دخول الجنة التي فيها من السرور ما لا عين رأت ولا أذن
سمعت ولا خطر على قلب بشر.
وقوله تعالى : (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما
كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) كقوله تعالى : (كُلُوا وَاشْرَبُوا
هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) [الحاقة : ٢٤] أي
هذا بذاك تفضلا منه وإحسانا. وقوله تعالى : (مُتَّكِئِينَ عَلى
سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ) قال الثوري عن حصين عن مجاهد عن ابن عباس السرر في الحجال
، وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو اليمان ، حدثنا صفوان بن عمرو أنه
سمع الهيثم بن مالك الطائي يقول : إن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إن الرجل ليتكئ المتكأ مقدار أربعين سنة ما يتحول
عنه ولا يمله ، يأتيه ما اشتهت نفسه ولذت عينه». وحدثنا أبي ، أخبرنا هدبة بن خالد
عن سليمان بن المغيرة عن ثابت قال : بلغنا أن الرجل ليتكئ في الجنة سبعين سنة عنده
__________________
من أزواجه وخدمه ،
وما أعطاه الله من الكرامة والنعيم ، فإذا حانت منه نظرة فإذا أزواج له لم يكن
رآهن قبل ذلك ، فيقلن قد آن لك أن تجعل لنا منك نصيبا ، ومعنى (مَصْفُوفَةٍ) أي وجوه بعضهم إلى بعض كقوله (عَلى سُرُرٍ
مُتَقابِلِينَ) [الصافات : ٤٤] (وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) أي وجعلنا لهم قرينات صالحات وزوجات حسانا من الحور العين
، وقال مجاهد (وَزَوَّجْناهُمْ) أنكحناهم بحور عين ، وقد تقدم وصفهن في غير موضع بما أغنى
عن إعادته هاهنا.
(وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما
أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (٢١) وَأَمْدَدْناهُمْ
بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢٢) يَتَنازَعُونَ فِيها
كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (٢٣)
وَيَطُوفُ
عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (٢٤)
وَأَقْبَلَ
بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٥) قالُوا إِنَّا
كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (٢٦) فَمَنَّ اللهُ
عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (٢٧) إِنَّا كُنَّا مِنْ
قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ)
(٢٨)
يخبر تعالى عن
فضله وكرمه وامتنانه ولطفه بخلقه وإحسانه ، أن المؤمنين إذا اتبعتهم ذرياتهم في
الإيمان يلحقهم بآبائهم في المنزلة ، وإن لم يبلغوا عملهم لتقر أعين الآباء
بالأبناء عندهم في منازلهم ، فيجمع بينهم على أحسن الوجوه بأن يرفع الناقص العمل
بكامل العمل ، ولا ينقص ذلك من عمله ومنزلته للتساوي بينه وبين ذاك ، ولهذا قال : (أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما
أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) قال الثوري عن عمرو بن مرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس
قال : إن الله ليرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه في العمل لتقر بهم عينه
، ثم قرأ (وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما
أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ).
ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث سفيان الثوري به ، وكذا رواه ابن
جرير من حديث شعبة عن عمرو بن مرة به ، ورواه البزار عن سهل بن بحر عن الحسن بن
حماد الوراق ، عن قيس بن الربيع عن عمرو بن مرة عن سعيد عن ابن عباس مرفوعا ،
فذكره ثم قال وقد رواه الثوري عن عمرو بن مرة عن سعيد عن ابن عباس موقوفا ، وقال
ابن أبي حاتم : حدثنا العباس بن الوليد بن مزيد البيروتي ، أخبرني محمد بن شعيب ،
أخبرني شيبان ، أخبرني ليث عن حبيب بن أبي ثابت الأسدي عن سعيد بن جبير عن ابن
عباس في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) قال : هم ذرية المؤمن يموتون على الإيمان ، فإن كانت منازل
آبائهم أرفع من منازلهم ألحقوا بآبائهم ، ولم ينقصوا من أعمالهم التي عملوها شيئا.
وقال الحافظ
الطبراني : حدثنا الحسين بن إسحاق التستري ، حدثنا محمد بن
__________________
عبد الرحمن بن
غزوان ، حدثنا شريك عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، أظنه عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وزوجته وولده ،
فيقال إنهم لم يبلغوا درجتك ، فيقول : يا رب قد عملت لي ولهم فيؤمر بإلحاقهم به»
وقرأ ابن عباس (وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ) الآية.
وقال العوفي عن
ابن عباس في هذه الآية يقول : والذين أدرك ذريتهم الإيمان فعملوا بطاعتي ألحقتهم
بإيمانهم إلى الجنة ، وأولادهم الصغار تلحق بهم ، وهذا راجع إلى التفسير الأول ، فإن ذاك مفسر أصرح من هذا
، وهكذا يقول الشعبي وسعيد بن جبير وإبراهيم وقتادة وأبو صالح والربيع بن أنس
والضحاك وابن زيد ، وهو اختيار ابن جرير وقد قال عبد الله ابن الإمام أحمد : حدثنا
عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا محمد بن فضيل عن محمد بن عثمان عن زاذان عن علي قال :
سألت خديجة النبي صلىاللهعليهوسلم عن ولدين ماتا لها في الجاهلية فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «هما في النار» فلما رأى الكراهية في وجهها قال : «لو
رأيت مكانهما لأبغضتهما» قالت : يا رسول الله فولدي منك؟ قال : «في الجنة» قال :
ثم قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن المؤمنين وأولادهم في الجنة ، وإن المشركين وأولادهم
في النار» ثم قرأ رسول الله صلىاللهعليهوسلم والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم الآية.
هذا فضله تعالى
على الأبناء ببركة عمل الآباء وأما فضله على الآباء ببركة دعاء الأبناء فقد قال
الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا حماد بن سلمة عن عاصم بن أبي النجود
عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن الله ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة فيقول : يا
رب أنى لي هذه؟ فيقول : باستغفار ولدك لك» إسناده صحيح ولم يخرجوه من هذا الوجه ولكن له شاهد في صحيح
مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم «إذا مات ابن آدم
انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له» .
وقوله تعالى : (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) لما أخبر عن مقام الفضل وهو رفع درجة الذرية إلى منزلة
الآباء من غير عمل يقتضي ذلك ، أخبر عن مقام العدل وهو أنه لا يؤاخذ أحدا بذنب أحد
فقال تعالى : (كُلُّ امْرِئٍ بِما
كَسَبَ رَهِينٌ) أي مرتهن بعمله لا يحمل عليه ذنب
__________________
غيره من الناس ،
سواء كان أبا أو ابنا كما قال تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ بِما
كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ عَنِ
الْمُجْرِمِينَ) [المدثر : ٣٨ ـ ٤٠]
وقوله : (وَأَمْدَدْناهُمْ
بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) أي وألحقناهم بفواكه ولحوم من أنواع شتى مما يستطاب
ويشتهى. وقوله : (يَتَنازَعُونَ فِيها
كَأْساً) أي يتعاطون فيها كأسا أي من الخمر ، قاله الضحاك (لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ) أي لا يتكلمون فيها بكلام لاغ أي هذيان ولا إثم أي فحش كما
يتكلم به الشربة من أهل الدنيا ، وقال ابن عباس : اللغو الباطل والتأثيم الكذب ،
وقال مجاهد : لا يستبون ولا يؤثمون.
وقال قتادة : كان
ذلك في الدنيا مع الشيطان فنزه الله خمر الآخرة عن قاذورات خمر الدنيا وأذاها ،
كما تقدم فنفى عنها صداع الرأس ووجع البطن وإزالة العقل بالكلية ، وأخبر أنها لا
تحملهم على الكلام السيئ الفارغ عن الفائدة المتضمن هذيانا وفحشا ، وأخبر بحسن
منظرها وطيب طعمها ومخبرها فقال : (بَيْضاءَ لَذَّةٍ
لِلشَّارِبِينَ لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) [الصافات : ٤٦ ـ ٤٧] وقال : (لا يُصَدَّعُونَ
عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ) [الواقعة : ١٩]
وقال هاهنا (يَتَنازَعُونَ فِيها
كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ) وقوله تعالى : (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ
غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ) إخبار عن خدمهم وحشمهم في الجنة ، كأنهم اللؤلؤ الرطب
المكنون في حسنهم وبهائهم ونظافتهم وحسن ملابسهم ، كما قال تعالى : (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ
مُخَلَّدُونَ بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) [الواقعة : ١٧ ـ ١٨].
وقوله تعالى : (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ
يَتَساءَلُونَ) أي أقبلوا يتحادثون ويتساءلون عن أعمالهم وأحوالهم في
الدنيا ، وهذا كما يتحادث أهل الشراب على شرابهم إذا أخذ فيهم الشراب بما كان من
أمرهم (قالُوا إِنَّا كُنَّا
قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ) أي قد كنا في الدار الدنيا ونحن بين أهلنا خائفين من ربنا
مشفقين من عذابه وعقابه (فَمَنَّ اللهُ
عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ) أي فتصدق علينا وأجارنا مما نخاف (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ) أي نتضرع إليه فاستجاب لنا وأعطانا سؤلنا (إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ).
وقد ورد في هذا
المقام حديث رواه الحافظ أبو بكر البزار في مسنده فقال : حدثنا سلمة بن شبيب ،
حدثنا سعيد بن دينار ، حدثنا الربيع بن صبيح عن الحسن عن أنس قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إذا دخل أهل الجنة الجنة اشتاقوا إلى الإخوان ، فيجيء
سرير هذا حتى يحاذي سرير هذا فيتحدثان ، فيتكئ هذا ويتكئ هذا فيتحدثان بما كان في
الدنيا ، فيقول أحدهما لصاحبه : يا فلان تدري أي يوم غفر الله لنا؟ يوم كنا في
موضع كذا وكذا فدعونا الله عزوجل فغفر لنا» ثم قال البزار : لا نعرفه يروى إلا بهذا
الإسناد.
قلت : وسعيد بن
دينار الدمشقي؟ قال أبو حاتم : هو مجهول وشيخه الربيع بن صبيح ، قد تكلم فيه غير
واحد من جهة حفظه وهو رجل صالح ثقة في نفسه. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا
عمرو بن عبد الله
الأودي ، حدثنا وكيع عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق عن عائشة أنها قرأت هذه
الآية (فَمَنَّ اللهُ
عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ
هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) فقالت : اللهم من علينا وقنا عذاب السموم إنك أنت البر
الرحيم. قيل للأعمش في الصلاة؟ قال : نعم.
(فَذَكِّرْ فَما
أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (٢٩)
أَمْ
يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠)
قُلْ
تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (٣١) أَمْ تَأْمُرُهُمْ
أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٣٢) أَمْ يَقُولُونَ
تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) فَلْيَأْتُوا
بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ(٣٤)
يقول تعالى آمرا
رسوله صلوات الله وسلامه عليه بأن يبلغ رسالته إلى عباده ، وأن يذكرهم بما أنزل
الله عليه ، ثم نفى عنه ما يرميه به أهل البهتان والفجور فقال : (فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ
رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ) أي لست بحمد الله بكاهن كما تقوله الجهلة من كفار قريش ،
والكاهن الذي يأتيه الرئي من الجان بالكلمة يتلقاها من خبر السماء (وَلا مَجْنُونٍ) وهو الذي يتخبطه الشيطان من المس. ثم قال تعالى منكرا
عليهم في قولهم في الرسول صلىاللهعليهوسلم (أَمْ يَقُولُونَ
شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) أي قوارع الدهر ، والمنون الموت ، يقولون ننظره ونصبر عليه
حتى يأتيه الموت فنستريح منه ومن شأنه ، قال الله تعالى : (قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ
مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ) أي انتظروا فإني منتظر معكم ، وستعلمون لمن تكون العاقبة
والنصرة في الدنيا والآخرة.
قال محمد بن إسحاق
عن عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن قريشا لما
اجتمعوا في دار الندوة في أمر النبي صلىاللهعليهوسلم قال قائل منهم :
احتبسوه في وثاق ثم تربصوا به ريب المنون حتى يهلك كما هلك من هلك قبله من الشعراء
زهير والنابغة إنما هو كأحدهم ، فأنزل الله تعالى ذلك من قولهم (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ
بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) .
ثم قال تعالى : (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا) أي عقولهم تأمرهم بهذا الذي يقولونه فيك من الأقاويل
الباطلة التي يعلمون في أنفسهم أنها كذب وزور (أَمْ هُمْ قَوْمٌ
طاغُونَ) أي ولكن هم قوم طاغون ضلال معاندون ، فهذا هو الذي يحملهم
على ما قالوه فيك. وقوله تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ
تَقَوَّلَهُ) أي اختلقه وافتراه من عند نفسه يعنون القرآن ، قال الله
تعالى : (بَلْ لا يُؤْمِنُونَ) أي كفرهم هو الذي يحملهم على هذه المقالة (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ
كانُوا صادِقِينَ) أي إن كانوا صادقين في قولهم تقوله وافتراه ، فليأتوا بمثل
ما جاء به محمدصلىاللهعليهوسلم من هذا القرآن ، فإنهم لو اجتمعوا هم وجميع أهل الأرض من
الجن والإنس ما جاءوا بمثله ،
__________________
ولا بعشر سور من
مثله ، ولا بسورة من مثله.
(أَمْ خُلِقُوا مِنْ
غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (٣٥) أَمْ خَلَقُوا
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (٣٦) أَمْ عِنْدَهُمْ
خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (٣٧) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ
يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) أَمْ لَهُ الْبَناتُ
وَلَكُمُ الْبَنُونَ (٣٩) أَمْ تَسْئَلُهُمْ
أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ
(٤٠)
أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤١)
أَمْ
يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ
غَيْرُ اللهِ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٤٣)
هذا المقام في
إثبات الربوبية وتوحيد الألوهية فقال تعالى : (أَمْ خُلِقُوا مِنْ
غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) أي أوجدوا من غير موجد؟ أم هم أوجدوا أنفسهم ، أي لا هذا
ولا هذا بل الله هو الذي خلقهم وأنشأهم بعد أن لم يكونوا شيئا مذكورا ، قال البخاري
: حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان قال : حدثوني عن الزهري عن محمد بن جبير بن
مطعم عن أبيه قال : سمعت النبيصلىاللهعليهوسلم يقرأ في المغرب بالطور فلما بلغ هذه الآية (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ
هُمُ الْخالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ أَمْ
عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) كاد قلبي أن يطير ، وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من طرق عن الزهري به.
وجبير بن مطعم كان قد قدم على النبي صلىاللهعليهوسلم بعد وقعة بدر في فداء الأسارى ، وكان إذ ذاك مشركا ، فكان
سماعه هذه الآية من هذه السورة من جملة ما حمله على الدخول في الإسلام بعد ذلك.
ثم قال تعالى : (أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ
بَلْ لا يُوقِنُونَ) أي أهم خلقوا السموات والأرض؟ وهذا إنكار عليهم في شركهم
بالله ، وهم يعلمون أنه الخالق وحده لا شريك له ، ولكن عدم إيقانهم هو الذي يحملهم
على ذلك (أَمْ عِنْدَهُمْ
خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) أي أهم يتصرفون في الملك وبيدهم مفاتيح الخزائن (أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) أي المحاسبون للخلائق ، ليس الأمر كذلك بل الله عزوجل هو المالك المتصرف الفعال لما يريد.
وقوله تعالى : (أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ
فِيهِ) أي مرقاة إلى الملأ الأعلى (فَلْيَأْتِ
مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي فليأت الذي يستمع لهم بحجة ظاهرة على صحة ما هم فيه من
الفعال والمقال ، أي وليس لهم سبيل إلى ذلك فليسوا على شيء وليس لهم دليل ، ثم قال
منكرا عليهم فيما نسبوه إليه من البنات وجعلهم الملائكة إناثا ، واختيارهم لأنفسهم
الذكور على الإناث ، بحيث إذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم ، هذا وقد
جعلوا الملائكة بنات الله وعبدوهم مع الله فقال : (أَمْ لَهُ الْبَناتُ
وَلَكُمُ الْبَنُونَ) وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد.
(أَمْ تَسْئَلُهُمْ
أَجْراً) أي أجرة إبلاغك إياهم رسالة الله ، أي لست تسألهم على ذلك
شيئا
__________________
(فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ
مُثْقَلُونَ) أي فهم من أدنى شيء يتبرمون منه ويثقلهم ويشق عليهم (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ
يَكْتُبُونَ) أي ليس الأمر كذلك فإنه لا يعلم أحد من أهل السموات والأرض
الغيب إلا الله (أَمْ يُرِيدُونَ
كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ) يقول تعالى : أم يريد هؤلاء بقولهم هذا في الرسول وفي
الدين غرور الناس وكيد الرسول وأصحابه ، فكيدهم إنما يرجع وباله على أنفسهم فالذين
كفروا هم المكيدون (أَمْ لَهُمْ إِلهٌ
غَيْرُ اللهِ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) وهذا إنكار شديد على المشركين في عبادتهم الأصنام والأنداد
مع الله ، ثم نزه نفسه الكريمة عما يقولون ويفترون ويشركون فقال : (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ).
(وَإِنْ يَرَوْا
كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (٤٤) فَذَرْهُمْ حَتَّى
يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (٤٥) يَوْمَ لا يُغْنِي
عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٦) وَإِنَّ لِلَّذِينَ
ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٧) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ
رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (٤٨) وَمِنَ اللَّيْلِ
فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ)
(٤٩)
يقول تعالى مخبرا
عن المشركين بالعناد والمكابرة للمحسوس (وَإِنْ يَرَوْا
كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً) أي عليهم يعذبون به لما صدقوا ، ولما أيقنوا بل يقولون :
هذا سحاب مركوم ، أي متراكم ، وهذا كقوله تعالى : (وَلَوْ فَتَحْنا
عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقالُوا إِنَّما
سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) [الحجر : ١٤ ـ ١٥].
وقال الله تعالى (فَذَرْهُمْ) أي دعهم يا محمد (حَتَّى يُلاقُوا
يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ) وذلك يوم القيامة (يَوْمَ لا يُغْنِي
عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) أي لا ينفعهم كيدهم ولا مكرهم الذي استعملوه في الدنيا ،
لا يجزي عنهم يوم القيامة شيئا (وَلا هُمْ
يُنْصَرُونَ). ثم قال تعالى : (وَإِنَّ لِلَّذِينَ
ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ) أي قبل ذلك في الدار الدنيا كقوله تعالى : (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ
الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [السجدة : ٢١].
ولهذا قال تعالى :
(وَلكِنَّ
أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي نعذبهم في الدنيا ونبتليهم فيها بالمصائب لعلهم يرجعون
وينيبون فلا يفهمون ما يراد بهم ، بل إذا جلى عنهم مما كانوا فيه ، عادوا إلى أسوأ
ما كانوا عليه كما جاء في بعض الأحاديث «إن المنافق إذا مرض وعوفي مثله في ذلك
كمثل البعير ، لا يدري فيما عقلوه ولا فيما أرسلوه» وفي الأثر الإلهي : كم أعصيك
ولا تعاقبني؟ قال الله تعالى : يا عبدي كم أعافيك وأنت لا تدري؟ وقوله تعالى : (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ
بِأَعْيُنِنا) أي اصبر على أذاهم ولا تبالهم فإنك بمرأى منا وتحت كلاءتنا
والله يعصمك من الناس. وقوله تعالى : (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ
رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) قال الضحاك : أي إلى الصلاة. سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك
اسمك ، وتعالى جدك ، ولا إله غيرك .
__________________
وقد روي مثله عن
الربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهما ، وروى مسلم في صحيحه عن عمر
أنه كان يقول : هذا في ابتداء الصلاة ، ورواه أحمد وأهل السنن عن أبي سعيد وغيره ،
عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه كان يقول ذلك .
وقال أبو الجوزاء (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ
تَقُومُ) أي من نومك من فراشك ، واختاره ابن جرير ويتأيد هذا القول
بما رواه الإمام أحمد ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا الأوزاعي ، حدثني عمير بن
هانئ ، حدثني جنادة بن أبي أمية. حدثنا عبادة بن الصامت عن رسول اللهصلىاللهعليهوسلم قال : «من تعارّ من الليل فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك
وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ، سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله
أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله. ثم قال ، رب اغفر لي ـ أو قال ثم دعا ـ استجيب له
، فإن عزم فتوضأ ثم صلى قبلت صلاته» وأخرجه البخاري في صحيحه وأهل السنن من حديث الوليد بن
مسلم به. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ
رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) قال : من كل مجلس وقال الثوري عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ
تَقُومُ) قال إذا أراد الرجل أن يقوم من مجلسه قال : سبحانك اللهم
وبحمدك.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبي ، حدثنا أبو النضر إسحاق بن إبراهيم الدمشقي ، حدثنا محمد بن شعيب ،
أخبرني طلحة بن عمرو الحضرمي عن عطاء بن أبي رباح أنه حدثه عن قول الله تعالى : (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ
تَقُومُ) يقول حين تقوم من كل مجلس إن كنت أحسنت ازددت خيرا ، وإن
كنت غير ذلك كان هذا كفارة له.
وقد قال عبد
الرزاق في جامعه : أخبرنا معمر عن عبد الكريم الجزري ، عن أبي عثمان الفقير ، أن
جبريل علم النبي صلىاللهعليهوسلم إذا قام من مجلسه أن يقول : سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد أن
لا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك ، قال معمر : وسمعت غيره يقول هذا القول
كفارة المجالس وهذا مرسل ، وقد وردت أحاديث مسندة من طرق يقوي بعضها بعضا بذلك ،
فمن ذلك حديث ابن جريج عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه ، فقال قبل أن
يقوم من مجلسه : سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك
، إلا غفر الله له ما كان في مجلسه
__________________
ذلك» رواه الترمذي ، وهذا لفظه والنسائي في اليوم والليلة من
حديث ابن جريج ، وقال الترمذي : حسن صحيح ، وأخرجه الحاكم في مستدركه ، وقال إسناد
على شرط مسلم ، إلا أن البخاري علله ، قلت : علله الإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو
حاتم وأبو زرعة والدار قطني وغيرهم ، ونسبوا الوهم فيه إلى ابن جريج ، على أن أبا
داود قد رواه في سننه من طريق غير ابن جريج إلى أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلىاللهعليهوسلم بنحوه ، ورواه أبو داود ، واللفظ له والنسائي والحاكم في
المستدرك من طريق الحجاج بن دينار عن هاشم ، عن أبي العالية عن أبي برزة الأسلمي ،
قال : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول بآخر عمره : إذا أراد أن يقوم من المجلس «سبحانك
اللهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك». فقال رجل : يا رسول
الله ، إنك لتقول قولا ما كنت تقوله فيما مضى ، قال : «كفارة لما يكون في المجلس»
وقد روي مرسلا عن أبي العالية ، فالله أعلم.
وهكذا رواه النسائي
والحاكم من حديث الربيع بن أنس عن أبي العالية عن رافع بن خديج عن النبي صلىاللهعليهوسلم مثله سواء ، وروي مرسلا أيضا والله أعلم ، وكذا رواه أبو
داود عن عبد الله بن عمرو أنه قال : «كلمات لا يتكلم بهن أحد في مجلسه عند قيامه
ثلاث مرات إلا كفر بهن عنه ، ولا يقولهن في مجلس خير ومجلس ذكر ، إلا ختم له بهن
كما يختم بالخاتم على الصحيفة : سبحانك اللهم وبحمدك ، لا إله إلا أنت ، أستغفرك
وأتوب إليك» وأخرجه الحاكم من حديث أم المؤمنين عائشة وصححه ، ومن رواية جبير بن
مطعم ، ورواه أبو بكر الإسماعيلي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب كلهم عن النبي صلىاللهعليهوسلم ، وقد أفردت لذلك جزءا على حدة بذكر طرقه وألفاظه وعلله ،
وما يتعلق به ولله الحمد والمنة.
وقوله تعالى : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ) أي اذكره واعبده بالتلاوة والصلاة في الليل كما قال تعالى
: (وَمِنَ اللَّيْلِ
فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) [الإسراء : ٧٩]. وقوله تعالى : (وَإِدْبارَ النُّجُومِ) قد تقدم في حديث ابن عباس ، أنهما الركعتان اللتان قبيل
صلاة الفجر ، فإنهما مشروعتان عند إدبار النجوم أي عند جنوحها للغيبوبة. وقد روى
ابن سيلان عن أبي هريرة مرفوعا «لا تدعوهما وإن طردتكم الخيل» يعني ركعتي الفجر ، رواه أبو داود. ومن هذا الحديث حكي عن
بعض أصحاب الإمام أحمد القول بوجوبهما ، وهو ضعيف الحديث «خمس صلوات في اليوم
والليلة» قال : هل علي غيرها قال : «لا إلا أن تطوع» وقد ثبت في
الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت : لم يكن رسول الله صلىاللهعليهوسلم على شيء من
__________________
النوافل أشد
تعاهدا منه على ركعتي الفجر ، وفي لفظ لمسلم «ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها» .
آخر تفسير سورة
الطور ولله الحمد والمنة.
تفسير سورة النجم
وهي مكية
قال البخاري :
حدثنا نصر بن علي ، أخبرني أبو أحمد ـ يعني الزبيدي ـ حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق
، عن الأسود بن يزيد عن عبد الله قال : أول سورة أنزلت فيها سجدة (وَالنَّجْمِ) قال : فسجد النبي صلىاللهعليهوسلم وسجد من خلفه ، إلا رجلا رأيته أخذ كفا من تراب فسجد عليه
، فرأيته بعد ذلك قتل كافرا وهو أمية بن خلف ، وقد رواه البخاري أيضا في مواضع ومسلم وأبو داود
والنسائي من طرق عن أبي إسحاق به ، وقوله في الممتنع إنه أمية بن خلف في هذه
الرواية مشكل ، فإنه قد جاء من غير هذه الطريق أنه عتبة بن ربيعة.
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(وَالنَّجْمِ إِذا
هَوى (١) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (٢) وَما يَنْطِقُ عَنِ
الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى) (٤)
قال الشعبي وغيره
: الخالق يقسم بما شاء من خلقه ، والمخلوق لا ينبغي له أن يقسم إلا بالخالق ، رواه
ابن أبي حاتم : واختلف المفسرون في معنى قوله : (وَالنَّجْمِ إِذا
هَوى) فقال ابن أبي نجيح عن مجاهد : يعني بالنجم الثريا إذا سقط
مع الفجر ، وكذا روي عن ابن عباس وسفيان الثوري واختاره ابن جرير ، وزعم السدي أنها الزهرة ، وقال الضحاك (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) إذا رمي به الشياطين وهذا القول له اتجاه. وروى الأعمش عن
مجاهد في قوله تعالى :
__________________
(وَالنَّجْمِ إِذا
هَوى) يعني القرآن إذا نزل ، وهذه الآية كقوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ
وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي
كِتابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ
الْعالَمِينَ) [الواقعة : ٧٥ ـ ٨٠].
وقوله تعالى : (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى) هذا هو المقسم عليه ، وهو الشهادة للرسول صلىاللهعليهوسلم بأنه بارّ راشد تابع للحق ليس بضال ، وهو الجاهل الذي يسلك
على غير طريق بغير علم ، والغاوي هو العالم بالحق ، العادل عنه قصدا إلى غيره ،
فنزه الله رسوله وشرعه ، عن مشابهة أهل الضلال كالنصارى وطرائق اليهود. وعن علم
الشيء وكتمانه ، والعمل بخلافه ، بل هو صلوات الله وسلامه عليه وما بعثه به من
الشرع العظيم في غاية الاستقامة والاعتدال والسداد ، ولهذا قال تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) أي ما يقول قولا عن هوى وغرض (إِنْ هُوَ إِلَّا
وَحْيٌ يُوحى) أي إنما يقول ما أمر به يبلغه إلى الناس كاملا موفورا من
غير زيادة ولا نقصان كما رواه الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا جرير بن عثمان عن عبد الرحمن بن
ميسرة عن أبي أمامة أنه سمع رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «ليدخلنّ الجنة بشفاعة رجل ليس بنبي مثل الحيين ـ أو
مثل أحد الحيين ـ ربيعة ومضر» فقال رجل : يا رسول الله أو ما ربيعة من مضر؟ قال : «إنما
أقول ما أقول».
وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد عن عبيد الله بن الأخنس ، أخبرنا
الوليد بن عبد الله عن يوسف بن ماهك عن عبد الله بن عمرو قال : كنت أكتب كل شيء
أسمعه من رسول الله صلىاللهعليهوسلم أريد حفظه ، فنهتني قريش فقالوا : إنك تكتب كل شيء تسمعه
من رسول اللهصلىاللهعليهوسلم ، ورسول الله صلىاللهعليهوسلم بشر يتكلم في الغضب. فأمسكت عن الكتاب فذكرت ذلك لرسول
اللهصلىاللهعليهوسلم فقال : «اكتب فو الذي نفسي بيده ما خرج مني إلا حق» ورواه أبو داود عن مسدد وأبي بكر بن أبي شيبة ، كلاهما عن
يحيى بن سعيد القطان به.
وقال الحافظ أبو
بكر البزار : حدثنا أحمد بن منصور ، حدثنا عبد الله بن صالح ، حدثنا الليث عن ابن
عجلان عن زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «ما أخبرتكم أنه من عند الله فهو الذي لا شك فيه» ثم
قال : لا نعلمه يروى إلا بهذا الإسناد وقال الإمام أحمد : حدثنا يونس ، حدثنا ليث عن محمد عن سعيد بن أبي سعيد عن
أبي هريرة عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «لا أقول إلا حقا قال بعض أصحابه : فإنك تداعبنا
__________________
يا رسول الله؟ قال
: «إني لا أقول إلا حقا» .
(عَلَّمَهُ شَدِيدُ
الْقُوى (٥) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ
الْأَعْلى (٧) ثُمَّ دَنا
فَتَدَلَّى(٨) فَكانَ قابَ
قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (٩)
فَأَوْحى
إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (١٠) ما كَذَبَ الْفُؤادُ
ما رَأى (١١) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (١٢)
وَلَقَدْ
رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ
الْمُنْتَهى(١٤) عِنْدَها جَنَّةُ
الْمَأْوى (١٥) إِذْ يَغْشَى
السِّدْرَةَ ما يَغْشى (١٦) ما زاغَ الْبَصَرُ
وَما طَغى (١٧) لَقَدْ رَأى مِنْ
آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) (١٨)
يقول تعالى مخبرا
عن عبده ورسوله محمد صلىاللهعليهوسلم أنه علمه الذي جاء به إلى الناس (شَدِيدُ الْقُوى) وهو جبريل عليه الصلاة والسلام ، كما قال تعالى : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي
قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) [التكوير : ١٩ ـ ٢١]
وقال هاهنا (ذُو مِرَّةٍ) أي ذو قوة ، قاله مجاهد والحسن وابن زيد. وقال ابن عباس :
ذو منظر حسن ، وقال قتادة : ذو خلق طويل حسن. ولا منافاة بين القولين فإنه عليهالسلام ذو منظر حسن وقوة شديدة.
وقد ورد في الحديث
الصحيح من رواية ابن عمر وأبي هريرة أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي» وقوله تعالى : (فَاسْتَوى) يعني جبريل عليهالسلام ، قاله الحسن ومجاهد وقتادة والربيع بن أنس (وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى) يعني جبريل استوى في الأفق الأعلى ، قاله عكرمة وغير واحد.
قال عكرمة : والأفق الأعلى الذي يأتي منه الصبح. وقال مجاهد هو مطلع الشمس. وقال
قتادة : هو الذي يأتي منه النهار ، وكذا قال ابن زيد وغيرهم.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبو زرعة ، حدثنا مصرف بن عمرو اليامي أبو القاسم ، حدثنا عبد الرحمن بن
محمد بن طلحة بن مصرف ، حدثني أبي عن الوليد هو ابن قيس عن إسحاق بن أبي الكهتلة ،
أظنه ذكره عن عبد الله بن مسعود ، أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم لم ير جبريل في صورته إلا مرتين : أما واحدة فإنه سأله أن
يراه في صورته فسد الأفق. وأما الثانية فإنه كان معه حيث صعد فذلك قوله : (وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى) وقد قال ابن جرير هاهنا قولا لم أره لغيره ، ولا حكاه هو
عن أحد وحاصله أنه ذهب إلى أن المعنى (فَاسْتَوى) أي هذا الشديد القوي ذو المرة هو ومحمدصلىاللهعليهوسلم بالأفق الأعلى ، أي استويا جميعا بالأفق الأعلى وذلك ليلة
الإسراء ، كذا قال ولم يوافقه أحد على ذلك ، ثم شرع يوجه ما قال من حيث العربية
فقال وهو كقوله تعالى : (أَإِذا كُنَّا
تُراباً وَآباؤُنا) فعطف بالآباء على المكنى في كنا من غير إظهار نحن فكذلك
قوله (فَاسْتَوى) وهو ، قال وذكر الفراء عن بعض العرب أنه أنشده : [الطويل]
__________________
ألم تر أن
النّبع يصلب عوده
|
|
ولا يستوي
والخروع المتقصّف
|
وهذا الذي قاله من
جهة العربية متجه ، ولكن لا يساعده المعنى على ذلك ، فإن هذه الرؤية لجبريل لم تكن
ليلة الإسراء بل قبلها ، ورسول الله صلىاللهعليهوسلم في الأرض ، فهبط عليه جبريل عليهالسلام وتدلى إليه فاقترب منه وهو على الصورة التي خلقه الله
عليها ، له ستمائة جناح ثم رآه بعد ذلك نزلة أخرى عند سدرة المنتهى يعني ليلة
الإسراء ، وكانت هذه الرؤية الأولى في أوائل البعثة بعد ما جاءه جبريل عليهالسلام أول مرة ، فأوحى الله إليه صدر سورة (اقْرَأْ) ، ثم فتر الوحي فترة ذهب النبي صلىاللهعليهوسلم فيها مرارا ليتردى من رؤوس الجبال. فكلما هم بذلك ناداه
جبريل من الهواء ، يا محمد أنت رسول الله حقا وأنا جبريل ، فيسكن لذلك جأشه وتقر
عينه ، وكلما طال عليه الأمر عاد لمثلها حتى تبدى له جبريل ورسول الله صلىاللهعليهوسلم بالأبطح في صورته التي خلقه الله عليها ، له ستمائة جناح
قد سد عظم خلقه الأفق ، فاقترب منه وأوحى إليه عن الله عزوجل ما أمره به ، فعرف عند ذلك عظمة الملك الذي جاءه بالرسالة
وجلالة قدره وعلو مكانته عند خالقه الذي بعثه إليه.
فأما الحديث الذي
رواه الحافظ أبو بكر البزار في مسنده حيث قال : حدثنا سلمة بن شبيب ، حدثنا سعيد
بن منصور ، حدثنا الحارث بن عبيد عن أبي عمران الجوني عن أنس بن مالك قال : قال
رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «بينا أنا قاعد إذ جاء جبريل عليهالسلام فوكز بين كتفي ، فقمت إلى شجرة فيها كوكرى الطير فقعد في
أحدهما وقعدت في الآخر. فسمت وارتفعت حتى سدت الخافقين ، وأنا أقلب طرفي ، ولو شئت
أن أمس السماء لمسست ، فالتفت إلى جبريل كأنه حلس لاط فعرفت فضل علمه بالله علي.
وفتح لي باب من أبواب السماء ورأيت النور الأعظم ، وإذا دون الحجاب رفرفة الدر
والياقوت. وأوحي إلي ما شاء الله أن يوحي» ثم قال البزار : «لا يرويه إلا الحارث
بن عبيد ، وكان رجلا مشهورا من أهل البصرة.
(قلت) الحارث بن
عبيد هذا هو أبو قدامة الإيادي أخرج له مسلم في صحيحه إلا أن ابن معين ضعفه ، وقال
: ليس هو بشيء ، وقال الإمام أحمد : مضطرب الحديث. وقال أبو حاتم الرازي : يكتب
حديثه ولا يحتج به. وقال ابن حبان : كثر وهمه فلا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد ،
فهذا الحديث من غرائب رواياته ، فإن فيه نكارة وغرابة ألفاظ وسياقا عجيبا ولعله
منام ، والله أعلم.
وقال الإمام أحمد : حدثنا حجاج ، حدثنا شريك عن عاصم عن أبي وائل عن عبد
الله أنه قال : رأى رسول الله صلىاللهعليهوسلم جبريل في صورته وله ستمائة جناح ، كل جناح منها قد سد
الأفق ،
__________________
يسقط من جناحه من
التهاويل والدر والياقوت ما الله به عليم. انفرد به أحمد. وقال أحمد : حدثنا يحيى بن آدم ، حدثنا أبو بكر بن عياش عن إدريس بن
منبه عن وهب بن منبه عن ابن عباس قال : سأل النبي صلىاللهعليهوسلم جبريل أن يراه في صورته فقال : ادع ربك ، فدعا ربه عزوجل فطلع عليه سواد من قبل المشرق فجعل يرتفع وينتشر ، فلما
رآه النبي صلىاللهعليهوسلم صعق فأتاه فنعشه ومسح البزاق عن شدقه ، تفرد به أحمد.
وقد رواه ابن
عساكر في ترجمة عتبة بن أبي لهب من طريق محمد بن إسحاق عن عثمان بن عروة بن الزبير
عن أبيه عن هبار بن الأسود قال : كان أبو لهب وابنه عتبة قد تجهزا إلى الشام
فتجهزت معهما ، فقال ابنه عتبة : والله لأنطلقن إلى محمد ولأوذينه في ربه سبحانه
وتعالى ، فانطلق حتى أتى النبي صلىاللهعليهوسلم فقال : يا محمد هو يكفر بالذي دنى فتدلى فكان قاب قوسين أو
أدنى ، فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «اللهم سلط عليه كلبا من كلابك» ثم انصرف عنه فرجع إلى
أبيه فقال : يا بني ما قلت له ، فذكر له ما قال له ، قال : فما قال لك؟ قال : قال
: «اللهم سلط عليه كلبا من كلابك» قال : يا بني والله ما آمن عليك دعاءه ، فسرنا
حتى نزلنا الشراة وهي مأسدة ونزلنا إلى صومعة راهب فقال الراهب : يا معشر العرب ،
ما أنزلكم هذه البلاد فإنها تسرح الأسد فيها كما تسرح الغنم. فقال لنا أبو لهب :
إنكم قد عرفتم كبر سني وحقي ، وإن هذا الرجل قد دعا على ابني دعوة ، والله ما
آمنها عليه ، فاجمعوا متاعكم إلى هذه الصومعة وافرشوا لا بني عليها ثم افرشوا
حولها ، ففعلنا فجاء الأسد فشم وجوهنا فلما لم يجد ما يريد تقبض فوثب وثبة فإذا هو
فوق المتاع ، فشم وجهه ثم هزمه هزمة ففضخ رأسه فقال أبو لهب : قد عرفت أنه لا
ينفلت عن دعوة محمد.
وقوله تعالى : (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) أي فاقترب جبريل إلى محمد لما هبط عليه إلى الأرض حتى كان
بينه وبين محمد صلىاللهعليهوسلم قاب قوسين ، أي بقدرهما إذا مدا ، قاله مجاهد وقتادة وقد
قيل إن المراد بذلك بعد ما بين وتر القوس إلى كبدها. وقوله تعالى : (أَوْ أَدْنى) قد تقدم أن هذه الصيغة تستعمل في اللغة لإثبات المخبر عنه
ونفي ما زاد عليه كقوله تعالى : (ثُمَّ قَسَتْ
قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) [البقرة : ٧٤] أي
ما هي بألين من الحجارة ، بل هي مثلها أو تزيد عليها في الشدة والقسوة وكذا قوله :
(يَخْشَوْنَ النَّاسَ
كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً) [النساء : ٧٧]
وقوله : (وَأَرْسَلْناهُ إِلى
مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) [الصافات: ١٤٧] أي ليسوا أقل منها بل هم مائة ألف حقيقة أو
يزيدون عليها. فهذا تحقيق للمخبر به لا شك ولا تردد فإن هذا ممتنع وهكذا هاهنا هذه
الآية (فَكانَ قابَ
قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) وهذا الذي قلناه من أن هذا المقترب الداني الذي صار بينه
وبين محمد صلى الله تعالى عليه
__________________
وسلم إنما هو
جبريل عليهالسلام ، وهو قول أم المؤمنين عائشة وابن مسعود وأبي ذر وأبي
هريرة ، كما سنورد أحاديثهم قريبا إن شاء الله تعالى.
وروى مسلم في
صحيحه عن ابن عباس أنه قال : «رأى محمد ربه بفؤاده مرتين» فجعل هذه إحداهما ، وجاء في حديث شريك بن أبي نمر عن أنس
في حديث الإسراء : «ثم دنا الجبار رب العزة فتدلى» ، ولهذا قد تكلم كثير من الناس
في متن هذه الرواية وذكروا أشياء فيها من الغرابة ، فإن صح فهو محمول على وقت آخر
وقصة أخرى ، لا أنها تفسير لهذه الآية فإن هذه كانت ورسول الله صلىاللهعليهوسلم في الأرض لا ليلة الإسراء ، ولهذا قال بعده : (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ
سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) فهذه هي ليلة الإسراء والأولى كانت في الأرض.
وقد قال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب ، حدثنا عبد
الواحد بن زياد ، حدثنا سليمان الشيباني ، حدثنا زر بن حبيش قال : قال عبد الله بن
مسعود في هذه الآية (فَكانَ قابَ
قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «رأيت جبريل له ستمائة جناح».
وقال ابن وهب :
حدثنا ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان أول شأن
رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه رأى في منامه جبريل بأجياد ، ثم إنه خرج ليقضي حاجته فصرخ به جبريل : يا محمد يا محمد!
فنظر رسول الله يمينا وشمالا فلم ير أحدا ثلاثا ، ثم رفع بصره فإذا هو ثاني إحدى
رجليه مع الأخرى على أفق السماء فقال يا محمد جبريل جبريل يسكنه. فهرب النبي صلىاللهعليهوسلم حتى دخل في الناس ، فنظر فلم ير شيئا ، ثم خرج من الناس ثم
نظر فرآه فدخل في الناس فلم ير شيئا ، ثم خرج فنظر فرآه ، فذلك قول الله عزوجل (وَالنَّجْمِ إِذا
هَوى) ـ إلى قوله ـ (ثُمَّ دَنا
فَتَدَلَّى) يعني جبريل إلى محمد عليهما الصلاة والسلام (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) ويقولون : القاب نصف إصبع ، وقال بعضهم : ذراعين كان بينهما
، رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث ابن وهب وفي حديث الزهري عن أبي
سلمة عن جابر شاهدا لهذا.
وروى البخاري عن
طلق بن غنام عن زائدة عن الشيباني قال : سألت زرا عن قوله : (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى
فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) قال : حدثنا عبد الله أن محمداصلىاللهعليهوسلم رأى جبريل له ستمائة جناح.
__________________
وقال ابن جرير : حدثني ابن بزيع البغدادي ، حدثنا إسحاق بن منصور ، حدثنا
إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) قال : رأى رسول الله صلىاللهعليهوسلم جبريل عليه حلتا رفرف قد ملأ ما بين السماء والأرض ، فعلى
ما ذكرناه يكون قوله : (فَأَوْحى إِلى
عَبْدِهِ ما أَوْحى) معناه فأوحى جبريل إلى عبد الله محمد ما أوحى ، أو فأوحى
الله إلى عبده محمد ما أوحى بواسطة جبريل ، وكلا المعنيين صحيح. وقد ذكر عن سعيد
بن جبير في قوله : (فَأَوْحى إِلى
عَبْدِهِ ما أَوْحى) قال : أوحى الله إليه (أَلَمْ يَجِدْكَ
يَتِيماً) [الضحى : ٦] ـ (وَرَفَعْنا لَكَ
ذِكْرَكَ) [الشرح : ٤] وقال
غيره : أوحى الله إليه أن الجنة محرمة على الأنبياء حتى تدخلها ، وعلى الأمم حتى
تدخلها أمتك.
وقوله تعالى : (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى أَفَتُمارُونَهُ
عَلى ما يَرى) قال مسلم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا وكيع ، حدثنا
الأعمش عن زياد بن حصين عن أبي العالية عن ابن عباس (ما كَذَبَ الْفُؤادُ
ما رَأى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) قال : رآه بفؤاده مرتين ، وكذا رواه سماك عن عكرمة عن ابن
عباس مثله ، وكذا قال أبو صالح والسدي وغيرهما : إنه رآه بفؤاده مرتين ، وقد خالفه ابن مسعود وغيره. وفي رواية عنه أنه أطلق
الرؤية وهي محمولة على المقيدة بالفؤاد ، ومن روى عنه بالبصر فقد أغرب فإنه لا يصح
في ذلك شيء عن الصحابة رضي الله عنهم ، وقول البغوي في تفسيره وذهب جماعة إلى أنه
رآه بعينه وهو قول أنس والحسن وعكرمة فيه نظر والله أعلم.
وقال الترمذي : حدثنا محمد بن عمرو بن نبهان بن صفوان ، حدثنا يحيى بن
كثير العنبري عن سلمة بن جعفر عن الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس قال : رأى
محمد ربه ، قلت : أليس الله يقول : (لا تُدْرِكُهُ
الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) [الأنعام : ١٠٣]
قال : ويحك ذاك إذا تجلى بنوره الذي هو نوره ، وقد رأى ربه مرتين. ثم قال : حسن
غريب. وقال أيضا : حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان عن مجالد عن الشعبي قال : لقي
ابن عباس كعبا بعرفة فسأله عن شيء فكبر حتى جاوبته الجبال ، فقال ابن عباس : إنا
بنو هاشم ، فقال كعب : إن الله قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى ، فكلم موسى مرتين
ورآه محمد مرتين.
وقال مسروق : دخلت
على عائشة فقلت : هل رأى محمد ربه ، فقالت : لقد تكلمت بشيء قفّ له شعري فقلت :
رويدا ، ثم قرأت (لَقَدْ رَأى مِنْ
آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) فقالت : أين يذهب بك إنما هو جبريل ، من أخبرك أن محمدا
رأى ربه أو كنتم شيئا مما أمر به أو يعلم الخمس التي
__________________
قال الله تعالى : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ
وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) فقد أعظم على الله الفرية ولكنه رأى جبريل ، لم يره في
صورته إلا مرتين : مرة عند سدرة المنتهى ، ومرة في أجياد وله ستمائة جناح قد سد
الأفق.
وقال النسائي :
حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا معاذ بن هشام ، حدثني أبي عن قتادة عن عكرمة عن ابن
عباس قال : أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم والكلام لموسى والرؤية لمحمد عليهم
الصلاة والسلام؟ وفي صحيح مسلم عن أبي ذر قال : سألت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : هل رأيت ربك؟ فقال : «نور أني أراه» وفي رواية «رأيت نورا» وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو
خالد عن موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب قال : قالوا : يا رسول الله رأيت ربك؟ قال :
«رأيته بفؤادي مرتين» ثم قرأ (ما كَذَبَ الْفُؤادُ
ما رَأى) ورواه ابن جرير عن ابن حميد عن مهران عن موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب عن
بعض أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم قال : قلنا يا رسول الله هل رأيت ربك؟ قال : «لم أره بعيني
ورأيته بفؤادي مرتين» ثم تلا (ثُمَّ دَنا
فَتَدَلَّى).
ثم قال ابن أبي
حاتم : وحدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري ،
أخبرني عباد بن منصور قال : سألت عكرمة عن قوله : (ما كَذَبَ الْفُؤادُ
ما رَأى) فقال عكرمة : تريد أن أخبرك أنه قد رآه ، قلت نعم ، قال :
قد رآه ثم قد رآه ، قال : فسألت عنه الحسن فقال : قد رأى جلاله وعظمته ورداءه ،
وحدثنا أبي ، حدثنا محمد بن مجاهد ، حدثنا أبو عامر العقدي ، أخبرنا أبو خلدة عن
أبي العالية قال : سئل رسول الله صلىاللهعليهوسلم : هل رأيت ربك؟ قال : «رأيت نهرا ورأيت وراء النهر حجابا ،
ورأيت وراء الحجاب نورا لم أر غير» وذلك غريب جدا.
فأما الحديث الذي
رواه الإمام أحمد : حدثنا أسود بن عامر ، حدثنا حماد بن سلمة عن قتادة عن
عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «رأيت ربي عزوجل» فإنه حديث إسناده على شرط الصحيح ، لكنه مختصر من حديث
المنام كما رواه الإمام أحمد أيضا : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر عن أيوب عن أبي
قلابة عن ابن عباس أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «أتاني ربي الليلة في أحسن صورة ـ أحسبه يعني في
النوم ـ فقال : يا محمد أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى ، قال : قلت لا ، فوضع يده
بين كتفي حتى وجدت بردها بين
__________________
ثديي ـ أو قال
نحري ـ فعلمت ما في السموات وما في الأرض. ثم قال : يا محمد ، هل تدري فيم يختصم
الملأ الأعلى ، قال : قلت نعم ، يختصمون في الكفارات والدرجات ، قال : وما
الكفارات والدرجات؟ قال : قلت المكث في المساجد بعد الصلوات ، والمشي على الأقدام
إلى الجماعات ، وإبلاغ الوضوء في المكاره ، من فعل ذلك عاش بخير ومات بخير ، وكان
من خطيئته كيوم ولدته أمه ، وقال : قل يا محمد إذا صليت اللهم إني أسألك فعل
الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين ، وإذا أردت بعبادك فتنة أن تقبضني إليك غير
مفتون قال : والدرجات بذل الطعام وإفشاء السلام ، والصلاة بالليل والناس نيام» وقد
تقدم في آخر سورة (ص) عن معاذ نحوه.
وقد رواه ابن جرير
من وجه آخر عن ابن عباس وفيه سياق آخر وزيادة غريبة فقال : حدثني أحمد بن
عيسى التميمي ، حدثني سليمان بن عمر بن سيار ، حدثني أبي عن سعيد بن زربي عن عمر
بن سليمان ، عن عطاء عن ابن عباس قال : قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «رأيت ربي في أحسن صورة فقال لي : يا محمد هل تدري فيم
يختصم الملأ الأعلى؟ فقلت لا يا رب ، فوضع يده بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي ،
فعلمت ما في السموات والأرض فقلت يا رب في الدرجات والكفارات ، ونقل الأقدام إلى
الجماعات ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، فقلت يا رب إنك اتخذت إبراهيم خليلا وكلمت
موسى تكليما وفعلت وفعلت فقال ألم أشرح لك صدرك؟ ألم أضع عنك وزرك؟ ألم أفعل بك
ألم أفعل بك؟ قال فأفضى إلي بأشياء لم يؤذن لي أن أحدثكموها قال فذاك قوله في
كتابه : (ثُمَّ دَنا
فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى
ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) فجعل نور بصري في فؤادي فنظرت إليه بفؤادي» إسناده ضعيف.
وقد ذكر الحافظ
ابن عساكر بسنده إلى هبار بن الأسود رضي الله عنه أن عتبة بن أبي لهب لما خرج في
تجارة إلى الشام قال لأهل مكة اعلموا أني كافر بالذي دنا فتدلى ، فبلغ قوله رسول
اللهصلىاللهعليهوسلم فقال : سلط الله عليه كلبا من كلابه. قال هبار : فكنت معهم
فنزلنا بأرض كثيرة الأسد ، قال فلقد رأيت الأسد جاء فجعل يشم رؤوس القوم واحدا
واحدا حتى تخطى إلى عتبة فاقتطع رأسه من بينهم. وذكر ابن إسحاق وغيره في السيرة أن
ذلك كان بأرض الزرقاء وقيل بالسراة ، وأنه خالف ليلتئذ ، وأنهم جعلوه بينهم وناموا
من حوله فجاء الأسد فجعل يزأر ثم تخطاهم إليه فضغم رأسه لعنه الله.
وقوله تعالى : (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ
سِدْرَةِ الْمُنْتَهى عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) هذه هي المرة الثانية التي رأى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فيها جبريل على صورته التي خلقه الله عليها وكانت ليلة
__________________
الإسراء. وقد
قدمنا الأحاديث الواردة في الإسراء بطرقها وألفاظها في أول سورة (سُبْحانَ) بما أغنى عن إعادته هاهنا ، وتقدم أن ابن عباس رضي الله
عنهما كان يثبت الرؤية ليلة الإسراء ويستشهد بهذه الآية ، وتابعه جماعة من السلف
والخلف ، وقد خالفه جماعات من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين وغيرهم.
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا حماد بن سلمة عن عاصم بن
بهدلة عن زر بن حبيش عن ابن مسعود في هذه الآية (وَلَقَدْ رَآهُ
نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «رأيت جبريل وله
ستمائة جناح ينتثر من ريشه التهاويل من الدر والياقوت» وهذا إسناد جيد قوي ، وقال أحمد أيضا : حدثنا يحيى بن آدم ، حدثنا شريك عن جامع بن أبي
راشد عن أبي وائل عن عبد الله قال : رأى رسول الله صلىاللهعليهوسلم جبريل في صورته وله ستمائة جناح ، كل جناح منها قد سد
الأفق ، يسقط من جناحه من التهاويل من الدر والياقوت ما الله به أعلم. إسناده حسن
أيضا.
وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا زيد بن الحباب ، حدثني حسين ، حدثني عاصم بن
بهدلة قال ، سمعت شقيق بن سلمة يقول : سمعت ابن مسعود يقول قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «رأيت جبريل على سدرة المنتهى وله ستمائة جناح» سألت
عاصما عن الأجنحة فأبى أن يخبرني ، قال فأخبرني بعض أصحابه أن الجناح ما بين
المشرق والمغرب ، وهذا أيضا إسناد جيد.
وقال أحمد : حدثنا زيد بن الحباب ، حدثنا حسين ، حدثنا عاصم بن بهدلة
حدثني شقيق بن سلمة قال : سمعت ابن مسعود يقول قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أتاني جبريل عليهالسلام في خضر معلق به الدر» إسناد جيد أيضا.
وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى عن إسماعيل ، حدثنا عامر قال : أتى مسروق
عائشة فقال يا أم المؤمنين هل رأى محمد صلىاللهعليهوسلم ربه عزوجل؟ قالت : سبحان الله لقد قفّ شعري لما قلت ، أين أنت من
ثلاث من حدثكهن فقد كذب : من حدثك أن محمدا رأى ربه فقد كذب ثم قرأت (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ
يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) [الأنعام : ١٠٣] (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ
اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) [الشورى : ٥١] ومن
أخبرك أنه يعلم ما في غد فقد كذب ثم قرأت (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ
عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ) [لقمان : ٣٤]
الآية. ومن أخبرك
__________________
أن محمدا قد كتم
فقد كذب ، ثم قرأت (يا أَيُّهَا
الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) [المائدة: ٦٧] ولكنه رأى جبريل في صورته مرتين.
وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا محمد بن أبي عدي عن داود عن الشعبي عن مسروق
قال : كنت عند عائشة فقلت : أليس الله يقول : (وَلَقَدْ رَآهُ
بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) [التكوير : ٢٣]
(وَلَقَدْ رَآهُ
نَزْلَةً أُخْرى) فقالت : أنا أول هذه الأمة سألت رسول الله صلىاللهعليهوسلم عنها فقال : «إنما ذاك جبريل» لم يره في صورته التي خلق
عليها إلا مرتين ، رآه منهبطا من السماء إلى الأرض سادا عظم خلقه ما بين السماء
والأرض ، أخرجاه في الصحيحين من حديث الشعبي به.
