
تفسير سورة الإسراء
وهي مكية
قال الإمام الحافظ
المتقن أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري : حدثنا آدم بن أبي إياس ، حدثنا
شعبة عن أبي إسحاق قال : سمعت عبد الرحمن بن يزيد ، سمعت ابن مسعود رضي الله عنه
قال في بني إسرائيل والكهف ومريم : انهن من العتاق الأول وهن من تلادي . وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا حماد بن زيد عن مروان عن أبي
لبابة ، سمعت عائشة تقول : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يصوم حتى نقول ما يريد أن يفطر ، ويفطر حتى نقول ما يريد
أن يصوم ، وكان يقرأ كل ليلة بني إسرائيل والزمر.
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سُبْحانَ الَّذِي
أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ
الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ
السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)
(١)
يمجد تعالى نفسه ،
ويعظم شأنه ، لقدرته على ما لا يقدر عليه أحد سواه ، فلا إله غيره ولا رب سواه ، (الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ) يعني محمدا صلىاللهعليهوسلم (لَيْلاً) أي في جنح الليل (مِنَ الْمَسْجِدِ
الْحَرامِ) وهو مسجد مكة (إِلَى الْمَسْجِدِ
الْأَقْصَى) وهو بيت المقدس الذي بإيلياء معدن الأنبياء من لدن إبراهيم الخليل عليهالسلام ، ولهذا جمعوا له هناك كلهم فأمهم في محلتهم ودارهم ، فدل
على أنه هو الإمام الأعظم ، والرئيس المقدم ، صلوات الله وسلامه عليه وعليهم
أجمعين. وقوله تعالى : (الَّذِي بارَكْنا
حَوْلَهُ) أي في الزروع والثمار (لِنُرِيَهُ) أي محمدا (مِنْ آياتِنا) أي العظام. كما قال تعالى : (لَقَدْ رَأى مِنْ
آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) [سورة النجم الآية
١٨] وسنذكر من ذلك ما وردت به السنة من الأحاديث عنه صلىاللهعليهوسلم ، وقوله تعالى : (إِنَّهُ هُوَ
السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) أي
__________________
السميع لأقوال
عباده مؤمنهم وكافرهم ، مصدقهم ومكذبهم ، البصير بهم فيعطي كلا منهم ما يستحقه في
الدنيا والآخرة.
(ذكر الأحاديث الواردة في الإسراء :
رواية أنس بن مالك رضي الله عنه)
قال الإمام أبو
عبد الله البخاري : حدثني عبد العزيز بن عبد الله ، حدثنا سليمان ـ هو ابن بلال ـ عن
شريك بن عبد الله قال : سمعت أنس بن مالك يقول ليلة أسري برسول اللهصلىاللهعليهوسلم من مسجد الكعبة : إنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه وهو
نائم في المسجد الحرام فقال أولهم : أيهم هو؟ فقال أوسطهم : هو خيرهم ، فقال آخرهم
: خذوا خيرهم ، فكانت تلك الليلة فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى فيما يرى قلبه وتنام
عينه ولا ينام قلبه ـ وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم ـ فلم يكلموه
حتى احتملوه فوضعوه عند بئر زمزم ، فتولاه منهم جبريل فشق جبريل ما بين نحره إلى
لبته حتى فرغ من صدره وجوفه ، فغسله من ماء زمزم بيده حتى أنقى جوفه ، ثم أتى بطست
من ذهب فيه تور من ذهب محشو إيمانا وحكمة فحشا به صدره ولغاديده ـ يعني عروق حلقه
ـ ثم أطبقه ثم عرج به إلى السماء الدنيا ، فضرب بابا من أبوابها ، فناداه أهل
السماء : من هذا؟ فقال : جبريل ، قالوا : ومن معك؟ قال : معي محمد ، قالوا : وقد
بعث إليه؟ قال : نعم ، قالوا : فمرحبا به وأهلا ، يستبشر به أهل السماء لا يعلم
أهل السماء بما يريد الله به في الأرض حتى يعلمهم ، فوجد في السماء الدنيا آدم
فقال له جبريل : هذا أبوك آدم فسلم عليه ، فسلم عليه ورد عليه آدم فقال : مرحبا
وأهلا بابني نعم الابن أنت ، فإذا هو في السماء الدنيا بنهرين يطردان فقال : «ما
هذان النهران يا جبريل؟» قال : هذان النيل والفرات عنصرهما.
ثم مضى به في
السماء فإذا هو بنهر آخر عليه قصر من لؤلؤ وزبرجد ، فضرب بيده فإذا هو مسك أذفر
فقال : ما هذا يا جبريل؟ قال : هذا الكوثر الذي خبأه لك ربك.
ثم عرج به إلى
السماء الثانية فقالت الملائكة له مثل ما قالت له الملائكة الأولى : من هذا؟ قال :
جبريل. قالوا : ومن معك؟ قال : محمد صلىاللهعليهوسلم. قالوا : وقد بعث إليه؟ قال : نعم. قالوا : مرحبا به وأهلا
، ثم عرج به إلى السماء الثالثة فقالوا له مثل ما قالت الأولى والثانية ، ثم عرج
به إلى السماء الرابعة فقالوا له مثل ذلك ، ثم عرج به إلى السماء الخامسة فقالوا
له مثل ذلك ، ثم عرج به إلى السماء السادسة فقالوا له مثل ذلك ، ثم عرج به إلى
السماء السابعة فقالوا له مثل ذلك ، كل سماء فيها أنبياء قد سماهم فوعيت منهم
إدريس في الثانية وهارون في الرابعة وآخر في الخامسة لم أحفظ اسمه ، وإبراهيم في
السادسة وموسى في السابعة بتفضيل كلام الله
__________________
تعالى ، فقال موسى
: رب لم أظن أن يرفع علي أحد ، ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله عزوجل حتى جاء سدرة المنتهى ، ودنا الجبار رب العزة فتدلى ، حتى
كان منه قاب قوسين أو أدنى ، فأوحى الله إليه فيما يوحي خمسين صلاة على أمتك كل
يوم وليلة.
ثم هبط به حتى بلغ
موسى فاحتبسه موسى فقال : يا محمد ماذا عهد إليك ربك؟ قال : «عهد إلي خمسين صلاة
كل يوم وليلة» قال : إن أمتك لا تستطيع ذلك فارجع فليخفف عنك ربك وعنهم. فالتفت
النبي صلىاللهعليهوسلم إلى جبريل كأنه يستشيره في ذلك فأشار جبريل أن نعم إن شئت
، فعلا به إلى الجبار تعالى وتقدس فقال وهو في مكانه : «يا رب خفف عنا فإن أمتي لا
تستطيع هذا» فوضع عنه عشر صلوات ثم رجع إلى موسى فاحتبسه ، فلم يزل يرده موسى إلى
ربه حتى صارت إلى خمس صلوات ، ثم احتبسه موسى عند الخمس فقال : يا محمد والله لقد
راودت بني إسرائيل قومي على أدنى من هذا فضعفوا فتركوه ، فأمتك أضعف أجسادا وقلوبا
وأبدانا وأبصارا وأسماعا ، فارجع فليخفف عنك ربك ، كل ذلك يلتفت النبي صلىاللهعليهوسلم إلى جبريل ليشير عليه ولا يكره ذلك جبريل.
فرفعه عند الخامسة
فقال «يا رب إن أمتي ضعفاء أجسادهم وقلوبهم وأسماعهم وأبصارهم وأبدانهم فخفف عنا»
فقال الجبار تبارك وتعالى : يا محمد. قال «لبيك وسعديك» قال : إنه لا يبدل القول
لدي كما فرضت عليك في أم الكتاب ، فكل حسنة بعشر أمثالها فهي خمسون في أم الكتاب ،
وهي خمس عليك ، فرجع إلى موسى فقال : كيف فعلت؟ فقال «خفف عنا أعطانا بكل حسنة عشر
أمثالها» قال موسى : قد والله راودت بني إسرائيل على أدنى من ذلك فتركوه ، فارجع
إلى ربك فليخفف عنك أيضا. قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «يا موسى قد والله استحييت من ربي عزوجل مما أختلف إليه» قال : فاهبط باسم الله.
قال : واستيقظ وهو
في المسجد الحرام .
هكذا ساقه البخاري
في كتاب التوحيد ، ورواه في صفة النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم عن إسماعيل بن
أبي أويس عن أخيه أبي بكر عبد الحميد عن سليمان بن بلال. ورواه مسلم عن هارون بن
سعيد عن ابن وهب عن سليمان قال فزاد ونقص وقدم وأخر ، وهو كما قال مسلم فإن شريك
بن عبد الله بن أبي نمر اضطرب في هذا الحديث وساء حفظه ولم يضبطه كما سيأتي بيانه
إن شاء الله في الأحاديث الأخر ، ومنهم من يجعل هذا مناما توطئة لما وقع بعد ذلك
والله أعلم.
وقد قال الحافظ
أبو بكر البيهقي في حديث شريك زيادة تفرد بها ، على مذهب من زعم أنه صلىاللهعليهوسلم رأى الله عزوجل يعني قوله ، (ثُمَّ دَنا) الجبار رب العزة (فَتَدَلَّى فَكانَ
قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ
__________________
أَدْنى). قال وقول عائشة وابن مسعود وأبي هريرة في حملهم هذه
الآيات على رؤيته جبريل أصح ، وهذا الذي قاله البيهقي رحمهالله في هذه المسألة هو الحق ، فإن أبا ذر قال : يا رسول الله
هل رأيت ربك؟ قال : «نور أنى أراه» وفي رواية : «رأيت نورا» أخرجه مسلم .
وقوله : (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى) إنما هو جبريل عليهالسلام ، كما ثبت ذلك في الصحيحين عن عائشة أم المؤمنين ، وعن ابن
مسعود ، وكذلك هو في صحيح مسلم عن أبي هريرة ، ولا يعرف لهم مخالف من الصحابة في
تفسير هذه الآية بهذا.
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى حدثنا حماد بن سلمة ، أخبرنا ثابت
البناني عن أنس بن مالك أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «أتيت بالبراق وهو دابة أبيض فوق الحمار ودون البغل
، يضع حافره عند منتهى طرفه ، فركبت فسار بي حتى أتيت بيت المقدس ، فربطت الدابة
بالحلقة التي يربط فيها الأنبياء ، ثم دخلت فصليت فيه ركعتين ثم خرجت فأتاني جبريل
بإناء من خمر وإناء من لبن ، فاخترت اللبن فقال جبريل : أصبت الفطرة. قال : ثم عرج
بي إلى السماء الدنيا فاستفتح جبريل فقيل له من أنت؟ قال : جبريل. قيل : ومن معك؟
قال : محمد. قيل : وقد أرسل إليه؟ قال : قد أرسل إليه. ففتح لنا فإذا أنا بآدم
فرحب بي ودعا لي بخير.
ثم عرج بنا إلى
السماء الثانية فاستفتح جبريل فقيل له : من أنت. قال : جبريل. قيل : ومن معك؟ قال
: محمد. قيل : وقد أرسل إليه؟ قال : قد أرسل إليه ، ففتح لنا فإذا أنا بابني
الخالة يحيى وعيسى فرحبا بي ودعوا لي بخير ثم عرج بي إلى السماء الثالثة فاستفتح
جبريل فقيل : من أنت قال : جبريل فقيل ومن معك فقال محمد فقيل وقد أرسل له قال قد
أرسل له ففتح لنا فإذا أنا بيوسف عليهالسلام ، وإذا هو قد أعطي شطر الحسن فرحب بي ودعا لي بخير. ثم عرج
بنا إلى السماء الرابعة فاستفتح جبريل ، فقيل : من أنت؟ قال : جبريل. فقيل : ومن
معك؟ قال : محمد ، فقيل : وقد أرسل إليه؟ قال : قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا
بإدريس فرحب بي ودعا لي بخير ثم يقول الله تعالى : (وَرَفَعْناهُ مَكاناً
عَلِيًّا).
ثم عرج بنا إلى
السماء الخامسة فاستفتح جبريل فقيل من أنت؟ قال جبريل ، فقيل : ومن معك؟ قال :
محمد. فقيل : قد أرسل إليه؟ قال : قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بهارون ، فرحب بي
ودعا لي بخير ثم عرج بنا إلى السماء السادسة فاستفتح جبريل فقيل من أنت؟ قال جبريل
قيل ومن معك؟ قال : محمد. فقيل : وقد بعث إليه؟ قال قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا
بموسى عليهالسلام ، فرحب بي ودعا لي بخير ثم عرج بنا إلى السماء السادسة
فاستفتح جبريل
__________________
فقيل من أنت؟ قال
: جبريل. قيل ومن معك؟ قال : محمد. فقيل وقد بعث إليه؟ قال قد بعث إليه ، ففتح لنا
فإذا أنا بإبراهيم عليهالسلام ، وإذا هو مستند إلى البيت المعمور ، وإذا هو يدخله كل يوم
سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه ، ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى فإذا ورقها كآذان
الفيلة ، وإذا ثمرها كالقلال ، فلما غشيها من أمر الله ما غشيها تغيرت فما أحد من
خلق الله تعالى يستطيع أن يصفها من حسنها.
قال : فأوحى الله
إلي ما أوحى ، وقد فرض علي في كل يوم وليلة خمسين صلاة فنزلت حتى انتهيت إلى موسى
، قال ما فرض ربك على أمتك؟ قلت خمسين صلاة في كل يوم وليلة ، قال ارجع إلى ربك
فاسأله التخفيف لأمتك ، فإن أمتك لا تطيق ذلك وإني قد بلوت بني إسرائيل وخبرتهم ،
قال فرجعت إلى ربي فقلت أي رب خفف عن أمتي فحط عني خمسا ، فنزلت حتى انتهيت إلى
موسى فقال ما فعلت؟ فقلت قد حط عني خمسا فقال إن أمتك لا تطيق ذلك فارجع إلى ربك
فاسأله التخفيف لأمتك ، قال فلم أزل أرجع بين ربي وبين موسى ويحطّ عني خمسا خمسا
حتى قال : يا محمد هن خمس صلوات في كل يوم وليلة بكل صلاة عشر ، فتلك خمسون صلاة
ومن همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ، فإن علمها كتبت عشرا ، ومن هم بسيئة فلم
يعلمها لم تكتب ، فإن عملها كتبت سيئة واحدة ، فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فأخبرته
، فقال ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك فإن أمتك لا تطيق ذلك ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لقد رجعت إلى ربي حتى استحييت» ورواه مسلم عن شيبان بن فروخ عن حماد بن سلمة بهذا السياق ، وهو أصح
من سياق شريك.
قال البيهقي : وفي
هذا السياق دليل على أن المعراج كان ليلة أسري به عليه الصلاة والسلام من مكة إلى
بيت المقدس ، وهذا الذي قاله هو الحق الذي لا شك فيه ولا مرية ، وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر عن قتادة عن أنس أن النبي
صلىاللهعليهوسلم أتي بالبراق ليلة أسري به مسرجا ملجما ليركبه ، فاستصعب
عليه فقال له جبريل : ما يحملك على هذا فو الله ما ركبك قط أكرم على الله منه؟ قال
: فارفض عرقا ، ورواه الترمذي عن إسحاق بن منصور عن عبد الرزاق ، وقال غريب لا نعرفه إلا
من حديثه.
وقال أحمد أيضا : حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا صفوان ، حدثني راشد بن سعيد
وعبد الرحمن بن جبير عن أنس قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لما عرج بي إلى ربي عزوجل
__________________
مررت بقوم لهم
أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم ، فقلت : من هؤلاء يا جبريل؟ قال : هؤلاء
الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم» وأخرجه أبو داود من حديث صفوان بن عمرو به ، ومن وجه آخر ليس فيه أنس ،
فالله أعلم ، وقال أيضا : حدثنا وكيع ، حدثنا سفيان عن سليمان التيمي عن أنس قال :
قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «مررت ليلة أسري بي على موسى عليهالسلام قائما يصلي في قبره» .
ورواه مسلم من حديث حماد بن سلمة عن سليمان بن طرخان التيمي وثابت
البناني ، كلاهما عن أنس ، قال النسائي : هذا أصح من رواية من قال سليمان عن ثابت
عن أنس ، وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده : حدثنا وهب بن بقية ، حدثنا خالد
عن التيمي عن أنس قال : أخبرني بعض أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم أن النبي صلىاللهعليهوسلم ليلة أسري به ، مر على موسى وهو يصلي في قبره ، وقال أبو
يعلى : حدثنا إبراهيم بن محمد بن عرعرة ، حدثنا معتمر عن أبيه قال : سمعت أنسا أن
النبي صلىاللهعليهوسلم ليلة أسري به مر بموسى وهو يصلي في قبره ، قال أنس ذكر أنه
حمل على البراق فأوثق الدابة أو قال الفرس. قال أبو بكر : صفها لي ، فقال رسول
الله صلىاللهعليهوسلم : «هي كذه وذه» فقال : أشهد أنك رسول الله. وكان أبو بكر
رضي الله عنه قد رآها.
وقال الحافظ أبو
بكر أحمد بن عمرو البزار في مسنده : حدثنا سلمة بن شبيب ، حدثنا سعيد بن منصور ،
حدثنا الحارث بن عبيد عن أبي عمران الجوني عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال
رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «بينا أنا نائم إذ جاء جبريل عليهالسلام فوكز بين كتفي فقمت إلى شجرة فيها كوكري الطير ، فقعد في
أحدهما وقعدت في الآخر ، فسمت وارتفعت حتى سدت الخافقين ، وأنا أقلب طرفي ولو شئت
أن أمس السماء لمسست ، فالتفت إلى جبريل كأنه حلس لاط فعرفت فضل علمه بالله علي ، وفتح لي باب من أبواب السماء
فرأيت النور الأعظم ، وإذا دون الحجاب رفرف الدر والياقوت وأوحي إلي ما شاء الله
أن يوحى» ثم قال ولا نعلم روى هذا الحديث إلا أنس ولا نعلم رواه عن أبي عمران
الجوني إلا الحارث بن عبيد ، وكان رجلا مشهورا من أهل البصرة.
ورواه الحافظ
البيهقي في الدلائل عن أبي بكر القاضي عن أبي جعفر محمد بن علي بن دحيم عن محمد بن
الحسين بن أبي الحسين ، عن سعيد بن منصور فذكره بسنده مثله ثم قال وقال غيره في
هذا الحديث في آخره ولط دوني ، أو قال دون الحجاب رفرف الدر والياقوت ، ثم قال
هكذا رواه الحارث بن عبيد ورواه حماد بن سلمة عن أبي عمران الجوني عن محمد بن
__________________
عمير بن عطارد ،
أن النبي صلىاللهعليهوسلم كان في ملإ من أصحابه فجاءه جبريل فنكت في ظهره ، فذهب به
إلى الشجرة وفيها مثل وكري الطير ، فقعد في أحدهما وقعد جبريل في الآخر فنشأت بنا
حتى بلغت الأفق ، فلو بسطت يدي إلى السماء لنلتها فدلى بسبب وهبط إلى النور فوقع
جبريل مغشيا عليه كأنه حلس ، فعرفت فضل خشيته على خشيتي فأوحي إلي نبيا ملكا أو
نبيا عبدا وإلى الجنة ما أنت ، فأومأ إليّ جبريل وهو مضطجع أن تواضع قال قلت لا بل
نبيا عبدا.
قلت : وهذا إن صح
يقتضي أنها واقعة غير ليلة الإسراء ، فإنه لم يذكر فيها بيت المقدس ولا الصعود إلى
السماء فهي كائنة غير ما نحن فيه ، والله أعلم وقال البزار أيضا : حدثنا عمرو بن
عيسى حدثنا أبو بحر ، حدثنا شعبة عن قتادة عن أنس أن محمدا صلىاللهعليهوسلم رأى ربه عزوجل ، وهذا غريب.
وقال أبو جعفر بن
جرير : حدثنا يونس ، حدثنا عبد الله بن وهب ، حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن الزهري عن
أبيه عن عبد الرحمن بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص عن أنس بن مالك قال : لما جاء
جبريل إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم بالبراق فكأنها حركت ذنبها ، فقال لها جبريل مه يا براق فو
الله ما ركبك مثله ، وسار رسول الله صلىاللهعليهوسلم فإذا هو بعجوز على جانب الطريق فقال : «ما هذه يا جبريل؟»
قال : سر يا محمد ، قال فسار ما شاء الله أن يسير فإذا شيء يدعوه منتحيا عن الطريق
فقال هلم يا محمد ، فقال له جبريل : سر يا محمد فسار ما شاء الله أن يسير ، قال
فلقيه خلق من خلق الله فقالوا السلام عليك [يا أول] ، السلام عليك [يا آخر] ،
السلام عليك يا حاشر ، فقال له جبريل اردد السلام يا محمد فرد السلام ، ثم لقيه
الثانية فقال له مثل مقالته الأولى ثم الثالثة كذلك ، حتى انتهى إلى بيت المقدس
فعرض عليه الخمر والماء واللبن فتناول رسول اللهصلىاللهعليهوسلم اللبن ، فقال له جبريل أصبت الفطرة ولو شربت الماء لغرقت
وغرقت أمتك ، ولو شربت الخمر لغويت ولغوت أمتك ، ثم بعث له آدم فمن دونه من
الأنبياء عليهمالسلام فأمهم رسول اللهصلىاللهعليهوسلم تلك الليلة. ثم قاله له جبريل : أما العجوز التي رأيت على
جانب الطريق فلم يبق من الدنيا إلا كما بقي من عمر تلك العجوز. وأما الذي أراد أن
تميل إليه فذاك عدو الله إبليس أراد أن تميل إليه ، وأما الذين سلموا عليك
فإبراهيم وموسى وعيسى عليهمالسلام ، وهكذا رواه الحافظ البيهقي في دلائل النبوة من حديث ابن
وهب. وفي بعض ألفاظه نكارة وغرابة.
[طريق أخرى] عن
أنس بن مالك ، وفيها غرابة ونكارة جدا وهي في سنن النسائي والمجتبى ولم أرها في الكبير قال : حدثنا عمرو بن هشام ، حدثنا مخلد
هو ابن الحسين عن سعيد بن عبد العزيز ، حدثنا يزيد بن أبي مالك حدثنا أنس بن مالك
أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «أتيت بدابة فوق الحمار ودون البغل خطوها عند منتهى
طرفها ، فركبت ومعي جبريل عليه
__________________
السلام فسرت فقال
انزل فصلّ فصليت فقال أتدري أين صليت؟ صليت بطيبة وإليها المهاجرة ، ثم قال انزل
فصل فصليت فقال أتدري أين صليت؟ صليت بطور سيناء حيث كلم الله موسى ، ثم قال انزل
فصل فصليت ، فقال أتدري أين صليت؟ صليت ببيت لحم حيث ولد عيسىعليهالسلام ، ثم دخلت بيت المقدس فجمع لي الأنبياء عليهمالسلام فقدمني جبريل عليهالسلام حتى أممتهم ثم صعد بي إلى السماء الدنيا فإذا فيها آدم عليهالسلام ، ثم صعد بي إلى السماء الثانية فإذا فيها ابنا الخالة
عيسى ويحيىعليهماالسلام ، ثم صعد بي إلى السماء الثالثة فإذا فيها يوسف عليهالسلام ، ثم صعد بي إلى السماء الرابعة فإذا فيها هارون عليهالسلام ، ثم صعد بي إلى السماء الخامسة فإذا فيها إدريس عليهالسلام.
ثم صعد بي إلى
السماء السادسة فإذا فيها موسى عليهالسلام ، ثم صعد بي إلى السماء السابعة فإذا فيها إبراهيم عليهالسلام ، ثم صعد بي فوق سبع سموات وأتيت سدرة المنتهى فغشيتني
ضبابة فخررت ساجدا فقيل لي إني يوم خلقت السموات والأرض فرضت عليك وعلى أمتك خمسين
صلاة ، فقم بها أنت وأمتك فرجعت بذلك حتى أمر بموسى عليهالسلام ، فقال ما فرض ربك على أمتك قلت خمسين صلاة ، قال فإنك لا
تستطيع أن تقوم بها لا أنت ولا أمتك ، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فرجعت إلى ربي
فخفف عني عشرا ، ثم أتيت موسى فأمرني بالرجوع فرجعت فخفف عني عشرا ، ثم ردت إلى
خمس صلوات ، قال فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فإنه فرض على بني إسرائيل صلاتين
فما قاموا بهما ، فرجعت إلى ربي عزوجل فسألته التخفيف ، فقال إني يوم خلقت السموات والأرض فرضت
عليك وعلى أمتك خمسين صلاة ، فخمس بخمسين فقم بها أنت وأمتك ، قال فعرفت أنها من الله
عزوجل صرّي فرجعت إلى موسى عليهالسلام فقال ارجع فعرفت أنها من الله عزوجل صرّي ـ يقول أي حتم ـ فلم أرجع».
[طريق أخرى] وقال
ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا خالد بن يزيد بن أبي مالك
عن أبيه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : لما كان ليلة أسري برسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى بيت المقدس أتاه جبريل بدابة فوق الحمار ودون البغل ،
حمله جبريل عليها ينتهي خفها حيث ينتهي طرفها ، فلما بلغ بيت المقدس وبلغ المكان
الذي يقال له باب محمدصلىاللهعليهوسلم أتى إلى الحجر الذي ثمة ، فغمزه جبريل بإصبعه فثقبه ، ثم
ربطها ثم صعد فلما استويا في صرحة المسجد قال جبريل يا محمد هل سألت ربك أن يريك
الحور العين؟ فقال «نعم» فقال فانطلق إلى أولئك النسوة ، فسلم عليهن وهن جلوس عن
يسار الصخرة ، قال : «فأتيتهن فسلمت عليهن فرددن علي السلام فقلت من أنتن؟ فقلن :
نحن خيرات حسان نساء قوم أبرار نقوا فلم يدرنوا. وأقاموا فلم يظعنوا ، وخلدوا فلم
يموتوا ، قال ثم انصرفت فلم ألبث إلا يسيرا حتى اجتمع ناس كثير ، ثم أذن مؤذن
وأقيمت الصلاة ، قال فقمنا صفوفا ننتظر من
يؤمنا فأخذ بيدي
جبريل عليهالسلام فقدمني فصليت بهم ، فلما انصرفت قال جبريل : يا محمد أتدري
من صلى خلفك؟ ـ قال ـ قلت لا ـ قال صلى خلفك كل نبي بعثه الله عزوجل.
قال : ثم أخذ بيدي
جبريل فصعد بي إلى السماء ، فلما انتهينا إلى الباب استفتح فقالوا من أنت؟ قال أنا
جبريل ، قالوا ومن معك؟ قال محمد قالوا وقد بعث إليه؟ قال نعم ـ قال ـ ففتحوا له
وقالوا مرحبا بك وبمن معك ـ قال ـ فلما استوى على ظهرها إذا فيها آدم ، فقال لي
جبريل يا محمد ألا تسلم على أبيك آدم ـ قال ـ قلت بلى ، فأتيته فسلمت عليه فرد علي
وقال مرحبا بابني الصالح والنبي الصالح ـ قال ـ ثم عرج بي إلى السماء الثانية ،
فاستفتح فقالوا من أنت قال جبريل قالوا ومن معك قال محمد ، قالوا وقد بعث إليه ،
قال نعم ، ففتحوا له وقال مرحبا بك وبمن معك فإذا فيها عيسى وابن خالته يحيى عليهماالسلام ، ـ قال ـ ثم عرج بي إلى السماء الثالثة فاستفتح ، قالوا
من أنت؟ قال جبريل ، قالوا ومن معك؟ قال محمد ، قالوا وقد بعث إليه؟ قال نعم ،
ففتحوا له وقالوا مرحبا بك وبمن معك ، فإذا فيها يوسف عليهالسلام ، ثم عرج بي إلى السماء الرابعة فاستفتح قالوا من أنت؟ قال
جبريل ، فقالوا ومن معك قال محمد قالوا وقد بعث إليه قال نعم ـ قال ـ ففتحوا له
وقالوا مرحبا بك وبمن معك فإذا فيها إدريس عليهالسلام ـ قال ـ فعرج بي إلى السماء الخامسة فاستفتح جبريل فقالوا
من أنت قال جبريل قالوا ومن معك قال محمد ، قالوا وقد بعث إليه؟ قال نعم ـ قال ـ ففتحوا
وقالوا مرحبا بك وبمن معك وإذا فيها هارون عليهالسلام.
ثم عرج بي إلى
السماء السادسة فاستفتح جبريل فقالوا من أنت ، قال جبريل ، قالوا ومن معك ، قال
محمد ، قالوا وقد بعث إليه؟ قال نعم ـ قال ـ ففتحوا وقالوا مرحبا بك وبمن معك ،
وإذا فيها موسى عليهالسلام ، ثم عرج بي إلى السماء السابعة ، فاستفتح جبريل فقالوا من
أنت؟ قال جبريل ، قالوا ومن معك؟ قال محمد ، قالوا وقد بعث إليه؟ قال نعم ففتحوا
له وقالوا مرحبا بك وبمن معك وإذا فيها إبراهيم عليهالسلام فقال جبريل يا محمد ألا تسلم على أبيك إبراهيم؟ قلت بلى ،
فأتيته فسلمت عليه فرد علي السلام وقال مرحبا بابني الصالح والنبي الصالح ، ثم
انطلق بي على ظهر السماء السابعة حتى انتهى بي إلى نهر عليه خيام اللؤلؤ والياقوت
والزبرجد ، وعليه طير أخضر أنعم طير رأيت ، فقلت يا جبريل إن هذا الطير لنا عم قال
يا محمد آكله أنعم منه ، ثم قال يا محمد أتدري أي نهر هذا ـ قال ـ قلت لا ، قال
هذا الكوثر الذي أعطاك الله إياه ، فإذا فيه آنية الذهب والفضة يجري على رضراض من
الياقوت والزمرد ماؤه أشد بياضا من اللبن ـ قال ـ فأخذت من آنيته آنية من الذهب ،
فاغترفت من ذلك الماء فشربت فإذا هو أحلى من العسل وأشد رائحة من المسك.
ثم انطلق بي حتى
انتهيت إلى الشجرة فغشيتني سحابة فيها من كل لون [فرفضني] جبريل وخررت ساجدا لله عزوجل فقال الله لي : يا محمد إني يوم خلقت السموات والأرض
افترضت
عليك وعلى أمتك
خمسين صلاة ، فقم بها أنت وأمتك ـ قال ـ ثم انجلت عني السحابة فأخذ بيدي جبريل
فانصرفت سريعا ، فأتيت على إبراهيم فلم يقل شيئا ، ثم أتيت على موسى فقال ما صنعت
يا محمد؟ فقلت فرض ربي علي وعلى أمتي خمسين صلاة. قال فلن تستطيعها أنت ولا أمتك
فارجع إلى ربك فاسأله أن يخفف عنك ، فرجعت سريعا حتى انتهيت إلى الشجرة فغشيتني
السحابة ورفضني جبريل وخررت ساجدا وقلت ربي إنك فرضت علي وعلى أمتي خمسين صلاة ولن
أستطيعها أنا ولا أمتي فخفف عنا ، قال قد وضعت عنكم عشرا ـ قال ـ ثم انجلت عني
السحابة وأخذ بيدي جبريل ـ قال ـ فانصرفت سريعا حتى أتيت على إبراهيم فلم يقل لي
شيئا ، ثم أتيت على موسى فقال لي ما صنعت يا محمد؟ فقلت وضع عني ربي عشرا قال
فأربعون صلاة لن تستطيعها أنت ولا أمتك فارجع إلى ربك فاسأله أن يخفف عنكم. فذكر
الحديث كذلك إلى خمس صلوات وخمس بخمسين ثم أمره موسى أن يرجع فيسأله التخفيف فقال
، «إني استحييت منه تعالى».
قال ثم انحدر فقال
رسول الله صلىاللهعليهوسلم لجبريل : «ما لي لم آت أهل سماء إلا رحبوا بي وضحكوا لي
غير رجل واحد فسلمت عليه فرد علي السلام ورحب بي ولم يضحك لي» قال : يا محمد ذاك
مالك ، خازن جهنم ، لم يضحك منذ خلق ولو ضحك إلى أحد لضحك إليك ، قال ثم ركب
منصرفا فبينا هو في بعض الطريق مر بعير لقريش تحمل طعاما ، منها جمل عليه غرارتان
غرارة سوداء وغرارة بيضاء ، فلما حاذى بالعير نفرت منه واستدارت وصرع ذلك البعير
وانكسر ، ثم إنه مضى فأصبح فأخبر عما كان ، فلما سمع المشركون قوله أتوا أبا بكر
فقالوا يا أبا بكر هل لك في صاحبك؟ يخبر أنه أتى في ليلته هذه مسيرة شهر ورجع في
ليلته ، فقال أبو بكر هل لك في صاحبك؟ يخبر أنه أتى في ليلته هذه مسيرة شهر ورجع
في ليلته ، فقال أبو بكر رضي الله عنه إن كان قاله فقد صدق وإنا لنصدقه فيما هو
أبعد من هذا لنصدقه على خبر السماء فقال المشركون لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ما علامة ما تقول قال مررت بعير لقريش وهي في مكان كذا
وكذا فنفرت الإبل منا واستدارت وفيها بعير عليه غرارتان غرارة سوداء وغرارة بيضاء
فصرع فانكسر فلما قدمت العير سألوهم فأخبروهم الخبر على مثل ما حدثهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم ومن ذلك سمي أبو بكر الصديق وسألوه وقالوا هل كان فيمن حضر
معك موسى وعيسى؟ قال نعم قالوا فصفهم لنا قال : «أما موسى فرجل آدم كأنه من رجال
أزد عمان ، وأما عيسى فرجل ربعة سبط تعلوه حمرة كأنما يتحادر من شعره الجمان» . هذا سياق فيه غرائب عجيبة.
رواية أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة
قال الإمام أحمد :
حدثنا عفان ، حدثنا همام قال : سمعت قتادة يحدث عن أنس بن مالك أن مالك بن صعصعة
حدثه أن نبي الله صلىاللهعليهوسلم حدثهم عن ليلة أسري به قال : «بينما أنا في الحطيم
__________________
ـ وربما قال قتادة
في الحجر ـ مضطجعا إذ أتاني آت ، فجعل يقول لصاحبه الأوسط بين الثلاثة ـ قال ـ فأتاني
فقد ـ سمعت قتادة يقول فشق ـ ما بين هذه إلى هذه» وقال قتادة فقلت للجارود وهو إلى
جنبي : ما يعني؟ قال : من ثغرة نحره إلى شعرته ، وقد سمعته يقول من قصته إلى شعرته
قال : «فاستخرج قلبي ـ قال ـ فأتيت بطست من ذهب مملوء إيمانا وحكمة فغسل قلبي ثم
حشي ثم أعيد ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض» قال فقال الجارود : هو
البراق يا أبا حمزة؟ قال نعم يقع خطوه عند أقصى طرفه.
قال : «فحملت عليه
فانطلق بي جبريل عليهالسلام حتى أتى بي إلى السماء الدنيا فاستفتح ، فقيل من هذا؟ قال
جبريل ، قيل ومن معك؟ قال محمد ، قيل أوقد أرسل إليه؟ قال نعم فقيل : مرحبا به
ولنعم المجيء عليه ـ قال ففتح لنا فلما خلصت فإذا فيها آدم عليهالسلام ، قال هذا أبوك آدم فسلم عليه ، فسلمت عليه فرد السلام ثم
قال مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح ، ثم صعد حتى أتى السماء الثانية فاستفتح
فقيل من هذا؟ فقال جبريل قيل ومن معك؟ قال محمد قيل أو قد أرسل إليه؟ قال نعم قيل
: مرحبا به ولنعم المجيء جاء قال ففتح لنا ، فلما خلصت فإذا عيسى ويحيى وهما ابنا
الخالة ، قال هذان يحيى وعيسى فسلم عليهما ـ قال ـ فسلمت عليهما فردا السلام ثم
قالا : مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح.
ثم صعد حتى أتى
السماء الثالثة فاستفتح فقيل من هذا؟ فقال جبريل قيل ومن معك؟ قال محمد قيل أو قد
أرسل إليه؟ قال نعم قيل : مرحبا به ولنعم المجيء جاء ـ قال ـ قال ففتح لنا ، فلما
خلصت فإذا إذا يوسف عليهالسلام قال هذا يوسف ـ قال ـ فسلمت عليه فرد السلام ثم قال :
مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح ، ثم صعد حتى أتى السماء الرابعة فاستفتح فقيل
من هذا؟ قال جبريل ، قيل ومن معك؟ قال محمد ، قيل أو قد أرسل إليه؟ قال نعم قيل :
مرحبا به ولنعم المجيء جاء ـ قال ـ ففتح لنا فلما خلصت فإذا إدريس عليهالسلام ، قال هذا إدريس ، قال فسلمت عليه فرد السلام ثم قال : مرحبا
بالأخ الصالح والنبي الصالح.
ـ قال ـ ثم صعد
حتى أتى السماء الخامسة فاستفتح فقيل من هذا؟ قال جبريل ، قيل ومن معك؟ قال محمد ،
قيل أو قد أرسل إليه؟ قال نعم ، قيل : مرحبا به ولنعم المجيء جاء ، ففتح لنا فلما
خلصت فإذا هارون عليهالسلام قال هذا هارون فسلم عليه فسلمت عليه فرد السلام ، ثم قال :
مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح.
ـ قال ـ ثم صعد
حتى أتى السماء السادسة فاستفتح فقيل من هذا؟ قال جبريل ، قيل ومن معك؟ قال محمد ،
قيل أو قد أرسل إليه؟ قال نعم ، قيل : مرحبا به ولنعم المجيء جاء ، ففتح لنا فلما
خلصت فإذا بموسى عليهالسلام قال هذا موسى فسلم عليه فسلمت عليه فرد السلام ، ثم قال :
مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح ـ قال ـ فلما تجاوزته بكى قيل له : ما يبكيك؟ قال:
أبكي لأن غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي.
قال ثم صعد حتى
أتى السماء السابعة فاستفتح فقيل من هذا؟ قال جبريل ، قيل ومن معك؟ قال محمد ، قيل
أو قد بعث إليه؟ قال نعم ، قيل : مرحبا به ولنعم المجيء جاء ، ففتح لنا فلما خلصت
فإذا إبراهيم عليهالسلام فقال هذا إبراهيم فسلم عليه فسلمت عليه فرد السلام ، ثم
قال : مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح ـ قال ـ ثم رفعت إلى سدرة المنتهى فإذا
نبقها مثل قلال هجر ، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة ، فقال هذه سدرة المنتهى ، قال
وإذا أربعة أنهار : نهران باطنان ونهران ظاهران ، فقلت : ما هذا يا جبريل؟ قال :
أما الباطنان فنهران في الجنة ، وأما الظاهران فالنيل والفرات ـ قال ـ ثم رفع إلى
البيت المعمور».
قال قتادة :
وحدثنا الحسن عن أبي هريرة عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه رأى البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألفا ثم لا
يعودون فيه.
ثم رجع إلى حديث
أنس قال : «ثم أتيت بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل. ـ قال ـ فأخذت اللبن
قال هذه الفطرة أنت عليها وأمتك ـ قال ـ ثم فرضت عليّ الصلاة خمسين صلاة كل يوم ـ قال
ـ فنزلت حتى أتيت موسى ، فقال ما فرض ربك على أمتك؟ قال فقلت خمسين صلاة كل يوم ،
قال إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة وإني خبرت الناس قبلك ، وعالجت بني إسرائيل أشد
المعالجة ، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك ـ قال ـ فرجعت فوضع عني عشرا ـ قال
ـ فرجعت إلى موسى فقال بم أمرت؟ قلت بأربعين صلاة كل يوم ، قال إن أمتك لا تستطيع
أربعين صلاة كل يوم ، وإني قد خبرت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة ،
فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك.
ـ قال ـ فرجعت
فوضع عشرا أخر ، فرجعت إلى موسى فقال بم أمرت؟ فقلت أمرت بثلاثين صلاة ، قال إن
أمتك لا تستطيع ثلاثين صلاة كل يوم ، وإني قد خبرت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل
أشد المعالجة ، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك ـ قال ـ فرجعت فوضع عني عشرا
أخر ، فرجعت إلى موسى فقال بم أمرت؟ فقلت أمرت بعشرين صلاة كل يوم ، قال إن أمتك
لا تستطيع عشرين صلاة كل يوم ، وإني قد خبرت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد
المعالجة ، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك.
ـ قال ـ فرجعت
فوضع عني عشرا أخر ، فرجعت إلى موسى فقال بم أمرت؟ فقلت أمرت بعشر صلوات كل يوم ،
فقال إن أمتك لا تستطيع لعشر صلوات كل يوم ، وإني قد خبرت الناس قبلك وعالجت بني
إسرائيل أشد المعالجة ، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك ـ قال ـ فرجعت فأمرت
بخمس صلوات كل يوم ، فرجعت إلى موسى فقال بما أمرت قال أمرت بخمس صلوات كل يوم
فقال إن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم ، وإني قد خبرت الناس قبلك وعالجت بني
إسرائيل أشد المعالجة ، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك ـ قال ـ قلت قد
سألت ربي حتى
استحييت ، ولكن أرضى وأسلم ، فنفذت فنادى مناد قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي» وأخرجاه في الصحيحين من حديث قتادة بنحوه.
رواية أنس عن أبي ذر
قال البخاري :
حدثنا يحيى بن بكير ، حدثنا الليث عن يونس عن ابن شهاب ، عن أنس بن مالك قال : كان
أبو ذر يحدث أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «فرج عن سقف بيتي وأنا بمكة ، فنزل جبريل ففرج صدري
ثم غسله بماء زمزم ، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا ، فأفرغه في صدري ، ثم
أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء الدنيا ، فلما جئت إلى السماء قال جبريل لخازن السماء
: افتح قال : من هذا؟ قال : جبريل ، قال هل معك أحد؟ قال : نعم معي محمدصلىاللهعليهوسلم ، فقال : أرسل إليه؟ قال : نعم فلما فتح علونا السماء
الدنيا فإذا رجل قاعد على يمينه أسودة وعلى يساره أسودة ، إذا نظر قبل يمينه ضحك
وإذا نظر قبل شماله بكى ، فقال مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح.
قال : قلت لجبريل
: من هذا؟ قال : هذا آدم وهذه الأسودة عن يمينه وعن شماله نسم بنيه ، فأهل اليمين
منهم أهل الجنة ، والأسودة التي عن شماله أهل النار ، فإذا نظر عن يمينه ضحك ،
وإذا نظر عن شماله بكى ، ثم عرج بي إلى السماء الثانية فقال لخازنها افتح ، فقال
له خازنها مثل ما قاله الأول ، ففتح» قال أنس فذكر أنه وجد في السموات آدم وإدريس
وموسى وعيسى وإبراهيم ، ولم يثبت كيف منازلهم غير أنه ذكر أنه وجد آدم في السماء
الدنيا ، وإبراهيم في السادسة ، قال أنس : فلما مر جبريل والنبي صلىاللهعليهوسلم بإدريس.
قال : مرحبا
بالنبي الصالح والأخ الصالح ، فقلت : من هذا؟ قال : إدريس ، ثم مررت بموسى فقال :
مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح ، فقلت : من هذا؟ قال : هذا موسى ، ثم مررت
بعيسى ، فقال : مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح ، قلت : من هذا؟ قال : هذا عيسى
، ثم مررت بإبراهيم فقال : مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح ، قلت : من هذا؟ قال
: هذا إبراهيم. قال الزهري : فأخبرني ابن حزم عن أنّ ابن عباس هو وأبا حبة
الأنصاري كانا يقولان : قال النبي صلىاللهعليهوسلم «ثم عرج بي حتى
ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام».
قال ابن حزم وأنس
بن مالك : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ففرض الله على أمتي خمسين صلاة ، فرجعت بذلك حتى مررت
على موسى عليهالسلام ، فقال : ما فرض الله على أمتك؟ قلت : فرض خمسين صلاة ،
قال موسى : فارجع إلى ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك ، فرجعت فوضع شطرها ، فرجعت إلى
موسى ، قلت : وضع شطرها ، فقال : ارجع إلى ربك ، فإن أمتك لا تطيق
__________________
ذلك ، فرجعت فوضع
شطرها ، فرجعت إليه فقال : ارجع إلى ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك ، فراجعته فقال : هي
خمس وهي خمسون لا يبدل القول لدي ، فرجعت إلى موسى فقال : ارجع إلى ربك ، قلت : قد
استحييت من ربي ، ثم انطلق بي حتى انتهى إلى سدرة المنتهى فغشيها ألوان لا أدري ما
هي ، ثم أدخلت الجنة ، فإذا فيها جبال اللؤلؤ ، وإذا ترابها من المسك» وهذا لفظ البخاري في كتاب الصلاة ، ورواه في ذكر بني
إسرائيل وفي الحج وفي أحاديث الأنبياء من طرق أخرى عن يونس به ، ورواه مسلم في
صحيحه في كتاب الإيمان منه عن حرملة عن ابن وهب عن يونس به نحوه.
وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا همام عن قتادة عن عبد الله بن شقيق
قال : قلت لأبي ذر : لو رأيت رسول الله صلىاللهعليهوسلم لسألته ، قال : وما كنت تسأله؟ قال : كنت أسأله : هل رأى
ربه؟ فقال : إني قد سألته ، فقال : قد رأيته نورا أنّى أراه» هكذا قد وقع في رواية
الإمام أحمد ، وأخرجه مسلم في صحيحه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن وكيع ، عن يزيد بن
إبراهيم عن قتادة عن عبد الله بن شقيق ، عن أبي ذر قال : سألت رسول الله صلىاللهعليهوسلم هل رأيت ربك؟ قال: «نور أنى أراه». وعن محمد بن بشار عن
معاذ بن هشام : حدثنا أبي عن قتادة عن عبد الله بن شقيق قال : قلت لأبي ذر : لو
رأيت رسول الله صلىاللهعليهوسلم لسألته ، فقال : عن أي شيء كنت تسأله؟ قال : كنت أسأله هل
رأيت ربك؟ قال أبو ذر : قد سألت فقال : رأيت نورا .
رواية أنس عن أبي بن كعب الأنصاري رضي الله عنه
قال عبد الله ابن
الإمام أحمد : حدثنا محمد بن إسحاق بن محمد المسيبي ، حدثنا أنس بن عياض ، حدثنا
يونس بن يزيد قال : قال ابن شهاب : قال أنس بن مالك : كان أبي بن كعب يحدث أن رسول
الله صلىاللهعليهوسلم قال : «فرج سقف بيتي وأنا بمكة ، فنزل جبريل ففرج صدري ثم
غسله من ماء زمزم ، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا ، فأفرغها في صدري ، ثم
أطبقه ، ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء فلما جاء السماء الدنيا إذا رجل عن يمينه
أسودة ، وعن يساره أسودة ، فإذا نظر قبل يمينه تبسم ، وإذا نظر قبل يساره بكى ،
فقال : مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح.
قال : قلت لجبريل
: من هذا؟ قال : هذا آدم ، وهذه الأسودة التي عن يمينه وعن شماله
__________________
نسم بنيه ، فأهل
يمينه هم أهل الجنة ، والأسودة التي عن شماله هم أهل النار ، فإذا نظر قبل يمينه
ضحك ، وإذا نظر قبل يساره بكى ـ قال ـ ثم عرج بي جبريل حتى أتى السماء الثانية ،
فقال لخازنها : افتح ، فقال له خازنها مثل ما قال خازن السماء الدنيا ، ففتح له»
قال أنس : فذكر أنه وجد في السموات آدم وإدريس وموسى وإبراهيم وعيسى ، ولم يثبت لي
كيف منازلهم غير أنه ذكر أنه وجد آدم عليهالسلام في السماء الدنيا ، وإبراهيم في السماء السادسة ، قال أنس
: فلما مر جبريل عليهالسلام ورسول الله صلىاللهعليهوسلم بإدريس قال : مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح ، قال «قلت
من هذا يا جبريل؟ قال : هذا إدريس ـ قال ثم مررت بموسى فقال : مرحبا بالنبي الصالح
والأخ الصالح ، فقلت من هذا؟ قال : موسى ، ثم مررت بعيسى فقال : مرحبا بالنبي
الصالح والأخ الصالح ، قلت من هذا؟ قال : هذا عيسى ابن مريم ـ قال ـ ثم مررت
بإبراهيم ، فقال : مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح ، قلت : من هذا؟ قال : هذا
إبراهيم».
قال ابن شهاب :
وأخبرني ابن حزم أن ابن عباس وأبا حبة الأنصاري كانا يقولان : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «ثم عرج بي حتى
ظهرت لمستوى أسمع صريف الأقلام» قال ابن حزم وأنس بن مالك : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «فرض الله على
أمتي خمسين صلاة ، قال : فرجعت بذلك حتى أمر على موسى ، فقال موسى : ماذا فرض ربك
على أمتك؟ قلت : فرض عليهم خمسين صلاة فقال لي موسى : راجع ربك فإن أمتك لا تطيق
ذلك ، قال : فراجعت ربي فوضع شطرها ، فرجعت إلى موسى فأخبرته ، فقال : ارجع إلى
ربك ، فإن أمتك لا تطيق ذلك ، فرجعت فقال : هي خمس وهي خمسون ، لا يبدل القول لدي
، قال : فرجعت إلى موسى ، فقال ، راجع ربك فقلت : قد استحييت من ربي ، قال : ثم
انطلق بي حتى أتى سدرة المنتهى ، قال : فغشيها ألوان ما أدري ما هي ، قال : ثم
دخلت الجنة ، فإذا فيها جبال اللؤلؤ ، وإذا ترابها المسك» هكذا رواه عبد الله بن
أحمد في مسند أبيه ، وليس هو في شيء من الكتب الستة ، وقد تقدم في الصحيحين
من طريق يونس عن الزهري ، عن أنس عن أبي ذر مثل هذا السياق سواء ، فالله أعلم.
رواية بريدة بن الحصيب الأسلمي
قال الحافظ أبو
بكر البزار : حدثنا عبد الرحمن بن المتوكل ويعقوب بن إبراهيم واللفظ له ، قال :
حدثنا أبو نميلة ، حدثنا الزبير بن جنادة عن عبد الله بن بريدة ، عن أبيه قال :
قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «لما كان ليلة
أسري بي ـ قال ـ فأتى جبريل الصخرة التي ببيت المقدس ـ قال ـ فوضع إصبعه فيها
فخرقها فشد بها البراق» ثم قال البزار : لا نعلم رواه عن الزبير بن جنادة إلا
__________________
أبو نميلة ، ولا
نعلم هذا الحديث إلا عن بريدة ، وقد رواه الترمذي في التفسير من جامعه عن يعقوب بن إبراهيم الدورقي به ،
وقال غريب.
رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنه
قال الإمام أحمد : حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي عن صالح عن ابن شهاب قال : قال
أبو سلمة : سمعت جابر بن عبد الله يحدث أنه سمع رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «لما كذبتني قريش حين أسري بي إلى بيت المقدس ، قمت
في الحجر فجلى الله لي بيت المقدس ، فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه» أخرجاه في الصحيحين من طرق عن حديث الزهري به.
وقال البيهقي :
حدثنا أحمد بن الحسن القاضي ، حدثنا أبو العباس الأصم ، حدثنا العباس بن محمد
الدوري : حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا أبي عن صالح بن كيسان ، عن ابن شهاب قال
: سمعت سعيد بن المسيب يقول : إن رسول الله صلىاللهعليهوسلم حين انتهى إلى بيت المقدس لقي فيه إبراهيم وموسى وعيسى ،
وأنه أتي بقدحين : قدح من لبن وقدح من خمر ، فنظر إليهما ، ثم أخذ قدح اللبن ،
فقال جبريل : أصبت هديت للفطرة ، لو أخذت الخمر لغوت أمتك ، ثم رجع رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى مكة فأخبر أنه أسري به فافتتن ناس كثير كانوا قد صلوا
معه.
وقال ابن شهاب :
قال أبو سلمة بن عبد الرحمن : فتجهز ، أو كلمة نحوها ، ناس من قريش إلى أبي بكر
فقالوا : هل لك في صاحبك يزعم أنه جاء إلى بيت المقدس ثم رجع إلى مكة في ليلة
واحدة؟ فقال أبو بكر : أو قال ذلك؟ قالوا : نعم ، قال : فأنا أشهد لئن كان قال ذلك
لقد صدق ، قالوا : فتصدقه بأن يأتي الشام في ليلة واحدة ثم يرجع إلى مكة قبل أن
يصبح؟ قال: نعم أنا أصدقه بأبعد من ذلك ، أصدقه بخبر السماء ، قال أبو سلمة : فبها
سمي أبو بكر الصديق.
قال أبو سلمة :
فسمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يحدث أنه سمع رسول اللهصلىاللهعليهوسلم يقول : «لما كذبتني قريش حين أسري بي إلى بيت المقدس ، قمت
في الحجر فجلى الله لي بيت المقدس ، فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه».
رواية حذيفة بن اليمان رضي الله عنه
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو النضر ، حدثنا سليمان عن شيبان ، عن عاصم ، عن
زر بن
__________________
حبيش قال : أتيت
على حذيفة بن اليمان رضي الله عنه ، وهو يحدث عن ليلة أسري بمحمدصلىاللهعليهوسلم ، وهو يقول : فانطلقا حتى أتينا بيت المقدس فلم يدخلاه ،
قال : قلت : بل دخله رسول الله صلىاللهعليهوسلم ليلتئذ وصلى فيه ، قال : ما اسمك يا أصلع؟ فإني أعرف وجهك
، ولا أدري ما اسمك ، قال : قلت أنا زر بن حبيش ، قال : فما علمك بأن رسول الله صلىاللهعليهوسلم صلى فيه ليلتئذ؟ قال : قلت القرآن يخبرني بذلك ، قال : فمن
تكلم بالقرآن فلج اقرأ ، قال : فقلت : (سُبْحانَ الَّذِي
أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ
الْأَقْصَى) قال : يا أصلع ، هل تجد صلى فيه؟ قلت : لا.
قال : والله ما
صلى فيه رسول الله ليلتئذ ، لو صلى فيه لكتب عليكم صلاة فيه كما كتب عليكم صلاة في
البيت العتيق ، والله ما زايلا البراق حتى فتحت لهما أبواب السماء فرأيا الجنة
والنار ووعد الآخرة أجمع ، ثم عادا عودهما على بدئهما ، قال : ثم ضحك حتى رأيت
نواجذه. قال : ويحدثونه أنه ربطه لا يفر منه ، وإنما سخره له عالم الغيب والشهادة
، قلت : يا عبد الله ، أي دابة البراق؟ قال : دابة أبيض طويل ، هكذا خطوه مد البصر
. ورواه أبو داود الطيالسي عن حماد بن سلمة ، عن عاصم به. ورواه الترمذي
والنسائي في التفسير من حديث عاصم وهو ابن أبي النجود به. وقال الترمذي : حسن ،
وهذا الذي قاله حذيفة رضي الله عنه وما أثبته غيره عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم من ربط الدابة بالحلقة ، ومن الصلاة ببيت المقدس مما سبق
وما سيأتي مقدم على قوله ، والله أعلم بالصواب.
رواية أبي سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدري
قال الحافظ أبو
بكر البيهقي في كتاب دلائل النبوة : حدثنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ ،
حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، حدثنا أبو بكر يحيى بن أبي طالب ، حدثنا عبد
الوهاب بن عطاء ، حدثنا أبو محمد راشد الحماني عن أبي هارون العبدي ، عن أبي سعيد
الخدري رضي الله عنه ، عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال له أصحابه : يا رسول الله ، أخبرنا عن ليلة أسري
بك فيها. قال : قال الله عزوجل (سُبْحانَ الَّذِي
أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً) الآية : قال : فأخبرهم ، قال : «فبينما أنا نائم عشاء في
المسجد الحرام إذ أتاني آت فأيقظني ، فاستيقظت فلم أر شيئا ، فإذا أنا بكهيئة خيال
فأتبعته بصري حتى خرجت من المسجد الحرام ، فإذا أنا بدابة أدنى شبها بدوابكم هذه ،
بغالكم هذه ، غير أنه مضطرب الأذنين يقال له البراق ، وكانت الأنبياء تركبه قبلي ،
يقع حافره عند مد بصره ، فركبته ، فبينما أنا أسير عليه إذ دعاني داع من يميني :
يا محمد انظرني أسألك ، يا محمد انظرني أسألك ، يا محمد انظرني أسألك ، فلم أجبه
ولم أقم عليه ،
__________________
فبينما أنا أسير
عليه إذ دعاني داع عن يساري : يا محمد انظرني أسألك ، فلم أجبه ولم أقم عليه ،
فبينما أنا أسير إذا أنا بامرأة حاسرة عن ذراعيها وعليها من كل زينة خلقها الله ،
فقالت : يا محمد ، انظرني أسألك ، فلم ألتفت إليها ولم أقم عليها حتى أتيت بيت
المقدس ، فأوثقت دابتي بالحلقة التي كانت الأنبياء توثقها بها.
ثم أتاني جبريل عليهالسلام بإناءين : أحدهما خمر والآخر لبن ، فشربت اللبن وأبيت
الخمر ، فقال جبريل : أصبت الفطرة ، أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك ، فقلت : الله
أكبر الله أكبر ، فقال جبريل : ما أريت في وجهك هذا؟ قال : فقلت بينما أنا أسير
إذا دعاني داع عن يميني : يا محمد انظرني أسألك فلم أجبه ولم أقم عليه ، قال ذاك
داعي اليهود ، أما إنك لو أجبته أو وقفت عليه لتهودت أمتك ـ قال ـ فبينما أنا أسير
إذ دعاني داع عن يساري قال : يا محمد انظرني أسألك فلم ألتفت ولم أقم عليه ، قال :
ذاك داعي النصارى أما إنك لو أجبته لتنصرت أمتك ـ قال ـ فبينما أنا أسير إذا أنا
بامرأة حاسرة عن ذراعيها عليها من كل زينة خلقها الله تقول : يا محمد انظرني أسألك
فلم أجبها ولم أقم عليها ، قال : تلك الدنيا ، أما إنك لو أجبتها أو أقمت عليها
لاختارت أمتك الدنيا على الآخرة.
قال : ثم دخلت أنا
وجبريل بيت المقدس ، فصلى كل واحد منا ركعتين ، ثم أتيت بالمعراج الذي كانت تعرج
عليه أرواح بني آدم فلم ير الخلائق أحسن من المعراج أما رأيت الميت حين يشق بصره
طامحا إلى السماء ، فإنما يشق بصره طامحا إلى السماء عجبه بالمعراج ، قال : فصعدت
أنا وجبريل ، فإذا أنا بملك يقال له إسماعيل وهو صاحب السماء الدنيا وبين يديه
سبعون ألف ملك مع كل ملك جنوده مائة ألف ملك.
قال : قال الله عزوجل : (وَما يَعْلَمُ
جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) [المدثر : ٣١] قال
: فاستفتح جبريل باب السماء ، قيل : من هذا؟ قال جبريل. قيل : ومن معك؟ قال :
محمد. قيل: أو قد بعث إليه؟ قال : نعم ، فإذا أنا بآدم كهيئته يوم خلقه الله عزوجل على صورته ، فإذا هو تعرض عليه أرواح ذريته من المؤمنين ،
فيقول : روح طيبة ونفس طيبة اجعلوها في عليين ، ثم تعرض عليه أرواح ذريته الفجار ،
فيقول : روح خبيثة ونفس خبيثة اجعلوها في سجين ، فمضيت هنيهة فإذا أنا بأخونة
عليها لحم مشرح ليس يقربها أحد ، وإذا أنا بأخونة أخرى عليها لحم قد أروح وأنتن
عندها أناس يأكلون منها ، قلت : يا جبريل من هؤلاء؟ قال : هؤلاء من أمتك يأتون
الحرام ويتركون الحلال.
قال : ثم مضيت
هنيهة ، فإذا أنا بأقوام مشافرهم كمشافر الإبل ، قال : فتفتح أفواههم فيلقمون من
ذلك الجمر ، ثم يخرج من أسافلهم فسمعتهم يضجون إلى الله عزوجل فقلت : من هؤلاء يا جبريل؟ قال : هؤلاء من أمتك (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ
الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ
سَعِيراً) [النساء : ١٠] قال
: ثم مضيت هنيهة ، فإذا أنا بنساء تعلقن
بثديهن ، فسمعتهن
يضججن إلى الله عزوجل ، قلت : يا جبريل من هؤلاء النساء؟ قال : هؤلاء الزناة من
أمتك. قال : ثم مضيت هنيهة ، فإذا أنا بأقوام بطونهم أمثال البيوت كلما نهض أحدهم
خر فيقول : اللهم لا تقم الساعة. قال : وهم على سابلة آل فرعون ، قال : فتجيء
السابلة فتطؤهم ، قال فسمعتهم يضجون إلى الله ـ قال ـ قلت يا جبريل من هؤلاء؟ قال
: هؤلاء من أمتك (الَّذِينَ
يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ
الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ) [البقرة : ٢٧٥] قال : ثم مضيت هنيهة ، فإذا أنا بأقوام
يقطع من جنوبهم اللحم فيلقمونه ، فيقال له : كل كما كنت تأكل من لحم أخيك ، قلت :
يا جبريل من هؤلاء؟ قال : هؤلاء الهمازون من أمتك اللمازون.
قال : ثم صعدنا
إلى السماء الثانية ، فإذا أنا برجل أحسن ما خلق الله عزوجل قد فضل الناس في الحسن كالقمر ليلة البدر على سائر الكواكب
، قلت : يا جبريل من هذا؟ قال : هذا أخوك يوسف ومعه نفر من قومه ، فسلمت عليه فرد
عليّ.
ثم صعدنا إلى
السماء الثالثة ، واستفتح فإذا أنا بيحيى وعيسى عليهماالسلام ، ومعهما نفر من قومهما ، فسلمت عليهما وسلما عليّ ، ثم
صعدنا إلى السماء الرابعة ، فإذا أنا بإدريس قد رفعه الله مكانا عليا ، فسلمت عليه
فسلم عليّ.
قال : ثم صعدنا
إلى السماء الخامسة فإذا أنا بهارون ونصف لحيته بيضاء ونصفها سوداء تكاد لحيته
تصيب سرته من طولها ، قلت : يا جبريل من هذا؟ قال : هذا المحبب في قومه ، هذا
هارون بن عمران ومعه نفر من قومه ، فسلمت عليه وسلم عليّ.
ثم صعدت إلى
السماء السادسة ، فإذا أنا بموسى بن عمران رجل آدم ، كثير الشعر ، لو كان عليه
قميصان لنفذ شعره دون القميص ، فإذا هو يقول : يزعم الناس أني أكرم على الله من
هذا ، بل هذا أكرم على الله مني. قال : قلت يا جبريل من هذا؟ قال : هذا أخوك موسى
بن عمران عليهالسلام ومعه نفر من قومه ، فسلمت عليه وسلم عليّ.
ثم صعدت إلى
السماء السابعة ، فإذا أنا بأبينا إبراهيم خليل الرحمن ، ساند ظهره إلى البيت
المعمور كأحسن الرجال ، قلت : يا جبريل من هذا؟ قال : هذا أبوك إبراهيم خليل
الرحمن عليهالسلام ومعه نفر من قومه ، فسلمت عليه فسلم عليّ. وإذا أنا بأمتي
شطرين : شطر عليهم ثياب بيض كأنها القراطيس ، وشطر عليهم ثياب سود قال ـ فدخلت
البيت المعمور ، ودخل معي الذين عليهم الثياب البيض وحجب الآخرون الذين عليهم
الثياب السود وهم على خير ، فصليت أنا ومن معي في البيت المعمور ، ثم خرجت أنا ومن
معي.
قال والبيت
المعمور يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه إلى يوم القيامة. قال : ثم
رفعت إلى سدرة المنتهى ، فإذا كل ورقة منها تكاد تغطي هذه الأمة ، وإذا فيها عين
تجري يقال لها
سلسبيل فينشق منها نهران [أحدهما] الكوثر [والآخر] يقال له نهر الرحمة ، فاغتسلت
فيه فغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر.
قال إني رفعت إلى
الجنة فاستقبلتني جارية ، فقلت : لمن أنت يا جارية؟ قالت : لزيد بن حارثة ، وإذا
بأنهار من ماء غير آسن ، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه ، وأنهار من خمر لذة
للشاربين ، وأنهار من عسل مصفى ، وإذا رمانها كالدلاء عظما ، وإذا أنا بطيرها
كأنها بختكم هذه ، فقال عندها صلىاللهعليهوسلم إن الله تعالى قد أعد لعباده الصالحين ما لا عين رأت ولا
أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ـ قال ـ ثم عرضت علي النار ، فإذا فيها غضب الله
وزجره ونقمته ، ولو طرحت فيها الحجارة والحديد لأكلتها ثم أغلقت دوني.
ثم إني رفعت إلى
سدرة المنتهى فتغشاني فكان بيني وبينه قاب قوسين أو أدنى. قال وينزل على كل ورقة
منها ملك من الملائكة ـ قال ـ وفرضت علي خمسون صلاة ، وقال لك بكل حسنة عشر ، فإذا
هممت بالحسنة فلم تعملها كتبت لك حسنة ، فإذا عملتها كتبت لك عشرا ، وإذا هممت
بالسيئة فلم تعملها لم يكتب عليك شيء ، فإن عملتها كتبت عليك سيئة واحدة.
ثم رجعت إلى موسى
فقال فيم أمرك ربك؟ فقلت : بخمسين صلاة. قال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك
، فإن أمتك لا تطيق ذلك ، ومتى لا تطيقه تكفر ، فرجعت إلى ربي فقلت : يا رب خفف عن
أمتى ، فإنها أضعف الأمم ، فوضع عني عشرا وجعلها أربعين ، فما زلت أختلف بين موسى
وربي كلما أتيت عليه قال لي مثل مقالته ، حتى رجعت إليه ، فقال لي : بم أمرت؟ فقلت
أمرت بعشر صلوات. قال ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك ، فرجعت إلى ربي فقلت أي
رب خفف عن أمتي فإنها أضعف الأمم فيوضع عني خمسا وجعلها خمسا فناداني ملك عندها
تممت فريضتي وخففت عن عبادي وأعطيتهم بكل حسنة عشر أمثالها.
ثم رجعت إلى موسى
فقال : بم أمرت؟ فقلت : بخمس صلوات. قال : ارجع إلى ربك فإنه لا يؤوده شيء ،
فاسأله التخفيف لأمتك ، فقلت : رجعت إلى ربي حتى استحييت. ثم أصبح بمكة يخبرهم
بالأعاجيب : إني أتيت البارحة بيت المقدس وعرج بي إلى السماء ، ورأيت كذا وكذا ،
فقال أبو جهل يعني ابن هشام : ألا تعجبون مما قال محمد؟ يزعم أنه أتى البارحة بيت
المقدس ، ثم أصبح فينا وأحدنا يضرب مطيته مصعدة شهرا ومقفلة شهرا ، فهذه مسيرة
شهرين في ليلة واحدة ، قال : فأخبرتهم بعير لقريش لما كنت في مصعدي رأيتها في مكان
كذا وكذا ، وأنها نفرت ، فلما رجعت وجدتها عند العقبة ، وأخبرهم بكل رجل وبعيره
كذا وكذا ، ومتاعه كذا وكذا ، فقال أبو جهل : يخبرنا بأشياء ، فقال رجل منهم : أنا
أعلم الناس ببيت المقدس ، وكيف بناؤه وهيئته ، وكيف قربه من الجبل ، فإن يك محمد
صادقا فسأخبركم وإن يك كاذبا فسأخبركم ، فجاء ذلك المشرك فقال : يا محمد أنا أعلم
الناس ببيت المقدس فأخبرني : كيف بناؤه ، وكيف هيئته ، وكيف قربه من الجبل؟ قال
فرفع لرسول الله صلىاللهعليهوسلم بيت المقدس من
مقعده ، فنظر إليه
كنظر أحدنا إلى بيته ، قال : بناؤه كذا وكذا ، وهيئته كذا وكذا ، وقربه من الجبل
كذا وكذا ، فقال الآخر : صدقت ، فرجع إليهم فقال : صدق محمد فيما قال أو نحوا من
هذا الكلام.
وكذا رواه الإمام
أبو جعفر بن جرير بطوله عن محمد بن عبد الأعلى ، عن محمد بن ثور عن معمر عن
أبي هارون العبدي ، وعن الحسن بن يحيى عن عبد الرزاق عن معمر ، عن أبي هارون
العبدي به. ورواه أيضا من حديث ابن إسحاق حدثني روح بن القاسم عن أبي هارون به نحو
سياقه المتقدم ، ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن أحمد بن عبدة ، عن أبي عبد الصمد
عبد العزيز بن عبد الصمد ، عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري ، فذكره بسياق
طويل حسن أنيق ، أجود مما ساقه غيره على غرابته وما فيه من النكارة. ثم ذكره
البيهقي أيضا من رواية نوح بن قيس الحداني وهشيم ومعمر عن أبي هارون العبدي واسمه
عمارة بن جوين وهو مضعف عند الأئمة ، وإنما سقنا حديثه هاهنا لما فيه من الشواهد
لغيره ، ولما رواه البيهقي : أخبرنا الإمام أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن ،
أنبأنا أبو نعيم أحمد بن محمد بن إبراهيم البزار ، حدثنا أبو حامد بن بلال ، حدثنا
أبو الأزهر ، حدثنا يزيد بن أبي حكيم قال : رأيت في النوم رسول اللهصلىاللهعليهوسلم قلت : يا رسول الله ، رجل من أمتك يقال له سفيان الثوري لا
بأس به. فقال رسول الله «لا بأس به» حدثنا عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري
عنك يا رسول الله ليلة أسري بك ، قلت رأيت في السماء ، فحدثته بالحديث فقال لي «نعم»
فقلت له : يا رسول الله إن ناسا من أمتك يحدثون عنك في السرى بعجائب؟ قال لي «ذلك
حديث القصاص».
رواية شداد بن أوس
قال الإمام أبو
إسماعيل محمد بن إسماعيل الترمذي حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن العلاء بن الضحاك
الزبيدي حدثنا عمرو بن الحارث عن عبد الله بن سالم الأشعري عن محمد بن الوليد بن
عامر الزبيدي حدثنا الوليد بن عبد الرحمن عن جبير بن نفير حدثنا شداد بن أوس قال :
قلنا يا رسول الله كيف أسري بك؟ قال «صليت لأصحابي صلاة العتمة بمكة معتما فأتاني
جبريل عليهالسلام بدابة أبيض أو قال بيضاء فوق الحمار ودون البغل فقال اركب
فاستصعب عليّ فرازها بأذنها ثم حملني عليها فانطلقت تهوي بنا يقع حافرها حيث انتهى
طرفها حتى بلغنا أرضا ذات نخل فأنزلني فقال صل فصليت ثم ركبت فقال أتدري أين صليت؟
قلت الله أعلم ، قال صليت بيثرب صليت بطيبة.
__________________
فانطلقت تهوي بنا
يقع حافرها عند منتهى طرفها ثم بلغنا أرضا قال انزل ثم قال صل فصليت ثم ركبنا فقال
أتدري أين صليت؟ قلت الله أعلم ، قال صليت بمدين عند شجرة موسى ، ثم انطلقت تهوي
بنا يقع حافرها حيث أدرك طرفها ثم بلغنا أرضا بدت لنا قصور فقال انزل فنزلت فقال
صل فصليت ثم ركبنا فقال أتدري أين صليت؟ قلت الله أعلم ، قال صليت ببيت لحم حيث ولد
عيسى المسيح ابن مريم ثم انطلق بي حتى دخلنا المدينة من بابها اليماني فأتى قبلة
المسجد فربط فيه دابته ودخلنا المسجد من باب تميل فيه الشمس والقمر فصليت من
المسجد حيث شاء الله وأخذني من العطش أشد ما أخذني فأتيت بإناءين في أحدهما لبن
وفي الآخر عسل أرسل إلي بهما جميعا فعدلت بينهما ثم هداني الله عزوجل فأخذت اللبن فشربت حتى عرقت به جبيني وبين يدي شيخ متكئ
على مثواة له فقال أخذ صاحبك الفطرة إنه ليهدى.
ثم انطلق بي حتى
أتينا الوادي الذي فيه المدينة فإذا جهنم تنكشف عن مثل الروابي قلت يا رسول الله
كيف وجدتها؟ قال وجدتها مثل الحمة السخنة ثم انصرف بي فمررنا بعير لقريش بمكان كذا
وكذا قد أضلوا بعيرا لهم قد جمعه فلان فسلمت عليهم فقال بعضهم هذا صوت محمد ثم
أتيت أصحابي قبل الصبح بمكة فأتاني أبو بكر رضي الله عنه فقال يا رسول الله أين
كنت الليلة فقد التمستك في مظانك ، فقال علمت أني أتيت من بيت المقدس الليلة ،
فقال يا رسول الله إنه مسيرة شهر فصفه لي ، قال ففتح لي صراط كأني إليه لا يسألني
عن شيء إلا أنبأته به ، فقال أبو بكر أشهد أنك لرسول الله ، وقال المشركون انظروا
إلى ابن أبي كبشة يزعم أنه أتى بيت المقدس الليلة ، قال فقال إن من آية ما أقول
لكم أني مررت بعير لكم في مكان كذا وكذا وقد أضلوا بعيرا لهم فجمعه فلان وإن
مسيرهم ينزلون بكذا ثم بكذا ويأتونكم يوم كذا وكذا يقدمهم جمل آدم عليه مسح أسود
وغرارتان سوداوان.
فلما كان ذلك
اليوم قد أشرف الناس ينظرون حين كان قريبا من نصف النهار حتى أقبلت العير يقدمهم
ذلك الجمل الذي وصفه رسول الله صلىاللهعليهوسلم. هكذا رواه البيهقي من طريقين عن أبي إسماعيل الترمذي به
ثم قال بعد تمامه هذا إسناد صحيح ، وروي ذلك مفرقا من أحاديث غيره ونحن نذكر من
ذلك إن شاء الله ما حضرنا ثم ساق أحاديث كثيرة في الإسراء كالشاهد لهذا الحديث ،
وقد روي هذا الحديث عن شداد بن أوس بطوله الإمام أبو عبد الرحمن بن أبي حاتم في
تفسيره عن أبيه عن إسحاق بن إبراهيم بن العلاء الزبيدي به ، ولا شك أن هذا الحديث
أعني الحديث المروي عن شداد بن أوس مشتمل على أشياء منها ما هو صحيح كما ذكره البيهقي
ومنها ما هو منكر كالصلاة في بيت لحم. وسؤال الصديق عن نعت بيت المقدس وغير ذلك
والله أعلم.
رواية عبد الله بن عباس رضي الله عنهما
قال الإمام أحمد : حدثنا عثمان بن محمد ، حدثنا جرير عن قابوس عن أبيه قال
: حدثنا ابن عباس قال : ليلة أسري برسول الله صلىاللهعليهوسلم ، دخل الجنة فسمع في جانبها وخشا فقال : يا جبريل ما هذا؟
قال : هذا بلال المؤذن ، فقال النبي صلىاللهعليهوسلم حين جاء إلى الناس «قد أفلح بلال رأيت له كذا وكذا» قال :
فلقيه موسى عليهالسلام ، فرحب به قال : مرحبا بالنبي الأمي ، قال : وهو رجل آدم
طويل ، سبط شعره مع أذنيه أو فوقهما ، فقال : من هذا يا جبريل؟ قال : هذا موسى ،
قال : فمضى فلقيه شيخ جليل متهيب فرحب به وسلم عليه ، وكلهم يسلم عليه ، قال : من
هذا يا جبريل؟ قال : هذا أبوك إبراهيم ـ قال ـ ونظر في النار فإذا قوم يأكلون
الجيف ، قال : من هؤلاء يا جبريل؟ قال هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ، ورأى رجلا
أحمر أزرق جدا قال : من هذا يا جبريل؟ قال : هذا عاقر الناقة ـ قال ـ فلما أتى
رسول الله صلىاللهعليهوسلم المسجد الأقصى ، قام يصلي فإذا النبيون أجمعون يصلون معه ،
فلما انصرف جيء بقدحين أحدهما عن اليمين والآخر عن الشمال ، في أحدهما لبن وفي
الآخر عسل ، فأخذ اللبن فشرب منه ، فقال الذي كان معه القدح : أصبت الفطرة ، إسناد
صحيح ، ولم يخرجوه.
[طريق أخرى] ـ قال
الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا ثابت أبو زيد ، حدثنا هلال ، حدثني
عكرمة عن ابن عباس قال : أسري برسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى بيت المقدس ، ثم جاء من ليلته فحدثهم بمسيره وبعلامة
بيت المقدس وبعيرهم ، فقال الناس : نحن لا نصدق محمدا بما يقول ، فارتدوا كفارا
فضرب الله رقابهم مع أبي جهل ، وقال أبو جهل : يخوفنا محمد بشجرة الزقوم ، هاتوا
تمرا وزبدا فتزقموا ، ورأى الدجال في صورته رؤيا عين ليس برؤيا منام وعيسى
وموسى وإبراهيم ، وسئل النبي صلىاللهعليهوسلم عن الدجال فقال «رأيته فيلمانيا أقمر هجانا ، إحدى عينيه قائمة كأنها كوكب دري ، كأن شعر رأسه أغصان
شجرة ، ورأيت عيسى عليهالسلام أبيض ، جعد الرأس حديد البصر ، ومبطن الخلق ، ورأيت موسى عليهالسلام أسحم آدم ، كثير الشعر ، شديد الخلق ، ونظرت إلى إبراهيم عليهالسلام فلم أنظر إلى
__________________
إرب منه إلا نظرت إليه مني حتى كأنه صاحبكم ، قال جبريل : سلم
على مالك ، فسلمت عليه» ورواه النسائي من حديث أبي زيد ثابت عن هلال ، وهو ابن
خباب به ، وهو إسناد صحيح.
[طريق أخرى] قال
البيهقي : أنبأنا أبو عبد الله الحافظ ، أنبأنا أبو بكر الشافعي ، أنبأنا إسحاق بن
الحسن ، حدثنا الحسين بن محمد ، حدثنا شيبان عن قتادة عن أبي العالية قال : حدثنا
ابن عم نبيكم صلىاللهعليهوسلم ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «رأيت ليلة أسري بي موسى بن عمران رجلا طوالا جعدا ،
كأنه من رجال شنوءة ، ورأيت عيسى ابن مريمعليهالسلام مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض سبط الرأس» وأرى مالكا
خازن جهنم والدجال في آيات أراهن الله إياه ، قال : (فَلا تَكُنْ فِي
مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ) [هود : ١٠٩] فكان
قتادة يفسرها أن نبي الله صلىاللهعليهوسلم قد لقي موسى عليهالسلام (وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي
إِسْرائِيلَ) [الإسراء : ٢] قال
: جعل الله موسى هدى لبني إسرائيل ، ورواه مسلم في الصحيح عن عبد بن حميد عن يونس بن محمد ،
عن شيبان ، وأخرجاه من حديث شعبة عن قتادة مختصرا.
[طريق أخرى] وقال
البيهقي : أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان ، أنبأنا أحمد بن عبيد الصفار ، ثنا دبيس
المعدل ، ثنا عفان قال : ثنا حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير ، عن
ابن عباس قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لما أسري بي مرت بي رائحة طيبة ، فقلت : ما هذه الرائحة؟
قالوا : ماشطة بنت فرعون وأولادها ، سقط المشط من يدها فقالت : باسم الله ، فقالت
بنت فرعون أبي ، قالت ربي وربك ورب أبيك ، قالت أولك رب غير أبي؟ قالت نعم ربي
وربك ورب أبيك الله .. قال : فدعاها ، فقال : ألك رب غيري؟ قالت نعم ربي وربك الله
عزوجل. قال فأمر بنقرة من نحاس ، فأحميت ثم أمر بها أن تلقى فيها
، قالت : إن لي إليك حاجة ، قال : ما هي؟ قالت : تجمع عظامي وعظام ولدي في موضع ،
قال : ذاك لك لما لك علينا من الحق ، قال : فأمر بهم فألقوا واحدا واحدا حتى بلغ
رضيعا فيهم ، فقال : يا أمه قعي ولا تقاعسي ، فإنك على الحق ، قال : وتكلم أربعة
في المهد وهم صغار : هذا وشاهد يوسف وصاحب جريج وعيسى ابن مريم عليهالسلام. إسناد لا بأس به ، ولم يخرجوه.
[طريق أخرى] قال
الإمام أحمد أيضا : حدثنا محمد بن جعفر وروح بن المعين قالا : حدثنا
عوف عن زرارة بن أوفى عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لما كان ليلة أسري بي ، فأصبحت بمكة فظعت وعرفت أن
الناس مكذبي» فقعد معتزلا حزينا ، فمر به عدو الله أبو جهل ، فجاء حتى جلس إليه
فقال له كالمستهزئ : هل كان من شيء فقال له رسول اللهصلىاللهعليهوسلم
__________________
«نعم» قال : وما
هو؟ قال : «إني أسري بي الليلة» ، قال : إلى أين؟ قال : «إلى بيت المقدس» قال : ثم
أصبحت بين ظهرانينا؟ قال «نعم» ، قال فلم ير أن يكذبه مخافة أن يجحد الحديث إن دعا
قومه إليه ، فقال : أرأيت إن دعوت قومك أتحدثهم بما حدثتني؟ فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «نعم» فقال : يا
معشر بني كعب بن لؤي.
قال : فانفضت إليه
المجالس وجاءوا حتى جلسوا إليهما ، قال : حدث قومك بما حدثتني ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إني أسري بي الليلة» فقالوا : إلى أين؟ قال «إلى بيت
المقدس». قالوا : ثم أصبحت بين ظهرانينا؟ قال «نعم». قال فمن بين مصفق ومن بين
واضع يده على رأسه متعجبا للكذب ، قالوا : وتستطيع أن تنعت لنا المسجد؟ وفيهم من
قد سافر إلى ذلك البلد ورأى المسجد ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «فما زلت أنعت حتى
التبس عليّ بعض النعت قال فجيء بالمسجد وأنا أنظر إليه حتى وضع دون دار عقيل أو
عقال فنعته وأنا أنظر إليه قال وكان مع هذا نعت لم أحفظه قال فقال القوم : أما
النعت فو الله لقد أصاب فيه» وأخرجه النسائي من حديث عوف بن أبي جميلة وهو
الأعرابي به ، ورواه البيهقي من حديث النضر بن شميل وهوذة عن عوف وهو ابن أبي
جميلة الأعرابي أحد الأئمة الثقات.
رواية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه
قال الحافظ أبو
بكر البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، حدثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب ،
حدثنا السري بن خزيمة ، حدثنا يوسف بن بهلول ، حدثنا عبد الله بن نمير عن مالك بن
مغول عن الزبير بن عدي عن طلحة بن مصرف عن مرة الهمداني ، عن عبد الله بن مسعود
قال : لما أسري برسول الله صلىاللهعليهوسلم فانتهى إلى سدرة المنتهى وهي في السماء السادسة ، وإليها
ينتهي ما يصعد به حتى يقبض منها ، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها حتى يقبض (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى) [النجم : ١٦] قال
: غشيها فراش من ذهب ، وأعطي رسول اللهصلىاللهعليهوسلم الصلوات الخمس وخواتيم سورة البقرة ، وغفر لمن لا يشرك
بالله شيئا المقحمات يعني الكبائر.
ورواه مسلم في صحيحه عن محمد بن عبد الله بن نمير وزهير بن حرب ،
كلاهما عن عبد الله بن نمير به ، ثم قال البيهقي وهذا الذي ذكره عبد الله بن مسعود
طرف من حديث المعراج ، وقد رواه أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة عن النبي صلىاللهعليهوسلم ، ثم عن أبي ذر عن النبي صلىاللهعليهوسلم ، ثم رواه مرة مرسلا من دون ذكرهما ، ثم إن البيهقي ساق
الأحاديث الثلاثة كما تقدم.
__________________
قلت : وقد روي عن
ابن مسعود بأبسط من هذا ، وفيه غرابة ، وذلك فيما رواه الحسن بن عرفة في جزئه
المشهور : حدثنا مروان بن معاوية عن قتادة بن عبد الله التيمي ، حدثنا أبو ظبيان
الجنبي قال : كنا جلوسا عند أبي عبيدة بن عبد الله يعني ابن مسعود ، ومحمد بن سعد
بن أبي وقاص وهما جالسان ، فقال محمد بن سعد لأبي عبيدة : حدثنا عن أبيك ليلة أسري
بمحمدصلىاللهعليهوسلم ، فقال أبو عبيدة : لا بل حدثنا أنت عن أبيك ، فقال محمد :
لو سألتني قبل أن أسألك لفعلت ، قال فأنشأ أبو عبيدة يحدث يعني عن أبيه كما سئل.
قال : قال رسول
الله صلىاللهعليهوسلم : «أتاني جبريل عليهالسلام بدابة فوق الحمار ودون البغل ، فحملني عليه ثم انطلق يهوي
بنا كلما صعد عقبة استوت رجلاه كذلك يديه ، وإذا هبط استوت يداه مع رجليه ، حتى
مررنا برجل طوال سبط آدم كأنه من رجال أزد شنوءة ، فيرفع صوته يقول أكرمته وفضلته
، قال : فدفعنا إليه فسلمنا عليه فرد السلام ، فقال ، من هذا معك يا جبريل؟ قال :
هذا أحمد ، قال مرحبا بالنبي الأمي العربي الذي بلغ رسالة ربه ونصح لأمته ، قال ثم
اندفعنا فقلت من هذا يا جبريل؟ قال هذا موسى بن عمران. قال قلت ومن يعاقب؟ قال
يعاتب ربه فيك ، قلت : ويرفع صوته على ربه؟ قال : إن الله قد عرف له حدته.
قال : ثم اندفعنا
حتى مررنا بشجرة كأن ثمرها السرج ، تحتها شيخ وعياله ، قال : فقال لي جبريل : اعمد إلى أبيك
إبراهيم ، فدفعنا إليه فسلمنا عليه فرد السلام ، فقال إبراهيم : من هذا معك يا
جبريل؟ قال : هذا ابنك أحمد ، قال : فقال مرحبا بالنبي الأمي الذي بلغ رسالة ربه ،
ونصح لأمته ، يا بني إنك لاق ربك الليلة ، وإن أمتك آخر الأمم وأضعفها ، فإن
استطعت أن تكون حاجتك أو جلها في أمتك فافعل.
قال : ثم اندفعنا
حتى انتهينا إلى المسجد الأقصى ، فنزلت فربطت الدابة في الحقلة التي في باب المسجد
التي كانت الأنبياء تربط بها ، ثم دخلت المسجد فعرفت النبيين من بين قائم وراكع
وساجد ، قال : ثم أتيت بكأسين من عسل ولبن ، فأخذت اللبن فشربت ، فضرب جبريل عليهالسلام منكبي وقال : أصبت الفطرة ورب محمد ، قال : «ثم أقيمت
الصلاة فأممتهم ، ثم انصرفنا فأقبلنا».
إسناد غريب ، ولم
يخرجوه ، فيه من الغرائب سؤال الأنبياء عنه عليهالسلام ابتداء ، ثم سؤاله عنهم بعد انصرافه ، والمشهور في الصحاح
كما تقدم أن جبريل كان يعلمه بهم أولا ليسلم عليهم سلام معرفة ، وفيه أنه اجتمع
بالأنبياء عليهمالسلام قبل دخوله المسجد الأقصى ، والصحيح أنه إنما اجتمع بهم في
السموات ، ثم نزل إلى بيت المقدس ثانيا وهم معه. وصلى بهم فيه ، ثم أنه ركب البراق
وكر راجعا إلى مكة ، والله أعلم.
__________________
[طريق أخرى] قال
الإمام أحمد : حدثنا هشيم ، حدثنا العوام عن جبلة بن سحيم عن مؤثر بن
عفازة ، عن ابن مسعود عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال «لقيت ليلة أسري بي إبراهيم وموسى وعيسى عليهمالسلام ، فتذاكروا أمر الساعة ، قال : فردوا أمرهم إلى إبراهيم عليهالسلام ، فقال : لا علم لي بها ، فردوا أمرهم إلى موسى فقال : لا
علم لي بها ، فردوا أمرهم إلى عيسى ، فقال : ما أوحيتها فلا يعلم بها أحد إلا الله
عزوجل ، وفيما عهد إلي ربي أن الدجال خارج ، قال : ومعي قضيبان
فإذا رآني ذاب كما يذوب الرصاص ، قال : فيهلكه الله إذا رآني حتى إن الحجر والشجر
يقول : يا مسلم إن تحتي كافرا فتعال فاقتله ، قال : فيهلكهم الله ثم يرجع الناس
إلى بلادهم وأوطانهم.
قال : فعند ذلك
يخرج يأجوج ومأجوج ، وهم من كل حدب ينسلون فيطئون بلادهم فلا يأتون على شيء إلا
أهلكوه ، ولا يمرون على ماء إلا شربوه ، قال : ثم يرجع الناس إلي فيشكونهم فأدعو
الله عليهم فيهلكهم ويميتهم حتى تجري الأرض من نتن ريحهم ، أي تنتن ، قال : فينزل
الله المطر فيجترف أجسادهم حتى يقذفهم في البحر ، ففيما عهد إلي ربي أن ذلك كان
كذلك أن الساعة كالحامل المتم لا يدري أهلها متى تفجؤهم بولادتها ليلا أو نهارا.
وأخرجه ابن ماجة عن بندار عن يزيد بن هارون ، عن العوام بن حوشب.
رواية عبد الرحمن بن قرظ أخي عبد الله بن قرظ الثمالي
قال سعيد بن منصور
: حدثنا مسكين بن ميمون مؤذن مسجد الرملة ، حدثني عروة بن رويم عن عبد الرحمن بن
قرظ أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ليلة أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى من بين
زمزم والمقام ، جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره ، فطارا به حتى بلغ السموات
العلى ، فلما رجع قال : سمعت تسبيحا في السموات العلى مع تسبيح كثير ، سبحت
السموات العلى من ذي المهابة مشفقات من ذوي العلو بما علا سبحان العلي الأعلى
سبحانه وتعالى. ونذكر هاهنا الحديث عند قوله تعالى من هذه السورة (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ) [الإسراء : ٤٤]
الآية.
رواية عمر بن الخطاب رضي الله عنه
قال الإمام أحمد : حدثنا أسود بن عامر ، حدثنا حماد بن سلمة عن أبي سنان ،
عن
__________________
عبيد بن آدم وأبي
مريم وأبي شعيب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان بالجابية ، فذكر فتح بيت المقدس
قال : قال أبو سلمة : فحدثني أبو سنان عن عبيد بن آدم ، قال : سمعت عمر بن الخطاب
يقول لكعب : أين ترى أن أصلي؟ فقال : إن أخذت عني صليت خلف الصخرة ، فكانت القدس
كلها بين يديك ، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ضاهيت اليهودية ، ولكن أصلي
حيث صلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فتقدم إلى القبلة فصلى ، ثم جاء فبسط رداءه وكنس الكناسة
في ردائه ، وكنس الناس ، فلم يعظم الصخرة تعظيما يصلي وراءها وهي بين يديه كما
أشار كعب الأحبار وهو من قوم يعظمونها حتى جعلوها قبلتهم ، ولكن من الله عليه
بالإسلام فهدي إلى الحق ، ولهذا لما أشار بذلك ، قال له أمير المؤمنين عمر : ضاهيت
اليهودية ولا أهانها إهانة النصارى الذين كانوا قد جعلوها مزبلة من أجل أنها قبلة
اليهود ، ولكن أماط عنها الأذى وكنس عنها الكناسة بردائه. وهذا شبيه بما جاء في
صحيح مسلم عن أبي مرثد الغنوي قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها» .
رواية أبي هريرة وهي مطولة جدا وفيها غرابة
قال الإمام أبو
جعفر بن جرير في تفسير سورة سبحان : حدثنا علي بن سهل ، ثنا حجاج ثنا
أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية الرياحي عن أبي هريرة أو غيره
، شك أبو جعفر ، في قول الله عزوجل (سُبْحانَ الَّذِي
أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً) الآية ، قال : جاء جبريل إلى النبي صلىاللهعليهوسلم ومعه ميكائيل ، فقال جبريل لميكائيل : ائتني بطست من ماء
زمزم كيما أطهر له قلبه وأشرح له صدره ، قال : فشق عن بطنه فغسله ثلاث مرات ،
واختلف إليه ميكائيل بثلاث طساس من ماء زمزم ، فشرح صدره فنزع ما كان فيه من غل ،
وملأه علما وحلما وإيمانا ويقينا وإسلاما ، وختم بين كتفيه بخاتم النبوة ، ثم أتاه
بفرس فحمله عليه كل خطوة منه منتهى بصره أو أقصى بصره.
قال : فسار وسار
معه جبريل عليهماالسلام ، قال : فأتى على قوم يزرعون في يوم ويحصدون في يوم ، كلما
حصدوا عاد كما كان ، فقال النبي صلىاللهعليهوسلم «يا جبريل ما هذا؟»
قال : هؤلاء المجاهدون في سبيل الله تضاعف لهم الحسنة بسبعمائة ضعف ، وما أنفقوا
من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين ، ثم أتى على قوم ترضخ رؤوسهم بالصخر ، كلما
رضخت عادت كما كانت ولا يفتر عنهم من ذلك شيء ، فقال «ما هؤلاء يا جبريل؟» قال :
هؤلاء الذين تتثاقل رؤوسهم عن الصلاة المكتوبة.
__________________
ثم أتى على قوم
على إقبالهم رقاع وعلى أدبارهم رقاع ، يسرحون كما تسرح الإبل والنعم ، ويأكلون
الضريع والزقوم ورضف جهنم وحجارتها ، قال «فما هؤلاء يا جبريل»
قال : هؤلاء الذين لا يؤدون صدقات أموالهم وما ظلمهم الله تعالى شيئا ، وما الله
بظلام للعبيد ثم أتى على قوم بين أيديهم لحم نضيج في قدر ولحم آخر نيئ في قذر خبيث
، فجعلوا يأكلون من اللحم النيء الخبيث ويدعون النضيج الطيب ، فقال : «ما هؤلاء يا
جبريل؟» فقال هذا الرجل من أمتك تكون عنده المرأة الحلال الطيبة ، فيأتي امرأة
خبيثة فيبيت عندها حتى يصبح ، والمرأة تقوم من عند زوجها حلالا طيبا فتأتي رجلا
خبيثا فتبيت معه حتى تصبح.
قال : ثم أتى على
خشبة على الطريق لا يمر بها ثوب إلا شقته ولا شيء إلا خرقته ، قال : «ما هذا يا
جبريل؟» قال : هذا مثل أقوام أمتك يقعدون على الطريق فيقطعونها ، ثم تلا (وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ
وَتَصُدُّونَ) [الأعراف : ٨٦]
الآية ، قال : ثم أتى على رجل قد جمع حزمة عظيمة لا يستطيع حملها وهو يزيد عليها ،
فقال : «ما هذا يا جبريل؟» قال هذا الرجل من أمتك يكون عليه أمانات للناس لا يقدر
على أدائها وهو يريد أن يحمل عليها ، ثم أتى على قوم تقرض ألسنتهم وشفاههم بمقاريض
من حديد ، كلما قرضت عادت كما كانت لا يفتر عنهم من ذلك شيء ، فقال : «ما هذا يا
جبريل؟» فقال : هؤلاء خطباء الفتنة ، ثم أتى على جحر صغير يخرج منه ثور عظيم ،
فجعل الثور يريد أن يرجع من حيث خرج فلا يستطيع ، فقال : «ما هذا يا جبريل؟» فقال
هذا الرجل يتكلم بالكلمة العظيمة ثم يندم عليها فلا يستطيع أن يردها.
ثم أتى على واد
فوجد ريحا طيبة باردة وريح مسك وسمع صوتا ، فقال يا جبريل «ما هذه الريح الطيبة
الباردة ، وما هذا المسك ، وما هذا الصوت؟» قال : هذا صوت الجنة تقول : يا رب
ائتني بما وعدتني فقد كثرت غرفي واستبرقي ، وحريري وسندسي ، وعبقري ولؤلؤي ،
ومرجاني وفضتي وذهبي ، وأكوابي وصحافي وأباريقي أكوسي ، وعسلي ومائي ولبني وخمري ،
فائتني بما وعدتني ، فقال : لك كل مسلم ومسلمة ومؤمن ومؤمنة ، ومن آمن بي وبرسلي
وعمل صالحا ولم يشرك بي شيئا ، ولم يتخذ من دوني أندادا ، ومن خشيتي فهو آمن ، ومن
سألني أعطيته ، ومن أقرضني جزيته ، ومن توكل عليّ كفيته ، إني أنا الله لا إله إلا
أنا لا أخلف الميعاد ، وقد أفلح المؤمنون تبارك الله أحسن الخالقين ، قالت : قد
رضيت.
قال : ثم أتى على
واد فسمع صوتا منكرا ووجد ريحا خبيثة ، فقال : «ما هذا يا جبريل وما هذا الصوت؟»
فقال : هذا صوت جهنم تقول : يا رب ائتني بما وعدتني فقد كثرت سلاسلي ، وأغلالي
وسعيري ، وحميمي ، وضريعي وغساقي وعذابي ، وقد بعد قعري واشتد
__________________
حري ، فائتني بما
وعدتني ، قال : لك كل مشرك ومشركة ، وكافر وكافرة ، وكل خبيث وخبيثة ، وكل جبار لا
يؤمن بيوم الحساب ، قالت : قد رضيت.
قال : ثم سار حتى
أتى بيت المقدس فنزل فربط فرسه إلى الصخرة ، ثم دخل فصلى مع الملائكة ، فلما قضيت
الصلاة قالوا ، يا جبريل من هذا معك؟ قال : محمد صلىاللهعليهوسلم ، قالوا : أوقد أرسل إليه فقال : نعم ، قالوا : حياه الله
من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ، ونعم الخليفة ، ونعم المجيء جاء. قال : ثم لقي أرواح
الأنبياء فأثنوا على ربهم ، فقال إبراهيم عليهالسلام : الحمد لله الذي اتخذني خليلا ، وأعطاني ملكا عظيما ،
وجعلني أمة قانتا يؤتم بي ، وأنقذني من النار وجعلها علي بردا وسلاما ، ثم إن موسى
عليهالسلام أثنى على ربه فقال : الحمد لله الذي كلمني تكليما ، وجعل
هلاك آل فرعون ونجاة بني إسرائيل على يدي ، وجعل من أمتي قوما يهدون بالحق وبه
يعدلون ، ثم إن داود عليهالسلام أثنى على ربه ، فقال : الحمد لله الذي جعل لي ملكا عظيما ،
وعلمني الزبور ، وألان لي الحديد ، وسخر لي الجبال يسبحن والطير ، وأعطاني الحكمة
وفصل الخطاب.
ثم إن سليمان عليهالسلام أثنى على ربه ، فقال : الحمد لله الذي سخر لي الرياح وسخر
لي الشياطين يعملون لي ما شئت من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات ،
وعلمني منطق الطير ، وآتاني من كل شيء فضلا ، وسخر لي جنود الشياطين والإنس والطير
، وفضلني على كثير من عباده المؤمنين ، وآتاني ملكا عظيما لا ينبغي لأحد من بعدي ،
وجعل ملكي طيبا ليس فيه حساب.
ثم إن عيسى عليهالسلام أثنى على ربه عزوجل ، فقال : الحمد لله الذي جعلني كلمته ، وجعل مثلي كمثل آدم
خلقه من تراب ، ثم قال له كن فيكون ، وعلمني الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ،
وجعلني أخلق من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله ، وجعلني أبرئ
الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله ، ورفعني وطهرني ، وأعاذني وأمي من الشيطان
الرجيم ، فلم يكن للشيطان علينا سبيل.
قال : ثم إن محمدا
صلىاللهعليهوسلم أثنى على ربه عزوجل ، فقال : «كلكم أثنى على ربه ، وإني مثن على ربي ، فقال :
الحمد لله الذي أرسلني رحمة للعالمين وكافة للناس بشيرا ونذيرا ، وأنزل علي
الفرقان فيه بيان لكل شيء وجعل أمتي خير أمة أخرجت للناس ، وجعل أمتي أمة وسطا
وجعل أمتي هم الأولون وهم الآخرون ، وشرح لي صدري ووضع عني وزري ، ورفع لي ذكري ،
وجعلني فاتحا وخاتما» فقال إبراهيم عليهالسلام : بهذا فضلكم محمد صلىاللهعليهوسلم.
قال أبو جعفر
الرازي : خاتم بالنبوة فاتح بالشفاعة يوم القيامة ، ثم أتي بآنية ثلاثة مغطاة
أفواهها ، فأتي بإناء منها فيه ماء ، فقيل له : اشرب ، فشرب منه يسيرا ، ثم دفع
إليه إناء آخر فيه
لبن ، فقيل له :
اشرب ، فشرب منه حتى روي ، ثم دفع إليه إناء آخر فيه خمر ، فقيل له : اشرب ، فقال
: لا أريده قد رويت ، فقال له جبريل : أما إنها ستحرم على أمتك ولو شربت منها لم
يتبعك من أمتك إلا القليل.
قال : ثم صعد به
إلى السماء فاستفتح ، فقيل : من هذا يا جبريل؟ فقال : محمد ، فقالوا : أو قد أرسل
إليه؟ قال : نعم ، قالوا : حياه الله من أخ ومن خليفة ، فنعم الأخ ، ونعم الخليفة
، ونعم المجيء جاء ، ففتح لهما ، فدخل فإذا برجل تام الخلق لم ينقص من خلقه شيء ،
كما ينقص من خلق الناس ، عن يمينه باب يخرج منه ريح طيبة ، وعن شماله باب يخرج منه
ريح خبيثة ، فإذا نظر إلى الباب الذي عن يمينه ضحك واستبشر ، وإذا نظر إلى الباب
الذي عن شماله بكى وحزن ، فقلت : يا جبريل ، من هذا الشيخ التام الخلق الذي لم
ينقص من خلقه شيء ، وما هذان البابان؟ فقال : هذا أبوك آدم ، وهذا الباب الذي عن
يمينه باب الجنة ، فإذا نظر إلى من يدخل الجنة من ذريته ضحك واستبشر ، والباب الذي
عن شماله باب جهنم ، إذا نظر إلى من يدخلها من ذريته بكى وحزن.
ثم صعد به جبريل
إلى السماء الثانية فاستفتح ، فقيل : من هذا معك؟ فقال : محمد رسول الله ، فقالوا
: أو قد أرسل إليه؟ قال : نعم ، فقالوا : حياه الله من أخ ومن خليفة ، فنعم الأخ
ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء ، قال : فدخل ، فإذا هو بشابين ، فقال : يا جبريل من
هذان الشابان؟ قال : هذا عيسى ابن مريم ويحيى بن زكريا ابنا الخالة عليهماالسلام.
قال : فصعد به إلى
السماء الثالثة ، فاستفتح ، فقالوا : من هذا؟ قال : جبريل ، قالوا : ومن معك؟ قال
: محمد ، فقالوا : أو قد أرسل إليه؟ قال : نعم ، فقالوا : حياه الله من أخ ومن
خليفة ، فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء ، قال : فدخل ، فإذا هو برجل قد
فضل على الناس في الحسن ، كما فضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب ، قال : من
هذا يا جبريل الذي قد فضل على الناس في الحسن؟ قال : هذا أخوك يوسف عليهالسلام.
قال : ثم صعد به
إلى السماء الرابعة ، فاستفتح ، فقالوا : من هذا؟ قال : جبريل ، قالوا :
ومن معك؟ قال :
محمد ، فقالوا : أو قد أرسل إليه؟ قال : نعم ، فقالوا : حياه الله من أخ ومن خليفة
، فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء ، قال : فدخل ، فإذا هو برجل ، قال : من
هذا يا جبريل؟ قال : هذا إدريس عليهالسلام رفعه الله مكانا عليا.
قال : صعد به إلى
السماء الخامسة ، فاستفتح ، فقالوا : من هذا؟ قال : جبريل ، قالوا : ومن معك؟ قال
: محمد ، فقالوا : أو قد أرسل إليه؟ قال : نعم ، فقالوا : حياه الله من أخ ومن
خليفة ، فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء ، قال : فدخل ، فإذا هو برجل جالس
وحوله قوم يقص عليهم ، قال : من هذا يا جبريل ، ومن هؤلاء حوله؟ قال : هذا هارون
المحبب ،
وهؤلاء بنو
إسرائيل.
قال : صعد به إلى
السماء السادسة ، فاستفتح ، فقالوا : من هذا؟ قال : جبريل ، قالوا : ومن معك؟ قال
: محمد ، فقالوا : أو قد أرسل إليه؟ قال : نعم ، فقالوا : حياه الله من أخ ومن
خليفة ، فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء ، قال : فدخل ، فإذا هو برجل جالس
فجاوزه فبكى الرجل ، فقال : يا جبريل من هذا؟ قال : موسى ، قال : فما باله يبكي؟
قال : يزعم بنو إسرائيل أني أكرم بني آدم على الله عزوجل ، وهذا رجل من بني آدم قد خلفني في دنيا وأنا في أخرى ،
فلو أنه بنفسه لم أبال ولكن مع كل نبي أمته.
قال : ثم صعد به
إلى السماء السابعة ، فاستفتح ، فقالوا : من هذا؟ قال : جبريل ، قالوا : ومن معك؟
قال : محمد ، فقالوا : أو قد أرسل إليه؟ قال : نعم ، فقالوا : حياه الله من أخ ومن
خليفة ، فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء ، قال : فدخل ، فإذا هو برجل أشمط
جالس عند باب الجنة على كرسي ، وعنده قوم جلوس ، بيض الوجوه أمثال القراطيس ، وقوم
في ألوانهم شيء ، فقام هؤلاء الذين في ألوانهم شيء ، فدخلوا نهرا فاغتسلوا فيه ،
فخرجوا وقد خلص من ألوانهم شيء ، ثم دخلوا نهرا آخر فاغتسلوا فيه فخرجوا وقد خلص
من ألوانهم شيء. ثم دخلوا نهرا آخر فاغتسلوا فيه ، فخرجوا وقد خلصت ألوانهم فصارت
مثل ألوان أصحابهم ، جاءوا فجلسوا إلى أصحابهم ، فقال : يا جبريل من هذا الأشمط ،
ثم من هؤلاء البيض الوجوه ومن هؤلاء الذين في ألوانهم شيء ، وما هذه الأنهار التي
دخلوا فيها فجاؤوا وقد صفت ألوانهم؟ قال : هذا أبوك إبراهيم ، أول من شمط على وجه
الأرض ، وأما هؤلاء البيض الوجوه ، فقوم لم يلبسوا إيمانهم بظلم ، وأما هؤلاء
الذين في ألوانهم شيء ، فقوم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ، فتابوا فتاب الله عليهم
، وأما الأنهار ، فأولها رحمة الله ، والثاني نعمة الله ، والثالث سقاهم ربهم
شرابا طهورا.
قال : ثم انتهى
إلى السدرة ، فقيل له : هذه السدرة ينتهي إليها كل أحد خلا من أمتك على سنتك ،
فإذا هي شجرة يخرج من أصلها أنهار من ماء غير آسن ، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه ،
وأنهار من خمر لذة للشاربين ، وأنهار من عسل مصفى ، وهي شجرة يسير الراكب في ظلها
سبعين عاما لا يقطعها ، والورقة منها تغطي الأمة كلها ، قال : فغشيها نور الخلاق عزوجل ، وغشيتها الملائكة أمثال الغربان حين يقعن على الشجرة ،
من حب الرب تبارك وتعالى ، قالوا : فكلمه الله عند ذلك فقال له : سل ، فقال : إنك
اتخذت إبراهيم خليلا وأعطيته ملكا عظيما ، وكلمت موسى تكليما وأعطيت داود ملكا
عظيما وألنت له الحديد ، وسخرت له الجبال ، وأعطيت سليمان ملكا وسخرت له الجن
والإنس والشياطين ، وسخرت له الرياح وأعطيت له ملكا لا ينبغي لأحد من بعده ، وعلمت
عيسى التوراة والإنجيل وجعلته يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذنك ، وأعذته
وأمه من الشيطان الرجيم ، فلم يكن للشيطان عليهما سبيل ،
فقال له الرب عزوجل : وقد اتخذتك خليلا ـ وهو مكتوب في التوراة حبيب الرحمن ـ وأرسلتك
إلى الناس كافة بشيرا ونذيرا ، وشرحت لك صدرك ، ووضعت عنك وزرك ، ورفعت لك ذكرك ،
فلا أذكر إلا ذكرت معي ، وجعلت أمتك خير أمة أخرجت للناس ، وجعلت أمتك أمة وسطا ،
وجعلت أمتك هم الأولين وهم الآخرين وجعلت أمتك لا تجوز لهم خطبة حتى يشهدوا أنك
عبدي ورسولي ، وجعلت من أمتك أقواما قلوبهم أناجيلهم ، وجعلتك أول النبيين خلقا
وآخرهم بعثا ، وأولهم يقضى له ، وأعطيتك سبعا من المثاني لم يعطها نبي قبلك ،
وأعطيتك خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش لم أعطها نبيا قبلك ، وأعطيتك الكوثر
، وأعطيتك ثمانية أسهم : الإسلام والهجرة والجهاد والصلاة والصدقة وصوم رمضان
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وجعلتك فاتحا خاتما ، فقال النبي صلىاللهعليهوسلم «فضلني ربي بست : أعطاني
فواتح الكلام وخواتيمه ، وجوامع الحديث ، وأرسلني إلى الناس كافة بشيرا ونذيرا ،
وقذف في قلوب أعدائي الرعب من مسيرة شهر ، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي ،
وجعلت لي الأرض كلها طهورا ومسجدا» ، قال : وفرض عليه خمسين صلاة.
فلما رجع إلى موسى
قال : بم أمرت يا محمد؟ قال : بخمسين صلاة ، قال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ،
فإن أمتك أضعف الأمم ، فقد لقيت من بني إسرائيل شدة ، قال : فرجع النبي صلىاللهعليهوسلم إلى ربه عزوجل فسأله التخفيف ، فوضع عنه عشرا ثم رجع إلى موسى فقال له :
بكم أمرت؟ قال بأربعين قال ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ، فإن أمتك أضعف الأمم ،
ولقد لقيت من بني إسرائيل شدة ، قال : فرجع النبي صلىاللهعليهوسلم إلى ربه ، فسأله التخفيف ، فوضع عنه عشرا ، فرجع إلى موسى
، فقال : بكم أمرت : قال أمرت بثلاثين ، فقال له موسى ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف
، فإن أمتك أضعف الأمم ، فقد لقيت من بني إسرائيل شدة ، فرجع النبيصلىاللهعليهوسلم إلى ربه عزوجل فسأله التخفيف ، فوضع عنه عشرا فرجع إلى موسى فقال له :
بكم أمرت؟ قال بعشرين.
قال : ارجع إلى
ربك فاسأله التخفيف ، فإن أمتك أضعف الأمم ، فقد لقيت من بني إسرائيل شدة ، قال :
فرجع النبي صلىاللهعليهوسلم إلى ربه عزوجل فسأله التخفيف ، فوضع عنه عشرا فرجع إلى موسى عليهالسلام ، فقال له : بكم أمرت؟ قال أمرت بعشر ، قال : ارجع إلى ربك
فاسأله التخفيف ، فإن أمتك أضعف الأمم ، فقد لقيت من بني إسرائيل شدة ، قال : فرجع
النبي صلىاللهعليهوسلم إلى ربه عزوجل فسأله التخفيف ، فوضع عنه خمسا ، فرجع إلى موسى عليهالسلام ، فقال له : بكم أمرت؟ قال أمرت بخمس ، قال : ارجع إلى ربك
فاسأله التخفيف ، فإن أمتك أضعف الأمم ، وقد لقيت من بني إسرائيل شدة ، قال : قد
رجعت إلى ربي حتى استحييت ، فما أنا براجع إليه ، قيل : أما إنك كما صبرت نفسك خمس
صلوات ، فإنهن يجزين عنك خمسين صلاة ، فإن كل حسنة بعشر أمثالها ، قال : فرضي محمد
صلىاللهعليهوسلم كل الرضا ، قال : وكان موسى عليهالسلام من
أشدهم عليه حين مر
به وخيرهم له حين رجع إليه.
ثم رواه ابن جرير عن محمد بن عبيد الله عن أبي النضر هاشم بن القاسم ، عن
أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية أو غيره ، شك أبو جعفر عن
أبي هريرة ، عن النبي صلىاللهعليهوسلم فذكره بمعناه ، وقد رواه الحافظ أبو بكر البيهقي عن أبي
سعيد الماليني ، عن ابن عدي ، عن محمد بن الحسن السكوني البالسي بالرملة ، حدثنا
علي بن سهل فذكر مثل ما رواه ابن جرير عنه ، وذكر البيهقي أن الحاكم أبا عبد الله
رواه عن إسماعيل بن محمد بن الفضل بن محمد الشعراني عن جده ، عن إبراهيم بن حمزة
الزبيري ، عن حاتم بن إسماعيل ، حدثني عيسى بن ماهان يعني أبا جعفر الرازي عن
الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلىاللهعليهوسلم فذكره.
وقال ابن أبي حاتم
: ذكر أبو زرعة ، حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير حدثنا يونس بن بكير حدثنا عيسى
بن عبد الله التميمي عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس البكري ، عن أبي
العالية أو غيره ، شك عيسى ، عن أبي هريرة عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال في قوله تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي
أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) فذكر الحديث بطوله كنحو مما سقناه.
قلت وأبو جعفر
الرازي : قال : فيه الحافظ أبو زرعة الرازي : يهم في الحديث كثيرا ، وقد ضعفه غيره
أيضا ، ووثقه بعضهم ، والظاهر أنه سيئ الحفظ ، ففيما تفرد به نظر. وهذا الحديث في
بعض ألفاظه غرابة ونكارة شديدة ، وفيه شيء من حديث المنام من رواية سمرة بن جندب
في المنام الطويل عند البخاري ، ويشبه أن يكون مجموعا من أحاديث شتى أو منام أو
قصة أخرى غير الإسراء ، والله أعلم.
وقد روى البخاري
ومسلم في الصحيحين من حديث عبد الرزاق : أنبأنا معمر عن الزهري ، أخبرني سعيد بن
المسيب عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «حين أسري بي ،
لقيت موسى عليهالسلام ـ فنعته ، فإذا رجل حسبته قال ـ مضطرب رجل الرأس كأنه من
رجال شنوءة ، قال : ولقيت عيسى ـ فنعته النبي صلىاللهعليهوسلم قال ـ ربعة أحمر كأنما خرج من ديماس ـ يعني حمام ، قال ـ ولقيت
إبراهيم وأنا أشبه ولده به ، قال : وأتيت بإناءين في أحدهما لبن وفي الآخر خمر ،
قيل لي : خذ أيهما شئت ، فأخذت اللبن فشربت ، فقيل لي : هديت الفطرة ـ أو أصبت
الفطرة ـ أما إنك لو أخذت خمر غوت أمتك» وأخرجاه من وجه آخر عن الزهري به نحوه.
__________________
وفي صحيح مسلم عن محمد بن رافع عن الحجين بن المثنى ، عن عبد العزيز بن
أبي سلمة عن عبد الله بن الفضل الهاشمي ، عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه
قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «لقد رأيتني في
الحجر وقريش تسألني عن مسراي ، فسألوني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها ، فكربت
كربا ما كربت مثله قط ، فرفعه الله إلي أنظر إليه ما سألوني عن شيء إلا أنبأتهم به
، وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء ، وإذا موسى قائم يصلي ، وإذا هو رجل جعد كأنه
من رجال شنوءة ، وإذا عيسى بن مريم قائم يصلي أقرب الناس شبها به عروة بن مسعود
الثقفي ، وإذا إبراهيم قائم يصلي أقرب الناس شبها به صاحبكم ـ يعني نفسه ـ فحانت
الصلاة فأممتهم ، فلما فرغت قال قائل : يا محمد هذا مالك خازن جهنم ، فالتفت إليه
فبدأني بالسلام».
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبي ، حدثنا حجاج بن منهال ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد عن أبي
الصلت ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «رأيت ليلة أسري بي لما انتهيت إلى السماء السابعة ،
فنظرت فوق فإذا رعد وبرق وصواعق ، قال : وأتيت على قوم بطونهم كالبيوت فيها
الحيّات ترى من خارج بطونهم ، فقلت : من هؤلاء يا جبريل؟ قال : هؤلاء آكلو الربا ،
فلما نزلت إلى السماء الدنيا نظرت أسفل مني فإذا أنا برهج ودخان وأصوات ، فقلت: من
هؤلاء يا جبريل؟ قال : هذه الشياطين يحومون على أعين بني آدم لا يتفكرون في ملكوت
السموات والأرض ، ولولا ذلك لرأوا العجائب» ورواه الإمام أحمد عن حسن وعفان ، كلاهما عن حماد بن سلمة
به. ورواه ابن ماجة من حديث حماد به.
رواية جماعة من الصحابة ممن تقدم وغيرهم
قال الحافظ
البيهقي : حدثنا أبو عبد الله يعني الحاكم ، حدثنا عبد الله بن زيد بن يعقوب الدقاق
الهمداني ، حدثنا إبراهيم بن الحسين الهمداني ، حدثنا أبو محمد هو إسماعيل بن موسى
الفزاري ، حدثنا عمر بن سعد النضري من بني نصر بن قعين ، حدثني عبد العزيز وليث بن
أبي سليم ، وسليمان الأعمش وعطاء بن السائب ، بعضهم يزيد في الحديث على بعض ، عن
علي بن أبي طالب ، وعبد الله بن عباس ومحمد بن إسحاق بن يسار عمن حدثه عن ابن عباس
، وعن سليم بن مسلم العقيلي عن عامر الشعبي ، عن عبد الله بن مسعود وجويبر عن
الضحاك بن مزاحم ، قالوا : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم في بيت أم هانئ راقدا وقد صلى العشاء الآخرة ، قال أبو عبد
الله الحاكم : قال لنا هذا الشيخ ، وذكر الحديث ، فكتبت المتن من نسخة
__________________
مسموعة منه ، فذكر
حديثا طويلا يذكر فيه عدد الدرج والملائكة وغير ذلك مما لا ينكر شيء منها في قدرة
الله إن صحت الرواية. قال البيهقي فيما ذكرنا قبل في حديث أبي هارون العبدي في
إثبات الإسراء والمعراج كفاية ، وبالله التوفيق. (قلت) وقد أرسل هذا الحديث غير
واحد من التابعين وأئمة المفسرين رحمة الله عليهم أجمعين.
رواية عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها
قال البيهقي :
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، أخبرني مكرم بن أحمد القاضي ، حدثني إبراهيم بن
الهيثم البكري ، حدثني محمد بن كثير الصنعاني ، حدثنا معمر بن راشد عن الزهري عن
عروة عن عائشة قالت : لما أسري برسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى المسجد الأقصى ، أصبح يحدث الناس بذلك فارتد ناس ممن
كانوا آمنوا به وصدقوه ، وسعوا بذلك إلى أبي بكر ، فقالوا : هل لك في صاحبك؟ يزعم
أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس ، فقال : أو قال ذلك؟ قالوا : نعم ، قال : لئن
كان قال ذلك لقد صدق ، قالوا فتصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن
يصبح؟ قال نعم إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك ، أصدقه في خبر السماء في غدوة أو
روحة ، فلذلك سمي أبو بكر الصديق.
رواية أم هانئ بنت أبي طالب
قال محمد بن إسحاق
: حدثني محمد بن السائب الكلبي عن أبي صالح باذان عن أم هانئ بنت أبي طالب في مسرى
رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنها كانت تقول : ما أسري برسول الله صلىاللهعليهوسلم إلا وهو في بيتي نائم عندي تلك الليلة ، فصلى العشاء
الآخرة ثم نام ونمنا ، فلما كان قبيل الفجر أهبنا برسول الله صلىاللهعليهوسلم فلما صلى الصبح وصلينا معه ، قال : «يا أم هانئ لقد صليت
معكم العشاء الآخرة كما رأيت بهذا الوادي ، ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه ، ثم صليت
صلاة الغداة معكم الآن كما ترين» .
الكلبي متروك بمرة
ساقط ، لكن رواه أبو يعلى في مسنده عن محمد بن إسماعيل الأنصاري عن ضمرة بن ربيعة
، عن يحيى بن أبي عمرو الشيباني عن أبي صالح ، عن أم هانئ بأبسط من هذا السياق ،
فليكتب هاهنا.
وروى الحافظ أبو
القاسم الطبراني من حديث عبد الأعلى بن أبي المساور عن عكرمة ، عن أم هانئ قالت :
بات رسول الله صلىاللهعليهوسلم ليلة أسري به في بيتي ، ففقدته من الليل ، فامتنع مني
النوم مخافة أن يكون عرض له بعض قريش ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن جبريل عليهالسلام أتاني
__________________
فأخذ بيدي فأخرجني
، فإذا على الباب دابة دون البغل وفوق الحمار ، فحملني عليها ثم انطلق حتى أتى بي
إلى بيت المقدس ، فأراني إبراهيم عليهالسلام يشبه خلقه خلقي ويشبه خلقي خلقه ، وأراني موسى آدم طويلا
سبط الشعر ، شبهته برجال أزد شنوءة ، وأراني عيسى ابن مريم ربعة أبيض يضرب إلى
الحمرة ، شبهته بعروة بن مسعود الثقفي ، وأراني الدجال ممسوح العين اليمنى ، شبهته
بقطن بن عبد العزى ـ قال ـ وأنا أريد أن أخرج إلى قريش فأخبرهم بما رأيت» فأخذت
بثوبه فقلت : إني أذكرك الله إنك تأتي قومك يكذبوك وينكرون مقالتك ، فأخاف أن
يسطوا بك ، قالت : فضرب ثوبه من يدي ثم خرج إليهم ، فأتاهم وهم جلوس فأخبرهم ما
أخبرني.
فقام جبير بن مطعم
فقال يا محمد لو كنت شابا كما كنت ما تكلمت بما تكلمت به وأنت بين ظهرانينا. فقال
رجل من القوم : يا محمد هل مررت بإبل لنا في مكان كذا كذا؟ قال : «نعم والله قد
وجدتهم قد أضلوا بعيرا لهم فهم في طلبه» قال : هل مررت بإبل لبني فلان؟ قال : نعم
«وجدتهم في مكان كذا وكذا وقد انكسرت لهم ناقة حمراء ، وعندهم قصعة من ماء فشربت
ما فيها» قالوا : فأخبرنا عدتها ، من الرعاة؟ قال «قد كنت عن عدتها مشغولا» فنام
فأوتي بالإبل فعدها وعلم ما فيها من الرعاة ، ثم أتى قريشا فقال لهم «سألتموني عن
إبل بني فلان فهي كذا وكذا ، وفيها من الرعاة فلان وفلان ، وسألتموني عن إبل بني
فلان ، فهي كذا وكذا ، وفيها من الرعاة ابن أبي قحافة وفلان وفلان ، وهي تصبحكم
بالغداة على الثنية».
قال : فقعدوا على
الثنية ينظرون أصدقهم ما قال ، فاستقبلوا الإبل فسألوهم : هل ضل لكم بعير؟ فقالوا
: نعم ، فسألوا الآخر ، هل انكسرت لكم ناقة حمراء؟ قالوا : نعم ، قالوا : فهل كانت
عندكم قصعة؟ قال أبو بكر : أنا والله وضعتها فما شربها أحد ولا أهرقوه في الأرض ،
فصدقه أبو بكر وآمن به ، فسمي يومئذ الصديق.
[فصل] وإذا حصل
الوقوف على مجموع هذه الأحاديث صحيحها وحسنها وضعيفها ، فحصل مضمون ما اتفقت عليه
من مسرى رسول الله صلىاللهعليهوسلم من مكة إلى بيت المقدس وأنه مرة واحدة ، وإن اختلفت عبارات
الرواة في أدائه ، أو زاد بعضهم فيه أو نقص منه ، فإن الخطأ جائز على من عدا
الأنبياء عليهمالسلام ، ومن جعل من الناس كل رواية خالفت الأخرى مرة على حدة ،
فأثبت إسراءات متعددة فقد أبعد وأغرب ، وهرب إلى غير مهرب ، ولم يتحصل على مطلب.
وقد صرح بعضهم من
المتأخرين بأنه عليهالسلام أسري به مرة من مكة إلى بيت المقدس فقط ، ومرة من مكة إلى
السماء فقط ، ومرة إلى بيت المقدس ومنه إلى السماء ، وفرح بهذا المسلك ، وأنه قد
ظفر بشيء يخلص به من الإشكالات ، وهذا بعيد جدا ، ولم ينقل هذا عن أحد من السلف
ولو تعدد هذا التعدد ، لأخبر النبي صلىاللهعليهوسلم به أمته ، ولنقله الناس على التعدد والتكرر.
قال موسى بن عقبة
الزهري : كان الإسراء قبل الهجرة بسنة ، وكذا قال عروة. وقال السدي: بستة عشر شهرا
، والحق أنه عليهالسلام أسري به يقظة لا مناما من مكة إلى بيت المقدس راكبا البراق
، فلما انتهى إلى باب المسجد ، ربط الدابة عند الباب ودخله ، فصلى في قبلته تحية
المسجد ركعتين ، ثم أتى بالمعراج وهو كالسلم ذو درج يرقى فيها ، فصعد فيه إلى السماء
الدنيا ، ثم إلى بقية السموات السبع ، فتلقاه من كل سماء مقربوها ، وسلم على
الأنبياء الذين في السموات بحسب منازلهم ودرجاتهم ، حتى مر بموسى الكليم في
السادسة ، وإبراهيم الخليل في السابعة ، ثم جاوز منزلتيهما صلىاللهعليهوسلم وعليهما وعلى سائر الأنبياء ، حتى انتهى إلى مستوى يسمع
فيه صريف الأقلام ، أي أقلام القدر بما هو كائن ، ورأى سدرة المنتهى وغشيها من أمر
الله تعالى عظمة عظيمة من فراش من ذهب وألوان متعددة وغشيتها الملائكة ورأى هناك
جبريل على صورته وله ستمائة جناح ورأى رفرفا أخضر قد سد الأفق ، ورأى البيت
المعمور ، وإبراهيم الخليل باني الكعبة الأرضية مسند ظهره إليه ، لأنه الكعبة
السماوية يدخله كل يوم سبعون ألفا من الملائكة يتعبدون فيه ثم لا يعودون إليه إلى
يوم القيامة. ورأى الجنة والنار فرض الله عليه هنالك الصلوات خمسين ثم خففها إلى
خمس رحمة منه ولطفا بعباده ، وفي هذا اعتناء عظيم بشرف الصلاة وعظمتها.
ثم هبط إلى بيت
المقدس وهبط معه الأنبياء فصلى بهم فيه لما حانت الصلاة ، ويحتمل أنها الصبح من
يومئذ ، ومن الناس من يزعم أنه أمهم في السماء ، والذي تظاهرت به الروايات أنه
ببيت المقدس ، ولكن في بعضها أنه كان أول دخوله إليه. والظاهر أنه بعد رجوعه إليه
لأنه لما مر بهم في منازلهم جعل يسأل عنهم جبريل واحدا واحدا ، وهو يخبره بهم ،
وهذا هو اللائق ، لأنه كان أولا مطلوبا إلى الجناب العلوي ليفرض عليه وعلى أمته ما
يشاء الله تعالى ، ثم لما فرغ من الذي أريد به ، اجتمع به هو وإخوانه من النبيين
ثم أظهر شرفه وفضله عليهم بتقديمه في الإمامة ، وذلك عن إشارة جبريل عليهالسلام له في ذلك.
ثم خرج من بيت
المقدس فركب البراق وعاد إلى مكة بغلس ، والله سبحانه وتعالى أعلم ، وأما عرض
الآنية عليه من اللبن والعسل أو اللبن والخمر ، أو اللبن والماء أو الجميع فقد ورد
أنه في بيت المقدس وجاء أنه في السماء. ويحتمل أن يكون هاهنا وهاهنا ، لأنه
كالضيافة للقادم ، والله أعلم ، ثم اختلف الناس : هل كان الإسراء ببدنه عليهالسلام وروحه ، أو بروحه فقط؟ على قولين ، فالأكثرون من العلماء
على أنه أسري ببدنه وروحه يقظة لا مناما ، ولا ينكرون أن يكون رسول اللهصلىاللهعليهوسلم رأى قبل ذلك مناما ثم رآه بعد يقظة ، لأنه كان عليهالسلام لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ، والدليل على هذا
قوله تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي
أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ
الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ) فالتسبيح إنما يكون عند
الأمور العظام ،
فلو كان مناما لم يكن فيه كبير شيء ، ولم يكن مستعظما ، ولما بادرت كفار قريش إلى
تكذيبه ، ولما ارتدت جماعة ممن كان قد أسلم.
وأيضا فإن العبد
عبارة عن مجموع الروح والجسد ، وقال تعالى (أَسْرى بِعَبْدِهِ
لَيْلاً) وقال تعالى : (وَما جَعَلْنَا
الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) [الإسراء : ٦٠]
قال ابن عباس : هي رؤيا عين أريها رسول الله صلىاللهعليهوسلم ليلة أسري به ، والشجرة الملعونة هي شجرة الزقوم ، رواه
البخاري ، وقال تعالى : (ما زاغَ الْبَصَرُ
وَما طَغى) [النجم : ١٧]
والبصر من آلات الذات لا الروح ، وأيضا فإنه حمل على البراق وهو دابة بيضاء براقة
لها لمعان ، وإنما يكون هذا للبدن لا للروح لأنها لا تحتاج في حركتها إلى مركب
تركب عليه ، والله أعلم.
وقال آخرون بل
أسري برسول الله صلىاللهعليهوسلم بروحه لا بجسده ، قال محمد بن إسحاق بن يسار في السيرة :
حدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس أن معاوية بن أبي سفيان ، كان إذا سئل
عن مسرى رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : كانت رؤيا من الله صادقة. وحدثني بعض آل أبي بكر أن
عائشة كانت تقول : ما فقد جسد رسول الله صلىاللهعليهوسلم ولكن أسري بروحه.
قال ابن إسحاق :
فلم ينكر ذلك من قولها لقول الحسن إن هذه الآية نزلت (وَما جَعَلْنَا
الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) [الإسراء : ٦٠]
ولقول الله في الخبر عن إبراهيم (إِنِّي أَرى فِي
الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى) [الصافات : ١٠٢]
قال : ثم مضى على ذلك ، فعرفت أن الوحي يأتي للأنبياء من الله أيقاظا ونياما ،
فكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «تنام عيناي وقلبي يقظان» والله أعلم ، أي ذلك كان
قد جاءه وعاين من الله فيه ما عاين على أي حالاته كان نائما أو يقظانا ، كل ذاك حق
وصدق ، انتهى كلام ابن إسحاق . وقد تعقبه أبو جعفر بن جرير في تفسيره بالرد والإنكار
والتشنيع بأن هذا خلاف ظاهر سياق القرآن ، وذكر من الأدلة على رده بعض ما تقدم ،
والله أعلم.
[فائدة حسنة جليلة]
روى الحافظ أبو
نعيم الأصبهاني في كتاب دلائل النبوة من طريق محمد بن عمر الواقدي : حدثني مالك بن
أبي الرجال عن عمرو بن عبد الله عن محمد بن كعب القرظي ، قال : بعث رسول الله صلىاللهعليهوسلم دحية بن خليفة إلى قيصر ، فذكر وروده عليه وقدومه إليه ،
وفي السياق دلالة عظيمة على وفور عقل هرقل ، ثم استدعى من بالشام من التجار فجيء
بأبي سفيان صخر بن حرب وأصحابه ، فسألهم عن تلك المسائل المشهورة التي رواها
البخاري ومسلم كما سيأتي
__________________
بيانه ، وجعل أبو
سفيان يجهد أن يحقر أمره ويصغره عنده. قال في هذا السياق عن أبي سفيان : والله ما
منعني من أن أقول عليه قولا أسقطه من عينه إلا أني أكره أن أكذب عنده كذبة يأخذها
علي ولا يصدقني في شيء. قال : حتى ذكرت قوله ليلة أسري به ، قال : فقلت أيها الملك
ألا أخبرك خبرا تعرف أنه قد كذب؟
قال : وما هو؟ قال
: قلت إنه يزعم لنا أنه خرج من أرضنا ، أرض الحرم ، في ليلة فجاء مسجدكم هذا مسجد
إيلياء ، ورجع إلينا تلك الليلة قبل الصباح. قال ، وبطريق إيلياء عند رأس قيصر ،
فقال بطريق إيلياء : قد علمت تلك الليلة ، قال : فنظر إليه قيصر وقال : وما علمك
بهذا؟ قال : إني كنت لا أنام ليلة حتى أغلق أبواب المسجد ، فلما كان تلك الليلة
أغلقت الأبواب كلها غير باب واحد غلبني ، فاستعنت عليه بعمالي ومن يحضرني كلهم
فعالجته ، فغلبنا فلم نستطع أن نحركه كأنما نزاول به جبلا ، فدعوت إليه النجاجرة ،
فنظروا إليه فقالوا : إن هذا الباب سقط عليه النجاف والبنيان ، ولا نستطيع أن
نحركه حتى نصبح فننظر من أين أتى.
قال : فرجعت وتركت
البابين مفتوحين. فلما أصبحت غدوت عليهما ، فإذا الحجر الذي في زاوية المسجد مثقوب
، وإذا فيه أثر مربط دابة ، قال : فقلت لأصحابي ما حبس هذا الباب الليلة إلا على
نبي ، وقد صلى الليلة في مسجدنا ، وذكر تمام الحديث.
[فائدة] قال
الحافظ أبو الخطاب عمر بن دحية في كتابه [التنوير في مولد السراج المنير] وقد ذكر
حديث الإسراء من طريق أنس وتكلم عليه فأجاد وأفاد ، ثم قال : وقد تواترت الروايات
في حديث الإسراء عن عمر بن الخطاب وعلي وابن مسعود وأبي ذر ومالك بن صعصعة وأبي
هريرة وأبي سعيد وابن عباس ، وشداد بن أوس وأبي بن كعب وعبد الرحمن بن قرط وأبي
حبة وأبي ليلى الأنصاريين ، وعبد الله بن عمرو وجابر وحذيفة وبريدة ، وأبي أيوب
وأبي أمامة وسمرة بن جندب وأبي الحمراء ، وصهيب الرومي وأم هانئ ، وعائشة وأسماء
ابنتي أبي بكر الصديق رضي الله عنهم أجمعين ، منهم من ساقه بطوله ، ومنهم من
اختصره على ما وقع في المسانيد ، وإن لم تكن رواية بعضهم على شرط الصحة ، فحديث
الإسراء أجمع عليه المسلمون ، وأعرض عنه الزنادقة والملحدون (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ
بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) [الصف : ٨].
(وَآتَيْنا مُوسَى
الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي
وَكِيلاً (٢) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ
إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً)
(٣)
لما ذكر تعالى أنه
أسرى بعبده محمد صلىاللهعليهوسلم عطف بذكر موسى عبده ورسوله وكليمه أيضا ، فإنه تعالى كثيرا
ما يقرن بين ذكر موسى ومحمد عليهما من الله الصلاة والسلام ، وبين ذكر
التوراة والقرآن ،
ولهذا قال بعد ذكر الإسراء (وَآتَيْنا مُوسَى
الْكِتابَ) يعني التوراة (وَجَعَلْناهُ) أي الكتاب (هُدىً) أي هاديا (لِبَنِي إِسْرائِيلَ
أَلَّا تَتَّخِذُوا) أي لئلا تتخذوا (مِنْ دُونِي وَكِيلاً) أي وليا ولا نصيرا ولا معبودا دوني ، لأن الله تعالى أنزل
على كل نبي أرسله أن يعبده وحده لا شريك له.
ثم قال : (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ) تقديره يا ذرية من حملنا مع نوح ، فيه تهييج وتنبيه على
المنة ، أي يا سلالة من نجينا فحملنا مع نوح في السفينة تشبهوا بأبيكم (إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً) فاذكروا أنتم نعمتي عليكم بإرسالي إليكم محمدا صلىاللهعليهوسلم وقد ورد في الحديث وفي الأثر عن السلف أن نوحا عليهالسلام كان يحمد الله على طعامه وشرابه ولباسه وشأنه كله ، فلهذا
سمي عبدا شكورا. قال الطبراني : حدثني علي بن عبد العزيز ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا
سفيان عن أبي حصين ، عن عبد الله بن سنان عن سعد بن مسعود الثقفي قال : إنما سمي
نوح عبدا شكورا ، لأنه كان إذا أكل أو شرب حمد الله.
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو أسامة ، حدثنا زكريا بن أبي زائدة عن سعيد بن
أبي بردة ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن الله ليرضي عن العبد أن يأكل الأكلة أو يشرب الشربة
فيحمد الله عليها» وهكذا رواه مسلم والترمذي والنسائي من طريق أبي أسامة به.
وقال مالك عن زيد بن أسلم : كان يحمد الله على كل حال وقد ذكر البخاري هنا حديث أبي زرعة عن أبي هريرة ، عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ـ بطوله ، وفيه ـ فيأتون
نوحا فيقولون : يا نوح إنك أنت أول الرسل إلى أهل الأرض ، وقد سماك الله عبدا
شكورا ، فاشفع لنا إلى ربك» وذكر الحديث بكامله.
(وَقَضَيْنا إِلى
بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ
وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (٤) فَإِذا جاءَ وَعْدُ
أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا
خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (٥) ثُمَّ رَدَدْنا
لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ
وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (٦) إِنْ أَحْسَنْتُمْ
أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ
الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ
أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (٧)
عَسى
رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ
لِلْكافِرِينَ حَصِيراً)
(٨)
يخبر تعالى أنه
قضى إلى بني إسرائيل في الكتاب ، أي تقدم إليهم وأخبرهم في الكتاب الذي أنزله
عليهم أنهم سيفسدون في الأرض مرتين ، ويعلون علوا كبيرا ، أي يتجبرون ويطغون
__________________
ويفجرون على الناس
، كقوله تعالى : (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ
ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ) [الحجر : ٦٦] أي
تقدمنا إليه ، وأخبرناه بذلك ، وأعلمناه به. وقوله (فَإِذا جاءَ وَعْدُ
أُولاهُما) أي أولى الإفسادتين (بَعَثْنا عَلَيْكُمْ
عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) أي سلطنا عليكم جندا من خلقنا أولي بأس شديد ؛ أي قوة وعدة
وسلطنة شديدة ، (فَجاسُوا خِلالَ
الدِّيارِ) ، أي تملكوا بلادكم وسلكوا خلال بيوتكم ، أي بينها ووسطها
، وانصرفوا ذاهبين وجائين لا يخافون أحدا وكان وعدا مفعولا.
وقد اختلف
المفسرون من السلف والخلف في هؤلاء المسلطين عليهم من هم؟ فعن ابن عباس وقتادة أنه
جالوت الجزري وجنوده ، سلط عليهم أولا ثم أديلوا عليه بعد ذلك. وقتل داود جالوت ،
ولهذا قال (ثُمَّ رَدَدْنا
لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ) الآية ، وعن سعيد بن جبير أنه ملك الموصل سنجاريب وجنوده.
وعنه أيضا وعن غيره أنه بختنصر ملك بابل. وقد ذكر ابن أبي حاتم له قصة عجيبة في
كيفية ترقيه من حال إلى حال إلى أنه ملك البلاد ، وأنه كان فقيرا مقعدا ضعيفا
يستعطي الناس ويستطعمهم ، ثم آل به الحال إلى ما آل ، وأنه سار إلى بلاد بيت
المقدس فقتل بها خلقا كثيرا من بني إسرائيل ، وقد روى ابن جرير في هذا المكان حديثا أسنده عن حذيفة مرفوعا مطولا ، وهو
حديث موضوع لا محالة ، لا يستريب في ذلك من عنده أدنى معرفة بالحديث ، والعجب كل
العجب كيف راج عليه مع جلالة قدره وإمامته ، وقد صرح شيخنا الحافظ العلامة أبو
الحجاج المزي رحمهالله بأنه موضوع مكذوب ، وكتب ذلك على حاشية الكتاب.
وقد وردت في هذا
آثار كثيرة إسرائيلية لم أر تطويل الكتاب بذكرها ، لأن منها ما هو موضوع ومن وضع
بعض زنادقتهم ، ومنها ما قد يحتمل أن يكون صحيحا ، ونحن في غنية عنها ، ولله
الحمد. وفيما قص الله علينا في كتابه غنية عما سواه من بقية الكتب قبله ، ولم
يحوجنا الله ولا رسوله إليهم. وقد أخبر الله عنهم أنهم لما طغوا وبغوا ، سلط الله
عليهم عدوهم فاستباح بيضتهم ، وسلك خلال بيوتهم ، وأذلهم وقهرهم جزاء وفاقا ، وما
ربك بظلام للعبيد ، فإنهم كانوا قد تمردوا وقتلوا خلقا من الأنبياء والعلماء.
وقد روى ابن جرير : حدثني يونس بن عبد الأعلى حدثنا ابن وهب ، أخبرني سليمان
بن بلال عن يحيى بن سعيد قال : سمعت سعيد بن المسيب يقول : ظهر بختنصر على الشام ،
فخرب بيت المقدس وقتلهم ، ثم أتى دمشق فوجد بها دما يغلي على كبا ، فسألهم ، ما
هذا الدم؟ فقالوا : أدركنا آباءنا على هذا ، وكلما ظهر عليه الكبا ظهر ، قال :
فقتل على ذلك الدم
__________________
سبعين ألفا من
المسلمين وغيرهم ، فسكن ، وهذا صحيح إلى سعيد بن المسيب ، وهذا هو المشهور ، وأنه
قتل أشرافهم وعلماءهم حتى إنه لم يبق من يحفظ التوراة ، وأخذ منهم خلقا كثيرا أسرى
من أبناء الأنبياء وغيرهم ، وجرت أمور وكوائن يطول ذكرها ، ولو وجدنا ما هو صحيح
أو ما يقاربه لجاز كتابته وروايته ، والله أعلم.
ثم قال تعالى : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ
لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) أي فعليها ، كما قال تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً
فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) [فصلت : ٤٦].
وقوله : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ
الْآخِرَةِ) أي الكرة الآخرة ، أي إذا أفسدتم الكرة الثانية وجاء
أعداؤكم (لِيَسُوؤُا
وُجُوهَكُمْ) أي يهينوكم ويقهروكم ، (وَلِيَدْخُلُوا
الْمَسْجِدَ) أي بيت المقدس (كَما دَخَلُوهُ
أَوَّلَ مَرَّةٍ) أي في التي جاسوا فيها خلال الديار ، (وَلِيُتَبِّرُوا) أي يدمروا ويخربوا (ما عَلَوْا) أي ما ظهروا عليه (تَتْبِيراً عَسى رَبُّكُمْ
أَنْ يَرْحَمَكُمْ) أي فيصرفهم عنكم ، (وَإِنْ عُدْتُمْ
عُدْنا) أي متى عدتم إلى الإفساد عدنا إلى الإدالة عليكم في الدنيا
مع ما ندخره لكم في الآخرة من العذاب والنكال ، ولهذا قال : (وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ
حَصِيراً) أي مستقرا ومحصرا وسجنا لا محيد لهم عنه. قال ابن عباس :
حصيرا أي سجنا. وقال مجاهد : يحصرون فيها ، وكذا قال غيره ، وقال الحسن : فراشا
ومهادا. وقال قتادة : قد عاد بنو إسرائيل ، فسلط الله عليهم هذا الحي محمد صلىاللهعليهوسلم وأصحابه ، يأخذون منهم الجزية عن يد وهم صاغرون .
(إِنَّ هذَا
الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ
يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (٩) وَأَنَّ الَّذِينَ
لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً)
(١٠)
يمدح تعالى كتابه
العزيز الذي أنزله على رسوله محمد صلىاللهعليهوسلم ، وهو القرآن بأنه يهدي لأقوم الطرق وأوضح السبل ، ويبشر
المؤمنين به الذين يعملون الصالحات على مقتضاه ، (أَنَّ لَهُمْ أَجْراً
كَبِيراً) ، أي يوم القيامة ، (وَأَنَّ الَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) ، أي ويبشر الذين لا يؤمنون بالآخرة أن لهم عذابا أليما ،
أي يوم القيامة ، كما قال تعالى : (فَبَشِّرْهُمْ
بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [آل عمران : ٢١].
(وَيَدْعُ الْإِنْسانُ
بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً)
(١١)
يخبر تعالى عن
عجلة الإنسان ودعائه في بعض الأحيان على نفسه أو ولده أو ماله بالشر أي بالموت أو
الهلاك والدمار واللعنة ونحو ذلك ، فلو استجاب له ربه لهلك بدعائه ، كما قال تعالى
(وَلَوْ يُعَجِّلُ
اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ) [يونس : ١١] الآية
، وكذا فسره ابن عباس ومجاهد وقتادة ، وقد تقدم في الحديث «لا تدعوا على أنفسكم ،
ولا على أموالكم أن توافقوا من الله ساعة إجابة
__________________
يستجيب فيها» وإنما يحمل ابن آدم على ذلك قلقه وعجلته ، ولهذا قال تعالى
: (وَكانَ الْإِنْسانُ
عَجُولاً) وقد ذكر سلمان الفارسي وابن عباس هاهنا قصة آدم عليهالسلام حين همّ بالنهوض قائما قبل أن تصل الروح إلى رجليه ، وذلك
أنه جاءته النفخة من قبل رأسه ، فلما وصلت إلى دماغه عطس ، فقال : الحمد لله ،
فقال الله : يرحمك ربك يا آدم. فلما وصلت إلى عينيه فتحهما ، فلما سرت إلى أعضائه
وجسده ، جعل ينظر إليه ويعجبه ، فهم بالنهوض قبل أن تصل إلى رجليه فلم يستطع ،
وقال : يا رب عجل قبل الليل .
(وَجَعَلْنَا
اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ
النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ
السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً)
(١٢)
يمتن تعالى على
خلقه بآياته العظام ، فمنها مخالفته بين الليل والنهار ليسكنوا في الليل ،
وينتشروا في النهار للمعايش والصنائع ، والأعمال والأسفار ، وليعلموا عدد الأيام
والجمع والشهور والأعوام ، ويعرفوا مضي الآجال المضروبة للديون والعبادات
والمعاملات والإجارات وغير ذلك ، ولهذا قال : (لِتَبْتَغُوا فَضْلاً
مِنْ رَبِّكُمْ) أي في معايشكم وأسفاركم ونحو ذلك ، (وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ
وَالْحِسابَ) فإنه لو كان الزمان كله نسقا واحدا وأسلوبا متساويا لما
عرف شيء من ذلك.
كما قال تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ
عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ
يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ
عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ
يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ وَمِنْ رَحْمَتِهِ
جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ
فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [القصص : ٧١ ـ ٧٣]
وقال تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي
جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً وَهُوَ
الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ
أَوْ أَرادَ شُكُوراً) [الفرقان : ٦١ ـ ٦٢]
وقال تعالى : (وَلَهُ اخْتِلافُ
اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) [المؤمنون : ٨٠]
وقال : (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ
عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) [الزمر: ٥] وقال تعالى : (فالِقُ الْإِصْباحِ
وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ
الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) [الأنعام : ٩٦]
وقال تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمُ
اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ وَالشَّمْسُ تَجْرِي
لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) [يس : ٣٧ ـ ٣٨].
ثم إنه تعالى جعل
لليل آية ، أي علامة يعرف بها ، وهي الظلام وظهور القمر فيه ، وللنهار علامة وهي
النور وطلوع الشمس النيرة فيه ، وفاوت بين نور القمر وضياء الشمس ليعرف هذا
__________________
من هذا ، كما قال
تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ
الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ
السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِ ـ إلى قوله ـ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) [يونس : ٥ ـ ٦] وقال تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ) [البقرة : ١٨٩] الآية.
قال ابن جريج عن
عبد الله بن كثير في قوله : (فَمَحَوْنا آيَةَ
اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) قال : ظلمة الليلة وسدف النهار . وقال ابن جرير عن مجاهد : الشمس آية النهار والقمر آية
الليل ، (فَمَحَوْنا آيَةَ
اللَّيْلِ) قال : السواد الذي في القمر ، وكذلك خلقه الله تعالى. وقال
ابن جريج : قال ابن عباس : كان القمر يضيء كما تضيء الشمس ، والقمر آية الليل ،
والشمس آية النهار ، فمحونا آية الليل السواد الذي في القمر. وقد روى أبو جعفر بن
جرير من طرق متعددة جيدة أن ابن الكواء سأل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، فقال
: يا أمير المؤمنين ما هذه اللطخة التي في القمر؟ فقال : ويحك أما تقرأ القرآن؟
فقال : فمحونا آية الليل فهذه محوه. وقال قتادة في قوله : (فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ) كنا نحدث أن محو آية الليل سواد القمر الذي فيه ، وجعلنا
آية النهار مبصرة أي منيرة ، وخلق الشمس أنور من القمر وأعظم ، وقال ابن أبي نجيح
عن ابن عباس (وَجَعَلْنَا
اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ) قال ليلا ونهارا ، كذلك خلقهما اللهعزوجل .
(وَكُلَّ إِنسانٍ
أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً
يَلْقاهُ مَنْشُوراً (١٣) اقْرَأْ كِتابَكَ
كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً)
(١٤)
يقول تعالى بعد
ذكر الزمان وذكر ما يقع فيه من أعمال بني آدم : (وَكُلَّ إِنسانٍ
أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) وطائره هو ما طار عنه من عمله ، كما قال ابن عباس ومجاهد
وغيرهما ، من خير وشر ويلزم به ويجازى عليه ، (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ
ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة : ٧ ـ ٨]
وقال تعالى : (عَنِ الْيَمِينِ
وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ
عَتِيدٌ) [ق : ١٧ ـ ١٨]
وقال : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ
لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) [الانفطار : ١٠ ـ ١٤]
وقال : (إِنَّما تُجْزَوْنَ
ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الطور : ١٦] وقال (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً
يُجْزَ بِهِ) [النساء : ١٢٣]
الآية ، والمقصود أن عمل ابن آدم محفوظ عليه قليله وكثيره ، ويكتب عليه ليلا
ونهارا ، صباحا ومساء.
وقال الإمام أحمد : حدثنا قتيبة ، حدثنا ابن لهيعة عن أبي الزبير عن جابر ،
سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «لطائر كل إنسان في عنقه» قال ابن لهيعة : يعني
الطيرة ، وهذا القول من ابن لهيعة في تفسير هذا الحديث غريب جدا ، والله أعلم.
__________________
وقوله : (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ
كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً) أي نجمع له عمله كله في كتاب يعطاه يوم القيامة إما بيمينه
إن كان سعيدا أو بشماله إن كان شقيا ، منشورا أي مفتوحا يقرؤه هو وغيره فيه جميع
عمله من أول عمره إلى آخره (يُنَبَّؤُا
الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ
بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) [القيامة : ١٣ ـ ١٥]
ولهذا قال تعالى : (اقْرَأْ كِتابَكَ
كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) أي إنك لم تظلم ولم يكتب عليك إلا ما عملت ، لأنك ذكرت
جميع ما كان منك ، ولا ينسى أحد شيئا مما كان منه ، وكل أحد يقرأ كتابه من كاتب
وأمي. وقوله : (أَلْزَمْناهُ
طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) إنما ذكر العنق لأنه عضو من الأعضاء لا نظير له في الجسد ،
ومن ألزم بشيء فيه فلا محيد له عنه ، كما قال الشاعر. [مجزوء الكامل]
اذهب بها اذهب
بها
|
|
طوقتها طوق
الحمامه .
|
قال قتادة عن جابر
بن عبد الله عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «لا عدوى ولا طيرة ، وكل إنسان ألزمناه طائره في
عنقه» كذا رواه ابن جرير ، وقد رواه الإمام عبد بن حميد في مسنده متصلا ، فقال :
حدثنا الحسن بن موسى ، حدثنا ابن لهيعة عن أبي الزبير عن جابر قال سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول «طير كل عبد في عنقه».
وقال الإمام أحمد : حدثنا علي بن إسحاق ، حدثنا عبد الله ، حدثنا ابن لهيعة
، حدثني يزيد أن أبا الخير حدثه أنه سمع عقبة بن عامر رضي الله عنه ، يحدث عن
النبيصلىاللهعليهوسلم قال : «ليس من عمل يوم إلا وهو يختم عليه فإذا مرض المؤمن
قالت الملائكة : يا ربنا عبدك فلان قد حبسته ، فيقول الرب جل جلاله : اختموا له
على مثل عمله حتى يبرأ أو يموت» إسناده جيد قوي ، ولم يخرجوه.
وقال معمر عن
قتادة : (أَلْزَمْناهُ
طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) قال عمله (وَنُخْرِجُ لَهُ
يَوْمَ الْقِيامَةِ) قال : نخرج ذلك العمل (كِتاباً يَلْقاهُ
مَنْشُوراً) قال معمر ، وتلا الحسن البصري (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ
قَعِيدٌ) [ق : ١٧] يا ابن
آدم بسطت لك صحيفتك ، ووكل بك ملكان كريمان أحدهما عن يمينك والآخر عن شمالك ،
فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك ، وأما الذي عن شمالك فيحفظ سيئاتك ، فاعمل ما
شئت أقلل أو أكثر حتى إذا مت طويت صحيفتك فجعلت في عنقك معك في قبرك ، حتى تخرج
يوم القيامة كتابا تلقاه منشورا ، اقرأ كتابك الآية ، فقد عدل والله من جعلك حسيب
نفسك ، هذا من أحسن كلام الحسن ، رحمهالله.
__________________
(مَنِ اهْتَدى
فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا
تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)
(١٥)
يخبر تعالى أن (مَنِ اهْتَدى) واتبع الحق ، واقتفى أثر النبوة ، فإنما يحصل عاقبة ذلك
الحميدة لنفسه ، (وَمَنْ ضَلَ) أي عن الحق ، وزاغ عن سبيل الرشاد ، فإنما يجني على نفسه ،
وإنما يعود وبال ذلك عليه ، ثم قال : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ
وِزْرَ أُخْرى) أي لا يحمل أحد ذنب أحد ، ولا يجني جان إلا على نفسه ، كما
قال تعالى : (وَإِنْ تَدْعُ
مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ) [فاطر : ١٨] ولا
منافاة بين هذا وبين وقوله : (وَلَيَحْمِلُنَّ
أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) [العنكبوت : ١٣] ،
وقوله : (وَمِنْ أَوْزارِ
الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) [النحل : ٢٥] فإن
الدعاة عليهم إثم ضلالتهم في أنفسهم ، وإثم آخر بسبب ما أضلوا من أضلوا من غير أن
ينقص من أوزار أولئك ، ولا يحمل عنهم شيئا ، وهذا من عدل الله ورحمته بعباده.
وكذا قوله تعالى :
(وَما كُنَّا
مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) إخبار عن عدله تعالى ، وأنه لا يعذب أحدا إلا بعد قيام
الحجة عليه بإرسال الرسول إليه ، كقوله تعالى : (كُلَّما أُلْقِيَ
فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قالُوا بَلى قَدْ
جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ
إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ) [الملك : ٨ ـ ٩]
وكذا قوله : (وَسِيقَ الَّذِينَ
كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ
لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ
رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ
كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ) [الزمر : ٧١] وقال تعالى : (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ
فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ
نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ
فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) [فاطر : ٣٧] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الله
تعالى لا يدخل أحد النار إلا بعد إرسال الرسول إليه.
ومن ثم طعن جماعة
من العلماء في اللفظة التي جاءت معجمة في صحيح البخاري عند قوله تعالى : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ
الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف : ٥٦]
حدثنا عبد الله بن سعد ، حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي عن صالح بن كيسان عن الأعرج
بإسناده إلى أبي هريرة أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «اختصمت الجنة والنار» فذكر الحديث إلى أن قال «وأما
الجنة فلا يظلم الله من خلقه أحدا ، وإنه ينشئ للنار خلقا فيلقون فيها ، فتقول هل
من مزيد؟ ثلاثا» وذكر تمام الحديث.
فهذا إنما جاء في
الجنة ، لأنها دار فضل ، وأما النار فإنها دار عدل لا يدخلها أحد إلا بعد الإعذار
إليه وقيام الحجة عليه. وقد تكلم جماعة من الحفاظ في هذه اللفظة ، وقالوا : لعله
__________________
انقلب على الراوي
بدليل ما أخرجاه في الصحيحين ، واللفظ للبخاري من حديث عبد الرزاق عن معمر عن همام
عن أبي هريرة قال : قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «تحاجت الجنة والنار» فذكر الحديث إلى أن قال : «فأما
النار فلا تمتلئ حتى يضع فيها قدمه ، فتقول : قط قط ، فهناك تمتلئ وينزوي بعضها
إلى بعض. ولا يظلم الله من خلقه أحدا ، وأما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقا» .
بقي هاهنا مسألة
قد اختلف الأئمة رحمهمالله تعالى فيها قديما وحديثا ، وهي الولدان الذين ماتوا وهم
صغار وآباؤهم كفار : ماذا حكمهم؟ وكذا المجنون والأصم والشيخ الخرف ومن مات في
الفترة ولم تبلغه دعوة؟ وقد ورد في شأنهم أحاديث أنا أذكرها لك بعون الله وتوفيقه
، ثم نذكر فصلا ملخصا من كلام الأئمة في ذلك والله المستعان.
[فالحديث الأول]
عن الأسود بن سريع. قال الإمام أحمد : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا معاذ بن هشام ، حدثنا أبي
عن قتادة عن الأحنف بن قيس. عن الأسود بن سريع أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «أربعة يحتجون يوم القيامة : رجل أصم لا يسمع شيئا ،
ورجل أحمق ، ورجل هرم ، ورجل مات في فترة ، فأما الأصم فيقول : رب قد جاء الإسلام
وما أسمع شيئا ، وأما الأحمق فيقول : رب قد جاء الإسلام والصبيان يقذفوني بالبعر ،
وأما الهرم فيقول : رب لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئا ، وأما الذي مات في الفترة
فيقول : رب ما أتاني لك رسول. فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه ، فيرسل إليهم أن ادخلوا
النار ، فو الذي نفس محمد بيده ، لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما». وبالإسناد
عن قتادة عن الحسن عن أبي رافع عن أبي هريرة مثله ، غير أنه قال في آخره : «فمن
دخلها كانت عليه بردا وسلاما ، ومن لم يدخلها يسحب إليها».
وكذا رواه إسحاق
بن راهويه عن معاذ بن هشام ، ورواه البيهقي في كتاب الاعتقاد من حديث أحمد بن
إسحاق عن علي بن عبد الله المديني به ، وقال : هذا إسناد صحيح ، وكذا رواه حماد بن
سلمة عن علي بن زيد عن أبي رافع عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «أربعة كلهم يدلي
على الله بحجة» فذكر نحوه ، ورواه ابن جرير من حديث معمر عن همام عن أبي هريرة ، فذكره موقوفا ، ثم
قال أبو هريرة : فاقرؤوا إن شئتم (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ
حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) وكذا رواه معمر عن عبد الله بن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة
موقوفا.
[الحديث الثاني]
عن أنس بن مالك قال أبو داود الطيالسي : حدثنا الربيع عن يزيد بن أبان قال : قلنا
لأنس : يا أبا حمزة ما تقول في أطفال المشركين؟ فقال : قال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم : «لم
__________________
يكن لهم سيئات
فيعذبوا بها ، فيكونوا من أهل النار ، ولم يكن لهم حسنات فيجازوا بها ، فيكونوا من
أهل الجنة».
[الحديث الثالث]
عن أنس أيضا. قال الحافظ أبو يعلى : حدثنا أبو خيثمة ، حدثنا جرير عن ليث عن عبد
الوارث ، عن أنس قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «يؤتى بأربعة يوم
القيامة : بالمولود ، والمعتوه ، ومن مات في الفترة ، والشيخ الفاني الهرم كلهم
يتكلم بحجته» فيقول الرب تبارك وتعالى : لعنق من النار ابرز ، ويقول لهم : إني كنت
أبعث إلى عبادي رسلا من أنفسهم ، وإني رسول نفسي إليكم ادخلوا هذه ، قال : فيقول
من كتب عليه الشقاء : يا رب أنى ندخلها ومنها كنا نفر؟ قال : ومن كتب عليه السعادة
يمضي فيقتحم فيها مسرعا ، فقال : فيقول الله تعالى : أنتم لرسلي أشد تكذيبا ومعصية
، فيدخل هؤلاء الجنة وهؤلاء النار ، وهكذا رواه الحافظ أبو بكر البزار عن يوسف بن
موسى عن جرير بن عبد الحميد بإسناده مثله.
[الحديث الرابع]
عن البراء بن عازب رضي الله عنه. قال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده أيضا :
حدثنا قاسم بن أبي شيبة ، حدثنا عبد الله يعني ابن داود عن عمر بن ذر عن يزيد بن
أمية ، عن البراء قال : سئل رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن أطفال المسلمين ، قال : «هم مع آبائهم» وسئل عن أولاد
المشركين ، فقال : «هم مع آبائهم» فقيل : يا رسول الله ما يعملون؟ قال : «الله
أعلم بهم» ورواه عمر بن ذر عن يزيد بن أمية عن رجل عن البراء عن عائشة ، فذكره.
[الحديث الخامس]
عن ثوبان. قال الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار في مسنده : حدثنا
إبراهيم بن سعيد الجوهري ، حدثنا ريحان بن سعيد ، حدثنا عباد بن منصور عن أيوب ،
عن أبي قلابة عن أبي أسماء ، عن ثوبان أن النبي صلىاللهعليهوسلم عظم شأن المسألة قال «إذا كان يوم القيامة جاء أهل
الجاهلية يحملون أوزارهم على ظهورهم ، فيسألهم ربهم ، فيقولون : ربنا لم ترسل
إلينا رسولا ، ولم يأتنا لك أمر ، ولو أرسلت إلينا رسولا لكنا أطوع عبادك ، فيقول
لهم ربهم : أرأيتم إن أمرتكم بأمر تطيعوني؟ فيقولون : نعم ، فيأمرهم أن يعمدوا إلى
جهنم فيدخلوها ، فينطلقون حتى إذا دنوا منها وجدوا لها تغيظا وزفيرا ، فرجعوا إلى
ربهم ، فيقولون : ربنا أخرجنا أو أجرنا منها ، فيقول لهم : ألم تزعموا أني إن
أمرتكم بأمر تطيعوني فيأخذ على ذلك مواثيقهم ، فيقول : اعمدوا إليها فادخلوها ،
فينطلقون حتى إذا رأوها فرقوا منها ورجعوا وقالوا : ربنا فرقنا منها ولا نستطيع أن
ندخلها ، فيقول : ادخلوها داخرين «فقال نبي الله صلىاللهعليهوسلم : «لو دخلوها أول مرة كانت عليهم بردا وسلاما» ثم قال
البزار : ومتن هذا الحديث غير معروف إلا من هذا الوجه ، لم يروه عن أيوب إلا عباد
، ولا عن عباد إلا ريحان بن سعيد.
قلت : وقد ذكره
ابن حيان في ثقاته ، وقال يحيى بن معين والنسائي : لا بأس به ، ولم يرو عنه أبو
داود ، وقال أبو حاتم : شيخ لا بأس به يكتب حديثه ولا يحتج به.
[الحديث السادس]
عن أبي سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدري. قال الإمام محمد بن يحيى الذهلي : حدثنا
سعيد بن سليمان عن فضيل بن مرزوق عن عطية ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «الهالك في الفترة والمعتوه والمولود ، يقول الهالك في
الفترة : لم يأتني كتاب ، ويقول المعتوه : رب لم تجعل لي عقلا أعقل به خيرا ولا
شرا ، ويقول المولود : رب لم أدرك العقل ، فترفع لهم نار ، فيقال لهم : ردوها ،
قال : فيردها من كان في علم الله سعيدا لو أدرك العمل ، ويمسك عنها من كان في علم
الله شقيا لو أدرك العمل ، فيقول : إياي عصيتم ، فكيف لو أن رسلي أتتكم؟!» وكذا
رواه البزار عن محمد بن عمر بن هياج الكوفي عن عبيد الله بن موسى عن فضيل بن مرزوق
به ، ثم قال : لا يعرف من حديث أبي سعيد إلا من طريقه عن عطية عنه ، وقال في آخره «فيقول
الله إياي عصيتم ، فكيف برسلي بالغيب؟».
[الحديث السابع]
عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال هشام بن عمار ومحمد بن المبارك الصوري : حدثنا
عمرو بن واقد عن يونس بن حلبس عن أبي إدريس الخولاني ، عن معاذ بن جبل عن نبي الله
صلىاللهعليهوسلم قال : «يؤتى يوم القيامة بالممسوخ عقلا وبالهالك في الفترة
وبالهالك صغيرا ، فيقول الممسوخ : يا رب لو آتيتني عقلا ما كان من آتيته عقلا
بأسعد مني» وذكر في الهالك في الفترة والصغير نحو ذلك «فيقول الرب عزوجل : إني آمركم بأمر فتطيعوني؟ فيقولون : نعم ، فيقول: اذهبوا
فادخلوا النار ، قال : ولو دخلوها ما ضرتهم ، فتخرج عليهم قوابض فيظنون أنها قد
أهلكت ما خلق الله من شيء فيرجعون سراعا ، ثم يأمرهم ثانية ، فيرجعون كذلك ، فيقول
الرب عزوجل : قبل أن أخلقكم علمت ما أنتم عاملون ، وعلى علمي خلقتكم ،
وإلى علمي تصيرون ، ضميهم ، فتأخذهم النار».
[الحديث الثامن]
عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه. قد تقدم روايته مندرجة مع رواية الأسود بن سريع
رضي الله عنه وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول اللهصلىاللهعليهوسلم قال : «كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه أو
ينصرانه أو يمجسانه ، كما تنتج البهيمة جمعاء ، هل تحسون فيها من جدعاء؟» وفي رواية قالوا : يا رسول الله ، أفرأيت من يموت صغيرا؟
قال : «الله أعلم بما كانوا عاملين» .
وقال الإمام أحمد : حدثنا موسى بن داود ، حدثنا عبد الرحمن بن ثابت عن عطاء
بن قرة عن عبد الله بن ضمرة ، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلىاللهعليهوسلم فيما أعلم ـ شك موسى ـ
__________________
قال : «ذراري
المسلمين في الجنة يكفلهم إبراهيم عليهالسلام» وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن الله عزوجل أنه قال «إني خلقت عبادي حنفاء» ، وفي رواية لغيره «مسلمين».
[الحديث التاسع]
عن سمرة رضي الله عنه. رواه الحافظ أبو بكر البرقاني في كتابه المستخرج على
البخاري من حديث عوف الأعرابي. عن أبي رجاء العطاردي عن سمرة رضي الله عنه ، عن
النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «كل مولود يولد على الفطرة» فناداه الناس : يا رسول
الله وأولاد المشركين؟ قال : «وأولاد المشركين». وقال الطبراني : حدثنا عبد الله
بن أحمد ، حدثنا عقبة بن مكرم الضبي عن عيسى بن شعيب ، عن عباد بن منصور عن أبي
رجاء ، عن سمرة قال : سألنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن أطفال المشركين ، فقال : «هم خدم أهل الجنة».
