بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سورة الأنفال

وهي مدنية. آياتها سبعون وست آيات. كلماتها ألف كلمة وستمائة كلمة وإحدى وثلاثون كلمة. حروفها خمسة آلاف ومائتان وأربعة وتسعون حرفا والله أعلم.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (١)

قال البخاري (١) : قال ابن عباس : الأنفال المغانم ، حدثنا محمد بن عبد الرحيم حدثنا سعيد بن سليمان ، أخبرنا هشيم أخبرنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس رضي الله عنهما سورة الأنفال قال : نزلت في بدر. أما ما علقه عن ابن عباس فكذلك رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال : الأنفال الغنائم (٢) ، كانت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خالصة ليس لأحد منها شيء ، وكذا قال مجاهد وعكرمة وعطاء والضحاك وقتادة وعطاء الخراساني ومقاتل بن حيان وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغير واحد أنها المغانم ، وقال الكلبي ، عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال : الأنفال الغنائم ، قال فيها لبيد : [الرمل]

إن تقوى ربنا خير نفل

وبإذن الله ريثي وعجل (٣)

وقال ابن جرير (٤) : حدثني يونس أخبرنا ابن وهب أخبرني مالك بن أنس عن ابن شهاب عن القاسم بن محمد قال : سمعت رجلا يسأل ابن عباس عن الأنفال ، فقال ابن عباس رضي الله عنهما : الفرس من النفل والسلب من النفل. ثم عاد لمسألته فقال ابن عباس ذلك أيضا ثم قال الرجل : الأنفال التي قال الله في كتابه ما هي؟ قال القاسم فلم يزل يسأله حتى كاد يحرجه ، فقال ابن عباس : أتدرون ما مثل هذا مثل صبيغ الذي ضربه عمر بن الخطاب.

وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن القاسم بن محمد قال : قال ابن عباس : كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه : إذا سئل عن شيء قال لا آمرك ولا أنهاك. ثم قال

__________________

(١) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٨ ، باب ١.

(٢) انظر تفسير الطبري ٦ / ١٦٨.

(٣) البيت في ديوان لبيد ص ١٧٤ ، ولسان العرب (نفل) ومقاييس اللغة ٤٦٤١٢ ، وتاج العروس (نفل) ، ويروى «ريثي والعجل» بدل «ريثي وعجل».

(٤) تفسير الطبري ٦ / ١٧٠.

ابن عباس : والله ما بعث الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا زاجرا آمرا محللا محرما. قال القاسم فسلط على ابن عباس رجل فسأله عن الأنفال فقال ابن عباس : كان الرجل ينفل فرس الرجل وسلاحه ، فأعاد عليه الرجل فقال له مثل ذلك ، ثم عاد عليه حتى أغضبه ، فقال ابن عباس : أتدرون ما مثل هذا؟ مثل صبيغ الذي ضربه عمر بن الخطاب حتى سالت الدماء على عقبيه أو على رجليه ، فقال الرجل أما أنت فقد انتقم الله لعمر منك (١).

وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس ، أنه فسر النفل بما ينفله الإمام لبعض الأشخاص من سلب أو نحوه بعد قسم أصل المغنم وهو المتبادر إلى فهم كثير من الفقهاء من لفظ النفل ، والله أعلم.

وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد : إنهم سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الخمس بعد الأربعة من الأخماس ، فنزلت (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) (٢) وقال ابن مسعود ومسروق : لا نفل يوم الزحف ، إنما النفل قبل التقاء الصفوف ، رواه ابن أبي حاتم عنهما ، وقال ابن المبارك وغير واحد عن عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء بن أبي رباح في الآية (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) قال يسألونك فيما شذ من المشركين إلى المسلمين في غير قتال ، من دابة أو عبد أو أمة أو متاع فهو نفل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصنع به ما يشاء (٣) ، وهذا يقتضي أنه فسر الأنفال بالفيء وهو ما أخذ من الكفار من غير قتال.

قال ابن جرير (٤) : وقال آخرون : هي أنفال السرايا حدثني الحارث حدثنا عبد العزيز حدثنا علي بن صالح بن حيي ، قال بلغني في قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) قال السرايا (٥) ، ومعنى هذا ما ينفله الإمام لبعض السرايا زيادة على قسمهم مع بقية الجيش. وقد صرح بذلك الشعبي ، واختار ابن جرير أنها زيادة على القسم.

ويشهد لذلك ما ورد في سبب نزول الآية وهو ما رواه الإمام أحمد (٦) ، حيث قال : حدثنا أبو معاوية حدثنا أبو إسحاق الشيباني عن محمد بن عبيد الله الثقفي عن سعد بن أبي وقاص قال : لما كان يوم بدر وقتل أخي عمير قتلت سعيد بن العاص وأخذت سيفه ، وكان يسمى ذا الكتيفة ، فأتيت به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «اذهب فاطرحه في القبض» قال فرجعت وبي ما لا يعلمه إلا الله ، من قتل أخي وأخذ سلبي ، قال فما جاوزت إلا يسيرا

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ١٧٠.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ١٧٠.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ١٦٩.

(٤) تفسير الطبري ٦ / ١٦٩.

(٥) تفسير الطبري ٦ / ١٦٩.

(٦) المسند ١ / ١٨٠.

حتى نزلت سورة الأنفال ، فقال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اذهب فخذ سلبك».

وقال الإمام أحمد (١) أيضا : حدثنا أسود بن عامر ، أخبرنا أبو بكر عن عاصم بن أبي النجود عن مصعب بن سعد عن سعد بن مالك ، قال : قلت يا رسول الله قد شفاني الله اليوم من المشركين ، فهب لي هذا السيف ، فقال : «إن هذا السيف لا لك ولا لي ، ضعه» قال : فوضعته ، ثم رجعت فقلت : عسى أن يعطي هذا السيف من لا يبلي بلائي ، قال : فإذا رجل يدعوني من ورائي قال : قلت قد أنزل الله فيّ شيئا؟ قال : كنت سألتني السيف وليس هو لي ، وإنه قد وهب لي ، فهو لك. قال : وأنزل الله هذه الآية (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) (٢).

ورواه أبو داود والترمذي والنسائي من طرق عن أبي بكر بن عياش به ، وقال الترمذي : حسن صحيح ، وهكذا رواه أبو داود الطيالسي ، أخبرنا شعبة أخبرنا سماك بن حرب قال سمعت مصعب بن سعد يحدث عن سعد ، قال : نزلت فيّ أربع آيات ، أصبت سيفا يوم بدر فأتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت نفلنيه ، فقال «ضعه من حيث أخذته» مرتين ، ثم عاودته فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ضعه من حيث أخذته» فنزلت هذه الآية (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) الآية وتمام الحديث ، في نزول (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً) [العنكبوت : ٨] وقوله تعالى : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) [المائدة : ٩٠] وآية الوصية وقد رواه مسلم (٣) في صحيحه من حديث شعبة به.

وقال محمد بن إسحاق : حدثني عبد الله بن أبي بكر عن بعض بني ساعدة قال : سمعت أبا أسيد مالك بن ربيعة يقول : أصبت سيف ابن عائذ يوم بدر ، وكان السيف يدعى بالمرزبان ، فلما أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الناس أن يردوا ما في أيديهم من النفل ، أقبلت به فألقيته في النفل ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يمنع شيئا يسأله ، فرآه الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي ، فسأله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأعطاه إياه (٤) ، ورواه ابن جرير (٥) من وجه آخر.

(سبب آخر في نزول الآية)

وقال الإمام أحمد (٦) : حدثنا محمد بن سلمة عن ابن إسحاق عن عبد الرحمن عن

__________________

(١) المسند ١ / ١٧٨.

(٢) أخرجه أبو داود في الجهاد باب ١٤٥ ، والترمذي في تفسير سورة ٨ ، باب ١ ، والدارمي في الوصايا باب ٤.

(٣) كتاب فضائل الصحابة حديث ٤٣.

(٤) تفسير الطبري ٦ / ١٧٣.

(٥) تفسير الطبري ٦ / ١٧٣.

(٦) المسند ٥ / ٣٢٢.

سليمان بن موسى عن مكحول عن أبي أمامة قال : سألت عبادة عن الأنفال فقال : فينا أصحاب بدر ، نزلت حين اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا فانتزعه الله من أيدينا وجعله إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقسمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين المسلمين ، عن بواء يقول عن سواء.

وقال الإمام أحمد (١) أيضا : حدثنا أبو معاوية بن عمر أخبرنا أبو إسحاق عن عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة ، عن سليمان بن موسى عن أبي سلامة عن أبي أمامة عن عبادة بن الصامت ، قال : خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فشهدت معه بدرا ، فالتقى الناس ، فهزم الله تعالى العدو ، فانطلقت طائفة في آثارهم يهزمون ويقتلون ، وأقبلت طائفة على العسكر يحوزونه ويجمعونه ، وأحدقت طائفة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يصيب العدو منه غرة ، حتى إذا كان الليل وفاء الناس بعضهم إلى بعض ، قال الذين جمعوا الغنائم : نحن حويناها فليس لأحد فيها نصيب ، وقال الذين خرجوا في طلب العدو : لستم بأحق به منا ، نحن منعنا عنه العدو وهزمناهم ، وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : خفنا أن يصيب العدو منه غرة فاشتغلنا به ، فنزلت (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) فقسمها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بين المسلمين وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أغار في أرض العدو نفل الربع ، فإذا أقبل راجعا نفل الثلث ، وكان يكره الأنفال (٢) ، ورواه الترمذي وابن ماجة من حديث سفيان الثوري عن عبد الرحمن بن الحارث به نحوه ، قال الترمذي : هذا حديث حسن.

ورواه ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه ، من حديث عبد الرحمن بن الحارث ، وقال الحاكم : صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرجاه ، وروى أبو داود والنسائي وابن جرير وابن مردويه واللفظ له ، وابن حبان والحاكم من طرق عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس ، قال : لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من صنع كذا وكذا فله كذا وكذا» فتسارع في ذلك شبان القوم وبقي الشيوخ تحت الرايات ، فلما كانت المغانم جاءوا يطلبون الذي جعل لهم ، فقال الشيوخ : لا تستأثروا علينا فإنا كنا ردءا لكم لو انكشفتم لفئتم إلينا. فتنازعوا فأنزل الله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ ـ إلى قوله ـ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٣).

وقال الثوري عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ، قال : لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قتل قتيلا فله كذا وكذا ، ومن أتى أسيرا فله كذا وكذا». فجاء أبو اليسر بأسيرين فقال : يا رسول الله صلى الله عليك ، أنت وعدتنا ، فقام سعد بن عبادة فقال :

__________________

(١) المسند ٥ / ٣٢٤.

(٢) أخرجه الترمذي في السير باب ١٢ ، وابن ماجة في الجهاد باب ٣٥.

(٣) أخرجه أبو داود في الجهاد باب ١٤٤.

يا رسول الله ، إنك لو أعطيت هؤلاء لم يبق لأصحابك شيء ، وإنه لم يمنعنا من هذا زهادة في الأجر ، ولا جبن عن العدو ، وإنما قمنا هذا المقام محافظة عليك مخافة أن يأتوك من ورائك ، فتشاجروا ونزل القرآن (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) ، قال ونزل القرآن (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) [الأنفال : ٤١] إلى آخر الآية.

وقال الإمام أبو عبيد الله القاسم بن سلام ، رحمه‌الله ، في كتاب الأموال الشرعية وبيان جهاتها ومصارفها ، أما الأنفال فهي المغانم وكل نيل ناله المسلمون من أموال أهل الحرب ، فكانت الأنفال الأولى لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يقول الله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) ، فقسمها يوم بدر على ما أراه الله من غير أن يخمسها على ما ذكرناه في حديث سعد ، ثم نزلت بعد ذلك آية الخمس فنسخت الأولى.

قلت هكذا روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس سواء ، وبه قال مجاهد وعكرمة والسدي. وقال ابن زيد : ليست منسوخة بل هي محكمة.

قال أبو عبيد وفي ذلك آثار ، والأنفال أصلها جماع الغنائم ، إلا أن الخمس منها مخصوص لأهله على ما نزل به الكتاب وجرت به السنة ، ومعنى الأنفال في كلام العرب كل إحسان فعله فاعل تفضلا ، من غير أن يجب ذلك عليه ، فذلك النفل الذي أحله الله للمؤمنين من أموال عدوهم ، وإنما هو شيء خصهم الله به تطولا منه عليهم بعد أن كانت الغنائم محرمة على الأمم قبلهم ، فنفلها الله تعالى هذه الأمة ، فهذا أصل النفل.

قلت : شاهد هذا ما في الصحيحين عن جابر رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي ـ فذكر الحديث إلى أن قال ـ وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي» (١). وذكر تمام الحديث ، ثم قال أبو عبيد : ولهذا سمى ما جعل الإمام للمقاتلة نفلا ، وهو تفضيله بعض الجيش على بعض بشيء سوى سهامهم يفعل ذلك بهم على قدر الغناء عن الإسلام والنكاية في العدو.

وفي النفل الذي ينفله الإمام سنن أربع لكل واحدة منهن موضع غير موضع الأخرى [فإحداهن] في النفل لا خمس فيه وذلك السلب ، [والثانية] النفل الذي يكون من الغنيمة بعد إخراج الخمس وهو أن يوجه الإمام السرايا في أرض الحرب ، فتأتي بالغنائم ، فيكون للسرية مما جاءت به الربع أو الثلث بعد الخمس ، [والثالثة] في النفل من الخمس نفسه ، وهو أن تحاز الغنيمة كلها ، ثم تخمس فإذا صار الخمس في يدي الإمام ، نفل منه على قدر ما يرى. [والرابعة] في النفل في جملة الغنيمة قبل أن يخمس منها شيء ، وهو أن

__________________

(١) أخرجه البخاري في التيمم باب ١ ، والخمس باب ٨ ، ومسلم في المساجد حديث ٣ ، ٥ ، والترمذي في السير باب ٢٩.

يعطي الأدلاء ورعاة الماشية والسواق لها. وفي كل ذلك اختلاف.

قال الربيع : قال الشافعي : الأنفال أن لا يخرج من رأس الغنيمة قبل الخمس شيء غير السلب. قال أبو عبيد : والوجه الثاني من النفل هو شيء زيدوه غير الذي كان لهم وذلك من خمس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن له خمس الخمس من كل غنيمة ، فينبغي للإمام أن يجتهد ، فإذا كثر العدو واشتدت شوكتهم وقل من بإزائه من المسلمين ، نفل منه اتباعا لسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإذا لم يكن ذلك لم ينفل.

[والوجه الثالث] من النفل إذا بعث الإمام سرية أو جيشا فقال لهم قبل اللقاء من غنم شيئا ، فهو له ، بعد الخمس فهو لهم على ما شرط الإمام ، لأنّهم على ذلك غزوا وبه رضوا ، انتهى كلامه. وفيما تقدم من كلامه وهو قوله : إن غنائم بدر لم تخمس نظر. ويرد عليه حديث علي بن أبي طالب ، في شارفيه اللذين حصلا له من الخمس يوم بدر ، وقد بينت ذلك في كتاب السيرة بيانا شافيا ، ولله الحمد والمنة.

وقوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) أي اتقوا الله في أموركم وأصلحوا فيما بينكم ولا تظالموا ولا تخاصموا ولا تشاجروا فما أتاكم الله من الهدى والعلم خير مما تختصمون بسببه (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) أي في قسمه بينكم على ما أراده الله ، فإنه إنما يقسمه كما أمره الله من العدل والإنصاف ، وقال ابن عباس : هذا تحريج من الله ورسوله أن يتقوا ويصلحوا ذات بينهم وكذا قال مجاهد ، وقال السدي (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) أي لا تستبوا.

ولنذكر هاهنا حديثا أورده الحافظ أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي رحمه‌الله ، في مسنده فإنه قال : حدثنا مجاهد بن موسى ، حدثنا عبد الله بن بكر ، حدثنا عباد بن شيبة الحبطي عن سعيد بن أنس عن أنس رضي الله عنه قال : بينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالس إذ رأيناه ضحك حتى بدت ثناياه ، فقال عمر : ما أضحكك يا رسول الله بأبي أنت وأمي؟ فقال : «رجلان من أمتي جثيا بين يدي رب العزة تبارك وتعالى ، فقال أحدهما : يا رب خذ لي مظلمتي من أخي.

فقال الله تعالى ، أعط أخاك مظلمته ، قال : يا رب لم يبق من حسناتي شيء قال : رب فليحمل عني من أوزاري». قال : ففاضت عينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالبكاء ثم قال «إن ذلك ليوم عظيم يوم يحتاج الناس إلى من يتحمل عنهم من أوزارهم ، فقال الله تعالى للطالب : ارفع بصرك وانظر في الجنان فرفع رأسه فقال : يا رب أرى مدائن من فضة وقصورا من ذهب مكللة باللؤلؤ ، لأي نبي هذا؟ لأي صديق هذا؟ لأي شهيد هذا؟ قال : هذا لمن أعطى ثمنه ، قال رب ومن يملك ثمنه؟ قال أنت تملكه ، قال : ماذا يا رب؟ قال : تعفو عن

أخيك ، قال : يا رب ، فإني قد عفوت عنه ، قال الله تعالى : خذ بيد أخيك ، فادخلا الجنة». ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم ، فإن الله تعالى يصلح بين المؤمنين يوم القيامة».

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (٤)

قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ). قال : المنافقون لا يدخل قلوبهم شيء من ذكر الله عند أداء فرائضه. ولا يؤمنون بشيء من آيات الله ولا يتوكلون ولا يصلون إذا غابوا ولا يؤدون زكاة أموالهم ، فأخبر الله تعالى أنهم ليسوا بمؤمنين ، ثم وصف الله المؤمنين فقال (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) فأدوا فرائضه (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً) يقول زادتهم تصديقا (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) يقول لا يرجون غيره (١).

وقال مجاهد (وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) فرقت أي فزعت وخافت ، وكذا قال السدي وغير واحد (٢) ، وهذه صفة المؤمن حق المؤمن الذي إذا ذكر الله وجل قلبه أي خاف منه ، ففعل أوامره وترك زواجره ، كقوله تعالى : (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) ، [آل عمران : ١٣٥] وكقوله تعالى : (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) [النازعات : ٤ ـ ٥] ولهذا قال سفيان الثوري : سمعت السدي يقول في قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ). قال : هو الرجل يريد أن يظلم أو قال يهم بمعصية فيقال له : اتق الله فيجل قلبه.

وقال الثوري أيضا عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن شهر بن حوشب عن أمّ الدرداء في قوله (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) قال : الوجل في القلب كاحتراق السعفة ، أما تجد له قشعريرة؟ قال : بلى. قالت : إذا وجدت ذلك فادع الله عند ذلك ، فإن الدعاء يذهب ذلك (٣).

وقوله (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً) ، كقوله (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) [التوبة : ٩].

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ١٧٨.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ١٧٨.

(٣) انظر تفسير الطبري ٦ / ١٧٨.

وقد استدل البخاري وغيره من الأئمة بهذه الآية وأشباهها على زيادة الإيمان وتفاضله في القلوب ، كما هو مذهب جمهور الأمة ، بل قد حكى الإجماع عليه غير واحد من الأئمة كالشافعي وأحمد بن حنبل وأبي عبيد ، كما بينا ذلك مستقصى في أول شرح البخاري ، ولله الحمد والمنة.

(وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) أي لا يرجون سواه ولا يقصدون إلا إياه ولا يلوذون إلا بجنابه ، ولا يطلبون الحوائج إلا منه ، ولا يرغبون إلا إليه ، ويعلمون أنه ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن ، وأنه المتصرف في الملك ، وحده لا شريك له ولا معقب لحكمه وهو سريع الحساب ، ولهذا قال سعيد بن جبير : التوكل على الله جماع الإيمان. وقوله (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) ينبه تعالى بذلك على أعمالهم بعد ما ذكر اعتقادهم وهذه الأعمال تشمل أنواع الخير كلها ، وهو إقامة الصلاة وهو حق الله تعالى.

وقال قتادة : إقامة الصلاة المحافظة على مواقيتها ووضوئها وركوعها وسجودها ، وقال مقاتل بن حيان : إقامتها المحافظة على مواقيتها وإسباغ الطهور فيها وتمام ركوعها وسجودها وتلاوة القرآن فيها والتشهد والصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا إقامتها ، والإنفاق مما رزقهم الله يشمل إخراج الزكاة وسائر الحقوق للعباد من واجب ومستحب. والخلق كلهم عيال الله فأحبهم إلى الله أنفعهم لخلقه. قال قتادة في قوله (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) ، فأنفقوا مما أعطاكم الله فإنما هذه الأموال عواري وودائع عندك يا ابن آدم أوشكت أن تفارقها.

وقوله (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) ، أي المتصفون بهذه الصفات هم المؤمنون حق الإيمان. وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي ، حدثنا أبو كريب حدثنا زيد بن الحباب ، حدثنا ابن لهيعة عن خالد بن يزيد السكسكي عن سعيد بن أبي هلال عن محمد بن أبي الجهم ، عن الحارث بن مالك الأنصاري ، أنه مر برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له : «كيف أصبحت يا حارث؟» قال : أصبحت مؤمنا حقا ، قال : «انظر ما تقول ، فإن لكل شيء حقيقة ، فما حقيقة إيمانك؟» فقال : عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري ، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا ، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها ، وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها. فقال : «يا حارث عرفت فالزم» ثلاثا.

وقال عمرو بن مرة في قوله تعالى : (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) إنما أنزل القرآن بلسان العرب كقولك فلان سيد حقا ، وفي القوم سادة. وفلان تاجر حقا ، وفي القوم تجار. وفلان شاعر حقا ، وفي القوم شعراء. وقوله (لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي منازل ومقامات ودرجات في الجنات كما قال تعالى : (هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما

يَعْمَلُونَ) [آل عمران : ١٦٣] (وَمَغْفِرَةٌ) أي يغفر لهم السيئات ويشكر لهم الحسنات. وقال الضحاك في قوله (لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أهل الجنة بعضهم فوق بعض ، فيرى الذي هو فوق فضله على الذي هو أسفل منه ، ولا يرى الذي هو أسفل منه أنه فضل عليه أحد.

ولهذا جاء في الصحيحين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إن أهل عليين ليراهم من أسفل منهم كما ترون الكوكب الغابر في أفق من آفاق السماء». قالوا : يا رسول الله ، تلك منازل الأنبياء لا ينالها غيرهم فقال : «بلى والذي نفسي بيده ، لرجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين» (١). وفي الحديث الآخر الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن من حديث أبي عطية عن ابن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن أهل الجنة ليتراؤون أهل الدرجات العلى كما ترون الكوكب الغابر في أفق السماء وإن أبا بكر وعمر منهم وأنعما» (٢).

(كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (٥) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٦) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (٧) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) (٨)

قال الإمام أبو جعفر الطبري (٣) : اختلف المفسرون في السبب الجالب لهذه الكاف في قوله (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ) ، فقال بعضهم شبه به في الصلاح للمؤمنين اتقاؤهم ربهم وإصلاحهم ذات بينهم وطاعتهم لله ورسوله ، ثم روي عن عكرمة نحو هذا.

ومعنى هذا أن الله تعالى يقول كما أنكم لما اختلفتم في المغانم وتشاححتم فيها فانتزعها الله منكم وجعلها إلى قسمه ، وقسم رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقسمها على العدل والتسوية ، فكان هذا هو المصلحة التامة لكم ، وكذلك لما كرهتم الخروج إلى الأعداء من قتال ذات الشوكة ، وهم النفير الذين خرجوا لنصر دينهم وإحراز عيرهم ، فكان عاقبة كراهتكم للقتال بأن قدره لكم وجمع به بينكم وبين عدوكم على غير ميعاد رشدا وهدى ، ونصرا وفتحا ، كما قال تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [البقرة : ٢١٦].

__________________

(١) أخرجه البخاري في بدء الخلق باب ٨ ، والرقاق باب ٥١ ، ومسلم في الجنة حديث ١١ ، وأحمد في المسند ٣ / ٥٠.

(٢) أخرجه أبو داود في الحروف باب ١٩ ، وابن ماجة في المقدمة باب ١١ ، وأحمد في المسند ٣ / ٢٦ ، ٢٧.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ١٨٠.

قال ابن جرير (١) وقال آخرون : معنى ذلك (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِ) ، على كره من فريق من المؤمنين كذلك هم كارهون للقتال فهم يجادلونك فيه بعد ما تبين لهم. ثم روي عن مجاهد نحوه أنه قال (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ) قال كذلك يجادلونك في الحق.

وقال السدي : أنزل الله في خروجه إلى بدر ومجادلتهم إياه ، فقال (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ) لطلب المشركين (يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ) (٢) وقال بعضهم يسألونك عن الأنفال مجادلة كما جادلوك يوم بدر فقالوا أخرجتنا للعير ولم تعلمنا قتالا فنستعد له.

قلت : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما خرج من المدينة طالبا لعير أبي سفيان التي بلغه خبرها أنها صادرة من الشام فيها أموال جزيلة لقريش فاستنهض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المسلمين من خف منهم فخرج في ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا ، وطلب نحو الساحل من على طريق بدر ، وعلم أبو سفيان بخروج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في طلبه ، فبعث ضمضم بن عمرو نذيرا إلى أهل مكة ، فنهضوا في قريب من ألف مقنع ما بين التسعمائة إلى الألف وتيامن أبو سفيان بالعير إلى سيف البحر فنجا وجاء النفير فوردوا ماء بدر ، وجمع الله بين المسلمين والكافرين على غير ميعاد لما يريد الله تعالى من إعلاء كلمة المسلمين ونصرهم على عدوهم والتفرقة بين الحق والباطل كما سيأتي بيانه ، والغرض أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما بلغه خروج النفير أوحى الله إليه يعده إحدى الطائفتين إما العير وإما النفير ، ورغب كثير من المسلمين إلى العير لأنه كسب بلا قتال ، كما قال تعالى : (وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ).

قال الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره حدثنا سليمان بن أحمد الطبراني حدثنا بكر بن سهل ، حدثنا عبد الله بن يوسف حدثنا ابن لهيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب عن أسلم أبي عمران ، حدثه أنه سمع أبا أيوب الأنصاري يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونحن بالمدينة «إني أخبرت عن عير أبي سفيان أنها مقبلة فهل لكم أن نخرج قبل هذه العير لعل الله أن يغنمناها؟» فقلنا نعم فخرج وخرجنا فلما سرنا يوما أو يومين ، قال لنا «ما ترون في قتال القوم فإنهم قد أخبروا بمخرجكم؟» فقلنا لا والله ما لنا طاقة بقتال العدو ولكنا أردنا العير ، ثم قال «ما ترون في قتال القوم؟» فقلنا مثل ذلك فقال المقداد بن عمرو : إذا لا نقول لك يا رسول الله كما قال قوم موسى لموسى (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ١٨١.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ١٨١.

قاعِدُونَ) [المائدة : ٢٤] قال فتمنينا معشر الأنصار أن لو قلنا كما قال المقداد أحب إلينا من أن يكون لنا مال عظيم ، قال فأنزل الله على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ) وذكر تمام الحديث (١).

ورواه ابن أبي حاتم من حديث ابن لهيعة بنحوه.

وروى ابن مردويه أيضا من حديث محمد بن عمرو بن علقمة بن أبي وقاص الليثي ، عن أبيه عن جده قال خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بدر حتى إذا كان بالروحاء خطب الناس فقال «كيف ترون؟» فقال أبو بكر : يا رسول الله بلغنا أنهم بمكان كذا وكذا ، قال : ثم خطب الناس فقال «كيف ترون؟» فقال عمر مثل قول أبي بكر ، ثم خطب الناس فقال : «كيف ترون؟» فقال سعد بن معاذ يا رسول الله إيانا تريد؟» فو الذي أكرمك وأنزل عليك الكتاب ما سلكتها قط ولا لي بها علم ، ولئن سرت حتى تأتي برك الغماد من ذي يمن لنسيرن معك ، ولا نكون كالذين قالوا لموسى (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) [المائدة : ٢٤] ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ، ولعلك أن تكون خرجت لأمر وأحدث الله إليك غيره فانظر الذي أحدث الله إليك فامض له ، فصل حبال من شئت ، واقطع حبال من شئت ، وعاد من شئت ، وسالم من شئت ، وخذ من أموالنا ما شئت ، فنزل القرآن على قول سعد (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ) (٢) الآيات.

وقال العوفي عن ابن عباس لما شاور النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في لقاء العدو ، وقال له سعد بن عبادة ما قال وذلك يوم بدر أمر الناس أن يتهيئوا للقتال وأمرهم بالشوكة ، فكره ذلك أهل الإيمان فأنزل الله (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) (٣) وقال مجاهد يجادلونك في الحق : في القتال (٤) ، وقال محمد بن إسحاق (يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِ) أي كراهية للقاء المشركين ، وإنكارا لمسير قريش حين ذكروا لهم (٥) ، وقال السدي : (يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ) أي بعد ما تبين لهم أنك لا تفعل إلا ما أمرك الله به (٦). قال ابن جرير (٧) :

__________________

(١) انظر الدر المنثور ٣ / ٢٩٩.

(٢) انظر الدر المنثور ٣ / ٢٩٩.

(٣) انظر تفسير الطبري ٦ / ١٨٢.

(٤) تفسير الطبري ٦ / ١٨١.

(٥) تفسير الطبري ٦ / ١٨٢.

(٦) تفسير الطبري ٦ / ١٨٢.

(٧) تفسير الطبري ٦ / ١٨٢.

وقال آخرون عنى بذلك المشركين ، حدثنا يونس أنبأنا ابن وهب قال قال ابن زيد في قوله تعالى : (يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) قال هؤلاء المشركون جادلوه في الحق كأنما يساقون إلى الموت حين يدعون إلى الإسلام وهم ينظرون. قال وليس هذا من صفة الآخرين ، هذه صفة مبتدأة لأهل الكفر.

ثم قال ابن جرير : ولا معنى لما قاله ، لأن الذي قبل قوله (يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِ) خبر عن أهل الإيمان والذي يتلوه خبر عنهم. والصواب قول ابن عباس وابن إسحاق : أنه خبر عن المؤمنين ، وهذا الذي نصره ابن جرير هو الحق وهو الذي يدل عليه سياق الكلام ، والله أعلم.

وقال الإمام أحمد (١) رحمه‌الله : حدثنا يحيى بن بكير وعبد الرزاق قالا : حدثنا إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال : قيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين فرغ من بدر : عليك بالعير ليس دونها شيء ، فناداه العباس بن عبد المطلب ، قال عبد الرزاق وهو أسير في وثاقه إنه لا يصلح لك ، قال ولم؟ قال لأن الله عزوجل إنما وعدك إحدى الطائفتين ، وقد أعطاك الله ما وعدك إسناد جيد ولم يخرجه.

ومعنى قوله تعالى : (وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ) أي يحبون أن الطائفة التي لا حد لها ولا منعة ولا قتال تكون لهم وهي العير ، (وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) أي هو يريد أي يجمع بينكم وبين الطائفة التي لها الشوكة والقتال ليظفركم بهم وينصركم عليهم ، ويظهر دينه ويرفع كلمة الإسلام ويجعله غالبا على الأديان ، وهو أعلم بعواقب الأمور ، وهو الذي يدبركم بحسن تدبيره ، وإن كان العباد يحبون خلاف ذلك فيما يظهر لهم كقوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) [البقرة : ٢١٦].

وقال محمد بن إسحاق رحمه‌الله : حدثني محمد بن مسلم الزهري ، وعاصم بن عمر بن قتادة وعبد الله بن أبي بكر ويزيد بن رومان ، عن عروة بن الزبير وغيرهم من علمائنا عن عبد الله بن عباس ، كل قد حدثني بعض هذا الحديث فاجتمع حديثهم فيما سقت من حديث بدر قالوا لما سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأبي سفيان مقبلا من الشام ندب المسلمين إليهم ، وقال هذه عير قريش فيها أموالهم ، فاخرجوا إليها لعل الله أي ينفلكموها فانتدب الناس فخف بعضهم وثقل بعضهم ، وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يلقى حربا.

وكان أبو سفيان قد استنفر حين دنا من الحجاز يتجسس الأخبار ، ويسأل من لقي من

__________________

(١) المسند ١ / ٢٢٩.

الركبان تخوفا على أمر الناس ، حتى أصاب خبرا من بعض الركبان أن محمدا قد استنفر أصحابه لك ولعيرك ، فحذر عند ذلك فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري فبعثه إلى أهل مكة وأمره أن يأتي قريشا فيستنفرهم إلى أموالهم ويخبرهم أن محمدا قد عرض لها في أصحابه ، فخرج ضمضم بن عمرو سريعا إلى مكة ، وخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أصحابه ، حتى بلغ واديا يقال له ذفران ، فخرج منه حتى إذا كان ببعضه نزل وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم ، فاستشار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم الناس وأخبرهم عن قريش ، فقام أبو بكر رضي الله عنه فقال ، فأحسن. ثم قام عمر رضي الله عنه فقال ، فأحسن.

ثم قام المقداد بن عمرو فقال يا رسول الله امض لما أمرك الله به ، فنحن معك والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) [المائدة: ٢٤] ، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ، فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد ، يعني مدينة الحبشة لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه ، فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم خيرا ودعا له بخير.

ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أشيروا علي أيها الناس» وإنما يريد الأنصار ، وذلك أنهم كانوا عدد الناس ، وذلك أنهم حين بايعوه بالعقبة ، قالوا : يا رسول الله إنا برآء من زمامك حتى تصل إلى دارنا ، فإذا وصلت إلينا فأنت في زمامنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا ، وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يتخوف أن لا تكون الأنصار ترى عليها نصرته إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه ، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم ، فلما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك قال له سعد بن معاذ : والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال : «أجل» فقال آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة ، فامض يا رسول الله لما أمرك الله فو الذي بعثك بالحق إن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ، ما يتخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا ، إنا لصبر عند الحرب صدق عند اللقاء ، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك ، فسر بنا على بركة الله.

فسر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقول سعد ونشطه ذلك ثم قال «سيروا على بركة الله وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين ، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم» (١) وروى العوفي عن ابن عباس نحو هذا ، وكذلك قال السدي وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغير واحد من علماء السلف والخلف ، اختصرنا أقوالهم اكتفاء بسياق محمد بن إسحاق.

(إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (٩) وَما جَعَلَهُ اللهُ

__________________

(١) انظر الأثر في تفسير الطبري ٦ / ١٨٤ ، ١٨٥ ، وسيرة ابن هشام ١ / ٦٠٦ ، ٦٠٧.

إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (١٠)

قال الإمام أحمد (١) : حدثنا أبو نوح قراد ، حدثنا عكرمة بن عمار حدثنا سماك الحنفي أبو زميل ، حدثني ابن عباس حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : لما كان يوم بدر ، نظر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أصحابه وهم ثلاثمائة ونيف ، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة ، فاستقبل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم القبلة وعليه رداؤه وإزاره ، ثم قال «اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد في الأرض أبدا» قال فما زال يستغيث ربه ويدعوه حتى سقط رداؤه عن منكبيه فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فرداه ثم التزمه من ورائه ثم قال : يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك فأنزل الله عزوجل (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ).

فلما كان يومئذ التقوا ، فهزم الله المشركين فقتل منهم سبعون رجلا وأسر منهم سبعون رجلا ، واستشار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا بكر وعمر وعليا فقال أبو بكر : يا رسول الله هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية فيكون ما أخذناه منهم قوة لنا على الكفار وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عضدا فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما ترى يا ابن الخطاب؟» قال: قلت والله ما أرى ما رأى أبو بكر ولكني أرى أن تمكني من فلان قريب لعمر فأضرب عنقه وتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه وتمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه حتى يعلم الله أن ليس في قلوبنا هوادة للمشركين ، هؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم.

فهوي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت وأخذ منهم الفداء فلما كان من الغد قال عمر فغدوت إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبي بكر وهما يبكيان فقلت : ما يبكيك أنت وصاحبك فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما. قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «للذي عرض علي أصحابك من أخذهم الفداء لقد عرض علي عذابكم أدنى من هذه الشجرة» لشجرة قريبة من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنزل الله عزوجل (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ـ إلى قوله ـ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً) [الأنفال : ٦٩] فأحل لهم الغنائم.

فلما كان يوم أحد من العام المقبل عوقبوا بما صنعوا يوم بدر من أخذهم الفداء فقتل منهم سبعون وفر أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكسرت رباعيته وهشمت البيضة على رأسه وسال الدم على وجهه فأنزل الله (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران : ١٦٥] بأخذكم الفداء (٢).

ورواه مسلم وأبو داود والترمذي وابن جرير وابن مردويه من طرق عن عكرمة بن عمار به

__________________

(١) المسند ١ / ٣٠ ، ٣١.

(٢) أخرجه مسلم في الجهاد حديث ٥٨.

وصححه علي بن المديني والترمذي وقالا لا يعرف إلا من حديث عكرمة بن عمار اليماني وهكذا روى علي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس أن هذه الآية الكريمة قوله (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ) في دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكذا قال يزيد بن يثيع والسدي وابن جريج.

وقال أبو بكر بن عياش عن أبي حصين عن أبي صالح قال : لما كان يوم بدر جعل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم يناشد ربه أشد المناشدة يدعو فأتاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : يا رسول الله بعض مناشدتك فو الله ليفين الله لك بما وعدك.

قال البخاري في كتاب المغازي باب قول الله تعالى : (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ ـ إلى قوله ـ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) حدثنا أبو نعيم حدثنا إسرائيل عن مخارق عن طارق بن شهاب قال سمعت ابن مسعود يقول شهدت من المقداد بن الأسود مشهدا لأن أكون صاحبه أحب إلى مما عدل به ، أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يدعو على المشركين فقال : لا نقول كما قال قوم موسى (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا) [المائدة : ٢٤] ولكنا نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديك وخلفك فرأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أشرق وجهه وسره يعني (١) قوله. حدثني محمد بن عبد الله بن حوشب حدثنا عبد الوهاب حدثنا خالد الحذاء عن عكرمة عن ابن عباس قال : قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم بدر «اللهم أنشدك عهدك ووعدك اللهم إن شئت لم تعبد» فأخذ أبو بكر بيده فقال : حسبك فخرج وهو يقول سيهزم الجمع ويولون الدبر» (٢) ورواه النسائي عن بندار عن عبد الوهاب عن عبد المجيد الثقفي.

وقوله تعالى (بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) أي يردف بعضهم بعضا كما قال هارون بن عنترة عن ابن عباس (مُرْدِفِينَ) متتابعين ويحتمل أن المراد (مُرْدِفِينَ) لكم أي نجدة لكم كما قال العوفي عن ابن عباس (مُرْدِفِينَ) يقول المدد كما تقول ائت للرجل زده كذا وكذا وهكذا قال مجاهد وابن كثير القارئ وابن زيد (مُرْدِفِينَ) ممدين ، وقال أبو كدينة عن قابوس عن أبيه عن ابن عباس يمدكم ربكم بألف من الملائكة مردفين قال وراء كل ملك ملك. وفي رواية بهذا الإسناد (مُرْدِفِينَ) قال بعضهم على أثر بعض وكذا قال أبو ظبيان والضحاك وقتادة.

وقال ابن جرير (٣) : حدثني المثنى حدثنا إسحاق حدثنا يعقوب بن محمد الزهري حدثني عبد العزيز بن عمران عن الزمعي عن أبي الحويرث عن محمد جبير عن علي رضي الله عنه قال : نزل جبريل في ألف من الملائكة عن ميمنة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفيها أبو بكر ، ونزل ميكائيل في ألف من الملائكة عن ميسرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنا في الميسرة. وهذا يقتضي إن صح إسناده أن الألف

__________________

(١) أخرجه البخاري في المغازي باب ٤.

(٢) أخرجه البخاري في المغازي باب ٤.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ١٩١.

مردفة بمثلها ولهذا قرأ بعضهم (مُرْدِفِينَ) بفتح الدال ، والله أعلم. والمشهور ما رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : وأمد الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين بألف من الملائكة فكان جبريل في خمسمائة من الملائكة مجنبة ، وميكائيل في خمسمائة مجنبة.

وروى الإمام أبو جعفر بن جرير ومسلم من حديث عكرمة بن عمار عن أبي زميل سماك بن وليد الحنفي عن ابن عباس ، عن عمر الحديث المتقدم ، ثم قال أبو زميل : حدثني ابن عباس قال : بينا رجل من المسلمين يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وصوت الفارس يقول أقدم حيزوم إذ نظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقيا قال فنظر إليه فإذا هو قد حطم وشق وجهه كضربة السوط فاخضر ذلك أجمع فجاء الأنصاري فحدث ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : صدقت ذلك من مدد السماء الثالثة فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين.

وقال البخاري (١) : باب شهود الملائكة بدرا. حدثنا إسحاق بن إبراهيم حدثنا جرير عن يحيى بن سعيد عن معاذ بن رفاعة بن رافع الزرقي عن أبيه وكان أبوه من أهل بدر قال جاء جبريل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال ما تعدون أهل بدر فيكم؟ قال «من أفضل المسلمين» أو كلمة نحوها قال : وكذلك من شهد بدرا من الملائكة. انفرد بإخراجه البخاري وقد رواه الطبراني في المعجم الكبير من حديث رافع بن خديج وهو خطأ ، والصواب رواية البخاري والله أعلم.

وفي الصحيحين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعمر لما شاوره في قتل حاطب بن أبي بلتعة «إنه قد شهد بدرا وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم»(٢).

وقوله تعالى : (وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى) الآية ، أي وما جعل الله بعث الملائكة وإعلامه إياكم بهم إلا بشرى (وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ) وإلا فهو تعالى قادر على نصركم على أعدائكم ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله أي بدون ذلك ولهذا قال (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) كما قال تعالى (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ) [محمد : ٤ ـ ٦] وقال تعالى (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ) [آل عمران : ١٤٠ ـ ١٤١] فهذه حكم شرع الله جهاد الكفار بأيدي المؤمنين لأجلها.

وقد كان تعالى إنما يعاقب الأمم السالفة المكذبة للأنبياء بالقوارع التي تعم تلك الأمم

__________________

(١) كتاب المغازي باب ١١.

(٢) أخرجه البخاري في المغازي باب ٩ ، ومسلم في فضائل الصحابة حديث ١٦١.

المكذبة كما أهلك قوم نوح بالطوفان ، وعادا الأولى بالدبور ، وثمود بالصيحة ، وقوم لوط بالخسف والقلب وحجارة السجيل ، وقوم شعيب بيوم الظلة ، فلما بعث الله تعالى موسى وأهلك عدوه فرعون وقومه بالغرق في اليم ثم أنزل على موسى التوراة شرع فيها قتال الكفار واستمر الحكم في بقية الشرائع بعده على ذلك كما قال تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ) [القصص : ٤٣] وقتل المؤمنين للكافرين ، أشد إهانة للكافرين ، وأشفى لصدور المؤمنين ، كما قال تعالى للمؤمنين من هذه الأمة (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) [التوبة : ١٤].

ولهذا كان قتل صناديد قريش بأيدي أعدائهم الذين ينظرون إليهم بأعين ازدرائهم أنكى لهم وأشفى لصدور حزب الإيمان ، فقتل أبي جهل في معركة القتال وحومة الوغى أشد إهانة له من موته على فراشه بقارعة أو صاعقة أو نحو ذلك كما مات أبو لهب لعنه الله بالعدسة (١) بحيث لم يقربه أحد من أقاربه ، وإنما غسلوه بالماء قذفا من بعيد ، ورجموه حتى دفنوه ، ولهذا قال تعالى : (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) أي له العزة ولرسوله وللمؤمنين بهما في الدنيا والآخرة كقوله تعالى : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) [غافر : ٥١] (حَكِيمٌ) فيما شرعه من قتال الكفار مع القدرة على دمارهم وإهلاكهم بحوله وقوته سبحانه وتعالى.

(إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (١١) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (١٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٣) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ) (١٤)

يذكرهم الله تعالى بما أنعم به عليهم من إلقائه النعاس عليهم أمانا أمنهم به من خوفهم الذي حصل لهم من كثرة عدوهم وقلة عددهم ، وكذلك فعل تعالى بهم يوم أحد كما قال تعالى : (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) [آل عمران : ١٥٤] الآية ، قال أبو طلحة : كنت ممن أصابه النعاس يوم أحد ، ولقد سقط السيف من يدي مرارا يسقط وآخذه ، ويسقط وآخذه ، ولقد نظرت إليهم يميدون وهم تحت الحجف.

وقال الحافظ أبو يعلى حدثنا زهير حدثنا ابن مهدي عن شعبة عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب عن علي رضي الله عنه قال : ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد ولقد رأيتنا وما فينا إلّا نائم ، إلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي تحت شجرة ويبكي حتى أصبح. وقال سفيان الثوري عن عاصم عن أبي رزين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال : النعاس في القتال أمنة

__________________

(١) العدسة : بثرة تشبه العدسة ، تخرج في الجسد ، تقتل صاحبها غالبا.

من الله ، وفي الصلاة من الشيطان (١) ، وقال قتادة : النعاس في الرأس ، والنوم في القلب.

قلت : أما النعاس فقد أصابهم يوم أحد وأمر ذلك مشهور جدا ، وأما الآية الشريفة إنما هي في سياق قصة بدر ، وهي دالة على وقوع ذلك أيضا وكأن ذلك كائن للمؤمنين عند شدة البأس لتكون قلوبهم آمنة مطمئنة بنصر الله ، وهذا من فضل الله ورحمته بهم ونعمته عليهم وكما قال تعالى : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) [الانشراح : ٥ ـ ٦] ولهذا جاء في الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما كان يوم بدر في العريش مع الصديق رضي الله عنه وهما يدعوان أخذت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سنة من النوم ثم استيقظ مبتسما فقال : «أبشر يا أبا بكر هذا جبريل على ثناياه النقع» ثم خرج من باب العريش وهو يتلو قوله تعالى : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) [القمر : ٤٥].

وقوله (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : نزل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين سار إلى بدر والمشركون بينهم وبين الماء رملة دعصة وأصاب المسلمين ضعف شديد وألقى الشيطان في قلوبهم الغيظ يوسوس بينهم تزعمون أنكم أولياء الله تعالى وفيكم رسوله وقد غلبكم المشركون على الماء وأنتم تصلون مجنبين فأمطر الله عليهم مطرا شديدا فشرب المسلمون وتطهروا وأذهب الله عنهم رجس الشيطان وثبت الرمل حين أصابه المطر ومشى الناس عليه والدواب فساروا إلى القوم ، وأمد الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين بألف من الملائكة فكان جبريل في خمسمائة مجنبة ، وميكائيل في خمسمائة مجنبة (٢).

وكذا قال العوفي عن ابن عباس : إن المشركين من قريش لما خرجوا لينصروا العير وليقاتلوا عنها نزلوا على الماء يوم بدر فغلبوا المؤمنين عليه فأصاب المؤمنين الظمأ فجعلوا يصلون مجنبين محدثين حتى تعاطوا ذلك في صدورهم فأنزل الله من السماء ماء حتى سال الوادي فشرب المؤمنون وملؤوا الأسقية وسقوا الركاب واغتسلوا من الجنابة فجعل الله في ذلك طهورا وثبت به الأقدام وذلك أنه كانت بينهم وبين القوم رملة فبعث الله المطر عليها فضربها حتى اشتدت وثبتت عليها الأقدام(٣).

ونحو ذلك روي عن قتادة والضحاك والسدي ، وقد روي عن سعيد بن المسيب والشعبي والزهري وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنه طش (٤) أصابهم يوم بدر (٥).

والمعروف أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما سار إلى بدر نزل على أدنى ماء هناك أي أول ماء وجده

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ١٩٢.

(٢) انظر تفسير الطبري ٦ / ١٩٤.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ١٩٤.

(٤) الطش : المطر القليل ، وهو فوق الرذاذ.

(٥) تفسير الطبري ٦ / ١٩٣ ، ١٩٤.

فتقدم إليه الحباب بن المنذر فقال يا رسول الله هذا المنزل الذي نزلته منزل أنزلك الله إياه فليس لنا أن نجاوزه أو منزل نزلته للحرب والمكيدة؟ فقال «بل منزل نزلته للحرب والمكيدة» فقال يا رسول الله إن هذا ليس بمنزل ولكن سر بنا حتى ننزل على أدنى ماء يلي القوم ونغور ما وراءه من القلب ، ونستقي الحياض فيكون لنا ماء وليس لهم ماء فسار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ففعل كذلك (١).

وفي مغازي الأموي أن الحباب لما قال ذلك نزل ملك من السماء وجبريل جالس عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال ذلك الملك ، يا محمد إن ربك يقرئك السلام ويقول لك إن الرأي ما أشار به الحباب بن المنذر فالتفت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى جبريل عليه‌السلام فقال «هل تعرف هذا»؟ فنظر إليه فقال : ما كل الملائكة أعرفهم وإنه ملك وليس بشيطان.

وأحسن ما في هذا ما رواه الإمام محمد بن إسحاق بن يسار صاحب المغازي رحمه‌الله حدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير قال : بعث الله السماء وكان الوادي دهسا فأصاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ما لبد لهم الأرض ، ولم يمنعهم من المسير وأصاب قريشا ما لم يقدروا على أن يرحلوا معه وقال مجاهد : أنزل الله عليهم المطر قبل النعاس فأطفأ بالمطر الغبار وتلبدت به الأرض وطابت نفوسهم وثبتت به أقدامهم.

وقال ابن جرير (٢) : حدثنا هارون بن إسحاق حدثنا مصعب بن المقدام حدثنا إسرائيل حدثنا أبو إسحاق عن حارثة عن علي رضي الله عنه قال : أصابنا من الليل طش من المطر يعني الليلة التي كانت في صبيحتها وقعة بدر فانطلقنا تحت الشجر والحجف نستظل تحتها من المطر وبات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحرض على القتال.

وقوله (لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) أي من حدث أصغر أو أكبر وهو تطهير الظاهر (وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ) أي من وسوسة أو خاطر سيئ وهو تطهير الباطن كما قال تعالى في حق أهل الجنة (عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ) فهذا زينة الظاهر (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) أي مطهرا لما كان من غل أو حسد أو تباغض وهو زينة الباطن وطهارته (وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ) أي بالصبر والإقدام على مجالدة الأعداء وهو شجاعة الباطن (وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ) وهو شجاعة الظاهر ، والله أعلم.

وقوله (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) وهذه نعمة خفية أظهرها الله تعالى لهم ليشكروه عليها وهو أنه تعالى وتقدس وتبارك وتمجد أوحى إلى الملائكة الذين أنزلهم لنصر نبيه ودينه وحزبه المؤمنين يوحي إليهم فيما بينه وبينهم أن يثبتوا الذين آمنوا قال ابن إسحاق : وازروهم. وقال غيره : قاتلوا معهم وقيل كثروا سوادهم وقيل كان ذلك بأن

__________________

(١) انظر سيرة ابن هشام ١ / ٦٢٠.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ١٩٣.

الملك كان يأتي الرجل من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيقول سمعت هؤلاء القوم يعني المشركين يقولون والله لئن حملوا علينا لننكشفن فيحدث المسلمون بعضهم بعضا بذلك فتقوى أنفسهم حكاه ابن جرير وهذا لفظه بحروفه.

وقوله (سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) أي ثبتوا أنتم المؤمنين وقووا أنفسهم على أعدائهم عن أمري لكم بذلك سألقي الرعب والذلة والصغار على من خالف أمري وكذب رسولي (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) أي اضربوا الهام ففلقوها ، واحتزوا الرقاب فقطعوها ، وقطعوا الأطراف منهم وهي أيديهم وأرجلهم وقد اختلف المفسرون في معنى (فَوْقَ الْأَعْناقِ) فقيل معناه اضربوا الرؤوس ، قاله عكرمة وقيل معناه أي على الأعناق وهي الرقاب قاله الضحاك وعطية العوفي ويشهد لهذا المعنى أن الله تعالى أرشد المؤمنين إلى هذا في قوله تعالى : (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ) [محمد: ٤] وقال وكيع عن المسعودي عن القاسم قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إني لم أبعث لأعذب بعذاب الله ، إنما بعثت لضرب الرقاب وشد الوثاق» واختار ابن جرير أنها قد تدل على ضرب الرقاب وفلق الهام ، قلت وفي مغازي الأموي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جعل يمر بين القتلى يوم بدر فيقول «نفلّق هاما» فيقول أبو بكر : [الطويل]

من رجال أعزة علينا

وهم كانوا أعق وأظلما (١)

فيبتدئ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأول البيت ويستطعم أبا بكر رضي الله عنه إنشاد آخره لأنه كان لا يحسن إنشاد الشعر كما قال تعالى : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ) [يس : ٦٩] وقال الربيع بن أنس : كان الناس يوم بدر يعرفون قتلى الملائكة ممن قتلوهم بضرب فوق الأعناق وعلى البنان مثل سمة النار قد أحرق به ، وقوله (وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) وقال ابن جرير (٢) :

معناه واضربوا من عدوكم أيها المؤمنون كل طرف ومفصل من أطراف أيديهم وأرجلهم ، والبنان جمع بنانة كما قال الشاعر : [الطويل]

ألا ليتني قطعت مني بنانة

ولاقيته في البيت يقظان حاذرا (٣)

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) يعني بالبنان الأطراف وكذا قال الضحاك وابن جرير : وقال السدي البنان الأطراف ويقال كل مفصل وقال عكرمة وعطية العوفي والضحاك في رواية أخرى كل مفصل ، وقال الأوزاعي في قوله تعالى : (وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) قال اضرب منه الوجه والعين وارمه بشهاب من نار فإذا أخذته حرم

__________________

(١) البيت للحصين بن الحمام المري في الشعر والشعراء ٢ / ٦٤٨.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ١٩٧.

(٣) البيت لعباس بن مرداس في ديوانه ص ١٢٥ ، وتاج العروس (بنن) ، وتفسير الطبري ٦ / ١٩٧.

ذلك كله عليك وقال العوفي عن ابن عباس : فذكر قصة بدر إلى أن قال : فقال أبو جهل لا تقتلوهم قتلا ولكن خذوهم أخذا حتى تعرفوهم الذي صنعوا من طعنهم في دينكم ورغبتهم عن اللات والعزى فأوحى الله إلى الملائكة (أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) الآية ، فقتل أبو جهل لعنه الله في تسعة وستين رجلا ، وأسر عقبة بن أبي معيط فقتل صبرا فوفى ذلك سبعين يعني قتيلا.

ولهذا قال تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ) أي خالفوهما فساروا في شق ، وتركوا الشرع والإيمان به واتباعه في شق ، ومأخوذ أيضا من شق العصا وهو جعلها فرقتين (وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) أي هو الطالب الغالب لمن خالفه وناوأه لا يفوته شيء ولا يقوم لغضبه شيء تبارك وتعالى لا إله ولا رب سواه (ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ) هذا خطاب للكفار أي ذوقوا هذا العذاب والنكال في الدنيا واعلموا أيضا أن للكافرين عذاب النار في الآخرة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (١٦)

يقول تعالى متوعدا على الفرار من الزحف بالنار لمن فعل ذلك (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً) أي تقاربتم منهم ودنوتم إليهم (فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ) أي تفروا وتتركوا أصحابكم (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ) أي يفر بين يدي قرنه مكيدة ليريه أنه قد خاف منه فيتبعه ثم يكر عليه فيقتله فلا بأس عليه في ذلك نص عليه سعيد بن جبير والسدي ، وقال الضحاك أن يتقدم عن أصحابه ليرى غرة من العدو فيصيبها (أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ) أي فر من هاهنا إلى فئة أخرى من المسلمين يعاونهم ويعاونونه فيجوز له ذلك حتى لو كان في سرية ففر إلى أميره أو الإمام الأعظم دخل في هذه الرخصة.

قال الإمام أحمد (١) : حدثنا حسن حدثنا زهير حدثنا يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : كنت في سرية من سرايا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فحاص الناس حيصة فكنت فيمن حاص فقلنا كيف نصنع وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب؟ ثم قلنا لو دخلنا المدينة ، فبتنا ، ثم قلنا لو عرضنا أنفسنا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن كانت لنا توبة وإلا ذهبنا ، فأتيناه قبل صلاة الغداة فخرج فقال «من القوم؟» فقلنا نحن الفرارون فقال «لا بل أنتم العكارون أنا فئتكم وأنا فئة المسلمين» قال فأتيناه حتى قبلنا يده (٢).

__________________

(١) المسند ٢ / ٧٠ ، ٨٦ ، ١٠٠ ، ١١١.

(٢) أخرجه أبو داود في الجهاد باب ٩٦ ، والترمذي في الجهاد باب ٣٦.

وهكذا رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة من طرق عن يزيد بن أبي زياد وقال الترمذي : حسن لا نعرفه إلا من حديث ابن أبي زياد ورواه ابن أبي حاتم من حديث يزيد بن أبي زياد به ، وزاد في آخره وقرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية (أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ).

قال أهل العلم معنى قوله «العكارون» أي العطاقون ، وكذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أبي عبيد لما قتل على الجسر بأرض فارس لكثرة الجيش من ناحية المجوس فقال عمر لو تحيز إلي لكنت له فئة هكذا رواه محمد بن سيرين عن عمر وفي رواية أبي عثمان النهدي عن عمر قال لما قتل أبو عبيد قال عمر : أيها الناس أنا فئتكم وقال مجاهد قال عمر أنا فئة كل مسلم ، وقال عبد الملك بن عمير عن عمر أيها الناس لا تغرنكم هذه الآية فإنما كانت يوم بدر وأنا فئة لكل مسلم.

وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا حسان بن عبد الله المصري حدثنا خلاد بن سليمان الحضرمي حدثنا نافع أنه سأل ابن عمر قلت إنا قوم لا نثبت عند قتال عدونا ، ولا ندري من الفئة إمامنا أو عسكرنا؟ فقال إن الفئة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت إن الله يقول : (إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً) الآية ، فقال إنما أنزلت هذه الآية في يوم بدر لا قبلها ولا بعدها ، وقال الضحاك في قوله (أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ) المتحيز الفار إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، وكذلك من فر اليوم إلى أميره أو أصحابه فأما إن كان الفرار لا عن سبب من هذه الأسباب فإنه حرام وكبيرة من الكبائر لما رواه البخاري ومسلم في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اجتنبوا السبع الموبقات» قيل يا رسول الله وما هن؟ قال «الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» (١) وله شواهد من وجوه أخر ، ولهذا قال تعالى : (فَقَدْ باءَ) أي رجع (بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ) أي مصيره ومنقلبه يوم ميعاده (جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ).

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا زكريا بن عدي حدثنا عبد الله بن عمرو الرقي عن زيد بن أبي أنيسة حدثنا جبلة بن سحيم عن أبي المثنى العبدي سمعت السدوسي يعني ابن الخصاصية وهو بشير بن معبد قال أتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبايعه فاشترط علي شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن أقيم الصلاة ، وأن أؤدي الزكاة ، وأن أحج حجة الإسلام ، وأن أصوم شهر رمضان ، وأن أجاهد في سبيل الله ، فقلت يا رسول الله أما اثنتان فو الله لا أطيقهما : الجهاد ، فإنهم زعموا أنه من ولى الدبر فقد باء بغضب من الله فأخاف إن حضرت ذلك خشعت نفسي

__________________

(١) أخرجه البخاري في الوصايا باب ٢٣ ، والطب باب ٤٨ ، والحدود باب ٤٤ ، ومسلم في الإيمان حديث ١٤٤ ، وأبو داود في الوصايا باب ١٠ ، والنسائي في الوصايا باب ١٢.

(٢) المسند ٥ / ٢٢٤.

وكرهت الموت ، والصدقة فو الله ما لي إلا غنيمة وعشر ذود هنّ رسل أهلي وحمولتهم ، فقبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يده ثم قال : «فلا جهاد ولا صدقة فبم تدخل الجنة إذا؟» قلت يا رسول الله أنا أبايعك فبايعته عليهن كلهن ، هذا حديث غريب من هذا الوجه ولم يخرجوه في الكتب الستة.

وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن حمزة حدثنا إسحاق بن إبراهيم أبو النضر حدثنا يزيد بن ربيعة حدثنا أبو الأشعث عن ثوبان مرفوعا عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «ثلاثة لا ينفع معهن عمل : الشرك بالله وعقوق الوالدين والفرار من الزحف» وهذا أيضا حديث غريب جدا ، وقال الطبراني أيضا حدثنا العباس بن الفضل الأسفاطي حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حفص بن عمر الشني حدثني عمرو بن مرة قال سمعت بلال بن يسار بن زيد مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال سمعت أبي يحدث عن جدي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قال : أستغفر الله الذي لا إله إلا هو وأتوب إليه غفر له وإن كان قد فر من الزحف» (١) وهكذا رواه أبو داود عن موسى بن إسماعيل به وأخرجه الترمذي عن البخاري عن موسى بن إسماعيل به وقال غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.

قلت ولا يعرف لزيد مولى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنه سواه ، وقد ذهب ذاهبون إلى أن الفرار إنما كان حراما على الصحابة لأنه كان فرض عين عليهم ، وقيل على الأنصار خاصة لأنهم بايعوا على السمع والطاعة في المنشط والمكره. وقيل المراد بهذه الآية أهل بدر خاصة يروى هذا عن عمر وابن عمر وابن عباس وأبي هريرة وأبي سعيد وأبي نضرة ونافع مولى ابن عمر وسعيد بن جبير والحسن البصري وعكرمة وقتادة والضحاك وغيرهم ، وحجتهم في هذا أنه لم تكن عصابة لها شوكة يفيئون إليها إلا عصابتهم تلك كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض»(٢).

ولهذا قال عبد الله بن المبارك عن مبارك بن فضالة عن الحسن في قوله (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ) قال ذلك يوم بدر فأما اليوم فإن انحاز إلى فئة أو مصر أحسبه قال فلا بأس عليه ، وقال ابن المبارك عن المبارك أيضا عن ابن لهيعة حدثني يزيد بن أبي حبيب قال : أوجب الله تعالى لمن فر يوم بدر النار قال (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) فلما كان يوم أحد بعد ذلك قال (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ ـ إلى قوله ـ وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ) ثم كان يوم حنين بعد ذلك بسبع سنين قال (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ) [التوبة : ٢٧].

__________________

(١) أخرجه أبو داود في الوتر باب ٢٦ ، والترمذي في الدعوات باب ١١٧.

(٢) أخرجه مسلم في الجهاد حديث ٥٨ ، وأحمد في المسند ١ / ٣٠ ، ٣٢.

وفي سنن أبي داود والنسائي ومستدرك الحاكم وتفسير ابن جرير وابن مردويه من حديث داود بن أبي هند عن أبي نضرة عن أبي سعيد أنه قال في هذه الآية (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ) إنما أنزلت في أهل بدر (١) ، وهذا كله لا ينفي أن يكون الفرار من الزحف حراما على غير أهل بدر ، وإن كان سبب نزول الآية فيهم كما دل عليه حديث أبي هريرة المتقدم من أن الفرار من الزحف من الموبقات كما هو مذهب الجماهير ، والله أعلم.

(فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٧) ذلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ) (١٨)

يبين تعالى أنه خالق أفعال العباد وأنه المحمود على جميع ما صدر منهم من خير لأنه هو الذي وفقهم لذلك وأعانهم عليه ولهذا قال : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ) أي ليس بحولكم وقوتكم قتلتم أعداءكم مع كثرة عددهم وقلة عددكم. أي بل هو الذي أظفركم عليهم كما قال : (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) [آل عمران : ١٢٣] الآية ، وقال تعالى : (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) [التوبة : ٢٥] يعلم تبارك وتعالى أن النصر ليس على كثرة العدد ولا بلبس اللأمة (٢) والعدد ، وإنما النصر من عنده تعالى كما قال تعالى : (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة : ٢٤٩].

ثم قال تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أيضا في شأن القبضة من التراب التي حصب بها وجوه الكافرين يوم بدر حين خرج من العريش بعد دعائه وتضرعه واستكانته فرماهم بها وقال : «شاهت الوجوه» ثم أمر أصحابه أن يصدقوا الحملة إثرها ففعلوا فأوصل الله تلك الحصباء إلى أعين المشركين فلم يبق أحد منهم إلا ناله منها ما شغله عن حاله ولهذا قال تعالى : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) أي هو الذي بلغ ذلك إليهم وكبتهم بها لا أنت.

قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : رفع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يديه يعني يوم بدر فقال : «يا رب إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدا» فقال له جبريل خذ قبضة من التراب فارم بها في وجوههم فأخذ قبضة من التراب فرمى بها في وجوههم فما من المشركين أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة فولوا مدبرين (٣).

وقال السدي : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلي رضي الله عنه يوم بدر «أعطني حصبا من الأرض» فناوله حصبا عليه تراب فرمى به في وجوه القوم فلم يبق مشرك إلا دخل عينيه من ذلك التراب

__________________

(١) أخرجه أبو داود في الجهاد باب ٩٦.

(٢) اللأمة : هي الدرع ، والسلاح.

(٣) انظر تفسير الطبري ٦ / ٢٠٤.

شيء ، ثم ردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم ، وأنزل الله (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) (١). وقال أبو معشر المدني عن محمد بن قيس ومحمد بن كعب القرظي قالا : لما دنا القوم بعضهم من بعض أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبضة من تراب فرمى بها في وجوه القوم وقال : «شاهت الوجوه» فدخلت في أعينهم كلهم وأقبل أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقتلونهم ويأسرونهم وكانت هزيمتهم في رمية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) (٢).

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) قال هذا يوم بدر أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاث حصيات فرمى بحصاة ميمنة القوم ، وحصاة في ميسرة القوم وحصاة بين أظهرهم وقال «شاهت الوجوه» فانهزموا ، وقد روي في هذه القصة عن عروة عن مجاهد وعكرمة وقتادة وغير واحد من الأئمة أنه أنزلت في رمية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم بدر وإن كان قد فعل ذلك يوم حنين أيضا.

وقال أبو جعفر بن جرير (٣) : حدثنا أحمد بن منصور حدثنا يعقوب بن محمد حدثنا عبد العزيز بن عمران حدثنا موسى بن يعقوب بن عبد الله بن زمعة عن يزيد بن عبد الله عن أبي بكر بن سليمان بن أبي خيثمة عن حكيم بن حزام قال : لما كان يوم بدر سمعنا صوتا وقع من السماء كأنه صوت حصاة وقعت في طست ورمى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلك الرمية فانهزمنا ، غريب من هذا الوجه ، وهاهنا قولان آخران غريبان جدا.

[أحدهما] قال ابن جرير (٤) : حدثني محمد بن عوف الطائي حدثنا أبو المغيرة حدثنا صفوان بن عمرو حدثنا عبد الرحمن بن جبير أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم ابن أبي الحقيق بخيبر دعا بقوس فأتى بقوس طويلة وقال «جيئوني بقوس غيرها» فجاؤوه بقوس كبداء فرمى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم الحصن فأقبل السهم يهوي حتى قتل ابن أبي الحقيق وهو في فراشه فأنزل الله عزوجل (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) وهذا غريب وإسناده جيد إلى عبد الرحمن بن جبير بن نفير ولعله اشتبه عليه أو أنه أراد أن الآية تعم هذا كله وإلا فسياق الآية في سورة الأنفال في قصة بدر لا محالة وهذا مما لا يخفى على أئمة العلم والله أعلم.

[والثاني] روى ابن جرير أيضا والحاكم في مستدركه بإسناد صحيح إلى سعيد بن المسيب والزهري أنهما قالا : أنزلت في رمية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد أبي بن خلف بالحربة وهو في لأمته فخدشه في ترقوته فجعل يتدأدأ عن فرسه مرارا حتى كانت وفاته بعد أيام قاسى فيها العذاب

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٢٠٣.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٢٠٣.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ٢٠٣.

(٤) لم أجد هذا الأثر والذي يليه في تفسير الطبري.

الأليم موصولا بعذاب البرزخ المتصل بعذاب الآخرة ، وهذا القول عن هذين الإمامين غريب أيضا جدا ولعلهما أرادا أن الآية تتناوله بعمومها لا أنها نزلت فيه خاصة كما تقدم والله أعلم.

وقال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير في قوله (وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً) أي ليعرف المؤمنين نعمته عليهم من إظهارهم على عدوهم مع كثرة عدوهم وقلة عددهم ليعرفوا بذلك حقه ويشكروا بذلك نعمته (١) وهكذا فسره ابن جرير أيضا ، وفي الحديث «وكل بلاء حسن أبلانا» وقوله (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي سميع الدعاء عليم بمن يستحق النصر والغلب ، وقوله (ذلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ) هذه بشارة أخرى مع ما حصل من النصر أنه أعلمهم تعالى بأنه مضعف كيد الكافرين فيما يستقبل مصغر أمرهم وأنهم وكل ما لهم في تبار ودمار ، ولله الحمد والمنة.

(إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) (١٩)

يقول تعالى للكفار : (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا) أي تستنصروا وتستقضوا الله وتستحكموه أن يفصل بينكم وبين أعدائكم المؤمنين فقد جاءكم ما سألتم كما قال محمد بن إسحاق وغيره عن الزهري عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير أن أبا جهل قال يوم بدر : اللهم أينا كان أقطع للرحم وآتانا بما لا يعرف فأحنه الغداة. وكان ذلك استفتاحا منه فنزلت (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) إلى آخر الآية.

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا يزيد يعني ابن هارون أخبرنا محمد بن إسحاق حدثني الزهري عن عبد الله بن ثعلبة أن أبا جهل قال حين التقى القوم اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا نعرف فأحنه الغداة. فكان المستفتح ، وأخرجه النسائي في التفسير من حديث صالح بن كيسان عن الزهري به ، وكذا رواه الحاكم في مستدركه من طريق الزهري به وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، وروي نحو هذا عن ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة ويزيد بن رومان وغير واحد ، وقال السدي كان المشركون حين خرجوا من مكة إلى بدر أخذوا بأستار الكعبة فاستنصروا الله وقالوا اللهم انصر أعلى الجندين وأكرم الفئتين وخير القبيلتين فقال الله : (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) يقول قد نصرت ما قلتم وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هو قوله تعالى إخبارا عنهم (وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ) الآية ، وقوله (وَإِنْ تَنْتَهُوا) أي عما أنتم فيه من الكفر بالله والتكذيب لرسوله (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) أي في الدنيا والآخرة ، وقوله تعالى : (وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ) كقوله (وَإِنْ

__________________

(١) انظر سيرة ابن هشام ١ / ٦٦٨ ، وتفسير الطبري ٦ / ٢٠٤.

(٢) المسند ٥ / ٤٣١.

عُدْتُمْ عُدْنا) [الإسراء : ٨] معناه وإن عدتم إلى ما كنتم فيه من الكفر والضلالة نعد لكم بمثل هذه الواقعة. وقال السدي (وَإِنْ تَعُودُوا) أي إلى الاستفتاح (نَعُدْ) أي إلى الفتح لمحمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم والنصر له وتظفيره على أعدائه والأول أقوى (وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ) أي ولو جمعتم من الجموع ما عسى أن تجمعوا ، فإن من كان الله معه فلا غالب له (وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) وهم الحزب النبوي والجناب المصطفوي.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (٢٠) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٢١) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (٢٢) وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) (٢٣)

يأمر تعالى عباده المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله ويزجرهم عن مخالفته والتشبه بالكافرين به المعاندين له ولهذا قال (وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ) أي تتركوا طاعته وامتثال أوامره وترك زواجره (وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) أي بعد ما علمتم ما دعاكم إليه (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) قيل : المراد المشركون واختاره ابن جرير ، وقال ابن إسحاق هم المنافقون فإنهم يظهرون أنهم قد سمعوا واستجابوا وليسوا كذلك (١).

ثم أخبر تعالى أن هذا الضرب من بني آدم شر الخلق والخليقة فقال (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُ) أي عن سماع الحق (الْبُكْمُ) عن فهمه ولهذا قال (الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) فهؤلاء شر البرية لأن كل دابة مما سواهم مطيعة لله فيما خلقها له وهؤلاء خلقوا للعبادة فكفروا ، ولهذا شبههم بالأنعام في قوله (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً) [البقرة : ١٧١] الآية ، وقال في الآية الأخرى (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) [الأعراف : ١٧٩].

وقيل المراد بهؤلاء المذكورين نفر من بني عبد الدار من قريش روي عن ابن عباس ومجاهد واختاره ابن جرير. وقال محمد بن إسحاق هم المنافقون ، قلت : ولا منافاة بين المشركين والمنافقين في هذا لأن كلا منهم مسلوب الفهم الصحيح والقصد إلى العمل الصالح ، ثم أخبر تعالى بأنهم لا فهم لهم صحيح ولا قصد لهم صحيح لو فرض أن لهم فهما فقال (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ) أي لأفهمهم وتقدير الكلام ولكن لا خير فيهم فلم يفهمهم لأنه يعلم أنه (وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ) أي أفهمهم (لَتَوَلَّوْا) عن ذلك قصدا وعنادا بعد فهمهم ذلك (وَهُمْ مُعْرِضُونَ) عنه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٢٠٩.

الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (٢٤)

قال البخاري (١) : (اسْتَجِيبُوا) أجيبوا (لِما يُحْيِيكُمْ) لما يصلحكم. حدثني إسحاق حدثنا روح حدثنا شعبة عن حبيب بن عبد الرحمن قال : سمعت حفص بن عاصم يحدث عن أبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه قال كنت أصلي فمر بي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدعاني فلم آته حتى صليت ثم أتيته فقال «ما منعك أن تأتيني؟ ألم يقل الله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) ـ ثم قال ـ لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج» فذهب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليخرج فذكرت له. وقال معاذ : حدثنا شعبة عن خبيب بن عبد الرحمن سمع حفص بن عاصم سمع أبا سعيد رجلا من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذا وقال (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) هي السبع المثاني.

هذا لفظه بحروفه وقد تقدم الكلام على هذا الحديث بذكر طرقه في أول تفسير الفاتحة.

وقال مجاهد في قوله (لِما يُحْيِيكُمْ) قال للحق (٢) ، وقال قتادة (لِما يُحْيِيكُمْ) قال هو هذا القرآن فيه النجاة والبقاء والحياة وقال السدي (لِما يُحْيِيكُمْ) ففي الإسلام إحياؤهم بعد موتهم بالكفر (٣) ، وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) أي للحرب التي أعزكم الله تعالى بها بعد الذل ، وقواكم بها بعد الضعف ، ومنعكم من عدوكم بعد القهر منهم لكم (٤).

وقوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) ، قال ابن عباس يحول بين المؤمن وبين الكفر وبين الكافر وبين الإيمان (٥) ، رواه الحاكم في مستدركه موقوفا ، وقال صحيح ولم يخرجاه ، ورواه ابن مردويه من وجه آخر مرفوعا ، ولا يصح لضعف إسناده والموقوف أصح ، وكذا قال مجاهد وسعيد وعكرمة والضحاك وأبو صالح وعطية ومقاتل بن حيان والسدي ، وفي رواية عن مجاهد في قوله (يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) أي حتى يتركه لا يعقل (٦) ، وقال السدي يحول بين الإنسان وقلبه فلا يستطيع أن يؤمن ولا يكفر إلا بإذنه (٧). وقال قتادة هو كقوله (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) [ق : ١٦] (٨) وقد وردت الأحاديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بما

__________________

(١) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٨ ، باب ١.

(٢) انظر تفسير الطبري ٦ / ٢١١ ، ٢١٢.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ٢١٢.

(٤) تفسير الطبري ٦ / ٢١٢.

(٥) تفسير الطبري ٦ / ٢١٣.

(٦) تفسير الطبري ٦ / ٢١٥.

(٧) تفسير الطبري ٦ / ٢١٥.

(٨) تفسير الطبري ٦ / ٢١٥.

يناسب هذه الآية.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي سفيان عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكثر أن يقول «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك». قال : فقلنا يا رسول الله آمنا بك وبما جئت به ، فهل تخاف علينا؟ قال : «نعم ، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله تعالى يقلبها». وهكذا رواه الترمذي (٢) في كتاب القدر من جامعه عن هناد بن السري عن أبي معاوية محمد بن حازم الضرير عن الأعمش ، واسمه سليمان بن مهران عن أبي سفيان واسمه طلحة بن نافع عن أنس ، ثم قال : حسن. وهكذا روي عن غير واحد عن الأعمش ، ورواه بعضهم عنه عن أبي سفيان عن جابر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحديث أبي سفيان عن أنس أصح.

حديث آخر : وقال الإمام أحمد (٣) في مسنده : حدثنا عبد بن حميد حدثنا عبد الملك بن عمرو حدثنا شعبة عن الحكم عن ابن أبي ليلى عن بلال ، رضي الله عنه ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يدعو «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك». هذا حديث جيد الإسناد إلا أن فيه انقطاعا. وهو مع ذلك على شرط أهل السنن ولم يخرجوه.

حديث آخر : قال الإمام أحمد (٤) : حدثنا الوليد بن مسلم قال : سمعت ابن جابر يقول: حدثني بسر بن عبد الله الحضرمي أنه سمع أبا إدريس الخولاني يقول سمعت النواس بن سمعان الكلابي رضي الله عنه يقول سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «ما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن رب العالمين إذا شاء أن يقيمه أقامه وإذا شاء أن يزيغه أزاغه» وكان يقول «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» قال «والميزان بيد الرحمن يخفضه ويرفعه» (٥) وهكذا رواه النسائي وابن ماجة من حديث عبد الرحمن بن يزيد بن جابر فذكر مثله.

حديث آخر قال الإمام أحمد (٦) : حدثنا يونس حدثنا حماد بن زيد عن المعلى بن زياد عن الحسن أن عائشة قالت : دعوات كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعو بها «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» قالت : فقلت يا رسول الله إنك تكثر أن تدعو بهذا الدعاء فقال «إن قلب الآدمي بين إصبعين من أصابع الله فإذا شاء أزاغه وإذا شاء أقامه».

__________________

(١) المسند ٣ / ١١٢.

(٢) كتاب القدر باب ٧.

(٣) المسند ٤ / ١٨٢.

(٤) المسند ٤ / ١٨٢ ، ٤١٨.

(٥) أخرجه ابن ماجة في المقدمة باب ١٣ ، وأحمد في المسند ٤ / ١٨٢.

(٦) المسند ٦ / ٩١.

حديث آخر قال الإمام أحمد (١) : حدثنا هاشم حدثنا عبد الحميد حدثني شهر سمعت أم سلمة تحدث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يكثر في دعائه يقول «اللهم مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» قالت فقلت يا رسول الله أو إنّ القلوب لتقلب؟ قال «نعم ما خلق الله من بشر من بني آدم إلا أن قلبه بين إصبعين من أصابع الله عزوجل فإن شاء أقامه وإن شاء أزاغه فنسأل الله ربنا أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا ، ونسأله أن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب» قالت فقلت : يا رسول الله ألا تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي؟ قال «بلى قولي اللهم رب النبي محمد اغفر لي ذنبي وأذهب غيظ قلبي وأجرني من مضلات الفتن ما أحييتني».

حديث آخر قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا أبو عبد الرحمن حدثنا حيوة أخبرني أبو هانئ أنه سمع أبا عبد الرحمن الحبلي أنه سمع عبد الله بن عمرو أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفها كيف شاء» ثم قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك» (٣) انفرد بإخراجه مسلم عن البخاري فرواه مع النسائي من حديث حيوة بن شريح المصري به.

(وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٢٥)

يحذر تعالى عباده المؤمنين فتنة أي اختبارا ومحنة يعم بها المسيء وغيره لا يخص بها أهل المعاصي ولا من باشر الذنب بل يعمهما حيث لم تدفع وترفع ، كما قال الإمام أحمد (٤) : حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم حدثنا شداد بن سعيد حدثنا غيلان بن جرير عن مطرف قال : قلنا للزبير : يا أبا عبد الله ما جاء بكم؟ ضيعتم الخليفة الذي قتل ثم جئتم تطلبون بدمه؟ فقال الزبير رضي الله عنه : إنا قرأنا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) لم نكن نحسب أنا أهلها حتى وقعت منا حيث وقعت ، وقد رواه البزار من حديث مطرف عن الزبير وقال : لا نعرف مطرفا روى عن الزبير غير هذا الحديث ، وقد روى النسائي من حديث جرير بن حازم عن الحسن عن الزبير نحو هذا.

وقد روى ابن جرير (٥) : حدثني الحارث حدثنا عبد العزيز حدثنا مبارك بن فضالة عن الحسن قال ، قال الزبير لقد خوفنا بها يعني قوله تعالى : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا

__________________

(١) المسند ٦ / ٣٠١ ، ٣٠٢.

(٢) المسند ٢ / ١٦٨ ، ١٧٣.

(٣) أخرجه مسلم في القدر حديث ١٧.

(٤) المسند ١ / ١٦٥.

(٥) تفسير الطبري ٦ / ٢١٧.

مِنْكُمْ خَاصَّةً) ونحن مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما ظننا أنا خصصنا بها خاصة وكذا رواه حميد عن الحسن عن الزبير رضي الله عنه وقال داود بن أبي هند عن الحسن في هذه الآية قال نزلت في علي وعثمان وطلحة والزبير رضي الله عنهم ، وقال سفيان الثوري عن الصلت بن دينار عن عقبة بن صهبان سمعت الزبير يقول : لقد قرأت هذه الآية زمانا وما أرانا من أهلها فإذا نحن المعنيون بها (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ).

وقد روي من غير وجه عن الزبير بن العوام ، وقال السدي : نزلت في أهل بدر خاصة فأصابتهم يوم الجمل فاقتتلوا ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) يعني أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة. وقال في رواية له عن ابن عباس في تفسير هذه الآية أمر الله المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين ظهرانيهم فيعمهم الله بالعذاب ، وهذا تفسير حسن جدا ، ولهذا قال مجاهد في قوله تعالى : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) هي أيضا لكم ، وكذا قال الضحاك ويزيد بن أبي حبيب ، وغير واحد.

وقال ابن مسعود ما منكم من أحد إلا وهو مشتمل على فتنة إن الله تعالى يقول (أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) [التغابن : ١٥] فأيكم استعاذ فليستعذ بالله من مضلات الفتن رواه ابن جرير (١) ، والقول بأن هذا التحذير يعم الصحابة وغيرهم وإن كان الخطاب معهم هو الصحيح ، ويدل عليه الأحاديث الواردة في التحذير من الفتن ولذلك كتاب مستقل يوضح فيه إن شاء الله تعالى كما فعله الأئمة وأفردوه بالتصنيف ومن أخص ما يذكر هاهنا ما رواه الإمام أحمد (٢) حيث قال : حدثنا أحمد بن الحجاج أخبرنا عبد الله يعني ابن المبارك ، أنبأنا سيف بن أبي سليمان سمعت عدي بن عدي الكندي يقول ، حدثني مولى لنا أنه سمع جدي يعني عدي بن عميرة يقول : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «إن الله عزوجل لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه ، فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصة والعامة» فيه رجل متهم ولم يخرجوه في الكتب الستة ولا واحد منهم والله أعلم.

حديث آخر قال الإمام أحمد (٣) : حدثنا سليمان الهاشمي حدثنا إسماعيل يعني ابن جعفر أخبرني عمرو بن أبي عمر عن عبد الله بن عبد الرحمن الأشهل عن حذيفة بن اليماني أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم» ورواه عن أبي سعيد عن إسماعيل بن جعفر وقال «أو ليبعثن الله عليكم قوما ثم تدعونه فلا يستجيب لكم».

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٢١٧.

(٢) المسند ٤ / ١٩٢.

(٣) المسند ٥ / ٣٨٨ ، ٣٨٩.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا عبد الله بن نمير قال حدثنا رزين حبيب الجهني حدثني أبو الرقاد قال : خرجت مع مولاي فدفعت إلى حذيفة وهو يقول : إن كان الرجل ليتكلم بالكلمة على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيصير منافقا ، وإني لأسمعها من أحدكم في المقعد الواحد أربع مرات ، لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر ولتحاضن على الخير أو ليسحتنكم الله جميعا بعذاب أو ليؤمرن عليكم شراركم ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم.

حديث آخر قال الإمام أحمد (٢) أيضا. حدثني يحيى بن سعيد عن زكريا حدثنا عامر رضي الله عنه قال : سمعت النعمان بن بشير رضي الله عنه يخطب يقول : وأومأ بإصبعيه إلى أذنيه يقول : مثل القائم على حدود الله والواقع فيها والمداهن فيها كمثل قوم ركبوا سفينة فأصاب بعضهم أسفلها وأوعرها وشرها وأصاب بعضهم أعلاها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مروا على من فوقهم فآذوهم فقالوا لو خرقنا في نصيبنا خرقا فاستقينا منه ولم نؤذ من فوقنا : فإن تركوهم وأمرهم هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا جميعا (٣) ، انفرد بإخراجه البخاري دون مسلم فرواه في الشركة والشهادات ، والترمذي في الفتن من غير وجه عن سليمان بن مهران الأعمش عن عامر بن شراحيل الشعبي به.

حديث آخر قال الإمام أحمد (٤) : حدثنا حسين حدثنا خلف بن خليفة عن ليث عن علقمة بن مرثد عن المعرور بن سويد عن أمّ سلمة زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالت : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «إذا ظهرت المعاصي في أمتي عمهم الله بعذاب من عنده» فقلت يا رسول الله : أما فيهم أناس صالحون قال «بلى» قالت فكيف يصنع أولئك؟ قال «يصيبهم ما أصاب الناس ثم يصيرون إلى مغفرة من الله ورضوان».

حديث آخر قال الإمام أحمد (٥) : حدثنا حجاج بن محمد حدثنا شريك عن أبي إسحاق عن المنذر بن جرير عن أبيه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما من قوم يعملون بالمعاصي وفيهم رجل أعز منهم وأمنع لا يغيره إلا عمهم الله بعقاب أو أصابهم العقاب» ورواه أبو داود (٦) عن مسدد عن أبي الأحوص عن أبي إسحاق به.

وقال الإمام أحمد (٧) أيضا : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، سمعت أبا إسحاق

__________________

(١) المسند ٥ / ٣٩٠.

(٢) المسند ٤ / ٢٦٩ ، ٢٧٠ ، ٢٧٤.

(٣) أخرجه البخاري في الشركة باب ٦ ، والشهادات باب ٣٠ ، والترمذي في الفتن باب ١٢.

(٤) المسند ٦ / ٣٠٤.

(٥) المسند ٤ / ٣٦١.

(٦) كتاب الملاحم باب ١٧.

(٧) المسند ٤ / ٣٦٤ ، ٣٦٦.

يحدث عن عبيد الله بن جرير ، عن أبيه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي هم أعز وأكثر ممن يعملون ثم لم يغيروه إلا عمهم الله بعقاب» ، ثم رواه أيضا عن وكيع عن إسرائيل ، وعن عبد الرزاق عن معمر وعن أسود عن شريك ويونس كلهم عن أبي إسحاق السبيعي به وأخرجه ابن ماجة (١) عن علي بن محمد عن وكيع به ، وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا سفيان حدثنا جامع بن أبي راشد عن منذر عن الحسن بن محمد عن امرأته عن عائشة تبلغ به النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا ظهر السوء في الأرض أنزل الله بأهل الأرض بأسه» فقلت وفيهم أهل طاعة الله؟ قال : «نعم ثم يصيرون إلى رحمة الله».

(وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٢٦)

ينبه تعالى عباده المؤمنين على نعمه عليهم ، وإحسانه إليهم ، حيث كانوا قليلين فكثرهم ومستضعفين خائفين فقواهم ونصرهم ، وفقراء عالة فرزقهم من الطيبات واستشكرهم ، فأطاعوه وامتثلوا جميع ما أمرهم. وهذا كان حال المؤمنين حال مقامهم بمكة قليلين مستخفين مضطهدين يخافون أن يتخطفهم الناس من سائر بلاد الله من مشرك ومجوسي ورومي ، كلهم أعداء لهم لقلتهم وعدم قوتهم ، فلم يزل ذلك دأبهم حتى أذن الله لهم في الهجرة إلى المدينة فآواهم إليها وقيض لهم أهلها آووا ونصروا يوم بدر وغيره ، وواسوا بأموالهم وبذلوا مهجهم في طاعة الله وطاعة رسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال قتادة بن دعامة السدوسي رحمه‌الله في قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ) ، قال : كان هذا الحي من العرب أذل الناس ذلا ، وأشقاه عيشا ، وأجوعه بطونا ، وأعراه جلودا وأبينه ضلالا ، من عاش منهم عاش شقيا ، ومن مات منهم ردي في النار يؤكلون ولا يأكلون ، والله ما نعلم قبيلا من حاضر أهل الأرض يومئذ كانوا أشر منزلا منهم حتى جاء الله بالإسلام فمكن به في البلاد ووسع به في الرزق وجعلهم به ملوكا على رقاب الناس وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم فاشكروا الله على نعمه فإن ربكم منعم يحب الشكر ، وأهل الشكر في مزيد من الله.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٧) وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (٢٨)

قال عبد الرزاق بن أبي قتادة والزهري : أنزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر حين بعثه

__________________

(١) كتاب الفتن باب ٢٠.

(٢) المسند ٦ / ٤١.

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بني قريظة لينزلوا على حكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاستشاروه في ذلك فأشار عليهم بذلك وأشار بيده إلى حلقه ، أي إنه الذبح ، ثم فطن أبو لبابة ورأى أنه قد خان الله ورسوله ، فحلف لا يذوق ذواقا حتى يموت أو يتوب الله عليه ، وانطلق إلى مسجد المدينة فربط نفسه في سارية منه ، فمكث كذلك تسعة أيام حتى كان يخر مغشيا عليه من الجهد حتى أنزل الله توبته على رسوله ، فجاء الناس يبشرونه بتوبة الله عليه ، وأرادوا أن يحلوه من السارية ، فحلف لا يحله منها إلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيده ، فحله ، فقال : يا رسول الله : إني كنت نذرت أن أنخلع من مالي صدقة ، فقال «يجزيك الثلث أن تصدق به».

وقال ابن جرير (١) : حدثني الحارث حدثنا عبد العزيز حدثنا يونس بن الحارث الطائفي حدثنا محمد بن عبيد الله بن عون الثقفي عن المغيرة بن شعبة قال : نزلت هذه الآية في قتل عثمان ، رضي الله عنه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ) الآية.

وقال ابن جرير (٢) أيضا : حدثنا القاسم بن بشر بن معروف حدثنا شبابة بن سوار حدثنا محمد بن المحرم قال لقيت عطاء بن أبي رباح فحدثني قال : حدثني جابر بن عبد الله أن أبا سفيان خرج من مكة فأتى جبريل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إن أبا سفيان بمكان كذا وكذا ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن أبا سفيان في موضع كذا وكذا فاخرجوا إليه واكتموا» فكتب رجل من المنافقين إليه إن محمدا يريدكم فخذوا حذركم فأنزل الله عزوجل (لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ) الآية ، هذا حديث غريب جدا ، وفي سنده وسياقه نظر.

وفي الصحيحين قصة حاطب بن أبي بلتعة أنه كتب إلى قريش يعلمهم بقصد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إياهم عام الفتح ، فأطلع الله رسوله على ذلك ، فبعث في إثر الكتاب فاسترجعه واستحضر حاطبا فأقر بما صنع ، وفيها فقام عمر بن الخطاب فقال يا رسول الله : ألا أضرب عنقه ، فإنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين؟ فقال : «دعه فإنه قد شهد بدرا ، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» (٣).

قلت : والصحيح أن الآية عامة ، وإن صح أنها وردت على سبب خاص ، فالأخذ بعموم اللفظ لا بخصوص السبب عند الجماهير من العلماء. والخيانة تعم الذنوب الصغار والكبار اللازمة والمتعدية. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ) الأمانة ، الأعمال التي ائتمن الله عليها العباد ، يعني الفريضة. يقول : (لا تَخُونُوا) لا تنقضوها (٤). وقال في رواية : (لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ) ، يقول بترك سنته وارتكاب معصيته.

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٢٢٠.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٢٢٠.

(٣) تقدم الحديث مع تخريجه في الآية ٩ ، من هذه السورة.

(٤) انظر تفسير الطبري ٦ / ٢٢١.

وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير في هذه الآية ، أي لا تظهروا له من الحق ما يرضى به منكم ، ثم تخالفوه في السر إلى غيره ، فإن ذلك هلاك لأماناتكم ، وخيانة لأنفسكم (١). وقال السدي : إذا خانوا الله والرسول فقد خانوا أماناتهم ، وقال أيضا : كانوا يسمعون من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحديث فيفشونه حتى يبلغ المشركين ، وقال عبد الرحمن بن زيد : نهاكم أن تخونوا الله والرسول كما صنع المنافقون (٢).

وقوله (وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) ، أي اختبار وامتحان منه لكم إذ أعطاكموها ليعلم أتشكرونه عليها وتطيعونه فيها أو تشتغلون بها عنه وتعتاضون بها منه كما قال تعالى : (إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) [التغابن : ١٥] وقال (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) [الأنبياء : ٣٥]. وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) [المنافقون : ٩]. وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) [التغابن : ١٤] الآية.

وقوله (وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) أي ثوابه وعطاؤه وجناته خير لكم من الأموال والأولاد ، فإنه قد يوجد منهم عدو ، وأكثرهم لا يغني عنك شيئا ، والله سبحانه هو المتصرف المالك للدنيا والآخرة ولديه الثواب الجزيل يوم القيامة. وفي الأثر يقول الله تعالى : يا ابن آدم ، اطلبني تجدني ، فإن وجدتني وجدت كل شيء ، وإن فتك فاتك كل شيء ، وأنا أحب إليك من كل شيء ، وفي الصحيح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «ثلاث من كن فيه ، وجد حلاوة الإيمان : من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ، ومن كان أن يلقى في النار أحب إليه من أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه» (٣) ، بل حب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم مقدم على الأولاد والأموال والنفوس ، كما ثبت في الصحيح أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وأهله وماله والناس أجمعين» (٤).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (٢٩)

قال ابن عباس والسدي ومجاهد وعكرمة والضحاك وقتادة ومقاتل بن حيان وغير واحد (فُرْقاناً) مخرجا ، زاد مجاهد في الدنيا والآخرة ، وفي رواية عن ابن عباس (فُرْقاناً) نجاة ، وفي رواية عنه نصرا ، وقال محمد بن إسحاق (فُرْقاناً) أي فصلا بين الحق والباطل وهذا

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٢٢١.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٢٢٠.

(٣) أخرجه البخاري في الإيمان باب ٩ ، والأدب باب ٤٢ ، ومسلم في الإيمان حديث ٦٦.

(٤) أخرجه البخاري في الإيمان باب ٨ ، ومسلم في الإيمان حديث ٦٩ ، ٧٠.

التفسير من ابن إسحاق أعم مما تقدم وهو يستلزم ذلك كله ، فإن من اتقى الله بفعل أوامره وترك زواجره وفق لمعرفة الحق من الباطل ، فكان ذلك سبب نصره ونجاته ومخرجه من أمور الدنيا وسعادته يوم القيامة وتكفير ذنوبه وهو محوها ، وغفرها سترها عن الناس وسببا لنيل ثواب الله الجزيل كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [الحديد : ٢٨].

(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) (٣٠)

قال ابن عباس ومجاهد وقتادة (لِيُثْبِتُوكَ) ليقيدوك ، وقال عطاء وابن زيد : ليحبسوك ، وقال السدي : الإثبات هو الحبس والوثاق ، وهذا يشمل ما قاله هؤلاء وهؤلاء وهو مجمع الأقوال ، وهو الغالب من صنيع من أراد غيره بسوء ، وقال سنيد عن حجاج عن ابن جريج : قال عطاء : سمعت عبيد بن عمير يقول : لما ائتمروا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه. قال له عمه أبو طالب : هل تدري ما ائتمروا بك؟ قال «يريدون أن يسحروني أو يقتلوني أو يخرجوني». فقال : من أخبرك بهذا؟ قال «ربي» قال : نعم الرب ربك استوص به خيرا. قال «أنا استوصي به ، بل هو يستوصي بي» (١).

وقال أبو جعفر بن جرير (٢) : حدثني محمد بن إسماعيل المصري المعروف بالوساوسي ، أخبرنا عبد الحميد بن أبي داود عن ابن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير عن المطلب بن أبي وداعة أن أبا طالب قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما يأتمر بك قومك؟ قال «يريدون أن يسحروني أو يقتلوني أو يخرجوني». فقال : من أخبرك بهذا؟ قال «ربي». قال : نعم الرب ربك فاستوص به خيرا. قال «أنا استوصي به ، بل هو يستوصي بي». قال : فنزلت (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ) الآية.

وذكر أبي طالب في هذا غريب جدا ، بل منكر ، لأن هذه الآية مدنية ، ثم إن هذه القصة واجتماع قريش على هذا الائتمار والمشاورة على الإثبات أو النفي أو القتل إنما كان ليلة الهجرة سواء ، وكان ذلك بعد موت أبي طالب بنحو من ثلاث سنين لما تمكنوا منه واجترءوا عليه بسبب موت عمه أبي طالب الذي كان يحوطه وينصره ويقوم بأعبائه.

والدليل على صحة ما قلنا ما روى الإمام محمد بن إسحاق بن يسار صاحب المغازي عن عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس قال : وحدثني الكلبي عن باذان مولى أم هانئ عن ابن عباس أن نفرا من قريش من أشراف كل قبيلة اجتمعوا ليدخلوا دار الندوة فاعترضهم

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٢٢٦.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٢٢٥ ، ٢٢٦.

إبليس في صورة شيخ جليل فلما رأوه قالوا له من أنت؟ قال شيخ من أهل نجد ، سمعت أنكم اجتمعتم فأردت أن أحضركم ولن يعدمكم رأيي ونصحي. قالوا : أجل ، ادخل ، فدخل معهم ، فقال : انظروا في شأن هذا الرجل ، والله ليوشكن أن يواثبكم في أمركم بأمره.

فقال قائل منهم : احبسوه في وثاق ثم تربصوا به ريب المنون حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء زهير والنابغة إنما هو كأحدهم. قال : فصرخ عدو الله الشيخ النجدي فقال : والله ما هذا لكم برأي والله ليخرجنه ربه من محبسه إلى أصحابه فليوشكن أن يثبوا عليه حتى يأخذوه من أيديكم فيمنعوه منكم ، فما آمن عليكم أن يخرجوكم من بلادكم ، قالوا : صدق الشيخ فانظروا في غير هذا.

قال قائل منهم : أخرجوه من بين أظهركم فتستريحوا منه فإنه إذا خرج لن يضركم ما صنع وأين وقع إذا غاب عنكم أذاه واسترحتم وكان أمره في غيركم. فقال الشيخ النجدي : والله ما هذا لكم برأي ألم تروا حلاوة قوله وطلاقة لسانه. وأخذ القلوب ما تسمع من حديثه؟ والله لئن فعلتم ثم استعرض العرب ليجتمعن عليه ثم ليأتين إليكم حتى يخرجكم من بلادكم ويقتل أشرافكم. قالوا : صدق والله ، فانظروا رأيا غير هذا.

قال : فقال أبو جهل لعنه الله ، والله لأشيرن عليكم برأي ما أركم أبصرتموه بعد ، لا أرى غيره. قالوا : وما هو؟ قال : تأخذون من كل قبيلة غلاما شابا وسيطا نهدا ، ثم يعطى كل غلام منهم سيفا صارما ، ثم يضربونه ضربة رجل واحد ، فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل كلها ، فما أظن هذا الحي من بني هاشم يقوون على حرب قريش كلها. فإنهم إذا رأوا ذلك ، قبلوا العقل واسترحنا وقطعنا عنا أذاه.

قال : فقال الشيخ النجدي : هذا والله الرأي ، القول ما قال الفتى ، لا أرى غيره. قال : فتفرقوا على ذلك وهم مجمعون له. فأتى جبريل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمره أن لا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه وأخبره بمكر القوم فلم يبت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بيته تلك الليلة وأذن الله له عند ذلك بالخروج وأنزل الله عليه بعد قدومه المدينة الأنفال يذكر نعمه عليه وبلاءه عنده (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) وأنزل في قولهم تربصوا به ريب المنون حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء ، (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) [الطور : ٣٠] فكان ذلك اليوم يسمى يوم الزحمة للذي اجتمعوا عليه من الرأي (١).

وعن السدي نحو هذا السياق وأنزل الله في إرادتهم إخراجه قوله تعالى : (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً) [الإسراء : ٧٦] وكذا

__________________

(١) انظر الأثر في تفسير الطبري ٦ / ٢٢٦ ، وسيرة ابن هشام ١ / ٤٨٠ ، ٤٨٣.

روى العوفي عن ابن عباس ، وروي عن مجاهد وعروة بن الزبير وموسى بن عقبة وقتادة ومقسم وغير واحد نحو ذلك ، وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق فأقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينتظر أمر الله حتى إذا اجتمعت قريش فمكرت به وأرادوا به ما أرادوا أتاه جبريل عليه‌السلام فأمره أن لا يبيت في مكانه الذي كان يبيت فيه فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم علي بن أبي طالب فأمره أن يبيت على فراشه ويتسجى ببرد له أخضر ففعل ثم خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على القوم وهم على بابه ، وخرج معه بحفنة من تراب فجعل يذرها على رؤوسهم وأخذ الله بأبصارهم عن نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يقرأ (يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ـ إلى قوله ـ فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) [يس : ٩] ، وقال الحافظ أبو بكر البيهقي : روي عن عكرمة ما يؤكد هذا.

وقد روى ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه من حديث عبد الله بن عثمان بن خثيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، قال : دخلت فاطمة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي تبكي فقال : «ما يبكيك يا بنية؟» قالت يا أبت وما لي لا أبكي وهؤلاء الملأ من قريش في الحجر يتعاهدون باللات والعزى ، ومناة الثالثة الأخرى لو قد رأوك لقاموا إليك فيقتلونك وليس منهم إلا من قد عرف نصيبه من دمك ، فقال : «يا بنية ائتني بوضوء» فتوضأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم خرج إلى المسجد فلما رأوه قالوا : ها هو ذا فطأطأوا رؤوسهم وسقطت رقابهم بين أيديهم فلم يرفعوا أبصارهم فتناول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبضة من تراب فحصبهم بها وقال : «شاهت الوجوه» فما أصاب رجلا منهم حصاة من حصياته إلا قتل يوم بدر كافرا ، ثم قال الحاكم : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ، ولا أعرف له علة.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر أخبرني عثمان الجزري ، عن مقسم مولى ابن عباس أخبره ابن عباس في قوله : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ) الآية قال : تشاورت قريش ليلة بمكة فقال بعضهم : إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق يريدون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال بعضهم بل اقتلوه ، وقال بعضهم : بل أخرجوه فأطلع الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ذلك فبات علي رضي الله عنه على فراش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وخرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى لحق بالغار وبات المشركون يحرسون عليا يحسبونه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما أصبحوا ثاروا إليه فلما رأوا عليا رد الله تعالى مكرهم فقالوا : أين صاحبك هذا؟ قال لا أدري ، فاقتصوا أثره فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم فصعدوا في الجبل فمروا بالغار فرأوا على بابه نسج العنكبوت فقالوا لو دخل هاهنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه فمكث فيه ثلاث ليال ، وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير في قوله (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) أي فمكرت بهم بكيدي المتين حتى خلصتك منهم.

__________________

(١) المسند ١ / ٣٤٨.

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ(٣١) وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٢) وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (٣٣)

يخبر تعالى عن كفر قريش وعتوهم وتمردهم وعنادهم ودعواهم الباطل عند سماع آياته إذا تتلى عليهم أنهم يقولون (قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) وهذا منهم قول بلا فعل وإلا فقد تحدوا غير ما مرة أن يأتوا بسورة من مثله فلا يجدون إلى ذلك سبيلا وإنما هذا القول منهم يغرون به أنفسهم ومن تبعهم على باطلهم.

وقد قيل إن القائل لذلك هو النضر بن الحارث لعنه الله كما قد نص على ذلك سعيد بن جبير والسدي وابن جريج وغيرهم فإنه لعنه الله كان قد ذهب إلى بلاد فارس وتعلم من أخبار ملوكهم رستم وإسفنديار ، ولما قدم وجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد بعثه الله وهو يتلو على الناس القرآن فكان عليه الصلاة والسلام إذا قام من مجلس جلس فيه النضر فحدثهم من أخبار أولئك ثم يقول بالله أينا أحسن قصصا أنا أو محمد؟ ولهذا لما أمكن الله تعالى منه يوم بدر ووقع في الأسارى أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن تضرب رقبته صبرا بين يديه ففعل ذلك ، ولله الحمد.

وكان الذي أسره المقداد بن الأسود رضي الله عنه كما قال ابن جرير (١) : حدثنا محمد بن بشار حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير قال قتل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم بدر صبرا عقبة بن أبي معيط وطعيمة بن عدي والنضر بن الحارث وكان المقداد أسر النضر فلما أمر بقتله قال المقداد يا رسول الله أسيري فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنه كان يقول في كتاب الله عزوجل ما يقول فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقتله فقال المقداد يا رسول الله أسيري فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «اللهم أغن المقداد من فضلك» فقال المقداد هذا الذي أردت ، قال وفيه أنزلت هذه الآية (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ).

وكذا رواه هشيم عن أبي بشر جعفر بن أبي دحية عن سعيد بن جبير أنه قال المطعم بن عدي بدل طعيمة وهو غلط لأن المطعم بن عدي لم يكن حيا يوم بدر ، ولهذا قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يومئذ : لو كان المطعم بن عدي حيا ثم سألني في هؤلاء النتنى لوهبتهم له» (٢) يعني الأسارى لأنه كان قد أجار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم رجع من الطائف.

ومعنى (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) وهو جمع أسطورة أي كتبهم اقتبسها فهو يتعلم منها ويتلوها على الناس وهذا هو الكذب البحت كما أخبر الله عنهم في الآية الأخرى (وَقالُوا أَساطِيرُ

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٢٣٠.

(٢) أخرجه البخاري في الخمس باب ١٦ ، والمغازي باب ١٢ ، وأبو داود في الجهاد باب ١٢٠ ، وأحمد في المسند ٤ / ٨٠.

الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) [الفرقان : ٥ ـ ٦] أي لمن تاب إليه وأناب فإنه يتقبل منه ويصفح عنه ، وقوله (وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) هذا من كثرة جهلهم وشدة تكذيبهم وعنادهم وعتوهم ، وهذا مما عيبوا به وكان الأولى لهم أن يقولوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا له ووفقنا لاتباعه ولكن استفتحوا على أنفسهم واستعجلوا العذاب ، وتقديم العقوبة كقوله تعالى : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) [العنكبوت : ٥٣] (وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ) [ص : ١٦] وقوله (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ) [المعارج : ١ ـ ٣].

وكذلك قال الجهلة من الأمم السالفة كما قال قوم شعيب له (فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [الشعراء : ١٨٧] وقال هؤلاء (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) قال شعبة عن عبد الحميد صاحب الزيادي عن أنس بن مالك قال هو أبو جهل بن هشام قال (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) فنزلت (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) رواه البخاري (١) عن أحمد ومحمد بن النضر كلاهما عن عبيد الله بن معاذ عن أبيه عن شعبة به وأحمد هذا هو أحمد بن النضر بن عبد الوهاب قاله الحاكم أبو أحمد والحاكم أبو عبد الله النيسابوري ، والله أعلم.

وقال الأعمش عن رجل عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله (وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) قال هو النضر بن الحارث بن كلدة قال : فأنزل الله (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ) [المعارج : ١ ـ ٢] وكذا قال مجاهد وعطاء وسعيد بن جبير والسدي : إنه النضر بن الحارث زاد عطاء فقال الله تعالى : (وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ) [ص : ١٦] وقال (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) [الأنعام : ٩٤] وقال (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ لِلْكافِرينَ) [المعارج : ١ ـ ٢] قال عطاء ولقد أنزل الله فيه بضع عشرة آية من كتاب الله عزوجل (٢) ، وقال ابن مردويه حدثنا محمد بن إبراهيم حدثنا الحسن بن أحمد بن الليث حدثنا أبو غسان حدثنا أبو نميلة حدثنا الحسين عن ابن بريدة عن أبيه قال : رأيت عمرو بن العاص واقفا يوم أحد على فرس وهو يقول : اللهم إن كان ما يقول محمد حقا فاخسف بي وبفرسي. وقال قتادة في قوله (وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ) الآية قال : قال ذلك سفهة هذه الأمة وجهلتها

__________________

(١) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٨ ، باب ٢.

(٢) انظر تفسير الطبري ٦ / ٢٣١.

فعاد الله بعائدته ورحمته على سفهة هذه الأمة وجهلتها (١).

وقوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو حذيفة موسى بن مسعود حدثنا عكرمة بن عمار عن أبي زميل سماك الحنفي عن ابن عباس قال كان المشركون يطوفون بالبيت ويقولون لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك ، فيقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قد ، قد ، ويقولون : اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك. ويقولون غفرانك غفرانك فأنزل الله (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) الآية قال ابن عباس كان فيهم أمانان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والاستغفار فذهب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبقي الاستغفار (٢).

وقال ابن جرير (٣) : حدثني الحارث حدثني عبد العزيز حدثنا أبو معشر عن يزيد بن رومان ومحمد بن قيس قالا : قالت قريش بعضها لبعض محمد أكرمه الله من بيننا (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ) الآية فلما أمسوا ندموا على ما قالوا فقالوا غفرانك اللهم. فأنزل الله (وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ ـ إلى قوله ـ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) يقول : ما كان الله ليعذب قوما وأنبياؤهم بين أظهرهم حتى يخرجهم ثم قال (وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) يقول وفيهم من قد سبق له من الله الدخول في الإيمان وهو الاستغفار يستغفرون يعني يصلون يعني بهذا أهل مكة (٤).

وروي عن مجاهد وعكرمة وعطية والعوفي وسعيد بن جبير والسدي نحو ذلك. وقال الضحاك وأبو مالك (وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) يعني المؤمنين الذين كانوا بمكة ، وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا عبد الغفار بن داود حدثنا النضر بن عربي قال : قال ابن عباس : إن الله جعل في هذه الأمة أمانين لا يزالون معصومين مجارين من قوارع العذاب ما داما بين أظهرهم ، فأمان قبضه الله إليه وأمان بقي فيكم ، قوله (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ). وقال أبو صالح عبد الغفار : حدثني بعض أصحابنا أن النضر بن عدي حدثه هذا الحديث عن مجاهد عن ابن عباس. وروى ابن مردويه وابن جرير عن أبي موسى الأشعري نحوا من هذا. وكذا روي عن قتادة وأبي العلاء النحوي المقرئ.

وقال الترمذي (٥) : حدثنا سفيان بن وكيع حدثنا ابن نمير عن إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر عن عباد بن يوسف عن أبي بردة بن أبي موسى عن أبيه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٢٣١.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٢٣٣.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ٢٣٣ ، ٢٣٤.

(٤) تفسير الطبري ٦ / ٢٣٣.

(٥) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٨ ، باب ٤.

«أنزل الله علي أمانين لأمتي (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة».

ويشهد لهذا ما رواه الإمام أحمد (١) في مسنده والحاكم في مستدركه من حديث عبد الله بن وهب : أخبرني عمرو بن الحارث عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إن الشيطان قال وعزتك يا رب لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم. فقال الرب : وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني». ثم قال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا معاوية بن عمرو حدثنا رشدين هو ابن سعد حدثني معاوية بن سعد التجيبي عمن حدثه عن فضالة بن عبيد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «العبد آمن من عذاب الله ما استغفر الله عزوجل».

(وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٤) وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) (٣٥)

يخبر تعالى أنهم أهل لأن يعذبهم ، ولكن لم يوقع ذلك بهم لبركة مقام الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم بين أظهرهم ، ولهذا لما خرج من بين أظهرهم أوقع الله بهم بأسه يوم بدر ، فقتل صناديدهم وأسر سراتهم وأرشدهم تعالى إلى الاستغفار من الذنوب التي هم متلبسون بها من الشرك والفساد. وقال قتادة والسدي وغيرهما : لم يكن القوم يستغفرون ، ولو كانوا يستغفرون لما عذبوا (٣).

واختاره ابن جرير ، فلولا ما كان بين أظهرهم من المستضعفين من المؤمنين المستغفرين لوقع بهم البأس الذي لا يرد ، ولكن دفع عنهم بسبب أولئك ، كما قال تعالى في يوم الحديبية (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) [الفتح : ٢٥].

قال ابن جرير (٤) : حدثنا ابن حميد حدثنا يعقوب عن جعفر بن أبي المغيرة عن ابن أبزى قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة فأنزل الله (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) ، قال : فخرج النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة فأنزل الله (وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) ، قال : وكان أولئك البقية من المسلمين الذين بقوا فيها مستضعفين ، يعني بمكة (يَسْتَغْفِرُونَ) فلما خرجوا أنزل الله

__________________

(١) المسند ٣ / ٢٩ ، ٤١ ، ٧٦.

(٢) المسند ٦ / ٢٠.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ٢٣٥.

(٤) تفسير الطبري ٦ / ٢٣٢.

(وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ) ، قال : فأذن الله في فتح مكة فهو العذاب الذي وعدهم. وروي عن ابن عباس وأبي مالك والضحاك وغير واحد نحو هذا ، وقد قيل : إن هذه الآية ناسخة لقوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) ، على أن يكون المراد صدور الاستغفار منهم أنفسهم.

قال ابن جرير (١) : حدثنا ابن حميد حدثنا يحيى بن واضح عن الحسين بن واقد عن يزيد النحوي عن عكرمة والحسن البصري قالا : قال في الأنفال (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) ، فنسختها الآية التي تليها (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ ـ إلى قوله ـ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) ، فقوتلوا بمكة فأصابهم فيها الجوع والضر ، وكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث أبي نميلة يحيى بن واضح.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا حجاج بن محمد عن ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء عن ابن عباس (وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) ثم استثنى أهل الشرك فقال (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) (٢).

وقوله ـ (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي وكيف لا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام أي الذي بمكة يصدون المؤمنين الذين هم أهله عن الصلاة فيه والطواف به ، ولهذا قال : (وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ) أي هم ليسوا أهل المسجد الحرام وإنما أهله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه كما قال تعالى : (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) [التوبة : ١٦ ـ ١٧] ، وقال تعالى : (وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ) [البقرة : ٢١٧] ، الآية.

وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسير هذه الآية : حدثنا سليمان بن أحمد هو الطبراني ، حدثنا جعفر بن إلياس بن صدقة المصري ، حدثنا نعيم بن حماد ، حدثنا نوح بن أبي مريم عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أولياؤك؟ قال : «كل تقي» وتلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ). وقال الحاكم في مستدركه : حدثنا أبو بكر الشافعي ، حدثنا إسحاق بن الحسن ، حدثنا أبو حذيفة ، حدثنا سفيان عن عبد الله بن خثيم عن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة عن أبيه عن جده قال : جمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٢٣٦.

(٢) أخرجه السيوطي في الدر المنثور ٣ / ٣٢٨.

قريشا فقال : «هل فيكم من غيركم؟» فقالوا فينا ابن أختنا وفينا حليفنا وفينا مولانا فقال : «حليفنا منا وابن أختنا منا ومولانا منا إن أوليائي منكم المتقون» ثم قال هذا صحيح ولم يخرجاه.

وقال عروة والسدي ومحمد بن إسحاق في قوله تعالى : (إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ) قال هم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه رضي الله عنهم. وقال مجاهد : هم المجاهدون من كانوا وحيث كانوا ، ثم ذكر تعالى ما كانوا يعتمدونه عند المسجد الحرام ، وما كانوا يعاملونه به ، فقال : (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً) ، قال عبد الله بن عمرو وابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وأبو رجاء العطاردي ومحمد بن كعب القرظي وحجر بن عنبس ونبيط بن شريط وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هو الصفير ، وزاد مجاهد وكانوا يدخلون أصابعهم في أفواههم ، وقال السدي : المكاء الصفير على نحو طير أبيض يقال له المكاء ويكون بأرض الحجاز (وَتَصْدِيَةً).

قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو خلاد سليمان بن خلاد ، حدثنا يونس بن محمد المؤدب ، حدثنا يعقوب يعني ابن عبد الله الأشعري ، حدثنا جعفر بن المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله : (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً) ، قال كانت قريش تطوف بالبيت عراة تصفر وتصفق والمكاء الصفير والتصدية التصفيق. وهكذا روى علي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس ، وكذا روى عن ابن عمر ومجاهد ومحمد بن كعب وأبي سلمة بن عبد الرحمن والضحاك وقتادة وعطية العوفي وحجر بن عنبس وابن أبزى نحو هذا. وقال ابن جرير (١) : حدثنا ابن بشار حدثنا أبو عامر حدثنا قرة عن عطية عن ابن عمر في قوله (وَما كانَ صَلاتُهُمْ ...) قال المكاء التصفير والتصدية التصفيق ، قال قرة : وحكى لنا عطية فعل ابن عمر فصفر ابن عمر وأمال خده وصفق بيديه ، وعن ابن عمر أيضا أنه قال : إنهم كانوا يضعون خدودهم على الأرض ويصفقون ويصفرون رواه ابن أبي حاتم في تفسيره بسنده عنه.

وقال عكرمة : كانوا يطوفون بالبيت على الشمال ، قال مجاهد : وإنما كانوا يصنعون ذلك ليخلطوا بذلك على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاته ، وقال الزهري يستهزئون بالمؤمنين ، وعن سعيد بن جبير وعبد الرحمن بن زيد (وَتَصْدِيَةً) قال صدهم الناس عن سبيل الله عزوجل.

قوله (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) ، قال الضحاك وابن جريج ومحمد بن إسحاق : هو ما أصابهم يوم بدر من القتل والسبي ، واختاره ابن جرير (٢) ولم يحك غيره ، وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال عذاب أهل

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٢٣٩.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٢٤١.

الإقرار بالسيف وعذاب أهل التكذيب بالصيحة والزلزلة.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (٣٦) لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (٣٧)

قال محمد بن إسحاق : حدثني الزهري ومحمد بن يحيى بن حبان وعاصم بن عمر بن قتادة والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعيد بن معاذ قالوا لما أصيبت قريش يوم بدر ورجع فلهم إلى مكة ورجع أبو سفيان بعيره مشى عبد الله بن أبي ربيعة وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية في رجال من قريش أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم ببدر فكلموا أبا سفيان بن حرب ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة ، فقالوا يا معشر قريش إن محمدا قد وتركم وقتل خياركم ، فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا أن ندرك منه ثأرا بمن أصيب منا ففعلوا ، قال ففيهم كما ذكر عن ابن عباس أنزل الله عزوجل (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ ـ إلى قوله ـ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) (١) ، وكذا روي عن مجاهد وسعيد بن جبير والحكم بن عيينة وقتادة والسدي وابن أبزى أنها نزلت في أبي سفيان ونفقته الأموال في أحد لقتال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال الضحاك : نزلت في أهل بدر وعلى كل تقدير فهي عامة ، وإن كان سبب نزولها خاصا فقد أخبر تعالى أن الكفار ينفقون أموالهم ليصدوا عن اتباع طريق الحق فسيفعلون ذلك ثم تذهب أموالهم (ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً) أي ندامة حيث لم تجد شيئا لأنهم أرادوا إطفاء نور الله وظهور كلمتهم على كلمة الحق والله متم نوره ولو كره الكافرون وناصر دينه ومعلن كلمته ومظهر دينه على كل دين فهذا الخزي لهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار فمن عاش منهم رأى بعينه وسمع بأذنه ما يسوءه ، ومن قتل منهم أو مات فإلى الخزي الأبدي والعذاب السرمدي ، ولهذا قال : (فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ).

وقوله تعالى : (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) فيميز أهل السعادة من أهل الشقاء ، وقال السدي : يميز المؤمن من الكافر ، وهذا يحتمل أن يكون هذا التمييز في الآخرة كقوله : (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ) [يونس : ٢٨] الآية ، وقوله : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ) [الروم : ١٤] ، وقال في الآية الأخرى : (يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ) [الروم : ٤٣] وقال تعالى : (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) [يس : ٥٩] ويحتمل أن يكون هذا التمييز في الدنيا بما يظهر من أعمالهم للمؤمنين.

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٢٤٣.

وتكون اللام معللة لما جعل الله للكافرين من مال ينفقونه في الصد عن سبيل الله أي إنما أقدرناهم على ذلك (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) أي من يطيعه بقتال أعدائه الكافرين ، أو يعصيه بالنكول عن ذلك كقوله : (وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لَاتَّبَعْناكُمْ) [آل عمران : ١٦٦ ـ ١٦٧] الآية وقال تعالى : (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) [آل عمران : ١٧٩] الآية.

وقال تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) [آل عمران : ١٤٢] ونظيرها في براءة أيضا فمعنى الآية على هذا إنما ابتليناكم بالكفار يقاتلونكم وأقدرناهم على إنفاق الأموال وبذلها في ذلك (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ) أي يجمعه كله وهو جمع الشيء بعضه على بعض كما قال تعالى في السحاب (ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً) أي متراكما متراكبا (فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) أي هؤلاء هم الخاسرون في الدنيا والآخرة.

(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (٣٨) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣٩) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) (٤٠)

يقول تعالى لنبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا) أي عما هم فيه من الكفر والمشاقة والعناد ويدخلوا في الإسلام والطاعة والإنابة يغفر لهم ما قد سلف أي من كفرهم ، وذنوبهم وخطاياهم كما جاء في الصحيح من حديث أبي وائل عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية ، ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر» (١) وفي الصحيح أيضا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : الإسلام يجبّ ما قبله والتوبة تجب ما كان قبلها» (٢).

وقوله (وَإِنْ يَعُودُوا) أي يستمروا على ما هم فيه (فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) أي فقد مضت سنتنا في الأولين أنهم إذا كذبوا واستمروا على عنادهم أنا نعاجلهم بالعذاب والعقوبة. قال مجاهد في قوله (فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) أي في قريش يوم بدر وغيرها من الأمم ، وقال السدي ومحمد بن إسحاق أي يوم بدر.

وقوله تعالى : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) قال البخاري (٣) : حدثنا

__________________

(١) أخرجه البخاري في المرتدين باب ١ ، وابن ماجة في الزهد باب ٢٩.

(٢) أخرجه أحمد في المسند ٤ / ١٩٩ ، ٢٠٤ ، ٢٠٥.

(٣) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٨ ، باب ٥.

الحسن بن عبد العزيز حدثنا عبد الله بن يحيى حدثنا حيوة بن شريح عن بكر بن عمر عن بكير عن نافع عن ابن عمر أن رجلا جاء فقال : يا أبا عبد الرحمن ألا تصنع ما ذكر الله في كتابه (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) الآية فما يمنعك أن لا تقاتل كما ذكر الله في كتابه؟ فقال : يا ابن أخي أعير بهذه الآية ، ولا أقاتل أحب إلي من أن أعير بالآية التي يقول الله عزوجل (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً) [النساء : ٩٣] إلى آخر الآية قال : فإن الله تعالى يقول (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) قال ابن عمر قد فعلنا على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ كان الإسلام قليلا وكان الرجل يفتن في دينه إما أن يقتلوه وإما أن يوثقوه حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة ، فلما رأى أنه لا يوافقه فيما يريد قال فما قولكم في علي وعثمان؟ قال ابن عمر أما قولي في علي وعثمان ، أما عثمان فكان الله قد عفا عنه وكرهتم أن يعفو الله عنه ، وأما علي فابن عم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وختنه وأشار بيده وهذه ابنته أو بنته حيث ترون.

وحدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير حدثنا بيان أن ابن وبرة حدثه قال حدثني سعيد بن جبير قال : خرج علينا أو إلينا ابن عمر رضي الله عنهما فقال كيف ترى في قتال الفتنة؟ فقال : وهل تدري ما الفتنة؟ كان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقاتل المشركين وكان الدخول عليهم فتنة ، وليس بقتالكم على الملك (١). هذا كله سياق البخاري رحمه‌الله تعالى وقال عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أنه أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير فقالا : إن الناس قد صنعوا ما ترى وأنت ابن عمر بن الخطاب وأنت صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فما يمنعك أن تخرج؟ قال يمنعني أن الله حرم علي دم أخي المسلم. قالوا أو لم يقل الله (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ)؟ قال قد قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين كله لله ، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله.

وكذا روى حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أيوب بن عبد الله اللخمي ، قال كنت عند عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، فأتاه رجل فقال : إن الله يقول (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) ، قال : قد قاتلنا حتى لم تكن فتنة ، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله. وكذا رواه حماد بن سلمة ، فقال ابن عمر : قاتلت أنا وأصحابي حتى كان الدين كله لله ، وذهب الشرك ولم تكن فتنة ، ولكنك وأصحابك تقاتلون حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله ، رواهما ابن مردويه.

وقال أبو عوانة : عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه ، قال : قال ذو البطين ، يعني أسامة بن زيد : لا أقاتل رجلا يقول لا إله إلا الله أبدا. فقال سعد بن مالك : وأنا والله لا أقاتل رجلا يقول لا إله إلا الله أبدا ، فقال رجل ألم يقل الله (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ)؟ فقالا : قد قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين كله لله. رواه ابن مردويه ، وقال

__________________

(١) راجع الحاشية السابقة.

الضحاك عن ابن عباس (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) ، يعني لا يكون شرك ، وكذا قال أبو العالية ومجاهد والحسن وقتادة والربيع بن أنس والسدي ومقاتل بن حيان وزيد بن أسلم ، وقال محمد بن إسحاق : بلغني عن الزهري عن عروة بن الزبير ، وغيره من علمائنا ، (حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) ، حتى لا يفتن مسلم عن دينه.

وقوله (وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) قال الضحاك : عن ابن عباس في هذه الآية ، قال يخلص التوحيد لله ، وقال الحسن وقتادة وابن جريج (وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) أن يقال لا إله إلا الله ، وقال محمد بن إسحاق : ويكون التوحيد خالصا لله ، ليس فيه شرك ، ويخلع ما دونه من الأنداد.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : (وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) ، لا يكون مع دينكم كفر ، ويشهد لهذا ما ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «أمرت أن أقاتل الناس ، حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم ، إلا بحقها ، وحسابهم على الله عزوجل» (١) وفيهما عن أبي موسى الأشعري قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ، ويقاتل رياء ، أي ذلك في سبيل الله عزوجل؟ فقال : «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله عزوجل» (٢).

وقوله (فَإِنِ انْتَهَوْا) أي بقتالكم عما هم فيه من الكفر فكفوا عنه ، وإن لم تعلموا بواطنهم (فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) ، كقوله (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) [التوبة : ٥] ، الآية ، وفي الآية الأخرى (فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ) [التوبة: ١١] ، وقال (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) [البقرة : ١٩٣] وفي الصحيح : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأسامة ، لما علا ذلك الرجل بالسيف ، فقال لا إله إلا الله فضربه فقتله ، فذكر ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لأسامة : «أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟ وكيف تصنع بلا إله إلا الله يوم القيامة؟ فقال يا رسول الله ، إنما قالها تعوذا ، قال «هلا شققت عن قلبه؟» وجعل يقول ويكرر عليه ، «من لك بلا إله إلا الله يوم القيامة؟» قال أسامة حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ (٣).

وقوله (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) ، أي وإن استمروا على خلافكم ومحاربتكم فاعلموا أن الله مولاكم ، وسيدكم وناصركم على أعدائكم فنعم المولى

__________________

(١) أخرجه البخاري في الإيمان ١٧ ، ومسلم في الإيمان حديث ٣٤ ، ٣٦.

(٢) أخرجه البخاري في العلم باب ٤٥ ، ومسلم في الإمارة حديث ١٥٠ ، ١٥١.

(٣) أخرجه مسلم في الإيمان حديث ١٥٨ ، وأبو داود في الجهاد باب ٩٥ ، وابن ماجة في الفتن باب ١ ، وأحمد في المسند ٤ / ٤٣٩ ، ٥ / ٢٠٧.

ونعم النصير. وقال محمد بن جرير (١) : حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد حدثنا أبي حدثنا أبان العطار حدثنا هشام بن عروة عن عروة أن عبد الملك بن مروان كتب إليه يسأله عن أشياء فكتب إليه عروة : سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد فإنك كتبت إلي تسألني ، عن مخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكة ، وسأخبرك به ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، كان من شأن خروج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكة ، أن الله أعطاه النبوة ، فنعم النبي ونعم السيد ونعم العشيرة ، فجزاه الله خيرا ، وعرفنا وجهه في الجنة ، وأحيانا على ملته وأماتنا وبعثنا عليها ، وأنه لما دعا قومه لما بعثه الله به من الهدى والنور الذي أنزل عليه لم يبعدوا منه أول ما دعاهم إليه ، وكانوا يسمعون له ، حتى إذا ذكر طواغيتهم.

وقدم ناس من الطائف من قريش لهم أموال ، أنكر ذلك عليه ناس واشتدوا عليه ، وكرهوا ما قال وأغروا به من أطاعهم ، فانعطف عنه عامة الناس ، فتركوه إلا من حفظه الله منهم ، وهم قليل فمكث بذلك ما قدر الله أن يمكث ، ثم ائتمرت رؤوسهم بأن يفتنوا من اتبعه عن دين الله من أبنائهم وإخوانهم وقبائلهم ، فكانت فتنة شديدة الزلزال ، فافتتن من افتتن وعصم الله من شاء منهم ، فلما فعل ذلك بالمسلمين ، أمرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يخرجوا إلى أرض الحبشة ، وكان بالحبشة ملك صالح ، يقال له النجاشي ، لا يظلم أحد بأرضه ، وكان يثنى عليه مع ذلك ، وكانت أرض الحبشة متجرا لقريش يتجرون فيها ، وكانت مساكن لتجارهم يجدون فيها رفاغا من الرزق ، وأمنا ومتجرا حسنا ، فأمرهم بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فذهب إليها عامتهم لما قهروا بمكة ، وخافوا عليهم الفتن ، ومكث هو فلم يبرح.

فمكث بذلك سنوات يشتدون على من أسلم منهم ، ثم إنه فشا الإسلام فيها ، ودخل فيه رجال من أشرافهم ومنعتهم ، فلما رأوا ذلك استرخوا استرخاءة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعن أصحابه ، وكانت الفتنة الأولى : هي التي أخرجت من خرج من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أرض الحبشة مخافتها ، وفرارا مما كانوا فيه من الفتن والزلزال فلما استرخى عنهم ودخل في الإسلام من دخل منهم تحدث باسترخائهم عنهم ، فبلغ من كان بأرض الحبشة من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قد استرخى عمن كان منهم بمكة ، وأنهم لا يفتنون ، فرجعوا إلى مكة وكادوا يأمنون بها ، وجعلوا يزدادون ويكثرون ، وأنه أسلم من الأنصار بالمدينة ناس كثير.

وفشا الإسلام بالمدينة وطفق أهل المدينة يأتون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة ، فلما رأت قريش ذلك ، توامروا على أن يفتنوهم ويشتدوا ، فأخذوهم فحرصوا على أن يفتنوهم ، فأصابهم جهد شديد ، فكانت الفتنة الآخرة ، فكانت فتنتان : فتنة أخرجت من خرج منهم إلى أرض الحبشة حين أمرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بها ، وأذن لهم في الخروج إليها ، وفتنة : لما رجعوا ورأوا من يأتيهم من

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٢٤٦ ، ٢٤٧.

أهل المدينة ، ثم إنه جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المدينة سبعون نقيبا ، رؤوس الذين أسلموا ، فوافوه بالحج فبايعوه بالعقبة ، وأعطوه عهودهم ومواثيقهم ، على أنا منك وأنت منا ، وعلى أن من جاء من أصحابك أو جئتنا فإنا نمنعك مما نمنع منه أنفسنا ، فاشتدت عليهم قريش ، عند ذلك ، فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه ، أن يخرجوا إلى المدينة ، وهي الفتنة الآخرة التي أخرج فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه ، وخرج هو ، وهي التي أنزل الله عزوجل فيها (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) ، ثم رواه عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب ، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه ، عن عروة بن الزبير ، أنه كتب إلى الوليد يعني ابن عبد الملك بن مروان بهذا ، فذكر مثله ، وهذا صحيح إلى عروة رحمه‌الله.

(وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٤١)

يبين تعالى تفصيل ما شرعه مخصصا لهذه الأمة الشريفة ، من بين سائر الأمم المتقدمة بإحلال الغنائم. والغنيمة هي المال المأخوذ من الكفار ، بإيجاف (١) الخيل والركاب ، والفيء ما أخذ منهم بغير ذلك ، كالأموال التي يصالحون عليها أو يتوفون عنها ، ولا وارث لهم ، والجزية والخراج ونحو ذلك ، هذا مذهب الإمام الشافعي في طائفة من علماء السلف والخلف.

ومن العلماء من يطلق الفيء على ما تطلق عليه الغنيمة ، وبالعكس أيضا ، ولهذا ذهب قتادة إلى أن هذه الآية ناسخة لآية الحشر (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى) [الحشر : ٨] الآية ، قال فنسخت آية الأنفال تلك ، وجعلت الغنائم أربعة أخماس للمجاهدين ، وخمسا منها لهؤلاء المذكورين ، وهذا الذي قاله بعيد ، لأن هذه الآية نزلت بعد وقعة بدر ، وتلك نزلت في بني النضير ، ولا خلاف بين علماء السير والمغازي قاطبة ، أن بني النضير بعد بدر ، وهذا أمر لا يشك فيه ولا يرتاب ، فمن يفرق بين معنى الفيء والغنيمة ، يقول تلك نزلت في أموال الفيء ، وهذه في الغنائم ، ومن يجعل أمر الغنائم والفيء راجعا إلى رأي الإمام ، يقول : لا منافاة بين آية الحشر وبين التخميس ، إذا رآه الإمام والله أعلم.

فقوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) توكيد لتخميس كل قليل وكثير حتى الخيط والمخيط ، قال الله تعالى : (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) [آل عمران : ١٦١] ، وقوله (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ) اختلف المفسرون هاهنا ، فقال بعضهم : لله نصيب من الخمس يجعل في الكعبة. قال أبو جعفر

__________________

(١) الإيجاف : سرعة السير ، وأوجف دابته : حثها على السير.

الرازي ، عن الربيع عن أبي العالية الرياحي ، قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يؤتى بالغنيمة فيخمسها على خمسة ، تكون أربعة أخماس لمن شهدها ، ثم يأخذ الخمس فيضرب بيده فيه ، فيأخذ منه الذي قبض كفه فيجعله للكعبة وهو سهم الله ، ثم يقسم ما بقي على خمسة أسهم فيكون سهم للرسول ، وسهم لذوي القربى ، وسهم لليتامى ، وسهم للمساكين ، وسهم لابن السبيل (١).

وقال آخرون : ذكر الله هاهنا استفتاح كلام للتبرك ، وسهم لرسوله عليه‌السلام ، قال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما ، كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا بعث سرية فغنموا خمس الغنيمة ، فضرب ذلك الخمس في خمسة ، ثم قرأ (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ) فأن لله خمسه ، مفتاح كلام (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فجعل سهم الله وسهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم واحدا ، وهكذا قال إبراهيم النخعي والحسن بن محمد ابن الحنيفة ، والحسن البصري والشعبي وعطاء بن أبي رباح ، وعبد الله بن بريدة وقتادة ومغيرة وغير واحد ، أن سهم الله ورسوله واحد. ويؤيد هذا ما رواه الإمام الحافظ أبو بكر البيهقي ، بإسناد صحيح ، عن عبد الله بن شقيق ، عن رجل ، قال : أتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو بوادي القرى ، وهو يعرض فرسا ، فقلت يا رسول الله ، ما تقول في الغنيمة؟ فقال : «لله خمسها وأربعة أخماسها للجيش» قلت فما أحد أولى به من أحد؟ قال : «لا ولا السهم تستخرجه من جيبك ليس أنت أحق به من أخيك المسلم».

وقال ابن جرير (٢) : حدثنا عمران بن موسى ، حدثنا عبد الوارث ، حدثنا أبان عن الحسن ، قال : أوصى الحسن بالخمس من ماله ، وقال ألا أرضى من مالي بما رضي الله لنفسه ، ثم اختلف قائلو هذا القول ، فروى علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : كانت الغنيمة تخمس على خمسة أخماس ، فأربعة منها بين من قاتل عليها ، وخمس واحد يقسم على أربعة أخماس ، فربع لله وللرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فما كان لله وللرسول فهو لقرابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم يأخذ النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم من الخمس شيئا.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا أبو معمر المنقري ، حدثنا عبد الوارث بن سعيد ، عن حسين المعلم عن عبد الله بن بريدة في قوله (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ) ، قال : الذي لله فلنبيه ، والذي للرسول لأزواجه. وقال عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء بن أبي رباح ، قال : خمس الله والرسول واحد ، يحمل منه ويصنع فيه ما شاء ، يعني النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا أعم وأشمل ، وهو أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتصرف في الخمس الذي جعله الله بما شاء ، ويرده في أمته كيف شاء ، ويشهد لهذا ما رواه الإمام أحمد (٣) حيث قال : حدثنا

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٢٥٠.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٢٥٠.

(٣) المسند ٥ / ٣٢٦ ، ٦ / ٣١.

إسحاق بن عيسى ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم ، عن أبي سلام الأعرج ، عن المقدام بن معد يكرب الكندي ، أنه جلس مع عبادة بن الصامت ، وأبي الدرداء والحارث بن معاوية الكندي رضي الله عنهم ، فتذاكروا حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال أبو الدرداء لعبادة : يا عبادة كلمات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة كذا وكذا في شأن الأخماس ، فقال عبادة : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى بهم في غزوة إلى بعير من المغنم ، فلما سلم قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتناول وبرة بين أنملتيه ، فقال : «إن هذه من غنائمكم وإنه ليس لي فيها إلا نصيبي معكم الخمس ، والخمس مردود عليكم ، فأدوا الخيط والمخيط ، وأكبر من ذلك وأصغر ، ولا تغلوا فإن الغلول عار ونار على أصحابه في الدنيا والآخرة ، وجاهدوا الناس في الله القريب والبعيد ، ولا تبالوا في الله لومة لائم ، وأقيموا حدود الله في السفر والحضر ، وجاهدوا في الله ، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة عظيم ، ينجي الله به من الهم والغم» ، هذا حديث حسن عظيم ، ولم أره في شيء من الكتب الستة من هذا الوجه.

ولكن روى الإمام أحمد أيضا وأبو داود والنسائي ، من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نحوه في قصة الخمس والنهي عن الغلول. وعن عمرو بن عنبسة ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى بهم إلى بعير من المغنم ، فلما سلم أخذ وبرة من هذا البعير ، ثم قال : «ولا يحل لي من غنائمكم مثل هذه إلا الخمس ، والخمس مردود عليكم» (١) رواه أبو داود والنسائي ، وقد كان للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الغنائم شيء يصطفيه لنفسه ، عبد أو أمة أو فرس أو سيف أو نحو ذلك كما نص عليه محمد بن سيرين وعامر الشعبي ، وتبعهما على ذلك أكثر العلماء.

وروى الإمام أحمد والترمذي وحسنه عن ابن عباس : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تنفل سيفه ذا الفقار يوم بدر ، وهو الذي رأى فيه الرؤيا يوم أحد (٢) ، وعن عائشة رضي الله عنها قالت : كانت صفية من الصفي ، رواه أبو داود (٣) في سننه ، وروى أيضا بإسناده والنسائي أيضا عن يزيد بن عبد الله قال : كنا بالمربد إذ دخل رجل معه قطعة أديم ، فقرأناها فإذا فيها «من محمد رسول الله إلى بني زهير بن قيس إنكم إن شهدتم أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأقمتم الصلاة ، وآتيتم الزكاة ، وأديتم الخمس من المغنم ، وسهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وسهم الصفي ، أنتم آمنون بأمان الله ورسوله» فقلنا من كتب هذا؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٤) ، فهذه أحاديث جيدة تدل على تقرير هذا وثبوته.

__________________

(١) أخرجه أبو داود في الجهاد باب ١٤٩ ، والنسائي في الفيء.

(٢) أخرجه الترمذي في السير باب ١٢ ، وأحمد في المسند ١ / ٢٧١.

(٣) كتاب الإمارة باب ٢١.

(٤) أخرجه أبو داود في الإمارة باب ٢١ ، والنسائي في الفيء.

ولهذا جعل ذلك كثيرون من الخصائص له صلوات الله وسلامه عليه ، وقال آخرون : إن الخمس يتصرف فيه الإمام بالمصلحة للمسلمين ، كما يتصرف في مال الفيء ، وقال شيخنا الإمام العلامة ابن تيمية رحمه‌الله : وهذا قول مالك وأكثر السلف ، وهو أصح الأقوال. فإذا ثبت هذا وعلم ، فقد اختلف أيضا في الذي كان يناله عليه‌السلام من الخمس ، ماذا يصنع به من بعده ، فقال قائلون يكون لمن يلي الأمر من بعده ، روي هذا عن أبي بكر وعلي وقتادة وجماعة. وجاء فيه حديث مرفوع ، وقال آخرون : يصرف في مصالح المسلمين ، وقال آخرون : بل هو مردود على بقية الأصناف ، ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ، اختاره ابن جرير ، وقال آخرون : بل سهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسهم ذوي القربى ، مردودان على اليتامى والمساكين وابن السبيل.

قال ابن جرير : وذلك قول جماعة من أهل العراق ، وقيل إن الخمس جميعه لذوي القربى ، كما رواه ابن جرير (١) : حدثنا الحارث ، حدثنا عبد العزيز ، حدثنا عبد الغفار ، حدثنا المنهال بن عمرو ، سألت عبد الله بن محمد بن علي ، وعلي بن الحسين عن الخمس ، فقالا : هو لنا ، فقلت لعلي : فإن الله يقول (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) فقالا : يتامانا ومساكيننا ، وقال سفيان الثوري وأبو نعيم وأبو أسامة ، عن قيس بن مسلم ، سألت الحسن بن محمد ابن الحنفية رحمه‌الله تعالى ، عن قول الله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ) فقال : هذا مفتاح كلام ، لله الدنيا والآخرة ، ثم اختلف الناس في هذين السهمين ، بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال قائلون : سهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسليما للخليفة من بعده ، وقال آخرون لقرابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال آخرون : سهم القرابة لقرابة الخليفة ، واجتمع رأيهم أن يجعلوا هذين السهمين في الخيل والعدة في سبيل الله ، فكانا على ذلك في خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما (٢).

قال الأعمش عن إبراهيم : كان أبو بكر وعمر يجعلان سهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الكراع والسلاح ، فقلت لإبراهيم ما كان علي يقول فيه؟ قال : كان أشدهم فيه (٣) ، وهذا قول طائفة كثيرة من العلماء رحمهم‌الله ، وأما سهم ذوي القربى ، فإنه يصرف إلى بني هاشم وبني المطلب ، لأن بني المطلب ووازروا بني هاشم في الجاهلية وفي أول الإسلام ، ودخلوا معهم في الشعب غضبا لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وحماية له ، مسلمهم طاعة لله ولرسوله ، وكافرهم حمية للعشيرة وأنفة وطاعة لأبي طالب عم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأما بنو عبد شمس وبنو نوفل ، وإن كانوا بني عمهم ، فلم يوافقوهم على ذلك ، بل حاربوهم ونابذوهم ومالؤوا بطون قريش على حرب الرسول ، ولهذا

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٢٥٤.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٢٥٣.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ٢٥٣.

كان ذم أبي طالب لهم في قصيدته اللامية أشد من غيرهم ، لشدة قربهم ، ولهذا يقول في أثناء قصيدته : [الطويل]

جزى الله عنّا عبد شمس ونوفلا

عقوبة شرّ عاجل غير آجل (١)

بميزان قسط لا يخيس شعيرة

له شاهد من نفسه غير عائل

لقد سفهت أحلام قوم تبدلوا

بني خلف قيضا بنا والعياطل

ونحن الصميم من ذؤابة هاشم

وآل قصي في الخطوب الأوائل

وقال جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل : مشيت أنا وعثمان بن عفان ، يعني ابن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس ، إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلنا : يا رسول الله أعطيت بني المطلب من خمس خيبر وتركتنا ، ونحن وهم منك بمنزلة واحدة ، فقال : «إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد» رواه مسلم. وفي بعض روايات هذا الحديث ، «إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام» (٢) ، وهذا قول جمهور العلماء ، إنهم بنو هاشم وبنو المطلب.

قال ابن جرير (٣) : وقال آخرون : هم بنو هاشم ، ثم روي عن خصيف عن مجاهد ، قال: علم الله أن في بني هاشم فقراء ، فجعل لهم الخمس مكان الصدقة ، وفي رواية عنه قال : هم قرابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذين لا تحل لهم الصدقة ، ثم روي عن علي بن الحسين نحو ذلك.

قال ابن جرير (٤) وقال آخرون : بل هم قريش كلها ، حدثني يونس بن عبد الأعلى ، حدثني عبد الله بن نافع ، عن أبي معشر ، عن سعيد المقبري ، قال : كتب نجدة إلى عبد الله بن عباس يسأله عن ذوي القربى ، فكتب إليه ابن عباس ، كنا نقول : إنا هم ، فأبى علينا ذلك قومنا ، وقالوا قريش كلها ذوو قربى (٥) وهذا الحديث صحيح ، رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث سعيد المقبري ، عن يزيد بن هرمز أن نجدة كتب إلى ابن عباس يسأله عن ذوي القربى ، فذكره إلى قوله : فأبى ذلك علينا قومنا ، والزيادة من أفراد أبي معشر نجيح بن عبد الرحمن المدني ، وفيه ضعف.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا إبراهيم بن مهدي المصيصي ، حدثنا المعتمر بن

__________________

(١) الأبيات في ديوان أبي طالب بن عبد المطلب ص ١٢٨ ، والبيت الأول في لسان العرب (عيل) ، والبيت الثاني في لسان العرب (عيل) ، وتهذيب اللغة ٣ / ١٩٦ ، ٤٠٢ ، وتاج العروس (حصص) ، ومقاييس اللغة ٢ / ١٢٤ ، وبلا نسبة في لسان العرب (حصص) ، والمخصص ١٢ / ٢٦٣ ، وكتاب العين ٣ / ١٤.

(٢) أخرجه النسائي في الفيء باب ٥.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ٢٥١.

(٤) تفسير الطبري ٦ / ٢٥٢.

(٥) انظر تفسير الطبري ٦ / ٢٥٢. وأخرجه أيضا. مسلم في الجهاد حديث ١٤٠ ، وأبو داود في الإمارة باب ٢٠ ، والنسائي في الفيء باب ١ ، ٢.

سليمان عن أبيه عن حنش عن عكرمة عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رغبت لكم عن غسالة الأيدي ، لأن لكم من خمس الخمس ما يغنيكم أو يكفيكم» (١) ، هذا حديث حسن الإسناد ، وإبراهيم بن مهدي هذا وثقه أبو حاتم ، وقال يحيى بن معين : يأتي بمناكير ، والله أعلم.

وقوله (وَالْيَتامى) أي أيتام المسلمين ، واختلف العلماء هل يختص بالأيتام الفقراء ، أو يعم الأغنياء والفقراء؟ على قولين ، والمساكين هم المحاويج الذين لا يجدون ما يسد خلتهم ومسكنتهم ، (وَابْنِ السَّبِيلِ) هو المسافر أو المريد للسفر إلى مسافة تقصر فيها الصلاة ، وليس له ما ينفقه في سفره ذلك ، وسيأتي تفسير ذلك في آية الصدقات من سورة براءة إن شاء الله تعالى ، وبه الثقة وعليه التكلان.

وقوله (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا) أي امتثلوا ما شرعنا لكم من الخمس في الغنائم ، إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ، وما أنزل على رسوله ، ولهذا جاء في الصحيحين من حديث عبد الله بن عباس في حديث وفد عبد القيس ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لهم : «وآمركم بأربع ، وأنهاكم عن أربع. آمركم بالإيمان بالله ـ ثم قال ـ هل تدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وأن تؤدوا الخمس من المغنم» (٢) ، الحديث بطوله ، فجعل أداء الخمس من جملة الإيمان ، وقد بوب البخاري على ذلك في كتاب الإيمان من صحيحه ، فقال : [باب أداء الخمس من الإيمان] ثم أورد حديث ابن عباس هذا ، وقد بسطنا الكلام عليه في شرح البخاري ، ولله الحمد والمنة.

وقال مقاتل بن حيان : (وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ) أي في القسمة ، وقوله (يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ، ينبه تعالى على نعمته وإحسانه إلى خلقه ، بما فرق به بين الحق والباطل ببدر ، ويسمى الفرقان ، لأن الله أعلى فيه كلمة الإيمان على كلمة الباطل وأظهر دينه ونصر نبيه وحزبه ، قال علي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس : يوم الفرقان يوم بدر ، فرق الله فيه بين الحق والباطل ، رواه الحاكم ، وكذا قال مجاهد ومقسم وعبيد الله بن عبد الله والضحاك وقتادة ومقاتل بن حيان وغير واحد أنه يوم بدر.

وقال عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عروة بن الزبير في قوله (يَوْمَ الْفُرْقانِ) يوم فرق الله بين الحق والباطل ، وهو يوم بدر ، وهو أول مشهد شهده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان رأس المشركين عتبة بن ربيعة ، فالتقوا يوم الجمعة لتسع عشرة أو سبع عشرة مضت من رمضان ، وأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يومئذ ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا ، والمشركون ما بين الألف

__________________

(١) أخرجه السيوطي في الدر المنثور ٣ / ٣٣٧.

(٢) أخرجه البخاري في الإيمان باب ٤٠ ، ومسلم في الإيمان حديث ٢٤.

والتسعمائة ، فهزم الله المشركين ، وقتل منهم زيادة على السبعين ، وأسر منهم مثل ذلك.

وقد روى الحاكم في مستدركه من حديث الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن ابن مسعود ، قال في ليلة القدر : تحروها لإحدى عشرة يبقين ، فإن في صبيحتها يوم بدر ، وقال على شرطهما ، وروي مثله ، عن عبد الله بن الزبير أيضا ، من حديث جعفر بن برقان ، عن رجل عنه ، وقال ابن جرير (١) : حدثنا ابن حميد ، حدثنا يحيى بن واضح ، حدثنا يحيى بن يعقوب أبو طالب ، عن ابن عون عن محمد بن عبد الله الثقفي ، عن أبي عبد الرحمن السلمي ، قال : قال الحسن بن علي : كانت ليلة الفرقان يوم التقى الجمعان لسبع عشرة من رمضان ، إسناد جيد قوي ، ورواه ابن مردويه ، عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن حبيب عن علي قال : كانت ليلة الفرقان ، ليلة التقى الجمعان ، في صبيحتها ليلة الجمعة لسبع عشرة مضت من شهر رمضان ، وهو الصحيح عند أهل المغازي والسير ، وقال يزيد بن أبي حبيب إمام أهل الديار المصرية في زمانه : كان يوم بدر يوم الاثنين ، ولم يتابع على هذا ، وقول الجمهور مقدم عليه ، والله أعلم.

(إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٤٢)

يقول تعالى مخبرا عن يوم الفرقان (إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا) أي إذ أنتم نزول بعدوة الوادي الدنيا القريبة إلى المدينة ، (وَهُمْ) أي المشركون نزول (بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى) أي البعيدة من المدينة إلى ناحية مكة ، (وَالرَّكْبُ) أي العير الذي فيه أبو سفيان بما معه من التجارة ، (أَسْفَلَ مِنْكُمْ) أي مما يلي سيف البحر ، (وَلَوْ تَواعَدْتُمْ) أي أنتم والمشركون إلى مكان (لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ) ، قال محمد بن إسحاق : وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه ، في هذه الآية ، قال : ولو كان ذلك عن ميعاد منكم ومنهم ، ثم بلغكم كثرة عددهم وقلة عددكم ، ما لقيتموهم.

(وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) أي ليقضي الله ما أراد بقدرته من إعزاز الإسلام وأهله ، وإذلال الشرك وأهله ، من غير ملأ منكم (٢) ، ففعل ما أراد من ذلك بلطفه ، وفي حديث كعب بن مالك قال : إنما خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون ، يريدون عير قريش ، حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد ، وقال ابن جرير (٣) : حدثني يعقوب حدثني ابن علية ، عن ابن عون عن عمير بن إسحاق ، قال : أقبل أبو سفيان في الركب من الشام ، وخرج أبو جهل

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٢٥٥.

(٢) على غير ملأ : أي على غير اجتماع وتشاور.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ٢٥٧.

ليمنعه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، فالتقوا ببدر ، ولا يشعر هؤلاء بهؤلاء ، ولا هؤلاء بهؤلاء ، حتى التقى السقاة ، ونهد الناس بعضهم لبعض.

وقال محمد بن إسحاق في السيرة (١) : ومضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على وجهه ذلك ، حتى إذا كان قريبا من الصفراء ، بعث بسبس بن عمرو وعدي بن أبي الزغباء الجهنيين ، يلتمسان الخبر عن أبي سفيان ، فانطلقا حتى إذا وردا بدرا ، فأناخا بعيريهما إلى تل من البطحاء ، فاستقيا في شن لهما من الماء ، فسمعا جاريتين تختصمان ، تقول إحداهما لصاحبتها اقضيني حقي ، وتقول الأخرى إنما تأتي العير غدا أو بعد غد فأقضيك حقك ، فخلص بينهما مجدي بن عمرو ، وقال صدقت ، فسمع بذلك بسبس وعدي ، فجلسا على بعيريهما حتى أتيا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأخبراه الخبر ، وأقبل أبو سفيان حين وليا وقد حذر ، فتقدم أمام عيره ، وقال لمجدي بن عمرو هل أحسست على هذا الماء من أحد تنكره؟ فقال : لا والله ، إلا أني قد رأيت راكبين أناخا إلى هذا التل فاستقيا من شن لهما ثم انطلقا ، فجاء أبو سفيان إلى مناخ بعيريهما ، فأخذ من أبعارهما ففته فإذا فيه النوى ، فقال هذه والله علائف يثرب ، ثم رجع سريعا فضرب وجه عيره فانطلق بها فساحل ، حتى إذا رأى أنه قد أحرز عيره إلى قريش فقال : إن الله قد نجى عيركم وأموالكم ورجالكم فارجعوا ، فقال أبو جهل : والله لا نرجع حتى نأتي بدرا ـ وكانت بدر سوقا من أسواق العرب ـ فنقيم بها ثلاثا فنطعم بها الطعام ، وننحر بها الجزر ، ونسقى بها الخمر ، وتعزف علينا القيان ، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا ، فلا يزالون يهابوننا بعدها أبدا. فقال الأخنس بن شريق : يا معشر بني زهرة ، إن الله قد أنجى أموالكم ونجى صاحبكم فارجعوا فرجعت بنو زهرة ، فلم يشهدوها ، ولا بنو عدي.

قال محمد بن إسحاق (٢) : وحدثني يزيد بن رومان ، عن عروة بن الزبير قال : وبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين دنا من بدر ، علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص والزبير بن العوام في نفر من أصحابه يتجسسون له الخبر ، فأصابوا سقاة لقريش غلاما لبني سعيد بن العاص ، وغلاما لبني الحجاج ، فأتوا بهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فوجدوه يصلي فجعل أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسألونهما لمن أنتما؟ فيقولان : نحن سقاة لقريش ، بعثونا نسقيهم من الماء ، فكره القوم خبرهما ، ورجوا أن يكونا لأبي سفيان فضربوهما ، فلما أزلقوهما قالا : نحن لأبي سفيان فتركوهما ، وركع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسجد سجدتين ثم سلم ، وقال «إذا صدقاكم ضربتموهما ، وإذا كذباكم تركتموهما ، صدقا والله إنهما لقريش ، أخبراني عن قريش» قالا هم وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى ، والكثيب : العقنقل.

فقال لهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كم القوم؟» قالا : كثير. قال : «ما عدتهم؟» قالا ما ندري. قال

__________________

(١) سيرة ابن هشام ١ / ٦١٧ ـ ٦١٩.

(٢) سيرة ابن هشام ١ / ٦١٦ ، ٦١٧.

«كم ينحرون كل يوم؟» قالا : يوما تسعا ويوما عشرا ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «القوم ما بين التسعمائة إلى الألف» ثم قال لهما : «فمن فيهم من أشراف قريش؟» قالا : عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو البختري بن هشام وحكيم بن حزام ونوفل بن خويلد والحارث بن عامر بن نوفل ، وطعيمة بن عدي بن نوفل والنضر بن الحارث ، وزمعة بن الأسود وأبو جهل بن هشام وأمية بن خلف ونبيه ومنبه ابنا الحجاج ، وسهيل بن عمرو وعمرو بن عبد ود ، فأقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الناس فقال : «هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها».

قال محمد بن إسحاق (١) رحمه‌الله تعالى : وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم ، أن سعد بن معاذ قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لما التقى الناس يوم بدر يا رسول الله ، ألا نبني لك عريشا تكون فيه ، وننيخ إليك ركائبك ، ونلقى عدونا ، فإن أظفرنا الله عليهم وأعزنا فذاك ما نحب ، وإن تكن الأخرى ، فتجلس على ركائبك وتلحق بمن وراءنا من قومنا ، فقد والله تخلف عنك أقوام ما نحن بأشد لك حبا منهم ، لو علموا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك ، ويوازرونك وينصرونك. فأثنى عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خيرا ، ودعا له به فبني له عريش ، فكان فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو بكر ما معهما غيرهما. قال ابن إسحاق : وارتحلت قريش حين أصبحت ، فلما أقبلت ورآها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم تصوب من العقنقل ، وهو الكثيب ، الذي جاءوا منه إلى الوادي ، فقال : «اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك اللهم أحنهم الغداة».

وقوله : (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) ، قال محمد بن إسحاق: أي ليكفر من كفر بعد الحجة لما رأى من الآية والعبرة ، ويؤمن من آمن على مثل ذلك ، وهذا تفسير جيد. وبسط ذلك أنه تعالى يقول : إنما جمعكم مع عدوكم في مكان واحد ، على غير ميعاد ، لينصركم عليهم ويرفع كلمة الحق على الباطل ، ليصير الأمر ظاهرا والحجة قاطعة والبراهين ساطعة ، ولا يبقى لأحد حجة ، ولا شبهة ، فحينئذ يهلك من هلك أي يستمر في الكفر من استمر فيه ، على بصيرة من أمره ، إنه مبطل لقيام الحجة عليه ، (وَيَحْيى مَنْ حَيَ) أي يؤمن من آمن (عَنْ بَيِّنَةٍ) أي حجة وبصيرة ، والإيمان هو حياة القلوب ، قال الله تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) [الأنعام : ١٢٢] وقالت عائشة في قصة الإفك فهلك فيّ من هلك (٢) ، أي قال فيها ما قال من البهتان والإفك. وقوله : (وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ) أي لدعائكم وتضرعكم واستغاثتكم به ، (عَلِيمٌ) أي بكم ، وأنكم تستحقون النصر

__________________

(١) سيرة ابن هشام ١ / ٦٢٠ ، ٦٢١.

(٢) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٢٤ ، باب ٦ ، والمغازي باب ٣٤ ، ومسلم في التوبة حديث ٥٦ ، وأحمد في المسند ٦ / ١٩٥ ، ولفظ أحمد في المسند : «فهلك فيمن هلك في شأني» ، ولفظ البخاري ومسلم : «فهلك من هلك في شأنى».

على أعدائكم الكفرة المعاندين.

(إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤٣) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) (٤٤)

قال مجاهد : أراهم الله إياه في منامه قليلا ، وأخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه بذلك ، فكان تثبيتا لهم ، وكذا قال ابن إسحاق وغير واحد ، وحكى ابن جرير عن بعضهم ، أنه رآهم بعينه التي ينام بها ، وقد روى ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا يوسف بن موسى ، حدثنا أبو قتيبة ، عن سهل السراج عن الحسن في قوله : (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً) قال بعينك ، وهذا القول غريب ، وقد صرح بالمنام هاهنا ، فلا حاجة إلى التأويل الذي لا دليل عليه.

وقوله : (وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ) أي لجبنتم عنهم ، واختلفتم فيما بينكم ، (وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ) أي من ذلك ، بأن أراكهم قليلا (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي بما تكنه الضمائر وتنطوي عليه الأحشاء ، (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) [غافر : ١٩] وقوله : (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً) وهذا أيضا من لطفه تعالى بهم ، إذ أراهم إياهم قليلا في رأي العين ، فيجزؤهم عليهم ويطمعهم فيهم ، قال أبو إسحاق السبيعي : عن أبي عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، قال : لقد قللوا في أعيننا يوم بدر ، حتى قلت لرجل إلى جنبي تراهم سبعين؟ قال : لا بل هم مائة ، حتى أخذنا رجلا منهم فسألناه ، فقال : كنا ألفا ، رواه ابن أبي حاتم وابن جرير.

وقوله : (وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا حماد بن زيد ، عن الزبير بن الحارث عن عكرمة (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ) الآية ، قال : حضض بعضهم على بعض ، إسناد صحيح ، وقال محمد بن إسحاق : حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه في قوله تعالى : (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) أي ليلقي بينهم الحرب للنقمة ممن أراد الانتقام منه ، والإنعام على من أراد تمام النعمة عليه من أهل ولايته ، ومعنى هذا أنه تعالى أغرى كلا من الفريقين بالآخر ، وقلله في عينه ليطمع فيه ، وذلك عند المواجهة ، فلما التحم القتال وأيد الله المؤمنين بألف من الملائكة مردفين ، بقي حزب الكفار يرى حزب الإيمان ضعفيه ، كما قال تعالى : (قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) [آل عمران : ١٣] وهذا هو الجمع بين هاتين الآيتين ، فإن كلا منهما حق وصدق ، ولله الحمد والمنة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٤٥) وَأَطِيعُوا

اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (٤٦)

هذا تعليم من الله تعالى لعباده المؤمنين آداب اللقاء وطريق الشجاعة عند مواجهة الأعداء ، فقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا) ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن أبي أوفى ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم انتظر في بعض أيامه التي لقي فيها العدو ، حتى إذا مالت الشمس قام فيهم ، فقال : «يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو ، واسألوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف» ثم قام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال : «اللهم منزل الكتاب ، ومجري السحاب ، وهازم الأحزاب ، اهزمهم وانصرنا عليهم» (١).

وقال عبد الرزاق : عن سفيان الثوري عن عبد الرحمن بن زياد ، عن عبد الله بن يزيد عن عبد الله بن عمرو ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية ، فإذا لقيتموهم فاثبتوا واذكروا الله ، فإن صخبوا وصاحوا فعليكم بالصمت» (٢) ، وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا إبراهيم بن هاشم البغوي ، حدثنا أمية بن بسطام ، حدثنا معتمر بن سليمان ، حدثنا ثابت بن زيد عن رجل عن زيد بن أرقم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مرفوعا ، قال : «إن الله يحب الصمت عند ثلاث عند تلاوة القرآن ، وعند الزحف ، وعند الجنازة» وفي الحديث الآخر المرفوع ، يقول الله تعالى : «إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو مناجز قرنه» (٣) أي لا يشغله ذلك الحال ، عن ذكري ودعائي واستعانتي.

وقال سعيد بن أبي عروبة : عن قتادة في هذه الآية ، قال : افترض الله ذكره عند أشغل ما يكون عند الضرب بالسيوف ، وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا عبدة بن سليمان ، حدثنا ابن المبارك عن ابن جريج عن عطاء ، قال : وجب الإنصات وذكر الله عند الزحف ، ثم تلا هذه الآية ، قلت : يجهرون بالذكر؟ قال : نعم ، وقال أيضا : قرأ علي يونس بن عبد الأعلى ، أنبأنا ابن وهب ، أخبرني عبد الله بن عياش عن يزيد بن فوذر عن كعب الأحبار ، قال ما من شيء أحب إلى الله تعالى من قراءة القرآن والذكر ، ولو لا ذلك ما أمر الناس بالصلاة والقتال ، ألا ترون أنه أمر الناس بالذكر عند القتال ، فقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) قال الشاعر : [الطويل]

ذكرتك والخطّيّ يخطر بيننا

وقد نهلت فينا المثقّفة السّمر (٤)

__________________

(١) أخرجه البخاري في الجهاد باب ١١٢ ، ومسلم في الجهاد حديث ٢ ، وأبو داود في الجهاد باب ٨٩ ، وأحمد في المسند ٤ / ٣٥٤.

(٢) أخرجه الدارمي في السير باب ٦.

(٣) أخرجه الترمذي في الدعوات باب ١١٨ ، بلفظ : «إنّ عبدي كل عندي الذي يذكرني وهو ملاق قرنه».

(٤) البيت لأبي العطاء السندي في شرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ٥٦ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٤٠ ، وبلا نسبة في شرح المفصل ٢ / ٦٧ ، ومغني اللبيب ٢ / ٤٢٦.

وقال عنترة : [الكامل]

ولقد ذكرتك والرماح نواهل

منّي وبيض الهند تقطر من دمي

فأمر تعالى بالثبات عند قتال الأعداء والصبر على مبارزتهم ، فلا يفروا ولا ينكلوا ولا يجبنوا ، وأن يذكروا الله في تلك الحال ولا ينسوه ، بل يستعينوا به ويتوكلوا عليه ويسألوه النصر على أعدائهم ، وأن يطيعوا الله ورسوله في حالهم ذلك ، فما أمرهم الله تعالى به ائتمروا ، وما نهاهم عنه انزجروا ، ولا يتنازعوا فيما بينهم أيضا فيختلفوا فيكون سببا لتخاذلهم وفشلهم ، (وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) أي قوتكم وحدتكم ، وما كنتم فيه من الإقبال.

(وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) وقد كان للصحابة رضي الله عنهم في باب الشجاعة والائتمار بما أمرهم الله ورسوله به ، وامتثال ما أرشدهم إليه ما لم يكن لأحد من الأمم والقرون قبلهم ، ولا يكون لأحد ممن بعدهم ، فإنهم ببركة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وطاعته فيما أمرهم ، فتحوا القلوب والأقاليم شرقا وغربا في المدة اليسيرة ، مع قلة عددهم بالنسبة إلى جيوش سائر الأقاليم ، من الروم والفرس والترك والصقالبة والبربر والحبوش ، وأصناف السودان والقبط وطوائف بني آدم. قهروا الجميع حتى علت كلمة الله ، وظهر دينه على سائر الأديان ، وامتدت الممالك الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها ، في أقل من ثلاثين سنة ، فرضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين ، وحشرنا في زمرتهم إنه كريم وهاب.

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٤٧) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤٨) إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٤٩)

يقول تعالى بعد أمره المؤمنين بالإخلاص في القتال في سبيله ، وكثرة ذكره ، ناهيا لهم عن التشبه بالمشركين في خروجهم من ديارهم ، بطرا أي دفعا للحق ، (وَرِئاءَ النَّاسِ) وهو المفاخرة والتكبر عليهم ، كما قال أبو جهل : لما قيل له : إن العير قد نجا فارجعوا ، فقال : لا والله لا نرجع ، حتى نرد ماء بدر ، وننحر الجزر ، ونشرب الخمر ، وتعزف علينا القيان ، وتتحدث العرب بمكاننا فيها يومنا أبدا ، فانعكس ذلك عليه أجمع ، لأنهم لما وردوا ماء بدر وردوا به الحمام ، وركموا في أطواء بدر مهانين أذلاء ، صغرة أشقياء في عذاب سرمدي أبدي ، ولهذا قال : (وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) أي عالم بما جاءوا به وله ، ولهذا جازاهم عليه شر الجزاء لهم.

قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك والسدي في قوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ) قالوا : هم المشركون الذين قاتلوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم بدر. وقال محمد بن كعب : لما خرجت قريش من مكة إلى بدر ، خرجوا بالقيان والدفوف ، فأنزل الله (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) (١).

وقوله تعالى : (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ) الآية ، حسن لهم ـ لعنه الله ـ ما جاءوا له وما هموا به ، وأطمعهم أنه لا غالب لهم اليوم من الناس ، ونفى عنهم الخشية من أن يؤتوا في ديارهم من عدوهم بني بكر ، فقال : إني جار لكم ، وذلك أنه تبدى لهم في صورة سراقة بن مالك بن جعشم ، سيد بني مدلج كبير تلك الناحية ، وكل ذلك منه كما قال تعالى عنه : (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) [النساء : ١٢٠] قال ابن جريج : قال ابن عباس في هذه الآية : لما كان يوم بدر ، سار إبليس برايته وجنوده مع المشركين ، وألقى في قلوب المشركين أن أحدا لن يغلبكم ، وإني جار لكم ، فلما التقوا ونظر الشيطان إلى إمداد الملائكة ، (نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ) قال : رجع مدبرا ، وقال : (إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ) الآية (٢).

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : جاء إبليس يوم بدر في جند من الشياطين معه رايته ، في صورة رجل من بني مدلج ، في صورة سراقة بن مالك بن جعشم ، فقال الشيطان للمشركين : لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما اصطف الناس ، أخذ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قبضة من التراب فرمى بها في وجوه المشركين فولوا مدبرين ، وأقبل جبريل عليه‌السلام إلى إبليس ، فلما رآه وكانت يده في يد رجل من المشركين ، انتزع يده ثم ولى مدبرا وشيعته ، فقال الرجل : يا سراقة أتزعم أنك لنا جار؟ فقال : (إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) ، وذلك حين رأى الملائكة (٣).

وقال محمد بن إسحاق : حدثني الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ، أن إبليس خرج مع قريش في صورة سراقة بن مالك بن جعشم ، فلما حضر القتال ورأى الملائكة ، نكص على عقبيه وقال : (إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ) ، فتشبث به الحارث بن هشام ، فنخر في وجهه فخر صعقا ، فقيل له : ويلك يا سراقة على هذه الحال ، تخذلنا وتبرأ منا ، فقال : (إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ).

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٢٦٣.

(٢) انظر تفسير الطبري ٦ / ٢٦٥.

(٣) انظر تفسير الطبري ٦ / ٢٦٤.

وقال محمد بن عمر الواقدي : أخبرني عمر بن عقبة عن شعبة مولى ابن عباس ، عن ابن عباس ، قال : لما تواقف الناس أغمي على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ساعة ، ثم كشف عنه فبشر الناس بجبريل في جند من الملائكة ميمنة الناس ، وميكائيل في جند آخر ميسرة الناس ، وإسرافيل في جند آخر ألف ، وإبليس قد تصور في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي يدبر المشركين ويخبرهم أنه لا غالب لهم اليوم من الناس ، فلما أبصر عدو الله الملائكة ، نكص على عقبيه ، وقال : (إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ) ، فتشبث به الحارث بن هشام ، وهو يرى أنه سراقة لما سمع من كلامه ، فضرب في صدر الحارث فسقط الحارث ، وانطلق إبليس لا يرى حتى سقط في البحر ورفع ثوبه ، وقال يا رب موعدك الذي وعدتني. وفي الطبراني عن رفاعة بن رافع ، قريب من هذا السياق وأبسط منه ، ذكرناه في السيرة.

وقال محمد بن إسحاق : حدثني يزيد بن رومان ، عن عروة بن الزبير ، قال : لما أجمعت قريش المسير ذكرت الذي بينها وبين بني بكر من الحرب ، فكاد ذلك أن يثنيهم ، فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي ، وكان من أشراف بني كنانة ، فقال أنا جار لكم أن تأتيكم كنانة بشيء تكرهونه ، فخرجوا سراعا (١).

قال محمد بن إسحاق : فذكر لي أنهم كانوا يرونه في كل منزل في صورة سراقة بن مالك لا ينكرونه ، حتى إذا كان يوم بدر والتقى الجمعان ، كان الذي رآه حين نكص ، الحارث بن هشام أو عمير بن وهب ، فقال أين سراقة؟ أين وميل عدو الله فذهب ، قال فأوردهم ثم أسلمهم ، قال ونظر عدوا الله إلى جنود الله قد أيد الله بهم رسوله والمؤمنين ، فنكص على عقبيه ، وقال (إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ) ، وصدق عدو الله ، وقال (إِنِّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٢) ، وهكذا روي عن السدي والضحاك والحسن البصري ومحمد بن كعب القرظي وغيرهم رحمهم‌الله.

وقال قتادة : وذكر لنا أنه رأى جبريل عليه‌السلام تنزل معه الملائكة ، فعلم عدو الله أنه لا يدان له بالملائكة ، فقال إني أرى ما لا ترون ، إني أخاف الله وكذب عدو الله. والله ما به مخافة الله ، ولكن علم أنه لا قوة له ولا منعة ، وتلك عادة عدو الله لمن أطاعه واستقاد له ، حتى إذا التقى الحق والباطل أسلمهم شر مسلم ، وتبرأ منهم عند ذلك (٣).

قلت : يعني بعادته لمن أطاعه ، قوله تعالى : (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) [الحشر : ١٦] وقوله تعالى : (وَقالَ الشَّيْطانُ

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٢٦٤.

(٢) انظر تفسير الطبري ٦ / ٢٦٤ ، وسيرة ابن هشام ١ / ٦٦٣.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ٢٦٥.

لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [إبراهيم : ٢٢].

وقال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق ، حدثني عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم ، عن بعض بني ساعدة ، قال : سمعت أبا أسيد مالك بن ربيعة بعد ما كف بصره ، يقول : لو كنت معكم الآن ببدر ومعي بصري لأخبرتكم بالشعب الذي خرجت منه الملائكة ، لا أشك ولا أتمارى ، فلما نزلت الملائكة ورآها إبليس ، وأوحى الله إليهم أني معكم فثبتوا الذين آمنوا ، وتثبيتهم ، أن الملائكة كانت تأتي الرجل في صورة الرجل ، يعرفه فيقول له أبشر فإنهم ليسوا بشيء والله معكم فكروا عليهم ، فلما رأى إبليس الملائكة نكص على عقبيه ، وقال (إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ) ، وهو في صورة سراقة ، وأقبل أبو جهل يحضض أصحابه ، ويقول لا يهولنكم خذلان سراقة إياكم ، فإنه كان على موعد من محمد وأصحابه. ثم قال : واللات والعزى ، لا نرجع حتى نقرن محمدا وأصحابه في الحبال ، فلا تقتلوهم وخذوهم أخذا ، وهذا من أبي جهل لعنه الله ، كقول فرعون للسحرة لما أسلموا : (إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها) [الأعراف : ١٢٣] وكقوله : (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) [طه : ٧١] وهو من باب البهت والافتراء ، ولهذا كان أبو جهل فرعون هذه الأمة.

وقال مالك بن أنس : عن إبراهيم بن أبي علية ، عن طلحة بن عبيد الله بن كريز ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما رأى إبليس يوما هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أدحر ولا أغيظ من يوم عرفة ، وذلك مما يرى من نزول الرحمة والعفو عن الذنوب إلا ما رأى يوم بدر» قالوا : يا رسول الله وما رأى يوم بدر؟ قال : «أما إنه رأى جبريل عليه‌السلام يزع الملائكة» (١) وهذا مرسل من هذا الوجه.

وقوله : (إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ) قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في هذه الآية : لما دنا القوم بعضهم من بعض قلل الله المسلمين في أعين المشركين ، وقلل المشركين في أعين المسلمين ، فقال المشركون : غر هؤلاء دينهم ، وإنما قالوا ذلك من قلتهم في أعينهم ، فظنوا أنهم سيهزمونهم لا يشكون في ذلك ، فقال الله : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) وقال قتادة : رأوا عصابة من المؤمنين تشددت لأمر الله ، وذكر لنا ، أن أبا جهل عدو الله لما أشرف على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، قال : والله لا يعبد الله بعد اليوم قسوة وعتوا (٢).

__________________

(١) أخرجه مالك في الحج حديث ٢٤٥.

(٢) انظر تفسير الطبري ٦ / ٢٦٦.

وقال ابن جريج في قوله (إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) هم قوم كانوا من المنافقين بمكة ، قالوه يوم بدر (١) ، وقال عامر الشعبي : كان ناس من أهل مكة قد تكلموا بالإسلام ، فخرجوا مع المشركين يوم بدر ، فلما رأوا قلة المسلمين ، قالوا : (غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ) (٢). وقال مجاهد في قوله عزوجل : (إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ) قال فئة من قريش ، قيس بن الوليد بن المغيرة ، وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة ، والحارث بن زمعة بن الأسود بن المطلب ، وعلي بن أمية بن خلف ، والعاص بن منبه بن الحجاج ، خرجوا مع قريش من مكة ، وهم على الارتياب فحبسهم ارتيابهم ، فلما رأوا قلة أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا : غر هؤلاء دينهم حتى قدموا على ما قدموا عليه مع قلة عددهم وكثرة عدوهم ، وهكذا قال محمد بن إسحاق بن يسار سواء.

وقال ابن جرير (٣) : حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر عن الحسن في هذه الآية قال : هم قوم لم يشهدوا القتال يوم بدر ، فسموا منافقين ، قال معمر : وقال بعضهم : هم قوم كانوا أقروا بالإسلام وهم بمكة ، فخرجوا مع المشركين يوم بدر ، فلما رأوا قلة المسلمين ، قالوا غر هؤلاء دينهم ، وقوله (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) أي يعتمد على جنابه (فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) أي لا يضام من التجأ إليه ، فإن الله عزيز منيع الجناب عظيم السلطان (حَكِيمٌ) في أفعاله لا يضعها إلا في مواضعها ، فينصر من يستحق النصر ، ويخذل من هو أهل لذلك.

(وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٥٠) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ) (٥١)

يقول تعالى : ولو عاينت يا محمد حال توفي الملائكة أرواح الكفار ، لرأيت أمرا عظيما هائلا فظيعا منكرا ، إذ (يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) ويقولون لهم (وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) ، قال ابن جريج : عن مجاهد (أَدْبارَهُمْ) أستاهم ، قال يوم بدر (٤). قال ابن جريج : قال ابن عباس : إذا أقبل المشركون بوجوههم إلى المسلمين ، ضربوا وجوههم بالسيوف ، وإذا ولوا أدركتهم الملائكة يضربون أدبارهم.

وقال ابن أبي نجيح : عن مجاهد ، في قوله (إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) يوم بدر ، وقال وكيع : عن سفيان الثوري عن أبي هاشم إسماعيل بن كثير

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٢٦٧.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٢٦٦.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ٢٦٦.

(٤) انظر تفسير الطبري ٦ / ٢٦٨.

عن مجاهد ، وعن شعبة عن يعلى بن مسلم ، عن سعيد بن جبير ، (يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) قال وأستاههم ، ولكن الله يكنى ، وكذا قال عمر مولى عفرة. وعن الحسن البصري قال : قال رجل يا رسول الله : إني رأيت بظهر أبي جهل مثل الشوك ، قال «ذاك ضرب الملائكة» رواه ابن جرير (١) وهو مرسل ، وهذا السياق وإن كان سببه وقعة بدر ، ولكنه عام في حق كل كافر ، ولهذا لم يخصصه تعالى بأهل بدر ، بل قال تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) وفي سورة القتال (٢) مثلها.