[رواية أبي ذر]
قال الإمام أحمد : حدثنا عفان حدثنا همام : حدثنا قتادة عن عبد الله بن
شقيق قال : قلت لأبي ذر لو رأيت رسول الله صلىاللهعليهوسلم لسألته. قال : وما كنت تسأله؟ قال : كنت أسأله هل رأى ربه عزوجل؟ فقال : إني قد سألته فقال : «قد رأيته نورا أني أراه»
هكذا وقع في رواية الإمام أحمد وقد أخرجه مسلم من طريقين بلفظين فقال : حدثنا أبو
بكر بن أبي شيبة ، حدثنا وكيع عن يزيد بن إبراهيم عن قتادة عن عبد الله بن شقيق عن
أبي ذر قال : سألت رسول الله صلىاللهعليهوسلم هل رأيت ربك؟ فقال : «نور أني أراه» . وقال حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا معاذ بن هشام ، حدثنا
أبي عن قتادة عن عبد الله بن شقيق قال قلت لأبي ذر : لو رأيت رسول اللهصلىاللهعليهوسلم لسألته. فقال : عن أي شيء كنت تسأله؟ قال : قلت : كنت
أسأله هل رأيت ربك؟ قال أبو ذر : قد سألته فقال «رأيت نورا» وقد حكى الخلال في علله أن الإمام أحمد سئل عن هذا الحديث
فقال : ما زلت منكرا له وما أدري ما وجهه.
وقد قال ابن أبي
حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عمرو بن عون الواسطي ، أخبرنا هشيم عن منصور عن الحكم عن
إبراهيم عن أبيه عن أبي ذر قال : رآه بقلبه ولم يره بعينه ، وحاول ابن خزيمة أن
يدعي انقطاعه بين عبد الله بن شقيق وبين أبي ذر ، وأما ابن الجوزي فتأوله على أن
أبا ذر لعله سأل رسول الله صلىاللهعليهوسلم قبل الإسراء فأجابه بما أجابه به ، ولو سأله بعد الإسراء
لأجابه بالإثبات ، وهذا ضعيف جدا ، فإن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قد سألت
عن ذلك بعد الإسراء ولم يثبت لها الرؤية ، ومن قال إنه خاطبها على قدر عقلها أو
حاول تخطئتها فيما ذهبت إليه كابن خزيمة في كتاب التوحيد ، فإنه هو المخطئ والله
أعلم. وقال النسائي : حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا هشام عن منصور عن الحكم عن
يزيد بن شريك عن أبي ذر قال : رأى
__________________
رسول الله صلىاللهعليهوسلم ربه بقلبه ولم يره ببصره.
وقد ثبت في صحيح
مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عن علي بن مسهر ، عن عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء
بن أبي رباح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال في قوله تعالى : (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) قال رأى جبريل عليهالسلام .
وقال مجاهد في قوله
: (وَلَقَدْ رَآهُ
نَزْلَةً أُخْرى) قال : رأى رسول الله صلىاللهعليهوسلم جبريل في صورته مرتين ، وكذا قال قتادة والربيع بن أنس
وغيرهم. وقوله تعالى : (إِذْ يَغْشَى
السِّدْرَةَ ما يَغْشى) قد تقدم في أحاديث الإسراء أنه غشيتها الملائكة مثل
الغربان وغشيها نور الرب وغشيتها ألوان ما أدري ما هي؟ وقال الإمام أحمد : حدثنا مالك بن مغول ، حدثنا الزبير بن عدي عن طلحة عن
مرة عن عبد الله هو ابن مسعود قال : لما أسري برسول الله صلىاللهعليهوسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى وهي في السماء السابعة إليها
ينتهي ما يعرج به من الأرض ، فيقبض منها وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض
منها (إِذْ يَغْشَى
السِّدْرَةَ ما يَغْشى) قال فراش من ذهب ، قال : وأعطي رسول الله صلىاللهعليهوسلم ثلاثا : أعطي الصلوات الخمس ، وأعطي خواتيم سورة البقرة ،
وغفر لمن لا يشرك بالله شيئا من أمته المقحمات . انفرد به مسلم .
وقال أبو جعفر
الرازي عن الربيع عن أبي العالية عن أبي هريرة أو غيره ـ شك أبو جعفر ـ قال : لما
أسري برسول الله صلىاللهعليهوسلم انتهى إلى السدرة ، فقيل له إن هذه السدرة ، فغشيها نور
الخلاق وغشيتها الملائكة مثل الغربان حين يقعن على الشجر ، وقال فكلمه عند ذلك
فقال له سل. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد (إِذْ يَغْشَى
السِّدْرَةَ ما يَغْشى) قال كان أغصان السدرة لؤلؤا وياقوتا وزبرجدا ، فرآها النبي
صلىاللهعليهوسلم ورأى ربه بقلبه ، وقال ابن زيد قيل : يا رسول الله أي شيء
رأيت يغشى تلك السدرة؟ قال : «رأيت يغشاها فراش من ذهب ، ورأيت على كل ورقة من
ورقها ملكا قائما يسبح الله عزوجل».
وقوله تعالى : (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) قال ابن عباس رضي الله عنهما : ما ذهب يمينا ولا شمالا (وَما طَغى) ما جاوز ما أمر به ، وهذه صفة عظيمة في الثبات والطاعة
فإنه ما فعل إلا ما أمر به ولا سأل فوق ما أعطي ، وما أحسن ما قال الناظم :
رأى جنة المأوى
وما فوقها ولو
|
|
رأى غيره ما قد
رآه لتاها
|
وقوله تعالى : (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ
الْكُبْرى) كقوله : (لِنُرِيَكَ مِنْ
آياتِنَا الْكُبْرى) [طه : ٢٣] أي الدالة
على قدرتنا وعظمتنا ، وبهاتين الآيتين استدل من ذهب من أهل السنة أن الرؤية
__________________
تلك الليلة لم تقع
لأنه قال : (لَقَدْ رَأى مِنْ
آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) ولو كان رأى ربه لأخبر بذلك ولقال ذلك للناس ، وقد تقدم
تقرير ذلك في سورة سبحان.
وقد قال الإمام
أحمد : حدثنا أبو النضر ، حدثنا محمد بن طلحة عن الوليد بن قيس عن إسحاق بن أبي
الكهتلة قال محمد أظنه عن ابن مسعود أنه قال : إن محمدا لم ير جبريل في صورته إلا
مرتين : أما مرة فإنه سأله أن يريه نفسه في صورته فأراه صورته فسد الأفق ، وأما
الأخرى فإنه صعد معه حين صعد به ، وقوله : (وَهُوَ بِالْأُفُقِ
الْأَعْلى ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى فَأَوْحى
إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) قال : فلما أحسّ جبريل ربه عزوجل عاد في صورته وسجد ، فقوله : (وَلَقَدْ رَآهُ
نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى. إِذْ
يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى لَقَدْ رَأى مِنْ
آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) قال : خلق جبريل عليهالسلام ، وهكذا رواه أحمد وهو غريب.
(أَفَرَأَيْتُمُ
اللاَّتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَناةَ
الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (٢٠) أَلَكُمُ الذَّكَرُ
وَلَهُ الْأُنْثى(٢١) تِلْكَ إِذاً
قِسْمَةٌ ضِيزى (٢٢) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ
سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ
يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ
رَبِّهِمُ الْهُدى (٢٣) أَمْ لِلْإِنْسانِ
ما تَمَنَّى (٢٤) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ
وَالْأُولى (٢٥) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ
فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ
يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى)
(٢٦)
يقول تعالى مقرعا
للمشركين في عبادتهم الأصنام والأنداد والأوثان ، واتخاذهم البيوت لها مضاهاة
للكعبة التي بناها خليل الرحمن عليهالسلام (أَفَرَأَيْتُمُ
اللَّاتَ) وكانت اللات صخرة بيضاء منقوشة وعليها بيت بالطائف ، له
أستار وسدنة وحوله فناء معظم عند أهل الطائف ، وهم ثقيف ومن تابعها ، يفتخرون بها
على من عداهم من أحياء العرب بعد قريش ، قال ابن جرير : وكانوا قد اشتقوا اسمها من اسم الله فقالوا اللات ،
يعنون مؤنثة منه ، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا ، وحكي عن ابن عباس ومجاهد
والربيع بن أنس أنهم قرءوا اللات بتشديد التاء وفسروه بأنه كان رجلا يلت للحجيج في
الجاهلية السويق ، فلما مات عكفوا على قبره فعبدوه.
وقال البخاري : حدثنا مسلم هو ابن إبراهيم ، حدثنا أبو الأشهب ، حدثنا
أبو الجوزاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله : (اللَّاتَ وَالْعُزَّى) قال : كان اللات رجلا يلت السويق سويق الحاج ، قال ابن
جرير : وكذا العزى من العزيز ، وكانت شجرة عليها بناء وأستار
__________________
بنخلة ، وهي بين
مكة والطائف ، وكانت قريش يعظمونها كما قال أبو سفيان يوم أحد : لنا العزى ولا عزى
لكم ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «قولوا الله مولانا ولا مولى لكم».
وروى البخاري من حديث الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال :
قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من حلف فقال في حلفه واللات والعزى فليقل لا إله إلا
الله ، ومن قال لصاحبه تعال أقامرك فليتصدق» فهذا محمول على من سبق لسانه في ذلك
كما كانت ألسنتهم قد اعتادته في زمن الجاهلية ، كما قال النسائي : أخبرنا أحمد بن
بكار ، وعبد الحميد بن محمد قالا : حدثنا مخلد ، حدثنا يونس عن أبيه ، حدثني مصعب
بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال : حلفت باللات والعزى ، فقال لي أصحابي : بئس ما
قلت! قلت هجرا. فأتيت رسول اللهصلىاللهعليهوسلم فذكرت ذلك له فقال : «قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له
، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، وانفث عن شمالك ثلاثا ، وتعوذ بالله
من الشيطان الرجيم ثم لا تعد» .
وأما مناة فكانت
بالمشلل عند قديد بين مكة والمدينة ، وكانت خزاعة والأوس والخزرج في جاهليتها
يعظمونها ويهلون منها للحج إلى الكعبة. وروى البخاري عن عائشة نحوه ، وقد كانت بجزيرة العرب وغيرها طواغيت أخر
تعظمها العرب كتعظيم الكعبة. غير هذه الثلاثة التي نص عليها في كتابه العزيز ،
وإنما أفرد هذه بالذكر لأنها أشهر من غيرها.
قال ابن إسحاق في
السيرة : وقد كانت العرب اتخذت مع الكعبة طواغيت وهي بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة.
بها سدنة وحجاب وتهدي لها كما يهدى للكعبة ، وتطوف بها كطوافها بها ، وتنحر عندها
، وهي تعرف فضل الكعبة عليها لأنها كانت قد عرفت أنها بيت إبراهيمعليهالسلام ومسجده : فكانت لقريش ولبني كنانة العزى بنخلة ، وكانت
سدنتها وحجابها بني شيبان من سليم ، حلفاء بني هاشم .
قلت : بعث إليها
رسول الله صلىاللهعليهوسلم خالد بن الوليد فهدمها وجعل يقول : [رجز]
يا عزّى كفرانك
لا سبحانك
|
|
إنّي رأيت الله
قد أهانك
|
وقال النسائي :
أخبرنا علي بن المنذر ، أخبرنا ابن فضيل ، حدثنا الوليد بن جميع عن أبي الطفيل قال
: لما فتح رسول الله صلىاللهعليهوسلم مكة بعث خالد بن الوليد إلى نخلة ، وكانت بها العزى فأتاها
خالد وكانت على ثلاث سمرات ، فقطع السمرات وهدم البيت الذي كان عليها ، ثم أتى
النبيصلىاللهعليهوسلم فأخبره فقال : «ارجع فإنك لم تصنع شيئا» فرجع خالد ، فلما
أبصرته السدنة وهم
__________________
حجبتها أمعنوا في
الحيل وهم يقولون : يا عزى ، يا عزى ، فأتاها خالد فإذا امرأة عريانة ناشرة شعرها
تحثو التراب على رأسها ، فغمسها بالسيف حتى قتلها ، ثم رجع إلى رسول اللهصلىاللهعليهوسلم فأخبره فقال «تلك العزى!».
قال ابن إسحاق :
وكانت اللات لثقيف بالطائف ، وكان سدنتها وحجابها بني معتب.
قلت : وقد بعث
إليها رسول الله صلىاللهعليهوسلم المغيرة بن شعبة ، وأبا سفيان صخر بن حرب ، فهدماها وجعلا
مكانها مسجدا بالطائف. قال ابن إسحاق : وكانت مناة للأوس والخزرج ومن دان بدينهم
من أهل يثرب على ساحل البحر من ناحية المشلل بقديد ، فبعث رسول اللهصلىاللهعليهوسلم إليها أبا سفيان صخر بن حرب فهدمها ، ويقال علي بن أبي
طالب قال : وكانت ذو الخلصة لدوس وخثعم وبجيلة ، ومن كان ببلادهم من العرب بتبالة.
قلت : وكان يقال لها الكعبة اليمانية ، وللكعبة التي بمكة الكعبة الشامية ، فبعث
إليه رسول الله صلىاللهعليهوسلم جرير بن عبد الله البجلي فهدمه ، قال : وكانت فلس لطيئ
ولمن يليها بجبل طيئ من سلمى وأجا ، قال ابن هشام : فحدثني بعض أهل العلم أن رسول
الله صلىاللهعليهوسلم بعث إليه علي بن أبي طالب فهدمه ، واصطفى منه سيفين : الرسوب
والمخذم ، فنفله إياهما رسول الله صلىاللهعليهوسلم فهما سيفا علي. قال ابن إسحاق : وكان لحمير وأهل اليمن بيت
بصنعاء يقال له ريام ، وذكر أنه كان به كلب أسود وأن الحبرين اللذين ذهبا مع تبع
استخرجاه وقتلاه وهدما البيت. قال ابن إسحاق : وكانت رضاء بيتا لبني ربيعة بن كعب
بن سعد بن زيد مناة بن تميم ، ولها يقول المستوغر بن ربيعة بن كعب بن سعد حين
هدمها في الإسلام : [الطويل]
ولقد شددت على
رضاء شدة
|
|
فتركتها قفرا
بقاع أسحما
|
قال ابن هشام :
إنه عاش ثلاثمائة وثلاثين سنة وهو القائل : [الوافر]
ولقد سئمت من
الحياة وطولها
|
|
وعمرت من عدد
السنين مئينا
|
مائة حدتها
بعدها مائتان لي
|
|
وعمرت من عدد
الشهور سنينا
|
هل ما بقي إلا
كما قد فاتنا
|
|
يوم يمر وليلة
تحدونا
|
قال ابن إسحاق :
وكان ذو الكعبات لبكر وتغلب ابني وائل وإياد بسنداد ، وله يقول أعشى بني قيس بن
ثعلبة : [الكامل]
بين الخورنق
والسّدير وبارق
|
|
والبيت ذي
الكعبات من سنداد
|
__________________
ولهذا قال تعالى :
(أَفَرَأَيْتُمُ
اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) ثم قال تعالى : (أَلَكُمُ الذَّكَرُ
وَلَهُ الْأُنْثى) أي أتجعلون له ولدا وتجعلون ولده أنثى ، وتختارون لأنفسكم
الذكور ، فلو اقتسمتم أنتم ومخلوق مثلكم هذه القسمة لكانت (قِسْمَةٌ ضِيزى) أي جورا باطلة ، فكيف تقاسمون ربكم هذه القسمة التي لو كانت
بين مخلوقين كانت جورا وسفها ، وقال تعالى منكرا عليهم فيما ابتدعوه وأحدثوه من
الكذب والافتراء والكفر من عبادة الأصنام وتسميتها آلهة :
(إِنْ هِيَ إِلَّا
أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) أي من تلقاء أنفسكم (ما أَنْزَلَ اللهُ
بِها مِنْ سُلْطانٍ) أي من حجة (إِنْ يَتَّبِعُونَ
إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ) أي ليس لهم مستند إلا حسن ظنهم بآبائهم الذين سلكوا هذا
المسلك الباطل قبلهم ، وإلا حظ نفوسهم في رئاستهم وتعظيم آبائهم الأقدمين. (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ
الْهُدى) أي ولقد أرسل الله إليهم الرسل بالحق المنير والحجة
القاطعة ، ومع هذا ما اتبعوا ما جاءوهم به ولا انقادوا له.
ثم قال تعالى : (أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى) أي ليس كل من تمنى خيرا حصل له (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ
أَهْلِ الْكِتابِ) [النساء : ١٢٣] ما
كل من زعم أنه مهتد يكون كما قال ، ولا كل من ود شيئا يحصل له. قال الإمام أحمد : حدثنا إسحاق حدثنا أبو عوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه
عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إذا تمنى أحدكم فلينظر ما يتمنى ، فإنه لا يدري ما يكتب
له من أمنيته» تفرد به أحمد.
وقوله : (فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى) أي إنما الأمر كله لله مالك الدنيا والآخرة والمتصرف في
الدنيا والآخرة ، فهو الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. وقوله تعالى : (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا
تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ
يَشاءُ وَيَرْضى) كقوله : (مَنْ ذَا الَّذِي
يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [البقرة : ٢٥٥] (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ
إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) [سبأ : ٢٣] فإذا
كان هذا في حق الملائكة المقربين ، فكيف ترجون أيها الجاهلون شفاعة هذه الأصنام
والأنداد عند الله ، وهو تعالى لم يشرع عبادتها ولا أذن فيها ، بل قد نهى عنها على
ألسنة جميع رسله وأنزل بالنهي عن ذلك جميع كتبه؟
(إِنَّ الَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (٢٧) وَما لَهُمْ بِهِ
مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ
الْحَقِّ شَيْئاً (٢٨) فَأَعْرِضْ عَنْ
مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (٢٩) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ
مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ
أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى)
(٣٠)
يقول تعالى منكرا
على المشركين في تسميتهم الملائكة تسمية الأنثى ، وجعلهم لها أنها بنات الله تعالى
الله عن ذلك كما قال تعالى : (وَجَعَلُوا
الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً
__________________
أَشَهِدُوا
خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ) [الزخرف : ١٩]
ولهذا قال تعالى : (وَما لَهُمْ بِهِ
مِنْ عِلْمٍ) أي ليس لهم علم صحيح يصدّق ما قالوه ، بل هو كذب وزور
وافتراء وكفر شنيع. (إِنْ يَتَّبِعُونَ
إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) أي لا يجدي شيئا ولا يقوم أبدا مقام الحق ، وقد ثبت في
الصحيح أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث».
وقوله تعالى : (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ
ذِكْرِنا) أي أعرض عن الذي أعرض عن الحق واهجره. وقوله : (وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ
الدُّنْيا) أي وإنما أكثر همه ومبلغ علمه الدنيا ، فذاك هو غاية ما لا
خير فيه ، ولهذا قال تعالى : (ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ
مِنَ الْعِلْمِ) أي طلب الدنيا والسعي لها هو غاية ما وصلوا إليه. وقد روى
الإمام أحمد عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «الدنيا دار من لا دار له ، ومال من لا مال له ، ولها
يجمع من لا عقل له» وفي الدعاء المأثور «اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ، ولا مبلغ
علمنا» وقوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ
أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى) أي هو الخالق لجميع المخلوقات والعالم بمصالح عباده ، وهو
الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء ، وذلك كله عن قدرته وعلمه وحكمته وهو العادل الذي
لا يجور أبدا لا في شرعه ولا في قدره.
(وَلِلَّهِ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا
وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (٣١) الَّذِينَ
يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ
واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ
وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ
هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى)
(٣٢)
يخبر تعالى أنه
مالك السموات والأرض ، وأنه الغني عما سواه الحاكم في خلقه بالعدل وخلق الخلق
بالحق (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ
أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) أي يجازي كلا بعمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، ثم فسر
المحسنين بأنهم الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش ، أي لا يتعاطون المحرمات والكبائر
وإن وقع منهم بعض الصغائر فإنه يغفر لهم ويستر عليهم كما قال في الآية الأخرى (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما
تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً
كَرِيماً) [النساء : ٣١]
وقال هاهنا : (الَّذِينَ
يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) وهذا استثناء منقطع ، لأن اللمم من صغائر الذنوب ومحقرات
الأعمال.
__________________
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن
عباس قال : ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «إن الله تعالى كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك
ذلك لا محالة فزنا العين النظر ، وزنا اللسان النطق ، والنفس تتمنى وتشتهي والفرج
يصدق ذلك أو يكذبه» أخرجاه في الصحيحين من حديث عبد الرزاق به.
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن ثور ، حدثنا معمر
عن الأعمش عن أبي الضحى أن ابن مسعود قال : زنا العينين النظر ، وزنا الشفتين
التقبيل ، وزنا اليدين البطش ، وزنا الرجلين المشي ، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه ،
فإن تقدم بفرجه كان زانيا وإلا فهو اللمم ، وكذا قال مسروق والشعبي. وقال عبد
الرحمن بن نافع الذي يقال له : ابن لبابة الطائفي قال : سألت أبا هريرة عن قول
الله : (إِلَّا اللَّمَمَ) قال : القبلة والغمزة والنظرة والمباشرة ، فإذا مس الختان
الختان فقد وجب الغسل ، وهو الزنا. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (إِلَّا اللَّمَمَ) إلا ما سلف وكذا قال زيد بن أسلم. وقال ابن جرير : حدثنا ابن المثنى ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة عن
منصور عن مجاهد أنه قال في هذه الآية : (إِلَّا اللَّمَمَ) قال : الذي يلم بالذنب ثم يدعه ، قال الشاعر : [رجز]
إن تغفر اللهمّ
تغفر جمّا
|
|
وأيّ عبد لك ما
ألمّا؟
|
وقال ابن جرير :
حدثنا ابن حميد ، حدثنا جرير عن منصور عن مجاهد في قول الله تعالى : (إِلَّا اللَّمَمَ) قال : الرجل يلم بالذنب ثم ينزع عنه. قال : وكان أهل
الجاهلية يطوفون بالبيت وهم يقولون :
إن تغفر اللهم
تغفر جما
|
|
وأي عبد لك ما
ألما؟
|
وقد رواه ابن جرير
وغيره مرفوعا قال ابن جرير : حدثني سليمان بن عبد الجبار ، حدثنا أبو
__________________
عاصم ، حدثنا
زكريا بن إسحاق عن عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ
الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) قال : هو الرجل الذي يلم بالفاحشة ثم يتوب وقال : قال رسول
الله صلىاللهعليهوسلم :
إن تغفر اللهم
تغفر جما
|
|
وأي عبد لك ما
ألما؟
|
وهكذا رواه
الترمذي عن أحمد بن عثمان أبي عثمان البصري عن أبي عاصم النبيل ثم قال : هذا حديث
صحيح حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث زكريا بن إسحاق ، وكذا قال البزار : لا نعلمه
يروى متصلا إلا من هذا الوجه ، وساقه ابن أبي حاتم والبغوي من حديث أبي عاصم
النبيل ، وإنما ذكره البغوي في تفسير سورة تنزيل ، وفي صحته مرفوعا نظر.
ثم قال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع ، حدثنا يزيد بن زريع ،
حدثنا يونس عن الحسن عن أبي هريرة رضي الله عنه أراه رفعه في : (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ
الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) قال : اللمم من الزنا ثم يتوب ولا يعود. واللمم من السرقة
ثم يتوب ولا يعود ، واللمم من شرب الخمر ثم يتوب ولا يعود ، قال : فذلك الإلمام ،
وحدثنا ابن بشار ، حدثنا ابن أبي عدي عن عوف عن الحسن في قوله تعالى : (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ
الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) قال : اللمم من الزنا أو السرقة أو شرب الخمر ثم لا يعود
إليه.
وحدثني يعقوب ،
حدثنا ابن علية عن أبي رجاء عن الحسن في قول الله : (الَّذِينَ
يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) قال : كان أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقولون : هو الرجل يصيب اللمة من الزنا واللمة من شرب
الخمر فيجتنبها ويتوب منها. وقال ابن جرير عن عطاء عن ابن عباس (إِلَّا اللَّمَمَ) يلم بها في الحين قلت : الزنا؟ قال : الزنا ثم يتوب. وقال
ابن جرير أيضا : حدثنا أبو كريب ، حدثنا ابن عيينة عن عمرو عن عطاء عن ابن عباس
رضي الله عنه قال: اللمم ، الذي يلم المرة. وقال السدي : قال أبو صالح سئلت عن
اللمم فقلت : هو الرجل يصيب الذنب ثم يتوب ، وأخبرت بذلك ابن عباس فقال : لقد
أعانك عليها ملك كريم ، حكاه البغوي.
وروى ابن جرير من
طريق المثنى بن الصباح ـ وهو ضعيف ـ عن عمرو بن شعيب أن عبد الله بن عمرو قال :
اللمم ما دون الشرك ، وقال سفيان الثوري عن جابر الجعفي عن عطاء عن ابن الزبير (إِلَّا اللَّمَمَ) قال : ما بين الحدين حد الدنيا وعذاب الآخرة ، وكذا رواه
شعبة عن الحكم عن ابن عباس مثله سواء. وقال العوفي عن ابن عباس في قوله : (إِلَّا اللَّمَمَ) كل شيء بين الحدين حد الدنيا وحد الآخرة ، تكفره الصلوات
فهو اللمم ، وهو دون كل موجب ، فأما
__________________
حد الدنيا فكل حد
فرض الله عقوبته في الدنيا ، وأما حد الآخرة فكل شيء ختمه الله بالنار وأخر عقوبته
إلى الآخرة. وكذا قال عكرمة وقتادة والضحاك.
وقوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ) أي رحمته وسعت كل شيء ومغفرته تسع الذنوب كلها لمن تاب
منها كقوله تعالى : (قُلْ يا عِبادِيَ
الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ
اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر : ٥٣]
وقوله تعالى : (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ
إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) أي هو بصير بكم عليم بأحوالكم وأفعالكم وأقوالكم التي تصدر
عنكم ، وتقع منكم حين أنشأ أباكم من الأرض ، واستخرج ذريته من صلبه أمثال الذر ثم
قسمهم فريقين : فريقا للجنة وفريقا للسعير. وكذا قوله : (وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ
أُمَّهاتِكُمْ) قد كتب الملك الذي يوكل به رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد؟
قال مكحول : كنا أجنة في بطون أمهاتنا فسقط منا من سقط ، وكنا فيمن بقي ثم كنا
مراضع فهلك منا من هلك ، وكنا فيمن بقي ثم صرنا يفعة فهلك منا من هلك ، وكنا فيمن
بقي ثم صرنا شبابا فهلك منا من هلك ، وكنا فيمن بقي ثم صرنا شيوخا لا أبالك فماذا
بعد هذا ننتظر؟ رواه ابن أبي حاتم عنه.
وقوله تعالى : (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) أي تمدحوها وتشكروها وتمنوا بأعمالكم (هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) كما قال تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا
يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) [النساء : ٤٩].