[الحديث العاشر]
عن عم حسناء قال أحمد : حدثنا روح ، حدثنا عوف عن حسناء بنت معاوية ، من بني
صريم قالت : حدثني عمي قال : قلت : يا رسول الله من في الجنة؟ قال «النبي في الجنة
، والشهيد في الجنة ، والمولود في الجنة ، والوئيد في الجنة». فمن العلماء من ذهب
إلى الوقوف فيهم لهذا الحديث ، ومنهم من جزم لهم بالجنة لحديث سمرة بن جندب في
صحيح البخاري أنه عليه الصلاة والسلام قال في جملة ذلك المنام حين مر على ذلك
الشيخ تحت الشجرة وحوله ولدان ، فقال له جبريل : هذا إبراهيم عليهالسلام ، وهؤلاء أولاد المسلمين وأولاد المشركين ، قالوا : يا
رسول الله وأولاد المشركين؟ قال : «نعم وأولاد المشركين» ومنهم من جزم لهم بالنار
لقوله عليهالسلام : «هم مع آبائهم» ومنهم من ذهب إلى أنهم [يمتحنون يوم
القيامة في العرصات] ، فمن أطاع دخل الجنة وانكشف على الله فيهم بسابق السعادة ،
ومن عصى دخل النار داخرا وانكشف علم الله به بسابق الشقاوة.
وهذا القول يجمع
بين الأدلة كلها ، وقد صرحت به الأحاديث المتقدمة المتعاضدة الشاهد بعضها لبعض ،
وهذا القول هو الذي حكاه الشيخ أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري عن أهل السنة
والجماعة ، وهو الذي نصره الحافظ أبو بكر البيهقي في كتاب الاعتقاد ، وكذلك غيره
من محققي العلماء والحفاظ والنقاد. وقد ذكره الشيخ أبو عمر بن عبد البر النمري بعد
ما تقدم من أحاديث الامتحان ، ثم قال : وأحاديث هذا الباب ليست قوية ولا تقوم بها
حجة ، وأهل العلم ينكرونها ، لأن الآخرة دار جزاء وليست بدار عمل ولا ابتلاء ،
فكيف يكلفون دخول النار وليس ذلك في وسع المخلوقين والله لا يكلف نفسا إلا وسعها؟.
[والجواب] عما قال
إن أحاديث هذا الباب منها ما هو صحيح كما قد نص على ذلك كثير
__________________
من أئمة العلماء ،
ومنها ما هو حسن ومنها ما هو ضعيف يتقوى بالصحيح والحسن ، وإذا كانت أحاديث الباب
الواحد متصلة متعاضدة على هذا النمط ، أفادت الحجة عند الناظر فيها. وأما قوله إن
الدار الآخرة دار جزاء ، فلا شك أنها دار جزاء ، ولا ينافي التكليف في عرصاتها قبل
دخول الجنة أو النار ، كما حكاه الشيخ أبو الحسن الأشعري عن مذهب أهل السنة
والجماعة من امتحان الأطفال وقد قال تعالى : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ
ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ) [القلم : ٤٢]
الآية.
وقد ثبت في الصحاح
وغيرها أن المؤمنين يسجدون لله يوم القيامة ، وأن المنافق لا يستطيع ذلك ويعود
ظهره كالصفيحة الواحدة طبقا واحدا كلما أراد السجود خرّ لقفاه . وفي الصحيحين في الرجل الذي يكون آخر أهل النار خروجا
منها ، أن الله يأخذ عهوده ومواثيقه أن لا يسأل غير ما هو فيه ، ويتكرر ذلك مرارا
ويقول الله تعالى : يا ابن آدم ما أغدرك ، ثم يأذن له في دخول الجنة ، وأما قوله : فكيف يكلفهم الله دخول النار وليس ذلك في
وسعهم ، فليس هذا بمانع من صحة الحديث ، فإن الله يأمر العباد يوم القيامة بالجواز
على الصراط ، وهو جسر على جهنم أحدّ من السيف وأدق من الشعرة ، ويمر المؤمنون عليه
بحسب أعمالهم كالبرق وكالريح وكأجاويد الخيل والركاب ، ومنهم الساعي ومنهم الماشي
ومنهم من يحبو حبوا ومنهم المكدوش على وجهه في النار ، وليس ما ورد في أولئك بأعظم من هذا بل هذا أطم وأعظم.
وأيضا فقد أثبتت
السنة بأن الدجال يكون معه جنة ونار ، وقد أمر الشارع المؤمنين الذين يدركونه أن
يشرب أحدهم من الذي يرى أنه نار ، فإنه يكون عليه بردا وسلاما ، فهذا نظير ذاك ،
وأيضا فإن الله تعالى أمر بني إسرائيل أن يقتلوا أنفسهم فقتل بعضهم بعضا حتى قتلوا
فيما قيل في غداة واحدة سبعين ألفا ، يقتل الرجل أباه وأخاه ، وهم في عماية غمامة
أرسلها الله عليهم ، وذلك عقوبة لهم على عبادتهم العجل ، وهذا أيضا شاق على النفوس
جدا لا يتقاصر عما ورد في الحديث المذكور ، والله أعلم.
[فصل] إذا تقرر
هذا فقد اختلف الناس في ولدان المشركين على أقوال [أحدها] أنهم في الجنة. واحتجوا
بحديث سمرة أنه عليهالسلام رأى مع إبراهيم عليهالسلام أولاد المسلمين وأولاد المشركين ، وبما تقدم في رواية أحمد
عن حسناء عن عمها أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «والمولود في الجنة» وهذا استدلال صحيح ، ولكن
أحاديث الامتحان أخص منه. فمن علم الله
__________________
منه أنه يطيع جعل
روحه في البرزخ مع إبراهيم وأولاد المسلمين الذين ماتوا على الفطرة ، ومن علم منه
أنه لا يجيب ، فأمره إلى الله تعالى يوم القيامة يكون في النار ، كما دلت عليه
أحاديث الامتحان ، ونقله الأشعري عن أهل السنة ، ثم إن هؤلاء القائلين بأنهم في
الجنة منهم من جعلهم مستقلين فيها ، ومنهم من جعلهم خدما لهم ، كما جاء في حديث
علي بن زيد عن أنس عند أبي داود الطيالسي وهو ضعيف ، والله أعلم.
[والقول الثاني]
أنهم مع آبائهم في النار. واستدل عليه بما رواه الإمام أحمد بن حنبل عن أبي المغيرة : حدثنا عتبة بن ضمرة بن حبيب ، حدثني عبد
الله بن أبي قيس مولى غطيف أنه أتى عائشة فسألها عن ذراري الكفار ، فقالت : قال
رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «هم تبع لآبائهم» فقلت: يا رسول الله بلا أعمال؟ فقال : «الله
أعلم بما كانوا عاملين» وأخرجه أبو داود من حديث محمد بن حرب عن محمد بن زياد الألهاني ، سمعت عبد
الله بن أبي قيس ، سمعت عائشة تقول : سألت رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن ذراري المؤمنين ، قال : «هم مع آبائهم» قلت : فذراري
المشركين؟ قال : «هم مع آبائهم» فقلت بلا عمل؟ قال : «الله أعلم بما كانوا عاملين»
ورواه أحمد أيضا عن وكيع عن أبي عقيل يحيى بن المتوكل وهو متروك عن
مولاته بهية عن عائشة أنها ذكرت أطفال المشركين لرسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : «إن شئت أسمعتك تضاغيهم في النار».
وروى عبد الله ابن
الإمام أحمد : حدثنا عثمان بن أبي شيبة عن محمد بن فضيل بن غزوان ، عن محمد بن
عثمان عن زاذان عن علي رضي الله عنه قال : سألت خديجة رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن ولدين لها ماتا في الجاهلية ، فقال : «هما في النار»
قال : فلما رأى الكراهية في وجهها فقال لها : «لو رأيت مكانهما لأبغضتهما» قالت :
فولدي منك؟ قال : «إن المؤمنين وأولادهم في الجنة ، وإن المشركين وأولادهم في
النار ـ ثم قرأ ـ (وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) [الطور : ٢١] وهذا
حديث غريب ، فإن في إسناده محمد بن عثمان مجهول الحال ، وشيخه زاذان لم يدرك عليا
، والله أعلم.
وروى أبو داود من حديث ابن أبي زائدة عن أبيه عن الشعبي قال : قال رسول
اللهصلىاللهعليهوسلم : «الوائدة والموؤودة في النار» ثم قال الشعبي : حدثني به
علقمة عن أبي وائل عن ابن مسعود ، وقد رواه جماعة عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي
عن علقمة عن سلمة بن قيس الأشجعي
__________________
قال : أتيت أنا
وأخي النبي صلىاللهعليهوسلم فقلنا : إن أمنا ماتت في الجاهلية ، وكانت تقري الضيف ،
وتصل الرحم ، وإنها وأدت أختا لنا في الجاهلية لم تبلغ الحنث. فقال : «الوائدة
الموؤودة في النار إلا أن تدرك الوائدة الإسلام فتسلم» وهذا إسناد حسن.
[والقول الثالث]
التوقف فيهم. واعتمدوا على قوله صلىاللهعليهوسلم : «الله أعلم بما كانوا عاملين» وهو في الصحيحين من حديث
جعفر بن أبي إياس عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس سئل رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن أولاد المشركين ، قال : «الله أعلم بما كانوا عاملين»
وكذلك هو في الصحيحين من حديث الزهري عن عطاء بن يزيد ، وعن أبي سلمة عن أبي هريرة
، عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه سئل عن أطفال المشركين ، فقال : «الله أعلم بما كانوا
عاملين» ومنهم من جعلهم من أهل الأعراف ، وهذا القول يرجع إلى قول من ذهب إلى أنهم
من أهل الجنة ، لأن الأعراف ليس دار قرار ومآل أهلها الجنة ، كما تقدم تقرير ذلك
في سورة الأعراف ، والله أعلم.
[فصل] وليعلم أن
هذا الخلاف مخصوص بأطفال المشركين ، فأما ولدان المؤمنين فلا خلاف بين العلماء كما
حكاه القاضي أبو يعلى بن الفراء الحنبلي عن الإمام أحمد أنه قال : لا يختلف فيهم
أنهم من أهل الجنة ، وهذا هو المشهور بين الناس ، وهو الذي نقطع به إن شاء الله عزوجل ، فأما ما ذكره الشيخ أبو عمر بن عبد البر عن بعض العلماء
أنهم توقفوا في ذلك وأن الولدان كلهم تحت المشيئة ، قال أبو عمر : ذهب إلى هذا
القول جماعة من أهل الفقه والحديث ، منهم حماد بن زيد وحماد بن سلمة وابن المبارك
وإسحاق بن راهويه وغيرهم ، قالوا : وهو يشبه ما رسم مالك في موطئه في أبواب القدر
، وما أورده من الأحاديث في ذلك ، وعلى ذلك أكثر أصحابه ، وليس عن مالك فيه شيء
منصوص إلا أن المتأخرين من أصحابه ذهبوا إلى أن أطفال المسلمين في الجنة وأطفال
المشركين خاصة في المشيئة ، انتهى كلامه ، وهو غريب جدا ، وقد ذكر أبو عبد الله
القرطبي في كتاب التذكرة نحو ذلك أيضا ، والله أعلم.
وقد ذكروا في ذلك
أيضا حديث عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين قالت : دعي النبي صلىاللهعليهوسلم إلى جنازة صبي من الأنصار ، فقلت : يا رسول الله طوبى له
عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه ، فقال : «أو غير ذلك يا عائشة ،
إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم. وخلق النار وخلق لها أهلا
وهم في أصلاب آبائهم» رواه مسلم وأحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
ولما كان الكلام
في هذه المسألة يحتاج إلى دلائل صحيحة جيدة وقد يتكلم فيها من لا علم عنده عن
الشارع ، كره جماعة من العلماء الكلام فيها ، روي ذلك عن ابن عباس والقاسم بن
__________________
محمد بن أبي بكر
الصديق ومحمد ابن الحنفية وغيرهم ، وأخرج ابن حبان في صحيحه عن جرير بن حازم :
سمعت أبا رجاء العطاردي ، سمعت ابن عباس رضي الله عنهما وهو على المنبر يقول : قال
رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لا يزال أمر هذه الأمة مواتيا أو مقاربا ما لم يتكلموا
في الوالدان والقدر» قال ابن حبان : يعني أطفال المشركين ، وهكذا رواه أبو بكر
البزار من طريق جرير بن حازم ، ثم قال : وقد رواه جماعة عن أبي رجاء عن ابن عباس
موقوفا.
(وَإِذا أَرَدْنا أَنْ
نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا
الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً)
(١٦)
اختلف القراء في
قراءة قوله (أَمَرْنا) فالمشهور قراءة التخفيف ، واختلف المفسرون في معناها ،
فقيل : معناها أمرنا مترفيها ففسقوا فيها أمرا قدريا ، كقوله تعالى : (أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً) [يونس : ٢٤] فإن
الله لا يأمر بالفحشاء ، قالوا : معناه أنه سخرهم إلى فعل الفواحش ، فاستحقوا
العذاب ، وقيل : معناه أمرناهم بالطاعات ففعلوا الفواحش ، فاستحقوا العقوبة ، رواه
ابن جريج عن ابن عباس ، وقاله سعيد بن جبير أيضا. وقال ابن جرير : يحتمل أن يكون معناه جعلناهم أمراء ، قلت إنما يجيء هذا
على قراءة من قرأ (أَمَرْنا مُتْرَفِيها) ، قال علي بن طلحة عن ابن عباس قوله : (أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها) يقول : سلطنا أشرارها فعصوا فيها ، فإذا فعلوا ذلك أهلكهم
الله بالعذاب ، وهو قوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا
فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها) [الأنعام : ١٢٣] الآية ، وكذا قال أبو العالية ومجاهد
والربيع بن أنس.
وقال العوفي عن
ابن عباس (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ
نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها) يقول ، أكثرنا عددهم ، وكذا قال عكرمة والحسن والضحاك وقتادة. وعن مالك ، عن
الزهري (أَمَرْنا مُتْرَفِيها) أكثرنا ، وقد استشهد بعضهم بالحديث الذي رواه الإمام أحمد ، حيث قال : حدثنا روح بن عبادة ، حدثنا أبو نعيم العدوي
عن مسلم بن بديل ، عن إياس بن زهير ، عن سويد بن هبيرة ، عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال «خير مال امرئ له مهرة مأمورة ، أو سكة مأبورة» قال
الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام رحمهالله في كتابه الغريب : «المأمورة كثيرة النسل ، والسكة الطريقة
المصطفة من النخل ، والمأبورة من التأبير» وقال بعضهم : إنما جاء هذا متناسبا كقوله
«مأزورات غير مأجورات».
(وَكَمْ أَهْلَكْنا
مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً
بَصِيراً)
(١٧)
يقول تعالى منذرا
كفار قريش في تكذيبهم رسوله محمدا صلىاللهعليهوسلم ، بأنه قد أهلك من المكذبين
__________________
للرسل من بعد نوح
، ودل هذا على أن القرون التي كانت بين آدم ونوح على الإسلام كما قال ابن عباس :
كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام ، ومعناه أنكم أيها المكذبون لستم
أكرم على الله منهم وقد كذّبتم أشرف الرسل وأكرم الخلائق ، فعقوبتكم أولى وأحرى. وقوله
: (وَكَفى بِرَبِّكَ
بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) أي هو عالم جميع أعمالهم : خيرها وشرها لا يخفى عليه منها
خافية سبحانه وتعالى.
(مَنْ كانَ يُرِيدُ
الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ
جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (١٨)
وَمَنْ
أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ
سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً)
(١٩)
يخبر تعالى أنه ما
كل من طلب الدنيا وما فيها من النعيم يحصل عليه ، بل إنما يحصل لمن أراد الله وما
يشاء ، وهذه مقيدة لإطلاق ما سواها من الآيات ، فإنه قال : (عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ
نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ) أي في الدار الآخرة (يَصْلاها) أي يدخلها حتى تغمره من جميع جوانبه (مَذْمُوماً) أي في حال كونه مذموما على سوء تصرفه وصنيعه ، إذ اختار
الفاني على الباقي (مَدْحُوراً) مبعدا مقصيا حقيرا ذليلا مهانا.
روى الإمام أحمد : حدثنا حسين ، حدثنا رويد عن أبي إسحاق ، عن زرعة عن
عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «الدنيا دار من لا دار له ، ومال من لا مال له ، ولها
يجمع من لا عقل له». وقوله : (وَمَنْ أَرادَ
الْآخِرَةَ) أي أراد الدار الآخرة وما فيها من النعيم والسرور (وَسَعى لَها سَعْيَها) أي طلب ذلك من طريقه وهو متابعة الرسولصلىاللهعليهوسلم (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) أي قلبه مؤمن ، أي مصدق بالثواب والجزاء (فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً).
(كُلاًّ نُمِدُّ
هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (٢٠) انْظُرْ كَيْفَ
فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ
تَفْضِيلاً)
(٢١)
يقول تعالى : (كُلًّا) أي كل واحد من الفريقين الذين أرادوا الدنيا والذين أرادوا
الآخرة نمدهم فيما فيه (مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ) أي هو المتصرف الحاكم الذي لا يجوز ، فيعطي كلا ما يستحقه
من السعادة والشقاوة ، فلا راد لحكمه ولا مانع لما أعطى ولا مغير لما أراد ، ولهذا
قال (وَما كانَ عَطاءُ
رَبِّكَ مَحْظُوراً) أي لا يمنعه أحد ، ولا يرده راد. قال قتادة (وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) أي منقوصا ، وقال الحسن وغيره : أي ممنوعا.
ثم قال تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ
عَلى بَعْضٍ) أي في الدنيا ، فمنهم الغني والفقير وبين ذلك ، والحسن
والقبيح وبين ذلك ، ومن يموت صغيرا ، ومن يعمر حتى يبقى شيخا
__________________
كبيرا ، وبين ذلك (وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ
وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) أي ولتفاوتهم في الدار الآخرة أكبر من الدنيا ، فإن منهم
من يكون في الدركات في جهنم وسلاسلها وأغلالها ، ومنهم من يكون في الدرجات العليا
ونعيمها وسرورها ، ثم أهل الدركات يتفاتون في ما هم فيه ، كما أن أهل الدرجات
يتفاوتون ، فإن الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض. وفي
الصحيحين «إن أهل الدرجات العلى ليرون أهل عليين كما ترون الكوكب الغابر في أفق
السماء» ولهذا قال تعالى : (وَلَلْآخِرَةُ
أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) وفي الطبراني من رواية زاذان عن سلمان مرفوعا «ما من عبد
يريد أن يرتفع في الدنيا درجة فارتفع ، إلا وضعه الله في الآخرة أكبر منها» ثم قرأ
(وَلَلْآخِرَةُ
أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً).
(لا تَجْعَلْ مَعَ
اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً)
(٢٢)
يقول تعالى ،
والمراد المكلفون من الأمة : لا تجعل أيها المكلف في عبادتك ربك له شريكا (فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً) أي على إشراكك به (مَخْذُولاً) لأن الرب تعالى لا ينصرك بل يكلك إلى الذي عبدت معه ، وهو
لا يملك لك ضرا ولا نفعا ، لأن مالك الضر والنفع هو الله وحده لا شريك له ، وقد
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، حدثنا بشير بن سلمان عن سيار
أبي الحكم ، عن طارق بن شهاب ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته ، ومن
أنزلها بالله أرسل الله له بالغنى إما آجلا وإما غنى عاجلا» رواه أبو داود والترمذي من حديث بشير بن سلمان به ، وقال
الترمذي : حسن صحيح غريب.
(وَقَضى رَبُّكَ
أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا
يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما
أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (٢٣)
وَاخْفِضْ
لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما
رَبَّيانِي صَغِيراً)
(٢٤)
يقول تعالى آمرا
بعبادته وحده لا شريك له ، فإن القضاء هاهنا بمعنى الأمر ، قال مجاهد (وَقَضى) يعني وصى ، وكذا قرأ أبي بن كعب وابن مسعود والضحاك بن
مزاحم (وَقَضى رَبُّكَ
أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) ولهذا قرن بعبادته برّ الوالدين ، فقال : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) أي وأمر بالوالدين إحسانا ، كقوله في الآية الأخرى (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ
إِلَيَّ الْمَصِيرُ) [لقمان : ١٤].
__________________
وقوله (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ
أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) أي لا تسمعهما قولا سيئا حتى ولا التأفيف الذي هو أدنى
مراتب القول السيئ (وَلا تَنْهَرْهُما) أي ولا يصدر منك إليهما فعل قبيح ، كما قال عطاء بن رباح
في قوله (وَلا تَنْهَرْهُما) أي لا تنفض يدك عليهما ، ولما نهاه عن القول القبيح والفعل القبيح ، أمره بالقول
والفعل الحسن ، فقال : (وَقُلْ لَهُما
قَوْلاً كَرِيماً) أي لينا طيبا حسنا بتأدب وتوقير وتعظيم ، (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ
الرَّحْمَةِ) أي تواضع لهما بفعلك (وَقُلْ رَبِّ
ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) أي في كبرهما وعند وفاتهما ، قال ابن عباس : ثم أنزل الله (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ
آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) [التوبة : ١١٣]
الآية .
وقد جاء في بر
الوالدين أحاديث كثيرة منها الحديث المروي من طرق عن أنس وغيره أن النبي صلىاللهعليهوسلم لما صعد المنبر قال : «آمين آمين آمين» قيل يا رسول الله
علام أمنت؟ قال : «أتاني جبريل فقال : يا محمد رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل عليك
، قل : آمين ، فقلت آمين ، ثم قال رغم أنف رجل دخل عليه شهر رمضان ثم خرج فلم يغفر
له ، قل : آمين ، فقلت آمين ، ثم قال : رغم أنف رجل أدرك والديه أو أحدهما فلم
يدخلاه الجنة ، قل : آمين ، فقلت آمين».
[حديث آخر] قال
الإمام أحمد : حدثنا هشيم ، حدثنا علي بن زيد أخبرنا زرارة بن أوفى عن
مالك بن الحارث ، عن رجل منهم أنه سمع النبي صلىاللهعليهوسلم يقول : «من ضم يتيما من أبوين مسلمين إلى طعامه وشرابه حتى
يستغني عنه ، وجبت له الجنة البتة ، ومن أعتق امرأ مسلما ، كان فكاكه من النار
يجزي بكل عضو منه عضوا منه» ثم قال : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، سمعت علي
بن زيد فذكر معناه ، إلا أنه قال عن رجل من قومه يقال له مالك أو ابن مالك ، وزاد «ومن
أدرك والديه أو أحدهما ، فدخل النار فأبعده الله».
[حديث آخر] وقال
الإمام أحمد : حدثنا عفان عن حماد بن سلمة ، حدثنا علي بن زيد عن زرارة
بن أبي أوفى عن مالك بن عمرو القشيري ، سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «من أعتق رقبة مسلمة فهي فداؤه من النار ، فإن كل
عظم من عظامه محررة بعظم من عظامه ، ومن أدرك أحد والديه ثم لم يغفر له فأبعده
الله عزوجل ، ومن ضم يتيما من أبوين مسلمين إلى طعامه وشرابه حتى
يغنيه الله وجبت له الجنة».
__________________
[حديث آخر] قال
الإمام أحمد : حدثنا حجاج ومحمد بن جعفر قالا : حدثنا شعبة عن قتادة ،
سمعت زرارة بن أبي أوفى يحدث عن أبي مالك القشيري قال : قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «من أدرك والديه أو أحدهما ثم دخل النار من بعد ذلك ،
فأبعده الله وأسحقه» ، ورواه أبو داود الطيالسي عن شعبة به ، وفيه زيادات أخر.
[حديث آخر] قال
الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا أبو عوانة ، حدثنا سهيل بن أبي صالح
عن أبيه عن أبي هريرة ، عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال «رغم أنف ، ثم رغم أنف ، ثم رغم أنف رجل أدرك أحد
أبويه أو كلاهما عند الكبر ولم يدخل الجنة» صحيح من هذا الوجه ، ولم يخرجوه ، سوى
مسلم من حديث أبي عوانة وجرير وسليمان بن بلال عن سهيل به.
[حديث آخر] قال
الإمام أحمد : حدثنا ربعي بن إبراهيم ، قال أحمد وهو أخو إسماعيل بن
علية وكان يفضل على أخيه ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي
هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي ، ورغم أنف رجل دخل
عليه شهر رمضان فانسلخ فلم يغفر له ، ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر ، فلم
يدخلاه الجنة» قال ربعي : ولا أعلمه إلا قال «أو أحدهما». ورواه الترمذي عن أحمد بن إبراهيم الدورقي عن ربعي بن إبراهيم ، ثم قال :
غريب من هذا الوجه.
[حديث آخر] قال
الإمام أحمد : حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا عبد الرحمن بن الغسيل ،
حدثنا أسيد بن علي عن أبيه علي بن عبيد ، عن أبي أسيل وهو مالك بن ربيعة الساعدي
قال : بينما أنا جالس عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، إذ جاءه رجل من الأنصار فقال : يا رسول الله هل بقي علي
من بر أبوي شيء بعد موتهما أبرهما به؟ قال : «نعم خصال أربع : الصلاة عليهما ،
والاستغفار لهما ، وإنفاذ عهدهما ، وإكرام صديقهما ، وصلة الرحم التي لا رحم لك
إلا من قبلهما ، فهو الذي بقي عليك من برهما بعد موتهما» ورواه أبو داود وابن ماجة من حديث عبد الرحمن بن سليمان
وهو ابن الغسيل به.
[حديث آخر] قال
الإمام أحمد : حدثنا روح ، حدثنا ابن جريج ، أخبرني محمد بن
__________________
طلحة بن عبد الله
بن عبد الرحمن عن معاوية بن جاهمة السلمي أن جاهمة جاء إلى النبيصلىاللهعليهوسلم فقال يا رسول الله أردت الغزو وجئتك أستشيرك فقال : «فهل
لك من أم» قال نعم قال : «فألزمها فإن الجنة عند رجليها» ثم الثانية ثم الثالثة في
مقاعد شتى كمثل هذا القول ، ورواه النسائي وابن ماجة من حديث ابن جريج به.
[حديث آخر] ـ قال
الإمام أحمد : حدثنا خلف بن الوليد حدثنا ابن عياش عن يحيى بن سعد عن
خالد بن معدان عن المقدام بن معد يكرب عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «إن الله يوصيكم بآبائكم إن الله يوصيكم بأمهاتكم إن
الله يوصيكم بأمهاتكم إن الله يوصيكم بأمهاتكم إن الله يوصيكم بالأقرب فالأقرب»
وأخرجه ابن ماجة من حديث عبد الله بن عياش به.
[حديث آخر] قال
أحمد : حدثنا يونس ، حدثنا أبو عوانة عن أشعث بن سليم عن أبيه ، عن رجل من بني
يربوع قال : أتيت النبي صلىاللهعليهوسلم فسمعته وهو يكلم الناس يقول : «يد المعطي العليا ، أمك
وأباك ، وأختك وأخاك ، ثم أدناك أدناك».
[حديث آخر] قال
الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار في مسنده : حدثنا إبراهيم بن
المستمر العروقي ، حدثنا عمرو بن سفيان ، حدثنا الحسن بن أبي جعفر عن ليث بن أبي
سليم عن علقمة بن مرثد ، عن سليمان بن بريد عن أبيه أن رجلا كان في الطواف حاملا
أمه يطوف بها فسأل النبي صلىاللهعليهوسلم : هل أديت حقها؟ قال «لا ولا بزفرة واحدة» أو كما قال ، ثم
قال البزار : لا نعلمه يروي إلا من هذا الوجه. قلت : والحسن بن أبي جعفر ضعيف ،
والله أعلم.
(رَبُّكُمْ أَعْلَمُ
بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ
غَفُوراً)
(٢٥)
قال سعيد بن جبير
: هو الرجل تكون منه البادرة إلى أبويه ، وفي نيته وقلبه أنه لا يؤخذ به ، وفي
رواية : لا يريد إلا الخير بذلك ، فقال : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ
بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ) . وقوله : (فَإِنَّهُ كانَ
لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً) قال قتادة : للمطيعين أهل الصلاة ، وعن ابن عباس :
المسبحين ، وفي رواية عنه : المطيعين المحسنين ، وقال بعضهم : هم الذين يصلون بين
العشاءين وقال بعضهم : هم الذين يصلون الضحى. وقال شعبة عن يحيى بن سعيد عن سعيد
بن المسيب في قوله : (فَإِنَّهُ كانَ
لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً) قال : الذين يصيبون الذنب ثم
__________________
يتوبون ، ويصيبون
الذنب ثم يتوبون ، وكذا رواه عبد الرزاق عن الثوري ومعمر عن يحيى بن سعيد ،
عن ابن المسيب بنحوه ، وكذا رواه الليث وابن جرير عن ابن المسيب به.
وقال عطاء بن يسار
بن جبير ومجاهد : هم الراجعون إلى الخير. وقال مجاهد عن عبيد بن عمير في الآية :
هو الذي إذا ذكر ذنوبه في الخلاء فيستغفر الله منها ، ووافقه مجاهد في ذلك. وقال
عبد الرزاق : حدثنا محمد بن مسلم عن عمرو بن دينار عن عبيد بن عمير في قوله : (فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ
غَفُوراً) قال : كنا نعد الأواب الحفيظ أن يقول : اللهم اغفر لي ما
أصبت في مجلسي هذا. وقال ابن جرير : والأولى في ذلك قول من قال : هو التائب من
الذنب ، الراجع من المعصية إلى الطاعة مما يكره الله إلى ما يحبه ويرضاه ، وهذا
الذي قاله هو الصواب ، لأن الأواب مشتق من الأوب ، وهو الرجوع ، يقال : آب فلان
إذا رجع ، قال تعالى : (إِنَّ إِلَيْنا
إِيابَهُمْ) [الغاشية : ٢٥]
وفي الحديث الصحيح أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان إذا رجع من سفر قال : «آئبون تائبون ، عابدون لربنا
حامدون» .
(وَآتِ ذَا الْقُرْبى
حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (٢٦) إِنَّ
الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ
كَفُوراً (٢٧) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ
ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً)
(٢٨)
لما ذكر تعالى بر
الوالدين ، عطف بذكر الإحسان إلى القرابة وصلة الأرحام ، وفي الحديث «أمك وأباك ثم
أدناك أدناك» وفي رواية «ثم الأقرب فالأقرب» ، وفي الحديث «من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أجله
، فليصل رحمه» وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا عباد بن يعقوب ، حدثنا
أبو يحيى التميمي ، حدثنا فضيل بن مرزوق عن عطية عن أبي سعيد قال : لما نزلت (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) دعا رسول الله صلىاللهعليهوسلم فاطمة فأعطاها فدك ، ثم قال : لا نعلم حدث به عن فضيل بن
مرزوق إلا أبو يحيى التميمي وحميد بن حماد بن أبي الخوار ، وهذا الحديث مشكل لو صح
إسناده ، لأن الآية مكية ، وفدك إنما فتحت مع خيبر سنة سبع من الهجرة ، فكيف يلتئم
هذا مع هذا؟ فهو إذا حديث منكر ، والأشبه أنه من وضع الرافضة ، والله أعلم ، وقد
تقدم الكلام على المساكين وأبناء السبيل في سورة براءة بما أغنى عن إعادته هاهنا.
وقوله (وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً) لما أمر بالإنفاق ، نهى عن الإسراف فيه ، بل يكون وسطا كما
قال في الآية الأخرى (وَالَّذِينَ إِذا
أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا) [الفرقان : ٦٧]
الآية ، ثم قال منفرا
__________________
عن التبذير والسرف
(إِنَّ
الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ) أي أشباههم في ذلك. قال ابن مسعود : التبذير الإنفاق في
غير حق ، وكذا قال ابن عباس ، وقال مجاهد : لو أنفق إنسان ماله كله في الحق لم يكن
مبذرا ، ولو أنفق مدا في غير حق كان مبذرا. وقال قتادة : التبذير النفقة في معصية
الله تعالى ، وفي غير الحق والفساد.
وقال الإمام أحمد : حدثنا هاشم بن القاسم ، حدثنا الليث عن خالد بن يزيد عن
سعيد بن أبي هلال ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال : أتى رجل من بني تميم
إلى رسول الله فقال : يا رسول الله إني ذو مال كثير ، وذو أهل وولد وحاضرة ،
فأخبرني كيف أنفق ، وكيف أصنع؟ فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «تخرج الزكاة من مالك إن كان ، فإنها طهرة تطهرك ، وتصل
أقرباءك ، وتعرف حق السائل والجار والمسكين» فقال : يا رسول الله أقلل لي؟ (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ
وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً) فقال : حسبي يا رسول الله إذا أديت الزكاة إلى رسولك فقد
برئت منها إلى الله وإلى رسوله؟ فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «نعم إذا أديتها إلى رسولي فقد برئت منها ولك أجرها ،
وإثمها على من بدلها».
وقوله : (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ
الشَّياطِينِ) أي في التبذير والسفه وترك طاعة الله وارتكاب معصيته ،
ولهذا قال (وَكانَ الشَّيْطانُ
لِرَبِّهِ كَفُوراً) أي جحودا ، لأنه أنكر نعمة الله عليه ولم يعمل بطاعته ، بل
أقبل على معصيته ومخالفته. وقوله : (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ
عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ) الآية ، أي إذا سألك أقاربك ومن أمرناك بإعطائهم وليس عندك
شيء ، أعرضت عنهم لفقد النفقة (فَقُلْ لَهُمْ
قَوْلاً مَيْسُوراً) أي عدهم وعدا بسهولة ولين ، إذا جاء رزق الله فسنصلكم إن
شاء الله ، هكذا فسر قوله : (فَقُلْ لَهُمْ
قَوْلاً مَيْسُوراً) بالوعد ، مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وقتادة وغير
واحد.
(وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ
مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً
مَحْسُوراً (٢٩) إِنَّ رَبَّكَ
يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً
بَصِيراً)
(٣٠)
يقول تعالى آمرا
بالاقتصاد في العيش ، ذاما للبخل ، ناهيا عن السرف (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ
مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ) أي لا تكن بخيلا منوعا ، لا تعطي أحدا شيئا ، كما قالت
اليهود ـ عليهم لعائن الله ـ (يَدُ اللهِ
مَغْلُولَةٌ) [المائدة : ٦٤] أي
نسبوه إلى البخل ، تعالى وتقدس الكريم الوهاب ، وقوله (وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) أي ولا تسرف في الإنفاق ، فتعطي فوق طاقتك ، وتخرج أكثر من
دخلك فتقعد ملوما محسورا ، وهذا من باب اللف والنشر ، أي فتقعد إن بخلت ملوما
يلومك الناس ويذمونك ويستغنون عنك ، كما قال زهير بن أبي سلمى في المعلقة : [الطويل]
__________________
ومن كان ذا مال
فيبخل بماله
|
|
على قومه يستغن
عنه ويذمم
|
ومتى بسطت يدك فوق
طاقتك ، قعدت بلا شيء تنفقه ، فتكون كالحسير ، وهو الدابة التي عجزت عن السير
فوقفت ضعفا وعجزا ، فإنها تسمى الحسير ، وهو مأخوذ من الكلال ، كما قال (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ
فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ
خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) [الملك : ٤] أي
كليل عن أن يرى عيبا ، هكذا فسر هذه الآية بأن المراد هنا البخل والسرف : ابن عباس
والحسن وقتادة وابن جريج وابن زيد وغيرهم.
وقد جاء في
الصحيحين من حديث أبي الزناد عن الأعرج ، عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «مثل البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما جبتان من
حديد من ثديهما إلى تراقيهما ، فأما المنفق فلا ينفق إلا سبغت أو وفرت على جلده
حتى تخفي بنانه وتعفو أثره ، وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئا إلا لزقت كل حلقة
منها مكانها ، فهو يوسعها فلا تتسع» . هذا لفظ البخاري في الزكاة.
وفي الصحيحين من
طريق هشام بن عروة عن زوجته فاطمة بنت المنذر ، عن جدتها أسماء بنت أبي بكر قالت :
قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أنفقي هكذا وهكذا وهكذا ولا توعي فيوعي الله عليك ، ولا
توكي فيوكي الله عليك» . وفي لفظ «ولا تحصي فيحصي الله عليك» . وفي صحيح مسلم من طريق عبد الرزاق عن معمر عن أبي هريرة
رضي الله عنه قال : قال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم «إن الله قال لي :
أنفق ، أنفق عليك» وفي الصحيحين من طريق معاوية بن أبي مزرد عن سعيد بن يسار
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان من السماء
يقول أحدهما : اللهم أعط منفقا خلفا ، ويقول الآخر : اللهم أعط ممسكا تلفا» .
وروى مسلم عن
قتيبة عن إسماعيل بن جعفر عن العلاء عن أبيه ، عن أبي هريرة مرفوعا «ما نقص مال من
صدقة ، وما زاد الله عبدا أنفق إلا عزا ، ومن تواضع لله رفعه الله» وفي حديث أبي كثير عن عبد الله بن عمرو مرفوعا «إياكم
والشحّ فإنه أهلك من كان قبلكم ، أمرهم
__________________
بالبخل فبخلوا ،
وأمرهم بالقطيعة فقطعوا ، وأمرهم بالفجور ففجروا» . وروى البيهقي من طريق سعدان بن نصر عن أبي معاوية عن
الأعمش ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ما يخرج رجل صدقة حتى يفك لحي سبعين شيطانا».
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو عبيدة الحداد ، حدثنا سكين بن عبد العزيز ،
حدثنا إبراهيم الهجري عن أبي الأحوص ، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال :
قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «ما عال من اقتصد».
وقوله : (إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ
لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) إخبارا أنه تعالى هو الرزاق القابض الباسط المتصرف في خلقه
بما يشاء ، فيغني من يشاء ، ويفقر من يشاء لما له في ذلك من الحكمة ، ولهذا قال : (إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً
بَصِيراً) أي خبيرا بصيرا بمن يستحق الغنى ويستحق الفقر ، كما جاء في
الحديث «إن من عبادي لمن لا يصلحه إلا الفقر ، ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه ، وإن
من عبادي لمن لا يصلحه إلا الغنى ، ولو أفقرته لأفسدت عليه دينه» وقد يكون الغنى
في حق بعض الناس استدراجا ، والفقر عقوبة ، عياذا بالله من هذا وهذا.
(وَلا تَقْتُلُوا
أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ
قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً)
(٣١)
هذه الآية الكريمة
دالة على أن الله تعالى أرحم بعباده من الوالد بولده ، لأنه نهى عن قتل الأولاد
كما أوصى الآباء بالأولاد في الميراث ، وكان أهل الجاهلية لا يورثون البنات بل كان
أحدهم ربما قتل ابنته لئلا تكثر عيلته ، فنهى الله تعالى عن ذلك وقال : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ
إِمْلاقٍ) أي خوف أن تفتقروا في ثاني حال ، ولهذا قدم الاهتمام
برزقهم فقال : (نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ
وَإِيَّاكُمْ) وفي الأنعام (وَلا تَقْتُلُوا
أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ) أي من فقر (نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ
وَإِيَّاهُمْ) [الأنعام : ١٥١].
وقوله (إِنَّ قَتْلَهُمْ
كانَ خِطْأً كَبِيراً) أي ذنبا عظيما ، وقرأ بعضهم : كان خطأ كبيرا وهو بمعناه ،
وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قلت : يا رسول الله أي الذنب أعظم : قال «إن
تجعل لله ندا وهو خلقك ـ قلت : ثم أي؟ ـ قال : إن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك ـ قلت
: ثم أي؟ ـ قال : إن تزاني بحليلة جارك» .
(وَلا تَقْرَبُوا
الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً)
(٣٢)
يقول تعالى ناهيا
عباده عن الزنا وعن مقاربته ومخالطة أسبابه ودواعيه (وَلا تَقْرَبُوا
الزِّنى إِنَّهُ
__________________
كانَ
فاحِشَةً) أي ذنبا عظيما (وَساءَ سَبِيلاً) أي بئس طريقا ومسلكا.
وقد قال الإمام
أحمد : حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا جرير حدثنا سليم بن عامر عن أبي أمامة أن فتى
شابا أتى النبي صلىاللهعليهوسلم فقال : يا رسول الله ائذن لي بالزنا ، فأقبل القوم عليه
فزجروه ، وقالوا : مه مه ، فقال «ادنه» فدنا منه قريبا ، فقال «اجلس» فجلس ، فقال «أتحبه
لأمك»؟ قال : لا والله ، جعلني الله فداك ، قال : ولا الناس يحبونه لأمهاتهم ، قال
: «أفتحبه لابنتك؟» قال : لا والله يا رسول الله ، جعلني الله فداك ، قال : ولا
الناس يحبونه لبناتهم. قال : «أفتحبه لأختك؟» قال : لا والله ، جعلني الله فداك ،
قال : ولا الناس يحبونه لأخواتهم ، قال «أفتحبه لعمتك؟» قال : لا والله يا رسول
الله ، جعلني الله فداك ، قال : ولا الناس يحبونه لعماتهم ، قال «أفتحبه لخالتك؟»
قال : لا والله يا رسول الله ، جعلني الله فداك ، قال : ولا الناس يحبونه لخالاتهم
، قال فوضع يده عليه ، وقال «اللهم اغفر ذنبه ، وطهر قلبه ، وأحصن فرجه» قال : فلم
يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء ، وقال ابن أبي الدنيا : حدثنا عمار بن نصر ،
حدثنا بقية عن أبي بكر بن أبي مريم عن الهيثم بن مالك الطائي ، عن النبيصلىاللهعليهوسلم قال : «ما من ذنب بعد الشرك أعظم عند الله من نطفة وضعها
رجل في رحم لا يحل له».
(وَلا تَقْتُلُوا
النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً
فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ
مَنْصُوراً)
(٣٣)
يقول تعالى ناهيا
عن قتل النفس بغير حق شرعي ، كما ثبت في الصحيحين أن رسول اللهصلىاللهعليهوسلم قال : «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن
محمدا رسول الله ، إلا بإحدى ثلاث : النفس بالنفس ، والزاني المحصن ، والتارك
لدينه المفارق للجماعة» . وفي السنن «لزوال الدنيا عند الله أهون من قتل مسلم» .
وقوله : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ
جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً) أي سلطة على القاتل ، فإنه بالخيار فيه إن شاء قتله قودا ،
وإن شاء عفا عنه على الدية ، وإن شاء عفا عنه مجانا ، كما ثبتت السنة بذلك ، وقد
أخذ الإمام الحبر ابن عباس من عموم هذه الآية الكريمة ولاية معاوية السلطنة أنه
سيملك لأنه كان ولي عثمان ، وقد قتل مظلوما رضي الله عنه ، وكان معاوية يطالب عليا
رضي الله عنه أن يسلمه قتلته حتى يقتص منهم ، لأنه أموي ، وكان علي رضي الله عنه يستمهله
__________________
في الأمر حتى
يتمكن ويفعل ذلك ، ويطلب علي من معاوية أن يسلمه الشام فيأبى معاوية ذلك ، حتى
يسلمه القتلة ، وأبى أن يبايع عليا هو وأهل الشام ، ثم مع المطاولة تمكن معاوية
وصار الأمر إليه ، كما قاله ابن عباس واستنبطه من هذه الآية الكريمة ، وهذا من
الأمر العجب.
وقد روى ذلك
الطبراني في معجمه حيث قال : حدثنا يحيى بن عبد الباقي ، حدثنا أبو عمير بن النحاس
، حدثنا ضمرة بن ربيعة عن ابن شوذب عن مطر الوراق ، عن زهدم الجرمي قال : كنا في
سمر ابن عباس فقال : إني محدثكم بحديث ليس بسر ولا علانية ، إنه لما كان من أمر
هذا الرجل ما كان يعني عثمان ، قلت لعلي : اعتزل فلو كنت في جحر طلبت حتى تستخرج
فعصاني ، وايم الله ليتأمرن عليكم معاوية ، وذلك أن الله يقول : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ
جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) الآية ، وليحملنكم قريش على سنة فارس والروم ، وليقيمن
عليكم النصارى واليهود والمجوس ، فمن أخذ منكم يومئذ بما يعرف نجا ، ومن ترك ـ وأنتم
تاركون ـ كنتم كقرن من القرون هلك فيمن هلك وقوله : (فَلا يُسْرِفْ فِي
الْقَتْلِ) قالوا : معناه فلا يسرف الولي في قتل القاتل بأن يمثل به
أو يقتص من غير القاتل. وقوله : (إِنَّهُ كانَ
مَنْصُوراً) أي إن الولي منصور على القاتل شرعا وغالبا قدرا.
(وَلا تَقْرَبُوا مالَ
الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا
بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (٣٤)
وَأَوْفُوا
الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ
وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)
(٣٥)
يقول تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) أي لا تتصرفوا في مال اليتيم إلا بالغبطة (وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً
أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً
فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) [النساء : ٦] وقد
جاء في صحيح مسلم أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال لأبي ذر : «يا أبا ذر إني أراك ضعيفا ، وإني أحب لك ما
أحب لنفسي : لا تأمرن على اثنين ، ولا تولين مال اليتيم» وقوله (وَأَوْفُوا
بِالْعَهْدِ) أي الذي تعاهدون عليه الناس والعقود التي تعاملونهم بها ،
فإن العهد والعقد كل منهما يسأل صاحبه عنه (إِنَّ الْعَهْدَ كانَ
مَسْؤُلاً) أي عنه.
وقوله : (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ) أي من غير تطفيف ولا تبخسوا الناس أشياءهم ، (وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ) قرئ بضم القاف وكسرها ، كالقرطاس ، وهو الميزان. وقال
مجاهد : هو العدل بالرومية . وقوله : (الْمُسْتَقِيمِ) أي الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف ولا اضطراب (ذلِكَ خَيْرٌ) أي لكم في معاشكم ومعادكم ، ولهذا قال (وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) أي مآلا ومنقلبا في آخرتكم ، قال سعيد عن قتادة (ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) أي خير ثوابا وأحسن عاقبة. وابن عباس كان يقول : يا معشر
الموالي إنكم وليتم أمرين بهما هلك الناس قبلكم ، هذا المكيال ،
__________________
وهذا الميزان ،
قال : وذكر لنا أن نبي الله عليه الصلاة والسلام كان يقول «لا يقدر رجل على حرام
ثم يدعه ليس به إلا مخافة الله ، إلا أبدله الله به في عاجل الدنيا قبل الآخرة ما
هو خير له من ذلك».
(وَلا تَقْفُ ما
لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ
كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً)
(٣٦)
قال علي بن أبي
طلحة عن ابن عباس يقول : لا تقل. وقال العوفي : لا ترم أحدا بما ليس لك به علم.
وقال محمد ابن الحنفية : يعني شهادة الزور. وقال قتادة : لا تقل رأيت ولم تر ،
وسمعت ولم تسمع ، وعلمت ولم تعلم ، فإن الله تعالى سائلك عن ذلك كله ، ومضمون ما ذكروه أن الله تعالى نهى عن القول بلا علم بل
بالظن الذي هو التوهم والخيال ، كما قال تعالى : (اجْتَنِبُوا كَثِيراً
مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) [الحجرات : ١٢]
وفي الحديث «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث» . وفي سنن أبي داود «بئس مطية الرجل زعموا» وفي الحديث الآخر «إن أفرى الفري أن يرى الرجل عينيه ما لم
تريا» . وفي الصحيح «من تحلم حلما كلف يوم القيامة أن يعقد بين شعيرتين وليس بفاعل» .
وقوله : (كُلُّ أُولئِكَ) أي هذه الصفات من السمع والبصر والفؤاد (كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) أي سيسأل العبد عنها يوم القيامة ، وتسأل عنه عما عمل فيها
، ويصح استعمال أولئك مكان تلك ، كما قال الشاعر : [الكامل]
ذمّ المنازل بعد
منزلة اللّوى
|
|
والعيش بعد
أولئك الأيّام
|
(وَلا
تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ
الْجِبالَ طُولاً (٣٧) كُلُّ ذلِكَ كانَ
سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً)
(٣٨)
__________________
يقول تعالى ناهيا
عباده عن التجبر والتبختر في المشية (وَلا تَمْشِ فِي
الْأَرْضِ مَرَحاً) أي متبخترا متمايلا مشي الجبارين (إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ) أي لن تقطع بمشيك ، قاله ابن جرير ، واستشهد عليه بقول رؤبة بن العجاج : [رجز]
وقاتم الأعماق
خاوي المخترق
وقوله : (وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً) أي بتمايلك وفخرك وإعجابك بنفسك ، بل قد يجازى فاعل ذلك
بنقيض قصده ، كما ثبت في الصحيح «بينما رجل يمشي فيمن كان قبلكم وعليه بردان
يتبختر فيهما ، إذ خسف به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة» وكذلك أخبر الله تعالى عن قارون أنه خرج على قومه في زينته
، وأن الله تعالى خسف به وبداره الأرض ، وفي الحديث «من تواضع لله رفعه الله ، فهو
في نفسه حقير وعند الناس كبير ، ومن استكبر وضعه الله فهو في نفسه كبير وعند الناس
حقير ، حتى لهو أبغض إليهم من الكلب والخنزير» .
وقال أبو بكر بن
أبي الدنيا في كتاب الخمول والتواضع : حدثنا أحمد بن إبراهيم بن كثير ، حدثنا حجاج
بن محمد عن أبي بكر الهذلي قال بينما نحن مع الحسن إذ مر عليه ابن الأهيم يريد
المنصور ، وعليه جباب خز قد نضد بعضها فوق بعض على ساقه ، وانفرج عنها قباؤه ، وهو
يمشي ويتبختر ، إذ نظر إليه الحسن نظرة فقال : أف أف ، شامخ بأنفه ، ثاني عطفه ،
مصعر خده ، ينظر في عطفيه ، أي حميق ينظر في عطفه في نعم غير مشكورة ولا مذكورة ، غير
المأخوذ بأمر الله فيها ، ولا المؤدي حق الله منها ، والله أن يمشي أحدهم طبيعته
يتلجلج تلجلج المجنون في كل عضو منه نعمة ، وللشيطان به لعنة ، فسمعه ابن الأهيم
فرجع يعتذر إليه ، فقال : لا تعتذر إلي وتب إلى ربك ، أما سمعت قول الله تعالى : (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً
إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً).
__________________
ورأى البختري
العابد رجلا من آل علي يمشي وهو يخطر في مشيته ، فقال له : يا هذا ، إن الذي أكرمك
به لم تكن هذه مشيته ، قال : فتركها ورأى ابن عمر رجلا يخطر في مشيته ، فقال : إن
للشياطين إخوانا. وقال خالد بن معدان : إياكم والخطر ، فإن الرجل يده من سائر جسده
، رواهما ابن أبي الدنيا ، وقال ابن أبي الدنيا : حدثنا خلف بن هشام البزار ،
حدثنا حماد بن زيد عن يحيى عن سعيد عن محسن قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إذا مشيت أمتي المطيطاء ، وخدمتهم فارس والروم ، سلط
بعضهم على بعض».
وقوله : (كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ
رَبِّكَ مَكْرُوهاً) أما من قرأ سيئة ، أي فاحشة فمعناه عنده كل هذا الذي
نهيناه عنه من قوله : (وَلا تَقْتُلُوا
أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) [الإسراء : ٣١]
إلى هنا فهو سيئة مؤاخذ عليها مكروه عند الله لا يحبه ولا يرضاه ، وأما من قرأ
سيئه على الإضافة فمعناه عنده كل هذا الذي ذكرناه من قوله : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا
إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء : ٢٣] إلى هنا فسيئه أي فقبيحه مكروه عند الله ،
هكذا وجه ذلك ابن جرير رحمهالله.
(ذلِكَ مِمَّا أَوْحى
إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ
فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً)
(٣٩)
يقول تعالى : هذا
الذي أمرناك به من الأخلاق الجميلة ، ونهيناك عنه من الصفات الرذيلة ، مما أوحينا
إليك يا محمد لتأمر به الناس ، (وَلا تَجْعَلْ مَعَ
اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً) أي تلومك نفسك ويلومك الله والخلق ، (مَدْحُوراً) أي مبعدا من كل خير ، قال ابن عباس وقتادة : مطرودا ، والمراد من هذا الخطاب الأمة بواسطة الرسول صلىاللهعليهوسلم ، فإنه صلوات الله وسلامه عليه معصوم.
(أَفَأَصْفاكُمْ
رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ
لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً)
(٤٠)
يقول تعالى رادا
على المشركين الكاذبين الزاعمين ، عليهم لعائن الله : أن الملائكة بنات الله ،
فجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا ، ثم ادعوا أنهم بنات الله ، ثم
عبدوهم فأخطأوا في كل من المقامات الثلاث خطأ عظيما ، فقال تعالى منكرا عليهم (أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ) أي خصصكم بالذكور (وَاتَّخَذَ مِنَ
الْمَلائِكَةِ إِناثاً) أي واختار لنفسه على زعمكم البنات ، ثم شدد الإنكار عليهم
فقال : (إِنَّكُمْ
لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً) أي في زعمكم أن لله ولدا ، ثم جعلكم ولده الإناث التي
تأنفون أن يكن لكم وربما قتلتموهن بالوأد ، فتلك إدا قسمة ضيزى ، وقال تعالى : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً
لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ
وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ
وَلَداً وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إِنْ كُلُّ مَنْ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً لَقَدْ أَحْصاهُمْ
وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ
__________________
فَرْداً) [مريم : ٨٨ ـ ٩٥].
(وَلَقَدْ صَرَّفْنا
فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً)
(٤١)
يقول تعالى : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا
الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) أي صرفنا فيه من الوعيد لعلهم يذكرون ما فيه من الحجج
والبينات والمواعظ ، فينزجروا عما هم فيه من الشرك والظلم والإفك ، (وَما يَزِيدُهُمْ) أي الظالمين منهم (إِلَّا نُفُوراً) أي عن الحق وبعدا منه.
(قُلْ لَوْ كانَ
مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (٤٢) سُبْحانَهُ وَتَعالى
عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً)
(٤٣)
يقول تعالى : قل
يا محمد لهؤلاء المشركين الزاعمين أن لله شريكا من خلقه ، العابدين معه غيره ،
ليقربهم إليه زلفى لو كان الأمر كما يقولون ، وأن معه آلهة تعبد لتقرب إليه وتشفع
لديه ، لكان أولئك المعبودون يعبدونه ويتقربون إليه ويبتغون إليه الوسيلة والقربة
، فاعبدوه أنتم وحده كما يعبده من تدعونه من دونه ، ولا حاجة لكم إلى معبود يكون
وساطة بينكم وبينه ، فإنه لا يحب ذلك ولا يرضاه ، بل يكرهه ويأباه ، وقد نهى عن
ذلك على ألسنة جميع رسله وأنبيائه ، ثم نزه نفسه الكريمة وقدّسها فقال : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ) أي هؤلاء المشركون المعتدون الظالمون في زعمهم أن معه آلهة
أخرى (عُلُوًّا كَبِيراً) أي تعاليا كبيرا ، بل هو الله الأحد (الصَّمَدُ) الذي (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ
يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ).
(تُسَبِّحُ لَهُ
السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ
يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً
غَفُوراً)
(٤٤)
يقول تعالى :
تقدسه السموات السبع والأرض ومن فيهن ، أي من المخلوقات ، وتنزهه وتعظمه وتبجله
وتكبره عما يقول هؤلاء المشركون ، وتشهد له بالوحدانية في ربوبيته وإلهيته : [المتقارب]
ففي كل شيء له
آية
|
|
تدل على أنه
واحد .
|
كما قال تعالى : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ
مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا
لِلرَّحْمنِ وَلَداً) [مريم : ٩٠] وقال
أبو القاسم الطبراني : حدثنا علي بن عبد العزيز ، حدثنا سعيد بن منصور ، حدثنا
مسكين بن ميمون مؤذن مسجد الرملة ، حدثنا عروة بن رويم عن عبد الرحمن بن قرط أن
رسول الله صلىاللهعليهوسلم ليلة أسري به إلى المسجد الأقصى ، كان بين المقام وزمزم ،
جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره ، فطارا حتى بلغ السموات السبع. فلما رجع قال :
«سمعت تسبيحا في السموات العلى مع تسبيح كثير سبحت السموات العلى ، من ذي
__________________
المهابة مشفقات
لذي العلو بما علا ، سبحان العلي الأعلى سبحانه وتعالى».
وقوله : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ
بِحَمْدِهِ) أي وما من شيء من المخلوقات إلا يسبح بحمد الله (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) أي لا تفقهون تسبيحهم أيها الناس ، لأنها بخلاف لغاتكم ،
وهذا عام في الحيوانات والجمادات والنباتات ، وهذا أشهر القولين ، كما ثبت في صحيح
البخاري عن ابن مسعود أنه قال : كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل . وفي حديث أبي ذر أن النبي صلىاللهعليهوسلم أخذ في يده حصيات فسمع لهن تسبيح كحنين النحل ، وكذا في يد
أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ، وهو حديث مشهور في المسانيد وقال الإمام أحمد
: حدثنا حسن ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا زيان عن سهل بن معاذ عن ابن أنس ، عن
أبيه رضي الله عنه عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه دخل على قوم وهم وقوف على دواب لهم ورواحل ، فقال لهم «اركبوها
سالمة ودعوها سالمة ، ولا تتخذوها كراسي لأحاديثكم في الطرق والأسواق ، فرب مركوبة
خير من راكبها ، وأكثر ذكرا لله منه».
وفي سنن النسائي
عن عبد الله بن عمرو قال : نهى رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن قتل الضفدع ، وقال «نقيقها تسبيح». وقال قتادة عن عبد
الله بن أبي عن عبد الله بن عمرو أن الرجل إذا قال لا إله إلا الله ، فهي كلمة
الإخلاص التي لا يقبل الله من أحد عملا حتى يقولها ، وإذا قال : الحمد لله ، فهي
كلمة الشكر التي لم يشكر الله عبد قط حتى يقولها ، وإذا قال : الله أكبر ، فهي
تملأ ما بين السماء والأرض ، وإذا قال : سبحان الله ، فهي صلاة الخلائق التي لم
يدع الله أحدا من خلقه إلا قرره بالصلاة والتسبيح. وإذا قال : لا حول ولا قوة إلا
بالله ، قال : أسلم عبدي واستسلم.
وقال الإمام أحمد : حدثنا وهب بن جرير ، حدثنا أبي ، سمعت مصعب بن زهير يحدث
عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار ، عن عبد الله بن عمرو قال : أتى النبي صلىاللهعليهوسلم أعرابي عليه جبة من طيالسة مكفوفة بديباج ، أو مزورة
بديباج ، فقال : إن صاحبكم هذا يريد أن يرفع كل راع ابن راع ويضع كل رأس ابن رأس ،
فقام إليه النبي صلىاللهعليهوسلم مغضبا ، فأخذ بمجامع جبته فاجتذبه فقال : «لا أرى عليك
ثياب من لا يعقل» ثم رجع رسول الله صلىاللهعليهوسلم فجلس ، فقال : «إن نوحاعليهالسلام لما حضرته الوفاة دعا ابنيه فقال : إني قاص عليكما الوصية
آمركما باثنتين ، وأنهاكما عن اثنتين ، أنهاكما عن الشرك بالله والكبر ، وآمركما
بلا إله إلا الله فإن السموات والأرض وما فيهما لو وضعت في كفة الميزان ووضعت لا
إله إلا الله في الكفة الأخرى كانت أرجح ولو أن السموات والأرض كانتا حلقة فوضعت لا
إله إلا الله عليهما ، لقصمتهما أو لفصمتهما ، وآمركما بسبحان الله وبحمده ، فإنها
صلاة كل شيء وبها يرزق كل شيء» ورواه الإمام
__________________
أحمد أيضا عن سليمان بن حرب عن حماد بن زيد عن مصعب بن زهير به
أطول من هذا وتفرد به.
وقال ابن جرير : حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي ، حدثنا محمد بن يعلى عن
موسى بن عبيدة عن زيد بن أسلم ، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : قال رسول
اللهصلىاللهعليهوسلم : «ألا أخبركم بشيء امر به نوح ابنه؟ إن نوحا عليهالسلام قال لابنه : يا بني آمرك أن تقول : سبحان الله ، فإنها
صلاة الخلق وتسبيح الخلق ، وبها يرزق الخلق» قال الله تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ
بِحَمْدِهِ) إسناده فيه ضعف ، فإن الأودي ضعيف عند الأكثرين. وقال
عكرمة في قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ
إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) قال الأسطوانة تسبح والشجرة تسبح ـ الأسطوانة ـ السارية
وقال بعض السلف : صرير الباب تسبيحه وخرير الماء تسبيحه قال الله تعالى (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ
بِحَمْدِهِ) وقال سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم قال : الطعام يسبح
، ويشهد لهذا القول آية السجدة في الحج ، وقال آخرون : إنما يسبح ما كان فيه روح ،
يعنون من حيوان ونبات.
قال قتادة في قوله
: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ
إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) قال : كل شيء فيه روح يسبح من شجر أو شيء فيه ، وقال الحسن
والضحاك في قوله (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ
إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) قالا : كل شيء فيه الروح. وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن حميد ، حدثنا يحيى بن واضح وزيد بن حباب ،
قالا : حدثنا جرير أبو الخطاب ، قال كنا مع يزيد الرقاشي ومعه الحسن في طعام ،
فقدموا الخوان ، فقال يزيد الرقاشي : يا أبا سعيد ، يسبح هذا الخوان؟ فقال : كان
يسبح مرة.
قلت : الخوان هو
المائدة من الخشب ـ فكأن الحسن رحمهالله ، ذهب إلى أنه لما كان حيا فيه خضرة كان يسبح ، فلما قطع
وصار خشبة يابسة انقطع تسبيحه ، وقد يستأنس لهذا القول بحديث ابن عباس أن رسول
الله صلىاللهعليهوسلم مر بقبرين فقال «إنهما لعذبان وما يعذبان في كبير ، أما
أحدهما فكان لا يستنزه من البول ، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة» ثم أخذ جريدة
رطبة فشقها نصفين ، ثم غرز في كل قبر واحدة ، ثم قال «لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا»
أخرجاه في الصحيحين ، قال بعض من تكلم على هذا الحديث من العلماء : إنما قال
ما لم ييبسا لأنهما يسبحان ما دام فيهما خضرة ، فإذا يبسا انقطع تسبيحهما ، والله
أعلم.
__________________
وقوله (إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) أي إنه لا يعاجل من عصاه بالعقوبة بل يؤجله وينظره ، فإن
استمر على كفره وعناده أخذه أخذ عزيز مقتدر ، كما جاء في الصحيحين «إن الله ليملي
للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» ، ثم قرأ رسول الله صلىاللهعليهوسلم (وَكَذلِكَ أَخْذُ
رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ) [هود : ١٠٢] الآية
، وقال تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ
قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ) [الحج : ٤٨] الآية
، وقال (فَكَأَيِّنْ مِنْ
قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ) [الحج : ٤٥]
الآيتين ، ومن أقلع عما هو فيه من كفر أو عصيان ، ورجع إلى الله تاب إليه وتاب
عليه ، كما قال تعالى : (وَمَنْ يَعْمَلْ
سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ) [النساء : ١١٠]
الآية ، وقال هاهنا (إِنَّهُ كانَ
حَلِيماً غَفُوراً) كما قال في آخر فاطر (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ
أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) [فاطر : ٤١] إلى
أن قال (وَلَوْ يُؤاخِذُ
اللهُ النَّاسَ) [فاطر : ٤٥] إلى
آخر السورة.
(وَإِذا قَرَأْتَ
الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ
حِجاباً مَسْتُوراً (٤٥) وَجَعَلْنا عَلى
قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ
رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً)
(٤٦)
يقول تعالى لرسوله
محمد صلىاللهعليهوسلم : وإذا قرأت يا محمد على هؤلاء المشركين القرآن ، جعلنا
بينك وبينهم حجابا مستورا. قال قتادة وابن زيد : هو الأكنة على قلوبهم ، كما قال
تعالى : (وَقالُوا قُلُوبُنا
فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا
وَبَيْنِكَ حِجابٌ) [فصلت : ٥] أي
مانع حائل أن يصل إلينا مما تقول شيء. وقوله (حِجاباً مَسْتُوراً) بمعنى ساتر كميمون ومشؤوم بمعنى يامن وشائم ، لأنهم من
يمنهم وشؤمهم ، وقيل : مستورا عن الأبصار فلا تراه وهو مع ذلك حجاب بينهم وبين
الهدى ، ومال إلى ترجيحه ابن جرير رحمهالله.
وقال الحافظ أبو
يعلى الموصلي : حدثنا أبو موسى الهروي إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا سفيان عن الوليد
بن كثير ، عن يزيد بن تدرس ، عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنها قالت : لما
نزلت (تَبَّتْ يَدا أَبِي
لَهَبٍ) [المسد : ١] جاءت
العوراء أم جميل ولها ولولة وفي يدها فهر وهي تقول : مذمما أتينا ـ أو أبينا ـ قال
أبو موسى : الشك مني ، ودينه قلينا ، وأمره عصينا ، ورسول الله صلىاللهعليهوسلم جالس وأبو بكر إلى جنبه فقال أبو بكر رضي الله عنه : لقد
أقبلت هذه وأنا أخاف أن تراك ، فقال «إنها لن تراني» وقرأ قرآنا اعتصم به منها (وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا
بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً) قال : فجاءت حتى قامت على أبي بكر فلم تر النبي صلىاللهعليهوسلم فقالت : يا أبا بكر ، بلغني أن صاحبك هجاني ، قال أبو بكر
: لا ورب هذا البيت ما هجاك ، قال : فانصرفت وهي تقول : لقد علمت قريش أني بنت
سيدها.
وقوله : (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) وهي جمع كنان الذي يغشى القلب (أَنْ يَفْقَهُوهُ) أي لئلا يفهموا القرآن (وَفِي آذانِهِمْ
وَقْراً) وهو الثقل الذي منعهم من سماع القرآن سماعا ينفعهم
ويهتدون به. وقوله
تعالى : (وَإِذا ذَكَرْتَ
رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ) أي إذا وحدت الله في تلاوتك ، وقلت لا إله إلا الله ، (وَلَّوْا) أي أدبروا راجعين (عَلى أَدْبارِهِمْ
نُفُوراً) ونفور جمع نافر ، وكقعود جمع قاعد ، ويجوز أن يكون مصدرا
من غير الفعل ، والله أعلم.
كما قال تعالى : (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ
اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) [الزمر : ٤٥] الآية ، قال قتادة في قوله (وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ) الآية ، إن المسلمين لما قالوا لا إله إلا الله ، أنكر ذلك
المشركون ، كبرت عليهم وضاقها إبليس وجنوده ، فأبى الله إلا أن يمضيها ويعليها
وينصرها ويظهرها على من ناوأها ، إنها كلمة من خاصم بها فلج ، ومن قاتل بها نصر ،
إنما يعرفها أهل هذه الجزيزة من المسلمين التي يقطعها الراكب في ليال قلائل ،
ويسير الدهر في فئام من الناس لا يعرفونها ولا يقرون بها .
[قول آخر في الآية]
روى ابن جرير : حدثني الحسين بن محمد الذراع ، حدثنا روح بن المسيب أبو
رجاء الكلبي ، حدثنا عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس في قوله : (وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ
وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً) هم الشياطين ، وهذا غريب جدا في تفسيرها ، وإلا فالشياطين
إذا قرئ القرآن أو نودي بالأذان أو ذكر الله انصرفوا.
(نَحْنُ أَعْلَمُ بِما
يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ
الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٤٧)
انْظُرْ
كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً)
(٤٨)
يخبر تعالى نبيه صلىاللهعليهوسلم بما يتناجى به رؤساء قريش حين جاءوا يستمعون قراءته صلىاللهعليهوسلم سرا من قومهم بما قالوا من أنه رجل مسحور من السحر على
المشهور ، أو من السحر وهو الرئة ، أي إن تتبعون إن اتبعتم محمدا إلا بشرا يأكل ،
كما قال الشاعر : [الطويل]
فإن تسألينا فيم
نحن فإننا
|
|
عصافير من هذا
الأنام المسحّر
|
وقال الراجز : [الوافر]
__________________
ونسحر بالطعام وبالشراب
أي يغذي ، وقد صوب
هذا القول ابن جرير ، وفيه نظر لأنهم أرادوا هاهنا أنه مسحور له رئي يأتيه بما
استمعوه من الكلام الذي يتلوه ، ومنهم من قال : شاعر. ومنهم من قال : كاهن. ومنهم
من قال : مجنون ومنهم من قال : ساحر ، ولهذا قال تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ
الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) أي فلا يهتدون إلى الحق ولا يجدون إليه مخلصا.
قال محمد بن إسحاق
في السيرة : حدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري أنه حدث أن أبا سفيان بن حرب وأبا
جهل بن هشام والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي حليف بني زهرة ، خرجوا ليلة
ليستمعوا من رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو يصلي بالليل في بيته ، فأخذ كل واحد منهم مجلسا يستمع
فيه ، وكل لا يعلم بمكان صاحبه ، فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ،
حتى إذا جمعتهم الطريق تلاوموا ، وقال بعضهم لبعض : لا تعودوا فلو رآكم بعض
سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا ، ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثانية ، عاد كل
رجل منهم إلى مجلسه فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا وجمعتهم الطريق
، فقال بعضهم لبعض مثل ما قاله أول مرة ، ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثالثة
أخذ كل رجل مجلسه فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعتهم الطريق ،
فقال بعضهم لبعض لا نبرح حتى نتعاهد لا نعود ، فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا.
فلما أصبح الأخنس
بن شريق أخذ عصاه ثم خرج حتى أتى أبا سفيان بن حرب في بيته ، فقال : أخبرني يا أبا
حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد. قال : يا أبا ثعلبة والله لقد سمعت أشياء أعرفها
وأعرف ما يراد بها ، وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها ، قال الأخنس :
وأنا والذي حلفت به. قال : ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته ، فقال
: يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ قال : ما ذا سمعت؟ قال : تنازعنا نحن
وبنو عبد مناف الشرف : أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا وأعطوا فأعطينا ، حتى إذا
تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان ، قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء ،
فمتى ندرك هذه والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه. قال : فقام عنه الأخنس وتركه .
__________________
(وَقالُوا أَإِذا
كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٤٩)
قُلْ
كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً(٥٠)
أَوْ
خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ
الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ
وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (٥١)
يَوْمَ
يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ
قَلِيلاً)
(٥٢)
يقول تعالى مخبرا
عن الكفار المستبعدين وقوع المعاد القائلين استفهام إنكار منهم لذلك (أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً) أي ترابا ، قاله مجاهد . وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما : غبارا
، (أَإِنَّا
لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً) أي يوم القيامة بعد ما بلينا وصرنا عدما لا نذكر ، كما
أخبر عنهم في الموضع الآخر (يَقُولُونَ أَإِنَّا
لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً قالُوا تِلْكَ
إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ) [النازعات : ١٠ ـ ١٢].
وقوله تعالى : (وَضَرَبَ لَنا
مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ) [يس : ٧٨ ـ ٧٩]
الآيتين ، فأمر الله سبحانه رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن يجيبهم فقال : (قُلْ كُونُوا
حِجارَةً أَوْ حَدِيداً) إذ هما أشد امتناعا من العظام والرفات (أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي
صُدُورِكُمْ) قال ابن إسحاق عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : سألت ابن عباس
عن ذلك ، فقال : هو الموت ، وروى عطية عن ابن عمر أنه قال في تفسير هذه الآية : لو
كنتم موتى لأحييتكم ، وكذا قال سعيد بن جبير وأبو صالح والحسن وقتادة والضحاك
وغيرهم ، ومعنى ذلك أنكم لو فرضتم أنكم لو صرتم إلى الموت الذي هو ضد الحياة ،
لأحياكم الله إذا شاء ، فإنه لا يمتنع عليه شيء إذا أراده.
وقد ذكر ابن جرير هاهنا حديثا «يجاء بالموت يوم القيامة وكأنه كبش أملح ،
فيوقف بين الجنة والنار ، ثم يقال : يا أهل الجنة أتعرفون هذا؟ فيقولون : نعم ، ثم
يقال : يا أهل النار أتعرفون هذا؟ فيقولون : نعم ، فيذبح بين الجنة والنار ، ثم
يقال : يا أهل الجنة خلود بلا موت ، ويا أهل النار خلود بلا موت» وقال مجاهد (أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي
صُدُورِكُمْ) يعني السماء والأرض والجبال ، وفي رواية : ما شئتم فكونوا
فسيعيدكم الله بعد موتكم ، وقد وقع في التفسير المروي عن الإمام مالك عن الزهري في
قوله : (أَوْ خَلْقاً مِمَّا
يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ) قال النبيصلىاللهعليهوسلم : قال مالك ويقولون هو الموت.
وقوله تعالى : (فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا) أي من يعيدنا إذا كنا حجارة أو حديدا أو خلقا آخر شديدا (قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ
مَرَّةٍ) أي الذي خلقكم ولم تكونوا شيئا مذكورا ثم صرتم بشرا
تنتشرون ، فإنه قادر على إعادتكم ولو صرتم إلى أي حال (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ
ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم : ٢٧]
الآية ، وقوله تعالى : (فَسَيُنْغِضُونَ
إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ) قال ابن عباس
__________________
وقتادة : يحركونها
استهزاء ، وهذا الذي قالاه هو الذي تعرفه العرب من لغاتها ، لأن الانغاض هو التحرك
من أسفل إلى أعلى أو من أعلى إلى أسفل ، ومنه قيل للظليم وهو ولد النعامة نغضا ،
لأنه إذا مشى عجل بمشيته وحرك رأسه ، ويقال : نغضت سنّه إذا تحركت وارتفعت من
منبتها وقال الراجز : [مشطور الرجز]
ونغضت من هرم
أسنانها
وقوله : (وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ) إخبار عنهم بالاستبعاد منهم لوقوع ذلك ، كما قال تعالى: (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ
كُنْتُمْ صادِقِينَ) [الملك : ٢٥] وقال
تعالى : (يَسْتَعْجِلُ بِهَا
الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها) [الشورى : ١٨].
وقوله : (قُلْ عَسى أَنْ
يَكُونَ قَرِيباً) أي احذروا ذلك ، فإنه قريب سيأتيكم لا محالة ، فكل ما هو
آت آت. وقوله تعالى : (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ) أي الرب تبارك وتعالى : (إِذا دَعاكُمْ
دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) [الروم : ٢٥] أي
إذا أمركم بالخروج منها ، فإنه لا يخالف ولا يمانع ، بل كما قال تعالى : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ
بِالْبَصَرِ) [القمر : ٥٠] (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا
أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [النحل : ٤٠].
وقوله (فَإِنَّما هِيَ
زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) [النازعات : ١٣ ـ ١٤]
أي إنما هو أمر واحد بانتهار ، فإذا الناس قد خرجوا من باطن الأرض إلى ظاهرها ،
كما قال تعالى : (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ
فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ) أي تقومون كلكم إجابة لأمره وطاعة لإرادته. قال علي بن أبي
طلحة عن ابن عباس : فتستجيبون بحمده ، أي بأمره ، وكذا قال ابن جريج : وقال قتادة
بمعرفته وطاعته.
وقال بعضهم (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ
بِحَمْدِهِ) أي وله الحمد في كل حال. وقد جاء في الحديث «ليس على أهل
لا إله إلا الله وحشة في قبورهم ، كأني بأهل لا إله إلا الله يقومون من قبورهم
ينفضون التراب عن رؤوسهم يقولون لا إله إلا الله» وفي رواية يقولون (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ
عَنَّا الْحَزَنَ) [فاطر : ٣٤]
وسيأتي في سورة فاطر. وقوله تعالى : (وَتَظُنُّونَ) أي يوم تقومون من قبوركم (إِنْ لَبِثْتُمْ) أي في الدار الدنيا (إِلَّا قَلِيلاً) ، وكقوله تعالى : (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ
يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) [النازعات : ٤٦] ،
وقال تعالى : (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي
الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ
إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ
أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً) [طه : ١٠٢ ـ ١٠٤]
، وقال تعالى : (وَيَوْمَ تَقُومُ
السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا
يُؤْفَكُونَ) [الروم : ٥٥] ،
وقال تعالى : (قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ
فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ
فَسْئَلِ الْعادِّينَ قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ
كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [المؤمنون : ١١٢ ـ
١١٤].
__________________
(وَقُلْ لِعِبادِي
يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ
الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً)
(٥٣)
يأمر تبارك وتعالى
عبده ورسوله صلىاللهعليهوسلم أن يأمر عباد الله المؤمنين أن يقولوا في مخاطبتهم
ومحاوراتهم الكلام الأحسن والكلمة الطيبة ، فإنهم إن لم يفعلوا ذلك ، نزع الشيطان
بينهم ، وأخرج الكلام إلى الفعال ، وأوقع الشر والمخاصمة والمقاتلة ، فإنه عدو
لآدم وذريته من حين امتنع عن السجود لآدم ، وعداوته ظاهرة بينة ، ولهذا نهى أن
يشير الرجل إلى أخيه المسلم بحديدة ، فإن الشيطان ينزع في يده أي فربما أصابه بها.
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر عن همام عن أبي هريرة رضي
الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لا يشيرن أحدكم إلى أخيه بالسلاح ، فإنه لا يدري أحدكم
لعل الشيطان أن ينزع في يده فيقع في حفرة من النار» أخرجاه من حديث عبد الرزاق. وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا حماد ، أنبأنا علي بن زيد عن الحسن
قال : حدثني رجل من بني سليط قال : أتيت النبي صلىاللهعليهوسلم وهو في أزفلة من الناس فسمعته يقول «المسلم أخو المسلم لا
يظلمه ولا يخذله التقوى هاهنا» قال حماد : وقال بيده إلى صدره «وما تواد رجلان في
الله ففرق بينهما إلا حدث يحدثه أحدهما ، المحدث شر والمحدث شر والمحدث شر».
(رَبُّكُمْ أَعْلَمُ
بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما
أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً(٥٤)
وَرَبُّكَ
أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ
النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً)
(٥٥)
يقول تعالى : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ) أيها الناس أي أعلم بمن يستحق منكم الهداية ومن لا يستحق (إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ) بأن يوفقكم لطاعته والإنابة إليه (أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما
أَرْسَلْناكَ ـ يا محمد ـ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) أي إنما أرسلناك نذيرا ، فمن أطاعك دخل الجنة ، ومن عصاك
دخل النار. وقوله (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ
بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي بمراتبهم في الطاعة والمعصية (وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ
النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ) وكما قال تعالى (تِلْكَ الرُّسُلُ
فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ
بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) [البقرة : ٢٥٣]
وهذا لا ينافي ما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «لا تفضلوا بين الأنبياء» فإن المراد من ذاك هو التفضيل بمجرد التشهي والعصبية لا
بمقتضى الدليل فإذا دل الدليل على شيء وجب اتباعه.
ولا خلاف أن الرسل
أفضل من بقية الأنبياء ، وأن أولي العزم منهم أفضلهم ، وهم الخمسة
__________________
المذكورون نصا في
آيتين من القرآن في سورة الأحزاب (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ
النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى
ابْنِ مَرْيَمَ) [الأحزاب : ٧] وفي
الشورى قوله : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ
الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا
بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا
فِيهِ) [الشورى : ١٣] ولا
خلاف أن محمدا صلىاللهعليهوسلم أفضلهم ، ثم بعده إبراهيم ، ثم موسى ثم عيسى عليهمالسلام على المشهور ، وقد بسطناه بدلائله في غير هذا الموضع ،
والله الموفق. وقوله تعالى : (وَآتَيْنا داوُدَ
زَبُوراً) تنبيه على فضله وشرفه. قال البخاري : حدثنا إسحاق بن نصر ،
أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر عن همام عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «خفف على داود القرآن ، فكان يأمر بدابته فتسرج ،
فكان يقرؤه قبل أن يفرغ» يعني القرآن.
(قُلِ ادْعُوا
الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ
وَلا تَحْوِيلاً (٥٦) أُولئِكَ الَّذِينَ
يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ
وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ
مَحْذُوراً)
(٥٧)
يقول تعالى : (قُلِ) يا محمد لهؤلاء المشركين الذين عبدوا غير الله (ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ
دُونِهِ) من الأصنام والأنداد فارغبوا إليهم فإنهم لا يملكون (كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ) أي بالكلية (وَلا تَحْوِيلاً) أي بأن يحولوه إلى غيركم ، والمعنى أن الذي يقدر على ذلك
هو الله وحده لا شريك له الذي له الخلق والأمر. قال العوفي عن ابن عباس في قوله : (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ) الآية ، قال : كان أهل الشرك يقولون نعبد الملائكة والمسيح
وعزيرا ، وهم الذين يدعون يعني في الملائكة والمسيح وعزيرا .
وقوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ) الآية ، روى البخاري من حديث سليمان بن مهران الأعمش ، عن إبراهيم عن أبي معمر
عن عبد الله في قوله (أُولئِكَ الَّذِينَ
يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) قال : ناس من الجن كانوا يعبدون فأسلموا ، وفي رواية : قال
: كان ناس من الإنس يعبدون ناسا من الجن ، فأسلم الجن وتمسك هؤلاء بدينهم ، وقال
قتادة عن معبد بن عبد الله الزماني عن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن مسعود في
قوله (أُولئِكَ الَّذِينَ
يَدْعُونَ) الآية ، قال : نزلت في نفر من العرب كانوا يعبدون نفرا من
الجن ، فأسلم الجنيون والإنس الذين كانوا يعبدونهم ، لا يشعرون بإسلامهم ، فنزلت
هذه الآية ، وفي رواية عن ابن مسعود كانوا يعبدون صنفا من الملائكة يقال لهم الجن
فذكره.
وقال السدي عن أبي
صالح عن ابن عباس في قوله (أُولئِكَ الَّذِينَ
يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ
__________________
الْوَسِيلَةَ
أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) قال : عيسى وأمه وعزير ، وقال مغيرة عن إبراهيم : كان ابن
عباس يقول في هذه الآية : هم عيسى وعزير والشمس والقمر. وقال مجاهد : عيسى والعزير
والملائكة. واختار ابن جرير قول ابن مسعود لقوله (يَبْتَغُونَ إِلى
رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) وهذا لا يعبر به عن الماضي ، فلا يدخل فيه عيسى والعزير
والملائكة ، وقال والوسيلة هي القربة ، كما قال قتادة ، ولهذا قال : (أَيُّهُمْ أَقْرَبُ). وقوله تعالى : (وَيَرْجُونَ
رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ) لا تتم العبادة إلا بالخوف والرجاء فبالخوف ينكف عن
المناهي ، وبالرجاء يكثر من الطاعات. وقوله تعالى : (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ
كانَ مَحْذُوراً) أي ينبغي أن يحذر منه ويخاف من وقوعه وحصوله ، عياذا بالله
منه.
(وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ
إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً
شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً)
(٥٨)
هذا إخبار من الله
عزوجل بأنه قد حتم وقضى بما قد كتب عنده في اللوح المحفوظ : أنه
ما من قرية إلا سيهلكها بأن يبيد أهلها جميعهم أو يعذبهم (عَذاباً شَدِيداً) إما بقتل أو ابتلاء بما يشاء ، وإنما يكون ذلك بسبب ذنوبهم
وخطاياهم ، كما قال تعالى عن الأمم الماضين (وَما ظَلَمْناهُمْ
وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) [هود : ١٠١] وقال
تعالى : (فَذاقَتْ وَبالَ
أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً) [الطلاق : ٩] وقال
(وَكَأَيِّنْ مِنْ
قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ) [الطلاق : ٨] الآيات.
(وَما مَنَعَنا أَنْ
نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ
النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ
تَخْوِيفاً)
(٥٩)
قال سنيد عن حماد
بن زيد عن أيوب ، عن سعيد بن جبير قال : قال المشركون : يا محمد إنك تزعم أنه كان
قبلك أنبياء فمنهم من سخرت له الريح ، ومنهم من كان يحيي الموتى ، فإن سرك أن نؤمن
بك ونصدقك ، فادع ربك أن يكون لنا الصفا ذهبا ، فأوحى الله إليه : إني قد سمعت
الذي قالوا فإن شئت أن نفعل الذي قالوا فإن لم يؤمنوا نزل العذاب ، فإنه ليس بعد
نزول الآية مناظرة ، وإن شئت أن نستأني بقومك استأنيت بهم. قال : «يا رب استأن بهم»
وكذا قال قتادة وابن جريج وغيرهما.
وروى الإمام أحمد : حدثنا عثمان بن محمد ، حدثنا جرير عن الأعمش عن جعفر بن
إياس ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : سأل أهل مكة النبي صلىاللهعليهوسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا ، وأن ينحي الجبال عنهم فيزرعوا ،
فقيل له : إن شئت أن نستأني بهم ، وإن شئت أن يأتيهم
__________________
الذي سألوا فإن
كفروا هلكوا ، كما أهلكت من كان قبلهم من الأمم. وقال «لا ، بل استأن بهم» وأنزل
الله تعالى : (وَما مَنَعَنا أَنْ
نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) الآية ، ورواه النسائي وابن جرير به.
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان عن سلمة بن كهيل عن عمران
بن حكيم ، عن ابن عباس ، قال : قالت قريش للنبي صلىاللهعليهوسلم : ادع لنا ربك أن يجعل لنا الصفا ذهبا ونؤمن بك. قال «وتفعلون؟»
قالوا : نعم. قال : فدعا فأتاه جبريل فقال : إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك :
إن شئت أصبح لهم الصفا ذهبا ، فمن كفر منهم بعد ذلك عذبته عذابا لا أعذبه أحدا من
العالمين» ، وإن شئت فتحت لهم أبواب التوبة والرحمة ، فقال : «بل باب التوبة
والرحمة».
وقال الحافظ أبو
يعلى في مسنده : حدثنا محمد بن إسماعيل بن علي الأنصاري ، حدثنا خلف بن تميم
المصيصي عن عبد الجبار بن عمر الأيلي ، عن عبد الله بن عطاء بن إبراهيم عن جدته أم
عطاء مولاة الزبير بن العوام قالت : سمعت الزبير يقول لما نزلت (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) [الشعراء : ٢١٤]
صاح رسول الله صلىاللهعليهوسلم على أبي قبيس «يا آل عبد مناف إني نذير» فجاءته قريش
فحذرهم وأنذرهم ، فقالوا : تزعم أنك نبي يوحى إليك ، وإن سليمان سخر له الريح
والجبال ، وإن موسى سخر له البحر ، وإن عيسى كان يحيي الموتى فادع الله أن يسير
عنا هذه الجبال ويفجر لنا الأرض أنهارا ، فنتخذها محارث فنزرع ونأكل ، وإلا فادع
الله أن يحيي لنا موتانا لنكلمهم ويكلمونا ، وإلا فادع الله أن يصيّر لنا هذه
الصخرة التي تحتك ذهبا فننحت منها وتغنينا عن رحلة الشتاء والصيف ، فإنك تزعم أنك
كهيئتهم.
وقال : فبينا نحن
حوله إذ نزل عليه الوحي ، فلما سرّي عنه ، قال : «والذي نفسي بيده ، لقد أعطاني ما
سألتم ولو شئت لكان ، ولكنه خيرني بين أن تدخلوا باب الرحمة فيؤمن مؤمنكم ، وبين
أن يكلكم إلى ما اخترتم لأنفسكم فتضلوا عن باب الرحمة ، فلا يؤمن منكم أحد ،
فاخترت باب الرحمة فيؤمن مؤمنكم ، وأخبرني أنه إن أعطاكم ذلك ثم كفرتم أن يعذبكم
عذابا لا يعذبه أحد من العالمين» ونزلت (وَما مَنَعَنا أَنْ
نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) وقرأ ثلاث آيات ونزلت (وَلَوْ أَنَّ
قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ
بِهِ الْمَوْتى) [الرعد : ٣١]
الآية.
ولهذا قال تعالى :
(وَما مَنَعَنا أَنْ
نُرْسِلَ بِالْآياتِ) أي نبعث الآيات ونأتي بها على ما سأل قومك منك فإنه سهل
علينا يسير لدينا إلا أنه قد كذب بها الأولون بعد ما سألوها ، وجرت سنتنا فيهم وفي
أمثالهم أنهم لا يؤخرون إن كذبوا بها بعد نزولها ، كما قال الله تعالى في المائدة
__________________
(قالَ اللهُ إِنِّي
مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ
عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) [المائدة : ١١٥]
وقال تعالى عن ثمود حين سألوا آية ناقة تخرج من صخرة عينوها ، فدعا صالح عليهالسلام ربه فأخرج لهم منها ناقة على ما سألوه ، فلما ظلموا بها أي
كفروا بمن خلقها وكذبوا رسوله وعقروها ، فقال (تَمَتَّعُوا فِي
دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) [هود : ٦٥]. ولهذا
قال تعالى : (وَآتَيْنا ثَمُودَ
النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها) أي دالة على وحدانية من خلقها وصدق رسوله الذي أجيب دعاؤه
فيها (فَظَلَمُوا بِها) أي كفروا بها ومنعوها شربها وقتلوها ، فأبادهم الله عن
آخرهم وانتقم منهم وأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
وقوله تعالى : (وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا
تَخْوِيفاً) قال قتادة : إن الله تعالى يخوف الناس بما شاء من الآيات
لعلهم يعتبرون ويذكرون ويرجعون ، ذكر لنا أن الكوفة وجفت على عهد ابن مسعود رضي
الله عنه ، فقال : يا أيها الناس إن ربكم يستعتبكم فأعتبوه ، وهكذا روي أن المدينة زلزلت على عهد عمر بن الخطاب رضي
الله عنه مرات ، فقال عمر : أحدثتم والله لئن عادت لأفعلن ولأفعلن. وكذا قال رسول
الله صلىاللهعليهوسلم في الحديث المتفق عليه «إن الشمس والقمر آيتان من آيات
الله وإنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ، ولكن الله عزوجل يخوف بهما عباده ، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكره ودعائه
واستغفاره ـ ثم قال ـ يا أمة محمد والله ما أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني
أمته ، يا أمة محمد والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا».
(وَإِذْ قُلْنا لَكَ
إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ
إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ
وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً)
(٦٠)
يقول تعالى لرسوله
صلىاللهعليهوسلم محرضا على إبلاغ رسالته مخبرا له بأنه قد عصمه من الناس ،
فإنه القادر عليهم وهم في قبضته وتحت قهره وغلبته. وقال مجاهد وعروة بن الزبير
والحسن وقتادة وغيرهم في قوله : (وَإِذْ قُلْنا لَكَ
إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ) أي عصمك منهم ، وقوله : (وَما جَعَلْنَا
الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) الآية ، قال البخاري : حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان عن عمرو عن عكرمة ،
عن ابن عباس (وَما جَعَلْنَا
الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) قال : هي رؤيا عين أريها رسول الله صلىاللهعليهوسلم ليلة أسري به ، (وَالشَّجَرَةَ
الْمَلْعُونَةَ فِي
__________________
الْقُرْآنِ) شجرة الزقوم ، وكذا رواه أحمد وعبد الرزاق
وغيرهما عن سفيان بن عيينة به. وكذا رواه العوفي عن ابن عباس.
وهكذا فسر ذلك
بليلة الإسراء مجاهد وسعيد بن جبير والحسن ومسروق وإبراهيم وقتادة وعبد الرحمن بن
زيد ، وغير واحد ، وقد تقدمت أحاديث الإسراء في أول السورة مستوفاة ولله الحمد
والمنة. وتقدم أن ناسا رجعوا عن دينهم بعد ما كانوا على الحق ، لأنه لم تحمل
قلوبهم وعقولهم ذلك ، فكذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ، وجعل الله ذلك ثباتا ويقينا
لآخرين ، ولهذا قال (إِلَّا فِتْنَةً) أي اختبارا وامتحانا ، وأما الشجرة الملعونة فهي شجرة
الزقوم ، كما أخبرهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه رأى الجنة والنار ، ورأى شجرة الزقوم فكذبوا بذلك حتى
قال أبو جهل عليه لعائن الله : هاتوا لنا تمرا وزبدا ، وجعل يأكل من هذا بهذا ،
ويقول : تزقموا فلا نعلم الزقوم غير هذا ، حكى ذلك ابن عباس ومسروق وأبو مالك والحسن البصري وغير
واحد ، وكل من قال إنها ليلة الإسراء ، فسره كذلك بشجرة الزقوم. وقيل : المراد
بالشجرة الملعونة بنو أمية ، وهو غريب ضعيف.
وقال ابن جرير : حدثت عن محمد بن الحسن بن زبالة ، حدثنا عبد المهيمن بن
عباس بن سهل بن سعد ، حدثني أبي عن جدي قال : رأى رسول الله صلىاللهعليهوسلم بني فلان ينزون على منبره نزو القرود ، فساءه ذلك ، فما
استجمع ضاحكا حتى مات ، قال : وأنزل الله في ذلك (وَما جَعَلْنَا
الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) الآية ، وهذا السند ضعيف جدا فإن محمد بن الحسن بن زبالة
متروك ، وشيخه أيضا ضعيف بالكلية ، ولهذا اختار ابن جرير أن المراد بذلك ليلة
الإسراء ، وأن الشجرة الملعونة هي شجرة الزقوم ، قال لإجماع الحجة من أهل التأويل
على ذلك أي في الرؤيا والشجرة ، وقوله : (وَنُخَوِّفُهُمْ) أي الكفار بالوعيد والعذاب والنكال ، (فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً
كَبِيراً) أي تماديا فيما هم فيه من الكفر والضلال ، وذلك من خذلان
الله لهم.
(وَإِذْ قُلْنا
لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ
لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً(٦١) قالَ أَرَأَيْتَكَ
هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ
لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً)
(٦٢)
يذكر تبارك وتعالى
عداوة إبليس لعنه الله وذريته وأنها عداوة قديمة منذ خلق آدم فإنه تعالى أمر
الملائكة بالسجود لآدم فسجدوا كلهم إلا إبليس استكبر وأبي أن يسجد له افتخارا عليه
واحتقارا له (قالَ أَأَسْجُدُ
لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً) كما قال في الآية الأخرى (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ
خَلَقْتَنِي مِنْ
__________________
نارٍ
وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِين) [الأعراف : ١٢]
وقال أيضا أرأيتك يقول للرب جراءة وكفرا والرب يحلم وينظر (قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي
كَرَّمْتَ عَلَيَ) الآية ، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس يقول لأستولين
على ذريته إلا قليلا وقال مجاهد لأحتوينّ وقال ابن زيد لأضلنهم وكلها متقاربة
والمعنى أرأيتك هذا الذي شرفته وعظمته علي لأن أنظرتني لأضلن ذريته إلا قليلا
منهم.
(قالَ اذْهَبْ فَمَنْ
تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (٦٣)
وَاسْتَفْزِزْ
مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ
وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ
الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (٦٤)
إِنَّ
عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً)
(٦٥)
لما سأل إبليس
النظرة قال الله له (اذْهَبْ) فقد أنظرتك كما قال في الآية الأخرى قال: (فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى
يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) [الحجر : ٣٧ ـ ٣٨]
ثم أوعده ومن اتبعه من ذرية آدم جهنم (قالَ اذْهَبْ فَمَنْ
تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ) أي على أعمالكم (جَزاءً مَوْفُوراً) قال مجاهد وافرا ، وقال قتادة موفورا عليكم لا ينقص لكم
منه. وقوله تعالى : (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ
اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ) قيل هو الغناء قال مجاهد باللهو والغناء أي استخفهم بذلك
وقال ابن عباس في قوله (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ
اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ) قال كل داع دعا إلى معصية الله عزوجل وقال قتادة واختاره ابن جرير .
وقوله تعالى : (وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ
وَرَجِلِكَ) يقول واحمل عليهم بجنودك خيالتهم ورجلتهم فإن الرجل جمع
راجل كما أن الركب جمع راكب وصحب جمع صاحب ومعناه تسلط عليهم بكل ما تقدر عليه
وهذا أمر قدري كقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّا
أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) [مريم : ٨٣] أي
تزعجهم إلى المعاصي إزعاجا وتسوقهم إليها سوقا وقال ابن عباس ومجاهد في قوله (وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ
وَرَجِلِكَ) قال كل راكب وماش في معصية الله وقال قتادة : إن له خيلا
ورجالا من الجن والإنس وهم الذين يطيعونه تقول العرب أجلب فلان على فلان إذا صاح
عليه ومنه نهى في المسابقة عن الجلب والجنب ومنه اشتقاق الجلبة وهي ارتفاع
الأصوات.
وقوله تعالى : (وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ
وَالْأَوْلادِ) قال ابن عباس ومجاهد : هو ما أمرهم به من إنفاق الأموال في
معاصي الله ، وقال عطاء : هو الربا ، وقال الحسن : هو جمعها من خبيث وإنفاقها في
حرام ، وكذا قال قتادة ، وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما أما مشاركته
إياهم في أموالهم فهو ما حرموه من أنعامهم يعني من البحائر والسوائب ونحوها وكذا
قال الضحاك وقتادة وقال ابن جرير والأولى أن يقال إن الآية تعم ذلك كله.
__________________
وقوله (وَالْأَوْلادِ) قال العوفي عن ابن عباس ومجاهد والضحاك يعني أولاد الزنا ،
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس هو ما كانوا قتلوه من أولادهم سفها بغير علم ،
وقال قتادة والحسن البصري : قد والله شاركهم في الأموال والأولاد مجسوا وهودوا
ونصروا وصبغوا على غير صبغة الإسلام ، وجزءوا أموالهم جزءا للشيطان ، وكذا قال
قتادة سواء ، وقال أبو صالح عن ابن عباس هو تسميتهم أولادهم عبد الحارس وعبد الشمس
وعبد فلان قال ابن جرير وأولى الأقوال بالصواب أن يقال كل مولود ولدته أنثى عصي
الله فيه بتسميته بما يكرهه الله أو بإدخاله في غير الدين الذي ارتضاه الله أو
بالزنا بأمه أو بقتله أو غير ذلك من الأمور التي يعصى الله بفعله به أو فيه فقد
دخل في مشاركة إبليس فيه من ولد ذلك الولد له أو منه لأن الله لم يخصص بقوله (وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ
وَالْأَوْلادِ) معنى دون معنى فكل ما عصي الله فيه أو به أطيع الشيطان فيه
أو به فهو مشاركة.
وهذا الذي قاله
متجه وكل من السلف رحمهمالله فسر بعض المشاركة فقد ثبت في صحيح مسلم عن عياض بن حماد أن
رسول الله صلىاللهعليهوسلم : قال «يقول الله عزوجل إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم
وحرمت عليهم ما أحللت لهم» وفي الصحيحين أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «لو أن أحدهم إذا أراد أن يأتي أهله قال بسم الله
اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم
يضره الشيطان أبدا» .
وقوله تعالى : (وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ
إِلَّا غُرُوراً) [الإسراء : ٦٤]
كما أخبر تعالى عن إبليس أنه يقول إذ حصحص الحق يوم يقضى بالحق (إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ
وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ) [إبراهيم : ٢٢]
الآية وقوله تعالى (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ
لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) إخبار بتأييده تعالى عباده المؤمنين وحفظه إياهم وحراسته
لهم من الشيطان الرجيم ولهذا قال تعالى (وَكَفى بِرَبِّكَ
وَكِيلاً) أي حافظا ومؤيدا ونصيرا ، وقال الإمام أحمد : حدثنا قتيبة حدثنا ابن لهيعة عن موسى بن وردان عن أبي
هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إن المؤمن لينضي شياطينه كما ينضي أحدكم بعيره في
السفر» ينضي أي يأخذ بناصيته ويقهره.
(رَبُّكُمُ الَّذِي
يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ
بِكُمْ رَحِيماً)
(٦٦)
ويخبر تعالى عن
لطفه بخلقه في تسخيره لعباده الفلك في البحر وتسهيله لمصالح عباده لابتغائهم من
فضله في التجارة من إقليم إلى إقليم ولهذا قال : (إِنَّهُ كانَ بِكُمْ
رَحِيماً) أي إنما فعل هذا بكم في فضله عليكم ورحمته بكم.
__________________
(وَإِذا مَسَّكُمُ
الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ
إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً)
(٦٧)
يخبر تبارك وتعالى
أن الناس إذا مسهم ضر دعوه منيبين إليه مخلصين له الدين ولهذا قال تعالى : (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي
الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) أي ذهب عن قلوبكم كل ما تعبدون غير الله تعالى كما اتفق
لعكرمة بن أبي جهل لما ذهب فارا من رسول الله صلىاللهعليهوسلم حين فتح مكة فذهب هاربا فركب في البحر يدخل الحبشة فجاءتهم
ريح عاصف فقال القوم بعضهم لبعض إنه لا يغني عنكم إلا أن تدعوا الله وحده فقال
عكرمة في نفسه والله إن كان لا ينفع في البحر غيره فإنه لا ينفع في البر غيره
اللهم لك علي عهد لأن أخرجتني منه لأذهبن فلأضعن يدي في يد محمد فلأجدنه رؤوفا
رحيما ، فخرجوا من البحر فرجع إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فأسلم وحسن إسلامه رضي الله عنه وأرضاه. وقوله تعالى (فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ
أَعْرَضْتُمْ) [الإسراء : ٦٧] أي
نسيتم ما عرفتم من توحيده وأعرضتم عن دعائه وحده لا شريك له (وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً) أي سجيته هذا ينسى النعم ويجحدها إلا من عصم الله.
(أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ
يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا
تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً)
(٦٨)
يقول تعالى أفحسبتم
بخروجكم إلى البر أمنتم من انتقامه وعذابه أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم
حاصبا وهو المطر الذي فيه حجارة قاله مجاهد وغير واحد كما قال تعالى (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً
إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا) [القمر : ٣٤] وقد
قال في الآية الأخرى (وَأَمْطَرْنا
عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) [هود : ٨٢] وقال (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ
يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي
السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ) [الملك : ١٦ ـ ١٧]
وقوله (ثُمَّ لا تَجِدُوا
لَكُمْ وَكِيلاً) أي ناصرا يرد ذلك عنكم وينقذكم منه.
(أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ
يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ
فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً)
(٦٩)
يقول تبارك وتعالى
(أَمْ أَمِنْتُمْ) أيها المعرضون عنا بعد ما اعترفوا بتوحيدنا في البحر
وخرجوا إلى البر (أَنْ يُعِيدَكُمْ) في البحر مرة ثانية (فَيُرْسِلَ
عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ) أي يقصف الصواري ويغرق المراكب قال ابن عباس وغيره :
القاصف ريح البحار التي تكسر المراكب وتغرقها وقوله : (فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ) أي بسبب كفركم وإعراضكم عن الله تعالى وقوله : (ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ
تَبِيعاً) قال ابن عباس نصيرا وقال مجاهد نصيرا ثائرا أي يأخذ بثأركم
بعدكم. وقال قتادة ولا نخاف أحدا يتبعنا بشيء من ذلك.
(وَلَقَدْ كَرَّمْنا
بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ
الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً)
(٧٠)
ويخبر تعالى عن
تشريفه لبني آدم وتكريمه إياهم في خلقه لهم على أحسن الهيئات وأكملها كقوله تعالى (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي
أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) [التين : ٤] أي
يمشي قائما منتصبا على رجليه ويأكل بيديه ، وغيره من الحيوانات يمشي على أربع
ويأكل بفمه وجعل له سمعا وبصرا وفؤادا يفقه بذلك كله وينتفع به ويفرق بين الأشياء
ويعرف منافعها وخواصها ومضارها في الأمور الدينية والدنيوية (وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ) أي على الدواب من الأنعام والخيل والبغال وفي البحر أيضا
على السفن الكبار والصغار (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ
الطَّيِّباتِ) أي من زروع ثمار ولحوم وألبان من سائر أنواع الطعوم
والألوان المشتهاة اللذيذة والمناظر الحسنة والملابس الرفيعة من سائر الأنواع على
اختلاف أصنافها وألوانها وأشكالها مما يصنعونه لأنفسهم ويجلبه إليهم غيرهم من
أقطار الأقاليم والنواحي.
(وَفَضَّلْناهُمْ عَلى
كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) أي من سائر الحيوانات وأصناف المخلوقات وقد استدل بهذه
الآية الكريمة على أفضلية جنس البشر على جنس الملائكة. قال عبد الرزاق : أخبرنا
معمر عن زيد بن أسلم قال : قالت الملائكة يا ربنا إنك أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون
منها ويتنعمون ولم تعطنا ذلك فأعطنا الآخرة فقال الله تعالى «وعزتي وجلالي لا أجعل
صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت كن فكان» وهذا الحديث مرسل من هذا الوجه ، وقد روي
من وجه آخر متصلا.
وقال الحافظ أبو
القاسم الطبراني : حدثنا أحمد بن محمد بن صدقة البغدادي حدثنا إبراهيم بن عبد الله
بن خالد المصيصي حدثنا حجاج بن محمد حدثنا أبو غسان محمد بن مطرف عن صفوان بن سليم
عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «إن الملائكة قالت يا ربنا أعطيت بني آدم الدنيا
يأكلون فيها ويشربون ويلبسون ونحن نسبح بحمدك ولا نأكل ولا نشرب ولا نلهو فكما
جعلت لهم الدنيا فاجعل لنا الآخرة قال لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له
كن فكان».
وقد روى ابن عساكر
من طريق محمد بن أيوب الرازي حدثنا الحسن بن علي بن خلف الصيدلاني حدثنا سليمان بن
عبد الرحمن حدثني عثمان بن حصن عن عبيدة بن علاق سمعت عروة بن رويم اللخمي حدثني
أنس بن مالك عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم : قال «إن الملائكة قالوا ربنا خلقتنا وخلقت بني آدم
وجعلتهم يأكلون الطعام ويشربون الشراب ويلبسون الثياب ويتزوجون النساء ويركبون
الدواب ينامون ويستريحون ولم تجعل لنا من ذلك شيئا فاجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة
فقال الله عزوجل : «لا أجعل من خلقته بيدي ونفخت فيه من روحي كمن قلت له كن
فكان».
وقال الطبراني :
حدثنا عبدان بن أحمد حدثنا عمر بن سهل حدثنا عبيد الله بن تمام عن خالد الحذاء عن
بشر بن شغاف عن أبيه عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «ما شيء أكرم على
الله يوم القيامة من ابن آدم» قيل يا رسول الله ولا الملائكة قال «ولا الملائكة ،
الملائكة مجبورون بمنزلة الشمس والقمر» وهذا حديث غريب جدا.
(يَوْمَ نَدْعُوا
كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ
يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧١)
وَمَنْ
كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً)
(٧٢)
يخبر تبارك وتعالى
عن يوم القيامة أنه يحاسب كل أمة بإمامهم ، وقد اختلفوا في ذلك فقال مجاهد وقتادة
أي نبيهم وهذا كقوله تعالى (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ
رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) [يونس : ٤٧] الآية
وقال بعض السلف هذا أكبر شرف لأصحاب الحديث لأن إمامهم النبي صلىاللهعليهوسلم وقال ابن زيد بكتابهم الذي أنزل على نبيهم من التشريع
واختاره ابن جرير وروي عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال : بكتبهم فيحتمل أن يكون أراد هذا وأن يكون أراد ما رواه العوفي عن
ابن عباس في قوله (يَوْمَ نَدْعُوا
كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) أي بكتاب أعمالهم وكذا قال أبو العالية والحسن والضحاك
وهذا القول هو الأرجح لقوله تعالى (وَكُلَّ شَيْءٍ
أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) [يس : ١٢] وقال
تعالى : (وَوُضِعَ الْكِتابُ
فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ) [الكهف : ٤٩]
الآية ويحتمل أن المراد بإمامهم أي كل قوم بمن يأتمون به فأهل الإيمان ائتموا
بالأنبياء عليهمالسلام وأهل الكفر ائتموا بأئمتهم كما قال (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ
إِلَى النَّارِ) [القصص : ٤١] وفي الصحيحين «لتتبع كل أمة ما كانت تعبد
فيتبع ما كان يعبد الطواغيت» الحديث.
وقال تعالى (وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ
أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ هذا
كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ) [الجاثية : ٢٨ ـ ٢٩]
وهذا لا ينافي أن يجاء بالنبي إذا حكم الله بين أمته فإنه لا بد أن يكون شاهدا على
أمته بأعمالها كقوله تعالى (وَأَشْرَقَتِ
الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ
وَالشُّهَداءِ) [الزمر : ٦٩]
وقوله تعالى : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا
مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) [النساء : ٤١] ولكن المراد هاهنا بالإمام هو كتاب الأعمال
ولذا قال تعالى : (يَوْمَ نَدْعُوا
كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ
يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ) أي من فرحته وسروره بما فيه من العمل الصالح يقرأه ويحب
قراءته كقوله : (فَأَمَّا مَنْ
أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ ـ إلى قوله ـ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ
بِشِمالِهِ) [الحاقة : ١٩ ـ ٢٦]
الآيات ، وقوله تعالى (وَلا يُظْلَمُونَ
فَتِيلاً)
__________________
قد تقدم أن الفتيل
هو الخيط المستطيل في شق النواة.
وقد روى الحافظ
أبو بكر البزار حديثا في هذا فقال : حدثنا محمد بن يعمر ومحمد بن عثمان بن كرامة
قالا : حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن السدي عن أبيه عن أبي هريرة رضي
الله عنه عن النبي صلىاللهعليهوسلم في قول الله تعالى : (يَوْمَ نَدْعُوا
كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) قال : «يدعى أحدهم فيعطى كتابه بيمينه ويمد له في جسمه
ويبيض وجهه ويجعل على رأسه تاج من لؤلؤة يتلألأ فينطلق إلى أصحابه فيرونه من بعيد
فيقولون اللهم آتنا بهذا وبارك لنا في هذا فيأتيهم فيقول لهم أبشروا فإن لكل رجل
منكم مثل هذا ، وأما الكافر فيسود وجهه ويمد له جسمه ويراه أصحابه فيقولون أعوذ
بالله من هذا أو من شر هذا اللهم لا تأتنا به فيأتيهم فيقولون اللهم آخره فيقول
أبعدكم الله فإن لكل رجل منكم مثل هذا» ثم قال البزار لا يروى إلا من هذا الوجه.
وقوله تعالى : (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى) الآية ، قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ) أي في الحياة الدنيا (أَعْمى) أي عن حجة الله وآياته وبيناته (فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى) أي كذلك يكون (وَأَضَلُّ سَبِيلاً) أي وأضل منه كما كان في الدنيا عياذا بالله من ذلك.
(وَإِنْ كادُوا
لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ
وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً(٧٣)
وَلَوْ
لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (٧٤)
إِذاً
لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا
نَصِيراً)
(٧٥)
يخبر تعالى عن
تأييده رسوله صلوات الله عليه وسلامه ، وتثبيته وعصمته وسلامته من شر الأشرار وكيد
الفجار ، وأنه تعالى هو المتولي أمره ونصره ، وأنه لا يكله إلى أحد من خلقه بل هو
وليه وحافظه وناصره مؤيده ومظفره ومظهر دينه على من عاداه وخالفه وناوأه في مشارق
الأرض ومغاربها ، صلىاللهعليهوسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
(وَإِنْ كادُوا
لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ
خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً(٧٦)
سُنَّةَ
مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً)
(٧٧)
قيل : نزلت في
اليهود إذ أشاروا على رسول الله صلىاللهعليهوسلم بسكنى الشام بلاد الأنبياء وترك سكنى المدينة ، وهذا القول
ضعيف ، لأن هذه الآية مكية وسكنى المدينة بعد ذلك ، وقيل : إنها نزلت بتبوك وفي
صحته نظر. روى البيهقي عن الحاكم عن الأصم عن أحمد بن عبد الجبار العطاردي ، عن
يونس بن بكير عن عبد الحميد بن بهرام ، عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم أن
اليهود أتوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم يوما فقالوا : يا أبا القاسم إن كنت صادقا أنك نبي فالحق
بالشام ، فإن الشام أرض المحشر وأرض الأنبياء ، فصدق ما قالوا فغزا تبوك لا يريد
إلا الشام ، فلما
بلغ تبوك أنزل الله عليه آيات من سورة بني إسرائيل بعد ما ختمت السورة (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ
الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها ـ إلى قوله ـ تَحْوِيلاً) فأمره الله بالرجوع إلى المدينة ، وقال : فيها محياك
ومماتك ومنه تبعث.
وفي هذا الإسناد
نظر ، والأظهر أن هذا ليس بصحيح ، فإن النبي لم يغز تبوك عن قول اليهود ، وإنما
غزاها امتثالا لقوله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) [التوبة : ١٢٣]
ولقوله تعالى : (قاتِلُوا الَّذِينَ
لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ
اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) [التوبة : ٢٩]
وغزاها ليقتص وينتقم ممن قتل أهل مؤتة من أصحابه ، والله أعلم.
ولو صح هذا لحمل
عليه الحديث الذي رواه الوليد بن مسلم عن عفير بن معدان ، عن سليم بن عامر عن أبي
أمامة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أنزل القرآن في ثلاثة أمكنة : مكة ، والمدينة ، والشام»
قال الوليد : يعني بيت المقدس ، وتفسير الشام بتبوك أحسن ، مما قال الوليد إنه بيت
المقدس ، والله أعلم. وقيل نزلت في كفار قريش ، هموا بإخراج رسول اللهصلىاللهعليهوسلم من بين أظهرهم ، فتوعدهم الله بهذه الآية ، وأنهم لو
أخرجوه لما لبثوا بعده بمكة إلا يسيرا ، وكذلك وقع فإنه لم يكن بعد هجرته من بين
أظهرهم بعد ما اشتد أذاهم له إلا سنة ونصف ، حتى جمعهم الله وإياه ببدر على غير
ميعاد ، فأمكنه منهم وسلطة عليهم وأظفره بهم ، فقتل أشرافهم وسبى ذراريهم ، ولهذا
قال تعالى : (سُنَّةَ مَنْ قَدْ
أَرْسَلْنا) الآية ، أي هكذا عادتنا في الذين كفروا برسلنا وآذوهم
بخروج الرسول من بين أظهرهم يأتيهم العذاب ، ولولا أنه صلى الله تعالى عليه وعلى
آله وسلم رسول الرحمة لجاءهم من النقم في الدنيا ما لا قبل لأحد به ، ولهذا قال تعالى
: (وَما كانَ اللهُ
لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) [الأنفال : ٣٣]
الآية.
(أَقِمِ الصَّلاةَ
لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ
الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (٧٨)
وَمِنَ
اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً
مَحْمُوداً)
(٧٩)
يقول تبارك وتعالى
لرسوله صلىاللهعليهوسلم آمرا له بإقامة الصلوات المكتوبات في أوقاتها (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) قيل لغروبها ، قاله ابن مسعود ومجاهد وابن زيد. وقال هشيم
عن مغيرة ، عن الشعبي عن ابن عباس : دلوكها زوالها ، ورواه نافع عن ابن عمر ،
ورواه مالك في تفسيره عن الزهري عن ابن عمر ، وقاله أبو برزة الأسلمي وهو رواية
أيضا عن ابن مسعود ومجاهد ، وبه قال الحسن والضحاك وأبو جعفر الباقر وقتادة ،
واختاره ابن جرير ، ومما استشهد عليه ما رواه عن ابن حميد عن الحكم بن بشير :
حدثنا عمرو بن قيس عن ابن أبي ليلى عن رجل عن جابر بن عبد الله قال : دعوت رسول
الله صلىاللهعليهوسلم ومن شاء من أصحابه فطعموا عندي ثم خرجوا حين زالت الشمس ،
فخرج النبي صلىاللهعليهوسلم فقال : «اخرج يا أبا بكر ، فهذا حين دلكت
الشمس» .
ثم رواه عن سهل بن
بكار عن أبي عوانة عن الأسود بن قيس ، عن نبيح العنزي عن جابر عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم نحوه ، فعلى هذا تكون هذه الآية دخل فيها أوقات الصلوات
الخمس فمن قوله : (لِدُلُوكِ الشَّمْسِ
إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) وهو ظلامه ، وقيل غروب الشمس ، أخذ منه الظهر والعصر
والمغرب والعشاء.
وقوله : (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) يعني صلاة الفجر ، وقد بينت السنة عن رسول اللهصلىاللهعليهوسلم تواترا من أفعاله وأقواله بتفاصيل هذه الأوقات على ما عليه
أهل الإسلام اليوم مما تلقوه خلفا من سلف وقرنا بعد قرن ، كما هو مقرر في مواضعه ،
ولله الحمد. (إِنَّ قُرْآنَ
الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) قال الأعمش عن إبراهيم عن ابن مسعود ، وعن أبي صالح عن أبي
هريرة رضي الله عنهما ، عن النبي صلىاللهعليهوسلم في هذه الآية (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ
إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) قال : تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار.
وقال البخاري : حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا
معمر عن الزهري عن أبي سلمة ، وسعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي
صلىاللهعليهوسلم قال : «فضل صلاة الجميع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة ،
وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر» يقول أبو هريرة : اقرءوا إن
شئتم (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ
إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً).
وقال الإمام أحمد : حدثنا أسباط ، حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن ابن مسعود عن
النبي صلىاللهعليهوسلم ، وحدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة ، عن النبي صلىاللهعليهوسلم في قوله : (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ
إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) قال : «تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار» . ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجة ، ثلاثتهم عن عبيد بن
أسباط بن محمد عن أبيه به ، وقال الترمذي : حسن صحيح وفي لفظ في الصحيحين من طريق
مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة ، عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ،
ويجتمعون في صلاة الصبح وفي صلاة العصر ، فيعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم وهو
أعلم بكم كيف تركتم عبادي؟ فيقولون : أتيناهم وهم يصلون ، وتركناهم وهم يصلون» وقال عبد الله بن مسعود يجتمع الحرسان في صلاة الفجر ،
فيصعد هؤلاء ويقيم هؤلاء ، وكذا قال إبراهيم النخعي ومجاهد وقتادة وغير واحد في
تفسير هذه الآية.
__________________
وأما الحديث الذي
رواه ابن جرير هاهنا من حديث الليث بن سعد عن زيادة عن محمد بن كعب
القرظي عن فضالة بن عبيد ، عن أبي الدرداء عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم فذكر حديث النزول ، وأنه تعالى يقول : من يستغفرني أغفر له
، من يسألني أعطيه ، من يدعني فأستجيب له حتى يطلع الفجر ، فلذلك يقول : (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ
الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) فيشهده الله وملائكة الليل وملائكة النهار ، فإنه تفرد به
زيادة ، وله بهذا حديث في سنن أبي داود.
وقوله تعالى : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ
نافِلَةً لَكَ) أمر له بقيام الليل بعد المكتوبة ، كما ورد في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن سئل أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة؟ قال «صلاة الليل» ،
ولهذا أمر تعالى رسوله بعد المكتوبات بقيام الليل ، فإن التهجد ما كان بعد النوم.
قاله علقمة والأسود وإبراهيم النخعي وغير واحد ، وهو المعروف في لغة العرب ، وكذلك
ثبتت الأحاديث عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه كان يتهجد بعد نومه ، عن ابن عباس وعائشة وغير واحد من
الصحابة رضي الله عنهم ، كما هو مبسوط في موضعه ، ولله الحمد والمنة.
وقال الحسن البصري
: هو ما كان بعد العشاء ويحمل على ما كان بعد النوم ، واختلف في معنى قوله تعالى :
(نافِلَةً لَكَ) فقيل معناه أنك مخصوص بوجوب ذلك وحدك ، فجعلوا قيام الليل
واجبا في حقه دون الأمة ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وهو أحد قولي العلماء ، وأحد
قولي الشافعي رحمهالله ، واختاره ابن جرير ، وقيل : إنما جعل قيام الليل في حقه
نافلة على الخصوص ، لأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وغيره من أمته إنما
يكفر عنه صلواته النوافل الذنوب التي عليه. قاله مجاهد : وهو في المسند عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه.
وقوله : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً
مَحْمُوداً) أي افعل هذا الذي أمرتك به لنقيمك يوم القيامة مقاما
محمودا ، يحمدك في الخلائق كلهم وخالقهم تبارك وتعالى. قال ابن جرير : قال أكثر
أهل التأويل : ذلك هو المقام الذي يقومه محمد صلىاللهعليهوسلم يوم القيامة للشفاعة للناس ليريحهم ربهم من عظيم ما هم فيه
من شدة ذلك اليوم.
[ذكر من قال ذلك]
حدثنا ابن بشار
حدثنا عبد الرحمن حدثنا سفيان عن أبي إسحاق ، عن صلة بن زفر ، عن حذيفة قال : يجمع
الناس في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر ، حفاة عراة كما
__________________
خلقوا ، قياما لا
تكلم نفس إلا بإذنه ، ينادي : يا محمد ، فيقول : «لبيك وسعديك ، والخير في يديك
والشر ليس إليك ، والمهدي من هديت ، وعبدك بين يديك ، ومنك وإليك لا منجى ولا ملجأ
منك إلا إليك ، تباركت وتعاليت سبحانك رب البيت» فهذا المقام المحمود الذي ذكره
اللهعزوجل .
ثم رواه عن بندار
، عن غندر عن شعبة ، عن أبي إسحاق به ، وكذا رواه عبد الرزاق عن معمر والثوري ، عن
أبي إسحاق به ، وقال ابن عباس : هذا المقام المحمود مقام الشفاعة ، وكذا قال ابن
أبي نجيح عن مجاهد ، وقال الحسن البصري.
وقال قتادة : هو
أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة وأول شافع ، وكان أهل العلم يرون أنه المقام
المحمود الذي قال الله تعالى : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ
رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) قلت لرسول الله صلىاللهعليهوسلم تشريفات يوم القيامة لا يشركه فيها أحد ، وتشريفات لا
يساويه فيها أحد ، فهو أول من تنشق عنه الأرض ويبعث راكبا إلى المحشر ، وله اللواء
الذي آدم فمن دونه تحت لوائه ، وله الحوض الذي ليس في الموقف أكثر واردا منه ، وله
الشفاعة العظمى عند الله ليأتي لفصل القضاء بين الخلائق ، وذلك بعد ما تسأل الناس
آدم ثم نوحا ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى ، فكل يقول : لست لها ، حتى يأتوا إلى
محمد صلىاللهعليهوسلم فيقول «أنا لها أنا لها» كما سنذكر ذلك مفصلا في هذا
الموضع إن شاء الله تعالى. ومن ذلك أنه يشفع في أقوام قد أمر بهم إلى النار فيردون
عنها ، وهو أول الأنبياء يقضي بين أمته ، وأولهم إجازة على الصراط بأمته ، وهو أول
شفيع في الجنة كما ثبت في صحيح مسلم.
وفي حديث الصور أن
المؤمنين كلهم لا يدخلون الجنة إلا بشفاعته ، وهو أول داخل إليها ، وأمته قبل
الأمم كلهم ، ويشفع في رفع درجات أقوام لا تبلغها أعمالهم وهو صاحب الوسيلة التي
هي أعلى منزلة في الجنة لا تليق إلا له ، وإذا أذن الله تعالى في الشفاعة للعصاة ،
شفع الملائكة والنبيون والمؤمنون فيشفع هو في خلائق لا يعلم عدتهم إلا الله تعالى
، ولا يشفع أحد مثله ولا يساويه في ذلك ، وقد بسطت ذلك مستقصى في آخر كتاب السيرة
في باب الخصائص ، ولله الحمد والمنة.
ولنذكر الآن
الأحاديث الواردة في المقام المحمود وبالله المستعان. قال البخاري : حدثنا إسماعيل بن أبان ، حدثنا أبو الأحوص عن آدم بن علي
، سمعت ابن عمر قال : إن الناس يصيرون يوم القيامة جثاء كل أمة تتبع نبيها يقولون
: يا فلان اشفع يا فلان اشفع ، حتى تنتهي الشفاعة إلى محمد صلىاللهعليهوسلم فذلك يوم يبعثه الله مقاما محمودا. ورواه حمزة بن عبد الله
عن أبيه ،
__________________
عن النبي صلىاللهعليهوسلم.
قال ابن جرير : حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، حدثنا شعيب بن
الليث ، ثنا الليث عن عبيد الله بن أبي جعفر ، أنه قال : سمعت حمزة بن عبد الله بن
عمر يقول : سمعت عبد الله بن عمر يقول : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن الشمس لتدنو حتى يبلغ العرق نصف الأذن ، فبينما هم
كذلك استغاثوا بآدم فيقول : لست بصاحب ذلك ، ثم بموسى فيقول كذلك ، ثم بمحمد صلىاللهعليهوسلم فيشفع بين الخلق فيمشي حتى يأخذ بحلقة باب الجنة ، فيومئذ
يبعثه الله مقاما محمودا». وهكذا رواه البخاري في الزكاة عن يحيى بن بكير وعلقمة
عن عبد الله بن صالح ، كلاهما عن الليث بن سعد به ، وزاد. فيومئذ يبعثه الله مقاما
محمودا ، يحمده أهل الجمع كلهم .
قال البخاري : حدثنا علي بن عياش ، حدثنا شعيب بن أبي حمزة عن محمد بن
المنكدر ، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «من قال حين يسمع النداء : اللهم رب هذه الدعوة
التامة والصلاة القائمة ، آت محمدا الوسيلة والفضيلة ، وابعثه مقاما محمودا الذي
وعدته ، حلت له شفاعتي يوم القيامة» انفرد به دون مسلم.
[حديث أبي بن كعب]
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو عامر الأزدي ، حدثنا زهير بن محمد عن عبد الله
بن محمد بن عقيل ، عن الطفيل بن أبي كعب ، عن أبيه ، عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «إذا كان يوم القيامة ، كنت إمام الأنبياء وخطيبهم
وصاحب شفاعتهم غير فخر» ، وأخرجه الترمذي من حديث أبي عامر عبد الملك بن عمرو
العقدي ، وقال : حسن صحيح ، وابن ماجة من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل به ، وقد
قدمنا في حديث أبي بن كعب في قراءة القرآن على سبعة أحرف ، قال صلىاللهعليهوسلم في آخره : «فقلت اللهم اغفر لأمتي ، اللهم اغفر لأمتي ،
وأخرت الثالثة ليوم يرغب إلي فيه الخلق حتى إبراهيم عليهالسلام» .
[حديث أنس بن مالك]
قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا سعيد بن أبي عروبة ، حدثنا
قتادة عن
__________________
أنس ، عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيلهمون ذلك ، فيقولون
لو استشفعنا إلى ربنا فأراحنا من مكاننا هذا ، فيأتون آدم فيقولون : يا آدم أنت
أبو البشر خلقك الله بيده ، وأسجد لك ملائكته ، وعلمك أسماء كل شيء ، فاشفع لنا
إلى ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا ، فيقول لهم آدم : لست هناكم ويذكر ذنبه الذي
أصاب فيستحيي ربه عزوجل من ذلك ، ويقول : ولكن ائتوا نوحا فإنه أول رسول بعثه الله
إلى أهل الأرض ، فيأتون نوحا فيقول : لست هناكم ويذكر خطيئة سؤاله ربه ما ليس له
به علم ، فيستحيي ربه من ذلك ، ويقول : ولكن ائتوا إبراهيم خليل الرحمن ، فيأتونه
فيقول : لست هناكم ، لكن ائتوا موسى عبدا كلمه الله وأعطاه التوراة.
فيأتون موسى فيقول
: لست هناكم ، ويذكر لهم النفس التي قتل بغير نفس ، فيستحيي ربه من ذلك ، ويقول :
ولكن ائتوا عيسى عبد الله ورسوله وكلمته وروحه ، فيأتون عيسى فيقول : لست هناكم ،
ولكن ائتوا محمدا عبدا غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، فيأتوني ـ قال
الحسن هذا الحرف ـ فأقوم فأمشي بين سماطين من المؤمنين ـ قال أنس ـ حتى أستأذن على
ربي ، فإذا رأيت ربي وقعت له ـ أو خررت ـ ساجدا لربي فيدعني ما شاء الله أن يدعني
ـ قال ـ ثم يقال : ارفع محمد ، قل يسمع ، واشفع تشفع ، وسل تعطه ، فأرفع رأسي
فأحمده بتحميد يعلمنيه ثم أشفع فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة ، قال : ثم أعود إليه
ثانية فإذا رأيت ربي وقعت له أو خررت ساجدا لربي فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم
يقال ارفع محمد قل يسمع وسل تعطه واشفع تشفع فأرفع رأسي فأحمده بتحميد يعلمنيه ثم
أشفع فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة.
قال : ثم أعود
الثالثة فإذا رأيت ربي وقعت ـ أو خررت ـ ساجدا لربي فيدعني ما شاء الله أن يدعني ،
ثم يقال : ارفع محمد ، قل يسمع ، وسل تعطه ، واشفع تشفع ، فأرفع رأسي فأحمده
بتحميد يعلمنيه ، ثم أشفع فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة ، ثم أعود الرابعة فأقول : يا
رب ما بقي إلا من حبسه القرآن» ، فحدثنا أنس بن مالك أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «فيخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في
قلبه من الخير ما يزن شعيرة ، ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في
قلبه من الخير ما يزن برة ، ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه
من الخير ما يزن ذرة» ، أخرجاه من حديث سعيد به.
وهكذا رواه الإمام
أحمد عن عفان ، عن حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس بطوله.
وقال الإمام أحمد : حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا حرب بن ميمون أبو الخطاب
__________________
الأنصاري عن النضر
بن أنس ، عن أنس قال : حدثني نبي الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إني لقائم أنتظر أمتي تعبر الصراط ، إذ جاءني عيسى عليهالسلام فقال : هذه الأنبياء قد جاءتك يا محمد يسألون ـ أو قال :
يجتمعون إليك ـ ويدعون الله أن يفرق بين جميع الأمم إلى حيث يشاء الله لغم ما هم
فيه ، فالخلق ملجمون بالعرق ، فأما المؤمن فهو عليه كالزحمة ، وأما الكافر فيغشاه
الموت ، فقال : انتظر حتى أرجع إليك ، فذهب نبي الله صلىاللهعليهوسلم فقام تحت العرش فلقي ما لم يلق ملك مصطفى ولا نبي مرسل ،
فأوحى الله عزوجل إلى جبريل أن اذهب إلى محمد ، وقل له ارفع رأسك سل تعط
واشفع تشفع ، فشفعت في أمتي أن أخرج من كل تسعة وتسعين إنسانا واحدا ، فما زلت
أتردد إلى ربي عزوجل ، فلا أقوم منه مقاما إلا شفعت حتى أعطاني الله عزوجل ، من ذلك أن قال : يا محمد أدخل من أمتك من خلق الله عزوجل من شهد أن لا إله إلا الله يوما واحدا مخلصا ومات على ذلك».
[حديث بريدة رضي الله عنه]
قال الإمام أحمد
بن حنبل : حدثنا الأسود بن عامر ، أخبرنا أبو إسرائيل عن الحارث بن
حصيرة ، عن ابن بريدة ، عن أبيه أنه دخل على معاوية ، فإذا رجل يتكلم ، فقال بريدة
: يا معاوية تأذن لي في الكلام؟ فقال : نعم ، وهو يرى أنه يتكلم بمثل ما قال الآخر
، فقال بريدة : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «إني لأرجو أن أشفع يوم القيامة عدد ما على الأرض
من شجرة ومدرة» ، قال : فترجوها أنت يا معاوية ولا يرجوها علي رضي الله عنه».
[حديث ابن مسعود]
ـ قال الإمام أحمد : حدثنا عارم بن الفضل ، حدثنا سعيد بن الفضل ، حدثنا سعيد
بن زيد ، حدثنا علي بن الحكم البناني عن عثمان ، عن إبراهيم ، عن علقمة والأسود ،
عن ابن مسعود قال : جاء ابنا مليكة إلى النبي صلىاللهعليهوسلم فقالا : إن أمنا تكرم الزوج وتعطف على الولد ، قال : وذكرا
الضيف غير أنها كانت وأدت في الجاهلية ، فقال «أمكما في النار» قال : فأدبرا
والسوء يرى في وجوههما ، فأمر بهما فردا فرجعا والسرور يرى في وجوههما رجاء أن
يكون قد حدث شيء ، فقال «أمي مع أمكما» فقال رجل من المنافقين : وما يغني هذا عن
أمه شيئا ونحن نطأ عقبيه. فقال رجل من الأنصار : ولم أر رجلا قط أكثر سؤالا منه يا
رسول الله ، هل وعدك ربك فيها أو فيهما؟ قال : فظن أنه من شيء قد سمعه ، فقال : «ما
سألته ربي وما أطمعني فيه ، وإني لأقوم المقام المحمود يوم القيامة».
فقال الأنصاري :
يا رسول الله وما ذاك المقام المحمود؟ قال : ذاك إذا جيء بكم حفاة
__________________
عراة غرلا ، فيكون
أول من يكسى إبراهيم عليهالسلام ، فيقول : اكسوا خليلي فيؤتى بريطتين بيضاوين فيلبسهما ،
ثم يقعده مستقبل العرش ، ثم أوتى بكسوتي فألبسها فأقوم عن يمينه مقاما لا يقومه
أحد ، فيغبطني فيه الأولون والآخرون» قال : ويفتح لهم من الكوثر إلى الحوض ، فقال
المنافق : إنه ما جرى ماء قط إلا على حال أو رضراض ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «حاله المسك ، ورضراضه اللؤلؤ» فقال المنافق : لم أسمع
كاليوم ، فإنه قلما جرى ماء على حال أو رضراض إلا كان له نبت؟ فقال الأنصاري ، يا
رسول الله هل له نبت؟ فقال : «نعم قضبان الذهب» قال المنافق لم أسمع كاليوم ، فإنه
قلما ينبت قضيب إلا أورق وإلا كان له ثمر ، وقال الأنصاري : يا رسول الله هل له
ثمرة؟ قال : «نعم ألوان الجوهر ، وماؤه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل ، من
شرب منه شربا لا يظمأ بعده ، ومن حرمه لم يرو بعده».
وقال أبو داود
الطيالسي : حدثنا يحيى بن سلمة بن كهيل ، عن أبيه عن أبي الزعراء ، عن عبد الله
قال : ثم يأذن الله عزوجل في الشفاعة فيقوم روح القدس جبريل ، ثم يقوم إبراهيم خليل
الله ثم يقوم عيسى أو موسى ، قال أبو الزعراء : لا أدري أيهما ، قال : ثم يقوم
نبيكم صلىاللهعليهوسلم رابعا فيشفع لا يشفع أحد بعده أكثر مما شفع ، وهو المقام
المحمود الذي قال الله عزوجل : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ
رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً).
[حديث كعب بن مالك رضي الله عنه]
قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن عبد ربه ، حدثنا محمد بن حرب ، حدثنا
الزبيدي عن الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك ، عن كعب بن مالك أن
رسول اللهصلىاللهعليهوسلم قال : «يبعث الناس يوم القيامة فأكون أنا وأمتي على تل ،
ويكسوني ربي عزوجل حلة خضراء ، ثم يؤذن لي فأقول ما شاء الله أن أقول ، فذلك
المقام المحمود».
[حديث أبي الدرداء رضي الله عنه]
قال الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا يزيد بن أبي حبيب
عن عبد الرحمن بن جبير ، عن أبي الدرداء ، قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أنا أول من يؤذن له بالسجود يوم القيامة ، وأنا أول من
يؤذن له أن يرفع رأسه ، فأنظر إلى ما بين يدي فأعرف أمتي من بين الأمم ، ومن خلفي
مثل ذلك ، وعن يميني مثل ذلك ، وعن شمالي مثل ذلك» فقال رجل : يا رسول الله كيف
تعرف أمتك من بين الأمم فيما بين نوح إلى أمتك؟ قال : «هم غر
__________________
محجلون من أثر
الوضوء ، ليس أحد كذلك غيرهم ، وأعرفهم أنهم يؤتون كتبهم بأيمانهم ، وأعرفهم تسعى
من بين أيديهم ذريتهم».
[حديث أبي هريرة رضي الله عنه]
قال الإمام أحمد رحمهالله : حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا أبو حيان ، حدثنا أبو زرعة
بن عمرو بن جرير عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : أتي رسول الله صلىاللهعليهوسلم بلحم ، فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه فنهش منها نهشة ، ثم
قال : «أنا سيد الناس يوم القيامة ، وهل تدرون مم ذاك؟ يجمع الله الأولين والآخرين
في صعيد واحد ، يسمعهم الداعي ، وينفذهم البصر ، وتدنو الشمس فيبلغ من الغم والكرب
ما لا يطيقون ، ولا يحتملون فيقول بعض الناس لبعض : ألا ترون ما أنتم فيه مما قد
بلغكم ، ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض : عليكم بآدم ،
فيأتون آدم عليهالسلام فيقولون يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من
روحه ، وأمر الملائكة فسجدوا لك ، فاشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه ، ألا ترى
ما قد بلغنا؟ فيقول آدم : إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب
بعده مثله ، وإنه قد نهاني عن الشجرة فعصيت ، نفسي نفسي نفسي ، اذهبوا إلى غيري
اذهبوا إلى نوح.
فيأتون نوحا
فيقولون : يا نوح أنت أول الرسل إلى أهل الأرض ، وقد سماك الله عبدا شكورا ، اشفع
لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه ، ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول نوح : إن ربي قد غضب
اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله قط ، وإنه قد كانت لي دعوة
دعوتها على قومي نفسي نفسي نفسي ، اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى إبراهيم.
فيأتون إبراهيم فيقولون
: يا إبراهيم أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض ، اشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما
نحن فيه ، ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول : إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله
مثله ، ولن يغضب بعده مثله ، فذكر كذباته ، نفسي نفسي نفسي ، اذهبوا إلى غيري ،
اذهبوا إلى موسى ، فيأتون موسى عليهالسلام فيقولون : يا موسى أنت رسول الله اصطفاك الله برسالاته
وبكلامه على الناس ، اشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه ، ألا ترى ما قد بلغنا؟
فيقول لهم موسى ، إن ربي قد غضب غضبا لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله ،
وإني قد قتلت نفسا لم أومر بقتلها ، نفسي نفسي نفسي ، اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا
إلى عيسى.
فيأتون عيسى
فيقولون : يا عيسى أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، وكلمت الناس
في المهد صبيا ، فاشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه ، ألا ترى ما قد بلغنا؟
__________________
فيقول لهم عيسى :
إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله ، ولم يذكر ذنبا
، نفسي نفسي نفسي ، اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى محمد صلىاللهعليهوسلم.
فيأتون محمدا صلىاللهعليهوسلم فيقولون : يا محمد أنت رسول الله وخاتم الأنبياء ، وقد غفر
الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، فاشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه ، ألا
ترى ما قد بلغنا؟ فأقوم فآتي تحت العرش ، فأقع ساجدا لربي عزوجل ، ثم يفتح الله علي ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه ما
لم يفتحه على أحد قبلي ، فيقال : يا محمد ارفع رأسك وسل تعطه ، واشفع تشفع ، فأرفع
رأسي فأقول : أمتي يا رب ، أمتي يا رب ، فيقال : يا محمد أدخل من أمتك من لا حساب
عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة ، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب ،
ثم قال : والذي نفس محمد بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة
وهجر ، أو كما بين مكة وبصرى ، أخرجاه في الصحيحين .
وقال مسلم رحمهالله : حدثنا الحكم بن موسى ، حدثنا عقل بن زياد عن الأوزاعي ،
حدثني أبو عمار ، حدثني عبد الله بن فروخ ، حدثني أبو هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ، وأول من ينشق عنه القبر
يوم القيامة ، وأول شافع وأول مشفع». وقال ابن جرير : حدثنا أبو كريب ، حدثنا وكيع عن داود بن يزيد الزعافري
عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ
رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) سئل عنها فقال : «هي الشفاعة» رواه الإمام أحمد عن وكيع
ومحمد بن عبيد عن داود عن أبيه عن أبي هريرة عن النبيصلىاللهعليهوسلم في قوله تعالى : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ
رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) قال «هو المقام الذي أشفع لأمتي فيه» .
وقال عبد الرزاق :
أخبرنا معمر عن الزهري ، عن علي بن الحسين قال : قال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم «إذا كان يوم
القيامة مد الله الأرض مد الأديم حتى لا يكون لبشر من الناس إلا موضع قدميه ـ قال
النبي صلىاللهعليهوسلم ـ فأكون أول من يدعي ، وجبريل عن يمين الرحمن تبارك وتعالى
والله ما رآه قبلها ، فأقول : أي رب إن هذا أخبرني أنك أرسلته إلي ، فيقول الله عزوجل ، صدق ، ثم أشفع فأقول : يا رب عبادك عبدوك في أطراف الأرض
، قال : فهو المقام المحمود» وهذا حديث مرسل.
(وَقُلْ رَبِّ
أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ
لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (٨٠) وَقُلْ جاءَ
__________________
الْحَقُّ
وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً)
(٨١)
قال الإمام أحمد : حدثنا جرير عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه ، عن ابن عباس
قال: كان النبي صلىاللهعليهوسلم بمكة ثم أمر بالهجرة ، فأنزل الله (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ
صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً
نَصِيراً) وقال الترمذي : حسن صحيح ، وقال الحسن البصري في تفسير هذه
الآية : إن كفار أهل مكة لما ائتمروا برسول الله صلىاللهعليهوسلم ليقتلوه أو يطردوه أو يوثقوه ، فأراد الله قتال أهل مكة ،
أمره أن يخرج إلى المدينة ، فهو الذي قال الله عزوجل :
(وَقُلْ رَبِّ
أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ) الآية .
وقال قتادة (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ
صِدْقٍ) يعني المدينة (وَأَخْرِجْنِي
مُخْرَجَ صِدْقٍ) يعني مكة ، وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وهذا القول هو
أشهر الأقوال. وقال العوفي عن ابن عباس (أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ
صِدْقٍ) يعني الموت (وَأَخْرِجْنِي
مُخْرَجَ صِدْقٍ) يعني الحياة بعد الموت ، وقيل غير ذلك من الأقوال ، والأول
أصح ، وهو اختيار ابن جرير.
وقوله (وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً
نَصِيراً) قال الحسن البصري في تفسيرها : وعده ربه لينزعن ملك فارس
وعز فارس وليجعلنه له ، وملك الروم وعز الروم وليجعلنه له. وقال قتادة فيها : إن
نبي الله صلىاللهعليهوسلم علم أن لا طاقة له بهذا الأمر إلا بسلطان ، فسأل سلطانا
نصيرا لكتاب الله ، ولحدود الله ، ولفرائض الله ، ولإقامة دين الله ، فإن السلطان
رحمة من الله جعله بين أظهر عباده ، ولو لا ذلك لأغار بعضهم على بعض فأكل شديدهم
ضعيفهم ، قال مجاهد (سُلْطاناً نَصِيراً) حجة بينة ، واختار ابن جرير قول الحسن وقتادة ، وهو الأرجح
لأنه لا بد مع الحق من قهر لمن عاداه وناوأه ، ولهذا يقول تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا
بِالْبَيِّناتِ ـ إلى قوله ـ وَأَنْزَلْنَا
الْحَدِيدَ) [الحديد : ٢٥]
الآية. وفي الحديث «إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن» أي ليمنع بالسلطان
عن ارتكاب الفواحش والآثام ما لا يمتنع كثير من الناس بالقرآن وما فيه من الوعيد
الأكيد والتهديد الشديد ، وهذا هو الواقع.
وقوله : (وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ
الْباطِلُ) الآية ، تهديد ووعيد لكفار قريش ، فإنه قد جاءهم من الله
الحق الذي لا مرية فيه ولا قبل لهم به ، وهو ما بعثه الله به من القرآن والإيمان
والعلم النافع ، وزهق باطلهم أي اضمحل وهلك ، فإن الباطل لا ثبات له مع الحق ولا
بقاء (بَلْ نَقْذِفُ
بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) [الأنبياء : ١٨].
وقال البخاري : حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ، عن أبي
معمر عن عبد الله بن مسعود قال: دخل
__________________
النبي صلىاللهعليهوسلم مكة وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب ، فجعل يطعنها بعود في
يده ويقول : «جاء الحق وزهق الباطل ، إن الباطل كان زهوقا. جاء الحق وما يبدئ
الباطل وما يعيد» وكذا رواه البخاري أيضا في غير هذا الموضع ، ومسلم
والترمذي والنسائي كلهم من طرق عن سفيان بن عيينة به ، وكذا رواه عبد الرزاق عن
ابن أبي نجيح به.
وقال الحافظ أبو
يعلى : حدثنا زهير ، حدثنا شبابة ، حدثنا المغيرة ، حدثنا أبو الزبير عن جابر رضي
الله عنه قال : دخلنا مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم مكة وحول البيت ثلاثمائة وستون صنما تعبد من دون الله.
فأمر بها رسول الله صلىاللهعليهوسلم فأكبت على وجوهها ، وقال : (جاءَ الْحَقُّ
وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً).
(وَنُنَزِّلُ مِنَ
الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ
إِلاَّ خَساراً)
(٨٢)
يقول تعالى مخبرا
عن كتابه الذي أنزله على رسوله محمد صلىاللهعليهوسلم وهو القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه
تنزيل من حكيم حميد ، إنه شفاء ورحمة للمؤمنين أي يذهب ما في القلب من أمراض من شك
ونفاق وشرك وزيغ وميل ، فالقرآن يشفي من ذلك كله ، وهو أيضا رحمة يحصل فيها
الإيمان والحكمة وطلب الخير والرغبة فيه ، وليس هذا إلا لمن آمن به وصدقه واتبعه ،
فإنه يكون شفاء في حقه ورحمة ، وأما الكافر الظالم نفسه بذلك ، فلا يزيد سماعه
القرآن إلا بعدا وكفرا ، والآفة من الكافر لا من القرآن ، كقوله تعالى : (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً
وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ
عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) [فصلت : ٤٤] ، وقال تعالى : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ
سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا
الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا
الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا
وَهُمْ كافِرُونَ) [التوبة : ١٢٤ ـ ١٢٥]
والآيات في ذلك كثيرة. قال قتادة في قوله : (وَنُنَزِّلُ مِنَ
الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) إذا سمعه المؤمن انتفع به وحفظه ووعاه (وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا
خَساراً) أي لا ينتفع به ولا يحفظه ولا يعيه ، فإن الله جعل هذا
القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين .
(وَإِذا أَنْعَمْنا
عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً
(٨٣) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ
فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً)
(٨٤)
يخبر تعالى عن نقص
الإنسان من حيث هو إلا من عصمه الله تعالى في حالتي السراء والضراء ، فإنه إذا
أنعم الله عليه بمال وعافية وفتح ورزق ونصر ، ونال ما يريد ، أعرض عن
__________________
طاعة الله وعبادته
ونأى بجانبه. قال مجاهد : بعد عنا ، قلت : وهذا كقوله تعالى : (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ
كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ) [يونس : ١٢] وقوله
: (فَلَمَّا نَجَّاكُمْ
إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ) [الإسراء : ٦٧]
وبأنه إذا مسه الشر وهو المصائب ، والحوادث والنوائب (كانَ يَؤُساً) أي قنط أن يعود فيحصل له بعد ذلك خير ، كقوله تعالى : (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا
رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ وَلَئِنْ أَذَقْناهُ
نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي
إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) [هود: ٩ ـ ١١].
وقوله تعالى : (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) قال ابن عباس : على ناحيته. وقال مجاهد: على حدته وطبيعته.
وقال قتادة : على نيته. وقال ابن زيد : دينه ، وكل هذه الأقوال متقاربة في المعنى
وهذه الآية ـ والله أعلم ـ تهديد للمشركين ووعيد لهم ، كقوله تعالى : (وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ
اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) [هود : ١٢١ ـ ١٢٢]
الآية ، ولهذا قال : (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ
عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً) أي منا ومنكم ، وسيجزي كل عامل بعمله فإنه لا تخفى عليه
خافية.
(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ
الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ
قَلِيلاً)
(٨٥)
قال الإمام أحمد : حدثنا وكيع ، حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن علقمة ، عن عبد
الله هو ابن مسعود رضي الله عنه قال : كنت أمشي مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم في حرث في المدينة ، وهو متوكئ على عسيب ، فمر بقوم من
اليهود ، فقال بعضهم لبعض : سلوه عن الروح ، وقال بعضهم : لا تسألوه. قال فسألوه
عن الروح ، فقالوا : يا محمد ما الروح؟ فما زال متوكئا على العسيب ، قال : فظننت
أنه يوحى إليه ، فقال : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ
الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا
قَلِيلاً) قال : فقال بعضهم لبعض : قد قلنا لكم لا تسألوه. وهكذا
رواه البخاري ومسلم من حديث الأعمش به.
ولفظ البخاري عند
تفسيره هذه الآية عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : بينا أنا أمشي مع النبي
صلىاللهعليهوسلم في حرث وهو متوكئ على عسيب ، إذ مر اليهود فقال بعضهم لبعض
: سلوه عن الروح ، فقال : ما رابكم إليه ، وقال بعضهم : لا يستقبلنكم بشيء
تكرهونه. فقالوا سلوه ، فسألوه عن الروح ، فأمسك النبي صلىاللهعليهوسلم ، فلم يرد عليهم شيئا ، فعلمت أنه يوحى إليه ، فقمت مقامي
، فلما نزل الوحي قال : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ
الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) الآية .
وهذا السياق يقتضي
فيما يظهر بادي الرأي أن هذه الآية مدنية ، وأنها نزلت حين سأله
__________________
اليهود عن ذلك
بالمدينة ، مع أن السورة كلها مكية. وقد يجاب عن هذا بأنه قد تكون نزلت عليه
بالمدينة مرة ثانية ، كما نزلت عليه بمكة قبل ذلك ، أو نزل عليه الوحي بأن يجيبهم
عما سألوه بالآية المتقدم إنزالها عليه ، وهي هذه الآية (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ).
ومما يدل على نزول
هذه الآية بمكة ما قال الإمام أحمد : حدثنا قتيبة ، حدثنا يحيى بن زكريا عن داود عن عكرمة ،
عن ابن عباس قال : قالت قريش ليهود : أعطونا شيئا نسأل عنه هذا الرجل ، فقالوا :
سلوه عن الروح ، فسألوه ، فنزلت (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ
الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا
قَلِيلاً) قالوا : أوتينا علما كثيرا ، أوتينا التوراة ، ومن أوتي
التوراة فقد أوتي خيرا كثيرا ، قال : وأنزل الله (قُلْ لَوْ كانَ
الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ) [الكهف : ١٠٩] الآية.
وقد روى ابن جرير عن محمد بن المثنى عن عبد الأعلى ، عن داود عن عكرمة قال :
سأل أهل الكتاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن الروح ، فأنزل الله (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ
الرُّوحِ) الآية ، فقالوا : تزعم أنا لم نؤت من العلم إلا قليلا ،
وقد أوتينا التوراة وهي الحكمة (وَمَنْ يُؤْتَ
الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) قال : فنزلت (وَلَوْ أَنَّ ما فِي
الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ
أَبْحُرٍ) [لقمان : ٢٧]
الآية ، قال ما أوتيتم من علم فنجاكم الله به من النار ، فهو كثير طيب ، وهو في
علم الله قليل.
وقال محمد بن
إسحاق عن بعض أصحابه ، عن عطاء بن يسار قال : نزلت بمكة (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا
قَلِيلاً) فلما هاجر رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى المدينة أتاه أحبار يهود وقالوا : يا محمد ألم يبلغنا
عنك أنك تقول (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ
الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) أفعنيتنا أم عنيت
قومك ، فقال «كلا قد عنيت» فقالوا : إنك تتلو أنا أوتينا التوراة وفيها تبيان كل
شيء ، فقال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم : «هي في علم الله قليل وقد آتاكم الله ما إن عملتم به انتفعتم»
وأنزل الله (وَلَوْ أَنَّ ما فِي
الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ
أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [لقمان : ٢٧].
وقد اختلف
المفسرون في المراد بالروح هاهنا على أقوال [أحدها] أن المراد أرواح بني آدم. وقال
العوفي عن ابن عباس في قوله : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ
الرُّوحِ) الآية ، وذلك أن اليهود قالوا للنبي صلىاللهعليهوسلم : أخبرنا عن الروح وكيف تعذب الروح التي في الجسد ، وإنما
الروح من الله ولم يكن نزل عليه فيه شيء ، فلم يحر إليهم شيئا ، فأتاه جبريل فقال
له : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ
أَمْرِ
__________________
رَبِّي
وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) فأخبرهم النبي صلىاللهعليهوسلم بذلك ، فقالوا : من جاءك بهذا؟ قال : جاءني به جبريل من
عند الله ، فقالوا له : والله ما قاله لك إلا عدونا ، فأنزل الله (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ
فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ
يَدَيْهِ) [البقرة : ٩٧]
وقيل : المراد بالروح هاهنا جبريل ، وقال قتادة : وكان ابن عباس يكتمه ، وقيل
المراد به هاهنا ملك عظيم بقدر المخلوقات كلها.
قال علي بن أبي
طلحة عن ابن عباس قوله : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ
الرُّوحِ) يقول : الروح ملك. وقال الطبراني : حدثنا محمد بن عبد الله
بن عرس المصري ، حدثنا وهب بن روق بن هبيرة ، حدثنا بشر بن بكر ، حدثنا الأوزاعي ،
حدثنا عطاء عن عبد الله بن عباس قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «إن لله ملكا لو قيل له التقم السموات السبع
والأرضين بلقمة واحدة لفعل ، تسبيحه سبحانك حيث كنت» وهذا حديث غريب بل منكر. وقال
أبو جعفر بن جرير رحمهالله. حدثني علي ، حدثني عبد الله ، حدثني أبو مروان يزيد بن
سمرة صاحب قيسارية عمن حدثه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال في قوله : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) قال : هو ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه ، لكل وجه منها
سبعون ألف لسان ، لكل لسان منها سبعون ألف لغة ، يسبح الله تعالى بتلك اللغات كلها
، يخلق الله من كل تسبيحة ملكا يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة ، وهذا أثر غريب
عجيب ، والله أعلم.
وقال السهيلي :
روي عن علي أنه قال : هو ملك له مائة ألف رأس ، لكل رأس مائة ألف وجه ، في كل وجه
مائة ألف فم ، في كل فم مائة ألف لسان ، يسبح الله تعالى بلغات مختلفة. قال
السهيلي : وقيل المراد بذلك طائفة من الملائكة على صور بني آدم ، وقيل : طائفة
يرون الملائكة ولا تراهم ، فهم للملائكة كالملائكة لبني آدم.
وقوله : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) أي من شأنه ومما استأثر بعلمه دونكم ، ولهذا قال : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا
قَلِيلاً) أي وما أطلعكم من علمه إلا على القليل ، فإنه لا يحيط أحد
بشيء من علمه إلا بما شاء تبارك وتعالى ، والمعنى أنه علمكم في علم الله قليل ،
وهذا الذي تسألون عنه أمر الروح مما استأثر به تعالى ولم يطلعكم عليه ، كما أنه لم
يطلعكم إلا على القليل من علمه تعالى ، وسيأتي إن شاء الله في قصة موسى والخضر أن
الخضر نظر إلى عصفور وقع على حافة السفينة فنقر في البحر نقرة ، أي شرب منه
بمنقاره ، فقال : يا موسى ما علمي وعلمك وعلم الخلائق في علم الله إلا كما أخذ هذا
العصفور من هذا البحر ، أو كما قال صلوات الله وسلامه عليه ، ولهذا قال تعالى : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا
قَلِيلاً) وقال السهيلي : قال بعض الناس لم يجبهم عما سألوا ، لأنهم
سألوا على وجه التعنت ، وقيل : أجابهم. وعول السهيلي على أن المراد بقوله : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) أي من شرعه ، أي فادخلوا فيه وقد علمتم ذلك ، لأنه لا سبيل
إلى معرفة هذا من طبع ولا فلسفة ، وإنما ينال من جهة الشرع ، وفي
هذا المسلك الذي
طرقه وسلكه نظر ، والله أعلم.
ثم ذكر السهيلي الخلاف
بين العلماء في أن الروح هي النفس أو غيرها ، وقرر أنها ذات لطيفة كالهواء ، سارية
في الجسد كسريان الماء في عروق الشجر ، وقرر أن الروح التي ينفخها الملك في الجنين
هي النفس بشرط اتصالها بالبدن واكتسابها بسببه صفات مدح أو ذم ، فهي إما نفس
مطمئنة أو أمارة بالسوء ، كما أن الماء هو حياة الشجر ثم يكسب بسبب اختلاطه معها
اسما خاصا ، فإذا اتصل بالعنبة وعصر منها صار إما مصطارا أو خمرا ، ولا يقال له ماء حينئذ إلا على سبيل المجاز ،
وكذا لا يقال للنفس روح إلا على هذا النحو ، وكذا لا يقال للروح نفس إلا باعتبار
ما تؤول إليه ، فحاصل ما نقول : إن الروح هي أصل النفس ومادتها ، والنفس مركبة
منها ومن اتصالها بالبدن ، فهي هي من وجه لا من كل وجه ، وهذا معنى حسن ، والله
أعلم.
قلت : وقد تكلم
الناس في ماهية الروح وأحكامها ، وصنفوا في ذلك كتبا ، ومن أحسن من تكلم على ذلك
الحافظ ابن مندة في كتاب سمعناه في الروح.
(وَلَئِنْ شِئْنا
لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا
وَكِيلاً (٨٦) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ
فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (٨٧)
قُلْ
لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا
الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (٨٨)
وَلَقَدْ
صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ
النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً)
(٨٩)
يذكر تعالى نعمته
وفضله العظيم على عبده ورسوله الكريم صلىاللهعليهوسلم فيما أوحاه إليه من القرآن المجيد الذي لا يأتيه الباطل من
بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد. قال ابن مسعود رضي الله عنه : يطرق
الناس ريح حمراء ، يعني في آخر الزمان من قبل الشام ، فلا يبقى في مصحف رجل ولا في
قلبه آية ، ثم قرأ ابن مسعود (وَلَئِنْ شِئْنا
لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) الآية .
ثم نبه تعالى على
شرف هذا القرآن العظيم فأخبر أنه لو اجتمعت الإنس والجن كلهم واتفقوا على أن يأتوا
بمثل ما أنزل على رسوله لما أطاقوا ذلك ولما استطاعوه ، ولو تعاونوا وتساعدوا
وتظافروا فإن هذا أمر لا يستطاع ، وكيف يشبه كلام المخلوقين كلام الخالق الذي لا
نظير له ولا مثال له ولا عديل له ، وقد روى محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن
سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في نفر من اليهود جاءوا
رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقالوا له : إنا نأتيك بمثل ما جئتنا به ، فأنزل الله هذه
الآية ، وفي هذا نظر ، لأن هذه السورة مكية وسياقها كله مع قريش ، واليهود إنما
اجتمعوا به في المدينة ، فالله أعلم. وقوله (وَلَقَدْ صَرَّفْنا
__________________
لِلنَّاسِ) الآية ، أي بينا لهم الحجج والبراهين القاطعة ، ووضحنا لهم
الحق وشرحناه وبسطناه ، ومع هذا فأبى أكثر الناس إلا كفورا أي جحودا للحق وردا
للصواب.
(وَقالُوا لَنْ
نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (٩٠)
أَوْ
تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها
تَفْجِيراً (٩١) أَوْ تُسْقِطَ
السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ
قَبِيلاً (٩٢) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ
زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ
عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً
رَسُولاً)
(٩٣)
قال ابن جرير : حدثنا أبو كريب ، حدثنا يونس بن بكير ، حدثنا محمد بن
إسحاق ، حدثني شيخ من أهل مصر قدم منذ بضع وأربعين سنة عن عكرمة ، عن ابن عباس أن
عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا سفيان بن حرب ورجلا من بني عبد الدار ، وأبا البختري
أخا بني أسد ، والأسود بن المطلب بن أسد وزمعة بن الأسود ، والوليد بن المغيرة
وأبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية ، وأمية بن خلف والعاص بن وائل ونبيها
ومنبها ابني الحجاج السهميين ، اجتمعوا أو من اجتمع منهم بعد غروب الشمس عند ظهر
الكعبة ، فقال بعضهم لبعض : ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه .
فبعثوا إليه أن
أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك ، فجاءهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم سريعا وهو يظن أنه قد بدا لهم في أمره بداء ، وكان عليهم حريصا يحب رشدهم ويعز عليه عنتهم حتى جلس إليهم ، فقالوا : يا محمد إنا قد بعثنا إليك لنعذر
فيك ، وإنا والله ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك ، لقد
شتمت الآباء وعبث؟؟؟ الدين وسفهت الأحلام وشتمت الآلهة وفرقت الجماعة ، فما بقي من
قبيح إلا وقد جئته فيما بيننا وبينك ، فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا
جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا ، وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا سودناك
علينا ، وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا ، وإن كان هذا الذي يأتيك بما يأتيك رئيا
تراه قد غلب عليك ـ وكانوا يسمون التابع من الجن الرئي ـ فربما كان ذلك بذلنا
أموالنا في طلب الطب حتى نبرئك منه أو نعذر فيك.
فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم ما بي ما تقولون ، ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا
الشرف فيكم ولا الملك عليكم ، ولكن الله بعثني إليكم رسولا وأنزل علي كتابا وأمرني
أن أكون لكم بشيرا ونذيرا ، فبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فإن تقبلوا مني ما جئتكم
به فهو حظكم في
__________________
الدنيا والآخرة ،
وإن تردوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم» أو كما قال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم تسليما ، فقالوا : يا محمد فإن كنت غير قابل منا ما عرضنا
عليك فقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق منا بلادا ولا أقل مالا ، ولا أشد عيشا
منا ، فاسأل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به ، فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت
علينا ، وليبسط لنا بلادنا وليفجر فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق ، وليبعث لنا
من مضى من آبائنا ، وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب ، فإنه كان شيخا صدوقا ،
فنسألهم عما تقول حق هو أم باطل؟ فإن صنعت ما سألناك وصدقوك صدقناك وعرفنا به
منزلتك عند الله ، وأنه بعثك رسولا كما تقول.
فقال لهم رسول
الله صلىاللهعليهوسلم : «ما بهذا بعثت ، إنما جئتكم من عند الله بما بعثني به ،
فقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم ، فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة ، وإن
تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم» قالوا : فإن لم تفعل لنا هذا
فخذ لنفسك ، فسل ربك أن يبعث ملكا يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك ، وتسأله فيجعل لك
جنات وكنوزا وقصورا من ذهب وفضة ، ويغنيك بها عما نراك تبتغي ، فإنك تقوم بالأسواق
وتلتمس المعاش كما نلتمسه ، حتى نعرف فضل منزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم.
فقال لهم رسول
الله صلىاللهعليهوسلم : «ما أنا بفاعل ، ما أنا بالذي يسأل ربه هذا ، وما بعثت
إليكم بهذا ، ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا ، فإن تقبلوا ما جئتكم به ، فهو حظكم
في الدنيا والآخرة ، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم»
قالوا : فأسقط السماء كما زعمت أن ربك إن شاء فعل ذلك ، فإنا لن نؤمن لك إلا أن
تفعل. فقال لهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ذلك إلى الله ، إن شاء فعل بكم ذلك» فقالوا : يا محمد
أما علم ربك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألناك عنه ونطلب منك ما نطلب ، فيقدم إليك
ويعلمك ما تراجعنا به ، ويخبرك ما هو صانع في ذلك بنا إذا لم نقبل منك ما جئتنا به
، فقد بلغنا أنه إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمن ، وإنا والله لا نؤمن
بالرحمن أبدا ، فقد أعذرنا إليك يا محمد ، أما والله لا نتركك وما فعلت بنا حتى نهلك
أو تهلكنا ، وقال قائلهم : نحن نعبد الملائكة وهي بنات الله. وقال قائلهم : لن
نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا.
فلما قالوا ذلك ،
قام رسول الله صلىاللهعليهوسلم عنهم ، وقام معه عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة بن عبد
الله بن عمر بن مخزوم ، وهو ابن عمته عاتكة ابنة عبد المطلب ، فقال : يا محمد عرض
عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم ، ثم سألوك لأنفسهم أمورا ليعرفوا بها منزلتك
من الله فلم تفعل ذلك ، ثم سألوك أن تعجل لهم ما تخوفهم به من عذاب ، فو الله لا
أؤمن بك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلما ، ثم ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها وتأتي
معك بصحيفة منشورة ومعك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول ، وايم الله لو
فعلت بذلك لظننت أني لا أصدقك ، ثم انصرف عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وانصرف رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى أهله حزينا أسفا لما فاته مما كان
طمع فيه من قومه
حين دعوه ، ولما رأى من مباعدتهم إياه.
وهكذا رواه زياد
بن عبد الله البكائي عن ابن إسحاق : حدثني بعض أهل العلم عن سعيد بن جبير وعكرمة
عن ابن عباس فذكر مثله سواء.
وهذا المجلس الذي
اجتمع هؤلاء له ، لو علم الله منهم أنهم يسألون ذلك استرشادا لأجيبوا إليه ، ولكن
علم أنهم إنما يطالبون ذلك كفرا وعنادا له ، فقيل لرسول الله صلىاللهعليهوسلم : إن شئت أعطيناهم ما سألوا ، فإن كفروا عذبتهم عذابا لا
أعذبه أحدا من العالمين ، وإن شئت فتحت عليهم باب التوبة والرحمة؟ فقال : «بل تفتح
عليهم باب التوبة والرحمة ، كما تقدم ذلك في حديثي ابن عباس والزبير بن العوام
أيضا عند قوله تعالى : (وَما مَنَعَنا أَنْ
نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ
النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا
تَخْوِيفاً) [الإسراء : ٥٩]. وقال تعالى : (وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ
الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ
مَعَهُ نَذِيراً أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ
مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً انْظُرْ
كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً
تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ
وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً) [الفرقان : ٧ ـ ١١].
وقوله تعالى (حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ
يَنْبُوعاً) الينبوع : العين الجارية ، سألوه أن يجري لهم عيونا معينا
في أرض الحجاز هاهنا وهاهنا وذلك سهل على الله تعالى يسير لو شاء لفعله ولأجابهم
إلى جميع ما سألوه وطلبوا ولكن علم أنهم لا يهتدون كما قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ
كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا
الْعَذابَ الْأَلِيمَ) [يونس : ٩٦ ـ ٩٧]
وقال تعالى : (وَلَوْ أَنَّنا
نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا
عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) [الأنعام : ١١١]
الآية.
وقوله تعالى : (أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ) أي أنك وعدتنا أن يوم القيامة تنشق فيه السماء وتهوي وتدلي
أطرافها ، فاجعل ذلك في الدنيا وأسقطها كسفا ، أي قطعا كقوله (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ
مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) [الأنفال : ٣٢]
الآية ، وكذلك سأل قوم شعيب منه فقالوا (فَأَسْقِطْ عَلَيْنا
كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [الشعراء : ١٨٧]
فعاقبهم الله بعذاب يوم الظلة ، إنه كان عذاب يوم عظيم ، وأما نبي الرحمة ونبي
التوبة المبعوث رحمة للعالمين فسأل إنظارهم وتأجيلهم لعل الله أن يخرج من أصلابهم
من يعبده لا يشرك به شيئا ، وكذلك وقع فإن من هؤلاء الذين ذكروا من أسلم بعد ذلك
وحسن إسلامه حتى عبد الله بن أمية الذي تبع النبي صلىاللهعليهوسلم وقال له ما قال ، أسلم إسلاما تاما وأناب إلى الله عزوجل.
وقوله تعالى : (أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ) قال ابن عباس ومجاهد وقتادة : هو الذهب ، وكذلك هو في
قراءة ابن مسعود : أو يكون لك بيت من ذهب (أَوْ تَرْقى فِي
السَّماءِ) أي تصعد في سلم ونحن ننظر إليك (وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى
تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ) قال مجاهد : أي مكتوب فيه إلى كل واحد واحد صحيفة هذا كتاب
من الله لفلان تصبح موضوعة عند رأسه. وقوله تعالى : (قُلْ سُبْحانَ رَبِّي
هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) أي سبحانه وتعالى وتقدس أن يتقدم أحد بين يديه في أمر من
أمور سلطانه وملكوته ، بل هو الفعال لما يشاء إن شاء أجابكم إلى ما سألتم ، وإن
شاء لم يجبكم ، وما أنا إلا رسول إليكم أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وقد فعلت ذلك
، وأمركم فيما سألتم إلى الله عزوجل.
