القاعدة الخامسة

فى النّبوات

وتشتمل على ستّة أصول :

الأول : فى بيان معنى النبوة والنّبي.

الثانى : فى تحقيق معنى المعجزة ، وشرائطها ، ووجه دلالتها على صدق النّبي.

الثالث : فى جواز البعثة عقلا.

الرابع : فى تحقيق وقوعها بالفعل.

الخامس : فى عصمة الأنبياء.

السادس : فى عصمة الملائكة ، وما قيل فى التفضيل بينهم ، وبين الأنبياء عليهم‌السلام.

الأصل الأول

فى معنى النّبوة ، والنّبي (١)

فنقول :

أما فى وضع اللغة : فالنّبىّ مأخوذ من النبوة : وهى الارتفاع ، ومنه

يقال : تنبّأ فلان : إذا ارتفع وعلا.

وقيل : النّبي هو الطريق. ومنه يقال للرّسل عن الله ـ تعالى ـ أنبياء ؛ لكونهم طرق الهداية إليه (٢)

وقيل : إنه مأخوذ من الإنباء : وهو الإخبار ؛ ولذلك يقال لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ نبيا ؛ لإنبائه عن الله عزوجل.

وأما فى اصطلاح النّظّار : فقد اختلف فيه :

فقالت الفلاسفة (٣) : النّبي هو من كان مختصا بخواص ثلاثة :

الأولى : أن يكون مطلعا على الغائبات ؛ لصفاء جوهر نفسه ، وشدّة اتصالها بالمبادئ الأول من غير تعليم وتعلم ؛ ولا بعد فى ذلك ؛ فإنّ التفاوت / / بين الناس فيما

__________________

(١) لتحقيق معنى النبي ، وبيان حقيقة النبوة بالإضافة إلى ما ورد هاهنا يراجع ما يلى : التمهيد للباقلانى ص ٩٦ وما بعدها والإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به له أيضا ص ٦١. وأصول الدين للبغدادى ص ١٥٣ وما بعدها. والإرشاد لإمام الحرمين الجوينى ص ٣٥٥ وما بعدها ونهاية الأقدام للشهرستانى ص ٤١٧ وما بعدها.

وغاية المرام للآمدى ص ٣١٧ وما بعدها. والمغنى فى أبواب التوحيد والعدل ١٥ / ١٤ وما بعدها. للقاضى عبد الجبار وشرح الأصول الخمسة له أيضا ص ٥٦٣ وما بعدها. وتثبيت دلائل النبوة للقاضى عبد الجبار. والنبوات للإمام الرازى ومناهج الأدلة لابن رشد ص ٢٠٨ وما بعدها. والنبوات لابن تيمية وشرح الطحاوية لابن أبى العز الحنفى ص ١٢١ وما بعدها. وشرح المواقف للجرجانى الموقف السادس ص ٥١ وما بعدها تحقيق : د. أحمد المهدى. وشرح المقاصد للتفتازاني ٢ / ١٢٨ وما بعدها. وشرح مطالع الأنظار للأصفهانى ص ١٩٨ وما بعدها.

(٢) ورد فى المعجم الوسيط (باب النون) ـ (نبأ) ما يلى : (نبأ) الشيء ـ نبئا ونبوءا : ارتفع ، وظهر. (أنبأه) الخبر وبالخبر : أخبره. (تنبأ) : ادعى النبوة. (النبوءة) سفارة بين الله عزوجل ؛ وبين ذوى العقول لإزاحة عللها.

[وتبدل الهمزة واوا وتدغم فيقال : النبوة]. (النبيء) المخبر عن الله عزوجل [وتبدل الهمزة ياء وتدغم فيقال : النبي] (ج) أنبياء.

(٣) لتوضيح رأى الفلاسفة بالإضافة إلى ما ورد هاهنا : انظر من كتبهم : الإشارات والتنبيهات لابن سينا والنجاة فى الحكمة المنطقية والطبيعية له أيضا.

/ / أول ل ٦٩ / أ.

يرجع إلى إدراك المعقولات ظاهر. حتى إن بعضهم قد يكون إدراكه لمعنى فى زمن أقل من زمن إدراك الأخر له. ولا حدّ لذلك ؛ بل هو فى درجة / الزيادة ، والنقصان ذاهب إلى من له قوة حدس الأشياء كلها فى أقرب زمان ، وإلى من لا حدس له البتة.

وما مثل هذه القوة التى بها إدراك المعقولات من غير تعليم ، وتعلّم هى المسمّاة عندهم بالعقل القدسى (١).

قالوا : وقد يمكن أن يوجد مثل ذلك أيضا فى حقّ من قلت شواغله البدنية لنفسه بالرّياضات ، وأنواع المجاهدات. وإما بسبب نوم أو مرض ، أو صرع ، أو غير ذلك على ما هو مشاهد من بعض الناس.

الخاصة الثانية :

أن يكون [بحيث تطيعه] (٢) الهيولى القابلة للصّور الكائنة الفاسدة وهذا أيضا ممكن ؛ فإن النفوس الإنسانية مؤثرة فى المواد كالذى نشاهده من تأثيرات الأنفس فى المادة بالاحمرار ، والاصفرار والتسخين عند الخجل ، والوجل ، والغضب ، والسّقوط من الأماكن العالية عند توهم النفس ذلك. فغير بعيد ممن كانت [نفسه] (٣) نبويّة متصلة بالعوالم العقلية أن تتأثر المادة بسبب تعلقها بها بحيث يحدث فى العالم عجائب ، وغرائب من ريح شديدة ، وخسف وزلازل ، وإحراق ، وغرق ، إلى غير ذلك.

قالوا : وقد يتأتّى مثل ذلك لبعض أهل الخلوص ، والصّفاء على ما هو معلوم فى كل عصر من آحاد الصلحاء.

الخاصة الثالثة :

أن يكون ممّن يرى ملائكة الله ـ تعالى ـ على صور متخيلة ، ويسمع كلام ربه (٤)

__________________

(١) العقل القدسى : وهو عبارة عن القوة النظرية التى من شأنها تحصيل المدركات من غير تعليم وتعلم ؛ كحال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. انظر (المبين فى شرح معانى ألفاظ الحكماء والمتكلمين للآمدى ص ١٠٨)

(٢) فى النسخة (أ) (يطيع). وفى النسخة (ب). (بحيث تطيعه نوم أو مرض)

(٣) ساقط من (أ)

(٤) فى ب (الله)

بالوحى وذلك أيضا ممكن بطريقة أن القوّتين وهما الخيالية (١) ، والحس المشترك (٢) قد تنفعل كل واحدة منهما عن الأخرى ولهذا فإنه قد ينطبع فى الخيالية ما كان قد انطبع فى الحسّ المشترك متأديا إليها من الحواس الظاهرة من الصور المحسوسة.

وعلى هذا : فغير بعيد أن يحصل فى الخيال صور ، وأصوات لا وجود لها فى الحسّ الظاهر ، ويتأتى ذلك الانطباع إلى الحس المشترك وبواسطته إلى الحواس الظاهرة كما كان بالعلتين ؛ فإن القوى الحاسة كالمرايا المتقابلة فى انطباع ما فى بعضها فى بعض.

وعند ذلك : فقد يسمع من الأصوات ويرى من الصّور حسب ما وقع فى الخيال وإن كان لا يراه ، ولا يسمعه أحد من الحاضرين.

قالوا : وقد يحصل أيضا نوع من هذا لبعض من قلّت شواغله البدنية وإن كان مستيقظا لأمر غلب على مزاجه كبعض المجانين والمتكهنين ، والمرضى ، غير أن هذه حالة نقص. والأولى حالة كمال.

قالوا : ولا شك أن المادة القابلة لهذا الشخص ممكن أن تقبل مثله فى كل وقت.

وقال آخرون : ـ

النّبيّ من يعلم كونه نبيّا ، والنّبوّة علمه بنبوّته (٣).

وقال آخرون : ـ /

النّبيّ هو العالم بربه ، والنّبوّة علمه بربه (٤).

وقال آخرون : ـ

النّبوّة سفارة العبد بين الله ـ تعالى ـ وبين الخلق (٥).

__________________

(١) قال عنها الآمدي فى المبين فى شرح معانى ألفاظ الحكماء والمتكلمين ص ١٠٥ : «وأما المتخيلة وتسمى ـ إذا نسبت إلى الإنسان ـ مفكرة : فعبارة عن قوة مرتبة فى مقدم التجويف الثانى من الدماغ ، من شأنها الحكم على ما فى الخيال بالافتراق والاتفاق والتركيب والتحليل»

(٢) قال عنه الآمدي فى المبين ص ١٠٥ «وأما الحس المشترك ، ويسمى فنطاسيا : فعبارة عن قوة مرتبة فى مقدم التجويف الأول من الدماغ ، من شأنها إدراك ما يتأدى إليها من الصور المنطبعة فى الحواس الظاهرة»

(٣) وقد ردّ الآمدي على هذا المذهب فى ل ١٢٩ / ب. وحكم عليه بأنه فى غاية الخبط والتخليط.

(٤) وقد ردّ الآمدي على هذا المذهب الثالث فى ل ١٢٩ / ب. وحكم عليه بالفساد.

(٥) وقد رد الآمدي على المذهب الرابع : وأما المذهب الرابع ففاسد أيضا ... الخ. ثم ذكر الحق فى ذلك فقال : [والحق : ما ذهب إليه أهل الحق من الأشاعرة وغيرهم ... الخ] (ل ١٢٩ / ب ، ل ١٣٠ / أ).

وهذه المذاهب فاسدة.

أما مذهب الفلاسفة : وقولهم فى الخاصة الأولى أن النّبي هو الّذي يكون مطلعا على الغائبات من غير تعليم وتعلم ؛ فهو فاسد من ثلاثة أوجه :

الأول : أنهم إما أن يريدوا بذلك الاطلاع على جميع الغائبات أو على (١) بعضها.

فإن كان الأول : فليس بشرط فى كون النبي نبيا بالاتفاق منا ، ومنهم ، ولهذا فإنّا نعلم علما ضروريا أن من وجد من الأنبياء ودلّت المعجزة القاطعة على نبوّته ـ كما يأتى تحقيقه ـ لم يكن عالما بجميع المغيّبات ولا مطّلعا عليها ، ولهذا قال أفضل المرسلين (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ) (٢).

وإن كان الثانى : فما من أحد عندهم الا ويجوز أن يكون مطلعا على بعض المغيّبات من غير تعليم ، وتعلم وإن لم يكن نبيا ؛ فلا يكون ذلك خاصة للنّبىّ.

الوجه الثانى :

قولهم : وأن يكون ذلك لصفاء جوهر نفسه.

فنقول : النفس الإنسانية عندهم جوهر بسيط مجرد عن المادة دون علائقها ، والنفوس الإنسانية كلها من نوع واحد ولا تفاوت فيها حتى تختلف نفسها بالصفاء والكدر.

وعند ذلك : فما ثبت للبعض لنفسه ولذات نفسه ؛ وجب أن يكون ثابتا لكل النّاس ؛ ضرورة الاتحاد فى نوع النفس الإنسانية ، ويخرج ما ذكروه من الاطلاع على المغيّبات عن أن يكون خاصة نفس النّبي دون غيره ، أو أن تكون الأنفس مختلفة متنوعة ؛ ولم يقولوا به.

الثالث :

قولهم : وقد يوجد (٣) فى حقّ من قلت الشواغل / / البدنيّة لنفسه بسبب نوم ، أو

__________________

(١) (على) ساقط من ب.

(٢) سورة الأعراف ٧ / ١٨٨.

(٣) فى ب (وقد يوجد ذلك أيضا)

/ / أول ل ٦٩ / ب.

صرع ، أو مرض ؛ فهو اعتراف منهم بوجود ذلك فى غير النبي [وبه يخرج عن كونه خاصة للنبى] (١).

هذا كله إن أرادوا بعلم الغيب خلق الله ـ تعالى ـ له العلم الاضطرارى بالمغيب وإن أرادوا غيره ؛ فهو غير مسلم.

وقولهم : فى [الخاصة الثانية] (٢) فمبنى على كون النفس مؤثرة فى تغيير الأجسام ، ونقلها من حال إلى حال ؛ فهو باطل بما أسلفناه فى بيان أنه لا مؤثر ولا فاعل غير الله تعالى (٣).

كيف وأن نفس النبي مماثلة لنفس غيره ممن ليس بنبىّ ، فلو كان ذلك من توابع نفسه ؛ لكان من توابع نفس غيره ضرورة الاتّحاد فى النّوعيّة بين الأنفس الإنسانية عندهم.

ثم قولهم : وقد يتأتى مثل ذلك أيضا لمن ليس بنبي من أهل الخلوص والصّفاء. اعتراف بكونه غير خاصة للنّبىّ.

وقولهم : فى الخاصة الثالثة : أن يكون ممن يرى ملائكة الله ويسمع وحيه. وإن كان / إطلاقه صحيحا ، غير أن ذلك تلبيس منهم وتستر بإطلاق عبارة لا يقولون بمعناها ، ومقتضاها.

فإن مقتضى ذلك : أن يكون لله ـ تعالى ـ كلام ، وأن يكون لله ـ تعالى ـ ملائكة تتعلق بهم الرؤية ، وليس عندهم لله كلام ، ولا له ملائكة غير المبادئ الأول وهى العقول المجردة عن المواد وعلائقها ، ونفوس الأفلاك. وتلك لا يتصور عندهم أن تكون مرئية ؛ لأن شرط الرؤية عندهم أن يكون المرئى فى جهة مقابلة الناظر ، وأن يكون نيرا ، أو مستنيرا ، وتوسط الهواء المشف كما سبق.

والعقول كالنفوس عندهم. جواهر معقولة غير محسوسة ؛ فلا يتصور فيها ذلك ؛ فلا تكون مرئية ، ومع ذلك فهى غير قابلة للكلام عندهم حتى يكون ما يسمعه منها وحيا ؛

__________________

(١) ساقط من (أ).

(٢) فى (أ) (الخاصة الأولى)

(٣) راجع ما مر في الجزء الأول ـ القاعدة الرابعة ـ الباب الأول ـ القسم الأول ـ النوع السادس ـ الأصل الثانى : فى أنه لا خالق الا الله ـ تعالى ـ ولا مؤثر فى حدوث الحوادث سواه. ل ٢١١ / ب وما بعدها.

بل حاصل ذلك عندهم يرجع إلى تخيل صور ، وأصوات لا وجود لها فى أنفسها كما يتخيله النائم والمجنون كما ذكروه آخرا ؛ ويلزم من ذلك عود التّكاليف والشّرائع وبعثة الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ إلى خيالات فاسدة لا أصل لها. ولو كان الواحد منا مشرعا ، وآمرا ، وناهيا من قبل نفسه وإن كان موافقا للمصالح العقليّة لما كان نبيا ، ولا متبعا بموافقة منهم ، فما ظنك بما هو عائد إلى خيال لا أصل له مع كونه غير معقول ، ولا موافق للمصالح العقليّة.

أما المذهب الثانى : القائل بأن النّبوة علم الإنسان بنبوته ، والنّبي هو العالم بنبوّته ؛ ففى غاية الخبط والتخليط ؛ لأنه إما أن يكون العلم بالنّبوّة هو النّبوّة ، أو غيرها.

فإن كان الأول : فهو فاسد ؛ إذ العلم بالشيء غير الشيء المعلوم ، فالعلم بالنّبوة غير النّبوة.

وإن كان الثانى : فما ذكروه لا يكون هو النّبوة.

وأما المذهب [الثالث] (١) : القائل بأن النّبيّ هو العالم بربّه ، والنّبوة علم الانسان بربه ، والنبوة علم الانسان بربّه ، ففاسد أيضا ؛ إذ يلزم منه أنّ كل من علم وجود ربه ، وما يجوز عليه ، وما لا يجوز بالدليل أو بأن يخلق الله ـ تعالى ـ له العلم الاضطرارى بذلك ؛ أن يكون نبيا ؛ وليس كذلك بالاتّفاق. ثم ولو كان كذلك ؛ لما كان جعل البعض داعيا ، والبعض مدعوا ، أولى من العكس.

وأما المذهب الرابع : ففاسد أيضا. فإنّ صحة السّفارة مبنيّة على تحقيق النّبوة ، والمبنى على الشيء غير الشيء ، ولأنّ النّبوّة قد ثبتت عند التّحدى ودلالة المعجزة على صدق المتحدّى ، وان لم توجد السفارة بعد.

فإذن الحق : ما ذهب إليه أهل الحق من الأشاعرة ، وغيرهم / من أن النّبوّة ليست راجعة إلى ذاتىّ من ذاتيّات النّبي ، ولا إلى عرض من أعراضه المكتسبة له ؛ لما سبق.

بل هى موهبة من الله ـ تعالى ـ ونعمة منه على عبده ، وحاصلها يرجع إلى قول الله ـ عزوجل ـ لمن اصطفاه من عباده. أرسلتك ، وبعثتك فبلغ عنّى ، ولا يلزم على ما

__________________

(١) ساقط من (أ)

ذكرناه من عود النّبوة إلى قول الله تعالى ـ أن تكون النبوة قديمة ضرورة قدم الكلام الرّبانىّ ؛ لأن النّبوة ليست نفس الكلام القديم ؛ بل الكلام (١) بصفة كونه متعلقا بالمخاطب ، والتعلق ، والمتعلق متجدد غير قديم.

وبما انتهينا إليه هاهنا ؛ تم الأصل الأول.

__________________

(١) فى ب (الكلام القديم).

الأصل الثانى

فى تحقيق معنى المعجزة ، وشرائطها ، ووجه

دلالتها على صدق النبي

ويشتمل على ثلاثة فصول :

الفصل الأول (١) : فى تحقيق معنى المعجز

الفصل الثانى : فى شرائط المعجز

الفصل الثالث : فى وجه دلالة المعجزة على صدق النّبيّ.

__________________

(١) ورد فى النسخة (ب) بدلا من الفصل الأول (أ) وبدلا من الفصل الثانى (ب) وهكذا.

الفصل الأول

فى تحقيق معنى المعجزة (١)

والمعجز فى اللغة : مأخوذ من العجز ، وفى / / الحقيقة لا يطلق على غير الله ـ تعالى ـ لكونه خالق العجز ، وتسمية غيره معجزا : كفلق البحر ، وإحياء الميت ، وإبراء الاكمه ، والأبرص ، فإنما هو بطريق التّجوّز ، والتّوسّع حيث أنّه ظهر تعذّر المعارضة ، والمقابلة من المبعوث إليه عند ظهوره وإن لم يكن هو الموجب لذلك ؛ تسمية للشّيء بما يدانيه ، وما هو منه بسبب : وذلك كما فى تسمية مخلوقات الله ـ تعالى ـ دلالة عليه ؛ لظهور المعرفة بالله ـ تعالى ـ عند ظهورها ، وإن لم تكن فى الحقيقة دالّة ، إذ الدّال فى الحقيقة هو ناصب الدّليل وهو الله ـ تعالى ـ ، والمخلوقات إنّما هى أدلّة.

ثم الخارق الّذي يتعذّر الإتيان به قد يكون غير مقدور للبشر : كخلق الأجسام ، والألوان ، وإحياء الموتى ، ونحو ذلك ؛ (٢) فلا يكون ذلك فى الحقيقة معجوزا عنه بالنّسبة إليهم ؛ فإنّ ما ليس بمقدور لا يكون معجوزا عنه (٢).

وقد يكون مقدورا لهم : كما لو كان تحدّيه بأنهم لا يتحرّكون فى وقت كذا. ولو أرادوا ذلك ؛ لما وجدوا إليه سبيلا. فكيف يكون ذلك معجوزا عنه بالنسبة إليهم.

وعلى هذا فالعبارة الوافية بغرض المتكلم فى المعجزة : إنها عبارة عن كل ما قصد به إظهار صدق المدّعى للرّسالة عن الله ـ تعالى.

__________________

(١) لا خفاء أن حقيقة الإعجاز إثبات العجز. استعير لاظهاره. ثم أسند مجازا إلى ما هو سبب العجز ، وجعل اسما له. وذكر إمام الحرمين : أن هاهنا تجوزا آخر بناء على الأصح من رأى الأشعرى ، وهو أن العجز ضد القدرة. وإنما يتعلق بالموجود. حتى إن عجز الزمن عن العقود ، لا عن القيام. ووجه التّجوز على هذا أن المراد بالعجز عدم القدرة ؛ إذ لو حمل العجز على المعارضة على المعنى الوجودى ؛ لوجدت المعارضة الاضطرارية. (هامش شرح المواقف ـ الموقف السادس ـ ص ٥٩) ولمزيد من البحث قارن بما ورد فى : المعنى للقاضى عبد الجبار ١٥ / ٢٠٠ وما بعدها ، وأصول الدين للبغدادى ص ١٧١ وما بعدها ، وشرح المواقف الموقف السادس ص ٥٩ وما بعدها. وشرح المقاصد للتفتازانى ٣ / ٢١٣ وما بعدها. وشرح مطالع الأنظار للأصفهانى ص ٢٠٠ وما بعدها.

/ / أول ل ٧٠ / أ.

(٢) من أول (فلا يكون ... معجوزا عنه) ساقط من ب.

الفصل الثانى

فى شرائط المعجزة (١)

وشرائط المعجزة : ـ

أن تكون من فعل الله ـ تعالى ـ وخلقه ، أو قائمة مقام فعله.

وأن تكون خارقة للعادة ، وأن يتعذّر على المبعوث إليه المعارضة /

وأن تكون ظاهرة مع دعوى النّبوّة ، وعلى وفق دعواه

وأن تكون مقارنة لدعواه غير مكذّبة له ، ولا متقدّمة عليها ، وفى تأخرها بزمان يعتد به خلاف ؛ كما يأتى.

أما أنّها لا بد وأن تكون من فعل الله ـ تعالى ـ أو قائمة مقام فعله :

لأنها إنّما تدلّ على صدقه من جهه نزولها منزلة التّصديق بالقول ، من الله ـ تعالى ـ على ما سيأتى تحقيقه ، ولو لم تكن من فعل الله تعالى ـ لما كانت متعلّقة به ؛ فلا تكون نازلة منه منزلة التّصديق له بالقول.

ومعنى قولنا : أو قائمة مقام الفعل :

أى فى قصد التّصديق للرّسول ، وذلك كما لو قال النّبي : معجزتى أن الّذي أتحدّى عليهم بالنّبوة فى وقتى هذا لو أرادوا القيام لما وجدوا إليه سبيلا ؛ وذلك عند تحققه من أعظم المعجزات ، وعدم القيام ليس من فعل الله ـ تعالى ـ ولا فعل غيره ، وكون القيام معجوزا عنه لا بمعنى أن الله ـ تعالى ـ خلق فيهم العجز ؛ فيكون المعجز خلق الله ـ تعالى ـ وهو خلق العجز ، بل بمعنى أنّه لم يخلق القدرة عليه ، هذا هو أصل شيخنا.

__________________

(١) وشرائط المعجزة سبعة :

الشرط الأول : أن تكون من فعل الله ، أو ما يقوم مقامه.

الشرط الثانى : أن تكون خارقة للعادة.

الشرط الثالث : أن تتعذر المعارضة.

الشرط الرابع : أن تكون ظاهرة مع دعوى النبوة.

الشرط الخامس : أن تكون موافقة للدعوى.

الشرط السادس : أن لا تكون مكذبة له.

الشرط السابع : أن لا تكون متقدمة على الدعوى ؛ بل مقارنة لها.

فالمعجز : عدم خلق القدرة ، والعدم ليس فعلا. ومن قال من أصحابنا إن العجز أمر وجودى : فالشرط عنده أن يكون العجز من فعل الله من غير حاجة إلى هذا التّقدير ؛ وذلك كخلق الأجسام ، والألوان وابراء الأكمه ، والأبرص ، وإحياء الموتى ، وهل يتصوّر أن تكون المعجزة مقدورة للرسول أم لا؟ وذلك كما لو كانت معجزته صعوده فى الهواء أو المشى على الماء ؛ فقد اختلفت الأئمة فى ذلك.

فذهب بعضهم : إلى أنّ نفس الحركة بالصّعود [والمشى] (١) ليست معجزة ؛ لكونها مقدورة له بخلق الله ـ تعالى ـ له القدرة عليها ، وإنما المعجزة هى نفس القدرة عليها ؛ فإن قدرته على ذلك غير مقدورة له.

ومنهم من قال : بأنّ هذه الحركات معجزة من جهة. كونها خارقة للعادة ، [ومخلوقة لله ـ تعالى ـ] (٢) وان كانت مقدورة للنّبي ؛ وهو الأصحّ.

فإن قيل : شرط المعجزة يجب أن يكون خاصا بالمعجزة غير عامّ لها ولغيرها ، فإذا كانت جميع الأفعال من فعل الله ـ تعالى ـ سواء كانت معجزة ، أو لم تكن ؛ فلا معنى لعد ذلك من شرائط المعجزة.

قلنا : عموم الوصف لا يخرجه عن أن يكون شرطا فى غيره إذا كان ذلك الغير متوقفا عليه ، وإنما يمتنع أخذ عموم الفعل شرطا فى المعجزة أن لو كان شرطا بمعنى كونه مميزا للمعجزة عن غيرها وحده وليس كذلك ؛ بل ذلك شرط بمعنى توقّف المعجزة عليه ، وتمييز / المعجزة عن غيرها بجملة ما ذكرناه من الشّروط.

وأما أن المعجز لا بد وأن يكون خارقا للعادة ؛ لأنّه منزّل من الله ـ تعالى ـ منزلة التصديق بالقول كما يأتى ، وما لا يكون خارقا للعادة بل هو معتاد الوقوع : كطلوع الشّمس كل يوم ، وكالقيام ، والقعود ؛ فلا يكون ذلك دالّا على الصدق ، كما لو قال : ودليلى فى نبوّتى أن الشّمس تطلع غدا ، أو أنّى أقعد ، أو أقوم ؛ لضرورة مساواة غيره له فيه ، حتى الكذاب مدعى النّبوة لا يشترط أن يكون ما يأتى به من الخارق معينا من جهة بالاتفاق.

__________________

(١) ساقط من (أ)

(٢) ساقط من (أ)

وأما أنّه لا بد وأن يتعذر على المبعوث إليه المعارضة ؛ لأنّه لو لم يكن كذلك ؛ لكان النّبي مساويا لمن ليس بنبىّ فى ذلك ، ويخرج المعجز عن كونه نازلا من الله ـ تعالى ـ منزلة التصديق.

وهل يشترط / / أن يكون المعارض مماثلا لما أتى به الرّسول ينظر ، فإن كان تحدّيه بخارق معيّن وأنّ أحدا لا يقدر على الإتيان بمثله ؛ فلا بدّ من المماثلة.

وإن لم يكن ما تحدى به معيّنا ؛ بل قال إنّنى آت بخارق للعادة ولا يقدر أحد على الإتيان بالخارق ، فأكثر أصحابنا اشترطوا المماثلة أيضا.

والّذي اختاره القاضى : أن المماثلة غير مشترطة ؛ وهو الحق لتبيين المخالفة فيما ادعاه.

وأما أنّها لا بدّ وأن تكون ظاهرة مع دعوى النّبي وعلى وفقها :

فلأنّ الخارق لو ظهر على يد غير مدّعى النّبوّة ، أو على يده لكن على خلاف ما ادّعاه ؛ فلا يكون نازلا منزلة التّصديق من الله ـ تعالى ـ له ولا يشترط التّصريح بالتّحدى كما ذهب إليه بعضهم ؛ بل يكفى فى ذلك قرائن الأحوال ، وذلك كما لو ادّعى النّبوة فقيل له لو كنت صادقا ؛ لظهرت الآية على صدقك ؛ فدعا الله ـ تعالى بظهورها ؛ فظهورها يكون دليلا على صدقه ، ويكون ذلك نازلا منزلة التّصريح بالتّحدى.

وأمّا أنّه يجب أن لا يكون ما ظهر على يده مكذّبا له :

وذلك كما إذا قال أنا رسول ، وآية صدقى أن ينطق الله ـ تعالى يدى فلو نطقت يده قائلة إنه كاذب فيما يدّعيه ؛ لم يكن ذلك آية على صدقه ؛ بل على كذبه ؛ لأن المكذب هو نفس الخارق ، وهذا بخلاف ما لو قال آية صدقى إحياء هذا الميّت فأحياه قائلا :

إنّ هذا المدّعى كاذب واستمرّ على الحياة والتّكذيب ؛ فإنه لا يعتدّ بتكذيبه ولا يكون مؤثرا فى دلالة الاحياء على صدقه ؛ إذ المعجز إنّما هو الإحياء وهو غير مكذّب له ، والمكذّب إنّما هو كلام الشخص الّذي خلقت فيه الحياة ، وهو غير معجز ، وهذا / مما لا

__________________

/ / أول ل ٧٠ / ب.

يعرف فيه خلافه بين الأصحاب. ولو خرّ عقب الاحياء ، والتّكذيب ميتا ، فقد قال القاضى : إنّه يدلّ على تكذيبه كتكذيب اليد.

والحقّ أنّه لا فرق بين تكذيبه مع استمرار الحياة وتكذيبه مع تعقب الموت له من حيث أن نطقه بعد احيائه ليس بمعجز وإنّما المعجز الإحياء ؛ بخلاف نطق اليد.

وأما أنّها لا تكون متقدّمة [على دعواه (١)]

وذلك كما لو قال آية صدقى ما كان [قد ظهر على يدى] (٢) من الخارق ؛ لأنّها إنّما تدل على صدقه من حيث أنّها نازلة منزلة التّصديق له والخارق المتقدّم لا يكون كذلك.

فإن قيل : فلو قال آية صدقى أنّ فى هذا الصّندوق المغلق كذا على كذا مع سبق علمنا قبل غلقه بخلوه عما أخبر به مع استمرار الصندوق بين أيدينا من حالة غلقه إلى حالة فتحه ؛ فإنّه يكون معجزا بتقدير ظهوره كما أخبر. وإن جاز أن يكون مخلوقا لله ـ تعالى ـ قبل التحدى على وفق دعواه.

قلنا : وإن جاز أن يكون مخلوقا قبل التّحدى ؛ فليس الإعجاز فى خلقه ، ووجوده ؛ إنّما هو فى اخباره بالغيب ؛ وهو واقع بعد التّحدى على وفق دعواه.

فإن قيل : فمن الجائز أن يكون الرّب ـ تعالى ـ قد خلق له العلم بذلك قبل التحدى.

فنقول : لو كان العلم به مخلوقا له قبل التحدي ؛ لما كان إخباره به ينزّل منزلة التّصديق ، ولا يكون آية على صدقه ؛ ويكون كاذبا فى دعواه أنّه دليل صدقه ، والكاذب عندنا لا يتصوّر ظهور الخارق على يده كما يأتى تحقيقه.

فإن قيل : ما ذكرتموه من امتناع تقدّم المعجزة على الدّعوى يفضى إلى إبطال كثير مما نقل من معجزات أنبيائكم ، وذلك ككلام عيسى فى المهد ، وتساقط الرّطب الجنى عليه من النخلة اليابسة قبل نبوّته ، وكذلك ما نقلتموه من معجزات نبيّكم قبل مبعثه : كتسليم الحجر عليه والشّجر ، والمدر ، وشقّ بطنه ، وغسل قلبه ، إلى غير ذلك.

فنقول : كل خارق ظهر على يد النّبيّ قبل (٣) بعثته ؛ فهو من باب الكرامات.

__________________

(١) ساقط من (أ)

(٢) فى أ(ظهر على صدقى)

(٣) (قبل) ساقط من ب

والأنبياء قبل البعثة لا يخرجون عن درجة الأولياء ، وظهور الكرامات على أيدى الأولياء جائز عندنا على ما سيأتى تحقيقه (١).

وقد قال القاضى أبو بكر : ما كان من معجزات عيسى ـ عليه‌السلام فى حالة صغره ؛ فليست قبل نبوّته ؛ فإنّه كان فى صغره نبيّا ، ويدلّ عليه قوله ـ تعالى إخبارا عنه (إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) (٢) وليس إكمال عقل الصّغير ، وجمع شرائط النّبوة فى حقه مستبعدا بالنسبة إلى / مقدورات الله ـ تعالى.

وأما المعتزلة : فانهم حيث أنكروا الكرامات ، وزعموا أنّ ما ظهر من الخوارق قبل مبعث عيسى ، ونبينا ـ عليهما‌السلام ـ وكان منقولا نقلا متواترا ؛ فلا يكون إلا معجزة نبىّ أخر فى ذلك العصر ، وما ذكرنا أوجه ؛ فإنّه قد يتصور وذلك فى زمن لا نبى فيه.

وأمّا إذا تأخّرت المعجزة / / عن الدّعوى بحيث لا يفصل بينهما زمان يعتدّ به فلا خلاف [عند (٣)] القائلين بالنّبوات فى دلالتها على صدق المدّعى ؛ لنزولها منزلة التّصديق. بخلاف ما إذا تقدّمت على الدعوى بزمان يسير حيث إنها لا تنزل منزلة التّصديق.

ولو تأخّرت بزمان يعتدّ به : كيوم ، أو شهر ، أو سنة. وما زاد ثم ظهرت المعجزة الخارقة على وفق ما ادّعاه ؛ فلا خلاف أيضا عندهم فى ثبوت النّبوّة عند ظهور المعجزة ، ولا تثبت لما قبله لمجرد الدّعوى ؛ لكن اختلفوا عند ظهور المدعوّ به.

فقال بعضهم : تبيّنا أن إخباره السّابق كان معجزا مع موافقته على أن أحدا لا يكلّف بتصديقه قبل ظهور المدعوّ به وعلى قول هذا القائل ، فالمعجز : لا يكون متأخرا عن الدّعوى ؛ بل المتأخر علمنا به.

وقال آخرون : إنّ اخباره إنّما يتّصف بكونه معجزا عند ظهور المدعو به. وعلى هذا القول : فالمعجز يكون متأخّرا عن الدّعوى ؛ والقول الأول فاسد ؛ فإنّا لا نشك فى تبيين ان اخباره كان معجزا ، فالمعجز يكون مقارنا للدّعوى فى نفس الأمر وإن لم يلزم التّكليف

__________________

(١) انظر ما سيأتى ل ١٤٤ / أو ما بعدها.

(٢) سورة مريم ١٩ / ٣٠.

/ / أول ل ٧١ / أ.

(٣) ساقط من (أ)

بالتّصديق ؛ لفوات الشرط وهو العلم بكونه معجزا. ولو تأخر المدعو به إلى ما بعد موت المدّعى ووقع على وفق ما أخبر به ؛ فقد اتّفق القاضى مع المعتزلة على امتناعه. ومستند القاضى فيه إلى أن تجويز ذلك مما يفضى إلى رفع كرامات الأولياء ، فإنه ما من كرامة تظهر على يد ولىّ الا ومن المحتمل أن تكون معجزة لنبىّ سابق ؛ وهو باطل بما لو تأخر المدعو به أزمنة متطاولة غير أنه وقع قبل الموت.

وأما المعتزلة : فقد تمسّكوا فى ذلك بأن التّصديق والتّكذيب من صفات الموجود من الأحياء ، والميت ليس كذلك ؛ فلا يتصوّر التّصديق له ، والتّكذيب.

وأيضا فإنّ تجويز ذلك ممّا يفضى إلى منع المكلفين من التوصل إلى الرّتب العليّة باكرام من كان نبيّا ، واجلاله فى محلّه ؛ لعدم العلم بنبوّته فى حالة حياته وهذا ليس بعذر ؛ وهما فاسدان.

أما الأول :

فلأنه لا مانع من التّصديق له : بمعنى التبيين ؛ لكونه كان صادقا.

وأما الثانى :

فهو مبنى على رعاية المصلحة ؛ وقد أبطلناه (١).

كيف وأنه يلزم على ما ذكروه أن يبعث الله نبيّا فى وقتنا / هذا لتحصيل الرّتب العلية بالتزامه ؛ وهو خلاف الإجماع من المسلمين ، وكل ما يعتذرون به هاهنا أمكن أن يقال مثله فيما نحن فيه.

والحقّ فى ذلك : ما ذهب إليه المحقّقون من أصحابنا : من إلحاق هذه الصورة بتأخير الموعود به مع بقاء المدّعى حيا غير أنه لو شرع مع ذلك شريعة [لا يكون أحد مكلفا بها قبل ظهور الموعود] (٢) به ، ويكون مكلفا بها بعد ظهوره.

__________________

(١) راجع ما سبق فى الجزء الأول ـ القاعدة الرابعة ـ الباب الأول ـ القسم الأول ـ النوع السادس ـ الأصل الأول ـ المسألة الثالثة ل ١٨٦ / أو ما بعدها.

(٢) فى (أ) (لا يكون مكلفا بها قبل الموعود).

الفصل الثالث (١)

فى وجه دلالة المعجزة على صدق الرسول (٢)

وقد اختلف فيه : فمنهم من قال : نصب الدّليل على العلم بصدق الرّسول من الممكنات وغير المعجزة من الأدلّة العقلية ، والسمعيّة لا مدخل له فى ذلك.

أما الدليل العقلى : فلا مدخل له فى صدق بعض المخبرين مع احتمال خبره للصّدق ، والكذب.

والسمع : متوقف على صدق الرّسول فلو لم تكن المعجزة دليلا على صدقه ؛ لكان فيه تعجيز الربّ ـ تعالى ـ عن نصب دليل على العلم بصدق الرسول ؛ وهو محال.

وهو غير سديد ؛ إذ للقائل أن يقول : إنما يلزم تعجيز الرب ـ تعالى ـ أن لو كان نصب الدليل على ذلك من الممكنات ؛ وهو غير مسلم.

__________________

(١) يوجد فى هامش النسخة (ب) بخط مخالف لخط الناسخ ما يلى : تنبيه : الأنبياء. قيل ١٠٠٠٠٠ وقيل ٢٠٠٠٠٠ وقيل ٣٠٠٠٠٠ والرسل منهم ٣١٣ وقيل : ويجب الإيمان ببعضهم إجمالا ، وببعضهم تفصيلا وهم ٢٥ جمعهم الشاعر فى قوله :

حتم على كل ذى التكليف معرفة

لأنبياء على التفصيل قد علموا

منهم ثمانية فى تلك حجتنا

من بعد عشر ويبقى سبعة وهم

إدريس هود شعيب صالح وكذا

ذو الكفل آدم بالمختار قد ختموا

وأولو العزم من الرسل خمسة ذكرهم الله بقوله (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) (سورة الأحزاب ٣٣ / ٧). وترتيبهم فى الأفضلية : محمد وإبراهيم وموسى وعيسى ونوح.

وليسوا على الفضيلة مرتبين فى الآية : فإن نوحا مقدم على إبراهيم مع أنه آخرهم فى الفضيلة.

وأقول : ذكرت هذا الهامش مع أنه غير دقيق ، لأن فيه بعض الأخطاء ؛ التزاما بالامانة العلمية للمحقق.

وصحة ما ورد هو أن عدد الأنبياء «مائة وأربعة وعشرون ألفا» وعدد الرسل «ثلاثمائة وخمسة عشر» كما ورد فى الأحاديث.

(٢) لمزيد من البحث والدراسة بالإضافة لما ورد هاهنا انظر : شرح المواقف للشريف الجرجانى ـ الموقف السادس ص ٦٩ البحث الثالث : فى كيفية دلالتها على صدق مدعى النبوة. تحقيق د. أحمد المهدى ط أولى سنة ١٩٩٦.

وانظر شرح المقاصد للتفتازانى ٣ / ٢٧٥ وما بعدها. قال التفتازانى : «وأما وجه دلالتها فهو أنها بمنزلة صريح التصديق ، كما إذا ادعى أحد أنه رسول هذا الملك فطولب بالحجة فقال : أن يخالف الملك عادته ، ويقوم عن

والّذي ذهب إليه شيخنا (١) ، والقاضى (٢) ، والمحققون من أصحابه ؛ أن دلالة المعجزة على صدق الرسول ليست دلالة عقلية ، ولا سمعية (٣) :

وأما أنّها ليست دلالة عقلية : لأن ما دلّ عقلا فيدلّ لنفسه ويرتبط بمدلوله لذاته ، ولا يجوز تقديره غير دال ، وذلك كدلالة الفعل على الفاعل ، ودلالة الفعل المحكم على علم فاعله ، إلى غير ذلك من الأدلة العقلية. ودلالة المعجزة على صدق المدّعى للرّسالة ليست كذلك ، والا لما تصوّر وجودها الا وهى دالّة على صدق الرسول ؛ وليس كذلك. فإنه يجوز خرق العوائد عند تصرم الدنيا : كانفطار السموات ، وانتثار الكواكب ، وتدكدك الجبال ، وتبدّل الأرض غير الأرض. إلى غير ذلك مع عدم دلالتها على تصديق مدّعى النّبوة ؛ فإنّه لا إرسال ولا رسول فى ذلك الوقت ، وكذلك ظهور الكرامات على أيدى الأولياء على ما يأتى من غير دلالة.

وأمّا أنّها ليست سمعيّة : فلأن الدلالة السّمعية متوقّفة على صدق / / الرسول ، فلو توقّف صدق الرسول عليها ؛ لكان دورا ؛ بل دلالتها على صدقه غير خارج عن الدلالات الوضعية النازلة منزلة التصديق بالقول.

والدلالة الوضعيّة فى ذلك منقسمة : إلى ما يعلم بصريح المقال وإلى ما يعرف بقرائن الأحوال.

والأول كما لو قال القائل / للمخاطبين إذا رأيتمونى أفعل كذا على كذا عند ادّعاء زيد مثلا أنه رسول عنّى فاعلموا أنّنى أقصد بذلك تصديقه فى دعواه. فبتقدير تحقّق ذلك منه عند دعوى زيد أنه رسول عنه مع العلم بانتفاء الغفلة ، والذهول عنه فيما يفعله ، وانتفاء قرائن الهزل عنه ؛ فإن فعله مع المواضعة السابقة منه يتنزّل منزلة قوله صدق.

__________________

سريره ثلاث مرات ؛ ففعل ... الخ»

(١) هو الإمام الأشعرى راجع ترجمته فى هامش ل ٣ / أ. من الجزء الأول

(٢) هو القاضى أبو بكر الباقلانى راجع ترجمته فى هامش ل ٣ / أ. من الجزء الأول.

(٣) المقصود أنها دلالة عادية. وقد اختلف فى وجه دلالة المعجزة على صدق الرسول عليه‌السلام : فقال البعض بأنها عقلية. وقال البعض الآخر بأنها وضعية. وقد اختار أهل السنة كون الدلالة عادية : بمعنى أن ظهور المعجز يفيد علما بالصدق ، وأن كونه مفيدا له معلوم بالضرورة العادية.

/ / أول ل ٧١ / ب.

والثانى : فكما لو عنّ أمر عظيم وخطب جسيم يتعلق بتشويش دولة بعض العظماء ، من الملوك ، وأكابر الجبابرة. وإفساد ولايته ؛ فأمر بجمع النّاس الخاصة منهم ، والعامّة وجلس على سرير مملكته. والناس محتفون بخدمته ؛ لقصد بذل الجهد ، واستفراغ الوسع فى دفع ذلك الخطب الملم ، وتضافرت قرائن الجد ، وانتفاء الهزل ، فلو قام واحد من عرض الناس وقال أيها الناس : إنى رسول هذا الملك إليكم فى كذا وكذا ، وهو بمرأى منه ، وآيتى فى صدقى أنى إذا قلت له قم ثلاث مرات ، واقعد. وخالف ما هو المألوف من عادتك. فعل ذلك ، ولو أراد ذلك أحدكم ؛ لما وجد إليه سبيلا. فبتقدير وقوع ذلك من الملك عقيب قوله ذلك يتنزل منزلة قوله صدق ، ويضطر كل أحد من الحاضرين إلى العلم بذلك ، وإن لم يسبق من الملك مواضعه فى ذلك. ولا يخفى أن اظهار المعجزة على يد مدّعى الرّسالة نازلة منزلة القسم الثانى من المواضعة. دون الأول ؛ فكانت نازلة من الله ـ تعالى ـ منزلة قوله : صدق. وتمام هذه الطريقة بايراد ما يتجه عليها من الشّبه والانفصال عنها. كما يأتى فى الأصل الّذي بعده.

الأصل الثالث

فى جواز البعثة عقلا (١)

مذهب أهل الحقّ : أن بعثة الرّسول ممكنة أن تكون ، وأن لا تكون وسواء كان الرّسول مبتدئا بشريعة ، أو مقرّرا لشريعة غيره من غير زيادة ، ولا نقصان.

وذهبت الفلاسفة : إلى أنّها واجبة عقلا (٢).

وأما المعتزلة : فمنهم من قال بوجوب البعثة مطلقا (٣).

ومنهم من فصّل وقال : إذا علم الله أنّه لو بعث رسولا إلى أمّة من الأمم أمنوا به ، كان الإرسال واجبا عقلا ؛ لما فيه من الاستصلاح. وإن علم أنّهم لا يؤمنون به : فالإرسال إليهم يكون حسنا ولا يكون واجبا.

وذهب أبو هاشم : إلى امتناع البعثة الخلية عن تعريف الأمور الشّرعية التى لا يستقل العقل بها (٤).

وذهب الجبّائى : إلى جواز البعثة للتّذكير بالواجبات العقليّة لا غير ، ولتقرير شريعة من تقدّم من غير زيادة ، ولا نقصان. وسواء اندرست شريعة المتقدم ، أم لا (٥).

ومن المعتزلة من فصّل بين أن تكون شريعة المتقدّم مندرسة أو غير مندرسة ؛ / فجوّز فى الأوّل ، ومنع فى الثّاني.

__________________

(١) قارن بما ورد فى غاية المرام للآمدى ص ٣٤١ وما بعدها وأصول الدين للبغدادى ص ١٥٤ وما بعدها ، والتمهيد للباقلانى ص ١٠٧ وما بعدها ، ونهاية الأقدام للشهرستانى ص ٤١٧ وما بعدها ، والمغنى فى أبواب التوحيد والعدل للقاضى عبد الجبار ١٥ / ١٩ وما بعدها. وشرح الأصول الخمسة له أيضا ص ٥٦٨ وما بعدها. وشرح المواقف : الموقف السادس ص ٧٢ وما بعدها. وشرح المقاصد للتفتازانى ٢ / ١٢٨ وما بعدها.

(٢) قارن بما ورد فى شرح المواقف : الموقف السادس ص ٧٢ وما بعدها.

(٣) انظر المغنى فى أبواب التوحيد والعدل. الجزء الخامس عشر ص ٦٣ وما بعدها (فصل فى أن بعثة الرسول متى حسنت وجبت وما يتصل بذلك من بيان وجه الوجوب)

(٤) قارن بما ورد فى شرح المواقف : الموقف السادس ص ٧٢.

(٥) قارن بما ورد فى شرح المواقف : الموقف السادس ص ٧٢.

وذهبت البراهمة (١) ، والصّابية (٢) ، والتناسخية (٣) : إلى امتناع البعثة عقلا الا أن من البراهمة من اعترف برسالة آدم دون غيره.

ومنهم من لم يعترف بغير ابراهيم.

ومن الصابئية من اعترف برسالة هرمس وعالمون وهما (٤) شيث وادريس (٥) دون غيرهما.

__________________

(١) البراهمة : فرقة تنسب إلى ابراهما الّذي ذكر فى (الفيدا) أحد كتبهم المقدسة والبراهمية : نظام دينى ، اجتماعى ، سياسى. وهم يعتبرون براهما الإله الأعلى ومن أصولهم : تقسيم الأمة إلى طبقات أربع. وقد نفى البراهمة النبوات ، وقالوا : باستحالتها فى العقول بحجج واهية من أشهرها : «إن الّذي يأتى به الرسول لم يخل من أحد أمرين : إما أن يكون معقولا ، وإما أن لا يكون معقولا.

فإن كان معقولا : فقد كفانا العقل التام بإدراكه والوصول إليه. فأى حاجة لنا إلى الرسول وإن لم يكن معقولا ؛ فلا يكون مقبولا. [انظر الملل والنحل ٣ / ٩٥ ـ ١٠٠ ، نشأة الفكر الفلسفى ١ / ٢٨٦ ـ ٢٩١].

(٢) الصابئية : الأشبه فى تسمية هذه الطائفة صابئة ؛ لميلهم وانحرافهم عن سنن الحق فى نبوة الأنبياء ولاتخاذهم آلهة غير الله أخذا من قول العرب صبأ الرجل. إذا مال وانحرف.

ومدار مذهبهم على التعصب للروحانيين : كما أن مدار مذهب الحنفاء هو التعصب للبشر الجسمانيين وهم أربع فرق :

الفرقة الأولى : أصحاب الروحانيات.

الفرقة الثانية : أصحاب الهياكل.

الفرقة الثالثة : أصحاب الأشخاص.

الفرقة الرابعة : الحلولية.

ولتوضيح آرائهم بالتفصيل والرد عليها وإبطالها انظر : ابكار الأفكار فى أصول الدين ل ٢٢١ / أو ما بعدها. الجزء الأول ، والملل والنحل ٢ / ٥ ـ ٥٧.

(٣) التناسخية : التناسخ كما يزعم التناسخية (تكرار المولد) وهو رجوع الروح ـ حسب زعمهم ـ بعد خروجها من جسم إلى العالم الأرضى فى جسم آخر. وهم يحيلون بعثة الأنبياء [الملل والنحل ٢ / ٥٥ وما بعدها].

(٤) شيث عليه‌السلام : هو ابن آدم ـ عليه‌السلام ـ ولد وعمر أبيه آدم مائة وثلاثون سنة ومعنى (شيث) هبة الله ، وسمياه بذلك ؛ لأنهما رزقاه بعد أن قتل هابيل.

قال أبو ذر فى حديثه عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «إن الله أنزل مائة صحيفة وأربع صحف ، على شيث خمسين صحيفة» وقال محمد بن اسحاق : ولما حضرت آدم الوفاة عهد إلى ابنه شيث ساعات الليل والنهار ، وعلمه عبادات تلك الساعات ، وأعلمه بوقوع الطوفان بعد ذلك.

قال : ويقال إن أنساب بنى آدم اليوم كلها تنتهى إلى شيث عليه‌السلام ، وسائر أولاد آدم انقرضوا وبادوا. والله أعلم. ولما مات آدم عليه‌السلام قام بأعباء الأمر بعده ولده شيث عليه‌السلام وكان نبيا بنص الحديث الّذي رواه ابن حبان فى صحيحه عن أبى ذر مرفوعا : أنه أنزل عليه خمسون صحيفة.

فلما حانت وفاته أوصى إلى ابنه أنوش فقام بالأمر من بعده. [قصص الأنبياء للإمام اسماعيل بن كثير ـ ص ٥٥ ـ ٦٢ الناشر مكتبة الكليات الأزهرية بالقاهرة].

(٥) ادريس عليه‌السلام : هو أحد رسل الله الكرام ، قال ـ تعالى ـ (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا ٥٦ وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) [سورة مريم ١٩ / ٥٦ ، ٥٧]. ـ

احتج أهل الحق على الجواز العقلىّ بأن قالوا : قد بيّنا أنه لا معنى للنّبوّة غير قول الله ـ تعالى ـ لمن اصطفاه أرسلتك فبلّغ عنى ولا يخفى جواز ذلك عقلا. ولهذا فإنا لو فرضنا وقوع ذلك ، أو عدمه لم يعرض عنه المحال لذاته. ولا معنى للجائز الا هذا.

واحتجّ القائلون بالوجوب (١) بأنه لمّا كان نوع الإنسان أشرف موجود فى عالم الكون والفساد ؛ لكونه مختصا بالنفس النّاطقة القريبة الشّبه من المبادئ الأول ؛ لم يكن فى العقل بدّ من شمول لطف المبدأ الأول به وإفاضة الجود منه عليه ؛ ليتمّ له المعيشة فى الدّنيا ، والسّعادة الأبديّة فى الأخرى.

ولا يخفى أن كل واحد من أشخاص نوع الانسان قلّ ما يستقلّ بنفسه فى تحصيل أغراضه الدّنيويّة ؛ ومقاصده الأخروية دون معين ومساعد له من نوعه.

وعند ذلك فلا بد / / لهم من معاملات فيما بينهم كبيوعات ، واجارات ومناكحات إلى غير ذلك مما تتعلّق به الحاجات ، وذلك لا يتم إلا بانقياد البعض للبعض ، وقل ما يحصل الانقياد من المرء لصاحبه بنفسه مع قطع النظر عن محرّمات ، ومرغبات دنيوية ، وأخروية ، وسنن يسنون بها ، وشرائع يقتدون بها ، وذلك كله إنّما يتمّ ببيان ومشرّع يخاطبهم من نوعهم وفاء بموجب عناية المبدأ الأوّل بهم.

ثم يجب أن يكون هذا الإنسان المشرّع مؤيّدا من عند الله ـ تعالى ـ بالمعجزات ، والأفعال الخارقة للعادات. التى تتقاصر عنها قوى غيره من نوعه بحيث يكون ذلك موجبا لقبول قوله ، والانقياد له فيما يسنّه ، ويشرعه ، ويدعوا به إلى الله ـ تعالى ، وإلى عبادته والانقياد لطاعته ، وما ينبه عليه من وجوب وجوده وما يجوز عليه وما لا يجوز وأحكام المعاد ، والمعاش ؛ ليتمّ لهم النّظام. وذلك كله فالعقل يوجبه ؛ لكونه حسنا ، ويحرّم انتفاءه ؛ لكونه قبيحا.

__________________

وهو إدريس بن يارد بن مهلائيل بن قينن بن أنوش بن شيث بن آدم عليه‌السلام. وهو أول من أعطى النبوة بعد آدم وشيث عليهما‌السلام وذكر ابن اسحاق أنه أول من خط بالقلم.

وقد اختلف العلماء فى مولده ونشأته فقال بعضهم إن ادريس ولد ببابل وقال آخرون إنه ولد بمصر. والأرجح أنه ولد ببابل. ولما أرسله الله إلى البابليين لم يتبعه إلا نفر قليل وخالفه الجم الخفير فنوى الرحلة إلى مصر ؛ ولكن ثقل على أتباعه ذلك وقالوا : وأين نجد إذا رحلنا مثل بابل. فقال : إذا هاجرنا لله رزقنا غيره. فخرجوا إلى أرض مصر فرأوا النيل فوقفوا عليه وسبحوا الله ، وأقام ادريس ومن معه يدعوا الناس إلى الله وإلى مكارم الأخلاق.

[قصص الأنبياء لابن كثير ص ٦٢ ـ ٦٤ ، والنبوة والأنبياء للشيخ محمد على الصابونى ص ٢٢٣ ، ٢٢٤. ط ٢ بمكة المكرمة سنة ١٩٨٠ م].

(١) القائلون بوجوب البعثة هم الفلاسفة ، وبعض المعتزلة كما مر.

/ / أول ل ٧٢ / أ.

وأما القائلون بإحالة (١) البعثة فقد تشبثوا بأربعين شبهة :

الشبهة الأولى :

أنه لا معنى [للرّسالة (٢)] على ما قرّرتموه غير قوله ـ تعالى ـ لمن اصطفاه أرسلتك وبعثتك.

وعند ذلك فلا بدّ وأن يعلم الرّسول أنّه مرسل من عند الله ـ تعالى ـ وذلك لا يكون إلا بكلام منزّل عليه ، أو بكتاب يلقى إليه ؛ إذ المرسل له غير محسوس ،

وعند ذلك فإما / أن لا يقولوا بالجنّ ، أو يقولون بهم.

فإن لم يقولوا بالجنّ : فهو خلاف أصلكم وما دلّ عليه كتابكم ، وأخبار نبيّكم ، وإجماع الأمة.

أما الكتاب : فقوله ـ تعالى : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) (٣) وقوله ـ تعالى : (وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) (٤) وقوله تعالى : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) (٥) وقوله ـ تعالى : (وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ ٣٧ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) (٦) وقوله ـ تعالى : (يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ) (٧) وقوله تعالى : (قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ) (٨) وقوله ـ تعالى : (وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ) (٩) وقوله ـ تعالى : (فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ) (١٠) وقوله تعالى (وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ) إلى غير ذلك من الآيات.

__________________

(١) وأما القائلون بإحالة البعثة فهم البراهمة ، والصابئية ، والتناسخية كما مر.

(٢) ساقط من (أ)

(٣) سورة الأحقاف ٤٦ / ٢٩.

(٤) سورة الملك ٦٧ / ٥.

(٥) سورة البقرة ٢ / ١٠٢.

(٦) سورة ص ٣٨ / ٣٧ ، ٣٨.

(٧) سورة سبأ ٣٤ / ١٣.

(٨) سورة النمل ٢٧ / ٣٩.

(٩) سورة سبأ ٣٤ / ١٢.

(١٠) سورة سبأ ٣٤ / ١٤.

سورة الصافات ٣٧ / ٧.

وأما الأخبار : فمنها ما رواه مالك عن النبي عليه ـ الصلاة والسلام أنه رأى عفريتا من الجنّ يطلبه كشعلة من نار.

ومنها ما اشتهر من قصة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ليلة الجن (١) ،

إلى غير ذلك من الأخبار المرويّة الصحيحة

وأما الاجماع : فهو أن الأمّة سلفا ، وخلفا لم يزالوا متطابقين على ذلك وعلى التعوّذ من الشّياطين من عهد الصّحابة ، وإلى زمننا هذا من غير نكير ، ومن أحاط معرفة بعجائب المقدورات وما خلق الله ـ تعالى ـ من السماوات والأرض وما بينهما من العجائب والغرائب وعلم أنّ خلق الجنّ مما ليس بمحال لنفسه. ولا القدرة الأزلية قاصرة عنه ، ولا أنه مما يلزم عنه إبطال قاعدة من القواعد العقلية ، ولا هدم أصل من الأصول الدينية ، لم يستبعد وجود الجن ، والعمل بظواهر هذه الأدلة السمعية من غير تأويل.

وغاية ما فيه وجود أشخاص بيننا ونحن لا نراها وليس ذلك ممّا يمنع من وجودهم ؛ والّا لزم منه امتناع وجود الملائكة ، والحفظة الكاتبين ؛ وهو خلاف مذهب المسلمين ، وأرباب الشرائع.

وإن قلتم بالجنّ : فما الّذي يؤمنه أن يكون المخاطب له جنّى وما ألقى إليه ليس من عند الله. ومع هذا الاحتمال فلا وثوق برسالته.

[الشبهة] الثانية :

أن ما يكلمه وينزل إليه بالوحى : إما أن يكون جرمانيا ، أو روحانيا.

فإن كان الأول : وجب أن يكون مشاهدا مرئيا.

__________________

(١) قال الله ـ تعالى ـ (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) وقال ـ تعالى ـ (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ) وعن علقمة قال : قلت لابن مسعود : (هل صحب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ليلة الجن منكم أحد؟ قال : ما صحبه منا أحد ولكنا فقدناه ذات ليلة بمكة فقلنا : اغتيل أو استطير ، ما فعل به؟ قال : فبتنا بشر ليلة بات بها قوم ، فلما كان فى وجه الصبح إذا نحن به يجئ من قبل حراء. فأخبرناه ، فقال : «إنه أتانى داعى الجن فأتيتهم فقرأت عليهم» فانطلق فأرانا آثارهم ، وآثار نيرانهم)

[انظر تهذيب الخصائص النبوية الكبرى للحافظ السيوطى تهذيب عبد الله التليدى حديث رقم ١٠٧ ص ١٠١].

وإن كان الثانى : فذلك منه مستحيل.

[الشبهة] الثالثة :

أنّ ما يأتى به إمّا أن يكون مدركا بالعقول / أو غير مدرك بالعقول.

فإن كان الأول : فلا حاجة إلى الرّسول ؛ بل البعثة تكون عبثا ، وسفها ؛ وهو قبيح ؛ والربّ ـ تعالى ـ لا يفعل القبيح.

وان كان الثانى : فما يأتى به لا يكون مقبولا ؛ لكونه غير معقول ؛ فالبعثة على كل تقدير لا تفيد.

[الشبهة] الرابعة :

أن النفوس الانسانية كلها من نوع واحد فوجب أن تستقل كل منها بإدراك ما أدركته الأخرى. وأن لا يتوقف على من يتحكم عليها فيما / / تهتدى إليه [وما لا تهتدى] (١) فإن ذلك مما يقبح من الحكيم عقلا.

[الشبهة] الخامسة :

أن العلم برسالة الرّسول ، ووقوع التّصديق بقوله يتوقّف على معرفة وجود المرسل ، وصفاته : وما يجوز عليه وما لا يجوز عليه. وليس العلم بذلك من البديهات ؛ بل من أغمض النظريات.

ولهذا فانّه لو خلّى الإنسان ودواعى نفسه من مبدأ نشوئه إلى آخر حياته من غير نظر واستدلال لما وجد من نفسه العلم بذلك أصلا.

فعند إرسال الرسول : إما أن يجوز للمبعوث إليه الإمهال للنظر فى ذلك والاعتبار ، أو لا يجوز له ذلك.

فإن كان الأول : فلا يخفى أن زمان النظر غير مقدر ، ولا محصور بزمان معين ؛ بل هو مختلف باختلاف الأشخاص ، وأحوالهم ، والاشتداد والضعف فى أفهامهم ، وذلك مما يفضى إلى تعطيل النبي عن التبليغ لرسالته ، وإفحامه فى دعوته ولا تبقى فائدة فى بعثته.