وقال مسلم في صحيحه : حدثنا عمرو الناقد ، حدثنا هاشم بن القاسم ، حدثنا الليث عن
يزيد بن أبي حبيب عن محمد بن عمرو بن عطاء قال : سميت ابنتي برة فقالت لي زينب بنت
أبي سلمة : إن رسول الله صلىاللهعليهوسلم نهى عن هذا الاسم وسميت برة ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لا تزكوا أنفسكم إن الله أعلم بأهل البر منكم» فقالوا :
بم نسميها؟ قال : «سموها زينب» وقد ثبت أيضا في الحديث الذي رواه الإمام أحمد حيث قال : حدثنا عفان ، حدثنا وهيب ، حدثنا خالد الحذاء عن
عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال: مدح رجل رجلا عند النبي صلىاللهعليهوسلم فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ويلك قطعت عنق صاحبك ـ مرارا ـ إذا كان أحدكم مادحا
صاحبه لا محالة فليقل أحسب فلانا والله حسيبه ولا أزكي على الله أحدا ، أحسبه كذا
وكذا إن كان يعلم ذلك» ثم رواه عن غندر عن شعبة عن خالد الحذاء به ، وكذا رواه البخاري
ومسلم وأبو داود وابن ماجة من طرق عن خالد الحذاء به.
وقال الإمام أحمد : حدثنا وكيع وعبد الرحمن قالا : أخبرنا سفيان عن منصور عن
__________________
إبراهيم عن همام
بن الحارث قال : جاء رجل إلى عثمان فأثنى عليه في وجهه قال : فجعل المقداد بن
الأسود يحثو في وجهه التراب ويقول : أمرنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم إذا لقينا المداحين أن نحثو في وجوههم التراب . ورواه مسلم وأبو داود من حديث الثوري عن منصور به.
(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي
تَوَلَّى (٣٣) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (٣٤) أَعِنْدَهُ عِلْمُ
الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى(٣٥) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ
بِما فِي صُحُفِ مُوسى (٣٦) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي
وَفَّى (٣٧) أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (٣٨)
وَأَنْ
لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (٣٩) وَأَنَّ سَعْيَهُ
سَوْفَ يُرى (٤٠) ثُمَّ يُجْزاهُ
الْجَزاءَ الْأَوْفى) (٤١)
يقول تعالى ذاما
لمن تولى عن طاعة الله : (فَلا صَدَّقَ وَلا
صَلَّى وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) [القيامة : ٣١] (وَأَعْطى قَلِيلاً
وَأَكْدى) [القيامة : ٣٢]
قال ابن عباس : أطاع قليلا ثم قطعه ، وكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة وقتادة وغير واحد.
قال عكرمة وسعيد : كمثل القوم إذا كانوا يحفرون بئرا ، فيجدون في أثناء الحفر صخرة
تمنعهم من تمام العمل فيقولون أكدينا ويتركون العمل.
وقوله تعالى : (أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ
يَرى) أي أعند هذا الذي قد أمسك يده خشية الإنفاق وقطع معروفه ، أعنده
علم الغيب أنه سينفد ما في يده حتى قد أمسك عن معروفه فهو يرى ذلك عيانا؟ أي ليس
الأمر كذلك. وإنما أمسك عن الصدقة والمعروف والبر والصلة بخلا وشحا وهلعا ، ولهذا
جاء في الحديث «أنفق بلالا ولا تخش من ذي العرش إقلالا» وقد قال الله تعالى (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ
يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) [سبأ : ٣٩]
وقوله تعالى : (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ
مُوسى وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) قال سعيد بن جبير والثوري : أي بلغ جميع ما أمر به ، وقال
ابن عباس (وَفَّى) لله بالبلاغ ، وقال سعيد بن جبير (وَفَّى) ما أمر به ، وقال قتادة (وَفَّى) طاعة الله وأدى رسالته إلى خلقه وهذا القول هو اختيار ابن
جرير ، وهو يشمل الذي قبله ويشهد له قوله تعالى : (وَإِذِ ابْتَلى
إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ
إِماماً) [البقرة : ١٢٤]
فقام بجميع الأوامر وترك جميع النواهي وبلغ الرسالة على التمام والكمال ، فاستحق
بهذا أن يكون للناس إماما يقتدى به في جميع أحواله وأقواله وأفعاله. قال الله
تعالى : (ثُمَّ أَوْحَيْنا
إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ) [النحل : ١٢٣].
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا محمد بن عوف الحمصي ، حدثنا آدم بن أبي إياس العسقلاني، حدثنا حماد بن
سلمة ، حدثنا جعفر بن الزبير عن القاسم عن أبي أمامة قال : تلا رسول اللهصلىاللهعليهوسلم
__________________
هذه الآية (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) قال «أتدري ما وفى؟» قلت : الله ورسوله أعلم. قال «وفى عمل
يومه بأربع ركعات من أول النهار» ورواه ابن جرير من حديث جعفر بن الزبير وهو ضعيف.
وقال الترمذي في
جامعه : حدثنا أبو جعفر السمناني ، حدثنا أبو مسهر ، حدثنا إسماعيل بن عياش عن بحير
بن سعد عن خالد بن معدان عن جبير بن نفير ، عن أبي الدرداء وأبي ذر عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن الله عزوجل أنه قال : «ابن آدم اركع لي أربع ركعات من أول النهار أكفك
آخره» قال ابن أبي حاتم رحمهالله : حدثنا أبي ، حدثنا الربيع بن سليمان ، حدثنا أسد بن موسى
، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا زبان بن فائد عن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه عن رسول
اللهصلىاللهعليهوسلم أنه قال : «ألا أخبركم لم سمى الله تعالى إبراهيم خليله
الذي وفى؟ إنه كان يقول كلما أصبح وأمسى : (فَسُبْحانَ اللهِ
حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) حتى ختم الآية.
ورواه ابن جرير عن أبي كريب عن رشدين بن سعد عن زبان به.
ثم شرع تعالى يبين
ما كان أوحاه في صحف إبراهيم وموسى فقال : (أَلَّا تَزِرُ
وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أي كل نفس ظلمت نفسها بكفر أو شيء من الذنوب فإنما عليها
وزرها لا يحمله عنها أحد كما قال : (وَإِنْ تَدْعُ
مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) [فاطر : ١٨] (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما
سَعى) أي كما لا يحمل عليه وزر غيره ، كذلك لا يحصل من الأجر إلا
ما كسب هو لنفسه ، ومن هذه الآية الكريمة استنبط الشافعي رحمهالله ومن اتبعه ، أن القراءة لا يصل إهداء ثوابها إلى الموتى ،
لأنه ليس من عملهم ولا كسبهم ولهذا لم يندب إليه رسول الله صلىاللهعليهوسلم أمته ولا حثهم عليه ولا أرشدهم إليه بنص ولا إيماء ، ولم
ينقل ذلك عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم ، ولو كان خيرا لسبقونا إليه ، وباب
القربات يقتصر فيه على النصوص ولا يتصرف فيه بأنواع الأقيسة والآراء ، فأما الدعاء
والصدقة فذاك مجمع على وصولهما ومنصوص من الشارع عليهما.
وأما الحديث الذي
رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث : من ولد صالح
يدعو له ، أو صدقة جارية من بعده ، أو علم ينتفع به» فهذه الثلاثة في الحقيقة هي من سعيه وكده وعمله ، كما جاء
في الحديث «إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه» والصدقة الجارية كالوقف ونحوه هي من
__________________
آثار عمله ووقفه ،
وقد قال تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ
الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ) [يس : ١٢] الآية.
والعلم الذي نشره في الناس فاقتدى به الناس بعده هو أيضا من سعيه وعمله.
وثبت في الصحيح «من
دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيئا» . وقوله تعالى : (وَأَنَّ سَعْيَهُ
سَوْفَ يُرى) أي يوم القيامة كقوله تعالى : (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ
عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ
وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [التوبة : ١٠٥] أي
فيخبركم به ويجزيكم عليه أتم الجزاء إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، وهكذا قال هاهنا :
(ثُمَّ يُجْزاهُ
الْجَزاءَ الْأَوْفى) أي الأوفر.
(وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ
الْمُنْتَهى (٤٢) وَأَنَّهُ هُوَ
أَضْحَكَ وَأَبْكى (٤٣) وَأَنَّهُ هُوَ
أَماتَ وَأَحْيا(٤٤) وَأَنَّهُ خَلَقَ
الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٤٥)
مِنْ
نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (٤٦) وَأَنَّ عَلَيْهِ
النَّشْأَةَ الْأُخْرى (٤٧) وَأَنَّهُ هُوَ
أَغْنى وَأَقْنى (٤٨) وَأَنَّهُ هُوَ
رَبُّ الشِّعْرى (٤٩) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ
عاداً الْأُولى(٥٠) وَثَمُودَ فَما
أَبْقى (٥١) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ
كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (٥٢) وَالْمُؤْتَفِكَةَ
أَهْوى (٥٣) فَغَشَّاها ما غَشَّى
(٥٤) فَبِأَيِّ
آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى)
(٥٥)
يقول تعالى : (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) أي المعاد يوم القيامة. قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ،
حدثنا سويد بن سعيد ، حدثنا مسلم بن خالد عن عبد الرحمن بن سابط عن عمرو بن ميمون
الأودي قال : قام فينا معاذ بن جبل فقال : يا بني أود إني رسول رسول اللهصلىاللهعليهوسلم إليكم ، تعلمون أن المعاد إلى الله إلى الجنة أو النار.
وذكر البغوي من
رواية أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب عن النبي صلىاللهعليهوسلم في قوله : (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ
الْمُنْتَهى) قال : لا فكرة في الرب. قال البغوي : وهذا مثل ما روي عن
أبي هريرة مرفوعا «تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق فإنه لا تحيط به الفكرة».
كذا أورده وليس
بمحفوظ بهذا اللفظ ، وإنما الذي في الصحيح «يأتي الشيطان أحدكم فيقول : من خلق كذا
من خلق كذا؟ حتى يقول : من خلق ربك؟ فإذا بلغ أحدكم ذلك فليستعذ بالله ولينته» وفي الحديث الآخر الذي في السنن «تفكروا في مخلوقات الله
ولا تفكروا في ذات الله تعالى فإن الله خلق ملكا ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة
ثلاثمائة سنة» أو كما قال :
وقوله تعالى : (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى) أي خلق في عباده الضحك والبكاء وسببهما
__________________
وهما مختلفان (وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا) كقوله : (الَّذِي خَلَقَ
الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) [الملك : ٢]
(وَأَنَّهُ خَلَقَ
الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى) كقوله : (أَيَحْسَبُ
الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى ثُمَّ
كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ
وَالْأُنْثى أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى؟) [القيامة : ٣٦ ـ ٤٠].
وقوله تعالى : (وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى) أي كما خلق البداءة هو قادر على الإعادة وهي النشأة الآخرة
يوم القيامة (وَأَنَّهُ هُوَ
أَغْنى وَأَقْنى) أي ملك عباده المال وجعله لهم قنية مقيما عندهم لا يحتاجون
إلى بيعه ، فهذا تمام النعمة عليهم ، وعلى هذا يدور كلام كثير من المفسرين ، منهم
أبو صالح وابن جرير وغيرهما ، وعن مجاهد (أَغْنى) موّل (وَأَقْنى) أخدم ، وكذا قال قتادة ، وقال ابن عباس ومجاهد أيضا (أَغْنى) أعطى (وَأَقْنى) رضى.
وقيل : معناه أغنى
نفسه وأفقر الخلائق إليه ، قاله الحضرمي بن لاحق ، وقيل : (أَغْنى) من شاء من خلقه ، (وَأَقْنى) أي أفقر من شاء منهم ، قاله ابن زيد ، حكاهما ابن جرير
وهما بعيدان من حيث اللفظ. وقوله : (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ
الشِّعْرى) قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد وغيرهم : هو هذا
النجم الوقاد الذي يقال له (مرزم الجوزاء) كانت طائفة من العرب يعبدونه (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى) وهم قوم هود ويقال لهم عاد بن إرم بن سام بن نوح كما قال
تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ
فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي
الْبِلادِ) [الفجر : ٦ ـ ٨]
فكانوا من أشد الناس وأقواهم وأعتاهم على الله تعالى وعلى رسوله فأهلكهم الله (بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ سَخَّرَها
عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً) [الحاقة : ٦ ـ ٧]
أي متتابعة.
وقوله تعالى : (وَثَمُودَ فَما أَبْقى) أي دمرهم فلم يبق منهم أحدا (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ
قَبْلُ) أي من قبل هؤلاء (إِنَّهُمْ كانُوا
هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى) أي أشد تمردا من الذين من بعدهم (وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى) يعني مدائن لوط قلبها عليهم فجعل عاليها سافلها ، وأمطر
عليهم حجارة من سجيل منضود ، ولهذا قال : فغشاها ما غشى يعني من الحجارة التي
أرسلها عليهم (وَأَمْطَرْنا
عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) [الشعراء : ١٧٣]
قال قتادة ، كان في مدائن لوط أربعة آلاف ألف إنسان ، فانضرم عليهم الوادي شيئا
فشيئا من نار ونفط وقطران كفم الأتون. ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن محمد بن وهب
بن عطية عن الوليد بن مسلم عن خليد عنه به ، وهو غريب جدا (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى) أي ففي أي نعم الله عليك أيها الإنسان تمتري؟ قاله قتادة
وقال ابن جريج (فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكَ تَتَمارى) يا محمد والأول أولى ، وهو اختيار ابن جرير .
(هذا نَذِيرٌ مِنَ
النُّذُرِ الْأُولى (٥٦) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧) لَيْسَ لَها مِنْ
دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ(٥٨) أَفَمِنْ هذَا
الْحَدِيثِ
__________________
تَعْجَبُونَ
(٥٩) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (٦٠) وَأَنْتُمْ
سامِدُونَ (٦١) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ
وَاعْبُدُوا)
(٦٢)
(هذا نَذِيرٌ) يعني محمدا صلىاللهعليهوسلم (مِنَ النُّذُرِ
الْأُولى) أي من جنسهم أرسل كما أرسلوا كما قال تعالى : (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) [الأحقاف : ٩] (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) أي اقتربت القريبة وهي القيامة (لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ) أي لا يدفعها إذا من دون الله أحد ولا يطلع على علمها سواه
، والنذير الحذر لما يعاين من الشر الذي يخشى وقوعه فيمن أنذرهم كما قال : (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ
يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) [سبأ : ٤٦] وفي
الحديث : «أنا النذير العريان» أي الذي أعجله شدة ما عاين من الشر عن أن يلبس عليه شيئا ،
بل بادر إلى إنذار قومه قبل ذلك فجاءهم عريانا مسرعا ، وهو مناسب لقوله : (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) أي اقتربت القريبة يعني يوم القيامة. كما قال في أول
السورة التي بعدها : (اقْتَرَبَتِ
السَّاعَةُ).
وقال الإمام أحمد : حدثنا أنس بن عياض ، حدثني أبو حاتم لا أعلم إلا عن سهل
بن سعد قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إياكم ومحقرات الذنوب ، فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل
قوم نزلوا ببطن واد ، فجاء ذا بعود وجاء ذا بعود حتى أنضجوا خبرتهم ، وإن محقرات
الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه».
وقال أبو حازم :
قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال أبو نضرة : لا أعلم إلا عن سهل بن سعد قال : «مثلي
ومثل الساعة كهاتين» وفرق بين إصبعيه الوسطى والتي تلي الإبهام ثم قال : «مثلي
ومثل الساعة كمثل فرسي رهان» ثم قال : «مثلي ومثل الساعة كمثل رجل بعثه قومه طليعة
، فلما خشي أن يسبق ألاح بثوبه أتيتم أتيتم» ثم يقول رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أنا ذلك» وله شواهد من وجوه أخر من صحاح وحسان.
ثم قال تعالى
منكرا على المشركين في استماعهم القرآن وإعراضهم عنه وتلهيهم (تَعْجَبُونَ) من أن يكون صحيحا (وَتَضْحَكُونَ) منه استهزاء وسخرية (وَلا تَبْكُونَ) أي كما يفعل الموقنون به كما أخبر عنهم (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ
وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) [الإسراء : ١٠٩].
وقوله تعالى : (وَأَنْتُمْ سامِدُونَ) قال سفيان الثوري عن أبيه عن ابن عباس قال : الغناء هي
يمانية أسمد لنا غن لنا ، وكذا قال عكرمة ، وفي رواية عن ابن عباس (سامِدُونَ) معرضون ، وكذا قال مجاهد وعكرمة ، وقال الحسن غافلون ، وهو
رواية عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، وفي رواية عن ابن عباس تستكبرون ، وبه
يقول السدي ، ثم قال تعالى آمرا لعباده بالسجود له والعبادة المتابعة لرسوله صلىاللهعليهوسلم والتوحيد والإخلاص (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ
وَاعْبُدُوا) أي
__________________
فاخضعوا له
وأخلصوا ووحدوا.
قال البخاري : حدثنا أبو معمر ، حدثنا عبد الوارث ، حدثنا أيوب عن
عكرمة عن ابن عباس قال : سجد النبي صلىاللهعليهوسلم بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس. انفرد
به دون مسلم ، وقال الإمام أحمد : حدثنا إبراهيم بن خالد ، حدثنا رباح عن معمر عن ابن طاوس
عن عكرمة بن خالد عن جعفر بن المطلب بن أبي وداعة عن أبيه قال : قرأ رسول اللهصلىاللهعليهوسلم بمكة سورة النجم فسجد وسجد من عنده فرفعت رأسي فأبيت أن
أسجد ، ولم يكن أسلم يومئذ المطلب فكان بعد ذلك لا يسمع أحدا يقرؤها إلا سجد معه . وقد رواه النسائي في الصلاة عن عبد الملك بن عبد الحميد
عن أحمد بن حنبل به.
آخر تفسير سورة
النجم.
تفسير سورة القمر
وهي مكية
قد تقدم في حديث
أبي واقد : أن رسول الله كان يقرأ بقاف واقتربت الساعة في الأضحى والفطر ، وكان
يقرأ بهما في المحافل الكبار لإشمالهما على ذكر الوعد والوعيد وبدء الخلق وإعادته
والتوحيد وإثبات النبوات وغير ذلك من المقاصد العظيمة.
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(اقْتَرَبَتِ
السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١) وَإِنْ يَرَوْا
آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (٢) وَكَذَّبُوا
وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (٣) وَلَقَدْ جاءَهُمْ
مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (٤)
حِكْمَةٌ
بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ) (٥)
يخبر تعالى عن
اقتراب الساعة وفراغ الدنيا وانقضائها كما قال تعالى : (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) [النحل : ١] وقال
: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ
حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) [الأنبياء : ١] وقد وردت الأحاديث بذلك. قال الحافظ أبو
بكر البزار : حدثنا محمد بن المثنى وعمرو بن علي قالا : حدثنا خلف بن موسى ، حدثني
أبي عن قتادة عن أنس أن رسول اللهصلىاللهعليهوسلم خطب أصحابه ذات يوم ، وقد كادت الشمس أن تغرب ، فلم يبق
منها إلا شف يسير فقال : «والذي
__________________
نفسي بيده ما بقي
من الدنيا فيما مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه وما نرى من الشمس
إلا يسيرا» قلت : هذا حديث مداره على خلف بن موسى بن خلف العمي عن أبيه ، وقد ذكره
ابن حبان في الثقات ، وقال : ربما أخطأ.
[حديث آخر يعضد
الذي قبله ويفسره] قال الإمام أحمد : حدثنا الفضل بن دكين ، حدثنا شريك ، حدثنا سلمة بن كهيل
عن مجاهد عن ابن عمر قال : كنا جلوسا عند النبيصلىاللهعليهوسلم والشمس على قعيقعان بعد العصر فقال : «ما أعماركم في أعمار من مضى إلا كما بقي
من النهار فيما مضى» وقال الإمام أحمد : حدثنا حسين ، حدثنا محمد بن مطرف عن أبي حازم عن سهل بن
سعد قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «بعثت أنا والساعة هكذا» وأشار بإصبعيه السبابة
والوسطى وأخرجاه من حديث أبي حازم سلمة بن دينار.
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن عبيد ، أخبرنا الأعمش عن أبي خالد عن وهب
السوائي قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «بعثت أنا والساعة كهذه من هذه إن كادت لتسبقها» وجمع
الأعمش بين السبابة والوسطى.
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا الأوزاعي ، حدثني إسماعيل بن
عبيد الله قال : قدم أنس بن مالك على الوليد بن عبد الملك فسأله : ماذا سمعت من
رسول الله صلىاللهعليهوسلم يذكر به الساعة؟ فقال سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «أنتم والساعة كهاتين» تفرد به أحمد رحمهالله ، وشاهد ذلك أيضا في الصحيح في أسماء رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه الحاشر الذي يحشر الناس على قدميه . وقال الإمام أحمد : حدثنا بهز بن أسد ، حدثنا سليمان ابن المغيرة ، حدثنا
حميد بن هلال عن خالد بن عمير قال : خطب عتبة بن غزوان ، قال بهز ، وقال قبل هذه
المرة : خطبنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، قال : فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال : «أما بعد فإن
الدنيا قد آذنت بصرم وولت حذاء ، ولم يبق منها إلا
__________________
صبابة كصبابة الإناء يتصابها صاحبها ، وإنكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها ، فانتقلوا منها
بخير ما بحضرتكم ، فإنه قد ذكر لنا أن الحجر يلقى من شفير جهنم فيهوي فيها سبعين
عاما ما يدرك لها قعرا ، والله لتملئونه أفعجبتم والله لقد ذكر لنا أن ما بين
مصراعي الجنة مسيرة أربعين عاما ، وليأتين عليه يوم وهو كظيظ من الزحام» وذكر تمام الحديث انفرد به مسلم.
وقال أبو جعفر بن
جرير : حدثنا يعقوب ، حدثني ابن علية ، أخبرنا عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن
السلمي قال : نزلنا المدائن فكنا منها على فرسخ ، فجاءت الجمعة ، فحضر أبي وحضرت
معه فخطبنا حذيفة فقال : ألا إن الله يقول : (اقْتَرَبَتِ
السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) ألا وإن الساعة قد اقتربت ، ألا وإن القمر قد انشق ، ألا
وإن الدنيا قد آذنت بفراق ، ألا وإن اليوم المضمار وغدا السباق ، فقلت لأبي : أيستبق الناس غدا؟ فقال : يا بني إنك لجاهل
، إنما هو السباق بالأعمال ، ثم جاءت الجمعة الأخرى ، فحضرنا فخطب حذيفة فقال :
ألا إن الله عزوجل يقول : (اقْتَرَبَتِ
السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) ألا وإن الدنيا قد آذنت بفراق ، ألا وإن اليوم المضمار
وغدا السباق ، ألا وإن الغاية النار ، والسابق من سبق إلى الجنة .
وقوله تعالى : (وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) قد كان هذا في زمان رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، كما ورد ذلك في الأحاديث المتواترة بالأسانيد الصحيحة.
وقد ثبت في الصحيح عن ابن مسعود أنه قال : «خمس قد مضين الروم والدخان واللزام
والبطشة والقمر» وهذا أمر متفق عليه بين العلماء أن انشقاق القمر قد وقع في
زمان النبي صلىاللهعليهوسلم وأنه كان إحدى المعجزات الباهرات.
ذكر الأحاديث الواردة في ذلك
[رواية أنس بن
مالك] : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر عن قتادة عن أنس بن مالك
قال : سأل أهل مكة النبي صلىاللهعليهوسلم آية ، فانشق القمر بمكة مرتين فقال : (اقْتَرَبَتِ
__________________
السَّاعَةُ
وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) ورواه مسلم عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق ، وقال البخاري
: حدثني عبد الله بن عبد الوهاب ، حدثنا بشر بن المفضل ، حدثنا سعيد بن أبي عروبة
عن قتادة عن أنس بن مالك ، أن أهل مكة سألوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن يريهم آية ، فأراهم القمر شقين حتى رأوا حراء بينهما . وأخرجاه أيضا من حديث يونس بن محمد المؤدب عن شيبان عن
قتادة ، ورواه مسلم أيضا من حديث أبي داود الطيالسي ويحيى القطان وغيرهما عن شعبة
عن قتادة به.
[رواية جبير بن
مطعم رضي الله عنه] قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن كثير ، حدثنا سليمان بن كثير عن حصين بن
عبد الرحمن ، عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال : انشق القمر على عهد رسول الله
صلىاللهعليهوسلم فصار فرقتين : فرقة على هذا الجبل وفرقة على هذا الجبل ،
فقالوا : سحرنا محمد. فقالوا : إن كان سحرنا فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم.
تفرد به الإمام أحمد من هذا الوجه وأسنده البيهقي في الدلائل من طريق محمد بن كثير
عن أخيه سليمان بن كثير عن حصين بن عبد الرحمن.
وهكذا رواه ابن
جرير من حديث محمد بن فضيل وغيره عن حصين به ، ورواه البيهقي أيضا من طريق إبراهيم
بن طهمان وهشيم ، كلاهما عن حصين عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده
فذكره.
[رواية عبد الله
بن عباس رضي الله عنهما] قال البخاري : حدثنا يحيى بن بكير ، حدثنا بكر عن جعفر عن
عراك بن مالك عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس قال : انشق القمر في
زمان النبي صلىاللهعليهوسلم . ورواه البخاري أيضا ومسلم من حديث بكر بن مضر عن جعفر بن
ربيعة عن عراك به مثله. وقال ابن جرير : حدثنا ابن مثنى ، حدثنا عبد الأعلى ،
حدثنا داود بن أبي هند عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ
الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) قال : قد مضى ذلك ، كان قبل الهجرة انشق القمر حتى رأوا
شقيه ، وروى العوفي عن ابن عباس نحو هذا ، وقال الطبراني : حدثنا أحمد بن عمرو
البزار ، حدثنا محمد بن يحيى القطعي ، حدثنا محمد بن بكر حدثنا ابن جريج عن عمرو
بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس قال : كسف القمر على عهد رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقالوا : سحر القمر ، فنزلت (اقْتَرَبَتِ
السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) ـ إلى قوله ـ (مُسْتَمِرٌّ).
[رواية عبد الله
بن عمر] قال الحافظ أبو بكر البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، وأبو بكر
__________________
أحمد بن الحسن
القاضي قالا : حدثنا أبو العباس الأصم ، حدثنا العباس بن محمد الدوري : حدثنا وهب
بن جرير عن شعبة عن الأعمش ، عن مجاهد عن عبد الله بن عمر في قوله تعالى : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ
الْقَمَرُ) قال : وقد كان ذلك على عهد رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، انشق فلقتين ، فلقة من دون الجبل وفلقة من خلف الجبل ،
فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «اللهم اشهد» وهكذا رواه مسلم والترمذي من طرق عن شعبة عن الأعمش عن
مجاهد به ، قال مسلم كرواية مجاهد عن أبي معمر عن ابن مسعود وقال الترمذي : حسن
صحيح.
[رواية عبد الله
بن مسعود] قال الإمام أحمد : حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أبي معمر عن
ابن مسعود قال : انشق القمر على عهد رسول الله صلىاللهعليهوسلم شقتين ، حتى نظروا إليه ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «اشهدوا» وهكذا رواه البخاري ومسلم من حديث سفيان بن عيينة به ،
وأخرجاه من حديث الأعمش عن إبراهيم عن أبي معمر عبد الله بن سخبرة عن ابن مسعود
به.
وقال ابن جرير : حدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي ، حدثنا عمي يحيى بن
عيسى ، عن الأعمش عن إبراهيم عن رجل عن عبد الله قال : كنا مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم بمنى ، فانشق القمر فأخذت فرقة خلف الجبل ، فقال رسول الله
صلىاللهعليهوسلم «اشهدوا اشهدوا»
قال البخاري: وقال أبو الضحى عن مسروق عن عبد الله بمكة وقال أبو داود الطيالسي :
حدثنا أبو عوانة عن المغيرة عن أبي الضحى عن مسروق عن عبد الله بن مسعود قال :
انشق القمر على عهد رسول اللهصلىاللهعليهوسلم ، فقالت قريش : هذا سحر ابن أبي كبشة . قال : فقالوا انظروا ما يأتيكم به السفّار ، فإن محمدا لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم ، قال : فجاء
السفار فقالوا ذلك.