قال الإمام أحمد
بن حنبل : حدثنا علي بن إسحاق ، حدثنا ابن المبارك ، حدثنا يحيى بن
أيوب عن عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد ، عن القاسم عن أبي أمامة عن النبيصلىاللهعليهوسلم قال : «عرض علي ربي عزوجل ليجعل لي بطحاء مكة ذهبا ، فقلت : لا يا رب ولكن أشبع يوما
وأجوع يوما ـ أو نحو ذلك ـ فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك ، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك»
ورواه الترمذي في الزهد عن سويد بن نصر عن ابن المبارك به ، وقال : هذا
حديث حسن ، وعلي بن يزيد يضعف في الحديث.
(وَما مَنَعَ النَّاسَ
أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً
رَسُولاً (٩٤) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ
مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ
مَلَكاً رَسُولاً)
(٩٥)
يقول تعالى : (وَما مَنَعَ النَّاسَ) أي أكثرهم (أَنْ يُؤْمِنُوا) ويتابعوا الرسل إلا استعجابهم من بعثة البشر رسلا ، كما
قال تعالى : (أَكانَ لِلنَّاسِ
عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ
الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) [يونس : ٢] ، وقال
تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُ
كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا) [التغابن : ٦]
الآية. وقال فرعون وملؤه (أَنُؤْمِنُ
لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ) [المؤمنون : ٤٧]
وكذلك قالت الأمم لرسلهم (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا
بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا
فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) [إبراهيم : ١٠]
والآيات في هذا كثيرة ، ثم قال تعالى منبها على لطفه ورحمته بعباده أنه يبعث إليهم
الرسول من جنسهم ليفقهوا عنه لتمكنهم من مخاطبته ومكالمته ، ولو بعث إلى البشر
رسولا من الملائكة لما استطاعوا مواجهته ولا الأخذ عنه كما قال تعالى : (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) [آل عمران : ١٦٤]
وقال تعالى : (لَقَدْ جاءَكُمْ
رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) [التوبة : ١٢٨]
وقال تعالى : (كَما أَرْسَلْنا
فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ
وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ
__________________
ما
لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا
تَكْفُرُونِ) [البقرة : ١٥١ ـ ١٥٢]
ولهذا قال هاهنا (قُلْ لَوْ كانَ فِي
الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ) أي كما أنتم فيها (لَنَزَّلْنا
عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً) أي من جنسهم. ولما كنتم أنتم بشرا بعثنا فيكم رسلنا منكم
لطفا ورحمة.
(قُلْ كَفى بِاللهِ
شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً)
(٩٦)
يقول تعالى مرشدا
نبيه صلىاللهعليهوسلم إلى الحجة على قومه في صدق ما جاءهم به : إنه شاهد علي
وعليكم ، عالم بما جئتكم به ، فلو كنت كاذبا عليه لا لانتقم مني أشد الانتقام ،
كما قال تعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ
عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا
مِنْهُ الْوَتِينَ) [الحاقة : ٤٤ ـ ٤٦].
وقوله (إِنَّهُ كانَ
بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) أي عليما بهم بمن يستحق الإنعام والإحسان والهداية ممن
يستحق الشقاء والإضلال والإزاغة ، ولهذا قال :
(وَمَنْ يَهْدِ اللهُ
فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ
وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا
مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً)
(٩٧)
يقول تعالى مخبرا
عن تصرفه في خلقه ونفوذ حكمه وأنه لا معقب له بأنه من يهده فلا مضل له ، ومن يضلل
فلن تجد لهم أولياء من دونه أي يهدونهم ، كما قال : (مَنْ يَهْدِ اللهُ
فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً) [الكهف : ١٧]
وقوله : (وَنَحْشُرُهُمْ
يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ) قال الإمام أحمد ، حدثنا ابن نمير ، حدثنا إسماعيل عن نفيع قال : سمعت أنس
بن مالك يقول : قيل : يا رسول الله كيف يحشر الناس على وجوههم؟ قال : «الذي أمشاهم
على أرجلهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم» ، وأخرجاه في الصحيحين.
وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا الوليد بن جميع القرشي عن أبيه عن أبي الطفيل
عامر بن واثلة ، عن حذيفة بن أسيد قال : قام أبو ذر فقال : يا بني غفار ، قولوا
ولا تحلفوا ، فإن الصادق المصدوق حدثني أن الناس يحشرون على ثلاثة أفواج : فوج
راكبين طاعمين كاسين ، وفوج يمشون ويسعون ، وفوج تسحبهم الملائكة على وجوههم
وتحشرهم إلى النار ، فقال قائل منهم : هذان قد عرفناهما ، فما بال الذين يمشون
ويسعون؟ قال «يلقي الله عزوجل الآفة على الظهر حتى لا يبقى ظهر ، حتى إن الرجل لتكون له
الحديقة المعجبة فيعطيها بالشارف ذات القتب فلا يقدر عليها».
__________________
وقوله : (عُمْياً) أي لا يبصرون ، (وَبُكْماً) يعني لا ينطقون ، (وَصُمًّا) لا يسمعون ، وهذا يكون في حال دون حال جزاء لهم كما كانوا
في الدنيا بكما وعميا وصما عن الحق ، فجوزوا في محشرهم بذلك أحوج ما يحتاجون إليه (مَأْواهُمْ) أي منقلبهم ومصيرهم (جَهَنَّمُ كُلَّما
خَبَتْ) قال ابن عباس : سكنت ، وقال مجاهد طفئت ، (زِدْناهُمْ سَعِيراً) أي لهبا ووهجا وجمرا ، كما قال : (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا
عَذاباً) [النبأ : ٣٠].
(ذلِكَ جَزاؤُهُمْ
بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا
لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٩٨) أَوَلَمْ يَرَوْا
أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ
مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ
كُفُوراً)
(٩٩)
يقول تعالى : هذا
الذي جازيناهم به من البعث على العمي والبكم والصمم جزاؤهم الذي يستحقونه ، لأنهم
كذبوا (بِآياتِنا) أي بأدلتنا وحجتنا ، واستبعدوا وقوع البعث (وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً
وَرُفاتاً) أي بالية نخرة (أَإِنَّا
لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً) أي بعد ما صرنا إليه من البلى والهلاك والتفرق والذهاب في
الأرض نعاد مرة ثانية؟ فاحتج تعالى عليهم ونبههم على قدرته على ذلك بأنه خلق
السموات والأرض ، فقدرته على إعادتهم أسهل من ذلك ، كما قال : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) [غافر : ٥٧] وقال
: (أَوَلَمْ يَرَوْا
أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ
بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) [الأحقاف : ٣٣]
الآية ، وقال (أَوَلَيْسَ الَّذِي
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى
وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ
لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس : ٨١ ـ ٨٢]
إلى آخر السورة.
وقال هاهنا (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) أي يوم القيامة يعيد أبدانهم وينشئهم نشأة أخرى كما بدأهم.
وقوله : (وَجَعَلَ لَهُمْ
أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ) أي جعل لإعادتهم وإقامتهم من قبورهم أجلا مضروبا ومدة
مقدرة لا بد من انقضائها ، كما قال تعالى : (وَما نُؤَخِّرُهُ
إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ) [هود : ١٠٤].
وقوله : (فَأَبَى
الظَّالِمُونَ) أي بعد قيام الحجة عليهم (إِلَّا كُفُوراً) إلا تماديا في باطلهم وضلالهم.
(قُلْ لَوْ أَنْتُمْ
تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ
وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً)
(١٠٠)
يقول تعالى لرسوله
صلوات الله وسلامه عليه : قل لهم يا محمد لو أنكم أيها الناس تملكون التصرف في
خزائن الله لأمسكتم خشية الإنفاق ، قال ابن عباس وقتادة : أي الفقر ، خشية أن تذهبوها مع أنها لا تفرغ ولا تنفد أبدا ، لأن
هذا من طباعكم وسجاياكم ، ولهذا قال : (وَكانَ الْإِنْسانُ
قَتُوراً) قال ابن عباس وقتادة : أي بخيلا منوعا ، وقال الله تعالى : (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ
مِنَ
__________________
الْمُلْكِ
فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً) [النساء : ٥٣] أي
لو أن لهم نصيبا في ملك الله لما أعطوا أحدا شيئا ولا مقدار نقير ، والله تعالى
يصف الإنسان من حيث هو إلا من وفقه الله وهداه ، فإن البخل والجزع والهلع صفة له ،
كما قال تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ
خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ
مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ) [المعارج : ١٩ ـ ٢٢]
ولهذا نظائر كثيرة في القرآن العزيز ، ويدل هذا على كرمه وجوده وإحسانه ، وقد جاء
في الصحيحين «يد الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار ، أرأيتم ما أنفق
منذ خلق السموات والأرض ، فإنه لم يغض ما في يمينه» .
(وَلَقَدْ آتَيْنا
مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ
لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (١٠١) قالَ لَقَدْ
عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ
وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (١٠٢)
فَأَرادَ
أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (١٠٣)
وَقُلْنا
مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ
الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً)
(١٠٤)
يخبر تعالى أنه
بعث موسى بتسع آيات بينات وهي الدلائل القاطعة على صحة نبوته وصدقه فيما أخبر به
عمن أرسله إلى فرعون ، وهي العصا واليد والسنين والبحر والطوفان والجراد والقمل
والضفادع والدم آيات مفصلات ، قاله ابن عباس . وقال محمد بن كعب : هي اليد والعصا ، والخمس في الأعراف
والطمسة والحجر ، وقال ابن عباس أيضا ومجاهد وعكرمة والشعبي وقتادة : هي يده وعصاه
والسنين ونقص الثمرات والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ، وهذا القول ظاهر
جلي حسن قوي ، وجعل الحسن البصري السنين ونقص الثمرات واحدة ، وعنده أن التاسعة هي
تلقف العصا ما يأفكون (فَاسْتَكْبَرُوا
وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ) [الأعراف : ١٣٣]
أي ومع هذه الآيات ومشاهدتهم لها ، كفروا بها وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما
وعلوا ، وما نجعت فيهم : فكذلك لو أجبنا هؤلاء الذين سألوا منك ما سألوا ، وقالوا
لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا إلى آخرها ، لما استجابوا ولا آمنوا إلا
أن يشاء الله ، كما قال فرعون لموسى وقد شاهد منه ما شاهد من هذه الآيات (إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً) قيل : بمعنى ساحر ، والله تعالى أعلم.
فهذه الآيات التسع
التي ذكرها هؤلاء الأئمة هي المراد هاهنا ، وهي المعنية في قوله تعالى : (وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها
تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ ـ إلى قوله ـ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ
وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) [النمل : ١٠ ـ ١٢]
فذكر هاتين الآيتين العصا واليد وبين الآيات الباقيات في سورة الأعراف وفصلها. وقد
أوتي موسى عليه
__________________
السلام آيات أخر
كثيرة ، منها ضربة الحجر بالعصا ، وخروج الماء منه ، ومنها تظليلهم بالغمام وإنزال
المن والسلوى ، وغير ذلك مما أوتيه بنو إسرائيل بعد مفارقتهم بلاد مصر ، ولكن ذكر
هاهنا التسع الآيات التي شاهدها فرعون وقومه من أهل مصر ، فكانت حجة عليهم
فخالفوها وعاندوها كفرا وجحودا.
فأما الحديث الذي
رواه الإمام أحمد : حدثنا يزيد حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة قال : سمعت عبد
الله بن سلمة يحدث عن صفوان بن عسال المرادي رضي الله عنه قال : قال يهودي لصاحبه
: اذهب بنا إلى هذا النبي حتى نسأله عن هذه الآية (وَلَقَدْ آتَيْنا
مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ) فقال : لا تقل له نبي ، فإنه لو سمعك لصارت له أربع أعين ،
فسألاه ، فقال النبيصلىاللهعليهوسلم : «لا تشركوا بالله شيئا ، ولا تسرقوا ، ولا تزنوا ، ولا
تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ، ولا تسحروا ، ولا تأكلوا الربا ، ولا
تمشوا ببريء إلى ذي سلطان ليقتله ، ولا تقذفوا محصنة ـ أو قال لا تفروا من الزحف
شعبة الشاك ـ وأنتم يا يهود عليكم خاصة أن لا تعدوا في السبت» فقبلا يديه ورجليه ،
وقالا : نشهد أنك نبي. قال : «فما يمنعكما أن تتبعاني؟» قالا : لأن دوادعليهالسلام دعا أن لا يزال من ذريته نبي ، وإنا نخشى إن أسلمنا أن
تقتلنا يهود . فهذا الحديث رواه هكذا الترمذي والنسائي وابن ماجة وابن
جرير في تفسيره من طرق عن شعبة بن الحجاج به ، وقال الترمذي : حسن صحيح. وهو حديث
مشكل ، وعبد الله بن سلمة في حفظه شيء ، وقد تكلموا فيه ، ولعله اشتبه عليه التسع
الآيات بالعشر الكلمات فإنها وصايا في التوراة لا تعلق لها بقيام الحجة على فرعون ،
والله أعلم.
ولهذا قال موسى
لفرعون (لَقَدْ عَلِمْتَ ما
أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ) أي حججا وأدلة على صدق ما جئتك به (وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ
مَثْبُوراً) أي هالكا ، قاله مجاهد وقتادة ، وقال ابن عباس : ملعونا ،
وقال أيضا هو والضحاك (مَثْبُوراً) أي مغلوبا ، والهالك كما قال مجاهد يشمل هذا كله ، قال
الشاعر عبد الله بن الزبعرى : [الخفيف]
إذ أجاري
الشيطان في سنن الغي
|
|
ومن مال ميله
مثبور
|
وقرأ بعضهم برفع
التاء من قوله علمت ، وروي ذلك عن علي بن أبي طالب ، ولكن قراءة الجمهور بفتح
التاء على الخطاب لفرعون ، كما قال تعالى : (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ
آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها
أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) [النمل : ١٤]
الآية ، فهذا كله مما يدل على أن المراد بالتسع الآيات إنما هي ما تقدم ذكره من
العصا واليد والسنين ونقص من
__________________
الثمرات والطوفان
والجراد والقمل والضفادع والدم ، التي فيها حجج وبراهين على فرعون وقومه ، وخوارق
ودلائل على صدق موسى ووجود الفاعل المختار الذي أرسله ، وليس المراد منها كما ورد
في هذا الحديث ، فإن هذه الوصايا ليس فيها حجج على فرعون وقومه ، وأي مناسبة بين
هذا وبين إقامة البراهين على فرعون؟ وما جاءهم هذا الوهم إلا من قبل عبد الله بن
سلمة ، فإن له بعض ما ينكر ، والله أعلم. ولعل ذينك اليهوديين إنما سألا عن العشر
الكلمات فاشتبه على الراوي بالتسع الآيات فحصل وهم في ذلك ، والله أعلم.
وقوله : (فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ
الْأَرْضِ) أي يخليهم منها ويزيلهم عنها ، (فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً
وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ) وفي هذا بشارة لمحمد صلىاللهعليهوسلم بفتح مكة مع أن السورة مكية نزلت قبل الهجرة ، وكذلك فإن
أهل مكة هموا بإخراج الرسول منها ، كما قال تعالى : (وَإِنْ كادُوا
لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها) الآيتين ، ولهذا أورث الله رسوله مكة فدخلها عنوة على أشهر
القولين ، وقهر أهلها ثم أطلقهم حلما وكرما ، كما أورث الله القوم الذين كانوا
يستضعفون من بني إسرائيل مشارق الأرض ومغاربها ، وأورثهم بلاد فرعون وأموالهم
وزروعهم وثمارهم وكنوزهم ، كما قال (كَذلِكَ
وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ) [الشعراء : ٥٩] ،
وقال هاهنا (وَقُلْنا مِنْ
بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ
جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً) أي جميعكم أنتم وعدوكم ، قال ابن عباس ومجاهد وقتادة
والضحاك : لفيفا أي جميعا.
(وَبِالْحَقِّ
أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً
(١٠٥) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ
عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً)
(١٠٦)
يقول تعالى مخبرا
عن كتابه العزيز وهو القرآن المجيد أنه بالحق نزل ، أي متضمنا للحق ، كما قال
تعالى : (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ
بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ) [النساء : ١٦٦] أي
متضمنا علم الله الذي أراد أن يطلعكم عليه من أحكامه وأمره ونهيه. وقوله (وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) أي ونزل إليك يا محمد محفوظا محروسا لم يشب بغيره ولا زيد
فيه ولا نقص منه ، بل وصل إليك بالحق ، فإنه نزل به شديد القوى الأمين المكين
المطاع في الملأ الأعلى. وقوله : (وَما أَرْسَلْناكَ) أي يا محمد (إِلَّا مُبَشِّراً
وَنَذِيراً) مبشرا لمن أطاعك من المؤمنين ونذيرا لمن عصاك من الكافرين.
وقوله : (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ) أما قراءة من قرأ بالتخفيف فمعناه فصلناه من اللوح المحفوظ
إلى بيت العزة من السماء الدنيا ، ثم نزل مفرقا منجما على الوقائع إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم في ثلاث وعشرين سنة ، قاله عكرمة عن ابن عباس وعن ابن عباس
أيضا أنه قرأ : فرقناه بالتشديد ، أي أنزلناه آية آية مبينا ومفسرا ، ولهذا قال : (لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ) أي لتبلغه الناس وتتلوه عليهم ، أي (عَلى مُكْثٍ) أي مهل (وَنَزَّلْناهُ
تَنْزِيلاً) أي شيئا بعد شيء.
(قُلْ آمِنُوا بِهِ
أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى
عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً
(١٠٧)
وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (١٠٨)
وَيَخِرُّونَ
لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً)
(١٠٩)
يقول تعالى لنبيه
محمد صلىاللهعليهوسلم (قُلْ) يا محمد لهؤلاء الكافرين بما جئتهم به من هذا القرآن
العظيم (آمِنُوا بِهِ أَوْ لا
تُؤْمِنُوا) أي سواء آمنتم به أم لا ، فهو حق في نفسه أنزله الله ونوه
بذكره في سالف الأزمان في كتبه المنزلة على رسله ، ولهذا قال : (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ
قَبْلِهِ) أي من صالحي أهل الكتاب الذين تمسكوا بكتابهم ويقيمونه ولم
يبدلوه ولا حرفوه (إِذا يُتْلى
عَلَيْهِمْ) هذا القرآن (يَخِرُّونَ
لِلْأَذْقانِ) جمع ذقن وهو أسفل الوجه (سُجَّداً) أي لله عزوجل شكرا على ما أنعم به عليهم من جعله إياهم أهلا أن أدركوا
هذا الرسول الذي أنزل عليه هذا الكتاب ، ولهذا يقولون (سُبْحانَ رَبِّنا) أي تعظيما وتوقيرا على قدرته التامة وأنه لا يخلف الميعاد
الذي وعدهم على ألسنة الأنبياء المتقدمين عن بعثة محمد صلىاللهعليهوسلم ولهذا قالوا (سُبْحانَ رَبِّنا
إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً). وقوله : (وَيَخِرُّونَ
لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ) أي خضوعا لله عزوجل وإيمانا وتصديقا بكتابه ورسوله (وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) اي إيمانا وتسليما ، كما قال : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً
وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) [محمد : ١٧].
وقوله : (وَيَخِرُّونَ) عطف صفة على صفة لا عطف السجود على السجود ، كما قال
الشاعر : [المتقارب]
إلى الملك القرم
وابن الهمام
|
|
وليث الكتيبة في
المزدحم
|
(قُلِ
ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ
الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ
سَبِيلاً (١١٠) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ
يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ
وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً)
(١١١)
يقول تعالى : قل
يا محمد لهؤلاء المشركين المنكرين صفة الرحمة لله عزوجل ، المانعين من تسميته بالرحمن (ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ
أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) أي لا فرق بين دعائكم له باسم الله أو باسم الرحمن ، فإنه
ذو الأسماء الحسنى ، كما قال تعالى : (هُوَ اللهُ الَّذِي
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ ـ إلى أن قال ـ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ
لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الحشر : ٢٢ ـ ٢٤]
الآية ، وقد روى مكحول أن رجلا من المشركين سمع النبي صلىاللهعليهوسلم وهو يقول في سجوده : «يا رحمن يا رحيم» فقال: إنه يزعم أنه
يدعو واحدا وهو يدعو اثنين ، فأنزل الله هذه الآية ، وكذا روي عن ابن عباس ،
رواهما ابن جرير.
__________________
وقوله : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ) الآية قال الإمام أحمد : حدثنا هشيم ، حدثنا أبو بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس
قال : نزلت هذه الآية ورسول الله صلىاللهعليهوسلم متوار بمكة ، (وَلا تَجْهَرْ
بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها) قال : كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن ، فلما سمع
ذلك المشركون سبوا القرآن وسبوا من أنزله ومن جاء به ، قال : فقال الله تعالى
لنبيهصلىاللهعليهوسلم : (وَلا تَجْهَرْ
بِصَلاتِكَ) أي بقراءتك فيسمع المشركون فيسبون القرآن (وَلا تُخافِتْ بِها) عن أصحابك ، فلا تسمعهم القرآن حتى يأخذوه عنك (وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) أخرجاه في الصحيحين من حديث أبي بشر جعفر بن إياس به ،
وكذا رواه الضحاك عن ابن عباس ، وزاد : فلما هاجر إلى المدينة سقط ذلك يفعل أي ذلك
شاء.
وقال محمد بن
إسحاق : حدثني داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم إذا جهر بالقرآن وهو يصلي تفرقوا عنه وأبوا أن يسمعوا منه
، فكان الرجل إذا أراد أن يسمع من رسول الله صلىاللهعليهوسلم بعض ما يتلو وهو يصلي استرق السمع دونهم فرقا منهم ، فإذا
رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع ذهب خشية أذاهم فلم يسمع ، فإن خفض صوته صلىاللهعليهوسلم لم يسمع الذين يستمعون من قراءته شيئا ، فأنزل الله (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ) فيتفرقوا عنك (وَلا تُخافِتْ بِها) فلا يسمع من أراد أن يسمع ممن يسترق ذلك منهم فلعله يرعوي
إلى بعض ما يسمع فينتفع به ، (وَابْتَغِ بَيْنَ
ذلِكَ سَبِيلاً) وهكذا قال عكرمة والحسن البصري وقتادة : نزلت هذه الآية في
القراءة في الصلاة ، وقال شعبة عن الأشعث بن أبي سليم عن الأسود بن هلال عن ابن
مسعود لم يخافت بها من أسمع أذنيه.
قال ابن جرير : حدثنا يعقوب ، حدثنا ابن علية عن سلمة بن علقمة عن محمد بن سيرين قال : نبئت أن أبا بكر كان إذا صلى فقرأ
خفض صوته وأن عمر كان يرفع صوته ، فقيل لأبي بكر : لم تصنع هذا؟ قال : أناجي ربي عزوجل وقد علم حاجتي ، فقيل : أحسنت. وقيل لعمر : لم تصنع هذا؟
قال : أطرد الشيطان وأوقظ الوسنان ، قيل : أحسنت ، فلما نزلت (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ
بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) قيل لأبي بكر : ارفع شيئا ، وقيل لعمر : اخفض شيئا ، وقال
أشعث بن سوار عن عكرمة عن ابن عباس : نزلت في الدعاء ،
__________________
وهكذا روى الثوري
ومالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها نزلت في الدعاء ، وكذا
قال مجاهد وسعيد بن جبير وأبو عياض ومكحول وعروة بن الزبير. وقال الثوري عن ابن
عياش العامري عن عبد الله بن شداد قال : كان أعرابي من بني تميم إذا سلم النبيصلىاللهعليهوسلم قال : «اللهم ارزقنا إبلا وولدا» قال : فنزلت هذه الآية (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ
بِها).
[قول آخر] قال ابن
جرير : حدثنا أبو السائب ، حدثنا حفص بن غياث عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة
رضي الله عنها : نزلت هذه الآية في التشهد (وَلا تَجْهَرْ
بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها) ، وبه قال حفص عن أشعث بن سوار عن محمد بن سيرين مثله.
[قول آخر] : قال
علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله (وَلا تَجْهَرْ
بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها) قال : لا تصل مراءاة للناس ولا تدعها مخافة الناس. وقال
الثوري عن منصور عن الحسن البصري (وَلا تَجْهَرْ
بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها) قال : لا تحسن علانيتها وتسيء سريرتها ، وكذا رواه عبد الرزاق
عن معمر عن الحسن به ، وهشيم عن عوف عنه به ، وسعيد عن قتادة عنه كذلك.
[قول آخر] قال عبد
الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله : (وَابْتَغِ بَيْنَ
ذلِكَ سَبِيلاً) قال : أهل الكتاب يخافتون ثم يجهر أحدهم بالحرف ، فيصيح به
ويصيحون هم به وراءه ، فنهاه أن يصيح كما يصيح هؤلاء ، وأن يخافت كما يخافت القوم
، ثم كان السبيل الذي بين ذلك الذي سن له جبريل من الصلاة.
وقوله : (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ
يَتَّخِذْ وَلَداً) لما اثبت تعالى لنفسه الكريمة الأسماء الحسنى نزه نفسه عن
النقائض فقال : (وَقُلِ الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) بل هو الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له
كفوا أحد (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ
وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِ) أي ليس بدليل فيحتاج إلى أن يكون له ولي أو وزير أو مشير ،
بل هو تعالى خالق الأشياء وحده لا شريك له ، ومدبرها ومقدرها وحده لا شريك له. قال
مجاهد في قوله : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ
وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِ) لم يحالف أحدا ولم يبتغ نصر أحد (وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) أى عظمه وأجلّه عما يقول الظالمون المعتدون علوا كبيرا.
قال ابن جرير : حدثني يونس ، أنبأنا ابن وهب ، أخبرني أبو صخر عن القرظي
أنه كان يقول في هذه الآية (وَقُلِ الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) الآية ، قال إن اليهود والنصارى يقولون اتخذ الله ولدا ،
وقالت العرب : لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك وقال الصابئون
والمجوس : لولا أولياء الله لذل ، فأنزل الله هذه الآية (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ
__________________
يَتَّخِذْ
وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ
الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) وقال أيضا : حدثنا بشر ، حدثنا يزيد ، حدثنا سعيد عن قتادة
ذكر لنا أن النبي صلىاللهعليهوسلم كان يعلم أهله هذه الآية (الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) الآية ، الصغير من أهله والكبير. قلت وقد جاء في حديث أن
رسول الله صلىاللهعليهوسلم سمى هذه الآية آية العز ، وفي بعض الآثار أنها ما قرئت في
بيت في ليلة فيصيبه سرق أو آفة ، والله أعلم.
وقال الحافظ أبو
يعلى : حدثنا بشر بن سيحان البصري ، حدثنا حرب بن ميمون ، حدثنا موسى بن عبيدة
الزبيدي عن محمد بن كعب القرظي عن أبي هريرة قال : خرجت أنا ورسول اللهصلىاللهعليهوسلم ويده في يدي ، أو يدي في يده ، فأتى على رجل رث الهيئة
فقال : «أي فلان ما بلغ بك ما أرى؟» قال : السقم والضر يا رسول الله ، قال : «ألا
أعلمك كلمات تذهب عنك السقم والضر؟» قال : لا ، قال : ما يسرني بها أن شهدت معك
بدرا أو أحدا ، قال : فضحك رسول الله صلىاللهعليهوسلم وقال : «وهل يدرك أهل بدر وأهل أحد ما يدرك الفقير القانع؟»
قال : فقال أبو هريرة : يا رسول الله إياي فعلمني ، قال : «فقل يا أبا هريرة توكلت
على الحي الذي لا يموت ، الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ، ولم يكن له شريك في الملك
، ولم يكن له ولي من الذل ، وكبره تكبيرا» قال : فأتى علي رسول الله وقد حسنت حالي
قال : فقال لي «مهيم» قال : قلت يا رسول الله لم أزل أقول الكلمات التي علمتني»
، إسناده ضعيف ، وفي متنه نكارة ، والله أعلم. آخر تفسير سورة سبحان. ولله الحمد
والمنة.
__________________
سورة الكهف
وهي مكية
[ذكر ما ورد في فضلها والعشر الآيات من
أولها وآخرها وأنها عصمة من الدجال]
قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة عن أبي إسحاق قال : سمعت
البراء يقول : قرأ رجل الكهف وفي الدار دابة ، فجعلت تنفر ، فنظر فإذا ضبابة أو
سحابة قد غشيته ، فذكر ذلك للنبي صلىاللهعليهوسلم فقال : «اقرأ فلان ، فإنها السكينة تنزل عند القرآن أو
تنزلت للقرآن» أخرجاه في الصحيحين من حديث شعبة به ، وهذا الرجل الذي كان
يتلوها هو أسيد بن الحضير كما تقدم في تفسير سورة البقرة.
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، أخبرنا هشام بن يحيى عن قتادة عن سالم بن
أبي الجعد ، عن معدان بن أبي طلحة عن أبي الدرداء ، عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال» رواه مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي من حديث قتادة به ،
ولفظ الترمذي «من حفظ ثلاث آيات من أول الكهف» وقال : حسن صحيح.
[طريق أخرى] ـ قال
الإمام أحمد : حدثنا حجاج ، حدثنا شعبة عن قتادة ، سمعت سالم بن أبي
الجعد يحدث عن معدان عن أبي الدرداء ، عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف عصم من فتنة
الدجال» ورواه مسلم أيضا والنسائي من حديث قتادة به ، وفي لفظ النسائي «من قرأ
عشر آيات من الكهف» فذكره (حديث آخر) وقد رواه النسائي في اليوم والليلة عن محمد
بن عبد الأعلى عن خالد عن شعبة عن قتادة عن سالم بن أبي الجعد عن ثوبان عن رسول
الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال «من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف فإنه
__________________
عصمة له من الدجال»
فيحتمل أن سالما سمعه من ثوبان ومن أبي الدرداء.
وقال أحمد : حدثنا حسين ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا زبان بن فائد عن
سهل بن معاذ بن أنس الجهني ، عن أبيه عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «من قرأ أول سورة الكهف وآخرها ، كانت له نورا
من قدمه إلى رأسه ، ومن قرأها كلها كانت له نورا ما بين السماء والأرض» انفرد به
أحمد ولم يخرجوه ، وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره بإسناد له غريب عن
خالد بن سعيد بن أبي مريم ، عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة سطع له نور من تحت
قدمه إلى عنان السماء يضيء له يوم القيامة وغفر له ما بين الجمعتين» وهذا الحديث
في رفعه نظر ، وأحسن أحواله الوقف.
وهكذا روى الإمام
سعيد بن منصور في سننه عن هشيم بن بشير عن أبي هاشم عن أبي مجلز عن قيس بن عباد عن
أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال : من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من
النور ما بينه وبين البيت العتيق. هكذا وقع موقوفا ، وكذا رواه الثوري عن أبي هاشم
به من حديث أبي سعيد الخدري وقد أخرجه الحاكم في مستدركه عن أبي بكر محمد بن
المؤمل ، حدثنا الفضيل بن محمد الشعراني ، حدثنا نعيم بن حماد ، حدثنا هشيم ،
حدثنا أبو هاشم عن أبي مجلز عن قيس بن عباد ، عن أبي سعيد عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من
النور ما بينه وبين الجمعتين» ثم قال : هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه.
وهكذا رواه الحافظ
أبو بكر البيهقي في سننه عن الحاكم ، ثم قال البيهقي : ورواه يحيى بن كثير عن شعبة
عن أبي هاشم بإسناده أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «من قرأ سورة الكهف كما نزلت ، كانت له نورا يوم
القيامة» وفي المختارة للحافظ الضياء المقدسي من حديث عبد الله بن مصعب عن منظور
بن زيد بن خالد الجهني ، عن علي بن الحسين عن أبيه عن علي مرفوعا : من قرأ سورة
الكهف يوم الجمعة ، فهو معصوم إلى ثمانية أيام من كل فتنة ، وإن خرج الدجال عصم
منه.
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (١) قَيِّماً لِيُنْذِرَ
بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ
الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (٢)
ماكِثِينَ
فِيهِ أَبَداً (٣) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ
قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً (٤) ما لَهُمْ بِهِ مِنْ
عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ
يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً)
(٥)
قد تقدم في أول
التفسير أنه تعالى يحمد نفسه المقدسة عند فواتح الأمور وخواتمها ، فإنه
__________________
المحمود على كل
حال ، وله الحمد في الأولى والآخرة ، ولهذا حمد نفسه على إنزاله كتابه العزيز على
رسوله الكريم محمد صلوات الله وسلامه عليه ، فإنه أعظم نعمة أنعمها الله على أهل
الأرض إذ أخرجهم به من الظلمات إلى النور حيث جعله كتابا مستقيما لا اعوجاج فيه
ولا زيغ ، بل يهدي إلى صراط مستقيم واضحا بينا جليا نذيرا للكافرين ، بشيرا
للمؤمنين ، ولهذا قال : (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ
عِوَجاً) أي لم يجعل فيه اعوجاجا ولا ميلا ، بل جعله معتدلا مستقيما
ولهذا قال : (قَيِّماً) أي مستقيما (لِيُنْذِرَ بَأْساً
شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ) أي لمن خالفه وكذبه ولم يؤمن به ينذره بأسا شديدا عقوبة
عاجلة في الدنيا وآجلة في الأخرى (مِنْ لَدُنْهُ) أي من عند الله الذي لا يعذب عذابه أحد ، ولا يوثق وثاقه
أحد (وَيُبَشِّرَ
الْمُؤْمِنِينَ) أي بهذا القرآن الذين صدقوا إيمانهم بالعمل الصالح (أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً) أي مثوبة عند الله جميلة (ماكِثِينَ فِيهِ) في ثوابهم عند الله ، وهو الجنة خالدين فيه (أَبَداً) دائما لا زوال له ولا انقضاء.
وقوله : (وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ
اللهُ وَلَداً) قال ابن إسحاق : وهم مشركو العرب في قولهم نحن نعبد
الملائكة وهم بنات الله (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ
عِلْمٍ) أي بهذا القول الذي افتروه وائتفكوه (وَلا لِآبائِهِمْ) أي لأسلافهم (كَبُرَتْ كَلِمَةً) نصب على التمييز تقديره كبرت كلمتهم هذه كلمة. وقيل : على
التعجب تقديره أعظم بكلمتهم كلمة ، كما تقول : أكرم بزيد رجلا ، قاله بعض البصريين
، وقرأ ذلك بعض قراء مكة : كبرت كلمة ، كما يقال عظم قولك وكبر شأنك ، والمعنى على
قراءة الجمهور أظهر ، فإن هذا تبشيع لمقالتهم واستعظام لإفكهم ، ولهذا قال: (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ
أَفْواهِهِمْ) أي ليس لها مستند سوى قولهم ، ولا دليل لهم عليها إلا
كذبهم وافتراؤهم ، ولهذا قال : (إِنْ يَقُولُونَ
إِلَّا كَذِباً) وقد ذكر محمد بن إسحاق سبب نزول هذه السورة الكريمة ، فقال
: حدثني شيخ من أهل مصر قدم علينا منذ بضع وأربعين سنة عن عكرمة عن ابن عباس قال :
بعثت قريش النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة ، فقالوا
لهم : سلوهم عن محمد وصفوا لهم صفته وأخبروهم بقوله ، فإنهم أهل الكتاب الأول
وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء ، فخرجا حتى أتيا المدينة فسألوا أحبار
اليهود عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ووصفوا لهم أمره وبعض قوله ، وقالا : إنكم أهل التوراة
وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا ، قال : فقالوا لهم سلوه عن ثلاث نأمركم بهن ،
فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل ، وإلا فرجل متقول تروا فيه رأيكم : سلوه عن فتية
ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم ، فإنهم قد كان لهم حديث عجيب؟ وسلوه عن رجل
طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه ، وسلوه عن الروح ما هو؟ فإن أخبركم
بذلك فهو نبي فاتبعوه ، وإن لم يخبركم فإنه رجل متقول فاصنعوا في أمره ما بدا لكم
، فأقبل النضر وعقبة حتى قدما على قريش فقالا : يا معشر قريش قد جئناكم بفصل ما بينكم
وبين محمد ، قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور فأخبروهم بها ، فجاؤوا رسول
الله صلىاللهعليهوسلم فقالوا : يا محمد أخبرنا ، فسألوه عما
أمروهم به ، فقال
لهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أخبركم غدا عما سألتم عنه» ولم يستثن فانصرفوا عنه ومكث
رسول الله صلىاللهعليهوسلم خمس عشرة ليلة لا يحدث الله إليه في ذلك وحيا ، ولا يأتيه
جبرائيل عليهالسلام حتى أرجف أهل مكة وقالوا : وعدنا محمد غدا ، واليوم خمس
عشرة قد أصبحنا فيها ، لا يخبرنا بشيء عما سألناه عنه وحتى أحزن رسول الله صلىاللهعليهوسلم مكث الوحي عنه وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة ، ثم جاءه
جبرائيل عليهالسلام من الله عزوجل بسورة أصحاب الكهف ، فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم
وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية والرجل الطواف ، وقول الله عزوجل (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ
الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ) الآية.
(فَلَعَلَّكَ باخِعٌ
نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (٦)
إِنَّا
جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ
عَمَلاً (٧) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها
صَعِيداً جُرُزاً)
(٨)
يقول تعالى مسليا
لرسوله صلوات الله وسلامه عليه في حزنه على المشركين لتركهم الإيمان وبعدهم عنه
كما قال تعالى : (فَلا تَذْهَبْ
نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) [فاطر ٨] وقال : (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) [النحل : ١٢٧]
وقال : (لَعَلَّكَ باخِعٌ
نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [الشعراء : ٣].
باخع أي مهلك نفسك
بحزنك عليهم ، ولهذا قال : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ
نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ) يعني القرآن (أَسَفاً) يقول : لا تهلك نفسك أسفا. قال قتادة : قاتل نفسك غضبا
وحزنا عليهم ، وقال مجاهد : جزعا ، والمعنى متقارب ، أي لا تأسف عليهم ، بل أبلغهم رسالة
الله ، فمن اهتدى فلنفسه ، ومن ضل فإنما يضل عليها ، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات ،
ثم أخبر تعالى أنه جعل الدنيا دارا فانية مزينة بزينة زائلة ، وإنما جعلها دار
اختبار لا دار قرار ، فقال : (إِنَّا جَعَلْنا ما
عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً).
قال قتادة عن أبي
نضرة عن أبي سعيد عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «إن الدنيا حلوة خضرة ، وإن الله مستخلفكم فيها
فناظر ماذا تعملون ، فاتقوا الدنيا ، واتقوا النساء ، فإن أول فتنة بني إسرائيل
كانت في النساء» ، ثم أخبر تعالى بزوالها وفنائها وفراغها وانقضائها
وذهابها وخرابها ، فقال تعالى : (وَإِنَّا لَجاعِلُونَ
ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً) أي وإنا لمصيروها بعد الزينة إلى الخراب والدمار ، فنجعل
كل شيء عليها هالكا صعيدا جرزا لا ينبت ولا ينتفع به.
كما قال العوفي عن
ابن عباس في قوله تعالى : (وَإِنَّا لَجاعِلُونَ
ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً) يقول : يهلك كل شيء عليها ويبيد. وقال مجاهد : صعيدا جرزا
بلقعا ، وقال قتادة : الصعيد الأرض التي ليس فيها شجر ولا نبات ، وقال ابن زيد :
الصعيد الأرض التي ليس فيها شيء ، ألا
__________________
ترى إلى قوله
تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا
أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً
تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ) وقال محمد بن إسحاق : (وَإِنَّا لَجاعِلُونَ
ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً) يعني الأرض وأن ما عليها لفان وبائد ، وأن المرجع لإلى
الله ، فلا تأس ولا يحزنك ما تسمع وترى.
(أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ
أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (٩) إِذْ أَوَى
الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً
وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (١٠)
فَضَرَبْنا
عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (١١)
ثُمَّ
بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً)
(١٢)
هذا إخبار من الله
تعالى عن قصة أصحاب الكهف على سبيل الإجمال والاختصار ، ثم بسطها بعد ذلك فقال : (أَمْ حَسِبْتَ) يعني يا محمد (أَنَّ أَصْحابَ
الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً) أي ليس أمرهم عجيبا في قدرتنا وسلطانا فإن خلق السموات
والأرض واختلاف الليل والنهار وتسخير الشمس والقمر والكواكب وغير ذلك من الآيات
العظيمة الدالة على قدرة الله تعالى ، وأنه على ما يشاء قادر ولا يعجزه شيء أعجب
من أخبار أصحاب الكهف ، كما قال ابن جريج عن مجاهد (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ
أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً) يقول : قد كان من آياتنا ما هو أعجب من ذلك.
وقال العوفي عن
ابن عباس (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ
أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً) يقول : الذي آتيتك من العلم والسنة والكتاب أفضل من شأن
أصحاب الكهف والرقيم ، وقال محمد بن إسحاق : ما أظهرت من حججي على العباد أعجب
من شأن أصحاب الكهف والرقيم ، وأما الكهف فهو الغار في الجبل ، وهو الذي لجأ إليه
هؤلاء الفتية المذكورون ، وأما الرقيم فقال العوفي عن ابن عباس : هو واد قريب من
أيلة ، وكذا قال عطية العوفي وقتادة. وقال الضحاك : أما الكهف فهو غار في الوادي ،
والرقيم اسم الوادي ، وقال مجاهد : الرقيم كان بنيانهم ، ويقول بعضهم : هو الوادي
الذي فيه كهفهم.
وقال عبد الرزاق :
أخبرنا الثوري عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس في قوله الرقيم : كان يزعم كعب أنها
القرية ، وقال ابن جريج عن ابن عباس : الرقيم الجبل الذي فيه الكهف ، وقال ابن
إسحاق عن عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس قال : اسم ذلك الجبل بنجلوس ،
وقال ابن جريج : أخبرني وهب بن سليمان عن شعيب الجبائي أن اسم جبل الكهف بنجلوس ، واسم الكهف حيزم ، والكلب حمران. وقال عبد الرزاق :
أنبأنا إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال : القرآن أعلمه إلا حنانا
والأواه والرقيم. وقال ابن جريج :
__________________
أخبرني عمرو بن
دينار أنه سمع عكرمة يقول : قال ابن عباس : ما أدري ما الرقيم؟ كتاب أم بنيان.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : الرقيم الكتاب. وقال سعيد بن جبير : الرقيم
لوح من حجارة كتبوا فيه قصص أصحاب الكهف ، ثم وضعوه على باب الكهف.
وقال عبد الرحمن
بن زيد بن أسلم : الرقيم الكتاب ، ثم قرأ : كتاب مرقوم. وهذا هو الظاهر من الآية ،
وهو اختيار ابن جرير ، قال : الرقيم فعيل بمعنى مرقوم ، كما يقال للمقتول قتيل ،
وللمجروح جريح ، والله أعلم.
وقوله : (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ
فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا
رَشَداً) يخبر تعالى عن أولئك الفتية الذين فروا بدينهم من قومهم
لئلا يفتنوهم عنه فهربوا منهم فلجأوا إلى غار في جبل ليختفوا عن قومهم ، فقالوا
حين دخلوا سائلين من الله تعالى رحمته ولطفه بهم (رَبَّنا آتِنا مِنْ
لَدُنْكَ رَحْمَةً) أي هب لنا من عندك رحمة ترحمنا بها وتسترنا عن قومنا (وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً) أي وقدر لنا من أمرنا هذا رشدا أي اجعل عاقبتنا رشدا ، كما
جاء في الحديث «وما قضيت لنا من قضاء فاجعل عاقبته رشدا» وفي المسند من حديث بسر
بن أرطاة عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه كان يدعو «اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها ، وأجرنا
من خزي الدنيا وعذاب الآخرة» .
وقوله : (فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي
الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً) أي ألقينا عليهم النوم حين دخلوا إلى الكهف فناموا سنين
كثيرة ، (ثُمَّ بَعَثْناهُمْ) أي من رقدتهم تلك ، وخرج أحدهم بدراهم معه ليشتري لهم بها
طعاما يأكلونه كما سيأتي بيانه وتفصيله ، ولهذا قال : (ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ
الْحِزْبَيْنِ) أي المختلفين فيهم (أَحْصى لِما لَبِثُوا
أَمَداً) قيل : عددا ، وقيل : غاية ، فإنّ الأمد الغاية ، كقوله : [البسيط]
سبق الجواد إذا
استولى على الأمد
(نَحْنُ نَقُصُّ
عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ
وَزِدْناهُمْ هُدىً (١٣) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ
إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ
دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً
(١٤) هؤُلاءِ
قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ
بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً
(١٥) وَإِذِ
اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ
يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ
__________________
لَكُمْ
مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً)
(١٦)
من هاهنا شرع في
بسط القصة وشرحها ، فذكر تعالى أنهم فتية وهم الشباب ، وهم أقبل للحق وأهدى للسبيل
من الشيوخ الذين قد عتوا وانغمسوا في دين الباطل ، ولهذا كان أكثر المستجيبين لله
تعالى ولرسوله صلىاللهعليهوسلم شبابا ، وأما المشايخ من قريش ، فعامتهم بقوا على دينهم
ولم يسلم منهم إلا القليل. وهكذا أخبر تعالى عن أصحاب الكهف أنهم كانوا فتية شبابا
، وقال مجاهد : بلغني أنه كان في آذان بعضهم القرطة يعني الحلق ، فألهمهم الله
رشدهم وآتاهم تقواهم ، فآمنوا بربهم أي اعترفوا له بالوحدانية ، وشهدوا أنه لا إله
إلا هو (وَزِدْناهُمْ هُدىً) استدل بهذه الآية وأمثالها غير واحد من الأئمة كالبخاري
وغيره ممن ذهب إلى زيادة الإيمان وتفاضله وأنه يزيد وينقص ، ولهذا قال تعالى : (وَزِدْناهُمْ هُدىً) كما قال : (وَالَّذِينَ
اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) [محمد : ١٧] وقال (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا
فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) [التوبة: ١٢٤] وقال : (لِيَزْدادُوا
إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) [الفتح : ٤٠] إلى
غير ذلك من الآيات الدالة على ذلك.
وقد ذكر أنهم
كانوا على دين المسيح عيسى ابن مريم ، فالله أعلم ، والظاهر أنهم كانوا قبل ملة
النصرانية بالكلية ، فإنهم لو كانوا على دين النصرانية لما اعتنى أحبار اليهود
بحفظ خبرهم وأمرهم لمباينتهم لهم ، وقد تقدم عن ابن عباس أن قريشا بعثوا إلى أحبار
اليهود بالمدينة يطلبون منهم أشياء يمتحنون بها رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فبعثوا إليهم أن يسألوه عن خبر هؤلاء ، وعن خبر ذي
القرنين ، وعن الروح ، فدل هذا على أن هذا أمر محفوظ في كتب أهل الكتاب وأنه متقدم
على دين النصرانية ، والله أعلم.
وقوله (وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ
قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يقول تعالى: وصبرناهم على مخالفة قومهم ومدينتهم ومفارقة
ما كانوا فيه من العيش الرغيد والسعادة والنعمة ، فإنه قد ذكر غير واحد من
المفسرين من السلف والخلف أنهم كانوا من أبناء ملوك الروم وسادتهم ، وأنهم خرجوا
يوما في بعض أعياد قومهم وكان لهم مجتمع في السنة يجتمعون فيه في ظاهر البلد ،
وكانوا يعبدون الأصنام والطواغيت ، ويذبحون لها ، وكان لهم ملك جبار عنيد يقال له
دقيانوس ،. وكان يأمر الناس بذلك ويحثهم عليه ويدعوهم إليه ، فلما خرج الناس
لمجتمعهم ذلك ، وخرج هؤلاء الفتية مع آبائهم وقومهم ، ونظروا إلى ما يصنع قومهم
بعين بصيرتهم ، عرفوا أن هذا الذي يصنعه قومهم من السجود لأصنامهم والذبح لها لا
ينبغي إلا الله الذي خلق السموات والأرض ، فجعل كل واحد منهم يتخلص من قومه وينحاز
منهم ويتبرز عنهم ناحية.
فكان أول من جلس
منهم وحده أحدهم ، جلس تحت ظل شجرة فجاء الآخر فجلس إليها عنده ، وجاء الآخر فجلس
إليهما ، وجاء الآخر فجلس إليهم ، وجاء الآخر وجاء الآخر ،
ولا يعرف واحد
منهم الآخر ، وإنما جمعهم هناك الذي جمع قلوبهم على الإيمان.
كما جاء في الحديث
الذي رواه البخاري تعليقا من حديث يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها
قالت : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «الأرواح جنود مجندة ، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر
منها اختلف» وأخرجه مسلم في صحيحه من حديث سهيل عن أبي هريرة عن رسول
الله صلىاللهعليهوسلم.
والناس يقولون :
الجنسية علة الضم ، والغرض أنه جعل كل أحد منهم يكتم ما هو عليه عن أصحابه خوفا
منهم ، ولا يدري أنهم مثله حتى قال أحدهم : تعلمون والله يا قوم إنه ما أخرجكم من
قومكم وأفردكم عنهم إلا شيء ، فليظهر كل واحد منكم بأمره ، فقال آخر : أما أنا
فإني والله رأيت ما قومي عليه فعرفت أنه باطل ، وإنما الذي يستحق أن يعبد وحده ولا
يشرك به شيء هو الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما ، وقال الآخر : وأنا
والله وقع لي كذلك ، وقال الآخر كذلك ، حتى توافقوا كلهم على كلمة واحدة ، فصاروا
يدا واحدة ، وإخوان صدق ، فاتخذوا لهم معبدا يعبدون الله فيه ، فعرف بهم قومهم
فوشوا بأمرهم إلى ملكهم فاستحضرهم بين يديه فسألهم عن أمرهم وما هم عليه ، فأجابوه
بالحق ودعوه إلى الله عزوجل ، ولهذا أخبر تعالى عنهم بقوله : (وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ
قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ
دُونِهِ إِلهاً) ولن لنفي التأبيد أي لا يقع منا هذا أبدا ، لأنا لو فعلنا
ذلك لكان باطلا ، ولهذا قال عنهم: (لَقَدْ قُلْنا إِذاً
شَطَطاً) أي باطلا وكذبا وبهتانا.
(هؤُلاءِ قَوْمُنَا
اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ) أي هلا أقاموا على صحة ما ذهبوا إليه دليلا واضحا صحيحا (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى
اللهِ كَذِباً) يقولون : بل هم ظالمون كاذبون في قولهم ذلك ، فيقال إن
ملكهم لما دعوه إلى الإيمان بالله أبى عليهم وتهددهم وتوعدهم ، وأمر بنزع لباسهم
عنهم الذي كان عليهم من زينة قومهم ، وأجلهم لينظروا في أمرهم لعلهم يرجعون عن
دينهم الذي كانوا عليه ، وكان هذا من لطف الله بهم ، فإنهم في تلك النظرة توصلوا إلى
الهرب منه والفرار بدينهم من الفتنة ، وهذا هو المشروع عند وقوع الفتن في الناس أن
يفر العبد منهم خوفا على دينه ، كما جاء في الحديث «يوشك أن يكون خير مال أحدكم
غنما يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن» ففي هذه الحال تشرع العزلة عن الناس ولا تشرع فيما عداها ،
لما يفوت بها من ترك الجماعات والجمع ، فلما وقع عزمهم على الذهاب والهرب من قومهم
، واختار الله تعالى لهم ذلك وأخبر عنهم بذلك في قوله : (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما
يَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) أي وإذ فارقتموهم وخالفتموهم بأديانكم في عبادتهم غير الله
، ففارقوهم أيضا بأبدانكم ، (فَأْوُوا إِلَى
الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ)
__________________
أي يبسط عليكم
رحمة يستركم بها من قومكم (وَيُهَيِّئْ لَكُمْ
مِنْ أَمْرِكُمْ) الذي أنتم فيه (مِرْفَقاً) أي أمرا ترتفقون به ، فعند ذلك خرجوا هرابا إلى الكهف
فأووا إليه ، ففقدهم قومهم من بين أظهرهم وتطلبهم الملك ، فيقال أنه لم يظفر بهم
وعمى الله عليه خبرهم كما فعل بنبيّه محمدصلىاللهعليهوسلم ، وصاحبه الصديق حين لجئا إلى غار ثور ، وجاء المشركون من
قريش في الطلب فلم يهتدوا إليه مع أنهم يمرون عليه ، وعندها قال النبي صلىاللهعليهوسلم حين رأى جزع الصديق في قوله : يا رسول الله لو أن أحدهم
نظر إلى موضع قدميه لأبصرنا ، فقال : «يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟» وقد قال تعالى : (إِلَّا تَنْصُرُوهُ
فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ
هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا
فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها
وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا
وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة : ٤٠]
فقصة هذا الغار أشرف وأجل وأعظم وأعجب من قصة أصحاب الكهف ، وقد قيل : إن قومهم
ظفروا بهم ووقفوا على باب الغار الذي دخلوه ، فقالوا : ما كنا نريد منهم من
العقوبة أكثر مما فعلوا بأنفسهم ، فأمر الملك بردم بابه عليهم ليهلكوا مكانهم
ففعلوا ذلك ، وفي هذا نظر ، والله أعلم ، فإن الله تعالى قد أخبر أن الشمس تدخل
عليهم في الكهف بكرة وعشيا ، كما قال تعالى :
(وَتَرَى الشَّمْسَ
إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ
تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ
مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ
وَلِيًّا مُرْشِداً)
(١٧)
فهذا فيه دليل على
أن باب هذا الكهف كان من نحو الشمال ، لأنه تعالى أخبر أن الشمس إذا دخلته عند
طلوعها تزاور عنه (ذاتَ الْيَمِينِ) أي يتقلص الفيء يمنة ، كما قال ابن عباس وسعيد بن جبير
وقتادة (تَزاوَرُ) أي تميل ، وذلك أنها كلما ارتفعت في الأفق تقلص شعاعها بارتفاعها
حتى لا يبقى منه شيء عند الزوال في مثل ذلك المكان ، ولهذا قال : (وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ
الشِّمالِ) أي تدخل إلى غارهم من شمال بابه ، وهو من ناحية المشرق ،
فدل على صحة ما قلناه ، وهذا بين لمن تأمله وكان له علم بمعرفة الهيئة وسير الشمس
والقمر والكواكب ، وبيانه أنه لو كان باب الغار من ناحية الشرق لما دخل إليه منها
شيء عند الغروب ، ولو كان من ناحية القبلة لما دخله منها شيء عند الطلوع ولا عند
الغروب ، ولا تزاور الفيء يمينا ولا شمالا ، ولو كان من جهة الغرب لما دخلته وقت
الطلوع بل بعد الزوال ، ولم تزل فيه إلى الغروب ، فتعين ما ذكرناه ، ولله الحمد.
وقال ابن عباس
ومجاهد وقتادة : تقرضهم تتركهم ، وقد أخبر الله تعالى بذلك ، وأراد منا
__________________
فهمه وتدبره ، ولم
يخبرنا بمكان هذا الكهف في أي البلاد من الأرض ، إذ لا فائدة لنا فيه ولا قصد شرعي
، وقد تكلف بعض المفسرين فذكروا فيه أقوالا ، فتقدم عن ابن عباس أنه قال : هو قريب
من أيلة. وقال ابن إسحاق : هو عند نينوى. وقيل : ببلاد الروم. وقيل : ببلاد
البلقاء ، والله أعلم بأي بلاد الله هو ، ولو كان لنا فيه مصلحة دينية لأرشدنا
الله تعالى ورسوله إليه ، فقد قالصلىاللهعليهوسلم : «ما تركت شيئا يقربكم إلى الجنة ويباعدكم من النار إلا
وقد أعلمتكم به» فأعلمنا تعالى بصفته ، ولم يعلمنا بمكانه ، فقال : (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ
تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ) قال مالك عن زيد بن أسلم : تميل (ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ
تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ) أي في متسع منه داخلا بحيث لا تصبيهم ، إذ لو أصابتهم
لأحرقت أبدانهم وثيابهم ، قاله ابن عباس.
(ذلِكَ مِنْ آياتِ
اللهِ) حيث أرشدهم إلى هذا الغار الذي جعلهم فيه أحياء والشمس
والريح تدخل عليهم فيه لتبقى أبدانهم ، ولهذا قال تعالى : (ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ) ، ثم قال : (مَنْ يَهْدِ اللهُ
فَهُوَ الْمُهْتَدِ) الآية ، أي هو الذي أرشد هؤلاء الفتية إلى الهداية من بين
قومهم ، فإنه من هداه الله اهتدى ، ومن أضله فلا هادي له.
(وَتَحْسَبُهُمْ
أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ
وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ
لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً)
(١٨)
ذكر بعض أهل العلم
أنهم لما ضرب الله على آذانهم بالنوم ، لم تنطبق لئلا يسرع إليها البلى ، فإذا
بقيت ظاهرة للهواء كان أبقى لها ، ولهذا قال تعالى : (وَتَحْسَبُهُمْ
أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ) وقد ذكر عن الذئب أنه ينام فيطبق عينا ويفتح عينا ، ثم
يفتح هذه ويطبق هذه وهو راقد ، كما قال الشاعر : [الطويل]
ينام بإحدى
مقلتيه ويتّقي
|
|
بأخرى الرزايا
فهو يقظان نائم
|
وقوله : تعالى : (وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ
الشِّمالِ) قال بعض السلف : يقلبون في العام مرتين. قال ابن عباس : لو
لم يقلبوا لأكلتهم الأرض. قوله (وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ
ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة : الوصيد الفناء
، وقال ابن عباس : بالباب. وقيل : بالصعيد وهو التراب ، والصحيح أنه بالفناء وهو
الباب ، ومنه قوله تعالى : (إِنَّها عَلَيْهِمْ
__________________
مُؤْصَدَةٌ) [الهمزة : ٨] أي
مطبقة مغلقة ، ويقال : وصيد وأصيد ، ربض كلبهم على الباب كما جرت به عادة الكلاب.
قال ابن جريج :
يحرس عليهم الباب ، وهذا من سجيته وطبيعته حيث يربض ببابهم كأنه يحرسهم ، وكان
جلوسه خارج الباب ، لأن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب ، كما ورد في الصحيح : «ولا
صورة ولا جنب ولا كافر» ، كما ورد به الحديث الحسن ، وشملت كلبهم بركتهم فأصابه ما
أصابهم من النوم على تلك الحال ، وهذا فائدة صحبة الأخبار ، فإنه صار لهذا الكلب
ذكر وخبر وشأن. وقد قيل : إنه كان كلب صيد لأحدهم ، وهو الأشبه ، وقيل : كلب طباخ
الملك ، وقد كان وافقهم على الدين وصحبه كلبه ، فالله أعلم.
وقد روى الحافظ
ابن عساكر في ترجمة همام بن الوليد الدمشقي : حدثنا صدقة بن عمر الغساني ، حدثنا
عباد المنقري ، سمعت الحسن البصري يقول : كان اسم كبش إبراهيم عليه الصلاة والسلام
جرير ، واسم هدهد سليمان عليهالسلام عنقز ، واسم كلب أصحاب الكهف قطمير ، واسم عجل بني إسرائيل
الذي عبدوه بهموت ، وهبط آدم عليهالسلام بالهند ، وحواء بجدة ، وإبليس بدست بيسان ، والحية بأصفهان
، وقد تقدم عن شعيب الجبائي أنه سماه حمران ، واختلفوا في لونه على أقوال لا حاصل
لها ولا طائل تحتها ولا دليل عليها ولا حاجة إليها ، بل هي مما ينهى عنه ، فإن
مستندها رجم بالغيب.
وقوله تعالى : (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ
مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً) أي أنه تعالى ألقى عليهم المهابة بحيث لا يقع نظر أحد
عليهم إلا هابهم لما ألبسوا من المهابة والذعر ، لئلا يدنو منهم أحد ولا تمسهم يد
لامس ، حتى يبلغ الكتاب أجله ، وتنقضي رقدتهم التي شاء تبارك وتعالى فيهم ، لما له
في ذلك من الحكمة والحجة البالغة والرحمة الواسعة.
(وَكَذلِكَ
بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ
قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما
لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ
فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ
وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (١٩)
إِنَّهُمْ
إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ
وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً)
(٢٠)
يقول تعالى كما
أرقدناهم بعثناهم صحيحة أبدانهم وأشعارهم وأبصارهم لم يفقدوا من أحوالهم وهيآتهم
شيئا وذلك بعد ثلاثمائة سنة وتسع سنين ، ولهذا تساءلوا بينهم (كَمْ لَبِثْتُمْ) أي كم رقدتم؟ (قالُوا لَبِثْنا
يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) لأنه كان دخولهم إلى الكهف في أول نهار ، واستيقاظهم كان
في آخر نهار ، ولهذا استدركوا فقالوا : (أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ
قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما
__________________
لَبِثْتُمْ) أي الله أعلم بأمركم ، وكأنه حصل لهم نوع تردد في كثرة
نومهم ، فالله أعلم ، ثم عدلوا إلى الأهم في أمرهم إذ ذاك ، وهو احتياجهم إلى
الطعام والشراب ، فقالوا : (فَابْعَثُوا
أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ) أي فضتكم هذه ، وذلك أنهم كانوا قد استصحبوا معهم دراهم من
منازلهم لحاجتهم إليها ، فتصدقوا منها وبقي منها ، فلهذا قالوا : (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ
هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ) أي مدينتكم التي خرجتم منها ، والألف واللام للعهد.
(فَلْيَنْظُرْ أَيُّها
أَزْكى طَعاماً) أي أطيب طعاما. كقوله : (وَلَوْ لا فَضْلُ
اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً) [النور : ٣١]
وقوله : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ
تَزَكَّى) [الأعلى: ١٤] ومنه الزكاة التي تطيب المال وتطهره ، وقيل :
أكثر طعاما ، ومنه زكا الزرع إذا كثر ، قال الشاعر : [الطويل]
قبائلنا سبع
وأنتم ثلاثة
|
|
والسّبع أزكى من
ثلاث وأطيب
|
والصحيح الأول ،
لأن مقصودهم إنما هو الطيب الحلال سواء كان كثيرا أو قليلا. وقوله (وَلْيَتَلَطَّفْ) أي في خروجه وذهابه وشرائه وإيابه ، يقولون : وليختف كل ما
يقدر عليه (وَلا يُشْعِرَنَ) أي ولا يعلمن (بِكُمْ أَحَداً
إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ) أي إن علموا بمكانكم (يَرْجُمُوكُمْ أَوْ
يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ) يعنون أصحاب دقيانوس يخافون منهم أن يطلعوا على مكانهم ،
فلا يزالون يعذبونهم بأنواع العذاب إلى أن يعيدوهم في ملتهم التي هم عليها ، أو
يموتوا ، وإن وافقتموهم على العود في الدين فلا فلاح لكم في الدنيا ولا في الآخرة
، ولهذا قال : (وَلَنْ تُفْلِحُوا
إِذاً أَبَداً).
(وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا
عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ
فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ
بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ
لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً)
(٢١)
يقول تعالى : (وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ) أي أطلعنا عليهم الناس (لِيَعْلَمُوا أَنَّ
وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها) ذكر غير واحد من السلف أنه كان قد حصل لأهل ذلك الزمان شك
في البعث وفي أمر القيامة. وقال عكرمة : كان منهم طائفة قد قالوا تبعث الأرواح ولا
تبعث الأجساد ، فبعث الله أهل الكهف حجة ودلالة وآية على ذلك ، وذكروا أنه لما
أراد أحدهم الخروج ليذهب إلى المدينة في شراء لهم ليأكلوه ، تنكر وخرج يمشي في غير
الجادة حتى انتهى
__________________
إلى المدينة ،
وذكروا أن اسمها دقسوس ، وهو يظن أنه قريب العهد بها ، وكان الناس قد تبدلوا قرنا
بعد قرن وجيلا بعد جيل وأمة بعد أمة ، وتغيرت البلاد ومن عليها ، كما قال الشاعر :
[الطويل]
أما الديار
فإنها كديارهم
|
|
وأرى رجال الحي
غير رجاله
|
فجعل لا يرى شيئا
من معالم البلد التي يعرفها ، ولا يعرف أحدا من أهلها : لا خواصها ولا عوامها ،
فجعل يتحير في نفسه ويقول : لعل بي جنونا أو مسا أو أنا حالم ، ويقول : والله ما
بي شيء من ذلك ، وإن عهدي بهذه البلدة عشية أمس على غير هذه الصفة. ثم قال : إن
تعجيل الخروج من هاهنا لأولى لي ، ثم عمد إلى رجل ممن يبيع الطعام ، فدفع إليه ما
معه من النفقة ، وسأله أن يبيعه بها طعاما ، فلما رآها ذلك الرجل أنكرها وأنكر
ضربها ، فدفعها إلى جاره ، وجعلوا يتداولونها بينهم ويقولون : لعل هذا وجد كنزا ،
فسألوه عن أمره ومن أين له هذه النفقة ، لعله وجدها من كنز وممن أنت؟ فجعل يقول :
أنا من أهل هذه البلدة ، وعهدي بها عشية أمس وفيها دقيانوس ، فنسبوه إلى الجنون ،
فحملوه إلى ولي أمرهم فسأله عن شأنه وخبره حتى أخبرهم بأمره ، وهو متحير في حاله
وما هو فيه ، فلما أعلمهم بذلك قاموا معه إلى الكهف ـ ملك البلد وأهلها ـ حتى
انتهى بهم إلى الكهف فقال لهم : دعوني حتى أتقدمكم في الدخول لأعلم أصحابي فدخل ،
فيقال إنهم لا يدرون كيف ذهب فيه ، وأخفى الله عليهم خبرهم ، ويقال بل دخلوا عليهم
ورأوهم ، وسلم عليهم الملك واعتنقهم ، وكان مسلما فيما قيل ، واسمه تيدوسيس ،
ففرحوا به وآنسوه بالكلام ، ثم ودعوه وسلموا عليه ، وعادوا إلى مضاجعهم ، وتوفاهم
الله عزوجل ، فالله أعلم.
قال قتادة : غزا
ابن عباس مع حبيب بن مسلمة ، فمروا بكهف في بلاد الروم ، فرأوا فيه عظاما فقال
قائل : هذه عظام أهل الكهف ، فقال ابن عباس : لقد بليت عظامهم من أكثر من ثلاثمائة
سنة ، رواه ابن جرير.
وقوله : (وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ) أي كما أرقدناهم وأيقظناهم بهيئاتهم ، أطلعنا عليهم أهل
ذلك الزمان (لِيَعْلَمُوا أَنَّ
وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ
بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ) أي في أمر القيامة ، فمن مثبت لها ومن منكر ، فجعل الله
ظهورهم على أصحاب الكهف حجة لهم وعليهم (فَقالُوا ابْنُوا
عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ) أي سدوا عليهم باب كهفهم ، وذروهم على حالهم (قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى
أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) حكى ابن جرير في القائلين ذلك قولين [أحدهما] أنهم
المسلمون منهم. [والثاني] أهل الشرك منهم ، فالله أعلم.
والظاهر أن الذين
قالوا ذلك هم أصحاب الكلمة والنفوذ ، ولكن هل هم محمودون أم لا؟
فيه نظر ، لأن
النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم
وصالحيهم مساجد» يحذر ما فعلوا ، وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب
رضي الله عنه أنه لما وجد قبر دانيال في زمانه بالعراق ، أمر أن يخفى عن الناس ،
وأن تدفن تلك الرقعة التي وجدوها عنده ، فيها شيء من الملاحم وغيرها.
(سَيَقُولُونَ
ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً
بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ
بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً
ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً)
(٢٢)
يقول تعالى مخبرا
عن اختلاف الناس في عدة أصحاب الكهف ، فحكى ثلاثة أقوال ، فدل على أنه لا قائل
برابع ، ولما ضعف القولين الأولين بقوله : (رَجْماً بِالْغَيْبِ) أي قولا بلا علم ، كمن يرمي إلى مكان لا يعرفه ، فإنه لا
يكاد يصيب وإن أصاب فبلا قصد. ثم حكى الثالث وسكت عليه أو قرره بقوله : (وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) فدل على صحته ، وأنه هو الواقع في نفس الأمر. وقوله : (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ) إرشاد إلى أن الأحسن في مثل هذا المقام رد العلم إلى الله
تعالى ، إذ لا احتياج إلى الخوض في مثل ذلك بلا علم ، لكن إذا أطلعنا على أمر قلنا
به وإلا وقفنا.
وقوله : (ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ) أي من الناس. قال قتادة : قال ابن عباس : أنا من القليل
الذي استثنى الله عزوجل ، كانوا سبعة. وكذا روى ابن جرير عن عطاء الخراساني عنه
أنه كان يقول أنا ممن استثنى الله عزوجل ويقول عدتهم سبعة ، وقال ابن جرير : حدثنا ابن يسار حدثنا عبد الرحمن حدثنا إسرائيل عن سماك
عن عكرمة عن ابن عباس (ما يَعْلَمُهُمْ
إِلَّا قَلِيلٌ) قال أنا من القليل كانوا سبعة فهذه أسانيد صحيحة إلى ابن
عباس أنهم كانوا سبعة ، وهو موافق لما قدمناه.
وقال محمد بن
إسحاق بن يسار عن عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد قال : لقد حدثت أنه كان على بعضهم
من حداثة سنه وضح الورق. قال ابن عباس : فكانوا كذلك ليلهم ونهارهم في عبادة الله
يبكون ويستغيثون بالله ، وكانوا ثمانية نفر : مكسلمينا وكان أكبرهم وهو الذي كلم
الملك عنهم ، وتمليخا ومرطونس وكسطونس وبيرونس ودنيموس ويطونس وقالوش ، هكذا وقع
في هذه الرواية ، ويحتمل أن هذا من كلام ابن إسحاق أو من بينه وبينه ، فإن الصحيح
عن ابن عباس أنهم كانوا سبعة ، وهو ظاهر الآية ، وقد تقدم عن شعيب الجبائي أن اسم
كلبهم حمران ، وفي تسميتهم بهذه الأسماء واسم كلبهم نظر في صحته ، والله أعلم ،
فإن غالب ذلك
__________________
متلقى من أهل
الكتاب ، وقد قال تعالى : (فَلا تُمارِ فِيهِمْ
إِلَّا مِراءً ظاهِراً) أي سهلا هينا ، فإن الأمر في معرفة ذلك لا يترتب عليه كبير
فائدة (وَلا تَسْتَفْتِ
فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً) أي فإنهم لا علم لهم بذلك إلا ما يقولونه من تلقاء أنفسهم
رجما بالغيب ، أي من غير استناد إلى كلام معصوم ، وقد جاءك الله يا محمد بالحق
الذي لا شك فيه ولا مرية فيه ، فهو المقدم الحاكم على كل ما تقدمه من الكتب
والأقوال.
(وَلا تَقُولَنَّ
لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٣) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ
اللهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي
لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً)
(٢٤)
هذا إرشاد من الله
تعالى لرسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى الأدب فيما إذا عزم على شيء ليفعله في المستقبل أن يرد
ذلك إلى مشيئة الله عزوجل ، علام الغيوب الذي يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو
كان كيف يكون ، كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «قال سليمان بن داود عليهماالسلام : لأطوفن الليلة
على سبعين امرأة ـ وفي رواية : تسعين امرأة ، وفي رواية : مائة امرأة ـ تلد كل
امرأة منهن غلاما يقاتل في سبيل الله ، فقيل له ـ وفي رواية قال له الملك : قل إن
شاء الله ، فلم يقل ، فطاف بهم فلم يلد منهن إلا امرأة واحدة نصف إنسان ، فقال
رسول الله صلىاللهعليهوسلم ـ والذي نفسي بيده ، لو قال إن شاء الله لم يحنث ، وكان
دركا لحاجته» وفي رواية «ولقاتلوا في سبيل الله فرسانا أجمعين» وقد تقدم في أول السورة ذكر سبب نزول هذه الآية في قول
النبي صلىاللهعليهوسلم لما سئل عن قصة أصحاب الكهف «غدا أجيبكم» فتأخر الوحي خمسة
عشر يوما ، وقد ذكرناه بطوله في أول السورة ، فأغنى عن إعادته.
وقوله : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) قيل معناه إذا نسيت الاستثناء ، فاستثن عند ذكرك له ، قاله
أبو العالية والحسن البصري ، وقال هشيم عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس في الرجل يحلف
قال : له أن يستثني ولو إلى سنة ، وكان يقول : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ
إِذا نَسِيتَ) ذلك ، قيل للأعمش : سمعته عن مجاهد؟ فقال : حدثني به ليث
بن أبي سليم يرى ذهب كسائي هذا ، ورواه الطبراني من حديث أبي معاوية عن الأعمش به.
ومعنى قول ابن عباس أنه يستثني ولو بعد سنة ، أي إذا نسي أن يقول في حلفه أو في
كلامه إن شاء الله؟؟؟ وذكر ولو بعد سنة ، فالسنة له أن يقول ذلك ، ليكون آتيا بسنة
الاستثناء حتى ولو كان بعد الحنث ، قاله ابن جرير رحمهالله ، ونص على ذلك لا أن يكون رافعا لحنث اليمين ومسقطا
للكفارة ، وهذا الذي قاله ابن جرير رحمهالله هو الصحيح ، وهو الأليق بحمل كلام ابن عباس عليه ، والله
أعلم.
وقال عكرمة (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) إذا غضبت وهذا تفسير باللازم. وقال الطبراني:
__________________
حدثنا محمد بن
الحارث الجبلي ، حدثنا صفوان بن صالح ، حدثنا الوليد بن مسلم عن عبد العزيز بن
حصين ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس في قوله (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ
ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) أن تقول إن شاء الله ، وروى الطبراني أيضا عن ابن عباس في
قوله : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ
إِذا نَسِيتَ) الاستثناء فاستثن إذا ذكرت ، وقال : هي خاصة برسول الله صلىاللهعليهوسلم وليس لأحد منا أن يستثني إلا في صلة من يمينه ، ثم قال :
انفرد به الوليد عن عبد العزيز بن الحصين ، ويحتمل في الآية وجه آخر وهو أن يكون
الله تعالى قد أرشد من نسي الشيء في كلامه إلى ذكر الله تعالى ، لأن النسيان منشؤه
من الشيطان ، كما قال فتى موسى : (وَما أَنْسانِيهُ
إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ) [الكهف : ٦٣] وذكر
الله تعالى يطرد الشيطان فإذا ذهب الشيطان ذهب النسيان ، فذكر الله تعالى سبب
للذكر ، ولهذا قال : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ
إِذا نَسِيتَ) وقوله : (وَقُلْ عَسى أَنْ
يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً) أي إذا سئلت عن شيء لا تعلمه ، فاسأل الله تعالى فيه ،
وتوجه إليه في أن يوفقك للصواب والرشد في ذلك ، وقيل في تفسيره غير ذلك ، والله
أعلم.
(وَلَبِثُوا فِي
كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (٢٥) قُلِ اللهُ أَعْلَمُ
بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما
لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً)
(٢٦)
هذا خبر من الله
تعالى لرسوله صلىاللهعليهوسلم بمقدار ما لبث أصحاب الكهف في كهفهم منذ أرقدهم إلى أن
بعثهم الله وأعثر عليهم أهل ذلك الزمان ، وأنه كان مقداره ثلاثمائة سنة تزيد تسع
سنين بالهلالية ، وهي الثلثمائة سنة بالشمسية ، فإن تفاوت ما بين كل مائة سنة
بالقمرية إلى الشمسية ثلاث سنين ، فلهذا قال : بعد الثلاثمائة وازدادوا تسعا.
وقوله : (قُلِ اللهُ أَعْلَمُ
بِما لَبِثُوا) أي إذا سئلت عن لبثهم وليس عندك علم في ذلك وتوقيف من الله
تعالى فلا تتقدم فيه بشيء ، بل قل في مثل هذا (اللهُ أَعْلَمُ بِما
لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي لا يعلم ذلك إلا هو ومن أطلعه عليه من خلقه ، وهذا الذي
قلناه عليه غير واحد من علماء التفسير كمجاهد وغير واحد من السلف والخلف.
وقال قتادة في
قوله : (وَلَبِثُوا فِي
كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ) الآية ، هذا قول أهل الكتاب ، وقد ردّه الله تعالى بقوله :
(قُلِ اللهُ أَعْلَمُ
بِما لَبِثُوا) قال : وفي قراءة عبد الله وقالوا : (وَلَبِثُوا) ، يعني أنه قاله الناس ، وهكذا قال كما قال قتادة مطرف بن عبد الله ، وفي هذا
الذي زعمه قتادة نظر ، فإن الذي بأيدي أهل الكتاب أنهم لبثوا ثلاثمائة سنة من غير
تسع ، يعنون بالشمسية ، ولو كان الله قد حكى قولهم لما قال : وازدادوا تسعا ،
والظاهر من الآية إنما هو إخبار من الله لا حكاية عنهم ، وهذا اختيار ابن جرير رحمهالله ، ورواية قتادة قراءة ابن مسعود منقطعة ، ثم
__________________
هي شاذة بالنسبة
إلى قراءة الجمهور ، فلا يحتج بها ، والله أعلم.
وقوله : (أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ) أي أنه لبصير بهم سميع لهم ، قال ابن جرير : وذلك في معنى المبالغة في المدح ، كأنه قيل : ما أبصره
وأسمعه ، وتأويل الكلام ما أبصر الله لكل موجود ، وأسمعه لكل مسموع ، لا يخفى عليه
من ذلك شيء. ثم روي عن قتادة في قوله : (أَبْصِرْ بِهِ
وَأَسْمِعْ) فلا أحد أبصر من الله ولا أسمع. وقال ابن زيد (أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ) يرى أعمالهم ويسمع ذلك منهم سميعا بصيرا. وقوله : (ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ
وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً) أي أنه تعالى هو الذي له الخلق والأمر ، الذي لا معقب
لحكمه ، وليس له وزير ولا نصير ولا شريك ولا مشير ، تعالى وتقدس.
(وَاتْلُ ما أُوحِيَ
إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ
دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٧) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ
مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ
وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ
مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ
فُرُطاً)
(٢٨)
يقول تعالى آمرا
رسوله صلىاللهعليهوسلم بتلاوة كتابه العزيز وإبلاغه إلى الناس (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) أي لا مغير لها ولا محرّف ولا مزيل. وقوله : (وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) عن مجاهد ملتحدا قال : ملجأ. وعن قتادة : وليا ولا مولى.
قال ابن جرير : يقول إن أنت يا محمد لم تتل ما أوحي إليك من كتاب ربك ، فإنه لا
ملجأ لك من الله ، كما قال تعالى : (يا أَيُّهَا
الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما
بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة : ٦٧]
وقال : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ
عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) [القصص : ٨٥] أي
سائلك عما فرض عليك من إبلاغ الرسالة.
وقوله : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ
رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) أي اجلس مع الذين يذكرون الله ويهللونه ويحمدونه ويسبحونه
ويكبرونه ويسألونه بكرة وعشيا ، من عباد الله سواء كانوا فقراء أو أغنياء ، أو
أقوياء أو ضعفاء ، أو ضعفاء يقال : إنها نزلت في أشراف قريش حين طلبوا من النبي صلىاللهعليهوسلم أن يجلس معهم ، وحده ، ولا يجالسهم بضعفاء أصحابه ، كبلال
وعمار وصهيب وخباب وابن مسعود ، وليفرد أولئك بمجلس على حدة ، فنهاه الله عن ذلك
فقال : (وَلا تَطْرُدِ
الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) الآية ، وأمره أن يصبر نفسه في الجلوس مع هؤلاء ، فقال (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ
يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) [الأنعام: ٥٢] الآية.
وقال مسلم في
صحيحه : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا محمد بن عبد الله الأسدي عن إسرائيل عن
المقدام بن شريح عن أبيه عن سعد هو ابن أبي وقاص قال : كنا مع النبيصلىاللهعليهوسلم ستة نفر
__________________
فقال المشركون
للنبي صلىاللهعليهوسلم : اطرد هؤلاء لا يجترءون علينا قال : وكنت أنا وابن مسعود
ورجل من هذيل وبلال ، ورجلان نسيت اسميهما ، فوقع في نفس رسول الله صلىاللهعليهوسلم ما يشاء الله أن يقع ، فحدث نفسه ، فأنزل الله عزوجل (وَلا تَطْرُدِ
الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري.
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة عن أبي التياح قال :
سمعت أبا الجعد يحدث عن أبي أمامة قال : خرج رسول الله صلىاللهعليهوسلم على قاص يقص فأمسك ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «قص ، فلأن أقعد
غدوة إلى أن تشرق الشمس أحب إلي من أن أعتق أربع رقاب». وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا هاشم
: حدثنا شعبة عن عبد الملك بن ميسرة قال : سمعت كردوس بن قيس ، وكان قاص العامة
بالكوفة ، يقول : أخبرني رجل من أصحاب بدر أنه سمع النبي صلىاللهعليهوسلم يقول : «لأن أقعد في مثل هذا المجلس أحب إلي من أن أعتق
أربع رقاب» قال شعبة : فقلت أي مجلس؟ قال : كان قاصا.
وقال أبو داود
الطيالسي في مسنده : حدثنا محمد ، حدثنا يزيد بن أبان عن أنس قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لأن أجالس قوما يذكرون الله من صلاة الغداة إلى طلوع
الشمس أحب إلي مما طلعت عليه الشمس ، ولأن أذكر الله من صلاة العصر إلى غروب الشمس
أحب إلي من أن أعتق ثمانية من ولد إسماعيل ، دية كل واحد منهم اثنا عشر ألفا»
فحسبنا دياتهم ونحن في مجلس أنس ، فبلغت ستة وتسعين ألفا وهاهنا من يقول أربعة من
ولد إسماعيل ، والله ما قال إلا ثمانية ، دية كل واحد منهم اثنا عشر ألفا.
وقال الحافظ أبو
بكر البزار : حدثنا محمد بن إسحاق الأهوازي ، حدثنا أبو أحمد الزبيري ، حدثنا عمرو
بن ثابت عن علي بن الأقمر ، عن الأغر أبي مسلم وهو الكوفي أن رسول اللهصلىاللهعليهوسلم مر برجل يقرأ سورة الكهف ، فلما رأى النبي صلىاللهعليهوسلم سكت ، فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «هذا المجلس الذي أمرت أن أصبر نفسي معهم» ، هكذا رواه
أبو أحمد عن عمرو بن ثابت ، عن علي بن الأقمر ، عن الأغر مرسلا. وحدثنا يحيى بن
المعلى عن المنصور ، حدثنا محمد بن الصلت ، حدثنا عمرو بن ثابت عن علي بن الأقمر ،
عن الأغر أبي مسلم ، عن أبي هريرة وأبي سعيد ، قالا : جاء رسول الله صلىاللهعليهوسلم ورجل يقرأ سورة الحجر ، أو سورة الكهف ، فسكت ، فقال رسول
الله صلىاللهعليهوسلم : «هذا المجلس الذي أمرت أن أصبر نفسي معهم».
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن بكر ، حدثنا ميمون المرئي ، حدثنا ميمون
بن سياه
__________________
عن أنس بن مالك
رضي الله عنه ، عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «ما من قوم اجتمعوا يذكرون الله لا يريدون بذلك إلا
وجهه ، إلا ناداهم مناد من السماء : أن قوموا مغفورا لكم قد بدلت سيئاتكم حسنات»
تفرد به أحمد رحمهالله. وقال الطبراني : حدثنا إسماعيل بن الحسن ، حدثنا أحمد بن
صالح ، حدثنا ابن وهب عن أسامة بن زيد ، عن أبي حازم ، عن عبد الرحمن بن سهل بن
حنيف قال : نزلت على رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو في بعض أبياته.
(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ
مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) الآية ، فخرج يتلمسهم ، فوجد قوما يذكرون الله تعالى ،
منهم ثائر الرأس وجاف الجلد وذو الثوب الواحد ، فلما رآهم جلس معهم وقال : «الحمد
لله الذي جعل في أمتي من أمرني الله أن أصبر نفسي معهم» عبد الرحمن هذا ، ذكره أبو
بكر بن أبي داود في الصحابة. وأما أبوه فمن سادات الصحابة رضي الله عنهم.
وقوله (وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ
زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) قال ابن عباس : ولا تجاوزهم إلى غيرهم ، يعني تطلب بدلهم
أصحاب الشرف والثروة ، (وَلا تُطِعْ مَنْ
أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا) أي شغل عن الدين وعبادة ربه بالدنيا ، (وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) أي أعماله وأفعاله سفه وتفريط وضياع ، ولا تكن مطيعا ولا
محبا لطريقته ، ولا تغبطه بما هو فيه ، كما قال : (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ
إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا
لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى) [طه : ١٣١].
(وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ
رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا
لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا
بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً)
(٢٩)
يقول تعالى لرسوله
محمد صلىاللهعليهوسلم : وقل يا محمد للناس هذا الذي جئتكم به من ربكم هو الحق
الذي لا مرية فيه ولا شك (فَمَنْ شاءَ
فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) هذا من باب التهديد والوعيد الشديد ، ولهذا قال : (إِنَّا أَعْتَدْنا) أي أرصدنا (لِلظَّالِمِينَ) وهم الكافرون بالله ورسوله وكتابه (ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها) أي سورها. قال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا دراج عن
أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخدري ، عن رسول اللهصلىاللهعليهوسلم أنه قال : «لسرادق النار أربعة جدر ، كثافة كل جدار مثل
مسافة أربعين سنة» وأخرجه الترمذي في صفة النار ، وابن جرير في تفسيره ، من حديث دراج أبي السمح به.
وقال ابن جريج :
قال ابن عباس : (أَحاطَ بِهِمْ
سُرادِقُها) قال : حائط من نار. قال ابن جرير : حدثني الحسين بن نصر والعباس بن محمد قالا : حدثنا أبو
عاصم عن عبد الله بن
__________________
أمية ، حدثني محمد
بن حيي بن يعلى عن صفوان بن يعلى ، عن يعلى بن أمية قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «البحر هو جهنم» قال : فقيل له كيف ذلك؟ فتلا هذه الآية
، أو قرأ هذه الآية (ناراً أَحاطَ بِهِمْ
سُرادِقُها) ثم قال «والله لا أدخلها أبدا أو ما دمت حيا لا تصيبني
منها قطرة».
وقوله (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ
كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ) الآية ، قال ابن عباس : المهل : الماء الغليظ مثل دردي
الزيت ، وقال مجاهد : هو كالدم والقيح. وقال عكرمة : هو الشيء الذي انتهى حره. وقال
آخرون : هو كل شيء أذيب. وقال قتادة : أذاب ابن مسعود شيئا من الذهب في أخدود ،
فلما انماع وأزبد ، قال : هذا أشبه شيء بالمهل. وقال الضحاك : ماء جهنم أسود وهي
سوداء وأهلها سود ، وهذه الأقوال ليس شيء منها ينفي الآخر ، فإن المهل يجمع هذه
الأوصاف الرذيلة كلها ، فهو أسود منتن غليظ حار ، ولهذا قال : (يَشْوِي الْوُجُوهَ) أي من حره ، إذا أراد الكافر أن يشربه وقربه من وجهه شواه
حتى تسقط جلدة وجهه فيه.
كما جاء في الحديث
الذي رواه الإمام أحمد بإسناده المتقدم في سرادق النار عن أبي سعيد الخدري عن
رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «ماء كالمهل ـ قال ـ كعكر الزيت فإذا قربه إليه
سقطت فروة وجهه فيه» وهكذا رواه الترمذي في صفة النار من جامعه من حديث رشدين بن سعد عن عمرو بن
الحارث ، عن دراج به ، ثم قال : لا نعرفه إلا من حديث رشدين ، وقد تكلم فيه من قبل
حفظه هكذا ، قال : وقد رواه الإمام أحمد كما تقدم عن حسن الأشيب ، عن ابن لهيعة ،
عن دراج ، والله أعلم.
وقال عبد الله بن
المبارك وبقية بن الوليد : عن صفوان بن عمرو ، عن عبد الله بن يسر ، عن أبي أمامة
، عن النبي صلىاللهعليهوسلم في قوله : (وَيُسْقى مِنْ ماءٍ
صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ) ، قال : «يقرب إليه فيتكرهه ، فإذا قرب منه شوى وجهه ووقعت
فروة رأسه ، فإذا شربه قطع أمعاءه ، يقول الله تعالى : (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ
كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ) . وقال سعيد بن جبير : إذا جاع أهل النار استغاثوا ،
فأغيثوا بشجرة الزقوم فيأكلون منها ، فاختلت جلود وجوههم ، فلو أن مارا مر بهم
يعرفهم ، لعرف جلود وجوههم فيها ، ثم يصب عليهم العطش فيستغيثون ، فيغاثون بماء
كالمهل وهو الذي قد انتهى حره ، فإذا أدنوه من أفواههم اشتوى من حره لحوم وجوههم
التي قد سقطت عنها الجلود ، ولهذا قال تعالى بعد وصفه هذا الشراب بهذه الصفات
الذميمة القبيحة (بِئْسَ الشَّرابُ) أي بئس هذا الشراب ، كما قال في الآية الأخرى (وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ
أَمْعاءَهُمْ) [محمد : ١٥] وقال
تعالى : (تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ)
__________________
[الغاشية : ٥] أي
حارة ، كما قال تعالى : (وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) [الرحمن : ٤٤] (وَساءَتْ مُرْتَفَقاً) أي وساءت النار منزلا ومقيلا ومجتمعا وموضعا للارتفاق ،
كما قال في الآية الأخرى (إِنَّها ساءَتْ
مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) [الفرقان : ٦٦].
(إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (٣٠)
أُولئِكَ
لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها
مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ
وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ
مُرْتَفَقاً)
(٣١)
لما ذكر تعالى حال
الأشقياء ، ثنى بذكر السعداء الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين فيما جاءوا به ،
وعملوا بما أمروهم به من الأعمال الصالحة ، فلهم جنات عدن ، والعدن : الإقامة ، (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) أي من تحت غرفهم ومنازلهم ، قال فرعون (وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِي) [الزخرف : ٥١]
الآية ، (يُحَلَّوْنَ) أي من الحلية (فِيها مِنْ أَساوِرَ
مِنْ ذَهَبٍ) وقال في المكان الآخر (وَلُؤْلُؤاً
وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) [فاطر : ٣٣] وفصله
هاهنا ، فقال (وَيَلْبَسُونَ
ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ) فالسندس ثياب رفاع رقاق كالقمصان وما جرى مجراها. وأما
الإستبرق فغليظ الديباج وفيه بريق.
وقوله : (مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ) الاتكاء قيل الاضطجاع ، وقيل التربع في الجلوس وهو أشبه
بالمراد هاهنا ، ومنه الحديث الصحيح «أما أنا فلا آكل متكئا» ، فيه القولان : والأرائك جمع أريكة ، وهي السرير تحت
الحجلة ، والحجلة كما يعرفه الناس في زماننا هذا بالباشخاناه ، والله أعلم. قال
عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن قتادة (عَلَى الْأَرائِكِ) قال : هي الحجال ، قال معمر وقال غيره : السرر في الحجال.
وقوله : (نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ
مُرْتَفَقاً) أي نعمت الجنة ثوابا على أعمالهم وحسنت مرتفقا ، أي حسنت
منزلا ومقيلا ومقاما ، كما قال في النار (بِئْسَ الشَّرابُ
وَساءَتْ مُرْتَفَقاً) وهكذا قابل بينهما في سورة الفرقان في قوله : (إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) [الفرقان : ٦٦] ،
ثم ذكر صفات المؤمنين ، فقال (أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ
الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً خالِدِينَ
فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) [الفرقان : ٧٥ ـ ٧٦].
(وَاضْرِبْ لَهُمْ
مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ
وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (٣٢)
كِلْتَا
الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا
خِلالَهُما نَهَراً (٣٣) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ
فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ
__________________
أَنَا
أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (٣٤) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ
وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (٣٥)
وَما
أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً
مِنْها مُنْقَلَباً)
(٣٦)
يقول تعالى بعد
ذكره المشركين المستكبرين عن مجالسة الضعفاء والمساكين من المسلمين ، وافتخروا
عليهم بأموالهم وأحسابهم ، فضرب لهم مثلا برجلين جعل الله لأحدهما جنتين ، أي
بستانين من أعناب ، محفوفتين بالنخيل ، المحدقة في جنباتهما وفي خلالهما الزروع ،
وكل من الأشجار والزروع مثمر مقبل في غاية الجودة ، ولهذا قال : (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها) أي أخرجت ثمرها ، (وَلَمْ تَظْلِمْ
مِنْهُ شَيْئاً) أي ولم تنقص منه شيئا ، (وَفَجَّرْنا
خِلالَهُما نَهَراً) أي والأنهار متفرقة فيهما هاهنا وهاهنا ، (وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ) قيل : المراد به المال ، روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة.
وقيل : الثمار ، وهو أظهر هاهنا ويؤيده القراءة الأخرى (وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ) بضم الثاء وتسكين الميم ، فيكون جمع ثمرة كخشبة وخشب. وقرأ
آخرون ثمر بفتح الثاء والميم ، فقال أي صاحب هاتين الجنتين لصاحبه وهو يحاوره ، أي
يجادله ، ويخاصمه يفتخر عليه ويترأس (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ
مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً) أي أكثر خدما وحشما وولدا ، قال قتادة : تلك والله أمنية
الفاجر ، كثرة المال وعزة النفر.
وقوله : (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ
لِنَفْسِهِ) أي بكفره وتمرده وتكبره وتجبره وإنكار المعاد (قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ
أَبَداً) وذلك اغترارا منه لما رأى فيها من الزروع والثمار والأشجار
، والأنهار المطردة في جوانبها وأرجائها ، ظن أنها لا تفنى ولا تفرغ ولا تهلك ولا
تتلف ، ذلك لقلة عقله ، وضعف يقينه بالله ، وإعجابه بالحياة الدنيا وزينتها ،
وكفره بالآخرة ، ولهذا قال : (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ
قائِمَةً) أي كائنة (وَلَئِنْ رُدِدْتُ
إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً) أي ولئن كان معاد ورجعة ومرد إلى الله ليكونن لي هناك أحسن
من هذا الحظ عند ربي ، ولولا كرامتي عليه ما أعطاني هذا ، كما قال في الآية الأخرى
(وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى
رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) [فصلت : ٥٠] وقال (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي
كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً) [مريم : ٧٧] أي في
الدار الآخرة تألى على الله عزوجل. وكان سبب نزولها في العاص بن وائل ، كما سيأتي بيانه في
موضعه إن شاء الله ، وبه الثقة وعليه التكلان.
(قالَ لَهُ صاحِبُهُ
وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ
ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (٣٧)
لكِنَّا
هُوَ اللهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (٣٨) وَلَوْ لا إِذْ
دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ إِنْ تَرَنِ
أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (٣٩)
فَعَسى
رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً
مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (٤٠) أَوْ يُصْبِحَ
ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً)
(٤١)
يقول تعالى مخبرا
عما أجابه به صاحبه المؤمن ، واعظا له وزاجرا عما هو فيه من الكفر بالله والاغترار
(أَكَفَرْتَ بِالَّذِي
خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ) الآية ، وهذا إنكار وتعظيم لما وقع فيه من جحود
ربه الذي خلقه ،
وابتدأ خلق الإنسان من طين وهو آدم ، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ، كما قال
تعالى : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ
بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) [البقرة : ٢٨]
الآية ، أي كيف تجحدون ربكم ودلالته عليكم ظاهرة جلية ، كل أحد يعلمها من نفسه ،
فإنه ما من أحد من المخلوقات إلا ويعلم أنه كان معدوما ، ثم وجد وليس وجوده من
نفسه ولا مستندا إلى شيء من المخلوقات ، لأنه بمثابته ، فعلم إسناد إيجاده إلى
خالقه ، وهو الله لا إله إلا هو خالق كل شيء ، ولهذا قال المؤمن (لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي) أي لكن أنا لا أقول بمقالتك بل أعترف لله بالوحدانية
والربوبية ، (وَلا أُشْرِكُ
بِرَبِّي أَحَداً) أي بل هو الله المعبود وحده لا شريك له.
ثم قال : (وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ
قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ
مالاً وَوَلَداً) هذا تحضيض وحث على ذلك ، أي هلا إذ أعجبتك حين دخلتها
ونظرت إليها ، حمدت الله ما أنعم به عليك وأعطاك من المال والولد ما لم يعطه غيرك
، وقلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله ، ولهذا قال بعض السلف : من أعجبه شيء من
حاله أو ماله أو ولده ، فليقل : ما شاء الله لا قوة إلا بالله ، وهذا مأخوذ من هذه
الآية الكريمة. وقد روي فيه حديث مرفوع ، أخرجه الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده
: حدثنا جراح بن مخلد ، حدثنا عمر بن يونس ، حدثنا عيسى بن عون ، حدثنا عبد الملك
بن زرارة عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم : «ما أنعم الله على عبد نعمة من أهل أو مال أو ولد ،
فيقول ما شاء الله لا قوة إلا بالله ، فيرى فيه آفة دون الموت» وكان يتأول هذه
الآية (وَلَوْ لا إِذْ
دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ) قال الحافظ أبو الفتح الأزدي : عيسى بن عون عن عبد الملك
بن زرارة عن أنس لا يصح حديثه.
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة وحجاج ، حدثني شعبة عن
عاصم بن عبيد الله عن عبيد مولى أبي رهم ، عن أبي هريرة عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ لا قوة إلا
بالله» تفرد به أحمد. وقد ثبت في الصحيح عن أبي موسى أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ لا حول ولا قوة
إلا بالله» .
وقال الإمام أحمد : حدثنا بكر بن عيسى ، حدثنا أبو عوانة عن أبي بلج عن عمرو
بن ميمون قال : قال أبو هريرة : قال لي رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «يا أبا هريرة ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة تحت العرش؟»
قال : قلت نعم فداك أبي وأمي. قال : «أن تقول لا قوة إلا بالله» قال أبو بلج :
وأحسب أنه قال فإن الله يقول أسلم عبدي واستسلم» قال فقلت لعمرو : قال أبو بلج: قال
عمرو : قلت لأبي هريرة لا حول ولا قوة إلا بالله ، فقال : لا إنها في سورة الكهف (وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ
قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ).
__________________
وقوله : (فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً
مِنْ جَنَّتِكَ) أي في الدار الآخرة (وَيُرْسِلَ عَلَيْها) أي على جنتك في الدنيا التي ظننت أنها لا تبيد ولا تفنى (حُسْباناً مِنَ السَّماءِ) قال ابن عباس والضحاك وقتادة ومالك عن الزهري : أي عذابا
من السماء ، والظاهر أنه مطر عظيم مزعج يقلع زرعها وأشجارها ، ولهذا قال : (فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً) أي بلقا ترابا أملس لا يثبت فيه قدم ، وقال ابن عباس :
كالجرز الذي لا ينبت شيئا وقوله : (أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها
غَوْراً) أي غائرا في الأرض ، وهو ضد النابع الذي يطلب وجه الأرض ،
فالغائر يطلب أسفلها ، كما قال تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) [الملك : ٣٠] أي
جار وسائح ، وقال هاهنا : (أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها
غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً) والغور مصدر بمعنى غائر ، وهو أبلغ منه ، كما قال الشاعر :
[المتقارب]
تظل جياده نوحا
عليه
|
|
تقلده أعنتها
صفوفا
|
بمعنى نائحات
عليه.
(وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ
فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى
عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (٤٢)
وَلَمْ
تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً(٤٣)
هُنالِكَ
الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً)
(٤٤)
يقول تعالى : (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ) بأمواله أو بثماره على القول الآخر ، والمقصود أنه وقع
بهذا الكافر ما كان يحذر مما خوفه به المؤمن من إرسال الحسبان على جنته التي اغتر
بها وألهته عن الله عزوجل (فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ
كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها) وقال قتادة : يصفق كفيه متأسفا متلهفا على الأموال التي
أذهبها عليها (وَيَقُولُ يا
لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ) أي عشيرة أو ولد ، كما افتخر بهم واستعز (يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما
كانَ مُنْتَصِراً هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِ) اختلف القراء هاهنا فمنهم من يقف على قوله : (وَما كانَ مُنْتَصِراً هُنالِكَ) أي في ذلك الموطن الذي حل به عذاب الله ، فلا منقذ له منه
، ويبتدئ بقوله : (الْوَلايَةُ لِلَّهِ
الْحَقِ) ومنهم من يقف على (وَما كانَ
مُنْتَصِراً) ويبتدئ بقوله : (هُنالِكَ الْوَلايَةُ
لِلَّهِ الْحَقِ) ثم اختلفوا في قراءة الولاية ، فمنهم من فتح الواو من
الولاية ، فيكون المعنى هنالك الموالاة لله ، أي هناك كل أحد مؤمن أو كافر يرجع
إلى الله وإلى موالاته والخضوع له إذا وقع العذاب ، كقوله : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا
آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ) [غافر : ٨٤]
وكقوله إخبارا عن فرعون : (حَتَّى إِذا
أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ
بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ
وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) [يونس : ٩٠ ـ ٩١]
ومنهم من كسر الواو من الولاية ، أي
__________________
هنالك الحكم لله
الحق ، ثم منهم من رفع الحق على أنه نعت للولاية ، كقوله تعالى : (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ
لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً) [الفرقان : ٢٦]
ومنهم من خفض القاف على أنه نعت لله عزوجل ، كقوله (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى
اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ) [الأنعام : ٦٢]
الآية ، ولهذا قال تعالى : (هُوَ خَيْرٌ ثَواباً) أي جزاء (وَخَيْرٌ عُقْباً) أي الأعمال التي تكون للهعزوجل ، ثوابها خير وعاقبتها حميدة رشيدة كلها خير.
(وَاضْرِبْ لَهُمْ
مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ
نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللهُ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (٤٥)
الْمالُ
وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ
عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً)
(٤٦)
يقول تعالى : (وَاضْرِبْ لَهُمْ) يا محمد للناس (مَثَلَ الْحَياةِ
الدُّنْيا) في زوالها وفنائها وانقضائها (كَماءٍ أَنْزَلْناهُ
مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ) أي ما فيها من الحب ، فشب وحسن ، وعلاه الزهر والنور
والنضرة ، ثم بعد هذا كله أصبح (هَشِيماً) يابسا (تَذْرُوهُ الرِّياحُ) أي تفرقه وتطرحه ذات اليمين وذات الشمال ، (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ
مُقْتَدِراً) أي هو قادر على هذه الحال وهذه الحال ، وكثيرا ما يضرب
الله مثل الحياة الدنيا بهذا المثل ، كما قال تعالى في سورة يونس (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا
كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا
يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ) [يونس : ٢٥] الآية
، وقال في الزمر : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ
يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ) [الزمر : ٢١]
الآية ، وقال في سورة الحديد (اعْلَمُوا أَنَّمَا
الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ
فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ) [الحديد : ٥٠]
الآية ، وفي الحديث الصحيح «الدنيا خضرة حلوة» وقوله (الْمالُ وَالْبَنُونَ
زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا) كقوله : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ
حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ
مِنَ الذَّهَبِ) [آل عمران : ١٤]
الآية ، وقال تعالى : (إِنَّما أَمْوالُكُمْ
وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) [التغابن : ١٥] أي
الإقبال عليه والتفرغ لعبادته خير لكم من اشتغالكم بهم ، والجمع لهم ، والشفقة
المفرطة عليهم ، ولهذا قال : (وَالْباقِياتُ
الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً).
قال ابن عباس
وسعيد بن جبير وغير واحد من السلف : الباقيات الصالحات الصلوات الخمس. وقال عطاء
بن أبي رباح وسعيد بن جبير عن ابن عباس : الباقيات الصالحات سبحان الله ، والحمد
لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، وهكذا سئل أمير المؤمنين عثمان بن عفان
__________________
عن الباقيات
الصالحات ما هي؟ فقال : هي لا إله إلا الله ، وسبحان الله ، والحمد لله ، والله
أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، رواه الإمام أحمد : حدثنا أبو عبد الرحمن المقري ، حدثنا حيوة ، حدثنا أبو
عقيل أنه سمع الحارث مولى عثمان بن عفان رضي الله عنه يقول : جلس عثمان يوما
وجلسنا معه ، فجاءه المؤذن ، فدعا بماء في إناء أظنه سيكون فيه مد ، فتوضأ ثم قال
: رأيت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يتوضأ وضوئي هذا ، ثم قال : «من توضأ وضوئي هذا ، ثم قام
فصلى صلاة الظهر غفر له ما كان بينها وبين الصبح : ثم صلى العصر غفر له ما بينها
وبين الظهر ، ثم صلى المغرب غفر له ما بينها وبين العصر ، ثم صلى العشاء غفر له ما
بينها وبين المغرب ، ثم لعله يبيت يتمرغ ليلته ، ثم إن قام فتوضأ وصلى صلاة الصبح
غفر له ما بينها وبين صلاة العشاء ، وهي الحسنات يذهبن السيئات» قالوا هذه الحسنات
، فما الباقيات الصالحات يا عثمان؟ قال لا إله إلا الله ، وسبحان الله ، والحمد
لله والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، تفرد به.
وروى مالك عن
عمارة بن عبد الله بن صياد عن سعيد بن المسيب قال : الباقيات الصالحات : سبحان
الله والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، وقال محمد بن عجلان عن عمارة قال : سألني سعيد بن المسيب
عن الباقيات الصالحات ، فقلت: الصلاة والصيام ، فقال لم تصب ، فقلت الزكاة والحج ،
فقال : لم تصب ، ولكنهن الكلمات الخمس : لا إله إلا الله ، والله أكبر ، وسبحان
الله ، والحمد لله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله . وقال ابن جريج : أخبرني عبد الله بن عثمان بن خيثم عن
نافع بن سرجس أنه أخبره أنه سأل ابن عمر عن الباقيات الصالحات. قال : لا إله إلا
الله ، والله أكبر ، وسبحان الله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، قال ابن جريج وقال
عطاء بن أبي رباح مثل ذلك.
وقال مجاهد :
الباقيات الصالحات : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ،
وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الحسن وقتادة في قوله : (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ) قال : لا إله إلا الله ، والله أكبر ، والحمد لله ، وسبحان
الله ، هن الباقيات الصالحات ، قال ابن جرير : وجدت في كتابي عن الحسن بن الصباح البزار ، عن أبي نصر التمار
عن عبد العزيز بن مسلم ، عن محمد بن عجلان عن سعيد المقبري عن أبيه ، عن أبي هريرة
قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله
أكبر ، هن الباقيات الصالحات» قال : وحدثني يونس أخبرنا ابن وهب أخبرنا عمرو بن
الحارث أن دراجا أبا
__________________
السمح حدثه عن أبي
الهيثم عن أبي سعيد أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «استكثروا من الباقيات الصالحات» قيل : وما هن يا
رسول الله قال «الملة» قيل : وما هي يا رسول الله؟ قال «التكبير ، والتهليل ،
والتسبيح ، والحمد لله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله» وهكذا رواه أحمد من حديث دراج به.
قال ابن وهب :
أخبرني أبو صخر أن عبد الله بن عبد الرحمن مولى سالم بن عبد الله حدثه قال :
أرسلني سالم إلى محمد بن كعب القرظي في حاجة ، فقال : قل له القني عند زاوية القبر
، فإن لي إليك حاجة ، قال : فالتقيا فسلم أحدهما على الآخر ، ثم قال سالم : ما تعد
الباقيات الصالحات؟ فقال : لا إله إلا الله والله أكبر ، وسبحان الله ، ولا حول
ولا قوة إلا بالله ، فقال له سالم : متى جعلت فيها لا حول ولا قوة إلا بالله؟ قال
: ما زلت أجعلها ، قال : فراجعه مرتين أو ثلاثا فلم ينزع ، قال : فأثبت؟ قال سالم
: أجل فأثبت ، فإن أبا أيوب الأنصاري حدثني أنه سمع رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو يقول : «عرج بي إلى السماء فأريت إبراهيم عليهالسلام ، فقال : يا جبريل من هذا الذي معك؟ فقال : محمد ، فرحب بي
وسهل ، ثم قال : مر أمتك فلتكثر من غراس الجنة ، فإن تربتها طيبة وأرضها واسعة ،
فقلت : وما غراس الجنة فقال : لا حول ولا قوة إلا بالله» .
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن يزيد عن العوام ، حدثني رجل من الأنصار من
آل النعمان بن بشير ، قال : خرج علينا رسول الله صلىاللهعليهوسلم ونحن في المسجد بعد صلاة العشاء ، فرفع بصره إلى السماء ثم
خفض حتى ظننا أنه قد حدث في السماء شيء ، ثم قال : «أما إنه سيكون بعدي أمراء
يكذبون ويظلمون ، فمن صدقهم بكذبهم ومالأهم على ظلمهم ، فليس مني ولست منه ، ومن
لم يصدقهم بكذبهم ولم يمالئهم على ظلمهم ، فهو مني وأنا منه. ألا وإن سبحان الله ،
والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، هن الباقيات الصالحات».
وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا أبان ، حدثنا يحيى بن أبي كثير عن
زيد عن أبي سلام ، عن مولى لرسول الله صلىاللهعليهوسلم أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «بخ بخ لخمس ما أثقلهن في الميزان : لا إله إلا الله
والله أكبر ، وسبحان الله ، والحمد لله ، والولد الصالح يتوفى فيحتسبه والده ـ وقال
ـ بخ بخ لخمس من لقي الله مستيقنا بهن دخل الجنة : يؤمن بالله واليوم الآخر ،
وبالجنة والنار ، وبالبعث بعد الموت ، وبالحساب».
__________________
وقال الإمام أحمد : حدثنا روح ، حدثنا الأوزاعي عن حسان بن عطية ، قال : كان
شداد بن أوس رضي الله عنه في سفر ، فنزل منزلا فقال لغلامه : ائتنا بالشفرة نعبث
بها ، فأنكرت عليه ، فقال : ما تكلمت بكلمة منذ أسلمت إلا وأنا أخطمها وأزمها غير
كلمتي هذه ، فلا تحفظوها علي واحفظوا ما أقول لكم : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «إذا كنز الناس الذهب والفضة فاكنزوا أنتم هؤلاء
الكلمات : اللهم إني أسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد وأسألك شكر نعمتك
وأسألك حسن عبادتك ، وأسألك قلبا سليما ، وأسألك لسانا صادقا ، وأسألك من خير ما
تعلم ، وأعوذ بك من شر ما تعلم ، وأستغفرك لما تعلم ، إنك أنت علام الغيوب» ثم
رواه أيضا النسائي من وجه آخر عن شداد بنحوه.
وقال الطبراني :
حدثنا عبد الله بن ناجية ، حدثنا محمد بن سعد العوفي ، حدثني أبي ، حدثنا عمي
الحسين عن يونس بن نفيع الجدلي ، عن سعد بن جنادة رضي الله عنه قال : كنت في أول
من أتى النبي صلىاللهعليهوسلم من أهل الطائف ، فخرجت من أهلي من السراة غدوة ، فأتيت منى
عند العصر ، فتصاعدت في الجبل : ثم هبطت فأتيت النبي صلىاللهعليهوسلم ، فأسلمت وعلمني (قُلْ هُوَ اللهُ
أَحَدٌ) [الإخلاص : ١] و (إِذا زُلْزِلَتِ) [الزلزلة : ١]
وعلمني هؤلاء الكلمات : سبحان الله والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ،
وقال : «هن الباقيات الصالحات» وبهذا الإسناد «من قام من الليل فتوضأ ومضمض فاه ،
ثم قال سبحان الله مائة مرة ، والحمد لله مائة مرة ، والله أكبر مائة مرة ، ولا
إله إلا الله مائة مرة ، غفرت ذنوبه إلا الدماء فإنها لا تبطل».
وقال علي بن أبي
طلحة عن ابن عباس قوله : (وَالْباقِياتُ
الصَّالِحاتُ) قال : هي ذكر الله قول لا إله إلا الله ، والله أكبر
وسبحان الله ، والحمد لله ، وتبارك الله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، وأستغفر
الله ، وصلى الله على رسول الله ، والصيام ، والصلاة ، والحج ، والصدقة ، والعتق ،
والجهاد ، والصلة ، وجميع أعمال الحسنات وهن الباقيات الصالحات التي تبقى لأهلها
في الجنة ما دامت السموات والأرض. وقال العوفي عن ابن عباس : هي الكلام الطيب.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هي الأعمال الصالحة كلها ، واختاره ابن جرير رحمهالله.
(وَيَوْمَ نُسَيِّرُ
الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ
أَحَداً (٤٧) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ
جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ
لَكُمْ مَوْعِداً(٤٨) وَوُضِعَ الْكِتابُ
فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما
لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها
وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً)
(٤٩)
يخبر تعالى عن
أهوال يوم القيامة وما يكون فيه من الأمور العظام ، كما قال تعالى : (يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً
وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً) [طور : ٩ ، ١٠] أي
تذهب من أماكنها وتزول ، كما قال
__________________
تعالى : (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً
وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) [النمل : ٨٨] وقال
تعالى : (وَتَكُونُ الْجِبالُ
كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) [القارعة : ٥]
وقال : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً لا تَرى
فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) [طه : ١٠٥ ـ ١٠٦ ـ
١٠٧] يذكر تعالى أنه تذهب الجبال ، وتتساوى المهاد ، وتبقى الأرض قاعا صفصفا ، أي
سطحا مستويا لا عوج فيه ولا أمتا ، أي لا وادي ولا جبل ، ولهذا قال تعالى : (وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً) أي بادية ظاهرة ليس فيها معلم لأحد ، ولا مكان يواري أحدا
، بل الخلق كلهم ضاحون لربهم لا تخفى عليه منهم خافية. قال مجاهد وقتادة (وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً) لا خمر فيها ولا غيابة قال قتادة : لا بناء ولا شجر.
وقوله : (وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ
أَحَداً) وأي وجمعناهم الأولين منهم والآخرين ، فلم نترك منهم أحدا
لا صغيرا ولا كبيرا ، كما قال : (قُلْ إِنَّ
الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) [الواقعة : ٤٩ ـ ٥٠]
وقال : (ذلِكَ يَوْمٌ
مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) [هود : ١٠٣].
وقوله : (وَعُرِضُوا عَلى
رَبِّكَ صَفًّا) يحتمل أن يكون المراد أن جميع الخلائق يقومون بين يدي الله
صفا واحدا ، كما قال تعالى : (يَوْمَ يَقُومُ
الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ
الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) [النبأ : ٣٨]
ويحتمل أنهم يقومون صفوفا ، كما قال : (وَجاءَ رَبُّكَ
وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) [الفجر : ٢٢]
وقوله : (لَقَدْ جِئْتُمُونا
فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) هذا تقريع للمنكرين للمعاد ، وتوبيخ لهم على رؤوس الأشهاد
، ولهذا قال تعالى مخاطبا لهم : (بَلْ زَعَمْتُمْ
أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً) أي ما كان ظنكم أن هذا واقع بكم ، ولا أن هذا كائن.
وقوله : (وَوُضِعَ الْكِتابُ) أي كتاب الأعمال الذي فيه الجليل والحقير ، والفتيل
والقطمير ، والصغير والكبير ، (فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ
مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ) أي من أعمالهم السيئة وأفعالهم القبيحة (وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا) أي يا حسرتنا وويلنا على ما فرطنا في أعمارنا (ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ
صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) أي لا يترك ذنبا صغيرا ولا كبيرا ولا عملا وإن صغر ، إلا
أحصاها ، أي ضبطها وحفظها.
وروى الطبراني
بإسناده المتقدم في الآية قبلها إلى سعد بن جنادة قال : لما فرغ رسول اللهصلىاللهعليهوسلم من غزوة حنين ، نزلنا قفرا من الأرض ليس فيه شيء ، فقال
النبي صلىاللهعليهوسلم : «اجمعوا من وجد عودا فليأت به ، ومن وجد حطبا أو شيئا
فليأت به» قال : فما كان إلا ساعة حتى جعلناه ركاما ، فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «أترون هذا؟ فكذلك تجمع الذنوب على الرجل منكم كما جمعتم
هذا ، فليتق الله رجل ولا يذنب صغيرة ولا كبيرة ، فإنها محصاة عليه».
وقوله : (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً) أي من خير وشر ، كما قال تعالى : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ
مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً) [آل عمران : ٣٠]
الآية ، وقال تعالى : (يُنَبَّؤُا
الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما
قَدَّمَ
وَأَخَّرَ) [القيامة : ١٣]
وقال تعالى : (يَوْمَ تُبْلَى
السَّرائِرُ) [الطارق : ٩] أي
تظهر المخبئات والضمائر. قال الإمام أحمد : حدثنا أبو الوليد ، حدثنا شعبة عن ثابت عن أنس عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به» أخرجاه في الصحيحين ، وفي لفظ «يرفع لكل غادر لواء يوم
القيامة عند استه بقدر غدرته ، يقال هذه غدرة فلان بن فلان» .
وقوله : (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) أي فيحكم بين عباده في أعمالهم جميعا ، ولا يظلم أحدا من
خلقه بل يغفر ويصفح ويغفر ويرحم ، ويعذب من يشاء بقدرته وحكمته وعدله ، ويملأ
النار من الكفار وأصحاب المعاصي ، ثم ينجي أصحاب المعاصي ويخلد فيها الكافرين ،
وهو الحاكم الذي لا يجور ولا يظلم ، قال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا
يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها) [النساء : ٤٠]
الآية ، وقال : (وَنَضَعُ
الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ـ إلى قوله ـ حاسِبِينَ) [الأنبياء : ٤٧]
والآيات في هذا كثيرة.
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، أخبرنا همام بن يحيى عن القاسم بن عبد
الواحد المكي ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل أنه سمع جابر بن عبد الله يقول :
بلغني حديث عن رجل سمعه عن النبي صلىاللهعليهوسلم ، فاشتريت بعيرا ثم شددت عليه رحلا ، فسرت عليه شهرا حتى
قدمت عليه الشام ، فإذا عبد الله بن أنيس ، فقلت للبواب : قل له جابر على الباب ،
فقال : ابن عبد الله؟ قلت نعم ، فخرج يطأ ثوبه فاعتنقني واعتنقته ، فقلت : حديث
بلغني عنك أنك سمعته من رسول اللهصلىاللهعليهوسلم في القصاص ، فخشيت أن تموت أو أموت قبل أن أسمعه ، فقال
سمعت رسول الله يقول : «يحشر الله عزوجل الناس يوم القيامة ـ أو قال العباد ـ عراة غرلا بهما» قلت
، وما بهما؟ قال : ليس معهم شيء ، ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب :
أنا الملك ، أنا الديان لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وله عند لأحد من
أهل الجنة حق حتى أقصه منه ، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وله عند
رجل من أهل النار حق حتى أقصه منه حتى اللطمة «قال : قلنا كيف وإنما نأتي الله عزوجل حفاة عراة غرلا بهما؟ قال : «بالحسنات والسيئات».
وعن شعبة عن
العوام بن مزاحم عن أبي عثمان عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إن الجماء لتقتص من القرناء يوم القيامة» رواه عبد الله ابن الإمام
__________________
أحمد ، وله شواهد من
وجوه أخر ، وقد ذكرناها عند قوله تعالى : (وَنَضَعُ
الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) وعند قوله تعالى : (إِلَّا أُمَمٌ
أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ
يُحْشَرُونَ) [الأنعام : ٣٨].
(وَإِذْ قُلْنا
لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ
فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ
دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً)
(٥٠)
يقول تعالى منبها
بني آدم على عداوة إبليس لهم ولأبيهم من قبلهم ، ومقرعا لمن اتبعه منهم وخالف
خالقه ومولاه ، وهو الذي أنشأه وابتداه وبألطافه رزقه وغذاه ، ثم بعد هذا كله والى
إبليس وعادى الله ، فقال تعالى : (وَإِذْ قُلْنا
لِلْمَلائِكَةِ) أي لجميع الملائكة كما تقدم تقريره في أول سورة البقرة (اسْجُدُوا لِآدَمَ) أي سجود تشريف وتكريم وتعظيم ، كما قال تعالى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ
إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ
وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) [الحجر : ٢٨ ـ ٢٩].
وقوله : (فَسَجَدُوا إِلَّا
إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِ) أي خانه أصله ، فإنه خلق من مارج من نار ، وأصل خلق
الملائكة من نور.
كما ثبت في صحيح
مسلم عن عائشة رضي الله عنها ، عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «خلقت الملائكة من نور ، وخلق إبليس من مارج من
نار ، وخلق آدم مما وصف لكم» ، فعند الحاجة نضح كل وعاء بما فيه ، وخانه الطبع عند
الحاجة وذلك أنه كان قد توسم بأفعال الملائكة وتشبه بهم وتعبد وتنسك ، فلهذا دخل
في خطابهم وعصى بالمخالفة ، ونبه تعالى هاهنا على أنه من الجن أي على أنه خلق من
نار ، كما قال : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ
خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) [الأعراف : ١٢ ـ ٧٦]
قال الحسن البصري : ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط ، وإنه لأصل الجن ، كما
أن آدم عليهالسلام أصل البشر ، رواه ابن جرير بإسناد صحيح عنه.
وقال الضحاك عن
ابن عباس : كان إبليس من حي من أحياء الملائكة يقال لهم الجن ، خلقوا من نار
السموم من بين الملائكة ، وكان اسمه الحارث ، وكان خازنا من خزان الجنة ، وخلقت
الملائكة من نور غير هذا الحي ، قال : وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج
من نار ، وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا التهبت. وقال
الضحاك أيضا عن ابن عباس : كان إبليس من أشرف الملائكة وأكرمهم قبيلة ، وكان خازنا
على الجنان ، وكان له سلطان السماء الدنيا وسلطان الأرض ، وكان مما سولت له نفسه
من قضاء الله أنه رأى أن له بذلك شرفا على أهل السماء ، فوقع من ذلك في قلبه كبر
لا يعلمه إلا الله ، واستخرج الله ذلك
__________________
الكبر منه حين
أمره بالسجود لآدم ف (اسْتَكْبَرَ وَكانَ
مِنَ الْكافِرِينَ).
قال ابن عباس قوله
: (كانَ مِنَ الْجِنِ) أي من خزان الجنان ، كما يقال للرجل مكي ومدني وبصري
وكوفي. وقال ابن جريج عن ابن عباس نحو ذلك ، وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس ، قال
: هو من خزان الجنة ، وكان يدبر أمر السماء الدنيا ، رواه ابن جرير من حديث الأعمش
عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد به. وقال سعيد بن المسيب : كان رئيس ملائكة سماء
الدنيا ، وقال ابن إسحاق عن خلاد بن عطاء عن طاوس عن ابن عباس قال : كان إبليس قبل
أن يركب المعصية من الملائكة اسمه عزازيل ، وكان من سكان الأرض ، وكان من أشد
الملائكة اجتهادا وأكثرهم علما ، فذلك دعاه إلى الكبر ، وكان من حي يسمون جنا.
وقال ابن جريج عن
صالح مولى التوأمة وشريك بن أبي نمر ، أحدهما أو كلاهما عن ابن عباس قال : إن من
الملائكة قبيلة من الجن ، وكان إبليس منها وكان يسوس ما بين السماء والأرض ، فعصى
، فسخط الله عليه فمسخه شيطانا رجيما ، لعنه الله ممسوخا ، قال : وإذا كانت خطيئة
الرجل في كبر فلا ترجه ، وإذا كانت في معصية فارجه ، وعن سعيد بن جبير أنه قال : كان
من الجنانين الذين يعملون في الجنة ، وقد روي في هذا آثار كثيرة عن السلف ،
وغالبها من الإسرائيليات التي تنقل لينظر فيها ، والله أعلم بحال كثير منها ،
ومنها ما قد يقطع بكذبه لمخالفته للحق الذي بأيدينا ، وفي القرآن غنية عن كل ما
عداه من الأخبار المتقدمة لأنها لا تكاد تخلو من تبديل وزيادة ونقصان ، وقد وضع
فيها أشياء كثيرة وليس لهم من الحفاظ المتقنين الذين ينفون عنها تحريف الغالين
وانتحال المبطلين ، كما لهذه الأمة من الأئمة والعلماء والسادة والأتقياء والبررة
والنجباء من الجهابذة النقاد والحفاظ الجياد الذين دونوا الحديث ، وحرروه وبينوا
صحيحه من حسنه من ضعفيه من منكره ، وموضوعه ومتروكه ومكذوبه ، وعرفوا الوضاعين
والكذابين والمجهولين وغير ذلك من أصناف الرجال ، كل ذلك صيانة للجناب النبوي
والمقام المحمدي خاتم الرسل وسيد البشر صلىاللهعليهوسلم أن ينسب إليه كذب أو يحدث عنه بما ليس منه ، فرضي الله
عنهم وأرضاهم ، وجعل جنات الفردوس مأواهم وقد فعل.
وقوله : (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) أي فخرج عن طاعة الله ، فإن الفسق هو الخروج ، يقال: فسقت
الرطبة إذا خرجت من أكمامها ، وفسقت الفأرة من جحرها إذا خرجت منه للعيث والفساد ،
ثم قال تعالى مقرعا وموبخا لمن اتبعه وأطاعه (أَفَتَتَّخِذُونَهُ
وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي) الآية ، أي بدلا عني ، ولهذا قال : (بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) وهذا المقام كقوله بعد ذكر القيامة وأهوالها ومصير كل من
الفريقين السعداء والأشقياء في سورة يس (وَامْتازُوا
الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ـ إلى قوله ـ أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ) [يس : ٥٩ ـ ٦٢].
(ما أَشْهَدْتُهُمْ
خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ
الْمُضِلِّينَ عَضُداً)
(٥١)
يقول تعالى :
هؤلاء الذين اتخذتموهم أولياء من دوني عبيد أمثالكم لا يملكون شيئا ، ولا أشهدتهم
خلق السموات والأرض ، ولا كانوا إذ ذاك موجودين ، يقول تعالى : أنا المستقل بخلق
الأشياء كلها ومدبرها ومقدرها وحدي ليس معي في ذلك شريك ولا وزير ولا مشير ولا
نظير ، كما قال : (قُلِ ادْعُوا
الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي
السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ
مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ
لَهُ) [سبأ : ٢٢ ـ ٢٣]
الآية ، ولهذا قال : (وَما كُنْتُ
مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً) قال مالك: أعوانا.
(وَيَوْمَ يَقُولُ
نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ
وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (٥٢)
وَرَأَى
الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها
مَصْرِفاً)
(٥٣)
يقول تعالى مخبرا
عما يخاطب به المشركين يوم القيامة على رؤوس الأشهاد تقريعا لهم وتوبيخا (نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ) أي في دار الدنيا ادعوهم اليوم ينقذوكم مما أنتم فيه كما
قال تعالى : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا
فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ
ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ
فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ
تَزْعُمُونَ) [الأنعام : ٩٤]
وقوله : (فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ
يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) كما قال : (وَقِيلَ ادْعُوا
شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) [القصص : ٦٤]
الآية ، وقال : (وَمَنْ أَضَلُّ
مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ) [الأحقاف : ٥ ـ ٦]
الآيتين ، وقال تعالى : (وَاتَّخَذُوا مِنْ
دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلَّا سَيَكْفُرُونَ
بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) [مريم : ٨١ ـ ٨٢]
وقوله : (وَجَعَلْنا
بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً) قال ابن عباس وقتادة وغير واحد : مهلكا ، وقال قتادة : ذكر
لنا أن عمر البكائي حدث عن عبد الله بن عمرو قال : هو واد عميق فرق به يوم القيامة
بين أهل الهدى وأهل الضلالة. وقال قتادة : موبقا واديا في جهنم.
وقال ابن جرير : حدثني محمد بن سنان القزاز ، حدثنا عبد الصمد ، حدثنا
يزيد بن درهم ، سمعت أنس بن مالك يقول في قول الله تعالى : (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً) قال : واد في جهنم من قيح ودم ، وقال الحسن البصري : موبقا
عداوة ، والظاهر من السياق هاهنا أنه المهلك ، ويجوز أن يكون واديا في جهنم أو
غيره ، والمعنى أن الله تعالى بين أنه لا سبيل لهؤلاء المشركين ولا وصول لهم إلى
آلهتهم التي كانوا يزعمون في الدنيا ، وأنه يفرق بينهم وبينها في الآخرة ، فلا
خلاص لأحد من الفريقين إلى الآخر ، بل بينهما مهلك وهول عظيم وأمر كبير. وأما إن
جعل الضمير في قوله بينهم عائدا إلى المؤمنين والكافرين كما قال عبد الله بن
__________________
عمرو إنه يفرق بين
أهل الهدى والضلالة به ، فهو كقوله تعالى : (وَيَوْمَ تَقُومُ
السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ) [الروم : ١٤] وقال
(يَوْمَئِذٍ
يَصَّدَّعُونَ) [الروم : ٤٣] ،
وقال تعالى : (وَامْتازُوا
الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) [يس : ٥٩] ، وقال
تعالى : (وَيَوْمَ
نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ
وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ ـ إلى قوله ـ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) [يونس : ٢٨ ـ ٣٠].
وقوله : (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ
فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً) أي أنهم لما عاينوا جهنم حين جيء بها تقاد بسبعين ألف زمام
، مع كل زمام سبعون ألف ملك فإذا (رَأَى الْمُجْرِمُونَ
النَّارَ) تحققوا لا محالة أنهم مواقعوها ، ليكون ذلك من باب تعجيل
الهم والحزن لهم ، فإن توقع العذاب والخوف منه قبل وقوعه عذاب ناجز. وقوله : (وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً) أي ليس لهم طريق يعدل بهم عنها ولا بد لهم منها.
قال ابن جرير : حدثني يونس أخبرنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن
دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد ، عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «إن الكافر ليرى جهنم فيظن أنها مواقعته من
مسيرة أربعمائة سنة». وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لهيعة حدثنا دراج عن أبي الهيثم
عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ينصب الكافر مقدار خمسين ألف سنة ، كما لم يعمل في
الدنيا ، وإن الكافر ليرى جهنم ويظن أنها مواقعته من مسيرة أربعين سنة».
(وَلَقَدْ صَرَّفْنا
فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ
شَيْءٍ جَدَلاً)
(٥٤)
يقول تعالى : ولقد
بينا للناس في هذا القرآن ووضحنا لهم الأمور وفصلناها كيلا يضلوا عن الحق ويخرجوا
عن طريق الهدى ، ومع هذا البيان وهذا الفرقان الإنسان كثير المجادلة والمخاصمة
والمعارضة للحق بالباطل إلا من هدى الله بصره لطريق النجاة.
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب عن الزهري ، أخبرني علي
بن الحسين أن حسين بن علي أخبره أن علي بن أبي طالب أخبره أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم طرقه وفاطمة بنت رسول الله صلىاللهعليهوسلم ليلة ، فقال : «ألا تصليان؟» فقلت : يا رسول الله إنما
أنفسنا بيد الله ، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا ، فانصرف حين قلت ذلك ولم يرجع إلي
شيئا ، ثم سمعته وهو مول يضرب فخذه ويقول : (وَكانَ الْإِنْسانُ
أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) أخرجاه في الصحيحين.
__________________
(وَما مَنَعَ النَّاسَ
أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ
تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (٥٥) وَما نُرْسِلُ
الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا
بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا
هُزُواً)
(٥٦)
يخبر تعالى عن
تمرد الكفرة في قديم الزمان وحديثه ، وتكذيبهم بالحق البين الظاهر مع ما يشاهدون
من الآيات والدلالات الواضحات ، وأنه ما منعهم من اتباع ذلك إلا طلبهم أن يشاهدوا
العذاب الذي وعدوا به عيانا ، كما قال أولئك لنبيهم : (فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ
السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [الشعراء : ١٨٧]
وآخرون قالوا (ائْتِنا بِعَذابِ
اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [العنكبوت : ٢٩]
وقالت قريش (اللهُمَّ إِنْ كانَ
هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ
أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [الأنفال : ٣٢] (وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ
عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ
كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [الحجر : ٦ ـ ٧] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ذلك.
ثم قال (إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ
الْأَوَّلِينَ) من غشيانهم بالعذاب وأخذهم عن آخرهم ، (أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً) أي يرونه عيانا مواجهة ومقابلة ، ثم قال تعالى : (وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا
مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) أي قبل العذاب مبشرين من صدقهم وآمن بهم ، ومنذرين لمن
كذبهم وخالفهم ، ثم أخبر عن الكفار بأنهم يجادلون (بِالْباطِلِ
لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ) أي ليضعفوا به الحق الذي جاءتهم به الرسل ، وليس ذلك بحاصل
لهم ، (وَاتَّخَذُوا آياتِي
وَما أُنْذِرُوا هُزُواً) أي اتخذوا الحجج والبراهين وخوارق العادات التي بعث بها
الرسل وما أنذروهم وخوفوهم به من العذاب (هُزُواً) أي سخروا منهم في ذلك وهو أشد التكذيب.
(وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ
إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ
وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (٥٧)
وَرَبُّكَ
الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ
الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (٥٨) وَتِلْكَ الْقُرى
أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً)
(٥٩)
يقول تعالى : وأي
عباد الله أظلم ممن ذكر بآيات الله فأعرض عنها ، أي تناساها وأعرض عنها ولم يصغ
لها ولا ألقى إليها بالا ، (وَنَسِيَ ما
قَدَّمَتْ يَداهُ) أي من الأعمال السيئة والأفعال القبيحة ، (إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ) أي قلوب هؤلاء (أَكِنَّةً) أي أغطية وغشاوة (أَنْ يَفْقَهُوهُ) أي لئلا يفهموا هذا القرآن والبيان (وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) أي صمما معنويا عن الرشاد (وَإِنْ تَدْعُهُمْ
إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً).
__________________
وقوله : (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ) أي ربك يا محمد غفور ذو رحمة واسعة (لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا
لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ) كما قال : (وَلَوْ يُؤاخِذُ
اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) [فاطر : ٤٥] وقال
: (وَإِنَّ رَبَّكَ
لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ) [الرعد : ٦]
والآيات في هذا كثيرة شتى ، ثم أخبر أنه يحلم ويستر ويغفر ، وربما هدى بعضهم من
الغي إلى الرشاد ، ومن استمر منهم فله يوم يشيب فيه الوليد ، وتضع كل ذات حمل
حملها ، ولهذا قال : (بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ
لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً) أي ليس لهم عنه محيص ولا محيد ولا معدل. وقوله : (وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا
ظَلَمُوا) أي الأمم السالفة والقرون الخالية ، أهلكناهم بسبب كفرهم
وعنادهم ، (وَجَعَلْنا
لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً) أي جعلناه إلى مدة معلومة ووقت معين ، لا يزيد ولا ينقص ،
أي وكذلك أنتم أيها المشركون احذروا أن يصيبكم ما أصابهم ، فقد كذبتم أشرف رسول
وأعظم نبي ، ولستم بأعز علينا منهم ، فخافوا عذابي ونذري.
(وَإِذْ قالَ مُوسى
لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ
حُقُباً (٦٠) فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما
نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (٦١) فَلَمَّا جاوَزا
قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (٦٢)
قالَ
أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما
أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي
الْبَحْرِ عَجَباً (٦٣) قالَ ذلِكَ ما
كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (٦٤)
فَوَجَدا
عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ
لَدُنَّا عِلْماً)
(٦٥)
سبب قول موسى
لفتاه وهو يوشع بن نون ، هذا الكلام أنه ذكر له أن عبدا من عباد الله بمجمع
البحرين عنده من العلم ما لم يحط به موسى ، فأحب الرحيل إليه ، وقال لفتاه ذلك (لا أَبْرَحُ) أي لا أزال سائرا (حَتَّى أَبْلُغَ
مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ) أي هذا المكان الذي فيه مجمع البحرين ، قال الفرزدق : [الطويل]
فما برحوا حتى
تهادت نساؤهم
|
|
ببطحاء ذي قار
عياب اللطائم
|
قال قتادة وغير
واحد : هما بحر فارس مما يلي المشرق ، وبحر الروم مما يلي المغرب ، وقال محمد بن
كعب القرظي : مجمع البحرين عند طنجة ، يعني في أقصى بلاد المغرب ، فالله أعلم.
وقوله : (أَوْ أَمْضِيَ
حُقُباً) أي ولو أني أسير حقبا من الزمان. قال ابن جرير رحمهالله : ذكر بعض أهل العلم بكلام العرب أن الحقب في لغة قيس سنة
، ثم روي عن عبد الله بن عمرو أنه قال: الحقب ثمانون سنة. وقال مجاهد : سبعون
خريفا. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله : (أَوْ أَمْضِيَ
حُقُباً) قال : دهرا ، وقال قتادة وابن زيد مثل ذلك.
__________________
وقوله : (فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما
نَسِيا حُوتَهُما) وذلك أنه كان قد أمر بحمل حوت مملوح معه ، وقيل له : متى
فقدت الحوت ، فهو ثمة ، فسارا حتى بلغا مجمع البحرين ، وهناك عين يقال لها عين
الحياة ، فناما هنالك ، وأصاب الحوت من رشاش ذلك الماء ، فاضطرب وكان في مكتل مع
يوشع عليهالسلام ، وطفر من المكتل إلى البحر ، فاستيقظ يوشع عليهالسلام وسقط الحوت في البحر فجعل يسير في الماء والماء له مثل
الطاق لا يلتئم بعده ، ولهذا قال تعالى : (فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ
فِي الْبَحْرِ سَرَباً) أي مثل السرب في الأرض. قال ابن جريج : قال ابن عباس : صار
أثره كأنه حجر. وقال العوفي عن ابن عباس : جعل الحوت لا يمس شيئا من البحر إلا يبس
حتى يكون صخرة. وقال محمد بن إسحاق عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن
عباس ، عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم حين ذكر حديث ذلك : ما انجاب ماء منذ كان الناس غير مسير
مكان الحوت الذي فيه ، فانجاب كالكوة حتى رجع إليه موسى فرأى مسلكه ، فقال : (ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ) وقال قتادة : سرب من البر حتى أفضى إلى البحر ، ثم سلك فيه
فجعل لا يسلك طريقا فيه إلا صار ماء جامدا.
وقوله : (فَلَمَّا جاوَزا) أي المكان الذي نسيا الحوت فيه ، ونسب النسيان إليهما وإن
كان يوشع هو الذي نسيه ، كقوله تعالى : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا
اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) [الرحمن : ٢٢]
وإنما يخرج من المالح على أحد القولين ، فلما ذهبا عن المكان الذي نسياه فيه
بمرحلة (قالَ) موسى (لِفَتاهُ آتِنا
غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا) أي الذي جاوزا فيه المكان (نَصَباً) يعني تعبا (قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ
أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا
الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ) قال قتادة : وقرأ ابن مسعود أن أذكر له ، ولهذا قال (وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ) أي طريقه (فِي الْبَحْرِ
عَجَباً قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ) أي هذا هو الذي نطلب (فَارْتَدَّا) أي رجعا (عَلى آثارِهِما) أي طريقهما (قَصَصاً) أي يقصان آثار مشيهما ويقفوان أثرهما (فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا
آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) وهذا هو الخضر عليهالسلام ، كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
قال البخاري : حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان ، حدثنا عمرو بن دينار ،
أخبرني سعيد بن جبير ، قال : قلت لابن عباس : إن نوفا البكالي يزعم أن موسى صاحب
الخضر عليهالسلام ، ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل. قال ابن عباس : كذب عدو
الله ، حدثنا أبي بن كعب رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «إن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل فسئل : أي الناس
أعلم؟ قال : أنا ، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه ، فأوحى الله إليه إن لي
عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك. قال موسى : يا رب وكيف لي به؟ قال : تأخذ معك
حوتا فتجعله
__________________
بمكتل ، فحيثما
فقدت الحوت فهو ثم ، فأخذ حوتا فجعله بمكتل ، ثم انطلق وانطلق معه فتاه يوشع بن
نون عليهالسلام ، حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رأسيهما فناما ، واضطرب الحوت
في المكتل ، فخرج منه فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سربا ، وأمسك الله عن
الحوت جرية الماء ، فصار عليه مثل الطاق.
فلما استيقظ ، نسي
صاحبه أن يخبره بالحوت ، فانطلقا بقية يومهما وليلتهما حتى إذا كان من الغد قال
موسى لفتاه : (آتِنا غَداءَنا
لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً) ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمره الله به ،
قال له فتاه : (أَرَأَيْتَ إِذْ
أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا
الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً) قال : فكان الحوت سربا ، ولموسى وفتاه عجبا ، فقال (ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا
عَلى آثارِهِما قَصَصاً) قال : فرجعا يقصان أثرهما حتى انتهيا إلى الصخرة ، فإذا
رجل مسجى بثوب ، فسلم عليه موسى فقال الخضر : وأنى بأرضك السلام. فقال : أنا موسى.
فقال : موسى بني إسرائيل؟ قال : نعم قال أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا (قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ
صَبْراً) يا موسى إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت وأنت
على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه. فقال موسى (سَتَجِدُنِي إِنْ
شاءَ اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً) قال له الخضر : (فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي
فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً).
فانطلقا يمشيان
على ساحل البحر فمرت سفينة ، فكلموهم أن يحملوهم ، فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نول
، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقدوم
، فقال له موسى : قد حملونا بغير نول ، فعمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها؟ لقد
جئت شيئا إمرا (قالَ أَلَمْ أَقُلْ
إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا
تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً) قال : وقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم وعلى آله ـ فكانت الأولى من موسى نسيانا ، قال : وجاء
عصفور فوقع على حرف السفينة ، فنقر في البحر نقرة أو نقرتين فقال له الخضر : ما
علمي وعلمك في علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر.
ثم خرجا من
السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان ، فأخذ
الخضر رأسه فاقتلعه بيده فقتله ، فقال له موسى (أَقَتَلْتَ نَفْساً
زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ
إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) قال : وهذه أشد من الأولى ، (قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ
عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً
فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا
أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ) أي مائلا ، فقال الخضر بيده (فَأَقامَهُ) فقال موسى : قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا (لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ
أَجْراً قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ
تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما».
قال سعيد بن جبير
: كان ابن عباس يقرأ وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا وكان يقرأ وأما
الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين.
ثم رواه البخاري عن قتيبة عن سفيان بن عيينة فذكر نحوه ، وفيه : فخرج موسى
ومعه فتاه يوشع بن نون ومعهما الحوت ، حتى انتهيا إلى الصخرة ، فنزلا عندها ، قال
: فوضع موسى رأسه فنام ، قال سفيان : وفي حديث عن عمرو قال : وفي أصل الصخرة عين
يقال لها الحياة لا يصيب من مائها شيء إلا حيي فأصاب الحوت من ماء تلك العين ،
فتحرك وانسل من المكتل فدخل البحر ، فلما استيقظ قال موسى لفتاه (آتِنا غَداءَنا) قال : وساق الحديث ، ووقع عصفور على حرف السفينة ، فغمس
منقاره في البحر ، فقال الخضر لموسى : ما علمي وعلمك وعلم الخلائق في علم الله إلا
مقدار ما غمس هذا العصفور منقاره وذكر تمامه بنحوه.
وقال البخاري أيضا : حدثنا إبراهيم بن موسى ، حدثنا هشام بن يوسف أن ابن
جريج أخبرهم قال : أخبرني يعلى بن مسلم وعمرو بن دينار عن سعيد بن جبير ، يزيد
أحدهما على صاحبه ، وغيرهما قد سمعته يحدث عن سعيد بن جبير قال : إنا لعند ابن
عباس في بيته ، إذ قال سلوني ، فقلت : أي أبا عباس جعلني الله فداك ، بالكوفة رجل
قاص يقال له نوف يزعم أنه ليس بموسى بني إسرائيل ، أما عمرو فقال لي قال : كذب عدو
الله وأما يعلى فقال لي قال ابن عباس : حدثني أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «موسى رسول الله ذكر الناس يوما حتى إذا فاضت العيون
ورقت القلوب ولى ، فأدركه رجل فقال : أي رسول الله هل في الأرض أعلم منك؟ قال : لا
، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إلى الله ، قيل : بلى ، قال أي رب ، وأين؟ قال :
بمجمع البحرين ، قال : أي رب اجعل لي علما أعلم ذلك به. قال لي عمرو : قال حيث
يفارقك الحوت ، وقال لي يعلى : خذ حوتا ميتا حيث ينفخ فيه الروح ، فأخذ حوتا فجعله
في مكتل فقال لفتاه : لا أكلفك إلا أن تخبرني بحيث يفارقك الحوت ، قال : ما كلفت
كبيرا ، فذلك قوله : (وَإِذْ قالَ مُوسى
لِفَتاهُ) يوشع بن نون ليست عند سعيد بن جبير.
قال : فبينما هو
في ظل صخرة في مكان ثريان إذ يضرب الحوت وموسى نائم ، فقال فتاه ، لا أوقظه ، حتى
إذا استيقظ نسي أن يخبره ، ويضرب الحوت حتى دخل في البحر فأمسك الله عنه جرية
الماء حتى كأن أثره في حجر ، قال : فقال لي عمرو : هكذا كأن أثره في حجر ، وحلق
بين إبهاميه واللتين تليهما ، قال : (لَقَدْ لَقِينا مِنْ
سَفَرِنا هذا نَصَباً) قال : وقد قطع الله عنك النصب ، ليست هذه عند سعيد بن جبير
، أخبره فرجعا فوجدا خضرا قال : قال عثمان بن أبي سليمان : على طنفسه خضراء على
كبد البحر ، قال سعيد بن جبير : مسجى بثوب قد جعل
__________________
طرفه تحت رجليه
وطرفه عند رأسه ، فسلم عليه موسى فكشف عن وجهه ، وقال : هل بأرضي من سلام؟ من أنت؟
قال : أنا موسى ، قال : موسى بني إسرائيل؟ قال : نعم ، قال : فما شأنك؟ قال : جئتك
لتعلمني مما علمت رشدا.
قال : أما يكفيك
أن التوراة بيديك وأن الوحي يأتيك يا موسى ، إن لي علما لا ينبغي لك أن تعلمه ،
وإن لك علما لا ينبغي لي أن أعلمه ، فأخذ طائر بمنقاره من البحر فقال : والله ما
علمي وعلمك في جنب علم الله إلا كما أخذ هذا الطائر بمنقاره من البحر ، حتى إذا
ركبا في السفينة وجدا معابر صغارا تحمل أهل هذا الساحل إلى هذا الساحل الآخر ،
عرفوه فقالوا : عبد الله الصالح ، قال : فقلنا لسعيد بن جبير خضر ، قال : نعم لا
نحمله بأجر ، فخرقها ووتد فيها وتدا ، قال موسى (أَخَرَقْتَها
لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً) قال مجاهد : منكرا ، (قالَ أَلَمْ أَقُلْ
إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) كانت الأولى نسيانا ، والثانية شرطا ، والثالثة عمدا ، (قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا
تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً
فَقَتَلَهُ).
قال يعلى : قال
سعيد : وجد غلمانا يلعبون ، فأخذ غلاما كافرا ظريفا فأضجعه ثم ذبحه بالسكين ، فقال
أقتلت نفسا زكية لم تعمل الحنث؟ وابن عباس قرأها زكية مسلمة كقولك غلاما زكيا ،
فانطلقا فوجدا جدارا يريد أن ينقض فأقامه ، قال سعيد : بيده هكذا ودفع بيده
فاستقام ، قال : لو شئت لاتخذت عليه أجرا ، قال يعلى : حسبت أن سعيدا قال : فمسحه
بيده فاستقام ، قال : لو شئت لاتخذت عليه أجرا ، قال سعيد : أجرا نأكله ، وكان
وراءهم ملك ، وكان أمامهم ، قرأها ابن عباس : أمامهم ملك يزعمون ، عن غير سعيد ،
أنه هدد بن بدد ، والغلام المقتول اسمه يزعمون جيسور ملك يأخذ كل سفينة غصبا ،
فأردت إذا هي مرت به أن يدعها بعيبها ، فإذا جاوزوا أصلحوها فانتفعوا بها ، منهم
من يقول سدوها بقارورة ، ومنهم من يقول بالقار ، كان أبواه مؤمنين ، وكان هو كافرا
، فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا أن يحملهما حبه على أن يتابعاه على دينه ،
فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة ، كقوله : (أَقَتَلْتَ نَفْساً
زَكِيَّةً) ، وقوله : (وَأَقْرَبَ رُحْماً) هما به أرحم منهما بالأول الذي قتل خضر ، وزعم غير سعيد بن
جبير أنهما أبدلا جارية ، وأما داود بن أبي عاصم فقال عن غير واحد : إنها جارية.
قال عبد الرزاق :
أخبرنا معمر عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : خطب موسى عليهالسلام بني إسرائيل فقال : ما أحد أعلم بالله وبأمره مني ، فأمر
أن يلقى هذا الرجل فذكر نحو ما تقدم بزيادة ونقصان ، والله أعلم. وقال محمد بن
إسحاق عن الحسن بن عمارة ، عن الحكم بن عتيبة عن سعيد بن جبير قال : جلست عند ابن
عباس وعنده نفر من أهل الكتاب ، فقال بعضهم : يا أبا العباس إن نوفا ابن امرأة كعب
يزعم عن كعب أن موسى النبي الذي طلب العالم إنما هو موسى بن ميشا ، قال سعيد :
فقال ابن عباس : أنوف يقول هذا يا سعيد؟ فقلت له : نعم أنا سمعت نوفا يقول ذلك ،
قال : أنت سمعته يا سعيد؟ قال : نعم ،
قال : كذب نوف.
ثم قال ابن عباس :
حدثني أبي بن كعب عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن موسى بني إسرائيل سأل ربه ، فقال : أي رب إن كان في
عبادك أحد هو أعلم مني فدلني عليه ، فقال له : نعم في عبادي من هو أعلم منك ، ثم
نعت له مكانه وأذن له في لقيه ، فخرج موسى ومعه فتاه ومعه حوت مليح ، قد قيل له :
إذا حيي هذا الحوت في مكان ، فصاحبك هنالك وقد أدركت حاجتك ، فخرج موسى ومعه فتاه
ومعه ذلك الحوت يحملانه ، فسار حتى جهده السير وانتهى إلى الصخرة وإلى ذلك الماء ،
وذلك الماء ماء الحياة ، من شرب منه خلد ولا يقاربه شيء ميت إلا حيي ، فلما نزلا ومس
الحوت الماء حيي ، فاتخذ سبيله في البحر سربا ، فانطلقا فلما جاوزا النقلة قال
موسى لفتاه : آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا ، قال الفتى وذكر : أرأيت
إذ أوينا إلى الصخرة ، فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره ، واتخذ
سبيله في البحر عجبا ، قال ابن عباس فظهر موسى على الصخرة حتى إذا انتهيا إليها ،
فإذا رجل متلفف في كساء له ، فسلم موسى عليه فرد عليهالسلام ، ثم قال له : ما جاء بك إن كان لك في قومك لشغل؟ قال له
موسى : جئتك لتعلمني مما علمت رشدا. قال : إنك لن تستطيع معي صبرا ، وكان رجلا
يعلم علم الغيب ، قد علم ذلك ، فقال موسى : بلى.
قال : (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ
بِهِ خُبْراً) أي إنما تعرف ظاهر ما ترى من العدل ، ولم تحط من علم الغيب
بما أعلم (قالَ سَتَجِدُنِي
إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً) وإن رأيت ما يخالفني ، قال : (فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي
فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ) وإن أنكرته (حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ
مِنْهُ ذِكْراً) فانطلقا يمشيان على ساحل البحر يتعرضان الناس يلتمسان من
يخملهما ، حتى مرت بهما سفينة جديدة وثيقة لم يمر بهما من السفن شيء أحسن ، ولا
أجعل ولا أوثق منها ، فسأل أهلها أن يحملوهما فحملوهما ، فلما اطمأنا فيها ولجت
بهما مع أهلها ، أخرج منقارا له ومطرقة ، ثم عمد إلى ناحية فضرب فيها بالمنقار حتى
خرقها ، ثم أخذ لوحا فطبقه عليها ، ثم جلس عليها يرقعها ، فقال له موسى ورأى أمرا
أفظع به (أَخَرَقْتَها
لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ
لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ) أي بما تركت من عهدك (وَلا تُرْهِقْنِي
مِنْ أَمْرِي عُسْراً).
ثم خرجا من
السفينة ، فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية ، فإذا غلمان يلعبون خلفها ، فيهم غلام
ليس في الغلمان أظرف منه ، ولا أثرى ولا أوضأ منه فأخذه بيده وأخذ حجرا فضرب به
رأسه حتى دمغه فقتله ، قال : فرأى موسى أمرا فظيعا لا صبر عليه ، صبي صغير قتله لا
ذنب له ، قال : (أَقَتَلْتَ نَفْساً
زَكِيَّةً) أي صغيرة (بِغَيْرِ نَفْسٍ
لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ
مَعِيَ صَبْراً قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ
بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً) أي قد أعذرت في شأني (فَانْطَلَقا حَتَّى
إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما
فَوَجَدا
فِيها
جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ) فهدمه ثم قعد يبنيه ، فضجر موسى مما يراه يصنع من التكليف
وما ليس له عليه صبر فأقامه ، قال : (لَوْ شِئْتَ
لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) أي قد استطعمناهم فلم يطعمونا وضفناهم فلم يضيفونا ، ثم
قعدت تعمل من غير صنيعة ، ولو شئت لأعطيت عليه أجرا في عمله.
قال : (هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ
سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً أَمَّا
السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ
أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) وفي قراءة أبي بن كعب كل سفينة صالحة وإنما عبتها لأرده
عنها ، فسلمت منه حين رأى العيب الذي صنعت بها ، (وَأَمَّا الْغُلامُ
فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً
فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ
رُحْماً. وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ
وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ
يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما
فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) أي ما فعلته عن نفسي (ذلِكَ تَأْوِيلُ ما
لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) [الكهف : ٨٢] فكان
ابن عباس يقول : ما كان الكنز إلا علما.
وقال العوفي عن
ابن عباس قال : لما ظهر موسى وقومه على مصر أنزل قومه مصر ، فلما استقرت بهم الدار
أنزل الله أن ذكرهم بأيام الله ، فخطب قومه فذكر ما آتاهم الله من الخير والنعمة ،
وذكرهم إذ نجاهم الله من آل فرعون ، وذكرهم هلاك عدوهم وما استخلفهم الله في الأرض
، وقال : كلم الله نبيكم تكليما واصطفاني لنفسه ، وأنزل عليّ محبة منه ، وآتاكم
الله من كل ما سألتموه ، فنبيكم أفضل أهل الأرض وأنتم تقرؤون التوراة ، فلم يترك
نعمة أنعم الله عليهم إلا وعرفهم إياها ، فقال له رجل من بني إسرائيل : هم كذلك يا
نبي الله قد عرفنا الذي تقول : فهل على الأرض أحد أعلم منك يا نبي الله؟ قال : لا.
فبعث الله جبرائيل إلى موسى عليهالسلام فقال : إن الله يقول : وما يدريك أين أضع علمي ، بلى إن لي
على شط البحر رجلا هو أعلم منك.
قال ابن عباس : هو
الخضر ، فسأل موسى ربه أن يريه إياه ، فأوحى إليه أن ائت البحر ، فإنك تجد على شط
البحر حوتا ، فخذه فادفعه إلى فتاك ثم الزم شاطئ البحر ، فإذا نسيت الحوت وهلك منك
، فثم تجد العبد الصالح الذي تطلب. فلما طال سفر موسى نبي الله ونصب فيه سأل فتاه
عن الحوت ، فقال له فتاه وهو غلامه (أَرَأَيْتَ إِذْ
أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا
الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ) لك ، قال الفتى : لقد رأيت الحوت حين اتخذ سبيله في البحر
سربا فأعجب من ذلك ، فرجع موسى حتى أتى الصخرة ، فوجد الحوت ، فجعل الحوت يضرب في
البحر ويتبعه موسى ، وجعل موسى يقدم عصاه يفرج بها عنه الماء يتبع الحوت ، وجعل
الحوت لا يمس شيئا من البحر إلا يبس عنه الماء حتى يكون صخرة ، فجعل نبي الله يعجب
من ذلك حتى انتهى به الحوت إلى جزيرة من جزائر البحر فلقى الخضر بها ،
فسلم عليه فقال
الخضر : وعليك السلام ، وأنى يكون السلام بهذه الأرض ، ومن أنت؟ قال : أنا موسى ،
قال الخضر : صاحب بني إسرائيل؟ قال : نعم ، فرحب به وقال : ما جاء بك؟ قال جئتك (عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ
رُشْداً قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) يقول : لا تطيق ذلك ، قال : (سَتَجِدُنِي إِنْ
شاءَ اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً) قال : فانطلق به ،
وقال له: لا تسألني عن شيء أصنعه حتى أبين شأنه ، فذلك قوله : (حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً).
وقال الزهري عن
عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس أنه تمارى هو والحر بن قيس بن
حصن الفزاري في صاحب موسى فقال ابن عباس : هو الخضر ، فمر بهما أبي بن كعب فدعاه
ابن عباس فقال : إني تماريت أنا وصاحبي هذا في صاحب موسى الذي سأل السبيل إلى لقيه
، فهل سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يذكر شأنه؟ قال : إني سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول «بينا موسى في ملأ من بني إسرائيل إذ جاءه رجل ، فقال
: تعلم مكان رجل أعلم منك؟ قال : لا ، فأوحى الله إلى موسى ، بلى عبدنا خضر ، فسأل
موسى السبيل إلى لقيه ، فجعل الله له الحوت آية ، وقيل له : إذا فقدت الحوت فارجع
فإنك ستلقاه ، فكان موسى يتبع أثر الحوت في البحر ، فقال فتى موسى لموسى : أرأيت
إذ أوينا إلى الصخرة ، فإني نسيت الحوت ، قال موسى (ذلِكَ ما كُنَّا
نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً) فوجدا عبدنا خضرا ، فكان من شأنهما ما قص الله في كتابه.
(قالَ لَهُ مُوسى هَلْ
أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (٦٦) قالَ إِنَّكَ لَنْ
تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٦٧) وَكَيْفَ تَصْبِرُ
عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (٦٨)
قالَ
سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (٦٩) قالَ فَإِنِ
اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً)
(٧٠)
يخبر تعالى عن قيل
موسى عليهالسلام لذلك الرجل العالم وهو الخضر ، الذي خصه الله بعلم لم يطلع
عليه موسى ، كما أنه أعطى موسى من العلم ما لم يعطه الخضر (قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ) سؤال تلطف لا على وجه الإلزام والإجبار ، وهكذا ينبغي أن
يكون سؤال المتعلم من العالم. وقوله : (أَتَّبِعُكَ) أي أصحبك وأرافقك (عَلى أَنْ
تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً) أي مما علمك الله شيئا أسترشد به في أمري من علم نافع وعمل
صالح ، فعندها (قالَ) الخضر لموسى (إِنَّكَ لَنْ
تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) أي إنك لا تقدر على مصاحبتي لما ترى مني من الأفعال التي
تخالف شريعتك ، لأني على علم من علم الله ما علمكه الله ، وأنت على علم من علم
الله ما علمنيه الله ، فكل منا مكلف بأمور من الله دون صاحبه ، وأنت لا تقدر على
صحبتي.
(وَكَيْفَ تَصْبِرُ
عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً) فأنا أعرف أنك ستنكر علي ما أنت معذور فيه ، ولكن ما اطلعت
على حكمته ومصلحته الباطنة التي اطلعت أنا عليها دونك (قالَ) أي موسى (سَتَجِدُنِي إِنْ
شاءَ اللهُ صابِراً) أي على ما أرى من أمورك (وَلا أَعْصِي لَكَ
أَمْراً) أي
ولا أخالفك في شيء
فعند ذلك شارطه الخضر عليهالسلام (قالَ فَإِنِ
اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ) أي ابتداء (حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ
مِنْهُ ذِكْراً) أي حتى أبدأك أنا به قبل أن تسألني.
قال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا يعقوب عن هارون بن عنترة عن أبيه
، عن ابن عباس قال : سأل موسى عليهالسلام ربه عزوجل فقال : أي رب أي عبادك أحب إليك؟ قال : الذي يذكرني ولا
ينساني. قال : فأي عبادك أقضى؟ قال : الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى. قال : أي رب
أي عبادك أعلم؟ قال : الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمة تهديه إلى
هدى أو ترده عن ردى ، قال : أي رب هل في أرضك أحد أعلم مني؟ قال : نعم قال : فمن
هو؟ قال : الخضر. قال : وأين أطلبه؟ قال : على الساحل عند الصخرة التي ينفلت عندها
الحوت. قال : فخرج موسى يطلبه حتى كان ما ذكر الله ، وانتهى موسى إليه عند الصخرة
، فسلم كل واحد منهما على صاحبه ، فقال له موسى : إني أحب أن أصحبك ، قال : إنك لن
تطيق صحبتي قال : بلى. قال : فإن صحبتني (فَلا تَسْئَلْنِي
عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً) قال : فسار به في البحر حتى انتهى إلى مجمع البحرين ، وليس
في الأرض مكان أكثر ماء منه ، قال : وبعث الله الخطاف ، فجعل يستقي منه بمنقاره ،
فقال لموسى : كم ترى هذا الخطاف رزأ من هذا الماء؟ قال : ما أقل ما رزأ. قال : يا
موسى ، فإن علمي وعلمك في علم الله كقدر ما استقى هذا الخطاف من هذا الماء ، وكان
موسى قد حدث نفسه أنه ليس أحد أعلم منه أو تكلم به ، فمن ثم أمر أن يأتي الخضر ،
وذكر تمام الحديث في خرق السفينة ، وقتل الغلام ، وإصلاح الجدار ، وتفسيره له ذلك.
(فَانْطَلَقا حَتَّى
إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها
لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (٧١)
قالَ
أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٢)
قالَ
لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً)
(٧٣)
يقول تعالى مخبرا
عن موسى وصاحبه وهو الخضر ، أنهما انطلقا لما توافقا واصطحبا ، واشترط عليه أن لا
يسأله عن شيء أنكره حتى يكون هو الذي يبتدئه من تلقاء نفسه بشرحه وبيانه ، فركبا
في السفينة ، وقد تقدم في الحديث كيف ركبا في السفينة ، وأنهم عرفوا الخضر ،
فحملوهما بغير نول ، يعني بغير أجرة ، تكرمة للخضر ، فلما استقلت بهم السفينة في
البحر ولججت ، أي دخلت اللجة ، قام الخضر فخرقها ، واستخرج لوحا من ألواحها ثم
رقعها ، فلم يملك موسى عليهالسلام نفسه أن قال منكرا عليه (أَخَرَقْتَها
لِتُغْرِقَ أَهْلَها) وهذه اللام لام العاقبة لا لام التعليل ، كما قال الشاعر :
[الوافر]
لدوا للموت وابنوا
للخراب
__________________
(لَقَدْ جِئْتَ
شَيْئاً إِمْراً) قال مجاهد : منكرا. وقال قتادة : عجبا ، فعندها قال له
الخضر مذكرا بما تقدم من الشرط (أَلَمْ أَقُلْ
إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) يعني وهذا الصنيع فعلته قصدا ، وهو من الأمور التي اشترطت
معك أن لا تنكر علي فيها ، لأنك لم تحط بها خبرا ولها دخل هو مصلحة ولم تعلمه أنت (قالَ) أي موسى (لا تُؤاخِذْنِي بِما
نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً) أي لا تضيق علي ولا تشدد علي ، ولهذا تقدم في الحديث عن
رسول اللهصلىاللهعليهوسلم أنه قال : «كانت الأولى من موسى نسيانا».
(فَانْطَلَقا حَتَّى
إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ
نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً
(٧٤) قالَ
أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٥) قالَ إِنْ
سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي
عُذْراً)
(٧٦)
يقول تعالى : (فَانْطَلَقا) أي بعد ذلك (حَتَّى إِذا لَقِيا
غُلاماً فَقَتَلَهُ) وقد تقدم أنه كان يلعب مع الغلمان في قرية من القرى ، وأنه
عمد إليه من بينهم ، وكان أحسنهم وأجملهم وأضوأهم فقتله ، وروي أنه احتز رأسه ،
وقيل رضخه بحجر ، وفي رواية اقتلعه بيده ، والله أعلم ، فلما شاهد موسى عليهالسلام هذا ، أنكره أشد من الأول ، وبادر فقال : (أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً) أي صغيرة لم تعمل الحنث ولا عملت إثما بعد فقتلته (بِغَيْرِ نَفْسٍ) أي بغير مستند لقتله (لَقَدْ جِئْتَ
شَيْئاً نُكْراً) أي ظاهر النكارة (قالَ أَلَمْ أَقُلْ
لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) فأكد أيضا في التذكار بالشرط الأول ، فلهذا قال له موسى : (إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها) أي إن اعترضت عليك بشيء بعد هذه المرة (فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ
لَدُنِّي عُذْراً) أي أعذرت إليّ مرة بعد مرة.
قال ابن جرير : حدثنا عبد الله بن أبي زياد ، حدثنا حجاج بن محمد عن
حمزة الزيات عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، عن أبي بن كعب قال :
كان النبي صلىاللهعليهوسلم إذا ذكر أحدا فدعا له بدأ بنفسه ، فقال ذات يوم : «رحمة
الله علينا وعلى موسى لو لبث مع صاحبه لأبصر العجب ، ولكنه قال : إن سألتك عن شيء
بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا».
(فَانْطَلَقا حَتَّى
إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما
فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ
لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (٧٧)
قالَ
هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ
__________________
عَلَيْهِ
صَبْراً)
(٧٨)
يقول تعالى مخبرا
عنهما إنهما انطلقا بعد المرتين الأوليين (حَتَّى إِذا أَتَيا
أَهْلَ قَرْيَةٍ) روى ابن جرير عن ابن سيرين أنها الأيلة ، وفي الحديث «حتى
إذا أتيا أهل قرية لئاما» أي بخلاء (اسْتَطْعَما أَهْلَها
فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ) إسناد الإرداة هاهنا إلى الجدار على سبيل الاستعارة ، فإن
الإرادة في المحدثات بمعنى الميل ، والانقضاض هو السقوط. وقوله : (فَأَقامَهُ) أي فرده إلى حالة الاستقامة ، وقد تقدم في الحديث أنه رده
بيديه ودعمه حتى رد ميله ، وهذا خارق ، فعند ذلك قال موسى له (لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ
أَجْراً) أي لأجل أنهم لم يضيفونا ، كان ينبغي أن لا تعمل لهم مجانا
(قالَ هذا فِراقُ
بَيْنِي وَبَيْنِكَ) أي لأنك شرطت عند قتل الغلام أنك إن سألتني عن شيء بعدها ،
فلا تصاحبني فهو فراق بيني وبينك (سَأُنَبِّئُكَ
بِتَأْوِيلِ) أي بتفسير (ما لَمْ تَسْتَطِعْ
عَلَيْهِ صَبْراً).
(أَمَّا السَّفِينَةُ
فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ
وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً)
(٧٩)
هذا تفسير ما أشكل
أمره على موسى عليهالسلام ، وما كان أنكر ظاهره ، وقد أظهر الله الخضرعليهالسلام على حكمة باطنة ، فقال : إن السفينة إنما خرقتها لأعيبها
لأنهم كانوا يمرون بها على ملك من الظلمة (يَأْخُذُ كُلَّ
سَفِينَةٍ) صالحة أي جيدة (غَصْباً) فأردت أن أعيبها لأرده عنها لعيبها ، فينتفع بها أصحابها
المساكين الذين لم يكن لهم شيء ينتفعون به غيرها ، وقد قيل إنهم أيتام ، وروى ابن
جريج عن وهب بن سليمان ، عن شعيب الجبائي أن اسم الملك هدد بن بدد ، وقد تقدم أيضا في رواية البخاري ، وهو مذكور في التوراة
في ذرية العيص بن إسحاق وهو من الملوك المنصوص عليهم في التوراة ، والله أعلم.