وتقدم في سورة الأنعام قوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) [الأنعام : ٩٣] أي باسطو أيديهم بالضرب فيهم بأمر ربهم ، إذ استصعبت أنفسهم ، وامتنعت من الخروج من الأجساد أن تخرج قهرا ، وذلك إذ بشروهم بالعذاب والغضب من الله ، كما في حديث البراء أن ملك الموت إذا جاء الكافر عند احتضاره في تلك الصورة المنكرة ، يقول : اخرجي أيتها النفس الخبيثة إلى سموم وحميم وظل من يحموم ، فتتفرق في بدنه فيستخرجونها من جسده ، كما يخرج السفود (٣) من الصوف المبلول (٤) ، فتخرج معها العروق والعصب ، ولهذا أخبر تعالى : أن الملائكة تقول لهم (ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ).

وقوله تعالى : (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) أي هذا الجزاء بسبب ما عملتم من الأعمال السيئة في حياتكم الدنيا ، جازاكم الله بها هذا الجزاء (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) أي لا يظلم أحدا من خلقه ، بل هو الحكم العدل الذي لا يجور تبارك وتعالى ، وتقدس وتنزه الغني الحميد ، ولهذا جاء في الحديث الصحيح ، عند مسلم (٥) رحمه‌الله ، من رواية أبي ذر رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إن الله تعالى يقول «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه» ولهذا قال تعالى.

(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٥٢)

يقول تعالى : فعل هؤلاء من المشركين المكذبين بما أرسلت به يا محمد ، كما فعل الأمم

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٢٦٨.

(٢) أي سورة محمد الآية ٢٧.

(٣) السفود : حديدة ذات شعب معقوفة. يشوى بها اللحم.

(٤) أخرجه أحمد في المسند ٤ / ٢٨٨ ، ٢٩٦.

(٥) كتاب البر حديث ٥٥.

المكذبة قبلهم ، ففعلنا بهم ما هو دأبنا أي عادتنا وسنتنا في أمثالهم من المكذبين من آل فرعون ومن قبلهم من الأمم المكذبة بالرسل ، الكافرين بآيات الله (فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ) أي بسبب ذنوبهم أهلكهم وأخذهم أخذ عزيز مقتدر ، (إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ) أي لا يغلبه غالب ولا يفوته هارب.

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٥٣) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ) (٥٤)

يخبر تعالى عن تمام عدله وقسطه في حكمه بأنه تعالى لا يغير نعمة أنعمها على أحد ، إلا بسبب ذنب ارتكبه ، كقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ) [الرعد : ١١] وقوله (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) أي كصنعه بآل فرعون وأمثالهم ، حين كذبوا بآياته ، أهلكهم بسبب ذنوبهم وسلبهم تلك النعم التي أسداها إليهم ، من جنات وعيون وزروع وكنوز ومقام كريم ، ونعمة كانوا فيها فاكهين ، وما ظلمهم الله في ذلك بل كانوا هم الظالمين.

(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٥٥) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (٥٦) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) (٥٧)

أخبر تعالى : أن شر ما دب على وجه الأرض هم الذين كفروا فهم لا يؤمنون ، الذين كلما عاهدوا عهدا نقضوه ، وكلما أكدوه بالأيمان نكثوه ، (وَهُمْ لا يَتَّقُونَ) أي لا يخافون من الله في شيء ارتكبوه من الآثام ، (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ) أي تغلبهم وتظفر بهم في حرب ، (فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ) أي نكل بهم ، قاله ابن عباس والحسن البصري والضحاك والسدي وعطاء الخراساني وابن عيينة ، ومعناه غلظ عقوبتهم وأثخنهم قتلا ، ليخاف من سواهم من الأعداء من العرب وغيرهم ، ويصيروا لهم عبرة ، (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) وقال السدي : يقول : لعلهم يحذرون أن ينكثوا فيصنع بهم مثل ذلك.

(وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ) (٥٨)

يقول تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ) قد عاهدتهم (خِيانَةً) أي نقضا لما بينك وبينهم من المواثيق والعهود ، (فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ) أي عهدهم (عَلى سَواءٍ) ، أي أعلمهم بأنك قد نقضت عهدهم ، حتى يبقى علمك وعلمهم بأنك حرب لهم ، وهم حرب لك ، وأنه لا عهد بينك وبينهم على السواء ، أي تستوي أنت وهم في ذلك ، قال الراجز : [رجز]

فاضرب وجوه الغدر للأعداء

حتى يجيبوك إلى السّواء (١)

وعن الوليد بن مسلم أنه قال في قوله تعالى : (فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ) أي على مهل ، (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ) أي حتى ولو في حق الكفار لا يحبها أيضا. قال الإمام أحمد (٢) :

حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة ، عن أبي الفيض عن سليم بن عامر ، قال : كان معاوية يسير في أرض الروم ، وكان بينه وبينهم أمد ، فأراد أن يدنو منهم ، فإذا انقضى الأمد غزاهم ، فإذا شيخ على دابة يقول : الله أكبر ، الله أكبر ، وفاء لا غدرا ، إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ومن كان بينه وبين قوم عهد فلا يحلن عقدة ولا يشدها حتى ينقضي أمدها ، أو ينبذ إليهم على سواء» قال : فبلغ ذلك معاوية ، فرجع ، فإذا بالشيخ عمرو بن عنبسة رضي الله عنه (٣) ، وهذا الحديث رواه أبو داود الطيالسي عن شعبة ، وأخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان في صحيحه ، من طرق عن شعبة به ، وقال الترمذي : حسن صحيح.

وقال الإمام أحمد (٤) أيضا : حدثنا محمد بن عبد الله الزبيري ، حدثنا إسرائيل ، عن عطاء بن السائب ، عن أبي البختري عن سلمان ، يعني الفارسي رضي الله عنه ، أنه انتهى إلى حصن أو مدينة ، فقال لأصحابه : دعوني أدعوهم كما رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعوهم ، فقال : إنما كنت رجلا منكم ، فهداني الله عزوجل للإسلام ، فإن أسلمتم فلكم ما لنا وعليكم ما علينا ، وإن أبيتم فأدوا الجزية وأنتم صاغرون ، وإن أبيتم نابذناكم على سواء ، (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ) يفعل ذلك بهم ثلاثة أيام ، فلما كان اليوم الرابع غدا الناس إليها ففتحوها بعون الله.

(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (٥٩) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) (٦٠)

يقول تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ولا تحسبن يا محمد (الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا) أي فاتونا ، فلا نقدر عليهم بل هم تحت قهر قدرتنا ، وفي قبضة مشيئتنا ، فلا يعجزوننا ، كقوله تعالى : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ) [العنكبوت : ٤] أي يظنون ، وقوله تعالى : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [النور : ٥٧] وقوله تعالى : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ

__________________

(١) الرجز بلا نسبة في تفسير الطبري ٦ / ٢٧٢.

(٢) المسند ٤ / ١١١.

(٣) أخرجه أبو داود في الجهاد باب ١٥٢ ، والترمذي في السير باب ٢٧.

(٤) المسند ٥ / ٤٤٠.

الْمِهادُ) [آل عمران : ١٩٦ ـ ١٩٧] ثم أمر تعالى ، بإعداد آلات الحرب لمقاتلتهم حسب الطاقة والإمكان والاستطاعة ، فقال : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ) أي مهما أمكنكم (مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ).

قال الإمام أحمد (١) : حدثنا هارون بن معروف ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني عمرو بن الحارث ، عن أبي علي ثمامة بن شفي ، أخي عقبة بن عامر ، أنه سمع عقبة بن عامر يقول : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول وهو على المنبر : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي» (٢) رواه مسلم ، عن هارون بن معروف ، وأبو داود عن سعيد بن منصور ، وابن ماجة عن يونس بن عبد الأعلى ، ثلاثتهم عن عبد الله بن وهب به. ولهذا الحديث طرق أخر ، عن عقبة بن عامر ، منها ما رواه الترمذي من حديث صالح بن كيسان ، عن رجل عنه ، وروى الإمام أحمد وأهل السنن عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ارموا واركبوا وأن ترموا خير من أن تركبوا» (٣).

وقال الإمام مالك عن زيد بن أسلم ، عن أبي صالح السمان ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الخيل لثلاثة ، لرجل أجر ، ولرجل ستر ، وعلى رجل وزر ، فأما الذي له أجر ، فرجل ربطها في سبيل الله فأطال لها في مرج أو روضة ، فما أصابت في طيلها (٤) ذلك من المرج أو الروضة ، كانت له حسنات ولو أنها قطعت طيلها ، فاستنّت (٥) شرفا أو شرفين (٦) كانت آثارها وأرواثها حسنات له ، ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ولم يرد أن يسقي به ، كان ذلك حسنات له ، فهي لذلك الرجل أجر ، ورجل ربطها تغنيا وتعففا (٧) ، ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها فهي له ستر ، ورجل ربطها فخرا ورياء ونواء (٨) ، فهي على ذلك وزر» (٩).

__________________

(١) المسند ٤ / ١٥٦ ، ١٥٧.

(٢) أخرجه مسلم في الإمارة حديث ١٦٧ ، وأبو داود في الجهاد باب ٢٣ ، وابن ماجة في الجهاد باب ١٩ ، والدارمي في الجهاد باب ١٤ ، والترمذي في تفسير سورة ٨ ، باب ٥.

(٣) أخرجه أبو داود في الجهاد باب ٢٣ ، والترمذي في فضائل الجهاد باب ١١ ، والنسائي في الخيل باب ٨ ، وابن ماجة في الجهاد باب ١٩ ، وأحمد في المسند ٤ / ١٤٤ ، ١٤٦ ، ١٤٨.

(٤) الطيل ، بكسر الطاء وفتح الياء : الحبل الذي تربط فيه.

(٥) استنّت : جرت.

(٦) الشرف : المكان العالي من الأرض.

(٧) تغنيا وتعففا : أي استغناء عن الناس وتعففا عن السؤال.

(٨) النواء : المناوأة والمعاداة.

(٩) أخرجه البخاري في الشرب باب ١٢ ، والجهاد باب ٤٨ ، والمناقب باب ٢٨ ، وتفسير سورة ٩٩ ، باب ١ ، والاعتصام باب ٢٤ ، ومسلم في الزكاة حديث ٢٤ ، ٢٦ ، والترمذي في فضائل الجهاد باب ١٠ ، والنسائي في الخيل باب ١ ، وابن ماجة في الجهاد باب ١٤ ، ومالك في الجهاد حديث ٣ ، وأحمد في ـ

وسئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الحمر ، فقال «ما أنزل الله عليّ فيها شيئا إلا هذه الآية الجامعة الفاذة (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (١) [الزلزلة : ٧ ـ ٨] رواه البخاري وهذا لفظه ، ومسلم كلاهما من حديث مالك.

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا حجاج ، أخبرنا شريك ، عن الركين بن الربيع ، عن القاسم بن حسان ، عن عبد الله بن مسعود ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «الخيل ثلاثة : ففرس للرحمن ، وفرس للشيطان ، وفرس للإنسان ، فأما فرس الرحمن فالذي يربط في سبيل الله ، فعلفه وروثه وبوله ـ وذكر ما شاء الله ـ وأما فرس الشيطان ، فالذي يقامر أو يراهن عليها ، وأما فرس الإنسان ، فالفرس يربطها الإنسان يلتمس بطنها ، فهي له ستر من الفقر» وقد ذهب أكثر العلماء ، إلى أن الرمي أفضل من ركوب الخيل ، وذهب الإمام مالك ، إلى أن الركوب أفضل من الرمي ، وقول الجمهور أقوى للحديث ، والله أعلم.

وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا حجاج وهشام ، قالا : حدثنا ليث ، حدثني يزيد بن أبي حبيب ، عن ابن شماسة ، أن معاوية بن خديج ، مر على أبي ذر وهو قائم عند فرس له ، فسأله ما تعاني من فرسك هذا؟ فقال : إني أظن أن هذا الفرس قد استجيب له دعوته ، قال : وما دعاء بهيمة من البهائم؟ قال : والذي نفسي بيده ، ما من فرس إلا وهو يدعو كل سحر ، فيقول: اللهم أنت خولتني عبدا من عبادك ، وجعلت رزقي بيده ، فاجعلني أحب إليه من أهله وماله وولده.

قال : وحدثنا يحيى بن سعيد ، عن عبد الحميد بن أبي جعفر ، حدثني يزيد بن أبي حبيب عن سويد بن قيس ، عن معاوية بن خديج عن أبي ذر رضي الله عنه ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنه ليس من فرس عربي إلا يؤذن له مع كل فجر ، يدعو بدعوتين : يقول : اللهم إنك خولتني من خولتني من بني آدم ، فاجعلني من أحب أهله وماله إليه ـ أو ـ أحب أهله وماله إليه» (٤) ، رواه النسائي ، عن عمرو بن علي الفلاس ، عن يحيى القطان به.

وقال أبو القاسم الطبراني : حدثنا الحسين بن إسحاق التستري ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا يحيى بن حمزة ، حدثنا المطعم بن المقدام الصنعاني ، عن الحسن بن أبي الحسن ، أنه قال لابن الحنظلية يعني سهلا : حدثنا حديثا سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة ، وأهلها معانون عليها ،

__________________

ـ المسند ٢ / ٢٦٢ ، ٢٨٣.

(١) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٩٩ ، باب ١.

(٢) المسند ١ / ٣٩٥.

(٣) المسند ٥ / ١٦٢.

(٤) أخرجه أحمد في المسند ٥ / ١٧٠ ، والنسائي في الخيل باب ٩.

ومن ربط فرسا في سبيل الله ، كانت النفقة عليه كالماد يده بالصدقة لا يقبضها» ، والأحاديث الواردة في فضل ارتباط الخيل كثيرة. وفي صحيح البخاري ، عن عروة بن أبي الجعد البارقي ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة ، الأجر والمغنم» (١).

وقوله : (تُرْهِبُونَ) أي تخوفون (بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) أي من الكفار (وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ) قال مجاهد يعني بني قريظة ، وقال السدي : فارس ، وقال سفيان الثوري : قال ابن يمان : هم الشياطين التي في الدور ، وقد ورد حديث بمثل ذلك.

قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو عتبة أحمد بن الفرج الحمصي ، حدثنا أبو حيوة يعني شريح بن يزيد المقري ، حدثنا سعيد بن سنان ، عن ابن غريب ، يعني يزيد بن عبد الله بن غريب ، عن أبيه عن جده ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول في قول الله تعالى : (وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ) قال هم الجن ، ورواه الطبراني عن إبراهيم بن دحيم ، عن أبيه عن محمد بن شعيب عن سنان بن سعيد بن سنان ، عن يزيد بن عبد الله بن غريب به ، وزاد ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يخبل بيت فيه عتيق من الخيل» ، وهذا الحديث منكر لا يصح إسناده ولا متنه ، وقال مقاتل بن حيان وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هم المنافقون ، وهذا أشبه الأقوال ، ويشهد له قوله تعالى : (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) [التوبة : ١٠١].

وقوله (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) أي مهما أنفقتم في الجهاد ، فإنه يوفى إليكم على التمام والكمال ، ولهذا جاء في الحديث الذي رواه أبو داود (٢) : أن الدرهم يضاعف ثوابه في سبيل الله إلى سبعمائة ضعف ، كما تقدم في قوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة : ٢٦١] وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن القاسم بن عطية ، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن الدشتكي ، حدثنا أبي عن أبيه ، حدثنا الأشعث بن إسحاق ، عن جعفر عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه كان يأمر أن لا يتصدق إلا على أهل الإسلام ، حتى نزلت (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) فأمر بالصدقة بعدها ، على كل من سألك من كل دين ، وهذا أيضا غريب.

(وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦١) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٦٣)

__________________

(١) أخرجه البخاري في الجهاد باب ٤٤ ، والخمس باب ٨ ، ومسلم في الإمارة حديث ٩٨ ، ٩٩.

(٢) كتاب الجهاد باب ١٣.

يقول تعالى : إذا خفت من قوم خيانة ، فانبذ إليهم عهدهم على سواء ، فإن استمروا على حربك ومنابذتك ، فقاتلهم (وَإِنْ جَنَحُوا) أي مالوا (لِلسَّلْمِ) أي المسالمة والمصالحة والمهادنة ، (فَاجْنَحْ لَها) أي فمل إليها واقبل منهم ذلك ، ولهذا لما طلب المشركون ، عام الحديبية الصلح ، ووضع الحرب بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، تسع سنين ، أجابهم إلى ذلك مع ما اشترطوا من الشروط الأخر. وقال عبد الله ابن الإمام أحمد : حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي ، حدثني فضيل بن سليمان يعني النميري ، حدثنا محمد بن أبي يحيى ، عن إياس بن عمرو الأسلمي ، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنه سيكون اختلاف أو أمر فإن استطعت أن يكون السلم فافعل» (١).

وقال مجاهد : نزلت في بني قريظة (٢) ، وهذا فيه نظر ، لأن السياق كله في وقعة بدر ، وذكرها مكتنف لهذا كله ، وقال ابن عباس ومجاهد وزيد بن أسلم وعطاء الخراساني وعكرمة والحسن وقتادة : إن هذه الآية منسوخة بآية السيف في براءة (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) [التوبة : ٢٩] الآية ، وفيه نظر أيضا ، لأن آية براءة فيها الأمر بقتالهم إذا أمكن ذلك ، فأما إن كان العدو كثيفا فإنه يجوز مهادنتهم ، كما دلت عليه هذه الآية الكريمة ، وكما فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الحديبية ، فلا منافاة ولا نسخ ولا تخصيص ، والله أعلم.

وقوله (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) أي صالحهم وتوكل على الله ، فإن الله كافيك وناصرك ولو كانوا يريدون بالصلح خديعة ، ليتقووا ويستعدوا (فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ) أي كافيك وحده ، ثم ذكر نعمته عليه مما أيده به من المؤمنين المهاجرين والأنصار ، فقال : (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) أي جمعها على الإيمان بك ، وعلى طاعتك ومناصرتك وموازرتك ، (لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) أي لما كان بينهم من العداوة والبغضاء فإن الأنصار كانت بينهم حروب كثيرة في الجاهلية ، بين الأوس والخزرج ، وأمور يلزم منها التسلسل في الشر ، حتى قطع الله ذلك بنور الإيمان ، كما قال تعالى : (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [آل عمران : ١٠٣].

وفي الصحيحين : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما خطب الأنصار ، في شأن غنائم حنين ، قال لهم : «يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلّالا فهداكم الله بي ، وعالة فأغناكم الله بي ، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي» كلما قال شيئا قالوا الله ورسوله أمنّ (٣) ، ولهذا قال تعالى : (وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند ١ / ٩٠.

(٢) انظر تفسير الطبري ٦ / ٢٧٩.

(٣) أخرجه البخاري في المغازي باب ٥٦ ، ومسلم في الزكاة حديث ١٣٩ ، وأحمد في المسند ٣ / ٥٧ ، ٧٦ ، ١٠٤ ، ٢٥٣ ، ٤ / ٤٢.

بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي عزيز الجناب ، فلا يخيب رجاء من توكل عليه ، حكيم في أفعاله وأحكامه ، وقال الحافظ أبو بكر البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، أنبأنا علي بن بشر الصيرفي القزويني في منزلنا ، أنبأنا أبو عبد الله محمد بن الحسين القنديلي الاستراباذي ، حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن النعمان الصفار ، حدثنا ميمون بن الحكم ، حدثنا بكر بن الشرود ، عن محمد بن مسلم الطائفي ، عن إبراهيم بن ميسرة عن طاوس ، عن ابن عباس ، قال : قرابة الرحم تقطع ، ومنة النعمة تكفر ، ولم ير مثل تقارب القلوب ، يقول الله تعالى : (لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) وذلك موجود في الشعر :

إذا بت ذو قربى إليك بزلة

فغشّك واستغنى فليس بذي رحم (١)

ولكن ذا القربى الذي إن دعوته

أجاب وأن يرمي العدو الذي ترمي

قال : ومن ذلك قول القائل :

ولقد صحبت الناس ثم سبرتهم

وبلوت ما وصلوا من الأسباب (٢)

فإذا القرابة لا تقرّب قاطعا

وإذا المودة أقرب الأسباب

قال البيهقي : لا أدري هذا موصول بكلام ابن عباس أو هو من قول من دونه من الرواة ، وقال أبو إسحاق السبيعي عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، سمعه يقول : (لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) الآية ، قال هم المتحابون في الله. وفي رواية نزلت في المتحابين في الله. رواه النسائي والحاكم في مستدركه وقال : صحيح ، وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : إن الرحم لتقطع ، وإن النعمة لتكفر ، وإن الله إذا قارب بين القلوب لم يزحزحها شيء ، ثم قرأ (لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) رواه الحاكم أيضا.

وقال أبو عمرو الأوزاعي : حدثني عبدة بن أبي لبابة عن مجاهد ، ولقيته فأخذ بيدي فقال: إذا التقى المتحابان في الله فأخذ أحدهما بيد صاحبه وضحك إليه ، تحاتت خطاياهما كما تحات ورق الشجر. قال عبدة : فقلت له : إن هذا ليسير ، فقال : لا تقل ذلك فإن الله يقول (لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) قال عبدة : فعرفت أنه أفقه مني (٣).

وقال ابن جرير (٤) : حدثنا أبو كريب ، حدثنا ابن يمان ، عن إبراهيم الجزري عن الوليد بن أبي مغيث ، عن مجاهد ، قال : إذا التقى المسلمان فتصافحا غفر لهما ، قال قلت لمجاهد

__________________

(١) البيتان بلا نسبة في الدر المنثور ٣ / ٣٦١.

(٢) البيتان بلا نسبة في الدر المنثور ٣ / ٣٦١.

(٣) انظر تفسير الطبري ٦ / ٢٨٠ ، ٢٨١.

(٤) تفسير الطبري ٦ / ٢٨٠ ، وفيه : إبراهيم الخوزيّ بدل إبراهيم الجزري.

بمصافحة يغفر لهما؟ قال مجاهد : أما سمعته يقول : (لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) فقال الوليد لمجاهد : أنت أعلم مني ، وكذا روى طلحة بن مصرف عن مجاهد ، وقال ابن عون عن عمير بن إسحاق ، قال : كنا نتحدث أن أول ما يرفع من الناس الألفة ، وقال الحافظ أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني رحمه‌الله : حدثنا الحسين بن إسحاق التستري ، حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري ، حدثنا سالم بن غيلان ، سمعت جعدا أبا عثمان ، حدثني أبو عثمان النهدي ، عن سلمان الفارسي ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن المسلم إذا لقي أخاه المسلم فأخذ بيده ، تحاتت عنهما ذنوبهما ، كما تحات الورق عن الشجرة اليابسة في يوم ريح عاصف ، وإلا غفر لهما ذنوبهما ولو كانت مثل زبد البحار.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٦٤) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (٦٥) الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (٦٦)

يحرض تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين على القتال ومناجزة الأعداء ومبارزة الأقران ، ويخبرهم أنه حسبهم أي كافيهم وناصرهم ومؤيدهم على عدوهم ، وإن كثرت أعدادهم وترادفت أمدادهم ، ولو قل عدد المؤمنين. قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن عثمان بن حكيم ، حدثنا عبيد الله بن موسى ، أنبأنا سفيان عن ابن شوذب عن الشعبي في قوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) قال حسبك الله ، وحسب من شهد معك ، قال : وروي عن عطاء الخراساني وعبد الرحمن بن زيد مثله.

ولهذا قال : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ) أي حثهم أو مرهم عليه ، ولهذا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحرض على القتال ، عند صفهم ومواجهة العدو ، كما قال لأصحابه يوم بدر حين أقبل المشركون في عددهم وعددهم : «قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض» فقال عمير بن الحمام : عرضها السموات والأرض؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «نعم» ، فقال : بخ بخ فقال : «ما يحملك على قولك بخ بخ؟» قال : رجاء أن أكون من أهلها ، قال «فإنك من أهلها» فتقدم الرجل ، فكسر جفن سيفه ، وأخرج تمرات فجعل يأكل منهن ، ثم ألقى بقيتهن من يده وقال : لئن أنا حييت حتى آكلهن إنها لحياة طويلة ، ثم تقدم فقاتل حتى قتل رضي الله عنه (١) ، وقد روي عن سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير ، أن هذه الآية نزلت حين أسلم عمر بن الخطاب وكمل به الأربعون ، وفي هذا نظر ، لأن هذه الآية مدنية ، وإسلام عمر كان بمكة بعد الهجرة إلى أرض الحبشة ، وقبل الهجرة إلى المدينة ، والله أعلم.

__________________

(١) أخرجه مسلم في الإمارة حديث ١٤٦ ، وأحمد في المسند ٣ / ١٣٦.

ثم قال تعالى مبشرا للمؤمنين وآمرا : (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) كل واحد بعشرة ، ثم نسخ هذا الأمر وبقيت البشارة. قال عبد الله بن المبارك : حدثنا جرير بن حازم ، حدثنا الزبير بن الحريث ، عن عكرمة عن ابن عباس ، قال : لما نزلت (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) شق ذلك على المسلمين ، حتى فرض الله عليهم أن لا يفر واحد من عشرة ، ثم جاء التخفيف ، فقال : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ) إلى قوله (يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) قال خفف الله عنهم من العدة ، ونقص من الصبر ، بقدر ما خفف عنهم.

وروى البخاري (١) من حديث ابن المبارك نحوه. وقال سعيد بن منصور : حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار ، عن ابن عباس في هذه الآية ، قال : كتب عليهم أن لا يفر عشرون من مائتين ، ثم خفف الله عنهم ، فقال (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً) فلا ينبغي لمائة أن يفروا من مائتين ، وروى البخاري عن علي بن عبد الله عن سفيان به نحوه ، وقال محمد بن إسحاق حدثني ابن أبي نجيح ، عن عطاء عن ابن عباس ، قال : لما نزلت هذه الآية ثقلت على المسلمين ، وأعظموا أن يقاتل عشرون مائتين ، ومائة ألفا ، فخفف الله عنهم فنسخها بالآية الأخرى ، فقال (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً) الآية ، فكانوا إذا كانوا على الشطر من عدوهم ، لم يسغ لهم أن يفروا من عدوهم ، وإذا كانوا دون ذلك ، لم يجب عليهم قتالهم ، وجاز لهم أن يتحوزوا عنهم (٢).

وروى علي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس نحو ذلك ، قال ابن أبي حاتم : وروي عن مجاهد وعطاء وعكرمة والحسن ، وزيد بن أسلم وعطاء الخراساني والضحاك ، وغيرهم نحو ذلك ، وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه : من حديث المسيب بن شريك ، عن ابن عون عن نافع ، عن ابن عمر رضي الله عنهما ، في قوله (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) قال نزلت فينا أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وروى الحاكم في مستدركه من حديث أبي عمرو بن العلاء ، عن نافع عن ابن عمر ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً) رفع ثم قال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

(ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٧) لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ(٦٨) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٦٩)

__________________

(١) كتاب التفسير تفسير سورة ٨ ، باب ٦ ، ٧.

(٢) انظر تفسير الطبري ٦ / ٢٨٣.

قال الإمام أحمد (١) : حدثنا علي بن هاشم ، عن حميد ، عن أنس رضي الله عنه ، قال : استشار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الناس في الأسارى يوم بدر ، فقال «إن الله قد أمكنكم منهم» فقام عمر بن الخطاب فقال : يا رسول الله اضرب أعناقهم فأعرض عنه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم عاد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «يا أيها الناس إن الله قد أمكنكم منهم وإنما هم إخوانكم بالأمس» فقام عمر فقال : يا رسول الله اضرب أعناقهم ، فأعرض عنه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم عاد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : للناس مثل ذلك ، فقام أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، فقال : يا رسول الله نرى أن تعفو عنهم ، وأن تقبل منهم الفداء ، قال فذهب عن وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما كان فيه من الغم ، فعفا عنهم وقبل منهم الفداء ، قال وأنزل الله عزوجل (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) وقد سبق في أول السورة حديث ابن عباس في صحيح مسلم بنحو ذلك.

وقال الأعمش : عن عمرو بن مرة ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله قال : لما كان يوم بدر ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما تقولون في هؤلاء الأسارى؟» فقال أبو بكر : يا رسول الله قومك وأهلك ، استبقهم واستتبهم لعل الله أن يتوب عليهم ، وقال عمر «يا رسول الله كذبوك وأخرجوك فقدمهم فاضرب أعناقهم ، وقال عبد الله بن رواحة : يا رسول الله أنت في واد كثير الحطب ، أضرم الوادي عليهم نارا ، ثم ألقهم فيه ، قال فسكت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يرد عليهم شيئا ، ثم قام فدخل ، فقال ناس : يأخذ بقول أبي بكر ، وقال ناس : يأخذ بقول عمر ، وقال ناس : يأخذ بقول عبد الله بن رواحة.

ثم خرج عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «إن الله ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن ، وإن الله ليشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة ، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم عليه‌السلام ، قال (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [إبراهيم : ٣٦] وإن مثلك يا أبا بكر كمثل عيسى عليه‌السلام ، قال (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [المائدة : ١١٨] وإن مثلك يا عمر ، كمثل موسى عليه‌السلام ، قال (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) [يونس : ٨٨] وإن مثلك يا عمر ، كمثل نوح عليه‌السلام ، قال (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) [نوح : ٢٦] أنتم عالة فلا ينفكن أحد منهم إلا بفداء ، أو ضربة عنق» قال ابن مسعود : قلت : يا رسول الله إلا سهيل ابن بيضاء ، فإنه يذكر الإسلام ، فسكت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فما رأيتني في يوم أخوف من أن تقع علي حجارة من السماء مني في ذلك اليوم ، حتى قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إلا سهيل ابن بيضاء» فأنزل الله عزوجل (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى) إلى آخر الآية (٢) ،

__________________

(١) المسند ٣ / ٢٤٣.

(٢) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٨ ، باب ٦ ، وأحمد في المسند ١ / ٣٨٣ ، ٣٨٤ ، والطبري في تفسيره ٦ / ٢٨٧.

رواه الإمام أحمد والترمذي من حديث أبي معاوية عن الأعمش به ، والحاكم في مستدركه ، وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه عن عبد الله بن عمر ، وأبي هريرة رضي الله عنهما ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نحوه.

وفي الباب عن أبي أيوب الأنصاري ، وروى ابن مردويه أيضا ، واللفظ له والحاكم في مستدركه ، من حديث عبيد الله بن موسى ، حدثنا إسرائيل عن إبراهيم بن مهاجر ، عن مجاهد عن ابن عمر ، قال : لما أسر الأسارى يوم بدر ، أسر العباس فيمن أسر ، أسره رجل من الأنصار ، قال وقد أوعدته الأنصار أن يقتلوه ، فبلغ ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إني لم أنم الليلة من أجل عمي العباس ، وقد زعمت الأنصار أنهم قاتلوه» فقال له عمر أفآتهم؟ فقال «نعم» ، فأتى عمر الأنصار فقال لهم : أرسلوا العباس ، فقالوا : لا والله لا نرسله ، فقال لهم عمر : فإن كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رضى؟ قالوا فإن كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رضى فخذه ، فأخذه عمر فلما صار في يده ، قال له : يا عباس أسلم فو الله لأن تسلم أحب إلي من أن يسلم الخطاب ، وما ذاك إلا لما رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعجبه إسلامك ، قال واستشار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا بكر فيهم ، فقال أبو بكر عشيرتك فأرسلهم ، فاستشار عمر فقال : اقتلهم ففاداهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأنزل الله (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى) الآية ، قال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

وقال سفيان الثوري عن هشام بن حسان ، عن محمد بن سيرين ، عن عبيدة ، عن علي رضي الله عنه ، قال : جاء جبريل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم بدر ، فقال : خير أصحابك في الأسارى ، إن شاؤوا الفداء ، وإن شاؤوا القتل ، على أن يقتل عاما مقبلا منهم مثلهم ، قالوا : الفداء ويقتل منا (١) ، رواه الترمذي والنسائي وابن حبان في صحيحه من حديث الثوري به ، وهذا حديث غريب جدا ، وقال ابن عون عن عبيدة عن علي ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أسارى يوم بدر : «إن شئتم قتلتموهم وإن شئتم فاديتموهم ، واستمتعتم بالفداء واستشهد منكم بعدتهم» قال فكان آخر السبعين ، ثابت بن قيس قتل يوم اليمامة رضي الله عنه ، ومنهم من روى هذا الحديث عن عبيدة مرسلا ، فالله أعلم.

وقال محمد بن إسحاق عن ابن أبي نجيح ، عن عطاء عن ابن عباس : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى) فقرأ حتى بلغ (عَذابٌ عَظِيمٌ). قال غنائم بدر قبل أن يحلها لهم ، يقول : لو لا أني لا أعذب من عصاني ، حتى أتقدم إليه لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم (٢) ، وكذا روى ابن أبي نجيح : عن مجاهد ، وقال الأعمش : سبق منه أن لا يعذب أحدا شهد بدرا ، وروي نحوه عن سعد بن أبي وقاص ، وسعيد بن جبير وعطاء ، وقال شعبة عن أبي هاشم عن مجاهد (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ) أي لهم بالمغفرة ونحوه ، عن سفيان الثوري رحمه‌الله.

__________________

(١) أخرجه الترمذي في السير باب ١٨.

(٢) انظر سيرة ابن هشام ١ / ٦٧٦.

وقال علي بن أبي طلحة : عن ابن عباس في قوله (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ) يعني في أم الكتاب الأول ، أن المغانم والأسارى حلال لكم (لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ) من الأسارى (عَذابٌ عَظِيمٌ) قال الله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً) الآية. وكذا روى العوفي عن ابن عباس ، وروي مثله عن أبي هريرة ، وابن مسعود ، وسعيد بن جبير ، وعطاء والحسن البصري ، وقتادة والأعمش أيضا ، أن المراد (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ) لهذه الأمة بإحلال الغنائم ، وهو اختيار ابن جرير رحمه‌الله.

ويستشهد لهذا القول ، بما أخرجاه في الصحيحين عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي ، وأعطيت الشفاعة ، وكان النبي يبعث إلى قومه ، وبعثت إلى الناس عامة» (١) وقال الأعمش عن أبي صالح ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لم تحل الغنائم لسود الرؤوس غيرنا» (٢) ولهذا قال تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً) الآية ، فعند ذلك أخذوا من الأسارى الفداء.

وقد روى الإمام أبو داود في سننه : حدثنا عبد الرحمن بن المبارك العبسي ، حدثنا سفيان بن حبيب ، حدثنا شعبة عن أبي العنبس ، عن أبي الشعثاء ، عن ابن عباس ، أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم جعل فداء أهل الجاهلية يوم بدر أربعمائة (٣) ، وقد استمر الحكم في الأسرى عند جمهور العلماء ، أن الإمام مخير فيهم إن شاء قتل كما فعل ببني قريظة ، وإن شاء فادى بمال كما فعل بأسرى بدر ، أو بمن أسر من المسلمين ، كما فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تلك الجارية وابنتها ، اللتين كانتا في سبي سلمة بن الأكوع ، حيث ردهما وأخذ في مقابلتهما من المسلمين الذين كانوا عند المشركين ، وإن شاء استرق من أسر. هذا مذهب الإمام الشافعي وطائفة من العلماء ، وفي المسألة خلاف آخر بين الأئمة ، مقرر في موضعه من كتب الفقه.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٠) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٧١)

__________________

(١) أخرجه البخاري في التيمم باب ١ ، والصلاة باب ٥٦ ، والخمس باب ٨ ، ومسلم في المساجد حديث ٣ ، ٥.

(٢) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٨ ، باب ٧ ، وأحمد في المسند ٢ / ٢٥٢.

(٣) أخرجه أبو داود في الجهاد باب ١٢١.

قال محمد بن إسحاق : حدثني العباس بن عبد الله بن مغفل عن بعض أهله عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال يوم بدر : «إني قد عرفت أنا أناسا من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرها لا حاجة لهم بقتالنا فمن لقي منكم أحدا منهم ـ أي من بني هاشم ـ فلا يقتله ، ومن لقي أبا البختري بن هشام فلا يقتله ، ومن لقي العباس بن عبد المطلب فلا يقتله ، فإنه إنما أخرج مستكرها» فقال أبو حذيفة بن عتبة أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وعشائرنا ونترك العباس والله لئن لقيته لألجمنه بالسيف فبلغت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لعمر بن الخطاب «يا أبا حفص ـ قال عمر والله إنه لأول يوم كناني فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا حفص ـ أيضرب وجه عم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالسيف؟» فقال عمر يا رسول الله ائذن لي فأضرب عنقه فو الله لقد نافق ، فكان أبو حذيفة يقول بعد ذلك والله ما آمن من تلك الكلمة التي قلت ولا أزال منها خائفا إلا أن يكفرها الله تعالى عني بشهادة ، فقتل يوم اليمامة شهيدا رضي الله عنه.

وبه عن ابن عباس قال : لما أمسى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم بدر ، والأسارى محبوسون بالوثاق ، بات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ساهرا أول الليل فقال له أصحابه يا رسول الله ما لك لا تنام؟ وقد أسر العباس رجل من الأنصار فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «سمعت أنين عمي العباس في وثاقه فأطلقوه» فسكت فنام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال محمد بن إسحاق : وكان أكثر الأسارى يوم بدر فداء العباس بن عبد المطلب وذلك أنه كان رجلا موسرا فافتدى نفسه بمائة أوقية ذهبا ، وفي صحيح البخاري من حديث موسى بن عقبة قال ابن شهاب حدثنا أنس بن مالك أن رجالا من الأنصار قالوا يا رسول الله ائذن لنا فلنترك لابن أختنا عباس فداءه. قال «لا والله لا تذرون منه درهما» (١).

وقال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان عن عروة عن الزهري عن جماعة سماهم قالوا : بعثت قريش إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في فداء أسراهم ففدى كل قوم أسيرهم بما رضوا ، وقال العباس يا رسول الله قد كنت مسلما فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الله أعلم بإسلامك فإن يكن كما تقول فإن الله يجزيك وأما ظاهرك فقد كان علينا فافتد نفسك وابني أخيك نوفل بن الحارث بن عبد المطلب وعقيل بن أبي طالب بن عبد المطلب ، وحليفك عتبة بن عمرو أخي بني الحارث بن فهر» : قال ما ذاك عندي يا رسول الله.

قال : «فأين المال الذي دفنته أنت وأم الفضل؟ فقلت لها إن أصبت في سفري هذا ، فهذا المال الذي دفنته لبني الفضل وعبد الله وقثم» قال : والله يا رسول الله إني لأعلم أنك رسول الله إن هذا لشيء ما علمه أحد غيري وغير أم الفضل فاحسب لي يا رسول الله ما أصبتم مني عشرين

__________________

(١) أخرجه البخاري في الجهاد باب ١٧٢ ، والمغازي باب ١٢.

أوقية من مال كان معي فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا ذاك شيء أعطانا الله تعالى منك» ففدى نفسه وابني أخويه وحليفه فأنزل الله عزوجل (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) قال العباس فأعطاني الله مكان العشرين الأوقية في الإسلام عشرين عبدا كلهم في يده مال يضرب به مع ما أرجو من مغفرة الله عزوجل.

وقد روى ابن إسحاق أيضا عن ابن أبي نجيح عن عطاء عن ابن عباس في هذه الآية بنحو مما تقدم. وقال أبو جعفر بن جرير (١) : حدثنا ابن وكيع حدثنا ابن إدريس عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس قال : قال العباس : فيّ نزلت (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) فأخبرت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإسلامي وسألته أن يحاسبني بالعشرين الأوقية التي أخذت مني فأبى فأبدلني الله بها عشرين عبدا كلهم تاجر مالي في يده ، وقال ابن إسحاق أيضا حدثني الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما عن جابر بن عبد الله بن رباب قال كان العباس بن عبد المطلب يقول في نزلت والله حين ذكرت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إسلامي ثم ذكر نحو الحديث كالذي قبله.

وقال ابن جريج عن عطاء الخراساني عن ابن عباس (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى) عباس وأصحابه قال : قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : آمنا بما جئت به ونشهد أنك رسول الله لننصحن لك على قومنا. فأنزل الله (إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ) إيمانا وتصديقا يخلف لكم خيرا مما أخذ منكم (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) الشرك الذي كنتم عليه قال فكان العباس يقول ما أحب أن هذه الآية لم تنزل فينا وإن لي الدنيا لقد قال (يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ) فقد أعطاني خيرا مما أخذ مني مائة ضعف وقال (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) وأرجو أن يكون قد غفر لي (٢).

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية كان العباس أسر يوم بدر فافتدى نفسه بأربعين أوقية من ذهب فقال العباس حين قرئت هذه الآية لقد أعطاني الله عزوجل خصلتين ما أحب أن لي بهما الدنيا : إني أسرت يوم بدر ففديت نفسي بأربعين أوقية فآتاني أربعين عبدا وإني لأرجو المغفرة التي وعدنا الله عزوجل (٣). وقال قتادة في تفسير هذه الآية : ذكر لنا أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قدم عليه مال البحرين ثمانون ألفا وقد توضأ لصلاة الظهر فما أعطى يومئذ شاكيا ولا حرم سائلا وما صلى يومئذ حتى فرقه ، فأمر العباس أن يأخذ منه ويحتثي فكان العباس

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٢٩٢.

(٢) انظر تفسير الطبري ٦ / ٢٩٢ ، ٢٩٣.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ٢٩٢.

يقول : هذا خير مما أخذ منا وأرجو المغفرة (١).

وقال يعقوب بن سفيان : حدثنا عمرو بن عاصم حدثنا سليمان بن المغيرة عن حميد بن هلال قال بعث ابن الحضرمي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من البحرين ثمانين ألفا ما أتاه مال أكثر منه لا قبل ولا بعد. قال فنثرت على حصير ونودي بالصلاة. قال وجاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمثل قائما على المال وجاء أهل المسجد فما كان يومئذ عدد ولا وزن ما كان إلا فيضا وجاء العباس بن عبد المطلب فحثا في خميصة (٢) عليه وذهب يقوم فلم يستطع قال فرفع رأسه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال: يا رسول الله ارفع علي. قال فتبسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى خرج ضاحكه (٣) أو نابه وقال له : «أعد من المال طائفة وقم بما تطيق» قال ففعل وجعل العباس يقول : وهو منطلق أما إحدى اللتين وعدنا الله فقد أنجزنا ، وما ندري ما يصنع الله في الأخرى (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى) الآية ثم قال : هذا خير مما أخذ منا وما أدري ما يصنع الله في الأخرى فما زال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ماثلا على ذلك المال حتى ما بقي منه درهم وما بعث إلى أهله بدرهم ثم أتى الصلاة فصلى.

حديث آخر في ذلك ـ قال الحافظ أبو بكر البيهقي : أنبأنا أبو عبد الله الحافظ أخبرني أبو الطيب محمد بن محمد بن عبد الله السعيدي حدثنا محمد بن عصام حدثنا حفص بن عبد الله حدثنا إبراهيم بن طهمان عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك قال : أتي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بمال من البحرين فقال «انثروه في مسجدي» قال وكان أكثر مال أتي به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فخرج إلى الصلاة ولم يلتفت إليه فلما قضى الصلاة جاء فجلس إليه فما كان يرى أحدا إلا أعطاه إذ جاءه العباس فقال يا رسول الله أعطني فإني فاديت نفسي ، وفاديت عقيلا فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «خذ» فحثا في ثوبه ثم ذهب يقله فلم يستطع فقال مر بعضهم يرفعه إلى قال «لا» قال فارفعه أنت عليّ ، قال «لا» فنثر منه ثم احتمله على كاهله ثم انطلق فما زال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يتبعه بصره حتى خفي عنه عجبا من حرصه ، فما قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وثمّ منها درهم ، وقد رواه البخاري (٤) في مواضع من صحيحه تعليقا بصيغة الجزم يقول : وقال إبراهيم بن طهمان ويسوقه وفي بعض السياقات أتم من هذا.

وقوله (وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ) أي (وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ) فيما أظهروا لك من الأقوال (فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ) أي من قبل بدر بالكفر به (فَأَمْكَنَ

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٢٩٢.

(٢) الخميصة : كساء أسود مربع.

(٣) خرج ضاحكه : أي بدت أسنانه عند الضحك ، والضواحك : الأسنان التي تبدو عند الضحك ، وهي الأربع التي بين الأسنان والأضراس.

(٤) أخرجه البخاري في الصلاة باب ٤٢ ، والجزية باب ١.

مِنْهُمْ) أي بالأسارى يوم بدر (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي عليم بفعله حكيم فيه. قال قتادة نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح الكاتب حين ارتد ولحق بالمشركين (١) ، وقال ابن جريج عن عطاء الخراساني عن ابن عباس : نزلت في عباس وأصحابه حين قالوا : لننصحن لك على قومنا (٢) وفسرها السدي على العموم وهو أشمل وأظهر والله أعلم.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٧٢)

ذكر تعالى أصناف المؤمنين وقسمهم إلى مهاجرين خرجوا من ديارهم وأموالهم وجاءوا لنصر الله ورسوله وإقامة دينه وبذلوا أموالهم وأنفسهم في ذلك ، وإلى أنصار وهم المسلمون من أهل المدينة إذ ذاك آووا إخوانهم المهاجرين في منازلهم وواسوهم في أموالهم ونصروا الله ورسوله بالقتال معهم فهؤلاء (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) أي كل منهم أحق بالآخر من كل أحد ، ولهذا آخى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بين المهاجرين والأنصار كل اثنين أخوان فكانوا يتوارثون بذلك إرثا مقدما على القرابة حتى نسخ الله تعالى ذلك بالمواريث ، ثبت ذلك في صحيح البخاري عن ابن عباس ، ورواه العوفي وعلي بن أبي طلحة عنه ، وقال مجاهد وعكرمة والحسن وقتادة وغير واحد :

قال الإمام أحمد (٣) : حدثنا وكيع عن شريك عن عاصم عن أبي وائل عن جرير هو ابن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المهاجرون والأنصار بعضهم أولياء بعض ، والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض إلى يوم القيامة» تفرد به أحمد.

وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا سفيان حدثنا عكرمة يعني ابن إبراهيم الأزدي حدثنا عاصم عن شقيق عن ابن مسعود قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «المهاجرون والأنصار ، والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة» هكذا رواه في مسند عبد الله بن مسعود.

وقد أثنى الله ورسوله على المهاجرين والأنصار ، في غير ما آية في كتابه ، فقال : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ) [التوبة : ١٠٠] الآية ، وقال (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ) [التوبة : ١١٧]

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٢٩٣.

(٢) انظر تفسير الطبري ٦ / ٢٩٣.

(٣) المسند ٤ / ٣٦٣.

الآية ، وقال تعالى : (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) [الحشر : ٨ ـ ٩] الآية.

وأحسن ما قيل في قوله (وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا) أي لا يحسدونهم على فضل ما أعطاهم الله على هجرتهم ، فإن ظاهر الآيات تقديم المهاجرين على الأنصار ، وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء لا يختلفون في ذلك ، ولهذا قال الإمام أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار في مسنده : حدثنا محمد بن معمر حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن سعيد بن المسيب ، عن حذيفة ، قال : خيرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين الهجرة والنصرة ، فاخترت الهجرة ، ثم قال : لا نعرفه إلا من هذا الوجه.

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ) قرأ حمزة ولايتهم بالكسر ، والباقون بالفتح ، وهما واحد كالدلالة والدلالة (مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا) هذا هو الصنف الثالث من المؤمنين ، وهم الذين آمنوا ولم يهاجروا ، بل أقاموا في بواديهم ، فهؤلاء ليس لهم في المغانم نصيب ، ولا في خمسها إلا ما حضروا فيه القتال.

كما قال أحمد (١) : حدثنا وكيع ، حدثنا سفيان ، عن علقمة بن مرثد ، عن سليمان بن بريدة ، عن أبيه ، عن يزيد بن الخصيب الأسلمي رضي الله عنه ، قال : كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا بعث أميرا على سرية أو جيش ، أوصاه في خاصة نفسه ، بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيرا ، وقال : «اغزوا باسم الله في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله ، إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال ـ أو خلال ـ فأيتهن ما أجابوك إليها فاقبل منهم ، وكف عنهم. ادعهم إلى الإسلام ، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم. ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين ، وأعلمهم إن فعلوا ذلك أن لهم ما للمهاجرين ، وأن عليهم ما على المهاجرين ، فإن أبوا واختاروا دارهم ، فأعلمهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين ، يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين ، ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة نصيب ، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين ، فإن هم أبوا ، فادعهم إلى إعطاء الجزية. فإن أجابوا فاقبل منهم وكف عنهم ، فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم» انفرد به مسلم (٢) ، وعنده زيادات أخر.

وقوله (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ) الآية ، يقول تعالى وإن استنصركم هؤلاء الأعراب ، الذين لم يهاجروا في قتال ديني على عدو لهم فانصروهم ، فإنه واجب عليكم

__________________

(١) المسند ٥ / ٣٥٢.

(٢) كتاب الجهاد وحديث ٢.

نصرهم ، لأنهم إخوانكم في الدين ، إلا أن يستنصروكم على قوم من الكفار ، بينكم وبينهم ميثاق أي مهادنة إلى مدة ، فلا تخفروا ذمتكم ولا تنقضوا أيمانكم مع الذين عاهدتم ، وهذا مروي عن ابن عباس رضي الله عنه.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ) (٧٣)

لما ذكر تعالى أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض ، قطع الموالاة بينهم وبين الكفار ، كما قال.

الحاكم في مستدركه : حدثنا محمد بن صالح بن هانئ ، حدثنا أبو سعيد يحيى بن منصور الهروي ، حدثنا محمد بن أبان ، حدثنا محمد بن يزيد وسفيان بن حسين ، عن الزهري ، عن علي بن الحسين ، عن عمرو بن عثمان ، عن أسامة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «لا يتوارث أهل ملتين ، ولا يرث مسلم كافرا ، ولا كافر مسلما ـ ثم قرأ ـ (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ») ثم قال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

قلت : الحديث في الصحيحين من رواية أسامة بن زيد ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم» (١) وفي المسند والسنن ، من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يتوارث أهل ملتين شتى» (٢) وقال الترمذي : حسن صحيح وقال أبو جعفر بن جرير (٣) : حدثنا محمد ، عن معمر ، عن الزهري ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذ على رجل دخل في الإسلام ، فقال : «تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتحج البيت وتصوم رمضان ، وإنك لا ترى نار مشرك إلا وأنت له حرب» وهذا مرسل في هذا الوجه ، وقد روي متصلا في وجه آخر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : أنا بريء من كل مسلم بين ظهراني المشركين» ثم قال : «لا يتراءى ناراهما» (٤).

وقال أبو داود في آخر كتاب الجهاد (٥) : حدثنا محمد بن داود بن سفيان ، أخبرني يحيى بن حسان ، أنبأنا سليمان بن موسى أبو داود ، حدثنا جعفر بن سعد بن سمرة بن جندب أخبرني خبيب بن سليمان عن سمرة بن جندب : أما بعد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله» وذكر الحافظ أبو بكر بن مردويه من حديث حاتم بن إسماعيل عن عبد الله بن هرمز عن محمد وسعيد ابني عبيد عن أبي حاتم المزني قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا

__________________

(١) أخرجه البخاري في الفرائض باب ٢٦ ، ومسلم في الفرائض حديث ١.

(٢) أخرجه أبو داود في الفرائض باب ١٠ ، والترمذي في الفرائض باب ١٦ ، وابن ماجة في الفرائض باب ٦ ، والدارمي في الفرائض باب ٢٩ ، وأحمد في المسند ٢ / ١٨٧ ، ١٩٥.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ٢٩٦.

(٤) أخرجه أبو داود في الجهاد باب ٩٥ ، والنسائي في القسامة باب ٢٧.

(٥) باب ١٧٠.

أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه ، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد عريض» قالوا : يا رسول الله وإن كان فيه قال : «إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه» ثلاث مرات (١) ، وأخرجه أبو داود والترمذي من حديث حاتم بن إسماعيل به بنحوه.

ثم روي من حديث عبد الحميد بن سليمان : عن ابن عجلان عن أبي وثيمة النضري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه ، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد عريض» (٢) ومعنى قوله (إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ) أي إن لم تجانبوا المشركين وتوالوا المؤمنين وإلا وقعت فتنة في الناس وهو التباس الأمر واختلاط المؤمنين بالكافرين فيقع بين الناس فساد منتشر عريض طويل.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٧٤) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٧٥)

لما ذكر تعالى حكم المؤمنين في الدنيا عطف بذكر مالهم في الآخرة ، فأخبر عنهم بحقيقة الإيمان كما تقدم في أول السورة وأنه سبحانه سيجازيهم بالمغفرة والصفح عن الذنوب إن كانت ، وبالرزق الكريم وهو الحسن الكثير الطيب الشريف دائم مستمر أبدا لا ينقطع ولا ينقضي ولا يسأم ولا يمل لحسنه وتنوعه. ثم ذكر أن الأتباع لهم في الدنيا على ما كانوا عليه من الإيمان والعمل الصالح فهم معهم في الآخرة ، كما قال (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ) [التوبة : ١٠٠] الآية وقال (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) [الحشر : ١٠] الآية. وفي الحديث المتفق عليه بل المتواتر من طرق صحيحة ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «المرء مع من أحب» (٣) وفي الحديث الآخر «من أحب قوما فهو منهم» وفي رواية «حشر معهم».

وقال الإمام أحمد (٤) : حدثنا وكيع عن شريك عن عاصم عن أبي وائل عن جرير قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المهاجرون والأنصار بعضهم أولياء لبعض ، والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض إلى يوم القيامة» قال شريك : فحدثنا الأعمش عن تميم بن سلمة عن عبد الرحمن بن هلال عن جرير عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثله ، تفرد به أحمد من هذين الوجهين.

وأما قوله تعالى : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) أي في حكم الله وليس المراد بقوله : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ) خصوصية ما يطلقه علماء الفرائض على القرابة الذين

__________________

(١) أخرجه أبو داود في النكاح باب ٣١ ، والترمذي في النكاح باب ٣.

(٢) أخرجه الترمذي في النكاح باب ٣ ، وابن ماجة في النكاح باب ٤٦.

(٣) أخرجه البخاري في الأدب باب ٩٦ ، ومسلم في البر حديث ١٦٥.

(٤) المسند ٤ / ٣٤٣.

لا فرض لهم ولا هم عصبة ، بل يدلون بوارث كالخالة والخال والعمة وأولاد البنات وأولاد الأخوات ونحوهم ، كما قد يزعمه بعضهم ويحتج بالآية ويعتقد ذلك صريحا في المسألة بل الحق أن الآية عامة تشمل جميع القرابات ، كما نص عليه ابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن وقتادة وغير واحد على أنها ناسخة للإرث بالحلف والإخاء اللذين كانوا يتوارثون بهما أولا ، وعلى هذا فتشمل ذوي الأرحام بالاسم الخاص ، ومن لم يورثهم يحتج بأدلة من أقواها حديث «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث» (١) قالوا : فلو كان ذا حق لكان ذا فرض في كتاب الله مسمى فلما لم يكن كذلك لم يكن وارثا ، والله أعلم.

آخر تفسير سورة الأنفال. ولله الحمد والمنة ، وعليه التكلان وهو حسبنا ونعم الوكيل.

__________________

(١) أخرجه أبو داود في الوصايا باب ٦ ، والترمذي في الوصايا باب ٦ ، وأحمد في المسند ٤ / ١٨٦ ، ١٨٧ ، ٥ / ٢٦٧.

سورة التوبة

(بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ) (٢)

هذه السورة الكريمة من أواخر ما نزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما قال البخاري (١) : حدثنا أبو الوليد ، حدثنا شعبة عن أبي إسحاق قال : سمعت البراء يقول آخر آية نزلت (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) [النساء : ١٧٦] وآخر سورة نزلت براءة ، وإنما لم يبسمل في أولها لأن الصحابة لم يكتبوا البسملة في أولها في المصحف الإمام ، بل اقتدوا في ذلك بأمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه ، كما قال الترمذي : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا يحيى بن سعيد ومحمد بن جعفر وابن أبي عدي وسهيل بن يوسف قالوا : حدثنا عوف بن أبي جميلة ، أخبرني يزيد الفارسي ، أخبرني ابن عباس قال : قلت لعثمان بن عفان : ما حملكم أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني (٢) وإلى براءة وهي من المئين (٣) وقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموها في السبع الطوال ما حملكم على ذلك؟ فقال عثمان : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما يأتي عليه الزمان (٤) وهو ينزل عليه السور ذوات العدد فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا ، وكانت الأنفال من أول ما نزل بالمدينة وكانت براءة من آخر ما نزل من القرآن ، وكانت قصتها شبيهة بقصتها وحسبت أنها منها ، وقبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يبين لنا أنها منها فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتها في السبع الطوال (٥) ، وكذا رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان في صحيحه ، والحاكم في مستدركه من طرق أخر عن عوف الأعرابي به ، وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

وأول هذه السورة الكريمة نزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما رجع من غزوة تبوك وهم بالحج ، ثم ذكر أن المشركين يحضرون عامهم هذا الموسم على عادتهم في ذلك وأنهم

__________________

(١) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٩ ، باب ١.

(٢) المثاني : كل سورة عدد آياتها أقل من مائتين آية.

(٣) المئين : كل سورة عدد آياتها أكثر من مائتين آية.

(٤) أي يأتي عليه الزمان الطويل.

(٥) أخرجه أبو داود في الصلاة باب ١٢٢ ، والترمذي في تفسير سورة ٩ ، باب ١ ، وأحمد في المسند ١ / ٦٩.

يطوفون بالبيت عراة ، فكره مخالطتهم وبعث أبا بكر الصديق رضي الله عنه أميرا على الحج تلك السنة ليقيم للناس مناسكهم ويعلم المشركين أن لا يحجوا بعد عامهم هذا ، وأن ينادي في الناس (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) فلما قفل أتبعه بعلي بن أبي طالب ليكون مبلغا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكونه عصبة له كما سيأتي بيانه.

فقوله تعالى : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) أي هذه براءة أي تبرؤ من الله ورسوله (إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) اختلف المفسرون هاهنا اختلافا كثيرا ، فقال قائلون : هذه الآية لذوي العهود المطلقة غير المؤقتة أو من له عهد دون أربعة أشهر فيكمل له أربعة أشهر ، فأما من كان له عهد مؤقت فأجله إلى مدته مهما كان ، لقوله تعالى : (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ) [التوبة : ٤] الآية ، ولما سيأتي في الحديث. ومن كان بينه وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عهد فعهده إلى مدته وهذا أحسن الأقوال وأقواها ، وقد اختاره ابن جرير رحمه‌الله ، وروي عن الكلبي ومحمد بن كعب القرظي وغير واحد.

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) الآية ، قال : حد الله للذين عاهدوا رسوله أربعة أشهر يسيحون في الأرض حيث شاؤوا وأجل من ليس له عهد انسلاخ الأشهر الحرم من يوم النحر إلى سلخ المحرم فذلك خمسون ليلة ، فأمر الله نبيه إذا انسلخ الأشهر الحرم أن يضع السيف فيمن لم يكن بينه وبينه عهد بقتلهم حتى يدخلوا في الإسلام ، وأمر بمن كان له عهد إذا انسلخ أربعة أشهر من يوم النحر إلى عشر خلون من ربيع الآخر أن يضع فيهم السيف أيضا حتى يدخلوا في الإسلام (١).

وقال أبو معشر المدني : حدثنا محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا : بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا بكر أميرا على الموسم سنة تسع ، وبعث علي بن أبي طالب بثلاثين آية أو أربعين آية من براءة فقرأها على الناس ، يؤجل المشركين أربعة أشهر يسيحون في الأرض فقرأها عليهم يوم عرفة أجلهم عشرين من ذي الحجة والمحرم وصفر وشهر ربيع الأول وعشرا من ربيع الآخر ، وقرأها عليهم في منازلهم وقال : لا يحجن بعد عامنا هذا مشرك ولا يطوفن بالبيت عريان (٢).

وقال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) إلى أهل العهد خزاعة ومدلج ومن كان له عهد أو غيرهم ، فقفل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تبوك حين فرغ فأراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحج ثم قال : «إنما يحضر المشركون فيطوفون عراة فلا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك» فأرسل أبا بكر

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٣٠٣.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٣٠٤.

وعليا رضي الله عنهما فطافا بالناس في ذي المجاز وبأمكنتهم التي كانوا يتبايعون بها وبالمواسم كلها ، فآذنوا أصحاب العهد بأن يؤمّنوا أربعة أشهر فهي الأشهر المتواليات عشرون من ذي الحجة إلى عشر يخلون من ربيع الآخر ثم لا عهد لهم ، وآذن الناس كلهم بالقتال إلا أن يؤمنوا (١) ، وهكذا روي عن السدي وقتادة وقال الزهري : كان ابتداء التأجيل من شوال وآخره سلخ المحرم ، وهذا القول غريب وكيف يحاسبون بمدة لم يبلغهم حكمها وإنما ظهر لهم أمرها يوم النحر حين نادى أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك ولهذا قال تعالى :

(وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ) أَلِيمٍ (٣)

يقول تعالى وإعلام (مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) وتقدم وإنذار إلى الناس (يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) وهو يوم النحر الذي هو أفضل أيام المناسك وأظهرها وأكثرها جمعا (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) أي بريء منهم أيضا ثم دعاهم إلى التوبة إليه ، فقال (فَإِنْ تُبْتُمْ) أي مما أنتم فيه من الشرك والضلال (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أي استمررتم على ما أنتم عليه (فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ) بل هو قادر عليكم وأنتم في قبضته وتحت قهره ومشيئته ، (وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي في الدنيا بالخزي والنكال وفي الآخرة بالمقامع والأغلال.

قال البخاري (٢) رحمه‌الله : حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا الليث ، حدثني عقيل عن ابن شهاب قال : أخبرني حميد بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال : بعثني أبو بكر رضي الله عنه في تلك الحجة في المؤذنين الذين بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان. قال حميد : ثم أردف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعلي بن أبي طالب فأمره أن يؤذن ببراءة ، قال أبو هريرة فأذن معنا علي في أهل منى يوم النحر ببراءة ، وأن لا يحج بعد هذا العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان.

ورواه البخاري (٣) أيضا : حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب عن الزهري ، أخبرني حميد بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال : بعثني أبو بكر فيمن يؤذن يوم النحر بمنى ألا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ، ويوم الحج الأكبر يوم النحر ، وإنما قيل الأكبر من أجل قول الناس الحج الأصغر ، فنبذ أبو بكر إلى الناس في ذلك العام فلم يحج عام حجة الوداع الذي حج فيه

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٣٠٤.

(٢) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٩ ، باب ٢ ، ٣.

(٣) كتاب الجهاد باب ٦٦.

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مشرك ، هذا لفظ البخاري في كتاب الجهاد.

وقال عبد الرزاق : عن معمر عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه في قوله : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) قال : لما كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم زمن حنين اعتمر من الجعرانة ثم أمّر أبا بكر على تلك الحجة ، قال معمر : قال الزهري : وكان أبو هريرة يحدث أن أبا بكر أمر أبا هريرة أن يؤذن ببراءة في حجة أبي بكر ، قال أبو هريرة : ثم أتبعنا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليا وأمره أن يؤذن ببراءة وأبو بكر على الموسم كما هو أو قال على هيئته. وهذا السياق فيه غرابة من جهة أن أمير الحج كان سنة عمرة الجعرانة إنما هو عتاب بن أسيد فأما أبو بكر إنما كان أميرا سنة تسع.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة عن مغيرة عن الشعبي عن محرّر بن أبي هريرة عن أبيه قال : كنت مع علي بن أبي طالب حين بعثه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أهل مكة ببراءة فقال : ما كنتم تنادون؟. قال : كنا ننادي أنه لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عهد فإن أجله أو مدته إلى أربعة أشهر ، فإذا مضت الأربعة الأشهر فإن الله بريء من المشركين ورسوله ، ولا يحج هذا البيت بعد عامنا هذا مشرك ، قال : فكنت أنادي حتى صحل صوتي (٢).

وقال الشعبي : حدثني محرّر بن أبي هريرة عن أبيه قال : كنت مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين بعثه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينادي فكان إذا صحل ناديت فقلت : بأي شيء كنتم تنادون؟ قال بأربع ، لا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان له عهد عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعهده إلى مدته ، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة ، ولا يحج بعد عامنا هذا مشرك. رواه ابن جرير (٣) من غير وجه عن الشعبي ، ورواه شعبة عن مغيرة عن الشعبي به ، إلا أنه قال : ومن كان بينه وبين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عهد فعهده إلى أربعة أشهر وذكر تمام الحديث.

قال ابن جرير (٤) : وأخشى أن يكون وهما من بعض نقلته لأن الأخبار متظاهرة في الأجل بخلافه.

وقال الإمام أحمد (٥) : حدثنا عفان ، حدثنا حماد عن سماك عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعثه ببراءة مع أبي بكر فلما بلغ ذا الحليفة قال : «لا يبلغها إلا أنا أو رجل من أهل بيتي» فبعث بها مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، ورواه الترمذي (٦) في التفسير : عن

__________________

(١) المسند ٢ / ٢٩٩.

(٢) صحل صوتي : أي بح صوتي.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ٣٠٦.

(٤) تفسير الطبري ٦ / ٣٠٦.

(٥) المسند ٣ / ٢٨٣.

(٦) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٩ ، باب ٥.

بندار عن عفان وعبد الصمد كلاهما عن حماد بن سلمة به ، ثم قال : حسن غريب من حديث أنس رضي الله عنه.

وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل : حدثنا محمد بن سليمان ، ـ لوين ـ حدثنا محمد بن جابر عن سماك عن حنش عن علي رضي الله عنه قال : لما نزلت عشر آيات من براءة على النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا بكر فبعثه بها ليقرأها على أهل مكة ثم دعاني فقال : «أدرك أبا بكر فحيثما لحقته فخذ الكتاب منه فاذهب إلى أهل مكة فاقرأه عليهم» فلحقته بالجحفة فأخذت الكتاب منه ورجع أبو بكر إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ، نزل فيّ شيء؟ فقال «لا ولكن جبريل جاءني فقال : لن يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك» (١) هذا إسناد فيه ضعف ، وليس المراد أن أبا بكر رضي الله عنه رجع من فوره بل بعد قضائه للمناسك التي أمره عليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما جاء مبينا في الرواية الأخرى.

وقال عبد الله أيضا : حدثني أبو بكر ، حدثنا عمرو بن حماد عن أسباط بن نصر عن سماك عن حنش عن علي رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين بعثه ببراءة قال : يا نبي الله إني لست باللسن ولا بالخطيب قال : «لا بد لي أن أذهب بها أنا أو تذهب بها أنت» قال : فإن كان ولا بد فسأذهب أنا ، قال : «انطلق فإن الله يثبت لسانك ويهدي قلبك» قال : ثم وضع يده على فيه (٢).

وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا سفيان عن أبي إسحاق عن زيد بن يثيع رجل من همدان ، سألنا عليا بأي شيء بعثت؟ يعني يوم بعثه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع أبي بكر في الحجة ، قال : بعثت بأربع: لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان بينه وبين النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عهد فعهده إلى مدته ، ولا يحج المشركون والمسلمون بعد عامهم هذا ، ورواه الترمذي (٤) عن قلابة عن سفيان بن عيينة وقال : حسن صحيح كذا قال ، ورواه شعبة عن أبي إسحاق فقال: زيد بن يثيع وهم فيه ، ورواه الثوري عن أبي إسحاق عن بعض أصحابه عن علي رضي الله عنه.

وقال ابن جرير (٥) : حدثنا ابن وكيع ، حدثنا أبو أسامة عن زكريا عن أبي إسحاق عن زيد بن يثيع عن علي قال : بعثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين أنزلت براءة بأربع : أن لا يطوف بالبيت عريان ، ولا يقرب المسجد الحرام مشرك بعد عامهم هذا ، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عهد فهو إلى مدته ، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة ، ثم رواه ابن جرير (٦) عن محمد بن عبد الأعلى عن

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند ١ / ١٥١.

(٢) أخرجه أحمد في المسند ١ / ١٥١.

(٣) المسند ١ / ٧٩.

(٤) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٩ ، باب ٥.

(٥) تفسير الطبري ٦ / ٣٠٦.

(٦) تفسير الطبري ٦ / ٣٠٦.

ابن ثور عن معمر عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي قال : أمرت بأربع فذكره ، وقال إسرائيل عن أبي إسحاق عن زيد بن يثيع قال : نزلت براءة فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا بكر ثم أرسل عليا فأخذها ، فلما رجع أبو بكر قال : نزل فيّ شيء؟ قال : «لا ولكن أمرت أن أبلغها أنا أو رجل من أهل بيتي» فانطلق إلى أهل مكة فقام فيهم بأربع لا يدخل مكة مشرك بعد عامه هذا ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ولا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة ، ومن كان بينه وبين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عهد فعهده إلى مدته (١).

وقال محمد بن إسحاق عن حكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي قال : لما نزلت براءة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد كان بعث أبا بكر ليقيم الحج للناس فقيل يا رسول الله : لو بعثت إلى أبي بكر؟ فقال : «لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي» ثم دعا عليا فقال «اذهب بهذه القصة من سورة براءة وأذن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى ، أنه لا يدخل الجنة كافر ، ولا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان له عهد عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو له إلى مدته» فخرج علي رضي الله عنه على ناقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم العضباء حتى أدرك أبا بكر في الطريق فلما رآه أبو بكر قال : أمير أو مأمور؟ فقال بل مأمور ، ثم مضيا فأقام أبو بكر للناس الحج إذ ذاك في تلك السنة على منازلهم من الحج التي كانوا عليها في الجاهلية حتى إذا كان يوم النحر قام علي بن أبي طالب فأذن في الناس بالذي أمره رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا أيها الناس ، إنه لا يدخل الجنة كافر ، ولا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان له عهد عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو إلى مدته ، فلم يحج بعد ذلك العام مشرك ، ولم يطف بالبيت عريان ، ثم قدما على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكان هذا من براءة فيمن كان من أهل الشرك من أهل العهد العام وأهل المدة إلى الأجل المسمى (٢).

وقال ابن جرير (٣) : حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، أخبرنا أبو زرعة وهب الله بن راشد ، أخبرنا حيوة بن شريح ، أخبرنا ابن صخر أنه سمع أبا معاوية البجلي من أهل الكوفة يقول : سمعت أبا الصهباء البكري وهو يقول : سألت عليا عن يوم الحج الأكبر فقال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث أبا بكر بن أبي قحافة يقيم للناس الحج وبعثني معه بأربعين آية من براءة حتى أتى عرفة فخطب الناس يوم عرفة ، فلما قضى خطبته التفت إلي فقال : قم يا علي فأد رسالة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقمت فقرأت عليهم أربعين آية من براءة ، ثم صدرنا فأتينا منى فرميت الجمرة ونحرت البدنة ثم حلقت رأسي وعلمت أن أهل الجمع لم يكونوا كلهم حضروا خطبة

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٣٠٦.

(٢) انظر تفسير الطبري ٦ / ٣٠٧.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ٣٠٩ ، ٣١٠.

أبي بكر يوم عرفة فطفت أتتبع بها الفساطيط أقرأها عليهم فمن ثم أخال حسبتم أنه يوم النحر ألا وهو يوم عرفة.

وقال عبد الرزاق عن معمر عن أبي إسحاق سألت أبا جحيفة عن يوم الحج الأكبر قال : يوم عرفة ، فقلت : أمن عندك أم من أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قال : كل في ذلك (١) ، وقال عبد الرزاق أيضا : عن ابن جريج عن عطاء قال : يوم الحج الأكبر يوم عرفة (٢). وقال عمر بن الوليد الشّنّي : حدثنا شهاب بن عباد العصري عن أبيه قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول : هذا يوم عرفة هذا يوم الحج الأكبر فلا يصومنه أحد. قال : فحججت بعد أبي فأتيت المدينة فسألت عن أفضل أهلها فقالوا : سعيد بن المسيب فأتيته فقلت : إني سألت عن أفضل أهل المدينة فقالوا سعيد بن المسيب فأخبرني عن صوم يوم عرفة ، فقال : أخبرك عمن هو أفضل مني مائة ضعف عمر أو ابن عمر ، كان ينهى عن صومه ويقول هو يوم الحج الأكبر ، رواه ابن جرير (٣) وابن أبي حاتم ، وهكذا روي عن ابن عباس وعبد الله بن الزبير ومجاهد وعكرمة وطاوس أنهم قالوا : يوم عرفة هو يوم الحج الأكبر.

وقد ورد فيه حديث مرسل رواه ابن جريج ، أخبرت عن محمد بن قيس عن ابن مخرمة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطب يوم عرفة فقال : «هذا يوم الحج الأكبر» (٤) وروي من وجه آخر : عن ابن جريج عن محمد بن قيس عن المسور بن مخرمة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه خطبهم بعرفات فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : «أما بعد فإن هذا يوم الحج الأكبر» والقول الثاني أنه يوم النحر قال هشيم عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن علي رضي الله عنه قال : يوم الحج الأكبر يوم النحر ، وقال إسحاق السبيعي عن الحارث الأعور : سألت عليا رضي الله عنه عن يوم الحج الأكبر فقال : هو يوم النحر (٥).

وقال شعبة عن الحكم سمعت يحيى بن الجزار يحدث عن علي رضي الله عنه أنه خرج يوم النحر على بغلة بيضاء يريد الجبانة فجاء رجل فأخذ بلجام دابته فسأله عن يوم الحج الأكبر فقال هو يومك هذا خل سبيلها (٦) ، وقال عبد الرزاق : عن سفيان عن شعبة عن عبد الملك بن عمير عن عبد الله بن أبي أوفى أنه قال : يوم الحج الأكبر يوم النحر (٧) ، وروى شعبة وغيره عن

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٣١٠.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٣١٠.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ٣١٠.

(٤) تفسير الطبري ٦ / ٣١٠.

(٥) تفسير الطبري ٦ / ٣١١.

(٦) تفسير الطبري ٦ / ٣١٢.

(٧) تفسير الطبري ٦ / ٣١١.

عبد الملك بن عمير به نحوه. وهكذا رواه هشيم وغيره عن الشيباني عن عبد الله بن أبي أوفى. وقال الأعمش عن عبد الله بن سنان قال : خطبنا المغيرة بن شعبة يوم الأضحى على بعير فقال : هذا يوم الأضحى وهذا يوم النحر وهذا يوم الحج الأكبر ، وقال حماد بن سلمة عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال : الحج الأكبر يوم النحر.

وكذا روي عن أبي جحيفة وسعيد بن جبير وعبد الله بن شداد بن الهاد ونافع بن جبير بن مطعم والشعبي وإبراهيم النخعي ومجاهد وعكرمة وأبي جعفر الباقر والزهري وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنهم قالوا : يوم الحج الأكبر هو يوم النحر واختاره ابن جرير ، وقد تقدم الحديث عن أبي هريرة في صحيح البخاري أن أبا بكر بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى.

وقد ورد في ذلك أحاديث أخر كما قال الإمام أبو جعفر بن جرير (١) : حدثني سهل بن محمد الحساني ، حدثنا أبو جابر الحرمي ، حدثنا هشام بن الغازي الجرشي عن نافع عن ابن عمر قال : وقف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم النحر عند الجمرات في حجة الوداع فقال : «هذا يوم الحج الأكبر» وهكذا رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه من حديث أبي جابر واسمه محمد بن عبد الملك به ، ورواه ابن مردويه أيضا من حديث الوليد بن مسلم عن هشام بن الغازي به ، ثم رواه من حديث سعيد بن عبد العزيز عن نافع به ، وقال شعبة عن عمرو بن مرة عن مرة الهمداني عن رجل من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : قام فينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ناقة حمراء مخضرمة فقال : «أتدرون أي يوم يومكم هذا؟» قالوا : يوم النحر ، قال : «صدقتم يوم الحج الأكبر».

وقال ابن جرير (٢) : حدثنا أحمد بن المقدام ، حدثنا يزيد بن زريع ، حدثنا ابن عون عن محمد بن سيرين عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال : لما كان ذلك اليوم قعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم على بعير له وأخذ الناس بخطامه أو زمامه ، فقال : «أي يوم هذا؟» قال : فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه ، فقال «أليس هذا يوم الحج الأكبر؟» وهذا إسناد صحيح وأصله مخرج في الصحيح. وقال أبو الأحوص عن شبيب بن غرقدة عن سليمان بن عمرو بن الأحوص عن أبيه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حجة الوداع فقال : «أي يوم هذا؟» فقالوا: اليوم الحج الأكبر ، وعن سعيد بن المسيب أنه قال : يوم الحج الأكبر اليوم الثاني من يوم النحر رواه ابن أبي حاتم.

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٣١٥ ، وفيه : سهل بن محمد السجستاني ، بدل : سهل بن محمد الحساني.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٣١٥.

وقال مجاهد أيضا : يوم الحج الأكبر أيام الحج كلها ، وكذا قال أبو عبيد. قال سفيان : يوم الحج ويوم الجمل ويوم صفين أي أيامه كلها ، وقال سهل السراج : سئل الحسن البصري عن يوم الحج الأكبر؟ فقال : ما لكم وللحج الأكبر ذاك عام حج فيه أبو بكر الذي استخلفه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحج بالناس رواه ابن أبي حاتم ، وقال ابن جرير (١) : حدثنا ابن وكيع ، حدثنا أبو أسامة عن ابن عون ، سألت محمدا يعني ابن سيرين عن يوم الحج الأكبر ، فقال : كان يوما وافق فيه حج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحج أهل الوبر.

(إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (٤)

هذا استثناء من ضرب مدة التأجيل بأربعة أشهر لمن له عهد مطلق ليس بمؤقت ، فأجله أربعة أشهر يسيح في الأرض يذهب فيها لينجو بنفسه حيث شاء ، إلا من له عهد مؤقت فأجله إلى مدته المضروبة التي عوهد عليها ، وقد تقدمت الأحاديث ومن كان له عهد مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فعهده إلى مدته ، وذلك بشرط أن لا ينقض المعاهد عهده ولم يظاهر على المسلمين أحدا أي يمالئ عليهم من سواهم ، فهذا الذي يوفي له بذمته وعهده إلى مدته ولهذا حرض تعالى على الوفاء بذلك ، فقال (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) أي الموفين بعهدهم.

(فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٥)

اختلف المفسرون في المراد بالأشهر الحرم هاهنا ما هي؟ فذهب ابن جرير إلى أنها المذكورة في قوله تعالى : (مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) [التوبة : ٣٦] الآية ، قال أبو جعفر الباقر ، ولكن قال ابن جرير : آخر الأشهر الحرم في حقهم المحرم ، وهذا الذي ذهب إليه حكاه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وإليه ذهب الضحاك أيضا وفيه نظر ، والذي يظهر من حيث السياق ما ذهب إليه ابن عباس في رواية العوفي عنه ، وبه قال مجاهد وعمرو بن شعيب ومحمد بن إسحاق وقتادة والسدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : أن المراد بها أشهر التسيير الأربعة المنصوص عليها بقوله (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) [التوبة : ٢] ثم قال : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ) أي إذا انقضت الأشهر الأربعة التي حرمنا عليكم فيها قتالهم وأجلناهم فيها فحيثما وجدتموهم فاقتلوهم لأن عود العهد على

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٣١٣.

مذكور أولى من مقدر ، ثم إن الأشهر الأربعة المحرمة سيأتي بيان حكمها في آية أخرى بعد في هذه السورة الكريمة.

وقوله : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) أي من الأرض وهذا عام ، والمشهور تخصيصه بتحريم القتال في الحرم ، بقوله : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ) [البقرة : ١٩١] وقوله : (وَخُذُوهُمْ) أي وأسروهم إن شئتم قتلا وإن شئتم أسرا ، وقوله : (وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) أي لا تكتفوا بمجرد وجدانكم لهم ، بل اقصدوهم بالحصار في معاقلهم وحصونهم والرصد في طرقهم ومسالكهم حتى تضيقوا عليهم الواسع وتضطروهم إلى القتل أو الإسلام ، ولهذا قال : (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

ولهذا اعتمد الصديق رضي الله عنه في قتال مانعي الزكاة على هذه الآية الكريمة وأمثالها ، حيث حرمت قتالهم بشرط هذه الأفعال وهي الدخول في الإسلام والقيام بأداء واجباته ، ونبه بأعلاها على أدناها فإن أشرف أركان الإسلام بعد الشهادتين الصلاة التي هي حق الله عزوجل ، وبعدها أداء الزكاة التي هي نفع متعد إلى الفقراء والمحاويج وهي أشرف الأفعال المتعلقة بالمخلوقين ، ولهذا كثيرا ما يقرن الله بين الصلاة والزكاة. وقد جاء في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة» (١) الحديث.

وقال أبو إسحاق : عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : أمرتم بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ومن لم يزك فلا صلاة له ، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : أبى الله أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة وقال : يرحم الله أبا بكر ما كان أفقهه!

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا علي بن إسحاق ، أنبأنا عبد الله بن المبارك ، أنبأنا حميد الطويل عن أنس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله واستقبلوا قبلتنا وأكلوا ذبيحتنا وصلوا صلاتنا فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها ، لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم» (٣) ورواه البخاري في صحيحه وأهل السنن إلا ابن ماجة ، من حديث عبد الله بن

__________________

(١) أخرجه البخاري في الإيمان باب ١٧ ، ومسلم في الإيمان حديث ٣٢.

(٢) المسند ٣ / ١٩٩ ، ٢٢٤ ، ٢٢٥.

(٣) أخرجه البخاري في الصلاة باب ٢٨ ، وأبو داود في الزكاة باب ١ ، والجهاد باب ٩٥ ، والترمذي في الإيمان باب ١ ، ٢ ، وتفسير سورة ٨٨ ، والنسائي في الزكاة باب ٣ ، والإيمان باب ١٥ ، والجهاد باب ١ ، والتحريم باب ١ ، وابن ماجة في المقدمة باب ٩ ، والفتن باب ١.

المبارك به.

وقال الإمام أبو جعفر بن جرير (١) : حدثنا عبد الأعلى بن واصل الأسدي ، حدثنا عبيد الله بن موسى أخبرنا أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من فارق الدنيا على الإخلاص لله وحده وعبادته لا يشرك به شيئا فارقها والله عنه راض» قال : وقال أنس : هو دين الله الذي جاءت به الرسل وبلغوه عن ربهم قبل هرج الأحاديث واختلاف الأهواء ، وتصديق ذلك في كتاب الله في آخر ما أنزل ، قال الله تعالى : (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) قال : توبتهم خلع الأوثان وعبادة ربهم وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، ثم قال في آية أخرى : (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ) [التوبة : ١١] ورواه ابن مردويه ورواه محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة له. حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، أنبأنا حكام بن سلمة ، حدثنا أبو جعفر الرازي به سواء.

وهذه الآية الكريمة هي آية السيف التي قال فيها الضحاك بن مزاحم : إنها نسخت كل عهد بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين أحد من المشركين وكل عقد وكل مدة ، وقال العوفي : عن ابن عباس في هذه الآية لم يبق لأحد من المشركين عهد ولا ذمة منذ نزلت براءة ، وانسلاخ الأشهر الحرم ومدة من كان له عهد من المشركين قبل أن تنزل براءة أربعة أشهر ، من يوم أذن ببراءة إلى عشر من أول شهر ربيع الآخر ، وقال علي بن أبي طلحة : عن ابن عباس في هذه الآية قال : أمره الله تعالى أن يضع السيف فيمن عاهد إن لم يدخلوا في الإسلام ، ونقض ما كان سمي لهم من العهد والميثاق ، وأذهب الشرط الأول.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا إسحاق بن موسى الأنصاري قال : قال سفيان بن عيينة : قال علي بن أبي طالب : بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأربعة أسياف سيف في المشركين من العرب ، قال الله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) هكذا رواه مختصرا ، وأظن أن السيف الثاني هو قتال أهل الكتاب لقوله تعالى : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) [التوبة : ٢٩] والسيف الثالث قتال المنافقين في قوله (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ) [التوبة : ٧٣ والتحريم : ٩] الآية ، والرابع قتال الباغين في قوله (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) [الحجرات : ٩] ثم اختلف المفسرون في آية السيف هذه فقال

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٣٢٠.

الضحاك والسدي هي منسوخة بقوله تعالى : (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) [محمد : ٤] وقال قتادة بالعكس.

(وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) (٦)

يقول تعالى لنبيه صلوات الله وسلامه عليه (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) الذين أمرتك بقتالهم وأحللت لك استباحة نفوسهم وأموالهم (اسْتَجارَكَ) أي استأمنك فأجبه إلى طلبته (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) أي القرآن تقرؤه عليه وتذكر له شيئا من أمر الدين تقيم به عليه حجة الله (ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) أي وهو آمن مستمر الأمان حتى يرجع إلى بلاده وداره ومأمنه (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) أي إنما شرعنا أمان مثل هؤلاء ليعلموا دين الله وتنتشر دعوة الله في عباده.

وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد في تفسير هذه الآية قال : إنسان يأتيك ليسمع ما تقول وما أنزل عليك فهو آمن حتى يأتيك فتسمعه كلام الله وحتى يبلغ مأمنه حيث جاء (١) ، ومن هذا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعطي الأمان لمن جاءه مسترشدا أو في رسالة ، كما جاءه يوم الحديبية جماعة من الرسل من قريش ، منهم عروة بن مسعود ومكرز بن حفص وسهيل بن عمرو وغيرهم ، واحدا بعد واحد يترددون في القضية بينه وبين المشركين فرأوا من إعظام المسلمين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ما بهرهم وما لم يشاهدوه عند ملك ولا قيصر ، فرجعوا إلى قومهم وأخبروهم بذلك ، وكان ذلك وأمثاله من أكبر أسباب هداية أكثرهم ، ولهذا أيضا لما قدم رسول مسيلمة الكذاب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له أتشهد أن مسيلمة رسول الله؟ قال نعم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو لا أن الرسل لا تقتل لضربت عنقك» وقد قيض الله له ضرب العنق في إمارة ابن مسعود على الكوفة ، وكان يقال له ابن النواحة ظهر عنه في زمان ابن مسعود أنه يشهد لمسيلمة بالرسالة ، فأرسل إليه ابن مسعود فقال له : إنك الآن لست في رسالة وأمر به فضربت عنقه لا رحمه‌الله ولعنه.

والغرض أن من قدم من دار الحرب إلى دار الإسلام في أداء رسالة أو تجارة أو طلب صلح أو مهادنة أو حمل جزية أو نحو ذلك من الأسباب ، وطلب من الإمام أو نائبه أمانا أعطي أمانا ما دام مترددا في دار الإسلام ، وحتى يرجع إلى مأمنه ووطنه ، لكن قال العلماء لا يجوز أن يمكن من الإقامة في دار الإسلام سنة ، ويجوز أن يمكن من إقامة أربعة أشهر ، وفيما بين ذلك فيما زاد على أربعة أشهر ونقص عن سنة قولان عن الإمام الشافعي وغيره من العلماء رحمهم‌الله.

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٣٢٢.

(كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (٧)

يبين تعالى حكمته في البراءة من المشركين ونظرته إياهم أربعة أشهر ، ثم بعد ذلك السيف المرهف أين ثقفوا فقال تعالى : (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ) أي أمان ويتركون فيما هم فيه وهم مشركون بالله كافرون به وبرسوله (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) يعني يوم الحديبية ، كما قال تعالى : (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) [الفتح : ٢٥] الآية ، (فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ) أى مهما تمسكوا بما عاقدتموهم عليه وعاهدتموهم من ترك الحرب بينكم وبينهم عشر سنين (فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ).

وقد فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك والمسلمون. استمر العقد والهدنة مع أهل مكة من ذي القعدة في سنة ست إلى أن نقضت قريش العهد ومالؤوا حلفاءهم وهم بنو بكر على خزاعة أحلاف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقتلوهم معهم في الحرم أيضا فعند ذلك غزاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في رمضان سنة ثمان ففتح الله عليه البلد الحرام ومكنه من نواصيهم ولله الحمد والمنة ، فأطلق من أسلم منهم بعد القهر والغلبة عليهم فسموا الطلقاء ، وكانوا قريبا من ألفين ، ومن استمر على كفره وفرّ من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث إليه بالأمان والتسيير في الأرض أربعة أشهر يذهب حيث شاء ، ومنهم صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وغيرهما ، ثم هداهم الله بعد ذلك إلى الإسلام التام ، والله المحمود على جميع ما يقدره ويفعله.

(كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ) (٨)

يقول تعالى محرضا للمؤمنين على معاداتهم والتبري منهم ومبينا أنهم لا يستحقون أن يكون لهم عهد لشركهم بالله تعالى وكفرهم برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولأنهم لو ظهروا على المسلمين وأديلوا عليهم لم يبقوا ولم يذروا ولا راقبوا فيهم إلا ولا ذمة. قال علي بن أبي طلحة وعكرمة والعوفي عن ابن عباس: الإلّ القرابة والذمة العهد. وكذا قال الضحاك والسدي كما قال تميم بن مقبل : [الرمل]

أفسد الناس خلوف خلفوا

قطعوا الإلّ وأعراق الرّحم (١)

وقال حسان بن ثابت رضي الله عنه : [الطويل]

__________________

(١) البيت لابن مقبل في تفسير الطبري ٦ / ٣٢٦ ، وبلا نسبة في تفسير البحر المحيط ٥ / ٥.

وجدناهم كاذبا إلّهم

وذو الإلّ والعهد لا يكذب (١)

وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد : (لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا) ، قال : الإل الله ، وفي رواية لا يرقبون الله ولا غيره. وقال ابن جرير (٢) : حدثني يعقوب ، حدثنا ابن علية عن سليمان عن أبي مجلز في قوله تعالى : (لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً) [التوبة : ١٠] مثل قوله جبريل ميكائيل إسرافيل كأنه يقول لا يرقبون الله ، والقول الأول أظهر وأشهر وعليه الأكثر. وعن مجاهد أيضا الإل العهد. وقال قتادة : الإل الحلف.

(اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (١٠) فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (١١)

يقول تعالى ذما للمشركين وحثا للمؤمنين على قتالهم (اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) يعني أنهم اعتاضوا عن اتباع آيات الله بما التهوا به من أمور الدنيا الخسيسة (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) أي منعوا المؤمنين من اتباع الحق (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً) تقدم تفسيره وكذا الآية التي بعدها (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ) إلى آخرها تقدمت.

وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا يحيى بن أبي بكر ، حدثنا أبو جعفر الرازي ، حدثنا الربيع بن أنس قال : سمعت أنس بن مالك يقول قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من فارق الدنيا على الإخلاص لله وعبادته لا يشرك به ، وأقام الصلاة وآتى الزكاة فارقها والله عنه راض» وهو دين الله الذي جاءت به الرسل وبلغوه عن ربهم ، قبل هرج الأحاديث واختلاف الأهواء وتصديق ذلك في كتاب الله (فَإِنْ تابُوا) يقول فإن خلعوا الأوثان وعبادتها (وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) [التوبة : ٥] وقال في آية أخرى (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ) ثم قال البزار : آخر الحديث عندي والله أعلم فارقها وهو عنه راض وباقيه عندي من كلام الربيع بن أنس.

(وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) (١٢)

يقول تعالى وإن نكث المشركون الذين عاهدتموهم على مدة معينة أيمانهم أي عهودهم ومواثيقهم (وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ) أي عابوه وانتقصوه ، ومن هاهنا أخذ قتل من سب الرسول

__________________

(١) البيت ليس في ديوان حسان بن ثابت ، وهو بلا نسبة في تفسير الطبري ٦ / ٣٢٧.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٣٢٥.

صلوات الله وسلامه عليه أو من طعن في دين الإسلام أو ذكره بنقص ، ولهذا قال : (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) أي يرجعون عما هم فيه من الكفر والعناد والضلال. وقد قال قتادة وغيره : أئمة الكفر كأبي جهل وعتبة وشيبة وأمية بن خلف وعدد رجالا(١) ، وعن مصعب بن سعد بن أبي وقاص قال : مر سعد بن أبي وقاص برجل من الخوارج فقال الخارجي : هذا من أئمة الكفر فقال سعد كذبت بل أنا قاتلت أئمة الكفر رواه ابن مردويه ، وقال الأعمش عن زيد بن وهب عن حذيفة أنه قال ما قوتل أهل هذه الآية بعد. وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : مثله ، والصحيح أن الآية عامة وإن كان سبب نزولها مشركي قريش فهي عامة لهم ولغيرهم والله أعلم.

وقال : الوليد بن مسلم : حدثنا صفوان بن عمرو عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير ، أنه كان في عهد أبي بكر رضي الله عنه إلى الناس حين وجههم إلى الشام قال : إنكم ستجدون قوما محوّقة رؤوسهم ، فاضربوا معاقد الشيطان منهم بالسيوف ، فو الله لأن أقتل رجلا منهم أحب إليّ من أن أقتل سبعين من غيرهم وذلك بأن الله يقول : (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) رواه ابن أبي حاتم.

(أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣) قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (١٥)

وهذا أيضا تهييج وتحضيض وإغراء على قتال المشركين الناكثين بأيمانهم الذين هموا بإخراج الرسول من مكة ، كما قال تعالى : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) [الأنفال : ٣٠] وقال تعالى : (يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ) [الممتحنة : ١] الآية ، وقال تعالى : (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها) [الإسراء : ٧٦] الآية ، وقوله : (وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) قيل المراد بذلك : يوم بدر حين خرجوا لنصر عيرهم ، فلما نجت وعلموا بذلك استمروا على وجوههم ، طلبا للقتال بغيا وتكبرا كما تقدم بسط ذلك ، وقيل المراد نقضهم العهد وقتالهم مع حلفائهم بني بكر لخزاعة أحلاف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى سار إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عام الفتح وكان ما كان ولله الحمد والمنة.

وقوله : (أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) يقول تعالى لا تخشوهم واخشون فأنا أهل أن يخشى العباد من سطوتي وعقوبتي فبيدي الأمر وما شئت كان وما لم أشأ

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٣٢٩.

لم يكن ، ثم قال عزيمة على المؤمنين وبيانا لحكمته فيما شرع لهم من الجهاد مع قدرته على إهلاك الأعداء بأمر من عنده : (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) وهذا عام في المؤمنين كلهم ، وقال مجاهد وعكرمة والسدي في هذه الآية (وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) يعني خزاعة ، وأعاد الضمير في قوله : (وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ) عليهم أيضا.

وقد ذكر ابن عساكر في ترجمة مؤذن لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه عن مسلم بن يسار عن عائشة رضي الله عنها ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا غضبت أخذ بأنفها وقال «يا عويش قولي اللهم رب النبي محمد اغفر ذنبي ، وأذهب غيظ قلبي وأجرني من مضلات الفتن» ساقه من طريق أبي أحمد الحاكم ، عن الباغندي عن هشام بن عمار حدثنا عبد الرحمن بن أبي الجوزاء عنه (وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) أي من عباده (وَاللهُ عَلِيمٌ) أي بما يصلح عباده (حَكِيمٌ) في أفعاله وأقواله الكونية والشرعية فيفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، وهو العادل الحاكم الذي لا يجوز أبدا ولا يضيع مثقال ذرة من خير وشر ، بل يجازي عليه في الدنيا والآخرة.

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (١٦)

يقول تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ) أيها المؤمنون أن نترككم مهملين لا نختبركم بأمور يظهر فيها أهل العزم الصادق من الكاذب ولهذا قال : (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً) أي بطانة ودخيلة بل هم في الظاهر والباطن على النصح لله ولرسوله فاكتفى بأحد القسمين عن الآخر كما قال الشاعر : [الوافر]

وما أدري إذا يمّمت أرضا

أريد الخير أيهما يليني (١)

وقد قال الله تعالى في الآية الأخرى : (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) [العنكبوت : ٢ ـ ٣] وقال تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) [آل عمران : ١٤٢] ، وقال تعالى : (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) [آل عمران : ١٧٩] الآية ، والحاصل أنه تعالى لما شرع لعباده الجهاد بين أن له فيه حكمة وهو اختبار عبيده من يطيعه ممن يعصيه ، وهو تعالى العالم بما كان

__________________

(١) البيت للمثقب العبدي في ديوانه ص ٢١٢ ، وخزانة الأدب ١١ / ٨٠ ، وشرح اختيارات المفضل ص ١٢٦٧ ، وشرح شواهد العيني ١ / ١٩١ ، وبلا نسبة في تخليص الشواهد ص ١٤٥ ، وخزانة الأدب ٦ / ٣٧.

وما يكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون فيعلم الشيء قبل كونه ومع كونه على ما هو عليه لا إله إلا هو ولا رب سواه ، ولا راد لما قدّره وأمضاه.

(ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (١٧) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) (١٨)

يقول تعالى ما ينبغي للمشركين بالله أن يعمروا مساجد الله التي بنيت على اسمه وحده لا شريك له ، ومن قرأ مسجد الله فأراد به المسجد الحرام أشرف المساجد في الأرض الذي بني من أول يوم على عبادة الله وحده لا شريك له ، وأسسه خليل الرحمن ، هذا وهم شاهدون على أنفسهم بالكفر أي بحالهم وقال لهم كما قال السدي : لو سألت النصراني ما دينك؟ لقال نصراني ، ولو سألت اليهودي ما دينك؟ لقال يهودي ، والصابئ لقال صابئ ، والمشرك لقال مشرك (١).

(أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) أي بشركهم (وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ) وقال تعالى : (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) [الأنفال : ٣٤] ولهذا قال تعالى : (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) فشهد تعالى بالإيمان لعمار المساجد كما قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا شريح ، حدثنا ابن وهب عن عمرو بن الحارث ، أن دراجا أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان». قال الله تعالى : (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ورواه الترمذي (٣) وابن مردويه والحاكم في مستدركه من حديث عبد الله بن وهب به.

وقال عبد الرحمن بن حميد في مسنده : حدثنا يونس بن محمّد حدثنا صالح المري عن ثابت البناني عن ميمون بن سياه وجعفر بن زيد عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنما عمار المساجد هم أهل الله» ورواه الحافظ أبو بكر البزار : عن عبد الواحد بن غياث عن صالح بن بشير المري عن ثابت عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنما عمار المساجد هم أهل الله» ثم قال : لا نعلم رواه عن ثابت غير صالح ، وقد روى الدار قطني في الأفراد من طريق حكامة بنت عثمان بن دينار عن أبيها عن أخيه مالك بن دينار عن أنس مرفوعا «إذا أراد الله بقوم عاهة نظر إلى أهل المساجد فصرف عنهم» ثم قال : غريب ، وروى الحافظ البهائي في

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٣٣٤.

(٢) المسند ٣ / ٦٨ ، ٧٦.

(٣) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٩ ، باب ٨.

المستقصى عن أبيه بسنده إلى أبي أمية الطرسوسي ، حدثنا منصور بن صقير ، حدثنا صالح المري عن ثابت عن أنس مرفوعا يقول الله : وعزتي وجلالي إني لأهم بأهل الأرض عذابا فإذا نظرت إلى عمار بيوتي وإلى المتحابين في وإلى المستغفرين بالأسحار صرفت ذلك عنهم. ثم قال ابن عساكر : حديث غريب.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا روح حدثنا سعيد عن قتادة ، حدثنا العلاء بن زياد عن معاذ بن جبل أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الشيطان ذئب الإنسان ، كذئب الغنم يأخذ الشاة القاصية والناحية ، فإياكم والشعاب وعليكم بالجماعة والعامة والمسجد» وقال عبد الرزاق : عن معمر عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون الأودي قال : أدركت أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم يقولون : إن المساجد بيوت الله في الأرض وإنه حق على الله أن يكرم من زاره فيها. وقال المسعودي : عن حبيب بن أبي ثابت وعدي بن ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : من سمع النداء بالصلاة ثم لم يجب ولم يأت المسجد ويصلي فلا صلاة له وقد عصى الله ورسوله. قال الله تعالى : (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) الآية ، رواه ابن مردويه. وقد روي مرفوعا من وجه آخر ، وله شواهد من وجوه آخر ليس هذا موضع بسطها.

وقوله : (وَأَقامَ الصَّلاةَ) أي التي هي أكبر عبادات البدن (وَآتَى الزَّكاةَ) أي التي هي أفضل الأعمال المتعدية إلى بر الخلائق ، وقوله (وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ) أي ولم يخف إلا من الله تعالى ولم يخش سواه (فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) يقول : من وحد الله وآمن باليوم الآخر يقول من آمن بما أنزل الله (وَأَقامَ الصَّلاةَ) يعني الصلوات الخمس (وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ) يقول لم يعبد إلا الله ثم قال : (فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) يقول تعالى : إن أولئك هم المفلحون كقوله لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) [الإسراء : ٧٩] وهي الشفاعة ، وكل عسى في القرآن فهي واجبة (٢) ، وقال محمد بن إسحاق بن يسار رحمه‌الله : وعسى من الله حق (٣).

(أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٩) الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (٢٢)

__________________

(١) المسند ٥ / ٢٣٢ ، ٢٣٣ ، ٢٤٣.

(٢) انظر تفسير الطبري ٦ / ٣٣٥.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ٣٣٥.

قال العوفي في تفسيره عن ابن عباس في تفسير هذه الآية قال : إن المشركين قالوا : عمارة بيت الله وقيام على السقاية خير ممن آمن وجاهد ، وكانوا يفخرون بالحرم ويستكبرون به من أجل أنهم أهله وعماره ، فذكر الله استكبارهم وإعراضهم ، فقال لأهل الحرم من المشركين (قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ) [المؤمنون : ٦٧] يعني أنهم كانوا يستكبرون بالحرم قال (بِهِ سامِراً) [المؤمنون : ٦٧] كانوا يسمرون به ويهجرون القرآن والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فخير الله الإيمان والجهاد مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على عمارة المشركين البيت وقيامهم على السقاية ولم يكن ينفعهم عند الله مع الشرك به ، وإن كانوا يعمرون بيته ويحرمون به. قال الله تعالى : (لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) يعني الذين زعموا أنهم أهل العمارة فسماهم الله ظالمين بشركهم فلم تغن عنهم العمارة شيئا.

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في تفسير هذه الآية قال : قد نزلت في العباس بن عبد المطلب حين أسر ببدر قال : لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد لقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقي ونفك العاني ، قال الله عزوجل : (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِ ـ إلى قوله ـ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) يعني أن ذلك كله كان في الشرك ولا أقبل ما كان في الشرك (١) ، وقال الضحاك بن مزاحم : أقبل المسلمون على العباس وأصحابه الذين أسروا يوم بدر يعيرونهم بالشرك ، فقال العباس : أما والله لقد كنا نعمر المسجد الحرام ونفك العاني ونحجب البيت ونسقي الحاج ، فأنزل الله (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِ) الآية (٢).

وقال عبد الرزاق : أخبرنا ابن عيينة عن إسماعيل عن الشعبي : قال : نزلت في على والعباس رضي الله عنهما بما تكلما في ذلك ، وقال ابن جرير (٣) : حدثني يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني ابن لهيعة عن أبي صخر قال : سمعت محمد بن كعب القرظي يقول افتخر طلحة بن شيبة من بني عبد الدار وعباس بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب فقال طلحة : أنا صاحب البيت معي مفتاحه ولو أشاء بت فيه. وقال العباس : أنا صاحب السقاية والقائم عليها ولو أشاء بت في المسجد ، فقال علي رضي الله عنه : ما أدري ما تقولان لقد صليت إلى القبلة ستة أشهر قبل الناس وأنا صاحب الجهاد ، فأنزل الله عزوجل (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِ) الآية كلها.

وهكذا قال السدي إلا أنه قال : افتخر علي والعباس وشيبة بن عثمان وذكر نحوه ، وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن عمرو عن الحسن قال : نزلت في علي وعباس وعثمان وشيبة

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٣٣٦.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٣٣٧.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ٣٣٧.

تكلموا في ذلك ، فقال العباس : ما أراني إلا أني تارك سقايتنا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أقيموا على سقايتكم فإن لكم فيها خيرا» ورواه محمد بن ثور : عن معمر عن الحسن فذكر نحوه.

وقد ورد في تفسير هذه الآية حديث مرفوع فلا بد من ذكره هنا ، قال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن يحيى بن أبي كثير عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أن رجلا قال : ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج. وقال آخر : ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام. وقال آخر : الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم. فزجرهم عمر رضي الله عنه وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك يوم الجمعة ، ولكن إذا صلينا الجمعة دخلنا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسألناه. فنزلت (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ـ إلى قوله ـ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ) (١).

[طريق أخرى] قال الوليد بن مسلم حدثني معاوية بن سلام عن جده أبي سلام الأسود عن النعمان بن بشير الأنصاري قال : كنت عند منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في نفر من أصحابه فقال رجل منهم : ما أبالي أن لا أعمل لله عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج. وقال آخر : بل عمارة المسجد الحرام وقال آخر : بل الجهاد في سبيل الله خير مما قلتم فزجرهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك يوم الجمعة ولكن إذا صليت الجمعة دخلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاستفتيته فيما اختلفتم فيه. قال ففعل فأنزل الله عزوجل (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ـ إلى قوله ـ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٢) ورواه مسلم في صحيحه وأبو داود وابن جرير وهذا لفظه ، وابن مردويه وابن أبي حاتم في تفاسيرهم وابن حبان في صحيحه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٣) قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) (٢٤)

أمر تعالى بمباينة الكفار به وإن كانوا آباء أو أبناء ، ونهى عن موالاتهم إن استحبوا أي اختاروا الكفر على الإيمان ، وتوعد على ذلك كقوله تعالى (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ)

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٣٣٦.

(٢) انظر تفسير الطبري ٦ / ٣٣٦ ، وأخرجه أيضا مسلم في الإمارة حديث ١١١ ، وأحمد في المسند ٤ / ٢٦٩ ، والحديث بهذا اللفظ ليس في سنن أبي داود.

[المجادلة : ٢٢] الآية ، وروى الحافظ البيهقي من حديث عبد الله بن شوذب قال : جعل أبو أبي عبيدة بن الجراح ينعت له الآلهة يوم بدر وجعل أبو عبيدة يحيد عنه فلما أكثر الجراح قصده ابنه أبو عبيدة فقتله فأنزل الله فيه هذه الآية (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ) [المجادلة : ٢٢] الآية.

ثم أمر تعالى رسوله أن يتوعد من آثر أهله وقرابته وعشيرته على الله ورسوله وجهاد في سبيله فقال : (قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها) أي اكتسبتموها وحصلتموها (وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها) أي تحبونها لطيبها وحسنها ، أي إن كانت هذه الأشياء (أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا) أي فانتظروا ماذا يحل بكم من عقابه ونكاله بكم ولهذا قال (حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ).

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ابن لهيعة عن زهرة بن معبد عن جده قال : كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال : والله يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه» فقال عمر فأنت الآن والله أحب إليّ من نفسي ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «الآن يا عمر» انفرد بإخراجه البخاري (٢) فرواه عن يحيى بن سليمان عن ابن وهب عن حيوة بن شريح عن أبي عقيل زهرة بن معبد أنه سمع جده عبد الله بن هشام عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذا.

وقد ثبت في الصحيح عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين» (٣) وروى الإمام أحمد وأبو داود واللفظ له من حديث أبي عبد الرحمن الخراساني عن عطاء الخراساني عن نافع عن ابن عمر قال : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم بأذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم» (٤) وروى الإمام أحمد (٥) أيضا عن يزيد بن هارون عن أبي جناب عن شهر بن حوشب أنه سمع عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنحو ذلك ، وهذا شاهد للذي قبله والله أعلم.

(لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ

__________________

(١) المسند ٤ / ٣٣٦.

(٢) كتاب الأيمان باب ٣.

(٣) أخرجه البخاري في الإيمان باب ٨ ، ومسلم في الإيمان حديث ٦٩ ، ٧٠.

(٤) أخرجه أبو داود في البيوع باب ٥٤ ، وأحمد في المسند ٢ / ٤٢.

(٥) المسند ٢ / ٨٤.

عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (٢٥) ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (٢٦) ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٢٧)

قال ابن جريج عن مجاهد هذه أول آية نزلت من براءة يذكر تعالى للمؤمنين فضله عليهم وإحسانه لديهم في نصره إياهم في مواطن كثيرة من غزواتهم مع رسوله ، وأن ذلك من عنده تعالى وبتأييده وتقديره لا بعددهم ولا بعددهم ونبههم على أن النصر من عنده سواء قل الجمع أو كثر فإن يوم حنين أعجبتهم كثرتهم ومع هذا ما أجدى ذلك عنهم شيئا فولوا مدبرين إلا القليل منهم مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم أنزل نصره وتأييده على رسوله وعلى المؤمنين الذين معه كما سنبينه إن شاء الله تعالى مفصلا ليعلمهم أن النصر من عنده تعالى وحده وبإمداده وإن قل الجمع فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين.

وقد قال الإمام أحمد (١) : حدثنا وهب بن جرير حدثنا أبي سمعت يونس يحدث عن الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خير الصحابة أربعة ، وخير السرايا أربعمائة ، وخير الجيوش أربعة آلاف ولن تغلب اثنا عشر ألفا من قلة» (٢) وهكذا رواه أبو داود والترمذي ثم قال هذا حديث حسن غريب جدا لا يسنده أحد غير جرير بن حازم ، وإنما روي عن الزهري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرسلا. وقد رواه ابن ماجة والبيهقي وغيره عن أكثم بن الجون عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنحوه والله أعلم.

وقد كانت وقعة حنين بعد فتح مكة في شوال سنة ثمان من الهجرة. وذلك لما فرغصلى‌الله‌عليه‌وسلم من فتح مكة وتمهدت أمورها وأسلم عامة أهلها وأطلقهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فبلغه أن هوازن جمعوا له ليقاتلوه وأن أميرهم مالك بن عوف بن النضر ، ومعه ثقيف بكمالها وبنو جشم وبنو سعد بن بكر وأوزاع (٣) من بني هلال وهم قليل وناس من بني عمرو بن عامر وعوف بن عامر وقد أقبلوا ومعهم النساء والولدان والشاء والنعم وجاءوا بقضهم وقضيضهم (٤) فخرج إليهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في جيشه الذي جاء معه للفتح وهو عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وقبائل العرب ومعه الذين أسلموا من أهل مكة وهم الطلقاء في ألفين فسار بهم إلى العدو فالتقوا بواد بين مكة والطائف يقال له حنين فكانت فيه الوقعة في أول النهار في غلس الصبح انحدروا في الوادي وقد كمنت فيه هوازن فلما تواجهوا لم يشعر المسلمون إلا بهم قد ثاوروهم (٥) ، ورشقوا بالنبال

__________________

(١) المسند ١ / ٢٩٤ ، ٢٩٩.

(٢) أخرجه أبو داود في الجهاد باب ٨٢ ، وابن ماجة في الجهاد باب ٢٥.

(٣) الأوزاع : الفرق من الناس.

(٤) جاءوا بقضهم وقضيضهم : أي بأجمعهم.

(٥) ثاوروهم : أي ثاوبوهم ، والمثاورة : المواثبة.

وأصلتوا السيوف وحملوا حملة رجل واحد كما أمرهم ملكهم فعند ذلك ولى المسلمون مدبرين كما قال الله عزوجل ، وثبت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو راكب يومئذ بغلته الشهباء يسوقها إلى نحو العدو ، والعباس عمه آخذ بركابها الأيمن ، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب آخذ بركابها الأيسر يثقلانها لئلا تسرع السير وهو ينوه باسمه عليه الصلاة والسلام ويدعو المسلمين إلى الرجعة ويقول : «إليّ عباد الله إليّ أنا رسول الله» ويقول في تلك الحال :

«أنا النبي لا كذب

أنا ابن عبد المطلب»

(١) وثبت معه من أصحابه قريب من مائة ومنهم من قال ثمانون فمنهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما والعباس وعلي والفضل بن عباس وأبو سفيان بن الحارث وأيمن ابن أم أيمن وأسامة بن زيد وغيرهم رضي الله عنهم ثم أمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمه العباس وكان جهير الصوت أن ينادي بأعلى صوته يا اصحاب الشجرة يعني شجرة بيعة الرضوان التي بايعه المسلمون من المهاجرين والأنصار تحتها على أن لا يفروا عنه فجعل ينادي بهم يا أصحاب السمرة ، ويقول تارة يا أصحاب سورة البقرة ، فجعلوا يقولون يا لبيك يا لبيك ، وانعطف الناس فتراجعوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حتى إن الرجل منهم إذا لم يطاوعه بعيره على الرجوع لبس درعه ثم انحدر عنه وأرسله ورجع بنفسه إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فلما اجتمعت شرذمة منهم عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمرهم عليه‌السلام أن يصدقوا الحملة وأخذ قبضة من تراب بعد ما دعا ربه واستنصره ، وقال «اللهم أنجز لي ما وعدتني» ثم رمى القوم بها فما بقي إنسان منهم إلا أصابه منها في عينه وفمه ما يشغله عن القتال ثم انهزموا فاتبع المسلمون أقفاءهم يقتلون ويأسرون وما تراجع بقية الناس إلا والأسرى مجندلة بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا يعلى بن عطاء عن عبد الله بن يسار عن أبي همام عن أبي عبد الرحمن الفهري واسمه يزيد بن أسيد ويقال يزيد بن أنيس ويقال كرز قال : كنت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة حنين فسرنا في يوم قائظ شديد الحر فنزلنا تحت ظلال الشجر فلما زالت الشمس لبست لأمتي وركبت فرسي فانطلقت إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في فسطاطه فقلت السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته حان الرواح؟ فقال : «أجل» فقال : «يا بلال» فثار من تحت سمرة كأن ظلها ظل طائر فقال : لبيك وسعديك وأنا فداؤك فقال «أسرج لي فرسي» فأخرج سرجا دفتاه من ليف ليس فيهما أشر ولا بطر.

__________________

(١) الرجز لرسول الله ص في كتاب العين ٦ / ٦٥ ، وتهذيب اللغة ١٠ / ٦١١.

(٢) المسند ٥ / ٢٨٦.

قال فأسرج فركب وركبنا فصاففناهم عشيتنا وليلتنا فتشامت الخيلان فولى المسلمون مدبرين كمال قال الله تعالى : (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يا عباد الله أنا عبد الله ورسوله» ثم قال : «يا معشر المهاجرين أنا عبد الله ورسوله» قال ثم اقتحم عن فرسه فأخذ كفا من تراب فأخبرني الذي كان أدنى إليه مني أنه ضرب به وجوههم وقال : «شاهت الوجوه» فهزمهم الله تعالى. قال يعلى بن عطاء : فحدثني أبناؤهم عن آبائهم أنهم قالوا : لم يبق منا أحد إلا امتلأت عيناه وفمه ترابا وسمعنا صلصلة بين السماء والأرض كإمرار الحديد على الطست الجديد ، وهكذا رواه الحافظ البيهقي في دلائل النبوة من حديث أبي داود الطيالسي عن حماد بن سلمة به.

وقال محمد بن إسحاق : حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن عبد الرحمن بن جابر عن أبيه جابر بن عبد الله قال : فخرج مالك بن عوف بمن معه إلى حنين فسبق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليه فأعدوا وتهيئوا في مضايق الوادي وأحنائه وأقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه حتى انحط بهم الوادي في عماية الصبح فلما انحط الناس ثارت في وجوههم الخيل فشدت عليهم وانكفأ الناس منهزمين لا يقبل أحد على أحد وانحاز رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات اليمين يقول : «أيها الناس هلموا إلي أنا رسول الله ، أنا رسول الله ، أنا محمد بن عبد الله» فلا شيء وركبت الإبل بعضها بعضا فلما رأى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر الناس قال : «يا عباس اصرخ يا معشر الأنصار يا أصحاب السمرة» فأجابوه لبيك ، لبيك ، فجعل الرجل يذهب ليعطف بعيره فلا يقدر على ذلك فيقذف درعه في عنقه ويأخذ سيفه وقوسه ثم يؤم الصوت حتى اجتمع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منهم مائة فاستعرض الناس فاقتتلوا وكانت الدعوة أول ما كانت بالأنصار ثم جعلت آخرا بالخزرج وكانوا صبراء عند الحرب وأشرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ركابه فنظر إلى مجتلد القوم فقال : «الآن حمي الوطيس» قال : فو الله ما راجعه الناس إلا والأسارى عند رسول الله ملقون فقتل الله منهم من قتل وانهزم منهم ما انهزم وأفاء الله على رسوله أموالهم وأبناءهم (١).

وفي الصحيحين من حديث شعبة عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب رضي الله عنهما أن رجلا قال له : يا أبا عمارة أفررتم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم حنين؟ فقال : لكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يفر إن هوازن كانوا قوما رماة فلما لقيناهم وحملنا عليهم انهزموا فأقبل الناس على الغنائم فاستقبلونا بالسهام فانهزم الناس فلقد رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو سفيان بن الحارث آخذ بلجام بغلته البيضاء وهو يقول :

«أنا النبي لا كذب

أنا ابن عبد المطلب» (٢)

__________________

(١) انظر سيرة ابن هشام ٢ / ٤٤٢ ، ٤٤٥.

(٢) أخرجه البخاري في الجهاد باب ٥٢ ، ومسلم في الجهاد حديث ٨٠.

قلت : وهذا في غاية ما يكون من الشجاعة التامة إنه في مثل هذا اليوم في حومة الوغى وقد انكشف عنه جيشه وهو مع هذا على بغلة وليست سريعة الجري ولا تصلح لفر ولا لكر ولا لهرب وهو مع هذا أيضا يركضها إلى وجوههم وينوه باسمه ليعرفه من لم يعرفه صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين وما هذا كله إلا ثقة بالله وتوكلا عليه وعلما منه بأنه سينصره ويتم ما أرسله به ويظهر دينه على سائر الأديان ، ولهذا قال تعالى : (ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ) أي طمأنينته وثباته على رسوله (وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) أي الذين معه (وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها) وهم الملائكة كما قال الإمام أبو جعفر بن جرير (١) : حدثني الحسن بن عرفة قال حدثني المعتمر بن سليمان عن عوف هو ابن أبي جميلة الأعرابي قال سمعت عبد الرحمن مولى ابن برثن حدثني رجل كان مع المشركين يوم حنين قال لما التقينا نحن وأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم حنين لم يقوموا لنا حلب شاة ، قال : فلما كشفناهم جعلنا نسوقهم في آثارهم حتى انتهينا إلى صاحب البغلة البيضاء فإذا هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : فتلقانا عنده رجال بيض حسان الوجوه فقالوا لنا شاهت الوجوه ارجعوا قال فانهزمنا وركبوا أكتافنا فكانت إياها.

وقال الحافظ أبو بكر البيهقي : أنبأنا أبو عبد الله الحافظ حدثني محمد بن أحمد بن بالويه حدثنا إسحاق بن الحسن الحربي حدثنا عفان بن مسلم حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا الحارث بن حصيرة حدثنا القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه قال : قال ابن مسعود رضي الله عنه : كنت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم حنين فولى عنه الناس وبقيت معه في ثمانين رجلا من المهاجرين والأنصار قدمنا ولم نولهم الدبر وهم الذين أنزل الله عليهم السكينة قال : ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على بغلته البيضاء يمضي قدما فحادت بغلته فمال عن السرج فقلت : ارتفع رفعك الله. قال : «ناولني كفا من التراب» فناولته قال : فضرب به وجوههم فامتلأت أعينهم ترابا قال : «أين المهاجرون والأنصار؟» قلت: هم هناك قال : «اهتف بهم» فهتفت بهم فجاؤوا وسيوفهم بأيمانهم كأنها الشهب وولى المشركون أدبارهم ، ورواه الإمام أحمد في مسنده عن عفان به نحوه.

وقال الوليد بن مسلم : حدثني عبد الله بن المبارك عن أبي بكر الهذلي عن عكرمة مولى ابن عباس عن شيبة بن عثمان قال : لما رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم حنين قد عري ذكرت أبي وعمي وقتل علي وحمزة إياهما فقلت اليوم أدرك ثأري منه قال : فذهبت لأجيئه عن يمينه فإذا أنا بالعباس بن عبد المطلب قائما عليه درع بيضاء كأنها فضة يكشف عنها العجاج فقلت : عمه ولن يخذله قال فجئته عن يساره فإذا أنا بأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب فقلت : ابن عمه ولن يخذله فجئته من خلفه فلم يبق إلا أن أسوره سورة بالسيف إذ رفع لي شواظ من نار

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٣٤٣ ، وفيه : حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسن بن عرفة.

بيني وبينه كأنه برق فخفت أن تمحشني فوضعت يدي على بصري ومشيت القهقرى فالتفت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : «يا شيبة يا شيبة ادن مني ، اللهم أذهب عنه الشيطان» قال : فرفعت إليه بصري ولهو أحب إلي من سمعي وبصري فقال : «يا شيبة قاتل الكفار» رواه البيهقي من حديث الوليد فذكره.

ثم روي من حديث أيوب بن جابر عن صدقة بن سعيد عن مصعب بن شيبة عن أبيه قال: خرجت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم حنين والله ما أخرجني إسلام ولا معرفة به ولكنني أبيت أن تظهر هوازن على قريش فقلت وأنا واقف معه : يا رسول الله إني أرى خيلا بلقا فقال : «يا شيبة إنه لا يراها إلا كافر» فضرب بيده على صدري ثم قال : «اللهم اهد شيبة» ثم ضربها الثانية ثم قال : «اللهم اهد شيبة» ثم ضربها الثالثة ثم قال : «اللهم اهد شيبة» قال : فو الله ما رفع يده عن صدري في الثالثة حتى ما كان أحد من خلق الله أحب إليّ منه وذكر تمام الحديث في التقاء الناس وانهزام المسلمين ونداء العباس واستنصار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى هزم الله تعالى المشركين.

قال محمد بن إسحاق : حدثني والدي إسحاق بن يسار عمن حدثه عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال إنا لمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم حنين والناس يقتتلون إذ نظرت إلى مثل البجاد الأسود يهوي من السماء حتى وقع بيننا وبين القوم فإذا نمل منثور قد ملأ الوادي فلم يكن إلا هزيمة القوم فما كنا نشك أنها الملائكة (١) ، وقال سعيد بن السائب بن يسار عن أبيه قال : سمعت يزيد بن عامر السوائي وكان شهد حنينا مع المشركين ثم أسلم بعد فكنا نسأله عن الرعب الذي ألقى الله في قلوب المشركين يوم حنين فكان يأخذ الحصاة فيرمي بها في الطست فيطن فيقول كنا نجد في أجوافنا مثل هذا (٢) ، وقد تقدم له شاهد من حديث يزيد بن أبي أسيد فالله أعلم.

وفي صحيح مسلم (٣) عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق أنبأنا معمر عن همام قال : هذا ما حدثنا أبو هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «نصرت بالرعب وأوتيت جوامع الكلم» ولهذا قال تعالى : (ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ).

وقوله : (ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) قد تاب الله على بقية هوازن فأسلموا وقدموا عليه مسلمين ولحقوه وقد قارب مكة عند الجعرانة وذلك بعد الوقعة بقريب من عشرين يوما فعند ذلك خيرهم بين سبيهم وبين أموالهم فاختاروا سبيهم وكانوا ستة

__________________

(١) انظر سيرة ابن هشام ٢ / ٤٤٩.

(٢) انظر تفسير الطبري ٦ / ٣٤٣.

(٣) كتاب المساجد حديث ٥.

آلاف أسير ما بين صبي وامرأة ، فرده عليهم وقسم الأموال بين الغانمين ونفل أناسا من الطلقاء لكي يتألف قلوبهم على الإسلام فأعطاهم مائة من الإبل وكان من جملة من أعطى مائة مالك بن عوف النّصري واستعمله على قومه كما كان فامتدحه بقصيدته التي يقول فيها : [الطويل]

ما إن رأيت ولا سمعت بمثله

في الناس كلهم بمثل محمد (١)

أوفى وأعطى للجزيل إذا اجتدى

ومتى تشأ يخبرك عما في غد

وإذا الكتيبة عرّدت أنيابها

بالسمهري وضرب كل مهنّد

فكأنه ليث على أشباله

وسط المباءة خادر في مرصد

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٨) قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) (٢٩)

أمر تعالى عباده المؤمنين الطاهرين دينا وذاتا بنفي المشركين الذين هم نجس دينا عن المسجد الحرام وأن لا يقربوه بعد نزول هذه الآية وكان نزولها في سنة تسع ولهذا بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عليا صحبة أبي بكر رضي الله عنهما عامئذ وأمره أن ينادي في المشركين أن لا يحج بعد هذا العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان. فأتم الله ذلك وحكم به شرعا وقدرا.

وقال عبد الرزاق : أخبرنا ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول في قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) إلا أن يكون عبدا أو أحدا من أهل الذمة (٢). وقد روي مرفوعا من وجه آخر فقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا حسين حدثنا شريك عن الأشعث يعني ابن سوار عن الحسن عن جابر قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يدخل مسجدنا بعد عامنا هذا مشرك إلا أهل العهد وخدمهم» تفرد به الإمام أحمد مرفوعا والموقوف أصح إسنادا.

وقال الإمام أبو عمرو الأوزاعي ، كتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أن امنعوا اليهود والنصارى من دخول مساجد المسلمين وأتبع نهيه قول الله تعالى : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) وقال عطاء : الحرم كله مسجد لقوله تعالى : (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا). ودلت هذه الآية الكريمة على نجاسة المشرك كما ورد في الصحيح «المؤمن لا ينجس» (٤) وأما

__________________

(١) الأبيات في سيرة ابن هشام ٢ / ٤٩١.

(٢) انظر تفسير الطبري ٦ / ٣٤٨.

(٣) المسند ٣ / ٣٩٢.

(٤) أخرجه البخاري في الغسل باب ٢٣ ، ٢٤.

نجاسة بدنه فالجمهور على أنه ليس بنجس البدن والذات لأن الله تعالى أحل طعام أهل الكتاب ، وذهب بعض الظاهرية إلى نجاسة أبدانهم ، وقال أشعث عن الحسن من صافحهم فليتوضأ. رواه ابن جرير (١).

وقوله (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) قال محمد بن إسحاق : وذلك أن الناس قالوا لتقطعن عنا الأسواق ولتهلكن التجارة وليذهبن عنا ما كنا نصيب فيها من المرافق فأنزل الله (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) من وجه غير ذلك (إِنْ شاءَ) إلى قوله (وَهُمْ صاغِرُونَ) أي هذا عوض ما تخوفتم من قطع تلك الأسواق فعوضهم الله مما قطع أمر الشرك ما أعطاهم من أعناق أهل الكتاب من الجزية (٢) ، وهكذا روي عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وقتادة والضحاك وغيرهم (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ) أي بما يصلحكم (حَكِيمٌ) أي فيما يأمر به وينهى عنه لأنه الكامل في أفعاله وأقواله العادل في خلقه وأمره تبارك وتعالى ولهذا عوضهم عن تلك المكاسب بأموال الجزية التي يأخذوها من أهل الذمة.

وقوله تعالى : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) فهم في نفس الأمر لما كفروا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يبق لهم إيمان صحيح بأحد من الرسل ولا بما جاءوا به وإنما يتبعون آراءهم وأهواءهم وآباءهم فيما هم فيه لا لأنه شرع الله ودينه ، لأنهم لو كانوا مؤمنين بما بأيديهم إيمانا صحيحا لقادهم ذلك إلى الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن جميع الأنبياء بشروا به وأمروا باتباعه فلما جاء وكفروا به وهو أشرف الرسل علم أنهم ليسوا متمسكين بشرع الأنبياء الأقدمين لأنه من عند الله. بل لحظوظهم وأهوائهم فلهذا لا ينفعهم إيمانهم ببقية الأنبياء وقد كفروا بسيدهم وأفضلهم وخاتمهم وأكملهم ، ولهذا قال : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) وهذه الآية الكريمة أول الأمر بقتال أهل الكتاب بعد ما تمهدت أمور المشركين ودخل الناس في دين الله أفواجا واستقامت جزيرة العرب أمر الله ورسوله بقتال أهل الكتابين اليهود والنصارى وكان ذلك في سنة تسع ولهذا تجهز رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقتال الروم ودعا الناس إلى ذلك وأظهره لهم وبعث إلى أحياء العرب حول المدينة فندبهم فأوعبوا معه واجتمع من المقاتلة نحو من ثلاثين ألفا وتخلف بعض الناس من أهل المدينة ومن حولها من المنافقين وغيرهم وكان ذلك في عام جدب ووقت قيظ وحر وخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يريد الشام لقتال الروم فبلغ تبوك فنزل بها وأقام بها قريبا من عشرين يوما ثم استخار الله في الرجوع فرجع عامه ذلك لضيق الحال وضعف الناس كما سيأتي بيانه بعد إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٣٤٥.

(٢) انظر تفسير الطبري ٦ / ٣٤٨.

وقد استدل بهذه الآية الكريمة من يرى أنه لا تؤخذ الجزية إلا من أهل الكتاب أو من أشبههم كالمجوس كما صح فيهم الحديث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذها من مجوس هجر وهذا مذهب الشافعي وأحمد في المشهور عنه وقال أبو حنيفة رحمه‌الله. بل تؤخذ من جميع الأعاجم سواء كانوا من أهل الكتاب أو من المشركين ولا تؤخذ من العرب إلا من أهل الكتاب.

وقال الإمام مالك : بل يجوز أن تضرب الجزية على جميع الكفار من كتابي ومجوسي ووثني وغير ذلك ولمأخذ هذه المذاهب وذكر أدلتها مكان غير هذا والله أعلم. وقوله : (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ) أي إن لم يسلموا (عَنْ يَدٍ) أي عن قهر لهم وغلبة (وَهُمْ صاغِرُونَ) أي ذليلون حقيرون مهانون فلهذا لا يجوز إعزاز أهل الذمة ولا رفعهم على المسلمين بل هم أذلاء صغرة أشقياء كما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام وإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه» (١) ولهذا اشترط عليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه تلك الشروط المعروفة في إذلالهم وتصغيرهم وتحقيرهم.

وذلك مما رواه الأئمة الحفاظ من رواية عبد الرحمن بن غنم الأشعري قال : كتبت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين صالح نصارى من أهل الشام : بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب لعبد الله عمر أمير المؤمنين من نصارى مدينة كذا وكذا إنكم لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا وأموالنا وأهل ملتنا وشرطنا لكم على أنفسنا أن لا نحدث في مدينتنا ولا فيما حولها ديرا ولا كنيسة ولا قلاية ولا صومعة راهب ولا نجدد ما خرب منها ولا نحيي منها ما كان خططا للمسلمين وألا نمنع كنائسنا أن ينزلها أحد من المسلمين في ليل ولا نهار وأن نوسع أبوابها للمارة وابن السبيل وأن ننزل من مر بنا من المسلمين ثلاثة أيام نطعمهم ولا نؤوي في كنائسنا ولا منازلنا جاسوسا ولا نكتم غشا للمسلمين ولا نعلم أولادنا القرآن ولا نظهر شركا ولا ندعو إليه أحدا ولا نمنع أحدا من ذوي قرابتنا الدخول في الإسلام إن أرادوه وأن نوقر المسلمين وأن نقوم لهم من مجالسنا إن أرادوا الجلوس ولا نتشبه بهم في شيء من ملابسهم في قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر ولا نتكلم بكلامهم ولا نكتني بكناهم ولا نركب السروج ولا نتقلد السيوف ولا نتخذ شيئا من السلاح ولا نحمله معنا ولا ننقش خواتيمنا بالعربية ولا نبيع الخمور وأن نجز مقاديم رؤوسنا وأن نلزم زينا حيثما كنا وأن نشد الزنانير على أوساطنا وأن لا نظهر الصليب على كنائسنا وأن لا نظهر صلبنا ولا كتبنا في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم ولا نضرب نواقيسنا في كنائسنا إلا ضربا خفيفا وأن لا نرفع أصواتنا

__________________

(١) أخرجه مسلم في السلام حديث ١٤.

بالقراءة في كنائسنا في شيء من حضرة المسلمين ولا نخرج شعانين ولا باعوثا ولا نرفع أصواتنا مع موتانا ولا نظهر النيران معهم في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم ولا نجاورهم بموتانا ولا نتخذ من الرقيق ما جرى عليه سهام المسلمين وأن نرشد المسلمين ولا نطلع عليهم في منازلهم.

قال فلما أتيت عمر بالكتاب زاد فيه ولا نضرب أحدا من المسلمين شرطنا لكم ذلك على أنفسنا وأهل ملتنا وقبلنا عليه الأمان فإن نحن خالفنا في شيء مما شرطناه لكم ووظفنا على أنفسنا فلا ذمة لنا وقد حل لكم منا ما يحل من أهل المعاندة والشقاق.

(وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٣٠) اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٣١)

وهذا إغراء من الله تعالى للمؤمنين على قتال الكفار من اليهود والنصارى لمقالتهم هذه المقالة الشنيعة والفرية على الله تعالى فأما اليهود فقالوا في العزير : إنه ابن الله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، وذكر السدي وغيره أن الشبهة التي حصلت لهم في ذلك أن العمالقة لما غلبت على بني إسرائيل فقتلوا علماءهم وسبوا كبارهم بقي العزيز يبكي على بني إسرائيل وذهاب العلم منهم حتى سقطت جفون عينيه فبينما هو ذات يوم إذ مر على جبانة وإذا امرأة تبكي عند قبر وهي تقول : وا مطعماه وا كاسياه فقال لها : ويحك من كان يطعمك قبل هذا؟ قالت : الله قال : فإن الله حي لا يموت ، قالت يا عزيز فمن كان يعلم العلماء قبل بني إسرائيل؟ قال : الله.

قالت : فلم تبكي عليهم؟ فعرف أنه شيء قد وعظ به ثم قيل له اذهب إلى نهر كذا فاغتسل منه وصل هناك ركعتين فإنك ستلقى هناك شيخا فما أطعمك فكله فذهب ففعل ما أمر به فإذا الشيخ فقال له : افتح فمك ففتح فمه فألقى فيه شيئا كهيئة الجمرة العظيمة ثلاث مرات فرجع عزير وهو من أعلم الناس بالتوراة فقال : يا بني إسرائيل قد جئتكم بالتوراة فقالوا يا عزير ما كنت كذابا فعمد فربط على إصبع من أصابعه قلما وكتب التوراة بإصبعه كلها فلما تراجع الناس من عدوهم ورجع العلماء أخبروا بشأن عزيز فاستخرجوا النسخ التي كانوا أودعوها في الجبال وقابلوها بها فوجدوا ما جاء به صحيحا فقال بعض جهلتهم : إنما صنع هذا لأنه ابن الله (١).

وأما ضلال النصارى في المسيح فظاهر ، ولهذا كذب الله سبحانه الطائفتين فقال : (ذلِكَ

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٣٥١.

قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ) أي لا مستند لهم فيما ادعوه سوى افترائهم واختلاقهم (يُضاهِؤُنَ) أي يشابهون (قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) أي من قبلهم من الأمم ضلوا كما ضل هؤلاء (قاتَلَهُمُ اللهُ) قال ابن عباس : لعنهم الله (أَنَّى يُؤْفَكُونَ؟) أي كيف يضلون عن الحق وهو ظاهر ويعدلون إلى الباطل؟

وقوله : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) روى الإمام أحمد والترمذي وابن جرير من طرق عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه لما بلغته دعوة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فر إلى الشام وكان قد تنصر في الجاهلية فأسرت أخته وجماعة من قومه ثم منّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم على أخته وأعطاها فرجعت إلى أخيها فرغبته في الإسلام وفي القدوم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقدم عدي إلى المدينة وكان رئيسا في قومه طيئ وأبوه حاتم الطائي المشهور بالكرم فتحدث الناس بقدومه فدخل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي عنق عدي صليب من فضة وهو يقرأ هذه الآية (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) قال : فقلت : إنهم لم يعبدوهم فقال : «بلى إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم» وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يا عدي ما تقول؟ أيضرك أن يقال الله أكبر؟ فهل تعلم شيئا أكبر من الله ما يضرك أيضرك أن يقال لا إله إلا الله فهل تعلم إلها غير الله؟» ثم دعاه إلى الإسلام فأسلم وشهد شهادة الحق قال فلقد رأيت وجه استبشر ثم قال «إن اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون» (١).

وهكذا قال حذيفة بن اليمان وعبد الله بن عباس وغيرهما في تفسير (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) إنهم اتبعوهم فيما حللوا وحرموا ، وقال السدي : استنصحوا الرجال ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم ولهذا قال تعالى : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً) أي الذي إذا حرم الشيء فهو الحرام وما حلله فهو الحلال وما شرعه اتبع وما حكم به نفذ (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي تعالى وتقدس وتنزه عن الشركاء والنظراء والأعوان والأضداد والأولاد لا إله إلا هو ولا رب سواه.

(يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٣٢) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (٣٣)

يقول تعالى : يريد هؤلاء الكفار من المشركين وأهل الكتاب (أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ) أي ما بعث به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الهدى ودين الحق بمجرد جدالهم وافترائهم فمثلهم في ذلك كمثل من يريد أن يطفئ شعاع الشمس أو نور القمر بنفخه وهذا لا سبيل إليه فكذلك ما أرسل به

__________________

(١) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٩ ، باب ١٠.

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا بد أن يتم ويظهر ولهذا قال تعالى مقابلا لهم فيما راموه وأرادوه : (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) والكافر هو الذي يستر الشيء ويغطيه ومنه سمي الليل كافرا لأنه يستر الأشياء والزارع كافرا لأنه يغطي الحب في الأرض كما قال (أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ) ثم قال تعالى (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِ) فالهدى هو ما جاء به من الإخبارات الصادقة والإيمان الصحيح والعلم النافع ودين الحق هي الأعمال الصالحة الصحيحة النافعة في الدنيا والآخرة.

(لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) أي على سائر الأديان كما ثبت في الصحيح عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن الله زوى لي الأرض مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها»(١).

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن محمد بن أبي يعقوب سمعت شقيق بن حيان يحدث عن مسعود بن قبيصة أو قبيصة بن مسعود يقول : صلى هذا الحي من محارب الصبح فلما صلوا قال شاب منهم : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إنه ستفتح لكم مشارق الأرض ومغاربها ، وإن عمالها في النار إلا من اتقى الله وأدى الأمانة» ، وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا أبو المغيرة حدثنا صفوان حدثنا سليم بن عامر عن تميم الداري رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله هذا الدين يعز عزيزا ويذل ذليلا ، عزا يعز الله به الإسلام وذلا يذل الله به الكفر» فكان تميم الداري يقول : قد عرفت ذلك أهل بيتي لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعز ولقد أصاب من كان كافرا منهم الذل والصغار والجزية.

وقال الإمام أحمد (٤) : حدثنا يزيد بن عبد ربه حدثنا الوليد بن مسلم حدثني ابن جابر سمعت سليم بن عامر قال سمعت المقداد بن الأسود يقول سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «لا يبقى على وجه الأرض بيت مدر ولا وبر إلا دخلته كلمة الإسلام يعز عزيزا ، ويذل ذليلا إما يعزهم الله فيجعلهم من أهلها ، وإما يذلهم فيدينون لها».

وفي المسند (٥) أيضا : حدثنا محمد بن أبي عدي عن ابن عون عن ابن سيرين عن أبي حذيفة عن عدي بن حاتم سمعه يقول دخلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «يا عدي أسلم تسلم» فقلت إني من أهل دين قال : «أنا أعلم بدينك منك» فقلت أنت أعلم بديني مني؟ قال : «نعم ألست من الركوسية وأنت تأكل مرباع قومك؟ قلت : بلى! قال : «فإن هذا لا يحل لك في

__________________

(١) أخرجه مسلم في الفتن حديث ١٩.

(٢) المسند ٥ / ٣٦٦ ، ٣٦٧.

(٣) المسند ٤ / ١٠٣.

(٤) المسند ٦ / ٤.

(٥) المسند ٤ / ٢٥٧ ، ٣٧٧ ، ٣٧٨.

دينك» قال : فلم يعد أن قالها فتواضعت لها ، قال : «أما إني أعلم ما الذي يمنعك من الإسلام ، تقول إنما اتبعه ضعفة الناس ومن لا قوة له وقد رمتهم العرب أتعرف الحيرة؟» قلت لم أرها وقد سمعت بها ، قال : «فو الذي نفسي بيده ليتمن الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحيرة حتى تطوف بالبيت من غير جوار أحد ولتفتحن كنوز كسرى بن هرمز» قلت : كسرى بن هرمز؟ قال : «نعم كسرى بن هرمز ، وليبذلن المال حتى لا يقبله أحد» قال عدي بن حاتم : فهذه الظعينة تخرج من الحيرة فتطوف بالبيت من غير جوار أحد ، ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز ، والذي نفسي بيده لتكونن الثالثة لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد قالها.

وقال مسلم (١) : حدثنا أبو معن زيد بن يزيد الرقاشي حدثنا خالد بن الحارث حدثنا عبد الحميد بن جعفر عن الأسود بن العلاء عن أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى» فقلت : يا رسول الله إن كنت لأظن حين أنزل الله عزوجل (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِ) الآية ، أن ذلك تام ، قال : «إنه سيكون من ذلك ما شاء الله عزوجل ، ثم يبعث الله ريحا طيبة فيتوفى كل من كان في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان فيبقى من لا خير فيه فيرجعون إلى دين آبائهم».

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٤) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) (٣٥)

قال السدي : الأحبار من اليهود والرهبان من النصارى (٢) وهو كما قال فإن الأحبار هم علماء اليهود كما قال تعالى : (لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ) [المائدة : ٦٣] والرهبان عباد النصارى والقسيسون علماؤهم كما قال تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً) [المائدة : ٨٢] والمقصود التحذير من علماء السوء وعباد الضلال كما قال سفيان بن عيينة : من فسد من علمائنا كان فيه شبه من اليهود ، ومن فسد من عبادنا كان فيه شبه من النصارى. وفي الحديث الصحيح «لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة» قالوا : اليهود والنصارى؟ قال : «فمن»؟ وفي رواية فارس والروم ، قال : «فمن الناس إلا هؤلاء؟» (٣) والحاصل التحذير من التشبه بهم في أقوالهم وأحوالهم ولهذا قال تعالى :

__________________

(١) كتاب الفتن حديث ٥٢.

(٢) انظر تفسير الطبري ٦ / ٣٥٧.

(٣) أخرجه أحمد في المسند ٤ / ١٢٥.

(لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) وذلك أنهم يأكلون الدنيا بالدين ومناصبهم ورئاستهم في الناس يأكلون أموالهم بذلك كما كان لأحبار اليهود على أهل الجاهلية شرف ولهم عندهم خرج وهدايا وضرائب تجيء إليهم فلما بعث الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم استمروا على ضلالهم وكفرهم وعنادهم طمعا منهم أن تبقى لهم تلك الرياسات فأطفأها الله بنور النبوة وسلبهم إياها وعوضهم الذل والصغار وباؤوا بغضب من الله تعالى.

وقوله تعالى : (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي وهم مع أكلهم الحرام يصدون الناس عن اتباع الحق ويلبسون الحق بالباطل ويظهرون لمن اتبعهم من الجهلة أنهم يدعونه إلى الخير وليسوا كما يزعمون بل هم دعاة إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون. وقوله : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) ، هؤلاء هم القسم الثالث من رؤوس الناس فإن الناس عالة على العلماء وعلى العباد وعلى أرباب الأموال فإذا فسدت أحوال هؤلاء فسدت أحوال الناس كما قال ابن المبارك :

وهل أفسد الدّين إلا الملوك

وأحبار سوء ورهبانها

وأما الكنز فقال مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر هو المال الذي لا تؤدى زكاته ، وروى الثوري وغيره عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال : ما أدّي زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين وما كان ظاهرا لا تؤدى زكاته فهو كنز ، وقد روي هذا عن ابن عباس وجابر وأبي هريرة موقوفا ومرفوعا ، وقال عمر بن الخطاب نحوه أيما مال أديت زكاته فليس بكنز وإن كان مدفونا في الأرض ، وأيما مال لم تؤد زكاته فهو كنز يكوى به صاحبه وإن كان على وجه الأرض ، وروى البخاري من حديث الزهري عن خالد بن أسلم قال : خرجنا مع عبد الله بن عمر فقال : هذا قبل أن تنزل الزكاة فلما نزلت جعلها الله طهرة للأموال ، وكذا قال عمر بن عبد العزيز وعراك بن مالك نسخها قوله تعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) الآية.

وقال سعيد بن محمد بن زياد عن أبي أمامة أنه قال : حلية السيوف من الكنز. ما أحدثكم إلا ما سمعت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال الثوري عن أبي حصين عن أبي الضحى عن جعدة بن هبيرة عن علي رضي الله عنه قال : أربعة آلاف فما دونها نفقة فما كان أكثر من ذلك فهو كنز (١) وهذا غريب وقد جاء في مدح التقلل من الذهب والفضة وذم التكثر منهما أحاديث كثيرة. ولنورد منها هنا طرفا يدل على الباقي قال عبد الرزاق : أخبرنا الثوري أخبرني أبو حصين عن أبي الضحى عن جعدة بن هبيرة عن علي رضي الله عنه في قوله : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) الآية. قال النبي : «تبا للذهب تبا للفضة» يقولها ثلاثا قال فشق ذلك على أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا : فأي مال نتخذ؟ فقال عمر رضي الله عنه أنا أعلم لكم ذلك فقال :

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٣٥٨.

يا رسول الله إن أصحابك قد شق عليهم وقالوا : فأي المال نتخذ قال : «لسانا ذاكرا وقلبا شاكرا وزوجة تعين أحدكم على دينه» (١).

حديث آخر : قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا عبد الله بن عمرو بن مرة عن أبي محمد جعفر حدثنا شعبة حدثني سالم بن عبد الله أخبرنا عبد الله بن أبي الهذيل حدثني صاحب لي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «تبا للذهب والفضة» قال وحدثني صاحبي أنه انطلق مع عمر بن الخطاب فقال : يا رسول الله قولك : «تبا للذهب والفضة» ماذا ندخر؟ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لسانا ذاكرا وقلبا شاكرا وزوجة تعين على الآخرة».

حديث آخر : قال الإمام أحمد (٣) : حدثنا وكيع حدثنا عبد الله بن عمرو بن مرة عن أبيه عن سالم بن أبي الجعد عن ثوبان قال : لما نزل في الذهب والفضة ما نزل قالوا : فأي المال نتخذ؟

قال عمر : فأنا أعلم لكم ذلك فأوضع على بعير فأدركه وأنا في أثره فقال : يا رسول الله أي المال نتخذ؟ قال : «قلبا شاكرا ولسانا ذاكرا وزوجة تعين أحدكم على أمر الآخرة» (٤) ورواه الترمذي وابن ماجة من غير وجه عن سالم بن أبي الجعد وقال الترمذي حسن ، وحكي عن البخاري أن سالما لم يسمعه من ثوبان قلت : ولهذا رواه بعضهم عنه مرسلا ، والله أعلم.

حديث آخر قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا حميد بن مالك حدثنا يحيى بن يعلى المحاربي حدثنا أبي حدثنا غيلان بن جامع المحاربي عن عثمان أبي اليقظان عن جعفر بن أبي إياس عن مجاهد عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) الآية ، كبر ذلك على المسلمين وقالوا : ما يستطيع أحد منا أن يترك لولده مالا يبقى بعده فقال عمر : أنا أفرج عنكم فانطلق عمر واتبعه ثوبان فأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا نبي الله إنه قد كبر على أصحابك هذه الآية ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم وإنما فرض المواريث من أموال تبقى بعدكم» قال فكبر عمر ثم قال له النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء؟ المرأة الصالحة التي إذا نظر إليها سرته ، وإذا أمرها أطاعته وإذا غاب عنها حفظته» ورواه أبو داود والحاكم في مستدركه وابن مردويه من حديث يحيى بن يعلى به وقال الحاكم : صحيح على شرطهما ولم يخرجاه.

حديث آخر قال الإمام أحمد (٥) : حدثنا روح حدثنا الأوزاعي عن حسان بن عطية قال : كان شداد بن أوس رضي الله عنه في سفر فنزل منزلا فقال لغلامه ائتنا بالشفرة نعبث بها فأنكرت

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٣٥٩.

(٢) المسند ٥ / ٣٦٦.

(٣) المسند ٥ / ٢٨٢.

(٤) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٩ ، باب ٩ ، وابن ماجة في النكاح باب ٥.

(٥) المسند ٤ / ١٢٣.

عليه فقال : ما تكلمت بكلمة منذ أسلمت إلا وأنا أخطمها وأزمها غير كلمتي هذه فلا تحفظوها علي واحفظوا ما أقول لكم سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إذا كنز الناس الذهب والفضة فاكنزوا هؤلاء الكلمات : اللهم إني أسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد وأسألك شكر نعمتك وأسألك حسن عبادتك وأسألك قلبا سليما وأسألك لسانا صادقا وأسألك من خير ما تعلم ، وأعوذ بك من شر ما تعلم وأستغفرك لما تعلم إنك أنت علام الغيوب».

وقوله تعالى : (يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) أي يقال لهم هذا الكلام تبكيتا وتقريعا وتهكما كما في قوله (ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) [الدخان : ٤٨ ـ ٤٩] أي هذا بذاك وهذا الذي كنتم تكنزون لأنفسكم ولهذا يقال من أحب شيئا وقدمه على طاعة الله عذب به وهؤلاء لما كان جمع هذه الأموال آثر عندهم من رضا الله عنهم عذبوا بها كما كان أبو لهب لعنه الله جاهدا في عداوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وامرأته تعينه في ذلك كانت يوم القيامة عونا على عذابه أيضا في جيدها أي عنقها حبل من مسد أي تجمع من الحطب في النار وتلقي عليه ليكون ذلك أبلغ في عذابه ممن هو أشفق عليه في الدنيا كما أن هذه الأموال كما كانت أعز الأشياء على أربابها كانت أضر الأشياء عليهم في الدار الآخرة فيحمى عليها في نار جهنم وناهيك بحرها فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم.

قال سفيان عن الأعمش عن عبد الله بن عمرو بن مرة عن مسروق عن عبد الله بن مسعود: والذي لا إله غيره لا يكوى عبد يكنز فيمس دينار دينارا ولا درهم درهما ولكن يوسع جلده فيوضع كل دينار ودرهم على حدته (١) ، وقد رواه ابن مردويه عن أبي هريرة مرفوعا ولا يصح رفعه والله أعلم.

وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه قال : بلغني أن الكنز يتحول يوم القيامة شجاعا (٢) يتبع صاحبه وهو يفر منه ويقول : أنا كنزك لا يدرك منه شيئا إلا أخذه (٣). وقال الإمام أبو جعفر بن جرير (٤) : حدثنا بشر حدثنا يزيد حدثنا سعيد عن قتادة عن سالم بن أبي الجعد عن معدان بن أبي طلحة عن ثوبان أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول «من ترك بعده كنزا مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يتبعه ويقول : ويلك ما أنت؟ فيقول : أنا كنزك الذي تركته بعدك ولا يزال يتبعه حتى يلقمه يده فيقضمها ثم يتبعها سائر جسده» ورواه ابن حبان في صحيحه من حديث يزيد عن سعيد به.

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٣٦٣.

(٢) الشجاع ، بضم الشين وكسرها : الحية.

(٣) انظر تفسير الطبري ٦ / ٣٦٣.

(٤) تفسير الطبري ٦ / ٣٦٣.

وأصل هذا الحديث في الصحيحين من رواية أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه ، وفي صحيح مسلم من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا جعل له يوم القيامة صفائح من نار فيكوى بها جنبه وجبهته وظهره في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي بين العباد ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار» (١) وذكر تمام الحديث.

وقال البخاري (٢) في تفسير هذه الآية : حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا جرير عن حصين عن زيد بن وهب قال : مررت على أبي ذر بالربذة فقلت ما أنزلك بهذه الأرض؟. قال كنا بالشام فقرأت (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) فقال معاوية ما هذه فينا ما هذه إلا في أهل الكتاب ، قال : قلت إنها لفينا وفيهم.

ورواه ابن جرير (٣) من حديث عبثر بن القاسم عن حصين عن زيد بن وهب عن أبي ذر رضي الله عنه فذكره وزاد فارتفع في ذلك بيني وبينه القول فكتب إلى عثمان يشكوني فكتب إليّ عثمان أن أقبل إليه قال فأقبلت إليه فلما قدمت المدينة ركبني الناس كأنهم لم يروني قبل يومئذ فشكوت ذلك إلى عثمان فقال لي : تنح قريبا قلت : والله لن أدع ما كنت أقول.

(قلت) كان من مذهب أبي ذر رضي الله عنه تحريم ادخار ما زاد على نفقة العيال وكان يفتي بذلك ويحثهم عليه ويأمرهم به ويغلظ في خلافه فنهاه معاوية فلم ينته فخشي أن يضر الناس في هذا فكتب يشكوه إلى أمير المؤمنين عثمان وأن يأخذه إليه فاستقدمه عثمان إلى المدينة وأنزله بالرّبذة وحده وبها مات رضي الله عنه في خلافة عثمان. وقد اختبره معاوية رضي الله عنه وهو عنده هل يوافق عمله قوله فبعث إليه بألف دينار ففرقها من يومه ثم بعث إليه الذي أتاه بها فقال إن معاوية إنما بعثني إلى غيرك فأخطأت فهات الذهب فقال ويحك إنها خرجت ولكن إذا جاء مالي حاسبناك به وهكذا روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أنها عامة وقال السدي : هي في أهل القبلة.

وقال الأحنف بن قيس قدمت المدينة فبينا أنا في حلقة فيها ملأ من قريش إذ جاء رجل أخشن الثياب أخشن الجسد أخشن الوجه فقام عليهم فقال : بشر الكنازين برضف يحمى عليه في نار جهنم فيوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض كتفه ويوضع على نغض كتفه حتى يخرج من حلمة ثديه يتزلزل قال فوضع القوم رؤوسهم فما رأيت أحدا منهم رجع إليه شيئا قال وأدبر فاتبعته حتى جلس إلى سارية فقلت : ما رأيت هؤلاء إلا كرهوا ما قلت لهم ، فقال :

__________________

(١) أخرجه مسلم في الزكاة حديث ٢٤ ، ٢٥.

(٢) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٩ ، باب ٦.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ٣٦١.

إن هؤلاء لا يعلمون شيئا (١).

وفي الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأبي ذر : «ما يسرني أن عندي مثل أحد ذهبا يمر عليّ ثلاثة أيام وعندي منه شيء إلا دينار أرصده لدين» (٢) فهذا والله أعلم هو الذي حدا بأبي ذر على القول بهذا.

وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا عفان حدثنا همام حدثنا قتادة عن سعيد بن أبي الحسن عن عبد الله بن الصامت رضي الله عنه أنه كان مع أبي ذر فخرج عطاؤه ومعه جارية فجعلت تقضي حوائجه ففضلت معها سبعة فأمرها أن تشتري به فلوسا قال : قلت لو ادخرته لحاجة بيوتك وللضيف ينزل بك قال إن خليلي عهد إليّ أن أيما ذهب أو فضة أوكئ عليه فهو جمر على صاحبه حتى يفرغه في سبيل الله عزوجل. ورواه عن يزيد عن همام به وزاد إفراغا.

وقال الحافظ ابن عساكر بسنده إلى أبي بكر الشبلي في ترجمته عن محمد بن مهدي حدثنا عمر بن أبي سلمة عن صدقة بن عبد الله عن طلحة بن زيد عن أبي فروة الرهاوي عن عطاء عن أبي سعيد رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الق الله فقيرا ، ولا تلقه غنيا» قال : يا رسول الله كيف لي بذلك؟ قال : «ما سئلت فلا تمنع ، وما رزقت فلا تخبئ» قال : يا رسول الله كيف لي بذلك؟ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هو ذاك وإلا فالنار» إسناده ضعيف.

وقال الإمام أحمد (٤) : حدثنا عفان حدثنا جعفر بن سليمان حدثنا عيينة عن يزيد بن الصرم قال سمعت عليا رضي الله عنه يقول مات رجل من أهل الصفة وترك دينارين أو درهمين فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كيتان ، صلوا على صاحبكم» وقد روي هذا من طرق أخر.

وقال قتادة عن شهر بن حوشب عن أبي أمامة صدي بن عجلان قال : مات رجل من أهل الصفة فوجد في مئزره دينار فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كية» ثم توفي رجل في مئزره ديناران فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كيتان» (٥) وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا أبو النضر إسحاق بن إبراهيم الفراديسي حدثنا معاوية بن يحيى الاطرابلسي حدثني أرطاة حدثني أبو عامر الهوزني سمعت ثوبان مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من رجل يموت وعنده أحمر أو أبيض إلا جعل الله بكل قيراط صفحة من نار يكوى بها من قدمه إلى ذقنه».

وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا محمود بن خداش حدثنا سيف بن محمد الثوري حدثنا

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٣٦٣.

(٢) أخرجه البخاري في الرقاق باب ١٤.

(٣) المسند ٥ / ١٥٦ ، ١٧٥ ، ١٧٦.

(٤) المسند ١ / ١٠١ ، ١٣٧ ، ١٣٨ ، ٤١٢.

(٥) انظر تفسير الطبري ٦ / ٣٥٩.

الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يوضع الدينار على الدينار ، ولا الدرهم على الدرهم ولكن يوسع جلده فيكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون» سيف هذا كذاب متروك.

(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (٣٦)

قال الإمام أحمد (١) : حدثنا إسماعيل أخبرنا أيوب أخبرنا محمد بن سيرين عن أبي بكرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطب في حجته فقال : «ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ، السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان» ثم قال «ألا أي يوم هذا؟» قلنا الله ورسوله أعلم فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال : «أليس يوم النحر؟» قلنا بلى ثم قال : «أي شهر هذا؟» قلنا الله ورسوله أعلم فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال : «أليس ذا الحجة؟» قلنا بلى ثم قال : «أي بلد هذا؟» قلنا : الله ورسوله أعلم فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال : «أليست البلدة؟» قلنا بلى قال : «فإن دماءكم وأموالكم ـ وأحسبه قال ـ وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم ألا لا ترجعوا بعدي ضلالا يضرب بعضكم رقاب بعض ألا هل بلغت؟ ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب فلعل من يبلغه يكون أوعى له من بعض من سمعه» (٢) رواه البخاري في التفسير وغيره. ومسلم من حديث أيوب عن محمد وهو ابن سيرين عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه به.

وقد قال ابن جرير (٣) : حدثنا معمر حدثنا روح حدثنا أشعث عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض ، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم : ثلاثة متواليات ـ ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ـ ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان» ورواه البزار عن محمد بن معمر به. ثم قال : لا يروى عن أبي هريرة إلا من هذا الوجه ، وقد رواه ابن عون وقرة عن ابن سيرين عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه به.

__________________

(١) المسند ٥ / ٣٧.

(٢) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٩ ، باب ٨ ، ومسلم في القسامة حديث ٢٩.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ٣٦٤ ، ولفظه : حدثنا محمد بن معمر بدل «معمر».

وقال ابن جرير (١) أيضا : حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي حدثنا زيد بن حباب حدثنا موسى بن عبيدة الربذي حدثني صدقة بن يسار عن ابن عمر قال : خطب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في حجة الوداع بمنى في أوسط أيام التشريق فقال «أيها الناس إن الزمان قد استدار فهو اليوم كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم أولهن رجب مضر بين جمادى وشعبان ، وذو القعدة وذو الحجة والمحرم» وروى ابن مردويه من حديث موسى بن عبيدة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر مثله أو نحوه.

وقال حماد بن سلمة حدثني علي بن زيد عن أبي حمزة الرقاشي عن عمه وكانت له صحبة قال : كنت آخذا بزمام ناقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أوسط أيام التشريق أذود الناس عنه فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم فلا تظلموا فيهن أنفسكم» (٢).

وقال سعيد بن منصور حدثنا أبو معاوية عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله (مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) قال محرم ورجب وذو القعدة وذو الحجة. وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث : «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض» تقرير منه صلوات الله وسلامه عليه ، وتثبيت للأمر على ما جعله الله ، في أول الأمر من غير تقديم ولا تأخير ، ولا زيادة ولا نقص ، ولا نسيء ولا تبديل كما قال في تحريم مكة : «إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة» وهكذا قال هاهنا «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض» أي الأمر اليوم شرعا كما ابتدع الله ذلك في كتابه يوم خلق السموات والأرض.

وقد قال بعض المفسرين والمتكلمين على هذا الحديث إن المراد بقوله «قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض» أنه اتفق أن حج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تلك السنة في ذي الحجة وأن العرب قد كانت نسأت النسيء يحجون في كثير من السنين بل أكثرها في غير ذي الحجة وزعموا أن حجة الصديق في سنة تسع كانت في ذي القعدة وفي هذا نظر كما سنبينه إذا تكلمنا عن النسيء وأغرب منه ما رواه الطبراني عن بعض السلف في جملة حديث أنه اتفق حج المسلمين واليهود والنصارى في يوم واحد وهو يوم النحر عام حجة الوداع والله أعلم.

[فصل] ذكر الشيخ علم الدين السخاوي في جزء جمعه سماه «المشهور في أسماء الأيام والشهور» أن المحرم سمي بذلك لكونه شهرا محرما ، وعندي أنه سمي بذلك تأكيدا لتحريمه

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٣٦٤.

(٢) أخرجه أحمد في المسند ٥ / ٧٢ ، ٧٣.

لأن العرب كانت تتقلب به فتحله عاما وتحرمه عاما قال ويجمع على محرمات ومحارم ومحاريم ، وصفر سمي بذلك لخلو بيوتهم منهم حين يخرجون للقتال والأسفار يقال صفر المكان إذا خلا ويجمع على أصفار كجمل وأجمال ، وشهر ربيع الأول سمّي بذلك لارتباعهم فيه والارتباع الإقامة في عمارة الربع ويجمع على أربعاء كنصيب وأنصباء ، وعلى أربعة كرغيف وأرغفة ، وربيع الآخر كالأول. جمادى سمي بذلك لجمود الماء فيه ، قال وكانت الشهور في حسابهم لا تدور ، وفي هذا نظر إذ كانت شهورهم منوطة بالأهلة فلا بد من دورانها فلعلهم سموه بذلك أول ما سمي عند جمود الماء في البرد ، كما قال الشاعر : [البسيط]

وليلة من جمادى ذات أندية

لا يبصر العبد في ظلمائها الطّنبا (١)

لا ينبح الكلب فيها غير واحدة

حتى يلفّ على خرطومه الذنبا

ويجمع على جماديات كحبارى وحباريات وقد يذكر ويؤنث فيقال جمادى الأولى والأول جمادى الآخر والآخرة. رجب من الترجيب وهو التعظيم ويجمع على أرجاب ورجاب ورجبات. شعبان من تشعب القبائل وتفرقها للغارة ويجمع على شعابين وشعبانات. رمضان من شدة الرمضاء وهو الحر يقال رمضت الفصال إذا عطشت ويجمع على رمضانات ورماضين وأرمضة قال : وقول من قال إنه اسم من أسماء الله خطأ لا يعرج عليه ولا يلتفت إليه ، قلت : قد ورد فيه حديث ولكنه ضعيف وبينته في أول كتاب الصيام. شوال من شالت الإبل بأذنابها للطراق قال ويجمع على شواول وشواويل وشوالات. القعدة بفتح القاف ، قلت وكسرها ، لقعودهم فيه عن القتال والترحال ويجمع على ذوات القعدة. الحجة بكسر الحاء قلت وفتحها سمي بذلك لإقامتهم الحج فيه ، ويجمع على ذوات الحجة.

أسماء الأيام أولها الأحد ويجمع على آحاد وأوحاد ووجود ، ثم يوم الاثنين ويجمع على أثانين ، الثلاثاء يمد ويذكر ويؤنث ويجمع على ثلاثاوات وأثالث ، ثم الأربعاء بالمد ويجمع على أربعاوات وأرابيع والخميس يجمع على أخمسة وأخامس ثم الجمعة بضم الميم وإسكانها وفتحها أيضا ويجمع على جمع وجماعات ، السبت مأخوذ من السبت وهو القطع لانتهاء العدد عنده وكانت العرب تسمي الأيام أول ثم أهون ثم جبار ثم دبار ثم مؤنس ثم العروبة ثم شيار ،

__________________

(١) يروى البيت الأول :

في ليلة من جمادى ذات أندية

لا يبصر الكلب من ظلمات الطّنبا

وهو لمرة بن محكان في الأغاني ٣ / ٣١٨ ، والخصائص ٣ / ٥٢ ، ٢٣٧ ، وسر صناعة الإعراب ص ٦٢٠ ، وشرح التصريح ٢ / ٢٩٣ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ١٥٦٣ ، ولسان العرب (ندى) ، والمقاصد النحوية ٤ / ٥١٠ ، والمقتضب ٣ / ٨١ ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ٤ / ٢٩٤ ، وشرح الأشموني ٣ / ٦٥٦ ، وشرح شافية ابن الحاجب ص ٣٢٩ ، وشرح المفصل ١٠ / ١٧ ، ولسان العرب (رجل)

قال الشاعر من العرب العرباء العاربة المتقدمين : [الوافر]

أرجّي أن أعيش وإن يومي

بأول أو بأهون أو جبار (١)

أو التالي دبار فإن أفته

فمؤنس أو عروبة أو شيار

وقوله تعالى : (مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) فهذا مما كانت العرب أيضا في الجاهلية تحرمه وهو الذي كان عليه جمهورهم إلا طائفة منهم يقال لهم البسل كانوا يحرمون من السنة ثمانية أشهر تعمقا وتشديدا ، وأما قوله «ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان» فإنما أضافه إلى مضر ليبين صحة قولهم في رجب أنه الشهر الذي بين جمادى وشعبان لا كما تظنه ربيعة من أن رجب المحرم هو الشهر الذي بين جمادى وشعبان لا كما تظنه ربيعة من أن رجب المحرم هو الشهر الذي بين شعبان وشوال وهو رمضان اليوم فبين صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه رجب مضر لا رجب ربيعة ، وإنما كانت الأشهر المحرمة أربعة ثلاثة سرد وواحد فرد ، لأجل أداء مناسك الحج والعمرة فحرم قبل أشهر الحج شهرا وهو ذو القعدة لأنهم يقعدون فيه عن القتال وحرم شهر ذي الحجة لأنهم يوقعون فيه الحج ويشتغلون فيه بأداء المناسك وحرم بعده شهرا آخر وهو المحرم ليرجعوا فيه إلى أقصى بلادهم آمنين ، وحرم رجب في وسط الحول لأجل زيارة البيت والاعتمار به لمن يقدم إليه من أقصى جزيرة العرب فيزوره ثم يعود إلى وطنه فيه آمنا.

وقوله : (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) أي هذا هو الشرع المستقيم من امتثال أمر الله فيما جعل من الأشهر الحرم والحذو بها على ما سبق من كتاب الله الأول قال تعالى : (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) أي في هذه الأشهر المحرمة لأنها آكد وأبلغ في الإثم من غيرها كما أن المعاصي في البلد الحرام تضاعف لقوله تعالى : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) [الحج :

٢٥] وكذلك الشهر الحرام تغلظ فيه الآثام ، ولهذا تغلظ فيه الدية في مذهب الشافعي وطائفة كثيرة من العلماء ، وكذا في حق من قتل في الحرم أو قتل ذا محرم.

وقال حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس في قوله : (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) قال : في الشهور كلها (٢) ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ) الآية ، فلا تظلموا فيهن أنفسكم في كلهن ثم اختص من ذلك أربعة أشهر فجعلهن حراما وعظم حرماتهن وجعل الذنب فيهن أعظم والعمل الصالح والأجر

__________________

(١) البيت الأول لبعض شعراء الجاهلية في لسان العرب (هون) ، وتاج العروس (هون) ، والبيتان بلا نسبة في الإنصاف ٢ / ٤٩٧ ، وجمهرة اللغة ص ١٣١١ ، والدرر ١ / ١٠٣ ، ولسان العرب (عرب) (جبر) ، (دبر) ، (شبر) ، (أنس) ، (هون) ، والمقاصد النحوية ٤ / ٣٦٧ ، وهمع الهوامع ١ / ٣٧ ، ويروى «أؤمّل» بدل «أرجّي».

(٢) انظر تفسير الطبري ٦ / ٣٦٦.

أعظم (١).

وقال قتادة في قوله : (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزرا من الظلم فيما سواها ، وإن كان الظلم على كل حال عظيما ولكن الله يعظم من أمره ما يشاء ، وقال إن الله اصطفى صفايا من خلقه. اصطفى من الملائكة رسلا ومن الناس رسلا واصطفى من الكلام ذكره ، واصطفى من الأرض المساجد. واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم واصطفى من الأيام يوم الجمعة واصطفى من الليالي ليلة القدر فعظموا ما عظم الله. فإنما تعظيم الأمور بما عظمها الله به عند أهل الفهم وأهل العقل (٢).

وقال الثوري عن قيس بن مسلم عن الحسن عن محمد ابن الحنفية بأن لا تحرموهن كحرمتهن وقال محمد بن إسحاق : (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) أي لا تجعلوا حرامها حلالا ولا حلالها حراما كما فعل أهل الشرك فإنما النسيء الذي كانوا يصنعون من ذلك زيادة في الكفر (يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) الآية ، وهذا القول اختيار ابن جرير (٣).

وقوله : (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) أي جميعكم (كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) أي جميعهم (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) وقد اختلف العلماء في تحريم ابتداء القتال في الشهر الحرام هل هو منسوخ أو محكم على قولين [أحدهما] وهو الأشهر أنه منسوخ لأنه تعالى قال هاهنا (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) وأمر بقتال المشركين ، وظاهر السياق مشعر بأنه أمر بذلك أمرا عاما ولو كان محرما في الشهر الحرام لأوشك أن يقيده بانسلاخها ولأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حاصر أهل الطائف في شهر حرام وهو ذو القعدة كما ثبت في الصحيحين أنه خرج إلى هوازن في شوال فلما كسرهم واستفاء أموالهم ورجع فلهم لجئوا إلى الطائف فعمد إلى الطائف فحاصرهم أربعين يوما وانصرف ولم يفتتحها فثبت أنه حاصر في الشهر الحرام والقول الآخر أن ابتداء القتال في الشهر الحرام حرام وأنه لم ينسخ تحريم الشهر الحرام لقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ) [المائدة : ٢] وقال : (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) [المائدة : ١٩٤] الآية ، وقال (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) [التوبة : ٥] الآية.

وقد تقدم أنها الأربعة المقررة في كل سنة لا أشهر التسيير على أحد القولين. وأما قوله تعالى: (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) فيحتمل أنه منقطع عما قبله وأنه حكم مستأنف ويكون من باب التهييج والتحضيض أي كما يجتمعون لحربكم إذا حاربوكم فاجتمعوا

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٣٦٦.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٣٦٦.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ٣٦٦.

أنتم أيضا لهم إذا حاربتموهم وقاتلوهم بنظير ما يفعلون ، ويحتمل أنه أذن للمؤمنين بقتال المشركين في الشهر الحرام إذا كانت البداءة منهم كما قال تعالى : (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) [البقرة : ١٩٤] وقال تعالى : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ) [البقرة : ١٩١] الآية.

وهكذا الجواب عن حصار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهل الطائف واستصحابه الحصار إلى أن دخل الشهر الحرام فإنه من تتمة قتال هوازن وأحلافها من ثقيف فإنهم هم الذين ابتدءوا القتال وجمعوا الرجال ودعوا إلى الحرب والنزال فعندها قصدهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما تقدم فلما تحصنوا بالطائف ذهب إليهم لينزلهم من حصونهم فنالوا من المسلمين وقتلوا جماعة ، واستمر الحصار بالمجانيق وغيرها قريبا من أربعين يوما ، وكان ابتداؤه في شهر حلال ودخل الشهر الحرام فاستمر فيه أياما ثم قفل عنهم لأنه يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء ، وهذا أمر مقرر وله نظائر كثيرة والله أعلم ، ولنذكر الأحاديث الواردة في ذلك وقد حررنا ذلك في السيرة والله أعلم.

(إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) (٣٧)

هذا مما ذم الله تعالى به المشركين من تصرفهم في شرع الله بآرائهم الفاسدة ، وتغييرهم أحكام الله بأهوائهم الباردة ، وتحليلهم ما حرم الله وتحريمهم ما أحل الله ، فإنهم كان فيهم من القوة الغضبية والشهامة والحمية ما استطالوا به مدة الأشهر الثلاثة في التحريم المانع لهم من قضاء أو طارهم من قتال أعدائهم ، فكانوا قد أحدثوا قبل الإسلام بمدة تحليل المحرم فأخروه إلى صفر فيحلون الشهر الحرام ويحرمون الشهر الحلال ليواطئوا عدة ما حرم الله الأشهر الأربعة كما قال شاعرهم وهو عمير بن قيس المعروف بجذل الطعان : [الوافر]

لقد علمت معدّ بأن قومي

كرام الناس إن لهم كراما (١)

ألسنا الناسئين على معدّ

شهور الحل نجعلها حراما

فأي الناس لم ندرك بوتر

وأي الناس لم نعلك لجاما

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) قال النسيء أن جنادة بن عوف بن أمية الكناني كان يوافي الموسم في كل عام وكان يكنى أبا ثمامة فينادي ألا إن أبا ثمامة لا يجاب ولا يعاب ألا وإن صفر العام الأول العام حلال فيحله للناس

__________________

(١) الأبيات في سيرة ابن هشام ١ / ٤٥ ، والبيت الثاني لعمير الطعان في لسان العرب (نسأ) ، وتهذيب اللغة ١٣ / ٨٣ ، وتاج العروس (نسأ) ، ومعجم الشعراء ص ٢٤٣ ، وبلا نسبة في تاج العروس (قلمس)

فيحرم صفرا عاما ويحرم المحرم عاما فذلك قول الله (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) يقول : يتركون المحرم عاما وعاما يحرمونه (١).

وروى العوفي عن ابن عباس نحوه ، وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد كان رجل من بني كنانة يأتي كل عام إلى الموسم على حمار له فيقول : يا أيها الناس : إني لا أعاب ولا أجاب ولا مرد لما أقول ، إنا قد حرمنا المحرم وأخرنا صفر. ثم يجيء العام المقبل بعده فيقول مثل مقالته ويقول إنا قد حرمنا صفر وأخرنا المحرم فهو قوله (لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ) قال يعني الأربعة فيحلوا ما حرم الله لتأخير هذا الشهر الحرام (٢) ، وروي عن أبي وائل والضحاك وقتادة نحو هذا.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) الآية قال هذا رجل من بني كنانة يقال له القلمس وكان في الجاهلية وكانوا في الجاهلية لا يغير بعضهم على بعض في الشهر الحرام يلقى الرجل قاتل أبيه ولا يمد إليه يده ، فلما كان هو قال اخرجوا بنا قالوا له هذا المحرم قال ننسئه العام هما العام صفران ، فإذا كان العام القابل قضينا جعلناهما محرمين ، قال ففعل ذلك فلما كان عام قابل قال لا تغزوا في صفر حرموه مع المحرم هما محرمان (٣) ، فهذه صفة غريبة في النسيء وفيها نظر لأنهم في عام إنما يحرمون على هذا ثلاثة أشهر فقط وفي العام الذي يليه يحرمون خمسة أشهر فأين هذا من قوله تعالى : (يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ).

وقد روي عن مجاهد صفة أخرى غريبة أيضا فقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى : (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) الآية ، قال فرض الله عزوجل الحج في ذي الحجة ، قال وكان المشركون يسمون ذا الحجة المحرم وصفر وربيع وربيع وجمادى وجمادى ورجب وشعبان ورمضان وشوالا وذا القعدة وذا الحجة يحجون فيه مرة ثم يسكتون عن المحرم ولا يذكرونه ثم يعودون فيسمون صفرا ، ثم يسمون رجب جمادى الآخرة ، ثم يسمون شعبان رمضان ، ثم يسمون شوالا رمضان ، ثم يسمون ذا القعدة شوالا ، ثم يسمون ذا الحجة ذا القعدة ، ثم يسمون المحرم ذا الحجة فيحجون فيه واسمه عندهم ذا الحجة. ثم عادوا بمثل هذه الصفة فكانوا يحجون في كل عام شهرين حتى إذا وافق حجة أبي بكر الآخر من العامين في ذي القعدة ، ثم حج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حجته التي حج فوافق ذا الحجة فذلك حين يقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في خطبته : «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض» (٤) وهذا

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٣٦٩.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٣٧٠.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ٣٧١.

(٤) تفسير الطبري ٦ / ٣٧٠ ، ٣٧١.

الذي قاله مجاهد فيه نظر أيضا وكيف تصح حجة أبي بكر وقد وقعت في ذي القعدة وأنى هذا؟.

وقد قال الله تعالى : (وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) [التوبة : ٣] الآية وإنما نودي به في حجة أبي بكر فلو لم تكن في ذي الحجة لما قال تعالى : (يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) ولا يلزم من فعلهم النسيء هذا الذي ذكره من دوران السنة عليهم وحجهم في كل شهر عامين فإن النسيء حاصل بدون هذا فإنهم لما كانوا يحلون شهر المحرم عاما يحرمون عوضه صفرا وبعده ربيع وربيع إلى آخر السنة بحالها على نظامها وعدتها وأسماء شهورها ثم في السنة الثانية يحرمون المحرم ويتركونه على تحريمه وبعده صفر وربيع وربيع إلى آخرها (يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ) أي في تحريم أربعة أشهر من السنة إلا أنهم تارة يقدمون تحريم الشهر الثالث من الثلاثة المتوالية وهو المحرم وتارة ينسئونه إلى صفر أي يؤخرونه وقد قدمنا الكلام على قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الزمان قد استدار» الحديث أي إن الأمر في عدة الشهور وتحريم ما هو محرم منها على ما سبق في كتاب الله من العدد والتوالي لا كما تعتمده جهلة العرب من فصلهم تحريم بعضها بالنسيء عن بعض والله أعلم وقال ابن أبي حاتم : حدثنا صالح بن بشر بن سلمة الطبراني حدثنا مكي بن إبراهيم حدثنا موسى بن عبيدة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أنه قال : وقف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالعقبة فاجتمع إليه من شاء الله من المسلمين فحمد الله وأثنى عليه بما هو له أهل ثم قال : «وإنما النسيء من الشيطان زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما» فكانوا يحرمون المحرم عاما ويستحلون صفر ويستحلون المحرم هو النسيء.

وقد تكلم الإمام محمد بن إسحاق على هذا في كتاب السيرة كلاما جيدا مفيدا حسنا فقال: كان أول من نسأ الشهور على العرب فأحل منها ما حرم الله وحرم منها ما أحل الله عزوجل القلمس وهو حذيفة بن عبد فقيم بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان : ثم قام بعده على ذلك ابنه عباد ثم من بعد عباد ابنه قلع بن عباد ثم ابنه أمية بن قلع ثم ابنه عوف بن أمية ثم ابنه أبو ثمامة جنادة بن عوف وكان آخرهم وعليه قام الإسلام فكانت العرب إذا فرغت من حجها اجتمعت إليه فقام فيهم خطيبا فحرم رجبا وذا القعدة وذا الحجة ويحل المحرم عاما ويجعل مكانه صفر ويحرمه ليواطئ عدة ما حرم الله فيحل ما حرم الله يعني ويحرم ما أحل الله (١). والله أعلم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ

__________________

(١) انظر سيرة ابن هشام ١ / ٤٤.

بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (٣٨) إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٣٩)

هذا شروع في عتاب من تخلف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة تبوك حين طابت الثمار والظلال في شدة الحر وحمارّة القيظ فقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أي إذا دعيتم إلى الجهاد في سبيل الله (اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ) أي تكاسلتم وملتم إلى المقام في الدعة والخفض وطيب الثمار (أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ) أي ما لكم فعلتم هكذا أرضى منكم بالدنيا بدلا من الآخرة؟ ثم زهد تبارك وتعالى في الدنيا ، ورغب في الآخرة فقال (فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) كما قال الإمام أحمد (١) :

حدثنا وكيع ويحيى بن سعيد قالا حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن قيس عن المستورد أخي بني فهر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه هذه في اليم فلينظر بم ترجع؟» وأشار بالسبابة انفرد بإخراجه مسلم (٢).

وروى ابن أبي حاتم حدثنا بشر بن مسلم بن عبد الحميد الحمصي بحمص حدثنا الربيع بن روح حدثنا محمد بن خالد الوهبي حدثنا زياد يعني الجصاص عن أبي عثمان قال : قلت : يا أبا هريرة سمعت من إخواني بالبصرة أنك تقول : سمعت نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «إن الله يجزي بالحسنة ألف ألف حسنة» قال أبو هريرة : بل سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «إن الله يجزي بالحسنة ألفي ألف حسنة» ثم تلا هذه الآية (فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) فالدنيا ما مضى منها وما بقي منها عند الله قليل. وقال الثوري عن الأعمش في الآية (فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) قال : كزاد الراكب.

وقال عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه : لما حضرت عبد العزيز بن مروان الوفاة. قال : ائتوني بكفني الذي أكفن فيه أنظر إليه فلما وضع بين يديه نظر إليه فقال : أما لي من كبير ما أخلف من الدنيا إلا هذا؟ ثم ولى ظهره فبكى وهو يقول أف لك من دار إن كان كثيرك لقليل ، وإن كان قليلك لقصير ، وإن كنا منك لفي غرور. ثم توعد تعالى من ترك الجهاد فقال : (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) قال ابن عباس : استنفر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيا من العرب فتثاقلوا عنه فأمسك الله عنهم القطر فكان عذابهم (٣).

(وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) أي لنصرة نبيه وإقامة دينه كما قال تعالى : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ

__________________

(١) المسند ٤ / ٢٢٨ ، ٢٢٩.

(٢) كتاب الجنة حديث ٥٥.

(٣) انظر تفسير الطبري ٦ / ٣٧٣.

قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) [محمد : ٣٨] (وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً) أي ولا تضروا الله شيئا بتوليكم عن الجهاد ، ونكولكم وتثاقلكم عنه (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي قادر على الانتصار من الأعداء بدونكم ، وقد قيل إن هذه الآية وقوله : (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) [التوبة: ٤١] وقوله : (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ) [التوبة : ١٢٠] إنهن منسوخات بقوله تعالى : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ) [التوبة : ١٢٢] روي هذا عن ابن عباس وعكرمة والحسن ، وزيد بن أسلم ورده ابن جرير وقال : إنما هذا فيمن دعاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الجهاد فتعين عليهم ذلك فلو تركوه لعوقبوا عليه وهذا له اتجاه والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

(إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٤٠)

يقول تعالى : (إِلَّا تَنْصُرُوهُ) أي تنصروا رسوله فإن الله ناصره ومؤيده وكافيه وحافظه كما تولى نصره (إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ) أي عام الهجرة لما هم المشركون بقتله أو حبسه أو نفيه فخرج منهم هاربا بصحبة صديقه وصاحبه أبي بكر بن أبي قحافة فلجأ إلى غار ثور ثلاثة أيام ليرجع الطلب الذين خرجوا في آثارهم ثم يسيروا نحو المدينة فجعل أبو بكر رضي الله عنه يجزع أن يطلع عليهم أحد فيخلص إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منهم أذى فجعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسكنه ويثبته ويقول : «يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما».

كما قال الإمام أحمد (١) : حدثنا عفان حدثنا همام أنبأنا ثابت عن أنس أن أبا بكر حدثه قال : قلت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونحن في الغار : لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه قال : فقال : «يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما» (٢) أخرجاه في الصحيحين ، ولهذا قال تعالى : (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ) أي تأييده ونصره عليه أي على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أشهر القولين وقيل على أبي بكر ، وروي عن ابن عباس وغيره قالوا : لأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم تزل معه سكينة وهذا لا ينافي تجدد سكينة خاصة بتلك الحال ولهذا قال : (وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها) أي الملائكة (وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا) قال ابن عباس يعني بكلمة الذين كفروا الشرك وكلمة الله هي لا إله إلا الله.

وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن

__________________

(١) المسند ١ / ٤.

(٢) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٩ ، باب ١١.

الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء أي ذلك في سبيل الله فقال : «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» (١) وقوله : (وَاللهُ عَزِيزٌ) أي في انتقامه وانتصاره ، منيع الجناب لا يضام من لاذ ببابه ، واحتمى بالتمسك بخطابه (حَكِيمٌ) في أقواله وأفعاله.

(انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٤١)

قال سفيان الثوري عن أبيه عن أبي الضحى مسلم بن صبيح : هذه الآية (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) أول ما نزل من سورة براءة (٢) وقال معتمر بن سليمان عن أبيه قال : زعم حضرمي أنه ذكر له أن ناسا كانوا عسى أن يكون أحدهم عليلا وكبيرا فيقول : إني لا آثم فأنزل الله (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) الآية (٣).

أمر الله تعالى بالنفير العام مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عام غزوة تبوك لقتال أعداء الله من الروم الكفرة من أهل الكتاب وحتم على المؤمنين في الخروج معه على كل حال في المنشط والمكره والعسر واليسر فقال (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً).

وقال علي بن زيد عن أنس عن أبي طلحة : كهولا وشبابا ما سمع الله عذر أحد ثم خرج إلى الشام فقاتل حتى قتل وفي رواية قرأ أبو طلحة سورة براءة فأتى على هذه الآية (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) فقال أرى ربنا استنفرنا شيوخا وشبانا جهزوني يا بني ، فقال بنوه يرحمك الله قد غزوت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى مات ومع أبي بكر حتى مات ومع عمر حتى مات فنحن نغزو عنك فأبى فركب البحر فمات فلم يجدوا له جزيرة يدفنوه فيها إلا بعد تسعة أيام فلم يتغير فدفنوه فيها.

وهكذا روي عن ابن عباس وعكرمة وأبي صالح والحسن البصري وسهيل بن عطية ومقاتل بن حيان والشعبي وزيد بن أسلم أنهم قالوا في تفسير هذه الآية (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) كهولا وشبانا وكذا قال عكرمة والضحاك ومقاتل بن حيان وغير واحد ، وقال مجاهد شبانا وشيوخا وأغنياء ومساكين وكذا قال أبو صالح وغيره وقال الحكم بن عتيبة : مشاغيل وغير مشاغيل ، وقال العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى : (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) يقول انفروا نشاطا وغير نشاط ، وكذا قال قتادة وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) قالوا فإن فينا الثقيل ، وذا الحاجة والضيعة والشغل والمتيسر به أمره فأنزل الله وأبى أن يعذرهم دون أن ينفروا (خِفافاً وَثِقالاً) أي على ما كان منهم وقال الحسن بن أبي الحسن البصري أيضا في

__________________

(١) أخرجه البخاري في العلم باب ٤٥ ، ومسلم في الإمارة حديث ١٥٠ ، ١٥١.

(٢) انظر تفسير الطبري ٦ / ٣٧٩.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ٣٧٨.

العسر واليسر وهذا كله من مقتضيات العموم في الآية وهذا اختيار ابن جرير.

وقال الإمام أبو عمرو الأوزاعي : إذا كان النفير إلى دروب الروم نفر الناس إليها خفافا وركبانا وإذا كان النفير إلى هذه السواحل نفروا إليها خفافا وثقالا وركبانا ومشاة وهذا تفصيل في المسألة وقد روي عن ابن عباس ومحمد بن كعب وعطاء الخراساني وغيرهم أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ) وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله ، وقال السدي قوله : (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) يقول غنيا وفقيرا وقويا وضعيفا فجاءه رجل يومئذ زعموا أنه المقداد وكان عظيما سمينا فشكا إليه وسأله أن يأذن له فأبى فنزلت يومئذ (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) فلما نزلت هذه الآية اشتد على الناس فنسخها الله فقال : (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ).

وقال ابن جرير (١) : حدثني يعقوب حدثنا ابن علية حدثنا أيوب عن محمد قال شهد أبو أيوب مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدرا ثم لم يتخلف عن غزاة للمسلمين إلا عاما واحدا قال وكان أبو أيوب يقول : قال الله تعالى : (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) فلا أجدني إلا خفيفا أو ثقيلا. وقال ابن جرير(٢) : حدثني سعيد بن عمرو السكوني حدثنا بقية حدثنا جرير حدثني عبد الرحمن بن ميسرة حدثني أبو راشد الحبراني قال : وافيت المقداد بن الأسود فارس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالسا على تابوت من توابيت الصيارفة بحمص وقد فصل عنها من عظمه يريد الغزو فقلت : له قد أعذر الله إليك فقال : أتت علينا سورة البعوث (٣) (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً).

وقال ابن جرير (٤) : حدثني حبان بن زيد الشرعبي قال : نفرنا مع صفوان بن عمرو وكان واليا على حمص قبل الأفسوس إلى الجراجمة فرأيت شيخا كبيرا همّا قد سقط حاجباه على عينيه من أهل دمشق على راحلته فيمن أغار فأقبلت إليه فقلت يا عم لقد أعذر الله إليك قال فرفع حاجبيه فقال يا ابن أخي استنفرنا الله خفافا وثقالا ألا إنه من يحبه الله يبتليه ثم يعيده الله فيبقيه وإنما يبتلي الله من عباده من شكر وصبر وذكر ولم يعبد إلا الله عزوجل.

ثم رغب تعالى في النفقة في سبيله وبذل المهج في مرضاته ومرضاة رسوله فقال : (وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي هذا خير لكم في الدنيا والآخرة لأنكم تغرمون في النفقة قليلا فيغنمكم الله أموال عدوكم في الدنيا مع ما يدخر لكم من الكرامة في الآخرة كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تكفل الله للمجاهد في سبيله إن توفاه

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٣٧٨.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٣٧٨.

(٣) قال الأستاذ شاكر في حاشية تفسير الطبري ٦ / ٣٧٨ : لم أجد من سمى سورة التوبة سورة البعوث ، بل أجمعوا على تسميتها سورة البحوث ، سميت بها لما تضمنت من البحث في أسرار المنافقين.

(٤) تفسير الطبري ٦ / ٣٧٧.

أن يدخله الجنة ، أو يرده إلى منزله بما نال من أجر أو غنيمة» (١) ولهذا قال الله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ومن هذا القبيل ما رواه الإمام أحمد (٢) : حدثنا محمد بن أبي عدي عن حميد عن أنس أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لرجل : «أسلم» قال : أجدني كارها قال : «أسلم وإن كنت كارها».

(لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) (٤٢)

يقول تعالى موبخا للذين تخلفوا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة تبوك وقعدوا بعد ما استأذنوه في ذلك مظهرين أنهم ذوو أعذار ولم يكونوا كذلك فقال : (لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً) قال ابن عباس : غنيمة قريبة (وَسَفَراً قاصِداً) أي قريبا أيضا (لَاتَّبَعُوكَ) أي لكانوا جاءوا معك لذلك (لكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ) أي المسافة إلى الشام (وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ) أي لكم إذا رجعتم إليهم (لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ) أي لو لم يكن لنا أعذار لخرجنا معكم قال الله تعالى : (يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ).

(عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (٤٣) لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (٤٤) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) (٤٥)

قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا أبو حصين بن سليمان الرازي حدثنا سفيان بن عيينة عن مسعر عن عون قال : هل سمعتم بمعاتبة أحسن من هذا؟ نداء بالعفو قبل المعاتبة فقال (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) وكذا قال مورق العجلي وغيره. وقال قتادة : عاتبه كما تسمعون ثم أنزل التي في سورة النور فرخص له في أن يأذن لهم إن شاء فقال (فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) [النور : ٦٢] الآية (٣). وكذا روي عن عطاء الخراساني ، وقال مجاهد : نزلت هذه الآية في أناس قالوا : استأذنوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن أذن لكم فاقعدوا وإن لم يأذن لكم فاقعدوا (٤).

__________________

(١) أخرجه البخاري في التوحيد باب ٢٨ ، ٣٠ ، ومسلم في الإمارة حديث ١٠٤ ، وأحمد في المسند ٢ / ٢٣١ ، ٣٧٤ ، ٣٩٩ ، ٤٢٤ ، ٤٩٤.

(٢) المسند ٣ / ١٠٩ ، ١٨١.

(٣) انظر تفسير الطبري ٦ / ٣٨١.

(٤) تفسير الطبري ٦ / ٣٨١.

ولهذا قال تعالى : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا) أي في إبداء الأعذار (وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ) يقول تعالى هلا تركتهم لما استأذنوك فلم تأذن لأحد منهم في القعود لتعلم الصادق منهم في إظهار طاعتك من الكاذب فإنهم قد كانوا مصرين على القعود عن الغزو وإن لم تأذن لهم فيه.

ولهذا أخبر تعالى أنه لا يستأذنه في القعود عن الغزو أحد يؤمن بالله ورسوله فقال : (لا يَسْتَأْذِنُكَ) أي في القعود عن الغزو (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) لأنهم يرون الجهاد قربة ولما ندبهم إليه بادروا وامتثلوا (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ) أي في القعود ممن لا عذر له (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي لا يرجون ثواب الله في الدار الآخرة على أعمالهم (وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ) أي شكت في صحة ما جئتهم به (فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) أي يتحيرون يقدمون رجلا ويؤخرون أخرى وليست لهم قدم ثابتة في شيء فهم قوم حيارى هلكى لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا.

(وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (٤٦) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) (٤٧)

يقول تعالى : (وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ) أي معك إلى الغزو (لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً) أي لكانوا تأهبوا له (وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ) أي أبغض أن يخرجوا معكم قدرا (فَثَبَّطَهُمْ) أي أخرهم (وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ) أي قدرا ثم بين تعالى وجه كراهيته لخروجهم مع المؤمنين فقال : (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً) أي لأنهم جبناء مخذولون (وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ) أي ولأسرعوا السير والمشي بينكم بالنميمة والبغضاء والفتنة.

(وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ) أي مطيعون لهم ومستحسنون لحديثهم وكلامهم يستنصحونهم وإن كانوا لا يعلمون حالهم فيؤدي إلى وقوع شر بين المؤمنين وفساد كبير. وقال مجاهد وزيد بن أسلم وابن جرير : (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ) أي عيون يسمعون لهم الأخبار وينقلونها إليهم ، وهذا لا يبقى له اختصاص بخروجهم معهم بل هذا عام في جميع الأحوال والمعنى الأول أظهر في المناسبة بالسياق وإليه ذهب قتادة وغيره من المفسرين.

وقال محمد بن إسحاق : كان الذين استأذنوا فيما بلغني من ذوي الشرف منهم عبد الله بن أبي ابن سلول والجد بن قيس وكانوا أشرافا في قومهم فثبطهم الله لعلمه بهم أن يخرجوا معه فيفسدوا عليه جنده وكان في جنده قوم أهل محبة لهم وطاعة فيما يدعونهم إليه لشرفهم فيهم فقال : (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ) (١).

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٣٨٤.

ثم أخبر تعالى عن تمام علمه فقال : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) فأخبر بأنه يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون ، ولهذا قال تعالى : (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً) فأخبر عن حالهم كيف يكون لو خرجوا ومع هذا ما خرجوا كما قال تعالى : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) [الأنعام : ٢٨] وقال تعالى : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) [الأنفال : ٢٣] وقال تعالى : (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) [النساء : ٦٦ ـ ٦٨] والآيات في هذا كثيرة.

(لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ) (٤٨)

يقول تعالى محرضا لنبيه عليه‌السلام على المنافقين : (لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ) أي لقد أعملوا فكرهم وأجالوا آراءهم في كيدك وكيد أصحابك وخذلان دينك وإخماده مدة طويلة ، وذلك أول مقدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة رمته العرب عن قوس واحدة ، وحاربته يهود المدينة ومنافقوها ، فلما نصره الله يوم بدر وأعلى كلمته قال عبد الله بن أبي وأصحابه : هذا أمر قد توجه فدخلوا في الإسلام ظاهرا ثم كلما أعز الله الإسلام وأهله غاظهم ذلك وساءهم ولهذا قال تعالى : (حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ).

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) (٤٩)

يقول تعالى ومن المنافقين من يقول لك : يا محمد (ائْذَنْ لِي) في القعود (وَلا تَفْتِنِّي) بالخروج معك بسبب الجواري من نساء الروم. قال الله تعالى : (أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا) أي قد سقطوا في الفتنة بقولهم هذا كما قال محمد بن إسحاق عن الزهري ويزيد بن رومان وعبد الله بن أبي بكر وعاصم بن قتادة وغيرهم قالوا : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات يوم وهو في جهازه للجد بن قيس أخي بني سلمة : «هل لك يا جد العام في جلاد بني الأصفر؟» فقال : يا رسول الله أو تأذن لي ولا تفتني ، فو الله لقد عرف قومي ما رجل أشد عجبا بالنساء مني ، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر عنهن. فأعرض عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : «قد أذنت لك» ففي الجد بن قيس نزلت هذه : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي) الآية ، أي إن كان إنما يخشى من نساء بني الأصفر وليس ذلك به فما سقط فيه من الفتنة بتخلفه عن

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والرغبة بنفسه عن نفسه أعظم (١).

وهكذا روي عن ابن عباس ومجاهد وغير واحد أنها نزلت في الجد بن قيس ، وقد كان الجد بن قيس هذا من أشراف بني سلمة. وفي الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لهم : «من سيدكم يا بني سلمة؟» قالوا : الجد بن قيس على أنا نبخله. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «وأي داء أدوأ من البخل! ولكن سيدكم الفتى الجعد الأبيض بشر بن البراء بن معرور» وقوله تعالى : (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) أي لا محيد لهم عنها ولا محيص ولا مهرب.

(إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (٥٠) قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (٥١)

يعلم تبارك وتعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعداوة هؤلاء له لأنه مهما أصابه من حسنة أي فتح ونصر وظفر على الأعداء مما يسره ويسر أصحابه ساءهم ذلك (وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ) أي قد احترزنا من متابعته من قبل هذا (وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ) فأرشد الله تعالى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى جوابهم في عداوتهم هذه التامة فقال : (قُلْ) أي لهم (لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ لَنا) أي نحن تحت مشيئته وقدره (هُوَ مَوْلانا) أي سيدنا وملجؤنا (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أي ونحن متوكلون عليه وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (٥٢) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (٥٣) وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ) (٥٤)

يقول تعالى : (قُلْ) لهم يا محمد (هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا) أي تنتظرون بنا (إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) شهادة أو ظفر بكم قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم (وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ) أي ننتظر بكم (أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا) أي ننتظر بكم هذا أو هذا إما (أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا) بسبي أو بقتل (فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ) وقوله تعالى : (قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) أي مهما أنفقتم من نفقة طائعين أو مكرهين (لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ).

ثم أخبر تعالى عن سبب ذلك وهو أنهم لا يتقبل منهم لأنهم (كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ) أي والأعمال إنما تصح بالإيمان (وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى) أي ليس لهم قصد صحيح

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٣٨٧.

ولا همة في العمل (وَلا يُنْفِقُونَ) نفقة (إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ) وقد أخبر الصادق المصدوقصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الله لا يمل حتى تملوا وأن الله طيب لا يقبل إلا طيبا. فلهذا لا يقبل الله من هؤلاء نفقة ولا عملا لأنه إنما يتقبل من المتقين.

(فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) (٥٥)

يقول تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ) كما قال تعالى : (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى) [طه : ١٣١] وقال (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ) [المؤمنون : ٥٥ ـ ٥٦].

وقوله (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) قال الحسن البصري بزكاتها والنفقة منها في سبيل الله (١) ، وقال قتادة : هذا من المقدم والمؤخر تقديره : فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة (٢). واختار ابن جرير قول الحسن ، وهو القول القوي الحسن ، وقوله (وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) أي ويريد أن يميتهم حين يميتهم على الكفر ليكون ذلك أنكى لهم وأشد لعذابهم. عياذا بالله من ذلك وهذا يكون من باب الاستدراج لهم فيما هم فيه.

(وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (٥٦) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ) (٥٧)

يخبر الله تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن جزعهم وفزعهم وفرقهم وهلعهم أنهم (يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ) يمينا مؤكدة (وَما هُمْ مِنْكُمْ) أي في نفس الأمر (وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ) أي فهو الذي حملهم على الحلف (لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً) أي حصنا يتحصنون به وحرزا يتحرزون به (أَوْ مَغاراتٍ) وهي التي في الجبال (أَوْ مُدَّخَلاً) وهو السرب في الأرض والنفق قال ذلك في الثلاثة ابن عباس ومجاهد وقتادة (لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ) أي يسرعون في ذهابهم عنكم لأنهم إنما يخالطونكم كرها لا محبة وودوا أنهم لا يخالطونكم ولكن للضرورة أحكام ولهذا لا يزالون في هم وحزن وغم لأن الإسلام وأهله لا يزال في عز ونصر ورفعة ، فلهذا كلما سر المسلمون ساءهم ذلك فهم يودون أن لا يخالطوا المؤمنين ولهذا قال (لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ).

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٣٩١.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٣٩١.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (٥٨) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ) (٥٩)

يقول تعالى : (وَمِنْهُمْ) أي ومن المنافقين (مَنْ يَلْمِزُكَ) أي يعيب عليك (فِي) قسم (الصَّدَقاتِ) إذا فرقتها ويتهمك في ذلك وهم المتهمون المأبونون وهم مع هذا لا ينكرون للدين وإنما ينكرون لحظ أنفسهم ولهذا (فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ) أي يغضبون لأنفسهم ، قال ابن جريج : أخبرني داود بن أبي عاصم قال أتى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بصدقة قسمها هاهنا وهاهنا حتى ذهبت قال ووراءه رجل من الأنصار فقال : ما هذا بالعدل فنزلت هذه الآية (١).

وقال قتادة في قوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ) يقول : ومنهم من يطعن عليك في الصدقات ، وذكر لنا أن رجلا من أهل البادية حديث عهد بأعرابية أتى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يقسم ذهبا وفضة فقال يا محمد والله لئن كان الله أمرك أن تعدل ما عدلت فقال نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ويلك فمن ذا الذي يعدل عليك بعدي؟» ثم قال نبي الله : «احذروا هذا وأشباهه فإن في أمتي أشباه هذا يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم فإذا خرجوا فاقتلوهم ثم إذا خرجوا فاقتلوهم ثم إذا خرجوا فاقتلوهم» وذكر لنا أن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول : «والذي نفسي بيده ما أعطيكم شيئا ولا أمنعكموه إنما أنا خازن» (٢).

وهذا الذي ذكره قتادة يشبه ما رواه الشيخان من حديث الزهري عن أبي سلمة عن أبي سعيد في قصة ذي الخويصرة واسمه حرقوص لما اعترض على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قسم غنائم حنين فقال له : اعدل فإنك لم تعدل فقال : «لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل» ثم قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد رآه مقفيا : «إنه يخرج من ضئضيء هذا قوم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإنهم شر قتلى تحت أديم السماء» (٣) وذكر بقية الحديث.

ثم قال تعالى منبها لهم على ما هو خير لهم من ذلك فقال : (وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ) فتضمنت هذه الآية الكريمة أدبا عظيما وسرا شريفا حيث جعل الرضا بما آتاه الله ورسوله والتوكل على الله وحده وهو قوله : (وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ) ، وكذلك الرغبة إلى الله وحده في التوفيق لطاعة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٣٩٣.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٣٩٣ ، ٣٩٤.

(٣) أخرجه مسلم في الزكاة حديث ١٤٨.

وامتثال أوامره وترك زواجره وتصديق أخباره والاقتفاء بآثاره.

(إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٦٠)

لما ذكر تعالى اعتراض المنافقين الجهلة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولمزهم إياه في قسم الصدقات بين تعالى أنه هو الذي قسمها وبين حكمها وتولى أمرها بنفسه ولم يكل قسمها إلى أحد غيره فجزأها لهؤلاء المذكورين كما رواه الإمام أبو داود (١) في سننه من حديث عبد الرحمن بن زياد بن أنعم وفيه ضعف عن زياد بن نعيم عن زياد بن الحارث الصدائي رضي الله عنه قال : أتيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فبايعته فأتى رجل فقال : أعطني من الصدقة فقال له : «إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو فجزأها ثمانية أصناف فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك» وقد اختلف العلماء في هذه الأصناف الثمانية هل يجب استيعاب الدفع لها أو إلى ما أمكن منها؟ على قولين [أحدهما] أنه يجب ذلك وهو قول الشافعي وجماعة.

[والثاني] أنه لا يجب استيعابها بل يجوز الدفع إلى واحد منها ويعطي جميع الصدقة مع وجود الباقين وهو قول مالك وجماعة من السلف والخلف منهم عمر وحذيفة وابن عباس وأبو العالية وسعيد بن جبير وميمون بن مهران ، قال ابن جرير : وهو قول جماعة عامة من أهل العلم ، وعلى هذا فإنما ذكرت الأصناف هاهنا لبيان المصرف لا لوجوب استيعاب الإعطاء. ولوجوه الحجاج والمآخذ مكان غير هذا والله أعلم ، وإنما قدم الفقراء هاهنا على البقية لأنهم أحوج من غيرهم على المشهور ولشدة فاقتهم وحاجتهم ، وعند أبي حنيفة أن المسكين أسوأ حالا من الفقير وهو كما قال أحمد.

وقال ابن جرير (٢) : حدثني يعقوب حدثنا ابن علية أنبأنا ابن عون عن محمد قال : قال عمر رضي الله عنه : الفقير ليس بالذي لا مال له ، ولكن الفقير الأخلق الكسب قال ابن علية : الأخلق المحارف عندنا ، والجمهور على خلافه وروي عن ابن عباس ومجاهد والحسن البصري وابن زيد. واختار ابن جرير وغير واحد أن الفقير هو المتعفف الذي لا يسأل الناس شيئا والمسكين هو الذي يسأل ويطوف ويتبع الناس.

وقال قتادة : الفقير من به زمانة والمسكين الصحيح الجسم (٣) وقال الثوري عن منصور عن إبراهيم هم فقراء المهاجرين ، قال سفيان الثوري يعني ولا يعطى الأعراب منها شيئا وكذا روي عن سعيد بن جبير وسعيد بن عبد الرحمن بن أبزى. وقال عكرمة : لا تقولوا لفقراء المسلمين

__________________

(١) كتاب الزكاة باب ٢٤.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٣٩٦.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ٣٩٥.

مساكين إنما المساكين أهل الكتاب ولنذكر أحاديث تتعلق بكل من الأصناف الثمانية.

فأما الفقراء فعن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي» (١) رواه أحمد وأبو داود والترمذي ، ولأحمد أيضا والنسائي وابن ماجة عن أبي هريرة مثله وعن عبيد الله بن عدي بن الخيار أن رجلين أخبراه أنهما أتيا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسألانه من الصدقة فقلب فيهما البصر فرآهما جلدين فقال : «إن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب» (٢) رواه أحمد وأبو داود والنسائي بإسناد قوي.

وقال ابن أبي حاتم في كتاب الجرح والتعديل : أبو بكر العبسي قال قرأ عمر رضي الله عنه (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ) قال : هم أهل الكتاب روى عنه عمر بن نافع سمعت أبي يقول ذلك (قلت) وهذا قول غريب جدا بتقدير صحة الإسناد فإن أبا بكر هذا وإن لم ينص أبو حاتم على جهالته لكنه في حكم المجهول.

وأما المساكين فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ليس المسكين بهذا الطواف الذي يطوف على الناس فترده اللقمة واللقمتان ، والتمرة والتمرتان قالوا فمن المسكين يا رسول الله؟ قال «الذي لا يجد غنى يغنيه ، ولا يفطن له فيتصدق عليه ولا يسأل الناس شيئا» (٣) رواه الشيخان.

وأما العاملون عليها فهم الجباة والسعاة يستحقون منه قسطا على ذلك ولا يجوز أن يكونوا من أقرباء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذين تحرم عليهم الصدقة لما ثبت في صحيح مسلم عن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث ، أنه انطلق هو والفضل بن العباس يسألان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليستعملهما على الصدقة فقال : «إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد ، إنما هي أوساخ الناس» (٤). وأما المؤلفة قلوبهم فأقسام منهم من يعطى ليسلم ، كما أعطى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صفوان بن أمية من غنائم حنين ، وقد كان شهدها مشركا ، قال : فلم يزل يعطيني حتى صار أحب الناس إلي بعد أن كان أبغض الناس إلي ، كما قال الإمام أحمد : حدثنا زكريا بن عدي أنبأنا ابن المبارك ، عن يونس عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن صفوان بن أمية قال : أعطاني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم حنين وإنه لأبغض الناس إلي ، فما زال يعطيني حتى إنه لأحب الناس

__________________

(١) أخرجه أبو داود في الزكاة باب ٢٤ ، والترمذي في الزكاة باب ٢٣ ، والنسائي في الزكاة باب ٩٠ ، وابن ماجة في الزكاة باب ٢٦ ، والدارمي في الزكاة باب ١٥ ، وأحمد في المسند ٢ / ١٦٤ ، ٢٩٢ ، ٣٧٧ ، ٣٨٩ ، ٤ / ٦٢ ، ٥ / ٣٧٥.

(٢) أخرجه أبو داود في الزكاة باب ٢٤ ، والنسائي في الزكاة باب ٩١ ، وأحمد في المسند ٤ / ٢٢٤ ، ٥ / ٣٦٢.

(٣) أخرجه البخاري في الزكاة باب ٥٣ ، ومسلم في الزكاة حديث ١٠١.

(٤) أخرجه مسلم في الزكاة حديث ١٦٧ ، ١٦٨.

إلي (١) ، ورواه مسلم والترمذي من حديث يونس عن الزهري به.

ومنهم من يعطى ليحسن إسلامه ويثبت قلبه ، كما أعطى يوم حنين أيضا جماعة من صناديد الطلقاء وأشرافهم مائة من الإبل ، وقال «إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه خشية أن يكبه الله على وجهه في نار جهنم» (٢). وفي الصحيحين عن أبي سعيد أن عليا بعث إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذهبية في تربتها من اليمن ، فقسمها بين أربعة نفر : الأقرع بن حابس ، وعيينة بن بدر ، وعلقمة بن علاثة ، وزيد الخير ، وقال «أتألفهم» (٣) ومنهم من يعطى لما يرجى من إسلام نظرائه ، ومنهم من يعطى ليجبي الصدقات ممن يليه ، أو ليدفع عن حوزة المسلمين الضرر من أطراف البلاد ، ومحل تفصيل هذا في كتب الفروع ، والله أعلم.

وهل تعطى المؤلفة على الإسلام بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فيه خلاف ، فروي عن عمر وعامر والشعبي وجماعة : أنهم لا يعطون بعده لأن الله قد أعز الإسلام وأهله ومكن لهم في البلاد ، وأذل لهم رقاب العباد ، وقال آخرون : بل يعطون لأنه عليه الصلاة والسلام قد أعطاهم بعد فتح مكة وكسر هوازن ، وهذا أمر قد يحتاج إليه فيصرف إليهم. وأما الرقاب فروي عن الحسن البصري ومقاتل بن حيان وعمر بن عبد العزيز وسعيد بن جبير والنخعي والزهري وابن زيد أنهم المكاتبون ، وروي عن أبي موسى الأشعري نحوه ، وهو قول الشافعي والليث رضي الله عنهما.

وقال ابن عباس والحسن : لا بأس أن تعتق الرقبة من الزكاة ، وهو مذهب أحمد ومالك وإسحاق ، أي أن الرقاب أعم من أن يعطي المكاتب أو يشتري رقبة فيعتقها استقلالا ، وقد ورد في ثواب الإعتاق وفك الرقبة أحاديث كثيرة ، وأن الله يعتق بكل عضو منها عضوا من معتقها حتى الفرج بالفرج ، وما ذاك إلا لأن الجزاء من جنس العمل (وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ثلاثة حق على الله عونهم : الغازي في سبيل الله ، والمكاتب الذي يريد الأداء ، والناكح الذي يريد العفاف» (٤) رواه الإمام أحمد وأهل السنن إلا أبا داود.

وفي المسند عن البراء بن عازب قال : جاء رجل فقال : يا رسول الله دلني على عمل يقربني من الجنة ويباعدني من النار؟ فقال : «أعتق النسمة وفك الرقبة» فقال : يا رسول الله أو ليسا

__________________

(١) أخرجه مسلم في الفضائل حديث ٥٩ ، والترمذي في الزكاة باب ٣٠ ، وأحمد في المسند ٣ / ٤٠١ ، ٤٠٨ ، ٦ / ٤٦٥.

(٢) أخرجه البخاري في الزكاة باب ٥٣ ، ومسلم في الزكاة حديث ١٣١.

(٣) أخرجه البخاري في الأنبياء باب ٦ ، ومسلم في الزكاة حديث ١٣٢ ، ١٣٣ ، ١٤٣ ..

(٤) أخرجه الترمذي في فضائل الجهاد باب ٢٠ ، والنسائي في النكاح باب ٥ ، وابن ماجة في العتق باب ٣ ، وأحمد في المسند ٢ / ٢٥١ ، ٤٣٧.

واحدا؟ قال : «لا ، عتق النسمة أن تفرد بعتقها ، وفك الرقبة أن تعين في ثمنها» (١).

وأما الغارمون فهم أقسام فمنهم : من تحمل حمالة أو ضمن دينا فلزمه فأجحف بماله أو غرم في أداء دينه أو في معصية ثم تاب فهؤلاء يدفع إليهم ، والأصل في هذا الباب حديث قبيصة بن مخارق الهلالي قال : تحملت حمالة فأتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسأله فيها ، فقال «أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها» قال : ثم قال : «يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة : رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك ، ورجل أصابته جائحة (٢) اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش (٣) ـ أو قال سدادا من عيش (٤) ـ ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قرابة قومه فيقولون لقد أصابت فلانا فاقة (٥) فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش ـ أو قال سدادا من عيش ـ فما سواهن من المسألة سحت (٦) يأكلها صاحبها سحتا» رواه مسلم (٧).

وعن أبي سعيد قال : أصيب رجل في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ثمار ابتاعها فكثر دينه ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تصدقوا عليه» فتصدق الناس عليه فلم يبلغ ذلك وفاء دينه ، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لغرمائه : «خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك» رواه مسلم (٨).

وقال الإمام أحمد (٩) : حدثنا عبد الصمد ، أنبأنا صدقة بن موسى عن أبي عمران الجوني عن قيس بن يزيد عن قاضي المصرين (١٠) عن عبد الرحمن بن أبي بكر قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يدعو الله بصاحب الدين يوم القيامة حتى يوقف بين يديه فيقول : يا ابن آدم فيم أخذت هذا الدين وفيم ضيعت حقوق الناس؟ فيقول : يا رب إنك تعلم أني أخذته فلم آكل ولم أشرب ولم أضيع ولكن أتى على يدي إما حرق وإما سرق وإما وضيعة. فيقول الله صدق عبدي أنا أحق من قضى عنك اليوم ، فيدعو الله بشيء فيضعه في كفة ميزانه فترجح حسناته على سيئاته ، فيدخل الجنة بفضل الله ورحمته» وأما في سبيل الله فمنهم الغزاة الذين لا حق لهم في الديوان ، وعند الإمام أحمد والحسن وإسحاق والحج من سبيل الله الحديث.

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند ٤ / ٢٩٩.

(٢) الجائحة : كل مصيبة عظيمة ، والآفة التي تهلك الثمار والأموال.

(٣) قوام من عيش : أي يجد ما تقوم به حاجته.

(٤) سداد من عيش : ما يسد به حاجته.

(٥) أي : حتى يقوموا على رؤوس الأشهاد قائلين : إن فلانا أصابته فاقة. وذوو الحجا : أي ذوو العقل.

(٦) السحت : الحرام.

(٧) كتاب الزكاة ١٠٩.

(٨) كتاب المساقاة حديث ١٩.

(٩) المسند ١ / ١٩٧ ، ١٩٨.

(١٠) قاضي المصرين : هو شريج. والمصران هما البصرة والكوفة.

وكذلك ابن السبيل وهو المسافر المجتاز في بلد ليس معه شيء يستعين به على سفره ، فيعطى من الصدقات ما يكفيه إلى بلده وإن كان له مال ، وهكذا الحكم فيمن أراد إنشاء سفر من بلده وليس معه شيء ، فيعطى من مال الزكاة كفايته في ذهابه وإيابه. والدليل على ذلك الآية وما رواه الإمام أبو داود وابن ماجة من حديث معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة : العامل عليها أو رجل اشتراها بماله ، أو غارم ، أو غاز في سبيل الله ، أو مسكين تصدق عليه منها فأهدى لغني» (١) وقد رواه السفيانان عن زيد بن أسلم عن عطاء مرسلا ، ولأبي داود عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تحل الصدقة لغني إلا في سبيل الله وابن السبيل أو جار فقير فيهدي لك أو يدعوك» (٢) وقوله : (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) أي حكما مقدرا بتقدير الله وفرضه وقسمه (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي عليم بظواهر الأمور وبواطنها وبمصالح عباده (حَكِيمٌ) فيما يقوله ويفعله ويشرعه ويحكم به ، لا إله إلا هو ولا رب سواه.

(وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٦١)

يقول تعالى ومن المنافقين قوم يؤذون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالكلام فيه ، ويقولون (هُوَ أُذُنٌ) أي من قال له شيئا صدقه فينا ومن حدثه صدقه ، فإذا جئناه وحلفنا له صدقنا. روي معناه عن ابن عباس ومجاهد وقتادة. قال الله تعالى : (قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ) أي هو أذن خير يعرف الصادق من الكاذب (يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) أي ويصدق المؤمنين (وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) أي وهو حجة على الكافرين ولهذا قال (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).

(يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (٦٢) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ) (٦٣)

قال قتادة في قوله تعالى : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ) الآية. قال ذكر لنا أن رجلا من المنافقين قال : والله إن هؤلاء لخيارنا وأشرافنا وإن كان ما يقول محمد حقا ، لهم شر من الحمير. قال : فسمعها رجل من المسلمين فقال : والله ما يقول محمد لحق ولأنت أشر من الحمار ، قال : فسعى بها الرجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره ، فأرسل إلى الرجل فدعاه فقال «ما حملك على الذي قلت؟» فجعل يلتعن ويحلف بالله ما قال ذلك ، وجعل الرجل المسلم يقول : اللهم صدق الصادق وكذب الكاذب ، فأنزل الله الآية (٣). وقوله تعالى : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ

__________________

(١) أخرجه أبو داود في الزكاة باب ٢٥ ، وابن ماجة في الزكاة باب ٢٧ ، ومالك في الزكاة حديث ٢٩.

(٢) أخرجه أبو داود في الزكاة باب ٢٥.

(٣) انظر تفسير الطبري ٦ / ٤٠٧.

مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ) الآية ، أي ألم يتحققوا ويعلموا أنه من حاد الله عزوجل أي شاقه وحاربه وخالفه ، وكان في حد والله ورسوله في حد (فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها) أي مهانا معذبا ، و (ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ) أي وهذا هو الذل العظيم والشقاء الكبير.

(يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ) (٦٤)

قال مجاهد : يقولون القول بينهم ثم يقولون عسى الله أن لا يفشي علينا سرنا هذا ، وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى : (وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [المجادلة : ٨] ، وقال في هذه الآية : (قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ) أي إن الله سينزل على رسوله ما يفضحكم به ويبين له أمركم ، كقوله تعالى : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ ـ إلى قوله ـ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) [محمد : ٢٩ ـ ٣٠] الآية ، ولهذا قال قتادة : كانت تسمى هذه السورة الفاضحة فاضحة المنافقين (١).

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ(٦٥) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) (٦٦)

قال أبو معشر المديني : عن محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا : قال رجل من المنافقين : ما أرى قراءنا هؤلاء إلا أرغبنا بطونا وأكذبنا ألسنة ، وأجبننا عند اللقاء. فرفع ذلك إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فجاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد ارتحل وركب ناقته فقال : يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب. فقال : (أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ ـ إلى قوله ـ كانُوا مُجْرِمِينَ) وإن رجليه لتسفعان الحجارة وما يلتفت إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو متعلق بنسعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢).

وقال عبد الله بن وهب : أخبرني هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عبد الله بن عمر قال : قال رجل في غزوة تبوك في مجلس : ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا ولا أكذب ألسنا ولا أجبن عند اللقاء. فقال رجل في المسجد : كذبت ولكنك منافق لأخبرن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونزل القرآن ، فقال عبد الله بن عمر أنا رأيته متعلقا بحقب ناقة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم تنكبه الحجارة ، وهو يقول يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٤٠٨.

(٢) انظر تفسير الطبري ٦ / ٤٠٩ ، ٤١٠.

يقول : (أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ) الآية (١). وقد رواه الليث عن هشام بن سعيد بنحو من هذا.

وقال ابن إسحاق وقد كان من جماعة من المنافقين منهم وديعة بن ثابت أخو بني أمية بن زيد بن عمرو بن عوف ، ورجل من أشجع حليف لبني سلمة يقال له مخشي بن حمير ، يسيرون مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو منطلق إلى تبوك فقال بعضهم لبعض : أتحسبون جلاد بني الأصفر (٢) كقتال العرب بعضهم بعضا؟ والله لكأنا بكم غدا مقرنين في الحبال ، إرجافا وترهيبا للمؤمنين فقال مخشي بن حمير : والله لوددت أن أقاضي على أن يضرب كل رجل منا مائة جلدة ، وإننا نغلب أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما بلغني لعمار بن ياسر «أدرك القوم فإنهم قد احترقوا فاسألهم عما قالوا فإن أنكروا فقل بلى قلتم كذا وكذا» فانطلق إليهم عمار فقال ذلك لهم فأتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعتذرون إليه فقال وديعة بن ثابت ورسول الله واقف على راحلته ، فجعل يقول وهو آخذ بحقبها : يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب فقال مخشي بن حمير : يا رسول الله قعد بي اسمي واسم أبي فكان الذي عفي عنه في هذه الآية مخشي بن حمير فتسمي عبد الرحمن وسأل الله أن يقتل شهيدا لا يعلم مكانه ، فقتل يوم اليمامة ولم يوجد له أثر (٣).

وقال قتادة (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) قال : فبينما النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة تبوك وركب من المنافقين يسيرون بين يديه ، فقالوا : يظن هذا أن يفتح قصور الروم وحصونها هيهات هيهات ، فأطلع الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما قالوا ، فقال عليّ بهؤلاء النفر فدعاهم فقال «قلتم كذا وكذا» فحلفوا ما كنا إلا نخوض ونلعب (٤). وقال عكرمة في تفسير هذه الآية : كان رجل ممن إن شاء الله عفا عنه يقول اللهم إني أسمع آية أنا أعنى بها تقشعر منها الجلود وتجب منها القلوب ، اللهم فاجعل وفاتي قتلا في سبيلك لا يقول أحد أنا غسلت أنا كفنت أنا دفنت. قال : فأصيب يوم اليمامة فما من أحد من المسلمين إلا وقد وجد غيره (٥). وقوله : (لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) أي بهذا المقال الذي استهزأتم به (إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً) أي لا يعفى عن جميعكم ولا بد من عذاب بعضكم (بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) أي مجرمين بهذه المقالة الفاجرة الخاطئة.

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٤٠٩.

(٢) بنو الأصفر : هم الروم.

(٣) انظر سيرة ابن هشام ٢ / ٥٢٤ ، ٥٢٥.

(٤) تفسير الطبري ٦ / ٤٠٩.

(٥) انظر تفسير الطبري ٦ / ٤٠٩.

(الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٦٧) وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) (٦٨)

يقول تعالى منكرا على المنافقين الذين هم على خلاف صفات المؤمنين ، ولما كان المؤمنون يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، كان هؤلاء (يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ) أي عن الإنفاق في سبيل الله ، (نَسُوا اللهَ) أي نسوا ذكر الله (فَنَسِيَهُمْ) أي عاملهم معاملة من نسيهم كقوله تعالى : (وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) [الجاثية : ٣٤] (إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ) أي الخارجون عن طريق الحق الداخلون في طريق الضلالة ، وقوله : (وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ) أي على هذا الصنيع الذي ذكر عنهم (خالِدِينَ فِيها) أي ماكثين فيها مخلدين هم والكفار (هِيَ حَسْبُهُمْ) أي كفايتهم في العذاب (وَلَعَنَهُمُ اللهُ) أي طردهم وأبعدهم (وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ).

(كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (٦٩)

يقول تعالى أصاب هؤلاء من عذاب الله في الدنيا والآخرة كما أصاب من قبلهم ، وقوله (بِخَلاقِهِمْ) قال الحسن البصري : بدينهم (١) ، وقوله (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) أي في الكذب والباطل (أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) أي بطلت مساعيهم فلا ثواب لهم عليها لأنها فاسدة (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) لأنهم لم يحصل لهم عليها ثواب. قال ابن جريج عن عمرو بن عطاء عن عكرمة عن ابن عباس في قوله (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) الآية ، قال ابن عباس : ما أشبه الليلة بالبارحة (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا بهم لا أعلم إلا أنه قال : «والذي نفسي بيده لتتبعنهم حتى لو دخل الرجل منهم جحر ضب لدخلتموه»(٢).

قال ابن جريج : وأخبرني زياد بن سعد عن محمد بن زياد بن مهاجر عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والذي نفسي بيده لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع وباعا بباع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه»

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٤١٣.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٤١٣.

قالوا : ومن هم يا رسول الله ، أهل الكتاب؟ قال «فمن؟» (١) وهكذا رواه أبو معشر عن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فذكره ، وزاد قال أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم القرآن (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) الآية ، قال أبو هريرة : الخلاق الدين (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) قالوا يا رسول الله كما صنعت فارس والروم؟ قال «فهل الناس إلا هم؟» (٢) وهذا الحديث له شاهد في الصحيح.

(أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (٧٠)

يقول تعالى واعظا لهؤلاء المنافقين المكذبين للرسل (أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي ألم تخبروا خبر من كان قبلكم من الأمم المكذبة للرسل (قَوْمِ نُوحٍ) وما أصابهم من الغرق العام لجميع أهل الأرض إلا من آمن بعبده ورسوله نوح عليه‌السلام ، (وَعادٍ) كيف أهلكوا بالريح العقيم لما كذبوا هودا عليه‌السلام ، (وَثَمُودَ) كيف أخذتهم الصيحة لما كذبوا صالحا عليه‌السلام وعقروا الناقة ، (وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ) كيف نصره الله عليهم وأيده بالمعجزات الظاهرة عليهم وأهلك ملكهم نمروذ بن كنعان بن كوش الكنعاني لعنه الله.

(وَأَصْحابِ مَدْيَنَ) وهم قوم شعيب عليه‌السلام وكيف أصابتهم الرجفة وعذاب يوم الظلة ، (وَالْمُؤْتَفِكاتِ) قوم لوط وقد كانوا يسكنون في مدائن ، وقال في الآية الأخرى (وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى) [النجم : ٥٣] أي الأمة المؤتفكة وقيل أم قراهم ، وهي سدوم ، والغرض أن الله تعالى أهلكهم عن آخرهم بتكذيبهم نبي الله لوط عليه‌السلام وإتيانهم الفاحشة التي لم يسبقهم بها أحد من العالمين ، (أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي بالحجج والدلائل القاطعات ، (فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) أي بإهلاكه إياهم لأنه أقام عليهم الحجة بإرسال الرسل وإزاحة العلل ، (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) أي بتكذيبهم الرسل ومخالفتهم الحق فصاروا إلى ما صاروا إليه من العذاب والدمار.

(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٧١)

لما ذكر تعالى صفات المنافقين الذميمة عطف بذكر صفات المؤمنين المحمودة ، فقال : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) أي يتناصرون ويتعاضدون كما جاء في الصحيح «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا» (٣) وشبك بين أصابعه ، وفي الصحيح أيضا «مثل

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٤١٣.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٤١٢ ، ٤١٣.

(٣) أخرجه البخاري في الصلاة باب ٨٨ ، ومسلم في البر حديث ٦٥.

المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر» (١) وقوله : (يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) كقوله تعالى : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [آل عمران : ١٠٤] الآية.

وقوله : (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) أي يطيعون الله ويحسنون إلى خلقه (وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) أي فيما أمر وترك ما عنه زجر (أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ) أي سيرحم الله من اتصف بهذه الصفات (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) أي عز من أطاعه فإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين (حَكِيمٌ) في قسمته هذه الصفات لهؤلاء وتخصيصه المنافقين بصفاتهم المتقدمة ، فإنه له الحكمة في جميع ما يفعله تبارك وتعالى.

(وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٧٢)

يخبر تعالى بما أعده للمؤمنين به والمؤمنات من الخيرات والنعيم المقيم في (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) أي ماكثين فيها أبدا (وَمَساكِنَ طَيِّبَةً) أي حسنة البناء طيبة القرار ، كما جاء في الصحيحين من حديث أبي عمران الجوني عن أبي بكر بن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري عن أبيه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما ، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما ، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن» (٢) وبه قال ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها ستون ميلا في السماء! للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم لا يرى بعضهم بعضا» (٣) أخرجاه في الصحيحين.

وفيهما أيضا عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من آمن بالله ورسوله وأقام الصلاة وصام رمضان ، فإن حقا على الله أن يدخله الجنة هاجر في سبيل الله أو حبس في أرضه التي ولد فيها» قالوا : يا رسول الله أفلا نخبر الناس؟ قال : «إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله بين كل درجتين كما بين السماء والأرض ، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة ، ومنه تفجر أنهار الجنة ، وفوقه عرش الرحمن» (٤) وعند الطبراني والترمذي وابن ماجة من رواية زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن معاذ بن جبل

__________________

(١) أخرجه البخاري في الأدب باب ٢٧ ، ومسلم في البر حديث ٦٦.

(٢) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٥٥ ، باب ١ ، ٢ ، ومسلم في الإيمان حديث ٢٩٦.

(٣) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٥٥ ، باب ٢ ، ومسلم في الجنة حديث ٢٣.

(٤) أخرجه البخاري في التوحيد باب ٢٢ ، والترمذي في الجنة باب ٤ ، والنسائي في الجهاد باب ١٨ ، وأحمد في المسند ٢ / ٣٣٥ ، ٣٣٩.

رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول فذكر مثله.

وللترمذي عن عبادة بن الصامت مثله. وعن أبي حازم عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أهل الجنة ليتراؤون الغرف في الجنة كما ترون الكوكب في السماء» (١) أخرجاه في الصحيحين ، ثم ليعلم أن أعلى منزلة في الجنة مكان يقال له الوسيلة لقربه من العرش وهو مسكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الجنة ، كما قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا عبد الرزاق أخبرنا سفيان عن ليث عن كعب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا صليتم عليّ فسلوا الله لي الوسيلة» قيل يا رسول الله وما الوسيلة؟ قال «أعلى درجة في الجنة لا ينالها إلا رجل واحد وأرجو أن أكون أنا هو».

وفي صحيح مسلم من حديث كعب بن علقمة : عن عبد الرحمن بن جبير عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، أنه سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا عليّ فإنه من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرا ، ثم سلوا لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله. وأرجو أن أكون هو ، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة يوم القيامة» (٣) وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا أحمد بن علي الأبار ، حدثنا الوليد بن عبد الملك الحراني ، حدثنا موسى بن أعين عن ابن أبي ذئب عن محمد بن عمرو بن عطاء عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : سلوا الله لي الوسيلة فإنه لم يسألها لي عبد في الدنيا إلا كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة» رواه الطبراني. وفي مسند الإمام أحمد (٤) من حديث سعد بن مجاهد الطائي عن أبي المدله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قلنا يا رسول الله حدثنا عن الجنة ما بناؤها؟ قال : «لبنة ذهب ولبنة فضة ، وملاطها المسك وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت ، وترابها الزعفران. من يدخلها ينعم لا يبأس ويخلد لا يموت ، لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه» وروي عن ابن عمر مرفوعا نحوه ، وعند الترمذي من حديث عبد الرحمن بن إسحاق عن النعمان بن سعد عن علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن في الجنة لغرفا يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها» فقام أعرابي فقال : يا رسول الله لمن هي؟ فقال : «لمن طيب الكلام ، وأطعم الطعام ، وأدام الصيام ، وصلى بالليل والناس نيام» (٥) ثم قال : حديث غريب ورواه الطبراني من حديث عبد الله بن عمرو وأبي مالك الأشعري كل منهما عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بنحوه ، وكل من الإسنادين جيد وحسن ، وعنده أن

__________________

(١) أخرجه الترمذي في الجنة باب ١٩.

(٢) المسند ٢ / ٢٦٥.

(٣) أخرجه مسلم في الصلاة حديث ١١.

(٤) المسند ٢ / ٣٠٤ ، ٣٠٥.

(٥) أخرجه الترمذي في الجنة باب ٣.

السائل هو أبو مالك الأشعري ، فالله أعلم.

وعن أسامة بن زيد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا هل من مشمر إلى الجنة؟ فإن الجنة لا خطر لها ، هي ورب الكعبة نور يتلألأ وريحانة تهتز ، وقصر مشيد ، ونهر مطرد ، وثمرة نضيجة ، وزوجة حسناء جميلة. وحلل كثيرة ، ومقام في أبد في دار سليمة ، وفاكهة وخضرة وحبرة ونعمة في محلة عالية بهية» قالوا : نعم يا رسول الله نحن المشمرون لها ، قال : «قولوا إن شاء الله» فقال القوم : إن شاء الله ، رواه ابن ماجة (١).

وقوله تعالى : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) أي رضا الله عنهم أكبر وأجل وأعظم مما هم فيه من النعيم ، كما قال الإمام مالك رحمه‌الله عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله عزوجل يقول لأهل الجنة : يا أهل الجنة فيقولون : لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك. فيقول : هل رضيتم؟ فيقولون : وما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك ، فيقول : ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون يا رب وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول : أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا» (٢) أخرجاه من حديث مالك.

وقال أبو عبد الله الحسين بن إسماعيل المحاملي : حدثنا الفضل الرجائي ، حدثنا الفريابي عن سفيان عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا دخل أهل الجنة الجنة قال الله عزوجل هل تشتهون شيئا فأزيدكم؟ قالوا يا ربنا ما خير مما أعطيتنا؟ قال : رضواني أكبر» ورواه البزار في مسنده من حديث الثوري ، وقال الحافظ الضياء المقدسي في كتابه صفة الجنة : هذا عندي على شرط الصحيح ، والله أعلم.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(٧٣) يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) (٧٤)

أمر تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم ، كما أمره بأن يخفض جناحه لمن اتبعه من المؤمنين ، وأخبره أن مصير الكفار والمنافقين إلى النار في الدار الآخرة ، وقد تقدم عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه قال : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأربعة أسياف : سيف للمشركين (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) [التوبة : ٥] وسيف لكفار أهل الكتاب (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ

__________________

(١) كتاب الزهد باب ٣٩.

(٢) أخرجه البخاري في الرقاق باب ٥١ ، ومسلم في الإيمان حديث ٣٠٢ ، والجنة حديث ٩.

الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) [التوبة : ٢٩] وسيف للمنافقين (جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ) وسيف للبغاة (فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) [الحجرات : ٩] وهذا يقتضي أنهم يجاهدون بالسيوف إذا أظهروا النفاق وهو اختيار ابن جرير (١).

وقال ابن مسعود في قوله تعالى : (جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ) قال : بيده فإن لم يستطع فليكفهر في وجهه (٢). وقال ابن عباس : أمره الله تعالى بجهاد الكفار بالسيف والمنافقين باللسان وأذهب الرفق عنهم (٣) ، وقال الضحاك : جاهد الكفار بالسيف واغلظ على المنافقين بالكلام وهو مجاهدتهم (٤) ، وعن مقاتل والربيع مثله ، وقال الحسن وقتادة مجاهدتهم إقامة الحدود عليهم ، وقد يقال إنه لا منافاة بين هذه الأقوال لأنه تارة يؤاخذهم بهذا وتارة بهذا بحسب الأحوال ، والله أعلم.

وقوله : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ) قال قتادة : نزلت في عبد الله بن أبي وذلك أنه اقتتل رجلان جهني وأنصاري فعلا الجهني على الأنصاري ، فقال عبد الله للأنصار ألا تنصروا أخاكم؟ والله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل : سمن كلبك يأكلك ، وقال لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، فسعى بها رجل من المسلمين إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأرسل إليه فسأله فجعل يحلف بالله ما قاله ، فأنزل الله فيه هذه الآية (٥).

وروى إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة عن عمه موسى بن عقبة قال : فحدثني عبد الله بن الفضل أنه سمع أنس بن مالك رضي الله عنه يقول : حزنت على من أصيب بالحرة من قومي فكتب إلي زيد بن أرقم وبلغه شدة حزني يذكر أنه سمع رسول الله يقول : «اللهم اغفر للأنصار ولأبناء الأنصار» وشك ابن الفضل في أبناء أبناء الأنصار قال ابن الفضل : فسأل أنس بعض من كان عنده عن زيد بن أرقم فقال : هو الذي يقول له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أوفى الله له بإذنه» قال : وذلك حين سمع رجلا من المنافقين يقول ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب : لئن كان صادقا فنحن شر من الحمير ، فقال زيد بن أرقم : فهو والله صادق ولأنت شر من الحمار. ثم رفع ذلك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجحده القائل فأنزل الله هذه الآية تصديقا لزيد ، يعني قوله : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٤١٩.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٤١٩.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ٤٢٠.

(٤) تفسير الطبري ٦ / ٤٢٠.

(٥) تفسير الطبري ٦ / ٤٢٢.

ما قالُوا) الآية ، رواه البخاري (١) في صحيحه عن إسماعيل بن أبي أويس عن إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة ـ إلى قوله ـ هذا الذي أوفى الله له بإذنه ، ولعل ما بعده من قول موسى بن عقبة ، وقد رواه محمد بن فليح عن موسى بن عقبة بإسناده : ثم قال قال ابن شهاب فذكر ما بعده عن موسى عن ابن شهاب.

والمشهور في هذه القصة أنه كانت في غزوة بني المصطلق فلعل الراوي وهم في ذكر الآية ، وأراد أن يذكر غيرها فذكرها ، والله أعلم. قال الأموي في مغازيه : حدثنا محمد بن إسحاق عن الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه عن جده قال : لما قدم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذني قومي فقالوا : إنك امرؤ شاعر فإن شئت أن تعتذر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببعض العلة ثم يكون ذنبا تستغفر الله منه ، وذكر الحديث بطوله إلى أن قال : وكان ممن تخلف من المنافقين ونزل فيه القرآن منهم ممن كان مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الجلاس بن سويد بن الصامت ، وكان على أم عمير بن سعد ، وكان عمير في حجره ، فلما نزل القرآن وذكرهم الله بما ذكر مما أنزل في المنافقين قال الجلاس : والله لئن كان هذا الرجل صادقا فيما يقول لنحن شر من الحمير؟ فسمعها عمير بن سعد فقال : والله يا جلاس إنك لأحب الناس إليّ وأحسنهم بلاء عندي وأعزهم عليّ أن يصله شيء يكرهه ، ولقد قلت مقالة لئن ذكرتها لتفضحنك ولئن كتمتها لتهلكني ، ولإحداهما أهون عليّ من الأخرى ، فمشى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكر له ما قال الجلاس ، فلما بلغ ذلك الجلاس خرج حتى أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحلف بالله ما قال ما قال عمير بن سعد ولقد كذب علي ، فأنزل الله عزوجل فيه (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ) إلى آخر الآية ، فوقفه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليها فزعموا أن الجلاس تاب فحسنت توبته ونزع فأحسن النزوع.

هكذا جاء هذا مدرجا (٢) في الحديث متصلا به وكأنه والله أعلم من كلام ابن إسحاق نفسه لا من كلام كعب بن مالك.

وقال عروة بن الزبير : نزلت هذه الآية في الجلاس بن سويد بن الصامت ، أقبل هو وابن امرأته مصعب من قباء ، فقال الجلاس : إن كان ما جاء به محمد حقا فنحن أشر من حمرنا هذه التي نحن عليها ، فقال مصعب : أما والله يا عدو الله لأخبرن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما قلت فأتيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وخفت أن ينزل فيّ القرآن أو تصيبني قارعة أو أن أخلط بخطيئته ، فقلت : يا رسول الله أقبلت أنا والجلاس من قباء فقال كذا وكذا ولو لا مخافة أن أخلط بخطيئة أو تصيبني قارعة ما أخبرتك ، قال : فدعا الجلاس فقال «يا جلاس أقلت الذي قاله مصعب؟»

__________________

(١) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٦٣ ، باب ٦.

(٢) المدرج : هو أن يذكر الراوي عقيبه حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلاما لنفسه أو لغيره. فيرويه من بعده متصلا بالحديث من غير فصل. فيتوهم أنه من الحديث.

فحلف فأنزل الله (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا) الآية (١).

وقال محمد بن إسحاق : كان الذي قال تلك المقالة فيما بلغني الجلاس بن سويد بن الصامت فرفعها عليه رجل كان في حجره يقال له عمير بن سعد فأنكرها فحلف بالله ما قالها ، فلما نزل فيه القرآن تاب ونزع وحسنت توبته فيما بلغني (٢) ، وقال الإمام أبو جعفر بن جرير (٣) :

حدثني أيوب بن إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا عبد الله بن رجاء ، حدثنا إسرائيل عن سماك عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالسا في ظل شجرة فقال : «إنه سيأتيكم إنسان فينظر إليكم ـ بعيني الشيطان ـ فإذا جاء فلا تكلموه» فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق فدعاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «علام تشتمني أنت وأصحابك؟» فانطلق الرجل فجاءه بأصحابه فحلفوا بالله ما قالوا حتى تجاوز عنهم ، فأنزل الله عزوجل (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا) الآية.

وقوله (وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا) قيل أنزلت في الجلاس بن سويد وذلك أنه هم بقتل ابن امرأته حين قال لأخبرن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل في عبد الله بن أبي ، هم بقتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال السدي : نزلت في أناس أرادوا أن يتوجوا عبد الله بن أبي وإن لم يرض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد ورد أن نفرا من المنافقين هموا بالفتك بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في غزوة تبوك ، في بعض تلك الليالي في حال السير ، وكانوا بضعة عشر رجلا ، قال الضحاك : ففيهم نزلت هذه الآية.

وذلك بين فيما رواه الحافظ أبو بكر البيهقي في كتاب دلائل النبوة من حديث محمد بن إسحاق عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي البختري عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال : كنت آخذا بخطام ناقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقود به وعمار يسوق الناقة أو أنا أسوقه وعمار يقوده حتى إذا كنا بالعقبة فإذا أنا باثني عشر راكبا قد اعترضوه فيها ، قال فأنبهت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بهم ، فصرخ بهم فولوا مدبرين فقال لنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هل عرفتم القوم؟» قلنا : لا يا رسول الله قد كانوا متلثمين ولكنا قد عرفنا الركاب قال : «هؤلاء المنافقون إلى يوم القيامة وهل تدرون ما أرادوا؟» قلنا : لا ، قال : «أرادوا أن يزاحموا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في العقبة فيلقوه منها» قلنا : يا رسول الله أفلا تبعث إلى عشائرهم حتى يبعث إليك كل قوم برأس صاحبهم؟ قال : «لا ، أكره أن تتحدث العرب بينها أن محمدا قاتل بقوم حتى إذا أظهره الله بهم أقبل عليهم يقتلهم ـ ثم قال ـ اللهم ارمهم بالدبيلة» قلنا : يا رسول الله وما الدبيلة؟ قال : «شهاب من نار يقع على نياط قلب أحدهم فيهلك.

وقال الإمام أحمد (٤) رحمه‌الله : حدثنا يزيد أخبرنا الوليد بن عبد الله بن جميع عن أبي

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٤٢١.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٤٢١.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ٤٢٢.

(٤) المسند ٥ / ٤٥٣ ، ٤٥٤.

الطفيل قال : لما أقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غزوة تبوك أمر مناديا فنادى : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذ العقبة فلا يأخذها أحد فبينما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقوده حذيفة ويسوقه عمار إذ أقبل رهط متلثمون على الرواحل فغشوا عمارا وهو يسوق برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأقبل عمار رضي الله عنه يضرب وجوه الرواحل فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لحذيفة «قد قد» حتى هبط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما هبط نزل ورجع عمار فقال يا عمار : «هل عرفت القوم؟» قال : لقد عرفت عامة الرواحل والقوم متلثمون قال «هل تدري ما أرادوا؟» قال : الله ورسوله أعلم قال : «أرادوا أن ينفروا برسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ راحلته فيطرحوه» قال : فسأل عمار رجلا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال نشدتك بالله كم تعلم كان أصحاب العقبة؟ قال : أربعة عشر رجلا فقال : إن كنت منهم فقد كانوا خمسة عشر قال فعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منهم ثلاثة قالوا : والله ما سمعنا منادي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما علمنا ما أراد القوم فقال عمار أشهد : أن الاثني عشر الباقين حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد.

وهكذا روى ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير نحو هذا ، وأن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر أن يمشي الناس في بطن الوادي وصعد هو وحذيفة وعمار العقبة ، فتبعهم هؤلاء النفر الأرذلون وهم متلثمون فأرادوا سلوك العقبة ، فأطلع الله على مرادهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمر حذيفة فرجع إليهم فضرب وجوه رواحلهم ففزعوا ورجعوا مقبوحين ، وأعلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حذيفة وعمارا بأسمائهم وما كانوا هموا به من الفتك به صلوات الله وسلامه عليه وأمرهما أن يكتما عليهم ، وكذا روى يونس بن بكير عن ابن إسحاق ، إلا أنه سمى جماعة منهم ، فالله أعلم.

وكذا قد حكي في معجم الطبراني قاله البيهقي ، ويشهد لهذه القصة بالصحة ما رواه مسلم (١) : حدثنا زهير بن حرب حدثنا أبو أحمد الكوفي ، حدثنا الوليد بن جميع ، حدثنا أبو الطفيل قال : كان بين رجل من أهل العقبة وبين حذيفة بعض ما يكون بين الناس ، فقال : أنشدك بالله كم كان أصحاب العقبة؟ قال : فقال له القوم : أخبره إذ سألك؟ فقال : كنا نخبر أنهم أربعة عشر فإن كنت منهم فقد كان القوم خمسة عشر ، وأشهد بالله أن اثني عشر منهم حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ، وعذر ثلاثة قالوا : ما سمعنا منادي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا علمنا بما أراد القوم؟ وقد كان في حرة يمشي فقال : إن الماء قليل فلا يسبقني إليه أحد ، فوجد قوما قد سبقوه فلعنهم يومئذ.

وما رواه مسلم (٢) أيضا من حديث قتادة عن أبي نضرة عن قيس بن عباد عن عمار بن ياسر قال : أخبرني حذيفة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «في أصحابي اثنا عشر منافقا لا يدخلون الجنة ولا يجدون ريحها حتى يلج الجمل في سم الخياط : ثمانية منهم تكفيكهم الدبيلة سراج من نار

__________________

(١) كتاب صفات المنافقين حديث ١١.

(٢) كتاب صفات المنافقين حديث ٩ ، ١٠.

تظهر بين أكتافهم حتى ينجم في صدورهم» ولهذا كان حذيفة يقال له صاحب السر الذي لا يعلمه غيره أي من تعيين جماعة من المنافقين وهم هؤلاء قد أطلعه عليهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم دون غيره ، والله أعلم.

وقد ترجم الطبراني في مسند حذيفة تسمية أصحاب العقبة ، ثم روي عن علي بن عبد العزيز عن الزبير بن بكار أنه قال : هم معتب بن قشيرة ووديعة بن ثابت وجد بن عبد الله بن نبتل بن الحارث من بني عمرو بن عوف والحارث بن يزيد الطائي وأوس بن قيظي والحارث بن سويد وسعد بن زرارة وقيس بن فهد وسويد بن داعس من بني الحبلى وقيس بن عمرو بن سهل وزيد بن اللصيت وسلالة بن الحمام وهما من بني قينقاع أظهرا الإسلام.

وقوله تعالى : (وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) أي وما للرسول عندهم ذنب إلا أن الله أغناهم ببركته ويمن سعادته ، ولو تمت عليه السعادة لهداهم الله لما جاء به كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم للأنصار : «ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي وكنتم متفرقين فألفكم الله بي ، وعالة فأغناكم الله بي» كلما قال شيئا قالوا الله ورسوله أمنّ (١). وهذه الصيغة تقال حيث لا ذنب ، كقوله : (وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ) [البروج : ٨] الآية. وقوله عليه‌السلام «ما ينقم ابن جميل إلا أن كان فقيرا فأغناه الله» (٢) ثم دعاهم الله تبارك وتعالى إلى التوبة فقال (فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أي وإن يستمروا على طريقهم يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا أي بالقتل والهم والغم ، والآخرة أي بالعذاب والنكال والهوان والصغار (وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) أي وليس لهم أحد يسعدهم ولا ينجدهم لا يحصل لهم خيرا ولا يدفع عنهم شرا.

(وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٧٦) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (٧٧) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ) (٧٨)

يقول تعالى ومن المنافقين من أعطى الله عهده وميثاقه لئن أغناه من فضله ليصدقن من ماله وليكونن من الصالحين ، فما وفي بما قال ولا صدق فيما ادعى ، فأعقبهم هذا الصنيع نفاقا سكن في قلوبهم إلى يوم يلقون الله عزوجل يوم القيامة عياذا بالله من ذلك ، وقد ذكر كثير من المفسرين منهم ابن عباس والحسن البصري أن سبب نزول هذه الآية الكريمة في ثعلبة بن حاطب الأنصاري.

__________________

(١) تقدم الحديث مع تخريج في تفسير الآية ٦٣ من سورة الأنفال.

(٢) أخرجه البخاري في الزكاة باب ٤٩ ، ومسلم في الزكاة حديث ١١.

وقد ورد فيه حديث رواه ابن جرير (١) هاهنا ، وابن أبي حاتم من حديث معان بن رفاعة عن علي بن يزيد عن أبي عبد الرحمن القاسم بن عبد الرحمن مولى عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية عن أبي أمامة الباهلي عن ثعلبة بن حاطب الأنصاري ، أنه قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ادع الله أن يرزقني مالا ، قال : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ويحك يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه» قال : ثم قال مرة أخرى فقال : «أما ترضى أن تكون مثل نبي الله ـ فو الذي نفسي بيده لو شئت أن تسير الجبال معي ذهبا وفضة لسارت» قال : والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله فرزقني مالا لأعطين كل ذي حق حقه.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اللهم ارزق ثعلبة مالا» قال فاتخذ غنما فنمت كما ينمو الدود فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها فنزل واديا من أوديتها حتى جعل يصلي الظهر والعصر في جماعة ويترك ما سواهما ، ثم نمت وكثرت فتنحى حتى ترك الصلوات إلا الجمعة ، وهي تنمو كما ينمو الدود حتى ترك الجمعة ، فطفق يتلقى الركبان يوم الجمعة ليسألهم عن الأخبار فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما فعل ثعلبة؟» فقالوا : يا رسول الله اتخذ غنما فضاقت عليه المدينة ، فأخبروه بأمره ، فقال : «يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة».

وأنزل الله جل ثناؤه (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) [التوبة : ١٠٢] الآية ، ونزلت فرائض الصدقة فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجلين على الصدقة من المسلمين رجلا من جهينة ورجلا من سليم وكتب لهما كيف يأخذان الصدقة من المسلمين ، وقال لهما : «مرا بثعلبة وبفلان ـ رجل من بني سليم ـ فخذا صدقاتهما» فخرجا حتى أتيا ثعلبة فسألاه الصدقة وأقرآه كتاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : ما هذه إلا جزية ما هذه إلا أخت الجزية ما أدري ما هذا؟ انطلقا حتى تفرغا ثم عودا إليّ فانطلقا وسمع بهما السلمي فنظر إلى خيار أسنان إبله فعزلها للصدقة ثم استقبلهما بهما ، فلما رأوها قالوا ما يجب عليك هذا وما نريد أن نأخذ هذا منك ، فقال : بلى فخذوها فإن نفسي بذلك طيبة وإنما هي لله ، فأخذاها منه ومرا على الناس فأخذا الصدقات ثم رجعا إلى ثعلبة فقال : أروني كتابكما فقرأه فقال ما هذه إلا جزية ما هذه إلا أخت الجزية انطلقا حتى أرى رأيي ، فانطلقا حتى أتيا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما رآهما قال : «يا ويح ثعلبة» قبل أن يكلمهما ودعا للسلمي بالبركة فأخبراه بالذي صنع ثعلبة والذي صنع السلمي ، فأنزل الله عزوجل (وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَ) [التوبة : ٧٥] الآية.

قال وعند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجل من أقارب ثعلبة فسمع ذلك فخرج حتى أتاه فقال : ويحك يا ثعلبة قد أنزل الله فيك كذا وكذا ، فخرج ثعلبة حتى أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسأله أن يقبل منه صدقته ، فقال : ويحك إن الله منعني أن أقبل منك صدقتك» فجعل يحثو على رأسه التراب ، فقال له

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٤٢٥.

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «هذا عملك قد أمرتك فلم تطعني» فلما أبى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقبل صدقته رجع إلى منزله ، فقبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يقبل منه شيئا ، ثم أتى أبا بكر رضي الله عنه حين استخلف فقال قد علمت منزلتي من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وموضعي من الأنصار فاقبل صدقتي ، فقال أبو بكر لم يقبلها منك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبى أن يقبلها ، فقبض أبو بكر ولم يقبلها.

فلما ولي عمر رضي الله عنه أتاه فقال : يا أمير المؤمنين اقبل صدقتي فقال : لم يقبلها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا أبو بكر وأنا أقبلها منك؟ فقبض ولم يقبلها ، فلما ولي عثمان رضي الله عنه أتاه فقال : اقبل صدقتي فقال لم يقبلها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا أبو بكر ولا عمر وأنا أقبلها منك؟ فلم يقبلها منه فهلك ثعلبة في خلافة عثمان.

وقوله تعالى : (بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ) الآية ، أي أعقبهم النفاق في قلوبهم بسبب إخلافهم الوعد وكذبهم كما في الصحيحين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان» (١) وله شواهد كثيرة ، والله أعلم.

وقوله : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ) الآية ، يخبر تعالى أنه يعلم السر وأخفى ، وأنه أعلم بضمائرهم وإن أظهروا أنه إن حصل لهم أموال تصدقوا منها وشكروا عليها فإن الله أعلم بهم من أنفسهم ، لأنه تعالى علام الغيوب أي يعلم كل غيب وشهادة وكل سر ونجوى ويعلم ما ظهر وما بطن.

(الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٧٩)

وهذا أيضا من صفات المنافقين لا يسلم أحد من عيبهم ولمزهم في جميع الأحوال حتى ولا المتصدقون يسلمون منهم ، إن جاء أحد منهم بمال جزيل قالوا هذا مراء ، وإن جاء بشيء يسير قالوا : إن الله لغني عن صدقة هذا ، كما روى البخاري حدثنا عبيد الله بن سعيد ، حدثنا أبو النعمان البصري ، حدثنا شعبة عن سليمان عن أبي وائل عن أبي مسعود رضي الله عنه قال : لما نزلت آية الصدقة كنا نحامل على ظهورنا ، فجاء رجل فتصدق بشيء كثير فقالوا : مرائي ، وجاء رجل فتصدق بصاع : فقالوا إن الله لغني عن صدقة هذا. فنزلت (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ) (٢) الآية. وقد رواه مسلم أيضا في صحيحه من حديث شعبة به.

وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا يزيد حدثنا الجريري عن أبي السليل قال : وقف علينا رجل

__________________

(١) أخرجه البخاري في الشهادات باب ٢٨ ، ومسلم في الإيمان حديث ١٠٧ ، ١٠٩.

(٢) أخرجه بلفظ «كنا نحامل» ، البخاري في الزكاة باب ١٠ ، ومسلم في الزكاة حديث ٧٤ ، وأخرجه بلفظ «كنا نتحامل» البخاري في تفسير سورة ٩ ، باب ١١.

(٣) المسند ٥ / ٣٤.

في مجلسنا بالبقيع فقال : حدثني أبي أو عمي أنه رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالبقيع وهو يقول : «من يتصدق بصدقة أشهد له بها يوم القيامة» قال : فحللت من عمامتي لوثا أو لوثين وأنا أريد أن أتصدق بهما ، فأدركني ما يدرك ابن آدم فعقدت على عمامتي ، فجاء رجل لم أر بالبقيع رجلا أشد منه سوادا ولا أصغر منه ولا أدم ، ببعير ساقه لم أر بالبقيع ناقة أحسن منها فقال : يا رسول الله أصدقة؟ قال : «نعم» قال : دونك هذه الناقة ، قال فلمزه رجل فقال : هذا يتصدق بهذه فو الله لهي خير منه. قال : فسمعها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال «كذبت بل هو خير منك ومنها» ثلاث مرات ، ثم قال : «ويل لأصحاب المئين من الإبل» ثلاثا قالوا إلا من يا رسول الله؟ قال: «إلا من قال بالمال هكذا وهكذا» وجمع بين كفيه عن يمينه وعن شماله ثم قال : «قد أفلح المزهد المجهد» ثلاثا. المزهد في العيش ، المجهد في العبادة.

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية قال : جاء عبد الرحمن بن عوف بأربعين أوقية من ذهب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجاءه رجل من الأنصار بصاع من طعام ، فقال بعض المنافقين : والله ما جاء عبد الرحمن بما جاء به إلا رياء ، وقالوا : إن الله ورسوله لغنيان عن هذا الصاع (١).

وقال العوفي عن ابن عباس : إن رسول الله خرج إلى الناس يوما فنادى فيهم أن اجمعوا صدقاتكم ، فجمع الناس صدقاتهم ، ثم جاء رجل من آخرهم بصاع من تمر ، فقال : يا رسول الله هذا صاع من تمر بت ليلتي أجر بالجرير الماء حتى نلت صاعين من تمر فأمسكت أحدهما وأتيتك بالآخر ، فأمره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ينثره في الصدقات ، فسخر منه رجال وقالوا : إن الله ورسوله لغنيان عن هذا وما يصنعون بصاعك من شيء ، ثم إن عبد الرحمن بن عوف قال لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل بقي أحد من أهل الصدقات؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لم يبق أحد غيرك» فقال له عبد الرحمن بن عوف فإن عندي مائة أوقية من ذهب في الصدقات ، فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمجنون أنت؟ قال ليس بي جنون ، قال أفعلت ما فعلت؟ قال : نعم مالي ثمانية آلاف أما أربعة آلاف فأقرضها ربي وأما أربعة آلاف فلي ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت» ولمزه المنافقون فقالوا والله ما أعطى عبد الرحمن عطيته إلا رياء وهم كاذبون إنما كان به متطوعا ، فأنزل الله عزوجل عذره وعذر صاحبه المسكين الذي جاء بالصاع من التمر فقال تعالى في كتابه : (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ) (٢) الآية.

وهكذا روي عن مجاهد وغير واحد وقال ابن إسحاق : كان من المطوعين من المؤمنين في

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٤٣٠.

(٢) انظر تفسير الطبري ٦ / ٤٣٠.

الصدقات عبد الرحمن بن عوف تصدق بأربعة آلاف درهم وعاصم بن عدي أخو بني العجلان ، وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رغب في الصدقة وحض عليها فقام عبد الرحمن بن عوف فتصدق بأربعة آلاف وقام عاصم بن عدي وتصدق بمائة وسق من تمر فلمزوهما وقالوا : ما هذا إلا رياء ، وكان الذي تصدق بجهده أبو عقيل أخو بني أنيف الأراشي حليف بني عمرو بن عوف ، أتى بصاع من تمر فأفرغه في الصدقة فتضاحكوا به وقالوا : إن الله لغني عن صاع أبي عقيل (١).

وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا طالوت بن عباد ، حدثنا أبو عوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تصدقوا فإني أريد أن أبعث بعثا» قال فجاء عبد الرحمن بن عوف فقال يا رسول الله : عندي أربعة آلاف ، ألفين أقرضهما ربي وألفين لعيالي ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بارك الله لك فيما أعطيت وبارك لك فيما أمسكت» ، وبات رجل من الأنصار فأصاب صاعين من تمر فقال يا رسول الله : أصبت صاعين من تمر صاع أقرضه لربي وصاع لعيالي ، قال فلمزه المنافقون وقالوا : ما أعطى الذي أعطى ابن عوف إلا رياء ، وقالوا: ألم يكن الله ورسوله غنيين عن صاع هذا؟ فأنزل الله (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ) الآية ، ثم رواه عن أبي كامل عن أبي عوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه مرسلا ، قال ولم يسنده أحد إلا طالوت.

وقال الإمام أبو جعفر بن جرير (٢) : حدثنا ابن وكيع ، حدثنا زيد بن الحباب عن موسى بن عبيدة ، حدثني خالد بن يسار عن ابن أبي عقيل عن أبيه ، قال : بت أجر الجرير على ظهري على صاعين من تمر ، فانقلبت بأحدهما إلى أهلي يتبلغون به وجئت بالآخر أتقرب إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فأتيته فأخبرته ، فقال : «انثره في الصدقة» قال فسخر القوم وقالوا لقد كان الله غنيا من صدقة هذا المسكين ، فأنزل الله (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ) الآيتين ، وكذا رواه الطبراني من حديث زيد بن حباب به ، وقال : اسم أبي عقيل حباب ويقال عبد الرحمن بن عبد الله بن ثعلبة.

وقوله : (فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ) هذا من باب المقابلة على سوء صنيعهم واستهزائهم بالمؤمنين ، لأن الجزاء من جنس العمل فعاملهم معاملة من سخر منهم انتصارا للمؤمنين في الدنيا ، وأعد للمنافقين في الآخرة عذابا أليما لأن الجزاء من جنس العمل.

(اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) (٨٠)

يخبر تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن هؤلاء المنافقين ليسوا أهلا للاستغفار وأنه لو استغفر لهم سبعين

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٤٣١.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٤٣٢.

مرة فلن يغفر الله لهم ، وقد قيل إن السبعين إنما ذكرت حسما لمادة الاستغفار لهم ، لأن العرب في أساليب كلاهما تذكر السبعين في مبالغة كلامها ، ولا تريد التحديد بها ولا أن يكون ما زاد عليها بخلافها ، وقيل بل لها مفهوم كما روى العوفي عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لما نزلت هذه الآية أسمع ربي قد رخص لي فيهم فو الله لأستغفرن لهم أكثر من سبعين مرة لعل الله أن يغفر لهم» فقال الله من شدة غضبه عليهم : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) الآية.

وقال الشعبي لما ثقل عبد الله بن أبي انطلق ابنه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إن أبي قد احتضر فأحب أن تشهده وتصلي عليه فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما اسمك؟» قال : الحباب بن عبد الله قال : «بل أنت عبد الله بن عبد الله إن الحباب اسم شيطان» ، فانطلق معه حتى شهده وألبسه قميصه وهو عرق وصلى عليه فقيل له : أتصلي عليه وهو منافق؟ فقال : «إن الله قال (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً) ولأستغفرن لهم سبعين وسبعين وسبعين» وكذا روي عن عروة بن الزبير ومجاهد بن جبير وقتادة بن دعامة ورواه ابن جرير (١) بأسانيده.

(فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (٨١) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٨٢)

يقول تعالى ذاما للمنافقين المتخلفين عن صحابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة تبوك ، وفرحوا بقعودهم بعد خروجه (وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا) معه (بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقالُوا) أي بعضهم لبعض (لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ) وذلك أن الخروج في غزوة تبوك كان في شدة الحر عند طيب الظلال والثمار ، فلهذا قالوا (لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ) قال الله تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (قُلْ) لهم (نارُ جَهَنَّمَ) التي تصيرون إليها بمخالفتكم (أَشَدُّ حَرًّا) مما فررتم منه من الحر بل أشد حرا من النار ، كما قال الإمام مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «نار بني آدم التي توقدونها جزء من سبعين جزءا من نار جهنم» فقالوا : يا رسول الله إن كانت لكافية؟ فقال : «فضلت عليها بتسعة وستين جزءا» (٢) أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك به.

وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن ناركم هذه جزء من سبعين جزءا من نار جهنم ، وضربت في البحر مرتين ولولا ذلك

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٤٣٤ ، ٤٣٥.

(٢) أخرجه البخاري في بدء الخلق باب ١٠ ، ومسلم في الجنة حديث ٣٠ ، ومالك في جهنم حديث ١.

(٣) المسند ٢ / ٢٤٤.

ما جعل الله فيها منفعة لأحد» وهذا أيضا إسناده صحيح ، وقد روى الإمام أبو عيسى الترمذي وابن ماجة عن عباس الدوري ، وعن يحيى بن أبي بكير عن شريك عن عاصم عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أوقد الله على النار ألف سنة حتى احمرت ، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت ، ثم أوقد عليها ألف سنة ، حتى اسودت ، فهي سوداء كالليل المظلم» (١) ثم قال الترمذي : لا أعلم أحدا رفعه غير يحيى ، كذا قال ، وقد رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه ، عن إبراهيم بن محمد عن محمد بن الحسين بن مكرم عن عبيد الله بن سعد عن عمه عن شريك وهو ابن عبد الله النخعي به.

وروى أيضا ابن مردويه ، من رواية مبارك بن فضالة عن ثابت بن أنس قال : تلا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) [التحريم : ٦] قال : «أوقد عليها ألف عام حتى ابيضت ، وألف عام حتى احمرت ، وألف عام حتى اسودت ، فهي سوداء كالليل لا يضيء لهبها ، وروى الحافظ أبو القاسم الطبراني من حديث تمام بن نجيج ، وقد اختلف فيه عن الحسن عن أنس رفعه «لو أن شرارة بالمشرق ـ أي من نار جهنم ـ لوجد حرها من بالمغرب» وروى الحافظ أبو يعلى ، عن إسحاق بن أبي إسرائيل عن أبي عبيدة الحداد عن هشام بن حسان عن محمد بن شبيب عن جعفر بن أبي وحشية عن سعيد بن جبير عن أبي هريرة قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو كان في هذا المسجد مائة ألف أو يزيدون وفيهم رجل من أهل النار فتنفس فأصابهم نفسه لاحترق المسجد ومن فيه» غريب.

وقال الأعمش عن أبي إسحاق عن النعمان بن بشير قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أهون أهل النار عذابا يوم القيامة لمن له نعلان وشراكان من نار جهنم يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل ، لا يرى أن أحدا من أهل النار أشد عذابا منه وإنه أهونهم عذابا» (٢) أخرجاه في الصحيحين من حديث الأعمش ، وقال مسلم أيضا : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا يحيى بن أبي كثير ، حدثنا زهير بن محمد عن سهيل بن أبي صالح عن النعمان بن أبي عياش عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن أدنى أهل النار عذابا يوم القيامة ينتعل بنعلين من نار يغلي دماغه من حرارة نعليه» (٣) ، وقال الإمام أحمد (٤) : حدثنا يحيى عن ابن عجلان ، سمعت أبي عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إن أدنى أهل النار عذابا رجل يجعل له نعلان يغلي منهما دماغه» وهذا إسناد جيد قوي رجاله على شرط مسلم والله أعلم ، والأحاديث والآثار النبوية في هذا كثيرة.

__________________

(١) أخرجه الترمذي في جهنم باب ٨.

(٢) أخرجه البخاري في الرقاق باب ٥١ ، ومسلم في الإيمان حديث ٣٦٤.

(٣) أخرجه مسلم في الإيمان حديث ٣٦١.

(٤) المسند ٢ / ٤٣٢ ، ٤٣٨ ، ٤٣٩.

وقال الله تعالى في كتابه العزيز (كَلَّا إِنَّها لَظى نَزَّاعَةً لِلشَّوى) [المعارج : ١٥ ـ ١٦] وقال تعالى : (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) [الحج : ١٩ ـ ٢٢] وقال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) [النساء : ٥٦] وقال تعالى في هذه الآية الكريمة (قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ) أي لو أنهم يفقهون ويفهمون لنفروا مع الرسول في سبيل الله في الحر ليتقوا به من حر جهنم الذي هو أضعاف أضعاف هذا ولكنهم كما قال الآخر: [البسيط] كالمستجير من الرمضاء بالنار (١) وقال الآخر : [البسيط]

عمرك بالحمية أفنيته

خوفا من البارد والحار

وكان أولى لك أن تتقي

من المعاصي حذر النار

ثم قال تعالى جل جلاله متوعدا هؤلاء المنافقين على صنيعهم هذا : (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً) الآية ، قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس : الدنيا قليل فليضحكوا فيها ما شاؤوا ، فإذا انقطعت الدنيا وصاروا إلى الله عزوجل استأنفوا بكاء لا ينقطع أبدا ، وكذا قال أبو رزين والحسن وقتادة والربيع بن خثيم وعون العقيلي وزيد بن أسلم ، وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا. عبد الله بن عبد الصمد بن أبي خداش ، حدثنا محمد بن جبير عن ابن المبارك عن عمران بن زيد ، حدثنا يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «يا أيها الناس ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا فإن أهل النار يبكون حتى تسيل دموعهم في وجوههم كأنها جداول حتى تنقطع الدموع فتسيل الدماء فتقرح العيون ، فلو أن سفنا أزجيت فيها لجرت» (٢) ورواه ابن ماجة من حديث الأعمش عن يزيد الرقاشي به.

وقال الحافظ أبو بكر بن عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا : حدثنا محمد بن عباس ، حدثنا حماد الجزري عن زيد بن رفيع رفعه ، قال : إن أهل النار إذا دخلوا النار بكوا الدموع زمانا ثم بكوا القيح زمانا ، قال : فتقول لهم الخزنة يا معشر الأشقياء تركتم البكاء في الدار المرحوم فيها أهلها في الدنيا هل تجدون اليوم من تستغيثون به؟ قال : فيرفعون أصواتهم يا أهل الجنة يا معشر الآباء والأمهات والأولاد خرجنا من القبور عطاشا وكنا طول الموقف عطاشا ونحن

__________________

(١) يروى البيت بتمامه :

والمستجير بعمرو عند كربته

كالمستجير من الدعصاء بالنار

وهو لابن دريد في تاج العروس (دعص) ، وليس في ديوانه ، وبلا نسبة في لسان العرب (دعص) ، وجمهرة اللغة ص ٦٥٣.

(٢) أخرجه ابن ماجة في الإقامة باب ١٧٦ ، والزهد باب ١٩.

اليوم عطاش ، فأفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله ، فيدعون أربعين سنة لا يجيبهم ، ثم يجيبهم (إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) فييأسون من كل خير».

(فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ) (٨٣)

يقول تعالى آمرا لرسوله عليه الصلاة السلام (فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ) أي ردك الله من غزوتك هذه (إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ) قال قتادة : ذكر لنا أنهم كانوا اثني عشر رجلا (فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ) أي معك إلى غزوة أخرى (فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا) أي تعزيرا لهم وعقوبة ، ثم علل ذلك بقوله : (إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) وهذا كقوله تعالى : (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) [الأنعام : ١١٠] الآية ، فإن جزاء السيئة السيئة بعدها كما أن ثواب الحسنة الحسنة بعدها ، كقوله في عمرة الحديبية (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها) [الفتح : ١٥] الآية. وقوله تعالى : (فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ) قال ابن عباس : أي الرجال الذين تخلفوا عن الغزاة ، وقال قتادة (فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ) أي مع النساء قال ابن جرير وهذا لا يستقيم لأن جمع النساء لا يكون بالياء والنون ولو أريد النساء لقال فاقعدوا مع الخوالف أو الخالفات ، ورجح قول ابن عباس رضي الله عنهما.

(وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ) (٨٤)

أمر الله تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يبرأ من المنافقين وأن لا يصلي على أحد منهم إذا مات ، وأن لا يقوم على قبره ليستغفر له أو يدعو له لأنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا عليه وهذا حكم عام في كل من عرف نفاقه ، وإن كان سبب نزول الآية في عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين كما قال البخاري : حدثنا عبيد بن إسماعيل عن أبي أسامة عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال : لما توفي عبد الله بن أبي «جاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه ، ثم سأله أن يصلي عليه فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليصلي عليه ، فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله تصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنما خيرني الله فقال (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) [التوبة : ٨٠] وسأزيده على السبعين» قال : إنه منافق. قال فصلى عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله عزوجل آية (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ) (١) ، وكذا رواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عن أبي أسامة حماد بن أسامة به ، ثم رواه

__________________

(١) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٩ ، باب ١٢ ، ومسلم في المنافقين حديث ٤ ، وفضائل الصحابة حديث ٢٥ ، وأحمد في المسند ٢ / ١٨.

البخاري عن إبراهيم بن المنذر عن أنس بن عياض عن عبيد الله وهو ابن عمر العمري به ، وقال فصلى عليه وصلينا معه وأنزل الله (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً) الآية. وهكذا رواه الإمام أحمد عن يحيى بن سعيد القطان عن عبيد الله به.

وقد روي من حديث عمر بن الخطاب نفسه أيضا بنحو من هذا ، فقال الإمام أحمد (١) : حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي عن ابن إسحاق ، حدثني الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس ، قال : سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لما توفي عبد الله بن أبي ، دعي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للصلاة عليه ، فقام إليه فلما وقف عليه يريد الصلاة تحولت حتى قمت في صدره فقلت يا رسول الله أعلى عدو الله عبد الله بن أبي القائل يوم كذا وكذا وكذا يعدد أيامه ، قال ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يبتسم ، حتى إذا أكثرت عليه فقال : «أخر عني يا عمر ، إني خيرت فاخترت ، قد قيل لي (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ) الآية. لو أعلم أني لو زدت على السبعين غفر له لزدت» قال ثم صلى عليه ومشى معه وقام على قبره حتى فرغ منه ، قال فعجبت من جرأتي على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والله ورسوله أعلم. قال فو الله ما كان إلا يسيرا حتى نزلت هاتان الآيتان (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً) الآية. فما صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعده على منافق ولا قام على قبره حتى قبضه الله عزوجل (٢). وهكذا رواه الترمذي في التفسير من حديث محمد بن إسحاق عن الزهري به ، وقال حسن صحيح ، ورواه البخاري عن يحيى بن بكير عن الليث عن عقيل عن الزهري به فذكر مثله ، قال : «أخر عني يا عمر» فلما أكثرت عليه قال : «إني خيرت فاخترت ولو أعلم أني إن زدت على السبعين غفر له لزدت عليها» قال فصلى عليه رسول الله ثم انصرف ، فلم يلبث إلا يسيرا حتى نزلت الآيتان من براءة (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ) الآية ، فعجبت بعد من جرأتي على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعلم (٣).

وقال الإمام أحمد (٤) : حدثنا محمد بن أبي عبيد ، حدثنا عبد الملك عن أبي الزبير عن جابر قال : لما مات عبد الله بن أبي أتى ابنه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله إنك إن لم تأته لم نزل نعير بهذا ، فأتاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوجده قد أدخل في حفرته فقال : «أفلا قبل أن تدخلوه» فأخرج من حفرته وتفل عليه من ريقه من قرنه إلى قدمه وألبسه قميصه ، ورواه النسائي عن أبي داود الحراني عن يعلى بن عبيد عن عبد الملك وهو ابن أبي سليمان به ، وقال البخاري : حدثنا عبد الله بن عثمان ، أخبرنا ابن عيينة عن عمرو سمع جابر بن عبد الله قال : أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عبد الله بن أبي بعد ما أدخل في قبره فأمر به فأخرج ووضع على ركبتيه ونفث عليه من ريقه وألبسه قميصه والله

__________________

(١) المسند ١ / ١٦.

(٢) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٩ ، باب ١٢ ، والترمذي في تفسير سورة ٩ باب ١٢ ، ١٣.

(٣) راجع الحاشية السابقة.

(٤) المسند ٣ / ٣٧١.

أعلم (١).

وقد رواه أيضا في غير موضع مسلم والنسائي من غير وجه ، عن سفيان بن عيينة به. وقال الإمام أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار في مسنده : حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا يحيى ، حدثنا مجالد ، حدثنا عامر ، حدثنا جابر «ح» وحدثنا يوسف بن موسى ، حدثنا عبد الرحمن بن مغراء الدوسي ، حدثنا مجالد عن الشعبي عن جابر قال : لما مات رأس المنافقين قال يحيى بن سعيد بالمدينة فأوصى أن يصلي عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجاء ابنه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إن أبي أوصى أن يكفن بقميصك وهذا الكلام في حديث عبد الرحمن بن مغراء ، قال يحيى في حديثه : فصلى عليه وألبسه قميصه فأنزل الله تعالى : (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ) وزاد عبد الرحمن : وخلع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قميصه فأعطاه إياه ومشى فصلى عليه وقام على قبره ، فأتاه جبريل عليه‌السلام لما ولى قال (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ) وإسناده لا بأس به وما قبله شاهد له.

وقال الإمام أبو جعفر الطبري (٢) : حدثنا أحمد بن إسحاق ، حدثنا أحمد ، حدثنا حماد بن سلمة عن يزيد الرقاشي عن أنس ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أراد أن يصلي على عبد الله بن أبي فأخذ جبريل بثوبه وقال (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ) ورواه الحافظ أبو يعلى في مسنده من حديث يزيد الرقاشي وهو ضعيف. وقال قتادة أرسل عبد الله بن أبي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو مريض فلما دخل عليه قال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أهلكك حب يهود» قال : يا رسول الله إنما أرسلت إليك لتستغفر لي ولم أرسل إليك لتؤنبني ، ثم سأله عبد الله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه إياه وصلى عليه وقام على قبره ، فأنزل الله عزوجل (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً) (٣) الآية.

وقد ذكر بعض السلف أنه إنما كساه قميصه لأن عبد الله بن أبي لما قدم العباس طلب له قميص فلم يوجد على تفصيله إلا ثوب عبد الله بن أبي لأنه كان ضخما طويلا ففعل ذلك به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكافأة له فالله أعلم. ولهذا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد نزول هذه الآية الكريمة عليه لا يصلي على أحد من المنافقين ولا يقوم على قبره ، كما قال الإمام أحمد (٤) : حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي عن أبيه ، حدثني عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه قال : كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا دعي إلى جنازة سأل عنها ، فإن أثنى عليها خيرا قام فصلى عليها ، وإن كان غير ذلك قال لأهلها «شأنكم

__________________

(١) أخرجه البخاري في الجنائز باب ٢٢ ، واللباس باب ٨ ، ومسلم في المنافقين حديث ٢ ، والنسائي في الجنائز باب ٤٠.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٤٣٩ ، ٤٤٠.

(٣) انظر تفسير الطبري ٦ / ٤٤٠ ، ٤٤١.

(٤) المسند ٥ / ٢٩٩ ، ٣٠٠.

بها» ولم يصل عليها ، وكان عمر بن الخطاب لا يصلي على جنازة من جهل حاله حتى يصلي عليها حذيفة بن اليمان لأنه كان يعلم أعيان المنافقين ، قد أخبره بهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولهذا كان يقال له صاحب السر الذي لا يعلمه غيره أي من الصحابة.

وقال أبو عبيد في كتاب الغريب في حديث عمر ، أنه أراد أن يصلي على جنازة رجل فمرزه حذيفة كأنه أراد أن يصده عن الصلاة عليها. ثم حكي عن بعضهم أن المرز بلغة أهل اليمامة هو القرص بأطراف الأصابع ، ولما نهى الله عزوجل عن الصلاة على المنافقين والقيام على قبورهم للاستغفار لهم ، كان هذه الصنيع من أكبر القربات في حق المؤمنين فشرع ذلك ، وفي فعله الأجر الجزيل كما ثبت في الصحاح وغيرها من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من شهد الجنازة حتى يصلي عليها فله قيراط ، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان» قيل وما القيراطان؟ قال «أصغرهما مثل أحد» (١) وأما القيام عند قبر المؤمن إذا مات ، فروى أبو داود : حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي ، أخبرنا هشام عن عبد الله بن بحير عن هانئ ، وهو أبو سعيد البربري مولى عثمان بن عفان عن عثمان رضي الله عنه قال : كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال : «استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل» انفرد بإخراجه أبو داود (٢) رحمه‌الله.

(وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) (٨٥)

قد تقدم تفسير نظير هذه الآية الكريمة ولله الحمد والمنة (٣).

(وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (٨٦) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) (٨٧)

يقول تعالى منكرا وذاما للمتخلفين عن الجهاد الناكلين عنه مع القدرة عليه ووجود السعة والطول. واستأذنوا الرسول في القعود وقالوا (ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ) ورضوا لأنفسهم بالعار والقعود في البلد مع النساء ، وهن الخوالف بعد خروج الجيش ، فإذا وقع الحرب كانوا أجبن الناس ، وإذا كان أمن كانوا أكثر الناس كلاما ، كما قال تعالى عنهم في الآية الأخرى : (فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ) [الأحزاب : ١٩] أي علت ألسنتهم بالكلام الحاد القوي في الأمن ، وفي الحرب أجبن شيء ، وكما قال الشاعر : [الطويل]

__________________

(١) أخرجه البخاري في الجنائز باب ٥٩ ، ومسلم في الجنائز حديث ٥٢.

(٢) كتاب الجنائز باب ٦٩.

(٣) انظر تفسير الآية ٥٥ من هذه السورة.

أفي السلم أعيارا جفاء وغلظة

وفي الحرب أشباه النساء العوارك؟ (١)

وقال تعالى في الآية الأخرى (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) [محمد : ٢٠ ـ ٢١] الآية ، وقوله (وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ) أي بسبب نكولهم عن الجهاد والخروج مع الرسول في سبيل الله (فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) أي لا يفهمون ما فيه صلاح لهم فيفعلوه ولا ما فيه مضرة لهم فيجتنبوه.

(لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨٨) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٨٩)

لما ذكر تعالى ذنب المنافقين وبين ثناءه على المؤمنين ومالهم في آخرتهم ، فقال (لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا) إلى آخر الآيتين من بيان حالهم ومآلهم ، وقوله : (وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ) أي في الدار الآخرة في جنات الفردوس والدرجات العلى.

(وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٩٠)

ثم بين تعالى حال ذوي الأعذار في ترك الجهاد الذين جاءوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعتذرون إليه ويبينون له ما هم فيه من الضعف وعدم القدرة على الخروج وهم من أحياء العرب ممن حول المدينة. قال الضحاك عن ابن عباس ، إنه كان يقرأ (وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ) بالتخفيف ويقول : هم أهل العذر. وكذا روى ابن عيينة عن حميد عن مجاهد سواء ، قال ابن إسحاق : وبلغني أنهم نفر من بني غفار خفاف بن إيماء بن رحضة (٢).

وهذا القول هو الأظهر في معنى الآية ، لأنه قال بعد هذا (وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) أي لم يأتوا فيعتذروا ، وقال ابن جريج عن مجاهد (وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ) قال : نفر من بني غفار جاءوا فاعتذروا فلم يعذرهم الله ، وكذا قال الحسن وقتادة ومحمد بن إسحاق والقول الأول أظهر والله أعلم ، لما قدمنا من قوله بعده (وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) أي وقعد آخرون من الأعراب عن المجيء للاعتذار ثم أوعدهم بالعذاب الأليم فقال : (سَيُصِيبُ

__________________

(١) البيت لهند بنت عتبة في خزانة الأدب ٣ / ٢٦٣ ، والمقاصد النحوية ٣ / ١٤٢ ، وبلا نسبة في شرح أبيات سيبويه ١ / ٣٨٢ ، والكتاب ١ / ٣٤٤ ، ولسان العرب (عور) ، (عير) ، (عرك) ، والمقتضب ٣ / ٢٦٥ ، والمقرب ١ / ٢٥٨ ، وتاج العروس (عرك) ، وسيرة ابن هشام ١ / ٦٥٦.

(٢) انظر تفسير الطبري ٦ / ٤٤٤ ، ٤٤٥.

الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).

(لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩١) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (٩٢) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٩٣)

ثم بين تعالى الأعذار التي لا حرج على من قعد معها عن القتال ، فذكر منها ما هو لازم للشخص لا ينفك عنه وهو الضعف في التركيب الذي لا يستطيع معه الجلاد في الجهاد ، ومنه العمى والعرج ونحوهما ، ولهذا بدأ به ومنه ما هو عارض بسبب مرض عنّ له في بدنه شغله عن الخروج في سبيل الله أو بسبب فقره لا يقدر على التجهيز للحرب ، فليس على هؤلاء حرج إذا قعدوا ونصحوا في حال قعودهم ولم يرجفوا بالناس ولم يثبطوهم وهم محسنون في حالهم هذا ، ولهذا قال : (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وقال سفيان الثوري عن عبد العزيز بن رفيع عن أبي ثمامة رضي الله عنه قال : قال الحواريون يا روح الله أخبرنا عن الناصح لله؟ قال الذي يؤثر حق الله على حق الناس ، وإذا حدث له أمران أو بدا له أمر الدنيا وأمر الآخرة ، بدأ بالذي للآخرة ثم تفرغ للذي للدنيا.

وقال الأوزاعي : خرج الناس إلى الاستسقاء فقام فيهم بلال بن سعد فحمد الله وأثنى عليه ثم قال ، يا معشر من حضر ألستم مقرين بالإساءة؟ قالوا اللهم نعم ، فقال اللهم إنا نسمعك تقول : (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) اللهم وقد أقررنا بالإساءة فاغفر لنا وارحمنا واسقنا ، ورفع يديه ورفعوا أيديهم فسقوا ، وقال قتادة نزلت هذه الآية في عائذ بن عمرو المزني ، وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن عبيد الله الرازي ، حدثنا ابن جابر عن ابن فروة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن زيد بن ثابت قال : كنت أكتب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكنت أكتب براءة ، فإني لواضع القلم على أذني إذ أمرنا بالقتال ، فجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينظر ما ينزل عليه ، إذ جاء أعمى فقال : كيف بي يا رسول الله وأنا أعمى؟ فنزلت (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ) الآية.

وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية ، وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر الناس أن ينبعثوا غازين معه ، فجاءته عصابة من أصحابه فيهم عبد الله بن مغفل بن مقرن المزني فقالوا : يا رسول الله احملنا فقال لهم : والله لا أجد ما أحملكم عليه» فتولوا وهم يبكون وعز عليهم أن يجلسوا عن الجهاد ولا يجدون نفقة ولا محملا. فلما رأى الله حرصهم على محبته ومحبة رسوله أنزل عذرهم في كتابه فقال (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ) إلى قوله (فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (١).

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٤٤٥ ، ٤٤٦.

وقال مجاهد في قوله : (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ) نزلت في بني مقرن من مزينة (١) ، وقال محمد بن كعب : كانوا سبعة نفر من بني عمرو بن عوف سالم بن عمير ، ومن بني واقف حرمي بن عمرو ، ومن بني مازن بن النجار عبد الرحمن بن كعب ويكنى أبا ليلى ، ومن بني المعلى سلمان بن صخر ، ومن بني سلمة عمرو بن غنمة وعبد الله بن عمرو المزني (٢).

وقال محمد بن إسحاق في سياق غزوة تبوك : ثم إن رجالا من المسلمين أتوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم البكاؤون وهم سبعة نفر من الأنصار وغيرهم ، من بني عمرو بن عوف سالم بن عمير وعلية بن زيد أخو بني حارثة ، وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب أخو بني مازن بن النجار ، وعمرو بن الحمام بن الجموح أخو بني سلمة وعبد الله بن المغفل المزني ، وبعض الناس يقول بل هو عبد الله بن عمرو المزني ، وحرمي بن عبد الله أخو بني واقف وعياض بن سارية الفزاري ، فاستحملوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكانوا أهل حاجة فقال (لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ) (٣).

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا عمر بن الأودي ، حدثنا وكيع عن الربيع عن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لقد خلفتم بالمدينة أقواما ما أنفقتم من نفقة ولا قطعتم واديا ولا نلتم من عدو نيلا إلا وقد شركوكم في الأجر» ثم قرأ (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ) الآية ، وأصل الحديث في الصحيحين من حديث أنس ، أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن بالمدينة أقواما ما قطعتم واديا ولا سرتم سيرا إلا وهم معكم» قالوا وهم بالمدينة؟ قال : «نعم حبسهم العذر» (٤) ، وقال الإمام أحمد (٥) : حدثنا وكيع حدثنا الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لقد خلفتم بالمدينة رجالا ما قطعتم واديا ولا سلكتم طريقا إلا شركوكم في الأجر ، حبسهم المرض» (٦) ورواه مسلم وابن ماجة من طرق عن الأعمش به ثم رد تعالى الملامة على الذين يستأذنون في القعود وهم أغنياء ، وأنبهم في رضاهم بأن يكونوا مع النساء الخوالف في الرحال (وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ).

(يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٤٤٦.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٤٤٧.

(٣) سيرة ابن هشام ٢ / ٥١٨.

(٤) أخرجه البخاري في الجهاد باب ٣٥ ، والمغازي باب ٨١.

(٥) المسند ٣ / ٣٠٠.

(٦) أخرجه مسلم في الإمارة حديث ١٥٩ ، وابن ماجة في الجهاد باب ٦.

وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ(٩٤) سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٥) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) (٩٦)

أخبر تعالى عن المنافقين بأنهم إذا رجعوا إلى المدينة أنهم يعتذرون إليهم (قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ) أي لن نصدقكم (قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ) أي قد أعلمنا الله أحوالكم (وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ) أي سيظهر أعمالكم للناس في الدنيا (ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي فيخبركم بأعمالكم خيرها وشرها ويجزيكم عليها ، ثم أخبر عنهم أنهم سيحلفون لكم معتذرين لتعرضوا عنهم فلا تؤنبوهم فأعرضوا عنهم احتقارا لهم إنهم رجس أي خبث نجس بواطنهم واعتقاداتهم ، ومأواهم في آخرتهم جهنم (جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي من الآثام والخطايا ، وأخبر أنهم إن رضوا عنهم بحلفهم لهم (فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) أي الخارجين عن طاعة الله وطاعة رسوله ، فإن الفسق هو الخروج ، ومنه سميت الفأرة فويسقة لخروجها من جحرها للإفساد ، ويقال فسقت الرطبة إذا خرجت من أكمامها

(الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٩٧) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٩٨) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٩٩)

أخبر تعالى أن في الأعراب كفارا ومنافقين ومؤمنين ، وأن كفرهم ونفاقهم أعظم من غيرهم وأشد وأجدر ، أي أحرى أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله كما قال الأعمش عن إبراهيم قال : جلس أعرابي إلى زيد بن صوحان وهو يحدث أصحابه وكانت يده قد أصيبت يوم نهاوند ، فقال الأعرابي : والله إن حديثك ليعجبني ، وإن يدك لتريبني. فقال زيد : ما يريبك من يدي إنها الشمال؟ فقال الأعرابي : والله ما أدري اليمين يقطعون أو الشمال؟ فقال زيد بن صوحان : صدق الله (الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ).

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا سفيان عن أبي موسى عن وهب بن منبه عن ابن عباس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من سكن البادية جفا ، ومن اتبع الصيد

__________________

(١) المسند ١ / ٣٥٧.

غفل ، ومن أتى السلطان افتتن» (١) ورواه أبو داود والترمذي والنسائي من طرق عن سفيان الثوري به ، وقال الترمذي حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث الثوري.

ولما كانت الغلظة والجفاء في أهل البوادي لم يبعث الله منهم رسولا ، وإنما كانت البعثة من أهل القرى كما قال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) [يوسف : ١٠٩] ولما أهدى ذلك الأعرابي تلك الهدية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرد عليه أضعافها حتى رضي ، قال : «لقد هممت أن لا أقبل هدية إلا من قرشي أو ثقفي أو أنصاري أو دوسي» لأن هؤلاء كانوا يسكنون المدن مكة والطائف والمدينة واليمن ، فهم ألطف أخلاقا من الأعراب لما في طباع الأعراب من الجفاء.

[حديث الأعرابي في تقبيل الولد] قال مسلم : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب قالا : حدثنا أبو أسامة وابن نمير عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت : قدم ناس من الأعراب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : أتقبلون صبيانكم؟ قالوا نعم ، قالوا لكنا والله ما نقبل ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وأملك إن كان الله نزع منكم الرحمة» وقال ابن نمير : «من قلبك الرحمة» (٢).

وقوله (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي عليم بمن يستحق أن يعلمه الإيمان والعلم ، حكيم فيما قسم بين عباده من العلم والجهل والإيمان والكفر والنفاق ، لا يسأل عما يفعل لعلمه وحكمته ، وأخبر تعالى أن منهم (مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ) أي في سبيل الله (مَغْرَماً) أي غرامة وخسارة (وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ) أي ينتظر بكم الحوادث والآفات (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) أي هي منعكسة عليهم والسوء دائر عليهم (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي سميع لدعاء عباده عليم بمن يستحق النصر ممن يستحق الخذلان.

وقوله : (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ) هذا هو القسم الممدوح من الأعراب ، وهم الذين يتخذون ما ينفقون في سبيل الله قربة يتقربون بها عند الله ويبتغون بذلك دعاء الرسول لهم (أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ) أي ألا إن ذلك حاصل لهم (سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

(وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (١٠٠)

يخبر تعالى عن رضاه عن السابقين من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان ، ورضاهم عنه بما أعد لهم من جنات النعيم والنعيم المقيم ، قال الشعبي : السابقون الأولون من

__________________

(١) أخرجه أبو داود في الأضاحي باب ٢٤ ، والترمذي في الفتن باب ٦٩ ، والنسائي في الصيد باب ٢٤.

(٢) أخرجه البخاري في الأدب باب ١٨ ، ومسلم في الفضائل حديث ٦٤.

المهاجرين والأنصار من أدرك بيعة الرضوان عام الحديبية (١) ، وقال أبو موسى الأشعري وسعيد بن المسيب ومحمد بن سيرين والحسن وقتادة ، هم الذين صلوا إلى القبلتين مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢) ، وقال محمد بن كعب القرظي : مر عمر بن الخطاب برجل يقرأ هذه الآية ، (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) فأخذ عمر بيده فقال : من أقرأك هذا؟ فقال: أبي بن كعب ، فقال : لا تفارقني حتى أذهب بك إليه ، فلما جاءه قال عمر أنت أقرأت هذا هذه الآية هكذا؟ قال : نعم. قال : وسمعتها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قال : نعم. قال : لقد كنت أرى أنا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا ، فقال أبي تصديق هذه الآية في أول سورة الجمعة (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [الجمعة : ٣] وفي سورة الحشر وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) [الحشر : ١٠] الآية ، وفي الأنفال (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ) [الأنفال : ٧٥] الآية ، ورواه ابن جرير (٣).

قال : وذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرؤها برفع الأنصار عطفا على والسابقون الأولون ، فقد أخبر الله العظيم أنه قد رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ، فيا ويل من أبغضهم أو سبهم أو أبغض أو سب بعضهم ، ولا سيما سيد الصحابة بعد الرسول وخيرهم وأفضلهم أعني الصديق الأكبر والخليفة الأعظم أبا بكر بن أبي قحافة رضي الله عنه ، فإن الطائفة المخذولة من الرافضة يعادون أفضل الصحابة ويبغضونهم ويسبونهم. عياذا بالله من ذلك. وهذا يدل على أن عقولهم معكوسة وقلوبهم منكوسة ، فأين هؤلاء من الإيمان بالقرآن إذ يسبون من رضي الله عنهم؟ وأما أهل السنة فإنهم يترضون عمن رضي الله عنه ويسبون من سبه الله ورسوله ، ويوالون من يوالي الله ويعادون من يعادي الله وهم متبعون لا مبتدعون ويقتدون ولا يبتدئون ، ولهذا هم حزب الله المفلحون وعباده المؤمنون.

(وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ) (١٠١)

يخبر تعالى رسوله صلوات الله وسلامه عليه أن في أحياء العرب ممن حول المدينة منافقون ، وفي أهل المدينة أيضا منافقون (مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ) أي مرنوا واستمروا عليه ، ومنه يقال شيطان مريد ، ومارد ويقال تمرد فلان على الله أي عتا وتجبر ، وقوله : (لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) لا ينافي قوله تعالى : (وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٤٥٣.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٤٥٤.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ٤٥٥.

الْقَوْلِ) [محمد : ٣٠] لأن هذا من باب التوسم فيهم بصفات يعرفون بها ، لا أنه يعرف جميع من عنده من أهل النفاق والريب على التعيين ، وقد كان يعلم أن في بعض من يخالطه من أهل المدينة نفاقا وإن كان يراه صباحا ومساء.

وشاهد هذا بالصحة ما رواه الإمام أحمد (١) في مسنده حيث قال : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة عن النعمان بن سالم عن رجل عن جبير بن مطعم رضي الله عنه ، قال قلت : يا رسول الله إنهم يزعمون أنه ليس لنا أجر بمكة فقال : «لتأتينكم أجوركم ولو كنتم في جحر ثعلب» وأصغى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم برأسه فقال «إن في أصحابي منافقين» ومعناه أنه قد يبوح بعض المنافقين والمرجفين من الكلام بما لا صحة له ومن مثلهم صدر هذا الكلام الذي سمعه جبير بن مطعم ، وتقدم في تفسير قوله (وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا) أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعلم حذيفة بأعيان أربعة عشر أو خمسة عشر منافقا ، وهذا تخصيص لا يقتضي أنه اطلع على أسمائهم وأعيانهم كلهم ، والله أعلم.

وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة أبي عمر البيروتي من طريق هشام بن عمار : حدثنا صدقة بن خالد ، حدثنا ابن جابر ، حدثني شيخ ببيروت يكنى أبا عمر ، أظنه حدثني عن أبي الدرداء أن رجلا يقال له حرملة أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : الإيمان هاهنا وأشار بيده إلى لسانه ، والنفاق هاهنا وأشار بيده إلى قلبه ، ولم يذكر الله إلا قليلا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم اجعل له لسانا ذاكرا ، وقلبا شاكرا ، وارزقه حبي وحب من يحبني ، وصير أمره إلى خير» فقال : يا رسول الله إنه كان لي أصحاب من المنافقين وكنت رأسا فيهم أفلا آتيك بهم؟ قال : «من أتانا استغفرنا له ، ومن أصر فالله أولى به ، ولا تخرقن على أحد سترا» ، قال وكذا رواه أبو أحمد الحاكم عن أبي بكر الباغندي عن هشام بن عمار به.

وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن قتادة في هذه الآية أنه قال : ما بال أقوام يتكلفون علم الناس ، فلان في الجنة وفلان في النار ، فإذا سألت أحدهم عن نفسه قال لا أدري لعمري أنت بنفسك أعلم منك بأحوال الناس ، ولقد تكلفت شيئا ما تكلفه الأنبياء قبلك ، قال نبي الله نوح عليه‌السلام (وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) وقال نبي الله شعيب عليه‌السلام (بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) وقال الله تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) (٢).

وقال السدي عن أبي مالك عن ابن عباس في هذه الآية قال : قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطيبا يوم الجمعة فقال : «اخرج يا فلان فإنك منافق ، واخرج يا فلان إنك منافق» فأخرج من المسجد

__________________

(١) المسند ٤ / ٨٢ ، ٨٣ ، ٨٤.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٤٥٦.

ناسا منهم فضحهم ، فجاء عمر وهم يخرجون من المسجد فاختبأ منهم حياء أنه لم يشهد الجمعة وظن أن الناس قد انصرفوا ، واختبئوا هم من عمر ظنوا أنه قد علم بأمرهم ، فجاء عمر فدخل المسجد فإذا الناس لم يصلوا ، فقال له رجل من المسلمين : أبشر يا عمر قد فضح الله المنافقين اليوم ، قال ابن عباس : فهذا العذاب الأول حين أخرجهم من المسجد ، والعذاب الثاني عذاب القبر (١) ، وكذا قال الثوري عن السدي عن أبي مالك نحو هذا.

وقال مجاهد في قوله (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ) يعني القتل والسبي ، وقال في رواية بالجوع وعذاب القبر ، ثم يردون إلى عذاب عظيم (٢) ، وقال ابن جريج عذاب الدنيا وعذاب القبر ثم يردون إلى عذاب عظيم النار (٣) ، وقال الحسن البصري : عذاب في الدنيا وعذاب في القبر (٤) ، وقال عبد الرحمن بن زيد : أما عذاب في الدنيا فالأموال والأولاد ، وقرأ قوله تعالى (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) فهذه المصائب لهم عذاب وهي للمؤمنين أجر ، وعذاب في الآخرة في النار (ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ) قال النار (٥) ، وقال محمد بن إسحاق (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ) قال : هو فيما بلغني ما هم فيه من أمر الإسلام وما يدخل عليهم من غيظ ذلك على غير حسبة ، ثم عذابهم في القبور إذا صاروا إليها ، ثم العذاب العظيم الذي يردون إليه عذاب الآخرة والخلد فيه (٦) ، وقال سعيد عن قتادة في قوله : (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ) عذاب الدنيا وعذاب القبر (ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ) وذكر لنا أن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسر إلى حذيفة باثني عشر رجلا من المنافقين ، فقال ستة منهم تكفيهم الدبيلة سراج من نار جهنم يأخذ في كتف أحدهم حتى يفضي إلى صدره ، وستة يموتون موتا ، وذكر لنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا مات رجل ممن يرى أنه منهم ، نظر إلى حذيفة فإن صلى عليه وإلا تركه ، وذكر لنا أن عمر قال لحذيفة أنشدك الله أمنهم أنا؟ قال لا ولا أومن منها أحدا بعدك.

(وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٠٢)

لما بيّن تعالى حال المنافقين المتخلفين عن الغزاة رغبة عنها وتكذيبا وشكا ، شرع في بيان حال المذنبين الذين تأخروا عن الجهاد كسلا وميلا إلى الراحة مع إيمانهم وتصديقهم بالحق ، فقال (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ) أي أقروا بها واعترفوا فيما بينهم وبين ربهم ، ولهم أعمال

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٤٥٧.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٤٥٧.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ٤٥٨.

(٤) تفسير الطبري ٦ / ٤٥٨.

(٥) تفسير الطبري ٦ / ٤٥٨.

(٦) تفسير الطبري ٦ / ٤٥٨.

أخر صالحة خلطوا هذه بتلك فهؤلاء تحت عفو الله وغفرانه ، وهذه الآية وإن كانت نزلت في أناس معينين إلا أنها عامة في كل المذنبين الخطائين المخلطين المتلوثين ، وقد قال مجاهد : إنها نزلت في أبي لبابة لما قال لبني قريظة : إنه الذبح وأشار بيده إلى حلقه (١) ، وقال ابن عباس (وَآخَرُونَ) نزلت في أبي لبابة وجماعة من أصحابه تخلفوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة تبوك ، فقال بعضهم : أبو لبابة وخمسة معه ، وقيل وسبعة معه ، وقيل وتسعة معه ، فلما رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غزوته ربطوا أنفسهم بسواري المسجد وحلفوا لا يحلهم إلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما أنزل الله هذه الآية (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ) أطلقهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعفا عنهم.

وقال البخاري (٢) : حدثنا مؤمل بن هشام ، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، حدثنا عوف ، حدثنا أبو رجاء ، حدثنا سمرة بن جندب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لنا «أتاني الليلة آتيان فابتعثاني فانتهيا بي إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ولبن فضة فتلقانا رجال شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راء ، وشطر كأقبح ما أنت راء ، قالا لهم اذهبوا فقعوا في ذلك النهر فوقعوا فيه ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم فصاروا في أحسن صورة ، قالا لي هذه جنة عدن وهذا منزلك ، قالا وأما القوم الذين كانوا شطر منهم حسن وشطر منهم قبيح ، فإنهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا تجاوز الله عنهم» هكذا رواه البخاري مختصرا في تفسير هذه الآية.

(خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٠٣) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (١٠٤)

أمر تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يأخذ من أموالهم صدقة يطهرهم ويزكيهم بها وهذا عام وإن أعاد بعضهم الضمير في أموالهم إلى الذين اعترفوا بذنوبهم وخلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ، ولهذا اعتقد بعض مانعي الزكاة من أحياء العرب أن دفع الزكاة إلى الإمام لا يكون ، وإنما كان هذا خاصا بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولهذا احتجوا بقوله تعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) الآية ، وقد رد عليهم هذا التأويل والفهم الفاسد ، أبو بكر الصديق وسائر الصحابة وقاتلوهم حتى أدوا الزكاة إلى الخليفة كما كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حتى قال الصديق : والله لو منعوني عناقا ـ وفي رواية عقالا ـ كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأقاتلنهم على منعه (٣).

وقوله (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) أي ادع لهم واستغفر لهم كما رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن أبي أوفى قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أتي بصدقة قوم صلى عليهم فأتاه أبي بصدقته فقال : «اللهم

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٤٦٢.

(٢) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٩ ، باب ١٠.

(٣) أخرجه البخاري في الاعتصام باب ٢ ، ومسلم في الإيمان حديث ٣٢.

صل على آل أبي أوفى» (١) وفي الحديث الآخر أن امرأة قالت : يا رسول الله صل عليّ وعلى زوجي ، فقال «صلى الله عليك وعلى زوجك» (٢).

وقوله : (إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) قرأ بعضهم صلواتك على الجمع وآخرون قرءوا إن صلاتك على الإفراد (سَكَنٌ لَهُمْ) قال ابن عباس : رحمة لهم ، وقال قتادة وقار ، وقوله : (وَاللهُ سَمِيعٌ) أي لدعائك (عَلِيمٌ) أي بمن يستحق ذلك منك ومن هو أهل له ، قال الإمام أحمد (٣) : حدثنا وكيع ، حدثنا أبو العميس عن أبي بكر بن عمرو بن عتبة عن ابن حذيفة عن أبيه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا دعا لرجل أصابته وأصابت ولده وولد ولده ، ثم رواه عن أبي نعيم عن مسعر عن أبي بكر بن عمرو بن عتبة عن ابن لحذيفة ، قال مسعر : وقد ذكره مرة عن حذيفة إن صلاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لتدرك الرجل وولده وولد ولده (٤).

وقوله (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ) هذا تهييج إلى التوبة والصدقة اللتين كل منهما يحط الذنوب ويمحصها ويمحقها ، وأخبر تعالى أن كل من تاب إليه تاب عليه ، ومن تصدق بصدقة من كسب حلال ، فإن الله تعالى يتقبلها بيمينه فيربيها لصاحبها حتى تصير التمرة مثل أحد ، كما جاء بذلك الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما قال الثوري ووكيع كلاهما عن عباد بن منصور عن القاسم بن محمد ، أنه سمع أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم مهره ، حتى أن اللقمة لتكون مثل أحد» وتصديق ذلك في كتاب الله عزوجل (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ) وقوله : (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ) (٥) [البقرة : ٢٧٦].

وقال الثوري والأعمش ، كلاهما عن عبد الله بن السائب عن عبد الله بن أبي قتادة قال : قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، إن الصدقة تقع في يد الله عزوجل قبل أن تقع في يد السائل ، ثم قرأ هذه الآية (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ) (٦).

وقد روى ابن عساكر في تاريخه في ترجمة عبد الله بن الشاعر السكسكي الدمشقي وأصله حمصي ، وكان أحد الفقهاء ، روى عن معاوية وغيره ، وحكى عنه حوشب بن سيف السكسكي الحمصي قال : غزا الناس في زمان معاوية رضي الله عنه وعليهم عبد الرحمن بن خالد بن

__________________

(١) أخرجه مسلم في الزكاة حديث ١٧٦.

(٢) أخرجه أبو داود في الوتر باب ٢٨.

(٣) المسند ٥ / ٣٨٥ ، ٣٨٦.

(٤) المسند ٥ / ٤٠٠.

(٥) انظر تفسير الطبري ٦ / ٤٦٦.

(٦) تفسير الطبري ٦ / ٤٦٦.

الوليد ، فغل رجل من المسلمين مائة دينار رومية. فلما قفل الجيش ندم وأتى الأمير فأبى أن يقبلها منه وقال : قد تفرق الناس ولن أقبلها منك حتى تأتي الله بها يوم القيامة ، فجعل الرجل يستقري الصحابة فيقولون له مثل ذلك ، فلما قدم دمشق ذهب إلى معاوية ليقبلها منه فأبى عليه ، فخرج من عنده وهو يبكي ويسترجع ، فمر بعبد الله بن الشاعر السكسكي فقال له ما يبكيك؟ فذكر له أمره ، فقال له : أو مطيعي أنت؟ فقال : نعم ، فقال اذهب إلى معاوية فقل له اقبل مني خمسك فادفع إليه عشرين دينارا وانظر إلى الثمانين الباقية فتصدق بها عن ذلك الجيش ، فإن الله يقبل التوبة عن عباده وهو أعلم بأسمائهم ومكانهم ، ففعل الرجل ، فقال معاوية رضي الله عنه : لأن أكون أفتيته بها أحب إلي من كل شيء أملكه ، أحسن الرجل.

(وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١٠٥)

قال مجاهد : هذا وعيد يعني من الله تعالى للمخالفين أوامره بأن أعمالهم ستعرض عليه تبارك وتعالى وعلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى المؤمنين. وهذا كائن لا محالة يوم القيامة كما قال : (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ) [الحاقة : ١٨] وقال تعالى : (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) [الطارق : ٩] وقال : (وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ) [العاديات : ١٠] وقد يظهر الله تعالى ذلك للناس في الدنيا ، كما قال الإمام أحمد (١) : حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد مرفوعا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة لأخرج الله عمله للناس كائنا ما كان» وقد ورد : أن أعمال الأحياء تعرض على الأموات من الأقرباء والعشائر في البرزخ ، كما قال أبو داود الطيالسي : حدثنا الصلت بن دينار عن الحسن عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أعمالكم تعرض على أقربائكم وعشائركم في قبورهم ، فإن كان خيرا استبشروا به ، وإن كان غير ذلك قالوا : اللهم ألهمهم أن يعملوا بطاعتك» وقال الإمام أحمد (٢) : أنبأنا عبد الرزاق عن سفيان عمن سمع أنسا يقول : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن أعمالكم تعرض على أقاربكم وعشائركم من الأموات فإن كان خيرا استبشروا به وإن كان غير ذلك قالوا اللهم لا تمتهم حتى تهديهم كما هديتنا».

وقال البخاري (٣) : قالت عائشة رضي الله عنها : إذا أعجبك حسن عمل امرئ مسلم فقل (اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) وقد ورد في الحديث شبيه بهذا ، قال الإمام

__________________

(١) المسند ٣ / ٢٨.

(٢) المسند ٣ / ١٦٤ ، ١٦٥.

(٣) كتاب الشهادات باب ٢٦.

أحمد (١) : حدثنا يزيد ، حدثنا حميد عن أنس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا عليكم أن تعجبوا بأحد حتى تنظروا بم يختم له ، فإن العامل يعمل زمانا من عمره أو برهة من دهره بعمل صالح لو مات عليه دخل الجنة ثم يتحول فيعمل عملا سيئا ، وإن العبد ليعمل البرهة من دهره بعمل سيئ لو مات عليه دخل النار ثم يتحول فيعمل عملا صالحا ، وإذا أراد الله بعبده خيرا استعمله قبل موته» قالوا : يا رسول الله وكيف يستعمله؟ قال : «يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه» تفرد به الإمام أحمد من هذا الوجه.

(وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (١٠٦)

قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والضحاك وغير واحد : هم الثلاثة الذين خلفوا أي عن التوبة ، وهم مرارة بن الربيع وكعب بن مالك وهلال بن أمية ، قعدوا عن غزوة تبوك في جملة من قعد كسلا وميلا إلى الدعة والحفظ وطيب الثمار والظلال لا شكا ونفاقا ، فكانت منهم طائفة ربطوا أنفسهم بالسواري كما فعل أبو لبابة وأصحابه ، وطائفة لم يفعلوا ذلك وهم هؤلاء الثلاثة المذكورون ، فنزلت توبة أولئك قبل هؤلاء وأرجي هؤلاء عن التوبة ، حتى نزلت الآية الآتية وهي قوله (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) [التوبة : ١١٧] الآية ، (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) [التوبة : ١١٨] الآية ، كما سيأتي بيانه في حديث كعب بن مالك ، وقوله (إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) أي هم تحت عفو الله إن شاء فعل بهم هذا وإن شاء فعل بهم ذاك ، ولكن رحمته تغلب غضبه (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي عليم بمن يستحق العقوبة ممن يستحق العفو ، حكيم في أفعاله وأقواله لا إله إلا هو ولا رب سواه.

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٠٧) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) (١٠٨)

سبب نزول هذه الآيات الكريمات ، أنه كان بالمدينة قبل مقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليها رجل من الخزرج يقال له أبو عامر الراهب ، وكان قد تنصر في الجاهلية وقرأ علم أهل الكتاب ، وكان فيه عبادة في الجاهلية وله شرف في الخزرج كبير ، فلما قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مهاجرا إلى المدينة واجتمع المسلمون عليه وصارت للإسلام كلمة عالية وأظهرهم الله يوم بدر ، شرق اللعين أبو عامر بريقه وبارز بالعداوة وظاهر بها ، وخرج فارا إلى كفار مكة من مشركي قريش ، يمالئهم

__________________

(١) المسند ٣ / ١٢٠.

على حرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاجتمعوا بمن وافقهم من أحياء العرب وقدموا عام أحد ، فكان من أمر المسلمين ما كان وامتحنهم الله عزوجل ، وكانت العاقبة للمتقين.

وكان هذا الفاسق قد حفر حفائر فيما بين الصفين ، فوقع في إحداهن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصيب ذلك اليوم فجرح وجهه وكسرت رباعيته اليمنى السفلى وشج رأسه صلوات الله وسلامه عليه ، وتقدم أبو عامر في أول المبارزة إلى قومه من الأنصار فخاطبهم واستمالهم إلى نصره وموافقته ، فلما عرفوا كلامه قالوا : لا أنعم الله بك عينا يا فاسق يا عدو الله ، ونالوا منه وسبوه فرجع وهو يقول : والله لقد أصاب قومي بعدي شر ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد دعاه إلى الله قبل فراره وقرأ عليه من القرآن ، فأبى أن يسلم وتمرد ، فدعا عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يموت بعيدا طريدا فنالته هذه الدعوة ، وذلك أنه لما فرغ الناس من أحد ، ورأى أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ارتفاع وظهور ، ذهب إلى هرقل ملك الروم يستنصره على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوعده ومناه وأقام عنده ، وكتب إلى جماعة من قومه من الأنصار من أهل النفاق والريب يعدهم ويمنيهم أنه سيقدم بجيش يقاتل به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ويغلبه ويرده عما هو فيه ، وأمرهم أن يتخذوا له معقلا يقدم عليهم فيه من يقدم من عنده لأداء كتبه ويكون مرصدا له إذا قدم عليهم بعد ذلك.

فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد قباء فبنوه وأحكموه وفرغوا منه قبل خروج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى تبوك ، وجاءوا فسألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يأتي إليهم فيصلي في مسجدهم ليحتجوا بصلاته فيه على تقريره وإثباته ، وذكروا أنهم إنما بنوه للضعفاء منهم وأهل العلة في الليلة الشاتية ، فعصمه الله من الصلاة فيه فقال : «إنا على سفر ولكن إذا رجعنا إن شاء الله» فلما قفل عليه‌السلام راجعا إلى المدينة من تبوك ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعض يوم ، نزل عليه جبريل بخبر مسجد الضرار وما اعتمده بانوه من الكفر والتفريق بين جماعة المؤمنين في مسجدهم مسجد قباء الذي أسس من أول يوم على التقوى. فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى ذلك المسجد من هدمه قبل مقدمه المدينة ، كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية ، هم أناس من الأنصار بنوا مسجدا.

فقال لهم أبو عامر : ابنوا مسجدا واستعدوا بما استطعتم من قوة ومن سلاح فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم فآتي بجنود من الروم وأخرج محمدا وأصحابه ، فلما فرغوا من مسجدهم أتوا النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا له : قد فرغنا من بناء مسجدنا فنحب أن تصلي فيه وتدعو لنا بالبركة ، فأنزل الله عزوجل (لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً) إلى قوله : (الظَّالِمِينَ) وكذا روي عن سعيد بن جبير ومجاهد وعروة بن الزبير وقتادة وغير واحد من العلماء.

وقال محمد بن إسحاق بن يسار ، عن الزهري ويزيد بن رومان وعبد الله بن أبي بكر وعاصم بن عمر بن قتادة وغيرهم ، قالوا : أقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعني من تبوك حتى نزل بذي أوان بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار ، وكان أصحاب مسجد الضرار قد كانوا أتوه وهو

يتجهز إلى تبوك فقالوا : يا رسول الله إنا قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية ، وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه ، فقال : «إني على جناح سفر وحال شغل» أو كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ولو قد قدمنا إن شاء الله تعالى أتيناكم فصلينا لكم فيه».

فلما نزل بذي أوان أتاه خبر المسجد فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مالك بن الدخشم أخا بني سالم بن عوف ، ومعن بن عدي أو أخاه عامر بن عدي أخا بلعجلان فقال : «انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وحرقاه» فخرجا سريعين حتى أتيا بني سالم بن عوف ، وهم رهط مالك بن الدخشم. فقال مالك لمعن : أنظرني حتى أخرج إليك بنار من أهلي ، فدخل أهله فأخذ سعفا من النخل فأشعل فيه نارا ثم خرجا يشتدان حتى دخلا المسجد وفيه أهله ، فحرقاه وهدماه وتفرقوا عنه ، ونزل فيهم من القرآن ما نزل (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً) إلى آخر القصة.

وكان الذين بنوه اثني عشر رجلا : خذام بن خالد من بني عبيد بن زيد أحد بني عمرو بن عوف ، ومن داره أخرج مسجد الشقاق ، وثعلبة بن حاطب من بني عبيد وموالي بني أمية بن زيد ، ومعتب بن قشير من بني ضبيعة بن زيد ، وأبو حبيبة بن الأزعر من بني ضبيعة بن زيد ، وعباد بن حنيف أخو سهل بن حنيف من بني عمرو بن عوف ، وحارثة بن عامر وابناه مجمع بن حارثة وزيد بن حارثة ونبتل الحارث وهم من بني ضبيعة ومخرج ، وهم من بني ضبيعة ، وبجاد بن عثمان وهو من بني ضبيعة ، ووديعة بن ثابت ، وموالي بني أمية رهط أبي لبابة بن عبد المنذر.

وقوله (وَلَيَحْلِفُنَ) أي الذين بنوه (إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى) أي ما أردنا ببنيانه إلا خيرا ورفقا بالناس ، قال الله تعالى : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) أي فيما قصدوا وفيما نووا ، وإنما بنوه ضرارا لمسجد قباء وكفرا بالله وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل ، وهو أبو عامر الفاسق الذي يقال له الراهب لعنه الله.

وقوله (لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً) نهي له صلى‌الله‌عليه‌وسلم والأمة تبع له في ذلك عن أن يقوم فيه أي يصلي فيه أبدا. ثم حثه على الصلاة بمسجد قباء الذي أسس من أول يوم بنيانه على التقوى ، وهي طاعة الله وطاعة رسوله وجمعا لكلمة المؤمنين ومعقلا وموئلا للإسلام وأهله ، ولهذا قال تعالى : (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) والسياق إنما هو في معرض مسجد قباء ، ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «صلاة في مسجد قباء كعمرة» (١) ، وفي الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يزور مسجد قباء راكبا وماشيا (٢) ، وفي

__________________

(١) أخرجه ابن ماجة في الصلاة باب ٣٠.

(٢) أخرجه مسلم في الحج حديث ٥١٥ ، وأحمد في المسند ٢ / ٥.

الحديث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما بناه وأسسه أول قدومه ونزوله على بني عمرو بن عوف كان جبريل هو الذي عين له جهة القبلة ، فالله أعلم.

وقال أبو داود : حدثنا محمد بن العلاء ، حدثنا معاوية بن هشام عن يونس بن الحارث عن إبراهيم بن أبي ميمونة عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «نزلت هذه الآية في أهل قباء (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) ـ قال ـ كانوا يستنجون بالماء فنزلت فيهم هذه الآية» (١). ورواه الترمذي وابن ماجة من حديث يونس بن الحارث وهو ضعيف ، وقال الترمذي غريب من هذا الوجه ، وقال الطبراني : حدثنا الحسن بن علي المعمري ، حدثنا محمد بن حميد الرازي ، حدثنا سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى عويم بن ساعدة فقال : «ما هذا الطهور الذي أثنى الله عليكم؟» فقال : يا رسول الله ما خرج منا رجل ولا امرأة من الغائط إلا وغسل فرجه أو قال مقعدته ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «هو هذا».

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا حسين بن محمد ، حدثنا أبو أويس ، حدثنا شرحبيل عن عويم بن ساعدة الأنصاري ، أنه حدثه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتاهم في مسجد قباء فقال : «إن الله تعالى قد أحسن عليكم الثناء في الطهور في قصة مسجدكم ، فما هذا الطهور الذي تطهرون به؟» فقالوا : والله يا رسول الله ما نعلم شيئا ، إلا أنه كان لنا جيران من اليهود فكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط فغسلنا كما غسلوا ، ورواه ابن خزيمة في صحيحه ، وقال هشيم عن عبد الحميد المدني عن إبراهيم بن إسماعيل الأنصاري : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعويم بن ساعدة : «ما هذا الذي أثنى الله عليكم (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا؟») الآية ، قالوا : يا رسول الله إنا نغسل الأدبار بالماء (٣) ، وقال ابن جرير (٤) : حدثني محمد بن عمارة الأسدي ، حدثنا محمد بن سعد عن إبراهيم بن محمد عن شرحبيل بن سعد قال : سمعت خزيمة بن ثابت يقول : نزلت هذه الآية (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) قال كانوا يغسلون أدبارهم من الغائط.

حديث آخر قال الإمام أحمد بن حنبل (٥) : حدثنا يحيى بن آدم ، حدثنا مالك يعني ابن مغول ، سمعت سيارا أبا الحكم عن شهر بن حوشب عن محمد بن عبد الله بن سلام قال : لما قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعني قباء ، فقال «إن الله عزوجل قد أثنى عليكم في الطهور خيرا أفلا

__________________

(١) أخرجه أبو داود في الطهارة باب ٢٣ ، والترمذي في تفسير سورة ٩ ، باب ١٥ ، وابن ماجة في الطهارة باب ٢٨.

(٢) المسند ٣ / ٤٢٢.

(٣) انظر تفسير الطبري ٦ / ٤٧٧.

(٤) تفسير الطبري ٦ / ٤٧٦.

(٥) المسند ٦ / ٦.

تخبروني؟» يعني قوله (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) فقالوا يا رسول الله إنا نجده مكتوبا علينا في التوراة الاستنجاء بالماء.

وقد صرح بأنه مسجد قباء جماعة من السلف ، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، ورواه عبد الرزاق عن معمر الزهري عن عروة بن الزبير ، وقال عطية العوفي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم والشعبي والحسن البصري ونقله البغوي عن سعيد بن جبير وقتادة ، وقد ورد في الحديث الصحيح أن مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي في جوف المدينة هو المسجد الذي أسس على التقوى ، وهذا صحيح. ولا منافاة بين الآية وبين هذا ، لأنه إذا كان مسجد قباء قد أسس على التقوى من أول يوم ، فمسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطريق الأولى والأحرى ، ولهذا قال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده : حدثنا أبو نعيم ، حدثنا عبد الله بن عامر الأسلمي عن عمران بن أبي أنس ، عن سهل بن سعد عن أبي بن كعب أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «المسجد الذي أسس على التقوى مسجدي هذا» تفرد به أحمد (١).

حديث آخر قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا وكيع ، حدثنا ربيعة بن عثمان التيمي عن عمران بن أبي أنس عن سهل بن سعد الساعدي قال : اختلف رجلان على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المسجد الذي أسس على التقوى فقال أحدهما هو مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال الآخر هو مسجد قباء ، فأتيا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسألاه فقال : «هو مسجدي هذا» تفرد به أحمد أيضا.

حديث آخر قال الإمام أحمد (٣) : حدثنا موسى بن داود ، حدثنا ليث عن عمران بن أبي أنس عن سعيد بن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم ، فقال أحدهما هو مسجد قباء ، وقال الآخر هو مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «هو مسجدي هذا» تفرد به أحمد.

طريق أخرى قال الإمام أحمد (٤) : حدثنا إسحاق بن عيسى ، حدثنا ليث حدثني عمران بن أبي أنس عن ابن أبي سعيد عن أبيه أنه قال : تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم ، فقال رجل هو مسجد قباء ، وقال الآخر هو مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «هو مسجدي» (٥) وكذا رواه الترمذي والنسائي عن قتيبة عن الليث وصححه الترمذي ورواه مسلم كما سيأتي.

__________________

(١) المسند ٥ / ١١٦.

(٢) المسند ٥ / ٣٣١.

(٣) المسند ٣ / ٨٩.

(٤) المسند ٣ / ٧.

(٥) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٩ ، باب ١٤ ، والنسائي في المساجد باب ٨.

طريق أخرى قال الإمام أحمد (١) : حدثنا يحيى عن أنيس بن أبي يحيى ، حدثني أبي قال : سمعت أبا سعيد الخدري قال : اختلف رجلان رجل من بني خدرة ورجل من بني عمرو بن عوف ، في المسجد الذي أسس على التقوى ، فقال الخدري هو مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال العمري هو مسجد قباء ، فأتيا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسألاه عن ذلك فقال : «هو هذا المسجد» لمسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال في ذلك يعني مسجد قباء.

طريق أخرى قال أبو جعفر بن جرير (٢) : حدثنا ابن بشار ، حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا حميد الخراط المدني سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن بن أبي سعيد فقلت كيف سمعت أباك يقول في المسجد الذي أسس على التقوى؟ فقال إني أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدخلت عليه في بيت لبعض نسائه فقلت : يا رسول الله أين المسجد الذي أسس على التقوى؟ قال : فأخذ كفا من حصباء فضرب به الأرض ثم قال : «هو مسجدكم هذا» ثم قال سمعت أباك يذكره ، رواه مسلم (٣) منفردا به عن محمد بن حاتم عن يحيى بن سعيد به ، ورواه عن أبي بكر بن أبي شيبة وغيره عن حاتم بن إسماعيل عن حميد الخراط به ، وقد قال بأنه مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جماعة من السلف والخلف ، وهو مروي عن عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وزيد بن ثابت وسعيد بن المسيب ، واختاره ابن جرير.

وقوله : (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) دليل على استحباب الصلاة في المساجد القديمة المؤسسة من أول بنائها على عبادة الله وحده لا شريك له ، وعلى استحباب الصلاة مع الجماعة الصالحين والعباد العاملين المحافظين على إسباغ الوضوء والتنزه عن ملابسة القاذورات.

وقد قال الإمام أحمد (٤) : حدثنا محمد بن جعفر عن شعبة عن عبد الملك بن عمير ، سمعت شبيبا أبا روح يحدث عن رجل من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى بهم الصبح فقرأ الروم فيها فأوهم فلما انصرف قال : «إنه يلبس علينا القرآن إن أقواما منكم يصلون معنا لا يحسنون الوضوء ، فمن شهد الصلاة معنا فليحسن الوضوء» ثم رواه من طريقين آخرين عن عبد الملك بن عمير عن شبيب أبي روح من ذي الكلاع ، أنه صلى مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكره ، فدل هذا على أن إكمال الطهارة يسهل القيام في العبادة ويعين على إتمامها وإكمالها والقيام بمشروعاتها.

وقال أبو العالية في قوله تعالى : (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) إن الطهور بالماء لحسن ولكنهم

__________________

(١) المسند ٣ / ٢٣.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٤٧٣ ، ٤٧٤.

(٣) كتاب الحج الحديث ٥١٤.

(٤) المسند ٣ / ٤٧١ ، ٤٧٢.

المطهرون من الذنوب. وقال الأعمش التوبة من الذنوب والتطهر من الشرك ، وقد ورد في الحديث المروي من طرق في السنن وغيرها أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأهل قباء : «قد أثنى الله عليكم في الطهور فماذا تصنعون؟» فقالوا نستنجي بالماء ، وقد قال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا عبد الله بن شبيب ، حدثنا أحمد بن عبد العزيز قال : وجدته في كتاب أبي عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال نزلت هذه الآية في أهل قباء (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) فسألهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا إنا نتبع الحجارة بالماء رواه البزار ، ثم قال : تفرد به محمد بن عبد العزيز عن الزهري ولم يرو عنه سوى ابنه ، (قلت) وإنما ذكرته بهذا اللفظ لأنه مشهور بين الفقهاء ولم يعرفه كثير من المحدثين المتأخرين أو كلهم ، والله أعلم.

(أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠٩) لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (١١٠)

يقول تعالى لا يستوي من أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان ومن بنى مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين ، وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل ، فإنما يبني هؤلاء بنيانهم على شفا جرف هار ، أي طرف حفيرة ، مثاله (فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي لا يصلح عمل المفسدين. قال جابر بن عبد الله : رأيت المسجد الذي بني ضرارا يخرج منه الدخان على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) ، وقال ابن جريج : ذكر لنا أن رجالا حفروا فوجدوا الدخان يخرج منه (٢) ، وكذا قال قتادة ، وقال خلف بن ياسين الكوفي : رأيت مسجد المنافقين الذي ذكره الله تعالى في القرآن وفيه جحر يخرج منه الدخان وهو اليوم مزبلة ، رواه ابن جرير (٣) رحمه‌الله.

وقوله تعالى : (لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ) أي شكا ونفاقا ، بسبب إقدامهم على هذا الصنيع الشنيع أورثهم نفاقا في قلوبهم كما أشرب عابدو العجل حبه ، وقوله : (إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ) أي بموتهم ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وزيد بن أسلم والسدي وحبيب بن أبي ثابت والضحاك وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغير واحد من علماء السلف ، (وَاللهُ عَلِيمٌ) أي بأعمال خلقه (حَكِيمٌ) في مجازاتهم عنها من خير وشر.

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٤٧٩.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٤٧٩.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ٤٧٩.

(إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (١١١)

يخبر تعالى أنه عاوض عباده المؤمنين عن أنفسهم وأموالهم إذ بذلوها في سبيله بالجنة ، وهذا من فضله وكرمه وإحسانه ، فإنه قبل العوض عما يملكه بما تفضل به على عبيده المطيعين له. ولهذا قال الحسن البصري وقتادة : بايعهم والله فأغلى ثمنهم. وقال شمر بن عطية : ما من مسلم إلا ولله عزوجل في عنقه بيعة ، وفي بها أو مات عليها ثم تلا هذه الآية (١). ولهذا يقال من حمل في سبيل الله بايع الله أي قبل هذا العقد ووفى به. وقال محمد بن كعب القرظي وغيره ، قال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعني ليلة العقبة : اشترط لربك ولنفسك ما شئت ، فقال «أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا. وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم» قالوا فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ قال «الجنة» قالوا : ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل ، فنزلت (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ) (٢).

الآية ، وقوله : (يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) أي سواء قتلوا أو قتلوا ، أو اجتمع لهم هذا وهذا فقد وجبت لهم الجنة. ولهذا جاء في الصحيحين «وتكفل الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وتصديق برسلي بأن توفاه أن يدخله الجنة أو يرجعه إلى منزله الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة» (٣).

وقوله : (وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ) تأكيد لهذا الوعد وإخبار بأنه قد كتبه على نفسه الكريمة وأنزله على رسله في كتبه الكبار ، وهي التوراة المنزلة على موسى ، والإنجيل المنزل على عيسى ، والقرآن المنزل على محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. وقوله : (وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ) فإنه لا يخلف الميعاد. هذا كقوله : (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً) [النساء : ٨٧] (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً) [النساء : ١٢٢] ولهذا قال (فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي فليستبشر من قام بمقتضى هذا العقد ووفى بهذا العهد بالفوز العظيم والنعيم المقيم.

(التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (١١٢)

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٤٨٢.

(٢) انظر تفسير الطبري ٦ / ٤٨٢.

(٣) أخرجه البخاري في الخمس باب ٨ ، ومسلم في الإمارة حديث ١٠٤.

هذا نعت المؤمنين الذين اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم بهذه الصفات الجميلة والخلال الجليلة (التَّائِبُونَ) من الذنوب كلها التاركون للفواحش (الْعابِدُونَ) أي القائمون بعبادة ربهم محافظين عليها وهي الأقوال والأفعال ، فمن أخص الأقوال الحمد ، فلهذا قال : (الْحامِدُونَ) ومن أفضل الأعمال الصيام وهو ترك الملاذ من الطعام والشراب والجماع ، وهو المراد بالسياحة هاهنا ، ولهذا قال : (السَّائِحُونَ) كما وصف أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك في قوله تعالى : (سائِحاتٍ) [التحريم : ٥] أي صائمات ، وكذا الركوع والسجود وهما عبارة عن الصلاة ، ولهذا قال : (الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ) وهم مع ذلك ينفعون خلق الله ويرشدونهم إلى طاعة الله بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر مع العلم بما ينبغي فعله ويجب تركه ، وهو حفظ حدود الله في تحليله وتحريمه علما وعملا ، فقاموا بعبادة الحق ونصح الخلق ، ولهذا قال : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) لأن الإيمان يشمل هذا كله ، والسعادة كل السعادة لمن اتصف به.

[بيان أن المراد بالسياحة الصيام] قال سفيان الثوري : عن عاصم عن زرّ عن عبد الله بن مسعود قال (السَّائِحُونَ) الصائمون (١) وكذا روي عن سعيد بن جبير والعوفي عن ابن عباس ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس كل ما ذكر الله في القرآن السياحة هم الصائمون (٢) ، وكذا قال الضحاك رحمه‌الله ، وقال ابن جرير (٣) : حدثنا أحمد بن إسحاق ، حدثنا أبو أحمد ، حدثنا إبراهيم بن يزيد عن الوليد بن عبد الله عن عائشة رضي الله عنها قالت : سياحة هذه الأمة الصيام ، وهكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير وعطاء وأبو عبد الرحمن السلمي والضحاك بن مزاحم وسفيان بن عيينة وغيرهم ، أن المراد بالسائحين الصائمون ، وقال الحسن البصري : (السَّائِحُونَ) الصائمون شهر رمضان ، وقال أبو عمرو العبدي : (السَّائِحُونَ) الذين يديمون الصيام من المؤمنين.

وقد ورد في حديث مرفوع نحو هذا ، وقال ابن جرير (٤) : حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع ، حدثنا حكيم بن حزام ، حدثنا سليمان عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «السائحون هم الصائمون» وهذا الموقوف أصح ، وقال أيضا حدثني يونس عن ابن وهب عن عمر بن الحارث عن عمرو بن دينار عن عبيد بن عمير ، قال : سئل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن السائحين ، فقال «هم الصائمون» وهذا مرسل جيد وهذا أصح الأقوال وأشهرها.

وجاء ما يدل على أن السياحة الجهاد وهو ما روى أبو داود في سننه من حديث أبي أمامة أن رجلا قال : يا رسول الله ائذن لي في السياحة ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سياحة أمتي الجهاد في

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٤٨٤.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٤٨٤.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ٤٨٦.

(٤) تفسير الطبري ٦ / ٤٨٤.

سبيل الله» (١) وقال ابن المبارك عن ابن لهيعة ، أخبرني عمارة بن غزية أن السياحة ذكرت عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أبدلنا الله بذلك الجهاد في سبيل الله والتكبير على كل شرف» وعن عكرمة أنه قال : هم طلبة العلم ، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هم المهاجرون ، رواهما ابن أبي حاتم.

وليس المراد من السياحة ما قد يفهمه بعض من يتعبد بمجرد السياحة في الأرض والتفرد في شواهق الجبال والكهوف والبراري ، فإن هذا ليس بمشروع إلا في أيام الفتن والزلازل في الدين ، كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يوشك أن يكون خير مال الرجل غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن» (٢) وقال العوفي وعلي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : (وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) قال القائمون بطاعة الله ، وكذا قال الحسن البصري وعنه رواية (الْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) قال : لفرائض الله ، وفي رواية القائمون على أمر الله.

(ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١١٣) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (١١٤)

قال الإمام أحمد (٣) : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر عن الزهري عن ابن المسيب عن أبيه قال : لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية ، فقال «أي عم ، قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله عزوجل» فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية : يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فقال : أنا على ملة عبد المطلب ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لأستغفرن لك ما لم أنه عنك» فنزلت (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) قال ونزلت فيه (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) (٤) [القصص : ٥٦] أخرجاه.

__________________

(١) أخرجه أبو داود في الجهاد باب ٦.

(٢) أخرجه البخاري في الإيمان باب ١٢ ، والفتن باب ١٤ ، والرقاق باب ٣٤ ، وأبو داود في الفتن باب ٤ ، والنسائي في الإيمان باب ٣٠ ، وابن ماجة في الفتن باب ١٣ ، ومالك في الاستئذان حديث ١٦ ، وأحمد في المسند ٣ / ٦ ، ٣٠ ، ٤٣ ، ٥٧.

(٣) المسند ٥ / ٥٣٣.

(٤) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٩ ، باب ١٦ ، ومسلم في الإيمان حديث ٣٩.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا يحيى بن آدم ، أخبرنا سفيان عن أبي إسحاق عن أبي الخليل عن علي رضي الله عنه قال : سمعت رجلا يستغفر لأبويه وهما مشركان ، فقلت : أيستغفر الرجل لأبويه وهما مشركان؟ فقال : أو لم يستغفر إبراهيم لأبيه؟ فذكرت ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) الآية ، قال لما مات فلا أدري ، قاله سفيان أو قاله إسرائيل أو هو في الحديث لما مات ، (قلت) : هذا ثابت عن مجاهد أنه قال لما مات.

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا الحسن بن موسى ، حدثنا زهير ، حدثنا زبيد بن الحارث اليامي عن محارب بن دثار عن ابن بريدة عن أبيه قال كنا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونحن في سفر ، فنزل بنا ونحن قريب من ألف راكب ، فصلى ركعتين ثم أقبل علينا بوجهه وعيناه تذرفان ، فقام إليه عمر بن الخطاب وفداه بالأب والأم وقال : يا رسول الله ما لك؟ قال «إني سألت ربي عزوجل في الاستغفار لأمي فلم يأذن لي فدمعت عيناي رحمة لها من النار ، وإني كنت نهيتكم عن ثلاث : نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها لتذكركم زيارتها خيرا. ونهيتكم عن لحوم الأضاحي بعد ثلاث فكلوا وأمسكوا ما شئتم ، ونهيتكم عن الأشربة في الأوعية فاشربوا في أي وعاء شئتم ولا تشربوا مسكرا».

وروى ابن جرير (٣) من حديث علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قدم مكة ، أتى رسم قبر فجلس إليه فجعل يخاطب ثم قام مستعبرا ، فقلنا يا رسول الله إنا رأينا ما صنعت. قال : «إني استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي» فما رئي باكيا أكثر من يومئذ.

وقال ابن أبي حاتم في تفسيره : حدثنا أبي ، حدثنا خالد بن خداش ، حدثنا عبد الله بن وهب عن ابن جريج عن أيوب بن هانئ عن مسروق عن عبد الله بن مسعود ، قال : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما إلى المقابر فاتبعناه فجاء حتى جلس إلى قبر منها ، فناجاه طويلا ثم بكى فب كينا لبكائه ، ثم قام فقام إليه عمر بن الخطاب فدعاه ثم دعانا ، فقال «ما أبكاكم؟» فقلنا بكينا لبكائك. قال : «إن القبر الذي جلست عنده قبر آمنة ، وإني استأذنت ربي في زيارتها فأذن لي» (٤) ثم أورده من وجه آخر ، ثم ذكر من حديث ابن مسعود قريبا منه ، وفيه «وإني استأذنت ربي في الدعاء لها فلم يأذن لي وأنزل علي (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا) الآية ، فأخذني ما يأخذ الولد للوالد ، وكنت نهيتكم عن زيارة القبور ، فزوروها فإنها تذكر الآخرة».

__________________

(١) المسند ١ / ٩٩.

(٢) المسند ٥ / ٣٥٥.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ٤٨٩.

(٤) أخرجه السيوطي في الدر المنثور ٣ / ٥٠٧.

حديث آخر في معناه. قال الطبراني : حدثنا محمد بن علي المروزي ، حدثنا أبو الدرداء عبد العزيز بن منيب ، حدثنا إسحاق بن عبد الله بن كيسان ، عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أقبل من غزوة تبوك واعتمر ، فلما هبط من ثنية عسفان أمر أصحابه أن استندوا إلى العقبة حتى أرجع إليكم ، فذهب فنزل على قبر أمه فناجى ربه طويلا ، ثم إنه بكى فاشتد بكاؤه وبكى هؤلاء لبكائه ، وقالوا ما بكى نبي الله بهذا المكان إلا وقد أحدث الله في أمته شيئا لا تطيقه ، فلما بكى هؤلاء قام فرجع إليهم فقال : «ما يبكيكم؟» قالوا يا نبي الله بكينا لبكائك ، فقلنا لعله أحدث في أمتك شيء لا تطيقه ، قال : «لا ، وقد كان بعضه ، ولكن نزلت على قبر أمي فسألت الله أن يأذن لي في شفاعتها يوم القيامة فأبى الله أن يأذن لي فرحمتها وهي أمي فبكيت ، ثم جاءني جبريل فقال : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) فتبرأ أنت من أمك كما تبرأ إبراهيم من أبيه ، فرحمتها وهي أمي ودعوت ربي أن يرفع عن أمتي أربعا فرفع عنهم اثنتين وأبي أن يرفع عنهم اثنتين ، ودعوت ربي أن يرفع عنهم الرجم من السماء والغرق من الأرض وأن لا يلبسهم شيعا وأن لا يذيق بعضهم بأس بعض ، فرفع الله عنهم الرجم من السماء والغرق من الأرض وأبى الله أن يرفع عنهم القتل والهرج» وإنما عدل إلى قبر أمه لأنها كانت مدفونة تحت كداء وكانت عسفان لهم (١) ، وهذا حديث غريب وسياق عجيب.

وأغرب منه وأشد نكارة ما رواه الخطيب البغدادي في كتاب السابق واللاحق بسند مجهول عن عائشة في حديث فيه قصة ، أن الله أحيا أمه فآمنت ثم عادت ، وكذلك ما رواه السهيلي في الروض بسند فيه جماعة مجهولون : إن الله أحيا له أباه وأمه فآمنا به. وقد قال الحافظ ابن دحية في هذا الاستدلال ، بما حاصله أن هذه حياة جديدة كما رجعت الشمس بعد غيبوبتها ، فصلى علي العصر ، قال الطحاوي : وهو حديث ثابت يعني حديث الشمس ، قال القرطبي : فليس إحياؤهما يمتنع عقلا ولا شرعا ، قال وقد سمعت أن الله أحيا عمه أبا طالب فآمن به ، (قلت) وهذا كله متوقف على صحة الحديث فإذا صح فلا مانع منه ، والله أعلم.

وقال العوفي عن ابن عباس في قوله : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) الآية ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أراد أن يستغفر لأمه فنهاه الله عزوجل عن ذلك ، فقال «إن إبراهيم خليل الله قد استغفر لأبيه» فأنزل الله (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ) (٢) الآية ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية ، كانوا يستغفرون لهم حتى نزلت هذه الآية ، فأمسكوا عن الاستغفار لأمواتهم ولم ينهوا أن يستغفروا للأحياء حتى يموتوا ، ثم

__________________

(١) انظر الدر المنثور ٣ / ٥٠٦ ، ٥٠٧ ، وأضاف : وبها ولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٢) انظر تفسير الطبري ٦ / ٤٨٩.

أنزل الله (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ) الآية.

وقال قتادة في الآية : ذكر لنا أن رجالا من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قالوا : يا نبي الله إن من آبائنا من كان يحسن الجوار ويصل الأرحام ويفك العاني ويوفي بالذمم أفلا نستغفر لهم؟ قال : فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «بلى والله إني لأستغفر لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه» فأنزل الله (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) حتى بلغ قوله (الْجَحِيمِ) ثم عذر الله تعالى إبراهيم عليه‌السلام ، فقال : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ) الآية ، قال : وذكر لنا أن نبي الله قال : «قد أوحى الله إليّ كلمات فدخلن في أذني ووقرن في قلبي : أمرت أن لا أستغفر لمن مات مشركا ، ومن أعطى فضل ماله فهو خير له ، ومن أمسك فهو شر له ، ولا يلوم الله على كفاف»(١).

وقال الثوري عن الشيباني عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : مات رجل يهودي وله ابن مسلم فلم يخرج معه ، فذكر ذلك لابن عباس فقال : فكان ينبغي له أن يمشي معه ويدفنه ويدعو له بالصلاح ما دام حيا ، فإذا مات وكله إلى شأنه ، ثم قال : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ ـ إلى قوله ـ تَبَرَّأَ مِنْهُ) لم يدع (٢). ويشهد له بالصحة ما رواه أبو داود وغيره عن علي رضي الله عنه ، لما مات أبو طالب قلت : يا رسول الله إن عمك الشيخ الضال قد مات ، قال : «اذهب فواره ولا تحدثن شيئا حتى تأتيني» (٣) فذكر تمام الحديث ، وروي أنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لما مرت به جنازة عمه أبي طالب قال : «وصلتك رحمة يا عم» وقال عطاء بن أبي رباح: ما كنت لأدع الصلاة على أحد من أهل القبلة ، ولو كانت حبشية حبلى من الزنا ، لأني لم أسمع الله حجب الصلاة إلا عن المشركين ، يقول الله عزوجل : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) الآية.

وروى ابن جرير (٤) ، عن ابن وكيع عن أبيه عن عصمة بن زامل عن أبيه ، قال : سمعت أبا هريرة يقول رحم الله رجلا استغفر لأبي هريرة ولأمه ، قلت ولأبيه. قال لا. قال إن أبي مات مشركا ، وقوله : (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) قال ابن عباس : ما زال إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات ، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه ، وفي رواية لما مات تبين له أنه عدو لله ، وكذا قال مجاهد والضحاك وقتادة وغيرهم رحمهم‌الله ، وقال عبيد بن عمير وسعيد بن جبير : إنه يتبرأ منه يوم القيامة حتى يلقى أباه ، وعلى وجه أبيه القترة والغبرة ، فيقول : يا إبراهيم إني كنت أعصيك وإني اليوم لا أعصيك ، فيقول أي رب ألم تعدني أن لا تخزني يوم يبعثون ، فأي خزي

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٤٨٩.

(٢) انظر تفسير الطبري ٦ / ٤٩٠ ، ٤٩١.

(٣) أخرجه أبو داود في الجنائز باب ٦٦ ، والنسائي في الطهارة باب ١٢٧ ، والجنائز باب ٨٤ ، وأحمد في المسند ١ / ٩٧ ، ١٠٣ ، ١٣٠ ، ١٣١.

(٤) تفسير الطبري ٦ / ٤٩١.

أخزى من أبي الأبعد ، فيقال انظر إلى ما وراءك فإذا هو بذيخ متلطخ (١) ، أي قد مسخ ضبعا ثم يسحب بقوائمه ويلقى في النار.

وقوله : (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) قال سفيان الثوري وغير واحد : عن عاصم بن بهدلة عن زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود ، أنه قال الأواه الدعاء ، وكذا روي من غير وجه : عن ابن مسعود ، وقال ابن جرير (٢) : حدثني المثنى ، حدثنا الحجاج بن منهال ، حدثني عبد الحميد بن بهرام ، حدثنا شهر بن حوشب عن عبد الله بن شداد بن الهاد ، قال : بينما النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم جالس قال : رجل يا رسول الله ما الأواه؟ قال : «المتضرع» قال : (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) ورواه ابن أبي حاتم : من حديث ابن المبارك عن عبد الحميد بن بهرام به ، ولفظه قال الأواه المتضرع الدعاء. وقال الثوري عن سلمة بن كهيل عن مسلم البطين عن أبي الغدير ، أنه سأل ابن مسعود عن الأواه فقال هو الرحيم ، وبه قال مجاهد وأبو ميسرة عمر بن شرحبيل والحسن البصري وقتادة وغيرهما أي الرحيم أي بعباد الله.

وقال ابن المبارك عن خالد عن عكرمة عن ابن عباس ، قال : الأواه الموقن بلسان الحبشة ، وكذا قال العوفي عن ابن عباس أنه الموقن ، وكذا قال مجاهد والضحاك ، وقال علي بن أبي طلحة ومجاهد عن ابن عباس : الأواه المؤمن ، زاد علي بن أبي طلحة عنه : هو المؤمن التواب ، وقال العوفي عنه هو المؤمن بلسان الحبشة. وكذا قال ابن جريج هو المؤمن بلسان الحبشة.

وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا موسى ، حدثنا ابن لهيعة عن الحارث بن يزيد عن علي بن رباح عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لرجل يقال له ذو البجادين «إنه أواه» وذلك أنه رجل كان إذا ذكر الله في القرآن رفع صوته بالدعاء ، ورواه ابن جرير (٤). وقال سعيد بن جبير والشعبي : الأواه المسبح ، وقال ابن وهب عن معاوية بن صالح عن أبي الزاهرية عن جبير بن نفير عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : لا يحافظ على سبحة الضحى إلا الأواه ، وقال شفي بن مانع عن أبي أيوب ، الأواه الذي إذا ذكر خطاياه استغفر منها ، وعن مجاهد الأواه الحفيظ الوجل يذنب الذنب سرا ثم يتوب منه سرا ، ذكر ذلك كله ابن أبي حاتم رحمه‌الله. وقال ابن جرير (٥) : حدثنا ابن وكيع ، حدثنا المحاربي عن حجاج عن الحكم عن الحسن بن مسلم بن بيان ، أن رجلا كان يكثر ذكر الله ويسبح ، فذكر ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال «إنه أواه».

__________________

(١) الذيخ ، بكسر الذال : ذكر الضباع ، وذيخ متلطخ : أي متلطخ برجيعه أو بالطين.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٤٩٨.

(٣) المسند ٤ / ١٥٩.

(٤) تفسير الطبري ٦ / ٤٩٩.

(٥) تفسير الطبري ٦ / ٤٩٧.

وقال أيضا : حدثنا أبو كريب ، حدثنا ابن هانئ ، حدثنا المنهال بن خليفة عن حجاج بن أرطاة عن عطاء عن ابن عباس ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دفن ميتا فقال : «رحمك الله إن كنت لأواها» يعني تلاء للقرآن ، وقال شعبة عن أبي يونس الباهلي ، قال سمعت رجلا بمكة وكان أصله روميا وكان قاصا يحدث عن أبي ذر ، قال : كان رجل يطوف بالبيت الحرام ويقول في دعائه : أوه أوه فذكر ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : «إنه أواه» قال : فخرجت ذات ليلة فإذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدفن ذلك الرجل ليلا ومعه المصباح ، هذا حديث غريب رواه ابن جرير (١).

وروي عن كعب الأحبار أنه قال : سمعت (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ) قال كان إذا ذكر النار قال : أوه من النار ، وقال ابن جريج عن ابن عباس (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ) قال : فقيه. قال الإمام أبو جعفر بن جرير (٢) : وأولى الأقوال قول من قال إنه الدعاء وهو المناسب للسياق ، وذلك أن الله تعالى لما ذكر أن إبراهيم إنما استغفر لأبيه عن موعدة وعدها إياه ، وقد كان إبراهيم كثير الدعاء حليما عمن ظلمه وأناله مكروها ، ولهذا استغفر لأبيه مع شدة أذاه له في قوله (أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) [مريم : ٤٦] فحلم عنه مع أذاه له ودعا له واستغفر ، ولهذا قال تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ).

(وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١٥) إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) (١١٦)

يقول تعالى مخبرا عن نفسه الكريمة وحكمه العادل : إنه لا يضل قوما بعد إبلاغ الرسالة إليهم ، حتى يكونوا قد قامت عليهم الحجة ، كما قال تعالى : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ) [فصلت: ١٧] الآية ، وقال مجاهد في قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ) الآية ، قال بيان الله عزوجل للمؤمنين في ترك الاستغفار للمشركين خاصة ، وفي بيانه لهم من معصيته وطاعته عامة ، فافعلوا أو ذروا (٣).

وقال ابن جرير (٤) : يقول الله تعالى وما كان الله ليقضي عليكم في استغفاركم لموتاكم المشركين بالضلال بعد إذ رزقكم الهداية ووفقكم للإيمان به وبرسوله ، حتى يتقدم إليكم بالنهي عنه فتتركوا ، فأما قبل أن يبين لكم كراهة ذلك بالنهي عنه فلم تضيعوا نهيه إلى ما نهاكم

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٤٩٨.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٤٩٩.

(٣) انظر تفسير الطبري ٦ / ٥٠٠.

(٤) تفسير الطبري ٦ / ٥٠٠.

عنه فإنه لا يحكم عليه بالضلال ، فإن الطاعة والمعصية إنما يكونان من المأمور والمنهي ، وأما من لم يؤمر ولم ينه فغير كائن مطيعا أو عاصيا فيما لم يؤمر به ولم ينه عنه.

وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) قال ابن جرير ، هذا تحريض من الله تعالى لعباده المؤمنين في قتال المشركين وملوك الكفر ، وأن يثقوا بنصر الله مالك السموات والأرض ولا يرهبوا من أعدائه ، فإنه لا ولي لهم من دون الله ولا نصير لهم سواه ، وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن أبي دلامة البغدادي ، حدثنا عبد الوهاب بن عطاء ، حدثنا سعيد عن قتادة عن صفوان بن محرز عن حكيم بن حزام قال : بينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين أصحابه إذ قال لهم : «هل تسمعون ما أسمع؟» قالوا ما نسمع من شيء ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إني لأسمع أطيط السماء وما تلام أن تئط وما فيها من موضع شبر إلا وعليه ملك ساجد أو قائم» وقال كعب الأحبار : ما من موضع خرم إبرة من الأرض إلا وملك موكل بها يرفع علم ذلك إلى الله ، وإن ملائكة السماء لأكثر من عدد التراب ، وإن حملة العرش ما بين كعب أحدهم إلى مخه مسيرة مائة عام.

(لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (١١٧)

قال مجاهد وغير واحد : نزلت هذه الآية في غزوة تبوك ، وذلك أنهم خرجوا إليها في شدة من الأمر في سنة مجدبة وحر شديد وعسر من الزاد والماء ، قال قتادة : خرجوا إلى الشام عام تبوك في لهبان الحر على ما يعلم الله من الجهد ، أصابهم فيها جهد شديد حتى لقد ذكر لنا أن الرجلين كانا يشقان التمرة بينهما ، وكان النفر يتداولون التمرة بينهم يمصها هذا ثم يشرب عليها ثم يمصها هذا ثم يشرب عليها ، فتاب الله عليهم وأقفلهم من غزوتهم.

وقال ابن جرير (١) : حدثني يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال عن عتبة بن أبي عتبة عن نافع بن جبير بن مطعم عن عبد الله بن عباس ، أنه قيل لعمر بن الخطاب في شأن العسرة ، فقال عمر بن الخطاب : خرجنا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى تبوك في قيظ شديد ، فنزلنا منزلا فأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع ، وحتى إن كان الرجل ليذهب يلتمس الماء فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع ، وحتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقي على كبده ، فقال أبو بكر الصديق : يا رسول الله إن الله عزوجل قد عودك في الدعاء خيرا فادع لنا ، فقال «تحب ذلك؟» قال نعم ، فرفع يديه فلم يرجعهما حتى سالت السماء فأهطلت ثم سكنت ، فملؤوا ما معهم ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر.

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٥٠٢.

وقال ابن جرير (١) في قوله (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ) أي من النفقة والطهر والزاد والماء (مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ) أي عن الحق ، ويشك في دين الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويرتاب للذي نالهم من المشقة والشدة في سفرهم وغزوهم (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ) يقول : ثم رزقهم الإنابة إلى ربهم والرجوع إلى الثبات على دينه (إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ).

(وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ(١١٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (١١٩)

قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن أخي الزهري محمد بن عبد الله ، عن عمه محمد بن مسلم الزهري أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك ، أن عبد الله بن كعب بن مالك وكان قائد كعب من بنيه حين عمي ، قال : سمعت كعب بن مالك يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة تبوك ، فقال كعب بن مالك : لم أتخلف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة غزاها قط إلا في غزاة تبوك ، غير أني كنت تخلفت في غزاة بدر ولم يعاتب أحد تخلف عنها ، وإنما خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يريد عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد ، ولقد شهدت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام ، وما أحب أن لي بها مشهد بدر وإن كانت بدر أذكر في الناس منها وأشهر.

وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة تبوك ، أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزاة ، والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزاة ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قلما يريد غزوة يغزوها إلا ورّى (٣) بغيرها حتى كانت تلك الغزوة فغزاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حر شديد واستقبل سفرا بعيدا ومفاوز (٤) ، واستقبل عدوا كثيرا فخلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة عدوهم ، فأخبرهم وجهه الذي يريد ، والمسلمون مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم كثير ، لا يجمعهم كتاب حافظ ـ يريد الديوان ـ.

قال كعب : فقل رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى عليه ما لم ينزل فيه وحي من الله عزوجل ، وغزا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلك الغزاة حين طابت الثمار والظلال وأنا إليها

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٥٠٢.

(٢) المسند ٣ / ٤٥٦ ـ ٤٥٩.

(٣) ورّى بغيرها : أي سترها ، وأوهم أنه يريد غيرها.

(٤) المفاوز : بريه وصحراء قليلة الماء.

أصعر (١) ، فتجهز إليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنون معه ، فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم فأرجع ولم أقض من جهازي شيئا ، فأقول لنفسي أنا قادر على ذلك إذا أردت ، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى شمّر بالناس الجد ، فأصبح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غاديا والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئا وقلت أتجهز بعد يوم أو يومين ثم ألحقه فغدوت بعد ما فصلوا لأتجهز فرجعت ولم أقض من جهازي شيئا ، ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئا ، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو فهممت أن أرتحل فألحقهم وليت أني فعلت ، ثم لم يقدر ذلك لي فطفقت إذا خرجت في الناس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحزنني أني لا أرى إلا رجلا مغموصا عليه في النفاق أو رجلا ممن عذره الله عزوجل ، ولم يذكرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى بلغ تبوك ، فقال وهو جالس في القوم بتبوك : «ما فعل كعب بن مالك» فقال رجل من بني سلمة : حبسه يا رسول الله برداه والنظر في عطفيه.