وقال البيهقي :
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، حدثنا العباس بن
محمد الدوري ، حدثنا سعيد بن سليمان ، حدثنا هشيم ، حدثنا مغيرة عن أبي الضحى عن
مسروق عن عبد الله قال : انشق القمر بمكة حتى صار فرقتين ، فقال كفار قريش أهل مكة
: هذا سحر سحركم به ابن أبي كبشة انظروا السفار ، فإن كانوا رأوا ما رأيتم فقد
__________________
صدق ، وإن كانوا
لم يروا مثل ما رأيتم فهو سحر سحركم به. قال : فسئل السفار ، قال : وقدموا من كل
وجهة فقالوا : رأيناه ، ورواه ابن جرير من حديث المغيرة به ، وزاد فأنزل الله عزوجل : (اقْتَرَبَتِ
السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ). ثم قال ابن جرير : حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن علية ، أخبرنا أيوب
عن محمد هو ابن سيرين قال : نبئت أن ابن مسعود رضي الله عنه كان يقول : لقد انشق
القمر.
وقال ابن جرير أيضا : حدثني محمد بن عمارة ، حدثنا عمرو بن حماد ، حدثنا
أسباط عن سماك عن إبراهيم عن الأسود ، عن عبد الله قال : لقد رأيت الجبل من فرج
القمر حين انشق ، ورواه الإمام أحمد عن مؤمل عن إسرائيل عن سماك عن إبراهيم ، عن الأسود عن عبد
الله قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلىاللهعليهوسلم حتى رأيت الجبل من بين فرجتي القمر. وقال ليث عن مجاهد :
انشق القمر على عهد رسول الله صلىاللهعليهوسلم فصار فرقتين ، فقال النبي صلىاللهعليهوسلم لأبي بكر : «اشهد يا أبا بكر» فقال المشركون : سحر القمر
حتى انشق.
وقوله تعالى ، (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً) أي دليلا وحجة وبرهانا (يُعْرِضُوا) أي لا ينقادون له بل يعرضون عنه ويتركونه وراء ظهورهم (وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) أي ويقولون هذا الذي شاهدناه من الحجج سحر سحرنا به ومعنى (مُسْتَمِرٌّ) أي ذاهب ، قاله مجاهد وقتادة وغيرهما : أي باطل مضمحل لا
دوام له (وَكَذَّبُوا
وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) أي كذبوا بالحق إذ جاءهم ، واتبعوا ما أمرتهم به آراؤهم
وأهواؤهم من جهلهم وسخافة عقلهم.
وقوله : (وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) قال قتادة : معناه أن الخير واقع بأهل الخير ، والشر واقع
بأهل الشر ، وقال ابن جريج : مستقر بأهله ، وقال مجاهد (وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) أي يوم القيامة ، وقال السدي : مستقر أي واقع ، وقوله
تعالى : (وَلَقَدْ جاءَهُمْ
مِنَ الْأَنْباءِ) أي من الأخبار عن قصص الأمم المكذبين بالرسل وما حل بهم من
العقاب والنكال والعذاب مما يتلى عليهم في القرآن (ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ) أي ما فيه واعظ لهم عن الشرك والتمادي على التكذيب. وقوله
تعالى: (حِكْمَةٌ بالِغَةٌ) أي في هدايته تعالى لمن هداه وإضلاله لمن أضله (فَما تُغْنِ النُّذُرُ) يعني أي شيء تغني النذر عمن كتب الله عليه الشقاوة وختم
على قلبه فمن الذي يهديه من بعد الله؟ وهذه الآية كقوله تعالى : (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ
فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) [الأنعام : ١٤٩]
وكذا قوله تعالى : (وَما تُغْنِي
الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) [يونس : ١٠١].
(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ
يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (٦) خُشَّعاً
أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ
__________________
مُنْتَشِرٌ
(٧) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ
الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ)
(٨)
يقول تعالى : فتول
يا محمد عن هؤلاء الذين إذا رأوا آية يعرضون ويقولون هذا سحر مستمر ، أعرض عنهم
وانتظرهم (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ
إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ) أي إلى شيء منكر فظيع ، وهو موقف الحساب وما فيه من البلاء
بل والزلازل والأهوال ، (خُشَّعاً
أَبْصارُهُمْ) أي ذليلة أبصارهم (يَخْرُجُونَ مِنَ
الْأَجْداثِ) وهي القبور (كَأَنَّهُمْ جَرادٌ
مُنْتَشِرٌ) أي كأنهم في انتشارهم وسرعة سيرهم إلى موقف الحساب إجابة
للداعي (جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) في الآفاق ، ولهذا قال : (مُهْطِعِينَ) أي مسرعين (إِلَى الدَّاعِ) لا يخالفون ولا يتأخرون (يَقُولُ الْكافِرُونَ
هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) أي يوم شديد الهول عبوس قمطرير (فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ
عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) [المدثر : ٩ ـ ١٠].
(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ
قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (٩) فَدَعا رَبَّهُ
أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (١٠)
فَفَتَحْنا
أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا
الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢)
وَحَمَلْناهُ
عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (١٣) تَجْرِي
بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (١٤) وَلَقَدْ تَرَكْناها
آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٥)
فَكَيْفَ
كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٦) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا
الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)
(١٧)
يقول تعالى : (كَذَّبَتْ) قبل قومك يا محمد (قَوْمُ نُوحٍ
فَكَذَّبُوا عَبْدَنا) أي صرحوا له بالتكذيب واتهموه بالجنون (وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ) قال مجاهد : (وَازْدُجِرَ). أي استطير جنونا ، وقيل : وازدجر أي انتهروه وزجروه
وتواعدوه (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ
يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) [الشعراء : ١١٦] ،
قاله ابن زيد وهذا متوجه حسن (فَدَعا رَبَّهُ
أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) أي إني ضعيف عن هؤلاء وعن مقاومتهم (فَانْتَصِرْ) أنت لدينك. قال الله تعالى :
(فَفَتَحْنا أَبْوابَ
السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ) قال السدي : وهو الكثير (وَفَجَّرْنَا
الْأَرْضَ عُيُوناً) أي نبعت جميع أرجاء الأرض حتى التنانير التي هي محال
النيران نبعت عيونا ، (فَالْتَقَى الْماءُ) أي من السماء ومن الأرض (عَلى أَمْرٍ قَدْ
قُدِرَ) أي أمر مقدر.
قال ابن جريج عن
ابن عباس (فَفَتَحْنا أَبْوابَ
السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ) كثير لم تمطر السماء قبل ذلك اليوم ولا بعده إلا من السحاب
، فتحت أبواب السماء بالماء من غير سحاب ذلك اليوم ، فالتقى الماءان على أمر قد
قدر ، وروى ابن أبي حاتم أن ابن الكواء سأل عليا عن المجرة فقال : هي شرج السماء ،
ومنها فتحت السماء بماء منهمر (وَحَمَلْناهُ عَلى
ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ) قال ابن عباس وسعيد بن جبير والقرظي وقتادة وابن زيد : هي
المسامير ، واختاره ابن جرير ، قال :
__________________
وواحدها دسار.
ويقال : دسير كما يقال حبيك وحباك والجمع حبك ، وقال مجاهد : الدسر أضلاع السفينة.
وقال عكرمة والحسن
: هو صدرها الذي يضرب به الموج. وقال الضحاك : طرفاها وأصلها ، وقال العوفي عن ابن
عباس : هو كلكلها أي صدرها. وقوله : (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) أي بأمرنا بمرأى منا وتحت حفظنا وكلاءتنا (جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ) أي جزاء لهم على كفرهم بالله وانتصارا لنوح عليهالسلام.
وقوله تعالى : (وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً) قال قتادة : أبقى الله سفينة نوح حتى أدركها أول هذه الأمة
، والظاهر أن المراد من ذلك جنس السفن ، كقوله تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا
ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما
يَرْكَبُونَ) [يس : ٤١ ـ ٤٢]
وقال تعالى : (إِنَّا لَمَّا طَغَى
الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها
أُذُنٌ واعِيَةٌ) ولهذا قال هاهنا : (فَهَلْ مِنْ
مُدَّكِرٍ) أي فهل من يتذكر ويتعظ. قال الإمام أحمد : حدثنا حجاج ، حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن الأسود عن
ابن مسعود قال : أقرأني رسول الله صلىاللهعليهوسلم (فَهَلْ مِنْ
مُدَّكِرٍ) وهكذا رواه البخاري ، حدثنا يحيى ، حدثنا وكيع عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن
الأسود بن يزيد ، عن عبد الله قال : قرأت على النبي صلىاللهعليهوسلم (فَهَلْ مِنْ
مُدَّكِرٍ) وقال النبي صلىاللهعليهوسلم (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) وروى البخاري أيضا من حديث شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن
الأسود ، عن عبد الله قال : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقرأ (فَهَلْ مِنْ
مُدَّكِرٍ).
وقال : حدثنا أبو
نعيم ، حدثنا زهير عن أبي إسحاق أنه سمع رجلا سأل الأسود (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) أو مذكر ، قال : سمعت عبد الله يقرأ (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) ، وقال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقرؤها (فَهَلْ مِنْ
مُدَّكِرٍ). دالا . وقد أخرج مسلم هذا الحديث وأهل السنن إلا ابن ماجة من
حديث أبي إسحاق.
وقوله تعالى : (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) أي كيف كان عذابي لمن كفر بي وكذب رسلي ، ولم يتعظ بما
جاءت به نذري ، وكيف انتصرت لهم وأخذت لهم بالثأر (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا
الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) أي سهلنا لفظه ويسرنا معناه لمن أراده ليتذكر الناس ، كما
قال : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ
إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) [ص : ٢٩] وقال
تعالى : (فَإِنَّما
يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً
لُدًّا) [مريم : ٩٧] قال
مجاهد : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا
الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) يعني هونا قراءته ، وقال السدي : يسرنا تلاوته على الألسن
، وقال الضحاك عن ابن عباس : لولا
__________________
أن الله يسره على
لسان الآدميين ما استطاع أحد من الخلق أن يتكلم بكلام الله عزوجل.
قلت : ومن تيسيره
تعالى على الناس تلاوة القرآن ما تقدم عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف» وأوردنا الحديث بطرقه وألفاظه بما أغنى عن إعادته هاهنا
ولله الحمد والمنة ، وقوله : (فَهَلْ مِنْ
مُدَّكِرٍ) أي فهل من متذكر بهذا القرآن الذي قد يسر الله حفظه ومعناه؟
وقال محمد بن كعب القرظي : فهل من منزجر عن المعاصي؟.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبي ، حدثنا الحسن بن رافع ، حدثنا ضمرة عن ابن شوذب ، عن مطر هو الوراق
في قوله تعالى : (فَهَلْ مِنْ
مُدَّكِرٍ) هل من طالب علم فيعان عليه ، وكذا علقه البخاري بصيغة
الجزم عن مطر الوراق ، ورواه ابن جرير ، وروي عن قتادة مثله.
(كَذَّبَتْ عادٌ
فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٨) إِنَّا أَرْسَلْنا
عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (١٩) تَنْزِعُ النَّاسَ
كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (٢٠) فَكَيْفَ كانَ
عَذابِي وَنُذُرِ (٢١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا
الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)
(٢٢)
يقول تعالى مخبرا
عن عاد قوم هود ، إنهم كذبوا رسولهم أيضا ، كما صنع قوم نوح وأنه تعالى أرسل عليهم
(رِيحاً صَرْصَراً) وهي الباردة الشديدة البرد (فِي يَوْمِ نَحْسٍ) أي عليهم ، قاله الضحاك وقتادة والسدي (مُسْتَمِرٍّ) عليهم نحسه ودماره لأنه يوم اتصل فيه عذابهم الدنيوي
بالأخروي. وقوله تعالى : (تَنْزِعُ النَّاسَ
كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) وذلك أن الريح كانت تأتي أحدهم فترفعه حتى تغيبه عن
الأبصار ، ثم تنكسه على أم رأسه فيسقط إلى الأرض ، فتثلغ رأسه فيبقى جثة بلا رأس ، ولهذا قال : (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ
مُنْقَعِرٍ. فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ. وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ
لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ).
(كَذَّبَتْ ثَمُودُ
بِالنُّذُرِ (٢٣) فَقالُوا أَبَشَراً
مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٢٤) أَأُلْقِيَ
الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (٢٥)
سَيَعْلَمُونَ
غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (٢٦) إِنَّا مُرْسِلُوا
النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (٢٧) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ
الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (٢٨)
فَنادَوْا
صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (٢٩)
فَكَيْفَ
كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٣٠) إِنَّا أَرْسَلْنا
عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ
(٣١)
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)
(٣٢)
وهذا إخبار عن
ثمود أنهم كذبوا رسولهم صالحا (فَقالُوا أَبَشَراً
مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي
__________________
ضَلالٍ
وَسُعُرٍ) يقولون : لقد خبنا وخسرنا إن سلمنا كلنا قيادنا لواحد منا.
ثم تعجبوا من إلقاء الوحي عليه خاصة من دونهم ثم رموه بالكذب فقالوا : (بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ) أي متجاوز في حد الكذب ، قال الله تعالى : (سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ
الْأَشِرُ) وهذا تهديد لهم شديد ووعيد أكيد. ثم قال تعالى : (إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً
لَهُمْ) أي اختبارا لهم ، أخرج الله لهم ناقة عظيمة عشراء ، من
صخرة صماء طبق ما سألوا ، لتكون حجة الله عليهم في تصديق صالح عليهالسلام فيما جاءهم به ، ثم قال تعالى آمرا لعبده ورسوله صالح : (فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ) أي انتظر ما يؤول إليه أمرهم ، واصبر عليهم فإن العاقبة لك
، والنصر لك في الدنيا والآخرة (وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ
الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ) أي يوم لهم ويوم للناقة كقوله : (قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ
شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) [الشعراء : ١٥٥].
وقوله تعالى : (كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ) قال مجاهد : إذا غابت حضروا الماء. وإذا جاءت حضروا اللبن
، ثم قال تعالى : (فَنادَوْا صاحِبَهُمْ
فَتَعاطى فَعَقَرَ) قال المفسرون : هو عاقر الناقة ، واسمه قدار بن سالف ،
وكان أشقى قومه. كقوله : (إِذِ انْبَعَثَ
أَشْقاها) [الشمس : ١٢] (فَتَعاطى) أي فحبسر (فَعَقَرَ فَكَيْفَ
كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) أي فعاقبتهم فكيف كان عقابي لهم على كفرهم بي وتكذيبهم
رسولي (إِنَّا أَرْسَلْنا
عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) أي فبادوا عن آخرهم لم تبق منهم باقية ، وخمدوا وهمدوا كما
يهمد وييبس الزرع والنبات ، قاله غير واحد من المفسرين ، والمحتظر قال السدي هو
المرعى بالصحراء حين ييبس ويحترق وتنسفه الريح ، وقال ابن زيد : كانت العرب يجعلون
حظارا على الإبل والمواشي من يبيس الشوك فهو المراد من قوله : (كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) وقال سعيد بن جبير : هشيم المحتظر هو التراب المتناثر من
الحائط ، وهذا قول غريب ، والأول أقوى والله أعلم.
(كَذَّبَتْ قَوْمُ
لُوطٍ بِالنُّذُرِ (٣٣) إِنَّا أَرْسَلْنا
عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ(٣٤) نِعْمَةً مِنْ
عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (٣٥) وَلَقَدْ
أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ(٣٦)
وَلَقَدْ
راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٧) وَلَقَدْ
صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (٣٨) فَذُوقُوا عَذابِي
وَنُذُرِ (٣٩) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ
لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)
(٤٠)
يقول تعالى مخبرا
عن قوم لوط كيف كذبوا رسولهم وخالفوه ، وارتكبوا المكروه من إتيان الذكور وهي
الفاحشة التي لم يسبقهم بها أحد من العالمين ، ولهذا أهلكهم الله هلاكا لم يهلكه
أمة من الأمم ، فإنه تعالى أمر جبريل عليهالسلام فحمل مدائنهم حتى وصل بها إلى عنان السماء ، ثم قلبها
عليهم وأرسلها وأتبعت بحجارة من سجيل منضود ، ولهذا قال هاهنا : (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً) وهي الحجارة (إِلَّا آلَ لُوطٍ
نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ) أي خرجوا من آخر الليل فنجوا مما أصاب قومهم ، ولم يؤمن
بلوط من قومه أحد ولا رجل واحد ، حتى ولا امرأته
أصابها ما أصاب
قومها ، وخرج نبي الله لوط وبنات له من بين أظهرهم سالما لم يمسسه سوء ، ولهذا قال
تعالى : (كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ
شَكَرَ وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا) أي ولقد كان قبل حلول العذاب بهم قد أنذرهم بأس الله
وعذابه فما التفتوا إلى ذلك ولا أصغوا إليه بل شكوا فيه وتماروا به.
(وَلَقَدْ راوَدُوهُ
عَنْ ضَيْفِهِ) وذلك ليلة ورد عليه الملائكة جبريل وميكائيل وإسرافيل في
صور شباب مرد حسان محنة من الله بهم ، فأضافهم لوط عليهالسلام ، وبعثت امرأته العجوز السوء إلى قومها فأعلمتهم بأضياف
لوط ، فأقبلوا يهرعون إليه من كل مكان ، فأغلق لوط دونهم الباب ، فجعلوا يحاولون
كسر الباب ، وذلك عشية ولوط عليهالسلام يدافعهم ويمانعهم دون أضيافه ويقول لهم : (هؤُلاءِ بَناتِي) يعني نساءهم (إِنْ كُنْتُمْ
فاعِلِينَ) ... (قالُوا لَقَدْ
عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍ) [الحجر : ٧١ ـ ٧٢]
أي ليس لنا فيهن أرب (وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ
ما نُرِيدُ) فلما اشتد الحال وأبوا إلا الدخول ، خرج عليهم جبريل عليهالسلام فضرب أعينهم بطرف جناحه ، فانطمست أعينهم ، يقال إنها غارت
من وجوههم ، وقيل إنه لم تبق لهم عيون بالكلية ، فرجعوا على أدبارهم يتحسسون
بالحيطان ، ويتوعدون لوطا عليهالسلام إلى الصباح. قال الله تعالى : (وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ
مُسْتَقِرٌّ) أي لا محيد لهم عنه ولا انفكاك لهم منه (فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ
يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ).
(وَلَقَدْ جاءَ آلَ
فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (٤١) كَذَّبُوا بِآياتِنا
كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ(٤٢)
أَكُفَّارُكُمْ
خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (٤٣)
أَمْ
يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (٤٤) سَيُهْزَمُ
الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥) بَلِ السَّاعَةُ
مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ)
(٤٦)
يقول تعالى مخبرا
عن فرعون وقومه : إنهم جاءهم رسول الله موسى وأخوه هارون بالبشارة إن آمنوا ،
والنذارة إن كفروا ، وأيدهما بمعجزات عظيمة وآيات متعددة فكذبوا بها كلها ، فأخذهم
الله أخذ عزيز مقتدر أي فأبادهم الله ولم يبق منهم مخبر ولا عين ولا أثر ، ثم قال
تعالى : (أَكُفَّارُكُمْ) أي أيها المشركون من كفار قريش (خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ) يعني من الذين تقدم ذكرهم ممن أهلكوا بسبب تكذيبهم الرسل
وكفرهم بالكتب ، أأنتم خير من أولئكم؟ (أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ
فِي الزُّبُرِ) أي أم معكم من الله براءة أن لا ينالكم عذاب ولا نكال؟ ثم
قال تعالى مخبرا عنهم : (أَمْ يَقُولُونَ
نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) أي يعتقدون أنهم يتناصرون بعضهم بعضا ، وأن جميعهم يغني
عنهم من أرادهم بسوء. قال الله تعالى : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ
وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) أي سيتفرق شملهم ويغلبون.
قال البخاري :
حدثنا إسحاق ، حدثنا خالد عن خالد ، وقال أيضا : حدثنا محمد حدثنا عفان بن مسلم عن
وهيب عن خالد عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال وهو في قبة له
يوم بدر : «أنشدك
عهدك ووعدك ، اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم في الأرض أبدا» فأخذ أبو بكر رضي
الله عنه بيده وقال : حسبك يا رسول الله ألححت على ربك فخرج وهو يثب في الدرع وهو
يقول : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ
وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى
وَأَمَرُّ)
( وكذا رواه البخاري والنسائي في غير موضع من حديث خالد ، وهو ابن مهران الحذاء
به. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا أبو الربيع الزهراني ، حدثنا حماد عن
أيوب عن عكرمة قال : لما نزلت (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ
وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) قال عمر : أي جمع يهزم؟ أي جمع يغلب قال عمر : فلما كان
يوم بدر رأيت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يثب في الدرع وهو يقول : «سيهزم الجمع ويولون الدبر» فعرفت
تأويلها يومئذ.
وقال البخاري : حدثنا إبراهيم بن موسى ، حدثنا هشام بن يوسف أن ابن جريج
أخبرهم ، أخبرني يوسف بن ماهك قال : إني عند عائشة أم المؤمنين فقالت : نزل على
محمدصلىاللهعليهوسلم بمكة وإني لجارية ألعب (بَلِ السَّاعَةُ
مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ) هكذا رواه هاهنا مختصرا ، ورواه في فضائل القرآن مطولا ولم
يخرجه مسلم.
(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ
فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٤٧) يَوْمَ يُسْحَبُونَ
فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (٤٨) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ
خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (٤٩) وَما أَمْرُنا
إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (٥٠)
وَلَقَدْ
أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٥١) وَكُلُّ شَيْءٍ
فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (٥٢)
وَكُلُّ
صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (٥٣) إِنَّ الْمُتَّقِينَ
فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ
عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ)
(٥٥)
يخبرنا تعالى عن
المجرمين أنهم في ضلال عن الحق وسعر مما هم فيه من الشكوك والاضطراب في الآراء ،
وهذا يشمل كل من اتصف بذلك من كافر ومبتدع من سائر الفرق ، ثم قال تعالى : (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى
وُجُوهِهِمْ) أي كما كانوا في سعر وشك وتردد أورثهم ذلك النار ، وكما
كانوا ضلالا يسحبون فيها على وجوههم لا يدرون أين يذهبون ، ويقال لهم تقريعا
وتوبيخا : (ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ).
وقوله تعالى : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ
بِقَدَرٍ) كقوله : (وَخَلَقَ كُلَّ
شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) [الفرقان : ٢]
وكقوله تعالى : (سَبِّحِ اسْمَ
رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) [الأعلى : ١ ـ ٣]
أي قدر قدرا وهدى الخلائق إليه ، ولهذا يستدل بهذه الآية الكريمة أئمة السنة على
إثبات قدر الله السابق لخلقه ، وهو علمه الأشياء قبل كونها وكتابته لها قبل برئها
، وردوا بهذه الآية وبما شاكلها من الآيات وما ورد في معناها من الأحاديث الثابتات
على الفرقة
__________________
القدرية ، الذين
نبغوا في أواخر عصر
الصحابة ، وقد تكلمنا على هذا المقام مفصلا وما ورد فيه من الأحاديث في شرح كتاب
الإيمان من صحيح البخاري رحمهالله ، ولنذكر هاهنا الأحاديث المتعلقة بهذه الآية الكريمة.
قال أحمد : حدثنا وكيع ، حدثنا سفيان الثوري عن زياد بن إسماعيل
السهمي ، عن محمد بن عباد بن جعفر عن أبي هريرة قال : جاء مشركو قريش إلى النبي صلىاللهعليهوسلم يخاصمونه في القدر فنزلت (يَوْمَ يُسْحَبُونَ
فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ
خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) وهكذا رواه مسلم والترمذي وابن ماجة من حديث وكيع عن سفيان
الثوري به.
وقال البزار :
حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا الضحاك بن مخلد ، حدثنا يونس بن الحارث عن عمرو بن شعيب
عن أبيه عن جده قال : ما نزلت هذه الآيات (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ
فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا
مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) إلا في أهل القدر. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا
سهل بن صالح الأنطاكي ، حدثني قرة بن حبيب عن كنانة ، حدثني جرير بن حازم عن سعيد
بن عمرو بن جعدة ، عن ابن زرارة عن أبيه عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه تلا هذه الآية (ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) قال : «نزلت في أناس من أمتي يكونون في آخر الزمان يكذبون
بقدر الله».
وحدثنا الحسن بن
عرفة : حدثنا مروان بن شجاع الجزري عن عبد الملك بن جريج ، عن عطاء بن أبي رباح قال
: أتيت ابن عباس وهو ينزع من زمزم ، وقد ابتلت أسافل ثيابه فقلت له قد تكلم في
القدر ، فقال : أوقد فعلوها؟ قلت : نعم ، قال : فو الله ما نزلت هذه الآية إلا
فيهم (ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) أولئك شرار هذه لأمة ، فلا تعودوا مرضاهم ولا تصلوا على
موتاهم ، إن رأيت أحدا منهم فقأت عينيه بإصبعي هاتين.
وقد رواه الإمام
أحمد من وجه آخر وفيه مرفوع فقال : حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا الأوزاعي عن بعض
إخوته عن محمد بن عبيد المكي عن عبد الله بن عباس قال : قيل له إن رجلا قدم علينا
يكذب بالقدر ، فقال : دلوني عليه وهو أعمى ، قالوا : وما تصنع به يا أبا عباس؟ قال
: والذي نفسي بيده لئن استمكنت منه لأعضن أنفه حتى أقطعه ، ولئن وقعت رقبته في يدي
لأدقنها فإني سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «كأني بنساء بني فهر يطفن بالخزرج تصطفق إلياتهن
مشركات ، هذا أول شرك هذه الأمة ، والذي نفسي بيده لينتهين بهم سوء رأيهم حتى
__________________
يخرجوا الله من أن
يكون قدر خيرا ، كما أخرجوه من أن يكون قدر شرا» ثم رواه أحمد عن أبي المغيرة عن
الأوزاعي عن العلاء بن الحجاج عن محمد بن عبيد فذكر مثله لم يخرجوه.
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن يزيد : حدثنا سعيد بن أبي أيوب ،
حدثني أبو صخر عن نافع قال : كان لابن عمر صديق من أهل الشام يكاتبه. فكتب إليه
عبد الله بن عمر أنه بلغني أنك تكلمت في شيء من القدر ، فإياك أن تكتب إلي فإني
سمعت رسول اللهصلىاللهعليهوسلم يقول : «سيكون في أمتي أقوام يكذبون بالقدر» ورواه أبو
داود عن أحمد بن حنبل به.
وقال أحمد : حدثنا أنس بن عياض ، حدثنا عمر بن عبد الله مولى غفرة عن
عبد الله بن عمر أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «لكل أمة مجوس ، ومجوس أمتي الذين يقولون لا قدر ،
إن مرضوا فلا تعودوهم ، وإن ماتوا فلا تشهدوهم» لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة
من هذا الوجه.
وقال أحمد : حدثنا قتيبة ، حدثنا رشدين عن أبي صخر حميد بن زياد عن
نافع عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «سيكون في هذه الأمة مسخ ألا وذاك في المكذبين
بالقدر والزنديقية» ورواه الترمذي وابن ماجة من حديث أبي صخر حميد بن زياد به
، وقال الترمذي : حسن صحيح غريب.
وقال الإمام أحمد : حدثنا إسحاق بن الطباع ، أخبرني مالك عن زياد بن سعد عن
عمرو بن مسلم ، عن طاوس اليماني قال : سمعت ابن عمر قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «كل شيء بقدر حتى العجز والكيس» ورواه مسلم منفردا به من حديث مالك.