(وَأَمَّا الْغُلامُ
فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً
(٨٠) فَأَرَدْنا
أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً)
(٨١)
قد تقدم أن هذا
الغلام كان اسمه جيسور. وفي هذا الحديث عن ابن عباس عن أبي بن كعب ، عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا» رواه
ابن جرير من حديث ابن إسحاق عن سعيد عن ابن عباس به ، ولهذا قال : (فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا
أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً) أي يحملهما حبه على متابعته على الكفر ، قال قتادة : قد
فرح به أبواه حين ولد ، وحزنا عليه حين قتل ، ولو بقي لكان فيه هلاكهما ، فليرض
امرؤ بقضاء الله ، فإن
__________________
قضاء الله للمؤمن
فيما يكره خير له من قضائه فيما يحب ، وصح في الحديث «لا يقضي الله لمؤمن قضاء إلا
كان خيرا له» وقال تعالى : (وَعَسى أَنْ
تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) [البقرة: ٢١٦] وقوله (فَأَرَدْنا أَنْ
يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً) أي ولدا أزكى من هذا ، وهما أرحم به منه ، قاله ابن جريج.
وقال قتادة : أبرّ بوالديه ، وقد تقدم أنهما بدلا جارية. وقيل: لما قتله الخضر
كانت أمه حاملا بغلام مسلم ، قاله ابن جريج.
(وَأَمَّا الْجِدارُ
فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما
وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما
وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي
ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً)
(٨٢)
في هذه الآية دليل
على إطلاق القرية على المدينة ، لأنه قال أولا (حَتَّى إِذا أَتَيا
أَهْلَ قَرْيَةٍ) وقال هاهنا (فَكانَ لِغُلامَيْنِ
يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ) كما قال تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ
قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ) [محمد : ١٣] (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا
الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف : ٣١]
يعني مكة والطائف ، ومعنى الآية أن هذا الجدار إنما أصلحته لأنه كان لغلامين
يتيمين في المدينة ، وكان تحته كنز لهما. قال عكرمة وقتادة وغير واحد : وكان تحته
مال مدفون لهما ، وهو ظاهر السياق من الآية ، وهو اختيار ابن جريررحمهالله.
وقال العوفي عن
ابن عباس : كان تحته كنز علم ، وكذا قال سعيد بن جبير ، وقال مجاهد : صحف فيها علم
، وقد ورد في حديث مرفوع ما يقوي ذلك. قال الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد
الخالق البزار في مسنده المشهور : حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري ، حدثنا بشر بن
المنذر ، حدثنا الحارث بن عبد الله اليحصبي عن عياش بن عباس الغتباني ، عن ابن
حجيرة عن أبي ذر رفعه قال : «إن الكنز الذي ذكره الله في كتابه لوح من ذهب مصمت ،
مكتوب فيه : عجبت لمن أيقن بالقدر لم نصب ، وعجبت لمن ذكر النار لم ضحك ، وعجبت
لمن ذكر الموت لم غفل ، لا إله إلا الله محمد رسول الله».
وبشر بن المنذر
هذا يقال له قاضي المصيصة. قال الحافظ أبو جعفر العقيلي في حديثه وهم ، وقد روي في
هذا آثار عن السلف ، فقال ابن جرير في تفسيره : حدثني يعقوب ، حدثنا الحسن بن حبيب
ابن ندبة ، حدثنا سلمة عن نعيم العنبري وكان من جلساء الحسن قال : سمعت الحسن يعني
البصري يقول في قوله : (وَكانَ تَحْتَهُ
كَنْزٌ لَهُما) قال لوح من ذهب مكتوب فيه : بسم الله الرحمن الرحيم ، عجبت
لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن ، وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح ، وعجبت لمن يعرف
الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها ، لا إله إلا الله محمد رسول الله.
وحدثني يونس ،
أخبرنا ابن وهب ، أخبرني عبد الله بن عياش عن عمر مولى غفرة قال : إن
الكنز الذي قال
الله في السورة التي يذكر فيها الكهف (وَكانَ تَحْتَهُ
كَنْزٌ لَهُما) قال : كان لوحا من ذهب مصمت ، مكتوب فيه : بسم الله الرحمن
الرحيم ، عجب لمن عرف النار ثم ضحك ، عجب لمن أيقن بالقدر ثم نصب ، عجب لمن أيقن
بالموت ثم أمن ، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
وحدثني أحمد بن
حازم الغفاري ، حدثتنا هنادة بنت مالك الشيبانية قالت سمعت صاحبي حماد بن الوليد
الثقفي يقول : سمعت جعفر بن محمد يقول في قول الله تعالى : (وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما) قال سطران ونصف لم يتم الثالث : عجبت للمؤمن بالرزق كيف
يتعب ، وعجبت للمؤمن بالحساب كيف يغفل ، وعجبت للمؤمن بالموت كيف يفرح. وقد قال
الله (وَإِنْ كانَ مِثْقالَ
حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) [الأنبياء : ٤٧]
قالت : وذكر أنهما حفظا بصلاح أبيهما ، ولم يذكر منهما صلاح ، وكانت بينهما وبين
الأب الذي حفظا به سبعة آباء ، وكان نساجا ، وهذا الذي ذكره هؤلاء الأئمة وورد به
الحديث المتقدم ، وإن صح لا ينافي قول عكرمة أنه كان مالا ، لأنهم ذكروا أنه كان
لوحا من ذهب ، وفيه مال جزيل أكثر ما زادوا أنه كان مودعا فيه علم ، وهو حكم
ومواعظ ، والله أعلم.
وقوله : (وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً) فيه دليل على أن الرجل الصالح يحفظ في ذريته وتشمل بركة
عبادته لهم في الدنيا والآخرة بشفاعته فيهم ، ورفع درجتهم إلى أعلى درجة في الجنة ،
لتقر عينه بهم ، كما جاء في القرآن ووردت به السنة. قال سعيد بن جبير عن ابن عباس
: حفظا بصلاح أبيهما ، ولم يذكر لهما صلاحا ، وتقدم أنه كان الأب السابق ، فالله
أعلم. وقوله : (فَأَرادَ رَبُّكَ
أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما) هاهنا أسند الإرادة إلى الله تعالى ، لأن بلوغهما الحلم لا
يقدر عليه إلا الله ، وقال في الغلام (فَأَرَدْنا أَنْ
يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً) وقال في السفينة (فَأَرَدْتُ أَنْ
أَعِيبَها) فالله أعلم.
وقوله تعالى : (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ
عَنْ أَمْرِي) أي هذا الذي فعلته في هذه الأحوال الثلاثة ، إنما هو من
رحمة الله بمن ذكرنا من أصحاب السفينة ، ووالدي الغلام وولدي الرجل الصالح ، وما
فعلته عن أمري أي لكني أمرت به ووقفت عليه ، وفيه دلالة لمن قال بنبوة الخضر عليهالسلام مع ما تقدم من قوله : (فَوَجَدا عَبْداً
مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا
عِلْماً) وقال آخرون : كان رسولا. وقيل : بل كان ملكا ، نقله
الماوردي في تفسيره ، وذهب كثيرون إلى أنه لم يكن نبيا ، بل كان وليا ، فالله
أعلم.
وذكر ابن قتيبة في
المعارف أن اسم الخضر بليا بن ملكان بن فالغ بن عامر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن
نوح عليهالسلام ، قالوا : وكان يكنى أبا العباس ، ويلقب بالخضر ، وكان من
أبناء الملوك ، ذكره النووي في تهذيب الأسماء ، وحكى هو وغيره في كونه باقيا إلى
الآن ، ثم إلى يوم القيامة قولين ، ومال هو وابن الصلاح إلى بقائه ، وذكروا في ذلك
حكايات وآثارا
عن السلف وغيرهم ،
وجاء ذكره في بعض الأحاديث ، ولا يصح شيء من ذلك ، وأشهرها حديث التعزية ، وإسناده
ضعيف.
ورجح آخرون من
المحدثين وغيرهم خلاف ذلك ، واحتجوا بقوله تعالى : (وَما جَعَلْنا
لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ) [الأنبياء : ٣٤]
وبقول النبي صلىاللهعليهوسلم يوم بدر «اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض» وبأنه لم ينقل أنه جاء رسول الله صلىاللهعليهوسلم ولا حضر عنده ولا قاتل معه ، ولو كان حيا لكان من أتباع
النبي صلىاللهعليهوسلم وأصحابه ، لأنه عليهالسلام كان مبعوثا إلى جميع الثقلين : الجن والإنس ، وقد قال : «لو
كان موسى وعيسى حيين لما وسعهما إلا اتباعي» وأخبر قبل موته بقليل أنه لا يبقى ممن
هو على وجه الأرض إلى مائة سنة من ليلته تلك عين تطرف ، إلى غير ذلك من الدلائل.
قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن آدم ، حدثنا ابن المبارك عن معمر عن همام
بن منبه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلىاللهعليهوسلم في الخضر قال : «إنما سمي خضرا لأنه جلس على فروة بيضاء ،
فإذا هي تهتز من تحته خضراء» ورواه أيضا عن عبد الرزاق ، وقد ثبت أيضا في صحيح البخاري
عن همام عن أبي هريرة أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة ، فإذا هي تهتز
من تحته خضراء» والمراد بالفروة هاهنا الحشيش اليابس وهو الهشيم من النبات
، قاله عبد الرزاق؟؟؟. وقيل : المراد بذلك وجه الأرض. وقوله : (ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ
عَلَيْهِ صَبْراً) أي هذا تفسير ما ضقت به ذرعا ، ولم تصبر حتى أخبرك به
ابتداء ، ولما أن فسره له وبينه ووضحه وأزال المشكل قال (تَسْطِعْ) وقبل ذلك كان الإشكال قويا ثقيلا ، فقال (سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ
تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) ، فقابل الأثقل بالأثقل ، والأخف بالأخف ، كما قال : (فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ) وهو الصعود إلى أعلاه (وَمَا اسْتَطاعُوا
لَهُ نَقْباً) [الكهف : ٩٧] وهو أشق من ذلك ، فقابل كلا بما يناسبه لفظا
ومعنى ، والله أعلم.
فإن قيل : فما بال
فتى موسى ذكر في أول القصة ثم لم يذكر بعد ذلك؟ فالجواب أن المقصود بالسياق إنما
هو قصة موسى مع الخضر وذكر ما كان بينهما ، وفتى موسى معه تبع ، وقد صرح في
الأحاديث المتقدمة في الصحاح وغيرها أنه يوشع بن نون ، وهو الذي كان يلي بني
إسرائيل بعد موسى عليهالسلام ، هذا يدل على ضعف ما أورده ابن جرير في تفسيره حيث قال :
حدثنا ابن حميد ، حدثنا سلمة : حدثني ابن إسحاق عن الحسن بن عمارة عن أبيه عن
عكرمة قال : قيل لابن عباس : لم نسمع لفتى موسى بذكر من حديث ، وقد كان معه؟ قال
ابن
__________________
عباس فيما يذكر من
حديث الفتى ، قال : شرب الفتى من الماء فخلد ، فأخذه العالم فطابق به سفينة ، ثم
أرسله في البحر فإنها لتموج به إلى يوم القيامة ، وذلك أنه لم يكن له أن يشرب منه
فشرب ، إسناده ضعيف ، والحسن متروك ، وأبوه غير معروف.
(وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ
ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً
(٨٣) إِنَّا
مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً)
(٨٤)
يقول تعالى لنبيه صلىاللهعليهوسلم (وَيَسْئَلُونَكَ) يا محمد (عَنْ ذِي
الْقَرْنَيْنِ) أي عن خبره وقد قدمنا أنه بعث كفار مكة إلى أهل الكتاب
يسألون منهم ما يمتحنون به النبي صلىاللهعليهوسلم فقالوا : سلوه عن رجل طواف في الأرض ، وعن فتية لا يدرى ما
صنعوا ، وعن الروح ، فنزلت سورة الكهف ، وقد أورد ابن جرير هاهنا والأموي في مغازيه حديثا أسنده ، وهو ضعيف ، عن عقبة
بن عامر أن نفرا من اليهود جاءوا يسألون النبي صلىاللهعليهوسلم عن ذي القرنين ، فأخبرهم بما جاءوا له ابتداء ، فكان فيما
أخبرهم به أنه كان شابا من الروم ، وأنه بنى الاسكندرية ، وأنه علا به ملك إلى
السماء وذهب به إلى السد ، ورأى أقواما وجوههم مثل وجه الكلاب ، وفيه طول ونكارة ،
ورفعه لا يصح ، وأكثر ما فيه أنه من أخبار بني إسرائيل.
والعجب أن أبا
زرعة الرازي مع جلالة قدره ، ساقه بتمامه في كتابه دلائل النبوة ، وذلك غريب منه ،
وفيه من النكارة أنه من الروم ، وإنما الذي كان من الروم الإسكندر الثاني ، وهو
ابن فيلبس المقدوني الذي تؤرخ به الروم ، فأما الأول فقد ذكر الأزرقي وغيره أنه
طاف بالبيت مع إبراهيم الخليل عليهالسلام أول ما بناه وآمن به واتبعه ، وكان وزيره الخضر عليهالسلام ، وأما الثاني فهو اسكندر بن فيليبس المقدوني اليوناني ،
وكان وزيره أرسطاطاليس الفيلسوف المشهور. والله أعلم. وهو الذي تؤرخ من مملكته ملة
الروم ، وقد كان قبل المسيح عليهالسلام بنحو ثلاثمائة سنة ، فأما الأول المذكور في القرآن ، فكان
في زمن الخليل ، كما ذكره الأزرقي وغيره ، وأنه طاف مع الخليل عليهالسلام بالبيت العتيق لما بناه إبراهيم عليهالسلام ، وقرب إلى الله قربانا ، وقد ذكرنا طرفا صالحا من أخباره
في كتاب البداية والنهاية بما فيه كفاية ، ولله الحمد.
وقال وهب بن منبه
: كان ملكا ، وإنما سمي ذا القرنين لأن صفحتي رأسه كانتا من نحاس ، قال : وقال بعض
أهل الكتاب : لأنه ملك الروم وفارس. وقال بعضهم : كان في رأسه شبه القرنين. وقال
سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي الطفيل قال : سئل علي رضي الله عنه عن ذي
القرنين. فقال : كان عبدا ناصحا لله ، فناصحه ، دعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه
، فمات ، فأحياه الله ، فدعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه فمات ، فسمي ذا
القرنين ، وكذا
__________________
رواه شعبة عن
القاسم بن أبي بزة عن أبي الطفيل سمع عليا يقول ذلك. ويقال : إنه سمي ذا القرنين
لأنه بلغ المشارق والمغارب من حيث يطلع قرن الشمس ويغرب.
وقوله : (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ) أي أعطيناه ملكا عظيما ممكنا فيه من جميع ما يؤتى الملوك
من التمكين والجنود وآلات الحرب والحصارات ، ولهذا ملك المشارق والمغارب من الأرض
، ودانت له البلاد ، وخضعت له ملوك العباد ، وخدمته الأمم من العرب والعجم ، ولهذا
ذكر بعضهم أنه إنما سمي ذا القرنين لأنه بلغ قرني الشمس مشرقها ومغربها. وقوله : (وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً) قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والسدي وقتادة
والضحاك وغيرهم : يعني علما. وقال قتادة أيضا في قوله (وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً) قال : منازل الأرض وأعلامها.
وقال عبد الرحمن
بن زيد بن أسلم في قوله : (وَآتَيْناهُ مِنْ
كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً) قال : تعليم الألسنة ، قال : كان لا يغزو قوما إلا كلمهم
بلسانهم ، وقال ابن لهيعة ، حدثني سالم بن غيلان عن سعيد بن أبي هلال أن معاوية بن
أبي سفيان قال لكعب الأحبار : أنت تقول : إن ذا القرنين كان يربط خيله بالثريا؟
فقال له كعب : إن كنت قلت ذلك فإن الله تعالى قال : (وَآتَيْناهُ مِنْ
كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً) وهذا الذي أنكره معاوية رضي الله عنه على كعب الأحبار هو
الصواب ، والحق مع معاوية في ذلك الإنكار ، فإن معاوية كان يقول عن كعب : إن كنا
لنبلو عليه الكذب ، يعني فيما ينقله ، لا أنه كان يتعمد نقل ما ليس في صحفه ، ولكن
الشأن في صحفه أنها من الإسرائيليات التي غالبها مبدل مصحف محرف مختلق ، ولا حاجة
لنا مع خبر الله تعالى ورسول اللهصلىاللهعليهوسلم إلى شيء منها بالكلية ، فإنه دخل منها على الناس شر كثير
وفساد عريض. وتأويل كعب قول الله (وَآتَيْناهُ مِنْ
كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً) واستشهاده في ذلك على ما يجده في صحفه من أنه كان يربط
خيله بالثريا غير صحيح ولا مطابق ، فإنه لا سبيل للبشر إلى شيء من ذلك ، ولا إلى
الترقي في أسباب السموات ، وقد قال الله في حق بلقيس (وَأُوتِيَتْ مِنْ
كُلِّ شَيْءٍ) [النمل : ٢٣] أنه
مما يؤتى مثلها من الملوك ، وهكذا ذو القرنين ، يسر الله له الأسباب ، أي الطرق
والوسائل إلى فتح الأقاليم والرساتيق والبلاد والأراضي ، وكسر الأعداء وكبت ملوك
الأرض وإذلال أهل الشرك قد أوتي من كل شيء مما يحتاج إليه مثله سببا والله أعلم.
وفي المختارة
للحافظ الضياء المقدسي من طريق قتيبة عن أبي عوانة عن سماك بن حرب عن حبيب بن حماز
قال : كنت عند علي رضي الله عنه وسأله رجل عن ذي القرنين كيف بلغ المشرق والمغرب؟
فقال سبحان الله سخر له السحاب وقدر له الأسباب وبسط له اليد.
(فَأَتْبَعَ سَبَباً (٨٥) حَتَّى إِذا بَلَغَ
مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها
قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ
تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (٨٦) قالَ أَمَّا مَنْ
ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً
نُكْراً (٨٧)
وَأَمَّا
مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ
أَمْرِنا يُسْراً)
(٨٨)
قال ابن عباس (فَأَتْبَعَ سَبَباً) يعني بالسبب المنزل ، وقال مجاهد (فَأَتْبَعَ سَبَباً) منزلا وطريقا ما بين المشرق والمغرب ، وفي رواية عن مجاهد (سَبَباً) قال : طريقا في الأرض وقال قتادة : أي اتبع منازل الأرض
ومعالمها ، وقال الضحاك (فَأَتْبَعَ سَبَباً) أي المنازل ، وقال سعيد بن جبير في قوله : (فَأَتْبَعَ سَبَباً) قال : علما ، وهكذا قال عكرمة وعبيد بن يعلى والسدي ، وقال
مطر : معالم وآثار كانت قبل ذلك.
وقوله : (حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ) أي فسلك طريقا حتى
وصل إلى أقصى ما يسلك فيه من الأرض من ناحية المغرب وهو مغرب الأرض ، وأما الوصول
إلى مغرب الشمس من السماء فمتعذر ، وما يذكره أصحاب القصص والأخبار من أنه سار في
الأرض مدة ، والشمس تغرب من ورائه ، فشيء لا حقيقة له ، وأكثر ذلك من خرافات أهل الكتاب
واختلاف زنادقتهم وكذبهم ، وقوله : (وَجَدَها تَغْرُبُ
فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) أي رأى الشمس في منظره تغرب في البحر المحيط ، وهذا شأن كل
من انتهى إلى ساحله يراها كأنها تغرب فيه وهي لا تفارق الفلك الرابع الذي هي مثبتة
فيه لا تفارقه ، والحمئة مشتقة على إحدى القراءتين من الحمأة وهو الطين ، كما قال
تعالى : (إِنِّي خالِقٌ
بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) [الحجر : ٢٨] أي
طين أملس ، وقد تقدم بيانه.
وقال ابن جرير : حدثني يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أنبأنا نافع بن أبي نعيم
، سمعت عبد الرحمن الأعرج يقول : كان ابن عباس يقول في عين حمئة ثم فسرها ذات حمئة
، قال نافع : وسئل عنها كعب الأحبار ، فقال : أنتم أعلم بالقرآن مني ، ولكني أجدها
في الكتاب تغيب في طينة سوداء ، وكذا روى غير واحد عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد
وغير واحد. وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا محمد بن دينار عن سعد بن أوس عن مصدع ،
عن ابن عباس عن أبي بن كعب أن النبي صلىاللهعليهوسلم أقرأه حمئة. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : وجدها
تغرب في عين حامية ، يعني حارة ، وكذا قال الحسن البصري. وقال ابن جرير : والصواب
أنهما قراءتان مشهورتان وأيهما قرأ القارئ فهو مصيب ، قلت : ولا منافاة بين
معنييهما إذ قد تكون حارة لمجاورتها وهج الشمس عند غروبها وملاقاتها الشعاع بلا
حائل ، وحمئة في ماء وطين أسود ، كما قال كعب الأحبار وغيره.
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن المثنى حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا العوام
حدثني مولى لعبد الله بن عمرو عن عبد الله قال نظر رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى الشمس حين غابت فقال : «في
__________________
نار الله الحامية
لولا ما يزعها من أمر الله لأحرقت ما على الأرض».
قلت : ورواه
الإمام أحمد عن يزيد بن هارون وفي صحة رفع هذا الحديث نظر ولعله من
كلام عبد الله بن عمرو من زاملتيه اللتين وجدهما يوم اليرموك والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم
حدثنا حجاج بن حمزة حدثنا محمد يعني ابن بشر حدثنا عمرو بن ميمون أنبأنا ابن حاضر
أن ابن عباس ذكر له أن معاوية بن أبي سفيان قرأ الآية التي في سورة الكهف «تغرب في
عين حامية» قال ابن عباس لمعاوية ما نقرؤها إلا حمئة ، فسأل معاوية عبد الله بن
عمرو كيف تقرؤها؟ فقال : عبد الله كما قرأتها ، قال ابن عباس فقلت لمعاوية في بيتي
نزل القرآن ، فأرسل إلى كعب فقال له أين تجد الشمس تغرب في التوراة؟ فقال له كعب
سل أهل العربية فإنهم أعلم بها ، وأما أنا فإني أجد الشمس تغرب في التوراة في ماء
وطين وأشار بيده إلى المغرب قال ابن حاضر : لو أني عندك أفدتك بكلام تزداد فيه
بصيرة في حمئة ، قال ابن عباس : وإذا ما هو؟ قلت : فيما يؤثر من قول تبع فيما ذكر
به ذا القرنين في تخلقه بالعلم واتباعه إياه : [الكامل]
بلغ المشارق
والمغارب يبتغي
|
|
أسباب أمر من
حكيم مرشد
|
فرأى مغيب الشمس
عند غروبها
|
|
في عين ذي خلب
وثأط حرمد
|
فقال ابن عباس :
ما الخلب؟ قلت : الطين بكلامهم ، قال : فما الثأط؟ قلت : الحمأة ، قال : فما
الحرمد؟ قلت : الأسود ، قال : فدعا ابن عباس رجلا أو غلاما فقال : اكتب ما يقول
هذا الرجل وقال سعيد بن جبير بينا ابن عباس يقرأ سورة الكهف فقرأ (وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) قال : كعب والذي نفس كعب بيده ما سمعت أحدا يقرؤها كما
أنزلت في التوراة غير ابن عباس فإنا نجدها في التوراة تغرب في مدرة سوداء ، وقال
أبو يعلى الموصلي : حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل حدثنا هشام بن يوسف قال في تفسير
ابن جريج (وَوَجَدَ عِنْدَها
قَوْماً) قال مدينة لها اثنا عشر ألف باب لو لا أصوات أهلها لسمع
الناس وجوب الشمس حين تجب ، وقوله: (وَوَجَدَ عِنْدَها
قَوْماً) أي أمّة من الأمم ذكروا أنها كانت أمة عظيمة من بني آدم.
وقوله : (قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا
أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً) معنى هذا أن الله تعالى
__________________
مكنه منهم وحكمه
فيهم وأظفره بهم وخيّره إن شاء قتل وسبي وإن شاء منّ أو فدى فعرف عدله وإيمانه
فيما أبداه عدله وبيانه في قوله : (أَمَّا مَنْ ظَلَمَ) أي من استمر على كفره وشركه بربه (فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ) قال قتادة بالقتل وقال السدي كان يحمي لهم بقر النحاس
ويضعهم فيها حتى يذوبوا وقال وهب بن منبه كان يسلط الظلمة فتدخل أجوافهم وبيوتهم
وتغشاهم من جميع جهاتهم والله أعلم ، وقوله : (ثُمَّ يُرَدُّ إِلى
رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً) أي شديدا بليغا وجيعا أليما وفي هذا إثبات المعاد والجزاء.
وقوله : (وَأَمَّا مَنْ آمَنَ) أي اتبعنا على ما ندعوه إليه من عبادة الله وحده لا شريك
له (فَلَهُ جَزاءً
الْحُسْنى) أي في الدار الآخرة عند الله عزوجل (وَسَنَقُولُ لَهُ
مِنْ أَمْرِنا يُسْراً) قال مجاهد معروفا.
(ثُمَّ أَتْبَعَ
سَبَباً (٨٩) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ
وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (٩٠) كَذلِكَ وَقَدْ
أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً)
(٩١)
يقول تعالى ثم سلك
طريقا فسار من مغرب الشمس إلى مطلعها وكان كلما مر بأمة قهرهم وغلبهم ودعاهم إلى
الله عزوجل فإن أطاعوه وإلا أذلهم وأرغم آنافهم واستباح أموالهم
وأمتعتهم واستخدم من كل أمة ما تستعين به جيوشه على قتال الأقاليم المتاخمة لهم ،
وذكر في أخبار بني إسرائيل أنه عاش ألفا وستمائة سنة يجوب الأرض طولها والعرض حتى
بلغ المشارق والمغارب ولما انتهى إلى مطلع الشمس من الأرض كما قال تعالى (وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ) أي أمة (لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ
مِنْ دُونِها سِتْراً) أي ليس لهم بناء يكنهم ولا أشجار تظلهم وتسترهم من حر
الشمس ، وقال سعيد بن جبير كانوا حمرا قصارا مساكنهم الغيران أكثر معيشتهم من
السمك.
قال أبو داود
الطيالسي : حدثنا سهل بن أبي الصلت سمعت الحسن وسأل عن قول الله تعالى (لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها
سِتْراً) قال إن أرضهم لا تحمل البناء فإذا طلعت الشمس تغوروا في
المياه فإذا غربت خرجوا يتراغون كما ترغى البهائم قال الحسن هذا حديث سمرة ، وقال
قتادة ذكر لنا أنهم بأرض لا تنبت لهم شيئا فهم إذا طلعت الشمس دخلوا في أسراب حتى
إذا زالت الشمس خرجوا إلى حروثهم ومعايشهم. وعن سلمة بن كهيل أنه قال : ليست لهم
أكنان إذا طلعت الشمس طلعت عليهم فلأحدهم أذنان يفرش إحداهما ويلبس الأخرى. قال
عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن قتادة في قوله : (وَجَدَها تَطْلُعُ
عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً) قال هم الزنج.
وقال ابن جرير في قوله : (وَجَدَها تَطْلُعُ
عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً) قال لم يبنوا فيها بناء قط ولم يبن عليهم بناء قط كانوا
إذا طلعت الشمس دخلوا أسرابا لهم حتى تزول
__________________
الشمس أو دخلوا
البحر وذلك أن أرضهم ليس فيها جبل. جاءهم جيش مرة فقال لهم أهلها : لا تطلعن عليكم
الشمس وأنتم بها ، قالوا : لا نبرح حتى تطلع الشمس ما هذه العظام؟ قالوا : هذه جيف
جيش طلعت عليهم الشمس هاهنا ... فماتوا ، قال : فذهبوا هاربين في الأرض وقوله : (كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ
خُبْراً) قال مجاهد والسدي : علما أي نحن مطلعون على جميع أحواله
وأحوال جيشه لا يخفى علينا منها شيء وإن تفرقت أممهم وتقطعت بهم الأرض فإنه تعالى (لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي
الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) [آل عمران : ٥].
(ثُمَّ أَتْبَعَ
سَبَباً (٩٢) حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ
السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (٩٣)
قالُوا
يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ
فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (٩٤)
قالَ
ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ
وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (٩٥) آتُونِي زُبَرَ
الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا
جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً)
(٩٦)
يقول تعالى مخبرا
عن ذي القرنين (ثُمَّ أَتْبَعَ
سَبَباً) أي ثم سلك طريقا من مشارق الأرض حتى إذا بلغ بين السدين
وهما جبلان متناوحان بينهما ثغرة يخرج منها يأجوج ومأجوج على بلاد الترك
فيعيثون فيها فسادا ويهلكون الحرث والنسل ، ويأجوج ومأجوج من سلالة آدم عليهالسلام كما ثبت في الصحيحين «إن الله تعالى يقول : يا آدم فيقول
لبيك وسعديك فيقول وما بعث النار فيقول ابعث بعث النار؟ فيقول من كل ألف تسعمائة
وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة ، فحينئذ يشيب الصغير وتضع كل ذات حمل
حملها فقال إن فيكم أمّتين ما كانتا في شيء إلا كثرتاه يأجوج ومأجوج» وقد حكى النووي رحمهالله في شرح مسلم عن بعض الناس أن يأجوج ومأجوج خلقوا من مني
خرج من آدم فاختلط بالتراب فخلقوا من ذلك ، فعلى هذا يكونون مخلوقين من آدم وليسوا
من حواء وهذا قول غريب جدا لا دليل عليه لا من عقل ولا من نقل ولا يجوز الاعتماد
هاهنا على ما يحكيه بعض أهل الكتاب لما عندهم من الأحاديث المفتعلة والله أعلم.
وفي مسند الإمام
أحمد عن سمرة أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «ولد نوح ثلاثة : سام أبو العرب وحام أبو السودان ،
ويافث أبو الترك» قال بعض العلماء هؤلاء من نسل يافث أبي الترك ، وقال إنما سمي
هؤلاء تركا لأنهم تركوا من وراء السد من هذه الجهة وإلا فهم أقرباء أولئك ولكن كان
في أولئك بغي وفساد وجراءة ، وقد ذكر ابن جرير هاهنا عن وهب بن منبه أثرا
__________________
طويلا عجيبا في
سير ذي القرنين وبنائه السد وكيفية ما جرى له وفيه طول وغرابة ونكارة في أشكالهم
وصفاتهم وطولهم وقصر بعضهم وآذانهم وروى ابن أبي حاتم عن أبيه في ذلك أحاديث غريبة
لا تصح أسانيدها والله أعلم.
وقوله : (وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا
يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً) أي لاستعجام كلامهم وبعدهم عن الناس (قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ
يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً) قال ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس أجرا عظيما يعني أنهم
أرادوا أن يجمعوا لهم من بينهم ما لا يعطونه إياه حتى يجعل بينه وبينهم سدا فقال
ذو القرنين بعفة وديانة وصلاح وقصد للخير (ما مَكَّنِّي فِيهِ
رَبِّي خَيْرٌ) أي إن الذي أعطاني الله من الملك والتمكين خير لي من الذي
تجمعونه كما قال سليمان عليهالسلام (أَتُمِدُّونَنِ
بِمالٍ فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ) [النمل : ٣٦]
الآية وهكذا قال ذو القرنين : الذي أنا فيه خير من الذي تبذلونه ولكن ساعدوني بقوة
أي بعملكم وآلات البناء (أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ
وَبَيْنَهُمْ رَدْماً آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ) والزبر جمع زبرة وهي القطعة منه قاله ابن عباس ومجاهد
وقتادة وهي كاللبنة يقال كل لبنة زنة قنطار بالدمشقي أو تزيد عليه.
(حَتَّى إِذا ساوى
بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ) أي وضع بعضه على بعض من الأساس حتى إذا حاذى به رؤوس
الجبلين طولا وعرضا واختلفوا في مساحة عرضه وطوله على أقوال (قالَ انْفُخُوا) أي أجج عليه النار حتى صار كله نارا (قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والضحاك وقتادة والسدي هو
النحاس زاد بعضهم المذاب ويستشهد بقوله تعالى : (وَأَسَلْنا لَهُ
عَيْنَ الْقِطْرِ) [سبأ : ١٢] ولهذا
يشبه بالبرد المحبر.
قال ابن جرير : حدثنا بشر عن يزيد حدثنا سعيد عن قتادة قال : ذكر لنا أن
رجلا قال يا رسول الله قد رأيت سد يأجوج ومأجوج قال «انعته لي» قال كالبرد المحبر
طريقة سوداء وطريقة حمراء قال «قد رأيته» هذا حديث مرسل.
وقد بعث الخليفة
الواثق في دولته أحد أمرائه وجهز معه جيشا سرية لينظروا إلى السد ويعاينوه وينعتوه
له إذا رجعوا فتوصلوا من هناك إلى بلاد ومن ملك إلى ملك حتى وصلوا إليه ورأوا
بناءه من الحديد ومن النحاس وذكروا أنهم رأوا فيه بابا عظيما وعليه أقفال عظيمة
ورأوا بقية اللبن والعمل في برج هناك ، وأن عنده حرسا من الملوك المتاخمة له وأنه
عاقل منيف شاهق لا يستطاع ولا ما حوله من الجبال ثم رجعوا إلى بلادهم وكانت غيبتهم
أكثر من سنتين وشاهدوا أهوالا وعجائب. ثم قال الله تعالى.
(فَمَا اسْطاعُوا أَنْ
يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (٩٧)
قالَ
هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ
__________________
وَعْدُ
رَبِّي حَقًّا (٩٨) وَتَرَكْنا
بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ
جَمْعاً)
(٩٩)
يقول تعالى مخبرا
عن يأجوج ومأجوج أنهم ما قدروا على أن يصعدوا من فوق هذا السد ولا قدروا على نقبه
من أسفله ولما كان الظهور عليه أسهل من نقبه قابل كلا بما يناسبه فقال (فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا
اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً) وهذا دليل على أنهم لم يقدروا على نقبه ولا على شيء منه.
فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد حدثنا روح حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة
حدثنا أبو رافع عن أبي هريرة عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إن يأجوج ومأجوج ليحفرون السد كل يوم حتى إذا كادوا
يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم ارجعوا فستحفرونه غدا فيعودون إليه كأشد ما كان
حتى إذا بلغت مدتهم وأراد الله أن يبعثهم على الناس حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع
الشمس قال الذي عليهم ارجعوا فستحفرونه غدا إن شاء الله فيستثني فيعودون إليه
كهيئته حين تركوه فيحفرونه ويخرجون على الناس فينشفون المياه ويتحصن الناس منهم في
حصونهم فيرمون بسهامهم إلى السماء فترجع وعليها كهيئة الدم فيقولون قهرنا أهل
الأرض وعلونا أهل السماء فيبعث الله عليهم نغفا في رقابهم فيقتلهم بها قال رسول
الله صلىاللهعليهوسلم : «والذي نفس محمد بيده إن دواب الأرض لتسمن وتشكر شكرا من
لحومهم ودمائهم» .
ورواه أحمد أيضا
عن حسن هو ابن موسى الأشهب عن سفيان عن قتادة به وكذا رواه ابن ماجة عن أزهر بن مروان
عن عبد الأعلى عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال : حدث أبو رافع وأخرجه الترمذي
من حديث أبي عوانة عن قتادة ثم قال غريب لا يعرف إلا من هذا الوجه وإسناده جيد قوي
ولكن متنه في رفعه نكارة لأن ظاهر الآية يقتضي أنهم لم يتمكنوا من ارتقائه ولا من
نقبه لإحكام بنائه وصلابته وشدته ولكن هذا قد روي عن كعب الأحبار أنهم قبل خروجهم
يأتونه فيلحسونه حتى لا يبقى منه إلا القليل فيقولون غدا نفتحه فيأتون من الغد وقد
عاد كما كان فيلحسونه حتى لا يبقى منه إلا القليل فيقولون فذلك فيصبحون وهو كما
كان فيلحسونه ويقولون غدا نفتحه ويلهمون أن يقولوا إن شاء الله فيصبحون وهو كما
فارقوه فيفتحونه وهذا متجه ولعل أبا هريرة تلقاه من كعب فإنه كان كثيرا ما كان
يجالسه ويحدثه فحدث به أبو هريرة فتوهم بعض الرواة عنه أنه مرفوع فرفعه والله
أعلم.
ويؤيد ما قلناه من
أنهم لم يتمكنوا من نقبه ولا نقب شيء منه ومن نكارة هذا المرفوع قول الإمام أحمد
حدثنا سفيان عن الزهري عن عروة عن زينب بنت أبي سلمة عن حبيبة بنت أم حبيبة بنت
أبي سفيان عن أمها أم حبيبة عن زينب بنت جحش زوج النبي صلىاللهعليهوسلم ـ قال سفيان أربع نسوة ـ قالت : استيقظ النبي صلىاللهعليهوسلم من نومه وهو محمر وجهه وهو يقول : «لا إله إلا الله ويل
__________________
للعرب من شر قد
اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا» وحلق قلت يا رسول الله أنهلك وفينا
الصالحون؟ قال : «نعم إذا كثر الخبث» هذا حديث صحيح اتفق البخاري ومسلم على إخراجه من حديث
الزهري ولكن سقط في رواية البخاري ذكر حبيبة وأثبتها مسلم وفيه أشياء عزيزة قليلة
نادرة الوقوع في صناعة الإسناد منها رواية الزهري عن عروة وهما تابعيان ومنها
اجتماع أربع نسوة في سنده كلهن يروي بعضهم عن بعض ثم كل منهن صحابية ثم ثنتان
ربيبتان وثنتان زوجتان رضي الله عنهن.
قد روي نحو هذا عن
أبي هريرة أيضا ، فقال البزار : حدثنا محمد بن مرزوق ، حدثنا مؤمل بن إسماعيل ،
حدثنا وهيب عن ابن طاوس عن أبيه ، عن أبي هريرة عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا» وعقد
التسعين ، وأخرجه البخاري ومسلم من حديث وهيب به ، وقوله : (قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي) أي لما بناه ذو القرنين (قالَ هذا رَحْمَةٌ
مِنْ رَبِّي) أي بالناس حيث جعل بينهم وبين يأجوج ومأجوج حائلا يمنعهم
من العيث في الأرض والفساد ، (فَإِذا جاءَ وَعْدُ
رَبِّي) أي إذا اقترب الوعد الحق (جَعَلَهُ دَكًّا) أي ساواه بالأرض ، تقول العرب : ناقة دكاء إذا كان ظهرها
مستويا لا سنام لها ، وقال تعالى : (فَلَمَّا تَجَلَّى
رَبُّهُ لِلْجَبَلِ) جعله دكاء [الأعراف : ١٤٣] أي مساويا للأرض.
وقال عكرمة في
قوله : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ
رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ) قال : طريقا كما كان ، (وَكانَ وَعْدُ رَبِّي
حَقًّا) أي كائنا لا محالة. وقوله : (وَتَرَكْنا
بَعْضَهُمْ) أي الناس يومئذ ، أي يوم يدك هذا السد ويخرج هؤلاء فيموجون
في الناس ويفسدون على الناس أموالهم ويتلفون أشياءهم ، وهكذا قال السدي في قوله : (وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ
يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) قال : ذاك حين يخرجون على الناس ، وهذا كله قبل القيامة
وبعد الدجال ، كما سيأتي بيانه عند قوله : (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ
يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ وَاقْتَرَبَ
الْوَعْدُ الْحَقُ) [الأنبياء : ٩٦]
الآية ، وهكذا قال هاهنا (وَتَرَكْنا
بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) قال : هذا أول القيامة (وَنُفِخَ فِي
الصُّورِ) على أثر ذلك (فَجَمَعْناهُمْ
جَمْعاً) وقال آخرون : بل المراد بقوله: (وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ
يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) قال : إذا ماج الجن والإنس يوم القيامة يختلط الإنس والجن.
وروى ابن جرير عن محمد بن حميد عن يعقوب القمي عن هارون بن عنترة ، عن
شيخ من بني فزارة في قوله (وَتَرَكْنا
بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) قال : إذا ماج الإنس والجن قال إبليس : أنا أعلم لكم علم
هذا الأمر ، فيظعن إلى المشرق فيجد الملائكة قد قطعوا الأرض ، ثم
__________________
يظعن إلى المغرب
فيجد الملائكة قد بطنوا الأرض ، فيقول : ما من محيص ، ثم يظعن يمينا وشمالا إلى
أقصى الأرض فيجد الملائكة قد بطنوا الأرض فيقول ما من محيص ، فبينما هو كذلك إذ
عرض له طريق كالشراك فأخذ عليه هو وذريته ، فبينما هم عليه إذ هجموا على النار ،
فأخرج الله خازنا من خزان النار ، فقال : يا إبليس ألم تكن لك المنزلة عند ربك ،
ألم تكن في الجنان؟ فيقول : ليس هذا يوم عتاب ، لو أن الله فرض علي فريضة لعبدته
فيها عبادة لم يعبده مثلها أحد من خلقه ، فيقول : فإن الله قد فرض عليك فريضة ،
فيقول : ما هي؟ فيقول يأمرك أن تدخل النار فيتلكأ عليه ، فيقول : به وبذريته
بجناحيه ، فيقذفهم في النار ، فتزفر النار زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا
جثى لركبتيه ، وهكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث يعقوب القمي به ، ثم رواه من وجه
آخر عن يعقوب عن هارون عن عنترة ، عن أبيه عن ابن عباس (وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ
يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) قال : الإنس والجن يموج بعضهم في بعض.
وقال الطبراني :
حدثنا عبد الله بن محمد بن العباس الأصفهاني ، حدثنا أبو مسعود أحمد بن الفرات ،
حدثنا أبو داود الطيالسي ، حدثنا المغيرة بن مسلم عن أبي إسحاق عن وهب بن جابر ،
عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «إن يأجوج ومأجوج من ولد آدم ، ولو أرسلوا لأفسدوا
على الناس معايشهم ، ولن يموت منهم رجل إلا ترك من ذريته ألفا فصاعدا ، وإن من
ورائهم ثلاث أمم : تاويل وتأيس ومنسك» هذا حديث غريب ، بل منكر ضعيف.
وروى النسائي من
حديث شعبة عن النعمان بن سالم عن عمرو بن أوس عن أبيه ، عن جده أوس بن أبي أوس
مرفوعا «إن يأجوج ومأجوج لهم نساء يجامعون ما شاءوا ، وشجر يلقحون كما شاءوا ، ولا
يموت رجل إلا ترك من ذريته ألفا فصاعدا».
وقوله : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) والصور كما جاء في الحديث : قرن ينفخ فيه ، والذي ينفخ فيه
إسرافيل عليهالسلام ، كما تقدم في الحديث بطوله ، والأحاديث فيه كثيرة ، وفي
الحديث عن عطية عن ابن عباس وأبي سعيد مرفوعا «كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم
القرن وحنى جبهته واستمع متى يؤمر؟» قالوا : كيف نقول؟ قال : «قولوا حسبنا الله
ونعم الوكيل على الله توكلنا» . وقوله : (فَجَمَعْناهُمْ
جَمْعاً) أي أحضرنا الجميع للحساب (قُلْ إِنَّ
الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) [الواقعة : ٤٩ ـ ٥٠]
(وَحَشَرْناهُمْ
فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً) [الكهف : ٤٧].
(وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ
يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (١٠٠)
الَّذِينَ
كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ
__________________
سَمْعاً
(١٠١) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ
يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ
لِلْكافِرِينَ نُزُلاً)
(١٠٢)
يقول تعالى مخبرا
عما يفعله بالكفار يوم القيامة أنه يعرض عليهم جهنم ، أي يبرزها لهم ويظهرها ليروا
ما فيها من العذاب والنكال قبل دخولها ، ليكون ذلك أبلغ في تعجيل الهمّ والحزن
لهم. وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «يؤتى بجهنم تقاد يوم القيامة بسبعين ألف زمام ، مع كل
زمام سبعون ألف ملك» ثم قال مخبرا عنهم (الَّذِينَ كانَتْ
أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي) أي تغافلوا وتعاموا وتصامموا عن قبول الهدى واتباع الحق ،
كما قال : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ
ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) [الزخرف : ٣٦]
وقال هاهنا : (وَكانُوا لا
يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) أي لا يعقلون عن الله أمره ونهيه ، ثم قال : (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ
يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ) أي اعتقدوا أنهم يصلح لهم ذلك وينتفعون به (كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ
وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) ولهذا أخبر الله تعالى أنه قد أعد لهم جهنم يوم القيامة
منزلا.
(قُلْ هَلْ
نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (١٠٣) الَّذِينَ ضَلَّ
سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ
صُنْعاً (١٠٤) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ
رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ
الْقِيامَةِ وَزْناً (١٠٥) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ
جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً)
(١٠٦)
قال البخاري : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة
عن عمرو عن مصعب قال : سألت أبي يعني سعد بن أبي وقاص عن قول الله : (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ
أَعْمالاً) أهم الحرورية؟ قال
: لا هم اليهود والنصارى ، أما اليهود فكذبوا محمداصلىاللهعليهوسلم ، وأما النصارى فكفروا بالجنة وقالوا : لا طعام فيها ولا
شراب ، والحرورية الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ، فكان سعد رضي الله عنه
يسميهم الفاسقين ، وقال علي بن أبي طالب والضحاك وغير واحد : هم الحرورية ، ومعنى هذا عن علي رضي الله عنه أن هذه الآية الكريمة
تشمل الحرورية كما تشمل اليهود والنصارى وغيرهم ، لا أنها نزلت في هؤلاء على
الخصوص ولا هؤلاء ، بل هي أعم من هذا ، فإن هذه الآية مكية قبل خطاب اليهود والنصارى
وقبل وجود الخوارج بالكلية ، وإنما هي عامة في كل من عبد الله على غير طريقة مرضية
يحسب أنه مصيب فيها ، وأن عمله مقبول وهو مخطئ وعمله مردود ، كما قال تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ عامِلَةٌ
ناصِبَةٌ تَصْلى ناراً حامِيَةً) [الغاشية : ٢ ـ ٤]
وقال تعالى : (وَقَدِمْنا إِلى ما
عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) [الفرقان : ٢٣]
وقال تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا
أَعْمالُهُمْ
__________________
كَسَرابٍ
بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) [النور : ٣٩] وقال
تعالى في هذه الآية الكريمة : (قُلْ هَلْ
نُنَبِّئُكُمْ) أي نخبركم (بِالْأَخْسَرِينَ
أَعْمالاً) ثم فسرهم ، فقال (الَّذِينَ ضَلَّ
سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي عملوا أعمالا باطلة على غير شريعة مشروعة مرضية مقبولة (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ
يُحْسِنُونَ صُنْعاً) أي يعتقدون أنهم على شيء وأنهم مقبولون محبوبون.
وقوله (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ
رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ) أي جحدوا آيات الله في الدنيا وبراهينه التي أقام على
وحدانيته وصدق رسله ، وكذبوا بالدار الآخرة (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ
يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) أي لا نثقل موازينهم لأنها خالية عن الخير. قال البخاري : حدثنا محمد بن عبد الله ، حدثنا سعيد بن أبي مريم ،
أخبرنا المغيرة ، حدثني أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن رسول اللهصلىاللهعليهوسلم أنه قال : «إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا
يزن عند الله جناح بعوضة ـ وقال ـ اقرءوا إن شئتم (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ
يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً»). وعن يحيى بن بكير عن مغيرة بن عبد الرحمن ، عن أبي الزناد
مثله ، هكذا ذكره عن يحيى بن بكير معلقا ، وقد رواه مسلم عن أبي بكر محمد بن إسحاق عن يحيى بن بكير به.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبي ، حدثنا أبو الوليد ، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن صالح مولى
التوأمة ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «يؤتى بالرجل الأكول الشروب العظيم ، فيوزن بحبة فلا
يزنها» قال وقرأ (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ
يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) وكذا رواه ابن جرير عن أبي كريب عن أبي الصلت عن أبي
الزناد ، عن صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة مرفوعا ، فذكره بلفظ البخاري سواء.
وقال أحمد بن عمرو
بن عبد الخالق البزار : حدثنا العباس بن محمد ، حدثنا عون بن عمارة ، حدثنا هشيم
بن حسان عن واصل عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال : كنا عند رسول اللهصلىاللهعليهوسلم ، فأقبل رجل من قريش يخطر في حلة له ، فلما قام على النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «يا بريدة هذا ممن لا يقيم الله له يوم القيامة وزنا»
ثم قال : تفرد به واصل مولى أبي عنبسة ، وعون بن عمارة وليس بالحافظ ولم يتابع
عليه.
وقد قال ابن جرير : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان عن
الأعمش عن شمر عن أبي يحيى ، عن كعب قال : يؤتى يوم القيامة برجل عظيم طويل ، فلا
يزن عند الله جناح بعوضة ، اقرءوا (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ
يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً). وقوله : (ذلِكَ جَزاؤُهُمْ
جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا) أي إنما جازيناهم بهذا الجزاء بسبب كفرهم واتخاذهم آيات
الله ورسله هزوا ،
__________________
استهزءوا بهم
وكذبوهم أشد التكذيب.
(إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (١٠٧) خالِدِينَ فِيها لا
يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً)
(١٠٨)
يخبر تعالى عن
عباده السعداء وهم الذين آمنوا بالله ورسوله ، وصدقوا المرسلين فيما جاءوا به ، أن
لهم جنات الفردوس ، قال مجاهد : الفردوس هو البستان بالرومية. وقال كعب والسدي
والضحاك : هو البستان الذي فيه شجر الأعناب ، وقال أبو أمامة : الفردوس سرة الجنة
، وقال قتادة : الفردوس ربوة الجنة وأوسطها وأفضلها ، وقد روي هذا مرفوعا من حديث
سعيد بن بشير عن قتادة عن الحسن عن سمرة عن النبي صلىاللهعليهوسلم «الفردوس ربوة
الجنة أوسطها وأحسنها». وهكذا رواه إسماعيل بن مسلم عن الحسن عن سمرة مرفوعا وروي
عن قتادة عن أنس بن مالك مرفوعا بنحوه روى ذلك كله ابن جرير رحمهالله ، وفي الصحيحين «إذا سألتم الله الجنة ، فاسألوه الفردوس
فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة ، ومنه تفجر أنهار الجنة» . وقوله تعالى : (نُزُلاً) أي ضيافة ، فإن النزل الضيافة. وقوله (خالِدِينَ فِيها) أي مقيمين ساكنين فيها لا يظعنون عنها أبدا (لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً) أي لا يختارون عنها غيرها ولا يحبون سواها ، كما قال
الشاعر : [الطويل]
فحلت سويدا
القلب لا أنا باغيا
|
|
سواها ولا عن
حبها أتحوّل
|
وفي قوله : (لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً) تنبيه على رغبتهم فيها وحبهم لها ، مع أنه قد يتوهم فيمن
هو مقيم في المكان دائما أنه قد يسأمه أو يمله ، فأخبر أنهم مع هذا الدوام والخلود
السرمدي لا يختارون عن مقامهم ذلك متحولا ولا انتقالا ولا ظعنا ولا رحلة ولا بدلا.
(قُلْ لَوْ كانَ
الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ
كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً)
(١٠٩)
يقول تعالى : قل
يا محمد لو كان ماء البحر مدادا للقلم الذي يكتب به كلمات الله وحكمه وآياته
الدالة عليه ، لنفد البحر قبل أن يفرغ كتابة ذلك (وَلَوْ جِئْنا
بِمِثْلِهِ) أي بمثل البحر آخر ، ثم آخر وهلم جرا بحور تمده ويكتب بها
، لما نفدت كلمات الله ، كما قال تعالى : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي
الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ
أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ
__________________
حَكِيمٌ) [لقمان : ٢٧] وقال
الربيع بن أنس : إن مثل علم العباد كلهم في علم الله كقطرة من ماء البحور كلها ،
وقد أنزل الله ذلك (قُلْ لَوْ كانَ
الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ
كَلِماتُ رَبِّي) يقول لو كانت تلك البحور مدادا لكلمات الله ، والشجر كله
أقلام لانكسرت الأقلام ، وفني ماء البحر ، وبقيت كلمات الله قائمة لا يفنيها شيء ،
لأن أحدا لا يستطيع أن يقدر قدره ولا يثني عليه كما ينبغي حتى يكون هو الذي يثني
نفسه ، إن ربنا كما يقول وفوق ما نقول ، إن مثل نعيم الدنيا أولها وآخرها في نعيم
الآخرة كحبة من خردل في خلال الأرض كلها.
(قُلْ إِنَّما أَنَا
بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ
يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ
رَبِّهِ أَحَداً)
(١١٠)
روى الطبراني من
طريق هشام بن عمار عن إسماعيل بن عياش ، عن عمرو بن قيس الكوفي أنه سمع معاوية بن
أبي سفيان قال : هذه آخر آية أنزلت ، يقول تعالى لرسوله محمد صلوات الله وسلامه
عليه (قُلْ) لهؤلاء المشركين المكذبين برسالتك إليهم (إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) [فصلت : ٦] فمن
زعم أني كاذب فليأت بمثل ما جئت به ، فإني لا أعلم الغيب فيما أخبرتكم به من
الماضي عما سألتم من قصة أصحاب الكهف وخبر ذي القرنين مما هو مطابق في نفس الأمر ،
ولو لا ما أطلعني الله عليه ، وإنما أخبركم (أَنَّما إِلهُكُمْ) الذي أدعوكم إلى عبادته (إِلهٌ واحِدٌ) لا شريك له (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا
لِقاءَ رَبِّهِ) أي ثوابه وجزاءه الصالح (فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً
صالِحاً) أي ما كان موافقا لشرع الله (وَلا يُشْرِكْ
بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) وهو الذي يراد به وجه الله وحده لا شريك له ، وهذان ركنا
العمل المتقبل ، لا بد أن يكون خالصا لله صوابا على شريعة رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
وقد روى ابن أبي
حاتم من حديث معمر عن عبد الكريم الجزري عن طاوس قال : قال رجل يا رسول الله إني
أقف المواقف أريد وجه الله وأحب أن يرى موطني فلم يرد عليه رسول اللهصلىاللهعليهوسلم شيئا حتى نزلت هذه الآية (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا
لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ
أَحَداً) وهكذا أرسل هذا مجاهد وغير واحد. وقال الأعمش : حدثنا حمزة
أبو عمارة مولى بني هاشم عن شهر بن حوشب قال : جاء رجل إلى عبادة بن الصامت فقال :
أنبئني عما أسألك عنه. أرأيت رجلا يصلي يبتغي وجه الله ويحب أن يحمد ويصوم يبتغي
وجه الله ويحب أن يحمد ، ويتصدق ويبتغي وجه الله ويحب أن يحمد ، ويحج يبتغي وجه
الله ويحب أن يحمد ، فقال عبادة : ليس له شيء ، إن الله تعالى يقول : أنا خير شريك
، فمن كان له معي شريك فهو له كله لا حاجة لي فيه.
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن عبد الله بن الزبير ، حدثنا كثير بن زيد
عن ربيح بن
__________________
عبد الرحمن بن أبي
سعيد الخدري عن أبيه ، عن جده قال : كنا نتناوب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فنبيت عنده تكون له حاجة أو يطرقه أمر من الليل فيبعثنا
، فكثر المحتسبون وأهل النوب ، فكنا نتحدث فخرج علينا رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : «ما هذه النجوى؟» قال : فقلنا : تبنا إلى الله أي
نبي الله ، إنما كنا في ذكر المسيح وفرقنا منه فقال ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم
من المسيح عندي قال قلنا بلى ، فقال : «الشرك الخفي أن يقوم الرجل يصلي لمكان
الرجل».
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو النضر ، حدثنا عبد الحميد يعني ابن بهرام قال
: قال شهر ابن حوشب : قال ابن غنم : لما دخلنا مسجد الجابية أنا وأبو الدرداء ،
لقينا عبادة بن الصامت فأخذ يميني بشماله ، وشمال أبي الدرداء بيمينه ، فخرج يمشي
بيننا ونحن نتناجى ، والله أعلم بما نتناجى به ، فقال عبادة بن الصامت : إن طال
بكما عمر أحدكما أو كليكما لتوشكان أن تريا الرجل من ثبج المسلمين ، يعني من وسط
قرأ القرآن على لسان محمد صلىاللهعليهوسلم ، فأعاده وأبدأه وأحل حلاله وحرم حرامه ونزله عند منازله
لا يحور فيكم إلا كما يحور رأس الحمار الميت.
قال : فبينما نحن
كذلك إذ طلع شداد بن أوس رضي الله عنه وعوف بن مالك فجلسا إلينا ، فقال شداد : إن
أخوف ما أخاف عليكم أيها الناس لما سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «من الشهوة الخفية والشرك» فقال عبادة بن الصامت
وأبو الدرداء : اللهم غفرا ألم يكن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قد حدثنا أن الشيطان قد يئس أن يعبد في جزيرة العرب. أما
الشهوة الخفية فقد عرفناها هي شهوات الدنيا من نسائها وشهواتها ، فما هذا الشرك
الذي تخوفنا به يا شداد؟ فقال شداد : أرأيتكم لو رأيتم رجلا يصلي رجل أو يصوم لرجل
أو يتصدق له ، أترون أنه قد أشرك؟ قالوا : نعم والله إن من صلى لرجل أو صام أو
تصدق له لقد أشرك ، فقال شداد فإني سمعت رسول اللهصلىاللهعليهوسلم يقول : من صلى يرائي فقد أشرك ومن صام يرائي فقد أشرك ومن
تصدق يرائي فقد أشرك فقال عوف بن مالك عند ذلك : أفلا يعمد إليه إلى ما ابتغى به
وجهه من ذلك العمل كله فيقبل ما خلص له ويدع ما أشرك به فقال شداد عند ذلك : فإني
سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «إن الله يقول : أنا خير قسيم لمن أشرك بي من أشرك
بي شيئا ، فإن عمله قليله وكثيره لشريكه الذي أشرك به ، أنا عنه غني».
[طريق أخرى لبعضه]
قال الإمام أحمد : حدثنا زيد بن الحباب ، حدثني عبد الواحد بن زياد ،
أخبرنا عبادة بن نسي عن شداد بن أوس رضي الله عنه أنه بكى ، فقيل له : ما يبكيك؟ قال
شيء سمعته من رسول الله صلىاللهعليهوسلم فأبكاني ، سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «أتخوف على أمتي الشرك والشهوة الخفية» قلت : يا
رسول الله أتشرك أمتك من بعدك؟ قال : «نعم أما إنهم لا يعبدون شمسا ولا قمرا ولا
حجرا ولا وثنا ، ولكن يراءون بأعمالهم ، والشهوة الخفية أن
__________________
يصبح أحدهم صائما
فتعرض له شهوة من شهواته فيترك صومه» ورواه ابن ماجة من حديث الحسن بن ذكوان عن عبادة بن نسي به ، وعبادة فيه
ضعف ، وفي سماعه من شداد نظر.
[حديث آخر] قال
الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا الحسين بن علي بن جعفر الأحمر ، حدثنا علي بن ثابت
، حدثنا قيس بن أبي حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «يقول الله يوم القيامة : أنا خير شريك من أشرك بي أحدا
فهو له كله». وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، سمعت العلاء يحدث عن
أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلىاللهعليهوسلم يرويه عن الله عزوجل أنه قال : «أنا خير الشركاء فمن عمل عملا أشرك فيه غيري ،
فأنا بريء منه ، وهو للذي أشرك» تفرد به من هذا الوجه.
[حديث آخر] قال
الإمام أحمد : «حدثنا يونس ، حدثنا الليث عن يزيد يعني ابن الهاد عن
عمرو عن محمود بن لبيد أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر» قالوا : وما
الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال : «الرياء ، يقول الله يوم القيامة إذا جزى الناس
بأعمالهم : اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا ، فانظروا هل تجدون عندهم
جزاء».
[حديث آخر] قال
الإمام أحمد : حدثنا محمد بن بكير ، أخبرنا عبد الحميد يعني ابن جعفر ،
أخبرني أبي عن زياد بن ميناء عن أبي سعيد بن أبي فضالة الأنصاري ، وكان من الصحابة
، أنه قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه
نادى مناد : من كان أشرك في عمل عمله لله أحدا فليطلب ثوابه من عند غير الله ، فإن
الله أغنى الشركاء عن الشرك» وأخرجه الترمذي وابن ماجة من حديث محمد وهو البرساني به.
[حديث آخر] قال
الإمام أحمد : حدثنا أحمد بن عبد الملك ، حدثنا بكار ، حدثني أبي ـ يعني
عبد العزيز بن أبي بكرة ـ عن أبي بكرة رضي الله عنه قال : قال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم : «من سمع سمع
الله به ، ومن راءى راءى الله به» وقال الإمام أحمد : حدثنا معاوية ، حدثنا شيبان عن فراس عن عطية عن أبي سعيد
الخدري ، عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «من يرائي يرائي الله به ، ومن يسمع يسمع الله به».
__________________
[حديث آخر] قال
الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد عن شعبة ، حدثني عمرو بن مرة قال :
سمعت رجلا في بيت أبي عبيدة أنه سمع عبد الله بن عمرو يحدث ابن عمر أنه سمع رسول
الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «من سمع الناس بعمله سمع الله به ، ساء خلقه وصغره
وحقره» فذرفت عينا عبد الله. وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا عمرو بن يحيى
الأيلي ، حدثنا الحارث بن غسان ، حدثنا أبو عمران الجوني عن أنس رضي الله عنه قال
: قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «تعرض أعمال بني آدم بين يدي الله عزوجل يوم القيامة في صحف مختمة ، فيقول الله : ألقوا هذا
واقبلوا هذا ، فتقول الملائكة : يا رب والله ما رأينا منه إلا خيرا ، فيقول : إن
عمله كان لغير وجهي ولا أقبل اليوم من العمل إلا ما أريد به وجهي» ثم قال : الحارث
بن غسان روى عنه جماعة وهو ثقة بصري ، ليس به بأس ، وقال ابن وهب : حدثني يزيد بن
عياض عن عبد الرحمن الأعرج ، عن عبد الله بن قيس الخزاعي أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «من قام رياء وسمعة ، لم يزل في مقت الله حتى يجلس».
وقال أبو يعلى :
حدثنا محمد بن أبي بكر ، حدثنا محمد بن دينار عن إبراهيم الهجري ، عن أبي الأحوض
عن عوف بن مالك عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من أحسن الصلاة حيث يراه الناس وأساءها حيث يخلو ، فتلك
استهانة استهان بها ربهعزوجل».
وقال ابن جرير : حدثنا أبو عامر إسماعيل بن عمرو السكوني ، حدثنا هشام بن
عمار ، حدثنا ابن عياش ، حدثنا عمرو بن قيس الكندي أنه سمع معاوية بن أبي سفيان
تلا هذه الآية (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا
لِقاءَ رَبِّهِ) الآية ، وقال : إنها آخر آية نزلت من القرآن وهذا أثر مشكل
، فإن هذه الآية آخر سورة الكهف ، والكهف كلها مكية ، ولعل معاوية أراد أنه لم
ينزل بعدها آية تنسخها ولا تغير حكمها ، بل هي مثبتة محكمة ، فاشتبه ذلك على بعض
الرواة فروى بالمعنى على ما فهمه ، والله أعلم.
وقال الحافظ أبو
بكر البزار : حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق ، حدثنا النضر بن شميل ، حدثنا
أبو قرة عن سعيد بن المسيب عن عمرو بن الخطاب قال : قال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم : «من قرأ في ليلة (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا
لِقاءَ رَبِّهِ) الآية ، كان له من النور من عدن أبين إلى مكة حشو ذلك
النور الملائكة» غريب جدا.
آخر تفسير سورة
الكهف.
__________________
سورة مريم
وهي مكية
وقد روى محمد بن
إسحاق في السيرة من حديث أم سلمة ، وأحمد بن حنبل عن ابن مسعود في قصة الهجرة إلى أرض الحبشة من مكة أن جعفر
بن أبي طالب رضي الله عنه قرأ صدر هذه السورة على النجاشي وأصحابه.
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(كهيعص (١) ذِكْرُ رَحْمَتِ
رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢)
إِذْ
نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (٣) قالَ رَبِّ إِنِّي
وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ
رَبِّ شَقِيًّا (٤) وَإِنِّي خِفْتُ
الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ
وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ
وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا)
(٦)
أما الكلام على
الحروف المقطعة فقد تقدم في أول سورة البقرة ، وقوله (ذِكْرُ رَحْمَتِ
رَبِّكَ) أي هذا ذكر رحمة الله بعبده زكريا ، وقرأ يحيى بن يعمر (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ
زَكَرِيَّا) وزكريا يمد ويقصر ، قراءتان مشهورتان وكان نبيا عظيما من
أنبياء بني إسرائيل ، وفي صحيح البخاري أنه كان نجارا يأكل من عمل يده في النجارة.
وقوله (إِذْ نادى رَبَّهُ
نِداءً خَفِيًّا) قال بعض المفسرين : إنما أخفى دعاءه لئلا ينسب في طلب
الولد إلى الرعونة لكبره ، حكاه الماوردي.
وقال آخرون : إنما
أخفاه لأنه أحب إلى الله ، كما قال قتادة في هذه الآية (إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا) إن الله يعلم القلب التقي ، ويسمع الصوت الخفي .
وقال بعض السلف :
قام من الليل عليهالسلام وقد نام أصحابه ، فجعل يهتف بربه يقول خفية : يا رب ، يا
رب ، يا رب ، فقال الله له : لبيك لبيك لبيك (قالَ رَبِّ إِنِّي
وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) أي ضعفت وخارت القوى (وَاشْتَعَلَ
الرَّأْسُ شَيْباً) ، أي اضطرم المشيب في السواد ، كما قال ابن دريد في
مقصورته : [الطويل]
__________________
أما ترى رأسي
حاكى لونه
|
|
طرة صبح تحت
أذيال الدجى
|
واشتعل المبيضّ
في مسودّة
|
|
مثل اشتعال
النار في جمر الغضا
|
والمراد من هذا
الإخبار عن الضعف والكبر ودلائله الظاهرة والباطنة. وقوله (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) أي ولم أعهد منك إلا الإجابة في الدعاء ، ولم تردني قط
فيما سألتك وقوله (وَإِنِّي خِفْتُ
الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي) قرأ الأكثرون بنصب الياء من الموالي على أنه مفعول ، وعن
الكسائي أنه سكن الياء ، كما قال الشاعر : [رجز]
كأن أيديهن في
القاع القرق
|
|
أيدي جوار
يتعاطين الورق
|
وقال الآخر : [الطويل]
فتى لو يباري
الشمس ألقت قناعها
|
|
أو القمر الساري
لألقى المقالدا
|
ومنه قول أبي تمام
حبيب بن أوس الطائي : [الطويل]
تغاير الشعر منه
إذ سهرت له
|
|
حتى ظننت قوافيه
ستقتتل
|
وقال مجاهد وقتادة
والسدي : أراد بالموالي العصبة. وقال أبو صالح : الكلالة. وروي عن أمير المؤمنين
عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه كان يقرؤها (وَإِنِّي خِفْتُ
الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي) بتشديد الفاء بمعنى قلت عصباتي من بعدي ، وعلى القراءة
الأولى وجه خوفه أنه خشي أن يتصرفوا من بعده في الناس تصرفا سيئا ، فسأل الله ولدا
يكون نبيا من بعده ليسوسهم بنبوته ما يوحي إليه ، فأجيب في ذلك لا أنه خشي من
وراثتهم له ماله ، فإن النبي أعظم منزلة وأجل قدرا من أن يشفق على ماله إلى ما هذا
حده ، وأن يأنف من وراثة عصباته له ويسأل أن يكون له ولد ليحوز ميراثه دونهم هذا
وجه.
__________________
[الثاني] أنه لم
يذكر أنه كان ذا مال بل كان نجارا يأكل من كسب يديه ، ومثل هذا لا يجمع مالا ولا
سيما الأنبياء ، فإنهم كانوا أزهد شيء في الدنيا.
[الثالث] أنه قد
ثبت في الصحيحين من غير وجه أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال «لا نورث ، ما تركنا فهو صدقة» وفي رواية عند الترمذي بإسناد صحيح «نحن معشر الأنبياء لا
نورث» ، وعلى هذا فتعين حمل قوله (فَهَبْ لِي مِنْ
لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي) على ميراث النبوة ، ولهذا قال (وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) كقوله (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ
داوُدَ) [النمل : ١٦] أي
في النبوة إذ لو كان في المال لما خصه من بين إخوته بذلك ، ولما كان في الإخبار
بذلك كبير فائدة ، إذ من المعلوم المستقر في جميع الشرائع والملل أن الولد يرث
أباه ، فلولا أنها وراثة خاصة لما أخبر بها ، وكل هذا يقرره ويثبته ما صح في
الحديث «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ، ما تركنا فهو صدقة».
قال مجاهد في قوله
(يَرِثُنِي وَيَرِثُ
مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) كان وراثته علما ، وكان زكريا من ذرية يعقوب ، وقال هشيم :
أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح في قوله (يَرِثُنِي وَيَرِثُ
مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) قال : يكون نبيا كما كانت آباؤه أنبياء ، وقال عبد الرزاق
عن معمر عن قتادة ، عن الحسن يرث نبوته وعلمه ، وقال السدي : يرث نبوتي ونبوة آل
يعقوب. وعن مالك عن زيد بن أسلم (وَيَرِثُ مِنْ آلِ
يَعْقُوبَ) قال نبوتهم. وقال جابر بن نوح ويزيد بن هارون كلاهما عن
إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح في قوله (يَرِثُنِي وَيَرِثُ
مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) قال : يرث مالي ويرث من آل يعقوب النبوة ، وهذا اختيار ابن
جرير في تفسيره.
وقال عبد الرزاق :
أخبرنا معمر عن قتادة أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال «يرحم الله زكريا وما كان عليه من وراثة ماله ، ويرحم
الله لوطا إن كان ليأوي إلى ركن شديد». وقال ابن جرير : حدثنا أبو كريب ، حدثنا جابر بن نوح عن مبارك هو ابن
فضالة ، عن الحسن قال : قال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم «رحم الله أخي
زكريا ما كان عليه من وراثة ماله حين قال : هب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل
يعقوب» وهذه مرسلات لا تعارض الصحاح ، والله أعلم. وقوله (وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) أي مرضيا عندك وعند خلقك ، تحبه وتحببه إلى خلقك في دينه
وخلقه.
(يا زَكَرِيَّا إِنَّا
نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا)
(٧)
هذا الكلام يتضمن
محذوفا وهو أنه أجيب إلى ما سأل في دعائه ، فقيل له : (يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ
بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى) كما قال تعالى : (هُنالِكَ دَعا
زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً
إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي
الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى
__________________
مُصَدِّقاً
بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) [آل عمران : ٣٨ ـ ٣٩]
وقوله (لَمْ نَجْعَلْ لَهُ
مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) قال قتادة وابن جريج وابن زيد : أي لم يسم أحد قبله بهذا
الاسم ، واختاره ابن جرير رحمهالله.
قال مجاهد (لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ
سَمِيًّا) أي شبيها ، وأخذه من معنى قوله (فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ
هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) [مريم : ٦٥] أي
شبيها ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : أي لم تلد العواقر قبله مثله ، وهذا
دليل على أن زكريا عليهالسلام كان لا يولد له ، وكذلك امرأته كانت عاقرا من أول عمرها ،
بخلاف إبراهيم ، وسارة عليهماالسلام ، فإنهما إنما تعجبا من البشارة بإسحاق لكبرهما لا لعقرهما
، ولهذا قال (أَبَشَّرْتُمُونِي
عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) [الحجر : ٥٤] مع أنه كان قد ولد له قبله إسماعيل بثلاث
عشرة سنة ، وقالت امرأته (يا وَيْلَتى أَأَلِدُ
وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قالُوا أَتَعْجَبِينَ
مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ
إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) [هود : ٧٢ ـ ٧٣].
(قالَ رَبِّ أَنَّى
يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ
عِتِيًّا (٨) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ
هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً)
(٩)
هذا تعجب من زكريا
عليهالسلام حين أجيب إلى ما سأل وبشر بالولد ، ففرح فرحا شديدا ، وسأل
عن كيفية ما يولد له والوجه الذي يأتيه منه الولد ، مع أن امرأته كانت عاقرا لم
تلد من أول عمرها مع كبرها ، ومع أنه قد كبر وعتا ، أي : عسا عظمه ونحل ، ولم يبق
فيه لقاح ولا جماع ، والعرب تقول للعود إذا يبس : عتا يعتو عتيا وعتوا ، وعسا يعسو
عسوا وعسيا ، وقال مجاهد : عتيا يعني نحول العظم ، وقال ابن عباس وغيره : عتيا ،
يعني الكبر ، والظاهر أنه أخص من الكبر.
وقال ابن جرير : حدثنا يعقوب ، حدثنا هشيم ، أخبرنا حصين عن عكرمة عن ابن
عباس قال : لقد علمت السنة كلها غير أني لا أدري أكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقرأ في الظهر والعصر أم لا ، ولا أدري كيف كان يقرأ هذا
الحرف (وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ
الْكِبَرِ عِتِيًّا) أو عسيا ، ورواه الإمام أحمد عن سريج بن النعمان وأبو داود عن زياد بن أيوب كلاهما عن
هشيم به ، (قالَ) أي الملك مجيبا لزكريا عما استعجب منه (كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ
هَيِّنٌ) أي إيجاد الولد منك ومن زوجتك هذه لا من غيرها ، (هَيِّنٌ) أي يسير سهل على الله ، ثم ذكر له ما هو أعجب مما سأل عنه
، فقال (وَقَدْ خَلَقْتُكَ
مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) كما قال تعالى : (هَلْ أَتى عَلَى
الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) [الإنسان : ١].
__________________
(قالَ رَبِّ اجْعَلْ
لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (١٠)
فَخَرَجَ
عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً
وَعَشِيًّا)
(١١)
يقول تعالى مخبرا
عن زكريا عليهالسلام أنه (قالَ رَبِّ اجْعَلْ
لِي آيَةً) أي علامة ودليلا على وجود ما وعدتني ، لتستقر نفسي ويطمئن
قلبي بما وعدتني ، كما قال إبراهيم عليهالسلام (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ
تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) [البقرة : ٢٦٠]
الآية (قالَ آيَتُكَ) أي علامتك (أَلَّا تُكَلِّمَ
النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا) أي أن تحبس لسانك عن الكلام ثلاث ليال ، وأنت صحيح سوي من
غير مرض ولا علة ، قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة ووهب والسدي وقتادة وغير واحد :
اعتقل لسانه من غير مرض ولا علة. قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : كان يقرأ ويسبح
ولا يستطيع أن يكلم قومه إلا إشارة.
وقال العوفي عن
ابن عباس (ثَلاثَ لَيالٍ
سَوِيًّا) أي متتابعات ، والقول الأول عنه وعن الجمهور أصح ، كما قال
تعالى في آل عمران (قالَ رَبِّ اجْعَلْ
لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا
رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) [آل عمران : ٤١]
وقال مالك عن زيد بن أسلم (ثَلاثَ لَيالٍ
سَوِيًّا) من غير خرس ، وهذا دليل على أنه لم يكن يكلم الناس في هذه
الليالي الثلاث وأيامها (إِلَّا رَمْزاً) أي إشارة ، ولهذا قال في هذه الآية الكريمة (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ
الْمِحْرابِ) أي الذي بشر فيه بالولد (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ) أي أشار إشارة خفية سريعة (أَنْ سَبِّحُوا
بُكْرَةً وَعَشِيًّا) أي موافقة له فيما أمر به في هذه الأيام الثلاثة زيادة على
أعماله شكرا لله على ما أولاه. قال مجاهد : «فأوحى إليهم» أي أشار وبه قال وهب
وقتادة. وقال مجاهد في رواية عنه : (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ) أي كتب لهم في الأرض ، وكذا قال السدي.
(يا يَحْيى خُذِ
الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (١٢) وَحَناناً مِنْ
لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (١٣) وَبَرًّا
بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (١٤)
وَسَلامٌ
عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا)
(١٥)
وهذا أيضا تضمن
محذوفا تقديره أنه وجد هذا الغلام المبشر به وهو يحيى عليهالسلام ، وأن الله علمه الكتاب وهو التوراة التي كانوا يتدارسونها
بينهم ، ويحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار ، وقد
كان سنه إذ ذاك صغيرا فلهذا نوه بذكره وبما أنعم به عليه وعلى والديه فقال : (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ) أي تعلم الكتاب بقوة أي بجد وحرص واجتهاد (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) أي الفهم والعلم والجد والعزم والإقبال على الخير والإكباب
عليه والاجتهاد فيه وهو صغير حدث ، قال عبد الله بن المبارك : قال معمر : قال
الصبيان ليحيى بن زكريا : اذهب بنا نلعب ، فقال : ما للعب خلقت ، فلهذا أنزل الله (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا)
__________________
وقوله : (وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا) يقول : ورحمة من عندنا ، وكذا قال عكرمة وقتادة والضحاك
وزاد : لا يقدر عليها غيرنا ، وزاد قتادة : رحم الله بها زكريا. وقال مجاهد : (وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا) وتعطفا من ربه عليه. وقال عكرمة: (وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا) قال : محبة عليه. وقال ابن زيد أما الحنان فالمحبة ، وقال
عطاء بن أبي رباح : (وَحَناناً مِنْ
لَدُنَّا) قال : تعظيما من لدنا ، وقال ابن جريج : أخبرني عمرو بن
دينار أنه سمع عكرمة عن ابن عباس أنه قال : لا والله ما أدري ما حنانا .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا جرير عن منصور ، سألت سعيد بن
جبير عن قوله : (وَحَناناً مِنْ
لَدُنَّا) فقال : سألت عنها ابن عباس فلم يجد فيها شيئا ، والظاهر من
السياق أن قوله وحنانا معطوف على قوله (وَآتَيْناهُ
الْحُكْمَ صَبِيًّا) أي وآتيناه الحكم وحنانا وزكاة ، أي وجعلناه ذا حنان وزكاة
، فالحنان هو المحبة في شفقة وميل ، كما تقول العرب : حنت الناقة على ولدها وحنت
المرأة على زوجها ، ومنه سميت المرأة حنة من الحنّة ، وحن الرجل إلى وطنه ، ومنه
التعطف والرحمة ، كما قال الشاعر : [المتقارب]
تحنّن عليّ هداك
المليك
|
|
فإن لكلّ مقام
مقالا
|
وفي المسند للإمام
أحمد عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال «يبقى رجل في النار ينادي ألف سنة : يا حنان يا منان»
وقد يثني ، ومنهم من يجعل ما ورد في ذلك لغة بذاتها ، كما قال طرفة : [الطويل]
أبا منذر أفنيت
فاستبق بعضنا
|
|
حنانيك بعض
الشرّ أهون من بعض
|
وقوله : (وَزَكاةً) معطوف على وحنانا ، فالزكاة الطهارة من الدنس والآثام
والذنوب ، وقال قتادة : الزكاة العمل الصالح ، وقال الضحاك وابن جريج : العمل
الصالح الزكي. وقال العوفي عن ابن عباس (وَزَكاةً) قال : بركة ، (وَكانَ تَقِيًّا) ذا طهر فلم يهمّ بذنب.
وقوله (وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ
جَبَّاراً عَصِيًّا) لما ذكر تعالى طاعته لربه ، وأنه خلقه ذا رحمة
__________________
وزكاة وتقى ، عطف
بذكر طاعته لوالديه وبره بهما ، ومجانبته عقوقهما قولا وفعلا ، أمرا ونهيا ، ولهذا
قال : (وَلَمْ يَكُنْ
جَبَّاراً عَصِيًّا) ثم قال بعد هذه الأوصاف الجميلة جزاء له على ذلك (وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ
وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) أي له الأمان في هذه الثلاثة الأحوال. وقال سفيان بن عيينة
: أوحش ما يكون المرء في ثلاثة مواطن : يوم يولد فيرى نفسه خارجا مما كان فيه ،
ويوم يموت فيرى قوما لم يكن عاينهم ، ويوم يبعث فيرى نفسه في محشر عظيم ، قال : فأكرم
الله فيها يحيى بن زكريا فخصّه بالسلام عليه ، فقال : (وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ
وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) رواه ابن جرير عن أحمد بن منصور المروزي عن صدقة بن الفضل
عنه.
وقال عبد الرزاق :
أخبرنا معمر عن قتادة في قوله : (جَبَّاراً عَصِيًّا) قال : كان ابن المسيب يذكر قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «ما من أحد يلقى
الله يوم القيامة إلا ذا ذنب إلا يحيى بن زكريا» قال قتادة : ما أذنب ولا هم
بامرأة ، مرسل ، وقال محمد بن إسحاق عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن
المسيب ، حدثني ابن العاص أنه سمع النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «كل بني آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب ، إلا ما كان
من يحيى بن زكريا بن إسحاق هذا مدلس ، وقد عنعن هذا الحديث ، فالله أعلم.
وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا حماد ، أخبرنا علي بن زيد عن يوسف بن
مهران عن ابن عباس أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «ما من أحد من ولد آدم إلا وقد أخطأ أو هم بخطيئة ،
ليس يحيى بن زكريا وما ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى» وهذا أيضا ضعيف
، لأن علي بن زيد بن جدعان له منكرات كثيرة ، والله أعلم. وقال سعيد بن أبي عروبة
عن قتادة أن الحسن قال : إن يحيى وعيسى عليهماالسلام التقيا ، فقال له عيسى : استغفر لي أنت خير مني ، فقال له
الآخر : استغفر لي أنت خير مني ، فقال له عيسى : أنت خير مني سلمت على نفسي ، وسلم
الله عليك فعرف والله فضلهما.
(وَاذْكُرْ فِي
الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (١٦) فَاتَّخَذَتْ مِنْ
دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً
سَوِيًّا (١٧) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ
مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨) قالَ إِنَّما أَنَا
رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (١٩) قالَتْ أَنَّى
يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا
(٢٠)
قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ
وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا)
(٢١)
لما ذكر تعالى قصة
زكريا عليهالسلام ، وأنه أوجد منه في حال كبره وعقم زوجته ولدا زكيا طاهرا
مباركا ، عطف بذكر قصة مريم في إيجاده ولدها عيسى عليهماالسلام منها من غير أب ، فإن بين القصتين مناسبة ومشابهة ، ولهذا
ذكرهما في آل عمران وهاهنا ، وفي سورة الأنبياء يقرن
__________________
بين القصتين
لتقارب ما بينهما في المعنى ، ليدل عباده على قدرته وعظمة سلطانه ، وأنه على ما
يشاء قادر ، فقال (وَاذْكُرْ فِي
الْكِتابِ مَرْيَمَ) وهي مريم بنت عمران من سلالة داود عليهالسلام. وكانت من بيت طاهر طيب في بني إسرائيل ، وقد ذكر الله
تعالى قصة ولادة أمها لها في سورة آل عمران ، وأنها نذرتها محررة ، أي تخدم مسجد
بيت المقدس ، وكانوا يتقربون بذلك (فَتَقَبَّلَها
رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) [آل عمران : ٣٧]
ونشأت في بني إسرائيل نشأة عظيمة ، فكانت إحدى العابدات الناسكات المشهورات
بالعبادة العظيمة والتبتل والدؤوب ، وكانت في كفالة زوج أختها زكريا نبي بني
إسرائيل إذ ذاك ، وعظيمهم الذي يرجعون إليه في دينهم ، ورأى لها زكريا من الكرامات
الهائلة ما بهره.
(كُلَّما دَخَلَ
عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى
لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ
بِغَيْرِ حِسابٍ) [آل عمران : ٣٧]
فذكر أنه كان يجد عندها ثمر الشتاء في الصيف ، وثمر الصيف في الشتاء ، كما تقدم
بيانه في سورة آل عمران ، فلما أراد الله تعالى وله الحكمة والحجة البالغة ، أن
يوجد منها عبده ورسوله عيسى عليهالسلام أحد الرسل أولي العزم الخمسة العظام (انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً
شَرْقِيًّا) أي اعتزلتهم وتنحت عنهم ، وذهبت إلى شرق المسجد المقدس.
وقال السدي لحيض أصابها ، وقيل لغير ذلك.
قال أبو كدينة عن
قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس قال : إن أهل الكتاب كتب عليهم الصلاة إلى
البيت والحج إليه ، وما صرفهم عنه إلا قيل ربك : (انْتَبَذَتْ مِنْ
أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا) قال : خرجت مريم مكانا شرقيا ، فصلوا قبل مطلع الشمس ،
رواه ابن أبي حاتم وابن جرير.
وقال ابن جرير أيضا : حدثنا إسحاق بن شاهين ، حدثنا خالد بن عبد الله عن
داود عن عامر ، عن ابن عباس قال : إني لأعلم خلق الله لأي شيء اتخذت النصارى
المشرق قبلة لقول الله تعالى : (انْتَبَذَتْ مِنْ
أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا) واتخذوا ميلاد عيسى قبلة. وقال قتادة (مَكاناً شَرْقِيًّا) شاسعا منتحيا ، وقال محمد بن إسحاق : ذهبت بقلتها لتستقي
الماء. وقال نوف البكالي : اتخذت لها منزلا تتعبد فيه ، فالله أعلم.
وقوله : (فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً) أي استترت منهم وتوارت ، فأرسل الله تعالى إليها جبريل عليهالسلام (فَتَمَثَّلَ لَها
بَشَراً سَوِيًّا) أي على صورة إنسان تام كامل. قال مجاهد والضحاك وقتادة
وابن جريج ووهب بن منبه والسدي في قوله : (فَأَرْسَلْنا
إِلَيْها رُوحَنا) يعني جبرائيل عليهالسلام ، وهذا الذي قالوه هو ظاهر القرآن ، فإنه تعالى قد قال في
الآية الأخرى : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ
الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) [الشعراء : ١٩٣ ـ ١٩٤]
وقال أبو جعفر
__________________
الرازي عن الربيع
بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب قال : إن روح عيسى عليهالسلام من جملة الأرواح التي أخذ عليها العهد في زمان آدم عليهالسلام ، وهو الذي تمثل لها بشرا سويا ، أي روح عيسى ، فحملت الذي
خاطبها ، وحل في فيها ، وهذا في غاية الغرابة والنكارة وكأنه إسرائيلي (قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ
مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) أي لما تبدى لها الملك في صورة بشر وهي في مكان منفرد
وبينها وبين قومها حجاب ، خافته وظنت أنه يريدها على نفسها ، فقالت : (إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ
إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) أي إن كنت تخاف الله تذكيرا له بالله وهذا هو المشروع في
الدفع أن يكون بالأسهل ، فالأسهل ، فخوفته أولا بالله عزوجل.
قال ابن جرير : حدثني أبو كريب ، حدثنا أبو بكر عن عاصم قال : قال أبو
وائل وذكر قصة مريم ، فقال : قد علمت أن التقي ذو نهية حين قالت : (إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ
إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ) أي فقال لها الملك مجيبا لها ومزيلا لما حصل عندها من
الخوف على نفسها لست مما تظنين ولكني رسول ربك أي بعثني الله إليك ، ويقال إنها
لما ذكرت الرحمن انتفض جبريل فرقا وعاد إلى هيئته وقال إنما أنا رسول ربك ليهب لك
غلاما زكيا هكذا قرأ أبو عمرو بن العلاء أحد مشهوري القراء ، وقرأ الآخرون (لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا) وكلا القراءتين له وجه حسن ومعنى صحيح ، وكل تستلزم
الأخرى.
(قالَتْ أَنَّى
يَكُونُ لِي غُلامٌ) أي فتعجبت مريم من هذا وقالت : كيف يكون لي غلام؟ أي على
أي صفة يوجد هذا الغلام مني ، ولست بذات زوج ، ولا يتصور مني الفجور ، ولهذا قالت
: (وَلَمْ يَمْسَسْنِي
بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) والبغي هي الزانية ، ولهذا جاء في الحديث نهي عن مهر البغي
(قالَ كَذلِكِ قالَ
رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) أي فقال لها الملك مجيبا لها عما سألت : إن الله قد قال
إنه سيوجد منك غلاما وإن لم يكن لك بعل ، ولا توجد منك فاحشة ، فإنه على ما يشاء
قادر ، ولهذا قال : (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً
لِلنَّاسِ) أي دلالة وعلامة للناس على قدرة بارئهم وخالقهم الذي نوع
في خلقهم ، فخلق أباهم آدم من غير ذكر ولا أنثى وخلق حواء من ذكر بلا أنثى ، وخلق
بقية الذرية من ذكر وأنثى إلا عيسى ، فإنه أوجده من أنثى بلا ذكر ، فتمت القسمة
الرباعية الدالة على كمال قدرته وعظيم سلطانه فلا إله غيره ولا رب سواه.
وقوله : (وَرَحْمَةً مِنَّا) أي ونجعل هذا الغلام رحمة من الله ونبيا من الأنبياء ،
يدعو إلى عبادة الله تعالى وتوحيده ، كما قال تعالى في الآية الأخرى : (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ
إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ
مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ
النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ) [آل عمران : ٤٥]
أي يدعو إلى عبادة ربه في مهده وكهولته ، قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا
عبد الرحيم بن إبراهيم ، حدثنا مروان ، حدثنا
__________________
العلاء بن الحارث
الكوفي عن مجاهد : قال : قالت مريم عليهاالسلام : كنت إذا خلوت حدثني عيسى وكلمني وهو في بطني ، وإذا كنت
مع الناس سبح في بطني وكبر.
وقوله : (وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا) يحتمل أن هذا من تمام كلام جبريل لمريم ، يخبرها أن هذا
أمر مقدر في علم الله تعالى وقدرته ومشيئته ، ويحتمل أن يكون من خبر الله تعالى
لرسوله محمدصلىاللهعليهوسلم وأنه كنى بهذا عن النفخ في فرجها ، كما قال تعالى : (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي
أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا) [التحريم : ١٢]
وقال : (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ
فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا) [الأنبياء : ٩١]
قال محمد بن إسحاق : (وَكانَ أَمْراً
مَقْضِيًّا) أي إن الله قد عزم على هذا فليس منه بد ، واختار هذا أيضا
ابن جرير في تفسيره ولم يحك غيره ، والله أعلم.
(فَحَمَلَتْهُ
فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (٢٢) فَأَجاءَهَا
الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ
نَسْياً مَنْسِيًّا)
(٢٣)
يقول تعالى مخبرا
عن مريم أنها لما قال لها جبريل عن الله تعالى ما قال ، أنها استسلمت لقضاء الله
تعالى ، فذكر غير واحد من علماء السلف أن الملك وهو جبرائيل عليهالسلام عند ذلك نفخ في جيب درعها ، فنزلت النفخة حتى ولجت في
الفرج فحملت بالولد بإذن الله تعالى ، فلما حملت به ضاقت ذرعا ، ولم تدر ماذا تقول
للناس ، فإنها تعلم أن الناس لا يصدقونها فيما تخبرهم به ، غير أنها أفشت سرها
وذكرت أمرها لأختها امرأة زكريا ، وذلك أن زكريا عليهالسلام كان قد سأل الله الولد فأجيب إلى ذلك ، فحملت امرأته ،
فدخلت عليها مريم ، فقامت إليها فاعتنقتها وقالت : أشعرت يا مريم أني حبلى؟ فقالت
لها مريم : وهل علمت أيضا أني حبلى ، وذكرت لها شأنها وما كان من خبرها ، وكانوا
بيت إيمان وتصديق ، ثم كانت امرأة زكريا بعد ذلك إذا واجهت مريم تجد الذي في بطنها
يسجد للذي في بطن مريم ، أي يعظمه ويخضع له ، فإن السجود كان في ملتهم عند السلام
مشروعا ، كما سجد ليوسف أبواه وإخوته ، وكما أمر الله الملائكة أن يسجدوا لآدمعليهالسلام ، ولكن حرم في ملتنا هذه تكميلا لتعظيم جلال الرب تعالى.
قال ابن أبي حاتم
: حدثنا علي بن الحسين قال : قرئ على الحارث بن مسكين وأنا أسمع ، قال أخبرنا عبد
الرحمن بن القاسم قال : قال مالك رحمهالله : بلغني أن عيسى ابن مريم ويحيى بن زكرياعليهماالسلام ابنا خالة ، وكان
حملهما جميعا معا ، فبلغني أن أم يحيى قالت لمريم : إني أرى أن ما في بطني يسجد
لما في بطنك. قال مالك : أرى ذلك لتفضيل عيسى عليهالسلام ، لأن الله جعله يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص ، ثم
اختلف المفسرون في مدة حمل عيسى عليهالسلام ، فالمشهور عن الجمهور أنها حملت به تسعة أشهر. وقال عكرمة
: ثمانية أشهر ، قال : ولهذا لا يعيش ولد الثمانية أشهر. وقال ابن جريج :
أخبرني المغيرة بن
عثمان بن عبد الله الثقفي ، سمع ابن عباس وسئل عن حمل مريم قال : لم يكن إلا أن
حملت فوضعت ، وهذا غريب ، وكأنه مأخوذ من ظاهر قوله تعالى : (فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ
مَكاناً قَصِيًّا فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ) فالفاء وإن كانت للتعقيب ، لكن تعقيب كل شيء بحسبه ، كقوله
تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ
مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً
فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً) [المؤمنون : ١٢ ـ ١٤]
فهذه الفاء للتعقيب بحسبها.
وقد ثبت في
الصحيحين أن بين كل صفتين أربعين يوما ، وقال تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ
السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) [الحج : ٦٣]
فالمشهور الظاهر ، والله على كل شيء قدير أنها حملت به كما تحمل النساء بأولادهن.
ولهذا لما ظهرت مخايل الحمل عليها ، وكان معها في المسجد رجل صالح من قراباتها
يخدم معها البيت المقدس يقال له يوسف النجار ، فلما رأى ثقل بطنها وكبره ، أنكر
ذلك من أمرها ، ثم صرفه ما يعلم من براءتها ونزاهتها ودينها وعبادتها ، ثم تأمل ما
هي فيه ، فجعل أمرها يجوس في فكره لا يستطيع صرفه عن نفسه ، فحمل نفسه على أن عرض
لها في القول فقال : يا مريم إني سائلك عن أمر فلا تعجلي علي. قالت : وما هو؟ قال
: هل يكون قط شجر من غير حب ، وهل يكون زرع من غير بذر. وهل يكون ولد من غير أب؟
فقالت : نعم ، وفهمت ما أشار إليه.
أما قولك : هل
يكون شجر من غير حب وزرع من غير بذر ، فإن الله قد خلق الشجر والزرع أول ما خلقهما
من غير حب ولا بذر ، وهل يكون ولد من غير أب؟ فإن الله تعالى قد خلق آدم من غير أب
ولا أم ، فصدقها وسلم لها حالها ، ولما استشعرت مريم من قومها اتهامها بالريبة ،
انتبذت منهم مكانا قصيا ، أي قاصيا منهم بعيدا عنهم لئلا تراهم ولا يروها.
قال محمد بن إسحاق
: فلما حملت به وملأت قلتها ورجعت ، استمسك عنها الدم وأصابها ما يصيب الحامل على
الولد من الوصب والتوحم وتغير اللون ، حتى فطر لسانها فما دخل على أهل بيت ما دخل
على آل زكريا ، وشاع الحديث في بني إسرائيل فقالوا : إنما صاحبها يوسف ولم يكن
معها في الكنيسة غيره ، وتوارت من الناس واتخذت من دونهم حجابا ، فلا يراها أحد
ولا تراه. وقوله : (فَأَجاءَهَا
الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ) أي فاضطرها وألجأها الطلق إلى جذع النخلة في المكان الذي
تنحت إليه ، وقد اختلفوا فيه ، فقال السدي : كان شرقي محرابها الذي تصلي فيه من
بيت المقدس. وقال وهب بن منبه : ذهبت هاربة ، فلما كانت بين الشام وبلاد مصر ضربها
الطلق. وفي رواية عن وهب : كان ذلك على ثمانية أميال من بيت المقدس في قرية هناك
يقال لها بيت لحم ، قلت : وقد تقدم في أحاديث الإسراء من
__________________
رواية النسائي عن
أنس رضي الله عنه ، والبيهقي عن شداد بن أوس رضي الله عنه أن ذلك ببيت لحم ، فالله
أعلم ، وهذا هو المشهور الذي تلقاه الناس بعضهم عن بعض ، ولا تشك فيه النصارى أنه
ببيت لحم ، وقد تلقاه الناس ، وقد ورد به الحديث إن صح.
وقوله تعالى
إخبارا عنها : (قالَتْ يا لَيْتَنِي
مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا) فيه دليل على جواز تمني الموت عند الفتنة ، فإنها عرفت
أنها ستبتلى وتمتحن بهذا المولود الذي لا يحمل الناس أمرها فيه على السداد ، ولا
يصدقونها في خبرها ، وبعد ما كانت عندهم عابدة ناسكة تصبح عندهم فيما يظنون عاهرة
زانية ، فقالت : (يا لَيْتَنِي مِتُّ
قَبْلَ هذا) أي قبل هذا الحال ، (وَكُنْتُ نَسْياً
مَنْسِيًّا) أي لم أخلق ولم أك شيئا ، قاله ابن عباس. وقال السدي :
قالت وهي تطلق من الحبل استحياء من الناس : يا ليتني مت قبل هذا الكرب الذي أنا
فيه والحزن بولادتي المولود من غير بعل ، (وَكُنْتُ نَسْياً
مَنْسِيًّا) نسي فترك طلبه كخرق الحيض التي إذا ألقيت وطرحت لم تطلب
ولم تذكر ، وكذلك كل شيء نسي وترك فهو نسي. وقال قتادة : (وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا) أي شيئا لا يعرف ولا يذكر ولا يدري من أنا. وقال الربيع بن
أنس : (وَكُنْتُ نَسْياً
مَنْسِيًّا) هو السقط. وقال ابن زيد : لم أكن شيئا قط ، وقد قدمنا
الأحاديث الدالة على النهي عن تمني الموت إلا عند الفتنة عند قوله : (تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي
بِالصَّالِحِينَ) [يوسف: ١٠١].
(فَناداها مِنْ
تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤) وَهُزِّي إِلَيْكِ
بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (٢٥)
فَكُلِي
وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي
إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا)
(٢٦)
قرأ بعضهم : من
تحتها بمعنى الذي تحتها ، وقرأ الآخرون : (مِنْ تَحْتِها) على أنه حرف جر ، واختلف المفسرون في المراد بذلك من هو؟
فقال العوفي وغيره عن ابن عباس (فَناداها مِنْ
تَحْتِها) جبريل ، ولم يتكلم عيسى حتى أتت به قومها ، وكذا قال سعيد
بن جبير والضحاك وعمرو بن ميمون والسدي وقتادة : إنه الملك جبرائيل عليه الصلاة
والسلام ، أي ناداها من أسفل الوادي. وقال مجاهد : (فَناداها مِنْ
تَحْتِها) قال : عيسى ابن مريم ، وكذا قال عبد الرزاق عن معمر عن
قتادة قال : قال الحسن : هو ابنها ، وهو إحدى الروايتين عن سعيد بن جبير أنه ابنها
، قال : أو لم تسمع الله يقول : (فَأَشارَتْ إِلَيْهِ) [مريم ٢٩] واختاره
ابن زيد وابن جرير في تفسيره.
وقوله : (أَلَّا تَحْزَنِي) أي ناداها قائلا لا تحزني (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ
تَحْتَكِ سَرِيًّا) قال سفيان الثوري وشعبة عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) قال : الجدول ، وكذا قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس :
السري النهر ، وبه قال عمرو بن ميمون
__________________
نهر تشرب منه.
وقال مجاهد : هو النهر بالسريانية. وقال سعيد بن جبير : السري النهر الصغير
بالنبطية. وقال الضحاك : هو النهر الصغير بالسريانية. وقال إبراهيم النخعي : هو
النهر الصغير. وقال قتادة : هو الجدول بلغة أهل الحجاز ، وقال وهب بن منبه : السري
هو ربيع الماء. وقال السدي : هو النهر ، واختار هذا القول ابن جرير.
وقد ورد في ذلك
حديث مرفوع ، فقال الطبراني : حدثنا أبو شعيب الحراني ، حدثنا يحيى بن عبد الله
البابلتي ، حدثنا أيوب بن نهيك ، سمعت عكرمة مولى ابن عباس يقول ، سمعت ابن عمر
يقول : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «إن السري الذي قال الله لمريم (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) نهر أخرجه الله لتشرب منه» وهذا حديث غريب جدا من هذا
الوجه. وأيوب بن نهيك هذا هو الحبلى ، قال فيه أبو حاتم الرازي : ضعيف. وقال أبو
زرعة : منكر الحديث.
وقال أبو الفتح
الأزدي : متروك الحديث. وقال آخرون المراد بالسري عيسى عليهالسلام ، وبه قال الحسن والربيع بن أنس ومحمد بن عباد بن جعفر ،
وهو إحدى الروايتين عن قتادة ، وقول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم والقول الأول أظهر.
ولهذا قال بعده : (وَهُزِّي إِلَيْكِ
بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) أي وخذي إليك بجذع النخلة. قيل : كانت يابسة ، قاله ابن
عباس. وقيل : مثمرة. قال مجاهد : كانت عجوة. وقال الثوري عن أبي داود نفيع الأعمى
: كانت صرفانة ، والظاهر أنها كانت شجرة ، ولكن لم تكن في إبان ثمرها ، قاله وهب
بن منبه ، ولهذا امتن عليها بذلك بأن جعل عندها طعاما وشرابا فقال : (تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا
فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً) أي طيبي نفسا ، ولهذا قال عمرو بن ميمون : ما من شيء خير
للنفساء من التمر والرطب ، ثم تلا هذه الآية الكريمة.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا شيبان ، حدثنا مسرور بن سعيد التميمي ، حدثنا عبد
الرحمن بن عمرو الأوزاعي عن عروة بن رويم ، عن علي بن أبي طالب قال : قال رسول
الله صلىاللهعليهوسلم : «أكرموا عمتكم النخلة ، فإنها خلقت من الطين الذي خلق
منه آدم عليهالسلام ، وليس من الشجر شيء يلقح غيرها» وقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أطعموا نساءكم الولد الرطب ، فإن لم يكن رطب فتمر ،
وليس من الشجر شجرة أكرم على الله من شجرة نزلت تحتها مريم بنت عمران» هذا حديث
منكر جدا ورواه أبو يعلى عن شيبان به. وقرأ بعضهم (تُساقِطْ) بتشديد السين ، وآخرون بتخفيفها. وقرأ أبو نهيك تسقط عليك
رطبا جنيا وروى أبو إسحاق عن البراء أنه قرأها يسّاقط أي الجذع ، والكل متقارب.
وقوله : (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ
أَحَداً) أي مهما رأيت من أحد (فَقُولِي إِنِّي
نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) المراد بهذا القول الإشارة إليه بذلك ، لا أن المراد به
القول اللفظي لئلا ينافي (فَلَنْ أُكَلِّمَ
الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) قال أنس بن مالك في قوله : (إِنِّي نَذَرْتُ
لِلرَّحْمنِ
صَوْماً) قال : صمتا ، وكذا قال ابن عباس والضحاك ، وفي رواية عن
أنس : صوما وصمتا ، وكذا قال قتادة وغيرهما ، والمراد أنهم كانوا إذا صاموا في شريعتهم
يحرم عليهم الطعام والكلام ، نص على ذلك السدي وقتادة وعبد الرحمن بن زيد. وقال
أبو إسحاق عن حارثة قال : كنت عند ابن مسعود ، فجاء رجلان فسلم أحدهما ولم يسلم
الآخر ، فقال : ما شأنك؟ قال أصحابه : حلف أن لا يكلم الناس اليوم ، فقال عبد الله
بن مسعود : كلم الناس وسلم عليهم ، فإن تلك امرأة علمت أن أحدا لا يصدقها أنها
حملت من غير زوج ، يعني بذلك مريم عليهاالسلام ، ليكون عذرا لها إذا سئلت. رواه ابن أبي حاتم وابن جرير رحمها الله. وقال عبد الرحمن بن زيد : لما قال عيسى لمريم
: لا تحزني قالت : وكيف لا أحزن وأنت معي ، لا ذات زوج ولا مملوكة؟ أي شيء عذري
عند الناس؟ يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا ، قال لها عيسى : أنا أكفيك
الكلام (فَإِمَّا تَرَيِنَّ
مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ
أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) قال هذا كله من كلام عيسى لأمه ، وكذا قال وهب.
(فَأَتَتْ بِهِ
قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (٢٧) يا أُخْتَ هارُونَ
ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨)
فَأَشارَتْ
إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩)
قالَ
إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠)
وَجَعَلَنِي
مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا
(٣١) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ
يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (٣٢)
وَالسَّلامُ
عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا)
(٣٣)
يقول تعالى مخبرا
عن مريم حين أمرت أن تصوم يومها ذلك وأن لا تكلم أحدا من البشر ، فإنها ستكفي
أمرها ويقام بحجتها ، فسلمت لأمر الله عزوجل واستسلمت لقضائه ، فأخذت ولدها فأتت به قومها تحمله ، فلما
رأوها كذلك أعظموا أمرها واستنكروه جدا ، و (قالُوا يا مَرْيَمُ
لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا) ، أي أمرا عظيما ، قاله مجاهد وقتادة والسدي وغير واحد.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن أبي زياد ، حدثنا سيّار ، حدثنا
جعفر بن سليمان ، حدثنا أبو عمران الجوني عن نوف البكالي قال : وخرج قومها في
طلبها ، قال : وكانت من أهل بيت نبوة وشرف فلم يحسوا منها شيئا ، فلقوا راعي بقر
فقالوا : رأيت فتاة كذا وكذا نعتها؟ قال : لا ولكني رأيت الليلة من بقري ما لم أره
منها قط ، قالوا : وما رأيت؟ قال : رأيتها الليلة تسجد نحو هذا الوادي.
قال عبد الله بن
زياد : وأحفظ عن سيّار أنه قال : رأيت نورا ساطعا فتوجهوا حيث قال لهم ،
فاستقبلتهم مريم ، فلما رأتهم قعدت وحملت ابنها في حجرها فجاؤوا حتى قاموا عليها و
(قالُوا يا مَرْيَمُ
لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا) أمرا عظيما (يا أُخْتَ هارُونَ) أي يا شبيهة هارون في
__________________
العبادة (ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما
كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) أي أنت من بيت طيب طاهر معروف بالصلاح والعبادة والزهادة ،
فكيف صدر هذا منك؟
قال علي بن أبي
طلحة والسدي : قيل لها : (يا أُخْتَ هارُونَ) أي أخي موسى ، وكانت من نسله كما يقال للتميمي : يا أخا
تميم ، وللمضري يا أخا مضر ، وقيل : نسبت إلى رجل صالح كان فيهم اسمه هارون ، فكانت
تقاس به في الزهادة والعبادة ، وحكى ابن جرير عن بعضهم أنهم شبهوها برجل فاجر كان
فيهم يقال له هارون .
ورواه ابن أبي
حاتم عن سعيد بن جبير ، وأغرب من هذا كله ما رواه ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن
الحسين الهسنجاني ، حدثنا ابن أبي مريم ، حدثنا المفضل بن فضالة ، حدثنا أبو صخر
عن القرظي في قوله الله عزوجل : (يا أُخْتَ هارُونَ) قال : هي أخت هارون لأبيه وأمه ، وهي أخت موسى أخي هارون
التي قصت أثر موسى (فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ
جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) [القصص : ١١] وهذا القول خطأ محض ، فإن الله تعالى قد ذكر
في كتابه أنه قفى بعيسى بعد الرسل ، فدل على أنه آخر الأنبياء بعثا ، وليس بعده
إلا محمد صلوات الله وسلامه عليهما ، ولهذا ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي
الله عنه عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «أنا أولى الناس بابن مريم إلا أنه ليس بيني
وبينه نبي» ولو كان الأمر كما زعم محمد بن كعب القرظي ، لم يكن متأخرا عن الرسل
سوى محمد ، ولكان قبل سليمان وداود ، فإن الله قد ذكر أن داود بعد موسى عليهماالسلام في قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى
الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ
ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ) [البقرة : ٢٤٦]
وذكر القصة إلى أن قال : (وَقَتَلَ داوُدُ
جالُوتَ) [البقرة : ٢٥١]
الآية ، والذي جرأ القرظي على هذه المقالة ما في التوراة بعد خروج موسى وبني
إسرائيل من البحر وإغراق فرعون وقومه.
قال : وكانت مريم
بنت عمران أخت موسى وهارون النبيين تضرب بالدف هي والنساء معها يسبحن الله ويشكرنه
على ما أنعم به على بني إسرائيل ، فاعتقد القرظي أن هذه هي أم عيسى وهذه هفوة
وغلطة شديدة ، بل هي باسم هذه ، وقد كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم وصالحيهم ، كما
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن إدريس ، سمعت أبي يذكره عن سماك عن علقمة
بن وائل عن المغيرة بن شعبة قال : بعثني رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى نجران فقالوا : أرأيت ما تقرؤون (يا أُخْتَ هارُونَ) وموسى قبل عيسى بكذا وكذا؟ قال : فرجعت فذكرت ذلك لرسول
الله صلىاللهعليهوسلم فقال : «ألا أخبرتهم أنهم كانوا يتسمون بالأنبياء والصالحين
قبلهم» انفرد بإخراجه مسلم
__________________
والترمذي والنسائي
من حديث عبد الله بن إدريس عن أبيه عن سماك به ، وقال الترمذي حسن صحيح غريب لا
نعرفه إلا من حديث ابن إدريس.
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب حدثنا ابن علية عن سعيد بن أبي صدقة عن محمد
بن سيرين قال أنبئت أن كعبا قال إن قوله : (يا أُخْتَ هارُونَ) ليس بهارون أخي موسى قال فقالت له عائشة كذبت قال يا أم
المؤمنين إن كان النبي صلىاللهعليهوسلم قاله فهو أعلم وأخبر وإلا فإني أجد بينهما ستمائة سنة قال
فسكتت وفي هذا التاريخ نظر.
وقال ابن جرير أيضا : حدثنا بشر ، حدثنا يزيد ، حدثنا سعيد عن قتادة قوله
: (يا أُخْتَ هارُونَ) الآية ، قال :
كانت من أهل بيت يعرفون بالصلاح ولا يعرفون بالفساد ، ومن الناس من يعرفون بالصلاح
ويتوالدون به ، وآخرون يعرفون بالفساد ويتوالدون به ، وكان هارون مصلحا محببا في
عشيرته وليس بهارون أخي موسى ولكنه هارون آخر ، قال : وذكر لنا أنه شيع جنازته يوم
مات أربعون ألفا كلهم يسمى هارون من بني إسرائيل.
وقوله : (فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ
نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) أي إنهم لما استرابوا في أمرها واستنكروا قضيتها وقالوا
لها ما قالوا معرضين بقذفها ورميها بالفرية ، وقد كانت يومها ذلك صائمة صامتة ،
فأحالت الكلام عليه ، وأشارت لهم إلى خطابه وكلامه ، فقالوا متهكمين بها ظانين
أنها تزدري بهم وتلعب بهم (كَيْفَ نُكَلِّمُ
مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) قال ميمون بن مهران: (فَأَشارَتْ إِلَيْهِ) قالت كلموه ، فقالوا : على ما جاءت به من الداهية تأمرنا أن
نكلم من كان في المهد صبيا ، وقال السدي لما «أشارت إليه» غضبوا وقالوا : لسخريتها
بنا حتى تأمرنا أن نكلم هذا الصبي أشد علينا من زناها (قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي
الْمَهْدِ صَبِيًّا) أي من هو موجود في مهده في حال صباه وصغره ، كيف يتكلم؟
قال : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ) ، أول شيء تكلم به أن نزه جناب ربه تعالى وبرأه عن الولد ،
وأثبت لنفسه العبودية لربه.
وقوله : (آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) تبرئة لأمه مما نسبت إليه من الفاحشة ، قال نوف البكالي :
لما قالوا لأمه ما قالوا ، كان يرتضع ثديه ، فنزع الثدي من فمه واتكأ على جنبه
الأيسر وقال (إِنِّي عَبْدُ اللهِ
آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ـ إلى قوله ـ ما دُمْتُ حَيًّا) وقال حماد بن سلمة عن ثابت البناني : رفع إصبعه السبابة
فوق منكبه وهو يقول : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ
آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) الآية ، وقال عكرمة : (آتانِيَ الْكِتابَ) أي قضى أنه يؤتيني الكتاب فيما قضى ، وقال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن المصفى ، حدثنا يحيى بن سعيد هو العطار
__________________
عن عبد العزيز بن
زياد ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : كان عيسى ابن مريم قد درس الإنجيل
وأحكمها وهو في بطن أمه ، فذلك قوله : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ
آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) يحيى بن سعيد العطار الحمصي متروك.
وقوله : (وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ) قال مجاهد وعمرو بن قيس والثوري : وجعلني معلما للخير. وفي
رواية عن مجاهد : نفاعا. وقال ابن جرير : حدثني سليمان بن عبد الجبار ، حدثنا محمد بن يزيد بن
خنيس المخزومي ، سمعت وهيب بن الورد مولى بني مخزوم قال : لقي عالم عالما هو فوقه
في العلم ، فقال له : يرحمك الله ما الذي أعلن من عملي؟ قال : الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر ، فإنه دين الله الذي بعث به أنبياءه إلى عباده ، وقد أجمع
الفقهاء على قول الله: (وَجَعَلَنِي
مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ) وقيل : ما بركته؟ قال : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
أينما كان. وقوله : (وَأَوْصانِي
بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا) كقوله تعالى لمحمدصلىاللهعليهوسلم : (وَاعْبُدْ رَبَّكَ
حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر : ٩٩].
وقال عبد الرحمن بن القاسم عن مالك بن أنس في قوله (وَأَوْصانِي
بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا) قال : أخبره بما هو كائن من أمره إلى أن يموت ، ما أبينها
لأهل القدر.
وقوله : (وَبَرًّا بِوالِدَتِي) أي وأمرني ببر والدتي ، ذكره بعد طاعة الله ربه ، لأن الله
تعالى كثيرا ما يقرن بين الأمر بعبادته وطاعة الوالدين ، كما قال تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا
إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) [الإسراء : ٢٣]
وقال (أَنِ اشْكُرْ لِي
وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) [لقمان : ١٤]. وقوله : (وَلَمْ يَجْعَلْنِي
جَبَّاراً شَقِيًّا) أي ولم يجعلني جبارا مستكبرا عن عبادته وطاعته وبر والدتي
، فأشقى بذلك. قال سفيان الثوري : الجبار الشقي الذي يقتل على الغضب. وقال بعض
السلف : لا تجد أحدا عاقا لوالديه إلا وجدته جبارا شقيا ، ثم قرأ : (وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ
يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا) قال : ولا تجد سيئ الملكة إلا وجدته مختالا فخورا ، ثم قرأ : (وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللهَ
لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً) [النساء : ٣٦].
قال قتادة : ذكر
لنا أن امرأة رأت ابن مريم يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص في آيات سلطه الله
عليهن وأذن له فيهن ، فقالت : طوبى للبطن الذي حملك ، وطوبى للثدي الذي أرضعت به ،
فقال نبي الله عيسى عليهالسلام يجيبها : طوبى لمن تلا كتاب الله فاتبع ما فيه ، ولم يكن
جبارا شقيا . وقوله : (وَالسَّلامُ عَلَيَّ
يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) إثبات منه لعبوديته لله عزوجل ، وأنه مخلوق من خلق الله يحيى ويموت ويبعث كسائر الخلائق
، ولكن له السلامة في هذه الأحوال التي هي أشق ما يكون على العباد ، صلوات الله
وسلامه عليه.
__________________
(ذلِكَ عِيسَى ابْنُ
مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (٣٤)
ما
كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما
يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٥)
وَإِنَّ
اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٣٦)
فَاخْتَلَفَ
الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ
عَظِيمٍ)
(٣٧)
يقول تعالى لرسوله
محمد صلوات الله وسلامه عليه : ذلك الذي قصصناه عليك من خبر عيسى عليهالسلام (قَوْلَ الْحَقِّ
الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) أي يختلف المبطلون والمحقون ممن آمن به وكفر به ، ولهذا
قرأ الأكثرون قول الحق برفع قول ، وقرأ عاصم وعبد الله بن عامر قول الحق ، وعن ابن
مسعود أنه قرأ ذلك عيسى ابن مريم ، قال : الحق ، والرفع أظهر إعرابا ، ويشهد له
قوله تعالى : (الْحَقُّ مِنْ
رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) [آل عمران : ٦٠]
ولما ذكر تعالى أنه خلقه عبدا نبيا نزه نفسه المقدسة فقال : (ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ
وَلَدٍ سُبْحانَهُ) أي عما يقول هؤلاء الجاهلون الظالمون المعتدون علوا كبيرا (إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ
لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) أي إذا أراد شيئا ، فإنما يأمر به فيصير كما يشاء ، كما
قال : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى
عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) [آل عمران : ٥٩ ـ ٦٠].
وقوله : (وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ
فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) أي ومما أمر به عيسى قومه وهو في مهده أن أخبرهم إذ ذاك أن
الله ربه وربهم وأمرهم بعبادته ، فقال : (فَاعْبُدُوهُ هذا
صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) أي هذا الذي جئتكم به عن الله صراط مستقيم ، أي قويم من
اتبعه رشد وهدى ، ومن خالفه ضل وغوى. وقوله : (فَاخْتَلَفَ
الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) أي اختلف أقوال أهل الكتاب في عيسى بعد بيان أمره ووضوح
حاله ، وأنه عبده ورسوله ، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، فصممت طائفة منهم ،
وهم جمهور اليهود. ـ عليهم لعائن الله ـ على أنه ولد زنية ، وقالوا : كلامه هذا
سحر. وقالت طائفة أخرى : إنما تكلم الله. وقال آخرون : بل هو ابن الله. وقال آخرون
: ثالث ثلاثة. وقال آخرون : بل هو عبد الله ورسوله ، وهذا هو قول الحق الذي أرشد
الله إليه المؤمنين ، وقد روي نحو هذا عن عمرو بن ميمون وابن جريج وقتادة وغير
واحد من السلف والخلف.
قال عبد الرزاق :
أخبرنا معمر عن قتادة في قوله : (ذلِكَ عِيسَى ابْنُ
مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) قال : اجتمع بنو إسرائيل ، فأخرجوا منهم أربعة نفر ، أخرج
كل قوم عالمهم ، فامتروا في عيسى حين رفع ، فقال بعضهم : هو الله هبط إلى الأرض
فأحيا من أحيا وأمات من أمات ، ثم صعد إلى السماء وهم اليعقوبية ، فقال الثلاثة :
كذبت. ثم قال اثنان منهم للثالث : قل أنت فيه قال : هو ابن الله وهم النسطورية ،
فقال الاثنان : كذبت. ثم قال أحد الاثنين للآخر: قل فيه ، فقال : هو ثالث ثلاثة :
الله إله ، وهو إله ، وأمه إله ، وهم الإسرائيلية ملوك النصارى عليهم لعائن الله.
قال الرابع : كذبت بل هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته وهم
المسلمون. فكان
لكل رجل منهم أتباع على ما قالوا ، فاقتتلوا وظهروا على المسلمين ، وذلك قول الله تعالى
: (وَيَقْتُلُونَ
الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ) قال قتادة : وهم الذين قال الله : (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ
بَيْنِهِمْ) قال اختلفوا فيه فصاروا أحزابا .
وقد روى ابن أبي
حاتم عن ابن عباس وعن عروة بن الزبير وعن بعض أهل العلم قريبا من ذلك ، وقد ذكر
غير واحد من علماء التاريخ من أهل الكتاب وغيرهم أن قسطنطين جمعهم في محفل كبير من
مجامعهم الثلاثة المشهورة عندهم ، فكان جماعة الأساقفة منهم ألفين ومائة وسبعين
أسقفا ، فاختلفوا في عيسى ابن مريم عليهالسلام اختلافا متباينا جدا ، فقالت كل شرذمة فيه قولا ، فمائة
تقول فيه شيئا ، وسبعون تقول فيه قولا آخر ، وخمسون تقول شيئا آخر ومائة وستون
تقول شيئا ، ولم يجتمع على مقالة واحدة أكثر من ثلاثمائة ، وثمانية منهم اتفقوا
على قول وصمموا عليه ، فمال إليهم الملك وكان فيلسوفا فقدمهم ونصرهم وطرد من عداهم
، فوضعوا له الأمانة الكبيرة بل هي الخيانة العظيمة ، ووضعوا له كتب القوانين
وشرعوا له أشياء ، وابتدعوا بدعا كثيرة ، وحرفوا دين المسيح وغيروه ، فابتنى لهم
حينئذ الكنائس الكبار في مملكته كلها ، بلاد الشام والجزيرة والروم ، فكان مبلغ
الكنائس في أيامه ما يقارب اثنتي عشرة ألف كنيسة ، وبنت أمه هيلانة قمامة على المكان الذي صلب فيه المصلوب الذي يزعم اليهود
والنصارى أنه المسيح ، وقد كذبوا بل رفعه الله إلى السماء.
وقوله (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ
مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) تهديد ووعيد شديد لمن كذب على الله وافترى وزعم أن له ولدا
، ولكن أنظرهم تعالى إلى يوم القيامة ، وأجلهم حلما وثقة بقدرته عليهم ، فإنه الذي
لا يعجل على من عصاه ، كما جاء في الصحيحين «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم
يفلته» ثم قرأ رسول الله صلىاللهعليهوسلم : (وَكَذلِكَ أَخْذُ
رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود : ١٠٢]. وفي
الصحيحين أيضا عن رسول اللهصلىاللهعليهوسلم أنه قال : «لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله ، إنهم
يجعلون له ولدا وهو يرزقهم ويعافيهم» وقد قال الله تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ
قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) [الحج : ٤٨] وقال
تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ
اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ
تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ) [إبراهيم : ٤٢]
ولهذا قال هاهنا : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أي يوم القيامة. وقد
__________________
جاء في الحديث
الصحيح المتفق على صحته عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا
عبده ورسوله ، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، وأن
الجنة حق والنار حق ، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل» .
(أَسْمِعْ بِهِمْ
وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٨)
وَأَنْذِرْهُمْ
يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا
يُؤْمِنُونَ (٣٩) إِنَّا نَحْنُ
نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ)
(٤٠)
يقول تعالى مخبرا
عن الكفار يوم القيامة : إنهم يكونون أسمع شيء وأبصره ، كما قال تعالى: (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ
ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا) [السجدة : ١٢]
الآية ، أي يقولون ذلك حين لا ينفعهم ولا يجدي عنهم شيئا ، ولو كان هذا قبل معاينة
العذاب لكان نافعا لهم ومنقذا من عذاب الله ، ولهذا قال : (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ) أي ما أسمعهم وأبصرهم (يَوْمَ يَأْتُونَنا) يعني يوم القيامة (لكِنِ الظَّالِمُونَ
الْيَوْمَ) أي في الدنيا (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي لا يسمعون ولا يبصرون ولا يعقلون ، فحيث يطلب منهم
الهدى لا يهتدون ويكونون مطيعين حيث لا ينفعهم ذلك ، ثم قال تعالى : (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ) أي أنذر الخلائق يوم الحسرة (إِذْ قُضِيَ
الْأَمْرُ) أي فصل بين أهل الجنة وأهل النار وصار كل إلى ما صار إليه
مخلدا فيه ، (وَهُمْ) أي اليوم (فِي غَفْلَةٍ) عما أنذروا به يوم الحسرة والندامة (وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) أي لا يصدقون به.
قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن عبيد ، حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي
سعيد قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ، يجاء
بالموت كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار ، فيقال : يا أهل الجنة هل تعرفون
هذا ، قال : فيشرئبون وينظرون ويقولون : نعم هذا الموت ـ قال ـ فيقال : يا أهل
النار هل تعرفون هذا؟ قال : فيشرئبون وينظرون ويقولون : نعم هذا الموت ـ قال ـ فيؤمر
به فيذبح ، قال : ويقال يا أهل الجنة خلود ولا موت ، ويا أهل النار خلود ولا موت»
ثم قرأ رسول الله صلىاللهعليهوسلم : (وَأَنْذِرْهُمْ
يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا
يُؤْمِنُونَ) وأشار بيده ثم قال «أهل الدنيا في غفلة الدنيا» هكذا رواه الإمام أحمد
، وقد أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث الأعمش به ، ولفظهما قريب من ذلك.
وقد روى هذا الحديث الحسن بن عرفة : حدثني أسباط بن محمد
__________________
عن الأعمش عن أبي
صالح عن أبي هريرة مرفوعا مثله ، وفي سنن ابن ماجة وغيره من حديث محمد بن عمرو عن
أبي سلمة عن أبي هريرة نحوه ، وهو في الصحيحين عن ابن عمر.
ورواه ابن جريج
قال : قال ابن عباس فذكر من قبله نحوه ، ورواه أيضا عن أبيه أنه سمع عبيد بن عمير
يقول في قصصه : يؤتى بالموت كأنه دابة فيذبح والناس ينظرون ، وقال سفيان الثوري عن
سلمة بن كهيل : حدثنا أبو الزعراء عن عبد الله هو ابن مسعود في قصة ذكرها ، قال :
فليس نفس إلا وهي تنظر إلى بيت في الجنة وبيت في النار وهو يوم الحسرة ، فيرى أهل
النار البيت الذي في الجنة ، ويقال لهم لو عملتم ، فتأخذهم الحسرة ، قال : ويرى
أهل الجنة البيت الذي في النار ، فيقال لهم لولا أن الله من عليكم.
وقال السدي عن
زياد عن زر بن حبيش عن ابن مسعود في قوله : (وَأَنْذِرْهُمْ
يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ) قال : إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ، أتي
بالموت في صورة كبش أملح حتى يوقف بين الجنة والنار ، ثم ينادي مناد : يا أهل
الجنة هذا الموت الذي كان يميت الناس في الدنيا ، فلا يبقى أحد في أهل عليين ولا
في أسفل درجة في الجنة إلا نظر إليه ، ثم ينادي مناد : يا أهل النار هذا الموت
الذي كان يميت الناس في الدنيا ، فلا يبقى أحد في ضحضاح من نار ولا في أسفل درك من
جهنم إلا نظر إليه ، ثم يذبح بين الجنة والنار ، ثم ينادي : يا أهل الجنة هو
الخلود أبد الآبدين ، ويا أهل النار هو الخلود أبد الآبدين ، فيفرح أهل الجنة فرحة
لو كان أحد ميتا من فرح ماتوا ، ويشهق أهل النار شهقة لو كان أحد ميتا من شهقة
ماتوا ، فذلك قوله تعالى : (وَأَنْذِرْهُمْ
يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ) يقول إذا ذبح الموت ، رواه ابن أبي حاتم في تفسيره.
وقال علي بن أبي
طلحة عن ابن عباس في قوله : (وَأَنْذِرْهُمْ
يَوْمَ الْحَسْرَةِ) من أسماء يوم القيامة عظمه الله وحذره عباده وقال عبد
الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله : (وَأَنْذِرْهُمْ
يَوْمَ الْحَسْرَةِ) قال : يوم القيامة ، وقرأ (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ
يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) [الزمر : ٥٦].
وقوله : (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ
عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) يخبر تعالى أنه الخالق المالك المتصرف ، وأن الخلق كلهم
يهلكون ويبقى هو تعالى وتقدس ، ولا أحد يدعي ملكا ولا تصرفا ، بل هو الوارث لجميع
خلقه الباقي بعدهم الحاكم فيهم ، فلا تظلم نفس شيئا ولا جناح بعوضة ولا مثقال ذرة.
قال ابن أبي حاتم : ذكر هدبة بن خالد القيسي ، حدثنا حزم بن أبي حزم القطعي قال :
كتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن صاحب الكوفة : أما بعد ، فإن
الله كتب على خلقه حين خلقهم الموت ، فجعل مصيرهم إليه ، وقال فيما أنزل في كتابه
الصادق الذي خلقه بعلمه وأشهد ملائكته على حفظه : إنه يرث الأرض
ومن عليها وإليه
يرجعون .
(وَاذْكُرْ فِي
الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٤١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ
يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ
شَيْئاً (٤٢) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ
الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (٤٣)
يا
أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (٤٤)
يا
أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ
لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا)
(٤٥)
يقول تعالى لنبيه
محمد صلىاللهعليهوسلم : (وَاذْكُرْ فِي
الْكِتابِ إِبْراهِيمَ) واتل على قومك هؤلاء الذين يعبدون الأصنام ، واذكر لهم ما
كان من خبر إبراهيم خليل الرحمن. الذين هم من ذريته ويدعون أنهم على ملته ، وقد
كان صديقا نبيا مع أبيه ، كيف نهاه عن عبادة الأصنام ، فقال : (يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ
وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) أي لا ينفعك ولا يدفع عنك ضررا (يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ
الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ) يقول : وإن كنت من صلبك وتراني أصغر منك لأني ولدك ، فاعلم
أني قد أطلعت من العلم من الله على ما لم تعلمه أنت ، ولا أطلعت عليه ولا جاءك (فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً
سَوِيًّا) أي طريقا مستقيما موصلا إلى نيل المطلوب ، والنجاة من
المرهوب (يا أَبَتِ لا
تَعْبُدِ الشَّيْطانَ) أي لا تطعه في عبادتك هذه الأصنام ، فإنه هو الداعي إلى
ذلك والراضي به ، كما قال تعالى : (أَلَمْ أَعْهَدْ
إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ
مُبِينٌ) [يس : ٦٠] وقال : (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا
إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً) [النساء : ١١٧].
وقوله (إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ
عَصِيًّا) أي مخالفا مستكبرا عن طاعة ربه ، فطرده وأبعده ، فلا تتبعه
تصر مثله (يا أَبَتِ إِنِّي
أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ) أي على شركك وعصيانك لما آمرك به (فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا) يعني فلا يكون لك مولى ولا ناصرا ولا مغيثا إلا إبليس ،
وليس إليه ولا إلى غيره من الأمر شيء ، بل اتباعك له موجب لإحاطة العذاب بك ، كما
قال تعالى : (تَاللهِ لَقَدْ
أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ
فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [النحل : ٦٣].
(قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ
عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي
مَلِيًّا (٤٦) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ
لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (٤٧) وَأَعْتَزِلُكُمْ
وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ
رَبِّي شَقِيًّا)
(٤٨)
يقول تعالى مخبرا
عن جواب أبي إبراهيم لولده إبراهيم فيما دعاه إليه أنه قال : (أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا
إِبْراهِيمُ) يعني إن كنت لا تريد عبادتها ولا ترضاها ، فانته عن سبها
وشتمها
__________________
وعيبها ، فإنك إن
لم تنته عن ذلك اقتصصت منك وشتمتك وسببتك ، وهو قوله : (لَأَرْجُمَنَّكَ) قاله ابن عباس والسدي وابن جريج والضحاك وغيرهم ، وقوله : (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير ومحمد بن إسحاق : يعني
دهرا. وقال الحسن البصري : زمانا طويلا. وقال السدي (وَاهْجُرْنِي
مَلِيًّا) قال : أبدا. وقال علي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) قال : سويا سالما قبل أن تصيبك مني عقوبة ، وكذا قال
الضحاك وقتادة وعطية الجدلي ومالك وغيرهم ، واختاره ابن جرير ، فعند ما قال
إبراهيم لأبيه : (سَلامٌ عَلَيْكَ) كما قال تعالى في صفة المؤمنين : (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا
سَلاماً) [الفرقان : ٦٣]
وقال تعالى : (وَإِذا سَمِعُوا
اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ
سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) [القصص : ٥٥]
ومعنى قول إبراهيم لأبيه (سَلامٌ عَلَيْكَ) يعني أما أنا فلا ينالك مني مكروه ولا أذى وذلك لحرمة
الأبوة (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ
رَبِّي) ولكن سأسأل الله فيك أن يهديك ويغفر ذنبك (إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) قال ابن عباس وغيره : لطيفا ، أي في أن هداني لعبادته
والإخلاص له.
وقال قتادة ومجاهد
وغيرهما : (إِنَّهُ كانَ بِي
حَفِيًّا) قال عوده الإجابة. وقال السدي : الحفي الذي يهتم بأمره ،
وقد استغفر إبراهيم صلىاللهعليهوسلم لأبيه مدة طويلة وبعد أن هاجر إلى الشام ، وبنى المسجد
الحرام ، وبعد أن ولد له إسماعيل وإسحاق عليهماالسلام في قوله : (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي
وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) [إبراهيم : ٤١]
وقد استغفر المسلمون لقراباتهم وأهليهم من المشركين في ابتداء الإسلام ، وذلك
اقتداء بإبراهيم الخليل في ذلك حتى أنزل الله تعالى: (قَدْ كانَتْ لَكُمْ
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ
إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ـ إلى قوله ـ إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ
لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) [الممتحنة : ٤]
الآية ، يعني إلا في هذا القول ، فلا تتأسوا به ، ثم بين تعالى أن إبراهيم أقلع عن
ذلك ورجع عنه ، فقال تعالى : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ـ إلى قوله ـ وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ
لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ
أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) [التوبة : ١١٣ ـ ١١٤].
وقوله : (وَأَعْتَزِلُكُمْ
وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُوا رَبِّي). أي وأعبد ربي وحده لا شريك له (عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي
شَقِيًّا) وعسى هذه موجبة لا محالة ، فإنه عليهالسلام سيد الأنبياء بعد محمد صلىاللهعليهوسلم.
(فَلَمَّا
اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ
وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا(٤٩)
وَوَهَبْنا
لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا)
(٥٠)
يقول تعالى : فلما
اعتزل الخليل أباه وقومه في الله ، أبدله الله من هو خير منهم ، ووهب له إسحاق
ويعقوب يعني ابنه وابن إسحاق ، كما قال في الآية الأخرى : (وَيَعْقُوبَ نافِلَةً)
[الأنبياء : ٧٢]
وقال (وَمِنْ وَراءِ
إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) [هود : ٧١] ولا
خلاف أن إسحاق والد يعقوب ، وهو نص القرآن في سورة البقرة : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ
يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا
نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) [البقرة : ١٣٣] ولهذا إنما ذكر هاهنا إسحاق ويعقوب ، أي
جعلنا له نسلا وعقبا أنبياء أقر الله بهم عينه في حياته ، ولهذا قال : (وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا) فلو لم يكن يعقوب عليهالسلام قد نبىء في حياة إبراهيم لما اقتصر عليه ولذكر ولده يوسف ،
فإنه نبي أيضا.
كما قال رسول الله
صلىاللهعليهوسلم في الحديث المتفق على صحته حين سئل عن خير الناس ، فقال : «يوسف
نبي الله ابن يعقوب نبي الله ابن إسحاق نبي الله ابن إبراهيم خليل الله» ، وفي اللفظ الآخر «إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن
الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم».
وقوله (وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا
وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : يعني الثناء الحسن ،
وكذا قال السدي ومالك بن أنس ، وقال ابن جرير : إنما قال عليا لأن جميع الملل والأديان يثنون عليهم
ويمدحونهم ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
(وَاذْكُرْ فِي
الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥١) وَنادَيْناهُ مِنْ
جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (٥٢)
وَوَهَبْنا
لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا)
(٥٣)
لما ذكر تعالى
إبراهيم الخليل وأثنى عليه ، عطف بذكر الكليم ، فقال : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ
كانَ مُخْلَصاً) قرأ بعضهم بكسر اللام من الإخلاص في العبادة. قال الثوري
عن عبد العزيز بن رفيع ، عن أبي لبابة قال : قال الحواريون : يا روح الله أخبرنا
عن المخلص لله؟ قال : الذي يعمل لله لا يحب أن يحمده الناس ، وقرأ الآخرون بفتحها
بمعنى أنه كان مصطفى ، كما قال تعالى : (إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ
عَلَى النَّاسِ) [الأعراف : ١٤٤] (وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا) جمع الله له بين الوصفين ، فإنه كان من المرسلين الكبار
أولي العزم الخمسة ، وهم : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم وعلى
سائر الأنبياء أجمعين.
وقوله : (وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ) أي الجبل (الْأَيْمَنِ) من موسى حين ذهب يبتغي من تلك النار جذوة فرآها تلوح ،
فقصدها فوجدها في جانب الطور الأيمن منه عند شاطئ الوادي ، فكلمه الله تعالى
وناداه وقربه فناجاه. روى ابن جرير : حدثنا ابن بشار ، حدثنا يحيى
__________________
هو القطان ، حدثنا
سفيان عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس (وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا) قال : أدنى حتى سمع صريف القلم ، وهكذا قال مجاهد وأبو العالية وغيرهم : يعنون صريف القلم
بكتابة التوراة. وقال السدي : (وَقَرَّبْناهُ
نَجِيًّا) قال : أدخل في السماء فكلم ، وعن مجاهد نحوه.
وقال عبد الرزاق
عن معمر ، عن قتادة (وَقَرَّبْناهُ
نَجِيًّا) قال : نجا بصدقه. وروى ابن أبي حاتم : حدثنا عبد الجبار بن
عاصم ، حدثنا محمد بن سلمة الحراني عن أبي واصل ، عن شهر بن حوشب ، عن عمرو بن معد
يكرب قال : لما قرب الله موسى نجيا بطور سيناء قال : يا موسى إذا خلقت لك قلبا
شاكرا ولسانا ذاكرا وزوجة تعين على الخير ، فلم أخزن عنك من الخير شيئا ، ومن أخزن
عنه هذا فلم أفتح له من الخير شيئا.
وقوله : (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ
هارُونَ نَبِيًّا) أي وأجبنا سؤاله وشفاعته في أخيه ، فجعلناه نبيا ، كما قال
في الآية الأخرى (وَأَخِي هارُونُ هُوَ
أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ
أَنْ يُكَذِّبُونِ) [القصص : ٣٤] وقال
: (قَدْ أُوتِيتَ
سُؤْلَكَ يا مُوسى) [طه : ٣٦] وقال : (فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ وَلَهُمْ
عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) [الشعراء : ١٣ ـ ١٤]
ولهذا قال بعض السلف : ما شفع أحد في أحد شفاعة في الدنيا أعظم من شفاعة موسى في
هارون أن يكون نبيا ، قال الله تعالى : (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ
رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا) قال ابن جرير : حدثنا يعقوب ، حدثنا ابن علية عن داود عن
عكرمة قال : قال ابن عباس قوله : (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ
رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا) قال : كان هارون أكبر من موسى ، ولكن أراد وهب نبوته له ،
وقد ذكره ابن أبي حاتم معلقا عن يعقوب وهو ابن إبراهيم الدّورقي به.
(وَاذْكُرْ فِي
الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥٤)
وَكانَ
يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا)
(٥٥)
هذا ثناء من الله
تعالى على إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهماالسلام ، وهو والد عرب الحجاز كلهم بأنه كان صادق الوعد. قال ابن
جريج : لم يعد ربه عدة إلا أنجزها ، يعني ما التزم عبادة قط بنذر إلا قام بها ووفاها
حقها. وقال ابن جرير : حدثني يونس ، أنبأنا ابن وهب ، أخبرني عمرو بن الحارث أن
سهل بن عقيل حدثه أن إسماعيل النبي عليهالسلام وعد رجلا مكانا أن يأتيه فيه ، فجاء ونسي الرجل ، فظل به
إسماعيل وبات حتى جاء الرجل من الغد ، فقال : ما برحت من هاهنا؟ قال : لا. قال :
إني نسيت قال : لم أكن أبرح حتى تأتيني ، فلذلك (كانَ صادِقَ
الْوَعْدِ) وقال سفيان الثوري : يلغني أنه أقام في ذلك المكان ينتظره
حولا حتى
__________________
جاءه وقال ابن
شوذب : بلغني أنه اتخذ ذلك الموضع مسكنا.
وقد روى أبو داود
في سننه ، وأبو بكر محمد بن جعفر الخرائطي في كتابه مكارم الأخلاق ، من طريق
إبراهيم بن طهمان عن بديل بن ميسرة عن عبد الكريم يعني ابن عبد الله بن شقيق ، عن
أبيه عن عبد الله بن أبي الحمساء ، قال : بايعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم قبل أن يبعث ، فبقيت له علي بقية ، فوعدته أن آتيه بها في
مكانه ذلك ، قال : فنسيت يومي والغد ، فأتيته في اليوم الثالث وهو في مكانه ذلك ،
فقال لي : «يا فتى لقد شققت عليّ ، أنا هاهنا منذ ثلاث أنتظرك» لفظ الخرائطي وساق آثارا حسنة في ذلك ، ورواه ابن مندة أبو
عبد الله في كتاب معرفة الصحابة بإسناده عن إبراهيم بن طهمان ، عن بديل بن ميسرة
عن عبد الكريم به.
وقال بعضهم : إنما
قيل له : (صادِقَ الْوَعْدِ) لأنه قال لأبيه : (سَتَجِدُنِي إِنْ
شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) [الصافات : ١٠٢]
فصدق في ذلك ، فصدق الوعد من الصفات الحميدة كما أن خلفه من الصفات الذميمة ، قال
الله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ
أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) [الصف : ٢ ـ ٣]
وقال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم «آية المنافق ثلاث
: إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا أؤتمن خان» ولما كانت هذه صفات المنافقين ، كان التلبس بضدها من صفات
المؤمنين ، ولهذا أثنى الله على عبده ورسوله إسماعيل بصدق الوعد ، وكذلك كان رسول
الله صلىاللهعليهوسلم صادق الوعد أيضا لا يعد أحدا شيئا إلا وفي له به ، وقد
أثنى على أبي العاص بن الربيع زوج ابنته زينب ، فقال : «حدثني فصدقني ، ووعدني
فوفى لي» ولما توفي النبي صلىاللهعليهوسلم قال الخليفة أبو بكر الصديق : من كان له عند رسول الله صلىاللهعليهوسلم عدة أو دين فليأتني أنجز له ، فجاء جابر بن عبد الله فقال
إن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «لو كان جاء مال البحرين أعطيتك هكذا وهكذا وهكذا»
يعني ملء كفيه ، فلما جاء مال البحرين أمر الصديق جابرا فغرف بيديه من المال ، ثم
أمره بعده فإذا هو خمسمائة درهم فأعطاه مثليها معها.
وقوله : (وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا) في هذا دلالة على شرف إسماعيل على أخيه إسحاق ، لأنه إنما
وصف بالنبوة فقط ، وإسماعيل وصف بالنبوة والرسالة. وقد ثبت في صحيح مسلم أن رسول
الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل» وذكر تمام الحديث ، فدل على صحة ما قلناه. وقوله : (وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ
وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا) هذا أيضا من الثناء الجميل والصفة الحميدة ، والخلة
السديدة ، حيث كان مثابرا على طاعة ربه عزوجل ،
__________________
آمرا بها لأهله ،
كما قال تعالى لرسوله : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ
بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها) [طه : ١٣٢] الآية
، وقال : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ
وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما
أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) [التحريم : ٦] أي
مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر ولا تدعوهم هملا ، فتأكلهم النار يوم القيامة ،
وقد جاء في الحديث عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «رحم الله رجلا قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته ، فإن
أبت نضح في وجهها الماء. رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها ، فإن
أبى نضحت في وجهه الماء» أخرجه أبو داود وابن ماجة. وعن أبي سعيد وأبي هريرة رضي
الله عنهما عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «إذا استيقظ الرجل من الليل وأيقظ امرأته فصليا
ركعتين ، كتبا من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات» رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة واللفظ له.
(وَاذْكُرْ فِي
الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٥٦)
وَرَفَعْناهُ
مَكاناً عَلِيًّا)
(٥٧)
ذكر إدريس عليهالسلام بالثناء عليه بأنه كان صديقا نبيا ، وأن الله رفعه مكانا
عليا ، وقد تقدم في الصحيح أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم مر به في ليلة الإسراء وهو في السماء الرابعة. وقد روى ابن
جرير هاهنا أثرا غريبا عجيبا فقال : حدثني يونس بن عبد الأعلى ، أنبأنا ابن وهب ، أخبرني
جرير بن حازم عن سليمان الأعمش عن شمر بن عطية عن هلال بن يساف قال : سأل ابن عباس
كعبا وأنا حاضر فقال له : ما قول الله عزوجل لإدريس (وَرَفَعْناهُ مَكاناً
عَلِيًّا) فقال كعب : أما إدريس ، فإن الله أوحى إليه أني أرفع لك كل
يوم مثل عمل جميع بني آدم ، فأحب أن يزداد عملا ، فأتاه خليل له من الملائكة فقال
له : إن الله أوحى إلى كذا وكذا ، فكلم لي ملك الموت فليؤخرني حتى أزداد عملا ،
فحمله بين جناحيه حتى صعد به إلى السماء ، فلما كان في السماء الرابعة تلقاهم ملك
الموت منحدرا ، فكلم ملك الموت في الذي كلمه فيه إدريس ، فقال : وأين إدريس؟ فقال
: هوذا على ظهري. قال ملك الموت : العجب ، بعثت وقيل لي : اقبض روح إدريس في
السماء الرابعة ، فجعلت أقول : كيف أقبض روحه في السماء الرابعة وهو في الأرض؟
فقبض روحه هناك ، فذلك قول الله (وَرَفَعْناهُ مَكاناً
عَلِيًّا) هذا من أخبار كعب الأحبار الإسرائيليات ، وفي بعضه نكارة ،
والله أعلم.
وقد رواه ابن أبي
حاتم من وجه آخر عن ابن عباس أنه سأل كعبا فذكر نحو ما تقدم ، غير أنه
__________________
قال لذلك الملك :
هل لك أن تسأله ، يعني ملك الموت ، كم بقي من أجلي لكي أزداد من العمل ، وذكر
باقيه وفيه : أنه لما سأله عما بقي من أجله ، قال : لا أدري حتى أنظر ، فنظر ثم
قال : إنك تسألني عن رجل ما بقي من عمره إلا طرفة عين ، فنظر الملك تحت جناحه فإذا
هو قد قبض عليهالسلام وهو لا يشعر به ، ثم رواه من وجه آخر عن ابن عباس أن إدريس
كان خياطا ، فكان لا يغرز إبرة إلا قال : سبحان الله ، فكان يمسي حين يمسي وليس في
الأرض أحد أفضل عملا منه ، وذكر بقيته كالذي قبله أو نحوه.
وقال ابن أبي نجيح
عن مجاهد في قوله : (وَرَفَعْناهُ مَكاناً
عَلِيًّا) قال إدريس رفع ولم يمت كما رفع عيسى ، وقال سفيان عن منصور
عن مجاهد (وَرَفَعْناهُ مَكاناً
عَلِيًّا) قال : السماء الرابعة ، وقال العوفي عن ابن عباس (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) قال : رفع إلى السماء السادسة فمات بها وهكذا قال الضحاك
بن مزاحم وقال الحسن وغيره في قوله : (وَرَفَعْناهُ مَكاناً
عَلِيًّا) قال : الجنة.
(أُولئِكَ الَّذِينَ
أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ
حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ
هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً
وَبُكِيًّا)
(٥٨)
يقول تعالى :
هؤلاء النبيون ـ وليس المراد المذكورين في هذه السورة فقط بل جنس الأنبياءعليهمالسلام استطرد من ذكر الأشخاص إلى الجنس ـ (الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ
مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ) الآية ، قال السدي وابن جرير رحمهالله. فالذي عنى به من ذرية آدم إدريس ، والذي عنى به من ذرية
من حملنا مع نوح إبراهيم والذي عنى به من ذرية إبراهيم إسحاق ويعقوب وإسماعيل ،
والذي عنى به من ذرية إسرائيل موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى ابن مريم ، قال ابن
جرير : ولذلك فرق أنسابهم وإن كان يجمع جميعهم آدم ، لأن فيهم من ليس من ولد من
كان مع نوح في السفينة وهو إدريس ، فإنه جد نوح (قلت) هذا هو الأظهر أن إدريس في
عمود نسب نوحعليهماالسلام ، وقد قيل إنه من أنبياء بني إسرائيل أخذ من حديث الإسراء
، حيث قال في سلامه على النبي صلىاللهعليهوسلم : مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح ، ولم يقل والولد
الصالح ، كما قال آدم وإبراهيمعليهماالسلام.
وروى ابن أبي حاتم
: حدثنا يونس ، أنبأنا ابن وهب ، أخبرني ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن عبد
الله بن محمد أن إدريس أقدم من نوح ، فبعثه الله إلى قومه فأمرهم أن يقولوا لا إله
إلا الله ، ويعملوا ما شاؤوا ، فأبوا فأهلكهم الله عزوجل ، ومما يؤيد أن المراد بهذه الآية جنس الأنبياء أنها كقوله
تعالى في سورة الأنعام : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا
آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ
حَكِيمٌ عَلِيمٌ وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً
هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ
وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا
وَيَحْيى
وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ
وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ وَمِنْ آبائِهِمْ
وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ
مُسْتَقِيمٍ ـ إلى قوله ـ أُولئِكَ الَّذِينَ
هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام : ٨٣ ـ ٩٠]
وقال سبحانه وتعالى : (مِنْهُمْ مَنْ
قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) [غافر : ٧٨].
وفي صحيح البخاري
عن مجاهد أنه سأل ابن عباس : أفي (ص) سجدة؟ فقال : نعم ، ثم تلا هذه الآية : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ
فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام : ٩٠]
فنبيكم من أمر أن يقتدى بهم ، قال : وهو منهم ، يعني داود .
وقال الله تعالى
في هذه الآية الكريمة : (إِذا تُتْلى
عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا) أي إذا سمعوا كلام الله المتضمن حججه ودلائله وبراهينه ،
سجدوا لربهم خضوعا واستكانة وحمدا وشكرا على ما هم فيه من النعم العظيمة ، والبكي
جمع باك ، فلهذا أجمع العلماء على شرعية السجود هاهنا اقتداء بهم واتباعا
لمنوالهم. قال سفيان الثوري عن الأعمش عن إبراهيم عن أبي معمر قال : قرأ عمر بن
الخطاب رضي الله عنه سورة مريم ، فسجد وقال : هذا السجود فأين البكي؟ يريد البكاء
، رواه ابن أبي حاتم وابن جرير ، وسقط من رواته ذكر أبي معمر فيما رأيت ، فالله
أعلم.
(فَخَلَفَ مِنْ
بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ
يَلْقَوْنَ غَيًّا (٥٩) إِلاَّ مَنْ تابَ
وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ
شَيْئاً)
(٦٠)
لما ذكر تعالى حزب
السعداء وهم الأنبياء عليهمالسلام ، ومن اتبعهم من القائمين بحدود الله وأوامره ، المؤدين
فرائض الله التاركين لزواجره ، ذكر أنه (فَخَلَفَ مِنْ
بَعْدِهِمْ خَلْفٌ) أي قرون أخر (أَضاعُوا الصَّلاةَ) وإذا أضاعوها فهم لما سواها من الواجبات أضيع ، لأنها عماد
الدين وقوامه وخير أعمال العباد ، وأقبلوا على شهوات الدنيا وملاذها ورضوا بالحياة
الدنيا واطمأنوا بها ، فهؤلاء سيلقون غيا ، أي خسارا يوم القيامة ، وقد اختلفوا في
المراد بإضاعة الصلاة هاهنا فقال قائلون : المراد بإضاعتها تركها بالكلية ، قاله
محمد بن كعب القرظي وابن زيد بن أسلم والسدي ، واختاره ابن جرير ولهذا ذهب من ذهب
من السلف والخلف والأئمة كما هو المشهور عن الإمام أحمد ، وقول عن الشافعي إلى
تكفير تارك الصلاة للحديث «بين العبد وبين الشرك ترك الصلاة» . والحديث الآخر «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة ، فمن
__________________
فمن تركها فقد كفر»
وليس هذا محل بسط هذه المسألة.
وقال الأوزاعي عن
موسى بن سليمان عن القاسم بن مخيمرة في قوله : (فَخَلَفَ مِنْ
بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ) قال : أي أضاعوا المواقيت ولو كان تركا كان كفرا . وقال وكيع عن المسعودي عن القاسم بن عبد الرحمن والحسن بن
سعد عن ابن مسعود أنه قيل له : إن الله يكثر ذكر الصلاة في القرآن (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) [الماعون : ٥] و (عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) [المعارج : ٢٣] و (عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) [الأنعام : ٩٢]
فقال ابن مسعود : على مواقيتها.
قالوا : ما كنا
نرى ذلك إلا على الترك ، قال ذلك الكفر ، قال مسروق : لا يحافظ أحد على الصلوات
الخمس فيكتب من الغافلين ، وفي إفراطهن الهلكة ، وإفراطهن إضاعتهن عن وقتهن. وقال
الأوزاعي عن إبراهيم بن يزيد : أن عمر بن عبد العزيز قرأ : (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ
أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) ثم قال : لم تكن إضاعتهم تركها ولكن أضاعوا الوقت ، وقال
ابن أبي نجيح عن مجاهد (فَخَلَفَ مِنْ
بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ) قال : عند قيام الساعة وذهاب صالحي أمة محمد صلىاللهعليهوسلم ينزو بعضهم على بعض في الأزقة ، وكذا روى ابن جريج عن
مجاهد مثله ، وروى جابر الجعفي عن مجاهد وعكرمة وعطاء بن أبي رباح أنهم من هذه
الأمة ، يعنون في آخر الزمان.
وقال ابن جرير : حدثني الحارث ، حدثنا الحسن الأشيب ، حدثنا شريك عن
إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد (فَخَلَفَ مِنْ
بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ) قال : هم في هذه الأمة يتراكبون تراكب الأنعام والحمر في
الطرق ، لا يخافون الله في السماء ، ولا يستحيون من الناس في الأرض وقال ابن أبي
حاتم : حدثنا أحمد بن سنان الواسطي ، حدثنا أبو عبد الرحمن المقري ، حدثنا حيوة ،
حدثنا بشير بن أبي عمرو الخولاني أن الوليد بن قيس حدثه أنه سمع أبا سعيد الخدري
يقول : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «يكون خلف بعد ستين سنة أضاعوا الصلاة واتبعوا
الشهوات ، فسوف يلقون غيا ، ثم يكون خلف يقرءون القرآن لا يعدو تراقيهم ، ويقرأ
القرآن ثلاثة : مؤمن ، ومنافق وفاجر» وقال بشير : قلت للوليد : ما هؤلاء الثلاثة؟
قال : المؤمن مؤمن به ، والمنافق كافر به. والفاجر يأكل به» وهكذا رواه أحمد عن أبي عبد الرحمن المقري به.
وقال ابن أبي حاتم
أيضا : حدثني أبي ، حدثنا إبراهيم بن موسى ، أنبأنا عيسى بن يونس ،
__________________
حدثنا عبيد الله
بن عبد الرحمن بن وهب عن مالك عن أبي الرجال أن عائشة كانت ترسل بالشيء صدقة لأهل
الصفة ، وتقول : لا تعطوا منه بربريا ، ولا بربرية ، فإني سمعت رسول اللهصلىاللهعليهوسلم يقول : «هم الخلف الذين قال الله تعالى فيهم : (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ
أَضاعُوا الصَّلاةَ) هذا الحديث غريب. وقال أيضا : حدثني أبي ، حدثنا عبد
الرحمن بن الضحاك ، حدثنا الوليد حدثنا حريز عن شيخ من أهل المدينة أنه سمع محمد
بن كعب القرظي يقول في قول الله : (فَخَلَفَ مِنْ
بَعْدِهِمْ خَلْفٌ) الآية ، قال : هم أهل الغرب يملكون وهم شر من ملك.
وقال كعب الأحبار
: والله إني لأجد صفة المنافقين في كتاب الله عزوجل : شرّابين للقهوات ، ترّاكين للصّلوات ، لعّابين بالكعبات ، رقّادين عن
العتمات ، مفرطين في الغدوات ، تاركين للجماعات ، قال : ثم تلا هذه الآية (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ
أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) وقال الحسن البصري : عطلوا المساجد ولزموا الضيعات. وقال
أبو الأشهب العطاردي : أوحى الله إلى داود عليهالسلام : يا داود حذر وأنذر أصحابك أكل الشهوات ، فإن القلوب
المعلقة بشهوات الدنيا عقولها عني محجوبة ، وإن أهون ما أصنع بالعبد من عبيدي إذا
آثر شهوة من شهواته أن أحرمه من طاعتي.
وقال الإمام أحمد : حدثنا زيد بن الحباب ، حدثنا أبو السمح التميمي عن أبي
قبيل أنه سمع عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إني أخاف على أمتي اثنتين : القرآن ، واللبن» أما اللبن
فيتبعون الريف ويتبعون الشهوات ويتركون الصلاة ، أما القرآن فيتعلمه المنافقون
فيجادلون به المؤمنين ، ورواه عن حسن بن موسى عن ابن لهيعة : حدثنا أبو قبيل عن
عقبة به ، مرفوعا بنحوه ، تفرد به.
وقوله : (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) أي خسرانا ، وقال قتادة : شرا ، وقال سفيان الثوري وشعبة
ومحمد بن إسحاق عن أبي إسحاق السبيعي عن أبي عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) قال : واد في جهنم بعيد القعر ، خبيث الطعم. وقال الأعمش
عن زياد عن أبي عياض في قوله : (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ
غَيًّا) قال : واد في جهنم من قيح ودم.
وقال الإمام أبو
جعفر بن جرير : حدثني عباس بن أبي طالب ، حدثنا محمد بن زياد ، حدثنا
شرقي بن قطامي عن لقمان بن عامر الخزاعي قال : جئت أبا أمامة صدي بن عجلان الباهلي
، فقلت : حدثنا حديثا سمعته من رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فدعا بطعام ، ثم قال قال
__________________
رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لو أن صخرة زنة عشر أواق قذف بها من شفير جهنم ما بلغت
قعرها خمسين خريفا ، ثم تنتهي إلى غي وآثام» قال : قلت ما غي وآثام؟ قال : قال : «بئران
في أسفل جهنم يسيل فيهما صديد أهل النار» وهما اللذان ذكرهما الله في كتابه (أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا
الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) وقوله في الفرقان : (وَلا يَزْنُونَ
وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً) [الفرقان : ٦٨]
حديث غريب ورفعه منكر.
وقوله : (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ
صالِحاً) أي إلا من رجع عن ترك الصلوات واتباع الشهوات ، فإن الله
يقبل توبته ويحسن عاقبته ويجعله من ورثة جنة النعيم ، ولهذا قال : (فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا
يُظْلَمُونَ شَيْئاً) وذلك لأن التوبة تجبّ ما قبلها ، وفي الحديث الآخر «التائب
من الذنب كمن لا ذنب له» ولهذا لا ينقص هؤلاء التائبون من أعمالهم التي عملوها شيئا
، ولا قوبلوا بما عملوه قبلها فينقص لهم مما عملوه بعدها ، لأن ذلك ذهب هدرا وترك
نسيا ، وذهب مجانا من كرم الكريم وحلم الحليم ، وهذا الاستثناء هاهنا كقوله في
سورة الفرقان : (وَالَّذِينَ لا
يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ
اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ ـ إلى قوله ـ وَكانَ
اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) [الفرقان : ٦٨ ـ ٧٠].
(جَنَّاتِ عَدْنٍ
الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا
(٦١) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ
سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (٦٢) تِلْكَ الْجَنَّةُ
الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا)
(٦٣)
يقول تعالى :
الجنات التي يدخلها التائبون من ذنوبهم هي جنات عدن ، أي إقامة التي وعد الرحمن
عباده بظهر الغيب ، أي هي من الغيب الذي يؤمنون به وما رأوه ، وذلك لشدة إيقانهم
وقوة إيمانهم. وقوله : (إِنَّهُ كانَ
وَعْدُهُ مَأْتِيًّا) تأكيد لحصول ذلك وثبوته واستقراره ، فإن الله لا يخلف
الميعاد ولا يبدله ، كقوله : (كانَ وَعْدُهُ
مَفْعُولاً) [المزمل : ١٨] أي
كائنا لا محالة ، وقوله هاهنا : (مَأْتِيًّا) أي العباد صائرون إليه وسيأتونه ، ومنهم من قال (مَأْتِيًّا) بمعنى آتيا ، لأن كل ما أتاك فقد أتيته ، كما تقول العرب :
أتت علي خمسون سنة ، وأتيت على خمسين سنة ، كلاهما بمعنى واحد.
وقوله : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً) أي هذه الجنات ليس فيها كلام ساقط تافه لا معنى له كما قد
يوجد في الدنيا. وقوله : (إِلَّا سَلاماً) استثناء منقطع كقوله : (لا يَسْمَعُونَ فِيها
لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً) [الواقعة : ٢٥ ـ ٢٦]
وقوله : (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ
فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) أي في مثل وقت البكرات ووقت العشيات لا أن هناك ليلا
ونهارا ، ولكنهم في أوقات تتعاقب يعرفون مضيها بأضواء وأنوار ، كما قال الإمام
أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر عن
__________________
همام عن أبي هريرة
قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أول زمرة تلج الجنة صورهم على صورة القمر ليلة البدر لا
يبصقون فيها ، ولا يتمخطون فيها. ولا يتغوطون ، آنيتهم وأمشاطهم الذهب والفضة
ومجامرهم الألوّة ورشحهم المسك ولكل واحد منهم زوجتان ، يرى مخ ساقها من
وراء اللحم من الحسن ، لا اختلاف بينهم ولا تباغض ، قلوبهم على قلب رجل واحد ،
يسبحون الله بكرة وعشيا» أخرجاه في الصحيحين من حديث معمر به.
وقال الإمام أحمد : حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي عن ابن إسحاق ، حدثنا الحارث بن
فضيل الأنصاري عن محمود بن لبيد الأنصاري ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «الشهداء على بارق نهر بباب الجنة في قبة خضراء ، يخرج
عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا» تفرد به أحمد من هذا الوجه. وقال الضحاك عن ابن
عباس (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ
فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) قال : مقادير الليل والنهار.
وقال ابن جرير : حدثنا علي بن سهم ، حدثنا الوليد بن مسلم قال : سألت
زهير بن محمد عن قول الله تعالى : (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ
فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) قال : ليس في الجنة ليل ، هم في نور أبدا ولهم مقدار الليل
والنهار ، ويعرفون مقدار الليل بإرخاء الحجب وإغلاق الأبواب ، ويعرفون مقدار
النهار برفع الحجب وبفتح الأبواب ، وبهذا الإسناد عن الوليد بن مسلم عن خليد عن
الحسن البصري ، وذكر أبواب الجنة فقال : أبواب يرى ظاهرها من باطنها فتكلم وتكلم
فتهمهم ، انفتحي انغلقي فتفعل ، وقال قتادة في قوله : (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً
وَعَشِيًّا) فيها ساعتان بكرة وعشي ، ليس ثم ليل ولا نهار ، وإنما هو
ضوء ونور ، وقال مجاهد : ليس بكرة ولا عشي ، ولكن يؤتون به على ما كانوا يشتهون في
الدنيا.
وقال الحسن وقتادة
وغيرهما : كانت العرب الأنعم فيهم من يتغدى ويتعشى ، فنزل القرآن على ما في أنفسهم
من النعيم فقال تعالى : (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ
فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) وقال ابن مهدي عن حماد بن زيد عن هشام عن الحسن (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً
وَعَشِيًّا) قال : البكور يرد على العشي ، والعشي يرد على البكور ، ليس
فيها ليل. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا سليم بن منصور بن عمار
، حدثني أبي حدثني محمد بن زياد قاضي أهل شمشاط عن عبد الله بن حدير عن أبي سلمة
بن عبد الرحمن عن أبي هريرة عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «ما من غداة من غدوات الجنة وكل الجنة غدوات ، إلا
أنه يزف إلى ولي الله ، فيها زوجة من الحور العين أدناهن التي خلقت من الزعفران»
قال أبو محمد : هذا حديث غريب منكر.
__________________
وقوله : (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ
عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا) أي هذه الجنة التي وصفنا بهذه الصفات العظيمة ، هي التي
نورثها عبادنا المتقين ، وهم المطيعون لله عزوجل في السراء والضراء ، والكاظمون الغيظ ، والعافون عن الناس
، وكما قال تعالى في أول سورة المؤمنين (قَدْ أَفْلَحَ
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) إلى أن قال : (أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ
الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ) [المؤمنون : ١ ـ ١١].
(وَما نَتَنَزَّلُ
إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ
ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا(٦٤)
رَبُّ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ
هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا)
(٦٥)
قال الإمام أحمد : حدثنا يعلى ووكيع قالا : حدثنا عمر بن ذر عن أبيه عن
سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم لجبرائيل : «ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا؟» قال :
فنزلت (وَما نَتَنَزَّلُ
إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) إلى آخر الآية.
انفرد بإخراجه
البخاري فرواه عند تفسير هذه الآية عن أبي نعيم عن عمر بن ذر به ورواه ابن أبي
حاتم وابن جرير من حديث عمر بن ذر به وعندهما زيادة في آخر الحديث فكان ذلك الجواب
لمحمد صلىاللهعليهوسلم وقال العوفي عن ابن عباس احتبس جبرائيل عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم فوجد رسول اللهصلىاللهعليهوسلم من ذلك وحزن فأتاه جبريل وقال : يا محمد (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ
رَبِّكَ) الآية.
وقال مجاهد لبث
جبرائيل عن محمد صلىاللهعليهوسلم اثنتي عشرة ليلة ، ويقولون أقل ، فلما جاءه قال : «يا
جبرائيل لقد رثت علي حتى ظن المشركون كل ظن» فنزلت (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ
رَبِّكَ) الآية. قال : وهذه الآية كالتي في الضحى ، وكذلك قال
الضحاك بن مزاحم وقتادة والسدي وغير واحد : إنها نزلت في احتباس جبرائيل. وقال
الحكم بن أبان عن عكرمة قال : أبطأ جبرائيل النزول على النبي صلىاللهعليهوسلم : أربعين يوما ، ثم نزل ، فقال له النبي صلىاللهعليهوسلم «ما نزلت حتى
اشتقت إليك» فقال له جبريل : بل أنا كنت إليك أشوق ولكني مأمور ، فأوحى الله إلى جبرائيل
أن قل له (وَما نَتَنَزَّلُ
إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) الآية ، ورواه ابن أبي حاتم رحمهالله وهو غريب.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش عن مجاهد قال : أبطأت
الرسل على النبي صلىاللهعليهوسلم ، ثم أتاه جبريل فقال له «ما حبسك يا جبريل؟» فقال له
جبريل : وكيف نأتيكم وأنتم لا تقصون أظفاركم ، ولا تنقون براجمكم ، ولا تأخذون
__________________
شواربكم ، ولا
تستاكون. ثم قرأ (وَما نَتَنَزَّلُ
إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) إلى آخر الآية. وقد قال الطبراني:حدثنا أبو عامر النحوي ،
حدثنا محمد بن إبراهيم الصوري ، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي ، حدثنا
إسماعيل بن عياش ، أخبرني ثعلبة بن مسلم عن أبي كعب مولى ابن عباس ، عن ابن عباس
عن النبي صلىاللهعليهوسلم أن جبرائيل أبطأ عليه فذكر له ذلك ، فقال : وكيف وأنتم لا
تستنون ، ولا تقلمون أظفاركم ، ولا تقصون شواربكم ، ولا تنقون رواجبكم؟ وهكذا رواه الإمام أحمد عن أبي اليمان عن إسماعيل بن عياش عن ابن عباس بنحوه.