__________________

/ / أول ل ٧٢ / ب.

(١) ساقط من (أ)

وإن كان الثانى : فهو تكليف بما لا يطاق وهو قبيح على ما تقدم (١) وصدور القبيح من الله ـ تعالى ـ محال.

[الشبهة] السادسة : أنه إما أن يكون الرب ـ تعالى ـ عالما بالجزئيات أو لا يكون عالما بها ،

فإن لم يكن عالما بالجزئيات : فقد بطل الإرسال مطلقا فإن من لم يعلم الرسول لا يكون مرسلا له وكذا من لا يعلم المرسل إليه لا يكون [المرسل (٢) إليه] مأمورا ولا منهيا من جهته

وإن كان عالما بالجزئيات : فإما أن يكون الرسول مبعوثا إلى من علم الله أنه لا بد أن يؤمن دون غيره ، أو إلى من علم أنه يكفر دون غيره ، أو إلى الكل.

فإن كان الأول : فهو خلاف مذهب القائلين بالنبوات ، ومع ذلك فلا فائدة فى الإرسال إلى من علم منه الإيمان وأنه لا بد وأن يكون منه. فإنه بتقدير عدم الإرسال يستحيل أن لا يؤمن وإلا صار علم البارى تعالى ـ جهلا ؛ وهو محال.

وإن كان الثانى : فهو أيضا خلاف مذهب القائل بالنبوات ، ومع ذلك فهو ممتنع من ثلاثة أوجه : ـ

الأول : أن البعثة إليه تكون عبثا ؛ ضرورة العلم بأنه لا يؤمن ؛ والبعث قبيح.

الثانى : أنه يلزم منه التّكليف بما هو / خلاف معلوم الله ـ تعالى ؛ فيكون تكليفا بما لا يطاق ؛ وهو ممتنع على ما سبق (٣).

الثالث : أنه خلاف الأصلح فى حقه لما يلزم من الإثم والعقاب بتقدير المخالفة المعلومة ، والرب ـ تعالى ـ لا يفعل ما لاصلاح فيه للعبد على ما سبق فى التعديل ، والتجوير (٤).

__________________

(١) انظر ما مر فى الجزء الأول ل ١٩٤ / ب وما بعدها ص ٣١٩ وما بعدها من الجزء الثانى المسألة الخامسة : فى تكليف ما لا يطاق.

(٢) ساقط من أ.

(٣) انظر ما مر فى الجزء الأول ل ١٩٤ / ب وما بعدها. المسألة الخامسة : فى تكليف ما لا يطاق.

(٤) انظر ما مر فى الجزء الأول ل ١٨٦ / ب وما بعدها. المسألة الثالثة : فى أنه لا يجب رعاية الغرض والمقصود فى أفعال الله ـ تعالى ـ وأنه لا يجب عليه شيء أصلا.

وإن كان الثالث : فهو باطل بما علم فى القسمين الأولين.

[الشبهة] السابعة : أن البعثة إما أن تكون لفائدة ، أو لا لفائدة.

لا جائز أن تكون لا لفائدة : والا كانت عبثا ، والعبث على الله ـ تعالى ـ محال.

وان كانت لفائدة : فإما أن ترجع إلى الخالق ، أو المخلوق.

لا جائز أن يقال بالأول : إذ هو يتعالى ويتقدس عن الأغراض والضرر والانتفاع.

وإن كان الثانى : فالفائدة إما جلب نفع ، أو دفع ضر وأى الأمرين قدر ، فالرب ـ تعالى ـ قادر على تحصيله للعبد إن كان نفعا ، وعلى دفعه إن كان ضررا بدون واسطة البعثة ؛ فلا تكون البعثة مفيدة.

[الشبهة] الثامنة : أن البعثة إمّا أن تكون متضمنة للتكليف ، أو لا تكون متضمنة له :

لا جائز أن تكون غير متضمنة للتكليف ؛ إذ هو خلاف مذهب القائلين بالبعثة.

وإن كانت متضمنة للتكليف : فالتكليف ممتنع لوجوه سبعة : ـ

الأول : أنّ قدرة العبد عندكم غير مؤثرة فى إيجاد الفعل المكلف به ؛ بل الفعل مخلوق لله ـ تعالى ـ ؛ فالتكليف يكون بفعل الغير فيكون تكليفا بما لا يطاق ؛ وهو ممتنع ؛ لما سبق (١).

الثانى : أنّ التّكليف إمّا أن يكون ممّا علم الله أنه يقع أو مما علم أنه لا يقع.

فان كان الأول : فلا حاجة إلى التكليف به مع لزوم وقوعه.

وإن كان الثانى : فهو تكليف بما لا يطاق ؛ فيكون ممتنعا (٢).

الثالث : أنّ التكليف إضرار بالعبد. والإضرار قبيح ، والرّب تعالى ـ منزه عن فعل القبيح.

وبيان أن التكليف إضرار : أنّه لا يخلو : إما أن يفعل العبد ما كلف به ، أو لا يفعل.

__________________

(١) راجع ما مر فى الجزء الأول ل ١٩٤ / ب وما بعدها ص ٣١٩ وما بعدها. من الجزء الثانى المسألة الخامسة : فى تكليف ما لا يطاق.

(٢) انظر ما مر فى المصدر السابق.

فإن فعل : فالإضرار لازم له بما يناله من التعب والمشقة وبما يلحقه من العجب والكبرياء على الغير ؛ لإتيانه بما كلّف به كما جرى لإبليس.

وإن لم يفعل فالإضرار لازم له بالإثم ، والعقاب.

// الرابع : أنّ أرباب الشّرائع والعقول متّفقون على أن السعيد سعيد فى بطن أمه ، والشّقى شقى فى بطن أمّه ، وأن المقضىّ به من الله ـ تعالى ـ مما كان وما هو كائن لا بد من وقوعه على حسب ما قضى به.

وعند ذلك فالتكليف لا يكون مفيدا فى الدنيا ، ولا فى الآخرة ، لأنه / لا يستلزم جلبا ، ولا دفعا.

الخامس : أن فى التكليف بالأفعال المشقة البدنية مما يشغل عن التفكير ، والنظر فى معرفة الله ـ تعالى ـ وما يجب له من الصفات وما يجوز عليه ، وما لا يجوز عليه.

ولا يخفى أن اللذة الحاصلة والمصلحة المتوقعة من هذا الفائت تزيد ، وتربو على ما يتوقع من التكليف بالأفعال البدنية ؛ فكان ممتنعا عقلا.

السادس : أن التكليف إما أن يكون لجلب نفع ، أو لدفع ضرر ، وكل واحد من الأمرين مما يقدر الرب ـ تعالى ـ على تحقيقه للعبد دون التكليف ؛ فلا حاجة إلى التكليف.

السابع : أن التكليف بإيقاع الفعل : إما أن يكون فى حال وجود الفعل ، أو بعد وجوده ، أو قبل وجوده.

الأول والثانى : محال ؛ لما فيه من التكليف بتحصيل الحاصل.

والثالث : يلزم منه التكليف بالوجود فى حالة العدم ؛ وهو محال.

وإذا كان كل واحد من الأقسام باطلا ؛ فالتكليف يكون باطلا.

[الشبهة] التاسعة (١) :

أنّا وجدنا كلّ مدّع للرّسالة قد أباح أمورا ، وأوجب أمورا تحظرها العقول ، وحرّم أمورا تحسّنها العقول. وكل من أخبر عن الله ـ تعالى ـ بما يخالف قضايا العقول ، أو مقتضى

__________________

/ / أول ل ٧٣ / أ. من النسخة ب.

(١) فى (أ) الثامنة.

الحكمة كان قوله مردودا : وذلك كإباحة ذبح الحيوان ، وإيلامه ، وتسخيره والعطش ، والجوع ، فى أيام الصيام ، والمنع من الملاذّ التى فيها صلاح الأبدان ، والأفعال الشاقة :كقطع المهامة ، وأفعال الحج : كزيارة بقع مخصوصة ، [والطواف ببعضها ، والسعى في أماكن مخصوصة] (١) مع عدم الأولوية ومضاهاة الصبيان ، والمجانين فى التعرّى وكشف الرءوس فى الإحرام ، ورمى الحصى فى الجمار إلى غير مرمى وتقبيل حجر لا مزية له على باقى الأحجار.

[الشبهة العاشرة] (٢) : أنه إذا أرسل الله ـ تعالى ـ رسولا إلى قوم معينين وأمره بتبليغ الرّسالة إليهم فإما أن يعلمه أنه سيبقى إلى حالة التبليغ ، أو لا يعلمه بذلك.

فإن كان الأول : فهو خلاف (٣) مقتضى حكمة الصلاح ؛ لما فيه من اغراء العبد فى الحال بالذلل مع توطن النفس على التوبة ، والإنابة بعد ذلك ، وهذا مما اتفق على امتناعه القائلون برعاية الصلاح.

وان كان الثانى : فالرسول لا يعلم كونه رسولا.

[الشبهة] الحادية عشرة : لا يخلو إما أن يكون فى البعثة وشرع الشرائع لطف ، ومصلحة ، أو لا يكون ذلك.

فإن كان الأول : فاما أن يكون الرب ـ تعالى ـ قادرا على نصب دليل عقلى عليها ، أو لا يكون قادرا.

فإن كان قادرا : لزم أن ينصب عليها دليلا عقليا ؛ إذ هو أبلغ فى تحصيل المقصود كما فعل ذلك فى / الواجبات العقلية.

وإن لم يكن قادرا : فيكون ذلك [تعجيزا (٤)] للرب ـ تعالى ؛ وهو محال.

وإن كان الثانى : وهو أن لا يكون فيها لطف ولا مصلحة : فالبعثة تكون عبثا ، والعبث على الله ـ تعالى ـ محال.

__________________

(١) ساقط من أ.

(٢) فى (أ) (التاسعة)

(٣) ساقط من ب.

(٤) فى (أ) (معجزا)

[الشبهة] الثانية عشرة : وهى ما أوردها القائلون بالتناسخ وهى أن قالوا الأفعال الإنسانية إن كانت على منهاج قويم ، وسنن مستقيم من فعل الخيرات والاعتقادات الصحيحة ارتفعت نفس فاعلها بعد مفارقة بدنها إلى رتبة أعلى من رتبتها بحيث تصير نبيا ، أو ملكا ، وإن كانت أفعاله على نهج أفعال الحيوانات العجماوات وهو منغمس فى الرذائل ، والشهوات انحطت نفسه إلى درجة الحيوانات ، أو أسفل منها وهكذا كلما انقضى عصر ، ودور. فلا يزال فى فعل لجزاء ، أو جزاء على فعل ، وهكذا أبدا ؛ وذلك كله مما عرف بالعقول على مرّ الدهور ؛ فلا حاجة للانسان إلى من هو مثله يحسن له فعلا ، ويقبح له فعلا ، ويأمره بما لا يريد ، وينهاه عما يريد.

[الشبهة] الثالثة عشرة : أنه لا طريق إلى معرفة صدقه. وما لم يعلم كونه صادقا فى الرسالة ؛ فلا تكون الرسالة مفيدة.

وبيان ذلك هو أن التصديق له بنفس دعواه مع أن الخبر مما يصح أن يكون صادقا ويصحّ أن يكون كاذبا ممتنع. وإن كان بأمر خارج : فإمّا أن تقع المشافهة من الله ـ تعالى ـ لنا بتصديقه ، وإمّا باقتران أمر ما يقوله يدل على صدقه.

لا سبيل إلى الأول : إذ المشافهة من الله ـ تعالى ـ بالخطاب / / متعذرة ، ولو لم تكن متعذرة لاستغنى عن الرسول.

وان كان الثانى : فما يقترن بقوله (١) إما أن يكون خارقا للعادة ، أو لا يكون خارقا لها.

لا جائز آن يكون خارقا للعادة : لأنّا لو جوزنا خرق العوائد ؛ فيلزم منه أن لا يقطع وجود ما شاهدناه من لحظة من الجبال الشامخة والبحار الزاخرة ، والسماوات بعد تغميض العين فيها باقيا إلى وقتنا هذا وأن نجوز انقلاب ماء البحر دما ، والجبال ذهبا ، وأن نجوز انفطار السماء ، وانتثار الكواكب ، وتدكدك الجبال.

وأن لا نقطع بأن من يخاطبنا بالكلمة الثانية أنه غير من خاطبنا بالكلمة الأولى ؛ لجواز عدمه ، وخلق مثله ، وأن لا نتيقّن أنّ ما نشاهده من أموالنا ، وأهلينا ، ومعارفنا أنه هو ؛ لجواز عدمه ، وخلق مثله إلى غير ذلك ، ولا يخفى ما فى ذلك من الخبط وتشويش / القواعد.

__________________

/ / أول ل ٧٣ / ب.

(١) ساقط من ب.

وأقرب ما يلزم منه فيما نحن فيه أن لا يبقى الوثوق بمن دلّت المعجزة على صدقه ولو بعد لحظة أنه هو لجواز إعدامه ، وخلق مثله.

وإن لم يكن ما اقترن بقوله خارقا [للعادة] (١) ؛ فلا دلالة على صدقه ؛ فلا تمييز له عن غيره ؛ لتساوى الناس فيما ليس بخارق.

[الشبهة] الرابعة عشرة : سلّمنا جواز خرق العوائد ولكن إنّما يدله ذلك على صدقه أن لو لم يكن ذلك من فعله. وإلا فبتقدير أن يكون من فعله ، فلا دلالة له على صدقه. ولا يكون ذلك نازلا منزلة التصديق له من الله ـ تعالى ؛ لكونه غير مخلوق له ؛ فلا بدّ من بيان أنّه ليس من فعله ، وما المانع أن يكون ذلك الشّخص قادرا على ما لا يقدر عليه غيره باعتبار مخالفة نفسه لسائر النّفوس الإنسانيّة بالحقيقة ، والماهية.

[الشبهة] الخامسة عشرة : سلمنا امتناع مخالفة نفسه لباقى النفوس الإنسانية ، ولكن ما المانع أن يكون مزاج بدنه الخاص به مخالفا لأمزجة باقى الناس ، ويكون لذلك قادرا على ما لا يقدر عليه غيره.

[الشبهة] السادسة عشرة : سلمنا امتناع مخالفة مزاجه لمزاج غيره ، ولكن لا يخلو : إمّا أن تقولوا بجواز السّحر ، أو لا تقولون به.

فإن لم تقولوا بجواز السّحر ؛ فقد خالفتم كتابكم ، وسنة نبيّكم وإجماع الأمة من المسلمين.

أما الكتاب : فقوله ـ تعالى : ـ (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ) الى قوله ـ تعالى : ـ (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) (٢) وهو صريح فى أن من السّحر ما يفرّق به بين المرء وزوجه ، وقوله ـ تعالى : ـ (فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) (٣).

__________________

(١) ساقط من أ.

(٢) سورة البقرة ٢ / ١٠٢.

(٣) سورة الأعراف ٧ / ١١٦.

وأما السنة : فما روى أن لبيد بن الأعصم (١) سحر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وألقى السحر فى بئر دودان تحت مشط ومشاطة ودل [جبريل] (٢) النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فأمر النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عليا باخراجه ، فلما أخرجه وحل عقده ، انسلّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مما كان معه كما أنشط من عقاله ، ونزلت عقيب ذلك سورة الفلق.

وأما الإجماع : فهو أنه ما من عصر من الأعصار من عهد الصحابة إلى حين ظهور المخالفين إلا وقد كان الناس يتفاوضون فى أمر السحر وتأثيراته حتى اختلف الفقهاء والأئمة فى أحكام الساحر.

فحكم بعضهم بوجوب قتله ، وحكم آخرون بكفره ، وقال الشافعى (٣) : إذا اعترف الساحر أنه قتل رجلا بسحره ، وأنّ سحره مما يقتل غالبا فعليه القود من غير نكير ؛ فكان ذلك إجماعا. وقد اشتهرت / الروايات الصحيحة أن ساحرا حضر مجلس الوليد بن (٤) عقبه فكان يدخل فى جوف بقرة ويخرج منها ويفعل ذلك مرّة بعد مرة حتى ضرب

__________________

(١) لبيد بن الأعصم ـ منافق. كان حليفا لليهود. وهو من الخزرج. انظر عنه وما حدث منه فتح البارى ١٠ / ٢٣٦ شرح حديث ٥٧٦٣.

وانظر هامش شرح المواقف. الموقف السادس ص ٨٣ فقد علق على ما حدث بقوله : «روى أنه سحر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فى إحدى عشرة عقدة وتر دسه فى بئر. فمرض عليه‌السلام ، ونزلت المعوذتان ، وأخبره جبريل عليه‌السلام بموضع السحر ، فأرسل عليا كرم الله وجهه ؛ فجاء به ؛ فقرأهما عليه ، وكان كلما قرأ آية انحلت عقدة ، ووجد بعض الخفة. فإن قلت : هل لا يلزم على هذا صدق الكفرة فى أنه مسحور. قلت : لا لأنهم أرادوا به أنه مجنون بواسطة السحر. وحاشاه عن ذلك»

(٢) فى أ ، ب (ميكائيل).

(٣) الإمام الشافعى : محمد بن ادريس بن العباس بن عثمان بن شافع القرشى. أحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة ، وإليه نسبة الشافعية كافة. ولد فى غزة بفلسطين سنة ١٥٠ ه‍ وحمل إلى مكة وهو ابن سنتين وزار بغداد مرتين ، وقصد مصر سنة ١٩٩ ه‍ وتوفى بها وقبره معروف بالقاهرة. أفتى وهو ابن عشرين سنة كان من أذكياء العالم له تصانيف كثيرة مشهورة : أشهرها كتاب الأم فى الفقه ، والرسالة فى أصول الفقه وكتبت عنه كتب كثيرة منها :

كتاب [الإمام الشافعى] فى سيرته للشيخ مصطفى عبد الرازق وكتاب [الشافعى] للشيخ أبو زهرة. قال عنه الإمام أحمد بن حنبل : «ما أحد ممن بيده محبرة ، أو ورق ، إلا وللشافعى فى رقبته منّة». توفى ـ رضى الله عنه ـ بالقاهرة سنة ٢٠٤ ه‍.

[تذكرة الحفاظ للذهبى ٣٢٩ وصفة الصفوة لابن الجوزى تحقيق أبى على مسلم الحسينى مكتبة الإيمان بالمنصورة ١ / ٤١٣ ـ ٤١٩ وطبقات الشافعية للسبكى ١ / ١ ـ ١٨٥].

(٤) الوليد بن عقبة بن أبى معيط ، أسلم يوم فتح مكة ، وهو أخو عثمان بن عفان لأمه ـ بعثه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ على صدقات بنى المصطلق ثم ولاه عمر ـ رضى الله عنه ـ صدقات بنى تغلب. تولى إمارة الكوفة بعد سعد بن أبى وقاص سنة ٢٥ ه‍ فى عهد عثمان بن عفان رضى الله عنه واستمر بها حتى سنة ٢٩ ه‍ واتهم بشرب الخمر ، وشهد عليه جماعة فعزله الخليفة عثمان وأقام عليه الحد ، ولما قتل الامام عثمان تحول الوليد إلى الجزيرة الفراتية فسكنها ، واعتزل الفتنة بين على ومعاوية مات بالرقة سنة ٦١ ه‍ (الإعلام للزركلى ٨ / ١٢٢)

جندب البقرة بسيفه ضربة بعد ولوج الساحر فيها فصادف منها الفقار فجزلها جزلتين ؛ فلم يظهر الساحر بعدها.

وكان قد قال ـ النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فى حقه «جندب رجل من أمتى يضرب ضربة يبعث بها أمة وحده (١). وإذ دل عليه السمع والعقل لا يحيله فلا سبيل إلى منعه ، وتأويل ما ورد فيه من السمعيات من غير دليل

وإن قلتم بالسّحر فما المانع أن يكون ما أتى به من أنواع السحر الغريبة وقد استأثر بعلمه وعمله دون غيره.

[الشبهة] السابعة عشرة : سلّمنا امتناع السحر فى نفسه غير أنّه لا سبيل إلى إنكار الطلاسم الغريبة المؤثرة التأثيرات العجيبة.

وعند ذلك : فلا مانع أن يكون قد استأثر ذلك الشخص بمعرفة نوع من أنواع الطّلسمات المؤثرة بعض التأثيرات الغريبة / / المعجزة بحيث يعجز عن مثله من هو فى عصره ، أو أن يكون ذلك الخارق تابعا لخاصية بعض أنواع المركبات إذ الخواص لها من التأثيرات غرائب وعجائب كتأثير خاصية المغناطيس فى جذب الحديد ، والكهرباء فى جذب التبن وغيره ؛ فيكون ذلك الشخص عالما بتركيب ذلك النوع دون غيره ، ومع هذا الاحتمال فلا يبقى الوثوق بصدقه فى كونه رسولا.

[الشبهة] الثامنة عشرة : سلمنا أنه ليس من فعله ، غير أن دلالته على صدقه متوقفة على فعله ، وذلك لأن ما أتى به لو تجرد عن التحدى بالنبوة ؛ لم يكن دليلا على صدقه ، وإن كان لا دلالة دون التحدى ، والتحدى من فعله ؛ فلا يكون دليلا على صدقه.

[الشبهة] التاسعة عشرة : سلمنا أنه لا أثر لفعله مطلقا ؛ ولكن ما المانع أن يكون ذلك من فعل بعض الملائكة ، أو الشياطين ، أو أنه مستند إلى الاتصالات الكونية

__________________

(١) جندب : جندب بن زهير الأزدى الغامدى [الاصابة فى تمييز الصحابة لابن حجر ١ / ٢٧٠ ـ باب ج ـ ن (رقم ١٣٤٦) الطبعة الأولى سنة ١٣٢٨ ه‍] وهو جندب الخير الأزدى قاتل الساحر. قال بن حبان : أبو عبد الله الأزدى الغامدى صحابى روى بن السكن من حديث بريدة أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يضرب ضربة واحدة فيكون أمة وحده». انظر فتح المجيد شرح كتاب التوحيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ ـ ط دار الفكر بلبنان. ص ٢٩١ وما بعدها ففيه معلومات مفيدة عن هذه المسألة. وانظر أيضا : (تيسير العزيز الحميد فى شرح كتاب التوحيد) ـ للشيخ سليمان بن عبد الله ص ٣٤٠ وما بعدها. (وكتاب السحر بين الحقيقة والخيال) ـ تأليف ـ د. أحمد الناصر ط ١٤٠٨ ه‍ ص ١٦٥ وما بعدها.

/ / أول ل ٧٤ / أمن النسخة ب.

وذلك الشخص عالم بوقوعه فى وقت وقوعه لتمهره فى صناعة النجامة ، وإحاطته فيها بما لم يحط به غيره ممن هو فى عصره ، وعلى هذا ؛ فلا تكون نازلة منزلة التصديق من الله تعال ؛ إذ ليست من فعله.

[الشبهة] العشرون : سلمنا أنها من فعل الله ـ تعالى ـ ولكن إنما يدل على صدقه أن لو كان ذلك خارقا للعادة ، والخارق للعادة ما كان نادرا شاذ الوقوع ، ولو قدر وقوعه مرتين ، أو ثلاثا ؛ لم يلتحق بالعوائد والتكرر الملحق له بالعوائد غير / مضبوط بضابط معين محصور ، والخارق يكون مشروطا بشرط مجهول ؛ فيكون مجهولا.

[الشبهة] الحادية والعشرون : سلمنا أن الخارق معلوم غير مجهول ولكن ما أتى به إنما يدل على صدقه لو كان مما لم تطّرد به العادة فى بعض أقطار الأرض ، أو فيما تقدم من الأعصار وإن لم يكن معتادا فى ذلك الوقت ، ولا فى ذلك القطر. ولا سبيل إلى معرفة ذلك قطعا ؛ فلا يكون خارقا للعادة مطلقا ؛ فلا يكون حجة على الصدق.

[الشبهة] الثانية والعشرون : سلمنا أنه خارق للعادة مطلقا ، غير أنه مما يمتنع مع ذلك دلالته على صدقه لوجهين :

الأول : أنكم قد اعترفتم بأن الله ـ تعالى ـ قادر على خرق العوائد وقلبها وجعل النادر معتادا ، والمعتاد نادرا ، وكل ما كان مقدورا لله ـ تعالى ـ فيكون ذلك جائزا.

وعند ذلك فما ظهر على يده وإن كان خارقا للعادة ؛ فلا مأمن معه أن يكون هو أول انقلاب العادة ، وأنه يبقى معتادا مستمرا.

وعند ذلك فيخرج عن كونه مصدقا له لعدم اختصاصه به.

الثانى : أنه لا يخلوا : إما أن تقولوا بجواز إرسال رسل متوالية من عند الله ـ تعالى ـ فى أوقات متقاربة وأن كل واحد معه آية مماثلة لأية من قبله أو لا تقولون بجوازه.

فإن قلتم بعدم الجواز : فقد عجّزتم البارى تعالى ـ وإن قلتم بالجواز : فقد صارت تلك المعجزة معتادة ، والمعتاد لا يكون دليلا على الصدق.

[الشبهة] الثالثة والعشرون : سلمنا امتناع الاطراد ، ولكن إما أن تقولوا بجواز ظهور الكرامات والخوارق للعادات على أيدى الأولياء ، أو لا تقولوا به.

فإن لم تقولوا به فهو خلاف المعقول ؛ فإنه إذا جاز ظهور الخارق مع التحدى ، وثبت كونه مقدورا لله ـ تعالى ؛ فعدم التحدى لا يخرجه عن جوازه ، وعن كونه مقدورا.

ولهذا فإنا لو فرضنا وقوعه لم يعرض عنه لذاته محال. ثم هو خلاف أصلكم ، ومذهبكم ، وما دل عليه نصوص كتابكم ، وما اشتهر عن كثير من الأولياء ، والصالحين.

أما الكتاب : فما أخبر به عن قصة أهل الكهف وما ظهر لهم من الآيات وخوارق العادات (١) ، وما أخبر به عن أم موسى ، وإلقاء موسى فى اليم (٢) ، وما أخبر به عن مريم (٣) من ضروب الكرامات ، ووجود ، فاكهة الصيف عندها فى الشتاء ، وفاكهة الشتاء فى الصيف ، ولم يصر أحد من المسلمين ولا أحد من أرباب المقالات إلى أنهم / كانوا أنبياء.

وأما السنة : فقوله عليه الصلاة والسلام : «إن من أمتى مخاطبون ، ومكلمون وإن عمر منهم» (٤).

وأما الاجماع : فهو أن الصحابة لم يزالوا متفاوضين فى كرامات الأولياء وما كان منها لمن تقدم من الصلحاء ، وعباد بنى إسرائيل ، ولم يزالوا على ذلك فى كل عصر إلى حين ظهور المخالفين من غير نكير ؛ فكان اجماعا.

/ / وأما ما اشتهر من ذلك عن الأولياء بالأخبار اليقينية الصادقة : فكالمشهور عن عمر ـ رضى الله عنه ـ من قصة سارية (٥) حيث حذره من الكمين وعمر على منبر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وسارية بنهاوند ، وغيره من الحكايات المنقولة عن الأولياء وما ظهر على أيديهم من الغرائب والعجائب مما آحادها وإن كانت آحادا ؛ فنازلة منزلة التواتر فى إفادة اليقين.

__________________

(١) وهى أن الله سبحانه وتعالى أبقاهم ثلاثمائة سنة وأزيد نياما أحياء بلا آفة ولم يكونوا أنبياء إجماعا.

(٢) ونجاته وتربيته فى بيت عدوه فرعون ، وقيام أمه بارضاعه ، وتعهده ، وتربيته.

(٣) حيث حملت بلا ذكر ، ووجد الرزق عندها بلا سبب ، وتساقط عليها الرطب من النخلة اليابسة.

(٤) ورد فى تاريخ الخلفاء للسيوطى ص ٩٢ «وأخرج البخارى عن أبى هريرة قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «لقد كان فيما قبلكم من الأمم ناس محدّثون ، فإن يكن فى أمتى أحد فإنه عمر» [: أى ملهمون]

/ / أول ل ٧٤ / ب.

(٥) انظر تاريخ الخلفاء للسيوطى ص ٩٩ ، ١٠٠ : فصل فى كراماته ـ رضى الله عنه ـ فقد ذكر هذه الكرامة واستدل عليها بأقوال المحدثين ، والأئمة ، والصحابة بالتفصيل.

وإن قلتم بظهور الكرامات على أيدى الأولياء : فقد بطلت دلالتها على التصديق لوجهين :

الأول : إذا أمكن وجود المعجزة بدون الدلالة على التصديق فى حق الأولياء فما المانع من وجودها فى حق النبي من غير دلالة على تصديقه.

الثانى : أنه إذا جوز ظهورها على أيدى الأولياء. فإما أن يقال بجواز خلقها على أيديهم على التوالى ، أو لا يقال به.

فإن لم يقل به : ففيه نسبة الرب ـ تعالى ـ إلى العجز وهو ممتنع.

وإن قيل به : فقد خرجت عن كونها خارقة ، وصارت معتادة.

[الشبهة] الرابعة والعشرون : سلمنا امتناع ظهور الكرامات على أيدى الأولياء ؛ ولكن إنما يكون ما أتى به دليلا على صدقه أن لو لكان ذلك معجزة بالنسبة إلى المبعوث إليهم وإنما يكون ذلك معجزة بالنسبة إليهم أن لو كان معجوزا عنه بالنسبة إليهم ؛ إذ المعجزة مأخوذة من العجز ، وليست معجزة بالنسبة إليهم ؛ لأن ما يكون مقدورا للشخص لا يكون معجوزا عنه ، ولهذا لا يقال إننا عاجزون عن خلق الأجسام ، والألوان لما لم تكن مقدورة بالنسبة إلينا.

[الشبهة] الخامسة والعشرون : سلمنا صحة كون الخارق معجزة بالنسبة إليهم ، ولا نسلم دلالته على تصديقه ، وما ذكرتموه من صورة الملك فى الشاهد ؛ فلا نسلم دلالة ما وجد منه على التصديق قطعا ؛ لاحتمال أن تكون حركة الملك على وفق ما ذكره المدعى لرسالته بحكم الاتفاق بناء على غفلة وذهول ، أو بسبب أوجب له ذلك غير التصديق أو لأنه كاذب فى قصد تصديقه.

[الشبهة] السادسة والعشرون : سلمنا دلالته على التصديق قطعا ؛ ولكن ما المانع أن يكون العلم حاصلا فى تلك الصورة لما علم من عادة الملوك فى حفظ الممالك / وصلاح الرعية ، وتجنب المسالك المفضية إلى تشويش الملك ، واختلاف الرعية ، وأنتم قد جوزتم على الله ـ تعالى ـ اضلال العبيد ، وخلق الكفر ، والفسوق لهم ؛ فلا يكون فى معنى ما استشهدتم به.

[الشبهة] السابعة والعشرون : سلمنا القطع مع قطع النظر عن هذه الأمور العادية غير أن المرسل فى الصورة المستشهد بها مرئى محسوس فيمكن أن يرى منه قرائن لا تحويها العبادات. وأمكن أن تكون مؤثرة فى العالم ، بخلاف الرب ـ تعالى ـ فإنه غير مرئى فى وقتنا هذا ، ولو كان مرئيا ؛ فهو ـ يتعالى ـ عن الاتصاف بمثل القرائن الحالية المشاهدة من الواحد منا.

[الشبهة] الثامنة والعشرون : سلمنا امتناع تأثير ما نشاهد منه من القرائن فى العلم ، غير أنه يمتنع إلحاق الغائب بالشاهد بطريق القياس إذ هو غير مفيد لليقين كما سبق فى قاعدة الدليل (١).

[الشبهة] التاسعة والعشرون : سلمنا صحة قياس [الغائب على الشاهد (٢)] فى الجملة ؛ ولكن يمتنع مع ذلك الاستدلال بما ظهر على يده على صدقه ، لأن دلالته على صدقه : إما دلالة عقلية ، أو سمعية.

لا سبيل إلى الأول : لأن ما دل عقلا ؛ فيدل لنفسه ، ويرتبط بمدلوله لذاته ولا يجوز تقديره غير دالّ ؛ وذلك كدلالة الفعل على الفاعل ، ودلالة الفعل المحكم على علم فاعله. إلى غير ذلك من الأدلة العقلية ، ودلالة المعجزة على صدق المدعى للرسالة ليست كذلك ، وإلا لما تصور وجودها الا وهى دالة على صدق الرسول ؛ وليس كذلك ؛ فإنه يجوز خرق العوائد عند تصرم الدنيا : كانفطار السماء وانتثار الكواكب ، وتدكدك الجبال ، وتبدل الأرض غير الأرض إلى غير ذلك مع عدم دلالتها على تصديق مدعى النبوة ، فإنه لا إرسال ، ولا رسول فى ذلك الوقت ، وكذلك ظهور الكرامات على أيدى الأولياء على أصلكم من غير دلالة.

ولا سبيل إلى الثانى : لأن الأدلة السمعية متوقفة على صدق الرسول فلو توقف صدقه عليها ؛ لكان / / دورا.

[الشبهة] الثلاثون : سلمنا عدم الحصر فى القسمين من الأدلة ، غير أن الاستدلال بما أتى به من المعجز : إما أن يكون مشروطا بالتحدى ، أو لا يكون مشروطا به.

__________________

(١) انظر ما سبق فى الجزء الأول ل ٣٩ / ب وما بعدها ص ٢٠٣ وما بعدها من الجزء الأول : القاعدة الثالثة الفصل السابع : الدليل الخامس : الحاق الغائب بالشاهد ، بجامع الحد والعلة ، والشرط ، والدلالة.

(٢) فى (أ) (الشاهد على الغائب)

/ / أول ل ٧٥ / أ.

فإن كان الأول : فيلزم أن لا تقدح المعارضة فيه الا أن يصدر ممن يدعى النبوة ؛ لأن المعارضة إنما تتحقق بالإتيان بمثل ما أتى به النبي على صفاته وشرائطه / ولهذا فإنه لما كان من شرائطه أن يكون خارقا للعادة ؛ لم تتحقق المعارضة دون الإتيان بما يخرق العادة ، ويلزم من ذلك أن لا يكون من عارض المعجزة بمثلها مبطلا لها بتقدير أن لا يكون متحديا بالنبوة ؛ وهو خلاف الإجماع ، ونصوص كتابكم.

وإن كان الثانى : فلا يكون ما أتى به دليلا على صدقه ، ولا كونه رسولا بالإجماع وكما لو ظهر ذلك على أيدى الأولياء.

[الشبهة] الحادية والثلاثون : سلمنا صحة الاستدلال به لكن بشرط أن يخلقه الله على يده لقصد التصديق له فى دعواه للرسالة ، وإنما يلزم ذلك أن لو كان فعل الله ـ تعالى ـ مما يراعى فيه الغرض والمقصود ؛ وهو باطل على ما سبق فى التعديل والتجويز (١).

[الشبهة] الثانية والثلاثون : سلمنا امتناع خلوّ فعل الله ـ تعالى عن الغرض ، والمقصود ؛ ولكن إنما يدل ذلك على صدقه أن لو انحصر الغرض فى التصديق ، وما المانع أن يكون له غرض آخر لم يطلع عليه ، وبيان امكان غرض آخر من ثلاثة أوجه.

الأول : أنه من الجائز أن يكون ذلك الشخص كاذبا فى مقالته ، والبارى ـ تعالى ـ مريد اضلالنا برسالته ، وأن يكون ما يدعوا إليه من الخير ؛ هو عين الشر ، وما ينهى عنه من الشر ؛ فهو عين الخير ، ولا إحالة فيه على أصلكم حيث أحلتم كون الحسن والقبح ذاتيا للحسن ، والقبيح.

كيف وأن خلق الخارق ممكن من غير تحد ومع تحدى الصادق ؛ فكذب الكاذب لا يخرج الممكن المقدور لله عن كونه ممكنا ، ولا مقدورا.

الثانى : أنه يحتمل أن يكون واحدا من الصالحين فى بعض أقطار الأرض قد دعا الله ـ تعالى ـ بإيجاد ذلك الخارق ؛ فأوجده الله تعالى ـ إجابة لدعاء ذلك الصالح لا لتصديق المدعى للرسالة.

__________________

(١) ـ انظر ما مر فى الجزء الأول ل ١٨٦ / أوما بعدها ص ١٥١ وما بعدها من الجزء الثانى الأصل الأول : فى التعديل والتجوير. المسألة الثالثة : فى أنه لا يجب رعاية الغرض والمقصود فى أفعال الله ـ تعالى ـ وأنه لا يجب عليه شيء أصلا.

الثالث : أنه من الجائز أن يكون خلق الله ـ تعالى ـ له لغرض الإيهام بكونه صادقا ، كما خلق الشبهات الموهمة ، وأنزل المتشابهات لا لقصد التصديق.

[الشبهة] الثالثة والثلاثون : سلمنا انحصار الغرض والتصديق غير أن ذلك إنما يدل على صدقه فى نفس الأمر ، أن لو استحال الكذب فى تقدير تصديق الله له ؛ وذلك إما أن يدرك بالعقل ، أو بالسمع ، لا سبيل إلى الأول ؛ لأنكم أبطلتم أن يكون الحسن والقبح ذاتيا للحسن والقبيح.

واذا لم يكن القبح ذاتيا للكذب ؛ فلا يمتنع على الله ـ تعالى ـ (١) [ولا سبيل الى الثانى لما يلزمه من الدور كما تقدم.

[الشبهة] الرابعة والثلاثون : سلمنا استحالة الكذب على الله ـ تعالى] (١) ولكن متى يصبح الاستدلال به : إذا بلغ التحدى بالمعجزة جميع الناس ، أو إذا لم يبلغهم.

الأول : مسلم.

والثانى : ممنوع.

ولهذا فإنه لو تحدى الخارق بعض الصنائع البديعة / فى بعض القرى وعجز أهلها عن معارضته ؛ فإنه لا يكون بذلك نبيا.

وعلى هذا فيمتنع القول ببلوغ التحدى بذلك إلى جميع أقطار الأرض وقت التحدى وإظهار المعجزة بحيث لا يبقى أحد إلا ويعلم به ؛ إذ هو خلاف العادة.

[الشبهة] الخامسة والثلاثون : سلمنا بلوغ التحدى إلى الكل ؛ ولكن إنما يدل على صدقه أن لو توفرت دواعيهم على المعارضة ، ولم يقدروا عليها وليس كذلك.

وبيانه : أن من يقدر على المعارضة ليس من جملة الخلق الا الأقلون ، ولعل دعواه بموافقة منهم ، وتركهم للمعارضة مبالغة فى ترويج أمره ؛ ليتحصلوا معه على ما يرومونه من التقدم ؛ واعلاء الكلمة ، ونفوذ الأمر.

[الشبهة] السادسة والثلاثون : سلمنا أنهم لم يقصدوا ترويج أمره ؛ لكن من المحتمل أنهم لم يتعرضوا لمعارضته استهانة به ، واحتقارا له ؛ لظنهم أن دعوته مما لا تتم ، وأن أمره لا يتحقق.

__________________

(١) ساقط من أمن قوله (ولا سبيل ..... استحالة الكذب على الله تعالى)

[الشبهة] السابعة والثلاثون : سلمنا أنهم لم يكونوا محتقرين له غير أنهم لم يعلموا أن طريق افحامه بالمعارضة ؛ إذ العلم بذلك غير ضرورى ؛ بل من النظريات ولا يمتنع خفاؤه على الناظرين.

[الشبهة] الثامنة والثلاثون : سلمنا علمهم بأنه لا طريق غير المعارضة غير أنه من المحتمل أن يكون عدم اشتغالهم بالمعارضة لمانع منع ومعارض عز إما من اهتمام كل / / واحد بما يخصه من أموره ، وما يحتاج إليه فى تقويم معيشته ، وتدبير أحواله ، وعدم التفاته إلى غيره ، أو لأمر آخر.

[الشبهة] التاسعة والثلاثون : سلمنا عدم المانع ، وتوفر الدواعى على المعارضة ؛ ولكن لا يمتنع أن يكون قد عارض واحد من الناس ولم تظهر معارضته ؛ إما لأنه لم يظهرها ، أو لمانع منع من إظهارها ، ومع وجود هذه الاحتمالات ؛ فلا دلالة لما ظهر من الخارق على صدقه.

[الشبهة] الأربعون : هو أن ما ذكرتموه من الدليل منتقض بما دلت عليه الأخبار الصحيحة عن نبيكم من ظهور المعجزات الباهرة ، والآيات القاطعة على يد المسيح الدّجال ؛ على وفق دعواه الالهية ، وذلك يجرّ إلى أحد أمرين :

إمّا ثبوت إلهيّته ؛ وهو محال.

أو أن لا يكون ظهور المعجزة على يد المتحدّى دليلا على صدقه؟

والجواب : أما من قال بإيجاب البعثة إلى قوم علم الله أنّهم يؤمنون ؛ لما فيه من إصلاحهم فمذهبه مبنىّ على وجوب رعاية المصلحة ، واستحسان العقل ، وتقبيحه ، وقد أبطلناه فى التعديل والتجوير بما فيه مقنع وكفاية (١).

وأما القول بوجوب الإرسال / إلى قوم علم الله أنهم يكذبون ولا يؤمنون ففى غاية البعد أيضا ؛ لأنه إما أن يقال بأن الإرسال إليهم أصلح من عدم الإرسال ، أو ليس بأصلح:

__________________

/ / أول ل ٧٥ / ب.

(١) انظر ل ١٧٤ / ب وما بعدها من الجزء الأول ص ١١٥ وما بعدها من الجزء الثانى الأصل الأول : فى التعديل والتجوير. المسألة الأولى : فى التحسين والتقبيح.

الأول : ممتنع مخالف لضرورة العقل ؛ وذلك لأن الإرسال سبب لهلاكهم ، واستحقاق العقوبة عليهم ، وخلودهم فى النار ، ولا كذلك فى عدم الإرسال ، وما علم الله أنه سبب هلاك العبد كيف يكون أصلح للعبد مما لا هلاك فيه.

وإن كان الثانى : فليس القول بإيجابه عقلا ، مع أنه ليس أصلح أولى من عدم الإيجاب ؛ بل عدم الإيجاب أولى كعدم ملازمة الهلاك له وملازمة الهلاك فى مقابله.

والقول بأن الإرسال فى هذه الصورة حسن وليس واجبا ؛ فهو أيضا باطل على أصول القائلين بالتحسين والتقبيح العقلى ؛ وذلك لأنه لا يخلو : إما أن يكون الإرسال فى الصورة المفروضة استصلاحا ، أو استفسادا ، أو أنه عرىّ عن الأمرين :

فإن كان الأول : لزم القول على أصلهم بالوجوب ؛ لما فيه استصلاح العبد.

وإن كان الثانى : لزم القطع بتقبيحه.

وإن كان الثالث : فليس القول بالتحسين مع خلوه عن الاستصلاح أولى من القول بعدمه ؛ بل القول بالتقبيح وعدم التحسين أولى ؛ لما فيه من العبث والخلو عن الغرض.

وأما من قال بامتناع البعثة إذا لم تتضمن تعريف أمر متجدد من القضايا الشرعية ، أو نسخ شيء منها ، أو تذكيرا بما نسى ، واندرس من الشرائع المتقدمة ؛ فهو فاسد من وجهين :

الأول : أنه مبنى على وجوب رعاية الحكمة فى فعل الله تعالى ـ وقد سبق إبطاله فى التعديل والتجوير (١).

الثانى : وإن كان لا بد من رعاية الحكمة والغرض ، فما المانع أن يكون الغرض التأكيد بضم طريق معرفته إلى آخر ، كما جاز القول بنصب أدلة على الواجبات العقلية عندهم ، وإظهار معجزات متوالية دالة على صدق النبي مع استقلال المتقدم منها بذلك.

فإن قيل : إنما جاز نصب الأدلة العقلية ، وإظهار المعجزات المتعددة الدالة على صدق الرسول ؛ لأن الناس يتفاوتون فى دلالة الأدلة العقلية ودلالة المعجزات على

__________________

(١) انظر ما مر فى الجزء الأول ل ١٨٦ / أو ما بعدها ص ١٥١ وما بعدها من الجزء الثانى.

الصدق ؛ لتفاوت الأدلة ، والمعجزات فى الظهور والخفاء بالنسبة إلي نظر الناس. حتى إنه يسهل على بعض الناس النظر فى بعض الأدلة دون البعض. وكذلك فى المعجزات ، والبعض الآخر بالعكس ، فكانت فائدة نصب الأدلة ، أو المعجزات أن يستصلح بكل قبيل قبيلا من الناس /.

قلنا : وهذا لازم فيما نحن فيه ، أما بالنسبة إلى المقرر للواجبات العقلية لا غير ؛ فلأن الناس أيضا يتفاوتون فى سهولة الانقياد إلى المدارك المختلفة ، حتى أن منهم من يصعب عليه الانقياد إلى المدارك العقلية ؛ لاستصعابها عليه ، وإذا رأى أنها خارقة مال إليها واطمأنت نفسه بها ونقول من ظهرت على يده كأكثر العوام ، ومنهم من هو بالعكس من ذلك.

وأما بالنسبة إلى المقرر بشريعة من تقدم مع عدم اندراسها ، فلتفاوت الناس أيضا فى سهولة الانقياد إلى بعض الناس ، وإلى ما يقوله دون البعض وركونه إليه ؛ فكانت أيضا فائدة الإرشاد / / استصلاح كل بما يميل إليه ، ويسهل عليه.

والجواب عن الشبهة الأولى : القائلين بامتناع البعثة.

قولهم : إما أن يقولوا بالجنّ ، أو لا يقولون بهم :

قلنا : هذا مما اختلف فيه الناس :

فذهب الفلاسفة والمعتزلة ومن نصر مذهب هؤلاء : إلى إنكار الجنّ والشياطين.

وأما مذهب أهل الحق : فالاعتراف بوجودهم تمسكا بما قيل فى ذلك من الأدلة.

قولكم : فما الّذي يؤمنه أن يكون المخاطب له جنيا ، وأن ما ألقى إليه ليس من عند الله.

قلنا : غير ممتنع أن يعلم أن المرسل له هو الله ـ تعالى ويحصل له اليقين به ؛ وذلك بأن يظهر الله ـ تعالى ـ له آيات ودلائل ومعجزات يتقاصر عن الإتيان بمثلها جميع المخلوقات تكون دالة على علمه بذلك. أو بأن يكون ما أنزل عليه ، وألقى إليه يتضمن الإخبار عن الغائبات ، والأمور الخفيّات التى لا يمكن معرفتها لغير الله ـ تعالى وهى واقعة على ما أخبر به.

__________________

/ / أول ل ٧٦ / أ.

أو بأن يخلق الله ـ تعالى ـ له العلم الضرورى بذلك. فإن الله على كل شيء قدير ، وبهذا يندفع ما ذكروه من الشبهة الثانية أيضا.

وعن الثالثة من وجهين : ـ

الوجه الأول : ما المانع أن يكون ما يأتى به معقولا.

قولهم : إنه عبث. عنه جوابان :

الأول : أن ما ذكروه مبنى على وجوب رعاية الحكمة فى أفعال الله ـ تعالى ـ وقد أبطلناه فيما تقدم (١).

الثانى : ما المانع أن تكون الحكمة هى التأكيد بضم الدليل السمعى إلى الدليل العقلى ، كما فى نصب الأدلة المتعددة على مدلول واحد. ومع حصول غرض التأكيد ؛ لا يكون الإرسال عبثا.

الوجه الثانى :

ما المانع أن يكون آتيا بما لا تستقل [العقول] (٢) بإدراكه ؛ بل هى متوقفة فيه على المنقول وذلك كما فى مناهج العبادات / والقضايا الدينيّات ، والخفى مما يضر ومما ينفع من الأفعال والأقوال وغير ذلك مما تتعلق به السعادة ، والشقاوة ، فى الأولى والأخرى ، وتكون نسبة النبي إلى تعريف هذه الأحوال نسبة الطبيب إلى تعريف خواص الأدوية ، والعقاقير التى يتعلق بها ضرر الأبدان ونفعها ، فإن عقول العوام قد لا تستقل بدركها وأن تغفلها عند ما ينبه الطبيب عليها ، وكما لا يمكن الاستغناء عن الطبيب فى تعريف هذه الأمور مع أنه قد يمكن الوصول إليها والوقوف عليها بطول التجربة ؛ لما يفضى إليه من الوقوع فى المهالك والإضرار ؛ لخفاء المسالك المرشدة إليها ؛ فكذلك النبي ؛ بل أولى حيث أنه يعرف ما لا سبيل إلى معرفته إلا من جهة الله ـ تعالى.

وعن الرابعة من ثلاثة أوجه :

الأول : منع تساوى النفوس فى النوعية ، وما المانع من اختلافها. ومع الاختلاف ؛ فلا يلزم الاشتراك بينها فيما ثبت للواحد منها.

__________________

(١) انظر ما سبق فى الجزء الأول ل ١٨٦ / أو ما بعدها ص ١٥١ وما بعدها من الجزء الثانى.

(٢) فى (أ) (القول)

الثانى : وإن سلمنا الاتحاد فى النوعية ؛ ولكن لا نسلم أنه يلزم أن ما ثبت للبعض يجب الاشتراك فيه ، وإلا لاستوى الناس كلهم فيما ثبت للواحد منهم من العلم ، والجهل ، وغير ذلك من الأحوال.

الثالث : وإن سلمنا لزوم الاشتراك بينهم فيما يدركه الواحد منهم من المدركات العقلية ؛ فلا يلزم ذلك فى القضايا الشّرعيّة ، فإن طريق معرفتها إنّما هو السمع دون العقل. ولا يلزم من تخصيص بعض الناس بالوحى والإرسال التشريك والتّعميم بينهم ضرورة اتحاد النوع وإلا لاستوى الناس كلهم فى أحوالهم بحيث لا يكون هذا عالما وهذا جاهلا ، وهذا سعيدا ، وهذا شقيا ، وهذا أعمى وهذا بصيرا ، وهذا كاملا ، وهذا ناقصا ، إلي غير ذلك. ومع ذلك فقد وقع التفاوت فى هذه الأمور فيما بينهم مع اتحاد النوع ، ولم يعد ذلك قبيحا من الله ـ تعالى ؛ لكونه الفاعل لذلك ؛ [فكذلك (١)] فيما نحن فيه.

وعن الخامسة :

أن ما ذكروه إنّما يلزم على المعتزلة حيث اعترفوا بوجوب الإمهال عند الاستمهال ولا محيص لهم عنه.

وأمّا على رأى أهل الحق فلا ؛ فإنا بينا فيما تقدم فى التعديل والتجوير (٢) أنه مهما ادعى النبي الرسالة ، واقترن بدعواه المعجزة الخارقة للعادة ، وكان المبعوث إليه عاقلا / متمكنا من النظر فى المعجزة.

فقد ثبت الشرع ، واستقر الوجوب ، وامتنع التأخير ؛ بل ولو وقع الإلزام على أصلهم بقبح التأخير / / والإمهال فى النظر حيث لم يرشدهم إلى المصالح ، ويحذرهم من المهالك ، ويعرفهم طرق السعادة ليسلكوها ، ومفاوز المخافة ليتجنبوها بعد ما ظهر صدقة بالمعجزات القاطعة ؛ لم يجدوا إلى دفعه سبيلا.

كيف وأن ما يجب الإمهال فى النظر لأجله ؛ فالنبى قائم بصدده ، ومتكفل به من تعريف ذات الله ـ تعالى ـ وصفاته ، وما يتعلق بأحكام الدنيا ، والأخرى ، ولهذا إذا بحث عن أحوال الأنبياء ، والمرسلين وجدناهم فى الدعوة إلى الله ـ تعالى وإلى معرفته سابقين.

__________________

(١) ساقط من (أ)

(٢) انظر ما مر ل ١٨٥ / أمن الجزء الأول وما بعدها ص ١٤٦ وما بعدها من الجزء الثانى.

/ / أول ل ٧٦ / ب.

وعند ذلك فليس طلب الإمهال مع ما ظهر من صدق الرسول ودعوته إلى ما فيه صلاح نظام المدعو مع إمكان وقوع الهلاك على تقدير التأخير الا كما لو قال الوالد لولده مع ما عرف من شفقته ، وحنوه ، ورأفته أن بين يديك فى هذا الطريق سبعا ضاريا ، أو مهلكا ؛ فإياك وسلوكه وكان ذلك فى نفسه ممكنا. فقال الولد : لا أمتنع من ذلك ما لم أعرف السبع أو المهلك ، لقد كان ذلك منه فى نظر العقلاء مستقبحا ، ومخالفا للواجب فلو لم ينبته ؛ فهلك كان ملاما مذموما غير معذور.

وعن السادسة :

باختيار أن البارى ـ تعالى ـ عالم بالجزئيات ، وأن الرسول مبعوث إلى النّاس كافّة.

قولهم : لا فائدة فى الإرسال إلى من علم منه الإيمان ، أو الكفران ؛ فهو مبنى على وجوب رعاية الغرض فى أفعال الله ـ تعالى ؛ وهو باطل على ما سبق (١).

قولهم : يلزم منه التكليف بما لا يطاق مسلم. ولا مانع منه كما بيناه (٢).

قولهم : إنه على خلاف الأصلح فى حقه ؛ فمبنى على رعاية المصلحة ؛ وقد سبق ابطاله أيضا (٣).

وعن السابعة :

أن ما ذكروه مبنى على وجوب رعاية الغرض فى فعل الله ـ تعالى ـ وهو ممتنع على ما سبق (٤).

وعن الثامنة :

أن البعثة تتضمن التكليف وما ذكروه من الوجوه الستة الأول فمبنية على امتناع التكليف بما لا يطاق ، ووجوب رعاية الفائدة والغرض فى فعل الله ـ تعالى ـ وقد عرف بطلانه (٥).

__________________

(١) انظر ما سبق فى الجزء الأول ل ١٨٦ / أوما بعدها ص ١٥١ وما بعدها من الجزء الثانى.

(٢) انظر ما سبق فى الجزء الأول ل ١٩٤ / ب وما بعدها ص ١٧٥ وما بعدها من الجزء الثانى.

(٣) انظر ما سبق فى الجزء الأول ل ١٨٦ / أوما بعدها ص ١٥١ وما بعدها من الجزء الثانى.

(٤) انظر ما سبق فى الجزء الأول ل ١٨٦ / ب وما بعدها ص ١٥١ وما بعدها من الجزء الثانى.

(٥) انظر ما سبق فى الجزء الأول ل ١٩٤ / أوما بعدها ص ١٧٥ وما بعدها من الجزء الثانى.

وما ذكروه من الوجه السابع ؛ فمندفع من جهة أن التكليف إنما يكون فى الحال بالفعل فى ثانى الحال ولا إحالة فيه ، ولا يلزم منه التكليف بتحصيل الحاصل.

وإنّما يلزم منه الجمع بين الوجود والعدم على ما / لا يخفى.

كيف وأنّ ما ذكروه لازم على احداث الفعل. وكل ما هو جواب عن أصل الإحداث ؛ فهو جواب عن التكليف بالإحداث.

وعن التاسعة : من وجهين :

الأول : أن ما ذكروه فمبنى على رعاية الحكمة ، وتحسين العقل وتقبيحه ؛ وقد سبق فساده (١).

الثانى : أن ما أحالوه من أحكام الشرع قد التزموا أضعافه بحكم العقل ؛ وذلك لحكمهم عقلا بايجاب النظر فى كل ما يدرك بالعقل مع ما يلزمه من المكابدة ، والمشقّة فى ترتيب الأدلة واستخلاص جهة الدلالة وشدّة الفكر فى دفع الشّبهة المضلة ، والتزامهم بقليل الأغذية ، وتحريم اللحوم ، ولذّة الجماع ، وحسّنوا من الله ـ تعالى ـ بعقولهم ما يحل بالعبيد من الأمراض ، والآلام ، وايلام البهائم والأطفال ، وابتلاء الخلق ، وامتحانهم بنقص الأموال ، والأنفس ، وخلق الحشرات المضرة ، والهدم ، والزلازل ، والخسف ، والطوفانات المهلكة ، إلى غير ذلك مما البارى ـ تعالى مستغن عنه وضرره أكثر من نفعه.

وعند ذلك فما هو جواب لهم فى حكمة العقل بهذه الأشياء ؛ هو جواب عن حكمة الشرع فيما التزموه من الصور.

وعن العاشرة : من وجهين : ـ

الأول : أن ما ذكروه أيضا مبنى على [وجوب] (٢) رعاية الحكمة فهو باطل (٣).

الثانى : أنّه اذا أعلمه بأنه سيبقى حتى يكون اغراء له بالزلل إذا كان معصوما ، أو إذا لم يكن ، الأول : ممنوع ، والثانى : مسلم والأنبياء معصومون على ما سيأتى (٤).

__________________

(١) انظر ما سبق فى الجزء الأول ل ١٧٤ / أوما بعدها ص ١١٧ وما بعدها من الجزء الثانى.

(٢) ساقط من (أ)

(٣) انظر ما سبق ل ١٨٦ / ب وما بعدها ص ١٥١ وما بعدها من الجزء الثانى.

(٤) راجع ما سيأتى ل ١٦٩ / أوما بعدها ص ١٤٣ وما بعدها من الجزء الرابع.

وعن الحادية عشرة : من ثلاثة أوجه :

الأول : ما المانع أن يكون نصب الدليل العقلى على القضية الشرعية غير مقدور ، وما لا يكون من قبيل المقدورات ؛ فلا يكون معجوزا عنه ؛ لاستحالته.

الثانى : وإن كان مقدورا ؛ ولكن لا نسلم وجوبه ؛ لأنّا بيّنا أنه لا يجب على الله ـ تعالى ـ شيء (١).

الثالث : وإن أمكن أن يقال بالوجوب ؛ لكن فيما علم الله المصلحة فيه ، وما المانع أن يكون الله ـ تعالى ـ قد علم أن مصلحة / / العبيد فى تعريفهم القضايا الشرعية بالسمع ، وأنه لو عرفهم إياها بالأدلة العقلية لفسدوا.

وعن الثانية عشرة :

أن ما ذكروه مبنى على التناسخ ؛ وسيأتى إبطاله (٢) ، وبتقدير تسليم التناسخ جدلا ؛ فالعقل غير كاف فى معرفة الأحوال التى هى مناط السّعادة ، والشّقاوة فى الحال ، والمآل ؛ إذ الأفعال مما لا تقبح ولا تحسن لذواتها كما أسلفناه حتى يستقلّ العقل بإدراك الصالح والفاسد منها ؛ بل لعل العقل قد يقبح ما المصلحة فيه ، ويحسن ما المفسدة فيه ؛ فلا بد من معرف / ومرشد يستأثر بمعرفة ما لا يستقل العقل بادراكه ، وليس ذلك إلا الله ـ تعالى ـ ومن اصطفاه الله بالتعريف والوحى.

كيف وأن العبد إذا انتهى إلى العالم العلوى أو السفلى جزاء على فعله ، مما يفعله فى حال خسّته ، أو فى حال رفعته مما يوجب اقتضاء زيادة فى حالة يبقى لا مقابل له ؛ لانتهائه فى درجة الثواب إلى ما لا درجة بعدها ، وكذلك فى حالة خسّته وذلك مما يفضى بهم إلى تعطيل [طاعة] (٣) من هو فى الدرجة العلى عن الثواب ومعصية من هو فى الدرجة السفلى عن العقاب ؛ وذلك مما يقبح على موجب أصولهم.

وعن الثالثة عشرة :

القائلة أنه لا طريق إلى معرفة صدقه ، ليس كذلك ؛ بل كما كان قادرا على تعريف

__________________

(١) انظر ما مر فى الجزء الأول ل ١٨٦ / ب وما بعدها ص ١٥١ وما بعدها من الجزء الثانى.

/ / أول ل ٧٧ / أ.

(٢) انظر ما سيأتى ل ١٩٨ / أو ما بعدها.

(٣) ساقط من أ.

الخلائق بسر ربوبيته ، وتصديقهم بوجوده وإلهيته قادر على أن يعرفهم صدق من اصطفاه لرسالته واجتباه لحمل أمانته ، إما بأن يخلق لهم بذلك العلم الضرورى أو بالإخبار عن كونه رسولا كما قال ـ تعالى ـ فى حق آدم للملائكة (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) (١) ويكون علمهم بكونه خبر الله كعلم الرسول به كما تقدم تعريفه فى أول الجواب ، ولا يلزم من تصور الخطاب من المرسل الاستغناء عن الرسول ؛ إذ هو حجر وتحكم على الحاكم فى مملكته ، ولعل ذلك لا لحكمة ؛ إذ هى غير واجبة المراعاة فى أفعال الله كما عرف. أو أنه لحكمة قد استأثر الرب ـ تعالى ـ بعلمها وحده ، وقد يمكن التعريف بصدقه باظهار المعجزات على يده بحيث تذعن العقول السليمة بتصديقه ، وقبول قوله.