فقال معاذ بن جبل : بئسما قلت والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا. فسكت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال كعب بن مالك : فلما بلغني أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد توجه قافلا من تبوك ، حضرني بثي وطفقت أتذكر الكذب ، وأقول بما ذا أخرج من سخطه غدا وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي ، فلما قيل إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أظل قادما ، زاح عني الباطل وعرفت أني لم أنج منه بشيء أبدا ، فأجمعت صدقه فأصبح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلى ركعتين ثم جلس للناس ، فلما فعل ذلك جاءه المتخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له وكانوا بضعة وثمانين رجلا ، فيقبل منهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم علانيتهم ويستغفر لهم ويكل سرائرهم إلى الله تعالى ، حتى جئت فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب ، ثم قال لي «تعال» فجئت أمشي حتى جلست بين يديه ، فقال لي : «ما خلفك ألم تكن قد اشتريت ظهرا» فقلت يا رسول الله إني لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن أخرج من سخطه بعذر ، لقد أعطيت جدلا ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم بحديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي ، ولئن حدثتك بصدق تجد علي فيه إني لأرجو عقبى ذلك من الله عزوجل والله ما كان لي عذر ، والله ما كنت قط أفرغ ولا أيسر مني حين تخلفت عنك.

قال : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك» فقمت وقام إلى رجال من بني سلمة واتبعوني فقالوا لي : والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا ولقد عجزت إلا أن تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما اعتذر به المتخلفون ، فقد كان كافيك من ذنبك استغفار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لك ، قال : فو الله ما زالوا يؤنبوني حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي ،

__________________

(١) أصعر : أي أميل.

قال ثم قلت لهم هل لقي معي هذا أحد؟ قالوا نعم لقيه معك رجلان قالا مثل ما قلت ، وقيل لهما مثل ما قيل لك ، فقلت فمن هما؟ قالوا مرارة بن الربيع العامري وهلال بن أمية الواقفي ، فذكروا لي رجلين صالحين قد شهد بدرا لي فيهما أسوة.

قال : فمضيت حين ذكروهما لي قال ونهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه ، فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت لي في نفسي الأرض فما هي بالأرض التي كنت أعرف ، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان ، وأما أنا فكنت أشد القوم وأجلدهم ، فكنت أشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف بالأسواق فلا يكلمني أحد ، وآتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في مجلسه بعد الصلاة فأسلم وأقول في نفسي أحرك شفتيه برد السلام عليّ أم لا؟ ثم أصلّي قريبا منه وأسارقه النظر ، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إليّ ، فإذا التفت نحوه أعرض عنّي ، حتّى إذا طال عليّ ذلك من هجر المسلمين مشيت حتّى تسوّرت حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحب الناس إليّ ، فسلمت عليه فو الله ما رد علي السلام ، فقلت له : يا أبا قتادة أنشدك الله هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟ قال فسكت ، قال فعدت له فنشدته فسكت ، فعدت له فنشدته فسكت ، فقال الله ورسوله أعلم.

قال ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار ، فبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا أنا بنبطي من أنباط الشام ممن قدم بطعام يبيعه بالمدينة يقول من يدل على كعب بن مالك ، قال فطفق الناس يشيرون له إلي حتى جاء فدفع إلى كتابا من ملك غسان وكنت كاتبا ، فإذا فيه : أما بعد فقد بلغنا أن صاحبك قد جفاك وإن الله لم يجعلك في دار هوان ولا مضيعة ، فالحق بنا نواسيك ، قال : فقلت حين قرأته وهذا أيضا من البلاء ، قال : فتيممت به التنور فسجرته به حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين ، إذا برسول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأتيني يقول : يأمرك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن تعتزل امرأتك ، قال فقلت أطلقها أم ماذا أفعل؟ فقال : بل اعتزلها ولا تقربها ، قال وأرسل إلى صاحبيّ بمثل ذلك ، قال فقلت لامرأتي الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر ما يشاء ، قال فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : يا رسول الله إن هلالا شيخ ضعيف ليس له خادم فهل تكره أن أخدمه ، قال «لا ولكن لا يقربنّك» قالت وإنه والله ما به من حركة إلى شيء ، وإنه والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا ، قال فقال لي بعض أهلي لو استأذنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في امرأتك فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه ، قال فقلت والله لا أستأذن فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما أدري ما يقول فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا استأذنته وأنا رجل شاب.

قال : فلبثنا عشر ليال فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهى عن كلامنا ، قال : ثم صليت صلاة الصبح صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا ، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله تعالى منا قد ضاقت علي نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت ، سمعت صارخا أوفى

على جبل سلع يقول بأعلى صوته : أبشر يا كعب بن مالك ، قال : فخررت ساجدا وعرفت أن قد جاء الفرج من الله عزوجل بالتوبة علينا ، فآذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتوبة الله علينا حين صلى الفجر ، فذهب الناس يبشروننا وذهب قبل صاحبيّ مبشرون ، وركض إلي رجل فرسا وسعى ساع من أسلم وأوفى على الجبل فكان الصوت أسرع من الفرس.

فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبيّ فكسوتهما إياه ببشارته ، والله ما أملك يومئذ غيرهما ، واستعرت ثوبين فلبستهما وانطلقت أؤم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتلقاني الناس فوجا فوجا يهنوني بتوبة الله ، يقولون ليهنك توبة الله عليك حتى دخلت المسجد ، فإذا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم جالس في المسجد والناس حوله ، فقام إليّ طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني والله ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره ، قال : فكان كعب لا ينساها لطلحة ، قال كعب : فلما سلمت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور «أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك» قال : قلت أمن عندك رسول الله أم من عند الله؟ قال «لا بل من عند الله» قال وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا سر استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر حتى يعرف ذلك منه ، فلما جلست بين يديه قلت يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله ، قال «أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك».

قال : فقلت : فإني أمسك سهمي الذي بخيبر وقلت يا رسول الله : إنما نجاني الله بالصدق وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقا ما بقيت ، قال : فو الله ما أعلم أحدا من المسلمين أبلاه الله من الصدق في الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحسن مما أبلاني الله تعالى ، والله ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى يومي هذا ، وإني لأرجو أن يحفظني الله عزوجل فيما بقي.

(قال) وأنزل الله تعالى : (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) إلى آخر الآيات. قال كعب : فو الله ما أنعم الله علي من نعمة قط بعد أن هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يومئذ ، أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوه ، فإن الله تعالى قال للذين كذبوه حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد ، فقال الله تعالى : (سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) [التوبة : ٩٦] قال : وكنا أيها الثلاثة الذين خلفنا عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين حلفوا فبايعهم واستغفر لهم ، وأرجأ رسول الله أمرنا

حتى قضى الله فيه ، فلذلك قال عزوجل (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) وليس تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا الذي ذكر مما خلفنا بتخليفنا عن الغزو ، وإنما هو عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه (١).

هذا حديث صحيح ثابت متفق على صحته رواه صاحبا الصحيح البخاري ومسلم ، من حديث الزهري بنحوه ، فقد تضمن هذا الحديث تفسير هذه الآية الكريمة بأحسن الوجوه وأبسطها ، وكذا روي عن غير واحد من السلف في تفسيرها ، كما رواه الأعمش عن أبي سفيان عن جابر بن عبد الله في قوله تعالى : (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) قال : هم كعب بن مالك ، وهلال بن أمية ، ومرارة بن الربيع ، وكلهم من الأنصار ، وكذا قال مجاهد والضحاك وقتادة والسدي وغير واحد وكلهم قال مرارة بن ربيعة ، وكذا في مسلم بن ربيعة في بعض نسخه ، وفي بعضها مرارة بن الربيع ، وفي رواية عن الضحاك مرارة بن الربيع كما وقع في الصحيحين وهو الصواب ، وقوله فسموا رجلين شهدا بدرا قيل إنه خطأ من الزهري ، فإنه لا يعرف شهود واحد من هؤلاء الثلاثة بدرا ، والله أعلم.

ولما ذكر تعالى ما فرج به عن هؤلاء الثلاثة من الضيق والكرب من هجر المسلمين إياهم نحوا من خمسين ليلة بأيامها ، وضاقت عليهم أنفسهم وضاقت عليهم الأرض بما رحبت ، أي مع سعتها فسدت عليهم المسالك والمذاهب فلا يهتدون ما يصنعون ، فصبروا لأمر الله واستكانوا لأمر الله وثبتوا حتى فرج الله عنهم بسبب صدقهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تخلفهم ، وأنه كان عن غير عذر فعوقبوا على ذلك هذه المدة ثم تاب الله عليهم ، فكان عاقبة صدقهم خيرا لهم وتوبة عليهم ، ولهذا قال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) أي اصدقوا والزموا الصدق تكونوا من أهله وتنجوا من المهالك ، ويجعل لكم فرجا من أموركم ومخرجا.

وقد قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن شقيق عن عبد الله هو ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر ، وإن البر يهدي إلى الجنة ، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا ، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار ، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا» (٣) أخرجاه في الصحيحين.

وقال شعبة عن عمرو بن مرة : سمع أبا عبيدة يحدث عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال : الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل ، اقرءوا إن شئتم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) هكذا قرأها ، ثم قال فهل تجدون لأحد فيه رخصة (٤) ، وعن عبد الله بن

__________________

(١) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٩ ، باب ١٨ ، ومسلم في التوبة حديث ٥٣.

(٢) المسند ١ / ٣٨٤.

(٣) أخرجه البخاري في الأدب باب ٦٩ ، ومسلم في البر حديث ١٠٣ ، ١٠٤ ، ١٠٥.

(٤) انظر تفسير الطبري ٦ / ٥٠٩ ، ٥١٠.

عمرو في قوله (اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) قال مع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، وقال الضحاك مع أبي بكر وعمر وأصحابهما (١) ، وقال الحسن البصري إن أردت أن تكون مع الصادقين فعليك بالزهد في الدنيا والكف عن أهل الملة.

(ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (١٢٠)

يعاتب تبارك وتعالى المتخلفين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة تبوك من أهل المدينة ومن حولها من أحياء العرب ، ورغبتهم بأنفسهم عن مواساته فيما حصل له من المشقة ، فإنهم نقصوا أنفسهم من الأجر لأنهم (لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ) وهو العطش (وَلا نَصَبٌ) وهو التعب (وَلا مَخْمَصَةٌ) وهي المجاعة (وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ). أي ينزلون منزلا يرهب عدوهم (وَلا يَنالُونَ) منه ظفرا وغلبة عليه (إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ) بهذه الأعمال التي ليست داخلة تحت قدرهم وإنما هي ناشئة عن أفعالهم أعمالا صالحة وثوابا جزيلا (إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) كقوله (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) [الكهف : ٣٠].

(وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٢١)

يقول تعالى : (وَلا يُنْفِقُونَ) هؤلاء الغزاة في سبيل الله (نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً) أي قليلا ولا كثيرا (وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً) أي في السير إلى الأعداء (إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ) ولم يقل هاهنا به ، لأن هذه أفعال صادرة عنهم ، ولهذا قال : (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) وقد حصل لأمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه من هذه الآية الكريمة حظ وافر ونصيب عظيم ، وذلك أنه أنفق في هذه الغزوة النفقات الجليلة والأموال الجزيلة ، كما قال عبد الله ابن الإمام أحمد : حدثنا أبو موسى العنزي ، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ، حدثني سليمان بن المغيرة ، حدثني الوليد بن أبي هشام ، عن فرقد أبي طلحة ، عن عبد الرحمن بن خباب السلمي ، قال : خطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحث على جيش العسرة فقال عثمان بن عفان رضي الله عنه : عليّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها ، قال ثم حث ، فقال عثمان : عليّ مائة بعير أخرى بأحلاسها وأقتابها ، قال ثم نزل مرقاة من المنبر ثم حث ، فقال عثمان بن عفان : عليّ مائة أخرى بأحلاسها وأقتابها. قال : فرأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال بيده هكذا يحركها ، وأخرج عبد الصمد يده

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٥٠٩.

كالمتعجب «ما على عثمان ما عمل بعد هذا» (١).

وقال عبد الله أيضا : حدثنا هارون بن معروف ، حدثنا ضمرة ، حدثنا عبد الله بن شوذب ، عن عبد الله بن القاسم عن كثير مولى عبد الرحمن بن سمرة عن عبد الرحمن بن سمرة ، قال : جاء عثمان رضي الله عنه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بألف دينار في ثوبه حتى جهز النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جيش العسرة ، قال : فصبها في حجر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقلبها بيده ويقول : «ما ضر ابن عفان ما عمل بعد اليوم» يرددها مرارا (٢) ، وقال قتادة في قوله تعالى : (وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ) الآية. ما ازداد قوم في سبيل الله بعدا من أهليهم إلا ازدادوا قربا من الله.

(وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (١٢٢)

هذا بيان من الله تعالى لما أراد من نفير الأحياء مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة تبوك ، فإنه قد ذهبت طائفة من السلف إلى أنه كان يجب النفير على كل مسلم إذا خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولهذا قال تعالى : (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) [التوبة : ٤١] وقال (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ) [التوبة : ١٢١] الآية ، قال فنسخ ذلك بهذه الآية. وقد يقال إن هذا بيان لمراده تعالى من نفير الأحياء كلها وشرذمة من كل قبيلة إن لم يخرجوا كلهم ، ليتفقه الخارجون مع الرسول بما ينزل من الوحي عليه وينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم بما كان من أمر العدو ، فيجتمع لهم الأمران في هذا النفير المعين ، وبعده صلى‌الله‌عليه‌وسلم تكون الطائفة النافرة من الحي إما للتفقه وإما للجهاد ، فإنه فرض كفاية على الأحياء.

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) يقول : ما كان المؤمنون لينفروا جميعا ويتركوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحده (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ) يعني عصبة يعني السرايا ولا يسيروا إلا بإذنه ، فإذا رجعت السرايا وقد أنزل بعدهم قرآن تعلمه القاعدون مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقالوا إن الله قد أنزل على نبيكم قرآنا وقد تعلمناه فتمكث السرايا يتعلمون ما أنزل الله على نبيهم بعدهم ويبعث سرايا أخرى ، فذلك قوله : (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) يقول : ليتعلموا ما أنزل الله على نبيهم وليعلموا السرايا إذا رجعت إليهم ، (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (٣).

وقال مجاهد : نزلت هذه الآية في أناس من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، خرجوا في البوادي فأصابوا من الناس معروفا ، ومن الخصب ما ينتفعون به ، ودعوا من وجدوا من الناس إلى

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند ٤ / ٧٥.

(٢) أخرجه أحمد في المسند ٥ / ٦٣.

(٣) انظر تفسير الطبري ٦ / ٥١٤.

الهدى ، فقال الناس لهم : ما نراكم إلا وقد تركتم أصحابكم وجئتمونا؟ فوجدوا في أنفسهم من ذلك تحرجا وأقبلوا من البادية كلهم حتى دخلوا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال الله عزوجل : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ) يبغون الخير (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) وليستمعوا ما في الناس وما أنزل الله فعذرهم (وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ) الناس كلهم إذا رجعوا إليهم (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (١).

وقال قتادة في الآية : هذا إذا بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الجيوش أمرهم الله أن يغزوا بنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتقيم طائفة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تتفقه في الدين ، وتنطلق طائفة تدعو قومها وتحذرهم وقائع الله فيمن خلا قبلهم (٢).

وقال الضحاك : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا غزا بنفسه لم يحل لأحد من المسلمين أن يتخلف عنه إلا أهل الأعذار ، وكان إذا قام وأسرى السرايا لم يحل لهم أن ينطلقوا إلا بإذنه ، وكان الرجل إذا أسرى فنزل بعده قرآن وتلاه نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أصحابه القاعدين معه ، فإذا رجعت السرية قال لهم الذين أقاموا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن الله أنزل بعدكم على نبيه قرآنا فيقرئونهم ويفقهونهم في الدين ، وهو قوله : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) يقول إذا أقام رسول الله (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ) يعني بذلك أنه لا ينبغي للمسلمين أن ينفروا جميعا ونبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قاعد ، ولكن إذا قعد نبي الله فسرت السرايا وقعد معه معظم الناس (٣).

وقال علي بن أبي طلحة أيضا عن ابن عباس في الآية ، قوله (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) إنها ليست في الجهاد ، ولكن لما دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على مضر بالسنين ، أجدبت بلادهم وكانت القبيلة منهم تقبل بأسرها ، حتى يحلوا بالمدينة من الجهد ويعتلوا بالإسلام وهم كاذبون ، فضيقوا على أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأجهدوهم ، فأنزل الله تعالى يخبر رسوله أنهم ليسوا مؤمنين ، فردهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى عشائرهم وحذر قومهم أن يفعلوا فعلهم ، فذلك قوله : (وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ) الآية (٤).

وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية : كان ينطلق من كل حي من العرب عصابة فيأتون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيسألونه عما يريدون من أمر دينهم ويتفقهون في دينهم ، ويقولون للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما تأمرنا أن نفعله؟ وأخبرنا بما نأمر به عشائرنا إذا قدمنا عليهم ، قال فيأمرهم نبي اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بطاعة الله ورسوله ويبعثهم إلى قومهم بالصلاة والزكاة ، وكانوا إذا أتوا قومهم قالوا : إن من أسلم فهو منا وينذرونهم ، حتى إن الرجل ليفارق أباه ، وأمه ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخبرهم وينذرهم قومهم ، فإذا رجعوا إليهم يدعونهم إلى الإسلام وينذرونهم النار ويبشرونهم

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٥١٣.

(٢) انظر تفسير الطبري ٦ / ٥١٤.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ٥١٤.

(٤) تفسير الطبري ٦ / ٥١٤.

بالجنة (١).

وقال عكرمة لما نزلت هذه الآية (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) [التوبة : ٣٩] و (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ) [التوبة : ١٢٠] الآية ، قال المنافقون : هلك أصحاب البدو الذين تخلفوا عن محمد ولم ينفروا معه ، وقد كان ناس من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرجوا إلى البدو إلى قومهم يفقهونهم فأنزل الله عزوجل (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) الآية ، ونزلت (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) (٢) [الشورى : ١٦] وقال الحسن البصري في الآية : ليتفقه الذين خرجوا بما يريهم الله من الظهور على المشركين والنصرة ، وينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم (٣).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (١٢٣)

أمر الله تعالى المؤمنين أن يقاتلوا الكفار أولا ، فأولا الأقرب فالأقرب فالأقرب إلى حوزة الإسلام ، ولهذا بدأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقتال المشركين في جزيرة العرب ، فلما فرغ منهم وفتح الله عليه مكة والمدينة والطائف واليمن واليمامة وهجر وخيبر وحضر موت وغير ذلك من أقاليم جزيرة العرب ، ودخل الناس من سائر أحياء العرب في دين الله أفواجا ، شرع في قتال أهل الكتاب ، فتجهز لغزو الروم الذين هم أقرب الناس إلى جزيرة العرب وأولى الناس بالدعوة إلى الإسلام لأنهم أهل الكتاب ، فبلغ تبوك ثم رجع لأجل جهد الناس وجدب البلاد وضيق الحال ، وذلك سنة تسع من هجرته عليه‌السلام ، ثم اشتغل في السنة العاشرة بحجة الوداع ، ثم عاجلته المنية صلوات الله وسلامه عليه بعد حجته بأحد وثمانين يوما ، فاختاره الله لما عنده.

وقام بالأمر بعده وزيره وصديقه وخليفته أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، وقد مال الدين ميلة كاد أن ينجفل فثبته الله تعالى به ، فوطد القواعد وثبت الدعائم ، ورد شارد الدين وهو راغم ، ورد أهل الردة إلى الإسلام ، وأخذ الزكاة ممن منعها من الطغام (٤) ، وبين الحق لمن جهله ، وأدى عن الرسول ما حمله ، ثم شرع في تجهيز الجيوش الإسلامية إلى الروم عبدة الصلبان ، وإلى الفرس عبدة النيران ، ففتح الله ببركة سفارته البلاد ، وأرغم أنف كسرى وقيصر ومن أطاعهما من العباد. وأنفق كنوزهما في سبيل الله كما أخبر بذلك رسول الله وكان تمام الأمر على يدي وصيه من بعده ، وولي عهده الفاروق الأواب ، شهيد المحراب ، أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فأرغم الله به أنوف الكفرة الملحدين ، وقمع الطغاة والمنافقين

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٥١٤ ، ٥١٥.

(٢) انظر تفسير الطبري ٦ / ٥١٥.

(٣) انظر تفسير الطبري ٦ / ٥١٦.

(٤) الطغام : أوغاد الناس.

واستولى على الممالك شرقا وغربا.

وحملت إليه خزائن الأموال من سائر الأقاليم بعدا وقربا : ففرقها على الوجه الشرعي. والسبيل المرضي. ثم لما مات شهيدا وقد عاش حميدا. أجمع الصحابة من المهاجرين والأنصار على خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه شهيد الدار.

فكسى الإسلام رئاسته حلة سابغة. وامتدت في سائر الأقاليم على رقاب العباد حجة الله البالغة. فظهر الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها. وعلت كلمة الله وظهر دينه. وبلغت الملة الحنيفية من أعداء الله غاية مآربها. وكلما علوا أمة انتقلوا إلى من بعدهم ثم الذين يلونهم من العتاة الفجار ، امتثالا لقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) [التوبة : ١٢٣] وقوله تعالى : (وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) أي وليجد الكفار منكم غلظة في قتالكم لهم ، فإن المؤمن الكامل هو الذي يكون رفيقا لأخيه المؤمن غليظا على عدوه الكافر.

كقوله تعالى : (فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) [المائدة : ٥٤] وقوله تعالى : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) [الفتح : ٢٩] وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) [التوبة : ٧٣ والتحريم : ٩] وفي الحديث : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أنا الضحوك القتال» يعني أنه ضحوك في وجه وليه قتال لهامة عدوه ، وقوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) أي قاتلوا الكفار وتوكلوا على الله واعلموا أن الله معكم إذا اتقيتموه وأطعتموه ، وهكذا الأمر لما كانت القرون الثلاثة الذين هم خير هذه الأمة في غاية الاستقامة والقيام بطاعة الله تعالى لم يزالوا ظاهرين على عدوهم. ولم تزل الفتوحات كثيرة ولم تزل الأعداء في سفال وخسار.

ثم لما وقعت الفتن والأهواء والاختلافات بين الملوك طمع الأعداء في أطراف البلاد وتقدموا إليها ، فلم يمانعوا لشغل الملوك بعضهم ببعض ، ثم تقدموا إلى حوزة الإسلام فأخذوا من الأطراف بلدانا كثيرة ، ثم لم يزالوا حتى استحوذوا على كثير من بلاد الإسلام ولله لأمر من قبل ومن بعد ، فكلما قام ملك من ملوك الإسلام وأطاع أوامر الله وتوكل على الله فتح الله عليه من البلاد واسترجع من الأعداء بحسبه وبقدر ما فيه من ولاية الله. والله المسؤول المأمول أن يمكن المسلمين من نواصي أعدائه الكافرين وأن يعلي كلمتهم في سائر الأقاليم إنه جواد كريم.

(وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) (١٢٥)

يقول تعالى : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) فمن المنافقين (مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً) أي يقول بعضهم لبعض أيكم زادته هذه السورة إيمانا قال الله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ

إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) وهذه الآية من أكبر الدلائل على أن الإيمان يزيد وينقص ، كما هو مذهب أكثر السلف والخلف من أئمة العلماء. بل قد حكى غير واحد الإجماع على ذلك. وقد بسط الكلام على هذه المسألة في أول شرح البخاري رحمه‌الله (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) أي زادتهم شكا إلى شكهم وريبا إلى ريبهم كما قال تعالى : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ) الآية ، وقوله تعالى : (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) [فصلت : ٤٤] وهذا من جملة شقائهم أن ما يهدي القلوب يكون سببا لضلالهم ودمارهم كما أن سيئ المزاج لو غذي به لا يزيده إلا خبالا ونقصا.

(أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ(١٢٦) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) (١٢٧)

يقول : تعالى أو لا يرى هؤلاء المنافقون (أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ) أي يختبرون (فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) أي لا يتوبون من ذنوبهم السالفة ولا هم يذكرون فيما يستقبل من أحوالهم ، قال مجاهد يختبرون بالسنة والجوع وقال قتادة بالغزو في السنة مرة أو مرتين ، وقال شريك عن جابر : هو الجعفي عن أبي الضحى عن حذيفة في قوله : (أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ) قال : كنا نسمع في كل عام كذبة أو كذبتين فيضل بها فئام من الناس كثير رواه ابن جرير (١) وفي الحديث عن أنس : لا يزداد الأمر إلا شدة ولا يزداد الناس إلا شحا وما من عام إلا والذي بعده شر منه ، سمعته من نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢).

وقوله : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) هذا أيضا إخبار عن المنافقين أنهم إذا أنزلت سورة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ) أي تلفتوا (هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا) أي تولوا عن الحق وانصرفوا عنه وهذا حالهم في الدين لا يثبتون عند الحق ولا يقبلونه ولا يفهمونه كقوله تعالى : (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) [المدثر : ٤٩ ـ ٤١] وقوله تعالى : (فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ) [المعارج : ٣٦ ـ ٣٧] أي ما لهؤلاء القوم يتفللون عنك يمينا وشمالا هروبا من الحق وذهابا إلى الباطل وقوله : (ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) كقوله : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) [الصف : ٥] أي لا يفهمون عن الله خطابه ولا يقصدون لفهمه

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٥٢٠.

(٢) أخرجه ابن ماجة في الفتن باب ٢٤.

ولا يريدونه بل هم في شغل عنه ونفور منه فلهذا صاروا إلى ما صاروا إليه.

(لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٢٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) (١٢٩)

يقول تعالى ممتنا على المؤمنين بما أرسل إليهم رسولا من أنفسهم أي من جنسهم وعلى لغتهم كما قال إبراهيم عليه‌السلام : (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) [البقرة : ١٢٩] وقال تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) [آل عمران : ١٦٤] وقال تعالى : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) أي منكم وبلغتكم كما قال جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه للنجاشي والمغيرة بن شعبة لرسول كسرى : إن الله بعث فينا رسولا منا نعرف نسبه وصفته ومدخله ومخرجه وصدقه وأمانته وذكر الحديث وقال سفيان بن عيينة عن جعفر بن محمد عن أبيه في قوله تعالى : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) قال : لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح» (١).

وقد وصل هذا من وجه آخر كما قال الحافظ أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن الرامهرمزي في كتابه الفاصل بين الراوي والواعي : حدثنا أبو أحمد يوسف بن هارون بن زياد حدثنا ابن أبي عمر حدثنا محمد بن جعفر بن محمد قال : أشهد على أبي لحدثني عن أبيه عن جده عن علي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمي لم يمسني من سفاح الجاهلية شيء».

وقوله تعالى : (عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) أي يعز عليه الشيء الذي يعنت أمته ويشق عليها ولهذا جاء في الحديث المروي من طرق عنه أنه قال : «بعثت بالحنيفية السمحة» (٢) وفي الصحيح «إن هذا الدين يسر وشريعته كلها سهلة سمحة كاملة يسيرة على من يسرها الله تعالى عليه» (٣) (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) أي على هدايتكم ووصول النفع الدنيوي والأخروي إليكم ، وقال الطبراني حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري حدثنا سفيان بن عيينة عن فطن عن أبي الطفيل عن أبي ذر قال : تركنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما طائر يقلب جناحيه في الهواء إلا وهو يذكر لنا منه علما قال : وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما بقي شيء يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بين لكم» وقال الإمام أحمد (٤) : حدثنا قطن حدثنا المسعودي عن

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٥٢٢.

(٢) أخرجه أحمد في المسند ٥ / ٢٦٦ ، ٦ / ٢٣٣.

(٣) أخرجه البخاري في الإيمان باب ٢٩ ، وأحمد في المسند ٥ / ٦٩.

(٤) المسند ١ / ٣٩٠.

الحسن بن سعد عن عبدة الهذلي عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله لم يحرم حرمة إلا وقد علم أنه سيطلعها منكم مطلع ألا وإني آخذ بحجزكم أن تهافتوا في النار كتهافت الفراش أو الذباب».

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا حسن بن موسى حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان عن يوسف بن مهران عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتاه ملكان فيما يرى النائم فقعد أحدهما عند رجليه والآخر عند رأسه. فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه : اضرب مثل هذا ومثل أمته فقال : إن مثله ومثل أمته كمثل قوم سفر انتهوا إلى رأس مفازة ولم يكن معهم من الزاد ما يقطعون به المفازة ولا ما يرجعون به فبينما هم كذلك إذ أتاهم رجل في حلة حبرة فقال : أرأيتم إن وردت بكم رياضا معشبة وحياضا رواء تتبعوني؟ فقالوا : نعم قال : فانطلق بهم فأوردهم رياضا معشبة وحياضا رواء فأكلوا وشربوا وسمنوا فقال لهم : ألم ألفكم على تلك الحال فجعلتم لي إن وردت بكم رياضا معشبة وحياضا رواء أن تتبعوني؟ فقالوا بلى فقال : فإن بين أيديكم رياضا هي أعشب من هذه وحياضا هي أروى من هذه فاتبعوني فقالت طائفة صدق والله لنتبعه ، وقالت طائفة قد رضينا بهذا نقيم عليه.

وقال البزار : حدثنا سلمة بن شبيب وأحمد بن منصور قالا حدثنا إبراهيم بن الحكم بن أبان حدثنا أبي عن عكرمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن أعرابيا جاء إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يستعينه في شيء قال عكرمة : أراه قال في دم فأعطاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا ثم قال : «أحسنت إليك» قال الأعرابي لا ولا أجملت فغضب بعض المسلمين وهموا أن يقوموا إليه فأشار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم أن كفوا فلما قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبلغ إلى منزله دعا الأعرابي إلى البيت فقال : «إنك إنما جئتنا تسألنا فأعطيناك فقلت ما قلت» فزاده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا وقال : «أحسنت إليك؟» فقال الأعرابي نعم فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا.

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنك جئتنا فسألتنا فأعطيناك فقلت ما قلت. وفي أنفس أصحابي عليك من ذلك شيء فإذا جئت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي حتى يذهب عن صدورهم» فقال : نعم فلما جاء الأعرابي قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن صاحبكم كان جاء فسألنا فأعطيناه فقال ما قال ، وإنا قد دعوناه فأعطيناه فزعم أنه قد رضي ، كذلك يا أعرابي؟» فقال الأعرابي : نعم فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا.

فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل كانت له ناقة فشردت عليه فاتبعها الناس فلم يزيدوها إلا نفورا. فقال لهم صاحب الناقة خلوا بيني وبين ناقتي فأنا أرفق بها وأنا أعلم بها فتوجه إليها وأخذ لها من قتام الأرض ودعاها حتى جاءت واستجابت وشد عليها

__________________

(١) المسند ١ / ٢٦٧.

رحلها وإني لو أطعتكم حيث قال ما قال لدخل النار» رواه البزار ثم قال لا نعلمه يروى إلا من هذا الوجه.

(قلت) وهو ضعيف بحال إبراهيم بن الحكم بن أبان والله أعلم ، وقوله : (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) كقوله (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) [الشعراء : ٢١٥ ـ ٢١٧] وهكذا أمره تعالى في هذه الآية الكريمة وهي قوله تعالى : (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي تولوا عما جئتم به من الشريعة العظيمة المطهرة الكاملة الشاملة (فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي الله كافي لا إله إلا هو عليه توكلت كما قال تعالى : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) [المزمل : ٩].

(وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) أي هو مالك كل شيء وخالقه ، لأنه رب العرش العظيم الذي هو سقف المخلوقات وجميع الخلائق من السموات والأرضين وما فيهما وما بينهما تحت العرش مقهورون بقدرة الله تعالى ، وعلمه محيط بكل شيء وقدره نافذ في كل شيء وهو على كل شيء وكيل.

قال الإمام أحمد (١) : حدثنا محمد بن أبي بكر حدثنا بشر بن عمر حدثنا شعبة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس رضي الله عنهما عن أبي بن كعب قال : آخر آية نزلت من القرآن هذه الآية (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) إلى آخر السورة ، وقال عبد الله ابن الإمام أحمد حدثنا روح بن عبد المؤمن حدثنا عمر بن شقيق حدثنا أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب رضي الله عنهم أنهم جمعوا القرآن في مصاحف في خلافة أبي بكر رضي الله عنه فكان رجال يكتبون ويملي عليهم أبي بن كعب فلما انتهوا إلى هذه الآية من سورة براءة (ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) [التوبة : ١٢٧] الآية فظنوا أن هذا آخر ما نزل من القرآن فقال لهم أبي بن كعب إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقرأني بعدها آيتين (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) إلى آخر السورة قال هذا آخر ما نزل من القرآن فختم بما فتح به بالله الذي لا إله إلا هو وهو قول الله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (٢) [الأنبياء : ٢٥] وهذا غريب أيضا.

وقال أحمد (٣) : حدثنا علي بن بحر حدثنا علي بن محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد عن أبيه عباد بن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه قال أتى الحارث بن خزيمة بهاتين الآيتين من آخر براءة (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) إلى عمر بن الخطاب فقال : من

__________________

(١) المسند ٥ / ١١٧.

(٢) أخرجه أحمد في المسند ٥ / ١٣٤.

(٣) المسند ١ / ١٩٩.

معك على هذا؟ قال : لا أدري والله إني لأشهد لسمعتها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووعيتها وحفظتها فقال عمر : وأنا أشهد لسمعتها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال : لو كانت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة فانظروا سورة من القرآن فضعوها فيها ، فوضعوها في آخر براءة.

وقد تقدم الكلام أن عمر بن الخطاب هو الذي أشار علي أبي بكر الصديق رضي الله عنهما بجمع القرآن فأمر زيد بن ثابت فجمعه وكان عمر يحضرهم وهم يكتبون ذلك ، وفي الصحيح أن زيدا قال : فوجدت آخر سورة براءة مع خزيمة بن ثابت أو أبي خزيمة (١) ، وقد قدمنا أن جماعة من الصحابة تذكروا ذلك عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما قال خزيمة بن ثابت حين ابتدأهم بها والله أعلم.

وقد روى أبو داود (٢) عن يزيد بن محمد عن عبد الرزاق بن عمر ـ وقال : كان من ثقات المسلمين من المتعبدين عن مدرك بن سعد قال يزيد شيخ ثقة عن يونس بن ميسرة عن أم الدرداء عن أبي الدرداء قال : من قال إذا أصبح وإذا أمسى : حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم. سبع مرات إلا كفاه الله ما أهمه.

وقد رواه ابن عساكر في ترجمة عبد الرزاق عن عمر ، هذا من رواية أبي زرعة الدمشقي عنه عن أبي سعد مدرك بن أبي سعد الفزاري عن يونس بن ميسرة بن حليس عن أم الدرداء سمعت أبا الدرداء يقول : ما من عبد يقول : حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم سبع مرات صادقا كان بها أو كاذبا إلا كفاه الله ما أهمه. وهذه زيادة غريبة ، ثم رواه في ترجمة عبد الرزاق أبي محمد عن أحمد بن عبد الله بن عبد الرزاق عن جده عبد الرزاق بن عمر بسنده فرفعه فذكر مثله بالزيادة وهذا منكر ، والله أعلم.

آخر سورة براءة ولله الحمد والمنة

__________________

(١) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٩ ، باب ٢٠.

(٢) أخرجه أبو داود في الأدب باب ١٠١.

سورة يونس

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (١) أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ) (٢)

أما الحروف المقطعة في أوائل السور فقد تقدم الكلام عليها في أوائل سورة البقرة ، وقال أبو الضحى عن ابن عباس في قوله تعالى : (الر) أي أنا الله أرى (١). وكذلك قال الضحاك. وغيره (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) أي هذه آيات القرآن المحكم المبين وقال مجاهد (الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ). وقال الحسن : التوراة والزبور ، وقال قتادة : (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) قال الكتب التي كانت قبل القرآن ، وهذا القول لا أعرف وجهه ولا معناه.

وقوله (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً) الآية. يقول تعالى منكرا على من تعجب من الكفار من إرسال المرسلين من البشر كما أخبر تعالى عن القرون الماضين من قولهم : (أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا) [التغابن : ٦] وقال هود وصالح لقومهما : (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ) [الأعراف : ٦٣ ـ ٦٩] وقال تعالى مخبرا عن كفار قريش أنهم قالوا : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) [ص : ٥] وقال الضحاك عن ابن عباس : لما بعث الله تعالى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسولا أنكرت العرب ذلك أو من أنكر منهم فقالوا : الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا مثل محمد قال فأنزل الله عزوجل (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً) (٢) الآية.

وقوله : (أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) اختلفوا فيه فقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ) يقول سبقت لهم السعادة في الذكر الأول (٣) وقال العوفي عن ابن عباس (أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) يقول : أجرا حسنا بما قدموا (٤) وكذا قال الضحاك والربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهذا كقوله تعالى : (لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً) [الكهف : ٢] الآية ، وقال مجاهد (أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) قال الأعمال الصالحة صلاتهم وصومهم وصدقتهم وتسبيحهم قال : ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يشفع لهم ، وكذا قال

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٥٢٥.

(٢) انظر تفسير الطبري ٦ / ٥٢٧.

(٣) انظر تفسير الطبري ٦ / ٥٢٨.

(٤) تفسير الطبري ٦ / ٥٢٨.

زيد بن أسلم ومقاتل بن حيان وقال قتادة سلف صدق عند ربهم واختار ابن جرير قول مجاهد أن الأعمال الصالحة التي قدموها كما يقال له قدم في الإسلام ، كقول حسان : [الطويل]

لنا القدم العليا إليك وخلفنا

لأوّلنا في طاعة الله تابع (١)

وقول ذي الرمة : [الطويل]

لكم قدم لا ينكر الناس أنها

مع الحسب العادي طمت على البحر (٢)

وقوله تعالى : (قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ) أي مع أنا بعثنا إليهم رسولا منهم رجلا من جنسهم بشيرا ونذيرا (قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ) أي ظاهر وهم الكاذبون في ذلك.

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (٣)

يخبر تعالى أنه رب العالم جميعه ، وأنه خلق السموات والأرض في ستة أيام قيل كهذه الأيام وقيل كل يوم كألف سنة مما تعدون كما سيأتي بيانه ثم على استوى العرش والعرش أعظم المخلوقات وسقفها. قال ابن أبي حاتم حدثنا حجاج بن حمزة حدثنا أبو أسامة حدثنا إسماعيل بن أبي خالد قال سمعت سعدا الطائي يقول : العرش ياقوتة حمراء ، وقال وهب بن منبه خلقه الله من نوره وهذا غريب. وقوله : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) أي يدبر أمر الخلائق (لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) [سبأ : ٣] ولا يشغله شأن عن شأن ولا تغلطه المسائل ولا يتبرم بإلحاح الملحين ولا يلهيه تدبير الكبير عن الصغير في الجبال والبحار والعمران والقفار (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) [هود : ٦] الآية.

(وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [الأنعام : ٥٩] وقال الدراوردي عن سعد بن إسحاق بن كعب أنه قال حين نزلت هذه الآية (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) الآية ، لقيهم ركب عظيم لا يرون إلا أنهم من العرب فقالوا لهم : من أنتم؟ قالوا : من الجن خرجنا من المدينة أخرجتنا هذه الآية رواه ابن أبي حاتم. وقوله : (ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) كقوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [البقرة : ٢٥٥] وكقوله تعالى : (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) [النجم : ٢٦] وقوله : (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ

__________________

(١) البيت لحسان بن ثابت الأنصاري في ديوانه ص ٢٤١ ، ولسان العرب (خلف) ، والمخصص ١٦ / ١٨٩ ، وتاج العروس (خلف) ، والمذكر والمؤنث للأنباري ص ١٩٧ ، والمستقصى ٢ / ٣٠١. وتفسير الطبري ٦ / ٥٢٩.

(٢) البيت الذي الرمة في تفسير البحر المحيط ٥ / ١٢٧ ، وتفسير الطبري ٦ / ٥٢٩.

إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) [سبأ : ٢٣] وقوله (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) أي أفردوه بالعبادة وحده لا شريك له (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) أي أيها المشركون في أمركم تعبدون مع الله إلها غيره وأنتم تعلمون أنه المتفرد بالخلق كقوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [الزخرف : ٨٧] وقوله : (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) [المؤمنون : ٨٦ ـ ٨٧] وكذا الآية التي قبلها والتي بعدها.

(إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) (٤)

يخبر تعالى أن إليه مرجع الخلائق يوم القيامة لا يترك منهم أحدا حتى يعيده كما بدأه ، ثم ذكر تعالى أنه كما بدأ الخلق كذلك يعيده (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم : ٢٧] (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ) أي بالعدل والجزاء الأوفى (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) أي بسبب كفرهم يعذبون يوم القيامة بأنواع العذاب. من (سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) [الواقعة : ٤٢ ـ ٤٣] (هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ) [ص : ٥٧ ـ ٥٨] (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) [الرحمن : ٤٣ ـ ٤٤].

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) (٦)

يخبر تعالى عما خلق من الآيات الدالة على كمال قدرته وعظيم سلطانه أنه جعل الشعاع الصادر عن جرم الشمس ضياء وجعل شعاع القمر نورا ، هذا فن وهذا فن آخر ، ففاوت بينهما لئلا يشتبها ، وجعل سلطان الشمس بالنهار وسلطان القمر بالليل ، وقدر القمر منازل ، فأول ما يبدو صغيرا ثم يتزايد نوره وجرمه حتى يستوسق ويكمل إبداره ، ثم يشرع في النقص حتى يرجع إلى حالته الأولى في تمام شهر كقوله تعالى : (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [يس : ٤٠] وقوله تعالى : (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً) [الأنعام : ٩٦] الآية ، وقوله في هذه الآية الكريمة : (وَقَدَّرَهُ) أي القمر (مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) فبالشمس تعرف الأيام وبسير القمر تعرف الشهور والأعوام.

(ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِ) أي لم يخلقه عبثا بل له حكمة عظيمة في ذلك وحجة بالغة كقوله تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ

كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) [ص : ٢٧] وقال تعالى : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) [المؤمنون : ١١٥ ـ ١١٦] وقوله : نفصل الآيات أي نبين الحجج والأدلة (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) وقوله : (إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي تعاقبهما إذا جاء هذا ذهب هذا وإذا ذهب هذا جاء هذا لا يتأخر عنه شيئا كقوله تعالى : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً) [الأعراف : ٥] وقال : (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ) [يس : ٤٠] الآية.

وقال تعالى : (فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً) [الأنعام : ٩٦] الآية ، وقوله : (وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي من الآيات الدالة على عظمته تعالى كما قال : (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [يوسف : ١٠٥] الآية ، وقوله : (قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) [يونس : ١٠١] وقال : (أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) [سبأ : ٩٥] وقال : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) [آل عمران : ١٩٠] أي العقول ، وقال هاهنا (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) أي عقاب الله وسخطه وعذابه.

(إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (٧) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٨)

يقول تعالى مخبرا عن حال الأشقياء الذين كفروا بلقاء الله يوم القيامة ولا يرجون في لقائه شيئا ورضوا بهذه الحياة الدنيا واطمأنت إليها نفوسهم. قال الحسن : والله ما زينوها ولا رفعوها حتى رضوا بها وهم غافلون عن آيات الله الكونية فلا يتفكرون فيها والشرعية فلا يأتمرون بها فإن مأواهم يوم معادهم النار جزاء على ما كانوا يكسبون في دنياهم من الآثام والخطايا والإجرام مع ما هم فيه من الكفر بالله ورسوله واليوم الآخر.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٩) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١٠)

هذا إخبار عن حال السعداء الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين وامتثلوا ما أمروا به فعملوا الصالحات بأنه سيهديهم بإيمانهم ، يحتمل أن تكون الباء هاهنا سببية فتقديره بسبب إيمانهم في الدنيا يهديهم الله يوم القيامة على الصراط المستقيم حتى يجوزوه ويخلصوا إلى الجنة ، ويحتمل أن تكون للاستعانة كما قال مجاهد في قوله : (يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ) قال : يكون

لهم نورا يمشون به (١) ، وقال ابن جريج في الآية : يمثل له عمله في صورة حسنة وريح طيبة إذا قام من قبره يعارض صاحبه ويبشره بكل خير فيقول له : من أنت؟ فيقول : أنا عملك فيجعل له نورا من بين يديه حتى يدخله الجنة فذلك قوله تعالى : (يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ) والكافر يمثل له عمله في صورة سيئة وريح منتنة فيلزم صاحبه ويلازّه (٢) حتى يقذفه في النار (٣) ، وروي نحوه عن قتادة مرسلا فالله أعلم.

وقوله : (دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي هذا حال أهل الجنة. قال ابن جريج أخبرت بأن قوله : (دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَ) قال : إذا مرّ بهم الطير يشتهونه قالوا سبحانك اللهم وذلك دعواهم فيأتيهم الملك بما يشتهونه فيسلم عليهم فيردون عليه فذلك قوله : (وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) قال فإذا أكلوا حمدوا الله فذلك قوله : (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

وقال مقاتل بن حيان : إذا أراد أهل الجنة أن يدعوا بالطعام قال أحدهم (سُبْحانَكَ اللهُمَ) قال فيقوم على أحدهم عشرة آلاف خادم مع كل خادم صحفة من ذهب فيها طعام ليس في الأخرى قال فيأكل منهن كلهن ، وقال سفيان الثوري : إذا أراد أحدهم أن يدعو بشيء قال (سُبْحانَكَ اللهُمَ) وهذه الآية فيها شبه من قوله : (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ) [الأحزاب : ٤٤] الآية.

وقوله : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً) [الواقعة : ٢٥ ـ ٢٦] وقوله : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) [يس : ٥٨] وقوله : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) [الرعد : ٢٣ ـ ٢٤] الآية ، وقوله (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) هذا فيه دلالة على أنه تعالى هو المحمود أبدا ، المعبود على طول المدى ، ولهذا حمد نفسه عند ابتداء خلقه واستمراره وفي ابتداء كتابه وعند ابتداء تنزيله حيث يقول تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ) [الكهف : ١] (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [الأنعام : ١] إلى غير ذلك من الأحوال التي يطول بسطها وأنه المحمود في الأولى والآخرة في الحياة الدنيا وفي الآخرة وفي جميع الأحوال ولهذا جاء في الحديث : «إن أهل الجنة يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس» (٤). وإنما يكون ذلك كذلك لما يرون من تزايد نعم الله عليهم فتكرر وتعاد وتزداد فليس لها انقضاء ولا أمد فلا إله إلا هو ولا رب سواه.

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٥٣٤.

(٢) يلازّه : يقارنه ويلازمه ويلصق به.

(٣) انظر تفسير الطبري ٦ / ٥٣٤.

(٤) أخرجه مسلم في الجنة حديث ١٨ ، ١٩ ، والدارمي في الرقاق باب ١٠٤ ، وأحمد في المسند ٣ / ٣٤٩ ، ٣٥٤ ، ٣٨٤.

(وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (١١)

يخبر تعالى عن حلمه ولطفه بعباده أنه لا يستجيب له إذا دعوا على أنفسهم أو أموالهم أو أولادهم في حال ضجرهم وغضبهم وأنه يعلم منهم عدم القصد بالشر إلى إرادة ذلك فلهذا لا يستجيب لهم والحالة هذه لطفا ورحمة كما يستجيب لهم إذا دعوا لأنفسهم أو لأموالهم أو لأولادهم بالخير والبركة والنماء ولهذا قال : (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ) الآية ، أي لو استجاب لهم كلما دعوه به في ذلك لأهلكهم ولكن لا ينبغي الإكثار من ذلك كما جاء في الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزار في مسنده : حدثنا محمد بن معمر حدثنا يعقوب بن محمد حدثنا حاتم بن إسماعيل حدثنا يعقوب بن مجاهد أبو حزرة عن عبادة بن الوليد حدثنا جابر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا تدعوا على أنفسكم ، لا تدعوا على أولادكم لا تدعوا على أموالكم لا توافقوا من الله ساعة فيها إجابة فيستجيب لكم» (١) ورواه أبو داود من حديث حاتم بن إسماعيل به.

وقال البزار وتفرد به عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت الأنصاري لم يشاركه أحد فيه وهذا كقوله تعالى : (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ) [الإسراء : ١١] الآية ، وقال مجاهد في تفسير هذه الآية ، (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ) الآية ، هو قول الإنسان لولده أو ماله إذا غضب عليه : اللهم لا تبارك فيه والعنه. فلو يعجل لهم بالاستجابة في ذلك ما يستجاب لهم في الخير لأهلكهم (٢).

(وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٢)

يخبر تعالى عن الإنسان وضجره وقلقه إذا مسه الشر كقوله : (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) [فصلت : ٥١] أي كثير وهما في معنى واحد وذلك لأنه إذا أصابته شدة قلق لها وجزع منها وأكثر الدعاء عند ذلك فدعا الله في كشفها ورفعها عنه في حال اضطجاعه وقعوده وقيامه وفي جميع أحواله فإذا فرج الله شدته وكشف كربته أعرض ونأى بجانبه وذهب كأنه ما كان به من ذلك شيء (مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ) ثم ذم تعالى من هذه صفته وطريقته فقال: (كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) فأما من رزقه الله الهداية والسداد والتوفيق والرشاد فإنه مستثنى من ذلك كقوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [هود : ١١] وكقول

__________________

(١) أخرجه مسلم في الزهد حديث ٧٤ ، وأبو داود في الوتر باب ٢٧.

(٢) انظر تفسير الطبري ٦ / ٥٣٧.

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «عجبا لأمر المؤمن لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرا له ، إن اصابته ضراء فصبر كان خيرا له وإن أصابته سراء فشكر كان خيرا له ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن» (١).

(وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (١٣) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) (١٤)

أخبر تعالى عما أحل بالقرون الماضية في تكذيبهم الرسل فيما جاءوهم به من البينات والحجج الواضحات ، ثم استخلف الله هؤلاء القوم من بعدهم وأرسل إليهم رسولا لينظر طاعتهم له ، واتباعهم رسوله وفي صحيح مسلم من حديث أبي نضرة عن أبي سعيد قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون ، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت من النساء» (٢).

وقال ابن جرير (٣) : حدثني المثنى حدثنا زيد بن عوف أبو ربيعة فهد أنبأنا حماد عن ثابت البناني عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن عوف بن مالك قال لأبي بكر رأيت فيما يرى النائم كأن سببا دلي من السماء فانتشط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم أعيد فانتشط أبو بكر ثم ذرع الناس حول المنبر ففضل عمر بثلاثة أذرع حول المنبر فقال عمر : دعنا من رؤياك لا أرب لنا فيها فلما استخلف عمر قال : يا عوف رؤياك؟ قال وهل لك في رؤياي من حاجة أو لم تنتهرني؟ قال ويحك إني كرهت أن تنعي لخليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفسه فقص عليه الرؤيا حتى إذا بلغ ذرع الناس إلى المنبر بهذه الثلاث الأذرع قال : أما إحداهن فإنه كان خليفة. وأما الثانية فإنه لا يخاف في الله لومة لائم ، وأما الثلاثة فإنه شهيد ، قال : فقال يقول الله تعالى : (ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) فقد استخلفت يا ابن أم عمر فانظر كيف تعمل؟ وأما قوله فإني لا أخاف في الله لومة لائم فيما شاء الله ، وأما قوله : شهيد فأنى لعمر الشهادة والمسلمون مطيفون به؟

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (١٦)

__________________

(١) أخرجه مسلم في الزهد حديث ٦٤ ، وأحمد في المسند ٤ / ٣٣٢ ، ٣٣٣ ، ٦ / ١٥ ، ١٦.

(٢) أخرجه مسلم في الذكر حديث ٩٩.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ٥٣٩.

يخبر تعالى عن تعنت الكفار من مشركي قريش الجاحدين المعرضين عنه أنهم إذا قرأ عليهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتاب الله وحجته الواضحة قالوا له : ائت بقرآن غير هذا أي رد هذا وجئنا بغيره من نمط آخر أو بدله إلى وضع آخر قال الله تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي) أي ليس هذا إلي إنما أنا عبد مأمور ورسول مبلغ عن الله (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ).

ثم قال محتجا عليهم في صحة ما جاءهم به : (قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ) أي هذا إنما جئتكم به عن إذن الله لي في ذلك ومشيئته وإرادته ، والدليل على أني لست أتقوله من عندي ولا افتريته أنكم عاجزون عن معارضته وأنكم تعلمون صدقي وأمانتي منذ نشأت بينكم إلى حين بعثني الله عزوجل لا تنتقدون عليّ شيئا تغمصوني (١) به ولهذا قال : (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي أفليس لكم عقول تعرفون بها الحق من الباطل ولهذا لما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان ومن معه فيما سأله من صفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال هرقل لأبي سفيان : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال أبو سفيان فقلت لا ، وكان أبو سفيان إذ ذاك رأس الكفرة وزعيم المشركين ومع هذا اعترف بالحق.

والفضل ما شهدت به الأعداء.

فقال له هرقل : فقد أعرف أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يذهب فيكذب على الله وقال جعفر بن أبي طالب للنجاشي ملك الحبشة : بعث الله فينا رسولا نعرف صدقه ونسبه وأمانته ، وقد كانت مدة مقامه عليه‌السلام بين أظهرنا قبل النبوة أربعين سنة ، وعن سعيد بن المسيب ثلاثا وأربعين سنة ، والصحيح المشهور الأول.

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ) (١٧)

يقول تعالى لا أحد أظلم ولا أعتى ولا أشد إجراما (مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) وتقول على الله وزعم أن الله أرسله ولم يكن كذلك فليس أحد أكبر جرما ولا أعظم ظلما من هذا ، ومثل هذا لا يخفى أمره على الأغبياء فكيف يشتبه حال هذا بالأنبياء فإن من قال هذه المقالة صادقا أو كاذبا فلا بد أن الله ينصب عليه من الأدلة على بره أو فجوره ما هو أظهر من الشمس ، فإن الفرق بين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين مسيلمة الكذاب لمن شاهدهما أظهر من الفرق بين وقت الضحى وبين نصف الليل في حندس الظلماء ، فمن شيم كل منهما وأفعاله وكلامه يستدل من له بصيرة على صدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكذب مسيلمة الكذاب وسجاح والأسود العنسي.

__________________

(١) غمصه : احتقر وعابه.

قال عبد الله بن سلام لما قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة انجفل الناس فكنت فيمن انجفل ، فلما رأيته عرفت أن وجهه ليس بوجه رجل كذاب قال : فكان أول ما سمعته يقول : «يا أيها الناس أفشوا السلام ، وأطعموا الطعام وصلوا الأرحام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلون الجنة بسلام» (١) ولما قدم وفد ضمام بن ثعلبة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قومه بني سعد بن بكر قال لرسول الله فيما قال له من رفع هذه السماء؟ قال : «الله» قال : ومن نصب هذه الجبال قال «الله» قال : ومن سطح هذه الأرض؟ قال : «الله» قال : فبالذي رفع السماء ونصب هذه الجبال وسطح هذه الأرض الله أرسلك إلى الناس كلهم؟ قال : «اللهم نعم» ثم سأله عن الصلاة والزكاة والحج والصيام ، ويحلف عند كل واحدة هذه اليمين ويحلف له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له : صدقت ، والذي بعثك بالحق لا أزيد على ذلك ولا أنقص ، فاكتفى هذا الرجل بمجرد هذا ، وقد أيقن بصدقه صلوات الله وسلامه عليه بما رأى وشاهد من الدلائل الدالة عليه. وقال حسان بن ثابت : [الطويل]

لو لم تكن فيه آيات مبينة

كانت بديهته تأتيك بالخبر (٢)

وأما مسيلمة فمن شاهده من ذوي البصائر علم أمره لا محالة بأقواله الركيكة التي ليست بفصيحة ، وأفعاله غير الحسنة بل القبيحة ، وقرآنه الذي يخلد به في النار يوم الحسرة والفضيحة ، وكم من فرق بين قوله تعالى : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) إلى آخرها. وبين قول مسيلمة قبحه الله ولعنه. يا ضفدع بنت ضفدعين ، نقي كم تنقين لا الماء تكدرين ، ولا الشارب تمنعين. وقوله قبحه الله لقد أنعم الله على الحبلى ، إذ أخرج منها نسمة تسعى ، من بين صفاق وحشي. وقوله خلده الله في نار جهنم. وقد فعل : الفيل وما أدراك ما الفيل ، له خرطوم طويل ، وقوله أبعده الله عن رحمته : والعاجنات عجنا ، والخابزات خبزا ، واللاقمات لقما ، إهالة وسمنا ، إن قريشا قوم يعتدون.

إلى غير ذلك من الخرافات والهذيانات التي يأنف الصبيان أن يلفظوا بها إلا على وجه السخرية والاستهزاء ، ولهذا أرغم الله أنفه ، وشرب يوم حديقة الموت حتفه ، ومزق شمله. ولعنه صحبه وأهله. وقدموا على الصديق تائبين ، وجاءوا في دين الله راغبين فسألهم الصديق خليفة الرسول صلوات الله وسلامه عليه ورضي عنه أن يقرءوا عليه شيئا من قرآن مسيلمة لعنه الله فسألوه أن يعفيهم من ذلك فأبى عليهم إلا أن يقرءوا شيئا منه ليسمعه من لم يسمعه من الناس فيعرفوا فضل ما هم عليه من الهدى والعلم فقرأوا عليه من هذا الذي ذكرناه وأشباهه ، فلما فرغوا قال لهم الصديق رضي الله عنه : ويحكم أين كان يذهب بعقولكم؟ والله إن هذا لم

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند ٥ / ٤٥١.

(٢) البيت ليس في ديوان حسان بن ثابت.

يخرج من إل.

وذكروا أن عمرو بن العاص وفد على مسيلمة وكان صديقا له في الجاهلية وكان عمرو لم يسلم بعد فقال له مسيلمة : ويحك يا عمرو ماذا أنزل على صاحبكم يعني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذه المدة؟ فقال : لقد سمعت أصحابه يقرءون سورة عظيمة قصيرة فقال : وما هي؟ فقال (وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) [العصر : ١ ـ ٢] إلى آخر السورة ففكر مسيلمة ساعة ثم قال وأنا قد أنزل عليّ مثله فقال وما هو فقال يا وبر يا وبر ، إنما أنت أذنان وصدر ، وسائرك حفر نقر. كيف ترى يا عمرو؟ فقال له عمرو : والله إنك لتعلم أني أعلم أنك تكذب. فإذا كان هذا من مشرك في حال شركه لم يشتبه عليه حال محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصدقه ، وحال مسيلمة لعنه الله وكذبه ، فكيف بأولي البصائر والنهى ، وأصحاب العقول السليمة المستقيمة والحجا ، ولهذا قال تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ) [الأنعام : ٩٣] وقال في هذه الآية الكريمة (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ) [الأنعام : ٢١] وكذلك من كذب بالحق الذي جاءت به الرسل. وقامت عليه الحجج ، لا أحد أظلم منه كما جاء في الحديث «أعتى الناس على الله رجل قتل نبيا أو قتله نبي» (١).

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٨) وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (١٩)

ينكر تعالى على المشركين الذين عبدوا مع الله غيره ظانين أن تلك الآلهة تنفعهم شفاعتها عند الله فأخبر تعالى أنها لا تضر ولا تنفع ولا تملك شيئا ، ولا يقع شيء مما يزعمون فيها ولا يكون هذا أبدا ولهذا قال تعالى : (قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ).

وقال ابن جرير (٢) : معناه أتخبرون الله بما لا يكون في السموات ولا في الأرض؟ ثم نزه نفسه الكريمة عن شركهم وكفرهم فقال : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) ثم أخبر تعالى أن هذا الشرك حادث في الناس كائن بعد أن لم يكن وأن الناس كلهم كانوا على دين واحد وهو الإسلام قال ابن عباس : كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام ثم وقع الاختلاف بين الناس وعبدت الأصنام والأنداد والأوثان فبعث الله الرسل بآياته وبيناته وحججه البالغة

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند ١ / ٤٠٧.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٥٤٢.

وبراهينه الدامغة (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) [الأنفال : ٤٢] وقوله : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) الآية ، أي لو لا ما تقدم من الله تعالى أنه لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه ، وأنه قد أجل الخلق إلى أجل معدود لقضى بينهم فيما اختلفوا فيه فأسعد المؤمنين وأعنت الكافرين.

(وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) (٢٠)

أي ويقول هؤلاء الكفرة المكذبون المعاندون : لولا أنزل على محمد آية من ربه يعنون كما أعطى الله ثمود الناقة أو أن يحول لهم الصفا ذهبا أو يزيح عنهم جبال مكة ويجعل مكانها بساتين وأنهارا أو نحو ذلك مما الله عليه قادر ولكنه حكيم في أفعاله وأقواله كما قال تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً) [الفرقان : ١٠ ـ ١١] وكقوله : (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) [الإسراء : ٥٩] الآية ، يقول تعالى : إن سنتي في خلقي أني إذا آتيتهم ما سألوا ، فإن آمنوا وإلا عاجلتهم بالعقوبة. ولهذا لما خير رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بين إعطائهم ما سألوا فإن آمنوا وإلا عذبوا وبين إنظارهم اختار إنظارهم كما حلم عنهم غير مرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولهذا قال تعالى إرشادا لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الجواب عما سألوا : (فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ) أي الأمر كله لله وهو يعلم العواقب في الأمور.

(فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) اي إن كنتم لا تؤمنون حتى تشاهدوا ما سألتم فانتظروا حكم الله فيّ وفيكم. هذا مع أنهم قد شاهدوا من آياته صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعظم مما سألوا حين أشار بحضرتهم إلى القمر ليلة إبداره فانشق اثنتين فرقة من وراء الجبل وفرقة من دونه. وهذا أعظم من سائر الآيات الأرضية مما سألوا وما لم يسألوا ، ولو علم الله منهم أنهم سألوا ذلك استرشادا وتثبيتا لأجابهم ، ولكن علم أنهم إنما يسألون عنادا وتعنتا فتركهم فيما رابهم وعلم أنهم لا يؤمن منهم أحد كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ) [يونس : ٩٦ ـ ٩٧] الآية. وقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الأنعام : ١١١] الآية ، ولما فيهم من المكابرة كقوله تعالى : (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ) [الحجر : ١٤] الآية ، وقوله تعالى : (وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً) [الطور : ٤٤] الآية ، وقال تعالى : (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) [الأنعام : ٧] فمثل هؤلاء أقل من أن يجابوا إلى ما سألوه لأنه لا فائدة في جوابهم لأنه دائر على تعنتهم وعنادهم لكثرة فجورهم وفسادهم ولهذا قال : (فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ).

(وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (٢١) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٢٣)

يخبر تعالى أنه إذا أذاق الناس رحمة من بعد ضراء مستهم كالرخاء بعد الشدة ، والخصب بعد الجدب ، والمطر بعد القحط ونحو ذلك (إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا) قال مجاهد : استهزاء وتكذيب كقوله : (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً) [يونس : ١٢] الآية ، وفي الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى بهم الصبح على أثر سماء كانت من الليل أي مطر ثم قال : «هل تدرون ماذا قال ربكم الليلة؟» قالوا : الله ورسوله أعلم قال : «قال : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ، فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذاك مؤمن بي كافر بالكوكب ، وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذاك كافر بي مؤمن بالكوكب» (١).

وقوله : (قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً) أي أشد استدراجا وإمهالا حتى يظن الظان من المجرمين أنه ليس بمعذب وإنما هو في مهلة ثم يؤخذ على غرة منه والكاتبون الكرام يكتبون عليه جميع ما يفعله ويحصونه عليه ثم يعرضونه على عالم الغيب والشهادة فيجازيه على الجليل والحقير والنقير والقطمير.

ثم أخبر تعالى أنه (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) أي يحفظكم ويكلؤكم بحراسته (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها) أي بسرعة سيرهم رافقين فبينما هم كذلك إذ (جاءَتْها) أي تلك السفن (رِيحٌ عاصِفٌ) أي شديدة (وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ) أي اغتلم البحر عليهم (٢) (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ) أي هلكوا (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي لا يدعون معه صنما ولا وثنا بل يفردونه بالدعاء والابتهال كقوله تعالى : (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً) [الإسراء : ٦٧].

وقال هاهنا : (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ) أي هذه الحال (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) أي لا نشرك بك أحدا ولنفردنك بالعبادة هناك كما أفردناك بالدعاء هاهنا ، قال الله

__________________

(١) أخرجه البخاري في الاستسقاء باب ٢٨ ، ومسلم في الإيمان حديث ١٢٥.

(٢) اغتلم البحر عليهم : أي اشتد وهاج واضطرب.

تعالى : (فَلَمَّا أَنْجاهُمْ) أي من تلك الورطة (إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) أي كان لم يكن من ذلك شيء (كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ) ثم قال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) أي إنما يذوق وبال هذا البغي أنتم أنفسكم ولا تضرون به أحدا غيركم ، كما جاء في الحديث «ما من ذنب أجدر أن يعجل الله عقوبته في الدنيا مع ما يدخر الله لصاحبه في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم» (١) وقوله : (مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي إنما لكم متاع في الحياة الدنيا الدنيئة الحقيرة (ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ) أي مصيركم ومآلكم (فَنُنَبِّئُكُمْ) أي فنخبركم بجميع أعمالكم ونوفيكم إياها ، فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.

(إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(٢٤) وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٢٥)

ضرب تبارك وتعالى مثلا لزهرة الحياة الدنيا وزينتها وسرعة انقضائها وزوالها ، بالنبات الذي أخرجه الله من الأرض ، بماء أنزل من السماء ، مما يأكل الناس من زروع وثمار على اختلاف أنواعها وأصنافها ، وما تأكل الأنعام من أب وقضب وغير ذلك ، (حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها) أي زينتها الفانية (وَازَّيَّنَتْ) أي حسنت بما خرج من رباها من زهور نضرة مختلفة الأشكال والألوان (وَظَنَّ أَهْلُها) الذين زرعوها وغرسوها (أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها) أي على جذاذها وحصادها ، فبينما هم كذلك إذ جاءتها صاعقة أو ريح شديدة باردة ، فأيبست أوراقها وأتلفت ثمارها ، ولهذا قال تعالى : (أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً) أي يابسا بعد الخضرة والنضارة (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) أي كأنها ما كانت حسناء قبل ذلك. وقال قتادة : كأن لم تغن كأن لم تنعم ، وهكذا الأمور بعد زوالها كأنها لم تكن.

ولهذا جاء في الحديث «يؤتى بأنعم أهل الدنيا فيغمس في النار غمسة فيقال له هل رأيت خيرا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول : لا ، ويؤتى بأشد الناس عذابا في الدنيا فيغمس في النعيم غمسة ثم يقال له هل رأيت بؤسا قط؟ فيقول لا» (٢) وقال تعالى إخبارا عن المهلكين : (فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها) [هود : ٩٤ ـ ٩٥] ثم قال تعالى : (كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ) أي نبين الحجج والأدلة (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) فيعتبرون بهذا المثل في زوال الدنيا من أهلها سريعا مع اغترارهم بها ، وتمكنهم وثقتهم بمواعيدها وتفلتها عنهم ، فإن من طبعها الهرب ممن طلبها ، والطلب لمن هرب منها.

__________________

(١) أخرجه أبو داود في الأدب باب ٤٣ ، وابن ماجة في الزهد باب ٢٣.

(٢) أخرجه ابن ماجة في الزهد باب ٣٨.

وقد ضرب الله تعالى مثل الدنيا بنبات الأرض في غير ما آية من كتابه العزيز ، فقال في سورة الكهف : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً) [الكهف : ٤٥] وكذا في سورة الزمر (١) والحديد (٢) ، يضرب الله بذلك مثل الحياة الدنيا. وقال ابن جرير (٣) : حدثني الحارث ، حدثنا عبد العزيز ، حدثنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عبد الرحمن بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال : سمعت مروان يعني ابن الحكم ، يقرأ على المنبر : وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها ، وما كان الله ليهلكهم إلا بذنوب أهلها. قال قد قرأتها وليست في المصحف ، فقال عباس بن عبد الله بن عباس هكذا يقرؤها ابن عباس ، فأرسلوا إلى ابن عباس فقال هكذا أقرأني أبي بن كعب ، وهذه قراءة غريبة وكأنها زيدت للتفسير.

وقوله تعالى : (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) الآية. لما ذكر تعالى الدنيا وسرعة زوالها ، رغب في الجنة ودعا إليها وسماها دار السلام أي من الآفات ، والنقائص والنكبات فقال : (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) قال أيوب عن أبي قلابة : عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «قيل لي لتنم عينك وليعقل قلبك ولتسمع أذنك ، فنامت عيني وعقل قلبي وسمعت أذني ثم قيل لي : مثلي ومثل ما جئت كمثل سيد بني دارا ثم صنع مأدبة وأرسل داعيا فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة ورضي عنه السيد ، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة ولو يرض عنه السيد ، والله السيد والدار والإسلام والمأدبة الجنة والداعي محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم (٤)» وهذا الحديث مرسل.

وقد جاء متصلا من حديث الليث عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : خرج علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما فقال «إني رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي وميكائيل عند رجلي يقول أحدهما لصاحبه اضرب له مثلا ، فقال اسمع سمعت أذنك ، واعقل عقل قلبك ، إنما مثلك ومثل أمتك كمثل ملك اتخذ دارا ثم بنى فيها بيتا ثم جعل فيها مأدبة ثم بعث رسولا يدعو الناس إلى طعامه ، فمنهم من أجاب الرسول ومنهم من تركه فالله الملك والدار الإسلام والبيت الجنة ، وأنت يا محمد الرسول فمن أجابك دخل الإسلام ومن دخل الإسلام دخل الجنة ومن دخل الجنة أكل منها» رواه ابن جرير (٥).

__________________

(١) الآية : ٢١.

(٢) الآية : ٢٠.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ٥٤٧.

(٤) انظر تفسير الطبري ٦ / ٥٤٨.

(٥) تفسير الطبري ٦ / ٥٤٩.

وقال قتادة : حدثني خليد العصري عن أبي الدرداء مرفوعا قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من يوم طلعت فيه الشمس إلا وبجنبيها ملكان يناديان يسمعه خلق الله كلهم إلا الثقلين : يا أيها الناس هلموا إلى ربكم إن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى» قال وأنزل في قوله يا أيها الناس هلموا إلى ربكم (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) الآية. رواه ابن أبي حاتم وابن جرير (١).

(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٢٦)

يخبر تعالى أن لمن أحسن العمل في الدنيا بالإيمان والعمل الصالح : الحسنى في الدار الآخرة كقوله تعالى : (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) [الرحمن : ٦٠] وقوله : (وَزِيادَةٌ) هي تضعيف ثواب الأعمال بالحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف وزيادة على ذلك أيضا ، ويشمل ما يعطيهم الله في الجنان من القصور والحور والرضا عنهم ، وما أخفاه لهم من قرة أعين وأفضل من ذلك وأعلاه النظر إلى وجهه الكريم فإنه زيادة أعظم من جميع ما أعطوه لا يستحقونها بعملهم بل بفضله ورحمته ، وقد روي تفسير الزيادة بالنظر إلى وجهه الكريم عن أبي بكر الصديق وحذيفة بن اليمان وعبد الله بن عباس وسعيد بن المسيب وعبد الرحمن بن أبي ليلى وعبد الرحمن بن سابط ومجاهد وعكرمة وعامر بن سعد وعطاء والضحاك والحسن وقتادة والسدي ومحمد بن إسحاق وغيرهم من السلف والخلف.

وقد وردت فيه أحاديث كثيرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فمن ذلك ما رواه الإمام أحمد (٢) : حدثنا عفان ، أخبرنا حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلا هذه الآية (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) وقال : «إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى مناد يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه فيقولون : وما هو ألم يثقل موازيننا؟ ألم يبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار ـ قال ـ فيكشف لهم الحجاب فينظرون إليه فو الله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إليه ولا أقر لأعينهم» (٣) وهكذا رواه مسلم وجماعة من الأئمة من حديث حماد بن سلمة به.

وقال ابن جرير (٤) : حدثني يونس ، قال أخبرنا ابن وهب ، قال أخبرني شبيب عن أبان عن أبي تميمة الهجيمي ، أنه سمع أبا موسى الأشعري يحدث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الله يبعث يوم القيامة مناديا ينادي يا أهل الجنة ـ بصوت يسمع أولهم وآخرهم ـ إن الله وعدكم الحسنى

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٥٤٨.

(٢) المسند ٤ / ٣٣٣.

(٣) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ١٠ ، باب ١ ، وابن ماجة في المقدمة باب ١٣.

(٤) تفسير الطبري ٦ / ٥٥٠.

وزيادة ، فالحسنى الجنة والزيادة النظر إلى وجه الرحمن عزوجل» ورواه أيضا ابن أبي حاتم من حديث أبي بكر الهذلي عن أبي تميمة الهجيمي به.

وقال ابن جرير (١) أيضا : حدثنا ابن حميد حدثنا إبراهيم بن المختار عن ابن جريج عن عطاء عن كعب بن عجرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) قال «النظر إلى وجه الرحمن عزوجل». وقال أيضا (٢) : حدثنا ابن عبد الرحيم حدثنا عمرو بن أبي سلمة سمعت زهيرا عمن سمع أبا العالية حدثنا أبي بن كعب أنه سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قول الله عزوجل (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) قال : «الحسنى الجنة والزيادة النظر إلى وجه الله عزوجل» ورواه ابن أبي حاتم أيضا من حديث زهير به.

وقوله تعالى : (وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ) أي قتام وسواد في عرصات المحشر كما يعتري وجوه الكفرة الفجرة من القترة والغبرة (وَلا ذِلَّةٌ) أي هوان وصغار أي لا يحصل لهم إهانة في الباطن ولا في الظاهر بل هم كما قال تعالى في حقهم : (فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً) أي نضرة في وجوههم وسرورا في قلوبهم ، جعلنا الله منهم بفضله ورحمته آمين.

(وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٢٧)

لما أخبر تعالى عن حال السعداء الذين يضاعف لهم الحسنات ويزدادون على ذلك عطف بذكر حال الأشقياء فذكر تعالى عدله فيهم وأنه يجازيهم على السيئة بمثلها لا يزيدهم على ذلك (وَتَرْهَقُهُمْ) أي تعتريهم وتعلوهم ذلة من معاصيهم وخوفهم منها كما قال : (وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِ) [الشورى : ٤٥] الآية وقال تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ) [إبراهيم : ٤٢ ـ ٤٤] الآيات ، وقوله : (ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) أي مانع ولا واق يقيهم العذاب كقوله تعالى : (يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ كَلَّا لا وَزَرَ إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ) [القيامة : ١٠ ـ ١٢] وقوله : (كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ) الآية إخبار عن سواد وجوههم في الدار الآخرة كقوله تعالى : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) [آل عمران : ١٠٦ ـ ١٠٧] وقوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ) [عبس : ٣٨ ـ ٤٢] الآية.

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٥٥١.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٥٥١ ، وفيه : حدثنا ابن البرقي ، بدل : حدثنا ابن عبد الرحيم.

(وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (٢٨) فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (٢٩) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) (٣٠)

يقول تعالى : (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ) أي أهل الأرض كلهم من جن وإنس وبر وفاجر كقوله: (وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً) [الكهف : ٤٧] (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا) الآية أي الزموا أنتم وهم مكانا معينا امتازوا فيه عن مقام المؤمنين كقوله تعالى : (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) [يس : ٥٩] وقوله : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ) [الروم : ١٤] وفي الآية الأخرى (يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ) [الروم : ٤٣] أي يصيرون صدعين وهذا يكون إذا جاء الرب تبارك وتعالى لفصل القضاء ولهذا قيل ذلك (١) يستشفع المؤمنون إلى الله تعالى أن يأتي لفصل القضاء ويريحنا من مقامنا هذا ، وفي الحديث الآخر «نحن يوم القيامة على كوم فوق الناس» (٢).

وقال الله تعالى في هذه الآية الكريمة إخبارا عما يأمر به المشركين وأوثانهم يوم القيامة (مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ) الآية أنهم أنكروا عبادتهم وتبرؤوا منهم كقوله : (كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ) [مريم : ٨٢] الآية وقوله : (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) وقوله : (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً) [الأحقاف : ٥ ـ ٦] الآية وقوله في هذه الآية إخبارا عن قول الشركاء فيما راجعوا فيه عابديهم عند ادعائهم عبادتهم : (فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) الآية أي ما كنا نشعر بها ولا نعلم بها ، وإنما كنتم تعبدوننا من حيث لا ندري بكم والله شهيد بيننا وبينكم أنا ما دعوناكم إلى عبادتنا ولا أمرناكم بها ولا رضينا منكم بذلك.

وفي هذا تبكيت عظيم للمشركين الذين عبدوا مع الله غيره ممن لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنهم شيئا ، ولم يأمرهم بذلك ولا رضي به ولا أراده بل تبرأ منهم وقت أحوج ما يكونون إليه وقد تركوا عبادة الحي القيوم السميع البصير القادر على كل شيء العليم بكل شيء ، وقد أرسل رسله وأنزل كتبه آمرا بعبادته وحده لا شريك له ناهيا عن عبادة ما سواه كما قال تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) [النحل : ٣٦] وقال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء : ٢٥] وقال : (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) [الزخرف : ٤٥].

__________________

(١) بعده بياض بالأصل.

(٢) أخرجه أحمد في المسند ٣ / ٣٤٥.

والمشركون أنواع وأقسام كثيرون قد ذكرهم الله في كتابه وبين أحوالهم وأقوالهم ورد عليهم فيما هم فيه أتم رد ، وقال تعالى : (هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ) أي في موقف الحساب يوم القيامة تختبر كل نفس وتعلم ما سلف من عملها من خير وشر كقوله تعالى : (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) [الطارق : ٩] وقال تعالى : (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ) [القيامة : ١٣] وقال تعالى : (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) [الإسراء : ١٣ ـ ١٤] وقد قرأ بعضهم (هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ) وفسرها بعضهم بالقراءة ، وفسرها بعضهم بمعنى تتبع ما قدمت من خير وشر وفسرها بعضهم بحديث «لتتبع كل أمة ما كانت تعبد ، فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس ويتبع من كان يعبد القمر القمر ، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت» (١) الحديث ، وقوله : (وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ) أي ورجعت الأمور كلها إلى الله الحكم العدل ففصلها وأدخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار (وَضَلَّ عَنْهُمْ) أي ذهب عن المشركين (ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي ما كانوا يعبدون من دون الله افتراء عليه.

(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣١) فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٣٢) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٣٣)

يحتج تعالى على المشركين باعترافهم بوحدانيته وربوبيته على وحدانية الآلهة فقال تعالى : (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي من ذا الذي ينزل من السماء ماء المطر فيشق الأرض شقا بقدرته ومشيئته فيخرج منها (حَبًّا وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدائِقَ غُلْباً وَفاكِهَةً وَأَبًّا) [عبس : ٢٧ ـ ٣١] أإله مع الله؟ فسيقولون الله (أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ) [الملك : ٢١] وقوله : (أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) [يونس : ٣١] أي الذي وهبكم هذه القوة السامعة ، والقوة الباصرة ، ولو شاء لذهب بها ولسلبكم إياها كقوله تعالى: (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) [الملك : ٢٣] الآية.

وقال : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ) [الأنعام : ٤٦] الآية وقوله : (وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) أي بقدرته العظيمة ومنته العميمة ، وقد تقدم ذكر الخلاف في ذلك وأن الآية عامة لذلك كله وقوله : (وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) أي من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه وهو المتصرف الحاكم الذي لا معقب لحكمه ، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) [الرحمن : ٢٩]

__________________

(١) أخرجه البخاري في التوحيد باب ٢٤ ، والرقاق باب ٥٢ ، ومسلم في الإيمان حديث ٢٩٩.

فالملك كله العلوي والسفلي وما فيهما من ملائكة وإنس وجان فقيرون إليه عبيد له خاضعون لديه (فَسَيَقُولُونَ اللهُ) أي وهم يعلمون ذلك ويعترفون به.

(فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) أي أفلا تخافون منه أن تعبدوا معه غيره بآرائكم وجهلكم وقوله : (فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُ) الآية أي فهذا الذي اعترفتم بأنه فاعل ذلك كله هو ربكم وإلهكم الحق الذي يستحق أن يفرد بالعبادة (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) أي فكل معبود سواه باطل لا إله إلا هو واحد لا شريك له (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) أي فكيف تصرفون عن عبادته إلى عبادة ما سواه وأنتم تعلمون أنه الرب الذي خلق كل شيء والمتصرف في كل شيء ، وقوله : (كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا) الآية أي كما كفر هؤلاء المشركون واستمروا على شركهم وعبادتهم مع الله غيره مع أنهم يعترفون بأنه الخالق المتصرف في الملك وحده الذي بعث رسله بتوحيده ، فلهذا حقت عليهم كلمة الله أنهم أشقياء من ساكني النار كقوله : (قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ) [الزمر : ٧١].

(قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣٤) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٥) وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) (٣٦)

وهذا إبطال لدعواهم فيما أشركوا بالله غيره ، وعبدوا من الأصنام والأنداد (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) أي من بدأ خلق هذه السموات والأرض ثم ينشئ ما فيهما من الخلائق ، ويفرق أجرام السموات والأرض ويبدلهما بفناء ما فيهما ثم يعيد الخلق خلقا جديدا (قُلِ اللهُ) هو الذي يفعل هذا ويستقل به وحده لا شريك له (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أي فكيف تصرفون عن طريق الرشد إلى الباطل (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِ) أي أنتم تعلمون أن شركاءكم لا تقدر على هداية ضال ، وإنما يهدي الحيارى والضلال ويقلب القلوب من الغي إلى الرشد الله الذي لا إله إلا هو.

(أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى) أي أفيتبع العبد الذي يهدي إلى الحق ويبصر بعد العمى أم الذي لا يهدي إلى شيء إلا أن يهدى لعماه وبكمه كما قال تعالى إخبارا عن إبراهيم أنه قال : (يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) [مريم : ٤٢] وقال لقومه : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) [الصافات : ٩٥ ـ ٩٦] إلى غير ذلك من الآيات وقوله : (فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) أي فما بالكم أن يذهب بعقولكم كيف سويتم بين الله وبين خلقه وعدلتم هذا بهذا وعبدتم هذا وهذا ، وهلا أفردتم الرب جل جلاله المالك الحاكم الهادي من الضلالة بالعبادة وحده وأخلصتم إليه الدعوة والإنابة ، ثم بين تعالى

أنهم لا يتبعون في دينهم هذا دليلا ولا برهانا وإنما هو ظن منهم أي توهم وتخيل ، وذلك لا يغني عنهم شيئا (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) تهديد لهم ووعيد شديد لأنه تعالى أخبر أنه سيجازيهم على ذلك أتم الجزاء.

(وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٣٩) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ) (٤٠)

هذا بيان لإعجاز القرآن وأنه لا يستطيع البشر أن يأتوا بمثله ولا بعشر سور ولا بسورة من مثله لأنه بفصاحته وبلاغته ووجازته وحلاوته واشتماله على المعاني العزيزة النافعة في الدنيا والآخرة لا تكون إلا من عند الله الذي لا يشبهه شيء في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله وأقواله فكلامه لا يشبه كلام المخلوقين ولهذا قال تعالى : (وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ) أي مثل هذا القرآن لا يكون إلا من عند الله ولا يشبه هذا كلام البشر (وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أي من الكتب المتقدمة ومهيمنا عليه ومبينا لما وقع فيها من التحريف والتأويل والتبديل.

وقوله : (وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي وبيان الأحكام والحلال والحرام بيانا شافيا كافيا حقا لا مرية فيه من الله رب العالمين كما تقدم في حديث الحارث الأعور عن علي بن أبي طالب فيه خبر ما قبلكم ونبأ ما بعدكم وفصل ما بينكم أي خبر عما سلف وعما سيأتي وحكم فيما بين الناس بالشرع الذي يحبه الله ويرضاه. وقوله : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي إن ادعيتم وافتريتم وشككتم في أن هذا من عند الله وقلتم كذبا ومينا إن هذا من عند محمد فمحمد بشر مثلكم وقد جاء فيما زعمتم بهذا القرآن فأتوا أنتم بسورة مثله ، أي من جنس هذا القرآن واستعينوا على ذلك بكل من قدرتم عليه من إنس وجان.

وهذا هو المقام الثالث في التحدي فإنه تعالى تحداهم ودعاهم إن كانوا صادقين في دعواهم أنه من عند محمد فليعارضوه بنظير ما جاء به وحده وليستعينوا بمن شاؤوا وأخبر أنهم لا يقدرون على ذلك ولا سبيل لهم إليه فقال تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) [الإسراء : ٨٨] ثم تقاصر معهم إلى عشر سور منه فقال في أول سورة هود : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [هود : ١٣] ثم تنازل إلى سورة فقال في هذه السورة : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ

صادِقِينَ) وكذا في سورة البقرة وهي مدنية تحداهم بسورة منه وأخبر أنهم لا يستطيعون ذلك أبدا فقال : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ) [البقرة : ٢٤] الآية.

هذا وقد كانت الفصاحة من سجاياهم ، وأشعارهم ومعلقاتهم إليها المنتهى في هذا الباب ، ولكن جاءهم من الله ما لا قبل لأحد به ، ولهذا آمن من آمن منهم بما عرف من بلاغة هذا الكلام وحلاوته وجزالته وطلاوته وإفادته وبراعته فكانوا أعلم الناس به وأفهمهم له وأتبعهم له وأشدّهم له انقيادا كما عرف السحرة لعلمهم بفنون السحر أن هذا الذي فعله موسى عليه‌السلام لا يصدر إلا عن مؤيد مسدد مرسل من الله وأن هذا لا يستطاع لبشر إلا بإذن الله. وكذلك عيسىعليه‌السلام بعث في زمان علماء الطب ومعالجة المرضى فكان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله ، ومثل هذا لا مدخل للعلاج والدواء فيه فعرف من عرف منهم أنه عبد الله ورسوله.

ولهذا جاء في الصحيح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا» (١).

وقوله : (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) يقول بل كذب هؤلاء بالقرآن ولم يفهموه ولا عرفوه (وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) أي ولم يحصلوا ما فيه من الهدى ودين الحق إلى حين تكذيبهم به جهلا وسفها (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي من الأمم السالفة (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) أي فانظر كيف أهلكناهم بتكذيبهم رسلنا ظلما وعلوا وكفرا وعنادا وجهلا فاحذروا أيها المكذبون أن يصيبكم ما أصابهم.

وقوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) الآية ، أي ومن هؤلاء الذين بعثت إليهم يا محمد من يؤمن بهذا القرآن ويتبعك وينتفع بما أرسلت به (وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ) بل يموت على ذلك ويبعث عليه (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ) أي وهو أعلم بمن يستحق الهداية فيهديه؟ ومن يستحق الضلالة فيضله ، وهو العادل الذي لا يجور ، بل يعطي كلا ما يستحقه تبارك وتعالى وتقدس وتنزه لا إله إلا هو.

(وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ(٤١) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (٤٢) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (٤٣) إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (٤٤)

يقول تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن كذبك هؤلاء المشركون فتبرأ منهم ومن عملهم (فَقُلْ لِي عَمَلِي

__________________

(١) أخرجه البخاري في فضائل القرآن باب ١ ، ومسلم في الإيمان حديث ٢٣٩.

وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ) كقوله تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) [الكافرون : ١ ـ ٢] إلى آخرها ، وقال إبراهيم الخليل وأتباعه لقومهم المشركين (إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) [الممتحنة : ٤] الآية ، وقوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) أي يسمعون كلامك الحسن والقرآن العظيم والأحاديث الصحيحة الفصيحة النافعة في القلوب والأديان والأبدان وفي هذا كفاية عظيمة ، ولكن ليس ذلك إليك ولا إليهم فإنك لا تقدر على إسماع الأصم وهو الأطرش فكذلك لا تقدر على هداية هؤلاء إلا أن يشاء الله (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ) أي ينظرون إليك وإلى ما أعطاك الله من التؤدة والسمت الحسن والخلق العظيم ، والدلالة الظاهرة على نبوتك لأولي البصائر والنهي. وهؤلاء ينظرون كما ينظر غيرهم ولا يحصل لهم من الهداية شيء كما يحصل لغيرهم ، بل المؤمنون ينظرون إليك بعين الوقار ، وهؤلاء الكفار ينظرون إليك بعين الاحتقار (وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً) [الفرقان : ٤١] الآية.

ثم أخبر تعالى أنه لا يظلم أحدا شيئا وإن كان قد هدى به من هدى وبصر به من العمى ، وفتح به أعينا عميا وآذانا صما ، وقلوبا غلفا ، وأضل به عن الإيمان آخرين ، فهو الحاكم المتصرف في ملكه بما يشاء الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون لعلمه وحكمته وعدله ، ولهذا قال تعالى: (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) وفي الحديث عن أبي ذر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يرويه عن ربه عزوجل «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ـ إلى أن قال في آخره ـ يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه» رواه مسلم (١) بطوله.

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) (٤٥)

يقول تعالى مذكرا للناس قيام الساعة وحشرهم من أجداثهم إلى عرصات القيامة : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ) الآية. كقوله : (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ) وكقوله: (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) [النازعات : ٤٦] وقال تعالى : (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً) [طه : ١٠٢ ـ ١٠٤] وقال تعالى : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ) [الروم : ٥٥] الآيتين ، وهذا كله دليل على استقصار الحياة الدنيا في الدار الآخرة كقوله : (قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [المؤمنون : ١١٢ ـ ١١٤].

__________________

(١) كتاب البر حديث ٥٥.

وقوله : (يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ) أي يعرف الأبناء الآباء والقرابات بعضهم لبعض كما كانوا في الدنيا ولكن كل مشغول بنفسه (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ) [المؤمنون : ١٥١] الآية ، وقال تعالى : (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) [المعارج : ١١] الآيات ، وقوله : (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) كقوله تعالى : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) [المرسلات : ١٥] لأنهم خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين ولا خسارة أعظم من خسارة من فرق بينه وبين أحبته يوم الحسرة والندامة.

(وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (٤٦) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (٤٧)

يقول تعالى مخاطبا لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) أي ننتقم منهم في حياتك لتقر عينك منهم (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ) أي مصيرهم ومنقلبهم والله شهيد على أفعالهم بعدك وقد قال الطبراني : حدثنا عبد الله بن أحمد حدثنا عقبة بن مكرم حدثنا أبو بكر الحنفي حدثنا داود بن الجارود عن أبي السليل عن حذيفة بن أسيد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «عرضت عليّ أمتي البارحة لدى هذه الحجرة أولها وآخرها» فقال رجل : يا رسول الله عرض عليك من خلق فكيف من لم يخلق؟ فقال : «صوروا لي في الطين حتى أني لأعرف بالإنسان منهم من أحدكم بصاحبه» ورواه عن محمد بن عثمان بن أبي شيبة عن عقبة بن مكرم عن يونس بن بكير عن زياد بن المنذر عن أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد به نحوه.

وقوله : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ) قال مجاهد : يعني يوم القيامة (١) (قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) الآية ، كقوله تعالى : (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها) [الزمر : ٦٩] الآية ، فكل أمة تعرض على الله بحضرة رسولها وكتاب أعمالها من خير وشر موضوع شاهد عليهم وحفظتهم من الملائكة شهود أيضا أمة بعد أمة وهذه الأمة الشريفة وإن كانت آخر الأمم في الخلق إلا أنها أول الأمم يوم القيامة يفصل بينهم ويقضي لهم كما جاء في الصحيحين عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة ، المقضي يفصل لهم قبل الخلائق» (٢) فأمته إنما حازت قصب السبق بشرف رسولها صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين.

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٤٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ما ذا

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٥٦٥.

(٢) أخرجه مسلم في الجمعة حديث ٢٢.

يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (٥٠) أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (٥١) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) (٥٢)

يقول تعالى مخبرا عن كفر هؤلاء المشركين في استعجالهم العذاب وسؤالهم عن وقته قبل التعيين مما لا فائدة لهم فيه كقوله : (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُ) [الشورى : ١٨] أي كائنة لا محالة وواقعة وإن لم يعلموا وقتها عينا ، ولهذا أرشد تعالى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى جوابهم فقال : (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً) الآية ، أي لا أقول إلا ما علمني ولا أقدر على شيء مما استأثر به إلا أن يطلعني الله عليه فأنا عبده ورسوله إليكم وقد أخبرتكم بمجيء الساعة وأنها كائنة ولم يطلعني على وقتها ولكن (لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) أي لكل قرن مدة من العمر مقدرة فإذا انقضى أجلهم (فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) كقوله : (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها) [المنافقون : ١١] الآية.

ثم أخبر أن عذاب الله سيأتيهم بغتة فقال : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً) أي ليلا أو نهارا (ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) يعني أنهم إذا جاءهم العذاب قالوا (رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا) [السجدة : ١٢] الآية ، وقال تعالى : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ) [غافر : ٨٤ ـ ٨٥] (ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ) أي يوم القيامة يقال لهم هذا تبكيتا وتقريعا كقوله : (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الطور : ١٣ ـ ١٦].

(وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥٣) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (٥٤)

يقول تعالى ويستخبرونك (أَحَقٌّ هُوَ) أي المعاد والقيامة من الأجداث بعد صيرورة الأجسام ترابا (قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) أي ليس صيرورتكم ترابا بمعجز الله عن إعادتكم كما بدأكم من العدم ف (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس : ٨٢] وهذه الآية ليس لها نظير في القرآن إلا آيتان أخريان يأمر الله تعالى رسوله أن يقسم به على من أنكر المعاد في سورة سبأ (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ) [سبأ : ٣] وفي التغابن (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) [التغابن : ٧] ثم أخبر تعالى أنه إذا قامت القيامة يود الكافر لو افتدى من عذاب الله بملء الأرض ذهبا (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) أي بالحق (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ).

(أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ(٥٥) هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٥٦)

يخبر تعالى أنه مالك السموات والأرض وأن وعده حق كائن لا محالة وأنه يحيي ويميت وإليه مرجعهم ، وأنه القادر على ذلك العليم بما تفرق من الأجسام وتمزق في سائر أقطار الأرض والبحار والقفار.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٥٧) قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (٥٨)

يقول تعالى ممتنا على خلقه بما أنزله من القرآن العظيم على رسوله الكريم : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) أي زاجر عن الفواحش (وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ) أي من الشبه والشكوك وهو إزالة ما فيها من رجس ودنس ، وهدى ورحمة أي يحصل به الهداية والرحمة من الله تعالى ، وإنما ذلك للمؤمنين به والمصدقين الموقنين بما فيه ، كقوله تعالى : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) [الإسراء : ٨٢] وقوله : (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ) [فصلت : ٤٤] الآية.

وقوله تعالى : (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) أي بهذا الذي جاءهم من الله من الهدى ودين الحق فليفرحوا ، فإنه أولى ما يفرحون به (هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) أي من حطام الدنيا وما فيها من الزهرة الفانية الذاهبة لا محالة ، كما قال ابن أبي حاتم في تفسير هذه الآية ، وذكر بسنده عن بقية بن الوليد عن صفوان بن عمرو ، سمعت أيفع بن عبد الكلاعي يقول : لما قدم خراج العراق إلى عمر رضي الله عنه ، خرج عمر ومولى له فجعل عمر يعد الإبل فإذا هي أكثر من ذلك ، فجعل عمر يقول الحمد لله تعالى ، ويقول مولاه هذا والله من فضل الله ورحمته ، فقال عمر : كذبت ليس هذا ، هو الذي يقول الله تعالى : (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ) الآية ، وهذا مما يجمعون ، وقد أسنده الحافظ أبو القاسم الطبراني ، فرواه عن أبي زرعة الدمشقي عن حيوة بن شريح عن بقية فذكره.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ (٥٩) وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) (٦٠)

قال ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم : نزلت إنكارا على المشركين فيما كانوا يحللون ويحرمون من البحائر والسوائب والوصايل ، كقوله تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً) [الأنعام : ١٣٦] الآيات ، وقال الإمام

أحمد (١) : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة عن أبي إسحاق ، سمعت أبا الأحوص ، وهو عوف بن مالك بن نضلة ، يحدث عن أبيه قال : أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنا رث الهيئة فقال : «هل لك مال؟ قلت نعم. قال من أي المال؟ قال قلت من كل المال من الإبل والرقيق والخيل والغنم ، فقال : «إذا آتاك الله مالا فلير عليك ـ وقال! هل تنتج إبلك صحاحا آذانها فتعمد إلى موسى فتقطع آذانها فتقول هذه بحر ، وتشق جلودها وتقول هذه صرم وتحرمها عليك وعلى أهلك» قال نعم قال «فإن ما آتاك الله لك حل ، ساعد الله أشد من ساعدك وموسى الله أحدّ من موساك» وذكر تمام الحديث.

ثم رواه عن سفيان بن عيينة عن أبي الزهراء عمرو بن عمرو عن عمه أبي الأحوص ، وعن بهز بن أسد عن حماد بن سلمة عن عبد الملك بن عمير عن أبي الأحوص به ، وهذا حديث جيد قوي الإسناد ، وقد أنكر الله تعالى على من حرم ما أحل الله أو أحل ما حرم بمجرد الآراء والأهواء التي لا مستند لها ولا دليل عليها ، ثم توعدهم على ذلك يوم القيامة فقال : (وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي ما ظنهم أن يصنع بهم يوم مرجعهم إلينا يوم القيامة.

وقوله : (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) قال ابن جرير (٢) : في تركه معاجلتهم بالعقوبة في الدنيا (قلت) ويحتمل أن يكون المراد لذو فضل على الناس فيما أباح لهم مما خلقه من المنافع في الدنيا ولم يحرم عليهم إلا ما هو ضار لهم في دنياهم أو دينهم (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) بل يحرمون ما أنعم الله به عليهم ، ويضيقون على أنفسهم فيجعلون بعضا حلالا وبعضا حراما. وهذا قد وقع فيه المشركون فيما شرعوه لأنفسهم ، وأهل الكتاب فيما ابتدعوه في دينهم.

وقال ابن أبي حاتم في تفسير هذه الآية حدثنا أبي حدثنا أحمد بن أبي الحواري حدثنا رباح حدثنا عبد الله بن سليمان حدثنا موسى بن الصباح في قوله عزوجل : (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) قال إذا كان يوم القيامة يؤتى بأهل ولاية الله عزوجل فيقومون بين يدي الله عزوجل ثلاثة أصناف قال فيؤتى برجل من الصنف الأول فيقول : عبدي لما ذا عملت؟ فيقول يا رب خلقت الجنة وأشجارها وثمارها وأنهارها وحورها ونعيمها وما أعددت لأهل طاعتك فيها فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري شوقا إليها.

ـ قال! فيقول الله تعالى : عبدي إنما عملت للجنة هذه الجنة فادخلها ومن فضلي عليك قد أعتقتك من النار ومن فضلي عليك أن أدخلك جنتي فيدخل هو ومن معه الجنة ـ قال ـ ثم يؤتى برجل من الصنف الثاني فيقول عبدي لما ذا عملت فيقول يا رب خلقت نارا وخلقت أغلالها

__________________

(١) المسند ٣ / ٤٧٣ ، ٤٧٤ ، ٤ / ١٣٦ ، ١٣٧.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٥٧٢.

وسعيرها وسمومها ويحمومها وما أعددت لأعدائك وأهل معصيتك فيها فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري خوفا منها فيقول عبدي إنما عملت ذلك خوفا من ناري فإني قد أعتقتك من النار ومن فضلي عليك أن أدخلك جنتي فيدخل هو ومن معه الجنة. ثم يؤتى برجل من الصنف الثالث فيقول عبدي لما ذا عملت؟ فيقول رب حبا لك وشوقا إليك وعزتك لقد أسهرت ليلي وأظمأت نهاري شوقا إليك وحبا لك. فيقول تبارك وتعالى : عبدي إنما عملت حبا لي وشوقا إلي فيتجلى له الرب جل جلاله ويقول ها أنا ذا فانظر إليّ ثم يقول : من فضلي عليك أن أعتقك من النار وأبيحك جنتي وأزيرك ملائكتي وأسلم عليك بنفسي : فيدخل هو ومن معه الجنة.

(وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٦١)

يخبر تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه يعلم جميع أحواله وأحوال أمته وجميع الخلائق في كل ساعة وأوان ولحظة وأنه لا يعزب عن علمه وبصره مثقال ذرة في حقارتها وصغرها في السموات ولا في الأرض ولا أصغر منها ولا أكبر إلا في كتاب مبين كقوله : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [الأنعام : ٥٩] فأخبر تعالى أنه يعلم حركة الأشجار وغيرها من الجمادات وكذلك الدواب السارحة في قوله : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) [الأنعام : ٣٨] الآية وقال تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) [هود : ٦] الآية.

وإذا كان هذا علمه بحركات هذه الأشياء فكيف علمه بحركات المكلفين المأمورين بالعبادة كما قال تعالى : (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) [الشعراء : ٢١٧ ـ ٢١٨] ولهذا قال تعالى : (وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) أي إذا تأخذون في ذلك الشيء نحن مشاهدون لكم راؤون سامعون ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما سأله جبريل عن الإحسان «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» (١).

(أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ(٦٣)

__________________

(١) أخرجه البخاري في الإيمان باب ٣٧ ، ومسلم في الإيمان حديث ١ ، ٥ ـ ٧ ، وأبو داود في السنة باب ١٦ ، والترمذي في الإيمان باب ٤ ، والنسائي في الإيمان باب ٥ ، ٦ ، وابن ماجة في المقدمة باب ٩ ، وأحمد في المسند ٢ / ١٠٧ ، ١٣٢.

لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٦٤)

يخبر تعالى أن أولياءه هم الذين آمنوا وكانوا يتقون كما فسرهم ربهم ، فكل من كان تقيا كان لله وليا ف (لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) أي فيما يستقبلونه من أهوال الآخرة (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) على ما وراءهم في الدنيا ، وقال عبد الله بن مسعود وابن عباس وغير واحد من السلف أولياء الله الذين إذا رأوا ذكر الله (١) ، وقد ورد هذا في حديث مرفوع كما قال البزار : حدثنا علي بن حرب الرازي حدثنا محمد بن سعيد بن سابق حدثنا يعقوب بن عبد الله الأشعري وهو القمي عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : قال رجل : يا رسول الله من أولياء الله؟ قال «الذين إذا رأوا ذكر الله» ثم قال البزار وقد روي عن سعيد مرسلا.

وقال ابن جرير (٢) : حدثنا أبو هشام الرفاعي حدثنا أبو فضيل حدثنا أبي عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن عمرو بن جرير البجلي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن من عباد الله عبادا يغبطهم الأنبياء والشهداء» قيل من هم يا رسول الله لعلنا نحبهم؟ قال : «هم قوم تحابوا في الله من غير أموال ولا أنساب وجوههم نور على منابر من نور لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس» ثم قرأ (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) ثم رواه أيضا أبو داود من حديث جرير عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن عمرو بن جرير عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمثله وهذا أيضا إسناد جيد إلا أنه منقطع بين أبي زرعة وعمر بن الخطاب والله أعلم.

وفي حديث الإمام أحمد (٣) عن أبي النضر عن عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يأتي من أفناء الناس ونوازع القبائل قوم لم تتصل بينهم أرحام متقاربة تحابوا في الله وتصافوا في الله يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور فيجلسهم عليها يفزع الناس ولا يفزعون وهم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون» والحديث مطول.

وقال الإمام أحمد (٤) : حدثنا عبد الرزاق أخبرنا سفيان عن الأعمش عن ذكوان أبي صالح عن رجل عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) قال «الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له».

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٥٧٥.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٥٧٥ ، ٥٧٦.

(٣) المسند ٥ / ٣٤٣.

(٤) المسند ٦ / ٤٤٥.

وقال ابن جرير (١) : حدثني أبو السائب حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن عطاء بن يسار عن رجل من أهل مصر عن أبي الدرداء في قوله : (لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) قال سأل رجل أبا الدرداء عن هذه الآية فقال : لقد سألت عن شيء ما سمعت أحدا سأل عنه بعد رجل سأل عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل المسلم أو ترى له بشراه في الحياة الدنيا وبشراه في الآخرة الجنة» ثم رواه ابن جرير (٢) عن سفيان عن ابن المنكدر عن عطاء بن يسار عن رجل من أهل مصر أنه سأل أبا الدرداء عن هذه الآية فذكر نحو ما تقدم.

ثم قال ابن جرير (٣) : حدثني المثنى حدثنا حجاج بن منهال حدثنا حماد بن زيد عن عاصم بن بهدلة عن أبي صالح قال : سمعت أبا الدرداء سئل عن هذه الآية (الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرى) فذكر نحوه سواء وقال الإمام أحمد (٤) : حدثنا عفان حدثنا أبان حدثنا يحيى عن أبي سلمة عن عبادة بن الصامت أنه سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله أرأيت قول الله تعالى : (لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) فقال : «لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد من أمتي أو قال أحد قبلك ـ تلك الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو ترى له» وكذا رواه أبو داود الطيالسي عن عمران القطان عن يحيى بن أبي كثير به ، ورواه الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير فذكره ورواه علي بن المبارك عن يحيى عن أبي سلمة قال : نبئنا عن عبادة بن الصامت سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن هذه الآية فذكره.

وقال ابن جرير (٥) : حدثني أبو حميد الحمصي حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا عمر بن عمرو بن عبد الأحموسي عن حميد بن عبد الله المزني قال : أتى رجل عبادة بن الصامت فقال : آية في كتاب الله أسألك عنها قول الله تعالى : (لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) فقال عبادة ما سألني عنها أحد قبلك سألت عنها نبي الله فقال مثل ذلك «ما سألني عنها أحد قبلك الرؤيا الصالحة يراها العبد المؤمن في المنام أو ترى له» ثم رواه من حديث موسى بن عبيدة عن أيوب بن خالد بن صفوان عن عبادة بن الصامت أنه قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) فقد عرفنا بشرى الآخرة الجنة فما بشرى الدنيا؟ قال «الرؤيا الصالحة يراها العبد أو ترى له. وهي جزء من أربعة وأربعين جزءا أو سبعين جزءا من النبوة» (٦).

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٥٧٧ ، ٥٧٨.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٥٧٨.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ٥٨٠.

(٤) المسند ٥ / ٣١٥.

(٥) تفسير الطبري ٦ / ٥٧٨.

(٦) انظر تفسير الطبري ٦ / ٥٧٨.

وقال الإمام أحمد (١) أيضا : حدثنا بهز حدثنا حماد حدثنا أبو عمران عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر أنه قال يا رسول الله : الرجل يعمل العمل ويحمده الناس عليه ، ويثنون عليه به فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تلك عاجل بشرى المؤمن» رواه مسلم (٢).

وقال أحمد (٣) أيضا : حدثنا حسن يعني الأشيب حدثنا ابن لهيعة حدثنا دراج عن عبد الرحمن بن جبير عن عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : («لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) ـ قال ـ الرؤيا الصالحة يبشرها المؤمن جزء من تسعة وأربعين جزءا من النبوة فمن رأى ذلك فليخبر بها ، ومن رأى سوى ذلك فإنما هو من الشيطان ليحزنه فلينفث عن يساره ثلاثا وليكبر ولا يخبر بها أحدا» لم يخرجوه.

وقال ابن جرير (٤) : حدثني يونس أنبأنا ابن وهب حدثني عمرو بن الحارث أن دراجا أبا السمح حدثه عن عبد الرحمن بن جبير عن عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لهم البشرى في الحياة الدنيا الرؤيا الصالحة يبشرها المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة» وقال أيضا ابن جرير (٥) : حدثني محمد بن أبي حاتم المؤدب حدثنا عمار بن محمد حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم («لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) ـ قال ـ في الدنيا الرؤيا الصالحة يراها العبد أو ترى له وهي في الآخرة الجنة» ثم رواه عن أبي كريب عن أبي بكر بن عياش عن أبي حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة أنه قال : الرؤيا الحسنة بشرى من الله ، وهي من المبشرات (٦) هكذا رواه من هذا الطريق موقوفا ، وقال أيضا حدثنا أبو كريب حدثنا أبو بكر حدثنا هشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الرؤيا الحسنة هي البشرى يراها المسلم أو ترى له» (٧).

وقال ابن جرير (٨) : حدثني أحمد بن حماد الدولابي حدثنا سفيان عن عبيد الله بن أبي يزيد عن أبيه عن سباع بن ثابت عن أم كريز الكعبية سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ذهبت النبوة وبقيت المبشرات» وهكذا روي عن ابن مسعود وأبي هريرة وابن عباس ومجاهد وعروة بن الزبير ويحيى بن أبي كثير وإبراهيم النخعي وعطاء بن أبي رباح وغيرهم أنهم فسروا ذلك بالرؤيا

__________________

(١) المسند ٥ / ١٥٦.

(٢) كتاب البر حديث ١٦٦.

(٣) المسند ٢ / ٢١٩ ، ٢٢٠.

(٤) تفسير الطبري ٦ / ٥٨١.

(٥) تفسير الطبري ٦ / ٥٧٨.

(٦) تفسير الطبري ٦ / ٥٧٨.

(٧) تفسير الطبري ٦ / ٥٧٨.

(٨) تفسير الطبري ٦ / ٥٧٩.

الصالحة. وقيل : المراد بذلك بشرى الملائكة للمؤمن عند احتضاره بالجنة والمغفرة كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) [فصلت : ٣٠ ـ ٣٢]

وفي حديث البراء رضي الله عنه أن المؤمن إذا حضره الموت جاءه ملائكة بيض الوجوه بيض الثياب فقالوا اخرجي أيتها الروح الطيبة إلى روح وريحان ورب غير غضبان فتخرج من فمه كما تسيل القطرة من فم السقاء (١) وأما بشراهم في الآخرة فكما قال تعالى : (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) [الأنبياء : ١٠٣] وقال تعالى: (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [الحديد : ١٢] وقوله : (لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ) أي هذا الوعد لا يبدل ولا يخلف ولا يغير بل هو مقرر مثبت كائن لا محالة (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

(وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٥) أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٦٦) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) (٦٧)

يقول تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَلا يَحْزُنْكَ) قول هؤلاء المشركين واستعن بالله عليهم وتوكل عليه فإن العزة لله جميعا أي جميعا له ولرسوله وللمؤمنين (هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي السميع لأقوال عباده العليم بأحوالهم ، ثم أخبر تعالى أن له ملك السموات والأرض وأن المشركين يعبدون الأصنام وهي لا تملك شيئا لا ضرا ولا نفعا ولا دليل لهم على عبادتها ، بل إنما يتبعون في ذلك ظنونهم وتخرصهم وكذبهم وإفكهم ، ثم أخبر أنه الذي جعل لعباده الليل ليسكنوا فيه ، أي يستريحون من نصبهم وكلهم وحركاتهم (وَالنَّهارَ مُبْصِراً) أي مضيئا لمعاشهم وسعيهم وأسفارهم ومصالحهم (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) أي يسمعون هذه الحجج والأدلة فيعتبرون بها ويستدلون على عظمة خالقها ومقدرها ومسيرها.

(قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٨) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند ٤ / ٢٨٧.

يُفْلِحُونَ (٦٩) مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) (٧٠)

يقول تعالى منكرا على من ادعى أن له : (وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُ) أي تقدس عن ذلك هو الغني عن كل ما سواه وكل شيء فقير إليه (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي فكيف يكون له ولد مما خلق وكل شيء مملوك له عبد له (إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا) أي ليس عندكم دليل على ما تقولونه من الكذب والبهتان (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) إنكار ووعيد أكيد وتهديد شديد كقوله تعالى : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) [مريم : ٨٨ ـ ٩٥].

ثم توعد تعالى الكاذبين عليه المفترين ممن زعم أن له ولدا بأنهم لا يفلحون في الدنيا ولا في الآخرة فأما في الدنيا فإنهم إذا استدرجهم وأملى لهم متعهم قليلا ثم يضطرهم (إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) كما قال تعالى هاهنا : (مَتاعٌ فِي الدُّنْيا) أي مدة قريبة (ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ) أي يوم القيامة (ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ) أي الموجع المؤلم (بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) أي بسبب كفرهم وافترائهم وكذبهم على الله فيما ادعوا من الإفك والزور.

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (٧١) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٧٢) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) (٧٣)

يقول تعالى لنبيه صلوات الله وسلامه عليه : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ) أي أخبرهم واقصص عليهم أي على كفار مكة الذين يكذبونك ويخالفونك (نَبَأَ نُوحٍ) أي خبره مع قومه الذين كذبوه كيف أهلكهم الله ودمرهم بالغرق أجمعين عن آخرهم ليحذر هؤلاء أن يصيبهم من الهلاك والدمار ما أصاب أولئك (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ) أي عظم عليكم (مَقامِي) أي فيكم بين أظهركم (وَتَذْكِيرِي) إياكم (بِآياتِ اللهِ) أي بحججه وبراهينه (فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ) أي فإني لا أبالي ولا أكف عنكم سواء عظم عليكم أو لا (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ) أي فاجتمعوا أنتم وشركاؤكم الذين تدعون من دون الله من صنم ووثن (ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً) أي ولا تجعلوا أمركم عليكم ملتبسا ، بل افصلوا حالكم معي فإن كنتم تزعمون أنكم محقون فاقضوا إلي (وَلا تُنْظِرُونِ) أي ولا تؤخروني ساعة واحدة أي مهما قدرتم فافعلوا فإني

لا أباليكم ولا أخاف منكم لأنكم لستم على شيء كما قال هود لقومه : (إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ) [هود : ٥٤ ـ ٥٦] الآية.

وقوله (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أي كذبتم وأدبرتم عن الطاعة (فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ) أي لم أطلب منكم على نصحي إياكم شيئا (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أي وأنا ممتثل ما أمرت به من الإسلام لله عزوجل والإسلام هو دين الأنبياء جميعا من أولهم إلى آخرهم ، وإن تنوعت شرائعهم وتعددت مناهلهم كما قال تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) [المائدة : ٤٨] قال ابن عباس : سبيلا وسنة فهذا نوح يقول : (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [النمل : ٩١] وقال تعالى عن إبراهيم الخليل : (إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [البقرة : ١٣١ ـ ١٣٢].

وقال يوسف : (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) [يوسف : ١٠١] وقال موسى : (يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) [يونس : ٨٤] وقال السحرة :

(رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ) [الأعراف : ١٢٦] وقالت بلقيس : (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [النمل : ٤٤]. وقال تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا) [المائدة : ٤٤] وقال تعالى : (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ) [المائدة : ١١١] وقال خاتم الرسل وسيد البشر صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) [الأنعام : ١٦٢ ـ ١٦٣] أي من هذه الأمة ولهذا قال في الحديث الثابت عنه : «نحن معشر الأنبياء أولاد علات وديننا واحد» أي وهو عبادة الله وحده لا شريك له وإن تنوعت شرائعنا وذلك معنى قوله أولاد علات وهم الإخوة من أمهات شتى والأب واحد.

وقوله تعالى : (فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ) أي على دينه (فِي الْفُلْكِ) وهي السفينة (وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ) أي في الأرض (وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) أي يا محمد كيف أنجينا المؤمنين وأهلكنا المكذبين.

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ) (٧٤)

يقول تعالى ثم بعثنا من بعد نوح رسلا إلى قومهم فجاؤوهم بالبينات أي بالحجج والأدلة

والبراهين على صدق ما جاءوهم به (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) أي فما كانت الأمم لتؤمن بما جاءتهم به رسلهم بسبب تكذيبهم إياهم أول ما أرسلوا إليهم كقوله تعالى : (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ) [الأنعام : ١١٠] الآية وقوله : (كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ) أي كما طبع الله على قلوب هؤلاء فما آمنوا بسبب تكذيبهم المتقدم هكذا يطبع الله على قلوب من أشبههم ممن بعدهم ويختم على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ، والمراد أن الله تعالى أهلك الأمم المكذبة للرسل وأنجى من آمن بهم وذلك من بعد نوح عليه‌السلام فإن الناس كانوا من قبله من زمان آدم عليه‌السلام على الإسلام إلى أن أحدث الناس عبادة الأصنام فبعث الله إليهم نوحا عليه‌السلام.

ولهذا يقول له المؤمنون يوم القيامة : أنت أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض. وقال ابن عباس : كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام ، وقال الله تعالى : (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ) [الإسراء : ١٧] الآية ، وفي هذا إنذار عظيم لمشركي العرب الذين كذبوا سيد الرسل وخاتم الأنبياء والمرسلين فإنه إذا كان قد أصاب من كذب بتلك الرسل ما ذكره الله تعالى من العذاب والنكال فماذا ظن هؤلاء وقد ارتكبوا أكبر من أولئك.

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (٧٥) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (٧٦) قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (٧٧) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ) (٧٨)

يقول تعالى : (ثُمَّ بَعَثْنا) من بعد تلك الرسل (مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) أي قومه (بِآياتِنا) أي حججنا وبراهيننا (فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ) أي استكبروا عن اتباع الحق والانقياد له وكانوا قوما مجرمين (فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) كأنهم قبحهم الله أقسموا على ذلك وهم يعلمون أن ما قالوه كذب وبهتان كما قال تعالى : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) [النمل : ١٤] الآية (قالَ) لهم (مُوسى) منكرا عليهم (أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا) أي تثنينا (عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) أي الدين الذي كانوا عليه (وَتَكُونَ لَكُمَا) أي لك ولهارون (الْكِبْرِياءُ) أي العظمة والرياسة (فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ).

وكثيرا ما يذكر الله تعالى قصة موسى عليه‌السلام مع فرعون في كتابه العزيز لأنها من أعجب القصص فإن فرعون حذر من موسى كل الحذر فسخره القدر أن ربي هذا الذي يحذر منه على فراشه ومائدته بمنزلة الولد ثم ترعرع وعقد الله له سببا أخرجه من بين أظهرهم ورزقه النبوة والرسالة والتكليم وبعثه إليه ليدعوه إلى الله تعالى ليعبده ويرجع إليه هذا مع ما كان عليه

فرعون من عظمة المملكة والسلطان ، فجاءه برسالة الله تعالى وليس له وزير سوى أخيه هارونعليه‌السلام ، فتمرد فرعون واستكبر وأخذته الحمية ، والنفس الخبيثة وقوى رأسه وتولى بركنه وادعى ما ليس له وتجهرم على الله وعتا وبغى وأهان حزب الإيمان من بني إسرائيل والله تعالى يحفظ رسوله موسى عليه‌السلام وأخاه هارون ويحطوهما بعنايته ويحرسهما بعينه التي لا تنام ولم تزل المحاجة والمجادلة والآيات تقوم على يدي موسى شيئا بعد شيء ، ومرة بعد مرة مما يبهر العقول ويدهش الألباب مما لا يقوم له شيء ولا يأتي به إلا من هو مؤيد من الله وما تأتيهم (مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها) وصمم فرعون وملؤه قبحهم الله على التكذيب بذلك كله والجحد والعناد والمكابرة حتى أحل الله بهم بأسه الذي لا يرد ، وأغرقهم في صبيحة واحدة أجمعين (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الأنعام : ٤٥].

(وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (٧٩) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٨٠) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (٨١) وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) (٨٢)

ذكر الله سبحانه قصة السحرة مع موسى عليه‌السلام في سورة الأعراف وقد تقدم الكلام عليها هناك وفي هذه السورة وفي سورة طه وفي الشعراء وذلك أن فرعون لعنه الله أراد أن يتهرج على الناس ويعارض ما جاء به موسى عليه‌السلام من الحق المبين ، بزخارف السحرة والمشعبذين ، فانعكس عليه النظام ولم يحصل له من ذلك المرام ، وظهرت البراهين الإلهية في ذلك المحفل العام (وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) [الشعراء : ٤٦ ـ ٤٨] فظن فرعون أنه يستنصر بالسحار ، على رسول الله عالم الأسرار فخاب وخسر الجنة واستوجب النار (وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ) وإنما قال لهم ذلك لأنهم لما اصطفوا وقد وعدوا من فرعون بالتقريب والعطاء الجزيل (قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى قالَ بَلْ أَلْقُوا) [طه : ٦٥ ـ ٦٦] فأراد موسى أن تكون البداءة منهم ليرى الناس ما صنعوا ثم يأتي بالحق بعده فيدمغ باطلهم.

ولهذا لما (أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) [الأعراف : ١١٦] (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى) [طه : ٦٧ ـ ٦٩] فعند ذلك قال موسى لما ألقوا : (ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) وقال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن عمار بن الحارث حدثنا عبد الرحمن يعني الدشتكي أخبرنا أبو جعفر الرازي عن ليث وهو ابن أبي سليم قال : بلغني أن هؤلاء الآيات شفاء من السحر بإذن الله تعالى تقرأ في إناء فيه ماء ثم يصب على رأس المسحور

الآية التي من سورة يونس (فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) والآية الأخرى (فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) إلى آخر أربع آيات ، وقوله (إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى) [طه : ٦٩].

(فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) (٨٣)

يخبر تعالى أنه لم يؤمن بموسى عليه‌السلام مع ما جاء به من الآيات البينات والحجج القاطعات والبراهين الساطعات إلا قليل من قوم فرعون من الذرية وهم الشباب على وجل وخوف منه ومن ملئه أن يردوهم إلى ما كانوا عليه من الكفر ، لأن فرعون لعنه الله كان جبارا عنيدا مسرفا في التمرد والعتو وكانت له سطوة ومهابة تخاف رعيته منه خوفا شديدا ، قال العوفي عن ابن عباس : (فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ) قال : فإن الذرية التي آمنت لموسى من أناس غير بني إسرائيل من قوم فرعون يسير منهم امرأة فرعون : ومؤمن آل فرعون وخازن فرعون وامرأة خازنه (١).

وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله (فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ) يقول بني إسرائيل (٢) وعن ابن عباس والضحاك وقتادة : الذرية القليل وقال مجاهد في قوله : (إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ) قال : هم أولاد الذين أرسل إليهم موسى من طول الزمان ومات آباؤهم (٣) واختار ابن جرير قول مجاهد في الذرية أنها من بني إسرائيل لا من قوم فرعون لعود الضمير على أقرب المذكورين ، وفي هذا نظر لأنه أراد بالذرية الأحداث والشباب وأنهم من بني إسرائيل.

فالمعروف أن بني إسرائيل كلهم آمنوا بموسى عليه‌السلام واستبشروا به وقد كانوا يعرفون نعته وصفته والبشارة به من كتبهم المتقدمة وأن الله تعالى سينقذهم من أسر فرعون ويظهرهم عليه ولهذا لما بلغ هذا فرعون حذر كل الحذر فلم يجد عنه شيئا ، ولما جاء موسى آذاهم فرعون أشد الأذى ، و (قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) وإذا تقرر هذا فكيف يكون المراد إلا ذرية من قوم موسى وهم بنو إسرائيل (عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ) أي وأشراف قومه أن يفتنهم ولم يكن في بني إسرائيل من يخاف منه أن يفتن عن الإيمان سوى قارون فإنه كان من قوم

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٥٩٢.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٥٩٢.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ٥٩١ ، ٥٩٢.

موسى فبغى عليهم لكنه كان طاويا إلى فرعون متصلا به متعلقا بحباله ومن قال إن الضمير في قوله وملئهم عائد إلى فرعون وعظم الملك من أجل اتباعه أو بحذف آل فرعون وإقامة المضاف إليه مقامه فقد أبعد وإن كان ابن جرير قد حكاه عن بعض النحاة. ومما يدل على أنه لم يكن في بني إسرائيل إلا مؤمن ، قوله تعالى :

(وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (٨٤) فَقالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٨٥) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) (٨٦)

يقول تعالى مخبرا عن موسى أنه قال لبني إسرائيل : (يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) أي فإن الله كاف من توكل عليه (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) [الزمر : ٣٦] (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق : ٣] وكثيرا ما يقرن الله تعالى بين العبادة والتوكل كقوله تعالى : (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) [هود : ١٢٣] (قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا) [الملك : ٢٩] (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) [المزمل : ٩] وأمر الله تعالى المؤمنين أن يقولوا في كل صلواتهم مرات متعددة (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة : ٥].

وقد امتثل بنو إسرائيل ذلك فقالوا : (عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي لا تظفرهم بنا وتسلطهم علينا فيظنوا أنهم إنما سلطوا لأنهم على الحق ونحن على الباطل فيفتنوا بذلك هكذا روي عن أبي مجلز وأبي الضحى (١) ، وقال ابن أبي نجيح وغيره عن مجاهد لا تعذبنا بأيدي آل فرعون ولا بعذاب من عندك فيقول قوم فرعون لو كانوا على حق ما عذبوا ولا سلطنا عليهم فيفتنوا (٢) بنا وقال عبد الرزاق أنبأنا ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) لا تسلطهم علينا فيفتنونا (٣). وقوله : (وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ) أي خلصنا برحمة منك وإحسان (مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) أي الذين كفروا الحق وستروه ونحن قد آمنا بك وتوكلنا عليك.

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (٨٧)

يذكر تعالى سبب إنجائه بني إسرائيل من فرعون وقومه وكيفية خلاصهم منهم وذلك أن الله تعالى أمر موسى وأخاه هارون عليهما‌السلام أن يتبوآ أي يتخذا لقومهما بمصر بيوتا ، واختلف المفسرون في معنى قوله تعالى : (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) فقال الثوري وغيره عن خصيف عن

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٥٩٤ ، ٥٩٥.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٥٩٥.

(٣) تفسير الطبري ٦ / ٥٩٤.

عكرمة عن ابن عباس (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) قال : أمروا أن يتخذوها مساجد (١) ، وقال الثوري أيضا عن ابن منصور عن إبراهيم ، (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) قال : كانوا خائفين فأمروا أن يصلوا في بيوتهم (٢) وكذا قال مجاهد وأبو مالك والربيع بن أنس والضحاك وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وأبوه زيد بن أسلم وكأن هذا والله أعلم لما اشتد بهم البلاء من قبل فرعون وقومه وضيقوا عليهم أمروا بكثرة الصلاة كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) [البقرة : ١٥٣].

وفي الحديث كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا حزبه أمر صلى ، أخرجه أبو داود (٣) ، ولهذا قال تعالى في هذه الآية : (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) أي بالثواب والنصر القريب ، وقال العوفي عن ابن عباس في تفسير هذه الآية قال : قالت بنو إسرائيل لموسى عليه‌السلام لا نستطيع أن نظهر صلاتنا مع الفراعنة فأذن الله لهم أن يصلوا في بيوتهم وأمروا أن يجعلوا بيوتهم قبل القبلة (٤) ، وقال مجاهد (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) لما خاف بنو إسرائيل من فرعون أن يقتلوا في الكنائس الجامعة أمروا أن يجعلوا بيوتهم مساجد مستقبلة الكعبة يصلون فيها سرا (٥) وكذا قال قتادة والضحاك وقال سعيد بن جبير (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) أي يقابل بعضها بعضا (٦).

(وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ(٨٨) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (٨٩)

هذا إخبار من الله تعالى عما دعا به موسى عليه‌السلام على فرعون وملئه لما أبوا قبول الحق واستمروا على ضلالهم وكفرهم معاندين جاحدين ظلما وعلوا وتكبرا وعتوا قال موسى : (رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً) أي من أثاث الدنيا ومتاعها (وَأَمْوالاً) أي جزيلة كثيرة (فِي) هذه (الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) بفتح الياء أي أعطيتهم ذلك وأنت تعلم أنهم لا يؤمنون بما أرسلتني به إليهم استدراجا منك لهم كقوله تعالى : (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) وقرأ آخرون ليضلوا بضم الياء أي ليفتتن بما أعطيتهم من شئت من خلقك ليظن من أغويته أنك إنما

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٥٩٦.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٥٩٦.

(٣) لم أجد الحديث في سنن أبي داود ، والحديث أخرجه النسائي في المواقيت باب ٤٦ ، وأحمد في المسند ١ / ٢٠٦ ، ٢٦٨ ، ٢٨٠ ، ٥ / ٣٨٨.

(٤) تفسير الطبري ٦ / ٥٩٧.

(٥) تفسير الطبري ٦ / ٥٩٧.

(٦) تفسير الطبري ٦ / ٥٩٨.

أعطيتهم هذا لحبك إياهم واعتنائك بهم (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ) قال ابن عباس ومجاهد : أي أهلكها ، وقال الضحاك وأبو العالية والربيع بن أنس : جعلها الله حجارة منقوشة كهيئة ما كانت (١) ، وقال قتادة بلغنا أن زروعهم تحولت حجارة ، وقال محمد بن كعب القرظي جعل سكرهم حجارة.

وقال ابن أبي حاتم حدثنا إسماعيل بن أبي الحارث حدثنا يحيى بن أبي بكير عن أبي معشر حدثني محمد بن قيس أن محمد بن كعب قرأ سورة يونس على عمر بن عبد العزيز حتى بلغ (وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) إلى قوله : (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ) الآية ، فقال عمر : يا أبا حمزة أي شيء الطمس؟ قال : عادت أموالهم كلها حجارة ، فقال عمر بن عبد العزيز لغلام له : ائتني بكيس فجاءه بكيس فإذا فيه حمص وبيض قد حول حجارة.

وقوله : (وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ) قال ابن عباس : أي اطبع عليها (فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) وهذه الدعوة كانت من موسى عليه‌السلام غضبا لله ولدينه على فرعون وملئه الذين تبين له أنهم لا خير فيهم ولا يجيء منهم شيء كما دعا نوح عليه‌السلام فقال : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) [نوح : ٢٦ ـ ٢٧] ولهذا استجاب الله تعالى لموسى عليه‌السلام فيهم هذه الدعوة التي أمن عليها أخوه هارون فقال تعالى : (قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما) قال أبو العالية وأبو صالح وعكرمة ومحمد بن كعب القرظي والربيع بن أنس دعا موسى وأمن هارون أي قد أجبنا كما فيما سألتما من تدمير آل فرعون ، وقد يحتج بهذه الآية من يقول : إن تأمين المأموم على قراءة الفاتحة ينزل منزلة قراءتها لأن موسى دعا وهارون أمن ، وقال تعالى : (قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما) الآية ، أي كما أجيبت دعوتكما فاستقيما على أمري قال ابن جريج عن ابن عباس : فاستقيما فامضيا لأمري وهي الاستقامة قال ابن جريج يقولون إن فرعون مكث بعد هذه الدعوة أربعين سنة ، وقال محمد بن علي بن الحسين أربعين يوما.

(وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ) (٩٢)

يذكر تعالى كيفية إغراقه فرعون وجنوده فإن بني إسرائيل لما خرجوا من مصر بصحبة موسى عليه‌السلام وهم فيما قيل ستمائة ألف مقاتل سوى الذرية وقد كانوا استعاروا من القبط

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٦٠٠.

حليا كثيرا فخرجوا به معهم فاشتد حنق فرعون عليهم فأرسل في المدائن حاشرين يجمعون له جنوده من أقاليمه فركب وراءهم في أبهة عظيمة وجيوش هائلة لما يريده الله تعالى بهم ولم يتخلف عنه أحد ممن له دولة وسلطان في سائر مملكته فلحقوهم وقت شروق الشمس (فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) [الشعراء : ٦١] وذلك أنهم لما انتهوا إلى ساحل البحر وفرعون وراءهم ولم يبق إلا أن يتقاتل الجمعان وألح أصحاب موسى عليه‌السلام عليه في السؤال كيف المخلص مما نحن فيه؟ فيقول : إني أمرت أن أسلك هاهنا (كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الشعراء : ٦٢].

فعند ما ضاق الأمر اتسع فأمره الله تعالى أن يضرب البحر بعصاه فضربه فانفلق البحر (فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) [الشعراء : ١٣] الآية أي كالجبل العظيم وصار اثني عشر طريقا لكل سبط واحد وأمر الله الريح فنشفت أرضه (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى) [طه : ٧٧] وتخرق الماء بين الطرق كهيئة الشبابيك ليرى كل قوم الآخرين لئلا يظنوا أنهم هلكوا. وجاوزت بنو إسرائيل البحر فلما خرج آخرهم منه انتهى فرعون وجنوده إلى حافته من الناحية الأخرى وهو في مائة ألف أدهم سوى بقية الألوان ، فلما رأى ذلك هاله وأحجم وهاب وهمّ بالرجوع وهيهات ولات حين مناص ، نفذ القدر ، واستجيبت الدعوة.

وجاء جبريل عليه‌السلام على فرس وديق حائل فمر إلى جانب حصان فرعون فحمحم إليها واقتحم جبريل البحر فاقتحم الحصان وراءه ولم يبق فرعون يملك من نفسه شيئا فتجلد لأمرائه وقال لهم ليس بنو إسرائيل بأحق بالبحر منا فاقتحموا كلهم عن آخرهم وميكائيل في ساقتهم لا يترك منهم أحدا إلا ألحقه بهم ، فلما استوسقوا فيه وتكاملوا وهمّ أولهم بالخروج منه أمر الله القدير البحر أن يرتطم عليهم فارتطم عليهم فلم ينج منهم أحد وجعلت الأمواج ترفعهم وتخفضهم وتراكمت الأمواج فوق فرعون وغشيته سكرات الموت فقال وهو كذلك :

(آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) فآمن حيث لا ينفعه الإيمان (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ) [غافر : ٨٤ ـ ٨٥] ولهذا قال الله تعالى في جواب فرعون حين قال ما قال (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ) أي أهذا الوقت تقول ، وقد عصيت الله قبل هذا فيما بينك وبينه (وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) أي في الأرض الذين أضلوا الناس (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ) [القصص : ٤١] وهذا الذي حكى الله تعالى عن فرعون من قوله هذا في حاله ذلك من أسرار الغيب التي أعلم الله بها رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولهذا قال الإمام أحمد بن حنبل (١) رحمه‌الله : حدثنا سليمان بن حرب حدثنا

__________________

(١) المسند ١ / ٣٠٩.

حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لما قال فرعون آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل ـ قال ـ قال لي جبريل : لو رأيتني وقد أخذت من حال البحر فدسسته في فيه مخافة أن تناله الرحمة».

ورواه الترمذي (١) وابن جرير (٢) وابن أبي حاتم في تفاسيرهم من حديث حماد بن سلمة به ، وقال الترمذي : حديث حسن ، وقال أبو داود الطيالسي حدثنا شعبة عن عدي بن ثابت وعطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قال لي جبريل لو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر فأدسه في فم فرعون مخافة أن تدركه الرحمة» وقد رواه أبو عيسى الترمذي (٣) أيضا وابن جرير (٤) أيضا من غير وجه عن شعبة به فذكر مثله ، وقال الترمذي : حسن غريب صحيح ، ووقع في رواية عند ابن جرير عن محمد بن المثنى عن غندر عن شعبة عن عطاء وعدي عن سعيد عن ابن عباس رفعه أحدهما فكأن الآخر لم يرفع فالله أعلم.

وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو خالد الأحمر عن عمر بن عبد الله بن يعلى الثقفي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لما أغرق الله فرعون أشار بإصبعه ورفع صوته (آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ) قال فخاف جبريل أن تسبق رحمة الله فيه غضبه فجعل يأخذ الحال بجناحيه فيضرب به وجهه فيرمسه ، وكذا رواه ابن جرير عن سفيان بن وكيع عن أبي خالد به موقوفا ، وقد روي من حديث أبي هريرة أيضا فقال ابن جرير(٥) : حدثنا ابن حميد حدثنا حكام عن عنبسة هو ابن أبي سعيد عن كثير بن زاذان عن أبي حازم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قال لي جبريل يا محمد لو رأيتني وأنا أغطه وأدس من الحال في فيه مخافة أن تدركه رحمة الله فيغفر له» يعني فرعون. كثير بن زاذان هذا قال ابن معين : لا أعرفه ، وقال أبو زرعة وأبو حاتم : مجهول وباقي رجاله ثقات.

وقد أرسل هذا الحديث جماعة من السلف قتادة وإبراهيم التيمي وميمون بن مهران ونقل عن الضحاك بن قيس أنه خطب بهذا للناس فالله أعلم. وقوله : (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) قال ابن عباس وغيره من السلف : إن بعض بني إسرائيل شكوا في موت فرعون فأمر الله تعالى البحر أن يلقيه بجسده سويا بلا روح وعليه درعه المعروفة على نجوة من الأرض وهو المكان المرتفع ليتحققوا موته وهلاكه ولهذا قال تعالى : (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ) أي

__________________

(١) كتاب التفسير ، تفسير سورة ١٠ ، باب ٣.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٦٠٥.

(٣) كتاب التفسير ، تفسير سورة ١٠ ، باب ٣.

(٤) تفسير الطبري ٦ / ٦٠٥.

(٥) تفسير الطبري ٦ / ٦٠٥.

نرفعك على نشز من الأرض (بِبَدَنِكَ) قال مجاهد : بجسدك ، وقال الحسن : بجسم لا روح فيه ، وقال عبد الله بن شداد : سويا صحيحا أي لم يتمزق ليتحققوه ويعرفوه ، وقال أبو صخر : بدرعك. وكل هذه الأقوال لا منافاة بينها كما تقدم والله أعلم.

وقوله : (لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) أي لتكون لبني إسرائيل دليلا على موتك وهلاكك وأن الله هو القادر الذي ناصية كل دابة بيده وأنه لا يقوم لغضبه شيء ولهذا قرأ بعضهم (لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ) أي لا يتعظون بها ولا يعتبرون بها ، وقد كان إهلاكهم يوم عاشوراء كما قال البخاري حدثنا محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : قدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة واليهود تصوم يوم عاشوراء فقال : «ما هذا اليوم الذي تصومونه؟» فقالوا : هذا يوم ظهر فيه موسى على فرعون.

فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه : «أنتم أحق بموسى منهم فصوموه» (١).

(وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (٩٣)

يخبر تعالى عما أنعم به على بني إسرائيل من النعم الدينية والدنيوية وقوله : (مُبَوَّأَ صِدْقٍ) قيل هو بلاد مصر والشام مما يلي بيت المقدس ونواحيه فإن الله تعالى لما أهلك فرعون وجنوده استقرت يد الدولة الموسوية على بلاد مصر بكمالها كما قال الله تعالى : (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ) [الأعراف: ١٣٧] وقال في الآية الأخرى (فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ) [الشعراء : ٥٨ ـ ٦٠] وقال : (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) [الدخان : ٢٥] الآيات.

ولكن استمروا مع موسى عليه‌السلام طالبين إلى بلاد بيت المقدس وهي بلاد الخليل عليه‌السلام فاستمر موسى بمن معه طالبا بيت المقدس وكان فيه قوم من العمالقة فنكل بنو إسرائيل عن قتالهم فشردهم الله تعالى في التيه أربعين سنة ومات فيه هارون ثم موسى عليهما‌السلام وخرجوا بعدهما مع يوشع بن نون ففتح الله عليهم بيت المقدس واستقرت أيديهم عليها إلى أن أخذها منهم بختنصر حينا من الدهر ثم عادت إليهم ثم أخذها ملوك اليونان فكانت تحت أحكامهم مدة طويلة وبعث الله عيسى ابن مريم عليه‌السلام في تلك المدة فاستعانت اليهود قبحهم الله على معاداة عيسى عليه‌السلام بملوك اليونان وكانت تحت أحكامهم ووشوا عندهم وأوحوا إليهم أن هذا يفسد عليكم الرعايا فبعثوا من يقبض عليه فرفعه الله إليه وشبه لهم بعض الحواريين بمشيئة الله وقدره فأخذوه فصلبوه واعتقدوا أنه هو (وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ

__________________

(١) أخرجه البخاري في تفسير سورة ١٠ ، باب ١.

وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) [النساء : ١٥٧ ـ ١٥٨].

ثم بعد المسيح عليه‌السلام بنحو ثلاثمائة سنة دخل قسطنطين أحد ملوك اليونان في دين النصرانية وكان فيلسوفا قبل ذلك فدخل في دين النصارى قيل تقية وقيل حيلة ليفسده فوضعت له الأساقفة منهم قوانين وشريعة بدعوها وأحدثوها فبنى لهم الكنائس والبيع الكبار والصغار والصوامع والهياكل والمعابد والقلايات وانتشر دين النصرانية في ذلك الزمان واشتهر على ما فيه من تبديل وتغيير وتحريف ووضع وكذب ومخالفة لدين المسيح ولم يبق على دين المسيح على الحقيقة منهم إلا القليل من الرهبان فاتخذوا لهم الصوامع في البراري والمهامة والقفار.

واستحوذت يد النصارى على مملكة الشام والجزيرة وبلاد الروم وبنى هذا الملك المذكور مدينة قسطنطينية والمقامة وبيت لحم وكنائس ببلاد بيت المقدس ومدن حوران كبصرى وغيرها من البلدان بناءات هائلة محكمة وعبدوا الصليب من حينئذ وصلوا إلى الشرق وصوروا الكنائس ، وأحلوا لحم الخنزير وغير ذلك مما أحدثوه من الفروع في دينهم والأصول ووضعوا له الأمانة الحقيرة التي يسمونها الكبيرة وصنفوا له القوانين وبسط هذا يطول. والغرض أن يدهم لم تزل على هذه البلاد إلى أن انتزعها منهم الصحابة رضي الله عنهم وكان فتح بيت المقدس على يدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولله الحمد والمنة.

وقوله : (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) أي الحلال من الرزق الطيب النافع المستطاب طبعا وشرعا وقوله : (فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ) أي ما اختلفوا في شيء من المسائل إلا من بعد ما جاءهم العلم أي ولم يكن لهم أن يختلفوا وقد بين الله لهم وأزال عنهم اللبس ، وقد ورد في الحديث : «إن اليهود اختلفوا على إحدى وسبعين فرقة وإن النصارى اختلفوا على اثنتين وسبعين فرقة وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة منها واحدة في الجنة واثنتان وسبعون في النار» قيل : من هم يا رسول الله قال : «ما أنا عليه وأصحابي» (١) رواه الحاكم في مستدركه بهذا اللفظ وهو في السنن والمسانيد ولهذا قال الله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ) أي يفصل بينهم (يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ).

(فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (٩٤) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٩٥) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) (٩٧)

__________________

(١) أخرجه أبو داود في السنة باب ١ ، والترمذي في الإيمان باب ١٨ ، وابن ماجة في الفتن باب ١٧ ، وأحمد في المسند ٣ / ١٤٥.

قال قتادة بن دعامة : بلغنا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا أشك ولا أسأل» (١) وكذا قال ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن البصري وهذا فيه تثبيت للأمة وإعلام لهم أن صفة نبيهمصلى‌الله‌عليه‌وسلم موجودة في الكتب المتقدمة التي بأيدي أهل الكتاب كما قال تعالى : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) [الأعراف : ١٥٧] الآية ، ثم مع هذا العلم الذي يعرفونه من كتبهم كما يعرفون أبناءهم يلبسون ذلك ويحرفونه ويبدلونه ولا يؤمنون به مع قيام الحجة عليهم ولهذا قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) أي لا يؤمنون إيمانا ينفعهم بل حين لا ينفع نفسا إيمانها ولهذا لما دعا موسى عليه‌السلام على فرعون وملئه قال (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) [يونس : ٨٨] كما قال تعالى : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) [الأنعام : ١١١] ثم قال تعالى :

(فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) (٩٨)

يقول تعالى فهلا كانت قرية آمنت بكمالها من الأمم السالفة الذين بعثنا إليهم الرسل بل ما أرسلنا من قبلك يا محمد من رسول إلا كذبه قومه أو أكثرهم كقوله تعالى : (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) [يس : ٣٥] (كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) [الذاريات : ٥٢] (وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) [الزخرف : ٢٣] وفي الحديث الصحيح «عرض علي الأنبياء فجعل النبي يمر ومعه الفئام من الناس والنبي يمر معه الرجل والنبي معه الرجلان والنبي ليس معه أحد» ثم ذكر كثرة أتباع موسىعليه‌السلام ثم ذكر كثرة أمته صلوات الله وسلامه عليه كثرة سدت الخافقين الشرقي والغربي.

والغرض ، أنه لم توجد قرية آمنت بكمالها بنبيهم ممن سلف من القرى إلا قوم يونس وهم أهل نينوى وما كان إيمانهم إلا خوفا من وصول العذاب الذي أنذرهم به رسولهم بعد ما عاينوا أسبابه ، وخرج رسولهم من بين أظهرهم فعند ما جأروا إلى الله واستغاثوا به وتضرعوا له واستكانوا وأحضروا أطفالهم ودوابهم ومواشيهم وسألوا الله تعالى أن يرفع عنهم العذاب الذي أنذرهم به نبيهم فعندها رحمهم‌الله وكشف عنهم العذاب وأخروا كما قال تعالى : (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) [يونس : ٩٨] واختلف المفسرون هل كشف عنهم العذاب الأخروي مع الدنيوي أو إنما كشف عنهم في الدنيا

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٦ / ٦١٠.

فقط؟ على قولين : (أحدهما) إنما كان ذلك في الحياة الدنيا كما هو مقيد في هذه الآية.

(والثاني) فيهما لقوله تعالى : (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) فأطلق عليهم الإيمان. والإيمان منقذ من العذاب الأخروي وهذا هو الظاهر والله أعلم. وقال قتادة في تفسير هذه الآية : لم ينفع قرية كفرت ثم آمنت حين حضرها العذاب فتركت إلا قوم يونس لما فقدوا نبيهم وظنوا أن العذاب قد دنا منهم قذف الله في قلوبهم التوبة ولبسوا المسوح وفرقوا بين كل بهيمة وولدها ثم عجوا إلى الله أربعين ليلة فلما عرف الله منهم الصدق من قلوبهم والتوبة والندامة على ما مضى منهم كشف عنهم العذاب بعد أن تدلى عليهم. قال قتادة : وذكر أن قوم يونس بنينوى أرض الموصل وكذا روي عن ابن مسعود ومجاهد وسعيد بن جبير وغير واحد من السلف وكان ابن مسعود يقرؤها فهلا كانت قرية آمنت وقال أبو عمران عن أبي الجلد قال : لما نزل بهم العذاب جعل يدور على رؤوسهم كقطع الليل المظلم فمشوا إلى رجل من علمائهم فقالوا : علمنا دعاء ندعو به لعل الله أن يكشف عنا العذاب فقال : قولوا : يا حي حين لا حي ، يا حي محيي الموتى ، يا حي لا إله إلا أنت ، قال فكشف عنهم العذاب. وتمام القصة سيأتي مفصلا في سورة الصافات إن شاء الله.

(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) (١٠٠)

يقول تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ) يا محمد لأذن لأهل الأرض كلهم في الإيمان بما جئتهم به فآمنوا كلهم ولكن له حكمة فيما يفعله تعالى كقوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [هود : ١١٨ ـ ١١٩] وقال تعالى : (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً) [الرعد : ٣١] ولهذا قال تعالى : (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ) أي تلزمهم وتلجئهم (حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) أي ليس ذلك عليك ولا إليك بل الله (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [النحل : ٩٣] (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) [فاطر: ٨] (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [البقرة : ٢٧٢] (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [الشعراء : ٣] (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) [القصص : ٥٦] (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) [الرعد : ٤٠] (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) [الغاشية : ٢١ ـ ٢٢] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الله تعالى هو الفعال لما يريد الهادي من يشاء المضل لمن يشاء لعلمه وحكمته وعدله ولهذا قال تعالى : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ) وهو الخبال والضلال (عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) أي حجج الله وأدلته ، وهو العادل في كل ذلك في هداية من هدى وإضلال من ضل.

(قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (١٠١) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (١٠٢) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) (١٠٣)

يرشد تعالى عباده إلى التفكر في آلائه وما خلق الله في السموات والأرض من الآيات الباهرة لذوي الألباب ، مما في السموات من كواكب نيرات ، ثوابت وسيارات ، والشمس والقمر والليل والنهار واختلافهما وإيلاج أحدهما في الآخر حتى يطول هذا ويقصر هذا ، ثم يقصر هذا ويطول هذا ، وارتفاع السماء واتساعها وحسنها وزينتها وما أنزل الله منها من مطر فأحيا به الأرض بعد موتها ، وأخرج فيها من أفانين الثمار والزروع والأزاهير وصنوف النبات وما ذرأ فيها من دواب مختلفة الأشكال والألوان والمنافع وما فيها من جبال وسهول وقفار وعمران وخراب ، وما في البحر من العجائب والأمواج وهو مع هذا مسخر مذلل للسالكين يحمل سفنهم ويجري بها برفق بتسخير القدير لا إله إلا هو ولا رب سواه.

وقوله : (وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) أي وأي شيء تغني الآيات السماوية والأرضية والرسل بآياتها وحججها وبراهينها الدالة على صدقها عن قوم لا يؤمنون كقوله (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) الآية. وقوله : (فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ) أي فهل ينتظر هؤلاء المكذبون لك يا محمد من النقمة والعذاب إلا مثل أيام الله في الذين خلوا من قبلهم من الأمم الماضية المكذبة لرسلهم (قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا) أي ونهلك المكذبين بالرسل (كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) حقا أوجبه الله تعالى على نفسه الكريمة كقوله : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) وكما جاء في الصحيحين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن الله كتب كتابا فهو عنده فوق العرش إن رحمتي سبقت غضبي» (١).

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٤) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٥) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٦) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (١٠٧)

يقول تعالى لرسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من صحة ما جئتكم به من الدين الحنيف الذي أوحاه الله إلي فأنا لا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبد الله وحده

__________________

(١) أخرجه البخاري في بدء الخلق باب ١ ، والتوحيد باب ١٥ ، ومسلم في التوبة حديث ١٤ ، ١٦.

لا شريك له وهو الذي يتوفاكم كما أحياكم ثم إليه مرجعكم فإن كانت آلهتكم التي تدعون من دون الله حقا فأنا لا أعبدها فادعوها فلتضرني فإنها لا تضر ولا تنفع وإنما الذي بيده الضر والنفع هو الله وحده لا شريك له وأمرت أن أكون من المؤمنين وقوله : (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) الآية أي أخلص العبادة لله وحده حنيفا أي منحرفا عن الشرك ولهذا قال : (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) وهو معطوف على قوله : (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).

وقوله (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ) الآية فيه بيان لأن الخير والشر والنفع والضر إنما هو راجع إلى الله تعالى وحده لا يشاركه في ذلك أحد فهو الذي يستحق العبادة وحده لا شريك له ، روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة صفوان بن سليم من طريق عبد الله بن وهب أخبرني يحيى بن أيوب عن عيسى بن موسى عن صفوان بن سليم عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اطلبوا الخير دهركم كله وتعرضوا لنفحات ربكم ، فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده ، واسألوه أن يستر عوراتكم ويؤمن روعاتكم» ثم رواه من طريق الليث عن عيسى بن موسى عن صفوان عن رجل من أشجع عن أبي هريرة مرفوعا بمثله سواء. وقوله (وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) أي لمن تاب إليه وتوكل عليه ولو من أي ذنب كان حتى من الشرك به فإنه يتوب عليه.

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (١٠٨) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) (١٠٩)

يقول تعالى أمرا لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يخبر الناس أن الذي جاءهم به من عند الله هو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك فيه فمن اهتدى به واتبعه فإنما يعود نفع ذلك الاتباع على نفسه ، ومن ضل عنه فإنما يرجع وبال ذلك عليه (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) أي وما أنا موكل بكم حتى تكونوا مؤمنين وإنما أنا نذير لكم ، والهداية على الله تعالى وقوله : (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ) أي تمسك بما أنزل الله عليك وأوحاه إليك واصبر على مخالفة من خالفك من الناس (حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ) أي يفتح بينك وبينهم (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) أي خير الفاتحين بعدله وحكمته.

سورة هود

وهي مكية

قال الحافظ أبو يعلى حدثنا خلف بن هشام البزار حدثنا أبو الأحوص عن أبي إسحاق عن عكرمة قال : قال أبو بكر : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما شيبك؟ قال «شيبتني هود والواقعة وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت» وقال أبو عيسى الترمذي : حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء حدثنا معاوية بن هشام عن شيبان عن أبي إسحاق عن عكرمة عن ابن عباس قال : قال أبو بكر: يا رسول الله قد شبت قال «شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت» (١) وفي رواية «هود وأخواتها».

وقال الطبراني حدثنا عبدان بن أحمد حدثنا حجاج بن الحسن حدثنا سعيد بن سلام حدثنا عمر بن محمد عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «شيبتني هود. وأخواتها : الواقعة والحاقة وإذا الشمس كورت» وفي رواية «هود وأخواتها» وقد روي من حديث ابن مسعود نحوه فقال الحافظ أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني في معجمه الكبير : حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة حدثنا أحمد بن طارق الرائشي حدثنا عمرو بن ثابت عن أبي إسحاق عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن أبا بكر قال : يا رسول الله ما شيبك؟ قال : «هود والواقعة». عمرو بن ثابت متروك وأبو إسحاق لم يدرك ابن مسعود والله أعلم.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (٢) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (٣) إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٤)

قد تقدم الكلام على حروف الهجاء في أول سورة البقرة بما أغنى عن إعادته هنا وبالله التوفيق.

وأما قوله : (أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ) أي هي محكمة في لفظها مفصلة في معناها فهو. كامل صورة ومعنى ، هذا معنى ما روي عن مجاهد وقتادة واختاره ابن جرير ومعنى قوله (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) أي من عند الله الحكيم في أقواله وأحكامه خبير بعواقب الأمور (أَلَّا تَعْبُدُوا

__________________

(١) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٥٦ ، باب ٦.

إِلَّا اللهَ) أي نزل هذا القرآن المحكم المفصل لعبادة الله وحده لا شريك له كقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء : ٢٥] وقال (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [النحل : ٣٦].

وقوله (إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ) أي إني لكم نذير من العذاب إن خالفتموه ، وبشير بالثواب إن أطعتموه كما جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صعد الصفا فدعا بطون قريش الأقرب ثم الأقرب فاجتمعوا فقال : «يا معشر قريش أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا تصبحكم ألستم مصدقي؟» فقالوا : ما جربنا عليك كذبا قال : فإني (نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) (١) [سبأ : ٤٦].

وقوله : (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) أي وآمركم بالاستغفار من الذنوب السالفة والتوبة منها إلى الله عزوجل فيما تستقبلونه ، وأن تستمروا على ذلك (يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً) أي في الدنيا (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) أي في الدار الآخرة قاله قتادة كقوله : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) [النحل : ٩٧] الآية.

وقد جاء في الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لسعد «وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها حتى ما تجعل في فيّ امرأتك» (٢) وقال ابن جرير : حدثني المسيب بن شريك عن أبي بكر عن سعيد بن جبير عن ابن مسعود رضي الله عنه في قوله : (وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) قال من عمل سيئة كتبت عليه سيئة ومن عمل حسنة كتبت له عشر حسنات فإن عوقب بالسيئة التي كان عملها في الدنيا بقيت له عشر حسنات وإن لم يعاقب بها في الدنيا أخذ من الحسنات العشر واحدة وبقيت له تسع حسنات ، ثم يقول هلك من غلب آحاده على أعشاره.

وقوله : (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) هذا تهديد شديد لمن تولى عن أوامر الله تعالى وكذب رسله فإن العذاب يناله يوم القيامة لا محالة (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ) أي معادكم يوم القيامة (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي هو القادر على ما يشاء من إحسانه إلى أوليائه وانتقامه من أعدائه ، وإعادة الخلائق يوم القيامة ، وهذا مقام الترهيب كما أن الأول مقام ترغيب.

(أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٥)

قال ابن عباس كانوا يكرهون أن يستقبلوا السماء بفروجهم وحال وقاعهم فأنزل الله هذه

__________________

(١) أخرجه البخاري في تفسير سورة ١١١ ، باب ١ ، وسورة ٢٦ ، باب ٢ ، ومسلم في الإيمان حديث ٣٥٥.

(٢) أخرجه البخاري في الإيمان باب ٤١ ، ومسلم في الوصية حديث ٥.

الآية ، رواه البخاري (١) من طريق ابن جريج عن محمد بن عباد بن جعفر أن ابن عباس قرأ (أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ) الآية فقلت : يا أبا العباس ما تثنوني صدورهم؟ قال : الرجل كان يجامع امرأته فيستحي أو يتخلى فيستحي فنزلت : (أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ). وفي لفظ آخر له قال ابن عباس : أناس كانوا يستحيون أن يتخلوا فيفضوا إلى السماء وأن يجامعوا نساءهم فيفضوا إلى السماء فنزل ذلك فيهم ثم قال : حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا عمرو قال قرأ ابن عباس : (أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ).

قال البخاري (٢) وقال غيره عن ابن عباس (يَسْتَغْشُونَ) يغطون رؤوسهم ، وقال ابن عباس في رواية أخرى في تفسير هذه الآية : يعني به الشك في الله وعمل السيئات وكذا روي عن مجاهد والحسن وغيرهم أي أنهم كانوا يثنون صدورهم إذا قالوا شيئا أو عملوه فيظنون أنهم يستخفون من الله بذلك فأخبرهم الله تعالى أنهم حين يستغشون ثيابهم عند منامهم في ظلمة الليل (يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ) من القول (وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي يعلم ما تكن صدورهم من النيات والضمائر والسرائر ، وما أحسن ما قال زهير بن أبي سلمى في معلقته المشهورة : [البسيط]

فلا تكتمنّ الله ما في قلوبكم

ليخفى ومهما يكتم الله يعلم (٣)

يؤخّر فيوضع في كتاب فيدخر

ليوم حساب أو يعجّل فينقم

فقد اعترف هذا الشاعر الجاهلي بوجود الصانع وعلمه بالجزئيات وبالمعاد وبالجزاء وبكتابة الأعمال في الصحف ليوم القيامة ، وقال عبد الله بن شداد : كان أحدهم إذا مر برسول الله ثنى عنه صدره وغطى رأسه فأنزل الله ذلك ، وعود الضمير إلى الله أولى لقوله : (أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) وقرأ ابن عباس ألا إنهم تثنوني صدورهم برفع الصدور على الفاعلية وهو قريب المعنى.

(وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٦)

أخبر تعالى أنه متكفل بأرزاق المخلوقات من سائر دواب الأرض صغيرها وكبيرها بحريها وبريها وأنه يعلم مستقرها ومستودعها أي يعلم أين منتهى سيرها في الأرض وأين تأوي إليه من وكرها وهو مستودعها ، وقال علي بن أبي طلحة وغيره عن ابن عباس (وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها) أي حيث تأوي (وَمُسْتَوْدَعَها) حيث تموت (٤) ، وعن مجاهد (مُسْتَقَرَّها) في الرحم

__________________

(١) كتاب التفسير ، تفسير سورة ١١ ، باب ١.

(٢) راجع الحاشية السابقة.

(٣) البيتان في ديوان زهير بن أبي سلمى ص ١٨ ، والبيت الأول في تاج العروس (كتم)

(٤) انظر تفسير الطبري ٧ / ٣ ، ٤.

(وَمُسْتَوْدَعَها) في الصلب كالتي في الأنعام (١) ، وكذا روي عن ابن عباس والضحاك وجماعة.

وذكر ابن أبي حاتم أقوال المفسرين هاهنا كما ذكره عند تلك الآية فالله أعلم. وأن جميع ذلك مكتوب في كتاب عند الله مبين عن جميع ذلك كقوله : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) [الأنعام : ٣٨] وقوله : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [الأنعام : ٥٩].

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (٨)

يخبر تعالى عن قدرته على كل شيء وأنه خلق السموات والأرض في ستة أيام وأن عرشه كان على الماء قبل ذلك كما قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن جامع بن شداد عن صفوان بن محرز عن عمران بن حصين قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اقبلوا البشرى يا بني تميم» قالوا : قد بشرتنا ، فأعطنا ، قال : «اقبلوا البشرى يا أهل اليمن قالوا : قد قبلنا. فأخبرنا عن أول هذا الأمر كيف كان؟ قال : «كان الله قبل كل شيء ، وكان عرشه على الماء ، وكتب في اللوح المحفوظ ذكر كل شيء» قال : فأتاني آت فقال : يا عمران انحلت ناقتك من عقالها ، قال : فخرجت في إثرها فلا أدري ما كان بعدي ، وهذا الحديث مخرج في صحيحي البخاري ومسلم بألفاظ كثيرة فمنها قالوا : جئناك نسألك عن أول هذا الأمر فقال : «كان الله ولم يكن شيء قبله وفي رواية ـ غيره ـ وفي رواية ـ معه ـ وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء ، ثم خلق السموات والأرض (٣).

وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء» (٤) وقال البخاري في تفسير هذه الآية : حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب أخبرنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «قال الله عزوجل أنفق أنفق عليك» وقال : «يد الله ملأى لا يغيضها نفقة ، سحاء الليل والنهار» وقال : «أفرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٤.

(٢) المسند ٤ / ٤٣١ ، ٤٣٢.

(٣) أخرجه البخاري في بدء الخلق باب ١.

(٤) أخرجه مسلم في القدر حديث ١٦.

والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه وكان عرشه على الماء ، وبيده الميزان يخفض ويرفع» (١).

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا حماد بن سلمة عن يعلى بن عطاء عن وكيع بن عدس عن عمه أبي رزين واسمه لقيط بن عامر بن المنتفق العقيلي قال : قلت : يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه قال : «كان في عماء ما تحته هواء وما فوقه هواء ، ثم خلق العرش بعد ذلك» (٣) وقد رواه الترمذي في التفسير وابن ماجة في السنن من حديث يزيد بن هارون به وقال الترمذي : هذا حديث حسن.

وقال مجاهد (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) قبل أن يخلق شيئا ، وكذا قال وهب بن منبه وضمرة وقتادة وابن جرير وغير واحد ، وقال قتادة في قوله (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) ينبئكم كيف كان بدء خلقه قبل أن يخلق السموات والأرض ، وقال الربيع بن أنس (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) فلما خلق السموات والأرض قسم ذلك الماء قسمين فجعل نصفا تحت العرش وهو البحر المسجور.

وقال ابن عباس : إنما سمي العرش عرشا لارتفاعه ، وقال إسماعيل بن أبي خالد سمعت سعدا الطائي يقول : العرش ياقوتة حمراء ، وقال محمد بن إسحاق في قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) فكان كما وصف نفسه تعالى إذ ليس إلا الماء وعليه العرش وعلى العرش ذو الجلال والإكرام ، والعزة والسلطان ، والملك والقدرة ، والحلم والعلم ، والرحمة والنعمة الفعال لما يريد.

وقال الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير قال : سئل ابن عباس عن قول الله: (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) على أي شيء كان الماء؟ قال على متن الريح ، وقوله تعالى : (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) أي خلق السموات والأرض لنفع عباده الذين خلقهم ليعبدوه ولا يشركوا به شيئا ولم يخلق ذلك عبثا كقوله (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) [ص : ٢٧] وقال تعالى : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) [المؤمنون : ١١٥ ـ ١١٦] وقال تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦] الآية وقوله (لِيَبْلُوَكُمْ) أي ليختبركم (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) ولم يقل أكثر عملا ، بل أحسن عملا ولا يكون العمل حسنا حتى يكون خالصا لله عزوجل على شريعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمتى فقد العمل واحدا من هذين الشرطين حبط وبطل.

__________________

(١) أخرجه البخاري في تفسير سورة ١١ ، باب ٢.

(٢) المسند ٤ / ١١ ، ١٢.

(٣) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ١١ ، باب ١ ، وابن ماجة في المقدمة باب ١٣.

وقوله : (وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ) الآية يقول تعالى ولئن أخبرت يا محمد هؤلاء المشركين أن الله سيبعثهم بعد مماتهم كما بدأهم مع أنهم يعلمون أن الله تعالى هو الذي خلق السموات والأرض كما قال تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [الزخرف : ٨٧] (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [العنكبوت : ٦١] وهم مع هذا ينكرون البعث والمعاد يوم القيامة الذي هو بالنسبة إلى القدرة أهون من البداءة كما قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم: ٢٧] وقال تعالى : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) [لقمان : ٢٨] وقولهم : (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي يقولون كفرا وعنادا ما نصدقك على وقوع البعث ، وما يذكر ذلك إلا من سحرته فهو يتبعك على ما تقول.

وقوله : (وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ) الآية. يقول تعالى ولئن أخرنا العذاب والمؤاخذة عن هؤلاء المشركين إلى أجل معدود وأمد محصور وأوعدناهم إلى مدة مضروبة ليقولن تكذيبا واستعجالا ، ما يحبسه أي يؤخر هذا العذاب عنا فإن سجاياهم قد ألفت التكذيب والشك فلم يبق لهم محيص عنه ولا محيد والأمة تستعمل في القرآن والسنة في معان متعددة فيراد بها الأمد كقوله في هذه الآية (إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ).

وقوله في يوسف : (وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) [يوسف : ٤٥] وتستعمل في الإمام المقتدى به كقوله : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [النحل : ١٢٠] وتستعمل في الملة والدين كقوله إخبارا عن المشركين إنهم قالوا : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) [الزخرف : ٢٣] وتستعمل في الجماعة كقوله : (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ) [القصص : ٢٣] وقوله : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [النحل : ٣٦] وقال تعالى : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) [يونس : ٤٧].

والمراد من الأمة هاهنا الذين يبعث فيهم الرسول مؤمنهم وكافرهم كما في صحيح مسلم «والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار» (١) وأما أمة الأتباع فهم المصدقون للرسل كما قال تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) وفي الصحيح «فأقول أمتي أمتي» وتستعمل الأمة في الفرقة والطائفة كقوله تعالى : (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) [الأعراف : ١٥٩] وكقوله : (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ) [آل عمران : ١١٣] الآية.

(وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ

__________________

(١) أخرجه مسلم في الإيمان حديث ٢٤٠.

بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (١٠) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) (١١)

يخبر تعالى عن الإنسان وما فيه من الصفات الذميمة إلا من رحم الله من عباده المؤمنين أنه إذا أصابته شدة بعد نعمة حصل له يأس وقنوط من الخير بالنسبة إلى المستقبل وكفر وجحود لماضي الحال كأنه لم ير خيرا ولم يرج بعد ذلك فرجا. وهكذا إن أصابته نعمة بعد نقمة (لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي) أي يقول : ما ينالني بعد هذا ضيم ولا سوء (إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ) أي فرح بما في يده بطر فخور على غيره ، قال الله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) أي على الشدائد والمكاره (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي في الرخاء والعافية (أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) أي بما يصيبهم من الضراء (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) بما أسلفوه في زمن الرخاء كما جاء في الحديث «والذي نفسي بيده لا يصيب المؤمن هم ولا غم ولا نصب ولا وصب ولا حزن حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله عنه بها من خطاياه» (١) وفي الصحيحين «والذي نفسي بيده لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له إن أصابته سراء فشكر كان خيرا له ، وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له ، وليس ذلك لأحد غير المؤمن» (٢) ولهذا قال الله تعالى : (وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) [العصر : ١ ـ ٣] وقال تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً) [المعارج : ١٩] الآيات.

(فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٣) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (١٤)

يقول تعالى مسليا لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما كان يتعنت به المشركون فيما كانوا يقولونه عن الرسول كما أخبر تعالى عنهم في قوله : (وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) [الفرقان : ٧ ـ ٨] فأمر الله تعالى رسوله صلوات الله وسلامه عليه وأرشده إلى أن لا يضيق بذلك منهم صدره ولا يصدنه ذلك ولا يثنينه عن دعائهم إلى الله عزوجل آناء الليل وأطراف النهار كما قال تعالى : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ) [الحجر : ٩٨] الآية ، وقال هاهنا (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا) أي لقولهم ذلك فإنما أنت نذير ولك أسوة بإخوانك من الرسل قبلك فإنهم كذبوا

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند ٣ / ٤.

(٢) أخرجه مسلم في الزهد حديث ٦٤.

وأوذوا فصبروا حتى أتاهم نصر الله عزوجل.

ثم بين تعالى إعجاز القرآن وأنه لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله ولا بعشر سور مثله ولا بسورة من مثله لأن كلام الرب تعالى لا يشبه كلام المخلوقين كما أن صفاته لا تشبه صفات المحدثات. وذاته لا يشبهها شيء تعالى وتقدس وتنزه لا إله إلا هو ولا رب سواه ثم قال تعالى : (فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ) فإن لم يأتوا بمعارضة ما دعوتموهم إليه فاعلموا أنهم عاجزون عن ذلك وأن هذا الكلام منزل من عند الله متضمن علمه وأمره ونهيه (وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ(١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٦)

قال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية : إن أهل الرياء يعطون بحسناتهم في الدنيا وذلك أنهم لا يظلمون نقيرا يقول من عمل صالحا التماس الدنيا صوما أو صلاة أو تهجدا بالليل لا يعمله إلا التماس الدنيا يقول الله تعالى : أوفيه الذي التمس في الدنيا من المثابة وحبط عمله الذي كان يعمله لالتماس الدنيا وهو في الآخرة من الخاسرين : وهكذا روي عن مجاهد والضحاك وغير واحد ، وقال أنس بن مالك والحسن : نزلت في اليهود والنصارى ، وقال مجاهد وغيره : نزلت في أهل الرياء ، وقال قتادة : من كانت الدنيا همه ونيته وطلبته جازاه الله بحسناته في الدنيا ثم يفضي إلى الآخرة وليس له حسنة يعطى بها جزاء وأما المؤمن فيجازى بحسناته في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة (١) ، وقد ورد في الحديث المرفوع نحو من هذا.

وقال تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) [الإسراء : ١٨ ـ ٢١] وقال تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) [الشورى : ٢٠].

(أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ

__________________

(١) انظر الحديث في تفسير الطبري ٧ / ١٤ ، ولفظه : «من كانت الدنيا همّه وسدمه وطلبته ونيته» ، والسّدم: الولوع بالشيء واللهج به ، والغم بطلبه والندم على فوته ، وقد أخرجه بلفظ الطبري الدارمي في المقدمة باب ٣٢.

أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) (١٧)

يخبر تعالى عن حال المؤمنين الذين هم على فطرة الله تعالى التي فطر عليها عباده من الاعتراف له بأنه لا إله إلا هو كما قال تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) [الروم : ٣٠] الآية وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟» (١) الحديث. وفي صحيح مسلم عن عياض بن حماد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يقول الله تعالى إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم ، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا» (٢) وفي المسند والسنن «كل مولود يولد على هذه الملة حتى يعرب عنه لسانه» (٣) الحديث ، فالمؤمن باق على هذه الفطرة.

وقوله : (وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) أي وجاءه شاهد من الله وهو ما أوحاه إلى الأنبياء من الشرائع المطهرة المكملة المعظمة المختتمة بشريعة محمد صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين. ولهذا قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وأبو العالية والضحاك وإبراهيم النخعي والسدي وغير واحد في قوله تعالى : (وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) : إنه جبريل عليه‌السلام.

وعن علي رضي الله عنه والحسن وقتادة هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكلاهما قريب في المعنى لأن كلا من جبريل ومحمد صلوات الله عليهما بلغ رسالة الله تعالى فجبريل إلى محمد ومحمد إلى الأمة ، وقيل هو عليّ وهو ضعيف لا يثبت له قائل والأول والثاني هو الحق ، وذلك أن المؤمن عنده من الفطرة ما يشهد للشريعة من حيث الجملة والتفاصيل تؤخذ من الشريعة والفطرة تصدقها وتؤمن بها ، ولهذا قال تعالى : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) وهو القرآن بلغه جبريل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبلغه النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أمته.

ثم قال تعالى : (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى) أي ومن قبل القرآن كتاب موسى وهو التوراة (إِماماً وَرَحْمَةً) أي أنزله الله تعالى إلى تلك الأمة إماما لهم وقدوة يقتدون بها ورحمة من الله بهم فمن آمن بها حق الإيمان قاده ذلك إلى الإيمان بالقرآن ، ولهذا قال تعالى : (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ).

ثم قال تعالى متوعدا لمن كذب بالقرآن أو بشيء منه : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) أي ومن كفر بالقرآن من سائر أهل الأرض مشركهم وكافرهم وأهل الكتاب وغيرهم

__________________

(١) أخرجه البخاري في الجنائز باب ٧٩ ، ومسلم في القدر حديث ٢٢ ، ٢٤.

(٢) أخرجه مسلم في الجنة حديث ٦٣.

(٣) أخرجه أحمد في المسند ٣ / ٣٥٣ ، ٤٣٥ ، ٤ / ٢٤.

من سائر طوائف بني آدم على اختلاف ألوانهم وأشكالهم وأجناسهم ممن بلغه القرآن كما قال تعالى: (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) [الأنعام : ١٩] وقال تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) [الأعراف : ١٥٨] وقال تعالى : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) [هود : ١٧].

وفي صحيح مسلم من حديث شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي أو نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار» (١) وقال أيوب السختياني عن سعيد بن جبير قال : كنت لا أسمع بحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على وجهه إلا وجدت مصداقه أو قال تصديقه في القرآن فبلغني أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني فلا يؤمن بي إلا دخل النار» فجعلت أقول أين مصداقه في كتاب الله؟ قال وقلما سمعت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا وجدت له تصديقا في القرآن حتى وجدت هذه الآية (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) قال من الملل كلها.

وقوله (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) الآية ، أي القرآن حق من الله لا مرية ولا شك فيه كما قال تعالى : (الم تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) [السجدة : ١ ـ ٢] وقال تعالى : (الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ) [البقرة : ١ ـ ٢] وقوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) كقوله تعالى : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) [يوسف : ١٠٣] وقال تعالى : (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) [الأنعام : ١١٦] وقال تعالى : (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [سبأ : ٢٠].

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٨) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (١٩) أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (٢٠) أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢١) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) (٢٢)

يبين تعالى حال المفترين عليه وفضيحتهم في الدار الآخرة على رؤوس الخلائق من الملائكة والرسل والأنبياء وسائر البشر والجان كما قال الإمام أحمد (٢) حدثنا بهز وعفان أخبرنا همام حدثنا قتادة عن صفوان بن محرز قال : كنت آخذا بيد ابن عمر إذ عرض له رجل قال :

__________________

(١) أخرجه مسلم في الإيمان حديث ٢٤٠.

(٢) المسند ٢ / ٧٤ ، ١٠٥.

كيف سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في النجوى يوم القيامة؟ قال : سمعته يقول : «إن الله عزوجل يدني المؤمن فيضع عليه كنفه (١) ويستره من الناس ويقرره بذنوبه ويقول له : أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلك قال : فإني قد سترتها عليك في الدنيا وإني أغفرها لك اليوم» ثم يعطى كتاب حسناته ، وأما الكفار والمنافقون فيقول : (الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) (٢) الآية أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث قتادة به.

وقوله : (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً) أي يردون الناس عن اتباع الحق وسلوك طريق الهدى الموصلة إلى الله عزوجل ويجنبونهم الجنة (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) أي ويريدون أن يكون طريقهم عوجا غير معتدلة (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) أي جاحدون بها مكذبون بوقوعها وكونها (أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ) أي بل كانوا تحت قهره وغلبته وفي قبضته وسلطانه وهو قادر على الانتقام منهم في الدار الدنيا قبل الآخرة (إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ).

وفي الصحيحين «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» (٣) ولهذا قال تعالى : (يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ) الآية أي يضاعف عليهم العذاب ، وذلك أن الله تعالى جعل لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم بل كانوا صما عن سماع الحق عميا عن اتباعه كما أخبر تعالى عنهم حين دخولهم النار كقوله : (وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) [الملك : ١٠].

وقال تعالى : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ) [النحل : ٨٨] الآية ، ولهذا يعذبون على كل أمر تركوه وعلى كل نهي ارتكبوه ولهذا كان أصح الأقوال أنهم مكلفون بفروع الشرائع أمرها ونهيها بالنسبة إلى الدار الآخرة وقوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي خسروا أنفسهم لأنهم أدخلوا نارا حامية فهم معذبون فيها لا يفتر عنهم من عذابها طرفة عين كما قال تعالى : (كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً) [الإسراء : ٩٧] (وَضَلَّ عَنْهُمْ) أي ذهب عنهم (ما كانُوا يَفْتَرُونَ) من دون الله من الأنداد والأصنام فلم تجد عنهم شيئا بل ضرتهم كل الضرر كما قال تعالى : (وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ) [الأحقاف : ٦].

وقال تعالى : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ

__________________

(١) يضع عليه كنفه : أي ستره وعفوه وصفحه.

(٢) أخرجه البخاري في تفسير سورة ١١ ، باب ٤ ، ومسلم في التوبة حديث ٥٢.

(٣) أخرجه البخاري في تفسير سورة ١١ ، باب ٥ ، ومسلم في البر حديث ٦٢.

عَلَيْهِمْ ضِدًّا) [مريم : ٨١ ـ ٨٢] وقال الخليل لقومه (إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) [العنكبوت : ٢٥] وقوله : (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ) [البقرة : ١٦٦] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على خسرهم ودمارهم ولهذا قال : (لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) يخبر تعالى عن حالهم أنهم أخسر الناس صفقة في الدار الآخرة لأنهم استبدلوا الدركات عن الدرجات ، واعتاضوا عن نعيم الجنان بحميم آن وعن شرب الرحيق المختوم بسموم وحميم وظل من يحموم وعن الحور العين بطعام من غسلين وعن القصور العالية بالهاوية ، وعن قرب الرحمن ، ورؤيته بغضب الديان وعقوبته ، فلا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٣) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (٢٤)

لما ذكر تعالى حال الأشقياء ثنى بذكر السعداء وهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات فآمنت قلوبهم وعملت جوارحهم الأعمال الصالحة قولا وفعلا من الإتيان بالطاعات وترك المنكرات وبهذا ورثوا الجنات ، المشتملة على الغرف العاليات ، والسرر المصفوفات ، والقطوف الدانيات ، والفرش المرتفعات والحسان الخيرات ، والفواكه المتنوعات ، والمآكل المشتهيات والمشارب المستلذات ، والنظر إلى خالق الأرض والسموات ، وهم في ذلك خالدون لا يموتون ولا يهرمون ولا يمرضون ولا ينامون ولا يتغوطون ولا يبصقون ولا يتمخطون ، إن هو إلا رشح مسك يعرقون.

ثم ضرب تعالى مثل الكافرين والمؤمنين فقال : (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ) أي الذين وصفهم أولا بالشقاء والمؤمنين بالسعادة فأولئك كالأعمى والأصم وهؤلاء كالبصير والسميع ، فالكافر أعمى عن وجه الحق في الدنيا والآخرة لا يهتدي إلى خير ولا يعرفه ، أصم عن سماع الحجج فلا يسمع ما ينتفع به (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ) [الأنفال : ٢٣] الآية.

وأما المؤمن ففطن ذكي لبيب بصير بالحق يميز بينه وبين الباطل فيتبع الخير ويترك الشر سميع للحجة يفرق بينها وبين الشبهة فلا يروج عليه باطل ، فهل يستوي هذا وهذا؟ (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) أفلا تعتبرون فتفرقون بين هؤلاء وهؤلاء كما قال في الآية الأخرى : (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) [الحشر : ٢٠] وكقوله : (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) [فاطر : ١٩ ـ ٢٤].

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٥) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٢٦) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ) (٢٧)

يخبر تعالى عن نوح عليه‌السلام وكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض من المشركين عبدة الأصنام أنه قال لقومه (إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي ظاهر النذارة لكم من عذاب الله إن أنتم عبدتم غير الله ، ولهذا قال : (أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) وقوله : (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ) أي إن استمررتم على ما أنتم عليه عذبكم الله عذابا أليما موجعا شاقا في الدار الآخرة.

(فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) والملأ هم السادة والكبراء من الكافرين منهم (ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا) أي لست بملك ولكنك بشر فكيف أوحي إليك من دوننا ثم ما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا كالباعة والحاكة (١) وأشباههم ولم يتبعك الأشراف ولا الرؤساء منا ثم هؤلاء الذين اتبعوك لم يكن عن ترو منهم ولا فكر ولا نظر بل بمجرد ما دعوتهم أجابوك فاتبعوك ولهذا قالوا (وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ) أي في أول بادئ الرأي (وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) يقولون ما رأينا لكم علينا فضيلة في خلق ولا خلق ولا رزق ولا حال لما دخلتم في دينكم هذا (بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ) أي فيما تدعونه لكم من البر والصلاح والعبادة والسعادة في الدار الآخرة إذا صرتم إليها.

هذا اعتراض الكافرين على نوح عليه‌السلام وأتباعه وهو دليل على جهلهم وقلة علمهم وعقلهم فإنه ليس بعار على الحق رذالة من اتبعه ، فإن الحق في نفسه صحيح سواء اتبعه الأشراف أو الأراذل بل الحق الذي لا شك فيه أن أتباع الحق هم الأشراف ولو كانوا فقراء والذين يأبونه هم الأراذل ولو كانوا أغنياء ثم الواقع غالبا أن ما يتبع الحق ضعفاء الناس ، والغالب على الأشراف والكبراء مخالفته كما قال تعالى : (وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) [الزخرف : ٢٣].

ولما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان صخر بن حرب عن صفات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له فيما قال : أشراف الناس اتبعوه أو ضعفاؤهم. فقال : هرقل هم أتباع الرسل ، وقولهم (بادِيَ الرَّأْيِ) ليس بمذمة ولا عيب لأن الحق إذا وضح لا يبقى للرأي ولا للفكر مجال بل لا بد من اتباع الحق والحالة هذه لكل ذي زكاء وذكاء بل لا يفكر هاهنا إلا غبي أو عيي ، والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين إنما جاءوا بأمر جلي واضح. وقد جاء في الحديث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت له كبوة غير أبي بكر فإنه

__________________

(١) الحاكة : الخياطون ، وحاك الثوب : خاطه.

لم يتلعثم» أي ما تردد ولا تروى لأنه رأى أمرا جليا عظيما واضحا فبادر إليه وسارع.

وقوله : (وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) هم لا يرون ذلك لأنهم عمي عن الحق لا يسمعون ولا يبصرون بل هم في ريبهم يترددون في ظلمات الجهل يعمهون وهم الأفاكون الكاذبون الأقلون الأرذلون وهم في الآخرة هم الأخسرون.

(قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ) (٢٨)

يقول تعالى مخبرا عما رد به نوح على قومه في ذلك : (أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) أي على يقين وأمر جلي ونبوة صادقة وهي الرحمة العظيمة من الله به وبهم (فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ) أي خفيت عليكم فلم تهتدوا إليها ولا عرفتم قدرها بل بادرتم إلى تكذيبها وردها (أَنُلْزِمُكُمُوها) أي نغضبكم بقبولها وأنتم لها كارهون.

(وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٩) وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (٣٠)

يقول لقومه لا أسألكم على نصحي لكم مالا : أجرة آخذها منكم إنما أبتغي الأجر من الله عزوجل (وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا) كأنهم طلبوا منه أن يطرد المؤمنين عنه احتشاما ونفاسة منهم أن يجلسوا معهم كما سأل أمثالهم خاتم الرسل صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يطرد عنهم جماعة من الضعفاء ويجلس معهم مجلسا خاصا فأنزل الله تعالى : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) [الأنعام : ٥٢] الآية وقال تعالى : (وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) [الأنعام : ٥٣] الآيات.

(وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) (٣١)

يخبرهم أنه رسول من الله يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له بإذن الله له في ذلك ولا يسألهم على ذلك أجرا بل هو يدعو من لقيه من شريف ووضيع فمن استجاب له فقد نجا ، ويخبرهم أنه لا قدرة له على التصرف في خزائن الله ولا يعلم من الغيب إلا ما أطلعه الله عليه وليس هو بملك من الملائكة بل هو بشر مرسل مؤيد بالمعجزات ولا أقول عن هؤلاء الذين تحقرونهم وتزدرونهم إنهم ليس لهم عند الله ثواب على أعمالهم الله أعلم بما في أنفسهم فإن كانوا مؤمنين باطنا كما هو الظاهر من حالهم فلهم جزاء الحسنى ولو قطع لهم أحد بشر بعد ما آمنوا لكان ظالما قائلا ما لا علم له به.

(قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣٢) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٣٣) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٣٤)

يقول تعالى مخبرا عن استعجال قوم نوح نقمة الله وعذابه وسخطه ، والبلاء موكل بالمنطق. (قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا) أي حاججتنا فأكثرت من ذلك ونحن لا نتبعك (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) أي من النقمة والعذاب ادع علينا بما شئت فليأتنا ما تدعو به (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) أي إنما الذي يعاقبكم ويعجلها لكم الله الذي لا يعجزه شيء (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) أي أي شيء يجدي عليكم إبلاغي لكم وإنذاري إياكم ونصحي (إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) أي إغواؤكم ودماركم (هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي هو مالك أزمة الأمور المتصرف الحاكم العادل الذي لا يجور ، له الخلق وله الأمر وهو المبدئ المعيد مالك الدنيا والآخرة.

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ) (٣٥)

هذا كلام معترض في وسط هذه القصة مؤكد لها. مقرر لها يقول تعالى لمحمد : أم يقول هؤلاء الكافرون الجاحدون افترى هذا وافتعله من عنده (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي) أي فإثم ذلك علي (وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ) أي ليس ذلك مفتعلا ولا مفترى لأني أعلم ما عند الله من العقوبة لمن كذب عليه.

(وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ(٣٦) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٣٧) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (٣٨) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) (٣٩)

يخبر تعالى أنه أوحى إلى نوح لما استعجل قومه نقمة الله بهم وعذابه لهم فدعا عليهم نوح دعوته التي قال الله تعالى مخبرا عنه أنه قال : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) [نوح : ٢٦] (فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) [القمر : ١٠] فعند ذلك أوحى الله إليه (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) فلا تحزن عليهم ولا يهمنك أمرهم (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ) يعني السفينة (بِأَعْيُنِنا) أي بمرأى منا (وَوَحْيِنا) أي تعليمنا لك ما تصنعه (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) فقال بعض السلف : أمره الله تعالى أن يغرز الخشب ويقطعه وييبسه فكان ذلك في مائة سنة ونجرها في مائة سنة أخرى وقيل في أربعين سنة والله أعلم. وذكر محمد بن

إسحاق عن التوراة : أن الله أمره أن يصنعها من خشب الساج وأن يجعل طولها ثمانين ذراعا وعرضها خمسين ذراعا وأن يطلي باطنها وظاهرها بالقار وأن يجعل لها جؤجؤا أزورا (١) يشق الماء ، وقال قتادة كان طولها ثلاثمائة ذراع في عرض خمسين وعن الحسن طولها ستمائة ذارع وعرضها ثلاثمائة وعنه مع ابن عباس طولها ألف ومائتا ذراع في عرض ستمائة وقيل طولها ألفا ذارع وعرضها مائة ذراع فالله أعلم ، قالوا كلهم وكان ارتفاعها في السماء ثلاثين ذراعا ثلاث طبقات كل طبقة عشرة أذرع فالسفلى للدواب والوحوش والوسطى للإنس والعليا للطيور وكان بابها في عرضها ولها غطاء من فوقها مطبق عليها.

وقد ذكر الإمام أبو جعفر بن جرير (٢) أثرا غريبا من حديث علي بن زيد بن جدعان عن يوسف بن مهران عن عبد الله بن عباس أنه قال : قال الحواريون لعيسى ابن مريم : لو بعثت لنا رجلا شهد السفينة فحدثنا عنها قال فانطلق بهم حتى انتهى إلى كثيب من تراب فأخذ كفا من ذلك التراب بكفه فقال أتدرون ما هذا؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : هذا كعب حام بن نوح. قال فضرب الكثيب بعصاه قال قم بإذن الله فإذا هو قائم ينفض التراب عن رأسه قد شاب قال له عيسى عليه‌السلام : أهكذا هلكت؟ قال : لا. ولكني مت وأنا شاب ولكني ظننت أنها الساعة فمن ثم شبت ، قال حدثنا عن سفينة نوح؟ قال : كان طولها ألف ذراع ومائتي ذراع وعرضها ستمائة ذراع وكانت ثلاث طبقات فطبقة فيها الدواب والوحوش وطبقة فيها الإنس وطبقة فيها الطير فلما كثر روث الدواب أوحى الله عزوجل إلى نوح عليه‌السلام أن اغمز ذنب الفيل فغمزه فوقع منه خنزير وخنزيرة فأقبلا على الروث فلما وقع الفأر بجوف السفينة يقرضها وحبالها أوحى الله إليه أن اضرب بين عيني الأسد فضرب فخرج من منخره سنور وسنوره فأقبلا على الفأر ، فقال له عيسى عليه‌السلام : كيف علم نوح أن البلاد قد غرقت؟ قال : بعث الغراب يأتيه بالخبر فوجد جيفة فوقع عليها فدعا عليه بالخوف فلذلك لا يألف البيوت.

قال : ثم بعث الحمامة فجاءت بورق زيتون بمنقارها وطين برجليها فعلم أن البلاد قد غرقت قال فطوقها الخضرة التي في عنقها ودعا لها أن تكون في أنس وأمان فمن ثم تألف البيوت قال فقلنا يا رسول الله : ألا ننطلق به إلى أهلينا فيجلس معنا ويحدثنا؟ قال : كيف يتبعكم من لا رزق له؟ قال فقال له : عد بإذن الله فعاد ترابا.

وقوله : (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ) أي يهزئون به ويكذبون بما يتوعدهم به من الغرق (قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ) الآية وعيد شديد وتهديد أكيد (مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ) أي يهينه في الدنيا (وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) أي دائم مستمر أبدا.

__________________

(١) الجؤجؤ : الصدر ، وأزور : من الزور : وهو الميل. كهيئة صدر السفينة.

(٢) تفسير الطبري ٧ / ٣٦ ، ٣٧.

(حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ) (٤٠)

هذه موعدة من الله تعالى لنوح عليه‌السلام إذا جاء أمر الله من الأمطار المتتابعة والهتان (١) الذي لا يقلع ولا يفتر ، بل هو كما قال تعالى : (فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ) [القمر : ١١ ـ ١٤] وأما قوله (وَفارَ التَّنُّورُ) فعن ابن عباس التنور وجه الأرض (٢) ، أي صارت الأرض عيونا تفور حتى فار الماء من التنانير التي هي مكان النار صارت تفور ماء وهذا قول جمهور السلف وعلماء الخلف ، وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه التنور فلق الصبح وتنوير الفجر (٣) ، وهو ضياؤه وإشراقه والأول أظهر وقال مجاهد والشعبي : كان هذا التنور بالكوفة ، وعن ابن عباس عين بالهند ، وعن قتادة عين بالجزيرة يقال لها عين الوردة وهذه أقوال غريبة.

فحينئذ أمر الله نوحا عليه‌السلام أن يحمل معه في السفينة من كل زوجين اثنين من صنوف المخلوقات ذوات الأرواح ، قيل وغيرها من النباتات اثنين ذكرا وأنثى فقيل كان أول من أدخل من الطيور الدرة وآخر من أدخل من الحيوانات الحمار فتعلق إبليس بذنبه وجعل يريد أن ينهض فيثقله إبليس وهو متعلق بذنبه فجعل يقول له نوح عليه‌السلام : ما لك ويحك ادخل فينهض ولا يقدر فقال : ادخل وإن كان إبليس معك فدخلا في السفينة ، وذكر بعض السلف أنهم لم يستطيعوا أن يحملوا معهم الأسد حتى ألقيت عليه الحمى.

وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا عبد الله بن صالح كاتب الليث حدثني الليث حدثني هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لما حمل نوح في السفينة من كل زوجين اثنين قال أصحابه : وكيف تطمئن المواشي ومعها الأسد؟ فسلط الله عليه الحمى فكانت أول حمى نزلت في الأرض ، ثم شكوا الفأر فقالوا : الفويسقة تفسد علينا طعامنا ومتاعنا فأوحى الله إلى الأسد فعطس ، فخرجت الهرة منه فتخبأت الفأرة منها».

وقوله (وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) أي واحمل فيها أهلك وهم أهل بيته وقرابته إلا من سبق عليه القول منهم ممن لم يؤمن بالله فكان منهم ابنه يام الذي انعزل وحده وامرأة نوح

__________________

(١) هتنت السماء تهتن هتنا وهتونا وهتنانا وتهتانا وتهاتنت : انصبت ، أو هو فوق الهطل ، أو الضعيف الدائم ، أو مطر ساعة ثم يفتر ، ثم يعود ، وسحاب هاتن وهتون ، وكذا هتان ، كشداد ، وهتن الدمع هتونا : قطر.

(٢) انظر تفسير الطبري ٧ / ٣٨.

(٣) انظر تفسير الطبري ٧ / ٣٩.

وكانت كافرة بالله ورسوله ، وقوله (وَمَنْ آمَنَ) أي من قومك (وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) أي نزر يسير مع طول المدة والمقام بين أظهر هم ألف سنة إلا خمسين عاما ، فعن ابن عباس كانوا ثمانين نفسا منهم نساؤهم ، وعن كعب الأحبار كانوا اثنين وسبعين نفسا. وقيل كانوا عشرة ، وقيل إنما كان نوح وبنوه الثلاثة سام وحام ويافث وكنائنه (١) الأربع نساء هؤلاء الثلاثة وامرأة يام ، وقيل بل امرأة نوح كانت معهم في السفينة وهذا فيه نظر ، بل الظاهر أنها هلكت لأنها كانت على دين قومها فأصابها ما أصابهم كما أصاب امرأة لوط ما أصاب قومها ، والله أعلم وأحكم.

(وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (٤١) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (٤٢) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) (٤٣)

يقول تعالى إخبارا عن نوح عليه‌السلام أنه قال للذين أمر بحملهم معه في السفينة (ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها) أي بسم الله يكون جريها على وجه الماء ، وبسم الله يكون منتهى سيرها وهو رسوّها ، وقرأ أبو رجاء العطاردي «بسم الله مجريها ومرسيها» (٢) وقال الله تعالى : (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) [المؤمنون : ٢٨ ـ ٢٩] ولهذا تستحب التسمية في ابتداء الأمور عند الركوب على السفينة وعلى الدابة كما قال تعالى : (وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ) [الزخرف : ١٢ ـ ١٤] الآية ، وجاءت السنة بالحث على ذلك والندب إليه كما سيأتي في سورة الزخرف إن شاء الله وبه الثقة وقال أبو القاسم الطبراني حدثنا إبراهيم بن هاشم البغوي حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي وحدثنا زكريا بن يحيى الساجي حدثنا محمد بن موسى الحرشي قالا حدثنا عبد الحميد بن الحسن الهلالي عن نهشل بن سعيد عن الضحاك عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أمان أمتي من الغرق إذا ركبوا في السفن أن يقولوا بسم الله الملك (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) [الأنعام : ٩١] ـ الآية ـ (بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ).

وقوله (إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) مناسب عند ذكر الانتقام من الكافرين بإغراقهم أجمعين فذكر أنه غفور رحيم كقوله : (إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) [الأعراف : ١٦٧] وقال : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ) [الرعد : ٦] إلى غير ذلك من الآيات التي يقرن فيها بين رحمته وانتقامه وقوله : (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ) أي السفينة سائرة بهم على وجه الماء الذي قد طبق جميع الأرض حتى طفت على

__________________

(١) الكنائن : جمع كنّة ، وهي امرأة الابن أو الأخ.

(٢) انظر تفسير الطبري ٧ / ٤٤.

رؤوس الجبال وارتفع عليها بخمسة عشر ذراعا وقيل بثمانين ميلا ، وهذه السفينة جارية على وجه الماء سائرة بإذن الله وتحت كنفه وعنايته وحراسته وامتنانه كما قال تعالى : (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) [الحاقة : ١١ ـ ١٢] وقال تعالى : (وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) [القمر : ١٣ ـ ١٥].

وقوله : (وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ) الآية ، هذا هو الابن الرابع واسمه يام وكان كافرا دعاه أبوه عند ركوب السفينة أن يؤمن ويركب معهم ولا يغرق مثل ما يغرق الكافرون (قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ) وقيل إنه اتخذ له مركبا من زجاج وهذا من الإسرائيليات والله أعلم بصحته ، والذي نص عليه القرآن أنه قال : (سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ) اعتقد بجهله أن الطوفان لا يبلغ إلى رؤوس الجبال ، وأنه لو تعلق في رأس جبل لنجاه ذلك من الغرق ، فقال له أبوه نوح عليه‌السلام : (لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ) أي ليس شيء يعصم اليوم من أمر الله ، وقيل إن عاصما بمعنى معصوم كما يقال طاعم وكاس بمعنى مطعوم ومكسو (وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ).

(وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٤٤)

يخبر تعالى أنه لما أغرق أهل الأرض كلهم إلا أصحاب السفينة أمر الأرض أن تبلغ ماءها الذي نبع منها واجتمع عليها ، وأمر السماء أن تقلع عن المطر (وَغِيضَ الْماءُ) أي شرع في النقص (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) أي فرغ من أهل الأرض قاطبة ممن كفر بالله لم يبق منهم ديار (وَاسْتَوَتْ) السفينة بمن فيها (عَلَى الْجُودِيِ) قال مجاهد : وهو جبل بالجزيرة تشامخت الجبال يومئذ من الغرق وتطاولت وتواضع هو لله عزوجل فلم يغرق وأرست عليه سفينة نوحعليه‌السلام (١) وقال قتادة : استوت عليه شهرا حتى نزلوا منها ، قال قتادة : قد أبقى الله سفينة نوح عليه‌السلام على الجودي من أرض الجزيرة عبرة وآية حتى رآها أوائل هذه الأمة وكم من سفينة قد كانت بعدها فهلكت وصارت رمادا (٢).

وقال الضحاك : الجودي جبل بالموصل (٣) وقال بعضهم : هو الطور ، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا عمرو بن رافع حدثنا محمد بن عبيد عن توبة بن سالم قال : رأيت زر بن حبيش يصلي في الزاوية حين يدخل من أبواب كندة على يمينك فسألته إنك لكثير الصلاة هاهنا

__________________

(١) تفسير الطبري ٧ / ٤٨.

(٢) انظر تفسير الطبري ٧ / ٤٨.

(٣) انظر تفسير الطبري ٧ / ٤٨.

يوم الجمعة قال بلغني أن سفينة نوح أرست من هاهنا. وقال علباء بن أحمر عن عكرمة عن ابن عباس قال : كان مع نوح في السفينة ثمانون رجلا معهم أهلوهم وإنهم كانوا فيها مائة وخمسين يوما وإن الله وجه السفينة إلى مكة فطافت بالبيت أربعين يوما ثم وجهها الله إلى الجودي فاستقرت عليه فبعث نوح الغراب ليأتيه بخبر الأرض فذهب فوقع على الجيف فأبطأ عليه فبعث الحمامة فأتته بورق الزيتون فلطخت رجليها بالطين فعرف نوح عليه‌السلام أن الماء قد نضب فهبط إلى أسفل الجودي فابتنى قرية ، وسماها ثمانين فأصبحوا ذات يوم وقد تبلبلت ألسنتهم على ثمانين لغة أحدها اللسان العربي ، فكان بعضهم لا يفقه كلام بعض فكان نوح عليه‌السلام يعبر عنهم.

وقال كعب الأحبار : إن السفينة طافت ما بين المشرق والمغرب قبل أن تستقر على الجودي ، وقال قتادة وغيره : ركبوا في عاشر شهر رجب فساروا مائة وخمسين يوما واستقرت بهم على الجودي شهرا وكان خروجهم من السفينة في يوم عاشوراء من المحرم ، وقد ورد نحو هذا في حديث مرفوع رواه ابن جرير (١) وأنهم صاموا يومهم ذلك والله أعلم.

وقال الإمام أحمد (٢) حدثنا أبو جعفر حدثنا عبد الصمد بن حبيب الأزدي عن أبيه حبيب بن عبد الله عن شبل عن أبي هريرة قال : مر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأناس من اليهود وقد صاموا يوم عاشوراء فقال «ما هذا الصوم؟ قالوا هذا اليوم الذي نجى الله به موسى وبني إسرائيل من الغرق وغرق فيه فرعون وهذا يوم استوت فيه السفينة على الجودي فصام نوح وموسى عليهما‌السلام شكرا لله عزوجل. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنا أحق بموسى وأحق بصوم هذا اليوم» فصام وقال لأصحابه : «من كان أصبح منكم صائما فليتم صومه ، ومن كان أصاب من غذاء أهله فليتم بقية يومه» (٣) وهذا حديث غريب من هذا الوجه ولبعضه شاهد في الصحيح ، وقوله : (وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي هلاكا وخسارا لهم وبعدا من رحمة الله فإنهم قد هلكوا عن آخرهم فلم يبق لهم بقية.

وقد روى الإمام أبو جعفر بن جرير (٤) والحبر أبو محمد بن أبي حاتم في تفسيريهما من حديث موسى بن يعقوب الزمعي عن فائد مولى عبيد الله بن أبي رافع أن إبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي ربيعة أخبره أن عائشة زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبرته أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لو رحم الله من قوم نوح أحدا لرحم أم الصبي» قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كان نوح عليه‌السلام مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يعني وغرس مائة سنة الشجر فعظمت وذهبت كل مذهب ثم

__________________

(١) تفسير الطبري ٧ / ٤٨ ، ٤٩.

(٢) المسند ٢ / ٣٥٩ ، ٣٦٠.

(٣) أخرجه البخاري في تفسير سورة ١٠ ، باب ١ ، ومسلم في الصيام حديث ١٢٦.

(٤) تفسير الطبري ٧ / ٤٨ ، ٤٩.

قطعها ثم جعلها سفينة ويمرون عليه ويسخرون منه ويقولون تعمل سفينة في البر فكيف تجري؟ قال سوف تعلمون فلما فرغ ونبع الماء وصار في السكك خشيت أم الصبي عليه وكانت تحبه حبا شديدا فخرجت إلى الجبل حتى بلغت ثلثه فلما بلغها الماء ارتفعت حتى بلغت ثلثيه فلما بلغها الماء خرجت به حتى استوت على الجبل فلما بلغ الماء رقبتها رفعته بيديها فغرقا ، فلو رحم الله منهم أحدا لرحم أم الصبي» وهذا حديث غريب من هذا الوجه ، وقد روي عن كعب الأحبار ومجاهد بن جبير قصة هذا الصبي وأمه بنحو من هذا.

(وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ(٤٥) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٤٦) قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٤٧)

هذا سؤال استعلام وكشف من نوح عليه‌السلام عن حال ولده الذي غرق قال (رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) أي وقد وعدتني بنجاة أهلي ووعدك الحق الذي لا يخلف فكيف غرق وأنت أحكم الحاكمين (قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) أي الذين وعدت إنجاءهم لأني إنما وعدتك بنجاة من آمن من أهلك ، ولهذا قال : (وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ) فكان هذا الولد ممن سبق عليه القول بالغرق لكفره ومخالفته أباه نبي الله نوحا عليه‌السلام.

وقد نص غير واحد من الأئمة على تخطئة من ذهب في تفسير هذا إلى أنه ليس بابنه وإنما كان ابن زنية ، ويحكى القول بأنه ليس بابنه وإنما كان ابن امرأته عن مجاهد والحسن وعبيد بن عمير وأبي جعفر الباقر وابن جرير ، واحتج بعضهم بقوله : (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) وبقوله : (فَخانَتاهُما) فممن قاله الحسن البصري احتج بهاتين الآيتين وبعضهم يقول ابن امرأته وهذا يحتمل أن يكون أراد ما أراد الحسن أو أراد أنه نسب إليه مجازا لكونه كان ربيبا عنده فالله أعلم. وقال ابن عباس وغير واحد من السلف : ما زنت امرأة نبي قط قال : وقوله : (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) أي الذين وعدتك نجاتهم.

وقول ابن عباس في هذا هو الحق الذي لا محيد عنه فإن الله سبحانه أغير من أن يمكن امرأة نبي من الفاحشة ولهذا غضب الله على الذين رموا أم المؤمنين عائشة بنت الصديق زوج النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنكر على المؤمنين الذين تكلموا بهذا وأشاعوه ولهذا قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ ـ إلى قوله ـ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ) [النور : ١١ ـ ١٥].

وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن قتادة وغيره عن عكرمة عن ابن عباس قال : هو ابنه غير أنه خالفه في العمل والنية قال عكرمة في بعض الحروف إنه عمل عملا غير صالح ، والخيانة

تكون على غير باب ، وقد ورد في الحديث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ بذلك فقال الإمام أحمد (١) حدثنا يزيد بن هارون حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد قالت : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) وسمعته يقول : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) ولا يبالي (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) وقال أحمد (٢) أيضا حدثنا وكيع حدثنا هارون النحوي عن ثابت البناني عن شهر بن حوشب عن أم سلمة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأها (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) أعاده أحمد (٣) أيضا في مسنده.

أم سلمة هي أم المؤمنين والظاهر والله أعلم أنها أسماء بنت يزيد فإنها تكنى بذلك أيضا (٤).

وقال عبد الرزاق أيضا أنبأنا الثوري عن ابن عيينة عن موسى بن أبي عائشة عن سليمان بن قبة قال سمعت ابن عباس سئل وهو إلى جنب الكعبة عن قول الله : (فَخانَتاهُما) قال : أما إنه لم يكن بالزنا ولكن كانت هذه تخبر الناس أنه مجنون ، وكانت هذه تدل على الأضياف ثم قرأ (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) قال ابن عيينة وأخبرني عمار الدهني أنه سأل سعيد بن جبير عن ذلك فقال: كان ابن نوح إن الله لا يكذب. قال تعالى : (وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ) قال وقال بعض العلماء : ما فجرت امرأة نبي قط. وكذا روي عن مجاهد أيضا وعكرمة والضحاك وميمون بن مهران وثابت بن الحجاج وهو اختيار أبي جعفر بن جرير وهو الصواب الذي لا شك فيه.

(قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) (٤٨)

يخبر تعالى عما قيل لنوح عليه‌السلام حين أرست السفينة على الجودي من السلام عليه وعلى من معه من المؤمنين وعلى كل مؤمن من ذريته إلى يوم القيامة كما قال محمد بن كعب : دخل في هذا السلام كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة وكذلك في العذاب والمتاع كل كافر وكافرة إلى يوم القيامة (٥).

وقال محمد بن إسحاق : لما أراد الله أن يكف الطوفان أرسل ريحا على وجه الأرض فسكن الماء وانسدت ينابيع الأرض الغمر الأكبر وأبواب السماء يقول الله تعالى : (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ) الآية فجعل الماء ينقص ويغيض ويدبر وكان استواء الفلك على الجودي

__________________

(١) المسند ٦ / ٤٥٤.

(٢) المسند ٦ / ٢٩٤.

(٣) المسند ٦ / ٣٢٢.

(٤) انظر تفسير الطبري ٧ / ٥٣.

(٥) انظر تفسير الطبري ٧ / ٥٥.

فيما يزعم أهل التوراة في الشهر السابع لسبع عشرة ليلة مضت منه في أول يوم من الشهر العاشر رأى رؤوس الجبال فلما مضى بعد ذلك أربعون يوما فتح نوح كوة الفلك التي ركب فيها ثم أرسل الغراب لينظر له ما صنع الماء فلم يرجع إليه فأرسل الحمامة فرجع إليه لم تجد لرجليها موضعا فبسط يده للحمامة فأخذها فأدخلها ثم مضى سبعة أيام ثم أرسلها لتنظر له فرجعت حين أمست وفي فيها ورق زيتون فعلم نوح أن الماء قد قل عن وجه الأرض ثم مكث سبعة أيام ثم أرسلها فلم ترجع فعلم نوح أن الأرض قد برزت فلما كملت السنة فيما بين أن أرسل الله الطوفان إلى أن أرسل نوح الحمامة ودخل يوم واحد من الشهر الأول من سنة اثنتين برز وجه الأرض وظهر البر وكشف نوح غطاء الفلك وفي الشهر الثاني من سنة اثنتين في ست وعشرين ليلة منه (قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا) (١) الآية.

(تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) (٤٩)

يقول تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه القصة وأشباهها : (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) يعني من أخبار الغيوب السالفة نوحيها إليك على وجهها كأنك شاهدها نوحيها إليك أي نعلمك بها وحيا منا إليك (ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا) أي لم يكن عندك ولا عند أحد من قومك علم بها حتى يقول من يكذبك إنك تعلمتها منه بل أخبرك الله بها مطابقة لما كان عليه الأمر الصحيح كما تشهد به كتب الأنبياء قبلك فاصبر على تكذيب من كذبك من قومك وأذاهم لك فإنا سننصرك ونحوطك بعنايتنا ونجعل العاقبة لك ولأتباعك في الدنيا والآخرة كما فعلنا بالمرسلين حيث نصرناهم على أعدائهم (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا) [غافر : ٥١] الآية وقال تعالى : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ) [الصافات : ١٧١ ـ ١٧٢] الآية وقال تعالى : (فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) [هود : ٤٩].

وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (٥٠) يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (٥١) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) (٥٢)

يقول تعالى (وَ) لقد أرسلنا (إِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً) آمرا لهم بعبادة الله وحده لا شريك له ناهيا لهم عن الأوثان التي افتروها واختلقوا لها أسماء الآلهة وأخبرهم أنه لا يريد منهم أجرة على هذا النصح والبلاغ من الله إنما يبغي ثوابه من الله الذي فطره أفلا تعقلون من يدعوكم إلى

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧.

ما يصلحكم في الدنيا والآخرة من غير أجرة ثم أمرهم بالاستغفار الذي فيه تكفير الذنوب السالفة وبالتوبة عما يستقبلون ، ومن اتصف بهذه الصفة يسر الله عليه رزقه وسهل عليه أمره وحفظ شأنه ولهذا قال : (يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) [هود : ٥٢ ونوح : ١١] وفي الحديث «من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا ورزقه من حيث لا يحتسب»(١).

(قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ(٥٣) إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (٥٥) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٥٦)

يخبر تعالى أنهم قالوا لنبيهم (ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ) أي بحجة وبرهان على ما تدعيه (وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ) أي بمجرد قولك اتركوهم نتركهم (وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) بمصدقين (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ) يقولون : ما نظن إلا أن بعض الآلهة أصابك بجنون وخبل في عقلك بسبب نهيك عن عبادتها وعيبك لها (قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ) يقول : إني بريء من جميع الأنداد والأصنام (فَكِيدُونِي جَمِيعاً) أي أنتم وآلهتكم إن كانت حقا (ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ) أي طرفة عين وقوله : (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها) أي تحت قهره وسلطانه وهو الحاكم العادل الذي لا يجور في حكمه فإنه على صراط مستقيم.

قال الوليد بن مسلم عن صفوان بن عمرو عن أيفع بن عبد الكلاعي أنه قال في قوله تعالى: (ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) قال : فيأخذ بنواصي عباده فيلقن المؤمن حتى يكون له أشفق من الوالد لولده ويقول : (ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) وقد تضمن هذا المقام حجة بالغة ودلالة قاطعة على صدق ما جاءهم به وبطلان ما هم عليه من عبادة الأصنام التي لا تنفع ولا تضر بل هي جماد لا تسمع ولا تبصر ولا توالي ولا تعادي وإنما يستحق إخلاص العبادة الله وحده لا شريك له الذي بيده الملك وله التصرف وما من شيء إلا تحت ملكه وقهره وسلطانه فلا إله إلا هو ولا رب سواه.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٥٧) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٨) وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (٥٩) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ) (٦٠)

__________________

(١) أخرجه أبو داود في الوتر باب ٢٦ ، وابن ماجة في الأدب باب ٥٧ ، وأحمد في المسند ١ / ٢٤٨.

يقول لهم هود : فإن تولوا عما جئتكم به من عبادة الله ربكم وحده لا شريك له فقد قامت عليكم الحجة بإبلاغي إياكم رسالة الله التي بعثني بها (وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ) يعبدونه وحده لا يشركون به ولا يبالي بكم فإنكم لا تضرونه بكفركم بل يعود وبال ذلك عليكم (إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) أي شاهد وحافظ لأقوال عباده وأفعالهم ويجزيهم عليها إن خيرا فخير وإن شرا فشر (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) وهو الريح العقيم فأهلكهم الله عن آخرهم ونجى هودا وأتباعه من عذاب غليظ برحمته تعالى ولطفه.

(وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) كفروا بها وعصوا رسل الله وذلك أن من كفر بنبي فقد كفر بجميع الأنبياء لأنه لا فرق بين أحد منهم في وجوب الإيمان به فعاد كفروا بهود فنزل كفرهم منزلة من كفر بجميع الرسل (وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) تركوا اتباع رسولهم الرشيد؟ واتبعوا أمر كل جبار عنيد ، فلهذا أتبعوا في الدنيا لعنة من الله ومن عباده المؤمنين كلما ذكروا وينادى عليهم يوم القيامة على رؤوس الأشهاد (أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ) الآية قال السدي : ما بعث نبي بعد عاد إلا لعنوا على لسانه.

(وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ) (٦١)

يقول تعالى : (وَ) لقد أرسلنا (إِلى ثَمُودَ) وهم الذين كانوا يسكنون مدائن الحجر بين تبوك والمدينة وكانوا بعد عاد فبعث الله منهم (أَخاهُمْ صالِحاً) فأمرهم بعبادة الله وحده ولهذا قال : (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) أي ابتدأ خلقكم منها خلق منها أباكم آدم (وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها) أي جعلكم عمارا تعمرونها وتستغلونها (فَاسْتَغْفِرُوهُ) لسالف ذنوبكم (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) فيما تستقبلونه (إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ) كما قال تعالى : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) [البقرة : ١٨٦] الآية.

(قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٦٢) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ) (٦٣)

يذكر تعالى ما كان من الكلام بين صالح عليه‌السلام وبين قومه وما كان من الجهل والعناد في قولهم (قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا) أي كنا نرجوك في عقلك قبل أن تقول ما قلت (أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) وما كان عليه أسلافنا (وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) أي شك كثير (قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) فيما أرسلني به إليكم على يقين وبرهان (وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ) وتركت دعوتكم إلى الحق

وعبادة الله وحده ، فلو تركته لما نفعتموني ولما زدتموني (غَيْرَ تَخْسِيرٍ) أي خسارة.

(وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (٦٤) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (٦٥) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (٦٦) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٦٧) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ) (٦٨)

تقدم الكلام على هذه القصة مستوفى في سورة الأعراف بما أغنى عن إعادته هاهنا وبالله التوفيق.

(وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (٦٩) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (٧٠) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ(٧١) قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (٧٢) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) (٧٣)

يقول تعالى : (وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا) وهم الملائكة إبراهيم بالبشرى قيل تبشره بإسحاق وقيل بهلاك قوم لوط ويشهد للأول قوله تعالى : (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ) [هود : ٧٤] (قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ) أي عليكم قال علماء البيان : هذا أحسن مما حيوه به لأن الرفع يدل على الثبوت والدوام (فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) أي ذهب سريعا فأتاهم بالضيافة وهو عجل فتى البقر ، حنيذ : مشوي على الرضف وهي الحجارة المحماة. هذا معنى ما روي عن ابن عباس وقتادة وغير واحد كما قال في الآية الأخرى (فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ) [الذاريات : ٢٦ ـ ٢٧] وقد تضمنت هذه الآية آداب الضيافة من وجوه كثيرة.

وقوله : (فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ) تنكرهم (وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) وذلك أن الملائكة لا همة لهم إلى الطعام ولا يشتهونه ولا يأكلونه فلهذا رأى حالهم معرضين عما جاءهم به فارغين عنه بالكلية فعند ذلك نكرهم (وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً).

قال السدي : لما بعث الله الملائكة لقوم لوط أقبلت تمشي في صور رجال شبان حتى نزلوا على إبراهيم فتضيفوه ، فلما رآهم أجلهم (فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ) فذبحه ثم شواه في الرضف وأتاهم به فقعد معهم وقامت سارة تخدمهم فذلك حين يقول ـ وامرأته قائمة وهو جالس ـ في قراءة ابن مسعود فلما فقربه (إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ) قالوا : يا إبراهيم إنا لا نأكل طعاما إلا بثمن ، قال فإن لهذا ثمنا ، قالوا : وما ثمنه؟ قال تذكرون اسم الله على أوله

وتحمدونه على آخره فنظر جبريل إلى ميكائيل فقال حق لهذا أن يتخذه ربه خليلا (فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ) يقول فلما رآهم لا يأكلون فزع منهم وأوجس منهم خيفة ، فلما نظرت سارة أنه قد أكرمهم وقامت هي تخدمهم ضحكت وقالت : عجبا لأضيافنا هؤلاء نخدمهم بأنفسنا كرامة لهم وهم لا يأكلون طعامنا (١).

وقال ابن حاتم حدثنا علي بن الحسين حدثنا نصر بن علي حدثنا نوح بن قيس عن عثمان بن محصن في ضيف إبراهيم قال كانوا أربعة : جبريل وميكائيل وإسرافيل ورفائيل. قال نوح بن قيس فزعم نوح بن أبي شداد أنهم لما دخلوا على إبراهيم فقرب إليهم العجل مسحه جبريل بجناحه فقام يدرج حتى لحق بأمه وأم العجل في الدار ، وقوله تعالى إخبارا عن الملائكة : (قالُوا لا تَخَفْ) أي قالوا لا تخف منا إنا ملائكة أرسلنا إلى قوم لوط لنهلكهم ، فضحكت سارة استبشارا بهلاكهم لكثرة فسادهم وغلظ كفرهم فلهذا جوزيت. بالبشارة بالولد بعد الإياس ، وقال قتادة ضحكت وعجبت أن قوما يأتيهم العذاب وهم في غفلة (٢).

وقوله : (وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) قال العوفي عن ابن عباس فضحكت أي حاضت ، وقول محمد بن قيس : إنها إنما ضحكت من أنها ظنت أنهم يريدون أن يعملوا كما يعمل قوم لوط. وقول الكلبي : إنها إنما ضحكت لما رأت من الروع بإبراهيم ضعيفان ووجدا وإن كان ابن جرير قد رواهما بسنده إليهما فلا يلتفت إلى ذلك والله أعلم.

وقال وهب بن منبه : إنما ضحكت لما بشرت بإسحاق وهذا مخالف لهذا السياق فإن البشارة صريحة مرتبة على ضحكها (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) أي بولد لها يكون له ولد وعقب ونسل فإن يعقوب ولد إسحاق كما قال في آية البقرة (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) [البقرة : ١٣٣].

ومن هاهنا استدل من استدل بهذه الآية على أن الذبيح إنما هو إسماعيل ، وأنه يمتنع أن يكون هو إسحاق لأنه وقعت البشارة به وأنه سيولد له يعقوب فكيف يؤمر إبراهيم بذبحه وهو طفل صغير ولم يولد له بعد يعقوب الموعود بوجوده ووعد الله حق لا خلف فيه فيمتنع أن يؤمر بذبح هذا والحالة هذه ، فتعين أن يكون إسماعيل وهذا من أحسن الاستدلال وأصحه وأبينه ولله الحمد (قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً) الآية حكي قولها في هذه الآية كما حكي فعلها في الآية الأخرى فإنها (قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ) وفي الذاريات (فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ) [الذاريات : ٢٩] كما جرت به

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٧٠ ، ٧١.

(٢) تفسير الطبري ٧ / ٧١.

عادة النساء في أقوالهن وأفعالهن عند التعجب (قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) أي قالت الملائكة لها لا تعجبي من أمر الله فإنه إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون. فلا تعجبي من هذا وإن كنت عجوزا عقيما وبعلك شيخا كبيرا فإن الله على ما يشاء قدير.

(رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) أي هو الحميد في جميع أفعاله وأقواله محمود ممجد في صفاته وذاته ، ولهذا ثبت في الصحيحين أنهم قالوا : قد علمنا السلام عليك فكيف الصلاة عليك يا رسول الله؟ «قال قولوا اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم ، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد» (١).

(فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (٧٤) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (٧٥) يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) (٧٦)

يخبر تعالى عن إبراهيم عليه‌السلام أنه لما ذهب عنه الروع وهو ما أوجس من الملائكة خيفة حين لم يأكلوا وبشروه بعد ذلك بالولد وأخبروه بهلاك قوم لوط أخذ يقول كما قال سعيد بن جبير في الآية قال : لما جاءه جبريل ومن معه قالوا له : (إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ) قال لهم : أتهلكون قرية فيها ثلاثمائة مؤمن؟ قالوا : لا ، قال : أفتهلكون قرية فيها مائتا مؤمن؟ قالوا : لا ، قال أفتهلكون قرية فيها أربعون مؤمنا؟ قالوا : لا ، قال ثلاثون؟ قالوا : لا ، حتى بلغ خمسة قالوا: لا ، قال : أرأيتكم إن كان فيها رجل مسلم واحد أتهلكونها؟ قالوا : لا ، فقال إبراهيمعليه‌السلام عند ذلك : (إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ) [العنكبوت : ٣٢] الآية. فسكت عنهم واطمأنت نفسه (٢).

وقال قتادة وغيره قريبا من هذا زاد ابن إسحاق أفرأيتم إن كان فيها مؤمن واحد؟ قالوا : لا ، قال : فإن كان فيها لوط يدفع به عنهم العذاب قالوا : (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها) [العنكبوت: ٣٢] الآية ، وقوله : (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ) مدح لإبراهيم بهذه الصفات الجميلة ، وقد تقدم تفسيرها ، وقوله تعالى : (يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) الآية ، أي أنه قد نفذ فيهم القضاء وحقت عليهم الكلمة بالهلاك وحلول البأس الذي لا يرد عن القوم المجرمين.

(وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (٧٧) وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (٧٨) قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ) (٧٩)

__________________

(١) أخرجه البخاري في الأنبياء باب ١٠ ، ومسلم في الصلاة حديث ٦٥ ، ٦٦ ، ٦٩.

(٢) انظر تفسير الطبري ٧ / ٧٧.

يخبر تعالى عن قدوم رسله من الملائكة بعد ما أعلموا إبراهيم بهلاكهم وفارقوه وأخبروه بإهلاك الله قوم لوط هذه الليلة فانطلقوا من عنده فأتوا لوطا عليه‌السلام وهو على ما قيل في أرض له وقيل في منزله ووردوا عليه وهم في أجمل صورة تكون على هيئة شبان حسان الوجوه ابتلاء من الله وله الحكمة والحجة البالغة فساءه شأنهم وضاقت نفسه بسببهم وخشي إن لم يضيفهم أن يضيفهم أحد من قومه فينالهم بسوء (وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ) قال ابن عباس وغير واحد : شديد بلاؤه (١) وذلك أنه علم أنه سيدافع عنهم ويشق عليه ذلك.

وذكر قتادة أنهم أتوه وهو في أرض له فتضيفوه فاستحيا منهم فانطلق أمامهم وقال لهم في أثناء الطريق كالمعرض لهم بأن ينصرفوا عنه : إنه والله يا هؤلاء ما أعلم على وجه الأرض أهل بلد أخبث من هؤلاء. ثم مشى قليلا ثم أعاد ذلك عليهم حتى كرره أربع مرات ، قال قتادة وقد كانوا أمروا أن لا يهلكوهم حتى يشهد عليهم نبيهم بذلك (٢).

وقال السدي خرجت الملائكة من عند إبراهيم نحو قرية لوط فبلغوا نهر سدوم نصف النهار ولقوا بنت لوط تستقي فقالوا يا جارية هل من منزل؟ فقالت مكانكم حتى آتيكم وفرقت (٣) عليهم من قومها فأتت أباها فقالت يا أبتاه أدرك فتيانا على باب المدينة ما رأيت وجوه قوم أحسن منهم لا يأخذهم قومك وكان قومه نهوه أن يضيف رجلا فقالوا خل عنا فلنضيف الرجال فجاء بهم فلم يعلم بهم أحد إلا أهل بيته فخرجت امرأته فأخبرت قومها فجاؤوا يهرعون إليه (٤).

وقوله : (يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ) أي يسرعون ويهرولون من فرحهم بذلك وقوله : (وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) أي لم يزل هذا من سجيتهم حتى أخذوا وهم على ذلك الحال وقوله : (قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) يرشدهم إلى نسائهم فإن النبي للأمة بمنزلة الوالد فأرشدهم إلى ما هو أنفع لهم في الدنيا والآخرة كما قال لهم في الآية الأخرى : (أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ) [الشعراء : ١٦٥ ـ ١٦٦] وقوله في الآية الأخرى : (قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ) أي ألم ننهك عن ضيافة الرجال (قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) [الحجر : ٧١ ـ ٧٢] وقال في هذه الآية الكريمة : (هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) قال مجاهد لم يكن بناته ولكن كن من أمته وكل نبي أبو أمته (٥) وكذا روي عن قتادة وغير واحد.

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٨١.

(٢) تفسير الطبري ٧ / ٨٠.

(٣) فرقت عليهم : أي خافت عليهم.

(٤) تفسير الطبري ٧ / ٨٠.

(٥) تفسير الطبري ٧ / ٨٢.

وقال ابن جريج : أمرهم أن يتزوجوا النساء ولم يعرض عليهم سفاحا (١) ، وقال سعيد بن جبير : يعني نساءهم هن بناته وهو أب لهم ويقال في بعض القراءات النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم [الأحزاب : ٦] وكذا روي عن الربيع بن أنس وقتادة والسدي ومحمد بن إسحاق وغيرهم وقوله : (فَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي) أي اقبلوا ما آمركم به من الاقتصار على نسائكم (أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ) أي فيه خير يقبل ما آمره به ويترك ما أنهاه عنه (قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍ) أي إنك لتعلم أن نساءنا لا أرب لنا فيهن ولا نشتهيهن (وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ) أي ليس لنا غرض إلا في الذكور وأنت تعلم ذلك فأي حاجة في تكرار القول علينا في ذلك؟ قال السدي (وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ) إنما نريد الرجال (٢).

(قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (٨٠) قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ) (٨١)

يقول تعالى مخبرا عن نبيه لوط عليه‌السلام إن لوطا توعدهم بقوله : (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً) الآية أي لكنت نكلت بكم وفعلت بكم الأفاعيل بنفسي وعشيرتي ، ولهذا ورد في الحديث من طريق محمد بن عمرو بن علقمة بن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «رحمة الله على لوط لقد كان يأوي إلى ركن شديد ـ يعني الله عزوجل ـ فما بعث الله بعده من نبي إلا في ثروة (٣) من قومه» (٤) فعند ذلك أخبرته الملائكة أنهم رسل الله إليهم وأنهم لا وصول لهم إليه.

(قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ) وأمروه أن يسري بأهله من آخر الليل وأن يتبع أدبارهم أي يكون ساقة لأهله (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ) أي إذا سمعت ما نزل بهم ولا تهولنكم تلك الأصوات المزعجة ولكن استمروا ذاهبين (إِلَّا امْرَأَتَكَ) قال الأكثرون هو استثناء من المثبت وهو قوله : (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ) تقديره (إِلَّا امْرَأَتَكَ) وكذلك قرأها ابن مسعود ، ونصب هؤلاء امرأتك لأنه من مثبت فوجب نصبه عندهم ، وقال آخرون من القراء والنحاة هو استثناء من قوله (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ) فجوزوا الرفع والنصب.

وذكر هؤلاء أنها خرجت معهم وأنها لما سمعت الوجبة (٥) التفتت وقالت : وا قوماه فجاءها

__________________

(١) تفسير الطبري ٧ / ٨٣.

(٢) انظر تفسير الطبري ٧ / ٨٤.

(٣) في ثروة من قومه : أي في عدد كثير من قومه.

(٤) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ١٢ ، باب ٢ ، وأحمد في المسند ٢ / ٣٣٢ ، ٣٨٤.

(٥) الوجبة : الرجفة.

حجر من السماء فقتلها ثم قربوا له هلاك قومه تبشيرا له لأنه قال لهم أهلكوهم الساعة فقالوا (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ) هذا وقوم لوط وقوف على الباب عكوف قد جاءوا يهرعون إليه من كل جانب ولوط واقف على الباب يدافعهم ويردعهم وينهاهم عما هم فيه وهم لا يقبلون منه بل يتوعدونه ويتهددونه فعند ذلك خرج عليهم جبريل عليه‌السلام فضرب وجوههم بجناحه فطمس أعينهم فرجعوا وهم لا يهتدون الطريق كما قال تعالى : (وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ) [القمر : ٣٧] الآية.

وقال معمر عن قتادة عن حذيفة بن اليمان قال : كان إبراهيم عليه‌السلام يأتي قوم لوط فيقول أنهاكم الله أن تعرضوا لعقوبته فلم يطيعوه حتى إذا بلغ الكتاب أجله انتهت الملائكة إلى لوط وهو يعمل في أرض له فدعاهم إلى الضيافة فقالوا إنا ضيوفك الليلة وكان الله قد عهد إلى جبريل ألا يعذبهم حتى يشهد عليهم لوط ثلاث شهادات فلما توجه بهم لوط إلى الضيافة ذكر ما يعمل قومه من الشر فمشى معهم ساعة ثم التفت إليهم فقال أما تعلمون ما يعمل أهل هذه القرية؟ ما أعلم على وجه الأرض شرا منهم أين أذهب بكم؟ إلى قومي وهم أشر خلق الله ، فالتفت جبريل إلى الملائكة فقال احفظوها هذه واحدة ثم مشى معهم ساعة فلما توسط القرية. وأشفق عليهم واستحيا منهم قال أما تعلمون ما يعمل أهل هذه القرية؟ ما أعلم على وجه الأرض أشر منهم إن قومي أشر خلق الله فالتفت جبريل إلى الملائكة فقال احفظوها هاتان اثنتان ، فلما انتهى إلى باب الدار بكى حياء منهم وشفقة عليهم فقال : إن قومي أشر خلق الله؟ أما تعلمون ما يعمل أهل هذه القرية؟ ما أعلم على وجه الأرض أهل قرية شرا منهم.

فقال جبريل للملائكة احفظوا هذه ثلاث قد حق العذاب فلما دخلوا ذهبت عجوز السوء فصعدت فلوحت بثوبها فأتاها الفساق يهرعون سراعا قالوا ما عندك؟ قالت ضيف لوط قوما ما رأيت قط أحسن وجوها منهم ولا أطيب ريحا منهم فهرعوا يسارعون إلى الباب فعالجهم لوط على الباب فدافعوه طويلا وهو داخل وهم خارج يناشدهم الله ويقول : (هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) فقام الملك فلز بالباب ـ يقول فشده ـ واستأذن جبريل في عقوبتهم فأذن الله له فقام في الصورة التي يكون فيها في السماء ، فنشر جناحه ـ ولجبريل جناحان ـ وعليه وشاح من در منظوم وهو براق الثنايا أجلى الجبين ورأسه حبك حبك مثل المرجان (١) وهو اللؤلؤ كأنه الثلج ورجلاه إلى الخضرة فقال : يا لوط (إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ) امض يا لوط عن الباب ودعني وإياهم ، فتنحى لوط عن الباب فخرج إليهم فنشر جناحه فضرب به وجوههم شدخ أعينهم فصاروا عميا لا يعرفون الطريق ، ثم أمر لوطا فاحتمل بأهله في ليلته قال : (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) (٢) وروي عن محمد بن كعب وقتادة والسدي نحو هذا.

__________________

(١) أي شعرة جعد متكسر.

(٢) انظر تفسير الطبري ٧ / ٩٠.

(فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (٨٢) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) (٨٣)

يقول تعالى : (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) وكان ذلك عند طلوع الشمس (جَعَلْنا عالِيَها) وهي سدوم (سافِلَها) كقوله : (فَغَشَّاها ما غَشَّى) [النجم : ٥٤] أي أمطرنا عليها حجارة من سجيل وهي بالفارسية حجارة من طين قاله ابن عباس وغيره وقال بعضهم أي من سنك وهو الحجر وكل وهو الطين وقد قال في الآية الأخرى (حِجارَةً مِنْ طِينٍ) [الذاريات : ٢٣] أي مستحجرة قوية شديدة ، وقال بعضهم مشوية ، وقال البخاري (١) سجيل : الشديد الكبير ، سجيل وسجين اللام والنون أختان ، وقال تميم بن مقبل : [البسيط]

ورجلة يضربون البيض صاحبة

ضربا تواصت به الأبطال سجّينا (٢)

وقوله : (مَنْضُودٍ) قال بعضهم : في السماء أي معدة لذلك وقال آخرون : (مَنْضُودٍ) أي يتبع بعضها بعضا في نزولها عليهم وقوله : (مُسَوَّمَةً) أي معلمة مختومة عليها أسماء أصحابها كل حجر مكتوب عليه اسم الذي ينزل عليه وقال قتادة وعكرمة : (مُسَوَّمَةً) مطوقة بها نضح من حمرة وذكروا أنها نزلت على أهل البلد وعلى المتفرقين في القرى مما حولها فبينا أحدهم يكون عند الناس يتحدث إذ جاءه حجر من السماء فسقط عليه من بين الناس فدمره فتتبعهم الحجارة من سائر البلاد حتى أهلكتهم عن آخرهم فلم يبق منهم أحد.

وقال مجاهد : أخذ جبريل قوم لوط من سرحهم ودورهم حملهم بمواشيهم وأمتعتهم ورفعهم حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم ثم أكفأهم ، وكان حملهم على حوافي جناحه الأيمن قال ولما قلبها كان أول ما سقط منها شرفاتها ، وقال قتادة بلغنا أن جبريل أخذ بعروة القرية الوسطى ثم ألوى (٣) بها إلى جو السماء حتى سمع أهل السماء ضواغي كلابهم (٤) ثم دمر بعضهم على بعض ثم أتبع شذاذ القوم صخرا قال وذكر لنا أنهم كانوا أربع قرى في كل قرية مائة ألف وفي رواية ثلاث قرى الكبرى منها سدوم ، قال وبلغنا أن إبراهيم عليه‌السلام كان يشرف

__________________

(١) كتاب التفسير ، تفسير سورة ١١ ، باب ٢.

(٢) يروى صدر البيت :

ورجلة يضربون البيض عن عرض

وهو لابن مقبل في ديوانه ص ٣٣٣ ، ولسان العرب (رجل) ، (سجل) ، (سجن) ، (سخن) ، وتهذيب اللغة ١٠ / ٥٨٦ ، ٥٩٥ ، ١١ / ٢٩ ، وجمهرة اللغة ص ٤٦٤ ، ١١٩٢ ، ومقاييس اللغة ٣ / ١٣٧ ، ومجمل اللغة ٣ / ١٢٢ ، وتاج العروس (رجل) ، (سجل) ، (سجن) ، وبلا نسبة في ديوان الأدب ١ / ٣٤١ ، وتفسير الطبري ٧ / ٩٢ (الشطر الثاني فقط)

(٣) ألوى بها إلى جو السماء : أي أخذها وطار بها.

(٤) ضواغي كلابهم : أي صوت كلابهم ، أو نباح كلابهم.

على سدوم ويقول : سدوم يوم هالك (١).

وفي رواية عن قتادة وغيره قال وبلغنا أن جبريل عليه‌السلام لما أصبح نشر جناحه فانتسف بها أرضهم بما فيها من قصورها ودوابها وحجارتها وشجرها وجميع ما فيها فضمها في جناحه فحواها وطواها في جوف جناحه ثم صعد بها إلى السماء الدنيا حتى سمع سكان السماء أصوات الناس والكلاب وكانوا أربعة آلاف ثم قلبها فأرسلها إلى الأرض منكوسة ودمدم بعضها على بعض فجعل عاليها سافلها ثم أتبعها حجارة من سجيل (٢).

وقال محمد بن كعب القرظي : كانت قرى قوم لوط خمس قريات سدوم وهي العظمى وصعبة وصعود وغمة ودوما احتملها جبريل بجناحه ثم صعد بها حتى إن أهل السماء الدنيا ليسمعون نابحة كلابها وأصوات دجاجها ثم كفأها على وجهها ثم أتبعها الله بالحجارة ، يقول الله تعالى : (جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) فأهلكها الله وما حولها من المؤتفكات ، وقال السدي : لما أصبح قوم لوط نزل جبريل فاقتلع الأرض من سبع أرضين فحملها حتى بلغ بها السماء حتى سمع أهل السماء الدنيا نباح كلابهم وأصوات ديوكهم ثم قلبها فقتلهم فذلك قوله : (وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى) ومن لم يمت حتى سقط للأرض أمطر الله عليه وهو تحت الأرض الحجارة ومن كان منهم شاذا في الأرض يتبعهم في القرى فكان الرجل يتحدث فيأتيه الحجر فيقتله فذلك قوله عزوجل : (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ) أي في القرى حجارة من سجيل هكذا قال السدي.

وقوله : (وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) أي وما هذه النقمة ممن تشبه بهم في ظلمهم ببعيد عنه ، وقد ورد في الحديث المروي في السنن عن ابن عباس مرفوعا «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» (٣).

وذهب الإمام الشافعي في قول عنه وجماعة من العلماء إلى أن اللائط يقتل سواء كان محصنا أو غير محصن عملا بهذا الحديث ، وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أنه يلقى من شاهق ويتبع بالحجارة كما فعل الله بقوم لوط والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ) (٨٤)

يقول تعالى ولقد أرسلنا إلى مدين وهم قبيلة من العرب كانوا يسكنون بين الحجاز والشام قريبا من معان. بلادا تعرف بهم يقال لها مدين فأرسل الله إليهم شعيبا وكان من أشرفهم نسبا ،

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٩٦ ، وفيه : سدوم ـ يوم مالك ، بدل : سدوم يوم هالك.

(٢) تفسير الطبري ٧ / ٩٦.

(٣) أخرجه الترمذي في الحدود باب ٢٤ ، وابن ماجة في الحدود باب ١٢.

ولهذا قال : (أَخاهُمْ شُعَيْباً) يأمرهم بعبادة الله تعالى وحده لا شريك له وينهاهم عن التطفيف في المكيال والميزان (إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ) أي في معيشتكم ورزقكم وإني أخاف أن تسلبوا ما أنتم فيه بانتهاككم محارم الله (وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ) أي في الدار الآخرة.

(وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٨٥) بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) (٨٦)

ينهاهم أولا عن نقص المكيال والميزان إذا أعطوا الناس ، ثم أمرهم بوفاء الكيل والوزن بالقسط آخذين ومعطين ونهاهم عن العثو في الأرض بالفساد وقد كانوا يقطعون الطريق ، وقوله : (بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ) قال ابن عباس : رزق الله خير لكم وقال الحسن رزق الله خير لكم من بخسكم الناس ، وقال الربيع بن أنس وصية الله خير لكم ، وقال مجاهد : طاعة الله وقال : قتادة حظكم من الله خير لكم ، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : الهلاك في العذاب والبقية في الرحمة.

وقال أبو جعفر بن جرير (١) (بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ) أي ما يفضل لكم من الريح بعد وفاء الكيل والميزان خير لكم من أخذ أموال الناس قال وقد روي هذا عن ابن عباس قلت ويشبه قوله تعالى : (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) [المائدة : ١٠٠] الآية ، وقوله : (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) أي برقيب ولا حفيظ أي افعلوا ذلك لله عزوجل لا تفعلوه ليراكم الناس بل لله عزوجل.

(قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) (٨٧)

يقولون له على سبيل التهكم قبحهم الله (أَصَلاتُكَ) قال الأعمش أي قراءتك (تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) أي الأوثان والأصنام (أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا) فنترك التطفيف على قولك وهي أموالنا نفعل فيها ما نريد ، قال الحسن في قوله : (أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) أي والله إن صلاته لتأمرهم أن يتركوا ما كان يعبد آباؤهم ، وقال الثوري في قوله : (أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا) يعنون الزكاة (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) قال ابن عباس وميمون بن مهران وابن جريج وابن أسلم وابن جرير يقولون ذلك أعداء الله على سبيل الاستهزاء قبحهم الله ولعنهم عن رحمته وقد فعل.

(قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما

__________________

(١) تفسير الطبري ٧ / ٩٨ ، ٩٩.

أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) (٨٨)

يقول لهم هل رأيتم يا قوم إن كنت (عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) أي على بصيرة فيما أدعو إليه (وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً) قيل أراد النبوة وقيل أراد الرزق الحلال ويحتمل الأمرين ، وقال الثوري (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) أي لا أنهاكم عن الشيء وأخالف أنا في السر فأفعله خفية عنكم كما قال قتادة في قوله (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) يقول : لم أكن أنهاكم عن أمر وأرتكبه (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ) أي فيما آمركم وأنهاكم إنما أريد إصلاحكم جهدي وطاقتي (وَما تَوْفِيقِي) أي في إصابة الحق فيما أريده (إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) في جميع أموري (وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) أي أرجع قاله مجاهد وغيره.

قال الإمام أحمد (١) : حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة حدثنا أبو قزعة سويد بن حجير الباهلي عن حكيم بن معاوية عن أبيه أن أخاه مالكا : قال يا معاوية إن محمدا أخذ جيراني فانطلق إليه فإنه قد كلمك وعرفك فانطلقت معه فقال : دع لي جيراني فقد كانوا أسلموا فأعرض عنه فقام مغضبا فقال : أما والله لئن فعلت إن الناس يزعمون أنك لتأمرنا بالأمر وتخالف إلى غيره وجعلت أجره وهو يتكلم فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما تقول؟» فقال : إنك والله لئن فعلت ذلك إن الناس ليزعمون أنك لتأمر بالأمر وتخالف إلى غيره. قال : فقال «أو قد قالوها ـ أي قائلهم ـ ولئن فعلت ما ذاك إلا عليّ وما عليهم من ذلك من شيء أرسلوا له جيرانه».

وقال أيضا (٢) : حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال : أخذ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ناسا من قومي في تهمة فحبسهم فجاء رجل من قومي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يخطب فقال : يا محمد علام تحبس جيراني؟ فصمت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إن ناسا ليقولون إنك تنهى عن الشيء وتستخلي به فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما تقول؟» قال : فجعلت أعرض بينهما كلاما مخافة أن يسمعها فيدعو على قومي دعوة لا يفلحون بعدها أبدا فلم يزل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى فهمها فقال : «قد قالوها أو قائلها منهم والله لو فعلت لكان عليّ وما كان عليهم خلوا عن جيرانه».

ومن هذا القبيل الحديث الذي رواه الإمام أحمد (٣) حدثنا أبو عامر حدثنا سليمان بن بلال عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن عبد الملك بن سعيد بن سويد الأنصاري قال سمعت أبا حميد وأبا أسيد يقولون عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنه قال : «إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم ، وتلين له أشعاركم وأبشاركم ، وترون أنه منكم قريب فأنا أولاكم به ، وإذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم وتنفر منه أشعاركم وأبشاركم وترون أنه منكم بعيد فأنا أبعدكم منه» إسناده صحيح.

__________________

(١) المسند ٤ / ٤٤٧.

(٢) المسند ٥ / ٢.

(٣) المسند ٣ / ٤٩٧ ، ٥ / ٤٢٥.

وقد أخرج مسلم بهذا السند حديث «إذا دخل أحدكم المسجد فليقل اللهم افتح لي أبواب رحمتك ، وإذا خرج فليقل اللهم إني أسألك من فضلك» (١) ومعناه والله أعلم مهما بلغكم عني من خير فأنا أولاكم به. ومهما يكن من مكروه فأنا أبعدكم منه (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) وقال قتادة عن عزرة عن الحسن العرني عن يحيى بن الجزار عن مسروق قال : جاءت امرأة إلى ابن مسعود فقالت أتنهى عن الواصلة (٢)؟ قال نعم ، قالت : فعله بعض نسائك ، فقال ما حفظت وصية العبد الصالح إذا (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) وقال عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن أبي سليمان العتبي قال : كانت تجيئنا كتب عمر بن عبد العزيز فيها الأمر والنهي فيكتب في آخرها وما كنت من ذلك إلا كما قال العبد الصالح : (وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ).

(وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (٨٩) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) (٩٠)

يقول لهم (وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي) أي لا تحملنكم عداوتي وبغضي على الإصرار على ما أنتم عليه من الكفر والفساد فيصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط من النقمة والعذاب وقال قتادة (وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي) يقول : لا يحملنكم فراقي ، وقال السدي عداوتي ، على أن تمادوا في الضلال والكفر فيصيبكم من العذاب ما أصابهم.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عوف الحمصي حدثنا أبو المغيرة عبد القدوس بن الحجاج حدثنا ابن أبي غنية حدثني عبد الملك بن أبي سليمان عن ابن أبي ليلى الكندي قال : كنت مع مولاي أمسك دابته وقد أحاط الناس بعثمان بن عفان إذ أشرف علينا من داره فقال : (يا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ) يا قوم لا تقتلوني إنكم إن قتلتموني كنتم هكذا وشبك بين أصابعه ، وقوله : (وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) قيل المراد في الزمان ، قال قتادة : يعني إنما هلكوا بين أيديكم بالأمس ، وقيل في المكان ويحتمل الأمران (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) من سالف الذنوب (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) فيما تستقبلونه من الأعمال السيئة وقوله : (إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) أي لمن تاب وأناب.

(قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (٩١) قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي

__________________

(١) أخرجه مسلم في المسافرين حديث ٦٨.

(٢) الواصلة : التي تصل شعرها بشعر آخر زور.

بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) (٩٢)

يقولون (يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ) ما نفهم (كَثِيراً) من قولك (وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً) قال سعيد بن جبير والثوري وكان ضرير البصر ، وقال الثوري كان يقال له خطيب الأنبياء ، قال السدي (وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً) قال : أنت واحد ، وقال أبو روق : يعنون ذليلا لأن عشيرتك ليسوا على دينك (وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ) أي قومك لولا معزتهم علينا لرجمناك قيل بالحجارة وقيل لسببناك (وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ) أي ليس عندنا لك معزة (قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ) يقول : أتتركوني لأجل قومي ولا تتركوني إعظاما لجناب الرب تبارك وتعالى أن تنالوا نبيه بمساءة وقد اتخذتم كتاب الله (وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا) أي نبذتموه خلفكم لا تطيعونه ولا تعظمونه (إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) أي هو يعلم جميع أعمالكم وسيجزيكم بها.

(وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (٩٣) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٩٤) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ) (٩٥)

لما يئس نبي الله شعيب من استجابتهم له قال يا قوم (اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) أي طريقتكم وهذا تهديد شديد (إِنِّي عامِلٌ) على طريقتي (سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ) أي مني ومنكم (وَارْتَقِبُوا) أي انتظروا (إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ) قال الله تعالى : (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ) وقوله جاثمين أي هامدين لا حراك بهم. وذكر هاهنا أنه أتتهم صيحة ، وفي الأعراف رجفة وفي الشعراء عذاب يوم الظلة وهم أمة واحدة اجتمع عليهم يوم عذابهم هذه النقم كلها ، وإنما ذكر في كل سياق ما يناسبه ففي الأعراف لما قالوا (لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا) [الأعراف : ٨٨] ناسب أن يذكر الرجفة الرجفة فرجفت بهم الأرض التي ظلموا بها وأرادوا إخراج نبيهم منها.

وهاهنا لما أساؤوا الأدب في مقالتهم على نبيهم ذكر الصيحة التي استلبثتهم وأخمدتهم ، وفي الشعراء لما قالوا (فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [الشعراء : ١٨٧] قال (فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [الشعراء : ١٨٩] وهذا من الأسرار الدقيقة ولله الحمد والمنة كثيرا دائما ، وقوله : (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها) أي يعيشوا في دارهم قبل ذلك (أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ) وكانوا جيرانهم قريبا منهم في الدار وشبيها بهم في الكفر وقطع الطريق وكانوا عربا مثلهم.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٩٦) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (٩٧) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (٩٨) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) (٩٩)

يقول تعالى مخبرا عن إرسال موسى بآياته ودلالاته الباهرة إلى فرعون ملك القبط وملئه (فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ) أي منهجه ومسلكه وطريقته في الغي (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) أي ليس فيه رشد ولا هدى. وإنما هو جهل وضلال وكفر وعناد ، وكما أنهم اتبعوه في الدنيا وكان مقدمهم ورئيسهم كذلك هو يقدمهم يوم القيامة إلى نار جهنم فأوردهم إياها وشربوا من حياض رداها ، وله في ذلك الحظ الأوفر ، من العذاب الأكبر ، كما قال تعالى : (فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً) [المزمل : ١٦] وقال تعالى : (فَكَذَّبَ وَعَصى ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى فَحَشَرَ فَنادى فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى) [النازعات : ٢١ ـ ٢٦].

وقال تعالى : (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) وكذلك شأن المتبوعين يكونون موفورين في العذاب يوم القيامة كما قال تعالى : (لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ) [الأعراف : ٣٨] وقال تعالى إخبارا عن الكفرة أنهم يقولون في النار : (رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ) [الأحزاب : ٦٧] الآية.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا هشيم حدثنا أبو الجهم عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «امرؤ القيس حامل لواء شعراء الجاهلية إلى النار» وقوله : (وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) الآية ، أي أتبعناهم زيادة على عذاب النار لعنة في الدنيا (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) قال مجاهد : زيدوا لعنة يوم القيامة فتلك لعنتان ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) قال : لعنة الدنيا والآخرة وكذا قال الضحاك وقتادة وهو كقوله (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) [القصص : ٤٢] وقال تعالى (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) [غافر : ٤٦].

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (١٠٠) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ) (١٠١)

لما ذكر تعالى خبر الأنبياء وما جرى لهم مع أممهم وكيف أهلك الكافرين ونجى المؤمنين قال: (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى) أي أخبارهم (نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ) أي عامر (وَحَصِيدٌ) أي

__________________

(١) المسند ٢ / ٢٢٨.

هالك (وَما ظَلَمْناهُمْ) أي إذ أهلكناهم (وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بتكذيبهم رسلنا وكفرهم بهم (فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ) أوثانهم التي يعبدونها ويدعونها (مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) ما نفعوهم ولا أنقذوهم لما جاء أمر الله بإهلاكهم (وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ) قال مجاهد وقتادة وغيرهما : أي غير تخسير (١) وذلك أن سبب هلاكهم ودمارهم إنما كان باتباعهم تلك الآلهة فلهذا خسروا في الدنيا والآخرة.

(وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (١٠٢)

يقول تعالى وكما أهلكنا أولئك القرون الظالمة المكذبة لرسلنا كذلك نفعل بأشباههم (إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) وفي الصحيحين عن أبي موسى رضي الله عنه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» ثم قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ) (٢) الآية.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (١٠٣) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (١٠٤) يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) (١٠٥)

يقول تعالى إن في إهلاكنا الكافرين وإنجائنا المؤمنين (لَآيَةً) أي عظة واعتبارا على صدق موعودنا في الآخرة (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) [غافر : ٥١] وقال تعالى (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ) [إبراهيم : ١٣] الآية. وقوله : (ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ) أي أولهم وآخرهم كقوله : (وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً) [الكهف : ٤٧] (وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) أي عظيم تحضره الملائكة ويجتمع فيه الرسل وتحشر الخلائق بأسرهم من الإنس والجن والطير والوحوش والدواب ويحكم فيه العادل الذي لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها.

وقوله (وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ) أي ما نؤخر إقامة القيامة إلا لأنه قد سبقت كلمة الله في وجود أناس معدودين من ذرية آدم وضرب مدة معينة إذا انقطعت وتكامل وجود أولئك المقدر خروجهم قامت الساعة ولهذا قال : (وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ) أي لمدة مؤقتة لا يزاد عليها ولا ينتقص منها.

(يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) أي يوم يأتي يوم القيامة لا يتكلم أحد إلا بإذن الله كقوله : (لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) [النبأ : ٣٨] وقال : (وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ) [طه : ١٠٨] الآية. وفي الصحيحين من حديث الشفاعة «ولا يتكلم يومئذ إلا

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ١١١.

(٢) أخرجه البخاري في تفسير سورة ١١ ، باب ٥ ، ومسلم في البر حديث ٦٢.

الرسل ودعوى الرسل يومئذ اللهم سلم سلم» (١) وقوله : (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) أي فمن أهل الجمع شقي ومنهم سعيد كما قال (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) [الشورى : ٧] وقال الحافظ أبو يعلى في مسنده : حدثنا موسى بن حيّان حدثنا عبد الملك بن عمرو حدثنا سليمان أبو سفيان حدثنا عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن عمر قال : لما نزلت (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) سألت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت يا رسول الله : علام نعمل؟ على شيء قد فرغ منه أم على شيء لم يفرغ منه ، فقال : «على شيء قد فرغ منه يا عمر وجرت به الأقلام ، ولكن كل ميسر لما خلق له» ثم بيّن تعالى حال الأشقياء وحال السعداء فقال :

(فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) (١٠٧)

يقول تعالى (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) قال ابن عباس الزفير في الحلق والشهيق في الصدر أي تنفسهم زفير وأخذهم النفس شهيق ، لما هم فيه من العذاب عياذا بالله من ذلك (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) قال الإمام أبو جعفر بن جرير (٢) : من عادة العرب إذا أرادت أن تصف الشيء بالدوام أبدا قالت هذا دائم دوام السموات والأرض ، وكذلك يقولون هو باق ما اختلف الليل والنهار ، وما سمر أبناء سمير وما لألأت العير بأذنابها يعنون بذلك كله أبدا فخاطبهم جل ثناؤه بما يتعارفونه بينهم فقال : (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ).

(قلت) : ويحتمل أن المراد بما دامت السموات والأرض الجنس لأنه لا بد في عالم الآخرة من سموات وأرض كما قال تعالى (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) [إبراهيم : ٤٨] ولهذا قال الحسن البصري في قوله : (ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) قال : يقول : سماء غير هذه السماء وأرض غير هذه فما دامت تلك السماء وتلك الأرض.

وقال ابن أبي حاتم ذكر عن سفيان بن حسين عن الحكم عن مجاهد عن ابن عباس قوله : (ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) قال : لكل جنة سماء وأرض ، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : ما دامت الأرض أرضا والسماء سماء. وقوله (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) كقوله (النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) [الأنعام : ١٢٨].

وقد اختلف المفسرون في المراد من هذا الاستثناء على أقوال كثيرة حكاها الشيخ أبو الفرج بن الجوزي في كتابه زاد المسير ، وغيره من علماء التفسير ، ونقل كثيرا منها الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه‌الله في كتابه واختار هو ما نقله عن خالد بن معدان والضحاك وقتادة وابن سنان ورواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس والحسن أيضا أن الاستثناء عائد على العصاة من أهل التوحيد ممن يخرجهم الله من

__________________

(١) أخرجه البخاري في الأذان باب ١٢٩ ، ومسلم في الإيمان حديث ٢٩٩.

(٢) تفسير الطبري ٧ / ١١٤.

النار بشفاعة الشافعين ، من الملائكة والنبيين والمؤمنين ، حتى يشفعون في أصحاب الكبائر ثم تأتي رحمة أرحم الراحمين فتخرج من النار من لم يعمل خيرا قط وقال يوما من الدهر لا إله إلا الله كما وردت بذلك الأخبار الصحيحة المستفيضة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمضمون ذلك من حديث أنس وجابر وأبي سعيد وأبي هريرة وغيرهم من الصحابة ولا يبقى بعد ذلك في النار إلا من وجب عليه الخلود فيها ولا محيد له عنها ، وهذا الذي عليه كثير من العلماء قديما وحديثا في تفسير هذه الآية الكريمة.

وقد روي في تفسيرها عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وابن مسعود وابن عباس وأبي هريرة وعبد الله بن عمرو وجابر وأبي سعيد من الصحابة ، وعن أبي مجلز والشعبي وغيرهما من التابعين ، وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وإسحاق بن راهويه وغيرهما من الأئمة في أقوال غريبة وورد حديث غريب في معجم الطبراني الكبير عن أبي أمامة صدي بن عجلان الباهلي ولكن سنده ضعيف والله أعلم. وقال قتادة : الله أعلم بثنياه ، وقال السدي هي منسوخة بقوله (خالِدِينَ فِيها أَبَداً).

(وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) (١٠٨)

يقول تعالى : (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا) وهم أتباع الرسل (فَفِي الْجَنَّةِ) أي فمأواهم الجنة (خالِدِينَ فِيها) أي ماكثين فيها أبدا (ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) معنى الاستثناء هاهنا أن دوامهم فيما هم فيه من النعيم ليس أمرا واجبا ذاته بل هو موكول إلى مشيئة الله تعالى فله المنة عليهم دائما ولهذا يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس.

وقال الضحاك والحسن البصري هي في حق عصاة الموحدين الذين كانوا في النار ثم أخرجوا منها وعقب ذلك بقوله (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) أي غير مقطوع قاله مجاهد وابن عباس وأبو العالية وغير واحد لئلا يتوهم متوهم بعد ذكره المشيئة أن ثم انقطاعا أو لبسا أو شيئا بل حتم له بالدوام وعدم الانقطاع كما بين هناك أن عذاب أهل النار في النار دائما مردود إلى مشيئته وأنه بعدله وحكمته عذبهم ولهذا قال (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) كما قال : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) [الأنبياء : ٢٣] وهنا طيب القلوب وثبت المقصود بقوله : (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) وقد جاء في الصحيحين «يؤتى بالموت في صورة كبش أملح فيذبح بين الجنة والنار ثم يقال يا أهل الجنة خلود فلا موت ، ويا أهل النار خلود فلا موت» (١) ، وفي الصحيح أيضا «فيقال يا أهل الجنة إن لكم أن تعيشوا فلا تموتوا أبدا وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا وإن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا» (٢).

__________________

(١) أخرجه البخاري في تفسير سورة ١٩ ، باب ١ ، ومسلم في الجنة حديث ٤٠.

(٢) أخرجه مسلم في الجنة حديث ٢٢.

(فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (١٠٩) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١١٠) وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (١١١)

يقول تعالى : (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ) المشركون إنه باطل وجهل وضلال فإنهم إنما يعبدون ما يعبد آباؤهم من قبل أي ليس لهم مستند فيما هم فيه إلا إتباع الآباء في الجهالات وسيجزيهم الله على ذلك أتم الجزاء فيعذب كافرهم عذابا لا يعذبه أحدا وإن كان لهم حسنات فقد وفاهم الله إياها في الدنيا قبل الآخرة. قال سفيان الثوري عن جابر الجعفي عن مجاهد عن ابن عباس (وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ) قال ما وعدوا من خير أو شر (١).

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم لموفوهم من العذاب نصيبهم غير منقوص ثم ذكر تعالى أنه آتى موسى الكتاب فاختلف الناس فيه فمن مؤمن به ومن كافر به فلك بمن سلف من الأنبياء قبلك يا محمد أسوة فلا يغيظنك تكذيبهم لك ولا يهمنك ذلك (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) قال ابن جرير لولا ما تقدم من تأجيله العذاب إلى أجل معلوم لقضى الله بينهم ويحتمل أن يكون المراد بالكلمة أنه لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه وإرسال الرسول إليه كما قال : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء : ١٥] فإنه قد قال في الآية الأخرى : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) [طه : ١٢٩ ـ ١٣٠] ثم أخبر تعالى أنه سيجمع الأولين والآخرين من الأمم ويجزيهم بأعمالهم إن خيرا فخير وإن شرا فشر فقال : (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي عليم بأعمالهم جميعها جليلها وحقيرها صغيرها وكبيرها وفي هذه الآية قراءات كثيرة يرجع معناها إلى هذا الذي ذكرناه كما في قوله تعالى : (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) [يس : ٣٢].

(فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٢) وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) (١١٣)

يأمر تعالى رسوله وعباده المؤمنين بالثبات والدوام على الاستقامة وذلك من أكبر العون على النصر على الأعداء ومخالفة الأضداد ونهى عن الطغيان وهو البغي فإنه مصرعة حتى ولو كان على مشرك وأعلم تعالى أنه بصير بأعمال العباد لا يغفل عن شيء ولا يخفى عليه شيء.

وقوله : (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : لا تداهنوا (٢) وقال العوفي عن ابن عباس : هو الركون إلى الشرك وقال أبو العالية : لا ترضوا

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ١٢٠.

(٢) انظر تفسير الطبري ٧ / ١٢٤.

بأعمالهم وقال ابن جرير عن ابن عباس : ولا تميلوا إلى الذين ظلموا وهذا القول حسن أي لا تستعينوا بالظلمة فتكونوا كأنكم قد رضيتم بأعمالهم (فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) أي ليس لكم من دونه من ولي ينقذكم ولا ناصر يخلصكم من عذابه.

(وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (١١٤) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (١١٥)

قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ) قال يعني الصبح والمغرب (١) وكذا قال الحسن وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وقال الحسن في رواية وقتادة والضحاك وغيرهم هي الصبح والعصر وقال مجاهد : هي الصبح في أول النهار والظهر والعصر من آخره (وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) قال ابن عباس ومجاهد والحسن وغيرهم يعني صلاة العشاء وقال الحسن في رواية ابن المبارك عن مبارك بن فضالة عنه (وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) يعني المغرب والعشاء قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هما زلفتا الليل المغرب والعشاء» (٢) وكذا قال مجاهد ومحمد بن كعب وقتادة والضحاك إنها صلاة المغرب والعشاء ، وقد يحتمل أن تكون هذه الآية نزلت قبل فرض الصلوات الخمس ليلة الإسراء فإنه إنما كان يجب من الصلاة صلاتان : صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها ، وفي أثناء الليل قيام عليه وعلى الأمة ثم نسخ في حق الأمة وثبت وجوبه عليه ثم نسخ عنه أيضا في قول والله أعلم.

وقوله : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) يقول إن فعل الخيرات يكفر الذنوب السالفة كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قال: كنت إذا سمعت من رسول الله حديثا نفعني الله بما شاء أن ينفعني منه وإذا حدثني عنه أحد استحلفته فإذا حلف لي صدقته ، وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر أنه سمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ما من مسلم يذنب ذنبا فيتوضأ ويصلي ركعتين إلا غفر له» (٣).

وفي الصحيحين عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان أنه توضأ لهم كوضوء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال : هكذا رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتوضأ وقال : «من توضأ وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه» (٤).

وروى الإمام أحمد (٥) وأبو جعفر بن جرير (٦) من حديث أبي عقيل زهرة بن معبد أنه سمع

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ١٢٥.

(٢) تفسير الطبري ٧ / ١٢٧.

(٣) أخرجه أحمد في المسند ١ / ٢.

(٤) أخرجه البخاري في الوضوء باب ٢٤ ، ٢٨. ومسلم في الطهارة حديث ٣ ، ٤ ، ٨.

(٥) المسند ١ / ٧١.

(٦) تفسير الطبري ٧ / ١٣٠.

الحارث مولى عثمان يقول : جلس عثمان يوما وجلسنا معه فجاءه المؤذن فدعا عثمان بماء في إناء أظنه سيكون فيه قدر مد فتوضأ ثم قال : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتوضأ وضوئي هذا ثم قال «من توضأ وضوئي هذا ثم قام فصلى صلاة الظهر غفر له ما بينه وبين صلاة الصبح ثم صلى العصر غفر له ما بينه وبين صلاة الظهر ثم صلى المغرب غفر له ما بينه وبين صلاة العصر ثم صلى العشاء غفر له ما بينه وبين صلاة المغرب ثم لعله يبيت يتمرغ ليلته ثم إن قام فتوضأ وصلى الصبح غفر له ما بينها وبين صلاة العشاء وهن الحسنات يذهبن السيئات».

وفي الصحيح عن أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أرأيتم لو أن بباب أحدكم نهرا غمرا يغتسل فيه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيئا؟ قالوا : لا يا رسول الله قال : «كذلك الصلوات الخمس يمحو الله بهن الذنوب والخطايا» (١).

وقال مسلم في صحيحه : حدثنا أبو الطاهر وهارون بن سعيد قالا : حدثنا ابن وهب عن أبي صخر أن عمر بن إسحاق مولى زائدة حدثه عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول : «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر» (٢) وقال الإمام أحمد (٣) حدثنا الحكم بن نافع حدثنا إسماعيل بن عياش عن ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد أن أبا رهم السمعي كان يحدث أن أبا أيوب الأنصاري حدثه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول : «إن كل صلاة تحط ما بين يديها من خطيئة».

وقال أبو جعفر بن جرير (٤) حدثنا محمد بن عوف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا أبي عن ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «جعلت الصلوات كفارات لما بينهن» فإن الله قال (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ).

وقال البخاري : حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا يزيد بن زريع عن سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن ابن مسعود أن رجلا أصاب من امرأة قبلة فأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره فأنزل الله (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) فقال الرجل يا رسول الله ألي هذا؟ قال : «لجميع أمتي كلهم» (٥) هكذا رواه في كتاب الصلاة وأخرجه في التفسير عن مسدد عن يزيد بن زريع بنحوه ورواه مسلم وأحمد وأهل السنن إلا أبا داود من طرق عن أبي عثمان النهدي واسمه عبد الرحمن بن مل به.

__________________

(١) أخرجه البخاري في المواقيت باب ٦ ، ومسلم في المساجد حديث ٢٨٤.

(٢) أخرجه مسلم في الطهارة حديث ١٦.

(٣) المسند ٥ / ٤١٣.

(٤) تفسير الطبري ٧ / ١٣٠.

(٥) أخرجه البخاري في تفسير سورة ١١ ، باب ٦ ، ومسلم في التوبة حديث ٣٩ ، والترمذي في تفسير سورة ١١ ، باب ٦ ، وأحمد في المسند ١ / ٣٨٦ ، ٤٣٠.

ورواه الإمام أحمد ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير وهذا لفظه من طرق عن سماك بن حرب أنه سمع إبراهيم بن يزيد يحدث عن علقمة والأسود عن ابن مسعود قال جاء رجل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله إني وجدت امرأة في بستان ففعلت بها كل شيء غير أني لم أجامعها قبلتها ولزمتها ولم أفعل غير ذلك فافعل بي ما شئت فلم يقل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا فذهب الرجل. فقال عمر : لقد ستر الله عليه لو ستر على نفسه ، فأتبعه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بصره ثم قال : «ردوه علي» فردوه عليه فقرأ عليه (أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) فقال معاذ وفي رواية عمر يا رسول الله أله وحده أم للناس كافة؟ قال : «بل للناس كافة» (١).

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا محمد بن عبيد حدثنا أبان بن إسحاق عن الصباح بن محمد عن مرة الهمداني عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب ولا يعطي الدين إلا من أحب فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه والذي نفسي بيده لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه» قال : قلنا : وما بوائقه يا نبي الله؟ قال : «غشه وظلمه ولا يكسب عبد مالا حراما فينفق منه فيبارك له فيه ولا يتصدق فيقبل منه ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار إن الله لا يمحو السيئ بالسيء ولكن يمحو السيئ بالحسن إن الخبيث لا يمحو الخبيث».

وقال ابن جرير (٣) : حدثنا أبو السائب حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم قال : كان فلان ابن معتب رجلا من الأنصار فقال يا رسول الله دخلت عليّ امرأة فنلت منها ما ينال الرجل من أهله إلا أني لم أواقعها فلم يدر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يجيبه حتى نزلت هذه الآية (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) فدعاه رسول الله فقرأها عليه وعن ابن عباس أنه عمرو بن غزية الأنصاري التمار وقال مقاتل هو أبو نفيل عامر بن قيس الأنصاري وذكر الخطيب البغدادي أنه أبو اليسر كعب بن عمرو.

وقال الإمام أحمد (٤) حدثنا يونس وعفان قالا : حدثنا حماد يعني ابن سلمة عن علي بن زيد قال عفان أنبأنا علي بن يزيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس أن رجلا أتى عمر فقال إن

__________________

(١) أخرجه مسلم في التوبة حديث ٤٢ ، وأبو داود في الحدود باب ٣١ ، والترمذي في تفسير سورة ١١ ، باب ٤ ، وأحمد في المسند ١ / ٤٤٩ ، والطبري في تفسيره ٧ / ١٣١.

(٢) المسند ١ / ٣٨٧.

(٣) تفسير الطبري ٧ / ١٣٢.

(٤) المسند ١ / ٢٤٥ ، ٢٦٩ ، ٢٧٠.

امرأة جاءت تبايعه فأدخلتها الدولج (١) فأصبت منها ما دون الجماع ، فقال ويحك لعلها مغيبة (٢) في سبيل الله؟ قال أجل ، قال فائت أبا بكر فسله. قال فأتاه فسأله فقال لعلها مغيبة في سبيل الله؟ فقال مثل قول عمر ثم أتي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له مثل ذلك قال «فلعلها مغيبة في سبيل الله» ونزل القرآن (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) إلى آخر الآية ، فقال يا رسول الله لي خاصة أم للناس عامة؟ فضرب يعني عمر صدره بيده وقال لا ولا نعمة عين بل للناس عامة فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صدق عمر».

وروى الإمام أبو جعفر بن جرير (٣) من حديث قيس بن الربيع عن عثمان بن موهب عن موسى بن طلحة عن أبي اليسر كعب بن عمرو الأنصاري قال أتتني امرأة تبتاع مني بدرهم تمرا فقلت إن في البيت تمرا أجود من هذا فدخلت فأهويت إليها فقبلتها فأتيت عمر فسألته فقال اتق الله واستر على نفسك ولا تخبرن أحدا فلم أصبر حتى أتيت أبا بكر فسألته فقال اتق الله واستر على نفسك ولا تخبرن أحدا قال فلم أصبر حتى أتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبرته فقال «أخلفت رجلا غازيا في سبيل الله في أهله بمثل هذا» حتى ظننت أني من أهل النار حتى تمنيت أني أسلمت ساعتئذ فأطرق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ساعة فنزل جبريل فقال أبو اليسر فجئت فقرأ عليّ رسول الله (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) فقال إنسان : يا رسول الله له خاصة أم للناس عامة؟ قال «للناس عامة».

وقال الحافظ أبو الحسن الدار قطني حدثنا الحسين بن إسماعيل المحاملي حدثنا يوسف بن موسى حدثنا جرير عن عبد الملك بن عمير عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل أنه كان قاعدا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجاء رجل فقال : يا رسول الله ما تقول في رجل أصاب من امرأة لا تحل له فلم يدع شيئا الرجل يصيبه من امرأته إلا قد أصاب منها غير أنه لم يجامعها؟ فقال له النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «توضأ وضوءا حسنا ثم قم فصلّ» فأنزل الله عزوجل هذه الآية يعني قوله : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ) فقال معاذ أهي له خاصة أم للمسلمين عامة؟ قال : «بل للمسلمين عامة» ورواه ابن جرير (٤) من طرق عن عبد الملك بن عمير به.

وقال عبد الرزاق حدثنا محمد بن مسلم عن عمرو بن دينار عن يحيى بن جعدة أن رجلا من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر امرأة وهو جالس مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاستأذنه لحاجة فأذن له فذهب يطلبها فلم يجدها فأقبل الرجل يريد أن يبشر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمطر فوجد المرأة جالسة على غدير فدفع في صدرها وجلس بين رجليها فصار ذكره مثل الهدبة فقام نادما حتى أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره

__________________

(١) الدولج : المخدع ، وهو البيت الصغير داخل البيت.

(٢) المغيبة : التي غاب عنها زوجها.

(٣) تفسير الطبري ٧ / ١٣٤.

(٤) تفسير الطبري ٧ / ١٣٣.

بما صنع فقال له : «استغفر ربك وصل أربع ركعات» قال : وتلا عليه (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) الآية (١).

وقال ابن جرير (٢) : حدثني عبد الله بن أحمد بن سيبويه حدثنا إسحاق بن إبراهيم حدثني عمرو بن الحارث حدثني عبد الله بن سالم عن الزبيدي عن سليم بن عامر أنه سمع أبا أمامة يقول إن رجلا أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله أقم فيّ حد الله ـ مرة أو اثنتين ـ فأعرض عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم أقيمت الصلاة فلما فرغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الصلاة قال : «أين هذا الرجل القائل أقم فيّ حد الله؟» قال : أنا ذا. قال : أتممت الوضوء وصليت معنا آنفا؟ قال : نعم. قال : «فإنك من خطيئتك كيوم ولدتك أمك فلا تعد» وأنزل الله على رسول الله (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ).

وقال الإمام أحمد (٣) حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة أنبأنا علي بن زيد عن أبي عثمان قال كنت : مع سلمان الفارسي تحت شجرة فأخذ منها غصنا يابسا فهزه حتى تحات ورقه ثم قال : يا أبا عثمان ألا تسألني لم أفعل هذا قلت ولم تفعله؟ قال هكذا فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إن المسلم إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم صلى الصلوات الخمس تحاتت خطاياه كما يتحات هذا الورق. وقال : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ).

وقال الإمام أحمد (٤) : حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن ميمون بن أبي شبيب عن معاذ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له : يا معاذ «أتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن».

وقال الإمام أحمد (٥) : حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن حبيب عن ميمون بن أبي شبيب عن أبي ذر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن».

وقال أحمد (٦) حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن شمر بن عطية عن أشياخه عن أبي ذر قال : قلت : يا رسول الله أوصني ، قال : «إذا عملت سيئة فأتبعها بحسنة تمحها» قال : قلت: يا رسول الله أمن الحسنات لا إله إلا الله؟ قال : «هي أفضل الحسنات».

__________________

(١) تفسير الطبري ٧ / ١٣٤.

(٢) تفسير الطبري ٧ / ١٣٣ ، وفيه : عبد الله بن أحمد بن شبّويه ، بدل سيبويه.

(٣) المسند ٥ / ٤٣٧.

(٤) المسند ٥ / ٢٢٨.

(٥) المسند ٥ / ١٥٣ ، ١٥٨.

(٦) المسند ٥ / ١٦٩.

وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي حدثنا هذيل بن إبراهيم الجماني حدثنا عثمان بن عبد الرحمن الزهري عن ولد سعد بن أبي وقاص عن الزهري عن أنس بن مالك قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما قال عبد لا إله إلا الله في ساعة من ليل أو نهار إلا طلست (١) ما في الصحيفة من السيئات حتى تسكن إلى مثلها من الحسنات» عثمان بن عبد الرحمن يقال له الوقاصي فيه ضعف. وقال الحافظ أبو بكر البزار حدثنا بشر بن آدم وزيد بن أخرم قالا حدثنا الضحاك بن مخلد حدثنا مستور بن عباد عن ثابت عن أنس أن رجلا قال : يا رسول الله ما تركت من حاجة ولا داجة (٢) فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟» قال : بلى. قال «فإن هذا يأتي على ذلك» تفرد به من هذا الوجه مستور.

(فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (١١٦) وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) (١١٧)

يقول تعالى فهلا وجد من القرون الماضية بقايا من أهل الخير ينهون عما كان يقع بينهم من الشرور والمنكرات والفساد في الأرض ، وقوله : (إِلَّا قَلِيلاً) أي قد وجد منهم من هذا الضرب قليل لم يكونوا كثيرا وهم الذين أنجاهم الله عند حلول غضبه وفجأة نقمته ولهذا أمر الله تعالى هذه الأمة الشريفة أن يكون فيها من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر كما قال تعالى : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران : ١٠٤] وفي الحديث «إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب» (٣) ولهذا قال تعالى : (فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ).

وقوله : (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ) أي استمروا على ما هم عليه من المعاصي والمنكرات ولم يلتفتوا إلى إنكار أولئك حتى فجأهم العذاب (وَكانُوا مُجْرِمِينَ) ثم أخبر تعالى أنه لم يهلك قرية إلا وهي ظالمة لنفسها ولم يأت قرية مصلحة بأسه وعذابه قط حتى يكونوا هم الظالمين كما قال تعالى : (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) [هود : ١٠١] وقال : (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت : ٤٦].

(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ

__________________

(١) طلست : أي محت.

(٢) الداجة : أخف من الحاجة.

(٣) أخرجه ابن ماجة في الفتن باب ٢٠ ، وأحمد في المسند ١ / ٢ ، ٥ ، ٩.

كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (١١٩)

يخبر تعالى أنه قادر على جعل الناس كلهم أمة واحدة من إيمان أو كفر كما قال تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) [يوسف : ٩٩] وقوله : (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) أي ولا يزال الخلف بين الناس في أديانهم واعتقادات مللهم ونحلهم ومذاهبهم وآرائهم ، وقال عكرمة : مختلفين في الهدى وقال الحسن البصري : مختلفين في الرزق يسخر بعضهم بعضا ، والمشهور الصحيح الأول.

وقوله : (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) أي إلا المرحومين من أتباع الرسل الذين تمسكوا بما أمروا به من الدين ، أخبرتهم به رسل الله إليهم ولم يزل ذلك دأبهم حتى كان النبي وخاتم الرسل والأنبياء فاتبعوه وصدقوه ووازروه ففازوا بسعادة الدنيا والآخرة لأنهم الفرقة الناجية كما جاء في الحديث المروي في المسانيد والسنن من طرق يشد بعضها بعضا «إن اليهود افترقت على إحدى وسبعين فرقة وإن النصارى افترقت على اثنتين وسبعين فرقة وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة واحدة ، قالوا : ومن هم يا رسول الله؟ قال «ما أنا عليه وأصحابي» (١) رواه الحاكم في مستدركه بهذه الزيادة.

وقال عطاء : (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) يعني اليهود والنصارى والمجوس (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) يعني الحنيفية وقال قتادة أهل رحمة الله أهل الجماعة وإن تفرقت ديارهم وأبدانهم وأهل معصيته أهل فرقة وإن اجتمعت ديارهم وأبدانهم ، وقوله : (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) قال الحسن البصري في رواية عنه وللاختلاف خلقهم ، وقال مكي بن أبي طلحة عن ابن عباس : خلقهم فريقين كقوله : (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) وقيل للرحمة خلقهم قال ابن وهب أخبرني مسلم بن خالد عن ابن أبي نجيح عن طاوس : أن رجلين اختصما إليه فأكثرا فقال طاوس اختلفتما وأكثرتما فقال أحد الرجلين : لذلك خلقنا فقال طاوس : كذبت فقال أليس الله يقول : (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) قال لم يخلقهم ليختلفوا ولكن خلقهم للجماعة والرحمة كما قال الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس قال : للرحمة خلقهم ولم يخلقهم للعذاب ، وكذا قال مجاهد والضحاك وقتادة ويرجع معنى هذا القول إلى قوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦].

وقيل بل المراد وللرحمة والاختلاف خلقهم كما قال الحسن البصري في رواية عنه في قوله : (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) قال الناس مختلفون على أديان شتى (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) فمن رحم ربك غير مختلف فقيل له لذلك خلقهم قال خلق هؤلاء

__________________

(١) أخرجه أبو داود في السنة باب ١ ، والترمذي في الإيمان باب ١٨ ، وابن ماجة في الفتن باب ١٧ ، وأحمد في المسند ٢ / ٣٣٢ ، ٣ / ١٢٠ ، ١٤٥.

لجنته وخلق هؤلاء لناره وخلق لعذابه وكذا قال عطاء بن أبي رباح والأعمش ، وقال ابن وهب سألت مالكا عن قوله تعالى : (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) قال فريق في الجنة وفريق في السعير.

وقد اختار هذا القول ابن جرير وأبو عبيد الفراء وعن مالك فيما روينا عنه من التفسير (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) قال للرحمة وقال قوم للاختلاف.

وقوله : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) يخبر تعالى أنه قد سبق في قضائه وقدره لعلمه التام وحكمته النافذة أن ممن خلقه من يستحق الجنة ومنهم من يستحق النار وأنه لا بد أن يملأ جهنم من هذين الثقلين الجن والإنس وله الحجة البالغة والحكمة التامة ، وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اختصمت الجنة والنار فقالت الجنة : ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وقالت النار : أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين فقال الله عزوجل للجنة : أنت رحمتي أرحم بك من أشاء وقال للنار أنت عذابي أنتقم بك ممن أشاء ولكل واحدة منكما ملؤها فأما الجنة فلا يزال فيها فضل حتى ينشئ الله لها خلقا يسكن فضل الجنة وأما النار فلا تزال تقول هل من مزيد حتى يضع عليها رب العزة قدمه فتقول قط قط(١) وعزتك» (٢).

(وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) (١٢٠)

يقول تعالى وكل أخبار نقصها عليك من أنباء الرسل المتقدمين من قبلك مع أممهم وكيف جرى لهم من المحاجات والخصومات وما احتمله الأنبياء من التكذيب والأذى وكيف نصر الله حزبه المؤمنين وخذل أعداءه الكافرين. كل هذا مما نثبت به فؤادك أي قلبك يا محمد ليكون لك بمن مضى من إخوانك من المرسلين أسوة.

وقوله : (وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُ) أي هذه السورة قال ابن عباس ومجاهد وجماعة من السلف ، وعن الحسن في رواية عنه وقتادة في هذه الدنيا والصحيح في هذه السورة المشتملة على قصص الأنبياء وكيف أنجاهم الله والمؤمنين بهم وأهلك الكافرين جاءك فيها قصص حق ونبأ صدق وموعظة يرتدع بها الكافرون وذكرى يتذكر بها المؤمنون.

(وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (١٢١) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) (١٢٢)

__________________

(١) قط قط : أي حسبي.

(٢) أخرجه البخاري في التوحيد باب ٢٥ ، وتفسير سورة ٥٠ ، باب ١ ، ومسلم في الجنة حديث ٣٥ ، ٣٦ ، وأحمد في المسند ٢ / ٣١٤.

يقول تعالى آمرا رسوله أن يقول للذين لا يؤمنون بما جاء به من ربه على وجه التهديد (اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) أي على طريقتكم ومنهجكم (إِنَّا عامِلُونَ) أي على طريقتنا ومنهجنا (وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) أي فستعلمون (مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) وقد أنجز الله لرسوله وعده ونصره وأيده وجعل كلمته هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى والله عزيز حكيم.

(وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (١٢٣)

يخبر تعالى أنه عالم غيب السموات والأرض وأنه إليه المرجع والمآب ، وسيؤتي كل عامل عمله يوم الحساب ، فله الخلق والأمر ، فأمر تعالى بعبادته والتوكل عليه. فإنه كاف من توكل عليه وأناب إليه ، وقوله : (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) أي ليس يخفى عليه ما عليه مكذبوك يا محمد بل هو عليم بأحوالهم وسيجزيهم على ذلك أتم الجزاء في الدنيا والآخرة وسينصرك وحزبك عليهم في الدارين ، وقال ابن جرير (١) حدثنا ابن وكيع حدثنا زيد بن الحباب عن جعفر بن سليمان عن أبي عمران الجوني عن عبد الله بن رباح عن كعب قال : خاتمة التوراة خاتمة هود. آخر تفسير سور هود عليه‌السلام ولله الحمد والمنة.

__________________

(١) تفسير الطبري ٧ / ١٤٥.

سورة يوسف

وهي مكية

روى الثعلبي وغيره من طريق سلام بن سلم ، ويقال : سليم المدائني ، وهو متروك عن هارون بن كثير ، وقد نص على جهالته أبو حاتم ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن أبي أمامة ، عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «علموا أرقاكم سورة يوسف ، فإنه أيما مسلم تلاها أو علمها أهله أو ما ملكت يمينه ، هون الله عليه سكرات الموت وأعطاه من القوة أن لا يحسد مسلما» ، وهذا من هذا الوجه لا يصح لضعف إسناده بالكلية.

وقد ساقه الحافظ ابن عساكر متابعا من طريق القاسم بن الحكم ، عن هارون بن كثير به ، ومن طريق شبابة عن محمد بن عبد الواحد النضري ، عن علي بن زيد بن جدعان ، وعن عطاء بن أبي ميمونة ، عن زر بن حبيش ، عن أبي بن كعب ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فذكر نحوه ، وهو منكر من سائر طرقه ، وروى البيهقي في الدلائل أن طائفة من اليهود حين سمعوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يتلو هذه السورة أسلموا لموافقتها ما عندهم ، وهو من رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (١) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ) (٣)

أما الكلام على الحروف المقطعة فقد تقدم في أول سورة البقرة. وقوله : (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) أي هذه آيات الكتاب ، وهو القرآن المبين ، أي الواضح الجلي الذي يفصح عن الأشياء المبهمة ، ويفسرها ويبينها (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) وذلك لأن لغة العرب أفصح اللغات وأبينها وأوسعها وأكثرها تأدية للمعاني التي تقوم بالنفوس ، فلهذا أنزل أشرف الكتب بأشرف اللغات ، على أشرف الرسل بسفارة أشرف الملائكة ، وكان ذلك في أشرف بقاع الأرض ، وابتدئ إنزاله في أشرف شهور السنة ، وهو رمضان ، فكمل من كل الوجوه ، ولهذا قال تعالى : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ) بسبب إيحائنا إليك هذا القرآن.

وقد ورد في سبب نزول هذه الآية ما رواه ابن جرير (١) : حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي ، حدثنا حكام الرازي عن أيوب ، عن عمرو هو ابن قيس الملائي ، عن ابن عباس قال : قالوا : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو قصصت علينا؟ فنزلت (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) ، ورواه من وجه آخر عن عمرو بن قيس مرسلا. وقال أيضا (٢) : حدثنا محمد بن سعيد القطان ، حدثنا عمرو بن محمد ، أنبأنا خالد الصفار عن عمرو بن قيس ، عن عمرو بن مرة ، عن مصعب بن سعد ، عن أبيه قال : أنزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم القرآن. قال : فتلاه عليهم زمانا ، فقالوا : يا رسول الله لو قصصت علينا؟ فأنزل الله عزوجل (الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) إلى قوله : (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) ثم تلاه عليهم زمانا ، فقالوا : يا رسول الله لو حدثتنا ، فأنزل الله عزوجل (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) الآية ، وذكر الحديث ، ورواه الحاكم من حديث إسحاق بن راهويه عن عمرو بن محمد القرشي المنقري به.

وروى ابن جرير (٣) بسنده عن المسعودي ، عن عون بن عبد الله قال : مل أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ملة فقالوا : يا رسول الله حدثنا ، فأنزل الله (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) ثم ملوا ملة أخرى ، فقالوا : يا رسول الله حدثنا فوق الحديث ، ودون القرآن يعنون القصص ، فأنزل الله عزوجل (الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) الآية ، فأرادوا الحديث ، فدلهم على أحسن الحديث ، وأرادوا القصص فدلهم على أحسن القصص.

ومما يناسب ذكره عند هذه الآية الكريمة المشتملة على مدح القرآن ، وأنه كاف عن كل ما سواه من الكتب ما رواه الإمام أحمد (٤) : حدثنا سريج بن النعمان ، أنبأنا هشيم ، أنبأنا مجالد عن الشعبي ، عن جابر بن عبد الله أن عمر بن الخطاب أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب ، فقرأه على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال : فغضب وقال «أمتهوّكون فيها يا ابن الخطاب؟ والذي نفسي بيده ، لقد جئتكم بها بيضاء نقية ، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبونه ، أو بباطل فتصدقونه ، والذي نفسي بيده ، لو أن موسى كان حيّا ما وسعه إلا أن يتبعني».

وقال الإمام أحمد (٥) : حدثنا عبد الرزاق ، أنبأنا سفيان عن جابر ، عن الشعبي ، عن عبد الله بن ثابت قال : جاء عمر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله إني مررت بأخ لي من قريظة ، فكتب لي جوامع من التوراة ألا أعرضها عليك؟ قال : فتغير وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال

__________________

(١) تفسير الطبري ٧ / ١٤٧.

(٢) تفسير الطبري ٧ / ١٤٨.

(٣) تفسير الطبري ٧ / ١٤٧ ، ١٤٨.

(٤) المسند ٣ / ٣٧٨.

(٥) المسند ٣ / ٣٦٥ ، ٣٦٦.

عبد الله بن ثابت : فقلت له : ألا ترى ما بوجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فقال عمر : رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا ، وبمحمد رسولا. قال : فسري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : «والذي نفس محمد بيده ، لو أصبح فيكم موسى ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم ، إنكم حظي من الأمم ، وأنا حظكم من النبيين».

وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا عبد الغفار بن عبد الله بن الزبير ، حدثنا علي بن مسهر عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن خليفة بن قيس ، عن خالد بن عرفطة قال : كنت جالسا عند عمر إذ أتي برجل من عبد القيس مسكنه بالسوس ، فقال له عمر : أنت فلان بن فلان العبدي؟ قال : نعم. قال : وأنت النازل بالسوس (١)؟ قال : نعم ، فضربه بقناة معه ، قال : فقال الرجل : ما لي يا أمير المؤمنين؟ فقال له عمر : اجلس فجلس ، فقرأ عليه (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ـ إلى قوله ـ لَمِنَ الْغافِلِينَ) فقرأها عليه ثلاثا ، وضربه ثلاثا ، فقال له الرجل : ما لي يا أمير المؤمنين؟ فقال : أنت الذي نسخت كتاب دانيال. قال : مرني بأمرك أتبعه ، قال : انطلق فامحه بالحميم (٢) والصوف الأبيض ثم لا تقرأه ولا تقرئه أحدا من الناس فلئن بلغني عنك أنك قرأته أو أقرأته أحدا من الناس لأنهكنك عقوبة (٣).

ثم قال ، له اجلس فجلس بين يديه ، فقال : انطلقت أنا فانتسخت كتابا من أهل الكتاب ، ثم جئت به في أديم ، فقال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما هذا في يدك يا عمر؟» قال : قلت : يا رسول الله كتاب نسخته لنزداد به علما إلى علمنا ، فغضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى احمرت وجنتاه ، ثم نودي بالصلاة جامعة ، فقالت الأنصار : أغضب نبيكم الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ السلاح السلاح ، فجاؤوا حتى أحدقوا بمنبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «يا أيها الناس إني قد أوتيت جوامع الكلم وخواتيمه ، واختصر لي اختصارا ، ولقد أتيتكم بها بيضاء نقية ، فلا تتهوكوا ولا يغرنكم المتهوكون».

قال عمر : فقمت فقلت : رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا ، وبك رسولا ، ثم نزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد رواه ابن أبي حاتم في تفسيره مختصرا من حديث عبد الرحمن بن إسحاق به وهذا حديث غريب من هذا الوجه ، وعبد الرحمن بن إسحاق هو أبو شيبة الواسطي ، وقد ضعفوه وشيخه. قال البخاري : لا يصح حديثه.

قلت : وقد روي له شاهد من وجه آخر ، فقال الحافظ أبو بكر أحمد بن إبراهيم

__________________

(١) السوس : بلدة بخوزستان ، وجد فيها دانيال ، فدفن في نهرها تحت الماء ، وغمر قبره ، وموضعه ظاهر يزار.

(٢) الحميم : الماء الحار.

(٣) أنهكه عقوبة : أي بالغ في عقوبته.

الإسماعيلي : أخبرني الحسن بن سفيان ، حدثنا يعقوب بن سفيان ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن العلاء الزبيدي ، حدثني عمرو بن الحارث ، حدثنا عبد الله بن سالم الأشعري عن الزبيدي ، حدثنا سليم بن عامر أن جبير بن نفير حدثهم أن رجلين كانا بحمص في خلافة عمر رضي الله عنه ، فأرسل إليهما فيمن أرسل من أهل حمص ، وكانا قد اكتتبا من اليهود ملء صفنة فأخذاها معهما يستفتيان فيها أمير المؤمنين يقولون : إن رضيها لنا أمير المؤمنين ازددنا فيها رغبة ، وإن نهانا عنها رفضناها ، فلما قدما عليه قالا : إنا بأرض أهل الكتاب ، وإنا نسمع منهم كلاما تقشعر منه جلودنا ، أفنأخذ منه أو نترك؟ فقال : لعلكما كتبتما منه شيئا؟ فقالا : لا ، قال سأحدثكما : انطلقت في حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أتيت خيبر ، فوجدت يهوديا يقول قولا أعجبني ، فقلت : هل أنت مكتبي مما تقول؟ قال : نعم فأتيت بأديم ، فأخذ يملي علي حتى كتبت في الأكرع ، فلما رجعت قلت : يا نبي الله وأخبرته.

قال «ائتني به» فانطلقت أرغب عن الشيء رجاء أن أكون جئت رسول الله ببعض ما يحب ، فلما أتيت به قال : «اجلس اقرأ علي» فقرأت ساعة ، ثم نظرت إلى وجه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإذا هو يتلون ، فتحيرت من الفرق ، فما استطعت أن أجيز منه حرفا ، فلما رأى الذي بي رفعه ثم جعل يتبعه رسما رسما فيمحوه بريقه ، وهو يقول : «لا تتبعوا هؤلاء فإنهم قد هوكوا وتهوكوا» حتى محا آخره حرفا حرفا. قال عمر رضي الله عنه : فلو علمت أنكما كتبتما منه شيئا جعلتكما نكالا لهذه الأمة ، قالا : والله ما نكتب منه شيئا أبدا ، فخرجا بصفنتهما ، فحفرا لها ، فلم يألوا أن يعمقا ودفناها ، فكان آخر العهد منها ، وهكذا روى الثوري عن جابر بن يزيد الجعفي عن الشعبي عن عبد الله بن ثابت الأنصاري عن عمر بن الخطاب بنحوه ، وروى أبو داود في المراسيل من حديث أبي قلابة عن عمر نحوه ، والله أعلم.

(إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) (٤)

يقول تعالى : اذكر لقومك يا محمد في قصصك عليهم من قصة يوسف إذ قال لأبيه ، وأبوه هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم‌السلام ، كما قال الإمام أحمد (١) : حدثنا عبد الصمد حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار ، عن أبيه عن ابن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم» انفرد بإخراجه البخاري (٢) ، فرواه عن عبد الله بن محمد عن عبد الصمد به ، وقال البخاري أيضا : حدثنا محمد ، أنبأنا عبدة عن عبيد الله عن سعيد بن أبي سعيد ، عن أبي هريرة قال : سئل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي الناس أكرم؟ قال : «أكرمهم عند الله أتقاهم» قالوا : ليس عن هذا نسألك.

__________________

(١) المسند ٢ / ٩٦.

(٢) كتاب التفسير ، تفسير سورة ١٢ ، باب ١.

قال : «فأكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله» قالوا : ليس عن هذا نسألك ، قال : «فعن معادن العرب تسألوني؟» قالوا : نعم. قال «فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا» ثم قال : تابعه أبو أسامة عن عبيد الله.

وقال ابن عباس رؤيا الأنبياء وحي ، وقد تكلم المفسرون على تعبير هذا المنام أن الأحد عشر كوكبا عبارة عن إخوته ، وكانوا أحد عشر رجلا سواه ، والشمس والقمر عبارة عن أمه وأبيه. روي هذا عن ابن عباس والضحاك وقتادة وسفيان الثوري وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وقد وقع تفسيرها بعد أربعين سنة ، وقيل : ثمانين سنة ، وذلك حين رفع أبويه على العرش وهو سريره وإخوته بين يديه (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا) [يوسف : ١٠٠].

وقد جاء في حديث تسمية هذه الأحد عشر كوكبا ، فقال الإمام أبو جعفر بن جرير (١) : حدثني علي بن سعيد الكندي ، حدثنا الحكم بن ظهير عن السدي عن عبد الرحمن بن سابط ، عن جابر قال : أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجل من يهود يقال له بستانة اليهودي ، فقال له : يا محمد أخبرني عن الكواكب التي رآها يوسف أنها ساجدة له ، ما أسماؤها؟ قال : فسكت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ساعة فلم يجبه بشيء. ونزل عليه جبريل عليه‌السلام فأخبره بأسمائها ، قال : فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليه فقال : «هل أنت مؤمن إذا أخبرتك بأسمائها؟» فقال : نعم. قال «جريان ، والطارق ، والذيال ، وذو الكنفات ، وقابس ، ووثاب ، وعمودان ، والفيلق ، والمصبح ، والضروح ، وذو الفرغ ، والضياء ، والنور» فقال اليهودي : إي والله إنها لأسماؤها.

ورواه البيهقي في الدلائل من حديث سعيد بن منصور عن الحكم بن ظهير. وقد روى هذا الحديث الحافظان أبو يعلى الموصلي وأبو بكر البزار في مسنديهما ، وابن أبي حاتم في تفسيره ، أما أبو يعلى فرواه عن أربعة من شيوخه عن الحكم بن ظهير به ، وزاد : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لما رآها يوسف قصها على أبيه يعقوب فقال له أبوه : هذا أمر متشتت يجمعه الله من بعد ، ـ قال ـ والشمس أبوه والقمر أمّه» تفرد به الحكم بن ظهير الفزاري وقد ضعفه الأئمة وتركه الأكثرون ، وقال الجوزجاني : ساقط وهو صاحب حديث حسن ، ثم ذكر الحديث المروي عن جابر أن يهوديا سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الكواكب التي رآها يوسف ، ما أسماؤها؟ وأنه أجابه ، ثم قال : تفرد به الحكم بن ظهير ، وقد ضعفه الأربعة.

(قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (٥)

__________________

(١) تفسير الطبري ٧ / ١٤٨.

يقول تعالى مخبرا عن قول يعقوب لابنه يوسف حين قص عليه ما رأى من هذه الرؤيا التي تعبيرها خضوع إخوته له ، وتعظيمهم إياه تعظيما زائدا بحيث يخرون له ساجدين إجلالا واحتراما وإكراما ، فخشي يعقوب عليه‌السلام أن يحدث بهذا المنام ، أحدا من إخوته فيحسدونه على ذلك ، فيبغون له الغوائل حسدا منهم له ، ولهذا قال له : (لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً) أي يحتالوا لك حيلة يردونك فيها.

ولهذا ثبتت السنة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إذا رأى أحدكم ما يحب فليحدث به ، وإذا رأى ما يكره فليتحول إلى جنبه الآخر ، وليتفل عن يساره ثلاثا ، وليستعذ بالله من شرها ، ولا يحدث بها أحدا فإنها لن تضره» (١) وفي الحديث الآخر الذي رواه الإمام أحمد وبعض أهل السنن من رواية معاوية بن حيدة ، القشيري أنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر ، فإذا عبرت وقعت» (٢) ومن هذا يؤخذ الأمر بكتمان النعمة حتى توجد وتظهر ، كما ورد في حديث «استعينوا على قضاء الحوائج بكتمانها ، فإن كل ذي نعمة محسود».

(وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٦)

يقول تعالى مخبرا عن قول يعقوب لولده يوسف : إنه كما اختارك ربك وأراك هذه الكواكب مع الشمس والقمر ساجدة لك (كَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ) أي يختارك ويصطفيك لنبوته (وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) قال مجاهد وغير واحد : يعني تعبير الرؤيا (٣) (وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) أي بإرسالك والإيحاء إليك ، ولهذا قال : (كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ) وهو الخليل (وَإِسْحاقَ) ولده وهو الذبيح في قول ، وليس بالرجيح (إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي هو أعلم حيث يجعل رسالته ، كما قال في الآية الأخرى.

(لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (٧) إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (٩) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) (١٠)

يقول تعالى : لقد كان في قصة يوسف وخبره مع إخوته آيات ، أي عبرة ومواعظ للسائلين

__________________

(١) أخرجه أبو داود في السنة باب ١٨ ، والأدب باب ٨٨ ، وابن ماجة في الرؤيا باب ٤ ، والدارمي في الرؤيا باب ٥ ، وأحمد في المسند ٥ / ٢٩٦ ، ٣٠٣ ، ٣٠٩.

(٢) أخرجه أبو داود في الأدب باب ٨٨ ، وابن ماجة في الرؤيا باب ٦ ، وأحمد في المسند ٤ / ١٠.

(٣) انظر تفسير الطبري ٧ / ١٥١.

عن ذلك المستخبرين عنه ، فإنه خبر عجيب يستحق أن يخبر عنه (إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا) أي حلفوا فيما يظنون والله ليوسف وأخوه ، يعنون بنيامين وكان شقيقه لأمه (أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) أي جماعة ، فكيف أحب ذينك الاثنين أكثر من الجماعة (إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) يعنون في تقديمهما علينا ، ومحبته إياهما أكثر منا.

واعلم أنه لم يقم دليل على نبوة إخوة يوسف ، وظاهر هذا السياق يدل على خلاف ذلك ، ومن الناس من يزعم أنهم أوحي إليهم بعد ذلك ، وفي هذا نظر ، ويحتاج مدعي ذلك إلى دليل ، ولم يذكروا سوى قوله تعالى : (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ) وهذا فيه احتمال لأن بطون بني إسرائيل يقال لهم الأسباط ، كما يقال للعرب قبائل وللعجم شعوب ، يذكر تعالى أنه أوحى إلى الأنبياء من أسباط بني إسرائيل فذكرهم إجمالا لأنهم كثيرون ، ولكن كل سبط من نسل رجل من إخوة يوسف ، ولم يقم دليل على أعيان هؤلاء أنهم أوحي إليهم ، والله أعلم.

(اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ) يقولون : هذا الذي يزاحمكم في محبة أبيكم لكم أعدموه من وجه أبيكم ، ليخلو لكم وحدكم ، إما بأن تقتلوه أو تلقوه في أرض من الأراضي تستريحوا منه ، وتخلوا أنتم بأبيكم (وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ) فأضمروا التوبة قبل الذنب (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ) قال قتادة ومحمد بن إسحاق : وكان أكبرهم واسمه روبيل.

وقال السدي : الذي قال ذلك ، يهوذا. وقال مجاهد هو شمعون الصفا.

(لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ) أي لا تصلوا في عداوته وبغضه إلى قتله ، ولم يكن لهم سبيل إلى قتله لأن الله تعالى كان يريد منه أمرا لا بد من إمضائه وإتمامه من الإيحاء إليه بالنبوة ، ومن التمكين له ببلاد مصر والحكم بها ، فصرفهم الله عنه بمقالة روبيل فيه وإشارته عليهم بأن يلقوه في غيابة الجب وهو أسفله. قال قتادة : وهي بئر بيت المقدس (يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ) أي المارة من المسافرين فتستريحوا منه بهذا ولا حاجة إلى قتله (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) أي إن كنتم عازمين على ما تقولون. قال محمد بن إسحاق بن يسار : لقد اجتمعوا على أمر عظيم من قطيعة الرحم ، وعقوق الوالد ، وقلة الرأفة بالصغير الضرع الذي لا ذنب له ، وبالكبير الفاني ذي الحق والحرمة والفضل ، وخطره عند الله مع حق الوالد على ولده ، ليفرقوا بينه وبين أبيه وحبيبه على كبر سنه ورقة عظمه ، مع مكانه من الله فيمن أحبه طفلا صغيرا ، وبين ابنه على ضعف قوته وصغر سنه وحاجته إلى لطف والده وسكونه إليه ، يغفر الله لهم وهو أرحم الراحمين ، فقد احتملوا أمرا عظيما رواه ابن أبي حاتم من طريق سلمة بن الفضل عنه.

(قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (١١) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (١٢)

لما تواطأوا على أخذه وطرحه في البئر كما أشار به عليهم أخوهم الكبير روبيل ، جاءوا أباهم يعقوب عليه‌السلام فقالوا : ما بالك (لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ) وهذه توطئة ودعوى ، وهم يريدون خلاف ذلك لما له في قلوبهم من الحسد لحب أبيه له (أَرْسِلْهُ مَعَنا) أي ابعثه معنا غدا نرتع ونلعب وقرأ بعضهم بالياء (يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ) قال ابن عباس : يسعى وينشط(١) ، وكذا قال قتادة والضحاك والسدي وغيرهم (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) يقولون : ونحن نحفظه ونحوطه من أجلك.

(قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (١٣) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ) (١٤)

يقول تعالى مخبرا عن نبيه يعقوب أنه قال لبنيه في جواب ما سألوا من إرسال يوسف معهم إلى الرعي في الصحراء (إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ) أي يشق علي مفارقته مدة ذهابكم به إلى أن يرجع ، وذلك لفرط محبته له لما يتوسم فيه من الخير العظيم وشمائل النبوة والكمال في الخلق والخلق صلوات الله وسلامه عليه. وقوله : (وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ) يقول : وأخشى أن تشتغلوا عنه برميكم ورعيكم فيأتيه ذئب فيأكله وأنتم لا تشعرون ، فأخذوا من فمه هذه الكلمة ، وجعلوها عذرهم فيما فعلوه ، وقالوا مجيبين له عنها في الساعة الراهنة (لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ) يقولون : لئن عدا عليه الذئب فأكله من بيننا ونحن جماعة إنا إذا لهالكون عاجزون.

(فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (١٥)

يقول تعالى : فلما ذهب به إخوته من عند أبيه بعد مراجعتهم له في ذلك (وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِ) هذا فيه تعظيم لما فعلوه ، أنهم اتفقوا كلهم على إلقائه في أسفل ذلك الجب وقد أخذوه من عند أبيه فيما يظهرونه له إكراما له ، وبسطا وشرحا لصدره ، وإدخالا للسرور عليه ، فيقال إن يعقوب عليه‌السلام لما بعثه معهم ضمه إليه وقبله ودعا له ، وذكر السدي وغيره أنه لم يكن بين إكرامهم له وبين إظهار الأذى له إلا أن غابوا عن عين أبيه وتواروا عنه ، ثم شرعوا يؤذونه بالقول من شتم ونحوه ، والفعل من ضرب ونحوه ، ثم جاءوا به إلى ذلك الجب الذي اتفقوا على رميه فيه ، فربطوه بحبل ودلوه فيه ، فكان إذا لجأ إلى واحد منهم لطمه وشتمه ، وإذا تشبث بحافات البئر ضربوا على يديه ، ثم قطعوا به الحبل من نصف المسافة ، فسقط في الماء فغمره ، فصعد إلى صخرة تكون في وسطه يقال لها الراغوفة ، فقام فوقها.

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ١٥٥.

وقوله : (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) ، يقول تعالى ذاكرا لطفه ورحمته وعائدته وإنزاله اليسر في حال العسر : إنه أوحى إلى يوسف في ذلك الحال الضيق تطييبا لقلبه وتثبيتا له ، إنك لا تحزن مما أنت فيه ، فإن لك من ذلك فرجا ومخرجا حسنا ، وسينصرك الله عليهم ويعليك ويرفع درجتك وستخبرهم بما فعلوا معك من هذا الصنيع ، وقوله : (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ). قال مجاهد وقتادة : (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بإيحاء الله إليه.

وقال ابن عباس : ستنبئهم بصنيعهم هذا في حقك ، وهم لا يعرفونك ولا يستشعرون بك ، كما قال ابن جرير (١) : حدثني الحارث ، حدثنا عبد العزيز ، حدثنا صدقة بن عبادة الأسدي عن أبيه ، سمعت ابن عباس يقول : لما دخل إخوة يوسف عليه فعرفهم وهم له منكرون ، قال : جيء بالصواع (٢) فوضعه على يده ، ثم نقره فطن ، فقال : إنه ليخبرني هذا الجام (٣) أنه كان لكم أخ من أبيكم يقال له يوسف ، يدنيه دونكم ، وأنكم انطلقتم به وألقيتموه في غيابة الجب ، قال : ثم نقره فطن ، قال : فأتيتم أباكم فقلتم : إن الذئب أكله وجئتم على قميصه بدم كذب ، قال : فقال بعضهم لبعض : إن هذا الجام ليخبره بخبركم. قال ابن عباس : فلا نرى هذه الآية نزلت إلا فيهم (لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ).

(وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (١٦) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (١٧) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) (١٨)

يقول تعالى مخبرا عن الذي اعتمده إخوة يوسف بعد ما ألقوه في غيابة الجب ، ثم رجعوا إلى أبيهم في ظلمة الليل يبكون ويظهرون الأسف والجزع على يوسف ويتغممون لأبيهم ، وقالوا معتذرين عما وقع فيما زعموا (إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ) أي نترامى ، (وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا) أي ثيابنا وأمتعتنا ، (فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ) ، وهو الذي كان قد جزع منه وحذر عليه.

وقوله : (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) تلطف عظيم في تقرير ما يحاولونه ، يقولون : ونحن نعلم أنك لا تصدقنا والحالة هذه لو كنا عندك صادقين ، فكيف وأنت تتهمنا في ذلك ، لأنك خشيت أن يأكله الذئب ، فأكله الذئب ، فأنت معذور في تكذيبك لنا لغرابة ما وقع ، وعجيب ما اتفق لنا في أمرنا هذا (وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ) أي مكذوب مفترى ، وهذا من الأفعال التي يؤكدون بها ما تمالئوا عليه من المكيدة ، وهو أنهم عمدوا إلى

__________________

(١) تفسير الطبري ٧ / ١٥٩.

(٢) الصواع : مكيال ، يكال به.

(٣) الجام إناء من فضة.

سخلة (١) فيما ذكره مجاهد والسدي وغير واحد ، فذبحوها ولطخوا ثوب يوسف بدمها ، موهمين أن هذا قميصه الذي أكله فيه الذئب ، وقد أصابه من دمه ، ولكنهم نسوا أن يخرقوه ، فلهذا لم يرج هذا الصنيع على نبي الله يعقوب ، بل قال لهم معرضا عن كلامهم إلى ما وقع في نفسه من لبسهم عليه (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) أي فسأصبر صبرا جميلا على هذا الأمر الذي اتفقتم عليه حتى يفرجه الله بعونه ولطفه (وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) أي على ما تذكرون من الكذب والمحال.

وقال الثوري عن سماك ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس (وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ) قال : لو أكله السبع لخرق القميص (٢) ، وكذا قال الشعبي والحسن وقتادة وغير واحد.

وقال مجاهد : الصبر الجميل الذي لا جزع فيه (٣). وروى هشيم عن عبد الرحمن بن يحيى ، عن حبان بن أبي جبلة ، قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قوله : (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) فقال : صبر لا شكوى فيه ، وهذا مرسل. وقال عبد الرزاق : قال الثوري ، عن بعض أصحابه أنه قال : ثلاث من الصبر : أن لا تحدث بوجعك ، ولا بمصيبتك ، ولا تزكي نفسك وذكر البخاري (٤) هاهنا حديث عائشة في الإفك حتى ذكر قولها : والله لا أجد لي ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف : (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) [يوسف : ٦].

(وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٩) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) (٢٠)

يقول تعالى مخبرا عما جرى ليوسف عليه‌السلام حين ألقاه إخوته وتركوه في ذلك الجب وحيدا فريدا ، فمكث في البئر ثلاثة أيام فيما قاله أبو بكر بن عياش ، وقال محمد بن إسحاق : لما ألقاه إخوته جلسوا حول البئر يومهم ذلك ، ينظرون ماذا يصنع وما يصنع به ، فساق الله له سيارة ، فنزلوا قريبا من تلك البئر ، وأرسلوا وأردهم وهو الذي يتطلب لهم الماء ، فلما جاء ذلك البئر وأدلى دلوه فيها ، تشبث يوسف عليه‌السلام فيها فأخرجه واستبشر به ، وقال : (يا بُشْرى هذا غُلامٌ)

وقرأ بعض القراء يا بشراي ، فزعم السدي أنه اسم رجل ، ناداه ذلك الرجل الذي أدلى دلوه معلما له أنه أصاب غلاما ، وهذا القول من السدي غريب لأنه لم يسبق إلى تفسير هذه القراءة

__________________

(١) السخلة : ولد الشاة من المعز والضأن ، ذكرا كان أم أنثى.

(٢) انظر تفسير الطبري ٧ / ١٦١.

(٣) انظر تفسير الطبري ٧ / ١٦٢.

(٤) كتاب التفسير ، تفسير سورة ١٢ ، باب ٣.

بهذا إلا في رواية عن ابن عباس ، والله أعلم ، وإنما معنى القراءة على هذا النحو يرجع إلى القراءة الأخرى ، ويكون قد أضاف البشرى إلى نفسه وحذف ياء الإضافة ، وهو يريدها كما تقول العرب: يا نفس اصبري ويا غلام أقبل ، بحذف حرف الإضافة ، ويجوز الكسر حينئذ والرفع ، وهذا منه ، وتفسرها القراءة الأخرى يا بشراي ، والله أعلم.

وقوله : (وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً) أي وأسره الواردون من بقية السيارة وقالوا : اشتريناه وتبضعناه من أصحاب الماء مخافة أن يشاركوهم فيه إذا علموا خبره ، قاله مجاهد والسدي وابن جرير : هذا قول ، وقال العوفي عن ابن عباس قوله : (وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً) يعني إخوة يوسف أسروا شأنه ، وكتموا أن يكون أخاهم ، وكتم يوسف شأنه مخافة أن يقتله إخوته ، واختار البيع فذكره إخوته لوارد القوم ، فنادى أصحابه (يا بُشْرى هذا غُلامٌ) يباع فباعه إخوته.

وقوله : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ) أي عليم بما يفعله إخوة يوسف ومشتروه ، وهو قادر على تغيير ذلك ودفعه ، ولكن له حكمة وقدر سابق ، فترك ذلك ليمضي ما قدره وقضاه (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) [الأعراف : ٥٤] وفي هذا تعريض لرسوله محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم وإعلام له بأني عالم بأذى قومك لك ، وأنا قادر على الإنكار عليهم ، ولكني سأملي لهم ثم أجعل لك العاقبة والحكم عليهم ، كما جعلت ليوسف الحكم والعاقبة على إخوته.

وقوله : (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ) يقول تعالى : وباعه إخوته بثمن قليل. قاله مجاهد وعكرمة والبخس : هو النقص ، كما قال تعالى : (فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً) [الجن : ١٣] أي اعتاض عنه إخوته بثمن دون قليل ، ومع ذلك كانوا فيه من الزاهدين أي ليس لهم رغبة فيه ، بل لو سئلوه بلا شيء لأجابوا. قال ابن عباس ومجاهد والضحاك : إن الضمير في قوله : (وَشَرَوْهُ) عائد على إخوة يوسف. وقال قتادة : بل هو عائد على السيارة. والأول أقوى ، لأن قوله : (وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) إنما أراد إخوته لا أولئك السيارة ، لأن السيارة استبشروا به وأسروه بضاعة ، ولو كانوا فيه زاهدين لما اشتروه ، فترجح من هذا أن الضمير في (شَرَوْهُ) إنما هو لإخوته.

وقيل : المراد بقوله (بَخْسٍ) الحرام. وقيل : الظلم ، هذا وإن كان كذلك لكن ليس هو المراد هنا ، لأن هذا معلوم يعرفه كل أحد أن ثمنه حرام على كل حال وعلى كل أحد لأنه نبي ابن نبي ابن نبي ابن خليل الرحمن فهو الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ، وإنما المراد هنا بالبخس الناقص أو الزيوف أو كلاهما ، أي إنهم إخوته وقد باعوه ، ومع هذا بأنقص الأثمان ، ولهذا قال (دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ) ، فعن ابن مسعود رضي الله عنه : باعوه بعشرين درهما ، وكذا قال ابن عباس ونوف البكالي والسدي وقتادة وعطية العوفي ، وزاد اقتسموها درهمين درهمين.

وقال مجاهد : اثنان وعشرون درهما. وقال محمد بن إسحاق وعكرمة : أربعون درهما. وقال الضحاك في قوله (وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) وذلك أنهم لم يعلموا نبوته ومنزلته عند الله عزوجل ، وقال مجاهد : لما باعوه جعلوا يتبعونهم ويقولون لهم : استوثقوا منه لا يأبق ، حتى وقفوه بمصر فقال: من يبتاعني وليبشر؟ فاشتراه الملك وكان مسلما.

(وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢١) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (٢٢)

يخبر تعالى بألطافه بيوسف عليه‌السلام أنه قيض له الذي اشتراه من مصر حتى اعتنى به وأكرمه ، وأوصى أهله به ، وتوسم فيه الخير والصلاح ، فقال لامرأته (أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) وكان الذي اشتراه من مصر عزيزها وهو الوزير. حدثنا العوفي عن ابن عباس وكان اسمه قطفير.

وقال محمد بن إسحاق : اسمه أطفير بن روحيب وهو العزيز ، وكان على خزائن مصر ، وكان الملك يومئذ الريان بن الوليد رجل من العماليق ، قال : واسم امرأته راعيل بنت رعائيل (١) ، وقال غيره : اسمها زليخا ، وقال محمد بن إسحاق أيضا ، عن محمد بن السائب ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس : كان الذي باعه بمصر مالك بن دعر بن بويب بن عنقا بن مديان بن إبراهيم ، فالله أعلم.

وقال أبو إسحاق عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود أنه قال : أفرس الناس ثلاثة : عزيز مصر حين قال لامرأته : (أَكْرِمِي مَثْواهُ) ، والمرأة التي قالت لأبيها (يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ) [القصص : ٢٦] الآية ، وأبو بكر الصديق حين استخلف عمر بن الخطاب رضي الله عنهما(٢).

يقول تعالى : كما أنقذنا يوسف من إخوته (كَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) يعني بلاد مصر (وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ).

قال مجاهد والسدي : هو تعبير الرؤيا (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ) أي إذا أراد شيئا فلا يرد ولا يمانع ولا يخالف ، بل هو الغالب لما سواه. قال سعيد بن جبير في قوله : (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ) : أي فعال لما يشاء. وقوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) يقول : لا يدرون حكمته في خلقه وتلطفه وفعله لما يريد ، وقوله : (وَلَمَّا بَلَغَ) أي يوسف عليه‌السلام (أَشُدَّهُ)

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ١٧٢.

(٢) انظر تفسير الطبري ٧ / ١٧٣.

أي استكمل عقله وتم خلقه (آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) يعني النبوة أنه حباه بها بين أولئك الأقوام (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي إنه كان محسنا في عمله عاملا بطاعة الله تعالى.

وقد اختلف في مقدار المدة التي بلغ فيها أشده ، فقال ابن عباس ومجاهد وقتادة : ثلاث وثلاثون سنة. وعن ابن عباس : بضع وثلاثون. وقال الضحاك : عشرون ، وقال الحسن : أربعون سنة. وقال عكرمة : خمس وعشرون سنة. وقال السدي : ثلاثون سنة. وقال سعيد بن جبير : ثماني عشرة سنة. وقال الإمام مالك وربيعة بن زيد بن أسلم والشعبي : الأشد الحلم ، وقيل غير ذلك ، والله أعلم.

(وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (٢٣)

يخبر تعالى عن امرأة العزيز التي كان يوسف في بيتها بمصر ، وقد أوصاها زوجها به وبإكرامه ، فراودته عن نفسه ، أي حاولته على نفسه ودعته إليها ، وذلك انها أحبته حبا شديدا لجماله وحسنه وبهائه ، فحملها ذلك على أن تجملت له وغلقت عليه الأبواب ودعته إلى نفسها ، (وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ) فامتنع من ذلك أشد الامتناع ، و (قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ) وكانوا يطلقون الرب على السيد الكبير ، أي إن بعلك ربي أحسن مثواي أي منزلي ، وأحسن إلي فلا أقابله بالفاحشة في أهله (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) ، قال ذلك مجاهد والسدي ومحمد بن إسحاق وغيرهم.

وقد اختلف القراء في قوله : (هَيْتَ لَكَ) فقرأه كثيرون بفتح الهاء وإسكان الياء وفتح التاء ، وقال ابن عباس ومجاهد وغير واحد : معناه أنها تدعوه إلى نفسها. وقال علي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس : هيت لك ، تقول هلم لك ، وكذا قال زر بن حبيش وعكرمة والحسن وقتادة. قال عمرو بن عبيد عن الحسن : وهي كلمة بالسريانية ، أي عليك. وقال السدي : هيت لك ، أي هلم لك ، وهي بالقبطية. وقال مجاهد : هي لغة عربية تدعوه بها. وقال البخاري (١) : وقال عكرمة : هيت لك ، أي هلم لك بالحورانية. وهكذا ذكره معلقا.

وقد أسنده الإمام جعفر بن جرير (٢) : حدثني أحمد بن سهل الواسطي ، حدثنا قرة بن عيسى ، حدثنا النضر بن عربي الجزري عن عكرمة مولى ابن عباس في قوله : (هَيْتَ لَكَ) قال : هلم لك ، قال : هي بالحورانية ، وقال أبو عبيد القاسم بن سلام : وكان الكسائي يحكي هذه القراءة ، يعني هيت لك ، ويقول : هي لغة لأهل حوران وقعت إلى أهل الحجاز ، ومعناها تعال. وقال أبو عبيدة : سألت شيخا عالما من أهل حوران ، فذكر أنها لغتهم يعرفها ، واستشهد

__________________

(١) كتاب التفسير ، تفسير سورة ١٢ ، باب ٤.

(٢) تفسير الطبري ٧ / ١٧٧.

الإمام ابن جرير على هذه القراءة بقول الشاعر لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه : [مجزوء الكامل]

أبلغ أمير المؤمنين

أخا العراق إذا أتيتا (١)

إن العراق وأهله

عنق إليك فهيت هيتا

يقول : فتعال واقترب ، وقرأ ذلك آخرون هئت لك بكسر الهاء وبالهمز وضم التاء ، بمعنى تهيأت لك من قول القائل هئت بالأمر أهيء هيئة ، وممن روى عنه هذه القراءة : ابن عباس وأبو عبد الرحمن السلمي وأبو وائل وعكرمة وقتادة ، وكلهم يفسرها بمعنى تهيأت لك. قال ابن جرير : وكان أبو عمرو والكسائي ينكران هذه القراءة ، وقرأ عبد الله بن إسحاق : هيت بفتح الهاء وكسر التاء ، وهي غريبة ، وقرأ آخرون منهم عامة أهل المدينة هيت بفتح الهاء وضم التاء ، وأنشد قول الشاعر : [الوافر]

ليس قومي بالأبعدين إذا ما

قال داع من العشيرة هيت (٢)

قال عبد الرزاق : أنبأنا الثوري ، عن الأعمش ، عن أبي وائل ، قال : قال ابن مسعود وقد سمع القراء : سمعتهم متقاربين ، فاقرؤوا كما علمتم ، وإياكم والتنطع والاختلاف ، وإنما هو كقول أحدكم : هلم وتعال. ثم قرأ عبد الله : هيت لك ، فقال : يا أبا عبد الرحمن إن ناسا يقرءونها هيت. قال عبد الله : أن أقرأها كما علمت أحب إليّ (٣).

وقال ابن جرير (٤) : حدثني ابن وكيع ، حدثنا ابن عيينة عن منصور ، عن أبي وائل ، قال: قال عبد الله : هيت لك ، فقال له مسروق : إن ناسا يقرءونها : هيت لك ، فقال : دعوني فإني أقرأ كما أقرئت ، أحب إليّ ، وقال أيضا : حدثني المثنى ، حدثنا آدم بن أبي إياس ، حدثنا شعبة عن شقيق ، عن ابن مسعود ، قال : هيت لك بنصب الهاء والتاء ، ولا نهمز. وقال آخرون : هيت لك بكسر الهاء ، وإسكان الياء ، وضم التاء. قال أبو عبيد معمر بن المثنى : هيت لا تثنى ، ولا تجمع ، ولا تؤنث ، بل يخاطب الجميع بلفظ واحد ، فيقال : هيت لك ، وهيت لكم ، وهيت لكما ، وهيت لكن ، وهيت لهن.

(وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) (٢٤)

__________________

(١) البيتان بلا نسبة في جمهرة اللغة ص ٢٥١ ، ٤٤٠ ، والخصائص ١ / ٢٧٩ ، وشرح المفصل ٤ / ٣٢ ، ولسان العرب (هت) ، (عنق) ، والمحتسب ١ / ٣٣٧ ، وتفسير الطبري ٧ / ١٧٦.

(٢) البيت لطرفة بن العبد في تفسير الطبري ٧ / ١٧٩ ، وليس في ديوانه.

(٣) انظر تفسير الطبري ٧ / ١٧٩.

(٤) تفسير الطبري ٧ / ١٧٩.

اختلفت أقوال الناس وعباراتهم في هذا المقام ، وقد روي عن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وطائفة من السلف في ذلك ما رواه ابن جرير (١) وغيره ، والله أعلم. وقيل : المراد بهمه بها خطرات حديث النفس ، حكاه البغوي عن بعض أهل التحقيق ، ثم أورد البغوي هاهنا حديث عبد الرزاق عن معمر ، عن همام ، عن أبي هريرة رضي الله عنه. قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يقول الله تعالى : إذا هم عبدي بحسنة فاكتبوها له حسنة ، فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها ، وإن هم بسيئة فلم يعملها فاكتبوها حسنة ، فإنما تركها من جرائي ، فإن عملها فاكتبوها بمثلها» (٢) ، وهذا الحديث مخرج في الصحيحين وله ألفاظ كثيرة هذا منها.

وقيل : هم بضربها. وقيل : تمناها زوجة. وقيل : (هَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) أي فلم يهم بها ، وفي هذا القول نظر من حيث العربية ، حكاه ابن جرير وغيره. وأما البرهان الذي رآه ففيه أقوال أيضا ، فعن ابن عباس وسعيد ومجاهد وسعيد بن جبير ومحمد بن سيرين والحسن وقتادة وأبي صالح والضحاك ومحمد بن إسحاق وغيرهم : رأى صورة أبيه يعقوب عليه‌السلام عاضا على إصبعه بفمه. وقيل عنه في رواية : فضرب في صدر يوسف. وقال العوفي عن ابن عباس : رأى خيال الملك يعني سيده ، وكذا قال محمد بن إسحاق فيما حكاه عن بعضهم : إنما هو خيال قطفير سيده حين دنا من الباب.

وقال ابن جرير (٣) : حدثنا أبو كريب ، حدثنا وكيع عن أبي مودود ، سمعت من محمد بن كعب القرظي. قال رفع يوسف رأسه إلى سقف البيت ، فإذا كتاب في حائط البيت (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً) [الإسراء : ٣٢] ، وكذا رواه أبو معشر المدني عن محمد بن كعب. وقال عبد الله بن وهب : أخبرني نافع بن يزيد ، عن أبي صخر ، قال : سمعت القرظي يقول : في البرهان الذي رآه يوسف ثلاث آيات من كتاب الله (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ) [الانفطار : ١٠] الآية ، وقوله : (وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ) [يونس : ٦١] الآية ، وقوله : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) [الرعد : ٣٣] قال نافع : سمعت أبا هلال يقول مثل قول القرظي ، وزاد آية رابعة (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى) [الإسراء : ٣٣]. وقال الأوزاعي رأى آية من كتاب الله في الجدار تنهاه عن ذلك.

قال ابن جرير (٤) : والصواب أن يقال : إنه رأى آية من آيات الله تزجره عما كان هم به ، وجائز أن يكون صورة يعقوب ، وجائز أن يكون صورة الملك ، وجائز أن يكون ما رآه مكتوبا من الزجر عن ذلك ، ولا حجة قاطعة على تعيين شيء من ذلك ، فالصواب أن يطلق كما قال الله

__________________

(١) تفسير الطبري ٧ / ١٨١.

(٢) أخرجه البخاري في الرقاق باب ٣١ ، ومسلم في الإيمان ٢٠٦ ، ٢٠٧.

(٣) تفسير الطبري ٧ / ١٨٨.

(٤) تفسير الطبري ٧ / ١٨٩.

تعالى. وقوله : (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ) أي كما أريناه برهانا صرفه عما كان فيه ، كذلك نقيه السوء والفحشاء في جميع أموره : (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) أي من المجتبين المطهرين المختارين المصطفين الأخيار ، صلوات الله وسلامه عليه.

(وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٥) قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٦) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٧) فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (٢٨) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ) (٢٩)

يخبر تعالى عن حالهما حين خرجا يستبقان إلى الباب : يوسف هارب ، والمرأة تطلبه ليرجع إلى البيت ، فلحقته في أثناء ذلك فأمسكت بقميصه من ورائه ، فقدّته قدا فظيعا ، يقال : إنه سقط عنه واستمر يوسف هاربا ذاهبا ، وهي في أثره ، فألفيا سيدها وهو زوجها عند الباب ، فعند ذلك خرجت مما هي فيه بمكرها وكيدها ، وقالت لزوجها متنصلة وقاذفة يوسف بدائها (ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً) أي فاحشة (إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ) أي يحبس ، (أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي يضرب ضربا شديدا موجعا. فعند ذلك انتصر يوسف عليه‌السلام بالحق ، وتبرأ مما رمته به من الخيانة ، و (قالَ) بارا صادقا (هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي) وذكر أنها اتبعته تجذبه إليها حتى قدت قميصه.

(وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ) أي من قدامه (فَصَدَقَتْ) أي في قولها إنه راودها عن نفسها ، لأنه يكون لما دعاها وأبت عليه دفعته في صدره ، فقدّت قميصه فيصح ما قالت (وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ) وذلك يكون كما وقع لما هرب منها وتطلبته ، أمسكت بقميصه من ورائه لترده إليها فقدت قميصه من ورائه ، وقد اختلفوا في هذا الشاهد : هل هو صغير أو كبير؟ على قولين لعلماء السلف ، فقال عبد الرزاق ، أخبرنا إسرائيل عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها) قال ذو لحية ، وقال الثوري ، عن جابر ، عن ابن أبي مليكة ، عن ابن عباس : كان من خاصة الملك ، وكذا قال مجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والسدي ومحمد بن إسحاق وغيرهم : إنه كان رجلا. وقال زيد بن أسلم والسدي : كان ابن عمها. وقال ابن عباس : كان من خاصة الملك. وقد ذكر ابن إسحاق أن زليخا كانت بنت أخت الملك الريان بن الوليد.

وقال العوفي عن ابن عباس في قوله (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها) قال : كان صبيا في المهد ، وكذا روي عن أبي هريرة وهلال بن يساف والحسن وسعيد بن جبير والضحاك بن مزاحم أنه

كان صبيا في الدار ، واختاره ابن جرير (١). وقد ورد فيه حديث مرفوع فقال ابن جرير (٢) : حدثنا الحسن بن محمد ، حدثنا عفان ، حدثنا حماد هو ابن سلمة ، أخبرني عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «تكلم أربعة وهم صغار» فذكر فيهم شاهد يوسف ، ورواه غيره عن حماد بن سلمة ، عن عطاء ، عن سعيد ، عن ابن عباس أنه قال «تكلم أربعة وهم صغار : ابن ماشطة بنت فرعون ، وشاهد يوسف ، وصاحب جريج ، وعيسى ابن مريم». وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد : كان من أمر الله تعالى ، ولم يكن إنسيا وهذا قول غريب.

وقوله : (فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ) أي لما تحقق زوجها صدق يوسف وكذبها فيما قذفته ورمته به (قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَ) أي إن هذا البهت واللطخ الذي لطخت عرض هذا الشاب به من جملة كيدكن (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) ، ثم قال آمرا ليوسف عليه‌السلام بكتمان ما وقع (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا) أي اضرب عن هذا صفحا ، أي فلا تذكره لأحد.

(وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ) يقول لامرأته وقد كان لين العريكة سهلا أو أنه عذرها لأنها رأت ما لا صبر لها عنه فقال لها : استغفري لذنبك أي الذي وقع منك من إرادة السوء بهذا الشاب ثم قذفه بما هو بريء منه (إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ).

(وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٠) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (٣١) قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (٣٢) قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٣) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٣٤)

يخبر تعالى أن خبر يوسف وامرأة العزيز ، شاع في المدينة وهي مصر حتى تحدث به الناس (وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ) مثل نساء الكبراء والأمراء ، ينكرن على امرأة العزيز وهو الوزير ويعبن ذلك عليها (امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ) أي تحاول غلامها عن نفسه وتدعوه إلى نفسها (قَدْ شَغَفَها حُبًّا) أي قد وصل حبه إلى شغاف قلبها وهو غلافه. قال الضحاك عن ابن عباس : الشغف الحب القاتل ، والشغف دون ذلك ، والشغاف حجاب القلب (إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي في صنيعها هذا من حبها فتاها ومراودتها إياه عن نفسه ، (فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَ) قال بعضهم : بقولهن ذهب الحب بها ، وقال محمد بن إسحاق : بل بلغهن حسن

__________________

(١) تفسير الطبري ٧ / ١٩١.

(٢) تفسير الطبري ٧ / ١٩٢.

يوسف ، فأحببن أن يرينه ، فقلن ذلك ليتوصلن إلى رؤيته ومشاهدته ، فعند ذلك (أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَ) أي دعتهن إلى منزلها لتضيفهن (وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً).

قال ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد والحسن والسدي وغيرهم : هو المجلس المعد فيه مفارش ، ومخاد ، وطعام فيه ما يقطع بالسكاكين من أترج ونحوه ، ولهذا قال تعالى : (وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً) وكان هذا مكيدة منها ومقابلة لهن في احتيالهن على رؤيته (وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَ) وذلك أنها كانت قد خبأته في مكان آخر (فَلَمَّا) خرج و (رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ) أي أعظمنه أي أعظمن شأنه ، وأجللن قدره ، وجعلن يقطعن أيديهن دهشا برؤيته ، وهن يظنن أنهن يقطعن الأترج بالسكاكين ، والمراد أنهن حززن أيديهن بها ، قاله غير واحد ، وعن مجاهد وقتادة : قطعن أيديهن حتى ألقينها ، فالله أعلم.

وقد ذكر غير واحد أنها قالت لهن بعد ما أكلن وطابت أنفسهن ، ثم وضعت بين أيديهن أترجا وآتت كل واحدة منهن سكينا : هل لكن في النظر إلى يوسف؟ قلن : نعم ، فبعثت إليه تأمره أن اخرج إليهن ، فلما رأينه جعلن يقطعن أيديهن ، ثم أمرته أن يرجع ليرينه مقبلا ومدبرا ، فرجع وهن يحززن في أيديهن ، فلما أحسسن بالألم جعلن يولولن ، فقالت : أنتن من نظرة واحدة فعلتن هذا ، فكيف ألام أنا؟.

(وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) ثم قلن لها : وما نرى عليك من لوم بعد هذا الذي رأينا ، لأنهن لم يرين في البشر شبيهه ولا قريبا منه ، فإنه عليه‌السلام كان قد أعطي شطر الحسن كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح في حديث الإسراء أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مر بيوسف عليه‌السلام في السماء الثالثة ، قال «فإذا هو قد أعطي شطر الحسن» (١).

وقال حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعطي يوسف وأمه شطر الحسن» (٢). وقال سفيان الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله بن مسعود قال : أعطي يوسف وأمه ثلث الحسن (٣). وقال أبو إسحاق أيضا ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله ، قال : كان وجه يوسف مثل البرق ، وكانت المرأة إذا أتته لحاجة غطى وجهه مخافة أن تفتتن به. ورواه الحسن البصري مرسلا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أعطي يوسف وأمه ثلث حسن أهل الدنيا ، وأعطي الناس الثلثين» ، أو قال «أعطي يوسف وأمه الثلثين والناس الثلث». وقال سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد عن ربيعة الجرشي قال : قسم الحسن نصفين فأعطي يوسف وأمه سارة نصف الحسن ، والنصف الآخر بين سائر الخلق.

__________________

(١) أخرجه مسلم في الإيمان حديث ٢٥٩.

(٢) تفسير الطبري ٧ / ٢٠٥.

(٣) تفسير الطبري ٧ / ٢٠٥.

وقال الإمام أبو القاسم السهيلي : معناه أن يوسف عليه‌السلام كان على النصف من حسن آدمعليه‌السلام ، فإن الله خلق آدم بيده على أكمل صورة وأحسنها ، ولم يكن في ذريته من يوازيه في جماله ، وكان يوسف قد أعطي شطر حسنه ، فلهذا قال هؤلاء النسوة عند رؤيته (حاشَ لِلَّهِ). قال مجاهد وغير واحد : معاذ الله (ما هذا بَشَراً) ، وقرأ بعضهم ما هذا بشري أي بمشتري بشراء (إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) تقول هذا معتذرة إليهن بأن هذا حقيق أن يحب لجماله وكماله.

(وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ) أي فامتنع. قال بعضهم : لما رأين جماله الظاهر أخبرتهن بصفاته الحسنة التي تخفى عنهن ، وهي العفة مع هذا الجمال ، ثم قالت تتوعده (وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ) فعند ذلك استعاذ يوسف عليه‌السلام من شرهن وكيدهن ، و (قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) أي من الفاحشة (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَ) أي إن وكلتني إلى نفسي فليس لي منها قدرة ولا أملك لها ضرا ولا نفعا إلا بحولك وقوتك ، أنت المستعان وعليك التكلان ، فلا تكلني إلى نفسي.

(أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ) الآية ، وذلك أن يوسفعليه‌السلام عصمه الله عصمة عظيمة ، وحماه فامتنع منها أشد الامتناع ، واختار السجن على ذلك ، وهذا في غاية مقامات الكمال أنه مع شبابه وجماله وكماله تدعوه سيدته ، وهي امرأة عزيز مصر ، وهي مع هذا في غاية الجمال والمال والرياسة ، ويمتنع من ذلك ويختار السجن على ذلك خوفا من الله ورجاء ثوابه.

ولهذا ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : إمام عادل ، وشاب نشأ في عبادة الله ، ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه ، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه ، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال : إني أخاف الله ، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه» (١).

(ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) (٣٥)

يقول تعالى : ثم ظهر لهم من المصلحة فيما رأوه أنهم يسجنونه إلى حين ، أي إلى مدة ، وذلك بعد ما عرفوا براءته وظهرت الآيات ، وهي الأدلة على صدقه في عفته ونزاهته ، وكأنهم ـ والله أعلم ـ إنما سجنوه لما شاع الحديث إيهاما أنه راودها عن نفسها وأنهم سجنوه على ذلك. ولهذا لما طلبه الملك الكبير في آخر المدة امتنع من الخروج حتى تتبين براءته مما نسب

__________________

(١) أخرجه البخاري في الآذان باب ٣٦ ، ومسلم في الزكاة حديث ٩١.

إليه من الخيانة. فلما تقرر ذلك ، خرج وهو نقي العرض صلوات الله عليه وسلامه. وذكر السدي أنهم إنما سجنوه لئلا يشيع ما كان منها في حقه ، ويبرأ عرضه فيفضحها.

(وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (٣٦)

قال قتادة : كان أحدهما ساقي الملك ، والآخر خبازه. قال محمد بن إسحاق : كان اسم الذي على الشراب نبوا والآخر مجلث (١). قال السدي : كان سبب حبس الملك إياهما أنه توهم أنهما تمالا على سمه في طعامه وشرابه ، وكان يوسف عليه‌السلام قد اشتهر في السجن بالجود والأمانة ، وصدق الحديث ، وحسن السمت ، وكثرة العبادة ، صلوات الله عليه وسلامه. ومعرفة التعبير والإحسان إلى أهل السجن ، وعيادة مرضاهم ، والقيام بحقوقهم. ولما دخل هذان الفتيان إلى السجن تآلفا به وأحباه حبا شديدا وقالا له : والله لقد أحببناك حبا زائدا. قال : بارك الله فيكما ، إنه ما أحبني أحد إلا دخل عليّ من محبته ضرر ، أحبتني عمتي فدخل عليّ الضرر بسببها ، وأحبني أبي فأوذيت بسببه ، وأحبتني امرأة العزيز فكذلك ، فقالا : والله ما نستطيع إلا ذلك ، ثم إنهما رأيا مناما فرأى الساقي أنه يعصر خمرا يعني عنبا ، وكذلك هي في قراءة عبد الله بن مسعود : إني أراني أعصر عنبا.

ورواه ابن أبي حاتم عن أحمد بن سنان ، عن يزيد بن هارون ، عن شريك ، عن الأعمش ، عن زيد بن وهب ، عن ابن مسعود أنه قرأها : أعصر عنبا : وقال الضحاك في قوله (إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً) يعني عنبا ، قال : وأهل عمان يسمون العنب خمرا.

وقال عكرمة : قال له : إني رأيت فيما يرى النائم أني غرست حبلة من عنب ، فنبتت فخرج فيها عناقيد ، فعصرتهن ثم سقيتهن الملك ، فقال : تمكث في السجن ثلاثة أيام ثم تخرج فتسقيه خمرا ، وقال الآخر وهو الخباز (إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ) الآية ، والمشهور عند الأكثرين ما ذكرناه أنهما رأيا مناما وطلبا تعبيره.

وقال ابن جرير (٢) : حدثنا وكيع وابن حميد قالا : حدثنا جرير عن عمارة بن القعقاع عن إبراهيم عن عبد الله بن مسعود قال : ما رأى صاحبا يوسف شيئا ، إنما كان تحالما ليجربا عليه.

(قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٣٧) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٢١٢.

(٢) تفسير الطبري ٧ / ٢١٢ ، ولفظه : حدثنا ابن وكيع وابن حميد.

يَشْكُرُونَ) (٣٨)

يخبرهما يوسف عليه‌السلام أنهما مهما رأيا في المنام من حلم فإنه عارف بتفسيره يخبرهما بتأويله قبل وقوعه ، ولهذا قال : (لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ) قال مجاهد : يقول (لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ) في يومكما (إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما) ، وكذا قال السدي. وقال ابن أبي حاتم رحمه‌الله : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا محمد بن العلاء ، حدثنا محمد بن يزيد شيخ له ، عن الحسن بن ثوبان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : ما أدري لعل يوسفعليه‌السلام كان يعتاف وهو كذلك ، لأني أجد في كتاب الله حين قال للرجلين : (لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ) قال : إذا جاء الطعام حلوا أو مرا اعتاف عند ذلك.

ثم قال ابن عباس : إنما علم فعلم ، وهذا أثر غريب ، ثم قال : وهذا إنما هو من تعليم الله إياي ، لأني اجتنبت ملة الكافرين بالله واليوم الآخر ، فلا يرجون ثوابا ولا عقابا في المعاد (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) الآية ، يقول : هجرت طريق الكفر والشرك ، وسلكت طريق هؤلاء المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، وهكذا يكون حال من سلك طريق الهدى ، واتبع طريق المرسلين ، وأعرض عن طريق الضالين ، فإن الله يهدي قلبه ، ويعلمه ما لم يكن يعلم ، ويجعله إماما يقتدى به في الخير ، وداعيا إلى سبيل الرشاد.

(ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ) هذا التوحيد وهو الإقرار بأنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له (مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا) أي أوحاه إلينا وأمرنا به. (وَعَلَى النَّاسِ) إذ جعلنا دعاة لهم إلى ذلك (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) أي لا يعرفون نعمة الله عليهم بإرسال الرسل إليهم ، بل (بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ) [إبراهيم : ٢٨]. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا أبو معاوية ، حدثنا حجاج عن عطاء ، عن ابن عباس أنه كان يجعل الجد أبا ويقول : والله فمن شاء لا عنته عند الحجر ، ما ذكر الله جدا ولا جدة ، قال الله تعالى يعني إخبارا عن يوسف : (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ).

(يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٣٩) ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٤٠)

ثم إنّ يوسف عليه‌السلام أقبل على الفتيين بالمخاطبة والدعاء لهما إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، وخلع ما سواه من الأوثان التي يعبدها قومهما ، فقال : (أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) أي الذي ذل كل شيء لعز جلاله وعظمة سلطانه ، ثم بين لهما أن التي

يعبدونها ويسمونها آلهة إنما هو جهل منهم ، وتسمية من تلقاء أنفسهم ، تلقاها خلفهم عن سلفهم ، وليس لذلك مستند من عند الله ، ولهذا قال : (ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) أي حجة ولا برهان ، ثم أخبرهم أن الحكم والتصرف والمشيئة والملك كله لله ، وقد أمر عباده قاطبة أن لا يعبدوا إلا إياه ، ثم قال تعالى : (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) أي هذا الذي أدعوكم إليه من توحيد الله وإخلاص العمل له ، هو الدين المستقيم الذي أمر الله به ، وأنزل به الحجة والبرهان الذي يحبه وبرضاه (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أي فلهذا كان أكثرهم مشركين ، (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) [يوسف : ١٠٣].

وقد قال ابن جرير (١) : إنما عدل بهم يوسف عن تعبير الرؤيا إلى هذا ، لأنه عرف أنها ضارة لأحدهما ، فأحب أن يشغلهما بغير ذلك لئلا يعاودوه فيها. فعاودوه فأعاد عليهم الموعظة ، وفي هذا الذي قاله نظر ، لأنه قد وعدهما أولا بتعبيرها ، ولكن جعل سؤالهما له على وجه التعظيم والاحترام وصلة وسببا إلى دعائهما إلى التوحيد والإسلام ، لما رأى في سجيتهما من قبول الخير والإقبال عليه والإنصاف إليه ، ولهذا لما فرغ من دعوتهما شرع في تعبير رؤياهما من غير تكرار سؤال فقال :

(يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ) (٤١)

يقول لهما (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً) وهو الذي رأى أنه يعصر خمرا ، ولكنه لم يعينه لئلا يحزن ذاك ، ولهذا أبهمه في قوله (وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ) وهو في نفس الأمر الذي رأى أنه يحمل فوق رأسه خبزا ، ثم أعلمهما أن هذا قد فرغ منه ، وهو واقع لا محالة ، لأن الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر فإذا عبرت وقعت ، وقال الثوري : عن عمارة بن القعقاع ، عن إبراهيم عن عبد الله قال : لما قالا ما قالا وأخبرهما ، قالا : ما رأينا شيئا ، فقال : (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ) (٢).

ورواه محمد بن فضيل عن عمارة ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن ابن مسعود به ، وكذا فسره مجاهد وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم ، وحاصله أن من تحلم بباطل ، وفسره فإنه يلزم بتأويله ، والله تعالى أعلم ، وقد ورد في الحديث الشريف الذي رواه الإمام أحمد عن معاوية بن حيدة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر ، فإذا عبرت وقعت» وفي مسند أبي يعلى من طريق يزيد الرقاشي ، عن أنس مرفوعا «الرؤيا لأول عابر».

(وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي

__________________

(١) تفسير الطبري ٧ / ٢١٤ ، ٢١٥.

(٢) تفسير الطبري ٧ / ٢١٩.

السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) (٤٢)

ولما ظن يوسف عليه‌السلام أن الساقي ناج ، قال له يوسف خفية عن الآخر ، والله أعلم ـ لئلا يشعره أنه المصلوب ـ قال له (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) يقول : اذكر قصتي عند ربك ، وهو الملك ، فنسي ذلك الموصي أن يذكر مولاه الملك بذلك ، وكان من جملة مكايد الشيطان لئلا يطلع نبي الله من السجن ، هذا هو الصواب أن الضمير في قوله (فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) عائد على الناجي ، كما قاله مجاهد ومحمد بن إسحاق وغير واحد. ويقال : إن الضمير عائد على يوسفعليه‌السلام رواه ابن جرير عن ابن عباس ومجاهد أيضا وعكرمة وغيرهم.

وأسند ابن جرير (١) هاهنا حديثا فقال : حدثنا ابن وكيع ، حدثنا عمرو بن محمد عن إبراهيم بن يزيد ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، عن ابن عباس مرفوعا ، قال : قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو لم يقل ـ يعني يوسف ـ الكلمة التي قال ، ما لبث في السجن طول ما لبث حيث يبتغي الفرج من عند غير الله» ، وهذا الحديث ضعيف جدا ، لأن سفيان بن وكيع ضعيف، وإبراهيم بن يزيد هو الخوزي أضعف منه أيضا. وقد روي عن الحسن وقتادة مرسلا عن كل منهما ، وهذه المرسلات هاهنا لا تقبل لو قبل المرسل من حيث هو في غير هذا الموطن ، والله أعلم.

وأما البضع فقال مجاهد وقتادة : هو ما بين الثلاث إلى التسع. وقال وهب بن منبه : مكث أيوب في البلاء سبعا ، ويوسف في السجن سبعا ، وعذب بختنصر سبعا ، وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما (فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) قال : ثنتا عشرة سنة. وقال الضحاك : أربع عشرة سنة.

(وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (٤٣) قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (٤٤) وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (٤٥) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (٤٦) قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (٤٧) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (٤٨) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) (٤٩)

هذه الرؤيا من ملك مصر مما قدر الله تعالى أنها كانت سببا لخروج يوسف عليه‌السلام من السجن ، معززا مكرما ، وذلك أن الملك رأى هذه الرؤيا ، فهالته وتعجب من أمرها وما يكون

__________________

(١) تفسير الطبري ٧ / ٢٢١.

تفسيرها ، فجمع الكهنة والحزاة (١) وكبار دولته وأمراءه فقص عليهم ما رأى وسألهم عن تأويلها ، فلم يعرفوا ذلك ، واعتذروا إليه بأنها (أَضْغاثُ أَحْلامٍ) أي أخلاط أحلام اقتضته رؤياك هذه (وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ) أي لو كانت رؤيا صحيحة من أخلاط لما كان لنا معرفة بتأويلها ، وهو تعبيرها ، فعند ذلك تذكر الذي نجا من ذينك الفتيين اللذين كانا في السجن مع يوسف ، وكان الشيطان قد أنساه ما وصاه به يوسف من ذكر أمره للملك ، فعند ذلك تذكر بعد أمة ، أي مدة ، وقرأ بعضهم بعد أمه أي بعد نسيان ، فقال لهم ، أي للملك والذين جمعهم لذلك.

(أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ) أي بتأويل هذا المنام ، (فَأَرْسِلُونِ) أي فابعثون إلى يوسف الصديق إلى السجن ، ومعنى الكلام فبعثوه فجاءه ، فقال : (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا) وذكر المنام الذي رآه الملك ، فعند ذلك ذكر له يوسف عليه‌السلام تعبيرها من غير تعنيف للفتى في نسيانه ما وصاه به ، ومن غير اشتراط للخروج قبل ذلك ، بل قال : (تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً) أي يأتيكم الخصب والمطر سبع سنين متواليات ففسر البقر بالسنين لأنها تثير الأرض التي تستغل منها الثمرات والزروع ، وهن السنبلات الخضر.

ثم أرشدهم إلى ما يعتدونه في تلك السنين ، فقال (فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ) أي مهما استغللتم في هذه السبع السنين الخصب ، فادخروه في سنبله ليكون أبقى له وأبعد عن إسراع الفساد إليه إلا المقدار الذي تأكلونه ، وليكن قليلا قليلا ، لا تسرفوا فيه لتنتفعوا في السبع الشداد ، وهن السبع السنين المحل التي تعقب هذه السبع المتواليات ، وهن البقرات العجاف اللاتي تأكل السمان ، لأن سني الجدب يؤكل فيها ما جمعوه في سني الخصب ، وهن السنبلات اليابسات ، وأخبرهم أنهن لا ينبتن شيئا ، وما بذروه فلا يرجعون منه إلى شيء ، ولهذا قال : (يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ).

ثم بشرهم بعد الجدب العام المتوالي بأنه يعقبهم بعد ذلك (عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ) ، أي يأتيهم الغيث وهو المطر وتغل البلاد ، ويعصر الناس ما كانوا يعصرون على عادتهم من زيت ونحوه ، وسكر ونحوه ، حتى قال بعضهم : يدخل فيه حلب اللبن أيضا. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) يحلبون (٢).

(وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (٥٠) قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ

__________________

(١) حزا حزوا وتحزّى تحزوّا : زجر وتكهّن ، والحزاة ، جمع حاز هو المتكهن ، يحرز الأشياء ويقدرها بظنه.

(٢) انظر تفسير الطبري ٧ / ٢٣١.

سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٥١) ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (٥٢) وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٥٣)

يقول تعالى إخبارا عن الملك لما رجعوا إليه بتعبير رؤياه التي كان رآها بما أعجبه وأيقنه ، فعرف فضل يوسف عليه‌السلام ، وعلمه وحسن اطلاعه على رؤياه ، وحسن أخلاقه على من ببلده من رعاياه ، فقال : (ائْتُونِي بِهِ) أي أخرجوه من السجن وأحضروه ، فلما جاءه الرسول بذلك امتنع من الخروج حتى يتحقق الملك ورعيته براءة ساحته ونزاهة عرضه مما نسب إليه من جهة امرأة العزيز ، وأن هذا السجن لم يكن على أمر يقتضيه ، بل كان ظلما وعدوانا ، فقال : (ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ) الآية.

وقد وردت السنة بمدحه على ذلك والتنبيه على فضله وشرفه وعلو قدره وصبره ، صلوات الله وسلامه عليه ، ففي المسند والصحيحين من حديث الزهري عن سعيد وأبي سلمة ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) الآية ، ويرحم الله لوطا كان يأوي إلى ركن شديد ، ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي» (١).

وفي لفظ لأحمد (٢) : حدثنا عفان ، حدثنا حماد بن سلمة ، حدثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو كنت أنا ، لأسرعت الإجابة وما ابتغيت العذر».

وقال عبد الرزاق : أخبرنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لقد عجبت من يوسف وصبره وكرمه والله يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان ، ولو كنت مكانه ما أجبتهم حتى أشترط أن يخرجوني ، ولقد عجبت من يوسف وصبره وكرمه ، والله يغفر له حين أتاه الرسول ، ولو كنت مكانه لبادرتهم الباب ، ولكنه أراد أن يكون له العذر» ، هذا حديث مرسل.

وقوله تعالى : (قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ) إخبار عن الملك حين جمع النسوة اللاتي قطعن أيديهن عند امرأة العزيز ، فقال مخاطبا لهن كلهن وهو يريد امرأة وزيره ، وهو العزيز ، قال الملك للنسوة اللاتي قطعن أيديهن (ما خَطْبُكُنَ) أي شأنكن وخبركن (إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ) يعني يوم الضيافة ، (قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ) أي قالت لنسوة جوابا للملك : حاش لله أن يكون يوسف متهما ، والله ما علمنا عليه من سوء ، فعند ذلك

__________________

(١) أخرجه البخاري في تفسير سورة ١٢ ، باب ٥ ، ومسلم في الإيمان حديث ٢٣٨.

(٢) المسند ٢ / ٣٤٧ ، ٣٨٩.

(قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُ) قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد : تقول الآن تبين الحق وظهر وبرز.

(أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) أي في قوله : (هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) تقول : إنما اعترفت بهذا على نفسي ليعلم زوجي أني لم أخنه بالغيب في نفس الأمر ، ولا وقع المحذور الأكبر ، وإنما راودت هذا الشاب مراودة فامتنع ، فلهذا اعترفت ليعلم أني بريئة (وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي) تقول المرأة : ولست أبرئ نفسي ، فإن النفس تتحدث وتتمنى ، ولهذا راودته لأن (النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي) أي إلا من عصمه الله تعالى : (إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) وهذا القول هو الأشهر والأليق والأنسب بسياق القصة ومعاني الكلام.

وقد حكاه الماوردي في تفسيره ، وانتدب لنصره الإمام أبو العباس بن تيمية رحمه‌الله ، فأفرده بتصنيف على حدة ، وقد قيل : إن ذلك من كلام يوسف عليه‌السلام يقول : (ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ) في زوجته (بِالْغَيْبِ) الآيتين ، أي إنما رددت الرسول ليعلم الملك براءتي ، وليعلم العزيز (أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ) في زوجته (بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ) الآية ، وهذا القول هو الذي لم يحك ابن جرير ولا ابن أبي حاتم سواه.

وقال ابن جرير (١) : حدثنا أبو كريب ، حدثنا وكيع عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : لما جمع الملك النسوة فسألهن : هل راودتن يوسف عن نفسه؟ (قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُ) الآية ، قال يوسف (ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) فقال جبريل عليه‌السلام : ولا يوم هممت بما هممت به؟ فقال (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي) الآية ، وهكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة وابن أبي الهذيل والضحاك والحسن وقتادة والسدي ، والقول الأول أقوى وأظهر ، لأن سياق الكلام كله من كلام امرأة العزيز بحضرة الملك ، ولم يكن يوسف عليه‌السلام عندهم ، بل بعد ذلك أحضره الملك.

(وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ(٥٤) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) (٥٥)

يقول تعالى إخبارا عن الملك حين تحقق براءة يوسف عليه‌السلام ونزاهة عرضه مما نسب إليه ، قال (ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي) أي أجعله من خاصتي وأهل مشورتي (فَلَمَّا كَلَّمَهُ) أي خاطبه الملك ، وعرفه ، ورأى فضله وبراعته ، وعلم ما هو عليه من خلق وخلق وكمال ، قال له الملك (إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ) أي إنك عندنا قد بقيت ذا مكانة وأمانة ، فقال

__________________

(١) تفسير الطبري ٧ / ٢٣٧.

يوسف عليه‌السلام (اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) مدح نفسه ، ويجوز للرجل ذلك إذا جهل أمره للحاجة ، وذكر أنه (حَفِيظٌ) أي خازن أمين ، (عَلِيمٌ) ذو علم وبصيرة بما يتولاه. وقال شيبة بن نعامة : حفيظ لما استودعتني ، عليم بسني الجدب ، رواه ابن أبي حاتم ، وسأل العمل لعلمه بقدرته عليه ولما فيه من المصالح للناس ، وإنما سأله أن يجعله على خزائن الأرض ، وهي الأهرام التي يجمع فيها الغلات ، لما يستقبلونه من السنين التي أخبرهم بشأنها ، فيتصرف لهم على الوجه الأحوط والأصلح والأرشد ، فأجيب إلى ذلك رغبة فيه وتكرمة له ولهذا قال تعالى :

(وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) (٥٧)

يقول تعالى : (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) أي أرض مصر ، (يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ) قال السدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : يتصرف فيها كيف يشاء. وقال ابن جرير (١) : يتخذ منها منزلا حيث يشاء بعد الضيق والحبس والإسار ، (نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) أي وما أضعنا صبر يوسف على أذى إخوته وصبره على الحبس بسبب امرأة العزيز ، فلهذا أعقبه الله عزوجل السلام والنصر والتأييد ، (وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) يخبر تعالى أن ما ادخره الله تعالى لنبيه يوسف عليه‌السلام في الدار الآخرة أعظم وأكثر وأجل مما خوله من التصرف والنفوذ في الدنيا ، كقوله في حق سليمان عليه‌السلام (هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) [ص : ٣٩ ـ ٤٠] والغرض أن يوسف عليه‌السلام ولاه ملك مصر الريان بن الوليد الوزارة في بلاد مصر مكان الذي اشتراه من مصر زوج التي راودته ، وأسلم الملك على يدي يوسفعليه‌السلام ، قاله مجاهد.

وقال محمد بن إسحاق : لما قال يوسف للملك : (اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) [يوسف : ٥٥] قال الملك : قد فعلت ، فولاه فيما ذكروا عمل اطفير ، وعزل اطفير عما كان عليه ، يقول الله عزوجل : (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) قال : فذكر لي ـ والله أعلم ـ أن اطفير هلك في تلك الليالي ، وأن الملك الريان بن الوليد زوّج يوسف امرأة اطفير راعيل ، وأنها حين دخلت عليه قال لها : أليس هذا خيرا مما كنت تريدين؟ قال : فيزعمون أنها قالت : أيها الصديق لا تلمني ، فإني كنت امرأة كما ترى حسناء جميلة ناعمة في ملك ودنيا ، وكان صاحبي لا يأتي النساء ، وكنت كما جعلك الله في حسنك وهيئتك على ما رأيت ، فيزعمون أنه وجدها عذراء ،

__________________

(١) تفسير الطبري ٧ / ٢٤٢.

فأصابها ، فولدت له رجلين : أفرائيم بن يوسف ، وميشا بن يوسف ، وولد لأفرائيم نون والد يوشع بن نون ، ورحمة امرأة أيوب عليه‌السلام ، وقال الفضيل بن عياض : وقفت امرأة العزيز على ظهر الطريق حتى مر يوسف ، فقالت : الحمد لله الذي جعل العبيد ملوكا بطاعته ، والملوك عبيدا بمعصيته.

(وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٨) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٥٩) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (٦٠) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (٦١) وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (٦٢)

ذكر السدي ومحمد بن إسحاق وغيرهما من المفسرين أن السبب الذي أقدم إخوة يوسف بلاد مصر ، أن يوسف عليه‌السلام لما باشر الوزارة بمصر ومضت السبع السنين المخصبة ، ثم تلتها السبع السنين المجدبة ، وعم القحط بلاد مصر بكمالها ، ووصل إلى بلاد كنعان وهي التي فيها يعقوب عليه‌السلام وأولاده ، وحينئذ احتاط يوسف عليه‌السلام للناس في غلاتهم ، وجمعها أحسن جمع ، فحصل من ذلك مبلغ عظيم وهدايا متعددة هائلة ، وورد عليه الناس من سائر الأقاليم والمعاملات ، يمتارون لأنفسهم وعيالهم ، فكان لا يعطي الرجل أكثر من حمل بعير في السنة ، وكان عليه‌السلام ، لا يشبع نفسه ، ولا يأكل هو والملك وجنودهما إلا أكلة واحدة في وسط النهار ، حتى يتكفا الناس بما في أيديهم مدة السبع سنين ، وكان رحمة من الله على أهل مصر.

وما ذكره بعض المفسرين من أنه باعهم في السنة الأولى بالأموال ، وفي الثانية بالمتاع ، وفي الثالثة بكذا ، وفي الرابعة بكذا ، حتى باعهم بأنفسهم وأولادهم بعد ما تملك عليهم جميع ما يملكون ، ثم أعتقهم ورد عليهم أموالهم كلها ، الله أعلم بصحة ذلك ، وهو من الإسرائيليات التي لا تصدق ولا تكذب ، والغرض أنه كان في جملة من ورد للميرة إخوة يوسف عن أمر أبيهم لهم في ذلك ، فإنه بلغهم أن عزيز مصر يعطي الناس الطعام بثمنه ، فأخذوا معهم بضاعة يعتاضون بها طعاما ، وركبوا عشرة نفر ، واحتبس يعقوب عليه‌السلام عنده ابنه بنيامين شقيق يوسف عليه‌السلام ، وكان أحب ولده إليه بعد يوسف.

فلما دخلوا على يوسف وهو جالس في أبهته ورئاسته وسيادته ، عرفهم حين نظر إليهم ، (وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) أي لا يعرفونه ، لأنهم فارقوه وهو صغير حدث ، وباعوه للسيارة ولم يدروا أين يذهبون به ، ولا كانوا يستشعرون في أنفسهم أن يصير إلى ما صار إليه ، فلهذا لم يعرفوه ، وأما هو فعرفهم.

فذكر السدي وغيره أنه شرع يخاطبهم ، فقال لهم كالمنكر عليهم : ما أقدمكم بلادي؟

فقالوا : أيها العزيز إنا قدمنا للميرة ، قال : فلعلكم عيون؟ قالوا : معاذ الله. قال : فمن أين أنتم؟ قالوا من بلاد كنعان ، وأبونا يعقوب نبي الله. قال : وله أولاد غيركم؟ قالوا : نعم كنا اثني عشر ، فذهب أصغرنا ، هلك في البرية وكان أحبنا إلى أبيه ، وبقي شقيقه فاحتبسه أبوه ليتسلى به عنه ، فأمر بإنزالهم وإكرامهم.

(وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ) أي أوفى لهم كيلهم ، وحمل لهم أحمالهم ، قال : ائتوني بأخيكم هذا الذي ذكرتم لأعلم صدقكم فيما ذكرتم (أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) رغبهم في الرجوع إليه ، ثم رهبهم فقال : (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي) الآية ، أي إن لم تقدموا به معكم في المرة الثانية فليس لكم عندي ميرة ، (وَلا تَقْرَبُونِ قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ) أي سنحرص على مجيئه إليك بكل ممكن ، ولا نبقي مجهودا لتعلم صدقنا فيما قلناه ، وذكر السدي أنه أخذ منهم رهائن حتى يقدموا به معهم ، وفي هذا نظر لأنه أحسن إليهم ورغبهم كثيرا ، وهذا لحرصه على رجوعهم.

(وَقالَ لِفِتْيانِهِ) أي غلمانه (اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ) أي التي قدموا بها ليمتاروا عوضا عنها (فِي رِحالِهِمْ) أي في أمتعتهم من حيث لا يشعرون ، (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) بها ، قيل : خشي يوسف عليه‌السلام أن لا يكون عندهم بضاعة أخرى يرجعون للميرة بها. وقيل : تذمم أن يأخذ من أبيه وإخوته عوضا عن الطعام ، وقيل أراد أن يردهم إذا وجدوها في متاعهم تحرجا وتورعا ، لأنه يعلم ذلك منهم والله أعلم.

(فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٦٣) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (٦٤)

يقول الله تعالى عنهم : إنهم رجعوا إلى أبيهم (قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ) يعنون بعد هذه المرة ، إن لم ترسل معنا أخانا بنيامين لا نكتل ، فأرسله معنا نكتل ، وإنا له لحافظون ، قرأ بعضهم بالياء أي يكتل هو ، (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) أي لا تخف عليه فإنه سيرجع إليك ، وهذا كما قالوا له في يوسف (أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) ولهذا قال لهم : (هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ) أي هل أنتم صانعون به إلا كما صنعتم بأخيه من قبل ، تغيبونه عني ، وتحولون بيني وبينه؟ (فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً) وقرأ بعضهم حفظا (وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) أي هو أرحم الراحمين بي ، وسيرحم كبري وضعفي ووجدي بولدي ، وأرجو من الله أن يرده علي ويجمع شملي به ، إنه أرحم الراحمين.

(وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا

وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (٦٥) قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) (٦٦)

يقول تعالى : ولما فتح إخوة يوسف متاعهم ، وجدوا بضاعتهم ردت إليهم ، وهي التي كان أمر يوسف فتيانه بوضعها في رحالهم ، فلما وجدوها في متاعهم (قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي) أي ماذا نريد (هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا) ، كما قال قتادة : ما نبغي وراء هذا ، إن بضاعتنا ردت إلينا ، وقد أوفى لنا الكيل (١) ، (وَنَمِيرُ أَهْلَنا) أي إذا أرسلت أخانا معنا نأتي بالميرة إلى أهلنا ، (وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ) وذلك أن يوسف عليه‌السلام كان يعطي كل رجل حمل بعير ، وقال مجاهد : حمل حمار ، وقد يسمى في بعض اللغات بعيرا ، كذا قال (٢).

(ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ) هذا من تمام الكلام وتحسينه ، أي إن هذا يسير في مقابلة أخذ أخيهم ما يعدل هذا (قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ) أي تحلفون بالعهود والمواثيق (لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ) إلا أن تغلبوا كلكم ولا تقدرون على تخليصه (فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ) أكده عليهم ، فقال : (اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) ، قال ابن إسحاق : وإنما فعل ذلك لأنه لم يجد بدا من بعثهم لأجل الميرة التي لا غنى لهم عنها ، فبعثه معهم.

(وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (٦٧) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٦٨)

يقول تعالى إخبارا عن يعقوب عليه‌السلام ، إنه أمر بنيه لما جهزهم مع أخيهم بنيامين إلى مصر أن لا يدخلوا كلهم من باب واحد ، وليدخلوا من أبواب متفرقة ، فإنه كما قال ابن عباس ومحمد بن كعب ومجاهد والضحاك وقتادة والسدي وغير واحد إنه خشي عليهم العين ، وذلك أنهم كانوا ذوي جمال وهيئة حسنة ، ومنظر وبهاء ، فخشي عليهم أن يصيبهم الناس بعيونهم ، فإن العين حق تستنزل الفارس عن فرسه (٣).

وروى ابن أبي حاتم عن إبراهيم النخعي في قوله (وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ) قال : علم أنه سيلقى إخوته في بعض تلك الأبواب. وقوله (وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) أي إن هذا الاحتراز لا يرد قدر الله وقضاءه ، فإن الله إذا أراد شيئا لا يخالف ولا يمانع ، (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٢٤٧.

(٢) انظر تفسير الطبري ٧ / ٢٤٧.

(٣) أخرج الحديث : «العين حق تستنزل الحالق» أحمد في المسند ١ / ٢٧٤ ، ٢٩٤.

مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها) قالوا : هي دفع إصابة العين لهم (وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ) قال قتادة والثوري : لذو عمل بعلمه. وقال ابن جرير (١) : لذو علم لتعليمنا إياه (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).

(وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٦٩)

يخبر تعالى عن إخوة يوسف لما قدموا على يوسف ومعهم أخوه شقيقه بنيامين ، وأدخلهم دار كرامته ومنزل ضيافته ، وأفاض عليهم الصلة والألطاف والإحسان ، واختلى بأخيه فأطلعه على شأنه وما جرى له ، وعرفه أنه أخوه ، وقال له : لا تبتئس ، أي لا تأسف على ما صنعوا بي ، وأمره بكتمان ذلك عنهم ، وأن لا يطلعهم على ما أطلعه عليه من أنه أخوه ، وتواطأ معه أنه سيحتال على أن يبقيه عنده معززا مكرّما معظما.

(فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (٧٠) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ (٧١) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) (٧٢)

لما جهزهم وحمل لهم أبعرتهم طعاما ، أمر بعض فتيانه أن يضع السقاية ، وهي إناء من فضة في قول الأكثرين ، وقيل : من ذهب ، قال ابن زيد ، كان يشرب فيه ، ويكيل للناس به من عزة الطعام إذ ذاك ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك وعبد الرحمن بن زيد.

وقال شعبة عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : صواع الملك ، قال : كان من فضة يشربون فيه ، وكان مثل المكوك (٢) ، وكان للعباس مثله في الجاهلية ، فوضعها في متاع بنيامين من حيث لا يشعر أحد ، ثم نادى مناد بينهم (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) فالتفتوا إلى المنادي وقالوا (ما ذا تَفْقِدُونَ قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ) أي صاعه الذي يكيل به (وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ) وهذا من باب الجعالة (٣) ، (وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) وهذا من باب الضمان والكفالة.

(قالُوا تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (٧٣) قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (٧٤) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ(٧٥) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) (٧٦)

__________________

(١) تفسير الطبري ٧ / ٢٥٠.

(٢) المكوك : الصاع.

(٣) الجعالة : الأجر على الشيء.

لما اتهمهم أولئك الفتيان بالسرقة ، قال لهم إخوة يوسف (تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ) أي لقد تحققتم وعلمتم منذ عرفتمونا ، لأنهم شاهدوا منهم سيرة حسنة أنا (ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ) أي ليست سجايانا تقتضي هذه الصفة ، فقال لهم الفتيان (فَما جَزاؤُهُ) أي السارق إن كان فيكم (إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ) أي : أي شيء يكون عقوبته إن وجدنا فيكم من أخذه؟ (قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) وهكذا كانت شريعة إبراهيم عليه‌السلام ، أن السارق يدفع إلى المسروق منه ، وهذا هو الذي أراد يوسف عليه‌السلام ، ولهذا بدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ، أي فتشها قبله تورية ، (ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ) فأخذه منهم بحكم اعترافهم والتزامهم ، وإلزاما لهم بما يعتقدونه ، ولهذا قال تعالى : (كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ) وهذا من الكيد المحبوب المراد الذي يحبه الله ويرضاه ، لما فيه من الحكمة والمصلحة المطلوبة.

وقوله : (ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ) أي لم يكن له أخذه في حكم ملك مصر قاله الضحاك وغيره ، وإنما قيض الله له أن التزم له إخوته بما التزموه ، وهو كان يعلم ذلك من شريعتهم ، ولهذا مدحه الله تعالى فقال : (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) كما قال تعالى : (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) [المجادلة : ١١] الآية.

(وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) قال الحسن البصري : ليس عالم إلا فوقه عالم حتى ينتهي إلى الله عزوجل ، وكذا روى عبد الرزاق عن سفيان الثوري ، عن عبد الأعلى الثعلبي ، عن سعيد بن جبير ، قال : كما عند ابن عباس فحدث بحديث عجيب ، فتعجب رجل فقال : الحمد لله (فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) ، فقال ابن عباس : بئس ما قلت : الله العليم فوق كل عالم ، وكذا روى سماك عن عكرمة ، عن ابن عباس (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) قال : يكون هذا أعلم من هذا ، وهذا أعلم من هذا ، والله فوق كل عالم ، وهكذا قال عكرمة ، وقال قتادة : وفوق كل ذي علم عليم ، حتى ينتهي العلم إلى الله ، منه بدئ ، وتعلمت العلماء ، وإليه يعود ، وفي قراءة عبد الله ، وفوق كل عالم عليم.

(قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ) (٧٧)

وقال إخوة يوسف لما رأوا الصواع قد أخرج من متاع بنيامين (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) يتنصلون إلى العزيز من التشبه به ، ويذكرون أن هذا فعل كما فعل أخ له من قبل ، يعنون به يوسف عليه‌السلام. قال سعيد بن جبير ، عن قتادة : كان يوسف عليه‌السلام قد سرق صنما لجده أبي أمه فكسره ، وقال محمد بن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : كان أول ما دخل على يوسف من البلاء فيما بلغني أن عمته ابنة إسحاق ، وكانت أكبر ولد

إسحاق ، وكانت عندها منطقة (١) إسحاق ، وكانوا يتوارثونها بالكبر ، فكان من اختبأها ممن وليها كان له سلما لا ينازع فيه ، يصنع فيه ما يشاء ، وكان يعقوب حين ولد له يوسف قد حضنته عمته ، وكان لها به وله ، فلم تحب أحدا حبها إياه حتى إذا ترعرع وبلغ سنوات ، تاقت إليه نفس يعقوب عليه‌السلام ، فأتاها فقال : يا أخية سلمي إليّ يوسف ، فو الله ما أقدر على أن يغيب عني ساعة. قالت : فو الله ما أنا بتاركته ، ثم قالت : فدعه عندي أياما أنظر إليه ، وأسكن عنه لعل ذلك يسليني عنه ، أو كما قالت فلما خرج من عندها يعقوب عمدت إلى منطقة إسحاق فحزمتها على يوسف من تحت ثيابه ، ثم قالت : فقدت منطقة إسحاق عليه‌السلام ، فانظروا من أخذها ومن أصابها؟ فالتمست ، ثم قالت : اكشفوا أهل البيت فكشفوهم ، فوجدوها مع يوسف ، فقالت : والله إنه لي لسلم ، أصنع فيه ما شئت ، فأتاه يعقوب ، فأخبرته الخبر ، فقال لها : أنت وذلك ، إن كان فعل ذلك فهو سلم لك ، ما أستطيع غير ذلك ، فأمسكته فما قدر عليه يعقوب حتى ماتت (٢) ، قال : فهو الذي يقول إخوة يوسف حين صنع بأخيه ما صنع حين أخذه (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ).

وقوله : (فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ) يعني الكلمة التي بعدها ، وهي قوله : (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ) أي تذكرون ، قال هذا في نفسه ولم يبده لهم ، وهذا من باب الإضمار قبل الذكر ، وهو كثير ، كقول الشاعر : [البسيط]

جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر

وحسن فعل كما يجزي سنمّار (٣)

وله شواهد كثيرة في القرآن والحديث واللغة في منثورها وأخبارها وأشعارها. قال العوفي عن ابن عباس (فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ) ، قال : أسر في نفسه (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ).

(قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ(٧٨) قالَ مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ) (٧٩)

لما تعين أخذ بنيامين وتقرر تركه عند يوسف بمقتضى اعترافهم ، شرعوا يترققون له ويعطفونه عليهم ف (قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً) يعنون وهو يحبه حبا شديدا

__________________

(١) المنطقة : شقة تلبسها المرأة وتشد وسطها.

(٢) انظر تفسير الطبري ٧ / ٢٦٥.

(٣) البيت لسليط بن سعد في الأغاني ٢ / ١١٩ ، وخزانة ١ / ٢٩٣ ، ٢٩٤ ، والدرر ١ / ٢١٩ ، ومعجم ما استعجم ص ٥١٦ ، والمقاصد النحوية ٢ / ٤٩٥ ، وبلا نسبة في تخليص الشواهد ص ٤٨٩ ، وتذكرة النحاة ص ٣٦٤ ، وخزانة الأدب ١ / ٢٨٠ ، وشرح الأشموني ١ / ١٧٠ ، وشرح ابن عقيل ص ٢٥٢ ، وهمع الهوامع ١ / ٦٦.

ويتسلى به عن ولده الذي فقده (فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ) أي بدله يكون عندك عوضا عنه ، (إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) أي العادلين المنصفين القابلين للخير ، (قالَ مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ) أي كما قلتم واعترفتم (إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ) أي إن أخذنا بريئا بسقيم.

(فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٠) ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (٨١) وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ) (٨٢)

يخبر تعالى عن إخوة يوسف أنهم لما يئسوا من تخليص أخيهم بنيامين الذي قد التزموا لأبيهم برده إليه ، وعاهدوه على ذلك ، فامتنع عليهم ذلك (خَلَصُوا) أي انفردوا عن الناس (نَجِيًّا) يتناجون فيما بينهم (قالَ كَبِيرُهُمْ) وهو روبيل ، وقيل : يهوذا ، وهو الذي أشار عليهم بإلقائه في البئر عند ما هموا بقتله ، قال لهم : (أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ) لتردنه إليه فقد رأيتم كيف تعذر عليكم ذلك مع ما تقدم لكم من إضاعة يوسف عنه (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ) أي لن أفارق هذه البلدة (حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي) في الرجوع إليه راضيا عني (أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي) قيل : بالسيف ، وقيل : بأن يمكنني من أخذ أخي (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ).

ثم أمرهم أن يخبروا أباهم بصورة ما وقع ، حتى يكون عذرا لهم عنده ، ويتنصلوا إليه ويبرءوا مما وقع بقولهم وقوله : (وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ) قال قتادة وعكرمة : ما علمنا أن ابنك سرق. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : ما علمنا في الغيب أنه سرق له شيئا ، إنما سألنا ما جزاء السارق؟ (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها) : قيل المراد مصر ، قاله قتادة ، وقيل غيرها ، (وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها) أي التي رافقناها ، عن صدقنا وأمانتنا وحفظنا وحراستنا ، (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) فيما أخبرناك به من أنه سرق وأخذوه بسرقته.

(قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٨٣) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (٨٤) قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (٨٥) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٨٦)

قال لهم كما قال لهم حين جاءوا على قميص يوسف بدم كذب (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) قال محمد بن إسحاق : لما جاءوا يعقوب وأخبروه بما جرى ، اتهمهم فظن أنها كفعلتهم بيوسف ، قال : (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) (١) وقال بعض

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٢٧٤.

الناس : لما كان صنيعهم هذا مرتبا على فعلهم الأول ، سحب حكم الأول عليه ، وصح قوله : (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) ثم ترجى من الله أن يرد عليه أولاده الثلاثة : يوسف وأخاه بنيامين وروبيل الذي أقام بديار مصر ينتظر أمر الله فيه ، إما أن يرضى عنه أبوه ، فيأمره بالرجوع إليه ، وإما أن يأخذ أخاه خفية ، ولهذا قال : (عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ) أي العليم بحالي ، (الْحَكِيمُ) في أفعاله وقضائه وقدره.

(وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ) أي أعرض عن بنيه ، وقال متذكرا حزن يوسف القديم الأول (يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ) جدد له حزن الابنين الحزن الدفين ، قال عبد الرزاق : أنبأنا الثوري عن سفيان العصفري ، عن سعيد بن جبير أنه قال : لم يعط أحد غير هذه الأمة الاسترجاع (١) ، ألا تسمعون إلى قول يعقوب عليه‌السلام (يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) (٢) أي ساكت لا يشكو أمره إلى مخلوق ، قاله قتادة وغيره. وقال الضحاك : فهو كظيم كئيب حزين.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن الحسن ، عن الأحنف بن قيس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن داود عليه‌السلام قال : يا رب إن بني إسرائيل يسألونك بإبراهيم وإسحاق ويعقوب ، فاجعلني لهم رابعا ، فأوحى الله تعالى إليه : أن يا داود إن إبراهيم ألقي في النار بسببي فصبر ، وتلك بلية لم تنلك ، وإن إسحاق بذل مهجة دمه بسببي فصبر ، وتلك بلية لم تنلك ، وإن يعقوب أخذت منه حبيبه فابيضت عيناه من الحزن فصبر ، وتلك بلية لم تنلك». وهذا مرسل وفيه نكارة ، فإن الصحيح أن إسماعيل هو الذبيح ، ولكن علي بن زيد بن جدعان له ، مناكير وغرائب كثيرة ، والله أعلم.

وأقرب ما في هذا أن الأحنف بن قيس رحمه‌الله حكاه عن بعض بني إسرائيل ككعب ووهب ونحوهما ، والله أعلم ، فإن بني إسرائيل ينقلون أن يعقوب كتب إلى يوسف لما احتبس أخاه بسبب السرقة يتلطف له في رد ابنه ، ويذكر له أنهم أهل بيت مصابون بالبلاء ، فإبراهيم ابتلي بالنار ، وإسحاق بالذبح ، ويعقوب بفراق يوسف ، في حديث طويل لا يصح ، والله أعلم ، فعند ذلك رق له بنوه.

وقالوا له على سبيل الرفق به والشفقة عليه : (تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ) أي لا تفارق تذكر يوسف (حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً) أي ضعيف القوة (أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ) يقولون إن استمر بك هذا الحال خشينا عليك الهلاك والتلف (قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ) أي أجابهم عما قالوا بقوله : (إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي) أي همي وما أنا فيه (إِلَى اللهِ) وحده ، (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ

__________________

(١) الاسترجاع : أي القول : (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) ، إذا نزلت مصيبة.

(٢) انظر تفسير الطبري ٧ / ٢٧٦.

ما لا تَعْلَمُونَ) أي أرجو منه كل خير ، وعن ابن عباس (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) يعني رؤيا يوسف أنها صدق ، وأن الله لا بد أن يظهرها ، وقال العوفي عنه في الآية : أعلم أن رؤيا يوسف صادقة وأني سوف أسجد له (١).

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن عرفة ، حدثنا يحيى بن عبد الملك بن أبي غنية عن حفص بن عمر بن أبي الزبير ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كان ليعقوب النبي عليه‌السلام أخ مؤاخ له ، فقال له ذات يوم : ما الذي أذهب بصرك ، وقوس ظهرك؟ قال : أما الذي أذهب بصري فالبكاء على يوسف ، وأما الذي قوس ظهري فالحزن على بنيامين ، فأتاه جبريل عليه‌السلام فقال : يا يعقوب إن الله يقرئك السلام ويقول لك : أما تستحي أن تشكوني إلى غيري؟ فقال يعقوب : إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ، فقال جبريل عليه‌السلام : «الله أعلم بما تشكو» وهذا حديث غريب فيه نكارة.

(يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (٨٧) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) (٨٨)

يقول تعالى مخبرا عن يعقوب عليه‌السلام : إنه ندب بنيه على الذهاب في الأرض يستعلمون أخبار يوسف وأخيه بنيامين ، والتحسس يكون في الخير ، والتجسس يكون في الشر ، ونهضهم وبشرهم وأمرهم أن لا ييأسوا من روح الله أي لا يقطعوا رجاءهم وأملهم من الله فيما يرومونه ويقصدونه ، فإنه لا يقطع الرجاء ولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.

وقوله (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ) تقدير الكلام : فذهبوا فدخلوا مصر ، ودخلوا على يوسف (قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ) يعنون من الجدب والقحط وقلة الطعام ، (وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ) أي ومعنا ثمن الطعام الذي نمتاره ، وهو ثمن قليل ، قاله مجاهد والحسن وغير واحد. وقال ابن عباس : الرديء لا ينفق مثل خلق (٢) الغرارة والحبل والشيء ، وفي رواية عنه : الدراهم الرديئة التي لا تجوز إلا بنقصان ، وكذا قال قتادة والسدي. وقال سعيد بن جبير : هي الدراهم الفسول (٣). وقال أبو صالح : هو الصنوبر وحبة الخضراء ، وقال الضحاك : كاسدة لا تنفق. وقال أبو صالح : جاءوا بحب البطم الأخضر والصنوبر ، وأصل الإخاء الإزجاء

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٢٨١.

(٢) الخلق : البالي.

(٣) الفسول : جمع فسل : هو الرديء من كل شيء.

لضعف الشيء ، كما قال حاتم طيئ : [الطويل]

ليبك على ملحان ضيف مدفّع

وأرملة تزجي مع الليل أرملا (١)

وقال أعشى بني ثعلبة : [الكامل]

الواهب المائة الهجان وعبدها

عوذا تزجّي خلفها أطفالها (٢)

وقوله إخبارا عنهم (فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ) أي أعطنا بهذا الثمن القليل ما كنت تعطينا قبل ذلك ، وقرأ ابن مسعود : فأوقر ركابنا وتصدق علينا. وقال ابن جريج : وتصدق علينا برد أخينا إلينا. وقال سعيد بن جبير والسدي (وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا) يقولون : تصدق علينا بقبض هذه البضاعة المزجاة ، وتجوز فيها. وسئل سفيان بن عيينة : هل حرمت الصدقة على أحد من الأنبياء قبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فقال ألم تسمع قوله : (فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) رواه ابن جرير (٣) عن الحارث ، عن القاسم عنه. وقال ابن جرير (٤) : حدثنا الحارث ، حدثنا القاسم ، حدثنا مروان بن معاوية عن عثمان بن الأسود ، سمعت مجاهدا وسئل : هل يكره أن يقول الرجل في دعائه : اللهم تصدق علي؟ قال : نعم ، إنما الصدقة لمن يبتغي الثواب.

(قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (٨٩) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٩٠) قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (٩١) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (٩٢)

يقول تعالى مخبرا عن يوسف عليه‌السلام ، أنه لما ذكر له إخوته ما أصابهم من الجهد والضيق وقلة الطعام وعموم الجدب ، وتذكر أباه وما هو فيه من الحزن لفقد ولديه مع ما هو فيه من الملك والتصرف والسعة ، فعند ذلك أخذته رقة ورأفة ورحمة وشفقة على أبيه وإخوته ، وبدره البكاء فتعرف إليهم ، فيقال : إنه رفع التاج عن جبهته ، وكان فيها شامة ، وقال (هَلْ

__________________

(١) البيت بلا نسبة في لسان العرب (رمل) ، وتاج العروس (رمل) ، وهو منسوب أيضا لحاتم الطائي في تفسير الطبري ٧ / ٢٨٥.

(٢) البيت للأعشى في ديوانه ص ٧٩ ، وأمالي المرتضى ٢ / ٣٠٣ ، وخزانة الأدب ٤ / ٢٥٦ ، ٢٦٠ ، ٥ / ١٣١ ، ٦ / ٤٩٨ ، والدرر ٥ / ١٣ ، والكتاب ١ / ١٨٣ ، والمقتضب ٤ / ١٦٣ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٢ / ٤٣٩ ، وجمهرة اللغة ص ٩٢٠ ، والدرر ٦ / ١٥٣ ، وشرح ابن عقيل ص ٤٢٧ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٦٦٧ ، والمقرب ١ / ١٢٦ ، وهمع الهوامع ٢ / ٤٨ ، ١٣٩ ، والبيت للأعشى بني ثعلبة في تفسير الطبري ٧ / ٢٨٥.

(٣) تفسير الطبري ٧ / ٢٨٩.

(٤) تفسير الطبري ٧ / ٢٩٠.

عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ) يعني كيف فرقوا بينه وبين أخيه (إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ) أي إنما حملكم على هذا الجهل بمقدار هذا الذي ارتكبتموه ، كما قال بعض السلف : كل من عصى الله فهو جاهل ، وقرأ (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ) [النحل : ١١٩] الآية.

والظاهر ـ والله أعلم ـ أن يوسف عليه‌السلام إنما تعرف إليهم بنفسه بإذن الله تعالى له في ذلك ، كما أنه إنما أخفى منهم نفسه في المرتين الأوليين بأمر الله تعالى له في ذلك ، والله أعلم ولكن لما ضاق الحال واشتد الأمر ، فرج الله تعالى من ذلك الضيق ، كما قال تعالى : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) [الشرح : ٥ ـ ٦] فعند ذلك قالوا (أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ) وقرأ أبي بن كعب إنك لأنت يوسف ، وقرأ ابن محيصن أنت يوسف ، والقراءة المشهورة هي الأولى ، لأن الاستفهام يدل على الاستعظام أي أنهم تعجبوا من ذلك أنهم يترددون إليه من سنتين وأكثر وهم لا يعرفونه وهو مع هذا يعرفهم ويكتم نفسه ، فلهذا قالوا على سبيل الاستفهام : (أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي).

وقوله : (قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا) أي بجمعه بيننا بعد التفرقة وبعد المدة (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا) الآية ، يقولون معترفين له بالفضل والأثرة عليهم في الخلق والخلق والسعة والملك والتصرف والنبوة أيضا ، على قول من لم يجعلهم أنبياء ، وأقروا له بأنهم أساؤوا إليه وأخطئوا في حقه (قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) يقول : أي لا تأنيب عليكم ولا عتب عليكم اليوم ، ولا أعيد عليكم ذنبكم في حقي بعد اليوم ، ثم زادهم الدعاء لهم بالمغفرة فقال : (يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) قال السدي : اعتذروا إلى يوسف فقال : (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) يقول : لا أذكر لكم ذنبكم : وقال ابن إسحاق والثوري (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ) أي لا تأنيب عليكم اليوم عندي فيما صنعتم ، (يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ) أي يستر الله عليكم فيما فعلتم (وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ).

(اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (٩٣) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ (٩٤) قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ) (٩٥)

يقول : اذهبوا بهذا القميص (فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً) وكان قد عمي من كثرة البكاء ، (وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ) أي بجميع بني يعقوب ، (وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ) أي خرجت من مصر (قالَ أَبُوهُمْ) يعني يعقوب عليه‌السلام لمن بقي عنده من بنيه (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ) تنسبوني إلى الفند والكبر قال عبد الرزاق : أنبأنا إسرائيل عن أبي سنان ، عن عبد الله بن أبي الهذيل ، قال : سمعت ابن عباس يقول : ولما فصلت العير ، قال : لما خرجت

العير هاجت ريح ، فجاءت يعقوب بريح قميص يوسف ، فقال (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ) قال : فوجد ريحه من مسيرة ثمانية أيام (١) ، وكذا رواه سفيان الثوري وشعبة وغيرهما عن أبي سنان به وقال الحسن وابن جريج : كان بينهما ثمانون فرسخا ، وكان بينه وبينه منذ افترقا ثمانون سنة.

وقوله (لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ) قال ابن عباس ومجاهد وعطاء وقتادة وسعيد بن جبير تسفهون وقال مجاهد أيضا والحسن : تهرمون. وقولهم (إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ) قال ابن عباس : لفي خطئك القديم. وقال قتادة : أي من حب يوسف لا تنساه ولا تسلاه ، قالوا لوالدهم كلمة غليظة لم يكن ينبغي لهم أن يقولوها لوالدهم ولا لنبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكذا قال السدي وغيره.

(فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٩٦) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (٩٧) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (٩٨)

قال ابن عباس والضحاك : (الْبَشِيرُ) البريد. وقال مجاهد والسدي : كان يهوذا بن يعقوب ، قال السدي : إنما جاء به لأنه هو الذي جاء بالقميص وهو ملطخ بدم كذب ، فأحب أن يغسل ذلك بهذا ، فجاء بالقميص فألقاه على وجه أبيه فرجع بصيرا ، وقال لبنيه عند ذلك (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) أي أعلم أن الله سيرده إلي ، وقلت لكم : (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ) فعند ذلك قالوا لأبيهم مترفقين له : (يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) أي من تاب إليه تاب عليه ، قال ابن مسعود وإبراهيم التيمي وعمرو بن قيس وابن جريج وغيرهم : أرجأهم إلى وقت السحر.

وقال ابن جرير (٢) : حدثني أبو السائب ، حدثنا ابن إدريس ، سمعت عبد الرحمن بن إسحاق يذكر عن محارب بن دثار قال : كان عمر رضي الله عنه يأتي المسجد فيسمع إنسانا يقول: اللهم دعوتني فأجبت ، وأمرتني فأطعت ، وهذا السحر فاغفر لي. قال فاستمع الصوت ، فإذا هو من دار عبد الله بن مسعود ، فسأل عبد الله عن ذلك ، فقال : إن يعقوب أخر بنيه إلى السحر بقوله (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي).

وقد ورد في الحديث أن ذلك كان ليلة الجمعة ، كما قال ابن جرير (٣) أيضا : حدثني المثنى ، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن أيوب الدمشقي ، حدثنا الوليد ، أنبأنا ابن جريج عن عطاء ، وعكرمة عن ابن عباس ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) يقول : حتى تأتي

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٢٩٤.

(٢) تفسير الطبري ٧ / ٣٠٠.

(٣) تفسير الطبري ٧ / ٣٠٠.

ليلة الجمعة ، وهو قول أخي يعقوب لبنيه «وهذا غريب من هذا الوجه ، وفي رفعه نظر ، والله أعلم».

(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ (٩٩) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (١٠٠)

يخبر تعالى عن ورود يعقوب عليه‌السلام على يوسف عليه‌السلام ، وقدومه بلاد مصر ، لما كان يوسف قد تقدم لإخوته أن يأتوه بأهلهم أجمعين ، فتحملوا عن آخرهم ، وترحلوا من بلاد كنعان قاصدين بلاد مصر ، فلما أخبر يوسف عليه‌السلام باقترابهم ، خرج لتلقيهم وأمر الملك أمراءه وأكابر الناس بالخروج مع يوسف لتلقي نبي الله يعقوب عليه‌السلام ، ويقال : إن الملك خرج أيضا لتلقيه ، وهو الأشبه ، وقد أشكل قوله : (آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ) على كثير من المفسرين ، فقال بعضهم : هذا من المقدم والمؤخر ، ومعنى الكلام (وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) وآوى إليه أبويه ورفعهما على العرش ، ورد ابن جرير هذا ، وأجاد في ذلك ، ثم اختار ما حكاه عن السدي أن يوسف آوى إليه أبويه لما تلقاهما ، ثم لما وصلوا باب البلد قال : (ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ).

وفي هذا نظر أيضا ، لأن الإيواء إنما يكون في المنزل ، كقوله (آوى إِلَيْهِ أَخاهُ) [يوسف: ٦٩] وفي الحديث «من آوى محدثا» (١) وما المانع أن يكون قال لهم بعد ما دخلوا عليه وآواهم إليه : ادخلوا مصر ، وضمنه اسكنوا مصر إن شاء الله آمنين ، أي مما كنتم فيه من الجهد والقحط ، ويقال ـ والله أعلم ـ إن الله تعالى رفع عن أهل مصر بقية السنين المجدبة ببركة قدوم يعقوب عليهم ، كما رفع بقية السنين التي دعا بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أهل مكة حين قال : «اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف» ثم لما تضرعوا إليه واستشفعوا لديه ، وأرسلوا أبا سفيان في ذلك ، فدعا لهم فرفع عنهم بقية ذلك ببركة دعائه عليه‌السلام (٢).

وقوله : (آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ) قال السدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : إنما كان أباه وخالته ، وكانت أمه قد ماتت قديما. وقال محمد بن إسحاق وابن جرير : كان أبوه وأمه يعيشان ، قال ابن جرير (٣) : ولم يقم دليل على موت أمه ، وظاهر القرآن يدل على حياتها ، وهذا الذي نصره هو المنصور الذي يدل عليه السياق. وقوله : (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ) قال ابن عباس

__________________

(١) أخرجه البخاري في الفرائض باب ٢١ ، ومسلم في العتق حديث ٢٠.

(٢) أخرجه البخاري في الدعوات باب ٥٨.

(٣) تفسير الطبري ٧ / ٣٠٢.

ومجاهد وغير واحد : يعني السرير ، أي أجلسهما معه على سريره ، (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) أي سجد له أبواه وإخوته الباقون. وكانوا أحد عشر رجلا ، (وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ) أي التي كان قصها على أبيه من قبل ، (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً) [يوسف : ٤] الآية ، وقد كان هذا سائغا في شرائعهم إذا سلموا على الكبير يسجدون له ، ولم يزل هذا جائزا من لدن آدم إلى شريعة عيسى عليه‌السلام ، فحرم هذا في هذه الملة ، وجعل السجود مختصا بجناب الرب سبحانه وتعالى ، هذا مضمون قول قتادة وغيره.

وفي الحديث أن معاذا قدم الشام فوجدهم يسجدون لأساقفتهم ، فلما رجع سجد لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال «ما هذا يا معاذ؟» فقال إني رأيتهم يسجدون لأساقفتهم ، وأنت أحق أن يسجد لك يا رسول الله ، فقال : «لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد ، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لعظم حقه عليها» (١). وفي حديث آخر : أن سلمان لقي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بعض طرق المدينة ، وكان سلمان حديث عهد بالإسلام ، فسجد للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «لا تسجد لي يا سلمان ، واسجد للحي الذي لا يموت» ، والغرض أن هذا كان جائزا في شريعتهم ، ولهذا خروا له سجدا ، فعندها قال يوسف : (يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا) أي هذا ما آل إليه الأمر ، فإن التأويل يطلق على ما يصير إليه الأمر ، كما قال تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ) [الأعراف : ٥٣] أي يوم القيامة يأتينهم ما وعدوا به من خير وشر.

وقوله : (قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا) أي صحيحة صدقا يذكر نعم الله عليه ، (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ) أي البادية. قال ابن جريج وغيره : كانوا أهل بادية وماشية ، وقال : كانوا يسكنون بالعربات من أرض فلسطين من غور الشام ، قال : وبعض يقول : كانوا بالأولاج من ناحية شعب أسفل من حسمى ، وكانوا أصحاب بادية وشاء وإبل (٢).

(مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ) أي إذا أراد أمرا قيض له أسبابا وقدره ويسره (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ) بمصالح عباده ، (الْحَكِيمُ) في أقواله وأفعاله وقضائه وقدره وما يختاره ويريده. قال أبو عثمان النهدي ، عن سليمان : كان بين رؤيا يوسف وتأويلها أربعون سنة ، قال عبد الله بن شداد : وإليها ينتهي أقصى الرؤيا ، رواه ابن جرير(٣) ، وقال أيضا : حدثنا عمر بن علي ، حدثنا عبد الوهاب الثقفي ، حدثنا هشام عن الحسن قال : كان منذ فارق يوسف يعقوب إلى أن التقيا ثمانون سنة ، لم يفارق الحزن قلبه ، ودموعه تجري على خديه ، وما على وجه الأرض عبد أحب إلى الله من يعقوب.

__________________

(١) أخرجه ابن ماجة في النكاح باب ٤ ، وأحمد في المسند ٤ / ٣٨١.

(٢) انظر تفسير الطبري ٧ / ٣٠٧.

(٣) تفسير الطبري ٧ / ٣٠٨.

وقال هشيم ، عن يونس ، عن الحسن : ثلاث وثمانون سنة ، وقال مبارك بن فضالة ، عن الحسن : ألقي يوسف في الجب وهو ابن سبع عشرة سنة ، فغاب عن أبيه ثمانين سنة ، وعاش بعد ذلك ثلاثا وعشرين سنة ، فمات وله عشرون ومائة سنة ، وقال قتادة : كان بينهما خمس وثلاثون سنة. وقال محمد بن إسحاق : ذكر ـ والله أعلم ـ أن غيبة يوسف عن يعقوب كانت ثماني عشرة سنة ، قال : وأهل الكتاب يزعمون أنها كانت أربعين سنة أو نحوها ، وأن يعقوب عليه‌السلام بقي مع يوسف بعد أن قدم عليه مصر سبع عشرة سنة ، ثم قبضه الله إليه. وقال أبو إسحاق السبيعي ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : دخل بنو إسرائيل مصر وهم ثلاثة وستون إنسانا ، وخرجوا منها وهم ستمائة ألف وسبعون ألفا ، وقال أبو إسحاق ، عن مسروق : دخلوا وهم ثلاثمائة وتسعون بين رجل وامرأة ، فالله أعلم. وقال موسى بن عبيدة ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن عبد الله بن شداد : اجتمع آل يعقوب إلى يوسف بمصر وهم ستة وثمانون إنسانا : صغيرهم وكبيرهم ، وذكرهم وأنثاهم ، وخرجوا منها وهم ستمائة ألف ونيف.

(رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) (١٠١)

هذا دعاء من يوسف الصديق ، دعا به ربه عزوجل لما تمت نعمة الله عليه باجتماعه بأبويه وإخوته ، وما منّ الله به عليه من النبوة والملك سأل ربه عزوجل كما أتم نعمته عليه في الدنيا أن يستمر بها عليه في الآخرة ، وأن يتوفاه مسلما حين يتوفاه ، قاله الضحاك : وأن يلحقه بالصالحين وهم إخوانه من النبيين والمرسلين ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

وهذا الدعاء يحتمل أن يوسف عليه‌السلام ، قاله عند احتضاره ، كما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جعل يرفع إصبعه عند الموت ويقول : «اللهم في الرفيق الأعلى» (١) ثلاثا ، ويحتمل أنه سأل الوفاة على الإسلام واللحاق بالصالحين إذا جاء أجله ، وانقضى عمره ، لا أنه سأله ذلك منجزا كما يقول الداعي لغيره : أماتك الله على الإسلام ، ويقول الداعي : اللهم أحينا مسلمين ، وتوفنا مسلمين ، وألحقنا بالصالحين ، ويحتمل أنه سأل ذلك منجزا ، وكان ذلك سائغا في ملتهم ، كما قال قتادة قوله : (تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) لما جمع الله شمله وأقر عينه ، وهو يومئذ مغمور في الدنيا وملكها ونضارتها ، اشتاق إلى الصالحين قبله.

وكان ابن عباس يقول : ما تمنى نبي قط الموت قبل يوسف عليه‌السلام ، وكذا ذكر ابن

__________________

(١) أخرجه البخاري في فضائل الصحابة ، باب ٥ ، ومسلم في السلام حديث ٤٦.

جرير (١) والسدي عن ابن عباس أنه أول نبي دعا بذلك ، وهذا يحتمل أنه أول من سأل الوفاة على الإسلام ، كما أن نوحا أول من قال : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً) [نوح : ٢٨] ويحتمل أنه أول من سأل إنجاز ذلك ، وهو ظاهر سياق قول قتادة ، ولكن هذا لا يجوز في شريعتنا.

قال الإمام أحمد بن حنبل (٢) رحمه‌الله : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، حدثنا عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به فإن كان ولا بد متمنيا الموت ، فليقل : اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي ، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي» وأخرجاه في الصحيحين ، وعندهما «لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به إما محسنا فيزداد ، وإما مسيئا فلعله يستعتب ، ولكن ليقل : اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي ، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي» (٣).

وقال الإمام أحمد (٤) : حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا معان بن رفاعة ، حدثني علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة قال : جلسنا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكرنا ورققنا ، فبكى سعد بن أبي وقاص فأكثر البكاء ، وقال : يا ليتني مت ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا سعد أعندي تتمنى الموت؟» فردد ذلك ثلاث مرات ، ثم قال : «يا سعد إن كنت خلقت للجنة ، فما طال من عمرك وحسن من عملك فهو خير لك».

وقال الإمام أحمد (٥) : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا أبو يونس ، وهو سليم بن جبير عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به ولا يدع به من قبل أن يأتيه إلا أن يكون قد وثق بعمله ، فإنه إذا مات أحدكم انقطع عنه عمره ، وأنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرا» تفرد به أحمد ، وهذا فيما إذا كان الضر خاصا به ، وأما إذا كان فتنة في الدين فيجوز سؤال الموت ، كما قال الله تعالى إخبارا عن السحرة لما أرادهم فرعون عن دينهم وتهددهم بالقتل قالوا (رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ) [الأعراف : ١٢٦] وقالت مريم لما أجاءها المخاض ، وهو الطلق ، إلى جذع النخلة : (يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا) [مريم : ٢٣] لما علمت من أن الناس يقذفونها بالفاحشة ، لأنها لم تكن ذات زوج ، وقد حملت ووضعت ، وقد قالوا : (يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) [مريم : ٢٧ ـ ٢٨] فجعل الله لها من ذلك الحال فرجا ومخرجا ، وأنطق

__________________

(١) تفسير الطبري ٧ / ٣٠٩.

(٢) المسند ٣ / ١٠١.

(٣) أخرجه البخاري في المرضى باب ١٩ ، ومسلم في الذكر حديث ١٠.

(٤). ٥ / ٢٦٦ ، ٢٦٧.

(٥) المسند ٢ / ٣٥٠.

الصبي في المهد بأنه عبد الله ورسوله ، فكان آية عظيمة ، ومعجزة باهرة صلوات الله وسلامه عليه.

وفي حديث معاذ الذي رواه الإمام أحمد والترمذي في قصة المنام والدعاء الذي فيه «وإذا أردت بقوم فتنة فتوفني إليك غير مفتون» (١).

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا أبو سلمة ، أنبأنا عبد العزيز بن محمد عن عمرو عن عاصم بن عمر بن قتادة ، عن محمود بن لبيد مرفوعا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اثنتان يكرههما ابن آدم : يكره الموت والموت خير للمؤمن من الفتن ، ويكره قلة المال وقلة المال أقل للحساب» فعند حلول الفتن في الدين يجوز سؤال الموت ، ولهذا قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في آخر خلافته لما رأى أن الأمور لا تجتمع له ولا يزداد الأمر إلا شدة ، فقال : اللهم خذني إليك ، فقد سئمتهم وسئموني. وقال البخاري رحمه‌الله : لما وقعت له تلك الفتنة وجرى له مع أمير خراسان ما جرى ، قال: اللهم توفني إليك.

وفي الحديث «إن الرجل ليمر بالقبر ـ أي في زمان الدجال ـ فيقول : يا ليتني مكانك» (٣) لما يرى من الفتن. والزلازل والبلابل والأمور الهائلة التي هي فتنة لكل مفتون. قال أبو جعفر بن جرير : وذكر أن بني يعقوب الذين فعلوا بيوسف ما فعلوا ، استغفر لهم أبوهم ، فتاب الله عليهم ، وعفا عنهم ، وغفر لهم ذنوبهم.

(ذكر من قال ذلك)

حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثني حجاج عن صالح المري ، عن يزيد الرقاشي ، عن أنس بن مالك قال : إن الله تعالى لما جمع ليعقوب شمله بعينيه خلا ولده نجيا ، فقال بعضهم لبعض : ألستم قد علمتم ما صنعتم؟ وما لقي منكم الشيخ ، وما لقي منكم يوسف؟ قالوا : بلى. قال فيغركم عفوهما عنكم ، فكيف لكم بربكم؟ فاستقام أمرهم على أن أتوا الشيخ ، فجلسوا بين يديه ويوسف إلى جانب أبيه قاعد ، قالوا : يا أبانا إنا أتيناك لأمر لم نأتك لأمر مثله قط ، ونزل بنا أمر لم ينزل بنا مثله قط حتى حركوه ، والأنبياء عليهم‌السلام أرحم البرية ، فقال : ما لكم يا بني؟ قالوا : ألست قد علمت ما كان منا إليك وما كان منا إلى أخينا يوسف؟

قال : بلى قالوا : أولستما قد غفرتما لنا؟ قالا : بلى. قالوا : فإن عفوكما لا يغني عنا شيئا ، إن كان الله لم يعف عنا. قال : فما تريدون يا بني؟ قالوا : نريد أن تدعو الله لنا ، فإذا جاءك

__________________

(١) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٣٨ ، باب ٢ ، ٤ ، ومالك في القرآن حديث ٩٠ ، وأحمد في المسند ١ / ٣٦٨ ، ٤ / ٦٦ ، ٥ / ٢٤٣ ، ٣٧٨.

(٢) المسند ٥ / ٤٢٧.

(٣) أخرجه ابن ماجة في الفتن باب ٢٤.

الوحي من الله بأنه قد عفا عنا ، قرت أعيننا ، واطمأنت قلوبنا ، وإلا فلا قرة عين في الدنيا لنا أبدا. قال : فقام الشيخ فاستقبل القبلة وقام يوسف خلف أبيه ، وقاموا خلفهما أذلة خاشعين ، قال : فدعا وأمن يوسف ، فلم يجب فيهم عشرين سنة ، قال صالح المري يخيفهم ، قال : حتى إذا كان على رأس العشرين نزل جبريل عليه‌السلام ، على يعقوب عليه‌السلام ، فقال : إن الله تعالى قد بعثني إليك أبشرك بأنه قد أجاب دعوتك في ولدك وأن الله تعالى قد عفا عما صنعوا ، وأنه قد اعتقد مواثيقهم من بعدك على النبوة (١).

هذا الأثر موقوف عن أنس. ويزيد الرقاشي وصالح المري ضعيفان جدا. وذكر السدي أن يعقوب عليه‌السلام لما حضره الموت أوصى إلى يوسف بأن يدفن عند إبراهيم وإسحاق ، فلما مات صبره وأرسله إلى الشام ، فدفن عندهما عليهم‌السلام.

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ(١٠٢) وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) (١٠٤)

يقول تعالى لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قص عليه نبأ إخوة يوسف ، وكيف رفعه الله عليهم ، وجعل له العاقبة والنصر والملك والحكم ، مع ما أرادوا به من السوء والهلاك والإعدام ، هذا وأمثاله يا محمد من أخبار الغيوب السابقة (نُوحِيهِ إِلَيْكَ) ونعلمك به يا محمد لما فيه من العبرة لك ، والاتعاظ لمن خالفك (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ) حاضرا عندهم ولا مشاهدا لهم (إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ) أي على إلقائه في الجب (وَهُمْ يَمْكُرُونَ) به ، ولكنا أعلمناك به وحيا إليك وإنزالا عليك ، كقوله : (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ) [آل عمران : ٤٤] الآية ، وقال تعالى : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ) [القصص : ٤٤] الآية ، إلى قوله : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا) [القصص : ٤٦] الآية ، وقال : (وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا) [القصص : ٤٥] الآية ، وقال (ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) [ص : ٦٩ ـ ٧٠] يقول تعالى : إنه رسوله وإنه قد أطلعه على أنباء ما قد سبق ، مما فيه عبرة للناس ونجاة لهم في دينهم ودنياهم ، ومع هذا ما آمن أكثر الناس ، ولهذا قال : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) [الأنعام : ١١٦] وقال : (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) كقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) [الشعراء : ٨] إلى غير ذلك من الآيات.

وقوله : (وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) أي ما تسألهم يا محمد على هذا النصح والدعاء إلى الخير والرشد من أجر ، أي من جعالة ولا أجرة على ذلك ، بل تفعله ابتغاء وجه الله ونصحا لخلقه (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) يتذكرون به ويهتدون وينجون به في الدنيا والآخرة.

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٣٠٩ ، ٣١٠.

(وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (١٠٥) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (١٠٦) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (١٠٧)

يخبر تعالى عن غفلة أكثر الناس عن التفكر في آيات الله ودلائل توحيده بما خلقه الله في السموات والأرض من كواكب زاهرات ثوابت ، وسيارات وأفلاك دائرات ، والجميع مسخرات ، وكم في الأرض من قطع متجاورات ، وحدائق وجنات ، وجبال راسيات ، وبحار زاخرات ، وأمواج متلاطمات ، وقفار شاسعات ، وكم من أحياء وأموات ، وحيوان ونبات ، وثمرات متشابهة ومختلفات في الطعوم والروائح والألوان والصفات ، فسبحان الواحد الأحد ، خالق أنواع المخلوقات ، المتفرد بالدوام والبقاء والصمدية للأسماء والصفات ، وغير ذلك.

وقوله : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) قال ابن عباس : من إيمانهم أنهم إذا قيل لهم : من خلق السموات ، ومن خلق الأرض ، ومن خلق الجبال؟ قالوا : الله ، وهم مشركون به (١). وكذا قال مجاهد وعطاء وعكرمة والشعبي وقتادة والضحاك وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.

وفي الصحيحين : أن المشركين كانوا يقولون في تلبيتهم : لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك ، تملكه وما ملك. وفي صحيح مسلم أنهم كانوا إذا قالوا : لبيك لا شريك لك ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قد قد» أي حسب حسب ، لا تزيدوا على هذا (٢).

وقال الله تعالى : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) وهذا هو الشرك الأعظم يعبد مع الله غيره ، كما في الصحيحين عن ابن مسعود قلت : يا رسول الله ، أي الذنب أعظم؟ قال : «أن تجعل لله ندا وهو خلقك» (٣).

وقال الحسن البصري في قوله : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) قال : ذلك المنافق يعمل إذا عمل رياء الناس ، وهو مشرك بعمله ذلك يعني قوله تعالى : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً) وثمّ شرك آخر خفي لا يشعر به غالبا فاعله ، كما روى حماد بن سلمة عن عاصم بن أبي النجود عن عروة قال : دخل حذيفة على مريض فرأى في عضده سيرا فقطعه ـ أو انتزعه ـ ثم قال (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) وفي الحديث «من حلف بغير الله فقد

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٣١٢.

(٢) أخرجه مسلم في الحج حديث ٢٢.

(٣) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٢ ، باب ٣ ، ومسلم في الإيمان حديث ١٤١ ، ١٤٢.

أشرك» (١) رواه الترمذي وحسنه من رواية ابن عمر.

وفي الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود وغيره عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الرقى والتمائم والتولة شرك» (٢) ، وفي لفظ لهما «الطيرة شرك وما منا إلا ولكن الله يذهبه بالتوكل» (٣) ورواه الإمام أحمد بأبسط من هذا فقال : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش عن عمرو بن مرة ، عن يحيى الجزار عن ابن أخي زينب ، عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت : كان عبد الله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب تنحنح وبزق كراهة أن يهجم منا على أمر يكرهه ، قالت : وإنه جاء ذات يوم فتنحنح وعندي عجوز ترقيني من الحمرة فأدخلتها تحت السرير ، قالت : فدخل فجلس إلى جانبي ، فرأى في عنقي خيطا فقال : ما هذا الخيط؟ قالت : قلت : خيط رقي لي فيه ، فأخذه فقطعه ثم قال : إن آل عبد الله لأغنياء عن الشرك ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن الرقى والتمائم والتولة شرك» قالت : قلت له : لم تقول هذا وقد كانت عيني تقذف ، فكنت أختلف إلى فلان اليهودي يرقيها ، فكان إذا رقاها سكنت ، فقال إنما ذاك من الشيطان كان ينخسها بيده ، فإذا رقاها كف عنها ، إنما كان يكفيك أن تقولي كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أذهب البأس ، رب الناس ، اشف وأنت الشافي ، لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما» (٤).

وفي حديث آخر رواه الإمام أحمد (٥) عن وكيع ، عن ابن أبي ليلى ، عن عيسى بن عبد الرحمن قال : دخلت على عبد الله بن عكيم وهو مريض نعوده ، فقيل له ، لو تعلقت شيئا ، فقال : أتعلق شيئا وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من تعلق شيئا وكل إليه» ورواه النسائي عن أبي هريرة.

وفي مسند الإمام أحمد (٦) من حديث عقبة بن عامر قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من علق تميمة فقد أشرك» ، وفي رواية «من تعلق تميمة فلا أتم الله له ، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له» (٧) ، وعن العلاء عن أبيه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «قال الله : أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه» رواه

__________________

(١) أخرجه الترمذي في النذور باب ٩.

(٢) أخرجه أبو داود في الطب باب ١٧ ، وابن ماجة في الطب باب ٣٩ ، وأحمد في المسند ١ / ٣٨١.

(٣) أخرجه أبو داود في الطب باب ٢٤ ، والترمذي في السير باب ٤٦ ، وابن ماجة في الطب باب ٤٣ ، وأحمد في المسند ١ / ٣٨٩ ، ٤٣٨ ، ٤٤٠.

(٤) المسند ١ / ٣٨١.

(٥) المسند ٤ / ٣١٠.

(٦) المسند ٤ / ١٥٦.

(٧) المسند ٤ / ١٥٤.

مسلم (١).

وعن أبي سعيد بن أبي فضالة قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه ينادي مناد : من كان أشرك في عمل عمله لله ، فليطلب ثوابه من عند غير الله ، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك» رواه الإمام أحمد (٢).

وقال أحمد (٣) : حدثنا يونس حدثنا ليث عن يزيد يعني ابن الهادي ، عن عمرو ، عن محمود بن لبيد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر» قالوا : وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال : «الرياء ، يقول الله تعالى يوم القيامة إذا جازى الناس بأعمالهم : اذهبوا الى الذين كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء؟» وقد رواه إسماعيل بن جعفر عن عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب ، عن عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد به.

وقال الإمام أحمد (٤) : حدثنا حسن ، أنبأنا ابن لهيعة ، أنبأنا ابن هبيرة عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك» قالوا : يا رسول الله ، ما كفارة ذلك؟ قال : «أن يقول أحدهم : اللهم لا خير إلا خيرك ، ولا طير إلا طيرك ، ولا إله غيرك».

وقال الإمام أحمد (٥) : حدثنا عبد الله بن نمير ، حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي عن أبي علي ـ رجل من بني كاهل ـ قال : خطبنا أبو موسى الأشعري فقال : يا أيها الناس اتقوا هذا الشرك ، فإنه أخفى من دبيب النمل. فقام عبد الله بن حزن وقيس بن المضارب فقالا : والله لتخرجن مما قلت ، أو لنأتين عمر مأذونا لنا أو غير مأذون. قال : بل أخرج مما قلت ، خطبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات يوم فقال : «يا أيها الناس اتقوا هذا الشرك ، فإنه أخفى من دبيب النمل» فقال له من شاء الله أن يقول : فكيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله؟ قال : «قولوا : اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئا نعلمه ، ونستغفرك لما لا نعلمه».

وقد روي من وجه آخر ، وفيه أن السائل في ذلك هو الصديق ، كما رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي من حديث عبد العزيز بن مسلم ، عن ليث بن أبي سليم ، عن أبي محمد ، عن معقل بن يسار ، قال : شهدت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو قال : حدثني أبو بكر الصديق عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «الشرك أخفى فيكم من دبيب النمل» ، فقال أبو بكر : وهل الشرك إلا من دعا مع الله إلها

__________________

(١) كتاب الزهد حديث ٤٦.

(٢) المسند ٤ / ٢١٥.

(٣) المسند ٥ / ٤٢٨ ، ٤٢٩.

(٤) المسند ٢ / ٢٢٠.

(٥) المسند ٤ / ٤٠٣.

آخر؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الشرك فيكم أخفى من دبيب النمل» ثم قال : «ألا أدلك على ما يذهب عنك صغير ذلك وكبيره؟ قل : اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم ، وأستغفرك مما لا أعلم».

وقد رواه الحافظ أبو القاسم البغوي عن شيبان بن فروخ ، عن يحيى بن كثير ، عن الثوري ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن قيس بن أبي حازم ، عن أبي بكر الصديق ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الشرك أخفى في أمتي من دبيب النمل على الصفا» قال : فقال أبو بكر : يا رسول الله ، فكيف النجاة والمخرج من ذلك؟ فقال : «ألا أخبرك بشيء إذا قلته برئت من قليله وكثيره وصغيره وكبيره؟» قال : بلى يا رسول الله. قال : «قل : اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم ، وأستغفرك لما لا أعلم». قال الدار قطني : يحيى بن كثير هذا ، يقال له أبو النضر ، متروك الحديث.

وقد روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وصححه والنسائي من حديث يعلى بن عطاء ، سمعت عمرو بن عاصم ، سمعت أبا هريرة قال : قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : يا رسول الله ، علمني شيئا أقوله إذا أصبحت وإذا أمسيت ، وإذا أخذت مضجعي ، قال : «قل : اللهم فاطر السموات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، رب كل شيء ومليكه ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أعوذ بك من شر نفسي ومن شر الشيطان وشركه» (١) ، رواه أبو داود والنسائي وصححه ، وزاد الإمام أحمد (٢) في رواية له : من حديث ليث بن أبي سليم عن مجاهد ، عن أبي بكر الصديق ، قال : أمرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن أقول ـ فذكر هذا الدعاء وزاد في آخره ـ «وأن أقترف على نفسي سوءا أو أجره إلى مسلم».

وقوله : (أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ) [يوسف : ٧] الآية ، أي أفأمن هؤلاء المشركون بالله أن يأتيهم أمر يغشاهم من حيث لا يشعرون ، كما قال تعالى : (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) [النحل: ٤٥ ـ ٤٦ ـ ٤٧]. وقوله : (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) [الأعراف : ٩٧ ـ ٩٨ ـ ٩٩].

(قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١٠٨)

يقول تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الثقلين : الإنس والجن ، آمرا له أن يخبر الناس أن هذه سبيله

__________________

(١) أخرجه أبو داود في الأدب باب ٩٨ ، وأحمد في المسند ١ / ٩.

(٢) المسند ١ / ١٤.

أي طريقته ومسلكه وسنته ، وهي الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، يدعو إلى الله بها على بصيرة من ذلك ويقين وبرهان هو وكل من اتبعه يدعو إلى ما دعا إليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم على بصيرة ويقين وبرهان عقلي وشرعي. وقوله : (وَسُبْحانَ اللهِ) أي وأنزه الله وأجله وأعظمه وأقدسه عن أن يكون له شريك أو نظير أو عديل أو نديد أو ولد أو والد أو صاحبة أو وزير أو مشير ، تبارك وتقدس وتنزه وتعالى عن ذلك كله علوا كبيرا ، (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) [الإسراء : ٤٤].

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ) (١٠٩)

يخبر تعالى أنه إنما أرسل رسله من الرجال لا من النساء ، وهذا قول جمهور العلماء ، كما دل عليه سياق هذه الآية الكريمة أن الله تعالى لم يوح إلى امرأة من بنات بني آدم وحي تشريع. وزعم بعضهم أن سارة امرأة الخليل وأم موسى ومريم بنت عمران أم عيسى نبيات ، واحتجوا بأن الملائكة بشرت سارة بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ، وبقوله : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ) [القصص : ٧] الآية ، وبأن الملك جاء إلى مريم فبشرها بعيسى عليه‌السلام ، وبقوله تعالى : (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) [آل عمران : ٤٢ ـ ٤٣].

وهذا القدر حاصل لهن ، ولكن لا يلزم من هذا أن يكن نبيات بذلك ، فإن أراد القائل بنبوتهن هذا القدر من التشريف ، فهذا لا شك فيه ، ويبقى الكلام معه في أن هذا هل يكفي في الانتظام في سلك النبوة بمجرده أم لا؟ الذي عليه أهل السنة والجماعة ، وهو الذي نقله الشيخ أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري عنهم أنه ليس في النساء نبية ، وإنما فيهن صديقات ، كما قال تعالى مخبرا عن أشرفهن مريم بنت عمران حيث قال تعالى : (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) [المائدة : ٧٥] فوصفها في أشرف مقاماتها بالصديقية ، فلو كانت نبية لذكر ذلك في مقام التشريف والإعظام ، فهي صدّيقة بنص القرآن.

وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً) الآية ، أي ليسوا من أهل السماء كما قلتم ، وهذا القول من ابن عباس يعتضد بقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ) [الفرقان : ٢٠] الآية ، وقوله تعالى : (وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ) [الأنبياء : ٨ ـ ٩]. وقوله تعالى : (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ)

[الأحقاف : ٩] الآية. وقوله : (مِنْ أَهْلِ الْقُرى) المراد بالقرى المدن لا أنهم من أهل البوادي الذين هم من أجفى الناس طباعا وأخلاقا ، وهذا هو المعهود المعروف أن أهل المدن أرق طباعا وألطف من أهل سوادهم ، وأهل الريف والسواد أقرب حالا من الذين يسكنون في البوادي ، ولهذا قال تعالى : (الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً) الآية.

وقال قتادة في قوله (مِنْ أَهْلِ الْقُرى) لأنهم أعلم وأحلم من أهل العمور. وفي الحديث الآخر أن رجلا من الأعراب أهدى لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ناقة فلم يزل يعطيه ويزيده حتى رضي ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لقد هممت أن لا أتهب هبة إلا من قرشي أو أنصاري أو ثقفي أو دوسي»(١).

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا حجاج ، حدثنا شعبة عن الأعمش عن يحيى بن وثاب ، عن شيخ من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال الأعمش : هو ابن عمر ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم.

وقوله : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) يعني هؤلاء المكذبين لك يا محمد في الأرض (فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي من الأمم المكذبة للرسل ، كيف دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها ، كقوله : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها) [الحج : ٤٦] الآية ، فإذا استمعوا خبر ذلك رأوا أن الله قد أهلك الكافرين ونجى المؤمنين ، وهذه كانت سنته تعالى في خلقه ، ولهذا قال تعالى : (وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) أي وكما نجينا المؤمنين في الدنيا كذلك كتبنا لهم النجاة في الدار الآخرة وهي خير لهم من الدنيا بكثير ، كقوله : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) [غافر : ٤٠ ـ ٤١] وأضاف الدار إلى الآخرة ، فقال : (وَلَدارُ الْآخِرَةِ) كما يقال : صلاة الأولى ومسجد الجامع ، وعام أول ، وبارحة الأولى ، ويوم الخميس. وقال الشاعر : [الوافر]

أتمدح فقعسا وتذم عبسا

ألا لله أمك من هجين (٣)

ولو أقوت عليك ديار عبس

عرفت الذل عرفان اليقين

(حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) (١١٠)

يذكر تعالى أن نصره ينزل على رسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين عند ضيق الحال وانتظار الفرج من الله في أحوج الأوقات إليه ، كقوله تعالى : (وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند ١ / ٢٩٥ ، ٢ / ٢٤٧.

(٢) المسند ٢ / ٤٣ ، ٥ / ٣٦٥.

(٣) البيتان بلا نسبة في تفسير الطبري ٧ / ٣١٦.

وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ) [البقرة : ٢١٤] الآية ، وفي قوله : (كُذِبُوا) قراءتان إحداهما بالتشديد قد كذبوا ، وكذلك كانت عائشة رضي الله عنها تقرؤها.

قال البخاري (١) : حدثنا عبد العزيز بن عبد الله حدثنا إبراهيم بن سعد عن صالح عن ابن شهاب قال : أخبرني عروة بن الزبير عن عائشة أنها قالت له وهو يسألها عن قول الله تعالى : (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ) قال : قلت : أكذبوا أم كذبوا؟ قالت عائشة كذبوا. قلت فقد استيقنوا أن قومهم قد كذبوهم فما هو بالظن؟ : قالت : أجل لعمري لقد استيقنوا بذلك ، فقلت لها : (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) قالت معاذ الله لم تكن الرسل تظن ذلك بربها قلت : فما هذه الآية؟ قالت : هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم ، فطال عليهم البلاء ، واستأخر عنهم النصر (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ) ممن كذبهم من قومهم ، وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم ، جاء نصر الله عند ذلك ، حدثنا أبو اليمان ، أنبأنا شعبة عن الزهري قال : أخبرنا عروة فقلت لها : لعلها قد كذبوا مخففة؟ قالت : معاذ الله. انتهى ما ذكره.

وقال ابن جريج : أخبرني ابن أبي مليكة أن ابن عباس قرأها (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) خفيفة. قال عبد الله هو ابن أبي مليكة ثم قال لي ابن عباس : كانوا بشرا ، ثم تلا (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) [البقرة : ٢١٤] قال ابن جريج : وقال لي ابن أبي مليكة ، وأخبرني عروة عن عائشة أنها خالفت ذلك وأبته ، وقالت : ما وعد الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم من شيء إلا قد علم أنه سيكون حتى مات ، ولكنه لم يزل البلاء بالرسل حتى ظنوا أن من معهم من المؤمنين قد كذبوهم. قال ابن أبي مليكة في حديث عروة ، كانت عائشة تقرؤها (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) مثقلة من التكذيب (٢).

وقال ابن أبي حاتم : أنبأنا يونس بن عبد الأعلى قراءة ، أنبأنا ابن وهب ، أخبرني سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد قال : جاء إنسان إلى القاسم بن محمد فقال : إن محمد بن كعب القرظي قرأ هذه الآية (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) فقال القاسم : أخبره عني أني سمعت عائشة زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تقول : (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) تقول : كذبهم أتباعهم إسناد صحيح أيضا.

والقراءة الثانية بالتخفيف ، واختلفوا في تفسيرها ، فقال ابن عباس ما تقدم. وعن ابن مسعود فيما رواه سفيان الثوري عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن عبد الله أنه قرأ (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) مخففة ، قال عبد الله : هو الذي تكره(٣).

__________________

(١) كتاب التفسير ، تفسير سورة ١٢ ، باب ٦.

(٢) انظر تفسير الطبري ٧ / ٣٢١.

(٣) انظر تفسير الطبري ٧ / ٣١٩.

وهذا عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما ، مخالف لما رواه آخرون عنهما. أما ابن عباس ، فروى الأعمش عن مسلم عن ابن عباس في قوله : (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) قال : لما أيست الرسل أن يستجيب لهم قومهم وظن قومهم أن الرسل قد كذبوهم ، جاءهم النصر على ذلك (فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ) وكذا روي عن سعيد بن جبير وعمران بن الحارث السلمي وعبد الرحمن بن معاوية وعلي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس بمثله.

وقال ابن جرير (١) : حدثني المثنى ، حدثنا عارم أبو النعمان حدثنا حماد بن زيد ، حدثنا شعيب ، حدثنا إبراهيم بن أبي حرّة الجزري قال : سأل فتى من قريش سعيد بن جبير فقال له : يا أبا عبد الله كيف هذا الحرف ، فإني إذا أتيت عليه تمنيت أن لا أقرأ هذه السورة (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا)؟ قال : نعم حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يصدقوهم ، وظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوا ، فقال الضحاك بن مزاحم : ما رأيت كاليوم قط رجلا يدعى إلى علم فيتلكأ ، ولو رحلت إلى اليمن في هذه كان قليلا.

ثم روى ابن جرير (٢) أيضا من وجه آخر أن مسلم بن يسار سأل سعيد بن جبير عن ذلك ، فأجابه بهذا الجواب ، فقام إلى سعيد فاعتنقه وقال : فرج الله عنك كما فرجت عني ، وهكذا روي من غير وجه عن سعيد بن جبير أنه فسرها كذلك ، وكذا فسرها مجاهد بن جبر وغير واحد من السلف حتى إن مجاهدا قرأها (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) بفتح الذال. رواه ابن جرير إلا أن بعض من فسرها كذلك يعيد الضمير في قوله (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) إلى أتباع الرسل من المؤمنين ، ومنهم من يعيده إلى الكافرين منهم ، أي وظن الكفار أن الرسل قد كذبوا مخففة فيما وعدوا به من النصر. وأما ابن مسعود.

فقال ابن جرير (٣) : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثنا محمد بن فضيل عن جحش بن زياد الضبي عن تميم بن حذلم قال : سمعت عبد الله بن مسعود يقول في هذه الآية (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ) من إيمان قومهم أن يؤمنوا بهم وظن قومهم حين أبطأ الأمر أنهم قد كذبوا بالتخفيف ـ فهاتان الروايتان عن كل من ابن مسعود وابن عباس ، وقد أنكرت ذلك عائشة على من فسرها بذلك ، وانتصر لها ابن جرير ، ووجه المشهور عن الجمهور وزيف القول الآخر بالكلية ، ورده وأباه ولم يقبله ولا ارتضاه ، والله أعلم.

(لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (١١١)

__________________

(١) تفسير الطبري ٧ / ٣١٨ ، ٣١٩.

(٢) تفسير الطبري ٧ / ٣١٩.

(٣) تفسير الطبري ٧ / ٣١٩ ، ٣٢٠.

يقول تعالى : لقد كان في خبر المرسلين مع قومهم ، وكيف نجينا المؤمنين وأهلكنا الكافرين (عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ) وهي العقول ، (ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى) أي وما كان لهذا القرآن أن يفترى من دون الله ، أي يكذب ويختلق (وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أي : من الكتب المنزلة من السماء وهو يصدق ما فيها من الصحيح ، وينفي ما وقع فيها من تحريف وتبديل وتغيير ، ويحكم عليها بالنسخ أو التقرير.

(وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ) من تحليل وتحريم ومحبوب ومكروه ، وغير ذلك من الأمر بالطاعات والواجبات والمستحبات ، والنهي عن المحرمات وما شاكلها من المكروهات ، والإخبار عن الأمور الجلية ، وعن الغيوب المستقبلة المجملة والتفصيلية ، والإخبار عن الرب تبارك وتعالى وبالأسماء والصفات ، وتنزهه عن مماثلة المخلوقات ، فلهذا كان (هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) تهتدي به قلوبهم من الغي إلى الرشاد ، ومن الضلال إلى السداد ، ويبتغون به الرحمة من رب العباد ، في هذه الحياة الدنيا ويوم المعاد ، فنسأل الله العظيم أن يجعلنا منهم في الدنيا والآخرة ، يوم يفوز بالربح المبيضة وجوههم الناضرة ، ويرجع المسودّة وجوههم بالصفقة الخاسرة. آخر تفسير سورة يوسف عليه‌السلام ولله الحمد والمنة وبه المستعان.

سورة الرعد

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) (١)

أما الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور ، فقد تقدم في أول سورة البقرة ، وقدمنا أن كل سورة ابتدئت بهذه الحروف ففيها الانتصار للقرآن وتبيان أن نزوله من عند الله حق لا شك فيه ولا مرية ولا ريب ، ولهذا قال : (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) أي هذه آيات الكتاب ، وهو القرآن ، وقيل : التوراة والإنجيل ، قاله مجاهد وقتادة (١) ، وفيه نظر بل هو بعيد.

ثم عطف على ذلك عطف صفات فقال : (وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ) أي يا محمد (مِنْ رَبِّكَ الْحَقُ) خبر تقدم مبتدؤه ، وهو قوله : (وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) هذا هو الصحيح المطابق لتفسير مجاهد وقتادة ، واختار ابن جرير أن تكون الواو زائدة أو عاطفة صفة على صفة كما قدمنا ، واستشهد بقول الشاعر : [المتقارب]

إلى الملك القرم وابن الهمام

وليث الكتيبة في المزدحم (٢)

وقوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) كقوله : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) [يوسف : ١٠٣] أي مع هذا البيان والجلاء والوضوح لا يؤمن أكثرهم لما فيهم من الشقاق والعناد والنفاق.

(اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) (٢)

يخبر الله تعالى عن كمال قدرته وعظيم سلطانه أنه الذي بإذنه وأمره رفع السموات بغير عمد ، بل بإذنه وأمره وتسخيره رفعها عن الأرض بعدا لا تنال ولا تدرك مداها ، فالسماء الدنيا محيطة بجميع الأرض وما حولها من الماء والهواء من جميع نواحيها وجهاتها وأرجائها ، مرتفعة عليها من كل جانب على السواء ، وبعد ما بينها وبين الأرض من كل ناحية مسيرة خمسمائة عام ، وسمكها في نفسها مسيرة خمسمائة عام ، ثم السماء الثانية محيطة بالسماء

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٣٢٧.

(٢) البيت بلا نسبة في الإنصاف ٢ / ٤٦٩ ، وخزانة الأدب ١ / ٤٥١ ، ٥ / ١٠٧ ، ٦ / ٩١ ، وشرح قطر الندى ص ٢٩٥ ، وتفسير الطبري ٧ / ٣٢٧.

الدنيا وما حوت ، وبينهما من بعد المسير خمسمائة عام ، وسمكها خمسمائة عام ، وهكذا السماء الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة ، كما قال تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) [الطلاق : ١٢] الآية.

وفي الحديث «ما السموات السبع وما فيهن وما بينهن في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة ، والكرسي في العرش المجيد كتلك الحلقة في تلك الفلاة». وفي رواية «والعرش لا يقدر قدره إلا الله عزوجل» وجاء عن بعض السلف أن بعد ما بين العرش إلى الأرض مسيرة خمسين ألف سنة ، وبعد ما بين قطريه مسيرة خمسين ألف سنة ، وهو من ياقوتة حمراء.

وقوله : (بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) روي عن ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة وغير واحد أنهم قالوا : لها عمد ولكن لا ترى (١). وقال إياس بن معاوية : السماء على الأرض مثل القبة (٢) ، يعني بلا عمد ، وكذا روي عن قتادة ، وهذا هو اللائق بالسياق ، والظاهر من قوله تعالى : (وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [الحج : ٦٥] فعلى هذا يكون قوله : (تَرَوْنَها) تأكيدا لنفي ذلك ، أي هي مرفوعة بغير عمد كما ترونها ، وهذا هو الأكمل في القدرة ، وفي شعر أمية بن أبي الصلت الذي آمن شعره ، وكفر قلبه كما ورد في الحديث ، ويروى لزيد بن عمرو بن نفيل رضي الله عنه : [الطويل]

وأنت الذي من فضل منّ ورحمة

بعثت إلى موسى رسولا مناديا (٣)

فقلت له : فاذهب وهارون فادعوا

إلى الله فرعون الذي كان طاغيا

وقولا له : هل أنت سويت هذه

بلا وتد حتى استقلت كما هيا

وقولا له : أأنت رفعت هذه

بلا عمد أو فوق ذلك بانيا

وقولا له : هل أنت سويت وسطها

منيرا إذا ما جنك الليل هاديا

وقولا له : من يرسل الشمس غدوة

فيصبح ما مست من الأرض ضاحيا

وقولا له : من أنبت الحب في الثرى

فيصبح منه العشب يهتز رابيا

ويخرج منه حبه في رؤوسه

ففي ذاك آيات لمن كان واعيا

وقوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) تقدم تفسيره في سورة الأعراف وأنه يمر كما جاء من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل ، ولا تمثيل ، تعالى الله علوا كبيرا. وقوله : (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) قيل : المراد أنهما يجريان إلى انقطاعهما بقيام الساعة ، كقوله تعالى : (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها) [يس : ٣٨] وقيل :

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٣٢٨.

(٢) انظر تفسير الطبري ٧ / ٣٢٩.

(٣) الأبيات لزيد بن عمرو بن نفيل في سيرة ابن هشام ١ / ٢٢٨.

المراد إلى مستقرهما وهو تحت العرش مما يلي بطن الأرض من الجانب الآخر ، فإنهما وسائر الكواكب إذا وصلوا هنالك يكونون أبعد ما يكون عن العرش ، لأنه على الصحيح الذي تقوم عليه الأدلة قبة مما يلي العالم من هذا الوجه ، وليس بمحيط كسائر الأفلاك ، لأن له قوائم وحملة يحملونه ، ولا يتصور هذا في الفلك المستدير ، وهذا واضح لمن تدبر ما وردت به الآيات والأحاديث الصحيحة ، ولله الحمد والمنة.

وذكر الشمس والقمر لأنهما أظهر الكواكب السيارة السبعة التي هي أشرف وأعظم من الثوابت ، فإذا كان قد سخر هذه ، فلأن يدخل في التسخير سائر الكواكب بطريق الأولى والأحرى ، كما نبه بقوله تعالى : (لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [فصلت : ٣٧] مع أنه صرح بذلك بقوله : (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) [الأعراف : ٥٤]. وقوله : (يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) أي يوضح الآيات والدلالات الدالة على أنه لا إله إلا هو ، وأنه يعيد الخلق إذا شاء كما بدأه.

(وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٤)

لما ذكر تعالى العالم العلوي ، شرع في ذكر قدرته وحكمته وإحكامه للعالم السفلي ، فقال : (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ) أي جعلها متسعة ممتدة في الطول والعرض ، وأرساها بجبال راسيات شامخات ، وأجرى فيها الأنهار والجداول والعيون ، ليسقي ما جعل فيها من الثمرات المختلفة الألوان والأشكال والطعوم والروائح من كل (زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) أي من كل شكل صنفان (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) أي جعل كلا منهما يطلب الآخر طلبا حثيثا ، فإذا ذهب هذا غشيه هذا ، وإذا انقضى هذا جاء الآخر ، فيتصرف أيضا في الزمان كما يتصرف في المكان والسكان ، (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أي في آلاء الله وحكمه ودلائله.

وقوله : (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ) أي أراض يجاور بعضها بعضا ، مع أن هذه طيبة تنبت ما ينفع الناس وهذه سبخة مالحة لا تنبت شيئا ، هكذا روي عن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير والضحاك وغير واحد. ويدخل في هذه الآية اختلاف ألوان بقاع الأرض ، فهذه تربة حمراء ، وهذه بيضاء ، وهذه صفراء ، وهذه سوداء ، وهذه محجرة ، وهذه سهلة ، وهذه مرملة ، وهذه سميكة ، وهذه رقيقة ، والكل متجاورات ، فهذه بصفتها ، وهذه بصفتها الأخرى ، فهذا كله مما يدل على الفاعل المختار لا إله إلا هو ولا رب سواه. وقوله : (وَجَنَّاتٌ مِنْ

أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ) يحتمل أن تكون عاطفة على جنات ، فيكون (وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ) مرفوعين. ويحتمل أن يكون معطوفا على أعناب ، فيكون مجرورا ، ولهذا قرأ بكل منهما طائفة من الأئمة.

وقوله : (صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ) الصنوان : هو الأصول المجتمعة في منبت واحد ، كالرمان والتين ، وبعض النخيل ونحو ذلك ، وغير الصنوان : ما كان على أصل واحد ، كسائر الأشجار ، ومنه سمي عم الرجل صنو أبيه ، كما جاء في الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعمر : «أما شعرت أن عم الرجل صنو أبيه» (١). وقال سفيان الثوري وشعبة عن أبي إسحاق عن البراء رضي الله عنه : الصنوان هي النخلات في أصل واحد ، وغير الصنوان المتفرقات ، وقاله ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغير واحد.

وقوله : (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) قال الأعمش عن أبي صالح ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) قال «الدقل (٢) ، والفارسي ، والحلو ، والحامض» (٣) ، رواه الترمذي وقال : حسن غريب ، أي هذا الاختلاف في أجناس الثمرات والزروع في أشكالها وألوانها ، وطعومها وروائحها ، وأوراقها وأزهارها ، فهذا في غاية الحلاوة ، وهذا في غاية الحموضة ، وذا في غاية المرارة ، وذا عفص (٤) ، وهذا عذب ، وهذا جمع هذا وهذا ، ثم يستحيل إلى طعم آخر بإذن الله تعالى ، وهذا أصفر ، وهذا أحمر ، وهذا أبيض ، وهذا أسود ، وهذا أزرق ، وكذلك الزهورات مع أنها كلها تستمد من طبيعة واحدة وهو الماء ، مع الاختلاف الكثير الذي لا ينحصر ولا ينضبط ففي ذلك آيات لمن كان واعيا ، وهذا من أعظم الدلالات على الفاعل المختار الذي بقدرته فاوت بين الأشياء ، وخلقها على ما يريد ، ولهذا قال تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ).

(وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٥)

يقول تعالى لرسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَإِنْ تَعْجَبْ) من تكذيب هؤلاء المشركين بالمعاد ، مع ما يشاهدونه من آيات الله سبحانه ودلائله في خلقه على أنه القادر على ما يشاء ، ومع ما يعترفون به من أنه ابتدأ خلق الأشياء فكونها بعد أن لم تكن شيئا مذكورا ، ثم هم بعد هذا

__________________

(١) أخرجه مسلم في الزكاة حديث ١١ ، وأبو داود في الزكاة باب ٢٢ ، والترمذي في المناقب باب ٢٨ ، وأحمد في المسند ١ / ٩٤ ، ٢ / ٣٢٢ ، ٤ / ١٦٥.

(٢) الدقل : أردأ أنواع التمر.

(٣) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ١٣ ، باب ٢.

(٤) العفص : المر ، والعفوصة : المرارة.

يكذبون خبره في أنه سعيد العالم خلقا جديدا ، وقد اعترفوا وشاهدوا ما هو أعجب مما كذبوا به ، فالعجب من قولهم (أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) ، وقد علم كل عالم وعاقل أن خلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس ، وأن من بدأ الخلق فالإعادة عليه أسهل ، كما قال تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الأحقاف : ٣٣].

ثم نعت المكذبين بهذا فقال : (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) أي يسحبون بها في النار (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي ماكثون فيها أبدا لا يحولون عنها ولا يزولون.

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ) (٦)

يقول تعالى : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ) أي هؤلاء المكذبون (بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ) أي بالعقوبة كما أخبر عنهم في قوله : (وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ) [الحجر : ٦ ـ ٨] ، وقال تعالى : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) [العنكبوت : ٥٣] الآيتين ، وقال تعالى : (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ) [المعارج : ١] ، وقال : (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُ) [الشورى : ١٨] (وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا) [ص : ١٦] الآية ، أي عقابنا وحسابنا ، كما قال مخبرا عنهم : (وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ) [الأنفال : ٣٢] الآية ، فكانوا من شدة تكذيبهم وعنادهم وكفرهم يطلبون أن يأتيهم بعذاب الله قال الله تعالى : (وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ) أي قد أوقعنا نقمنا بالأمم الخالية وجعلناهم عبرة وعظة لمن اتعظ بهم.

ثم أخبر تعالى أنه لولا حلمه وعفوه لعاجلهم بالعقوبة كما قال : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) [فاطر : ٤٥] ، وقال تعالى في هذه الآية الكريمة : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) أي إنه تعالى ذو عفو وصفح وستر للناس مع أنهم يظلمون ويخطئون بالليل والنهار ، ثم قرن هذا الحكم بأنه شديد العقاب ليعتدل الرجاء والخوف ، كما قال تعالى : (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) [الأنعام : ١٤٧] وقال : (إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) [الأعراف : ١٦٧] ، وقال : (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) [الحجر : ٤٩ ـ ٥٠] إلى أمثال ذلك من الآيات التي تجمع الرجاء والخوف.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد عن علي بن زيد

عن سعيد بن المسيب قال : لما نزلت هذه الآية (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) الآية ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو لا عفو الله وتجاوزه ما هنأ أحدا العيش ، ولولا وعيده وعقابه لا تكل كل أحد» وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة الحسن بن عثمان أبي حسان الزيادي أنه رأى رب العزة في النوم ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واقف بين يديه يشفع في رجل من أمته ، فقال له : ألم يكفك أني أنزلت عليك في سورة الرعد (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) قال : ثم انتبهت.

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) (٧)

يقول تعالى إخبارا عن المشركين أنهم يقولون كفرا وعنادا : لولا يأتينا بآية من ربه كما أرسل الأولون ، كما تعنتوا عليه أن يجعل لهم الصفا ذهبا ، وأن يزيح عنهم الجبال ، ويجعل مكانها مروجا وأنهارا ، قال تعالى : (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) [الإسراء : ٥٩] الآية ، قال الله تعالى : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ) أي إنما عليك أن تبلغ رسالة الله التي أمرك بها ، و (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [البقرة : ٢٧٢] وقوله : (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : أي لكل قوم داع. وقال العوفي عن ابن عباس في الآية : يقول الله تعالى : أنت يا محمد منذر ، وأنا هادي كل قوم ، وكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير والضحاك وغير واحد. وعن مجاهد (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) أي نبي ، كقوله : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) [فاطر : ٢٤] ، وبه قال قتادة وعبد الرحمن بن زيد. وقال أبو صالح ويحيى بن رافع (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) أي قائد. وقال أبو العالية : الهادي القائد ، والقائد الإمام ، والإمام العمل. وعن عكرمة وأبي الضحى (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) قالا : هو محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال مالك : (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) يدعوهم إلى الله عزوجل.

وقال أبو جعفر بن جرير (١) : حدثني أحمد بن يحيى الصوفي ، حدثنا الحسن بن الحسين الأنصاري ، حدثنا معاذ بن مسلم ، حدثنا الهروي عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : لما نزلت (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) قال : وضع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يديه على صدره وقال : «أنا المنذر ، ولكل قوم هاد» وأومأ بيده إلى منكب علي ، فقال «أنت الهادي يا علي بك يهتدي المهتدون من بعدي» ، وهذا الحديث فيه نكارة شديدة.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا المطلب بن زياد عن السدي عن عبد خير عن علي (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) قال : الهادي رجل من بني هاشم. قال الجنيد : هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه. قال ابن أبي حاتم : وروي عن ابن عباس في إحدى الروايات وعن أبي جعفر محمد بن علي نحو ذلك.

__________________

(١) تفسير الطبري ٧ / ٣٤٤.

(اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (٨) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ) (٩)

يخبر تعالى عن تمام علمه الذي لا يخفى عليه شيء ، وأنه محيط بما تحمله الحوامل من كل إناث الحيوانات ، كما قال تعالى : (وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ) [لقمان : ٣٤] أي ما حملت من ذكر أو أنثى ، أو حسن أو قبيح ، أو شقي أو سعيد ، أو طويل العمر أو قصيره ، كقوله تعالى : (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ) [النجم : ٣٢] الآية ، وقال تعالى : (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) [الزمر : ٦] أي خلقكم طورا من بعد طور ، كما قال تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : ١٢ ـ ١٤].

وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يبعث الله إليه ملكا فيؤمر بأربع كلمات ، بكتب رزقه ، وعمره ، وعمله ، وشقي أو سعيد» (١). وفي الحديث الآخر «فيقول الملك أي رب أذكر أم أنثى؟ أي رب أشقي أم سعيد؟ فما الرزق؟ فما الأجل؟

فيقول الله ، ويكتب الملك» (٢).

وقوله (وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ) قال البخاري (٣) : حدثنا إبراهيم بن المنذر حدثنا معن حدثنا مالك عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «مفاتيح الغيب خمس ، لا يعلمهن إلا الله : لا يعلم ما في غد إلا الله ، ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله ، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله ، ولا تدري نفس بأي أرض تموت ، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله» وقال العوفي عن ابن عباس (وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ) يعني السقط ، (وَما تَزْدادُ) يقول : ما زادت الرحم في الحمل على ما غاضت حتى ولدته تماما ، وذلك أن من النساء من تحمل عشرة أشهر ، ومن تحمل تسعة أشهر ، ومنهن من تزيد في الحمل ، ومنهن من تنقص ، فذلك الغيض والزيادة التي ذكر الله تعالى وكل ذلك بعلمه تعالى (٤).

وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله : (وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ) قال : ما نقصت من تسعة وما زاد عليها ، وقال الضحاك : وضعتني أمي وقد حملتني في بطنها سنتين ، وولدتني

__________________

(١) أخرجه البخاري في القدر باب ١ ، ومسلم في القدر حديث ١.

(٢) راجع الحاشية السابقة.

(٣) كتاب التفسير ، تفسير سورة ١٣ ، باب ١.

(٤) انظر تفسير الطبري ٧ / ٢٤٥.

وقد نبتت ثنيتي. وقال ابن جريج عن جميلة بنت سعد عن عائشة قالت : لا يكون الحمل أكثر من سنتين قدر ما يتحرك ظل مغزل (١) ، وقال مجاهد (وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ) قال : ما ترى من الدم في حملها ، وما تزداد على تسعة أشهر ، وبه قال عطية العوفي والحسن البصري وقتادة والضحاك ، وقال مجاهد أيضا : إذا رأت المرأة الدم دون التسعة ، زاد على التسعة مثل أيام الحيض ، وقاله عكرمة وسعيد بن جبير وابن زيد. وقال مجاهد أيضا : (وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ) إراقة الدم حتى يخس الولد ، (وَما تَزْدادُ) إن لم تهرق المرأة ، تم الولد وعظم (٢).

وقال مكحول : الجنين في بطن أمه لا يطلب ولا يحزن ولا يغتم ، وإنما يأتيه رزقه في بطن أمه من دم حيضتها ، فمن ثم لا تحيض الحامل ، فإذا وقع إلى الأرض ، استهل ، واستهلاله استنكاره لمكانه ، فإذا قطعت سرته ، حول الله رزقه إلى ثديي أمه حتى لا يحزن ولا يطلب ولا يغتم ، ثم يصير طفلا يتناول الشيء بكفه فيأكله ، فإذا هو بلغ قال : هو الموت أو القتل أنى لي بالرزق؟ فيقول مكحول يا ويلك : غذاك وأنت في بطن أمك وأنت طفل صغير ، حتى إذا اشتددت وعقلت قلت : هو الموت أو القتل أنى لي بالرزق ، ثم قرأ مكحول (اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى) الآية.

وقال قتادة : (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) أي بأجل ، حفظ أرزاق خلقه وآجالهم ، وجعل لذلك أجلا معلوما. وفي الحديث الصحيح أن إحدى بنات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعثت إليه أن ابنا لها في الموت ، وأنها تحب أن يحضره. فبعث إليها يقول : «إن لله ما أخذ ، وله ما أعطى ، وكل شيء عنده بأجل مسمى ، فمروها فلتصبر ولتحتسب» (٣) الحديث بتمامه. وقوله : (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي يعلم كل شيء مما يشاهده العباد ومما يغيب عنهم ، ولا يخفى عليه منه شيء (الْكَبِيرُ) الذي هو أكبر من كل شيء ، (الْمُتَعالِ) أي على كل شيء (قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) وقهر كل شيء ، فخضعت له الرقاب ودان له العباد طوعا وكرها.

(سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ(١٠) لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ) (١١)

يخبر تعالى عن إحاطة علمه بجميع خلقه ، وأنه سواء منهم من أسر قوله أو جهر به ، فإنه يسمعه لا يخفى عليه شيء ، كقوله : (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) [طه : ٧] ، وقال : (وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ) ، قالت عائشة رضي الله عنها : سبحان الذي وسع سمعه

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٢٤٦.

(٢) انظر تفسير الطبري ٧ / ٢٤٥.

(٣) أخرجه البخاري في القدر باب ٤ ، ومسلم في الجنائز حديث ١١.

الأصوات ، والله لقد جاءت المجادلة تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنا في جنب البيت ، وإنه ليخفى عليّ بعض كلامها ، فأنزل الله (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (١) [المجادلة : ١].

وقوله (وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ) أي مختف في قعر بيته في ظلام الليل ، (وَسارِبٌ بِالنَّهارِ) أي ظاهر ماش في بياض النهار وضيائه ، فإن كليهما في علم الله على السواء ، كقوله تعالى : (أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ) [هود : ٥] الآية.

وقوله تعالى : (وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [يونس : ٦١].

وقوله : (لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) أي للعبد ملائكة يتعاقبون عليه ، حرس بالليل وحرس بالنهار ، يحفظونه من الأسواء والحادثات ، كما يتعاقب ملائكة آخرون لحفظ الأعمال من خير أو شر ، ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ، فاثنان عن اليمين والشمال يكتبان الأعمال ، صاحب اليمين يكتب الحسنات ، وصاحب الشمال يكتب السيئات ، وملكان آخران يحفظانه ويحرسانه ، واحد من ورائه وآخر من قدامه ، فهو بين أربعة أملاك بالنهار ، وأربعة أملاك بالليل ، بدلا حافظان وكاتبان ، كما جاء في الصحيح «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ، ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر ، فيصعد إليه الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم بكم : كيف تركتم عبادي؟ فيقولون : أتيناهم وهم يصلون ، وتركناهم وهم يصلون» (٢). وفي الحديث الآخر «إن معكم من لا يفارقكم إلا عند الخلاء وعند الجماع ، فاستحيوهم وأكرموهم» (٣).

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : (لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) والمعقبات من الله هي الملائكة (٤) ، وقال عكرمة عن ابن عباس (يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) قال : ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه ، فإذا جاء قدر الله خلوا عنه (٥) ، وقال مجاهد : ما من عبد إلا له ملك موكل ، يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام ، فما منها شيء يأتيه يريده ، إلا قال له الملك وراءك ، إلا شيء أذن الله فيه

__________________

(١) أخرجه ابن ماجة في المقدمة باب ١٣ ، وأحمد في المسند ٦ / ٤٦.

(٢) أخرجه البخاري في التوحيد باب ٢٣ ، ٣٣ ، ومسلم في المساجد حديث ٢١٠ ، والنسائي في الصلاة باب ٢١ ، ومالك في السفر حديث ٨٢ ، وأحمد في المسند ٢ / ٢٥٧ ، ٣١٢ ، ٤٨٦.

(٣) أخرجه الترمذي في الأدب باب ٤٢.

(٤) انظر تفسير الطبري ٧ / ٣٥١.

(٥) انظر تفسير الطبري ٧ / ٣٥١.

فيصيبه (١).

وقال الثوري عن حبيب بن أبي ثابت ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله : (لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) قال : ذلك ملك من ملوك الدنيا ، له حرس من دونه حرس (٢) ، وقال العوفي عن ابن عباس : (لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) يعني ولي الشيطان يكون عليه الحرس. وقال عكرمة في تفسيرها : هؤلاء الأمراء المواكب بين يديه ومن خلفه (٣) ، وقال الضحاك في الآية : هو السلطان المحروس من أمر الله ، وهم أهل الشرك (٤) ، والظاهر ـ والله أعلم ـ أن مراد ابن عباس وعكرمة والضحاك بهذا أن حرس الملائكة للعبد يشبه حرس هؤلاء لملوكهم وأمرائهم.

وقد روى الإمام أبو جعفر بن جرير (٥) هاهنا حديثا غريبا جدا ، فقال حدثني المثنى ، حدثنا إبراهيم بن عبد السلام بن صالح القشيري ، حدثنا علي بن جرير عن حماد بن سلمة عن عبد الحميد بن جعفر عن كنانة العدوي قال : دخل عثمان بن عفان على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال: يا رسول الله أخبرني عن العبد كم معه من ملك؟ فقال «ملك على يمينك على حسناتك ، وهو أمير على الذي على الشمال ، فإذا عملت حسنة كتبت عشرا ، وإذا عملت سيئة قال الذي على الشمال للذي على اليمين أكتبها؟ قال : لا ، لعله يستغفر الله ويتوب فيستأذنه ثلاث مرات ، فإذا قال ثلاثا ، قال : اكتبها أراحنا الله منه فبئس القرين ، ما أقل مراقبته لله وأقل استحياءه منا ، يقول الله : (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) وملكان من بين يديك ومن خلفك ، يقول الله تعالى : (لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) الآية وملك قابض على ناصيتك ، فإذا تواضعت لله رفعك ، وإذا تجبرت على الله قصمك ، وملكان على شفتيك ليس يحفظان عليك إلا الصلاة على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وملك قائم على فيك لا يدع أن تدخل الحية في فيك ، وملكان على عينيك ، فهؤلاء عشرة أملاك على كل آدمي ، ينزلون ملائكة الليل على ملائكة النهار ، لأن ملائكة الليل سوى ملائكة النهار ، فهؤلاء عشرون ملكا على كل آدمي ، وإبليس بالنهار وولده بالليل».

وقال الإمام أحمد (٦) رحمه‌الله : حدثنا أسود بن عامر ، حدثنا سفيان ، حدثني منصور عن سالم بن أبي الجعد عن أبيه ، عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما منكم من أحد إلا وقد

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٣٥٢.

(٢) انظر تفسير الطبري ٧ / ٣٥٢.

(٣) انظر تفسير الطبري ٧ / ٣٥٢.

(٤) انظر تفسير الطبري ٧ / ٣٥٢.

(٥) تفسير الطبري ٧ / ٣٥٠.

(٦) المسند ١ / ٣٩٧ ، ٤٠١ ، ٤٦٠.

وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة» قالوا : وإياك يا رسول الله؟ قال : «وإياي ، ولكن الله أعانني عليه ، فلا يأمرني إلا بخير» ، انفرد بإخراجه مسلم (١).

وقوله : (يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) قيل : المراد حفظهم له من أمر الله ، رواه علي بن أبي طلحة وغيره عن ابن عباس (٢) ، وإليه ذهب مجاهد وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وغيرهم. وقال قتادة : (يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) قال : وفي بعض القراءات «يحفظونه بأمر الله» (٣) ، وقال كعب الأحبار : لو تجلى لابن لآدم كل سهل وكل حزن ، لرأى كل شيء من ذلك شياطين ، لولا أن الله وكل بكم ملائكة يذبون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم إذا لتخطفتم (٤). وقال أبو أمامة : ما من آدمي ومعه ملك يذود عنه حتى يسلمه للذي قدر له (٥) ، وقال أبو مجلز: جاء رجل من مراد إلى علي رضي الله عنه وهو يصلي فقال : احترس : فإن ناسا من مراد يريدون قتلك ، فقال : إن مع كل رجل ملكين يحفظانه مما لم يقدّر ، فإذا جاء القدر خليا بينه وبينه ، إن الأجل جنة حصينة (٦).

وقال بعضهم (يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) بأمر الله ، كما جاء في الحديث أنهم قالوا : يا رسول الله ، أرأيت رقى نسترقي بها ، هل ترد من قدر الله شيئا؟ فقال «هي من قدر الله» (٧). وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا حفص بن غياث عن أشعث عن جهم ، عن إبراهيم قال : أوحى الله إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل : أن قل لقومك : إنه ليس من أهل قرية ولا أهل بيت يكونون على طاعة الله فيتحولون منها إلى معصية الله ، إلا حول الله عنهم ما يحبون إلى ما يكرهون ، ثم قال : إن تصديق ذلك في كتاب الله (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ).

وقد ورد هذا في حديث مرفوع ، فقال الحافظ محمد بن عثمان بن أبي شيبة في كتابه صفة العرش : حدثنا الحسن بن علي ، حدثنا الهيثم بن الأشعث السلمي ، حدثنا أبو حنيفة اليماني الأنصاري عن عمير بن عبد الملك قال : خطبنا علي بن أبي طالب على منبر الكوفة قال : كنت إذا أمسكت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابتدأني ، وإذا سألته عن الخبر أنبأني ، وإنه حدثني عن ربه عز

__________________

(١) كتاب صفات المنافقين وأحكامهم حديث ٦٩.

(٢) انظر تفسير الطبري ٧ / ٣٥٣.

(٣) انظر تفسير الطبري ٧ / ٣٥٤.

(٤) انظر تفسير الطبري ٧ / ٣٥٤.

(٥) تفسير الطبري ٧ / ٣٥٥.

(٦) تفسير الطبري ٧ / ٣٥٤ ، ٣٥٥.

(٧) أخرجه الترمذي في الطب باب ٢١ ، والقدر باب ١٢ ، وابن ماجة في الطب باب ١ ، وأحمد في المسند ٣ / ٤٢١.

وجل قال : «قال الرب : وعزتي وجلالي وارتفاعي فوق عرشي ، ما من قرية ولا أهل بيت كانوا على ما كرهت من معصيتي ثم تحولوا عنها إلى ما أحببت من طاعتي ، إلا تحولت لهم عما يكرهون من عذابي إلى ما يحبون من رحمتي» ، وهذا غريب ، وفي إسناده من لا أعرفه.

(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (١٢) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ) (١٣)

يخبر تعالى أنه هو الذي يسخر البرق ، وهو ما يرى من النور اللامع ساطعا من خلل السحاب. وروى ابن جرير (١) أن ابن عباس كتب إلى أبي الجلد يسأله عن البرق ، فقال : البرق الماء. وقوله : (خَوْفاً وَطَمَعاً) قال قتادة : خوفا للمسافر يخاف أذاه ومشقته ، وطمعا للمقيم يرجو بركته ومنفعته ويطمع في رزق الله (٢) ، (وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ) أي ويخلقها منشأة جديدة ، وهي لكثرة مائها ثقيلة قريبة إلى الأرض قال مجاهد : السحاب الثقال الذي فيه الماء ، قال : (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ) كقوله : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) [الإسراء : ٤٤].

وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا يزيد ، حدثنا إبراهيم بن سعد ، أخبرني أبي قال : كنت جالسا إلى جنب حميد بن عبد الرحمن في المسجد ، فمر شيخ من بني غفار ، فأرسل إليه حميد ، فلما أقبل قال : يا ابن أخي ، وسع فيما بيني وبينك ، فإنه قد صحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فجاء حتى جلس فيما بيني وبينه ، فقال له حميد : ما الحديث الذي حدثتني عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فقال له الشيخ : سمعت عن شيخ من بني غفار أنه سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن الله ينشئ السحاب فينطق أحسن النطق ، ويضحك أحسن الضحك» والمراد ـ والله أعلم ـ أن نطقها الرعد وضحكها البرق. وقال موسى بن عبيدة عن سعد بن إبراهيم قال : يبعث الله الغيث فلا أحسن منه مضحكا ، ولا آنس منه منطقا ، فضحكه البرق ، ومنطقه الرعد.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن عبيد الله الرازي عن محمد بن مسلم قال: بلغنا أن البرق ملك له أربعة وجوه : وجه إنسان ، ووجه ثور ، ووجه نسر ، ووجه أسد ، فإذا مصع بذنبه فذاك البرق.

وقال الإمام أحمد (٤) : حدثنا عفان ، حدثنا عبد الواحد بن زياد ، حدثنا الحجاج ، حدثنا أبو مطر عن سالم ، عن أبيه قال كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا سمع الرعد والصواعق قال «اللهم

__________________

(١) تفسير الطبري ٧ / ٣٥٩.

(٢) انظر تفسير الطبري ٧ / ٣٥٩.

(٣) المسند ٥ / ٤٣٥.

(٤) المسند ٢ / ١٠٠ ، ١٠١.

لا تقتلنا بغضبك ، ولا تهلكنا بعذابك ، وعافنا قبل ذلك» (١) ، ورواه الترمذي والبخاري في كتاب الأدب ، والنسائي في اليوم والليلة ، والحاكم في مستدركه من حديث الحجاج بن أرطاة ، عن أبي مطر ولم يسم به.

وقال الإمام أبو جعفر بن جرير (٢) : حدثنا أحمد بن إسحاق حدثنا أبو أحمد ، حدثنا إسرائيل عن أبيه ، عن رجل ، عن أبي هريرة رفعه ، أنه كان إذا سمع الرعد قال : «سبحان من يسبح الرعد بحمده» ، وروي عن علي رضي الله عنه أنه كان إذا سمع صوت الرعد يقول : سبحان من سبحت له ، وكذا روي عن ابن عباس وطاوس والأسود بن يزيد ، أنهم كانوا يقولون ذلك. وقال الأوزاعي : كان ابن أبي زكريا يقول : من قال حين يسمع الرعد : سبحان الله وبحمده ، لم تصبه صاعقة (٣) ، وعن عبد الله بن الزبير أنه كان إذا سمع الرعد ترك الحديث وقال : سبحان الذي يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ، ويقول : إن هذا لوعيد شديد لأهل الأرض (٤) ، رواه مالك في موطئه ، والبخاري في كتاب الأدب.

وقال الإمام أحمد (٥) : حدثنا سليمان بن داود الطيالسي ، حدثنا صدقة بن موسى حدثنا محمد بن واسع عن شتير بن نهار ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «قال ربكم عزوجل : لو أن عبيدي أطاعوني لأسقيتهم المطر بالليل ، وأطلعت عليهم الشمس بالنهار ، ولما أسمعتهم صوت الرعد».

وقال الطبراني : حدثنا زكريا بن يحيى الساجي ، حدثنا أبو كامل الجحدري ، حدثنا يحيى بن كثير أبو النضر ، حدثنا عبد الكريم ، حدثنا عطاء عن ابن عباس قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا سمعتم الرعد فاذكروا الله فإنه لا يصيب ذاكرا».

وقوله تعالى : (وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ) أي يرسلها نقمة ينتقم بها ممن يشاء ، ولهذا تكثر في آخر الزمان ، كما قال الإمام أحمد (٦) : حدثنا محمد بن مصعب ، حدثنا عمارة عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «تكثر الصواعق عند اقتراب الساعة حتى يأتي الرجل القوم فيقول : من صعق تلكم الغداة؟ فيقولون : صعق فلان وفلان وفلان».

وقد روي في سبب نزولها ما رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا إسحاق ، حدثنا

__________________

(١) أخرجه الترمذي في الدعوات باب ٤٩.

(٢) تفسير الطبري ٧ / ٣٦٠.

(٣) تفسير الطبري ٧ / ٣٦٠.

(٤) أخرجه مالك في الكلام حديث ٢٦.

(٥) المسند ٢ / ٣٥٩.

(٦) المسند ٣ / ٦٤ ، ٦٥.

علي بن أبي سارة الشيباني ، حدثنا ثابت عن أنس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث رجلا مرة إلى رجل من فراعنة العرب ، فقال : «اذهب فادعه لي». قال : فذهب إليه فقال : يدعوك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال له : من رسول الله ، وما الله ، أمن ذهب هو ، أم من فضة هو ، أم من نحاس هو؟ قال : فرجع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره ، فقال : يا رسول الله ، قد أخبرتك أنه أعتى من ذلك ، قال لي كذا وكذا ، فقال لي : «ارجع إليه الثانية» فذهب فقال له مثلها ، فرجع إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله قد أخبرتك أنه أعتى من ذلك ، فقال : «ارجع إليه فادعه» فرجع إليه الثالثة ، قال : فأعاد عليه ذلك الكلام ، فبينما هو يكلمه إذ بعث الله عزوجل سحابة حيال رأسه ، فرعدت فوقعت منها صاعقة ، فذهب بقحف رأسه (١) ، فأنزل الله عزوجل (وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ) الآية ، ورواه ابن جرير (٢) من حديث علي بن أبي سارة به.

ورواه الحافظ أبو بكر البزار عن عبدة بن عبد الله عن يزيد بن هارون ، عن ديلم بن غزوان ، عن ثابت ، عن أنس فذكر نحوه ، وقال : حدثنا الحسن بن محمد ، حدثنا عفان ، حدثنا أبان بن يزيد ، حدثنا أبو عمران الجوني عن عبد الرحمن بن صحار العبدي أنه بلغه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعثه إلى جبار يدعوه فقال : أرأيتم ربكم أذهب هو؟ أم فضة هو؟ أم لؤلؤ هو؟ قال : فبينما هو يجادلهم إذ بعث الله سحابة فرعدت ، فأرسل عليه صاعقة ، فذهبت بقحف رأسه ، ونزلت هذه الآية (٣). وقال أبو بكر بن عياش عن ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد قال : جاء يهودي فقال : يا محمد أخبرني عن ربك ، من أي شيء هو؟ من نحاس هو ، أم من لؤلؤ أو ياقوت؟ قال : فجاءت صاعقة فأخذته ، وأنزل الله (وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ) الآية (٤).

وقال قتادة : ذكر لنا أن رجلا أنكر القرآن ، وكذب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأرسل الله صاعقة فأهلكته ، وأنزل الله (وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ) الآية (٥) ، وذكروا في سبب نزولها قصة عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة ، لما قدما على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة فسألاه أن يجعل لهما نصف الأمر ، فأبى عليهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال له عامر بن الطفيل ـ لعنه الله ـ : أما والله لأملأنها عليك خيلا جردا (٦) ورجالا مردا (٧) ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يأبى الله عليك ذلك وأبناء قيلة» (٨) يعني

__________________

(١) القحف : أعلى الدماغ.

(٢) تفسير الطبري ٧ / ٣٦١.

(٣) تفسير الطبري ٧ / ٣٦٠ ، ٣٦١.

(٤) تفسير الطبري ٧ / ٣٦١.

(٥) تفسير الطبري ٧ / ٣٦١.

(٦) الخيل الجرد : هو الذي يسبق الخيل وينجرد عنه لسرعته.

(٧) المرد : هو الشاب الذي طر شاربه ولم تنبت لحيته.

(٨) قيلة : امرأة ينتسب إليها الأوس والخزرج.

الأنصار ، ثم إنهما هما بالفتك برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجعل أحدهما يخاطبه ، والآخر يستل سيفه ليقتله من ورائه ، فحماه الله تعالى منهما وعصمه ، فخرجا من المدينة فانطلقا في أحياء العرب يجمعان الناس لحربه عليه الصلاة والسلام ، فأرسل الله على أربد سحابة فيها صاعقة فأحرقته ، وأما عامر بن الطفيل ، فأرسل الله عليه الطاعون فخرجت فيه غدة عظيمة ، فجعل يقول : يا آل عامر غدة كغدة البكر ، وموت في بيت سلولية (١) ، حتى ماتا لعنهما الله ، وأنزل الله في مثل ذلك (وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ) ، وفي ذلك يقول لبيد بن ربيعة أخو أربد يرثيه : [المنسرح]

أخشى على أربد الحتوف ولا

أرهب نوء السّماك والأسد (٢)

فجّعني الرعد والصواعق باك

فارس يوم الكريهة النّجد

وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا مسعدة بن سعيد العطار ، حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي ، حدثني عبد العزيز بن عمران ، حدثني عبد الرحمن وعبد الله ابنا زيد بن أسلم عن أبيهما ، عن عطاء بن يسار ، عن ابن عباس أن أربد بن قيس بن جزء بن جليد بن جعفر بن كلاب ، وعامر بن الطفيل بن مالك ، قدما المدينة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فانتهيا إليه وهو جالس فجلسا بين يديه ، فقال عامر بن الطفيل : يا محمد ، ما تجعل لي إن أسلمت؟ فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لك ما للمسلمين وعليك ما عليهم». قال عامر بن الطفيل : أتجعل لي الأمر إن أسلمت من بعدك؟ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس ذلك لك ولا لقومك ، ولكن لك أعنة الخيل» قال : أنا الآن في أعنة خيل نجد ، اجعل لي الوبر ولك المدر.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا» ، فلما قفلا من عنده قال عامر : أما والله لأملأنها عليك خيلا ورجالا ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يمنعك الله» ، فلما خرج أربد وعامر ، قال عامر : يا أربد ، أنا أشغل عنك محمدا بالحديث فاضربه بالسيف ، فإن الناس إذا قتلت محمدا لم يزيدوا على أن يرضوا بالدية ويكرهوا الحرب ، فنعطيهم الدية. قال أربد : أفعل ، فأقبلا راجعين إليه ، فقال عامر : يا محمد قم معي أكلمك ، فقام معه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجلسا إلى الجدار ، ووقف معه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكلمه ، وسل أربد السيف ، فلما وضع يده على السيف يبست يده على قائم السيف ، فلم يستطع سل السيف ، فأبطأ أربد على عامر بالضرب.

فالتفت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرأى أربد وما يصنع ، فانصرف عنهما ، فلما خرج عامر وأربد من

__________________

(١) أغدة كغدة البعير ، وموت في بيت سلولية : مثل يضرب في خصلتين إحداهما شر من الأخرى. والبكر : ولد الناقة ، والغدة : طاعون الإبل ، وقلما تسلم منه ، وأما سلول : قبيلة من أدنى العرب وأذلهم ، وكان عامر قد نزل بيت امرأة من سلول ، فضرب هذا المثل عندهم.

(٢) البيتان للبيد بن ربيعة في ديوانه ص ١٥٨ ، وتفسير الطبري ٧ / ٣٥٦ ، والبيت الثاني في لسان العرب (فجع) ، (صعق) ، وتهذيب اللغة ١ / ٣٨٥ ، وتاج العروس (فجع)

عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى إذا كانا بالحرة ـ حرة راقم ـ نزلا ، فخرج إليهما سعد بن معاذ وأسيد بن حضير ، فقالا : اشخصا يا عدوي الله لعنكما الله ، فقال عامر : من هذا يا سعد؟ قال : هذا أسيد بن حضير الكتائب ، فخرجا حتى إذا كانا بالرقم ، أرسل الله على أربد صاعقة فقتلته ، وخرج عامر حتى إذا كان بالخريم أرسل الله قرحة فأخذته ، فأدركه الليل في بيت امرأة من بني سلول ، فجعل يمس قرحته في حلقة ويقول : غدة كغدة الجمل في بيت سلولية ، ترغب أن يموت في بيتها ، ثم ركب فرسه فأحضره حتى مات عليه راجعا ، فأنزل الله فيهما (اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى ـ إلى قوله ـ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ) قال : المعقبات من أمر الله يحفظون محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم ذكر أربد وما قتله به ، فقال (وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ) الآية.

وقوله (وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ) أي يشكون في عظمته ، وأنه لا إله إلا هو ، (وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ) قال ابن جرير : شديدة مما حلته في عقوبة من طغى عليه ، وعتا وتمادى في كفره ، وهذه الآية شبيهة بقوله : (وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ) [النمل : ٥٠ ـ ٥١] ، وعن علي رضي الله عنه (وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ) أي شديد الأخذ ، وقال مجاهد : شديد القوة.

(لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ) (١٤)

قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِ) قال : التوحيد ، رواه ابن جرير(١). وقال ابن عباس وقتادة ومالك عن محمد بن المنكدر (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِ) لا إله إلا الله (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) الآية ، أي ومثل الذين يعبدون آلهة غير الله (كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ). قال علي بن أبي طالب : كمثل الذي يتناول الماء من طرف البئر بيده وهو لا يناله أبدا بيده ، فكيف يبلغ فاه؟ وقال مجاهد (كَباسِطِ كَفَّيْهِ) يدعو الماء بلسانه ويشير إليه فلا يأتيه أبدا ، وقيل : المراد كقابض يده على الماء ، فإنه لا يحكم منه علي شيء ، كما قال الشاعر : [الطويل]

فإنّي وإيّاكم وشوقا إليكم

كقابض ماء لم تسقه أنامله (٢)

وقال الآخر : [الطويل]

فأصبحت مما كان بيني وبينها

من الودّ مثل القابض الماء باليد (٣)

__________________

(١) تفسير الطبري ٧ / ٣٦٤.

(٢) البيت لضابئ بن الحارث البرجمي في لسان العرب (وسق) ، ومقاييس اللغة ٦ / ١٠٩ ، وتاج العروس (وسق). وبلا نسبة في تفسير الطبري ٧ / ٣٦٤ ، وتهذيب اللغة ٩ / ٢٣٦ ، وأساس البلاغة (وسق)

(٣) البيت بلا نسبة في تفسير البحر المحيط ٥ / ٣٦٨ ، وتفسير الطبري ٧ / ٣٦٤ ، وروح المعاني ، للآلوسي ٧ / ١٢١.

ومعنى هذا الكلام أن الذي يبسط يده إلى الماء إما قابضا وإما متناولا له من بعد كما أنه لا ينتفع بالماء الذي لم يصل إلى فيه الذي جعله محلا للشرب ، فكذلك هؤلاء المشركون الذين يعبدون مع الله إلها غيره ، لا ينتفعون بهم أبدا في الدنيا ولا في الآخرة ، ولهذا قال (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ).

(وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) (١٥)

يخبر تعالى عن عظمته وسلطانه ، الذي قهر كل شيء ، ودان له كل شيء ، ولهذا يسجد له كل شيء طوعا من المؤمنين وكرها على الكافرين (وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ) أي البكر (وَالْآصالِ) وهو جمع أصيل ، وهو آخر النهار ، كقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ) [النحل : ٤٨] الآية.

(قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (١٦)

يقرر تعالى أنه لا إله إلا هو ، لأنهم معترفون بأنه هو الذي خلق السموات والأرض ، وهو ربها ومدبرها ، وهم مع هذا قد اتخذوا من دونه أولياء يعبدونهم ، وأولئك الآلهة لا تملك لأنفسها ولا لعابديها بطريق الأولى نفعا ولا ضرا ، أي لا تحصل لهم منفعة ولا تدفع عنهم مضرة ، فهل يستوي من عبد هذه الآلهة مع الله ، ومن عبد الله وحده لا شريك له فهو على نور من ربه؟ ولهذا قال : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ) أي أجعل هؤلاء المشركون مع الله آلهة تناظر الرب وتماثله في الخلق فخلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم فلا يدرون أنها مخلوقة من مخلوق غيره أي ليس الأمر كذلك فإنه لا يشابهه شيء ، ولا يماثله ولا ند له ولا عدل له ولا وزير له ولا ولد ولا صاحبة تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وإنما عبد هؤلاء المشركون معه آلهة هم معترفون أنها مخلوقة له ، عبيد له ، كما كانوا يقولون في تلبيتهم : لبيك لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك.

وكما أخبرنا تعالى عنهم في قوله : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] فأنكر تعالى عليهم ذلك حيث اعتقدوا ذلك ، وهو تعالى لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) [سبأ : ٢٣] (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ) [النجم : ٢٦] الآية ، وقال (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) [مريم : ٩٣ ـ ٩٥] فإذا كان الجميع عبيدا ، فلم يعبد بعضهم بعضا بلا دليل

ولا برهان ، بل مجرد الرأي والاختراع والابتداع ، ثم قد أرسل رسله من أولهم إلى آخرهم ، تزجرهم عن ذلك وتنهاهم عن عبادة من سوى الله ، فكذبوهم وخالفوهم ، فحقت عليهم كلمة العذاب لا محالة (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) [الكهف : ٤٩].

(أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ) (١٧)

اشتملت هذه الآية الكريمة على مثلين مضروبين للحق في ثباته وبقائه ، والباطل في اضمحلاله وفنائه ، فقال تعالى : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) أي مطرا (فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها) أي أخذ كل واد بحسبه ، فهذا كبير وسع كثيرا من الماء ، وهذا صغير وسع بقدره ، وهو إشارة إلى القلوب وتفاوتها ، فمنها ما يسع علما كثيرا ، ومنها من لا يتسع لكثير من العلوم بل يضيق عنها (فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً) أي فجاء على وجه الماء الذي سال في هذه الأودية زبد عال عليه ، هذا مثل.

وقوله : (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ) الآية ، هذا هو المثل الثاني وهو ما يسبك في النار من ذهب أو فضة ابتغاء حلية ، أي ليجعل حلية نحاس أو حديد ، فيجعل متاعا ، فإنه يعلوه زبد منه كما يعلو ذلك زبد منه (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ) أي إذا اجتمعا ، لا ثبات للباطل ولا دوام له ، كما أن الزبد لا يثبت مع الماء ولا مع الذهب والفضة ، ونحوهما مما يسبك في النار ، بل يذهب ويضمحل ، ولهذا قال : (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً) أي لا ينتفع به بل يتفرق ويتمزق ، ويذهب في جانبي الوادي ، ويعلق بالشجر ، وتنسفه الرياح ، وكذلك خبث الذهب والفضة والحديد والنحاس ، يذهب ولا يرجع منه شيء ولا يبقى إلا الماء ، وذلك الذهب ونحوه ينتفع به ، ولهذا قال : (وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ) كقوله تعالى : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) [العنكبوت : ٤٣] وقال بعض السلف : كنت إذا قرأت مثلا من القرآن فلم أفهمه ، بكيت على نفسي ، لأن الله تعالى يقول (وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ).

قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها) الآية ، هذا مثل ضربه الله ، احتملت منه القلوب على قدر يقينها وشكها ، فأما الشك فلا ينفع معه العمل ، وأما اليقين فينفع الله به أهله وهو قوله : (فَأَمَّا الزَّبَدُ) وهو الشك ، (فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) وهو اليقين ، وكما يجعل الحلي في النار فيؤخذ خالصه ويترك خبثه في النار ، فكذلك يقبل الله اليقين ويترك الشك (١).

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٣٧٠.

وقال العوفي عن ابن عباس قوله : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً) يقول : احتمل السيل ما في الوادي من عود ودمنة (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ) فهو الذهب والفضة والحلية والمتاع والنحاس والحديد ، فللنحاس والحديد خبث ، فجعل الله مثل خبثه كزبد الماء ، فأما ما ينفع الناس فالذهب والفضة ، وأما ما ينفع الأرض فما شربت من الماء فأنبتت ، فجعل ذاك مثل العمل الصالح يبقى لأهله ، والعمل السيئ يضمحل عن أهله ، كما يذهب هذا الزبد ، وكذلك الهدى والحق جاءا من عند الله ، فمن عمل بالحق كان له وبقي ، كما بقي ما ينفع الناس في الأرض ، وكذلك الحديد لا يستطاع أن يعمل منه سكين ولا سيف حتى يدخل في النار ، فتأكل خبثه ، ويخرج جيده فينتفع به ، فكذلك يضمحل الباطل ، فإذا كان يوم القيامة وأقيم الناس وعرضت الأعمال ، فيزيغ الباطل ويهلك ، وينتفع أهل الحق بالحق (١) ، وهكذا روي في تفسيرها عن مجاهد والحسن البصري وعطاء وقتادة ، وغير واحد من السلف والخلف.

وقد ضرب سبحانه وتعالى في أول سورة البقرة للمنافقين مثلين : ناريا ومائيا وهما قوله (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ) [البقرة : ١٧] الآية ، ثم قال (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ) [البقرة : ١٩] الآية ، وهكذا ضرب للكافرين في سورة النور مثلين [أحدهما] قوله (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ) الآية ، والسراب إنما يكون في شدة الحر ، ولهذا جاء في الصحيحين : فيقال لليهود يوم القيامة : فما تريدون؟ فيقولون: أي ربنا عطشنا فاسقنا. فيقال : ألا تردون؟ فيردون النار فإذا هي كسراب يحطم بعضها بعضا(٢).

ثم قال تعالى في المثل الآخر : (أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍ) الآية ، وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم ، كمثل غيث أصاب أرضا ، فكان منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكانت منها أجادب أمسكت الماء ، فنفع الله بها الناس ، فشربوا ، ورعوا ، وسقوا ، وزرعوا ، وأصابت طائفة منها أخرى ، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه الله بما بعثني ونفع به ، فعلم وعلم ، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به» (٣) فهذا مثل مائي.

وقال في الحديث الآخر الذي رواه الإمام أحمد (٤) : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر عن همام بن منبه قال : هذا ما حدثنا أبو هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «مثلي ومثلكم كمثل

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٣٧٠.

(٢) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٤ ، باب ٨ ، ومسلم في الإيمان حديث ٣٠٢.

(٣) أخرجه البخاري في العلم باب ٢٠ ، ومسلم في الفضائل حديث ١٥ ، وأحمد في المسند ٤ / ٣٩٩.

(٤) المسند ٢ / ٣١٢.

رجل استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ، جعل الفراش وهذه الدواب التي يقعن في النار يقعن فيها ، وجعل يحجزهن ويغلبنه فيقتحمن فيها ـ قال ـ : فذلكم مثلي ومثلكم ، أنا آخذ بحجزكم عن النار هلم عن النار ، فتغلبوني فتقتحمون فيها» (١) وأخرجاه في الصحيحين أيضا ، فهذا مثل ناري.

(لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ) (١٨)

يخبر تعالى عن مآل السعداء والأشقياء فقال : (لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ) أي أطاعوا الله ورسوله ، وانقادوا لأوامره ، وصدقوا أخباره الماضية والآتية ، فلهم (الْحُسْنى) وهو الجزاء الحسن ، كقوله تعالى مخبرا عن ذي القرنين أنه قال : (أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً) [الكهف : ٨٧ ـ ٨٨] ، وقال تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس : ٢٦].

وقوله : (وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ) أي لم يطيعوا الله ، (لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) أي في الدار الآخرة لو أن يمكنهم أن يفتدوا من عذاب الله بملء الأرض ذهبا ومثله معه لافتدوا به ، ولكن لا يقبل منهم ، لأنه تعالى لا يقبل منهم يوم القيامة صرفا ولا عدلا (أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ) أي في الدار الآخرة. أي يناقشون على النقير (٢) والقطمير (٣) ، والجليل والحقير ، ومن نوقش الحساب عذب ، ولهذا قال (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ).

(أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) (١٩)

يقول تعالى لا يستوي من يعلم من الناس أن الذي (أُنْزِلَ إِلَيْكَ) يا محمد (مِنْ رَبِّكَ) هو الحق الذي لا شك فيه ، ولا مرية ، ولا لبس فيه ، ولا اختلاف فيه ، بل هو كله حق يصدق بعضه بعضا ، لا يضاد شيء منه شيئا آخر ، فأخباره كلها حق ، وأوامره ونواهيه عدل ، كما قال تعالى : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً) [الأنعام : ١١٥] أي صدقا في الإخبار ، وعدلا في الطلب ، فلا يستوي من تحقق صدق ما جئت به يا محمد ، ومن هو أعمى لا يهتدي إلى خير ولا يفهمه ، ولو فهمه ما انقاد له ولا صدقه ولا اتبعه كقوله تعالى : (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) [الحشر : ٢٠] وقال في هذه الآية الكريمة : (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى) أي أفهذا كهذا؟ لا استواء.

__________________

(١) أخرجه البخاري في الرقاق باب ٦ ، ومسلم في الفضائل حديث ١٧ ، ١٩.

(٢) النقير : النكتة التي في النواة.

(٣) القطمير : شق النواة : أي يناقشون في كل الأمور صغيرها وكبيرها.

وقوله : (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) أي إنما يتعظ ويعتبر ويعقل أولو العقول السليمة الصحيحة ، جعلنا الله منهم.

(الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (٢٠) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (٢١) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (٢٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) (٢٤)

يقول تعالى مخبرا عمن اتصف بهذه الصفات الحميدة بأن لهم عقبى الدار ، وهي العاقبة والنصرة في الدنيا والآخرة : (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ) وليسوا كالمنافقين الذين إذا عاهد أحدهم غدر ، وإذا خاصم فجر ، وإذا حدث كذب ، وإذا ائتمن خان (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) من صلة الأرحام والإحسان إليهم ، وإلى الفقراء والمحاويج ، وبذل المعروف ، (وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) أي فيما يأتون وما يذرون من الأعمال ، ويراقبون الله في ذلك ، ويخافون سوء الحساب في الدار الآخرة ، فلهذا أمرهم على السداد والاستقامة في جميع حركاتهم وسكناتهم ، وجميع أحوالهم القاصرة والمتعدية.

(وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ) أي عن المحارم والمآثم ، ففطموا أنفسهم عنها لله عزوجل ابتغاء مرضاته وجزيل ثوابه (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) بحدودها ومواقيتها وركوعها وسجودها وخشوعها ، على الوجه الشرعي المرضي (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ) أي على الذين يجب عليهم الإنفاق لهم من زوجات وقرابات وأجانب من فقراء ومحاويج ومساكين (سِرًّا وَعَلانِيَةً) أي في السر والجهر ، لم يمنعهم من ذلك حال من الأحوال ، آناء الليل وأطراف النهار (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) أي يدفعون القبيح بالحسن ، فإذا آذاهم أحد قابلوه بالجميل صبرا واحتمالا وصفحا وعفوا ، كقوله تعالى : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [فصلت : ٣٤ ـ ٣٥] ، ولهذا قال مخبرا عن هؤلاء السعداء المتصفين بهذه الصفات الحسنة بأن لهم عقبى الدار.

ثم فسر ذلك بقوله : (جَنَّاتُ عَدْنٍ) والعدن الإقامة ، أي جنات إقامة يخلدون فيها ، وعن عبد الله بن عمرو أنه قال : إن في الجنة قصرا يقال له عدن ، حوله البروج والمروج ، فيه خمسة آلاف باب ، على كل باب خمسة آلاف حبرة ، لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد.

وقال الضحاك في قوله : (جَنَّاتُ عَدْنٍ) : مدينة الجنة ، فيها الرسل والأنبياء والشهداء وأئمة الهدى ، والناس حولهم بعد والجنات حولها ، رواهما ابن جرير (١).

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٣٧٦ ، ٣٧٧.

وقوله : (وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) أي يجمع بينهم وبين أحبابهم فيها من الآباء والأهلين والأبناء ، ممن هو صالح لدخول الجنة من المؤمنين ، لتقر أعينهم بهم حتى إنه ترفع درجة الأدنى إلى درجة الأعلى امتنانا من الله وإحسانا من غير تنقيص للأعلى عن درجته ، كما قال تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) [طور : ٢١] الآية.

وقوله (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) أي وتدخل عليهم الملائكة من هاهنا ومن هاهنا للتهنئة بدخول الجنة ، فعند دخولهم إياها تفد عليهم الملائكة مسلمين ، مهنئين لهم بما حصل لهم من الله من التقريب والإنعام والإقامة في دار السلام في جوار الصديقين والأنبياء والرسل الكرام.

وقال الإمام أحمد (١) رحمه‌الله : حدثنا أبو عبد الرحمن ، حدثني سعيد بن أبي أيوب ، حدثنا معروف بن سويد الحراني عن أبي عشانة المعافري ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «هل تدرون أول من يدخل الجنة من خلق الله؟» قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : «أول من يدخل الجنة من خلق الله الفقراء المهاجرون الذين تسد بهم الثغور ، وتتقى بهم المكاره ، ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء ، فيقول الله تعالى لمن يشاء من ملائكته : ائتوهم فحيوهم ، فتقول الملائكة : نحن سكان سمائك وخيرتك من خلقك ، أفتأمرنا أن نأتي هؤلاء ونسلم عليهم؟ فيقول : إنهم كانوا عبادا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ، وتسد بهم الثغور ، وتتقى بهم المكاره ، ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء ـ قال ـ : فتأتيهم الملائكة عند ذلك فيدخلون عليهم من كل باب (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ).

رواه أبو القاسم الطبراني عن أحمد بن رشدين ، عن أحمد بن صالح ، عن عبد الله بن وهب ، عن عمرو بن الحارث ، عن أبي عشانة سمع عبد الله بن عمرو عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أول ثلة يدخلون الجنة فقراء المهاجرين الذين تتقى بهم المكاره ، وإذا أمروا سمعوا وأطاعوا ، وإن كانت لرجل منهم حاجة إلى سلطان لم تقض حتى يموت وهي في صدره ، وإن الله يدعو يوم القيامة الجنة فتأتي بزخرفها وزينتها ، فيقول : أين عبادي الذين قاتلوا في سبيلي ، وأوذوا في سبيلي ، وجاهدوا في سبيلي؟ ادخلوا الجنة بغير عذاب ولا حساب. وتأتي الملائكة فيسجدون ويقولون : ربنا نحن نسبح بحمدك الليل والنهار ، ونقدس لك من هؤلاء الذين آثرتهم علينا؟ فيقول الرب عزوجل : هؤلاء عبادي الذين جاهدوا في سبيلي ، وأوذوا في سبيلي ، فتدخل عليهم الملائكة من كل باب : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ).

وقال عبد الله بن المبارك عن بقية بن الوليد : حدثنا أرطاة بن المنذر ، سمعت رجلا من

__________________

(١) المسند ٢ / ١٦٨.

مشيخة الجند يقال له أبو الحجاج يقول : جلست إلى أبي أمامة فقال : إن المؤمن ليكون متكئا على أريكته إذا دخل الجنة ، وعنده سماطان من خدم ، وعند طرف السماطين باب مبوب ، فيقبل الملك فيستأذن فيقول للذي يليه ملك يستأذن ، ويقول الذي يليه للذي يليه ملك يستأذن ، حتى يبلغ المؤمن فيقول : ائذنوا ، فيقول أقربهم للمؤمن : ائذنوا له ، ويقول الذي يليه للذي يليه : ائذنوا له ، حتى يبلغ أقصاهم الذي عند الباب ، فيفتح له ، فيدخل فيسلم ثم ينصرف ، رواه ابن جرير (١). ورواه ابن أبي حاتم من حديث إسماعيل بن عياش ، عن أرطاة بن المنذر عن أبي الحجاج يوسف الإلهاني قال : سمعت أبا أمامة فذكر نحوه. وقد جاء في الحديث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يزور قبور الشهداء في رأس كل حول فيقول لهم : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) وكذلك أبو بكر وعمر وعثمان.

(وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) (٢٥)

هذا حال الأشقياء وصفاتهم ، وذكر ما لهم في الآخرة ، ومصيرهم إلى خلاف ما صار إليه المؤمنون ، كما أنهم اتصفوا بخلاف صفاتهم في الدنيا ، فأولئك كانوا يوفون بعهد الله ، ويصلون ما أمر الله به أن يوصل ، وهؤلاء (يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) كما ثبت في الحديث «آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان» (٢). وفي رواية «وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر» (٣) ، ولهذا قال (أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ) وهي الإبعاد عن الرحمة ، (وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) وهي سوء العاقبة والمآل ، (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ).

وقال أبو العالية في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ) الآية ، قال : هي ست خصال في المنافقين ، إذا كان فيهم الظهرة على الناس أظهروا هذه الخصال : إذا حدثوا كذبوا ، وإذا وعدوا أخلفوا ، وإذا ائتمنوا خانوا ، ونقضوا عهد الله من بعد ميثاقه ، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل ، وأفسدوا في الأرض ، وإذا كانت الظهرة عليهم أظهروا الثلاث الخصال : إذا حدثوا كذبوا ، وإذا وعدوا أخلفوا ، وإذا اؤتمنوا خانوا.

(اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ) (٢٦)

يذكر تعالى أنه هو الذي يوسع الرزق على من يشاء ، ويقتر على من يشاء ، لما له في ذلك

__________________

(١) تفسير الطبري ٧ / ٣٧٧.

(٢) أخرجه البخاري في الإيمان باب ٢٤ ، ومسلم في الإيمان حديث ١٠٨.

(٣) أخرجه البخاري في الإيمان باب ٢٤ ، ومسلم في الإيمان حديث ١٠٦.

من الحكمة والعدل ، وفرح هؤلاء الكفار بما أوتوا من الحياة الدنيا استدراجا لهم وإمهالا ، كما قال: (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ) [المؤمنون : ٥٥ ـ ٥٦] ثم حقر الحياة الدنيا بالنسبة إلى ما ادخره تعالى لعباده المؤمنين في الدار الآخرة ، فقال : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ) ، كما قال : (قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) [النساء : ٧٧]. وقال : (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى) [الأعلى : ١٦ ـ ١٧].

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا وكيع ويحيى بن سعيد ، قالا : حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن قيس ، عن المستورد أخي بني فهر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه هذه في اليم ، فلينظر بم ترجع» وأشار بالسبابة ، رواه مسلم (٢) في صحيحه. وفي الحديث الآخر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مر بجدي أسك ميت ، والأسك الصغير الأذنين ، فقال : «والله للدنيا أهون على الله من هذا على أهله حين ألقوه» (٣).

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (٢٧) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ) (٢٩)

يخبر تعالى عن قيل المشركين (لَوْ لا) أي هلا (أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) ، كقولهم (فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) [الأنبياء : ٥]. وقد تقدم الكلام على هذا غير مرة ، وأن الله قادر على إجابة ما سألوا ، وفي الحديث إن الله أوحى إلى رسوله لما سألوه أن يحول لهم الصفا ذهبا ، وأن يجري لهم ينبوعا ، وأن يزيح الجبال من حول مكة ، فيصير مكانها مروج وبساتين : إن شئت يا محمد أعطيتهم ذلك ، فإن كفروا أعذبهم عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين ، وإن شئت فتحت عليهم باب التوبة والرحمة ، فقال : «بل تفتح لهم باب التوبة والرحمة» (٤).

ولهذا قال لرسوله : (قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ) أي هو المضل والهادي سواء بعث الرسول بآية على وفق ما اقترحوا أو لم يجبهم إلى سؤالهم ، فإن الهداية والإضلال ليس منوطا بذلك ولا عدمه ، كما قال : (وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) [يونس : ١٠١] وقال : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) [يونس : ٩٦ ـ ٩٧] وقال : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى

__________________

(١) المسند ٤ / ٢٢٨ ، ٢٢٩.

(٢) كتاب الجنة حديث ٥٥.

(٣) أخرجه مسلم في الزهد حديث ٢ ، ومالك في الطهارة حديث ٧٣ ، وأحمد في المسند ٣ / ٣٦٥.

(٤) أخرجه أحمد في المسند ١ / ٢٤٢.

وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) [الأنعام : ١١١] ، ولهذا قال : (قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ) أي ويهدي إليه من أناب إلى الله ورجع إليه واستعان به وتضرع لديه (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ) أي تطيب وتركن إلى جانب الله ، وتسكن عند ذكره ، وترضى به مولى ونصيرا ، ولهذا قال : (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) أي هو حقيق بذلك.

وقوله : (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ) قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس : فرح وقرة عين. وقال عكرمة : نعم ما لهم. وقال الضحاك : غبطة لهم. وقال إبراهيم النخعي : خير لهم. وقال قتادة : هي كلمة عربية ، يقول الرجل : طوبى لك ، أي أصبت خيرا. وقال في رواية : طوبى لهم حسنى لهم ، (وَحُسْنُ مَآبٍ) أي مرجع ، وهذه الأقوال شيء واحد ، لا منافاة بينها. وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس (طُوبى لَهُمْ) قال : هي أرض الجنة بالحبشية (١) ، وقال سعيد بن مسجوح : طوبى اسم الجنة بالهندية (٢) ، وكذا روى السدي عن عكرمة : طوبى لهم هي الجنة ، وبه قال مجاهد. وقال العوفي عن ابن عباس : لما خلق الله الجنة وفرغ منها ، قال : (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ) وذلك حين أعجبته(٣).

وقال ابن جرير (٤) : حدثنا ابن حميد ، حدثنا يعقوب عن جعفر ، عن شهر بن حوشب قال : طوبى شجرة في الجنة ، كل شجر الجنة منها ، أغصانها من وراء سور الجنة ، وهكذا روي عن أبي هريرة وابن عباس ومغيث بن سليمان وأبي إسحاق السبيعي ، وغير واحد من السلف أن طوبى شجرة في الجنة في كل دار منها غصن منها. وذكر بعضهم أن الرحمن تبارك وتعالى غرسها بيده من حبة لؤلؤة ، وأمرها أن تمتد ، فامتدت إلى حيث يشاء الله تبارك وتعالى ، وخرجت من أصلها ينابيع أنهار الجنة من عسل وخمر وماء ولبن. وقد قال عبد الله بن وهب : حدثنا عمرو بن الحارث أن دراجا أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخدري ، مرفوعا «طوبى شجرة في الجنة مسيرة مائة سنة ، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها» (٥).

وقال الإمام أحمد (٦) : حدثنا حسن بن موسى ، سمعت عبد الله بن لهيعة ، حدثنا دراج أبو السمح أن أبا الهيثم حدثه عن أبي سعيد الخدري ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن رجلا قال :

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٣٨٢.

(٢) انظر تفسير الطبري ٧ / ٣٨٢. وفيه : سعيد بن مشجوج ، بدل : سعيد بن مسجوح.

(٣) انظر تفسير الطبري ٧ / ٣٨٢.

(٤) تفسير الطبري ٧ / ٣٨٢.

(٥) انظر تفسير الطبري ٧ / ٣٨٤.

(٦) المسند ٣ / ٧١.

يا رسول الله : طوبى لمن رآك وآمن بك ، قال : «طوبى لمن رآني وآمن بي ، وطوبى ثم طوبى ثم طوبى لمن آمن بي ولم يرني» قال له رجل : وما طوبى؟ قال : «شجرة في الجنة مسيرتها مائة عام ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها». وروى البخاري ومسلم جميعا عن إسحاق بن راهويه ، عن مغيرة المخزومي عن وهيب عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها» (١) قال : فحدثت به النعمان بن أبي عياش الزرقي ، فقال : حدثني أبو سعيد الخدري عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن في الجنة شجرة يسير الراكب الجواد المضمر السريع مائة عام ما يقطعها»(٢).

وفي صحيح البخاري من حديث يزيد بن زريع عن سعيد ، عن قتادة ، عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قول الله تعالى : (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) قال : «في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها» (٣).

وقال الإمام أحمد : حدثنا سريج ، حدثنا فليح عن هلال بن علي ، عن عبد الرحمن بن أبي عمرة ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة ، اقرءوا إن شئتم (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) (٤) [الواقعة : ٣٠]. أخرجاه في الصحيحين.

وفي لفظ لأحمد (٥) أيضا : حدثنا محمد بن جعفر وحجاج ، قالا : حدثنا شعبة : سمعت أبا الضحاك يحدث عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها سبعين ـ أو مائة سنة ـ هي شجرة الخلد». وقال محمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه ، عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر سدرة المنتهى ، فقال : «يسير في ظل الغصن منها الراكب مائة سنة ـ أو قال ـ يستظل في الفنن (٦) منها مائة راكب ، فيها فراش (٧) الذهب كأن ثمرها القلال» (٨) رواه الترمذي(٩).

وقال إسماعيل بن عياش عن سعيد بن يوسف ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلام الأسود

__________________

(١) أخرجه البخاري في بدء الخلق باب ٨ ، وتفسير سورة ٥٦ ، باب ١ ، ومسلم في الجنة حديث ٧.

(٢) أخرجه البخاري في الرقاق باب ٥١ ، ومسلم في الجنة حديث ٨.

(٣) أخرجه البخاري في بدء الخلق باب ٨ ، وتفسير سورة ٥٦ ، باب ١.

(٤) أخرجه البخاري في بدء الخلق باب ٨ ، وتفسير سورة ٥٦ ، في الترجمة ، وأحمد في المسند ٣ / ١٦٤.

(٥) المسند ٢ / ٤٥٥.

(٦) الفنن : الغصن.

(٧) الفراش : واحدة فراشة ، وهي التي تطير وتتهافت في السراج.

(٨) القلال : جمع قله : وهي إناء للشرب ، كالجرة الكبيرة.

(٩) كتاب الجنة باب ٩.

قال : سمعت أبا أمامة الباهلي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما منكم من أحد يدخل الجنة إلا انطلق به إلى طوبى ، فتفتح له أكمامها فيأخذ من أي ذلك شاء ، إن شاء أبيض وإن شاء أحمر ، وإن شاء أصفر ، وإن شاء أسود مثل شقائق النعمان وأرق وأحسن».

وقال الإمام أبو جعفر بن جرير (١) : حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، حدثنا محمد بن ثور عن معمر ، عن أشعث بن عبد الله ، عن شهر بن حوشب ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : طوبى شجرة في الجنة ، يقول الله لها : تفتقي لعبدي عما شاء ، فتفتق له عن الخيل بسروجها ولجمها ، وعن الإبل بأزمتها ، وعما شاء من الكسوة.

وقد روى ابن جرير (٢) عن وهب بن منبه هاهنا أثرا غريبا عجيبا ، قال وهب رحمه‌الله : إن في الجنة شجرة يقال لها طوبى ، يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها ، زهرها رياط (٣) ، وورقها برود (٤) ، وقضبانها عنبر ، وبطحاؤها ياقوت ، وترابها كافور ، ووحلها مسك ، يخرج من أصلها أنهار الخمر واللبن والعسل ، وهي مجلس لأهل الجنة ، فبينما هم في مجلسهم إذ أتتهم ملائكة من ربهم يقودون نجبا مزمومة ، بسلاسل من ذهب ، وجوهها كالمصابيح حسنا ، ووبرها كخز المرعزّى (٥) من لينه ، عليها رحال ألواحها من ياقوت ، ودفوفها من ذهب ، وثيابها من سندس وإستبرق ، فينيخونها يقولون : إن ربنا أرسلنا إليكم لتزوروه وتسلموا عليه. قال : فيركبونها فهي أسرع من الطائر ، وأوطأ من الفراش ، نجبا من غير مهنة (٦) ، يسير الرجل إلى جنب أخيه وهو يكلمه ويناجيه ، لا تصيب أذن راحلة منها أذن الأخرى ، ولا برك رحلة برك الأخرى ، حتى إن الشجرة لتتنحى عن طريقهم لئلا تفرق بين الرجل وأخيه.

قال : فيأتون إلى الرحمن الرحيم فيسفر لهم عن وجهه الكريم حتى ينظروا إليه ، فإذا رأوه قالوا : اللهم أنت السلام ومنك السلام وحق لك الجلال والإكرام ، قال : فيقول تعالى عند ذلك : أنا السلام ومني السلام وعليكم حقت رحمتي ومحبتي ، مرحبا بعبادي الذين خشوني بغيب وأطاعوا أمري ، قال : فيقولون : ربنا لم نعبدك حق عبادتك ، ولم نقدرك حق قدرك ، فأذن لنا في السجود قدامك. قال : فيقول الله : إنها ليست بدار نصب ولا عبادة ، ولكنها دار ملك ونعيم ، وإني قد رفعت عنكم نصب العبادة ، فسلوني ما شئتم ، فإن لكل رجل منكم أمنيته ، فيسألونه

__________________

(١) تفسير الطبري ٧ / ٣٨٢.

(٢) تفسير الطبري ٧ / ٣٨٣.

(٣) الرياط : جمع ريطة ، وهي كل ثوب لين رقيق.

(٤) البرود : جمع برد ، وهو الموشى من الثياب.

(٥) المرعزّى ، بكسر الميم ، وسكون الراء ، وكسر العين ، وفتح الزاي المشددة : هو الزغب الذي تحت شعر العنز ، وهو ألين الصوف.

(٦) المهنة : جمع ماهن ، وهو الخادم.

حتى إن أقصرهم أمنية ليقول : ربي تنافس أهل الدنيا في دنياهم فتضايقوا فيها رب فآتني مثل كل شيء كانوا فيها من يوم خلقتها إلى أن انتهت الدنيا ، فيقول الله تعالى : لقد قصرت بك أمنيتك ، ولقد سألت دون منزلتك ، هذا لك مني ، وسأتحفك بمنزلتي لأنه ليس في عطائي نكد ولا تصريد(١).

قال : ثم يقول : اعرضوا على عبادي ما لم يبلغ أمانيهم ، ولم يخطر لهم على بال ، قال : فيعرضون عليهم حتى تقصر بهم أمانيهم التي في أنفسهم ، فيكون فيما يعرضون عليهم براذين مقرنة ، على كل أربعة منها سرير من ياقوتة واحدة ، على كل سرير منها قبة من ذهب ، مفرغة في كل قبة منها فرش من فرش الجنة ، متظاهرة في كل قبة منها جاريتان من الحور العين ، على كل جارية منهن ثوبان من ثياب الجنة ، وليس في الجنة لون إلا وهو فيهما ، ولا ريح ولا طيب إلا قد عبق بهما ، ينفذ ضوء وجوههما غلظ القبة حتى يظن من يراهما أنهما دون القبة ، يرى مخهما من فوق سوقهما كالسلك الأبيض في ياقوتة حمراء يريان له من الفضل على صاحبته كفضل الشمس على الحجارة أو أفضل ، ويرى هو لهما مثل ذلك ويدخل إليهما فيحييانه ، ويقبلانه ، ويتعلقان به ، ويقولان له : والله ما ظننا أن الله يخلق مثلك ثم يأمر الله تعالى الملائكة فيسيرون بهم صفا في الجنة حتى ينتهي كل رجل منهم إلى منزلة التي أعدت له.

وقد روى هذا الأثر ابن أبي حاتم بسنده عن وهب بن منبه ، وزاد : فانظروا إلى موهوب ربكم الذي وهب لكم ، فإذا هو بقباب في الرفيق الأعلى ، وغرف مبنية من الدر والمرجان ، أبوابها من ذهب ، وسررها من ياقوت ، وفرشها من سندس وإستبرق ، ومنابرها من نور يفور من أبوابها ، وعراصها نور مثل شعاع الشمس عنده مثل الكوكب الدري في النهار المضيء ، وإذا بقصور شامخة في أعلى عليين من الياقوت يزهو نورها ، فلو لا أنه مسخر إذا لالتمع الأبصار ، فما كان من تلك القصور من الياقوت الأبيض فهو مفروش بالحرير الأبيض ، وما كان فيها من الياقوت الأحمر فهو مفروش بالعبقري الأحمر ، وما كان فيها من الياقوت الأخضر فهو مفروش بالسندس الأخضر ، وما كان فيها من الياقوت الأصفر فهو مفروش بالأرجوان الأصفر ، مبوبة بالزمرد الأخضر والذهب الأحمر والفضة البيضاء ، قوائمها وأركانها من الجوهر ، وشرفها قباب من لؤلؤ ، وبروجها غرف من المرجان.

فلما انصرفوا إلى ما أعطاهم ربهم ، قربت لهم براذين من ياقوت أبيض ، منفوخ فيها الروح ، تجنبها الولدان المخلدون بيد كل وليد منهم حكمة (٢) برذون من تلك البراذين ، ولجمها وأعنتها من فضة بيضاء منظومة بالدر والياقوت ، سروجها سرر موضونة (٣) مفروشة بالسندس والإستبرق ، فانطلقت بهم تلك

__________________

(١) التصريد : تقليل العطاء.

(٢) الحكمة : ما أحاط بحنكي الفرس من لجامه.

(٣) السرر الموضونة : أي المنسوجة بالدر والجواهر.

البراذين تزفّ (١) بهم ببطن رياض الجنة ، فلما انتهوا إلى منازلهم ، وجدوا الملائكة قعودا على منابر من نور ينتظرونهم ليزوروهم ويصافحوهم ويهنئوهم كرامة ربهم ، فلما دخلوا قصورهم وجدوا فيها جميع ما تطاول به عليهم ، وما سألوا وتمنوا ، وإذا على باب كل قصر من تلك القصور أربعة جنان : جنتان ذواتا أفنان ، وجنتان مدهامتان ، وفيهما عينان نضاختان ، وفيهما من كل فاكهة زوجان ، وحور مقصورات في الخيام ، فلما تبوءوا منازلهم واستقروا قرارهم ، قال لهم ربهم : هل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟.

قالوا : نعم وربنا. قال : هل رضيتم ثواب ربكم؟ قالوا : ربنا رضينا فارض عنا. قال : برضاي عنكم حللتم داري ، ونظرتم إلى وجهي ، وصافحتكم ملائكتي ، فهنيئا لكم ، (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) ليس فيه تنغيص ولا تصريد ، فعند ذلك قالوا : الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن ، وأدخلنا دار المقامة من فضله ، لا يمسنا فيها نصب ، ولا يمسنا فيها لغوب ، إن ربنا لغفور شكور ، وهذا سياق غريب ، وأثر عجيب ، ولبعضه شواهد.

ففي الصحيحين أن الله تعالى يقول لذلك الرجل يكون آخر أهل الجنة دخولا الجنة : تمنّ ، فيتمنى ، حتى إذا انتهت به الأماني يقول الله تعالى : تمن من كذا ، وتمن من كذا ، يذكره ، ثم يقول : ذلك لك وعشرة أمثاله (٢).

وفي صحيح مسلم عن أبي ذر ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الله عزوجل «يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك من ملكي شيئا إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل في البحر» (٣). الحديث بطوله ، وقال خالد بن معدان : إن في الجنة شجرة يقال لها طوبى ، لها ضروع كلها ترضع صبيان أهل الجنة ، وإن سقط المرأة يكون في نهر من أنهار الجنة يتقلب فيه حتى تقوم القيامة ، فيبعث ابن أربعين سنة ، رواه ابن أبي حاتم.

(كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ) (٣٠)

يقول تعالى : وكما أرسلناك يا محمد في هذه الأمة (لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) أي تبلغهم رسالة الله إليهم ، كذلك أرسلنا في الأمم الماضية الكافرة بالله ، وقد كذب الرسل من قبلك بهم أسوة ، وكما أوقعنا بأسنا ونقمتنا بأولئك ، فليحذر هؤلاء من حلول النقم بهم ، فإن تكذيبهم لك أشد من تكذيب غيرك من المرسلين ، قال الله تعالى : (تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ

__________________

(١) تزفّ بهم : أي تسرع بهم.

(٢) أخرجه البخاري في الرقاق باب ٥٢ ، ومسلم في الإيمان حديث ٢٩٩ ، ٣٠١ ، ٣٠٩.

(٣) أخرجه مسلم في البر حديث ٥٥ ، وأحمد في المسند ٥ / ١٦٠.

مِنْ قَبْلِكَ) [النحل : ٦٣] الآية ، وقال تعالى : (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) [الأنعام : ٣٤] أي كيف نصرناهم ، وجعلنا العاقبة لهم ولأتباعهم في الدنيا والآخرة.

وقوله : (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ) أي هذه الأمة التي بعثناك فيهم يكفرون بالرحمن لا يقرون به ، لأنهم كانوا يأنفون من وصف الله بالرحمن الرحيم ، ولهذا أنفوا يوم الحديبية أن يكتبوا بسم الله الرحمن الرحيم ، وقالوا : ما ندري ما الرحمن الرحيم ، قاله قتادة ، والحديث في صحيح البخاري. وقد قال الله تعالى : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى). وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أحب الأسماء إلى الله تعالى عبد الله وعبد الرحمن» (١).

(قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي هذا الذي تكفرون به ، أنا مؤمن به معترف ، مقر له بالربوبية والألوهية ، هو ربي لا إله إلا هو (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) أي في جميع أموري ، (وَإِلَيْهِ مَتابِ) أي إليه أرجع وأنيب ، فإنه لا يستحق ذلك أحد سواه.

(وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) (٣١)

يقول تعالى مادحا للقرآن الذي أنزله على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومفضلا له على سائر الكتب المنزلة قبله (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ) أي لو كان في الكتب الماضية كتاب تسير به الجبال عن أماكنها ، أو تقطع به الأرض وتنشق ، أو تكلم به الموتى في قبورهم ، لكان هذا القرآن هو المتصف بذلك دون غيره ، أو بطريق الأولى أن يكون كذلك لما فيه من الإعجاز الذي لا يستطيع الإنسان والجن عن آخرهم إذا اجتمعوا أن يأتوا بمثله ، ولا بسورة من مثله ، ومع هذا فهؤلاء المشركون كافرون به ، جاحدون له (بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً) أي مرجع الأمور كلها إلى الله عزوجل ، ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ، ومن يضلل الله فلا هادي له ، ومن يهد الله فما له من مضل ، وقد يطلق اسم القرآن على كل من الكتب المتقدمة ، لأنه مشتق من الجميع.

قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر عن همام بن منبه. قال : هذا ما حدثنا أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «خففت على داود القراءة فكان يأمر بدابته أن. تسرج ، فكان يقرأ القرآن من قبل أن تسرج دابته ، وكان لا يأكل إلا من عمل يديه» انفرد

__________________

(١) أخرجه مسلم في الأدب حديث ٢.

(٢) المسند ٢ / ٣١٤.

بإخراجه البخاري (١). والمراد بالقرآن هو الزبور.

وقوله (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا) أي من إيمان جميع الخلق ويعلموا ، أو يتبينوا (أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً) فإنه ليس ثم حجة ولا معجزة أبلغ ولا أنجع في العقول والنفوس. من هذا القرآن الذي لو أنزله الله على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله. وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من نبي إلا وقد أوتي ما آمن على مثله البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» (٢) ، معناه أن معجزة كل نبي انقرضت بموته ، وهذا القرآن حجة باقية على الآباد لا تنقضي عجائبه ولا يخلق عن كثرة الرد ولا يشبع منه العلماء هو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا منجاب بن الحارث ، أنبأنا بشر بن عمارة ، حدثنا عمر بن حسان عن عطية العوفي قال : قلت له : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ) الآية ، قالوا لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو سيرت لنا جبال مكة حتى تتسع ، فنحرث فيها ، أو قطعت لنا الأرض كما كان سليمان يقطع لقومه بالريح ، أو أحييت لنا الموتى كما كان عيسى يحيي الموتى لقومه ، فأنزل الله هذه الآية ، قال : قلت : هل تروون هذا الحديث عن أحد من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : نعم عن أبي سعيد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكذا روى ابن عباس والشعبي وقتادة والثوري وغير واحد في سبب نزول هذه الآية ، والله أعلم. وقال قتادة : لو فعل هذا بقرآن غير قرآنكم لفعل بقرآنكم (٣).

وقوله (بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً) قال ابن عباس : أي لا يصنع من ذلك إلا ما شاء ولم يكن ليفعل ، رواه ابن إسحاق بسنده عنه ، وقاله ابن جرير أيضا. وقال غير واحد من السلف في قوله (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا) : أفلم يعلم الذين آمنوا ، وقرأ آخرون : أفلم يتبين الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا. وقال أبو العالية : قد يئس الذين آمنوا أن يهدوا ، ولو يشاء الله لهدى الناس جميعا. وقوله : (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ) أي بسبب تكذيبهم لا تزال القوارع تصيبهم في الدنيا أو تصيب من حولهم ، ليتعظوا ويعتبروا ، كما قال تعالى : (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الأحقاف : ٢٧] وقال (أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ) [الأنبياء : ٤٤]. قال قتادة عن الحسن (أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ) أي القارعة(٤) وهذا هو الظاهر من السياق.

__________________

(١) كتاب الأنبياء باب ٣٧.

(٢) أخرجه البخاري في الاعتصام باب ١ ، وفضائل القرآن باب ١ ، ومسلم في الإيمان حديث ٢٣٩.

(٣) انظر تفسير الطبري ٧ / ٣٨٧.

(٤) انظر تفسير الطبري ٧ / ٣٩١.

وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا المسعودي عن قتادة عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ) قال : سرية ، (أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ) قال محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ) قال «فتح مكة» ، وهكذا قال عكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد في رواية ، وقال العوفي عن ابن عباس (تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ) قال : عذاب من السماء ينزل عليهم (أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ) يعني نزول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بهم وقتاله إياهم (١) ، وكذا قال مجاهد وقتادة. وقال عكرمة في رواية عن ابن عباس (قارِعَةٌ) أي نكبة. وكلهم قال (حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ) يعني فتح مكة. وقال الحسن البصري : يوم القيامة ، وقوله : (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) أي لا ينقض وعده لرسله بالنصرة لهم ولأتباعهم في الدنيا والآخرة (فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ) [إبراهيم : ٤٧].

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) (٣٢)

يقول تعالى مسليا لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تكذيب من كذبه من قومه : (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) أي فلك فيهم أسوة (فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي أنظرتهم وأجلتهم ، (ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ) أخذة رابية ، فكيف بلغك ما صنعت بهم وعاقبتهم وأمليت لهم ، كما قال تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) [الحج : ٤٨] وفي الصحيحين «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» ثم قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (٢) [هود : ١٠٢].

(أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) (٣٣)

يقول تعالى : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) أي حفيظ عليم رقيب على كل نفس منفوسة يعلم ما يعمل العاملون من خير وشر ، ولا يخفى عليه خافية (وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) [يونس : ٦١] ، وقال تعالى : (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها) [الأنعام : ٥٩] ، وقال: (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [هود : ٦] ، وقال : (سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ) [الرعد : ١٠] ، وقال : (يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) [طه : ٧] ، وقال : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [الحديد : ٤] أفمن هو كذلك كالأصنام التي يعبدونها ، لا تسمع ولا تبصر ، ولا تعقل ،

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٣٩٠.

(٢) أخرجه البخاري في تفسير سورة ١١ ، باب ٥ ، ومسلم في البر حديث ٦٢.

ولا تملك نفعا لأنفسها ولا لعابديها ، ولا كشف ضر عنها ولا عن عابديها؟

وحذف هذا الجواب اكتفاء بدلالة السياق عليه وهو قوله : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) أي عبدوها معه من أصنام وأنداد وأوثان (قُلْ سَمُّوهُمْ) أي أعلمونا بهم ، واكشفوا عنهم حتى يعرفوا ، فإنهم لا حقيقة لهم ، ولهذا قال : (أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ) أي لا وجود له ، لأنه لو كان له وجود في الأرض لعلمها ، لأنه لا تخفى عليه خافية (أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ) قال مجاهد : بظن من القول. وقال الضحاك وقتادة : بباطل من القول ، أي إنما عبدتم هذه الأصنام بظن منكم أنها تنفع وتضر وسميتموها آلهة (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ) [النجم : ٢٣] قال مجاهد : قولهم أي ما هم عليه من الضلال والدعوة إليه آناء الليل وأطراف النهار كقوله تعالى : (وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ) [فصلت : ٢٥] الآية ، (وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ) من قرأها بفتح الصاد معناه أنه لما زين لهم ما هم فيه ، وأنه حق دعوا إليه ، وصدوا الناس عن اتباع طريق الرسل ، ومن قرأها بالضم أي بما زين لهم من صحة ما هم عليه ، صدوا به عن سبيل الله ، ولهذا قال : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) كما قال (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) [المائدة : ٤١] وقال (إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) [النحل : ٣٧].

(لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ (٣٤) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ) (٣٥)

ذكر تعالى عقاب الكفار وثواب الأبرار ، فقال بعد إخباره عن حال المشركين وما هم عليه من الكفر والشرك (لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي بأيدي المؤمنين قتلا وأسرا ، (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ) أي المدخر مع هذا الخزي في الدنيا (أَشَقُ) أي من هذا بكثير ، كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للمتلاعنين : «إن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة» (١) وهو كما قال صلوات الله وسلامه عليه ، فإن عذاب الدنيا له انقضاء ، وذاك دائم أبدا في نار هي بالنسبة إلى هذه سبعون ضعفا ، ووثاق لا يتصور كثافته وشدته ، كما قال تعالى : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ) [الفجر : ٢٥ ـ ٢٦].

وقال تعالى : (وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً) [الفرقان : ١١ ـ]

__________________

(١) أخرجه مسلم في اللعان حديث ٤ ، وأبو داود في الطلاق باب ٢٧.

[١٥] ، ولهذا قرن هذا بقوله : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) أي صفتها ونعتها (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي سارحة في أرجائها وجوانبها ، وحيث شاء أهلها يفجرونها تفجيرا ، أي يصرفونها كيف شاؤوا وأين شاؤوا ، كقوله : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ) [محمد : ١٥] الآية.

وقوله : (أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها) أي فيها الفواكه والمطاعم والمشارب لا انقطاع ولا فناء ، وفي الصحيحين من حديث ابن عباس في صلاة الكسوف ، وفيه قالوا : يا رسول الله رأيناك تناولت شيئا في مقامك هذا ، ثم رأيناك تكعكعت (١) ، فقال : «إني رأيت الجنة ـ أو أريت الجنة ـ فتناولت منها عنقودا ، ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا» (٢).

وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا أبو خيثمة ، حدثنا عبد الله بن جعفر ، حدثنا عبيد الله ، حدثنا أبو عقيل عن جابر قال : بينما نحن في صلاة الظهر إذ تقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتقدمنا ، ثم تناول شيئا ليأخذه ثم تأخر ، فلما قضى الصلاة ، قال له أبي بن كعب : يا رسول الله ، صنعت اليوم في الصلاة شيئا ما رأيناك كنت تصنعه ، فقال : «إني عرضت علي الجنة وما فيها من الزهرة والنضرة ، فتناولت منها قطفا من عنب لآتيكم به ، فحيل بيني وبينه ، ولو أتيتكم به لأكل منه من بين السماء والأرض لا ينقصونه» (٣). وروى مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر شاهدا لبعضه.

وعن عتبة بن عبد السلمي أن أعرابيا سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الجنة ، فقال : فيها عنب؟ قال: «نعم». قال : فما عظم العنقود؟ قال : «مسيرة شهر للغراب الأبقع ولا يفتر» ، رواه الإمام أحمد (٤).

وقال الطبراني : حدثنا معاذ بن المثنى ، حدثنا علي بن المديني ، حدثنا ريحان بن سعيد عن عباد بن منصور ، عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي أسماء ، عن ثوبان قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الرجل إذا نزع ثمرة من الجنة عادت مكانها أخرى». وعن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يأكل أهل الجنة ويشربون ، ولا يتمخطون ولا يتغوطون ، ولا يبولون ، طعامهم جشاء كريح المسك ، ويلهمون التسبيح والتقديس كما يلهمون النفس» رواه مسلم (٥).

وروى الإمام أحمد والنسائي من حديث الأعمش عن تمام بن عقبة ، سمعت زيد بن أرقم قال : جاء رجل من أهل الكتاب فقال : يا أبا القاسم : تزعم أن أهل الجنة يأكلون ويشربون؟

__________________

(١) تكعكع : أي توقف وأحجم.

(٢) أخرجه البخاري في الأذان باب ٩١ ، ومسلم في الكسوف حديث ١٧ ، وأحمد في المسند ١ / ٢٩٨ ، ٣٥٨.

(٣) أخرجه مسلم في الكسوف حديث ١٨.

(٤) المسند ٤ / ١٨٤.

(٥) كتاب الجنة حديث ١٥ ـ ١٩.

قال : «نعم ، والذي نفس محمد بيده ، إن الرجل منهم ليعطى قوة مائة رجل في الأكل والشرب والجماع والشهوة». قال : إن الذي يأكل ويشرب تكون له الحاجة ، وليس في الجنة أذى؟ قال: «تكون حاجة أحدهم رشحا يفيض من جلودهم كريح المسك فيضمر بطنه» (١) رواه الإمام أحمد والنسائي.

وقال الحسن بن عرفة : حدثنا خلف بن خليفة عن حميد الأعرج ، عن عبد الله بن الحارث ، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنك لتنظر إلى الطير في الجنة ، فيخر بين يديك مشويا» وجاء في بعض الأحاديث أنه إذا فرغ منه عاد طائرا كما كان بإذن الله تعالى ، وقد قال الله تعالى : (وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ) [الواقعة : ٣٢ ـ ٣٣] ، وقال (وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً) [الإنسان : ١٤] وكذلك ظلها لا يزول ولا يقلص ، كما قال تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلاً) [النساء : ٥٧].

وقد تقدم في الصحيحين من غير وجه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن في الجنة شجرة يسير الراكب المجد الجواد المضمر السريع في ظلها مائة عام لا يقطعها» (٢) ثم قرأ (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) وكثيرا ما يقرن الله تعالى بين صفة الجنة وصفة النار ليرغب في الجنة ويحذر من النار ، ولهذا لما ذكر صفة الجنة بما ذكر قال بعده : (تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ). كما قال تعالى : (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) [الحشر : ٢٠].

وقال بلال بن سعد خطيب دمشق في بعض خطبه : عباد الله ، هل جاءكم مخبر يخبركم أن شيئا من عبادتكم تقبلت منكم ، أو أن شيئا من خطاياكم غفرت لكم؟ (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) ، والله لو عجل لكم الثواب في الدنيا لاستقللتم كلكم ما افترض عليكم ، أو ترغبون في طاعة الله لتعجيل دنياكم ولا تنافسون في جنة (أُكُلُها دائِمٌ) رواه ابن أبي حاتم.

(وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (٣٦) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ) (٣٧)

يقول تعالى : (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) وهم قائمون بمقتضاه (يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) أي من القرآن لما في كتبهم من الشواهد على صدقه والبشارة به ، كما قال تعالى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) [البقرة : ١٢١] الآية ، وقال تعالى : (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا ـ إلى قوله ـ إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً) [الإسراء : ١٠٧ ـ ١٠٨] أي إن كان

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند ٤ / ٣٦٧ ، ٣٧١.

(٢) تقدم الحديث مع تخريجه في تفسير الآية ٢٩ من هذه السورة.

ما وعدنا الله به في كتبنا من إرسال محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لحقا وصدقا مفعولا لا محالة وكائنا ، فسبحانه ما أصدق وعده ، فله الحمد وحده (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) [الإسراء : ١٠٩] ، وقوله (وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ) أي ومن الطوائف من يكذب ببعض ما أنزل إليك. وقال مجاهد (وَمِنَ الْأَحْزابِ) أي اليهود والنصارى (مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ) أي بعض ما جاءك من الحق ، وكذا قال قتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وهذا كما قال تعالى : (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ) [آل عمران : ١٩٩] الآية ، (قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ) أي إنما بعثت بعبادة الله وحده لا شريك له ، كما أرسل الأنبياء من قبلي (إِلَيْهِ أَدْعُوا) أي إلى سبيله أدعو الناس (وَإِلَيْهِ مَآبِ) أي مرجعي ومصيري.

وقوله : (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا) أي وكما أرسلنا قبلك المرسلين ، وأنزلنا عليهم الكتب من السماء ، كذلك أنزلنا عليك القرآن محكما معربا ، شرفناك به ، وفضلناك على من سواك بهذا الكتاب المبين الواضح الجلي الذي (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت : ١١]. وقوله : (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ) أي آراءهم (بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) أي من الله سبحانه (ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ) وهذا وعيد لأهل العلم أن يتبعوا سبل أهل الضلالة بعد ما صاروا إليه من سلوك السنة النبوية والمحجة المحمدية ، على من جاء بها أفضل الصلاة والسلام.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (٣٨) يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) (٣٩)

يقول تعالى : وكما أرسلناك يا محمد رسولا بشريا ، كذلك قد بعثنا المرسلين قبلك بشرا ، يأكلون الطعام ، ويمشون في الأسواق ، ويأتون الزوجات ، ويولد لهم ، وجعلنا لهم أزواجا وذرية ، وقد قال تعالى لأشرف الرسل وخاتمهم (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ) [الكهف : ١١٠].

وفي الصحيحين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أما أنا فأصوم وأفطر ، وأقوم وأنام ، وآكل اللحم ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني» (١). وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا يزيد ، أنبأنا الحجاج بن أرطاة عن مكحول قال : قال أبو أيوب : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أربع من سنن المرسلين : التعطر والنكاح ، والسواك ، والحناء» (٣). وقد رواه أبو عيسى الترمذي عن سفيان بن وكيع عن حفص بن غياث ، عن الحجاج ، عن مكحول ، عن أبي الشمال ، عن أبي

__________________

(١) أخرجه البخاري في النكاح باب ١ ، ومسلم في النكاح حديث ٥.

(٢) المسند ٥ / ٤٢١.

(٣) أخرجه الترمذي في النكاح باب ١.

أيوب فذكره ، ثم قال : وهذا أصح من الحديث الذي لم يذكر فيه أبو الشمال.

وقوله : (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي لم يكن يأتي قومه بخارق إلا إذا أذن له فيه ، ليس ذلك إليه بل إلى الله عزوجل يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) أي لكل مدة مضروبة ، كتاب مكتوب بها ، وكل شيء عنده بمقدار (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) [الحج : ٧٠] وكان الضحاك بن مزاحم يقول في قوله : (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) أي لكل كتاب أجل ، يعني لكل كتاب أنزله من السماء مدة مضروبة عند الله ، ومقدار معين ، فلهذا (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ) منها ، (وَيُثْبِتُ) يعني حتى نسخت كلها بالقرآن الذي أنزله الله على رسوله صلوات الله وسلامه عليه (١).

وقوله (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) اختلف المفسرون في ذلك فقال الثوري ووكيع وهشيم عن ابن أبي ليلى ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : يدبر أمر السنة ، فيمحو الله ما يشاء إلا الشقاء والسعادة والحياة والموت ، وفي رواية (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) قال : كل شيء إلا الموت والحياة والشقاء والسعادة ، فإنهما قد فرغ منهما.

وقال مجاهد (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) إلا الحياة والموت والشقاء والسعادة فإنهما لا يتغيران (٢). وقال منصور : سألت مجاهدا ، فقلت : أرأيت دعاء أحدنا يقول : اللهم إن كان اسمي في السعداء فأثبته فيهم ، وإن كان في الأشقياء فامحه عنهم ، واجعله في السعداء؟ فقال : حسن : ثم لقيته بعد ذلك بحول أو أكثر ، فسألته عن ذلك فقال : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) الآيتين ، قال : يقضي في ليلة القدر ما يكون في السنة من رزق أو مصيبة ، ثم يقدم ما يشاء ويؤخر ما يشاء ، فأما كتاب السعادة والشقاوة فهو ثابت لا يغير (٣).

وقال الأعمش ، عن أبي وائل شقيق بن سلمة : إنه كان كثيرا ما يدعو بهذا الدعاء : اللهم إن كنت كتبتنا أشقياء ، فامحه واكتبنا سعداء ، وإن كنت كتبتنا سعداء فأثبتنا ، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت ، وعندك أم الكتاب ، رواه ابن جرير (٤) ، وقال ابن جرير أيضا : حدثنا عمرو بن علي حدثنا معاذ بن هشام ، حدثنا أبي عن أبي حكيمة عصمة ، عن أبي عثمان النهدي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال وهو يطوف بالبيت ويبكي : اللهم إن كنت كتبت علي شقوة أو ذنبا فامحه ، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت ، وعندك أم الكتاب ، فاجعله سعادة ومغفرة.

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٣٩٩.

(٢) انظر تفسير الطبري ٧ / ٣٩٩.

(٣) انظر تفسير الطبري ٧ / ٤٠٠.

(٤) تفسير الطبري ٧ / ٤٠٠.

وقال حماد عن خالد الحذاء ، عن أبي قلابة ، عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يدعو بهذا الدعاء أيضا. ورواه شريك عن هلال بن حميد ، عن عبد الله بن عكيم ، عن ابن مسعود بمثله. وقال ابن جرير (١) : حدثني المثنى ، حدثنا حجاج ، حدثنا خصاف عن أبي حمزة ، عن إبراهيم ، أن كعبا قال لعمر بن الخطاب : يا أمير المؤمنين ، لولا آية في كتاب الله لأنبأتك بما هو كائن إلى يوم القيامة. قال : وما هي؟ قال : قول الله تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ) الآية ، ومعنى هذه الأقوال أن الأقدار ينسخ الله ما يشاء منها ، ويثبت منها ما يشاء.

وقد يستأنس لهذا القول بما ورواه الإمام احمد (٢) : حدثنا وكيع ، وحدثنا سفيان هو الثوري ، عن عبد الله بن عيسى ، عن عبد الله بن أبي الجعد ، عن ثوبان قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه ، ولا يرد القدر إلا الدعاء ، ولا يزيد في العمر إلا البر» (٣) ، ورواه النسائي وابن ماجة من حديث سفيان الثوري به.

وثبت في الصحيح أن صلة الرحم تزيد في العمر. وفي حديث آخر «إن الدعاء والقضاء ليعتلجان بين السماء والأرض». وقال ابن جرير (٤) : حدثني محمد بن سهل بن عسكر ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا ابن جرير عن عطاء ، عن ابن عباس قال : إن لله لوحا محفوظا مسيرة خمسمائة عام من درة بيضاء لها دفتان من ياقوت ـ والدفتان : لوحان ـ لله عزوجل ، كل يوم ثلاثمائة وستون لحظة ، يمحو ما يشاء ويثبت ، وعنده أم الكتاب. وقال الليث بن سعد عن زيادة بن محمد ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن فضالة بن عبيد ، عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يفتح الذكر في ثلاث ساعات يبقين من الليل ، في الساعة الأولى منها ينظر في الذكر الذي لا ينظر فيه أحد غيره فيمحو ما يشاء ويثبت» وذكر تمام الحديث ، رواه ابن جرير (٥).

وقال الكلبي : يمحو الله ما يشاء ويثبت ، قال : يمحو من الرزق ويزيد فيه ، ويمحو من الأجل ويزيد فيه ، فقيل له : من حدثك بهذا؟ فقال : أبو صالح عن جابر بن عبد الله بن رئاب ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم سئل بعد ذلك عن هذه الآية ، فقال : يكتب القول كله حتى إذ كان يوم الخميس طرح منه كل شيء ليس فيه ثواب ولا عقاب ، مثل قولك : أكلت وشربت ، ودخلت وخرجت ، ونحو ذلك من الكلام ، وهو صادق ، ويثبت ما كان فيه الثواب وعليه العقاب ، وقال عكرمة عن ابن عباس : الكتاب كتابان ، فكتاب يمحو الله منه ما يشاء ويثبت ، وعنده أم

__________________

(١) تفسير الطبري ٧ / ٤٠١.

(٢) المسند ٥ / ٢٧٧.

(٣) أخرجه ابن ماجة في المقدمة باب ١٠ ، والفتن باب ٢٢.

(٤) تفسير الطبري ٧ / ٤٠٤.

(٥) تفسير الطبري ٧ / ٤٠٤.

الكتاب (١).

وقال العوفي عن ابن عباس في قوله : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) يقول : هو الرجل يعمل الزمان بطاعة الله ثم يعود لمعصية الله ، فيموت على ضلالة ، فهو الذي يمحو ، والذي يثبت الرجل يعمل بمعصية الله ، وقد كان سبق له خير حتى يموت وهو في طاعة الله وهو الذي يثبت ، وروي عن سعيد بن جبير أنها بمعنى (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة : ٢٨٤]. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) يقول : يبدل ما يشاء فينسخه ، ويثبت ما يشاء فلا يبدله ، (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) وجملة ذلك عنده في أم الكتاب الناسخ والمنسوخ ، وما يبدل وما يثبت كل ذلك في كتاب.

وقال قتادة في قوله : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) كقوله : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها) الآية. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) قال : قالت كفار قريش لما نزلت (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) ما نرى محمدا يملك شيئا وقد فرغ من الأمر ، فأنزلت هذه الآية تخويفا ووعيدا لهم ، إنا إن شئنا أحدثنا له من أمرنا ما شئنا ، ونحدث في كل رمضان ، فيمحو ما يشاء ، ويثبت ما يشاء من أرزاق الناس ومصائبهم وما يعطيهم وما يقسم لهم.