وقال الإمام احمد : حدثنا سيار ، حدثنا جعفر بن سليمان ، حدثنا المغيرة بن
حبيب عن مالك بن دينار ، حدثني شيخ من أهل المدينة عن أم سلمة قالت : قال لي رسول
الله صلىاللهعليهوسلم : «أصلحي لنا المجلس فإنه ينزل ملك إلى الأرض لم ينزل
إليها قط».
وقوله : (لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا) قيل : المراد ما بين أيدينا أمر الدنيا ، وما خلفنا أمر
الآخرة ، (وَما بَيْنَ ذلِكَ) ما بين النفختين ، هذا قول أبي العالية وعكرمة ومجاهد
وسعيد بن جبير وقتادة في رواية عنهما ، والسدي والربيع بن أنس ، وقيل : (ما بَيْنَ أَيْدِينا) ما يستقبل من أمر الآخرة (وَما خَلْفَنا) أي ما مضى من الدنيا (وَما بَيْنَ ذلِكَ) أي ما بين الدنيا والآخرة ، ويروى نحوه عن ابن عباس وسعيد
بن جبير والضحاك وقتادة وابن جريج والثوري ، واختاره ابن جرير أيضا ، والله اعلم.
وقوله : (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) قال مجاهد معناه ما نسيك ربك ، وقد تقدم عنه أن هذه الآية كقوله : (وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ما
وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) [الضحى : ١ ـ ٣].
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا يزيد بن محمد بن عبد الصمد الدمشقي ، حدثنا محمد بن
عثمان يعني أبا الجماهر ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، حدثنا عاصم بن رجاء بن حيوة عن
أبيه عن أبي الدرداء يرفعه قال «ما أحل الله في كتابه فهو حلال ، وما حرمه فهو
حرام ، وما سكت عنه فهو عافية فاقبلوا من الله عافيته ، فإن الله لم يكن لينسى
شيئا» ثم تلا هذه الآية (وَما كانَ رَبُّكَ
نَسِيًّا) .
وقوله : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما
بَيْنَهُما) أي خالق ذلك ومدبره والحاكم فيه والمتصرف الذي لا معقب
لحكمه (فَاعْبُدْهُ
وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : هل تعلم للرب مثلا أو
شبيها ، وكذلك قال مجاهد وسعيد بن جبير
__________________
وقتادة وابن جريج
وغيرهم. وقال عكرمة عن ابن عباس : ليس أحد يسمى الرحمن غيره تبارك وتعالى وتقدس
اسمه.
(وَيَقُولُ
الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (٦٦) أَوَلا يَذْكُرُ
الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (٦٧) فَوَ رَبِّكَ
لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ
جِثِيًّا (٦٨) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ
أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (٦٩)
ثُمَّ
لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا)
(٧٠)
يخبر تعالى عن
الإنسان أنه يتعجب ويستبعد إعادته بعد موته ، كما قال تعالى : (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا
كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) [الرعد : ٥] وقال
: (أَوَلَمْ يَرَ
الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ
وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ
رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ
خَلْقٍ عَلِيمٌ) [يس : ٧٧ ـ ٧٩]
وقال هاهنا : (وَيَقُولُ
الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا أَوَلا يَذْكُرُ
الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) يستدل تعالى بالبداءة على الإعادة ، يعني أنه تعالى قد خلق
الإنسان ولم يك شيئا ، أفلا يعيده وقد صار شيئا ، كما قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ
ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم : ٢٧] وفي
الصحيح «يقول الله تعالى : كذبني ابن آدم ولم يكن له أن يكذبني ، وآذاني ابن آدم
ولم يكن له أن يؤذيني ، أما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني ، وليس أول
الخلق بأهون عليّ من آخره ، وأما أذاه إياي فقوله إن لي ولدا وأنا الأحد الصمد
الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد» .
وقوله : (فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ
وَالشَّياطِينَ) أقسم الرب تبارك وتعالى بنفسه الكريمة أنه لا بد أن يحشرهم
جميعا وشياطينهم الذين كانوا يعبدون من دون الله (ثُمَّ
لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا) قال العوفي عن ابن عباس : يعني قعودا كقوله : (وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً) [الجاثية : ٢٨]
وقال السدي في قوله جثيا : يعني قياما ، وروي عن مرة عن ابن مسعود مثله. وقوله : (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ) يعني من كل أمة ، قال مجاهد (أَيُّهُمْ أَشَدُّ
عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا) قال الثوري عن علي بن الأقمر عن أبي الأحوص عن ابن مسعود
قال : يحبس الأول على الآخر حتى إذا تكاملت العدة أتاهم جميعا ، ثم بدأ بالأكابر
فالأكابر جرما ، وهو قوله : (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ
مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا).
وقال قتادة : (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ
أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا) قال : ثم لننزعن من أهل كل دين قادتهم ورؤساءهم في الشر ،
وكذا قال ابن جريج وغير واحد من السلف ، وهذا كقوله تعالى : (حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها
جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ
__________________
عَذاباً
ضِعْفاً مِنَ النَّارِ ـ إلى قوله ـ بِما
كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) [الأعراف : ٣٨ ـ ٣٩]
وقوله: (ثُمَّ لَنَحْنُ
أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا) ثم هاهنا لعطف الخبر على الخبر ، والمراد أنه تعالى أعلم
بمن يستحق من العباد أن يصلى بنار جهنم ويخلد فيها ، وبمن يستحق تضعيف العذاب، كما
قال في الآية المتقدمة (قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ
وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ).
(وَإِنْ مِنْكُمْ
إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (٧١)
ثُمَّ
نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا)
(٧٢)
قال الإمام أحمد : حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا غالب بن سليمان عن كثير بن
زياد البرساني عن أبي سمية قال : اختلفنا في الورود فقال بعضنا : لا يدخلها مؤمن ،
وقال بعضهم: يدخلونها جميعا ، ثم ينجي الله الذين اتقوا ، فلقيت جابر بن عبد الله
فقلت له : إنا اختلفنا في الورود ، فقال : يردونها جميعا ، وقال سليمان بن مرة :
يدخلونها جميعا ، وأهوى بإصبعيه إلى أذنيه ، وقال : صمتا إن لم أكن سمعت رسول الله
صلىاللهعليهوسلم يقول «لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها ، فتكون على المؤمن
بردا وسلاما كما كانت النار على إبراهيم حتى إن للنار ضجيجا من بردهم ، ثم ينجي
الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثيا» غريب ولم يخرجوه.
وقال الحسن بن
عرفة : حدثنا مروان بن معاوية عن بكار بن أبي مروان عن خالد بن معدان قال : قال
أهل الجنة بعد ما دخلوا الجنة : ألم يعدنا ربنا الورود على النار؟ قال : قد مررتم
عليها وهي خامدة ، وقال عبد الرزاق عن ابن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد عن
قيس بن أبي حازم قال : كان عبد الله بن رواحة واضعا رأسه في حجر امرأته ، فبكى
فبكت امرأته ، فقال : ما يبكيك؟ قالت رأيتك تبكي فبكيت ، قال : إني ذكرت قول الله عزوجل (وَإِنْ مِنْكُمْ
إِلَّا وارِدُها) فلا أدري أنجو منها أم لا ـ وفي رواية ، وكان مريضا .
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كريب ، حدثنا ابن يمان عن مالك بن مغول عن أبي
إسحاق كان أبو ميسرة إذا أوى إلى فراشه قال : يا ليت أمي لم تلدني ، ثم يبكي ،
فقيل له : ما يبكيك يا أبا ميسرة؟ قال : أخبرنا أنا واردوها ولم نخبر أنّا صادرون
عنها ، وقال عبد الله بن المبارك عن الحسن البصري قال : قال رجل لأخيه : هل أتاك
أنك وارد النار؟ قال : نعم ، قال : فهل أتاك أنك صادر عنها؟ قال : لا ، قال : ففيم
الضحك؟ قال : فما رئي ضاحكا حتى لحق بالله. وقال عبد الرزاق أيضا : أخبرنا ابن عيينة عن عمرو ،
أخبرني من سمع ابن عباس يخاصم
__________________
نافع بن الأزرق
فقال ابن عباس : الورود الدخول ، فقال نافع : لا ، فقرأ ابن عباس (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ
اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) [الأنبياء : ٩٨]
وردوا أم لا ، وقال : (يَقْدُمُ قَوْمَهُ
يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ) [هود : ٩٨] أوردها
أم لا ، أما أنا وأنت فسندخلها.
فانظر هل نخرج
منها أم لا؟ وما أرى الله مخرجك منها بتكذيبك ، فضحك نافع . وروى ابن جريج عن عطاء قال : قال أبو راشد الحروري وهو
نافع بن الأزرق (لا يَسْمَعُونَ
حَسِيسَها) فقال ابن عباس : ويلك ، أمجنون أنت؟ أين قوله : (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ
فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً)(وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) والله إن كان دعاء من مضى : اللهم أخرجني من النار سالما ،
وأدخلني الجنة غانما . وقال ابن جرير : حدثني محمد بن عبيد المحاربي ، حدثنا أسباط عن عبد الملك
عن عبيد الله عن مجاهد قال : كنت عند ابن عباس فأتاه رجل يقال له أبو راشد وهو
نافع بن الأزرق ، فقال له : يا ابن عباس أرأيت قول الله : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ
عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا)؟ قال : أما أنا وأنت يا أبا راشد فسنردها ، فانظر هل نصدر
عنها أم لا؟
وقال أبو داود
الطيالسي : قال شعبة : أخبرني عبد الله بن السائب عمن سمع ابن عباس يقرؤها وإن
منهم إلا واردها يعني الكفار ، وهكذا روى عمر بن الوليد الشنّي أنه سمع عكرمة يقرؤها
كذلك وإن منهم إلا واردها قال وهم الظلمة كذلك كنا نقرؤها ، رواه ابن أبي حاتم
وابن جرير ، وقال العوفي عن ابن عباس : قوله : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا
وارِدُها) يعني البر والفاجر ، ألا تسمع إلى قول الله لفرعون : (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ
فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ) [هود : ٩٨] الآية
، (وَنَسُوقُ
الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً) [مريم : ٨٦] فسمى
الورود على النار دخولا وليس بصادر .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن عن إسرائيل عن السدي ، عن مرة عن عبد
الله هو ابن مسعود (وَإِنْ مِنْكُمْ
إِلَّا وارِدُها) قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «يرد الناس كلهم ثم يصدرون عنها بأعمالهم» ورواه الترمذي عن عبد بن حميد عن عبيد الله عن إسرائيل عن
السدي به. ورواه من طريق شعبة عن السدي عن مرة عن ابن مسعود موقوفا ، هكذا وقع هذا
الحديث هاهنا مرفوعا.
__________________
وقد رواه أسباط عن
السدي عن مرة عن عبد الله بن مسعود قال : يرد الناس جميعا الصراط ، وورودهم قيامهم
حول النار ، ثم يصدرون عن الصراط بأعمالهم ، فمنهم من يمر مثل البرق ، ومنهم من
يمر مثل الريح ، ومنهم من يمر مثل الطير ، ومنهم من يمر كأجود الخيل ، ومنهم من
يمر كأجود الإبل ، ومنهم من يمر كعدو الرجل حتى إن آخرهم مرّا رجل نوره على موضع
إبهامي قدميه ، يمر فيتكفأ به الصراط ، والصراط دحض مزلة عليه حسك كحسك القتاد ، حافتاه ملائكة معهم كلاليب من نار يختطفون بها الناس.
وذكر تمام الحديث رواه ابن أبي حاتم.
وقال ابن جرير : حدثنا خلاد بن أسلم ، حدثنا النضر ، حدثنا إسرائيل ،
أخبرنا أبو إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله قوله : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا
وارِدُها) قال : الصراط على جهنم مثل حد السيف ، فتمر الطبقة الأولى
كالبرق ، والثانية كالريح ، والثالثة كأجود الخيل ، والرابعة كأجود البهائم. ثم
يمرون والملائكة يقولون : اللهم سلم سلم ، ولهذا شواهد في الصحيحين وغيرهما من
رواية أنس وأبي سعيد وأبي هريرة وجابر وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم.
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب ، حدثنا ابن علية عن الجريري عن أبي السليل
عن غنيم بن قيس قال : ذكروا ورود النار ، فقال كعب : تمسك النار الناس كأنها متن
إهالة حتى يستوي عليها أقدام الخلائق : برهم وفاجرهم ، ثم يناديها مناد : أن أمسكي
أصحابك ودعي أصحابي ، قال فتخسف بكل ولي لها ، وهي أعلم بهم من الرجل بولده ،
ويخرج المؤمنون ندية ثيابهم. قال كعب : ما بين منكبي الخازن من خزنتها مسيرة سنة ،
مع كل واحد منهم عمود ذو شعبتين ، يدفع به الدفع فيصرع به في النار سبعمائة ألف.
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش عن أبي سفيان عن جابر ،
عن أم مبشر عن حفصة قالت : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إني لأرجو أن لا يدخل النار إن شاء الله أحد شهد بدرا
والحديبية» قالت : فقلت أليس الله يقول : (وَإِنْ مِنْكُمْ
إِلَّا وارِدُها) قالت : فسمعته يقول (ثُمَّ نُنَجِّي
الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا).
وقال أحمد أيضا : حدثنا ابن إدريس ، حدثنا الأعمش عن أبي سفيان عن
جابر ، عن أم مبشر امرأة زيد بن حارثة قالت : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم في بيت حفصة فقال : «لا يدخل النار أحد
__________________
شهد بدرا
والحديبية» قالت حفصة : أليس الله يقول (وَإِنْ مِنْكُمْ
إِلَّا وارِدُها)؟ فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : (ثُمَّ نُنَجِّي
الَّذِينَ اتَّقَوْا) الآية ، وفي الصحيحين من حديث الزهري عن سعيد عن أبي هريرة
رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد تمسه النار
إلا تحلة القسم» .
وقال عبد الرزاق
قال معمر أخبرني الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة أن النبيصلىاللهعليهوسلم قال «من مات له ثلاثة لم تمسه النار إلا تحلّة القسم» يعني
الورود ، وقال أبو داود الطيالسي حدثنا زمعة عن الزهري عن سعيد بن
المسيب عن أبي هريرة قال : سمعت رسول اللهصلىاللهعليهوسلم يقول : «لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد فتمسه النار إلا
تحلة القسم» قال الزهري كأنه يريد هذه الآية (وَإِنْ مِنْكُمْ
إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا).
وقال ابن جرير : حدثني عمران بن بكار الكلاعي حدثنا أبو المغيرة حدثنا
عبد الرحمن بن يزيد بن تميم حدثنا إسماعيل بن عبيد الله عن أبي صالح عن أبي هريرة
قال : خرج رسول اللهصلىاللهعليهوسلم يعود رجلا من أصحابه وعك وأنا معه ثم قال «إن الله تعالى
يقول : هي ناري أسلطها على عبدي المؤمن لتكون حظه من النار في الآخرة» غريب ولم
يخرجوه من هذا الوجه.
وحدثنا أبو كريب ،
حدثنا ابن يمان عن عثمان بن الأسود عن مجاهد قال : الحمى حظ كل مؤمن من النار ثم
قرأ (وَإِنْ مِنْكُمْ
إِلَّا وارِدُها). وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا زبان بن فائد عن سهل
بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه عن رسول اللهصلىاللهعليهوسلم قال : «من قرأ قل هو الله أحد حتى يختمها عشر مرات ، بني
الله له قصرا في الجنة» فقال عمر : إذا نستكثر يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «الله أكثر وأطيب»
وقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «من قرأ ألف آية
في سبيل الله كتب يوم القيامة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وحسن
أولئك رفيقا إن شاء الله ، ومن حرس من وراء المسلمين في سبيل الله متطوعا لا بأجر
سلطان لم ير النار بعينيه إلا تحلة القسم». قال تعالى : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) وإن الذكر في سبيل الله يضاعف فوق النفقة بسبعمائة ضعف.
وفي رواية بسبعمائة ألف ضعف .
وروى أبو داود عن
أبي الطاهر عن ابن وهب عن يحيى بن أيوب ، كلاهما عن زبان عن سهل عن أبيه عن رسول
الله صلىاللهعليهوسلم «إن الصلاة
والصيام والذكر يضاعف على النفقة في سبيل الله
__________________
بسبعمائة ضعف» وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قوله : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) قال : هو الممر عليها. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في
قوله : (وَإِنْ مِنْكُمْ
إِلَّا وارِدُها) قال : ورود المسلمين المرور على الجسر بين ظهرانيها وورود
المشركين أن يدخلوها ، وقال النبيصلىاللهعليهوسلم : «الزالون والزالات يومئذ كثير وقد أحاط بالجسر يومئذ
سماطان من الملائكة دعاؤهم يا الله سلم سلم» وقال السدي عن مرة عن ابن مسعود في
قوله (كانَ عَلى رَبِّكَ
حَتْماً مَقْضِيًّا) قال : قسما واجبا. وقال مجاهد : حتما ، قال قضاء ، وكذا
قال ابن جريج.
وقوله : (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا) أي إذا مر الخلائق كلهم على النار وسقط فيها من سقط من
الكفار والعصاة ذوي المعاصي بحسبهم ، نجى الله تعالى المؤمنين المتقين منها بحسب
أعمالهم ، فجوازهم على الصراط وسرعتهم بقدر أعمالهم التي كانت في الدنيا ، ثم
يشفعون في أصحاب الكبائر من المؤمنين ، فيشفع الملائكة والنبيون والمؤمنون فيخرجون
خلقا كثيرا قد أكلتهم النار إلا دارأت وجوههم وهي مواضع السجود ، وإخراجهم إياهم
من النار بحسب ما في قلوبهم من الإيمان ، فيخرجون أولا من كان في قلبه مثقال دينار
من إيمان ، ثم الذي يليه ، ثم الذي يليه ، ثم الذي يليه ، حتى يخرجون من كان في
قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان ، ثم يخرج الله من النار من قال يوما من
الدهر : لا إله إلا الله وإن لم يعمل خيرا قط ، ولا يبقى في النار إلا من وجب عليه
الخلود كما وردت بذلك الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ولهذا قال تعالى : (ثُمَّ نُنَجِّي
الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا).
(وَإِذا تُتْلى
عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ
الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (٧٣)
وَكَمْ
أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً)
(٧٤)
يخبر تعالى عن
الكفار حين تتلى عليهم آيات الله ظاهرة الدلالة بينة الحجة واضحة البرهان أنهم
يصدون ويعرضون عن ذلك ويقولون عن الذين آمنوا مفتخرين عليهم ومحتجين على صحة ما هم
عليه من الدين الباطل بأنهم (خَيْرٌ مَقاماً
وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) أي أحسن منازل وأرفع دورا وأحسن نديا وهو مجتمع الرجال
للحديث أي ناديهم أعمر وأكثر واردا وطارقا يعنون فكيف نكون ونحن بهذه المثابة على
باطل وأولئك الذين هم مختفون مستترون في دار الأرقم بن أبي الأرقم ونحوها من الدور
على الحق كما قال تعالى مخبرا عنهم : (وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) [الأحقاف : ١١]
وقال قوم نوح : (أَنُؤْمِنُ لَكَ
وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) [الشعراء : ١١١] وقال تعالى : (وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ
لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللهُ
بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) [الأنعام : ٥٣]
ولهذا قال تعالى رادا على شبهتهم (وَكَمْ أَهْلَكْنا
قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ) أي وكم من أمة وقرن من المكذبين قد أهلكناهم
__________________
بكفرهم (هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً) أي كانوا أحسن من هؤلاء أموالا وأمتعة ومناظر وأشكالا.
قال الأعمش عن أبي
ظبيان عن ابن عباس (خَيْرٌ مَقاماً
وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) قال المقام المنزل والندي المجلس والأثاث المتاع والرئي
المنظر .
وقال العوفي عن
ابن عباس المقام المسكن والندي المجلس والنعمة والبهجة التي كانوا فيها وهو كما
قال الله لقوم فرعون حين أهلكهم وقص شأنهم في القرآن : (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ
وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ) [الدخان : ٣٥]
فالمقام المسكن والنعيم ، والندي المجلس والمجمع الذي كانوا يجتمعون فيه ، وقال
تعالى فيما قص على رسوله من أمر قوم لوط : (وَتَأْتُونَ فِي
نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) [العنكبوت : ٢٩]
والعرب تسمي المجلس النادي ، وقال قتادة : لما رأوا أصحاب محمد صلىاللهعليهوسلم في عيشهم خشونة وفيهم قشافة فعرض أهل الشرك ما تسمعون (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً
وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) وكذا قال مجاهد والضحاك ومنهم من قال في الأثاث هو المال
ومنهم من قال الثياب ومنهم من قال المتاع والرئي المنظر كما قاله ابن عباس ومجاهد
وغير واحد ، وقال الحسن البصري يعني الصور وكذا قال مالك : (أَثاثاً وَرِءْياً) أكثر أموالا وأحسن صورا والكل متقارب صحيح.
(قُلْ مَنْ كانَ فِي
الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما
يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ
مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً)
(٧٥)
يقول تعالى : (قُلْ) يا محمد لهؤلاء المشركين بربهم المدعين أنهم على حق وأنكم
على باطل : (مَنْ كانَ فِي
الضَّلالَةِ) أي منا ومنكم (فَلْيَمْدُدْ لَهُ
الرَّحْمنُ مَدًّا) أي فأمهله الرحمن فيما هو فيه حتى يلقى ربه وينقضي أجله (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ
إِمَّا الْعَذابَ) يصيبه (وَإِمَّا السَّاعَةَ) بغتة تأتيه (فَسَيَعْلَمُونَ) حينئذ (مَنْ هُوَ شَرٌّ
مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً) في مقابلة ما احتجوا به من خيرية المقام وحسن الندى. قال
مجاهد في قوله : (فَلْيَمْدُدْ لَهُ
الرَّحْمنُ مَدًّا) فليدعه الله في طغيانه ، وهكذا قرر ذلك أبو جعفر بن جرير رحمهالله.
وهذه مباهلة
للمشركين الذين يزعمون أنهم على هدى فيما هم فيه ، كما ذكر تعالى مباهلة اليهود في
قوله : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ
النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [الجمعة : ٦] أي
ادعوا بالموت على المبطل منا أو منكم إن كنتم تدعون أنكم على الحق ، فإنه لا يضركم
الدعاء ، فنكلوا عن ذلك ، وقد تقدم تقرير ذلك في سورة البقرة مبسوطا ، ولله الحمد
، وكما ذكر تعالى المباهلة مع النصارى في سورة آل عمران حين صمموا على الكفر
واستمروا على الطغيان والغلو في دعواهم أن عيسى ولد الله ، وقد ذكر الله حججه
__________________
وبراهينه على
عبودية عيسى ، وأنه مخلوق كآدم ، قال تعالى بعد ذلك : (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما
جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ
وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ
لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) [آل عمران : ٤٠]
فنكلوا أيضا عن ذلك.
(وَيَزِيدُ اللهُ
الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ
ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا)
(٧٦)
لما ذكر تعالى
إمداد من هو في الضلالة فيما هو فيه وزيادته على ما هو عليه ، أخبر بزيادة
المهتدين هدى ، كما قال تعالى : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ
سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً) [التوبة : ١٢٤ ـ ١٢٥]
الآيتين. وقوله : (وَالْباقِياتُ
الصَّالِحاتُ) قد تقدم تفسيرها والكلام عليها وإيراد الأحاديث المتعلقة
بها في سورة الكهف (خَيْرٌ عِنْدَ
رَبِّكَ ثَواباً) أي جزاء (وَخَيْرٌ مَرَدًّا) أي عاقبة ومردا على صاحبها.
وقال عبد الرزاق :
أخبرنا عمر بن راشد عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال : جلس رسول
الله صلىاللهعليهوسلم ذات يوم فأخذ عودا يابسا فحط ورقه ، ثم قال : «إن قول لا
إله إلا الله ، والله أكبر ، وسبحان الله ، والحمد لله ، تحط الخطايا كما تحط ورق
هذه الشجرة الريح ، خذهن يا أبا الدرداء قبل أن يحال بينك وبينهن ، هن الباقيات
الصالحات ، وهن من كنوز الجنة» قال أبو سلمة : فكان أبو الدرداء إذا ذكر هذا
الحديث قال : لأهللن الله ، ولأكبرن الله ، ولأسبحن الله ، حتى إذ رآني الجاهل حسب
أني مجنون ، وهذا ظاهره أنه مرسل ، ولكن قد يكون من رواية أبي سلمة
عن أبي الدرداء ، والله أعلم ، وهكذا وقع في سنن ابن ماجة من حديث أبي معاوية عن
عمر بن راشد عن يحيى عن أبي سلمة عن أبي الدرداء ، فذكر نحوه.
(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي
كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (٧٧) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ
أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٧٨)
كَلاَّ
سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (٧٩)
وَنَرِثُهُ
ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً)
(٨٠)
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش عن مسلم عن مسروق عن
خباب بن الأرت قال : كنت رجلا قينا وكان لي على العاص بن وائل دين فأتيته أتقاضاه
منه ، فقال : لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد ، فقلت : لا والله لا أكفر بمحمد صلىاللهعليهوسلم حتى تموت ثم تبعث. قال : فإني إذا مت ثم بعثت جئتني ولي ثم
مال وولد فأعطيتك ، فأنزل الله : (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي
كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً ـ إلى قوله ـ وَيَأْتِينا فَرْداً) أخرجه صاحبا
__________________
الصحيح وغيرهما من
غير وجه عن الأعمش به وفي لفظ البخاري : كنت قينا بمكة فعملت للعاص بن وائل سيفا ،
فجئت أتقاضاه فذكر الحديث ، وقال : (أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ
الرَّحْمنِ عَهْداً) قال : موثقا.
وقال عبد الرزاق :
أخبرنا الثوري عن الأعمش عن أبي الضحى ، عن مسروق قال : قال خباب بن الأرت : كنت
قينا بمكة فكنت أعمل للعاص بن وائل ، فاجتمعت لي عليه دراهم فجئت لأتقاضاه ، فقال
لي : لا أقضيك حتى تكفر بمحمد ، فقلت : لا أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث ، قال :
فإذا بعثت كان لي مال وولد ، فذكرت ذلك لرسول الله صلىاللهعليهوسلم فأنزل الله (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي
كَفَرَ بِآياتِنا) الآيات.
وقال العوفي عن
ابن عباس : إن رجالا من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم كانوا يطالبون العاص بن وائل السهمي بدين ، فأتوه يتقاضونه
، فقال : ألستم تزعمون أن في الجنة ذهبا وفضة وحريرا ومن كل الثمرات؟ قالوا : بلى.
قال : فإن موعدكم الآخرة ، فو الله لأوتين مالا وولدا ، ولأوتين مثل كتابكم الذي
جئتم به ، فضرب الله مثله في القرآن ، فقال (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي
كَفَرَ بِآياتِنا ـ إلى قوله ـ وَيَأْتِينا
فَرْداً) وهكذا قال مجاهد وقتادة وغيرهم : أنها نزلت في العاص بن
وائل. وقوله : (لَأُوتَيَنَّ مالاً
وَوَلَداً) قرأ بعضهم بفتح الواو من ولدا ، وقرأ آخرون بضمها ، وهو
بمعناه ، قال رؤبة : [رجز]
الحمد لله
العزيز فردا
|
|
لم يتخذ من ولد
شيء ولدا
|
وقال الحارث بن
حلزة : [مجزوء الكامل]
ولقد رأيت
معاشرا
|
|
قد ثمّروا مالا
وولدا
|
وقال الشاعر : [الطويل]
فليت فلانا كان
في بطن أمه
|
|
وليت فلانا كان
ولد حمار
|
وقيل : إن الولد
بالضم جمع ، والولد بالفتح مفرد ، وهي لغة قيس ، والله أعلم.
__________________
(أَطَّلَعَ الْغَيْبَ) إنكار على هذا القائل (لَأُوتَيَنَّ مالاً
وَوَلَداً) يعني يوم القيامة ، أي أعلم ماله في الآخرة حتى تألى وحلف
على ذلك (أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ
الرَّحْمنِ عَهْداً) أم له عند الله عهد سيؤتيه ذلك ، وقد تقدم عند البخاري أنه
الموثق. وقال الضحاك عن ابن عباس : (أَطَّلَعَ الْغَيْبَ
أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) قال : لا إله إلا الله فيرجو بها. وقال محمد بن كعب القرظي
(إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ
عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) قال : شهادة أن لا إله إلا الله ، ثم قرأ (إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ
عَهْداً).
وقوله : (كَلَّا) هي حرف ردع لما قبلها ، وتأكيد لما بعدها (سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ) أي من طلبه ذلك وحكمه لنفسه بما يتمناه وكفره بالله العظيم
، (وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ
الْعَذابِ مَدًّا) أي في الدار الآخرة على قوله ذلك وكفره بالله في الدنيا ، (وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ) أي من مال وولد نسلبه منه عكس ما قال إنه يؤتى في الدار
الآخرة مالا وولدا زيادة على الذي له في الدنيا ، بل في الآخرة يسلب منه الذي كان
له في الدنيا ، ولهذا قال تعالى : (وَيَأْتِينا فَرْداً) أي من المال والولد. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، (وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ) قال : نرثه.
قال مجاهد : (وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ) ماله وولده. وذلك الذي قال العاص بن وائل. وقال عبد الرزاق
عن معمر ، عن قتادة (وَنَرِثُهُ ما
يَقُولُ) قال : ما عنده. وهو قوله : (لَأُوتَيَنَّ مالاً
وَوَلَداً). وفي حرف ابن مسعود : ونرثه ما عنده وقال قتادة (وَيَأْتِينا فَرْداً) لا مال له ولا ولد. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ) قال : ما جمع من الدنيا وما عمل فيها ، قال (وَيَأْتِينا فَرْداً) قال : فردا من ذلك لا يتبعه قليل ولا كثير.
(وَاتَّخَذُوا مِنْ
دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (٨١)
كَلاَّ
سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا
(٨٢) أَلَمْ
تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (٨٣)
فَلا
تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا)
(٨٤)
يخبر تعالى عن
الكفار المشركين بربهم أنهم اتخذوا من دونه آلهة لتكون تلك الآية (عِزًّا) يعتزون بها ويستنصرونها ثم أخبر أنه ليس الأمر كما زعموا
ولا يكون ما طمعوا فقال : (كَلَّا سَيَكْفُرُونَ
بِعِبادَتِهِمْ) أي يوم القيامة (وَيَكُونُونَ
عَلَيْهِمْ ضِدًّا) أي بخلاف ما ظنوا فيهم كما قال تعالى : (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ
دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ
دُعائِهِمْ غافِلُونَ وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا
بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ) [الأحقاف : ٥]
وقرأ أبو نهيك كل سيكفرون بعبادتهم. وقال السدي : (كَلَّا سَيَكْفُرُونَ
بِعِبادَتِهِمْ) أي بعبادة الأوثان.
وقوله : (وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) أي بخلاف ما رجوا منهم. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) قال : أعوانا. قال مجاهد : عونا عليهم تخاصمهم وتكذبهم.
وقال العوفي عن ابن عباس (وَيَكُونُونَ
عَلَيْهِمْ ضِدًّا) ، قال : قرناء. وقال قتادة :
قرناء في النار
يلعن بعضهم بعضا ، ويكفر بعضهم ببعض. وقال السدي (وَيَكُونُونَ
عَلَيْهِمْ ضِدًّا) قال : الخصماء الأشداء في الخصومة ، وقال الضحاك (وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) قال : أعداء. وقال ابن زيد : الضد البلاء ، وقال عكرمة :
الضد الحسرة.
وقوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا
الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : تغويهم إغواء ، وقال
العوفي عنه : تحرضهم على محمد وأصحابه. وقال مجاهد : تشليهم إشلاء وقال قتادة :
تزعجهم إزعاجا إلى معاصي الله ، وقال سفيان الثوري : تغريهم إغراء وتستعجلهم
استعجالا. وقال السدي : تطغيهم طغيانا. وقال عبد الرحمن بن زيد : هذا كقوله تعالى
: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ
ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) [الزخرف : ٣٦]
وقوله : (فَلا تَعْجَلْ
عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) أي لا تعجل يا محمد على هؤلاء في وقوع العذاب بهم (إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) أي إنما نؤخرهم لأجل معدود مضبوط ، وهم صائرون لا محالة
إلى عذاب الله ونكاله. وقال : (وَلا تَحْسَبَنَّ
اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) [إبراهيم : ٤٢]
الآية ، (فَمَهِّلِ
الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) [الطارق : ١٧] (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا
إِثْماً) [آل عمران : ١٧٨] (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ
نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) [لقمان : ٢٤]
(قُلْ تَمَتَّعُوا
فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) [إبراهيم : ٣٠]
وقال السدي : إنما نعد لهم عدا : السنين والشهور والأيام والساعات. وقال علي بن
أبي طلحة عن ابن عباس (إِنَّما نَعُدُّ
لَهُمْ عَدًّا) قال : نعد أنفاسهم في الدنيا .
(يَوْمَ نَحْشُرُ
الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً
(٨٥) وَنَسُوقُ
الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (٨٦) لا يَمْلِكُونَ
الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً)
(٨٧)
يخبر تعالى عن
أوليائه المتقين الذين خافوه في الدار الدنيا ، واتبعوا رسله وصدقوهم فيما أخبروهم
، وأطاعوهم فيما أمروهم به ، وانتهوا عما عنه زجروهم ، أنه يحشرهم يوم القيامة
وفدا إليه ، والوفد هم القادمون ركبانا ، ومنه الوفود وركوبهم على نجائب من نور من
مراكب الدار الآخرة. وهم قادمون على خير موفود إليه إلى دار كرامته ورضوانه ، وأما
المجرمون المكذبون للرسل المخالفون لهم ، فإنهم يساقون عنفا إلى النار (وِرْداً) عطاشا ، قاله عطاء وابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة وغير
واحد ، وهاهنا يقال : (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ
خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) [مريم : ٧٣].
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا ابن خالد عن عمرو بن قيس الملائي عن ابن مرزوق (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى
الرَّحْمنِ وَفْداً) قال : يستقبل المؤمن عند خروجه من قبره أحسن صورة رآها
وأطيبها ريحا ، فيقول : من أنت؟ فيقول أما تعرفني؟ فيقول : لا ، إلا أن الله قد
طيب ريحك وحسن وجهك ، فيقول : أنا عملك الصالح ، هكذا كنت في الدنيا حسن
__________________
العمل طيبه ،
فطالما ركبتك في الدنيا فهلم اركبني فيركبه ، فذلك قوله : (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى
الرَّحْمنِ وَفْداً) وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى
الرَّحْمنِ وَفْداً) قال : ركبانا.
وقال ابن جرير : حدثني ابن المثنى ، حدثنا ابن مهدي عن شعبة عن إسماعيل
عن رجل عن أبي هريرة (يَوْمَ نَحْشُرُ
الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً) قال : على الإبل. وقال ابن جريج : على النجائب. وقال
الثوري : على الإبل النوق. وقال قتادة (يَوْمَ نَحْشُرُ
الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً) قال : إلى الجنة. وقال عبد الله ابن الإمام أحمد في مسند
أبيه : حدثنا سويد بن سعيد ، أخبرنا علي بن مسهر عن عبد الرحمن بن إسحاق ، حدثنا
النعمان بن سعد ، قال : كنا جلوسا عند علي رضي الله عنه ، فقرأ هذه الآية : (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى
الرَّحْمنِ وَفْداً) قال : لا والله ما على أرجلهم يحشرون ولا يحشر الوفد على
أرجلهم ، ولكن بنوق لم ير الخلائق مثلها ، عليها رحائل من ذهب ، فيركبون عليها حتى
يضربوا أبواب الجنة ، وهكذا رواه ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث عبد الرحمن
بن إسحاق المدني به. وزاد عليها رحائل من ذهب وأزمتها الزبرجد والباقي مثله.
وروى ابن أبي حاتم
هاهنا حديثا غريبا جدا مرفوعا عن علي ، فقال : حدثنا أبي ، حدثنا أبو غسان مالك بن
إسماعيل النهدي ، حدثنا مسلمة بن جعفر البجلي ، سمعت أبا معاذ البصري قال : إن
عليا كان ذات يوم عند رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فقرأ هذه الآية (يَوْمَ نَحْشُرُ
الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً) فقال : ما أظن الوفد إلا الركب يا رسول الله؟ فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «والذي نفسي بيده ، إنهم إذا خرجوا من قبورهم يستقبلون
أو يؤتون بنوق بيض لها أجنحة وعليها رحال الذهب شرك نعالهم نور يتلألأ كل خطوة
منها مد البصر ، فينتهون إلى شجرة ينبع من أصلها عينان ، فيشربون من إحداهما فتغسل
ما في بطونهم من دنس ، ويغتسلون من الأخرى فلا تشعث أبشارهم ولا أشعارهم بعدها
أبدا ، وتجري عليهم نضرة النعيم فينتهون أو فيأتون باب الجنة ، فإذا حلقة من
ياقوتة حمراء على صفائح الذهب فيضربون بالحلقة على الصفحة ، فيسمع لها طنين يا علي
، فيبلغ كل حوراء أن زوجها قد أقبل ، فتبعث قيمها فيفتح له ، فإذا رآه خر له ـ قال
مسلمة أراه قال ساجدا ـ.
فيقول : ارفع رأسك
فإنما أنا قيمك وكلت بأمرك ، فيتبعه ، ويقفو أثره فتستخف الحوراء العجلة ، فتخرج
من خيام الدر والياقوت حتى تعتنقه ، ثم تقول : أنت حبي وأنا حبك ، وأنا الخالدة
التي لا أموت ، وأنا الناعمة التي لا أبأس ، وأنا الراضية التي لا أسخط ، وأنا
المقيمة
__________________
التي لا أظعن ،
فيدخل بيتا من رأسه إلى سقفه مائة ألف ذراع ، بناؤه على جندل اللؤلؤ طرائق : أحمر
وأصفر وأخضر ، ليس منها طريقة تشاكل صاحبتها. وفي البيت سبعون سريرا ، على كل سرير
سبعون حشية ، على كل حشية سبعون زوجة ، على كل زوجة سبعون حلة ، يرى مخ ساقها من
وراء الحلل يقضي جماعها في مقدار ليلة من لياليكم هذه ، الأنهار من تحتهم تطرد
أنهار من ماء غير آسن.
قال : صاف لا كدر
فيه ، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه ولم يخرج من ضروع الماشية وأنهار من خمر لذة
للشاربين لم يعتصرها الرجال بأقدامهم ، وأنهار من عسل مصفى لم يخرج من بطون النحل
فيستحلي الثمار ، فإن شاء أكل قائما وإن شاء قاعدا وإن شاء متكئا ، ثم تلا : (وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها
وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً) [الإنسان : ١٤]
فيشتهي الطعام فيأتيه طير أبيض ، وربما قال أخضر ، فترفع أجنحتها فيأكل من جنوبها
، أي الألوان شاء ، ثم يطير فتذهب فيدخل الملك فيقول : سلام عليكم (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي
أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الزخرف : ٧٢] ولو
أن شعرة من شعر الحوراء وقعت لأهل الأرض لأضاءت الشمس معها سواد في نور هكذا وقع
في هذه الرواية مرفوعا ، وقد رويناه في المقدمات من كلام علي رضي الله عنه بنحوه ،
وهو أشبه بالصحة ، والله أعلم.
وقوله : (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى
جَهَنَّمَ وِرْداً) أي عطاشا (لا يَمْلِكُونَ
الشَّفاعَةَ) أي ليس لهم من يشفع لهم كما يشفع المؤمنون بعضهم لبعض ،
كما قال تعالى مخبرا عنهم : (فَما لَنا مِنْ
شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) [الشعراء : ١٠١].
وقوله : (إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ
عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) هذا استثناء منقطع بمعنى لكن من اتخذ عند الرحمن عهدا ،
وهو شهادة أن لا إله إلا الله والقيام بحقها. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ
عَهْداً) قال : العهد شهادة أن لا إله إلا الله ، ويبرأ إلى الله من
الحول والقوة ، ولا يرجو إلا الله عزوجل .
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا عثمان بن خالد الواسطي حدثنا محمد بن الحسن الواسطي عن المسعودي ، عن عون
بن عبد الله عن أبي فاختة ، عن الأسود بن يزيد قال : قرأ عبد الله يعني ابن مسعود
هذه الآية (إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ
عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) ثم قال : اتخذوا عند الله عهدا ، فإن الله يوم القيامة
يقول : من كان له عند الله عهد فليقم ، قالوا : يا أبا عبد الرحمن فعلمنا. قال :
قولوا : اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة ، فإني أعهد إليك في هذه
الحياة الدنيا أن لا تكلني إلى عملي يقربني من الشر ويباعدني من الخير ، وإني لا
أثق إلا برحمتك ، فاجعل لي عندك عهدا تؤديه إليّ يوم القيامة ، إنك لا تخلف
الميعاد. وقال المسعودي : فحدثني زكريا عن القاسم بن عبد الرحمن ، أخبرنا ابن
مسعود وكان يحلق بهن خائفا مستجيرا مستغفرا راهبا
__________________
راغبا إليك ، ثم
رواه من وجه آخر عن المسعودي بنحوه.
(وَقالُوا اتَّخَذَ
الرَّحْمنُ وَلَداً (٨٨) لَقَدْ جِئْتُمْ
شَيْئاً إِدًّا (٨٩) تَكادُ السَّماواتُ
يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (٩٠)
أَنْ
دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (٩١) وَما يَنْبَغِي
لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (٩٢)
إِنْ
كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (٩٣)
لَقَدْ
أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (٩٤) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ
يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً)
(٩٥)
لما قرر تعالى في
هذه السورة الشريفة عبودية عيسى عليهالسلام وذكر خلقه من مريم بلا أب ، شرع في مقام الإنكار على من
زعم أن له ولدا ، تعالى وتقدس وتنزه عن ذلك علوا كبيرا ، فقال : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً
لَقَدْ جِئْتُمْ) أي في قولكم هذا (شَيْئاً إِدًّا) قال ابن عباس ومجاهد وقتادة ومالك : أي عظيما. ويقال إدا
بكسر الهمزة وفتحها ، ومع مدها أيضا ثلاث لغات أشهرها الأولى وقوله : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ
مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا
لِلرَّحْمنِ وَلَداً) أي يكاد ذلك عند سماعهن هذه المقالة من فجرة بني آدم
إعظاما للرب وإجلالا ، لأنهم مخلوقات ومؤسسات على توحيده ، وأنه لا إله إلا هو ،
وأنه لا شريك له ولا نظير له ، ولا ولد له ، ولا صاحبة له ، ولا كفء له ، بل هو
الأحد الصمد. [المتقارب]
وفي كل شيء له
آية
|
|
تدل على أنه
واحد
|
قال ابن جرير : حدثني علي ، حدثنا عبد الله ، حدثني معاوية عن علي ، عن
ابن عباس في قوله : (تَكادُ السَّماواتُ
يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ
دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً) قال : إن الشرك فزعت منه السموات والأرض والجبال وجميع
الخلائق إلا الثقلين ، وكادت أن تزول منه لعظمة الله ، وكما لا ينفع مع الشرك
إحسان المشرك ، كذلك نرجو أن يغفر الله ذنوب الموحدين ، وقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لقنوا موتاكم شهادة أن لا إله إلا الله ، فمن قالها عند
موته وجبت له الجنة» ، فقالوا : يا رسول الله فمن قالها في صحته؟ قال «تلك أوجب
وأوجب». ثم قال «والذي نفسي بيده لو جيء بالسموات والأرضين وما فيهن وما بينهن وما
تحتهن ، فوضعن في كفة الميزان ، ووضعت شهادة أن لا إله إلا الله في الكفة الأخرى
لرجحت بهن» هكذا رواه ابن جرير ، ويشهد له حديث البطاقة ، والله أعلم.
وقال الضحاك : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ
مِنْهُ) أي يتشققن فرقا من عظمة الله ، وقال عبد الرحمن بن زيد بن
أسلم : (وَتَنْشَقُّ
الْأَرْضُ) ، أي غضبا له عزوجل ، (وَتَخِرُّ الْجِبالُ
هَدًّا) ، قال ابن عباس : هدما ، وقال سعيد بن جبير : هدا ينكسر
بعضها على بعض متتابعات. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن سويد
المقبري ، حدثنا سفيان بن عيينة ، حدثنا
__________________
مسعر عن عون عن
عبد الله قال : إن الجبل لينادي الجبل باسمه يا فلان ، هل مر بك اليوم ذاكر الله عزوجل؟ فيقول : نعم ويستبشر ، قال عون : لهي للخير أسمع أفيسمعن
الزور والباطل إذا قيل ولا يسمعن غيره ، ثم قرأ (تَكادُ السَّماواتُ
يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ
دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً).
وقال ابن أبي حاتم
أيضا : حدثنا المنذر بن شاذان ، حدثنا هوذة ، حدثنا عوف عن غالب بن عجرد ، حدثني
رجل من أهل الشام في مسجد منى قال : بلغني أن الله لما خلق الأرض وخلق ما فيها من
الشجر لم يكن في الأرض شجرة يأتيها بنو آدم إلا أصابوا منها منفعة ـ أو قال ـ كان
لهم فيها منفعة ، ولم تزل الأرض والشجر بذلك حتى تكلم فجرة بني آدم بتلك الكلمة
العظيمة قولهم : اتخذ الرحمن ولدا ، فلما تكلموا بها اقشعرت الأرض وشاك الشجر.
وقال كعب الأحبار : غضبت الملائكة واستعرت جهنم حين قالوا ما قالوا.
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن سعيد بن جبير عن أبي
عبد الرحمن السلمي عن أبي موسى رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله إنه يشرك به ويجعل له
ولدا ، وهو يعافيهم ويدفع عنهم ويرزقهم» أخرجاه في الصحيحين. وفي لفظ «أنهم يجعلون له ولدا وهو
يرزقهم ويعافيهم».
وقوله : (وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ
يَتَّخِذَ وَلَداً) أي لا يصلح له ولا يليق به لجلاله وعظمته ، لأنه لا كفء له
من خلقه ، لأن جميع الخلائق عبيد له ، ولهذا قال : (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً لَقَدْ أَحْصاهُمْ
وَعَدَّهُمْ عَدًّا) أي قد علم عددهم منذ خلقهم إلى يوم القيامة ، ذكرهم
وأنثاهم ، صغيرهم وكبيرهم ، (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ
يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) أي لا ناصر له ولا مجير إلا الله وحده لا شريك له ، فيحكم
في خلقه بما يشاء وهو العادل الذي لا يظلم مثقال ذرة ، ولا يظلم أحدا.
(إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (٩٦)
فَإِنَّما
يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً
لُدًّا (٩٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ
قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً)
(٩٨)
يخبر تعالى أنه
يغرس لعباده المؤمنين الذين يعملون الصالحات ، وهي الأعمال التي ترضي الله عزوجل لمتابعتها الشريعة المحمدية ـ يغرس لهم في قلوب عباده
الصالحين محبة ومودة ، وهذا أمر لا بد منه ولا محيد عنه ، وقد وردت بذلك الأحاديث
الصحيحة عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم من غير وجه.
__________________
قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا أبو عوانة ، حدثنا سهيل عن أبيه ، عن
أبي هريرة ، عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «إن الله إذا أحب عبدا دعا جبريل ، فقال : يا جبريل
، إني أحب فلانا فأحبه قال فيحبه جبريل ، قال : ثم ينادي في أهل السماء : إن الله
يحب فلانا فأحبوه ، قال : فيحبه أهل السماء ، ثم يوضع له القبول في الأرض ، وإن
الله إذا أبغض عبدا دعا جبريل فقال : يا جبريل إني أبغض فلانا فأبغضه ، قال :
فيبغضه جبريل ، ثم ينادي في أهل السماء : إن الله يبغض فلانا فأبغضوه ، قال :
فيبغضه أهل السماء ، ثم يوضع له البغضاء في الأرض» . ورواه مسلم من حديث سهيل ، ورواه أحمد والبخاري من حديث
ابن جريج عن موسى بن عقبة ، عن نافع مولى ابن عمر ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ،
عن النبي صلىاللهعليهوسلم نحوه.
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن بكر ، حدثنا ميمون أبو محمد المرائي ،
حدثنا محمد بن عباد المخزومي عن ثوبان رضي الله عنه ، عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «إن العبد ليلتمس مرضاة الله عزوجل ، فلا يزال كذلك فيقول الله عزوجل لجبريل : إن فلانا عبدي يلتمس أن يرضيني ، ألا وإن رحمتي
عليه ، فيقول جبريل : رحمة الله على فلان ، ويقولها حملة العرش ، ويقولها من حولهم
حتى يقولها أهل السموات السبع ، ثم يهبط إلى الأرض» غريب. ولم يخرجوه من هذا
الوجه.
وقال الإمام أحمد : حدثنا أسود بن عامر ، حدثنا شريك عن محمد بن سعد الواسطي
عن أبي ظبية ، عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «إن المقة من الله
ـ قال شريك : هي المحبة ـ والصيت في السماء ، فإذا أحب الله عبدا قال لجبريل عليهالسلام : إني أحب فلانا ، فينادي جبريل : إن ربكم يمق ـ يعني يحب
ـ فلانا فأحبوه ـ أرى شريكا قد قال : فتنزل له المحبة في الأرض ـ وإذا أبغض عبدا
قال لجبريل : إني أبغض فلانا فأبغضه ، قال : فينادي جبريل : إن ربكم يبغض فلانا
فأبغضوه ـ أرى شريكا قال ـ : فيجري له البغض في الأرض» غريب ، ولم يخرجوه.
قال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبي ، حدثنا أبو داود الحفري ، حدثنا عبد العزيز ـ يعني ابن محمد ـ وهو
الدراوردي عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيصلىاللهعليهوسلم قال : «إذا أحب الله عبدا نادى جبريل : إني قد أحببت فلانا
فأحبه ، فينادي في السماء ، ثم ينزل له المحبة في أهل الأرض ، فذلك قول الله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
__________________
الصَّالِحاتِ
سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) ، رواه مسلم والترمذي ، كلاهما عن عبد الله عن قتيبة ، عن
الدراوردي به. وقال الترمذي : حسن صحيح.
وقال علي بن أبي
طلحة عن ابن عباس في قوله : (سَيَجْعَلُ لَهُمُ
الرَّحْمنُ وُدًّا) قال : حبا ، وقال مجاهد عنه : (سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) ، قال : محبة في الناس في الدنيا ، وقال سعيد بن جبير عنه
، يحبهم ويحببهم ، يعني إلى خلقه المؤمنين ، كما قال مجاهد أيضا والضحاك وغيرهم.
وقال العوفي عن ابن عباس أيضا : الود من المسلمين في الدنيا والرزق الحسن واللسان
الصادق. وقال قتادة (إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) إي والله في قلوب أهل الإيمان ، وذكر لنا أن هرم بن حيان
كان يقول : ما أقبل عبد بقلبه إلى الله إلا أقبل الله بقلوب المؤمنين إليه حتى
يرزقه مودتهم ورحمتهم وقال قتادة : وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه يقول : ما من
عبد يعمل خيرا أو شرا إلا كساه الله عزوجل رداء عمله.
وقال ابن أبي حاتم
رحمهالله : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن
الربيع بن صبيح عن الحسن البصري رحمهالله قال : قال رجل : والله لأعبدن الله عبادة أذكر بها ، فكان
لا يرى في حين صلاة إلا قائما يصلي ، وكان أول داخل إلى المسجد وآخر خارج ، فكان
لا يعظم ، فمكث بذلك سبعة أشهر ، وكان لا يمر على قوم إلا قالوا : انظروا إلى هذا
المرائي ، فأقبل على نفسه فقال : لا أراني أذكر إلا بشر ، لأجعلن عملي كله لله عزوجل ، فلم يزد على أن قلب نيته ، ولم يزد على العمل الذي كان
يعمله ، فكان يمر بعد بالقوم فيقولون : رحم الله فلانا الآن ، وتلا الحسن (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) وقد روى ابن جرير أن هذه الآية نزلت في هجرة عبد الرحمن بن
عوف ، وهو خطأ ، فإن هذه السورة بكمالها مكية لم ينزل منها شيء بعد الهجرة ، ولم
يصح سند ذلك ، والله أعلم.
وقوله : (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ) يعني القرآن (بِلِسانِكَ) أي يا محمد وهو اللسان العربي المبين الفصيح الكامل (لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ) أي المستجيبين لله ، المصدقين لرسوله ، (وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا) أي عوجا عن الحق مائلين إلى الباطل وقال ابن أبي نجيج عن
مجاهد (قَوْماً لُدًّا) لا يستقيمون وقال الثوري عن إسماعيل وهو السدي عن أبي صالح
(وَتُنْذِرَ بِهِ
قَوْماً لُدًّا) عوجا عن الحق ، وقال الضحاك : الألد الخصم. وقال القرظي :
الألد الكذاب. وقال الحسن البصري (قَوْماً لُدًّا) صما ، وقال غيره : ثم آذان القلوب. وقال قتادة : قوما لدا
يعني قريشا وقال العوفي عن ابن عباس (قَوْماً لُدًّا) فجارا ، وكذا روى ليث بن أبي سليم عن مجاهد.
وقال ابن زيد :
الألد الظلوم ، وقرأ قوله تعالى : (وَهُوَ أَلَدُّ
الْخِصامِ) [البقرة : ٢٠٤].
__________________
وقوله : (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ
قَرْنٍ) أي من أمة كفروا بآيات الله وكذبوا رسله (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ
تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً) أي هل ترى منهم أحدا أو تسمع لهم ركزا. وقال ابن عباس وأبو
العالية وعكرمة والحسن البصري وسعيد بن جبير والضحاك وابن زيد : يعني صوتا ، وقال
الحسن وقتادة : هل ترى عينا أو تسمع صوتا ، والركز في أصل اللغة هو الصوت الخفي.
قال الشاعر : [الكامل]
فتوجست ركز
الأنيس فراعها
|
|
عن ظهر غيب
والأنيس سقامها
|
آخر تفسير سورة
مريم ولله الحمد والمنة ويتلوه إن شاء الله تفسير سورة طه والحمد لله.
__________________
سورة طه
وهي مكية
روى إمام الأئمة
محمد بن إسحاق بن خزيمة في كتاب التوحيد عن زياد بن أيوب عن إبراهيم بن المنذر
الحزامي : حدثنا إبراهيم بن مهاجر بن مسمار عن عمر بن حفص بن ذكوان عن مولى الحرقة
ـ يعني عبد الرحمن بن يعقوب ـ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن الله قرأ طه ويس قبل أن يخلق آدم بألف عام ، فلما
سمعت الملائكة قالوا : طوبى لأمة ينزل عليهم هذا ، وطوبى لأجواف تحمل هذا ، وطوبى
لألسن تتكلم بهذا» هذا حديث غريب وفيه نكارة ، وإبراهيم بن مهاجر وشيخه تكلم
فيهما.
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(طه (١)
ما
أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (٢)
إِلاَّ
تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (٣)
تَنْزِيلاً
مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (٤) الرَّحْمنُ عَلَى
الْعَرْشِ اسْتَوى (٥) لَهُ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى
(٦)
وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (٧)
اللهُ
لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى)
(٨)
قد تقدم الكلام
على الحروف المقطعة في أول سورة البقرة بما أغنى عن إعادته. وقال ابن أبي حاتم :
حدثنا الحسين بن محمد بن شيبة الواسطي ، حدثنا أبو أحمد ـ يعني الزبيري ـ أنبأنا
إسرائيل عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : طه يا رجل ، وهكذا روي
عن مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وعطاء ومحمد بن كعب وأبي مالك وعطية العوفي والحسن
وقتادة والضحاك والسدي وابن أبزى أنهم قالوا : طه بمعنى يا رجل ... وفي رواية عن ابن عباس وسعيد بن جبير والثوري أنها
كلمة بالنبطية معناها يا رجل. وقال أبو صالح : هي معربة.
وأسند القاضي عياض
في كتابه الشفاء من طريق عبد بن حميد في تفسيره : حدثنا هاشم بن القاسم عن ابن
جعفر عن الربيع بن أنس قال : كان النبي صلىاللهعليهوسلم إذا صلى قام على رجل ورفع الأخرى ، فأنزل الله تعالى : (طه) يعني : طأ الأرض يا محمد (ما أَنْزَلْنا
عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) ثم قال : ولا يخفى بما في هذا الإكرام وحسن المعاملة.
وقوله : (ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ
لِتَشْقى) قال جويبر عن الضحاك : لما أنزل الله القرآن على
__________________
رسوله صلىاللهعليهوسلم قام به هو وأصحابه ، فقال المشركون من قريش : ما أنزل هذا
القرآن على محمد إلا ليشقى ، فأنزل الله تعالى : (طه ما أَنْزَلْنا
عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى) فليس الأمر كما زعمه المبطلون ، بل من آتاه الله العلم فقد
أراد به خيرا كثيرا ، كما ثبت في الصحيحين عن معاوية قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين» .
وما أحسن الحديث
الذي رواه الحافظ أبو القاسم الطبراني في ذلك حيث قال : حدثنا أحمد بن زهير ،
حدثنا العلاء بن سالم ، حدثنا إبراهيم الطالقاني ، حدثنا ابن المبارك عن سفيان عن
سماك بن حرب ، عن ثعلبة بن الحكم قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «يقول الله تعالى للعلماء يوم القيامة إذا قعد على كرسيه
لقضاء عباده : إني لم أجعل علمي وحكمتي فيكم إلا وأنا أريد أن أغفر لكم على ما كان
منكم ولا أبالي» إسناده جيد ، وثعلبة بن الحكم هذا هو الليثي ، ذكره أبو عمر في
استيعابه ، وقال : نزل البصرة ثم تحول إلى الكوفة ، وروى عنه سماك بن حرب.
وقال مجاهد في
قوله : (ما أَنْزَلْنا
عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) هي كقوله : (فَاقْرَؤُا ما
تَيَسَّرَ مِنْهُ) [المزمل : ٢٠]
وكانوا يعلقون الحبال بصدورهم في الصلاة. وقال قتادة : (ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ
لِتَشْقى) لا والله ما جعله شقاء ، ولكن جعله رحمة ونورا ودليلا إلى
الجنة (إِلَّا تَذْكِرَةً
لِمَنْ يَخْشى) إن الله أنزل كتابه وبعث رسوله رحمة رحم بها عباده ليتذكر
ذاكر ، وينتفع رجل بما سمع من كتاب الله وهو ذكر أنزل الله فيه حلاله وحرامه.
وقوله : (تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ
وَالسَّماواتِ الْعُلى) أي هذا القرآن الذي جاءك يا محمد هو تنزيل من ربك ، رب كل
شيء ومليكه القادر على ما يشاء ، الذي خلق الأرض بانخفاضها وكثافتها ، وخلق
السموات العلى في ارتفاعها ولطافتها ، وقد جاء في الحديث الذي صححه الترمذي وغيره
أن سمك كل سماء مسيرة خمسمائة عام ، وبعد ما بينها والتي تليها مسيرة خمسمائة عام ، وقد أورد ابن أبي حاتم هاهنا حديث الأوعال من رواية
العباس عم رسول اللهصلىاللهعليهوسلم ورضي الله عنه. وقوله : (الرَّحْمنُ عَلَى
الْعَرْشِ اسْتَوى) تقدم الكلام على ذلك في سورة الأعراف بما أغنى عن إعادته
أيضا ، وأن المسلك الأسلم في ذلك طريقة السلف إمرار ما جاء في ذلك من الكتاب
والسنة من غير تكييف ولا تحريف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تمثيل.
وقوله : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي
الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى) أي الجميع ملكه ، وفي قبضته ، وتحت تصرفه ومشيئته وإرادته
وحكمه ، وهو خالق ذلك ومالكه وإلهه لا إله سواه
__________________
ولا رب غيره.
وقوله : (وَما تَحْتَ الثَّرى) قال محمد بن كعب : أي ما تحت الأرض السابعة. وقال الأوزاعي
: إن يحيى بن أبي كثير حدثه أن كعبا سئل فقيل له : ما تحت هذه الأرض؟ فقال : الماء.
قيل : وما تحت الماء؟ قال : الأرض. قيل : وما تحت الأرض؟ قال : الماء قيل : وما
تحت الماء؟ قال : الأرض. قيل : وما تحت الأرض؟ قال : الماء ، قيل : وما تحت الماء؟
قال : الأرض، قيل : وما تحت الأرض؟ قال : الماء ، قيل : وما تحت الماء؟ قال : الأرض
، قيل : وما تحت الأرض؟ قال : الصخرة ، قيل : وما تحت الصخرة؟ قال : ملك ، قيل :
وما تحت الملك؟ قا : حوت معلق طرفاه بالعرش ، قيل : وما تحت الحوت؟ قال : الهواء
والظلمة وانقطع العلم.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبو عبيد الله ابن أخي ابن وهب ، حدثنا عمي ، حدثنا عبد الله بن عياش ،
حدثنا عبد الله بن سليمان عن دراج عن عيسى بن هلال الصدفي عن عبد الله بن عمرو قال
: قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن الأرضين بين كل أرض والتي تليها مسيرة خمسمائة عام ،
والعليا منها على ظهر حوت قد التقى طرفاه في السماء ، والحوت على صخرة ، والصخرة بيد
الملك ، والثانية سجن الريح ، والثالثة فيها حجارة جهنم ، والرابعة فيها كبريت
جهنم ، والخامسة فيها حيات جهنم ، والسادسة فيها عقارب جهنم ، والسابعة فيها سقر
وفيها إبليس مصفد بالحديد يد أمامه ويد خلفه ، فإذا أراد الله أن يطلقه لما يشاء
أطلقه» وهذا حديث غريب جدا ، ورفعه فيه نظر.
وقال الحافظ أبو
يعلى في مسنده : حدثنا أبو موسى الهروي عن العباس بن الفضل قال : قلت ابن الفضل
الأنصاري؟ قال : نعم ، عن القاسم بن عبد الرحمن عن محمد بن علي عن جابر بن عبد
الله قال : كنت مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم في غزوة تبوك ، فأقبلنا راجعين في حر شديد ، فنحن متفرقون
بين واحد واثنين منتشرين ، قال وكنت في أول العسكر إذا عارضنا رجل فسلم ، ثم قال :
أيكم محمد؟ ومضى أصحابي ووقفت معه ، فإذا رسول الله صلىاللهعليهوسلم قد أقبل في وسط العسكر على جمل أحمر مقنع بثوبه على رأسه
من الشمس ، فقلت : أيها السائل هذا رسول الله صلىاللهعليهوسلم قد أتاك ، فقال : أيهم هو؟ فقلت : صاحب البكر الأحمر ،
فدنا منه فأخذ بخطام راحلته ، فكف عليه رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : أنت محمد؟ قال : «نعم».
قال : إني أريد أن
أسألك عن خصال لا يعلمهن أحد من أهل الأرض إلا رجل أو رجلا؟ فقال : رسول الله صلىاللهعليهوسلم «سل عما شئت» قال
: يا محمد أينام النبي؟ فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «تنام عيناه ولا ينام قلبه» قال : صدقت ثم قال : يا محمد
من أين يشبه الولد أباه وأمه؟ فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ماء الرجل أبيض غليظ ، وماء المرأة أصفر رقيق ، فأي
الماءين غلب على الآخر نزع الولد» فقال : صدقت ، فقال : ما للرجل من الولد ، وما
للمرأة منه؟ فقال «للرجل العظام والعروق والعصب ، وللمرأة اللحم والدم والشعر» قال
: صدقت ، ثم قال : يا محمد
ما تحت هذه؟ ـ يعني
الأرض ـ.
فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «خلق» فقال : فما تحتهم؟ قال «أرض». قال : فما تحت الأرض؟
قال : «الماء». قال : فما تحت الماء؟ قال : «ظلمة». قال : فما تحت الظلمة؟ قال : «الهواء».
قال : فما تحت الهواء؟ قال : «الثرى». قال : فما تحت الثرى؟ ففاضت عينا رسول الله صلىاللهعليهوسلم بالبكاء ، وقال : «انقطع علم الخلق عند علم الخالق ، أيها
السائل ما المسؤول عنها بأعلم من السائل». قال : فقال صدقت ، أشهد أنك رسول الله ،
فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أيها الناس هل تدرون من هذا؟» قالوا : الله ورسوله
أعلم. قال «هذا جبريل عليهالسلام». هذا حديث غريب جدا ، وسياق عجيب ، تفرد به القاسم بن عبد
الرحمن هذا ، وقد قال فيه يحيى بن معين : ليس يساوي شيئا ، وضعفه أبو حاتم الرازي
، وقال ابن عدي : لا يعرف. قلت : وقد خلط في هذا الحديث ، ودخل عليه شيء في شيء
وحديث في حديث ، وقد يحتمل أنه تعمد ذلك أو أدخل عليه فيه ، والله أعلم.
وقوله : (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ
يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) أي أنزل هذا القرآن الذي خلق الأرض والسموات العلى الذي
يعلم السر وأخفى ، كما قال تعالى : (قُلْ أَنْزَلَهُ
الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً
رَحِيماً) [الفرقان : ٦] قال
علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : (يَعْلَمُ السِّرَّ
وَأَخْفى) قال : السر ما أسره ابن آدم في نفسه (وَأَخْفى) ما أخفي على ابن آدم مما هو فاعله قبل أن يعلمه ، فالله
يعلم ذلك كله ، فعلمه فيما مضي من ذلك وما بقي علم واحد ، وجميع الخلائق في ذلك
عنده كنفس واحدة ، وهو قوله : (ما خَلْقُكُمْ وَلا
بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) [لقمان : ٢٨] وقال
الضحاك (يَعْلَمُ السِّرَّ
وَأَخْفى) قال : لسر ما تحدث به نفسك ، وأخفى ما لم تحدث به نفسك بعد.
وقال سعيد بن جبير
: أنت تعلم ما تسر اليوم ولا تعلم ما تسر غدا ، والله يعلم ما تسر اليوم وما تسر
غدا ، وقال مجاهد (وَأَخْفى) يعني الوسوسة ، وقال أيضا هو وسعيد بن جبير (وَأَخْفى) أي ما هو عالمه مما لم يحدث به نفسه. وقوله : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ
الْأَسْماءُ الْحُسْنى) أي الذي أنزل عليك القرآن ، هو الله الذي لا إله إلا هو ذو
الأسماء الحسنى والصفات العلى ، وقد تقدم بيان الأحاديث الواردة في الأسماء الحسنى
في أواخر سورة الأعراف ولله الحمد والمنة.
(وَهَلْ أَتاكَ
حَدِيثُ مُوسى (٩) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ
لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ
أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً)
(١٠)
من هنا شرع تبارك
وتعالى في ذكر قصة موسى ، وكيف كان ابتداء الوحي إليه وتكليمه إياه،
__________________
وذلك بعد ما قضى
موسى الأجل الذي كان بينه وبين صهره في رعاية الغنم ، وسار بأهله قيل : قاصدا بلاد
مصر بعد ما طالت الغيبة عنها أكثر من عشر سنين ، ومعه زوجته ، فأضل الطريق وكانت
ليلة شاتية ، ونزل منزلا بين شعاب وجبال في برد وشتاء وسحاب وظلام وضباب ، وجعل
يقدح بزند معه ليوري نارا كما جرت له العادة به ، فجعل لا يقدح شيئا ولا يخرج منه
شرر ولا شيء ، فبينا هو كذلك إذ آنس من جانب الطور نارا ، أي ظهرت له نار من جانب
الجبل الذي هناك عن يمينه ، فقال لأهله يبشرهم : (إِنِّي آنَسْتُ ناراً
لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ) أي شهاب من نار. وفي الآية الأخرى (أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ) [القصص : ٢٩] وهي
الجمر الذي معه لهب (لَعَلَّكُمْ
تَصْطَلُونَ) [القصص : ٢٩] دل
على وجود البرد.
وقوله : (بِقَبَسٍ) دل على وجود الظلام ، وقوله : (أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً) أي من يهديني الطريق ، دل على أنه قد تاه عن الطريق ، كما
قال الثوري عن أبي سعيد الأعور عن عكرمة عن ابن عباس في قوله : (أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً) قال : من يهديني إلى الطريق ، وكانوا شاتين وضلوا الطريق ،
فلما رأى النار قال : إن لم أجد أحدا يهديني إلى الطريق أتيتكم بنار توقدون بها.
(فَلَمَّا أَتاها
نُودِيَ يا مُوسى (١١) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ
فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٢)
وَأَنَا
اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (١٣)
إِنَّنِي
أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (١٤)
إِنَّ
السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى
(١٥) فَلا
يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى)
(١٦)
يقول تعالى : (فَلَمَّا أَتاها) أي النار ، واقترب منها (نُودِيَ يا مُوسى) وفي الآية الأخرى (نُودِيَ مِنْ شاطِئِ
الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا
مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ) [القصص : ٣٠] وقال
هاهنا (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) أي الذي يكلمك ويخاطبك (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) قال علي بن أبي طالب وأبو ذر وأبو أيوب وغير واحد من السلف
: كانتا من جلد حمار غير ذكي ، وقيل : إنما أمره بخلع نعليه تعظيما للبقعة. وقال
سعيد بن جبير : كما يؤمر الرجل أن يخلع نعليه إذا أراد أن يدخل الكعبة ، وقيل :
ليطأ الأرض المقدسة بقدميه حافيا غير منتعل ، وقيل غير ذلك ، والله أعلم.
وقوله : (طُوىً) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : هو اسم للوادي ، وكذا
قال غير واحد ، فعلى هذا يكون عطف بيان ، وقيل عبارة عن الأمر بالوطء بقدميه ،
وقيل : لأنه قدس مرتين ، وطوى له البركة وكررت ، والأول أصح كقوله : (إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ
الْمُقَدَّسِ طُوىً) [النازعات : ١٦].
وقوله : (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ) كقوله : (إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ
عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي) [الأعراف : ١٤٤]
أي على جميع الناس من الموجودين في زمانه ، وقد قيل : إن الله تعالى قال يا موسى أتدري
لم خصصتك بالتكليم من بين الناس؟ قال : لا ، قال : لأني لم
يتواضع إلي أحد
تواضعك. وقوله : (فَاسْتَمِعْ لِما
يُوحى) أي استمع الآن ما أقول لك وأوحيه إليك (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا
أَنَا) هذا أول واجب على المكلفين أن يعلموا أنه لا إله إلا الله
وحده لا شريك له.
وقوله : (فَاعْبُدْنِي) أي وحدني ، وقم بعبادتي من غير شريك (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) قيل : معناه صل لتذكرني ، وقيل : معناه وأقم الصلاة عند
ذكرك لي ، ويشهد لهذا الثاني ما قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا المثنى بن سعيد عن
قتادة ، عن أنس ، عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها ، فليصلها إذا
ذكرها ، فإن الله تعالى قال : وأقم الصلاة لذكري» ، وفي الصحيحين عن أنس قال : قال
رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من نام عن صلاة أو نسيها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها
، لا كفارة لها إلا ذلك» . وقوله : (إِنَّ السَّاعَةَ
آتِيَةٌ) أي قائمة لا محالة وكائنة لا بد منها.
وقوله : (أَكادُ أُخْفِيها) قال الضحاك عن ابن عباس أنه كان يقرؤها : أكاد أخفيها من
نفسي ، يقول : لأنها لا تخفى من نفس الله أبدا. وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس :
من نفسه: وكذا قال مجاهد وأبو صالح ويحيى بن رافع. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن
عباس (أَكادُ أُخْفِيها) يقول : لا أطلع عليها أحدا غيري. وقال السدي : ليس أحد من
أهل السموات والأرض إلا قد أخفى الله تعالى عنه علم الساعة وهي في قراءة ابن مسعود
إني أكاد أخفيها من نفسي ، يقول : كتمتها من الخلائق حتى لو استطعت أن أكتمها من
نفسي لفعلت. وقال قتادة : أكاد أخفيها ، وهي في بعض القراءات : أخفيها من نفسي ،
ولعمري لقد أخفاها الله من الملائكة المقربين ومن الأنبياء والمرسلين. قلت وهذا
كقوله تعالى : (قُلْ لا يَعْلَمُ
مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) [النمل : ٦٥] وقال
: (ثَقُلَتْ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) [الأعراف : ١٨٧]
أي ثقل علمها على أهل السموات والأرض ، وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ،
حدثنا منجاب ، حدثنا أبو نميلة ، حدثني محمد بن سهل الأسدي عن وقاء قال : أقرأنيها
سعيد بن جبير : أكاد أخفيها ، يعني بنصب الألف وخفض الفاء ، يقول أظهرها ، ثم قال
أما سمعت قول الشاعر : [الخفيف]
دأب شهرين ثم
شهرا دميكا
|
|
بأريكين يخفيان
غميرا
|
__________________
قال السدي :
الغمير نبت رطب ينبت في خلال يبس ، والأريكين موضع ، والدميك الشهر التام ، وهذا
الشعر لكعب بن زهير. وقوله سبحانه وتعالى : (لِتُجْزى كُلُّ
نَفْسٍ بِما تَسْعى) أي أقيمها لا محالة لأجزي كل عامل بعمله (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ
خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة : ٧ ـ ٨]
و (إِنَّما تُجْزَوْنَ
ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الطور : ١٦]
وقوله : (فَلا يَصُدَّنَّكَ
عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها) الآية ، المراد بهذا الخطاب آحاد المكلفين. أي لا تتبعوا
سبيل من كذب بالساعة ، وأقبل على ملاذه في دنياه ، وعصى مولاه واتبع هواه ، فمن
وافقهم على ذلك فقد خاب وخسر (فَتَرْدى) أي تهلك وتعطب ، قال الله تعالى : (وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا
تَرَدَّى) [الليل : ١١].
(وَما تِلْكَ
بِيَمِينِكَ يا مُوسى (١٧) قالَ هِيَ عَصايَ
أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (١٨)
قالَ
أَلْقِها يا مُوسى (١٩) فَأَلْقاها فَإِذا
هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى(٢٠) قالَ خُذْها وَلا
تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى)
(٢١)
هذا برهان من الله
تعالى لموسى عليهالسلام ، ومعجزة عظيمة ، وخرق للعادة باهر دل على أنه لا يقدر على
مثل هذا إلا الله عزوجل ، وأنه لا يأتي به إلا نبي مرسل. وقوله : (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى) قال بعض المفسرين : إنما قال له ذلك على سبيل الإيناس له ،
وقيل : وإنما قال له ذلك على وجه التقرير ، أي أما هذه التي في يمينك عصاك التي
تعرفها ، فسترى ما نصنع بها الآن (وَما تِلْكَ
بِيَمِينِكَ يا مُوسى) استفهام تقرير (قالَ هِيَ عَصايَ
أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها) أي أعتمد عليها في حال المشي (وَأَهُشُّ بِها عَلى
غَنَمِي) أي أهز بها الشجرة ليتساقط ورقها لترعاه غنمي. قال عبد
الرحمن بن القاسم عن الإمام مالك : الهش أن يضع الرجل المحجن في الغصن ثم يحركه
حتى يسقط ورقه وثمره ولا يكسر العود ، فهذا الهش ولا يخبط ، وكذا قال ميمون بن
مهران أيضا.
وقوله : (وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى) أي مصالح ومنافع وحاجات أخر غير ذلك ، وقد تكلف بعضهم لذكر
شيء من تلك المآرب التي أبهمت ، فقيل : كانت تضيء له بالليل وتحرس له النغم إذا
نام ، ويغرسها فتصير شجرة تظله ، وغير ذلك من الأمور الخارقة للعادة ، والظاهر
أنها لم تكن كذلك ، ولو كانت كذلك لما استنكر موسى عليه الصلاة والسلام صيرورتها
ثعبانها فما كان يفر منها هاربا ، ولكن كل ذلك من الأخبار الإسرائيلية ، وكذا قول
بعضهم : إنها كانت لآدم عليه الصلاة والسلام ، وقول الآخر : إنها هي الدابة التي
تخرج قبل يوم القيامة ، وروي عن ابن عباس أنه قال : كان اسمها ماشا ، والله أعلم
بالصواب.
وقوله تعالى : (قالَ أَلْقِها يا مُوسى) أي هذه العصا التي في يدك يا موسى ألقها (فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى) أي صارت في الحال حية عظيمة ثعبانا طويلا يتحرك حركة سريعة
، فإذا
هي تهتز كأنها جان
، وهو أسرع الحيات حركة ، ولكنه صغير ، فهذه في غاية الكبر وفي غاية سرعة الحركة ،
(تَسْعى) أي تمشي وتضطرب. قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد
بن عبدة ، حدثنا حفص بن جميع ، حدثنا سماك عن عكرمة عن ابن عباس (فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى) ولم تكن قبل ذلك حية ، فمرت بشجرة فأكلتها ، ومرت بصخرة
فابتلعتها ، فجعل موسى يسمع وقع الصخرة في جوفها فولى مدبرا ، ونودي : أن يا موسى
خذها فلم يأخذها ، ثم نودي الثانية : أن خذها ولا تخف ، فقيل له في الثالثة : إنك
من الآمنين ، فأخذها.
وقال وهب بن منبه
في قوله : (فَأَلْقاها فَإِذا
هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى) قال فألقاها على وجه الأرض ثم حانت منه نظرة فإذا بأعظم
ثعبان نظر إليه الناظرون فدب يلتمس كأنه يبتغي شيئا يريد أخذه ، يمر بالصخرة مثل
الخلفة من الإبل فيلتقمها ، ويطعن بالناب من أنيابه في أصل الشجرة العظيمة فيجتثها
، عيناه توقدان نارا ، وقد عاد المحجن منها عرفا ، قيل : شعره مثل النيازك ، وعاد
الشعبتان منها مثل القليب الواسع فيه أضراس وأنياب لها صريف ، فلما عاين ذلك موسى
ولى مدبرا ولم يعقب ، فذهب حتى أمعن ورأى أنه قد أعجز الحية.
ثم ذكر ربه فوقف
استحياء منه ثم نودي يا موسى أن ارجع حيث كنت فرجع موسى وهو شديد الخوف فقال : (خُذْها) بيمينك (وَلا تَخَفْ
سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى) وعلى موسى حينئذ مدرعة من صوف فدخلها بخلال من عيدان ،
فلما أمره بأخذها ، أدلى طرف المدرعة على يده ، فقال له ملك : أرأيت يا موسى لو
أذن الله بما تحاذر أكانت المدرعة تغني عنك شيئا؟ قال : لا ولكني ضعيف ، ومن ضعيف
خلقت ، فكشف عن يده ثم وضعها على فم الحية حتى سمع حسن الأضراس والأنياب ، ثم قبض
فإذا هي عصاه التي عهدها ، وإذا يده في موضعها الذي كان يضعها إذا توكأ بين
الشعبتين ، ولهذا قال تعالى : (سَنُعِيدُها
سِيرَتَهَا الْأُولى) أي إلى حالها التي تعرف قبل ذلك.
(وَاضْمُمْ يَدَكَ
إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (٢٢)
لِنُرِيَكَ
مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (٢٣) اذْهَبْ إِلى
فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٢٤)
قالَ
رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٢٥)
وَيَسِّرْ
لِي أَمْرِي (٢٦) وَاحْلُلْ عُقْدَةً
مِنْ لِسانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي (٢٨) وَاجْعَلْ لِي
وَزِيراً مِنْ أَهْلِي(٢٩) هارُونَ أَخِي (٣٠)
اشْدُدْ
بِهِ أَزْرِي (٣١) وَأَشْرِكْهُ فِي
أَمْرِي (٣٢) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً(٣٣)
وَنَذْكُرَكَ
كَثِيراً (٣٤) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً)
(٣٥)
وهذا برهان ثان
لموسى عليهالسلام ، وهو أن الله أمره أن يدخل يده في جيبه كما صرح به في
الآية الأخرى ، وهاهنا عبر عن ذلك بقوله : (وَاضْمُمْ يَدَكَ
إِلى جَناحِكَ) وقال في مكان آخر (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ
جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ
وَمَلَائِهِ) [القصص: ٣٢] وقال مجاهد : (وَاضْمُمْ يَدَكَ
إِلى جَناحِكَ) كفه تحت عضدك ، وذلك أن موسىعليهالسلام كان إذا أدخل يده في جيبه ثم أخرجها ، تخرج تتلألأ كأنها
فلقة قمر.
وقوله : (تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) أي من غير برص ولا أذى ومن غير شين ، قاله ابن عباس ومجاهد
وعكرمة وقتادة والضحاك والسدي وغيرهم ، وقال الحسن البصري : أخرجها والله كأنها
مصباح ، فعلم موسى أنه قد لقي ربه عزوجل ، ولهذا قال تعالى : (لِنُرِيَكَ مِنْ
آياتِنَا الْكُبْرى) وقال وهب : قال له ربه : ادنه فلم يزل يدنيه حتى أسند ظهره
بجذع الشجرة ، فاستقر وذهبت عنه الرعدة ، وجمع يده في العصا وخضع برأسه وعنقه.
وقوله : (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) أي اذهب إلى فرعون ملك مصر الذي خرجت فارا منه وهاربا
فادعه إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، ومره فليحسن إلى بني إسرائيل ولا يعذبهم ،
فإنه قد طغى وبغى وآثر الحياة الدنيا ونسي الرب الأعلى. قال وهب بن منبه : قال
الله لموسى : انطلق برسالتي فإنك بسمعي وعيني ، وإن معك أيدي ونصري ، وإني قد
ألبستك جنة من سلطاني لتستكمل بها القوة في أمري ، فأنت جند عظيم من جندي بعثتك
إلى خلق ضعيف من خلقي بطر نعمتي ، وأمن مكري ، وغرته الدنيا عني حتى جحد حقي ،
وأنكر ربوبيتي وزعم أنه لا يعرفني ، فإني أقسم بعزتي لولا القدر الذي وضعت بيني
وبين خلقي لبطشت به بطشة جبار يغضب لغضبه السموات والأرض والجبال والبحار ، فإن
أمرت السماء حصبته ، وإن أمرت الأرض ابتلعته ، وإن أمرت الجبال دمرته ، وإن أمرت
البحار غرقته.
ولكنه هان علي
وسقط من عيني ووسعه حلمي واستغنيت بما عندي وحقي إني أنا الغني لا غني غيري ،
فبلغه رسالتي ، وادعه إلى عبادتي ، وتوحيدي وإخلاصي وذكره أيامي ، وحذره نقمتي
وبأسي ، وأخبره أنه لا يقوم شيء لغضبي ، وقل له فيما بين ذلك قولا لينا لعله يتذكر
أو يخشى ، وأخبره أني إلى العفو والمغفرة أسرع مني إلى الغضب والعقوبة ، ولا
يروعنك ما ألبسته من لباس الدنيا ، فإن ناصيته بيدي ليس ينطق ولا يطرف ولا يتنفس
إلا بإذني ، وقل له أجب ربك فإنه واسع المغفرة وقد أمهلك أربعمائة سنة في كلها أنت
مبارزة بالمحاربة ، تسبه وتتمثل به ، وتصد عباده عن سبيله ، وهو يمطر عليك السماء
، وينبت لك الأرض لم تسقم ولم تهرم ولم تفتقر ولم تغلب ، ولو شاء الله أن يعجل لك
العقوبة لفعل ، ولكنه ذو أناة وحلم عظيم.
وجاهده بنفسك
وأخيك وأنتما تحتسبان بجهاده ، فإني لو شئت أن آتيه بجنود لا قبل له بها لفعلت ،
ولكن ليعلم هذا العبد الضعيف الذي قد أعجبته نفسه وجموعه أن الفئة القليلة ، ولا
قليل مني ، تغلب الفئة الكثيرة بإذني ، ولا تعجبنكما زينته ولا ما متع به ، ولا
تمدا إلى ذلك أعينكما فإنها زهرة الحياة الدنيا وزينة المترفين ، ولو شئت أن
أزينكما من الدنيا بزينة ليعلم فرعون حين ينظر إليها أن مقدرته تعجز عن مثل ما
أوتيتما فعلت ، ولكني أرغب بكما عن ذلك وأزويه عنكما ، وكذلك أفعل بأوليائي وقديما
ما جرت عادتي في ذلك ، فإني لأذودهم عن نعيمها وزخارفها كما يذود الراعي الشفيق
إبله عن مبارك العناء ، وما ذاك لهوانهم علي ولكن
ليستكملوا نصيبهم
في دار كرامتي سالما موفرا لم تكلمه الدنيا ، واعلم أنه لا يتزين لي العباد بزينة
هي أبلغ فيما عندي من الزهد في الدنيا ، فإنها زينة المتقين عليهم منها لباس
يعرفون به من السكينة والخشوع ، وسيماهم في وجوههم من أثر السجود ، أولئك أوليائي
حقا حقا ، فإذا لقيتهم فاخفض لهم جناحك وذلل قلبك ولسانك.
وأعلم أنه من أهان
لي وليا أو أخافه فقد بارزني بالمحاربة وبادأني وعرض لي نفسه ودعاني إليها ، وأنا
أسرع شيء إلى نصرة أوليائي ، أفيظن الذي يحاربني أن يقوم لي ، أم يظن الذي يعاديني
أن يعجزني ، أم يظن الذي يبارزني أن يسبقني أو يفوتني ، وكيف وأنا الثائر لهم في
الدنيا والآخرة لا أكل نصرتهم إلى غيري ، رواه ابن أبي حاتم.
(قالَ رَبِّ اشْرَحْ
لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) هذا سؤال من موسى عليهالسلام لربه عزوجل أن يشرح له صدره فيما بعثه به ، فإنه قد أمره بأمر عظيم
وخطب جسيم ، بعثه إلى أعظم ملك على وجه الأرض إذ ذاك وأجبرهم وأشدهم كفرا ،
وأكثرهم جنودا ، وأعمرهم ملكا ، وأطغاهم وأبلغهم تمردا ، بلغ من أمره أن ادعى أنه
لا يعرف الله ، ولا يعلم لرعاياه إلها غيره ، هذا وقد مكث موسى في داره مدة وليدا
عندهم في حجر فرعون على فراشه ، ثم قتل منهم نفسا فخافهم أن يقتلوه ، فهرب منهم
هذه المدة بكمالها ، ثم بعد هذا بعثه ربه عزوجل إليهم نذيرا يدعوهم إلى الله عزوجل أن يعبدوه وحده لا شريك له ، ولهذا قال : (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ
لِي أَمْرِي) أي إن لم تكن أنت عوني ونصيري وعضدي وظهيري ، وإلا فلا
طاقة لي بذلك (وَاحْلُلْ عُقْدَةً
مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي) وذلك لما كان أصابه ، من اللثغ حين عرض عليه التمرة
والجمرة ، فأخذ الجمرة فوضعها على لسانه ، كما سيأتي بيانه ، وما سأل أن يزول ذلك
بالكلية ، بل بحيث يزول العي ، ويحصل لهم فهم ما يريد منه وهو قدر الحاجة ، ولو
سأل الجميع لزال ، ولكن الأنبياء لا يسألون إلا بحسب الحاجة ، ولهذا بقيت بقية ،
قال الله تعالى إخبارا عن فرعون أنه قال : (أَمْ أَنَا خَيْرٌ
مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ) [الزخرف : ٥٢] أي
يفصح بالكلام.
وقال الحسن البصري
(وَاحْلُلْ عُقْدَةً
مِنْ لِسانِي) قال : حل عقدة واحدة. ولو سأل أكثر من ذلك أعطي. وقال ابن
عباس : شكا موسى إلى ربه ما يتخوف من آل فرعون في القتيل وعقدة لسانه ، فإنه كان
في لسانه عقدة تمنعه من كثير من الكلام ، وسأل ربه أن يعينه بأخيه هارون يكون له
ردءا ويتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه ، فآتاه سؤله فحل عقدة من لسانه.
وقال ابن أبي حاتم
: ذكر عن عمرو بن عثمان ، حدثنا بقية عن أرطأة بن المنذر ، حدثني بعض أصحاب محمد
بن كعب عنه قال : أتاه ذو قرابة له : فقال له : ما بك بأس لولا أنك تلحن في كلامك
، ولست تعرب في قراءتك ، فقال القرظي : يا ابن أخي ألست أفهمك إذا حدثتك؟
قال : نعم. قال :
فإن موسى عليهالسلام إنما سأل ربه أن يحلّ عقدة من لسانه كي يفقه بنو إسرائيل
كلامه ، ولم يزد عليها ، هذا لفظه.
وقوله : (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي
هارُونَ أَخِي) وهذا أيضا سؤال من موسى عليهالسلام في أمر خارجي عنه ، وهو مساعدة أخيه هارون له. قال الثوري
عن أبي سعيد عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال فنبئ هارون ساعتئذ حين نبىء موسى عليهماالسلام. وقال ابن أبي حاتم : ذكر عن ابن نمير ، حدثنا أبو أسامة
عن هشام بن عروة عن أبيه ، عن عائشة أنها خرجت فيما كانت تعتمر ، فنزلت ببعض الأعراب
، فسمعت رجلا يقول : أي أخ كان في الدنيا أنفع لأخيه؟ قالوا : لا ندري. قال : أنا
والله أدري. قالت : فقلت في نفسي في حلفه لا يستثني إنه ليعلم أي أخ كان في الدنيا
أنفع لأخيه ، قال : موسى حين سأل لأخيه النبوة ، فقلت : صدق والله. قلت : وفي هذا
قال الله تعالى في الثناء على موسى عليهالسلام : (وَكانَ عِنْدَ اللهِ
وَجِيهاً).
وقوله : (اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي) قال مجاهد : ظهري ، (وَأَشْرِكْهُ فِي
أَمْرِي) أي في مشاورتي (كَيْ نُسَبِّحَكَ
كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً) قال مجاهد : لا يكون العبد من الذاكرين الله كثيرا حتى
يذكر الله قائما وقاعدا ومضطجعا. وقوله : (إِنَّكَ كُنْتَ بِنا
بَصِيراً) أي في اصطفائك لنا وإعطائك إيانا النبوة ، وبعثتك لنا إلى
عدوك فرعون فلك الحمد على ذلك.
(قالَ قَدْ أُوتِيتَ
سُؤْلَكَ يا مُوسى (٣٦) وَلَقَدْ مَنَنَّا
عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى
(٣٧)
إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (٣٨) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي
التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ
يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي
وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (٣٩) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ
فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ
تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ
وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً)
(٤٠)
هذه إجابة من الله
لرسوله موسى عليهالسلام فيما سأل من ربه عزوجل ، وتذكير له بنعمه
السالفة عليه فيما كان ألهم أمه حين كانت ترضعه وتحذر عليه من فرعون وملئه أن
يقتلوه ، لأنه كان قد ولد في السنة التي يقتلون فيها الغلمان ، فاتخذت له تابوتا ،
فكانت ترضعه ثم تضعه فيه وترسله في البحر وهو النيل ، وتمسكه إلى منزلها بحبل ،
فذهبت مرة لتربط الحبل فانفلت منها وذهب به البحر ، فحصل لها من الغم والهم ما
ذكره الله عنها في قوله : (وَأَصْبَحَ فُؤادُ
أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى
قَلْبِها) [القصص : ١٠] فذهب
به البحر إلى دار فرعون.
(فَالْتَقَطَهُ آلُ
فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص : ٨] أي
قدرا مقدورا من الله حيث كانوا هم يقتلون الغلمان من بني إسرائيل حذرا من وجود
موسى ، فحكم الله وله السلطان العظيم والقدرة التامة أن لا يربى إلا على فراش
فرعون ، ويغذى بطعامه وشرابه مع محبته وزوجته له ، ولهذا قال تعالى : (يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ
وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) أي عند عدوك جعلته يحبك ، قال سلمة بن كهيل (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) قال : حببتك إلى عبادي (وَلِتُصْنَعَ عَلى
عَيْنِي) قال أبو عمران الجوني : تربى بعين الله وقال قتادة : تغذى
على عيني.
وقال معمر بن
المثنى (وَلِتُصْنَعَ عَلى
عَيْنِي) بحيث أرى ، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : يعني أجعله
في بيت الملك ينعم ويترف ، وغذاؤه عندهم غذاء الملك فتلك الصنعة.
وقوله : (إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ
أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ
عَيْنُها) وذلك أنه لما استقر عند آل فرعون عرضوا عليه المراضع
فأباها ، قال الله تعالى : (وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ
الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ) [القصص : ١٢]
فجاءت أخته وقالت : (هَلْ أَدُلُّكُمْ
عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ) [القصص : ١٢] تعني
هل أدلكم على من يرضعه لكم بالأجرة ، فذهبت به وهم معها إلى أمه فعرضت عليه ثديها
، فقبله ففرحوا بذلك فرحا شديدا ، واستأجروها على إرضاعه فنالها بسببه سعادة ورفعة
وراحة في الدنيا وفي الآخرة أغنى وأجزل ، ولهذا جاء في الحديث «مثل الصانع الذي
يحتسب في صنعته الخير كمثل أم موسى ترضع ولدها وتأخذ أجرها» وقال تعالى هاهنا : (فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ
عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ) أي عليك (وَقَتَلْتَ نَفْساً) يعني القبطي (فَنَجَّيْناكَ مِنَ
الْغَمِ) وهو ما حصل له بسبب عزم آل فرعون على قتله ، ففر منهم
هاربا حتى ورد ماء مدين ، وقال له ذلك الرجل الصالح : (لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ) [القصص : ٢٥].
وقوله : (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً) قال الإمام أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي رحمهالله في كتاب التفسير من سننه قوله (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً).
(حديث الفتون)
حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا يزيد بن هارون ، أنبأنا أصبغ بن زيد ، حدثنا
القاسم بن أبي أيوب ، أخبرني سعيد بن جبير قال : سألت عبد الله بن عباس عن قول
الله عزوجل لموسى عليهالسلام (وَفَتَنَّاكَ
فُتُوناً) فسألته عن الفتون ما هو؟ فقال : استأنف النهار يا ابن جبير
فإن لها حديثا طويلا ، فلما أصبحت غدوت إلى ابن عباس لأنتجز منه ما وعدني من حديث
الفتون ، فقال : تذاكر فرعون وجلساؤه ما كان الله وعد إبراهيم عليهالسلام أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكا ، فقال بعضهم : إن بني
إسرائيل ينتظرون ذلك لا يشكون فيه.
وكانوا يظنون أنه
يوسف بن يعقوب ، فلما هلك قالوا : ليس هكذا كان وعد إبراهيم عليهالسلام ، فقال فرعون : كيف ترون؟ فائتمروا وأجمعوا أمرهم على أن
يبعث رجالا معهم الشفار يطوفون في بني إسرائيل فلا يجدون مولودا ذكرا إلا ذبحوه ،
ففعلوا ذلك ، فلما رأوا أن الكبار من بني إسرائيل يموتون بآجالهم ، والصغار يذبحون
، قالوا : ليوشكن أن تفنوا بني إسرائيل فتصيروا إلى أن تباشروا من الأعمال والخدمة
التي كانوا يكفونكم ، فاقتلوا عاما كل مولد ذكر ، واتركوا بناتهم ، ودعوا عاما فلا
تقتلوا منهم أحدا ، فيشب الصغار مكان من يموت من الكبار ، فإنهم لن يكثروا بمن
تستحيون منهم ، فتخافوا مكاثرتهم إياكم ، ولم يفنوا بمن تقتلون وتحتاجون إليهم ،
فأجمعوا أمرهم على ذلك فحملت أم موسى بهارون في العام الذي لا يذبح فيه الغلمان ،
فولدته علانية آمنة.
فلما كان من قابل
، حملت بموسى عليهالسلام فوقع في قلبها الهم والحزن ، وذلك من الفتون ـ يا ابن جبير
ـ ما دخل عليه وهو في بطن أمه مما يراد به ، فأوحى الله إليها أن لا تخافي ولا
تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين ، فأمرها إذا ولدت أن تجعله في تابوت ثم
تلقيه في اليم ، فلما ولدت فعلت ذلك ، فلما توارى عنها ابنها أتاها الشيطان فقالت
في نفسها : ما فعلت يا بني لو ذبح عندي فواريته وكفنته كان أحب إلي من أن ألقيه
إلى دواب البحر وحيتانه.
فانتهى الماء به
حتى أوفى به عند فرضة مستقي جواري امرأة فرعون ، فلما رأينه أخذنه ، فأردن أن
يفتحن التابوت فقال بعضهن : إن في هذا مالا ، وإنا إن فتحناه لم تصدقنا امرأة
الملك بما وجدنا فيه ، فحملنه كهيئته لم يخرجن منه شيئا حتى دفعنه إليها ، فلما
فتحته رأت فيه غلاما ، فألقى الله عليه منها محبة لم يلق منها على أحد قط ، وأصبح
فؤاد أم موسى فارغا من ذكر كل شيء إلا من ذكر موسى ، فلما سمع الذباحون بأمره
أقبلوا بشفارهم إلى امرأة فرعون ليذبحوه ، وذلك من الفتون يا ابن جبير ، فقالت لهم
: أقروه ، فإن هذا الواحد لا يزيد في بني إسرائيل حتى آتي فرعون فأستوهبه منه ،
فإن وهبه لي كنتم قد أحسنتم وأجملتم ، وإن أمر بذبحه لم ألمكم ، فأتت فرعون فقالت
: قرة عين لي ولك ، فقال فرعون : يكون لك فأما لي فلا حاجة لي فيه ، فقال رسول
الله صلىاللهعليهوسلم : «والذي يحلف به لو أقر فرعون أن يكون قرة عين له كما
أقرت امرأته لهداه الله كما هداها ، ولكن حرمه ذلك» ، فأرسلت إلى من حولها إلى كل
امرأة لها لبن لتختار له ظئرا ، فجعل كلما أخذته امرأة منهن لترضعه لم يقبل على
ثديها حتى أشفقت امرأة فرعون أن يمتنع من اللبن فيموت ، فأحزنها ذلك فأمرت به
فأخرج إلى السوق ومجمع الناس ترجو أن تجد له ظئرا تأخذه منها ، فلم يقبل.
وأصبحت أم موسى
والها فقالت لأخته : قصي أثره واطلبيه هل تسمعين له ذكرا : أحي ابني أم قد أكلته
الدواب؟ ونسيت ما كان الله وعدها فيه ، فبصرت به أخته عن جنب وهم لا يشعرون ،
والجنب أن يسمو بصر الإنسان إلى شيء بعيد وهو إلى جنبه وهو لا يشعر به ، فقالت من
الفرح حين أعياهم الظئورات : أنا أدلّكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون ،
فأخذوها فقالوا ما يدريك ما نصحهم له هل يعرفونه؟ حتى شكوا في ذلك ، وذلك من
الفتون يا ابن جبير ، فقالت : نصحهم له وشفقتهم عليه رغبتهم في ظؤرة الملك ورجاء
منفعة الملك فتركوها.
فانطلقت إلى أمها
فأخبرتها الخبر ، فجاءت أمه فلما وضعته في حجرها نزا إلى ثديها فمصه حتى امتلأ
جنباه ريا ، وانطلق البشراء إلى امرأة فرعون يبشرونها أن قد وجدنا لابنك ظئرا ،
فأرسلت إليها فأتت بها وبه ، فلما رأت ما يصنع بها قالت : امكثي ترضعي ابني هذا ،
فإني لم أحب شيئا حبه قط. قالت أم موسى : لا أستطيع أن أدع بيتي وولدي فيضيع ، فإن
طابت نفسك
أن تعطينيه فأذهب
به إلى بيتي فيكون معي لا آلوه خيرا ، فإني غير تاركة بيتي وولدي ، وذكرت أم موسى
ما كان الله وعدها فيه ، فتعاسرت على امرأة فرعون وأيقنت أن الله منجز وعده ، فرجعت
به إلى بيتها من يومها ، وأنبته الله نباتا حسنا ، وحفظه لما قد قضى فيه.
فلم يزل بنو
إسرائيل وهم في ناحية القرية ممتنعين من السخرة والظلم ما كان فيهم ، فلما ترعرع
قالت امرأة فرعون لأم موسى : أتريني ابني فدعتها يوما تريها إياه فيه ، وقالت
امرأة فرعون لخزانها وظؤورها وقهارمتها : لا يبقين أحد منكم إلا استقبل ابني اليوم
بهدية وكرامة لأرى ذلك ، وأنا باعثة أمينا يحصي ما يصنع كل إنسان منكم ، فلم تزل
الهدايا والكرامة والنحل تستقبله من حين خرج من بيت أمه إلى أن دخل على امرأة
فرعون ، فلما دخل عليها نحلته وأكرمته وفرحت به ، ونحلت أمه لحسن أثرها عليه ، ثم
قالت : لآتين به فرعون فلينحلنه وليكرمنه ، فلما دخلت به عليه جعله في حجره فتناول
موسى لحية فرعون فمدها إلى الأرض ، فقال الغواة من أعداء الله لفرعون : ألا ترى ما
وعد الله إبراهيم نبيه إنه زعم أن يرثك ويعلوك ويصرعك ، فأرسل إلى الذباحين
ليذبحوه ، وذلك من الفتون يا ابن جبير بعد كل بلاء ابتلي به.
وأريد به فتونا
فجاءت امرأة فرعون فقالت : ما بدا لك في هذا الغلام الذي وهبته لي؟ فقال ألا ترينه
يزعم أنه يصرعني ويعلوني؟ فقالت : اجعل بيني وبينك أمرا يعرف الحق به ، ائت
بجمرتين ولؤلؤتين فقدمهن إليه ، فإن بطش باللؤلؤتين واجتنب الجمرتين ، عرفت أنه
يعقل ، وإن تناول الجمرتين ولم يرد اللؤلؤتين علمت أن أحدا لا يؤثر الجمرتين على
اللؤلؤتين وهو يعقل ، فقرت إليه الجمرتين واللؤلؤتين ، فتناول الجمرتين ،
فانتزعهما منه مخافة أن يحرقا يده ، فقالت المرأة : ألا ترى؟ فصرفه الله عنه بعد
ما كان قد هم به ، وكان الله بالغا فيه أمره ، فلما بلغ أشده وكان من الرجال لم
يكن أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل معه بظلم ولا سخرة حتى امتنعوا
كل الامتناع ، فبينما موسى عليهالسلام يمشي في ناحية المدينة إذا هو برجلين يقتتلان أحدهما
فرعوني والآخر إسرائيلي ، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني فغضب موسى غضبا شديدا
، لأنه تناوله وهو يعلم منزلته من بني إسرائيل وحفظه لهم لا يعلم الناس إلا إنما
ذلك من الرضاع إلا أم موسى إلا أن يكون الله أطلع موسى من ذلك على ما لم يطلع عليه
غيره ، فوكز موسى الفرعوني فقتله ، وليس يراهما أحد إلا الله عزوجل والإسرائيلي ، فقال موسى حين قتل الرجل : هذا من عمل
الشيطان إنه عدو مضل مبين ، ثم قال : (رَبِّ إِنِّي
ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [القصص : ١٦].
فأصبح في المدينة
خائفا يترقب الأخبار ، فأتى فرعون فقيل له : إن بني إسرائيل قتلوا رجلا من آل
فرعون ، فخذ لنا بحقنا ولا ترخص لهم ، فقال : ابغوني قاتله ومن يشهد عليه ، فإن
الملك وإن كان صفوه مع قومه لا يستقيم له أن يقيد بغير بينة ولا ثبت ، فاطلبوا لي
علم ذلك آخذ لكم بحقكم ، فبينما هم يطوفون لا يجدون ثبتا إذا بموسى من الغد قد رأى
ذلك الإسرائيلي يقاتل رجلا من آل فرعون آخر ،
رجلا من آل فرعون
آخر ، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني فصادف موسى فندم على ما كان منه وكره الذي
رأى ، فغضب الإسرائيلي وهو يريد أن يبطش بالفرعوني ، فقال للإسرائيلي لما فعل
بالأمس واليوم : (إِنَّكَ لَغَوِيٌّ
مُبِينٌ) [القصص : ١٨] ،
فنظر الإسرائيلي إلى موسى بعد ما قال له ما قال ، فإذا هو غضبان كغضبه بالأمس الذي
قتل فيه الفرعوني ، فخاف أن يكون بعد ما قال له إنك لغوي مبين ، أن يكون إياه أراد
، ولم يكن أراده إنما أراد الفرعوني.
فخاف الإسرائيلي
وقال : يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس ، وإنما قاله مخافة أن يكون
إياه أراد موسى ليقتله ، فتتاركا وانطلق الفرعوني فأخبرهم بما سمع من الإسرائيلي
من الخبر حين يقول : يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس ، فأرسل فرعون
الذباحين ليقتلوا موسى ، فأخذ رسل فرعون في الطريق الأعظم يمشون على هينتهم يطلبون
موسى وهم لا يخافون أن يفوتهم ، فجاء رجل من شيعة موسى من أقصى المدينة ، فاختصر
طريقا حتى سبقهم إلى موسى فأخبره ، وذلك من الفتون يا ابن جبير.
فخرج موسى متوجها
نحو مدين ولم يلق بلاء قبل ذلك ، وليس له بالطريق علم إلا حسن ظنه بربه عزوجل ، فإنه قال : (عَسى رَبِّي أَنْ
يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ
أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ) [القصص : ٢٣] يعني
بذلك حابستين غنمهما ، فقال لهما : ما خطبكما معتزلتين لا تسقيان مع الناس؟ قالتا
: ليس لنا قوة نزاحم القوم وإنما نسقي من فضول حياضهم فسقى لهما فجعل يغترف في
الدلو ماء كثيرا حتى كان أول الرعاء ، فانصرفتا بغنمهما إلى أبيهما ، وانصرف موسى عليهالسلام فاستظل بشجرة وقال : (رَبِّ إِنِّي لِما
أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) واستنكر أبوهما سرعة صدورهما بغنمهما حفلا بطانا ، فقال :
إن لكما اليوم لشأنا ، فأخبرتاه بما صنع موسى ، فأمر إحداهما أن تدعوه ، فأتت موسى
فدعته.
فلما كلمه قال :
لا تخف نجوت من القوم الظالمين ليس لفرعون ولا لقومه علينا سلطان ، ولسنا في
مملكته ، فقالت إحداهما : (يا أَبَتِ
اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) [القصص : ٢٦]
فاحتملته الغيرة على أن قال لها : ما يدريك ما قوته وما أمانته؟ فقالت : أما قوته
فما رأيت منه في الدلو حين سقى لنا ، لم أر رجلا قط أقوى في ذلك السقي منه ، وأما
الأمانة فإنه نظر إلي حين أقبلت إليه وشخصت له ، فلما علم أني امرأة صوب رأسه فلم
يرفعه حتى بلغته رسالتك ، ثم قال لي : امشي خلفي وانعتي لي الطريق ، فلم يفعل هذا
إلا وهو أمين ، فسري عن أبيها وصدقها وظن به الذي قالت ، فقال له : هل لك (أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ
هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ
عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ
الصَّالِحِينَ) [القصص : ٢٧]؟
ففعل فكانت على نبي الله موسى ثمان سنين واجبة ، وكانت سنتان عدة منه ، فقضى الله
عنه عدته فأتمها عشرا.
قال سعيد وهو ابن
جبير : فلقيني رجل من أهل النصرانية من علمائهم قال : هل تدري أي
الأجلين قضى موسى؟
قلت : لا ، وأنا يومئذ لا أدري ، فلقيت ابن عباس فذكرت له ذلك ، فقال : أما علمت
أن ثمانيا كانت على نبي الله واجبة لم يكن نبي الله لينقص منها شيئا ، ويعلم أن
الله كان قاضيا عن موسى عدته التي كان وعده ، فإنه قضى عشر سنين ، فلقيت النصراني
فأخبرته ذلك ، فقال : الذي سألته فأخبرك أعلم منك بذلك ، قلت : أجل وأولى.
فلما سار موسى
بأهله كان من أمر النار والعصا ويده ما قص الله عليك في القرآن ، فشكا إلى الله
تعالى ما يحذر من آل فرعون في القتيل وعقدة لسانه ، فإنه كان في لسانه عقدة تمنعه
من كثير من الكلام ، وسأل ربه أن يعينه بأخيه هارون يكون له ردءا ويتكلم عنه بكثير
مما لا يفصح به لسانه ، فآتاه الله سؤله وحل عقدة من لسانه ، وأوحى الله إلى هارون
وأمره أن يلقاه ، فاندفع موسى بعصاه حتى لقي هارون عليهماالسلام ، فانطلقا جميعا إلى فرعون ، فأقاما على بابه حينا لا يؤذن
لهما ، ثم أذن لهما بعد حجاب شديد ، فقالا : (إِنَّا رَسُولا
رَبِّكَ) قال : فمن ربكما؟ فأخبراه بالذي قص الله عليك في القرآن؟
قال : فما تريدان؟ وذكره القتيل فاعتذر بما قد سمعت ، قال : أريد أن تؤمن بالله
وترسل معنا بني إسرائيل ، فأبى عليه وقال : ائت بآية إن كنت من الصادقين ، فألقى
عصاه فإذا هي حية تسعى عظيمة ، فاغرة فاها ، مسرعة إلى فرعون.
فلما رآها فرعون
قاصدة إليه خافها فاقتحم عن سريره واستغاث بموسى أن يكفها عنه ففعل ، ثم أخرج يده
من جيبه فرآها بيضاء من غير سوء ، يعني من غير برص ، ثم ردها فعادت إلى لونها
الأول ، فاستشار الملأ حوله فيما رأى ، فقالوا له : هذان ساحران (يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ
أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى) ، يعني ملكهم الذي هم فيه والعيش ، وأبوا على موسى أن
يعطوه شيئا مما طلب ، وقالوا له : اجمع لهما السحرة ، فإنهم بأرضك كثير حتى تغلب
بسحرك سحرهما ، فأرسل إلى المدائن فحشر له كل ساحر متعالم ، فلما أتوا فرعون قالوا
: بم يعمل هذا الساحر؟ قالوا : يعمل بالحيات ، قالوا : فلا والله ما أحد في الأرض
يعمل بالسحر بالحيات والحبال والعصي الذي نعمل ، فما أجرنا إن نحن غلبنا؟ قال لهم
: أنتم أقاربي وخاصتي ، وأنا صانع إليكم كل شيء أحببتم ، فتواعدوا يوم الزينة وأن
يحشر الناس ضحى.
قال سعيد بن جبير
: فحدثني ابن عباس أن يوم الزينة اليوم الذي أظهر الله فيه موسى على فرعون والسحرة
هو يوم عاشوراء. فلما اجتمعوا في صعيد واحد قال الناس بعضهم لبعض : انطلقوا فلنحضر
هذا الأمر (لَعَلَّنا نَتَّبِعُ
السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ) [الشعراء : ٤٠]
يعنون موسى وهارون استهزاء بهما؟ ف (قالُوا يا مُوسى
إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ) [الأعراف : ١١٥]
قال : بل ألقوا (فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ
وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ) [الأعراف : ٤٤]
فرأى موسى من سحرهم ما أوجس في نفسه خيفة ، فأوحى الله إليه أن ألق عصاك ، فلما
ألقاها صارت ثعبانا عظيمة فاغرة فاها ، فجعلت العصي تلتبس بالحبال حتى صارت
جزرا إلى الثعبان
تدخل فيه حتى ما أبقت عصا ولا حبلا إلا ابتلعته ، فلما عرف السحرة ذلك قالوا : لو
كان هذا سحرا لم يبلغ من سحرنا كل هذا ، ولكن هذا أمر من الله عزوجل ، آمنا بالله وبما جاء به موسى من عند الله ، ونتوب إلى
الله مما كنا عليه ، فكسر الله ظهر فرعون في ذلك الموطن وأشياعه ، وظهر الحق وبطل
ما كانوا يعملون (فَغُلِبُوا هُنالِكَ
وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ) [الأعراف : ١١٩] وامرأة فرعون بارزة متبذلة تدعو الله
بالنصر لموسى على فرعون وأشياعه ، فمن رآها من آل فرعون ظن أنها إنما ابتذلت
للشفقة على فرعون وأشياعه ، وإنما كان حزنها وهمها لموسى.
فلما طال مكث موسى
بمواعيد فرعون الكاذبة ، كلما جاء بآية وعده عندها أن يرسل معه بني إسرائيل ، فإذا
مضت أخلف موعده وقال : هل يستطيع ربك أن يصنع غير هذا؟ فأرسل الله على قومه
الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات ، كل ذلك يشكو إلى موسى ويطلب
إليه أن يكفها عنه ويواثقه على أن يرسل معه بني إسرائيل ، فإذا كف ذلك عنه أخلف
موعده ونكث عهده حتى أمر الله موسى بالخروج بقومه فخرج بهم ليلا ، فلما أصبح فرعون
ورأى أنهم قد مضوا أرسل في المدائن حاشرين فتبعه بجنود عظيمة كثيرة وأوحى الله إلى
البحر إذا ضربك عبدي موسى بعصاه فانفلق اثنتي عشرة فرقة حتى يجوز موسى ومن معه ،
ثم التق على من بقي بعد من فرعون وأشياعه ، فنسي موسى أن يضرب البحر بالعصا وانتهى
إلى البحر وله قصيف مخافة أن يضربه موسى بعصاه وهو غافل ، فيصير عاصيا لله.
فلما تراءى
الجمعان وتقاربا قال أصحاب موسى : إنا لمدركون افعل ما أمرك به ربك فإنه لم يكذب
ولم تكذب. قال : وعدني ربي إذا أتيت البحر انفلق اثنتي عشرة فرقة حتى أجاوزه ، ثم
ذكر بعد ذلك العصا ، فضرب البحر بعصاه حين دنا أوائل جند فرعون من أواخر جند موسى
، فانفلق البحر كما أمره ربه وكما وعد موسى ، فلما أن جاز موسى وأصحابه كلهم البحر
ودخل فرعون وأصحابه ، التقى عليهم البحر كما أمر ، فلما جاوز موسى البحر قال
أصحابه : إنا نخاف أن لا يكون فرعون غرق ولا نؤمن بهلاكه ، فدعا ربه فأخرجه له
ببدنه حتى استيقنوا بهلاكه.
ثم مروا بعد ذلك
على قوم يعكفون على أصنام لهم (قالُوا يا مُوسَى
اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ
هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ) [الأعراف : ١٣٨]
الآية. قد رأيتم من العبر وسمعتم ما يكفيكم ، ومضى فأنزلهم موسى منزلا وقال :
أطيعوا هارون فإني قد استخلفته عليكم ، فإني ذاهب إلى ربي وأجلهم ثلاثين يوما أن
يرجع إليهم فيها ، فلما أتى ربه وأراد أن يكلمه في ثلاثين يوما ، وقد صامهن ليلهن
ونهارهن ، وكره أن يكلم ربه وريح فيه ريح فم الصائم ، فتناول موسى من نبات الأرض
شيئا فمضغه فقال له ربه حين أتاه : لم أفطرت وهو أعلم بالذي كان ، قال : يا رب إني
كرهت أن أكلمك إلا وفمي طيب الريح. قال : أوما علمت يا موسى أن ريح فم الصائم أطيب
عندي من ريح المسك ، ارجع فصم عشرا ثم ائتني.
ففعل موسى عليهالسلام ما أمر به ، فلما رأى قومه أنه لم يرجع إليهم في الأجل
ساءهم ذلك ، وكان هارون قد خطبهم وقال : إنكم قد خرجتم من مصر ولقوم فرعون عندكم
عواري وودائع ولكم فيهم مثل ذلك ، فإني أرى أنكم تحتسبون ما لكم عندهم ولا أحل لكم
وديعة استودعتموها ولا عارية ، ولسنا برادين إليهم شيئا من ذلك ولا ممسكيه لأنفسنا
، فحفر حفيرا وأمر كل قوم عندهم من ذلك من متاع أو حلية أن يقذفوه في ذلك الحفير ،
ثم أوقد عليه النار فأحرقته ، فقال : لا يكون لنا ولا لهم ، وكان السامري من قوم
يعبدون البقر جيران لبني إسرائيل ، ولم يكن من بني إسرائيل فاحتمل مع موسى وبني
إسرائيل حين احتملوا ، فقضي له أن رأى أثرا فقبض منه قبضة ، فمر بهارون فقال له
هارون عليهالسلام : يا سامري ألا تلقي ما في يدك ، وهو قابض عليه لا يراه
أحد طوال ذلك؟
فقال : هذه قبضة
من أثر الرسول الذي جاوز بكم البحر ، ولا ألقيها لشيء إلا أن تدعو الله إذا
ألقيتها أن يجعلها ما أريد ، فألقاها ودعا له هارون ، فقال : أريد أن يكون عجلا ،
فاجتمع ما كان في الحفيرة من متاع أو حلية أو نحاس أو حديد ، فصار عجلا أجوف ليس
فيه روح وله خوار ، قال ابن عباس : لا والله ما كان له صوت قط إنما كانت الريح
تدخل في دبره وتخرج من فيه ، وكان ذلك الصوت من ذلك ، فتفرق بنو إسرائيل فرقا ،
فقالت فرقة : يا سامري ما هذا وأنت أعلم به؟ قال : هذا ربكم ولكن موسى أضل الطريق
، فقالت فرقة : لا نكذب بهذا حتى يرجع إلينا موسى ، فإن كان ربنا لم نكن ضيعناه
وعجزنا فيه حين رأينا ، وإن لم يكن ربنا فإنا نتبع قول موسى ، وقالت فرقة : هذا من
عمل الشيطان ، وليس بربنا ولا نؤمن به ولا نصدق ، وأشرب فرقة في قلوبهم الصدق بما
قال السامري في العجل وأعلنوا التكذيب به.
فقال لهم هارون : (يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ
وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي) قالوا : فما بال موسى وعدنا ثلاثين يوما ثم أخلفنا ، هذه
أربعون يوما قد مضت ، وقال سفهاؤهم : أخطأ ربه فهو يطلبه : يتبعه ، فلما كلم الله
موسى وقال له ما قال ، أخبره بما لقي قومه من بعده (فَرَجَعَ مُوسى إِلى
قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً) فقال لهم ما سمعتم في القرآن ، وأخذ برأس أخيه يجره إليه ،
وألقى الألواح من الغضب ، ثم إنه عذر أخاه بعذره واستغفر له ، وانصرف إلى السامري
فقال له : ما حملك على ما صنعت؟ قال : قبضت قبضة من أثر الرسول وفطنت لها وعميت
عليكم (فَنَبَذْتُها
وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ
تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ
الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي
الْيَمِّ نَسْفاً) ، ولو كان إلها لم يخلص إلى ذلك منه.
فاستيقن بنو
إسرائيل بالفتنة ، واغتبط الذين كان رأيهم فيه مثل رأي هارون ، فقالوا لجماعتهم :
يا موسى سل لنا ربك أن يفتح لنا باب توبة نصنعها فيكفر عنا ما عملنا ، فاختار موسى
من قومه سبعين رجلا لذلك لا يألو الخير خيار بني إسرائيل ومن لم يشرك في العجل ،
فانطلق بهم يسأل لهم التوبة فرجفت بهم الأرض! فاستحيا نبي الله من قومه ومن وفده
حين فعل
بهم ما فعل ، فقال
: (رَبِّ لَوْ شِئْتَ
أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ) [الأعراف : ٣] وفيهم من كان اطلع الله منه على ما أشرب
قلبه من حب العجل وإيمانه به ، فلذلك رجفت بهم الأرض فقال : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ
فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ
بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ
الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) [الأعراف : ١٥٥]
فقال : يا رب سألتك التوبة لقومي ، فقلت إن رحمتي كتبتها لقوم غير قومي ، هلا
أخرتني حتى تخرجني في أمة ذلك الرجل المرحومة؟ فقال له : إن توبتهم أن يقتل كل رجل
منهم من لقي من والد وولد ، فيقتله بالسيف ولا يبالي من قتل في ذلك الموطن ، وتاب
أولئك الذين كان خفي على موسى وهارون ، واطلع الله من ذنوبهم ، فاعترفوا بها
وفعلوا ما أمروا ، وغفر الله للقاتل والمقتول.
ثم سار بهم موسى عليهالسلام متوجها نحو الأرض المقدسة ، وأخذ الألواح بعد ما سكت عنه
الغضب ، فأمرهم بالذي أمر به أن يبلغهم من الوظائف ، فثقل ذلك عليهم وأبوا أن
يقروا بها ، فنتق الله عليهم الجبل كأنه ظلة ودنا منهم حتى خافوا أن يقع عليهم ،
فأخذوا الكتاب بأيمانهم وهم مصغون ، ينظرون إلى الجبل والكتاب بأيديهم وهم من وراء
الجبل مخافة أن يقع عليهم ، ثم مضوا حتى أتوا الأرض المقدسة فوجدوا مدينة فيها قوم
جبارون ، خلقهم خلق منكر ، وذكروا من ثمارهم أمرا عجيبا من عظمها ، فقالوا : يا
موسى إن فيها قوما جبارين لا طاقة لنا بهم ، ولا ندخلها ما داموا فيها ، فإن
يخرجوا منها فإنا داخلون.
قال رجلان من
الذين يخافون قيل ليزيد هكذا قرأه؟ قال : نعم من الجبارين آمنا بموسى وخرجا إليه فقالوا
: نحن أعلم بقومنا إن كنتم إنما تخافون ما رأيتم من أجسامهم وعددهم ، فإنهم لا
قلوب لهم ولا منعة عندهم ، فادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون ، ويقول
أناس : إنهم من قوم موسى ، فقال الذين يخافون من بني إسرائيل : (قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها
أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا
قاعِدُونَ) [المائدة : ٢٤]
فأغضبوا موسى ، فدعا عليهم وسماهم فاسقين ، ولم يدع عليهم قبل ذلك لما رأى منهم من
المعصية وإساءتهم حتى كان يومئذ ، فاستجاب الله له وسماهم كما سماهم موسى فاسقين ،
وحرمها عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض يصبحون كل يوم فيسيرون ليس لهم قرار ،
وظلل عليهم الغمام في التيه ، وأنزل عليهم المن والسلوى ، وجعل لهم ثيابا لا تبلى
ولا تتسخ ، وجعل بين ظهرانيهم حجرا مربعا ، وأمر موسى فضربه بعصاه ، فانفجرت منه
اثنتا عشرة عينا في كل ناحية ثلاثة أعين ، وأعلم كل سبط عينهم التي يشربون منها ،
فلا يرتحلون من مكان إلا وجدوا ذلك الحجر بينهم بالمكان الذي كان فيه بالأمس.
رفع ابن عباس هذا
الحديث إلى النبي صلىاللهعليهوسلم ، وصدق ذلك عندي أن معاوية سمع ابن عباس يحدث هذا الحديث
فأنكر عليه أن يكون الفرعوني الذي أفشى على موسى أمر القتيل الذي قتل ، فقال : كيف
يفشي عليه ولم يكن علم به ، ولا ظهر عليه إلا الإسرائيلي الذي حضر ذلك؟
فغضب ابن عباس
فأخذ بيد معاوية فانطلق به إلى سعد بن مالك الزهري ، فقال له : يا أبا إسحاق هل
تذكر يوم حدثنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن قتيل موسى الذي قتل من آل فرعون؟ الإسرائيلي الذي أفشى
عليه أم الفرعوني؟ قال : إنما أفشى عليه الفرعوني بما سمع من الإسرائيلي الذي شهد
على ذلك وحضره.
وهكذا رواه
النسائي في السنن الكبرى ، وأخرجه أبو جعفر بن جرير وابن أبي حاتم في تفسيريهما ، كلهم من حديث يزيد بن هارون
به ، وهو موقوف من كلام ابن عباس ، وليس فيه مرفوع إلا قليل منه ، وكأنه تلقاه ابن
عباس رضي الله عنهما مما أبيح نقله من الإسرائيليات عن كعب الأحبار ، أو غيره ،
والله أعلم ، وسمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول ذلك أيضا. وقوله عزوجل :
فَلَبِثْتَ
سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (٤٠) وَاصْطَنَعْتُكَ
لِنَفْسِي (٤١) اذْهَبْ أَنْتَ
وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (٤٢)
اذْهَبا
إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٤٣) فَقُولا لَهُ
قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) (٤٤)
يقول تعالى مخاطبا
لموسى عليهالسلام : إنه لبث مقيما في أهل مدين فارا من فرعون وملئه ، يرعى
على صهره حتى انتهت المدة وانقضى الأجل ، ثم جاء موافقا لقدر الله وإرادته من غير
ميعاد ، والأمر كله لله تبارك وتعالى ، وهو المسير عباده وخلقه فيما يشاء ، ولهذا
قال : (ثُمَّ جِئْتَ عَلى
قَدَرٍ يا مُوسى) قال مجاهد : أي على موعد. وقال عبد الرزاق عن معمر عن
قتادة في قوله : (ثُمَّ جِئْتَ عَلى
قَدَرٍ يا مُوسى) قال : على قدر الرسالة والنبوة . وقوله : (وَاصْطَنَعْتُكَ
لِنَفْسِي) أي اصطفيتك
واجتبيتك رسولا لنفسي أي كما أريد وأشاء.
وقال البخاري عند
تفسيرها : حدثنا الصلت بن محمد ، حدثنا مهدي بن ميمون ، حدثنا محمد بن سيرين عن
أبي هريرة عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «التقى آدم وموسى فقال موسى : أنت الذي أشقيت الناس
وأخرجتهم من الجنة ، فقال آدم : وأنت الذي اصطفاك الله برسالته واصطفاك لنفسه
وأنزل عليك التوراة؟ قال : نعم ، قال فوجدته مكتوبا عليّ قبل أن يخلقني ، قال :
نعم فحج آدم موسى» أخرجاه.
وقوله : (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي) أي بحججي وبراهيني ومعجزاتي (وَلا تَنِيا فِي
ذِكْرِي) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : لا تبطئا ، وقال مجاهد
عن ابن عباس : لا تضعفا ، والمراد أنهما لا يفتران في ذكر الله ، بل يذكران الله
في حال مواجهة فرعون ، ليكون ذكر الله عونا لهما عليه ، وقوة لهما وسلطانا كاسرا
له ، كما جاء في الحديث «إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني
__________________
وهو مناجز قرنه».
وقوله : (اذْهَبا إِلى
فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) أي تمرد وعتا وتجبر على الله وعصاه (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً
لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) هذه الآية فيها عبرة عظيمة ، وهو أن فرعون في غاية العتو
والاستكبار وموسى صفوة الله من خلقه إذ ذاك ، ومع هذا أمر أن لا يخاطب فرعون إلا
بالملاطفة واللين ، كما قال يزيد الرقاشي عند قوله : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً
لَيِّناً) : [رجز]
يا من يتحبب إلى
من يعاديه
|
|
فكيف بمن يتولاه
ويناديه؟
|
وقال وهب بن منبه
: قولا له إني إلى العفو والمغفرة أقرب مني إلى الغضب والعقوبة. وعن عكرمة في قوله
: (فَقُولا لَهُ قَوْلاً
لَيِّناً) قال : لا إله إلا الله ، وقال عمرو بن عبيد عن الحسن
البصري (فَقُولا لَهُ قَوْلاً
لَيِّناً) أعذرا إليه قولا له : إن لك ربا ولك معادا ، وإن بين يديك
جنة ونارا ، وقال بقية عن علي بن هارون عن رجل عن الضحاك بن مزاحم عن النزال بن
سبرة عن علي في قوله (فَقُولا لَهُ قَوْلاً
لَيِّناً) قال : كنه ، وكذا روي عن سفيان الثوري : كنه بأبي مرة ،
والحاصل من أقوالهم أن دعوتهما له تكون بكلام رقيق لين سهل رقيق ، ليكون أوقع في
النفوس وأبلغ وأنجع ، كما قال تعالى : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ
رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ
أَحْسَنُ) [النحل : ١٢٥].
وقوله : (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) أي لعله يرجع عما هو فيه من الضلال والهلكة ، أو يخشى أي
يوجد طاعة من خشية ربه ، كما قال تعالى : لمن أراد أن يذكر أو يخشى! فالتذكر الرجوع عن المحذور ، والخشية تحصيل الطاعة ، وقال
الحسن البصري : (لَعَلَّهُ
يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) يقول : لا تقل أنت يا موسى وأخوك هارون أهلكه قبل أن أعذر
إليه ، وهاهنا نذكر شعر زيد بن عمرو بن نفيل ، ويروى لأمية بن أبي الصلت فيما ذكره
ابن إسحاق : [الطويل]
وأنت الذي من
فضل منّ ورحمة
|
|
بعثت إلى موسى
رسولا مناديا
|
فقلت له : فاذهب
وهارون فادعوا
|
|
إلى الله فرعون
الذي كان باغيا
|
فقولا له : هل
أنت سويت هذه
|
|
بلا وتد حتى
استقلت كما هيا
|
وقولا له : آ
أنت رفعت هذه
|
|
بلا عمد أرفق
إذن بك بانيا
|
وقولا له : آ
أنت سويت وسطها
|
|
منيرا إذا ما
جنه الليل هاديا
|
وقولا له : من
يخرج الشمس بكرة
|
|
فيصبح ما مسّت
من الأرض ضاحيا
|
وقولا له : من
ينبت الحب في الثرى
|
|
فيصبح منه البقل
يهتز رابيا
|
ويخرج منه حبة
في رؤوسه؟
|
|
ففي ذاك آيات
لمن كان واعيا
|
وقوله عزوجل :
__________________
(قالا رَبَّنا إِنَّنا
نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (٤٥) قالَ لا تَخافا
إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (٤٦) فَأْتِياهُ فَقُولا
إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ
قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (٤٧)
إِنَّا
قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى)
(٤٨)
يقول تعالى إخبارا
عن موسى وهارون عليهماالسلام ، أنهما قالا مستجيرين بالله تعالى شاكيين إليه : (إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا
أَوْ أَنْ يَطْغى) يعنيان أن يبدر إليهما بعقوبة أو يعتدي عليهما ، فيعاقبهما
وهما لا يستحقان منه ذلك. قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : أن يفرط يعجل. وقال
مجاهد : يبسط علينا. وقال الضحاك عن ابن عباس أو أن يطغى : يعتدي (قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما
أَسْمَعُ وَأَرى) أي لا تخافا منه ، فإنني معكما أسمع كلامكما وكلامه ، وأرى
مكانكما ومكانه ، لا يخفى عليّ من أمركم شيء ، واعلما أن ناصيته بيدي ، فلا يتكلم
ولا يتنفس ولا يبطش إلا بإذني وبعد أمري ، وأنا معكما بحفظي ونصري وتأييدي.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبي ، حدثنا علي بن محمد الطنافسي ، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمرو
بن مرة ، عن أبي عبيدة عن عبد الله قال : لما بعث الله عزوجل موسى إلى فرعون قال : رب أي شيء أقول؟ قال : قل هيا
شراهيا. قال الأعمش : فسر ذلك : أنا الحي قبل كل شيء والحي بعد كل شيء ، إسناده جيد ، وشيء غريب (فَأْتِياهُ فَقُولا
إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ) قد تقدم في حديث الفتون عن ابن عباس أنه قال : مكثا على
بابه حينا لا يؤذن لهما حتى أذن لهما بعد حجاب شديد.
وذكر محمد بن
إسحاق بن يسار أن موسى وأخاه هارون خرجا فوقفا بباب فرعون يلتمسان الإذن عليه ،
وهما يقولان : إنا رسولا رب العالمين فآذنوا بنا هذا الرجل ، فمكثا فيما بلغني
سنتين يغدوان ويروحان لا يعلم بهما ولا يجترئ أحد على أن يخبره بشأنهما حتى دخل
عليه بطال له يلاعبه ويضحكه ، فقال له : أيها الملك إن على بابك رجلا يقول قولا
عجيبا يزعم أن له إلها غيرك أرسله إليك. قال ببابي؟ قال : نعم ، قال : أدخلوه ،
فدخل ومعه أخوه هارون وفي يده عصاه ، فلما وقف على فرعون قال : إني رسول رب
العالمين ، فعرفه فرعون.
وذكر السدي أنه
لما قدم بلاد مصر ضاف أمه وأخاه ، وهما لا يعرفانه ، وكان طعامهما ليلتئذ الطعثلل
وهو اللفت ، ثم عرفاه وسلما عليه ، فقال له موسى : يا هارون إن ربي قد أمرني أن
آتي هذا الرجل فرعون فأدعوه إلى الله وأمرك أن تعاونني. قال : افعل ما أمرك ربك ،
فذهبا وكان ذلك ليلا ، فضرب موسى باب القصر بعصاه فسمع فرعون ، فغضب وقال : من
يجترئ على هذا الصنيع الشديد ، فأخبره السدنة والبوابون بأن هاهنا رجلا مجنونا
يقول إنه رسول الله ، فقال علي به ، فلما وقفا بين يديه قالا وقال لهما ما ذكر
الله في كتابه.
__________________
وقوله : (قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ) أي بدلالة ومعجزة من ربك (وَالسَّلامُ عَلى مَنِ
اتَّبَعَ الْهُدى) أي والسلام عليك إن اتبعت الهدى ، ولهذا لما كتب رسول الله
صلىاللهعليهوسلم إلى هرقل عظيم الروم كتابا كان أوله «بسم الله الرحمن
الرحمن ، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم ، سلام على من اتبع الهدى ، أما
بعد ، فإني أدعوك بدعاية الإسلام ، فأسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين» وكذلك لما
كتب مسيلمة إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم كتابا صورته من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله ،
سلام عليك ، أما بعد فإني قد أشركتك في الأمر ، فلك المدر ولي الوبر ، ولكن قريشا
قوم يعتدون ، فكتب إليه رسول الله صلىاللهعليهوسلم «من محمد رسول
الله إلى مسيلمة الكذاب ، سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد فإن الأرض لله يورثها
من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين» ولهذا قال موسى وهارون عليهماالسلام لفرعون (وَالسَّلامُ عَلى
مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ
كَذَّبَ وَتَوَلَّى) أي قد أخبرنا الله فيما أوحاه إلينا من الوحي المعصوم أن
العذاب متمحض لمن كذب بآيات الله وتولى عن طاعته ، كما قال تعالى : (فَأَمَّا مَنْ طَغى وَآثَرَ الْحَياةَ
الدُّنْيا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى) [النازعات : ٣٧ ـ ٣٩]
وقال تعالى : (فَأَنْذَرْتُكُمْ
ناراً تَلَظَّى لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى) [الليل : ١٤ ـ ١٦]
وقال تعالى : (فَلا صَدَّقَ وَلا
صَلَّى وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) [القيامة : ٣١ ـ ٣٢]
أي كذب بقلبه ، وتولى بفعله.
(قالَ فَمَنْ
رَبُّكُما يا مُوسى (٤٩) قالَ رَبُّنَا
الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (٥٠)
قالَ
فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (٥١) قالَ عِلْمُها
عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى)
(٥٢)
يقول تعالى مخبرا
عن فرعون أنه قال لموسى منكرا وجود الصانع الخالق إله كل شيء وربه ومليكه ، قال (فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى) أي الذي بعثك وأرسلك من هو ، فإني لا أعرفه وما علمت لكم
من إله غيري (قالَ رَبُّنَا
الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى). قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : يقول خلق لكل شيء زوجه
. وقال الضحاك عن ابن عباس : جعل الإنسان إنسانا ، والحمار حمارا ، والشاة
شاة. وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد : أعطى كل شيء صورته. وقال ابن أبي نجيح عن
مجاهد : سوى خلق كل دابة.
وقال سعيد بن جبير
في قوله : (أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ
خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) قال : أعطى كل ذي خلق ما يصلحه من خلقه ، ولم يجعل للإنسان
من خلق الدابة ، ولا للدابة من خلق الكلب ، ولا للكلب من خلق الشاة ، وأعطى كل شيء
ما ينبغي له من النكاح ، وهيأ كل شيء على ذلك ، ليس شيء منها يشبه شيئا من أفعاله
في الخلق والرزق والنكاح. وقال بعض المفسرين : أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ، كقوله
تعالى : (الَّذِي قَدَّرَ
فَهَدى) [الأعلى : ٣] أي
قدر قدرا وهدى
__________________
الخلائق إليه ، أي
كتب الأعمال والآجال والأرزاق ، ثم الخلائق ماشون على ذلك لا يحيدون عنه ولا يقدر
أحد على الخروج منه.
يقول ربنا الذي
خلق الخلق وقدر القدر وجبل الخليفة على ما أراد (قالَ فَما بالُ
الْقُرُونِ الْأُولى) أصح الأقوال في معنى ذلك أن فرعون لما أخبره موسى بأن ربه
الذي أرسله هو الذي خلق ورزق ، وقدر فهدى ، شرع يحتج بالقرون الأولى ، أي الذين لم
يعبدوا الله ، أي فما بالهم إذا كان الأمر كذلك لم يعبدوا ربك بل عبدوا غيره ،
فقال له موسى في جواب ذلك ، هم وإن لم يعبدوه فإن عملهم عند الله مضبوط عليهم ،
وسيجزيهم بعملهم في كتاب الله ، وهو اللوح المحفوظ وكتاب الأعمال (لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى) أي لا يشذ عنه شيء ، ولا يفوته صغير ولا كبير ، ولا ينسى
شيئا يصف علمه تعالى بأنه بكل شيء محيط ، وأنه لا ينسى شيئا ، تبارك وتعالى وتقدس
وتنزه ، فإن علم المخلوق يعتريه نقصانان : أحدهما عدم الإحاطة بالشيء ، والآخر
نسيانه بعد علمه ، فنزه نفسه عن ذلك.
(الَّذِي جَعَلَ
لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ
السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (٥٣)
كُلُوا
وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (٥٤)
مِنْها
خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (٥٥) وَلَقَدْ أَرَيْناهُ
آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى)
(٥٦)
هذا من تمام كلام
موسى فيما وصف به ربه عزوجل حين سأله فرعون عنه ، فقال : (الَّذِي أَعْطى كُلَّ
شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) ثم اعترض الكلام بين ذلك ، ثم قال : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ
مَهْداً) وفي قراءة بعضهم مهادا أي قرارا تستقرون عليها ، وتقومون
وتنامون عليها ، وتسافرون على ظهرها (وَسَلَكَ لَكُمْ
فِيها سُبُلاً) أي جعل لكم طرقا تمشون في مناكبها كما قال تعالى : (وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً
لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) [الأنبياء : ٣١] (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً
فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى) أي من أنواع النباتات من زروع وثمار ، ومن حامض وحلو ومر
وسائر الأنواع (كُلُوا وَارْعَوْا
أَنْعامَكُمْ) أي شيء لطعامكم وفاكهتكم ، وشيء لأنعامكم لأقواتها خضرا
ويابسا (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ) أي لدلالات وحججا وبراهين (لِأُولِي النُّهى) أي لذوي العقول السليمة المستقيمة ، على أنه لا إله إلا
الله ولا رب سواه (مِنْها خَلَقْناكُمْ
وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) أي من الأرض مبدؤكم ، فإن أباكم آدم مخلوق من تراب من أديم
الأرض وفيها نعيدكم أي وإليها تصيرون إذا متم وبليتم ، ومنها نخرجكم تارة أخرى (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ
بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً) [الإسراء : ٥٢]
وهذه الآية كقوله تعالى : (قالَ فِيها
تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ) [الأعراف : ٢٥]
وفي الحديث الذي في السنن أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم حضر جنازة ، فلما دفن الميت أخذ قبضة من التراب فألقاها في
القبر وقال : منها خلقناكم ، ثم أخذ أخرى ، وقال : وفيها نعيدكم ، ثم أخرى ، وقال
: ومنها نخرجكم تارة أخرى. وقوله : (وَلَقَدْ أَرَيْناهُ
آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى) يعني فرعون أنه قامت
عليه الحجج
والآيات والدلالات ، وعاين ذلك وأبصره فكذب بها وأباها كفرا وعنادا وبغيا ، كما
قال تعالى : (وَجَحَدُوا بِها
وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) [النمل : ١٤]
الآية.
(قالَ أَجِئْتَنا
لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (٥٧)
فَلَنَأْتِيَنَّكَ
بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ
وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (٥٨) قالَ مَوْعِدُكُمْ
يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى)
(٥٩)
يقول تعالى مخبرا
عن فرعون أنه قال لموسى حين أراه الآية الكبرى ، وهي إلقاء عصاه فصارت ثعبانا
عظيما ، ونزع يده من تحت جناحه فخرجت بيضاء من غير سوء ، فقال : هذا سحر جئت به
لتسحرنا وتستولي به على الناس فيتبعونك ، وتكاثرنا بهم ولا يتم هذا معك ، فإن
عندنا سحرا مثل سحرك ، فلا يغرنك ما أنت فيه ، (فَاجْعَلْ بَيْنَنا
وَبَيْنَكَ مَوْعِداً) أي يوما نجتمع نحن وأنت فيه ، فنعارض ما جئت به بما عندنا
من السحر في مكان معين ووقت معين ، فعند ذلك (قالَ) لهم موسى (مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ
الزِّينَةِ) وهو يوم عيدهم ونيروزهم وتفرغهم من أعمالهم واجتماعهم جميعهم ، ليشاهد الناس قدرة
الله على ما يشاء ومعجزات الأنبياء وبطلان معارضة السحر لخوارق العادات النبوية ،
ولهذا قال : (وَأَنْ يُحْشَرَ
النَّاسُ) أي جميعهم (ضُحًى) أي ضحوة من النهار ، ليكون أظهر وأجلى وأبين وأوضح.
وهكذا شأن
الأنبياء كل أمرهم بين واضح ليس فيه خفاء ولا ترويج ، ولهذا لم يقل ليلا ولكن
نهارا ضحى ، قال ابن عباس : وكان يوم الزينة يوم عاشوراء. وقال السدي وقتادة وابن
زيد : كان يوم عيدهم. وقال سعيد بن جبير : كان يوم سوقهم ، ولا منافاة. قلت : وفي
مثله أهلك الله فرعون وجنوده ، كما ثبت في الصحيح ، وقال وهب بن منبه : قال فرعون
: يا موسى اجعل بيننا وبينك أجلا ننظر فيه. قال موسى لم أومر بهذا إنما أمرت
بمناجزتك إن أنت لم تخرج دخلت إليك ، فأوحى الله إلى موسى أن اجعل بينك وبينه أجلا
، وقل له أن يجعل هو ، قال فرعون : اجعله إلى أربعين يوما ففعل ، وقال مجاهد
وقتادة : مكانا سوى منصفا. وقال السدي : عدلا. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم :
مكانا سوى مستو بين الناس وما فيه لا يكون صوب ولا شيء يتغيب بعض ذلك عن بعض مستو
حين يرى.
(فَتَوَلَّى
فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (٦٠)
قالَ
لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ
بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (٦١) فَتَنازَعُوا
أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى(٦٢)
قالُوا
إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما
وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (٦٣)
فَأَجْمِعُوا
كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى)
(٦٤)
__________________
يقول تعالى مخبرا
عن فرعون أنه لما تواعد هو وموسى عليهالسلام إلى وقت ومكان معلومين تولى ، أي شرع في جمع السحرة من
مدائن مملكته ، كل من ينسب إلى السحر في ذلك الزمان ، وقد كان السحر فيهم كثيرا
نافقا جدا ، كما قال تعالى : (وَقالَ فِرْعَوْنُ
ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ) [القصص : ٧٩] (ثُمَّ أَتى) ، أي اجتمع الناس لميقات يوم معلوم وهو يوم الزينة ، وجلس
فرعون على سرير مملكته ، واصطف له أكابر دولته ، ووقفت الرعايا يمنة ويسرة ، وأقبل
موسى عليه الصلاة والسلام متوكئا على عصاه ومعه أخوه هارون ، ووقف السحرة بين يدي
فرعون صفوفا ، وهو يحرضهم ويحثهم ويرغبهم في إجادة عملهم في ذلك اليوم ، ويتمنون
عليه وهو يعدهم ويمنيهم ، يقولون (أَإِنَّ لَنا
لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ
الْمُقَرَّبِينَ) [الشعراء : ٤١ ـ ٤٢] (قالَ لَهُمْ مُوسى
وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً) أي لا تخيلوا للناس بأعمالكم إيجاد أشياء لا حقائق لها
وأنها مخلوقة ، وليست مخلوقة ، فتكونون قد كذبتم على الله (فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ) أي يهلككم بعقوبة هلاكا لا بقية له (وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى فَتَنازَعُوا
أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) قيل معناه أنهم تشاجروا فيما بينهم ، فقائل يقول ليس هذا
بكلام ساحر إنما هذا كلام نبي ، وقائل يقول بل هو ساحر ، وقيل غير ذلك ، والله
أعلم.
وقوله : (وَأَسَرُّوا النَّجْوى) أي تناجوا فيما بينهم (قالُوا إِنْ هذانِ
لَساحِرانِ) وهذه لغة لبعض العرب ، جاءت هذه القراءة على إعرابها ،
ومنهم من قرأ «إن هذين لساحران» وهذه اللغة المشهورة ، وقد توسع النحاة في الجواب
عن القراءة الأولى بما ليس هذا موضعه. والغرض أن السحرة قالوا فيما بينهم : تعلمون
أن هذا الرجل وأخاه ـ يعنون موسى وهارون ـ ساحران عالمان ، خبيران بصناعة السحر ،
يريدان في هذا اليوم أن يغلباكم وقومكم ويستوليا على الناس ، وتتبعهما العامة ،
ويقاتلا فرعون وجنوده ، فينتصرا عليه ، ويخرجاكم من أرضكم.
وقوله : (وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى) أي ويستبدا بهذه الطريقة وهي السحر ، فإنهم كانوا معظمين
بسببها لهم أموال وأرزاق عليها ، يقولون : إذا غلب هذان أهلكاكم وأخرجاكم من الأرض
، وتفردا بذلك وتمحضت لهما الرياسة بها دونكم ، وقد تقدم في حديث الفتون أن ابن
عباس قال في قوله : (وَيَذْهَبا
بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى) يعني ملكهم الذي هم فيه والعيش. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا
أبي ، حدثنا نعيم بن حماد ، حدثنا هشيم عن عبد الرحمن بن إسحاق ، سمع الشعبي يحدث
عن علي في قوله : (وَيَذْهَبا
بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى) قال : يصرفا وجوه الناس إليهما.
وقال مجاهد (وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى) قال : أولو الشرف والعقل والأسنان. وقال أبو صالح :
بطريقتكم المثلى أشرافكم وسرواتكم. وقال عكرمة : بخيركم. وقال قتادة : وطريقتهم
المثلى يومئذ بنو إسرائيل ، وكانوا أكثر القوم عددا وأموالا ، فقال عدو الله
يريدان أن يذهبا بها لأنفسهما. وقال عبد الرحمن بن زيد : بطريقتكم المثلى بالذي
أنتم عليه. (فَأَجْمِعُوا
كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا) أي اجتمعوا كلكم صفا واحدا ، وألقوا ما في أيديكم مرة
واحدة لتبهروا
الأبصار ، وتغلبوا
هذا وأخاه (وَقَدْ أَفْلَحَ
الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى) أي منا ومنه ، أما نحن فقد وعدنا هذا الملك العطاء الجزيل
، وأما هو فينال الرياسة العظيمة.
(قالُوا يا مُوسى
إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (٦٥) قالَ بَلْ أَلْقُوا
فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى
(٦٦) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (٦٧) قُلْنا لا تَخَفْ
إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (٦٨) وَأَلْقِ ما فِي
يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ
السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (٦٩) فَأُلْقِيَ
السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى)
(٧٠)
يقول تعالى مخبرا
عن السحرة حين توافقوا هم وموسى عليهالسلام ، أنهم قالوا لموسى (إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ) أي أنت أولا (وَإِمَّا أَنْ
نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى قالَ بَلْ أَلْقُوا) أي أنتم أولا لنرى ماذا تصنعون من السحر ، وليظهر للناس
جلية أمرهم (فَإِذا حِبالُهُمْ
وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) وفي الآية الأخرى أنهم لما ألقوا (قالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا
لَنَحْنُ الْغالِبُونَ) [الشعراء: ٤٤] وقال تعالى : (سَحَرُوا أَعْيُنَ
النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) [الأعراف : ١١٦]
وقال هاهنا : (فَإِذا حِبالُهُمْ
وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) وذلك أنهم أودعوها من الزئبق ما كانت تتحرك بسببه وتضطرب
وتميد ، بحيث يخيل للناظر أنها تسعى باختيارها ، وإنما كان حيلة ، وكانوا جما
غفيرا وجمعا كثيرا ، فألقى كل منهم عصا وحبلا حتى صار الوادي ملآن حيات يركب بعضها
بعضا.
وقوله : (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى) أي خاف على الناس أن يفتنوا بسحرهم ويغتروا بهم قبل أن
يلقي ما في يمينه ، فأوحى الله تعالى إليه في الساعة الراهنة أن ألق ما في يمينك
يعني عصاك ، فإذا هي تلقف ما صنعوا وذلك أنها صارت تنينا عظيما هائلا ذا قوائم
وعنق ورأس وأضراس ، فجعلت تتبع تلك الخبال والعصي حتى لم تبق منها شيئا إلا تلقفته
وابتلعته ، والسحرة والناس ينظرون إلى ذلك عيانا جهرة نهارا ضحوة ، فقامت المعجزة
واتضح البرهان ، ووقع الحق وبطل السحر ، ولهذا قال تعالى : (إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا
يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى).
وقال ابن أبي حاتم
حدثنا أبي حدثنا محمد بن موسى الشيباني حدثنا حماد بن خالد حدثنا ابن معاذ أحسبه
الصائغ عن الحسن عن جندب عن عبد الله البجلي قال : قال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم : «إذا أخذتم يعني الساحر فاقتلوه ثم قرأ (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى) قال : لا يؤمن به حيث وجد» وقد روى أصله الترمذي موقوفا ومرفوعا. فلما عاين السحرة
ذلك وشاهدوه ، ولهم خبرة بفنون السحر وطرقه ووجوهه علموا علم اليقين أن هذا الذي
فعله موسى ليس من قبيل السحر والحيل ، وأنه حق لا مرية فيه ، ولا يقدر على هذا إلا
الذي يقول للشيء كن فيكون ، فعند ذلك وقعوا سجدا لله ، و (قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ
رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) [الشعراء : ٤٧ ـ
__________________
٤٨] ، ولهذا قال
ابن عباس وعبيد بن عمير : كانوا أول النهار سحرة ، وفي آخر النهار شهداء بررة.
وقال محمد بن كعب : كانوا ثمانين ألفا ، وقال القاسم بن أبي بزة : كانوا سبعين
ألفا ، وقال السدي : بضعة وثلاثين ألفا ، وقال الثوري عن عبد العزيز بن رفيع عن
أبي ثمامة : كان سحرة فرعون تسعة عشر ألفا ، وقال محمد بن إسحاق : كانوا خمسة عشر
ألفا ، وقال كعب الأحبار : كانوا اثني عشر ألفا.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا محمد بن علي بن حمزة ، حدثنا علي بن الحسين بن واقد
عن أبيه عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس قال : كانت السحرة سبعين رجلا ،
أصبحوا سحرة ، وأمسوا شهداء. قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا المسيب بن واضح
بمكة ، حدثنا ابن المبارك قال : قال الأوزاعي : لما خر السحرة سجدا ، رفعت لهم الجنة
حتى نظروا إليها ، قال : وذكر عن سعيد بن سلام ، حدثنا إسماعيل بن عبد الله بن
سليمان عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير قوله : (فَأُلْقِيَ
السَّحَرَةُ سُجَّداً) قال : رأوا منازلهم تبنى لهم وهم في سجودهم ، وكذا قال
عكرمة والقاسم بن أبي بزة.
(قالَ آمَنْتُمْ لَهُ
قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ
فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ
فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (٧١) قالُوا لَنْ
نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما
أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (٧٢) إِنَّا آمَنَّا
بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ
وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى)
(٧٣)
يقول تعالى مخبرا
عن كفر فرعون وعناده وبغيه ومكابرته الحق بالباطل ، حين رأى ما رأى من المعجزة
الباهرة والآية العظيمة ، ورأى الذين قد استنصر بهم قد آمنوا بحضرة الناس كلهم ،
وغلب كل الغلب ، شرع في المكابرة والبهت ، وعدل إلى استعمال جاهه وسلطانه في
السحرة ، فتهددهم وتوعدهم وقال : (آمَنْتُمْ لَهُ) أي صدقتموه (قَبْلَ أَنْ آذَنَ
لَكُمْ) أي ما أمرتكم بذلك وأفتنم علي في ذلك ، وقال قولا يعلم هو
والسحرة والخلق كلهم أنه بهت وكذب (إِنَّهُ
لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) أي أنتم إنما أخذتم السحر عن موسى ، واتفقتم أنتم وإياه
علي وعلى رعيتي لتظهروه ، كما قال تعالى في الآية الأخرى : (إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي
الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) [الأعراف : ١٢٣] ،
ثم أخذ يتهددهم فقال : (فَلَأُقَطِّعَنَّ
أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ
النَّخْلِ) أي لأجعلنكم مثلة ، ولأقتلنكم ولأشهرنكم ، قال ابن عباس :
فكان أول من فعل ذلك ، ورواه ابن أبي حاتم.
وقوله (وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ
عَذاباً وَأَبْقى) أي أنتم تقولون : إني وقومي على ضلالة وأنتم مع موسى وقومه
على الهدى ، فسوف تعلمون من يكون له العذاب ويبقى فيه ، فلما صال عليهم بذلك
وتوعدهم ، هانت عليهم أنفسهم في الله عزوجل و (قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا
مِنَ
الْبَيِّناتِ) أي لن نختارك على ما حصل لنا من الهدى واليقين ، (وَالَّذِي فَطَرَنا) يحتمل أن يكون قسما ، ويحتمل أن يكون معطوفا على البينات ،
يعنون لا نختارك على فاطرنا وخالقنا الذي أنشأنا من العدم المبتدئ خلقنا من الطين
، فهو المستحق للعبادة والخضوع لا أنت.
(فَاقْضِ ما أَنْتَ
قاضٍ) أي فافعل ما شئت ، وما وصلت إليه يدك ، (إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ
الدُّنْيا) أي إنما لك تسلط في هذه الدار وهي دار الزوال ، ونحن قد
رغبنا في دار القرار (إِنَّا آمَنَّا
بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا) أي ما كان منا من الآثام خصوصا ما أكرهتنا عليه من الحسر
لتعارض به آية الله تعالى ومعجزة نبيه.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبي ، حدثنا نعيم بن حماد ، حدثنا سفيان بن عيينة عن أبي سعيد عن عكرمة عن
ابن عباس في قوله تعالى : (وَما أَكْرَهْتَنا
عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ) قال : أخذ فرعون أربعين غلاما من بني إسرائيل ، فأمر أن
يعلموا السحر بالفرماء ، وقال : علموهم تعليما لا يعلمه أحد في الأرض ، قال ابن
عباس : فهم من الذين آمنوا بموسى وهم من الذين قالوا : (آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا
خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ) وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
وقوله : (وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى) أي خير لنا منك وأبقى أي أدوم ثوابا مما كنت وعدتنا
ومنيتنا ، وهو رواية عن ابن إسحاق رحمهالله. وقال محمد بن كعب القرظي (وَاللهُ خَيْرٌ) أي لنا منك إن أطيع (وَأَبْقى) أي منك عذابا إن عصي ، وروي نحوه عن ابن إسحاق أيضا. والظاهر
أن فرعون ـ لعنه الله ـ صمم على ذلك ، وفعله بهم رحمة لهم من الله ، ولهذا قال ابن
عباس وغيره من السلف : أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء.
(إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ
رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى
(٧٤)
وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ
الدَّرَجاتُ الْعُلى (٧٥) جَنَّاتُ عَدْنٍ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى)
(٧٦)
الظاهر من السياق
أن هذا من تمام ما وعظ به السحرة لفرعون ، يحذرونه من نقمة الله وعذابه الدائم
السرمدي ، ويرغبونه في ثوابه الأبدي المخلد ، فقالوا : (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً) أي يلقى الله يوم القيامة وهو مجرم (فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ
فِيها وَلا يَحْيى) كقوله : (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ
فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ) [فاطر : ٣٦] وقال
: (وَيَتَجَنَّبُهَا
الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا
يَحْيى) [الأعلى : ١١ ـ ١٣]
وقال تعالى : (وَنادَوْا يا مالِكُ
لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) [الزخرف : ٧٧].
وقال الإمام أحمد
بن حنبل : حدثنا إسماعيل ، أخبرنا سعيد بن يزيد عن أبي نضرة عن أبي
سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أما أهل النار الذين هم أهلها ، فإنهم لا يموتون فيها
ولا يحيون ، ولكن أناس تصيبهم النار بذنوبهم فتميتهم إماتة حتى إذا صاروا فحما أذن
في
__________________
الشفاعة فجيء بهم
ضبائر ضبائر ، فبثوا على أنهار الجنة ، فيقال : يا أهل الجنة أفيضوا عليهم ،
فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل» فقال رجل من القوم : كأن رسول اللهصلىاللهعليهوسلم كان بالبادية ، وهكذا أخرجه مسلم في كتابه الصحيح من رواية شعبة وبشر بن
المفضل ، كلاهما عن أبي سلمة سعيد بن يزيد به.
وقال ابن أبي حاتم
: ذكر عن عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث قال : حدثنا أبي ، حدثنا حيان ،
سمعت سليمان التيمي عن أبي نضرة عن أبي سعيد أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم خطب فأتى على هذه الآية (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ
رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) قال النبيصلىاللهعليهوسلم : «أما أهلها الذين هم أهلها فلا يموتون فيها ولا يحيون ،
وأما الذين ليسوا من أهلها فإن النار تمسهم ثم يقوم الشفعاء فيشفعون ، فتجعل
الضبائر ، فيؤتى بهم نهرا يقال له الحياة أو الحيوان ، فينبتون كما ينبت العشب في
حميل السيل».
وقوله تعالى : (وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ
الصَّالِحاتِ) أي ومن لقي ربه يوم المعاد مؤمن القلب قد صدق ضميره بقوله
وعمله (فَأُولئِكَ لَهُمُ
الدَّرَجاتُ الْعُلى) أي الجنة ذات الدرجات العاليات ، والغرف الآمنات ،
والمساكن الطيبات.
قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، أنبأنا همام ، حدثنا زيد بن أسلم عن عطاء
بن يسار عن عبادة بن الصامت عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء
والأرض ، والفردوس أعلاها درجة ، ومنها تخرج الأنهار الأربعة ، والعرش فوقها ،
فإذا سألتهم الله فاسألوه الفردوس» ورواه الترمذي من حديث يزيد بن هارون عن همام به.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي ، أخبرنا خالد بن يزيد بن أبي مالك عن أبيه
قال : كان يقال : الجنة مائة درجة في كل درجة مائة درجة ، بين كل درجتين كما بين
السماء والأرض ، فيهن الياقوت والحلي ، في كل درجة أمير يرون له الفضل والسؤدد.
وفي الصحيحين : «إن
أهل عليين ليرون من فوقهم كما ترون الكوكب الغابر في أفق السماء لتفاضل ما بينهم ـ
قالوا يا رسول الله : تلك منازل الأنبياء قال ـ بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا
بالله وصدقوا المرسلين» وفي السنن : وإن أبا بكر وعمر لمنهم وأنعما . وقوله : (جَنَّاتُ عَدْنٍ) أي إقامة ، وهي بدل من الدرجات العلى (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ
__________________
خالِدِينَ
فِيها) أي ماكثين أبدا (وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ
تَزَكَّى) أي طهر نفسه من الدنس والخبث والشرك ، وعبد الله وحده لا
شريك له. واتبع المرسلين فيما جاءوا به من خير وطلب.
(وَلَقَدْ أَوْحَيْنا
إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ
يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (٧٧)
فَأَتْبَعَهُمْ
فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (٧٨) وَأَضَلَّ
فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى)
(٧٩)
يقول تعالى مخبرا
أنه أمر موسى عليهالسلام حين أبى فرعون أن يرسل معه بني إسرائيل أن يسري بهم في
الليل ، ويذهب بهم من قبضة فرعون ، وقد بسط الله هذا المقام في غير هذه السورة
الكريمة ، وذلك أن موسى لما خرج ببني إسرائيل أصبحوا وليس منهم بمصر لا داع ولا
مجيب ، فغضب فرعون غضبا شديدا ، وأرسل في المدائن حاشرين ، أي من يجمعون له الجند
من بلدانه ورساتيقه ، يقول : (إِنَّ هؤُلاءِ
لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ) [الشعراء : ٥٣ ـ ٥٥].
ثم لما جمع جنده
واستوسق له جيشه ، ساق في طلبهم فأتبعوهم مشرقين ، أي عند طلوع الشمس (فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ) أي نظر كل من الفريقين إلى الآخر (قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا
لَمُدْرَكُونَ قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الشعراء : ٦٠ ـ ٦٢]
ووقف موسى ببني إسرائيل البحر أمامهم ، وفرعون وراءهم ، فعند ذلك أوحى الله إليه
أن اضرب (لَهُمْ طَرِيقاً فِي
الْبَحْرِ يَبَساً) فضرب البحر بعصاه ، وقال : انفلق علي بإذن الله ، (فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ
كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) [الشعراء : ٦٣] ،
أي الجبل العظيم ، فأرسل الله الريح على أرض البحر فلفحته حتى صار يبسا كوجه الأرض
، فلهذا قال : (فَاضْرِبْ لَهُمْ
طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً) أي من فرعون (وَلا تَخْشى) يعني من البحر أن يغرق قومك ، ثم قال تعالى : (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ
فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِ) أي البحر (ما غَشِيَهُمْ) أي الذي هو معروف ومشهور ، وهذا يقال عند الأمر المعروف
المشهور ، كما قال تعالى : (وَالْمُؤْتَفِكَةَ
أَهْوى فَغَشَّاها ما غَشَّى) [النجم : ٥٤ ـ ٥٥]
وقال الشاعر : [رجز]
أنا أبو النجم وشعري شعري
أي الذي يعرف وهو
مشهور. وكما تقدمهم فرعون فسلك بهم في اليم فأضلهم وما هداهم إلى سبيل الرشاد ،
كذلك (يَقْدُمُ قَوْمَهُ
يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) [هود : ٩٨].
__________________
(يا بَنِي إِسْرائِيلَ
قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ
وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى
(٨٠) كُلُوا
مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ
غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (٨١) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ
لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى)
(٨٢)
يذكر تعالى نعمه
على بني إسرائيل العظام ومننه الجسام ، حيث أنجاهم من عدوهم فرعون ، وأقر أعينهم
منه وهم ينظرون إليه وإلى جنده قد غرقوا في صبيحة واحدة ، لم ينج منهم أحد ، كما
قال : (وَأَغْرَقْنا آلَ
فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) [البقرة : ٥٠]
وقال البخاري : حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا روح بن عبادة ، حدثنا شعبة ، حدثنا
أبو بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لما قدم رسول الله صلىاللهعليهوسلم المدينة ، وجد اليهود تصوم عاشوراء ، فسألهم فقالوا : هذا
اليوم الذي أظفر الله فيه موسى على فرعون ، فقال : «نحن أولى بموسى فصوموه» رواه مسلم أيضا في صحيحه.
ثم إنه تعالى واعد
موسى وبني إسرائيل بعد هلاك فرعون إلى جانب الطور الأيمن ، وهو الذي كلمه الله
تعالى عليه ، وسأل فيه الرؤية ، وأعطاه التوراة هنالك ، وفي غضون ذلك عبد بنو
إسرائيل العجل كما يقصه الله تعالى قريبا ، وأما المن والسلوى فقد تقدم الكلام على
ذلك في سورة البقرة وغيرها ، فالمن حلوى كانت تنزل عليهم من السماء ، والسلوى طائر
يسقط عليهم فيأخذون من كل قدر الحاجة إلى الغد ، لطفا من الله ورحمة بهم وإحسانا
إليهم ، ولهذا قال تعالى : (كُلُوا مِنْ
طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي) أي كلوا من هذا الرزق الذي رزقتكم ، ولا تطغوا في رزقي
فتأخذوه من غير حاجة ، وتخالفوا ما أمرتكم به (فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ
غَضَبِي) أي أغضب عليكم (وَمَنْ يَحْلِلْ
عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما : أي فقد
شقي. وقال شفي بن مانع : إن في جهنم قصرا يرمي الكافر من أعلاه ، فيهوي في جهنم
أربعين خريفا قبل أن يبلغ الصلصال ، وذلك قوله (وَمَنْ يَحْلِلْ
عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى) رواه ابن أبي حاتم.
وقوله : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ
وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) أي كل من تاب إلي ، تبت عليه من أي ذنب كان ، حتى أنه تاب
تعالى على من عبد العجل من بني إسرائيل. وقوله تعالى : (تابَ) أي رجع عما كان فيه من كفر أو شرك أو معصية أو نفاق. وقوله
: (وَآمَنَ) أي بقلبه. (وَعَمِلَ صالِحاً) أي بجوارحه. وقوله : (ثُمَّ اهْتَدى) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : أي ثم لم يشكك. وقال
سعيد بن جبير (ثُمَّ اهْتَدى) أي استقام على السنة والجماعة وروي نحوه عن
__________________
مجاهد والضحاك
وغير واحد من السلف وقال قتادة (ثُمَّ اهْتَدى) أي لزم الإسلام حتى يموت وقال سفيان الثوري (ثُمَّ اهْتَدى) أي علم أن لهذا ثوابا ، وثم هاهنا لترتيب الخبر على الخبر
، كقوله : (ثُمَّ كانَ مِنَ
الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) [البلد : ١٧].
(وَما أَعْجَلَكَ عَنْ
قَوْمِكَ يا مُوسى (٨٣) قالَ هُمْ أُولاءِ
عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (٨٤) قالَ فَإِنَّا قَدْ
فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (٨٥) فَرَجَعَ مُوسى إِلى
قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً
حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ
غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (٨٦) قالُوا ما
أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ
الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (٨٧) فَأَخْرَجَ لَهُمْ
عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (٨٨)
أَفَلا
يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا
نَفْعاً)
(٨٩)
لما سار موسى عليهالسلام ببني إسرائيل بعد هلاك فرعون (فَأَتَوْا عَلى
قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً
كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ
ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [الأعراف : ١٣٧ ـ ١٣٨]
وواعده ربه ثلاثين ليلة ، ثم أتبعها عشرا ، فتمت أربعين ليلة ، أي يصومها ليلا
ونهارا ، وقد تقدم في حديث الفتون بيان ذلك ، فسارع موسى عليهالسلام مبادرا إلى الطور ، واستخلف على بني إسرائيل أخاه هارون ،
ولهذا قال تعالى : (وَما أَعْجَلَكَ عَنْ
قَوْمِكَ يا مُوسى قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي) أي قادمون ينزلون قريبا من الطور (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى) أي لتزداد عنى رضا (قالَ فَإِنَّا قَدْ
فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ) أخبر تعالى نبيه موسى بما كان بعده من الحدث في بني
إسرائيل وعبادتهم العجل الذي عمله لهم ذلك السامري.
وفي الكتب
الإسرائيلية أنه كان اسمه هارون أيضا ، وكتب الله تعالى له في هذه المدة الألواح
المتضمنة للتوراة كما قال تعالى : (وَكَتَبْنا لَهُ فِي
الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها
بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ
الْفاسِقِينَ) [الأعراف : ١٤٥]
أي عاقبة الخارجين عن طاعتي المخالفين لأمري.
وقوله : (فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ
أَسِفاً) أي بعد ما أخبره تعالى بذلك في غاية الغضب والحنق عليهم ،
هو فيما هو فيه من الاعتناء بأمرهم ، وتسلم التوراة التي فيها شريعتهم ، وفيها شرف
لهم ، وهم قوم قد عبدوا غير الله ، ما يعلم كل عاقل له لب وحزم بطلان ما هم فيه
وسخافة عقولهم وأذهانهم ، ولهذا قال : رجع إليهم غضبان أسفا ، والأسف شدة الغضب.