قولهم : خرق العوائد ممتنع ليس كذلك ، وأن خلق السموات والأرض وما بينهما من الحيوانات وأنواع النباتات أعجب من كل خارق يدّعى ، ومع ذلك فالرب ـ تعالى ـ كان قادرا عليه ، ومخترعا له ؛ فلأن يكون قادرا على ما دونه أولى وإلا كان عاجزا عنه ؛ وهو محال مع قدرته على ما هو أغرب منه. كيف وأن انفطار السماوات ، وانتثار الكواكب (٢) [وغير ذلك من أعظم الخوارق للعادة ، وكل ذلك جائز ؛ لأن وجود السماوات والكواكب] (٢) من الجائزات وكل ما كان جائز الوجود ؛ فهو جائز العدم ؛ وما كان جائزا لا يكون ممتنعا.

وأيضا : فإنا سنبين وقوع ذلك فى الأصل الرابع (٣).

وعن الرابعة عشرة :

القائلة بأن الصادر عنه من فعله : أنا قد بينا فى خلق الأعمال أنه لا موجد ولا مؤثر إلا الله ـ (٤) تعالى ـ.

وبه اندفاع الخامسة عشرة أيضا.

__________________

(١) سورة البقرة ٢ / ٣٠.

(٢) ساقط من (أ)

(٣) انظر ما سيأتى ل ١٨٦ / أو ما بعدها ص وما بعدها من الجزء الرابع الأصل الرابع : فى إثبات رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٤) انظر ما مر فى الجزء الأول ل ٢١١ / ب وما بعدها ص ٢٢٩ وما بعدها من الجزء الثانى ـ الأصل الثانى : فى أنه لا خالق إلا الله ـ تعالى ـ ولا مؤثر فى حدوث الحوادث سواه.

وعن السادسة عشرة :

أن السحر وإن أنكره معظم القدرية غير أن أهل الحق معترفون به ، ومع ذلك فالحق أن يقال : السحر لا يخلو : إما أن ينتهى إلى حد المعجزة : كفلق البحر ، وإحياء الميت ، وإبراء الأكمة ، والأبرص كما هو مذهب جميع / العقلاء ، أو أنه لا ينتهى إلى حد الإعجاز.

فإن كان الأول : فقد تحقق الفرق بين السحر ، والمعجزة

وإن كان الثانى : فإما أن لا يتحدى معه الساحر بالنبوة ، أو يتحدى.

فإن لم يتحدّ ؛ فقد تم الفرق أيضا.

وإن تحدّ بالنبوة فعندنا أنه لا بد من أحد أمرين : وهو إما أن لا يخلقه الله ـ تعالى ـ على يده ، فإنا بينا أنه لا خالق إلا الله ـ تعالى ـ وإما أن يخلق مثله على يد غيره معارضا له ، وإلا كان خلقه على يده مع تحديه بالنبوّة ، وإعجازه من غير معارضة منزل منزلة التصديق من الله تعالى ـ له ؛ وهو محال مع كذبه.

وبه يخرج الجواب عن السابعة عشرة أيضا.

وعن الثامنة عشرة :

أن الدّال على صدقه هو الخارق ؛ وذلك ليس من فعله ، ودعوى النبي وان كانت من فعله وهو شرط فليست خارقة ، ولا هى من دليل الصدق فى شيء.

وعن / / التاسعة عشرة :

القائلة بأن ذلك من فعل بعض الملائكة أو الجنّ ، أو مستندا إلى الاتصالات الكوكبية ؛ فما بيناه فى خلق الأفعال من أنه لا خالق غير الله تعالى (١).

وعن العشرون : ـ

القائلة أن المعجز مشروط بشرط مجهول أن يقول : ما ذكروه يجر إلى الجهل بما هو بين ومعتاد : كرىّ الشّارب وشبع الآكل ، وما يجرى فى العالم من الأمور المستمرة من

__________________

/ / أول ل ٧٧ / ب.

(١) انظر ما مر ل ٢١٢ / أوما بعدها ص ٢٣٢ وما بعدها من الجزء الثانى.

الحركات والسكنات (١) [وغير ذلك وبين ما هو من الخوارق للعادة : كإحياء الموتى وفلق البحر ، وابراء الأكمه ، والأبرص] (١) وغير ذلك من الأمور التى ليست معتادة مع أن كل عاقل يميز بعقله ضرورة بين القسمين ، وكل تشكيك ورد على المعلوم ضرورة ؛ فلا يكون مقبولا. ثم يلزم على ما ذكروه إخبار الجمع المفيد لليقين. واخبار الجمع الّذي لا يفيد اليقين ؛ فإن كل عاقل يعلم من نفسه التفرقة بحصول العلم الضرورى من إخبار جماعة عما شاهدوه ، ولا يجد من نفسه ذلك فى جمع آخرين ، ولو أراد تمييز عدد الجماعة الذين يحصل العلم الضرورى بخبرهم عن عدد الجماعة الذين لا يحصل ذلك بخبرهم ؛ لم يجد إليه سبيلا ؛ فما هو الجواب لهم هاهنا ؛ فهو الجواب لنا فى موضع الخلاف.

وعن الحادية والعشرون :

القائلة بجواز اطراده فيما تقدم من الأعصار ، أو فى بعض الأمصار أنه وإن أمكن ذلك عقلا ؛ فهو مع بعده ، وعدم نقله لا يمنع أن يكون ما أتى به الرسول خارقا للعادة بالنسبة إلى عصره وبالنسبة إلى قطره مع الذين تحدى به عليهم ؛ فإن طرد العادة بشيء بالنسبة إلى بعض المخلوقات لا يمتنع من كونه خارق للعادة بالنسبة إلى بعض أخر.

وعن الثانية والعشرين :

القائلة بجواز اطراد [(٢) الخارق وجواز بعثة رسل متوالية بآية واحدة.

أما جواز اطراد الخارق] (٢) فقد منع بعض المتكلمين منه / لظنه أن ذلك مما يجر إلى إبطال النبوات وليس كذلك ؛ فإنه وإن استمر واطرد ؛ فلا يخفى أن خرق العادة ، وطرد ما ليس بمعتاد من أعظم الخوارق للعادة ؛ فلا يمتنع أن يكون ابتداؤه ، ودوامه معجزا ، وبتقدير أن يكون فى جانب اطراده غير خارق ؛ فلا يخفى أن ابتداءه ، ودوامه معجزا ، وبتقدير أن يكون فى جانب اطراده غير خارق ؛ فلا يخفى أن ابتداءه بالنسبة إلى الحالة المتقدمة خارق ؛ والتحدى إنما وقع بالابتداء الخارق ، لا بما هو مطرد ، وليس بخارق اللهم إلا أن تكون دعواه ظهور الخارق من غير اطراد ؛ فإنه إذا ظهر الخارق واطرد لا يكون دليلا على صدقه.

__________________

(١) من أول [وغير ذلك ..... وابراء الأكمه والأبرص] ساقط من (أ).

(٢) من أول (الخارق ..... اطراد الخارق) ساقط من (أ).

وأما بعثه رسل متوالية بآيات :

فلا يخلو إما أن تكون آية الكل واحدة ، أو مختلفة بأن تكون آية كل واحد مخالفة لآية الأخر.

فان كان الأول : فما كان منها يعد نادرا خارقا للعادة فى العرف ؛ فهو آية ، وإن كان متكررا أو ما خرج منه إلى حد الاعتياد ، والخروج عن الندرة ؛ فليس بآية.

فإن قيل : وبما ذا يعرف النادر من المعتاد مع التكرر ؛ فجوابه ما سبق فى الشبهة المتقدمة.

وان كان الثانى : فالذى إليه ميل أكثر الأصحاب أن كل واحدة منها آية خارقة للعادة ، ولا أثر لوجود باقى المعجزات السابقة فى خروج المتأخر منها عن كونه خارقا للعادة فى جنسه ضرورة الاختلاف ، والّذي اختاره القاضى أبو بكر أن ما كان من التكرار غير موجب لأنس النفوس باعتياد خرق العادات ؛ فهو آية.

وما كان موجبا لذلك بحيث لا يستبعدون معه حدوث شيء من الخوارق ؛ بل صار خرق العوائد عندهم معتادا ؛ فلا يكون آية ؛ وهذا هو الأسدّ.

فإن قيل : إذا كان توالى الآيات ممتنعا ؛ فيلزم من ذلك امتناع تواتر الرسل ضرورة افتقار كل رسول إلى آية ؛ وهو خلاف نص الكتاب والأخبار التى لا ريب فيها عندكم :

أما الكتاب : فقوله تعالى (ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا) (١).

وأما الأخبار : فما روى أن الله ـ تعالى ـ أرسل إلى أصحاب الرسّ [ثلاثين (٢)] نبيا فى ثلاثين يوما ؛ فقتلوهم ؛ فلزم منه القدح فى النبوّات حيث انكم اعترفتم بأن الله ـ تعالى ـ بعث من زمن آدم إلى أن بعث محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مائة ألف وأربعة وعشرون ألف نبى ، ولو وزعوا على الأزمان فيما بين آدم ومحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لكانوا فى / / حد التواتر.

وجوابه على رأى القاضى : أنه [(٣) وإن جاز تواتر الأنبياء وكان ذلك واقعا فليس يلزم من ذلك تواتر الآيات بتواتر الأنبياء إذ الآيات ليست للأنبياء ؛ بل للرسل. والرسل] (٣)

__________________

(١) سورة المؤمنون ٢٣ / ٤٤.

(٢) ساقط من أ.

/ / أول ل ٧٨ / أ.

(٣) من أول (وإن جاز تواتر الأنبياء ... الخ والرسل) ساقط من (أ).

على ما قال ـ عليه‌السلام «المرسلون ثلاثمائة وخمسة عشر رسولا (١)» وليس كل رسول له آية ؛ بل جاز أن تكون الآية للبعض وهو مصدق لمن يأتى من بعده ، وعلى هذا فلا يلزم منه تواتر الآيات ، ولا القدح فى النبوات.

وعن الثالثة والعشرين :

القائلة بجواز ظهور / الكرامات على أيدى الأولياء فنقول قد اختلف المتكلمون فى ذلك :

فذهب أكثر المعتزلة : إلى إنكار ذلك.

والّذي عليه مذهب أهل الحق من الأشاعرة : جوازه ؛ لما سبق فى الاعتراض من الأدلة وإبطال شبه المنكرين ، ووافقهم على ذلك أبو الهذيل (٢) ، وعباد الصيمرى (٣) ثم اختلف أصحابنا.

فذهب الأستاذ أبو إسحاق (٤) : إلى أن الكرامات الظاهرة على أيدى الأولياء ؛ لا تبلغ مبلغ المعجزات الخارقة للعادة تفرقة بينها ، وبين المعجزات.

وذهب الباقون : إلى جواز ذلك. ثم اختلف هؤلاء :

فمنهم من قال إن الكرامات لا تقع مع القصد ، والاختيار ؛ بل لو قصد الولى إيقاعها ؛ لما وقعت ؛ تفرقة بينها ، وبين المعجزات.

وذهب الأكثرون منهم إلى جواز وقوعها مع الاختيار. ثم اختلف هؤلاء فى جواز وقوعها مع الدعوى من الولى.

فذهب الأكثرون : إلى المنع من ذلك ؛ تفرقة بينها وبين المعجزات.

وقال القاضى أبو بكر : ذلك غير ممتنع فى العقل ؛ لكن بشرط ألا يكون ادعاؤه لذلك على طريق التعظيم ، والخيلاء ؛ فان ذلك ليس من شعار الأولياء ، والصالحين ، والفرق مع ذلك بين المعجزات والكرامات ، هو أن المعجزات مع دعوى النبوة ، والكرامة

__________________

(١) فى نسخة ب (المرسلون ثلاثمائة وثلاثة عشر رسولا)

(٢) سبقت ترجمته فى الجزء الأول فى هامش ل ٧٢ / ب.

(٣) سبقت ترجمته فى الجزء الأول فى هامش ل ٦٤ / ب.

(٤) سبقت ترجمته فى الجزء الأول فى هامش ل ٥ / أ.

مع دعوى الولاية ، ولا منافاة. وعلى كل تقدير ومذهب ؛ فالفرق بين الكرامات والمعجزات واضح ، وقد اتفق الكل على امتناع تسمية الكرامات معجزات ، وعلى تخصيص هذا الاسم بآيات الأنبياء ؛ لما فيها من تعجيز الذين معهم التحدى عن المقابلة بمثلها بخلاف الكرامات ؛ إذ لا تحدى فيها.

وعن الرابعة والعشرين :

القائلة بأن ما لا يكون مقدورا ، لا يكون معجوزا عنه ؛ على ما سبق فى الأصل الثانى فى بيان المعجزات (١).

وعن الخامسة والعشرين :

القائلة بأن حركة الملك بحكم الاتفاق بناء على سبب آخر.

فانا نقول : كل من يشاهد الصورة على الوجه المفروض حصل له العلم الضرورى بالتصديق عادة ، واحتمال سبب آخر عقلا غير قادح فى ما حصل من العلم الضرورى العادى ، وهذا كما أنا نقطع ، ونعلم علما ضروريا بالنظر إلى العادة أنّ من كان من أرباب المروءات ، وواجهه بعض الناس فى مجلس حفل بالسّب ، والسّفه عليه ؛ فرأيناه وقد أصفر وجهه ، وادورت عيناه ، وتغيّرت أحواله ؛ أنه قد غضب وإن احتمل عقلا أن يكون ذلك بسبب آخر من تغيّر مزاج ، وانصباب خلط إلى غير ذلك.

قولهم : يحتمل أن يكون كاذبا فى تصديقه. /

قلنا : نحن لم نستدل بما فرضناه من الصورة على كون الملك صادقا فيما يعرض منه فى التصديق ؛ بل على أنه مصدق لا غير.

وعن السادسة والعشرين :

أن العلم الضرورى فى مثل الصورة المفروضة واقع ، وإن كانت عادة الملك المفروض مخالفة لعادة غيره من الملوك.

__________________

(١) انظر ما مر فى الأصل الثانى ل ١٣٠ / أص ١٥ وما بعدها من الجزء الرابع.

وعن السابعة والعشرين :

القائلة بإسناد العلم إلى ما شوهد من القرائن الحالية أن يقول : العلم الضرورى بذلك لو كان مستندا إلى القرائن المشاهدة بالرؤية لما حصل العلم بالتصديق لمن كان غائبا عن المجلس ، ونحن نعلم علما ضروريا بالتصديق إذا فرض لنا مثل الصورة المستشهد بها وإن لم تكن مشاهدة لنا.

وعن الثامنة والعشرين : ـ

القائلة بامتناع قياس الغائب على الشاهد أنا غير قائسين ، وإنما ذكرنا الصورة المفروضة للتمثيل لا غير.

وعن التاسعة والعشرين : ـ

القائلة بأن الدلالة إما عقلية ، أو سمعية تمنع الحصر بل تقدير المواضعة كما أسلفناه من الاستشهاد بالصورة المفروضة ، كيف وأن العلم بالتصديق على ما حققناه ضرورى الوقوع ؛ والتشكيك غير قادح فيما علم ضرورة.

وعن الثلاثين : ـ

القائلة بأن المعجز إما أن يكون مشروطا بالتحدى ، أو لا يكون مشروطا به أن نقول بدلالة المعجزة على صدقه مشروطة بالتحدى.

قولهم : فلزم أن لا تصح / / المعارضة دون التحدى من المعارض ليس كذلك ؛ إذ المقصود من المعارضة ليس إثبات صدق المعارض فى الرسالة حتى يكون التحدى شرطا فيه ؛ بل المقصود إنما هو إبطال دليل المدعى للرسالة بمعارضة الخارق بخارق أخر ، وذلك متحقق وان لم يكن المعارض متحديا ؛ وذلك لأن المتحدى إذا قال آية صدقى أننى آتى بما لا يقدر أحد على الإتيان بمثله ، فإذا أتى أحد بمثل ما أتى به ؛ فلم يتحقق دليل صدقه.

__________________

/ / أول ل ٧٨ / ب.

وعن الحادية والثلاثين : ـ

القائلة بانتفاء الغرض عن أفعال الله ـ تعالى ـ أن نقول : ما ذكروه إنما يلزم أن لو قلنا : إن خلق المعجزة على يد النبي معلل لغرض التصديق وليس كذلك ؛ بل خلق المعجزة على يده مع دعوى النبوة والتحدى ، والشروط المعتبرة من قبل دليلا على التصديق ؛ ولا يخفى الفرق بين البابين.

وعن الثانية والثلاثين : ـ

القائلة بغرض أخر أن نقول : قد بينا أن خلق المعجزة على يد المدعى للرسالة بالشروط المعتبرة يوجب العلم الضرورى بالتصديق.

قولهم : يحتمل أن يكون ذلك / الشخص كاذبا والرب ـ تعالى ـ مريدا لضلالنا بذلك ؛ فقد أجاب عنه المعتزلة : (١) بأن إظهار الخارق على أيدى الكذابين وايهام تصديقهم وخلط الصادق بالكاذب (١) وتعذر التمييز بينهما ، وإرادة ضلالنا بذلك مفسدة [للعباد (٢)] وصدهم عن طريق الإرشاد (٣) ؛ وهو قبيح من الله ـ تعالى ـ والقبيح لا يكون صادرا عنه ؛ ولكنه مبنى على فاسد أصولهم فى التحسين والتقبيح الذاتى ووجوب رعاية المصلحة فى فعل الله تعالى وذلك كله مما أبطلناه فى التعديل والتجوير (٤).

وأما أصحابنا فقد اختلفت طرقهم فى الجواب :

فالذى ذهب إليه الشيخ أبو الحسن الأشعرى وجماعة من أصحابه : القول باستحالة إظهار المعجزة على أيدى الكاذب ، وأنه غير معدود من جملة المقدورات لوجهين : ـ

الأول : أن المعجزة دالة على التصديق قطعا على ما أسلفناه ولا بد لها من جهة دلالة وان اختلف فى تعيينها ، فلو أمكن اظهار المعجزة على يد الكاذب : فإما أن تدل على صدقه ، أو لا تدل.

فإن دلت : فقد جعل الكاذب صادقا ؛ وهو محال.

__________________

(١) مكرر فى ب.

(٢) ساقط من (أ)

(٣) فى ب (الرسالة)

(٤) انظر ما مر فى الجزء الأول ل ١٧٤ / ب وما بعدها ص ١١٥ وما بعدها من الجزء الثانى.

وإن لم تدل : فيفضى ذلك إلى انقلاب دلالة ما وجبت دلالته ، وخروجه عما وجب له ؛ وهو محال كما فى الأدلة العقلية.

والثانى : أن المعجزة وإن لم تتعلق بتصديق الرسول كتعلق الدلالات العقلية ، إلا أن دلالتها واجبة الاقتران بالتصديق ؛ [لما بيناه ؛ فلو ظهرت على يد الكاذب ؛ لما كانت مقترنة بالتصديق] (١) وما وجب له أن يكون مقارنا للتصديق استحال تقديره منفردا ؛ لما فيه من اخراج الواجب عن كونه واجبا ، ولهذا فإن مقارنة الحياة للعلم ومقارنة الآلام القائمة بالحى للعلم لما كانت واجبة ؛ استحال فرض وجود العلم منفردا عن الحياة ، والآلام القائمة بالحى منفردة عن العلم بها.

وذهب القاضى أبو بكر وجماعة من أصحابنا : إلى أن إظهار المعجزات على أيدى الكذابين من المقدورات. لكن اختلف هؤلاء :

فمنهم من قال إن انخراق العوائد وقلبها غير مستبعد فى مقدور الله ـ تعالى ـ كما سبق (٢) وملازمة العلم بتصديق من ظهرت المعجزة على وفق تحديه وإن كان معتادا جاريا مجرى سائر العاديات كملازمة العلم الضرورى من أخبار التواتر وخجل الخجل ، ووجل الوجل عند احمراره ، واصفراره فلا يمتنع خرق العادة فيه فى مقدور الله ـ تعالى ـ وذلك بأن توجد المعجزة مع التحدى غير مقترنة بالعلم بتصديق المتحدى.

وعلى هذا فلا يمتنع إظهار المعجزة على أيدى الكذابين ؛ ولكن بشرط قلب العادة فى ملازمة العلم الضرورى بالتصديق لإظهار المعجزة / على يده ، وأما مع عدم خرق هذه العادة ؛ فلا يتصور إظهار المعجزة على يده ؛ لما فيه من العلم الضرورى بصدق من ليس بصادق ؛ وهو محال. وكل ما يدعيه فى هذا الباب من المعجزات : كاحياء الميت وابراء الأكمة ، والأبرص ، وفلق البحر إلى غير ذلك. فملازمة العلم الضرورى له بتصديق / / من ظهر على يده من المتحدين معتاد غير منقلب عن العادة ؛ فلا يجوز إظهاره على أيدى الكذابين.

فان قيل : إذا جوزتم قلب العوائد وخرقها ؛ فما المانع أن يكون ما تذكرونه من المعجزات على نبوة من سلف من الأنبياء كانت معتادة فى زمنهم وأن لم تكن معتادة فى زمننا ، وعند هذا فلا تكون حجة على صدقهم.

__________________

(١) ساقط من (أ)

(٢) راجع ما مر ل ١٣١ / ب وما بعدها. القاعدة الخامسة : الأصل الثانى : الفصل الثانى.

/ / أول ل ٧٩ / أمن النسخة ب.

فنقول : ما يدعيه من المعجزات الخارقة للعادة : كاحياء الميت ، ونحوه نعلم بالضرورة أنه لم يكن معتادا فيما سلف من الأزمنة كما نعلم أنه لم تكن العادة جارية بأن البحار تحوى ذهبا ، وأن بالجبال يواقيت وجواهر ، وأن الإنسان كان يموت ويحيا إلى غير ذلك. وهذا الوجه فى غاية الحسن والدقة.

ومنهم من قال : وإن كان اظهار المعجزة على يد الكاذب مقدورا ؛ فلا يلزم أن يكون وقوعه جائزا. وإن قدرنا جواز خرق العوائد ، كما لا يجوز وقوع خلاف معلوم الله ـ تعالى ـ وإن كان مقدورا.

لكن قد بينا فى الصفات أن النزاع فى كون الشيء مقدورا مع امتناع وقوعه راجع إلى نزاع لفظى والأوجه للمذهبين الأولين وما ذكروه من الوجهين الأخريين فى تقرير الشبهة ؛ فمندفع بما قررناه من أن العلم الضرورى بالتصديق حاصل عادة ، وأن تجويز غير ذلك من الاحتمالات لا يقدح فيما هو معلوم عادة.

وعن الثالثة والثلاثين : ـ

بما بيناه من إحالة الكذب على الله تعالى (١).

وعن الرابعة والثلاثين : ـ

القائلة : بامتناع وصول خبر التحدى إلى جميع الناس أن نقول إذا ادعى الرسالة ، وتحدى بما نعلم بالضرورة أنه من خوارق العادات فى كل عصر ، ومصر : كإحياء الميّت ، وغيره مما ذكرناه وعجز من فى قطره عن معارضته. فإنا نجد من أنفسنا العلم الضرورى بتصديقه كما فرضناه من الصورة المستشهد بها. فإنّا نعلم أن القائل للملك إن كنت رسولا عنك فقم ثلاث مرات ، وإن لم أكن فلا تقم ، فإنه بتقدير فعله لذلك نعلم كونه مصدقا له بتقدير عجز الحاضرين عن الاتيان بمثله ، وإن لم يكن قد بلغ الخبر بذلك إلى غير الحاضرين ، ويلزم من ذلك أن يكون رسولا بالنسبة إلى كل من بلغته دعوته ، وخرج على هذا ما استشهدوا به من الصنائع البديعة فإنه لا ينتهى إلى حد / المعجزات ، ولا القرية تنزل منزلة الإقليم والقطر.

__________________

(١) راجع ما سبق فى الجزء الأول ـ القاعدة الرابعة ـ الباب الأول ـ القسم الأول ـ النوع الرابع ـ المسألة الحادية عشرة : فى استحالة الكذب فى كلام الله ـ تعالى. ل ١٦٥ / ب وما بعدها ص ٨٣ وما بعدها من الجزء الثانى.

وعن الخامسة والثلاثين : ـ

القائلة بعدم توفر الدّواعى على المعارضة أنه خروج عما نعلمه اضطرارا من اطراد العوائد ، واستمرارها على المبادرة ، والمسارعة إلى معارضة من يدعى الانفراد ، والاستبداد بأمر يحل خطره ، ويعظم وقعه دون أقرانه وأبناء زمانه ممن يقدر منهم على معارضته ، وإفحامه فى دعوته بحيث لا ينتدب أحد منهم لذلك. والمعلوم بالضرورة العادية لا يقدح فيه احتمال نقيضه كما أسلفناه.

وعلى هذا فقد خرج الجواب عما ذكروه [(١) من احتمال الموافقة ترويجا لما يرومونه من التقدم ، وإعلاء الكلمة وبه أيضا يخرج الجواب عما ذكروه من الاحتمالات

فى الشبهة السادسة والسابعة والثامنة والثلاثين

كيف وأنه إذا ادعى النبوّة وقال آيتى أنّ أحدا لا يأتى بمثل ما أتيت به من الخارق فصدق دواعيهم عن الإتيان بمثل ما أتى به لما ذكروه] (١) من الاحتمالات وأن قدر كون ما أتى به مقدورا لهم يكون خارقا للعادة ، ودليلا على صدقه.

وعن التاسعة والثلاثين : ـ

القائلة باحتمال وقوع المعارضة ، أنه لو وقعت المعارضة ؛ لاستحال عدم نقلها عادة ؛ لأنّا بيّنا أن العادة عند تحدّى بعض الناس بهذه الأمور العظيمة ، والقضايا الجسيمة يحيل التواطؤ من الكل على عدم معارضته مع القدرة على المعارضة قصدا لإبطال دعوته ، وإفساد حجته ، ولا يتحقق هذا المقصود بمجرد المعارضة دون إظهارها ، واحتمال وجود المانع من الإظهار وإن كان قائما بالنّظر إلى بعض الناس ، وبعض الأوقات ، وبعض الأماكن فالعادة تحيل وجود المانع مطلقا بالنسبة إلى جميع الخلق ، وجميع الأوقات ، وجميع الأماكن ؛ فلو تحققت المعارضة ؛ لاستحال عادة أن لا تظهر مطلقا.

وعن الأربعين :

(٢) أن ما يظهر على يد مدّعى الربوبية لا يضيفه إلى الله ـ تعالى حتى ينزل ذلك من الله ـ تعالى ـ منزلة التّصديق له ؛ بل إنّما يضيفه إلى نفسه (٢). ودلالة المعجزة على

__________________

(١) من أول (من احتمال ..... الى لما ذكروه) ساقط من (أ)

(٢) ساقط من ب (أن ما يظهر ..... إلى نفسه)

صدق المتحدّى إنّما كان من جهة نزولها منزلة التصديق له من (١) الله ـ تعالى ـ فإذا لم تكن نازلة منزلة التصديق من الله ـ تعالى ـ فلا دلالة لها.

كيف وأن دلالة المعجزة على صدق المدعى (١) مشروطة بعدم المعارض القاطع الدّال على كذبه ، والدلالات القطعية على حدوث الواحد منا عند ادعائه الربوبية ، وأنه مربوب وليس برب بادية / / ظاهرة لا يرتاب فيها أحد من العقلاء ؛ فلا يكون ما ظهر على يده موجبا لتصديقه.

فإن قيل : سلمنا جواز البعثة عقلا ؛ ولكن هل يقولون بجواز بعثة النساء أم لا؟

قلنا : أما أصحابنا فقد اتفقوا على جواز بعثة النساء عقلا ؛ فإنه لو فرض ؛ لم يلزم عنه المحال لذاته. وذهبت طائفة [من المعتزلة] (٢) إلى منع ذلك تمسكا منهم بقصور عقل المرأة عن عقل الرجل ؛ وهو بعيد ؛ فإن ذلك مما يختلف / ، فكم من امرأة أثمن عقلا من كثير من الرجال ، ولا سيما مريم عليها‌السلام ، وأمثالها.

__________________

(١) ساقط من ب (من الله تعالى ..... على صدق المدعى)

/ / أول ل ٧٩ / ب من النسخة ب.

(٢) ساقط من (أ)

الأصل الرابع

فى إثبات رسالة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١)

ومن ثبتت نبوّته ، واشتهرت رسالته بالمعجزات ، والآيات القاطعات كموسى ، وعيسى ، وغيرهما ممّا تواترت به الأخبار بما ظهر على أيديهم كفلق البحر (٢) ، وقلب العصا حيّة ، وإحياء الميّت ، وإبراء الأكمه ، والأبرص (٣) وغير ذلك كثير. غير أنا نقتصر من ذلك على إثبات رسالة سيد الأولين والآخرين محمد ـ صلي الله عليه وسلم ـ وعلى آله أجمعين ـ إذ الطوائف على إنكار بعثته متفقون ، وفى مآخذهم مختلفون ؛ فرب من أنكر رسالته لانكار جواز البعثة كما سبق (٤) ، ورب من أنكرها لمجرد القدح فى معجزاته والطعن فى آياته : كالنّصارى ، وغيرهم من المعترفين بجواز نسخ الشرائع وبعثة الرسل. ورب من أنكر رسالته لاعتقاده إحالة نسخ الشرائع : كبعض اليهود لكن منهم من أحال ذلك عقلا كالشمعنية (٥) : ومنهم من جوزه عقلا وأحاله شرعا : كالعنانية (٦). ولم يوافق

__________________

(١) لمزيد من البحث والدراسة سأذكر فيما يلى بعض كتب المتقدمين التى استفاد منها الآمدي وناقشها ، وبعض كتب المتأخرين التى تأثرت به واستفادت منه وناقشته.

التمهيد للباقلانى ص ١١٤ وما بعدها. والإنصاف له أيضا ص ٦٢ وما بعدها. والإرشاد للجوينى ص ٣٣٨ وما بعدها. وأصول الدين للبغدادى ص ١٦١ وما بعدها. وغاية المرام فى علم الكلام للآمدى ص ٣٤١ وما بعدها.

وشرح الأصول الخمسة للقاضى عبد الجبار ص ٥٧٦ وما بعدها. والمغنى فى أبواب التوحيد والعدل له أيضا. الجزء الخامس عشر : التنبؤات والمعجزات. وتثبيت دلائل النبوة له أيضا. ومن كتب المتأخرين عن الآمدي المتأثرين به : شرح المواقف للإيجي ـ الموقف السادس ـ ص ٩٤ وما بعدها.

وشرح المقاصد للتفتازانى ٢ / ١٣٤ وما بعدها. وشرح مطالع الأنظار للأصفهانى ص ٢٠٤ وما بعدها.

(٢) من معجزات سيدنا موسى ـ عليه‌السلام ـ فلق البحر ، وقلب العصا حية.

(٣) من معجزات سيدنا عيسى ـ عليه‌السلام ـ إحياء الميت ، وإبراء الأكمه والأبرص.

(٤) هم : البراهمة ، والصابئية ، والتناسخية. انظر عنهم ما مر فى الأصل الثالث ل ١٣٣ / ب وما بعدها من الجزء الأول.

(٥) الشمعنية : أحالت الشمعنية نسخ الشرائع ، وتبدل الذرائع عقلا ، وهم الربانية وسماهم ابن حزم الأشعثية ، وهم القائلون بأقوال الأحبار ومذاهبهم ، وهم جمهور اليهود. يدعون أن الشريعة بدأت بموسى وانتهت به ولا يجوز نسخها ؛ لأن النسخ بداء ، ولا يجوز البداء على الله تعالى.

[الفصل فى الملل والأهواء والنحل لابن حزم ١ / ١٧٨ ، والملل والنحل للشهرستانى ١ / ٢١٠ وما بعدها].

(٦) العنانية : هم أصحاب عنان بن داود ، رأس الجالوت. يخالفون سائر اليهود فى السبت والأعياد ، وينهون عن أكل الطير والظباء والسمك والجراد ، ويذبحون الحيوان على القفا. أحالوا نسخ الشريعة شرعا. وهم كسائر اليهود.

يدعون أن الشريعة لا تكون إلا واحدة ، وهى ابتدأت بموسى ـ عليه‌السلام ـ وتمت به. فلم تكن قبله شريعة. إلا حدود عقلية ، وأحكام مصلحية. ولم يجيزوا النسخ أصلا ؛ لأن النسخ فى الأوامر بداء. ولا يجوز البداء على الله ـ تعالى.

[الفصل فى الملل والأهواء والنحل لابن حزم ١ / ١٧٨ ، والمل والنحل للشهرستانى ١ / ٢١٥ وما بعدها].

أهل الاسلام على كونه رسولا غير العيسويّة (١) من اليهود ؛ فإنّهم اعترفوا برسالته ؛ لكن إلى العرب خاصّة لا إلى الأمم كافّة.

والّذي يدل على كونه رسولا من عند الله ـ تعالى ـ أن نقول : إنّ محمّدا كان موجودا ، وأنّه ادّعى الرّسالة عن الله ـ عزوجل ـ ، وأنه ظهرت المعجزات على يده ، وأنّه تحدّى بها ، ولم يوجد لها معارض فكان رسولا.

وفى تحقيق هذا الدّليل يفتقر إلى تقرير دعاوى أربعة :

الدّعوى الأول : أنّه كان موجودا مدّعيا للرّسالة.

والثانية : أنّه ظهرت المعجزات على يده.

والثالثة : أنّه تحدّى بها.

والرابعة : أنه لم يوجد لها معارض

أما الدّعوى الأولى :

فهى معلومة بالضّرورة المستفادة من التّواتر المفيد للقطع ، كيف وأن ذلك ممّا لم يصر أحد إلى انكاره ، ومناكرته. ومن أنكر ذلك ؛ فقد تاهت وسقطت مكالمته.

وأما الدّعوى الثّانية :

فبيانها بإثبات بعض ما ظهر على يده من المعجزات والآيات القطعيّات ، لتعذّر استقصاء كلّ ما ظهر على يده ؛ إذ هو خارج عن العدّ ، والحصر ، فمن جملتها القرآن المجيد الّذي (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (٢)

__________________

(١) العيسوية : هم أصحاب أبى عيسى الأصبهانى رجل من اليهود كان بأصبهان. خالفوا سائر اليهود وقالوا بنبوة عيسى عليه‌السلام ، وبرسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم للعرب خاصة ويقولون : إن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم نبى أرسله الله ـ تعالى بشرائع القرآن إلى بنى إسماعيل عليه‌السلام ، وإلى سائر العرب خاصة كما كان (أيوب) نبيا فى (بنى عيص). وكما كان (بلعام) نبيا فى (بنى موآب) باقرار من جميع فرق اليهود.

[الفصل فى الملل والأهواء والنحل لابن حزم ١ / ١٧٩ ، والملل والنحل للشهرستانى ١ / ٢١٥ وما بعدها].

(٢) سورة فصلت ٤١ / ٤٢.

وقد اختلف المسلمون فى وجه إعجازه :

فمنهم من قال : المعجز فيه ما اشتمل عليه من النّظم الغريب ، والوزن العجيب ، والأسلوب المخالف لما استنبطه البلغاء من العرب من الأوزان ، والأساليب فى مطالعه / وفواصله ، وهذا هو مذهب بعض المعتزلة.

ومنهم من قال : وجه الإعجاز فيه ما اشتمل عليه من البلاغة الّتي تتقاصر عنها سائر ضروب البلاغات. وتحقيق ذلك يتوقّف على تحقيق معنى البلاغة ، واشتمال القرآن على أبلّغها وهذا هو قول الجاحظ من المعتزلة أيضا.

أما البلاغة : ففى اللغّة مأخوذة من البلوغ ، ومنه يقال بلغ فهو بليغ ؛ لمن بلغ ظاهر لفظه الإنباء عن ما فى ضميره.

وأما حدّ البلاغة : فقد اختلفت فيه عبارات الأدباء ، وأسّدها وأوفاها بالغرض قول بعضهم : البلاغة هى التّعبير عن المعنى الصّحيح لما طابقه من اللّفظ الرّائق : من غير مزيد على المقصد ولا انتقاص عنه فى البيان.

وعلى هذا فكلّما ازداد الكلام من المطابقة للمعنى وشرف الألفاظ ورونق المعانى. والتجنّب عن الرّكيك المستغثّ منها كانت بلاغته أزيد.

وهل رتب البلاغة متناهية أم لا؟ : فالذى ذهب إليه بعض أصحابنا : أن مراتب البلاغة غير متناهية ، وأنّه ما من رتبة منها إلا وفوقها رتبة فى علم الله ـ تعالى ـ [(١) إلى ما لا يتناهى.

وقال القاضى أبو بكر : بتناهيها فى علم الله ـ تعالى ـ] (١) وان لم يحط بها علم المحدثين.

والحق أنه إن نظر إلى اللغات الواقعة المتناهية فمراتب البلاغة فيها لا بد وأن تكون متناهية ؛ لأن البلاغة على ما ذكرناه عائدة الى مطابقة الشّريف من الألفاظ للصّحيح من المعانى من غير زيادة فى القصد ، ولا نقصان عنه فى البيان.

__________________

(١) ساقط من (أ)

ولا يخفى / / أن الألفاظ الشّريفة الواقعة بالاصطلاح المطابقة للمعانى متناهية ؛ فكانت مراتب البلاغة المترتّبة على الألفاظ الواقعة متناهية.

وأما إن نظر إلى ما يمكن وقوعه من اللّغات بعد اللغات الواقعة المفروضة :

فلا يبعد فى علم الله ـ تعالى ـ وجود ألفاظ هى أشرف من الألفاظ الواقعة. وتكون مطابقتها لمعانيها أعلى رتبة فى البلاغة من الألفاظ الواقعة وهلمّ جرا إلي ما لا يتناهى.

واذا عرف ذلك فاشتمال القرآن على أصل البلاغة ، وتميزه عن الرّكيك من الألفاظ ؛ أمر متّفق عليه ؛ وهو معلوم بالضرورة عند من له أدنى معرفة باللّغة.

وإنّما الحاجة داعية إلى بيان اشتماله على البلاغة المجاوزة لجملة البلاغات المعهودة لأرباب أهل اللغة نظما ، ونثرا ؛ إذ به يتحقّق الإعجاز من غير حاجة (١) إلى القول أنه لا بلاغة أبلغ من بلاغة القرآن (١) فى علم الله ـ تعالى ـ ومن كان عالما بأركان البلاغة وفنونها ، ومن جميع المعانى الكثيرة فى الألفاظ القليلة مع دقّتها ، وعذوبتها ، والبسيط مع مجانبة الحشو ، وضروب التّأكيد مع تعرى الكلام عما يسفل / ويخل ، ووصف الأحوال والتّشبيهات ، وضرب الأمثال والاستعارات ، وحسن مطالع الكلام ، وعذوبة ومفاصله ، والحذف ، والاضمار ، والتّقديم ، والتّأخير ، مع سلاسة الكلام ، وعذوبة ألفاظه ، ودقّتها ، وتعريها عن المستغث الشّاذ النّادر إلى غير ذلك من أنواع البلاغات ؛ علم أنّ القرآن عند تصفّحه ، والنّظر فى آياته ، ودلالة ألفاظه ؛ مشتمل على جملتها ومحتوى عليها ؛ لم يغادر منها شيئا ، وأنّ افصح فصحاء العرب ، وأبلغ بليغ من أهل الأدب من أرباب النّظم ، والنّثر ، والخطب غايته الاستئثار بنوع واحد من أنواع البلاغة على وجه لوازم غيره فى كلامه لما واتاه ، وكان فيه مقصّرا ، وأنّه لم يجتمع لأحد من البلغاء فى كلامه من أنواع البلاغة ، ما اجتمع فى القرآن الكريم.

فمما كثر معناه وقلّ لفظه مع جزالة الألفاظ ودقّتها وتعاليها عن الرّكيك المستغثّ قوله ـ تعالى ـ : ـ

(يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) (٢)

__________________

/ / أول ٨٠ / أ.

(١) فى ب (إلى أنه لا بلاغة أبلغ من القرآن)

(٢) سورة الرعد ١٣ / ٤.

حيث دلّ على وحدانيّته ، وعظم صمديّته ، وأنّ ذلك كلّه ليس إلا بمشيئته ، وإرادته ، وأنه مقدور بقدرته ، وأنّه لو كان ذلك بالماء والتّراب والفاعل له الطبيعة ؛ لما وقع الاختلاف.

ومما كثرت معانيه وقلّ لفظه قوله ـ تعالى ـ : ـ

(خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) (١)

فإنّه مع قلّة ألفاظه ؛ قد دلّ على العفو عن المذنبين ، وصلة القاطعين ، وإعطاء المانعين ، وتقوى الله ، وصلة الأرحام وحبس اللّسان ، وغض الطّرف.

ومن هذا القبيل قوله ـ تعالى ـ : ـ

(فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا) (٢)

فاشتمل مع عذوبة ألفاظه ، وقلّتها على ما آلت إليه قصص الأولين ، وسير الماضين.

ومع ذلك قوله ـ تعالى ـ : ـ

(وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ) إلى قوله ـ تعالى : ـ (وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٣)

فإنّه مع جزالة ألفاظه ، وبهجتها. وزيادة رونقها ؛ قد دلّ على هلاك العالم ومفتتح حلول العذاب ، ومختتمة. وما كان من المهلكين في حالهم.

وما كان من المنجين المؤمنين فى انجلاء الأمر عنهم إلى غير ذلك.

ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ : ـ

(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ...) الآية (٤)

__________________

(١) سورة الأعراف ٧ / ١٩٩.

(٢) سورة العنكبوت ٢٩ / ٤٠.

(٣) سورة هود ١١ / ٤٢ ـ ٤٤.

(٤) سورة آل عمران ٣ / ١٨٥.

فإنّها أيضا مع قلّة ألفاظها وجزالتها ؛ مشتملة على ذكر الدّنيا والعقبى ، والتّحذير بالموت ، والتّرغيب بالثّواب ، والتّحذير بالعقاب ووصف الدّنيا بالغرور إلى غير ذلك.

/ ومن نظر في مجمله ، ومفصّله ، ومتشابهه ؛ فإنّه يجد فى كلّ ذلك العجب العجاب ، ويتحقّق بما أمكنه من إدراكه ؛ إعجازه لذوى العقول والألباب ، وعلم أنّ أبلغ ، وأحسن ما نطقت به بلغاء العرب من ذوى الآداب ، والرّتب إذا نسبه إلى الكلام الرّبانى ، وجد النّسبة بينهما على نحو ما بين اللّسان العربى ، والأعجمى ؛ فإنك لا ترى إلى فصيح قول العرب فى انزجار القاتل : «القتل أنفى للقتل». وإلى قوله ـ تعالى ـ : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) (١) وما بينهما من الفرق فى الجزالة والبلاغة والتّفاوت فى الحروف الدّالة على المعنى ، ومن كان أشدّ تدربا ومعرفة بمذاهب العرب فى اللغات ، وأنواع البلاغات ؛ كان أشدّ معرفة ببلاغة القرآن وإعجازه ، كما أنّ من كانت معرفته بعلم الطبيعة فى زمن إبراهيم ، وعلم السحر فى زمن موسى ، والطّب فى زمن عيسى أشدّ ، كان أشدّ معرفة بإعجاز ما جاء به إبراهيم ، وموسى ، وعيسى / / ومنهم من قال : وجه الإعجاز فيه ؛ ما اشتمل عليه القرآن من الإخبار عمّا تحقّق بعد ما أخبر به من الأمور الغيبيّة :

كما فى قوله ـ تعالى ـ : ـ

(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) (٢) وكان كما أخبر.

وكقوله ـ تعالى ـ : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) (٣) وكان كما أخبر.

وكقوله ـ تعالى ـ : (وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها) (٤) وكان كما أخبر.

وقوله ـ تعالى :

(الم* غُلِبَتِ الرُّومُ* فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ* فِي بِضْعِ سِنِينَ) (٥).

__________________

(١) سورة البقرة ٢ / ١٧٩.

/ / أول ل ٨٠ / ب.

(٢) سورة الإسراء ١٧ / ٨٨.

(٣) سورة الفتح ٤٨ / ٢٧.

(٤) سورة الفتح ٤٨ / ٢٠.

(٥) سورة الروم ٣٠ / ١ ـ ٤.

أخبر عن أمر واقع ؛ وهو غلبة الفرس للروم في أدنى أرض العرب وهو منقطع الشّام ، وعن أمر متوقّع ؛ ووقع على وفق ما أخبر به [وهو غلبة الروم للفرس فى بضع سنين وهو ما بين الثّلاث إلى التسع إلى غير ذلك من الآيات الدّالة على ما أخبر بوقوعه ، ووقع على وفق ما أخبر به] (١).

ومنها الإخبار عن قصص الماضين ، وسير الأولين على [نحو] (٢) ما وردت به الكتب السّالفة ، والتّواريخ الماضية مع ما عرف من حال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من الأمّية وعدم الاشتغال بالعلوم والدّراسة ، وعدم معاشرة أهل الكتاب ، وأرباب العلم.

وذلك كلّه من المعجزات الخارقة للعادة على ما لا يخفى ، وليس المعجز هو نفس الإخبار عن الغيب ، ولا نفس وقوع المخبر عنه إذا كان من الأمور العاديّة كما ذكرناه من الأمثل ؛ بل المعجز من ذلك علمه بالغيب الّذي دلّ عليه وقوع المخبر عنه.

ومنهم من قال : وجه الإعجاز فى القرآن إنما هو عدم اختلافه وتناقضه مع طوله ، وامتداده : متمسّكين فى ذلك بقوله ـ تعالى ـ :

(وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (٣).

ومنهم / من قال : وجه الإعجاز فيه موافقته لقضيّة العقل فى دقيق المعانى.

ومنهم من قال : وجه الإعجاز فيه : إنّما هو قدمه

ومنهم من قال : وجه إعجازه : كونه دالّا على الكلام القديم.

ومنهم من قال : وجه الإعجاز ؛ إنّما هو مجموع الوصفين : وهما النّظم الغريب ، والبلاغة ؛ وهذا هو اختيار القاضى أبى بكر.

وذهب الأكثرون : كالأستاذ أبى اسحاق ، والنّظام ، وبعض الشيعة وغيرهم : إلى أن العرب كانت قادرة على مثل كلام القرآن قبل البعثة. وأنه لا إعجاز فى القرآن. وإنما المعجز هو صرف بلغاء العرب عن معارضته.

__________________

(١) ساقط من أ.

(٢) ناقص من (أ)

(٣) سورة النساء ٤ / ٨٢.

إما بصرف دواعيهم : كما قاله النّظّام ، والأستاذ أبى اسحاق. وإما يسلبهم العلوم : التى لا بدّ منها فى المعارضة ، كما قاله الشّريف المرتضى من الشيعة (١) ، وأما ما هو المختار من ذلك فسننبه عليه فيما بعد.

ومن معجزاته ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : انشقاق القمر له على ما دل عليه قوله ـ تعالى : ـ (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) (٢) وقد رواه ابن مسعود وغيره من الصحابة (٣).

ومن ذلك كلام الجمادات والحيوانات العجماوات فى زمنه ، وحركات الجمادات إليه ، واكتفاء العدد الكثير بالطعام القليل ، ونبع الماء من بين أصابعه ، وإخباره بالغيب ووقوعه على وفق ما أخبر ، إلى غير ذلك من المعجزات.

__________________

(١) الشريف المرتضى (٣٥٥ ـ ٤٣٦ ه‍ / ٩٦٦ ـ ١٠٤٤ م) : هو الشريف على بن الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم بن موسى الكاظم ابن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن على زين العابدين بن الحسين بن على بن أبى طالب

(الشريف المرتضى ، أبو القاسم ، علم الهدى).

ولد فى رجب سنة ٣٥٥ ه‍ وولى نقابة الطالبيين ، وتوفى ببغداد فى ٢٥ ربيع الأول سنة ٤٣٩ ه‍ له سبعة وثمانون مصنفا. منها : ايقاظ البشر فى القضاء والقدر ، غرر الفرائد ودرر القلائد فى المحاضرات ، الذخيرة فى الأصول ، الشافى فى الإمامة وله أيضا : ديوان شعر.

[انظر : تاريخ بغداد ١١ / ٢٠٢ وما بعدها ، وفيات الأعيان ١ / ٤٣٣ وما بعدها ، ولسان الميزان لابن حجر ٤ / ٢٢٣].

(٢) سورة القمر ٥٤ / ١.

(٣) أحاديث انشقاق القمر للرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ صحيحة متفق على صحتها أخرجها البخارى ، ومسلم ، والترمذي ، وأبو داود ، والإمام أحمد وغيرهم وسأشير فيما يلى إلى ارقام الصفحات والأحاديث فى كتب هؤلاء الأئمة. على قدر الطاقة.

أولا : صحيح البخارى ـ كتاب المناقب ـ باب سؤال المشركين أن يريهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم آية فأراهم انشقاق القمر. عن عبد الله بن مسعود ـ رضى الله عنه ـ قال : «انشق القمر على عهد النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ شقتين ، فقال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : اشهدوا» الحديث رقم ٣٦٣٦ ج ٦ ص ٧٣٠ [الأحاديث : ٣٦٣٧ ، ٣٦٣٨]. وكتاب مناقب الأنصار ٧ / ٢٢١ باب انشقاق القمر. الأحاديث [٣٨٦٨ ـ ٣٨٧١]. وكتاب تفسير القرآن سورة القمر ـ وانشق القمر ـ ٨ / ٤٨٢ [الأحاديث : ٤٨٦٢ ، ٤٨٦٨].

ثانيا : بقية الكتب وسأشير إليها بإيجاز بعد أن وضحت ما ورد فى صحيح البخارى بالتفصيل.

أ ـ صحيح مسلم ـ كتاب صفات المنافقين ـ باب انشقاق القمر ٤ / ٢١٥٨ ح ٢٨٠٠ وما بعده.

ب ـ سنن الترمذي ـ كتاب الفتن ـ باب ما جاء فى انشقاق القمر ٤ / ٤٧٧ ح ٢١٨٢.

ج ـ سنن أبى داود ـ باب ما جاء فى معجزاته ومنها انشقاق القمر ٢ / ١٢٣.

د ـ مسند الإمام أحمد ١ / ٣٧٧ مسند عبد الله بن مسعود ٣ / ٢٧٥ مسند انس بن مالك ٤ / ٨١ ، ٨٢ مسند جبير بن مطعم.

ولمزيد من البحث والدراسة : انظر : كتاب دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة ـ للإمام البيهقى ٢ / ٢٦٢ ـ ٢٦٨ (باب سؤال المشركين رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بمكة أن يريهم آية ؛ فأراهم انشقاق القمر).

وتثبيت دلائل النبوة للقاضى عبد الجبار ١ / ٥٥ ـ ٥٩.

وأما كلام الجمادات : فمن ذلك ما روى عن أنس بن مالك (١) ـ رضى الله عنه ـ أنه قال : كنا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخذ كفّا من حصى فسبّحن فى يده حتى سمعنا التسبيح. ثم صبّهن فى يد أبى بكر ، ثم فى يد عمر ، ثم فى يد عثمان ، ثم فى أيدينا واحدا بعد واحد ، فلم تسبح (٢).

ومن ذلك ما روى جعفر (٣) بن محمد عن أبيه قال : «مرض رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فأتاه جبريل بطبق فيه رمان ، وعنب ؛ فأكل النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم منه فسبح العنب ، والرمان» (٤).

ومن ذلك ما روى عنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ «أنه قال للعباس (٥) يا أبا الفضل الزم منزلك غدا انت وبنوك إنّ لى فيكم حاجة ؛ فصحبهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وقال تقاربوا فزحف بعضهم إلى بعض فاشتمل عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بملاءة وقال هذا عمىّ وصنو

__________________

(١) أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم النجارى الخزرجى الأنصارى أبو حمزة. صاحب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وخادمه روى عنه رجال الحديث ٢٢٨٦ حديثا. ولد بيثرب (المدينة المنورة) قبل الهجرة بعشر سنين ، وأسلم صغيرا ، وخدم النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلى أن قبض ، ثم رحل إلى دمشق ، ومنها إلى البصرة ؛ فمات فيها وعمره أكثر من مائة عام وهو آخر من مات بالبصرة من الصحابة سنة ٩٣ ه‍.

[طبقات ابن سعد : ٧ : ١٠ ، وصفة الصفوة لابن الجوزى ١ / ٢٧٠ ـ ٢٧٢ الأعلام للزركلى ٢ / ٢٤ ، ٢٥].

(٢) أورده النبهانى فى كتابه : حجة الله على العالمين فى معجزات سيد المرسلين ـ باب تسبيح الحصى والطعام ص ٤٤٧ عن أنس ـ رضى الله عنه ـ ثم ذكره وعزاه إلى ابن عساكر. وأخرجه البيهقى فى دلائل النبوة ـ باب ما جاء فى تسبيح الحصيات فى كف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ثم فى كف بعض أصحابه ٦ / ٦٤ عن أبى ذرّ ـ رضى الله عنه بلفظ قريب جدا من هذه الرواية. وأورد الهيثمى فى مجمع الزوائد كتاب علامات النبوة ٨ / ٢٩٨ ، ٢٩٩ عن أبى ذر وعزاه إلى الطبرانى فى الأوسط. والقاضى عياض فى كتابه : الشفاء ـ باب ومثل هذا فى سائر الجمادات ص ٢٠١ ، ٢٠٢. ولمزيد من البحث والدراسة (انظر دلائل النبوة للبيهقى ٦ / ٦٤ باب ما جاء فى تسبيح الحصيات فى كف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم)

(٣) جعفر بن محمد الباقر بن على زين العابدين بن الحسين بن على ـ رضى الله عنهم ـ الملقب بالصادق. سادس الأئمة الاثنى عشر عند الإمامية. كان من علماء التابعين وله منزلة رفيعة في العلم. أخذ عنه جماعة : منهم الإمامان أبو حنيفة ومالك. ولقب بالصادق : لأنه لم يعرف عند الكذب قط. له أخبار مع الخلفاء من بنى العباس ، وكان جريئا عليهم صداعا بالحق لا يخشى فى الحق لومة لائم. ولد بالمدينة سنة ٨٠ ه‍ وتوفى بها سنة ١٤٨ ه‍ [وفيات الأعيان لابن خلكان ١ / ١٠٥ وصفة الصفوة لابن الجوزى ١ / ٣٧٥ ـ ٣٧٨ الأعلام للزركلى ٢ / ١٢٦].

(٤) أورده النبهانى فى كتابه : حجة الله على العالمين فى معجزات سيد المرسلين ـ باب تسبيح الحصى والطعام ص ٤٤٧ عن جعفر بن محمد عن أبيه. وعزاه إلى القاضى عياض فى كتابه الشفاء. وأخرجه القاضى عياض فى كتابه : الشفاء ـ باب ومثل هذا فى سائر الجمادات ص ٢٠٢ عن جعفر بن محمد عن أبيه. (طبعة سنة ١٣٦٩ ه‍ / سنة ١٩٥٠ م).

(٥) العباس بن عبد المطلب رضى الله عنه : من أكابر قريش فى الجاهلية والاسلام عم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجد الخلفاء العباسيين قال فيه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ هذا بقية آبائى ـ كانت له سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام. هاجر إلى المدينة وشهد فتح مكة كما شهد وقعة (حنين) وثبت فيها حين انهزم الناس له فى كتب الحديث خمسة وثلاثون حديثا. ولد بمكة قبل الهجرة بإحدى وخمسين سنة وعمر طويلا وتوفى سنة ٣٢ ه‍ (صفة الصفوة لابن الجوزى ١ / ١٩٠ ـ ١٩٢ والأعلام للزركلى ٣ / ٢٦٢)

أبى ، وهؤلاء من أهل بيتى ؛ فاسترهم من النّار كسترى إيّاهم ؛ فأمنت أسكفة الباب وحيطان البيت وقالت آمين آمين» (١).

ومن ذلك ما روى ابن عمر (٢) أنه قال : كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم / فى سفر ؛ فأقبل أعرابى فلما دنا منه قال له أين تريد قال إلى أهلى ، قال له هل لك فى خير ، قال الأعرابى وما هو ، قال تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله ، فقال الأعرابى هل من شاهد على ما تقول ، قال أجل هذه الشجرة (٣) فدعا بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهى فى شاطئ الوادى فأقبلت تخدّ الأرض خدّا حتّى قامت بين يديه وشهدت له بالنبوة ثم رجعت إلى منبتها وآمن الأعرابى.

__________________

(١) أخرجه الطبرانى فى المعجم الكبير ١٩ / ٢٦٣ ح ٥٨٤ حدثنا على بن عبد العزيز حدثنا إبراهيم بن عبد الله الهروى حدثنا عبد الله بن عثمان عن اسحاق بن سعد بن أبى وقاص حدثنى جدى أبو أمى مالك بن حمزة بن أبى أسيد الساعدى عن أبيه عن جده أبى أسيد الساعدى قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ للعباس بن عبد المطلب يا أبا الفضل الزم منزلك غدا أنت وبنوك حتى آتيكم فانتظروه حتى جاء بعد ما أضحى ، فدخل عليهم ؛ فقال : السلام عليكم. قالوا : وعليك السلام ورحمة الله وبركاته. قال : كيف أصبحتم. قالوا بخير نحمد الله.

فقال : تقاربوا. تقاربوا يزحف بعضكم إلى بعض حتى إذا أمكنوه. اشتمل عليهم بملاءة ثم قال : يا رب هذا عمى وصنو أبى. وهؤلاء من أهل بيتى. فاسترهم من النار كسترى اياهم بملاءتي هذه ؛ فأمّنت أسكفّة الباب ، وحوائط البيت فقالت : آمين. آمين. ولمزيد من البحث والدراسة انظر دلائل النبوة للبيهقى ٦ / ٧١ ، ٧٢ (باب ما جاء فى تأمين أسكفّة الباب ، وحوائط البيت على دعاء نبينا محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لعمه العباس ولبنى عمه)

(٢) ابن عمر : عبد الله بن عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنهما ـ صحابى جليل نشأ فى الإسلام. هاجر إلى المدينة مع أبيه وشهد فتح مكة. ولد بمكة قبل الهجرة بعشرة أعوام وتوفى بها سنة ٧٣ ه‍ وكان آخر من توفى بمكة من الصحابة أفتى الناس فى الإسلام ستين سنة وله فى كتب الحديث ٢٦٣٠ حديثا وفى الاصابة : قال أبو سلمة بن عبد الرحمن : مات ابن عمر وهو مثل عمر فى الفضل وكان عمر فى زمان له فيه نظراء ، وعاش بن عمر فى زمان ليس له فيه نظير. [صفة الصفوة لابن الجوزى ١ / ٢١١ ـ ٢١٩ ، والأعلام للزركلى ٤ / ١٠٨].

(٣) أخرجه الدارمى فى سننه ـ كتاب المقدمة ـ باب ما أكرم الله به نبيه من إيمان الشجر به والبهائم ١ / ٢٢ ح ١٦. اخبرنا محمد بن طريف حدثنا محمد بن فضل حدثنا أبو حيان عن عطاء عن ابن عمر قال : كنا مع رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فى سفر. فأقبل أعرابى. فلما دنا منه. قال له رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : أين تريد؟ فقال : إلى أهلى. فقال له : هل لك فى خير. قال : وما هو. قال : تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله. قال : ومن يشهد على ما تقول. قال هذه الشجرة. فدعاها رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو بشاطئ الوادى. فأقبلت تخد الأرض خدا حتى قامت بين يديه. فاستشهدها ثلاثا ؛ فشهدت ثلاثا أنه كما قال ثم رجعت إلى منبتها. ورجع الأعراب إلى قومه. وقال : إن تبعونى أتيتك بهم ، وإلا رجعت معك.

وأخرجه الطبرانى فى المعجم الكبير ١٢ / ٤٣١ ـ ح ١٣٥٨٢ حدثنا الفضل بن أبى رباح حدثنا عبد الله بن عمر بن أبان حدثنا محمد بن الفضل إلى آخر طريق الدارمى لفظه. وأورده الهيثمى فى مجمع الزوائد ٨ / ٢٩٢ وعزاه إلى الطبرانى ورجاله رجال الصحيح. ولمزيد من البحث والدراسة انظر دلائل النبوة للبيهقى ٦ / ١٣ وما بعدها.

ومن ذلك ما اشتهر من كلام الذراع المسموم وغيره (١).

وأمّا كلام الحيوانات العجماوات :

فمن ذلك ما روى عن أبى سعيد (٢) الخدرى أنّه قال : كان يرعى راع غنما له بالحرّة ؛ فوثب ذئب إلى شاة ؛ فانتهزها ، واختطفها ؛ فحال الراعى بين الذئب والشّاة ، واسترجعها ؛ فأقعى الذئب على ذنبه ، وقال للراعى أما تتقى الله تحول بينى ، وبين رزق ساقه الله إلى ، فقال الراعى العجب من ذئب مقعىّ يكلمنى كلام الإنس ، فقال له الذئب ألا أحدّثك بأعجب من ذلك : هذا رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحدّث النّاس بانباء ما قد سبق ، فاخذ الرّاعى الشّاة ، وأتى بها إلى المدينة ، وأتى إلى النبي ـ

__________________

(١) أخرجه أبو داود فى سننه (كتاب الديات ـ باب فيمن سقى رجلا سما ، أو أطعمه فمات أيقاد منه ٦ / ٣٠٧ ح ٤٣٤٢. والأحاديث الأخرى (٤٣٤٣ ، ٤٣٤٤ ، ٤٣٤٥) عن أنس بن مالك ـ رضى الله عنه ـ «أن امرأة يهودية أتت رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بشاة مسمومة ، فأكل منها. فجئ بها إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ؛ فسألها عن ذلك؟ فقالت : أردت لأقتلك. فقال : ما كان الله ليسلطك على ذلك ، أو قال : عليّ. قال :

فقالوا : ألا تقتلها؟ قال : لا ، فما زلت أعرفها فى لهوات رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم». وأخرجه البخارى ومسلم أيضا (اللهوات : جمع لهاة ، وهى اللحمات التى فى أقصى الحلق. ويجمع أيضا على لهيات ، ولهى : بضم اللام).