وفي الحديث الصحيح
«استعن بالله ولا تعجز فإن أصابك أمر فقل قدر الله وما شاء فعل ، ولا تقل لو أني
فعلت كذا لكان كذا فإن لو تفتح عمل الشيطان» وفي حديث ابن عباس أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال له : «واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء
لم يكتبه الله لك لم ينفعوك ، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك
لم يضروك جفت الأقلام وطويت الصحف» وقال الإمام
__________________
أحمد : حدثنا الحسن بن سوار ، حدثنا الليث عن معاوية عن أيوب بن
زياد ، حدثني عبادة بن الوليد بن عبادة ، حدثني أبي قال : دخلت على عبادة وهو مريض
أتخايل فيه الموت فقلت : يا أبتاه أوصني واجتهد لي ، فقال : أجلسوني ، فلما أجلسوه
قال : يا بني إنك لم تطعم طعم الإيمان ولم تبلغ حق حقيقة العلم بالله حتى تؤمن
بالقدر خيره وشره. قلت : يا أبتاه وكيف لي أن أعلم ما خير القدر وشره؟ قال : تعلم
أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك وما أصابك لم يكن ليخطئك ، يا بني إني سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «إن أول ما خلق الله القلم ثم قال له اكتب فجرى في
تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة» يا بني إن مت ولست على ذلك دخلت النار .
ورواه الترمذي عن
يحيى بن موسى البلخي عن أبي داود الطيالسي عن عبد الواحد بن سليم عن عطاء بن أبي
رباح عن الوليد بن عبادة عن أبيه به وقال : حسن صحيح غريب. وقال سفيان الثوري عن
منصور عن ربعي بن خراش ، عن رجل عن علي بن أبي طالب قال : قال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم : «لا يؤمن أحد حتى يؤمن بأربع : يشهد أن لا إله إلا الله
، وأني رسول الله بعثني بالحق ، ويؤمن بالبعث بعد الموت ، ويؤمن بالقدر خيره وشره»
وكذا رواه الترمذي من حديث النضر بن شميل عن شعبة عن منصور به ، ورواه من
حديث أبي داود الطيالسي عن شعبة عن منصور عن ربعي عن علي فذكره وقال : هذا عندي
أصح ، وكذا رواه ابن ماجة من حديث شريك عن منصور عن ربعي عن علي به. وقد ثبت في
صحيح مسلم من رواية عبد الله بن وهب وغيره عن أبي هانئ الخولاني عن أبي عبد الرحمن
الحبلي عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم : «إن الله كتب مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض
بخمسين ألف سنة» زاد ابن وهب (وَكانَ عَرْشُهُ
عَلَى الْماءِ) [هود : ٧] ورواه
الترمذي وقال : حسن صحيح غريب.
وقوله تعالى : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ
بِالْبَصَرِ) وهذا إخبار عن نفوذ مشيئته في خلقه ، كما أخبرنا بنفوذ
قدره فيهم فقال : (وَما أَمْرُنا إِلَّا
واحِدَةٌ) أي إنما نأمر بالشيء مرة واحدة لا نحتاج إلى تأكيد بثانية
، فيكون ذلك الذي نأمر به حاصلا موجودا كلمح البصر ، لا يتأخر طرفة عين ، وما أحسن
ما قال بعض الشعراء : [الطويل]
إذا ما أراد
الله أمرا فإنما
|
|
يقول له كن قولة
فيكون
|
__________________
وقوله تعالى : (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ) يعني أمثالكم وسلفكم من الأمم السالفة المكذبين بالرسل (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) أي فهل من متعظ بما أخزى الله أولئك وقدر لهم من العذاب ،
كما قال تعالى : (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ
وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ) [سبأ : ٥٤] وقوله تعالى : (وَكُلُّ شَيْءٍ
فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ) أي مكتوب عليهم في الكتب التي بأيدي الملائكة عليهمالسلام (وَكُلُّ صَغِيرٍ
وَكَبِيرٍ) أي من أعمالهم (مُسْتَطَرٌ) أي مجموع عليهم ومسطر في صحائفهم ، لا يغادر صغيرة ولا
كبيرة إلا أحصاها.
وقد قال الإمام
أحمد : حدثنا أبو عامر ، حدثنا سعيد بن مسلم بن بانك ، سمعت عامر بن عبد الله بن
الزبير ، حدثني عوف بن الحارث وهو ابن أخي عائشة لأمها عن عائشة أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان يقول : «يا عائشة إياك ومحقرات الذنوب فإن لها من الله
طالبا» ورواه النسائي وابن ماجة من طريق سعيد بن مسلم بن بانك
المدني ، وثقه أحمد وابن معين وأبو حاتم وغيرهم. وقد رواه الحافظ ابن عساكر في
ترجمة سعيد بن مسلم هذا من وجه آخر. ثم قال سعيد فحدثت بهذا الحديث عامر بن هشام
فقال لي : ويحك يا سعيد بن مسلم! لقد حدثني سليمان بن المغيرة أنه عمل ذنبا
فاستصغره فأتاه آت في منامه فقال له يا سليمان : [الطويل]
لا تحقرنّ من
الذنوب صغيرا
|
|
ان الصغير غدا
يعود كبيرا
|
إن الصغير ولو
تقادم عهده
|
|
عند الإله مسطّر
تسطيرا
|
فازجر هواك على
البطالة لا تكن
|
|
صعب القياد
وشمّرن تشميرا
|
إن المحبّ إذا
أحب إلهه
|
|
طار الفؤاد
وألهم التفكيرا
|
فاسأل هدايتك
الإله بنيّة
|
|
فكفى بربك هاديا
ونصيرا
|
وقوله تعالى : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ
وَنَهَرٍ) أي بعكس ما الأشقياء فيه من الضلال والسعر والسحب في النار
على وجوههم ، مع التوبيخ والتقريع والتهديد. وقوله تعالى : (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ) أي في دار كرامة الله ورضوانه وفضله وامتنانه وجوده
وإحسانه (عِنْدَ مَلِيكٍ
مُقْتَدِرٍ) أي عند الملك العظيم الخالق للأشياء كلها ومقدرها. وهو
مقتدر على ما يشاء مما يطلبون ويريدون.
وقد قال الإمام
أحمد : حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن عمرو بن أوس عن عبد الله بن عمرو يبلغ به
النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «المقسطون عند الله يوم القيامة على منابر من نور عن
يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا» انفرد بإخراجه
__________________
مسلم والنسائي من
حديث سفيان بن عيينة بإسناده مثله.
آخر تفسير سورة
اقتربت ولله الحمد والمنة وبه التوفيق والعصمة.
تفسير سورة الرحمن
وهي مكية
قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا حماد عن عاصم عن زر أن رجلا قال لابن
مسعود : كيف تعرف هذا الحرف من ماء غير آسن أو آسن؟ فقال : كل القرآن قد قرأت. قال
: إني لأقرأ المفصل في ركعة واحدة ، فقال : أهذا كهذا الشعر لا أبالك؟ قد علمت.
قرائن النبيصلىاللهعليهوسلم التي كان يقرن قرينتين قرينتين من أول المفصل ، وكان أول
مفصل ابن مسعود (الرَّحْمنُ).
وقال أبو عيسى
الترمذي : حدثنا عبد الرحمن بن واقد وأبو مسلم السعدي ، حدثنا الوليد بن مسلم عن
زهير بن محمد ، عن محمد بن المنكدر عن جابر قال : خرج رسول الله صلىاللهعليهوسلم على أصحابه فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها
فسكتوا فقال : «لقد قرأتها على الجن ليلة الجن فكانوا أحسن مردودا منكم ، كنت كلما
أتيت على قوله : (فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) قالوا لا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد» ثم قال هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث الوليد بن مسلم
عن زهير بن محمد ، ثم حكي عن الإمام أحمد أنه كان لا يعرفه ، ينكر رواية أهل الشام
عن زهير بن محمد هذا ، ورواه الحافظ أبو بكر البزار عن عمرو بن مالك عن الوليد بن
مسلم ، وعن عبد الله بن أحمد بن شبويه عن هشام بن عمارة ، كلاهما عن الوليد بن
مسلم به ثم قال : لا نعرفه يروى إلا من هذا الوجه.
وقال أبو جعفر بن
جرير : حدثنا محمد بن عباد بن موسى وعمرو بن مالك البصري قالا : حدثنا يحيى بن
سليم عن إسماعيل بن أمية عن نافع عن ابن عمر أن رسول اللهصلىاللهعليهوسلم قرأ سورة الرحمن أو قرئت عنده فقال : «ما لي أسمع الجن
أحسن جوابا لربها منكم؟» قالوا : وما ذاك يا رسول الله؟ قال : «ما أتيت على قول
الله تعالى : (فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) إلا قالت الجن لا بشيء من نعم ربنا نكذب» ورواه الحافظ
البزار عن عمرو بن مالك به ، ثم قال : لا نعلمه يروى عن النبي صلىاللهعليهوسلم إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد.
__________________
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) خَلَقَ الْإِنْسانَ
(٣)
عَلَّمَهُ الْبَيانَ (٤) الشَّمْسُ
وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (٥)
وَالنَّجْمُ
وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (٦) وَالسَّماءَ
رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ
(٧) أَلاَّ
تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (٨)
وَأَقِيمُوا
الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (٩) وَالْأَرْضَ
وَضَعَها لِلْأَنامِ (١٠) فِيها فاكِهَةٌ
وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (١١) وَالْحَبُّ ذُو
الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (١٢) فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)
(١٣)
يخبر تعالى عن
فضله ورحمته بخلقه أنه أنزل على عباده القرآن ، ويسر حفظه وفهمه على من رحمه فقال
تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَّمَ
الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ) قال الحسن : يعني النطق ، وقال الضحاك وقتادة وغيرهما :
يعني الخير والشر ، وقول الحسن هاهنا أحسن وأقوى لأن السياق في تعليمه تعالى
القرآن ، وهو أداء تلاوته ، وإنما يكون ذلك بتيسير النطق على الخلق وتسهيل خروج
الحروف من مواضعها من الحلق واللسان والشفتين على اختلاف مخارجها وأنواعها. وقوله تعالى
: (الشَّمْسُ
وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) أي يجريان متعاقبين بحساب مقنن لا يختلف ولا يضطرب (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ
تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ
يَسْبَحُونَ) [يس : ٤٠] وقال
تعالى : (فالِقُ الْإِصْباحِ
وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ
الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) [الأنعام : ٩٦].
وعن عكرمة أنه قال
: لو جعل الله نور جميع أبصار الإنس والجن والدواب والطير في عيني عبد ، ثم كشف
حجابا واحدا من سبعين حجابا دون الشمس ، لما استطاع أن ينظر إليها. ونور الشمس جزء
من سبعين جزءا من نور الكرسي ، ونور الكرسي جزء من سبعين جزءا من نور العرش ، ونور
العرش جزء من سبعين جزءا من نور الستر. فانظر ماذا أعطى الله عبده من النور في
عينيه وقت النظر إلى وجه ربه الكريم عيانا ، رواه ابن أبي حاتم.
وقوله تعالى : (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) قال ابن جرير : اختلف المفسرون في معنى قوله (وَالنَّجْمُ) بعد إجماعهم على أن الشجر ما قام على ساق ، فروى علي بن
أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : النجم ما انبسط على وجه الأرض يعني من
النبات ، وكذا قال سعيد بن جبير والسدي وسفيان الثوري ، وقد اختاره ابن جرير رحمهالله تعالى. وقال مجاهد :
النجم الذي في
السماء. وكذا قال الحسن وقتادة ، وهذا القول هو الأظهر والله أعلم لقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ
مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ
وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) [الحج : ١٨]
الآية.
__________________
وقوله تعالى : (وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ
الْمِيزانَ) يعني العدل كما قال تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنا
رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ
النَّاسُ بِالْقِسْطِ) [الحديد : ٢٥]
وهكذا قال هاهنا : (أَلَّا تَطْغَوْا فِي
الْمِيزانِ) أي خلق السموات والأرض بالحق والعدل لتكون الأشياء كلها
بالحق والعدل. ولهذا قال تعالى : (وَأَقِيمُوا
الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ) أي لا تبخسوا الوزن بل زنوا بالحق والقسط كما قال تعالى : (وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ) [الشعراء : ١٨٢] وقوله تعالى : (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ) أي كما رفع السماء وضع الأرض ومهدها وأرساها بالجبال
الراسيات الشامخات ، لتستقر لما على وجهها من الأنام وهم الخلائق المختلفة أنواعهم
وأشكالهم وألوانهم وألسنتهم في سائر أقطارها وأرجائها.
قال ابن عباس
ومجاهد وقتادة وابن زيد : الأنام الخلق (فِيها فاكِهَةٌ) أي مختلفة الألوان والطعوم والروائح (وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ) أفرده بالذكر لشرفه ونفعه رطبا ويابسا ، والأكمام قال ابن
جريج عن ابن عباس : هي أوعية الطلع وهكذا قال غير واحد من المفسرين ، وهو الذي
يطلع فيه القنو ثم ينشق عن العنقود ، فيكون بسرا ثم رطبا ثم ينضج ويتناهى ينعه
واستواؤه. وقال ابن أبي حاتم : ذكر عن عمرو بن علي الصيرفي ، حدثنا أبو قتيبة ،
حدثنا يونس بن الحارث الطائفي عن الشعبي قال : كتب قيصر إلى عمر بن الخطاب : أخبرك
أن رسلي أتتني من قبلك فزعمت أن قبلكم شجرة ليست بخليقة لشيء من الخير ، تخرج مثل
آذان الحمير ثم تشقق مثل اللؤلؤ ، ثم تخضر فتكون مثل الزمرد الأخضر ، ثم تحمر
فتكون كالياقوت الأحمر ، ثم تينع فتنضج فتكون كأطيب فالوذج أكل ، ثم تيبس فتكون
عصمة للمقيم وزادا للمسافر ، فإن تكن رسلي صدقتني فلا أرى هذه الشجرة إلا من شجر
الجنة ، فكتب إليه عمر بن الخطاب : من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى قيصر ملك
الروم ، إن رسلك قد صدقوك هذه الشجرة عندنا ، وهي الشجرة التي أنبتها الله على
مريم حين نفست بعيسى ابنها ، فاتق الله ولا تتخذ عيسى إلها من دون الله (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ
كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ الْحَقُّ
مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) [آل عمران : ٥٩ ـ ٦٠]
وقيل : الأكمام رفاتها وهو الليف الذي على عنق النخلة ، وهو قول الحسن وقتادة.
(وَالْحَبُّ ذُو
الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ) يعني التبن. وقال العوفي عن ابن عباس : العصف ورق الزرع
الأخضر الذي قطع رؤوسه ، فهو يسمى العصف إذا يبس ، وكذا قال قتادة والضحاك وأبو
مالك عصفه تبنه. وقال ابن عباس ومجاهد وغير واحد : (وَالرَّيْحانُ) يعني الورق. وقال الحسن : هو ريحانكم هذا ، وقال علي بن
أبي طلحة عن ابن عباس : (وَالرَّيْحانُ) خضر الزرع ، ومعنى هذا ـ والله أعلم ـ أن الحب كالقمح
والشعير ونحوهما له في حال نباته عصف ، وهو ما على السنبلة ، وريحان وهو الورق
الملتف على ساقها. وقيل : العصف الورق أول ما ينبت الزرع بقلا والريحان الورق
يعني إذا أدجن
وانعقد فيه الحب ، كما قال زيد بن عمرو بن نفيل في قصيدته المشهورة : [الطويل]
وقولا له من
ينبت الحب في الثّرى
|
|
فيصبح منه البقل
يهتزّ رابيا
|
ويخرج منه حبه
في رؤوسه
|
|
ففي ذاك آيات
لمن كان واعيا
|
وقوله تعالى : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي فبأي الآلاء يا معشر الثقلين من الإنس والجن تكذبان؟
قاله مجاهد وغير واحد ، ويدل عليه السياق بعده ، أي النعم ظاهرة عليكم وأنتم
مغمورون بها لا تستطيعون إنكارها ولا جحودها ، فنحن نقول كما قالت الجن المؤمنون
به : اللهم ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب ، فلك الحمد. وكان ابن عباس يقول لا بأيها
يا رب أي لا نكذب بشيء منها ، قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن إسحاق ، حدثنا ابن لهيعة عن أبي الأسود عن
عروة عن أسماء بنت أبي بكر قالت : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو يقرأ وهو يصلي نحو الركن قبل أن يصدع بما يؤمر
والمشركون يستمعون (فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).
(خَلَقَ الْإِنْسانَ
مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (١٤) وَخَلَقَ الْجَانَّ
مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (١٥) فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٦) رَبُّ
الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (١٧)
فَبِأَيِّ
آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ(١٨)
مَرَجَ
الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (١٩)
بَيْنَهُما
بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (٢٠) فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢١) يَخْرُجُ مِنْهُمَا
اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (٢٢)
فَبِأَيِّ
آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٣)
وَلَهُ
الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٢٤)
فَبِأَيِّ
آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)
(٢٥)
يذكر تعالى خلقه
الإنسان من صلصال كالفخار ، وخلقه الجان من مارج من نار ، وهو طرف لهبها ، قاله
الضحاك عن ابن عباس ، وبه يقول عكرمة ومجاهد والحسن وابن زيد ، وقال العوفي عن ابن
عباس : (مِنْ مارِجٍ مِنْ
نارٍ) من لهب النار من أحسنها ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن
عباس : (مِنْ مارِجٍ مِنْ
نارٍ) من خالص النار ، وكذلك قال عكرمة ومجاهد والضحاك وغيرهم.
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر عن الزهري عن عروة عن
عائشة ، قالت : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «خلقت الملائكة من نور ، وخلق الجان من مارج من نار ،
وخلق آدم مما وصف لكم» ورواه مسلم عن محمد بن رافع وعبد بن حميد ، كلاهما عن عبد
الرزاق به.
__________________
وقوله تعالى : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم تفسيره (رَبُّ
الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) يعني مشرقي الصيف والشتاء ومغربي الصيف والشتاء ، وقال في
الآية الأخرى : (فَلا أُقْسِمُ
بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ) [المعارج : ٤٠]
وذلك باختلاف مطالع الشمس وتنقلها في كل يوم وبروزها منه إلى الناس. وقال في الآية
الأخرى : (رَبُّ الْمَشْرِقِ
وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) [المزمل : ٩] وهذا
المراد منه جنس المشارق والمغارب ، ولما كان في اختلاف هذه المشارق والمغارب مصالح
للخلق من الجن والإنس قال : (فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).
وقوله تعالى : (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ) قال ابن عباس : أي أرسلهما. وقوله : (يَلْتَقِيانِ) قال ابن زيد : أي منعهما أن يلتقيا بما جعل بينهما من
البرزخ الحاجز الفاصل بينهما ، والمراد بقوله (الْبَحْرَيْنِ) الملح والحلو ، فالحلو هذه الأنهار السارحة بين الناس ،
وقد قدمنا الكلام على ذلك في سورة الفرقان عند قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ
هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً
مَحْجُوراً) [الفرقان : ٥٣] قد
اختار ابن جرير هاهنا أن المراد بالبحرين : بحر السماء وبحر الأرض ، وهو مروي عن
مجاهد وسعيد بن جبير وعطية وابن أبزى ، قال ابن جرير : لأن اللؤلؤ يتولد من ماء
السماء وأصداف بحر الأرض وهذا وإن كان هكذا لكن ليس المراد بذلك ما ذهب إليه ،
فإنه لا يساعده اللفظ فإنه تعالى قد قال : (بَيْنَهُما بَرْزَخٌ
لا يَبْغِيانِ) أي وجعل بينهما برزخا ، وهو الحاجز من الأرض لئلا يبغي هذا
على هذا ، وهذا على هذا ، فيفسد كل واحد منهما الآخر ويزيله عن صفته التي هي
مقصودة منه ، وما بين السماء والأرض لا يسمى برزخا وحجرا محجورا.
وقوله تعالى : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ
وَالْمَرْجانُ) أي من مجموعهما ، فإذا وجد ذلك من أحدهما كفى كما قال
تعالى : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ
وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) [الأنعام : ١٣٠]
والرسل إنما كانوا في الإنس خاصة دون الجن وقد صح هذا الإطلاق. واللؤلؤ معروف ،
وأما المرجان فقيل هو صغار اللؤلؤ ، قاله مجاهد وقتادة وأبو رزين والضحاك وروي عن علي ، وقيل
كباره وجيده ، حكاه ابن جرير عن بعض السلف ورواه ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس ،
وحكاه عن السدي عمن حدثه عن ابن عباس ، وروي مثله عن علي ومجاهد أيضا ومرة
الهمداني ، وقيل : هو نوع من الجواهر أحمر اللون ، قال السدي عن أبي مالك عن مسروق
عن عبد الله قال : المرجان الخرز الأحمر ، قال السدي : وهو البسذ بالفارسية ، وأما
قوله : (وَمِنْ كُلٍّ
تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) [فاطر : ١٢]
فاللحم من كل من الأجاج والعذب والحلية إنما هي من الملح دون العذب. قال ابن عباس
: ما سقطت قط قطرة من السماء في البحر فوقعت في صدفة إلا صار منها لؤلؤة ، وكذا
قال عكرمة ، وزاد : فإذا لم تقع
__________________
في صدفة نبتت بها
عنبرة ، وروي من غير وجه عن ابن عباس نحوه.
وقد قال ابن أبي
حاتم : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا سفيان عن الأعمش عن
عبد الله بن عبد الله ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : إذا أمطرت السماء فتحت
الأصداف في البحر أفواهها فما وقع فيها ، يعني من قطر فهو اللؤلؤ. إسناده صحيح ،
ولما كان اتخاذ هذه الحلية نعمة على أهل الأرض ، امتن بها عليهم فقال : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).
وقوله تعالى : (وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ) يعني السفن التي تجري في البحر قال مجاهد : ما رفع قلعه من
السفن فهي منشأة وما لم يرفع قلعه فليس بمنشأة ، وقال قتادة : (الْمُنْشَآتُ) يعني المخلوقات ، وقال غيره ، المنشئات بكسر الشين يعني
البادئات (كَالْأَعْلامِ) أي كالجبال في كبرها وما فيها من المتاجر والمكاسب
المنقولة من قطر إلى قطر وإقليم إلى إقليم ، مما فيه صلاح الناس في جلب ما يحتاجون
إليه من سائر أنواع البضائع ، ولهذا قال : (فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا موسى بن إسماعيل ،
حدثنا حماد بن سلمة ، حدثنا العرار بن سويد عن عميرة بن سعد قال : كنت مع علي بن
أبي طالب رضي الله عنه على شاطئ الفرات إذ أقبلت سفينة مرفوع شراعها فبسط علي يديه
ثم قال : يقول الله عزوجل : (وَلَهُ الْجَوارِ
الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) والذي أنشأها تجري في بحوره ما قتلت عثمان ولا مالأت على
قتله.
(كُلُّ مَنْ عَلَيْها
فانٍ (٢٦) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ
وَالْإِكْرامِ (٢٧) فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٨) يَسْئَلُهُ مَنْ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (٢٩) فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٣٠)
يخبر تعالى أن
جميع أهل الأرض سيذهبون ويموتون أجمعون ، وكذلك أهل السماوات إلا من شاء الله ولا
يبقى أحد سوى وجهه الكريم ، فإن الرب تعالى وتقدس لا يموت بل هو الحي الذي لا يموت
أبدا ، قال قتادة : أنبأ بما خلق ثم أنبأ أن ذلك كله فان. وفي الدعاء المأثور : يا
حي يا قيوم يا بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام ، لا إله إلا أنت برحمتك
نستغيث أصلح لنا شأننا كله ، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ، ولا إلى أحد من
خلقك. وقال الشعبي : إذا قرأت (كُلُّ مَنْ عَلَيْها
فانٍ) فلا تسكت حتى تقرأ (وَيَبْقى وَجْهُ
رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) وهذه الآية كقوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ
إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨] وقد
نعت تعالى وجهه الكريم في هذه الآية بأنه ذو الجلال والإكرام أي هو أهل أن يجل فلا
يعصى ، وأن يطاع فلا يخالف كقوله تعالى : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ
مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) [الكهف : ٢٨]
وكقوله إخبارا عن المتصدقين : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ
لِوَجْهِ اللهِ) [الإنسان : ٩].
قال ابن عباس : ذو
الجلال والإكرام ذو العظمة والكبرياء ، ولما أخبر تعالى عن تساوي أهل الأرض كلهم
في الوفاة ، وأنهم سيصيرون إلى الدار الآخرة فيحكم فيهم ذو الجلال والإكرام بحكمة
العدل قال : (فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) ، وقوله تعالى : (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) وهذا إخبار عن غناه عما سواه وافتقار الخلائق إليه في جميع
الآنات وأنهم يسألونه بلسان حالهم وقالهم وأنه كل يوم هو في شأن ، قال الأعمش عن
مجاهد عن عبيد بن عمير (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ
فِي شَأْنٍ) قال من شأنه أن يجيب داعيا أو يعطي سائلا ، أو يفك عانيا
أو يشفي سقيما.
وقال ابن أبي نجيح
عن مجاهد قال : كل يوم هو يجيب داعيا ويكشف كربا ويجيب مضطرا ويغفر ذنبا ، وقال
قتادة : لا يستغني عنه أهل السموات والأرض يحيي حيا ويميت ميتا ، ويربي صغيرا ويفك
أسيرا وهو منتهى حاجات الصالحين وصريخهم ومنتهى شكواهم. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا
أبي ، حدثنا أبو اليمان الحمصي ، حدثنا جرير بن عثمان عن سويد بن جبلة هو الفزاري
قال : إن ربكم كل يوم هو في شأن فيعتق رقابا ، ويعطي رغابا ، ويقحم عقابا.
وقال ابن جرير : حدثني عبد الله بن محمد بن عمرو الغزي ، حدثني إبراهيم
بن محمد بن يوسف الفريابي ، حدثني عمرو بن بكر السكسكي ، حدثنا الحارث بن عبدة بن
رباح الغساني عن أبيه ، عن منيب بن عبد الله بن منيب الأزدي عن أبيه قال : تلا
رسول الله صلىاللهعليهوسلم هذه الآية (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ
فِي شَأْنٍ) فقلنا : يا رسول الله وما ذاك الشأن؟ قال : «أن يغفر ذنبا
، ويفرج كربا ، ويرفع قوما ويضع آخرين».
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن عمار وسليمان بن أحمد الواسطي قالا :
حدثنا الوزير بن
صبيح الثقفي أبو روح الدمشقي والسياق لهشام قال : سمعت يونس بن ميسرة بن حلبس ،
يحدث عن أم الدرداء عن أبي الدرداء عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «قال الله عزوجل : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ
فِي شَأْنٍ) ـ قال ـ من شأنه أن يغفر ذنبا ، ويفرج كربا ، ويرفع قوما
ويضع آخرين» . وقد رواه ابن عساكر من طرق متعددة عن هشام بن عمار به ،
ثم ساقه من حديث أبي همام الوليد بن شجاع عن الوزير بن صبيح قال : «ودلنا عليه
الوليد بن مسلم عن مطرف عن الشعبي عن أم الدرداء عن أبي الدرداء عن النبي صلىاللهعليهوسلم فذكره قال : والصحيح الأول ، يعني إسناده الأول.
قلت : وقد روي
موقوفا كما علقه البخاري بصيغة الجزم فجعله من كلام أبي الدرداء فالله أعلم. وقال
البزار : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا محمد بن الحارث ، حدثنا محمد بن
__________________
عبد الرحمن بن
البيلماني عن أبيه عن ابن عمر عن النبي صلىاللهعليهوسلم : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ
فِي شَأْنٍ) قال «يغفر ذنبا ، ويكشف كربا» ثم قال ابن جرير : وحدثنا أبو كريب ، حدثنا عبيد الله بن موسى عن أبي حمزة
الثمالي عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس إن الله خلق لوحا محفوظا من درة بيضاء
دفتاه ياقوتة حمراء قلمه نور ، وكتابه نور ، وعرضه ما بين السماء والأرض ينظر فيه
كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة ، يخلق في كل نظرة ويحيي ويميت ويعز ويذل ويفعل ما
يشاء.