وقال مجاهد : غضبان أسفا أي جزعا ، وقال قتادة والسدي : أسفا حزينا على ما صنع
قومه من بعده (قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ
يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً) أي أما وعدكم على لساني كل خير في
الدنيا والآخرة
وحسن العاقبة ، كما شاهدتم من نصرته إياكم على عدوكم وإظهاركم عليه وغير ذلك من
أيادي الله.
(أَفَطالَ عَلَيْكُمُ
الْعَهْدُ) أي في انتظار ما وعدكم الله ونسيان ما سلف من نعمه وما
بالعهد من قدم ، (أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ
يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ) أم هاهنا بمعنى بل ، وهي للإضراب عن الكلام الأول وعدول
إلى الثاني ، كأنه يقول : بل أردتم بصنيعكم هذا أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم
موعدي ، قالوا أي بنو إسرائيل في جواب ما أنبهم موسى وقرعهم (ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا) أي عن قدرتنا واختيارنا ، ثم شرعوا يعتذرون بالعذر البارد
، يخبرونه عن تورعهم عما كان بأيديهم من حلي القبط الذي كانوا قد استعاروه منهم
حين خرجوا من مصر ، فقذفناها أي ألقيناها عنا.
وقد تقدم في حديث
الفتون أن هارون عليهالسلام هو الذي كان أمرهم بإلقاء الحلي في حفرة فيها نار ، وهي في
رواية السدي عن أبي مالك عن ابن عباس ، إنما أراد هارون أن يجتمع الحلي كله في تلك
الحفيرة ، ويجعل حجرا واحدا ، حتى إذا رجع موسى عليهالسلام ، رأى فيه ما يشاء ثم جاء ذلك السامري فألقى عليها تلك
القبضة التي أخذها من أثر الرسول ، وسأل من هارون أن يدعو الله أن يستجيب له في
دعوته ، فدعا له هارون وهو لا يعلم ما يريد فأجيب له ، فقال السامري عند ذلك :
أسأل الله أن يكون عجلا ، فكان عجلا له خوار أي صوت استدراجا ، وإمهالا ومحنة
واختبارا ، ولهذا قال : (فَكَذلِكَ أَلْقَى
السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ).
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا محمد بن عبادة بن البختري ، حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا حماد عن سماك عن
سعيد بن جبير عن ابن عباس أن هارون مر بالسامري وهو ينحت العجل ، فقال له : ما
تصنع؟ فقال : أصنع ما يضر ولا ينفع ، فقال هارون : اللهم أعطه ما سأل على ما في
نفسه ، ومضى هارون. وقال السامري : اللهم إني أسألك ان يخور فخار ، فكان إذا خار
سجدوا له ، وإذا خار رفعوا رؤوسهم. ثم رواه من وجه آخر عن حماد وقال : أعمل ما
ينفع ولا يضر. وقال السدي كان يخور ويمشي فقالوا : أي الضّلال منهم الذين افتتنوا
بالعجل وعبدوه : (هذا إِلهُكُمْ
وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ) أي نسيه هاهنا وذهب يتطلبه ، كذا تقدم في حديث الفتون عن
ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وقال سماك عن عكرمة عن ابن عباس : (فَنَسِيَ) ، أي نسي أن يذكركم أن هذا إلهكم.
وقال محمد بن
إسحاق عن حكيم بن جبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فقال : (هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى) قال : فعكفوا عليه وأحبوه حبا لم يحبوا شيئا قط يعني مثله
، يقول الله: (فَنَسِيَ) أي ترك ما كان عليه من الإسلام يعني السامري. قال الله
تعالى ردا عليهم وتقريعا لهم وبيانا لفضيحتهم وسخافة عقولهم فيما ذهبوا إليه : (أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ
إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ
لَهُمْ
ضَرًّا وَلا نَفْعاً) أي العجل ، أفلا يرون أنه لا يجيبهم إذا سألوه ولا إذا
خاطبوه ، (وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ
ضَرًّا وَلا نَفْعاً) ، أي في دنياهم ولا في أخراهم. قال ابن عباس رضي الله
عنهما : لا والله ما كان خواره إلا أن يدخل الريح في دبره. فيخرج من فمه فيسمع له
صوت.
وقد تقدم في حديث
الفتون عن الحسن البصري أن هذا العجل اسمه بهموت ، وحاصل ما اعتذر به هؤلاء الجهلة
أنهم تورعوا عن زينة القبط فألقوها عنهم وعبدوا العجل ، فتورعوا عن الحقير وفعلوا
الأمر الكبير ، كما جاء في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمر أنه سأله رجل من أهل
العراق عن دم البعوض إذا أصاب الثوب ، يعني هل يصلي فيه أم لا؟ فقال ابن عمر رضي
الله عنهما : انظروا إلى أهل العراق ، قتلوا ابن بنت رسول الله يعني الحسين ، وهم
يسألون عن دم البعوضة .
(وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ
هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ
الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (٩٠) قالُوا لَنْ
نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى)
(٩١)
يخبر تعالى عما
كان من نهي هارون عليهالسلام لهم عن عبادتهم العجل وإخباره إياهم ، إنما هذا فتنة لكم
وإن ربكم الرحمن الذي خلق كل شيء فقدره تقديرا ، ذو العرش المجيد الفعال لما يريد (فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي) أي فيما آمركم به ، واتركوا ما أنهاكم عنه ، (قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ
عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى) أي لا نترك عبادته حتى نسمع كلام موسى فيه ، وخالفوا هارون
في ذلك وحاربوه وكادوا أن يقتلوه.
(قالَ يا هارُونُ ما
مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ
أَمْرِي (٩٣) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ
بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي
إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) (٩٤)
يخبر تعالى عن
موسى عليهالسلام حين رجع إلى قومه ، فرأى ما قد حدث فيهم من الأمر العظيم ،
فامتلأ عند ذلك غضبا وألقى ما كان في يده من الألواح الإلهية ، وأخذ برأس أخيه
يجره إليه ، وقد قدمنا في سورة الأعراف بسط ذلك ، وذكرنا هناك حديث «ليس الخبر
كالمعاينة» وشرع يلوم أخاه هارون ، فقال : (ما مَنَعَكَ إِذْ
رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ) أي فتخبرني بهذا الأمر أول ما وقع (أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) أي فيما كنت قدمت إليك ، وهو قوله : (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا
تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) [الأعراف : ١٤٢].
(قالَ يَا بْنَ أُمَ) ترقق له بذكر الأم مع أنه شقيقه لأبويه ، لأن ذكر الأم
هاهنا أرق وأبلغ في الحنو والعطف ، ولهذا قال : (يَا بْنَ أُمَّ لا
تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي) الآية ، هذا اعتذار من هارون عند موسى في سبب تأخره عنه
حيث لم يلحقه فيخبره بما كان من هذا الخطب
__________________
الجسيم ، قال : (إِنِّي خَشِيتُ) أن أتبعك فأخبرك بهذا ، فتقول لي لم تركتهم وحدهم وفرقت
بينهم (وَلَمْ تَرْقُبْ
قَوْلِي) أي وما راعيت ما أمرتك به حيث استخلفتك فيهم ، قال ابن
عباس: وكان هارون هائبا مطيعا له .
(قالَ فَما خَطْبُكَ
يا سامِرِيُّ (٩٥) قالَ بَصُرْتُ بِما
لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها
وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (٩٦) قالَ فَاذْهَبْ
فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ
تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً
لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (٩٧)
إِنَّما
إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً)
(٩٨)
يقول موسى عليهالسلام للسامري : ما حملك على ما صنعت؟ وما الذي عرض لك حتى فعلت
ما فعلت؟ قال محمد بن إسحاق عن حكيم بن جبير ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال :
كان السامري رجلا من اهل باجرما ، وكان من قوم يعبدون البقر ، وكان حب عبادة البقر
في نفسه ، وكان قد أظهر الإسلام مع بني إسرائيل ، وكان اسمه موسى بن ظفر ، وفي
رواية عن ابن عباس أنه كان من كرمان ، وقال قتادة : كان من قرية سامرا.
(قالَ بَصُرْتُ بِما
لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ) أي رأيت جبريل حين جاء لهلاك فرعون (فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ
الرَّسُولِ) أي من أثر فرسه ، وهذا هو المشهور عند كثير من المفسرين أو
أكثرهم.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا محمد بن عمار بن الحارث ، أخبرني عبيد الله بن موسى ، أخبرنا إسرائيل عن
السدي عن أبي بن عمارة عن علي رضي الله عنه قال : إن جبريل عليهالسلام لما نزل فصعد بموسى عليهالسلام إلى السماء ، بصر به السامري من بين الناس ، فقبض قبضة من
أثر الفرس ، قال : وحمل جبريل موسى عليهماالسلام خلفه حتى إذا دنا من باب السماء صعد وكتب الله الألواح ،
وهو يسمع صرير الأقلام في الألواح ، فلما أخبره أن قومه قد فتنوا من بعده قال :
نزل موسى فأخذ العجل فأحرقه ، غريب.
وقال مجاهد : (فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ
الرَّسُولِ) قال : من تحت حافر فرس جبريل ، قال : والقبضة ملء الكف ،
والقبضة بأطراف الأصابع ، قال مجاهد : نبذ السامري ، أي ألقى ما كان في يده على
حلية بني إسرائيل ، فانسبك عجلا جسدا له خوار حفيف الريح فيه فهو خواره. وقال ابن
أبي حاتم : حدثنا محمد بن يحيى ، أخبرنا علي بن المديني ، حدثنا يزيد بن زريع ،
حدثنا عمارة ، حدثنا عكرمة أن السامري رأى الرسول ، فألقي في روعه أنك إن أخذت من
أثر هذا الفرس قبضة فألقيتها في شيء فقلت له كن فكان ، فقبض قبضة من أثر الرسول
فيبست
__________________
أصابعه على القبضة
، فلما ذهب موسى للميقات.
وكان بنو إسرائيل
قد استعاروا حلي آل فرعون ، فقال لهم السامري : إنما أصابكم من أجل هذا الحلي ،
فاجمعوه فجمعوه ، فأوقدوا عليه فذاب ، فرآه السامري فألقي في روعه أنك لو قذفت هذه
القبضة في هذه فقلت كن فيكون ، فقذف القبضة وقال كن فكان عجلا جسدا له خوار ، فقال
: (هذا إِلهُكُمْ
وَإِلهُ مُوسى) ولهذا قال (فَنَبَذْتُها) أي ألقيتها مع من ألقى (وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ
لِي نَفْسِي) أي حسنته وأعجبها ، إذا ذاك (قالَ فَاذْهَبْ
فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ) أي كما أخذت ومسست ما لم يكن لك أخذه ومسه من أثر الرسول
فعقوبتك في الدنيا أن تقول لا مساس ، أي لا تماس الناس ولا يمسونك (وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً) أي يوم القيامة (لَنْ تُخْلَفَهُ) أي لا محيد لك عنه. وقال قتادة (أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ) قال : عقوبة لهم وبقاياهم اليوم يقولون لا مساس .
وقوله : (وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ) قال الحسن وقتادة وأبو نهيك : لن تغيب عنه. وقوله : (وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ) أي معبودك (الَّذِي ظَلْتَ
عَلَيْهِ عاكِفاً) أي أقمت على عبادته يعني العجل (لَنُحَرِّقَنَّهُ) قال الضحاك عن ابن عباس والسدي : سحله بالمبارد وألقاه على
النار. وقال قتادة : استحال العجل من الذهب لحما ودما ، فحرقه بالنار ، ثم القى
رماده في البحر ، ولهذا قال : (ثُمَّ
لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً). وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن رجاء
، أنبأنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمارة بن عبد وأبي عبد الرحمن عن علي رضي الله
عنه قال : إن موسى لما تعجل إلى ربه عمد السامري فجمع ما قدر عليه من حلي نساء بني
إسرائيل ، ثم صوره عجلا ، قال : فعمد موسى إلى العجل فوضع عليه المبارد ، فبرده
بها وهو على شط نهر ، فلم يشرب أحد من ذلك الماء ممن كان يعبد العجل إلا اصفر وجهه
مثل الذهب ، فقالوا لموسى : ما توبتنا؟ قال : يقتل بعضكم بعضا ، وهكذا قال السدي ،
وقد تقدم في تفسير سورة البقرة ، ثم في حديث الفتون بسط ذلك.
وقوله تعالى : (إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا
إِلهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) يقول لهم موسى عليهالسلام : ليس هذا إلهكم ، إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو ،
ولا تنبغي العبادة إلا له ، فإن كل شيء فقير إليه عبد له. وقوله : (وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) نصب على التمييز ، أي هو عالم بكل شيء ، (أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) [الطلاق : ١٢] ، و
(أَحْصى كُلَّ شَيْءٍ
عَدَداً) [الجن : ٢٨] ، فلا
(يَعْزُبُ عَنْهُ
مِثْقالُ ذَرَّةٍ) [سبأ : ٣] ، (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا
يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا
فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [الأنعام : ٥٩] ، (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ
إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي
كِتابٍ مُبِينٍ) [هود : ٦] ،
والآيات
__________________
في هذا كثيرة جدا.
(كَذلِكَ نَقُصُّ
عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (٩٩) مَنْ أَعْرَضَ
عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (١٠٠)
خالِدِينَ
فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً)
(١٠١)
يقول تعالى لنبيه
محمد صلىاللهعليهوسلم : كما قصصنا عليك خبر موسى وما جرى له مع فرعون وجنوده على
الجلية والأمر الواقع ، كذلك نقص عليك الأخبار الماضية كما وقعت من غير زيادة ولا
نقص ، هذا وقد آتيناك من لدنا ، أي من عندنا ذكرا ، وهو القرآن العظيم الذي (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ
يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت : ٤٢] ،
الذي لم يعط نبي من الأنبياء منذ بعثوا إلى أن ختموا بمحمد صلىاللهعليهوسلم كتابا مثله ، ولا أكمل منه ، ولا أجمع لخبر ما سبق وخبر ما
هو كائن ، وحكم الفصل بين الناس منه.
ولهذا قال تعالى :
(مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ) أي كذب به وأعرض عن اتباعه أمرا وطلبا ، وابتغى الهدى من
غيره ، فإن الله يضله ويهديه إلى سواء الجحيم ، ولهذا قال : (مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ
يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً) أي إثما كما قال تعالى : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ
مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) [هود : ١٧] وهذا
عام في كل من بلغه القرآن من العرب والعجم أهل الكتاب وغيرهم ، كما قال : (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) [الأنعام : ١٩]
فكل من بلغه القرآن فهو نذير له وداع ، فمن اتبعه هدي ومن خالفه وأعرض عنه ، ضل
وشقي في الدنيا والنار موعده يوم القيامة ، ولهذا قال : (مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ
يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً خالِدِينَ فِيهِ) أي لا محيد لهم عنه ولا انفكاك (وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ
حِمْلاً) أي بئس الحمل حملهم.
(يَوْمَ يُنْفَخُ فِي
الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (١٠٢) يَتَخافَتُونَ
بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (١٠٣) نَحْنُ أَعْلَمُ
بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ
يَوْماً)
(١٠٤)
ثبت في الحديث أن
رسول الله صلىاللهعليهوسلم سئل عن الصور ، فقال : «قرن ينفخ فيه» . وقد جاء في حديث الصور من رواية أبي هريرة أنه قرن عظيم ،
الدائرة منه بقدر السموات والأرض ، ينفخ فيه إسرافيل عليهالسلام وجاء في الحديث «كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى
جبهته ، وانتظر أن يؤذن له» فقالوا : يا رسول الله كيف نقول؟ قال «قولوا : حسبنا
الله ونعم الوكيل على الله توكلنا» .
__________________
وقوله : (وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ
زُرْقاً) قيل : معناه زرق العيون من شدة ما هم فيه من الأهوال (يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ) قال ابن عباس : يتسارون بينهم ، أي يقول بعضهم لبعض : إن
لبثتم إلا عشرا أي في الدار الدنيا ، لقد كان لبثكم فيها قليلا عشرة أيام أو نحوها
، قال الله تعالى : (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما
يَقُولُونَ) أي في حال تناجيهم بينهم (إِذْ يَقُولُ
أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً) أي العاقل الكامل فيهم (إِنْ لَبِثْتُمْ
إِلَّا يَوْماً) أي لقصر مدة الدنيا في أنفسهم يوم المعاد ، لأن الدنيا
كلها وإن تكررت أوقاتها وتعاقبت لياليها وأيامها وساعاتها ، كأنها يوم واحد ،
ولهذا يستقصر الكافرون مدة الحياة الدنيا يوم القيامة ، وكان غرضهم في ذلك درء
قيام الحجة عليهم لقصر المدة ، ولهذا قال تعالى : (وَيَوْمَ تَقُومُ
السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ ـ إلى قوله ـ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [الروم : ٥٥ ـ ٥٦]
وقال تعالى : (أَوَلَمْ
نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ) [فاطر : ٣٧] الآية
، وقال تعالى : (كَمْ لَبِثْتُمْ فِي
الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ
الْعادِّينَ قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ) [المؤمنون : ١١٢ ـ
١١٤] أي إنما كان لبثكم فيها قليلا ، لو كنتم تعلمون لآثرتم الباقي على الفاني ،
ولكن تصرفتم فاسأتم التصرف ، قدمتم الحاضر الفاني على الدائم الباقي.
(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (١٠٥) فَيَذَرُها قاعاً
صَفْصَفاً (١٠٦) لا تَرى فِيها
عِوَجاً وَلا أَمْتاً (١٠٧) يَوْمَئِذٍ
يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا
تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً)
(١٠٨)
يقول تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ) أي هل تبقى يوم القيامة أو تزول؟ (فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً) أي يذهبها عن أماكنها ويمحقها ويسيرها تسييرا (فَيَذَرُها) أي الأرض (قاعاً صَفْصَفاً) أي بساطا واحدا ، والقاع هو المستوي من الأرض ، والصفصف
تأكيد لمعنى ذلك ، وقيل الذي لا نبات فيه ، والأول أولى وإن كان الآخر مرادا أيضا
باللازم ، ولهذا قال : (لا تَرى فِيها
عِوَجاً وَلا أَمْتاً) أي لا ترى في الأرض يومئذ واديا ولا رابية ولا مكانا
منخفضا ولا مرتفعا ، كذا قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد والحسن البصري والضحاك وقتادة
وغير واحد من السلف.
(يَوْمَئِذٍ
يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ) أي يوم يرون هذه الأحوال والأهوال يستجيبون مسارعين إلى
الداعي حيثما أمروا بادروا إليه ، ولو كان هذا في الدنيا لكان أنفع لهم ولكن حيث
لا ينفعهم ، كما قال تعالى : (أَسْمِعْ بِهِمْ
وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا) [مريم : ٣٨] وقال
: (مُهْطِعِينَ إِلَى
الدَّاعِ) [القمر : ١٠٥]
وقال محمد بن كعب القرظي : يحشر الله الناس يوم القيامة في ظلمة ، ويطوي السماء ،
وتتناثر النجوم ، وتذهب الشمس والقمر ، وينادي مناد ، فيتبع الناس الصوت يؤمونه ،
فذلك قوله : (يَوْمَئِذٍ
يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ) وقال قتادة : لا عوج له ، لا يميلون
عنه. وقال أبو
صالح : لا عوج له أي لا عوج عنه.
وقوله : (وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ) قال ابن عباس : سكنت ، وكذا قال السدي (فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً) قال سعيد بن جبير عن ابن عباس : يعني وطء الأقدام ، وكذا
قال عكرمة ومجاهد والضحاك والربيع بن أنس وقتادة وابن زيد وغيرهم. وقال علي بن أبي
طلحة عن ابن عباس (فَلا تَسْمَعُ إِلَّا
هَمْساً) الصوت الخفي ، وهو رواية عن عكرمة والضحاك. وقال سعيد بن
جبير (فَلا تَسْمَعُ إِلَّا
هَمْساً) الحديث وسره ووطء الأقدام ، فقد جمع سعيد كلا القولين ،
وهو محتمل ، أما وطء الأقدام فالمراد سعي الناس إلى المحشر ، وهو مشيهم في سكون
وخضوع ، وأما الكلام الخفي فقد يكون في حال دون حال ، فقد قال تعالى : (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ
إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) [هود : ١٠٥].
(يَوْمَئِذٍ لا
تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (١٠٩) يَعْلَمُ ما بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (١١٠)
وَعَنَتِ
الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (١١١)
وَمَنْ
يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً)
(١١٢) يقول تعالى : (يَوْمَئِذٍ) أي يوم القيامة (لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ) أي عنده (إِلَّا مَنْ أَذِنَ
لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) كقوله : (مَنْ ذَا الَّذِي
يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [البقرة : ٢٥٥] ،
وقوله : (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ
فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ
اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) [النجم : ٢٦] ،
وقال : (وَلا يَشْفَعُونَ
إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) [الأنبياء : ٢٨]. وقال
: (وَلا تَنْفَعُ
الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) [سبأ : ٢٣] ، وقال
: (يَوْمَ يَقُومُ
الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ
الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) [النبأ : ٣٨].
وفي الصحيحين من
غير وجه عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو سيد ولد آدم ، وأكرم الخلائق على الله عزوجل أنه قال «آتي تحت العرش ، وأخر لله ساجدا ، ويفتح علي
بمحامد لا أحصيها الآن ، فيدعني ما شاء أن يدعني ، ثم يقول : يا محمد ارفع رأسك
وقل تسمع ، واشفع تشفع ـ فيحد لي حدا ، فأدخلهم الجنة ثم أعود» فذكر أربع مرات ،
صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر الأنبياء.
وفي الحديث أيضا «يقول
تعالى أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان ، فيخرجون خلقا كثيرا ،
ثم يقول أخرجوا من النار من كان في قلبه نصف مثقال من إيمان ، أخرجوا من النار من
كان في قلبه ما يزن ذرة ، من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من
__________________
إيمان» الحديث.
وقوله : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما
خَلْفَهُمْ) أي يحيط علما بالخلائق كلهم (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ
عِلْماً) كقوله : (وَلا يُحِيطُونَ
بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ) [البقرة : ٢٥٥].
وقوله : (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ
لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) قال ابن عباس وغير واحد : خضعت وذلت واستسلمت الخلائق
لجبارها الحي الذي لا يموت ، القيوم الذي لا ينام ، وهو قيم على كل شيء يدبره
ويحفظه ، فهو الكامل في نفسه ، الذي كل شيء فقير إليه لا قوام له إلا به. وقوله : (وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) أي يوم القيامة ، فإن الله سيؤدي كل حق إلى صاحبه حتى يقتص
للشاة الجماء من الشاة القرناء ، وفي الحديث «يقول الله عزوجل : وعزتي وجلالي لا يجاوزني اليوم ظلم ظالم» وفي الصحيح «إياكم
والظلم ، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة» ، والخيبة كل الخيبة من لقي الله وهو به مشرك ، فإن الله
تعالى يقول : (إِنَّ الشِّرْكَ
لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣].
وقوله : (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ
الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً) لما ذكر الظالمين ووعيدهم ، ثنى بالمتقين وحكمهم ، وهو
أنهم لا يظلمون ولا يهضمون ، أي لا يزاد في سيئاتهم ولا ينقص من حسناتهم ، قاله
ابن عباس ومجاهد والضحاك والحسن وقتادة وغير واحد ، فالظلم الزيادة بأن يحمل عليه
ذنب غيره ، والهضم النقص.
(وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ
قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ
أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً(١١٣) فَتَعالَى اللهُ
الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ
وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً)
(١١٤)
يقول تعالى : ولما
كان يوم المعاد والجزاء بالخير والشر واقعا لا محالة ، أنزلنا القرآن بشيرا ونذيرا
بلسان عربي مبين فصيح لا لبس فيه ولا عي ، (وَصَرَّفْنا فِيهِ
مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أي يتركون المآثم والمحارم والفواحش (أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً) وهو إيجاد الطاعة وفعل القربات (فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُ) أي تنزه وتقدس الملك الحق الذي هو حق ووعده حق ، ووعيده حق
ورسله حق ، والجنة حق والنار حق وكل شيء منه حق ، وعدله تعالى أن لا يعذب أحدا قبل
الإنذار وبعثة الرسل ، والإعذار إلى خلقه لئلا يبقى لأحد حجة ولا شبهة.
وقوله : (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ
أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) ، كقوله تعالى في سورة لا أقسم بيوم القيامة (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ
بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) [القيامة : ١٦ ـ ١٩]
وثبت في الصحيح عن ابن عباس أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، كان يعالج
__________________
من الوحي شدة ،
فكان مما يحرك به لسانه ، فأنزل الله هذه الآية يعني أنه عليهالسلام كان إذا جاءه جبريل بالوحي ، كلما قال جبريل آية قالها معه
من شدة حرصه على حفظ القرآن ، فأرشده الله تعالى إلى ما هو الأسهل والأخف في حقه
لئلا يشق عليه ، فقال : (لا تُحَرِّكْ بِهِ
لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) أي أن نجمعه في صدرك ، ثم تقرأه على الناس من غير أن تنسى
منه شيئا (فَإِذا قَرَأْناهُ
فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) وقال في هذه الآية (وَلا تَعْجَلْ
بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) أي بل أنصت ، فإذا فرغ الملك من قراءته عليك فاقرأه بعده (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) أي زدني منك علما ، قال ابن عيينة رحمهالله ولم يزل صلىاللهعليهوسلم في زيادة حتى توفاه الله عزوجل ، ولهذا جاء في الحديث «إن الله تابع الوحي على رسوله ،
حتى كان الوحي أكثر ما كان يوم توفي رسول الله صلىاللهعليهوسلم» وقال ابن ماجة : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا عبد
الله بن نمير عن موسى بن عبيدة ، عن محمد بن ثابت ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال
: كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول «اللهم انفعني بما علمتني ، وعلمني ما ينفعني ، وزدني
علما ، والحمد لله على كل حال» . وأخرجه الترمذي عن أبي كريب ، عن عبد الله بن نمير به.
وقال : غريب من هذا الوجه ، ورواه البزار عن عمرو بن علي الفلاس ، عن أبي عاصم ،
عن موسى بن عبيدة به ، وزاد في آخره «وأعوذ بالله من حال أهل النار».
(وَلَقَدْ عَهِدْنا
إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (١١٥)
وَإِذْ
قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (١١٦)
فَقُلْنا
يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ
الْجَنَّةِ فَتَشْقى (١١٧) إِنَّ لَكَ أَلاَّ
تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (١١٨)
وَأَنَّكَ
لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (١١٩) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ
الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا
يَبْلى (١٢٠) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما
سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ
رَبَّهُ فَغَوى (١٢١) ثُمَّ اجْتَباهُ
رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى)
(١٢٢)
قال ابن أبي حاتم
: حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا أسباط بن محمد ، حدثنا الأعمش عن سعيد بن جبير ، عن
ابن عباس قال : إنما سمي الإنسان لأنه عهد إليه فنسي ، وكذا رواه علي بن أبي طلحة
عنه. وقال مجاهد والحسن : ترك. وقوله : (وَإِذْ قُلْنا
لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) يذكر تعالى تشريف آدم ، وتكريمه وما فضله به على كثير ممن
خلق تفضيلا ، وقد تقدم الكلام على هذه القصة في سورة البقرة وفي الأعراف وفي الحجر
والكهف ، وسيأتي في آخر سورة
__________________
(ص) يذكر تعالى فيها خلق آدم وأمره الملائكة بالسجود له تشريفا
وتكريما ، ويبين عداوة إبليس لبني آدم ولأبيهم قديما ، ولهذا قال تعالى : (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى) أي امتنع واستكبر (فَقُلْنا يا آدَمُ
إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ) يعني حواء عليهماالسلام (فَلا يُخْرِجَنَّكُما
مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى) أي إياك أن تسعى في إخراجك منها فتتعب وتعنى وتشقى في طلب
رزقك ، فإنك هاهنا في عيش رغيد هنيء بلا كلفة ولا مشقة (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا
تَعْرى) إنما قرن بين الجوع والعري ، لأن الجوع ذل الباطن ، والعري
ذل الظاهر ، (وَأَنَّكَ لا
تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى) وهذان أيضا متقابلان ، فالظمأ حر الباطن وهو العطش ، والضحى
حر الظاهر.
وقوله : (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ
يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى) قد تقدم أنه دلاهما بغرور (وَقاسَمَهُما إِنِّي
لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) [الأعراف : ٢١]
وقد تقدم أن الله تعالى عهد إلى آدم وزوجه أن يأكلا من كل الثمار ولا يقربا هذه
الشجرة المعينة في الجنة ، فلم يزل بهما إبليس حتى أكلا منها وكانت شجرة الخلد ،
يعني التي من أكل منها خلد ودام مكثه ، وقد جاء في الحديث ذكر شجرة الخلد ، فقال
أبو داود الطيالسي : حدثنا شعبة عن أبي الضحاك ، سمعت أبا هريرة يحدث عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام ما
يقطعها ، وهي شجرة الخلد» ورواه الإمام أحمد .
وقوله : (فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما
سَوْآتُهُما) قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين بن إشكاب ، حدثنا
علي بن عاصم عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن أبي بن كعب قال :
قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن الله خلق آدم رجلا طوالا كثير شعر الرأس ، كأنه نخلة
سحوق ، فلما ذاق الشجرة سقط عنه لباسه ، فأول ما بدا منه عورته ، فلما نظر إلى
عورته جعل يشتد في الجنة ، فأخذت شعره شجرة فنازعها ، فناداه الرحمن : يا آدم مني
تفر ، فلما سمع كلام الرحمن قال : يا رب لا ، ولكن استحياء ، أرأيت إن تبت ورجعت أعائدي
إلى الجنة؟ قال : نعم» فذلك قوله : (فَتَلَقَّى آدَمُ
مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ) [البقرة : ٣٧]
وهذا منقطع بين الحسن وأبي بن كعب ، فلم يسمعه منه ، وفي رفعه نظر أيضا.
وقوله : (وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ
وَرَقِ الْجَنَّةِ) قال مجاهد : يرقعان كهيئة الثوب ، وكذا قال قتادة والسدي.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا جعفر بن عون ، حدثنا سفيان عن ابن أبي ليلى ، عن المنهال
، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس (وَطَفِقا يَخْصِفانِ
عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) قال : ينزعان ورق التين فيجعلانه على سوآتهما. وقوله : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى ثُمَّ
اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) قال البخاري : حدثنا قتيبة ، حدثنا أيوب بن النجار عن يحيى
بن أبي كثير ،
__________________
عن أبي سلمة ، عن
أبي هريرة ، عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «حاج موسى آدم ، فقال له : أنت الذي أخرجت الناس من
الجنة بذنبك وأشقيتهم؟ قال آدم : يا موسى ، أنت الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه
، أتلومني على أمر كتبه الله علي قبل أن يخلقني أو قدره الله عليّ قبل أن يخلقني؟
ـ قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم ـ فحج آدم موسى» ، وهذا الحديث له طرق في الصحيحين وغيرهما من المسانيد.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني أنس بن عياض عن الحارث بن
أبي ذئاب ، عن يزيد بن هرمز قال : سمعت أبا هريرة يقول : قال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم : «احتج آدم وموسى عند ربهما ، فحج آدم موسى ، قال موسى :
أنت الذي خلقك الله بيده ، ونفخ فيك من روحه ، وأسجد لك ملائكته ، وأسكنك في جنته
، ثم أهبطت الناس إلى الأرض بخطيئتك ، قال آدم : أنت موسى الذي اصطفاك الله
برسالته وكلامه ، وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء ، وقربك نجيا ، فبكم وجدت الله
كتب التوراة قبل أن أخلق؟ قال موسى : بأربعين عاما ، قال آدم : فهل وجدت فيها وعصى
آدم ربه فغوى؟ قال : نعم ، قال : أفتلومني على أن عملت عملا كتب الله علي أن أعمله
قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم ـ فحج آدم موسى» ، قال الحارث : وحدثني عبد الرحمن بن هرمز
بذلك عن أبي هريرة عن النبي صلىاللهعليهوسلم.
(قالَ اهْبِطا مِنْها
جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً
فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (١٢٣)
وَمَنْ
أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ
الْقِيامَةِ أَعْمى (١٢٤) قالَ رَبِّ لِمَ
حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (١٢٥) قالَ كَذلِكَ
أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى)
(١٢٦)
يقول تعالى لآدم
وحواء وإبليس : اهبطوا منها جميعا ، أي من الجنة كلكم ، وقد بسطنا ذلك في سورة
البقرة (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ
عَدُوٌّ) قال : آدم وذريته ، وإبليس وذريته. وقوله : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) قال أبو العالية : الأنبياء والرسل والبيان (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ
وَلا يَشْقى) قال ابن عباس : لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي) أي خالف أمري وما أنزلته على رسولي أعرض عنه وتناساه وأخذ
من غيره هداه (فَإِنَّ لَهُ
مَعِيشَةً ضَنْكاً) أي ضنكا في الدنيا ، فلا طمأنينة له ولا انشراح لصدره ، بل
صدره ضيق حرج لضلاله ، وإن تنعم ظاهره ولبس ما شاء وأكل ما شاء وسكن حيث شاء ، فإن
قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى فهو في قلق وحيرة وشك ، فلا يزال في ريبة يتردد
فهذا من ضنك المعيشة.
قال علي بن أبي
طلحة عن ابن عباس (فَإِنَّ لَهُ
مَعِيشَةً ضَنْكاً) قال : الشقاء . وقال العوفي
__________________
عن ابن عباس : (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) قال : كلما أعطيته عبدا من عبادي قل أو كثر ، لا يتقيني
فيه ، فلا خير فيه وهو الضنك في المعيشة ، وقال أيضا : إن قوما ضلالا أعرضوا عن
الحق وكانوا في سعة من الدنيا متكبرين ، فكانت معيشتهم ضنكا ، وذلك أنهم كانوا
يرون أن الله ليس مخلفا لهم معايشهم من سوء ظنهم بالله والتكذيب ، فإذا كان العبد
يكذب بالله ويسيء الظن به والثقة به ، اشتدت عليه معيشته ، فذلك الضنك. وقال
الضحاك : هو العمل السيئ والرزق الخبيث ، وكذا قال عكرمة ومالك بن دينار.
وقال سفيان بن
عيينة عن أبي حازم عن أبي سلمة عن أبي سعيد في قوله : (مَعِيشَةً ضَنْكاً) قال : يضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه فيه ، وقال أبو
حاتم الرازي : النعمان بن أبي عياش يكنى أبا سلمة. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو
زرعة ، حدثنا صفوان ، أنبأنا الوليد ، أنبأنا عبد الله بن لهيعة ، عن دراج عن أبي
الهيثم عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم في قول الله عزوجل (فَإِنَّ لَهُ
مَعِيشَةً ضَنْكاً) قال : ضمة القبر له ، والموقوف أصح.
وقال ابن أبي حاتم
أيضا : حدثنا الربيع بن سليمان ، حدثنا أسد بن موسى ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا
دراج أبو السمح عن ابن حجيرة واسمه عبد الرحمن عن أبي هريرة عن رسول اللهصلىاللهعليهوسلم قال : «المؤمن في قبره في روضة خضراء ، ويفسح له في قبره
سبعون ذراعا ، وينور له قبره كالقمر ليلة البدر ، أتدرون فيم أنزلت هذه الآية (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) أتدرون ما المعيشة
الضنك؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : «عذاب الكافر في قبره ، والذي نفسي بيده
إنه ليسلط عليه تسعة وتسعون تنينا. أتدرون ما التنين؟ تسعة وتسعون حية ، لكل حية
سبعة رؤوس ينفخون في جسمه ويلسعونه ويخدشونه إلى يوم يبعثون» رفعه منكر جدا.
وقال البزار :
حدثنا محمد بن يحيى الأزدي : حدثنا محمد بن عمرو ، حدثنا هشام بن سعد عن سعيد بن
أبي هلال عن ابن حجيرة ، عن أبي هريرة عن النبي صلىاللهعليهوسلم في قول الله عزوجل : (فَإِنَّ لَهُ
مَعِيشَةً ضَنْكاً) قال «المعيشة الضنك الذي قال الله إنه يسلط عليه تسعة
وتسعون حية ينهشون لحمه حتى تقوم الساعة». وقال أيضا : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا أبو
الوليد ، حدثنا حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلىاللهعليهوسلم (فَإِنَّ لَهُ
مَعِيشَةً ضَنْكاً) قال : «عذاب القبر» إسناد جيد.
وقوله : (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) قال مجاهد وأبو صالح والسدي : لا حجة له ، وقال عكرمة :
عمي عليه كل شيء إلا جهنم ، ويحتمل أن يكون المراد أنه يبعث أو يحشر إلى النار
أعمى البصر والبصيرة أيضا ، كما قال تعالى : (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ
الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) [الإسراء : ٩٧]
الآية ، ولهذا يقول : (رَبِّ لِمَ
حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً) أي في الدنيا (قالَ كَذلِكَ
أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى) أي لما أعرضت عن آيات الله وعاملتها معاملة من لم يذكرها
بعد بلاغها إليك ، تناسيتها وأعرضت عنها
وأغفلتها ، كذلك
اليوم نعاملك معاملة من ينساك (فَالْيَوْمَ
نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا) [الأعراف : ٥١]
فإن الجزاء من جنس العمل. فأما نسيان لفظ القرآن مع فهم معناه والقيام بمقتضاه ،
فليس داخلا في هذا الوعيد الخاص ، وإن كان متوعدا عليه من جهة أخرى فإنه قد وردت
السنة بالنهي الأكيد والوعيد الشديد في ذلك.
قال الإمام أحمد : حدثنا خلف بن الوليد ، حدثنا خالد عن يزيد بن أبي زياد
عن عيسى بن فائد عن رجل عن سعد بن عبادة رضي الله عنه ، عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «ما من رجل قرأ القرآن فنسيه إلا لقي الله يوم يلقاه
وهو أجذم» ، ثم رواه الإمام أحمد من حديث يزيد بن أبي زياد عن عيسى بن فائد عن
عبادة بن الصامت ، عن النبي صلىاللهعليهوسلم فذكر مثله سواء.
(وَكَذلِكَ نَجْزِي
مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ
وَأَبْقى)
(١٢٧)
يقول تعالى :
وهكذا نجازي المسرفين المكذبين بآيات الله في الدنيا والآخرة (لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ) [الرعد : ٣٤]
ولهذا قال : (وَلَعَذابُ
الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى) أي أشد ألما من عذاب الدنيا وأدوم عليهم ، فهم مخلدون فيه
، ولهذا قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم للمتلاعنين : «إن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة» .
(أَفَلَمْ يَهْدِ
لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى
(١٢٨) وَلَوْ
لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (١٢٩) فَاصْبِرْ عَلى ما
يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ
غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ
تَرْضى)
(١٣٠)
يقول تعالى : (أَفَلَمْ يَهْدِ) لهؤلاء المكذبين بما جئتهم به يا محمد كم أهلكنا من الأمم
المكذبين بالرسل قبلهم ، فبادوا فليس لهم باقية ولا عين ولا أثر ، كما يشاهدون ذلك
من ديارهم الخالية التي خلفوهم فيها يمشون فيها (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى) أي العقول الصحيحة والألباب المستقيمة ، كما قال تعالى : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ
فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها
لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج : ٤٦] وقال
في سورة الم السجدة : (أَوَلَمْ يَهْدِ
لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي
مَساكِنِهِمْ) [السجدة : ٢٦]
الآية.
ثم قال تعالى : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ
رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى) أي لولا الكلمة السابقة من الله وهو أنه لا يعذب أحدا إلا
بعد قيام الحجة عليه ، والأجل المسمى الذي ضربه الله
__________________
تعالى لهؤلاء
المكذبين إلى مدة معينة ، لجاءهم العذاب بغتة ، ولهذا قال لنبيه مسليا له : (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) أي من تكذيبهم لك (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ
رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ) يعني صلاة الفجر (وَقَبْلَ غُرُوبِها) يعني صلاة العصر ، كما جاء في الصحيحين عن جرير بن عبد
الله البجلي رضي الله عنه قال : كنا جلوسا عند رسول الله صلىاللهعليهوسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر ، فقال : «إنكم سترون ربكم كما
ترون هذا القمر ، لا تضامون في رؤيته ، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل
طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا» ثم قرأ هذه الآية.
وقال الإمام أحمد : حدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير عن عمارة بن
رؤيبة قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها»
رواه مسلم من حديث عبد الملك بن عمير به ، وفي المسند والسنن عن ابن
عمر قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن أدنى أهل الجنة منزلة من ينظر في ملكه مسيرة ألفي
سنة ، ينظر الى أقصاه كما ينظر الى أدناه ، وإن أعلاهم منزلة لمن ينظر إلى الله
تعالى في اليوم مرتين» .
وقوله : (وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ) أي من ساعاته فتهجد به ، وحمله بعضهم على المغرب والعشاء ،
(وَأَطْرافَ النَّهارِ) في مقابلة آناء الليل (لَعَلَّكَ تَرْضى) كما قال تعالى : (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ
رَبُّكَ فَتَرْضى) [الضحى : ٥] وفي
الصحيح «يقول الله تعالى يا أهل الجنة ، فيقولون : لبيك ربنا وسعديك ، فيقول : هل
رضيتم؟ فيقولون : ربنا وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك ،
فيقول : إني أعطيكم أفضل من ذلك ، فيقولون : وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول : أحل
عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا» وفي الحديث الآخر «يا أهل الجنة ، إن لكم عند الله موعدا
يريد أن ينجزكموه : فيقولون : وما هو؟ ألم يبيض وجوهنا ويثقل موازيننا ويزحزحنا عن
النار ويدخلنا الجنة ، فيكشف الحجاب فينظرون إليه ، فو الله ما أعطاهم خيرا من
النظر إليه ، وهي الزيادة» .
(وَلا تَمُدَّنَّ
عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ
الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٣١) وَأْمُرْ
__________________
أَهْلَكَ
بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ
وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى)
(١٣٢)
يقول تعالى لنبيه
محمد صلىاللهعليهوسلم : لا تنظر إلى ما هؤلاء المترفون وأشباههم ونظراؤهم فيه من
النعيم ، فإنما هو زهرة زائلة ونعمة حائلة ، لنختبرهم بذلك وقليل من عبادي الشكور.
وقال مجاهد : (أَزْواجاً مِنْهُمْ) ، يعني الأغنياء ، فقد آتاك خيرا مما آتاهم ، كما قال في
الآية الأخرى (وَلَقَدْ آتَيْناكَ
سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) [الحجر : ٨٧ ـ ٨٨]
الآية ، وكذلك ما ادخره الله تعالى لرسوله صلىاللهعليهوسلم في الآخرة أمر عظيم لا يحد ولا يوصف ، كما قال تعالى : (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) [الضحى : ٥] ولهذا
قال : (وَرِزْقُ رَبِّكَ
خَيْرٌ وَأَبْقى).
وفي الصحيح أن عمر
بن الخطاب لما دخل على رسول الله صلىاللهعليهوسلم في تلك المشربة التي كان قد اعتزل فيها نساءه حين آلى منهن
، فرآه متوسدا مضطجعا على رمال حصير ، وليس في البيت إلا صبرة من قرظ وأهب معلقة ، فابتدرت عينا عمر بالبكاء ، فقال له رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ما يبكيك يا عمر؟» فقال : يا رسول الله إن كسرى وقيصر
فيما هما فيه ، وأنت صفوة الله من خلقه؟ فقال : «أوفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ أولئك
قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا» فكان صلىاللهعليهوسلم أزهد الناس في الدنيا مع القدرة عليها ، إذا حصلت له
ينفقها هكذا وهكذا في عباد الله ، ولم يدخر لنفسه شيئا لغد.
قال ابن أبي حاتم
: أنبأنا يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار ،
عن أبي سعيد أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إن أخوف ما أخاف عليكم ما يفتح الله لكم من زهرة الدنيا»
قالوا : وما زهرة الدنيا يا رسول الله؟ قال «بركات الأرض». وقال قتادة والسدي :
زهرة الحياة الدنيا ، يعنى زينة الحياة الدنيا. وقال قتادة : (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) لنبتليهم. وقوله : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ
بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها) أي استنقذهم من عذاب الله بإقام الصلاة ، واصبر أنت على
فعلها ، كما قال تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) [التحريم : ٦].
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن صالح ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني هشام بن سعد عن زيد بن
أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب كان يبيت عنده أنا ويرفأ ، وكان له ساعة من الليل
يصلي فيها ، فربما لم يقم ، فنقول : لا يقوم الليلة كما كان يقوم ، وكان إذا
استيقظ أقام يعني أهله ، وقال «وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها».
__________________
وقوله : (لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ
نَرْزُقُكَ) يعني إذا أقمت الصلاة أتاك الرزق من حيث لا تحتسب ، كما
قال تعالى : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ
يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) [الطلاق : ٢ ـ ٣] وقال تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ
إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ـ إلى قوله ـ إِنَّ
اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) [الذاريات : ٥٦ ـ ٥٨]
ولهذا قال : (لا نَسْئَلُكَ
رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ). وقال الثوري : (لا نَسْئَلُكَ
رِزْقاً) ، أي لا نكلفك الطلب. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد
الأشج ، حدثنا حفص بن غياث عن هشام عن أبيه أنه كان إذا دخل على أهل الدنيا فرأى
من دنياهم طرفا ، فإذا رجع إلى أهله ، فدخل الدار قرأ (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ـ إلى قوله ـ نَحْنُ نَرْزُقُكَ) ثم يقول : الصلاة. الصلاة رحمكم الله.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن أبي زياد القطواني ، حدثنا سيار ، حدثنا جعفر عن
ثابت قال : كان النبي صلىاللهعليهوسلم إذا أصابه خصاصة نادى أهله : يا أهلاه صلوا ، صلوا. قال
ثابت : وكانت الأنبياء إذا نزل بهم أمر فزعوا إلى الصلاة ، وقد روى الترمذي وابن
ماجة من حديث عمران بن زائدة عن أبيه عن أبي خالد الوالبي ، عن أبي هريرة قال :
قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «يقول الله تعالى : يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك
غنى وأسد فقرك ، وإن لم تفعل ، ملأت صدرك شغلا ولم أسد فقرك» وروى ابن ماجة من حديث الضحاك عن الأسود عن ابن مسعود :
سمعت نبيكم صلىاللهعليهوسلم يقول : «من جعل الهموم هما واحدا هم المعاد كفاه الله هم
دنياه ، ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديته هلك» ، وروي أيضا من حديث شعبة عن عمر بن سليمان عن عبد الرحمن
بن أبان ، عن أبيه عن زيد بن ثابت ، سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره ، وجعل
فقره بين عينيه ، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له ، ومن كانت الآخرة نيته ، جمع
له أمره وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدنيا وهي راغمة» .
وقوله : (وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى) أي وحسن العاقبة في الدنيا والآخرة ، وهي الجنة لمن اتقى
الله. وفي الصحيح أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «رأيت الليلة كأنا في دار عقبة بن رافع ، وأنا أتينا
برطب من رطب ابن طاب ، فأولت ذلك أن العاقبة لنا في الدنيا والرفعة ، وأن ديننا قد
طاب».
(وَقالُوا لَوْ لا
يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ
الْأُولى (١٣٣) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ
__________________
مِنْ
قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ
آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (١٣٤)
قُلْ
كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ
السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى)
(١٣٥)
يقول تعالى مخبرا
عن الكفار في قولهم : (لَوْ لا) أي هلا يأتينا محمد بآية من ربه ، أي بعلامة دالة على صدقه
في أنه رسول الله؟ قال الله تعالى : (أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ
بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى) يعني القرآن الذي أنزله عليه الله ، وهو أمي لا يحسن
الكتابة ولم يدارس أهل الكتاب ، وقد جاء فيه أخبار الأولين بما كان منهم في سالف
الدهور بما يوافقه عليه الكتب المتقدمة الصحيحة منها ، فإن القرآن مهيمن عليها
يصدق الصحيح ويبين خطأ المكذوب فيها وعليها ، وهذه الآية كقوله تعالى في سورة
العنكبوت : (وَقالُوا لَوْ لا
أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ
وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ
الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ) [العنكبوت : ٤٩ ـ ٥٠]
وفي الصحيحين عن رسول اللهصلىاللهعليهوسلم أنه قال : «ما من نبي إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على
مثله البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ ، فأرجو أن أكون أكثرهم
تابعا يوم القيامة» وإنما ذكر هاهنا أعظم الآيات التي أعطيها عليهالسلام ، وهو القرآن ، وإلا فله من المعجزات ما لا يحد ولا يحصر ،
كما هو مودع في كتبه ومقرر في مواضعه.
ثم قال تعالى : (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ
مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً) أي لو أنا أهلكنا هؤلاء المكذبين قبل أن نرسل إليهم هذا
الرسول الكريم وننزل عليهم هذا الكتاب العظيم ، لكانوا قالوا : (رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا
رَسُولاً) قبل أن تهلكنا حتى نؤمن به ونتبعه كما قال : (فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ
نَذِلَّ وَنَخْزى) يبين تعالى أن هؤلاء المكذبين متعنتون معاندون لا يؤمنون (وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى
يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) [يونس : ٩٧] كما
قال تعالى : (وَهذا كِتابٌ
أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ـ إلى قوله ـ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ) [الأنعام : ١٥٥ ـ ١٥٧]
وقال : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ
جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى
الْأُمَمِ) [فاطر : ٤٢] الآية
، وقال : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ
جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها) [الأنعام : ١٠٩ ـ ١١٠]
الآيتين ، ثم قال تعالى : (قُلْ) أي يا محمد لمن كذبك وخالفك واستمر على كفره وعناده (كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ) أي منا ومنكم (فَتَرَبَّصُوا) أي فانتظروا (فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ
أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِ) أي الطريق المستقيم (وَمَنِ اهْتَدى) إلى الحق وسبيل الرشاد ، وهذا كقوله تعالى : (وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ
الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً) [الفرقان : ٤٢]
وقال : (سَيَعْلَمُونَ غَداً
مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ) [القمر : ٢٦].
آخر تفسير سورة طه
ولله الحمد والمنة ويتلوه إن شاء الله تفسير سورة الأنبياء ولله الحمد.
__________________
سورة الأنبياء
وهي مكية
قال البخاري :
حدثنا محمد بن بشار ، ثنا غندر ، ثنا شعبة عن أبي إسحاق سمعت عبد الرحمن بن يزيد
عن عبد الله قال بنو إسرائيل والكهف ، ومريم ، وطه ، والأنبياء ، هن من العتاق
الأول وهن من تلادي .
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ
حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (١)
ما
يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ
يَلْعَبُونَ (٢) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ
وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ
السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٣) قالَ رَبِّي
يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٤) بَلْ قالُوا
أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما
أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (٥) ما آمَنَتْ
قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ)
(٦)
هذا تنبيه من الله
عزوجل على اقتراب الساعة
ودنوها ، وأن الناس في غفلة عنها ، أي لا يعملون لها ولا يستعدون من أجلها. وقال
النسائي : حدثنا أحمد بن نصر ، حدثنا هشام بن عبد الملك أبو الوليد الطيالسي ،
حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد عن النبي صلىاللهعليهوسلم (فِي غَفْلَةٍ
مُعْرِضُونَ) قال : «في الدنيا». وقال تعالى : (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) [النحل : ١] وقال (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ
الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا) [القمر : ١ ـ ٢]
الآية ، وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة الحسن بن هانئ أبي نواس الشاعر أنه قال
: أشعر الناس الشيخ الطاهر أبو العتاهية حيث يقول : [مجزوء الكامل]
الناس في
غفلاتهم
|
|
ورحا المنيّة
تطحن
|
فقيل له : من أين
أخذ هذا؟ قال من قول الله تعالى : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ
حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) وروي في ترجمة عامر بن ربيعة من طريق موسى بن عبيد الآمدي
عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عامر بن ربيعة أنه نزل به رجل من العرب ،
فأكرم عامر
__________________
مثواه ، وكلم فيه
رسول الله صلىاللهعليهوسلم فجاءه الرجل فقال : إني استقطعت من رسول الله صلىاللهعليهوسلم واديا في العرب ، وقد أردت أن اقطع لك منه قطعة تكون لك
ولعقبك من بعدك ، فقال عامر : لا حاجة لي في قطيعتك ، نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن
الدنيا (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ
حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ).
ثم أخبر تعالى
أنهم لا يصغون إلى الوحي الذي أنزل الله على رسوله والخطاب مع قريش ومن شابههم من
الكفار ، فقال (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ
ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) أي جديد إنزاله (إِلَّا اسْتَمَعُوهُ
وَهُمْ يَلْعَبُونَ) كما قال ابن عباس : ما لكم تسألون أهل الكتاب عما بأيديهم
وقد حرفوه وبدلوه وزادوا فيه ونقصوا منه ، وكتابكم أحدث الكتب بالله تقرؤونه محضا
لم يشب ، رواه البخاري بنحوه.
وقوله : (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ
ظَلَمُوا) أي قائلين فيما بينهم خفية (هَلْ هذا إِلَّا
بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) يعنون رسول الله صلىاللهعليهوسلم يستبعدون كونه نبيا لأنه بشر مثلهم ، فكيف اختص بالوحي
دونهم ، ولهذا قال : (أَفَتَأْتُونَ
السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) أي أفتتبعونه فتكونون كمن يأتي السحر وهو يعلم أنه سحر ،
فقال تعالى مجيبا لهم عما افتروه واختلقوه من الكذب.
(قالَ رَبِّي يَعْلَمُ
الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي الذي يعلم ذلك لا يخفى عليه خافية ، وهو الذي أنزل هذا
القرآن المشتمل على خبر الأولين والآخرين ، الذي لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله إلا
الذي يعلم السر في السموات والأرض.
وقوله : (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي السميع لأقوالكم والعليم بأحوالكم ، وفي هذا تهديد لهم
ووعيد. وقوله : (بَلْ قالُوا أَضْغاثُ
أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ) هذا إخبار عن تعنت الكفار وإلحادهم واختلافهم فيما يصفون
به القرآن ، وحيرتهم فيه وضلالهم عنه ، فتارة يجعلونه سحرا ، وتارة يجعلونه شعرا ،
وتارة يجعلونه أضغاث أحلام ، وتارة يجعلونه مفترى ، كما قال (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ
الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) [الإسراء : ٤٨
والفرقان : ٩].
وقوله (فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ
الْأَوَّلُونَ) يعنون كناقة صالح وآيات موسى وعيسى وقد قال الله : (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ
إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) [الإسراء : ٥٩]
الآية ، ولهذا قال تعالى : (ما آمَنَتْ
قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ) أي ما آتينا قرية من القرى التي بعث فيهم الرسل آية على
يدي نبيها فآمنوا بها بل كذبوا ، فأهلكناهم بذلك أفهؤلاء يؤمنون بالآيات لو رأوها
دون أولئك؟ كلا ، بل (إِنَّ الَّذِينَ
حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ
آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) [يونس : ٩٦ ـ ٩٧]
هذا كله وقد شاهدوا من الآيات الباهرات والحجج القاطعات والدلائل البينات على يدي
رسول الله صلىاللهعليهوسلم ما هو أظهر وأجلى
__________________
وأبهر وأقطع وأقهر
مما شوهد مع غيره من الأنبياء ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
قال ابن أبي حاتم رحمهالله : ذكر عن زيد بن الحباب ، حدثنا ابن لهيعة : حدثنا الحارث
بن يزيد الحضرمي عن علي بن رباح اللخمي ، حدثني من شهد عبادة بن الصامت يقول : كنا
في المسجد ومعنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقرئ بعضنا بعضا القرآن ، فجاء عبد
الله بن أبي ابن سلول ومعه نمرقة وزربية ، فوضع واتكأ ، وكان صبيحا فصيحا جدلا ،
فقال : يا أبا بكر ، قل لمحمد يأتينا بآية كما جاء الأولون ، جاء موسى بالألواح ،
وجاء دواد بالزبور ، وجاء صالح بالناقة ، وجاء عيسى بالإنجيل وبالمائدة ، فبكى أبو
بكر رضي الله عنه.
فخرج رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال أبو بكر : قوموا بنا إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم نستغيث به من هذا المنافق ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إنه لا يقام لي إنما يقام لله عزوجل» فقلنا : يا رسول الله إنا لقينا من هذا المنافق ، فقال : «إن
جبريل قال لي اخرج فأخبر بنعم الله التي أنعم بها عليك ، وفضيلته التي فضلت بها ،
فبشرني أني بعثت إلى الأحمر والأسود ، وأمرني أن أنذر الجن ، وآتاني كتابه وأنا
أمي ، وغفر ذنبي ما تقدم وما تأخر ، وذكر اسمي في الأذان ، وأمدني بالملائكة ،
وآتاني النصر ، وجعل الرعب أمامي ، وآتاني الكوثر ، وجعل حوضي من أكثر الحياض يوم
القيامة ورودا ، ووعدني المقام المحمود والناس مهطعون مقنعون رؤوسهم ، وجعلني في
أول زمرة تخرج من الناس ، وأدخل في شفاعتي سبعين ألفا من أمتي الجنة بغير حساب ،
وآتاني السلطان والملك ، وجعلني في أعلى غرفة في الجنة في جنات النعيم ، فليس فوقي
أحد إلا الملائكة الذين يحملون العرش ، وأحل لي ولأمتي الغنائم ولم تحل لأحد كان
قبلنا» وهذا الحديث غريب جدا.
(وَما أَرْسَلْنا
قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ
كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧)
وَما
جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (٨)
ثُمَّ
صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا
الْمُسْرِفِينَ)
(٩)
يقول تعالى رادا
على من أنكر بعثة الرسل من البشر : (وَما أَرْسَلْنا
قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ) أي جميع الرسل الذين تقدموا كانوا رجالا من البشر لم يكن
فيهم أحد من الملائكة ، كما قال في الآية الأخرى (وَما أَرْسَلْنا مِنْ
قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) [يوسف : ١٠٩] وقال تعالى : (قُلْ ما كُنْتُ
بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) [الأحقاف : ٩]
وقال تعالى حكاية عمن تقدم من الأمم ، لأنهم أنكروا ذلك فقالوا (أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا) [التغابن : ٦]
ولهذا قال تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ
الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أي اسألوا أهل العلم من الأمم كاليهود والنصارى وسائر
الطوائف : هل كان الرسل الذين أتوهم بشرا أو ملائكة؟ وإنما كانوا بشرا ، وذلك من
تمام نعمة الله على خلقه إذ بعث فيهم رسلا منهم يتمكنون من تناول البلاغ منهم
والأخذ عنهم.
وقوله : (وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا
يَأْكُلُونَ الطَّعامَ) أي بل قد كانوا أجسادا يأكلون الطعام كما قال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ
الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي
الْأَسْواقِ) [الفرقان : ٢٠] أي
قد كانوا بشرا من البشر يأكلون ويشربون مثل الناس ، ويدخلون الأسواق للتكسب
والتجارة ، وليس ذلك بضار لهم ولا ناقص منهم شيئا ، كما توهمه المشركون في قولهم (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ
الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ
مَعَهُ نَذِيراً أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ
مِنْها) [الفرقان : ٧ ـ ٨]
الآية.
وقوله : (وَما كانُوا خالِدِينَ) أي في الدنيا ، بل كانوا يعيشون ثم يموتون (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ
الْخُلْدَ) [الأنبياء : ٣٤]
وخاصتهم أنهم يوحى إليهم من الله عزوجل ، تنزل عليهم الملائكة عن الله بما يحكمه في خلقه مما يأمر
به وينهى عنه ، وقوله : (ثُمَّ صَدَقْناهُمُ
الْوَعْدَ) أي الذي وعدهم ربهم ليهلكن الظالمين صدقهم الله وعده وفعل
ذلك ، ولهذا قال (فَأَنْجَيْناهُمْ
وَمَنْ نَشاءُ) أي أتباعهم من المؤمنين (وَأَهْلَكْنَا
الْمُسْرِفِينَ) أي المكذبين بما جاءت به الرسل.
(لَقَدْ أَنْزَلْنا
إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠)
وَكَمْ
قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (١١)
فَلَمَّا
أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (١٢) لا تَرْكُضُوا
وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (١٣)
قالُوا
يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (١٤)
فَما
زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ)
(١٥)
يقول تعالى منبها
على شرف القرآن ومحرضا لهم على معرفة قدره : (لَقَدْ أَنْزَلْنا
إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ) قال ابن عباس : شرفكم. وقال مجاهد : حديثكم. وقال الحسن :
دينكم ، (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي هذه النعمة ، وتتلقونها بالقبول ، كما قال تعالى : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ
وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ) [الزخرف : ٤٤].
وقوله (وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ
قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً) هذه صيغة تكثير ، كما قال : (وَكَمْ أَهْلَكْنا
مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ) [الإسراء : ١٧]
وقال تعالى : (فَكَأَيِّنْ مِنْ
قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) [الحج : ٤٥]
الآية.
وقوله (وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ) أي أمة أخرى بعدهم (فَلَمَّا أَحَسُّوا
بَأْسَنا) أي تيقنوا أن العذاب واقع بهم لا محالة كما وعدهم نبيهم (إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ) أي يفرون هاربين (لا تَرْكُضُوا
وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ) هذا تهكم بهم نزرا ، أي قيل لهم نزرا لا تركضوا هاربين من
نزول العذاب ، وارجعوا إلى ما كنتم فيه من النعمة والسرور والمعيشة والمساكن
الطيبة. قال قتادة استهزاء بهم ، (لَعَلَّكُمْ
تُسْئَلُونَ) أي عما كنتم فيه من أداء شكر النعم ، (قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا
ظالِمِينَ) اعترفوا بذنوبهم حين لا ينفعهم ذلك ، (فَما زالَتْ تِلْكَ
__________________
دَعْواهُمْ
حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ) أي ما زالت تلك المقالة ، وهي الاعتراف بالظلم هجيراهم حتى
حصدناهم حصدا ، وخمدت حركاتهم وأصواتهم خمودا.
(وَما خَلَقْنَا
السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (١٦)
لَوْ
أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا
فاعِلِينَ (١٧) بَلْ نَقْذِفُ
بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ
مِمَّا تَصِفُونَ (١٨) وَلَهُ مَنْ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا
يَسْتَحْسِرُونَ (١٩) يُسَبِّحُونَ
اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ)
(٢٠)
يخبر تعالى أنه
خلق السموات والأرض بالحق ، أي بالعدل والقسط ، (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ
أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) [النجم : ٣١] ،
وأنه لم يخلق ذلك عبثا ولا لعبا كما قال : (وَما خَلَقْنَا
السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) [ص : ٢٧] وقوله
تعالى : (لَوْ أَرَدْنا أَنْ
نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ) قال ابن أبي نجيح عن مجاهد (لَوْ أَرَدْنا أَنْ
نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا) يعني من عندنا ، يقول : وما خلقنا جنة ولا نارا ولا موتا
ولا بعثا ولا حسابا. وقال الحسن وقتادة وغيرهما (لَوْ أَرَدْنا أَنْ
نَتَّخِذَ لَهْواً) اللهو المرأة بلسان أهل اليمن . وقال إبراهيم النخعي (لَاتَّخَذْناهُ) من الحور العين.
وقال عكرمة والسدي
: والمراد باللهو هاهنا الولد ، وهذا والذي قبله متلازمان ، وهو كقوله تعالى : (لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ
وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ
الْقَهَّارُ) [الزمر : ٤] فنزه
نفسه عن اتخاذ الولد مطلقا ولا سيما عما يقولون من الإفك والباطل من اتخاذ عيسى أو
العزيز أو الملائكة سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا.
وقوله : (إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ) قال قتادة والسدي وإبراهيم النخعي ومغيرة بن مقسم : أي ما
كنا فاعلين. وقال مجاهد كل شيء في القرآن (أَنْ) فهو إنكار. وقوله : (بَلْ نَقْذِفُ
بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ) أي نبين الحق فيدحض الباطل ، ولهذا قال : (فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) أي ذاهب مضمحل (وَلَكُمُ الْوَيْلُ) أي أيها القائلون لله ولد (مِمَّا تَصِفُونَ) أي تقولون وتفترون. ثم أخبر تعالى عن عبودية الملائكة له
ودأبهم في طاعته ليلا ونهارا ، فقال : (وَلَهُ مَنْ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ) يعني الملائكة (لا يَسْتَكْبِرُونَ
عَنْ عِبادَتِهِ) أي لا يستنكفون عنها ، كما قال : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ
يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ
عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً) [النساء : ١٧٢].
وقوله : (وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) أي لا يتعبون ولا يملون (يُسَبِّحُونَ
اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ)
__________________
فهم دائبون في
العمل ليلا ونهارا ، مطيعون قصدا وعملا ، قادرون عليه ، كما قال تعالى : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ
وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) [التحريم : ٦].
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا علي بن أبي دلامة البغدادي ، أنبأنا عبد الوهاب بن عطاء حدثنا سعيد عن
قتادة عن صفوان بن محرز عن حكيم بن حزام قال : بينا رسول الله رسول اللهصلىاللهعليهوسلم بين أصحابه إذ قال لهم «هل تسمعون ما أسمع؟» قالوا : ما
نسمع من شيء ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «إني لأسمع أطيط
السماء ، وما تلام أن تئط وما فيها موضع شبر إلا وعليه ملك ساجد أو قائم» غريب ،
ولم يخرجوه.
ثم رواه ـ أعني
ابن أبي حاتم ـ من طريق يزيد بن أبي زريع عن سعيد عن قتادة مرسلا. وقال أبو إسحاق
عن حسان بن مخارق عن عبد الله بن الحارث بن نوفل قال : جلست إلى كعب الأحبار وأنا
غلام ، فقلت له : أرأيت قول الله تعالى للملائكة : (يُسَبِّحُونَ
اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) أما يشغلهم عن التسبيح الكلام والرسالة والعمل. فقال : من
هذا الغلام؟ فقالوا من بني عبد المطلب ، قال فقبل رأسي ثم قال : يا بني إنه جعل
لهم التسبيح كما جعل لكم النفس أليس تتكلم وأنت تتنفس وتمشي وأنت تتنفس؟
(أَمِ اتَّخَذُوا
آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (٢١)
لَوْ
كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ
عَمَّا يَصِفُونَ (٢٢) لا يُسْئَلُ عَمَّا
يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ)
(٢٣)
ينكر تعالى على من
اتخذ من دونه آلهة فقال : (أَمِ اتَّخَذُوا
آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ) أي أهم يحيون الموتى وينشرونهم من الأرض ، أي لا يقدرون
على شيء من ذلك ، فكيف جعلوها لله ندا وعبدوها معه؟ ثم أخبر تعالى أنه لو كان في
الوجود آلهة غيره لفسدت السموات والأرض ، فقال : (لَوْ كانَ فِيهِما
آلِهَةٌ) أي في السموات والأرض (لَفَسَدَتا) كقوله تعالى : (مَا اتَّخَذَ اللهُ
مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ
وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) [المؤمنون : ٩١]
وقال هاهنا : (فَسُبْحانَ اللهِ
رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) أي عما يقولون أن له ولدا أو شريكا سبحانه وتعالى وتقدس
وتنزه عن الذي يفترون ويأفكون علوا كبيرا.
وقوله (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ
يُسْئَلُونَ) أي هو الحاكم الذي لا معقب لحكمه ، ولا يعترض عليه أحد
لعظمته وجلاله وكبريائه وعلمه وحكمته وعدله ولطفه ، (وَهُمْ يُسْئَلُونَ) أي وهو سائل خلقه عما يعملون كقوله : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ
أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) [الحجر : ٩٢ ـ ٩٣] وهذا كقوله تعالى : (وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ) [المؤمنون : ٨٨].
__________________
(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ
دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ
قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٤)
وَما
أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ
إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ)
(٢٥)
يقول تعالى : (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً
قُلْ) يا محمد (هاتُوا بُرْهانَكُمْ) أي دليلكم على ما تقولون (هذا ذِكْرُ مَنْ
مَعِيَ) يعني القرآن (وَذِكْرُ مَنْ
قَبْلِي) يعني الكتب المتقدمة على خلاف ما تقولونه وتزعمون ، فكل
كتاب أنزل على كل نبي أرسل ناطق بأنه لا إله إلا الله ، ولكن أنتم أيها المشركون
لا تعلمون الحق فأنتم معرضون عنه ، ولهذا قال : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ
قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا
فَاعْبُدُونِ) كما قال : (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا
مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً
يُعْبَدُونَ) [الزخرف : ٤٥]
وقال (وَلَقَدْ بَعَثْنا
فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [النحل : ٣٦] فكل
نبي بعثه الله يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، والفطرة شاهدة بذلك أيضا ،
والمشركون لا برهان لهم ، وحجتهم داحضة عند ربهم ، وعليهم غضب ، ولهم عذاب شديد.
(وَقالُوا اتَّخَذَ
الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (٢٦)
لا
يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢٧)
يَعْلَمُ
ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى
وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (٢٨)
وَمَنْ
يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ
نَجْزِي الظَّالِمِينَ)
(٢٩)
يقول تعالى ردا
على من زعم أن له تعالى وتقدس ولدا من الملائكة ، كمن قال ذلك من العرب : إن
الملائكة بنات الله فقال : (سُبْحانَهُ بَلْ
عِبادٌ مُكْرَمُونَ) أي الملائكة عباد الله مكرمون عنده في منازل عالية ومقامات
سامية ، وهم له في غاية الطاعة قولا وفعلا (لا يَسْبِقُونَهُ
بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) أي لا يتقدمون بين يديه بأمر ولا يخالفونه فيما أمرهم به ،
بل يبادرون إلى فعله ، وهو تعالى علمه محيط بهم فلا يخفى عليه منهم خافية (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما
خَلْفَهُمْ)
وقوله : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) كقوله (مَنْ ذَا الَّذِي
يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [البقرة : ٢٥٥].
وقوله : (وَلا تَنْفَعُ
الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) [سبأ : ٢٣] في
آيات كثيرة في معنى ذلك (وَهُمْ مِنْ
خَشْيَتِهِ) أي من خوفه ورهبته (مُشْفِقُونَ وَمَنْ
يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ) أي من ادعى منهم أنه إله من دون الله أي مع الله (فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ
نَجْزِي الظَّالِمِينَ) أي كل من قال ذلك ، وهذا شرط ، والشرط لا يلزم وقوعه ،
كقوله (قُلْ إِنْ كانَ
لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) [الزخرف : ٨١] ،
وقوله : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ
لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) [الزمر : ٦٥].
(أَوَلَمْ يَرَ
الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما
وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا
يُؤْمِنُونَ
(٣٠) وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ
أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ(٣١) وَجَعَلْنَا
السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (٣٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ
اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)
(٣٣)
يقول تعالى منبها
على قدرته التامة وسلطانه العظيم في خلقه الأشياء وقهره لجميع المخلوقات ، فقال : (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي الجاحدون لإلهيته العابدون معه غيره ، ألم يعلموا أن
الله هو المستقل بالخلق المستبد بالتدبير ، فكيف يليق أن يعبد معه غيره ، أو يشرك
به ما سواه ، ألم يروا أن السموات والأرض كانتا رتقا أي كان الجميع متصلا بعضه
ببعض متلاصق متراكم بعضه فوق بعض في ابتداء الأمر ، ففتق هذه من هذه ، فجعل
السموات سبعا ، والأرض سبعا ، وفصل بين السماء الدنيا والأرض بالهواء ، فأمطرت
السماء وأنبتت الأرض ، ولهذا قال (وَجَعَلْنا مِنَ
الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ) أي وهم يشاهدون المخلوقات تحدث شيئا فشيئا عيانا وذلك كله
دليل على وجود الصانع الفاعل المختار القادر على ما يشاء : [المتقارب]
ففي كل شيء له
آية
|
|
تدل على أنه
واحد
|
قال سفيان الثوري
عن أبيه عن عكرمة قال : سئل ابن عباس : الليل كان قبل أو النهار؟ فقال : أرايتم
السموات والأرض حين كانتا رتقا هل كان بينهما إلا ظلمة؟ ذلك لتعلموا أن الليل قبل
النهار . وقال ابن ابي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا إبراهيم بن حمزة ،
حدثنا حاتم عن حمزة بن أبي محمد ، عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أن رجلا أتاه
يسأله عن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما. قال : اذهب إلى ذلك الشيخ فاسأله ،
ثم تعال فأخبرني بما قال لك ، قال : فذهب إلى ابن عباس فسأله فقال ابن عباس : نعم
كانت السموات رتقا لا تمطر ، وكانت الأرض رتقا لا تنبت ، فلما خلق للأرض أهلا فتق
هذه بالمطر ، وفتق هذه بالنبات ، فرجع الرجل إلى ابن عمر فأخبره ، فقال ابن عمر :
الآن قد علمت أن ابن عباس قد أوتي في القرآن علما ، صدق هكذا كانت ، قال ابن عمر :
قد كنت أقول ما يعجبني جراءة ابن عباس على تفسير القرآن ، فالآن علمت أنه قد أوتي
في القرآن علما. وقال عطية العوفي : كانت هذه رتقا لا تمطر فأمطرت ، وكانت هذه
رتقا لا تنبت فأنبتت.
وقال إسماعيل بن
أبي خالد : سألت أبا صالح الحنفي عن قوله : (أَنَّ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) قال : كانت السماء واحدة ففتق منها سبع سموات ، وكانت
الأرض واحدة ففتق منها سبع أرضين ، وهكذا قال مجاهد ، وزاد : ولم تكن السماء
والأرض
__________________
متماستين . وقال سعيد بن جبير : بل كانت السماء والأرض ملتزقتين ،
فلما رفع السماء وأبرز منها الأرض ، كان ذلك فتقهما الذي ذكر الله في كتابه. وقال
الحسن وقتادة : كانتا جميعا ففصل بينهما بهذا الهواء.
وقوله : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ
حَيٍ) أي أصل كل الأحياء. قال ابن أبي حاتم : حدثنا ابي ، حدثنا
أبو الجماهر ، حدثنا سعيد بن بشير ، حدثنا قتادة عن أبي ميمونة عن أبي هريرة أنه
قال : يا نبي الله إذا رأيتك قرت عيني وطابت نفسي ، فأخبرنا عن كل شيء قال : «كل شيء
خلق من ماء».
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا همام عن قتادة عن أبي ميمونة عن أبي
هريرة قال : قلت يا رسول الله إني إذا رأيتك طابت نفسي وقرت عيني ، فأنبئني عن كل
شيء ، قال : «كل شيء خلق من ماء» قال : قلت أنبئني عن أمر إذا عملت به دخلت الجنة
قال : «أفش السلام ، وأطعم الطعام ، وصل الأرحام ، وقم بالليل والناس نيام ، ثم
ادخل الجنة بسلام» ورواه أيضا عن عبد الصمد وعفان وبهز عن همام ، تفرد به أحمد ،
وهذا إسناد على شرط الصحيحين إلا أن أبا ميمونة من رجال السنن واسمه سليم ،
والترمذي يصحح له ، وقد رواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة مرسلا ، والله أعلم.
وقوله : (وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ) أي جبالا أرسى الأرض بها وقررها وثقلها لئلا تميد بالناس ،
أي تضطرب وتتحرك ، فلا يحصل لهم قرار عليها لأنها غامرة في الماء إلا مقدار الربع.
فإنه باد للهواء والشمس ليشاهد أهلها السماء وما فيها من الآيات الباهرات والحكم
والدلالات ، ولهذا قال : (أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ) أي لئلا تميد بهم. وقوله : (وَجَعَلْنا فِيها
فِجاجاً سُبُلاً) أي ثغرا في الجبال يسلكون فيها طريقا من قطر إلى قطر ومن
إقليم إلى إقليم ، كما هو المشاهد في الأرض يكون الجبل حائلا بين هذه البلاد وهذه
البلاد ، فيجعل الله فيه فجوة ثغرة ليسلك الناس فيها من هاهنا إلى هاهنا ، ولهذا
قال : (لَعَلَّهُمْ
يَهْتَدُونَ).
وقوله : (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً
مَحْفُوظاً) أي على الأرض وهي كالقبة عليها ، كما قال: (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ
وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) [الذاريات : ٤٧]
وقال : (وَالسَّماءِ وَما
بَناها) [الشمس : ٥] (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ
فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) [ق : ٦] والبناء
هو نصب القبة ، كما قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «بني الإسلام على
خمس» أي خمسة دعائم ، وهذا لا يكون إلا في الخيام كما تعهده العرب (مَحْفُوظاً) أي عاليا محروسا أن ينال. وقال
__________________
مجاهد : مرفوعا.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن الدشتكي ،
حدثني أبي عن أبيه عن أشعث يعني ابن إسحاق القمي عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد
بن جبير عن ابن عباس قال رجل : يا رسول الله ما هذه السماء؟ قال : «موج مكفوف عنكم»
إسناده غريب.
وقوله : (وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ) كقوله : (وَكَأَيِّنْ مِنْ
آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) [يوسف : ١٠٥] أي
لا يتفكرون فيما خلق الله فيها من الاتساع العظيم والارتفاع الباهر ، وما زينت به
من الكواكب الثوابت والسيارات في ليلها ونهارها من هذه الشمس التي تقطع الفلك
بكامله في يوم وليلة ، فتسير غاية لا يعلم قدرها إلا الله الذي قدرها وسخرها
وسيرها. وقد ذكر ابن أبي الدنيا رحمهالله في كتابه التفكر والاعتبار : أن بعض عباد بني إسرائيل تعبد
ثلاثين سنة ، وكان الرجل منهم إذا تعبد ثلاثين سنة أظلته غمامة ، فلم ير ذلك الرجل
شيئا مما كان يحصل لغيره ، فشكى ذلك إلى أمه فقالت له : يا بني فلعلك أذنبت في مدة
عبادتك هذه؟ فقال : لا والله ما أعلمه ، قالت : فلعلك هممت؟ قال : لا ولا هممت ،
قالت : فلعلك رفعت بصرك إلى السماء ثم رددته بغير فكر؟ فقال : نعم كثيرا.
قالت : فمن هاهنا
أتيت ، ثم قال منبها على بعض آياته : (وَهُوَ الَّذِي
خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) أي هذا في ظلامه وسكونه وهذا بضيائه وأنسه ، يطول هذا تارة
ثم يقصر أخرى وعكسه الآخر (وَالشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ) هذه لها نور يخصها وفلك بذاته وزمان على حدة وحركة وسير
خاص ، وهذا بنور آخر وفلك آخر وسير آخر وتقدير آخر (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ
يَسْبَحُونَ) أي يدورون. قال ابن عباس : يدورون كما يدور المغزل في
الفلكة قال مجاهد : فلا يدور المغزل إلا بالفلكة ، ولا الفلكة إلا بالمغزل ، كذلك
النجوم والشمس والقمر لا يدورون إلا به ولا يدور إلا بهن ، كما قال تعالى : (فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ
سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) [الأنعام : ٩٦].
(وَما جَعَلْنا
لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (٣٤)
كُلُّ
نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً
وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ)
(٣٥)
يقول تعالى : (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ) أي يا محمد (الْخُلْدَ) أي في الدنيا بل (كُلُّ مَنْ عَلَيْها
فانٍ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) [الرحمن : ٢٦ ـ ٢٧]
وقد استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب من العلماء إلى أن الخضر عليهالسلام مات وليس بحي إلى الآن ، لأنه بشر سواء كان وليا أو نبيا
أو رسولا. وقد قال تعالى : (وَما جَعَلْنا
لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ) [الكهف : ٨٢].
وقوله : (أَفَإِنْ مِتَ) أي يا محمد (فَهُمُ الْخالِدُونَ) أي يؤملون أن يعيشوا بعدك لا يكون هذا بل كل إلى الفناء ،
ولهذا قال تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ
ذائِقَةُ الْمَوْتِ) وقد روي عن الشافعي
رحمهالله أن أنشد واستشهد بهذين البيتين : [الطويل]
تمنى رجال أن
أموت وإن أمت
|
|
فتلك سبيل لست
فيها بأوحد
|
فقل للذي يبغي
خلاف الذي مضى
|
|
تهيأ لأخرى
مثلها فكأن قد
|
وقوله : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ
فِتْنَةً) أي نختبركم بالمصائب تارة وبالنعم أخرى ، فننظر من يشكر
ومن يكفر ، ومن يصبر ومن يقنط ، كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : (وَنَبْلُوكُمْ) يقول نبتليكم (بِالشَّرِّ
وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) بالشدة والرخاء ، والصحة والسقم ، والغنى والفقر ، والحلال
والحرام ، والطاعة والمعصية ، والهدى والضلال . وقوله : (وَإِلَيْنا
تُرْجَعُونَ) أي فنجازيكم بأعمالكم.
(وَإِذا رَآكَ
الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ
آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (٣٦) خُلِقَ الْإِنْسانُ
مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ)
(٣٧)
يقول تعالى لنبيه
صلوات الله وسلامه عليه (وَإِذا رَآكَ
الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني كفار قريش كأبي جهل وأشباهه (إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً) أي يستهزئون بك وينتقصونك ، يقولون : (أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ) يعنون أهذا الذي يسب آلهتكم ويسفه أحلامكم ، قال تعالى : (وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ
كافِرُونَ) أي وهم كافرون بالله ومع هذا يستهزئون برسول الله ، كما
قال في الآية الأخرى (وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ
يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً إِنْ كادَ
لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ
حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً) [الفرقان : ٤١ ـ ٤٢].
وقوله : (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) كما قال في الآية الأخرى : (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) [الإسراء : ١١] أي
في الأمور. قال مجاهد : خلق الله آدم بعد كل شيء من آخر النهار من يوم خلق الخلائق
، فلما أحيا الروح عينيه ولسانه ورأسه ، ولم يبلغ أسفله ، قال : يا رب استعجل
بخلقي قبل غروب الشمس. وقال ابن أبي حاتم ، حدثنا أحمد بن سنان. حدثنا يزيد بن
هارون ، أنبأنا محمد بن علقمة بن وقاص الليثي عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : قال
رسول اللهصلىاللهعليهوسلم : «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة ، فيه خلق آدم وفيه
أدخل الجنة وفيه أهبط منها ، وفيه تقوم الساعة وفيه ساعة لا يوافقها مؤمن يصلي ـ وقبض
أصابعه يقللها ـ فسأل الله خيرا إلا أعطاه إياه».
__________________
قال أبو سلمة :
فقال عبد الله بن سلام : قد عرفت تلك الساعة ، هي آخر ساعات النهار من يوم الجمعة
، وهي التي خلق الله فيها آدم ، قال الله تعالى : (خُلِقَ الْإِنْسانُ
مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) والحكمة في ذكر عجلة الإنسان هاهنا أنه لما ذكر المستهزئين
بالرسول صلوات الله وسلامة عليه ، وقع في النفوس سرعة الانتقام منهم واستعجلت ذلك
، فقال الله تعالى : (خُلِقَ الْإِنْسانُ
مِنْ عَجَلٍ) لأنه تعالى يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ، يؤجل ثم
يعجل ، وينظر ثم لا يؤخر ، ولهذا قال : (سَأُرِيكُمْ آياتِي) أي نقمي وحكمي واقتداري على من عصاني (فَلا تَسْتَعْجِلُونِ).
(وَيَقُولُونَ مَتى
هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨)
لَوْ
يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا
عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٣٩) بَلْ تَأْتِيهِمْ
بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ)
(٤٠)
يخبر تعالى عن
المشركين أنهم يستعجلون أيضا بوقوع العذاب بهم تكذيبا وجحودا وكفرا وعنادا
واستبعادا ، فقال (وَيَقُولُونَ مَتى
هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) قال الله تعالى : (لَوْ يَعْلَمُ
الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ
ظُهُورِهِمْ) أي لو تيقنوا أنها واقعة بهم لا محالة لما استعجلوا به.
ولو يعلمون حين يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ
النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) [الزمر : ١٦] (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ
فَوْقِهِمْ غَواشٍ) [الأعراف : ٤١]
وقال في هذه الآية : (حِينَ لا يَكُفُّونَ
عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ) وقال : (سَرابِيلُهُمْ مِنْ
قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) [إبراهيم : ٥٠]
فالعذاب محيط لهم من جميع جهاتهم (وَلا هُمْ
يُنْصَرُونَ) أي لا ناصر لهم ، كما قال : (وَما لَهُمْ مِنَ
اللهِ مِنْ واقٍ) [الرعد : ٣٤].
وقوله : (بَلْ تَأْتِيهِمْ
بَغْتَةً) أي تأتيهم النار بغتة أي فجأة ، (فَتَبْهَتُهُمْ) أي تذعرهم ، فيستسلمون لها حائرين ولا يدرون ما يصنعون ، (فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها) أي ليس لهم حيلة في ذلك ، (وَلا هُمْ
يُنْظَرُونَ) أي ولا يؤخر عنهم ذلك ساعة واحدة.
(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ
بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِؤُنَ(٤١) قُلْ مَنْ
يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ
رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ
تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ
مِنَّا يُصْحَبُونَ)
(٤٣)
يقول تعالى مسليا
لرسوله عما آذاه به المشركون من الاستهزاء والتكذيب (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ
بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِؤُنَ) يعني من العذاب الذي كانوا يستبعدون وقوعه ، كما قال تعالى
: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ
رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ
نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ
الْمُرْسَلِينَ) [الأنعام : ٣٤] ثم ذكر
تعالى نعمته على
عبيده في حفظه بالليل والنهار ، وكلاءته وحراسته لهم بعينه التي لا تنام ، فقال : (قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ
وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ) أي بدل الرحمن يعني غيره ، كما قال الشاعر : [رجز]
جارية لم تلبس
المرقّقا
|
|
ولم تذق من
البقول الفستقا
|
أي لم تذق بدل
البقول الفستق. وقوله تعالى : (بَلْ هُمْ عَنْ
ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ) أي لا يعترفون بنعمة الله عليهم وإحسانه إليهم ، بل يعرضون
عن آياته وآلائه ، ثم قال (أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ
تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا) استفهام إنكار وتقريع وتوبيخ ، أي ألهم آلهة تمنعهم
وتكلؤهم غيرنا؟ ليس الأمر كما توهموا ، ولا كما زعموا ، ولهذا قال : (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ) أن هذه الآلهة التي استندوا إليها غير الله لا يستطيعون
نصر أنفسهم. وقوله : (وَلا هُمْ مِنَّا
يُصْحَبُونَ) قال العوفي عن ابن عباس : ولا هم منا يصحبون أي يجارون.
وقال قتادة : لا يصبحون من الله بخير. وقال غيره : ولا هم منا يصحبون يمنعون.
(بَلْ مَتَّعْنا
هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا
نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (٤٤)
قُلْ
إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما
يُنْذَرُونَ (٤٥) وَلَئِنْ
مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا
ظالِمِينَ (٤٦) وَنَضَعُ
الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ
كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ)
(٤٧)
يقول تعالى مخبرا
عن المشركين : إنما غرهم وحملهم على ما هم فيه من الضلال أنهم متعوا في الحياة
الدنيا ونعموا وطال عليهم العمر فيما هم فيه ، فاعتقدوا أنهم على شيء ، ثم قال
واعظا لهم (أَفَلا يَرَوْنَ
أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) اختلف المفسرون في معناه ، وقد أسلفناه في سورة الرعد
وأحسن ما فسر بقوله تعالى : (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا
ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الأحقاف : ٢٧]
وقال الحسن البصري : يعني بذلك ظهور الإسلام على الكفر ، والمعنى أفلا يعتبرون
بنصر الله لأوليائه على أعدائه وإهلاكه الأمم المكذبة والقرى الظالمة وإنجائه
لعباده المؤمنين ، ولهذا قال : (أَفَهُمُ
الْغالِبُونَ) يعني بل هم المغلوبون الأسفلون الأخسرون والأرذلون.
وقوله : (قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ) أي إنما أنا مبلغ عن الله ما أنذرتكم به من العذاب
__________________
والنكال ، ليس ذلك
إلا عما أوحاه الله إلي ، ولكن لا يجدي هذا عمن أعمى الله بصيرته وختم على سمعه
وقلبه ، ولهذا قال : (وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ
الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ) وقوله : (وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ
نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) أي ولئن مس هؤلاء المكذبين أدنى شيء من عذاب الله ليعترفن
بذنوبهم وأنهم كانوا ظالمين لأنفسهم في الدنيا. وقوله : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ
لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) أي ونضع الموازين العدل ليوم القيامة ، الأكثر على أنه
إنما هو ميزان واحد ، وإنما جمع باعتبار تعدد الأعمال الموزونة فيه.
وقوله : (فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ
كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) كما قال تعالى : (وَلا يَظْلِمُ
رَبُّكَ أَحَداً) [الكهف : ٤٩] وقال
: (إِنَّ اللهَ لا
يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ
لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) [النساء : ٤٠]
وقال لقمان (يا بُنَيَّ إِنَّها
إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي
السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) [لقمان : ١٦] وفي
الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «كلمتان خفيفتان
على اللسان ، ثقيلتان في الميزان ، حبيبتان إلى الرحمن : سبحان الله وبحمده ،
سبحان الله العظيم» .
وقال الإمام أحمد : حدثنا إبراهيم بن إسحاق الطالقاني ، حدثنا ابن المبارك
عن ليث بن سعد بن عامر بن يحيى عن أبي عبد الرحمن الحبلي قال : سمعت عبد الله بن
عمرو بن العاص يقول : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن الله عزوجل يستخلص رجلا من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة ، فينشر
عليه تسعة وتسعين سجلا ، كل سجل مد البصر ، ثم يقول : أتنكر من هذا شيئا أظلمتك
كتبتي الحافظون؟ قال : لا يا رب. قال : أفلك عذر أو حسنة؟ قال : فيبهت الرجل فيقول
: لا يا رب ، فيقول : بلى إن لك عندنا حسنة واحدة لا ظلم عليك اليوم ، فتخرج له
بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله فيقول أحضروه ،
فيقول يا رب في هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقول : إنك لا تظلم ، قال : فتوضع
السجلات في كفة والبطاقة في كفة ، قال : فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ، قال : ولا
يثقل شيء مع بسم الله الرحمن الرحيم» ورواه الترمذي وابن ماجة من حديث الليث بن سعد ، وقال
الترمذي : حسن غريب.
وقال الإمام أحمد : حدثنا قتيبة ، حدثنا ابن لهيعة عن عمرو بن يحيى عن أبي
عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «توضع
__________________
الموازين يوم
القيامة ، فيؤتى بالرجل فيوضع في كفة ، ويوضع ما أحصي عليه فيمايل به الميزان ،
قال : فيبعث به إلى النار ، قال : فإذا أدبر به إذا صائح من عند الرحمن عزوجل يقول : لا تعجلوا ، فإنه قد بقي له ، فيؤتى ببطاقة فيها لا
إله إلا الله فتوضع مع الرجل في كفة حتى يميل به الميزان».
وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا أبو نوح مرارا ، أنبأنا ليث بن سعد عن مالك
بن أنس عن الزهري عن عروة عن عائشة أن رجلا من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم جلس بين يديه ، فقال يا رسول الله إن لي مملوكين يكذبونني
ويخونونني ويعصونني ، وأضربهم وأشتمهم ، فكيف أنا منهم؟ فقال له رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك وعقابك إياهم ، فإن كان
عقابك إياهم بقدر ذنوبهم ، كان كفافا لا لك ولا عليك ، وإن كان عقابك إياهم دون
ذنوبهم ، كان فضلا لك ، وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم ، اقتص لهم منك الفضل الذي
بقي قبلك ، فجعل الرجل يبكي بين يدي رسول الله صلىاللهعليهوسلم ويهتف ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «ما له لا يقرأ
كتاب الله (وَنَضَعُ
الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ
كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) فقال الرجل : يا رسول الله ما أجد شيئا خير من فراق هؤلاء
ـ يعني عبيده ـ إني أشهدك أنهم أحرار كلهم .
(وَلَقَدْ آتَيْنا
مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (٤٨)
الَّذِينَ
يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (٤٩) وَهذا ذِكْرٌ
مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ)
(٥٠)
قد تقدم التنبيه
على أن الله تعالى كثيرا ما يقرن بين ذكر موسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهما ،
وبين كتابيهما ، ولهذا قال : (وَلَقَدْ آتَيْنا
مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ) قال مجاهد : يعني الكتاب. وقال أبو صالح : التوراة. وقال
قتادة : التوراة حلالها وحرامها ، وما فرق الله بين الحق والباطل. وقال ابن زيد
يعني النصر :
وجامع القول في
ذلك أن الكتب السماوية مشتملة على التفرقة بين الحق والباطل ، والهدى والضلال ،
والغي والرشاد ، والحلال والحرام ، وعلى ما يحصل نورا في القلوب وهداية وخوفا
وإنابة وخشية ، ولهذا قال : (الْفُرْقانَ وَضِياءً
وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ) أي تذكيرا لهم وعظة ، ثم وصفهم فقال: (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ
بِالْغَيْبِ) كقوله : (مَنْ خَشِيَ
الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) [ق : ٥٠]. وقوله :
(إِنَّ الَّذِينَ
يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) [الملك : ١٢] (وَهُمْ مِنَ
السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ) أي خائفون وجلون ، ثم قال تعالى : (وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ) يعني
__________________
القرآن العظيم
الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد (أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) أي أفتنكرونه وهو في غاية الجلاء والظهور؟.
(وَلَقَدْ آتَيْنا
إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (٥١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ
وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (٥٢)
قالُوا
وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ
(٥٣) قالَ
لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٥٤) قالُوا أَجِئْتَنا
بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (٥٥)
قالَ
بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى
ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ)
(٥٦)
يخبر تعالى عن
خليله إبراهيم عليهالسلام أنه آتاه رشده من قبل ، أي من صغره ألهمه الحق والحجة على
قومه ، كما قال تعالى : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا
آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ) [الأنعام : ٨٣]
وما يذكر من الأخبار عنه في إدخال أبيه له في السرب وهو رضيع ، وأنه خرج بعد أيام
فنظر إلى الكوكب والمخلوقات فتبصر فيها ، وما قصه كثير من المفسرين وغيرهم فعامتها
أحاديث بني إسرائيل ، فما وافق منها الحق ، مما بأيدينا عن المعصوم ، قبلناه
لموافقته الصحيح ، وما خالف شيئا من ذلك رددناه ، وما ليس فيه موافقة ولا مخالفة
لا نصدقه ولا نكذبه بل نجعله وقفا ، وما كان من هذا الضرب منها فقد رخص كثير من
السلف في روايته ، وكثير من ذلك مما لا فائدة فيه ولا حاصل له مما لا ينتفع به في
الدين ، ولو كانت فائدته تعود على المكلفين في دينهم لبينته هذه الشريعة الكاملة
الشاملة ، والذي نسلكه في هذا التفسير الإعراض عن كثير من الأحاديث الإسرائيلية
لما فيها من تضييع الزمان ، ولما اشتمل عليه كثير منها من الكذب المروج عليهم ،
فإنهم لا تفرقة عندهم بين صحيحها وسقيمها ، كما حرره الأئمة الحفاظ المتقنون من
هذه الأمة. والمقصود هاهنا أن الله تعالى أخبر أنه قد آتى إبراهيم رشده من قبل ،
أي من قبل ذلك.
وقوله : (وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ) أي وكان أهلا لذلك ، ثم قال : (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما
هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ) هذا هو الرشد الذي أوتيه من صغره الإنكار على قومه في
عبادة الأصنام من دون الله عزوجل ، فقال : (ما هذِهِ
التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ) أي معتكفون على عبادتها. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن
بن محمد الصباح ، حدثنا أبو معاوية الضرير ، حدثنا سعيد بن طريف عن الأصبغ بن
نباتة قال : مر علي رضي الله عنه على قوم يلعبون بالشطرنج ، فقال : ما هذه
التماثيل التي أنتم لها عاكفون ، لأن يمس أحدكم جمرا حتى يطفأ خير له من أن يمسها (قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ) لم يكن لهم حجة سوى صنيع آبائهم الضلال.
ولهذا قال : (لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ
فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي الكلام مع آبائكم الذين احتججتم بصنيعهم كالكلام معكم ،
فأنتم وهم في ضلال على غير الطريق المستقيم ، فلما سفه أحلامهم
وضلل آباءهم
واحتقر آلهتهم (قالُوا أَجِئْتَنا
بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ) يقولون : هذا الكلام الصادر عنك تقوله لاعبا أو محقا فيه ،
فإنا لم نسمع به قبلك (قالَ بَلْ رَبُّكُمْ
رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَ) أي ربكم الذي لا إله غيره ، وهو الذي خلق السموات والأرض
وما حوت من المخلوقات الذي ابتدأ خلقهن ، وهو الخالق لجميع الأشياء (وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ
الشَّاهِدِينَ) أي وأنا أشهد أنه لا إله غيره ولا رب سواه.
(وَتَاللهِ
لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ
(٥٧) فَجَعَلَهُمْ
جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (٥٨)
قالُوا
مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٥٩) قالُوا سَمِعْنا
فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (٦٠) قالُوا فَأْتُوا
بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (٦١) قالُوا أَأَنْتَ
فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (٦٢)
قالَ
بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ)
(٦٣)
ثم أقسم الخليل
قسما أسمعه بعض قومه ليكيدن أصنامهم ، أي ليحرصن على أذاهم وتكسيرهم بعد أن يولوا
مدبرين ، أي إلى عيدهم ، وكان لهم عيد يخرجون إليه ، قال السدي : لما اقترب وقت
ذلك العيد قال أبوه : يا بني لو خرجت معنا إلى عيدنا لأعجبك ديننا ، فخرج معهم ،
فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه إلى الأرض ، وقال : إني سقيم فجعلوا يمرون عليه
وهو صريع فيقولون : مه ، فيقول : إني سقيم ، فلما جاز عامتهم وبقي ضعفاؤهم قال : (تَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) فسمعه أولئك . وقال ابن إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله قال : لما خرج
قوم إبراهيم إلى عيدهم مروا عليه ، فقالوا : يا إبراهيم ألا تخرج معنا؟ قال : إني
سقيم ، وقد كان بالأمس ، قال : (تَاللهِ لَأَكِيدَنَّ
أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) فسمعه ناس منهم.
وقوله : (فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً) أي حطاما كسرها كلها ، إلا كبيرا لهم يعني إلا الصنم
الكبير عندهم ، كما قال : (فَراغَ عَلَيْهِمْ
ضَرْباً بِالْيَمِينِ) [الصافات : ٩٣].
وقوله (لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ
يَرْجِعُونَ) ذكروا أنه وضع القدوم في يد كبيرهم لعلهم يعتقدون أنه هو
الذي غار لنفسه ، وأنف أن تعبد معه هذه الأصنام الصغار فكسرها (قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا
إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ) أي حين رجعوا وشاهدوا ما فعله الخليل بأصنامهم من الإهانة
والإذلال الدال على عدم إلهيتها وعلى سخافة عقول عابديها.
(قالُوا مَنْ فَعَلَ
هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ) أي في صنيعه هذا ، (قالُوا سَمِعْنا
فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ) أي قال من سمعه يحلف إنه ليكيدنهم : سمعنا فتى أي شابا ،
يذكرهم يقال له إبراهيم. قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عوف ، حدثنا سعيد بن
منصور ، حدثنا جرير بن عبد الحميد عن قابوس عن أبيه عن ابن عباس قال : ما بعث الله
نبيا إلا شابا ولا أوتي
__________________
العلم عالم إلا
وهو شاب ، وتلا هذه الآية (قالُوا سَمِعْنا
فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ).
وقوله (قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ
النَّاسِ) أي على رؤوس الأشهاد في الملأ الأكبر بحضرة الناس كلهم ،
وكان هذا هو المقصود الأكبر لإبراهيم عليهالسلام أن يبين في هذا المحفل العظيم كثرة جهلهم وقلة عقلهم في
عبادة هذه الأصنام. التي لا تدفع عن نفسها ضرا ، ولا تملك لها نصرا ، فكيف يطلب
منها شيء من ذلك؟ (قالُوا أَأَنْتَ
فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) يعني الذي تركه لم يكسره (فَسْئَلُوهُمْ إِنْ
كانُوا يَنْطِقُونَ) وإنما أراد بهذا أن يبادروا من تلقاء أنفسهم فيعترفوا أنهم
لا ينطقون ، وأن هذا لا يصدر عن هذا الصنم لأنه جماد.
وفي الصحيحين من
حديث هشام بن حسان عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إن إبراهيم عليهالسلام لم يكذب غير ثلاث : ثنتين في ذات الله قوله : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) ، وقوله : (إِنِّي سَقِيمٌ) ـ قال ـ وبينا هو يسير في أرض جبار من الجبابرة ومعه سارة
، إذ نزل منزلا فأتى الجبار رجل فقال : إنه قد نزل هاهنا رجل بأرضك معه امرأة أحسن
الناس ، فأرسل إليه فجاء ، فقال : ما هذه المرأة منك؟ قال : أختي. قال : فاذهب
فأرسل بها إلي ، فانطلق إلى سارة فقال : إن هذا الجبار قد سألني عنك ، فأخبرته أنك
أختي ، فلا تكذبيني عنده ، فإنك أختي في كتاب الله ، وإنه ليس في الأرض مسلم غيري
وغيرك ، فانطلق بها إبراهيم ثم قام يصلي ، فلما أن دخلت عليه فرآها أهوى إليها
فتناولها فأخذ أخذا شديدا ، فقال : ادعي الله لي ولا أضرك ، فدعت له ، فأرسل فأهوى
إليها ، فتناولها فأخذ بمثلها أو أشد ، ففعل ذلك الثالثة ، فأخذ فذكر مثل المرتين
الأوليين ، فقال : ادعي الله فلا أضرك ، فدعت له فأرسل ، ثم دعا أدنى حجابه فقال :
إنك لم تأتني بإنسان ، ولكنك أتيتني بشيطان ، أخرجها وأعطها هاجر. فأخرجت وأعطيت
هاجر فأقبلت ، فلما أحس إبراهيم بمجيئها ، انفتل من صلاته ، وقال : مهيم. قالت :
كفى الله كيد الكافر الفاجر وأخدمني هاجر». قال محمد بن سيرين : فكان أبو هريرة
إذا حدث بهذا الحديث قال : تلك أمكم يا بني ماء السماء .
(فَرَجَعُوا إِلى
أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (٦٤)
ثُمَّ
نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (٦٥) قالَ أَفَتَعْبُدُونَ
مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ(٦٦) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ)
(٦٧)
يقول تعالى مخبرا
عن قوم إبراهيم حين قال لهم ما قال (فَرَجَعُوا إِلى
أَنْفُسِهِمْ) أي بالملامة في عدم احترازهم وحراستهم لآلهتهم ، فقالوا : (إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ) أي في ترككم لها مهملة لا حافظ عندها ، (ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ) أي ثم أطرقوا في الأرض فقالوا : (لَقَدْ
__________________
عَلِمْتَ
ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ). قال قتادة : أدركت القوم حيرة سوء ، فقالوا (لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ).
وقال السدي (ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ) أي في الفتنة. وقال ابن زيد : أي في الرأي ، وقول قتادة
أظهر في المعنى ، لأنهم إنما فعلوا ذلك حيرة وعجزا ، ولهذا قالوا له (لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ) فكيف تقول لنا سلوهم إن كانوا ينطقون ، وأنت تعلم انها لا
تنطق ، فعندها قال لهم إبراهيم لما اعترفوا بذلك (أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ
دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ) أي إذا كانت لا تنطق وهي لا تنفع ولا تضر ، فلم تعبدونها
من دون الله؟ (أُفٍّ لَكُمْ وَلِما
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي أفلا تتدبرون ما أنتم فيه من الضلال والكفر الغليظ الذي
لا يروج إلا على جاهل ظالم فاجر. فأقام عليهم الحجة وألزمهم بها ، ولهذا قال تعالى
: (وَتِلْكَ حُجَّتُنا
آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ) [الأنعام : ٩٣]
الآية.
(قالُوا حَرِّقُوهُ
وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٦٨)
قُلْنا
يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (٦٩)
وَأَرادُوا
بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ)
(٧٠)
لما دحضت حجتهم
وبان عجزهم وظهر الحق واندفع الباطل عدلوا إلى استعمال جاه ملكهم ، فقالوا : (حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ
إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) ، فجمعوا حطبا كثيرا جدا ، قال السدي : حتى إن كانت المرأة
تمرض فتنذر إن عوفيت أن تحمل حطبا لحريق إبراهيم ، ثم جعلوه في جوبة من الأرض وأضرموها نارا ، فكان لها شرر عظيم ولهب مرتفع لم
توقد نار قط مثلها ، وجعلوا إبراهيم عليهالسلام في كفة المنجنيق بإشارة رجل من أعراب فارس من الأكراد. قال
شعيب الجبائي ، اسمه هيزن : فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة ،
فلما ألقوه قال : حسبي الله ونعم الوكيل ، كما رواه البخاري عن ابن عباس أنه قال :
حسبي الله ونعم الوكيل ، قالها إبراهيم حين ألقي في النار ، وقالها محمد عليهماالسلام حين قالوا إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم ، فزادهم إيمانا
، وقالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل.
وروى الحافظ أبو
يعلى : حدثنا أبو هشام ، حدثنا إسحاق بن سليمان عن أبي جعفر ، عن عاصم ، عن أبي
صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لما ألقي إبراهيم عليهالسلام في النار ، قال :
اللهم إنك في السماء واحد ، وأنا في الأرض واحد أعبدك» ويروى أنه لما جعلوا
يوثقونه قال : لا إله إلا أنت ، سبحانك لك الحمد ، ولك الملك لا شريك لك ، وقال
شعيب الجبائي : كان عمره إذ ذاك ست عشرة سنة ، فالله أعلم ، وذكر بعض السلف أنه
عرض له جبريل وهو في الهواء فقال : ألك حاجة؟ فقال : أما إليك فلا ، وأما من الله
فبلى.
وقال سعيد بن جبير
ـ ويروى عن ابن عباس أيضا ـ قال : لما ألقي إبراهيم ، جعل خازن
__________________
المطر يقول : متى
أومر بالمطر فأرسله؟ قال : فكان أمر الله أسرع من أمره ، قال الله (يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى
إِبْراهِيمَ) قال : لم يبق نار في الأرض إلا طفئت . وقال كعب الأحبار : لم ينتفع أحد يومئذ بنار ، ولم تحرق
النار من إبراهيم سوى وثاقه .
وقال الثوري عن
الأعمش ، عن شيخ ، عن علي بن أبي طالب (قُلْنا يا نارُ
كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) قال : لا تضريه. وقال ابن عباس وأبو العالية : لو لا أن
الله عزوجل قال : وسلاما لآذى إبراهيم بردها ، وقال جويبر عن الضحاك :
كوني بردا وسلاما على إبراهيم ، قالوا : صنعوا له حظيرة من حطب جزل ، وأشعلوا فيه
النار من كل جانب ، فأصبح ولم يصبه منها شيء حتى أخمدها الله ، قال : ويذكرون أن
جبريل كان معه يمسح وجهه من العرق ، فلم يصبه منها شيء غير ذلك. وقال السدي : كان
معه فيها ملك الظل.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا يوسف بن موسى ، حدثنا مهران ، حدثنا إسماعيل بن أبي
خالد عن المنهال بن عمرو قال : أخبرت أن إبراهيم ألقي في النار ، فقال : كان فيها
إما خمسين وإما أربعين ، قال : ما كنت أياما وليالي قط أطيب عيشا إذ كنت فيها وددت
أن عيشي وحياتي كلها مثل عيشي إذ كنت فيها .
وقال أبو زرعة بن
عمرو بن جرير عن أبي هريرة قال : إن أحسن شيء قال أبو إبراهيم لما رفع عنه الطبق
وهو في النار : وجده يرشح جبينه ، قال عند ذلك : نعم الرب ربك يا إبراهيم. وقال
قتادة : لم يأت يومئذ دابة إلا أطفأت عنه النار ، إلا الوزغ ، وقال الزهري : أمر
النبيصلىاللهعليهوسلم بقتله ، وسماه فويسقا. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا عبيد
الله ابن أخى ابن وهب ، حدثني عمي ، حدثنا جرير بن حازم أن نافعا حدثه قال :
حدثتني مولاة الفاكه بن المغيرة المخزومي قالت: دخلت على عائشة ، فرأيت في بيتها
رمحا ، فقلت : يا أم المؤمنين ما تصنعين بهذا الرمح؟ فقالت : نقتل به هذه الأوزاغ
، إن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إن إبراهيم حين ألقي في النار لم يكن في الأرض دابة
إلا تطفئ النار غير الوزغ ، فإنه كان ينفخ على إبراهيم» فأمرنا رسول اللهصلىاللهعليهوسلم بقتله.
وقوله : (وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ
الْأَخْسَرِينَ) أي المغلوبين الأسفلين ، لأنهم أرادوا بنبي الله كيدا ،
فكادهم الله ونجاه من النار ، فغلبوا هنالك ، وقال عطية العوفي : لما ألقي إبراهيم
في النار ، جاء ملكهم لينظر إليه ، فطارت شرارة فوقعت على إبهامه ، فأحرقته مثل
الصوفة.
__________________
(وَنَجَّيْناهُ
وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (٧١)
وَوَهَبْنا
لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (٧٢) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً
يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ
الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (٧٣)
وَلُوطاً
آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ
تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (٧٤)
وَأَدْخَلْناهُ
فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ)
(٧٥)
يقول تعالى مخبرا
عن إبراهيم أنه سلمه الله من نار قومه وأخرجه من بين أظهرهم مهاجرا إلى بلاد الشام
، إلى الأرض المقدسة منها. كما قال الربيع بن أنس عن أبي العالية ، عن أبي بن كعب
في قوله : (إِلَى الْأَرْضِ
الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ) قال : الشام وما من ماء عذب إلا يخرج من تحت الصخرة ، وكذا
قال أبو العالية أيضا وقال قتادة : كان بأرض العراق ، فأنجاه الله إلى الشام ،
وكان يقال للشام عماد دار الهجرة ، وما نقص من الأراضي زيد في الشام ، وما نقص من
الشام زيد في فلسطين ، وكان يقال : هي أرض المحشر والمنشر ، وبها ينزل عيسى ابن
مريم عليهالسلام ، وبها يهلك المسيح الدجال.
وقال كعب الأحبار
في قوله : (إِلَى الْأَرْضِ
الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ) إلى حران. وقال السدي : انطلق إبراهيم ولوط قبل الشام ،
فلقي إبراهيم سارة وهي ابنة ملك حران وقد طعنت على قومها في دينهم ، فتزوجها على
أن لا يغيرها ، رواه ابن جرير ، وهو غريب ، والمشهور أنها ابنة عمه ، وأنه خرج بها
مهاجرا مر بلاده. وقال العوفي عن ابن عباس : إلى مكة ، ألا تسمع إلى قوله : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ
لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ
إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) [آل عمران : ٩٦].
وقوله : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ
نافِلَةً) قال عطاء ومجاهد وعطية وقال ابن عباس وقتادة والحكم بن
عيينة : النافلة ولد الولد ، يعني أن يعقوب ولد إسحاق ، كما قال : (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ
إِسْحاقَ يَعْقُوبَ). وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : سأل واحدا ، فقال (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) فأعطاه الله إسحاق وزاده يعقوب نافلة ، (وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ) أي الجميع أهل خير وصلاح ، (وَجَعَلْناهُمْ
أَئِمَّةً) أي يقتدى بهم.
(يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) أي يدعون إلى الله بإذنه ، ولهذا قال : (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ
الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ) من باب عطف الخاص على العام ، (وَكانُوا لَنا عابِدِينَ) أي فاعلين لما يأمرون الناس به ، ثم عطف بذكر لوط ، وهو
لوط بن هاران بن آزر. كان قد آمن بإبراهيم عليهالسلام واتبعه وهاجر معه ، كما قال تعالى : (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي
مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي)
__________________
[العنكبوت : ٢٦]
فآتاه الله حكما وعلما ، وأوحى إليه وجعله نبيا وبعثه إلى سدوم وأعمالها ، فخالفوه
وكذبوه ، فأهلكهم الله ودمر عليهم ، كما قص خبرهم في غير موضع من كتابه العزيز ،
ولهذا قال : (وَنَجَّيْناهُ مِنَ
الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ
فاسِقِينَ وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ).
(وَنُوحاً إِذْ نادى
مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ
الْعَظِيمِ (٧٦) وَنَصَرْناهُ مِنَ
الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ
فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ)
(٧٧)
يخبر تعالى عن
استجابته لعبده ورسوله نوح عليهالسلام حين دعا على قومه لما كذبوه (فَدَعا رَبَّهُ
أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) [القمر : ١٠] (وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى
الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا
عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) [نوح : ٢٦ ـ ٢٧]
ولهذا قال هاهنا : (إِذْ نادى مِنْ
قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ) أي الذين آمنوا به ، كما قال : (وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ
الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) [هود : ٤٠]. وقوله
: (مِنَ الْكَرْبِ
الْعَظِيمِ) أي من الشدة والتكذيب والأذى ، فإنه لبث فيهم ألف سنة إلا
خمسين عاما يدعوهم إلى الله عزوجل فلم يؤمن به منهم إلا القليل ، وكانوا يتصدون لأذاه
ويتواصون قرنا بعد قرن وجيلا بعد جيل على خلافه ، وقوله : (وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ) أي ونجيناه وخلصناه منتصرا من القوم (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا
إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) أي أهلكهم الله بعامة ، ولم يبق على وجه الأرض منهم أحد ،
كما دعا عليهم نبيهم.
(وَداوُدَ
وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ
وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ
(٧٨)
فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ
داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (٧٩) وَعَلَّمْناهُ
صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ
شاكِرُونَ(٨٠) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً
تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ
شَيْءٍ عالِمِينَ (٨١) وَمِنَ الشَّياطِينِ
مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ
حافِظِينَ)
(٨٢)
قال ابن إسحاق عن
مرة عن ابن مسعود : كان ذلك الحرث كرما قد تدلت عناقيده ، وكذا قال شريح. وقال ابن عباس : النفش الرعي. وقال شريح
والزهري وقتادة : النفش لا يكون إلا بالليل ، زاد قتادة : والهمل بالنهار. وقال
ابن جرير : حدثنا أبو كريب وهارون بن إدريس الأصم ، قالا حدثنا المحاربي عن أشعث
عن أبي إسحاق عن مرة عن ابن مسعود في قوله : (وَداوُدَ
وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ) قال : كرم قد أنبتت عناقيده فأفسدته ، قال : فقضى داود
بالغنم لصاحب الكرم ، فقال سليمان : غير هذا يا نبي الله: قال :
__________________
وما ذاك؟ قال :
تدفع الكرم إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتى يعود كما كان ، وتدفع الغنم إلى صاحب
الكرم فيصيب منها حتى إذا كان الكرم كما كان دفعت الكرم إلى صاحبه ، ودفعت الغنم
إلى صاحبها ، فذلك قوله : (فَفَهَّمْناها
سُلَيْمانَ) وكذا روى العوفي عن ابن عباس.
وقال حماد بن سلمة
عن علي بن زيد : حدثني خليفة عن ابن عباس قال : قضى داود بالغنم لصحاب الحرث فخرج
الرعاة معهم الكلاب ، فقال لهم سليمان : كيف قضى بينكم؟ فأخبروه ، فقال : لو وليت
أمركم لقضيت بغير هذا ، فأخبر بذلك داود ، فدعاه فقال : كيف تقضي بينهم؟ قال :
أدفع الغنم إلى صاحب الحرث ، فيكون له أولادها وألبانها وسلاؤها ومنافعها ، ويبذر أصحاب الغنم لأهل الحرث مثل حرثهم ، فإذا
بلغ الحرث الذي كان عليه ، أخذه أصحاب الحرث وردوا الغنم إلى أصحابها.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبي ، حدثنا سعيد بن سليمان ، حدثنا خديج عن أبي إسحاق عن مرة عن مسروق
قال : الحرث الذي نفشت فيه غنم القوم ، إنما كان كرما نفشت فيه الغنم فلم تدع فيه
ورقة ولا عنقودا من عنب إلا أكلته ، فأتوا داود فأعطاهم رقابها ، فقال سليمان : لا
بل تؤخذ الغنم فيعطاها أهل الكرم فيكون لهم لبنها ونفعها ويعطى أهل الغنم الكرم
فيعمروه ويصلحوه حتى يعود كالذي كان ليلة نفشت فيه الغنم ، ثم يعطى أهل الغنم
غنمهم ، وأهل الكرم كرمهم ، وهكذا قال شريح ومرة ومجاهد وقتادة وابن زيد وغير
واحد.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن أبي زياد ، حدثنا يزيد بن هارون ، أنبأنا
إسماعيل عن عامر قال : جاء رجلان إلى شريح فقال أحدهما : إن شياه هذا قطعت غزلا لي
، فقال شريح : نهارا أم ليلا؟ فإن كان نهارا فقد برىء صاحب الشياه ، وإن كان ليلا
فقد ضمن ، ثم قرأ (وَداوُدَ
وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ) الآية ، وهذا الذي قاله شريح شبيه بما رواه الإمام أحمد
وأبو داود وابن ماجة من حديث الليث بن سعد عن الزهري ، عن حرام بن محيصة ، أن ناقة
البراء بن عازب دخلت حائطا فأفسدت فيه ، فقضى رسول الله صلىاللهعليهوسلم على أهل الحوائط حفظها بالنهار ، وما أفسدت المواشي بالليل
ضامن على أهلها ، وقد علل هذا الحديث وقد بسطنا الكلام عليه في كتاب
الأحكام ، وبالله التوفيق.
وقوله : (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا
آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا موسى بن إسماعيل ،
حدثنا حماد عن حميد أن إياس بن معاوية لما استقضى أتاه الحسن فبكى ، فقال : ما
يبكيك؟ قال : يا أبا سعيد بلغني أن القضاة رجل اجتهد فأخطأ فهو في النار،
__________________
ورجل مال به الهوى
فهو في النار ، ورجل اجتهد فأصاب فهو في الجنة. فقال الحسن البصري : إن فيما قص
الله من نبأ داود وسليمان عليهماالسلام والأنبياء حكما يرد قول هؤلاء الناس عن قولهم ، قال الله
تعالى : (وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ
إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا
لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ) فأثنى الله على سليمان ولم يذم داود ، ثم قال : ـ يعني
الحسن ـ : إن الله اتخذ على الحكام ثلاثا : لا يشتروا به ثمنا قليلا ، ولا يتبعوا
فيه الهوى ، ولا يخشوا فيه أحدا ، ثم تلا (يا داوُدُ إِنَّا
جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا
تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) [ص : ٢٦] وقال : (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) [المائدة : ٤٤]
وقال (وَلا تَشْتَرُوا
بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) [المائدة : ٤٤].
قلت : أما
الأنبياء عليهمالسلام ، فكلهم معصومون مؤيدون من الله عزوجل ، وهذا مما لا خلاف فيه بين العلماء المحققين من السلف
والخلف ، وأما من سواهم فقد ثبت في صحيح البخاري عن عمرو بن العاص أنه قال : قال
رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إذا اجتهد الحاكم فأصاب ، فله أجران ، وإذا اجتهد فأخطأ
، فله أجرا» فهذا الحديث يرد نصا ما توهمه إياس من أن القاضي إذا اجتهد
فأخطأ فهو في النار ، والله أعلم.
وفي السنن : «القضاة
ثلاثة : قاض في الجنة ، وقاضيان في النار ، رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة ،
ورجل حكم بين الناس على جهل فهو في النار ، ورجل علم الحق وقضى خلافه فهو في النار»
، وقريب من هذه القصة المذكورة في القرآن ما رواه الإمام أحمد في مسنده حيث قال : حدثنا علي بن حفص ، أخبرنا ورقاء عن
أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «بينما امرأتان معهما ابنان لهما ، إذ جاء الذئب فأخذ
أحد الابنين فتحاكمتا إلى داود ، فقضى به الكبرى ، فخرجتا فدعاهما سليمان فقال :
هاتوا السكين أشقه بينكما : فقالت الصغرى : يرحمك الله هو ابنها لا تشقه ، فقضى به
للصغرى» وأخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما ، وبوب عليه النسائي في
كتاب القضاء : [باب الحاكم يوهم خلاف الحكم ليستعلم الحق].
وهكذا القصة التي
أوردها الحافظ أبو القاسم ابن عساكر في ترجمة سليمان عليهالسلام من تاريخه من طريق الحسن بن سفيان عن صفوان بن صالح ، عن
الوليد بن مسلم عن سعيد بن بشير عن قتادة عن مجاهد ، عن ابن عباس ، فذكر قصة مطولة
، ملخصها : أن امرأة حسناء في زمان بني إسرائيل ، راودها عن نفسها أربعة من
رؤسائهم ، فامتنعت على كل منهم ، فاتفقوا فيما
__________________
بينهم عليها ،
فشهدوا عليها عند داود عليهالسلام أنها مكنت من نفسها كلبا لها قد عودته ذلك منها ، فأمر
برجمها ، فلما كان عشية ذلك اليوم جلس سليمان واجتمع معه ولدان مثله ، فانتصب
حاكما وتزيا أربعة منهم بزي أولئك ، وآخر بزي المرأة ، وشهدوا عليها بأنها مكنت من
نفسها كلبا ، فقال سليمان فرقوا بينهم ، فسأل أولهم ما كان لون الكلب؟ فقال أسود ،
فعزله واستدعى الآخر فسأله عن لونه ، فقال : أحمر ، وقال الآخر : أغبش ، وقال
الآخر : أبيض ، فأمر عند ذلك بقتلهم ، فحكي ذلك لداود عليهالسلام فاستدعى من فوره بأولئك الأربعة فسألهم متفرقين عن لون ذلك
الكلب ، فاختلفوا عليه فأمر بقتلهم.
وقوله : (وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ
يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ) الآية ، وذلك لطيب صوته بتلاوة كتابه الزبور ، وكان إذا
ترنم به تقف الطير في الهواء فتجاوبه ، وترد عليه الجبال تأويبا ، ولهذا لما مر
النبي صلىاللهعليهوسلم على أبي موسى الأشعري وهو يتلو القرآن من الليل وكان له
صوت طيب جدا ، فوقف واستمع لقراءته ، وقال : «لقد أوتي هذا مزمارا من مزامير آل
داود» قال : يا رسول الله لو علمت أنك تستمع لحبرته لك تحبيرا . وقال أبو عثمان النهدي : ما سمعت صوت صنج ولا بربط ولا
مزمار مثل صوت أبي موسى رضي الله عنه ، ومع هذا قال عليه الصلاة والسلام : «لقد
أوتي مزمارا من مزامير آل داود».
وقوله : (وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ
لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ) يعني صنعة الدروع. قال قتادة : إنما كانت الدروع قبله
صفائح : وهو أول من سردها حلقا ، كما قال تعالى : (وَأَلَنَّا لَهُ
الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) [سبأ : ١٠ ـ ١١]
أي لا توسع الحلقة فتقلق المسمار ولا تغلظ المسمار فتقد الحلقة ، ولهذا قال : (لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ) يعني في القتال (فَهَلْ أَنْتُمْ
شاكِرُونَ) أي نعم الله عليكم لما ألهم به عبده داود ، فعلمه ذلك من
أجلكم.
وقوله : (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً) أي وسخرنا لسليمان الريح العاصفة (تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ
الَّتِي بارَكْنا فِيها) يعني أرض الشام (وَكُنَّا بِكُلِّ
شَيْءٍ عالِمِينَ) وذلك أنه كان له بساط من خشب يوضع عليه كل ما يحتاج إليه
من أمور المملكة والخيل والجمال والخيام والجند ثم يأمر الريح أن تحمله ، فتدخل
تحته ثم تحمله وترفعه وتسير به ، وتظله الطير تقيه الحر إلى حيث يشاء من الأرض ،
فينزل وتوضع آلاته وحشمه ، قال الله تعالى : (فَسَخَّرْنا لَهُ
الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ) [ص : ٣٦] وقال
تعالى : (غُدُوُّها شَهْرٌ
وَرَواحُها شَهْرٌ) [سبأ : ١٢].
قال ابن أبي حاتم
: ذكر عن سفيان بن عيينة عن أبي سنان عن سعيد بن جبير قال : كان
__________________
يوضع لسليمان
ستمائة ألف كرسي ، فيجلس مما يليه مؤمنو الإنس ، ثم يجلس من ورائهم مؤمنو الجن ،
ثم يأمر الطير فتظلهم ، ثم يأمر الريح فتحمله صلىاللهعليهوسلم. قال عبد الله بن عبيد بن عمير : كان سليمان يأمر الريح
فتجتمع كالطود العظيم كالجبل ، ثم يأمر بفراشه فيوضع على أعلى مكان منها ، ثم يدعو
بفرس من ذوات الأجنحة فيرتفع حتى يصعد على فراشه ، ثم يأمر الريح فترتفع به كل شرف
دون السماء ، وهو مطأطىء رأسه ما يلتفت يمينا ولا شمالا ، تعظيما لله عزوجل ، وشكرا لما يعلم من صغر ما هو فيه في ملك الله عزوجل ، حتى تضعه الريح حيث شاء أن تضعه.
وقوله : (وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ
لَهُ) أي في الماء يستخرجون اللئالئ والجواهر وغير ذلك ، (وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ) أي غير ذلك ، كما قال تعالى : (وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ
وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) [ص : ٣٧ ـ ٣٨].
وقوله : (وَكُنَّا لَهُمْ
حافِظِينَ) أي يحرسه الله أن يناله أحد من الشياطين بسوء ، بل كل في
قبضته وتحت قهره ، لا يتجاسر أحد منهم على الدنو إليه والقرب منه ، بل هو يحكم
فيهم إن شاء أطلق وإن شاء حبس منهم من يشاء ، ولهذا قال : (وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي
الْأَصْفادِ).
(وَأَيُّوبَ إِذْ نادى
رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣) فَاسْتَجَبْنا لَهُ
فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ
رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ)
(٨٤)
يذكر تعالى عن
أيوب عليهالسلام ، ما كان أصابه من البلاء في ماله وولده وجسده ، وذلك أنه
كان له من الدواب والأنعام والحرث شيء كثير وأولاد ومنازل مرضية ، فابتلى في ذلك
كله وذهب عن آخره ، ثم ابتلي في جسده ، يقال : بالجذام في سائر بدنه ، ولم يبق منه
سليم سوى قلبه ولسانه ، يذكر بهما الله عزوجل ، حتى عافه الجليس ، وأفرد في ناحية من البلد ، ولم يبق
أحد من الناس يحنو عليه سوى زوجته كانت تقوم بأمره ، ويقال : إنها احتاجت ، فصارت
تخدم الناس من أجله ، وقد قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «أشد الناس بلاء الأنبياء ، ثم الصالحون ، ثم الأمثل
فالأمثل» .
وفي الحديث الآخر «يبتلى
الرجل على قدر دينه ، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه» وقد كان نبي الله أيوب عليهالسلام غاية في الصبر. وبه يضرب المثل في ذلك. وقال يزيد بن ميسرة
: لما ابتلى الله أيوب عليهالسلام بذهاب الأهل والمال والولد ، ولم يبق شيء له أحسن الذكر ،
ثم قال : أحمدك رب الأرباب ، الذي أحسنت إليّ ، أعطيتني المال والولد فلم يبق من
__________________
قلبي شعبة إلا قد
دخله ذلك ، فأخذت ذلك كله مني ، وفرغت قلبي ، فليس يحول بيني وبينك شيء ، ولو يعلم
عدوي إبليس بالذي صنعت حسدني. قال : فلقي إبليس من ذلك منكرا . قال : وقال أيوب عليهالسلام : يا رب إنك أعطيتني المال والولد ، فلم يقم على بابي أحد
يشكوني لظلم ظلمته ، وأنت تعلم ذلك ، وأنه كان يوطأ لي الفراش فأتركها ، وأقول
لنفسي يا نفس إنك لم تخلقي لوطء الفراش ما تركت ذلك إلا ابتغاء وجهك. رواه ابن أبي
حاتم.
وقد روي عن وهب بن
منبه في خبره قصة طويلة ، ساقها ابن جرير وابن أبي حاتم بالسند عنه ، وذكرها غير
واحد من متأخري المفسرين ، وفيها غرابة تركناها لحال الطول ، وقد روي أنه مكث في
البلاء مدة طويلة ثم اختلفوا في السبب المهيج له على هذا الدعاء ، فقال الحسن
وقتادة : ابتلي أيوب عليهالسلام سبع سنين وأشهرا ، ملقى على كناسة بني إسرائيل ، تختلف
الدواب في جسده ، ففرج الله عنه وأعظم له الأجر وأحسن عليه الثناء.
وقال وهب بن منبه
: مكث في البلاء ثلاث سنين ، لا يزيد ولا ينقص وقال السدي : تساقط لحم أيوب حتى لم
يبق إلا العصب والعظام ، فكانت امرأته تقوم عليه وتأتيه بالرماد يكون فيه ، فقالت
له امرأته لما طال وجعه : يا أيوب لو دعوت ربك يفرج عنك ، فقال : قد عشت سبعين سنة
صحيحا ، فهو قليل لله أن أصبر له سبعين سنة ، فجزعت من ذلك ، فخرجت فكانت تعمل
للناس بالأجر وتأتيه بما تصيب فتطعمه ، وإن إبليس انطلق إلى رجلين من أهل فلسطين ،
كانا صديقين له وأخوين ، فأتاهما فقال : أخو كما أيوب أصابه من البلاء كذا وكذا ،
فأتياه وزوراه ، واحملا معكما من خمر أرضكما ، فإنه إن شرب منه برىء ، فأتياه فلما
نظرا إليه بكيا ، فقال : من أنتما؟ فقالا : نحن فلان وفلان ، فرحب بهما وقال : مرحبا
بمن لا يجفوني عند البلاء ، فقالا : يا أيوب لعلك كنت تسر شيئا وتظهر غيره ، فلذلك
ابتلاك الله؟ فرفع رأسه إلى السماء فقال : هو يعلم ، ما أسررت شيئا أظهرت غيره ،
ولكن ربي ابتلاني لينظر أصبر أم أجزع. فقالا له : يا أيوب اشرب من خمرنا ، فإنك إن
شربت منه برأت.
قال : فغضب ، وقال
: جاءكما الخبيث فأمركما بهذا؟ كلامكما وطعامكما وشرابكما علي حرام ، فقاما من
عنده ، وخرجت امرأته تعمل للناس ، فخبزت لأهل بيت لهم صبي ، فجعلت لهم قرصا ، وكان
ابنهم نائما ، فكرهوا أن يوقظوه فوهبوه لها ، فأتت به إلى أيوب فأنكره وقال : ما كنت
تأتيني بهذا ، فما بالك اليوم؟ فأخبرته الخبر ، قال : فلعل الصبي قد استيقظ فطلب
القرص فلم يجده فهو يبكي على أهله ، فانطلقي به إليه ، فأقبلت حتى بلغت درجة القوم
، فنطحتها شاة لهم ، فقالت : تعس أيوب الخطاء ، فلما صعدت وجدت الصبي قد استيقظ
وهو يطلب القرص ويبكي على أهله لا يقبل منهم شيئا غيره ، فقالت : رحمهالله ، يعني أيوب ،
__________________
فدفعت إليه القرص
ورجعت ، ثم إن إبليس أتاها في صورة طيب ، فقال لها : إن زوجك قد طال سقمه ، فإن
أراد أن يبرأ فليأخذ ذبابا فليذبحه باسم صنم بني فلان ، فإنه يبرأ ويتوب بعد ذلك ،
فقالت ذلك لأيوب.
فقال : قد أتاك
الخبيث ، لله عليّ إن برأت أن أجلدك مائة جلدة ، فخرجت تسعى عليه ، فحظر عنها
الرزق ، فجعلت لا تأتي أهل بيت فيريدونها ، فلما اشتد عليها ذلك وخافت على أيوب
الجوع حلقت من شعرها قرنا فباعته من صبية من بنات الأشراف ، فأعطوها طعاما طيبا
كثيرا ، فأتت به إلى أيوب ، فلما رآه أنكره وقال : من أين لك هذا؟ قالت : عملت
لأناس فأطعموني ، فأكل منه ، فلما كان الغد خرجت فطلبت أن تعمل فلم تجد ، فحلقت
أيضا قرنا فباعته من تلك الجارية ، فأعطوها أيضا من ذلك الطعام ، فأتت به أيوب
فقال : والله لا أطعمه حتى أعلم من أين هو ، فوضعت خمارها ، فلما رأى رأسها محلوقا
جزع جزعا شديدا ، فعند ذلك دعا الله عزوجل ، فقال : (نادى رَبَّهُ أَنِّي
مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ).
قال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبي ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد ، حدثنا أبو عمران الجوني عن
نوف البكالي أن الشيطان الذي عرج في أيوب كان يقال له مسوط ، قال : وكانت امرأة
أيوب تقول : ادع الله فيشفيك ، فجعل لا يدعو حتى مر به نفر من بني إسرائيل ، فقال
بعضهم لبعض : ما أصابه إلا بذنب عظيم أصابه ، فعند ذلك قال : (نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ
وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ). وحدثنا أبي ، حدثنا أبو سلمة ، حدثنا جرير بن حازم عن عبد
الله بن عبيد بن عمير قال : كان لأيوب عليهالسلام أخوان ، فجاءا يوما فلم يستطيعا أن يدنوا منه من ريحه ،
فقاما من بعيد ، فقال أحدهما للآخر : لو كان الله علم من أيوب خيرا ما ابتلاه بهذا
، فجزع أيوب من قولهما جزعا لم يجزع من شيء قط ، فقال : اللهم إن كنت تعلم أني لم
أبت ليلة قط شبعان وأنا أعلم مكان جائع ، فصدقني ، فصدق من السماء وهما يسمعان ،
ثم قال : اللهم إن كنت تعلم أني لم يكن لي قميصان قط ، وأنا أعلم مكان عار ،
فصدقني ، فصدق من السماء وهما يسمعان ، ثم قال : اللهم بعزتك ، ثم خر ساجدا ، فقال
: اللهم بعزتك لا أرفع رأسي أبدا حتى تكشف عني ، فما رفع رأسه حتى كشف عنه.
وقد رواه ابن أبي
حاتم من وجه آخر مرفوعا بنحو هذا ، فقال : أخبرنا يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن
وهب ، أخبرني نافع بن يزيد عن عقيل عن الزهري عن أنس بن مالك أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إن نبي الله أيوب لبث به بلاؤه ثماني عشرة سنة ،
فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه كانا من أخص إخوانه له ، كانا يغدوان
إليه ويروحان ، فقال أحدهما لصاحبه : تعلم والله لقد أذنب أيوب ذنبا ما أذنبه أحد
من العالمين ، فقال له صاحبه : وما ذاك؟ قال : منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمهالله فيكشف ما به ، فلما راحا إليه لم يصبر الرجل حتى ذكر له ،
فقال أيوب عليهالسلام : ما أدري ما تقول ، غير أن الله عزوجل يعلم أني
كنت أمر على
الرجلين يتنازعان فيذكران الله ، فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما كراهية أن يذكرا الله
إلا في حق ، قال : وكان يخرج في حاجته فإذا قضاها أمسكت امرأته بيده حتى يبلغ ،
فلما كان ذات يوم أبطأت عليه ، فأوحى الله إلى أيوب في مكانه أن «اركض برجلك هذا
مغتسل بارد وشراب» رفع هذا الحديث غريب جدا.
وروى ابن أبي حاتم
: حدثنا أبي ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد ، أخبرنا علي بن زيد عن يوسف بن
مهران عن ابن عباس قال : وألبسه الله حلة من الجنة ، فتنحى أيوب فجلس في ناحية ،
وجاءت امرأته فلم تعرفه ، فقالت : يا عبد الله أين ذهب هذا المبتلى الذي كان هاهنا
لعل الكلاب ذهبت به أو الذئاب ، فجعلت تكلمه ساعة. فقال : ويحك أنا أيوب. قالت : أتسخر
مني يا عبد الله؟ فقال : ويحك أنا أيوب قد رد الله علي جسدي ، وبه قال ابن عباس ،
ورد عليه ماله وولده عيانا ومثلهم معهم. وقال وهب بن منبه : أوحى الله إلى أيوب قد
رددت عليك أهلك ومالك ، ومثلهم معهم. فاغتسل بهذا الماء فإن فيه شفاءك وقرب عن
صحابتك قربانا ، واستغفر لهم فإنهم قد عصوني فيك. رواه ابن أبي حاتم.
وقال أيضا : حدثنا
أبو زرعة ، حدثنا عمرو بن مرزوق ، حدثنا همام عن قتادة عن النضر بن أنس عن بشير بن
نهيك عن أبي هريرة عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «لما عافى الله أيوب أمطر عليه جرادا من ذهب ، فجعل
يأخذ منه بيده ويجعله في ثوبه ، قال : فقيل له : يا أيوب أما تشبع؟ قال : يا رب
ومن يشبع من رحمتك» أصله في الصحيحين وسيأتي في موضع آخر.
وقوله : (وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ
مَعَهُمْ) قد تقدم عن ابن عباس أنه قال : ردوا عليه بأعيانهم ، وكذا
رواه العوفي عن ابن عباس أيضا ، وروي مثله عن ابن مسعود ومجاهد ، وبه قال الحسن
وقتادة ، وقد زعم بعضهم أن اسم زوجته رحمة ، فإن كان أخذ ذلك من سياق الآية فقد
أبعد النجعة ، وإن كان أخذه من نقل أهل الكتاب وصح ذلك عنهم ، فهو مما لا يصدق ولا
يكذب ، وقد سماها ابن عساكر في تاريخه رحمهالله تعالى : قال : ويقال اسمها ليا بنت منشّا بن يوسف بن يعقوب
بن إسحاق بن إبراهيم ، قال : ويقال ليا بنت يعقوب عليهالسلام زوجة أيوب كانت معه بأرض البثنية ، وقال مجاهد : قيل له :
يا أيوب إن أهلك لك في الجنة ، فإن شئت أتيناك بهم ، وإن شئت تركناهم لك في الجنة
وعوضناك مثلهم؟ قال : لا بل اتركهم لي في الجنة ، فتركوا له في الجنة وعوض مثلهم
في الدنيا.
وقال حماد بن زيد
عن أبي عمران الجوني عن نوف البكالي قال : أوتى أجرهم في الآخرة وأعطي مثلهم في
الدنيا. قال : فحدثت به مطرفا ، فقال : ما عرفت وجهها قبل اليوم ، وكذا روي عن
قتادة والسدي وغير واحد من السلف ، والله أعلم. قوله : (رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا) أي فعلنا به ذلك رحمة من الله به (وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ) أي وجعلناه في ذلك قدوة لئلا يظن أهل البلاء أنما فعلنا
بهم ذلك لهوانهم علينا ، وليتأسوا به في الصبر على مقدورات الله وابتلائه لعباده
بما
يشاء ، وله الحكمة
البالغة في ذلك.
(وَإِسْماعِيلَ
وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (٨٥)
وَأَدْخَلْناهُمْ
فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ)
(٨٦)
وأما إسماعيل
فالمراد به ابن إبراهيم الخليل عليهماالسلام ، وقد تقدم ذكره في سورة مريم ، وكذا إدريس عليهالسلام ، وأما ذو الكفل ، فالظاهر من السياق أنه ما قرن مع
الأنبياء إلا وهو نبي. وقال آخرون : إنما كان رجلا صالحا ، وكان ملكا عادلا ،
وحكما مقسطا ، وتوقف ابن جرير في ذلك ، فالله أعلم. قال ابن جريج عن مجاهد في قوله
: (وَذَا الْكِفْلِ) قال : رجل صالح غير نبي ، تكفل لنبي قومه أن يكفيه أمر
قومه ويقيمهم له ويقضي بينهم بالعدل ، ففعل ذلك ، فسمي ذا الكفل ، وكذا روى ابن
أبي نجيح عن مجاهد أيضا.
وروى ابن جرير : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا عفان ، حدثنا وهيب ، حدثنا
داود عن مجاهد قال : لما كبر اليسع قال : لو أني استخلفت رجلا على الناس يعمل
عليهم في حياتي حتى أنظر كيف يفعل ، فجمع الناس فقال : من يتقبل مني بثلاث أستخلفه
: يصوم النهار ، ويقوم الليل ، ولا يغضب؟ قال : فقام رجل تزدريه الأعين فقال : أنا
، فقال : أنت تصوم النهار وتقوم الليل ولا تغضب؟ قال : نعم ، قال : فرده ذلك اليوم
وقال مثلها في اليوم الآخر ، فسكت الناس ، وقام ذلك الرجل فقال : أنا ، فاستخلفه.
قال : فجعل إبليس يقول للشياطين : عليكم بفلان فأعياهم ذلك ، فقال : دعوني وإياه ،
فأتاه في صورة شيخ كبير فقير ، فأتاه حين أخذ مضجعه للقائلة ـ وكان لا ينام الليل والنهار إلا تلك النومة ، فدق الباب.
فقال : من هذا؟
قال : شيخ كبير مظلوم ، قال : فقام ففتح الباب ، فجعل يقص عليه ، فقال : إن بيني
وبين قومي خصومة ، وإنهم ظلموني ، وفعلوا بي وفعلوا بي ، وجعل يطول عليه حتى حضر
الرواح وذهبت القائلة ، فقال : إذا رحت فأتني آخذ لك بحقك ،
فانطلق وراح ، فكان في مجلسه ، فجعل ينظر هل يرى الشيخ فلم يره ، فقام يتبعه ،
فلما كان الغد جعل يقضي بين الناس وينتظره فلا يراه ، فلما رجع إلى القائلة فأخذ
مضجعه ، أتاه فدق الباب فقال : من هذا؟ قال : الشيخ الكبير المظلوم ، ففتح له فقال
: ألم أقل لك إذا قعدت فأتني ، قال : إنهم أخبث قوم إذا عرفوا أنك قاعد قالوا : نحن
نعطيك حقك ، وإذا قمت جحدوني ، قال : فانطلق ، فإذا رحت فأتني.
قال : ففاتته
القائلة ، فراح فجعل ينتظره ولا يراه ، وشق عليه النعاس ، فقال لبعض أهله :
__________________
لا تدع أحدا يقرب
هذا الباب حتى أنام ، فإني قد شق عليّ النوم ، فلما كان تلك الساعة جاء فقال له
الرجل : وراءك ، وراءك ، قال : إني قد أتيته أمس وذكرت له أمري ، فقال : لا والله
لقد أمرنا أن لا ندع أحدا يقربه ، فلما أعياه نظر فرأى كوة في البيت فتسور منها ،
فإذا هو في البيت ، وإذا هو يدق الباب من داخل ، قال : واستيقظ الرجل ، فقال : يا
فلان ألم آمرك؟ قال : أما من قبلي والله فلم تؤت فانظر من أين أتيت ، قال : فقام
إلى الباب فإذا هو مغلق كما أغلقه. وإذا الرجل معه في البيت فعرفه ، فقال : أعدو
الله؟ قال : نعم ، أعييتني في كل شيء ففعلت ما ترى لأغضبك ، فسماه الله ذا الكفل
لأنه تكفل بأمر فوفى به. وهكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث زهير بن إسحاق عن داود
عن مجاهد بمثله.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن يونس ، حدثنا أبو بكر بن عياش عن الأعمش عن مسلم قال
: قال ابن عباس : كان قاض في بني إسرائيل فحضره الموت فقال : من يقوم مقامي على أن
لا يغضب؟ قال : فقال رجل : أنا ، فسمي ذا الكفل ، قال : فكان ليله جميعا يصلي ، ثم
يصبح صائما فيقضي بين الناس ، قال : وله ساعة يقيلها ، قال : فكان كذلك ، فأتاه
الشيطان عند نومته ، فقال له أصحابه : ما لك؟ قال : إنسان مسكين له على رجل حق ،
وقد غلبني عليه ، قالوا : كما أنت حتى يستيقظ ، قال : وهو فوق نائم ، قال : فجعل
يصيح عمدا حتى يوقظه ، قال : فسمع ، فقال : ما لك؟ قال إنسان مسكين له على رجل حق
، قال: فاذهب فقل له يعطيك.
قال : قد أبى ،
قال : اذهب أنت إليه ، قال : فذهب ثم جاء من الغد فقال : ما لك؟ قال : ذهبت إليه
فلم يرفع بكلامك رأسا. قال : اذهب إليه فقل له يعطيك حقك ، فذهب ثم جاء من الغد
حين قال ، قال : فقال له أصحابه : اخرج فعل الله بك تجيء كل يوم حين ينام لا تدعه
ينام ، قال : فجعل يصيح من أجل أني إنسان مسكين لو كنت غنيا ، قال : فسمع أيضا
فقال : ما لك؟ قال : ذهبت إليه فضربني ، قال : امش حتى أجيء معك ، قال : فهو ممسك
بيده فلما رآه ذهب معه نثر يده منه ففر. وهكذا روي عن عبد الله بن الحارث ومحمد بن
قيس وابي حجيرة الأكبر وغيرهم من السلف نحو هذه القصة ، والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبي ، حدثنا أبو الجماهر ، أخبرنا سعيد بن بشير ، حدثنا قتادة عن كنانة بن
الأخنس قال : سمعت الأشعري وهو يقول على هذا المنبر : ما كان ذو الكفل بنبي ولكن
كان ـ يعني في بني إسرائيل ـ رجل صالح يصلي كل يوم مائة صلاة ، فتكفل له ذو الكفل
من بعده ، فكان يصلي كل يوم مائة صلاة ، فسمي ذا الكفل ، وقد رواه ابن جرير من
حديث عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال : قال أبو موسى الأشعري فذكره منقطعا ،
والله أعلم.
وقد روى الإمام
أحمد حديثا غريبا فقال : حدثنا أسباط بن محمد ، حدثنا الأعمش عن عبد الله بن عبد
الله عن سعد مولى طلحة عن ابن عمر قال : سمعت من رسول الله صلىاللهعليهوسلم حديثا لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين حتى عدّ سبع مرات ،
ولكن قد سمعته أكثر من ذلك قال : «كان الكفل من بني إسرائيل لا يتورع من ذنب عمله
، فأتته امرأة فأعطاها ستين دينارا على أن يطأها ، فلما قعد منها مقعد الرجل من
امرأته أرعدت وبكت ، فقال : ما يبكيك أكرهتك؟ قالت : لا ولكن هذا عمل لم أعمله قط
، وإنما حملني عليه الحاجة ، قال : فتفعلين هذا ولم تفعليه قط؟ ثم نزل فقال :
اذهبي بالدنانير لك ، ثم قال : والله لا يعصي الله الكفل أبدا ، فمات من ليلته ،
فأصبح مكتوبا على بابه : غفر الله للكفل» هكذا وقع في هذه الرواية الكفل من غير
إضافة ، والله أعلم ، وهذا الحديث لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة ، وإسناده
غريب ، وعلى كل تقدير فلفظ الحديث إن كل الكفل ، ولم يقل ذو الكفل فلعله رجل آخر
والله أعلم.
(وَذَا النُّونِ إِذْ
ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ
أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧) فَاسْتَجَبْنا لَهُ
وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ)
(٨٨)
هذه القصة مذكورة
هنا وفي سورة الصافات وفي سورة ن ، وذلك أن يونس بن متىعليهالسلام ، بعثه الله إلى أهل قرية نينوى ، وهي قرية من أرض الموصل
، فدعاهم إلى الله تعالى ، فأبوا عليه وتمادوا على كفرهم ، فخرج من بين أظهرهم
مغاضبا لهم ، ووعدهم بالعذاب بعد ثلاث ، فلما تحققوا منه ذلك وعلموا أن النبي لا
يكذب ، خرجوا إلى الصحراء بأطفالهم وأنعامهم ومواشيهم ، وفرقوا بين الأمهات
وأولادها ، ثم تضرعوا إلى الله عزوجل وجأروا إليه ، ورغت الإبل وفصلانها ، وخارت البقر وأولادها
، وثغت الغنم وسخالها ، فرفع الله عنهم العذاب ، قال الله تعالى : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ
فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ
عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) [يونس : ٩٨].
وأما يونس عليهالسلام فإنه ذهب فركب مع قوم في سفينة فلججت بهم ، وخافوا أن
يغرقوا فاقترعوا على رجل يلقونه من بينهم يتخففون منه ، فوقعت القرعة على يونس
فأبوا أن يلقوه ، ثم أعادوها فوقعت عليه أيضا فأبوا ، ثم أعادوها فوقعت عليه أيضا
، قال الله تعالى : (فَساهَمَ فَكانَ مِنَ
الْمُدْحَضِينَ) [الصافات : ١٤١]
أي وقعت عليه القرعة فقام يونس عليهالسلام وتجرد من ثيابه ، ثم ألقى نفسه في البحر ، وقد أرسل الله
سبحانه من البحر الأخضر ـ فيما قاله ابن
__________________
مسعود ـ حوتا يشق
البحار حتى جاء فالتقم يونس حين ألقى نفسه من السفينة ، فأوحى الله إلى ذلك الحوت
أن لا تأكل له لحما ولا تهشم له عظما ، فإن يونس ليس لك رزقا وإنما بطنك تكون له
سجنا.
وقوله : (وَذَا النُّونِ) يعني الحوت صحت الإضافة إليه بهذه النسبة. وقوله : (إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً) قال الضحاك لقومه : (فَظَنَّ أَنْ لَنْ
نَقْدِرَ عَلَيْهِ) أي نضيق عليه في بطن الحوت ، يروى نحو هذا عن ابن عباس
ومجاهد والضحاك وغيرهم ، واختاره ابن جرير واستشهد عليه بقوله تعالى : (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ
فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها
سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) [الطلاق : ٧] وقال
عطية العوفي : (فَظَنَّ أَنْ لَنْ
نَقْدِرَ عَلَيْهِ) ، أي نقضي عليه ، كأنه جعل ذلك بمعنى التقدير ، فإن العرب
تقول : قدر وقدّر بمعنى واحد ، وقال الشاعر : [الطويل]
فلا عائد ذاك
الزمان الذي مضى
|
|
تبارك ما تقدر
يكن فلك الأمر
|
ومنه قوله تعالى :
(فَالْتَقَى الْماءُ
عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) [القمر : ١٢] أي
قدر. (فَنادى فِي
الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ
الظَّالِمِينَ) قال ابن مسعود : ظلمة بطن الحوت وظلمة البحر وظلمة الليل ،
وكذا روي عن ابن عباس وعمرو بن ميمون وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب والضحاك والحسن
وقتادة. وقال سالم بن أبي الجعد : ظلمة حوت في بطن حوت آخر في ظلمة البحر ، قال
ابن مسعود وابن عباس وغيرهما : وذلك أنه ذهب به الحوت في البحار يشقها حتى انتهى
به إلى قرار البحر ، فسمع يونس تسبيح الحصى في قراره ، فعند ذلك وهنالك قال : (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ
إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) وقال عوف الأعرابي : لما صار يونس في بطن الحوت ظن أنه قد
مات ، ثم حرك رجليه فلما تحركت سجد مكانه ، ثم نادى يا رب اتخذت لك مسجدا في موضع
لم يبلغه أحد من الناس. وقال سعيد بن أبي الحسن البصري : مكث في بطن الحوت أربعين
يوما. رواهما ابن جرير .
وقال محمد بن
إسحاق بن يسار عمن حدثه عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة : سمعت أبا هريرة يقول :
قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لما أراد الله حبس يونس في بطن الحوت ، أوحى الله إلى
الحوت أن خذه ولا تخدش له لحما ولا تكسر له عظما ، فلما انتهى به إلى أسفل البحر
سمع يونس حسا فقال في نفسه : ما هذا؟ فأوحى الله إليه وهو في بطن الحوت إن هذا
تسبيح دواب البحر ، قال : وسبح وهو في بطن الحوت ، فسمعت الملائكة تسبيحه فقالوا :
يا ربنا إنا نسمع صوتا ضعيفا بأرض غريبة ، قال : ذلك عبدي يونس عصاني فحبسته في
بطن الحوت في البحر ، قالوا : العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم
وليلة عمل صالح؟ قال : نعم ، قال : فشفعوا له عند ذلك ، فأمر الحوت فقذفه في
الساحل ، كما قال الله تعالى : (وَهُوَ سَقِيمٌ) رواه
__________________
ابن جرير ، ورواه البزار في مسنده من طريق محمد بن إسحاق عن عبد
الله بن رافع عن أبي هريرة فذكره بنحوه ، ثم قال : لا نعلمه يروى عن النبي صلىاللهعليهوسلم إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد.
وروى ابن أبي حاتم
: حدثنا أبو عبيد الله أحمد بن عبد الرحمن بن أخي ابن وهب ، ثنا عمي ، حدثني أبو
صخر أن يزيد الرقاشي قال : سمعت أنس بن مالك ، ولا أعلم إلا أن أنسا يرفع الحديث
إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن يونس النبي عليهالسلام حين بدا له أن يدعو بهذه الكلمات وهو في بطن الحوت قال :
اللهم لا إله إلا أنت ، سبحانك إني كنت من الظالمين ، فأقبلت هذه الدعوة تحت العرش
، فقالت الملائكة : يا رب صوت ضعيف معروف من بلاد غريبة ، فقال : أما تعرفون ذاك؟
قالوا : لا يا رب ومن هو؟ قال : عبدي يونس ، قالوا : عبدك يونس الذي لم يزل يرفع
له عمل متقبل ودعوة مجابة ، قالوا : يا رب أو لا ترحم ما كان يصنع في الرخاء
فتنجيه من البلاء؟ قال : بلى ، فأمر الحوت فطرحه في العراء.
وقوله : (فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ
الْغَمِ) أي أخرجناه من بطن الحوت وتلك الظلمات (وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) أي إذا كانوا في الشدائد ودعونا منيبين إلينا ولا سيما إذا
دعوا بهذا الدعاء في حال البلاء ، فقد جاء الترغيب في الدعاء به عن سيد الأنبياء.
قال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل بن عمر ، حدثنا يونس بن أبي إسحاق
الهمداني ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سعد ، حدثني والدي محمد عن أبيه سعد هو ابن
أبي وقاص رضي الله عنه قال : مررت بعثمان بن عفان رضي الله عنه في المسجد ، فسلمت
عليه ، فملأ عينيه مني ثم لم يرد علي السلام ، فأتيت عمر بن الخطاب فقلت : يا أمير
المؤمنين هل حدث في الإسلام شيء ، مرتين قال : لا وما ذاك؟ قلت لا ، إلا أني مررت
بعثمان آنفا في المسجد فسلمت عليه فملأ عينيه مني ثم لم يرد علي السلام ، قال :
فأرسل عمر إلى عثمان فدعاه ، فقال : ما منعك أن لا تكون رددت على أخيك السلام؟ قال
: ما فعلت ، قال سعد : قلت بلى حتى حلف وحلفت.
قال : ثم إن عثمان
ذكر فقال بلى وأستغفر الله وأتوب إليه ، إنك مررت بي آنفا وأنا أحدث نفسي بكلمة
سمعتها من رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، لا والله ما ذكرتها قط إلا تغشى بصري وقلبي غشاوة ، قال
سعد : فأنا أنبئك بها ، إن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ذكر لنا أول دعوة ، ثم جاء أعرابي فشغله حتى قام رسول الله
صلىاللهعليهوسلم فاتبعته ، فلما أشفقت أن يسبقني إلى منزله ضربت بقدمي
الأرض ، فالتفت إلي رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : «من هذا ، أبو إسحاق؟» قال : قلت نعم يا رسول الله
، قال : «فمه» قلت : لا والله إلا أنك ذكرت لنا أول دعوة ، ثم جاء هذا الأعرابي
فشغلك ، قال: «نعم دعوة ذي
__________________
النون إذ هو في
بطن الحوت (لا إِلهَ إِلَّا
أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) فإنه لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط إلا استجاب له» ورواه الترمذي والنسائي في اليوم والليلة من حديث إبراهيم
بن محمد بن سعد عن أبيه سعد به.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو خالد الأحمر عن كثير بن زيد عن المطلب بن حنطب
، قال أبو خالد : أحسبه عن مصعب يعني ابن سعد عن سعد ، قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من دعا بدعاء يونس استجيب له» قال أبو سعيد : يريد به (وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ).
وقال ابن جرير : حدثني عمران بن بكار الكلاعي ، حدثنا يحيى بن صالح ،
حدثنا أبو يحيى بن عبد الرحمن ، حدثني بشر بن منصور عن علي بن زيد عن سعيد بن
المسيب قال : سمعت سعد بن أبي وقاص يقول : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «اسم الله الذي إذا دعي به أجاب ، وإذا سئل به أعطى
دعوة يونس بن متى» قال قلت يا رسول الله. هي ليونس خاصة أم لجماعة المسلمين؟ قال :
«هي ليونس بن متى خاصة ، ولجماعة المؤمنين عامة ، إذا دعوا بها ، ألم تسمع قول
الله عزوجل (فَنادى فِي
الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ
الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي
الْمُؤْمِنِينَ) فهو شرط من الله لمن دعاه به».
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن أبي سريج ، حدثنا داود بن المحبر بن قحذم المقدسي عن
كثير بن معبد قال : سألت الحسن فقلت : يا أبا سعيد اسم الله الأعظم الذي إذا دعي
به أجاب وإذا سئل به أعطى؟ قال : ابن أخي أما تقرأ القرآن قول الله تعالى : (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً ـ إلى قوله ـ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) ابن أخي ، هذا اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب ،
وإذا سئل به أعطى.
(وَزَكَرِيَّا إِذْ
نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (٨٩) فَاسْتَجَبْنا لَهُ
وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ
فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ)
(٩٠)
يخبر تعالى عن
عبده زكريا حين طلب أن يهبه الله ولدا يكون من بعده نبيا ، وقد تقدمت القصة مبسوطة
في أول سورة مريم وفي سورة آل عمران أيضا ، وهاهنا أخصر منها (إِذْ
__________________
نادى
رَبَّهُ) أي خفية عن قومه (رَبِّ لا تَذَرْنِي
فَرْداً) أي لا ولد لي ولا وارث يقوم بعدي في الناس (وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ) دعاء وثناء مناسب للمسألة ، قال الله تعالى : (فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ
يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ) أي امرأته ، قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير : كانت
عاقرا لا تلد فولدت. وقال عبد الرحمن بن مهدي عن طلحة بن عمرو عن عطاء : كان في
لسانها طول ، فأصلحها الله وفي رواية : كان في خلقها شيء فأصلحها الله ، وهكذا قال
محمد بن كعب والسدي ، والأظهر من السياق الأول.
وقوله : (إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي
الْخَيْراتِ) أي في عمل القربات وفعل الطاعات (وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً) قال الثوري : رغبا فيما عندنا ورهبا مما عندنا (وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أي مصدقين بما أنزل الله
، وقال مجاهد : مؤمنين حقا. وقال أبو العالية : خائفين. وقال أبو سنان : الخشوع هو
الخوف اللازم للقلب لا يفارقه أبدا. وعن مجاهد أيضا : خاشعين أي متواضعين. وقال
الحسن وقتادة والضحاك : خاشعين أي متذللين للهعزوجل ، وكل هذه الأقوال متقاربة.
وقال ابن أبي حاتم
، حدثنا أبي ، حدثنا علي بن محمد الطنافسي ، حدثنا محمد بن فضيل ، حدثنا عبد
الرحمن بن إسحاق عن عبد الله القرشي عن عبد الله بن حكيم قال : خطبنا أبو بكر رضي
الله عنه. ثم قال : أما بعد فإني أوصيكم بتقوى الله ، وتثنوا عليه بما هو له أهل ،
وتخلطوا الرغبة بالرهبة ، وتجمعوا الإلحاف بالمسألة ، فإن الله عزوجل أثنى على زكريا وأهل بيته فقال : (إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي
الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ).
(وَالَّتِي أَحْصَنَتْ
فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً
لِلْعالَمِينَ)
(٩١)
هكذا يذكر تعالى
قصة مريم وابنها عيسى عليهماالسلام مقرونة بقصة زكريا وابنه يحيى عليهماالسلام ، فيذكر أولا قصة زكريا ثم يتبعها بقصة مريم ، لأن تلك
مربوطة بهذه ، فإنها إيجاد ولد من شيخ كبير قد طعن في السن ، ومن امرأة عجوز عاقر
لم تكن تلد في حال شبابها ، ثم يذكر قصة مريم وهي أعجب فإنها إيجاد ولد من أنثى
بلا ذكر ، هكذا وقع في سورة آل عمران وفي سورة مريم ، وهاهنا ذكر قصة زكريا ثم
أتبعها بقصة مريم بقوله : (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ
فَرْجَها) يعني مريم عليهاالسلام ، كما قال في سورة التحريم : (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ
عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا) [التحريم : ١٢].
وقوله (وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً
لِلْعالَمِينَ) أي دلالة على أن الله على كل شيء قدير ، وأنه (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) ، و (إِنَّما أَمْرُهُ
إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس : ٨٢] ، وهذا
كقوله : (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً
لِلنَّاسِ) [مريم : ٢١] قال
ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عمر بن علي ، حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد عن
شعيب يعني ابن بشر ، عن عكرمة عن ابن عباس في قوله :
(لِلْعالَمِينَ) قال : العالمين الجن والإنس.
(إِنَّ هذِهِ
أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (٩٢) وَتَقَطَّعُوا
أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ
(٩٣)
فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ
وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ)
(٩٤)
قال ابن عباس
ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله : (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً
واحِدَةً) يقول : دينكم دين واحد وقال الحسن البصري في هذه الآية
يبين لهم ما يتقون وما يأتون ، ثم قال : (إِنَّ هذِهِ
أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) أي سنتكم سنة واحدة ، فقوله إن هذه إن واسمها ، وأمتكم خبر
إن ، أي هذه شريعتكم التي بينت لكم ووضحت لكم. وقوله أمة واحدة نصب على الحال ،
ولهذا قال : (وَأَنَا رَبُّكُمْ
فَاعْبُدُونِ) كما قال : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ
كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً ـ إلى قوله ـ وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) [المؤمنون : ٥١ ـ ٥٢]
وقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «نحن معاشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد» يعني أن المقصود هو عبادة الله وحده لا شريك له بشرائع
متنوعة لرسله ، كما قال تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنا
مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) [المائدة : ٤٨].
وقوله : (وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) أي اختلفت الأمم على رسلها فمن بين مصدق لهم ومكذب ، ولهذا
قال : (كُلٌّ إِلَيْنا
راجِعُونَ) أي يوم القيامة ، فيجازي كل بحسب عمله ، إن خيرا فخير وإن
شرا فشر ، ولهذا قال : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ
الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ) أي قلبه مصدق وعمل صالحا (فَلا كُفْرانَ
لِسَعْيِهِ) كقوله : (إِنَّا لا نُضِيعُ
أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) [الكهف : ٣٠] أي
لا يكفر سعيه وهو عمله بل يشكر فلا يظلم مثقال ذرة ، ولهذا قال : (وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ) أي يكتب جميع عمله فلا يضيع عليه منه شيء.
(وَحَرامٌ عَلى
قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (٩٥)
حَتَّى
إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (٩٦) وَاقْتَرَبَ
الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا
قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ)
(٩٧)
يقول تعالى : (وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ) قال ابن عباس : وجب ، يعني قد قدر أن أهل كل قرية أهلكوا
أنهم لا يرجعون إلى الدنيا قبل يوم القيامة ، هكذا صرح به ابن عباس وأبو جعفر
الباقر وقتادة وغير واحد. وفي رواية عن ابن عباس : أنهم لا يرجعون أي لا يتوبون ،
والقول الأول أظهر ، والله أعلم. وقوله : (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ
يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ) قد قدمنا أنهم من سلالة آدم
__________________
عليهالسلام ، بل هم من نسل نوح أيضا من أولاد يافث ، أي أبي الترك ،
والترك شرذمة منهم تركوا من وراء السد الذي بناه ذو القرنين ، وقال : (هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ
وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا وَتَرَكْنا
بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) [الكهف : ٩٨ ـ ٩٩]
الآية ، وقال في هذه الآية الكريمة (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ
يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) أي يسرعون في المشي إلى الفساد ، والحدب هو المرتفع من
الأرض ، قاله ابن عباس وعكرمة وأبو صالح والثوري وغيرهم ، وهذه صفتهم في حال
خروجهم كأن السامع مشاهد لذلك (وَلا يُنَبِّئُكَ
مِثْلُ خَبِيرٍ) هذا إخبار عالم ما كان وما يكون ، الذي يعلم غيب السموات
والأرض لا إله إلا هو.
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن مثنى ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة
عن عبيد الله بن يزيد قال : رأى ابن عباس صبيانا ينزو بعضهم على بعض يلعبون ، فقال
ابن عباس : هكذا يخرج يأجوج ومأجوج ، وقد ورد ذكر خروجهم في أحاديث متعددة من
السنة النبوية.
[فالحديث الأول]
قال الإمام أحمد : حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي عن ابن إسحاق عن عاصم بن عمرو
بن قتادة ، عن محمود بن لبيد ، عن أبي سعيد الخدري قال : سمعت رسول اللهصلىاللهعليهوسلم يقول «تفتح يأجوج ومأجوج ، فيخرجون على الناس ، كما قال
الله عزوجل : (وَهُمْ مِنْ كُلِّ
حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) فيغشون الناس وينحاز المسلمون عنهم إلى مدائنهم وحصونهم ،
ويضمون إليهم مواشيهم ، ويشربون مياه الأرض حتى إن بعضهم ليمر بالنهر فيشربون ما
فيه حتى يتركوه يابسا ، حتى أن من بعدهم ليمر بذلك النهر فيقول : قد كان هاهنا ماء
مرة ، حتى إذا لم يبق من الناس أحد إلا أحد في حصن أو مدينة ، قال قائلهم : هؤلاء
أهل الأرض قد فرغنا منهم بقي أهل السماء.
قال : ثم يهز
أحدهم حربته ، ثم يرمي بها إلى السماء فترجع إليه مخضبة دما للبلاء والفتنة ،
فبينما هم على ذلك بعث الله عزوجل دودا في أعناقهم كنغف الجراد الذي يخرج في أعناقه ،
فيصبحون موتى لا يسمع لهم حس ، فيقول المسلمون : ألا رجل يشرى لنا نفسه فينظر ما
فعل هذا العدو؟ قال : فيتجرد رجل منهم محتسبا نفسه قد أوطنها على أنه مقتول فينزل
فيجدهم موتى بعضهم على بعض ، فينادي : يا معشر المسلمين ألا أبشروا إن الله عزوجل قد كفاكم عدوكم ، فيخرجون من مدائنهم وحصونهم ، ويسرحون
مواشيهم ، فما يكون لهم رعي إلا لحومهم ، فتشكر عنهم كأحسن ما شكرت عن شيء من
النبات أصابته قط» ، ورواه ابن ماجة من حديث يونس بن بكير ، عن ابن إسحاق به.
__________________
[الحديث الثاني]
قال الإمام أحمد أيضا : حدثنا الوليد بن مسلم أبو العباس الدمشقي ، حدثنا
عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، حدثني يحيى بن جابر الطائي قاضي حمص ، حدثني عبد الرحمن
بن جبير بن نفير الحضرمي عن أبيه ، أنه سمع النواس بن سمعان الكلابي قال : ذكر
رسول الله صلىاللهعليهوسلم الدجال ذات غداة ، فخفض فيه ورفع حتى ظنناه في طائفة
النخل.