وعن ابن شهاب (ح ٤٣٤٤) قال : كان جابر بن عبد الله ـ رضى الله عنهما ـ يحدث «أن يهودية من أهل خيبر سمّت شاة مصلية : ثم أهدتها لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فأخذ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ الذراع ، فأكل منها ، وأكل رهط من أصحابه معه ثم قال لهم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : ارفعوا أيديكم. وأرسل رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلى اليهودية ، فدعاها ، فقال لها : أسممت هذه الشاة؟ قالت اليهودية : من أخبرك؟ قال : أخبرتنى هذه فى يدى ـ للذراع ـ قالت : نعم. قال : فما أردت إلى ذلك؟. قالت : قلت : إن كان نبيا ؛ فلن تضره. وإن لم يكن نبيا ؛ استرحنا منه ؛ فعفا عنها رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولم يعاقبها.

وتوفى بعض أصحابه الذين أكلوا من الشاة ، واحتجم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ على كاهله من أجل الّذي أكل من الشاة ، حجمه أبو هند بالقرن والشفرة». وهذا الحديث منقطع ؛ لأن الزهرى لم يسمع من جابر بن عبد الله.

ولمزيد من البحث والدراسة انظر ما جاء فى كتاب : (دلائل النبوة) للبيهقى ٤ / ٢٥٦ ـ ٢٦٤ باب ما جاء فى الشاة التى سمّت للنبى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بخيبر وما ظهر فى ذلك من عصمة الله جل ثناؤه رسوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عن ضرر ما أكل منه حتى بلغ فيه أمره ، وإخبار ذراعها إياه بذلك حتى أمسك عن البقية.

(٢) أبو سعيد الخدرى رضى الله عنه : سعد بن مالك بن سنان الخدرى الأنصارى الخزرجى ، أبو سعيد : صحابى جليل ولد فى السنة العاشرة قبل الهجرة. كان من ملازمى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وروى عنه ١١٧٠ حديثا. غزا اثنتى عشرة غزوة توفى بالمدينة سنة ٧٤ ه‍.

(صفة الصفوة لابن الجوزى ١ / ٢٧٢ وتهذيب ٣ / ٤٧٩ والأعلام للزركلى ٣ / ٨٧).

صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وأخبره بالخبر ، فقال عليه‌السلام صدق ، إن من اقتراب الساعة كلام السباع (١).

ومن ذلك ما روى عبد الله بن عمر أنه قال : كنّا جلوسا عند رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إذ جاء أعرابى على ناقة حمراء فأناخ بباب المسجد ، ودخل وسلم على النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وقعد ؛ فقالوا يا رسول الله : إن النّاقة التى تحت الأعرابى سرقة ، فقال : أثم بيّنة؟ فقالوا نعم ، فقال ـ عليه‌السلام ـ يا عليّ خذ حق الله من الأعرابى إن قامت عليه البيّنة وإن لم تقم فردّه إلى فاطرق الأعرابى ، فقال له النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يا أعرابى قم لأمر الله ، وإلّا فادل بحجّتك. فقالت النّاقة : من خلف الباب والّذي بعثك بالكرامة يا رسول الله إن هذا ما سرقنى ، ولا ملكنى أحد سواه ، فقال له عليه‌السلام : بالذى أنطقها بعذرك ما الّذي قلت ، فقال : قلت اللهم إنّك لست بربّ استحدثناك ، ولا معك إله أعانك على خلقنا ، وشاركك فى ربوبيّتك ، أنت ربّنا أسألك أن تصلى على محمد ، وأن تبرّئني ببراءتى (٢).

ومن ذلك ما روى عنه ـ عليه‌السلام ـ أنه لما فتح الله عليه خيبر أصابه من سهمه حمار أسود ، قال فكلم النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ الحمار وقال له ما أسمك فأجابه

__________________

(١) الحديث أخرجه أبو نعيم في دلائل النبوة ـ باب فمنه كلام الذئب ص ٣١٨ كما ورد هنا ، وأورد الهيثمى في مجمع الزوائد ـ كتاب علامات النبوة ـ باب إخبار الذئب بنبوته ٨ / ٢٦١ وعزاه إلى أحمد ، ورجاله رجال الصحيح.

وأخرجه أحمد فى المسند ـ مسند أبى سعيد الخدرى ـ رضي الله عنه ـ ٣ / ٨٣ ، ٨٤. حدثنا يزيد أنا القاسم بن الفضل الحرانى عن أبى نضرة عن أبى سعيد الخدرى قال : عدا ذئب على شاة فأخذها ؛ فطلبه الراعى فانتزعها منه ؛ فأقعى الذئب على ذنبه وقال : ألا تتقى الله! تنزع منى رزقا ساقه الله إلى. فقال يا عجبى ذئب مقع على ذنبه يكلمنى كلام الإنس ؛ فقال الذئب : ألا أخبرك بأعجب من ذلك محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بيثرب يخبر الناس بأنباء ما قد سبق. قال فأقبل الراعى يسوق غنمه حتى دخل المدينة ، فزواها إلى زاوية من زواياها. ثم أتى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ؛ فأخبره فأمر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فنودى الصلاة جامعة ثم خرج ، فقال للراعى : أخبرهم : فأخبرهم.

فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ والّذي نفسى بيده. لا تقوم الساعة حتى يكلم السباع الإنس ، ويكلم الرجل عزبة سوطه وشراك نعله ، ويخبره فخذه بما أحدث أهله بعده.

ولمزيد من البحث والدراسة انظر دلائل النبوة للبيهقى ٦ / ٤١ (باب ما فى كلام الذئب وشهادته لنبينا بالرسالة وما ظهر فى ذلك من دلالات النبوة).

(٢) هذا الحديث أخرجه الحاكم فى المستدرك ـ كتاب التاريخ ـ باب هداية الطريق ٢ / ٦١٩ ، ٦٢٠ ـ (كما ذكره الآمدي هنا) وبقى من الحديث. «فقال له رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ والّذي بعثنى بالكرامة يا أعرابى لقد رأيت الملائكة يبتدرون أفواه الأزقة يكتبون مقالتك ؛ فأكثر الصلاة عليّ».

وقال الحاكم رواة هذا الحديث عن آخرهم ثقاة ويحيى بن عبد الله المصرى هذا لست أعرفه بعدالة ولا جرح ، ووافقه الذهبى.

وقد ورد حادثة الناقة فى (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) للقاضى عياض ١ / ٣١٥.

الحمار وقال يزيد ابن شهاب أخرج الله ـ تعال من نسل جدى ستين حمارا كلهم لم يركبهم إلا نبى ، ولم يبق من نسل جدى غيرى ، ولم يبق من / الأنبياء غيرك قد كنت أتوقعك ، وكان يركبنى قبلك يهودى ، وكنت أعثر به عمدا وكان يجبع بطنى ، ويضرب ظهرى ، وكان النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يركبه فاذا نزل عنه بعثه إلى باب دار الرجل ؛ فيأتى الباب ؛ فيقرعه برأسه فإذا خرج إليه صاحب الدار أومأ إليه أن أجب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فلما قبض رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ جاء الحمار الحمار إلى بئر ؛ فتردى فيها ؛ فجزع عليه أصحاب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١).

ومن ذلك ماروت أمّ (٢) سلمة أن النبىّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان يمشى فى الصحراء فناداه مناد : يا رسول الله مرّتين. فالتفت فإذا هو بظبية موثقة مع أعرابىّ نائم.

فقالت له : أدن منّى يا رسول الله.

فقال : ما حاجتك.

فقالت : إنّ هذا الأعرابىّ صادنى ولى خشفان فى الجبل ، فاطلقنى حتى أذهب ؛ فارضعهما وأرجع.

فقال : أتفعلين ذلك؟

فقالت : إن لم أفعل يعذّبنى الله عذاب العشّار.

فأطلقها : فذهبت فأرضعت خشفيها ، ثم رجعت ؛ فأوثقها رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فانتبه الأعرابى من نومه ؛ فقال يا رسول الله : ألك حاجة؟

__________________

(١) أورده القاضى عياض فى كتابه (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) فصل فى الآيات فى ضروب الحيوانات ١ / ٣١٤ ، ٣١٥ وفيه زيادة : فسماه النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يعفورا.

(٢) أم سلمة رضى الله عنها : هند بنت سهيل المعروف بأبى أمية ابن المغيرة القرشية المخزومية أم سلمة : من زوجات النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ. تزوجها فى السنة الرابعة للهجرة ، وكانت من أكمل النساء عقلا وخلقا ، وهى من السابقات للإسلام ، بلغ ما روته من الحديث ٣٧٨ حديثا ، هاجرت إلى الحبشة مع زوجها الأول ، ثم هاجرت إلى المدينة ، كان مولدها بمكة قبل الهجرة بثمان وعشرين سنة وتوفيت بالمدينة سنة ٦٢ ه‍.

(صفة الصفوة لابن الجوزى ١ / ٣١٣ ، ٣١٤ والأعلام للزركلى ٨ / ٩٧ ، ٩٨).

فقال : نعم. تطلق هذه ؛ فأطلقها ؛ فخرجت تعدو وهى تقول : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمد رسول الله (١).

وأما حركات الجمادات إليه :

فمن ذلك : قصة شجرة الوادى على ما سبق (٢)

ومن ذلك ما روى عن ابن عباس (٣) ـ رضى الله عنهما ـ أنّه قال : جاء أعرابى إلى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال له لم أعرف أنك رسول الله ، فقال له أرأيت إن دعوت هذا العزق من هذه النخلة أتشهد أنى رسول الله ، قال نعم.

قال فدعا العزق ؛ فجعل العزق ينزل من النخلة حتى سقط فى الأرض حتى أتى إلى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ثم قال له ارجع فرجع حتى عاد إلى مكانه ؛ فقال الأعرابى أشهد أنك رسول الله (٤)

ومن ذلك ما اشتهر من حنين الجذع اليابس إليه (٥).

__________________

(١) أخرجه أبو نعيم في دلائل النبوة ـ باب ذكر الظبى والضب ص ٣٢٠ عن زيد بن أرقم وفى ص ٣٢١ عن أنس بن مالك. كما أخرجه البيهقى فى دلائل النبوة ٦ / ٣٤ عن أبى سعيد ٦ / ٣٥ عن زيد بن أرقم. وقال البيهقى : قال زيد بن أرقم : فأنا والله رأيتها تسيح فى البرية وتقول : لا إله إلا الله محمد رسول الله. كما أخرجه الطبرانى فى المعجم الكبير ٢٣ / ٣٣١ ، ٣٣٢ حديث رقم ٧٦٣.

(٢) انظر ما مر ل ١٤٩ / أ.

(٣) ابن عباس رضي الله عنه : عبد الله بن عباس بن عبد المطلب رضى الله عنهما الصحابى الجليل ـ حبر الأمة ـ ولد بمكة قبل الهجرة بثلاثة أعوام ونشأ فى بدء عصر النبوة ؛ فلازم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ، وروى عنه وشهد مع على رضى الله عنه ـ الجمل وصفين ثم سكن الطائف وتوفى بها سنة ٦٨ ه‍ له فى كتب الحديث ١٦٦٠ حديثا.

قال ابن مسعود : نعم ترجمان القرآن ابن عباس.

وقال عمرو بن دينار : ما رأيت مجلسا كان أجمع لكل خير من مجلس ابن عباس : الحلال والحرام والعربية والأنساب والشعر ، ولحسان بن ثابت شعر في وصفه وذكر فضائله (صفة الصفوة لابن الجوزى ١ / ١٨٥ ـ ٢٩١ والأعلام للزركلى ٤ / ٩٥).

(٤) أخرج فى دلائل النبوة ٦ / ١٣ وما بعدها باب مشى العذق الّذي دعاه محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إليه حتى وقف بين يديه ثم رجوعه إلى مكانه بإذنه وما فى ذلك من دلائل النبوة ، وقد أورده البيهقى بروايات متعددة ، عن عمر بن الخطاب ، وأنس بن مالك والحسن ، وابن عمر ، وابن عباس رضى الله عنهم.

(٥) انظر دلائل النبوة للبيهقى ٦ / ٦٦ ـ ٦٨ باب (ما جاء فى حنين الجذع الّذي كان يخطب عنده رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حين جاوزه إلى المنبر. وقد مضى بعض طرقه عند ذكر اتخاذ المنبر وفى ذلك دلالة ظاهرة من دلالات النبوة.

وقد أورد البيهقى بطرق متعددة عن جابر ، وقد خرجه البخارى في صحيحه كتاب المناقب ـ باب علامات النبوة فى الإسلام الحديث رقم ٣٥٨٤. وعن ابن عمر : «أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان يخطب إلى جذع فلما وضع المنبر حنّ إليه حتى أتاه ؛ فمسحه فسكن».

وقد نقل عن الشافعى ـ رحمه‌الله ـ قوله ـ «ما أعطى الله ـ عزوجل ـ نبيا ما أعطى محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ الجذع الّذي كان يخطب إلي جنبه حتى هيئ له المنبر حنّ الجذع حتى سمع صوته ؛ فهذا أكبر من ذاك».

وأما اكتفاء الجمع الكثير من قليل الطعام : فمن ذلك ما روى عن أم (١) سليم أنها كانت قد هيأت لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أقراصا من شعير ، وعليها قليل من السّمن ، وأنّها أرسلت أبا طلحة (٢) وقالت له : أدع رسول الله ولا تدع معه أحدا ؛ فلما أتى وهو فى جمع من الصحابة ، قال له النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لعلك أرسلت إلينا فقال نعم ؛ فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ للقوم انطلقوا بنا ، فانطلقوا معه وهم ثمانون رجلا ، ولم يزالوا يأكلون من ذلك / عشرة بعد عشرة حتى تحشوا شبعا إلى تمام الثمانين ، وروى أن المتخذ كان قرصا واحدا (٣).

ومن هذا الباب ما روته عائشة (٤) ـ رضى الله عنها ـ أن سائلا سأل النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ

__________________

(١) أم سليم بنت ملحان بن خالد بن زيد بن حرام. أم أنس بن مالك رضي الله عنه بعد مقتل زوجها تزوجت من أبى طلحة رضي الله عنه ولزواجهما قصة يرويها أنس رضى الله عنه قال : خطب أبو طلحة أم سليم فقالت : ما مثلك يرد ؛ ولكن لا يحل أن أتزوجك وأنا مسلمة وأنت كافر ؛ فإن تسلم فذاك مهرى لا أسألك غيره ؛ فأسلم فتزوجها قال ثابت : فما سمعنا بمهر قط كان أكرم من مهر أم سليم : الإسلام. وعنه أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لم يكن يدخل بيتا بالمدينة غير بيت أم سليم إلا على أزواجه ؛ فقيل له : فقال : إنى أرحمها قتل أخوها معى. ـ رضى الله عنهم ـ (انظر ترجمة زوجها فى نفس الهامش) وللخريد انظر : صفة الصفوة للإمام ابن الجوزى ١ / ٣٢٥ ـ ٣٢٨.

(٢) أبو طلحة : زيد بن سهل بن الأسود النجارى الأنصارى : صحابى جليل من الشجعان الرماة المعدودين فى الجاهلية والإسلام. ولد بيثرب سنة ٣٦ قبل الهجرة ، ولما ظهر الإسلام كان من كبار أنصاره فشهد العقبة وبدرا وأحدا والخندق وسائر المشاهد ، وكان جهير الصوت ، وفى الحديث : لصوت أبى طلحة فى الجيش خير من ألف رجل ، وتوفى ـ رضي الله عنه ـ سنة ٣٤ ه‍.

(صفة الصفوة لابن الجوزى ١ / ١٧٨ ، ١٧٩ والأعلام للزركلى ٣ / ٥٨ ، ٥٩).

(٣) الحديث متفق على صحته أخرجه البخارى ومسلم صحيحها : صحيح البخارى ٦ / ٦٧٨ كتاب المناقب باب علامات النبوة فى الإسلام. (ح رقم ٣٥٧٨) «حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبى طلحة أنه سمع أنس بن مالك يقول" «قال أبو طلحة لأم سليم : لقد سمعت صوت رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ضعيفا أعرف فيه الجوع ، فهل عندك من شيء؟ قالت : نعم فأخرجت أقراصا من شعير .... فقال أبو طلحة يا أم سليم قد جاء رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بالناس ، وليس عندنا ما نطعمهم فقالت : الله ورسوله أعلم.

فانطلق أبو طلحة حتى لقى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فأقبل رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وأبو طلحة معه فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ هلمى يا أم سليم ما عندك؟ فأتت بذلك الخبز ، فأمر به رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ففتّ ، وعصرت أم سليم عكة فأدمته. ثم قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ما شاء الله أن يقول ، ثم قال : ائذن لعشرة فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ، ثم خرجوا ، ثم قال : ائذن لعشرة ، فإذن لهم .... والقوم سبعون أو ثمانون رجلا».

وأخرجه مسلم فى صحيحه (٣ / ١٦١٢ ح ٢٠٤٠) كتاب الأشربة. باب جواز استتباعه غيره إلى دار من يثق برضاه بذلك ... واستحباب الاجتماع على الطعام ، حدثنا يحيى بن يحيى قال : قرأت على مالك بن أنس إلى آخر طريق البخارى ولفظه. كما أخرجه الإمام الترمذي فى سننه كتاب المناقب ٥ / ٥٩٥ ح رقم ٣٦٣٠ وقال : هذا حديث حسن صحيح.

(٤) عائشة رضى الله عنها : عائشة بنت أبى بكر الصديق أم المؤمنين أفقه نساء المسلمين وأعلمهن بالدين ، تزوجها النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فى السنة الثانية بعد الهجرة ؛ فكانت أحب نسائه إليه ، وأكثرهن رواية للحديث عنه. وكان أكابر الصحابة يسألونها عن الفرائض فتجيبهم. وكان (مسروق) إذا روى عنها يقول : حدثتني الصديقة بنت الصديق روى عنها ٢٢١٠ أحاديث.

ولدت بمكة قبل الهجرة بتسعة أعوام وتوفيت بالمدينة المنورة سنة ٥٨ ه‍ (صفة الصفوة لابن الجوزى ١ / ٣٠١ ـ ٣١٢ والأعلام للزركلى ٣ / ٢٤٠).

فقال لعائشة أعندك شيء قالت فأتيته بلقمة فوضع يده عليها ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وقال للسائل كل فأكل منها حتى شبع ، وبقيت اللقمة بحالها (١).

وأما نبع الماء من بين إصبعيه / / فيدل عليه ما روى عن أنس بن مالك ـ رضى الله عنه ـ أنه قال : أتى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بقدح زجاج وفيه ماء قليل [وهو (٢) بقباء] فوضع يده فيه فلم تدخل ، فأدخل أصابعه الأربع ، ولم يستطع إدخال إبهامه ؛ وقال للناس هلموا إلى الشراب ، قال أنس : فقد رأيت الماء وهو ينبع من بين أصابعه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولم يزل الناس يردون حتى رووا ، وقد روى أن عدد الواردين كان ما بين السبعين إلى الثمانين (٣).

وأما إخباره بالغيب : فمن ذلك ما روى عن زيد ابن (٤) أرقم ، أنه قال : بعثنى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وقال لى انطلق حتى تأتى أبا بكر فإنك تجده فى داره جالسا ، فقل له : إن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يقرأ عليك السلام ويقول لك أبشر بالجنة ، ثم أنطلق حتى تأتى الثنية ؛ فتلقى عمر راكبا على جمل ؛ فقل له إن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يقرأ عليك السلام ويقول لك أبشر بالجنة ، ثم انطلق حتى تأتى عثمان فى السوق يبيع ، ويبتاع فقل له إن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يقرأ عليك

__________________

(١) انظر دلائل النبوة ٦ / ١١٣ وما بعدها ، باب : ما ظهر فيما خلف رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عائشة رضى الله عنها من الشعير ، وفيما أعطى الرجل من الشعير .. الخ (ففيه كثير مما يدل على نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم)

/ / أول ل ٨١ / ب.

(٢) ساقط من (أ).

(٣) الحديث متفق على صحته أخرجه البخارى ومسلم فى صحيحها :

أولا : صحيح البخارى ٦ / ٦٧٢ ح رقم (٣٥٧٤) عن أنس ـ رضى الله عنه ـ قال «خرج النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) فى بعض مخارجه ومعه ناس من أصحابه ، فانطلقوا يسيرون ؛ فحضرت الصلاة ؛ فلم يجدوا ماء يتوضئون فانطلق رجل من القوم فجاء يقدح من مساء يسير ، فأخذه النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فتوضأ ثم مد أصابعه الأربع على القدح ، ثم قال : قوموا فتوضئوا ، فتوضأ القوم حتى بلغوا فيما يريدون من الوضوء ، وكانوا سبعين أو نحوه» [وبهذا المعنى الأحاديث أرقام من ٣٥٧١ ـ ٣٥٧٧]. بنفس الكتاب والباب.

ثانيا صحيح مسلم ٤ / ١٧٨٣ ح رقم ٢٢٧٩ كتاب الفضائل ـ باب فى معجزات النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عن أنس رضي الله عنه أيضا وانظر أحاديث الباب.

(٤) زيد بن أرقم الخزرجى الأنصارى. صحابى جليل غزا مع النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ سبع عشرة غزوة ، وشهد صفين مع على ـ رضي الله عنه ـ ومات بالكوفة سنة ٦٨ ه‍ له فى كتب الحديث سبعون حديثا [تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلانى ٣ / ٣٩٤ والأعلام للزركلى ٣ / ٥٦].

السلام ويقول لك أبشر بالجنة بعد بلاء شديد ، قال زيد : فأتيتهم ؛ فوجدتهم كما وصفهم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١).

ومن ذلك ما روته عائشة ـ رضى الله عنها ـ أنها قالت : أقبلت فاطمة (٢) تمشى كأن مشيتها مشية النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال لها رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مرحبا بابنتى ؛ فأجلسها رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عن يمينه ، وأسرّ إليها حديثا ؛ فبكت ثم أسرّ إليها حديثا ؛ فضحكت ؛ فسألتها عن ذلك ؛ فقالت : ما كنت لأفشى سر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ، قالت : فلما قبض عليه‌السلام راجعتها فى ذلك ، فقالت : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أولا إنّ جبريل كان يعارضنى القرآن فى كل سنة مرة وإنّه عارضنى العام مرتين ، ولا أرى إلا وقد حضر أجلى ، وإنك أول بنيّ لحاقا بى : قالت فبكيت ، ثم قال ألا ترضين أن تكونى سيدة نساء هذه الأمة أو نساء المؤمنين ؛ فضحكت (٣).

__________________

(١) أخرجه الإمام الطبرانى فى المعجم الكبير ٦ / ١٩٢ ـ ١٩٣ ح ٥٠٦١. وتكملته : فأخذ عثمان بيدى ، فانطلق ، أو ذهب بى حتى أتى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال : يا رسول الله. ما هذه البلوى التى تصيبنى؟ فو الله ما تغيبت ولا تمنيت ، ولا مسست فرجى بيمينى منذ أسلمت ، أو منذ ما بعث رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولا زنيت فى الجاهلية ولا الإسلام ، فقال له : إنّ الله مقمصك قميصا ، فإن أرادك المنافقون على خلعه فلا تخلعه وعزاه الهيثمى فى مجمع الزوائد ٩ / ٥٥ ، ٥٦ إلى الطبرانى فى الأوسط والكبير ، وفيه عبد الأعلى بن أبى المسور ضعفه الجمهور ، ووثق فى رواية عن يحيى بن معين وانظر جامع المسانيد والسنن لابن كثير ٤ / ٤٠٧ مسند زيد بن أرقم وعزاه إلى الطبرانى.

(٢) فاطمة رضى الله عنها : فاطمة الزهراء بنت رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ الهاشمية القرشية وأمها خديجة بنت خويلد رضى الله عنها. تزوجها أمير المؤمنين على بن أبى طالب ـ رضي الله عنه ـ فولدت له الحسن والحسين وأم كلثوم وزينب رضى الله عنهم. ولدت بمكة قبل الهجرة بثمانية عشر عاما ، وعاشت بعد أبيها ستة أشهر وتوفيت بالمدينة المنورة سنة ١١ ه‍ ولها رضى الله عنها ١٨ حديثا وللسيوطى «الثغور الباسمة في مناقب السيدة فاطمة ـ خ».

(صفة الصفوة ١ / ٢٩٨ ـ ٣٠١ والأعلام للزركلى ٥ / ١٣٢).

(٣) هذا الحديث متفق على صحته رواه البخارى ومسلم : صحيح البخارى (كتاب المناقب ـ باب علامات النبوة ٦ / ٧٢٦ حديث رقم ٣٦٢٣ ـ أطرافه فى الأحاديث أرقام : ٣٦٢٥ ، ٣٧١٥ ، ٤٤٣٣ ، ٦٢٨٥) كما أخرجه الإمام مسلم فى صحيحه كتاب فضائل الصحابة ـ باب فضائل فاطمة بنت النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (٤ / ١٩٠٤ ، ١٩٠٥) وفى الباب أيضا عن عائشة رضى الله عنها بنحو هذه الرواية.

كما أخرجه الإمام أحمد فى مسنده ـ مسند فاطمة بنت النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ٦ / ٢٨٢.

كما أخرجه ابن ماجة في كتاب الجنائز باب ما جاء فى ذكر مرض النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ١ / ٥١٨.

وانظر دلائل النبوة للبيهقى ٦ / ٣٦٤ باب ما جاء في إخباره ابنته بوفاته وبأنها أول أهله لحوقا به.

ومن ذلك إخباره ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن زينب (١) أول من تموت من أزواجه ؛ وكان كما أخبر (٢).

ومن ذلك إخباره عن خلافة الخلفاء الراشدين «الخلافة / ثلاثون ثم تصير ملكا عضوضا» (٣) وعن مقتل على (٤) والحسين (٥). وهدم الكعبة (٦) ، ورجوع الأمر إلى بنى

__________________

(١) زينب رضى الله عنها : زينب بنت جحش بن رئاب الأسدية أم المؤمنين كانت زوجة زيد بن حارثة ، واسمها (بره) وطلقها زيد ؛ فتزوج بها النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وسماها (زينب) روت ١١ حديثا ولدت قبل الهجرة ٣٣ سنة وتوفيت سنة ٢٠ ه‍ (صفة الصفوة ١ / ٣١٦ ، ٣١٧ الأعلام للزركلى ٣ / ٦٦).

(٢) هذا حديث صحيح أخرجه الإمام مسلم فى صحيحه كتاب فضائل الصحابة ـ باب فضائل أم المؤمنين زينب ـ رضى الله عنها ـ ٤ / ١٩٠٧ ح رقم ٢٤٥٢ «عن عائشة أم المؤمنين ـ رضى الله عنها ـ قالت : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «أسرعكن لحاقا بى أطولكن يدا. قالت : فكن يتطاولن أيتهن أطول يدا. قالت فكانت أطولنا يدا زينب ؛ لأنها كانت تعمل بيدها ، وتتصدق».

وانظر : دلائل النبوة للبيهقى ٦ / ٣٧١ باب ما جاء فى إخبار النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بمن يكون أسرع لحوقا به من زوجاته.

(٣) أخرج أبو داود فى سننه ـ كتاب السنة ـ باب فى الخلفاء ٤ / ٢١١ ح ٤٦٤٦ حدثنا سوار بن عبد الله ... عن سفينة قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «خلافة النبوة ثلاثون سنة ثم يؤتى الملك ، أو ملكه من يشاء «قال سعيد. قال لى سفينة : امسك عليك أبا بكر سنتين ، وعمر عشرا ، وعثمان اثنتى عشرة وعلى ستا ـ قال سعيد قلت لسفينة إن هؤلاء يزعمون أن عليا ـ عليه‌السلام ـ لم يكن بخليفة. قال كذبت استاه بنى الزرقاء : يعنى بنى مروان.

وأخرجه الطبرانى فى المعجم الكبير ٧ / ٨٣ ، ٨٤ ح ٦٤٤٤ من طريق عبد الوارث بن سعيد عن سعيد بن جمهان ثم ذكره مثل رواية أبو داود. ولمزيد من البحث والدراسة انظر دلائل النبوة للبيهقى ٦ / ٣٤١ ، ٣٤٢ باب (فى أخباره ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عن مدة الخلافة بعده ، ثم تكون ملكا ، فكان كما أخبره)

(٤) عن مقتل الإمام على رضي الله عنه) استشهاده).

أخرج الحاكم فى المستدرك ـ كتاب معرفة الصحابة ـ باب فى مناقب أمير المؤمنين على ـ رضي الله عنه ـ إخبار رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بقتل عليّ ـ رضي الله عنه ـ ٣ / ١٣٩ ... عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال : دخلت مع النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ على عليّ ابن أبى طالب ـ رضي الله عنه ـ يعوده. وهو مريض ، وعنده أبو بكر ، وعمر ـ رضى الله عنهما ـ فتحولا حتى جلس رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال أحدهما لصاحبه. ما أراه إلا هالك. فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إنه لن يموت إلا مقتولا ، ولن يموت حتى يملأ غيظا وانظر دلائل النبوة للبيهقى ٦ / ٣٥٢ فقد جاء فيه أخباره (صلى‌الله‌عليه‌وسلم). باستشهاده رضي الله عنه. وفى ص ٤٣٨ باب ما روى في إخباره بتأمير عليّ ـ رضي الله عنه ـ وقتله فكان كما أخبر.

(٥) وعن استشهاد الإمام الحسين ـ رضي الله عنه ـ أخرج الطبرانى فى المعجم الكبير ٣ / ١٠٥ ، حديث رقم ٢٨٠٨ ـ ... عن أم سلمة ـ رضى الله عنها ـ قالت : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «يقتل الحسين حين يعلوه القتير».

وانظر دلائل النبوة للإمام البيهقى ٦ / ٤٦٨ ـ ٤٧٢ ـ باب «ما روى في أخباره بقتل ابن بنته أبى عبد الله الحسين بن على بن أبى طالب ـ رضي الله عنه ـ فكان كما أخبر ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ، وما ظهر عند ذلك من الكرامات التى هى دالة على صحة نبوة جده عليه‌السلام.

(٦) انظر صحيح البخارى ٣ / ٥٣٨ باب هدم الكعبة. قالت عائشة رضى الله عنها : قال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «يعزو جيش الكعبة فيخسف بهم» الحدث رقم [١٥٩٥] : عن ابن عباس رضى الله عنهما عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كأنى به أسود أفجح يقلعها حجرا حجرا» والفجج : تباعد ما بين الساقين.

الحديث رقم [١٥٩٦] عن أبى هريرة رضي الله عنه : قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة» (ذو السويقتين) تثنية سويقة وهى تصغير ساق. أى له ساقان دقيقان.

العباس (١) ، وعن تتابع الفتن (٢) ، والاحتواء على مملكة الأكاسرة (٣) : إلى غير ذلك مما ثبت واشتهر بالأخبار الصادقة الحقة عن الثقات. ووقع ما أخبر به على وفق خبره

ومن بحث فى هذا الجنس وجده كثيرا لا يحصى (٤).

الدعوى الثالثة :

أنه تحدّى بالقرآن وتعجيز الخلائق عن الإتيان بمثله :

بقوله ـ تعالى ـ :

(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (٥)

وقوله ـ تعالى ـ :

(فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ) (٦)

__________________

(١) أما عن إخبار ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عن ملك بنى العباس فانظر : دلائل النبوة للبيهقى ٦ / ٥١٣ وما بعدها ـ باب ما جاء فى الأخبار عن ملك بنى العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه فقد نقل البيهقى الكثير من الأحاديث في هذا الباب ومنها :

عن أبى سعيد الخدرى قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يخرج رجل من أهل بيتى عند انقطاع من الزمان ، وظهور من الفتن. يقال له السفاح يكون عطاؤه جثيا» نقله ابن كثير عن المصنف (٦ / ٢٤٧) وقال : «هذا الاسناد على شرط أهل السنن ولم يخرجوه».

(٢) عن هذه الفتن وتتابعها :

انظر دلائل النبوة للإمام البيهقى ٦ / ٣٤٦ وما بعدها. باب ما جاء فى الإخبار عن الولاة بعده ، وما وقع من الفتنة فى آخر عهد عثمان ، ثم فى أيام على ـ رضى الله عنهما ـ حتى لم يستقم له الأمر كما استقام لأصحابه ، واغتمام النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بذلك.

وفى ص ٣٨٦ باب ما جاء في إخباره صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بالفتنة التى تموج موج البحر وأنها لن تكون فى أيام أبى بكر وعمر.

وفى ص ٣٨٨ باب ما جاء فى إخباره بالبلوى التي أصابت عثمان ، والفتنة التي ظهرت فى أيامه.

وفى ص ٤٠٥ باب ما جاء فى إخباره بالفتن التى ظهرت فى آخر أيام عثمان وفى أيام علي رضى الله عنهما.

(٣) وقد تحدث عن ذلك الإمام البيهقى فى دلائل النبوة ٦ / ٣١٧ وما بعدها ـ باب قول الله عزوجل : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) الآية ثم وعد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أمته بالفتوح التى تكون بعده ، وتصديق الله ـ عزوجل ـ وعده.

(٤) انظر دلائل النبوة للإمام البيهقى بأجزائه السبعة فقد ذكر فيه مئات الدلائل.

(٥) سورة الإسراء : ١٧ / ٨٨.

(٦) سورة هود : ١١ / ١٣.

وقوله ـ تعالى ـ :

(فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) (١)

وقوله ـ تعالى ـ : (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ) (٢) إلى غير ذلك من الآيات الدّالة على تعجيز الخلق وإيضاح امتناع المعارضة عليهم وأن ذلك مما شاع وذاع واشتهر اشتهارا يتعذر معه الإنكار ، كتعذّر إنكار ما علم وجوده بالتّواتر ؛ كمكّة ، وبغداد.

الدعوى الرابعة :

أنّه لم يوجد لمعجزاته معارض ، أنه تحدّى بالقرآن ، وأن العرب العرباء مع شدة بأسها وعظم مراتبها ، ومنعتهم عن أن يدخلوا فى حكم حاكم وتبوئهم عن قبول رسم راسم ، فمنهم من أجاب بالقبول ، وأذعن بالدخول فى أحكامه ، ومراسمه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ومنهم من أبى إلا القتل والقتال ، والحرب ؛ والنّزال فاستنزل بالعنف عن رتبته وأخذه بالقهر مع نبوته. ولو أن ذلك مما لهم سبيل إلى معارضته ، أو إبداء سورة فى مقابلته ، مع أنهم أهل اللسان ، وفصحاء الزمان ؛ لقد بالغوا فى ذلك مما يجدون إليه سبيلا ؛ إذ هو أقرب الطرق إلى إفحامه ، وأسهلها فى ردعه ، وإلجامه.

وادراء لما ينالهم من الذّلّ فى طاعته ، والمضار اللازمة لهم بمخالفته من قتل الأنفس ، ونهب الأموال ، واسترقاق الأولاد إلى غير ذلك ، وحيث التزموا ما ذكرناه من المضار الموافقة والمخالفة دلّ على عجزهم عن المعارضة قطعا ؛ نظرا إلى العادة.

وإذا ثبتت هذه القواعد ، واستقرّت هذه المقدمات ؛ لزم أن يكون محمد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ رسولا.

واعلم أن كل ما يتجه من الشبه على جواز البعثة عقلا ؛ فهو متجه هاهنا ، ويختص بما نحن فيه هاهنا شبه.

__________________

(١) سورة يونس : ١٠ / ٣٨.

(٢) سورة الطور : ٥٢ / ٣٤.

الشبهة الأولى (١) :

لا نسلم أن محمدا / كان موجودا ، وأنّه ادّعى الرسالة.

قولكم : ذلك معلوم بالخبر المتواتر.

قلنا : ما ذكرتموه قضية تصديقيّة أحد تصوراتها التواتر / / فلا بد من تصوره ؛ وهو غير متصوّر ؛ لأنه لا يخلو.

اما أن يكون مضبوطا بعدد خاص معين ، أو بما يحصل العلم عنده ، أو لشيء أخر:

الأول : ممتنع : فإنّه ما من عدد معيّن يفرض إلا ويجوز أن لا يحصل العلم بخبرهم.

وعند ذلك : فإما أن يكون ذلك متواترا أو لا يكون متواترا.

فإن كان الأول : فقد بطل القول بأن التّواتر مفيد للعلم.

وإن كان الثانى : فقد بطل ضبط التواتر به.

وإن كان الثانى : [(٢) وهو أن يكون التّواتر مضبوطا بحصول العلم به (٢)] ؛ فهو دور من حيث أنا لا نعلم حصول العلم بالتّواتر الا بعد تصوّر التّواتر ، ولا يتصوّر التّواتر إلا بحصول العلم به ؛ وهو محال. ثم يلزم عليه خبر الواحد إذا احتفّت به القرائن ؛ فإنّه مفيد للعلم عندكم ؛ وليس متواترا.

وإن كان الثالث : فلا بد من تصويره ، والدّلالة عليه.

سلمنا أن المفهوم من التواتر متصور ، ولكن لا نسلم لزوم حصول العلم به كما ذهب إليه السمنية ؛ لأنه لو حصل العلم به ، فإما أن يكون حاصلا بخبر كل واحد من الآحاد ، أو بخبر بعضهم ، أو بالمجموع.

لا جائز أن يقال بالأول لوجهين :

الأول : أنه معلوم البطلان بالضرورة.

__________________

(١) وقد رد الإمام الآمدي على هذه الشبهة بقوله : ل ١٥٨ / ب بأن «ذلك معلوم ضرورة بخبر التواتر ، ومن أنكر ذلك فقد ظهرت مجاحدته وسقطت مكالمته : كمنكر وجود مكة ، وبغداد.

وليس يصح فى الأذهان شيء

إذا احتاج النهار إلى دليل

/ / أول ل ٨٢ / أ.

(٢) ساقط من (أ).

الثانى : أن العلم الحاصل بخبر كل واحد إما أن يكون هو عين ما حصل بخبر الأخر ، أو غيره.

لا جائز أن يكون غيره : وإلا لزم تعذر العلم بشيء واحد بالنسبة إلى شخص واحد ؛ وهو محال فإن العاقل لا يجد من نفسه أنّه إذا علم شيئا تعدد علمه به.

وإن كان عينه : فإما أن يكون اخبارهم متعاقبة أو معا.

فان كانت أخبارهم متعاقبة : فالعلم يكون حاصلا بالأول دون الثانى والثالث ؛ لأن تحصيل الحاصل محال. ويلزم من ذلك حصول ما يفيد العلم مع عدم افادته له ، ولو جاز ذلك ؛ لجاز وجود خبر الأول والمجموع من غير أن يكون العلم لازما له.

وإن كانت أخبارهم واقعة معا : فإما أن يكون خبر كل واحد مستقلا بتحصيل العلم. أو لا يكون مستقلا به.

لا جائز أن يقال بالثانى : إذ هو خلاف الغرض.

وان كان الأول : فيلزم منه أن لا يكون واحدا منهما مستقلا ؛ لما سبق تقريره غير مرة.

ولا جائز أن يقال بحصول العلم بالبعض دون البعض ؛ لأن ذلك البعض إما واحدا أو جماعة.

فإن كان واحدا : فهو محال ؛ لما سبق ، ولأنه ليس البعض بذلك أولى من البعض.

وإن كانوا جماعة : فالكلام فيهم / كالكلام فى الجماعة الأولى ؛ وهو تسلسل ممتنع.

وإن كان العلم حاصلا بالمجموع دون الآحاد :

فإما أن يقال أنه لم يحصل للجمع حالة زائدة على ما كان للآحاد ، أو حصل.

فإن كان الأول : لزم أن يكون حكم الجمع ، حكم الآحاد ، ضرورة عدم الافتراق والعلم غير لازم لاخبار الآحاد ؛ فكذلك فى الجمع.

وإن كان الثانى : فالحالة الزائدة إما ضم البعض إلى البعض ، أو غيرها. الأول مسلم والثانى ممنوع. ولكن لم قلتم إنه إذا كان خبر كل واحد على الانفراد محتمل للكذب ،

فإنه لا يكون موجبا للعلم ، إنه إذا ضم ما يحتمل الكذب إلى ما لا يحتمل الكذب يمتنع عليه الكذب (١).

سلمنا أن حكم الجملة ، مخالف لحكم الآحاد ، ولكن حصول العلم بخبر أهل التواتر إنما يتصور بعد تمام الخبر ، وعند تمام الخبر إما أن يكون المفيد للعلم هو جملة الحروف التى عنها يكون الخبر ، أو آحادها.

الأول : محال إذ المفيد للشيء يجب أن يكون موجودا حالة وجود معلوله ، وجملة الحروف غير متصورة الاجتماع فى الوجود ، على ما لا يخفى.

والثانى : أيضا معلوم بطلانه بالضرورة.

فإن قيل : ما المانع أن يكون المؤثر هو الحرف الأخير مشروطا بتقدم باقى الحروف.

قلنا : شرط تأثير الحرف الأخير فى تحصيل العلم : إما أن يكون هو عدم باقى الحروف مطلقا ، أو عدمها بعدم وجودها.

فان كان الأول : لزم حصول العلم عند وجود ذلك الحرف ، وإن لم توجد تلك الحروف أصلا لأنها معدومة ؛ وهو محال.

وإن كان الثانى : فوجود باقى الحروف داخل فى الشرط ، والشرط لا بد وأن يكون مع المشروط ، ولا وجود لباقى الحروف مع وجود الحرف الأخير ، فلا يكون وجودها شرطا.

سلمنا عدم اشتراط مقارنة الشرط للمشروط ، غير أن إفادة الخبر للعلم صفة حقيقيّة ، والخبر غير مفيد للعلم لذاته ، وإلا لكان مفيدا له مع قطع النظر عن التواضع على جعله خبرا ، ودليلا ، وهو محال ؛ بل إن أفاد ، فإنما يفيد بالوضع ، والوضع // ؛ فلا يفيد الأمور الحقيقية.

سلمنا إمكان حصول العلم بخبر التواتر ، ولكن متى ، إذا أمكن وقوع الغلط فيما أخبر عنه ، أو إذا لم يكن.

الأول : ممنوع فإنه يستحيل القطع فى موضع إمكان الغلط.

__________________

(١) وقد رد الإمام الآمدي على هذه الشبهة ل ١٥٨ / ب. بأن التواتر عبارة عن خبر جماعة مفيد لليقين بمخبره.

/ / أول ل ٨٢ / ب.

والثانى : مسلم ؛ ولكن لا نسلم امتناع العلم فيما أخبر عنه.

وبيانه أن شرط التواتر عند القائلين به / أن يكون المخبر عنه محسوسا ، والغلط غير ممتنع فى المحسوسات. ودليله العقل ، والنقل.

أما العقل : فمن وجهين : الأول : ما سبق فى العلوم.

الثانى : أنه من الممكن أن يكون ما اخبر عنه ليس هو هو ؛ بل هو مشبه بغيره. والتشبيه ممكن فى نفسه ، ولا سيما فى زمان خرق العوائد على أصلكم.

وأما النقل : فقوله تعالى : ـ (وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) (١)

سلمنا امتناع الغلط فى المحسوس ، ولكن متى يفيد خبر التواتر العلم إذا كان المخبرون قد حملوا على ذلك بالسيف ، أو إذا لم يكن؟

الأول : ممنوع. فإن الخبر مع الحمل بالسيف عليه ، لا يكون مفيدا للظن ؛ فضلا عن العلم.

والثانى : مسلم ، غير أن ما مثل هذا الشرط غير معلوم التحقيق ؛ فلا يكون الخبر مفيدا للعلم (٢).

سلمنا امتناع حملهم عليه بالسيف ، ولكن متى يفيد العلم : إذا كان عدد المخبرين لا يحويهم بلد ، ولا يحصرهم عدد ، أو إذا لم يكن كذلك.

الأول : مسلم ؛ لاستحالة تواطئ مثلهم ، على الكذب عادة.

والثانى : ممنوع ؛ لأنّ كل عدد محصور ؛ فالتواطؤ منهم على الكذب غير ممتنع ، وما مثل هذا الشرط ، فغير معلوم فى كل ما يدعى كونه متواتر ؛ فلا يكون مفيدا للعلم (٣).

سلمنا أنه لا يشترط ذلك ؛ ولكن متى يفيد العلم إذا اختلفت أسبابهم ، وأوطانهم ، وأديانهم. أو إذا لم يكن.

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ١٥٧.

(٢) وقد رد عليهم الآمدي ل ١٥٩ / ب بأن «هذا الاحتمال وإن كان ممكنا عقلا ؛ فهو غير قادح مع وجود ما نعلمه من العلم الضرورى بأخبار التواتر».

(٣) وقد رد الآمدي على هذه الشبهة ل ١٥٩ / ب «بأن أهل بلد من البلاد لو أخبروا عن واقعة وقعت بهم ، ونائبة حلت فيهم. فإن العلم الضرورى يحصل لنا يذلك وإن حواهم بلد ، وكان عددهم محصورا».

الأول : مسلم ؛ لأنّ مثل هؤلاء مما تحيل العادة تواطؤهم على الكذب ، بخلاف ما إذا لم يكونوا كذلك ، وما مثل هذا الشرط أيضا مما لا يعلم فى كل ما يدعى فيه التواتر (١).

سلمنا عدم اشتراط ذلك ولكن متى يفيد العلم إذا كانوا أولياء مؤمنين ، أو إذا لم يكونوا كذلك.

الأول : مسلم. والثانى : ممنوع. فإنهم إذا كانوا مؤمنين ؛ فالعادة أيضا تحيل على جميعهم التواطؤ على الكذب بخلاف الفسقة ؛ وهذا الشرط أيضا غير معلوم فيما ادعى تواتره (٢).

سلما عدم اشتراط ذلك. ولكن متى يفيد العلم. إذا كان فيهم الإمام المعصوم ، كما ذهب إليه الروافض (٣) ، أو إذا لم يكن.

الأول : مسلم لاستحالة الكذب على المعصوم ، [وإذا كان خبرهم موافقا لخبر المعصوم (٤)] فالخبر الموافق للصادق ؛ يكون صادقا.

والثانى : ممنوع إذ لا يتعذر تواطؤ الفسقة ، إذا لم يكن فيهم المعصوم على الكذب ، وهذا الشرط أيضا غير معلوم فى كل ما ادّعى تواتره.

سلمنا عدم اشتراط ذلك ، ولكن متى يكون مفيدا للعلم : إذا استوى طرفاه وواسطته فى الصفات الموجبة للعلم ، أو إذا لم يكن كذلك. الأول : مسلم.

والثانى : ممنوع ؛ وذلك لأنه إذا لم تكن الشروط المعتبرة فى إفادة العلم متحققة فى رواة بعض الأعصار ، مع أن خبرهم / مستقل بنفسه ؛ لم يكن العلم حاصلا به ؛ وما مثل هذا الشرط فغير معلوم فيما ادعى تواتره.

__________________

(١) وقد رد الآمدي على هذه الشبهة : «بأنه إما أن يبلغ عدد المخبرين إلى حد يمتنع معه تواطؤهم على الكذب عادة ، أولا يكون كذلك.

فإن كان الأول : فلا أثر لهذه الشروط.

وإن كان الثانى : فالعلم غير حاصل بخبرهم سواء وجدت هذه الشروط أو لم توجد» ل ١٥٩ / ب.

(٢) وقد رد الآمدي على هذه الشبهة أبيضا : (ل ١٥٩ / ب) «بأن أهل قسطنطينية لو أخبروا بموت ملكهم حصل العلم الضرورى بذلك وإن كانوا كفرة».

(٣) كما رد على الروافض «بأنه لو أخبر العدد الكثير الّذي يمتنع معه التواطؤ على الكذب عادة ؛ لحصل العلم بذلك ، وإن لم يكونوا معترفين بوجود الإله ـ تعالى ـ وبهذا يبطل قولهم : شرطه أن يكون فيهم الإمام المعصوم» [المصدر السابق].

(٤) ساقط من (أ).

فلئن قلتم : لو اختل من التواتر الدّال على وجود محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ على دعواه الرسالة ، شرط من الشرائط المانعة من التواطؤ على الكذب فى بعض الأعصار ؛ لاستحال مع كثرة الخصوم وشدة دواعيهم إلى إبطال رسالته ، أن لا يشيع ذلك ، وأن لا يتواتر مع كونه من الأمور العظيمة ، والقضايا الجسمية.

فنقول : وإن كان ذلك من الأمور العظيمة ؛ فلا يلزم أن يكون متواترا ، فإن كون التسمية آية من كل سورة ، وكون إقامة الصلاة شيء من الأمور العظيمة ولم يتواتر به الخبر.

وأيضا : فإن كثيرا من معجزات النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عظيمة ؛ وهى غير متواترة.

[سلمنا (١)] لزوم تواتر ذلك ؛ لكن إذا وجد المانع منه ، أو إذا لم يوجد ، الأول : ممنوع. والثانى : مسلم ؛ فلم قلتم بعدم وجود المانع؟

وإن سلمنا عدم المانع ؛ ولكن ما ذكرتموه ينتقض بأخبار النصارى عن صلب المسيح ، وأخبارهم عنه بالتثليث // ، وبأخبار اليهود عن موسى بتكذيب كل ناسخ لشريعته ، وبأخبار الشيعة عن النص على إمامة على مع كثرة الناقلين لذلك فى زمننا هذا كثرة لا يتصور معها التواطؤ على الكذب. ومع ذلك فإنكم لم تقبلوا أخبارهم ، وقلتم إنّ أخبارهم لا تفيد العلم وذلك لا يخلو :

إما أن يكون لاختلال شرط فيها ، أو أنه لم يختل فيها شرط.

فإن كان الأول : فما المانع أن يكون ما تدعونه من التواتر كذلك.

وإن كان الثانى : فقد بطل القول بإفادة التواتر للعلم (٢).

__________________

(١) ساقط من (أ).

/ / أول ل ٨٣ / أ.

(٢) وقد رد الإمام الآمدي على هذه الشبهة أيضا : (ل ١٥٩ / ب ، ل ١٦٠ / أ) «إذا ضبطنا الخبر المتواتر بما يحصل منه العلم. فمهما حصل العلم بالخبر علمنا ضرورة تحقق التواتر وجميع شروطه .... وعلى هذا : فالعلم بوجود رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وادّعائه للرسالة ، حاصل بالضرورة على ما حققناه من أخبار الجمع الكثير ، فكان متواترا ، ولزم القول بوجود جميع شروطه.

وعلى هذا : يخرج الجواب أيضا عما أورده من أخبار اليهود ، والنصارى ، والشيعة».

سلمنا عدم الانتقاض ، ولكن لا يخلو : إمّا أن يقولوا : بأنّ التّواتر يفيد العلم الضرورى ، أو النّظرى. فإن كان الأول : فهو محال والا لما خالفناكم فيه (١).

وإن كان الثانى : كما ذهب إليه الكعبى من المعتزلة ؛ فهو محال ؛ لأن العلم النظرى لا يعلمه من ليس من أهل النظر : كالصبيان ، ولا من ترك النظر وهو معلوم عندكم له. ولأن كل نظر فالناظر يجد من نفسه أنه شاك فيه قبل حصوله ، وأنه طالب له. وعاقل ما لا يجد من نفسه أنه طالب لحصول العلم بمكة ، وبغداد ، وإذا بطل القسمان ؛ بطل القول بإفادة العلم.

سلمنا افادة التواتر للعلم ؛ ولكن كل تواتر أو التواتر المحتف بالقرائن (٢).

الأول : ممنوع ، والثانى : مسلم.

ولهذا فإنه قد يحصل العلم ببعض المخبرات بالتواتر لبعض الناس ، ولا يحصل له العلم بخبرهم بغير ذلك المخبر ، وليس إلا التفاوت فى القرائن ؛ فلم قلتم / بوجود مثل هذه القرائن.

سلمنا التساوى فى القرائن ؛ ولكن لا يلزم من حصول العلم به لبعض الناس حصول العلم لغيره ؛ إذ الناس متفاوتون بقرائحهم وذكائهم فى الاطلاع على القرائن الحالية (٣) ، والمقالية.

ولهذا فإنه قد يحصل العلم بخبر التواتر ببعض المخبرات لبعض الناس ولا يحصل العلم به بالنسبة إلى آخر مع تساويهم فى السماع ، واتحاد الخبر وليس ذلك إلا لتفاوتهم فى الإحاطة بالقرائن ، والاطلاع عليها.

سلمنا لزوم حصول العلم به مطلقا ؛ ولكن بالنسبة إلى السامع له لا بالنسبة إلى غير السامع له.

__________________

(١) وقد رد على هذه الشبهة : «المخالفة : إما في أصل العلم أو فى كونه ضروريا ..... وقد بطل كون العلم الحاصل بالتواتر نظريا لما سبق فتعين أن يكون ضروريا» [المصدر السابق].

(٢) وقد أجاب الآمدي عن هاتين الشبهتين : فقال : إذا عرف أنّ ضبط التواتر إنما هو بما حصل به من العلم ، فلا التفات إلى ما قيل ، وبه يندفع ما ذكروه من اختلاف قرائح الناس فى الاطلاع على القرائن».

(٣) وقد أجاب الآمدي عن هاتين الشبهتين : فقال : إذا عرف أنّ ضبط التواتر إنما هو بما حصل به من العلم ، فلا التفات إلى ما قيل ، وبه يندفع ما ذكروه من اختلاف قرائح الناس فى الاطلاع على القرائن».

وعند ذلك : فلا يلزم من كون ما ذكرتموه مفيدا للعلم لكم ؛ أن يكون مفيدا لغيركم ؛ لجواز أن لا يكون قد سمعه (١).

سلمنا أنه كان موجودا ، وأنه ادعى الرسالة ؛ ولكن لا نسلم ظهور المعجزات على (٢) يده.

قولكم : القرآن ظهر على يده. والقرآن معجزة. لا نسلم ظهور القرآن على (٣) يده.

قولكم : ذلك معلوم بالتواتر لا نسلم وجود التّواتر فى آحاد آياته (٤) ويدلّ عليه من خمسة أوجه :

الأول : أنّ الحفّاظ للقرآن فى زمن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ المخبرون به لمن سواهم ؛ لم يبلغوا عدد التّواتر ؛ فإنهم لم يزيدوا على ستة ، أو سبعة على ما نقله الرواة (٥).

الثانى : ان عثمان عند جمع القرآن ، كان يتلقّى آحاد الآيات من آحاد الناس ، وما كان يتوقّف فى كتابتها على نقلها إليه متواترة (٦).

__________________

(١) وقد رد المصنف على هذه الشبهة : «ما ندعى التواتر فيه من وجود رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وادعائه للرسالة لا يتقاصر عن التواتر المفيد لوجود العلم بمكة وبغداد .... وأن المنكر لذلك إن كان يهوديا ، أو نصرانيا ... فكل ما وجهه من إنكار وجود محمد وادعائه الرسالة ، وإنكار التواتر بذلك ، فهو لازم عليه فى إثبات وجود نبيه ، وادعائه للرسالة ، والجواب إذ ذاك يكون متحدا» (انظر ما يأتى ل ١٦٠ / أ ، ب.

(٢) وقد رد عليهم بقوله : «قولهم : لا نسلم ظهور المعجزات على يده ، قلنا : دليله ظهور القرآن على يده. والقرآن معجز».

(٣) وقد رد عليهم : «قولهم : لا نسلم ظهور القرآن على يده. قلنا : ذلك معلوم بالتواتر كالعلم بوجوده ، وادعائه للرسالة» (انظر ما يأتى ل ١٦٠ / ب.

(٤) ـ وقد رد الآمدي على هذه الشبهة ل ١٦٠ / ب «قولهم : لا نسلم وجود التواتر في آحاد آياته.

قلنا : دليله أنه ما من آية من آحاد آياته ألا وهى منقولة إلينا على لسان جماعة يفيدنا خبرهم العلم القطعى بصحة نقلهم عمن نقلوها عنه ... فكانت آحاد آيات القرآن أولى أن تكون متواترة».

(٥) وقد رد على هذه الشبهة فقال : «قولهم : إن الحفاظ للقرآن فى زمن النبي لم يبلغوا عدد التواتر. مسلم ولكن ليس فى ذلك ما يدل على أن آحاد الآيات غير متواترة ؛ لجواز أن يكون الحفظة لكل آية وإن لم يكونوا حافظين لغيرها ؛ قد بلغوا عدد التواتر».

(٦) وقد رد على هذه الشبهة فقال : «... ما من آية من القرآن إلا وكان نقلها عن النبي متواترا.

والثانى : مسلم. ولا يمتنع أن يكون أصل الآية متواترا ، وترتيبها في القرآن ، وتقديمها وتأخيرها ؛ ثابتا بالظن».

الثالث : أن من جمع القرآن من الصحابة اختلفت مصاحفهم ولم تتفق ؛ كمصحف ابن (١) مسعود ، وأبىّ بن (٢) كعب ، وزيد بن (٣) ثابت ، وعثمان (٤) ، وانكر كل واحد مصحف الآخر. حتى إن عثمان أحرق مصحف ابن مسعود ، وقال ابن مسعود : ولو ملكت كما ملكوا ؛ لصنعت بمصحفهم كما فعلوا بمصحفى. ولو كانت آياته متواترة ؛ لما كان كذلك (٥).

الرابع : هو ان اختلافهم فى التسمية هل هى آية من القرآن فى أول كل سورة : ظاهر مشهور ؛ وذلك يدل على عدم تواترها (٦).

__________________

(١) عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب الهذلى (أبو عبد الرحمن) صحابى جليل من أكابر الصحابة ـ من السابقين إلى الإسلام ، وأول من جهر بقراءة القرآن بمكة. كان خادم رسول الله الأمين وصاحب سره ، ورفيقه فى حله وترحاله وغزواته قال عنه عمر ـ رضي الله عنه ـ وعاء ملئ علما. له فى كتب الحديث ٨٤٨ حديثا. توفى بالمدينة سنة ٣٢ ه‍ عن عمر يصل ستين عاما ، (صفة الصفوة ١ / ١٤٧ ـ ١٥٧. الأعلام للزركلى ٤ / ١٣٧).

(٢) أبى بن كعب بن قيس بن عبيد. من بنى النجار ، من الخزرج أبو المنذر ، صحابى جليل أنصارى ، كان قبل الإسلام حبرا من أحبار اليهود مطلعا علي الكتب القديمة ، يكتب ويقرأ ، ولما أسلم كان من كتاب الوحى. شهد المشاهد كلها مع رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وكان يفتى على عهده كتب كتاب الصلح لأهل بيت المقدس فى عهد عمر ، كما اشترك فى جمع القرآن مع عثمان ـ رضي الله عنه ـ روى ١٦٤ حديثا ، وفى الحديث : «اقرأ أمتى أبي بن كعب» مات بالمدينة سنة ٢١ ه‍ (صفة الصفوة ١ / ١٧٧ ، والأعلام للزركلى ١ / ٨٢).

(٣) زيد بن ثابت بن الضحاك الأنصارى الخزرجى ـ رضي الله عنه ـ صحابى جليل من أكابر الصحابة كان من كتاب الوحى ، ولد فى المدينة قبل الهجرة بأحد عشر عاما. كان رأسا بالمدينة فى القضاء والفتوى والقراءة والفرائض. كان ابن عباس ـ على جلالة قدرة وسعة علمه ـ يأتى إلى بيته للأخذ عنه ويقول : العلم يؤتى ولا يأتى ، وأخذ ابن عباس بركاب زيد يوما فنهاه زيد ، فقال ابن عباس : هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا ، فأخذ زيد كفه وقبلها وقال : هكذا أمرنا أن نفعل بآل بيت نبينا ، وكان أحد الذين جمعوا القرآن فى عهد النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ، توفى سنة ٤٥ ه‍ (صفة الصفوة ١ / ٢٦٨ ، والأعلام للزركلى ٣ / ٥٧).

(٤) عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ أمير المؤمنين ، ذو النورين ، ثالث الخلفاء الراشدين ، وأحد العشرة المبشرين بالجنة ، من السابقين الأولين ، ولد بمكة قبل الهجرة بسبعة وأربعين سنة ، وأسلم بعد البعثة بقليل. كان غنيا شريفا فى الجاهلية ، ومن أعظم أعماله فى الإسلام تجهيزه نصف جيش العسرة بماله ، تولى الخلافة بعد استشهاد عمر ـ رضي الله عنه ـ سنة ٢٣ ه‍ ، استشهد ـ رضي الله عنه ـ سنة ٣٥ ه‍ روى عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (١٤٦) حديثا. (صفة الصفوة ١ / ١١١ ـ ١١٦ والأعلام للزركلى ٤ / ٢١٠).