وقال الحسن البصري (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) قال : من جاء أجله يذهب ، ويثبت الذي هو حي يجري إلى أجله ، وقد اختار هذا القول أبو جعفر بن جرير رحمه‌الله ، وقوله : (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) قال : الحلال والحرام ، وقال قتادة : أي جملة الكتاب وأصله ، وقال الضحاك (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) قال : كتاب عند رب العالمين ، وقال سنيد بن داود : حدثني معتمر عن أبيه ، عن يسار ، عن ابن عباس أنه سأل كعبا عن أم الكتاب ، فقال : علم الله ما هو خالق وما خلقه عاملون ، ثم قال لعلمه : كن كتابا فكان كتابا ، وقال ابن جريج عن ابن عباس (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) قال : الذكر.

(وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ(٤٠) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ) (٤١)

يقول تعالى لرسوله (وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ) يا محمد ، بعض الذي نعد أعداءك من الخزي والنكال في الدنيا (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) أي قبل ذلك ، (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) أي إنما أرسلناك لتبلغهم رسالة الله ، وقد فعلت ما أمرت به (وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) أي حسابهم وجزاؤهم ، كقوله تعالى : (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) [الغاشية : ٢١ ـ ٢٦] ، وقوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٤٠٤.

مِنْ أَطْرافِها) قال ابن عباس : أو لم يروا أنا نفتح لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأرض بعد الأرض (١) ، وقال في رواية : أو لم يروا إلى القرية تخرب حتى يكون العمران في ناحية (٢).

وقال مجاهد وعكرمة : ننقصها من أطرافها ، قال : خرابها. وقال الحسن والضحاك : هو ظهور المسلمين على المشركين. وقال العوفي عن ابن عباس : نقصان أهلها وبركتها. وقال مجاهد : نقصان الأنفس والثمرات وخراب الأرض. وقال الشعبي : لو كانت الأرض تنقص لضاق عليك حشك (٣) ، ولكن تنقص الأنفس والثمرات (٤) ، وكذا قال عكرمة : لو كانت الأرض تنقص لم تجد مكانا تقعد فيه ، ولكن هو الموت. وقال ابن عباس في رواية : خرابها بموت علمائها وفقهائها وأهل الخير منها ، وكذا قال مجاهد أيضا : هو موت العلماء ، وفي هذا المعنى روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة أحمد بن عبد العزيز أبي القاسم المصري الواعظ سكن أصبهان ، حدثنا أبو محمد طلحة بن أسد المرئي بدمشق ، أنشدنا أبو بكر الآجري بمكة قال : أنشدنا أحمد بن غزال لنفسه : [الطويل]

الأرض تحيا إذا ما عاش عالمها

متى يمت عالم منها يمت طرف

كالأرض تحيا إذا ما الغيث حلّ بها

وإن أبى عاد في أكنافها التلف

والقول الأول أولى ، وهو ظهور الإسلام على الشرك قرية بعد قرية ، كقوله : (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى) الآية ، وهذا اختيار ابن جرير.

(وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ) (٤٢)

يقول تعالى : (وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) برسلهم ، وأرادوا إخراجهم من بلادهم ، فمكر الله بهم وجعل العاقبة للمتقين ، كقوله : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) [الأنفال : ٣٠] ، وقوله تعالى : (وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا) [النمل : ٥٠ ـ ٥٢] الآيتين. وقوله : (يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ) أي أنه تعالى عالم بجميع السرائر والضمائر وسيجزي كل عامل بعمله وسيعلم الكافر ، والقراءة الأخرى (الْكُفَّارُ ، لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ) أي لمن تكون الدائرة والعاقبة لهم أو لأتباع الرسل ، كلا ، بل هي لأتباع الرسل في الدنيا والآخرة ، ولله الحمد والمنة.

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٤٠٦.

(٢) انظر تفسير الطبري ٧ / ٤٠٦ ، ٤٠٧.

(٣) الحش : البستان ، وحيث يقضي الإنسان حاجته.

(٤) انظر تفسير الطبري ٧ / ٤٠٧.

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) (٤٣)

يقول تعالى : يكذبك هؤلاء الكفار ويقولون : (لَسْتَ مُرْسَلاً) أي ما أرسلك الله (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) أي حسبي الله هو الشاهد علي وعليكم. شاهد علي فيما بلغت عنه من الرسالة ، وشاهد عليكم أيها المكذبون فيما تفترونه من البهتان ، وقوله : (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) قيل : نزلت في عبد الله بن سلام ، قال مجاهد (١) ، وهذا القول غريب ، لأن هذه الآية مكية ، وعبد الله بن سلام إنما أسلم في أول مقدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة ، والأظهر في هذا ما قاله العوفي عن ابن عباس قال : هم من اليهود والنصارى (٢) ، وقال قتادة : منهم ابن سلام وسلمان وتميم الداري (٣) ، وقال مجاهد في رواية عنه : هو الله تعالى ، وكان سعيد بن جبير ينكر أن يكون المراد بها عبد الله بن سلام ويقول : هي مكية ، وكان يقرؤها (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) ويقول : من عند الله (٤) ، وكذا قرأها مجاهد والحسن البصري.

وقد روى ابن جرير (٥) من حديث هارون الأعور عن الزهري عن سالم ، عن ابن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأها (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) ، ثم قال : لا أصل له من حديث الزهري عند الثقات ، قلت ، وقد رواه الحافظ أبو يعلى في مسنده من طريق هارون بن موسى هذا ، عن سليمان بن أرقم ، وهو ضعيف ، عن الزهري عن سالم عن أبيه مرفوعا كذلك ولا يثبت ، والله أعلم.

والصحيح في هذا أن (وَمَنْ عِنْدَهُ) اسم جنس يشمل علماء أهل الكتاب الذين يجدون صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونعته في كتبهم المتقدمة من بشارات الأنبياء به ، كما قال تعالى : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) [الأعراف : ١٥٦ ـ ١٥٧] الآية : وقال تعالى : (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ) [الشعراء : ١٩٧] الآية ، وأمثال ذلك مما فيه الإخبار عن علماء بني إسرائيل أنهم يعلمون ذلك من كتبهم المنزلة. وقد ورد في حديث الأحبار عن عبد الله بن سلام بأنه أسلم بمكة قبل الهجرة.

قال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في كتاب دلائل النبوة وهو كتاب جليل : حدثنا سليمان بن

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٤١٠.

(٢) انظر تفسير الطبري ٧ / ٤١٠.

(٣) تفسير الطبري ٧ / ٤١٠.

(٤) تفسير الطبري ٧ / ٤١١.

(٥) تفسير الطبري ٧ / ٤١٢.

أحمد الطبراني ، حدثنا عبدان بن أحمد ، حدثنا محمد بن مصفى ، حدثنا الوليد بن مسلم عن محمد بن حمزة يوسف بن عبد الله بن سلام ، عن أبيه عن جده عبد الله بن سلام أنه قال لأحبار اليهود : إني أردت أن أحدث بمسجد أبينا إبراهيم وإسماعيل عيدا ، فانطلق إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو بمكة ، فوافاهم وقد انصرفوا من الحج ، فوجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمنى والناس حوله ، فقام مع الناس ، فلما نظر إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أنت عبد الله بن سلام؟» قال قلت : نعم ، قال «ادن».

قال : فدنوت منه. قال : «أنشدك بالله يا عبد الله بن سلام ، أما تجدني في التوراة رسول الله؟» فقلت له : انعت ربنا ، قال : فجاء جبريل حتى وقف بين يدي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ) [الإخلاص : ١ ـ ٢] إلى آخرها ، فقرأها علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال ابن سلام : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، ثم انصرف ابن سلام إلى المدينة ، فكتم إسلامه ، فلما هاجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة وأنا فوق نخلة لي أجذها ، فألقيت نفسي ، فقالت أمي : لله أنت ، لو كان موسى بن عمران ما كان لك أن تلقي نفسك من رأس النخلة ، فقلت : والله لأنا أسر بقدوم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من موسى بن عمران إذ بعث ، وهذا حديث غريب جدا. آخر تفسير سورة الرعد ، ولله الحمد والمنة.

سورة إبراهيم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١) اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٢) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) (٣)

قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ) أي هذا كتاب أنزلنا إليك يا محمد ، وهو القرآن العظيم الذي هو أشرف كتاب أنزله الله من السماء ، على أشرف رسول بعثه الله في الأرض إلى جميع أهلها عربهم وعجمهم (لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) أي إنما بعثناك يا محمد بهذا الكتاب لتخرج الناس مما هم فيه من الضلال والغي إلى الهدى والرشد ، كما قال تعالى : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ) [البقرة : ٢٥٧] الآية. وقال تعالى : (هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) [الحديد : ٩٠] الآية.

وقوله : (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) أي هو الهادي لمن قدر له الهداية على يدي رسوله المبعوث عن أمره يهديهم (إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ) ، أي العزيز الذين لا يمانع ولا يغالب ، بل هو القاهر لكل ما سواه ، (الْحَمِيدِ) أي المحمود في جميع أفعاله وأقواله وشرعه وأمره ونهيه الصادق في خبره. وقوله : (اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) قرأ بعضهم مستأنفا مرفوعا وقرأ آخرون على الإتباع صفة للجلالة ، كقوله تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الأعراف : ١٥٨] الآية.

وقوله : (وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ) أي ويل لهم يوم القيامة إذ خالفوك يا محمد وكذبوك ، ثم وصفهم بأنهم يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ، أي يقدمونها ويؤثرونها عليها ويعملون للدنيا ، ونسوا الآخرة وتركوها وراء ظهورهم (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) وهي اتباع الرسل (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) أي ويحبون أن تكون سبيل الله عوجا مائلة عائلة ، وهي مستقيمة في نفسها لا يضرها من خالفها ، ولا من خذلها فهم في ابتغائهم ذلك في جهل وضلال بعيد من الحق ، لا يرجى لهم والحالة هذه صلاح.

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٤)

هذا من لطفه تعالى بخلقه أنه يرسل إليهم رسلا منهم بلغاتهم ، ليفهموا عنهم ما يريدون ، وما أرسلوا به إليهم ، كما روى الإمام أحمد (١) : حدثنا وكيع عن عمر بن ذر قال : قال مجاهد عن أبي ذر : قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لم يبعث الله عزوجل نبيا إلا بلغة قومه». وقوله : (فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) أي بعد البيان وإقامة الحجة عليهم ، يضل الله من يشاء عن وجه الهدى ، ويهدي من يشاء إلى الحق (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الذي ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن ، (الْحَكِيمُ) في أفعاله ، فيضل من يستحق الإضلال ويهدي من هو أهل لذلك.

وقد كانت هذه سنته في خلقه أنه ما بعث نبيا في أمة إلا أن يكون بلغتهم ، فاختص كل نبي بإبلاغ رسالته إلى أمته دون غيرهم ، واختص محمد بن عبد الله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعموم الرسالة إلى سائر الناس ، كما ثبت في الصحيحين عن جابر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي ، وأعطيت الشفاعة ، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة» (٢) وله شواهد من وجوه كثيرة. وقال تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) [الأعراف : ١٥٨].

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) (٥)

يقول تعالى : وكما أرسلناك يا محمد وأنزلنا عليك الكتاب لتخرج الناس كلهم ، تدعوهم إلى الخروج من الظلمات إلى النور كذلك أرسلنا موسى إلى بني إسرائيل بآياتنا ، قال مجاهد : هي التسع الآيات (٣) (أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ) أي أمرناه قائلين له (أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) أي ادعهم إلى الخير ليخرجوا من ظلمات ما كانوا فيه من الجهل والضلال إلى نور الهدى وبصيرة الإيمان.

(وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) أي بأياديه ونعمه عليهم في إخراجه إياهم من أسر فرعون وقهره وظلمه وغشمه ، وإنجائه إياهم من عدوهم ، وفلقه لهم البحر ، وتظليله إياهم بالغمام ، وإنزاله عليهم المن والسلوى إلى غير ذلك من النعم ، قال ذلك مجاهد (٤) وقتادة وغير واحد.

__________________

(١) المسند ٥ / ١٥٨.

(٢) أخرجه البخاري في التيمم باب ١ ، ومسلم في المساجد حديث ٣ ، ٥ ، والترمذي في السير باب ٥.

(٣) انظر تفسير الطبري ٧ / ٤١٦.

(٤) انظر تفسير الطبري ٧ / ٤١٨.

وقد ورد فيه الحديث المرفوع الذي رواه عبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل في مسند أبيه حيث قال حدثني يحيى بن عبد الله مولى بني هاشم ، حدثنا محمد بن أبان الجعفي عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، عن أبي بن كعب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله تعالى : (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) قال : بنعم الله (١) ، ورواه ابن جرير (٢) وابن أبي حاتم من حديث محمد بن أبان به ، ورواه عبد الله ابنه أيضا موقوفا وهو أشبه.

وقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) أي إن فيما صنعنا بأوليائنا بني إسرائيل حين أنقذناهم من يد فرعون وأنجيناهم مما كانوا فيه من العذاب المهين لعبرة لكل صبار ، أي في الضراء شكور أي في السراء ، كما قال قتادة : نعم العبد عبد إذا ابتلي صبر ، وإذا أعطي شكر (٣). وكذا جاء في الصحيح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن أمر المؤمن كله عجب ، لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرا له ، إن أصابته ضراء صبر ، فكان خيرا له ، وإن أصابته سراء شكر ، فكان خيرا له» (٤).

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٦) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (٧) وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) (٨)

يقول تعالى مخبرا عن موسى حين ذكر قومه بأيام الله عندهم ونعمه عليهم ، إذ أنجاهم من آل فرعون ، وما كانوا يسومونهم به من العذاب والإذلال ، حيث كانوا يذبحون من وجد من أبنائهم ، ويتركون إناثهم ، فأنقذهم الله من ذلك ، وهذه نعمة عظيمة ، ولهذا قال : (وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) أي نعمة عظيمة منه عليكم في ذلك ، أنتم عاجزون عن القيام بشكرها وقيل : وفيما كان يصنعه بكم قوم فرعون من تلك الأفاعيل (بَلاءٌ) أي اختبار عظيم ، ويحتمل أن يكون المراد هذا وهذا ، والله أعلم ، كقوله تعالى : (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الأعراف : ١٦٨]. وقوله : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ) أي آذنكم وأعلمكم بوعده لكم ، ويحتمل أن يكون المعنى : وإذ أقسم ربكم وآلى بعزته وجلاله وكبريائه ، كقوله تعالى : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) [الأعراف : ١٦٢].

وقوله : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) أي لئن شكرتم نعمتي عليكم لأزيدنكم منها ، (وَلَئِنْ

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند ٥ / ١٢٢.

(٢) تفسير الطبري ٧ / ٤١٨.

(٣) انظر تفسير الطبري ٧ / ٤١٨.

(٤) أخرجه مسلم في الزهد حديث ٦٤ ، وأحمد في المسند ٤ / ٣٣٢ ، ٣٣٣.

كَفَرْتُمْ) أي كفرتم النعم وسترتموها وجحدتموها (إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) ، وذلك بسلبها عنهم وعقابه إياهم على كفرها ، وقد جاء في الحديث «إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه» (١).

وفي المسند أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مر به سائل فأعطاه تمرة ، فسخطها ولم يقبلها ، ثم مر به آخر فأعطاه إياها ، فقبلها وقال : تمرة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأمر له بأربعين درهما ، أو كما قال : قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا أسود ، حدثنا عمارة الصيدلاني عن ثابت عن أنس ، قال : أتى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم سائل فأمر له بتمرة فلم يأخذها أو وحش بها ـ قال ـ : وأتاه آخر فأمر له بتمرة ، فقال: سبحان الله تمرة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال للجارية : «اذهبي إلى أم سلمة فأعطيه الأربعين درهما التي عندها» تفرد به الإمام أحمد ، وعمارة بن زاذان وثقه ابن حبان وأحمد ويعقوب بن سفيان. وقال ابن معين : صالح. وقال أبو زرعة : لا بأس به. وقال أبو حاتم : يكتب حديثه ولا يحتج به ، ليس بالمتين. وقال البخاري : ربما يضطرب في حديثه ، وعن أحمد أيضا أنه قال : روى أحاديث منكرة. وقال أبو داود : ليس بذاك وضعفه الدار قطني. وقال ابن عدي : لا بأس به ممن يكتب حديثه.

وقوله تعالى : (وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) أي هو غني عن شكر عباده ، وهو الحميد المحمود وإن كفره من كفره ، كقوله : (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ) [الزمر : ٧] الآية. وقوله : (فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) [التغابن : ٦]. وفي صحيح مسلم عن أبي ذر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يرويه عن ربه عزوجل أنه قال : «يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ، ما زاد ذلك في ملكي شيئا ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ، ما نقص ذلك في ملكي شيئا ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد ، فسألوني ، فأعطيت كل إنسان مسألته ، ما نقص ذلك من ملكي شيئا إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر» (٣) فسبحانه وتعالى الغني الحميد.

(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) (٩)

قال ابن جرير (٤) : هذا من تمام قول موسى لقومه يعني وتذكيره إياهم بأيام الله بانتقامه من

__________________

(١) أخرجه ابن ماجة في الفتن باب ٢٢ ، وأحمد في المسند ٥ / ٢٧٧ ، ٢٨٠ ، ٢٨٢.

(٢) المسند ٣ / ١٥٤ ، ١٥٥.

(٣) أخرجه مسلم في البر حديث ٥٥ ، وأحمد في المسند ٥ / ١٦٠.

(٤) تفسير الطبري ٧ / ٤٢١.

الأمم المكذبة بالرسل ، وفيما قال ابن جرير نظر ، والظاهر أنه خبر مستأنف من الله تعالى لهذه الأمة ، فإنه قد قيل : إن قصة عاد وثمود ليست في التوراة ، فلو كان هذا من كلام موسى لقومه وقصصه عليهم ، لا شك أن تكون هاتان القصتان في التوراة ، والله أعلم ، وبالجملة فالله تعالى قد قص علينا خبر قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم من الأمم المكذبة للرسل مما لا يحصي عددهم إلا الله عزوجل (جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي بالحجج والدلائل الواضحات الباهرات القاطعات ، وقال ابن إسحاق عن عمرو بن ميمون ، عن عبد الله أنه قال في قوله : (لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ) كذب النسابون (١). وقال عروة بن الزبير : ما وجدنا أحدا يعرف ما بعد معد بن عدنان.

وقوله : (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ) اختلف المفسرون في معناه ، قيل : معناه أنهم أشاروا إلى أفواه الرسل بأمرهم بالسكوت عنهم لما دعوهم إلى الله عزوجل. وقيل : بل وضعوا أيديهم على أفواههم تكذيبا لهم. وقيل : بل هو عبارة عن سكوتهم عن جواب الرسل. وقال مجاهد ومحمد بن كعب وقتادة : ومعناه أنهم كذبوهم وردوا عليهم قولهم بأفواههم. قال ابن جرير (٢) : وتوجيهه أن في هنا بمعنى الباء ، قال : وقد سمع من العرب أدخلك الله بالجنة يعنون في الجنة ، وقال الشاعر : [الطويل]

وأرغب فيها عن لقيط ورهطه

ولكنني عن سنبس لست أرغب (٣)

يريد أرغب بها. قلت : ويؤيد مجاهد تفسير ذلك بتمام الكلام (وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) فكأن هذا ـ والله أعلم ـ تفسير لمعنى (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ). وقال سفيان الثوري وإسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله في قوله : (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ) قال : عضوا عليها غيظا (٤). وقال شعبة عن أبي إسحاق عن أبي هبيرة بن يريم ، عن عبد الله أنه قال ذلك أيضا (٥). وقد اختاره عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، ووجهه ابن جرير (٦) مختارا له بقوله تعالى عن المنافقين (وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) [آل عمران : ١١٩]. وقال العوفي عن ابن عباس : لما سمعوا كلام الله عجبوا

__________________

(١) تفسير الطبري ٧ / ٤٢١.

(٢) تفسير الطبري ٧ / ٤٢٣.

(٣) البيت بلا نسبة في لسان العرب (ذرأ) (فيا) ، وتهذيب اللغة ١٥ / ٣ ، ٥٨٣ ، وتاج العروس (فيا) ، وتفسير الطبري ٧ / ٤٢٣. وفي اللسان وتاج العروس وتهذيب اللغة. «عن عبيد ورهطه» بدل «عن لقيط ورهطه».

(٤) انظر تفسير الطبري ٧ / ٤٢٢.

(٥) انظر تفسير الطبري ٧ / ٤٢٢.

(٦) تفسير الطبري ٧ / ٤٢٢.

ورجعوا بأيديهم إلى أفواههم ، وقالوا : إنا كفرنا بما أرسلتم به الآية ، يقولون : لا نصدقكم فيما جئتم به ، فإن عندنا فيه شكا قويا.

(قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٠) قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) (١٢)

يخبر تعالى عما دار بين الكفار وبين رسلهم من المجادلة ، وذلك أن أممهم لما واجهوهم بالشك فيما جاءوهم به من عبادة الله وحده لا شريك له ، قالت الرسل : (أَفِي اللهِ شَكٌ) وهذا يحتمل شيئين.

[أحدهما] أفي وجوده شك ، فإن الفطر شاهدة بوجوده ومجبولة على الإقرار به ، فإن الاعتراف به ضروري في الفطر السليمة ، ولكن قد يعرض لبعضها شك واضطراب ، فتحتاج إلى النظر في الدليل الموصل إلى وجوده ، ولهذا قالت لهم الرسل ترشدهم إلى طريق معرفته بأنه (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الذي خلقهما وابتدعهما على غير مثال سبق ، فإن شواهد الحدوث والخلق والتسخير ظاهر عليهما ، فلا بد لهما من صانع وهو الله لا إله إلا الله هو خالق كل شيء وإلاهه ومليكه.

[والمعنى الثاني] في قولهم : (أَفِي اللهِ شَكٌ) أي أفي إلهيته وتفرده بوجوب العبادة له شك ، وهو الخالق لجميع الموجودات ، ولا يستحق العبادة إلا هو وحده لا شريك له ، فإن غالب الأمم كانت مقرة بالصانع ، ولكن تعبد معه غيره من الوسائط التي يظنونها تنفعهم أو تقربهم من الله زلفى.

وقالت لهم رسلهم : (يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) أي في الدار الآخرة (وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي في الدنيا كما قال تعالى : (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) [هود : ٣] الآية ، فقالت لهم الأمم محاجين في مقام الرسالة بعد تقدير تسليمهم المقام الأول ، وحاصل ما قالوه (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) أي كيف نتبعكم بمجرد قولكم ولما نر منكم معجزة ، (فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي خارق نقترحه عليكم (قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) أي صحيح إنا بشر مثلكم في البشرية (وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) أي بالرسالة والنبوة (وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ) على وفق ما سألتم (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي بعد سؤالنا إياه وإذنه لنا في ذلك (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ

الْمُؤْمِنُونَ) أي في جميع أمورهم ، ثم قالت الرسل : (وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ) أي وما يمنعنا من التوكل عليه ، وقد هدانا لأقوم الطرق وأوضحها وأبينها (وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا) أي من الكلام السيئ والأفعال السخيفة (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ).

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (١٤) وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (١٥) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ(١٦) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ) (١٧)

يخبر تعالى عما توعدت به الأمم الكافرة رسلهم من الإخراج من أرضهم والنفي من بين أظهرهم ، كما قال قوم شعيب له ولمن آمن به : (لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا) [الأعراف : ٨٨] الآية. وكما قال قوم لوط : (أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ) [النمل : ٥٦] الآية ، وقال تعالى إخبارا عن مشركي قريش : (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً) [الإسراء : ٧٦].

وقال تعالى : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) [الأنفال : ٣٠] وكان من صنعه تعالى أنه أظهر رسوله ونصره ، وجعل له بسبب خروجه من مكة أنصارا وأعوانا وجندا يقاتلون في سبيل الله تعالى ، ولم يزل يرقيه تعالى من شيء إلى شيء حتى فتح له مكة التي أخرجته ، ومكن له فيها ، وأرغم أنوف أعدائه منهم ومن سائر أهل الأرض حتى دخل الناس في دين الله أفواجا ، وظهرت كلمة الله ودينه على سائر الأديان في مشارق الأرض ومغاربها في أيسر زمان.

ولهذا قال تعالى : (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ) وكما قال : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) [الصافات : ١٧١ ـ ١٧٣] ، وقال تعالى : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [المجادلة : ٢١] ، وقال تعالى : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) [الأنبياء : ١٠٥] الآية ، (قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف : ١٢٨] ، وقال تعالى : (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ) [الأعراف : ١٣٧] وقوله : (ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ) أي وعيدي هذا لمن خاف مقامي بين يدي يوم القيامة وخشي من وعيدي وهو تخويفي وعذابي كما قال تعالى : (فَأَمَّا مَنْ طَغى وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ

الْمَأْوى) [النازعات : ٣٧] وقال (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) [الرحمن : ٤٦].

وقوله : (وَاسْتَفْتَحُوا) أي استنصرت الرسل ربها على قومها ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة ، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : استفتحت الأمم على أنفسها كما قالوا : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) ويحتمل أن يكون هذا مرادا وهذا مرادا ، كما أنهم استفتحوا على أنفسهم يوم بدر واستفتح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم واستنصر ، وقال الله تعالى للمشركين : (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) [الأنفال : ١٩] الآية ، والله أعلم ، (وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) أي متجبر في نفسه عنيد معاند للحق ، كقوله تعالى : (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ ، الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ) [ق : ٢٤ ـ ٢٦] وفي الحديث «إنه يؤتى بجهنم يوم القيامة ، فتنادي الخلائق ، فتقول : إني وكلت بكل جبار عنيد» (١) الحديث أي خاب وخسر حين اجتهد الأنبياء في الابتهال إلى ربها العزيز المقتدر.

وقوله : (مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ) وراء هنا بمعنى أمام ، كقوله تعالى : (وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) وكان ابن عباس يقرؤها : وكان أمامهم ملك ، أي من وراء الجبار العنيد جهنم ، أي هي له بالمرصاد يسكنها مخلدا يوم المعاد ، ويعرض عليها غدوا وعشيا إلى يوم التناد (وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ) أي في النار ليس له شراب إلا من حميم وغساق ، فهذا حار في غاية الحرارة ، وهذا بارد في غاية البرد والنتن ، كما قال : (هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ) [ص : ٥٧ ـ ٥٨] وقال مجاهد وعكرمة : الصديد من القيح والدم. وقال قتادة : هو ما يسيل من لحمه وجلده ، وفي رواية عنه : الصديد ما يخرج من جوف الكافر قد خالط القيح والدم. وفي حديث شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد بن السكن قالت : قلت يا رسول الله ما طينة الخبال؟ قال «صديد أهل النار» (٢). وفي رواية «عصارة أهل النار» (٣).

وقال الإمام أحمد (٤) : حدثنا علي بن إسحاق ، أنبأنا عبد الله ، أخبرنا صفوان بن عمرو عن عبيد الله بن بسر ، عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ) قال : «يقرب إليه فيكرهه ، فإذا أدني منه شوى وجهه ، ووقعت فروة رأسه ، فإذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره» يقول الله تعالى : (وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) ويقول : (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ) الآية ، وهكذا رواه ابن جرير (٥) من

__________________

(١) أخرجه الترمذي في صفة جهنم باب ١ ، وأحمد في المسند ٣ / ٤٠.

(٢) أخرجه أحمد في المسند ٦ / ٤٦٠.

(٣) أخرجه أحمد في المسند ٥ / ١٧١.

(٤) المسند ٥ / ٢٦٥.

(٥) تفسير الطبري ٧ / ٤٢٩.

حديث عبد الله بن المبارك به. ورواه هو وابن أبي حاتم من حديث بقية بن الوليد عن صفوان بن عمرو به.

وقوله : (يَتَجَرَّعُهُ) أي يتغصصه ويتكرهه ، أي يشربه قهرا وقسرا لا يضعه في فمه حتى يضربه الملك بمطراق من حديد ، كما قال تعالى : (وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ) [الحج : ٢١] (وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ) أي يزدرده لسوء طعمه ولونه وريحه وحرارته أو برده الذي لا يستطاع (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ) أي يألم له جميع بدنه وجوارحه وأعضائه. قال عمرو بن ميمون بن مهران: من كل عظم وعصب وعرق. وقال عكرمة : حتى من أطراف شعره ، وقال إبراهيم التيمي : من موضع كل شعرة ، أي من جسده حتى من أطراف شعره. وقال ابن جرير : (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ) أي من أمامه وخلفه ، وفي رواية : وعن يمينه وشماله ، ومن فوقه ومن تحت أرجله ، ومن سائر أعضاء جسده.

وقال الضحاك عن ابن عباس (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ) قال : أنواع العذاب الذي يعذبه الله بها يوم القيامة في نار جهنم ، ليس منها نوع إلا يأتيه الموت منه لو كان يموت ، ولكن لا يموت لأن الله تعالى قال : (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) [فاطر : ٣٦] ومعنى كلام ابن عباس رضي الله عنه أنه ما من نوع من هذه الأنواع من العذاب إلا إذا ورد عليه اقتضى أن يموت منه لو كان يموت ، ولكنه لا يموت ليخلد في دوام العذاب والنكال ، ولهذا قال تعالى : (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ).

وقوله : (وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ) أي وله من بعد هذه الحال عذاب آخر غليظ ، أي مؤلم صعب شديد أغلظ من الذي قبله ، وأدهى وأمر ، وهذا كما قال تعالى عن شجرة الزقوم : (إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ) [الصافات : ٦٥ ـ ٦٨] فأخبر أنهم تارة يكونون في أكل زقوم ، وتارة في شرب حميم ، وتارة يردون إلى جحيم ، عياذا بالله من ذلك.

وهكذا قال تعالى : (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) [الرحمن : ٤٣ ـ ٤٤] ، وقال تعالى : (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ) [الدخان : ٤٣ ـ ٥٠] ، وقال : (وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ) [الواقعة : ٤١ ـ ٤٤] ، وقال تعالى : (هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ) [ص : ٥٥ ـ ٥٨] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على تنوع العذاب عليهم ، وتكراره وأنواعه ، وأشكاله مما لا يحصيه إلا الله عزوجل جزاء وفاقا

(وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت : ٤٦].

(مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) (١٨)

هذا مثل ضربه الله تعالى لأعمال الكفار الذين عبدوا معه غيره ، وكذبوا رسله ، وبنوا أعمالهم على غير أساس صحيح ، فانهارت وعدموها أحوج ما كانوا إليها ، فقال تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ) أي مثل أعمالهم يوم القيامة إذا طلبوا ثوابها من الله تعالى ، لأنهم كانوا يحسبون أنهم كانوا على شيء فلم يجدوا شيئا ، ولا ألفوا حاصلا إلا كما يتحصل من الرماد إذا اشتدت به الريح العاصفة.

(فِي يَوْمٍ عاصِفٍ) أي ذي ريح شديدة عاصفة قوية ، فلم يقدروا على شيء من أعمالهم التي كسبوا في الدنيا إلا كما يقدرون على جمع هذا الرماد في هذا اليوم ، كقوله تعالى : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) [الفرقان : ٢٣] ، وقوله تعالى : (مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [آل عمران : ١١٧] ، وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) [البقرة : ٢٦٤] ، وقوله في هذه الآية (ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) أي سعيهم وعملهم على غير أساس ولا استقامة ، حتى فقدوا ثوابهم أحوج ما كانوا إليه (ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ).

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ(١٩) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) (٢٠)

يقول تعالى مخبرا عن قدرته على معاد الأبدان يوم القيامة بأنه خلق السموات والأرض التي هي أكبر من خلق الناس ، أفليس الذي قدر على خلق هذه السموات في ارتفاعها واتساعها وعظمتها ، وما فيها من الكواكب الثوابت والسيارات ، والحركات المختلفات ، والآيات الباهرات ، وهذه الأرض بما فيها من مهاد ووهاد وأوتاد ، وبراري وصحارى ، وقفار وبحار ، وأشجار ونبات ، وحيوان على اختلاف أصنافها ومنافعها وأشكالها وألوانها (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الأحقاف : ٣٣] وقال تعالى : (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ

مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [يس : ٧٧ ـ ٨٣].

وقوله (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) أي بعظيم ولا ممتنع بل هو سهل عليه إذا خالفتم أمره أن يذهبكم ويأت بآخرين على غير صفتكم كما قال : (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) [فاطر : ١٥ ـ ١٧] وقال : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) [محمد : ٣٨] وقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) [المائدة : ٥٤] وقال : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً) [النساء : ١٣٢].

(وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) (٢١)

يقول تعالى : (وَبَرَزُوا) أي برزت الخلائق كلها برها وفاجرها لله الواحد القهار ، أي اجتمعوا له في براز من الأرض وهو المكان الذي ليس فيه شيء يستر أحدا (فَقالَ الضُّعَفاءُ) وهم الأتباع لقادتهم وسادتهم وكبرائهم (لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) عن عبادة الله وحده لا شريك له وعن موافقة الرسل قالوا لهم : (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً) أي مهما أمرتمونا ائتمرنا وفعلنا (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) أي فهل تدفعون عنا شيئا من عذاب الله كما كنتم تعدوننا وتمنوننا ، فقالت القادة لهم : (لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ) ولكن حق علينا قول ربنا ، وسبق فينا وفيكم قدر الله ، وحقت كلمة العذاب على الكافرين ، (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) أي ليس لنا خلاص مما نحن فيه إن صبرنا عليه أو جزعنا منه.

قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : إن أهل النار قال بعضهم لبعض : تعالوا فإنما أدرك أهل الجنة الجنة ببكائهم وتضرعهم إلى الله عزوجل ، تعالوا نبك ونتضرع إلى الله فبكوا وتضرعوا فلما رأوا أنه لا ينفعهم قالوا : إنما أدرك أهل الجنة الجنة بالصبر ، تعالوا حتى نصبر فصبروا صبرا لم ير مثله ، فلم ينفعهم ذلك ، فعند ذلك قالوا (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا) (١) الآية.

قلت : والظاهر أن هذه المراجعة في النار بعد دخولهم إليها ، كما قال تعالى : (وَإِذْ

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٤٣٣.

يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ) [غافر : ٤٧ ـ ٤٨] وقال تعالى : (قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) [الأعراف : ٣٨ ـ ٣٩] ، وقال تعالى : (رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً) [الأحزاب : ٦٦ ـ ٦٨].

وأما تخاصمهم في المحشر ، فقال تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [سبأ : ٣١ ـ ٣٣].

(وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٢) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) (٢٣)

يخبر تعالى عما خاطب به إبليس أتباعه بعد ما قضى الله بين عباده ، فأدخل المؤمنين الجنات ، وأسكن الكافرين الدركات ، فقام فيهم إبليس لعنه الله يومئذ خطيبا ليزيدهم حزنا إلى حزنهم ، وغبنا إلى غبنهم ، وحسرة إلى حسرتهم ، فقال : (إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِ) أي على ألسنة رسله ، ووعدكم في اتباعهم النجاة والسلامة ، وكان وعدا حقا وخبرا صدقا ، وأما أنا فوعدتكم فأخلفتكم ، كما قال الله تعالى : (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) [النساء : ١٢٠].

ثم قال : (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) أي ما كان لي دليل فيما دعوتكم إليه ولا حجة فيما وعدتكم به (إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) بمجرد ذلك ، هذا وقد أقامت عليكم الرسل الحجج والأدلة الصحيحة على صدق ما جاءوكم به ، فخالفتموهم فصرتم إلى ما أنتم فيه (فَلا تَلُومُونِي) اليوم (وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) فإن الذنب لكم لكونكم خالفتم الحجج واتبعتموني بمجرد ما دعوتكم إلى الباطل (ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ) أي بنافعكم ومنقذكم ومخلصكم مما أنتم فيه ،

(وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَ) أي بنافعي بإنقاذي مما أنا فيه من العذاب والنكال (إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ) قال قتادة : أي بسبب ما أشركتمون من قبل ، وقال ابن جرير (١) : يقول: إني جحدت أن أكون شريكا لله عزوجل ، وهذا الذي قاله هو الراجح ، كما قال تعالى : (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ) [الأحقاف : ٥ ـ ٦] ، قال : (كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) [مريم : ٨٢].

وقوله : (إِنَّ الظَّالِمِينَ) أي في إعراضهم عن الحق واتباعهم الباطل ، لهم عذاب أليم ، والظاهر من سياق الآية أن هذه الخطبة تكون من إبليس بعد دخلوهم النار كما قدمنا ، ولكن قد ورد في حديث رواه ابن أبي حاتم ، وهذا لفظه ، وابن جرير (٢) من رواية عبد الرحمن بن زياد : حدثني دخين الحجري عن عقبة بن عامر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إذا جمع الله الأولين والآخرين فقضى بينهم ففرغ من القضاء ، قال المؤمنون : قد قضى بيننا ربنا ، فمن يشفع لنا؟ فيقولون ، انطلقوا بنا إلى آدم ، وذكر نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى فيقول عيسى : أدلكم على النبي الأمي ، فيأتوني ، فيأذن الله لي أن أقوم إليه فيثور من مجلسي من أطيب ريح شمها أحد قط ، حتى آتي ربي فيشفعني ويجعل لي نورا من شعر رأسي إلى ظفر قدمي ، ثم يقول الكافرون : هذا قد وجد المؤمنون من يشفع لهم ، فمن يشفع لنا؟ ما هو إلا إبليس هو الذي أضلنا ، فيأتون إبليس فيقولون : قد وجد المؤمنون من يشفع لهم ، فقم أنت فاشفع لنا ، فإنك أنت أضللتنا فيقوم فيثور من مجلسه من أنتن ريح شمها أحد قط ، ثم يعظم نحيبهم (وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ).

وهذا سياق ابن أبي حاتم ، ورواه المبارك عن رشدين بن سعد عن عبد الرحمن بن زياد بن نعيم ، عن دخين عن عقبة به مرفوعا.

وقال محمد بن كعب القرظي رحمه‌الله : لما قال أهل النار (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) قال لهم إبليس (إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِ) الآية ، فلما سمعوا مقالته ، مقتوا أنفسهم فنودوا (لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ) [الزمر: ٧٣] وقال عامر الشعبي : يقوم خطيبان يوم القيامة على رؤوس الناس ، يقول الله تعالى لعيسى ابن مريم : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) إلى قوله (قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) قال : ويقوم إبليس لعنه الله فيقول (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ

__________________

(١) تفسير الطبري ٧ / ٤٣٤.

(٢) تفسير الطبري ٧ / ٤٣٤.

سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) [الرعد : ٢٣ ـ ٢٤] الآية.

ثم لما ذكر تعالى مآل الأشقياء وما صاروا إليه من الخزي والنكال ، وأن خطيبهم إبليس عطف بمآل السعداء ، فقال (وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) سارحة فيها حيث ساروا وأين ساروا (خالِدِينَ فِيها) ماكثين أبدا لا يحولون ولا يزولون (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) ، كما قال تعالى : (حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ) [الزمر : ٧٣] ، وقال تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) [الرعد : ٢٣ ـ ٢٤] ، وقال تعالى : (وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً) [الفرقان : ٧٥] ، وقال تعالى : (دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [يونس : ١٠].

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ(٢٤) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٥) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ) (٢٦)

قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله (مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً) شهادة أن لا إله إلا الله (كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ) وهو المؤمن ، (أَصْلُها ثابِتٌ) يقول : لا إله إلا الله في قلب المؤمن ، (وَفَرْعُها فِي السَّماءِ) يقول يرفع بها عمل المؤمن إلى السماء (١) ، وهكذا قال الضحاك وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد وغير واحد : إن ذلك عبارة عن عمل المؤمن ، وقوله الطيب ، وعمله الصالح ، وإن المؤمن كشجرة من النخل لا يزال يرفع له عمل صالح في كل حين ووقت وصباح ومساء ، وهكذا رواه السدي عن مرة عن ابن مسعود قال : هي النخلة (٢) ، وشعبة عن معاوية بن قرة عن أنس : هي النخلة (٣). وحماد بن سلمة عن شعيب بن الحبحاب عن أنس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتي بقناع بسر فقرأ (مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ) قال : هي النخلة ، وروي من هذا الوجه ومن غيره عن أنس موقوفا ، وكذا نص عليه مسروق ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والضحاك وقتادة وغيرهم.

وقال البخاري (٤) : حدثنا عبيد بن إسماعيل عن أبي أسامة ، عن عبيد الله عن نافع ، عن ابن عمر قال : كنا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «أخبروني عن شجرة تشبه ـ أو ـ كالرجل المسلم لا يتحات ورقها صيفا ولا شتاء ، وتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها» قال ابن عمر : فوقع في

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٤٣٦.

(٢) انظر تفسير الطبري ٧ / ٤٣٩.

(٣) تفسير الطبري ٧ / ٤٣٨ ، ٤٣٩.

(٤) كتاب التفسير ، تفسير سورة ١٤ ، باب ١.

نفسي أنها النخلة ، ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلمان ، فكرهت أن أتكلم ، فلما لم يقولوا شيئا ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هي النخلة» ، فلما قمنا قلت لعمر : يا أبتاه ، والله لقد كان وقع في نفسي أنها النخلة. قال : ما منعك أن تتكلم؟ قلت : لم أركم تتكلمون ، فكرهت أن أتكلم أو أقول شيئا ، قال عمر : لأن تكون قلتها أحب إليّ من كذا وكذا.

وقال أحمد (١) : حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : صحبت ابن عمر إلى المدينة فلم أسمعه يحدث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا حديثا واحدا قال : كنا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأتي بجمار ، فقال : «من الشجر شجرة مثلها مثل الرجل المسلم» فأردت أن أقول هي النخلة ، فنظرت فإذا أنا أصغر القوم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هي النخلة» (٢) ، أخرجاه. وقال مالك وعبد العزيز عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما لأصحابه : «إن من الشجر شجرة لا يطرح ورقها مثل المؤمن». قال : فوقع في شجر الوادي ، ووقع في قلبي أنها النخلة ، فاستحييت حتى قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هي النخلة» (٣) ، أخرجاه أيضا.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا أبان يعني ابن زيد العطار ، حدثنا قتادة أن رجلا قال : يا رسول الله ، ذهب أهل الدثور بالأجور ، فقال : «أرأيت لو عمد إلى متاع الدنيا فركب بعضه على بعض أكان يبلغ السماء ، أفلا أخبرك بعمل أصله في الأرض وفرعه في السماء؟» قال : ما هو يا رسول الله؟ قال : «تقول لا إله إلا الله ، والله أكبر ، وسبحان الله ، والحمد لله ، عشر مرات في دبر كل صلاة ، فذاك أصله في الأرض وفرعه في السماء». وعن ابن عباس (كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ) قال : هي شجرة في الجنة (٤). وقوله : (تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ) قيل : غدوة وعشيا ، وقيل : كل شهر. وقيل : كل شهرين. وقيل : كل ستة أشهر. وقيل : كل سبعة أشهر. وقيل : كل سنة ، والظاهر من السياق أن المؤمن مثله كمثل شجرة لا يزال يوجد منها ثمر في كل وقت من صيف أو شتاء أو ليل أو نهار ، كذلك المؤمن لا يزال يرفع له عمل صالح آناء الليل وأطراف النهار في كل وقت وحين (بِإِذْنِ رَبِّها) أي كاملا حسنا كثيرا طيبا مباركا (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) [إبراهيم : ٢٥].

وقوله تعالى : (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ) هذا مثل كفر الكافر لا أصل له ولا ثبات ، مشبه بشجرة الحنظل ، ويقال لها الشريان ، رواه شعبة عن معاوية بن قرة عن أنس بن مالك : أنها شجرة الحنظل وقال أبو بكر البزار الحافظ : حدثنا يحيى بن محمد

__________________

(١) المسند ٢ / ١٢.

(٢) أخرجه البخاري في العلم باب ١٤ ، ومسلم في المنافقين حديث ٦١ ، ٦٢.

(٣) أخرجه البخاري في العلم باب ٤ ، ٥ ، ٥٠ ، وتفسير سورة ١٤ ، باب ١ ، ومسلم في المنافقين حديث ٦١ ، ٦٢ ، ٦٤ ، وأحمد في المسند ٢ / ١٢٣.

(٤) انظر تفسير الطبري ٧ / ٤٤٠.

السكن ، حدثنا أبو زيد سعيد بن الربيع ، حدثنا شعبة عن معاوية بن قرة عن أنس أحسبه رفعه ، قال (مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ) قال : هي النخلة ، (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ) قال : هي الشريان ، ثم رواه عن محمد بن المثنى عن غندر عن شعبة ، عن معاوية عن أنس موقوفا. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد هو ابن سلمة عن شعيب بن الحبحاب ، عن أنس بن مالك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ) هي الحنظلة» فأخبرت بذلك أبا العالية فقال : هكذا كنا نسمع. ورواه ابن جرير من حديث حماد بن سلمة به.

ورواه أبو يعلى في مسنده بأبسط من هذا فقال : حدثنا غسان عن حماد عن شعيب ، عن أنس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتي بقناع عليه بسر ، فقال : (مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها) فقال «هي النخلة» (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ) قال : «هي الحنظل» قال شعيب : فأخبرت بذلك أبا العالية فقال : كذلك كنا نسمع. وقوله : (اجْتُثَّتْ) أي استؤصلت (مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ) أي لا أصل لها ولا ثبات ، كذلك الكفر لا أصل له ولا فرع ، ولا يصعد للكافر عمل ، ولا يتقبل منه شيء.

(يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) (٢٧)

قال البخاري : حدثنا أبو الوليد ، حدثنا شعبة ، أخبرني علقمة بن مرثد قال : سمعت سعد بن عبيدة عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «المسلم إذا سئل في القبر شهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، فذلك قوله : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) (١) ورواه مسلم أيضا وبقية الجماعة كلهم من حديث شعبة به.

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش عن المنهال بن عمرو ، عن زاذان عن البراء بن عازب قال : خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في جنازة رجل من الأنصار ، فانتهينا إلى القبر ولما يلحد ، فجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجلسنا حوله كأن على رؤوسنا الطير ، وفي يده عود ينكت (٣) به الأرض ، فرفع رأسه فقال : «استعيذوا بالله من عذاب القبر» مرتين أو ثلاثا ، ثم

__________________

(١) أخرجه البخاري في تفسير سورة ١٤ ، باب ٢ ، ومسلم في الجنة حديث ٧٣ ، ٧٤ ، وأبو داود في السنة باب ٢٤ ، والنسائي في الجنائز باب ١١٤ ، وابن ماجة في الزهد باب ٣٢ ، وأحمد في المسند ٤ / ٢٨٢ ، ٢٩٢.

(٢) المسند ٤ / ٢٨٧ ، ٢٨٨.

(٣) ينكت به الأرض : أي يضرب به الأرض.

قال : «إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة ، نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه ، كأن وجوههم الشمس معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط (١) من حنوط الجنة حتى يجلسوا منه مدّ البصر ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه ، فيقول : أيتها النفس الطيبة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان ـ.

قال ـ : فتخرج تسيل ، كما تسيل القطرة من في السقاء (٢) ، فيأخذها ، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط ، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض ، فيصعدون بها فلا يمرون بها ، يعني على ملأ من الملائكة ، إلا قالوا : ما هذه الروح الطيبة؟ فيقولون : فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا حتى ينتهوا به إلى السماء الدنيا فيستفتحون له ، فيفتح له فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها ، حتى ينتهى بها إلى السماء السابعة ، فيقول الله : اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوه إلى الأرض ، فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ، ومنها أخرجهم تارة أخرى.

قال : فتعاد روحه في جسده ، فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له : من ربك؟ فيقول : ربي الله ، فيقولان له : ما دينك؟ فيقول : ديني الإسلام ، فيقولان له : ما هذا الرجل الذين بعث فيكم؟ فيقول : هو رسول الله ، فيقولان له : وما علمك؟ فيقول : قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت ، فينادي مناد من السماء : أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة ، وألبسوه من الجنة ، وافتحوا له بابا إلى الجنة ـ قال ـ : فيأتيه من روحها (٣) وطيبها ويفسح له في قبره مد بصره ويأتيه رجل حسن الوجه ، حسن الثياب ، طيب الريح ، فيقول : أبشر بالذي يسرك هذا يومك الذي كنت توعد ، فيقول له : من أنت فوجهك الوجه الذي يأتي بالخير؟ فيقول : أنا عملك الصالح ، فيقول : رب أقم الساعة رب أقم الساعة ، حتى أرجع إلى أهلي ومالي ـ.

قال ـ : وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة ، نزل إليه ملائكة من السماء سود الوجوه معهم المسوح ، فجلسوا منه مد البصر ، ثم يجيء ملك الموت فيجلس عند رأسه ، فيقول : أيتها النفس الخبيثة ، اخرجي إلى سخط من الله وغضب ـ قال ـ : فتفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول ، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح ، فيخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض ، فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا : ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقولون : فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا حتى ينتهى بها إلى السماء

__________________

(١) الحنوط : ما يطيب به الميت.

(٢) السقاء : القربة.

(٣) الروح : برد نسيم الريح.

الدنيا ، فيستفتح له فلا يفتح له ـ ثم قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) [الأعراف : ٤٠] فيقول الله : اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى فتطرح روحه طرحا ـ.

ثم قرأ (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ) [الحج : ٣١] فتعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه ويقولان له : من ربك؟ فيقول : هاه هاه لا أدري ، فيقولان له : ما دينك؟ فيقول : هاه هاه لا أدري ، فيقولان له : ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول : هاه هاه لا أدري ، فينادي مناد من السماء : أن كذب عبدي فأفرشوه من النار وافتحوا له بابا إلى النار ، فيأتيه من حرها وسمومها ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه ، ويأتيه رجل قبيح الوجه ، قبيح الثياب ، منتن الريح ، فيقول : أبشر بالذي يسوؤك ، هذا يومك الذي كنت توعد ، فيقول : ومن أنت ، فوجهك الوجه يجيء بالشر؟

فيقول : أنا عملك الخبيث ، فيقول : رب لا تقم الساعة» (١) ورواه أبو داود من حديث الأعمش والنسائي وابن ماجة من حديث المنهال بن عمرو به.

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر عن يونس بن حبيب عن المنهال بن عمرو ، عن زاذان عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال : خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى جنازة ، فذكر نحوه ، وفيه «فإذا خرجت روحه صلى عليه كل ملك بين السماء والأرض وكل ملك في السماء ، وفتحت أبواب السماء ليس من أهل باب إلا وهم يدعون الله عزوجل أن يعرج بروحه من قبلهم» ، وفي آخره «ثم يقيض له أعمى أصم أبكم ، وفي يده مرزبة لو ضرب بها جبل لكان ترابا ، فيضربه ضربة فيصير ترابا ، ثم يعيده الله عزوجل كما كان ، فيضربه ضربة أخرى فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الثقلين» قال البراء : ثم يفتح له باب إلى النار ويمهد له من فرش النار.

وقال سفيان الثوري عن أبيه ، عن خيثمة عن البراء في قوله تعالى : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) قال عذاب القبر (٣).

وقال المسعودي عن عبد الله بن مخارق عن أبيه عن عبد الله قال : إن المؤمن إذا مات أجلس في قبره فيقال له : ما ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ فيثبته الله فيقول : ربي الله ، وديني الإسلام ، ونبيي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقرأ عبد الله (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) (٤).

__________________

(١) أخرجه أبو داود في السنة باب ٢٤.

(٢) المسند ٤ / ٢٩٥ ، ٢٩٦.

(٣) انظر تفسير الطبري ٧ / ٤٥٠.

(٤) انظر تفسير الطبري ٧ / ٤٥٠.

وقال الإمام عبد بن حميد رحمه‌الله في مسنده حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا شيبان بن عبد الرحمن عن قتادة ، حدثنا أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن العبد إذا وضع في قبره ، وتولى عنه أصحابه ، وإنه ليسمع قرع نعالهم ، فيأتيه ملكان فيقعدانه فيقولان له : ما كنت تقول في هذا الرجل؟ قال : فأما المؤمن فيقول : أشهد أنه عبد الله ورسوله ، قال : فيقال له : انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة» ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فيراهما جميعا» ، قال قتادة : وذكر لنا أنه يفسح له في قبره سبعون ذراعا ، ويملأ عليه خضرا إلى يوم القيامة (١) ، رواه مسلم عن عبد بن حميد ، وأخرجه النسائي من حديث يونس بن محمد المؤدب به.

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا يحيى بن سعيد عن ابن جريج ، أخبرني أبو الزبير أنه سأل جابر بن عبد الله عن فتاني القبر ، فقال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن هذه الأمة تبتلى في قبورها ، فإذا أدخل المؤمن قبره وتولى عنه أصحابه ، جاءه ملك شديد الانتهار ، فيقول له : ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فأما المؤمن فيقول : إنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعبده ، فيقول له الملك : انظر إلى مقعدك الذي كان لك في النار قد أنجاك الله منه وأبدلك بمقعدك الذي ترى من النار مقعدك الذي ترى من الجنة ، فيراهما كليهما ، فيقول المؤمن : دعوني أبشر أهلي فيقال له : اسكن ، وأما المنافق فيقعد إذا تولى عنه أهله فيقال له : ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول : لا أدري ، أقول كما يقول الناس ، فيقال له : لا دريت هذا مقعدك الذي كان لك في الجنة قد أبدلت مكانه مقعدك من النار» قال جابر : فسمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «يبعث كل عبد في القبر على ما مات ، المؤمن على إيمانه ، والمنافق على نفاقه» إسناده صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه.

وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا أبو عامر ، حدثنا عباد بن راشد عن داود بن أبي هند ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : شهدنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جنازة ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم: «يا أيها الناس إن هذه الأمة تبتلى في قبورها ، فإذا الإنسان دفن وتفرق عنه أصحابه ، جاءه ملك في يده مطراق من حديد فأقعده ، فقال : ما تقول في هذا الرجل؟ فإن كان مؤمنا قال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، فيقول له : صدقت ثم يفتح له بابا إلى النار ، فيقول : كان هذا منزلك لو كفرت بربك ، فأما إذ آمنت فهذا منزلك ، فيفتح له بابا إلى الجنة ، فيريد أن ينهض إليه فيقول له : اسكن ويفسح له في قبره ، وإن كان كافرا أو منافقا فيقول له : ما تقول في هذا الرجل؟

__________________

(١) أخرجه مسلم في الجنة حديث ٧٠ ، ٧١ ، والنسائي في الجنائز باب ١٠٨.

(٢) المسند ٣ / ٣٤٦.

(٣) المسند ٣ / ٣ ، ٤.

فيقول : لا أدري ، سمعت الناس يقولون شيئا ، فيقول : لا دريت ولا تليت ولا اهتديت ، ثم يفتح له بابا إلى الجنة ، فيقول له : هذا منزلك لو آمنت بربك ، فأما إذ كفرت به فإن الله عزوجل أبدلك به هذا ، فيفتح له بابا إلى النار ثم يقمعه قمعة بالمطراق ، فيصيح صيحة يسمعها خلق الله عزوجل كلهم غير الثقلين ، فقال بعض القوم : يا رسول الله ، ما أحد يقوم عليه ملك في يده مطراق إلا هيل عند ذلك ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) وهذا أيضا إسناد لا بأس به ، فإن عباد بن راشد التميمي روى له البخاري مقرونا ، ولكن ضعفه بعضهم.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا حسين بن محمد عن ابن أبي ذئب ، عن محمد بن عمرو بن عطاء ، عن سعيد بن يسار ، عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الميت تحضره الملائكة ، فإذا كان الرجل الصالح قالوا : اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب ، اخرجي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان. قال فلا يزال يقال لها ذلك ، حتى تخرج ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال : من هذا؟ فيقال : فلان ، فيقولون : مرحبا بالروح الطيبة كانت في الجسد الطيب ، ادخلي حميدة ، وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان. قال : فلا يزال يقال لها ذلك حتى ينتهى بها إلى السماء التي فيها الله عزوجل. وإذا كان الرجل السوء قالوا : اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث ، اخرجي ذميمة وأبشري بحميم وغساق ، وآخر من شكله أزواج ، فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج ، ثم يعرج بها إلى السماء ، فيستفتح لها فيقال : من هذا؟ فيقال : فلان ، فيقال : لا مرحبا بالنفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث ، ارجعي ذميمة فإنه لا تفتح لك أبواب السماء ، فيرسل من السماء ثم يصير إلى القبر ، فيجلس الرجل الصالح ، فيقال له مثل ما قيل في الحديث الأول ، ويجلس الرجل السوء فيقال له مثل ما قيل له في الحديث الأول (٢). ورواه النسائي وابن ماجة من طريق ابن أبي ذئب بنحوه.

وفي صحيح مسلم (٣) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : إذا خرجت روح العبد المؤمن تلقاها ملكان يصعدان بها. قال حماد : فذكر من طيب ريحها وذكر المسك ـ قال ـ : ويقول أهل السماء : روح طيبة جاءت من قبل الأرض صلى الله عليك وعلى جسد كنت تعمرينه ، فينطلق به إلى ربه عزوجل ، فيقال : انطلقوا به إلى آخر الأجل. وإن الكافر إذا خرجت روحه ـ قال حماد ـ وذكر من نتنها ، وذكر مقتا ، ويقول أهل السماء : روح خبيثة جاءت من قبل الأرض ، فيقال : انطلقوا به إلى آخر الأجل ـ قال أبو هريرة : فرد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ريطة كانت عليه على أنفه هكذا.

__________________

(١) المسند ٢ / ٣٦٤ ، ٦ / ١٤٠.

(٢) أخرجه ابن ماجة في الزهد باب ٣١.

(٣) كتاب الجنة حديث ٧٥.

وقال ابن حبان في صحيحه : حدثنا عمر بن محمد الهمداني ، حدثنا زيد بن أخرم ، حدثنا معاذ بن هشام ، حدثني أبي عن قتادة ، عن قسام بن زهير ، عن أبي هريرة ، عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إن المؤمن إذا قبض ، أتته ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء ، فيقولون : اخرجي إلى روح الله ، فتخرج كأطيب ريح مسك حتى إنه ليناوله بعضهم بعضا يشمونه حتى يأتوا به باب السماء ، فيقولون : ما هذه الريح الطيبة التي جاءت من قبل الأرض ، ولا يأتون سماء إلا قالوا مثل ذلك حتى يأتوا به أرواح المؤمنين ، فلهم أشد فرحا به من أهل الغائب بغائبهم ، فيقولون : ما فعل فلان؟ فيقولون : دعوه حتى يستريح فإنه كان في غم ، فيقول : قد مات أما أتاكم؟ فيقولون : ذهب به إلى أمه الهاوية ، وأما الكافر فيأتيه ملائكة العذاب بمسح فيقولون : اخرجي إلى غضب الله ، فتخرج كأنتن ريح جيفة ، فيذهب به إلى باب الأرض».

وقد روي أيضا من طريق همام بن يحيى عن أبي الجوزاء ، عن أبي هريرة ، عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بنحوه ، قال «فيسأل : ما فعل فلان ، ما فعل فلان ، ما فعلت فلانة؟ قال : وأما الكافر فإذا قيضت نفسه ، وذهب بها إلى باب الأرض ، تقول خزنة الأرض : ما وجدنا ريحا أنتن من هذه ، فيبلغ بها الأرض السفلى». قال قتادة وحدثني رجل عن سعيد بن المسيب ، عن عبد الله بن عمرو قال : أرواح المؤمنين تجتمع بالجابية ، وأرواح الكفار تجتمع ببرهوت سبخة بحضر موت ، ثم يضيق عليه قبره.

وقال الحافظ أبو عيسى الترمذي رحمه‌الله : حدثنا يحيى بن خلف ، حدثنا بشر بن المفضل عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي هريرة قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا قبر الميت ـ أو قال : أحدكم ـ أتاه ملكان أسودان أزرقان ، يقال لأحدهما منكر والآخر نكير ، فيقولان : ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول : ما كان يقول هو عبد الله ورسوله ، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، فيقولان : قد كنا نعلم أنك تقول هذا ، ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعا في سبعين ، وينور له فيه ، ثم يقال له : نم ، فيقول : أرجع إلى أهلي فأخبرهم ، فيقولان : نم نومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك ، وإن كان منافقا قال : سمعت الناس يقولون : فقلت مثلهم لا أدري ، فيقولان : قد كنا نعلم أنك تقول هذا ، فيقال للأرض : التئمي عليه فتلتئم عليه حتى تختلف أضلاعه ، فلا يزال فيها معذبا حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك» (١) ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب.

وقال حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) ـ قال ـ :

__________________

(١) أخرجه الترمذي في الجنائز باب ٧٠.

ذلك إذا قيل له في القبر من ربك ، وما دينك ، ومن نبيك؟ فيقول : ربي الله ، وديني الإسلام ، ونبيي محمد جاءنا بالبينات من عند الله ، فآمنت به وصدقت ، فيقال له : صدقت ، على هذا عشت ، وعليه مت ، وعليه تبعث» (١).

وقال ابن جرير (٢) : حدثنا مجاهد بن موسى والحسن بن محمد ، قالا : حدثنا يزيد ، أنبأنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «والذي نفسي بيده ، إن الميت ليسمع خفق نعالكم حين تولون عنه مدبرين ، فإن كان مؤمنا كانت الصلاة عند رأسه والزكاة عن يمينه والصوم عن يساره وكان فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس عند رجليه ، فيؤتى من قبل رأسه ، فتقول الصلاة : ما قبلي مدخل ، فيؤتى عن يمينه فتقول الزكاة : ما قبلي مدخل ، فيؤتى عن يساره فيقول الصيام : ما قبلي مدخل ، فيؤتى عند رجليه فيقول : فعل الخيرات ما قبلي مدخل ، فيقال له : اجلس ، فيجلس قد مثلت له الشمس قد دنت للغروب.

فيقال له : أخبرنا عما نسألك ، فيقول : دعني حتى أصلي ، فيقال له : إنك ستفعل فأخبرنا عما نسألك ، فيقول : وعم تسألوني؟ فيقال : أرأيت هذا الرجل الذي كان فيكم ماذا تقول به ، وماذا تشهد به عليه؟ فيقول : أمحمد؟ فيقال له : نعم ، فيقول : أشهد أنه رسول الله ، وأنه جاءنا بالبينات من عند الله فصدقناه ، فيقال له : على ذلك حييت وعلى ذلك مت ، وعليه تبعث إن شاء الله ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعا وينور له فيه ، ويفتح له باب إلى الجنة فيقال له : انظر إلى ما أعد الله لك فيها ، فيزداد غبطة وسرورا ، ثم تجعل نسمته في النسم الطيب ، وهي طير خضر تعلق بشجر الجنة ، ويعاد الجسد إلى ما بدئ من التراب» ، وذلك قول الله : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) ، رواه ابن حبان من طريق المعتمر بن سليمان عن محمد بن عمر ، وذكر جواب الكافر وعذابه.

وقال البزار : حدثنا سعيد بن بحر القراطيسي ، حدثنا الوليد بن القاسم ، حدثنا يزيد بن كيسان عن أبي حازم ، عن أبي هريرة أحسبه رفعه ، قال : «إن المؤمن ينزل به الموت ويعاين ما يعاين ، فيود لو خرجت ، يعني نفسه ، والله يحب لقاءه وإن المؤمن يصعد بروحه إلى السماء ، فتأتيه أرواح المؤمنين فتستخبره عن معارفهم من أهل الأرض ، فإذا قال : تركت فلانا في الأرض ، أعجبهم ذلك ، وإذا قال : إن فلانا قد مات ، قالوا : ما جيء به إلينا ، وإن المؤمن يجلس في قبره فيسأل ، من ربك؟ فيقول : ربي الله ، ويسأل : من نبيك؟ فيقول : محمد نبيي.

فيقال : ماذا دينك؟ قال : ديني الإسلام ، فيفتح له باب في قبره فيقول ـ أو يقال ـ انظر إلى

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٤٤٨.

(٢) تفسير الطبري ٧ / ٤٤٨ ، ٤٤٩.

مجلسك ، ثم يرى القبر فكأنما كانت رقدة ، وإذا كان عدو الله نزل به الموت وعاين ما عاين ، فإنه لا يحب أن تخرج روحه أبدا ، والله يبغض لقاءه ، فإذا جلس في قبره أو أجلس ، فيقال له : من ربك؟ فيقول : لا أدري ، فيقال : لا دريت ، فيفتح له باب إلى جهنم ثم يضرب ضربة تسمعها كل دابة إلا الثقلين ، ثم يقال له : نم كما ينام المنهوش». قلت لأبي هريرة : ما المنهوش؟ قال : الذي تنهشه الدواب والحيات ، ثم يضيق عليه قبره ، ثم قال : لا نعلم من رواه إلا الوليد بن القاسم.

وقال الإمام أحمد (١) رحمه‌الله : حدثنا حجين بن المثنى ، حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون عن محمد بن المنكدر قال : كانت أسماء ، يعني بنت الصديق رضي الله عنها ، تحدث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالت : قال : «إذا دخل الإنسان قبره ، فإن كان مؤمنا أحف به عمله الصلاة والصيام ، قال : فيأتيه الملك من نحو الصلاة فترده ومن نحو الصيام فيرده ، قال : فيناديه اجلس فيجلس ، فيقول له : ماذا تقول في هذا الرجل ، يعني النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قال : من؟ قال : محمد ، قال : أشهد أنه رسول الله ، قال : وما يدريك ، أدركته؟ قال : اشهد أنه رسول الله ، قال : يقول على ذلك عشت ، وعليه مت ، وعليه تبعث وإن كان فاجرا أو كافرا جاءه الملك ليس بينه وبينه شيء يرده فأجلسه ، فيقول له : ماذا تقول في هذا الرجل؟ قال : أي رجل؟ قال : محمد؟ قال : يقول : والله ما أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته ، قال له الملك : على ذلك عشت ، وعليه مت ، وعليه تبعث ، قال ويسلط عليه دابة في قبره معها سوط ، ثمرته جمرة مثل غرب البعير ، تضربه ما شاء الله ، صماء لا تسمع صوته فترحمه».

وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية قال : إن المؤمن إذا حضره الموت شهدته الملائكة ، فسلموا عليه وبشروه بالجنة ، فإذا مات مشوا مع جنازته ثم صلوا عليه مع الناس ، فإذا دفن أجلس في قبره ، فيقال له : من ربك؟ فيقول : ربي الله ، فيقال له : من رسولك؟ فيقول : محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيقال له : ما شهادتك؟ فيقول : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا رسول الله ، فيوسع له في قبره مد بصره ، وأما الكافر فتنزل عليه الملائكة فيبسطون أيديهم ، والبسط هو الضرب ، (يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) عند الموت ، فإذا أدخل قبره أقعد ، فقيل له : من ربك؟ فلم يرجع إليهم شيئا ، وأنساه الله ذكر ذلك ، وإذا قيل : من الرسول الذي بعث إليك؟ لم يهتد له ولم يرجع إليهم شيئا كذلك (يُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ) (٢).

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن عثمان بن حكيم الأودي حدثنا شريح بن مسلمة ، حدثنا إبراهيم بن يوسف عن أبيه عن أبي إسحاق ، عن عامر بن سعد البجلي عن أبي قتادة الأنصاري في قوله تعالى : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ)

__________________

(١) المسند ٦ / ٣٥٢ ، ٣٥٣.

(٢) انظر تفسير الطبري ٧ / ٤٥١.

الآية ، قال : إن المؤمن إذا مات أجلس في قبره ، فيقال له : من ربك؟ فيقول : الله ، فيقال له : من نبيك؟ فيقول : محمد بن عبد الله ، فيقال له ذلك مرات ، ثم يفتح له باب إلى النار ، فيقال له : انظر إلى منزلك من النار لو زغت ، ثم يفتح له باب إلى الجنة ، فيقال له : انظر إلى منزلك من الجنة إذا ثبت ، وإذا مات الكافر أجلس في قبره فيقال له : من ربك؟ من نبيك؟ فيقول : لا أدري كنت أسمع الناس يقولون ، فيقال له : لا دريت ، ثم يفتح له باب إلى الجنة ، فيقال له : انظر إلى منزلك إذا ثبت ، ثم يفتح له باب إلى النار ، فيقال له : انظر إلى منزلك إذ زغت ، فذلك قوله تعالى : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ).

وقال عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس ، عن أبيه (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) قال : لا إله إلا الله ، (وَفِي الْآخِرَةِ) المسألة في القبر ، وقال قتادة أما الحياة الدنيا فيثبتهم بالخير والعمل الصالح ، (وَفِي الْآخِرَةِ) في القبر وكذا روي عن غير واحد من السلف.

وقال أبو عبد الله الحكيم الترمذي في كتابه نوادر الأصول : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن نافع عن ابن أبي فديك عن عبد الرحمن بن عبد الله عن سعيد بن المسيب ، عن عبد الرحمن بن سمرة قال : خرج علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات يوم ونحن في مسجد المدينة ، فقال : «إني رأيت البارحة عجبا ، رأيت رجلا من أمتي جاءه ملك الموت ليقبض روحه ، فجاءه بره بوالديه ، فرد عنه ، ورأيت رجلا من أمتي قد بسط عليه عذاب القبر ، فجاءه وضوءه فاستنقذه من ذلك ، ورأيت رجلا من أمتي قد احتوشته الشياطين ، فجاءه ذكر الله فخلصه من بينهم ، ورأيت رجلا من أمتي قد احتوشته ملائكة العذاب ، فجاءته صلاته فاستنقذته من أيديهم.

ورأيت رجلا من أمتي يلهث عطشا كلما ورد حوضا منع منه ، فجاءه صيامه فسقاه وأرواه ، ورأيت رجلا من أمتي والنبيون قعود حلقا حلقا ، كلما دنا لحلقة طردوه ، فجاءه اغتساله من الجنابة فأخذ بيده فأقعده إلى جنبي ، ورأيت رجلا من أمتي بين يديه ظلمة ، ومن خلفه ظلمة ، وعن يمينه ظلمة ، وعن شماله ظلمة ، ومن فوقه ظلمة ، ومن تحته ظلمة ، وهو متحير فيها ، فجاءته حجته وعمرته فاستخرجاه من الظلمة وأدخلاه النور.

ورأيت رجلا من أمتي يكلم المؤمنين فلا يكلمونه ، فجاءته صلة الرحم فقالت : يا معشر المؤمنين ، كلموه فكلموه ، ورأيت رجلا من أمتي يتقي وهج النار وشررها بيده عن وجهه ، فجاءته صدقته فصارت له سترا على وجهه وظلا على رأسه ، ورأيت رجلا من أمتي قد أخذته الزبانية من كل مكان ، فجاءه أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر فاستنقذاه من أيديهم وأدخلاه مع ملائكة الرحمة ، ورأيت رجلا من أمتي جاثيا على ركبتيه بينه وبين الله حجاب ، فجاءه حسن خلقه ، فأخذ بيده فأدخله على الله عزوجل ، ورأيت رجلا من أمتي قد هوت صحيفته من قبل شماله ، فجاءه خوفه من الله ، فأخذ صحيفنه فجعلها في يمينه ، ورأيت رجلا من أمتي قد خف

ميزانه ، فجاءته أفراطه فثقلوا ميزانه.

ورأيت رجلا من أمتي قائما على شفير جهنم ، فجاءه وجله من الله فاستنقذه من ذلك ومضى ، ورأيت رجلا من أمتي هوى في النار فجاءته دموعه التي بكى من خشية الله في الدنيا ، فاستخرجته من النار ، ورأيت رجلا من أمتي قائما على الصراط يزحف أحيانا ويحبو أحيانا ، فجاءته صلاته عليّ ، فأخذت بيده ، فأقامته ومضى على الصراط ، ورأيت رجلا من أمتي انتهى إلى باب الجنة ، فغلقت الأبواب دونه ، فجاءته شهادة أن لا إله إلا الله ففتحت له الأبواب وأدخلته الجنة» ، قال القرطبي بعد إيراده هذا الحديث من هذا الوجه : هذا حديث عظيم ذكر فيه أعمالا خاصة تنجي من أهوال خاصة ، أورده هكذا في كتابة التذكرة.

وقد روى الحافظ أبو يعلى الموصلي في هذا حديثا غريبا مطولا فقال : حدثنا أبو عبد الله أحمد بن إبراهيم النكري ، حدثنا محمد بن بكر البرساني أبو عثمان ، حدثنا أبو عاصم الحبطي ، وكان من أخيار أهل البصرة ، وكان من أصحاب حزم ، وسلام بن أبي مطيع ، حدثنا بكر بن خنيس عن ضرار بن عمرو ، عن يزيد الرقاشي ، عن أنس بن مالك عن تميم الداري ، عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : يقول الله عزوجل لملك الموت : انطلق إلى وليي فأتني به ، فإني قد ضربته بالسراء والضراء ، فوجدته حيث أحب ، ائتني به فلأريحنه.

فينطلق إليه ملك الموت ومعه خمسمائة من الملائكة معهم أكفان وحنوط من الجنة ، ومعهم ضبائر (١) الريحان أصل الريحانة واحد ، وفي رأسها عشرون لونا لكل لون منها ريح سوى ريح صاحبه ، ومعهم الحرير الأبيض فيه المسك الأذفر (٢) ، فيجلس ملك الموت عند رأسه وتحف به الملائكة ، ويضع كل ملك منهم يده على عضو من أعضائه ، ويبسط ذلك الحرير الأبيض والمسك الأذفر تحت ذقنه ، ويفتح له باب إلى الجنة ، فإن نفسه لتعلل عند ذلك بطرف الجنة تارة بأزواجها ، وتارة بكسوتها ، ومرة بثمارها كما يعلل الصبي أهله إذا بكى ، قال : إن أزواجه ليبتهشن عند ذلك ابتهاشا (٣).

قال : وتبرز الروح ، قال البرساني : يريد أن تخرج من العجل إلى ما تحب ، قال : ويقول ملك الموت ، اخرجي يا أيتها الروح الطيبة إلى سدر مخضود ، وطلح منضود ، وظل ممدود ، وماء مسكوب ، قال : ولملك الموت أشد به لطفا من الوالدة بولدها ، يعرف أن تلك الروح حبيب لربه ، فهو يتلمس بلطفه تحببا لديه ، رضاء للرب عنه ، فتسل روحه كما تسل الشعرة من العجين.

__________________

(١) الضبيرة : هي الباقة والحزمة.

(٢) المسك الأذفر : أحسن أنواع المسك ، وهو الجيد إلى الغاية.

(٣) ابتهش بالشيء : أعجبه واشتهى ، وأسرع نحوه.

قال : وقال الله عزوجل : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ) ، وقال : (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ) قال : روح من جهة الموت ، وريحان يتلقى به ، وجنة نعيم تقابله.

قال : فإذا قبض ملك الموت روحه ، قالت الروح للجسد : جزاك الله عني خيرا ، فقد كنت سريعا بي إلى طاعة الله ، بطيئا بي عن معصية الله ، فقد نجيت وأنجيت ، قال : ويقول الجسد للروح مثل ذلك ، قال : وتبكي عليه بقاع الأرض التي كان يطيع الله فيها ، وكل باب من السماء يصعد منه عمله وينزل منه رزقه أربعين ليلة ، قال : فإذا قبض ملك الموت روحه ، أقامت الخمسمائة من الملائكة عند جسده ، فلا يقلبه بنو آدم لشق إلا قلبته الملائكة قبلهم ، وغسلته وكفنته بأكفان قبل أكفان بني آدم ، وحنوط قبل حنوط بني آدم ، ويقوم من باب بيته إلى قبره صفان من الملائكة يستقبلونه بالاستغفار ، فيصيح عند ذلك إبليس صيحة تتصدع منها عظام جسده ، قال : ويقول لجنوده : الويل لكم كيف خلص هذا العبد منكم؟ فيقولون : إن هذا كان عبدا معصوما.

قال : فإذا صعد ملك الموت بروحه يستقبله جبريل في سبعين ألفا من الملائكة ، كل يأتيه ببشارة من ربه سوى بشارة صاحبه ، قال : فإذا انتهى ملك الموت بروحه إلى العرش ، خر الروح ساجدا ، قال : يقول الله عزوجل لملك الموت : انطلق بروح عبدي فضعه في سدر مخضود ، وطلح منضود وظل ممدود ، وماء مسكوب.

قال : فإذا وضع في قبره جاءته الصلاة فكانت عن يمينه ، وجاءه الصيام فكان عن يساره ، وجاءه القرآن فكان عند رأسه ، وجاءه مشيه إلى الصلاة فكان عند رجليه ، وجاءه الصبر فكان ناحية القبر ، قال : فيبعث الله عزوجل عنقا من العذاب ، قالوا : فيأتيه عن يمينه ، قال : فتقول الصلاة وراءك : والله ما زال دائبا عمره كله وإنما استراح الآن حين وضع في قبره قال : فيأتيه عن يساره فيقول الصيام مثل ذلك ، قال : ثم يأتيه من عند رأسه فيقول القرآن والذكر مثل ذلك قال : ثم يأتيه من عند رجليه فيقول مشيه إلى الصلاة مثل ذلك ، فلا يأتيه العذاب من ناحية يلتمس هل يجد إليه مساغا إلا وجد ولي الله قد أخذ جنته ، قال : فينقمع العذاب عند ذلك فيخرج ، قال : ويقول الصبر لسائر الأعمال أما إنه لم يمنعني أن أباشر أنا بنفسي ، إلا أني نظرت ما عندكم فإن عجزتم كنت أنا صاحبه ، فأما إذا أجزأتم عنه فأنا له ذخر عند الصراط والميزان.

قال : ويبعث الله ملكين أبصارهما كالبرق الخاطف ، وأصواتهما كالرعد القاصف ، وأنيابهما كالصياصي ، وأنفاسهما كاللهب ، يطآن في أشعارهما بين منكب كل واحد مسيرة كذا وكذا ، وقد نزعت منهما الرأفة والرحمة ، يقال لهما منكر ونكير ، في يد كل واحد منهما مطرقة لو اجتمع عليها ربيعة ومضر لم يقلوها ، قال : فيقولان له : اجلس ، قال : فيجلس فيستوي

جالسا ، قال : وتقع أكفانه في حقويه ، قال : فيقولان له : من ربك ، وما دينك ، ومن نبيك؟ قال قالوا : يا رسول الله ومن يطيق الكلام عند ذلك وأنت تصف من الملكين ما تصف؟ قال : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) قال فيقول : ربي الله وحده لا شريك له ، وديني الإسلام الذي دانت به الملائكة ، ونبيي محمد خاتم النبيين.

قال : فيقولان له : صدقت ، قال : فيدفعان القبر فيوسعان من بين يديه أربعين ذراعا ، وعن يمينه أربعين ذراعا ، وعن شماله أربعين ذراعا ، ومن عند رأسه أربعين ذراعا ، ومن عند رجليه أربعين ذراعا ، قال : فيوسعان له مائتي ذراع ، قال البرساني : فأحسبه وأربعين ذراعا تحاط به ، قال : ثم يقولان له : انظر فوقك ، فإذا باب مفتوح إلى الجنة ، قال فيقولان له : ولي الله هذا منزلك إذ أطعت الله ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والذي نفس محمد بيده ، إنه يصل إلى قلبه عند ذلك فرحة لا ترتد أبدا» ثم يقال له : انظر تحتك ، قال : فينظر تحته فإذا باب مفتوح إلى النار ـ قال ـ فيقولان : ولي الله نجوت آخر ما عليك ـ قال : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إنه ليصل إلى قلبه عند ذلك فرحة لا ترتد أبدا» قال : قالت عائشة : يفتح له سبعة وسبعون بابا إلى الجنة ، يأتيه ريحها وبردها حتى يبعثه الله عزوجل.

وبالإسناد المتقدم إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ويقول الله تعالى لملك الموت : انطلق إلى عدوي فأتني به ، فإني قد بسطت له رزقي ، ويسرت له نعمتي ، فأبى إلا معصيتي فأتني به ، لأنتقم منه ، قال : فينطلق إليه ملك الموت في أكره صورة رآها أحد من الناس قط ، له ثنتا عشر عينا ، ومعه سفود من النار ، كثير الشوك ومعه خمسمائة من الملائكة معهم نجاس وجمر من جمر جهنم ، ومعهم سياط من نار لينها لين السياط ، وهي نار تأجج ، قال : فيضربه ملك الموت بذلك السفود ضربة يغيب كل أصل شوكة من ذلك السفود في أصل كل شعرة وعرق وظفر.

قال : ثم يلويه ليا شديدا ، قال : فينزع روحه من أظفار قدميه ، قال : فيلقيها في عقبيه. قال : فيسكر عدو الله عند ذلك سكرة فيرفه ملك الموت عنه ، قال : وتضرب الملائكة وجهه ودبره بتلك السياط ، قال : فيشده ملك الموت شدة فينزع روحه من عقبيه فيلقيها في ركبتيه ، ثم يسكر عدو الله عند ذلك سكرة فيرفه ملك الموت عنه ، قال : فتضرب الملائكة وجهه ودبره بتلك السياط ، قال : فيشده ملك الموت شدّة فينزع روحه من ركبتيه فيلقيها في حقويه ، فيسكر عدو الله عند ذلك سكرة فيرفه ملك الموت عنه ، قال : فتضرب الملائكة وجهه ودبره بتلك السياط ، قال كذلك : إلى صدره ثم كذلك إلى حلقه ، قال : ثم تبسط الملائكة ذلك النحاس وجمر جهنم تحت ذقنه.

قال : ويقول ملك الموت : اخرجي أيتها الروح اللعينة إلى سموم وحميم وظل من يحموم لا بارد ولا كريم ـ قال : فإذا قبض ملك الموت روحه ، قال الروح للجسد : جزاك الله عني شرا

فقد كنت سريعا بي إلى معصية الله ، بطيئا بي عن طاعة الله ، فقد هلكت وأهلكت ـ.

قال ـ ويقول الجسد للروح مثل ذلك ، وتلعنه بقاع الأرض التي كان يعصي الله عليها ، وتنطلق جنود إبليس إليه فيبشرونه بأنهم قد أوردوا عبدا من ولد آدم النار ، قال : فإذا وضع في قبره ضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه حتى تدخل اليمنى في اليسرى واليسرى في اليمنى ، قال : ويبعث الله إليه أفاعي دهما كأعناق الإبل ، يأخذن بأرنبته وإبهامي قدميه فيقرضنه حتى يلتقين في وسطه ، قال : ويبعث الله ملكين أبصارهما كالبرق الخاطف ، وأصواتهما كالرعد القاصف وأنيابهما كالصياصي وأنفاسهما كاللهب يطآن في أشعارهما بين منكبي كل واحد منهما مسيرة كذا وكذا ، قد نزعت منهما الرأفة والرحمة ، يقال لهما منكر ونكير ، في يد كل واحد منهما مطرقة لو اجتمع عليها ربيعة ومضر لم يقلوها ، قال فيقولان له اجلس فيستوي جالسا وتقع أكفانه في حقويه.

قال فيقولان له : من ربك ، وما دينك ، ومن نبيك؟ فيقول : لا أدري ، فيقولان له : لا دريت ولا تليت ، فيضربانه ضربة يتطاير شررها في قبره ثم يعودان ، قال : فيقولان : انظر فوقك فينظر ، فإذا باب مفتوح من الجنة ، فيقولان : عدو الله هذا منزلك لو أطعت الله. قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والذي نفسي بيده إنه ليصل إلى قلبه عند ذلك حسرة لا ترتد أبدا». ـ قال ـ ويقولان له : انظر تحتك فينظر تحته فإذا باب مفتوح إلى النار ـ فيقولان له : عدو الله هذا منزلك إذ عصيت الله ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والذي نفسي بيده إنه ليصل إلى قلبه عند ذلك حسرة لا ترتد أبدا».

قال : وقالت عائشة : ويفتح له سبعة وسبعون بابا إلى النار يأتيه حرها وسمومها حتى يبعثه الله إليها. هذا حديث غريب جدا ، وسياق عجيب ، ويزيد الرقاشي راويه عن أنس له غرائب ومنكرات ، وهو ضعيف الرواية عند الأئمة ، والله أعلم ، ولهذا قال أبو داود : حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي ، حدثنا هشام هو ابن يوسف عن عبد الله بن بحير عن هانئ مولى عثمان ، عن عثمان رضي الله عنه قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا فرغ من دفن الرجل وقف عليه وقال «استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل» (١) تفرد به أبو داود ، وقد أورد الحافظ أبو بكر بن مردويه عند قوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ) الآية ، حديثا مطولا جدا من طرق غريبة عن الضحاك عن ابن عباس مرفوعا ، وفيه غرائب أيضا.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (٢٨) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (٢٩) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) (٣٠)

__________________

(١) أخرجه أبو داود في الجنائز باب ٦٩.

قال البخاري (١) : قوله (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً) ألم تعلم ، كقوله : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا) البوار الهلاك ، بار يبور بورا ، و (قَوْماً بُوراً) هالكين. حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا سفيان عن عمرو عن عطاء. سمع ابن عباس (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً) قال : هم كفار أهل مكة ، وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية ، هو جبلة بن الأيهم والذين اتبعوه من العرب فلحقوا بالروم (٢) ، والمشهور الصحيح عن ابن عباس هو القول الأول : وإن كان المعنى يعم جميع الكفار ، فإن الله تعالى بعث محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم رحمة للعالمين ونعمة للناس ، فمن قبلها وقام بشكرها دخل الجنة ، ومن ردها وكفرها دخل النار ، وقد روي عن علي نحو قول ابن عباس الأول.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا شعبة عن القاسم بن أبي بزة ، عن أبي الطفيل أن ابن الكواء سأل عليا عن (الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ) قال : هم كفار قريش يوم بدر ، حدثنا المنذر بن شاذان ، حدثنا يعلى بن عبيد ، حدثنا بسام هو الصيرفي عن أبي الطفيل قال : جاء رجل إلى علي فقال : يا أمير المؤمنين من الذين بدلوا نعمة الله كفرا ، وأحلوا قومهم دار البوار؟ قال : منافقو قريش وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن نفيل قال : قرأت على معقل عن ابن أبي حسين قال : قام علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال : ألا أحد يسألني عن القرآن ، فو الله لو أعلم اليوم أحدا أعلم به مني وإن كان من وراء البحار لأتيته ، فقام عبد الله بن الكواء فقال : من الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار؟ قال : مشركو قريش أتتهم نعمة الله الإيمان فبدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار.

وقال السدي في قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً) الآية ، ذكر مسلم المستوفى ، عن علي أنه قال : هم الأفجران من قريش : بنو أمية وبنو المغيرة ، فأما بنو المغيرة ، فأحلوا قومهم دار البوار يوم بدر ، وأما بنو أمية فأحلوا قومهم دار البوار يوم أحد ، وكان أبو جهل يوم بدر ، وأبو سفيان يوم أحد ، وأما دار البوار فهي جهنم.

وقال ابن أبي حاتم رحمه‌الله : حدثنا محمد بن يحيى ، حدثنا الحارث أبو منصور ، عن إسرائيل عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن مرة قالا : سمعت عليا قرأ هذه الآية (وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ) قال : هم الأفجران من قريش : بنو أمية ، وبنو المغيرة ، فأما بنو المغيرة فأهلكوا يوم بدر ، وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين ، ورواه أبو إسحاق عن عمرو بن مرة عن علي ، نحوه ، وروي من غير وجه عنه.

__________________

(١) كتاب التفسير ، تفسير سورة ١٤ ، باب ٣.

(٢) انظر تفسير الطبري ٧ / ٤٥١.

وقال سفيان الثوري عن علي بن زيد عن يوسف بن سعد ، عن عمر بن الخطاب في قوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً) قال : هم الأفجران من قريش : بنو المغيرة ، وبنو أمية ، فأما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر ، وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين ، وكذا رواه حمزة الزيات عن عمرو بن مرة قال : قال ابن عباس لعمر بن الخطاب : يا أمير المؤمنين هذه الآية (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ)؟ قال : هم الأفجران من قريش : أخوالي وأعمامك ، فأما أخوالي فاستأصلهم الله يوم بدر ، وأما أعمامك فأملى الله لهم إلى حين ، وقال مجاهد وسعيد بن جبير والضحاك وقتادة وابن زيد هم كفار قريش الذين قتلوا يوم بدر ، وكذا رواه مالك في تفسيره عن نافع عن ابن عمر.

وقوله : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) [لقمان : ٢٤] أي جعلوا له شركاء عبدوهم معه ، ودعوا الناس إلى ذلك ، ثم قال تعالى مهددا لهم ومتوعدا لهم على لسان نبيهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : (قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) أي مهما قدرتم عليه في الدنيا فافعلوا ، فمهما يكن من شيء (فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) أي مرجعكم وموئلكم إلينا كما قال تعالى : (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) ، وقال تعالى : (مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) [يونس : ٧٠].

(قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ) (٣١)

يقول تعالى آمرا عباده بطاعته والقيام بحقه والإحسان إلى خلقه بأن يقيموا الصلاة ، وهي عبادة الله وحده لا شريك له ، وأن ينفقوا مما رزقهم الله بأداء الزكوات والنفقة على القرابات والإحسان إلى الأجانب ، والمراد بإقامتها هو المحافظة على وقتها وحدودها وركوعها وخشوعها وسجودها ، وأمر تعالى بالإنفاق مما رزق في السر أي في الخفية والعلانية وهي الجهر ، وليبادروا إلى ذلك لخلاص أنفسهم (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ) وهو يوم القيامة (لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ) أي ولا يقبل من أحد فدية بأن تباع نفسه ، كما قال تعالى : (فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الحديد : ١٥] وقوله : (وَلا خِلالٌ) قال ابن جرير (١) : يقول ليس هناك مخالفة خليل فيصفح عمن استوجب العقوبة عن العقاب لمخالفته ، بل هناك العدل والقسط ، والخلال مصدر من قول القائل : خاللت فلانا فأنا أخاله مخالة وخلالا ، ومنه قول امرئ القيس : [الطويل]

صرفت الهوى عنهنّ من خشية الرّدى

ولست بمقليّ الخلال ولا قالي (٢)

__________________

(١) تفسير الطبري ٧ / ٤٥٦ ، ٤٥٧.

(٢) البيت في ديوان امرئ القيس ص ٣٥ ، ولسان العرب (خلل) وتهذيب اللغة ٦ / ٥٦٧ ، وتفسير الطبري ـ

وقال قتادة : إن الله قد علم أن في الدنيا بيوعا وخلالا يتخالون بها في الدنيا ، فينظر رجل من يخالل وعلام يصاحب ، فإن كان لله فليداوم ، وإن كان لغير الله فيسقطع عنه ، قلت : والمراد من هذا أنه يخبر تعالى أنه لا ينفع أحدا بيع ولا فدية ، ولو افتدى بملء الأرض ذهبا لو وجده ، ولا تنفعه صداقة أحد ولا شفاعة أحد إذا لقي الله كافرا ، قال الله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) [البقرة : ١٢٣] وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [البقرة : ٢٥٤].

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (٣٢) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (٣٣) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) (٣٤)

يعدد تعالى نعمه على خلقه بأن خلق لهم السموات سقفا محفوظا والأرض فرشا (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى) ما بين ثمار وزروع مختلفة الألوان والأشكال والطعوم والروائح والمنافع. وسخر الفلك بأن جعلها طافية على تيار ماء البحر تجري عليه بأمر الله تعالى ، وسخر البحر لحملها ليقطع المسافرون بها من إقليم إلى إقليم آخر لجلب ما هنا إلى هناك ، وما هناك إلى هنا ، وسخر الأنهار تشق الأرض من قطر إلى قطر رزقا للعباد من شرب وسقي ، وغير ذلك من أنواع المنافع.

(وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ) أي يسيران لا يفتران ليلا ولا نهارا (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [يس : ٤٠] (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) [الأعراف : ٥٤] فالشمس والقمر يتعاقبان ، والليل والنهار يتعارضان ، فتارة يأخذ هذا من هذا فيطول ، ثم يأخذ الآخر من هذا فيقصر (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) [فاطر : ١٣] (أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) [الزمر : ٥].

وقوله (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ) بقول هيأ لكم ما تحتاجون إليه في جميع أحوالكم مما تسألونه بحالكم. وقال بعض السلف : من كل ما سألتموه وما لم تسألوه ، وقرأ بعضهم (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ) وقوله (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) يخبر تعالى عن عجز لعباد عن تعداد النعم فضلا عن القيام بشكرها ، كما قال طلق بن حبيب رحمه‌الله : إن حق الله

__________________

ـ ٧ / ٤٥٧ ، وتفسير البحر المحيط ٥ / ٤١٥.

أثقل من أن يقوم به العباد ، وإن نعم الله أكثر من أن يحصيها العباد ، ولكن أصبحوا تائبين. وأمسوا تائبين ، وفي صحيح البخاري أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول : «اللهم لك الحمد غير مكفي ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا» (١).

وقال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده : حدثنا إسماعيل بن أبي الحارث ، حدثنا داود بن المحبر حدثنا صالح المري عن جعفر بن زيد العبدي ، عن أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «يخرج لابن آدم يوم القيامة ثلاثة دواوين : ديوان فيه العمل الصالح ، وديوان فيه ذنوبه ، وديوان فيه النعم من الله تعالى عليه ، فيقول الله تعالى لأصغر نعمه ـ أحسبه قال في ديوان النعم ـ خذي ثمنك من عمله الصالح فتستوعب عمله الصالح كله ، ثم تنحى وتقول : وعزتك ما استوفيت وتبقى الذنوب والنعم ، فإذا أراد الله أن يرحمه قال : يا عبدي قد ضاعفت لك حسناتك وتجاوزت لك عن سيئاتك ـ أحسبه قال : ووهبت لك نعمي ـ» غريب وسنده ضعيف.

وقد روي في الأثر أن داود عليه‌السلام قال : يا رب كيف أشكرك وشكري لك نعمة منك عليّ؟ فقال الله تعالى : الآن شكرتني يا داود ، أي حين اعترفت بالتقصير عن أداء شكر المنعم ، وقال الإمام الشافعي رحمه‌الله : الحمد لله الذي لا يؤدي شكر نعمة من نعمه إلا بنعمة حادثة توجب على مؤديها شكره بها ، وقال القائل في ذلك :

لو كل جارحة مني لها لغة

تثني عليك بما أوليت من حسن

لكان ما زاد شكري إذ شكرت به

إليك أبلغ في الإحسان والمنن

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (٣٥) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٣٦)

يذكر تعالى في هذا المقام محتجا على مشركي العرب بأن البلد الحرام بمكة إنما وضعت أول ما وضعت على عبادة الله وحده لا شريك له ، وأن إبراهيم الذي كانت عامرة بسببه آهلة تبرأ ممن عبد غير الله ، وأنه دعا لمكة بالأمن فقال : (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) وقد استجاب الله له فقال تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً) [العنكبوت : ٦٧] الآية ، وقال تعالى : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) [آل عمران : ٩٦ ـ ٩٧] وقال في هذه القصة (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) [إبراهيم : ٣٩] فعرفه لأنه دعا به بعد بنائها ، ولهذا قال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) ومعلوم أن إسماعيل أكبر من إسحاق بثلاث عشرة سنة ، فأما حين ذهب بإسماعيل وأمه وهو رضيع إلى مكان مكة فإنه دعا أيضا فقال : (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) [البقرة : ١٢٦] كما ذكرناه هنالك في سورة البقرة مستقصى مطوّلا.

__________________

(١) أخرجه البخاري في الأطعمة باب ٥٤.

وقوله : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) ينبغي لكل داع أن يدعو لنفسه ولوالديه ولذريته ، ثم ذكر أنه افتتن بالأصنام خلائق من الناس ، وأنه تبرأ ممن عبدها ورد أمرهم إلى الله إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم ، كقول عيسى عليه‌السلام (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [المائدة : ١١٨] وليس فيه أكثر من الرد إلى مشيئة الله تعالى لا تجويز وقوع ذلك.

وقال عبد الله بن وهب : حدثنا عمرو بن الحارث أن بكر بن سوادة حدثه عن عبد الرحمن بن جرير ، عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلا قول إبراهيم عليه‌السلام (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) الآية ، وقول عيسى عليه‌السلام (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) [المائدة : ١١٨] الآية ، ثم رفع يديه ثم قال : «اللهم ، أمتي ، اللهم أمتي ، اللهم أمتي» وبكى فقال الله : اذهب يا جبريل إلى محمد ، وربك أعلم ، وسله ما يبكيك؟ فأتاه جبريل عليه‌السلام فسأله ، فأخبره رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ما قال ، فقال الله : اذهب إلى محمد فقل له : إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك (١).

(رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (٣٧)

وهذا يدل على أن هذا دعاء ثان بعد الدعاء الأول الذي دعا به عند ما ولى عن هاجر وولدها ، وذلك قبل بناء البيت ، وهذا كان بعد بنائه تأكيدا ورغبة إلى الله عزوجل ، ولهذا قال : (عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ). وقوله : (رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ) قال ابن جرير (٢) : هو متعلق بقوله (الْمُحَرَّمِ) أي إنما جعلته محرما ليتمكن أهله من إقامة الصلاة عنده.

(فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وغيره: لو قال أفئدة الناس لازدحم عليه فارس والروم واليهود والنصارى والناس كلهم ، ولكن قال : (مِنَ النَّاسِ) فاختص به المسلمون وقوله : (وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ) أي ليكون ذلك عونا لهم على طاعتك ، وكما أنه واد غير ذي زرع فاجعل له ثمارا يأكلونها ، وقد استجاب الله ذلك كما قال : (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا) [القصص : ٥٧] وهذا من لطفه تعالى وكرمه ورحمته وبركته أنه ليس في البلد الحرام مكة شجرة مثمرة وهي تجبى إليها ثمرات ما حولها استجابة لدعاء الخليل عليه‌السلام.

(رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٣٨) الْحَمْدُ لِلَّهِ

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٤٦١.

(٢) تفسير الطبري ٧ / ٤٦٤.

الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٩) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (٤٠) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) (٤١)

قال ابن جرير (١) : يقول تعالى مخبرا عن إبراهيم خليله أنه قال : (رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ) أي أنت تعلم قصدي في دعائي ، وما أردت بدعائي لأهل هذا البلد ، وإنما هو القصد إلى رضاك والإخلاص لك ، فإنك تعلم الأشياء كلها ظاهرها وباطنها ، لا يخفى عليك منها شيء في الأرض ولا في السماء ، ثم حمد ربه عزوجل على ما رزقه من الولد بعد الكبر ، فقال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ) أي إنه يستجيب لمن دعاه ، وقد استجاب لي فيما سألته من الولد.

ثم قال : (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ) أي محافظا عليها مقيما لحدودها (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) أي واجعلهم كذلك مقيمين لها (رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ) أي فيما سألتك فيه كله (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَ) وقرأ بعضهم : ولوالدي بالإفراد وكان هذا قبل أن يتبرأ من أبيه لما تبين له عداوته لله عزوجل (وَلِلْمُؤْمِنِينَ) أي كلهم (يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) أي يوم تحاسب عبادك فتجازيهم بأعمالهم إن خيرا فخير وإن شرا فشر.

(وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ(٤٢) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) (٤٣)

يقول تعالى : ولا تحسبن الله يا محمد غافلا عما يعمل الظالمون ، أي لا تحسبنه إذا أنظرهم وأجلهم أنه غافل عنهم مهمل لهم لا يعاقبهم على صنعهم ، بل هو يحصي ذلك ويعده عليهم عدا (إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ) أي من شدة الأهوال يوم القيامة ، ثم ذكر تعالى كيفية قيامهم من قبورهم وعجلتهم إلى قيام المحشر ، فقال : (مُهْطِعِينَ) أي مسرعين ، كما قال تعالى : (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ) [القمر : ٨] الآية ، وقال تعالى : (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ ـ إلى قوله ـ وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) [طه : ١٠٨ ـ ١١١] ، وقال تعالى : (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً) [المعارج : ٤٣] الآية. وقوله (مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ) قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد : رافعي رؤوسهم.

(لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) أي أبصارهم ظاهرة شاخصة مديمون النظر ، لا يطرفون لحظة لكثرة ما هم فيه من الهول والفكرة والمخافة لما يحل بهم ، عياذا بالله العظيم من ذلك ، ولهذا قال : (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) أي وقلوبهم خاوية خالية ليس فيها شيء لكثرة الوجل والخوف ، ولهذا قال قتادة وجماعة : إن أمكنة أفئدتهم خالية لأن القلوب لدى الحناجر قد خرجت من أماكنها

__________________

(١) تفسير الطبري ٧ / ٤٦٦.

من شدة الخوف. وقال بعضهم : هي خراب لا تعي شيئا لشدة ما أخبر به تعالى عنهم ، ثم قال تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

(وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (٤٤) وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (٤٥) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) (٤٦)

يقول تعالى مخبرا عن الذين ظلموا أنفسهم عند معاينة العذاب : (رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ) كقوله (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ) [المؤمنون : ٩٩] الآية ، وقال تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ) [المنافقون : ٩] الآيتين ، وقال تعالى مخبرا عنهم في حال محشرهم (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ) [السجدة : ١٢] الآية ، وقال : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا) [الأنعام : ٢٧] الآية ، وقال تعالى : (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها) [فاطر : ٣٧] الآية ، قال تعالى ردا عليهم في قولهم هذا (أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ) أي أو لم تكونوا تحلفون من قبل هذه الحالة أنه لا زوال لكم عما أنتم فيه وأنه لا معاد ولا جزاء فذوقوا هذا بذلك.

قال مجاهد وغيره (ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ) أي ما لكم من انتقال من الدنيا إلى الآخرة ، كقوله (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ) [النحل : ٣٨] الآية ، (وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ) أي قد رأيتم وبلغكم ما أحللنا بالأمم المكذبة قبلكم ومع هذا لم يكن لكم فيهم معتبر ، ولم يكن فيما أوقعنا بهم لكم مزدجر (حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ) [القمر : ٥].

وقد روى شعبة عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن أن عليا رضي الله عنه قال في هذه الآية (وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) قال : أخذ ذاك الذي حاج إبراهيم في ربه نسرين صغيرين ، فرباهما حتى استغلظا واستفحلا وشبا ، قال : فأوثق رجل كل واحد منهما بوتد إلى تابوت وجوعهما ، وقعد هو ورجل آخر في التابوت ، قال : ورفع في التابوت عصا على رأسه اللحم فطارا ، وجعل يقول لصاحبه : انظر ما ترى؟ قال : أرى كذا وكذا حتى قال أرى الدنيا كلها كأنها ذباب. قال : فصوب العصا ، فصوبها فهبطا جميعا ، قال : فهو قوله عزوجل : وإن كاد مكرهم لتزول منه الجبال.

قال أبو إسحاق : وكذلك هي في قراءة عبد الله وإن كاد مكرهم قلت : وكذا روي عن أبي بن كعب وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما أنهما قرءا وإن كاد كما قرأ علي ، وكذا رواه

سفيان الثوري وإسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن أذنان عن علي فذكر نحوه ، وكذا روي عن عكرمة أن سياق هذه القصة للنمروذ ملك كنعان أنه رام أسباب السماء بهذه الحيلة والمكر ، كما رام فرعون ملك القبط في بناء الصرح فعجزا وضعفا ، وهما أقل وأحقر وأصغر وأدحر ، وذكر مجاهد هذه القصة عن بختنصر وأنه لما انقطع بصره عن الأرض وأهلها ، نودي أيها الطاغية أين تريد؟ ففرق ثم سمع الصوت فوقه ، فصوب الرماح فصوبت النسور ، ففزعت الجبال من هدتها ، وكادت الجبال أن تزول من حس ذلك ، فذلك قوله : (وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ).

ونقل ابن جريج عن مجاهد أنه قرأها (لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) بفتح اللام الأولى وضم الثانية ، وروى العوفي عن ابن عباس في قوله : (وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) يقول : ما كان مكرهم لتزول منه الجبال ، وكذا قال الحسن البصري ، ووجهه ابن جرير بأن هذا الذي فعلوه بأنفسهم من شركهم بالله وكفرهم به ، ما ضر شيئا من الجبال ولا غيرها ، وإنما عاد وبال ذلك عليهم.

قلت : ويشبه هذا قول الله تعالى : (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً) [الإسراء : ٣٧] ، والقول الثاني في تفسيرها ما رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) يقول : شركهم كقوله : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ) الآية ، وهكذا قال الضحاك وقتادة.

(فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (٤٧) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّار) (٤٨)

يقول تعالى مقررا لوعده ومؤكدا : (فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) أي من نصرتهم في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ، ثم أخبر تعالى أنه ذو عزة لا يمتنع عليه شيء أراده ولا يغالب ، وذو انتقام ممن كفر به وجحده (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) [الطور : ١١] ، ولهذا قال : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) أي وعده هذا حاصل يوم تبدل الأرض غير الأرض ، وهي هذه على غير الصفة المألوفة المعروفة ، كما جاء في الصحيحين من حديث أبي حازم عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقيّ ليس فيها معلم لأحد» (١).

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا محمد بن عدي عن داود عن الشعبي عن مسروق ، عن عائشة أنها قالت : أنا أول الناس سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن هذه الآية (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ

__________________

(١) أخرجه البخاري في الرقاق باب ٤٤ ، ومسلم في المنافقين حديث ٢٨.

(٢) المسند ٦ / ٣٥ ، ١٣٤.

وَالسَّماواتُ) قالت : قلت أين الناس يومئذ يا رسول الله؟ قال : «على الصراط» (١) ، رواه مسلم منفردا به دون البخاري ، والترمذي وابن ماجة من حديث داود بن أبي هند به ، وقال الترمذي : حسن صحيح ، ورواه أحمد أيضا عن عفان عن وهيب عن داود ، عن الشعبي عنها ، ولم يذكر مسروقا.

وقال قتادة عن حسان بن بلال المزني عن عائشة رضي الله عنها أنها سألت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قول الله : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) قالت : قلت يا رسول الله ، فأين الناس يومئذ؟ قال : «لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد من أمتي ، ذاك أن الناس على جسر جهنم».

وروى الإمام أحمد (٢) من حديث حبيب بن أبي عمرة عن مجاهد ، عن ابن عباس حدثتني عائشة أنها سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قوله تعالى : (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) [الزمر : ٦٧] فأين الناس يومئذ يا رسول الله؟ قال : «هم على متن جهنم».

وقال ابن جرير (٣) : حدثنا الحسن ، حدثنا علي بن الجعد ، أخبرنا القاسم ، سمعت الحسن قال : قالت عائشة : يا رسول الله (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) فأين الناس يومئذ؟ قال : «إن هذا شيء ما سألني عنه أحد ـ قال ـ على الصراط يا عائشة» ، ورواه أحمد(٤) عن عفان عن القاسم بن الفضل ، عن الحسن به.

وقال الإمام مسلم بن الحجاج في صحيحه : حدثني الحسن بن علي الحلواني ، حدثني أبو توبة الربيع بن نافع ، حدثنا معاوية بن سلام عن زيد يعني أخاه أنه سمع أبا سلام ، حدثني أبو أسماء الرحبي أن ثوبان مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حدثه قال : كنت نائما عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فجاءه حبر من أحبار اليهود ، فقال : السلام عليك يا محمد ، فدفعته دفعة كاد يصرع منها ، فقال : لم تدفعني؟ فقلت : ألا تقول يا رسول الله؟ فقال اليهودي : إنما ندعوه باسمه الذي سماه به أهله ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن اسمي محمد الذي سماني به أهلي» فقال اليهودي : جئت أسألك ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أينفعك شيئا إن حدثتك؟» قال : أسمع بأذني ، فنكت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بعود معه فقال : «سل» فقال اليهودي : أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات؟

__________________

(١) أخرجه مسلم في المنافقين حديث ٢٩ ، والترمذي في تفسير سورة ١٤ ، باب ٣ ، وسورة ٣٩ ، باب ٦ ، وابن ماجة في الزهد باب ٣٣.

(٢) المسند ٢ / ٧٢ ، ٨٨.

(٣) تفسير الطبري ٧ / ٤٨٢ ، ٤٨٣.

(٤) المسند ٦ / ١٠١.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هم في الظلمة دون الجسر» قال : فمن أول الناس إجازة؟ فقال: «فقراء المهاجرين» ، فقال اليهودي : فما تحفتهم حين يدخلون الجنة؟ قال : «زيادة كبد النون» قال : فما غذائهم في أثرها؟ قال : «ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها» قال : فما شرابهم عليه؟ قال «من عين فيها تسمى سلسبيلا». قال : صدقت ، قال: وجئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من أهل الأرض إلا نبي أو رجل أو رجلان. قال «أينفعك إن حدثتك؟» قال : أسمع بأذني. قال : جئت أسألك عن الولد ، قال : «ماء الرجل أبيض ، وماء المرأة أصفر ، فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل منيّ المرأة ، أذكرا بإذن الله تعالى ، وإذا علا منيّ المرأة مني الرجل ، أنثا بإذن الله» قال اليهودي : لقد صدقت وإنك لنبي ثم انصرف ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لقد سألني هذا عن الذي سألني عنه ، وما لي علم بشيء منه حتى أتاني الله به» (١).

قال أبو جعفر بن جرير الطبري (٢) : حدثنا ابن عوف ، حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا ابن أبي مريم ، حدثنا سعيد بن ثوبان الكلاعي ، عن أبي أيوب الأنصاري أن حبرا من اليهود سأل النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أرأيت إذ يقول الله تعالى في كتابه : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) فأين الخلق عند ذلك؟ فقال : «أضياف الله فلن يعجزهم ما لديه» ورواه ابن أبي حاتم من حديث أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم به.

وقال شعبة : أخبرنا أبو إسحاق ، سمعت عمرو بن ميمون ، وربما قال : قال عبد الله ، وربما لم يقل ، فقلت له عن عبد الله فقال : سمعت عمرو بن ميمون يقول : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) قال : أرض كالفضة البيضاء نقية لم يسفك فيها دم ولم يعمل عليها خطيئة ، ينفذهم البصر ويسمعهم الداعي حفاة عراة كما خلقوا ، قال : أراه قال قياما حتى يلجمهم العرق.

وروي من وجه آخر عن شعبة عن إسرائيل عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون عن ابن مسعود بنحوه ، وكذا رواه عاصم عن زر عن ابن مسعود به. وقال سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون : لم يخبر به ، أورد ذلك كله ابن جرير.

وقد قال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا محمد بن عبد الله بن عبيد بن عقيل ، حدثنا سهل بن حماد أبو عتاب ، حدثنا جرير بن أيوب عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون عن عبد الله ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قول الله عزوجل : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) قال : أرض بيضاء لم يسفك عليها دم ، ولم يعمل عليها خطيئة» ثم قال : لا نعلم رفعه إلا جرير بن أيوب ، وليس بالقوي.

ثم قال ابن جرير (٣) : حدثنا أبو كريب ، حدثنا معاوية بن هشام عن سنان عن جابر

__________________

(١) أخرجه مسلم في الحيض حديث ٣٤.

(٢) تفسير الطبري ٧ / ٤٨٣ ، وفيه : حدثنا محمد بن عون.

(٣) تفسير الطبري ٧ / ٤٨٠.

الجعفي ، عن أبي جبيرة عن زيد قال : أرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى اليهود فقال : «هل تدرون لم أرسلت إليهم؟» قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : «فإني أرسلت إليهم أسألهم عن قول الله (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) إنها تكون يومئذ بيضاء مثل الفضة» فلما جاءوا سألهم ، فقالوا : تكون بيضاء مثل النقي ، وهكذا روي عن علي وابن عباس وأنس بن مالك ومجاهد بن جبر أنها تبدل يوم القيامة بأرض بيضاء من فضة.

وعن علي رضي الله عنه أنه قال : تصير الأرض فضة والسموات ذهبا. وقال الربيع عن أبي العالية بن كعب ، قال : تصير السموات جنانا. وقال أبو معشر عن محمد بن كعب القرظي أو عن محمد بن قيس في قوله : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) قال : خبزة يأكل منها المؤمنون من تحت أقدامهم ، وكذا روى وكيع عن عمر بن بشير الهمداني عن سعيد بن جبير في قوله : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) قال : تبدل الأرض خبزة بيضاء يأكل المؤمن من تحت قدميه.

وقال الأعمش عن خيثمة قال : قال عبد الله بن مسعود : الأرض يوم القيامة كلها نار ، والجنة من ورائها ترى كواعبها ، وأكوابها ، ويلجم الناس العرق أو يبلغ منهم العرق ، ولم يبلغوا الحساب (١). وقال الأعمش أيضا عن المنهال بن عمرو عن قيس بن السكن قال : قال عبد الله : الأرض كلها نار يوم القيامة ، والجنة من ورائها ترى أكوابها وكواعبها ، والذي نفس عبد الله بيده ، إن الرجل ليفيض عرقا حتى ترسخ في الأرض قدمه ، ثم يرتفع حتى يبلغ أنفه وما مسه الحساب ، قالوا : مم ذلك يا أبا عبد الرحمن؟ قال : مما يرى الناس ويلقون (٢). وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن كعب في قوله : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) قال : تصير السموات جنانا ، ويصير مكان البحر نارا ، وتبدل الأرض غيرها.

وفي الحديث الذي رواه أبو داود «لا يركب البحر إلا غاز أو حاج أو معتمر ، فإن تحت البحر نارا ـ أو تحت النار بحرا ـ» (٣) وفي حديث الصور المشهور المروي عن أبي هريرة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «يبدل الله الأرض غير الأرض والسموات فيبسطها ويمدها مد الأديمالعكاظي ، لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ، ثم يزجر الله الخلق زجرة فإذا هم في هذه المبدلة». وقوله : (وَبَرَزُوا لِلَّهِ) أي خرجت الخلائق جميعها من قبورهم لله (الْواحِدِ الْقَهَّارِ) أي الذي قهر كل شيء وغلبه ودانت له الرقاب وخضعت له الألباب.

(وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٤٩) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (٥٠) لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) (٥١)

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٤٨٠ ، ٤٨١.

(٢) انظر تفسير الطبري ٧ / ٤٨٠.

(٣) أخرجه أبو داود في الجهاد باب ٩.

يقول تعالى : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) وتبرز الخلائق لديانها ، ترى يا محمد يومئذ المجرمين وهم الذين أجرموا بكفرهم وفسادهم (مُقَرَّنِينَ) أي بعضهم إلى بعض قد جمع بين النظراء أو الأشكال منهم كل صنف إلى صنف ، كما قال تعالى : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ) [الصافات : ٢٢] وقال : (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) [التكوير : ٧] وقال : (وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً) [الفرقان : ١٣] وقال: (وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) [ص : ٣٧ ـ ٣٨] والأصفاد هي القيود ، قاله ابن عباس وسعيد بن جبير والأعمش وعبد الرحمن بن زيد ، وهو مشهور في اللغة ، قال عمرو بن كلثوم : [الوافر]

فآبوا بالثياب وبالسبايا

وأبنا بالملوك مصفدينا (١)

وقوله : (سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ) أي ثيابهم التي يلبسونها من قطران ، وهو الذي تهنأ به الإبل أي تطلى ، قال قتادة : وهو ألصق شيء بالنار. ويقال فيه : قطران بفتح القاف وكسر الطاء وتسكينها ، وبكسر القاف وتسكين الطاء ، ومنه قول أبي النجم : [رجز]

كأن قطرانا إذا تلاها

ترمي به الريح إلى مجراها (٢)

وكان ابن عباس يقول : القطران هنا النحاس المذاب ، وربما قرأها (سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ) أي من نحاس حار قد انتهى حره ، وكذا روي عن مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وقتادة. وقوله : (وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) كقوله : (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ) [المؤمنون : ١٠٤] وقال الإمام أحمد (٣) رحمه‌الله : حدثنا يحيى بن إسحاق ، أنبأنا أبان بن يزيد عن يحيى بن أبي كثير عن زيد عن أبي سلام ، عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أربع من أمر الجاهلية لا يتركن : الفخر بالأحساب ، والطعن في الأنساب ، والاستسقاء بالنجوم ، والنياحة على الميت ، والنائحة إذا لم تتب قبل موتها ، تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب» انفرد بإخراجه مسلم (٤). وفي حديث القاسم عن أبي أمامة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «النائحة إذا لم تتب توقف في طريق بين الجنة والنار سرابيلها من قطران وتغشى وجهها النار».

وقوله : (لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) أي يوم القيامة كما قال : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا) [النجم : ٣١] الآية (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) يحتمل أن يكون كقوله تعالى :

__________________

(١) البيت في تفسير الطبري ٧ / ٤٨٤ ، والشطر الثاني في تفسير البحر المحيط ٥ / ٤١٩.

(٢) الرجز في تفسير الطبري ٧ / ٤٨٥.

(٣) المسند ٥ / ٣٤٢ ، ٣٤٣ ، ٣٤٤.

(٤) كتاب الجنائز حديث ٢٩.

(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) [الأنبياء : ١] ويحتمل أنه في حال محاسبته لعبده سريع النجاز لأنه يعلم كل شيء ، ولا يخفى عليه خافية ، وإن جميع الخلق بالنسبة إلى قدرته كالواحد منهم ، كقوله تعالى : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) [لقمان: ٢٨] وهذا معنى قول مجاهد (سَرِيعُ الْحِسابِ) إحصاء ويحتمل ان يكون المعنيان مرادين ، والله أعلم.

(هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) (٥٢)

يقول تعالى هذا القرآن بلاغ للناس كقوله : (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) [الأنعام : ١٩] أي هو بلاغ لجميع الخلق من إنس وجن كما قال في أول السورة : (الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) [إبراهيم : ١] الآية ، (وَلِيُنْذَرُوا بِهِ) أي ليتعظوا به (وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) أي يستدلوا بما فيه من الحجج والدلالات على أنه لا إله إلا هو (وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) أي ذوي العقول.

آخر تفسير سورة إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، والحمد لله رب العالمين.

سورة الحجر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (١) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (٢) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (٣)

قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور. وقوله تعالى : (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) الآية ، إخبار عنهم أنهم سيندمون على ما كانوا فيه من الكفر ، ويتمنون لو كانوا في الدنيا مسلمين ، ونقل السدي في تفسيره بسنده المشهور عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من الصحابة ، أن كفار قريش لما عرضوا على النار تمنوا أن لو كانوا مسلمين. وقيل : إن المراد أن كل كافر يود عند احتضاره أن لو كان مؤمنا. وقيل : هذا إخبار عن يوم القيامة ، كقوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الأنعام : ٢٧] وقال سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل ، عن أبي الزعراء ، عن عبد الله في.

قوله : (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) قال : هذا في الجهنميين إذا رأوهم يخرجون من النار (١) ، وقال ابن جرير (٢) : حدثني المثني ، حدثنا مسلم ، حدثنا القاسم ، حدثنا ابن أبي فروة العبدي أن ابن عباس وأنس بن مالك كانا يتأولان هذه الآية (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) يتأولانها يوم يحبس الله أهل الخطايا من المسلمين مع المشركين في النار ، قال : فيقول لهم المشركون : ما أغنى عنكم ما كنتم تعبدون في الدنيا ، قال : فيغضب الله لهم بفضل رحمته فيخرجهم ، فذلك حين يقول : (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) (٣).

وقال عبد الرزاق : أخبرنا الثوري عن حماد عن إبراهيم ، وعن خصيف عن مجاهد قالا : يقول أهل النار للموحدين : ما أغنى عنكم إيمانكم؟ فإذا قالوا ذلك ، قال الله : أخرجوا من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان ، قال : فعند ذلك قوله : (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) (٤) ، وهكذا روي عن الضحاك وقتادة وأبي العالية وغيرهم ، وقد ورد في ذلك أحاديث مرفوعة.

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٤٩٠.

(٢) انظر تفسير الطبري ٧ / ٤٩٠.

(٣) تفسير الطبري ٧ / ٤٩٠.

(٤) راجع الحاشية السابقة.

فقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا محمد بن العباس هو الأخرم ، حدثنا محمد بن منصور الطوسي ، حدثنا صالح بن إسحاق الجهبذ وابن علية يحيى بن موسى ، حدثنا معروف بن واصل عن يعقوب بن نباتة عن عبد الرحمن الأغر ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن ناسا من أهل لا إله إلا الله يدخلون النار بذنوبهم ، فيقول لهم أهل اللات والعزى : ما أغنى عنكم قولكم لا إله إلا الله وأنتم معنا في النار؟ فيغضب الله لهم فيخرجهم فيلقيهم في نهر الحياة ، فيبرءون من حرقهم كما يبرأ القمر من خسوفه ، ويدخلون الجنة ويسمون فيها الجهنميين» ، فقال رجل : يا أنس أنت سمعت هذا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فقال أنس : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» نعم أنا سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول هذا ، ثم قال الطبراني : تفرد به الجهبذ.

[الحديث الثاني] ـ قال الطبراني أيضا : حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، حدثنا أبو الشعثاء علي بن حسن الواسطي ، حدثنا خالد بن نافع الأشعري عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه ، عن أبي موسى رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا اجتمع أهل النار في النار ومعهم من شاء الله من أهل القبلة ، قال الكفار للمسلمين : ألم تكونوا مسلمين؟ قالوا : بلى ، قالوا : فما أغنى عنكم الإسلام وقد صرتم معنا في النار؟ قالوا : كانت لنا ذنوب فأخذنا بها ، فسمع الله ما قالوا فأمر بمن كان في النار من أهل القبلة فأخرجوا. فلما رأى ذلك من بقي من الكفار قالوا : يا ليتنا كنا مسلمين فنخرج كما خرجوا ـ قال : ثم قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ») ورواه ابن أبي حاتم من حديث خالد بن نافع به ، وزاد فيه : بسم الله الرحمن الرحيم عوض الاستعاذة.

[الحديث الثالث] قال الطبراني أيضا : حدثنا موسى بن هارون ، حدثنا إسحاق بن راهويه ، قال : قلت لأبي أسامة أحدثكم أبو روق واسمه عطية بن الحارث حدثني صالح بن أبي طريف قال : سألت أبا سعيد الخدري فقلت له : هل سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في هذه الآية (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ)؟ قال : نعم سمعته يقول : «يخرج الله ناسا من المؤمنين من النار بعد ما يأخذ نقمته منهم» وقال : «لما أدخلهم الله النار مع المشركين ، قال لهم المشركون : تزعمون أنكم أولياء الله في الدنيا فيما بلاكم معنا في النار ، فإذا سمع الله ذلك منهم أذن في الشفاعة لهم ، فتشفع لهم الملائكة والنبيون ، ويشفع المؤمنون حتى يخرجوا بإذن الله ، فإذا رأى المشركون ذلك قالوا : يا ليتنا كنا مثلهم فتدركنا الشفاعة فنخرج معهم ـ قال ـ فذلك قول الله (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) فيسمون في الجنة الجهنميين من أجل سواد في وجوههم ، فيقولون : يا رب أذهب عنا هذا الاسم ، فيأمرهم فيغتسلون في نهر في الجنة فيذهب ذلك الاسم عنهم» فأقرّ به أبو أسامة وقال نعم.

[الحديث الرابع] قال ابن أبي حاتم ، حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا العباس بن الوليد النرسي ، حدثنا مسكين أبو فاطمة ، حدثني اليمان بن يزيد عن محمد بن جبر عن محمد بن علي ، عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «منهم من تأخذه النار إلى ركبتيه ، ومنهم من تأخذه إلى حجزته (١) ، ومنهم من تأخذه النار إلى عنقه ، على قدر ذنوبهم وأعمالهم ، ومنهم من يمكث فيها شهرا ثم يخرج منها ، ومنهم من يمكث فيها سنة ثم يخرج منها ، وأطولهم فيها مكثا بقدر الدنيا منذ يوم خلقت إلى أن تفنى ، فإذا أراد الله أن يخرجهم منها قالت اليهود والنصارى ومن في النار من أهل الأديان والأوثان لمن في النار من أهل التوحيد : آمنتم بالله وكتبه ورسله فنحن وأنتم اليوم في النار سواء ، فيغضب الله لهم غضبا لم يغضبه لشيء فيما مضى ، فيخرجهم إلى عين في الجنة وهو قوله : (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ).

وقوله : (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا) تهديد شديد لهم ووعيد أكيد ، كقوله تعالى : (قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) [النجم : ٣٠]. وقوله : (كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ) [المرسلات : ٤٦] ، ولهذا قال : (وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ) أي عن التوبة والإنابة (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) أي عاقبة أمرهم.

(وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (٤) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ) (٥)

يخبر تعالى أنه ما أهلك قرية إلا بعد قيام الحجة عليها وانتهاء أجلها ، وأنه لا يؤخر أمة حان هلاكها عن ميقاتهم ولا يتقدمون عن مدتهم ، وهذا تنبيه لأهل مكة وإرشاد لهم إلى الإقلاع عما هم عليه من الشرك والعناد والإلحاد الذي يستحقون به الهلاك.

(وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (٨) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (٩)

يخبر تعالى عن كفرهم وعنادهم في قولهم (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) أي الذي تدعي ذلك (إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) أي في دعائك إيانا إلى اتباعك وترك ما وجدنا عليه آباءنا (لَوْ ما) أي هلا (تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ) أي يشهدون لك بصحة ما جئت به إن كنت من الصادقين ، كما قال فرعون (فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) [الزخرف : ٥٢] ، (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً)

__________________

(١) الحجزة : معقد الإزار.

[الفرقان : ٢١ ـ ٢٢] ، وكذا قال في هذه الآية : (ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ).

وقال مجاهد في قوله : (ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِ) بالرسالة والعذاب (١) ، ثم قرر تعالى أنه هو الذي أنزل عليه الذكر وهو القرآن ، وهو الحافظ له من التغيير والتبديل ، ومنهم من أعاد الضمير في قوله تعالى : (لَهُ لَحافِظُونَ) على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كقوله (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) والمعنى الأول أولى وهو ظاهر السياق.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (١٠) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١١) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) (١٣)

يقول تعالى مسليا لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تكذيب من كذبه من كفار قريش : إنه أرسل من قبله في الأمم الماضية وإنه ما أتى أمة من رسول إلا كذبوه واستهزءوا به ، ثم أخبر أنه سلك التكذيب في قلوب المجرمين الذين عاندوا واستكبروا عن اتباع الهدى قال أنس والحسن البصري (كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) يعني الشرك (٢). وقوله (قَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) أي قد علم ما فعل تعالى بمن كذب رسله من الهلاك والدمار ، وكيف أنجى الله الأنبياء وأتباعهم في الدنيا والآخرة.

(وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) (١٥)

يخبر تعالى عن قوّة كفرهم وعنادهم ومكابرتهم للحق أنه لو فتح لهم بابا من السماء فجعلوا يصعدون فيه لما صدقوا بذلك ، بل قالوا : (إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا) قال مجاهد وابن كثير والضحاك : سدت أبصارنا. وقال قتادة عن ابن عباس : أخذت أبصارنا. وقال العوفي عن ابن عباس : شبه علينا وإنما سحرنا. وقال الكلبي : عميت أبصارنا. وقال ابن زيد : (سُكِّرَتْ أَبْصارُنا) ، السكران الذي لا يعقل (٣).

(وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (١٦) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (١٧) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (١٨) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (١٩) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) (٢٠)

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٤٩٣.

(٢) انظر تفسير الطبري ٧ / ٤٩٤.

(٣) انظر تفسير الطبري ٧ / ٤٩٨.

يذكر تعالى خلقه السماء في ارتفاعها وما زينها به من الكواكب الثوابت والسيارات ، لمن تأمل وكرر النظر فيما يرى من العجائب والآيات الباهرات ، ما يحار نظره فيه ، وبهذا قال مجاهد وقتادة : البروج هاهنا هي الكواكب. (قلت) : وهذا كقوله تبارك وتعالى (تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً) [الفرقان : ٦١] الآية. ومنهم من قال : البروج هي منازل الشمس والقمر. وقال عطية العوفي : البروج هاهنا هي قصور الحرس. وجعل الشهب حرسا لها من مردة الشياطين لئلا يسمعوا إلى الملأ الأعلى ، فمن تمرد وتقدم منهم لاستراق السمع جاءه شهاب مبين فأتلفه ، فربما يكون قد ألقى الكلمة التي سمعها قبل أن يدركه الشهاب إلى الذي هو دونه فيأخذها الآخر ويأتي بها إلى وليه ، كما جاء مصرحا به في الصحيح.

كما قال البخاري (١) في تفسير هذه الآية : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا سفيان عن عمرو عن عكرمة ، عن أبي هريرة يبلغ به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان» قال علي وقال غيره صفوان ينفذهم ذلك ، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم؟ قالوا : للذي قال الحق وهو العلي الكبير ، فيسمعها مسترقو السمع ، ومسترقو السمع هكذا واحد فوق آخر ، ووصف سفيان بيده ، وفرج بين أصابع يده اليمنى ، نصبها بعضها فوق بعض ، فربما أدرك الشهاب المستمع قبل أن يرمي بها إلى صاحبه فيحرقه ، وربما لم يدركه حتى يرمي بها إلى الذي يليه إلى الذي هو أسفل منه حتى يلقوها إلى الأرض ، وربما قال سفيان : حتى تنتهي إلى الأرض فتلقى على فم الساحر أو الكاهن فيكذب معها مائة كذبة فيصدق ، فيقولون : ألم يخبرنا يوم كذا وكذا يكون كذا وكذا ، فوجدناه حقا للكلمة التي سمعت من السماء.

ثم ذكر تعالى خلقه الأرض ومده إياها وتوسيعها وبسطها ، وما جعل فيها من الجبال الرواسي ، والأودية والأراضي والرمال ، وما أنبت فيها من الزروع والثمار المتناسبة.

وقال ابن عباس (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) أي معلوم ، وكذا قال سعيد بن جبير وعكرمة وأبو مالك ومجاهد والحكم بن عتيبة والحسن بن محمد وأبو صالح وقتادة ، ومنهم من يقول : مقدر بقدر. وقال ابن زيد : من كل شيء يوزن ويقدر بقدر ، وقال ابن زيد : ما يزنه أهل الأسواق. وقوله : (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) يذكر تعالى أنه صرفهم في الأرض في صنوف الأسباب والمعايش وهي جمع معيشة. وقوله : (وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) قال مجاهد : هي الدواب والأنعام.

__________________

(١) كتاب التفسير ، تفسير سورة ١٥ ، باب ١ ، وتفسير سورة ٣٤ ، باب ١.

وقال ابن جرير (١) : هم العبيد والإماء والدواب والأنعام ، والقصد أنه تعالى يمتن عليهم بما يسر لهم من أسباب المكاسب ووجوه الأسباب وصنوف المعايش ، وبما سخر لهم من الدواب التي يركبونها ، والأنعام التي يأكلونها ، والعبيد والإماء التي يستخدمونها ، ورزقهم على خالقهم لا عليهم ، فلهم هم المنفعة ، والرزق على الله تعالى.

(وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢١) وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (٢٢) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (٢٣) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (٢٤) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (٢٥)

يخبر تعالى أنه مالك كل شيء وأن كل شيء سهل عليه يسير لديه ، وأن عنده خزائن الأشياء من جميع الصنوف (وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) كما يشاء وكما يريد ، ولما له في ذلك من الحكمة البالغة والرحمة بعباده لا على جهة الوجوب بل هو كتب على نفسه الرحمة قال يزيد بن أبي زياد عن أبي جحيفة عن عبد الله : ما من عام بأمطر من عام ، ولكن الله يقسمه بينهم حيث شاء عاما هاهنا وعاما هاهنا ، ثم قرأ (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) الآية ، رواه ابن جرير (٢) ، وقال أيضا : حدثنا القاسم ، حدثنا هشيم ، أخبرنا إسماعيل بن سالم عن الحكم بن عتيبة في قوله : (وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) قال : ما عام بأكثر مطرا من عام ولا أقل ، ولكنه يمطر قوم ويحرم آخرون بما كان في البحر ، قال : وبلغنا أنه ينزل مع المطر من الملائكة أكثر من عدد ولد إبليس ، وولد آدم يحصون كل قطرة حيث تقع وما تنبت (٣).

وقال البزار : حدثنا داود هو ابن بكير ، حدثنا حيان بن أغلب بن تميم ، حدثني أبي عن هشام ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خزائن الله الكلام ، فإذا أراد شيئا قال له كن فكان» ثم قال : لا يرويه إلا أغلب وليس بالقوي ، وقد حدث عنه غير واحد من المتقدمين ، ولم يروه عنه إلا ابنه. وقوله تعالى : (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) أي تلقح السحاب فتدر ماء ، وتلقح الشجر فتفتح عن أوراقها وأكمامها ، وذكرها بصيغة الجمع ليكون منها الإنتاج بخلاف الريح العقيم ، فإنه أفردها ووصفها بالعقيم وهو عدم الإنتاج ، لأنه لا يكون إلا من شيئين فصاعدا.

وقال الأعمش عن المنهال بن عمرو ، عن قيس بن السكن ، عن عبد الله بن مسعود في قوله : (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) قال : ترسل الريح فتحمل الماء من السماء ، ثم تمرى السحاب

__________________

(١) تفسير الطبري ٧ / ٥٠٣.

(٢) تفسير الطبري ٧ / ٥٠٣ ، ٥٠٤.

(٣) تفسير الطبري ٧ / ٥٠٤.

حتى تدر كما تدر اللقحة ، وكذا قال ابن عباس وإبراهيم النخعي وقتادة. وقال الضحاك : يبعثها الله على السحاب فتلقحه فيمتلئ ماء. وقال عبيد بن عمير الليثي : يبعث الله المبشرة فتقم الأرض قما ، ثم يبعث الله المثيرة فتثير السحاب ، ثم يبعث الله المؤلفة فتؤلف السحاب ، ثم يبعث الله اللواقح فتلقح الشجر ، ثم تلا (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ).

وقد روى ابن جرير (١) من حديث عبيس بن ميمون عن أبي المهزم عن أبي هريرة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الريح الجنوب من الجنة ، وهي التي ذكر الله في كتابه ، وفيها منافع للناس» وهذا إسناد ضعيف ، وقال الإمام أبو بكر عبد الله بن الزبير الحميدي في مسنده. حدثنا سفيان ، حدثنا عمرو بن دينار ، أخبرني يزيد بن جعدية الليثي أنه سمع عبد الرحمن بن مخراق يحدث عن أبي ذر ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله خلق في الجنة ريحا بعد الريح بسبع سنين ، وإن من دونها بابا مغلقا ، وإنما يأتيكم الريح من ذلك الباب ، ولو فتح لأذرت ما بين السماء والأرض من شيء ، وهي عند الله الأزيب (٢) ، وهي فيكم الجنوب».

وقوله : (فَأَسْقَيْناكُمُوهُ) أي أنزلناه لكم عذبا يمكنكم أن تشربوا منه لو نشاء جعلناه أجاجا ، كما نبه على ذلك في الآية الأخرى في سورة الواقعة ، وهو قوله تعالى : (أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ) [الواقعة : ٦٨] ، وفي قوله : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ) [النحل : ١٠]. وقوله : (وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ) قال سفيان الثوري : بما نعين ، ويحتمل أن المراد وما أنتم له بحافظين ، بل نحن ننزله ونحفظه عليكم ونجعله معينا وينابيع في الأرض ، ولو شاء تعالى لأغاره وذهب به ، ولكن من رحمته أنزله وجعله عذبا ، وحفظه في العيون والآبار والأنهار وغير ذلك ، ليبقى لهم في طول السنة يشربون ويسقون أنعامهم وزروعهم وثمارهم.

وقوله : (وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ) إخبار عن قدرته تعالى على بدء الخلق وإعادته ، وأنه هو الذي أحيا الخلق من العدم ، ثم يميتهم ثم يبعثهم كلهم ليوم الجمع ، وأخبر أنه تعالى يرث الأرض ومن عليها ، وإليه يرجعون ، ثم أخبر تعالى عن تمام علمه بهم أولهم وآخرهم ، فقال : (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ) الآية ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : المستقدمون كل من هلك من لدن آدم عليه‌السلام ، والمستأخرون من هو حي ومن سيأتي إلى يوم القيامة ، وروي نحوه عن عكرمة ومجاهد والضحاك وقتادة ومحمد بن كعب والشعبي وغيرهم ، وهو اختيار ابن جرير(٣)رحمه‌الله.

__________________

(١) تفسير الطبري ٧ / ٥٠٦ ، وفيه : عيسى بن ميمون بدل عبيس بن ميمون.

(٢) الأزيب : رياح الجنوب ، وتسمى النكهاء تجري بينها وبين الصبا.

(٣) تفسير الطبري ٧ / ٥٠٧ ، ٥٠٨.

وقال ابن جرير (١) : حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه ، عن رجل ، عن مروان بن الحكم أنه قال : كان أناس يستأخرون في الصفوف من أجل النساء ، فأنزل الله (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) ، وقد ورد فيه حديث غريب جدا ، فقال ابن جرير (٢) : حدثني محمد بن موسى الجرشي ، حدثنا نوح بن قيس ، حدثنا عمرو بن قيس ، حدثنا عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كانت تصلي خلف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم امرأة حسناء ، قال ابن عباس : لا والله ما رأيت مثلها قط ، وكان بعض المسلمين إذا صلوا استقدموا ، يعني لئلا يروها ، وبعض يستأخرون ، فإذا سجدوا نظروا إليها من تحت أيديهم ، فأنزل الله (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) (٣).

وكذا رواه أحمد وابن أبي حاتم في تفسيره ، ورواه الترمذي والنسائي في كتاب التفسير من سننيهما ، وابن ماجة من طرق عن نوح بن قيس الحداني ، وقد وثقه أحمد وأبو داود وغيرهما ، وحكي عن ابن معين تضعيفه ، وأخرجه مسلم وأهل السنن ، وهذا الحديث فيه نكارة شديدة ، وقد رواه عبد الرزاق عن جعفر بن سليمان ، عن عمرو بن مالك وهو النكري أنه سمع أبا الجوزاء يقول في قوله : (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ) في الصفوف في الصلاة و (الْمُسْتَأْخِرِينَ) فالظاهر أنه من كلام أبي الجوزاء فقط ، ليس فيه لابن عباس ذكر ، وقد قال الترمذي : هذا أشبه من رواية نوح بن قيس ، والله أعلم.

وهكذا روى ابن جرير (٤) عن محمد بن أبي معشر ، عن أبيه أنه سمع عون بن عبد الله يذكر محمد بن كعب في قوله : (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) وأنها في صفوف الصلاة ، فقال محمد بن كعب : ليس هكذا (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ) الميت والمقتول و (الْمُسْتَأْخِرِينَ) من يخلق بعد (وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) فقال عون بن عبد الله : وفقك الله وجزاك خيرا.

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٦) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ) (٢٧)

قال ابن عباس ومجاهد وقتادة : المراد بالصلصال هاهنا التراب اليابس ، والظاهر أنه كقوله تعالى : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ) [الرحمن : ١٤ ـ

__________________

(١) تفسير الطبري ٧ / ٥٠٩.

(٢) تفسير الطبري ٧ / ٥٠٩ ، ٥١٠ ، وفيه محمد بن موسى الحرسي بدل الجرشي.

(٣) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ١٥ ، باب ١ ، والنسائي في الإمامة باب ٦٢ ، وابن ماجة في الإقامة باب ٦٨ ، وأحمد في المسند ١ / ٣٠٥.

(٤) تفسير الطبري ٧ / ٥٠٧.

١٥] وعن مجاهد أيضا الصلصال المنتن ، وتفسير الآية بالآية أولى. قوله : (مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) أي الصلصال من حمأ ، وهو الطين. والمسنون : الأملس ، كما قال الشاعر : [الخفيف]

ثم خاصرتها إلى القبّة الخضراء

تمشي في مرمر مسنون (١)

أي أملس صقيل ، ولهذا روي عن ابن عباس أنه قال : هو التراب الرطب ، وعن ابن عباس ومجاهد أيضا والضحاك : أن الحمأ المسنون هو المنتن. وقيل : المراد بالمسنون هاهنا المصبوب. وقوله : (وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ) أي من قبل الإنسان (مِنْ نارِ السَّمُومِ) قال ابن عباس : هي السموم التي تقتل ، وقال بعضهم : السموم بالليل والنهار ، ومنهم من يقول : السموم بالليل والحرور بالنهار. وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا شعبة عن أبي إسحاق قال : دخلت على عمر الأصم أعوده ، فقال : ألا أحدثك حديثا سمعته من عبد الله بن مسعود ، يقول هذه السموم جزء من سبعين جزءا من السموم التي خلق منها الجان ، ثم قرأ (وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ).

وعن ابن عباس : أن الجان خلق من لهب النار ، وفي رواية : من أحسن النار. وعن عمرو بن دينار : من نار الشمس. وقد ورد في الصحيح «خلقت الملائكة من نور ، وخلقت الجان من مارج من نار ، وخلق آدم مما وصف لكم» (٢). والمقصود من الآية التنبيه على شرف آدمعليه‌السلام وطيب عنصره وطهارة محتده.

(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٢٩) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣١) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ(٣٢) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) (٣٣)

يذكر تعالى تنويهه بذكر آدم في ملائكة قبل خلقه وتشريفه إياه بأمر الملائكة بالسجود له ، ويذكر تخلف إبليس عدوه عن السجود له من بين سائر الملائكة حسدا وكفرا وعنادا واستكبارا وافتخارا بالباطل ، ولهذا قال : (لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) كقوله (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) [الأعراف : ١٢] وقوله : (أَرَأَيْتَكَ هذَا

__________________

(١) البيت لأبي دهبل الجمحي في ديوانه ص ٧٠ ، ولسان العرب (خصر) ، (سنن) ، والتنبيه والإيضاح ٢ / ١٥٥ ، ولعبد الرحمن بن حسان في أساس البلاغة (خصر) ، وتهذيب اللغة ٧ / ١٢٧ ، وتاج العروس (سنن) ، ولأبي العيال أو لعبد الرحمن بن حسان في لسان العرب (سنن) ، والكامل ص ٣٨٨ ، وجمهرة اللغة ص ٥٨٦ ، وكتاب العين ٤ / ١٨٣ ، وتاج العروس (خصر) ، ومقاييس اللغة ٢ / ١٨٩.

(٢) أخرجه مسلم في الزهد حديث ٦٠ ، وأحمد في المسند ٦ / ١٥٣ ، ١٦٨.

الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَ) [الإسراء : ٦٢] الآية.

وقد روى ابن جرير (١) هاهنا أثرا غريبا عجيبا من حديث شبيب بن بشر عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : لما خلق الله الملائكة قال : (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) قالوا : لا نفعل ، فأرسل عليهم نارا فأحرقتهم ، ثم خلق ملائكة أخرى فقال لهم مثل ذلك ، فقالوا : لا نفعل ، فأرسل عليهم نارا فأحرقتهم ، ثم خلق ملائكة أخرى فقال : إني خالق بشرا من طين ، فإذا أنا خلقته فاسجدوا له فأبوا ، فأرسل عليهم نارا فأحرقتهم ، ثم خلق ملائكة فقال : إني خالق بشرا من طين ، فإذا أنا خلقته فاسجدوا له ، قالوا :

سمعنا وأطعنا ، إلا إبليس كان من الكافرين الأولين ، وفي ثبوت هذا عنه بعد ، والظاهر أنه إسرائيلي ، والله أعلم.

(قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٣٥) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) (٣٨)

يذكر تعالى أنه أمر إبليس أمرا كونيا لا يخالف ولا يمانع بالخروج من المنزلة التي كان فيها من الملأ الأعلى ، وأنه رجيم أي مرجوم ، وأنه قد أتبعه لعنة لا تزال متصلة به لاحقة له متواترة عليه إلى يوم القيامة. وعن سعيد بن جبير أنه قال : لما لعن الله إبليس ، تغيرت صورته عن صورة الملائكة ، ورن رنة ، فكل رنة في الدنيا إلى يوم القيامة منها ، رواه ابن أبي حاتم ، وأنه لما تحقق الغضب الذي لا مرد له ، سأل من تمام حسده لآدم وذريته النظرة إلى يوم القيامة ، وهو يوم البعث ، وأنه أجيب إلى ذلك استدراجا له وإمهالا ، فلما تحقق النظرة قبحه الله.

(قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٤١) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (٤٢) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٣) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) (٤٤)

يقول تعالى مخبرا عن إبليس وتمرده وعتوه أنه قال للرب : (بِما أَغْوَيْتَنِي) قال بعضهم :

أقسم بإغواء الله له. (قلت) ويحتمل أنه بسبب ما أغويتني وأضللتني (لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ) أي لذرية آدم عليه‌السلام (فِي الْأَرْضِ) أي أحبب إليهم المعاصي وأرغبهم فيها وأؤزهم إليها ، وأزعجهم إليها إزعاجا (وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) أي كما أغويتني وقدرت عليّ ذلك (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) كقوله : (أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً) [الإسراء : ٦٢].

__________________

(١) تفسير الطبري ٧ / ٥١٥.

(قالَ) الله تعالى له متهددا ومتوعدا (هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) أي مرجعكم كلكم إليّ ، فأجازيكم بأعمالكم إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، كقوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) [الفجر : ١٤]. وقيل : طريق الحق مرجعها إلى الله تعالى ، وإليه تنتهي ، قاله مجاهد والحسن وقتادة كقوله : (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) [النحل : ٩] وقرأ قيس بن عبادة ومحمد بن سيرين وقتادة (هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) كقوله : (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) [الزخرف : ٤] أي رفيع والمشهور القراءة الأولى.

وقوله (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) أي الذي قدرت لهم الهداية فلا سبيل لك عليهم ولا وصول لك إليهم (إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) استثناء منقطع.

وقد أورد ابن جرير (١) هاهنا من حديث عبد الله بن المبارك عن عبد الله بن موهب ، حدثنا يزيد بن قسيط قال : كانت الأنبياء يكون لهم مساجد خارجة من قراهم ، فإذا أراد النبي أن يستنبئ ربه عن شيء خرج إلى مسجده فصلى ما كتب الله له ، ثم سأله ما بدا له ، فبينا نبي في مسجده إذ جاء عدو الله ـ يعني إبليس ـ حتى جلس بينه وبين القبلة ، فقال النبي : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، قال : فردد ذلك ثلاث مرات.

فقال عدو الله : أخبرني بأي شيء تنجو مني؟ فقال النبي : بل أخبرني بأي شيء تغلب ابن آدم مرتين؟ فأخذ كل واحد منهما على صاحبه ، فقال النبي : إن الله تعالى يقول : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ). قال عدو الله : قد سمعت هذا قبل أن تولد. قال النبي : ويقول الله : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) ، وإني والله ما أحسست بك قط إلا استعذت بالله منك. قال عدو الله : صدقت بهذا تنجو مني ، فقال النبي : أخبرني بأي شيء تغلب ابن آدم؟ قال آخذه عند الغضب والهوى.

قوله : (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ) أي جهنم موعد جميع من اتبع إبليس ، كما قال عن القرآن (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) [هود : ١٧] ، ثم أخبر أن لجهنم سبعة أبواب (لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) أي قد كتب لكل باب منها جزء من أتباع إبليس يدخلونه لا محيد لهم عنه ، أجارنا الله منها ، وكل يدخل من باب بحسب عمله ، ويستقر في درك بقدر عمله. قال إسماعيل ابن علية وشعبة ، كلاهما عن أبي هارون الغنوي عن حطان بن عبد الله أنه قال : سمعت علي بن أبي طالب وهو يخطب قال : إن أبواب جهنم هكذا ـ قال أبو هارون ـ أطباقا بعضها فوق بعض. وقال إسرائيل عن أبي إسحاق عن هبيرة بن أبي يريم ، عن علي رضي الله عنه قال : أبواب جهنم سبعة بعضها فوق بعض ، فيمتلئ الأول ثم الثاني ثم الثالث حتى تمتلئ كلها.

__________________

(١) تفسير الطبري ٧ / ٥١٧ ، ٥١٨.

وقال عكرمة : سبعة أبواب سبعة أطباق ، وقال ابن جريج : سبعة أبواب : أولها جنهم ، ثم لظى ، ثم الحطمة ، ثم السعير ، ثم سقر ، ثم الجحيم ، ثم الهاوية. وروى الضحاك عن ابن عباس نحوه : وكذا روي عن الأعمش بنحوه أيضا ، وقال قتادة : (لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) هي والله منازل بأعمالهم ، رواهن ابن جرير ، وقال جويبر عن الضحاك (لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) قال : باب لليهود ، وباب للنصارى ، وباب للصابئين ، وباب للمجوس ، وباب للذين أشركوا وهم كفار العرب ، وباب للمنافقين ، وباب لأهل التوحيد ، فأهل التوحيد يرجى لهم ولا يرجى لأولئك أبدا.

وقال الترمذي : حدثنا عبد بن حميد ، حدثنا عثمان بن عمر عن مالك بن مغول عن حميد عن ابن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لجهنم سبعة أبواب ، باب منها لمن سل السيف على أمتي ـ أو قال على أمة محمد» (١) ثم قال : لا نعرفه إلا من حديث مالك بن مغول.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا عباس بن الوليد الخلال ، حدثنا زيد ـ يعني ابن يحيى ـ حدثنا سعيد بن بشير عن قتادة عن أبي نضرة عن سمرة بن جندب ، عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) قال «إن من أهل النار من تأخذه النار إلى كعبيه ، وإن منهم من تأخذه النار إلى حجزته ، ومنهم من تأخذه النار إلى تراقيه ، منازلهم بأعمالهم ، فذلك قوله : (لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) (٢).

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٤٥) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (٤٦) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٧) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ(٤٨) نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) (٥٠)

لما ذكر تعالى حال أهل النار ، عطف على ذكر أهل الجنة وأنهم في جنات وعيون. وقوله : (ادْخُلُوها بِسَلامٍ) أي سالمين من الآفات ، مسلم عليكم (آمِنِينَ) أي من كل خوف وفزغ ، ولا تخشوا من إخراج ولا انقطاع ولا فناء ، وقوله : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) روى القاسم عن أبي أمامة قال : يدخل أهل الجنة الجنة على ما في صدورهم في الدنيا من الشحناء والضغائن ، حتى إذا توافوا وتقابلوا نزع الله ما في صدورهم في الدنيا من غل ، ثم قرأ (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) هكذا في هذه الرواية ، والقاسم بن عبد الرحمن في روايته عن أبي أمامة ضعيف ، وقد روى سنيد في تفسيره : حدثنا ابن فضالة عن لقمان عن أبي أمامة قال : لا يدخل الجنة مؤمن حتى ينزع الله ما في صدره من غل حتى ينزع منه مثل السبع الضاري.

__________________

(١) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ١٥ ، باب ٢ ، وأحمد في المسند ٢ / ٩٤.

(٢) أخرجه مسلم في الجنة حديث ٣٢ ، ٣٣ ، وأحمد في المسند ٥ / ١٠ ، ٢٥٤.

وهذا موافق لما في الصحيح من رواية قتادة : حدثنا أبو المتوكل الناجي أن أبا سعيد الخدري حدثهم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يخلص المؤمن من النار ، فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار. فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا ، أذن لهم في دخول الجنة» (١).

وقال ابن جرير (٢) : حدثنا الحسن ، حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا هشام عن محمد هو ابن سيرين قال : استأذن الأشتر على علي رضي الله عنه ، وعنده ابن لطلحة فحبسه ثم أذن له ، فلما دخل قال : إني لأراك إنما حبستني لهذا ، قال : أجل ، قال : إني لأراه لو كان عندك ابن لعثمان لحبستني ، قال : أجل إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان ممن قال الله تعالى (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) وقال ابن جرير (٣) أيضا : حدثنا الحسن ، حدثنا أبو معاوية الضرير ، حدثنا أبو مالك الأشجعي ، عن أبي حبيبة مولى لطلحة قال : دخل عمران بن طلحة على علي رضي الله عنه بعد ما فرغ من أصحاب الجمل ، فرحب به وقال : إني لأرجو أن يجعلني الله وأباك من الذين قال الله (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ).

وقال : ورجلان جالسان إلى ناحية البساط ، فقالا : الله أعدل من ذلك تقتلهم بالأمس وتكونون إخوانا ، فقال علي رضي الله عنه : قوما أبعد أرض وأسحقها ، فمن هم إذا إن لم أكن أنا وطلحة؟ وذكر أبو معاوية الحديث بطوله ، وروى وكيع عن أبان بن عبد الله البجلي عن نعيم بن أبي هند ، عن ربعي بن جراش عن علي نحوه ، وقال فيه فقام رجل من همدان فقال : الله أعدل من ذلك يا أمير المؤمنين ، قال : فصاح به علي صيحة فظننت أن القصر تدهده لها ، ثم قال : إذا لم نكن نحن فمن هم؟

وقال سعيد بن مسروق عن أبي طلحة ، وذكره وفيه : فقال الحارث الأعور ذلك ، فقام إليه علي رضي الله عنه فضربه بشيء كان في يده في رأسه ، وقال : فمن هم يا أعور إذا لم نكن نحن؟ وقال سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم قال : جاء ابن جرموز قاتل الزبير يستأذن على علي رضي الله عنه فحجبه طويلا ثم أذن له فقال له : أما أهل البلاء فتجفوهم ، فقال علي : بفيك التراب إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير ممن قال الله : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) وكذا روى الثوري عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي بنحوه. وقال سفيان بن عيينة عن إسرائيل عن أبي موسى سمع الحسن البصري يقول : قال علي : فينا

__________________

(١) أخرجه البخاري في الرقاق باب ٤٨ ، وأحمد في المسند ٣ / ١٣ ، ٥٧ ، ٦٣ ، ٧٤ ، ٩٤.

(٢) تفسير الطبري ٧ / ٥٢٠.

(٣) تفسير الطبري ٧ / ٥٢٠.

والله أهل بدر نزلت هذه الآية (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ).

وقال كثير النواء : دخلت على أبي جعفر محمد بن علي فقلت : وليي وليكم ، وسلمي سلمكم ، وعدوي عدوكم ، وحربي حربكم ، أنا أسألك بالله أتبرأ من أبي بكر وعمر فقال : (قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) تولهما يا كثير فما أدركك فهو في رقبتي هذه ، ثم تلا هذه الآية (إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) قال : أبو بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم أجمعين ، وقال الثوري عن رجل عن أبي صالح في قوله : (إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) قال : هم عشرة : أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة ، والزبير وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين. وقوله : (مُتَقابِلِينَ) قال مجاهد : لا ينظر بعضهم في قفا بعض ، وفيه حديث مرفوع.

قال ابن أبي حاتم : حدثنا يحيى بن عبدك القزويني ، حدثنا حسان بن حسان ، حدثنا إبراهيم بن بشير ، حدثنا يحيى بن معين عن إبراهيم القرشي عن سعيد بن شرحبيل ، عن زيد بن أبي أوفى قال : خرج علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتلا هذه الآية (إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) في الله ينظر بعضهم إلى بعض. وقوله : (لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ) يعني المشقة والأذى ، كما جاء في الصحيحين «أن الله أمرني أن أبشر خديجة ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب»(١).

وقوله : (وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) كما جاء في الحديث «يقال يا أهل الجنة إن لكم أن تصحوا فلا تمرضوا أبدا ، وإن لكم أن تعيشوا فلا تموتوا أبدا ، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا ، وإن لكم أن تقيموا فلا تظعنوا أبدا». وقال الله تعالى : (خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً) (٢) [الكهف : ١٠٨].

وقوله : (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) أي أخبر يا محمد عبادي أني ذو رحمة وذو عذاب أليم ، وقد تقدم ذكر نظير هذه الآية الكريمة وهي دالة على مقامي الرجاء والخوف ، وذكر في سبب نزولها ما رواه موسى بن عبيدة عن مصعب بن ثابت قال : مر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ناس من أصحابه يضحكون فقال «اذكروا الجنة واذكروا النار» فنزلت (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) رواه ابن أبي حاتم وهو مرسل.

وقال ابن جرير (٣) : حدثني المثنى ، حدثنا إسحاق ، أخبرنا ابن المكي ، أخبرنا ابن

__________________

(١) أخرجه البخاري في العمرة باب ١١ ، والتوحيد باب ٣٥ ، ومسلم في فضائل الصحابة حديث ٧١ ، ٧٢.

(٢) أخرجه مسلم في الجنة حديث ٢٢.

(٣) تفسير الطبري ٧ / ٥٢٢.

المبارك ، أخبرنا مصعب بن ثابت ، حدثنا عاصم بن عبيد الله عن ابن أبي رياح ، عن رجل من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : طلع علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الباب الذي يدخل منه بنو شيبة فقال «ألا أراكم تضحكون» ثم أدبر حتى إذا كان عند الحجر رجع إلينا القهقرى فقال : «إني لما خرجت جاء جبريل عليه‌السلام فقال : يا محمد إن الله يقول لك لم تقنط عبادي (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ») وقال شعبة عن قتادة في قوله : (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) قال : بلغنا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لو يعلم العبد قدر عفو الله لما تورع من حرام ، ولو يعلم العبد قدر عذاب الله لبخع نفسه».

(وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (٥١) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ(٥٢) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٥٣) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (٥٤) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (٥٥) قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ) (٥٦)

يقول تعالى : وأخبرهم يا محمد عن قصة (ضَيْفِ إِبْراهِيمَ) والضيف يطلق على الواحد والجمع كالزور والسفر ، وكيف (دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ) أي خائفون ، وقد ذكر سبب خوفه منهم لما رأى أيديهم لا تصل إلى ما قربه إليهم من الضيافة ، وهو العجل السمين الحنيذ (قالُوا لا تَوْجَلْ) أي لا تخف (وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) أي إسحاق عليه‌السلام كما تقدم في سورة هود ثم (قالَ) متعجبا من كبره وكبر زوجته ومتحققا للوعد (أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) فأجابوه مؤكدين لما بشروه به تحقيقا وبشارة بعد بشارة (قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ) وقرأ بعضهم القنطين فأجابهم بأنه ليس يقنط ، ولكن يرجو من الله الولد ، وإن كان قد كبر وأسنت امرأته فإنه يعلم من قدرة الله ورحمته ما هو أبلغ من ذلك.

(قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٥٧) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٩) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ) (٦٠)

يقول تعالى إخبارا عن إبراهيم عليه‌السلام لما ذهب عنه الروع وجاءته البشرى ، أنه شرع يسألهم عما جاءوا له ، فقالوا : (إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) يعنون قوم لوط ، وأخبروه أنهم سينجون آل لوط من بينهم إلا امرأته فإنها من الهالكين ، ولهذا قالوا : (إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ) أي الباقين المهلكين.

(فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (٦١) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٦٢) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (٦٣) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ) (٦٤)

يخبر تعالى عن لوط لما جاءته الملائكة في صورة شباب حسان الوجوه ، فدخلوا عليه داره

قال : (إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ) يعنون بعذابهم وهلاكهم ودمارهم الذي كانوا يشكون في وقوعه بهم وحلوله بساحتهم (وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِ) كقوله تعالى : (ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِ) [الحجر : ٨]. وقوله : (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) تأكيد لخبرهم إياه بما أخبروه به من نجاته وإهلاك قومه.

(فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (٦٥) وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ) (٦٦)

يذكر تعالى عن الملائكة أنهم أمروه أن يسري بأهله بعد مضي جانب من الليل ، وأن يكون لوط عليه‌السلام يمشي وراءهم ليكون أحفظ لهم ، وهكذا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمشي في الغزو إنما يكون ساقة يزجي الضعيف ويحمل المنقطع.

وقوله : (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ) أي إذا سمعتم الصيحة بالقوم فلا تلتفتوا إليهم وذروهم فيما حل بهم من العذاب والنكال (وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ) كأنه كان معهم من يهديهم السبيل (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ) أي تقدمنا إليه في هذا (أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ) أي وقت الصباح كقوله في الآية الأخرى : (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ) [هود : ٨١].

(وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (٦٧) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (٦٨) وَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ (٦٩) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (٧٠) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٧١) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) (٧٢)

يخبر تعالى عن مجيء قوم لوط لما علموا بأضيافه وصباحة وجوههم ، وأنهم جاءوا مستبشرين بهم فرحين (قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ وَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ) وهذا إنما قاله لهم قبل أن يعلم أنهم رسل الله ، كما قال في سورة هود ، وأما هاهنا فتقدم ذكر أنهم رسل الله وعطف بذكر مجيء قومه ومحاجته لهم ، ولكن الواو لا تقتضي الترتيب ولا سيما إذا دل دليل على خلافه ، فقالوا له مجيبين : (أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ) أي أو ما نهيناك أن تضيف أحدا؟ فأرشدهم إلى نسائهم وما خلق لهم ربهم منهن من الفروج المباحة. وقد تقدم إيضاح القول في ذلك بما أغنى عن إعادته. هذا كله وهم غافلون عما يراد بهم وما قد أحاط بهم من البلاء وماذا يصبحهم من العذاب المنتظر. ولهذا قال تعالى لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) أقسم تعالى بحياة نبيه صلوات الله وسلامه عليه ، وفي هذا تشريف عظيم ومقام رفيع وجاه عريض.

قال عمرو بن مالك البكري عن أبي الجوزاء عن ابن عباس أنه قال : ما خلق الله وما ذرأ وما برأ نفسا أكرم عليه من محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غيره ، قال الله تعالى : (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) يقول : وحياتك وعمرك وبقاؤك في الدنيا (إِنَّهُمْ لَفِي

سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) رواه ابن جرير (١) ، وقال قتادة : (لَفِي سَكْرَتِهِمْ) أي في ضلالهم (يَعْمَهُونَ) أي يلعبون ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (لَعَمْرُكَ) لعيشك (إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) قال يترددون.

(فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (٧٣) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (٧٤) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (٧٥) وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (٧٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) (٧٧)

يقول تعالى : (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) وهي ما جاءهم به من الصوت القاصف عند شروق الشمس وهو طلوعها ، وذلك مع رفع بلادهم إلى عنان السماء ، ثم قلبها وجعل عاليها سافلها ، وإرسال حجارة السجيل عليهم وقد تقدم الكلام على السجيل في هود بما فيه كفاية. وقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) أي إن آثار هذه النقم الظاهرة على تلك البلاد لمن تأمل ذلك وتوسمه بعين بصره وبصيرته ، كما قال مجاهد في قوله : (لِلْمُتَوَسِّمِينَ) قال : المتفرسين. وعن ابن عباس والضحاك : للناظرين. وقال قتادة : للمعتبرين. وقال مالك عن بعض أهل المدينة (لِلْمُتَوَسِّمِينَ) للمتأملين.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن عرفة ، حدثنا محمد بن كثير العبدي عن عمرو بن قيس ، عن عطية عن أبي سعيد مرفوعا قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اتقوا فراسة المؤمن ، فإنه ينظر بنور الله» ثم قرأ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) (٢) رواه الترمذي : وابن جرير من حديث عمرو بن قيس الملائي عن عطية عن أبي سعيد ، وقال الترمذي. لا نعرفه إلّا من هذا الوجه.

وقال ابن جرير (٣) أيضا : حدثني أحمد بن محمد الطوسي ، حدثنا الحسن بن محمد ، حدثنا الفرات بن السائب ، حدثنا ميمون بن مهران عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اتقوا فراسة المؤمن ، فإن المؤمن ينظر بنور الله».

وقال ابن جرير (٤) : حدثني أبو شرحبيل الحمصي ، حدثنا سليمان بن سلمة ، حدثنا المؤمل بن سعيد بن يوسف الرحبي ، حدثنا أبو المعلى أسد بن وداعة الطائي ، حدثنا وهب بن منبه عن طاوس بن كيسان عن ثوبان قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «احذروا فراسة المؤمن ، فإنه ينظر بنور الله وبتوفيق الله». وقال أيضا : حدثنا عبد الأعلى بن واصل ، حدثنا سعيد بن محمد الجرمي ، حدثنا عبد الواحد بن واصل ، حدثنا أبو بشر المزلق عن ثابت عن أنس بن مالك

__________________

(١) تفسير الطبري ٧ / ٥٢٦.

(٢) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ١٥ ، باب ٦ ، والطبري في تفسيره ٧ / ٥٢٨.

(٣) تفسير الطبري ٧ / ٥٢٨ ، ٥٢٩.

(٤) تفسير الطبري ٧ / ٥٢٩.

قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن لله عبادا يعرفون الناس بالتوسم» ، ورواه الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا سهل بن بحر ، حدثنا سعيد بن محمد الجرمي ، حدثنا أبو بشر يقال له ابن المزلق قال : وكان ثقة ، عن ثابت عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن لله عبادا يعرفون الناس بالتوسم». وقوله : (وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) أي وإن قرية سدوم التي أصابها ما أصابها من القلب الصوري والمعنوي والقذف بالحجارة ، حتى صارت بحيرة منتنة خبيثة بطريق مهيع (١) مسالكه مستمرة إلى اليوم ، كقوله : (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) [الصافات : ١٣٧] وقال مجاهد والضحاك (وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) قال : معلم ، وقال قتادة : بطريق واضح. وقال قتادة أيضا : بصقع من الأرض واحد ، وقال السدي : بكتاب مبين ، يعني كقوله : (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) ولكن ليس المعنى على ما قال هاهنا ، والله أعلم. وقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) أي إن الذي صنعنا بقوم لوط من الهلاك والدمار وإنجائنا لوطا وأهله لدلالة واضحة جلية للمؤمنين بالله ورسله.

(وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (٧٨) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ) (٧٩)

أصحاب الأيكة هم قوم شعيب ، قال الضحاك وقتادة وغيرهما : الأيكة الشجر الملتف ، وكان ظلمهم بشركهم بالله وقطعهم الطريق ونقصهم المكيال والميزان ، فانتقم الله منهم بالصيحة والرجفة وعذاب يوم الظلة ، وقد كانوا قريبا من قوم لوط بعدهم في الزمان ، ومسامتين لهم في المكان ، ولهذا قال تعالى : (وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ) أي طريق مبين ، قال ابن عباس ومجاهد والضحاك وغيره : طريق ظاهر ، ولهذا لما أنذر شعيب قومه قال في نذارته إياهم (وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) [هود : ٨٩].

(وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (٨٠) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ(٨١) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (٨٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (٨٣) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٨٤)

أصحاب الحجر هم ثمود الذين كذبوا صالحا نبيهم عليهم‌السلام ، ومن كذب برسول فقد كذب بجميع المرسلين ، ولهذا أطلق عليهم تكذيب المرسلين ، وذكر تعالى أنه أتاهم من الآيات ما يدلهم على صدق ما جاءهم به صالح كالناقة التي أخرجها الله لهم بدعاء صالح من صخرة صماء ، وكانت تسرح في بلادهم لها شرب ولهم شرب يوم معلوم ، فلما عتوا وعقروها قال لهم (تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) [هود : ٦٥] وقال تعالى : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) [فصلت : ١٧].

وذكر تعالى أنهم (كانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ) أي من غير خوف ولا احتياج إليها

__________________

(١) طريق مهيع : أي طريق سهل واضحة.

بل أشرا وبطرا وعبثا كما هو المشاهد من صنيعهم في بيوتهم بوادي الحجر الذي مرّ به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو ذاهب إلى تبوك ، فقنع رأسه وأسرع دابته ، وقال لأصحابه : «لا تدخلوا بيوت القوم المعذبين إلا أن تكونوا باكين ، فإن لم تبكوا فتباكوا خشية أن يصيبكم ما أصابهم». وقوله: (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ) أي وقت الصباح من اليوم الرابع (فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي ما كانوا يستغلونه من زروعهم وثمارهم التي ضنوا بمائها عن الناقة حتى عقروها لئلا تضيق عليهم في المياه ، فما دفعت عنهم تلك الأموال ولا نفعتهم لما جاء أمر ربك.

(وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (٨٥) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ) (٨٦)

يقول تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ) أي بالعدل (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا) [النجم : ٣١] الآية ، وقال تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) [ص : ٣٧] وقال تعالى : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) [المؤمنون : ١١٥ ـ ١١٦] ثم أخبر نبيه بقيام الساعة وأنها كائنة لا محالة ثم أمره بالصفح الجميل عن المشركين في أذاهم له وتكذيبهم ما جاءهم به ، كقوله : (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) [الزخرف : ٨٩] وقال مجاهد وقتادة وغيرهما : كان هذا قبل القتال ، وهو كما قالا ، فإن هذه مكية والقتال إنما شرع بعد الهجرة.

وقوله : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) تقرير للمعاد وأنه تعالى قادر على إقامة الساعة فإنه الخلاق الذي لا يعجزه خلق شيء ، العليم بما تمزق من الأجساد وتفرق في سائر أقطار الأرض ، كقوله : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [يس : ٨١ ـ ٨٣].

(وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (٨٧) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) (٨٨)

يقول تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كما آتيناك القرآن العظيم فلا تنظرنّ إلى الدنيا ، وزينتها ، وما متعنا به أهلها من الزهرة الفانية لنفتنهم فيه فلا تغبطهم بما هم فيه ، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات حزنا عليهم في تكذيبهم لك ومخالفتهم دينك ، (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الشعراء : ٢١٥] أي ألن لهم جانبك ، كقوله : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) [التوبة : ١٢٨] وقد اختلف في السبع المثاني

ما هي؟ فقال ابن مسعود وابن عمر وابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير والضحاك وغيرهم : هي السبع الطوال ، يعنون البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، ويونس ، نص عليه ابن عباس وسعيد بن جبير ، وقال سعيد : بين فيهن الفرائض والحدود والقصص والأحكام. وقال ابن عباس : بين الأمثال والخبر والعبر.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي عمر قال : قال سفيان : المثاني : البقرة. وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، والأنفال وبراءة سورة واحدة ، قال ابن عباس : ولم يعطهن أحد إلا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأعطي موسى منهن ثنتين ، رواه هشيم عن الحجاج عن الوليد بن العيذار عن سعيد بن جبير عنه. وقال الأعمش عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : أوتي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سبعا من المثاني الطوال ، وأوتي موسى عليه‌السلام ستا ، فلما ألقى الألواح ارتفع اثنتان وبقيت أربع.

وقال مجاهد : هي السبع الطوال ، ويقال : هي القرآن العظيم. وقال خصيف عن زياد بن أبي مريم في قوله تعالى : (سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي) قال : أعطيتك سبعة أجزاء آمر ، وأنه ، وأبشر ، وأنذر ، وأضرب الأمثال ، وأعدد النعم ، وأنبئك بنبإ القرآن. رواه ابن جرير (١) وابن أبي حاتم [والقول الثاني] أنها الفاتحة ، وهي سبع آيات. وروي ذلك عن علي وعمر وابن مسعود وابن عباس ، قال ابن عباس : والبسملة هي الآية السابعة ، وقد خصكم الله بها ، وبه قال إبراهيم النخعي وعبد الله بن عبيد بن عمير وابن أبي مليكة وشهر بن حوشب والحسن البصري ومجاهد.

وقال قتادة : ذكر لنا أنهن فاتحة الكتاب وأنهن يثنين في كل ركعة مكتوبة أو تطوع ، واختاره ابن جرير ، واحتج بالأحاديث الواردة في ذلك ، وقد قدمناها في فضائل سورة الفاتحة في أول التفسير ولله الحمد ، وقد أورد البخاري رحمه‌الله هاهنا حديثين :

[أحدهما] قال : حدثنا محمد بن بشار حدثنا غندر ، حدثنا شعبة عن خبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم ، عن أبي سعيد بن المعلى قال : مربي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنا أصلي فدعاني فلم آته حتى صليت فأتيته ، فقال : «ما منعك أن تأتيني؟» فقلت : كنت أصلي ، فقال : «ألم يقل الله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ) ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج من المسجد» فذهب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليخرج فذكرت فقال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) هي السبع المثاني والقرآن الذي أوتيته» (٢).

[الثاني] قال : حدثنا آدم ، حدثنا ابن أبي ذئب ، حدثنا المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه

__________________

(١) تفسير الطبري ٧ / ٥٣٣ ، ٥٣٤.

(٢) أخرجه البخاري في تفسير سورة ١٥ ، باب ٣.

قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أم القرآن هي السبع المثاني والقرآن العظيم» (١).

فهذا نص في أن الفاتحة السبع المثاني والقرآن العظيم ، ولكن لا ينافي وصف غيرها من السبع الطوال بذلك ، لما فيها من هذه الصفة كما لا ينافي وصف القرآن بكماله بذلك أيضا ، كما قال تعالى : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ) [الزمر : ٢٣] فهو مثاني من وجه ومتشابه من وجه ، وهو القرآن العظيم أيضا ، كما أنه عليه الصلاة والسلام لما سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى ، فأشار إلى مسجده ، والآية نزلت في مسجد قباء ، فلا تنافي ، فإن ذكر الشيء لا ينفي ذكر ما عداه إذا اشتركا في تلك الصفة ، والله أعلم.

وقوله : (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ) أي استغن بما آتاك الله من القرآن العظيم عما هم فيه من المتاع والزهرة الفانية ، ومن هاهنا ذهب ابن عيينة إلى تفسير الحديث الصحيح «ليس منا من لم يتغن بالقرآن» (٢) إلى أنه يستغني به عما عداه ، وهو تفسير صحيح ولكن ليس هو المقصود من الحديث كما تقدم في أول التفسير.

وقال ابن أبي حاتم : ذكر عن وكيع بن الجراح ، حدثنا موسى بن عبيدة عن يزيد بن عبد الله بن قسيط ، عن أبي رافع صاحب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : ضاف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضيف ولم يكن عند النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم شيء يصلحه ، فأرسل إلى رجل من اليهود «يقول لك محمد رسول الله : أسلفني دقيقا إلى هلال رجب» قال : لا ، إلا برهن فأتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبرته ، فقال : «أما والله إني لأمين من في السماء وأمين من في الأرض ، ولئن أسلفني أو باعني لأؤدين إليه» فلما خرجت من عنده نزلت هذه الآية (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) إلى آخر الآية ، كأنه يعزيه عن الدنيا ، قال العوفي عن ابن عباس (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) قال : نهى الرجل أن يتمنى ما لصاحبه. وقال مجاهد (إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ) هم الأغنياء.

(وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (٨٩) كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (٩٠) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (٩١) فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) (٩٣)

يأمر تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول للناس : (إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) البين النذارة ، نذير للناس من عذاب أليم أن يحل بهم على تكذيبه كما حل بمن تقدمهم من الأمم المكذبة لرسلها ، وما أنزل الله عليهم من العذاب والانتقام. وقوله : (الْمُقْتَسِمِينَ) أي المتحالفين ، أي تحالفوا على مخالفة الأنبياء وتكذيبهم وأذاهم ، كقوله تعالى إخبارا عن قوم صالح إنهم (قالُوا تَقاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ) [النمل : ٤٩] الآية ، أي نقتلهم ليلا ، قال مجاهد : تقاسموا وتحالفوا

__________________

(١) أخرجه البخاري في تفسير سورة ١٥ ، باب ٣ ، وأبو داود في الوتر باب ١٥.

(٢) أخرجه البخاري في التوحيد باب ٤٤ ، وأبو داود في الوتر باب ٢٠ ، والدارمي في الصلاة باب ١٧١ ، وفضائل القرآن باب ٣٤ ، وأحمد في المسند ١ / ١٧٢ ، ١٧٥ ، ١٧٩.

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ) [النحل : ٣٨] (أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ) [إبراهيم : ٤٤] الآية (أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ) [الأعراف : ٤٩] فكأنهم كانوا لا يكذبون بشيء من الدنيا إلا أقسموا عليه فسموا مقتسمين ، قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : المقتسمون أصحاب صالح الذين تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله.

وفي الصحيحين عن أبي موسى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنما مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قومه فقال : يا قوم إني رأيت الجيش بعيني ، وإني أنا النذير العريان فالنجاء النجاء ، فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا وانطلقوا على مهلهم فنجوا ، وكذبه طائفة منهم فأصبحوا مكانهم ، فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم ، فذلك مثل من أطاعني واتبع ما جئت به ومثل من عصاني وكذب ما جئت به من الحق» (١).

وقوله : (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) أي جزءوا كتبهم المنزلة عليهم فآمنوا ببعض وكفروا ببعض. قال البخاري : حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا هشيم ، أنبأنا أبو بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس (جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) قال : هم أهل الكتاب جزءوه أجزاء فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه. حدثنا عبيد الله بن موسى عن الأعمش عن أبي ظبيان ، عن ابن عباس (جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) قال : هم أهل الكتاب جزءوه أجزاء فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه. حدثنا عبيد الله بن موسى عن الأعمش عن أبي ظبيان ، عن ابن عباس قال : (جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) قال هم أهل الكتاب جزءوه أجزاء فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه ، حدثنا عبيد الله بن موسى عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال (كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ) قال : آمنوا ببعض وكفروا ببعض اليهود والنصارى.

قال ابن أبي حاتم : وروي عن مجاهد والحسن والضحاك وعكرمة وسعيد بن جبير وغيرهم نحو ذلك ، وقال الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس (جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) قال : السحر ، وقال عكرمة : العضه السحر بلسان قريش تقول للساحرة إنها العاضهة ، وقال مجاهد : عضوه أعضاء ، قالوا سحر ، وقالوا كهانة ، وقالوا أساطير الأولين ، وقال عطاء : قال بعضهم ساحر ، وقالوا مجنون ، وقال كاهن ، فذلك العضين ، وكذا روي عن الضحاك وغيره.

وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس أن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش ، وكان ذا شرف فيهم ، وقد حضر الموسم فقال لهم : يا معشر قريش ، إنه قد حضر هذا الموسم ، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا ، فأجمعوا فيه رأيا واحدا ، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا ، ويرد قولكم بعضه بعضا ، فقالوا : وأنت يا أبا عبد شمس فقل وأقم لنا رأيا نقول به ، قال : بل أنتم

__________________

(١) أخرجه البخاري في الرقاق باب ٢٦ ، والاعتصام باب ٢ ، ومسلم في الفضائل حديث ١٦.

قولوا لأسمع ، قالوا : نقول كاهن ، قال : ما هو بكاهن ، قالوا : فنقول مجنون ، قال : ما هو بمجنون ، قالوا : فنقول شاعر ، قال : ما هو بشاعر ، قالوا : فنقول ساحر ، قال : ما هو بساحر ، قالوا : فماذا نقول؟ قال : والله إن لقوله لحلاوة ، فما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل ، وإن أقرب القول أن تقولوا هو ساحر ، فتفرقوا عنه بذلك ، وأنزل الله فيهم (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) أصنافا (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) أولئك النفر الذين قالوا لرسول الله.

وقال عطية العوفي عن ابن عمر في قوله : (لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) قال : عن لا إله إلا الله. وقال عبد الرزاق : أنبأنا الثوري عن ليث هو ابن أبي سليم عن مجاهد في قوله تعالى : (لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) قال : عن لا إله إلا الله ، وقد روى الترمذي وأبو يعلى الموصلي وابن جرير وابن أبي حاتم من حديث شريك القاضي ، عن ليث بن أبي سليم عن بشير بن نهيك ، عن أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) قال : عن لا إله إلا الله ، ورواه ابن إدريس عن ليث عن بشير عن أنس موقوفا.

وقال ابن جرير (١) : حدثنا أحمد ، حدثنا أبو أحمد ، حدثنا شريك عن هلال عن عبد الله بن عكيم ، قال : ورواه الترمذي وغيره من حديث أنس مرفوعا ، وقال عبد الله هو ابن مسعود : والذي لا إله غيره ما منكم من أحد إلا سيخلو الله به يوم القيامة كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدر ، فيقول : ابن آدم ماذا غرك مني بي؟ ابن آدم ماذا عملت فيما علمت؟ ابن آدم ماذا أجبت المرسلين؟

وقال أبو جعفر عن الربيع عن أبي العالية في قوله : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) قال : يسأل العباد كلهم عن خلتين يوم القيامة : عما كانوا يعبدون ، وماذا أجابوا المرسلين ، وقال ابن عيينة عن عملك وعن مالك.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن أبي الحواري ، حدثنا يونس الحذاء عن أبي حمزة الشيباني عن معاذ بن جبل قال : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا معاذ إن المرء يسأل يوم القيامة عن جميع سعيه حتى كحل عينيه ، وعن فتات الطينة بإصبعه ، فلا ألفينك يوم القيامة واحد غيرك أسعد بما آتاك الله منك» وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) ثم قال : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) قال : لا يسألهم هل عملتم كذا؟ لأنه أعلم بذلك منهم ، ولكن يقول : لم عملتم كذا وكذا؟.

(فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (٩٤) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٩٦) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (٩٧) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ

__________________

(١) تفسير الطبري ٧ / ٥٤٨.

السَّاجِدِينَ (٩٨) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (٩٩)

يقول تعالى آمرا رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإبلاغ ما بعثه به وبإنفاذه والصدع به ، وهو مواجهة المشركين به ، كما قال ابن عباس في قوله : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) أي أمضه ، وفي رواية «افعل ما تؤمر» (١) وقال مجاهد : هو الجهر بالقرآن في الصلاة. وقال أبو عبيدة عن عبد الله بن مسعود : ما زال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مستخفيا حتى نزلت (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) ، فخرج هو وأصحابه.

وقوله : (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) أي بلغ ما أنزل إليك من ربك ، ولا تلتفت إلى المشركين الذين يريدون أن يصدوك عن آيات الله (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) [القلم : ٩] ولا تخفهم فإن الله كافيك إياهم وحافظك منهم ، كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة : ٦٧].

وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا يحيى بن محمد بن السكن ، حدثنا إسحاق بن إدريس ، حدثنا عون بن كهمس عن يزيد بن درهم ، عن أنس قال : سمعت أنسا يقول في هذه الآية ، (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) قال : مر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فغمزه بعضهم فجاء جبريل ، أحسبه قال : فغمزهم ، فوقع في أجسادهم كهيئة الطعنة فماتوا.

قال محمد بن إسحاق : كان عظماء المستهزئين كما حدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير خمسة نفر ، وكانوا ذوي أسنان وشرف في قومهم من بني أسد بن عبد العزى بن قصي الأسود بن المطلب أبي زمعة ، كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما بلغني قد دعا عليه لما كان يبلغه من أذاه واستهزائه ، فقال : «اللهم أعم بصره ، وأثكله ولده» ومن بني زهرة الأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة ، ومن بني مخزوم الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ، ومن بني سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي العاص بن وائل بن هشام بن سعيد بن سعد ، ومن خزاعة الحارث بن الطلاطلة بن عمرو بن الحارث بن عبد بن ـ عمرو بن ملكان ـ. فلما تمادوا في الشر وأكثروا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الاستهزاء أنزل الله تعالى : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) إلى قوله (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ).

وقال ابن إسحاق : فحدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير أو غيره من العلماء ، أن جبريل أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يطوف بالبيت ، فقام وقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى جنبه ، فمر به الأسود بن عبد يغوث فأشار إلى بطنه ، فاستسقى بطنه ، ومر به الوليد بن المغيرة ، فأشار إلى أثر جرح بأسفل كعب رجله ، وكان أصابه قبل ذلك بسنتين ، وهو يجز إزاره ، وذلك أنه مر برجل من خزاعة يريش نبلا له (٢) ، فتعلق سهم من نبله بإزاره فخدش رجله ذلك الخدش ،

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٥٤٨ ، ٥٤٩.

(٢) يريش نبلا له : أي ينحت نبالا ويجعل لها ريشا.

وليس بشيء ، فانتفض به فقتله ، ومر به العاص بن وائل ، فأشار إلى أخمص قدمه فخرج على حمار له يريد الطائف ، فربض على شبرقة (١) فدخلت في أخمص قدمه فقتلته ، ومر به الحارث بن الطلاطلة فأشار إلى رأسه فامتخط (٢) قيحا فقتله (٣).

قال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد عن رجل ، عن ابن عباس قال : كان رأسهم الوليد بن المغيرة وهو الذي جمعهم ، وهكذا روي عن سعيد بن جبير وعكرمة نحو سياق محمد بن إسحاق به ، عن يزيد عن عروة بطوله ، إلا أن سعيدا يقول : الحارث ابن غيطلة ، وعكرمة يقول الحارث بن قيس. قال الزهري : وصدقا هو الحارث بن قيس ، وأمه غيطلة ، وكذا روي عن مجاهد ومقسم وقتادة وغير واحد أنهم كانوا خمسة. وقال الشعبي : كانوا سبعة ، والمشهور الأول : وقوله : (الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) تهديد شديد ووعيد أكيد لمن جعل مع لله معبود آخر.

وقوله : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) أي وإنا لنعلم يا محمد أنك يحصل لك من أذاهم لك ضيق صدر وانقباض فلا يهيدنك ذلك ولا يثنينك عن إبلاغك رسالة الله ، وتوكل عليه فإنه كافيك وناصرك عليهم ، فاشتغل بذكر الله وتحميده وتسبيحه وعبادته التي هي الصلاة ، ولهذا قال : (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ).

كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد (٤) : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا معاوية بن صالح عن أبي الزاهرية عن كثير بن مرة عن نعيم بن همّار أنه سمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «قال الله تعالى يا ابن آدم لا تعجز عن أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره» ورواه أبو داود والنسائي من حديث مكحول عن كثير بن مرة بنحوه ، ولهذا كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا حزبه أمر صلى.

وقوله : (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) قال البخاري : قال سالم : الموت ، وسالم هذا هو سالم بن عبد الله بن عمر ، كما قال ابن جرير : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا يحيى بن سعيد عن سفيان ، حدثني طارق بن عبد الرحمن عن سالم بن عبد الله (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) قال : الموت ، وهكذا قال مجاهد والحسن وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيره ، والدليل على ذلك قوله تعالى إخبارا عن أهل النار أنهم قالوا (لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ)

__________________

(١) ربض على شبرقة : أي برك على شبرقة ، والشبرقة : نبت يؤكل وله شوك.

(٢) امتخط : أي أخرجه مخاطا من أنفه.

(٣) انظر سيرة ابن هشام ١ / ٤٠٩ ، ٤١٠ ، وتفسير الطبري ٧ / ٥٥٠ ، ٥٥١.

(٤) المسند ٥ / ٢٨٦.

[المدثر : ٤٣ ـ ٤٧].

وفي الصحيح من حديث الزهري عن خارجة بن زيد بن ثابت ، عن أم العلاء امرأة من الأنصار أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما دخل على عثمان بن مظعون وقد مات ، قالت أم العلاء : رحمة الله عليك أبا السائب ، فشهادتي عليك لقد أكرمك الله ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وما يدريك أن الله أكرمه؟» فقلت : بأبي وأمي يا رسول الله ، فمن؟ فقال : «أما هو فقد جاءه اليقين ، وإني لأرجو له الخير» (١) ويستدل بهذه الآية الكريمة وهي قوله : (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) على أن العبادة كالصلاة ونحوها واجبة على الإنسان ما دام عقله ثابتا ، فيصلي بحسب حاله.

كما ثبت في صحيح البخاري عن عمران بن حصين رضي الله عنهما أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «صل قائما ، فإن لم تستطع فقاعدا ، فإن لم تستطع فعلى جنب» (٢) ويستدل بها على تخطئة من ذهب من الملاحدة إلى أن المراد باليقين المعرفة ، فمتى وصل أحدهم إلى المعرفة سقط عنه التكليف عندهم ، وهذا كفر وضلال وجهل ، فإن الأنبياء عليهم‌السلام كانوا هم وأصحابهم أعلم الناس بالله وأعرفهم بحقوقه وصفاته ، وما يستحق من التعظيم ، وكانوا مع هذا أعبد وأكثر الناس عبادة ومواظبة على فعل الخيرات إلى حين الوفاة ، وإنما المراد باليقين هاهنا الموت ، كما قدمناه ، ولله الحمد والمنة ، والحمد لله على الهداية وعليه الاستعانة والتوكل ، وهو المسؤول أن يتوفانا على أكمل الأحوال وأحسنها ، فإنه جواد كريم.

آخر تفسير سورة الحجر ، والحمد لله رب العالمين.

__________________

(١) أخرجه البخاري في الجنائز باب ٣ ، وأحمد في المسند ٦ / ٤٣٦.

(٢) أخرجه البخاري في الصلاة باب ٢٠.

سورة النحل

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (١)

يخبر تعالى عن اقتراب الساعة ودنوها معبرا بصيغة الماضي الدال على التحقيق والوقوع لا محالة ، كقوله : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) [الأنبياء : ١] ، وقال : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) [القمر : ١]. وقوله : (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) أي قرب ما تباعد فلا تستعجلوه ، يحتمل أن يعود الضمير على الله ، ويحتمل أن يعود على العذاب ، وكلاهما متلازم ، كما قال تعالى : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) [العنكبوت : ٥٣ ـ ٥٤] وقد ذهب الضحاك في تفسير هذه الآية إلى قول عجيب ، فقال في قوله : (أَتى أَمْرُ اللهِ) أي فرائضه وحدوده ، وقد رده ابن جرير فقال : لا نعلم أحدا استعجل بالفرائض وبالشرائع قبل وجودها بخلاف العذاب ، فإنهم استعجلوه قبل كونه استبعادا وتكذيبا ، قلت : كما قال تعالى : (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) [الشورى : ١٨].

وقال ابن أبي حاتم : ذكر عن يحيى بن آدم ، عن أبي بكر بن عياش ، عن محمد بن عبد الله مولى المغيرة بن شعبة ، عن كعب بن علقمة ، عن عبد الرحمن بن حجيرة ، عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تطلع عليكم عند الساعة سحابة سوداء من المغرب مثل الترس ، فما تزال ترتفع في السماء ثم ينادي مناد فيها : يا أيها الناس ، فيقبل الناس بعضهم على بعض : هل سمعتم ، فمنهم من يقول : نعم ، ومنهم من يشك ، ثم ينادي الثانية : يا أيها الناس ، فيقول الناس بعضهم لبعض : هل سمعتم ، فيقولون : نعم.

ثم ينادي الثالثة : يا أيها الناس أتى أمر الله فلا تستعجلوه» قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فو الذي نفسي بيده ، إن الرجلين لينشران الثوب فما يطويانه أبدا ، وإن الرجل ليمدن حوضه فما يسقي فيه شيئا ابدا ، وإن الرجل ليحلب ناقته فما يشربه أبدا ـ قال ـ ويشتغل الناس» ثم إنه تعالى نزه نفسه عن شركهم به غيره وعبادتهم معه ما سواه من الأوثان والأنداد ، تعالى وتقدس علوا كبيرا ، وهؤلاء هم المكذبون بالساعة فقال : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ).

(يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ) (٢)

يقول تعالى : (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ) أي الوحي ، كقوله : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) [الشورى : ٥٢] وقوله : (عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) وهم الأنبياء ، كما قال تعالى : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [الأنعام : ١٢٤] ، وقال : (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ) [الحج : ٧٥] وقال : (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) [غافر : ١٥ ـ ١٦]. وقوله : (أَنْ أَنْذِرُوا) أي لينذروا (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ) أي فاتقوا عقوبتي لمن خالف أمري وعبد غيري.

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) (٤)

يخبر تعالى عن خلقه العالم العلوي وهو السموات ، والعالم السفلي وهو الأرض بما حوت ، وأن ذلك مخلوق بالحق لا للعبث بل (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) [النجم : ٣١] ثم نزه نفسه عن شرك من عبد معه غيره ، وهو المستقل بالخلق وحده لا شريك له ، فلهذا يستحق أن يعبد وحده لا شريك له ، ثم نبه على خلق جنس الإنسان من نطفة أي مهينة ضعيفة ، فلما استقل ودرج إذا هو يخاصم ربه تعالى ويكذبه ويحارب رسله ، وهو إنما خلق ليكون عبدا لا ضدا ، كقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً) [الفرقان : ٥٤ ـ ٥٥]. وقوله : (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) [يس : ٧٧ ـ ٧٨ ـ ٧٩].

وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد وابن ماجة عن بسر بن جحاش قال : بصق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في كفه ، ثم قال : «يقول الله تعالى : ابن آدم أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه حتى إذا سويتك فعدلتك مشيت بين برديك وللأرض منك وئيد فجمعت ومنعت حتى إذا بلغت الحلقوم قلت أتصدق ، وأنى أوان الصدقة» (١).

__________________

(١) أخرجه ابن ماجة في الوصايا باب ٤ ، وأحمد في المسند ٤ / ٢١٠.

(وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٥) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) (٧)

يمتنّ تعالى على عباده بما خلق لهم من الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم ، كما فصلها في سورة الأنعام إلى ثمانية أزواج ، وبما جعل لهم فيها من المصالح والمنافع من أصوافها وأوبارها وأشعارها يلبسون ويفترشون ، ومن ألبانها يشربون ويأكلون من أولادها ، وما لهم فيها من الجمال وهو الزينة ، ولهذا قال : (وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ) وهو وقت رجوعها عشيا من المرعى فإنها تكون أمده خواصر وأعظمه ضروعا وأعلاه أسنمة (وَحِينَ تَسْرَحُونَ) أي غدوة حين تبعثونها إلى المرعى.

(وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ) وهي الأحمال الثقيلة التي تعجزون عن نقلها وحملها (إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) وذلك في الحج والعمرة والغزو والتجارة وما جرى مجرى ذلك ، تستعملونها في أنواع الاستعمال من ركوب وتحميل ، كقوله : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) [المؤمنون : ٢١ ـ ٢٢] ، وقال تعالى : (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ) [غافر : ٧٩ ـ ٨١] ، ولهذا قال هاهنا بعد تعداد هذه النعم (إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي ربكم الذي قيض لكم هذه الأنعام وسخرها لكم ، كقوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ) [يس : ٧١ ـ ٧٢] ، وقال : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) [الزخرف : ١٢ ـ ١٤].

قال ابن عباس : (لَكُمْ فِيها دِفْءٌ) أي ثياب ، (وَمَنافِعُ) ما تنتفعون به من الأطعمة والأشربة (١). وقال عبد الرزاق : أخبرنا إسرائيل عن سماك عن عكرمة ، عن ابن عباس : دفء ومنافع نسل كل دابة. وقال مجاهد : لكم فيها دفء أي لباس ينسج ، ومنافع مركب ولحم ولبن. وقال قتادة : دفء ومنافع ، يقول : لكم فيها لباس ومنفعة وبلغة ، وكذا قال غير واحد من المفسرين بألفاظ متقاربة.

(وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) (٨)

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٥٥٩.

هذا صنف آخر مما خلق تبارك وتعالى لعباده يمتن به عليهم ، وهو الخيل والبغال والحمير التي جعلها للركوب والزينة بها ، وذلك أكبر المقاصد منها ، ولما فصلها من الأنعام ، وأفردها بالذكر ، استدل من استدل من العلماء ممن ذهب إلى تحريم لحوم الخيل بذلك على ما ذهب إليه فيها ، كالإمام أبي حنيفة رحمه‌الله ومن وافقه من الفقهاء بأنه تعالى قرنها بالبغال والحمير وهي حرام ، كما ثبتت به السنة النبوية ، وذهب إليه أكثر العلماء.

وقد روى الإمام أبو جعفر بن جرير (١) : حدثني يعقوب ، حدثنا ابن علية ، أنبأنا هشام الدستوائي ، حدثنا يحيى بن أبي كثير عن مولى نافع بن علقمة ، أنّ ابن عباس أنه كان يكره لحوم الخيل والبغال والحمير ، وكان يقول : قال الله تعالى : (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ) فهذه للأكل ، (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها) فهذه للركوب ، وكذا روي من طريق سعيد بن جبير وغيره عن ابن عباس بمثله ، وقال مثل ذلك الحكم بن عتيبة أيضا رضي الله عنه.

واستأنسوا بحديث رواه الإمام أحمد (٢) في مسنده : حدثنا يزيد بن عبد ربه ، حدثنا بقية بن الوليد ، حدثنا ثور بن يزيد عن صالح بن يحيى بن المقدام بن معد يكرب ، عن أبيه عن جده عن خالد بن الوليد رضي الله عنه قال : نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أكل لحوم الخيل والبغال والحمير(٣). وأخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجة من حديث صالح بن يحيى بن المقدام وفيه كلام.

ورواه أحمد (٤) أيضا من وجه آخر بأبسط من هذا وأدل منه فقال : حدثنا أحمد بن عبد الملك ، حدثنا محمد بن حرب ، حدثنا سليمان بن سليم ، عن صالح بن يحيى بن المقدام عن جده المقدام بن معد يكرب قال : غزونا مع خالد بن الوليد الصائفة (٥) ، فقرم (٦) أصحابنا إلى اللحم فسألوني رمكة فدفعتها إليهم ، فحبلوها وقلت : مكانكم حتى آتي خالدا فأسأله فأتيته فسألته ، فقال : غزونا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غزوة خيبر فأسرع الناس في حظائر يهود فأمرني أن أنادي الصلاة جامعة ، ولا يدخل الجنة إلا مسلم ، ثم قال : «أيها الناس : إنكم قد أسرعتم في حظائر يهود ، ألا لا تحل أموال المعاهدين إلا بحقها وحرام عليكم لحوم الأتن الأهلية وخيلها وبغالها ، وكل ذي ناب من السباع ، وكل ذي مخلب من الطير» والرمكة هي الحجرة ، وقوله

__________________

(١) تفسير الطبري ٧ / ٥٦٣.

(٢) المسند ٤ / ٨٩.

(٣) أخرجه أبو داود في الأطعمة باب ٢٥ ، والنسائي في الصيد باب ٣٠ ، وابن ماجة في الذبائح باب ١٤.

(٤) المسند ٣ / ٣٥٦ ، ٣٦٢.

(٥) الصائفة : الغزوة في الصيف.

(٦) قرم : شدة الشهوة إلى اللحم.

حبلوها أي أوثقوها في الحبل ليذبحوها ، والحظائر والبساتين القريبة من العمران ، وكأن هذا الصنيع وقع بعد إعطائهم العهد ومعاملتهم على الشطر ، والله أعلم.

فلو صح هذا الحديث لكان نصا في تحريم لحوم الخيل ، ولكن لا يقاوم ما ثبت في الصحيحين عن جابر بن عبد الله قال : نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن لحوم الحمر الأهلية ، وأذن في لحوم الخيل (١).

ورواه الإمام أحمد وأبو داود بإسنادين كل منهما على شرط مسلم عن جابر قال : ذبحنا يوم خيبر الخيل والبغال والحمير ، فنهانا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن البغال والحمير ولم ينهنا عن الخيل (٢). وفي صحيح مسلم عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت : نحرنا على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فرسا فأكلناه ونحن بالمدينة (٣) ، فهذه أدل وأقوى وأثبت ، وإلى ذلك صار جمهور العلماء مالك والشافعي وأحمد وأصحابهم وأكثر السلف والخلف ، والله أعلم.

وقال عبد الرزاق : أنبأنا ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال : كانت الخيل وحشية ، فذللها الله لإسماعيل بن إبراهيم عليهما‌السلام ، وذكر وهب بن منبه في إسرائيلياته أن الله خلق الخيل من ريح الجنوب ، والله أعلم. فقد دل النص على جواز ركوب هذه الدواب ومنها البغال ، وقد أهديت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بغلة فكان يركبها مع أنه قد نهى عن إنزاء الحمر على الخيل لئلا ينقطع النسل.

قال الإمام أحمد (٤) : حدثني محمد بن عبيد ، حدثنا عمر من آل حذيفة عن الشعبي عن دحية الكلبي قال : قلت يا رسول الله ، ألا أحمل لك حمارا على فرس فتنتج لك بغلا فتركبها؟ قال : «إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون».

(وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) (٩)

لما ذكر تعالى من الحيوانات ما يسار عليه في السبل الحسية ، نبه على الطرق المعنوية الدينية ، وكثيرا ما يقع في القرآن العبور من الأمور الحسية إلى الأمور المعنوية النافعة الدينية ، كقوله تعالى : (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى) [البقرة : ١٩٧] ، وقال تعالى : (يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ) [الأعراف : ٢٦] ولما ذكر تعالى في هذه السورة الحيوانات من الأنعام وغيرها التي يركبونها ويبلغون عليها حاجة في صدورهم ، وتحمل أثقالهم إلى البلاد والأماكن البعيدة والأسفار الشاقة ، شرع في ذكر الطرق

__________________

(١) أخرجه البخاري في الذبائح باب ٢٨ ، ومسلم في الصيد حديث ٢٣ ، ٣٠.

(٢) أخرجه أبو داود في الأطعمة باب ٢٥ ، وأحمد في المسند ٣ / ٣٥٦.

(٣) أخرجه البخاري في الذبائح باب ٢٤ ، ومسلم في الصيد حديث ٣٨ ، والنسائي في الضحايا باب ٣٣.

(٤) المسند ٤ / ٣١١.

التي يسلكها الناس إليه ، فبين أن الحق منها ما هي موصلة إليه فقال : (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) كقوله (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) [الأنعام : ١٥٣] وقال : (قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) [الحجر : ٤١].

قال مجاهد في قوله : (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) قال : طريق الحق على الله ، وقال السدي ، (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) الإسلام. وقال العوفي عن ابن عباس في قوله : (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) يقول : وعلى الله البيان ، أي يبين الهدى والضلالة. وكذا روى علي بن أبي طلحة عنه ، وكذا قال قتادة والضحاك ، وقول مجاهد هاهنا أقوى من حيث السياق ، لأنه تعالى أخبر أن ثم طرقا تسلك إليه ، فليس يصل إليه منها إلا طريق الحق وهي الطريق التي شرعها ورضيها ، وما عداها مسدودة والأعمال فيها مردودة ، ولهذا قال تعالى : (وَمِنْها جائِرٌ) أي حائد مائل زائغ عن الحق.

قال ابن عباس وغيره : هي الطرق المختلفة والآراء والأهواء المتفرقة كاليهودية والنصرانية والمجوسية ، وقرأ ابن مسعود ومنكم جائر ثم أخبر تعالى أن ذلك كله كائن عن قدرته ومشيئته ، فقال : (وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) كما قال تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) [يونس : ٩٩] وقال : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [هود : ١١٨ ـ ١١٩].

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (١١)

لما ذكر تعالى ما أنعم به عليهم من الأنعام والدواب شرع في ذكر نعمته عليهم في إنزال المطر من السماء وهو العلو مما لهم فيه بلغة ومتاع لهم ولأنعامهم ، فقال : (لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ) أي جعله عذبا زلالا يسوغ لكم شرابه ، ولم يجعله ملحا أجاجا (وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ) : أي وأخرج لكم منه شجرا ترعون فيه أنعامكم. كما قال ابن عباس وعكرمة والضحاك وقتادة وابن زيد في قوله فيه تسيمون ، أي ترعون (١) ومنه الإبل السائمة ، والسوم : الرعي. وروى ابن ماجة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عن السوم قبل طلوع الشمس (٢).

وقوله : (يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) أي يخرجها من الأرض بهذا الماء الواحد على اختلاف صنوفها وطعومها وألوانها وروائحها وأشكالها ،

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٥٦٦ ، ٥٦٧.

(٢) أخرجه ابن ماجة في التجارات باب ٢٩.

ولهذا قال : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أي دلالة وحجة على أنه لا إله إلا الله ، كما قال تعالى : (أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) [النمل : ٦٠] ، ثم قال تعالى :

(وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٢) وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُون) (١٣)

ينبه تعالى عباده على آياته العظام ومننه الجسام في تسخيره الليل والنهار يتعاقبان ، والشمس والقمر يدوران ، والنجوم الثوابت والسيارات في أرجاء السموات نورا وضياء ليهتدى بها في الظلمات ، وكل منها يسير في فلكه الذي جعله الله تعالى فيه ، يسير بحركة مقدرة لا يزيد عليها ولا ينقص عنها ، والجميع تحت قهره وسلطانه وتسخيره وتقديره وتسهيله ، كقوله : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) [الأعراف : ٥٤] ولهذا قال : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي لدلالات على قدرته تعالى الباهرة وسلطانه العظيم لقوم يعقلون عن الله ويفهمون حججه.

وقوله : (وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ) لما نبه تعالى على معالم السموات نبه على ما خلق في الأرض من الأمور العجيبة ، والأشياء المختلفة من الحيوانات والمعادن ، والنباتات والجمادات على اختلاف ألوانها وأشكالها ، وما فيها من المنافع والخواص (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) أي آلاء الله ونعمه فيشكرونها.

(وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٤) وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (١٦) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٧) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٨)

يخبر تعالى عن تسخيره البحر المتلاطم الأمواج ، ويمتن على عباده بتذليله لهم وتيسيرهم للركوب فيه ، وجعله السمك والحيتان فيه ، وإحلاله لعباده لحمها حيها وميتها في الحل والإحرام ، وما يخلقه فيه من اللئالئ والجواهر النفيسة ، وتسهيله للعباد استخراجهم من قراره حلية يلبسونها ، وتسخيره البحر لحمل السفن التي تمخره أي تشقه ، وقيل تمخر الرياح ، وكلاهما صحيح ، وقيل تمخره بجؤجئها وهو صدرها المسنم ـ الذي أرشد العباد إلى صنعتها وهداهم إلى ذلك إرثا عن أبيهم نوح عليه‌السلام ، فإنه أول من ركب السفن ، وله كان تعليم

صنعتها ، ثم أخذها الناس عنه قرنا بعد قرن ، وجيلا بعد جيل ، يسيرون من قطر إلى قطر ، ومن بلد إلى بلد ، ومن إقليم إلى إقليم ، لجلب ما هناك إلى ما هنا ، وما هنا إلى ما هناك ، ولهذا قال تعالى : (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي نعمه وإحسانه.

وقد قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده : وجدت في كتابي عن محمد بن معاوية البغدادي ، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن عمرو عن سهل بن أبي صالح عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : كلم الله البحر الغربي وكلم البحر الشرقي ، فقال للبحر الغربي : إني حامل فيك عبادا من عبادي ، فكيف أنت صانع فيهم؟ قال : أغرقهم ، فقال : بأسك في نواحيك ، وأحملهم على يدي ، وحرمت الحلية والصيد ، وكلم هذا البحر الشرقي فقال : إني حامل فيك عبادا من عبادي فما أنت صانع بهم؟ فقال : أحملهم على يدي وأكون لهم كالوالدة لولدها ، فأثابه الحلية والصيد ، ثم قال البزار : لا نعلم من رواه عن سهل غير عبد الرحمن بن عبد الله بن عمرو ، وهو منكر الحديث. وقد رواه سهل عن النعمان بن أبي عياش عن عبد الله بن عمر موقوفا.

ثم ذكر تعالى الأرض وما ألقى فيها من الرواسي الشامخات ، والجبال الراسيات ، لتقر. الأرض ولا تميد ، أي تضطرب بما عليها من الحيوانات فلا يهنأ لهم عيش بسبب ذلك ، ولهذا قال: (وَالْجِبالَ أَرْساها) [النازعات : ٣٢] وقال عبد الرزاق : أنبأنا معمر عن قتادة ، سمعت الحسن يقول : لما خلقت الأرض كانت تميد ، فقالوا : ما هذه بمقرة على ظهرها أحدا ، فأصبحوا وقد خلقت الجبال ، فلم تدر الملائكة مم خلقت الجبال. وقال سعيد عن قتادة عن الحسن عن قيس بن عبادة أن الله لما خلق الأرض جعلت تمور ، فقالت الملائكة : ما هذه بمقرة على ظهرها أحدا فأصبحت صبحا وفيها رواسيها.

وقال ابن جرير (١) : حدثني المثنى ، حدثني حجاج بن منهال ، حدثنا حماد عن عطاء بن السائب ، عن عبد الله بن حبيب ، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : لما خلق الله الأرض قمصت وقالت : أي رب تجعل علي بني آدم يعملون الخطايا ويجعلون علي الخبث؟ قال : فأرسى الله فيها من الجبال ما ترون وما لا ترون ، فكان إقرارها كاللحم يترجرج.

وقوله : (وَأَنْهاراً وَسُبُلاً) أي جعل فيها أنهارا تجري من مكان إلى مكان آخر رزقا للعباد ، ينبغ في موضع وهو رزق لأهل موضع آخر ، فيقطع البقاع والبراري والقفار ، ويخترق الجبال والآكام ، فيصل إلى البلد الذي سخر لأهله وهي سائرة في الأرض يمنة ويسرة ، وجنوبا وشمالا ، وشرقا وغربا ، ما بين صغار وكبار ، وأودية تجري حينا وتنقطع في وقت ، وما بين نبع وجمع ، وقوي السير وبطئه بحسب ما أراد وقدر وسخر ويسر ، فلا إله إلا هو ولا رب سواه ، وكذلك جعل فيها سبلا أي طرقا يسلك فيها من بلاد إلى بلاد حتى إنه تعالى ليقطع الجبل حتى يكون ما بينهما ممرا ومسلكا ، كما قال تعالى : (وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً) [الأنبياء : ٣١] الآية.

__________________

(١) تفسير الطبري ٧ / ٥٧٠.

وقوله : (وَعَلاماتٍ) أي دلائل من جبال كبار وآكام صغار ونحو ذلك ، يستدل بها المسافرون برا وبحرا إذا ضلوا الطرق. وقوله : (وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) أي في ظلام الليل ، قاله ابن عباس ، وعن مالك في قوله : (وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) يقول : النجوم وهي الجبال ، ثم نبه تعالى على عظمته وأنه لا تنبغي العبادة إلا له دون ما سواه من الأوثان التي لا تخلق شيئا بل هم يخلقون ، ولهذا قال : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ).

ثم نبههم على كثرة نعمه عليهم وإحسانه إليهم ، فقال : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) أي يتجاوز عنكم ، ولو طالبكم بشكر جميع نعمه لعجزتم عن القيام بذلك ، ولو أمركم به لضعفتم وتركتم ، ولو عذبكم لعذبكم وهو غير ظالم لكم ، ولكنه غفور رحيم ، يغفر الكثير ويجازي على اليسير ، وقال ابن جرير (١) : يقول إن الله لغفور لما كان منكم من تقصير في شكر بعض ذلك إذا تبتم وأنبتم إلى طاعته واتباع مرضاته ، رحيم بكم لا يعذبكم بعد الإنابة والتوبة.

(وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (١٩) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) (٢١)

يخبر تعالى أنه يعلم الضمائر والسرائر كما يعلم الظواهر ، وسيجزي كل عامل بعمله يوم القيامة ، إن خيرا فخير وإن شرا فشر. ثم أخبر أن الأصنام التي يدعونها من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ، كما قال الخليل : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) [الصافات : ٩٥ ـ ٩٦]. وقوله : (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ) أي هي جمادات لا أرواح فيها ، فلا تسمع ولا تبصر ولا تعقل (وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) أي لا يدرون متى تكون الساعة ، فكيف يرتجى عند هذه نفع أو ثواب أو جزاء؟ إنما يرجى ذلك من الذي يعلم كل شيء وهو خالق كل شيء.

(إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٢٢) لا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ) (٢٣)

يخبر تعالى أنه لا إله هو الواحد الأحد الفرد الصمد ، وأخبر أن الكافرين تنكر قلوبهم ذلك ، كما أخبر عنهم متعجبين من ذلك (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) [ص : ٥] وقال تعالى : (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) [الزمر : ٤٥] وقوله : (وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) أي عن عبادة الله مع إنكار قلوبهم لتوحيده كما قال : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) [غافر :

__________________

(١) تفسير الطبري ٧ / ٥٧٣.

٦٠] ولهذا قال هاهنا (لا جَرَمَ) أي حقا (أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) أي وسيجزيهم على ذلك أتم الجزاء (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ).

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٤) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) (٢٥)

يقول تعالى : وإذا قيل لهؤلاء المكذبين (ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا) معرضين عن الجواب (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي لم ينزل شيئا ، إنما هذا الذي يتلى علينا أساطير الأولين ، أي مأخوذ من كتب المتقدمين ، كما قال تعالى : (وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) [الفرقان : ٥] أي يفترون على الرسول ويقولون أقوالا متضادة مختلفة كلها باطلة ، كما قال تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) [الفرقان : ٩] وذلك أن كل من خرج عن الحق فمهما قال أخطأ ، وكانوا يقولون : ساحر وشاعر وكاهن ومجنون ، ثم استقر أمرهم إلى ما اختلقه لهم شيخهم الوحيد المسمى بالوليد بن المغيرة المخزومي لما (فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ، ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) [المدثر : ١٨ ـ ٢٤] أي ينقل ويحكي ، فتفرقوا عن قوله ورأيه قبحهم الله.

قال تعالى : (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي إنما قدرنا عليهم أن يقولوا ذلك ليتحملوا أوزارهم ومن أوزار الذين يتبعونهم ويوافقونهم أي يصير عليهم خطيئة ضلالهم في أنفسهم ، وخطيئة إغوائهم لغيرهم واقتداء أولئك بهم ، كما جاء في الحديث «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا»(١).

وقال تعالى : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) [العنكبوت : ١٣] وهكذا روى العوفي عن ابن عباس في الآية (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) أنها كقوله : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) [العنكبوت : ١٣] وقال مجاهد : يحملون أثقالهم ذنوبهم وذنوب من أطاعهم ، ولا يخفف عمن أطاعهم من العذاب شيئا.

(قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ

__________________

(١) أخرجه مسلم في العلم حديث ١٦ ، والذكر حديث ١ ، وأبو داود في السنة باب ٦ ، والترمذي في العلم باب ١٥ ، ١٦ ، وابن ماجة في المقدمة باب ١٤ ، ١٥ ، والدارمي في المقدمة باب ٤٤ ، وأحمد في المسند ٢ / ٣٩٧.

وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٦) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ) (٢٧)

قال العوفي عن ابن عباس في قوله : (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) قال : هو النمرود الذي بنى الصرح (١) ، قال ابن أبي حاتم وروي عن مجاهد نحوه. وقال عبد الرزاق عن معمر ، عن زيد بن أسلم : أول جبار كان في الأرض النمرود ، فبعث الله عليه بعوضة فدخلت في منخره ، فمكث أربعمائة سنة يضرب رأسه بالمطارق ، وأرحم الناس به من جمع يديه فضرب بهما رأسه وكان جبارا أربعمائة سنة ، فعذبه الله أربعمائة سنة كملكه ، ثم أماته ، وهو الذي بنى الصرح إلى السماء الذي قال الله تعالى : (فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ) وقال آخرون : بل هو بختنصر ، وذكروا من المكر الذي حكاه الله هاهنا كما قال في سورة إبراهيم (وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) [إبراهيم : ٤٦] وقال آخرون : هذا من باب المثل لإبطال ما صنعه هؤلاء الذين كفروا بالله وأشركوا في عبادته غيره ، كما قال نوح عليه‌السلام : (وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً) [نوح : ٢٢] أي احتالوا في إضلال الناس بكل حيلة وأمالوهم إلى شركهم بكل وسيلة ، كما يقول لهم أتباعهم يوم القيامة : (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً) [سبأ : ٣٣] الآية.

وقوله : (فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ) أي اجتثه من أصله وأبطل عملهم ، كقوله تعالى : (كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ) [المائدة : ٦٤] ، وقوله : (فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) [الحشر : ٢] ، وقال الله هاهنا : (فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ) أي يظهر فضائحهم ، وما كانت تجنه ضمائرهم فيجعله علانية ، كقوله تعالى : (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) أي يظهر وتشتهر كما في الصحيحين عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة عند استه بقدر غدرته ، فيقال هذه غدرة فلان بن فلان»(٢).

وهكذا يظهر للناس ما كانوا يسرونه من المكر ويخزيهم الله على رؤوس الخلائق ويقول لهم الرب تبارك وتعالى مقرعا لهم وموبخا (أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ) تحاربون وتعادون في سبيلهم أين هم عن نصركم وخلاصكم هاهنا؟ (هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ) [الشعراء : ٩٣] (فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ) [الطارق : ١٠] فإذا توجهت عليهم الحجة وقامت

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٥٧٧.

(٢) أخرجه البخاري في الجزية باب ٢٢ ، والأدب باب ٩٩ ، والحيل باب ٩ ، والفتن باب ٢١ ، ومسلم في الجهاد حديث ٨ ، ١٠ ، ١٧.

عليهم الدلالة ، وحقت عليهم الكلمة وسكتوا عن الاعتذار حين لا فرار (قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) وهم السادة في الدنيا والآخرة ، والمخبرون عن الحق في الدنيا والآخرة ، فيقولون حينئذ : (إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ) أي الفضيحة والعذاب محيط اليوم بمن كفر بالله وأشرك به ما لا يضره وما لا ينفعه.

(الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) (٢٩)

يخبر تعالى عن حال المشركين الظالمين أنفسهم عند احتضارهم ومجيء الملائكة إليهم لقبض أرواحهم الخبيثة (فَأَلْقَوُا السَّلَمَ) أي أظهروا السمع والطاعة والانقياد قائلين (ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ) كما يقولون يوم المعاد (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣] (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ) [المجادلة : ١٨] قال الله مكذبا لهم في قيلهم ذلك (بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) أي بئس المقيل والمقام والمكان من دار هوان لمن كان متكبرا عن آيات الله واتباع رسله ، وهم يدخلون جهنم من يوم مماتهم بأرواحهم ، وينال أجسادهم في قبورها من حرها وسمومها ، فإذا كان يوم القيامة سلكت أرواحهم في أجسادهم وخلدت في نار جهنم (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) [فاطر : ٣٦] كما قال الله تعالى : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) [غافر : ٤٦].

(وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (٣٠) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ (٣١) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٣٢)

هذا خبر عن السعداء بخلاف ما أخبر به عن الأشقياء ، فإن أولئك قيل لهم : (ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ) قالوا معرضين عن الجواب : لم ينزل شيئا إنما هذا أساطير الأولين ، وهؤلاء قالوا : خيرا ، أي أنزل خيرا ، أي رحمة وبركة لمن اتبعه وآمن به. ثم أخبر عما وعد الله عباده فيما أنزله على رسله فقال : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ) الآية ، كقوله تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل : ٩٧] أي من أحسن عمله في الدنيا أحسن الله إليه عمله في الدنيا والآخرة ، ثم أخبر بأن دار الآخرة خير أي من الحياة الدنيا ، والجزاء فيها أتم من الجزاء في الدنيا ، كقوله : (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ) [القصص : ٨٠] الآية. وقال تعالى : (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) [آل عمران : ١٩٨] وقال تعالى : (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى) [الأعلى :

١٧] وقال لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى) [الضحى : ٤] ثم وصف الدار الآخرة فقال : (وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ).

وقوله : (جَنَّاتُ عَدْنٍ) بدل من دار المتقين أي لهم في الآخرة جنات عدن ، أي مقام يدخلونها (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي بين أشجارها وقصورها (لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ) كقوله تعالى : (وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ). [الزخرف : ٧١] وفي الحديث «إن السحابة لتمر بالملإ من أهل الجنة وهم جلوس على شرابهم ، فلا يشتهي أحد منهم شيئا إلا أمطرته عليه حتى إن منهم لمن يقول أمطرينا كواعب أترابا فيكون ذلك» (كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ) أي كذلك يجزي الله كل من آمن به واتقاه وأحسن عمله.

ثم أخبر تعالى عن حالهم عند الاحتضار أنهم طيبون أي مخلصون من الشرك والدنس وكل سوء ، وأن الملائكة تسلم عليهم وتبشرهم بالجنة ، كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) [فصلت : ٣٠ ـ ٣٢] وقد قدمنا الأحاديث الواردة في قبض روح المؤمن وروح الكافر عند قوله تعالى : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) [إبراهيم : ٢٧].

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٣٣) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (٣٤)

يقول تعالى مهددا للمشركين على تماديهم في الباطل واغترارهم بالدنيا : هل ينتظر هؤلاء إلا الملائكة أن تأتيهم لقبض أرواحهم ، قاله قتادة (١) ، (أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) أي يوم القيامة وما يعاينونه من الأهوال. وقوله : (كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي هكذا تمادى في شركهم أسلافهم ونظراؤهم وأشباههم من المشركين حتى ذاقوا بأس الله وحلوا فيما هم فيه من العذاب والنكال (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ) لأنه تعالى أعذر إليهم وأقام حججه عليهم بإرسال رسله وإنزال كتبه (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) أي بمخالفة الرسل والتكذيب بما جاءوا به ، فلهذا أصابتهم عقوبة الله على ذلك (وَحاقَ بِهِمْ) أي أحاط بهم من العذاب الأليم (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي يسخرون من الرسل إذا توعدوهم بعقاب الله ، فلهذا يقال لهم يوم القيامة : (هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) [الطور : ١٤].

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٥٨١.

(وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٣٥) وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٣٦) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) (٣٧)

يخبر تعالى عن اغترار المشركين بما هم فيه من الإشراك واعتذارهم محتجين بالقدر بقولهم : (لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) أي من البحائر والسوائب والوصائل وغير ذلك مما كانوا ابتدعوه واخترعوه من تلقاء أنفسهم ما لم ينزل به سلطانا ، ومضمون كلامهم أنه لو كان تعالى كارها لما فعلنا لأنكره علينا بالعقوبة ، ولما مكننا منه ، قال الله تعالى رادا عليهم شبهتهم : (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أي ليس الأمر كما تزعمون أنه لم ينكره عليكم ، بل قد أنكره عليكم أشد الإنكار ، ونهاكم عنه آكد النهي ، وبعث في كل أمة أي في كل قرن وطائفة رسولا ، وكلهم يدعون إلى عبادة الله وينهون عن عبادة ما سواه.

(أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) فلم يزل تعالى يرسل إلى الناس الرسل بذلك منذ حدث الشرك في بني آدم في قوم نوح الذين أرسل إليهم نوح ، وكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض إلى أن ختمهم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي طبقت دعوته الإنس والجن في المشارق والمغارب ، وكلهم كما قال الله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء : ٢٥].

وقوله تعالى : (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) [الزخرف : ٤٥] وقال تعالى في هذه الآية الكريمة : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) فيكف يسوغ لأحد من المشركين بعد هذا أن يقول : (لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) فمشيئته تعالى الشرعية عنهم منتفية ، لأنه نهاهم عن ذلك على ألسنة رسله ، وأما مشيئته الكونية وهي تمكينهم من ذلك قدرا ، فلا حجة لهم فيها ، لأنه تعالى خلق النار وأهلها من الشياطين والكفرة ، وهو لا يرضى لعباده الكفر ، وله في ذلك حجة بالغة وحكمة قاطعة.

ثم إنه تعالى قد أخبر أنه أنكر عليهم بالعقوبة في الدنيا بعد إنذار الرسل ، فلهذا قال : (فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) أي اسألوا عما كان من أمر من خالف الرسل وكذب الحق كيف (دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ

وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها) [محمد : ١٠] ، فقال : (وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) [الملك : ١٨]. ثم أخبر الله تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن حرصه على هدايتهم لا ينفعهم إذا كان الله قد أراد إضلالهم كقوله تعالى : (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) [المائدة : ٤١] وقال نوح لقومه : (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) [هود : ٣٤] وقال في هذه الآية الكريمة : (إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُ) كما قال الله تعالى : (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [الأعراف : ١٨٦] وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) [يونس : ٩٦ ـ ٩٧].

وقوله : (فَإِنَّ اللهَ) أي شأنه وأمره أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، فلهذا قال : (لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُ) أي من أضله ، فمن ذا الذي يهديه من بعد الله؟ أي لا أحد (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) أي ينقذونهم من عذابه ووثاقه (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) [الأعراف : ٥٤].

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٨) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ(٣٩) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٤٠)

يقول تعالى مخبرا عن المشركين أنهم حلفوا فأقسموا (بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) أي اجتهدوا في الحلف ، وغلظوا الأيمان على أنه (لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ) أي استبعدوا ذلك ، وكذبوا الرسل في إخبارهم لهم بذلك وحلفوا على نقيضه ، فقال تعالى مكذبا لهم ورادا عليهم (بَلى) أي بلى سيكون ذلك (وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا) أي لا بد منه (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أي فلجهلهم يخالفون الرسل ويقعون في الكفر ، ثم ذكر تعالى حكمته في المعاد وقيام الأجساد يوم التناد ، فقال : (لِيُبَيِّنَ لَهُمُ) أي للناس (الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ) أي من كل شيء (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) [النجم : ٣١] (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ) أي في أيمانهم وأقسامهم لا يبعث الله من يموت.

ولهذا يدعون يوم القيامة إلى نار جهنم دعا ، وتقول لهم الزبانية : (هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الطور : ١٤ ـ ١٦] ثم أخبر تعالى عن قدرته على ما يشاء ، وأنه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء وإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ، والمعاد من ذلك إذا أراد كونه فإنما يأمر به مرة واحدة ، فيكون كما يشاء ، كقوله : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) [القمر : ٥٠] وقال (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) [لقمان : ٢٨]

وقال : في هذه الآية الكريمة (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) أي أن نأمر به مرة واحدة فإذا هو كائن ، كما قال الشاعر : [الطويل]

إذا ما أراد الله أمرا فإنما

يقول له كن كائنا فيكون (١)

أي أنه تعالى لا يحتاج إلى تأكيد فيما يأمر به ، فإنه تعالى لا يمانع ولا يخالف ، لأنه الواحد القهار العظيم الذي قهر سلطانه وجبروته وعزته كل شيء فلا إله إلا هو ولا رب سواه ، وقال ابن أبي حاتم : ذكر الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا حجاج عن ابن جريج ، أخبرني عطاء أنه سمع أبا هريرة يقول قال الله تعالى : شتمني ابن آدم ولم يكن ينبغي له ذلك ، وكذبني ابن آدم ولم يكن ينبغي له ذلك ، فأما تكذيبه إياي فقال : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ) قال وقلت : (بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) وأما شتمه إياي فقال : (إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) وقلت : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ). [الإخلاص : ١ ـ ٤] هكذا ذكره موقوفا وهو في الصحيحين مرفوعا بلفظ آخر.

(وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (٤٢)

يخبر تعالى عن جزائه للمهاجرين في سبيله ابتغاء مرضاته ، الذين فارقوا الدار والإخوان والخلان رجاء ثواب الله وجزائه ، ويحتمل أن يكون سبب نزولها في مهاجرة الحبشة الذين اشتد أذى قومهم لهم بمكة حتى خرجوا من بين أظهرهم إلى بلاد الحبشة ليتمكنوا من عبادة ربهم ، ومن أشرافهم عثمان بن عفان ومعه زوجته رقية بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجعفر بن أبي طالب ابن عم الرسول ، وأبو سلمة بن عبد الأسود في جماعة قريب من ثمانين ما بين رجل وامرأة صديق وصديقة رضي الله عنهم وأرضاهم ، وقد فعل فوعدهم تعالى بالمجازاة الحسنة في الدنيا والآخرة فقال : (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) قال ابن عباس والشعبي وقتادة : المدينة ، وقيل : الرزق الطيب ، قاله مجاهد.

ولا منافاة بين القولين ، فإنهم تركوا مساكنهم وأموالهم فعوضهم الله خيرا منها في الدنيا ، فإن من ترك شيئا لله عوضه الله بما هو خير له منه ، وكذلك وقع فإنهم مكن الله لهم في البلاد ، وحكمهم على رقاب العباد ، وصاروا أمراء حكاما ، وكل منهم للمتقين إماما ، وأخبر أن ثوابه للمهاجرين في الدار الآخرة أعظم مما أعطاهم في الدنيا ، فقال : (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ) أي مما أعطيناهم في الدنيا (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أي لو كان المتخلفون عن الهجرة معهم يعلمون ما ادخر الله لمن أطاعه واتبع رسوله ، ولهذا قال هشيم عن العوام عمن حدثه أن عمر بن

__________________

(١) تقدم البيت في تفسير الآية ١١٧ من سورة البقرة ، ولفظ عجز البيت هناك :

يقول له كن قوله فيكون

الخطاب رضي الله عنه ، كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاءه يقول : خذ بارك الله لك فيه ، هذا ما وعدك الله في الدنيا ، وما ادخر لك في الآخرة أفضل ، ثم قرأ هذه الآية (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ). ثم وصفهم تعالى فقال : (الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) أي صبروا على الأذى من قومهم متوكلين على الله الذي أحسن لهم العاقبة في الدنيا والآخرة.

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٤٣) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (٤٤)

قال الضحاك : عن ابن عباس : لما بعث الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسولا ، أنكرت العرب ذلك أو من أنكر منهم وقالوا : الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا ، فأنزل (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) [يونس : ٢] الآية ، وقال : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) يعني أهل الكتب الماضية أبشرا كانت الرسل إليهم أم ملائكة؟ فإن كانوا ملائكة أنكرتم وإن كانوا بشرا فلا تنكروا أن يكون محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم رسولا.

قال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) ليسوا من أهل السماء كما قلتم ، وكذا روي عن مجاهد عن ابن عباس أن المراد بأهل الذكر أهل الكتاب ، وقاله مجاهد والأعمش ، وقول عبد الرحمن بن زيد : الذكر القرآن ، واستشهد بقوله : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [الحجر : ٩] صحيح ، لكن ليس هو المراد هاهنا ، لأن المخالف لا يرجع في إثباته بعد إنكاره إليه ، وكذا قول أبي جعفر الباقر : نحن أهل الذكر ، ومراده أن هذه الأمة أهل الذكر ، صحيح فإن هذه الأمة أعلم من جميع الأمم السالفة.

وعلماء أهل بيت رسول الله عليهم‌السلام والرحمة من خير العلماء إذا كانوا على السنة المستقيمة كعلي وابن عباس وابني علي الحسن والحسين ، ومحمد ابن الحنفية وعلي بن الحسين زين العابدين ، وعلي بن عبد الله بن عباس ، وأبي جعفر الباقر وهو محمد بن علي بن الحسين وجعفر ابنه ، وأمثالهم وأضرابهم وأشكالهم ممن هو متمسك بحبل الله المتين وصراطه المستقيم ، وعرف لكل ذي حق حقه ونزل كل المنزل الذي أعطاه الله ورسوله واجتمعت عليه قلوب عباده المؤمنين ، والغرض أن هذه الآية الكريمة أخبرت بأن الرسل الماضين قبل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا بشرا كما هو بشر ، كما قال تعالى : (قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً) [الإسراء : ٩٣ ـ ٩٤] وقال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ) [الفرقان : ٢٠] وقال تعالى : (وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا

خالِدِينَ) [الأنبياء : ٨] وقال : (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) [الأحقاف : ٩] وقال تعالى : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ) [الكهف : ١١٠].

ثم أرشد الله تعالى من شك في كون الرسل كانوا بشرا إلى سؤال أصحاب الكتب المتقدمة عن الأنبياء الذين سلفوا هل كان أنبياؤهم بشرا أو ملائكة ، ثم ذكر تعالى أنه أرسلهم (بِالْبَيِّناتِ) أي بالحجج والدلائل (وَالزُّبُرِ) وهي الكتب قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك وغيرهم ، والزبر جمع زبور ، تقول العرب : زبرت الكتاب إذا كتبته. وقال تعالى : (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ) [القمر : ٥٢] وقال (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) [الأنبياء : ١٠٥] ثم قال تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ) يعني القرآن (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) أي من ربهم لعلمك بمعنى ما أنزل الله وحرصك عليه واتباعك له ، ولعلمنا بأنك أفضل الخلائق وسيد ولد آدم ، فتفصل لهم ما أجمل وتبين لهم ما أشكل (وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) أي ينظرون لأنفسهم فيهتدون فيفوزون بالنجاة في الدارين.

(أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٤٥) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٤٦) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) (٤٧)

يخبر تعالى عن حلمه وإنظاره العصاة الذين يعملون السيئات ويدعون إليها ، ويمكرون بالناس في دعائهم إياهم وحملهم عليها ، مع قدرته على (أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) ، أي من حيث لا يعلمون مجيئه إليهم ، كقوله تعالى : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ) [الملك : ١٦ ـ ١٧] وقوله : (أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ) أي في تقلبهم في المعايش واشتغالهم بها في أسفارهم ونحوها من الأشغال الملهية ، قال قتادة والسدي : تقلبهم أي أسفارهم ، وقال مجاهد والضحاك وقتادة (فِي تَقَلُّبِهِمْ) في الليل والنهار كقوله (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ).

وقوله : (فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ) أي لا يعجزون الله على أي حال كانوا عليه. وقوله : (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ) أي أو يأخذهم الله في حال خوفهم من أخذه لهم ، فإنه يكون أبلغ وأشد ، فإن حصول ما يتوقع مع الخوف شديد ، ولهذا قال العوفي عن ابن عباس : (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ) يقول : إن شئت أخذته على أثر موت صاحبه وتخوفه بذلك ، وكذا روي عن مجاهد والضحاك وقتادة وغيرهم.

ثم قال تعالى : (فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي حيث لم يعاجلكم بالعقوبة ، كما ثبت في الصحيحين «لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله ، إنهم يجعلون له ولدا وهو يرزقهم

ويعافيهم» وفيهما «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» ثم قرأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود : ١٠٢] وقال تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) [الحج : ٤٨].

(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (٤٨) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (٥٠)

يخبر تعالى عن عظمته وجلاله وكبريائه الذي خضع له كل شيء ، ودانت له الأشياء والمخلوقات بأسرها : جماداتها وحيواناتها ، ومكلفوها من الإنس والجن ، والملائكة ، فأخبر أن كل ما له ظل يتفيأ ذات اليمين وذات الشمال ، أي بكرة وعشيا فإنه ساجد بظله لله تعالى. قال مجاهد : إذا زالت الشمس سجد كل شيء لله عزوجل (١) ، وكذا قال قتادة والضحاك وغيرهم ، وقوله (وَهُمْ داخِرُونَ) أي صاغرون. وقال مجاهد أيضا : سجود كل شيء فيؤه ، وذكر الجبال ، قال : سجودها فيؤها. وقال أبو غالب الشيباني : أمواج البحر صلاته.

ونزلهم منزلة من يعقل إذ أسند السجود إليهم فقال : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ) كما قال : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ). وقوله : (وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) أي تسجد لله أي غير مستكبرين عن عبادته (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) أي يسجدون خائفين وجلين من الرب جل جلاله (وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) أي مثابرين على طاعته تعالى وامتثال أوامره ، وترك زواجره.

(وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٥١) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ (٥٢) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (٥٣) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ(٥٤) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) (٥٥)

يخبر تعالى أنه لا إله إلا هو ، وأنه لا ينبغي العبادة إلا له وحده لا شريك له ، فإنه مالك كل شيء وخالقه وربه (وَلَهُ الدِّينُ واصِباً) قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وميمون بن مهران والسدي وقتادة وغير واحد : أي دائما (٢) ، وعن ابن عباس أيضا : أي واجبا. وقال مجاهد : أي خالصا له ، أي له العبادة وحده ممن في السموات والأرض ، كقوله : (أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) [آل عمران : ٨٢ ـ ٨٣] هذا على قول ابن عباس وعكرمة ، فيكون من باب الخبر ، وأما على قول مجاهد فإنه يكون من باب الطلب ، أي

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٥٩٣.

(٢) انظر تفسير الطبري ٧ / ٥٩٥.

ارهبوا أن تشركوا بي شيئا وأخلصوا لي الطاعة ، كقوله تعالى : (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) [الزمر : ٣].

ثم أخبر أنه مالك النفع والضر ، وأن ما بالعباد من رزق ونعمة وعافية ونصر فمن فضله عليهم ، وإحسانه إليهم (ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ) أي لعلمكم أنه لا يقدر على إزالته إلا هو فإنكم عند الضرورات تلجأون إليه وتسألونه وتلحون في الرغبة إليه مستغيثين به ، كقوله تعالى : (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً) [الإسراء : ٦٧] وقال هاهنا : (ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) قيل : اللام هاهنا لام العاقبة. وقيل : لام التعليل بمعنى قيضنا لهم ذلك ليكفروا أي يستروا ويجحدوا نعم الله عليهم وأنه المسدي إليهم النعم ، الكاشف عنهم النقم ، ثم توعدهم قائلا (فَتَمَتَّعُوا) أي اعملوا ما شئتم وتمتعوا بما أنتم فيه قليلا (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) أي عاقبة ذلك.

(وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (٥٦) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (٥٧) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٥٩) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٦٠)

يخبر تعالى عن قبائح المشركين الذين عبدوا مع الله غيره من الأصنام والأوثان والأنداد بغير علم ، وجعلوا للأوثان نصيبا مما رزقهم الله فقالوا (هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ) [الأنعام : ١٣٦] أي جعلوا لآلهتهم نصيبا مع الله وفضلوها على جانبه ، فأقسم الله تعالى بنفسه الكريمة ليسألنهم عن ذلك الذي افتروه وائتفكوه وليقابلنهم عليه وليجازينهم أوفر الجزاء في نار جهنم ، فقال : (تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ) ثم أخبر تعالى عنهم أنهم جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا ، وجعلوها بنات الله فعبدوها معه ، فأخطأوا خطأ كبيرا في كل مقام من هذه المقامات الثلاث ، فنسبوا إليه تعالى أن له ولدا ولا ولد له ، ثم أعطوه أخس القسمين من الأولاد وهو البنات ، وهم لا يرضونها لأنفسهم ، كما قال : (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) [النجم : ٢١ ـ ٢٢].

وقوله هاهنا : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ) أي عن قولهم وإفكهم (أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) [الصافات : ١٥١ ـ ١٥٤]. وقوله : (وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) أي يختارون لأنفسهم الذكور ويأنفون لأنفسهم من البنات التي نسبوها إلى الله ، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا ، فإنه (إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا) أي كئيبا من الهم (وَهُوَ كَظِيمٌ) ساكت من شدة ما هو فيه من الحزن.

(يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ) أي يكره أن يراه الناس (مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ) أي إن أبقاها أبقاها مهانة لا يورثها ولا يعتني بها ، ويفضل أولاده الذكور عليها (أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ) أي يئدها وهو أن يدفنها فيه حية كما كانوا يصنعون في الجاهلية ، أفمن يكرهونه هذه الكراهة ويأنفون لأنفسهم عنه يجعلونه لله؟ (أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ) أي بئس ما قالوا ، وبئس ما قسموا ، وبئس ما نسبوه إليه ، كقوله تعالى : (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ). وقوله هاهنا : (لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ) أي النقص إنما ينسب إليهم (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) أي الكمال المطلق من كل وجه وهو منسوب إليه (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٦١) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) (٦٢)

يخبر تعالى عن حلمه بخلقه مع ظلمهم وأنه لو يؤاخذهم بما كسبوا ما ترك على ظهر الأرض من دابة أي لأهلك جميع دواب الأرض تبعا لإهلاك بني آدم ، ولكن الرب جل جلاله يحلم ويستر ، وينظر إلى أجل مسمى أي لا يعاجلهم بالعقوبة ، إذ لو فعل ذلك بهم لما أبقى أحدا. قال سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص أنه قال : كاد الجعل (١) أن يعذب بذنب بني آدم ، وقرأ الآية (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ) (٢) وكذا روى الأعمش عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة قال : قال عبد الله : كاد الجعل أن يهلك في جحره بخطيئة بني آدم. وقال ابن جرير (٣) : حدثني محمد بن المثنى ، حدثنا إسماعيل بن حكيم الخزاعي ، حدثنا محمد بن جابر الحنفي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة قال : سمع أبو هريرة رجلا وهو يقول : إن الظالم لا يضر إلا نفسه ، قال : فالتفت إليه ، فقال : بلى والله حتى إن الحبارى لتموت في وكرها بظلم الظالم.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، أنبأنا الوليد بن عبد الملك ، حدثنا عبيد الله بن شرحبيل ، حدثنا سليمان بن عطاء عن مسلمة بن عبد الله عن عمه أبي مشجعة بن ربيعة عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : ذكرنا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «إن الله لا يؤخر شيئا إذا جاء أجله ، وإنما زيادة العمر بالذرية الصالحة يرزقها الله العبد فيدعون له من بعده فيلحقه دعاؤهم في قبره فذلك زيادة العمر».

__________________

(١) الجعل : حيوان كالخنفساء.

(٢) انظر تفسير الطبري ٧ / ٦٠١.

(٣) تفسير الطبري ٧ / ٦٠١.

وقوله : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ) أي من البنات ومن الشركاء الذين هم عبيده وهم يأنفون أن يكون عند أحدهم شريك له في ماله.

وقوله : (وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى) إنكار عليهم في دعواهم مع ذلك أن لهم الحسنى في الدنيا وإن كان ثم معاد ففيه أيضا لهم الحسنى ، وإخبار عن قيل من قال منهم ، كقوله : (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ) [هود : ٩ ـ ١٠] وقوله : (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) [فصلت : ٥٠]. وقوله : (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً) [مريم : ٧٧] وقال إخبارا عن أحد الرجلين أنه (دَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً) [الكهف : ٣٥ ـ ٣٦] فجمع هؤلاء بين عمل السوء وتمني الباطل بأن يجازوا على ذلك حسنا وهذا مستحيل ، كما ذكر ابن إسحاق إنه وجد حجر في أساس الكعبة حين نقضوها ليجددوها مكتوب عليه حكم ومواعظ ، فمن ذلك : تعلمون السيئات وتجوزن الحسنات؟ أجل كما يجتنى من الشوك العنب.

وقال مجاهد وقتادة : (وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى) أي الغلمان. وقال ابن جرير : (أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى) أي يوم القيامة كما قدمنا بيانه ، وهو الصواب ، ولله الحمد ، ولهذا قال تعالى رادا عليهم في تمنيهم ذلك : (لا جَرَمَ) أي حقا لا بد منه (أَنَّ لَهُمُ النَّارَ) أي يوم القيامة (وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) قال مجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وغيرهم : منسيون فيها مضيعون وهذا كقوله تعالى : (فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا) [الأعراف : ٥١]. وعن قتادة أيضا : مفرطون أي معجلون إلى النار من الفرط ، وهو السابق إلى الورد ، ولا منافاة لأنهم يعجل بهم يوم القيامة إلى النار وينسون فيها أي يخلدون.

(تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٦٤) وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) (٦٥)

يذكر تعالى أنه أرسل إلى الأمم الخالية رسلا فكذبت الرسل ، فلك يا محمد في إخوانك من المرسلين أسوة فلا يهيدنك تكذيب قومك لك ، وأما المشركون الذين كذبوا الرسل فإنما حملهم على ذلك تزيين الشيطان لهم ما فعلوه. (فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ) أي هم تحت العقوبة والنكال ، والشيطان وليهم ولا يملك لهم خلاصا ولا صريخ لهم ، ولهم عذاب أليم. ثم قال تعالى لرسوله : إنه إنما أنزل عليه الكتاب ليبين للناس الذي يختلفون فيه؟ فالقرآن فاصل بين

الناس في كل ما يتنازعون فيه (وَهُدىً) أي للقلوب (وَرَحْمَةً) أي لمن تمسك به (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) وكما جعل سبحانه القرآن حياة للقلوب الميتة بكفرها ، كذلك يحيي الأرض بعد موتها بما أنزله عليها من السماء من ماء (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) أي يفهمون الكلام ومعناه.

(وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (٦٦) وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٦٧)

يقول تعالى : (وَإِنَّ لَكُمْ) أيها الناس (فِي الْأَنْعامِ) وهي الإبل والبقر والغنم (لَعِبْرَةً) أي لآية ودلالة على حكمة خالقها وقدرته ورحمته ولطفه (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ) أفردها هاهنا عودا على معنى النعم ، أو الضمير عائد على الحيوان ، فإن الأنعام حيوانات أي نسقيكم مما في بطن هذا الحيوان ، وفي الآية الأخرى مما في بطونها ، ويجوز هذا وهذا ، كما في قوله تعالى : (كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) [المدثر : ٥٤ ـ ٥٥] وفي قوله تعالى : (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ) [النمل : ٣٥ ـ ٣٦] أي المال.

وقوله : (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً) أي يتخلص اللبن بياضه وطعمه وحلاوته ، ما بين فرث ودم في باطن الحيوان ، فيسري كل إلى موطنه إذا نضج الغذاء في معدته ، فيصرف منه دم إلى العروق ، ولبن إلى الضرع ، وبول إلى المثانة ، وروث إلى المخرج ، وكل منها لا يشوب الآخر ولا يمازجه بعد انفصاله عنه ولا يتغير به.

وقوله : (لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ) أي لا يغص به أحد ، ولما ذكر اللبن وأنه تعالى جعله شرابا للناس سائغا ثنى بذكر ما يتخذه الناس من الأشربة من ثمرات النخيل والأعناب ، وما كانوا يصنعون من النبيذ المسكر قبل تحريمه ، ولهذا امتن به عليهم فقال : (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً) دل على إباحته شرعا قبل تحريمه ، ودل على التسوية بين المسكر المتخذ من النخل والمتخذ من العنب ، كما هو مذهب مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء ، وكذا حكم سائر الأشربة المتخذة من الحنطة والشعير والذرة والعسل ، كما جاءت السنة بتفصيل ذلك ، وليس هذا موضع بسط ذلك.

كما قال ابن عباس في قوله : (سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً) السكر ما حرم من ثمرتيهما ، والرزق الحسن ما أحل من ثمرتيهما ، وفي رواية : السكر حرامه ، والرزق الحسن حلاله ، يعني ما يبس منهما من تمر وزبيب ، وما عمل منهما من طلاء وهو الدبس وخل ونبيذ ، حلال يشرب قبل أن يشتد كما وردت السنة بذلك (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ناسب ذكر العقل هاهنا فإنه أشرف ما في الإنسان ولهذا حرم الله على هذه الأمة الأشربة المسكرة صيانة لعقولها ، قال الله تعالى : (وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ

وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) [يس : ٣٤ ـ ٣٦].

(وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٦٨) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٦٩)

المراد بالوحي هنا الإلهام والهداية ، والإرشاد للنحل أن تتخذ من الجبال بيوتا تأوي إليها ، ومن الشجر ومما يعرشون ، ثم هي محكمة في غاية الإتقان في تسديسها ورصها بحيث لا يكون في بيتها خلل ، ثم أذن لها تعالى إذنا قدريا تسخيريا أن تأكل من كل الثمرات ، وأن تسلك الطرق التي جعلها الله تعالى مذللة لها ، أي مسهلة عليها حيث شاءت من هذا الجو العظيم ، والبراري الشاسعة ، والأودية والجبال الشاهقة ، ثم تعود كل واحدة منها إلى بيتها لا تحيد عنه يمنة ولا يسرة ، بل إلى بيتها وما لها فيه من فراخ وعسل ، فتبني الشمع من أجنحتها وتقيء العسل من فيها ، وتبيض الفراخ من دبرها ، ثم تصبح إلى مراعيها.

وقال قتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : (فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً) أي مطيعة (١) ، فجعلاه حالا من السالكة ، قال ابن زيد : وهو كقول الله تعالى : (وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ) قال : ألا ترى أنهم ينقلون النحل ببيوته من بلد إلى بلد وهو يصحبهم ، والقول الأول هو الأظهر ، وهو أنه حال من الطريق ، أي فاسلكيها مذللة لك ، نص عليه مجاهد ، وقال ابن جرير : كلا القولين صحيح. وقد قال أبو يعلى الموصلي : حدثنا شيبان بن فروخ ، حدثنا مكين بن عبد العزيز عن أبيه عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «عمر الذباب أربعون يوما ، والذباب كله في النار إلا النحل».

وقوله تعالى : (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) ما بين أبيض وأصفر وأحمر وغير ذلك من الألوان الحسنة على اختلاف مراعيها ومأكلها منها. وقوله : (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) أي في العسل شفاء للناس ، أي من أدواء تعرض لهم ، قال بعض من تكلم على الطب النبوي : لو قال فيه الشفاء للناس ، لكان دواء لكل داء ، ولكن قال فيه شفاء للناس ، أي يصلح لكل أحد من أدواء باردة ، فإنه حار والشيء يداوى بضده.

وقال مجاهد وابن جرير في قوله : (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) يعني القرآن ، وهذا قول صحيح في نفسه ، ولكن ليس هو الظاهر هاهنا من سياق الآية ، فإن الآية إنما ذكر فيها العسل ولم يتابع مجاهد على قوله هاهنا ، وإنما الذي قاله ذكروه في قوله تعالى : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) [الإسراء : ٨٢] وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) [يونس : ٥٧].

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٦١٣.

والدليل على أن المراد بقوله تعالى : (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) هو العسل ، الحديث الذي رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من رواية قتادة عن أبي المتوكل علي بن داود الناجي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إن أخي استطلق بطنه ، فقال «اسقه عسلا» فذهب فسقاه عسلا ، ثم جاء فقال : يا رسول الله سقيته عسلا ، فما زاده إلا استطلاقا ، قال : «اذهب فاسقه عسلا» فذهب فسقاه عسلا ، ثم جاء فقال : يا رسول الله ، ما زاده إلا استطلاقا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صدق الله وكذب بطن أخيك ، اذهب فاسقه عسلا» فذهب فسقاه عسلا فبرئ (١).

قال بعض العلماء بالطب : كان هذا الرجل عنده فضلات ، فلما سقاه عسلا وهو حار تحللت ، فأسرعت في الاندفاع فزاده إسهالا ، فاعتقد الأعرابي أن هذا يضره وهو مصلحة لأخيه ، ثم سقاه فازداد التحليل والدفع ، ثم سقاه فكذلك ، فلما اندفعت الفضلات الفاسدة المضرة بالبدن ، استمسك بطنه ، وصلح مزاجه ، واندفعت الأسقام والآلام ببركة إشارته ، عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام.

وفي الصحيحين من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يعجبه الحلواء والعسل (٢) ، هذا لفظ البخاري : وفي صحيح البخاري من حديث سالم الأفطس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الشفاء في ثلاثة : في شرطة محجم ، أو شربة عسل ، أو كية بنار ، وأنهى أمتي عن الكي» (٣).

وقال البخاري : حدثنا أبو نعيم ، حدثنا عبد الرحمن بن الغسيل عن عاصم بن عمر بن قتادة ، سمعت جابر بن عبد الله قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن كان في شيء من أدويتكم ، أو يكون في شيء من أدويتكم خير : ففي شرطة محجم ، أو شربة عسل ، أو لذعة بنار توافق الداء ، وما أحب أن أكتوي» (٤) ورواه مسلم من حديث عاصم بن عمر بن قتادة عن جابر به.

وقال الإمام أحمد (٥) : حدثنا علي بن إسحاق ، أنبأنا عبد الله أنبأنا سعيد بن أبي أيوب ، حدثنا عبد الله بن الوليد عن أبي الخير عن عقبة بن عامر الجهني قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ثلاث إن كان في شيء شفاء : فشرطة محجم ، أو شربة عسل ، أو كية تصيب ألما ، وأنا أكره

__________________

(١) أخرجه البخاري في الطب باب ٢٤ ، ومسلم في السلام حديث ٩١ ، والترمذي في الطب باب ٣١ ، وأحمد في المسند ٣ / ١٩.

(٢) أخرجه البخاري في الأشربة باب ١٠ ، ١٥ ، والطب باب ٤ ، ومسلم في الرضاع حديث ٨٨.

(٣) أخرجه البخاري في الطب باب ٣.

(٤) أخرجه البخاري في الطب باب ١٥ ، ومسلم في السلام حديث ٧١.

(٥) المسند ٤ / ١٤٦.

الكي ولا أحبه» ورواه الطبراني عن هارون بن سلول المصري عن أبي عبد الرحمن المقري ، عن عبد الله بن الوليد به ، ولفظه «إن كان في شيء شفاء : فشرطة محجم» وذكره ، وهذا إسناد صحيح ، ولم يخرجوه.

وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجة القزويني في سننه : حدثنا علي بن سلمة هو التغلبي ، حدثنا زيد بن حباب ، حدثنا سفيان عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص عن عبد الله هو ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «عليكم بالشفاءين : العسل والقرآن» (١) وهذا إسناد جيد تفرد بإخراجه ابن ماجة مرفوعا ، وقد رواه ابن جرير (٢) عن سفيان بن وكيع عن أبيه عن سفيان هو الثوري به موقوفا وله شبه.

وروينا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : إذا أراد أحدكم الشفاء فليكتب آية من كتاب الله في صحيفة ، وليغسلها بماء السماء ، وليأخذ من امرأته درهما عن طيب نفس منها ، فليشتر به عسلا فليشربه بذلك فإنه شفاء : أي من وجوه ، وقال الله تعالى : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) [الإسراء : ٨٢] وقال : (وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً) [ق : ٩] وقال : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) [النساء : ٤] وقال في العسل : (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ).

وقال ابن ماجة (٣) أيضا : حدثنا محمود بن خداش حدثنا سعيد بن زكريا القرشي ، حدثنا الزبير بن سعيد الهاشمي عن عبد الحميد بن سالم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله «من لعق العسل ثلاث غدوات في كل شهر ، لم يصبه عظيم من البلاء» الزبير بن سعيد متروك.

وقال ابن ماجة (٤) أيضا : حدثنا إبراهيم بن محمد بن يوسف بن سرح الفريابي ، حدثنا عمرو بن بكير السكسكي ، حدثنا إبراهيم بن أبي عبلة سمعت أبا أبي ابن أم حرام وكان قد صلى القبلتين ، يقول : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «عليكم بالسنا والسنوت ، فإن فيهما شفاء من كل داء إلا السام» قيل : يا رسول الله وما السام؟ قال «الموت» قال عمرو : قال ابن أبي عبلة : السنوت الشبت. وقال آخرون : بل هو العسل الذي في زقاق السمن ، وهو قول الشاعر : [الطويل]

هم السّمن بالسنّوت لا لبس فيهم

وهم يمنعون الجار أن يقرّدا (٥)

__________________

(١) أخرجه ابن ماجة في الطب باب ٧.

(٢) تفسير الطبري ٧ / ٦١٤.

(٣) كتاب الطب باب ٧.

(٤) كتاب الطب باب ٩.

(٥) يروي البيت :

هم السمن بالسّنّوت لا ألس بينهم

وهم يمنعون جارهم أن يقرّدا

وهو للحصين بن القعقاع في لسان العرب (سنت) ، (قرد) ، والتنبيه والإيضاح ١ / ١٦٥ ، ٢ / ٤٧ ، ـ

كذا رواه ابن ماجة ، وقوله : لا لبس فيهم أي لا خلط. وقوله : يمنعون الجار أن يقردا ، أي يضطهد ويظلم ، وقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أي إن في إلهام الله لهذه الدواب الضعيفة الخلقة إلى السلوك في هذه المهامة والاجتناء من سائر الثمار ، ثم جمعها للشمع والعسل وهو من أطيب الأشياء ، (لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) في عظمة خالقها ومقدرها ومسخرها وميسرها ، فيستدلون بذلك على أنه الفاعل القادر الحكيم العليم الكريم الرحيم.

(وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) (٧٠)

يخبر تعالى عن تصرفه في عباده ، وأنه هو الذي أنشأهم من العدم ثم بعد ذلك يتوفاهم ، ومنهم من يتركه حتى يدركه الهرم وهو الضعف في الخلقة ، كما قال الله تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً) [الروم : ٥٤] الآية ، وقد روي عن علي رضي الله عنه : أرذل العمر خمس وسبعون سنة ، وفي هذا السن يحصل له ضعف القوى والخرف ، وسوء الحفظ وقلة العلم ، ولهذا قال : (لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً) ، أي بعد ما كان عالما أصبح لا يدري شيئا من الفند والخرف.

ولهذا روى البخاري عند تفسير هذه الآية : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا هارون بن موسى أبو عبد الله الأعور عن شعيب عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يدعو «أعوذ بك من البخل والكسل والهرم ، وأرذل العمر وعذاب القبر ، وفتنة الدجال وفتنة المحيا والممات» (١) وقال زهير بن أبي سلمة في معلقته المشهورة : [الطويل]

سئمت تكاليف الحياة ومن يعش

ثمانين عاما لا أبا لك يسأم (٢)

رأيت المنايا خبط عشواء من تصب

تمته ومن تخطئ يعمر فيهرم

(وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ) (٧١)

__________________

ـ ومجمل اللغة ٣ / ٩٤ ، وتاج العروس (سنت) ، (ألس) ، وللأعشى في أساس البلاغة (قرد) ، وليس في ديوانه ، وبلا نسبة في لسان العرب (بختر) ، (ألس) ، وجمهرة اللغة ص ٦٣٦ ، ١٢١٤ ، ومقاييس اللغة ٣ / ١٠٤ ، والمخصص ٣ / ٨٤ ، ٨ / ١٢٢ ، وديوان الأدب ١ / ٣٣٢ ، وتهذيب اللغة ٢ / ٣٨٥ ، ١٣ / ٧١ ، وتاج العروس (بختر)

(١) أخرجه البخاري في تفسير سورة ١٦ ، باب ١ ، ومسلم في الذكر حديث ٥٢.

(٢) البيتان في ديوان زهير بن أبي سلمى ص ٢٩ ، والبيت الأول في كتاب العين ٥ / ٣٧٢ ، وأساس البلاغة (كلف) ، وتاج العروس (حمل) ، والبيت الثاني في لسان العرب (خبط) ، (عشا) ، وتهذيب اللغة ٣ / ٥٤ ، ٧ / ٢٥١ ، وجمهرة اللغة ص ٨٧٢ ، وتاج العروس (خبط) ، ومقاييس اللغة ٤ / ٣٢٣ ، وكتاب العين ٢ / ١٨٨ ، وأساس البلاغة (عشو) ، وبلا نسبة في المخصص ٧ / ١٢٣.

يبين تعالى للمشركين جهلهم وكفرهم فيما زعموه لله من الشركاء ، وهم يعترفون أنها عبيد له كما كانوا يقولون في تلبيتهم في حجهم : لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك ، فقال تعالى منكرا عليهم : أنتم لا ترضون أن تساووا عبيدكم فيما رزقناكم ، فكيف يرضى هو تعالى بمساواة عبيد له في الإلهية والتعظيم ، كما قال في الآية الأخرى : (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) [الروم : ٢٨] الآية ، قال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية : يقول لم يكونوا ليشركوا عبيدهم في أموالهم ونسائهم ، فكيف يشركون عبيدي معي في سلطاني ، فذلك قوله: (أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ) وقال في الرواية الأخرى عنه : فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم. وقال مجاهد في هذه الآية : هذا مثل الآلهة الباطلة ، وقال قتادة : هذا مثل ضربه الله ، فهل منكم من أحد يشاركه مملوكه في زوجته وفي فراشه ، فتعدلون بالله خلقه وعباده؟ فإن لم ترض لنفسك هذا ، فالله أحق أن ينزه منك.

وقوله : (أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ) أي أنهم جعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا ، فجحدوا نعمته ، وأشركوا معه غيره. وعن الحسن البصري قال : كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذه الرسالة إلى أبي موسى الأشعري : واقنع برزقك من الدنيا ، فإن الرحمن فضل بعض عباده على بعض في الرزق بلاء يبتلي به كلا ، فيبتلي من بسط له كيف شكره لله وأداؤه الحق الذي افترض عليه فيما رزقه وخوله ، رواه ابن أبي حاتم.

(وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ) (٧٢)

يذكر تعالى نعمه على عبيده بأن جعل لهم من أنفسهم أزواجا من جنسهم وشكلهم ، ولو جعل الأزواج من نوع آخر ما حصل الائتلاف والمودة والرحمة ، ولكن من رحمته خلق من بني آدم ذكورا وإناثا ، وجعل الإناث أزواجا للذكور ، ثم ذكر تعالى أنه جعل من الأزواج البنين والحفدة وهم أولاد البنين ، قاله ابن عباس وعكرمة والحسن والضحاك وابن زيد ، قال شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : بنين وحفدة ، وهم الولد وولد الولد (١). وقال سنيد : حدثنا حجاج عن أبي بكر عن عكرمة عن ابن عباس قال : بنوك حيث يحفدونك ويرفدونك ويعينونك ويخدمونك ، قال جميل : [الكامل]

حفد الولائد حولهن وأسلمت

بأكفّهنّ أزمة الإجمال (٢)

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٦١٩.

(٢) البيت للفرزدق في زيادات الطبعة الأولى من جمهرة اللغة ص ٥٠٤ ، الهامش ، وليس في ديوانه ، ولجميل بثينة في ملحق ديوانه ص ٢٤٦ ، وبلا نسبة في لسان العرب (حفد) ، وجمهرة اللغة ص ٥٠٤ ، ـ

وقال مجاهد : بنين وحفدة ابنه وخادمه وقال في رواية : الحفدة الأنصار والأعوان والخدام ، وقال طاوس وغير واحد : الحفدة الخدم. وكذا قال قتادة وأبو مالك والحسن البصري. وقال عبد الرزاق : أنبأنا معمر عن الحكم بن أبان عن عكرمة أنه قال : الحفدة من خدمك من ولدك وولد ولدك (١) ، قال الضحاك : إنما كانت العرب تخدمها بنوها. وقال العوفي عن ابن عباس قوله : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً) يقول : بنو امرأة الرجل ليسوا منه ، ويقال : الحفدة الرجل يعمل بين يدي الرجل. يقال : فلان يحفد لنا أي يعمل لنا ، قال : وزعم رجال أن الحفدة أختان الرجل ، وهذا الأخير الذي ذكره ابن عباس ، قاله ابن مسعود ومسروق وأبو الضحى وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير ومجاهد والقرظي ، ورواه عكرمة عن ابن عباس ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : هم الأصهار.

قال ابن جرير : وهذه الأقوال كلها داخلة في معنى الحفدة ، وهو الخدمة الذي منه قوله في القنوت : وإليك نسعى ونحفد ، ولما كانت الخدمة قد تكون من الأولاد والخدم والأصهار ، فالنعمة حاصلة بهذا كله ، ولهذا قال : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً).

قلت : فمن جعل (وَحَفَدَةً) متعلقا بأزواجكم ، فلا بد أن يكون المراد الأولاد وأولاد الأولاد والأصهار ، لأنهم أزواج البنات أو أولاد الزوجة ، وكذا قال الشعبي والضحاك ، فإنهم يكونون غالبا تحت كنف الرجل وفي حجرة وفي خدمته ، وقد يكون هذا هو المراد من قوله عليه الصلاة والسلام في حديث نضرة بن أكثم «والولد عبد لك» (٢) رواه أبو داود. وأما من جعل الحفدة الخدم ، فعنده أنه معطوف على قوله : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) أي جعل لكم الأزواج والأولاد خدما.

وقوله : (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) أي من المطاعم والمشارب. ثم قال تعالى منكرا على من أشرك في عبادة المنعم غيره : (أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ) وهم الأنداد والأصنام (وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ) أي يسترون نعم الله عليهم ويضيفونها إلى غيره. وفي الحديث الصحيح «إن الله يقول للعبد يوم القيامة ممتنا عليه : ألم أزوجك؟ ألم أكرمك؟ ألم أسخر لك الخيل والإبل ، وأذرك ترأس وتربع؟» (٣).

وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ(٧٣) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ

__________________

ـ وكتاب العين ٣ / ١٨٥ ، ونسبة الطبري في تفسيره ٧ / ٦١٩ لحميد ، والبيت ليس في ديوانه حميد بن ثور.

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٦١٩.

(٢) أخرجه أبو داود في النكاح باب ٣٧.

(٣) أخرجه مسلم في الزهد حديث ١٦ ، والترمذي في القيامة باب ٦ ، وأحمد في المسند ٢ / ٤٩٢ ، ٤ / ٣٧٨ ، ٣٧٩.

لِلَّهِ الْأَمْثَالَ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (٧٤)

يقول تعالى إخبارا عن المشركين الذين عبدوا معه غيره مع أنه هو المنعم المتفضل الخالق الرازق ، وحده لا شريك ومع هذا يعبدون من دونه من الأصنام والأنداد والأوثان ما لا يملك لهم رزقا من السموات والأرض شيئا ، أي لا يقدر على إنزال مطر ولا إنبات زرع ولا شجر ، ولا يملكون ذلك لأنفسهم ، أي ليس لهم ذلك ، ولا يقدرون عليه لو أرادوه ، ولهذا قال تعالى : (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ) أي لا تجعلوا له أندادا وأشباها وأمثالا (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أي أنه يعلم ويشهد أنه لا إله إلا هو ، وأنتم بجهلكم تشركون به غيره.

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٧٥)

قال العوفي عن ابن عباس : هذا مثل ضربه الله للكافر والمؤمن ، وكذا قال قتادة ، واختاره ابن جرير ، فالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء مثل الكافر والمرزوق الرزق الحسن ، فهو ينفق منه سرا وجهرا هو المؤمن ، وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد : هو مثل مضروب للوثن وللحق تعالى ، فهل يستوي هذا وهذا؟ ولما كان الفرق بينهما ظاهرا واضحا بينا لا يجهله إلا كل غبي قال الله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ).

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٧٦)

قال مجاهد : وهذا أيضا المراد به الوثن والحق تعالى يعني أن الوثن أبكم لا يتكلم ولا ينطق بخير ولا بشيء ولا يقدر على شيء بالكلية ، فلا مقال ولا فعال ، وهو مع هذا كل أي عيال وكلفة على مولاه (أَيْنَما يُوَجِّهْهُ) أي يبعثه (لا يَأْتِ بِخَيْرٍ) ولا ينجح مسعاه (هَلْ يَسْتَوِي) من هذه صفاته (وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) أي بالقسط ، فمقاله حق وفعاله مستقيمة (وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) وقيل : الأبكم مولى لعثمان ، وبهذا قال السدي وقتادة وعطاء الخراساني ، واختار هذا القول ابن جرير.

وقال العوفي عن ابن عباس : هو مثل للكافر والمؤمن أيضا كما تقدم ، وقال ابن جرير (١) :

حدثنا الحسن بن الصباح البزار ، حدثنا يحيى بن إسحاق السيلحيني ، حدثنا حماد حدثنا عبد الله بن عثمان بن خيثم عن إبراهيم عن عكرمة ، عن يعلى بن أمية عن ابن عباس في قوله : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) قال : نزلت في رجل من قريش وعبده ، يعني قوله (عَبْداً مَمْلُوكاً) الآية ، وفي قوله : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ) ـ إلى قوله ـ

__________________

(١) تفسير الطبري ٧ / ٦٢٤.

(وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) قال : هو عثمان بن عفان : قال : والأبكم الذي أينما يوجهه لا يأت بخير ، قال : هو مولى لعثمان بن عفان ، كان عثمان ينفق عليه ويكفله ويكفيه المؤونة ، وكان الآخر يكره الإسلام ويأباه وينهاه عن الصدقة والمعروف ، فنزلت فيهما.

(وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٧٧) وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٨) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٧٩)

يخبر تعالى عن كمال علمه وقدرته على الأشياء في علمه غيب السموات والأرض واختصاصه بعلم الغيب ، فلا اطلاع لأحد على ذلك إلا أن يطلعه تعالى على ما يشاء ، وفي قدرته التامة التي لا تخالف ولا تمانع ، وأنه إذا أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون ، كما قال : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) [القمر : ٥٠] أي فيكون ما يريد كطرف العين ، وهكذا قال هاهنا : (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) كما قال : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) [لقمان : ٢٨].

ثم ذكر تعالى منته على عباده في إخراجه إياهم من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئا ، ثم بعد هذا يرزقهم السمع الذي به يدركون الأصوات والأبصار التي بها يحسون المرئيات والأفئدة ، وهي العقول التي مركزها القلب على الصحيح ، وقيل : الدماغ والعقل به يميز بين الأشياء ضارها ونافعها ، وهذه القوى والحواس تحصل للإنسان على التدريج قليلا قليلا كلما كبر زيد في سمعه وبصره وعقله حتى يبلغ أشده. وإنما جعل تعالى هذه في الإنسان ليتمكن بها من عبادة ربه تعالى ، فيستعين بكل جارحة وعضو وقوة على طاعة مولاه.

كما جاء في صحيح البخاري (١) عن أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «يقول تعالى : من عادى لي وليا فقد بارزني بالحرب ، وما تقرب إلى عبدي بشيء أفضل من أداء ما افترضت عليه ، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، ولئن سألني لأعطينه ، ولئن دعاني لأجيبنه ، ولئن استعاذ بي لأعيذنه ، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه».

فمعنى الحديث أن العبد إذا أخلص الطاعة صارت أفعاله كلها لله عزوجل ، فلا يسمع إلا لله ، ولا يبصر إلا لله أي ما شرعه الله له ، ولا يبطش ولا يمشي إلا في طاعة الله عزوجل ،

__________________

(١) أخرجه البخاري في الرقاق باب ٣٨ ، وأحمد في المسند ٦ / ٢٥٦.

مستعينا بالله في ذلك كله ، ولهذا جاء في بعض رواية الحديث في غير الصحيح بعد قوله ورجله التي يمشي بها «فبي يسمع ، وبي يبصر ، وبي يبطش ، وبي يمشي» ولهذا قال تعالى : (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) كقوله تعالى في الآية الأخرى : (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [الملك : ٢٣ ـ ٢٤].

ثم نبه تعالى عباده إلى النظر إلى الطير المسخر بين السماء والأرض ، كيف جعله يطير بجناحين بين السماء والأرض في جو السماء ، ما يمسكه هناك إلا الله بقدرته تعالى التي جعل فيها قوى تفعل ذلك ، وسخر الهواء يحملها ويسير الطير كذلك ، كما قال تعالى في سورة الملك : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ) [الملك : ١٩] وقال هاهنا : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).

(وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٨٠) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (٨١) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٨٢) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ) (٨٣)

يذكر تبارك وتعالى تمام نعمه على عبيده بما جعل لهم من البيوت التي هي سكن لهم ، يأوون إليها ، ويستترون بها ، وينتفعون بها بسائر وجوه الانتفاع ، وجعل لهم أيضا (مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً) أي من الأدم ، يستخفون حملها في أسفارهم ليضربوها لهم في إقامتهم في السفر والحضر ، ولهذا قال : (تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها) أي الغنم ، (وَأَوْبارِها) أي الإبل ، (وَأَشْعارِها) أي المعز ، والضمير عائد على الأنعام (أَثاثاً) أي تتخذون منه أثاثا وهو المال ، وقيل : المتاع ، وقيل : الثياب ، والصحيح أعم من هذا كله فإنه يتخذ من الأثاث البسط والثياب وغير ذلك ، ويتخذ مالا وتجارة ، وقال ابن عباس : الأثاث المتاع ، وكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وعطية العوفي وعطاء الخراساني والضحاك وقتادة. وقوله : (إِلى حِينٍ) أي إلى أجل مسمى ووقت معلوم.

وقوله : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً) قال قتادة : يعني الشجر (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً) أي حصونا ومعاقل ، كما (جَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) وهي الثياب من القطن والكتان والصوف (وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) كالدروع من الحديد المصفح والزرد وغير ذلك ، (كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) أي هكذا يجعل لكم ما تستعينون به على أمركم وما تحتاجون إليه ليكون عونا لكم على طاعته وعبادته (لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) هكذا فسره

الجمهور ، وقرءوه بكسر اللام من (تُسْلِمُونَ) أي من الإسلام.

وقال قتادة في قوله : (كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) هذه السورة تسمى سورة النعم. وقال عبد الله بن المبارك وعباد بن العوام عن حنظلة السدوسي ، عن شهر بن حوشب ، عن ابن عباس أنه كان يقرؤها (تسلمون) بفتح اللام ، يعني من الجراح ، رواه أبو عبيد القاسم بن سلام عن عباد ، أخرجه ابن جرير (١) من الوجهين ، ورد هذه القراءة.

وقال عطاء الخراساني : إنما نزل القرآن على قدر معرفة العرب ، ألا ترى إلى قوله تعالى : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً) وما جعل من السهل أعظم وأكثر ، ولكنهم كانوا أصحاب جبال؟ ألا ترى إلى قوله : (وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ) وما جعل لهم من غير ذلك أعظم وأكثر ، ولكنهم كانوا أصحاب وبر وشعر؟ ألا ترى إلى قوله : (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ) لعجبهم من ذلك وما أنزل من الثلج أعظم وأكثر ، ولكنهم كانوا لا يعرفونه؟ ألا ترى إلى قوله تعالى : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) وما تقي من البرد أعظم وأكثر ، ولكنهم كانوا أصحاب حر (٢).

وقوله : (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي بعد هذا البيان وهذا الامتنان ، فلا عليك منهم (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ) وقد أديته إليهم (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها) أي يعرفون أن الله تعالى هو المسدي إليهم ذلك وهو المتفضل به عليهم ومع هذا ينكرون ذلك ويعبدون معه غيره ويسندون النصر والرزق إلى غيره (وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ) كما قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا صفوان ، حدثنا الوليد ، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن مجاهد أن أعرابيا أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسأله ، فقرأ عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً) فقال الأعرابي : نعم ، قال : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً) الآية ، قال الأعرابي : نعم ، ثم قرأ عليه كل ذلك ، يقول الأعرابي : نعم حتى بلغ (كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) فولى الأعرابي ، فأنزل الله (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها) الآية.

(وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٨٤) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٥) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (٨٦) وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٨٧) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ) (٨٨)

يخبر تعالى عن شأن المشركين يوم معادهم في الدار الآخرة ، وأنه يبعث من كل أمة شهيدا

__________________

(١) تفسير الطبري ٧ / ٦٢٨.

(٢) انظر تفسير الطبري ٧ / ٦٢٨ ، ٦٢٩.

وهو نبيها ، يشهد عليها بما أجابته فيما بلغها عن الله تعالى : (ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي في الاعتذار ، لأنهم يعلمون بطلانه وكذبه ، كقوله : (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) [المرسلات : ٣٥ ـ ٣٦] فلهذا قال : (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي الذين أشركوا (الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ) أي لا يفتر عنهم ساعة واحدة.

(وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) أي لا يؤخر عنهم بل يأخذهم سريعا من الموقف بلا حساب ، فإنه إذا جيء بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام ، مع كل زمام سبعون ألف ملك ، فيشرف عنق منها على الخلائق ، وتزفر زفرة لا يبقى أحد إلا جثا لركبتيه ، فتقول : إني وكلت بكل جبار عنيد الذي جعل مع الله إلها آخر وبكذا وبكذا ، وتذكر أصنافا من الناس ، كما جاء في الحديث ، ثم تنطوي عليهم وتلتقطهم من الموقف كما يلتقط الطائر الحب ، قال الله تعالى : (إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً ، وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً) [الفرقان : ١٢ ـ ١٤] ، وقال تعالى : (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً) [الكهف : ٥٣] وقال تعالى : (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) [الأنبياء : ٣٩ ـ ٤٠].

ثم أخبر تعالى عن تبري آلهتهم منهم أحوج ما يكونون إليها فقال : (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ) أي الذين كانوا يعبدونهم في الدنيا (قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ) أي قالت لهم الآلهة : كذبتم ما نحن أمرناكم بعبادتنا ، كما قال تعالى : (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ) [الأحقاف : ٥ ـ ٦] وقال تعالى : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) [مريم : ٨١ ـ ٨٢] وقال الخليل عليه الصلاة والسلام (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ) [العنكبوت : ٢٥] الآية ، وقال تعالى : (وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ) [الكهف : ٥٢] الآية ، والآيات في هذا كثيرة.

وقوله : (وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ) قال قتادة وعكرمة : ذلوا واستسلموا يومئذ ، أي استسلموا لله جميعهم فلا أحد إلا سامع مطيع ، وكقوله تعالى : (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا) [مريم : ٣٨] أي ما أسمعهم وما أبصرهم يومئذ ، وقال : (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا) [السجدة : ١٢] الآية ، وقال : (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) [طه : ١١١] أي خضعت وذلت واستكانت وأنابت واستسلمت. وقوله (وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي ذهب واضمحل ما كانوا يعبدونه افتراء على الله فلا ناصر لهم ولا معين ولا مجير.

ثم قال تعالى : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً) الآية ، أي عذابا على كفرهم وعذابا على صدهم الناس عن اتباع الحق كقوله تعالى : (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) [الأنعام : ٢٦] أي ينهون الناس عن اتباعه ويبتعدون هم منه أيضا (وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ) وهذا دليل على تفاوت الكفار في عذابهم كما يتفاوت المؤمنون في منازلهم في الجنة ودرجاتهم ، كما قال تعالى : (قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ) [الأعراف: ٣٨] وقد قال الحافظ أبو يعلى : حدثنا سريج بن يونس ، حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش عن عبد الله بن مرة ، عن مسروق ، عن عبد الله في قول الله : (زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ) قال : زيدوا عقارب أنيابها كالنخل الطوال. وحدثنا شريح بن يونس ، حدثنا إبراهيم بن سليمان ، حدثنا الأعمش عن الحسن ، عن ابن عباس في الآية أنه قال : (زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ) قال : هي خمسة أنهار تحت العرش يعذبون ببعضها في الليل وببعضها في النهار.

(وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) (٨٩)

يقول تعالى مخاطبا عبده ورسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ) يعني أمتك ، أي اذكر ذلك اليوم وهوله ، وما منحك الله فيه من الشرف العظيم والمقام الرفيع ، وهذه الآية شبيهة بالآية التي انتهى إليها عبد الله بن مسعود حين قرأ على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صدر سورة النساء ، فلما وصل إلى قوله : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) [النساء : ٤١] فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حسبك» فقال ابن مسعود رضي الله عنه : فالتفت فإذا عيناه تذرفان (١).

وقوله : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) قال ابن مسعود : قد بين لنا في هذا القرآن كل علم وكل شيء. وقال مجاهد : كل حلال وكل حرام ، وقول ابن مسعود أعم وأشمل ، فإن القرآن اشتمل على كل علم نافع من خبر ما سبق وعلم ما سيأتي ، وكل حلال وحرام ، وما الناس إليه محتاجون في أمر دنياهم ودينهم ومعاشهم ومعادهم (وَهُدىً) أي للقلوب (وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ). وقال الأوزاعي : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) أي : بالسنة.

ووجه اقتران قوله : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ) مع قوله : (وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ) أن المراد ـ والله أعلم ـ إن الذي فرض عليك تبليغ الكتاب الذي أنزله عليك سائلك عن ذلك يوم القيامة (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) [الأعراف : ٦] (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ

__________________

(١) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٤ ، باب ٩ ، وفضائل القرآن باب ٣٣ ، ومسلم في المسافرين حديث ٢٤٧ ، ٢٤٨ ، وأحمد في المسند ١ / ٣٧٤ ، ٣٨٠ ، ٤٣٣.

أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) [الحجر : ٩٢ ـ ٩٣] (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) [المائدة : ١٠٩] ، وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) [القصص : ٨٥] أي إن الذي أوجب عليك تبليغ القرآن لرادك إليه ومعيدك يوم القيامة وسائلك عن أداء ما فرض عليك. هذا أحد الأقوال ، وهو متجه حسن.

(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (٩٠)

يخبر تعالى أنه يأمر عباده بالعدل ، وهو القسط والموازنة ، ويندب إلى الإحسان ، كقوله تعالى : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) [النحل : ١٢٦] ، (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) [الشورى : ٤٠] ، وقال : (وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) [المائدة : ٤٥] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على شرعية العدل والندب إلى الفضل. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) قال : شهادة أن لا إله إلا الله ، وقال سفيان بن عيينة ، العدل في هذا الموضع هو استواء السريرة والعلانية من كل عامل لله عملا ، والإحسان أن تكون سريرته أحسن من علانيته ، والفحشاء والمنكر أن تكون علانيته أحسن من سريرته.

وقوله : (وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى) أي يأمر بصلة الأرحام ، كما قال : (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً) [الإسراء : ٢٦]. وقوله : (وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) فالفواحش المحرمات ، والمنكرات ما ظهر منها من فاعلها ، ولهذا قال في الموضع الآخر : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) [الأعراف : ٣٣] وأما البغي فهو العدوان على الناس ، وقد جاء في الحديث «ما من ذنب أجدر أن يعجل الله عقوبته في الدنيا مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم» (١).

وقوله : (يَعِظُكُمْ) أي يأمركم بما يأمركم به من الخير وينهاكم عما ينهاكم عنه من الشر (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) وقال الشعبي عن شتير بن شكل : سمعت ابن مسعود يقول : إن أجمع آية في القرآن في سورة النحل (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) الآية ، رواه ابن جرير (٢) ، وقال سعيد عن قتادة قوله : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) الآية ليس من خلق حسن ، كان أهل الجاهلية يعملون به ويستحسنونه إلا أمر الله به ، وليس من خلق سيئ كانوا يتعايرونه بينهم ، إلا نهى الله عنه وقدم فيه. وإنما نهى عن سفاسف الأخلاق ومذامها. (قلت) ولهذا جاء في

__________________

(١) أخرجه أبو داود في الأدب باب ٤٣ ، والترمذي في القيامة باب ٥٧ ، وابن ماجة في الزهد باب ٢٣ ، وأحمد في المسند ٥ / ٣٦ ، ٣٨.

(٢) تفسير الطبري ٧ / ٦٣٥.

الحديث «إن الله يحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها».

وقال الحافظ أبو يعلى في كتاب معرفة الصحابة : حدثنا أبو بكر محمد بن الفتح الحنبلي ، حدثنا يحيى بن محمد مولى بني هاشم ، حدثنا الحسن بن داود المنكدري ، حدثنا عمر بن علي المقدمي عن علي بن عبد الله بن عمير ، عن أبيه ، قال : بلغ أكثم بن صيفي مخرج النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فأراد أن يأتيه ، فأبى قومه أن يدعوه وقالوا : أنت كبيرنا لم تكن لتخف إليه ، قال : فليأته من يبلغه عني ويبلغني عنه ، فانتدب رجلان فأتيا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالا : نحن رسل أكثم بن صيفي ، وهو يسألك من أنت ، وما أنت؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما من أنا فأنا محمد بن عبد الله ، وأما ما أنا؟ فأنا عبد الله ورسوله» قال : ثم تلا عليهم هذه الآية (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) الآية ، قالوا : اردد علينا هذا القول ، فردده عليهم حتى حفظوه ، فأتيا أكثم فقالا أبى أن يرفع نسبه ، فسألنا عن نسبه فوجدناه زاكي النسب وسطا في مضر ـ أي شريفا ـ وقد رمى إلينا بكلمات قد سمعناها ، فلما سمعهن أكثم قال : إني أراه يأمر بمكارم الأخلاق ، وينهى عن ملائمها ، فكونوا في هذا الأمر رؤوسا ولا تكونوا أذنابا.

وقد ورد في نزولها حديث حسن رواه الإمام أحمد (١) : حدثنا أبو النضر ، حدثنا عبد الحميد ، حدثنا شهر ، حدثني عبد الله بن عباس قال : بينما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بفناء بيته جالس إذ مر به عثمان بن مظعون ، فكشر إلى رسول الله فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا تجلس؟» فقال: بلى ، قال : فجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مستقبله ، فبينما هو يحدثه إذ شخص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببصره إلى السماء ، فنظر ساعة إلى السماء ، فأخذ يضع بصره حتى وضعه على يمينه في الأرض ، فتحرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن جليسه عثمان إلى حيث وضع بصره ، فأخذ ينغض رأسه كأنه يستفقه ما يقال له ، وابن مظعون ينظر.

فلما قضى حاجته واستفقه ما يقال له ، شخص بصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى السماء كما شخص أول مرة ، فأتبعه بصره حتى توارى إلى السماء ، فأقبل إلى عثمان بجلسته الأولى ، فقال : يا محمد فيما كنت أجالسك ما رأيتك تفعل كفعلك الغداة ، فقال : «وما رأيتني فعلت؟» قال: رأيتك شخص بصرك إلى السماء ، ثم وضعته حيث وضعته على يمينك ، فتحرفت إليه وتركتني ، فأخذت تنغض رأسك كأنك تستفقه شيئا يقال لك ، قال : «وفطنت لذلك؟» فقال عثمان : نعم ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أتاني رسول الله آنفا وأنت جالس» قال : رسول الله؟ قال «نعم» ، قال : فما قال لك؟ قال : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) الآية ، قال عثمان : فذلك حين استقر الإيمان في قلبي وأحببت محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إسناد جيد متصل حسن قد بين فيه السماع المتصل ، ورواه ابن أبي حاتم من حديث عبد الحميد بن بهرام مختصرا.

__________________

(١) المسند ١ / ٣١٨.

حديث آخر عن عثمان بن أبي العاص الثقفي في ذلك ، قال الإمام أحمد (١) : حدثنا أسود بن عامر ، حدثنا هريم عن ليث عن شهر بن حوشب ، عن عثمان بن أبي العاص قال : كنت عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالسا إذ شخص بصره فقال : «أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع من هذه السورة (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) الآية ، وهذا إسناد لا بأس به ، ولعله عند شهر بن حوشب من الوجهين ، والله أعلم.

(وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٩١) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (٩٢)

هذا مما يأمر الله تعالى به ، وهو الوفاء بالعهود والمواثيق والمحافظة على الأيمان المؤكدة ، ولهذا قال : (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها) ولا تعارض بين هذا وبين قوله : (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ) [البقرة : ٢٢٤] الآية ، وبين قوله تعالى : (ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ) [المائدة : ٨٩] أي لا تتركوها بلا كفارة ، وبين قوله عليه‌السلام فيما ثبت عنه في الصحيحين أنه عليه الصلاة والسلام قال «إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها ـ وفي رواية ـ وكفرت عن يميني» (٢) لا تعارض بين هذا كله ولا بين الآية المذكورة هاهنا ، وهي قوله : (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها) لأن هذه الأيمان المراد بها الداخلة في العهود والمواثيق لا الأيمان التي هي واردة على حث أو منع ، ولهذا قال مجاهد في قوله (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها) يعني الحلف ، أي حلف الجاهلية.

ويؤيد ما رواه الإمام أحمد (٣) : حدثنا عبد الله بن محمد ـ هو ابن أبي شيبة ـ حدثنا ابن نمير وأبو أسامة عن زكريا. هو ابن أبي زائدة ـ عن سعيد بن إبراهيم عن أبيه ، عن جبير بن مطعم قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا حلف في الإسلام ، وأيما حلف كان في الجاهلية فإنه لا يزيده الإسلام إلا شدة» (٤) وكذا رواه مسلم عن ابن أبي شيبة به. ومعناه أن الإسلام لا يحتاج معه إلى الحلف الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه ، فإن في التمسك بالإسلام كفاية عما كانوا فيه.

__________________

(١) المسند ٤ / ٢١٨.

(٢) أخرجه البخاري في الأيمان باب ١ ، ٤ ، ومسلم في الأيمان حديث ٩.

(٣) المسند ٤ / ٨٣.

(٤) أخرجه مسلم في فضائل الصحابة حديث ٢٠٦.

وأما ما ورد في الصحيحين عن عاصم الأحول عن أنس رضي الله عنه أنه قال : حالف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين المهاجرين والأنصار في دورنا (١) ، فمعناه أنه آخى بينهم فكانوا يتوارثون به حتى نسخ الله ذلك ، والله أعلم.

وقال ابن جرير (٢) : حدثني محمد بن عمارة الأسدي ، حدثنا عبد الله بن موسى ، أخبرنا أبو ليلى عن بريدة في قوله : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ) قال : نزلت في بيعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كان من أسلم بايع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الإسلام ، فقال : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ) هذه البيعة التي بايعتم على الإسلام (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها) البيعة لا يحملنكم قلة محمد وكثرة المشركين أن تنقضوا البيعة التي بايعتم على الإسلام.

وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا إسماعيل ، حدثنا صخر بن جويرية عن نافع قال : لما خلع الناس يزيد بن معاوية جمع ابن عمر بنيه وأهله ثم تشهد ، ثم قال : أما بعد فإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيعة الله ورسوله ، وإني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن الغادر ينصب له لواء يوم القيامة فيقال : هذه غدرة فلان ، وإن من أعظم الغدر ـ إلا أن يكون الإشراك بالله ـ أن يبايع رجل رجلا على بيعة الله ورسوله ، ثم ينكث بيعته ، فلا يخلعن أحد منكم يدا ولا يسرفن أحد منكم في هذا الأمر ، فيكون صيلم بيني وبينه» المرفوع منه في الصحيحين.

وقال الإمام أحمد (٤) : حدثنا يزيد حدثنا حجاج عن عبد الرحمن بن عباس عن أبيه ، عن حذيفة قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من شرط لأخيه شرطا لا يريد أن يفي له به ، فهو كالمدلي جاره إلى غير منفعة».

وقوله : (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) تهديد ووعيد لمن نقض الأيمان بعد توكيدها. وقوله (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً) قال عبد الله بن كثير والسدي : هذه امرأة خرقاء كانت بمكة كلما غزلت شيئا نقضته بعد إبرامه. وقال مجاهد وقتادة وابن زيد : هذا مثل لمن نقض عهده بعد توكيده ، وهذا القول أرجح وأظهر سواء كان بمكة امرأة تنقض غزلها أم لا.

وقوله : (أَنْكاثاً) يحتمل أن يكون اسم مصدر ، (نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً) أي أنقاضا ، ويحتمل أن يكون بدلا عن خبر كان أي لا تكونوا أنكاثا جمع نكث من ناكث (٥) ،

__________________

(١) أخرجه البخاري في الاعتصام باب ١٦ ، ومسلم في فضائل الصحابة حديث ٢٠٤.

(٢) تفسير الطبري ٧ / ٦٣٦.

(٣) المسند ٢ / ٤٨.

(٤) المسند ٥ / ٤٠٤.

(٥) النّكث ، بالكسر : أن تنقض أخلاق الأكسية تغزل ثابتة ، ونكث العهد : نقضه فانتكث ، وتناكثوا عهودهم : تناقضوها.

ولهذا قال بعده : (تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ) أي خديعة ومكرا (أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ) أي تحلفون للناس إذا كانوا أكثر منكم ليطمئنوا إليكم ، فإذا أمكنكم الغدر بهم غدرتم ، فنهى الله عن ذلك لينبه بالأدنى على الأعلى ، إذا كان قد نهى عن الغدر والحالة هذه ، فلأن ينهى عنه مع التمكن والقدرة بطريق الأولى.

وقد قدمنا ـ ولله الحمد ـ في سورة الأنفال قصة معاوية لما كان بينه وبين ملك الروم أمد ، فسار معاوية إليهم في آخر الأجل حتى إذا انقضى وهو قريب من بلادهم أغار عليهم ، وهم غارون لا يشعرون ، فقال له عمرو بن عبسة : الله أكبر يا معاوية وفاء لا غدر ، سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «من كان بينه وبين قوم أجل فلا يحلن عقده حتى ينقضي أمدها» فرجع معاوية رضي الله عنه بالجيش ، قال ابن عباس : (أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ) أي أكثر ، وقال مجاهد : كانوا يحالفون الحلفاء فيجدون أكثر منهم وأعز ، فينقضون حلف هؤلاء ويحالفون أولئك الذين هم أكثر وأعز ، فنهوا عن ذلك وقال الضحاك وقتادة وابن زيد نحوه. وقوله : (إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ) قال سعيد بن جبير : يعني بالكثرة ، رواه ابن أبي حاتم. وقال ابن جرير : أي بأمره إياكم بالوفاء بالعهد (وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) فيجازي كل عامل بعمله من خير وشر.

(وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٣) وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٩٤) وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩٥) ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٩٦)

يقول الله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ) أيها الناس (أُمَّةً واحِدَةً) كقوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) [يونس : ٩٩] أي لوفق بينكم ولما جعل اختلافا ولا تباغض ولا شحناء (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) [هود : ١١٨ ـ ١١٩] ، وهكذا قال هاهنا : (وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) ثم يسألكم يوم القيامة عن جميع أعمالكم فيجازيكم عليها على الفتيل والنقير والقطمير. ثم حذر تعالى عباده عن اتخاذ الأيمان دخلا أي خديعة ومكرا لئلا تزل قدم بعد ثبوتها ، مثل لمن كان على الاستقامة فحاد عنها ، وزل عن طريق الهدى بسبب الأيمان الحانثة المشتملة على الصد عن سبيل الله ، لأن الكافر إذا رأى أن المؤمن قد عاهده ثم غدر به لم يبق له وثوق بالدين ، فانصد بسببه عن الدخول في الإسلام ، ولهذا قال (وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ).

ثم قال تعالى : (وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) أي لا تعتاضوا عن الأيمان بالله عرض الحياة الدنيا وزينتها ، فإنها قليلة ، ولو حيزت لابن آدم الدنيا بحذافيرها لكان ما عند الله هو خير له ، أي جزاء الله وثوابه خير لمن رجاه وآمن به وطلبه وحفظ عهده رجاء موعوده ، ولهذا قال : (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ) أي يفرغ وينقضي فإنه إلى أجل معدود محصور مقدر متناه (وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ) أي وثوابه لكم في الجنة باق لا انقطاع ولا نفاد له ، فإنه دائم لا يحول ولا يزول (وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) قسم من الرب تعالى مؤكد باللام ، أنه يجازي الصابرين بأحسن أعمالهم ، أي ويتجاوز عن سيئها.

(مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٩٧)

هذا وعد من الله تعالى لمن عمل صالحا وهو العمل المتابع لكتاب الله تعالى وسنة نبيهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من ذكر أو أنثى ، من بني آدم وقلبه مؤمن بالله ورسوله ، وأن هذا العمل المأمور به مشروع من عند الله بأن يحييه الله حياة طيبة في الدنيا ، وأن يجزيه بأحسن ما عمله في الدار الآخرة ، والحياة الطيبة تشمل وجوه الراحة من أي جهة كانت. وقد روي عن ابن عباس وجماعة أنهم فسروها بالرزق الحلال الطيب. وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه فسرها بالقناعة ، وكذا قال ابن عباس وعكرمة ووهب بن منبه ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : أنها هي السعادة. وقال الحسن ومجاهد وقتادة : لا يطيب لأحد حياة إلا في الجنة. وقال الضحاك : هي الرزق الحلال والعبادة في الدنيا ، وقال الضحاك أيضا : هي العمل بالطاعة والانشراح بها ، والصحيح أن الحياة الطيبة تشمل هذا كله.

كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد (١) : حدثنا عبد الله بن يزيد ، حدثنا سعيد بن أبي أيوب ، حدثني شرحبيل بن أبي شريك عن أبي عبد الرحمن الحبلي ، عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «قد أفلح من أسلم ، ورزق كفافا ، وقنعه الله بما آتاه» (٢) ، ورواه مسلم من حديث عبد الله بن يزيد المقري به.

وروى الترمذي والنسائي من حديث أبي هانئ عن أبي علي الجنبي ، عن فضالة بن عبيد أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «قد أفلح من هدي للإسلام ، وكان عيشه كفافا وقنع به» (٣). وقال الترمذي : هذا حديث صحيح.

__________________

(١) المسند ٢ / ١٦٨.

(٢) أخرجه مسلم في الزكاة حديث ١٢٥ ، وابن ماجة في الزهد باب ٩.

(٣) أخرجه الترمذي في الزهد باب ٣٥ ، وابن ماجة في الزهد باب ٤.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا يزيد حدثنا همام عن يحيى ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يعطى بها في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة. وأما الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة ، لم يكن له حسنة يعطى بها خيرا» ، انفر بإخراجه مسلم (٢).

(فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٩٨) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) (١٠٠)

هذا أمر من الله تعالى لعباده على لسان نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أرادوا قراءة القرآن أن يستعيذوا بالله من الشيطان الرجيم ، وهذا أمر ندب ليس بواجب ، حكى الإجماع على ذلك أبو جعفر بن جرير وغيره من الأئمة. وقد قدمنا الأحاديث الواردة في الاستعاذة مبسوطة في أول التفسير ، ولله الحمد والمنة.

والمعنى في الاستعاذة عند ابتداء القراءة لئلا يلبس على القارئ قراءته ، ويخلط عليه ويمنعه من التدبر والتفكر ، ولهذا ذهب الجمهور إلى أن الاستعاذة إنما تكون قبل التلاوة ، وحكي عن حمزة وأبي حاتم السجستاني أنها تكون بعد التلاوة ، واحتجا بهذه الآية ، ونقل النووي في شرح المهذب مثل ذلك عن أبي هريرة أيضا ومحمد بن سيرين وإبراهيم النخعي والصحيح الأول لما تقدم من الأحاديث الدالة على تقدمها على التلاوة ، والله أعلم.

وقوله : (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) قال الثوري : ليس له عليهم سلطان أن يوقعهم في ذنب لا يتوبون منه ، وقال آخرون : معناه لا حجة له عليهم. وقال آخرون كقوله : (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) ، (إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ) قال مجاهد : يطيعونه ، وقال آخرون : اتخذوه وليا من دون الله (وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) أي أشركوا في عبادة الله تعالى. أي أشركوه في عبادة الله ، ويحتمل أن تكون الباء سببية ، أي صاروا بسبب طاعتهم للشيطان مشركين بالله تعالى. وقال آخرون : معناه أنه شركهم في الأموال والأولاد.

(وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) (١٠٢)

يخبر تعالى عن ضعف عقول المشركين وقلة ثباتهم وإيقانهم ، وأنه لا يتصور منهم الإيمان وقد كتب عليهم الشقاوة ، وذلك أنهم إذا رأوا تغيير الأحكام ناسخها بمنسوخها قالوا

__________________

(١) المسند ٣ / ١٢٣.

(٢) كتاب المنافقين حديث ٥٦.

لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ) أي كذاب ، وإنما هو الرب تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، وقال مجاهد : (بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ) أي رفعناها وأثبتنا غيرها ، وقال قتادة : هو كقوله تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها) (١) [البقرة : ١٠٦] الآية ، فقال تعالى مجيبا لهم (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ) أي جبريل (مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ) أي بالصدق والعدل (لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا) فيصدقوا بما أنزل أولا وثانيا ، وتخبت له قلوبهم (وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) أي وجعله هاديا وبشارة للمسلمين الذين آمنوا بالله ورسله.

(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) (١٠٣)

يقول تعالى مخبرا عن المشركين ما كانوا يقولونه من الكذب والافتراء والبهت أن محمدا إنما يعلمه هذا الذي يتلوه علينا من القرآن بشر ويشيرون إلى رجل أعجمي كان بين أظهرهم غلام لبعض بطون قريش ، وكان بياعا يبيع عند الصفا ، وربما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجلس إليه ويكلمه بعض الشيء ، وذاك كان أعجمي اللسان لا يعرف العربية أو أنه كان يعرف الشيء اليسير بقدر ما يرد جواب الخطاب فيما لا بد منه ، فلهذا قال الله تعالى : رادا عليهم في افترائهم ذلك (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) أي القرآن ، أي فكيف يتعلم من جاء بهذا القرآن في فصاحته وبلاغته ومعانيه التامة الشاملة التي هي أكمل من معاني كل كتاب نزل على بني أرسل ، كيف يتعلم من رجل أعجمي؟ لا يقول هذا من له أدنى مسكة من العقل.

قال محمد بن إسحاق بن يسار في السيرة (٢) : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما بلغني ـ كثيرا ما يجلس عند المروة إلى مبيعة غلام نصراني يقال له جبر ، عبد لبعض بني الحضرمي ، فأنزل الله (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) وكذا قال عبد الله بن كثير ، وعن عكرمة وقتادة : كان اسمه يعيش.

وقال ابن جرير (٣) : حدثني أحمد بن محمد الطوسي ، حدثنا أبو عامر ، حدثنا إبراهيم بن طهمان عن مسلم بن عبد الله الملائي ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلم قينا بمكة ، وكان اسمه بلعام ، وكان أعجمي اللسان ، وكان المشركون يرون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يدخل عليه ويخرج من عنده ، فقالوا : إنما يعلمه بلعام ، فأنزل الله هذه الآية (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ).

وقال الضحاك بن مزاحم : هو سلمان الفارسي ، وهذا القول ضعيف ، لأن هذه الآية مكية ،

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٦٤٧.

(٢) سيرة ابن هشام ١ / ٣٩٣.

(٣) تفسير الطبري ٧ / ٦٤٨.

وسلمان إنما أسلم بالمدينة ، وقال عبيد الله بن مسلم : كان لنا غلامان روميان يقرآن كتابا لهما بلسانهما فكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمر بهما فيقوم فيسمع منهما ، فقال المشركون : يتعلم منهما ، فأنزل الله هذه الآية (١). وقال الزهري عن سعيد بن المسيب : الذي قال ذلك من المشركين رجل كان يكتب الوحي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فارتد بعد ذلك عن الإسلام وافترى هذه المقالة ، قبحه الله.

(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ) (١٠٥)

يخبر تعالى أنه لا يهدي من أعرض عن ذكره وتغافل عما أنزله على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يكن له قصد إلى الايمان بما جاء من عند الله ، فهذا الجنس من الناس لا يهديهم الله إلى الايمان بآياته وما أرسل به رسله في الدنيا ، ولهم عذاب أليم موجع في الآخرة ، ثم أخبر تعالى أن رسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس بمفتر ولا كذاب ، لأنه إنما يفتري الكذب على الله وعلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شرار الخلق ، (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ) [النحل : ١٠٥] من الكفرة والملحدين المعروفين بالكذب عند الناس ، والرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان أصدق الناس وأبرهم وأكملهم علما وعملا وإيمانا وإيقانا ، معروفا بالصدق في قومه ، لا يشك في ذلك أحد منهم بحيث لا يدعى بينهم إلا بالأمين محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولهذا لما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان عن تلك المسائل التي سألها من صفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان فيما قال له : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال : لا ، فقال هرقل : فما كان ليدع الكذب على الناس ويذهب فيكذب على الله عزوجل.

(مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٦) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (١٠٧) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٠٨) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ) (١٠٩)

أخبر تعالى عمن كفر به بعد الإيمان والتبصر ، وشرح صدره بالكفر واطمأن به ، أنه قد غضب عليه لعلمهم بالإيمان ثم عدولهم عنه ، وأن لهم عذابا عظيما في الدار الآخرة ، لأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة ، فأقدموا على ما أقدموا عليه من الردة لأجل الدنيا ، ولم يهد الله قلوبهم ويثبتهم على الدين الحق ، فطبع على قلوبهم ، فهم لا يعقلون بها شيئا ينفعهم ، وختم على سمعهم وأبصارهم فلا ينتفعون بها ، ولا أغنت عنهم شيئا فهم غافلون عما يراد

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٧ / ٦٤٩.

بهم ، (لا جَرَمَ) أي لا بد ولا عجب أن من هذه صفته (أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ) أي الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ـ وأما قوله : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) فهو استثناء ممن كفر بلسانه ووافق المشركين بلفظه مكرها لما ناله من ضرب وأذى ، وقلبه يأبى ما يقول ، وهو مطمئن بالإيمان بالله ورسوله.

وقد روى العوفي عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في عمار بن ياسر حين عذبه المشركون حتى يكفر بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فوافقهم على ذلك مكرها ، وجاء معتذرا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأنزل الله هذه الآية. وهكذا قال الشعبي وقتادة وأبو مالك.

وقال ابن جرير (١) : حدثنا ابن عبد الأعلى ، حدثنا محمد بن ثور عن معمر عن عبد الكريم الجزري ، عن أبي عبيدة محمد بن عمار بن ياسر قال : أخذ المشركون عمار بن ياسر فعذبوه حتى قاربهم في بعض ما أرادوا فشكا ذلك إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كيف تجد قلبك»؟ قال : مطمئنا بالإيمان. قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن عادوا فعد».

ورواه البيهقي بأبسط من ذلك ، وفيه أنه سب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذكر آلهتهم بخير ، فشكا ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ما تركت حتى سببتك وذكرت آلهتهم بخير ، قال : «كيف تجد قلبك؟» قال : مطمئنا بالإيمان ، فقال «إن عادوا فعد» ، وفي ذلك أنزل الله (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) ولهذا اتفق العلماء على أن المكره على الكفر يجوز له أن يوالي إبقاء لمهجته ، ويجوز له أن يأبى كما كان بلال رضي الله عنه يأبى عليهم ذلك وهم يفعلون به الأفاعيل ، حتى إنهم ليضعوا الصخرة العظيمة على صدره في شدة الحر ، ويأمرونه بالشرك بالله فيأبى عليهم ، وهو يقول : أحد ، أحد. ويقول : والله لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها ، رضي الله عنه وأرضاه. وكذلك حبيب بن زيد الأنصاري لما قال له مسيلمة الكذاب : أتشهد أن محمدا رسول الله؟ فيقول : نعم. فيقول : أتشهد أني رسول الله؟ فيقول : لا أسمع. فلم يزل يقطعه إربا إربا وهو ثابت على ذلك.

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا إسماعيل ، حدثنا أيوب عن عكرمة أن عليا رضي الله عنه حرق ناسا ارتدوا عن الإسلام ، فبلغ ذلك ابن عباس فقال : لم أكن لأحرقهم بالنار ، إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تعذبوا بعذاب الله» وكنت أقاتلهم بقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من بدل دينه فاقتلوه» فبلغ ذلك عليا فقال : ويح أم ابن عباس ، رواه البخاري (٣).

__________________

(١) تفسير الطبري ٧ / ٦٥١.

(٢) المسند ١ / ٢١٧.

(٣) كتاب الاستتابة باب ٢.

وقال الإمام أحمد (١) أيضا : حدثنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر عن أيوب عن حميد بن هلال العدوي ، عن أبي بردة قال : قدم على أبي موسى معاذ بن جبل باليمن ، فإذا رجل عنده ، قال : ما هذا؟ قال : رجل كان يهوديا فأسلم ، ثم تهود ونحن نريده على الإسلام منذ قال أحسبه شهرين ، فقال : والله لا أقعد حتى تضربوا عنقه ، فضربت عنقه ، فقال : قضى الله ورسوله أن من رجع عن دينه فاقتلوه أو قال : «من بدل دينه فاقتلوه» وهذه القصة في الصحيحين بلفظ آخر.

والأفضل والأولى أن يثبت المسلم على دينه ولو أفضى إلى قتله ، كما ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن حذافة السهمي أحد الصحابة أنه أسرته الروم ، فجاؤوا به إلى ملكهم فقال له : تنصر وأنا أشركك في ملكي وأزوجك ابنتي ، فقال له : لو أعطيتني جميع ما تملك وجميع ما تملكه العرب على أن أرجع عن دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم طرفة عين ما فعلت ، فقال : إذا أقتلك ، فقال : أنت وذاك ، قال : فأمر به فصلب ، وأمر الرماة فرموه قريبا من يديه ورجليه وهو يعرض عليه دين النصرانية فيأبى ، ثم أمر به فأنزل ، ثم أمر بقدر ، وفي رواية ببقرة من نحاس فأحميت.

وجاء بأسير من المسلمين فألقاه وهو ينظر ، فإذا هو عظام تلوح ، وعرض عليه فأبى ، فأمر به أن يلقى فيها ، فرفع في البكرة ليلقى فيها ، فبكى فطمع فيه ودعاه ، فقال : إني إنما بكيت لأن نفسي إنما هي نفس واحدة تلقى في هذه القدر الساعة في الله ، فأحببت أن يكون لي بعدد كل شعرة في جسدي نفس تعذب هذا العذاب في الله. وفي بعض الروايات أنه سجنه ومنع منه الطعام والشراب أياما ، ثم أرسل إليه بخمر ولحم خنزير فلم يقربه ، ثم استدعاه فقال : ما منعك أن تأكل؟ فقال : أما إنه قد حل لي ، ولكن لم أكن لأشمتك بي ، فقال له الملك : فقبل رأسي وأنا أطلقك ، فقال : وتطلق معي جميع أسارى المسلمين؟ قال : نعم ، فقبل رأسه فأطلقه وأطلق معه جميع أسارى المسلمين عنده ، فلما رجع قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة ، وأنا أبدأ ، فقام فقبل رأسه رضي الله عنهما.

(ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٠) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (١١١)

هؤلاء صنف آخر كانوا مستضعفين بمكة مهانين في قومهم فوافقوهم على الفتنة ، ثم إنهم أمكنهم الخلاص بالهجرة فتركوا بلادهم وأهليهم وأموالهم ابتغاء رضوان الله وغفرانه ، وانتظموا في سلك المؤمنين ، وجاهدوا معهم الكافرين ، وصبروا ، فأخبر تعالى أنه من بعدها ، أي تلك الفعلة وهي الإجابة إلى الفتنة لغفور لهم رحيم بهم يوم معادهم (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ

__________________

(١) المسند ٥ / ٢٣١.

تُجادِلُ) أي تحاج (عَنْ نَفْسِها) ليس أحد يحاج عنها لا أب ولا ابن ولا أخ ولا زوجة (وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ) أي من خير وشر (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي لا ينقص من ثواب الخير ، ولا يزاد على ثواب الشر ، ولا يظلمون نقيرا.

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١١٢) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ) (١١٣)

هذا مثل أريد به أهل مكة ، فإنها كانت آمنة مطمئنة مستقرة يتخطف الناس من حولها ، ومن دخلها كان آمنا لا يخاف ، كما قال تعالى : (وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا) [القصص : ٥٧] ، وهكذا قال هاهنا : (يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً) أي هنيئا سهلا (مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ) أي جحدت آلاء الله عليها وأعظمها بعثة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم ، كما قال تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ) [إبراهيم : ٢٨ ـ ٢٩] ولهذا بدلهم الله بحاليهم الأولين خلافهما ، فقال : (فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ) أي ألبسها وأذاقها الجوع بعد أن كان يجبى إليهم ثمرات كل شيء ، ويأتيها رزقها رغدا من كل مكان ، وذلك لمّا استعصوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبوا إلا خلافه فدعا عليهم بسبع كسبع يوسف ، فأصابتهم سنة أذهبت كل شيء لهم ، فأكلوا العلهز وهو وبر البعير يخلط بدمه إذا نحروه.

وقوله : (وَالْخَوْفِ) وذلك أنهم بدلوا بأمنهم خوفا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه حين هاجروا إلى المدينة من سطوته وسراياه وجيوشه ، وجعل كل ما لهم في دمار وسفال حتى فتحها الله على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك بسبب صنيعهم وبغيهم وتكذيبهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي بعثه الله فيهم منهم ، وامتن به عليهم في قوله : (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) [آل عمران : ١٦٤] الآية. وقوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولاً) [الطلاق : ١] الآية ، وقوله : (كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ ـ إلى قوله ـ وَلا تَكْفُرُونِ) [البقرة : ١٥١ ـ ١٥٢] وكما أنه انعكس على الكافرين حالهم فخافوا بعد الأمن ، وجاعوا بعد الرغد ، فبدل الله المؤمنين من بعد خوفهم أمنا ، ورزقهم بعد العيلة ، وجعلهم أمراء الناس وحكامهم وسادتهم وقادتهم وأئمتهم ، وهذا الذي قلناه من أن هذا المثل ضرب لأهل مكة قاله العوفي عن ابن عباس ، وإليه ذهب مجاهد وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وحكاه مالك عن الزهري رحمهم‌الله.

وقال ابن جرير (١) : حدثني ابن عبد الرحيم البرقي ، حدثنا ابن أبي مريم ، حدثنا نافع بن يزيد ، حدثنا عبد الرحمن بن شريح أن عبد الكريم بن الحارث الحضرمي حدثه أنه سمع مشرح بن هاعان يقول : سمعت سليم بن عتر يقول : صدرنا من الحج مع حفصة زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعثمان رضي الله عنه محصور بالمدينة ، فكانت تسأل عنه ما فعل؟ حتى رأت راكبين فأرسلت إليهما تسألهما فقالا : قتل ، فقالت حفصة : والذي نفسي بيده إنها القرية ـ تعني المدينة ـ التي قال الله تعالى : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ) قال ابن شريح : وأخبرني عبيد الله بن المغيرة عمن حدثه أنه كان يقول إنها المدينة.

(فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١١٤) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٥) وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (١١٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (١١٧)

يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين بأكل رزقه الحلال الطيب وبشكره على ذلك فإنه المنعم المتفضل به ابتداء الذي يستحق العبادة وحده لا شريك له ، ثم ذكر تعالى ما حرمه عليهم مما فيه مضرة لهم في دينهم ودنياهم من الميتة والدم ولحم الخنزير (وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) أي ذبح على غير اسم الله ، ومع هذا (فَمَنِ اضْطُرَّ) إليه أي احتاج من غير بغي ولا عدوان (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). وقد تقدم الكلام على مثل هذه الآية في سورة البقرة بما فيه كفاية عن إعادته ، ولله الحمد.

ثم نهى تعالى عن سلوك سبيل المشركين الذين حللوا وحرموا بمجرد ما وصفوه واصطلحوا عليه من الأسماء بآرائهم من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وغير ذلك ، مما كان شرعا لهم ابتدعوه في جاهليتهم ، فقال : (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) ويدخل في هذا كل من ابتدع بدعة ليس له فيها مستند شرعي ، أو حلل شيئا مما حرم الله ، أو حرم شيئا مما أباح الله بمجرد رأيه وتشهيه ، وما في قوله : (لِما تَصِفُ) مصدرية ، أي ولا تقولوا الكذب لوصف ألسنتكم ، ثم توعد على ذلك فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) أي في الدنيا ولا في الآخرة ، أما في الدنيا فمتاع قليل ، وأما في الآخرة فلهم عذاب أليم ، كما قال : (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) [لقمان : ٢٤] وقال (إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) [يونس : ٦٩ ـ ٧٠].

__________________

(١) تفسير الطبري ٧ / ٦٥٥.

(وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٨) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (١١٩)

لما ذكر تعالى أنه إنما حرم علينا الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به وإنما أرخص فيه عند الضرورة ـ وفي ذلك توسعة لهذه الأمة التي يريد الله بها اليسرى ولا يريد بها العسرى ـ ذكر سبحانه وتعالى ما كان حرمه على اليهود في شريعتهم قبل أن ينسخها ، وما كانوا فيه من الآصار والتضييق والأغلال والحرج ، فقال : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ) أي في سورة الأنعام في قوله : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما ـ إلى قوله ـ لَصادِقُونَ) [الأنعام : ١٤٦].

ولهذا قال هاهنا : (وَما ظَلَمْناهُمْ) أي فيما ضيقنا عليهم (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) أي فاستحقوا ذلك ، كقوله : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً) [النساء : ١٦٠] ثم أخبر تعالى تكرما وامتنانا في حق العصاة المؤمنين أن من تاب منهم إليه تاب عليه ، فقال : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ) قال بعض السلف : كل من عصى الله فهو جاهل (ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا) أي أقلعوا عما كانوا فيه من المعاصي وأقبلوا على فعل الطاعات (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها) أي تلك الفعلة والزلة (لَغَفُورٌ رَحِيمٌ).

(إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٠) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٢١) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٢٢) ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١٢٣)

يمدح تعالى عبده ورسوله وخليله إبراهيم إمام الحنفاء ووالد الأنبياء ، ويبرئه من المشركين ومن اليهودية والنصرانية ، فقال : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً) فأما الأمة : فهو الإمام الذي يقتدى به ، والقانت : هو الخاشع المطيع ، والحنيف : المنحرف قصدا عن الشرك إلى التوحيد ، ولهذا قال : (وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) قال سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل ، عن مسلم البطين عن أبي العبيدين : أنه سأل عبد الله بن مسعود عن الأمة القانت ، فقال : الأمة معلم الخير ، والقانت : المطيع لله ورسوله ، وعن مالك قال : قال ابن عمر : الأمة الذي يعلم الناس دينهم ، وقال الأعمش عن يحيى بن الجزار عن أبي العبيدين أنه جاء إلى عبد الله فقال : من نسأل إذا لم نسألك؟ فكأن ابن مسعود رق له ، فقال : أخبرني عن الأمة ، فقال : الذي يعلم الناس الخير.

وقال الشعبي : حدثني فروة بن نوفل الأشجعي قال : قال ابن مسعود : إن معاذا كان أمة قانتا لله حنيفا ، فقلت في نفسي : غلط أبو عبد الرحمن ، وقال إنما قال الله : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً) فقال : أتدري ما الأمة وما القانت؟ قلت : الله أعلم ، فقال : الأمة الذي يعلم الخير ، والقانت المطيع لله ورسوله ، وكذلك كان معاذ. وقد روي من غير وجه عن ابن مسعود ، أخرجه ابن جرير (١).

وقال مجاهد : أمة أي أمة وحده ، والقانت المطيع وقال مجاهد أيضا : كان إبراهيم أمة أي مؤمنا وحده والناس كلهم إذ ذاك كفار. وقال قتادة : كان إمام هدى ، والقانت المطيع لله. وقوله : (شاكِراً لِأَنْعُمِهِ) أي قائما بشكر نعم الله عليه ، كقوله تعالى : (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) [النجم : ٣٧] أي قام بجميع ما أمره الله تعالى به.

وقوله : (اجْتَباهُ) أي اختاره واصطفاه كقوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ) [الأنبياء : ٥١] ، ثم قال : (وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) وهو عبادة الله وحده لا شريك له على شرع مرضي. وقوله : (وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) أي جمعنا له خير الدنيا من جميع ما يحتاج المؤمن إليه في إكمال حياته الطيبة (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ). وقال مجاهد في قوله : (وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) أي لسان صدق.

وقوله : (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) أي ومن كماله وعظمته وصحة توحيده وطريقه ، أنا أوحينا إليك يا خاتم الرسل وسيد الأنبياء (أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) كقوله في الأنعام : (قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [الأنعام : ١٦١] ثم قال تعالى منكرا على اليهود.

(إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (١٢٤)

لا شك أن الله تعالى شرع في كل ملة يوما من الأسبوع يجتمع الناس فيه للعبادة فشرع تعالى لهذه الأمة يوم الجمعة لأنه اليوم السادس الذي أكمل الله فيه الخليقة واجتمعت فيه وتمت النعمة على عباده ، ويقال : إن الله تعالى شرع ذلك لبني إسرائيل على لسان موسى فعدلوا عنه ، واختاروا السبت لأنه اليوم الذي لم يخلق فيه الرب شيئا من المخلوقات الذي كمل خلقها يوم الجمعة فألزمهم تعالى به في شريعة التوراة ، ووصاهم أن يتمسكوا به وأن يحافظوا عليه مع أمره إياهم بمتابعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا بعثه وأخذه مواثيقهم وعهودهم على ذلك ، ولهذا قال تعالى : (إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) قال مجاهد : اتبعوه وتركوا الجمعة (٢).

__________________

(١) تفسير الطبري ٧ / ٦٦٠.

(٢) انظر تفسير الطبري ٧ / ٦٦٢.

ثم إنهم لم يزالوا متمسكين به حتى بعث الله عيسى ابن مريم ، فيقال : إنه حولهم إلى يوم الأحد ، ويقال إنه لم يترك شريعة التوراة إلا ما نسخ من بعض أحكامها ، وإنه لم يزل محافظا على السبت حتى رفع ، وإن النصارى بعده في زمن قسطنطين هم الذين تحولوا إلى يوم الأحد مخالفة لليهود ، وتحولوا إلى الصلاة شرقا عن الصخرة ، والله أعلم.

وقد ثبت في الصحيحين من حديث عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة ، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ثم هذا يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه ، فهدانا الله له ، فالناس لنا فيه تبع : اليهود غدا والنصارى بعد غد» (١) لفظ البخاري.

وعن أبي هريرة وحذيفة رضي الله عنهما قالا : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا ، فكان لليهود يوم السبت ، وكان للنصارى يوم الأحد ، فجاء الله بنا فهدانا الله ليوم الجمعة ، فجعل الجمعة والسبت والأحد ، وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة نحن الآخرون من أهل الدنيا ، والأولون يوم القيامة ، والمقضى بينهم قبل الخلائق» (٢) رواه مسلم.

(ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (١٢٥)

يقول تعالى آمرا رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يدعو الخلق إلى الله بالحكمة. قال ابن جرير (٣) : وهو ما أنزله عليه من الكتاب والسنة (وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) ، أي بما فيه من الزواجر والوقائع بالناس ، ذكرهم بها ليحذروا بأس الله تعالى ، وقوله : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي من احتاج منهم إلى مناظرة وجدال فليكن بالوجه الحسن برفق ولين وحسن خطاب ، كقوله تعالى : (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) [العنكبوت : ٤٦] الآية ، فأمره تعالى بلين الجانب كما أمر به موسى وهارون عليهما‌السلام حين بعثهما إلى فرعون في قوله : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) [طه : ٤٤].

وقوله : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) الآية ، أي قد علم الشقي منهم والسعيد ، وكتب ذلك عنده وفرغ منه ، فادعهم إلى الله ولا تذهب نفسك على من ضل منهم حسرات ، فإنه ليس عليك هداهم إنما أنت نذير عليك البلاغ وعلينا الحساب (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) [القصص : ٥٦] ، (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [البقرة : ٢٧٢].

__________________

(١) أخرجه البخاري في الأيمان باب ١ ، ومسلم في الجمعة حديث ١٩ ، ٢١.

(٢) أخرجه مسلم في الجمعة حديث ٢٢.

(٣) تفسير الطبري ٧ / ٦٦٣.

(وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (١٢٦) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (١٢٧) إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) (١٢٨)

يأمر تعالى بالعدل في القصاص والمماثلة في استيفاء الحق ، كما قال عبد الرزاق عن الثوري عن خالد ، عن ابن سيرين أنه قال في قوله تعالى : (فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) إن أخذ منكم رجل شيئا فخذوا مثله ، وكذا قال مجاهد وإبراهيم والحسن البصري وغيرهم واختاره ابن جرير. وقال ابن زيد : كانوا قد أمروا بالصفح عن المشركين فأسلم رجال ذوو منعة فقالوا : يا رسول الله لو أذن الله لنا لا تنصرنا من هؤلاء الكلاب. فنزلت هذه الآية ، ثم نسخ ذلك بالجهاد.

وقال محمد بن إسحاق عن بعض أصحابه عن عطاء بن يسار قال : نزلت سورة النحل كلها بمكة ، وهي مكية إلا ثلاث آيات من آخرها نزلت بالمدينة بعد أحد حين قتل حمزة رضي الله عنه ومثل به ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لئن أظهرني الله عليهم لأمثلن بثلاثين رجلا منهم» فلما سمع المسلمون ذلك قالوا : والله لئن ظهرنا عليهم لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب بأحد قط ، فأنزل الله (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) إلى آخر السورة ، وهذا مرسل وفيه رجل مبهم لم يسم.

وقد روي هذا من وجه آخر متصل ، فقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا الحسن بن يحيى ، حدثنا عمرو بن عاصم ، حدثنا صالح المري عن سليمان التيمي عن أبي عثمان ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقف على حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه حين استشهد ، فنظر إلى منظر لم ينظر إلى منظر أوجع للقلب منه ، أو قال لقلبه ، فنظر إليه وقد مثل به ، فقال :

«رحمة الله عليك إن كنت ما علمتك إلا وصولا للرحم ، فعولا للخيرات ، والله لولا حزن من بعدك عليك لسرني أن أتركك حتى يحشرك الله من بطون السباع ـ أو كلمة نحوها ـ أما والله على ذلك لأمثلن بسبعين كمثلتك».

فنزل جبريل عليه‌السلام على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذه السورة وقرأ (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) إلى آخر الآية ، فكفر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعني عن يمينه وأمسك عن ذلك ، وهذا إسناد فيه ضعف ، لأن صالحا هو ابن بشير المري ضعيف عند الأئمة ، وقال البخاري : هو منكر الحديث ، وقال الشعبي وابن جريج : نزلت في قول المسلمين يوم أحد فيمن مثل بهم لنمثلن بهم فأنزل الله فيهم ذلك.

وقال عبد الله ابن الإمام أحمد في مسند أبيه : حدثنا هدية بن عبد الوهاب المروزي ، حدثنا الفضل بن موسى ، حدثنا عيسى بن عبيد عن الربيع بن أنس عن أبي العالية ، عن أبي بن كعب

قال : لما كان يوم أحد قتل من الأنصار ستون رجلا ، ومن المهاجرين ستة ، فقال أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لئن كان لنا يوم مثل هذا من المشركين لنربينّ عليهم ، فلما كان يوم الفتح قال رجل : لا تعرف قريش بعد اليوم ، فنادى مناد : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أمن الأسود والأبيض إلا فلانا وفلانا ـ ناسا سماهم ـ فأنزل الله تبارك وتعالى (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) إلى آخر السورة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نصبر ولا نعاقب» (١).

وهذه الآية الكريمة لها أمثال في القرآن ، فإنها مشتملة على مشروعية العدل والندب إلى الفضل كما في قوله : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) ثم قال : (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) [الشورى : ٤٠] الآية. وقال : (وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) ثم قال (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) [المائدة : ٤٥] وقال في هذه الآية : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) ثم قال (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ).

وقوله تعالى : (وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ) تأكيد للأمر بالصبر وإخبار بأن ذلك لا ينال إلا بمشيئة الله وإعانته ، وحوله وقوته ، ثم قال تعالى : (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) أي على من خالفك فإن الله قدر ذلك (وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ) أي غم (مِمَّا يَمْكُرُونَ) أي مما يجهدون أنفسهم في عداوتك وإيصال الشر إليك ، فإن الله كافيك وناصرك ومؤيدك ومظهرك ومظفرك بهم.

وقوله : (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) أي معهم بتأييده ونصره ومعونته وهديه وسعيه وهذه معية خاصة كقوله : (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) [الأنفال : ١٢] وقوله لموسى وهارون : (لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) [طه : ٤٦] وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للصديق وهما في الغار : (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) [التوبة : ٤٠] وأما المعية العامة فبالسمع والبصر والعلم ، كقوله تعالى : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [الحديد : ٤] وكقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا) [المجادلة : ٧] وكما قال تعالى : (وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً) [يونس : ٦١] الآية ، ومعنى (الَّذِينَ اتَّقَوْا) أي تركوا المحرمات ، (وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) أي فعلوا الطاعات ، فهؤلاء الله يحفظهم ويكلؤهم وينصرهم ويؤيدهم ويظفرهم على أعدائهم ومخالفيهم ، وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا أبو أحمد الزبيري ، حدثنا مسعر عن عون عن محمد بن حاطب : كان عثمان رضي الله عنه من الذين اتقوا والذين هم محسنون.

آخر تفسير سورة النحل ، ولله الحمد والمنة وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند ٥ / ١٣٥.

فهرس المحتويات

سورة الأنفال

الآية : ١....................................................................... ٣

الآيات : ٢ ـ ٤.................................................................. ٩

الآيات : ٥ ـ ٨................................................................ ١١

الآيتان : ٩ و ١٠.............................................................. ١٦

الآيات : ١١ ـ ١٤............................................................. ١٩

الآيتان : ١٥ و ١٦............................................................ ٢٣

الآيتان : ١٧ و ١٨............................................................ ٢٦

الآية : ١٩.................................................................... ٢٨

الآيات : ٢٠ ـ ٢٣............................................................. ٢٩

الآية : ٢٤.................................................................... ٣٠

الآية : ٢٥.................................................................... ٣٢

الآيات : ٢٦ ـ ٢٨............................................................. ٣٥

الآية : ٢٩.................................................................... ٣٧

الآية : ٣٠.................................................................... ٣٨

الآيات : ٣١ ـ ٣٣............................................................. ٤١

الآيتان : ٣٤ و ٣٥............................................................ ٤٤

الآيتان : ٣٦ و ٣٧............................................................ ٤٧

الآيات : ٣٨ ـ ٤٠............................................................. ٤٨

الآية : ٤١.................................................................... ٥٢

الآية : ٤٢.................................................................... ٥٨

الآيتان : ٤٣ و ٤٤............................................................ ٦١

الآيتان : ٤٥ و ٤٦............................................................ ٦٢

الآيات : ٤٧ ـ ٤٩............................................................. ٦٣

الآيتان : ٥٠ و ٥١............................................................ ٦٧

الآية : ٥٢.................................................................... ٦٨

الآيات : ٥٣ ـ ٥٨............................................................. ٦٩

الآيتان : ٥٩ و ٦٠............................................................ ٧٠

الآيات : ٦١ و ٦٣............................................................ ٧٣

الآيات : ٦٤ ـ ٦٦............................................................. ٧٦

الآيات : ٦٧ ـ ٦٩............................................................. ٧٧

الآيتان : ٧٠ و ٧١............................................................ ٨٠

الآية : ٧٢.................................................................... ٨٤

الآية : ٧٣.................................................................... ٨٦

الآيتان : ٧٤ و ٧٥............................................................ ٨٧

سورة التوبة

الآيتان : ١ و ٢............................................................... ٨٩

الآية : ٣...................................................................... ٩١

الآيتان : ٤ و ٥............................................................... ٩٧

الآية : ٦.................................................................... ١٠٠

الآيتان : ٧ و ٨.............................................................. ١٠١

الآيات : ٩ ـ ١٢............................................................. ١٠٢

الآيات : ١٣ ـ ١٥........................................................... ١٠٣

الآية : ١٦.................................................................. ١٠٤

الآيتان : ١٧ و ١٨.......................................................... ١٠٥

الآيات : ١٩ ـ ٢٢........................................................... ١٠٦

الآيتان : ٢٣ و ٢٤.......................................................... ١٠٨

الآيات : ٢٥ ـ ٢٧........................................................... ١١٠

ا لآيتان : ٢٨ و ٢٩......................................................... ١١٥

الآيتان : ٣٠ و ٣١.......................................................... ١١٨

الآيتان : ٣٢ و ٣٣.......................................................... ١١٩

الآيتان : ٣٤ و ٣٥.......................................................... ١٢١

الآية : ٣٦.................................................................. ١٢٧

الآية : ٣٧.................................................................. ١٣٢

الآيتان : ٣٨ و ٣٩.......................................................... ١٣٥

الآية : ٤٠.................................................................. ١٣٦

الآية : ٤١.................................................................. ١٣٧

الآيات : ٤٢ ـ ٤٥........................................................... ١٣٩

الآيتان : ٤٦ و ٤٧.......................................................... ١٤٠

الآيتان : ٤٨ و ٤٩.......................................................... ١٤١

الآيات : ٥٠ ـ ٥٤........................................................... ١٤٢

الآيات : ٥٥ ـ ٥٧........................................................... ١٤٣

الآيتان : ٥٨ و ٥٩.......................................................... ١٤٤

الآية : ٦٠.................................................................. ١٤٥

الآيات : ٦١ ـ ٦٣........................................................... ١٤٩

الآيات : ٦٤ ـ ٦٦........................................................... ١٥٠

الآيات : ٦٧ ـ ٦٩........................................................... ١٥٢

الآيتان : ٧٠ و ٧١.......................................................... ١٥٣

الآية : ٧٢.................................................................. ١٥٤

الآيتان : ٧٣ و ٧٤.......................................................... ١٥٦

الآيات : ٧٥ ـ ٧٨........................................................... ١٦١

الآية : ٧٩.................................................................. ١٦٣

الآية : ٨٠.................................................................. ١٦٥

الآيتان : ٨١ و ٨٢.......................................................... ١٦٦

الآيتان : ٨٣ و ٨٤.......................................................... ١٦٩

الآيات : ٨٥ ـ ٨٧........................................................... ١٧٢

الآيات : ٨٨ ـ ٩٠........................................................... ١٧٣

الآيات : ٩١ ـ ٩٣........................................................... ١٧٤

الآيات : ٩٤ ـ ٩٩........................................................... ١٧٦

الآية : ١٠٠................................................................. ١٧٧

الآية : ١٠١................................................................. ١٧٨

الآية : ١٠٢................................................................. ١٨٠

الآيتان : ١٠٣ و ١٠٤....................................................... ١٨١

الآية : ١٠٥................................................................. ١٨٣

الآيات : ١٠٦ ـ ١٠٨........................................................ ١٨٤

الآيتان : ١٠٩ و ١١٠....................................................... ١٩٠

الآيتان : ١١١ و ١١٢....................................................... ١٩١

الآيتان : ١١٣ و ١١٤....................................................... ١٩٣

الآيتان : ١١٥ و ١١٦....................................................... ١٩٨

الآية : ١١٧................................................................. ١٩٩

الآيتان : ١١٨ و ١١٩....................................................... ٢٠٠

الآيتان : ١٢٠ و ١٢١....................................................... ٢٠٥

الآية : ١٢٢................................................................. ٢٠٦

الآية : ١٢٣................................................................. ٢٠٨

الآيتان : ١٢٤ و ١٢٥....................................................... ٢٠٩

الآيتان : ١٢٦ و ١٢٧....................................................... ٢١٠

الآيتان : ١٢٨ و ١٢٩....................................................... ٢١١

سورة يونس

الآيتان : ١ و ٢.............................................................. ٢١٥

الآية : ٣.................................................................... ٢١٦

الآيات : ٤ ـ ٦.............................................................. ٢١٧

الآيات : ٧ ـ ١٠............................................................. ٢١٨

الآيتان : ١١ و ١٢.......................................................... ٢٢٠

الآيات : ١٣ ـ ١٦........................................................... ٢٢١

الآية : ١٧.................................................................. ٢٢٢

الآيتان : ١٨ و ١٩.......................................................... ٢٢٤

الآية : ٢٠.................................................................. ٢٢٥

الآيات : ٢١................................................................ ٢٢٦

الآيتان : ٢٤ و ٢٥.......................................................... ٢٢٧

الآية : ٢٦.................................................................. ٢٢٩

الآية : ٢٧.................................................................. ٢٣٠

الآيات : ٢٨ ـ ٣٠........................................................... ٢٣١

الآيات : ٣١ ـ ٣٣........................................................... ٢٣٢

الآيات : ٣٤ ـ ٣٦........................................................... ٢٣٣

الآيات : ٣٧ ـ ٤٠........................................................... ٢٣٤

الآيات : ٤١ ـ ٤٤........................................................... ٢٣٥

الآية : ٤٥.................................................................. ٢٣٦

الآيتان : ٤٦ و ٤٧.......................................................... ٢٣٧

الآيات : ٤٨ ـ ٥٤........................................................... ٢٣٨

الآيات : ٥٥ ـ ٦٠........................................................... ٢٣٩

الآية : ٦١.................................................................. ٢٤١

الآيات : ٦٢ ـ ٦٤........................................................... ٢٤٢

الآيات : ٦٥ ـ ٦٧........................................................... ٢٤٥

الآيات : ٦٨ ـ ٧٣........................................................... ٢٤٦

الآية : ٧٤.................................................................. ٢٤٧

الآيات : ٧٦ ـ ٧٨........................................................... ٢٤٨

الآيات : ٧٩ ـ ٨٢........................................................... ٢٤٩

الآية : ٨٣.................................................................. ٢٥٠

الآيات : ٨٤ ـ ٨٧........................................................... ٢٥١

الآيتان : ٨٨ و ٨٩.......................................................... ٢٥٢

الآيات : ٩٠ ـ ٩٢........................................................... ٢٥٣

الآية : ٩٣.................................................................. ٢٥٦

الآيات : ٩٤ ـ ٩٧........................................................... ٢٥٧

الآية : ٩٨.................................................................. ٢٥٨

الآيتان : ٩٩ و ١٠٠......................................................... ٢٥٩

الآيات : ١٠١ ـ ١٠٧........................................................ ٢٦٠

الآيتان : ١٠٨ و ١٠٩....................................................... ٢٦١

سورة هود

الآيات : ١ ـ ٤.............................................................. ٢٦٢

الآية : ٥.................................................................... ٢٦٣

الآية : ٦.................................................................... ٢٦٤

الآيتان : ٧ و ٨.............................................................. ٢٦٥

الآيات : ٩ ـ ١٤............................................................. ٢٦٨

الآيتان : ١٥ و ١٦.......................................................... ٢٦٩

الآية : ١٧.................................................................. ٢٧٠

الآيات : ١٨ ـ ٢٢........................................................... ٢٧١

الآيتان : ٢٣ و ٢٤.......................................................... ٢٧٣

الآيات : ٢٥ ـ ٢٧........................................................... ٢٧٤

الآيات : ٢٨ ـ ٣١........................................................... ٢٧٥

الآيات : ٣٢ ـ ٣٩........................................................... ٢٧٦

الآية : ٤٠.................................................................. ٢٧٨

الآيات : ٤١ ـ ٤٣........................................................... ٢٧٩

الآية : ٤٤.................................................................. ٢٨٠

الآيات : ٤٥ ـ ٤٧........................................................... ٢٨٢

الآية : ٤٨.................................................................. ٢٨٣

الآيات : ٤٩ ـ ٥٢........................................................... ٢٨٤

الآيات : ٥٣ ـ ٦٠........................................................... ٢٨٥

الآيات : ٦١ ـ ٦٣........................................................... ٢٨٦

الآيات : ٦٤ ـ ٧٣........................................................... ٢٨٧

الآيات : ٧٤ ـ ٧٩........................................................... ٢٨٩

الآيتان : ٨٠ و ٨١.......................................................... ٢٩١

الآيتان : ٨٢ و ٨٣.......................................................... ٢٩٣

الآية : ٨٤.................................................................. ٢٩٤

الآيات : ٨٥ ـ ٨٧........................................................... ٢٩٥

الآية : ٨٨.................................................................. ٢٩٦

الآيتان : ٨٩ و ٩٠.......................................................... ٢٩٧

الآيات : ٩١ ـ ٩٥........................................................... ٢٩٨

الآيات : ٩٦ ـ ١٠١......................................................... ٢٩٩

الآيات : ١٠٢ ـ ١٠٥........................................................ ٣٠٠

الآيتان : ١٠٦ و ١٠٧....................................................... ٣٠١

الآية : ١٠٨................................................................. ٣٠٢

الآيات : ١٠٩ ـ ١١٣........................................................ ٣٠٣

الآيتان : ١١٤ و ١١٥....................................................... ٣٠٤

الآيتان : ١١٦ و ١١٧....................................................... ٣٠٩

الآيتان : ١١٨ و ١١٩....................................................... ٣١٠

الآيتان : ١٢٠ ـ ١٢٢........................................................ ٣١١

الآية : ١٢٣................................................................. ٣١٢

سورة يوسف

الآيات : ١ ـ ٣.............................................................. ٣١٣

الآية : ٤.................................................................... ٣١٦

الآية : ٥.................................................................... ٣١٧

الآيات : ٦ ـ ١٠............................................................. ٣١٨

الآيتان : ١١ و ١٢.......................................................... ٣١٩

الآيات : ١٣ ـ ١٥........................................................... ٣٢٠

الآيات : ١٦ ـ ١٨........................................................... ٣٢١

الآيتان : ١٩ و ٢٠.......................................................... ٣٢٢

الآيتان : ٢١ و ٢٢.......................................................... ٣٢٤

الآية : ٢٣.................................................................. ٣٢٥

الآية : ٢٤.................................................................. ٣٢٦

الآيات : ٢٥ ـ ٢٩........................................................... ٣٢٨

الآيات : ٣٠ ـ ٣٤........................................................... ٣٢٩

الآية : ٣٥.................................................................. ٣٣١

الآية : ٣٦.................................................................. ٣٣٢

الآيات : ٣٧ ـ ٤٠........................................................... ٣٣٣

الآية : ٤١.................................................................. ٣٣٤

الآيات : ٤٢ ـ ٤٩........................................................... ٣٣٥

الآيات : ٥٠ ـ ٥٣........................................................... ٣٣٧

الآيتان : ٥٤ و ٥٥.......................................................... ٣٣٨

الآيتان : ٥٦ و ٥٧.......................................................... ٣٣٩

الآيات : ٥٨ ـ ٦٢........................................................... ٣٤٠

الآيتان : ٦٣ و ٦٤.......................................................... ٣٤١

الآيات : ٦٥ ـ ٦٨........................................................... ٣٤٢

الآيات : ٦٩ ـ ٧٦........................................................... ٣٤٣

الآية : ٧٧.................................................................. ٣٤٤

الآيتان : ٧٨ و ٧٩.......................................................... ٣٤٥

الآيات : ٨٠ ـ ٨٦........................................................... ٣٤٦

الآيتان : ٨٧ و ٨٨.......................................................... ٣٤٨

الآيات : ٨٩ ـ ٩٢........................................................... ٣٤٩

الآيات : ٩٣ ـ ٩٥........................................................... ٣٥٠

الآيات : ٩٦ ـ ٩٨........................................................... ٣٥١

الآيتان : ٩٩ و ١٠٠......................................................... ٣٥٢

الآية : ١٠١................................................................. ٣٥٤

الآيات : ١٠٢ ـ ١٠٤........................................................ ٣٥٧

الآيات : ١٠٥ ـ ١٠٧........................................................ ٣٥٨

الآية : ١٠٨................................................................. ٣٦١

الآية : ١٠٩................................................................. ٣٦٢

الآية : ١١٠................................................................. ٣٦٣

الآية : ١١١................................................................. ٣٦٥

سورة الرعد

الآيتان : ١ و ٢.............................................................. ٣٦٧

الآيتان : ٣ و ٤.............................................................. ٣٦٩

الآية : ٥.................................................................... ٣٧٠

الآية : ٦.................................................................... ٣٧١

الآية : ٧.................................................................... ٣٧٢

الآيتان : ٨ و ٩.............................................................. ٣٧٣

الآيتان : ١٠ و ١١.......................................................... ٣٧٤

الآيتان : ١٢ و ١٣.......................................................... ٣٧٨

الآية : ١٤.................................................................. ٣٨٢

الآيتان : ١٥ و ١٦.......................................................... ٣٨٣

الآية : ١٧.................................................................. ٣٨٤

الآيتان : ١٨ و ١٩.......................................................... ٣٨٦

الآيات : ٢٠ ـ ٢٤........................................................... ٣٨٧

الآيتان : ٢٥ و ٢٦.......................................................... ٣٨٩

الآيات : ٢٧ ـ ٢٩........................................................... ٣٩٠

الآية : ٣٠.................................................................. ٣٩٥

الآية : ٣١.................................................................. ٣٩٦

الآيتان : ٣٢ و ٣٣.......................................................... ٣٩٨

الآيتان : ٣٤ و ٣٥.......................................................... ٣٩٩

الآيتان : ٣٦ و ٣٧.......................................................... ٤٠١

الآيتان : ٣٨ و ٣٩.......................................................... ٤٠٢

الآيتان : ٤٠ و ٤١.......................................................... ٤٠٥

الآية : ٤٢.................................................................. ٤٠٦

الآية : ٤٣.................................................................. ٤٠٧

سورة إبراهيم

الآيات : ١ ـ ٣.............................................................. ٤٠٩

الآيتان : ٤ و ٥.............................................................. ٤١٠

الآيات : ٦ ـ ٨.............................................................. ٤١١

الآية : ٩.................................................................... ٤١٢

الآيات : ١٠ ـ ١٢........................................................... ٤١٤

الآيات : ١٣ ـ ١٧........................................................... ٤١٥

الآيات : ١٨ ـ ٢٠........................................................... ٤١٨

الآية : ٢١.................................................................. ٤١٩

الآيتان : ٢٢ و ٢٣.......................................................... ٤٢٠

الآيات : ٢٤ ـ ٢٦........................................................... ٤٢٢

الآية : ٢٧.................................................................. ٤٢٤

الآيات : ٢٨ ـ ٣٠........................................................... ٤٣٦

الآية : ٣١.................................................................. ٤٣٨

الآيات : ٣٢ ـ ٣٤........................................................... ٤٣٩

الآيتان : ٣٥ و ٣٦.......................................................... ٤٤٠

الآية : ٣٧.................................................................. ٤٤١

الآيات : ٣٨ ـ ٤٣........................................................... ٤٤٢

الآيات : ٤٤ ـ ٤٦........................................................... ٤٤٣

الآيتان : ٤٧ و ٤٨.......................................................... ٤٤٤

الآيات : ٤٩ ـ ٥١........................................................... ٤٤٧

الآية : ٥٢.................................................................. ٤٤٩

سورة الحجر

الآيات : ١ ـ ٣.............................................................. ٤٥٠

الآيات : ٤ ـ ٩.............................................................. ٤٥٢

الآيات : ١٠ ـ ١٥........................................................... ٤٥٣

الآيات : ١٦ ـ ٢٠........................................................... ٤٥٤

الآيات : ٢١ ـ ٢٥........................................................... ٤٥٥

الآيتان : ٢٦ و ٢٧.......................................................... ٤٥٧

الآيات : ٢٨ ـ ٣٣........................................................... ٤٥٨

الآيات : ٣٤ ـ ٤٤........................................................... ٤٥٩

ا لآيات : ٤٥ ـ ٥٠.......................................................... ٤٦١

الآيات : ٥١ ـ ٦٤........................................................... ٤٦٤

الآيات : ٦٥ ـ ٧٢........................................................... ٤٦٥

الآيات : ٧٣ ـ ٧٧........................................................... ٤٦٦

الآيات : ٧٨ ـ ٨٤........................................................... ٤٦٧

الآيات : ٨٥ ـ ٨٨........................................................... ٤٦٨

الآيات : ٨٩ ـ ٩٣........................................................... ٤٧٠

الآيات : ٩٤ ـ ٩٩........................................................... ٤٧٣

سورة النحل

الآية : ١.................................................................... ٤٧٦

الآيات : ٢ ـ ٤.............................................................. ٤٧٧

الآيات : ٥ ـ ٨.............................................................. ٤٧٨

الآية : ٩.................................................................... ٤٨٠

الآيتان : ١٠ و ١١.......................................................... ٤٨١

الآيات : ١٢ ـ ١٨........................................................... ٤٨٢

الآيات : ١٩ ـ ٢٣........................................................... ٤٨٤

الآيتان : ٢٤ و ٢٥.......................................................... ٤٨٥

الآيتان : ٢٦ و ٢٧.......................................................... ٤٨٦

الآيات : ٢٨ ـ ٣٢........................................................... ٤٨٧

الآيتان : ٣٣ و ٣٤.......................................................... ٤٨٨

الآيات : ٣٥ ـ ٣٧........................................................... ٤٨٩

الآيات : ٣٨ ـ ٤٠........................................................... ٤٩٠

الآيتان : ٤١ و ٤٢.......................................................... ٤٩١

الآيتان : ٤٣ و ٤٤.......................................................... ٤٩٢

الآيات : ٤٥ ـ ٤٧........................................................... ٤٩٣

الآيات : ٤٨ ـ ٥٥........................................................... ٤٩٤

الآيات : ٥٦ ـ ٦٠........................................................... ٤٩٥

الآيتان : ٦١ و ٦٢.......................................................... ٤٩٦

الآيات : ٦٣ ـ ٦٥........................................................... ٤٩٧

الآيتان : ٦٦ و ٦٧.......................................................... ٤٩٨

الآيتان : ٦٨ و ٦٩.......................................................... ٤٩٩

الآيتان : ٧٠ و ٧١.......................................................... ٥٠٢

الآية : ٧٢.................................................................. ٥٠٣

الآيات : ٧٣ ـ ٧٦........................................................... ٥٠٥

الآيات : ٧٧ ـ ٧٩........................................................... ٥٠٦

الآيات : ٨٠ ـ ٨٣........................................................... ٥٠٧

الآيات : ٨٤ ـ ٨٨........................................................... ٥٠٨

الآية : ٨٩.................................................................. ٥١٠

الآية : ٩٠.................................................................. ٥١١

الآيتان : ٩١ و ٩٢.......................................................... ٥١٣

الآيات : ٩٣ ـ ٩٦........................................................... ٥١٥

الآية : ٩٧.................................................................. ٥١٦

الآيات : ٩٨ ـ ١٠٢......................................................... ٥١٧

الآية : ١٠٣................................................................. ٥١٨

الآيات : ١٠٤ ـ ١٠٩........................................................ ٥١٩

الآيتان : ١١٠ و ١١١....................................................... ٥٢١

الآيتان : ١١٢ و ١١٣....................................................... ٥٢٢

الآيات : ١١٤ ـ ١١٧........................................................ ٥٢٣

الآيات : ١١٨ ـ ١٢٣........................................................ ٥٢٤

الآية : ١٢٤................................................................. ٥٢٥

الآية : ١٢٥................................................................. ٥٢٦

الآيات : ١٢٦ ـ ١٢٨........................................................ ٥٢٧

تفسير القرآن العظيم - ٤

المؤلف: أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي
الصفحات: 541
  • سورة الأنفال
  • الآية : 1 3
  • الآيات : 2 ـ 4 9
  • الآيات : 5 ـ 8 11
  • الآيتان : 9 و 10 16
  • الآيات : 11 ـ 14 19
  • الآيتان : 15 و 16 23
  • الآيتان : 17 و 18 26
  • الآية : 19 28
  • الآيات : 20 ـ 23 29
  • الآية : 24 30
  • الآية : 25 32
  • الآيات : 26 ـ 28 35
  • الآية : 29 37
  • الآية : 30 38
  • الآيات : 31 ـ 33 41
  • الآيتان : 34 و 35 44
  • الآيتان : 36 و 37 47
  • الآيات : 38 ـ 40 48
  • الآية : 41 52
  • الآية : 42 58
  • الآيتان : 43 و 44 61
  • الآيتان : 45 و 46 62
  • الآيات : 47 ـ 49 63
  • الآيتان : 50 و 51 67
  • الآية : 52 68
  • الآيات : 53 ـ 58 69
  • الآيتان : 59 و 60 70
  • الآيات : 61 و 63 73
  • الآيات : 64 ـ 66 76
  • الآيات : 67 ـ 69 77
  • الآيتان : 70 و 71 80
  • الآية : 72 84
  • الآية : 73 86
  • الآيتان : 74 و 75 87
  • سورة التوبة
  • الآيتان : 1 و 2 89
  • الآية : 3 91
  • الآيتان : 4 و 5 97
  • الآية : 6 100
  • الآيتان : 7 و 8 101
  • الآيات : 9 ـ 12 102
  • الآيات : 13 ـ 15 103
  • الآية : 16 104
  • الآيتان : 17 و 18 105
  • الآيات : 19 ـ 22 106
  • الآيتان : 23 و 24 108
  • الآيات : 25 ـ 27 110
  • ا لآيتان : 28 و 29 115
  • الآيتان : 30 و 31 118
  • الآيتان : 32 و 33 119
  • الآيتان : 34 و 35 121
  • الآية : 36 127
  • الآية : 37 132
  • الآيتان : 38 و 39 135
  • الآية : 40 136
  • الآية : 41 137
  • الآيات : 42 ـ 45 139
  • الآيتان : 46 و 47 140
  • الآيتان : 48 و 49 141
  • الآيات : 50 ـ 54 142
  • الآيات : 55 ـ 57 143
  • الآيتان : 58 و 59 144
  • الآية : 60 145
  • الآيات : 61 ـ 63 149
  • الآيات : 64 ـ 66 150
  • الآيات : 67 ـ 69 152
  • الآيتان : 70 و 71 153
  • الآية : 72 154
  • الآيتان : 73 و 74 156
  • الآيات : 75 ـ 78 161
  • الآية : 79 163
  • الآية : 80 165
  • الآيتان : 81 و 82 166
  • الآيتان : 83 و 84 169
  • الآيات : 85 ـ 87 172
  • الآيات : 88 ـ 90 173
  • الآيات : 91 ـ 93 174
  • الآيات : 94 ـ 99 176
  • الآية : 100 177
  • الآية : 101 178
  • الآية : 102 180
  • الآيتان : 103 و 104 181
  • الآية : 105 183
  • الآيات : 106 ـ 108 184
  • الآيتان : 109 و 110 190
  • الآيتان : 111 و 112 191
  • الآيتان : 113 و 114 193
  • الآيتان : 115 و 116 198
  • الآية : 117 199
  • الآيتان : 118 و 119 200
  • الآيتان : 120 و 121 205
  • الآية : 122 206
  • الآية : 123 208
  • الآيتان : 124 و 125 209
  • الآيتان : 126 و 127 210
  • الآيتان : 128 و 129 211
  • سورة يونس
  • الآيتان : 1 و 2 215
  • الآية : 3 216
  • الآيات : 4 ـ 6 217
  • الآيات : 7 ـ 10 218
  • الآيتان : 11 و 12 220
  • الآيات : 13 ـ 16 221
  • الآية : 17 222
  • الآيتان : 18 و 19 224
  • الآية : 20 225
  • الآيات : 21 226
  • الآيتان : 24 و 25 227
  • الآية : 26 229
  • الآية : 27 230
  • الآيات : 28 ـ 30 231
  • الآيات : 31 ـ 33 232
  • الآيات : 34 ـ 36 233
  • الآيات : 37 ـ 40 234
  • الآيات : 41 ـ 44 235
  • الآية : 45 236
  • الآيتان : 46 و 47 237
  • الآيات : 48 ـ 54 238
  • الآيات : 55 ـ 60 239
  • الآية : 61 241
  • الآيات : 62 ـ 64 242
  • الآيات : 65 ـ 67 245
  • الآيات : 68 ـ 73 246
  • الآية : 74 247
  • الآيات : 76 ـ 78 248
  • الآيات : 79 ـ 82 249
  • الآية : 83 250
  • الآيات : 84 ـ 87 251
  • الآيتان : 88 و 89 252
  • الآيات : 90 ـ 92 253
  • الآية : 93 256
  • الآيات : 94 ـ 97 257
  • الآية : 98 258
  • الآيتان : 99 و 100 259
  • الآيات : 101 ـ 107 260
  • الآيتان : 108 و 109 261
  • سورة هود
  • الآيات : 1 ـ 4 262
  • الآية : 5 263
  • الآية : 6 264
  • الآيتان : 7 و 8 265
  • الآيات : 9 ـ 14 268
  • الآيتان : 15 و 16 269
  • الآية : 17 270
  • الآيات : 18 ـ 22 271
  • الآيتان : 23 و 24 273
  • الآيات : 25 ـ 27 274
  • الآيات : 28 ـ 31 275
  • الآيات : 32 ـ 39 276
  • الآية : 40 278
  • الآيات : 41 ـ 43 279
  • الآية : 44 280
  • الآيات : 45 ـ 47 282
  • الآية : 48 283
  • الآيات : 49 ـ 52 284
  • الآيات : 53 ـ 60 285
  • الآيات : 61 ـ 63 286
  • الآيات : 64 ـ 73 287
  • الآيات : 74 ـ 79 289
  • الآيتان : 80 و 81 291
  • الآيتان : 82 و 83 293
  • الآية : 84 294
  • الآيات : 85 ـ 87 295
  • الآية : 88 296
  • الآيتان : 89 و 90 297
  • الآيات : 91 ـ 95 298
  • الآيات : 96 ـ 101 299
  • الآيات : 102 ـ 105 300
  • الآيتان : 106 و 107 301
  • الآية : 108 302
  • الآيات : 109 ـ 113 303
  • الآيتان : 114 و 115 304
  • الآيتان : 116 و 117 309
  • الآيتان : 118 و 119 310
  • الآيتان : 120 ـ 122 311
  • الآية : 123 312
  • سورة يوسف
  • الآيات : 1 ـ 3 313
  • الآية : 4 316
  • الآية : 5 317
  • الآيات : 6 ـ 10 318
  • الآيتان : 11 و 12 319
  • الآيات : 13 ـ 15 320
  • الآيات : 16 ـ 18 321
  • الآيتان : 19 و 20 322
  • الآيتان : 21 و 22 324
  • الآية : 23 325
  • الآية : 24 326
  • الآيات : 25 ـ 29 328
  • الآيات : 30 ـ 34 329
  • الآية : 35 331
  • الآية : 36 332
  • الآيات : 37 ـ 40 333
  • الآية : 41 334
  • الآيات : 42 ـ 49 335
  • الآيات : 50 ـ 53 337
  • الآيتان : 54 و 55 338
  • الآيتان : 56 و 57 339
  • الآيات : 58 ـ 62 340
  • الآيتان : 63 و 64 341
  • الآيات : 65 ـ 68 342
  • الآيات : 69 ـ 76 343
  • الآية : 77 344
  • الآيتان : 78 و 79 345
  • الآيات : 80 ـ 86 346
  • الآيتان : 87 و 88 348
  • الآيات : 89 ـ 92 349
  • الآيات : 93 ـ 95 350
  • الآيات : 96 ـ 98 351
  • الآيتان : 99 و 100 352
  • الآية : 101 354
  • الآيات : 102 ـ 104 357
  • الآيات : 105 ـ 107 358
  • الآية : 108 361
  • الآية : 109 362
  • الآية : 110 363
  • الآية : 111 365
  • سورة الرعد
  • الآيتان : 1 و 2 367
  • الآيتان : 3 و 4 369
  • الآية : 5 370
  • الآية : 6 371
  • الآية : 7 372
  • الآيتان : 8 و 9 373
  • الآيتان : 10 و 11 374
  • الآيتان : 12 و 13 378
  • الآية : 14 382
  • الآيتان : 15 و 16 383
  • الآية : 17 384
  • الآيتان : 18 و 19 386
  • الآيات : 20 ـ 24 387
  • الآيتان : 25 و 26 389
  • الآيات : 27 ـ 29 390
  • الآية : 30 395
  • الآية : 31 396
  • الآيتان : 32 و 33 398
  • الآيتان : 34 و 35 399
  • الآيتان : 36 و 37 401
  • الآيتان : 38 و 39 402
  • الآيتان : 40 و 41 405
  • الآية : 42 406
  • الآية : 43 407
  • سورة إبراهيم
  • الآيات : 1 ـ 3 409
  • الآيتان : 4 و 5 410
  • الآيات : 6 ـ 8 411
  • الآية : 9 412
  • الآيات : 10 ـ 12 414
  • الآيات : 13 ـ 17 415
  • الآيات : 18 ـ 20 418
  • الآية : 21 419
  • الآيتان : 22 و 23 420
  • الآيات : 24 ـ 26 422
  • الآية : 27 424
  • الآيات : 28 ـ 30 436
  • الآية : 31 438
  • الآيات : 32 ـ 34 439
  • الآيتان : 35 و 36 440
  • الآية : 37 441
  • الآيات : 38 ـ 43 442
  • الآيات : 44 ـ 46 443
  • الآيتان : 47 و 48 444
  • الآيات : 49 ـ 51 447
  • الآية : 52 449
  • سورة الحجر
  • الآيات : 1 ـ 3 450
  • الآيات : 4 ـ 9 452
  • الآيات : 10 ـ 15 453
  • الآيات : 16 ـ 20 454
  • الآيات : 21 ـ 25 455
  • الآيتان : 26 و 27 457
  • الآيات : 28 ـ 33 458
  • الآيات : 34 ـ 44 459
  • ا لآيات : 45 ـ 50 461
  • الآيات : 51 ـ 64 464
  • الآيات : 65 ـ 72 465
  • الآيات : 73 ـ 77 466
  • الآيات : 78 ـ 84 467
  • الآيات : 85 ـ 88 468
  • الآيات : 89 ـ 93 470
  • الآيات : 94 ـ 99 473
  • سورة النحل
  • الآية : 1 476
  • الآيات : 2 ـ 4 477
  • الآيات : 5 ـ 8 478
  • الآية : 9 480
  • الآيتان : 10 و 11 481
  • الآيات : 12 ـ 18 482
  • الآيات : 19 ـ 23 484
  • الآيتان : 24 و 25 485
  • الآيتان : 26 و 27 486
  • الآيات : 28 ـ 32 487
  • الآيتان : 33 و 34 488
  • الآيات : 35 ـ 37 489
  • الآيات : 38 ـ 40 490
  • الآيتان : 41 و 42 491
  • الآيتان : 43 و 44 492
  • الآيات : 45 ـ 47 493
  • الآيات : 48 ـ 55 494
  • الآيات : 56 ـ 60 495
  • الآيتان : 61 و 62 496
  • الآيات : 63 ـ 65 497
  • الآيتان : 66 و 67 498
  • الآيتان : 68 و 69 499
  • الآيتان : 70 و 71 502
  • الآية : 72 503
  • الآيات : 73 ـ 76 505
  • الآيات : 77 ـ 79 506
  • الآيات : 80 ـ 83 507
  • الآيات : 84 ـ 88 508
  • الآية : 89 510
  • الآية : 90 511
  • الآيتان : 91 و 92 513
  • الآيات : 93 ـ 96 515
  • الآية : 97 516
  • الآيات : 98 ـ 102 517
  • الآية : 103 518
  • الآيات : 104 ـ 109 519
  • الآيتان : 110 و 111 521
  • الآيتان : 112 و 113 522
  • الآيات : 114 ـ 117 523
  • الآيات : 118 ـ 123 524
  • الآية : 124 525
  • الآية : 125 526
  • الآيات : 126 ـ 128 527