فقال : «غير
الدجال أخوفني عليكم. فإن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم ، وإن يخرج ولست فيكم
فكل امرئ حجيج نفسه ، والله خليفتي على كل مسلم ، وإنه شاب جعد قطط عينه طافية ،
وإنه يخرج خلة بين الشام والعراق فعاث يمينا وشمالا يا عباد الله اثبتوا ـ قلنا : يا
رسول الله ما لبثه في الأرض؟ ـ قال : أربعون يوما ، يوم كسنة ، ويوم كشهر ، يوم
كجمعة ، وسائر أيامه كأيامكم» قلنا : يا رسول الله فذاك اليوم الذي هو كسنة ، أيكفينا
فيه صلاة يوم وليلة؟ قال : «لا اقدروا له قدره» قلنا : يا رسول الله فما إسراعه في
الأرض؟ قال كالغيث اشتد به الريح ، قال : فيمر بالحي فيدعوهم فيستجيبون له ، فيأمر
السماء فتمطر ، والأرض فتنبت ، وتروح عليهم سارحتهم وهي أطول ما كانت ذرى ، أمده
خواصر ، وأسبغه ضروعا ، ويمر بالحي فيدعوهم فيردون عليه قوله ، فتتبعه أموالهم
فيصبحون ممحلين ليس لهم من أموالهم شيء ، ويمر بالخربة فيقول لها : أخرجي كنوزك
فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل ـ.
قال ـ ويأمر برجل
فيقتل ، فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض ، ثم يدعوه فيقبل إليه ، فبينما
هم على ذلك إذ بعث الله عزوجل المسيح عيسى ابن مريم ، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي
دمشق بين مهرودتين واضعا يديه على أجنحة ملكين ، فيتبعه فيدركه فيقتله عند باب لد
الشرقي ـ قال ـ فبينما هم كذلك إذ أوحى الله عزوجل إلى عيسى ابن مريم عليهالسلام أني قد أخرجت عبادا من عبادي لا يدان لك بقتالهم ، فحوّز
عبادي إلى الطور ، فيبعث الله عزوجل يأجوج ومأجوج ، كما قال تعالى : (وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) فيرغب عيسى وأصحابه إلى الله عزوجل ، فيرسل عليهم نغفا في رقابهم فيصبحون موتى كموت نفس واحدة
، فيهبط عيسى وأصحابه فلا يجدون في الأرض بيتا إلا قد ملأه زهمهم ونتنهم.
فيرغب عيسى
وأصحابه إلى الله عزوجل ، فيرسل الله عليهم طيرا كأعناق البخت ، فتحملهم فتطرحهم
حيث شاء الله» ، قال ابن جابر : فحدثني عطاء بن يزيد السكسكي عن كعب أو غيره قال :
فتطرحهم بالمهبل ، قال ابن جابر : فقلت يا أبا يزيد ، وأين المهبل؟ قال : مطلع
الشمس. قال : «ويرسل الله مطرا لا يكن منه بيت مدر ولا وبر أربعين يوما ، فيغسل
الأرض حتى يتركها كالزلقة ، ويقال للأرض : أنبتي ثمرك ودري بركتك ، قال : فيومئذ
يأكل النفر من الرمانة فيستظلون بقحفها ، ويبارك في الرسل حتى إن اللقحة من الإبل
لتكفي الفئام من الناس ،
__________________
واللقحة من البقر
تكفي الفخذ ، والشاة من الغنم تكفي أهل البيت ، قال : فبينما هم على ذلك إذ بعث
الله عزوجل ريحا طيبة ، فتأخذهم تحت آباطهم فتقبض روح كل مسلم ـ أو
قال : كل مؤمن ـ ويبقى شرار الناس يتهارجون تهارج الحمر وعليهم تقوم الساعة» ، انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري ، ورواه مع بقية أهل
السنن من طرق عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر به. وقال الترمذي : حسن صحيح.
[الحديث الثالث]
قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن بشر ، حدثنا محمد بن عمرو عن ابن حرملة ،
عن خالته قالت : خطب رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو عاصب إصبعه من لدغة عقرب ، فقال : «إنكم تقولون لا عدو
لكم ، وإنكم لا تزالون تقاتلون عدوا حتى يأتي يأجوج ومأجوج : عراض الوجوه ، صغار
العيون ، صهب الشغاف ، من كل حدب ينسلون كأن وجوههم المجان المطرقة» ، وكذا رواه
ابن أبي حاتم من حديث محمد بن عمرو عن خالد بن عبد الله بن حرملة المدلجي ، عن
خالة له ، عن النبي صلىاللهعليهوسلم ، فذكره مثله سواء.
[الحديث الرابع] قد
تقدم في آخر تفسير سورة الأعراف من رواية الإمام أحمد عن هشيم ، عن العوام ، عن
جبلة بن سحيم ، عن موثر بن عفازة ، عن ابن مسعود رضي الله عنه ، عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «لقيت ليلة أسري بي إبراهيم وموسى وعيسى عليهمالسلام ـ قال فتذاكروا أمر الساعة فردوا أمرهم إلى إبراهيم ، فقال
: لا علم لي بها ، فردوا أمرهم إلى موسى ، فقال : لا علم لي بها ، فردوا أمرهم إلى
عيسى فقال : أما وجبتها فلا يعلم بها أحد إلا الله ، وفيما عهد إلى ربي أن الدجال
خارج ومعي قضيبان ، فإذا رآني ذاب كما يذوب الرصاص ، قال : فيهلكه الله إذا رآني
حتى إن الحجر والشجر يقول : يا مسلم إن تحتي كافرا ، فتعال فاقتله.
قال : فيهلكهم
الله ثم يرجع الناس إلى بلادهم وأوطانهم ـ قال ـ فعند ذلك يخرج يأجوج ومأجوج ، وهم
من كل حدب ينسلون ، فيطؤون بلادهم ، ولا يأتون على شيء إلا أهلكوه ، ولا يمرون على
ماء إلا شربوه ـ قال ـ ثم يرجع الناس إليّ يشكونهم فأدعو الله عليهم فيهلكهم
ويميتهم حتى تجوى الأرض من نتن ريحهم ، وينزل الله المطر فيجترف أجسادهم حتى
يقذفهم في البحر ، ففيما عهد إلي ربي أن ذلك إذا كان كذلك أن الساعة كالحامل المتم
لا يدري أهلها متى تفجؤهم بولدها ليلا أو نهارا».
ورواه ابن ماجة عن محمد بن بشار ، عن يزيد بن هارون ، عن العوام بن حوشب
به نحوه ، وزاد : قال العوام : ووجد تصديق ذلك في كتاب الله عزوجل (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ
يَأْجُوجُ
__________________
وَمَأْجُوجُ
وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) ورواه ابن جرير هاهنا من حديث جبلة به. والأحاديث في هذا كثيرة جدا
والآثار عن السلف كذلك.
وقد روى ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث معمر عن غير واحد ، عن حميد بن هلال
، عن أبي الصيف قال : قال كعب : إذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج ، حفروا حتى يسمع
الذين يلونهم قرع فؤوسهم ، فإذا كان الليل ألقى الله على لسان رجل منهم يقول نجيء
غدا فنخرج فيعيده الله كما كان ، فيجيئون من الغد فيجدونه قد أعاده الله كما كان ،
فيحفرونه حتى يسمع الذين يلونهم قرع فؤوسهم ، فإذا كان الليل ألقى الله على لسان
رجل منهم يقول : نجيء غدا فنخرج إن شاء الله ، فيجيئون من الغد فيجدونه كما تركوه
، فيحفرون حتى يخرجوا ، فتمر الزمرة الأولى بالبحيرة فيشربون ماءها ، ثم تمر
الزمرة الثانية فيلحسون طينها ، ثم تمر الزمرة الثالثة فيقولون : قد كان هاهنا مرة
ماء ، فيفر الناس منهم فلا يقوم لهم شيء ، ثم يرمون بسهامهم إلى السماء فترجع
إليهم مخضبة بالدماء ، فيقولون : غلبنا أهل الأرض وأهل السماء ، فيدعو عليهم عيسى
ابن مريم عليهالسلام ، فيقول : اللهم لا طاقة ولا يد لنا بهم ، فاكفناهم بما
شئت.
فيسلط الله عليهم
دودا يقال له النغف ، فيفرس رقابهم ، ويبعث الله عليهم طيرا تأخذهم بمناقيرها
فتلقيهم في البحر ، ويبعث الله عينا يقال لها الحياة يطهر الله الأرض وينبتها ،
حتى إن الرمانة ليشبع منها السكن ، وقيل : وما السكن يا كعب؟ قال : أهل البيت ،
قال : فبينما الناس كذلك إذ أتاهم الصريخ أن ذا السويقتين يريده ، قال فيبعث عيسى
ابن مريم طليعة سبعمائة أو بين السبعمائة والثمانمائة حتى إذا كانوا ببعض الطريق ،
بعث الله ريحا يمانية طيبة فيقبض فيها روح كل مؤمن ، ثم يبقى عجاج الناس ،
فيتسافدون كما تتسافد البهائم ، فمثل الساعة كمثل رجل يطيف حول فرسه متى تضع ، قال
كعب : فمن قال بعد قولي هذا شيئا أو بعد علمي هذا شيئا فهو المتكلف ، وهذا من أحسن
سياقات كعب الأحبار لما شهد له من صحيح الأخبار.
وقد ثبت في الحديث
أن عيسى ابن مريم يحج البيت العتيق ، وقال الإمام أحمد : حدثنا سليمان بن داود ، حدثنا عمران عن قتادة عن عبد
الله بن أبي عتبة عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ليحجن هذا البيت وليعتمرن بعد خروج يأجوج ومأجوج» انفرد
بإخراجه البخاري وقوله : (وَاقْتَرَبَ
الْوَعْدُ الْحَقُ) يعني يوم القيامة إذا حصلت هذه الأهوال والزلازل والبلابل
، أزفت الساعة واقتربت فإذا كانت ووقعت ، قال الكافرون : (هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) [القمر : ٨] ، ولهذا قال تعالى : (فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ
الَّذِينَ كَفَرُوا) أي من شدة ما يشاهدونه من
__________________
الأمور العظام (يا وَيْلَنا) أي يقولون يا ويلنا (قَدْ كُنَّا فِي
غَفْلَةٍ مِنْ هذا) أي في الدنيا (بَلْ كُنَّا
ظالِمِينَ) يعترفون بظلمهم لأنفسهم حيث لا ينفعهم ذلك.
(إِنَّكُمْ وَما
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (٩٨) لَوْ كانَ هؤُلاءِ
آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (٩٩) لَهُمْ فِيها
زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (١٠٠) إِنَّ الَّذِينَ
سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (١٠١)
لا
يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (١٠٢) لا يَحْزُنُهُمُ
الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ
تُوعَدُونَ)
(١٠٣)
يقول تعالى مخاطبا
لأهل مكة من مشركي قريش ومن دان بدينهم من عبدة الأصنام والأوثان : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ
اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) قال ابن عباس : أي وقودها يعني كقوله : (وَقُودُهَا النَّاسُ
وَالْحِجارَةُ) [التحريم : ٦]
وقال ابن عباس أيضا : حصب جهنم يعني شجر جهنم ، وفي رواية قال : (حَصَبُ جَهَنَّمَ) يعني حطب جهنم بالزنجية. وقال مجاهد وعكرمة وقتادة : حطبها
، وهي كذلك في قراءة علي وعائشة رضي الله عنهما ، وقال الضحاك : حصب جهنم أي ما
يرمى به فيها ، وكذا قال غيره ، والجميع قريب. وقوله : (أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) أي داخلون (لَوْ كانَ هؤُلاءِ
آلِهَةً ما وَرَدُوها) يعني لو كانت هذه الأصنام والأنداد التي اتخذتموها من دون
الله آلهة صحيحة لما وردوا النار وما دخلوها (وَكُلٌّ فِيها
خالِدُونَ) أي العابدون ومعبوداتهم كلهم فيها خالدون (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ) كما قال تعالى : (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ
وَشَهِيقٌ) [هود : ١٠٦]
والزفير خروج أنفاسهم ، والشهيق ولوج أنفاسهم (وَهُمْ فِيها لا
يَسْمَعُونَ).
قال ابن أبي حاتم
، حدثنا أبي ، حدثنا علي بن محمد الطنافسي ، حدثنا ابن فضيل ، حدثنا عبد الرحمن
يعني المسعودي عن أبيه قال : قال ابن مسعود : إذا بقي من يخلد في النار جعلوا في
توابيت من نار فيها مسامير من نار ، فلا يرى أحد منهم أنه يعذب في النار غيره ، ثم
تلا عبد الله (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ
وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ) ورواه ابن جرير من حديث حجاج بن محمد عن المسعودي عن يونس
بن خبّاب عن ابن مسعود ، فذكره.
وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا
الْحُسْنى) قال عكرمة : الرحمة. وقال غيره السعادة (أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) لما ذكر تعالى أهل النار وعذابهم بسبب شركهم بالله ، عطف
بذكر السعداء من المؤمنين بالله ورسله ، وهم الذين سبقت لهم من الله السعادة
وأسلفوا الأعمال الصالحة في الدنيا ، كما قال تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى
وَزِيادَةٌ) [يونس : ٢٦] وقال
: (هَلْ جَزاءُ
الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) [الرحمن : ٦٠]
فكما أحسنوا العمل في الدنيا أحسن الله
__________________
مآبهم وثوابهم ،
ونجاهم من العذاب وحصل لهم جزيل الثواب ، فقال : (أُولئِكَ عَنْها
مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها) أي حريقها في الأجساد.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن عمار ، حدثنا عفان ، حدثنا حماد بن سلمة عن أبيه عن
الحريري عن أبي عثمان (لا يَسْمَعُونَ
حَسِيسَها) قال : حيات على الصراط تلسعهم ، فإذا لسعتهم قال حس حس.
وقوله : (وَهُمْ فِي مَا
اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ) فسلمهم من المحذور والمرهوب ، وحصل لهم المطلوب والمحبوب.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن أبي سريج ، حدثنا محمّد بن الحسن بن
أبي يزيد الهمداني عن ليث بن أبي سليم عن ابن عم النعمان بن بشير عن النعمان بن
بشير قال : وسمر مع علي ذات ليلة ، فقرأ (إِنَّ الَّذِينَ
سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) قال : أنا منهم وعمر منهم وعثمان منهم والزبير منهم وطلحة
منهم وعبد الرحمن منهم ، أو قال : سعد منهم ، قال : أقيمت الصلاة ، فقام وأظنه يجر
ثوبه وهو يقول : (لا يَسْمَعُونَ
حَسِيسَها).
وقال شعبة عن أبي
بشر عن يوسف المكي عن محمد بن حاطب قال : سمعت عليا يقول في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا
الْحُسْنى) قال : عثمان وأصحابه ، ورواه ابن أبي حاتم أيضا ، ورواه
ابن جرير من حديث يوسف بن سعد ، وليس بابن ماهك عن محمد بن حاطب عن علي فذكره
ولفظه عثمان منهم ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا
الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) فأولئك أولياء الله يمرون على الصراط مرا هو أسرع من البرق
، ويبقى الكفار فيها جثيا ، فهذا مطابق لما ذكرناه.
وقال آخرون : بل
نزلت استثناء من المعبودين ، وخرج منهم عزيز والمسيح ، كما قال حجاج بن محمد
الأعور عن ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء عن ابن عباس (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ
اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) ثم استثنى فقال : (إِنَّ الَّذِينَ
سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) فيقال : هم الملائكة وعيسى ، ونحو ذلك مما يعبد من دون
الله عزوجل ، وكذا قال عكرمة والحسن وابن جريج.
وقال الضحاك عن
ابن عباس في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ
سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) قال نزلت في عيسى ابن مريم وعزيز عليهماالسلام ، وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا الحسين بن عيسى
بن ميسرة ، حدثنا أبو زهير ، حدثنا سعد بن طريف عن الأصبغ عن علي في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا
الْحُسْنى) قال : كل شيء يعبد من دون الله في النار إلا الشمس والقمر
وعيسى ابن مريم إسناده ضعيف. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد (أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) قال : عيسى وعزيز والملائكة. وقال الضحاك : عيسى ومريم
والملائكة والشمس والقمر.
وكذا روي عن سعيد
بن جبير وأبي صالح وغير واحد ، وقد روى ابن أبي حاتم في ذلك
حديثا غريبا جدا ،
فقال : حدثنا الفضل بن يعقوب الرخاني ، حدثنا سعيد بن مسلمة بن عبد الملك ، حدثنا
الليث بن أبي سليم عن مغيث عن أبي هريرة عن النبي صلىاللهعليهوسلم في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ
سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) قال : عيسى وعزيز والملائكة ، وذكر بعضهم قصة ابن الزبعرى
ومناظرة المشركين قال أبو بكر بن مردويه : حدثنا محمد بن علي بن سهل ، حدثنا محمد
بن حسن الأنماطي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن عرعرة ، حدثنا يزيد بن أبي حكيم ،
حدثنا الحكم يعني ابن أبان عن عكرمة عن ابن عباس قال : جاء عبد الله بن الزبعرى
إلى النبيصلىاللهعليهوسلم فقال : تزعم أن الله أنزل عليك هذه الآية (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ
اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) فقال ابن الزبعرى : قد عبدت الشمس والقمر والملائكة وعزيز
وعيسى ابن مريم كل هؤلاء في النار مع آلهتنا؟ فنزلت (وَلَمَّا ضُرِبَ
ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وَقالُوا أَآلِهَتُنا
خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) ثم نزلت (إِنَّ الَّذِينَ
سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) رواه الحافظ أبو عبد الله في كتابه الأحاديث المختارة.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبي ، حدثنا قبيصة بن عقبة ، حدثنا سفيان يعني الثوري عن الأعمش عن أصحابه
عن ابن عباس قال : لما نزلت : (إِنَّكُمْ وَما
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) قال المشركون : فالملائكة وعزيز وعيسى يعبدون من دون الله
فنزلت (لَوْ كانَ هؤُلاءِ
آلِهَةً ما وَرَدُوها) الآلهة التي يعبدون (وَكُلٌّ فِيها
خالِدُونَ) وروي عن أبي كدينة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن
ابن عباس مثل ذلك وقال : فنزلت (إِنَّ الَّذِينَ
سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ).
وقال محمد بن
إسحاق بن يسار رحمهالله في كتاب السيرة : وجلس رسول الله صلىاللهعليهوسلم فيما بلغني يوما مع الوليد بن المغيرة في المسجد ، فجاء
النضر بن الحارث حتى جلس معهم ، وفي المسجد غير واحد من رجال قريش ، فتكلم رسول
الله صلىاللهعليهوسلم فعرض له النضر بن الحارث فكلمه رسول الله صلىاللهعليهوسلم حتى أفحمه ، وتلا عليه وعليهم (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ
اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ ـ إلى قوله ـ هُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ) ثم قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأقبل عبد الله بن الزبعرى السهمي حتى جلس معهم ، فقال
الوليد بن المغيرة لعبد الله بن الزبعرى : والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد
المطلب آنفا ولا قعد ، وقد زعم محمد أنا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم ، فقال
عبد الله بن الزبعرى : أما والله لو وجدته لخصمته ، فسلوا محمدا كل ما يعبد من دون
الله في جهنم مع من عبده ، فنحن نعبد الملائكة ، واليهود تعبد عزيزا ، والنصارى
تعبد المسيح عيسى ابن مريم ، فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس من قول عبد الله
بن الزبعرى ورأوا أنه قد احتج وخاصم ، فذكر ذلك لرسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : «كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده ،
إنهم إنما يعبدون الشيطان ومن أمرهم بعبادته».
وأنزل الله (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا
الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا
اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ) أي عيسى وعزيز ومن عبدوا من الأحبار والرهبان الذين مضوا
على طاعة الله ، فاتخذهم من يعبدهم من أهل الضلالة أربابا من دون الله ، ونزل فيما
يذكرون أنهم يعبدون الملائكة وأنهم بنات الله (وَقالُوا اتَّخَذَ
الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ ـ إلى قوله ـ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ
مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) [الأنبياء : ٢٦]
ونزل فيما ذكر من أمر عيسى وأنه يعبد من دون الله ، وعجب الوليد ومن حضره من حجته
وخصومته (وَلَمَّا ضُرِبَ
ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وَقالُوا أَآلِهَتُنا
خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ
إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي
إِسْرائِيلَ وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ
يَخْلُفُونَ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها) [الزخرف : ٥٩] أي
ما وضعت على يديه من الآيات من إحياء الموتى وإبراء الأسقام ، فكفى به دليلا على
علم الساعة ، يقول : (فَلا تَمْتَرُنَّ
بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) [الزخرف : ٦١]
وهذا الذي قاله ابن الزبعرى خطأ كبير ، لأن الآية إنما نزلت خطابا لأهل مكة في
عبادتهم الأصنام التي هي جماد لا تعقل ، ليكون ذلك تقريعا وتوبيخا لعابديها ،
ولهذا قال : (إِنَّكُمْ وَما
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) فكيف يورد على هذا المسيح وعزيز ونحوهما من له عمل صالح
ولم يرض بعبادة من عبده ، وعول ابن جرير في تفسيره في الجواب على أن (ما) لما لا
يعقل عند العرب ، وقد أسلم عبد الله بن الزبعرى بعد ذلك ، وكان من الشعراء
المشهورين ، وقد كان يهاجي المسلمين أولا ثم قال معتذرا : [الخفيف]
يا رسول المليك
إن لساني
|
|
راتق ما فتقت إذ
أنا بور
|
إذ أجاري
الشيطان في سنن الغيّ
|
|
ومن مال ميله
مثبور
|
وقوله : (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) قيل : المراد بذلك الموت ، رواه عبد الرزاق عن يحيى بن ربيعة
عن عطاء وقيل : المراد بالفزع الأكبر النفخة في الصور ، قاله العوفي عن ابن عباس
وأبو سنان سعيد بن سنان الشيباني ، واختاره ابن جرير في تفسيره ، وقيل : حين يؤمر
بالعبد إلى النار ، قاله الحسن البصري ، وقيل : حين تطبق النار على أهلها ، قاله
سعيد بن جبير وابن جريج ، وقيل : حين يذبح الموت بين الجنة والنار ، قاله أبو بكر
الهذلي فيما رواه ابن أبي
__________________
حاتم عنه ، وقوله (وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا
يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) يعني تقول لهم الملائكة تبشرهم يوم معادهم إذا خرجوا من
قبورهم (هذا يَوْمُكُمُ
الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) أي فأملوا ما يسركم.
(يَوْمَ نَطْوِي
السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ
وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ)
(١٠٤)
يقول تعالى : هذا
كائن يوم القيامة (يَوْمَ نَطْوِي
السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) كما قال تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ
حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ
مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الزمر : ٦٧] وقد
قال البخاري : حدثنا مقدم بن محمد ، حدثني عمي القاسم بن يحيى عن عبيد الله عن
نافع عن ابن عمر عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إن الله يقبض يوم القيامة الأرضين وتكون السموات
بيمينه» انفرد به من هذا الوجه البخاريرحمهالله.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن أحمد بن الحجاج الرقي ، حدثنا محمد بن سلمة عن أبي
واصل عن أبي المليح الأزدي عن أبي الجوزاء الأزدي عن ابن عباس قال : يطوي الله
السموات السبع بما فيها من الخليقة والأرضين السبع بما فيها من الخليقة يطوي ذلك
كله بيمينه يكون ذلك كله في يديه بمنزلة خردلة.
وقوله : (كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) قيل : المراد بالسجل الكتاب ، وقيل المراد بالسجل هاهنا
ملك من الملائكة ، قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا محمد بن العلاء
، حدثنا يحيى بن يمان ، حدثنا أبو الوفاء الأشجعي عن أبيه عن ابن عمر في قوله
تعالى : (يَوْمَ نَطْوِي
السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) قال : السجل ملك ، فإذا صعد بالاستغفار قال : أكتبها نورا
، وهكذا رواه ابن جرير عن أبي كريب عن ابن يمان به.
قال ابن أبي حاتم
: وروي عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين أن السجل ملك ، وقال السدي في هذه الآية
السجل ملك موكل بالصحف فإذا مات الإنسان رفع كتابه إلى السجل ، فطواه ورفعه إلى
يوم القيامة ، وقيل : المراد به اسم رجل صحابي كان يكتب للنبيصلىاللهعليهوسلم الوحي.
قال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبو زرعة ، حدثنا نصر بن علي الجهضمي ، حدثنا نوح بن قيس عن عمرو بن مالك
عن أبي الجوزاء عن ابن عباس (يَوْمَ نَطْوِي
السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) قال : السجل هو الرجل ، قال نوح : وأخبرني يزيد بن كعب هو
العوذي عن عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء عن ابن عباس قال : السجل كاتب للنبي صلىاللهعليهوسلم ، وهكذا رواه أبو داود والنسائي ، كلاهما عن قتيبة بن سعد
عن نوح بن قيس عن يزيد بن كعب عن عمرو بن مالك عن أبي
__________________
الجوزاء عن ابن
عباس رضي الله عنهما قال : السجل كاتب للنبي صلىاللهعليهوسلم ، ورواه ابن جرير عن نصر بن علي الجهضمي ، كما تقدم ،
ورواه ابن عدي من رواية يحيى بن عمرو بن مالك النكري عن أبيه عن أبي الجوزاء عن
ابن عباس قال : كان لرسول الله صلىاللهعليهوسلم كاتب يسمى السجل ، وهو قوله : (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ
السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) قال : كما يطوي السجل الكتاب كذلك تطوى السماء ، ثم قال :
وهو غير محفوظ.
وقال الخطيب
البغدادي في تاريخه : أنبأنا أبو بكر البرقاني ، أنبأنا محمد بن محمد بن يعقوب
الحجاجي ، أنبأنا أحمد بن الحسن الكرخي أن حمدان بن سعيد ، حدثهم عن عبد الله بن
نمير عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال : السجل كاتب للنبي صلىاللهعليهوسلم ، وهذا منكر جدا من حديث نافع عن ابن عمر لا يصح أصلا ،
وكذلك ما تقدم عن ابن عباس من رواية أبي داود وغيره لا يصح أيضا ، وقد صرح جماعة
من الحفاظ بوضعه وإن كان في سنن أبي داود منهم شيخنا الحافظ الكبير أبو الحجاج
المزي فسح الله في عمره ونسأ في أجله ، وختم له بصالح عمله ، وقد أفردت لهذا الحديث
جزءا على حدته ولله الحمد.
وقد تصدى الإمام
أبو جعفر بن جرير للإنكار على هذا الحديث ، ورده أتم رد ، وقال: لا يعرف في
الصحابة أحد اسمه السجل ، وكتاب النبي صلىاللهعليهوسلم معروفون وليس فيهم أحد اسمه السجل ، وصدق رحمهالله في ذلك ، وهو من أقوى الأدلة على نكارة هذا الحديث ، وأما
من ذكره في أسماء الصحابة ، فإنما اعتمد على هذا الحديث لا على غيره ، والله أعلم
، والصحيح عن ابن عباس أن السجل هي الصحيفة ، قاله علي بن أبي طلحة ، والعوفي عنه
، ونص على ذلك مجاهد وقتادة وغير واحد ، واختاره ابن جرير لأنه المعروف في اللغة ،
فعلى هذا يكون معنى الكلام يوم نطوي السماء كطي السجل للكتاب ، أي على الكتاب
بمعنى المكتوب ، كقوله : (فَلَمَّا أَسْلَما
وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) [الصافات : ١٠٣]
أي على الجبين ، وله نظائر في اللغة ، والله أعلم.
وقوله : (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ
وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) يعني هذا كائن لا محالة يوم يعيد الله الخلائق خلقا جديدا
كما بدأهم هو القادر على إعادتهم. وذلك واجب الوقوع لأنه من جملة وعد الله الذي لا
يخلف ولا يبدل ، وهو القادر على ذلك ، ولهذا قال : (إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ). وقال الإمام أحمد : حدثنا وكيع وابن جعفر المعني قالا حدثنا شعبة عن المغيرة
بن النعمان عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : قام فينا رسول الله صلىاللهعليهوسلم بموعظة : فقال : «إنكم محشورون إلى الله عزوجل حفاة عراة غرلا ، كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا
__________________
علينا ، إنا كنا
فاعلين» وذكر تمام الحديث ، أخرجاه في الصحيحين من حديث شعبة ،
ذكره البخاري عند هذه الآية في كتابه ، وقد روى ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن عائشة
عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم نحو ذلك ، وقال العوفي عن ابن عباس في قوله : (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) قال : يهلك كل شيء كما كان أول مرة .
(وَلَقَدْ كَتَبْنا
فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ
الصَّالِحُونَ (١٠٥) إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً
لِقَوْمٍ عابِدِينَ (١٠٦) وَما أَرْسَلْناكَ
إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ)
(١٠٧)
يقول تعالى مخبرا
عما حتمه وقضاه لعباده الصالحين من السعادة في الدنيا والآخرة ووراثة الأرض في
الدنيا والآخرة ، كقوله تعالى : (إِنَّ الْأَرْضَ
لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف : ١٢٨]
وقال : (إِنَّا لَنَنْصُرُ
رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ
الْأَشْهادُ) [غافر : ٥١] وقال
: (وَعَدَ اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي
الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ
دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ) [النور : ٥٥]
وأخبر تعالى أن هذا مسطور في الكتب الشرعية والقدرية وهو كائن لا محالة ، ولهذا
قال تعالى : (وَلَقَدْ كَتَبْنا
فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ).
قال الأعمش : سألت
سعيد بن جبير عن قوله تعالى : (وَلَقَدْ كَتَبْنا
فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) فقال الزبور : التوراة والإنجيل ، والقرآن وقال مجاهد :
الزبور الكتاب ، وقال ابن عباس والشعبي والحسن وقتادة وغير واحد : الزبور الذي
أنزل على داود ، والذكر التوراة. وعن ابن عباس : الذكر القرآن ، وقال سعيد بن جبير
: الذكر الذي في السماء. وقال مجاهد : الزبور الكتب بعد الذكر والذكر أم الكتاب
عند الله ، واختار ذلك ابن جرير رحمهالله ، وكذا قال زيد بن أسلم : هو الكتاب الأول ، وقال الثوري :
هو اللوح المحفوظ.
وقال عبد الرحمن
بن زيد بن أسلم : الزبور الكتب التي أنزلت على الأنبياء ، والذكر أمّ الكتاب الذي
يكتب فيه الأشياء قبل ذلك ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : أخبر الله سبحانه
وتعالى في التوراة والزبور وسابق علمه قبل أن تكون السموات والأرض أن يورث أمة
محمدصلىاللهعليهوسلم الأرض ، ويدخلهم الجنة وهم الصالحون. وقال مجاهد عن ابن
عباس (أَنَّ الْأَرْضَ
يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) قال : أرض الجنة ، وكذا قال أبو العالية ومجاهد وسعيد بن
جبير والشعبي وقتادة والسدي وأبو صالح والربيع بن أنس والثوري ، وقال أبو الدرداء
نحن الصالحون. وقال السدي : هم المؤمنون.
__________________
وقوله : (إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ
عابِدِينَ) أي إن في هذا القرآن الذي أنزلناه على عبدنا محمد صلىاللهعليهوسلم لبلاغا : لمنفعة وكفاية لقوم عابدين ، وهم الذين عبدوا
الله بما شرعه وأحبه ورضيه ، وآثروا طاعة الله على طاعة الشيطان ، وشهوات أنفسهم.
وقوله : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً
لِلْعالَمِينَ) يخبر تعالى أن الله جعل محمداصلىاللهعليهوسلم رحمة للعالمين أي أرسله رحمة لهم كلهم فمن قبل هذه الرحمة
وشكر هذه النعمة سعد في الدنيا والآخرة ومن ردها وجحدها خسر في الدنيا والآخرة كما
قال تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ
الْبَوارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ) [إبراهيم : ٢٨ ـ ٢٩]
وقال تعالى في صفة القرآن : (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ
آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ
عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) [فصلت : ٤٤] وقال
مسلم في صحيحه حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا مروان الفزاري عن يزيد بن كيسان عن ابن
أبي حازم عن أبي هريرة قال : قيل يا رسول الله ادع على المشركين. قال «إني لم أبعث
لعانا ، وإنما بعثت رحمة» انفرد بإخراجه مسلم . وفي الحديث الآخر «إنما أنا رحمة مهداة» رواه عبد الله بن أبي عوانة وغيره عن وكيع عن الأعمش عن
أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا. قال إبراهيم الحربي. وقد رواه غيره عن وكيع فلم
يذكر أبا هريرة. وكذا قال البخاري وقد سئل عن هذا الحديث ، فقال : كان عند حفص بن
غياث مرسلا.
قال الحافظ ابن
عساكر : وقد رواه مالك بن سعيد الخمس عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا ،
ثم ساقه من طريق أبي بكر بن المقرئ وأبي أحمد الحاكم ، كلاهما عن بكر بن محمد بن
إبراهيم الصوفي ، حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري عن أبي أسامة عن إسماعيل بن أبي
خالد عن قيس بن أبي حازم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إنما أنا رحمة مهداة» ثم أورده من طريق الصلت بن مسعود
عن سفيان بن عيينة عن مسعر عن سعيد بن خالد ، عن رجل عن ابن عمر قال : قال رسول
الله صلىاللهعليهوسلم : «إن الله بعثني رحمة مهداة بعثت برفع قوم وخفض آخرين».
قال أبو القاسم
الطبراني : حدثنا أحمد بن محمد بن نافع الطحان ، حدثنا أحمد بن صالح قال : وجدت
كتابا بالمدينة عن عبد العزيز الدراوردي وإبراهيم بن محمد بن عبد العزيز بن عمر بن
عبد الرحمن بن عوف ، عن محمد بن صالح التمار عن ابن شهاب ، عن محمد بن جبير بن
مطعم عن أبيه قال : قال أبو جهل حين قدم مكة منصرفه عن حمزة : يا معشر قريش إن
محمدا نزل يثرب وأرسل طلائعه ، وإنما يريد أن يصيب منكم شيئا ، فاحذروا أن تمروا
طريقه
__________________
أو تقاربوه ، فإنه
كالأسد الضاري ، إنه حق عليكم لأنكم نفيتموه نفي القردان عن المناسم ، والله إن له
لسحرة ما رأيته قط ولا أحدا من أصحابه إلا رأيت معهم الشياطين ، وإنكم قد عرفتم
عداوة ابني قيلة يعني الأوس والخزرج ، فهو عدو استعان بعدو ، فقال له مطعم بن عدي
: يا أبا الحكم والله ما رأيت أحدا أصدق لسانا ، ولا أصدق موعدا من أخيكم الذي
طردتم ، وإذ فعلتم الذي فعلتم ، فكونوا أكف الناس عنه.
قال أبو سفيان بن
الحارث : كونوا أشد ما كنتم عليه إن ابني قيلة إن ظفروا بكم لم يرقبوا فيكم إلا
ولا ذمة ، وإن أطعتموني ألجأتموهم حير كنانة أو تخرجوا محمدا من بين ظهرانيهم ،
فيكون وحيدا مطرودا ، وأما ابنا قيلة فو الله ما هما وأهل دهلك في المذلة إلا سواء
وسأكفيكم حدهم ، وقال :
سأمنح جانبا مني
غليظا
|
|
على ما كان من
قرب وبعد
|
رجال الخزرجية
أهل ذلّ
|
|
إذا ما كان هزل
بعد جدّ
|
فبلغ ذلك رسول
الله صلىاللهعليهوسلم فقال «والذي نفسي بيده ، لأقتلنهم ولأصلبنهم ولأهدينهم وهم
كارهون ، إني رحمة بعثني الله ولا يتوفاني حتى يظهر الله دينه ، لي خمسة أسماء أنا
محمد وأحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر ، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس
على قدمي ، وأنا العاقب» وقال أحمد بن صالح : أرجو أن يكون الحديث صحيحا.
وقال الإمام أحمد : حدثنا معاوية بن عمرو ، حدثنا زائدة ، حدثني عمرو بن قيس
عن عمرو بن أبي قرة الكندي قال : كان حذيفة بالمدائن فكان يذكر أشياء قالها رسول
اللهصلىاللهعليهوسلم ، فجاء حذيفة إلى سلمان ، فقال سلمان : يا حذيفة إن رسول
الله صلىاللهعليهوسلم خطب فقال : «أيما رجل من أمتي سببته في غضبي أو لعنته لعنة
، فإنما أنا رجل من ولد آدم أغضب كما تغضبون ، وإنما بعثني الله رحمة للعالمين
فأجعلها صلاة عليه يوم القيامة».
ورواه أبو داود عن أحمد بن يونس عن زائدة ، فإن قيل : فأي رحمة حصلت لمن
كفر به؟ فالجواب ما رواه أبو جعفر بن جرير : حدثنا إسحاق بن شاهين ، حدثنا إسحاق الأزرق عن المسعودي
عن رجل يقال له سعيد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً
لِلْعالَمِينَ) قال : من آمن بالله واليوم الآخر كتب له الرحمة في الدنيا
والآخرة ، ومن لم يؤمن بالله ورسوله عوفي مما أصاب الأمم من الخسف والقذف.
وهكذا رواه ابن
أبي حاتم من حديث المسعودي عن أبي سعد وهو سعيد بن المرزبان البقال
__________________
عن سعيد بن جبير
عن ابن عباس فذكره بنحوه ، والله أعلم ، وقد رواه أبو القاسم الطبراني عن عبدان
ابن أحمد عن عيسى بن يونس الرملي عن أيوب بن سويد عن المسعودي عن حبيب بن أبي ثابت
عن سعيد بن جبير عن ابن عباس (وَما أَرْسَلْناكَ
إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) قال : من تبعه كان له رحمة في الدنيا والآخرة ، ومن لم
يتبعه عوفي مما كان يبتلى به سائر الأمم من الخسف والمسخ والقذف.
(قُلْ إِنَّما يُوحى
إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٨)
فَإِنْ
تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ
ما تُوعَدُونَ (١٠٩) إِنَّهُ يَعْلَمُ
الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (١١٠)
وَإِنْ
أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (١١١)
قالَ
رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ)
(١١٢)
يقول تعالى آمرا
رسوله صلواته وسلامه عليه أن يقول للمشركين (إِنَّما يُوحى
إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) أي متبعون على ذلك مستسلمون منقادون له (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي تركوا ما دعوتهم إليه (فَقُلْ آذَنْتُكُمْ
عَلى سَواءٍ) أي أعلمتكم أني حرب لكم كما أنكم حرب لي بريء منكم كما
أنتم برآء مني ، كقوله : (وَإِنْ كَذَّبُوكَ
فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ
وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) [يونس : ٤١] وقال
: (وَإِمَّا تَخافَنَّ
مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ) [الأنفال : ٥٨] أي
ليكن علمك وعلمهم بنبذ العهود على السواء ، وهكذا هاهنا (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ
عَلى سَواءٍ) أي أعلمتكم ببراءتي منكم وبراءتكم مني لعلمي بذلك.
وقوله : (وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ
ما تُوعَدُونَ) أي هو واقع لا محالة ، ولكن لا علم لي بقربه ولا ببعده (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ
الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ) اي إن الله يعلم الغيب جميعه ويعلم ما يظهره العباد وما
يسرون ، يعلم الظواهر والضمائر ، ويعلم السر وأخفى ، ويعلم ما العباد عاملون في
أجهارهم وأسرارهم ، وسيجزيهم على ذلك القليل والجليل. وقوله : (وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ
لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) أي وما أدري لعل هذا فتنة لكم ومتاع إلى حين. قال ابن جرير
: لعل تأخير ذلك عنكم فتنة لكم ومتاع إلى أجل مسمى ، وحكاه عون عن ابن عباس
فالله أعلم (قالَ رَبِّ احْكُمْ
بِالْحَقِ) أي افصل بيننا وبين قومنا المكذبين بالحق. قال قتادة :
كانت الأنبياء عليهمالسلام يقولون : (رَبَّنَا افْتَحْ
بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) [الأعراف : ٨٩]
وأمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن يقول ذلك ، وعن مالك عن زيد بن أسلم : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم إذا شهد قتالا (قالَ رَبِّ احْكُمْ
بِالْحَقِ). وقوله : (وَرَبُّنَا
الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) أي على ما يقولون ويفترون من الكذب ويتنوعون في مقامات
التكذيب والإفك ، والله المستعان عليكم في ذلك.
آخر تفسير سورة
الأنبياء عليهمالسلام ولله الحمد والمنة.
__________________
سورة الحج
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(يا أَيُّهَا النَّاسُ
اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ
(١) يَوْمَ
تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ
حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ
اللهِ شَدِيدٌ)
(٢)
يقول تعالى آمرا
عباده بتقواه ومخبرا لهم بما يستقبلون من أهوال يوم القيامة وزلازلها وأحوالها ،
وقد اختلف المفسرون في زلزلة الساعة : هل هي بعد قيام الناس من قبورهم يوم نشورهم
إلى عرصات القيامة ، أو ذلك عبارة عن زلزلة الأرض قبل قيام الناس من أجداثهم؟ كما
قال تعالى : (إِذا زُلْزِلَتِ
الْأَرْضُ زِلْزالَها وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) [الزلزلة : ١ ـ ٢]
وقال تعالى : (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ
وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً ، فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) [الحاقة : ١٤ ـ ١٥]
الآية ، وقال تعالى : (إِذا رُجَّتِ
الْأَرْضُ رَجًّا وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا) [الواقعة : ٥٤ ـ ٥٦]
الآية ، فقال قائلون : هذه الزلزلة كائنة في آخر عمر الدنيا وأول أحوال الساعة.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن بشار ، حدثنا يحيى ، حدثنا سفيان عن الأعمش عن
إبراهيم عن علقمة في قوله : (إِنَّ زَلْزَلَةَ
السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) قال : قبل الساعة ، ورواه ابن أبي حاتم من حديث الثوري عن
منصور والأعمش عن إبراهيم عن علقمة فذكره ، قال : وروي عن الشعبي وإبراهيم وعبيد
بن عمير نحو ذلك. وقال أبو كدينة عن عطاء بن عامر الشعبي (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا
رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) قال : هذا في الدنيا قبل يوم القيامة.
وقد أورد الإمام
أبو جعفر بن جرير مستند من قال ذلك في حديث الصور من رواية إسماعيل بن رافع قاضي
أهل المدينة عن يزيد بن أبي زياد ، عن رجل من الأنصار عن محمد بن كعب القرظي ، عن
رجل عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن الله لما فرغ من خلق السموات والأرض خلق الصور
فأعطاه إسرافيل ، فهو واضعه على فيه شاخص ببصره إلى العرش ينتظر متى يؤمر» قال أبو
هريرة : يا رسول الله وما الصور؟ قال : قرن. قال : فكيف هو؟ قال : «قرن عظيم ينفخ
فيه ثلاث نفخات : الأولى نفخة الفزع ، والثانية نفخة الصعق ، والثالثة نفخة القيام
لرب العالمين ، يأمر الله إسرافيل بالنفخة الأولى. فيقول : انفخ نفخة
__________________
الفزع ، فيفزع أهل
السموات وأهل الأرض إلا من شاء الله ، ويأمره فيمدها ويطولها ولا يفتر ، وهي التي
يقول الله تعالى : (وَما يَنْظُرُ
هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ) فتسير الجبال فتكون سرابا ، وترج الأرض بأهلها رجا ، وهي
التي يقول الله تعالى : (يَوْمَ تَرْجُفُ
الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ) فتكون الأرض كالسفينة الموبقة في البحر تضربها الأمواج تكفؤها
بأهلها ، وكالقنديل المعلق بالعرش ترجحه الأرواح فيمتد الناس على ظهرها.
فتذهل المراضع
وتضع الحوامل ، ويشيب الولدان ، وتطير الشياطين هاربة حتى تأتي الأقطار فتلقاها
الملائكة فتضرب في وجوهها فترجع ، ويولي الناس مدبرين ينادي بعضهم بعضا ، وهي التي
يقول الله تعالى : (يَوْمَ التَّنادِ
يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ
اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) [غافر : ٣٢ ـ ٣٣]
فبينما هم على ذلك إذا انصدعت الأرض من قطر إلى قطر ، ورأوا أمرا عظيما ، فأخذهم
لذلك من الكرب ما الله أعلم به. ثم نظروا إلى السماء فإذا هي كالمهل ، ثم خسف
شمسها وقمرها ، وانتثرت نجومها ثم كشطت عنهم ـ قال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم : «والأموات لا يعلمون بشيء من ذلك» قال أبو هريرة : فمن
استثنى الله حين يقول (فَفَزِعَ مَنْ فِي
السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) [النمل : ٨٧] قال «أولئك
الشهداء ، وإنما يصل الفزع إلى الأحياء ، أولئك أحياء عند ربهم يرزقون ، وقاهم
الله شر ذلك اليوم وآمنهم ، وهو عذاب الله يبعثه على شرار خلقه ، وهو الذي يقول
الله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ
اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَها
تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها
وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ).
وهذا الحديث قد
رواه الطبراني وابن جرير وابن أبي حاتم وغير واحد مطولا جدا ، والغرض منه أنه دل
على أن هذه الزلزلة كائنة قبل يوم الساعة أضيفت إلى الساعة لقربها منها ، كما يقال
أشراط الساعة ونحو ذلك ، والله أعلم ، وقال آخرون بل ذلك هول وفزع وزلزال وبلبال
كائن يوم القيامة في العرصات بعد القيام من القبور ، واختار ذلك ابن جرير ،
واحتجوا بأحاديث:
[الأول] قال
الإمام أحمد : حدثنا يحيى عن هشام ، حدثنا قتادة عن الحسن عن عمران بن
حصين أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال وهو في بعض أسفاره ، وقد تفاوت بين أصحابه السير رفع بهاتين الآيتين صوته. (يا أَيُّهَا النَّاسُ
اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَها
تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها
وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) فلما سمع أصحابه بذلك حثوا
__________________
المطي ، وعرفوا أنه عند قول يقوله ، فلما دنوا حوله قال : «أتدرون
أي يوم ذاك ، ذاك يوم ينادى آدم عليهالسلام فيناديه ربه عزوجل ، فيقول : يا آدم ابعث بعثك إلى النار ، فيقول : يا رب وما
بعث النار؟ فيقول من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون في النار وواحد في الجنة» قال :
فأبلس أصحابه حتى ما أوضحوا بضاحكة ، فلما رأى ذلك قال : «أبشروا واعملوا ، فو الذي نفس محمد
بيده إنكم لمع خليقتين ما كانتا مع شيء قط إلا كثرتاه يأجوج ومأجوج ، ومن هلك من
بني آدم وبني إبليس».
قال : فسري عنهم ، ثم قال : «اعملوا وأبشروا ، فو الذي نفس محمد بيده ما
أنتم في الناس إلا كالشامة في جنب البعير أو الرقمة في ذراع الدابة» وهكذا رواه الترمذي والنسائي في كتاب التفسير من سننيهما
عن محمد بن بشار عن يحيى وهو القطان ، عن هشام وهو الدستوائي عن قتادة به بنحوه ،
وقال الترمذي : حسن صحيح.
[طريق آخر] لهذا
الحديث. قال الترمذي : حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان بن عيينة ، حدثنا ابن
جدعان عن الحسن عن عمران بن حصين أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال لما نزلت : (يا أَيُّهَا النَّاسُ
اتَّقُوا رَبَّكُمْ ـ إلى قوله ـ وَلكِنَّ
عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) قال : نزلت عليه هذه الآية وهو في سفر ، فقال : «أتدرون أي
يوم ذلك؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. قال ـ ذلك يوم يقول الله لآدم : ابعث بعث النار
، قال : يا رب وما بعث النار؟ قال : تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى
الجنة» فأنشأ المسلمون يبكون ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «قاربوا وسددوا ، فإنها لم تكن نبوة قط إلا كان بين
يديها جاهلية ، قال : فيؤخذ العدد من الجاهلية ، فإن تمت ، وإلا كملت من المنافقين
، وما مثلكم ومثل الأمم الا كمثل الرقمة في ذراع الدابة أو كالشامة في جنب البعير
ثم قال : «إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة» ـ فكبروا ثم قال ـ : «إني لأرجو أن
تكونوا ثلث أهل الجنة» ـ فكبروا ثم قال ـ : «إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة» فكبروا
ثم قال : ولا أدري قال الثلثين أم لا.
وكذا رواه الإمام
أحمد عن سفيان بن عيينة به. ثم قال الترمذي أيضا : هذا حديث حسن
__________________
صحيح. وقد روي عن
سعيد بن أبي عروبة عن الحسن عن عمران بن الحصين وقد رواه ابن أبي حاتم من حديث
سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن والعلاء بن زياد العدوي عن عمران بن الحصين
فذكره ، وهكذا روى ابن جرير عن بندار عن غندر عن عوف عن الحسن قال : بلغني أن رسول
الله صلىاللهعليهوسلم لما قفل من غزوة العسرة ومعه أصحابه بعد ما شارف المدينة
قرأ (يا أَيُّهَا النَّاسُ
اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) وذكر الحديث فذكر نحو سياق ابن جدعان ، والله أعلم.
[الحديث الثاني]
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن الطباع ، حدثنا أبو سفيان المعمري ، عن
معمر عن قتادة عن أنس قال : نزلت (إِنَّ زَلْزَلَةَ
السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) وذكر ، يعني نحو سياق الحسن عن عمران غير أنه قال : ومن
هلك من كفرة الجن والإنس. ورواه ابن جرير بطوله من حديث معمر.
[الحديث الثالث]
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا سعيد بن سليمان حدثنا عباد يعني ابن العوام
، حدثنا هلال بن خباب عن عكرمة عن ابن عباس قال : تلا رسول اللهصلىاللهعليهوسلم هذه الآية فذكر نحوه ، وقال فيه «إني لأرجو أن تكونوا ربع
أهل الجنة ـ ثم قال ـ إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة ـ ثم قال ـ إني لأرجو أن
تكونوا شطر أهل الجنة» ففرحوا ، وزاد أيضا «وإنما أنتم جزء من ألف جزء».
[الحديث الرابع]
قال البخاري عند تفسير هذه الآية : حدثنا عمر بن حفص ، حدثنا أبي ،
حدثنا الأعمش ، حدثنا أبو صالح عن أبي سعيد قال : قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «يقول الله تعالى يوم القيامة : يا آدم ، فيقول : لبيك
ربنا وسعديك ، فينادي بصوت : إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار ، قال
: يا رب وما بعث النار؟ قال : من كل ألف ـ أراه قال ـ تسعمائة وتسعة وتسعون ،
فحينئذ تضع الحامل حملها ويشيب الوليد (وَتَرَى النَّاسَ
سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) فشق ذلك على الناس حتى تغيرت وجوههم. قال النبيصلىاللهعليهوسلم «من يأجوج ومأجوج
تسعمائة وتسعة وتسعون ومنكم واحد ، أنتم في الناس كالشعرة السوداء في جنب الثور
الأبيض ، أو كالشعرة البيضاء في جنب الثور الأسود ، وإني لأرجو أن تكونوا ربع أهل
الجنة ـ فكبرنا ثم قال ـ ثلث أهل الجنة ـ فكبرنا ثم قال ـ شطر أهل الجنة» فكبرنا ، وقد رواه البخاري أيضا في غير هذا الموضع ، ومسلم
والنسائي في تفسيره من طرق عن الأعمش به.
__________________
[الحديث الخامس]
قال الإمام أحمد : حدثنا عمارة بن محمد ابن أخت سفيان الثوري وعبيدة المعنى
، كلاهما عن إبراهيم بن مسلم عن أبي الأحوص عن عبد الله قال : قال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم : «إن الله يبعث يوم القيامة مناديا ينادي : يا آدم إن
الله يأمرك أن تبعث بعثا من ذريتك إلى النار ، فيقول آدم : يا رب من هم؟ فيقال له
: من كل مائة تسعة وتسعون» فقال رجل من القوم : من هذا الناجي منا بعد هذا يا رسول
الله؟ قال : «هل تدرون ما أنتم في الناس إلا كالشامة في صدر البعير» انفرد بهذا
السند وهذا السياق الإمام أحمد.
[الحديث السادس]
قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى عن حاتم بن أبي صفيرة ، حدثنا ابن أبي مليكة
أن القاسم بن محمد أخبره عن عائشة عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «إنكم تحشرون إلى الله يوم القيامة حفاة عراة غرلا»
قالت عائشة : يا رسول الله الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض ، قال «يا عائشة إن
الأمر أشد من أن يهمهم ذاك» أخرجاه في الصحيحين.
[الحديث السابع]
قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن إسحاق ، حدثنا ابن لهيعة عن خالد بن أبي
عمران عن القاسم بن محمد عن عائشة قالت : قلت يا رسول الله ، هل يذكر الحبيب حبيبه
، يوم القيامة؟ قال : «يا عائشة أما عند ثلاث فلا ، أما عند الميزان حتى يثقل أو
يخف فلا ، وأما عند تطاير الكتب إما يعطي بيمينه وإما يعطي بشماله فلا ، وحين يخرج
عنق من النار فينطوي عليهم ويتغيظ عليهم ويقول ذلك العنق : وكلت بثلاثة ، وكلت
بثلاثة ، وكلت بثلاثة ، وكلت بمن ادعى مع الله إلها آخر ، وكلت بمن لا يؤمن بيوم
الحساب ، ووكلت بكل جبار عنيد ـ قال ـ فينطوي عليهم. ويرميهم في غمرات جهنم ،
ولجهنم جسر أرق من الشعر وأحد من السيف ، عليه كلاليب وحسك يأخذون من شاء الله ،
والناس عليه كالبرق وكالطرف وكالريح وكأجاويد الخيل والركاب ، والملائكة يقولون :
رب سلم ، سلم. فناج مسلم ، ومخدوش مسلم ، مكور في النار على وجهه».
والأحاديث في
أهوال يوم القيامة والآثار كثيرة جدا لها موضع آخر ، ولهذا قال تعالى : (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ
عَظِيمٌ) أي أمر عظيم ، وخطب جليل ، وطارق مفظع ، وحادث هائل ،
وكائن عجيب ، والزلزال هو ما يحصل للنفوس من الرعب والفزع ، كما قال تعالى : (هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ
وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً) [الأحزاب : ١١].
ثم قال تعالى : (يَوْمَ تَرَوْنَها) هذا من باب ضمير الشأن ، ولهذا قال مفسرا له : (تَذْهَلُ كُلُ
__________________
مُرْضِعَةٍ
عَمَّا أَرْضَعَتْ) أي فتشتغل لهول ما ترى عن أحب الناس إليها ، والتي هي أشفق
الناس عليه تدهش عنه في حال إرضاعها له ، ولهذا قال : (كُلُّ مُرْضِعَةٍ) ولم يقل مرضع ، وقال : (عَمَّا أَرْضَعَتْ) أي عن رضيعها قبل فطامه.
وقوله : (وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها) أي قبل تمامه لشدة الهول (وَتَرَى النَّاسَ
سُكارى) وقرئ (سُكارى) أي من شدة الأمر الذي قد صاروا فيه قد دهشت عقولهم ، وغابت
أذهانهم ، فمن رآهم حسب أنهم سكارى (وَما هُمْ بِسُكارى
وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ).
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (٣)
كُتِبَ
عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ
السَّعِيرِ)
(٤)
يقول تعالى ذاما
لمن كذب بالبعث وأنكر قدرة الله على إحياء الموتى ، معرضا عما أنزل الله على
أنبيائه متبعا في قوله وإنكاره وكفره كل شيطان مريد من الإنس والجن ، وهذا حال أهل
البدع والضلال المعرضين عن الحق المتبعين للباطل يتركون ما أنزله الله على رسوله
من الحق المبين ، ويتبعون أقوال رؤوس الضلالة الدعاة إلى البدع بالأهواء والآراء ،
ولهذا قال في شأنهم وأشباههم (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي علم صحيح (وَيَتَّبِعُ كُلَّ
شَيْطانٍ مَرِيدٍ كُتِبَ عَلَيْهِ) قال مجاهد : يعني الشيطان ، يعني كتب عليه كتابة قدرية (أَنَّهُ مَنْ
تَوَلَّاهُ) أي اتبعه وقلده (فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ
وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) أي يضله في الدنيا ، ويقوده في الآخرة إلى عذاب السعير ،
وهو الحار المؤلم المقلق المزعج ، وقد قال السدي عن أبي مالك : نزلت هذه الآية في
النضر بن الحارث ، وكذلك قال ابن جريج.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا عمرو بن مسلم البصري ، حدثنا عمرو بن المحرم أبو قتادة ، حدثنا المعمر ،
حدثنا أبو كعب المكي قال : قال خبيث من خبثاء قريش أخبرنا عن ربكم من ذهب هو ، أو
من فضة هو ، أو من نحاس هو؟ فقعقعت السماء قعقعة ـ والقعقعة في كلام العرب الرعد ـ
فإذا قحف رأسه ساقط بين يديه. وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد : جاء يهودي فقال :
يا محمد أخبرني عن ربك من أي شيء هو من در أم من ياقوت؟ قال : فجاءت صاعقة فأخذته.
(يا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ
مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ
مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ
مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ
مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا
يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا
أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ
__________________
كُلِّ
زَوْجٍ بَهِيجٍ (٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ
هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
(٦) وَأَنَّ
السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ)
(٧)
لما ذكر تعالى
المخالف للبعث المنكر للمعاد ، ذكر تعالى الدليل على قدرته تعالى على المعاد بما
يشاهد من بدئه للخلق فقال : (يا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ) أي في شك (مِنَ الْبَعْثِ) وهو المعاد ، وقيام الأرواح والأجساد ، يوم القيامة (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ) أي أصل برئه لكم من تراب ، وهو الذي خلق منه آدم عليهالسلام (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) أي ثم (جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ
سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) ... (ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ
ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ) وذلك أنه إذا استقرت النطفة في رحم المرأة مكثت أربعين
يوما كذلك يضاعف إليه ما يجتمع إليها ، ثم تنقلب علقة حمراء بإذن الله ، فتمكث
كذلك أربعين يوما ، ثم تستحيل فتصير مضغة قطعة من لحم لا شكل فيها ولا تخطيط ، ثم
يشرع في التشكيل والتخطيط فيصور منها رأس ويدان وصدر وبطن وفخذان ورجلان وسائر
الأعضاء ، فتارة تسقطها المرأة قبل التشكيل والتخطيط ، وتارة تلقيها وقد صارت ذات
شكل وتخطيط ، ولهذا قال تعالى : (ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ
مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) أي كما تشاهدونها (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ
وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي وتارة تستقر في الرحم لا تلقيها المرأة ولا تسقطها ،
كما قال مجاهد في قوله تعالى : (مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ
مُخَلَّقَةٍ) قال : هو السقط مخلوق وغير مخلوق ، فإذا مضى عليها أربعون يوما وهي مضغة ، أرسل الله تعالى
ملكا إليها فنفخ فيها الروح وسواها كما يشاء الله عزوجل من حسن وقبح ، وذكر وأنثى ، وكتب رزقها وأجلها ، وشقي أو
سعيد.
كما ثبت في
الصحيحين من حديث الأعمش عن زيد بن وهب عن ابن مسعود قال : حدثنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو الصادق المصدوق «إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين
ليلة ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يبعث الله إليه الملك
فيؤمر بأربع كلمات ، بكتب رزقه وعمله وأجله ، وشقي أو سعيد ، ثم ينفخ فيه الروح» .
وروى ابن أبي حاتم
وابن جرير من حديث داود بن أبي هند عن الشعبي عن علقمة عن عبد الله
قال : النطفة إذا استقرت في الرحم ، أخذها ملك بكفه فقال يا رب مخلقة أو غير مخلقة؟
فإن قيل : غير مخلقة لم تكن نسمة وقذفتها الأرحام دما ، وإن قيل : مخلقة قال : أي
رب ذكر أو أنثى ، شقي أو سعيد ، ما الأجل وما الأثر ، وبأي أرض يموت؟ قال : فيقال
للنطفة : من ربك؟ فتقول : الله ، فيقال من رازقك؟ فتقول الله ، فيقال له : اذهب
إلى أم
__________________
الكتاب ، فإنك
ستجد فيه قصة هذه النطفة ، قال : فتخلق فتعيش في أجلها وتأكل رزقها وتطأ أثرها ،
حتى إذا جاء أجلها ماتت فدفنت في ذلك المكان ، ثم تلا عامر الشعبي (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي
رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ
ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) فإذا بلغت مضغة نكست في الخلق الرابع فكانت نسمة ، وإن
كانت غير مخلقة قذفتها الأرحام دما ، وإن كانت مخلقة نكست في الخلق.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ ، حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن أبي
الطفيل عن حذيفة بن أسيد يبلغ به النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم
بأربعين يوما أو خمس وأربعين ، فيقول : أي رب أشقي أم سعيد؟ فيقول الله ويكتبان ،
فيقول : أذكر أم أنثى؟ فيقول الله ويكتبان ، ويكتب عمله وأثره ورزقه وأجله ، ثم
تطوى الصحف فلا يزاد على ما فيها ولا ينتقص» ورواه مسلم من حديث سفيان بن عيينة ومن طريق آخر عن أبي
الطفيل بنحو معناه.
وقوله : (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) أي ضعيفا في بدنه وسمعه وبصره وبطشه وعقله ، ثم يعطيه الله
القوة شيئا فشيئا ، ويلطف به ويحنن عليه والديه في آناء الليل وأطراف النهار ،
ولهذا قال : (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا
أَشُدَّكُمْ) أي يتكامل القوي ويتزايد ، ويصل إلى عنفوان الشباب وحسن
المظهر ، (وَمِنْكُمْ مَنْ
يُتَوَفَّى) أي في حال شبابه وقواه ، (وَمِنْكُمْ مَنْ
يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) وهو الشيخوخة والهرم وضعف القوة والعقل والفهم وتناقص
الأحوال من الخرف وضعف الفكر ، ولهذا قال : (لِكَيْلا يَعْلَمَ
مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً) كما قال تعالى : (اللهُ الَّذِي
خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ
مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ
الْقَدِيرُ) [الروم : ٥٤].
وقد قال الحافظ
أبو يعلى بن علي بن المثنى الموصلي في مسنده : حدثنا منصور بن أبي مزاحم ، حدثنا
خالد الزيات ، حدثني داود أبو سليمان عن عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر بن حزم
الأنصاري عن أنس بن مالك رفع الحديث قال : «المولود حتى يبلغ الحنث ما عمل من حسنة كتبت لوالده أو لوالدته ، وما عمل من سيئة
لم تكتب عليه ولا على والديه ، فإذا بلغ الحنث أجرى الله عليه القلم أمر الملكان
اللذان معه أن يحفظا وأن يشددا ، فإذا بلغ أربعين سنة في الإسلام أمنه الله من
البلايا الثلاث : الجنون والجذام والبرص ، فإذا بلغ الخمسين ، خفف الله حسابه ،
فإذا بلغ الستين رزقه الله الإنابة إليه بما يحب. فإذا بلغ السبعين أحبه أهل
السماء. فإذا بلغ الثمانين كتب الله حسناته وتجاوز عن سيئاته ، فإذا بلغ التسعين
غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وشفعه في أهل بيته ، وكتب أمين الله وكان
أسير الله في أرضه ، فإذا
__________________
بلغ أرذل العمر
لكيلا يعلم من بعد علم شيئا كتب الله مثل ما كان يعمل في صحته من الخير ، فإذا عمل
سيئة لم تكتب عليه».
هذا حديث غريب جدا
، وفيه نكارة شديدة ، ومع هذا قد رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده موقوفا ومرفوعا ، فقال : حدثنا أبو النضر ، حدثنا
الفرج ، حدثنا محمد بن عامر عن محمد بن عبد الله العامري ، عن عمرو بن جعفر عن أنس
قال : «إذا بلغ الرجل المسلم أربعين سنة ، أمنه الله من أنواع البلايا : من الجنون
، والبرص ، والجذام ، فإذا بلغ الخمسين لين الله حسابه ، وإذا بلغ الستين رزقه
الله إنابة يحبه الله عليها ، وإذا بلغ السبعين أحبه الله وأحبه أهل السماء ، وإذا
بلغ الثمانين تقبل الله حسناته ومحا عنه سيئاته وإذا بلغ التسعين غفر الله له ما
تقدم من ذنبه وما تأخر وسمي أسير الله في أرضه وشفع في أهله» ثم قال : حدثنا هاشم
، حدثنا الفرج ، حدثني محمد بن عبد الله العامري عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن
عثمان عن عبد الله بن عمر بن الخطاب ، عن النبي صلىاللهعليهوسلم مثله.
رواه الإمام أحمد أيضا : حدثنا أنس بن عياض ، حدثني يوسف بن أبي بردة
الأنصاري عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمري ، عن أنس بن مالك أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «ما من معمر يعمر في الإسلام أربعين سنة إلا صرف
الله عنه ثلاثة أنواع من البلاء : الجنون ، والبرص ، والجذام» وذكر تمام الحديث
كما تقدم سواء ، رواه الحافظ أبو بكر البزار عن عبد الله بن شبيب عن أبي شيبة عن
عبد الله بن عبد الملك عن أبي قتادة العدوي ، عن ابن أخي الزهري عن عمه عن أنس بن
مالك قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ما من عبد يعمر في الإسلام أربعين سنة إلا صرف الله عنه
أنواعا من البلاء : الجنون ، والجذام ، والبرص ، فإذا بلغ خمسين سنة لين الله له
الحساب ، فإذا بلغ ستين سنة رزقه الله الإنابة إليه بما يحب ، فإذا بلغ سبعين سنة
غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وسمي أسير الله وأحبه أهل السماء ، فإذا بلغ
الثمانين تقبل الله منه حسناته وتجاوز عن سيئاته ، فإذا بلغ التسعين غفر الله له
ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وسمي أسير الله في أرضه وشفع في أهل بيته».
وقوله : (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً) هذا دليل آخر على قدرته تعالى على إحياء الموتى كما يحيي
الأرض الميتة الهامدة ، وهي المقحلة التي لا ينبت فيها شيء. وقال قتادة : غبراء
متهشمة. وقال السدي : ميتة ، (فَإِذا أَنْزَلْنا
عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) أي فإذا أنزل الله عليها المطر ، اهتزت أي تحركت بالنبات ،
وحييت بعد موتها ، وربت أي ارتفعت لما سكن فيها الثرى ، ثم أنبتت ما فيها من
الألوان والفنون من ثمار وزروع وأشتات
__________________
النبات في اختلاف
ألوانها وطعومه وروائحها وأشكالها ومنافعها ، ولهذا قال تعالى : (وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) أي حسن المنظر طيب الريح.
وقوله : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) أي الخالق المدبر الفعال لما يشاء (وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى) أي كما أحيا الأرض الميتة وأنبت منها هذه الأنواع (إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ
الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [فصلت : ٣٩] (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً
أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس : ٨٢] (وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ
فِيها) أي كائنة لا شك فيها ولا مرية ، (وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي
الْقُبُورِ) أي يعيدهم بعد ما صاروا في قبورهم رمما ويوجدهم بعد العدم
، كما قال تعالى : (وَضَرَبَ لَنا
مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ
يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ
الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ
تُوقِدُونَ) [يس : ٧٨ ـ ٨٠]
والآيات في هذا كثيرة.
وقال الإمام أحمد : حدثنا بهز ، حدثنا حماد بن سلمة قال : أنبأنا يعلى بن
عطاء عن وكيع بن حدس عن عمه أبي رزين العقيلي واسمه لقيط بن عامر أنه قال : يا
رسول الله أكلنا يرى ربه عزوجل يوم القيامة ، وما آية ذلك في خلقه؟ فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أليس كلكم ينظر إلى القمر مخليا به؟» قلنا : بلى ، قال
: «فالله أعظم» قال : قلت يا رسول الله كيف يحيي الله الموتى ، وما آية ذلك في
خلقه؟ قال : «أما مررت بوادي أهلك محلا؟» قال : بلى. قال :
ثم مررت به يهتز
خضرا؟» قال : بلى. قال «فكذلك يحيي الله الموتى وذلك آيته في خلقه». ورواه أبو داود وابن ماجة من حديث حماد بن سلمة به.
ثم رواه الإمام
أحمد أيضا : حدثنا علي بن إسحاق ، أنبأنا ابن المبارك ، أنبأنا عبد الرحمن بن زيد
بن جابر عن سليمان بن موسى عن أبي رزين العقيلي قال : أتيت رسول اللهصلىاللهعليهوسلم فقلت : يا رسول الله كيف يحيي الله الموتى؟ قال «أمررت
بأرض من أرض قومك مجدبة ، ثم مررت بها مخصبة؟» قال : نعم. قال «كذلك النشور» والله
أعلم. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبيس بن مرحوم ، حدثنا بكير بن
السميط عن قتادة عن أبي الحجاج عن معاذ بن جبل قال : من علم أن الله هو الحق
المبين ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن الله يبعث من في القبور ، دخل الجنة.
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٨) ثانِيَ عِطْفِهِ
لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ
__________________
لَهُ
فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (٩) ذلِكَ بِما
قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ)
(١٠)
لما ذكر تعالى حال
الضلال الجهال المقلدين في قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ) ذكر في هذه حال الدعاة إلى الضلال من رؤوس الكفر والبدع
فقال : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) أي بلا عقل صحيح ، ولا نقل صحيح صريح ، بل بمجرد الرأي
والهوى. وقوله : (ثانِيَ عِطْفِهِ) قال ابن عباس وغيره : مستكبر عن الحق إذا دعي إليه ، وقال
مجاهد وقتادة ومالك عن زيد بن أسلم (ثانِيَ عِطْفِهِ) أي لاوي عنقه وهي رقبته ، يعني يعرض عما يدعى إليه من الحق ، ويثني
رقبته استكبارا ، كقوله تعالى : (وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ
إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ) [الذاريات : ٣٨ ـ ٣٩]
الآية ، وقال تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ
تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ
يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً) [النساء : ٦١]
وقال تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ
تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ
يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) [المنافقون : ٥]
وقال لقمان لابنه (وَلا تُصَعِّرْ
خَدَّكَ لِلنَّاسِ) [لقمان : ١٨] أي
تميله عنهم استكبارا عليهم ، وقال تعالى : (وَإِذا تُتْلى
عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً) [لقمان : ٧]
الآية.
وقوله : (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) قال بعضهم : هذه لام العاقبة ، لأنه قد لا يقصد ذلك ،
ويحتمل أن تكون لام التعليل. ثم إما أن يكون المراد بها المعاندين أو يكون المراد بها
أن هذا الفاعل لهذا إنما جبلناه على هذا الخلق الدنيء لنجعله ممن يضل عن سبيل
الله. ثم قال تعالى : (لَهُ فِي الدُّنْيا
خِزْيٌ) وهو الإهانة والذل ، كما أنه لما استكبر عن آيات الله لقاه
الله المذلة في الدنيا وعاقبه فيها قبل الآخرة ، لأنها أكبر همه ومبلغ علمه (وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ
الْحَرِيقِ ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ) أي يقال له هذا تقريعا وتوبيخا (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ
لِلْعَبِيدِ) كقوله تعالى: (خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ
إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ
ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ
تَمْتَرُونَ) [الدخان : ٤٧ ـ ٥٠].
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن الصباح ، حدثنا يزيد بن هارون ،
أنبأنا هشام عن الحسن قال : بلغني أن أحدهم يحرق في اليوم سبعين ألف مرة.
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ
أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ
هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١١) يَدْعُوا مِنْ دُونِ
اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٢)
يَدْعُوا
لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ)
(١٣)
قال مجاهد وقتادة
وغيرهما : (عَلى حَرْفٍ) على شك ، وقال غيرهم : على طرف ، ومنه
__________________
حرف الجبل أي طرفه
، أي دخل في الدين على طرف فإن وجد ما يحبه استقر وإلا انشمر. وقال البخاري : حدثنا إبراهيم بن الحارث ، حدثنا يحيى بن ابي بكير ،
حدثنا إسرائيل عن أبي حصين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ
عَلى حَرْفٍ) قال : كان الرجل يقدم المدينة فإن ولدت امرأته غلاما ونتجت
خيله قال : هذا دين صالح ، وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال : هذا دين سوء.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن ، حدثني أبي عن أبيه عن أشعث بن
إسحاق القمي عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كان ناس
من الأعراب يأتون النبي صلىاللهعليهوسلم فيسلمون ، فإذا رجعوا إلى بلادهم فإن وجدوا عام غيث وعام
خصب وعام ولاد حسن ، قالوا : إن ديننا هذا لصالح فتمسكوا به وإن وجدوا عام جدوبة
وعام ولاد سوء وعام قحط ، قالوا : ما في ديننا هذا خير ، فأنزل الله على نبيه (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ
عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ) الآية.
وقال العوفي عن
ابن عباس : كان أحدهم إذا قدم المدينة وهي أرض وبيئة ، فإن صح بها جسمه ونتجت فرسه
مهرا حسنا وولدت امرأته غلاما رضي به ، واطمأن إليه ، وقال : ما أصبت منذ كنت على
ديني هذا إلا خيرا ، (وَإِنْ أَصابَتْهُ
فِتْنَةٌ) والفتنة البلاء ، أي وإن أصابه وجع المدينة وولدت امرأته
جارية وتأخرت عنه الصدقة ، أتاه الشيطان فقال : والله ما أصبت منذ كنت على دينك
هذا إلا شرا ، وذلك الفتنة ، وهكذا ذكر قتادة والضحاك وابن جريج وغير واحد من السلف
في تفسير هذه الآية. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هو المنافق إن صلحت له
دنياه أقام على العبادة ، وإن فسدت عليه دنياه وتغيرت انقلب فلا يقيم على العبادة
إلا لما صلح من دنياه ، فإن أصابته فتنة أو شدة أو اختبار أو ضيق ترك دينه ورجع
إلى الكفر . وقال مجاهد في قوله : (انْقَلَبَ عَلى
وَجْهِهِ) أي ارتد كافرا.
وقوله : (خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ) أي فلا هو حصل من الدنيا على شيء ، وأما الآخرة فقد كفر
بالله العظيم ، فهو فيها في غاية الشقاء والإهانة ، ولهذا قال تعالى : (ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) أي هذه هي الخسارة العظيمة والصفقة الخاسرة وقوله : (يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا
يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ) أي من الأصنام والأنداد ، يستغيث بها ويستنصرها ويسترزقها
وهي لا تنفعه ولا تضره (ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ
الْبَعِيدُ) وقوله : (يَدْعُوا لَمَنْ
ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) أي ضرره في الدنيا قبل الآخرة أقرب من نفعه فيها ، وأما في
الآخرة فضرره محقق متيقن.
__________________
وقوله : (لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ
الْعَشِيرُ) قال مجاهد : يعني الوثن ، يعني بئس هذا الذي دعاه من دون الله مولى ، يعني وليا
وناصرا ، (وَلَبِئْسَ
الْعَشِيرُ) وهو المخالط والمعاشر ، واختار ابن جرير أن المراد لبئس
ابن العم والصاحب (مَنْ يَعْبُدُ اللهَ
عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ
انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ) وقول مجاهد إن المراد به الوثن أولى وأقرب إلى سياق الكلام
، والله أعلم.
(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ)
(١٤)
لما ذكر أهل
الضلالة الأشقياء عطف بذكر الأبرار السعداء من الذين آمنوا بقلوبهم وصدقوا إيمانهم
بأفعالهم ، فعملوا الصالحات من جميع أنواع القربات ، وتركوا المنكرات ، فأورثهم
ذلك سكنى الدرجات العاليات في روضات الجنات ، ولما ذكر تعالى أنه أضل أولئك وهدى
هؤلاء قال : (إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ
ما يُرِيدُ).
(مَنْ كانَ يَظُنُّ
أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ
إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما
يَغِيظُ (١٥) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ
بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ)
(١٦)
قال ابن عباس : من
كان يظن أن لن ينصر الله محمدا صلىاللهعليهوسلم في الدنيا والآخرة ، فليمدد بسبب أي بحبل (إِلَى السَّماءِ) أي سماء بيته (ثُمَّ لْيَقْطَعْ) يقول ثم ليختنق به ، وكذا قال مجاهد وعكرمة وعطاء وأبو
الجوزاء وقتادة وغيرهم ، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ) أي ليتوصل إلى بلوغ السماء ، فإن النصر إنما يأتي محمدا من
السماء (ثُمَّ لْيَقْطَعْ) ذلك عنه إن قدر على ذلك ، وقول ابن عباس وأصحابه أولى
وأظهر في المعنى وأبلغ في التهكم ، فإن المعنى من كان يظن أن الله ليس بناصر محمدا
وكتابه ودينه ، فليذهب فليقتل نفسه إن كان ذلك غائظه ، فإن الله ناصره لا محالة ،
قال الله تعالى : (إِنَّا لَنَنْصُرُ
رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ
الْأَشْهادُ) [غافر : ٥١ ـ ٥٢]
الآية ، ولهذا قال : (فَلْيَنْظُرْ هَلْ
يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ) قال السدي : يعني من شأن محمد صلىاللهعليهوسلم.
وقال عطاء
الخراساني : فلينظر هل يشفي ذلك ما يجد في صدره من الغيط. وقوله : (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ) أي القرآن (آياتٍ بَيِّناتٍ) أي واضحات في لفظها ومعناها ، حجة من الله على الناس ، (وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ) أي يضل من يشاء ويهدي من يشاء ، وله الحكمة التامة والحجة
القاطعة في ذلك (لا يُسْئَلُ عَمَّا
يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) [الأنبياء : ٢٣]
أما هو فلحكمته ورحمته وعدله وعلمه وقهره وعظمته لا معقب لحكمه ، وهو سريع الحساب.
__________________
(إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ
أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)
(١٧)
يخبر تعالى عن أهل
هذه الأديان المختلفة من المؤمنين ومن سواهم من اليهود والصابئين ، وقد قدمنا في
سورة البقرة التعريف بهم واختلاف الناس فيهم ، والنصارى والمجوس والذين
أشركوا فعبدوا مع الله غيره ، فإنه تعالى : (يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ
يَوْمَ الْقِيامَةِ) ويحكم بينهم بالعدل ، فيدخل من آمن به الجنة ، ومن كفر به
النار ، فإنه تعالى شهيد على أفعالهم ، حفيظ لأقوالهم ، عليم بسرائرهم وما تكن
ضمائرهم.
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ
وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ
النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ
مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ)
(١٨)
يخبر تعالى أنه
المستحق للعبادة وحده لا شريك له ، فإنه يسجد لعظمته كل شيء طوعا وكرها ، وسجود كل
شيء مما يختص به ، كما قال تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا
إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ
وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ) [النحل : ٤٨] وقال
هاهنا : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) أي من الملائكة في أقطار السموات ، والحيوانات في جميع
الجهات من الإنس والجن والدواب والطير (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ
إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) [الإسراء : ٤٤]
وقوله : (وَالشَّمْسُ
وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ) إنما ذكر هذه على التنصيص ، لأنها قد عبدت من دون الله
فبين أنها تسجد لخالقها وأنها مربوبة مسخرة (لا تَسْجُدُوا
لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَ) [فصلت : ٣٧]
الآية.
وفي الصحيحين عن
أبي ذر رضي الله عنه قال : قال لي رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أتدري أين تذهب هذه الشمس؟» قلت : الله ورسوله أعلم.
قال : «فإنها تذهب فتسجد تحت العرش ، ثم تستأمر فيوشك أن يقال لها ارجعي من حيث
جئت» وفي المسند وسنن أبي داود والنسائي وابن ماجة في حديث الكسوف «إن الشمس
والقمر خلقان من خلق الله ، وإنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ، ولكن الله عزوجل إذا تجلى لشيء من خلقه خشع له» .
وقال أبو العالية
: ما في السماء نجم ولا شمس ولا قمر إلا يقع لله ساجدا حين يغيب ، ثم
__________________
لا ينصرف حتى يؤذن
له فيأخذ ذات اليمين حتى يرجع إلى مطلعه ، وأما الجبال والشجر فسجودهما بفيء ظلالهما عن اليمين
والشمائل ، وعن ابن عباس قال : جاء رجل فقال : يا رسول الله إني رأيتني الليلة
وأنا نائم كأني أصلي خلف شجرة فسجدت ، فسجدت الشجرة لسجودي ، فسمعتها وهي تقول :
اللهم اكتب لي بها عندك أجرا ، وضع عني بها وزرا ، واجعلها لي عندك ذخرا ، وتقبلها
مني كما تقبلتها من عبدك داود ، قال ابن عباس : فقرأ رسول الله صلىاللهعليهوسلم : سجدة ثم سجد ، فسمعته وهو يقول مثل ما أخبره الرجل عن
قول الشجرة ، رواه الترمذي وابن ماجة وابن حبان في صحيحه.
وقوله : (وَالدَّوَابُ) أي الحيوانات كلها ، وقد جاء في الحديث عن الإمام أحمد أن
رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، نهى عن اتخاذ ظهور الدواب منابر ، فرب مركوبة خير وأكثر ذكرا لله تعالى من راكبها.
وقوله : (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) أي يسجد لله طوعا مختارا متعبدا بذلك (وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) أي ممن امتنع وأبى واستكبر (وَمَنْ يُهِنِ اللهُ
فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن شيبان الرملي ، حدثنا
القداح عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي قال : قيل لعلي : إن هاهنا رجلا يتكلم في
المشيئة ، فقال له علي : يا عبد الله خلقك الله كما يشاء أو كما شئت؟ قال : بل كما
شاء. قال : فيمرضك إذ شاء أو إذا شئت؟ قال : بل إذا شاء. قال : فيشفيك إذا شاء أو
إذا شئت؟ قال : بل إذا شاء. قال : فيدخلك حيث يشاء أو حيث شاء؟ قال : بل حيث يشاء.
قال : والله لو قلت غير ذلك لضربت الذي فيه عيناك بالسيف.
وعن أبي هريرة قال
: قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إذا قرأ ابن آدم السجدة اعتزل الشيطان يبكي ، يقول : يا
ويله أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة ، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار» رواه مسلم.
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم وأبو عبد الرحمن المقرئ
قالا : حدثنا ابن لهيعة ، قال : حدثنا مشرح بن هاعان أبو مصعب المعافري قال : سمعت
عقبة بن عامر قال : قلت يا رسول الله أفضلت سورة الحج على سائر القرآن بسجدتين؟
قال «نعم فمن
__________________
لم يسجد بهما فلا
يقرأهما» ورواه أبو داود والترمذي من حديث عبد الله بن لهيعة به.
وقال الترمذي : ليس بقوي ، وفي هذا نظر ، فإن ابن لهيعة قد صرح فيه بالسماع ،
وأكثر ما نقموا عليه تدليسه.
وقد قال أبو داود
في المراسيل : حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح ، أنبأنا ابن وهب ، أخبرني معاوية بن
صالح عن عامر بن جشب عن خالد بن معدان رحمهالله أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «فضلت سورة الحج على سائر القرآن بسجدتين» ثم قال
أبو داود : وقد أسند هذا ، يعني من غير هذا الوجه ولا يصح. وقال الحافظ أبو بكر
الإسماعيلي : حدثني ابن أبي داود ، حدثنا يزيد بن عبد الله ، حدثنا الوليد ، حدثنا
أبو عمرو ، حدثنا حفص بن عنان ، حدثني نافع قال : حدثني أبو الجهم أن عمر سجد
سجدتين في الحج وهو بالجابية ، وقال : إن هذه فضلت بسجدتين.
وروى أبو داود
وابن ماجة من حديث الحارث بن سعيد العتقي عن عبد الله بن منين عن عمرو بن العاص أن
رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن ، منها ثلاث في المفصل
وفي سورة الحج سجدتان ، فهذه شواهد يشد بعضها بعضا.
(هذانِ خَصْمانِ
اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ
نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩)
يُصْهَرُ
بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (٢٠)
وَلَهُمْ
مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (٢١) كُلَّما أَرادُوا
أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ)
(٢٢)
ثبت في الصحيحين
من حديث أبي مجلز عن قيس بن عباد عن أبي ذر : أنه كان يقسم قسما أن هذه الآية (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي
رَبِّهِمْ) نزلت في حمزة وصاحبيه ، وعتبة وصاحبيه يوم برزوا في بدر ، لفظ البخاري عند تفسيرها ، ثم قال البخاري : حدثنا حجاج بن منهال ، حدثنا المعتمر بن سليمان ، سمعت
أبي ، حدثنا أبو مجلز عن قيس بن عباد عن علي بن أبي طالب أنه قال : أنا أول من
يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة ، قال قيس : وفيهم نزلت : (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي
رَبِّهِمْ) قال : هم الذين بارزوا يوم بدر علي وحمزة وعبيدة وشيبة بن
ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة. انفرد به البخاري.
وقال سعيد بن أبي
عروبة عن قتادة في قوله : (هذانِ خَصْمانِ
اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) قال: اختصم المسلمون وأهل الكتاب ، فقال أهل الكتاب :
نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم ، فنحن
__________________
أولى بالله منكم ،
وقال المسلمون : كتابنا يقضي على الكتب كلها ونبينا خاتم الأنبياء ، فنحن أولى
بالله منكم ، فأفلج الله الإسلام على من ناوأه ، وأنزل (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي
رَبِّهِمْ) وكذا روى العوفي عن ابن عباس : وقال شعبة عن قتادة في قوله
: (هذانِ خَصْمانِ
اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) قال : مصدق ومكذب وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد في هذه الآية
: مثل الكافر والمؤمن اختصما في البعث ، وقال في رواية هو وعطاء في هذه الآية : هم
المؤمنون والكافرون.
وقال عكرمة : (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي
رَبِّهِمْ) قال : هي الجنة والنار ، قالت النار : اجعلني للعقوبة ،
وقالت الجنة : اجعلني للرحمة. وقول مجاهد وعطاء : إن المراد بهذه الكافرون
والمؤمنون يشمل الأقوال كلها ، وينتظم فيه قصة يوم بدر وغيرها ، فإن المؤمنين
يريدون نصرة دين الله عزوجل ، والكافرون يريدون إطفاء نور الإيمان وخذلان الحق وظهور
الباطل ، وهذا اختيار ابن جرير ، وهو حسن ، ولهذا قال (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ
ثِيابٌ مِنْ نارٍ) أي فصلت لهم مقطعات من النار ، قال سعيد بن جبير : من نحاس
، وهو أشد الأشياء حرارة إذا حمي (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ
رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ) أي إذا صب على رؤوسهم الحميم وهو الماء الحار في غاية
الحرارة. وقال سعيد بن جبير : هو النحاس المذاب ، أذاب ما في بطونهم من الشحم
والأمعاء ، قاله ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وغيرهم ، وكذلك تذوب جلودهم ، وقال
ابن عباس وسعيد : تساقط.
وقال ابن جرير : حدثني محمد بن المثنى ، حدثني إبراهيم أبو إسحاق
الطالقاني ، حدثنا ابن المبارك عن سعيد بن يزيد عن أبي السمح عن ابن حجيرة ، عن
أبي هريرة عن النبيصلىاللهعليهوسلم قال : «إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ الجمجمة حتى يخلص
إلى جوفه ، فيسلت ما في جوفه حتى يبلغ قدميه ، وهو الصهر ، ثم يعاد كما كان» ورواه الترمذي من حديث ابن المبارك وقال : حسن صحيح ، وهكذا
رواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن أبي نعيم عن ابن المبارك به. ثم قال ابن أبي حاتم :
حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا أحمد بن أبي الحواري.
قال : سمعت عبد
الله بن السري قال : يأتيه الملك يحمل الإناء بكلبتين من حرارته ، فإذا أدناه من
وجهه تكرهه ، قال : فيرفع مقمعة معه فيضرب بها رأسه فيفرغ دماغه ، ثم يفرغ الإناء
من دماغه فيصل إلى جوفه من دماغه ، فذلك قوله : (يُصْهَرُ بِهِ ما فِي
بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ).
وقوله : (وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ) قال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا ابن
__________________
لهيعة ، حدثنا
دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «لو أن مقمعا من حديد وضع في الأرض ، فاجتمع له
الثقلان ما أقلوه من الأرض» وقال الإمام أحمد : حدثنا موسى بن داود ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا دراج عن
أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «لو ضرب الجبل
بمقمع من حديد لتفتت ، ثم عاد كما كان ، ولو أن دلوا من غساق يهراق في الدنيا
لأنتن أهل الدنيا» وقال ابن عباس في قوله : (وَلَهُمْ مَقامِعُ
مِنْ حَدِيدٍ) قال : يضربون بها ، فيقع كل عضو على حياله فيدعون بالثبور .
وقوله : (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا
مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها) قال الأعمش عن أبي ظبيان عن سلمان قال : النار سوداء مظلمة
لا يضيء لهبها ولا جمرها ، ثم قرأ (كُلَّما أَرادُوا
أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها) وقال زيد بن أسلم في هذه الآية (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا
مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها) قال : بلغني أن أهل النار في النار لا يتنفسون ، وقال
الفضيل بن عياض : والله ما طمعوا في الخروج ، إن الأرجل لمقيدة وإن الأيدي لموثقة
، ولكن يرفعهم لهبها وتردهم مقامعها. وقوله : (وَذُوقُوا عَذابَ
الْحَرِيقِ) كقوله : (وَقِيلَ لَهُمْ
ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) ومعنى الكلام أنهم يهانون بالعذاب قولا وفعلا.
(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً
وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٢٣) وَهُدُوا إِلَى
الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ)
(٢٤)
لما أخبر تعالى عن
حال أهل النار عياذا بالله من حالهم وما هم فيه من العذاب والنكال والحريق
والأغلال وما أعد لهم من الثياب من النار ، ذكر حال أهل الجنة نسأل الله من فضله
وكرمه أن يدخلنا الجنة ، فقال : (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ) أي تتخرق في أكنافها وأرجائها وجوانبها وتحت أشجارها
وقصورها ، يصرفونها حيث شاؤوا وأين أرادوا (يُحَلَّوْنَ فِيها) من الحلية (مِنْ أَساوِرَ مِنْ
ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً) أي في أيديهم ، كما قاله النبي صلىاللهعليهوسلم في الحديث المتفق عليه : «تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ
الوضوء» . وقال كعب الأحبار : إن في الجنة ملكا لو شئت أن أسميه
لسميته يصوغ لأهل الجنة الحلي منذ خلقه الله إلى يوم القيامة لو أبرز قلب منها ـ أي
سوار منها ـ لرد شعاع الشمس كما ترد الشمس نور القمر.
__________________
وقوله : (وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) في مقابلة ثياب أهل النار التي فصلت لهم ، لباس هؤلاء من
الحرير إستبرقه وسندسه ، كما قال : (عالِيَهُمْ ثِيابُ
سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ
رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ
مَشْكُوراً) [الإنسان: ٢١ ـ ٢٢] وفي الصحيح «لا تلبسوا الحرير ولا
الديباج في الدنيا ، فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة» قال عبد الله بن الزبير : من لم يلبس الحرير في الآخرة لم
يدخل الجنة ، قال الله تعالى : (وَلِباسُهُمْ فِيها
حَرِيرٌ). وقوله : (وَهُدُوا إِلَى
الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ) كقوله تعالى : (وَأُدْخِلَ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ
خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) [إبراهيم : ٢٣]
وقوله : (وَالْمَلائِكَةُ
يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ
فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد : ٢٣ ـ ٢٤]
وقوله : (لا يَسْمَعُونَ فِيها
لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً) [الواقعة : ٢٥ ـ ٢٦]
فهدوا إلى المكان الذي يسمعون فيه الكلام الطيب ، وقوله : (وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً
وَسَلاماً) [الفرقان : ٧٥] لا
كما يهان أهل النار بالكلام الذي يوبخون به ويقرعون به يقال لهم : (ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ).
وقوله : (وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ) أي إلى المكان الذي يحمدون فيه ربهم على ما أحسن إليهم
وأنعم به وأسداه إليهم كما جاء في الحديث الصحيح «إنهم يلهمون التسبيح والتحميد
كما يلهمون النّفس» وقد قال بعض المفسرين في قوله : (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ
الْقَوْلِ) أي القرآن وقيل : لا إله إلا الله وقيل : الأذكار المشروعة
(وَهُدُوا إِلى صِراطِ
الْحَمِيدِ) أي الطريق المستقيم في الدنيا وكل هذا لا ينافي ما ذكرناه
والله أعلم.
(إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي
جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ
بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ)
(٢٥)
يقول تعالى منكرا
على الكفار في صدهم المؤمنين عن إتيان المسجد الحرام وقضاء مناسكهم فيه ودعواهم
أنهم أولياؤه (وَما كانُوا
أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ) [الأنفال : ٣٤]
الآية ، وفي هذه الآية دليل على أنها مدنية ، كما قال في سورة البقرة : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ
قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ
وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ) [البقرة : ٢١٧] وقال
هاهنا : (إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي ومن صفتهم أنهم مع كفرهم يصدون عن سبيل الله والمسجد
الحرام ، أي ويصدون عن المسجد الحرام من أراده من المؤمنين الذين هم أحق الناس به
في نفس الأمر ، وهذا
__________________
التركيب في هذه
الآية كقوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا
وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ
الْقُلُوبُ) [الرعد : ٢٨] أي
ومن صفتهم أنهم تطمئن قلوبهم بذكر الله.
وقوله : (الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً
الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) أي يمنعون الناس عن الوصول إلى المسجد الحرام ، وقد جعله
الله شرعا سواء لا فرق فيه بين المقيم فيه والنائي عنه البعيد الدار منه (سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) ومن ذلك استواء الناس في رباع مكة وسكناها ، كما قال علي
بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : (سَواءً الْعاكِفُ
فِيهِ وَالْبادِ) قال : ينزل أهل مكة وغيرهم في المسجد الحرام. وقال مجاهد :
(سَواءً الْعاكِفُ
فِيهِ وَالْبادِ) أهل مكة وغيرهم فيه سواء في المنازل ، وكذا قال أبو صالح
وعبد الرحمن بن سابط وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة
: سواء فيه أهله وغير أهله.
وهذه المسألة هي
التي اختلف فيها الشافعي وإسحاق بن راهويه بمسجد الخيف ، وأحمد بن حنبل حاضر أيضا
، فذهب الشافعي رحمهالله إلى أن رباع مكة تملك وتورث وتؤجر ، واحتج بحديث الزهري عن
علي بن الحسين عن عمرو بن عثمان عن أسامة بن زيد قال : قلت يا رسول الله أتنزل غدا
في دارك بمكة؟ فقال : «وهل ترك لنا عقيل من رباع؟» ثم قال : «لا يرث الكافر المسلم
ولا المسلم الكافر» وهذا الحديث مخرج في الصحيحين ، وبما ثبت أن عمر بن الخطاب
اشترى من صفوان بن أمية دارا بمكة ، فجعلها سجنا ، بأربعة آلاف درهم ، وبه قال
طاوس وعمرو بن دينار ، وذهب إسحاق بن راهويه إلى أنها لا تورث ولا تؤجر ، وهو مذهب
طائفة من السلف ، ونص عليه مجاهد وعطاء ، واحتج إسحاق بن راهويه بما رواه ابن ماجة
عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عيسى بن يونس عن عمر بن سعيد بن أبي حسين ، عن عثمان بن
أبي سليمان عن علقمة بن نضلة قال : توفي رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأبو بكر وعمر وما تدعى رباع مكة إلا السوائب من احتاج سكن
ومن استغنى أسكن .
وقال عبد الرزاق
عن ابن مجاهد عن أبيه عن عبد الله بن عمرو أنه قال : لا يحل بيع دور مكة ولا
كراؤها ، وقال أيضا عن ابن جريج : كان عطاء ينهى عن الكراء في الحرم ، وأخبرني أن
عمر بن الخطاب كان ينهي عن تبويب دور مكة لأن ينزل الحاج في عرصاتها ، فكان أول من
بوب داره سهيل بن عمرو ، فأرسل إليه عمر بن الخطاب في ذلك ، فقال : أنظرني يا أمير
المؤمنين إني كنت امرأ تاجرا ، فأردت أن أتخذ بابين يحبسان لي ظهري ، قال : فلك
ذلك إذا. وقال عبد الرزاق عن معمر عن منصور عن مجاهد أن عمر بن الخطاب قال : يا
أهل مكة لا تتخذوا لدوركم أبوابا لينزل البادي حيث يشاء.
__________________
قال : وأخبرنا
معمر عمن سمع عطاء يقول : (سَواءً الْعاكِفُ
فِيهِ وَالْبادِ) قال : ينزلون حيث شاؤوا ، وروى الدار قطني من حديث ابن أبي
نجيح عن عبد الله بن عمرو موقوفا «من أكل كراء بيوت مكة أكل نارا» وتوسط الإمام
أحمد فقال : تملك وتورث ولا تؤجر جمعا بين الأدلة ، والله أعلم. وقوله : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ
بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) قال بعض المفسرين من أهل العربية : الباء هاهنا زائدة ،
كقوله : (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) [المؤمنون : ٢٠]
أي تنبت الدهن ، وكذا قوله : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ
بِإِلْحادٍ) تقديره إلحادا ، وكما قال الأعشى : [الكامل]
ضمنت برزق
عيالنا أرماحنا
|
|
بين المراجل
والصريح الأجرد
|
وقال الآخر : [الطويل]
بواد يمان ينبت
الشّثّ صدره
|
|
وأسفله بالمرخ
والشّبهان
|
والأجود أنه ضمن
الفعل هاهنا معنى يهم ، ولهذا عداه بالباء فقال : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ
بِإِلْحادٍ) أي يهم فيه بأمر فظيع من المعاصي الكبار : وقوله : (بِظُلْمٍ) أي عامدا قاصدا أنه ظلم ليس بمتأول ، كما قال ابن جريج عن
ابن عباس هو التعمد.
وقال علي بن أبي
طلحة عن ابن عباس : بظلم بشرك ، وقال مجاهد : أن يعبد فيه غير الله ، وكذا قال
قتادة وغير واحد. وقال العوفي عن ابن عباس : بظلم هو أن تستحل من الحرم ما حرم
الله عليك من إساءة أو قتل ، فتظلم من لا يظلمك وتقتل من لا يقتلك ، فإذا فعل ذلك
فقد وجب له العذاب الأليم ، وقال مجاهد : بظلم يعمل فيه عملا سيئا ، وهذا من
خصوصية الحرم أنه يعاقب البادي فيه الشر إذا كان عازما عليه وإن لم يوقعه ، كما
قال ابن أبي حاتم في تفسيره ، حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا يزيد بن هارون ، أنبأنا
شعبة عن السدي أنه سمع مرة يحدث عن عبد الله يعني ابن مسعود في قوله : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ
بِظُلْمٍ) قال : لو أن رجلا أراد فيه بإلحاد بظلم وهو بعدن أبين ،
لأذاقه الله من العذاب الأليم ، قال شعبة : هو رفعه لنا وأنا لا أرفعه لكم. قال
يزيد : هو قد رفعه ، ورواه أحمد عن يزيد بن هارون به.
قلت : هذا الإسناد
صحيح على شرط البخاري ، ووقفه أشبه من رفعه ، ولهذا صمم شعبة
__________________
على وقفه من كلام
ابن مسعود ، وكذلك رواه أسباط وسفيان الثوري عن السدي ، عن مرة ، عن ابن مسعود
موقوفا ، والله أعلم.
وقال الثوري عن
السدي عن مرة عن عبد الله قال : ما من رجل يهم بسيئة فتكتب عليه ، ولو أن رجلا
بعدن أبين همّ أن يقتل رجلا بهذا البيت لأذاقه الله من العذاب الأليم ، وكذا قال
الضحاك بن مزاحم ، وقال سفيان الثوري عن منصور ، عن مجاهد : إلحاد فيه لا والله
وبلى والله ، وروي عن مجاهد ، عن عبد الله بن عمرو مثله ، وقال سعيد بن جبير : شتم
الخادم ظلم فما فوقه ، وقال سفيان الثوري عن عبد الله بن عطاء ، عن ميمون بن مهران
، عن ابن عباس في قوله : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ
بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ) قال : تجارة الأمير فيه. وعن ابن عمر : بيع الطعام بمكة
إلحاد.
وقال حبيب بن أبي
ثابت : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ
بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ) قال : المحتكر بمكة ، وكذا قال غير واحد. وقال ابن أبي
حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن إسحاق الجوهري ، أنبأنا أبو عاصم عن جعفر بن
يحيى ، عن عمه عمارة بن ثوبان ، حدثني موسى بن باذان عن يعلى بن أمية أن رسول الله
صلىاللهعليهوسلم قال : «احتكار الطعام بمكة إلحاد» وقال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبو زرعة ، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا عطاء
بن دينار ، حدثني سعيد بن جبير قال : قال ابن عباس في قوله الله : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ
بِظُلْمٍ) قال : نزلت في عبد الله بن أنيس ، أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم بعثه مع رجلين : أحدهما مهاجر ، والآخر من الأنصار ،
فافتخروا في الأنساب فغضب عبد الله بن أنيس فقتل الأنصاري ، ثم ارتد عن الإسلام ،
وهرب إلى مكة ، فنزلت فيه (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ
بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ) يعني من لجأ إلى الحرم بإلحاد ، يعني بميل عن الإسلام.
وهذه الآثار وإن
دلت على أن هذه الأشياء من الإلحاد ، ولكن هو أعم من ذلك بل فيها تنبيه على ما هو
أغلظ منها ، ولهذا لما هم أصحاب الفيل على تخريب البيت أرسل الله عليهم طيرا
أبابيل ، (تَرْمِيهِمْ
بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) [الفيل : ٤ ـ ٥] ،
أي دمرهم وجعلهم عبرة ونكالا لكل من أراده بسوء ، ولذلك ثبت في الحديث أن رسول اللهصلىاللهعليهوسلم قال : «يغزو هذا البيت جيش حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض
خسف بأولهم وآخرهم» الحديث.
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن كناسة ، حدثنا إسحاق بن سعيد عن أبيه قال
: أتى عبد الله بن عمر عبد الله بن الزبير فقال : يا ابن الزبير إياك والإلحاد في
حرم الله ، فإني سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «إنه سيلحد فيه رجل من قريش ، لو توزن ذنوبه بذنوب
الثقلين لرجحت»
__________________
فانظر لا تكن هو ،
وقال أيضا في مسند عبد الله بن عمرو بن العاص : حدثنا هاشم ، حدثنا إسحاق بن سعيد
، حدثنا سعيد بن عمرو قال : أتى عبد الله بن عمر عبد الله بن الزبير وهو جالس في
الحجر فقال : يا ابن الزبير ، إياك والإلحاد في الحرم ، فاني أشهد لسمعت رسول اللهصلىاللهعليهوسلم يقول : «يحلها
ويحل به رجل من قريش ، لو وزنت ذنوبه بذنوب الثقلين لوزنتها» قال : فانظر لا تكن
هو ، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب من هذين الوجهين.
(وَإِذْ بَوَّأْنا
لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ
لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (٢٦) وَأَذِّنْ فِي
النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ
فَجٍّ عَمِيقٍ)
(٢٧)
هذا فيه تقريع
وتوبيخ لمن عبد غير الله وأشرك به من قريش في البقعة التي أسست من أول يوم على
توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له ، فذكر تعالى أنه بوأ إبراهيم مكان البيت ، أي
أرشده إليه وسلمه له وأذن له في بنائه ، واستدل به كثير ممن قال : إن إبراهيم عليهالسلام هو أول من بنى البيت العتيق ، وأنه لم يبن قبله ، كما ثبت
في الصحيحين عن أبي ذر ، قلت : يا رسول الله أي مسجد وضع أول؟ قال «المسجد الحرام».
قلت : ثم أي؟ قال : «بيت المقدس». قلت : كم بينهما؟ قال : «أربعون سنة» .
وقد قال الله
تعالى : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ
وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً) [آل عمران : ٩٦ ـ ٩٧]
الآيتين ، وقال تعالى : (وَعَهِدْنا إِلى
إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ
وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) [البقرة : ٢١٥]
وقد قدمنا ذكر ما ورد في بناء البيت من الصحاح والآثار بما أغنى عن إعادته هاهنا ،
وقال تعالى هاهنا (أَنْ لا تُشْرِكْ بِي
شَيْئاً) أي ابنه على اسمي وحدي (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ) قال قتادة ومجاهد : من الشرك (لِلطَّائِفِينَ
وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) أي اجعله خالصا لهؤلاء الذين يعبدون الله وحده لا شريك له
، فالطائف به معروف ، وهو أخص العبادات عند البيت ، فإنه لا يفعل ببقعة من الأرض
سواها (وَالْقائِمِينَ) أي في الصلاة ، ولهذا قال : (وَالرُّكَّعِ
السُّجُودِ) فقرن الطواف بالصلاة لأنهما لا يشرعان إلا مختصين بالبيت ،
فالطواف عنده والصلاة إليه في غالب الأحوال ، إلا ما استثني من الصلاة عند اشتباه
القبلة وفي الحرب وفي النافلة في السفر ، والله أعلم.
وقوله : (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِ) أي ناد في الناس بالحج ، داعيا لهم إلى الحج إلى هذا البيت
الذي أمرناك ببنائه ، فذكر أنه قال : يا رب وكيف أبلغ الناس وصوتي لا ينفذهم؟ فقال
: ناد وعلينا البلاغ ، فقام على مقامه ، وقيل على الحجر ، وقيل على الصفا ، وقيل
على أبي
__________________
قبيس ، وقال : يا
أيها الناس إن ربكم قد اتخذ بيتا فحجوه ، فيقال إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت
أرجاء الأرض ، وأسمع من في الأرحام والأصلاب ، وأجابه كل شيء سمعه من حجر ومدر
وشجر ، ومن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة ، لبيك اللهم لبيك ، وهذا مضمون ما
روي عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وغير واحد من السلف ، والله أعلم ،
أوردها ابن جرير وابن أبي حاتم مطولة.
وقوله : (يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ) الآية ، قد يستدل بهذه الآية من ذهب من العلماء إلى أن
الحج ماشيا لمن قدر عليه أفضل من الحج راكبا ، لأنه قدمهم في الذكر ، فدل على
الاهتمام بهم وقوة هممهم وشدة عزمهم ، وقال وكيع عن أبي العميس ، عن أبي حلحلة ،
عن محمد بن كعب ، عن ابن عباس قال : ما أساء علي شيء إلا أن وددت أني كنت حججت
ماشيا ، لأن الله يقول : (يَأْتُوكَ رِجالاً) والذي عليه الأكثرون أن الحج راكبا أفضل ، اقتداء برسول
اللهصلىاللهعليهوسلم فإنه حج راكبا مع كمال قوته عليهالسلام. وقوله : (يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ
فَجٍ) يعني طريق ، كما قال : (وَجَعَلْنا فِيها
فِجاجاً سُبُلاً) [الأنبياء : ٣١]
وقوله : (عَمِيقٍ) أي بعيد ، قاله مجاهد وعطاء والسدي وقتادة ومقاتل بن حيان
والثوري وغير واحد ، وهذه الآية كقوله تعالى إخبارا عن إبراهيم حيث قال في دعائه :
(فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً
مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) [إبراهيم : ٣٧]
فليس أحد من أهل الإسلام إلا وهو يحن إلى رؤية الكعبة والطواف ، فالناس يقصدونها
من سائر الجهات والأقطار.
(لِيَشْهَدُوا
مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما
رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ
الْفَقِيرَ (٢٨) ثُمَّ لْيَقْضُوا
تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)
(٢٩)
قال ابن عباس : (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ) قال : منافع الدنيا والآخرة ، أما منافع الآخرة فرضوان
الله تعالى ، وأما منافع الدنيا فما يصيبون من منافع البدن ، والذبائح والتجارات ،
وكذا قال مجاهد وغير واحد : إنها منافع الدنيا والآخرة كقوله : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ
تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) [البقرة : ١٩٨].
وقوله : (وَيَذْكُرُوا اسْمَ
اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) ، قال شعبة وهشيم عن أبي بشر ، عن سعيد ، عن ابن عباس رضي
الله عنهما : الأيام المعلومات أيام العشر ، وعلقه البخاري عنه بصيغة الجزم به.
وروي مثله عن أبي موسى الأشعري ومجاهد وقتادة وعطاء وسعيد بن جبير والحسن والضحاك
وعطاء الخراساني وإبراهيم النخعي ، وهو مذهب الشافعي والمشهور عن أحمد بن حنبل.
وقال البخاري :
حدثنا محمد بن عرعرة ، حدثنا شعبة عن سليمان ، عن مسلم البطين ، عن
__________________
سعيد بن جبير ، عن
ابن عباس ، عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «ما العمل في أيام أفضل منها في هذه» قالوا : ولا
الجهاد في سبيل الله؟ قال : «ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل يخرج يخاطر بنفسه
وماله فلم يرجع بشيء» ، رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة بنحوه.
وقال الترمذي : حديث حسن ، غريب ، صحيح ، وفي الباب عن ابن عمر وأبي هريرة وعبد
الله بن عمرو وجابر.
قلت : وقد تقصيت
هذه الطرق ، وأفردت لها جزءا على حدته ، فمن ذلك ما قال الإمام أحمد : حدثنا عثمان أنبأنا أبو عوانة عن يزيد بن أبي زياد عن
مجاهد ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «ما من أيام أعظم
عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر فأكثروا فيهن من التهليل
والتكبير والتحميد» وروي من وجه آخر عن مجاهد عن ابن عمر بنحوه. وقال البخاري : وكان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر
فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما.
وقد روى أحمد عن
جابر مرفوعا أن هذا هو العشر الذي أقسم به في قوله : (وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ
عَشْرٍ) [الفجر : ١ ـ ٢].
وقال بعض السلف : أنه المراد بقوله : (وَأَتْمَمْناها
بِعَشْرٍ) [الأعراف : ١٤٢]
وفي سنن أبي داود أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان يصوم هذا العشر ، وهذا العشر مشتمل على يوم عرفة الذي
ثبت في صحيح مسلم عن أبي قتادة قال : سئل رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن صيام يوم عرفة ، فقال : أحتسب على الله أن يكفر به
السنة الماضية والآتية ، ويشتمل على يوم النحر الذي هو يوم الحج الأكبر ، وقد ورد
في حديث أنه أفضل الأيام عند الله وبالجملة ، فهذا العشر قد قيل إنه أفضل أيام السنة ، كما نطق به
الحديث ، وفضله كثير على عشر رمضان الأخير ، لأن هذا يشرع فيه ما يشرع في ذلك من
صلاة وصيام وصدقة وغيره ، ويمتاز هذا باختصاصه بأداء فرض الحج فيه. وقيل ذلك أفضل
لاشتماله على ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر ، وتوسط آخرون فقالوا : أيام هذا
أفضل ، وليالي ذاك أفضل ، وبهذا يجتمع شمل الأدلة ، والله أعلم.
[قول ثان] في
الأيام المعلومات. قال الحكم عن مقسم عن ابن عباس : الأيام المعلومات يوم النحر
وثلاثة أيام بعده ، ويروى هذا عن ابن عمر وإبراهيم النخعي ، وإليه ذهب أحمد بن
__________________
حنبل في رواية
عنه.
[قول ثالث] قال
ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا علي بن المديني ، حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا
ابن عجلان ، حدثني نافع أن ابن عمر كان يقول : الأيام المعلومات والمعدودات هن
جميعهن أربعة أيام ، فالأيام المعلومات : يوم النحر ، ويومان بعده ، والأيام
المعدودات ثلاثة أيام بعد يوم النحر ، هذا إسناد صحيح إليه ، وقاله السدي ، وهو
مذهب الإمام مالك بن أنس ، ويعضد هذا القول والذي قبله قوله تعالى : (عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ
الْأَنْعامِ) يعني ذكر الله عند ذبحها.
[قول رابع] أنها
يوم عرفة ويوم النحر ويوم آخر بعده ، وهو مذهب أبي حنيفة. وقال ابن وهب : حدثني
ابن زيد بن أسلم عن أبيه أنه قال : المعلومات يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق.
وقوله : (عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ
الْأَنْعامِ) يعني الإبل والبقر والغنم كما فصلها تعالى في سورة الأنعام
(ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) [الأنعام : ١٤٣]
الآية ، وقوله : (فَكُلُوا مِنْها
وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ) استدل بهذه الآية من ذهب إلى وجوب الأكل من الأضاحي ، وهو
قول غريب ، والذي عليه الأكثرون أنه من باب الرخصة أو الاستحباب ، كما ثبت أن رسول
الله صلىاللهعليهوسلم لما نحر هديه أمر من كل بدنة ببضعة فتطبخ ، فأكل من لحمها
وحسا من مرقها . قال عبد الله بن وهب : قال لي مالك : أحب أن يأكل من أضحيته
، لأن الله يقول : (فَكُلُوا مِنْها) قال ابن وهب : وسألت الليث ، فقال لي مثل ذلك ، وقال سفيان
الثوري عن منصور عن إبراهيم (فَكُلُوا مِنْها) قال : كان المشركون لا يأكلون من ذبائحهم فرخص للمسلمين ،
فمن شاء أكل ومن لم يشأ لم يأكل ، وروي عن مجاهد وعطاء نحو ذلك.
قال هشيم عن حصين
عن مجاهد في قوله : (فَكُلُوا مِنْها) قال : هي كقوله : (وَإِذا حَلَلْتُمْ
فَاصْطادُوا) [المائدة : ٢] (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ
فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) [الجمعة: ١٠] وهذا
اختيار ابن جرير في تفسيره ، واستدل من نصر القول بأن الأضاحي يتصدق فيها بالنصف
بقوله في هذه الآية : (فَكُلُوا مِنْها
وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ) فجزأها نصفين : نصف للمضحي ونصف للفقراء ، والقول الآخر
أنها تجزأ ثلاثة أجزاء : ثلث له وثلث يهديه وثلث يتصدق به ، لقوله تعالى في الآية
الأخرى : (فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا
الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) [الحج : ٣٦]
وسيأتي الكلام عليها عندها إن شاء الله وبه الثقة.
__________________
وقوله : (الْبائِسَ الْفَقِيرَ) قال عكرمة : هو المضطر الذي يظهر عليه البؤس والفقير
المتعفف ، وقال مجاهد : هو الذي لا يبسط يده ، وقال قتادة : هو الزمن ، وقال مقاتل
بن حيان : هو الضرير. وقوله : (ثُمَّ لْيَقْضُوا
تَفَثَهُمْ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : وهو وضع الإحرام من حلق
الرأس ولبس الثياب وقص الأظافر ونحو ذلك ، وهكذا روى عطاء ومجاهد عنه ، وكذا قال
عكرمة ومحمد بن كعب القرظي. وقال عكرمة عن ابن عباس (ثُمَّ لْيَقْضُوا
تَفَثَهُمْ) قال : التفث المناسك.
وقوله : (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : يعني نحر ما نذر من أمر
البدن. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد (وَلْيُوفُوا
نُذُورَهُمْ) نذر الحج والهدي وما نذر الإنسان من شيء يكون في الحج.
وقال إبراهيم بن ميسرة عن مجاهد (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) قال : الذبائح. وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) كل نذر إلى أجل وقال عكرمة (وَلْيُوفُوا
نُذُورَهُمْ) قال : حجهم. وكذا روى الإمام أحمد وابن أبي حاتم : حدثنا
أبي. حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان في قوله : (وَلْيُوفُوا
نُذُورَهُمْ) قال : نذور الحج ، فكل من دخل الحج فعليه من العمل فيه
الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة وعرفة والمزدلفة ورمي الجمار على ما أمروا به ،
وروي عن مالك نحو هذا.
وقوله : (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ
الْعَتِيقِ) قال مجاهد : يعني الطواف الواجب يوم النحر ، وقال ابن أبي
حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد عن أبي حمزة قال : قال لي
ابن عباس : أتقرأ سورة الحج يقول الله تعالى : (وَلْيَطَّوَّفُوا
بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) فإن آخر المناسك الطواف بالبيت العتيق.
قلت : وهكذا صنع
رسول الله صلىاللهعليهوسلم فإنه لما رجع إلى منى يوم النحر بدأ برمي الجمرة ، فرماها
بسبع حصيات ، ثم نحر هديه وحلق رأسه ، ثم أفاض فطاف بالبيت ، وفي الصحيحين عن ابن
عباس أنه قال : أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت الطواف إلا أنه خفف عن المرأة الحائض.
وقوله : (بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) فيه مستدل لمن ذهب إلى أنه يجب الطواف من وراء الحجر ،
لأنه من أصل البيت الذي بناه إبراهيم ، وإن كانت قريش قد أخرجوه من البيت حين قصرت
بهم النفقة ، ولهذا طاف رسول الله صلىاللهعليهوسلم من وراء الحجر وأخبر أن الحجر من البيت ولم يستلم الركنين
الشاميين لأنهما لم يتمما على قواعد إبراهيم العتيقة ، ولهذا قال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي عمر العدني ، حدثنا سفيان عن هشام بن حجر عن رجل عن ابن
عباس
__________________
قال : لما نزلت
هذه الآية (وَلْيَطَّوَّفُوا
بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) طاف رسول الله صلىاللهعليهوسلم من ورائه ، وقال قتادة عن الحسن البصري في قوله : (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ
الْعَتِيقِ) قال : لأنه أول بيت وضع للناس ، وكذا قال عبد الرحمن بن
زيد بن أسلم ، وعن عكرمة أنه قال : إنما سمي البيت العتيق لأنه أعتق يوم الغرق
زمان نوح ، وقال خصيف : إنما سمي بالبيت العتيق لأنه لم يظهر عليه جبار قط.
وقال ابن أبي نجيح
وليث عن مجاهد : أعتق من الجبابرة أن يسلطوا عليه ، وكذا قال قتادة. وقال حماد بن
سلمة عن حميد عن الحسن بن مسلم عن مجاهد : لأنه لم يرده أحد بسوء إلا هلك ، وقال
عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن ابن الزبير قال : إنما سمي البيت العتيق لأن الله
أعتقه من الجبابرة.
وقال الترمذي : حدثنا محمد بن إسماعيل وغير واحد ، حدثنا عبد الله بن
صالح ، أخبرني الليث عن عبد الرحمن بن خالد عن ابن شهاب عن محمد بن عروة عن عبد
الله بن الزبير قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إنما سمي البيت العتيق لأنه لم يظهر عليه جبار» وكذا
رواه ابن جرير عن محمد بن سهل النجاري عن عبد الله بن صالح به ، وقال :
إن كان صحيحا ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب ، ثم رواه من وجه آخر عن الزهري
مرسلا.
(ذلِكَ وَمَنْ
يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ
الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ
الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (٣٠)
حُنَفاءَ
لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ
السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ)
(٣١)
يقول تعالى : هذا
الذي أمرنا به من الطاعات في أداء المناسك وما لفاعلها من الثواب الجزيل (وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ) أي ومن يجتنب معاصيه ، ومحارمه ويكون ارتكابها عظيما في
نفسه (فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ
عِنْدَ رَبِّهِ) أي فله على ذلك خير كثير ، وثواب جزيل ، فكما على فعل
الطاعات ثواب كثير وأجر جزيل ، كذلك على تلك المحرمات واجتناب المحظورات ، قال ابن
جريج : قال مجاهد في قوله : (ذلِكَ وَمَنْ
يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ) قال : الحرمة مكة والحج والعمرة وما نهى الله عنه من
معاصيه كلها ، وكذا قال ابن زيد.
وقوله : (وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا
ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) أي أحللنا لكم
جميع الأنعام وما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام. وقوله : (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) أي من تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله
به والمنخنقة الآية ، قال ذلك ابن جرير ، وحكاه عن قتادة. وقوله : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ
الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) من هاهنا لبيان
__________________
الجنس ، أي
اجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان ، وقرن الشرك بالله بقول الزور ، كقوله : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ
الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ
الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ
تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) [الأعراف : ٣٣]
ومنه شهادة الزور. وفي الصحيحين عن أبي بكرة أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟» قلنا : بلى يا رسول
الله قال : «الإشراك بالله وعقوق الوالدين ـ وكان متكئا فجلس فقال ـ ألا وقول
الزور. ألا وشهادة الزور». فما زال يكررها حتى قلنا : ليته سكت .
وقال الإمام أحمد : حدثنا مروان بن معاوية الفزاري ، أنبأنا سفيان بن زياد
عن فاتك بن فضالة عن أيمن بن خريم قال : قام رسول الله صلىاللهعليهوسلم خطيبا ، فقال : «يا أيها الناس عدلت شهادة الزور إشراكا
بالله» ثلاثا ، ثم قرأ (فَاجْتَنِبُوا
الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) وهكذا رواه الترمذي عن أحمد بن منيع عن مروان بن معاوية به ، ثم قال : غريب
إنما نعرفه من حديث سفيان بن زياد ، وقد اختلف عنه في رواية هذا الحديث ولا نعرف
لأيمن بن خريم سماعا من النبي صلىاللهعليهوسلم.
وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا محمد بن عبيد ، حدثنا سفيان العصفري عن أبيه
عن حبيب بن النعمان الأسدي عن خريم بن فاتك الأسدي قال : صلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم الصبح ، فلما انصرف قام قائما فقال : «عدلت شهادة الزور
الإشراك بالله عزوجل» ثم تلا هذه الآية (فَاجْتَنِبُوا
الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفاءَ لِلَّهِ
غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ) وقال سفيان الثوري عن عاصم بن أبي النجود عن وائل بن ربيعة
عن ابن مسعود أنه قال : تعدل شهادة الزور الإشراك بالله ، ثم قرأ هذه الآية.
وقوله : (حُنَفاءَ لِلَّهِ) أي مخلصين له الدين منحرفين عن الباطل قصدا إلى الحق ،
ولهذا قال : (غَيْرَ مُشْرِكِينَ
بِهِ) ثم ضرب للمشرك مثلا في ضلاله وهلاكه وبعده عن الهدى ، فقال
: (وَمَنْ يُشْرِكْ
بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ) أي سقط منها (فَتَخْطَفُهُ
الطَّيْرُ) أي تقطعه الطيور في الهواء (أَوْ تَهْوِي بِهِ
الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ) أي بعيد مهلك لمن هوى فيه ، ولهذا جاء في حديث البراء : إن
الكافر إذا توفته ملائكة الموت وصعدوا بروحه إلى السماء ، فلا تفتح له أبواب
السماء بل تطرح روحه طرحا من هناك ، ثم قرأ هذه الآية ، وقد تقدم الحديث في سورة
إبراهيم بحروفه وألفاظه وطرقه. وقد ضرب تعالى للمشركين مثلا آخر في سورة الأنعام.
وهو قوله : (قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ
دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ
إِذْ هَدانَا اللهُ كَالَّذِي
__________________
اسْتَهْوَتْهُ
الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى
ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى) [الأنعام : ٧١]
الآية.
(ذلِكَ وَمَنْ
يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (٣٢) لَكُمْ فِيها
مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ)
(٣٣)
يقول تعالى هذا (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ) أي أوامره (فَإِنَّها مِنْ
تَقْوَى الْقُلُوبِ) ومن ذلك تعظيم الهدايا والبدن ، كما قال الحكم عن مقسم عن
ابن عباس : تعظيمها استسمانها واستحسانها . وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا حفص بن
غياث عن ابن أبي ليلى عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد عن ابن عباس (ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ) قال : الاستسمان والاستحسان والاستعظام. وقال أبو أمامة بن
سهل : كنا نسمن الأضحية بالمدينة ، وكان المسلمون يسمنون ، رواه البخاري ، وعن أبي هريرة أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «دم عفراء أحب إلى الله من دم سوداوين» رواه أحمد وابن ماجة ، قالوا : والعفراء هي البيضاء بياضا ليس بناصع
، فالبيضاء أفضل من غيرها ، وغيرها يجزئ أيضا لما ثبت في صحيح البخاري عن أنس أن
رسول الله صلىاللهعليهوسلم ضحى بكبشين أملحين أقرنين ، وعن أبي سعيد أن رسول اللهصلىاللهعليهوسلم ضحى بكبش أقرن فحيل ، يأكل في سواد ، وينظر في سواد ،
ويمشي في سواد ، رواه أهل السنن وصححه الترمذي ـ أي فيه نكتة سوداء في
هذه الأماكن.
وفي سنن ابن ماجة
عن أبي رافع أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ضحى بكبشين عظيمين سمينين أقرنين أملحين موجوءين ، وكذا روى أبو داود وابن ماجة عن جابر : ضحى رسول اللهصلىاللهعليهوسلم بكبشين أقرنين أملحين موجوءين . قيل : هما الخصيان ، وقيل اللذان رض خصياهما ولم يقطعهما
، والله أعلم.
وعن علي رضي الله
عنه قال : أمرنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن نستشرف العين والأذن ، وأن لا نضحي بمقابلة ولا مدابرة
ولا شرقاء ولا خرقاء ، رواه أحمد وأهل السنن ، وصححه
__________________
الترمذي ولهم عنه
، قال : نهى رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن نضحي بأعضب القرن والأذن ، وقال سعيد بن المسيب : العضب النصف فأكثر ، وقال بعض أهل
اللغة : إن كسر قرنها الأعلى فهي قصماء ، فأما العضب فهو كسر الأسفل ، وعضب الأذن
قطع بعضها. وعند الشافعي أن الأضحية بذلك مجزئة لكن تكره. وقال أحمد : لا تجزئ
الأضحية بأعضب القرن والأذن لهذا الحديث. وقال مالك : إن كان الدم يسيل من القرن
لم يجزئ وإلا أجزأ ، والله أعلم.
وأما المقابلة فهي
التي قطع مقدم أذنها ، والمدابرة من مؤخر أذنها ، والشرقاء هي التي قطعت أذنها
طولا ، قاله الشافعي ، وأما الخرقاء فهي التي خرقت السمة أذنها خرقا مدورا ، والله
أعلم.
وعن البراء قال :
قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أربع لا تجوز في الأضاحي : العوراء البين عورها ،
والمريضة البين مرضها ، والعرجاء البين ظلعها ، والكسيرة التي لا تنقي» رواه أحمد وأهل السنن ، وصححه الترمذي ، وهذه العيوب تنقص
اللحم لضعفها وعجزها عن استكمال الرعي لأن الشاء يسبقونها إلى المرعى ، فلهذا لا
تجزئ التضحية بها عند الشافعي وغيره من الأئمة ، كما هو ظاهر الحديث.
واختلف قول
الشافعي في المريضة مرضا يسيرا على قولين ، وروى أبو داود عن عتبة بن عبد السلمي
أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم نهى عن المصفرة والمستأصلة والبخقاء والمشيعة والكسراء ، فالمصفرة قيل الهزيلة ، وقيل المستأصلة الأذن ،
والمستأصلة مكسورة القرن ، والبخقاء هي العوراء ، والمشيعة هي التي لا تزال تشيع
خلف الغنم ولا تتبع لضعفها ، والكسراء العرجاء ، فهذه العيوب كلها مانعة من
الإجزاء ، فأما إن طرأ العيب بعد تعيين الأضحية فإنه لا يضر عند الشافعي خلافا
لأبي حنيفة.
وقد روى الإمام أحمد
عن أبي سعيد قال : اشتريت كبشا أضحي به ، فعدا الذئب فأخذ الألية ، فسألت
النبي صلىاللهعليهوسلم فقال : «ضح به» ولهذا جاء في الحديث أمرنا النبي صلىاللهعليهوسلم أن نستشرف
__________________
العين والأذن ، أي أن تكون الهدية أو الأضحية سمينة حسنة ثمينة ، كما
رواه الإمام أحمد وأبو داود عن عبد الله بن عمر قال : أهدى عمر نجيبا فأعطي بها
ثلاثمائة دينار ، فأتى النبيصلىاللهعليهوسلم فقال : يا رسول الله إني أهديت نجيبا فأعطيت بها ثلاثمائة
دينار ، أفأبيعها وأشتري بثمنها بدنا؟ قال : لا «أنحرها إياها» وقال الضحاك عن ابن عباس البدن من شعائر الله. وقال محمد
بن أبي موسى : الوقوف ومزدلفة والجمار والرمي والحلق والبدن من شعائر الله. وقال
ابن عمر : أعظم الشعائر البيت.
وقوله : (لَكُمْ فِيها مَنافِعُ) أي لكم في البدن منافع من لبنها وصوفها وأوبارها وأشعارها
وركوبها إلى أجل مسمى. قال مقسم عن ابن عباس في قوله : (لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ
مُسَمًّى) قال : ما لم تسم بدنا. وقال مجاهد في قوله : (لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ
مُسَمًّى) قال : الركوب واللبن والولد ، فإذا سميت بدنة أو هديا ذهب
ذلك كله ، وكذا قال عطاء والضحاك وقتادة وعطاء الخراساني وغيرهم. وقال آخرون : بل
له أن ينتفع بها وإن كانت هديا إذا احتاج إلى ذلك ، كما ثبت في الصحيحين عن أنس أن
رسول الله صلىاللهعليهوسلم رأى رجلا يسوق بدنة قال «اركبها» قال : إنها بدنة. قال «اركبها
ويحك» في الثانية أو الثالثة. وفي رواية لمسلم عن جابر عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها» وقال شعبة عن زهير عن أبي ثابت الأعمى عن المغيرة بن حذف
عن علي أنه رأى رجلا يسوق بدنة ومعها ولدها فقال : لا تشرب من لبنها إلا ما فضل عن
ولدها ، فإذا كان يوم النحر فاذبحها وولدها.
وقوله : (ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ
الْعَتِيقِ) أي محل الهدي وانتهاؤه إلى البيت العتيق ، وهو الكعبة ،
كما قال تعالى : (هَدْياً بالِغَ
الْكَعْبَةِ) [المائدة : ٨٥]
وقال : (وَالْهَدْيَ
مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) [الفتح : ٢٥] وقد
تقدم الكلام على معنى البيت العتيق قريبا ، ولله الحمد. وقال ابن جريج عن عطاء قال
: كان ابن عباس يقول : كل من طاف بالبيت فقد حل ، قال الله تعالى : (ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ
الْعَتِيقِ).
(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ
جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ
الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ
(٣٤) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ
قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي
__________________
الصَّلاةِ
وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ)
(٣٥)
يخبر تعالى أنه لم
يزل ذبح المناسك وإراقة الدماء على اسم الله مشروعا في جميع الملل. وقال ابن أبي
طلحة عن ابن عباس (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ
جَعَلْنا مَنْسَكاً) قال : عيدا. وقال عكرمة : ذبحا. وقال زيد بن أسلم في قوله
: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ
جَعَلْنا مَنْسَكاً) إنها مكة ، لم يجعل الله لأمة قط منسكا غيرها.
وقوله : (لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما
رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) كما ثبت في الصحيحين عن أنس قال : أتى رسول الله صلىاللهعليهوسلم بكبشين أملحين أقرنين ، فسمى وكبر ووضع رجله على صفاحهما . وقال الإمام أحمد بن حنبل : حدثنا يزيد بن هارون ، أنبأنا سلام بن مسكين عن عائذ
الله المجاشعي عن أبي داود ـ وهو نفيع بن الحارث ـ عن زيد بن أرقم قال : قلت أو
قالوا : يا رسول الله ما هذه الأضاحي؟ قال : «سنة أبيكم إبراهيم» قالوا : ما لنا
منها؟ قال : «بكل شعرة حسنة قال فالصوف؟ قال «بكل شعرة من الصوف حسنة» وأخرجه الإمام أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجة في سننه
من حديث سلام بن مسكين به.
وقوله : (فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ
أَسْلِمُوا) أي معبودكم واحد وإن تنوعت شرائع الأنبياء ونسخ بعضها بعضا
، فالجميع يدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له (وَما أَرْسَلْنا مِنْ
قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا
فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء : ٢٥]
ولهذا قال : (فَلَهُ أَسْلِمُوا) أي أخلصوا واستسلموا لحكمه وطاعته (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) قال مجاهد : المطمئنين. وقال الضحاك وقتادة : المتواضعين.
وقال السدي : الوجلين. وقال عمرو بن أوس : المخبتين الذين لا يظلمون وإذا ظلموا لم
ينتصروا . وقال الثوري (وَبَشِّرِ
الْمُخْبِتِينَ) قال : المطمئنين الراضين بقضاء الله المستسلمين له ، وأحسن
بما يفسر بما بعده وهو قوله : (الَّذِينَ إِذا
ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) أي خافت منه قلوبهم (وَالصَّابِرِينَ عَلى
ما أَصابَهُمْ) أي من المصائب.
قال الحسن البصري
: والله لنصبرن أو لنهلكن (وَالْمُقِيمِي
الصَّلاةِ) قرأ الجمهور بالإضافة السبعة وبقية العشرة أيضا وقرأ ابن
السميقع (وَالْمُقِيمِينَ
الصَّلاةَ) بالنصب وعن الحسن البصري (وَالْمُقِيمِي
الصَّلاةِ) وإنما حذفت النون هاهنا تخفيفا ، ولو حذفت للإضافة لوجب
خفض الصلاة ولكن على سبيل التخفيف ، فنصبت ، أي المؤدين حق الله فيما أوجب عليهم
من أداء فرائضه (وَمِمَّا
رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) أي وينفقون ما آتاهم الله من طيب الرزق على أهليهم
__________________
وأرقائهم وفقرائهم
ومحاويجهم ، ويحسنون إلى الخلق مع محافظتهم على حدود الله ، وهذه بخلاف صفات
المنافقين ، فإنهم بالعكس من هذا كله كما تقدم تفسيره في سورة براءة .
(وَالْبُدْنَ
جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ
اللهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا
الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)
(٣٦)
يقول تعالى ممتنا
على عباده فيما خلق لهم من البدن وجعلها من شعائره ، وهو أنه جعلها تهدى إلى بيته
الحرام ، بل هي أفضل ما يهدى إليه ، كما قال تعالى : (لا تُحِلُّوا
شَعائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ
وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) [المائدة : ٢]
الآية ، قال ابن جريج ، قال عطاء في قوله : (وَالْبُدْنَ
جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) قال البقرة والبعير ، وكذا روي عن ابن عمر وسعيد بن المسيب
والحسن البصري ، وقال مجاهد : وإنما البدن من الإبل.
(قلت) أما إطلاق
البدنة على البعير فمتفق عليه ، واختلفوا في صحة إطلاق البدنة على البقرة على
قولين ، أصحهما أنه يطلق عليها ذلك شرعا كما صح الحديث ، ثم جمهور العلماء على أنه
تجزئ البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة ، كما ثبت به الحديث عند مسلم من رواية جابر
بن عبد الله قال : أمرنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن نشترك في الأضاحي البدنة عن سبعة ، والبقرة عن سبعة . وقال إسحاق بن راهويه وغيره : بل تجزئ البقرة والبعير عن
عشرة ، وقد ورد به حديث في مسند الإمام أحمد وسنن النسائي وغيرهما ، فالله أعلم.
وقوله : (لَكُمْ فِيها خَيْرٌ) أي ثواب في الدار الآخرة ، وعن سليمان بن يزيد الكعبي عن
هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «ما عمل ابن آدم يوم النحر عملا أحب إلى الله من
إهراق دم ، وإنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها وأشعارها وإن الدم ليقع من
الله بمكان قبل أن يقع على الأرض ، فطيبوا بها نفسا» رواه ابن ماجة والترمذي وحسنه ، وقال سفيان الثوري : كان
أبو حازم يستدين ويسوق البدن ، فقيل له : تستدين وتسوق البدن؟ فقال : إني سمعت
الله يقول لكم : (لَكُمْ فِيها خَيْرٌ). وعن ابن عباس : قال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم : «ما أنفقت الورق في شيء أفضل من نحيرة في يوم عيد» رواه
الدار قطني في سننه. وقال مجاهد : (لَكُمْ فِيها خَيْرٌ) قال : أجر ومنافع ، وقال إبراهيم النخعي : يركبها ويحلبها
إذا احتاج إليها.
وقوله : (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها
صَوافَ) وعن المطلب بن عبد الله بن حنطب عن
__________________
جابر بن عبد الله
قال : صليت مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم عيد الأضحى ، فلما انصرف أتى بكبش فذبحه ، فقال : «باسم
الله والله أكبر ، اللهم هذا عني وعمن لم يضح من أمتي» رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال محمد بن إسحاق عن يزيد
بن أبي حبيب عن ابن عباس عن جابر قال : ضحّى رسول الله صلىاللهعليهوسلم بكبشين في يوم عيد ، فقال حين وجههما : «وجهت وجهي للذي
فطر السموات والأرض حنيفا مسلما وما أنا من المشركين ، إن صلاتي ونسكي ومحياي
ومماتي لله رب العالمين لا شريك له ، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ، اللهم منك
ولك عن محمد وأمته» ثم سمى الله وكبّر وذبح .
وعن علي بن الحسين
عن أبي رافع أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان إذا ضحى اشترى كبشين سمينين أقرنين أملحين فإذا صلّى
وخطب الناس ، أتي بأحدهما وهو قائم في مصلاه ، فذبحه بنفسه بالمدية ، ثم يقول : «اللهم
هذا عن أمتي جميعها : من شهد لك بالتوحيد وشهد لي بالبلاغ» ثم يؤتى بالآخر فيذبحه
بنفسه ، ثم يقول «هذا عن محمد وآل محمد» فيطعمهما جميعا للمساكين ويأكل هو وأهله
منهما ، رواه أحمد وابن ماجة.
وقال الأعمش عن
أبي ظبيان عن ابن عباس في قوله : (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ
عَلَيْها صَوافَ) قال : قياما على ثلاث قوائم ، معقولة يدها اليسرى ، يقول :
باسم الله والله أكبر لا إله إلا الله ، اللهم منك ولك ، وكذلك روي عن مجاهد وعلي
بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس نحو هذا. وقال ليث عن مجاهد : إذا عقلت رجلها
اليسرى قامت على ثلاث ، وروى ابن أبي نجيح عنه نحوه. وقال الضحاك : تعقل رجل واحدة
فتكون على ثلاث.
وفي الصحيحين عن
ابن عمر أنه أتى على رجل قد أناخ بدنته وهو ينحرها فقال : ابعثها قياما مقيدة ،
سنة أبي القاسم صلىاللهعليهوسلم ، وعن جابر أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأصحابه كانوا ينحرون البدن معقولة اليسرى قائمة على ما
بقي من قوائمها ، رواه أبو داود . وقال ابن لهيعة : حدثني عطاء بن دينار أن سالم بن عبد
الله قال لسليمان بن عبد الملك : قف من شقها الأيمن وانحر من شقها الأيسر.
وفي صحيح مسلم عن
جابر في صفة حجة الوداع قال فيه : فنحر رسول الله صلىاللهعليهوسلم بيده ثلاثا
__________________
وستين بدنة جعل
يطعنها بحربة في يده .
وقال عبد الرزاق :
أخبرنا معمر عن قتادة قال : في حرف ابن مسعود صوافن أي معقلة قياما. وقال سفيان
الثوري عن منصور عن مجاهد من قرأها صوافن قال : معقولة ، ومن قرأها صواف قال تصف
بين يديها ، وقال طاوس والحسن وغيرهما فاذكروا اسم الله عليها صوافي يعني خالصة
لله عزوجل ، وكذا رواه مالك عن الزهري. وقال عبد الرحمن بن زيد :
صوافي ليس فيها شرك كشرك الجاهلية لأصنامهم.
وقوله : (فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها) قال ابن أبي نجيح عن مجاهد : يعني سقطت إلى الأرض ، وهو
رواية عن ابن عباس ، وكذا قال مقاتل بن حيان وقال العوفي عن ابن عباس : فإذا وجبت
جنوبها يعني نحرت. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : فإذ وجبت جنوبها ، يعني ماتت
، وهذا القول هو مراد ابن عباس ومجاهد ، فإنه لا يجوز الأكل من البدنة إذا نحرت
حتى تموت وتبرد حركتها. وقد جاء في حديث مرفوع «لا تعجلوا النفوس أن تزهق» وقد
رواه الثوري في جامعه عن أيوب عن يحيى بن أبي كثير عن فرافصة الحنفي ، عن عمر بن
الخطاب أنه قال ذلك ، ويؤيده حديث شداد بن أوس في صحيح مسلم «إن الله كتب الإحسان
على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ، وليحد أحدكم
شفرته ، وليرح ذبيحته» وعن أبي واقد الليثي قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة» رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه.
وقوله : (فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ
وَالْمُعْتَرَّ) قال بعض السلف : قوله : (فَكُلُوا مِنْها) أمر إباحة. وقال مالك : يستحب ذلك ، وقال غيره : يجب ، وهو
وجه لبعض الشافعية.
واختلفوا في
المراد بالقانع والمعتر ، فقال العوفي عن ابن عباس : القانع المستغني بما أعطيته
وهو في بيته ، والمعتر الذي يتعرض لك ويلم بك أن تعطيه من اللحم ولا يسأل ، وكذا
قال مجاهد ومحمد بن كعب القرظي. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : القانع
المتعفف ، والمعتر السائل ، وهذا قول قتادة وإبراهيم النخعي ومجاهد في رواية عنه.
وقال ابن عباس وعكرمة وزيد بن أسلم وابن الكلبي والحسن البصري ومقاتل بن حيان
ومالك بن أنس : القانع هو الذي يقنع إليك ويسألك ، والمعتر الذي يعتريك يتضرع ولا
يسألك ، وهذا لفظ الحسن. وقال سعيد بن جبير : القانع هو السائل ، قال : أما سمعت
قول الشماخ : [الوافر]
__________________
لمال المرء
يصلحه فيغني
|
|
مفاقره أعفّ من
القنوع
|
قال : يغني من
السؤال ، وبه قال ابن زيد. وقال زيد بن أسلم : القانع المسكين الذي يطوف ، والمعتر
الصديق والضعيف الذي يزور ، وهو رواية عن ابنه عبد الله بن زيد أيضا. وعن مجاهد
أيضا : القانع جارك الغني الذي يبصر ما يدخل بيتك ، والمعتر الذي يعتريك من الناس
، وعنه : أن القانع هو الطامع ، والمعتر هو الذي يعتر بالبدن من غني أو فقير ، وعن
عكرمة نحوه ، وعنه : القانع أهل مكة ، واختار ابن جرير أن القانع هو السائل ، لأنه
من أقنع بيده إذا رفعها للسؤال ، والمعتر من الاعتراء وهو الذي يتعرض لأكل اللحم.
وقد احتج بهذه الآية الكريمة من ذهب من العلماء إلى أن الأضحية تجزأ ثلاثة أجزاء :
فثلث لصاحبها يأكله ، وثلث يهديه لأصحابه ، وثلث يتصدق به على الفقراء ، لأنه
تعالى قال : (فَكُلُوا مِنْها
وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ).
وفي الحديث الصحيح
أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال للناس : «إني كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فوق
ثلاث ، فكلوا وادخروا ما بدا لكم». وفي رواية «فكلوا وادخروا وتصدقوا». وفي رواية «فكلوا
وأطعموا وتصدقوا» . والقول الثاني : أن المضحي يأكل النصف ويتصدق بالنصف ،
لقوله في الآية المتقدمة : (فَكُلُوا مِنْها
وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ) [الحج : ٢٨]
ولقوله في الحديث : فكلوا وادخروا وتصدقوا» فإن أكل الكل ، فقيل : لا يضمن شيئا ،
وبه قال ابن سريج من الشافعية. وقال بعضهم : يضمنها كلها بمثلها أو قيمتها. وقيل
يضمن نصفها وقيل ثلثها. وقيل أدنى جزء منها ، وهو المشهور من مذهب الشافعي. وأما
الجلود ففي مسند أحمد عن قتادة بن النعمان في حديث الأضاحي «فكلوا وتصدقوا ،
واستمتعوا بجلودها ولا تبيعوها» ومن العلماء من رخص في بيعها ، ومنهم من قال :
يقاسم الفقراء ثمنها ، والله أعلم.
[مسألة] عن البراء
بن عازب قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن
__________________
نصلي ، ثم نرجع فننحر
، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا ، ومن ذبح قبل الصلاة فإنما هو لحم قدمه لأهله ليس
هو من النسك في شيء» أخرجاه ، فلهذا قال الشافعي وجماعة من العلماء: إن أول وقت
ذبح الأضاحي إذا طلعت الشمس يوم النحر ومضى قدر صلاة العيد والخطبتين ، زاد أحمد :
وأن يذبح الإمام بعد ذلك لما جاء في صحيح مسلم : وأن لا تذبحوا حتى يذبح الإمام.
وقال أبو حنيفة : أما أهل السواد من القرى ونحوهم فلهم أن يذبحوا بعد طلوع الفجر
إذ لا صلاة عيد تشرع عنده لهم. وأما أهل الأمصار فلا يذبحوا حتى يصلي الإمام ،
والله أعلم.
ثم قيل : لا يشرع
بالذبح إلا يوم النحر وحده. وقيل : يوم النحر لأهل الأمصار لتيسر الأضاحي عندهم ،
وأما اهل القرى فيوم النحر وأيام التشريق بعده ، وبه قال سعيد بن جبير. وقيل: يوم
النحر ويوم بعده للجميع ، وقيل : ويومان بعده ، وبه قال الإمام أحمد. وقيل : يوم
النحر وثلاثة أيام التشريق بعده ، وبه قال الشافعي لحديث جبير بن مطعم أن رسول
اللهصلىاللهعليهوسلم قال : «أيام التشريق كلها ذبح» رواه أحمد وابن حبان.
وقيل : إن وقت
الذبح يمتد إلى آخر ذي الحجة ، وبه قال إبراهيم النخعي وأبو سلمة بن عبد الرحمن ،
وهو قول غريب. وقوله : (كَذلِكَ سَخَّرْناها
لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) يقول تعالى من أجل هذا (سَخَّرْناها لَكُمْ) أي ذللناها لكم ، وجعلناها منقادة لكم خاضعة ، إن شئتم
ركبتم ، وإن شئتم حلبتم ، وإن شئتم ذبحتم ، كما قال تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا
لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ ـ إلى قوله ـ أَفَلا يَشْكُرُونَ) [يس : ٧١ ـ ٧٣]
وقال في هذه الآية الكريمة : (كَذلِكَ سَخَّرْناها
لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).
(لَنْ يَنالَ اللهَ
لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها
لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ)
(٣٧)
يقول تعالى : إنما
شرع لكم نحر هذه الهدايا والضحايا لتذكروه عند ذبحها ، فإنه الخالق الرزاق لا
يناله شيء من لحومها ولا دمائها ، فإنه تعالى هو الغني عما سواه وقد كانوا في
جاهليتهم إذا ذبحوها لآلهتهم وضعوا عليها من لحوم قرابينهم ، ونضحوا عليها من
دمائها ، فقال تعالى : (لَنْ يَنالَ اللهَ
لُحُومُها وَلا دِماؤُها). وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا محمد بن
أبي حماد ، حدثنا إبراهيم بن المختار عن ابن جريج قال : كان أهل الجاهلية ينضحون
البيت بلحوم الإبل ودمائها ، فقال أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم : فنحن أحق أن ننضح ، فأنزل الله (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا
دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ) أي يتقبل ذلك ويجزي عليه ، كما جاء في الصحيح «إن الله لا
ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ، ولكن ينظر إلى
__________________
قلوبكم وأعمالكم» . وجاء في الحديث «إن الصدقة لتقع في يد الرحمن قبل أن تقع
في يد السائل ، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض» كما تقدم في
الحديث ، رواه ابن ماجة والترمذي ، وحسنه عن عائشة مرفوعا ، فمعناه أنه سيق لتحقيق
القبول من الله لمن أخلص في عمله وليس له معنى يتبادر عند العلماء المحققين سوى
هذا ، والله أعلم.
وقال وكيع عن يحيى
بن مسلم أبي الضحاك : سألت عامرا الشعبي عن جلود الأضاحي ، فقال : (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا
دِماؤُها) إن شئت فبع ، وإن شئت فأمسك ، وإن شئت فتصدق. وقوله : (كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ) أي من أجل ذلك سخر لكم البدن (لِتُكَبِّرُوا اللهَ
عَلى ما هَداكُمْ) أي لتعظموه كما هداكم لدينه وشرعه وما يحبه ويرضاه ونهاكم
عن فعل ما يكرهه ويأباه. وقوله : (وَبَشِّرِ
الْمُحْسِنِينَ) أي وبشر يا محمد المحسنين أي في عملهم القائمين بحدود الله
المتبعين ما شرع لهم المصدقين الرسول فيما أبلغهم وجاءهم به من عند ربه عزوجل.
[مسألة] وقد ذهب
أبو حنيفة ومالك والثوري إلى القول بوجوب الأضحية على من ملك نصابا ، وزاد أبو
حنيفة اشتراط الإقامة أيضا ، واحتج لهم بما رواه أحمد وابن ماجة بإسناد رجاله كلهم
ثقات ، عن أبي هريرة مرفوعا : «من وجد سعة فلم يضح ، فلا يقربن مصلانا» على أن فيه غرابة ، واستنكره أحمد بن حنبل ، وقال ابن عمر
: أقام رسول الله صلىاللهعليهوسلم عشر سنين يضحي ، رواه الترمذي. وقال الشافعي وأحمد : لا
تجب الأضحية بل هي مستحبة لما جاء في الحديث : «ليس في المال حق سوى الزكاة» وقد
تقدم أنه عليه الصلاة والسلام ضحى عن أمته ، فأسقط ذلك وجوبها عنهم. وقال أبو
سريحة : كنت جارا لأبي بكر وعمر ، فكانا لا يضحيان خشية أن يقتدي الناس بهما ،
وقال بعض الناس : الأضحية سنة كفاية ، إذا قام بها واحد من أهل دار أو محلة أو بيت
، سقطت عن الباقين لأن المقصود إظهار الشعار.
وقد روى الإمام
أحمد وأهل السنن وحسنه الترمذي عن مخنف بن سليم أنه سمع رسول اللهصلىاللهعليهوسلم يقول بعرفات : «على كل أهل بيت في كل عام أضحاة وعتيرة ،
هل تدرون ما العتيرة؟ هي التي تدعونها الرجبية» وقد تكلم في إسناده. وقال أبو أيوب : كان الرجل في عهد
رسول الله صلىاللهعليهوسلم يضحي بالشاة الواحدة عنه وعن أهل بيته ، فيأكلون ويطعمون
حتى تباهي الناس ، فصار كما ترى ، رواه الترمذي وصححه وابن ماجة ، وكان عبد الله
بن هشام يضحي بالشاة الواحدة عن جميع أهله ، رواه البخاري.
__________________
وأما مقدار سن
الأضحية فقد روى مسلم عن جابر أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «لا تذبحوا إلا مسنة ، إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا
جذعة من الضأن» ومن هاهنا ذهب الزهري إلى أن الجذع لا يجزئ ، وقابله
الأوزاعي فذهب إلى أن الجذع يجزئ من كل جنس ، وهما غريبان. والذي عليه الجمهور
إنما يجزئ الثني من الإبل والبقر والمعز ، أو الجذع من الضأن ، فأما الثني من
الإبل فهو الذي له خمس سنين ودخل في السادسة ، ومن البقر ما له سنتان ودخل في
الثالثة ، وقيل ما له ثلاث ودخل في الرابعة ، ومن المعز ما له سنتان ، وأما الجذع
من الضأن فقيل ما له سنة ، وقيل عشرة أشهر ، وقيل ثمانية ، وقيل ستة أشهر ، وهو
أقل ما قيل في سنه ، وما دونه فهو حمل ، والفرق بينهما أن الحمل شعر ظهره قائم.
والجذع شعر ظهره نائم. قد انفرق صدعين والله أعلم.
(إِنَّ اللهَ يُدافِعُ
عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ)
(٣٨)
يخبر تعالى أنه
يدفع عن عباده الذين توكلوا عليه وأنابوا إليه شر الأشرار وكيد الفجار ويحفظهم
ويكلؤهم وينصرهم ، كما قال تعالى : (أَلَيْسَ اللهُ
بِكافٍ عَبْدَهُ) [الزمر : ٣٦] وقال
: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ
عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ
لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) [الطلاق : ٣] وقوله : (إِنَّ اللهَ لا
يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) أي لا يحب من عباده من اتصف بهذا ، وهو الخيانة في العهود
والمواثيق لا يفي بما قال ، والكفر الجحد للنعم ، فلا يعترف بها.
(أُذِنَ لِلَّذِينَ
يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩) الَّذِينَ
أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ
وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ
وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً
وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)
(٤٠)
قال العوفي عن ابن
عباس : نزلت في محمد وأصحابه حين أخرجوا من مكة . وقال مجاهد والضحاك ، وغير واحد من السلف كابن عباس
ومجاهد وعروة بن الزبير وزيد بن أسلم ومقاتل بن حيان وقتادة وغيرهم : هذه أول آية
نزلت في الجهاد ، واستدل بهذه الآية بعضهم على أن السورة مدنية. وقال ابن جرير : حدثني يحيى بن داود الواسطي ، حدثنا إسحاق بن يوسف عن
سفيان عن الأعمش عن مسلم هو البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لما أخرج
النبي صلىاللهعليهوسلم من مكة قال أبو بكر : أخرجوا نبيهم إنا لله وإنا إليه
راجعون ليهلكن. قال ابن عباس : فأنزل الله عزوجل (أُذِنَ لِلَّذِينَ
يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) قال
__________________
أبو بكر رضي الله
تعالى عنه : فعرفت أنه سيكون قتال.
وقال الإمام أحمد عن إسحاق بن يوسف الأزرق به ، وزاد : قال ابن عباس وهي أول
آية نزلت في القتال . ورواه الترمذي والنسائي في التفسير من سننيهما وابن أبي
حاتم من حديث إسحاق بن يوسف ، زاد الترمذي ووكيع كلاهما عن سفيان الثوري به. وقال
الترمذي : حديث حسن ، وقد رواه غير واحد عن الثوري وليس فيه ابن عباس.
وقوله : (وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ
لَقَدِيرٌ) أي هو قادر على نصر عباده المؤمنين من غير قتال ، ولكن هو
يريد من عباده أن يبذلوا جهدهم في طاعته ، كما قال : (فَإِذا لَقِيتُمُ
الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا
الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها
ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ
بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ
سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ) [محمد : ٤ ـ ٦] وقال
تعالى : (قاتِلُوهُمْ
يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ
وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ
اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [التوبة : ١٤ ـ ١٥]
وقال : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ
تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ
يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً
وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) [التوبة : ١٦]
وقال : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ
تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ
وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) [آل عمران : ١٤٢]
وقال : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ
حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا
أَخْبارَكُمْ) [محمد : ٣١] والآيات في هذا كثيرة.
ولهذا قال ابن عباس
في قوله : (وَإِنَّ اللهَ عَلى
نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) وقد فعل ، وإنما شرع تعالى الجهاد في الوقت الأليق به ،
لأنهم لما كانوا بمكة كان المشركون أكثر عددا فلو أمر المسلمين وهم أقل من العشر
بقتال الباقين لشق عليهم ، ولهذا لما بايع أهل يثرب ليلة العقبة رسول اللهصلىاللهعليهوسلم. وكانوا نيفا وثمانين ، قالوا : يا رسول الله ألا نميل على
أهل الوادي ، يعنون أهل منى ، ليالي منى فنقتلهم؟ فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إني لم أومر بهذا» فلما بغى المشركون وأخرجوا النبي صلىاللهعليهوسلم من بين أظهرهم وهموا بقتله ، وشردوا أصحابه شذر مذر ، فذهب
منهم طائفة إلى الحبشة وآخرون إلى المدينة ، فلما استقروا بالمدينة ووافاهم رسول
الله صلىاللهعليهوسلم واجتمعوا عليه ، وقاموا بنصره وصارت لهم دار إسلام ومعقلا
يلجئون إليه ، شرع الله جهاد الأعداء ، فكانت هذه الآية أول ما نزل في ذلك ، فقال
تعالى : (أُذِنَ لِلَّذِينَ
يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ
الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍ).
قال العوفي عن ابن
عباس : أخرجوا من مكة إلى المدينة بغير حق ، يعني محمدا وأصحابه
__________________
(إِلَّا أَنْ
يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ) أي ما كان لهم إلى قومهم إساءة ، ولا كان لهم ذنب إلا أنهم
وحدوا الله وعبدوه لا شريك له ، وهذا استثناء منقطع بالنسبة إلى ما في نفس الأمر ،
وأما عند المشركين فإنه أكبر الذنوب ، كما قال تعالى : (يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ
أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ) [الممتحنة : ١] وقال تعالى في قصة أصحاب الأخدود : (وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ
يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) [البروج : ١٥]
ولهذا لما كان المسلمون يرتجزون في بناء الخندق ويقولون : [رجز]
اللهم لولا أنت
ما اهتدينا
|
|
ولا تصدقنا ولا
صلينا
|
فأنزلن سكينة
علينا
|
|
وثبت الأقدام إن
لاقينا
|
إن الألى قد
بغوا علينا
|
|
إذا أرادوا فتنة
أبينا
|
فيوافقهم رسول
الله صلىاللهعليهوسلم ويقول معهم آخر كل قافية ، فإذا قالوا :
إذا أرادوا فتنة أبينا
يقول : أبينا يمد
بها صوته ، ثم قال تعالى : (وَلَوْ لا دَفْعُ
اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) أي لو لا أنه يدفع بقوم عن قوم ، ويكف شرور أناس عن غيرهم
بما يخلقه ويقدره من الأسباب ، لفسدت الأرض ولأهلك القوي الضعيف (لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ) وهي المعابد الصغار للرهبان ، قاله ابن عباس ومجاهد وأبو
العالية وعكرمة والضحاك وغيرهم. وقال قتادة : هي معابد الصابئين ، وفي رواية عنه :
صوامع المجوس ، وقال مقاتل بن حيان : هي البيوت التي على الطرق (وَبِيَعٌ) وهي أوسع منها ، وأكثر عابدين فيها ، وهي للنصارى أيضا ،
قاله أبو العالية وقتادة والضحاك وابن صخر ومقاتل بن حيان وخصيف وغيرهم. وحكى ابن
جبير عن مجاهد وغيره أنها كنائس اليهود ، وحكى السدي عمن حدثه عن ابن عباس أنها
كنائس اليهود ، ومجاهد إنما قال : هي الكنائس ، والله أعلم.
وقوله : (وَصَلَواتٌ) قال العوفي عن ابن عباس : الصلوات الكنائس وكذا قال عكرمة
والضحاك وقتادة : إنها كنائس اليهود ، وهم يسمونها صلوتا . وحكى السدي عمن حدثه عن ابن عباس أنها كنائس النصارى.
وقال أبو العالية وغيره : الصلوات معابد الصابئين. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد :
الصلوات مساجد لأهل الكتاب ولأهل الإسلام بالطرق ، وأما المساجد فهي للمسلمين.
وقوله : (يُذْكَرُ فِيهَا
اسْمُ اللهِ كَثِيراً) فقد قيل : الضمير في قوله يذكر فيها عائد إلى المساجد
لأنها أقرب المذكورات. وقال الضحاك : الجميع يذكر فيها اسم الله كثيرا. وقال
__________________
ابن جرير : الصواب لهدمت صوامع الرهبان وبيع النصارى وصلوات اليهود
، وهي كنائسهم ، ومساجد المسلمين التي يذكر فيها اسم الله كثيرا ، لأن هذا هو
المستعمل المعروف في كلام العرب. وقال بعض العلماء : هذا ترق من الأقل إلى الأكثر
إلى أن انتهى إلى المساجد وهي أكثر عمارا وأكثر عبادا وهم ذوو القصد الصحيح.
وقوله : (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ
وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) [محمد : ٧ ـ ٨].
وقوله : (إِنَّ اللهَ
لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) وصف نفسه بالقوة والعزة ، فبقوته خلق كل شيء فقدره تقديرا
، وبعزته لا يقهره قاهر ولا يغلبه غالب ، بل كل شيء ذليل لديه فقير إليه ، ومن كان
القوي العزيز ناصره فهو المنصور وعدوه هو المقهور ، قال الله تعالى : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا
لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا
لَهُمُ الْغالِبُونَ) [الصافات : ١٧١ ـ ١٧٣]
وقال تعالى : (كَتَبَ اللهُ
لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [المجادلة : ٢١].
(الَّذِينَ إِنْ
مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا
بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ)
(٤١)
قال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبي ، حدثنا أبو الربيع الزهراني ، حدثنا حماد بن زيد عن أيوب وهشام عن
محمد قال : قال عثمان بن عفان : فينا نزلت (الَّذِينَ إِنْ
مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا
بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ) فأخرجنا من ديارنا بغير حق إلا أن قلنا : ربنا الله ثم
مكنا في الأرض ، فأقمنا الصلاة وآتينا الزكاة ، وأمرنا بالمعروف ، ونهينا عن
المنكر ، ولله عاقبة الأمور فهي لي ولأصحابي. وقال أبو العالية : هم أصحاب محمد صلىاللهعليهوسلم.
وقال الصباح بن
سوادة الكندي : سمعت عمر بن عبد العزيز يخطب وهو يقول : (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي
الْأَرْضِ) الآية ، ثم قال : ألا إنها ليست على الوالي وحده ، ولكنها
على الوالي والمولى عليه ، ألا أنبئكم بما لكم على الوالي من ذلكم ، وبما للوالي
عليكم منه؟ إن لكم على الوالي من ذلكم أن يؤاخذكم بحقوق الله عليكم ، وأن يأخذ
لبعضكم من بعض ، وأن يهديكم للتي هي أقوم ما استطاع ، وإن عليكم من ذلك الطاعة غير
المبزوزة ولا المستكره بها ، ولا المخالف سرها علانيتها. وقال عطية العوفي : هذه
الآية كقوله : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ
آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) [النور : ٥٥]
وقوله : (وَلِلَّهِ عاقِبَةُ
الْأُمُورِ) كقوله تعالى : (وَالْعاقِبَةُ
لِلْمُتَّقِينَ) [القصص : ٨٣].
وقال زيد بن أسلم (وَلِلَّهِ عاقِبَةُ
الْأُمُورِ) وعند الله ثواب ما صنعوا.
__________________
(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ
فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (٤٢)
وَقَوْمُ
إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ(٤٣) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ
وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ
نَكِيرِ(٤٤) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ
أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ
مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (٤٥)
أَفَلَمْ
يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ
يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ
الَّتِي فِي الصُّدُورِ)
(٤٦)
يقول تعالى مسليا
لنبيه محمد صلىاللهعليهوسلم في تكذيب من خالفه من قومه : (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ
فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ ـ إلى أن قال ـ وَكُذِّبَ مُوسى) أي مع ما جاء به من الآيات البينات والدلائل الواضحات (فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ) أي أنظرتهم وأخرتهم ، (ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ
فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي فيكف كان إنكاري عليهم ومعاقبتي لهم؟! وذكر بعض السلف
أنه كان بين قول فرعون لقومه : أنا ربكم الأعلى ، وبين إهلاك الله له أربعون سنة.
وفي الصحيحين عن
أبي موسى عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته»
ثم قرأ (وَكَذلِكَ أَخْذُ
رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) ثم قال تعالى : (فَكَأَيِّنْ مِنْ
قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) أي كم من قرية أهلكتها (وَهِيَ ظالِمَةٌ) أي مكذبة لرسلها (فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى
عُرُوشِها) قال الضحاك : سقوفها ، أي قد خربت وتعطلت حواضرها (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ) أي لا يستقي منها ، ولا يردها أحد بعد كثرة وارديها
والازدحام عليها (وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) قال عكرمة يعني المبيض بالجص ، وروي عن علي بن أبي طالب
ومجاهد وعطاء وسعيد بن جبير وأبي المليح والضحاك نحو ذلك. وقال آخرون : هو المنيف
المرتفع. وقال آخرون : المشيد المنيع الحصين ، وكل هذه الأقوال متقاربة ولا منافاة
بينها ، فإنه لم يحم أهله شدة بنائه ولا ارتفاعه ولا إحكامه ولا حصانته عن حلول
بأس الله بهم كما قال تعالى : (أَيْنَما تَكُونُوا
يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) [هود : ١٠٢].
وقوله : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أي بأبدانهم وبفكرهم أيضا ، وذلك كاف كما قال ابن أبي
الدنيا في كتاب التفكر والاعتبار : حدثنا هارون بن عبد الله ، حدثنا سيار ، حدثنا
جعفر ، حدثنا مالك بن دينار قال : أوحى الله تعالى إلى موسى بن عمران عليهالسلام أن يا موسى اتخذ نعلين من حديد وعصا ، ثم سح في الأرض ، ثم
اطلب الآثار والعبر ، حتى يتخرق النعلان وتنكسر العصا. وقال ابن أبي الدنيا : قال
بعض الحكماء : أحي قلبك بالمواعظ ، ونوره بالتفكر ، وموته بالزهد ، وقوّه باليقين
، وذلله بالموت ، وقرره بالفناء ، وبصره فجائع الدنيا ، وحذره صولة الدهر وفحش
تقلب الأيام ، واعرض عليه أخبار الماضين ، وذكره ما أصاب من
__________________
كان قبله ، وسيره
في ديارهم وآثارهم ، وانظر ما فعلوا وأين حلوا وعم انقلبوا ، أي فانظروا ما حل
بالأمم المكذبة من النقم والنكال.
(فَتَكُونَ لَهُمْ
قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها) أي فيعتبرون بها (فَإِنَّها لا تَعْمَى
الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) أي ليس العمى عمى البصر ، وإنما العمى عمى البصرة ، وإن كانت
القوة الباصرة سليمة فإنها لا تنفذ إلى العبر ولا تدري ما الخبر ، وما أحسن ما
قاله بعض الشعراء في هذا المعنى ، وهو أبو محمد عبد الله بن محمد بن سارة الأندلسي
الشنتريني ، وقد كانت وفاته سنة سبع عشرة وخمسمائة :
يا من يصيخ إلى
داعي الشقاء وقد
|
|
نادى به الناعيان
الشيب والكبر
|
إن كنت لا تسمع
الذكرى ففيم ترى
|
|
في رأسك
الواعيان السمع والبصر
|
ليس الأصمّ ولا
الأعمى سوى رجل
|
|
لم يهده
الهاديان العين والأثر
|
لا الدهر يبقى
ولا الدنيا ولا الفلك
|
|
الأعلى ولا
النيّران الشمس والقمر
|
ليرحلن عن
الدنيا وإن كرها
|
|
فراقها الثاويان
البدو والحضر
|
(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ
بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ
كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٤٧) وَكَأَيِّنْ مِنْ
قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ)
(٤٨)
يقول تعالى لنبيه
صلوات الله وسلامه عليه : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ
بِالْعَذابِ) أي هؤلاء الكفار الملحدون المكذبون بالله وكتابه ورسوله
واليوم الآخر ، كما قال تعالى : (وَإِذْ قالُوا
اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً
مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [الأنفال : ٣٢] (وَقالُوا رَبَّنا
عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ) [ص : ١٦]. وقوله :
(وَلَنْ يُخْلِفَ
اللهُ وَعْدَهُ) أي الذي قد وعد من إقامة الساعة والانتقام من أعدائه ،
والإكرام لأوليائه. قال الأصمعي : كنت عند أبي عمرو بن العلاء ، فجاءه عمرو بن
عبيد فقال : يا أبا عمرو ، هل يخلف الله الميعاد؟ فقال : لا ، فذكر آية وعيد ، فقال له : أمن العجم أنت؟ إن
العرب تعد الرجوع عن الوعد لؤما ، وعن الإيعاد كرما ، أما سمعت قول الشاعر : [الطويل]
ولا يرهب ابن
العم والجار سطوتي
|
|
ولا أنثنى عن
سطوة المتهدّد
|
فإني وإن أوعدته
أو وعدته
|
|
لمخلف إيعادي
ومنجز موعدي
|
وقوله : (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ
كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) أي هو تعالى لا يعجل ، فإن مقدار ألف سنة عند خلقه كيوم
واحد عنده بالنسبة إلى حلمه ، لعلمه بأنه على الانتقام قادر ، وأنه
__________________
لا يفوته شيء وإن
أجل وأنظر وأملى ، ولهذا قال بعد هذا : (وَكَأَيِّنْ مِنْ
قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) قال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن عرفة ، حدثني عبدة بن
سليمان عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم
خمسمائة عام» ورواه الترمذي والنسائي من حديث الثوري عن محمد بن عمرو به
، وقال الترمذي : حسن صحيح. وقد رواه ابن جرير عن أبي هريرة موقوفا فقال : حدثني يعقوب ، حدثنا ابن علية
، حدثنا سعيد الجريري عن أبي نضرة عن سمير بن نهار قال : قال أبو هريرة : يدخل
فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بمقدار نصف يوم ، قلت : وما مقدار نصف يوم؟ قال
أوما تقرأ القرآن؟ قلت ، بلى ، قال : (وَإِنَّ يَوْماً
عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ).