(٥) وقد رد الآمدي على هذه الشبهة فقال : «المصاحف المشهورة في زمن الصحابة كلها كانت متواترة عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ على اختلاف حروفها ، كلها كانت مقروءة على النبي ، ومعروضة عليه وحيث اتفقت الصحابة على مصحف عثمان دون غيره ..... لأنه آخر ما عرض على النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وكان يصلى به إلى أن قبض ، واتفاقهم على إعدام ما سواه ، وحرقه ، إنما كان لخوفهم من وقوع الاختلافات فى روايات القرآن ، وخروج القرآن بسبب ذلك فيما بعدهم عن التواتر فى كل حرف منه».

(٦) وللرد على هذه الشبهة قال الآمدي : «لم يقع الاختلاف فى كونه من القرآن وإنما وقع الخلاف فى وضعها آية فى أول كل سورة».

الخامس : ما اشتهر من إنكار ابن مسعود كون الفاتحة والمعوذتين من القرآن مع ديانته ، واتفاق الصحابة على تعظيمه ، وعلوّ مرتبته ، وبقى على ذلك مستمرا إلى زمان عثمان ، ولم يبدّعه أحد من الصّحابة ، ولا كفّره. ولو كانت متواترة لبدّعوه وكفّروه ، وإذا لم تكن الفاتحة ، والمعوّذتان من القرآن ، مع شهرتها فما ظنّك بما سواها (١).

سلمنا أن القرآن وآحاد آياته منقول عنه بالتواتر ولكن يحتمل أنه كان يحفظه عن غيره. وسمعه منه ، ولم يظهر عليه أحد / سواه ، ومع هذا الاحتمال ؛ فلا يكون ظهوره على يده دلالة على صدقه (٢).

سلمنا أن الهيئة الاجتماعية لم توجد من غيره ؛ ولكن لا نسلم أنّ آحاد الآيات ومفردات الكلمات التى منها تأليفه لم يصدر إلا عنه (٣) لجواز أن يكون مع طول مدته قد انتسخها من كتب المتقدمين وأساطير الأولين ، وما كان يسمعه من الفصحاء ، والبلغاء فى زمانه من الألفاظ الرائقة ، والكلمات الجزلة. وألّف بعضها إلى بعض ولهذا فإنه لما أملى قوله ـ تعالى : ـ (فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا) / / الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ قال الكاتب : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) (٤) فقال له النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ اكتب فهكذا انزل فارتدّ هذا الكاتب ، ولم يكن ارتداده إلا لأنه خطر له هذا الاحتمال.

سلمنا أنه لم يظهر القرآن ، ولا آحاد آياته إلا عنه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولكن لا نسلم إمكان الاستدلال به على صدقه (٥) ؛ وذلك لأنّ القرآن قد يطلق بمعنى المقروء. وقد يطلق بمعنى القراءة. فإن كان المقروء وهو المعجز ؛ فهو عندكم صفة قديمة قائمة

__________________

(١) وللرد على هذه الشبهة قال الآمدي : «أنكر كون الفاتحة والمعوذتين أن تكون منزلة على النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أو أن حكمها ليس حكم القرآن؟ الأول : ممنوع ، والثانى : مسلم ، ولا يلزم من ذلك خروجها عن كونها متواترة ، وأنها داخلة فى المعجزة».

(٢) وقد رد الآمدي على هذه الشبهة فقال : «هذا ممتنع ؛ لأن القرآن من أوله إلى آخره مشتمل على ذكر وقائع ، وأحوال جرت له ، ولصحابته معه ، ووقعت على وفق ما أخبر به : أما قبل خبره ، أو بعده». تابع بقية رد الآمدي على هذه الشبهة ل ١٦١ / أوما بعدها.

(٣) وقد رد الآمدي على هذه الشبهة فيما يلى ل ١٦١ / ب.

/ / أول ل ٨٣ / ب.

(٤) سورة المؤمنون : ٢٣ / ١٤.

(٥) وقد رد الآمدي على هذه الشبهة : «بأن المعجز ليس هو المقروء ، وهو الصفة القديمة ؛ بل المعجز إنما هو العبارات الدالة على المعنى القديم» ل ١٦١ / ب ، ١٦٢ / أ.

بذات الرّب تعالى ـ والصفة القديمة يستحيل أن تكون معجزة ؛ إذ لا اختصاص لها بحادث دون حادث. ولا تكون نازلة من الله ـ تعالى ـ منزلة التصديق لمدعى الرسالة. وإن كان المعجز هو القراءة التى هى فعله ، وكسبه ؛ فلا تكون معجزة ؛ فإنها لا تكون من حيث هى فعله ، نازلة منزلة التصديق.

سلمنا إمكان الاستدلال على صدقه ؛ ولكن إذا كان خارقا للعادة ولا نسلم أن القرآن خارق للعادة ، ولا هو فى نفسه معجز.

وأما ما ذكرتموه فى وجه إعجازه فأنتم فيه مختلفون على ما سبق. والاختلاف فى وجه إعجازه يدل على خفاء وجه الإعجاز فيه ، والمعجز يجب أن يكون وجه إعجازه ظاهرا بالنسبة إلى كل من يستدل به عليه بحيث لا يلحقه فيه شك ، ولا ريب ، كيف وأنه مما يتعذّر الإعجاز فيه بكل وجه من الوجوه المذكورة.

أما القول بأن وجه الإعجاز فيه : النّظم المخصوص ، والوزن المخالف لأوزان العرب ؛ فهو ممتنع لوجهين : ـ

الأول : أنّا لا نسلم مخالفة وزنه لسائر أوزان العرب. فإنّ كثيرا من آياته على وزن أبيات العرب منها قوله ـ تعالى : ـ (وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ) (١) ومنها قوله ـ سبحانه وتعالى : ـ (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) (٢). ومنها قوله ـ تعالى ـ (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً ٢ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) (٣). ومنها قوله ـ تعالى : ـ (وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ) (٤). وهذه كلها كلمات موزونة / من غير تغيير. ومنها قوله ـ تعالى : ـ (وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) (٥). وهو موزون بشرط الإشباع فى كسرة الميم من ويخزهم. ومنه قوله ـ تعالى : ـ (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ١ فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ) (٦). فإنه إذا حذف منه اللّام من فذلك كان موزونا. إلى غير ذلك من الآيات التى لو تتبعها المتتبعون ولا سيما إذا غيرت أدنى تغيير بحذف ، أو إشباع ؛ لوجد من ذلك شيئا كثيرا.

__________________

(١) سورة فاطر : ٣٥ / ١٨.

(٢) سورة الزخرف : ٤٣ / ١٣.

(٣) سورة الطلاق : ٦٥ / ٢ ، ٣.

(٤) سورة القمر : ٥٤ / ٣٦.

(٥) سورة التوبة : ٩ / ١٤.

(٦) سورة الماعون : ١٠٧ / ١ ، ٢.

الثانى : وإن سلمنا مخالفة وزنه لسائر الأوزان ؛ فيمتنع أن يكون ذلك بمجرده معجزا ، وإلا كان ما أتى به مسيلمة (١). وغيره على ما يأتى معجزا ؛ إذ هو على وزنه ، أو أن لا يكون وزن القرآن معجزا.

وأما القول بأن وجه الإعجاز من القرآن مجرد ما فيه من البلاغة فباطل من خمسة أوجه :

الأول : أنّا إذا نظرنا إلى أبلغ خطب الخطباء ، وأجزل قصيدة للشعراء ، وقطعنا النظر عن الوزن ، والنّظم المخصوص ، وقسناه بقصار سور القرآن ، كان الأمر فى التّفاوت ملتبسا على البلغاء ، وربّما كان الراجح فى نظره معارضتها ، والمعجز لا بد أن يكون التّفاوت بينه ، وبين غيره قد انتهى إلى حد ينتفى معه الشّك ، والرّيبة فى التباسه بغيره.

الثانى : هو أن كلام القرآن غير خارج عن كلام العرب ، وما من أحد من بلغاء العرب إلا وقد كان عالما بمفردات الكلمات ، وعالما بجهة تراكيبها ، وكان مقدورا له الإتيان بالكلمة ، والكلمات والآية والآيات. ومن كان قادرا على ذلك ؛ كان قادرا على الكلّ.

الثالث : أنّ الصّحابة اختلفوا فى بعض السور ، والآيات أنّها من القرآن. ولو كانت بلاغتها بالنّسبة إلى غيرها منتهية إلى حد الإعجاز ؛ لعرفوها ، ولم يختلفوا فيها.

الرابع : أن الصّحابة عند جمع القرآن كان إذا أتى الواحد منهم بآية أو آيات. ولم يكن مشهورا بالعدالة لا يضعونها فى المصحف إلا ببيّنة ، ولو كانت بلاغتها منتهية إلى حدّ الإعجاز ؛ لعرفوها بذلك ولم يعتبروا فى وضعها فى المصحف عدالة الرّاوى لها.

الخامس : أنّه وإن تميّز بنوع بلاغة على من فى عصره ، غير أن ذلك ممّا لا يدل على الإعجاز ، والدّلالة على صدق مدّعى النبوّة ، إذ التفاوت فى ذلك فيما بين النّاس واقع لا محالة وليس له حد توقف عنده ، إذ ما من فصيح إلا ولعلّ غيره أفصح منه ، ولا يمتنع أن تنتهى البلاغة ، والفصاحة فى كل عصر إلى فصيح لا أفصح منه فى زمانه ، وذلك غير موجب للإعجاز ، ولا للدلالة / / على صدق مدّعى النّبوة ؛ لجواز أن يكون ذلك الشخص هو الّذي انتهت الفصاحة إليه فى زمانه. بحيث يكون لا أفصح منه فى ذلك العصر.

__________________

(١) مسليمة الكذاب : يضرب به المثل فى الكذب ، هو ابن ثمامة بن كبير بن حبيب الحنفى الوائلى ـ أحد الذين ادعوا النبوة ، ولد ونشأ باليمامة فى وادى حنيفة من نجد ، وقد أكثر من وضع الاسجاع التى يحاول بها مضاهاة القرآن الكريم ، حاربه سيف الله خالد بن الوليد وقتله وخلص العالم من شرورة سنة ١٢ ه‍ (سيرة ابن هشام ٣ / ٧٤ ، الأعلام للزركلى ٧ / ٢٢٦).

/ / أول ل ٨٤ / أ.

وأما القول بأنّ وجه إعجاز القرآن ما اشتمل عليه من أخبار الغيب ؛ فهو باطل من أربعة أوجه : ـ

الأول : أنه لا يخفى جواز الإصابة فى المرّة ، والمرّتين وأن ذلك ليس خارقا للعادة ، والحدّ الّذي تصير به الأخبار عن الغيب فى الكرّات المتعددة معجزا غير مضبوط. وإذا لم يكن مضبوطا ؛ فلا يمتنع أن يكون ما اشتمل عليه القرآن من الأخبار الغيبية غير معجز.

الثانى : أنّه يلزم منه أن تكون أخبار المنجّمين ، والكهنة عن الأمور الغيبيّة مع كثرته معجزا.

الثالث : أنه يلزم من ذلك أن تكون التّوراة ، والإنجيل من المعجزات ؛ لاشتمالها على أخبار الأولين ، وسير الماضين كما فى كتابكم ، ولم تقولوا به.

الرابع : أنّه إذا كان الإعجاز ليس إلا فى الإخبار عن الغيب ؛ فيلزم أن لا يكون ما خلا عن ذلك من سور القرآن معجزا.

وأما القول بأنّ وجه الإعجاز فى القرآن : إنّما هو عدم تناقضه واختلافه مع طوله ، وامتداده ؛ فباطل من وجهين : ـ

الأول : لا نسلم عدم التّناقص ، والاختلاف فيه :

أما بيان التّناقض فقوله ـ تعالى : ـ (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ) (١) والقرآن مشتمل على الشعر ، على ما تقدم.

وأيضا قوله ـ تعالى : ـ (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (٢).

فالآية دالة على نفى الاختلاف فيه. والاختلاف واقع فيه على ما يأتى ؛ فيكون تناقضا.

وأيضا فقوله ـ تعالى : ـ (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) (٣) وقوله تعالى : ـ (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٤)

__________________

(١) سورة يس : ٣٦ / ٦٩.

(٢) سورة النساء : ٣ / ٨٢.

(٣) سورة الأنعام : ٦ / ٣٨.

(٤) سورة الأنعام : ٦ / ٥٩.

ومن المعلوم أنه لا يشتمل علي كثير من العلوم الأصوليّة والرّياضية ، والطّبية ، وأكثر المسائل الفروعية.

وأيضا : فإنّ أكثر آياته متعارضة ، متقابلة ، كل واحدة دالة على نقيض مدلول الأخرى ، ومناقضة لها : كقوله ـ تعالى : ـ (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (١)

دلّ على عظم شأنه ، وعلوّ رتبته عن سمات النقص ، وهو غير خال عن النقص إذ هو مشتمل على اللّحن ، والتّكرار المستغث ، والتعرّض لإيضاح الواضحات وغير ذلك.

أما اللحن : فقوله ـ تعالى : ـ (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) (٢) رفع اسم إن ، وحقّه أن يكون منصوبا ، ولهذا قال عثمان لما عرض عليه المصحف إنّ فيه لحنا ، وإن العرب تقيمه بألسنتها.

وأما التكرار : فمن جهة اللفظ ، والمعنى :

/ أما من جهة اللفظ : فكما فى سورة الرحمن من قوله ـ تعالى : ـ (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٣).

وأما من جهة المعنى : فكما فى القصص المكررة فى السّور المختلفة : كقصة موسى ، وغيره.

وأما التعرض لإيضاح الواضحات : فكما فى قوله ـ تعالى : ـ (ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) (٤)

وأما الاختلاف : فقد يكون فى اللفظ ، وقد يكون فى المعنى ، والاختلاف فى اللفظ : قد يكون بتبديل اللفظ بغيره ، وقد يكون فى تركيبه ، وقد يكون بزيادة فيه ، ونقصان منه. والكل متحقق فى القرآن.

أما الاختلاف بتبديل اللفظ : فكقوله ـ تعالى : ـ «كالصوف المنفوش» بدل قوله (كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) (٥) وكقوله ـ تعالى : ـ «فامضوا إلى ذكر الله» (بدل

__________________

(١) سورة الإسراء : ١٧ / ٨٨.

(٢) سورة طه : ٢٠ / ٦٣.

(٣) سورة الرحمن : ٥٥ / ١٣.

(٤) سورة البقرة : ٢ / ١٩٦.

(٥) سورة القارعة : ١٠١ / ٥.

قوله) (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) (١) ، وكقوله : «فكانت كالحجارة أو أشد قسوة» بدل قوله : (فَهِيَ كَالْحِجارَةِ) (٢) ، وكقوله : «والسارقون والسارقات» بدل قوله : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) (٣).

وأما الاختلاف فى التركيب : فكقوله ـ تعالى : ـ «ضربت عليهم المسكنة والذلة» بدل قوله (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ) (٤) وكقوله : «وجاءت سكرة الحق بالموت بدل قوله : (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِ) (٥)

وأما الزيادة : فكقوله ـ تعالى : ـ (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) (٦) وهو أب لهم» وكقوله ـ تعالى : ـ (إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً) (٧) انثى

وأما فى المعنى : فكقوله ـ تعالى : (رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا) (٨) بكسر العين وقوله «باعد» بفتح العين. وكقوله ـ تعالى (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) (٩) بالياء المفتوحة ورفع الباء من ربك. فإنه مخالف فى المعنى إذا قرئت بالباء المفتوحة ، والياء المفتوحة من ربّك.

الوجه الثانى : وإن سلمنا سلامته عن التناقض ، والاختلاف غير أن ذلك / / ليس بمعجز.

فإنه معتاد من كثير من الخطباء ، والشعراء مع طول كلامه بحيث لو تتبعه أبلغ الناس لما وجد فيه سقطة ، ولا ذلة فضلا عن التناقض والاختلاف ، ويظهر ذلك ظهورا كليا فيما يكون على مقدار بعض السور القصار بتقدير التحدى بها.

__________________

(١) سورة الجمعة : ٦٢ / ٩.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ٧٤.

(٣) سورة المائدة : ٥ / ٣٨.

(٤) سورة البقرة ٢ / ٦١.

(٥) سورة ق : ٥٠ / ١٩.

(٦) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٦.

(٧) سورة ص : ٣٨ / ٢٣.

(٨) سورة سبأ : ٣٤ / ١٩.

(٩) سورة المائدة : ٥ / ١١٢.

/ / أول ل ٨٤ / ب.

وأما القول بأن وجه الإعجاز فيه موافقته لقضية العقل ودقيق المعانى ؛ فهو باطل أيضا :

فإن ذلك غير خارق للعادة ؛ بل هو معتاد فى أكثر كلام البلغاء ، ثم ينتقض بكلام الرسول الّذي ليس بمعجز ، فإنه يدل على دقيق المعانى ، وكذلك كلام التوراة ، والإنجيل ، وليس بمعجز عندكم.

وأما القول بأنّ وجه إعجازه قدمه ؛ فهو باطل أيضا :

لأنه إن أريد بالقرآن ما هو المسموع من الحروف / والأصوات المنتظمة ؛ فليس ذلك قديما على ما سبق فى مسألة الكلام (١).

وإن أريد به المقروء ؛ فقد سبق إبطاله قبل هذا.

ثم إنه لو جاز أن يجعل كلام الله القديم معجزة ؛ لجاز أن تكون كل صفة من صفاته : كعلمه ، وقدرته ، وغير ذلك معجزا ؛ وهو محال.

وأما القول بأن وجه الإعجاز فيه : دلالته على الكلام القديم فباطل :

فكتب الأنبياء المتقدمين من الزّبور ، والصّحف ، والتّوراة ، والإنجيل ؛ فإنها دالة على كلام الله القديم ، وليست معجزات.

__________________

(١) راجع ما مر فى الجزء الأول ـ القاعدة الرابعة ـ النوع الثانى ، المسألة الخامسة : فى إثبات صفة الكلام لله ـ تعالى ـ ل ٨٢ / ب وما بعدها ص ٣٣٨ وما بعدها.

وأما القول بأن وجه الأعجاز فيه الصرفة (١) فهو أيضا باطل من أربعة أوجه :

الأول : أن إجماع المسلمين قبل وجود القائلين بهذه المقالة على أن القرآن معجزة الرسول الدالة على صدقه ، فالقول بأنّه لا إعجاز فى القرآن ؛ بل الإعجاز فى الصرفة ، يكون خرقا لإجماع المسلمين قبل وجود المخالفين. وأنتم لا تقولون به.

فلئن قلتم : إجماع الأمة على كون القرآن معجزا : إنما كان باعتبار أنه يتعذر الإتيان بمثله ، وكون الصّرفة معجزة باعتبار أنّها على خلاف العادة ؛ فلا مناقضة بين كون القرآن معجزا ، وكون الصرفة معجزة بالتفسيرين المذكورين. ويكون الدّال على صدق الرسول الصرفة دون القرآن.

فنقول : الإتيان بكلام القرآن : إما أن يكون معتادا ، أو غير معتاد ، فإن كان غير معتاد : فهو المعجز لا نفس الصرفة.

وإن كان معتادا : فيمتنع تسميته معجزا ؛ بل المعجز ما هو خارق للعادة ؛ وهو الصرفة عن المعتاد.

__________________

(١) القول بالصرفة معناه أن الله صرف العرب عن معارضة القرآن مع قدرتهم عليها ، فكان هذا الصرف خارقا للعادة ، والصرف هو المعجز لا القرآن ، وأول من ابتدع هذا القول النظام قال الإمام الأشعرى فى مقالات الإسلاميين ١ / ٢٢٥. «قال النظام : الآية والأعجوبة فى القرآن ما فيه من الإخبار عن الغيوب ، فأما التأليف والنظم فقد كان يجوز أن يقدر عليه العباد لو لا أن الله منعهم بمنع وعجز أحدثهما فيهم».

وقال الإمام الشهرستانى : (عن النظام) التاسعة : قوله فى إعجاز القرآن إنه من حيث : الإخبار عن الأمور الماضية والآتية ، ومن جهة الدواعى عن المعارضة ومنع العرب عن الاهتمام به جبرا وتعجيزا ، حتى لو خلاهم لكانوا قادرين على أن يأتوا بسورة من مثله بلاغة وفصاحة ونظما». (الملل والنحل ١ / ٥٦ ، ٥٧) .. ويقول الأديب مصطفى صادق الرافعى : «النظام هو الّذي بالغ فى القول بالصرفة عرفت به وكان هذا الرجل من شياطين أهل الكلام ... والقول بالصرفة هو المذهب الفاشى من لدن قال به النظام يصوبه فيه قوم ، ويشايعه آخرون .. وعلى الجملة فإن القول بالصرفة لا يختلف عن قول العرب فيه (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) سورة المدثر ٧٤ / ٢٤ وهذا زعم رده الله على أهله وأكذبهم فيه وجعل القول به ضربا من العمى (أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ) فاعتبر ذلك بعضه ببعضه فهو كالشيء الواحد» [إعجاز القرآن والبلاغة النبوية تأليف مصطفى صادق الرافعى الطبعة الثامنة سنة ١٩٦٥ المكتبة التجارية الكبرى بمصر ص ١٦٢ ـ ١٦٤ بتصرف].

وقد رد الآمدي على القول بالصرفة وأبطله بأربعة أوجه كما تصدى أهل السنة للرد على القائلين بالصرفة ، ولمزيد من البحث والدراسة بالإضافة إلى ما أورده الآمدي هاهنا. انظر : إعجاز القرآن للباقلانى ت : السيد أحمد صقر ـ دار المعارف بمصر سنة ١٩٦٣ م خاصة ص ٢٩ ـ ٣١ ونهاية الأقدام للشهرستانى ص ٤٥٢ وما بعدها. وأصول الدين للبغدادى ص ١٨٣ ، ١٨٤ ، وشرح المواقف للجرجانى ـ الموقف السادس ص ٩٨ ـ ١٠٨. تحقيق ونشر الدكتور أحمد المهدى. وشرح المقاصد للتفتازانى ٣ / ٢٨٩ وما بعدها.

ومن الكتب الحديثة : مناهل العرفان فى علوم القرآن للشيخ محمد عبد العظيم الزرقانى ج ٢ ص ٣١٠ وما بعدها ط : دار إحياء الكتب العربية ـ عيسى الحلبى وشركاه.

ولهذا فإنّه لو قال : آيتى أنّنى أقوم ولا يقدر أحد منكم على القيام فى وقت عيّنه ؛ فإنّ قيامه لا يكون معجزا ؛ بل ما هو خلاف المعتاد ؛ وهو صرفهم عن القيام.

الثانى : أنه تحدى بالقرآن على كل العرب. فلو كان الإعجاز فى نفس الصرفة. لكانت الصرفة على خلاف المعتاد بالنسبة إلى كل واحد ضرورة تحقق الصرفة بالنسبة إليه. ولو كانت الصرفة على خلاف المعتاد بالنسبة إلى كل أحد لكان الإتيان بمثل كلام القرآن معتادا بالنسبة إلى كل أحد. [ولو كان معتادا بالنسبة إلى كل أحد] (١) فالمعتاد كذلك ليس هو الكلام الفصيح ؛ إذ هو غير معتاد لكل أحد ؛ بل المعتاد لكل أحد : إنّما هو الكلام الرّكيك المثلج المستغث ، ويلزم أن يكون كلام القرآن كذلك ركيكا مستغثا ، وليس كذلك باتفاق أهل الأدب.

الثالث : أنه لو كان الإعجاز فى الصرفة ، فكلام القرآن قبل الصرفة يجب أن يكون معتادا. وإلا لما كانت الصرفة معجزة ؛ لأنها لا تكون على خلاف العادة. ولو كان مثل كلام القرآن / معتادا قبل الصرفة لما ثبت صدقه ؛ لإمكان معارضة القرآن بما وجد من كلامهم مثل القرآن قبل الصرفة ؛ لأنّ التحدى. لم يكن بشيء من الكلام مثل القرآن بعد التحدى ؛ بل الإتيان بمثله. وسواء كان موجودا قبل التحدى ، أو بعده.

الرابع : وهو خاص بمذهب المرتضى ، أنه لو كان الإعجاز بفقدهم العلوم التى تتوقف عليها معارضة القرآن مع أنهم كانوا عالمين بها قبل ذلك ؛ لعلموا ذلك من أنفسهم عند الصرفة ، ولو علموا من أنفسهم ذلك لتناطقوا به فيما بينهم. ولو تناطقوا به فيما بينهم لشاع وذاع ، وكثرت طرق الاسماع نظرا إلى أن العادة جارية بالتحدث بخوارق العادات. وحيث لم يكن كذلك دل على فساد الصرفة بهذا الاعتبار.

فإن قيل : إنما لم يشع ذلك عنهم لأنهم كانوا / / حريصين على إبطال حجته وفى إشاعة ذلك تقرير حجته ، والحريص على إبطال أمر لا يسعى فى تصحيحه وتقريره.

قلنا : فاعترافهم بذلك العجز : إما أن يكون تقريرا لحجته ، وملزما لهم بتصديقه. أو لا يكون كذلك ؛ لاعتقادهم استناد ذلك إلى سحره كما قال ـ تعالى ـ حكاية عنهم (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) (٢)

__________________

(١) ساقط (أ)

/ / أول ل ٨٥ / أ.

(٢) سورة المدثر ٧٤ / ٢٤.

فإن كان الأول : استحال تواطؤ الخلق العظيم ـ مع اعتقادهم صدق الرسول ـ على تكذيبه ؛ إذ هو خلاف العادة.

وإن كان الثانى : فلا يكون ذلك مانعا من إشاعته ، والتّذاكر به.

وأما القول بأن جهة الإعجاز فيه النظم ، والبلاغة : فباطل أيضا : لأنه قد بان امتناع كون كل واحد منهما معجزا ، وضم ما ليس بمعجز إلى ما ليس بمعجز ؛ لا يوجب الإعجاز فيه.

سلمنا دلالة ما ذكرتموه على كون القرآن معجزا ؛ غير أنه معارض بما يدل على عدم إعجازه ؛ لأنه لو لكان معجزا ؛ لكان معجزا لكونه خارقا للعادة ، ولو كان معجزا لكونه خارقا للعادة ، لكان ما ظهر من العلوم الرياضية : كالهندسية ، والحسابية ، وغيرها من العلوم التى لم تكن معتادة قبل ظهورها ، معجزات. وأن تكون دالة على صدق من أتى بها عند دعواه الرسالة ، ولم يقولوا به.

سلمنا أنه معجز ، وأنه لم يظهر إلا على يده ؛ ولكن لا نسلم دلالته على صدقه ؛ لأنه من الجائز أن يكون قد حصل ذلك له قبل الرسالة ، ودعوى النبوة ولم يظهره. فإنه لا مانع على أصلكم من إجراء الخوارق على يد من ليس بنبي. وعلى تقدير جواز تقدمه على التحدى يخرج عن أن تكون دالة على صدقه من حيث إن المعجزة إنّما تدل من جهة كونها نازلة منزلة التصديق من الله ـ تعالى ـ له بالقول ، وما يكون / موجودا قبل التحدى لا ينزل هذه المنزلة.

وأما ما ذكرتموه من باقى المعجزات : فكلها منقولة على لسان الآحاد ؛ فلا تكون الحجة قائمة بها فى القطعيات (١).

كيف وأنها لو كانت واقعة مع كونها من خوارق العادات ؛ لاشتهرت ، وشاعت وذاعت على لسان أهل التواتر ، على ما جرت به العادة فى نقل كل ما يخالف العادة. فحيث لم يكن كذلك ؛ دل على أنها لم تقع.

__________________

(١) وقد رد الآمدي على هذه الشبهة : بأن كل واحد منها وإن كان أصل خبره آحادا غير أن جملتها تنزلت منزلة التواتر وتكون موجبا لحصول العلم بصدور المعجزات عنه ، وظهورها على يده ، وإن كان نقل كل حالة منها على لسان الآحاد (انظر ل ١٦٤ / أ).

سلمنا ظهور المعجزات على يده : ولكن لا نسلم التحدي (١) ، وما ذكرتموه من الآيات ، فلا نسلم أنه قصد بها التّحدى ؛ فإنّه يحتمل أنه قصد بذلك ما جرت العادة من البلغاء من الخطباء والشعراء ، من تعظيم أقوالهم ، وتفخيمها ، والتعلى ، والترفع بما يقولونه ، وينتحلونه ، ومع قيام هذا الاحتمال ؛ فقد انتفى القطع بالتّحدى.

سلمنا أنّه تحدّى. ولكنّه تحدّى بكل القرآن ، أو بعضه.

إن قلتم إنه تحدى بكل القرآن لقوله ـ تعالى ـ (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (٢) [فلا حاجة فيه ؛ لأنه خصّص التحدى باجتماع الإنس ، والجنّ. واتخاذ بعضهم لبعض ظهيرا] (٣). ويلزم من ذلك أن لا يتحقق وجه التّحدّى والتعجيز ، إلا بتقدير اجتماع الثّقلين ، وتماليهما على محاولة المعارضة ؛ ولم يتحقق ذلك.

وإن قلتم : إنه تحدّى ببعض القرآن ؛ فقد وقع الاتفاق على أنّ الإعجاز لا يقع بما دون الآية منه. وما زاد على ذلك فالآيات فيه مختلفة.

فمنها ما يدل على التّحدّى بعشر سور.

ومنها ما يدل على التّحدّى بسورة واحدة.

فإن قلتم : إن التّحدّى بسورة واحدة : فإمّا أن تكون معيّنة أو غير معيّنة. القول بالتّعيين غير معلوم من القرآن ، ولا من غيره ؛ بل هو ترك لظاهر لفظ السّورة.

كيف وأنه يلزم أن لا يكون باقى القرآن معجزا ولم تقولوا به.

وإن كانت غير معينة ؛ بل التحدي بأىّ سورة كانت منه حتى أنه يدخل فيها سورة الكوثر. فكل عاقل يعلم علما ضروريا أن سورة الكوثر لم تبلغ مبلغا يتيقن فيه عجز بلغاء العرب عن الإتيان بمثلها ، وعلى هذا التفصيل يكون الكلام فى العشر سور (٤).

__________________

(١) وقد رد الآمدي على هذه الشبهة فقال : «شهرة تحديه معلوم بالضرورية فى الآيات المذكورة مع دعوى الرسالة ، ودعاء الناس إلى الإجابة والتصديق له فيما يدعيه حتى أن منهم من سارع إلى تصديقه والدخول فى ملته ... ولا كذلك ما ذكروه من أحوال المدعين ، ومن قصده التعظيم ، والترفع بما أنشأه وأبدعه» (ل ١٦٤ / ب.

(٢) سورة الإسراء : ١٧ / ٨٨.

(٣) ساقط من (أ).

(٤) وقد رد الآمدي على هذه الشبهة ل ١٦٤ / ب.

«نحن ننزل الكلام على كل واحد من القسمين ، فتارة نقول : إن التحدى بكل القرآن لا بمعنى أن بعضه ليس متحدى به كما ذهب إليه المعتزلة ؛ إذ هو من أعم الآيات الدالة على التحدى بعشر سور ، وبسورة واحدة ؛ بل بمعنى أن التحدى وقع تارة بكل القرآن ، وتارة ببعضه ... إلخ».

سلمنا أنّه تحدى بكل القرآن على الإنس خاصّة ، غير أنا لا نسلم بلوغ خبر التّحدى فى زمانه وقد تحديه إلى كل النّاس ، فإنّا نعلم أن من كان فى أطراف الأرض ، لم يسمع به فى زمانه ، فضلا عن تحديه بالقرآن.

وعلى هذا التقدير لا يدلّ ذلك على صدقه بتقدير عجز المستمعين له عن المعارضة ؛ لأنّهم بعض النّاس ، وعجز بعض الناس لا يدلّ على صدقه (١) وإلا كان / كل من تفرّد بصنعه يعجز / / عنها بعض النّاس ، وادّعى مع ذلك النّبوّة ؛ أن يكون صادقا فى دعواه ؛ وهو محال.

سلمنا بلوغ التحدّى إلى كل النّاس. ولكن لا نسلم أن المعارضة لم تقع (٢).

فلئن قلتم : لو وجدت المعارضة ؛ لظهرت ، واشتهرت ؛ لأنّها من الأمور العظيمة.

والعادة تحيل أن لا تنتقل.

قلنا : لا نسلم أنها ما ظهرت.

وبيانه : ما اشتهر ، وشاع ، وذاع مما عارض به مسيلمة (٣) ، والأسود العنسى (٤) وما عارضت به العرب من القصائد السبع ، وما عارض به ابن المقفع (٥) ، والمعرّى (٦) وغيرهم.

__________________

(١) وقد رد الآمدي على هذه الشبهة : «لا شك فى بلوغه إلى فصحاء العرب ، فإذا كان القرآن معجزا بالنسبة إليهم ؛ فلأن يكون معجزا بالنسبة إلى غيرهم أولى».

/ / ل ٨٥ / ب.

(٢) وقد رد الآمدي على هذه الشبهة (ل ١٦٥ / أ) بأن المعارضة وقعت بدليل ما قاله مسيلمة وغيره ... إلخ».

(٣) مسليمة الكذاب ، سبقت ترجمته في هامش ل ١٥٤ / أ.

(٤) الأسود العنس : عيهلة بن كعب بن عوف العنسى المذحجى متنبئ مشعوذ كذاب ـ من أهل اليمن ، أسلم لما أسلم قومه ثم ارتد عن الإسلام فى أيام النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ، فكان أول مرتد عن الإسلام ، وادعى النبوة فتبعه خلق كثير ، ثم قتله أحد مسلمى اليمن ، وكان قتله قبل وفاة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بشهر واحد (دائرة المعارف الإسلامية ٢ / ١٩٨ والأعلام للزركلى ٥ / ١١١).

(٥) ابن المقفع : عبد الله بن المقفع ، ولد فى العراق سنة ١٠٦ ه‍ (مجوسيا ـ مزدكيا) وأسلم على يد عيسى بن على ، وولى كتابة الديوان للمنصور العباسى وترجم له الكثير من الكتب من أشهرها (كليلة ودمنة) وهو من أئمة الكتاب ، كما أنشأ رسائل غاية فى الإبداع ، ولكنه اتهم بالزندقة فقتله أمير البصرة سفيان بن معاوية المهلبى سنة ١٤٢ ه‍ (البداية والنهاية ١٠ / ٩٦ ولسان الميزان ٣ / ٣٦٦).

(٦) المعرى : أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخى المعرى (أبو العلاء) ، ولد ومات فى معرة النعمان ـ ولد سنة ٣٦٣ ه‍ وتوفى سنة ٤٤٩ ه‍ أصيب بالعمى فى الرابعة من عمره ـ رحل إلى بغداد سنة ٣٩٨ ه‍ وبقى بها مدة قليلة ، له مؤلفات كثيرة من أشهرها (رسالة الغفران). (وفيات الأعيان لابن خلكان ١ / ٣٣ ، ومعجم الأدباء ١ / ١٨١).

فلئن قلتم إن ذلك لا يقع معارضا للقرآن لركاكته بالنسبة إلى بلاغة القرآن ؛ فهى دعوى معارضة بنقيضها من الخصوم.

سلمنا أن المعارضة ما ظهرت ؛ ولكن لا نسلم أن كل ما كان من الأمور العظيمة لا بدّ وأن يشتهر ، ودليله سائر معجزات النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكذلك كون التسمية آية من القرآن فى أول كل سورة وكذلك التّثنية فى إقامة الصّلاة عندكم من الأمور العظيمة ، ولم تشتهر بحيث نقلت تواترا ؛ بل أبلغ من ذلك أمر النّبوّة. وكم من نبىّ لم يعرف ولم يشتهر (١).

سلمنا أن كل ما كان من الأمور العظيمة لا بد وأن يشتهر ؛ ولكن إذا وجد له مانع ، أو إذا لم يوجد.

الأول : ممنوع ، والثانى : مسلم. وبيان احتمال وجود المانع : أنه من الجائز أن يكون المعارض قد أخفى ما عارض به : إما لمال ارتشى به لا يقدر على تحصيله بغير هذا الطريق. أو لخوفه من اتباع رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وأصحابه الذين اتبعوه ؛ لطلب الرئاسة ، والملك ، والأغراض الدنيوية ، أو أن أصحابه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ توافقوا على كتم المعارضة ، وسترها ، واعدامها لاستيلائهم على البلاد ، وعموم حكمهم على العباد بحيث استأصلوها. ولم يبق منها شيء ، ولا من ناقليها.

سلمنا أن المعارضة لم توجد. ولكن لا نسلم أن ذلك يدل على عجزهم عنها (٢).

قولكم : لو كانوا قادرين عليها لأتوا بها ؛ إذ هى أبلغ الطرق ، وأسهلها فى افحامه ، ودفع الضرر عنهم.

قلنا : ما المانع أن يكون القادر على المعارضة عدد يسير. وقد اتبعوه ، وأظهروا العجز عن المعارضة محافظة على ما كانوا يبتغونه فى معاضدته من الملك ، والاحتواء على أمور الدنيا.

وعلى هذا فلا ضرر عليهم فى الموافقة حتى يقال بدفعها بالمعارضة.

سلمنا عدم الموافقة له من الكل ؛ ولكن لا نسلم مع ذلك أنّ عدم المعارضة يدل على عجزهم عنها.

__________________

(١) وقد رد الآمدي على هذه الشبهة بأن المعارضة لو وجدت لظهرت ... إلخ. (انظر ل ١٦٥ / ب).

(٢) وقد رد على هذه الشبهة بقوله : «لو لم يعجزوا ؛ لأتوا بالمعارضة ؛ لما سبق».

وبيانه من اثنى عشر وجها :

الأول : أنه من المحتمل أنهم تركوا معارضته ؛ لعدم / اكتراثهم به ، وظنهم أن ذلك أنجع الطرق فى اخماد ما أتى به ، وخمول دعوته.

الثانى : أنه من المحتمل أنهم ظنوا أن دفعه بالقتال ، والحرب أقضى إلى مقصودهم من المعارضة.

الثالث : أنه لا يخفى على ذى أدب ما القرآن عليه من البلاغة والفصاحة ، والنظم الغريب. وأن المقتدر على ذلك بتقدير فرضه ليس إلا الأقلون ، وعند ذلك فمن المحتمل أن تكون محاذرتهم للمعارضة خوفا من استرابة بعض الناس فى التفضيل ، واستقرار إعجاز القرآن فى نفوسهم.

الرابع : هو أن العرب كما أنهم دعوا إلى النظر فى آيات نبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقد دعوا إلى النّظر فى آيات الوحدانية والمعاد وغير ذلك.

ومع ذلك فإنّهم لم ينظروا فيها مع قدرتهم عليها ، فعدم نظرهم فى معجزاته ؛ لا يدل على عجزهم عنها.

الخامس : هو أنّ القرآن مشتمل على النّظم الغريب ، والبلاغة والإخبار عن الغيب ، وغير ذلك من العجائب. ولعلهم لم يعلموا وجه التحدى هل هو بالنّظم ، أو البلاغة ، أو الإخبار بالغيب ، أو بالمجموع ، فلذلك عدلوا عن المعارضة إلى غيرها.

السادس : أنه من المحتمل أنّهم ظنوا لضعفه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وخموله فى ابتداء أمره ، وقلّة المعين له. أنّ أمره لا ينتهى إلى ما انتهى إليه من الاستيلاء على البلاد ، وعموم حكمه ، وتكليفه للعباد. فلذلك لم يعارضوه ؛ لعدم اعتقادهم توجّه المحذور نحوهم. وبعد أن قويت شوكته وعلت كلمته ، امتنعوا من المعارضة خوفا كما جرت عادة الرّعايا مع الملوك.

السابع : أنه من المحتمل أنّهم كانوا يعتقدون أن ما كان لهم من النّظم ، والنّثر أفصح ، وأبلغ من القرآن. وأنّ ذلك مما لا يتشكّك فيه أحد من البلغاء ، فلذلك لم يتعرّضوا للمعارضة.

الثامن : أنّه من المحتمل أنّه وجد لهم مانع من تعاطى / / المعارضة إما من رشوة ، أو خوف فتنة ، وتوقى ما يفضى إلى فساد المعيشة من أهله ، وأصحابه. وانتشار القتال بسبب ذلك بين قبائل العرب كما هو المعتاد منهم. أو لاشتغالهم بمعايشهم ، وما هو أهمّ فى نظرهم من المعارضة.

التاسع : أنّه من الجائز أن يكون النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد يأتى له القرآن فى مدّة مديدة لا يتأتّى لأبلغ بليغ مثل القرآن فى دونها ، وحيث لم يأت بلغاء العرب بالمعارضة ، لم يكن ذلك لعجزهم عن الإتيان بمثله ؛ بل إنّما لعدم بلوغهم مثل تلك المدة أو لعدم اصطبارهم على مكابدة الإتيان بمثل القرآن فى تلك / المدة.

العاشر : هو أنّ القرآن مشتمل على تواريخ المتقدّمين ، وسير الأولين ، والعلم بالله ـ تعالى ، وصفاته ، والعلم بهذه الأمور غير معجوز عنه بالنّسبة إلى المتعاطى له.

ولا يخفى أنّ العرب لم يكونوا من أهل النظر ، وعلوم السير. والمعارضة إنّما تكون بأن يأتوا بكلام مشتمل على كل ما اشتمل عليه القرآن. ولم يكونوا عالمين بكل ما اشتمل عليه القرآن ، وإن كان ذلك مقدورا لهم بتقدير تعاطيه ، فلذلك تركوا المعارضة ؛ لما فيها من عسر الاشتغال بالعلوم النّظرية ، والعقلية. وترك ما هو المهم لهم من معيشتهم. أما أن يكون ذلك معجوزا عنه فلا.

الحادى عشر : أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ لم يطلب منهم أن يأتوا بمثل القرآن فقط وإلا لما عجزوا عنه ؛ بل إنما كان يطلب منهم أن يأتوا به من عند الله على ما قال ـ تعالى : ـ (قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ) (١).

ولا يخفى أن الإتيان بمثله من عند الله ـ تعالى ـ غير مقدور. ولا يلزم أن يكون نفس القرآن غير مقدور.

الثانى عشر : أنه يحتمل أنهم تركوا المعارضة مع القدرة عليها غفلة ، وذهولا ـ لا لعلة ، ولا يمتنع مثل ذلك فى حق من هو أهل للمعارضة ، فإنهم لا يزيدون على اثنين ، أو ثلاثة. وتطرق ذلك إليهم غير مستبعد عادة.

__________________

/ / أول ل ٨٦ / أ. من النسخة ب.

(١) سورة القصص : ٢٨ / ٤٩.

سلمنا عجزهم عن المعارضة للقرآن بمثله ؛ ولكن لا نسلم دلالته على صدقه ؛ لأنا إذا فرضنا شخصا حفظه ، ومضى به إلى بلد لم تبلغهم الدعوة ، ولم يسمعوا بمثله ، ولا بمن ورد على يده. فادّعى النّبوّة ، وتحدّى به عليهم.

فإما أن يوجب بذلك التّصديق ، أو لا يوجبه.

فإن أوجبنا التّصديق فهو معلوم كذبه.

وإن لم نوجب التصديق مع ما ظهر لهم على يده من الخارق أفضى ذلك إلي إفحام الرسول الّذي لم يظهر ذلك إلا على يده لإمكان أن يقال له : من الممكن أنّك حفظته من مكان آخر ، ونقلته إلينا. فإذن لا سبيل إلى القول بأنّ ما ينقل ويحفظ ، أن يكون دليلا وآية على صدق المدعى وإن كان خارقا للعادة ؛ بل المعجز الّذي يستدل به على صدق الرسول يجب أن يكون من قبيل ما لا ينقل : كفلق البحر وقلب العصا حية ، وإحياء الميت ، وإبراء الأكمة ، والأبرص ، إلى غير ذلك مما لا سبيل إلى دعوى إمكان ظهوره على يد غير من ظهر على يده.

سلمنا دلالته على صدقه. ولكنّه معارض بما يدلّ على أنه غير صادق فى دعواه.

وبيانه : أنّ موسى كان نبيّا صادقا بما ظهر على يده من المعجزات : كشقّ البحر ، وقلب العصا حيّة ، وبياض يده إلى غير ذلك من الآيات وقد / نقل عنه نقلا متواترا الخلف عن السلف من اليهود أنّه قال لقومه هذه الشريعة مؤبدة عليكم لازمة لكم ما دامت السماوات والأرض. فقد كذّب كل من ادّعى نسخ شريعته ، وتبديل ملّته. فلو قلنا إن محمدا كان نبيّا صادقا ، وأن شرعه ناسخ لشرع موسى ؛ للزم أن يكون موسى الكليم فيما قاله كاذبا ؛ وهو محال.

وهذه هى شبهة العنانية (١) من اليهود.

وزادت الشمعنية (٢) منهم على ذلك بإنكار النسخ عقلا ، وقالوا : لو كان محمد نبيا لجاز القول بنسخ الشرائع. والنسخ فى نفسه محال. فإنه إذا أمر بشيء فذلك يدل على حسنه وكونه مرادا وأن فيه مصلحة. فلو نهى عنه فالنهى عن الشيء يدل على قبحه ،

__________________

(١) العنانية : انظر عنهم ما مر فى هامش ل ١٤٦ / ب.

(٢) الشمعنية : انظر عنهم ما مر فى هامش ل ١٤٦ / ب.

وكونه غير مراد ، وأنه لا مصلحة فيه ، ويلزم من ذلك قلب الحسن قبيحا ، والمراد غير مراد ، والمصلحة مفسدة ، ويلزم منه أيضا البداء (١) على الله ـ تعالى ـ وأنه ظهر له ما لم يكن ظاهرا قبله. والندم بعد الأمر ، والطلب ، وكل ذلك ممتنع فى حق الله تعالى.

وأيضا فإنّ النّسخ فى اللغة عبارة عن الرفع والإزالة ومنه يقال نسخت الريح / / آثار القوم : أى أزالتها وذلك مما يمتنع تحقيقه فيما أمر به ، أو نهى عنه ؛ لأنه إما أن يكون الرفع لما وقع ، أو لما لم يقع.

فإن كان الأول : فهو محال.

وإن كان الثانى : فلا يخفى أن رفع ما لم يقع أيضا محال.

سلمنا جواز نسخ الشرائع وأنه رسول ؛ لكن لا نسلم أنه ادعى الرسالة إلى الأمم كافة ؛ بل إلى العرب خاصة وقد نطق كتابكم بذلك حيث قال (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) (٢) وهو دليل اختصاص رسالته بأهل لسانه ، ولغته ، وهذه هى شبهة العيسوية من اليهود (٣).

والجواب :

قولهم : لا نسلم أنّ محمدا كان موجودا ، وأنه ادّعى الرسالة.

قلنا : ذلك معلوم ضرورة بخبر التواتر. ومن أنكر ذلك فقد ظهرت مجاحدته : وسقطت مكالمته : كمنكر وجود مكة ، وبغداد.

وليس يصح فى الأذهان شيء

إذا احتاج النهار الى دليل (٤)

__________________

(١) البداء : ظهور الرأى بعد أن لم بعد أن لم يكن [التعريفات للشريف الجرجانى ص ٥٢].

/ / أول ل ٨٦ / ب.

(٢) سورة إبراهيم : ١٤ / ٤.

(٣) العيسوية : انظر عنهم ما مر فى هامش ١٤٦ / ب.

وللرد على شبهة العيسوية من اليهود نقول : بأنه يمتنع عليهم بعد التسليم بصحة رسالته ، وصدقه ، وقيام المعجزة القاطعة ؛ تكذيبه فيما ورد به التواتر القاطع بعموم رسالته إلى الناس كافة ، وأن العموم يشمل الزمان ، والمكان ، فكما أنه مرسل للعالمين ، فرسالته خاتمة الرسالات الإلهية فلا نبى بعده إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

انظر رد الآمدي على العيسوية ل ١٦٨ / أ ، ب).

(٤) هذا البيت للمتنبى ، وهو فى ديوانه بشرح العكبرى ٣ / ٩٢ ونصه :

وليس يصح فى الأفهام شيء

إذا احتاج النهار إلى دليل

قولهم : معنى التواتر غير مفهوم ؛ ليس كذلك ؛ إذ هو عبارة عن خبر جماعة مفيد لليقين بمخبره.

قولهم : ذلك يفضى إلى الدّوم. إنّما يصح أن لو وقفنا العلم الحاصل عن التواتر على معرفة التواتر ، وليس كذلك ، وعلى ما ذكرناه فى الحد من القيد ، وهو خبر جماعة ؛ فلا يخفى خروج خبر الواحد إذا احتفت به القرائن ، وأفاد العلم عن أن يكون داخلا فى الحد.

قولهم : لا نسلم لزوم حصول العلم بخبر الواحد.

قلنا : هذا جحد لما هو معلوم ضرورة ، فإن عاقلا لا ينكر حصول العلم بوجود / مكة وبغداد ، مع أنه لم يشاهدهما ، وليس العلم بذلك مستندا إلى مدرك من المدارك المفيدة للعلم عن الخبر ؛ فكان هو التواتر.

قولهم : لو حصل العلم بخبر التواتر : إما أن يحصل بخبر كل واحد أو خبر بعضهم. أو بالمجموع.

قلنا : هذا تشكيك على ما هو معلوم ضرورة فلا يقبل. كيف وأنا نقول المختار من الأقسام المذكورة : إنما هو القسم الثالث ، وهو حصول العلم بالمجموع.

قولهم : إما أن يكون قد حصل للجمع حالة زائدة ، أو لم يحصل.

قلنا : بل حصل ، فإن الهيئة الاجتماعية (١) لا تكون مانعا من الكذب ، فهو مكابرة للضرورة (١) من الآحاد مما لا ينكرها عاقل إلا عن عناد.

قولهم : إذا كان خبر كل واحد على الانفراد يحتمل الكذب فضمّ ما يحتمل الكذب إلى ما يحتمل الكذب لا يكون مانعا من الكذب ؛ فهو مكابرة للضرورة وما يجده كل عاقل من نفسه عند ما إذا أخبره الواحد بخبر من حصول أصل الظن ، وتزايده بالثانى ، والثالث ، والرابع إلى أن ينتهى إلى اليقين الّذي لا مشكّك معه : كما يجده من العلم بوجود مكة ، وبغداد ، فإنه لا مستند له غير الخبر ، ولو قدّرنا انفراد الواحد والاثنين من جملة الجماعة المخبرين لنا بذلك ؛ لما حصل لنا العلم به.

__________________

(١) ساقط من ب.

وعلى هذا فنقول : الكذب وإن تطرق احتماله إلى كل واحد من الآحاد بتقرير الانفراد عادة ؛ فهو غير متطرق إليه عادة بتقدير فرض الاجتماع. وإن كان محتملا عقلا ، وليس الحكم على الجملة بما حكم به على الآحاد لازما.

قولهم : الخبر المفيد للعلم : إما جملة الحروف ، أو آحادها.

قلنا : هذا تشكيك على ما هو معلوم بالضرورة ؛ فلا يقبل ، ثم نجيب عنه من ثلاثة أوجه :

الأول : ما المانع أن يكون العلم بالمخبر عنه حاصلا عن العلم بوجود جملة الحروف المتعاقبة ما فقد منها ، وما هو موجود لا عن نفس الحروف المتعاقبة.

وعلى هذا : فلا نسلم أن العلم بجملة الحروف غير موجود ، وإن كان بعض الحروف غير موجود.

الثانى : ما المانع أن يكون العلم حاصلا بالحرف الأخير مشروطا بسبق ما وجد من الحروف الأخر.

قولهم : الشرط لا بد وأن يكون مقارنا للمشروط. لا نسلم ذلك مطلقا. وما المانع من انقسام الشرط الى ما يكون متقدما ، وإلى ما يكون مقارنا ، وذلك لأن الحادث من حيث هو حادث مشروط بسبق عدم نفسه على وجوده ، وعدم الحادث غير مقارن لوجود نفسه.

الثالث : أنه يلزم على ما ذكروه الظّن الحاصل بخبر الواحد وما زاد ، إنه حاصل بالضرورة من غير / نكير ، وكل ما أوردوه على العلم الحاصل بخبر التواتر ؛ فهو لازم فى الظّن الحاصل بخبر الواحد ، وما هو جواب له فى الظّن ؛ فهو جواب له فى العلم.

قولهم : الخبر إنما يفيد بالوضع / / والوضع لا يفيد الصفات الحقيقية ـ عنه أجوبة ثلاثة :

الأول : أنه قدح فى الضروريات ؛ فلا يقبل.

الثانى : ما المانع أن يكون حصول العلم عند خبر التواتر بالعلم بالخبر الوضعى لا من نفس الخبر الوضعى.

__________________

/ / أول ل ٨٧ / أ.

الثالث : ما المانع أن يكون المفيد هو نفس الخبر مشروطا بالوضع لا أن الوضع هو المفيد للعلم.

وعلى هذا فلا يكون ما ذكروه متجها.

قولهم : شرط التواتر أن يكون الخبر غير محسوس ، والغلط غير ممتنع فى المحسوسات.

قلنا : عقلا ، أو عادة. الأول : مسلم. والثانى : ممنوع.

ولا يلزم من الاحتمال العقلى امتناع القطع العادى كما سبق تحقيقه مرارا. ونحن فى هذا المقام إنّما ندّعى العلم العادى دون غيره.

كيف وأن ما ذكروه أيضا تشكيك فى العلوم الضرورية ؛ فلا يقبل.

قولهم : إنما يكون مفيدا للعلم أن لو لم يحملوا عليه بالسيف.

قلنا : هذا (١) الاحتمال (١) وإن كان ممكنا عقلا ؛ فهو غير قادح مع وجود ما نعلمه من العلم الضرورى باخبار التواتر.

قولهم : إنّما يكون التّواتر مفيدا للعلم أن لو كان المخبرون لا يحصرهم عدد ، ولا يحويهم بلد ، وليس كذلك. فإن أهل بلد من البلاد لو أخبروا عن واقعة وقعت بهم ، ونائبة حلت فيهم ؛ فإن العلم الضرورى يحصل لنا بذلك. وإن حواهم بلد ، وكان عددهم محصورا.

قولهم : شرط ذلك أن تختلف أنساب المخبرين ، وأوطانهم ، وأديانهم ليس كذلك أيضا ، فإنه إما أن يبلغ عدد المخبرين إلى حد يمتنع معه تواطؤهم علي الكذب عادة ، أو لا يكون كذلك.

فإن كان الأول : فلا أثر لهذه الشروط.

وان كان الثانى : فالعلم غير حاصل بخبرهم. سواء وجدت هذه الشروط ، أو لم توجد.

__________________

(١) ساقط من ب.

قولهم : شرط ذلك أن يكونوا صلحاء مؤمنين ؛ ليس كذلك أيضا. فإن أهل قسطنطينية لو أخبروا بموت ملكهم حصل العلم الضرورى بذلك وإن كانوا كفره ؛ بل ولو أخبر بذلك العدد الكثير الّذي يمتنع معه التواطؤ على الكذب عادة ؛ لحصل العلم بذلك ، وإن لم يكونوا معترفين بوجود الإله ـ تعالى ـ وبهذا يبطل قولهم : شرطه أن يكون فيهم الإمام المعصوم.

قولهم : إنما يكون مفيدا للعلم إذا استوى طرفاه ، ووسطه.

قلنا : إذا / ضبطنا الخبر المتواتر بما يحصل منه العلم فمهما حصل العلم بالخبر علمنا ضرورة تحقق التواتر ، وجميع شروطه. وإنما يلزم الإشكال أن لو استدللنا على حصول العلم من التواتر ، بصحة التواتر وبيان شروطه وليس كذلك ؛ بل إنما يستدل على صحة التواتر ، بحصول العلم به ، وعلى هذا فالعلم بوجود رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وادعائه للرسالة ؛ حاصل بالضرورة على ما حققناه من أخبار الجمع الكثير ؛ فكان متواترا ، ولزم القول بوجود جميع شروطه.

وعلى هذا يخرج الجواب أيضا عما أوردوه من أخبار اليهود (١) ، والنصارى (٢) ، والشيعة (٣) حيث أنا لم نستدل [بكثرة العدد] (٤) على حصول العلم منه ؛ بل بالعكس.

قولكم : التواتر إما أن يفيد العلم ضرورة ، أو نظرا.

قلنا : بل ضرورة ومن قال بكونه نظريا ؛ فهو مخصوم بما سبق فى إبطاله.

قولهم : لو كان ضروريا لما خالفناكم فيه :

قلنا : المخالفة إما فى أصل العلم ، أو فى كونه ضروريا. لا سبيل إلى الأول ؛ إذ هو خلاف ما يجده كل عاقل من نفسه من العلم بوجود مكة ، وبغداد.

وإن كان الثانى : وهو تسليم العلم والمنازعة فى كونه ضروريا ؛ فقد سلموا ما هو المقصود ، وهو كون التواتر مفيدا للعلم ؛ إذ المقصود ليس إلا إثبات نفس العلم ، لا أنه بجهة الضرورة.

__________________

(١) اليهود : راجع ما سبق فى الجزء الأول فى هامش ل ١٥٠ / أ.

(٢) النصارى : راجع ما سبق فى الجزء الأول فى هامش ل ١٥٥ / أ.

(٣) الشيعة : راجع عنهم ما سبق فى الجزء الأول فى هامش ل ٥٤ / أ.

(٤) ساقط من (أ).

كيف وأن العلم إذا سلم وجوده ؛ فلا يخرج عن أن يكون ضروريا ، أو نظريا.

وقد بطل كون العلم الحاصل بالتواتر نظريا ؛ لما سبق ؛ فتعين أن يكون ضروريا.

قولهم : سلمنا إفادة التواتر للعلم ؛ ولكن لا كل تواتر ؛ بل التواتر المحتفّ بالقرائن.

قلنا : إذا عرف أن ضبط التواتر إنّما هو بما حصل به من العلم ؛ فلا التفات إلى ما قيل. وبه يندفع ما ذكروه من اختلاف قرائح الناس فى الاطلاع على القرائن.

قولهم : التّواتر إنّما يفيد العلم بالنّسبة إلى من سمعه ؛ مسلم. غير أن ما ندعى / / التواتر فيه من وجود رسول الله ، وادعائه للرسالة لا يتقاصر عن التّواتر المفيد لوجود العلم بمكة ، وبغداد. ولو أنكر منكر فى وقتنا هذا ممن نشأ فى خطتنا ، أو فى خطة مجاورة لخطتنا وجود مكة ، وبغداد ، كان منسوبا إلى المكابرة ، والعناد ؛ فكذلك وجود رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وادعائه للرسالة. كيف وأن المنكر لذلك إن كان يهوديا ، أو نصرانيا.

وبالجملة ممن تديّن بشريعة بعض الأنبياء فكل ما وجهه من انكار وجود محمد ، وادعائه الرسالة ، وإنكار التواتر بذلك ؛ فهو لازم عليه فى إثبات وجود نبيه ، / وادعائه للرسالة. والجواب إذ ذاك يكون متحدا.

قولهم : لا نسلم ظهور المعجزات على يده.

قلنا : دليله ظهور القرآن على يده ، والقرآن معجزة.

قولهم : لا نسلم أنه ظهر على يده.

قلنا : ذلك معلوم بالتواتر : كالعلم بوجوده ، وادعائه للرسالة.

قولهم : لا نسلم وجود التواتر فى آحاد آياته.

قلنا : دليلة أنه ما من آية من آحاد آياته ، إلا وهى منقولة إلينا على لسان جماعة يفيدنا خبرهم العلم القطعى بصحة نقلهم عمن نقلوها عنه حتى أنه لو أراد مريد تغيير آية

__________________

/ / أول ل ٨٧ / ب من النسخة ب.

أو كلمة منه بزيادة ، أو نقصان فى عصرنا هذا لم يجد إليه سبيلا. وكان ذلك مردودا عليه من جماعة لا يتصور عليهم التواطؤ على الكذب ؛ فكان نقلها عمن نقلت عنه إلينا متواترا.

ونعلم أيضا علما ضروريا أن حكم الناقلين إلينا فى ذلك بالنسبة إلى الناقلين إليهم كحكمنا بالنسبة إليهم. وكذلك فى كل عصر إلى أن ينتهى ذلك إلى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

كيف وأن القرآن لا يتقاصر فى العلم بنقل آحاد آياته عن آحاد أبيات ديوان بعض الشعراء المشهورين : كامرئ القيس (١) وغيره. وما من واحد منها إلا وهو معلوم من نقله عن شاعره حتى أنا نعلم أنّه لو منع مانع من نسبة آحاد أبياته إلى ذلك الشاعر ولو فى أىّ عصر كان من عصرنا ، أو فيما تقدّم عليه ، لردّ عليه جمع لا يتصور عليهم التواطؤ على الكذب.

ولا يخفى أنّ محافظة المسلمين على نقل القرآن ، وحفظه عن التبديل ، والتغيير فى كل عصر أشدّ من محافظة النقلة عن ديوان امرئ القيس ، وغيره ؛ فكانت آحاد آيات القرآن أولى أن تكون متواترة.