(سَنَفْرُغُ لَكُمْ
أَيُّهَ الثَّقَلانِ (٣١) فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٢) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ
وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ(٣٣)
فَبِأَيِّ
آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٤)
يُرْسَلُ
عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (٣٥) فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٣٦)
قال علي بن أبي
طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى : (سَنَفْرُغُ لَكُمْ
أَيُّهَ الثَّقَلانِ) قال: وعيد من الله تعالى للعباد وليس بالله شغل وهو فارغ ،
وكذا قال الضحاك : هذا وعيد ، وقال قتادة : قد دنا من الله فراغ لخلقه ، وقال ابن
جريج (سَنَفْرُغُ لَكُمْ) أي سنقضي لكم.
وقال البخاري : سنحاسبكم لا يشغله شيء عن شيء ، وهو معروف في كلام العرب
، يقال لأتفرغن لك وما به شغل ، يقول : لآخذنك على غرتك. وقوله تعالى : (أَيُّهَ الثَّقَلانِ) الثقلان : الإنس والجن كما جاء في الصحيح : «ويسمعها كل
شيء إلا الثقلين» وفي رواية «إلا الإنس والجن». وفي حديث الصور «الثقلان
الإنس والجن» (فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).
ثم قال تعالى : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ
اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا
لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ) أي لا تستطيعون هربا من أمر الله وقدره بل هو محيط بكم ،
لا تقدرون على التخلص من حكمه ولا النفوذ عن حكمه فيكم ، أينما ذهبتم أحيط بكم ،
وهذا في مقام الحشر ، الملائكة محدقة بالخلائق سبع صفوف من كل جانب فلا يقدر أحد
على الذهاب (إِلَّا بِسُلْطانٍ) أي إلا بأمر الله (يَقُولُ الْإِنْسانُ
يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ كَلَّا لا وَزَرَ إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ
الْمُسْتَقَرُّ) [القيامة : ١٠ ـ ١٢].
وقال تعالى : (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ
جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ
عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً
أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) [يونس : ٢٧] ولهذا
قال تعالى : (يُرْسَلُ عَلَيْكُما
شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس الشواظ : هو لهب النار ،
وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس :
__________________
الشواظ الدخان ،
وقال مجاهد : هو اللهب الأخضر المنقطع ، وقال أبو صالح : الشواظ هو اللهيب الذي
فوق النار ودون الدخان. وقال الضحاك (شُواظٌ مِنْ نارٍ) سيل من نار. وقوله تعالى : (وَنُحاسٌ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (وَنُحاسٌ) دخان النار ، وروي مثله عن أبي صالح وسعيد بن جبير وأبي
سنان.
وقال ابن جرير : والعرب تسمي الدخان نحاسا ، بضم النون وكسرها ، والقراء
مجمعة على الضم ، ومن النحاس بمعنى الدخان قول نابغة جعدة : [المتقارب]
يضيء كضوء سراج
السّليط
|
|
لم يجعل الله
فيه نحاسا
|
يعني دخانا هكذا
قال ، وقد روى الطبراني من طريق جويبر عن الضحاك أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس
عن الشواظ فقال : هو اللهب الذي لا دخان معه ، فسأله شاهدا على ذلك من اللغة ،
فأنشده قول أمية بن أبي الصلت في حسان : [الوافر]
ألا من مبلغ
حسّان عني
|
|
مغلغلة تدب إلى
عكاظ
|
أليس أبوك فينا
كان قينا
|
|
لدى القينات فسلا
في الحفاظ
|
يمانيّا يظل
يشدّ كيرا
|
|
وينفخ دائبا لهب
الشّواظ
|
قال : صدقت فما
النحاس؟ قال : هو الدخان الذي لا لهب له ، قال : فهل تعرفه العرب؟ قال : نعم ، أما
سمعت نابغة بني ذبيان يقول : [المتقارب]
يضيء كضوء سراج
السليط
|
|
لم يجعل الله
فيه نحاسا
|
وقال مجاهد :
النحاس الصفر يذاب فيصب على رؤوسهم ، وكذا قال قتادة ، وقال الضحاك : ونحاس سيل من
نحاس ، والمعنى على كل قول لو ذهبتم هاربين يوم القيامة لردتكم الملائكة والزبانية
بإرسال اللهب من النار ، والنحاس المذاب عليكم لترجعوا ، ولهذا قال : (فَلا تَنْتَصِرانِ فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).
(فَإِذَا انْشَقَّتِ
السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (٣٧) فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٨) فَيَوْمَئِذٍ لا
يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (٣٩) فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٠) يُعْرَفُ
الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي
__________________
وَالْأَقْدامِ
(٤١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ
(٤٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ
بِهَا الْمُجْرِمُونَ (٤٣) يَطُوفُونَ بَيْنَها
وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (٤٤) فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)
(٤٥)
يقول تعالى : (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ) يوم القيامة كما دلت عليه هذه الآيات مع ما شاكلها من
الآيات الواردة في معناها كقوله تعالى : (وَانْشَقَّتِ
السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ) وقوله : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ
السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً) [الفرقان : ٢٥]
وقوله : (إِذَا السَّماءُ
انْشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ) [الانشقاق : ١ ـ ٢]
وقوله تعالى : (فَكانَتْ وَرْدَةً
كَالدِّهانِ) أي تذوب كما يذوب الدردي والفضة في السبك ، وتتلون كما
تتلون الأصباغ التي يدهن بها ، فتارة حمراء وصفراء وزرقاء وخضراء ، وذلك من شدة
الأمر وهول يوم القيامة العظيم.
وقد قال الإمام
أحمد : حدثنا أحمد بن عبد الملك ، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الصهباء ، حدثنا نافع
أبو غالب الباهلي ، حدثنا أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «يبعث الناس يوم القيامة والسماء تطش عليهم» قال الجوهري
: الطش المطر الضعيف ، وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى : (وَرْدَةً كَالدِّهانِ) قال : هو الأديم الأحمر ، وقال أبو كدينة عن قابوس عن أبيه
عن ابن عباس (فَكانَتْ وَرْدَةً
كَالدِّهانِ) كالفرس الورد ، وقال العوفي عن ابن عباس : تغير لونها ،
وقال أبو صالح : كالبرذون الورد ، ثم كانت بعد كالدهان.
وحكى البغوي وغيره
أن الفرس الورد تكون في الربيع صفراء ، وفي الشتاء حمراء ، فإذا اشتد البرد تغير
لونها ، وقال الحسن البصري : تكون ألوانا. وقال السدي : تكون كلون البغلة الوردة ،
وتكون كالمهل كدردي الزيت ، وقال مجاهد (كَالدِّهانِ) كألوان الدهان ، وقال عطاء الخراساني : كلون دهن الورد في
الصفرة ، وقال قتادة : هي اليوم خضراء ويومئذ لونها إلى الحمرة يوم ذي ألوان. وقال
أبو الجوزاء : في صفاء الدهن. وقال ابن جريج : تصير السماء كالدهن الذائب وذلك حين
يصيبها حر جهنم.
وقوله تعالى : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ
إِنْسٌ وَلا جَانٌ) وهذه كقوله تعالى : (هذا يَوْمُ لا
يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) [الرسلات : ٣٥ ـ ٣٦]
فهذا في حال وثم حال يسأل الخلائق عن جميع أعمالهم ، وقال الله تعالى : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ
أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) [الحجر : ٩٢ ـ ٩٣]
ولهذا قال قتادة : (فَيَوْمَئِذٍ لا
يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) قال : قد كانت مسألة ثم ختم على أفواه القوم وتكلمت أيديهم
وأرجلهم بما كانوا يعملون ، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : لا يسألهم هل عملتم
كذا وكذا ، لأنه أعلم بذلك منهم ، ولكن يقول : لم عملتم كذا وكذا؟ فهذا قول ثان.
وقال مجاهد في هذه الآية : لا تسأل الملائكة عن المجرمين بل يعرفون بسيماهم ، وهذا
قول ثالث ، وكأن هذا بعد ما يؤمر بهم إلى النار فذلك الوقت لا يسألون عن
__________________
ذنوبهم بل يقادون
إليها ويلقون فيها كما قال تعالى : (يُعْرَفُ
الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ) أي بعلامات تظهر عليهم. وقال الحسن وقتادة : يعرفونهم
باسوداد الوجوه وزرقة العيون. قلت : وهذا كما يعرف المؤمنون بالغرة والتحجيل من
آثار الوضوء.
وقوله تعالى : (فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) أي يجمع الزبانية ناصيته مع قدميه ويلقونه في النار كذلك ،
وقال الأعمش عن ابن عباس : يؤخذ بناصيته وقدميه فيكسر كما يكسر الحطب في التنور ،
وقال الضحاك : يجمع بين ناصيته وقدميه في سلسلة من وراء ظهره ، وقال السدي : يجمع
بين ناصية الكافر وقدميه فتربط ناصيته بقدمه ويفتل ظهره.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبي حدثنا أبو توبة الربيع بن نافع ، حدثنا معاوية بن سلام عن أخيه زيد بن
سلام أنه سمع أبا سلام يعني جده ، أخبرني عبد الرحمن ، حدثني رجل من كندة قال :
أتيت عائشة فدخلت عليها وبيني وبينها حجاب فقلت : حدثك رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه يأتي عليه ساعة لا يملك فيها لأحد شفاعة؟ قالت : نعم لقد
سألته عن هذا وأنا وهو في شعار واحد قال : «نعم حين يوضع الصراط لا أملك لأحد فيها
شفاعة حتى أعلم أين يسلك بي ، ويوم تبيض وجوه وتسود وجوه حتى أنظر ماذا يفعل بي ـ أو
قال يوحى ـ وعند الجسر حين يستحد ويستحر» فقالت : وما يستحد وما يستحر؟ قال يستحد
حتى يكون مثل شفرة السيف ، ويستحر حتى يكون مثل الجمرة ، فأما المؤمن فيجيزه لا
يضره ، وأما المنافق فيتعلق حتى إذا بلغ أوسطه خر من قدميه فيهوي بيديه إلى قدميه
ـ قالت : فهل رأيت من يسعى حافيا فتأخذه شوكة حتى تكاد تنفذ قدميه ، فإنه كذلك
يهوي بيده ورأسه إلى قدميه فتضربه الزبانية بخطاف في ناصيته وقدمه ، فتقذفه في
جهنم فيهوي فيها مقدار خمسين عاما ـ قلت : ما ثقل الرجل؟ قالت : ثقل عشر خلفات
سمان فيومئذ يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام». هذا حديث غريب جدا ،
وفيه ألفاظ منكر رفعها ، وفي الإسناد من لم يسم ومثله لا يحتج به ، والله أعلم.
وقوله تعالى : (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ
بِهَا الْمُجْرِمُونَ) أي هذه النار التي كنتم تكذبون بوجودها ، ها هي حاضرة
تشاهدونها عيانا ، يقال لهم ذلك تقريعا وتوبيخا وتصغيرا وتحقيرا. وقوله تعالى : (يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) أي تارة يعذبون في الجحيم وتارة يسقون من الحميم ، وهو
الشراب الذي هو كالنحاس المذاب يقطع الأمعاء والأحشاء ، وهذه كقوله تعالى: (إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ
وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) [غافر : ٧١ ـ ٧٢].
وقوله تعالى : (آنٍ) أي حار قد بلغ الغاية في الحرارة لا يستطاع من شدة ذلك ،
قال ابن عباس في قوله : (يَطُوفُونَ بَيْنَها
وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) أي قد انتهى غليه واشتد حره ، وكذا قال مجاهد وسعيد بن
جبير والضحاك والحسن والثوري والسدي وقال قتادة : قد آن طبخه منذ خلق الله السموات
والأرض ، وقال محمد بن كعب القرظي : يؤخذ العبد فيحرك بناصيته في
ذلك الحميم حتى
يذوب اللحم ويبقى العظم والعينان في الرأس وهي كالتي يقول الله تعالى : (فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ
يُسْجَرُونَ) [غافر : ٧١ ـ ٧٢]
والحميم الآن يعني الحار ، وعن القرظي رواية أخرى (حَمِيمٍ آنٍ) أي حاضر وهو قول ابن زيد أيضا ، والحاضر لا ينافي ما روي
عن القرظي أولا أنه الحار كقوله تعالى : (تُسْقى مِنْ عَيْنٍ
آنِيَةٍ) [الغاشية : ٥] أي
حارة شديدة الحر لا تستطاع ، وكقوله : (غَيْرَ ناظِرِينَ
إِناهُ) [الأحزاب : ٥٣] يعني
استواءه ونضجه فقوله : (حَمِيمٍ آنٍ) أي حميم حار جدا. ولما كان معاقبة العصاة المجرمين وتنعيم
المتقين من فضله ورحمته وعدله ولطفه بخلقه ، وكان إنذاره لهم عن عذابه وبأسه مما
يزجرهم عما هم فيه من الشرك والمعاصي وغير ذلك قال ممتنا بذلك على بريته (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).
(وَلِمَنْ خافَ مَقامَ
رَبِّهِ جَنَّتانِ (٤٦) فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٧) ذَواتا أَفْنانٍ(٤٨)
فَبِأَيِّ
آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٩) فِيهِما عَيْنانِ
تَجْرِيانِ (٥٠) فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥١) فِيهِما مِنْ كُلِّ
فاكِهَةٍ زَوْجانِ (٥٢) فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)
(٥٣)
قال ابن شوذب
وعطاء الخراساني : نزلت هذه الآية (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ
رَبِّهِ جَنَّتانِ) في أبي بكر الصديق ، وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا
محمد بن مصفى ، حدثنا بقية عن أبي بكر بن أبي مريم عن عطية بن قيس في قوله تعالى :
(وَلِمَنْ خافَ مَقامَ
رَبِّهِ جَنَّتانِ) نزلت في الذي قال : أحرقوني بالنار لعلّي أضل الله قال تاب
يوما وليلة ، بعد أن تكلم بهذا فقبل الله منه وأدخله الجنة .
والصحيح أن هذه
الآية عامة كما قاله ابن عباس وغيره يقول الله تعالى : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) بين يدي الله عزوجل يوم القيامة (وَنَهَى النَّفْسَ
عَنِ الْهَوى) [النازعات : ٤٠]
ولم يطغ ولا آثر الحياة الدنيا ، وعلم أن الآخرة خير وأبقى فأدى فرائض الله واجتنب
محارمه ، فله يوم القيامة عند ربه جنتان ، كما قال البخاري رحمهالله : حدثنا عبد الله بن أبي الأسود ، حدثنا عبد العزيز بن عبد
الصمد العمي ، حدثنا أبو عمران الجوني عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس ، عن أبيه أن
رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما ، وجنتان من ذهب
آنيتهما وما فيهما ، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم عزوجل إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن» وأخرجه بقية الجماعة إلا أبا داود من حديث عبد العزيز به ،
وقال حماد بن سلمة عن ثابت عن أبي بكر بن أبي موسى عن أبيه قال حماد : لا أعلمه
إلا قد رفعه في قوله تعالى : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ
رَبِّهِ جَنَّتانِ) وفي قوله : (وَمِنْ دُونِهِما
جَنَّتانِ) جنتان من ذهب للمقربين
__________________
وجنتان من ورق
لأصحاب اليمين.
وقال ابن جرير : حدثنا زكريا بن يحيى بن أبان المصري ، حدثنا ابن أبي
مريم ، أخبرنا محمد بن جعفر عن محمد بن أبي حرملة عن عطاء بن يسار أخبرني أبو
الدرداء أن رسول اللهصلىاللهعليهوسلم قرأ يوما هذه الآية (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ
رَبِّهِ جَنَّتانِ) فقلت : وإن زنى وإن سرق؟ فقال : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) فقلت : وإن زنى وإن سرق فقال : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) فقلت : وإن زنى وإن سرق يا رسول الله؟ فقال : «وإن رغم أنف
أبي الدرداء» ورواه النسائي من حديث محمد بن أبي حرملة به ، ورواه النسائي أيضا عن
مؤمل بن هشام عن إسماعيل عن الجريري ، عن موسى عن محمد بن سعد بن أبي وقاص عن أبي
الدرداء به ، وقد روي موقوفا على أبي الدرداء ، وروي عنه أنه قال : إن من خاف مقام
ربه لم يزن ولم يسرق.
وهذه الآية عامة
في الإنس والجن ، فهي من أدل دليل على أن الجن يدخلون الجنة إذا آمنوا واتقوا ،
ولهذا امتن الله تعالى على الثقلين بهذا الجزاء فقال : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) ثم نعت هاتين الجنتين فقال : (ذَواتا أَفْنانٍ) أي أغصان نضرة حسنة تحمل من كل ثمرة نضيجة فائقة (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) هكذا قال عطاء الخراساني وجماعة أن الأفنان أغصان الشجر
يمس بعضها بعضا ، وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا مسلم
بن قتيبة ، حدثنا عبد الله بن النعمان ، سمعت عكرمة يقول : (ذَواتا أَفْنانٍ) يقول : ظل الأغصان على الحيطان ، ألم تسمع قول الشاعر : [الوافر]
ما هاج شوقك من
هديل حمامة
|
|
تدعو على فنن
الغصون حماما
|
تدعو أبا فرخين
صادف طاويا
|
|
ذا مخلبين من
الصقور قطاما
|
وحكى البغوي عن
مجاهد وعكرمة والضحاك والكلبي ، أنه الغصن المستقيم ، قال : وحدثنا أبو سعيد الأشج
، حدثنا عبد السلام بن حرب ، حدثنا عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس
: (ذَواتا أَفْنانٍ) ذواتا ألوان ، قال : وروي عن سعيد بن جبير والحسن والسدي
وخصيف والنضر بن عربي وأبي سنان مثل ذلك ، ومعنى هذا القول أن فيهما فنونا من
الملاذ ، واختاره ابن جرير ، وقال عطاء : كل غصن يجمع فنونا من الفاكهة ، وقال
الربيع بن أنس (ذَواتا أَفْنانٍ) واسعتا الفناء وكل هذه الأقوال صحيحة ولا منافاة بينها ،
والله أعلم ، وقال قتادة : ذواتا أفنان يعني بسعتها وفضلها ومزيتها على ما سواها.
وقال محمد بن
إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن أسماء بنت أبي بكر قالت :
سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم وذكر سدرة المنتهى ، فقال : «يسير في ظل الفنن منها الراكب
__________________
مائة سنة ـ أو قال
يستظل في ظل الفنن منها مائة راكب ـ فيها فراش الذهب كأن ثمرها القلال» . ورواه الترمذي من حديث يونس بن بكير به.
وقال حماد بن سلمة
عن ثابت عن أبي بكر بن أبي موسى عن أبيه ، قال حماد : ولا أعلمه إلا قد رفعه في
قوله : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ
رَبِّهِ جَنَّتانِ) وفي قوله : (وَمِنْ دُونِهِما
جَنَّتانِ) قال : جنتان من ذهب للمقربين ، وجنتان من ورق لأصحاب
اليمين.
(فِيهِما عَيْنانِ
تَجْرِيانِ) أي تسرحان لسقي تلك الأشجار والأغصان فتثمر من جميع
الألوان (فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) قال الحسن البصري : إحداهما يقال لها تسنيم ، والأخرى
السلسبيل. وقال عطية : إحداهما من ماء غير آسن ، والأخرى من خمر لذة للشاربين ، ولهذا
قال بعد هذا : (فِيهِما مِنْ كُلِّ
فاكِهَةٍ زَوْجانِ) أي من جميع أنواع الثمار مما يعلمون وخير مما يعلمون ،
ومما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر (فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).
قال إبراهيم بن
الحكم بن أبان عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس ، ما في الدنيا ثمرة حلوة ولا مرة إلا
وهي في الجنة حتى الحنظل ، وقال ابن عباس : ليس في الدنيا مما في الآخرة إلا
الأسماء يعني أن بين ذلك بونا عظيما وفرقا بينا في التفاضل.
(مُتَّكِئِينَ عَلى
فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٥) فِيهِنَّ قاصِراتُ
الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٥٦) فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٧) كَأَنَّهُنَّ
الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (٥٨) فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٩) هَلْ جَزاءُ
الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (٦٠)
فَبِأَيِّ
آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)
(٦١)
يقول تعالى : (مُتَّكِئِينَ) يعني أهل الجنة ، والمراد بالاتكاء هاهنا الاضطجاع ويقال :
الجلوس على صفة التربيع (عَلى فُرُشٍ
بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) وهو ما غلظ من الديباج ، قاله عكرمة والضحاك وقتادة وقال
أبو عمران الجوني ، هو الديباج المزين بالذهب ، فنبه على شرف الظهارة بشرف البطانة
، فهذا من التنبيه بالأدنى على الأعلى. قال أبو إسحاق عن هبيرة بن يريم عن عبد
الله بن مسعود قال : هذه البطائن ، فكيف لو رأيتم الظواهر . وقال مالك بن دينار : بطائنها من إستبرق وظواهرها من نور
، وقال سفيان الثوري أو شريك : بطائنها من إستبرق وظواهرها من نور جامد ، وقال
القاسم بن محمد : بطائنها من إستبرق وظواهرها من الرحمة ، وقال ابن شوذب عن أبي
عبد الله الشامي : ذكر الله البطائن ولم يذكر الظواهر ، وعلى الظواهر المحابس ولا
يعلم ما تحت المحابس إلا الله تعالى ، ذكر ذلك كله الإمام ابن أبي حاتم
__________________
رحمهالله.
(وَجَنَى
الْجَنَّتَيْنِ دانٍ) أي ثمرهما قريب إليهم متى شاؤوا تناولوه على أي صفة كانوا
، كما قال تعالى : (قُطُوفُها دانِيَةٌ) [الحاقة : ٢٣]
وقال (وَدانِيَةً
عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً) [الإنسان : ١٤] أي
لا تمتنع ممن تناولها بل تنحط إليه من أغصانها (فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ؟) ولما ذكر الفرش وعظمتها قال بعد ذلك (فِيهِنَ) أي في الفرش (قاصِراتُ الطَّرْفِ) أي غضيضات عن غير أزواجهن فلا يرين شيئا في الجنة أحسن من
أزواجهن ، قاله ابن عباس وقتادة وعطاء الخراساني وابن زيد ، وقد ورد أن الواحدة
منهن تقول لبعلها : والله ما أرى في الجنة شيئا أحسن منك. ولا في الجنة شيئا أحب
إلي منك فالحمد لله الذي جعلك لي وجعلني لك.
(لَمْ يَطْمِثْهُنَّ
إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ) أي بل هن أبكار عرب أتراب لم يطأهن أحد قبل أزواجهن من
الإنس والجن ، وهذه أيضا من الأدلة على دخول مؤمني الجن الجنة ، وقال أرطاة بن
المنذر : سئل ضمرة بن حبيب هل يدخل الجن الجنة؟ قال : نعم وينكحون ، للجن جنيات
وللإنس إنسيات ، وذلك قوله : (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ
إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).
ثم قال ينعتهن
للخطاب (كَأَنَّهُنَّ
الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ) قال مجاهد والحسن وابن زيد وغيرهم : في صفاء الياقوت وبياض
المرجان ، فجعلوا المرجان هاهنا اللؤلؤ. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا محمد
بن حاتم ، حدثنا عبيدة بن حميد عن عطاء بن السائب عن عمرو بن ميمون الأودي ، عن
عبد الله بن مسعود عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «إن المرأة من نساء أهل الجنة ليرى بياض ساقيها من
وراء سبعين حلة من الحرير حتى يرى مخها» وذلك قول الله تعالى : (كَأَنَّهُنَّ
الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ) فأما الياقوت فإنه حجر لو أدخلت فيه سلكا ثم استصفيته
لرأيته من ورائه ، وهكذا رواه الترمذي من حديث عبيدة بن حميد وأبي الأحوص عن عطاء
بن السائب به ، ورواه موقوفا ثم قال : وهو أصح.
وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا حماد بن سلمة ، أخبرنا يونس عن محمد
بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «للرجل من أهل الجنة زوجتان من الحور العين على كل
واحدة سبعون حلة ، يرى مخ ساقها من وراء الثياب» تفرد به الإمام أحمد من هذا
الوجه.
وقد روى مسلم حديث
إسماعيل بن علية عن أيوب عن محمد بن سيرين قال : إما تفاخروا
__________________
وإما تذاكروا ،
الرجال أكثر في الجنة أم النساء؟ فقال أبو هريرة : أو لم يقل أبو القاسمصلىاللهعليهوسلم : «إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر
والتي تليها على ضوء كوكب دري في السماء ، لكل امرئ منهم زوجتان اثنتان يرى مخ
سوقهما من وراء اللحم وما في الجنة أعزب» وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من حديث همام بن منبه وأبي
زرعة عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو النضر ، حدثنا محمد بن طلحة عن حميد عن أنس ،
أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها
، ولقاب قوس أحدكم أو موضع قيده ـ يعني سوطه ـ من الجنة خير من الدنيا وما فيها ،
ولو اطلعت امرأة من نساء أهل الجنة إلى الأرض لملأت ما بينهما ريحا ولطاب ما
بينهما ، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها» ورواه البخاري من حديث أبي إسحاق عن حميد عن أنس بنحوه.
وقوله تعالى : (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا
الْإِحْسانُ) أي ما لمن أحسن العمل في الدنيا إلا الإحسان إليه في
الآخرة ، كما قال تعالى : (لِلَّذِينَ
أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس : ٢٦] وقال
البغوي ، حدثنا أبو سعيد الشريحي ، حدثنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرني ابن فنجويه ،
حدثنا ابن شيبة ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن بهرام ، حدثنا الحجاج بن يوسف المكتب
، حدثنا بشر بن الحسين عن الزبير بن عدي عن أنس بن مالك قال : قرأ رسول الله صلىاللهعليهوسلم (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ
إِلَّا الْإِحْسانُ) وقال «هل تدرون ما قال ربكم؟» قالوا : الله ورسوله أعلم.
قال «يقول هل جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة» ولما كان في الذي ذكر نعم
عظيمة لا يقاومها عمل بل مجرد تفضل وامتنان قال بعد ذلك كله (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).
ومما يتعلق بقوله
تعالى : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ
رَبِّهِ جَنَّتانِ) ما رواه الترمذي والبغوي من حديث أبي النضر هاشم بن القاسم
عن أبي عقيل الثقفي ، عن أبي فروة يزيد بن سنان الرهاوي عن بكير بن فيروز عن أبي
هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من خاف أدلج ، ومن أدلج بلغ المنزل ألا إن سلعة الله
غالية ، ألا إن سلعة الله الجنة» ثم قال الترمذي : غريب لا نعرفه إلا من حديث أبي النضر
وروى البغوي من حديث علي بن حجر عن إسماعيل بن جعفر عن محمد بن أبي حرملة مولى
حويطب بن عبد العزى ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي الدرداء أنه سمع رسول اللهصلىاللهعليهوسلم يقص على المنبر وهو يقول : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ
رَبِّهِ جَنَّتانِ) فقلت : وإن زنى وإن سرق يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ
رَبِّهِ جَنَّتانِ) فقلت الثانية :
__________________
وإن زنى وإن سرق
يا رسول الله فقال (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ
رَبِّهِ جَنَّتانِ) فقلت الثالثة : وإن زنى وإن سرق يا رسول الله؟ فقال «وإن
رغم أنف أبي الدرداء».