وقال أبو داود في آخر كتاب الملاحم من سننه : حدثنا عمرو بن عثمان ،
حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا صفوان عن شريح بن عبيد عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «إني لأرجو أن لا تعجز أمتي عند ربها أن يؤخرهم
نصف يوم» قيل لسعد : وما نصف يوم؟ قال : خمسمائة سنة. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان ،
حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن إسرائيل عن سماك ، عن عكرمة عن ابن عباس (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ
كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) قال : من الأيام التي خلق الله فيها السموات والأرض. ورواه
ابن جرير عن ابن بشار عن ابن المهدي ، وبه قال مجاهد وعكرمة ، ونص عليه أحمد بن
حنبل في كتاب الرد على الجهمية ، وقال مجاهد : هذه الآية كقوله : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ
إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ
سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) [السجدة : ٥].
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبي ، حدثنا عارم محمد بن الفضل ، حدثنا حماد بن زيد عن يحيى بن عتيق عن
محمد بن سيرين ، عن رجل من أهل الكتاب أسلم قال : إن الله تعالى خلق السموات
والأرض في ستة أيام (وَإِنَّ يَوْماً
عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) وجعل أجل الدنيا ستة أيام ، وجعل الساعة في اليوم السابع (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ
كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ). فقد مضف الستة الأيام وأنتم في اليوم السابع فمثل ذلك
كمثل الحامل إذا دخلت شهرها ففي أية لحظة ولدت كان تماما .
(قُلْ
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٤٩) فَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ
__________________
وَرِزْقٌ
كَرِيمٌ (٥٠) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا
مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ)
(٥١)
يقول تعالى لنبيه صلىاللهعليهوسلم حين طلب منه الكفار وقوع العذاب واستعجلوه به (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما
أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي إنما أرسلني الله إليكم نذيرا لكم ، بين يدي عذاب شديد
، وليس إلي من حسابكم من شيء ، أمركم إلى الله إن شاء عجل لكم العذاب ، وإن شاء
أخره عنكم ، وإن شاء تاب على من يتوب إليه ، وإن شاء أضل من كتب عليه الشقاوة ،
وهو الفعال لما يشاء ويريد ويختار (لا مُعَقِّبَ
لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ) [الرعد : ٤١] و (إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ
فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي آمنت قلوبهم وصدقوا إيمانهم بأعمالهم (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) أي مغفرة لما سلف من سيئاتهم ، ومجازاة حسنة على القليل من
حسناتهم. قال محمد بن كعب القرظي : إذا سمعت الله تعالى يقول : (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) فهو الجنة.
وقوله : (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا
مُعاجِزِينَ) قال مجاهد : يثبطون الناس عن متابعة النبيصلىاللهعليهوسلم ، وكذا قال عبد الله بن الزبير : مثبطين. وقال ابن عباس :
معاجزين مراغمين (أُولئِكَ أَصْحابُ
الْجَحِيمِ) وهي النار الحارة الموجعة ، الشديد عذابها ونكالها ،
أجارنا الله منها. قال الله تعالى : (الَّذِينَ كَفَرُوا
وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا
يُفْسِدُونَ) [النحل : ٨٨].
(وَما أَرْسَلْنا مِنْ
قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي
أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ
آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٢) لِيَجْعَلَ ما
يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ
قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَلِيَعْلَمَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ
فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ
مُسْتَقِيمٍ)
(٥٤)
قد ذكر كثير من
المفسرين هاهنا قصة الغرانيق ، وما كان من رجوع كثير من المهاجرة إلى أرض الحبشة ظنا
منهم أن مشركي قريش قد أسلموا ، ولكنها من طرق كلها مرسلة ، ولم أرها مسندة من وجه
صحيح ، والله أعلم. قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن حبيب ، حدثنا أبو داود ،
حدثنا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير قال : قرأ رسول الله صلىاللهعليهوسلم بمكة النجم ، فلما بلغ هذا الموضع (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى
وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) [النجم : ١٩ ـ ٢٠]
قال : فألقى الشيطان على لسانه تلك الغرانيق العلى وأن شفاعتهن ترتجى ، قالوا : ما
ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم ، فسجد وسجدوا ، فأنزل الله عزوجل هذه الآية (وَما أَرْسَلْنا مِنْ
قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى
__________________
أَلْقَى
الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ
يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).
رواه ابن جرير عن بندار عن غندر عن شعبة به بنحوه ، وهو مرسل ، وقد رواه
البزار في مسنده عن يوسف بن حماد عن أمية بن خالد عن شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن
جبير ، عن ابن عباس فيما أحسب الشك في الحديث ، أن النبي صلىاللهعليهوسلم قرأ بمكة سورة النجم حتى انتهى إلى (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى) وذكر بقيته ، ثم قال البزار : لا نعلمه يروى متصلا إلا
بهذا الإسناد ، تفرد بوصله أمية بن خالد ، وهو ثقة مشهور ، وإنما يروى هذا من طريق
الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ، ثم رواه ابن أبي حاتم عن أبي العالية وعن السدي
مرسلا ، وكذا رواه ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس مرسلا أيضا.
وقال قتادة : كان
النبي صلىاللهعليهوسلم يصلي عند المقام إذ نعس ، فألقى الشيطان على لسانه وإن
شفاعتها لترتجى ، وإنها لمع الغرانيق العلى ، فحفظها المشركون وأجرى الشيطان أن
النبيصلىاللهعليهوسلم قد قرأها : فذلت بها ألسنتهم ، فأنزل الله (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ
رَسُولٍ وَلا نَبِيٍ) الآية ، فدحر الله الشيطان.
ثم قال ابن أبي
حاتم : حدثنا موسى بن أبي موسى الكوفي ، حدثنا محمد بن إسحاق المسيبي ، حدثنا محمد
بن فليح عن موسى بن عقبة عن ابن شهاب قال : أنزلت سورة النجم وكان المشركون يقولون
: لو كان هذا الرجل يذكر آلهتنا بخير أقررناه وأصحابه ، ولكنه لا يذكر من خالف
دينه من اليهود والنصارى بمثل الذي يذكر آلهتنا من الشتم والشر ، وكان رسول اللهصلىاللهعليهوسلم اشتد عليه ما ناله وأصحابه من أذاهم وتكذيبهم وأحزنه
ضلالهم ، فكان يتمنى هداهم ، فلما أنزل الله سورة النجم قال : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى
وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى) [النجم : ١٩ ـ ٢٠]
ألقى الشيطان عندها كلمات حين ذكر الله الطواغيت ، فقال : وإنهن لهن الغرانيق
العلى ، وإن شفاعتهن لهي التي ترتجى ، وكان ذلك من سجع الشيطان وفتنته ، فوقعت
هاتان الكلمتان في قلب كل مشرك بمكة وذلت بها ألسنتهم ، وتباشروا بها ، وقالوا :
إن محمدا قد رجع إلى دينه الأول ودين قومه ، فلما بلغ رسول الله صلىاللهعليهوسلم آخر النجم سجد ، وسجد كل من حضره من مسلم أو مشرك.
غير أن الوليد بن
المغيرة كان رجلا كبيرا فرفع على كفه ترابا فسجد عليه ، فعجب الفريقان كلاهما من
جماعتهم في السجود لسجود رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فأما المسلمون فعجبوا لسجود المشركين معهم على غير إيمان
ولا يقين ، ولم يكن المسلمون سمعوا الذي ألقى الشيطان في مسامع المشركين ، فاطمأنت
أنفسهم لما ألقى الشيطان في أمنية رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وحدثهم به الشيطان أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قد قرأها في السورة ، فسجدوا لتعظيم آلهتهم ، ففشت تلك
الكلمة في
__________________
الناس ، وأظهرها
الشيطان حتى بلغت أرض الحبشة ومن بها من المسلمين عثمان بن مظعون وأصحابه ،
وتحدثوا أن أهل مكة قد أسلموا كلهم وصلوا مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وبلغهم سجود الوليد بن المغيرة على التراب على كفه ،
وحدثوا أن المسلمين قد أمنوا بمكة ، فأقبلوا سراعا ، وقد نسخ الله ما ألقى الشيطان
وأحكم الله آياته وحفظه من الفرية ، وقال الله : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ
قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي
أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ
آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً
لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ
الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) فلما بين الله قضاءه ، وبرأه من سجع الشيطان ، انقلب
المشركون بضلالتهم وعداوتهم على المسلمين ، واشتدوا عليهم ، وهذا أيضا مرسل.
وفي تفسير ابن
جرير عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام نحوه ، وقد رواه
الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه دلائل النبوة ، فلم يجز به موسى بن عقبة ساقه من
مغازيه بنحوه ، قال : وقد روينا عن ابن إسحاق هذه القصة.
(قلت) وقد ذكرها
محمد بن إسحاق في السيرة بنحو من هذا ، وكلها مرسلات ومنقطعات ، والله أعلم. وقد
ساقها البغوي في تفسيره مجموعة من كلام ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي وغيرهما بنحو
من ذلك ، ثم سأل هاهنا سؤالا : كيف وقع مثل هذا مع العصمة المضمونة من الله تعالى
لرسوله صلوات الله وسلامه عليه؟ ثم حكى أجوبة عن الناس من ألطفها أن الشيطان أوقع
في مسامع المشركين ذلك فتوهموا أنه صدر عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وليس كذلك في نفس الأمر ، بل إنما كان من صنيع الشيطان
لا من رسول الرحمن صلىاللهعليهوسلم ، والله أعلم.
وهكذا تنوعت أجوبة
المتكلمين عن هذا بتقدير صحته. وقد تعرض القاضي عياض رحمهالله في كتاب الشفاء لهذا ، وأجاب بما حاصله أنها كذلك لثبوتها.
وقوله : (إِلَّا إِذا تَمَنَّى
أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) هذا فيه تسلية من الله لرسوله صلوات الله وسلامه عليه ، أي
لا يهيدنك ذلك فقد أصاب مثل هذا من قبلك من المرسلين والأنبياء.
قال البخاري : قال ابن عباس (فِي أُمْنِيَّتِهِ) إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه ، فيبطل الله ما يلقي
الشيطان (ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ
آياتِهِ). قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي
أُمْنِيَّتِهِ) يقول : إذا حدث
ألقى الشيطان في حديثه. وقال مجاهد (إِذا تَمَنَّى) يعني إذا قال ، ويقال (أُمْنِيَّتِهِ) قراءته (إِلَّا أَمانِيَ) يقولون ولا يكتبون. قال البغوي وأكثر المفسرين قالوا :
معنى قوله : (تَمَنَّى) أي تلا وقرأ كتاب الله و (أَلْقَى الشَّيْطانُ
فِي أُمْنِيَّتِهِ) أي في تلاوته ، قال الشاعر في عثمان حين قتل : [الطويل]
تمنى كتاب الله
أول ليلة
|
|
وآخرها لاقى
حمام المقادر
|
__________________
وقال الضحاك : (إِذا تَمَنَّى) إذا تلا. قال ابن جرير هذا القول أشبه بتأويل الكلام.
وقوله (فَيَنْسَخُ اللهُ ما
يُلْقِي الشَّيْطانُ) حقيقة النسخ لغة الإزالة والرفع ، قال علي بن أبي طلحة عن
ابن عباس : أي فيبطل الله سبحانه وتعالى ما ألقى الشيطان. وقال الضحاك : نسخ جبريل
بأمر الله ما ألقى الشيطان ، وأحكم الله آياته.
وقوله : (وَاللهُ عَلِيمٌ) أي بما يكون من الأمور والحوادث لا تخفى عليه خافية (حَكِيمٌ) أي في تقديره وخلقه وأمره ، له الحكمة التامة والحجة
البالغة ، ولهذا قال : (لِيَجْعَلَ ما
يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي شك وشرك وكفر ونفاق ، كالمشركين حين فرحوا بذلك
واعتقدوا أنه صحيح من عند الله ، وإنما كان من الشيطان. قال ابن جريج : (لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) هم المنافقون ، (وَالْقاسِيَةِ
قُلُوبُهُمْ) هم المشركون.
وقال مقاتل بن
حيان : هم اليهود (وَإِنَّ
الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) أي في ضلال ومخالفة وعناد بعيد ، أي من الحق والصواب ، (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ) أي وليعلم الذين أوتوا العلم النافع الذي يفرقون به بين
الحق والباطل والمؤمنون بالله ورسوله أن ما أوحيناه إليك هو الحق من ربك الذي
أنزله بعلمه وحفظه ، وحرسه أن يختلط به وغيره بل هو كتاب حكيم (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ
يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ).
وقوله : (فَيُؤْمِنُوا بِهِ) أي يصدقوه وينقادوا له ، (فَتُخْبِتَ لَهُ
قُلُوبُهُمْ) أي تخضع وتذل له قلوبهم ، (وَإِنَّ اللهَ لَهادِ
الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي في الدنيا والآخرة ، أما في الدنيا فيرشدهم إلى الحق
واتباعه ويوفقهم لمخالفة الباطل واجتنابه ، وفي الآخرة يهديهم الصراط المستقيم
الموصل إلى درجات الجنات ، ويزحزحهم عن العذاب الأليم والدركات.
(وَلا يَزالُ
الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً
أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (٥٥)
الْمُلْكُ
يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ(٥٦) وَالَّذِينَ
كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ)
(٥٧)
يقول تعالى مخبرا
عن الكفار أنهم لا يزالون في مرية ، أي في شك من هذا القرآن ، قاله ابن جريج
واختاره ابن جرير . وقال سعيد بن جبير وابن زيد منه ، أي مما ألقى الشيطان (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ
بَغْتَةً) قال مجاهد : فجأة ، وقال قتادة (بَغْتَةً) بغت القوم أمر الله وما أخذ الله قوما قط إلا عند سكرتهم
وغرتهم ونعمتهم ، فلا تغتروا بالله إنه لا يغتر بالله إلا القوم الفاسقون.
__________________
وقوله : (أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ
عَقِيمٍ) قال مجاهد : قال أبي بن كعب : هو يوم بدر ، وكذا قال مجاهد
وعكرمة وسعيد بن جبير وقتادة وغير واحد ، واختاره ابن جرير. قال عكرمة ومجاهد في
رواية عنهما : هو يوم القيامة ، لا ليل له ، وكذا قال الضحاك والحسن البصري ، وهذا
القول هو الصحيح ، وإن كان يوم بدر من جملة ما أوعدوا به لكن هذا هو المراد ،
ولهذا قال : (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ
لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) كقوله : (مالِكِ يَوْمِ
الدِّينِ) [الفاتحة : ٤].
وقوله : (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ
لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً) [الفرقان : ٢٦] (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ) أي آمنت قلوبهم وصدقوا بالله ورسوله وعملوا بمقتضى ما
علموا ، وتوافق قلوبهم وأقوالهم وأعمالهم (فِي جَنَّاتِ
النَّعِيمِ) أي لهم النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول ولا يبيد (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا
بِآياتِنا) أي كفرت قلوبهم بالحق وجحدوا به ، وكذبوا به وخالفوا الرسل
واستكبروا عن اتباعهم (فَأُولئِكَ لَهُمْ
عَذابٌ مُهِينٌ) أي مقابلة استكبارهم وإعراضهم عن الحق ، كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ
عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) [غافر : ٦] أي
صاغرين.
(وَالَّذِينَ هاجَرُوا
فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً
حَسَناً وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٥٨) لَيُدْخِلَنَّهُمْ
مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (٥٩) ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ
بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ إِنَّ
اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ)
(٦٠)
يخبر تعالى عمن
خرج مهاجرا في سبيل الله ابتغاء مرضاته وطلبا لما عنده ، وترك الأوطان والأهلين
والخلان ، وفارق بلاده في الله ورسوله ، ونصرة لدين الله ثم قتلوا ، أي في الجهاد
، أو ماتوا أي حتف أنفهم أي من غير قتال على فرشهم ، فقد حصلوا على الأجر الجزيل
والثناء الجميل ، كما قال تعالى : (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ
بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ
وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ) [النساء : ١٠٠].
وقوله : (لَيَرْزُقَنَّهُمُ
اللهُ رِزْقاً حَسَناً) أي ليجرين عليهم من فضله ورزقه من الجنة ما تقر به أعينهم (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ
الرَّازِقِينَ لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ) أي الجنة كما قال تعالى : (فَأَمَّا إِنْ كانَ
مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ) [الواقعة : ٨٨ ـ ٨٩] فأخبر أنه يحصل له الراحة والرزق وجنة
النعيم ، كما قال هاهنا : (لَيَرْزُقَنَّهُمُ
اللهُ رِزْقاً حَسَناً) ثم قال (لَيُدْخِلَنَّهُمْ
مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ) أي بمن يهاجر ويجاهد في سبيله وبمن يستحق ذلك (حَلِيمٌ) أي يحلم ويصفح ويغفر لهم الذنوب ، ويكفرها عنهم بهجرتهم
إليه وتوكلهم عليه.
فأما من قتل في
سبيل الله من مهاجر أو غير مهاجر ، فإنه حي عند ربه يرزق كما قال تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي
سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) [آل عمران : ١٦٩]
والأحاديث في هذا
كثيرة كما تقدم ، وأما من توفي في سبيل الله من مهاجر أو غير مهاجر ، فقد تضمنت
هذه الآية الكريمة مع الأحاديث الصحيحة إجراء الرزق عليه وعظيم إحسان الله إليه. قال
ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا المسيب بن واضح ، حدثنا ابن المبارك عن عبد
الرحمن بن شريح عن ابن الحارث ـ يعني عبد الكريم ـ عن ابن عقبة يعني أبا عبيدة بن
عقبة قال : قال حدثنا شرحبيل بن السمط : طال رباطنا وإقامتنا على حصن بأرض الروم ،
فمر بي سلمان يعني الفارسي رضي الله عنه ، فقال : إني سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «من مات مرابطا أجرى الله عليه مثل ذلك الأجر ،
وأجرى عليه الرزق ، وأمن من الفتانين ، واقرءوا إن شئتم (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ
ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ
اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ
وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ).
وقال أيضا : حدثنا
أبو زرعة ، حدثنا زيد بن بشر ، أخبرني همام أنه سمع أبا قبيل وربيعة بن سيف
المعافري يقولان : كنا برودس ومعنا فضالة بن عبيد الأنصاري صاحب رسول اللهصلىاللهعليهوسلم ، فمر بجنازتين إحداهما قتيل ، والأخرى متوفى ، فمال الناس
على القتيل ، فقال فضالة : ما لي أرى الناس مالوا مع هذا وتركوا هذا؟ فقالوا : هذا
القتيل في سبيل الله ، فقال : والله ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت؟ اسمعوا كتاب
الله (وَالَّذِينَ هاجَرُوا
فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا) حتى بلغ آخر الآية.
وقال أيضا : حدثنا
أبي ، حدثنا عبدة بن سليمان ، أنبأنا ابن المبارك ، أنبأنا ابن لهيعة ، حدثنا
سلامان بن عامر الشعباني أن عبد الرحمن بن جحدم الخولاني حدثه أنه حضر فضالة بن
عبيد في البحر مع جنازتين أحدهما أصيب بمنجنيق ، والآخر توفي ، فجلس فضالة بن عبيد
عند قبر المتوفى فقيل له : تركت الشهيد فلم تجلس عنده؟ فقال : ما أبالي من أي
حفرتيهما بعثت إن الله يقول : (وَالَّذِينَ هاجَرُوا
فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً
حَسَناً) الآيتين. فما تبتغي أيها العبد إذا أدخلت مدخلا ترضاه ،
ورزقت رزقا حسنا ، والله ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت.
ورواه ابن جرير عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب ، أخبرني عبد الرحمن بن
شريح عن سلامان بن عامر قال : كان فضالة برودس أميرا على الأرباع ، فخرج بجنازتي
رجلين ، أحدهما قتيل والآخر متوفى ، فذكر نحو ما تقدم. وقوله : (ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما
عُوقِبَ بِهِ) الآية ، ذكر مقاتل بن حيان وابن جرير أنها نزلت في سرية من
الصحابة لقوا جمعا من المشركين في شهر محرم ، فناشدهم المسلمون لئلا يقاتلوهم في
الشهر الحرام ، فأبى المشركون إلا قتالهم ، وبغوا عليهم ، فقاتلهم المسلمون فنصرهم
الله عليهم (إِنَّ اللهَ
لَعَفُوٌّ غَفُورٌ).
__________________
(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللهَ
سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٦١) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ
هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ
هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ)
(٦٢)
يقول تعالى منبها
على أنه الخالق المتصرف في خلقه بما يشاء ، كما قال : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي
الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ
وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ
الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ
تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) [آل عمران : ٢٧]
ومعنى إيلاجه الليل في النهار والنهار في الليل إدخاله من هذا في هذا ومن هذا في هذا
، فتارة يطول الليل ويقصر النهار كما في الشتاء ، وتارة يطول النهار ويقصر الليل
كما في الصيف.
وقوله : (وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) أي سميع بأقوال عباده. بصير بهم ، لا يخفى عليه منهم خافية
في أحوالهم وحركاتهم وسكناتهم ، ولما بين أنه المتصرف في الوجود ، الحاكم الذي لا
معقب لحكمه قال : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ
هُوَ الْحَقُ) أي الإله الحق الذي لا تنبغي العبادة إلا له ، لأنه ذو
السلطان العظيم الذي ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن ، وكل شيء فقير إليه ، ذليل
لديه (وَأَنَّ ما يَدْعُونَ
مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ) أي من الأصنام والأنداد والأوثان ، وكل ما عبد من دونه
تعالى فهو باطل ، لأنه لا يملك ضرا ولا نفعا. وقوله : (وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ
الْكَبِيرُ) كما قال (وَهُوَ الْعَلِيُّ
الْعَظِيمُ) [البقرة : ٢٥٥]
وقال : (الْكَبِيرُ
الْمُتَعالِ) فكل شيء تحت قهره وسلطانه وعظمته ، لا إله إلا هو ، ولا رب
سواه ، لأنه العظيم الذي لا أعظم منه ، العلي الذي لا أعلى منه ، الكبير الذي لا
أكبر منه ، تعالى وتقدس وتنزه عزوجل عما يقول الظالمون المعتدون علوا كبيرا.
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ
لَطِيفٌ خَبِيرٌ (٦٣) لَهُ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ
بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ
إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٦٥) وَهُوَ الَّذِي
أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ)
(٦٦)
وهذا أيضا من
الدلالة على قدرته وعظيم سلطانه ، فإنه يرسل الرياح فتثير سحابا فيمطر على الأرض
الجرز التي لا نبات فيها ، وهي هامدة يابسة سوداء ممحلة ، (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ
اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) [الحج : ٥]. وقوله
: (فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ
مُخْضَرَّةً) الفاء هاهنا للتعقيب ، وتعقيب كل شيء بحسبه ، كما قال
تعالى : (ثُمَّ خَلَقْنَا
النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً) [المؤمنون : ١٤]
الآية ، وقد ثبت في الصحيحين أن بين كل شيئين أربعين يوما ، ومع هذا هو معقب
__________________
بالفاء ، وهكذا
هاهنا قال (فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ
مُخْضَرَّةً) أي خضراء بعد يباسها ومحولها. وقد ذكر عن بعض أهل الحجاز
أنها تصبح عقب المطر خضراء ، فالله أعلم.
وقوله : (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) أي عليم بما في أرجاء الأرض وأقطارها وأجزائها من الحب وإن
صغر ، ولا يخفى عليه خافية ، فيوصل إلى كل منه قسطه من الماء فينبته به ، كما قال
لقمان : (يا بُنَيَّ إِنَّها
إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي
السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) [لقمان : ١٦] وقال
: (أَلَّا يَسْجُدُوا
لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [النمل : ٢٥] وقال
تعالى : (وَما تَسْقُطُ مِنْ
وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا
يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [الأنعام : ٥٩]
وقال : (وَما يَعْزُبُ عَنْ
رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ
مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [يونس : ٦١] ولهذا
قال أمية بن أبي الصلت أو زيد بن عمرو بن نفيل في قصيدته : [الطويل]
وقولا له من
ينبت الحب في الثرى؟
|
|
فيصبح منه البقل
يهتز رابيا
|
ويخرج منه حبه
في رؤوسه
|
|
ففي ذاك آيات
لمن كان واعيا
|
وقوله : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي
الْأَرْضِ) أي ملكه جميع الأشياء ، وهو غني عما سواه وكل شيء فقير
إليه عبد لديه ، وقوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ) أي من حيوان وجماد وزروع وثمار ، كما قال : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ
وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) [الجاثية : ١٣] أي
من إحسانه وفضله وامتنانه (وَالْفُلْكَ تَجْرِي
فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) أي بتسخيره وتسييره ، أي في البحر العجاج وتلاطم الأمواج
تجري الفلك بأهلها بريح طيبة ورفق وتؤدة فيحملون فيها ما شاءوا من تجائر وبضائع
ومنافع من بلد إلى بلد وقطر إلى قطر ، ويأتون بما عند أولئك إلى هؤلاء ، كما ذهبوا
بما عند هؤلاء إلى أولئك مما يحتاجون إليه ويطلبونه ويريدونه (وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى
الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ) أي لو شاء لأذن للسماء فسقطت على الأرض فهلك من فيها ،
ولكن من لطفه ورحمته وقدرته يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه ، ولهذا قال :
(إِنَّ اللهَ
بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي مع ظلمهم ، كما قال في الآية الأخرى: (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ
لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ) [الرعد : ٦].
وقوله : (وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ
يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ) كقوله : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ
بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ
ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [البقرة : ٢٨]. وقوله
: (قُلِ اللهُ
يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا
رَيْبَ فِيهِ) [الجاثية: ٢٦]. وقوله : (قالُوا رَبَّنا
أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) [غافر : ١١] ومعنى
الكلام : كيف تجعلون لله أندادا وتعبدون معه غيره وهو المستقل بالخلق والرزق
والتصرف (وَهُوَ الَّذِي
أَحْياكُمْ) أي خلقكم بعد أن لم تكونوا شيئا يذكر ، فأوجدكم (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) أي يوم القيامة (إِنَّ الْإِنْسانَ
لَكَفُورٌ) أي جحود.
(لِكُلِّ أُمَّةٍ
جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى
رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (٦٧) وَإِنْ جادَلُوكَ
فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (٦٨) اللهُ يَحْكُمُ
بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)
(٦٩)
يخبر تعالى أنه
جعل لكل قوم منسكا ، قال ابن جرير : يعني لكل أمة نبي منسكا ، قال: وأصل المنسك في كلام
العرب هو الموضع الذي يعتاده الإنسان ويتردد إليه إما لخير أو شر ، قال : ولهذا
سميت مناسك الحج بذلك لترداد الناس إليها وعكوفهم عليها ، فإن كان كما قال من أن
المراد لكل أمة نبي جعلنا منسكا ، فيكون المراد بقوله فلا ينازعنك في الأمر أي
هؤلاء المشركين ، وإن كان المراد لكل أمة جعلنا منسكا جعلا قدريا كما قال : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها) [البقرة : ١٤٨] ولهذا قال هاهنا : (هُمْ ناسِكُوهُ) أي فاعلوه ، فالضمير هاهنا عائد على هؤلاء الذين لهم مناسك
وطرائق ، أي هؤلاء إنما يفعلون هذا عن قدر الله وإرادته ، فلا تتأثر بمنازعتهم لك
ولا يصرفك ذلك عما أنت عليه من الحق ، ولهذا قال : (وَادْعُ إِلى رَبِّكَ
إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ) أي طريق واضح مستقيم موصل إلى المقصود ، وهذا كقوله : (وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ
بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ) [القصص : ٨٧].
وقوله : (وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ
بِما تَعْمَلُونَ). كقوله : (وَإِنْ كَذَّبُوكَ
فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ
وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) [يونس : ٤١].
وقوله : (اللهُ أَعْلَمُ بِما
تَعْمَلُونَ) تهديد شديد ووعيد أكيد ، كقوله : (هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ
كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) [الأحقاف : ٨]
ولهذا قال : (اللهُ يَحْكُمُ
بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) وهذه كقوله تعالى : (فَلِذلِكَ فَادْعُ
وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما
أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ) [الشورى : ١٥].
الآية.
(أَلَمْ تَعْلَمْ
أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ
ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ)
(٧٠)
يخبر تعالى عن
كمال علمه بخلقه ، وأنه محيط بما في السموات وما في الأرض ، فلا يعزب عنه مثقال
ذرة في الأرض ولا في السماء ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ، وأنه تعالى علم الكائنات
كلها قبل وجودها ، وكتب ذلك في كتابه اللوح المحفوظ ، كما ثبت في صحيح مسلم عن عبد
الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن الله قدر مقادير الخلائق قبل خلق السموات والأرض
بخمسين ألف سنة ، وكان عرشه على الماء» .
__________________
وفي السنن من حديث
جماعة من الصحابة أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «أول ما خلق الله القلم ، قال له : اكتب ، قال وما
أكتب؟ قال : اكتب ما هو كائن ، فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة» .
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبو زرعة ، حدثنا ابن بكير ، حدثني عطاء بن دينار ، حدثني سعيد بن جبير
قال : قال ابن عباس : خلق الله اللوح المحفوظ كمسيرة مائة عام ، وقال للقلم قبل أن
يخلق الخلق وهو على العرش تبارك وتعالى : اكتب ، فقال القلم : وما أكتب؟ قال : علمي
في خلقي إلى يوم الساعة ، فجرى القلم بما هو كائن في علم الله إلى يوم القيامة ،
فذلك قوله للنبيصلىاللهعليهوسلم : (أَلَمْ تَعْلَمْ
أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) وهذا من تمام علمه تعالى أنه علم الأشياء قبل كونها ،
وقدرها وكتبها أيضا ، فما العباد عاملون قد علمه تعالى قبل ذلك على الوجه الذي
يفعلونه ، فيعلم قبل الخلق أن هذا يطيع باختياره ، وهذا يعصي باختياره ، وكتب ذلك
عنده وأحاط بكل شيء علما ، وهو سهل عليه يسير لديه ، ولهذا قال تعالى : (إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ
عَلَى اللهِ يَسِيرٌ).
(وَيَعْبُدُونَ مِنْ
دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ
وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٧١) وَإِذا تُتْلى
عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا
الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ
بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ
الْمَصِيرُ)
(٧٢)
يقول تعالى مخبرا
عن المشركين فيما جهلوا وكفروا وعبدوا من دون الله ما لم ينزل به سلطانا ، يعني
حجة وبرهانا ، كقوله : (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ
اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ
إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) [المؤمنون : ١١٧]
ولهذا قال هاهنا : (ما لَمْ يُنَزِّلْ
بِهِ سُلْطاناً) و (ما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ) أي ولا علم لهم فيما اختلقوه وائتفكوه ، وإنما هو أمر
تلقوه عن آبائهم وأسلافهم بلا دليل ولا حجة ، وأصله مما سول لهم الشيطان وزينه
لهم.
ولهذا توعدهم
تعالى بقوله : (وَما لِلظَّالِمِينَ
مِنْ نَصِيرٍ) أي من ناصر ينصرهم من الله فيما يحل بهم من العذاب والنكال
، ثم قال : (وَإِذا تُتْلى
عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ) أي وإذا ذكرت لهم آيات القرآن والحجج والدلائل الواضحات
على توحيد الله ، وأنه لا إله إلا هو ، وأن رسله الكرام حق وصدق (يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ
يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا) أي يكادون يبادرون الذين يحتجون عليهم بالدلائل الصحيحة من
القرآن ، ويبسطون إليهم أيديهم وألسنتهم بالسوء (قُلْ) أي يا محمد لهؤلاء (أَفَأُنَبِّئُكُمْ
بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي النار وعذابها
__________________
ونكالها أشد وأشق
وأطم وأعظم مما تخوفون به أولياء الله المؤمنين في الدنيا ، وعذاب الآخرة على
صنيعكم هذا أعظم مما تنالون منهم إن نلتم بزعمكم وإرادتكم وقوله : (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي وبئس النار مقيلا ومنزلا ومرجعا وموئلا ومقاما (إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) [الفرقان : ٦٦].
(يا أَيُّهَا النَّاسُ
ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ
لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ
شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣)
ما
قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)
(٧٤)
يقول تعالى منبها
على حقارة الأصنام وسخافة عقول عابديها (يا أَيُّهَا النَّاسُ
ضُرِبَ مَثَلٌ) أي لما يعبده الجاهلون بالله المشركون به (فَاسْتَمِعُوا لَهُ) أي أنصتوا وتفهموا (إِنَّ الَّذِينَ
تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) أي لو اجتمع جميع ما تعبدون من الأصنام والأنداد على أن
يقدروا على خلق ذباب واحد ما قدروا على ذلك.
كما قال الإمام
أحمد : حدثنا أسود بن عامر ، حدثنا شريك عن عمارة بن القعقاع ، عن أبي زرعة ، عن
أبي هريرة مرفوعا قال : «ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي ، فليخلقوا مثل خلقي ذرة أو
ذبابة أو حبة». وأخرجه صاحبا الصحيح من طريق عمارة عن أبي زرعة عن أبي هريرة ، عن
النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «قال الله عزوجل ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي ، فليخلقوا ذرة ، فليخلقوا
شعيرة» .
ثم قال تعالى أيضا
: (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ
الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ) أي هم عاجزون عن خلق ذباب واحد ، بل أبلغ من ذلك عاجزون عن
مقاومته والإنتصار منه لو سلبها شيئا من الذي عليها من الطيب ، ثم أرادت أن
تستنقذه منه لما قدرت على ذلك ، هذا والذباب من أضعف مخلوقات الله وأحقرها ، ولهذا
قال : (ضَعُفَ الطَّالِبُ
وَالْمَطْلُوبُ) قال ابن عباس : الطالب الصنم ، والمطلوب الذباب ، واختاره
ابن جرير ، وهو ظاهر السياق.
وقال السدي وغيره
: الطالب العابد ، والمطلوب الصنم ، ثم قال : (ما قَدَرُوا اللهَ
حَقَّ قَدْرِهِ) أي ما عرفوا قدر الله وعظمته حين عبدوا معه غيره من هذه
التي لا تقاوم الذباب لضعفها وعجزها (إِنَّ اللهَ
لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) أي هو القوي الذي بقدرته وقوته خلق كل شيء (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ
ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم : ٢٧] (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ إِنَّهُ
هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) [البروج : ١٢ ـ ١٣]
(إِنَّ اللهَ هُوَ
الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) [الذاريات : ٥٨].
وقوله : (عَزِيزٌ) أي قد عز كل شيء فقهره وغلبه ، فلا يمانع ولا يغالب لعظمته
وسلطانه ، وهو الواحد القهار.
__________________
(اللهُ يَصْطَفِي مِنَ
الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٧٥)
يَعْلَمُ
ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ)
(٧٦)
يخبر تعالى أنه
يختار من الملائكة رسلا فيما يشاء من شرعه وقدره ومن الناس لإبلاغ رسالته (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) أي سميع لأقوال عباده ، بصير بهم ، عليم بمن يستحق ذلك
منهم ، كما قال : (اللهُ أَعْلَمُ
حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [الأنعام : ١٢٤] ،
وقوله : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) أي يعلم ما يفعل برسله فيما أرسلهم به ، فلا يخفى عليه شيء
من أمورهم ، كما قال : (عالِمُ الْغَيْبِ
فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً ـ إلى قوله ـ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) [الجن : ٢٨] فهو
سبحانه رقيب عليهم ، شهيد على ما يقال لهم ، حافظ لهم ، ناصر لجنابهم (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما
أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ
وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة : ٦٧]
الآية.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا
الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(٧٧) وَجاهِدُوا فِي
اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ
حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ
وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى
النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ
مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ)
(٧٨)
اختلف الأئمة رحمهمالله في هذه السجدة الثانية من سورة الحج : هل هي مشروع السجود
فيها ، أم لا؟ على قولين ، وقد قدمنا عند الأولى حديث عقبة بن عامر عن النبي صلىاللهعليهوسلم «فضلت سورة الحج
بسجدتين ، فمن لم يسجدهما فلا يقرأهما» . وقوله : (وَجاهِدُوا فِي اللهِ
حَقَّ جِهادِهِ) أي بأموالكم وألسنتكم وأنفسكم ، كما قال تعالى : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) [آل عمران : ١٠٢].
وقوله : (هُوَ اجْتَباكُمْ) أي يا هذه الأمة الله اصطفاكم واختاركم على سائر الأمم ،
وفضلكم وشرفكم وخصكم بأكرم رسول وأكمل شرع (وَما جَعَلَ
عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) أي ما كلفكم ما لا تطيقون وما ألزمكم بشيء يشق عليكم إلا
جعل الله لكم فرجا ومخرجا ، فالصلاة التي هي أكبر أركان الإسلام بعد الشهادتين تجب
في الحضر أربعا ، وفي السفر تقصر إلى اثنتين ، وفي الخوف يصليها بعض الأئمة ركعة ،
كما ورد به الحديث ، وتصلى رجالا وركبانا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها ، وكذا في
النافلة في السفر إلى القبلة وغيرها ، والقيام فيها يسقط لعذر المرض ، فيصليها
المريض جالسا ، فإن لم يستطع فعلى جنبه ، إلى غير ذلك من الرخص والتخفيفات في سائر
الفرائض والواجبات ، ولهذا قال عليهالسلام : «بعثت
__________________
بالحنيفية السمحة»
وقال لمعاذ وأبي موسى حين بعثهما أميرين إلى اليمن «بشّرا ولا تنفّرا ويسّرا
ولا تعسرا» ، والأحاديث في هذا كثيرة ، ولهذا قال ابن عباس في قوله : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ
مِنْ حَرَجٍ) يعني من ضيق.
وقوله : (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) قال ابن جرير : نصب على تقدير (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ
فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) أي من ضيق بل وسعه عليكم كملة أبيكم إبراهيم ، قال :
ويحتمل أنه منصوب على تقدير الزموا ملة أبيكم إبراهيم. (قلت) وهذا المعنى في هذه
الآية كقوله : (قُلْ إِنَّنِي هَدانِي
رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) [الأنعام : ١٦١]
الآية ، وقوله : (هُوَ سَمَّاكُمُ
الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) وفي هذا قال الإمام عبد الله بن المبارك عن ابن جريج عن
عطاء عن ابن عباس في قوله : (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ
مِنْ قَبْلُ) قال : الله عزوجل ، وكذا قال مجاهد وعطاء والضحاك والسدي ومقاتل بن حيان
وقتادة.
وقال عبد الرحمن
بن زيد بن أسلم (هُوَ سَمَّاكُمُ
الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) يعني إبراهيم ، وذلك قوله : (رَبَّنا وَاجْعَلْنا
مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) [البقرة : ١٢٨]
قال ابن جرير : وهذا لا وجه له ، لأنه من المعلوم أن إبراهيم لم يسم هذه الأمة في
القرآن مسلمين ، وقد قال الله تعالى : (هُوَ سَمَّاكُمُ
الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا) قال مجاهد : الله سماكم المسلمين من قبل في الكتب المتقدمة
وفي الذكر ، (وَفِي هذا) يعني القرآن ، وكذا قال غيره.
(قلت) وهذا هو
الصواب ، لأنه تعالى قال : (هُوَ اجْتَباكُمْ
وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) ثم حثهم وأغراهم على ما جاء به الرسول صلوات الله وسلامه
عليه ، بأنه ملة أبيهم إبراهيم الخليل ، ثم ذكر منته تعالى على هذه الأمة بما نوه
به من ذكرها والثناء عليها في سالف الدهر وقديم الزمان في كتب الأنبياء يتلى على
الأحبار والرهبان ، فقال : (هُوَ سَمَّاكُمُ
الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) أي من قبل هذا القرآن (وَفِي هذا) روى النسائي عند تفسير هذه الآية : أنبأنا هشام بن عمار ،
حدثنا محمد بن شعيب ، أنبأنا معاوية بن سلام أن أخاه زيد بن سلام أخبره عن أبي
سلام أنه أخبره ، قال : أخبرني الحارث الأشعري عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال «من دعا بدعوى الجاهلية فإنه من جثى جهنم» قال رجل :
يا رسول الله صلىاللهعليهوسلم وإن صام وصلى؟ قال «نعم وإن صام وصلى» فادعوا بدعوة الله
التي سماكم بها المسلمين المؤمنين عباد الله ، وقد قدمنا هذا الحديث بطوله عند
تفسير قوله (يا أَيُّهَا النَّاسُ
اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ
__________________
لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ) [البقرة : ٢١] من
سورة البقرة ، ولهذا قال (لِيَكُونَ الرَّسُولُ
شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) أي إنما جعلناكم هكذا أمة وسطا عدولا خيارا مشهودا
بعدالتكم عند جميع الأمم ، لتكونوا يوم القيامة (شُهَداءَ عَلَى
النَّاسِ) لأن جميع الأمم معترفة يومئذ بسيادتها وفضلها على كل أمة
سواها ، فلهذا تقبل شهادتهم عليهم يوم القيامة في أن الرسل بلغتهم رسالة ربهم ،
والرسول يشهد على هذه الأمة أنه بلغها ذلك ، وقد تقدم الكلام على هذا عند قوله (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً
لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) [البقرة : ١٤٣] وذكرنا حديث نوح وأمته بما أغنى عن إعادته.
وقوله (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا
الزَّكاةَ) أي قابلوا هذه النعمة العظيمة بالقيام بشكرها فأدوا حق
الله عليكم في أداء ما افترض وطاعة ما أوجب وترك ما حرم ، ومن أهم ذلك إقام الصلاة
وإيتاء الزكاة وهو الإحسان إلى خلق الله بما أوجب للفقير على الغني من إخراج جزء
نزر من ماله في السنة للضعفاء والمحاويج ، كما تقدم بيانه وتفصيله في آية الزكاة
من سورة التوبة. وقوله (وَاعْتَصِمُوا
بِاللهِ) [الحج : ٧٨] أي
اعتضدوا بالله واستعينوا به وتوكلوا عليه وتأيدوا به (هُوَ مَوْلاكُمْ) أي حافظكم وناصركم ومظفركم على أعدائكم (فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) يعني نعم الولي ونعم الناصر من الأعداء. قال وهيب بن الورد
يقول الله تعالى : ابن آدم اذكرني إذا غضبت ، أذكرك إذا غضبت فلا أمحقك فيمن أمحق
، وإذا ظلمت فاصبر وارض بنصرتي ، فإن نصرتي لك خير من نصرتك لنفسك. رواه ابن أبي
حاتم ، والله اعلم.
آخر تفسير سورة
الحج ولله الحمد والمنة.
سورة المؤمنون
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(قَدْ أَفْلَحَ
الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي
صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (٢) وَالَّذِينَ هُمْ
عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣)
وَالَّذِينَ
هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (٤) وَالَّذِينَ هُمْ
لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٥) إِلاَّ عَلى
أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦) فَمَنِ ابْتَغى
وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٧)
وَالَّذِينَ
هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٨) وَالَّذِينَ هُمْ
عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩)
أُولئِكَ
هُمُ الْوارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ
الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ)
(١١)
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرني يونس بن سليم قال : أملى علي
يونس بن يزيد الأيلي عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد القاري؟
قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول : كان إذا نزل على رسول الله صلىاللهعليهوسلم الوحي يسمع عند وجهه كدوي النحل ، فلبثنا ساعة فاستقبل
القبلة ورفع يديه وقال «اللهم زدنا ولا تنقصنا ، وأكرمنا ولا تهنا ، وأعطنا ولا
تحرمنا ، وآثرنا ولا تؤثر علينا ، وارض عنا وأرضنا ـ ثم قال ـ لقد أنزل علي عشر
آيات من أقامهن دخل الجنة» ثم قرأ : (قَدْ أَفْلَحَ
الْمُؤْمِنُونَ) حتى ختم العشر ، ورواه الترمذي في تفسيره ، والنسائي في
الصلاة من حديث عبد الرزاق به ، وقال الترمذي : منكر لا تعرف أحدا رواه غير يونس
بن سليم ، ويونس لا نعرفه.
وقال النسائي في
تفسيره : أنبأنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا جعفر عن أبي عمران عن يزيد بن بابنوس قال :
قلنا لعائشة أم المؤمنين : كيف كان خلق رسول الله صلىاللهعليهوسلم؟ قالت : كان خلق رسول الله صلىاللهعليهوسلم القرآن ، فقرأت (قَدْ أَفْلَحَ
الْمُؤْمِنُونَ ـ حتى انتهت إلى ـ وَالَّذِينَ
هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ) قالت : هكذا كان خلق رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
وقد روي عن كعب
الأحبار ومجاهد وأبي العالية وغيرهم : لما خلق الله جنة عدن وغرسها بيده نظر إليها
وقال لها : تكلمي ، فقالت : (قَدْ أَفْلَحَ
الْمُؤْمِنُونَ) قال كعب الأحبار : لما أعد لهم من الكرامة فيها. وقال أبو
العالية : فأنزل الله ذلك في كتابه .
وقد روي ذلك عن
أبي سعيد الخدري مرفوعا ، فقال أبو بكر البزار : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا
المغيرة بن سلمة ، حدثنا وهيب عن الجريري عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد
__________________
قال : خلق الله
الجنة لبنة من ذهب ولبنة من فضة ، وغرسها وقال لها : تكلمي ، فقالت : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) فدخلتها الملائكة ، فقالت : طوبى لك منزل الملوك ، ثم قال
: وحدثنا بشر بن آدم ، وحدثنا يونس بن عبيد الله العمري ، حدثنا عدي بن الفضل ،
حدثنا الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «خلق الله الجنة لبنة من ذهب ولبنة من فضة ، وملاطها
المسك ـ قال البزار : ورأيت في موضع آخر في هذا الحديث ـ حائط الجنة لبنة ذهب
ولبنة فضة ، وملاطها المسك. فقال لها : تكلمي ، فقالت : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) فقالت الملائكة : طوبى لك منزل الملوك» ثم قال البزار : لا
نعلم أحدا رفعه إلا عدي بن الفضل وليس هو بالحافظ. وهو شيخ متقدم الموت.
وقال الحافظ أبو
القاسم الطبراني : حدثنا أحمد بن علي ، حدثنا هشام بن خالد ، حدثنا بقية عن ابن
جريج عن عطاء عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لما خلق الله جنة عدن خلق فيها ما لا عين رأت ، ولا أذن
سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، ثم قال لها : تكلمي ، فقالت (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ») بقية عن الحجازيين ضعيف. وقال الطبراني : حدثنا محمد بن
عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا منجاب بن الحارث ، حدثنا حماد بن عيسى العبسي ، عن
إسماعيل السدي عن أبي صالح عن ابن عباس يرفعه «لما خلق الله جنة عدن بيده ، ودلى
فيها ثمارها ، وشق فيها أنهارها ، ثم نظر إليها فقال : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) قال : وعزتي وجلالي لا يجاورني فيك بخيل».
وقال أبو بكر بن
أبي الدنيا : حدثنا محمد بن المثنى البزار ، حدثنا محمد بن زياد الكلبي ، حدثنا
يعيش بن حسين عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول
الله صلىاللهعليهوسلم : «خلق الله جنة عدن بيده : لبنة من درة بيضاء ولبنة من
ياقوتة حمراء ولبنة من زبرجدة خضراء ، ملاطها المسك ، وحصباؤها اللؤلؤ ، وحشيشها
الزعفران ، ثم قال لها انطقي ، قالت : (قَدْ أَفْلَحَ
الْمُؤْمِنُونَ) فقال الله : وعزتي وجلالي لا يجاورني فيك بخيل» ثم تلا
رسول الله صلىاللهعليهوسلم : (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ
نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر : ٩].
وقوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) أي قد فازوا وسعدوا وحصلوا على الفلاح ، وهم المؤمنون
المتصفون بهذه الأوصاف (الَّذِينَ هُمْ فِي
صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (خاشِعُونَ) خائفون ساكنون ، وكذا روي عن مجاهد والحسن وقتادة والزهري.
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : الخشوع خشوع القلب ، وكذا قال إبراهيم النخعي.
وقال الحسن البصري : كان خشوعهم في قلوبهم ، فغضوا بذلك أبصارهم وخفضوا الجناح ،
وقال محمد بن سيرين : كان أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم يرفعون أبصارهم ، إلى السماء في الصلاة ، فلما نزلت هذه
الآية : (قَدْ أَفْلَحَ
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) خفضوا أبصارهم إلى موضع سجودهم.
قال محمد بن سيرين
: وكانوا يقولون : لا يجاوز بصره مصلاه ، فإن كان قد اعتاد النظر فليغمض ، رواه
ابن جرير وابن أبي حاتم. ثم روى ابن جرير عنه وعن عطاء بن أبي رباح أيضا مرسلا أن
رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان يفعل ذلك حتى نزلت هذه الآية ، والخشوع في الصلاة إنما
يحصل لمن فرغ قلبه لما واشتغل بها عما عداها وآثرها على غيرها ، وحينئذ تكون راحة
له وقرة عين ، كما قال النبي صلىاللهعليهوسلم في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والنسائي عن أنس عن رسول
الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «حبب إليّ الطيب والنساء ، وجعلت قرة عيني في
الصلاة» .
وقال الإمام أحمد : حدثنا وكيع ، حدثنا مسعر عن عمرو بن مرة عن سالم بن أبي
الجعد عن رجل من أسلم أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : يا بلال «أرحنا بالصلاة» وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا إسرائيل عن عثمان
بن المغيرة عن سالم بن أبي الجعد أن محمد بن الحنفية قال : دخلت مع أبي على صهر
لنا من الأنصار ، فحضرت الصلاة ، فقال : يا جارية ائتيني بوضوء لعلي أصلي فأستريح
، فرآنا أنكرنا عليه ذلك ، فقال : سمعت رسول اللهصلىاللهعليهوسلم يقول : «قم يا بلال فأرحنا بالصلاة».
وقوله : (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ
مُعْرِضُونَ) أي عن الباطل ، وهو يشمل الشرك كما قاله بعضهم ، والمعاصي
كما قاله آخرون ، وما لا فائدة فيه من الأقوال والأفعال ، كما قال تعالى: (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا
كِراماً) [الفرقان : ٧٢]
قال قتادة : أتاهم والله من أمر الله ما وقفهم عن ذلك. وقوله : (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ) الأكثرون على أن المراد بالزكاة هاهنا زكاة الأموال ، مع
أن هذه الآية مكية ، وإنما فرضت الزكاة بالمدينة في سنة اثنتين من الهجرة ،
والظاهر أن التي فرضت بالمدينة إنما هي ذات النصب والمقادير الخاصة ، وإلا فالظاهر
أن أصل الزكاة كان واجبا بمكة ، كما قال تعالى في سورة الأنعام وهي مكية : (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) [الأنعام : ١٤١]
وقد يحتمل أن يكون المراد بالزكاة هاهنا زكاة النفس من الشرك والدنس ، كقوله : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ
خابَ مَنْ دَسَّاها) [الشمس : ٩ ـ ١٠]
وكقوله (وَوَيْلٌ
لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) [فصلت : ٦ ـ ٧]
على أحد القولين في تفسيرهما ، وقد يحتمل أن يكون كلا الأمرين مرادا وهو زكاة
النفوس وزكاة الأموال ، فإنه من جملة زكاة النفوس ، والمؤمن الكامل هو الذي يفعل
هذا وهذا ، والله أعلم.
وقوله (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ
حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ
غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) أي والذين قد حفظوا فروجهم من الحرام
__________________
فلا يقعون فيما
نهاهم الله عنه من زنا ولواط ، لا يقربون سوى أزواجهم التي أحلها الله لهم أو ما ملكت
أيمانهم من السراري ومن تعاطى ما أحله الله له فلا لوم عليه ولا حرج ، ولهذا قال :
(فَإِنَّهُمْ غَيْرُ
مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ) أي غير الأزواج والإماء (فَأُولئِكَ هُمُ
العادُونَ) أي المعتدون.
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا عبد الأعلى ، حدثنا سعيد عن
قتادة أن امرأة اتخذت مملوكها وقالت : تأولت آية من كتاب الله (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) فأتى بها عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وقال له ناس من
أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم : تأولت آية من كتاب الله عزوجل على غير وجهها ، قال : فغرب العبد وجز رأسه ، وقال : أنت
بعده حرام على كل مسلم ، هذا أثر غريب منقطع ، ذكره ابن جرير في تفسير أول سورة
المائدة وهو هاهنا أليق ، وإنما حرمها على الرجال معاملة لها بنقيض قصدها ، والله
أعلم.
وقد استدل الإمام
الشافعي رحمهالله ومن وافقه على تحريم الاستمناء باليد بهذه الآية الكريمة (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ
حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) قال : فهذا الصنيع خارج عن هذين القسمين ، وقد قال الله
تعالى : (فَمَنِ ابْتَغى
وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) وقد استأنسوا بحديث رواه الإمام الحسن بن عرفة في جزئه
المشهور حيث قال : حدثني علي بن ثابت الجزري عن مسلمة بن جعفر عن حسان بن حميد ،
عن أنس بن مالك عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «سبعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم
ولا يجمعهم مع العالمين ، ويدخلهم النار أول الداخلين إلا أن يتوبوا ومن تاب تاب
الله عليه الناكح يده ، والفاعل والمفعول به ، ومدمن الخمر ، والضارب والديه حتى
يستغيثا ، والمؤذي جيرانه حتى يلعنوه ، والناكح حليلة جاره» هذا حديث غريب ،
وإسناده فيه من لا يعرف لجهالته ، والله أعلم.
وقوله : (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ
وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) أي إذا اؤتمنوا لم يخونوا بل يؤدونها إلى أهلها ، وإذا
عاهدوا أو عاقدوا أوفوا بذلك لا كصفات المنافقين الذين قال فيهم رسول اللهصلىاللهعليهوسلم «آية المنافق ثلاث
: إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان» . وقوله: (وَالَّذِينَ هُمْ
عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ) أي يواظبون عليها في مواقيتها ، كما قال ابن مسعود : سألت
رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقلت : يا رسول الله أي العمل أحب إلى الله؟ قال «الصلاة
على وقتها». قلت : ثم أي؟ قال «بر الوالدين». قلت : ثم أي؟ قال : «الجهاد في سبيل
الله» . أخرجاه في الصحيحين. وفي مستدرك الحاكم قال : «الصلاة في أول وقتها».
__________________
وقال ابن مسعود
ومسروق في قوله : (وَالَّذِينَ هُمْ
عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ) يعني في مواقيت الصلاة ، وكذا قال أبو الضحى وعلقمة بن قيس
وسعيد بن جبير وعكرمة. وقال قتادة : على مواقيتها وركوعها وسجودها ، وقد افتتح
الله ذكر هذه الصفات الحميدة بالصلاة واختتمها بالصلاة فدل على أفضليتها كما قال
رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «استقيموا ولن تحصوا ، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ،
ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن» ولما وصفهم تعالى بالقيام بهذه الصفات الحميدة والأفعال
الرشيدة قال : (أُولئِكَ هُمُ
الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ). وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس ، فإنه أعلى
الجنة وأوسط الجنة ، ومنه تفجر أنهار الجنة ، وفوقه عرش الرحمن» .
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة
رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ما منكم من أحد إلا وله منزلان: منزل في الجنة ، ومنزل
في النار ، فإن مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله ، فذلك قوله : (أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ») وقال ابن جريج عن ليث عن مجاهد (أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ) قال : ما من عبد إلا وله منزلان : منزل في الجنة ومنزل في
النار ، فأما المؤمن فيبني بيته الذي في الجنة ويهدم بيته الذي في النار ، وأما
الكافر فيهدم بيته الذي في الجنة ويبني بيته الذي في النار. وروي عن سعيد بن جبير
نحو ذلك.
فالمؤمنون يرثون
منازل الكفار لأنهم خلقوا لعبادة الله تعالى وحده لا شريك له ، فلما قام هؤلاء
المؤمنون بما وجب عليهم من العبادة ، وترك أولئك ما أمروا به مما خلقوا له ، أحرز
هؤلاء نصيب أولئك لو كانوا أطاعوا ربهم عزوجل بل أبلغ من هذا أيضا ، وهو ما ثبت في صحيح مسلم عن أبي
بردة عن أبيه عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «يجيء ناس يوم القيامة من المسلمين بذنوب أمثال
الجبال ، فيغفرها الله لهم ويضعها على اليهود والنصارى» ، وفي لفظ له : قال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم : «إذا كان يوم القيامة دفع الله لكل مسلم يهوديا أو
نصرانيا ، فيقال : هذا فكاكك من النار» فاستحلف عمر بن عبد العزيز أبا بردة بالله
الذي لا إله إلا هو ثلاث مرات ، أن أباه حدثه عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم بذلك قال : فحلف له ، قلت : وهذه الآية كقوله تعالى : (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ
عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا) [مريم : ٦٣]
وكقوله : (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ
الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الزخرف : ٧٢] وقد
قال مجاهد وسعيد بن جبير ، الجنة بالرومية هي الفردوس ، وقال بعض السلف : لا يسمى
البستان الفردوس إلا إذا كان فيه عنب ، فالله أعلم.
__________________
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢)
ثُمَّ
جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا
النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ
عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ
فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (١٤)
ثُمَّ
إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥)
ثُمَّ
إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ)
(١٦)
يقول تعالى مخبرا
عن ابتداء خلق الإنسان من سلالة من طين ، وهو آدم عليهالسلام خلقه الله من صلصال من حمإ مسنون. وقال الأعمش عن المنهال
بن عمرو عن أبي يحيى عن ابن عباس (مِنْ سُلالَةٍ مِنْ
طِينٍ) قال : من صفوة الماء. وقال مجاهد : من سلالة أي من مني
آدم. وقال ابن جرير : إنما سمي آدم طينا لأنه مخلوق منه وقال قتادة : استل آدم
من الطين وهذا أظهر في المعنى وأقرب إلى السياق ، فإن آدم عليهالسلام خلق من طين لازب ، وهو الصلصال من الحمإ المسنون ، وذلك مخلوق من التراب
كما قال تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ
خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) [الروم : ٢٠].
وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا عوف ، حدثنا قسامة بن زهير عن
أبي موسى عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض ،
فجاء بنو آدم على قدر الأرض ، جاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك ، والخبيث
والطيب وبين ذلك» وقد رواه أبو داود والترمذي من طرق عن عوف الأعرابي به
نحوه. وقال الترمذي : حسن صحيح (ثُمَّ جَعَلْناهُ
نُطْفَةً) هذا الضمير عائد على جنس الإنسان كما قال في الآية الأخرى
: (وَبَدَأَ خَلْقَ
الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) [السجدة : ٧ ـ ٨] أي ضعيف ، كما قال : (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ
فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ) يعني الرحم معد لذلك مهيأ له (إِلى قَدَرٍ
مَعْلُومٍ فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ) [المرسلات : ٢٠ ـ ٢١]
أي مدة معلومة وأجل معين حتى استحكم وتنقل من حال إلى حال وصفة إلى صفة ، ولهذا
قال هاهنا : (ثُمَّ خَلَقْنَا
النُّطْفَةَ عَلَقَةً) أي ثم صبرنا النطفة ، وهي الماء الدافق الذي يخرج من صلب
الرجل وهو ظهره ، وترائب المرأة وهي عظام صدرها ما بين الترقوة إلى السرة ، فصارت
علقة حمراء على شكل العلقة مستطيلة ، قال عكرمة : وهي دم (فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً) وهي قطعة كالبضعة من اللحم لا شكل فيها ولا تخطيط (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً) يعني شكلناها ذات رأس ويدين ورجلين بعظامها وعصبها
وعروقها.
وقرأ آخرون (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً) قال ابن عباس : وهو عظم الصلب ، وفي الصحيح
__________________
من حديث أبي
الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «كل جسد ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب منه خلق ومنه يركب» (فَكَسَوْنَا
الْعِظامَ لَحْماً) أي وجعلنا على ذلك ما يستره ويشده ويقويه (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) أي ثم نفخنا فيه الروح فتحرك وصار خلقا آخر ذا سمع وبصر
وإدراك وحركة واضطراب (فَتَبارَكَ اللهُ
أَحْسَنُ الْخالِقِينَ).
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا جعفر بن مسافر ، حدثنا يحيى بن حسان ، حدثنا النضر
يعني ابن كثير مولى بني هاشم ، حدثنا زيد بن علي عن أبيه عن علي بن أبي طالب رضي
الله عنه قال : إذا نمت النطفة أربعة أشهر بعث الله إليها ملكا فنفخ فيها الروح في
ظلمات ثلاث ، فذلك قوله : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ
خَلْقاً آخَرَ) يعني نفخنا فيه الروح ، وروي عن أبي سعيد الخدري أنه نفخ
الروح ، قال ابن عباس (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ
خَلْقاً آخَرَ) يعني فنفخنا فيه الروح ، وكذا قال مجاهد وعكرمة والشعبي
والحسن وأبو العالية والضحاك والربيع بن أنس والسدي وابن زيد ، واختاره ابن جرير.
وقال العوفي عن
ابن عباس (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ
خَلْقاً آخَرَ) يعني ننقله من حال إلى حال إلى أن خرج طفلا ثم نشأ صغيرا ،
ثم احتلم ثم صار شابا ، ثم كهلا ثم شيخا ثم هرما. وعن قتادة والضحاك نحو ذلك ، ولا
منافاة فإنه من ابتداء نفخ الروح فيه شرع في هذه التنقلات والأحوال ، والله أعلم.
قال الإمام أحمد في مسنده : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش عن زيد بن وهب
عن عبد الله ـ هو ابن مسعود رضي الله عنه ـ قال : حدثنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو الصادق المصدوق : «إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه
أربعين يوما نطفة ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يرسل إليه
الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات : رزقه ، وأجله ، وعمله ، وهل هو شقي أو
سعيد ، فو الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه
وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب فيختم له بعمل أهل النار فيدخلها ، وإن أحدكم
ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب فيختم
له بعمل أهل الجنة فيدخلها» أخرجاه من حديث سليمان بن مهران الأعمش.
__________________
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن خيثمة قال : قال عبد الله ـ
يعني ابن مسعود ـ إن النطفة إذا وقعت في الرحم طارت في كل شعر وظفر ، فتمكث أربعين
يوما ، ثم تعود في الرحم فتكون علقة.
وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا حسين بن الحسن ، حدثنا أبو كدينة عن عطاء بن
السائب عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن عبد الله قال : مر يهودي برسول اللهصلىاللهعليهوسلم وهو يحدث أصحابه ، فقالت قريش : يا يهودي إن هذا يزعم أنه
نبي ، فقال : لأسألته عن شيء لا يعلمه إلا نبي ، قال : فجاءه حتى جلس ، فقال : يا
محمد مم يخلق الإنسان؟ فقال «يا يهودي من كل يخلق من نطفة الرجل ومن نطفة المرأة ،
فأما نطفة الرجل فنطفة غليظة منها العظم والعصب ، وأما نطفة المرأة فنطفة رقيقة
منها اللحم والدم» فقال : هكذا كان يقول من قبلك.
وقال الإمام أحمد : حدثنا سفيان عن عمرو عن أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد
الغفاري قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم
بأربعين ليلة ، فيقول : يا رب ماذا؟ أشقي أم سعيد ، أذكر أم أنثى؟ فيقول الله ،
فيكتبان ، ويكتب عمله وأثره ومصيبته ورزقه ، ثم تطوى الصحيفة فلا يزاد على ما فيها
ولا ينقص» وقد رواه مسلم في صحيحه من حديث سفيان بن عيينة عن عمرو هو ابن دينار به
نحوه ، ومن طريق أخرى عن أبي الطفيل عامر بن واثلة عن حذيفة بن أسيد أبي سريحة
الغفاري بنحوه ، والله أعلم.
وقال الحافظ أبو
بكر البزار : حدثنا أحمد بن عبدة ، حدثنا حماد بن زيد ، حدثنا عبيد الله بن أبي
بكر عن أنس أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إن الله وكل بالرحم ملكا ، فيقول : أي رب نطفة ، أي
رب علقة ، أي رب مضغة ، فإذا أراد الله خلقها قال : أي رب ، ذكر أو أنثى؟ شقي أو
سعيد؟ فما الرزق والأجل؟ قال : فذلك يكتب في بطن أمه» أخرجاه في الصحيحين من حديث حماد بن زيد به.
وقوله : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) يعني حين ذكر قدرته ولطفه في خلق هذه النطفة من حال إلى
حال وشكل إلى شكل حتى تصورت إلى ما صارت إليه من الإنسان السوي الكامل الخلق ، قال
: (فَتَبارَكَ اللهُ
أَحْسَنُ الْخالِقِينَ).
قال ابن أبي حاتم
: حدثنا يونس بن حبيب ، حدثنا أبو داود ، حدثنا حماد بن سلمة ، حدثنا
__________________
علي بن زيد عن أنس
قال : قال عمر ، يعني ابن الخطاب رضي الله عنه : وافقت ربي ووافقني في أربع : نزلت
هذه الآية (وَلَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) الآية ، قلت أنا فتبارك الله أحسن الخالقين ، فنزلت (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) .
وقال أيضا : حدثنا
أبي حدثنا آدم بن أبي إياس ، حدثنا شيبان عن جابر الجعفي عن عامر الشعبي ، عن زيد
بن ثابت الأنصاري قال : أملى علي رسول الله صلىاللهعليهوسلم هذه الآية (وَلَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ـ إلى قوله ـ خَلْقاً آخَرَ) فقال معاذ (فَتَبارَكَ اللهُ
أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) فضحك رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فقال له معاذ : مم تضحك يا رسول الله؟ فقال : «بها ختمت
فتبارك الله أحسن الخالقين» وفي إسناد جابر بن يزيد الجعفي ضعيف جدا ، وفي خبره
هذا نكارة شديدة ، وذلك أن هذه السورة مكية ، وزيد بن ثابت إنما كتب الوحي
بالمدينة ، وكذلك إسلام معاذ بن جبل إنما كان بالمدينة أيضا ، فالله أعلم.
وقوله : (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ) يعني بعد هذه النشأة الأولى من العدم تصيرون إلى الموت (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ
تُبْعَثُونَ) يعني النشأة الآخرة (ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ
النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ) يعني يوم المعاد. وقيام الأرواح إلى الأجساد ، فيحاسب
الخلائق ، ويوفي كل عامل عمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
(وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ
طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ) (١٧)
لما ذكر تعالى خلق
الإنسان ، عطف بذكر خلق السموات السبع ، وكثيرا ما يذكر تعالى خلق السموات والأرض
مع خلق الإنسان كما قال تعالى : (لَخَلْقُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) [غافر : ٥٧] وهكذا
في أول ألم السجدة التي كان رسول اللهصلىاللهعليهوسلم يقرأ بها صبيحة يوم الجمعة في أولها خلق السموات والأرض ،
ثم بيان خلق الإنسان من سلالة من طين ، وفيها أمر المعاد والجزاء وغير ذلك من
المقاصد.
وقوله : (سَبْعَ طَرائِقَ) قال مجاهد : يعني السموات السبع ، وهذه كقوله تعالى : (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ
وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ) [الإسراء : ٤٤] (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ
سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) [نوح : ١٥] (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ
وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا
أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ
عِلْماً) [الطلاق : ١٢]
وهكذا قال هاهنا (وَلَقَدْ خَلَقْنا
فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ) أي ويعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها ، وما ينزل من
السماء وما يعرج فيها ، وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير ، وهو سبحانه
لا يحجب عنه سماء سماء ولا أرض أرضا ، ولا جبل إلا يعلم ما في وعره ، ولا بحر إلا
يعلم ما في قعره ، يعلم عدد ما في الجبال والتلال والرمال والبحار والقفار
__________________
والأشجار (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا
يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا
فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [الأنعام : ٥٩].
(وَأَنْزَلْنا مِنَ
السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ
لَقادِرُونَ (١٨) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ
بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها
تَأْكُلُونَ (١٩) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ
مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (٢٠)
وَإِنَّ
لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ
فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٢١)
وَعَلَيْها
وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ)
(٢٢)
يذكر تعالى نعمه
على عبيده التي لا تعد ولا تحصى في إنزاله القطر من السماء بقدر ، أي بحسب الحاجة
لا كثيرا فيفسد الأرض والعمران ، ولا قليلا فلا يكفي الزروع والثمار ، بل بقدر
الحاجة إليه من السقي والشرب والانتفاع به ، حتى إن الأراضي التي تحتاج ماء كثيرا
لزرعها ولا تحتمل دمنتها إنزال المطر عليها ، يسوق إليها الماء من بلاد أخرى كما
في أرض مصر ويقال لها الأرض الجرز ، يسوق الله إليها ماء النيل معه طين أحمر
يجترفه من بلاد الحبشة في زمان أمطارها ، فيأتي الماء يحمل طينا أحمر فيسقي أرض
مصر ويقر الطين على أرضهم ليزرعوا فيه ، لأن أرضهم سباخ يغلب عليها الرمال فسبحان
اللطيف الخبير الرحيم الغفور.
وقوله : (فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) أي جعلنا الماء إذا نزل من السحاب يخلد في الأرض ، وجعلنا
في الأرض قابلية له تشربه ويتغذى به ما فيها من الحب والنوى. وقوله : (وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ) أي لو شئنا أن لا تمطر لفعلنا ، ولو شئنا لصرفناه عنكم إلى
السباخ والبراري والقفار لفعلنا ، ولو شئنا لجعلناه أجاجا لا ينتفع به لشرب ولا
لسقي لفعلنا ، ولو شئنا لجعلناه لا ينزل في الأرض بل ينجر على وجهها لفعلنا ، ولو
شئنا لجعلناه إذا نزل فيها يغور إلى مدى لا تصلون إليه ولا تنتفعون به لفعلنا ،
ولكن بلطفه ورحمته ينزل عليكم الماء من السحاب عذبا فراتا زلالا ، فيسكنه في الأرض
ويسلكه ينابيع في الأرض ، فيفتح العيون والأنهار ويسقي به الزروع والثمار ،
وتشربون منه ودوابكم وأنعامكم ، وتغتسلون منه وتتطهرون منه وتتنظفون ، فله الحمد
والمنة.
وقوله : (فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ
نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ) يعني فأخرجنا لكم بما أنزلنا من السماء جنات أي بساتين
وحدائق (ذاتَ بَهْجَةٍ) أي ذات منظر حسن. وقوله : (مِنْ نَخِيلٍ
وَأَعْنابٍ) أي فيها نخيل وأعناب ، وهذا ما كان يألف أهل الحجاز ولا
فرق بين الشيء وبين نظيره ، وكذلك في حق كل أهل إقليم عندهم من الثمار من نعمة
الله عليهم ما يعجزون عن القيام بشكره. وقوله : (لَكُمْ فِيها
فَواكِهُ كَثِيرَةٌ) أي من جميع الثمار ، كما قال : (يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ
وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) [النحل : ١١].
وقوله : (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) كأنه معطوف على شيء مقدر تقديره تنظرون إلى حسنه ونضجه
ومنه تأكلون.
وقوله : (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ
سَيْناءَ) يعني الزيتونة ، والطور هو الجبل. وقال بعضهم: إنما يسمى
طورا إذا كان فيه شجر ، فإن عري عنها سمي جبلا لا طورا ، والله أعلم ، وطور سيناء
هو طور سينين ، وهو الجبل الذي كلم الله عليه موسى بن عمران عليهالسلام ، وما حوله من الجبال التي فيها شجر الزيتون. وقوله : (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) قال بعضهم : الباء زائدة ، وتقديره تنبت الدهن كما في قول
العرب : ألقى فلان بيده ، أي يده ، وأما على قول من يضمن الفعل ، فتقديره تخرج
بالدهن أو تأتي بالدهن ، ولهذا قال : (وَصِبْغٍ) أي أدم ، قاله قتادة ، (لِلْآكِلِينَ) أي فيها ما ينتفع به من الدهن والاصطباغ ، كما قال الإمام
أحمد : حدثنا وكيع عن عبد الله بن عيسى عن عطاء الشامي ، عن أبي أسيد واسمه مالك
بن ربيعة الساعدي الأنصاري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «كلوا الزيت وادهنوا به ، فإنه من شجرة مباركة».
وقال عبد بن حميد
في مسنده وتفسيره : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر
أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «ائتدموا بالزيت وادهنوا به فإنه يخرج من شجرة
مباركة» ، ورواه الترمذي وابن ماجة من غير وجه عن عبد الرزاق. قال
الترمذي : ولا يعرف إلا من حديثه ، وكان يضطرب فيه ، فربما ذكر فيه عمر ، وربما لم
يذكره. قال أبو القاسم الطبراني : حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثنا أبي حدثنا
سفيان بن عيينة حدثني الصعب بن حكيم بن شريك بن نملة عن أبيه عن جده قال : ضفت عمر
بن الخطاب رضي الله عنه ليلة عاشوراء فأطعمني من رأس بعير بارد ، وأطعمنا زيتا ،
وقال : هذا الزيت المبارك الذي قال الله لنبيهصلىاللهعليهوسلم.
وقوله : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ
لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ
وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) يذكر تعالى ما جعل لخلقه في الأنعام من المنافع ، وذلك
أنهم يشربون من ألبانها الخارجة من بين فرث ودم ، ويأكلون من حملانها ويلبسون من
أصوافها وأوبارها وأشعارها ، ويركبون ظهورها ، ويحملونها الأحمال الثقال إلى
البلاد النائية عنهم ، كما قال تعالى : (وَتَحْمِلُ
أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ
إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) [النحل : ٧] وقال تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا
أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها
مالِكُونَ وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ
وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ) [يس : ٧١ ـ ٧٣].
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ
غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ(٢٣) فَقالَ الْمَلَأُ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ
يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا
__________________
بِهذا
فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٢٤) إِنْ هُوَ إِلاَّ
رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ)
(٢٥)
يخبر تعالى عن نوح
عليهالسلام حين بعثه إلى قومه لينذرهم عذاب الله وبأسه الشديد ،
وانتقامه ممن أشرك به وخالف أمره وكذب رسله (فَقالَ يا قَوْمِ
اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ) أي ألا تخافون من الله في إشراككم به؟ فقال الملأ وهم
السادة والأكابر منهم (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ
مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ) يعنون يترفع عليكم ، ويتعاظم بدعوى النبوة ، وهو بشر مثلكم
، فكيف أوحي إليه دونكم.
(وَلَوْ شاءَ اللهُ
لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) أي لو أراد أن يبعث نبيا لبعث ملكا من عنده ولم يكن بشرا
ما سمعنا بهذا ، أي ببعثة البشر في آبائنا الأولين ، يعنون بهذا أسلافهم وأجدادهم
في الدهور الماضية. وقوله : (إِنْ هُوَ إِلَّا
رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ) أي مجنون فيما يزعمه من أن الله أرسله إليكم واختصه من
بينكم بالوحي (فَتَرَبَّصُوا بِهِ
حَتَّى حِينٍ) أي انتظروا به ريب المنون ، واصبروا عليه مدة حتى تستريحوا
منه.
(قالَ رَبِّ
انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٢٦)
فَأَوْحَيْنا
إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا
وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ
إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ
ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ
(٢٧)
فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٨) وَقُلْ رَبِّ
أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٢٩)
إِنَّ
فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ)
(٣٠)
يخبر تعالى عن نوح
عليهالسلام أنه دعا ربه ليستنصره على قومه ، كما قال تعالى مخبرا عنه
في الآية الأخرى : (فَدَعا رَبَّهُ
أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) [القمر : ١٠] وقال
هاهنا : (رَبِّ انْصُرْنِي
بِما كَذَّبُونِ) فعند ذلك أمره الله تعالى بصنعة السفينة وإحكامها وإتقانها
، وأن يحمل فيها من كل زوجين اثنين ، أي ذكرا وأنثى من كل صنف من الحيوانات
والنباتات والثمار وغير ذلك ، وأن يحمل فيها أهله (إِلَّا مَنْ سَبَقَ
عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ) أي من سبق عليه القول من الله بالهلاك ، وهم الذين لم
يؤمنوا به من أهله كابنه وزوجته ، والله أعلم.
وقوله : (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ
ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) أي عند معاينة إنزال المطر العظيم لا تأخذنك رأفة بقومك
وشفقة عليهم ، وطمع في تأخيرهم لعلهم يؤمنون ، فإني قد قضيت أنهم مغرقون على ما هم
عليه من الكفر والطغيان ، وقد تقدمت القصة مبسوطة في سورة هود بما يغني عن إعادة
ذلك هاهنا. وقوله : (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ
أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا
مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) كما قال : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ
الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ
تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ
الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلى رَبِّنا
لَمُنْقَلِبُونَ) [الزخرف : ١٢ ـ ١٤]
وقد امتثل نوح عليهالسلام هذا ، كما قال تعالى : (وَقالَ ارْكَبُوا
فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها) [هود : ٤١] فذكر
الله تعالى عند ابتداء
سيره وعند انتهائه
، وقال تعالى : (وَقُلْ رَبِّ
أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ). وقوله: (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ) أي إن في هذا الصنيع وهو إنجاء المؤمنين وإهلاك الكافرين
لآيات أي لحججا ودلالات واضحات على صدق الأنبياء فيما جاءوا به عن الله تعالى ،
وأنه تعالى فاعل لما يشاء قادر على كل شيء عليم بكل شيء. وقوله : (وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ) أي لمختبرين للعباد بإرسال المرسلين.
(ثُمَّ أَنْشَأْنا
مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٣١) فَأَرْسَلْنا
فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا
تَتَّقُونَ (٣٢) وَقالَ الْمَلَأُ
مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ
وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ
يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ(٣٣)
وَلَئِنْ
أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٣٤) أَيَعِدُكُمْ
أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (٣٥) هَيْهاتَ هَيْهاتَ
لِما تُوعَدُونَ (٣٦) إِنْ هِيَ إِلاَّ
حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٣٧) إِنْ هُوَ إِلاَّ
رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ(٣٨)
قالَ
رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٣٩) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ
لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (٤٠) فَأَخَذَتْهُمُ
الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)
(٤١)
يخبر تعالى أنه
أنشأ بعد قوم نوح قرنا آخرين ، قيل : المراد بهم عاد ، فإنهم كانوا مستخلفين بعدهم
، وقيل : المراد بهؤلاء ثمود لقوله : (فَأَخَذَتْهُمُ
الصَّيْحَةُ بِالْحَقِ) وأنه تعالى أرسل فيهم رسولا منهم ، فدعاهم إلى عبادة الله
وحده لا شريك له ، فكذبوه وخالفوه وأبوا عن اتباعه لكونه بشرا مثلهم ، واستنكفوا
عن اتباع رسول بشرى ، وكذبوا بلقاء الله في القيامة وأنكروا المعاد الجثماني
وقالوا : (أَيَعِدُكُمْ
أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ
هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ) أي بعيد بعيد ذلك (إِنْ هُوَ إِلَّا
رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) أي فيما جاءكم به من الرسالة والنذارة والإخبار بالمعاد (وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ قالَ
رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ) أي استفتح عليهم الرسول واستنصر ربه عليهم ، فأجاب دعاءه (قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ
نادِمِينَ) أي بمخالفتك وعنادك فيما جئتهم به (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِ) أي وكانوا يستحقون ذلك من الله بكفرهم وطغيانهم ، والظاهر
أنه اجتمع عليهم صيحة مع الريح الصرصر العاصف القوي الباردة (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها
فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ) [الأحقاف : ٢٥].
وقوله : (فَجَعَلْناهُمْ
غُثاءً) أي صرعى هلكى كغثاء السيل ، وهو الشيء الحقير التافه
الهالك الذي لا ينتفع بشيء منه ، (فَبُعْداً لِلْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ) كقوله : (وَما ظَلَمْناهُمْ
وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) [الزخرف : ٧٦] أي
بكفرهم وعنادهم ومخالفة رسول الله ، فليحذر السامعون أن يكذبوا رسولهم.
(ثُمَّ أَنْشَأْنا
مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (٤٢)
ما
تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ(٤٣) ثُمَّ أَرْسَلْنا
رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا
بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ)
(٤٤)
يقول تعالى : (ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ
قُرُوناً آخَرِينَ) أي أمما وخلائق (ما تَسْبِقُ مِنْ
أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ) يعني بل يؤخذون على حسب ما قدر لهم تعالى في كتابه المحفوظ
، وعلمه قبل كونهم أمة بعد أمة ، وقرنا بعد قرن ، وجيلا بعد جيل ، وخلفا بعد سلف ،
(ثُمَّ أَرْسَلْنا
رُسُلَنا تَتْرا) قال ابن عباس يعني يتبع بعضهم بعضا ، وهذا كقوله تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ
رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى
اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) [النحل : ٣٦].
وقوله : (كُلَّ ما جاءَ
أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ) يعني جمهورهم وأكثرهم ، كقوله تعالى : (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما
يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) [يس : ٣٠]. وقوله
: (فَأَتْبَعْنا
بَعْضَهُمْ بَعْضاً) أي أهلكناهم كقوله : (وَكَمْ أَهْلَكْنا
مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ) [الإسراء : ١٧].
وقوله : (وَجَعَلْناهُمْ
أَحادِيثَ) أي أخبارا وأحاديث للناس كقوله : (فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ
وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) [سبأ : ١٩].
(ثُمَّ أَرْسَلْنا
مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٤٥)
إِلى
فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (٤٦) فَقالُوا أَنُؤْمِنُ
لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (٤٧)
فَكَذَّبُوهُما
فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (٤٨)
وَلَقَدْ
آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ)
(٤٩)
يخبر تعالى أنه
بعث رسوله موسى عليهالسلام وأخاه هارون إلى فرعون وملئه بالآيات والحجج الدامغات
والبراهين القاطعات ، وأن فرعون وقومه استكبروا عن اتباعهما والانقياد لأمرهما
لكونهما بشرين ، كما أنكرت الأمم الماضية بعثة الرسل من البشر ، تشابهت قلوبهم
فأهلك الله فرعون وملأه ، وأغرقهم في يوم واحد أجمعين ، وأنزل على موسى الكتاب وهو
التوراة ، فيها أحكامه وأوامره ونواهيه ، وذلك بعد أن قصم الله فرعون والقبط
وأخذهم أخذ عزيز مقتدر ، وبعد أن أنزل الله التوراة لهم يهلك أمة بعامة بل أمر
المؤمنين بقتال الكافرين ، كما قال تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا
مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ
لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) [القصص : ٤٣].
(وَجَعَلْنَا ابْنَ
مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ)
(٥٠)
يقول تعالى مخبرا
عن عبده ورسوله عيسى ابن مريم عليهماالسلام أنه جعلهما آية للناس ، أي حجة قاطعة على قدرته على ما
يشاء ، فإنه خلق آدم من غير أب ولا أم ، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى ، وخلق عيسى من
أنثى بلا ذكر ، وخلق بقية الناس من ذكر وأنثى. وقوله : (وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ
قَرارٍ وَمَعِينٍ) قال الضحاك عن ابن عباس : الربوة المكان المرتفع من الأرض
، وهو أحسن ما يكون فيه النبات ، وكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وقتادة.
قال ابن عباس :
وقوله : (ذاتِ قَرارٍ) يقول ذات خصب (وَمَعِينٍ) يعني ماء ظاهرا ، وكذا
قال مجاهد وعكرمة
وسعيد بن جبير وقتادة. وقال مجاهد : ربوة مستوية ، وقال سعيد بن جبير (ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ) استوى الماء فيها. وقال مجاهد وقتادة (وَمَعِينٍ) الماء الجاري. ثم اختلف المفسرون في مكان هذه الربوة : من
أي أرض هي؟ فقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : ليس الربى إلا بمصر ، والماء حين
يسيل يكون الربى عليها القرى ، ولولا الربى غرقت القرى ، وروي عن وهب بن منبه نحو
هذا ، وهو بعيد جدا.
وروى ابن أبي حاتم
عن سعيد بن المسيب في قوله : (وَآوَيْناهُما إِلى
رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ) قال : هي دمشق ، قال : وروي عن عبد الله بن سلام والحسن
وزيد بن أسلم وخالد بن معدان نحو ذلك. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ،
حدثنا وكيع عن إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس (ذاتِ قَرارٍ
وَمَعِينٍ) قال : أنهار دمشق. وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد (وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ) قال : عيسى ابن مريم وأمه حين أويا إلى غوطة دمشق وما
حولها. وقال عبد الرزاق عن بشر بن رافع عن أبي عبد الله بن عم أبي هريرة قال :
سمعت أبا هريرة يقول في قول الله تعالى : (إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ
قَرارٍ وَمَعِينٍ) قال : هي الرملة من فلسطين.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن يوسف الفريابي ، حدثنا رواد بن الجراح ،
حدثنا عباد بن عباد الخواص أبو عتبة ، حدثنا السيباني عن ابن وعلة عن كريب السحولي
عن مرة البهزي قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول لرجل : «إنك تموت بالربوة ، فمات بالرملة» ، وهذا
حديث غريب جدا وأقرب الأقوال في ذلك ما رواه العوفي عن ابن عباس في قوله : (وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ
قَرارٍ وَمَعِينٍ) قال : المعين الماء الجاري ، وهو النهر الذي قال الله
تعالى : (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ
تَحْتَكِ سَرِيًّا) [مريم : ٢٤] وكذا
قال الضحاك وقتادة (إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ
قَرارٍ وَمَعِينٍ) وهو بيت المقدس ، فهذا ـ والله أعلم ـ هو الأظهر ، لأنه
المذكور في الآية الأخرى والقرآن يفسر بعضه بعضا ، وهذا أولى ما يفسر به ، ثم
الأحاديث الصحيحة ثم الآثار.
(يا أَيُّهَا
الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ
عَلِيمٌ (٥١) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً
واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (٥٢) فَتَقَطَّعُوا
أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٥٣)
فَذَرْهُمْ
فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (٥٤) أَيَحْسَبُونَ
أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (٥٥)
نُسارِعُ
لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ)
(٥٦)
يأمر تعالى عباده
المرسلين عليهم الصلاة والسلام أجمعين بالأكل من الحلال والقيام بالصالح من
الأعمال ، فدل هذا على أن الحلال عون على العمل الصالح ، فقام الأنبياء عليهمالسلام بهذا أتم القيام ، وجمعوا بين كل خير قولا وعملا ودلالة
ونصحا ، فجزاهم الله عن العباد خيرا. قال الحسن البصري في قوله : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ
الطَّيِّباتِ) قال : أما والله ما أمركم بأصفركم ولا أحمركم ولا حلوكم
ولا حامضكم ، ولكن قال : انتهوا إلى الحلال منه. وقال سعيد بن جبير والضحاك (كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ) يعني الحلال. وقال أبو إسحاق
السبيعي عن أبي
ميسرة عمرو بن شرحبيل : كان عيسى ابن مريم يأكل من غزل أمه .
وفي الصحيح «وما
من نبي إلا رعى الغنم» قالوا : وأنت يا رسول الله؟ قال : «نعم وأنا كنت أرعاها على
قراريط لأهل مكة» . وفي الصحيح «إن داود عليهالسلام كان يأكل من كسب يده» . وفي الصحيحين «إن أحب الصيام إلى الله صيام داود ، وأحب
القيام إلى الله قيام داود ، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه ، وكان
يصوم يوما ويفطر يوما ، ولا يفر إذا لاقى» .
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبي ، حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع ، حدثنا أبو بكر بن أبي مريم عن
ضمرة بن حبيب أن أم عبد الله أخت شداد بن أوس قال : بعثت إلى النبي صلىاللهعليهوسلم بقدح لبن عند فطره وهو صائم ، وذلك في أول النهار وشدة الحر
، فرد إليها رسولها أنى كانت لك الشاة؟ فقالت : اشتريتها من مالي ، فشرب منه ،
فلما كان من الغد أتته أم عبد الله أخت شداد فقالت : يا رسول الله بعثت إليك بلبن
، مرثية لك من طول النهار ، وشدة الحر ، فرددت إلي الرسول فيه ، فقال لها : «بذلك
أمرت الرسل : أن لا تأكل إلا طيبا ، ولا تعمل إلا صالحا».
وقد ثبت في صحيح
مسلم وجامع الترمذي ومسند الإمام أحمد واللفظ له ، من حديث فضيل بن مرزوق عن عدي
بن ثابت عن أبي حازم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «يا أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا ، وإن الله
أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ، فقال : (يا أَيُّهَا
الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ
عَلِيمٌ) وقال : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) [البقرة : ١٧٢] ثم
ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر ، ومطعمه حرام ، ومشربه حرام ، وملبسه حرام ، وغذي
بالحرام يمد يديه إلى السماء : يا رب يا رب فأنى يستجاب لذلك» وقال الترمذي : حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث فضيل بن
مرزوق.
وقوله : (وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً
واحِدَةً) أي دينكم يا معشر
الأنبياء دين واحد وملة واحدة ، وهو الدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له ،
ولهذا قال (وَأَنَا رَبُّكُمْ
فَاتَّقُونِ) وقد تقدم الكلام على ذلك في سورة الأنبياء ، وأن قوله (أُمَّةً واحِدَةً) منصوب على الحال. وقوله : (فَتَقَطَّعُوا
أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً) أي الأمم الذين بعثت إليهم الأنبياء (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) أي
__________________
يفرحون بما هم فيه
من الضلال لأنهم يحسبون أنهم مهتدون ، ولهذا قال متهددا لهم ومتوعدا : (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ) أي في غيهم وضلالهم (حَتَّى حِينٍ) أي إلى حين حينهم وهلاكهم ، كما قال تعالى : (فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ
رُوَيْداً) [الطارق : ١٧]
وقال تعالى : (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا
وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) [الحجر : ٣].
وقوله : (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ
مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ) يعني أيظن هؤلاء المغرورون أن ما نعطيهم من الأموال
والأولاد لكرامتهم علينا ومعزتهم عندنا؟ كلا ليس الأمر كما يزعمون في قولهم (نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً
وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) [سبأ : ٣٠] لقد أخطئوا في ذلك وخاب رجاؤهم ، بل إنما نفعل
بهم ذلك استدراجا وإنظارا وإملاء ، ولهذا قال : (بَلْ لا يَشْعُرُونَ) كما قال تعالى : (فَلا تُعْجِبْكَ
أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي
الْحَياةِ الدُّنْيا) [التوبة : ٥٥]
الآية. وقال تعالى : (إِنَّما نُمْلِي
لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) [آل عمران : ١٧٨]
وقال تعالى : (فَذَرْنِي وَمَنْ
يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ
وَأُمْلِي لَهُمْ) [القلم : ٤٤ ـ ٤٥]
الآية ، وقال : (ذَرْنِي وَمَنْ
خَلَقْتُ وَحِيداً ـ إلى قوله ـ عَنِيداً) [المدثر : ١١ ـ ١٦]
وقال تعالى : (وَما أَمْوالُكُمْ
وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلَّا مَنْ آمَنَ
وَعَمِلَ صالِحاً) [سبأ : ٣٧] الآية
، والآيات في هذا كثيرة.
قال قتادة في قوله
: (أَيَحْسَبُونَ
أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ
بَلْ لا يَشْعُرُونَ) قال : مكر والله بالقوم في أموالهم وأولادهم ، يا ابن آدم
فلا تعتبر الناس بأموالهم وأولادهم ، ولكن اعتبرهم بالإيمان والعمل الصالح.
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن عبيد ، حدثنا أبان بن إسحاق عن الصباح بن
محمد عن مرة الهمداني ، حدثنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم : «إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم ، وإن
الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب ، ولا يعطي الدين إلا لمن أحب ، فمن أعطاه
الله الدين فقد أحبه ، والذي نفس محمد بيده لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه ،
ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه» قالوا : وما بوائقه يا رسول الله؟ قال : «غشمه
وظلمه ، ولا يكسب عبد مالا من حرام فينفق منه فيبارك له فيه ، ولا يتصدق به فيقبل
منه ، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار ، إن الله لا يمحو السيئ بالسيء
ولكن يمحو السيئ بالحسن ، إن الخبيث لا يمحو الخبيث».
(إِنَّ الَّذِينَ هُمْ
مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ هُمْ
بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (٥٨)
وَالَّذِينَ
هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (٥٩) وَالَّذِينَ
يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (٦٠)
أُولئِكَ
يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ)
(٦١)
__________________
يقول تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ
رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) أي هم مع إحسانهم وإيمانهم وعملهم الصالح مشفقون من الله
خائفون منه وجلون من مكره بهم ، كما قال الحسن البصري : إن المؤمن جمع إحسانا
وشفقة ، وإن الكافر جمع إساءة وأمنا (وَالَّذِينَ هُمْ
بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) أي يؤمنون بآياته الكونية والشرعية ، كقوله تعالى إخبارا
عن مريم عليهاالسلام : (وَصَدَّقَتْ
بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ) [التحريم : ١٢] أي
أيقنت أن ما كان ، إنما هو عن قدر الله وقضائه ، وما شرعه الله فهو إن كان أمرا
فمما يحبه ويرضاه ، وإن كان نهيا فهو مما يكرهه ويأباه ، وإن كان خيرا فهو حق ،
كما قال الله : (وَالَّذِينَ هُمْ
بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ) أي لا يعبدون معه غيره ، بل يوحدونه ويعلمون أنه لا إله إلا
الله أحدا صمدا لم يتخذ صاحبة ولا ولدا ، وأنه لا نظير له ولا كفء له.
وقوله : (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا
وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ) أي يعطون العطاء وهم خائفون وجلون أن لا يتقبل منهم لخوفهم
أن يكونوا قد قصروا في القيام بشرط الإعطاء ، وهذا من باب الإشفاق والاحتياط ، كما
قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن آدم ، حدثنا مالك بن مغول ، حدثنا عبد
الرحمن بن سعيد بن وهب عن عائشة أنها قالت : يا رسول الله الذين يؤتون ما آتوا
وقلوبهم وجلة هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر وهو يخاف الله عزوجل؟ قال : «لا يا بنت الصديق ، ولكنه الذي يصلي ويصوم ويتصدق
وهو يخاف الله عزوجل» وهكذا رواه الترمذي وابن أبي حاتم من حديث مالك بن مغول بنحوه ، وقال «لا يا
ابنة الصديق ، ولكنهم الذين يصلون ويصومون ويتصدقون وهم يخافون ألا يتقبل منهم (أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) وقال الترمذي : وروي هذا الحديث من حديث عبد الرحمن بن
سعيد عن أبي حازم ، عن أبي هريرة عن النبي صلىاللهعليهوسلم نحو هذا ، وهكذا قال ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي والحسن
البصري في تفسير هذه الآية.
وقد قرأ آخرون هذه
الآية (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ
ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) أي يفعلون ما يفعلون وهم خائفون ، وروي هذا مرفوعا إلى
النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قرأها كذلك. قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا صخر بن جويرية ، حدثنا إسماعيل المكي
، حدثنا أبو خلف مولى بني جمح أنه دخل مع عبيد بن عمير على عائشة رضي الله عنها ،
فقالت : مرحبا بأبي عاصم ، ما يمنعك أن تزورنا أو تلم بنا؟ فقال : أخشى أن أملك ،
فقالت : ما كنت لتفعل؟ قال : جئت لأسألك عن آية من كتاب الله عزوجل : كيف كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقرؤها؟ قال : أية آية؟ قال : (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا) والذين يأتون ما أتوا فقالت : أيتهما أحب إليك؟ فقلت :
والذي نفسي بيده
__________________
لإحداهما أحب إلي
من الدنيا جميعا ، أو الدنيا وما فيها. قالت وما هي؟ فقلت : والذين يأتون ما أتوا
فقالت : أشهد أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كذلك كان يقرؤها ، وكذلك أنزلت ، ولكن الهجاء حرف ، فيه
إسماعيل بن مسلم المكي وهو ضعيف.
والمعنى على
القراءة الأولى ، وهي قراءة الجمهور السبعة وغيرهم أظهر ، لأنه قال : (أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ
وَهُمْ لَها سابِقُونَ) فجعلهم من السابقين ، ولو كان المعنى على القراءة الأخرى
لأوشك أن لا يكونوا من السابقين بل من المقتصدين أو المقصرين ، والله أعلم.
(وَلا نُكَلِّفُ
نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا
يُظْلَمُونَ (٦٢) بَلْ قُلُوبُهُمْ
فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (٦٣)
حَتَّى
إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (٦٤) لا تَجْأَرُوا
الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (٦٥) قَدْ كانَتْ آياتِي
تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (٦٦)
مُسْتَكْبِرِينَ
بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ) (٦٧)
يقول تعالى مخبرا
عن عدله في شرعه على عباده في الدنيا أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها ، أي إلا ما تطيق
حمله والقيام به ، وأنه يوم القيامة يحاسبهم بأعمالهم التي كتبها عليهم في كتاب
مسطور لا يضيع منه شيء ، ولهذا قال : (وَلَدَيْنا كِتابٌ
يَنْطِقُ بِالْحَقِ) يعني كتاب الأعمال ، (وَهُمْ لا
يُظْلَمُونَ) أي لا يبخسون من الخير شيئا ، وأما السيئات فيعفو ويصفح عن
كثير منها لعباده المؤمنين ، ثم قال منكرا على الكفار والمشركين من قريش : (بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ) أي في غفلة وضلالة (مِنْ هذا) ، أي القرآن الذي أنزله على رسوله صلىاللهعليهوسلم.
وقوله : (وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ
هُمْ لَها عامِلُونَ) قال الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس (وَلَهُمْ أَعْمالٌ) أي سيئة من دون ذلك يعني الشرك (هُمْ لَها عامِلُونَ) قال : لا بد أن يعملوها ، كذا روي عن مجاهد والحسن وغير
واحد. وقال آخرون (وَلَهُمْ أَعْمالٌ
مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ) أي قد كتبت عليهم أعمال سيئة لا بد أن يعملوها قبل موتهم
لا محالة ، لتحق عليهم كلمة العذاب ، وروي نحو هذا عن مقاتل بن حيان والسدي وعبد
الرحمن بن زيد بن أسلم ، وهو ظاهر قوي حسن ، وقد قدمنا في حديث ابن مسعود : «فو
الذي لا إله غيره إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع
، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها».
وقوله : (حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ
بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ) يعني حتى إذا جاء مترفيهم وهم السعداء المنعمون في الدنيا
عذاب الله وبأسه ونقمته بهم (إِذا هُمْ
يَجْأَرُونَ) أي يصرخون ويستغيثون كما قال تعالى : (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي
النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً) [المزمل : ١١ ـ ١٣]
الآية ، وقال تعالى : (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ
قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ
حِينَ
مَناصٍ) [ص : ٣].
وقوله (لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ
مِنَّا لا تُنْصَرُونَ) أي لا يجيركم أحد مما حل بكم سواء جأرتم أو سكتم لا محيد
ولا مناص ولا وزر لزم الأمر ووجب العذاب ، ثم ذكر أكبر ذنوبهم فقال : (قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ
فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ) أي إذا دعيتم أبيتم وإن طلبتم امتنعتم (ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ
وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ
الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ) [غافر : ١٢].
وقوله : (مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً
تَهْجُرُونَ) في تفسيره قولان. [أحدهما] أن مستكبرين حال منهم حين
نكوصهم عن الحق وإبائهم إياه استكبارا عليه ، واحتقارا له ولأهله ، فعلى هذا
الضمير في به فيه ثلاثة أقوال [أحدهما] أنه الحرم أي مكة ، ذموا لأنهم كانوا
يسمرون فيه بالهجر من الكلام. [والثاني] أنه ضمير للقرآن كانوا يسمرون ويذكرون القرآن
بالهجر من الكلام : إنه سحر ، إنه شعر ، إنه كهانة ، إلى غير ذلك من الأقوال
الباطلة. [والثالث] أنه محمد صلىاللهعليهوسلم كانوا يذكرونه في سمرهم بالأقوال الفاسدة ، ويضربون له
الأمثال الباطلة ، من أنه شاعر أو كاهن أو ساحر أو كذاب أو مجنون ، فكل ذلك باطل ،
بل هو عبد الله ورسوله الذي أظهره الله عليهم وأخرجهم من الحرم صاغرين أذلاء.
وقيل المراد بقوله
: (مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ) أي بالبيت يفتخرون به ويعتقدون أنهم أولياؤه وليسوا به ،
كما قال النسائي من التفسير في سننه : أخبرنا أحمد بن سليمان ، أخبرنا عبد الله عن
إسرائيل عن عبد الأعلى أنه سمع سعيد بن جبير يحدث عن ابن عباس أنه قال : إنما كره
السمر حين نزلت هذه الآية (مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ
سامِراً تَهْجُرُونَ) فقال : مستكبرين بالبيت ، يقولون : نحن أهله سامرا قال :
كانوا يتكبرون ويسمرون فيه ولا يعمرونه ويهجرونه ، وقد أطنب ابن أبي حاتم هاهنا
بما هذا حاصله.
(أَفَلَمْ
يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) أَمْ لَمْ
يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٦٩)
أَمْ
يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ
كارِهُونَ (٧٠) وَلَوِ اتَّبَعَ
الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ
أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (٧١)
أَمْ
تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٧٢)
وَإِنَّكَ
لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٣) وَإِنَّ الَّذِينَ
لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (٧٤)
وَلَوْ
رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ
يَعْمَهُونَ)
(٧٥)
يقول تعالى منكرا
على المشركين في عدم تفهمهم للقرآن العظيم وتدبرهم له وإعراضهم عنه مع أنهم قد
خصوا بهذا الكتاب الذي لم ينزل الله على رسول أكمل منه ولا أشرف لا سيما آباؤهم
الذين ماتوا في الجاهلية حيث لم يبلغهم كتاب ولا أتاهم نذير ، فكان اللائق بهؤلاء
أن
يقابلوا النعمة
التي أسداها الله عليهم بقبولها والقيام بشكرها وتفهمها والعمل بمقتضاها آناء
الليل وأطراف النهار كما فعله النجباء منهم ممن أسلم واتبع الرسول صلىاللهعليهوسلم ورضي عنهم.
وقال قتادة (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ) إذ والله يجدون في القرآن زاجرا عن معصية الله لو تدبره
القوم وعقلوه ولكنهم أخذوا بما تشابه منه فهلكوا عند ذلك.
ثم قال منكرا على
الكافرين من قريش : (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا
رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) أي أفهم لا يعرفون محمدا وصدقه وأمانته وصيانته التي نشأ
بها فيهم أي أفيقدرون على إنكار ذلك والمباهتة فيه ، ولهذا قال جعفر بن أبي طالب
رضي الله عنه للنجاشي ملك الحبشة : أيها الملك إن الله بعث فينا رسولا نعرف نسبه
وصدقه وأمانته ، وهكذا قال المغيرة بن شعبة لنائب كسرى حين بارزهم وكذلك قال أبو
سفيان صخر بن حرب لملك الروم هرقل حين سأله وأصحابه عن صفات النبي صلىاللهعليهوسلم ونسبه وصدقه وأمانته ، وكانوا بعد كفارا لم يسلموا ، ومع
هذا لم يمكنهم إلا الصدق فاعترفوا بذلك.
وقوله : (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ) يحكي قول المشركين عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه تقول القرآن أي افتراه من عنده أو أن به جنونا لا يدري
ما يقول ، وأخبر عنهم أن قلوبهم لا تؤمن به وهم يعلمون بطلان ما يقولونه في القرآن
فإنه قد أتاهم من كلام الله ما لا يطاق ولا يدافع وقد تحداهم وجميع أهل الأرض أن
يأتوا بمثله إن استطاعوا ولا يستطيعون أبد الآبدين ولهذا قال : (بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ
لِلْحَقِّ كارِهُونَ) يحتمل أن تكون هذه جملة حالية أي في حالة كراهة أكثرهم
للحق ويحتمل أن تكون خبرية مستأنفة والله أعلم.
وقال قتادة : ذكر
لنا أن نبي الله صلىاللهعليهوسلم لقي رجلا فقال له «أسلم» فقال الرجل : إنك لتدعوني إلى أمر
أنا له كاره ، فقال نبي الله صلىاللهعليهوسلم : «وإن كنت كارها». وذكر لنا أنه لقي رجلا فقال له «أسلم»
فتصعده ذلك ، وكبر عليه ، فقال له نبي الله صلىاللهعليهوسلم «أرأيت لو كنت في
طريق وعر وعث ، فلقيت رجلا تعرف وجهه وتعرف نسبه ، فدعاك إلى طريق واسع سهل ، أكنت
تتبعه؟» قال : نعم. قال «فو الذي نفس محمد بيده إنك لفي أوعر من ذلك الطريق لو قد
كنت عليه ، وإني لأدعوك لأسهل من ذلك لو دعيت إليه» وذكر لنا أن نبي الله صلىاللهعليهوسلم لقي رجلا فقال له «أسلم» فتصعده ذلك ، فقال له نبي الله صلىاللهعليهوسلم : «أرأيت لو كان فتيان أحدهما إذا حدثك صدقك ، وإذا
ائتمنته أدى إليك ، أهو أحب إليك أم فتاك الذي إذا حدثك كذبك وإذا ائتمنته خانك؟»
قال : بل فتاي الذي إذا حدثني صدقني وإذا ائتمنته أدى إلي ، فقال نبي اللهصلىاللهعليهوسلم «كذاكم أنتم عند
ربكم» .
وقوله : (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ
لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ) قال مجاهد وأبو
__________________
صالح والسدي :
الحق هو الله عزوجل ، والمراد لو أجابهم الله إلى ما في أنفسهم من الهوى ،
وشرع الأمور على وفق ذلك لفسدت السموات والأرض ومن فيهن أي لفساد أهوائهم
واختلافها ، كما أخبر عنهم في قولهم : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا
الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) ثم قال : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ
رَحْمَتَ رَبِّكَ) [الزخرف : ٣١ ـ ٣٢]
وقال تعالى : (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ
تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ) [الإسراء : ١٠٠]
الآية. وقال تعالى : (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ
مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً) [النساء : ٥٣] ففي
هذا كله تبين عجز العباد واختلاف آرائهم وأهوائهم ، وأنه تعالى هو الكامل في جميع
صفاته وأقواله وأفعاله وشرعه وقدره وتدبيره لخلقه ، تعالى وتقدس ، فلا إله غيره
ولا رب سواه ، ولهذا قال : (بَلْ أَتَيْناهُمْ
بِذِكْرِهِمْ) أي القرآن (فَهُمْ عَنْ
ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ).
وقوله : (أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً) قال الحسن : أجرا. وقال قتادة : جعلا (فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ) أي أنت لا تسألهم أجرة ولا جعلا ولا شيئا على دعوتك إياهم
إلى الهدى ، بل أنت في ذلك تحتسب عند الله جزيل ثوابه ، كما قال : (قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ
فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) [سبأ : ٤٧] وقال :
(قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) [ص : ٨٦] وقال : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً
إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) [الشورى : ٢٣]
وقال : (وَجاءَ مِنْ أَقْصَا
الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا
مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً) [يس : ٢٠ ـ ٢١].
وقوله : (وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ
مُسْتَقِيمٍ وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ
لَناكِبُونَ) قال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد
بن جدعان عن يوسف بن مهران عن ابن عباس أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أتاه فيما يرى النائم ملكان ، فقعد أحدهما عند رجليه ،
والآخر عند رأسه ، فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه : اضرب مثل هذا ومثل أمته ،
فقال : إن مثل هذا ومثل أمته كمثل قوم سفر انتهوا إلى رأس مفازة ، فلم يكن معهم من
الزاد ما يقطعون به المفازة ولا ما يرجعون به ، فبينما هم كذلك إذ أتاهم رجل في
حلة حبرة ، فقال : أرأيتم إن أوردتكم رياضا معشبة وحياضا رواء تتبعوني؟ فقالوا :
نعم ، قال : فانطلق بهم وأوردهم رياضا معشبة وحياضا رواء ، فأكلوا وشربوا وسمنوا ،
فقال لهم : ألم ألفكم على تلك الحال فجعلتم لي إن وردت بكم رياضا معشبة وحياضا
رواء أن تتبعوني؟ قالوا : بلى ، قال : فإن بين أيديكم رياضا أعشب من هذه وحياضا هي
أروى من هذه فاتبعوني ، قال : فقالت طائفة : صدق والله لنتبعنه ، وقالت طائفة : قد
رضينا بهذا نقيم عليه.
وقال الحافظ أبو
يعلى الموصلي : حدثنا زهير ، حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا يعقوب بن
__________________
عبد الله الأشعري
، حدثنا حفص بن حميد عن عكرمة عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : قال
رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إني ممسك بحجزكم هلم عن النار هلم عن النار ، وتغلبونني
وتقاحمون فيها تقاحم الفراش والجنادب ، فأوشك أن أرسل حجزكم وأنا فرطكم على الحوض
، فتردون علي معا وأشتاتا أعرفكم بسيماكم وأسمائكم ، كما يعرف الرجل الغريب من
الإبل في إبله ، فيذهب بكم ذات اليمين وذات الشمال ، فأناشد فيكم رب العالمين أي
رب قومي أي رب أمتي ، فيقال : يا محمد إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، إنهم كانوا
يمشون بعدك القهقرى على أعقابهم ، فلأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل شاة لها
ثغاء ينادي : يا محمد يا محمد.
فأقول : لا أملك
لك من الله شيئا قد بلغت ، ولأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل بعيرا له رغاء
ينادي : يا محمد يا محمد ، فأقول : لا أملك لك شيئا قد بلغت ، ولأعرفن أحدكم يأتي
يوم القيامة يحمل فرسا لها حمحمة فينادي : يا محمد يا محمد ، فأقول : لا أملك لك
شيئا قد بلغت ، ولأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل سقاء من أدم ينادي : يا محمد
يا محمد ، فأقول : لا أملك لك شيئا قد بلغت» وقال علي بن المديني : هذا حديث حسن
الإسناد إلا أن حفص بن حميد مجهول ، لا أعلم روى عنه غير يعقوب بن عبد الله
الأشعري القمي (قلت) بل قد روى عنه أيضا أشعث بن إسحاق ، وقال فيه يحيى بن معين :
صالح ، ووثقه النسائي وابن حبان.
وقوله : (وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ
بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ) أي لعادلون جائرون منحرفون ، تقول العرب : نكب فلان عن
الطريق إذا زاغ عنها. وقوله : (وَلَوْ رَحِمْناهُمْ
وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) يخبر تعالى عن غلظهم في كفرهم بأنه لو أزاح عنهم الضر
وأفهمهم القرآن لما انقادوا له ولاستمروا على كفرهم وعنادهم وطغيانهم ، كما قال
تعالى (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ
فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ
مُعْرِضُونَ) [الأنفال : ٢٣]
وقال: (وَلَوْ تَرى إِذْ
وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ
رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ
قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ ـ إلى قوله ـ بِمَبْعُوثِينَ) [الأنعام : ٢٧ ـ ٢٩]
فهذا من باب علمه تعالى بما لا يكون ولو كان كيف يكون ، قال الضحاك عن ابن عباس :
كل ما فيه (لَوْ) فهو مما لا يكون أبدا.
(وَلَقَدْ
أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (٧٦) حَتَّى إِذا
فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٧)
وَهُوَ
الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما
تَشْكُرُونَ (٧٨) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ
فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٩) وَهُوَ الَّذِي
يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٨٠)
بَلْ
قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (٨١) قالُوا أَإِذا
مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٨٢)
لَقَدْ
وُعِدْنا نَحْنُ
وَآباؤُنا
هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ)
(٨٣)
يقول تعالى : (وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ) أي ابتليناهم بالمصائب والشدائد (فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما
يَتَضَرَّعُونَ) أي فما ردهم ذلك عما كانوا فيه من الكفر والمخالفة ، بل
استمروا على غيهم وضلالهم (فَمَا اسْتَكانُوا) ، أي ما خشعوا (وَما يَتَضَرَّعُونَ) أي ما دعوا ، كما قال تعالى : (فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا
تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ) [الأنعام : ٤٣]
الآية. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا محمد بن حمزة المروزي ،
حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا أبي عن يزيد ـ يعني النحوي ـ عن عكرمة عن ابن عباس
أنه قال : جاء أبو سفيان إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : يا محمد أنشدك الله والرحم ، فقد أكلنا العلهز ـ يعني
الوبر والدم ـ فأنزل الله (وَلَقَدْ
أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا) الآية ، وكذا رواه النسائي عن محمد بن عقيل عن علي بن
الحسين عن أبيه به ، وأصله في الصحيحين أن رسول اللهصلىاللهعليهوسلم دعا على قريش حين استعصوا ، فقال : «اللهم أعني عليهم بسبع
كسبع يوسف» .
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا سلمة بن شبيب ، حدثنا عبد الله بن إبراهيم بن عمر
بن كيسان ، حدثني وهب بن عمر بن كيسان قال حبس وهب بن منبه فقال له رجل من الأبناء
: ألا أنشدك بيتا من شعر يا أبا عبد الله؟ فقال وهب : نحن في طرف من عذاب الله ،
والله يقول : (وَلَقَدْ
أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ) قال : وصام وهب ثلاثا متواصلة ، فقيل له : ما هذا الصوم يا
أبا عبد الله؟ قال : أحدث لنا فأحدثنا ، يعني أحدث لنا الحبس فأحدثنا زيادة عبادة.
وقوله : (حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً
ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) أي حتى إذا جاءهم أمر الله وجاءتهم الساعة بغتة ، فأخذهم
من عذاب الله ما لم يكونوا يحتسبون فعند ذلك أبلسوا من كل خير وأيسوا من كل راحة ، وانقطعت آمالهم ورجاؤهم ،
ثم ذكر تعالى نعمه على عباده بأن جعل لهم السمع والأبصار والأفئدة ، وهي العقول
والفهوم التي يذكرون بها الأشياء ويعتبرون بما في الكون من الآيات الدالة على
وحدانية الله وأنه الفاعل المختار لما يشاء.
وقوله : (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) أي ما أقل شكركم لله على ما أنعم به عليكم ، كقوله : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ
بِمُؤْمِنِينَ) [يوسف : ١٠٣] ثم
أخبر تعالى عن قدرته العظيمة وسلطانه القاهر في برئه الخليقة وذرئه لهم في سائر أقطار الأرض على اختلاف أجناسهم
__________________
ولغاتهم وصفاتهم ،
ثم يوم القيامة يجمع الأولين منهم والآخرين لميقات يوم معلوم ، فلا يترك منهم
صغيرا ولا كبيرا ، ولا ذكرا ولا أنثى ، ولا جليلا ولا حقيرا ، إلا أعاده كما بدأه
، ولهذا قال : (وَهُوَ الَّذِي
يُحْيِي وَيُمِيتُ) أي يحيي الرمم ويميت الأمم ، (وَلَهُ اخْتِلافُ
اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي وعن أمره تسخير الليل والنهار ، كل منهما يطلب الآخر
طلبا حثيثا ، يتعاقبان لا يفتران ولا يفترقان بزمان غيرهما ، كقوله : (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ
تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) [يس : ٤٠] الآية.
وقوله : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي أفليس لكم عقول تدلكم على العزيز العليم الذي قد قهر كل
شيء ، وعز كل شيء وخضع له كل شيء ، ثم قال مخبرا عن منكري البعث الذين أشبهوا من
قبلهم من المكذبين (بَلْ قالُوا مِثْلَ
ما قالَ الْأَوَّلُونَ قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا
لَمَبْعُوثُونَ) يعني يستبعدون وقوع ذلك بعد صيرورتهم إلى البلى (لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا
مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) يعنون الإعادة محال ، إنما يخبر بها من تلقاها عن كتب
الأولين واختلافهم وهذا الإنكار والتكذيب منهم كقوله إخبارا عنهم (أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً قالُوا
تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) [النازعات : ١١ ـ ١٤]
وقال تعالى : (أَوَلَمْ يَرَ
الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ
وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ
رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ
خَلْقٍ عَلِيمٌ) [يس : ٧٧ ـ ٧٩]
الآيات.
(قُلْ لِمَنِ
الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٤) سَيَقُولُونَ
لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ(٨٥) قُلْ مَنْ رَبُّ
السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦)
سَيَقُولُونَ
لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٨٧) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ
مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ (٨٨) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ
قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (٨٩)
بَلْ
أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ)
(٩٠)
يقرر تعالى
وحدانيته واستقلاله بالخلق والتصرف والملك ليرشد إلى أنه الله الذي لا إله إلا هو
، ولا تنبغي العبادة إلا له وحده لا شريك له ، ولهذا قال لرسوله محمد صلىاللهعليهوسلم أن يقول للمشركين العابدين معه غيره المعترفين له
بالربوبية ، وأنه لا شريك له فيها ، ومع هذا فقد أشركوا معه في الإلهية فعبدوا
غيره معه مع اعترافهم أن الذين عبدوهم لا يخلقون شيئا ولا يملكون شيئا ولا يستبون
بشيء ، بل اعتقدوا أنهم يقربونهم إليه زلفى (ما نَعْبُدُهُمْ
إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] فقال
: (قُلْ لِمَنِ
الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها) أي من مالكها الذي خلقها ومن فيها من الحيوانات والنباتات
والثمرات وسائر صنوف المخلوقات (إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) أي فيعترفون لك بأن ذلك لله وحده لا شريك له ، فإذا كان
ذلك (قُلْ أَفَلا
تَذَكَّرُونَ) أنه لا تنبغي العبادة إلا للخالق الرزاق لا لغيره.
(قُلْ مَنْ رَبُّ
السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ)؟ أي من هو خالق العالم العلوي بما فيه من الكواكب النيرات
والملائكة الخاضعين له في سائر الإفطار منها والجهات ، ومن هو رب العرش العظيم ، يعني
الذي هو سقف المخلوقات ، كما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «شأن الله أعظم من ذلك إن عرشه على سماواته هكذا»
وأشار بيده مثل القبة ، وفي الحديث الآخر «ما السموات السبع والأرضون السبع وما
بينهن وما فيهن في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة ، وإن الكرسي بما فيه بالنسبة
إلى العرش كتلك الحلقة في تلك الفلاة» ولهذا قال بعض السلف : إن مسافة ما بين قطري
العرش من جانب إلى جانب مسيرة خمسين ألف سنة ، وارتفاعه عن الأرض السابعة مسيرة
خمسين ألف سنة ، وقال الضحاك عن ابن عباس : إنما سمي عرشا لارتفاعه.
وقال الأعمش عن
كعب الأحبار : إن السموات والأرض في العرش كالقنديل المعلق بين السماء والأرض.
وقال مجاهد : ما السموات والأرض في العرش إلا كحلقة في أرض فلاة. وقال ابن أبي
حاتم : حدثنا العلاء بن سالم ، حدثنا وكيع ، حدثنا سفيان الثوري عن عمار الدّهني
عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : العرش لا يقدر قدره أحد ، وفي
رواية : إلا الله عزوجل ، وقال بعض السلف : العرش من ياقوتة حمراء ، ولهذا قال
هاهنا : (وَرَبُّ الْعَرْشِ
الْعَظِيمِ) أي الكبير. وقال في آخر السورة (رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) أي الحسن البهي ، فقد جمع العرش بين العظمة في الاتساع
والعلو والحسن الباهر ، ولهذا قال من قال إنه من ياقوتة حمراء. وقال ابن مسعود :
إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار ، نور العرش من نور وجهه.
وقوله : (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا
تَتَّقُونَ) أي إذا كنتم تعترفون بأنه رب السموات ورب العرش العظيم ، أفلا
تخافون عقابه وتحذرون عذابه في عبادتكم معه غيره وإشراككم به. قال أبو بكر عبد
الله بن محمد بن أبي الدنيا القرشي في كتاب التفكر والاعتبار : حدثنا إسحاق بن
إبراهيم ، أخبرنا عبد الله بن جعفر ، أخبرني عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال :
كان رسول اللهصلىاللهعليهوسلم كثيرا ما يحدث عن امرأة كانت في الجاهلية على رأس جبل معها
ابن لها يرعى غنما ، فقال لها ابنها : يا أمه من خلقك؟ قالت : الله. قال فمن خلق
أبي. قالت : الله. قال : فمن خلقني؟ قالت : الله. قال : فمن خلق السموات؟ قالت :
الله. قال : فمن خلق الأرض؟ قالت : الله. قال : فمن خلق الجبل؟ قالت : الله. قال :
فمن خلق هذه الغنم؟ قالت : الله. قال : فإني أسمع لله شأنا ثم ألقى نفسه من الجبل
فتقطع. قال ابن عمر : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم كثيرا ما يحدثنا
__________________
هذا الحديث ، قال
عبد الله بن دينار : كان ابن عمر كثيرا ما يحدثنا بهذا الحديث ، قلت : في إسناده
عبد الله بن جعفر المديني والد الإمام علي بن المديني ، وقد تكلموا فيه ، فالله
أعلم.
(قُلْ مَنْ بِيَدِهِ
مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) أي بيده الملك (ما مِنْ دَابَّةٍ
إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها) أي متصرف فيها وكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «لا والذي نفسي بيده» وكان إذا اجتهد في اليمين قال
«لا ومقلب القلوب» فهو سبحانه الخالق المالك المتصرف (وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ
عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) كانت العرب إذا كان السيد فيهم فأجار أحدا لا يحفر في
جواره ، وليس لمن دونه أن يجير عليه لئلا يفتات عليه ، ولهذا قال الله : (وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ) أي وهو السيد العظيم الذي لا أعظم منه ، الذي له الخلق والأمر
ولا معقب لحكمه ، الذي لا يمانع ولا يخالف ، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، وقال
الله : (لا يُسْئَلُ عَمَّا
يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) [الأنبياء : ٢٣]
أي لا يسأل عما يفعل لعظمته وكبريائه وغلبته وقهره وحكمته وعدله ، فالخلق كلهم
يسألون عن أعمالهم ، كما قال تعالى : (فَوَ رَبِّكَ
لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) [الحجر : ٩٢ ـ ٩٣].
وقوله : (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) أي سيعترفون أن السيد العظيم الذي يجير ولا يجار عليه هو
الله تعالى وحده لا شريك له (قُلْ فَأَنَّى
تُسْحَرُونَ) أي فكيف تذهب عقولكم في عبادتكم معه غيره مع اعترافكم
وعلمكم بذلك ، ثم قال تعالى : (بَلْ أَتَيْناهُمْ
بِالْحَقِ) وهو الإعلام بأنه لا إله إلا الله ، وأقمنا الأدلة الصحيحة
الواضحة القاطعة على ذلك (وَإِنَّهُمْ
لَكاذِبُونَ) أي في عبادتهم مع الله غيره ولا دليل لهم على ذلك ، كما
قال في آخر السورة (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ
اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ
إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) فالمشركون لا يفعلون ذلك عن دليل قادهم إلى ما هم فيه من
الإفك والضلال ، وإنما يفعلون ذلك اتباعا لآبائهم وأسلافهم الحيارى الجهال ، كما
قال الله عنهم : (إِنَّا وَجَدْنا
آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) [الزخرف : ٢٣].
(مَا اتَّخَذَ اللهُ
مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ
وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ
(٩١)
عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ)
(٩٢)
ينزه تعالى نفسه
عن أن يكون له ولد أو شريك في الملك والتصرف والعبادة ، فقال تعالى : (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما
كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا
بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) أي لو قدر تعدد الآلهة لانفرد كل منهم بما خلق فما كان
ينتظم الوجود ، والمشاهد أن الوجود منتظم متسق كل من العالم العلوي والسفلي مرتبط
بعضه ببعض في غاية الكمال (ما تَرى فِي خَلْقِ
الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) [الملك : ٣] ثم
لكان كل منهم يطلب قهر الآخر وخلافه ، فيعلو بعضهم على بعض والمتكلمون ذكروا هذا
المعنى ، وعبروا عنه بدليل التمانع ، وهو أنه لو فرض صانعان فصاعدا فأراد واحد
تحريك جسم والآخر أراد سكونه ، فإن لم يحصل مراد كل واحد
منهما كانا عاجزين
، والواجب لا يكون عاجزا ويمتنع اجتماع مراديهما للتضاد ، وما جاء هذا المحال إلا
من فرض التعدد ، فيكون محالا فأما إن حصل مراد أحدهما دون الآخر ، كان الغالب هو
الواجب والآخر المغلوب ممكنا ، لأنه لا يليق بصفة الواجب أن يكون مقهورا ، ولهذا
قال تعالى: (وَلَعَلا بَعْضُهُمْ
عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) أي عما يقول الظالمون المعتدون في دعواهم الولد أو الشريك
علوا كبيرا (عالِمِ الْغَيْبِ
وَالشَّهادَةِ) أي يعلم ما يغيب عن المخلوقات وما يشاهدونه (فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي تقدس وتنزه وتعالى وعزوجل عما يقول الظالمون والجاحدون.
(قُلْ رَبِّ إِمَّا
تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (٩٣)
رَبِّ
فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٩٤)
وَإِنَّا
عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (٩٥)
ادْفَعْ
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ(٩٦) وَقُلْ رَبِّ
أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (٩٧)
وَأَعُوذُ
بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ)
(٩٨)
يقول تعالى آمرا
نبيه محمدا صلىاللهعليهوسلم أن يدعو بهذا الدعاء عند حلول النقم (رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ) أي إن عاقبتهم وأنا أشاهد ذلك ، فلا تجعلني فيهم كما جاء
في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والترمذي وصححه «وإذا أردت بقوم فتنة فتوفّني
إليك غير مفتون» . وقوله تعالى : (وَإِنَّا عَلى أَنْ
نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ) أي لو شئنا لأريناك ما نحل بهم من النقم والبلاء والمحن.
ثم قال تعالى مرشدا له إلى الترياق النافع في مخالطة الناس وهو الإحسان إلى من
يسيء إليه ، ليستجلب خاطره فتعود عداوته صداقة وبغضه محبة ، فقال تعالى : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
السَّيِّئَةَ) وهذا كما قال في الآية الأخرى : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَما
يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) [فصلت : ٣٤ ـ ٣٥]
الآية ، اي وما يلهم هذه الوصية أو هذه الخصلة أو الصفة (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) أي على أذى الناس فعاملوهم بالجميل مع إسدائهم القبيح (وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ
عَظِيمٍ) أي في الدنيا والآخرة.
وقوله تعالى : (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ
هَمَزاتِ الشَّياطِينِ) أمره الله أن يستعيذ من الشياطين. لأنهم لا تنفع معهم
الحيل ولا ينقادون بالمعروف ، وقد قدمنا عند الاستعاذة أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان يقول : «أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم
من همزه ونفخه ونفثه» .
وقوله تعالى : (وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ) أي في شيء من أمري ، ولهذا أمر بذكر الله في ابتداء الأمور
وذلك لطرد الشيطان عند الأكل والجماع والذبح وغير ذلك من الأمور ، ولهذا روى أبو
داود أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان يقول : «اللهم إني أعوذ بك من الهرم ، وأعوذ بك من
الهدم
__________________
ومن الغرق ، وأعوذ
بك من أن يتخبطني الشيطان عند الموت» .
وقال الإمام أحمد حدثنا يزيد ، أخبرنا محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن
أبيه عن جده قال : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يعلمنا كلمات يقولهن عند النوم من الفزع : «باسم الله ،
أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه ومن شر عباده ، ومن همزات الشياطين وأن
يحضرون» قال فكان عبد الله بن عمرو يعلمها من بلغ من ولده أن يقولها عند نومه ومن
كان منهم صغيرا لا يعقل أن يحفظها كتبها له فعلقها في عنقه . ورواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث محمد بن إسحاق.
وقال الترمذي : حسن غريب.
(حَتَّى إِذا جاءَ
أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ
صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ
بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)
(١٠٠)
يخبر تعالى عن حال
المحتضر عند الموت من الكافرين أو المفرطين في أمر الله تعالى ، وقيلهم عند ذلك
وسؤالهم الرجعة إلى الدنيا ليصلح ما كان أفسده في مدة حياته ، ولهذا قال : (رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ
صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا) كما قال تعالى : (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما
رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ـ إلى قوله ـ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) [المنافقون : ١٠ ـ
١١] وقال تعالى (وَأَنْذِرِ النَّاسَ
يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ ـ إلى قوله ـ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ) [إبراهيم : ٤٤]
وقال تعالى : (يَوْمَ يَأْتِي
تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا
بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ
غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) [الأعراف : ٥٣]
وقال تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذِ
الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا
وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ) [السجدة : ١٢]
وقال تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذْ
وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ
رَبِّنا ـ إلى قوله ـ وَإِنَّهُمْ
لَكاذِبُونَ) [الأنعام: ٢٧ ـ ٢٨]
وقال تعالى : (وَتَرَى
الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ
سَبِيلٍ) [الشورى : ٤٤]
وقال تعالى : (قالُوا رَبَّنا
أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا
فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) [غافر : ١١ ـ ١٢]
والآية بعدها. وقال تعالى : (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ
فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ
نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ
فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) [فاطر : ٣٧] فذكر
تعالى أنهم يسألون الرجعة فلا يجابون عند الاحتضار ويوم النشور ووقت العرض على
الجبار ، وحين يعرضون على النار وهم في غمرات عذاب الجحيم.
وقوله هاهنا : (كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) كلا حرف ردع وزجر ، أي لا نجيبه إلى ما طلب
__________________
ولا نقبل منه.
وقوله تعالى : (إِنَّها كَلِمَةٌ
هُوَ قائِلُها) قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : أي لا بد أن يقولها لا
محالة كل محتضر ظالم ، ويحتمل أن يكون ذلك علة لقوله كلا ، أي لأنها كلمة ، أي
سؤاله الرجوع ليعمل صالحا هو كلام منه وقول لا عمل معه ، ولو رد لما عمل صالحا
ولكان يكذب في مقالته هذه ، كما قال تعالى : (وَلَوْ رُدُّوا
لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) قال قتادة : والله ما تمنى أن يرجع إلى أهل ولا إلى عشيرة
، ولا بأن يجمع الدنيا ويقضي الشهوات ، ولكن تمنى أن يرجع فيعمل بطاعة الله عزوجل ، فرحم الله امرءا عمل فيما يتمناه الكافر إذا رأى العذاب
إلى النار.
وقال محمد بن كعب
القرظي (حَتَّى إِذا جاءَ
أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ) قال : فيقول الجبار : (كَلَّا إِنَّها
كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) وقال عمر بن عبد الله مولى غفرة : إذا قال الكافر رب
ارجعون لعلي أعمل صالحا ، يقول الله تعالى : كلا كذبت. وقال قتادة في قوله تعالى :
(حَتَّى إِذا جاءَ
أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ) قال : كان العلاء بن زياد يقول : لينزلن أحدكم نفسه أنه قد
حضره الموت فاستقال ربه فأقاله ، فليعمل بطاعة الله تعالى. وقال قتادة : والله ما
تمنى إلا أن يرجع فيعمل بطاعة الله ، فانظروا أمنية الكافر المفرط فاعملوا بها ،
ولا قوة طلا بالله ، وعن محمد بن كعب القرظي نحوه.
وقال محمد بن أبي
حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن يوسف ، حدثنا فضيل ـ يعني ابن عياض ـ عن ليث عن
طلحة بن مصرف ، عن أبي حازم عن أبي هريرة قال : إذا وضع ـ يعني الكافر ـ في قبره
فيرى مقعده من النار ، قال : فيقول : رب ارجعون أتوب وأعمل صالحا ، قال :
فيقال قد عمرت ما
كنت معمرا ، قال : فيضيق عليه قبره ويلتئم ، فهو كالمنهوش ينام ويفزع ، تهوي إليه
هوام الأرض وحياتها وعقاربها .
وقال أيضا : حدثنا
أبي ، حدثنا عمرو بن علي ، حدثني سلمة بن تمام ، حدثنا علي بن زيد عن سعيد بن
المسيب عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : ويل لأهل المعاصي من أهل القبور تدخل
عليهم في قبورهم حيات سود أو دهم ، حية عند رأسه وحية عند رجليه يقرصانه حتى
يلتقيا في وسطه ، فذلك العذاب في البرزخ الذي قال الله تعالى : (وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ
يُبْعَثُونَ). وقال أبو صالح وغيره في قوله تعالى : (وَمِنْ وَرائِهِمْ) يعني أمامهم. وقال مجاهد : البرزخ الحاجز ما بين الدنيا
والآخرة. وقال محمد بن كعب : البرزخ ما بين الدنيا والآخرة ، ليسوا مع أهل الدنيا
يأكلون ويشربون ولا مع أهل الآخرة يجازون بأعمالهم. وقال أبو صخر : البرزخ المقابر
لا هم في الدنيا ولا هم في الآخرة ، فهم مقيمون إلى يوم يبعثون ، وفي قوله تعالى :
(وَمِنْ وَرائِهِمْ
بَرْزَخٌ) تهديد لهؤلاء المحتضرين من الظلمة بعذاب البرزخ ، كما قال
__________________
تعالى : (مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ) [الجاثية : ١٠]
وقال تعالى : (وَمِنْ وَرائِهِ
عَذابٌ غَلِيظٌ) [إبراهيم : ١٧]. وقوله تعالى : (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أي يستمر به العذاب إلى يوم البعث ، كما جاء في الحديث «فلا
يزال معذبا فيها» أي في الأرض.
(فَإِذا نُفِخَ فِي
الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (١٠١) فَمَنْ ثَقُلَتْ
مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٢)
وَمَنْ
خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ
خالِدُونَ (١٠٣) تَلْفَحُ
وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ)
(١٠٤)
يخبر تعالى أنه
إذا نفخ في الصور نفخة النشور ، وقام الناس من القبور (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ
وَلا يَتَساءَلُونَ) أي لا تنفع الأنساب يومئذ ولا يرثي والد لولده ولا يلوي
عليه ، قال الله تعالى : (وَلا يَسْئَلُ
حَمِيمٌ حَمِيماً يُبَصَّرُونَهُمْ) [المعارج : ١٠ ـ ١١]
أي لا يسأل القريب عن قريبه وهو يبصره ولو كان عليه من الأوزار ما قد أثقل ظهره ،
وهو كان أعز الناس عليه في الدنيا ما التفت إليه ولا حمل عنه وزن جناح بعوضة ، قال
الله تعالى : (يَوْمَ يَفِرُّ
الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ) [عبس : ٣٤ ـ ٣٧]
الآية ، وقال ابن مسعود : إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين ، ثم
نادى مناد : ألا من كان له مظلمة فليجئ فليأخذ حقه ـ قال فيفرح المرء أن يكون له
الحق على والده أو ولده أو زوجته وإن كان صغيرا ، ومصداق ذلك في كتاب الله قال
الله تعالى : (فَإِذا نُفِخَ فِي
الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) رواه ابن أبي حاتم.
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم ، حدثنا عبد الله بن جعفر
، حدثتنا أم بكر بنت المسور بن مخرمة عن عبد الله بن أبي رافع عن المسور ـ هو ابن
مخرمة ـ رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «فاطمة بضعة مني ، يقبضني ما يقبضها ، ويبسطني ما يبسطها
، وإن الأنساب تنقطع يوم القيامة إلا نسبي وسببي وصهري» وهذا الحديث له أصل في
الصحيحين عن المسور بن مخرمة أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «فاطمة بضعة مني ، يريبني ما يريبها ، ويؤذيني ما
آذاها» .
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو عامر ، حدثنا زهير عن عبد الله بن محمد عن
حمزة بن أبي سعيد الخدري عن أبيه ، قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول على هذا المنبر : «ما بال رجال يقولون إن رحم رسول
الله صلىاللهعليهوسلم لا تنفع قومه؟ بلى والله إن رحمي موصولة في الدنيا والآخرة
،
__________________
وإني أيها الناس
فرط لكم إذا جئتم» قال رجل : يا رسول الله أنا فلان بن فلان ، فأقول لهم : أما
النسب فقد عرفت ولكنكم أحدثتم بعدي وارتددتم القهقرى» وقد ذكرنا في مسند أمير
المؤمنين عمر بن الخطاب من طرق متعددة عنه رضي الله عنه أنه لما تزوج أم كلثوم بنت
علي بن أبي طالب رضي الله عنهما قال : أما والله ما بي إلا أني سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «كل سبب ونسب فإنه منقطع يوم القيامة إلا سببي
ونسبي» رواه الطبراني والبزار والهيثم بن كليب والبيهقي ، والحافظ الضياء في
المختارة وذكر أنه أصدقها أربعين ألفا إعظاما وإكراما رضي الله عنه.
فقد روى الحافظ
ابن عساكر في ترجمة أبي العاص بن الربيع زوج زينب بنت رسول اللهصلىاللهعليهوسلم من طريق أبي القاسم البغوي : حدثنا سليمان بن عمر بن
الأقطع ، حدثنا إبراهيم بن عبد السلام عن إبراهيم بن يزيد عن محمد بن عباد بن جعفر
سمعت ابن عمر يقول : قال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم : «كل نسب وصهر ينقطع يوم القيامة إلا نسبي وصهري» وروي
فيها من طريق عمار بن سيف عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن عمرو مرفوعا «سألت
ربي عزوجل أن لا أتزوج إلى أحد من أمتي ولا يتزوج إلي أحد منهم إلا
كان معي في الجنة فأعطاني ذلك» ومن حديث عمار بن سيف عن إسماعيل عن عبد الله بن
عمرو.
وقوله تعالى : (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ
هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي من رجحت حسناته على سيئاته ولو بواحدة ، قاله ابن عباس
، (فَأُولئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ) أي الذين فازوا فنجوا من النار وأدخلوا الجنة ، وقال ابن
عباس : أولئك الذين فازوا بما طلبوا ، ونجوا من شر ما منه هربوا (وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) أي ثقلت سيئاته على حسناته (فَأُولئِكَ الَّذِينَ
خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) أي خابوا وهلكوا وفازوا بالصفقة الخاسرة. وقال الحافظ أبو
بكر البزار : حدثنا إسماعيل بن أبي الحارث ، حدثنا داود بن المحبر ، حدثنا صالح
المري عن ثابت البناني وجعفر بن زيد ومنصور بن زاذان عن أنس بن مالك يرفعه قال :
إن الله ملكا موكلا بالميزان ، فيؤتى بابن آدم فيوقف بين كفتي الميزان ، فإن ثقل
ميزانه نادى ملك بصوت يسمعه الخلائق : سعد فلان سعادة لا يشقى بعدها أبدا ، وإن خف
ميزانه نادى ملك بصوت يسمع الخلائق : شقي فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبدا ، إسناده
ضعيف فإن داود بن المحبر ضعيف متروك ، ولهذا قال تعالى : (فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ) أي ماكثون فيها دائمون مقيمون فلا يظعنون (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ) كما قال تعالى : (وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ
النَّارُ) [إبراهيم : ٥٠]
وقال تعالى : (لَوْ يَعْلَمُ
الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ
ظُهُورِهِمْ) [الأنبياء : ٣٩]
الآية.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبي ، حدثنا فروة بن أبي المغراء ، حدثنا محمد بن سليمان بن الأصبهاني عن
أبي سنان ضرار بن مرة عن عبد الله بن أبي الهذيل عن أبي هريرة عن النبيصلىاللهعليهوسلم قال : «إن جهنم لما سيق لها أهلها تلقاهم لهبها ، ثم
تلفحهم لفحة فلم يبق لهم لحم إلا سقط
على العرقوب» وقال
ابن مردويه : حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى القزاز ، حدثنا الخضر بن علي بن يونس
القطان ، حدثنا عمر بن أبي الحارث بن الخضر القطان ، حدثنا سعيد بن سعيد المقبري
عن أخيه عن أبيه عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم في قول الله تعالى : (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ
النَّارُ) قال : تلفحهم لفحة تسيل لحومهم على أعقابهم.
وقوله تعالى : (وَهُمْ فِيها كالِحُونَ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : يعني عابسون . وقال الثوري عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله بن
مسعود (وَهُمْ فِيها كالِحُونَ) قال : ألم تر إلى الرأس المشيط الذي قد بدا أسنانه وقلصت
شفتاه . وقال الإمام أحمد : أخبرنا علي بن إسحاق أخبرنا عبد الله هو ابن المبارك رحمهالله ، أخبرنا سعيد بن يزيد عن أبي السمح عن أبي الهيثم عن أبي
سعيد الخدري عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : (وَهُمْ فِيها
كالِحُونَ) ـ قال ـ تشويه النار فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه
، وتسترخي شفته السفلى حتى تبلغ سرته» ورواه الترمذي عن سويد بن نصر عن عبد الله بن المبارك به ،
وقال : حسن غريب.
(أَلَمْ تَكُنْ آياتِي
تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٠٥) قالُوا رَبَّنا
غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (١٠٦) رَبَّنا أَخْرِجْنا
مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ)
(١٠٧)
هذا تقريع من الله
وتوبيخ لأهل النار على ما ارتكبوه من الكفر والمآثم والمحارم والعظائم التي
أوبقتهم في ذلك ، فقال تعالى : (أَلَمْ تَكُنْ آياتِي
تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) أي قد أرسلت إليكم الرسل ، وأنزلت عليكم الكتب ، وأزلت
شبهكم ، ولم يبق لكم حجة ، كما قال تعالى : (لِئَلَّا يَكُونَ
لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) [النساء : ١٦٥]
وقال تعالى : (وَما كُنَّا
مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء : ١٥]
وقال تعالى : (كُلَّما أُلْقِيَ
فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ـ إلى قوله ـ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ) [الملك : ٨ ـ ١١]
ولهذا قالوا : (رَبَّنا غَلَبَتْ
عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ) أي قد قامت علينا الحجة ، ولكن كنا أشقى من أن ننقاد لها
ونتبعها ، فضللنا عنها ولم نرزقها. ثم قالوا : (رَبَّنا أَخْرِجْنا
مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ) أي ارددنا إلى الدنيا ، فإن عدنا إلى ما سلف منا فنحن
ظالمون مستحقون للعقوبة ، كما قال : (فَاعْتَرَفْنا
بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ ـ إلى قوله ـ فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ
الْكَبِيرِ) [غافر : ١١ ـ ١٢]
أي لا سبيل إلى الخروج لأنكم كنتم تشركون بالله إذا وحده المؤمنون.
__________________
(قالَ اخْسَؤُا فِيها
وَلا تُكَلِّمُونِ (١٠٨) إِنَّهُ كانَ
فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا
وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١٠٩) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ
سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ
(١١٠) إِنِّي
جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ)
(١١١)
هذا جواب من الله
تعالى للكفار إذا سألوا الخروج من النار والرجعة إلى هذه الدار. يقول (اخْسَؤُا فِيها) أي امكثوا فيها صاغرين مهانين أذلاء ، (وَلا تُكَلِّمُونِ) أي لا تعودوا إلى سؤالكم هذا فإنه لا جواب لكم عندي. قال
العوفي عن ابن عباس (اخْسَؤُا فِيها وَلا
تُكَلِّمُونِ) قال : هذا قول الرحمن حين انقطع كلامهم منه.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبي ، حدثنا عبدة بن سليمان المروزي ، حدثنا عبد الله بن المبارك عن سعيد
بن أبي عروبة عن قتادة عن أبي أيوب عن عبد الله بن عمرو قال : إن أهل جهنم يدعون
مالكا فلا يجيبهم أربعين عاما ، ثم يرد عليهم إنكم ماكثون ، قال هانت دعوتهم والله
على مالك ورب مالك ، ثم يدعون ربهم فيقولون (رَبَّنا غَلَبَتْ
عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ
عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ) قال : فيسكت عنهم قدر الدنيا مرتين ثم يرد عليهم (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) قال : فو الله ما نبس القوم بعدها بكلمة واحدة ، وما هو
إلا الزفير والشهيق في نار جهنم ، قال : فشبهت أصواتهم بأصوات الحمير أولها زفير
وآخرها شهيق.
وقال ابن أبي حاتم
أيضا : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا سفيان عن سلمة بن
كهيل ، حدثنا أبو الزعراء قال : قال عبد الله بن مسعود : إذا أراد الله تعالى أن
لا يخرج منهم أحدا يعني من جهنم ، غير وجوههم وألوانهم ، فيجيء الرجل من المؤمنين
فيشفع فيقول : يا رب ، فيقول الله : من عرف أحدا فليخرجه ، فيجيء الرجل من المؤمنين
فينظر فلا يعرف أحدا ، فيناديه الرجل : يا فلان أنا فلان ، فيقول ما أعرفك ، قال :
فعند ذلك يقولون (رَبَّنا أَخْرِجْنا
مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ) فعند ذلك يقول الله تعالى : (اخْسَؤُا فِيها وَلا
تُكَلِّمُونِ) فإذا قال ذلك أطبقت عليهم النار فلا يخرج منهم أحد.
ثم قال تعالى
مذكرا لهم بذنوبهم في الدنيا وما كانوا يستهزئون بعباده المؤمنين وأوليائه ، فقال
تعالى : (إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ
مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ
خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا) أي فسخرتم منهم في دعائهم إياي وتضرعهم إلي (حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي) أي حملكم بغضهم على أن نسيتم معاملتي (وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ) أي من صنيعهم وعبادتهم ، كما قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ
الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ) [المطففين : ٢٩ ـ ٣٠]
أي يلمزونهم استهزاء : ثم أخبر تعالى عما جازى به أولياءه وعباده الصالحين ، فقال
تعالى : (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ
الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا) أي على أذاكم لهم
واستهزائكم بهم (أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ) بالسعادة والسلامة والجنة والنجاة من النار.
(قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ
فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) قالُوا لَبِثْنا
يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (١١٣) قالَ إِنْ
لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١٤)
أَفَحَسِبْتُمْ
أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (١١٥)
فَتَعالَى
اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ)
(١١٦)
يقول تعالى منبها
لهم على ما أضاعوه في عمرهم القصير في الدنيا من طاعة الله تعالى وعبادته وحده ،
ولو صبروا في مدة الدنيا القصيرة لفازوا كما فاز أولياؤه المتقون (قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ
عَدَدَ سِنِينَ) أي كم كانت إقامتكم في الدنيا (قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ
يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ) أي الحاسبين (قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ
إِلَّا قَلِيلاً) أي مدة يسيرة على كل تقدير (لَوْ أَنَّكُمْ
كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي لما آثرتم الفاني على الباقي ولما تصرفتم لأنفسكم هذا
التصرف السيئ ولا استحققتم من الله سخطه في تلك المدة اليسيرة ، فلو أنكم صبرتم
على طاعة الله وعبادته كما فعل المؤمنون لفزتم كما فازوا.
قال ابن أبي حاتم
: حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن الوزير ، حدثنا الوليد ، حدثنا صفوان عن أيفع بن عبد
الكلاعي أنه سمعه يخطب الناس فقال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن الله إذا أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ،
قال : يا أهل الجنة كم لبثتم في الأرض عدد سنين؟ قالوا : لبثنا يوما أو بعض يوم ـ قال
ـ لنعم ما اتجرتم في يوم أو بعض يوم رحمتي ورضواني وجنتي امكثوا فيها خالدين
مخلدين ، ثم قال : يا أهل النار كم لبثتم في الأرض عدد سنين؟ قالوا لبثنا يوما أو
بعض يوم ، فيقول : بئس ما اتجرتم في يوم أو بعض يوم ، ناري وسخطي امكثوا فيها
خالدين مخلدين».
وقوله تعالى : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ
عَبَثاً) أي أفظننتم أنكم مخلوقون عبثا بلا قصد ولا إرادة منكم ولا
حكمة لنا ، وقيل : للعبث ، أي لتلعبوا وتعبثوا كما خلقت البهائم لا ثواب لها ولا
عقاب ، وإنما خلقناكم للعبادة وإقامة أوامر الله عزوجل (وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا
لا تُرْجَعُونَ) أي لا تعودون في الدار الآخرة ، كما قال تعالى : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ
سُدىً) [القيامة : ٣٦]
يعني هملا. وقوله : (فَتَعالَى اللهُ
الْمَلِكُ الْحَقُ) أي تقدس أن يخلق شيئا عبثا ، فإنه الملك الحق المنزه عن
ذلك (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ
رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) فذكر العرش لأنه سقف جميع المخلوقات ، ووصفه بأنه كريم أي
حسن المنظر بهي الشكل ، كما قال تعالى : (فَأَنْبَتْنا فِيها
مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) [ق : ٧].
قال ابن أبي حاتم
: حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا علي بن محمد الطنافسي ، حدثنا إسحاق بن سليمان شيخ
من أهل العراق ، أنبأنا شعيب بن صفوان عن رجل من آل سعيد بن العاص قال : كان آخر
خطبة خطبها عمر بن عبد العزيز أن حمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما
بعد ، أيها الناس
إنكم لم تخلقوا عبثا ، ولن تتركوا سدى ، وإن لكم معادا ينزل الله فيه للحكم بينكم
والفصل بينكم ، فخاب وخسر وشقي عبد أخرجه الله من رحمته ، وحرم جنة عرضها السموات
والأرض ، ألم تعلموا أنه لا يأمن عذاب الله غدا إلا من حذر هذا اليوم وخافه ، وباع
نافدا بباق وقليلا بكثير وخوفا بأمان ، ألا ترون أنكم من أصلاب الهالكين ، وسيكون
من بعدكم الباقين حتى تردون إلى خير الوارثين؟ ثم إنكم في كل يوم تشيعون غاديا
ورائحا إلى الله عزوجل ، قد قضى نحبه وانقضى أجله حتى تغيبوه في صدع من الأرض في
بطن صدع غير ممهد ولا موسد ، قد فارق الأحباب وباشر التراب ، ووجه الحساب ، مرتهن
بعمله ، غني عما ترك ، فقير إلى ما قدم. فاتقوا الله قبل انقضاء مواثيقه ونزول
الموت بكم ، ثم جعل طرف ردائه على وجهه فبكى وأبكى من حوله.
وقال ابن أبي حاتم
: حدثنا يحيى بن نصير الخولاني ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني ابن لهيعة عن أبي هبيرة
عن حنش بن عبد الله أن رجلا مصابا مر به عبد الله بن مسعود فقرأ في أذنه هذه الآية
(أَفَحَسِبْتُمْ
أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ فَتَعالَى
اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُ) حتى ختم السورة فبرأ ، فذكر ذلك لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «بما ذا قرأت في أذنه؟» فأخبره ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «والذي نفسي بيده لو أن رجلا موقنا قرأها على جبل لزال».
وروى أبو نعيم من
طريق خالد بن نزار عن سفيان بن عيينة عن محمد بن المنكدر عن محمد بن إبراهيم بن
الحارث عن أبيه قال : بعثنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم في سرية وأمرنا أن نقول إذا نحن أمسينا وأصبحنا (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ
عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) قال : فقرأناها فغنمنا وسلمنا.
وقال ابن أبي حاتم
أيضا : حدثنا إسحاق بن وهب العلاف الواسطي ، حدثنا أبو المسيب سلمة بن سلام ،
حدثنا بكر بن حنيس عن نهشل بن سعيد عن الضحاك بن مزاحم عن عبد الله بن عباس قال :
قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «أمان أمتي من
الغرق إذا ركبوا السفينة باسم الله الملك الحق ، وما قدروا الله حق قدره ، والأرض
جميعا فقبضته يوم القيامة ، والسموات مطويات بيمينه ، سبحانه وتعالى عما يشركون ،
باسم الله مجراها ومرساها ، إن ربي لغفور رحيم».
(وَمَنْ يَدْعُ مَعَ
اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ
إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (١١٧) وَقُلْ رَبِّ
اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ)
(١١٨)
يقول تعالى متوعدا
من أشرك به غيره وعبد معه سواه ، ومخبرا أن من أشرك بالله لا برهان له ، أي لا
دليل له على قوله ، فقال تعالى : (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ
اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ) وهذه جملة معترضة ، وجواب الشرط في قوله : (فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) أي الله يحاسبه على ذلك ،
ثم أخبر (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) أي لديه يوم القيامة لا فلاح لهم ولا نجاة. قال قتادة :
ذكر لنا أن نبي الله صلىاللهعليهوسلم قال لرجل : «ما تعبد؟» قال : أعبد الله وكذا وكذا حتى عد
أصناما ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «فأيهم إذا أصابك ضر فدعوته كشفه عنك؟» قال : الله عزوجل. قال «فأيهم إذا كانت لك حاجة فدعوته أعطاكها؟». قال :
الله عزوجل ، قال : «فما يحملك على أن تعبد هؤلاء معه ، أم حسبت أن
تغلب عليه؟» قال : أردت شكره بعبادة هؤلاء معه ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «تعلمون ولا
يعلمون» فقال الرجل بعد ما أسلم : لقيت رجلا خصمني ، هذا مرسل من هذا الوجه ، وقد
روى أبو عيسى الترمذي في جامعه مسندا عن عمران بن الحصين عن أبيه عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم نحو ذلك. وقوله تعالى : (وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ
وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) هذا إرشاد من الله تعالى إلى هذا الدعاء ، فاغفر إذا أطلق
ومعناه محو الذنب وستره عن الناس ، والرحمة معناها أن يسدده ويوفقه في الأقوال
والأفعال.
آخر تفسير سورة
المؤمنون.
فهرس المحتويات
سورة الإسراء
الآية
: ١....................................................................... ٣
الآيتان : ٢ و ٣............................................................... ٤٢
الآيات : ٤ ـ ٨................................................................ ٤٣
الآيات : ٩ ـ ١١.............................................................. ٤٥
الآية : ١٢.................................................................... ٤٦
الآيتان : ١٣ و ١٤............................................................ ٤٧
الآية : ١٥.................................................................... ٤٩
الآيتان : ١٦ و ١٧............................................................ ٥٧
الآيات : ١٨ ـ ٢١............................................................. ٥٨
الآيات : ٢٢ ـ ٤.............................................................. ٥٩
الآية : ٢٥.................................................................... ٦٢
الآيات : ٢٦ ـ ٢٨............................................................. ٦٣
الآيتان : ٢٩ و ٣٠............................................................ ٦٤
الآيتان : ٣١ و ٣٢............................................................ ٦٦
الآية : ٣٣.................................................................... ٦٧
الآيتان : ٣٤ و ٣٥............................................................ ٦٨
الآيات : ٣٦ ـ ٣٨............................................................. ٦٩
الآيتان : ٣٩ و ٤٠............................................................ ٧١
الآيات : ٤١ ـ ٤٤............................................................. ٧٢
الآيتان : ٤٥ و ٤٦............................................................ ٧٥
الآيتان : ٤٧ و ٤٨............................................................ ٧٦
الآيات : ٤٩ ـ ٥٢............................................................. ٧٨
الآيات : ٥٣ ـ ٥٥............................................................. ٨٠
الآيتان : ٥٦ و ٥٧............................................................ ٨١
الآيتان : ٥٨ و ٥٩............................................................ ٨٢
الآية : ٦٠.................................................................... ٨٤
الآيتان : ٦١ و ٦٢............................................................ ٨٥
الآيات : ٦٣ ـ ٦٥............................................................. ٨٦
الآية : ٦٦.................................................................... ٨٧
الآيات : ٦٧ ـ ٦٩............................................................. ٨٨
الآية : ٧٠.................................................................... ٨٩
الآيتان : ٧١ و ٧٢............................................................ ٩٠
الآيات : ٧٣ ـ ٧٧............................................................. ٩١
الآيتان : ٧٨ و ٧٩............................................................ ٩٢
الآيتان : ٨٠ و ٨١.......................................................... ١٠٢
الآيات : ٨٢ ـ ٨٤........................................................... ١٠٣
الآية : ٨٥.................................................................. ١٠٤
الآيات : ٨٦ ـ ٨٩........................................................... ١٠٧
الآيات : ٩٠ ـ ٩٣........................................................... ١٠٨
الآيتان : ٩٤ و ٩٥.......................................................... ١١١
الآيتان : ٩٦ و ٩٧.......................................................... ١١٢
الآيات : ٩٨ ـ ١٠٠......................................................... ١١٣
الآيات : ١٠١ ـ ١٠٤........................................................ ١١٤
الآيتان : ١٠٥ و ١٠٦....................................................... ١١٦
الآيات : ١٠٧ ـ ١١١........................................................ ١١٧
سورة
الكهف
الآيات : ١ ـ ٥.............................................................. ١٢٢
الآيات : ٦ ـ ٨.............................................................. ١٢٤
الآيات : ٩ ـ ١٢............................................................. ١٢٥
الآيات : ١٣ ـ ١٦........................................................... ١٢٧
الآية : ١٧.................................................................. ١٢٩
الآية : ١٨.................................................................. ١٣٠
الآيتان : ١٩ و ٢٠.......................................................... ١٣١
الآية : ٢١.................................................................. ١٣٢
الآية : ٢٢.................................................................. ١٣٤
الآيتان : ٢٣ و ٢٤.......................................................... ١٣٥
الآيتان : ٢٥ و ٢٦.......................................................... ١٣٦
الآيتان : ٢٧ و ٢٨.......................................................... ١٣٧
الآية : ٢٩.................................................................. ١٣٩
الآيتان : ٣٠ و ٣١.......................................................... ١٤١
الآيات : ٣٢ ـ ٤١........................................................... ١٤٢
الآيتان : ٤٣ و ٤٤.......................................................... ١٤٤
الآيتان : ٤٥ و ٤٦.......................................................... ١٤٥
الآيات : ٤٧ ـ ٤٩........................................................... ١٤٨
الآية : ٥٠.................................................................. ١٥١
الآيات : ٥١ ـ ٥٣........................................................... ١٥٣
الآية : ٥٤.................................................................. ١٥٤
الآيات : ٥٥ ـ ٥٩........................................................... ١٥٥
الآيات : ٦٠ ـ ٦٥........................................................... ١٥٦
الآيات : ٦٦ ـ ٧٠........................................................... ١٦٣
الآيات : ٧١ ـ ٧٣........................................................... ١٦٤
الآيات : ٧٤ ـ ٧٦........................................................... ١٦٥
الآيات : ٧٧ ـ ٨١........................................................... ١٦٦
الآية : ٨٢.................................................................. ١٦٧
الآيتان : ٨٣ و ٨٤.......................................................... ١٧٠
الآيات : ٨٥ ـ ٨٨........................................................... ١٧٢
الآيات : ٨٩ ـ ٩١........................................................... ١٧٤
الآيات : ٩٢ ـ ٩٦........................................................... ١٧٥
الآيات : ٩٧ ـ ٩٩........................................................... ١٧٧
الآيات : ١٠٠ ـ ١٠٦........................................................ ١٨٠
الآيات : ١٠٧ ـ ١٠٩........................................................ ١٨٢
الآية : ١١٠................................................................. ١٨٣
سورة
مريم
الآيات : ١ ـ ٦.............................................................. ١٨٧
الآية : ٧.................................................................... ١٨٩
الآيتان : ٨ و ٩.............................................................. ١٩٠
الآيات : ١٠ ـ ١٥........................................................... ١٩١
الآيات : ١٦ ـ ٢١........................................................... ١٩٣
الآيتان : ٢٢ و ٢٣.......................................................... ١٩٦
الآيات : ٢٤ ـ ٢٦........................................................... ١٩٨
الآيات : ٢٧ ـ ٣٣........................................................... ٢٠٠
الآيات : ٣٤ ـ ٣٧........................................................... ٢٠٤
الآيات : ٣٨ ـ ٤٠........................................................... ٢٠٦
الآيات : ٤١ ـ ٤٨........................................................... ٢٠٨
الآيتان : ٤٩ و ٥٠.......................................................... ٢٠٩
الآيات : ٥١ ـ ٥٣........................................................... ٢١٠
الآيتان : ٥٤ و ٥٥.......................................................... ٢١١
الآيتان : ٥٦ و ٥٧.......................................................... ٢١٣
الآية : ٥٨.................................................................. ٢١٤
الآيتان : ٥٩ و ٦٠.......................................................... ٢١٥
الآيات : ٦١ ـ ٦٣........................................................... ٢١٨
الآيتان : ٦٤ و ٦٥.......................................................... ٢٢٠
الآيات : ٦٦ ـ ٧٠........................................................... ٢٢٢
الآيتان : ٧١ و ٧٢.......................................................... ٢٢٣
الآيتان : ٧٣ و ٧٤.......................................................... ٢٢٧
الآية : ٧٥.................................................................. ٢٢٨
الآيات : ٧٦ ـ ٨٠........................................................... ٢٢٩
الآيات : ٨١ ـ ٨٤........................................................... ٢٣١
الآيات : ٨٥ ـ ٨٧........................................................... ٢٣٢
الآيات : ٨٨ ـ ٩٥........................................................... ٢٣٥
الآيات : ٩٦ ـ ٩٨........................................................... ٢٣٦
سورة
طه
الآيات : ١ ـ ٨.............................................................. ٢٤٠
الآيتان : ٩ و ١٠............................................................ ٢٤٣
الآيات : ١١ ـ ١٦........................................................... ٢٤٤
الآيات : ١٧ ـ ٢١........................................................... ٢٤٦
الآيات : ٢٢ ـ ٣٥........................................................... ٢٤٧
الآيات : ٣٦ ـ ٤٠........................................................... ٢٥٠
الآيات : ٤١ ـ ٤٤........................................................... ٢٥٩
الآيات : ٤٥ ـ ٤٨........................................................... ٢٦١
الآيات : ٤٩ ـ ٥٢........................................................... ٢٦٢
الآيات : ٥٣ ـ ٥٦........................................................... ٢٦٣
الآيات : ٥٧ ـ ٦٤........................................................... ٢٦٤
الآيات : ٦٥ ـ ٧٠........................................................... ٢٦٦
الآيات : ٧١ ـ ٧٣........................................................... ٢٦٧
الآيات : ٧٤ ـ ٧٦........................................................... ٢٦٨
الآيات : ٧٧ ـ ٧٩........................................................... ٢٧٠
الآيات : ٨٠ ـ ٨٢........................................................... ٢٧١
الآيات : ٨٣ ـ ٨٩........................................................... ٢٧٢
الآيات : ٩٠ ـ ٩٤........................................................... ٢٧٤
لآيات : ٩٥ ـ ٩٨............................................................ ٢٧٥
الآيات : ٩٩ ـ ١٠٤......................................................... ٢٧٧
الآيات : ١٠٥ ـ ١٠٨........................................................ ٢٧٨
الآيات : ١٠٩ ـ ١١٢........................................................ ٢٧٩
الآيات : ١١٣ ـ ١١٤........................................................ ٢٨٠
الآيات : ١١٥ ـ ١٢٢........................................................ ٢٨١
الآيات : ١٢٣ ـ ١٢٦........................................................ ٢٨٣
الآيات : ١٢٧ ـ ١٣٠........................................................ ٢٨٥
الآيتان : ١٣١ و ١٣٢....................................................... ٢٨٧
الآيات : ١٣٣ ـ ١٣٥........................................................ ٢٨٩
سورة
الأنبياء
الآيات : ١ ـ ٦.............................................................. ٢٩٠
الآيات : ٧ ـ ٩.............................................................. ٢٩٢
الآيات : ١٠ ـ ١٥........................................................... ٢٩٣
الآيات : ١٦ ـ ٢٠........................................................... ٢٩٤
الآيات : ٢١ ـ ٢٣........................................................... ٢٩٥
الآيات : ٢٤ ـ ٢٩........................................................... ٢٩٦
الآيات : ٣٠ ـ ٣٣........................................................... ٢٩٧
الآيتان : ٣٤ و ٣٥.......................................................... ٢٩٩
الآيتان : ٣٦ و ٣٧.......................................................... ٣٠٠
الآيات : ٣٨ ـ ٤٣........................................................... ٣٠١
الآيات : ٤٤ ـ ٤٧........................................................... ٣٠٢
الآيات : ٤٨ ـ ٥٠........................................................... ٣٠٤
الآيات : ٥١ ـ ٥٦........................................................... ٣٠٥
الآيات : ٥٧ ـ ٦٣........................................................... ٣٠٦
الآيات : ٦٤ ـ ٦٧........................................................... ٣٠٧
الآيات : ٦٨ ـ ٧٠........................................................... ٣٠٨
الآيات : ٧١ ـ ٧٥........................................................... ٣١٠
الآيات : ٧٦ ـ ٨٢........................................................... ٣١١
الآيتان : ٨٣ و ٨٤.......................................................... ٣١٥
الآيتان : ٨٥ و ٨٦.......................................................... ٣١٩
الآيتان : ٨٧ و ٨٨.......................................................... ٣٢١
الآيتان : ٨٩ و ٩٠.......................................................... ٣٢٤
الآية : ٩١.................................................................. ٣٢٥
الآيات : ٩٢ ـ ٩٧........................................................... ٣٢٦
الآيات : ٩٨ ـ ١٠٣......................................................... ٣٣١
الآية : ١٠٤................................................................. ٣٣٥
الآيات : ١٠٥ ـ ١٠٧........................................................ ٣٣٧
الآيات : ١٠٨ ـ ١١٢........................................................ ٣٤٠
سورة
الحج
الآيتان : ١ و ٢.............................................................. ٣٤١
الآيتان : ٣ و ٤.............................................................. ٣٤٦
الآيات : ٥ ـ ٧.............................................................. ٣٤٧
الآيات : ٨ ـ ١٣............................................................. ٣٥١
الآيات : ١٤ ـ ١٦........................................................... ٣٥٣
الآيتان : ١٧ و ١٨.......................................................... ٣٥٤
الآيات : ١٩ ـ ٢٢........................................................... ٣٥٦
الآيتان : ٢٣ و ٢٤.......................................................... ٣٥٨
الآية : ٢٥.................................................................. ٣٥٩
الآيتان : ٢٦ و ٢٧.......................................................... ٣٦٣
الآيتان : ٢٨ و ٢٩.......................................................... ٣٦٤
الآيتان : ٣٠ و ٣١.......................................................... ٣٦٨
الآيتان : ٣٢ و ٣٣.......................................................... ٣٧٠
الآيتان : ٣٤ و ٣٥.......................................................... ٣٧٣
الآية : ٣٦.................................................................. ٣٧٤
الآية : ٣٧.................................................................. ٣٧٨
الآيات : ٣٨ ـ ٤٠........................................................... ٣٨٠
الآية : ٤١.................................................................. ٣٨٣
الآيات : ٤٢ ـ ٤٦........................................................... ٣٨٤
الآيتان : ٤٧ و ٤٨.......................................................... ٣٨٥
الآيات : ٤٩ ـ ٥٤........................................................... ٣٨٧
الآيات : ٥٥ ـ ٥٧........................................................... ٣٩٠
الآيتان : ٥٨ ـ ٦٠........................................................... ٣٩١
الآيات : ٦١ ـ ٦٦........................................................... ٣٩٣
الآيات : ٦٧ ـ ٧٠........................................................... ٣٩٥
الآيتان : ٧١ و ٧٢.......................................................... ٣٩٦
الآيتان : ٧٣ و ٧٤.......................................................... ٣٩٧
الآيات : ٧٥ ـ ٧٨........................................................... ٣٩٨
سورة
المؤمنون
الآيات : ١ ـ ١١............................................................. ٤٠١
الآيات : ١٢ ـ ١٦........................................................... ٤٠٦
الآية : ١٧.................................................................. ٤٠٩
الآيات : ١٨ ـ ٢٢........................................................... ٤١٠
الآيات : ٢٣ ـ ٣٠........................................................... ٤١٢
الآيات : ٣١ ـ ٤٤........................................................... ٤١٣
الآيات : ٤٥ ـ ٥٠........................................................... ٤١٤
الآيات : ٥١ ـ ٥٦........................................................... ٤١٥
الآيات : ٥٧ ـ ٦١........................................................... ٤١٧
الآيات : ٦٢ ـ ٦٧........................................................... ٤١٩
الآيات : ٦٨ ـ ٧٥........................................................... ٤٢٠
الآيات : ٧٦ ـ ٨٣........................................................... ٤٧٥
الآيات : ٨٤ ـ ٩٠........................................................... ٤٢٥
الآيتان : ٩١ و ٩٢.......................................................... ٤٢٧
الآيتان : ٩٣ ـ ٩٨........................................................... ٤٢٨
الآيتان : ٩٩ و ١٠٠......................................................... ٤٢٩
الآيات : ١٠١ ـ ١٠٤........................................................ ٤٣١
الآيات : ١٠٥ ـ ١٠٧........................................................ ٤٣٣
الآيات : ١٠٨ ـ ١١١........................................................ ٤٣٤
الآيات : ١١٢ ـ ١١٦........................................................ ٤٣٥
الآيتان : ١١٧ و ١١٨....................................................... ٤٣٦
|