قولهم : إنّ الحفّاظ للقرآن فى زمن النّبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لم يبلغوا عدد التواتر ؛ مسلّم. ولكن ليس فى ذلك ما يدل على أن آحاد الآيات غير متواترة ؛ لجواز أن يكون الحفظة لكل آية السامعون لها وإن لم يكونوا حافظين لغيرها ، قد بلغوا عدد التواتر.

قولهم : إنّ عثمان (٢) عند جمع القرآن كان يتلقى آحاد الآيات من آحاد الناس وما كان يتوقف فيها على عدد التواتر (٣).

قلنا : ما كان يتوقف فى كل آية على عدد التواتر فى أصل نقلها عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أو فى أصل وضعها ، وترتيبها ، وطولها ، وقصرها وتقديمها ، وتأخيرها.

__________________

(١) امرؤ القيس : هو امرئ القيس بن حجر الكندى من أصحاب المعلقات من بنى آكل المرار ، أشهر شعراء العرب ، يمانى الأصل ولد بنجد سنة ١٣٠ قبل الهجرة سنة ٤٩٧ م وكان أبوه ملك أسد وغطفان ، وقتل أبوه فانصرف عن لهوه ، وثأر من قتله أبيه ، وهو من أصحاب المعلقات المشهورين وله ديوان شعر كما كتبت عنه كتب كثيرة ، مات فى أنقره سنة ٥٤٥ م سنة ٨٠ ق الهجرة (الأغانى ٩ / ٧٧ والأعلام للزركلى ٢ / ١٢).

(٢) عثمان بن عفان رضي الله عنه : راجع ما سبق فى هامش ل ١٥٣ / أ.

(٣) التواتر : هو الخبر الثابت على ألسنة قوم لا يتصور تواطؤهم على الكذب (التعريفات للجرجانى ص ٧٦).

الأول : ممنوع ، فإنه ما من آية من القرآن إلا وكان نقلها عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ متواترا.

والثانى : مسلّم ولا يمتنع أن يكون أصل الآية متواترا ، وترتيبها فى القرآن وتقديمها ، / وتأخيرها ؛ ثابتا بالظن.

قولهم : إنّ مصاحف الصّحابة مختلفة وكلّ واحد أنكر مصحف الآخر.

قلنا : المصاحف المشهورة فى زمن الصحابة [كلها كانت متواترة عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ على اختلاف حروفها وكلها] (١) كانت مقروءة على النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ومعروضة عليه ، وحيث اتّفقت الصحابة على مصحف عثمان دون غيره ، لم يكن لأنّ ما عداه ليس قرآنا متواترا عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بل لأنه آخر ما عرض على النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وكان يصلى به إلى أن قبض. واتّفاقهم على إعدام ما سواه وحرقه : إنّما كان لخوفهم من وقوع الاختلافات فى روايات القرآن ، وخروج القرآن بسبب ذلك فيما بعدهم عن التّواتر فى كل حرف منه.

قولهم : إنّ الاختلاف فى التّسمية ، يدل على أنها ليست متواترة.

قلنا : لم يقع الاختلاف فى كونها من القرآن ، وإنّما وقع الخلاف فى وضعها آية فى أول كل سورة ، ولا يمتنع أن تكون متواترة ، ووضعها مجتهدا فيه.

قولهم : إنّ ابن مسعود (٢) أنكر أن تكون الفاتحة / / والمعوذتان من القرآن من غير تبديع ، ولا تكفير.

قلنا : أنكر كون الفاتحة ، والمعوذتين أن تكون منزلة على النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أو أن حكمها ليس حكم القرآن.

الأول : ممنوع. والثانى مسلّم ، ولا يلزم من ذلك خروجها عن كونها متواترة وأنها داخلة فى المعجزة وإن لم يكن حكمها حكم القرآن.

__________________

(١) ساقط من (أ).

(٢) ابن مسعود رضي الله عنه. راجع عنه ما سبق فى هامش ل ١٥٣ / أ.

/ / أول ل ٨٨ / أ.

[قولهم (١) : القرآن] لا يدل على صدق الرسول لجواز أن يكون قد نقله عن غيره بعد تحفظه ، ولم يظهر إلا عنه.

قلنا : هذا ممتنع لأن القرآن من أوله إلى آخره مشتمل على ذكر وقائع وأحوال جرت له ، ولصحابته معه ، ووقعت على وفق ما أخبر به : إما قبل خبره ، أو بعده ، وذلك كما روى أن بعض الصّحابة قال فى يوم حنين : لن نغلب اليوم عن قلة ، وأن الناس توقفوا عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فى ذلك اليوم ، وبقى معه نفر يسير فانزل قوله تعالى : (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ٢٥ ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (٢) على وفق الواقع.

ومن ذلك ما روى أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أسرّ إلى بعض زوجاته حديثا فأظهرت عليه صاحبة لها فنزل قوله تعالى : ـ (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً) (٣) الآية.

ومن ذلك ما نزل من القرآن فى قصة براءة عائشة (٤) ، وقصة زوجة زيد (٥) وذم أبى لهب (٦) ، وقصته عليه ـ الصلاة والسلام ـ مع أبى بكر فى الغار (٧) ، والآيات الواردة فى يوم بدر (٨) ، وأحد (٩) إلى غير ذلك من / الوقائع الكثيرة.

__________________

(١) ساقط من (أ).

(٢) سورة التوبة : ٩ / ٢٥ ، ٢٦.

(٣) سورة التحريم : ٦٦ / ٣.

(٤) المقصود به ما نزل فى سورة النور من أول قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) من الآية رقم ١١ من سورة النور إلى الآية رقم ٢٣ (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ).

(٥) المقصود به ما نزل فى قصة زيد بن حارثة رضي الله عنه وزواجه من السيدة زينب بنت جحش ـ رضى الله عنها ـ ، وطلاقها منه ، وتزوجها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أول قوله تعالى : (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) من الآية رقم ٣٧ من سورة الأحزاب إلى الآية رقم ٤٠ (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً).

(٦) المقصود به ما نزل فى سورة المسد (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَ) ... إلخ السورة.

(٧) المقصود به قوله تعالى فى سورة التوبة الآية رقم ٤٠ : (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا ...) إلخ الآية.

(٨) منها قوله تعالى فى سورة الأنفال من الآية رقم ٥ (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ* يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ ...) ... إلخ.

(٩) منها قوله تعالى فى سورة آل عمران من الآية ١٣٩ (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ* إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ).

وعند ذلك : فإما أن تكون هذه الأمور دالة على اختصاصه بالقرآن وأنه لم يظهر إلا على يده ، أو لا تدل عليه.

فإن كان الأول : فهو المطلوب ، على أن كل عاقل ناظر إلى هذه الأحوال يعلم ضرورة اختصاص القرآن به دون غيره.

وإن كان الثانى : فمع بعده فلا نسلم تصور إظهاره له مع التحدى ودعوة النبوة ؛ بل لو كان كاذبا فى دعوى الرسالة فالله ـ تعالى ـ يطمس على قلبه ، ولسانه بحيث لا يقدر على الإفصاح بآية منه ، وإن أقدره الله على إظهاره ؛ فلا بد وأن يقيض له من يكذبه.

أما أن يكون ذلك الشّخص حافظا للقرآن فيبتدر إلى تلاوته وإظهار تكذيبه ، أو بالمعارضة بمثله ؛ بل أبلغ من ذلك وهو أن أحدا لو أخذ حجر المغناطيس الجاذب للحديد بخاصية به ومضى به إلى بلد لا يعرف ذلك الحجر فيه ولا سمع به وادّعى النّبوّة وجعل آية صدقه جذب ذلك الحجر الحديد ، كما جعل موسى آيته بلع عصاه للعصى.

فقد قال القاضى أبو بكر ، والأئمة من أصحابنا : أنه لا يتمكّن منه ؛ بل لا بدّ وأن تذهب تلك الخاصيّة عن حجر المغناطيس فى ذلك الموضع ، أو أن يقيّض الله ـ تعالى ـ له أمثال ذلك الحجر فى ذلك الموضع مع شخص آخر يظهر به كذبه ، وافتراه.

قولهم : إن الهيئة الاجتماعية صادرة عنه دون مفردات الكلمات وآحاد الآيات : عنه أجوبة :

الأول : أنه لو كان الأمر على ما ذكروه ؛ لاستحال فى العادة مع تحديه على العرب ، وتعجيزهم عن الإتيان بمثله ، إذ لا يبادروا إلى الرد عليه بأنّ آحاد الآيات ليس من كلامك ، وإنما هى لغيرك ولو وجد ذلك لاشتهر كما اشتهر ارتداد كاتب الوحى عند قوله (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) (١) وقول النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ له اكتب هذا فهكذا أنزل ، فإن العادة تقتضى ذلك وتحيل عدم اشتهاره.

__________________

(١) سورة المؤمنون ٢٣ / ١٤. وكاتب الوحى الّذي ارتد عن الإسلام هو عبد الله بن أبى سرح الّذي كان يكتب الوحى لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ثم ارتد ولحق بالمشركين. وسبب ذلك فيما ذكر المفسرون أنه لما نزلت الآية التى فى (المؤمنين) (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) دعاه النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فأملاها عليها ؛ فلما انتهى إلى قوله ـ تعالى ـ (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) عجب عبد الله فى تفصيل خلق الإنسان فقال : «تبارك الله أحسن الخالقين». فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «هكذا أنزلت عليّ» فشك عبد الله حينئذ وقال : لئن كان محمد صادقا لقد أوحى إلى كما أوحى إليه ، ولئن كان كاذبا لقد قلت كما قال ، فارتد عن الإسلام ولحق بالمشركين ؛ ـ

الثانى : هو أن أكثر آيات القرآن دالة على ما جرى له ولأصحابه ، مما وقع ومما كان متوقعا ، ووقع على ما بيناه ؛ وذلك مما يمنع كونه كلاما لغيره.

الثالث : أن الهيئة الاجتماعية مشتملة على النظم الغريب والبلاغة ، والاخبار عن الغيب ، وسنبين أن ذلك هو المعجز.

قولهم : القرآن قد يطلق بمعنى المقروء وبمعنى القراءة وعلى كلا التقديرين ؛ لا يكون معجزا. فمندفع ؛ إذ المعجز ليس هو المقروء وهو الصفة القديمة ؛ بل المعجز إنما هو العبارات / الدالة على المعنى القديم.

قولهم : إنها مقدورة له. لا نسلم ذلك ؛ بل المقدور له ، ولغيره منها إنما هو الحفظ ، والتلاوة. أما ما فيها من النّظم ، والبلاغة وتضمن الأخبار عن الغائبات ؛ فلا نسلم أنه مقدور له ، ولا لغيره من المخلوقين على ما سيأتى.

قولهم : لا نسلم كون القرآن معجزا.

قلنا : القرآن بجملته وما اشتمل عليه / / من النّظم الغريب والبلاغة ، والإخبار بالغيب لا يخفى على عاقل ومن شد أطرافا من الأدب والمعرفة مع تحدى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ به ، وتوفر دواعى بلغاء العرب على معارضته ، مع ما ظهر منهم من المنازعة ، وكثرة المشاجرة ، وإنكار النبوة حتى أن منهم من مات على غيه ، وكفره ، ومنهم من دخل فى الاسلام إما مع طمأنينة نفسه ، وو وضوح صدق النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عنده. وإما مع نفرة واستنكار ملتزما للذل والصغار ، وحكم الاسلام : كالمنافقين.

ومنهم من أشغل نفسه بالمعارضات الغثة التى هى مضحكة للعقلاء ، كما سيأتى إيضاحه ، ولم يقدر أحد منهم على الاتيان بمثله ، ولا بمثل سورة منه.

قولهم : ما ذكرتموه فى وجه اعجاز القرآن أنتم فيه مختلفون.

قلنا : الاختلاف ، والخفاء وإن وقع فى آحاد وجوه الاعجاز التى ذكرناها ؛ لاختلاف نظر الناظرين ، وتفاوتهم فى الاطلاع على جهة إعجازه ؛ فلا خلاف بيننا ، ولا خفاء عندنا بأن القرآن بجملته ، وبالنظر إلى نظمه ، وبلاغته وأخباره عن الغيب معجز.

__________________

فذلك قوله : (وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ) رواه الكلبى عن ابن عباس فلما دخل رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مكة أمر بقتله مع جماعة ، ولو وجدوا تحت أستار الكعبة ففر ابن أبى سرح إلى عثمان ـ رضي الله عنه ـ فغيبه عثمان وأتى به إلى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بعد ما طمأن أهل مكة واستأمنه له. وأسلم عبد الله بن سعد بن أبى سرح وحسن إسلامه ولم يظهر منه ما ينكر عليه بعد ذلك ، بل أظهر الله على يديه خير كثيرا للإسلام فشارك فى فتح إفريقية وغزا الروم ، وتوفى بعسقلان سنة ست وثلاثين (انظر تفسير القرطبى ٤ / ٢٤٧٦ ، ٢٤٧٧ ، ٧ / ٤٥٠٢).

/ / أول ل ٨٨ / ب.

وعلى هذا : فلا يلزم من كون القرآن لم يظهر كونه معجزا بالنظر إلى أحد ما بيناه من وجوه الاعجاز أن لا يكون معجزا بالنظر إلى جملتها ، أو جملة منها. فإنا قد نجد بعض القادرين يقوى على البلاغة فى النثر دون النظم. والبعض يقوى على النظم. دون البلاغة فى النثر ، وما لزم من كون كل واحد بانفراده مقدورا ؛ أن يكون الجميع مقدورا ، ولا أن ما ثبت للأفراد ؛ يكون ثابتا للجملة.

قولهم : لا نسلم أن وزن القرآن مخالف لأوزان العرب. إذ هو مشتمل على أوزان الشعر على ما قرروه. عنه جوابان :

الأول : أن ما ذكروه من الآيات ليست موزونة إلا مع تغيير وتكلف من إشباع حركة ، أو حذف ، أو زيادة ، أو نقصان ، وعند ذلك فيخرج عن وزن القرآن ، ولا يعد قبله موزونا ، ولا شعرا.

الثانى : أن ما ذكروه وإن كان بعضه موزونا على وزن الشعر ؛ غير أنه لا يعد شعرا ، ولا قائله شاعرا ؛ لأن الشّعر ما قصد وزنه وتناسبت مصاريعه ، واتحد / رويّه.

وما ذكروه ليس كذلك ؛ بل هو من قبيل ما يقع للبلغاء على الشذوذ فى سرد كلامهم ، وخطبهم ، وممن لا يعرف بالقدرة على وزن الشعر من الكلمات المترتبة كما لو قال السيد لعبده أغلق الباب ، واحضر لى طعامى. أو قال اسقنى فى الكوز ماء يا غلامى وما أشبه ذلك ؛ فإنه متزن ، ومن علم الشعر ، وعرف مذاهبه وأحاط بأعاريضه من الأدباء. لم يقض على ذلك بكونه شعرا ولا أن قائله شاعر.

ولهذا قال الوليد بن (١) المغيرة بعد أن طالت محاولته لمعارضة القرآن ، وتوقع الناس منه ذلك : لقد عرضت هذا الكلام على خطب الخطباء ، وشعر الشعراء ؛ فلم أجده منهما.

قولهم : وإن كان وزنه مخالفا لأوزان العرب ؛ فلا يمكن أن يكون معجزة بانفراده. مسلّم. ولكن لا يلزم أن لا يكون مع البلاغة ، والإخبار بالغيب معجزا كما سلف.

وعلى هذا فقد يخرج الجواب عن قولهم إن بلاغته لا تكون معجزة. كيف وأن ما ذكروه فى تقريره من الوجوه الخمسة باطل : ـ

أما الوجه الأول : فإنه وإن التبست البلاغة بين قصار السور وغيرها من كلام البلغاء ؛ فلا يلزم الالتباس فى المثانى ، والطوال منها.

__________________

(١) الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم من زعماء قريش فى الجاهلية ولد سنة ٩٥ ق. ه سنة ٥٣٠ م وعمر طويلا ، وأدرك الإسلام وهو شيخ هرم ؛ فعاداه وقاوم دعوته ونزل فيه قرآن يتلى فضحه وكشف أمره ، هلك بعد الهجرة بثلاثة أشهر ، وهو والد سيف الله خالد بن الوليد ـ رضي الله عنه ـ (الكامل لابن الأثير ٢ / ٢٦ والأعلام للزركلى ٨ / ١٢٢).

وأما الوجه الثانى : فلا يلزم أيضا أن من كان قادرا من العرب البلغاء على الكلمة والكلمات منه أن يكون قادرا على مثله ، أو مثل سورة من سوره الطوال.

ولهذا فإنا نجد كثيرا من الناس يقدر على الكلمة ، والكلمات البليغة ، والبيت والبيتين من الشعر ، ولا يقدر على وضع خطبه ، أو رسالة ، ولا نظم قصيدة.

وأما الوجه الثالث : فباطل ، فإن الصّحابة وإن اختلفوا فى بعض السّور والآيات أنّها من القرآن ؛ فلم يختلفوا فى كونها نازلة على النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولا فى بلاغتها المعجزة.

وأما الوجه الرابع : ففيه جوابان :

الأول : أن طلب البيّنة الظّنيّة على ذلك لم يكن ؛ لأن الآية ليست من القرآن بل لوضعها ، وترتيبها.

الثانى : أنه وإن التبس عليهم بلاغة بعض الآيات ببلاغة بلغاء العرب فغايته أن الآية لا تكون معجزة ؛ فلا يلزم من ذلك امتناع كون بلاغة جملة القرآن ، أو بلاغة سورة مطولة منه معجز.

وأما الوجه الخامس : فباطل أيضا ؛ فإنّه وإن كان فى مقدوره تعالى ـ خلق كلام هو أبلغ من كلام القرآن ؛ فذلك / / مما لا يخرج بلاغة القرآن عن كونها خارقة للعادة ، وأنها غير معتادة.

قولهم : إنّه يمتنع أن يكون الإخبار عن الغيب معجزا.

قلنا : هذا مكابرة ، ومباهته ، فإن الإخبار عن الغائبات مع التكرار ، والإصابة / غير معتاد.

(١) قولهم : إنه يمتنع أن يكون الإخبار عن الغيب معجزا (١). ولا معنى لكونه معجزا إلا هذا. وما ذكروه فى إبطاله من الوجوه الأربعة ؛ فهو باطل.

أما الوجه الأول : فلأنه لا يلزم من أن الإصابة فى الكرّة والكرتين معتادة ، أن تكون الإصابة فى الكرّات الكثيرة معتادة.

__________________

/ / أول ٨٩ / أ.

(١) ساقط من (ب).

قولهم : إنّه لا ضابط للكثرة الغير معتادة ، ممنوع ، فإنّ ضابطها ما يعدّه أهل العرف كثيرا ، ولا يخفى أن ما ورد من أخبار الغيب فى القرآن مما يعد فى نظر أهل العرف كثرة لا يعتاد الإصابة فيها لجملتها.

قولهم فى الثانى : أنه يلزم من ذلك أن تكون أخبار المنجمين والكهنة عن الغيوب مع كثرة إصابتهم معجزا.

قلنا : أما أخبار المنجمين فما كان منها كاذبا مضطربا. فلا احتجاج به ، وما كان منها ما تكرر الإصابة فيه : كالحكم بالخسوف والكسوف وغير ذلك فهو من باب الحساب المعتاد لآحاد من يتعاطى حساب صناعة التنجيم فى كل عصر ومصر. ولا كذلك ما ذكرناه من اخبار القرآن عن الغيوب.

وأما أخبار الكهنة عن الغيوب : فالقول فيها كما فى السحر ، وقد عرف ما فيه فى الأصل الثالث (١).

قولهم فى الوجه الثالث : يلزم من ذلك أن يكون ما فى التوراة (٢) والإنجيل (٣) من الأخبار عن الغيب معجزا إذا كان ذلك كثيرا خارقا للعادة ، ووقع التحدى به ؛ فهو أيضا آية صدق من أتى به.

قولهم : يلزم من ذلك أن لا يكون ما خلا من سور القرآن عن الاخبار بالغيب معجزا دالا على صدق الرسول.

قلنا : من قال من المتكلمين إن جهة الإعجاز فى القرآن الإخبار بالغيب دون ما عداه ، فما لا يكون مشتملا عليه من سور القرآن نقول أنه ليس بمعجز.

قولهم : على من قال بأن وجه الإعجاز فى القرآن إنّما هو عدم تناقضه ، واختلافه ، مع طوله ، وامتداده أن القرآن مشتمل على التناقض ممنوع. وقوله ـ تعالى : ـ (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ) (٤) لا نسلم مناقضته. وما ذكروه من اشتمال القرآن على الشعر ؛ فقد سبق جوابه (٥).

__________________

(١) راجع ما مر ل ١٣٦ / ب وما بعدها.

(٢) التوراة : الكتاب الّذي أنزل على موسى عليه‌السلام.

(٣) الإنجيل : الكتاب الّذي أنزل على عيسى عليه‌السلام.

(٤) سورة يس : ٣٦ / ٦٩.

(٥) راجع ما مر ل ١٦١ / أوما بعدها.

قولهم : القرآن مشتمل على الاختلاف وهو مناقض لقوله ـ تعالى : ـ (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (١).

قلنا : لا نسلم اشتمال القرآن على الاختلاف المنفى بمفهوم الآية ، فإن المراد من قوله (لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (٢) أحد أمرين :

الأول : الاختلاف المناقض للبلاغة ، ومتانة اللفظ ، والنظم الغريب كما هو الجارى من عادة كل من ألف كتابا مطولا ، ونظم قصيدة ، ورتب خطبة.

الثانى : اختلاف أهل الكتاب فيما أخبر عنه من قصص الماضين / وسير الأولين مع أمّيته ، وعدم دراسته للعلوم ، ومطالعته للكتب. ولا يخفى أنه لم يوجد فى القرآن شيء من هذه الاختلافات ، وقوله ـ تعالى : ـ (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) (٣). وقوله ـ تعالى : ـ (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٤) فالمراد بالكتاب ليس هو القرآن ؛ بل اللّوح المحفوظ وهو كذلك.

قولهم : إنّه مشتمل على اللّحن ، لا نسلم ذلك ، وقوله ـ تعالى : ـ (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) (٥) وإن كان موافقا لكتابة المصحف غير أن القرّاء قد اختلفوا فيه ، فقرأ أبو عمرو (٦) ، وغيره «إن هذين لساحران» بتشديد أنّ ونصب هذين ، وخالف فى ذلك كتابة المصحف ، وزعم أنّ ذلك من غلط الكاتب محتجا على جواز ذلك بقول عثمان : إنّ فيه لحنا وأن العرب لتقيمه بألسنتها.

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٨٢.

(٢) سورة النساء : ٤ / ٨٢.

(٣) سورة الأنعام : ٦ / ٣٨.

(٤) سورة الأنعام : ٦ / ٥٩.

(٥) سورة طه : ٢٠ / ٦٣.

(٦) أبو عمرو : زبان بن عمار التميمى المازنى البصرى : كان من أعلم الناس بالقراءة مع صدق وأمانة وثقة فى الدين.

روى عن مجاهد ، وسعيد بن جبير ، عن ابن عباس عن أبى بن كعب عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : من أئمة اللغة والأدب وأحد القراء السبعة ، ولد بمكة سنة ٧٠ ه‍. ونشأ بالبصرة ، ومات بالكوفة سنة ١٥٤ ه‍ قال الفرزدق :

ما زلت أغلق أبوابا وأفتحها

حتى أتيت أبا عمرو ابن عمار

قال أبو عبيدة عنه : كان أعلم الناس بالعربية والقرآن والشعر ، له أخبار وكلمات مأثورة وللصولى كتاب : «أخبار أبي عمرو بن العلاء»

(وفيات الأعيان لابن خلكان ١ / ٣٨٦. الأعلام للزركلى ٣ / ٤١).

وقرأ ابن كثير (١) ، وعاصم (٢) فى رواية إن هذان لساحران بتخفيف إن ورفع هذان وساعدهما على ذلك الخليل (٣).

وقرأ أهل المدينة وأهل العراق «إنّ هذان» بتشديد إنّ ورفع هذان على موافقة كتابة المصحف.

لكن من النحاة من قال ذلك لغة كنانة ، وبلحارث بن كعب وخثعم ، وقبائل من اليمن ، فإنهم ... يجعلون ألف الاثنين فى الرفع والنصب ، والخفض على لفظ واحد ، فيقولون : جاء الزيدان ، ورأيت الزيدان ومررت بالزيدان. وضربته بين أذناه ومنه قول الشاعر:

إنّ أباها وأبا أباها

قد بلغا فى المجد غايتاها (٤)

ومنهم من قال : إنّ بمعنى نعم وتقديره نعم هذان لساحران ، ومنه قول الشاعر (٥) :

ويقلن شيب قد علا

ك وقد كبرت فقلت إنّه

أى : نعم

__________________

(١) ابن كثير (القارئ) هو عبد الله بن كثير الدارى المكى ، أبو معبد أحد القراء السبعة ، كان قاضى الجماعة بمكة.

ولد بمكة سنة ٤٥ ه‍ وتوفى بها سنة ١٢٠ ه‍ وهو فارسى الأصل. كانت حرفته العطارة ، وكانوا يسمون العطار (داريا) فعرف بالدارى. (وفيات الأعيان لابن خلكان ١ / ٢٥٠ والأعلام للزركلى ٤ / ١١٥).

(٢) عاصم (القارئ) بن أبى النجود بهدلة الكوفى الأسدى بالولاء أبو بكر ، أحد القراء السبعة ، تابعى من أهل الكوفة ووفاته فيها. كان ثقة فى القراءات صدوقا فى الحديث. قيل : اسم أبيه عبيد ، وبهدلة اسم أمه توفى بالكوفة سنة ١٢٧ ه‍ (العبر فى خبر من غبر للذهبى ١ / ١٦٧ ، الأعلام للزركلى ٣ / ٢٤٨).

(٣) الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيدى. من أئمة اللغة والأدب وواضع علم العروض ، وهو أستاذ سيبويه النحوى. ولد فى البصرة سنة ١٠٠ ه‍ وتوفى بها سنة ١٧٠ ه‍ عاش فقيرا صابرا قال النضر بن شميل : ما رأى الراءون مثل الخليل ولا رأى الخليل مثل نفسه ، له مجموعة كبيرة من المؤلفات المفيدة. (وفيات الأعيان لابن خلكان ١ / ١٧٢ ، الأعلام للزركلى ٢ / ٣١٤).

(٤) نسب هذا لرؤبة بن العجاج ونسبه آخرون لأبى النجم الفضل بن قدامة العجلى (شذور الذهب لابن هشام ـ تحقيق محمد محيى الدين عبد الحميد).

(٥) من شواهد ورود (إنّ) بمعنى نعم قول ابن قيس الرقيات :

بكر العواذل فى الصبو

ح يلمننى وألومهنه

ويقلن شيب قد علا

ك وقد كبرت فقلت إنه

وسأل سائل ابن الزّبير (١) فلم يعطه / / شيئا ، فقال السائل : لعن الله ناقة حملتنى إليك ، فقال ابن الزبير إنّ وراكبها : أى نعم.

ومن النحاة من قال هاهنا هاء مضمرة ، والمعنى أنه هذان لساحران ، والهاء كناية عن الأمر والشأن ، وتقديره أن الأمر هذان لساحران ، ومنه قوله ـ تعالى : ـ (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً) (٢) [أى أن الأمر من يأت ربه مجرما] (٣) ويجوز دخول اللام فى خبر الابتداء ، ومنه قول العرب «زيد والله لواثق بك» وقال الشاعر :

خالى لأنت ومن جرير خاله

ينل العلاء ويكرم الأخوالا

وقال الفراء (٤) أنهم زادوا النون فى التثنية وتركوا الألف بحالها فى الرفع ، والنصب ، والخفض كما فعلوا فى «الّذي» فقالوا «اللذين» وعلى كل تقدير فلا لحن فى الآية المذكورة ، وقول عثمان لم يثبت ولم يصح ، وبتقدير صحته ؛ فهو محمول على اللحن فى الكتابة.

وما فى القرآن من تكرار المعانى والألفاظ ، فليس يخلوا عن فائدة لا تحصل من غير تكرار.

إما لبيان اتساع العبارة وإظهار البلاغة ، وإما لزيادة التأكيد والمبالغة / فى التقرير إلى غير ذلك مما قد أمعن المفسرون فى تحقيقه وبيانه وما يتوهم فيه أنه من قبيل إيضاح

__________________

(١) ابن الزبير : هو عبد الله بن الزبير بن العوام ـ رضي الله عنه ـ فارس قريش فى زمنه وأول مولود فى المدينة بعد الهجرة ولد سنة واحد هجرية. شهد فتح إفريقية زمن عثمان ـ رضي الله عنه ـ بويع له بالخلافة سنة ٦٤ ه‍ عقيب موت يزيد بن معاوية ؛ فحكم مصر والحجاز واليمن وخراسان والعراق وأكثر الشام ، وجعل قاعدة ملكه فى المدينة المنورة واستمرت خلافته تسع سنين له فى كتب الأحاديث ٣٣ حديثا. وهو أول من ضرب الدراهم المستديرة ، وكان نقش الدراهم فى أيامه : بأحد الوجهين : «محمد رسول الله» وبالآخر «أمر الله بالوفاء والعدل» وانتهت خلافته وحياته على يد الحجاج الثقفى فى أيام عبد الملك بن مروان واستشهد رحمه‌الله بمكة سنة ٧٣ ه‍ (صفة الصفوة لابن الجوزى ١ / ٢٩٢ ـ ٢٩٥ والأعلام للزركلى ٤ / ٨٧).

/ / أول ل ٨٩ / ب.

(٢) سورة طه : ٢٠ / ٧٤.

(٣) ساقط من آ.

(٤) الفراء : هو يحيى بن زياد بن منظور الديلمى المعروف بالفراء : إمام الكوفيين وأعلمهم بالنحو واللغة وفنون الأدب ، كان يقال : الفراء أمير المؤمنين فى النحو ، ولد بالكوفة سنة ١٤٤ ه‍ وانتقل إلى بغداد. عهد إليه الخليفة المأمون بتعليم ولديه كان مع تقدمه فى اللغة فقيها متكلما عالما بأيام العرب وأخبارها. توفى فى الطريق إلى مكة سنة ٢٠٧ ه‍ (وفيات الأعيان لابن خلكان ٢ / ٢٢٨ ، والأعلام للزركلى ٨ / ١٤٥).

الواضحات فليس يخلوا عن درء احتمال وخيال مناقض لما هو الظاهر من اللفظ كما فى قوله ـ تعالى : ـ (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ) (١) فإنه لو لم يقل تلك عشرة كاملة لتوهم متوهم أن المراد به ؛ وتمام سبعة إذا رجعتم.

قولهم : إنّ أكثر آيات القرآن متعارضة متناقضة ، ليس كذلك ، فإنه ما من آيتين يتوهم التعارض بينهما ، إلا ويمكن الجمع بينهما بتأويل إحداها ، وخفاء التأويل ، وتحقيق الجمع على بعض القاصرين غير موجب للتعارض بينهما فى نفس الأمر.

وما ذكروه فيه من الاختلاف اللفظى والمعنوى فما كان منه من أخبار الشواذ الآحاد فليس من القرآن ، وما كان منه متواترا فهو من القرآن على ما قال عليه الصلاة والسلام «أنزل القرآن على سبعة أحرف وكلها شاف كاف» (٢) وذلك غير ممتنع ، ولا مناقض للمعجز.

وما ذكروه من الدلالة على أن وجه الاعجاز من القرآن ليس هو سلامة القرآن عن التناقض والاختلاف ، ولا موافقته لقضية العقل ودقيق المعانى ، ولا قدمه ، ولا دلالته على الكلام ، ولا الصرفة ، فهو بحق ونحن مساعدون عليه.

وما ذكروه في امتناع الإعجاز فى اجتماع وصفى البلاغة والنظم ؛ فهو باطل كما أسلفناه من أن حكم الأفراد غير لازم أن يكون ثابتا للجملة ، ولا حكم الجملة للأفراد.

قولهم : لو كان القرآن معجزا ؛ لكونه خارقا للعادة ؛ لكانت العلوم الهندسية ، والحسابية عند ابتداء ظهورها معجزة ؛ لكونها خارقة للعادة.

قلنا : لا يخلو إما أن يكون ما ظهر من هذه العلوم معتادا أو غير معتاد.

فإن كان الأول : فالإشكال مندفع.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٦٩.

(٢) الحديث متفق على صحته رواه البخارى ومسلم في صحيحيهما.

صحيح البخارى ـ كتاب فضائل القرآن ـ باب انزل القرآن على سبعة أحرف. فتح البارى بشرح صحيح البخارى ٨ / ٦٣٩ الحديثان رقمى ٤٩٩١ ، ٤٩٩٢. وصحيح مسلم كتاب صلاة المسافرين ـ باب : بيان أن القرآن على سبعة أحرف وبيان معناه ١ / ٥٦٠ حديث رقم ٨١٨ ط : عيسى الحلبى ـ ت. فؤاد عبد الباقى وأخرجه أبو داود فى سننه ٢ / ٧٦ حديث رقم ١٤٧٥. وأخرجه أحمد فى مسنده ٥ / ١١٤ عن عبادة بن الصامت بلفظ : «أنزل القرآن على سبعة أحرف كل شاف كاف».

وإن كان الثانى : فلا يمتنع ظهورها على يد [من لا يدعى النبوة ، أو على يد من يدعيها ، إذا كان صادقا ، وتكون آية على صدقه. وإن كان كاذبا فى دعوى النبوة فلا نسلم تصور ظهورها على يده] (١). وبتقدير التصور فلا بد وأن يقيض الله ـ تعالى ـ من يعارضه ، ويكذبه ، كما سبق تقرير كل ما هو من هذا الجنس.

قولهم : المحتمل أن يكون قد حصل له القرآن قبل دعوى الرسالة ؛ فقد سبق جوابه.

وما ذكروه : على باقى المعجزات من أنها ثابتة بأخبار الآحاد.

قلنا : كل واحد منها وإن كان أصل خبره آحادا غير أن جملتها تنزلت منزلة التواتر ، ويكون موجبا لحصول العلم بصدور المعجزات عنه وظهورها على يده كما نعلم بالضرورة شجاعة عنتر (٢) ، وسخاء حاتم (٣) ؛ لكثرة النقلة عنهما أحوالا مختلفة تدل على شجاعة هذا ، وكرم هذا ، وإن كان نقل كل حالة منهما على لسان الآحاد / ، لا لسان التواتر.

قولهم : سلمنا ظهور الخوارق على يده ؛ ولكن لا نسلم أنه تحدى بها.

قلنا : ذلك معلوم بالتواتر على ما حققناه.

قولهم : يحتمل أنه قصد بذلك التعظيم ، والترفع ، والدعوى كما جرت به عادة البلغاء فى نظمهم ونثرهم.

قلنا : شهرة تحديه معلوم بالضرورة فى الآيات المذكورة مع دعوى الرسالة ودعاء الناس إلى الاجابة والتصديق له فيما يدعيه حتى أن منهم من سارع إلى تصديقه ، والدخول فى ملته ، ومنهم من غلبت عليه الشقاوة ، واستحكمت فيه الطغاوة ، واشتغل

__________________

(١) ساقط من (أ).

(٢) عنتر بن شداد بن عمرو بن معاوية بن قراد العبسى : أشهر فرسان العرب فى الجاهلية ومن شعراء الطبقة الأولى من أهل نجد أمه جارية حبشية اسمها زبيبة ، كان من أحسن العرب شيمة ومن أعزهم نفسا. يضرب به المثل فى الشجاعة ، شهد حرب داحس والغبراء وعاش طويلا ومات قبل الهجرة ب ٢٢ سنة.

(الأغانى للأصفهانى فى طبعة دار الكتب المصرية ٨ / ٢٣٧ والأعلام للزركلى ٥ / ٩١ ، ٩٢).

(٣) حاتم الطائى : حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج الطائى القحطانى أبو عدى : فارس ، شاعر ، جواد ، يضرب المثل بجوده. كان من أهل نجد وزار الشام ؛ فتزوج ماوية الغسانية ومات سنة ٤٦ قبل الهجرة. (تهذيب ابن عساكر ٣ / ٤٢٠ وما بعدها والأعلام للزركلى ٢ / ١٥١).

/ / أول ل ٩٠ / أمن النسخة ب.

بالمحاربة ، أو بالمعارضات الغثة حتى نفذ فيه حكم الله ، ولا كذلك ما ذكروه من أحوال المدعين ، ومن / / قصده التعظيم ، والترفع بما أنشأه ، وأبدعه.

قولهم : تحدى بكل القرآن ، أو ببعضه.

قلنا : نحن ننزل الكلام على كل واحد من القسمين. فتارة نقول إن التحدى بكل القرآن لا بمعنى أن بعضه ليس متحدى به كما ذهب إليه المعتزلة ؛ إذ هو من أعم الآيات الدالة على التحدى بعشر سور ، وبسورة واحدة ؛ بل بمعنى أن التحدى وقع تارة بكل القرآن وتارة ببعضه ، وقوله ـ تعالى : ـ (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) (١). إنّما هو للتحدى على المخاطبين والدلالة على تعجيزهم عن الاتيان بمثله ، بطريق التنبيه بالأعلى على الأدنى. وأنه إذا عجز الثقلان عن الإتيان بمثله. بتقدير دوم المعارضة فلأن يعجز بعضهم كان بطريق الأولى.

وعلى هذا فقد اندفع ما ذكروه على الآية.

كيف وأن التحدى بكل القرآن قد ورد فى أى من القرآن غير مقيد بما تشبث به الخصم كقوله ـ تعالى : ـ (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ) (٢) أى فأتوا بقرآن مثله ، وتارة يقول التحدى ببعض القرآن : أى آية وقع التحدى تارة بعشر سور ، وتارة بسورة واحدة ، وما ذكروه من الاشكال على السورة الواحدة فقد التزم القاضى أبو بكر فى أحد جوابيه فى دفع الاشكال للإعجاز فى سورة الكوثر وأمثالها تشبثا بقوله ـ تعالى : ـ (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) (٣) غير أن ما يشغب الخصم به من الأشكال على ذلك ربما ظهر فى نظر بعض الناس ، أو أنه تردد فيه فلا يصلح دفع الاشكال فى صوره.

والأصح ما ارتضاه في الجواب الآخر وهو اختيار الأستاذ أبى اسحاق ، وجماعة من أصحابنا : أنّ التحدى بسورة تبلغ فى الطول مبلغا يتبين فيه رتب ذوى البلاغة ، فإنه قد يصدر من غير البليغ ، أو ممن هو أدنى رتبة / فى البلاغة من غيره من الكلام البليغ بما يماثل بعض الكلام البليغ الصادر ممن هو أبلغ منه وربما زاد عليه فى البلاغة ، ولو أراد

__________________

/ / أول ل ٩٠ / أمن النسخة ب.

(١) سورة الإسراء : ١٧ / ٨٨.

(٢) سورة الطور : ٥٢ / ٣٤.

(٣) سورة يونس : ١٠ / ٣٨ وتمام الآية الكريمة : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

مماثلة جملة ما صدر عن الأبلغ لم يجد إليه سبيلا ، ولا يمكن ضبط الكلام الّذي يظهر فيه تفاوت البلغاء بكلام مقدر محدود ، بل إنما ضبط ذلك بالمتعارف المعلوم بين أهل الخبرة ، والبلاغة.

وما ذكرناه وإن كان فيه ترك ظاهر الإطلاق فى قوله ـ تعالى : ـ (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) (١) غير أن تقييد المطلق بالدليل واجب ، فإن حمل التحدى على ما لا يتفاوت فيه بلاغة البلغاء ، ولا يظهر به التعجيز يكون ممتنعا.

قولهم : لا نسلم بلوغ خبر التحدى إلى كل الناس.

قلنا : لا شك فى بلوغه إلى فصحاء العرب ، فإذا كان القرآن معجزا بالنسبة إليهم فلأن يكون معجزا بالنسبة إلى غيرهم أولى.

فإن قيل : يحتمل أن يكون بعض بلغاء العرب ومن هو مقتدر على الإتيان بمثل القرآن قد سافر إلى مكان لم يسمع بالنبى ، وتحديه بالقرآن فيه.

قلنا : هذا الاحتمال وإن كان متقدما حالة التحدى ؛ فغير منقدح بعد ذلك ضرورة اشتهاره فى جميع الاقطار.

قولهم : لا نسلم أن المعارضة لم تقع.

قلنا : دليله ما سبق وما نقل من ترهات مسيلمة (٢) من قوله : «الفيل وما أدراك ما الفيل ، له ذنب وثيل ، وخرطوم طويل «وقوله» والزارعات زرعا ، فالحاصدات حصدا ، والطاحنات طحنا «وقوله» يا ضفدع بنت ضفدعين نقى أو لا تنقين ، لا الماء تكدرين ، ولا الشارب تمنعين» إلى غير ذلك من كلامه الغث ولتاته الرث ؛ فلا يخفى ما فيه من الدلالة على جهالة قائله وضعف عقله ، وسخف رأيه ، حيث ظن أن مثل هذا الكلام النازل الّذي هو مضحكة العقلاء ، ومستهزئ الأدباء ، معارض لما أعجز الفصحاء معارضته وأعيى الالباء مناقضته ، من حين البعثة ، إلى زمننا هذا.

__________________

(١) سورة يونس : ١٠ / ٣٨.

(٢) راجع عنه ما مر فى هامش ل ١٥٤ / أ ،

وأما ظن المعارضة بالقصائد العربية ، فظن من لا تحصيل لديه.

فإنا قلنا : إنّ وجه الإعجاز فى القرآن : إنّما هو مجموع النظم البديع ، والبلاغة وما يشتمل عليه من الأخبار عن الغيب.

وما قيل من القصائد فإنها وأن قدر اشتمالها على البلاغة مع الإحالة ، فغير مشتملة على مثل نظم القرآن ، والإخبار عن الغيب ، ولا يخفى أن من تحدى بقصيدة بليغة وأتى غيره بنثر مساو لقصيدته / / فى البلاغة دون النظم بأن أتى بخطبة ، أو رسالة ؛ فإنه لا يعد معارضا له في نظر أحد من أرباب أهل الأدب.

وأما ما نقل من معارضات ابن المقفع (١) ، والمعرّى (٢) وغيرهما من المتأخرين / فإنه لم يبلغ من البلاغة ، وتناسب الكلام مبلغ القرآن ، وبتقدير بلوغه ذلك فى النّظم ، والبلاغة فغير مشتمل على أخبار الغيب ، وبتقدير اشتماله على ذلك مع الإحالة ؛ فليس من شرط دلالة المعجزة على صدق الرسول أن لا يوجد مثلها فيما يستقبل من الأزمنة المتأخرة عن زمان الرسول ؛ بل شرط ذلك اعجاز من فى زمنه عنه لا غير.

قولهم : سلمنا أن المعارضة ما ظهرت. ولكن لا يلزم من عدم ظهورها عدمها.

قلنا : لو وجدت لظهرت على ما قررناه فى الأصل الثالث (٣).

وأما ما ذكروه من باقى معجزات النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ والتسمية والتثنية في الإقامة فغير لازم ، فإنا ما ادعينا لزوم اشتهار الأمور العظيمة اشتهارا لا خلاف فيه ؛ بل المدعى لزوم أصل الاشتهار وإن كان مختلفا فيه ، وما ذكروه من الإلزامات ؛ فلا يخفى اشتهارها ونقلها فى الجملة.

قولهم : احتمال وجود المانع من الاشتهار موجود على ما قرره ؛ فقد سبق جوابه فى الأصل الثالث أيضا.

قولهم : سلمنا أن المعارضة لم توجد ، ولكن لا نسلم دلالة ذلك علي عجزهم عن الإتيان بمثل القرآن.

__________________

/ / أول ل ٩٠ / ب.

(١) ابن المقفع : سبقت ترجمته فى هامش ل ١٥٧ / أ.

(٢) المعرى : راجع ترجمته فيما سبق هامش ل ١٥٧ / أ.

(٣) انظر ما مر فى الأصل الثالث ل ١٤٦ / أ.

قلنا : لو لم يعجزوا لأتوا بالمعارضة لما سبق تحقيقه.

قولهم : من الجائز أن يكون اظهارهم للعجز لما كانوا يبتغوه من الملك ، والاستيلاء ، سبق جوابه أيضا فى الأصل الثالث.

قولهم : يحتمل أنهم تركوا معارضته لعدم اكتراثهم به وظنهم أن ذلك أبلغ فى إبطال دعوته ؛ ليس كذلك.

فإنه ـ عليه‌السلام ـ ما زال يقرعهم بالغى ، والنسبة إلى العجز عن مثل ما أتى به فيما ذكرناه من آيات التحدى مع أن العرب قد كانت فى محافلها تتفاخر بمعارضة الشعر وتتفاضل فى مجالسها بمقابلة النثر ، ولا محالة أن القرآن فى نظر من له ذوق من العربية ونصاب من الأمور الأدبية ، لا يتقاصر عن فصيح أقوال العرب ، وبديع فصولهم فى النظم والنثر والخطب ، فكيف يخطر بعقل عاقل ، أو توهم متوهم أن العرب مع رزانة عقولهم ومعرفتهم أنهم تركوا معارضة القرآن ، لعدم الاحتفال به ، واهماله وسواء كان الآتى به نبيها بينهم ، أو خاملا.

كيف وأن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لم يزل قبل ظهور كلمته ، وانتشار دعوته معظّما مبجّلا بينهم ، معروفا بالصّدق ، والعفاف ، والتصوّن عن الرذائل حتّى أنّهم كانوا يسمّونه الأمين ، ولا سيما وقد كان من أصل أصيل وعنصر أثيل ، وفى كل وقت أمره يزيد ، وشأنه يعظم ، ومن هذا شأنه ، فلا يخطر فى العقول ترك معارضته ؛ لعدم / الاحتفال به.

قولهم : يحتمل أنهم ظنوا أن دفعهم له بالقتال أقضى إلى مطلوبهم ، ليس كذلك لوجهين :

الأول : أنا قد بيّنا أن كل من تحدى بأمر يروم به التميّز على أقرانه ، وأبناء زمانه ، أنّ العادة تحيل أن لا يعارض بمثل ما أتى به بتقدير أن يكون ذلك مقدورا حتى إنّ مثل ذلك جار بين الصبيان فى ملاعبها ، وأرباب الحرف فى حرفها ، فما ظنك بمن يدعى أمرا عظيما ، وخطبا جسيما ، يروم به انقلاب الدول ، وتبدل الملل ، والاحتواء على الممالك ، وجر الناس بمخالفته إلى المهالك ، وبموافقته إلى ذلة النفس والاحتكام على الخاص والعام ، وفى معارضته بمثل ما جاء به دفع هذه المضار ، ودرء هذه الأخطار.

الثانى : هو أن الحرب مع ما تشتمل عليه من مقاسات الشدائد ، وممارسة الأهوال ، وبذل المهج والأموال ، واحتمال الخطر ، وعدم الظفر غير مبطلة لحجته ، والآية الدالة على صدقه فى دعوته ، واجتماع الناس على كلمته ، واعتقادهم صدق مقالته ، بخلاف معارضة كلام بكلام ولا سيما فى حق بلغاء العرب الذين صفت قرائحهم ، وتدفقت ينابيع بلاغتهم ؛ فلا يتصور فى حقهم العدول فى تحصيل غرضهم ، ودفع الضرر عنهم من المعارضة بالكلام مع القدرة عليه ، إلى ما هو أشدّ منه ، وأقلّ افضاء إلى تحصيل مقصودهم. كيف وهو على خلاف المألوف / / المعروف من عادة العقلاء ، وأهل العرف فى العدول عن معارضة من تحدّى بأمر إلى مقابلته ، ومخاصمته.

قولهم : يحتمل أن يكون عدولهم عن المعارضة خوفا من استرابة بعض الناس فى الاعجاز ، عنه جوابان : ـ

الأول : أن مراتب البلاغة معلومة لأرباب الألباب مضبوطة عند ذوى الآداب ، والمقصود من المعارضة ليس إلا تحقق المماثلة عند صدور أهل الأدب ، وبلغاء العرب ، لا عند الهمج الرعاع ، ومن هو معدود من الحثالة والأتباع ، فلو كانوا قادرين على المعارضة ؛ لأتوا بها نظرا إلي حصول هذا المقصود بالنسبة إلى بلغاء العرب. إذ هو غاية المطلوب من المعارضة ، وما كلّفوا به. وسواء حصل اللبس عند من لا يؤبه له ، أم لا.

كيف وأن أطراف الناس ، ومن لا حظ له من المعرفة تبع لأشرافهم فإذا رأوا تصميم الأشراف على الحكم بالمماثلة ، كانوا تبعا لهم فى ذلك ؛ فلا يحصل لهم الاسترابة فى تفضيل القرآن.

الثانى : أن العادة جارية فى مثل هذه الأمور بالمبادرة إلى المعارضة على ما قررناه ، وبتقدير الإتيان / بالمعارضة غايته وقوع الاسترابة لبعض الناس فى تفضيل القرآن دون البعض ، وبتقدير أن لا يعارض فعجزهم يكون ظاهرا بالنسبة إلى كل أحد نظرا إلى مقتضى العادة والعاقل لا يهرب من أدنى المحذورين ، ويقع فى أعلاهما.

__________________

/ / أول ل ٩١ / أ.

قولهم : إن العرب كما دعوا إلى النّظر فى معجزاته ؛ فقد دعوا إلى النظر فى آيات الوحدانيّة وغير ذلك ، ولم يدل تركهم النظر فى دلائل الوحدانية على العجز عن معرفتها ، والنظر فيها ؛ فكذلك المعجزة.

قلنا : طرد هذا القياس ، والتسوية بين البابين ممتنع ، إذ العادة على ما حققناه فى باب التحدى الابتدار إلى المعارضة مع القدرة عليها ، بخلاف المسائل العقلية ، والأمور النظرية ؛ فإن العادة غير جارية بالتوافق على الحق فيها ؛ بل العادة جارية بالاختلاف ، ومخالفة الحق بناء على شبهة ، أو تقليد.

وعند ذلك : فلا يلزم من القول بعدم التعجيز فيما يمكن تركه على وفق العادة ، القول بعدم التعجيز فيما تركه على خلاف العادة.

قولهم : لم يعلموا وجه التحدى هل هو بالبلاغة ، أو النظم ، أو غيره ، ليس كذلك ، فإن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ تحدى عليهم بالقرآن ، وتعجيزهم عن الإتيان بمثله ، فإذا كان القرآن مشتملا على صفات فالمماثل لا بد وأن يكون على صفات الممثل ؛ وإلا فلا مماثلة.

ولهذا فإن من تحدى بقصيدة من الشعر ، وعجز الناس عن الاتيان بمثلها ، وكانت مشتملة على البلاغة والنظم الخاص فمن عارضه بخطبة أو رسالة وإن كانت مساوية لقصيدته فى البلاغة ، لا تكون مماثلة لها ولا معارضة ، وكذلك لو عارضه بقصيدة مساوية لنظمها غير مساوية لبلاغتها. ويدل على ذلك أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أطلق التحدى بالقرآن ، والتعجيز عن الإتيان بمثله مع عدم استفهام العرب عن وجه التحدى ، ولو كان وجه التحدى غير معلوم للعرب ؛ لكونه محتملا مترددا ؛ لبينه النبي ، ولاستفهمت منه العرب مع طول المدة ، وتقريعهم بالعجز.

قولهم : إنما لم يعارضوه فى ابتداء الأمر لضعفه ، وفى انتهائه خوفا منه ، ومن أصحابه.

قلنا : أما عدم المعارضة فى ابتداء أمره لضعفه ؛ فقد سبق الجواب عنه.

وأما عدم معارضته بعد قوته ، وظهور شوكته ؛ فباطل أيضا لأنه لو أمكن وجود المعارضة لوقعت بالنظر إلى العادة ومقتضى الطباع ، ولو وقعت لنقلت ، واشتهرت فى غير

محل ولايته ؛ فإن بلاد الكفار كانت يومئذ متسعة ، وكلمة الكفر / شائعة كما اشتهر غير ذلك من سبه ، وشتمه ، ومحاربته ، وما ذكره مسيلمة من ترهاته ، وهذياناته ؛ بل أبلغ من ذلك إشاعة كلمة الكفر ، والشرك بالله ـ تعالى ـ فى زمانه.

قولهم : إنما لم يعارضوه ، لاعتقادهم أن ما كان لهم من النظم والنثر أفصح من القرآن.

قلنا : اعتقادهم أن كلامهم أفصح من القرآن ، أو أنه كفصاحته وإن كان لا يعتقده من شدا طرفا من الأدب ؛ فإنما ينفع ان لو كان التحدّى بالبلاغة ، والفصاحة لا غير ؛ وليس كذلك لما بيناه ، ومن المعلوم أن ما وجد من كلام العرب وإن توهم فاسد التوهم أنه مشتمل على بلاغة مضاهية لبلاغة القرآن ؛ فلا ريب فى عدم اشتماله على النظم الغريب ، والأسلوب المخالف لسائر / / الأوزان ، والأساليب ، والإخبار عن الغائبات.

قولهم : يحتمل وجود مانع منعهم من المعارضة.

قلنا : العادة فيما ذكرناه إنما هو وجود المعارضة فى ما هو مقدور على ما سلف تقريره ، والاحتمال العقلى لا يمنع من العلم العادى كما عرف مرارا.

فإن قالوا : بأن المانع كان موجودا حقيقة ؛ وهو اشتغالهم بالمحاربة معه عن المعارضة ؛ فهو باطل بوجوه ثلاثة : ـ

الأول : أنه إنّما حاربهم بعد أن أظهر المعجزة ، وتحدّى بها ، وعجزوا عن الإتيان بمثلها مع الإصرار على الكفر ، وعدم الدخول فى الإيمان بمدة مديدة إلى ما بعد الهجرة وقيل : فلم يكن المانع الّذي تخيلوه موجودا.

الثانى : أن الحرب وإن كانت مانعة ؛ فلا تكون مانعة فى جميع الأوقات ؛ لعدم دوامها. ولا بالنظر إلى جميع الناس ؛ لعدم عمومها لهم.

الثالث : أن لو كانت الحرب مانعة لهم من المعارضة لاحتجوا عليه بذلك ؛ وهو غير منقول عنهم.

__________________

/ / أول ل ٩١ / ب.

قولهم : من الجائز أن يكون قد تأتى ذلك للنبى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فى مدة مديدة لا يتأتى لأبلغ بليغ الإتيان بمثله فى دونها.

قلنا : عنه جوابان :

الأول : أنّه لو كان كما ذكروه فيعلم أنه قد مضى على العرب من وقت بعثة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وتحديه بالقرآن إلى حين وفاته ما يناهز عشرين سنة ، وهذه المدة وإن تعذر على البليغ الاتيان بمثل جملة القرآن فيها ؛ فلا يمتنع أن يأتى فيها بمثل عشر سور منه أو بسورة من سوره ، مع تحديه عليهم بمثل ذلك.

قولهم : يحتمل أنهم لم يأتوا بذلك لعدم اصطبارهم على مكابدة ما يلزم من معاناته من المشقة.

قلنا : هذا خلاف المعلوم من العادة ؛ فلا يقدح فيه.

الثانى : أنه لو كان كما ذكروه ؛ لكان ذلك أبلغ حجة للعرب فى إبطال تحديه. وقالوا : أنت / قد أتيت به فى مدة لا يتسع للبليغ أن يأتى بمثله فيما دونها ، فأمهل علينا مثل تلك المدة ؛ لنعارضك بمثله ، ولا يخفى ما فيه من إفحامه إلى تمام تلك المدة وإبطال حجته فيها ؛ ولم ينقل عنهم شيء من ذلك.

قولهم : إنّما لم يعارضوه ، لأنهم ما كانوا عالمين بما يشتمل عليه القرآن من سير الأولين ، والمسائل الإلهية النظرية ؛ ليس كذلك ، فإن أكثر العرب كانوا يهودا ، ونصارى. وما كانوا جاهلين بهذه الأمور. وبتقدير أن يكونوا جاهلين بذلك ، فتحديه عليهم بالقرآن مع عدم إتيانهم بمثله يدل على عجزهم عنه ، وإلا فلو كانوا قادرين على ذلك لاستحال بالنظر إلى العادة ألا يعارضوه كما سبق.

قولهم : إنما طلب منهم الإتيان بمثله من عند الله ـ تعالى ـ ليس كذلك ، فإن آيات التحدى على ما عرف لم يتعرض فيها لشيء من ذلك ، وبتقدير أن يكون المطلوب منهم أن يأتوا بمثل القرآن من عند الله ـ تعالى ـ فلو كانوا قادرين على الإتيان بمثله ؛ لأمكن أن يدّعوا أنه من عند الله كدعواه أن ما أتى به من عند الله ـ تعالى.

قولهم : يحتمل أنهم تركوا المعارضة غفلة ، وذهولا. فالعادة تحيل ذلك مع معرفتهم بتحديه عليهم ، وتعجيزهم عن الإتيان بمثل القرآن ، ودومة الاستيلاء والاحتكام عليهم بتقدير عجزهم ، وبتقدير الذهول والغفلة ، فالعادة تحيل ذلك على الكل مع كثرة بلغاء العرب ، وفصحائهم. وبتقدير التعميم ؛ فالعادة أيضا تحيل استمرار ذلك مدة تناهز عشرين سنة.

قولهم : وإن كان القرآن خارقا للعادة. إلا أنه يجب أن يكون الدال على صدق الرسول من قبيل ما يحفظ وينقل ؛ لما ذكروه ؛ فقد سبق جوابه فيما تقدم.

وأما الرد على العنانية (١) فيما نقلوه ، وإبطالهم فيما تخرصوه فهو أنهم مع عجزهم عن صحة السند مختلفون فى نفس متن الحديث.

فإن منهم من قال : الحديث هو قوله : «إن اطعتمونى لما أمرتكم به ، ونهيتكم عنه ثبت ملككم كما يثبت السماوات والأرض» وليس فى ذلك ما يدل على إحالة النسخ ، ودوام الملك بدوام السماوات والارض.

وإن سلم أن فى لفظه ما يدل على إحالة النسخ غير أنه مشروط بطاعته ، والائتمار بمأموراته والانتهاء عن منهياته ، وذلك مما لم يتحقق فى حقهم بعده ، ولو كانوا بعده على ما وصف لدام ملكهم. ولم يدم.

وإن سلّمنا أن المنقول قوله : «هذه الشريعة لازمة لكم دائمة عليكم». فما المانع أن يكون ذلك مشروطا بعدم ظهور نبى آخر ، ويكون هو المراد باللفظ ، ومع تصور هذا الاحتمال فيمتنع الجزم / بإحالة النسخ.

وأما استبعاد الشمعنية (٢) لجواز وقوع النسخ عقلا : فبعيد عن مذاق العقل ، كما يأتى.

قولهم : / / أنه يلزم من ذلك أن يكون الشيء الواحد حسنا قبيحا ، طاعة معصية ، مصلحة مفسدة ، مرادا غير مراد ، فقد أومأنا إلى إبطال ذلك فى التعديل والتجوير (٣).

__________________

(١) راجع عنهم ما مر فى هامش ل ١٤٦ / ب.

(٢) راجع عنهم ما سبق فى هامش ل ١٤٦ / ب.

/ / أول ٩٢ / أ.

(٣) انظر ما سبق فى الجزء الأول ل ١٧٥ / أوما بعدها.

كيف وأنه لا يبعد صدور الأمر من الله ـ تعالى ـ للمكلف بفعل شيء مطلقا فى وقت يكون ذلك محدودا فى علم الله ـ تعالى ـ إلى حين ما علم أنه ينسخه عنه لعلمه بأن مصلحة المكلف فى ذلك الأمر لاعتقاده موجبه ، وكف نفسه عما يضربه ، ثم يقطع عنه التكليف فى الوقت الّذي علم أنه ينسخه عنه لعلمه بما فيه من المصلحة ، ودفع المفسدة ، ويكون ذلك الفعل بعينه كالاضافة إلى وقت متعلق المصلحة والحسن ، والإرادة والإضافة إلى غيره متعلق القبح والمفسدة ، والكراهة.

وعلى هذا فيندفع ما ذكروه من البداء والندم ، فإن ذلك إنما يكون أن لو انكشف للبارى ـ تعالى ـ فى ثانى الحال ما أوجب له المنع من الفعل ، والنهى عنه ، ولم يكن عالما به قبله ؛ وليس كذلك.

قولهم : النسخ فى اللغة عبارة عن الرفع (١).

قلنا : وإن كان كذلك الا أنا إنّما نريد بالنسخ : الخطاب القاطع لحكم خطاب شرعى سابق على وجه لو لا الخطاب القاطع له لاستمر ذلك الحكم ودام ، ومن أطلق من أصحابنا لفظ الرّفع على النسخ ، فلم يرد غير ما ذكرناه ، وذلك غير ممتنع. وليس قطع الاستمرار راجعا إلى الكلام القديم الّذي هو صفة الرب ـ تعالى ؛ لاستحالة العدم عليه : إنما هو عائد إلى قطع تعلقه بالمكلف وكفّ الخطاب عنه ؛ وذلك غير مستحيل.