(وَمِنْ دُونِهِما
جَنَّتانِ (٦٢) فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٣) مُدْهامَّتانِ (٦٤)
فَبِأَيِّ
آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٥)
فِيهِما
عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (٦٦) فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٧) فِيهِما فاكِهَةٌ
وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (٦٨) فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٩) فِيهِنَّ خَيْراتٌ
حِسانٌ (٧٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧١) حُورٌ مَقْصُوراتٌ
فِي الْخِيامِ (٧٢) فَبِأَيِّ آلاءِ
رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٣) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ
إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٧٤)
فَبِأَيِّ
آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٥)
مُتَّكِئِينَ
عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (٧٦)
فَبِأَيِّ
آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٧) تَبارَكَ اسْمُ
رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ)
(٧٨)
هاتان الجنتان دون
اللتين قبلهما في المرتبة والفضيلة والمنزلة بنص القرآن ، قال الله تعالى : (وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ) وقد تقدم في الحديث : جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما
وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما ، فالأوليان للمقربين والأخريان لأصحاب اليمين
وقال أبو موسى : جنتان من ذهب للمقربين وجنتان من فضة لأصحاب اليمين وقال ابن عباس
(وَمِنْ دُونِهِما
جَنَّتانِ) من دونهما في الدرج ، وقال ابن زيد : من دونهما في الفضل.
والدليل على شرف
الأوليين على الأخريين وجوه : [أحدها] أنه نعت الأوليين قبل هاتين والتقديم يدل
على الاعتناء ثم قال : (وَمِنْ دُونِهِما
جَنَّتانِ) وهذا ظاهر في شرف التقدم وعلوه على الثاني وقال هناك (ذَواتا أَفْنانٍ) وهي الأغصان أو الفنون في الملاذ ، وقال هاهنا (مُدْهامَّتانِ) أي سوداوان من شدة الري من الماء قال ابن عباس في قوله (مُدْهامَّتانِ) قد اسودتا من الخضرة من شدة الري من الماء.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا ابن فضيل ، حدثنا عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير
عن ابن عباس (مُدْهامَّتانِ) قال : خضراوان. وروي عن أبي أيوب الأنصاري وعبد الله بن
الزبير وعبد الله بن أبي أوفى وعكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد في إحدى الروايات وعطاء
وعطية العوفي والحسن البصري ، ويحيى بن رافع وسفيان الثوري نحو ذلك ، وقال محمد بن
كعب (مُدْهامَّتانِ) ممتلئتان من الخضرة ، وقال قتادة : خضراوان من الري
ناعمتان ولا شك في نضارة الأغصان على الأشجار المشتبكة بعضها في بعض.
وقال هناك (فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ) وقال هاهنا (نَضَّاخَتانِ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، أي فياضتان والجري أقوى
من النضخ ، وقال الضحاك (نَضَّاخَتانِ) أي ممتلئتان ولا تنقطعان وقال هناك (فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ) وقال هاهنا (فِيهِما فاكِهَةٌ
وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) ولا شك أن الأولى أعم وأكثر في الأفراد والتنويع على فاكهة
، وهي نكرة في سياق الإثبات لا تعم ، ولهذا فسر قوله : (وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) من باب عطف الخاص على العام كما قرره البخاري وغيره ،
وإنما أفرد النخل والرمان بالذكر لشرفهما على غيرهما ، قال عبد بن حميد :
حدثنا يحيى بن عبد
الحميد ، حدثنا حصين بن عمر ، حدثنا مخارق عن طارق بن شهاب عن عمر بن الخطاب قال :
جاء أناس من اليهود إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقالوا : يا محمد أفي الجنة فاكهة؟ قال : «نعم فيها فاكهة
ونخل ورمان» قالوا : أفيأكلون كما يأكلون في الدنيا؟ قال «نعم وأضعاف» قالوا :
فيقضون الحوائج؟ قال «لا ولكنهم يعرقون ويرشحون فيذهب الله ما في بطونهم من أذى».
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبي ، حدثنا الفضل بن دكين ، حدثنا سفيان عن حماد عن سعيد بن جبير عن ابن
عباس قال : نخل الجنة سعفها كسوة لأهل الجنة ، منها مقطعاتهم ومنها حللهم وكربها
ذهب أحمر وجذوعها زمرد أخضر ، وثمرها أحلى من العسل وألين من الزبد وليس له عجم ،
وحدثنا أبي ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد هو ابن سلمة عن أبي هارون عن أبي
سعيد الخدري أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «نظرت إلى الجنة فإذا الرمانة من رمانها كالبعير
المقتب».
ثم قال : (فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ) قيل : المراد خيرات كثيرة حسنة في الجنة قاله قتادة ، وقيل
: خيرات جمع خيرة وهي المرأة الصالحة الحسنة الخلق الحسنة الوجه ، قاله الجمهور ،
وروي مرفوعا عن أم سلمة ، وفي الحديث الآخر الذي سنورده في سورة الواقعة إن شاء
الله تعالى أن الحور العين يغنين : نحن الخيرات الحسان خلقنا لأزواج كرام ، ولهذا
قرأ بعضهم (فِيهِنَّ خَيْراتٌ) بالتشديد (حِسانٌ فَبِأَيِّ
آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).
ثم قال : (حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ) وهناك قال : (فِيهِنَّ قاصِراتُ
الطَّرْفِ) ولا شك أن التي قد قصرت طرفها بنفسها أفضل ممن قصرت وإن
كان الجميع مخدرات ، قال ابن أبي حاتم : حدثنا عمرو بن عبد الله الأودي ، حدثنا
وكيع بن سفيان عن جابر عن القاسم بن أبي بزة عن أبي عبيدة عن مسروق عن عبد الله بن
مسعود قال : إن لكل مسلم خيرة ولكل خيرة خيمة ، ولكل خيمة أربعة أبواب يدخل عليه
كل يوم تحفة وكرامة وهدية ، لم تكن قبل ذلك لا مرحات ولا طمحات ولا بخرات ولا
ذفرات ، حور عين كأنهن بيض مكنون.
وقوله تعالى : (فِي الْخِيامِ) قال البخاري : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا عبد العزيز بن
عبد الصمد ، حدثنا أبو عمران الجوني عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس عن أبيه أن
رسول اللهصلىاللهعليهوسلم قال : «إن في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة عرضها ستون ميلا
في كل زاوية منها أهل ما يرون الآخرين يطوف عليهم المؤمنون» ورواه أيضا من حديث أبي عمران به وقال ثلاثون ميلا ،
وأخرجه مسلم من حديث أبي عمران به ولفظه «إن للمؤمنين في الجنة لخيمة من
__________________
لؤلؤة واحدة مجوفة
، طولها ستون ميلا ، للمؤمن فيها أهل يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضا».
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا الحسن بن أبي الربيع ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر عن قتادة ، أخبرني
خليد العصري عن أبي الدرداء قال : الخيمة لؤلؤة واحدة فيها سبعون بابا من در ،
وحدثنا أبي ، حدثنا عيسى بن أبي فاطمة ، حدثنا جرير عن هشام عن محمد بن المثنى عن
ابن عباس في قوله تعالى ، (حُورٌ مَقْصُوراتٌ
فِي الْخِيامِ) قال : خيام اللؤلؤ ، وفي الجنة خيمة واحدة من لؤلؤة واحدة
أربعة فراسخ في أربعة فراسخ عليها أربعة آلاف مصراع من ذهب ، وقال عبد الله بن وهب
: أخبرنا عمرو أن دراجا أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم عن أبي سعيد عن النبيصلىاللهعليهوسلم قال : «أدنى أهل الجنة منزلة الذي له ثمانون ألف خادم ،
واثنتان وسبعون زوجة ، وتنصب له قبة من لؤلؤ وزبرجد وياقوت كما بين الجابية وصنعاء»
ورواه الترمذي من حديث عمرو بن الحارث به. وقوله تعالى : (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ
وَلا جَانٌ) قد تقدم مثله سواء إلا أنه زاد في وصف الأوائل بقوله : (كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).
وقوله تعالى : (مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ
وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : الرفرف المحابس ، وكذا
قال مجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والضحاك وغيرهما : هي المحابس ، وقال العلاء بن
بدر : الرفرف على السرير كهيئة المحابس المتدلي. وقال عاصم الجحدري (مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ) يعني الوسائد وهو قول الحسن البصري في رواية عنه ، وقال
أبو داود الطيالسي عن شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير في قوله تعالى : (مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ) قال : الرفرف رياض الجنة.
وقوله تعالى : (وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ) قال ابن عباس وقتادة والضحاك والسدي : العبقري الزرابي ،
وقال سعيد بن جبير هي عتاق الزرابي يعني جيادها ، وقال مجاهد : العبقري الديباج ،
وسئل الحسن البصري عن قوله تعالى : (وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ) فقال : هي بسط أهل الجنة لا أبا لكم فاطلبوها ، وعن الحسن
رواية أنها المرافق ، وقال زيد بن أسلم : العبقري أحمر وأصفر وأخضر ، وسئل العلاء
بن زيد عن العبقري فقال : البسط أسفل من ذلك. وقال أبو حرزة يعقوب بن مجاهد :
العبقري من ثياب أهل الجنة لا يعرفه أحد ، وقال أبو العالية : العبقري الطنافس
المخملة إلى الرقة ما هي ، وقال القتيبي : كل ثوب موشى عند العرب عبقري ، وقال أبو
عبيدة : هو منسوب إلى أرض يعمل بها الوشي ، وقال الخليل بن أحمد : كل شيء نفيس من
الرجال وغير ذلك يسمى عند العرب عبقريا.
__________________
ومنه قول النبي صلىاللهعليهوسلم في عمر «فلم أر عبقريا يفري فريه» وعلى كل تقدير فصفة مرافق أهل الجنتين الأوليين أرفع وأعلى
من هذه الصفة فإنه قد قال هناك : (مُتَّكِئِينَ عَلى
فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) فنعت بطائن فرشهم وسكت عن ظهائرها اكتفاء بما مدح به
البطائن بطريق الأولى والأحرى وتمام الخاتمة أنه قال بعد الصفات المتقدمة (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا
الْإِحْسانُ؟) فوصف أهلها بالإحسان ، وهو أعلى المراتب والنهايات كما في
حديث جبريل لما سأل عن الإسلام ثم الإيمان ثم الإحسان ، فهذه وجوه عديدة في تفضيل
الجنتين الأوليين على هاتين الأخريين ، ونسأل الله الكريم الوهاب أن يجعلنا من أهل
الأوليين.
ثم قال : (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ
وَالْإِكْرامِ) أي هو أهل أن يجل فلا يعصى ، وأن يكرم فيعبد ، ويشكر فلا
يكفر ، وأن يذكر فلا ينسى ، وقال ابن عباس (ذِي الْجَلالِ
وَالْإِكْرامِ) ذي العظمة والكبرياء.
وقال الإمام أحمد : حدثنا موسى بن داود ، حدثنا عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان
عن عمير بن هانئ عن أبي العذراء عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أجلوا الله يغفر لكم» وفي الحديث الآخر «إن من إجلال
الله إكرام ذي الشيبة المسلم ، وذي السلطان ، وحامل القرآن غير المغالي فيه ولا
الجافي عنه» وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا أبو يوسف الحربي حدثنا مؤمل
بن إسماعيل ، حدثنا حماد ، حدثنا حميد الطويل عن أنس أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام» وكذا رواه الترمذي عن محمود بن غيلان عن مؤمل بن إسماعيل
عن حماد بن سلمة به ، ثم قال غلط المؤمل فيه وهو غريب وليس بمحفوظ ، وإنما يروى
هذا عن حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن عن النبي صلىاللهعليهوسلم.
وقد قال الإمام
أحمد : حدثنا إبراهيم بن إسحاق ، حدثنا عبد الله بن المبارك عن يحيى بن حسان
المقدسي عن ربيعة بن عامر قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «ألظوا بذي الجلال والإكرام» ورواه النسائي من حديث
عبد الله بن المبارك به ، وقال الجوهري ألظ فلان بفلان إذا لزمه ، وقول ابن مسعود
ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام أي الزموا ، يقال : الإلظاظ هو الإلحاح. [قلت]
وكلاهما قريب من الآخر ، والله أعلم ، وهو المداومة واللزوم والإلحاح. وفي صحيح
مسلم والسنن الأربعة من حديث عبد الله بن الحارث عن عائشة قالت : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم إذا سلم لا يقعد يعني بعد الصلاة إلا بقدر ما يقول : «اللهم
أنت السلام ومنك
__________________
السلام تباركت يا
ذا الجلال والإكرام» .
آخر تفسير سورة
الرحمن ولله الحمد والمنة.
__________________
فهرس المحتويات
سورة الصافات
الآيات
: ١ ـ ٥.................................................................. ٣
الآيات : ٦ ـ ١٠................................................................ ٤
الآيات : ١١ ـ ١٩.............................................................. ٥
الآيات : ٢٠ ـ ٢٦.............................................................. ٦
الآيات : ٢٧ ـ ٣٧.............................................................. ٧
الآيات : ٣٨ ـ ٤٩.............................................................. ٩
الآيات : ٥٠ ـ ٦١............................................................. ١٢
الآيات : ٦٢ ـ ٧٠............................................................. ١٦
الآيات : ٧١ ـ ٨٢............................................................. ١٩
الآيات : ٨٣ ـ ٨٧............................................................. ٢٠
الآيات : ٨٨ ـ ٩٨............................................................. ٢١
الآيات : ٩٩ ـ ١١٣........................................................... ٢٣
الآيات : ١١٤ ـ ١٢٢......................................................... ٣١
الآيات : ١٢٣ ـ ١٣٢......................................................... ٣٢
الآيات : ١٣٣ ـ ١٣٨......................................................... ٣٣
الآيات : ١٣٩ ـ ١٤٨......................................................... ٣٤
الآيات : ١٤٩ ـ ١٦٠......................................................... ٣٧
الآيات : ١٦١ ـ ١٧٠......................................................... ٣٨
الآيات : ١٧١ ـ ١٧٩......................................................... ٤٠
الآيات : ١٨٠ ـ ١٨٢......................................................... ٤١
سورة ص
الآيات : ١ ـ ٣................................................................ ٤٣
الآيات : ٤ ـ ١١.............................................................. ٤٥
الآيات : ١٢ ـ ١٦............................................................. ٤٨
الآيات : ١٧ ـ ٢٠............................................................. ٤٩
الآيات : ٢١ ـ ٢٥............................................................. ٥١
الآية : ٢٦.................................................................... ٥٣
الآيات : ٢٧ ـ ٣٣............................................................. ٥٤
الآيات : ٣٤ ـ ٤٠............................................................. ٥٧
الآيات : ٤١ ـ ٤٤............................................................. ٦٥
الآيات : ٤٥ ـ ٥٤............................................................. ٦٧
الآيات : ٥٥ ـ ٦٤............................................................. ٦٨
الآيات : ٦٥ ـ ٧٠............................................................. ٧٠
الآيات : ٧١ ـ ٨٥............................................................. ٧١
الآيات : ٨٦ ـ ٨٨............................................................. ٧٢
سورة الزمر
الآيات : ١ ـ ٤................................................................ ٧٤
الآيتان : ٥ ـ و ٦.............................................................. ٧٦
الآيات : ٧ ـ ٩................................................................ ٧٧
الآيات : ١٠ ـ ١٦............................................................. ٧٩
الآيات : ١٧ ـ ٢٠............................................................. ٨٠
الآيتان : ٢١ ـ و
٢٢........................................................... ٨٢
الآية : ٢٣.................................................................... ٨٣
الآيات : ٢٤ ـ ٢٦............................................................. ٨٤
الآيات : ٢٧ ـ ٣١............................................................. ٨٥
الآيات : ٣٢ ـ ٣٥............................................................. ٨٨
الآيات : ٣٦ ـ ٤٠............................................................. ٨٩
الآيات : ٤١ ـ ٤٢............................................................. ٩٠
الآيات : ٤٣ ـ ٤٥............................................................. ٩١
الآيات : ٤٦ ـ ٤٨............................................................. ٩٢
الآيات : ٤٩ ـ ٥٢............................................................. ٩٤
الآيات : ٥٣ ـ ٥٩............................................................. ٩٥
الآيات : ٦٠ ـ ٦٦........................................................... ١٠٠
الآية : ٦٧.................................................................. ١٠١
الآيات : ٦٨ ـ ٧٠........................................................... ١٠٤
الآيتان : ٧١ ـ و
٧٢......................................................... ١٠٦
الآيتان : ٧٣ و ٧٤.......................................................... ١٠٧
الآية : ٧٥.................................................................. ١١٣
سورة غافر
الآيات : ١ ـ ٣.............................................................. ١١٥
الآيات : ٤ ـ ٦.............................................................. ١١٦
الآيات : ٧ ـ ٩.............................................................. ١١٧
الآيات : ١٠ ـ ١٤........................................................... ١١٩
الآيات : ١٥ ـ ١٧........................................................... ١٢٢
الآيات : ١٨ ـ ٢٠........................................................... ١٢٣
الآيات : ٢١ ـ ٢٧........................................................... ١٢٥
الآيتان : ٢٨ و ٢٩.......................................................... ١٢٦
الآيات : ٣٠ ـ ٣٥........................................................... ١٢٩
الآيتان : ٣٦ و ٣٧.......................................................... ١٣٠
الآيات : ٣٨ ـ ٤٦........................................................... ١٣١
الآيات : ٤٧ ـ ٥٠........................................................... ١٣٥
الآيات : ٥١ ـ ٥٦........................................................... ١٣٦
الآيات : ٥٧ ـ ٥٩........................................................... ١٣٨
الآية : ٦٠.................................................................. ١٣٩
الآيات : ٦١ ـ ٦٥........................................................... ١٤١
الآيات : ٦٦ ـ ٦٨........................................................... ١٤٢
الآيات : ٦٩ ـ ٧٦........................................................... ١٤٣
الآيات : ٧٧ ـ ٨١........................................................... ١٤٤
الآيات : ٨٢ ـ ٨٥........................................................... ١٤٥
سورة فصلت
الآيات : ١ ـ ٥.............................................................. ١٤٧
الآيات : ٦ ـ ٨.............................................................. ١٤٩
الآيات : ٩ ـ ١٢............................................................. ١٥١
الآيات : ١٣ ـ ١٨........................................................... ١٥٤
الآيات : ١٩ ـ ٢٤........................................................... ١٥٥
الآيات : ٢٥ ـ ٢٩........................................................... ١٥٩
الآيات : ٣٠ ـ ٣٢........................................................... ١٦٠
الآيات : ٣٣ ـ ٣٦........................................................... ١٦٤
الآيات : ٣٧ ـ ٣٩........................................................... ١٦٦
الآيات : ٤٠ ـ ٤٣........................................................... ١٦٧
الآيتان : ٤٤ و ٤٥.......................................................... ١٦٨
الآيات : ٤٦ ـ ٤٨........................................................... ١٦٩
الآيات : ٤٩ ـ ٥٤........................................................... ١٧٠
سورة فصلت
الآيات : ١ ـ ٦.............................................................. ١٧٣
الآيتان : ٧ و ٨.............................................................. ١٧٥
الآيات : ٩ ـ ١٢............................................................. ١٧٧
الآيتان : ١٣ و ١٤.......................................................... ١٧٨
الآية : ١٥.................................................................. ١٧٩
الآيات : ١٦ ـ ١٨........................................................... ١٨٠
الآيات : ١٩ ـ ٢٢............................................................. ١٨
الآيتان : ٢٣ و ٢٤.......................................................... ١٨٢
الآيات : ٢٥ ـ ٢٨........................................................... ١٨٧
الآيات : ٢٩ ـ ٣١........................................................... ١٨٩
الآيات : ٣٢ ـ ٣٥........................................................... ١٩١
الآيات : ٣٦ ـ ٣٩........................................................... ١٩٢
الآيات : ٤٠ ـ ٤٣........................................................... ١٩٤
الآيات : ٤٤ ـ ٤٦........................................................... ١٩٦
الآيتان : ٤٧ و ٤٨.......................................................... ١٩٧
الآيتان : ٤٩ و ٥٠.......................................................... ١٩٨
الآيات : ٥١ ـ ٥٣........................................................... ١٩٩
سورة الزخرف
الآيات : ١ ـ ٨.............................................................. ٢٠٠
الآيات : ٩ ـ ١٤............................................................. ٢٠١
الآيات : ١٥ ـ ٢٠........................................................... ٢٠٤
الآيات : ٢١ ـ ٣٥........................................................... ٢٠٦
الآيات : ٣٦ ـ ٤٥........................................................... ٢٠٩
الآيات : ٤٦ ـ ٥٠........................................................... ٢١١
الآيات : ٥١ ـ ٥٦........................................................... ٢١٢
الآيات : ٥٧ ـ ٦٥........................................................... ٢١٤
الآيات : ٦٦ ـ ٧٣........................................................... ٢١٨
الآيات : ٧٤ ـ ٨٠........................................................... ٢٢٠
الآيات : ٨١ ـ ٨٩........................................................... ٢٢٢
سورة الدخان
الآيات : ١ ـ ٨.............................................................. ٢٢٥
الآيات : ٩ ـ ١٦............................................................. ٢٢٦
الآيات : ١٧ ـ ٣٣........................................................... ٢٣١
الآيات : ٣٤ ـ ٣٧........................................................... ٢٣٥
الآيات : ٣٨ ـ ٤٢........................................................... ٢٣٨
الآيات : ٤٣ ـ ٥٠........................................................... ٢٣٩
الآيات : ٥١ ـ ٥٩........................................................... ٢٤٠
سورة الجاثية
الآيات : ١ ـ ١١............................................................. ٢٤٣
الآيات : ١٢ ـ ١٥........................................................... ٢٤٤
الآيات : ١٦ ـ ٢٠........................................................... ٢٤٥
الآيات : ٢١ ـ ٢٣........................................................... ٢٤٦
الآيات : ٢٤ ـ ٢٦........................................................... ٢٤٧
الآيات : ٢٧ ـ ٢٩........................................................... ٢٤٩
الآيات : ٣٠ ـ ٣٧........................................................... ٢٥٠
سورة الأحقاف
الآيات : ١ ـ ٦.............................................................. ٢٥٢
الآيات : ٧ ـ ٩.............................................................. ٢٥٣
الآيات : ١٠ ـ ١٤........................................................... ٢٥٥
الآيتان : ١٥ و ١٦.......................................................... ٢٥٧
الآيات : ١٧ ـ ٢٠........................................................... ٢٦٠
الآيات : ٢١ ـ ٢٥........................................................... ٢٦٢
الآيات : ٢٦ ـ ٢٨........................................................... ٢٦٥
الآيات : ٢٩ ـ ٣٢........................................................... ٢٦٦
الآيات : ٣٣ ـ ٣٥........................................................... ٢٨١
سورة محمد
الآيات : ١ ـ ٩.............................................................. ٢٨٣
الآيات : ١٠ ـ ١٣........................................................... ٢٨٧
الآيتان : ١٤ و ١٥.......................................................... ٢٨٩
الآيات : ١٦ ـ ١٩........................................................... ٢٩١
الآيات : ٢٠ ـ ٢٣........................................................... ٢٩٣
الآيات : ٢٤ ـ ٢٨........................................................... ٢٩٦
الآيات : ٢٩ ـ ٣١........................................................... ٢٩٧
الآيات : ٣٢ ـ ٣٥........................................................... ٢٩٨
الآيات : ٣٦ ـ ٣٨........................................................... ٢٩٩
سورة الفتح
الآيات : ١ ـ ٣.............................................................. ٣٠١
الآيات : ٤ ـ ٧.............................................................. ٣٠٤
الآيات : ٨ ـ ١٠............................................................. ٣٠٥
الآيات : ١١ ـ ١٤........................................................... ٣١٢
الآية : ١٥.................................................................. ٣١٣
الآيتان : ١٦ و ١٧.......................................................... ٣١٤
الآيتان : ١٨ و ١٩.......................................................... ٣١٥
الآيات : ٢٠ ـ ٢٤........................................................... ٣١٦
الآيتان : ٢٥ و ٢٦.......................................................... ٣١٩
الآيتان : ٢٧ و ٢٨.......................................................... ٣٣١
الآية : ٢٩.................................................................. ٣٣٦
سورة الحجرات
الآيات : ١ ـ ٣.............................................................. ٣٤٠
الآيتان : ٤ و ٥.............................................................. ٣٤٤
الآيات : ٦ ـ ٨.............................................................. ٣٤٥
الآيتان : ٩ و ١٠............................................................ ٣٤٩
الآية : ١١.................................................................. ٣٥١
الآية : ١٢.................................................................. ٣٥٢
الآية : ١٣.................................................................. ٣٦٠
الآيات : ١٤ ـ ١٨........................................................... ٣٦٣
سورة ق
الآيات : ١ ـ ٥.............................................................. ٣٦٧
الآيات : ٦ ـ ١١............................................................. ٣٦٩
الآيات : ١٢ ـ ١٥........................................................... ٣٧٠
الآيات : ١٦ ـ ٢٢........................................................... ٣٧١
الآيات : ٢٣ ـ ٢٩........................................................... ٣٧٥
الآيات : ٣٠ ـ ٣٥........................................................... ٣٧٧
الآيات : ٣٦ ـ ٤٠........................................................... ٣٨١
الآيات : ٤١ ـ ٤٥........................................................... ٣٨٤
سورة الذاريات
الآيات : ١ ـ ١٤............................................................. ٣٨٦
الآيات : ١٥ ـ ٢٣........................................................... ٣٨٨
الآيات : ٢٤ ـ ٣٠........................................................... ٣٩٢
الآيات : ٣١ ـ ٣٧........................................................... ٣٩٣
الآيات : ٣٨ ـ ٤٦........................................................... ٣٩٤
الآيات : ٤٧ ـ ٥١........................................................... ٣٩٥
الآيات : ٥٢ ـ ٦٠........................................................... ٣٩٦
سورة الطور
الآيات : ١ ـ ١٦............................................................. ٣٩٨
الآيات : ١٧ ـ ٢٠........................................................... ٤٠١
الآيات : ٢٢ ـ ٢٨........................................................... ٤٠٢
الآيات : ٢٩ ـ ٣٤........................................................... ٤٠٥
الآيات : ٣٥ ـ ٤٣........................................................... ٤٠٦
الآيات : ٤٤ ـ ٤٩........................................................... ٤٠٧
سورة النجم
الآيات : ١ ـ ٤.............................................................. ٤١٠
الآيات : ٥ ـ ١٨............................................................. ٤١٢
الآيات : ١٩ ـ ٢٦........................................................... ٤٢٢
الآيات : ٢٧ ـ ٣٠........................................................... ٤٢٥
الآيتان : ٣١ و ٣٢.......................................................... ٤٢٦
الآيات : ٣٣ ـ ٤١........................................................... ٤٣٠
الآيات : ٤٢ ـ ٥٥........................................................... ٤٣٢
الآيات : ٥٦ ـ ٦٢........................................................... ٤٣٤
سورة القمر
الآيات : ١ ـ ٥.............................................................. ٤٣٥
الآيات : ٦ ـ ١٧............................................................. ٤٤١
الآيات : ١٨ ـ ٣٢........................................................... ٤٤٣
الآيات : ٣٣ ـ ٤٠........................................................... ٤٤٤
الآيات : ٤١ ـ ٤٦........................................................... ٤٤٥
الآيات : ٤٧ ـ ٥٥........................................................... ٤٤٦
سورة الرحمن
الآيات : ١ ـ ١٣............................................................. ٤٥٢
الآيات : ١٤ ـ ٢٥........................................................... ٤٥٤
الآيات : ٢٦ ـ ٣٠........................................................... ٤٥٦
الآيات : ٣١ ـ ٣٦........................................................... ٤٥٨
الآيات : ٣٧ ـ ٤٥........................................................... ٤٦٠
الآيات : ٤٦ ـ ٥٣........................................................... ٢٦٢
الآيات : ٥٤ ـ ٦١........................................................... ٤٦٤
الآيات : ٦٢ ـ ٧٨........................................................... ٤٦٧
|