وأما العيسوية : فيمتنع عليهم ، بعد التسليم بصحة رسالته ، وصدقه وقيام المعجزة القاطعة ؛ تكذيبه فيما ورد به التواتر القاطع عنه بدعوى البعثة إلى الأمم كافة ، لا إلى العرب خاصة. وعلم كذلك منه كما علم وجوده ، ودعواه الرسالة ، ومن ذلك ما ورد به الكتاب العزيز وتواتر به الخبر كقوله (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) (٢) وقوله

__________________

(١) النسخ فى اللغة : هو الإزالة والنقل. وفى الشرع : هو أن يرد دليل شرعى متراخيا عن دليل شرعى ، مقتضيا خلاف حكمه ، فهو تبديل بالنظر إلى علمنا ، وبيان لمدة الحكم بالنظر إلى علم الله ـ تعالى ـ.

والنسخ (أيضا) فى اللغة عبارة عن التبديل ، والرفع ، والإزالة ، فيقال : نسخت الشمس الظل (أى) أزالته. وفى الشريعة : هو بيان انتهاء الحكم الشرعى فى حق صاحب الشرع. وكان انتهاؤه عند الله ـ تعالى ـ معلوما إلا أن فى علمنا كان استمراره ودوامه ، وبالناسخ علمنا انتهاءه ، وكان فى حقنا تبديلا ، وتغييرا. (كتاب التعريفات للشريف الجرجانى ص ٢٦٨).

(٢) سورة الأعراف : ٧ / ١٥٨.

تعالى : ـ (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ) (١) وقال فى وصف ما أنزل عليه (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ) وقال (وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) (٢) وإنما يكون كذلك أن لو عم حكمه للجميع. وقد ورد عنه ـ عليه‌السلام ـ أخبارا فى ذلك تنزل منزلة التواتر وإن كانت آحادها آحادا ، فمن ذلك قوله عليه‌السلام «بعثت إلى الأحمر والأسود» (٣) وقوله «بعثت إلى الناس كافة» (٤) وقوله «لو كان اخى موسى حيا لما وسعه إلا اتباعى» (٥) إلى غير ذلك من الأخبار / الكثيرة. ويدل عليه ما اشتهر عنه وتواتر من دعائه طوائف الجبابرة ، وغيرهم من الأكاسرة ، وسعيه إلى أقاصي البلاد ، وملوك العباد إلى الدخول فى ملته ، وإجابة دعوته ، وقتال من جحد بنبوته من أهل الكتاب ، وغيرهم ممن هو خارج عن قبائل العرب (٦).

ثم كذلك على سنة الصدر الأول من المسلمين مع علمنا بأن ذلك الجمع الكثير ، والجم الغفير ممن لا يتصور على مثلهم التواطؤ على الباطل عادة ، ولا سيما مع ما كانوا عليه من شدة اليقين ، ومراعاة الدين ، فلو لم يعلموا منه ضرورة أنه مبعوث إلى الناس كافة ، والأمم عامة وإلا لما فعلوا ذلك رعاية للدين ، ثم إنه ترك للدين ، وكذلك أيضا من جاء من بعدهم على سنتهم ، وهلم جرا إلى زمننا هذا ، ولو لم يكن رسولا على العموم ؛ لزم أن يكون قد كذب فى دعواه ، وأبطل فيما أتاه ؛ وذلك محال فى حق من ثبتت عصمته عن الكذب فى الرسالة بالمعجزة القاطعة ، ولو جاز ذلك عليه مع ظهور المعجزة على يده ؛ لكان ذلك جائزا فى حق موسى عليه‌السلام ؛ وهو محال. وإذا ثبت صدقه بالمعجزات والآيات الواضحات ، فقد قال ـ عليه‌السلام «لا نبى بعدى» ونزل الكتاب العزيز مصدقا له فى ذلك بقوله ـ تعالى ـ (وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) (٧) واشتهر ذلك فيما بين

__________________

(١) سورة سبأ : ٣٤ / ٢٨.

(٢) سورة آل عمران ٣ / ١٣٨.

(٣) جزء من حديث شريف عن أبى موسى قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أعطيت خمسا : بعثت إلى الأحمر والأسود ... الخ (تهذيب الخصائص النبوية الكبرى رقم ٥٦٩ ص ٣٩٢).

(٤) رواه البخارى ومسلم فى صحيحيهما. البخارى ١ / ٣٦٩ ـ ٣٧١ ومسلم حديث رقم (٥٢١).

(٥) أخرجه الإمام أحمد فى مسنده ٣ / ٣٨٣ ، وأورده الألبانى فى إرواء الغليل ٦ / ٣٤ حديث رقم ١٥٨٩ وعزاه إلى أحمد وقال حديث حسن ط : المكتب الإسلامى.

(٦) فقد أرسل كتبه ورسله إلى كسرى وقيصر والمقوقس وغيرهم من ملوك الأطراف يدعوهم إلى الإسلام. عن أنس ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كتب إلى كسرى وإلى قيصر وإلى النجاشى وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله تعالى.

(تهذيب الخصائص النبوية الكبرى للسيوطى رقم ٢٤٨ ص ٢٢١).

(٧) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٤٠.

أهل عصره من قوله وكتابه ولم يزل تتناقله الأمم فى جميع الأعصار ، والأمصار نقلا موجبا للعلم به ؛ وذلك يدلّ على امتناع نبى آخر بعده سمعا ، وإن كان غير ممتنع عقلا ، ومن نظر فيما رتّبناه وحقّق ما حققناه وكان ناظرا زمانا ، مطلعا على المطوّلات من كتب المتكلمين ، عارفا بمباحثهم ؛ علم بما انتهينا إليه هاهنا من أمر النّبوّة أنّا قد بلغنا ـ فى حسن التّرتيب ، والتّحرير ، وجمع المعانى الغريبة الشّاردة المتبدّدة فى كتبهم مع زيادات نافعة شذت عنهم ، مضافا إلى الإيجاز المعجز ـ مبلغا لم يبلغه أحد من المتكلّمين.

الأصل الخامس

فى عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام (١)

أما قبل النبوة : فقد قال القاضى أبو بكر : لا يمتنع عقلا ولا سمعا ، أن يصدر من النبي قبل نبوته معصية وسواء / / كانت صغيرة ، أو كبيرة إذ لا دلالة للمعجزة على عصمته فيما قبل ظهورها على يده ؛ بل ولا يمتنع عقلا إرسال من أسلم بعد كفره ، ووافقه عليه أكثر أصحابنا ، وكثير من المعتزلة.

وقالت الروافض وأكثر المعتزلة (٢) : لا يجوز أن يبعث الله تعالى من صدر منه كبيرة وإن تاب منها ؛ لأن ذلك مما يوجب فى النفوس بغضه ، واحتقاره ، والنفرة عن اتباعه ؛ وهو خلاف ما تقتضيه الحكمة من رعاية الصلاح ، والأصلح.

وزادت الروافض حيث قضوا بوجوب عصمته / عن الصغائر أيضا.

والأصح ما ذكره القاضى ، لأن السمع لا دلالة له على العصمة قبل البعثة. ودلالة العقل فمبنية على الحسن ، والقبح ، ووجوب رعاية المصلحة ؛ وقد سبق إبطاله (٣).

__________________

(١) قارن بما ورد فى الإرشاد للجوينى ص ٣٥٦ وما بعدها.

وأصول الدين للبغدادى ص ١٦٧ وما بعدها.

وشرح الأصول الخمسة للقاضى عبد الجبار ص ٥٧٣ وما بعدها.

والمغنى فى أبواب التوحيد والعدل له أيضا ١٥ / ٢٨١ وما بعدها.

وعصمة الأنبياء للإمام الرازى كتاب مستقل. والنبوات له أيضا.

ومن المتأخرين عن الآمدي :

شرح المواقف للجرجاني ـ الموقف السادس ـ تحقيق الدكتور أحمد المهدى ص ١٢٩ وما بعدها.

وشرح المقاصد للتفتازانى ٢ / ١٤٢ وما بعدها.

وشرح مطالع الأنظار على متن طوالع الأنوار للأصفهانى ص ٢٠٩ وما بعدها.

ومن الكتب الحديثة : عصمة الأنبياء والرد على الشبه الموجهة إليهم.

للدكتور محمد أبو النور الحديدى ـ مطبعة الأمانة سنة ١٩٧٩ م.

/ / أول ل ٩٢ / ب.

(٢) وقد وضح القاضى عبد الجبار فى الجزء الخامس عشر من كتاب المغنى ص ٢٨١ ـ ٣١٨ هذا الموضوع وشرحه شرحا مفصلا. فى ثلاثة فصول.

الفصل الأول : فى امتناع جواز الكذب والكتمان على الأنبياء وما يتصل بذلك ١٥ / ٢٨١ ـ ٣٠٠.

الفصل الثانى : فى أن الكبائر لا تجوز على الأنبياء عليهم‌السلام فى حال النبوة ١٥ / ٣٠٠ ـ ٣٠٣.

الفصل الثالث : فى أن الكبائر وما يجرى مجراها فى التنفير ، لا تجوز عليهم قبل البعثة. ١٥ / ٣٠٤ ـ ٣١٦.

(٣) انظر الجزء الأول من أبكار الأفكار ـ القاعدة الرابعة ـ النوع السادس ـ الأصل الأول ـ المسألة الأولى : فى التحسين والتقبيح : ل ١٧٤ / ب وما بعدها.

والمسألة الثالثة : فى أنه لا يجب رعاية الغرض ل ١٨٦ / أو ما بعدها.

وأما بعد النبوة : فقد اتفق أهل الملل ، وأرباب الشرائع على وجوب عصمة الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ عن الكذب عمدا فيما دلت المعجزة القاطعة على صدقهم فيه. وذلك فى دعوى الرسالة ، وما ينهونه من الله ـ تعالى ـ إلى الأمة بطريق التبليغ عنه ، وإلا فلو جاز عليهم التقول والتخرص فى ذلك عقلا ؛ لأفضى إلى إبطال دلالة المعجزة ؛ وهو محال.

وهل يجوز عليهم الغلط فى ذلك على سبيل الذهول ، والنسيان ، فقد اختلف فيه.

فذهب الأستاذ أبو إسحاق ، وكثير من الأئمة إلى امتناعه : نظرا إلى أنّ المعجزة دالة على الصدق ، وملازمة الحق فى التبليغ. فلو تصور الخلف فى ذلك كان ذلك نقضا لدلالة المعجزة ؛ وهو ممتنع.

وذهب القاضى أبو بكر : إلى جواز ذلك مصيرا منه إلى أن المعجزة إنما تدل على صدق الرسول فيما هو متذكر فيه عامد له.

وأما ما كان من النسيان ، وفلتات اللسان فلا تدخل تحت التصديق المقصود بالمعجزة. ولا المعجزة دالة على نفيه.

وعلى هذا فلا تكون صورة النسيان ناقضة لدلالة المعجزة.

وأما ما يتعلق بأفعالهم ، وأقوالهم : فلا دلالة للمعجزة على صدقهم فيه ، فإما أن يكون كفرا ، أو لا يكون كفرا.

فإن كان كفرا : فلا يعرف خلاف بين الأئمة فى وجوب عصمة الأنبياء عنه ، إلا ما نقل عن الأزارقة من الخوارج (١) : فإنهم قالوا بجواز بعثة نبى علم الله ـ تعالى ـ أنه يكفر بعد نبوته ، وكل من قال بجواز صدور الذنوب عن الأنبياء ، وحكم بالكفر على كل ذنب ، فيلزمه أيضا جواز الكفر على الأنبياء.

وأما ما ليس بكفر : فإما أن يكون من الكبائر ، أو لا يكون منها ، فإن كان من الكبائر : فقد اتفق المحققون والأئمة على وجوب عصمتهم عن تعمده من غير نسيان ،

__________________

(١) عن الأزارقة من الخوارج وقولهم بجواز بعثة نبى علم الله ـ تعالى ـ أنه يكفر. انظر ما سيأتى فى القاعدة السابعة ـ الفصل الرابع : فى أن مخالف الحق من أهل القبلة هل هو كافر أم لا؟ ل ٢٥٢ / ب وما بعدها.

ولا تأويل ، ولم يخالف فى ذلك غير الحشوية ، ومن جوز الكفر عليهم فإنه إذا جوز عليهم الكفر فما دون الكفر أولى بالتجويز.

ثم اختلف القائلون فى وجوب العصمة عن الكبائر. هل ذلك مستفاد من العقل ، أو السمع.

فذهب القاضى أبو بكر ، والمحققون من أصحابنا : إلى أن العصمة فيما وراء التبليغ غير واجبة عقلا ؛ لعدم دلالة المعجزة عليه (١) وإنما هو مستفاد من السمع ، وإجماع الأمة قبل ظهور المخالفين على ذلك.

وذهبت المعتزلة : إلى امتناع ذلك منهم عقلا / مصيرا منهم إلى أن صدور الكبائر من الأنبياء. مما يوجب سقوط هيبتهم ، وانحطاط رتبتهم فى أعين الناس. وذلك مما يوجب النفرة عنهم ، وعدم الانقياد لهم. ويلزم منه إفساد الخلائق ، وترك استصلاحهم ؛ وهو خلاف مقتضى الحكمة ، والعقل. وما ذكروه فمبنى على فاسد أصولهم فى التحسين ، والتقبيح ، ووجوب رعاية الصلاح ، والأصلح ؛ وقد أبطلناه (٢).

ثم لو قيل بوجوب عصمة الأنبياء عن الكبائر عقلا حتى لا يفضى ذلك إلى انحطاط رتبهم فى النفوس ، والنفرة عن الانقياد لهم ، أوجب أن يكون النبي أبدا مؤيدا منصورا. وأن يكون مناوئه مخذولا محقورا. وإلا فلو كان الأمر بالعكس للزم من ذلك احتقارهم فى الأعين ، والنفرة عنهم كما ذكروه ؛ وليس ذلك واجبا إجماعا.

فإن قيل : بأنه يكتفى بظهور المعجزة على يده عن جميع ما ذكرتموه.

قلنا : فلنكتفى به عما ذكروه أيضا.

وأما إن كان فعل الكبيرة على سبيل النسيان ، أو التأويل خطأ ؛ فقد اتفق على جوازه ، خلافا للروافض.

وأما ما ليس بكبيرة : فإما أن يكون من قبيل ما يلحق فاعله بالأراذل ، والسفل ، والحكم عليه بالخسة / / ودناءة الهمة ، وسقوط المروءة كسرقة حبة ، أو كسرة ، ونحوه فالحكم فيه حكم الكبيرة.

__________________

(١) فى ب (على ذلك).

(٢) انظر ما سبق فى الجزء الأول ـ القاعدة الرابعة ـ النوع السادس ـ الأصل الأول ل ١٧٤ / ب وما بعدها.

/ / أول ل ٩٣ / أ.

وأما ما لا يكون من هذا القبيل : كنظرة ، أو كلمة سفه نادرة فى خصام ، ونحو ذلك ؛ فهذا مما اتفق أكثر أصحابنا وأكثر المعتزلة على جوازه عمدا أو سهوا ، خلافا للشيعة.

وذهب الجبائى : إلى أن ذلك لا يجوز إلا بطريق السهو ، أو الخطأ فى التأويل.

وذهب النظام ، وجعفر بن مبشر : إلى أن ذلك لا يجوز منهم إلا على طريق الغفلة ، والسهو. غير أنهم يؤاخذون بذلك وإن لم تؤاخذ أممهم به ؛ لعلو رتبتهم ، وقوة معرفتهم بالله ـ تعالى.

وهل يجوز أن يخلع الله ـ تعالى ـ نبيا من نبوته. فقد اتفق أصحابنا على جوازه عقلا ، غير أن المسلمين اتفقوا على أن ذلك لم يقع. وما يروى أن بلعام بن باعور (١) كان نبيا وخلع من نبوته ، فلم يثبت ولم يصح.

__________________

(١) بلعام بن باعور : وقيل (بلعم) وقد وردت فى شأنه روايات مختلفة تصل إلى درجة التناقض. فيقول ابن حزم (الفصل فى الملل والأهواء والنحل ١ / ١٧٩) «كما كان أيوب نبيا فى (بنى عيص). وكما كان (بلعام) نبيا فى (بنى موآب) بإقرار من جميع فرق اليهود».

كما أشار الطبرى فى تفسيره الجزء التاسع ص ٧٦ وما بعدها ، إلى أنه كان يدعى (بلعم) بفتح الباء أو بضمها من بنى إسرائيل. وقد ذكره القرطبى فى تفسيره للآيات الكريمة من سورة الأعراف من أول قوله تعالى : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ) إلى قوله تعالى : (ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ) سورة الأعراف ٧ / ١٧٥ ـ ١٧٧ ـ [تفسير القرطبى ٤ / ٢٧٥٥ ـ ٢٧٦٠].

«ذكر أهل الكتاب قصة عرفوها فى التوراة. واختلف فى تعيين الّذي أوتى الآيات فقال ابن مسعود وابن عباس : هو بلعام بن باعوراء ، ويقال ناعم من بنى إسرائيل فى زمن موسى ـ عليه‌السلام ـ وكان بحيث إذا نظر رأى العرش وهو المعنى بقوله : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا) ولم يقل آية وكان فى مجلسه اثنتا عشرة ألف محبرة للمتعلمين الذين يكتبون عنه. ثم صار بحيث كان أول من صنف كتابا «أن ليس للعالم صانع».

قال مالك بن دينار : بعث بلعام بن باعوراء إلى ملك مدين ؛ ليدعوه إلى الإيمان فأعطاه وأقطعه ؛ فاتبع دينه ، وترك دين موسى ، ففيه نزلت هذه الآيات.

المعتمر بن سليمان عن أبيه قال : كان بلعام قد أوتى النبوة ؛ وكان مجاب الدعوة.

وقال عكرمة : كان بلعام نبيا وأوتى كتابا ، وقال مجاهد أنه أوتى النبوة ؛ فرشاه قومه على أن يسكت ففعل وتركهم على ما هم عليه. قال الماوردى : وهذا غير صحيح ؛ لأن الله تعالى لا يصطفى لنبوته إلا من علم أنه لا يخرج عن طاعته إلى معصيته.

أما الفخر الرازى فى تفسيره (١٥ / ٥٧ ـ ٦١) فيستبعد ما نقل عن بلعام بعد نقله ويقول : «هذا بعيد لأنه تعالى قال (الله أعلم حيث يجعل رسالته) وذلك يدل على أنه ـ تعالى ـ لا يشرّف عبدا من عبيده بالرسالة إلا إذا علم امتيازه عن سائر العبيد بمزيد الشرف ، والدرجات العالية ، والمناقب العظيمة ؛ فمن كان هذا حاله ، فكيف يليق به الكفر؟».

وأما عبد القاهر البغدادى فينفى عنه النبوة ويثبت له الكرامة فى كتابيه أصول الدين ، والفرق بين الفرق. ففى أصول الدين ص ١٧٤ ، ١٧٥ «وصاحب الكرامة لا يؤمن تبدل حاله فإن بلعم بن باعورا أوتى من هذا الباب ما لم يؤت غيره ثم ختم له بالشقاء». وفى الفرق بين الفرق ص ٣٤٤ «وصاحب الكرامة لا يأمن تغير عاقبته كما تغيرت عاقبة بلعم بن باعورا بعد ظهور كراماته».

وهذا يوافق ما قاله الآمدي : «وما يروى أن بلعام بن باعور كان نبيا وخلع من نبوته ؛ فلم يثبت ولم يصح».

وبالجملة : فالكلام فيما ليس بكبيرة. ولا هو نازل منزلة الكبيرة نفيا وإثباتا غير بالغ مبلغ القطع ؛ بل هو من باب الظنون ، والاجتهادات. والاعتماد فيه إنما هو على ما يساعد من الأدلة الظنية. والكلام فى طرفين : الأول فى جواز ذلك بطريق النسيان ، والثانى فى بيان جوازه بطريق العمد.

الطرف الأول : فى بيان جواز النسيان على الأنبياء ـ عليهم‌السلام.

أما من جهة العقل : فلأنا لو فرضنا وقوعه منهم. لم يلزم عنه المحال لذاته. وأنه لا فرق بين النبي وغيره ، إلا فى قيام المعجزة الدالة على صدقه فى دعواه الرسالة ، وما فرض الكلام فيه ؛ فلا دلالة للمعجز على عصمته ؛ فكان صدوره عنه كصدوره عن غيره.

وأما من جهة السمع : فما اشتهر عنه ـ عليه‌السلام ـ من نسيانه فى الصلاة ، وتحلله عن ركعتين فى الرباعية / فى قصة ذى اليدين وقول ذى اليدين له أسهوت يا رسول الله أم قصرت الصلاة؟ فقال النبي ـ عليه‌السلام ـ أحقا ما يقول ذو اليدين ، قالوا : نعم يا رسول الله (١).

وأيضا ما اشتهر عنه ـ عليه‌السلام ـ وهو يقرأ فى الصلاة (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) (٢) أنه قال : «إنهن عند الله من الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهن لترتجى» ولم يكن ذلك إلا عن غفلة ونسيان ، لاستحالة كلمة الكفر فى حقه.

ويدل عليه من الكتاب قوله ـ تعالى (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) (٣) وقوله ـ عليه‌السلام ـ : «إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكرونى» (٤).

__________________

(١) ورد فى موطأ الإمام مالك : ما يفعل من سلم من ركعتين ساهيا :

عن أبى هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ انصرف من اثنتين فقال له ذو اليدين : أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أصدق ذو اليدين؟ فقال الناس نعم ؛ فقام رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فصلى ركعتين أخريين ، ثم سلم ، ثم كبر ؛ فسجد مثل سجوده أو أطول ، ثم رفع ، ثم كبر فسجد مثل سجوده ، أو أطول ، ثم رفع.

[موطأ الإمام مالك ١ / ٨٧ ، ٨٨].

(٢) سورة النجم ٥٣ / ١.

(٣) سورة الكهف ١٨ / ٢٤.

(٤) أخرجه الإمام البخارى فى صحيحه. كتاب الصلاة ـ باب التوجه نحو القبلة حيث كان ١ / ٦٠٠ حديث رقم ٤٠١ عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه [فتح البارى بشرح صحيح البخارى ط دار الريان بمصر].

كما أخرجه الإمام مسلم فى صحيحه : كتاب المساجد ـ باب السهو فى الصلاة والسجود له ١ / ٤٠٠ عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ط. عيسى الحلبى. ت : محمد فؤاد عبد الباقى.

وأخرجه الزبيدى فى إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين ـ الركن الثالث فى دوام التوبة ٨ / ٥٩٢ وعزاه إلى مالك فى الموطأ بلاغا دون سند. ط : دار إحياء التراث العربى ـ بيروت. لبنان.

فإن قيل : لو جوزنا تطرق النسيان إلى الأنبياء فى أقوالهم ، وأفعالهم ؛ لأفضى ذلك إلى اللبس فى مواقع الشرع ، وتعيين الأحكام وهو مخل بمقصود البعثة وذلك محال عقلا.

وإن سلمنا الجواز العقلى : غير أن ذلك ممتنع سمعا ويدل عليه قوله ـ عليه‌السلام ـ «أما أنى لا أنسى ولكنى أنسّى لأشرّع». وعلى هذا فيجب حمل النسيان فى قصة ذى اليدين على التشبيه بالناسى ليشرع.

وأما القصة الأخرى فلا نسلم أن المسموع كان صوت النبي ـ عليه‌السلام ـ بل المسموع كان صوت الشيطان مشبها بصوته إذ الإجماع منعقد على امتناع صدور كلمة الشرك من النبي ـ عليه‌السلام ـ ويدل على ذلك قوله تعالى (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) (١) ومعناه إذا تلى ألقى الشيطان فى تلاوته. وإن سلمنا أن المسموع كان صوت النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لكن يجب حمله على التشبه بالناسى للتشريع.

وما ذكرتموه من النصوص فيجب أيضا حملها على التشبه بالناسى لما ذكرناه من الخبر.

وإن سلم دلالتها على حقيقة النسيان. فلا نسلّم عمومها بالنسبة إلى النسيان فى المعاصى ؛ بل هى مطلقة فى النسيان ، وكما أمكن حملها على نسيان المعاصى ، أمكن الحمل على النسيان فى المباحات ، وليس أحد الأمرين أولى من الآخر ، بل الحمل على النسيان فى المباحات أولى ؛ إذ لا محذور فيه.

قلنا : لا نسلم أنّ القول بتطرق النسيان إلى الأنبياء فيما يتعلق بالرسالة يفضى إلى اللّبس فى مواقع الشرع ، فإنه وإن تصور منه فعل ما لا يجوز ، أو ترك ما يجب ناسيا ، فذلك مما يمكن استدراكه ، ومعرفة وقوعه سهوا ؛ إذ هو غير واجب الدوام. وقرائن الأحوال مع صريح المقال مميزة بين البابين. وما ذكروه من الحديث ؛ فغير صحيح فى متنه وإلا كان النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ متعمدا ترك ما يجب وفعل ما يحرم تشبها بالناسى لقصد التشريع.

__________________

(١) سورة الحج ٢٢ / ٥٢.

ولا يخفى أن نسبة النسيان إلى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مع أنه لا تبعة على الناسى أولى من نسبة ترك الواجب ، أو فعل المحرّم إليه ، مع لزوم التبعة فيه / / كيف وأنه إذا قيل بجواز ارتكاب النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ / المعصية عمدا ، فالقول بامتناع ذلك عليه ناسيا خروج عن المعقول ، وقول بما لم يقل به قائل ؛ بل الصحيح المنقول فيه أنه قال : «أمّا أنا أنسى وأنسّى لأشرع». وذلك ظاهر فى سبب النسيان حقيقة ؛ فلا يجوز ترك الظاهر من غير دليل.

قولهم : المسموع من قوله تلك «الغرانيق العلى». إنما كان صوت الشيطان.

قلنا : إحالة ذلك على سماع صوت الشيطان مع أن القراءة لم تسمع فى اعتقاد كل من كان حاضرا إلا من النبي مما يوجب انخراق العادة وذلك لا يجوز إلا بدليل مقاوم للأمر العادى ، أو أرجح منه. وسيأتى له مزيد تقرير فيما بعد.

قولهم : الإجماع منعقد على امتناع صدور كلمة الشرك من الأنبياء.

قلنا : فى العمد ، أو النسيان ، الأول : مسلم. والثانى : ممنوع.

وأما قوله ـ تعالى ـ (أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) (١) فالمراد منه وسوس فى قلبه ، وخيّل إليه ، وأشغله حتى نسى.

قولهم : يجب حمله على التشبيه بالناسى.

قلنا : هذا هو الكفر الصراح ؛ إذ فيه تشبه تعمد النطق بالشرك أو بتلاوة ما ليس من القرآن فى الصلاة ؛ لقصد التشريع ؛ وهو محال.

قولهم : يجب حمل النسيان فى النصوص على التشبه بالناسى.

قلنا : هذا ترك لحقيقة النسيان من غير دليل ؛ فلا يقبل.

قولهم : لفظ النسيان مسلّم. غير أن تقييد المطلق أيضا من غير دليل ممتنع ، كما أن تخصيص العموم من غير دليل ممتنع.

الطرف الثانى : فى بيان ما قيل فى عصمة الأنبياء عن تعمد الصغائر التى لا يلحق فاعلها بالأخسّاء الأراذل ، كما سبق تحقيقه.

__________________

/ / أول ل ٩٣ / ب.

(١) سورة الحج ٢٢ / ٥٢.

وقد احتج أصحابنا بحجج كثيرة غير أنا نقتصر من ذلك على ما هو الأقرب ، والأشبه وهو عشرون حجة متفاوتة فى القوة ، والرتب.

الحجة الأولى : هى أن آدم (١) ـ عليه‌السلام ـ عصى ، وارتكب الذنب ، وذلك لا يخلو : إما أنه كان فى حالة النبوة ، أو قبلها.

فإن كان فى حالة النبوة ، فقد ثبت أن النبي غير معصوم.

وإن كان ذلك قبل النبوة. وهو الأظهر لقوله ـ تعالى ـ (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) مترتبا على قوله (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) (٢) فدل على أن الاجتباء إنما كان بعد المعصية ؛ لكنه حجة على الروافض حيث قضوا بوجوب عصمة النبي قبل نبوته.

__________________

(١) آدم عليه‌السلام : هو أبو البشر عليه‌السلام وقصته البشرية بأسرها وحياته هى حياة هذا الوجود بأكمله.

وقد حدثنا القرآن الكريم عن خلق آدم عليه‌السلام ، وأنه أول مخلوق من البشر ظهر على وجه الأرض ؛ فهو أبو الخلائق وإليه ينتمى جميع سكان الأرض ، فهو خليفة الله فى الأرض قال ـ تعالى ـ (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) سورة البقرة ٢ / ٣٠ وقد كرّمه الله وكرم ذريته (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) الإسراء ١٧ / ٧٠. وقد خص الله آدم بأربعة أمور هى آية الفضل وعنوان الشرف الرفيع.

فقد خلقه بيده ، ونفخ فيه من روحه ، وأسجد له ملائكته ، وعلمه الأسماء كلها. وقد جاء فى الحديث الشريف ما يؤيد هذه الأمور فى قصة موسى مع آدم عليهما‌السلام ، فقد قال موسى لآدم (يا آدم أنت أبو البشر ، الّذي خلقك بيده ، ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته ، وعلمك أسماء كل شيء ، ما حملك على أن أخرجتنا ونفسك من الجنة ...)

وكان عليه‌السلام نبيا رسولا على أرجح الآراء قال تعالى : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) سورة آل عمران ٣ / ٣٣.

وقد أهبطه الله إلى الأرض ليؤدى المهمة التى خلق من أجلها (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) بعد أن اجتباه وتاب عليه وهداه (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) فالعالم بدأ بتوبة آدم واجتباء الله له وهدايته. ولم يبدأ بالمعصية كما يقول بعض الكافرين. وقد عاش آدم عليه‌السلام فى الأرض ألف عام ثم مات ودفن بجبل أبى قبيس بمكة على بعض الآراء رحم الله أبانا آدم وجمعنا به فى جنة الخلد آمين [قصص الأنبياء لابن كثير ص ٩ ـ ٦٢ ، والنبوة والأنبياء ص ١٠٩ ـ ١٣١].

(٢) سورة طه ٢٠ / ١٢١ ، ١٢٢. ولمزيد من البحث والدراسة فيما ورد فى كتب التفسير والعقيدة عن معنى عصيان آدم وارتكابه للذنب : انظر الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل فى وجوه التأويل للزمخشرى ٢ / ٥٥٧ ط دار المعرفة ـ بيروت ـ لبنان.

وتفسير الفخر الرازى المشتهر بالتفسير الكبير ومفاتيح الغيب ـ طبع دار الفكر بلبنان سنة ١٩٨١ م ٢٢ / ١٢٧ ـ ١٢٩.

وتفسير القرطبى الجامع لأحكام القرآن ط دار الريان للتراث بمصر ٦ / ٤٢٩٥ ـ ٤٢٩٧.

ومختصر تفسير ابن كثير ٢ / ٤٩٦ ط : دار القرآن ببيروت ـ لبنان.

وقصص الأنبياء لابن كثير ص ٢٤ ـ ٣١ ففيه نقول مهمة وتوضيحات مفيدة.

وشرح المواقف للجرجانى ـ الموقف السادس ص ١٣٨ ـ ١٤٠.

وشرح المقاصد للتفتازانى ٣ / ٣١١.

وبيان أنه عصى وأذنب من خمسة أوجه :

الأول : قوله ـ تعالى ـ (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) صرح بمعصيته وأكد ذلك بقوله (فَغَوى).

الثانى : أنه نهى عن الشجرة بقوله (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) (١) وبقوله ـ تعالى ـ (أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ) (٢) فخالفا النهى وأكلا منها بدليل قوله ـ تعالى ـ (فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما) (٣) ومخالفة النهى معصية.

الثالث : أنه سمى نفسه ظالما حيث قالا / (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) (٤) وسماه الرب ـ تعالى ـ ظالما حيث قال تعالى (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) (٥) وقد قرباها ، وأكلا منها ؛ فكانا من الظالمين. والأصل فى الإطلاق الحقيقة ، والظلم معصية لا محالة.

الرابع : قوله ـ تعالى ـ حكاية عن آدم (وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٦) وذلك من غير ذنب محال.

الخامس : أنه تاب لقوله ـ تعالى ـ (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ) (٧). وقوله ـ تعالى ـ (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) (٨) والتوبة تستدعى الذنب ؛ إذ هى حقيقة فى الندم على الذنب.

فإن قيل : المعصية عبارة عن مخالفة الأمر ، أو النهى. ولا يخفى أن الأمر ينقسم إلى أمر إيجاب يستحق فى مخالفته اللّوم والتوبيخ. وإلى أمر ندب لا يستحق مخالفه اللّوم ، والتوبيخ. وكذلك النهى ينقسم إلى نهى تحريم يستحق مخالفه اللّوم والتوبيخ. وإلى نهى كراهة وتنزيه لا يستحق مخالفه اللوم والتوبيخ.

__________________

(١) سورة الأعراف ٧ / ١٩.

(٢) سورة الاعراف ٧ / ٢٢.

(٣) سورة طه ٢٠ / ١٢١.

(٤) سورة الأعراف ٧ / ٢٣.

(٥) سورة الأعراف ٧ / ١٩.

(٦) سورة الأعراف ٧ / ٢٣.

(٧) سورة البقرة ٢ / ٣٧.

(٨) سورة طه ٢٠ / ١٢٢.

وإطلاق اسم العصيان صحيح بمخالفة كل واحد من الأمرين سواء كان المخالف مستحقا للّوم ، أو لم يكن.

ومنه يقال أمرت فلانا بكذا فعصانى. [وإن لم يكن ما أمره به واجبا ، ونهيته عن كذا فعصانى] (١). وإن لم يكن ما نهاه عنه محرما.

وعند ذلك فيحتمل أنه سماه عاصيا ؛ لأنه خالف أمر الندب ، أو نهى التنزيه ، ويجب حمله عليه ؛ إذ هو المتيقن وما زاد عليه من استحقاق العتاب ، واللوم بالمخالفة ؛ فأمر متردد فيه.

وقوله تعالى (فَغَوى) معناه خاب ولم يحصل على ما كان يستحقه من الثواب على موافقة الأمر ، أو النهى ومنه قول الشاعر :

فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره

ومن يغو لا يعدم على الغى لائما (٢)

أى يجب. وقيل : معنى غوى : لم يصب. وقيل معناه : فسد عليه عيشه.

ومنه يقال / / الغواء لسوء الرضاع (٣) والغذاء ، وعلى كل تقدير من هذه التقادير لا يقال إنه ارتكب ذنبا يستحق به عتابا ولا لوما. وعلى هذا فقد خرج الجواب عن مخالفة النهى أيضا.

وأما قولهما : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا) (٤) معناه أنا بخسناها حقها ، وحرمناها ما كانت تحصل عليه من الثواب بموافقة الأمر أو النهى. ولهذا فإنه يصح أن يقال لمن فوّت على نفسه منافعها بترك تعاطى الأسباب الموجبة لها إذا كان متمكنا منها وإن لم تكن مستحقة له ، أنه ظالم لنفسه ، وهو المراد من قوله ـ تعالى ـ (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) (٥) وقوله تعالى (وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٦) معناه : إن لم تصلحنا. فإن المغفرة قد تطلب بمعنى الاصلاح.

__________________

(١) ساقط من «أ».

(٢) القائل هو المرقش الأصغر. والبيت فى المفضليات ٢٤٧ فى المفضلية رقم ٥٦.

/ / أول ل ٩٤ / أ.

(٣) ورد فى المعجم الوسيط (باب الغين). (غوى الرضيع) أكثر من الرضاع حتى اتخم وفسد جوفه.

(٤) سورة الأعراف ٧ / ٢٣.

(٥) سورة الأعراف ٧ / ١٩.

(٦) سورة الأعراف ٧ / ٢٣.

ومنه يقول العرب اغفروا هذا الأمر : أى أصلحوه بما ينبغى أن يصلح ، وليس فى ذلك ما يدل على ارتكاب الجريمة.

وقوله ـ تعالى ـ (فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) (١). قلنا : التوبة فى اللغة بمعنى الرجوع ومنه / يقال : تاب فلان إذا رجع ، فمعنى توبة آدم أنه رجع إلى الله ـ تعالى ـ وإلى الانقطاع إليه. ومعنى توبة الرب ـ تعالى ـ عليه ، والعود عليه بالتفضل ، والإنعام ، وليس فى ذلك ما يدل على ارتكاب الجريمة والذنب.

قلنا : أما قولهم : إن المعصية عبارة عن مخالفة الأمر أو النهى ، مسلم.

قولهم : إن الأمر منقسم : إلى أمر إيجاب ، وندب. والنهى ينقسم إلى : نهى تحريم ، وكراهة تنزيه.

قلنا : إذا سلمتم أنه يلزم من اطلاق اسم العصيان عليه مخالفة الأمر ، أو النهى ، فنحن وإن سلمنا انقسام صيغة افعل ، ولا تفعل إلى ما ذكروه من الأقسام ؛ فلا نسلّم انقسام الأمر إلى أمر إيجاب (٢) [وندب ؛ بل الأمر على الإطلاق لا يكون إلا للإيجاب] على ما ذهب إليه كثير من أصحابنا. وأن الندب غير مأمور به ، ودليله العرف ، والنص.

أما العرف : فهو أن السيد إذا أمر عبده بأمر فخالفه ؛ فإنه يحسن فى العرف لومه ، وعتابه. ويقضى كل عاقل عقل. العرف وأهله بذلك. وليس ذلك مبنيا على قرائن الأحوال ؛ فإنه قد يحكم بذلك من كان غائبا عن مجلس الأمر ، وإن لم يشاهد قرينته أصلا.

وأما النص : فقوله ـ تعالى ـ (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٣). حذر عن مخالفة أمره ، وذلك لا يكون فى الأمر إذا لم يكن للوجوب ، وقوله (عَنْ أَمْرِهِ) يعم كل أمر له. ولهذا فإنه لو قال السيد لعبده من خالف أمر ولدى فإنه معاقب ؛ فإنه يحسن أن يعاقب على مخالفة أى أمر كان له عرفا. وإذا كان أمر النبي محمولا على الإيجاب مطلقا ؛ فأمر الله ـ تعالى ـ أولى.

__________________

(١) سورة طه ٢٠ / ١٢٢.

(٢) ساقط من «أ».

(٣) سورة النور ٢٤ / ٦٣.

وأيضا قوله ـ عليه‌السلام ـ : «لو لا أن أشق على أمتى لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة» (١) دل على أن السواك غير مأمور به. وإن كان مندوبا بالإجماع ، وكذلك النهى ، فإنه لا يكون عندنا لغير التحريم.

ولهذا فإن الأمة لم تزل فى كل عصر ترجع فى إيجاب العبادات ، وتحريم المحرمات إلى الأوامر ، والنواهى. ويقضون بالإيجاب ، والتحريم بالأمر ، والنهى ويحتجون على المخالفين بذلك لا بالقرائن ؛ فدل على أن الأمر والنهى ، لا يكون لغير الإيجاب والتحريم.

وعند ذلك فيلزم من كون آدم مخالفا للأمر أو النهى أن يكون مذنبا مستحقا للوم ، والعقاب.

وإن سلمنا انقسام الأمر ، أو النهى إلى ما ذكروه. غير أن إخراجه من الجنة ، وسلبه لباسه كان عقوبة له.

وإنما قلنا : إن ذلك عقوبة لأنه مضر به ، وكل إضرار فهو عقوبة عرفا.

وإنما قلنا : إنه مضر به لأن كل عاقل يتضرر بسلب ما كان فيه من النعم كما يتضرر بحلول الآلام ، والأوجاع به. وربما كان ذلك عند المترفهين ، وأرباب المروات أعظم من الإضرار بالآلام.

ولهذا فإن كثيرا من العقلاء قد يتمنى الهلاك / عند زوال نعمته.

وإذا كان ذلك عقوبة له دل على صدور الإساءة ، والذنب عنه نظرا إلى أن العقوبة إنما تحسن عرفا فى حق المذنب دون من ليس بمذنب. كيف وأن العقوبة من غير سابقة ذنب عند الخصوم ظلم ، وقد قال تعالى (لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) (٢) ثم إن إطلاق لفظ المعصية عندهم على ما ليس بإساءة ولا ذنب من باب المجاز ، والحقيقة فى الإساءة ، ولا يخفى أن ترك الحقيقة ، والعدول إلى المجاز من غير دليل ممتنع.

__________________

(١) الحديث متفق على صحته أخرجه البخارى ومسلم فى صحيحيهما : أولا صحيح البخارى ٢ / ٤٣٥ ح رقم ٨٨٧.

(كتاب الجمعة ـ باب السواك يوم الجمعة). وأخرجه مسلم فى صحيحه كتاب الطهارة ـ باب السواك ١ / ٢٢٠ ح ٢٥٢.

(٢) سورة النساء ٤ / ٤٠.

قولهم : إن حمل الأمر على الندب ، والنهى على الكراهة متيقن بخلاف الإيجاب ، والحظر ؛ ليس كذلك.

فإن الواجب والمندوب / / وإن اشتركا فى أصل الأمر ؛ فليس الواجب مندوبا وزيادة حتى يكون الحمل على الندب متيقنا ؛ بل كل واحد منهما مختص بخاصية لا تحقق لها فى الآخر ، والمتيقن إنما هو القدر المشترك وهو الأمر.

وعند ذلك : فليس القول بوقوع الشك فى خاصية الواجب ، أولى من وقوعه فى خاصية الندب. وعلى هذا يكون الكلام فى النهى المشترك بين التحريم ، والكراهية ويدل على ما ذكرناه أنه أكد المعصية بالغى بقوله ـ تعالى ـ (فَغَوى).

قولهم : الغوى هو الخيبة ليس كذلك ؛ بل هو الجهل على ما قاله صاحب المجمل ، وقد قال مقاتل : الغوى هو الضلال عن طاعة الله ـ تعالى ـ وكل ذلك من أسماء الذم ؛ ولا ذم على ما لا يكون إساءة.

وعلى هذا فقد خرج الجواب عما ذكروه على الوجه الثانى من مخالفة النهى ويدل على ما ذكرناه تسميته ظالما.

قولهم : المراد منه أنه حرم نفسه ما كان بصدد تحصيله من الثواب بتقدير الطاعة.

قلنا : فيلزم منه أن يكون جميع الأنبياء ظلمة ؛ لأنه ما من نبى إلا ويجوز عليه ترك بعض المندوبات ويكون بذلك قد حرم نفسه الثواب الحاصل من فعله ؛ ولا يخفى ما فيه من البعد.

وإن سلمنا صحة إطلاق الظلم بهذا المعنى غير أنه مجاز فيه ، وحقيقة فى المعصية وفعل المحرم.

ولهذا فإنه لا يتبادر إلى الأفهام من إطلاق لفظ الظلم غير الإساءة والمعصية.

فلئن قالوا : إطلاق اسم الظلم على فعل المحرم يبطل بمن فسق ، وارتكب فعلا محرما ؛ فإنه لا يسمى ظالما ؛ فقد سبق جوابه فى الفصل العشرين من خلق الأعمال (١).

__________________

/ / أول ل ٩٤ / ب.

(١) انظر ل ٢٥٤ / أوما بعدها الجزء الأول ل ٢٥٤ / أوما بعدها.

ويدل على ما ذكرناه قوله ـ تعالى ـ (وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا) (١).

قولهم : المغفرة قد تطلق بمعنى الاصلاح مسلم ، غير أن المشهور من اللغة أن المغفرة مأخوذة من الغفر ، والغفر قال صاحب المجمل وغيره هو الستر. ومن المعلوم أنه لم يرد به ستر الطاعة وتغطيتها ، وإلا لما حسن قوله (لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) (١) فلم يبق إلا أن يكون المراد بع ستر الذنب وتغطيته ، ويدل على ما ذكرناه إطلاق / اسم التوبة عليه.

قولهم : التوبة بمعنى الرجوع.

قلنا : وإن كان كذلك إلا أن المتبادر من إطلاق لفظ التوبة إنما هو الندم على الذنب ومنه قوله ـ عليه‌السلام ـ «الندم توبة» (٢). فيكون لفظ التوبة ظاهرا فيه ، ولا يجوز العدول عن الظاهر إلى غيره من غير دليل.

الحجة الثانية :

قوله ـ تعالى ـ (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ١٨٩ فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٣).

__________________

(١) سورة الأعراف ٧ / ٢٣.

(٢) أخرجه ابن ماجة فى سننه. كتاب الزهد ـ باب ذكر التوبة ٢ / ٤٢٠ ح ٤٢٥٢ بنصه. «الندم توبة» وأخرجه الإمام أحمد فى مسنده. مسند عبد الله بن مسعود ١ / ٣٧٦. وأخرجه الحاكم فى المستدرك كتاب التوبة والإنابة ـ باب الندم توبة ٤ / ٢٤٣ وصححه الحاكم ووافقه الذهبى. وأخرجه الحميدى فى مسنده ـ مسند عبد الله بن مسعود ١ / ٥٨ ، ٥٩ ح ١٠٥.

(٣) سورة الأعراف ٧ / ١٨٩ ، ١٩٠.

ولمزيد من البحث والدراسة بالإضافة إلى ما ورد هاهنا :

انظر تفسير الكشاف للزمخشرى ٢ / ١٣٦ ، ١٣٧.

وتفسير الفخر الرازى ١٥ / ٨٩ ـ ٩٤ ، وتفسير القرطبى ٤ / ٢٧٧٣ ـ ٢٧٧٧

ومختصر تفسير ابن كثير ٢ / ٧٣ ، ٧٤ وصفوة التفاسير للصابونى ١ / ٤٨٦ و ٤٨٧ ط دار القرآن بيروت سنة ١٩٨١ م.

وتفسير المنار للإمام محمد عبده ـ محمد رشيد رضا ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب ٩ / ٤٣١ ـ ٤٣٨.

وشرح المواقف للجرجانى ـ الموقف السادس ص ١٤٠ ـ ١٤٢.

وشرح المقاصد للتفتازانى ٣ / ٣١٢.

ووجه الاحتجاج بالآية : أن المراد من قوله ـ تعالى (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) آدم ـ عليه‌السلام ـ ومن قوله ـ تعالى ـ (وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها) حواء ، والضمير فى قوله (جَعَلا) عائد إلى آدم وحواء ، لأنه لم يسبق ما يعود إليه ضمير التثنية غيرهما ، وقوله (لَهُ شُرَكاءَ) عائد إلى الله ـ تعالى ـ وذلك يدلّ على وقوع المعصية من آدم ، وهو إما أن يكون فى حالة النبوة أو قبلها. وعلى كل تقدير ؛ فهو خلاف مذهب الشيعة.

فإن قيل : أنتم وإن جوزتم الشرك على الأنبياء عقلا. فالإجماع منعقد منا ومنكم على امتناع ذلك فى حقهم سمعا.

وعند ذلك : فلا بد من التأويل ولنا فيه وجوه : ـ

الوجه الأول فى التأويل :

أن الضمير فى قوله ـ تعالى ـ (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ) غير عائد إلى آدم وحواء ؛ بل إلى الذكور والإناث من الكفار من ذريتهما. ويكون تقدير الكلام «فلما أتى الله آدم وحواء الوالد الصالح الّذي طلباه من الله عزوجل فى دعائهما ؛ جعل كفار أولادهما ذلك مضافا إلى غير الله تعالى». ويدل على صحة هذا التأويل قوله ـ تعالى ـ (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) فإنه يشعر بأن المراد بالتثنية فى قوله ـ تعالى ـ (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما) إنما هو الجمع من الجنسين ، من أولاد آدم وحواء.

فلئن قلتم : إذا كان الضمير فى قوله ـ تعالى ـ (فَلَمَّا تَغَشَّاها) وفى قوله ـ تعالى ـ (دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ). وفى قوله ـ تعالى ـ (فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً) عائد إلى آدم وحواء ، وجب أن يكون الضمير فى قوله ـ تعالى ـ : (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما) عائد إلى آدم وحواء ؛ حتى لا يكون الكلام مضطربا مختلفا.

وإن سلمنا : جواز الاختلاف فى عود الضمير فى الكلام ، غير أن شرط الضمير أن يعود إلى مذكور ، والمذكور إنما هو / / آدم وحواء دون أولادهما.

قلنا : أما الأول : فهو غير ممتنع ؛ لأن الفصيح المصقع قد ينتقل من خطاب إلى غيره ، ومن كتابة إلى خلافها ، ومنه قوله تعالى (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ٨ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) (١) ثم قال ـ تعالى ـ (وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ) يعنى الرسول ـ عليه‌السلام ـ ثم

__________________

/ / أول ل ٩٥ / أمن النسخة ب.

(١) سورة الفتح ٤٨ / ٨ ، ٩.

قال ـ تعالى ـ (وَتُسَبِّحُوهُ) يعنى مرسل الرسول / ـ عليه‌السلام ـ فالكنايات مختلفة وإن كان الكلام جملة واحدة ، ومنه قول الشاعر :

فدى لك ناقتى وجميع أهلى

وما لى إنه منه أتانى (١)

ولم يقل منك أتانى.

وأما الثانى : فلا نسلم عدم ذكر أولاد آدم وحواء ؛ بل إنهم مذكورون فى قوله ـ تعالى (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) (٢) إذ المراد به جميع أولاد آدم ، وإذا تقدم مذكوران ، وعقبا بضمير لا يليق بأحدهما وجب إضافته إلى من يليق به ، والشرك غير لائق بآدم ؛ فوجب عوده إلى الكفار من أولاده.

وإن سلمنا عدم ذكر الأولاد ، غير أن عود الضمير فى الكلام إلى ما ليس مذكورا غير ممتنع. ودل عليه قوله ـ تعالى ـ (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) (٣) يعنى الشمس ولم يسبق للشمس فى الكلام ذكر ، ومنه قول الشاعر :

لعمرك ما يغنى الثراء عن امرئ

إذا حشرجت نفس وضاق بها الصدر (٤)

والضمير فى حشرجت عائد إلى النفس وهى غير مذكورة.

الوجه الثانى فى التأويل :

أن الضمير فى قوله (جَعَلا لَهُ) غير عائد إلى الله ـ تعالى ـ بل هو عائد إلى إبليس.

وتحقيق ذلك أنه قد روى «أن حواء لمّا أثقل بها الحمل عند دنو ولادتها عرض لها إبليس فى غير صورته ، وقال لها يا حواء لعل ما فى بطنك بهيمة؟ فقالت : ما أدرى ، ثم انصرف عنها ، فلما ازداد ثقل الولد فى بطنها ، رجع إليها إبليس فقال لها : كيف تجدينك. فقالت : إنى أخاف أن يكون الّذي خوفتنى به ، فإنى لا أستطيع القيام إذا قعدت.

__________________

(١) والبيت جاء بدون نسبة فى الكامل ٢ / ٥٧.

(٢) سورة الأعراف ٧ / ١٨٩.

(٣) سورة ص ٣٨ / ٣٢.

(٤) القائل حاتم الطائى وهو فى ديوانه ص ١٩٩.

فقال لها : أرأيت إن دعوت الله أن يجعله إنسانا مثلك ، ومثل آدم أتسمينه باسمى ، وكان اسمه الحارث ـ قالت نعم ، ثم انصرف عنها.

فقالت لآدم : لقد أتانى آت يزعم أن الّذي فى بطنى بهيمة وإنى لأجد له ثقلا. وقد خفت أن يكون كما قال ، فجعلا يدعوان الله ـ تعالى ـ لئن آتيتنا صالحا : أى ولدا سويا فى الخلق لنكونن من الشاكرين.

فولدت ولدا سويا ، فجاءها إبليس وقال لها : لم لم تسميه باسمى كما وعدتنى؟

قالت : وما اسمك فقال : عبد الحارث ، فسمته عبد الحارث ، ورضى بذلك آدم ـ عليه‌السلام (١) ـ فمعنى قوله ـ تعالى ـ (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما) (٢) أى لإبليس فى اسمه ، حيث سموا ولدهم عبد الحارث ، ثم انقطع الكلام وقال (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) يعنى كفار مكة المذكورين فى أول الآية ، ولا يمتنع الانتقال من خطاب شخص إلى خطاب غيره ، كما ذكرناه من قوله ـ تعالى ـ (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً) (٣).

الوجه الثالث فى التأويل :

أن الضمير فى قوله (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ) عائد إلى الولد ، لا إلى الله ـ تعالى ـ ولا إلى إبليس ، ومعناه : أنهما طلبا من الله ـ تعالى ـ أمثالا للولد الصالح / الّذي آتاهما. وعلى هذا : فلا يمتنع أن يكون الضمير من أول الكلام إلى آخره عائدا إلى آدم وحواء.

وقوله (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) غير عائد إلى هذا الإشراك المذكور ، فإنه غير ممتنع أن يطلب منه ولدا صالحا بعد آخر ، وإنما المراد به الإشراك به ـ تعالى ـ ويكون الكلام منقطعا عن الأول كما سبق تحقيقه.

والجواب :

قولهم : الإجماع منا ومنكم منعقد على امتناع الشرك بالله ـ تعالى ـ على الأنبياء.

قلنا : فى حالة النبوة ، أو قبل النبوة.

__________________

(١) قارن بما ورد فى شرح المواقف ص ١٤٠ ـ ١٤٢.

(٢) سورة الأعراف ٧ / ١٩٠.

(٣) سورة الأحزاب ٣٣ / ٤٥.

الأول : مسلّم. والثانى ممنوع.

فإنا ذكرنا أن مذهب القاضى أبى بكر أن ذلك غير ممتنع عقلا ولا سمعا ، ولم يثبت أنه حالة إضافة الإشراك إليه كان نبيا. وإن سلمنا امتناع الشرك بالله ـ تعالى ـ على الأنبياء مطلقا.

غير أنه لم يرد بقوله (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ) فى الإلهية ؛ بل أراد به شركاء فى الطاعة له ، أى أنهما أطاعا إبليس فى تسمية ولدهما عبد الحارث على ما سبق تحقيقه فى التأويل الثانى.

وطاعة إبليس وإن لم تكن فى الشرك بالله ـ تعالى ـ فهى ذنب ، ومعصية ؛ فإنه لا يأمر بغير الشر والباطل.

قولهم : الضمير فى جعلا له شركاء عائد إلى الذكور والإناث من أولادهما الكفار.

قلنا : أولادهما وإن كانوا مذكورين ، غير أن التثنية غير مذكورة والأصل فى ضمير التثنية ، أن يعود إلى المذكور ، لا إلى غير المذكور ؛ إذ هو أبعد عن اللّبس والخلل.

وإن سلّمنا أن ضمير التثنية مذكور غير أن الأصل عود الضمير إلى أقرب مذكور.

/ / ولا يخفى أن آدم وحواء أقرب مذكور إلى الضمير من أولادهما ، فكان عوده إليهما أولى ، ولأن الضمير فى قوله ـ تعالى ـ (فَلَمَّا تَغَشَّاها) وفى قوله (دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما) وفى قوله (آتَيْتَنا صالِحاً) وفى قوله (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) وفى قوله (فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً) عائد إلى آدم وحواء. فكان عود الضمير فى قوله (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ) إلى آدم وحواء أولى ؛ إذ هو أقرب إلى ضبط الكلام ، وحفظه عن الخبط ، والتخليط وإن كان عوده إلى غيرهما جائز كما ذكروه. وقوله : (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) عائد إلى كفار مكة المذكورين فى أول الآية.

قولهم : فى التأويل الثانى : الضمير عائد إلى إبليس ، ومعناه : أنهما جعلا لإبليس شركاء فى اسمه ، حيث سميا ولدهما باسمه ؛ فهو ممتنع لوجهين :

__________________

/ / أول ل ٩٥ / ب.

الأول : أن اسم إبليس لم يكن عبد الحارث ؛ بل كان اسمه حارث فلم يكن التشريك فى اسمه واقعا.

الثانى : وإن كان ذلك تشريكا لإبليس فى اسمه ، غير أن إبليس غير مذكور فى الآية ، والرب ـ تعالى ـ مذكور فيها ، ولا يخفى أن عود الضمير إلى المذكور أولى من عوده إلى غير المذكور.

قولهم : فى التأويل الثالث : إن الضمير فى قوله (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ) عائد إلى الولد لا إلى الله ـ تعالى ـ على ما ذكروه ؛ فهو ممتنع لوجهين : ـ

الأول : أن طلب أمثال الولد الصالح ، لا يكون جعلا لشرك الولد ، فإن طلب الشيء ، غير جعل الشيء.

الثانى : أن المفهوم من قوله ـ تعالى ـ (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما) : [أى جعلا الشركاء لمن آتاهما] (١) الولد الصالح فى إتيان الولد لهما ، وليس / من آتاهما الولد هو الولد ، فيمتنع عود الشرك إليه.

الحجة الثالثة :

قوله ـ تعالى ـ (وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ ٤٥ قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) (٢).

ووجه الاحتجاج بالآية : أن الله ـ تعالى ـ كذّب نوحا (٣) فى قوله : (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) بقوله ـ تعالى ـ (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) فدل على كونه كاذبا والكذب عند الخصوم غير جائز على الأنبياء مطلقا ، لا بطريق العمد ولا السهو ولا التأويل.

__________________

(١) ساقط من «أ».

(٢) سورة هود ١١ / ٤٥ ، ٤٦ ولمزيد من البحث والدراسة بالإضافة إلى ما أورده الآمدي هاهنا انظر تفسير الكشاف للزمخشرى ٢ / ٢٧٢ ، ٢٧٣.

وتفسير الفخر الرازى ١٨ / ٣ ـ ٦ ، وتفسير القرطبى ٥ / ٣٢٧٣ ـ ٣٢٧٦.

ومختصر تفسير ابن كثير ٢ / ٢٢١ ، وصفوة التفاسير ٢ / ١٦ ، ١٧.

وتفسير المنار ١١ / ٦٩ ـ ٧٢ ، وشرح المقاصد للتفتازانى ٣ / ٣١٢.

(٣) نوح عليه‌السلام : هو نوح بن لامك بن متشولخ بن إدريس ؛ فإدريس ـ عليه‌السلام ـ جده الأكبر ، وينتهى نسبه إلى شيث ـ عليه‌السلام ـ ابن آدم ـ عليه‌السلام ـ ، وبينه وبين آدم ـ عليه‌السلام ـ أكثر من ألف عام روى البخارى عن ابن عباس أنه قال : «كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام».

وقد ورد ذكر (نوح) ـ عليه‌السلام ـ فى ثلاثة وأربعين موضعا من القرآن الكريم وذكرت قصته مفصلة فى القرآن فى كثير من السور منها : الأعراف ، وهود ، والمؤمنون ، والشعراء ، والقمر كما ذكر له سورة باسمه (سورة نوح) وكلها تشير إلى بعثته ورسالته وطريق دعوته ، وإلى ما لاقاه من قومه من جحود ، وعصيان وإلى صبره الطويل على الإيذاء. ـ

فإن قيل : إن البارى ـ تعالى ـ لم يكذبه فى دعواه أنه من أهله ، ومن نسبه ، وإنما نفى أن يكون من أهله الذين وعده الله ـ تعالى ـ بنجاتهم [على ما قاله ابن عباس] (١) لأنه ـ تعالى كان قد وعد نوحا بنجاة أهله مستثنى منهم من أراد الله تعالى ـ هلاكه بالغرق فى قوله ـ تعالى ـ (قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ) (٢) ويحتمل أن يكون المراد به على ما قاله بعض أهل التفسير (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) بمعنى «إن كفره أخرجه عن أن يكون حكمه كأحكام أهلك» ولهذا قال ـ تعالى ـ على طريق التعليل (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ).

وإن سلمنا أنه لم يكن ابنه ولا من أهله على الحقيقة ؛ لكن قال بعض المفسرين أنه ولد على فراشه ، وقول نوح : (ابْنِي مِنْ أَهْلِي) (٣) إنما كان بناء على الظاهر ، وما يقتضيه الحكم الشرعى. وقوله ـ تعالى ـ (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) ليس تكذيبا له فيما أخبر عنه فى ظاهر الشرع ؛ بل إخبارا له بالغيب الّذي لا يعلمه من خيانة امرأته له.

والجواب :

قولهم : لم يكذبه فى إخباره أن ابنه من أهله ، وإنما أخبره أنه ليس من أهله الذين وعده الله ـ تعالى ـ بنجاتهم.

قلنا :

قوله ـ تعالى ـ (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) إما أن يكون المفهوم منه مقابلا ومناقضا ، لما أخبر به نوح ، أو لا يكون كذلك.

__________________

وهو أول رسل الله إلى أهل الأرض ، ومن أولى العزم من الرسل عليهم‌السلام ، وهم خمسة (نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام).

وقد عاش نوح عليه‌السلام طويلا ، وعمر كثيرا ، وكان أطول الأنبياء عمرا ، وأكثرهم جهادا ؛ فدعا قومه ليلا ونهارا وسرا وجهارا مدة (٩٥٠ سنة) ألف سنة إلا خمسين عاما وهو الأب الثانى للبشرية بعد آدم عليه‌السلام قال تعالى (وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) سورة هود ١١ / ٤٨. فكل الخلائق ينسبون إلى أولاد نوح الثلاثة :

فسام هو أبو العرب ، وحام أبو الحبش ، ويافث أبو الروم يؤيده ما رواه أحمد عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه قال : «سام أبو العرب ، وحام أبو الحبش ويافث أبو الروم».

أما بقية البشر ؛ فقد هلك الكافرون بالطوفان ، وأعقم الله من نجا فى السفينة مع نوح وقد توفى نوح عليه‌السلام وعمره ١٣٥٠ سنة كما رواه بعض المؤرخين الذين تأثروا بما ورد فى التوراة. وهى أطول حياة عاشها إنسان وقد دفن بقرب المسجد الحرام بمكة على الراجح من الأقوال رحمه‌الله رحمة واسعة [قصص الأنبياء لابن كثير ص ٦٤ ـ ٩٧ والنبوة والأنبياء للصابونى ص ١٣٣ ـ ١٤٤].

(١) ساقط من «أ».

(٢) سورة هود ١١ / ٤٠.

(٣) سورة هود ١١ / ٤٥.

فإن كان مناقضا له : فهو تكذيب له.

وإن لم يكن مناقضا له : فسؤاله نجاته ذنب وسيئة ودليله أمران :

الأول : أنه نقل أهل التفسير أن الله ـ تعالى ـ عاتب نوحا فى ابنه بقوله ـ تعالى ـ (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) (١) فبكى نوح بعد عتابه على ذلك ثلاثمائة عام حتى صار تحت عينيه مثل الجدول من البكاء وقال (رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ) ـ بعد النهى ـ (ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) (٢).

وذلك يدل على سابقة الذنب ، والإساءة بسؤاله.

والثانى : أنه قال (وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٣) وذلك أيضا يدل على سابقة الجريمة فى سؤاله ، وعلى هذا : فقد خرج الجواب عما ذكروه من التأويل الثانى ، والثالث.

__________________

(١) «سورة هود» ١١ / ٤٦.

(٢) «سورة هود» ١١ / ٤٧.

(٣) سورة هود ١١ / ٤٧.

الحجة الرابعة :

قوله ـ تعالى ـ حكاية عن إبراهيم (١) ـ عليه الصلاة والسلام ـ :

(فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ ...) إلى قوله (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ) (٢).

ووجه الاحتجاج به : أنه لا يخلو : أنه قال ذلك معتقدا ، أو غير / / معتقد.

فإن كان الأول : فقد اعتقد إلها غير الله ـ تعالى ـ / وهو غير جائز عند الخصوم لا قبل النبوة ولا بعدها.

وإن كان الثانى : فقد كذب فى قوله (هذا رَبِّي) والكذب أيضا غير جائز عندهم على الأنبياء مطلقا.

فإن قيل : لا نسلم أنه بقوله : هذا ربى مخبرا ؛ ليكون كاذبا. وبيانه من وجهين :

الأول : أنه إنما ذكر ذلك على طريق الاستفهام. وإسقاط حرف الاستفهام جائز للاستغناء عنه.

__________________

(١) ابراهيم عليه‌السلام : هو ابراهيم بن تارح ، بن ناحور ، بن ساروغ وينتهى نسبه الى (سام بن نوح) وبينه وبين نوح عليه‌السلام أكثر من ألف عام وقد ورد فى القرآن الكريم أن اسم أبيه آزر ؛ وهذا هو الصحيح وقد ورد فى الحديث أيضا روى البخارى عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن والد ابراهيم هو (آزر) قال ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ :

«يلقى ابراهيم أباه (آزر) يوم القيامة ، وعلى وجه آزر قترة وغبرة (أى سواد وغبار) ... الخ الحديث فهذا الحديث نص على أن اسم أبيه آزر ؛ وهو الحق. قال تعالى : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ) سورة الأنعام ٦ / ٧٤.

وابراهيم عليه‌السلام هو أبو الأنبياء وهو عليه‌السلام من أولى العزم من الرسل ، وقد خص الله تبارك وتعالى ابراهيم عليه‌السلام بخصائص ومزايا فريدة ؛ فجعله أبا لمن أتى بعده من الأنبياء ، وإماما للأتقياء ، وقدوة للمرسلين وهو خليل رب العالمين. ابتلى بأنواع من الابتلاء ، وامتحن بضروب من الامتحان ؛ فصبر وكان فى أيمانه مثل الجبال الرواسخ ولم يتزعزع ولم يضطرب ابتلى ؛ فصبر. وانتصر فشكر ؛ فكان عبدا طائعا ؛ ولذلك اختاره الله خليلا (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً).

وقد عاش سيدنا ابراهيم ـ عليه‌السلام ـ مائة وخمسا وسبعين سنة على أصح الروايات ودفن فى مغارة (المكفلية) وهى فى البلدة التى سميت باسمه الخليل بفلسطين. مدينة الخليل الآن. رحمه‌الله رحمة واسعة.

[قصص الأنبياء لابن كثير ص ١٣٠ ـ ١٩١ والنبوة والأنبياء للصابونى ص ١٤٥ ـ ١٦٤].

(٢) سورة الأنعام ٦ / ٧٦ ـ ٧٨. ولمزيد من البحث والدراسة انظر : تفسير الكشاف للزمخشرى ٢ / ٣٠ ـ ٣١ ، وتفسير الرازى ١٣ / ٤٩ ـ ٦١ ، وتفسير القرطبى ٤ / ٢٤٦١ ـ ٢٤٦٤ ، ومختصر تفسير ابن كثير ١ / ٥٩٢ ـ ٥٩٣ ، ودقائق التفسير الجامع لتفسير ابن تيمية ت د. محمد السيد الجليند ط مؤسسة القرآن دمشق ـ بيروت. ٣ / ١١٢ ـ ١١٦ ، وتفسير المنار ٧ / ٤٦٣ ـ ٤٧٧ ، وشرح المواقف للجرجانى ـ الموقف السادس ص ١٤٢ ، وشرح المقاصد للتفتازاني ٣ / ٣١٢.

/ / أول ل ٩٦ / أ.

قال الأخطل (١) :

كذبتك عينك أم رأيت بواسط

غلس الظلام من الرباب خبالا

وقال ابن أبى ربيعة (٢) :

ثم قالوا تحبها قلت بهرا

عدد النجم والحصى والتراب

وقال غيره

فو الله ما أدرى وإنى لحاسب

بسبع رمين الجمر أم بثمان

وقد روى عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال فى قوله ـ تعالى ـ (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) (٣) هو «أفلا اقتحم العقبة».

الثانى : أنه ذكر ذلك على طريق الفرض ، والتقدير فى حالة نظره ، وفكره ؛ لينظر ما يؤدى إليه ذلك الفرض من صحة ، أو فساد ؛ فلا يكون بذلك مخبرا.

سلمنا أنه مخبر بقوله (هذا رَبِّي) لكنه لا يكون كاذبا فيه لوجهين :

الأول : أنه إنما أخبر بذلك على مذهب قومه ، واعتقادهم ، وتقديره هذا ربى على مذهبكم ، واعتقادكم.

__________________

(١) الأخطل : غياث بن الغوث بن الصلت بن طارقة ، من بنى تغلب ، أبو مالك شاعر فى شعره إبداع اشتهر فى عهد بنى أمية بالشام ، وأكثر من مدح ملوكهم. نشأ على المسيحية فى أطراف الحيرة بالعراق.

ولد سنة ١٩ ه‍ وتوفى سنة ٩٠ ه‍ وكانت إقامته طورا فى دمشق مقر الخلفاء وحينا فى الجزيرة حيث يقيم قومه بنو تغلب.

كانت بينه وبين جرير والفرزدق منافسة وهجا كل منهم الآخرين فتناقل الرواة أشعارهم. والبيت المذكور ورد فى ديوانه ١ / ١٠٥.

[الأغانى للأصفهانى طبعة دار الكتب ٨ / ٢٨٠ والأعلام للزركلى ٥ / ١٢٢].

(٢) عمر بن أبى ربيعة : عمر بن عبد الله بن أبى ربيعة المخزومى القرشى أبو الخطاب : أرق شعراء عصره ، من طبقة جرير والفرزدق ، ولم يكن فى قريش أشعر منه. ولد فى الليلة التى توفى بها عمر بن الخطاب فسمى باسمه.

وكان يفد على عبد الملك بن مروان ؛ فيكرمه ويقربه. ورفع إلى عمر بن عبد العزيز أنه يتعرض للنساء فى الحج ؛ ويشبب بهن فنفاه إلى (دهلك) ثم غزا فى البحر ؛ فاحترقت سفينته فمات فيها غرقا. له ديوان شعر مطبوع.

والبيت المذكور فى الديوان ص ٤٣١.

كتب عنه الكاتب الكبير عباس محمود العقاد [عمر بن أبى ربيعة شاعر الغزل]

ولد سنة ٢٣ ه‍ وتوفى سنة ٩٣ ه‍ [وفيات الأعيان لابن خلكان ١ / ٣٥٣ والأعلام للزركلى ٥ / ٥٢].

(٣) سورة البلد ٩٠ / ١١.

الثانى : أنه أخبر بذلك على ظن [فى حالة فكره ونظره ، ومن أخبر عن شيء فى حالة فكره ونظره] (١) ثم رجع عنه بالأدلة إلى الحق لا يوصف بكونه كاذبا ، ولا يعد ما أخبر به قبيحا.

والجواب :

قولهم : إنه ذكر ذلك بطريق الاستفهام :

قلنا : الأصل أن ما ورد على صورة الخبر أنه يكون خبرا ، فإن حمله على هذا الاستفهام يستدعى اضمارا فى الكلام لحرف الاستفهام. ولا يخفى أن الإضمار فى الكلام على خلاف الأصل ، وإنما يصار إليه لدليل ولا دليل.

ولا يمكن حمله على الاستفهام ؛ لنفى الكذب عنه ؛ لإفضائه إلى الدور من حيث أن يتوقف حمله على الاستفهام على إحالة الكذب عليه ، وإحالة الكذب عليه ، متوقفة على حمله على الاستفهام ؛ وهو محال.

وعلى هذا : فقد خرج الجواب عما ذكروه من التأويل الثانى.

قولهم : إنه أخبر بذلك على مذهب قومه ؛ فهو بزيادة إضمار فيما أخبر به ، والأصل عدمه ، إلا أن يدل الدليل عليه ، ولا دليل على ما سبق فى التأويل الأول.

قولهم : إنه أخبر بناء على ظنه.

قلنا : إذا كان ظانا أن الكواكب ربه ؛ فقد اعتقد فى حالة ظنه إلها غير الله ـ تعالى ـ وهو شرك لا محالة ، وإن لم يعد فى العرف كاذبا فى إخباره.

الحجة الخامسة :

قوله ـ تعالى ـ حكاية عن إبراهيم لما قال له قومه وقد كسر الأصنام بقوله ـ تعالى ـ (فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ ٦٢ قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) (٢).

__________________

(١) ساقط من أ.

(٢) سورة الأنبياء ٢١ / ٥٨ ـ ٦٣. ولمزيد من البحث والدراسة انظر من كتب التفسير والعقيدة.

تفسير الكشاف للزمخشرى ٢ / ٥٧٦ ـ ٥٧٨ ، وتفسير الفخر الرازى ٢٢ / ١٨٢ ـ ١٨٦. وتفسير القرطبى ٦ / ٤٣٣٧ ـ ٤٣٤٢ ، ومختصر تفسير ابن كثير ٢ / ٥١٢ ، ٥١٣. وشرح المواقف للجرجانى ـ الموقف السادس ص ١٤٣. وشرح المقاصد للتفتازانى ٣ / ٣١٢.

وعنى به أكبر أصنامهم ، وأضاف التكسير إليه ؛ فكان كاذبا فيه ، وذلك إمّا أن يكون قبل النبوة ، أو فى حالة النبوة. وعلى / كلا التقديرين فهو خلاف مذهب الخصم.

فإن قيل : لا نسلم أنه أضاف التكسير إلى الصنم ؛ بل المراد من قوله (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) نفسه ، لأن الإنسان أكبر من الأصنام.

وإن سلمنا أنه أضاف التكسير إلى الصنم ، لكن لا نسلم أنه أضاف إليه مطلقا ؛ بل معلقا بشرط وهو قوله (إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) ومعلوم أنهم لا ينطقون. ولا يخفى أنه يلزم من انتفاء الشرط ، انتفاء المشروط.

وإن سلمنا أنه أضاف التكسير إلى الصنم غير مشروط بالنطق فمعناه : أنه الحامل لإبراهيم على تكسير الأصنام لموضع غيظه منه ؛ بسبب ما رأى من تعظيم قومه له. والفعل كما يضاف إلى المباشر يضاف إلى الحامل عليه.

والجواب :

قولهم : لا نسلم أنه أضاف التكسير إلى الصنم.

قلنا : دليله قوله (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) الّذي على عنقه الفأس ؛ لأنه كان قد وضع الفاس الّذي كسّر به الأصنام ، على عنق الصنم وفهم القوم ذلك من إشارته. والأصل حمل اللفظ على ما هو صريح فيه ، ولا يجوز ترك ظاهر اللفظ من غير دليل.

قولهم : إنه أضاف التكسير إلى الصنم ، مشروطا بنطق الأصنام.

لا نسلم ذلك ؛ بل المشروط بنطقهم : إنما هو السؤال ، وهو قوله : (فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) (١).

قولهم : إنه أضاف التكسير إليه ؛ لأنه الحامل له على التكسير لموضع غيظه منه.

ليس كذلك ؛ لأن غيظه منه يجب أن يكون حاملا له على كسره لا على كسر غيره.

كيف وأن هذه التأويلات على / / خلاف ما روى الحسن عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه قال :

__________________

(١) سورة الأنبياء ٢١ / ٦٣.

/ / أول ل ٩٦ / ب.

«لم يكذب إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ غير ثلاث مرات وكلهن جادل بهنّ عن دينه وهى قوله (إِنِّي سَقِيمٌ) (١) وقوله (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) وقوله لسارة : هذه أختى لجبار رام أخذها (٢).

الحجة السادسة :

قوله ـ تعالى ـ حكاية عن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ :

(فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ ٨٨ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ) (٣).

ووجه الاحتجاج به : ما روى أهل التفسير أن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ كان من أهل بيت ينظرون فى النجوم. وكان إذا أراد أحدهم أمرا ، نظر إلى السماء فيقول : إنى أرى أنه يصيبنى كذا ، وكذا وكان ذلك معروفا من أهل بيته ، وأنه كان لقومه عيد يخرجون إليه ، ولا يخلفون بعدهم إلا مريضا ، فلما همّ إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ بكسر أصنام قومه ، نظر إلى السماء ليلة ذلك العيد ، وقال لأصحابه : إنى أرانى أشتكي غدا ، وذلك قوله ـ تعالى ـ (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ ٨٨ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ) : أى مريض وأنه أصبح من الغد معصوب الرأس ، لتتميم ما فى نفسه من كسر الأصنام ، وكان كاذبا فيه ، ويدل عليه قوله ـ عليه‌السلام ـ لم يكذب إبراهيم أكثر من ثلاث مرات على ما بيناه ، وبه درء / كل تأويل يقال هاهنا ، وذلك إما أن يكون فى حالة النبوة ، أو قبلها ؛ وعلى كلا التقديرين ؛ فهو حجة على الخصوم.

__________________

(١) سورة الصافات ٣٧ / ٨٩.

(٢) أخرجه البخارى فى صحيحه (كتاب الأنبياء ـ باب : واتخذ الله إبراهيم خليلا ٦ / ٤٤٧ ح رقم (٣٣٥٧) عن أبى هريرة ـ رضى الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «لم يكذب إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ إلا ثلاث كذبات والحديث رقم (٣٣٥٨) عن أبى هريرة رضي الله عنه قال : ولم يكذب إبراهيم عليه‌السلام ـ إلا ثلاث كذبات اثنتين منهن فى ذات الله عزوجل : قوله (إِنِّي سَقِيمٌ) وقوله (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) وقال : بينما هو ذات يوم وسارّة إذ أتى على جبار من الجبابرة ، فقيل له : إن هاهنا رجلا معه امرأة من أحسن الناس فأرسل إليه فسأله عنها فقال :

من هذه؟ قال : أختى ـ فأتى سارة قال : يا سارة ليس على وجه الأرض مؤمن غيرى وغيرك. وإن هذا سألنى عنك ؛ فأخبرته أنك أختى ؛ فلا تكذّبينى. فأرسل إليها.

فلما دخلت عليه ذهب يتناولها بيده فأخذ : فقال : ادعى الله لى ولا أضرك ؛ فدعت الله ؛ فأطلق ثم تناولها الثانية ؛ فأخذ مثلها ، أو أشد. فقال : ادعى الله لى ولا أضرك ؛ فدعت فأطلق. فدعا بعض حجبه فقال : إنكم لم تأتونى بإنسان ، إنما أتيتمونى بشيطان ، فأخدمها هاجر. فأتته وهو قائم يصلى ، فأومأ بيده : مهيم؟ قالت : رد الله كيد الكافر ـ أو الفاجر ـ فى نحره ، وأخدم هاجر. قال أبو هريرة : تلك أمكم يا بنى ماء السماء».

(٣) سورة الصافات ٣٧ / ٨٨ ، ٨٩. ولمزيد من البحث والدراسة انظر تفسير الكشاف للزمخشرى ٣ / ٣٤٤ ، وتفسير الفخر الرازى ٢٦ / ١٤٥ ـ ١٤٨. وتفسير القرطبى ٨ / ٥٥٣٦ ـ ٥٥٤٠ ، ومختصر تفسير ابن كثير ٣ / ١٨٤ ، ١٨٥.

وشرح المواقف للجرجانى ـ الموقف السادس ص ١٤٣ ـ ١٤٤. وشرح المقاصد للتفتازانى ٣ / ٣١٢.

الحجة السابعة :

قوله ـ تعالى ـ حكاية عن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ :

(رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) (١).

ووجه الاحتجاج به : أنه لا يخلو : إما أن يكون مطمئنا بأن الله ـ تعالى ـ يقدر على إحياء الموتى ، أو لا يكون مطمئنا بذلك.

لا جائز أن يكون مطمئنا وإلا لما حسن قوله (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) ؛ فإن طلب تحصيل الحاصل محال.

وإن لم يكن مطمئنا بذلك : فهو شاك متردد فى قدرة الله ـ تعالى ـ على إحياء الموتى ، والشك فى ذلك عند الخصوم غير جائز على الأنبياء مطلقا قبل النبوة ، وفى حالة النبوة.

كيف وأن ذلك إنما كان فى حالة نبوته على ما نقله الرواة.

فإن قيل : إن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ لم يكن شاكا فى قدرة الله ـ تعالى ـ على إحياء الموتى ، ولا فى الآية دلالة على ذلك ؛ بل سؤاله يحتمل وجوها :

الأول : أنه سأل تكثير الدلائل ؛ ليكون أبعد عن اعتراض الشبه ، وأنقى للخواطر والوساوس.

الثانى : أنه روى جعفر (٢) الصادق أن الله ـ تعالى ـ أوحى إلى إبراهيم أننى أتخذ إنسانا خليلا ، وعلامته أنى أحيى الموتى بسبب دعائه ؛ فوقع فى نفسه أنه ذلك الخليل ؛ فسأل الله ـ تعالى ـ ذلك ؛ ليطمئن قلبه أنه الخليل.

__________________

(١) سورة البقرة ٢ / ٢٦٠ ولمزيد من البحث والدراسة راجع ما يلى

تفسير الكشاف للزمخشرى ١ / ٣٩١ ، ٣٩٢ ، وتفسير الرازى ٨ / ٤٠ ـ ٤٦.

وتفسير القرطبى ٢ / ١١٠٥ ـ ١١١٠ ، ومختصر تفسير ابن كثير ١ / ٢٣٦.

وقصص الأنبياء لابن كثير ص ١٤٤ ـ ١٤٧.

وقارن بما ورد فى شرح المواقف ـ الموقف السادس ص ١٤٢ ، ١٤٣.

(٢) راجع عنه ما سبق فى هامش ل ١٤٨ / ب.

الثالث : أنه لما قال النمرود (١) بن كنعان لإبراهيم ـ عليه‌السلام ـ أنت تزعم أن ربك يحيى الموتى ، وأنه قد أرسلك إلى تدعونى إلى عبادته ؛ فاسأله أن يحيى لنا ميتا إن كان قادرا على ذلك. وإن لم يفعل قتلتك.

فيحتمل أن يكون قد سأل الله إحياء الموتى ؛ ليطمئن قلبه ويأمن من القتل. لا ليطمئن قلبه بقدرة الله ـ تعالى ـ على إحياء الموتى ، ولا أنه كان شاكا فى ذلك.

الرابع : أنه يحتمل أن يكون قد سأل ذلك لأجل قومه ؛ لدفع الشك والشبه عنهم ، ويكون معنى قوله : «ليطمئن قلبى من جهة قومى».

والجواب :

قولهم : إنما سأل تكثير الدلائل ؛ لقصد دفع الشبه.

قلنا : إما أن يكون عالما متيقنا بقدرة الرب على إحياء الموتى ، أو لا يكون متيقنا لذلك.

فإن كان الأول : فعروض الشبه ، والتشكيكات ممتنع. وإن كان الثانى : فهو المطلوب.

وما ذكروه عن جعفر الصادق ؛ فلا نسلم صحة نقله.

وما ذكروه من التأويل الثالث : فهو بعيد ؛ لأنه لو كان المقصود ما ذكروه ، لقال إبراهيم كيف تحيى الموتى ، ولم يقل أرنى إذ لا يلزم من رؤيته لذلك رؤيتهم. ولا يكون محذور القتل عنه مندفعا.

وما ذكروه من التأويل الرابع : فبعيد أيضا ، وإلا لقال إبراهيم [أرهم] (٢) ولم يقل أرنى.

__________________

(١) النمرود بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح. وقد ذكر ابن كثير قصته مع سيدنا إبراهيم عليه‌السلام. قال مجاهد وغيره : وكان أحد ملوك الدنيا. وبقى النمرود فى ملكه أربعمائة سنة. ومناظرته مع سيدنا إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ ذكرت فى القرآن الكريم بالتفصيل. وقد ذكر السدى أن هذه المناظرة كانت بين إبراهيم وبين النمرود يوم خرج من النار ، ولم يكن اجتمع به يومئذ ؛ فكانت بينهما هذه المناظرة.

[قصص الأنبياء لابن كثير ص ١٤٤ ـ ١٤٧].

(٢) ساقط من «أ».

كيف وأن ما ذكروه من هذه التأويلات فعلى خلاف ما روى أهل التفسير. فإنهم رووا. أن سبب سؤال إبراهيم / لذلك أنه مرّ بحوت ميت ، نصفه فى البحر ، ونصفه فى البر. ودواب البر والبحر تأكل منه ؛ فأخبر الشيطان باله استبعاد رجوع ذلك حيا مؤلفا مع تفرق أجزائه ، وانقسام أعضائه فى بطون حيوانات البر والبحر ؛ فسأل الله ـ تعالى ـ ما تضمنته الآية الكريمة.

الحجة الثامنة :

قوله ـ تعالى ـ حكاية عن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ :

(وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) (١).

أثبت أن له خطيئة : وصرح بها ، وهو إما أن يكون قد اقترفها فى حال النبوة ، أو قبلها ، وعلى كلا التقديرين ؛ فهو / / حجة على الخصوم.

الحجة التاسعة :

قوله ـ تعالى ـ حكاية عن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) (٢).

ووجه الاحتجاج به : أنه لا يخلو : إما أن تكون عبادة الأصنام عليه جائزة عقلا ، أو غير جائزة.

فإن كان ذلك غير جائز : فلا معنى لطلب دفع ما هو ممتنع الوقوع عقلا.

وإن كان جائزا : فهو خلاف مذهبهم فى امتناع وقوع الكفر من الأنبياء عقلا. وسواء كان فى حال النبوة أو قبلها.

__________________

(١) سورة الشعراء ٢٦ / ٨٢. ولمزيد من البحث والدراسة راجع من كتب التفسير ما يلى : تفسير الكشاف للزمخشرى ٣ / ١١٨.

وتفسير الرازى ٢٤ / ١٤٣ ـ ١٤٦ ، وتفسير الطبرى ٧ / ٤٨٢٦ ـ ٤٨٢٨.

ومختصر تفسير ابن كثير ٢ / ٦٥٠.

/ / أول ل ٩٧ / أ.

(٢) سورة إبراهيم ١٤ / ٣٥. ولمزيد من البحث والدراسة راجع ما يلى : تفسير الكشاف للزمخشرى ٢ / ٣٧٩ ، وتفسير الرازى ٢٠ / ١٣٣ ـ ١٣٧. وتفسير القرطبى ٥ / ٣٥٩٧ ، ومختصر تفسير ابن كثير ٢ / ٣٠١.

الحجة العاشرة :

قوله ـ تعالى ـ حكاية عن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ) (١).

ووجه الاحتجاج من هذه الآية : كوجه الاحتجاج من التى قبلها.

الحجة الحادية عشر :

قوله ـ تعالى ـ حكاية عن يوسف (٢) ـ عليه‌السلام ـ وامرأة العزيز :

(وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها) (٣).

ووجه الاحتجاج بهذه الآية : أنه وصفه بالهم بها ، والهم بالشيء فى اللغة : هو العزم عليه. ومنه قوله ـ تعالى ـ (إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) (٤).

__________________

(١) سورة إبراهيم ١٤ / ٤٠. ولمزيد من البحث والدراسة بالإضافة إلى ما ورد هاهنا.

انظر : تفسير الكشاف للزمخشرى ٢ / ٣٨١ ، ٣٨٢ ، وتفسير الرازى ٢٠ / ١٣٨ ـ ١٤٣.

وتفسير القرطبى ٥ / ٣٦٠٤. ، ومختصر تفسير ابن كثير ٢ / ٣٠٢.

(٢) يوسف عليه‌السلام : هو (يوسف بن يعقوب بن اسحاق بن إبراهيم) عليهم‌السلام وهو من الرسل الكرام الذين يجب الإيمان بهم تفصيلا فهو رسول ابن رسول وجده رسول وجد أبيه رسول وصفه الحق تبارك ـ وتعالى ـ بقوله :

(إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) سورة يوسف ١٢ / ٢٤. كما أثنى عليه سيدنا محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله :

(إنّ الكريم بن الكريم بن الكريم : يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم) رواه البخارى.

وقد ورد ذكره فى القرآن الكريم فى ٢٦ آية ، منها ٢٤ فى سورة يوسف ، وآية فى الأنعام وآية فى سورة (غافر). وقد وصفه الله ـ تعالى ـ بالصديقية ولهذا يسمى (يوسف الصديق) وقصته مع اخوته وما حدث له بعدها فى مصر حتى وصوله إلى حكم مصر مشهورة تحدث عنها القرآن الكريم بالتفصيل فى سورة سميت باسمه عليه‌السلام وقد تحدث المفسرون وعلماء التوحيد عن يوسف عليه‌السلام وما جرى له وما أثير حوله من الإسرائيليات وردوا على هذا الشبه بالتفصيل.

قال المؤرخون : ولما اجتمع يوسف بأبيه بعد الفراق كان عمر يعقوب ١٣٠ سنة ، ثم توفى يعقوب بعد أن مكث فى مصر سبعة عشر عاما ودفن فى مقبرة جده إبراهيم عليه‌السلام وقد عاش سيدنا يوسف ١١٠ من السنين (مائة وعشرا) ومات فى مصر وهو فى الحكم ودفن بها. وقد طلب من ربه جل وعلا حين دنا أجله (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) سورة يوسف ١٢ / ١٠١ وقد استجاب الله دعاءه وسجله فى كتابه الكريم. رحمه‌الله رحمة واسعة.

[قصص الأنبياء لابن كثير ص ٢٢٨ ـ ٢٦٧ ، والنبوة والأنبياء للصابونى ص ٢٤٩ ـ ٢٥٩].

(٣) سورة يوسف ١٢ / ٢٤ ولمزيد من البحث والدراسة راجع ما يلى : تفسير الكشاف للزمخشرى ٢ / ٣١١ ، ٣١٢ وتفسير الرازى ١٨ / ١١٧ ـ ١٢٣. وتفسير القرطبى ٥ / ٣٣٩١ ـ ٣٣٩٩ ، ومختصر تفسير ابن كثير ٢ / ٢٤٦.

ودقائق التفسير لابن تيمية ٣ / ٢٧٢ ، ٢٧٣. وتفسير المنار للشيخ محمد عبده ١٢ / ٢٢٧ ـ ٢٣٦ مسألة المراودة والهم والمطاردة. وقصص الأنبياء لابن كثير ص ٢٣٨ ـ ٢٤٠.

(٤) سورة المائدة ٥ / ١١.

قال أهل التفسير : أراد بذلك أنهم عزموا عليه وأرادوه.

ومنه قول الشاعر :

هممت ولم أفعل وكدت وليتنى

تركت على عثمان تبكى حلائله (١)

والمراد به : عزمت.

وقال حاتم الطائى (٢) :

ولله صعلوك تساور همه

ويمضى على الأيام والدهر مقبلا

وأراد به تساور عزمه.

ولأن المتبادر إلى الفهم من قول القائل «هم فلان بكذا» أنه عزم عليه.

وعلى هذا : فيكون معنى قوله ـ تعالى ـ (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَ) (٣) العزم على الفاحشة ، والعزم على الفاحشة حرام ومعصية ، وذلك إما أن يكون قد وقع فيه قبل النبوة ، أو فى حالة النبوة. وعلى كل حال ؛ فهو خلاف مذهب الخصوم.

فإن قيل : وإن سلمنا أن الهم قد يطلق بمعنى العزم ، غير أنه قد يطلق أيضا على حضور الشيء بالبال ، من غير عزم عليه ، ويدل عليه قوله ـ تعالى ـ (إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا) (٤) ولم يرد به العزم على الفشل ؛ لأنه معصية وقد قال ـ تعالى ـ (وَاللهُ وَلِيُّهُما) والله ـ تعالى ـ لا يكون ولىّ العاصى. ومن عزم على الفرار / من نصرة نبيه ـ عليه‌السلام ـ ويدل على ذلك أيضا قول كعب بن زهير :

__________________

(١) القائل هو عمير بن ضابئ البرجمى التميمى ، شاعر من سكان الكوفة ، كان أبوه قد مات فى سجن عثمان بن عفان ـ رضى الله عنه ؛ لقتله صبيا بدابته ، ولهجائه قوما من الأنصار ـ وكان عميرا هذا ممن دخل على عثمان ـ رضى الله عنه ـ يوم مقتله ، ووطئه برجله. وعلم الحجاج الثقفى بعد ذلك بما حدث منه ـ وهو فى الكوفة ـ فأمر به فضربت رقبته سنة ٧٥ ه‍ وانهب ماله [تاريخ الطبرى ٦ / ٢٠٧ والكامل لابن الأثير ٣ / ١٤٦ والأعلام للزركلى ٥ / ٨٩].

(٢) انظر عنه ما سبق فى هامش ل ١٦٤ / أ.

(٣) سورة يوسف ١٢ / ٢٤.

(٤) سورة آل عمران ٣ / ١٢٢.

فكم فيهم من سيّد متوسّع

ومن فاعل الخيرات إن همّ أو عزم (١)

فرّق بين الهم والعزم ؛ وهو دليل الافتراق فى المعنى.

وقد يطلق الهمّ بمعنى المقاربة ، ومنه يقال همّ فلان بكذا وكذا : أى قارب أن يفعله ، فقد قال ذو الرمة :

أقول لمسعود بجرعاء مالك

وقد همّ دمعى أن تلجّ أوائله (٢)

وصف الدّمع بالهم ، وأراد به أنه قارب أن يخرج ، لاستحالة العزم على الدّمع.

وقد يطلق الهمّ بمعنى الشهوة ، وميل الطبع ، ولهذا يصح أن يقول القائل : «هذا الشيء من همّى : أى مشتهى لى» وهذا ليس من همّى ، أو هو غير مشتهى لى».

وعلى هذا فليس القول بحمل الهمّ (٣) فى الآية على العزم أولى من غيره من الاحتمالات ، وليس فى باقى الاحتمالات غير العزم معصية.

سلمنا أن الهمّ فى الآية بمعنى العزم ، غير أن ما به الهمّ فى الآية ليس هو نفس ذاتها ؛ لأن الذّوات حالة بقائها لا تتعلق الإرادة بها ؛ بل بفعل فى ذاتها ، وهو غير معين ، ولا مذكور.

وعند ذلك : فليس حمل الهمّ على الفاحشة ، أولى من حملة على غيرها من ضرب امرأة (٤) العزيز ، ودفعها عن نفسه ، أو غير ذلك من ضروب الأفعال التى ليست معصية.

__________________

(١) ديوان كعب بن زهير ص ٧١. وهو كعب بن زهير بن أبى سلمى المازنى ، شاعر من أهل نجد اشتهر فى الجاهلية. ولما ظهر الإسلام هجا النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وأقام يشبب بنساء المسلمين ؛ فهدر النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ دمه ؛ فجاءه كعب مستأمنا وقد أسلم ، وأنشده لاميته المشهورة التى مطلعها بانت سعاد فعفا عنه النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وخلع عليه بردته. توفى سنة ٢٦ ه‍. [الأعلام للزركلى ٥ / ٢٢٦ ، معجم المؤلفين ٨ / ١٤٤].

(٢) ديوان ذى الرمة ٢ / ١٢٤٥ واسمه : غيلان بن عقبة بن نهيس بن مسعود بن حارثة المضرى ويلقب بذى الرمة ، كان شديد القصر دميما ، وكان مقيما بالبادية توفى بأصبهان سنة ١١٧ ه‍ [تاريخ الاسلام للذهبى ٣ / ٢٤٧ ، ٢٤٨ ، معجم المؤلفين ٨ / ٤٤].

(٣) ورد فى المعجم الوسيط (باب) الهاء. (همّ) بالأمر ـ همّا : عزم على القيام به ولم يفعله و ـ لنفسه : طلب واحتال.

و ـ الأمر فلانا : أقلقه وأحزنه.

(٤) امرأة العزيز : واسمها : (راعيل) بنت رمايل ، وقيل : كان اسمها : (زليخا) والظاهر أنه لقبها ، وقيل : (فكا) بنت ينوس. وكانت بنت أخت الملك الريان بن الوليد صاحب مصر ، وقيل : إن يوسف عليه‌السلام تزوجها بعد موت زوجها ؛ فوجدها عذراء ؛ لأن زوجها كان لا يأتى النساء فولدت له رجلين هما : أفرايم ومنسا. [قصص الأنبياء لابن كثير ص ٢٣٧ ـ ٢٥١].

سلمنا أن الهمّ كان بالمعصية ، والزنا ، غير أن الكلام فيه تقديم ، وتأخير وتقديره «ولقد همت به لو لا أن رأى برهان ربه لهمّ بها ، وليس فى ذلك ما يدل على وقوع العزم على الزنا.

وإن سلمنا دلالة ما ذكرتموه على العزم على الزنا غير أن معنا ما يدل على عدمه ، ودليله قوله ـ تعالى ـ (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ) (١) وأيضا قوله ـ تعالى ـ حكاية عن يوسف ـ عليه‌السلام ـ (ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) (٢) يعنى العزيز ، ولو كان قد عزم على المعصية ؛ لكان خائنا له.

وأيضا قوله ـ تعالى ـ حكاية عن امرأة العزيز (وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ) (٣).

وأيضا : قول العزيز (٤) لما رأى القميص قد قد من دبر (إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَ) (٥) أضاف الكيد إليها.

وأيضا قوله (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ ٣٣ فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَ) (٦) وذلك يؤذن ببراءته من كل معصية.

وأيضا قوله ـ تعالى ـ (قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ) (٧).

والجواب :

قولهم : إن الهمّ قد يطلق بمعنى خطور الشيء بالبال من غير عزم عليه.

__________________

(١) سورة يوسف ١٢ / ٢٤.

(٢) سورة يوسف ١٢ / ٥٢.

(٣) سورة يوسف ١٢ / ٣٢.

(٤) العزيز : هو اطفير بن روحيب قال ابن إسحاق : وكان ملك مصر يومئذ الريان بن الوليد ، رجل من العماليق.

وقال ابن إسحاق عن أبى عبيدة عن ابن مسعود قال : أفرس الناس ثلاثة : عزيز مصر حين قال لامرأته : (أَكْرِمِي مَثْواهُ) وكان رجلا عاقلا قال ليوسف بعد ما حدث من امرأته (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا) وطالب امرأته بالاستغفار من ذنبها ـ وبعد موت اطفير تولى يوسف عليه‌السلام وظيفته وتزوج امرأته.

[قصص الأنبياء لابن كثير ص ٢٣٧ ـ ٢٥١].

(٥) سورة يوسف ١٢ / ٢٨.

(٦) سورة يوسف ١٢ / ٣٣ ، ٣٤

(٧) سورة يوسف ١٢ / ٥١.

قلنا : قد بيّنا أن الهمّ عبارة عن العزم بما ذكرناه.

وأما الآية فلا نسلم أن المراد بالهمّ فيها على الفشل غير العزم ؛ إذ هو غير ممتنع عليهم بالإجماع.

وقوله ـ تعالى ـ (وَاللهُ وَلِيُّهُما) (١) غير مناف للمعصية من الطائفتين ، وإلا كانوا معصومين عن الذنوب ؛ وهو خلاف الإجماع منا ، ومن الخصوم.

وقولهم : إنه قرن / الشاعر بين الهم ، والعزم

قلنا : لفظا ، أو معنى ـ الأول : مسلم ، والثانى : ممنوع.

فلئن قالوا : فيلزم / / مما ذكرتموه الترادف فى الألفاظ ، والأصل عند اختلاف الألفاظ ؛ اختلاف معانيها.

قلنا : ويلزم من اختلاف المعنى ، أن يكون لفظ الهمّ مشتركا فى مدلولاته ، أو مجازا فى بعضها. حيث قبل إطلاقه بإزاء العزم وخطور الشيء بالبال. وكل واحد من الأمرين على خلاف الأصل أيضا. وعند التعارض ، يسلم لنا ما ذكرناه من دليل إطلاق الهمّ بإزاء العزم.

وإن سلمنا صحة إطلاق الهمّ : بمعنى خطور الشيء بالبال ، غير أنه حقيقة فيما ذكرناه ، بدليل تبادره إلى الفهم من إطلاق اللّفظ على ما سبق. ويلزم أن يكون مجازا فيما عداه ، وإلا كان لفظ الهم مشتركا ، وكل واحد منهما وإن كان على خلاف الأصل ؛ لكونه مخلا بالتفاهم المقصود من وضع الألفاظ من جهة توقف فهم المدلول منها على القرائن المضطربة ، غير أن محذور ذلك فى الاشتراك ، أعظم منه فى التجوز ؛ للزوم ذلك فى اللّفظ المشترك دائما وفى جميع محامله ، بخلاف المجاز ؛ حيث أنه لا يفتقر إلى القرينة فى جميع محامله ، ولا دائما ، ولذلك كان استعمال أهل اللغة للألفاظ المجازية أكثر من استعمالهم للألفاظ المشتركة. ولو لا أنها أو فى بتحصيل مقصودهم ؛ لما كان كذلك.

__________________

(١) سورة آل عمران ٣ / ١٢٢.

/ / أول ل ٩٧ / ب.

ووجه التجوّز : أنه لمّا كان خطور الشيء بالبال قد يفضى إلى العزم عليه فى الأكثر سمّى باسم ما يؤول إليه : كما فى قوله ـ تعالى (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) (١) ونحوه ، وإذا ثبت أنه حقيقة فى العزم ، مجاز فى غيره ؛ فيمتنع ترك الحقيقة من غير دليل.

وعلى هذا يكون الجواب عما ذكروه من الاحتمال الثانى والثالث.

قولهم : سلمنا أن الهمّ عبارة عن العزم ، غير أنّ المعزوم عليه غير معين ، فأمكن حمله على دفعها ، أو ضربها ؛ فهو ممتنع لوجوه أربعة :

الأول : أنه لو أراد به العزم على غير المعصية مما يكون دافعا للمعصية لم يكن فى قوله ـ تعالى ـ (لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) (٢) فائدة. إذ البرهان لا يكون صارفا عنه ، وكل ما يقال فى ذلك من الاحتمالات ؛ فبعيدة عن مذاق العقول ؛ فلا يمكن الحمل عليه.

الثانى : هو أن الكلام فى قوله ـ تعالى ـ (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها) خرج مخرجا واحدا ، وذلك مشعر باتحاد المفهوم منها نظرا إلى سياق الكلام.

والهمّ فى حقهما محمول على العزم على الزنا ؛ فكذلك فى حقه. ولا يصار إلى خلاف ما يظهر من اللفظ إلا لدليل ؛ ولا دليل.

الثالث : هو أن لفظ الهمّ بالمرأة ظاهر يعرف الاستعمال فى الوطء ، لا فى غيره من الأفعال ، ولهذا فإنه لو قال القائل : همّ فلان بفلانة ؛ فإنه لا يتبادر إلى / الفهم منه غير الاهتمام بوطئها.

الرابع : قال ابن عباس (٣) فى معنى قوله (وَهَمَّ بِها) أنه حلّ هميان سراويله وجلس منها مجلس الخائن ، وقال مجاهد (٤) «أما همّها به أنها استلقت له. وأمّا همّه بها : أنه قعد بين رجليها ، ونزع ثيابه.

__________________

(١) سورة الزمر ٣٩ / ٣٠.

(٢) سورة يوسف ١٢ / ٢٤.

(٣) سبقت ترجمته فى هامش ل ١٤٩ / ب.

(٤) مجاهد بن جبر : أبو الحجاج المكى ، مولى بنى مخزوم. مفسر ، تابعى من أهل مكة قال عنه الذهبى : شيخ القراء والمفسرين. أخذ التفسير عن ابن عباس ، قرأه عليه ثلاث مرات ، يقف عند كل آية يسأله : فيم نزلت وكيف كانت؟ ولد سنة ٢١ ه‍ وتوفى سنة ١٠٤ ه‍ [صفة الصفوة لابن الجوزى ١ / ٣٩٣ ـ ٣٩٥ وميزان الاعتدال ٣ / ٩].

قولهم : فى الكلام تقديم ، وتأخير على ما ذكروه ؛ فهو ممتنع لوجهين :

الأول : أنه يلزم مما ذكروه تقديم جواب لو لا عليها ، وهو غير جائز. ولهذا فإنه لا يحسن أن يقال : قام زيد لو لا عمرو ، وقصدتك لو لا بكر.

الثانى : هو أن جواب لو لا يكون إلا باللام ، كما فى قوله ـ تعالى : (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ١٤٣ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (١) كيف وأن ما ذكروه يوجب دفع همه بها ، وهو خلاف ما نقله أرباب التفاسير.

فإن قيل : لو لم يكن قوله وهمّ بها جوابا لقوله (لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) لكان جواب لو لا محذوفا ، وليس القول بامتناع تقديم جواب لو لا عليها ، أولى من امتناع حذف جوابها.

قلنا : ليس كذلك ؛ فإن حذف الجواب جائز فى اللغة ، وقد ورد به القرآن ، وشعر العرب.

أما القرآن : فقوله ـ تعالى ـ (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (٢) معناه : ولو لا فضل الله عليكم لهلكتم ، أو غير ذلك.

وأما الشعر : فقول امرئ القيس :

فلو أنها نفس تموت جميعة

ولكنها نفس تساقط أنفسا (٣)

وأراد فلو أنها نفس تموت لعيب غير أنه حذف الجواب اعتمادا على اقتضاء الكلام له. ولم يصح ورود تقديم جواب لو لا عليها ؛ فكان ممتنعا.

وعلى هذا : فجواب (لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) (٤) المحذوف : لزنا بها.

قولهم : معنا ما يدل على عدم ذلك ممنوع ، وقوله ـ تعالى : (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ) (٥) فالمراد به ما سوى الهمّ بها وإلا كان جواب لو لا متقدما عليها ، ومن غير لام ؛ وهو ممتنع كما سبق.

__________________

(١) سورة الصافات ٣٧ / ١٤٣ ، ١٤٤.

(٢) سورة النور ٢٤ / ٢٠.

(٣) ديوان امرئ القيس ص ١٠٧. سبقت ترجمته.

(٤) سورة يوسف ١٢ / ٢٤.

(٥) سورة يوسف ١٢ / ٢٤.

كيف وأن ما ذكرناه يدل على الهمّ بها بخصوصه ، وما ذكروه يدل على / / نفيه بعمومه.

ولا يخفى أن دلالة الخاص ، مقدمة على دلالة العام من حيث أنه يلزم من العمل بعموم العام ، إبطال دلالة الخاص ، ولا يلزم من العمل بالخاص ، إبطال دلالة العام بالكلية. والجمع بين الأدلة أولى من تعطيل الواحد منها ، والعمل بعموم الآخر.

وقوله : (لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) (١) ليس هو كلام يوسف ؛ بل هو كلام امرأة العزيز.

ولهذا وقع مسبوقا على كلامها. حيث قال (قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ٥١ ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ / بِالْغَيْبِ) (٢) والضمير فى أخنه عائد إلى يوسف دون زوجها ؛ لأن زوجها قد خانته فى الحقيقة بالغيب. وقول امرأة العزيز (وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) يعنى فى ادعائه عدم مراودته لها ، وليس فى ذلك ما يدل على عدم همّه بها.

وقوله (إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَ) يعنى بذلك المراودة ، ولا شك أنها لم توجد من يوسف عليه‌السلام.

وقوله (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) يعنى الزنا. فإنه هو الّذي دعى إليه.

وقوله (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَ) يعنى الوقوع فى الزنا.

وقوله (فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَ) : يعنى الوقوع فى الزنا. وليس فى ذلك ما يدل على عدم همه بها.

وقول نساء المدينة (حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ) (٣) ليس فيه ما يدل على عدم الهم بها ، والعزم عليها فى نفس الأمر.

__________________

/ / أول ل ٩٨ / أ.

(١) سورة يوسف ١٢ / ٥٢.

(٢) سورة يوسف ١٢ / ٥١ ، ٥٢.

(٣) سورة يوسف ١٢ / ٥١.

الحجة الثانية عشرة :

قوله ـ تعالى ـ حكاية عن يوسف ، وأبويه ، وأخوته :

(وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) (١).

ووجه الاحتجاج به : أن يعقوب (٢) سجد ليوسف ، ويوسف رضى بسجود أبويه وإخوته له ، والسّجود لغير الله معصية ؛ ففعله معصية ؛ فيكون يوسف عاصيا ، وكان نبيا. والرضى به معصية ؛ لأن الرضى بالمعصية معصية ؛ فيكون يوسف عاصيا. وكان نبيا.

فإن قيل : يحتمل أن يكون المراد من ذلك : أنهم سجدوا لله شكرا من أجله ؛ حيث رأوه على أكمل حالة من الرفعة فى الدنيا ، والأخرى ، وجمع الله ـ تعالى ـ شمله بأبويه ، وأخوته ومن فعل فعلا لأجل غيره ، يصح أن يقال فعل له ، كما يقال : «إنما صمت لشفائى من مرضى وصليت لقدوم أخى».

ويحتمل أنهم سجدوا لله شكرا وكان يوسف قبلة لسجودهم. وسجودهم إلى جهته ، كما يقال صلّى فلان للقبلة ، وسجد لها : أى إلى جهتها ، وإن كان السجود ليس إلا لله ـ تعالى.

قلنا : ما ذكروه ممتنع لوجوه ثلاثة :

الأول : أنه على خلاف الظاهر من اللفظ ؛ فلا يجوز المصير إليه إلا بدليل ، وسنقدح فى كل ما يحيلوه دليلا.

__________________

(١) سورة يوسف ١٢ / ١٠٠ ولمزيد من البحث والدراسة راجع ما يلى : تفسير الكشاف للزمخشرى ٢ / ٣٤٤ ، وتفسير الرازى ١٨ / ٢١٤ ـ ٢١٩ وتفسير القرطبى ٥ / ٣٤٩٣ ـ ٣٤٩٧ ، ومختصر تفسير ابن كثير ٢ / ٢٦٢. وقصص الأنبياء لابن كثير ص ٢٦٣ ، ٢٦٤.

(٢) يعقوب عليه‌السلام : هو يعقوب بن اسحاق بن إبراهيم عليهم‌السلام وأمه (رفقة) بنت بتوئيل بن ناحور بن آزر الّذي يسميه المؤرخون (تارح) وناحور هو أخو إبراهيم عليه‌السلام.

ويعقوب عليه‌السلام هو أبو الأسباط الاثنى عشر ، وإليه ينسب شعب بنى إسرائيل. ويسمى يعقوب (إسرائيل).

وقد ولد عليه‌السلام فى (فلسطين) وشب فى كنف أبيه إسحاق عليه‌السلام ورحل إلى مصر ومكث بها سبعة عشر عاما وتوفى عليه‌السلام وعمره ١٤٧ سنة وقد أوصى ابنه يوسف عليه‌السلام أن يدفنه مع أبيه إسحاق ففعل وسار به إلى فلسطين ودفنه مع أبيه فى مدينة الخليل صلوات الله عليهم أجمعين.

[قصص الأنبياء لابن كثير ص ٢٢٢ ـ ٢٦٧ ، والنبوة والأنبياء للصابونى ص ٢٤٦ ـ ٢٤٨].

الثانى : أنه على خلاف ما ذكره أرباب التفاسير من أن سجودهم كان تعظيما له ، لا بطريق العبادة له ، كما كانت عادة. الناس فى ذلك الزمان من تعظيم ملوكهم بالسجود لهم عند دخولهم عليهم ، وكذلك فى زمننا هذا.

الثالث : أنه على خلاف ما فسر به يوسف رؤياه فى قوله (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) (١). من أن الكواكب إخوته فإنهم كانوا أحد عشر ، والشمس أمه ، والقمر أبوه ، وذلك / قوله : (هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا) (٢).

الحجة الثالثة عشرة :

قوله ـ تعالى ـ حكاية عن موسى (٣) ـ عليه‌السلام ـ :

__________________

(١) سورة يوسف ١٢ / ٤.

(٢) سورة يوسف ١٢ / ١٠٠.

(٣) موسى عليه‌السلام : هو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث ، وينتهى نسبه إلى يعقوب عليه‌السلام ، وأخوه هو هارون عليه‌السلام الّذي بعثه الله استجابة لدعوة أخيه موسى عليهما‌السلام (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي) وقد ذكرت قصة موسى ـ عليه‌السلام ـ مع فرعون فى كثير من سور القرآن الكريم بوجوه عديدة وأساليب متنوعة ، كما ذكرت قصة بنى إسرائيل مع موسى وهارون عليهما‌السلام موضحة مفصلة وخاصة فى سورتى (الأعراف والقصص).

وقد وضح القرآن الكريم قصة ميلاد موسى ، ونجاته من فرعون ، ثم تربيته فى بيت فرعون على يد أمه ، ثم ما حدث له مع القبطى وهروبه إلى أرض مدين ثم زواجه ، ووفائه بالعهد ، ثم عودته إلى مصر ، وإرساله إلى بنى إسرائيل ، وما حدث له مع فرعون ، ثم السحرة وأخيرا خروجه من مصر وما حدث من غرق فرعون وجنوده ثم ما حدث لبنى إسرائيل فى سيناء.

وقد وضح المصنف موقف سيدنا موسى من قتل القبطى وأن ما حدث لا يتنافى مع عصمته عليه‌السلام ، كما أحلت على كثير من كتب التفسير والعقيدة لتوضيح براءة سيدنا موسى عليه‌السلام مما قيل فى الحجة الثالثة عشرة.

كما وضح المصنف ما حدث من سيدنا موسى مع أخيه هارون عليهما‌السلام ووضح أن ما حدث من كل منهما لا يتنافى مع العصمة. وقد أحلت على كتب التفسير والعقيدة التى وضحت هذا الأمر.

وقد أفاض القرآن فى الحديث عن (بنى إسرائيل) وما حدث منهم مع كل من موسى وهارون عليهما‌السلام.

وبعد جهاد عظيم توفى كليم الله موسى عليه‌السلام بعد أخيه هارون عليه‌السلام فى أرض سيناء.

ويهمنى هنا المقارنة بين ما ورد عن موسى وهارون عليهما‌السلام فى القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ، وما ورد عنهم فى كتب اليهود المحرفة ـ ففى القرآن الكريم والسنة فيض من الثناء على موسى وهارون عليهما‌السلام ووصف لموسى بأن مناضل فى الحق لا يخاف فى الله لومة لائم ؛ فإذا أخطأ غفر الله خطيئته ، وحماه من عواقبها.

بينما تصفه كتب اليهود المحرفة بما لا يليق ورمى بالتهم الخلقية والخلقية واتهم بقتل أخيه وبالتحريض على سرقة حلى المصريين [سفر الخروج ٣ / ٢١ ـ ٢٢ ، ١٢ / ٣٥ ـ ٣٦] كما اتهم هارون بصنع العجل وعبادته [سفر الخروج ٣٢ / ١ ـ ٦]. [قصص الأنبياء لابن كثير ص ٢٩٦ ـ ٤٦٤ ، والنبوة والأنبياء ص ١٦٥ ـ ١٨٥ ، واليهودية ص ١٤٣ ، ١٤٤ ، ١٧٠ ، ١٧١].

(وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ) (١).

ووجه الاحتجاج به : أنّ فعله : إمّا أن يكون معصية ، أو لا يكون معصية. فإن لم يكن معصية ؛ فلا معنى لندمه وقوله : (هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) (٢) ، وقوله : (إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي) (٣).

وإن كان معصية : فهو المطلوب. وسواء كان ذلك حالة النبوة ، أو قبل النبوة ؛ إذ هو خلاف مذهب الخصوم.

فإن قيل : الكلام على هذا من وجهين : إجمالا ، وتفصيلا.

أما الإجمال : فهو أنه لا يخلو : إما أن يكون قتله عمدا ، أو خطأ. فإن كان عمدا :

فإما أن يكون بحقّ ، أو بغير حقّ.

فإن كان الأول : فليس بمعصية لا صغيرة ، ولا كبيرة.

وإن كان الثانى : فهو ممتنع ؛ لأن القتل العمد من غير حق كبيرة ، وذلك غير واقع من الأنبياء.

وإن كان خطأ : فليس بمعصية أصلا وسواء كان بحق ، أو بغير حق.

وأما التفصيل : فهو أنه لم يقصد قتله ، وإنما قصد التخلّص ودفع الظلم ، وذلك جائز عن الغير. كما هو جائز عن النفس واتفاق الوكزة والقتل كان خطأ ، والخطأ ليس بمعصية.

__________________

(١) سورة القصص ٢٨ / ١٥ ولمزيد من البحث والدراسة راجع ما يلى :

تفسير الكشاف للزمخشرى ٣ / ١٦٨ ، ١٦٩ ، وتفسير فخر الدين الرازى ٢٤ / ٢٣١ ـ ٢٣٥ ، وتفسير القرطبى ٧ / ٤٩٧٥ ـ ٤٩٨١ ، ومختصر تفسير ابن كثير ٣ / ٨ ، وقصص الأنبياء لابن كثير ص ٣٠٣ ، ٣٠٤.

قارن بما ورد فى شرح المواقف ـ الموقف السادس ص ١٤٤. وشرح المقاصد ٣ / ٣١٣.

(٢) سورة القصص : ٢٨ / ١٥.

(٣) سورة القصص : ٢٨ / ١٦.

وإن سلمنا أنه قصد قتله : غير أنه / / من الجائز أن الله ـ تعالى ـ كان قد عرّف موسى استحقاق ذلك القبطى للقتل بكفره ، وندبه إلى تأخيره إلى حالة التمكن ، فلمّا رأى موسى ـ عليه‌السلام ـ منه الإقدام على رجل من شيعته تعمّد قتله وترك المندوب وتعمد قتل من يجوز له قتله ليس بمعصية. وترك المندوب ليس بمعصية.

وعلى هذا فندمه كان على ترك ما ندب إليه ، وهو المراد من قوله : (ظَلَمْتُ نَفْسِي) (١). وقوله : (هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) (٢). وقوله : (فَاغْفِرْ لِي) (٣). فالمراد منه قبول الاستغفار ، وهو الثواب عليه.

والجواب عن الإجمال :

ما المانع أن يكون القتل الصادر منه عمدا من غير استحقاق.

قولهم : إنّه كبيرة.

قلنا : نحن وإن وافقناكم على امتناع صدور الكبيرة من النّبيّ حال نبوته ؛ فلا نسلم امتناع صدورها من قبل نبوته ، وموسى حالة قتل القبطى لم يكن نبيا ، بدليل قوله ـ تعالى ـ حكاية عن قول فرعون لموسى لما أرسل إليه : (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ) ـ يعنى قتل القبطى ـ (وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) ـ أى الجاحدين لنعمتى ـ فقال / موسى (فَعَلْتُها) ـ يعنى قتل القبطى (وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) ـ أى الجاهلين ـ ، والنبي لا يكون جاهلا ، ثم قال : (فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (٤). فدل على أنه لم يكن حالة قتل القبطى نبيا.

وإن سلمنا امتناع صدور الكبيرة من الأنبياء مطلقا ، وأن القتل الصادر منه كان خطأ ؛ فلا يلزم من ذلك امتناع صدور الصغيرة منه حالة قتله إما نفس الوكزة ، أو ما لازمها ، ويدل عليه ما ذكرناه من ندمه ، وقوله : (هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) (٥). وقوله : (ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي) (٦). وعلى هذا : فقد اندفع ما ذكروه من الوجه الأول فى التفصيل.

__________________

/ / أول ل ٩٨ / ب.

(١) جزء من الآية رقم ١٦ من سورة القصص.

(٢) جزء من الآية رقم ١٥ من سورة القصص.

(٣) جزء من الآية رقم ١٦ من سورة القصص.

(٤) سورة الشعراء ٢٦ / ١٨ ـ ٢١.

(٥) سورة القصص ٢٨ / ١٥.

(٦) سورة القصص ٢٨ / ١٦.

قولهم : فى الوجه الثانى من التفصيل : أنه من المحتمل أنّ الله تعالى كان قد عرّف موسى استحقاق القبطى القتل. باطل بما بيناه من أن موسى فى ذلك الوقت لم يكن قد أوحى إليه بعد ، ولا كان رسولا ، وعلى هذا ؛ فقد بطل ما فرعوه من تخريج الإلزامات على ترك المندوب من تأخير قتل القبطى.

الحجة الرابعة عشرة :

قوله ـ تعالى ـ حكاية عن موسى ـ عليه‌السلام ـ :

(وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) (١).

ووجه الاحتجاج به : أنه لا يخلو :

إمّا أن يكون قد صدر من هارون ذنب يستحق به إيقاع ذلك الفعل به ، أو أنه لم يصدر منه ذلك.

فإن كان الأول : فقد أذنب هارون.

وإن كان الثانى : فموسى يكون مذنبا بإيذائه لهارون ، وأيهما قدر فهو نبىّ.

فإن قيل : إنما يلزم ما ذكرتموه أن لو كان أخذ موسى برأس هارون على طريق الغضب ، والضرب له. وليس كذلك ؛ بل إنما كان أخذه برأس أخيه ، وجره إليه ؛ لأنه رآه على جزع عظيم ، لما رأى من قومه من عبادة العجل على سبيل التوجع له ، والتسكين لقلقه : كما يفعل الواحد منا عند ما يريد إصلاح غضبان. وتسكين من أصابته مصيبه.

ويحتمل أن موسى لما غلب عليه من الحزن ، واستيلاء الفكر لما أحدثه قومه من بعده ، أنه أخذ برأس أخيه يجره إليه. لا على طريق الإيذاء له ؛ بل كما يفعل الإنسان بنفسه عند حدوث مصيبه من عض يده ، وشفته ، وقبضه على لحيته ؛ وأجرى موسى لهارون فى ذلك مجرى نفسه ؛ لأنه كان أخاه ، وشريكه فيما يناله من خير وشرّ ، وبتقدير

__________________

(١) سورة الأعراف ٧ / ١٥٠ ولمزيد من البحث والدراسة راجع ما يلى :

تفسير الكشاف للزمخشرى ٢ / ١١٩ ، وتفسير الرازى ١٥ / ١٣ ، ١٤ ، وتفسير القرطبى ٤ / ٢٧٢٤ ـ ٢٧٢٦ ، ومختصر تفسير ابن كثير ٢ / ٥٢.

وشرح المواقف للجرجانى ـ الموقف السادس ص ١٤٥.

هذه الاحتمالات ؛ فلا يلزم شيء مما ذكرتموه. ويحتمل أنه أخذ برأسه إليه ؛ ليخبره سر ما حدد الله ـ تعالى ـ له من الأمور كما جرت العادة.

قلنا : لا يخفى على كل عاقل بعد هذه التأويلات ، وخروجها عن مذاق العقل مع بعدها ؛ فيمتنع القول بها.

أما ما ذكروه من التأويل : فهو ممتنع لثلاثة أوجه :

الأول : أنه أخذ بلحيته ، وبرأسه لقوله ـ تعالى ـ حكاية عن هارون (لا تَأْخُذْ / بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي) (١). والعادة غير جارية بجر لحية الإنسان عند قصد تسكين غضبه ، وحزنه.

الثانى : قوله (إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ) وهذا العذر غير لائق من طلب كف موسى عن الأخذ برأسه ، على سبيل الإشفاق ، وإزالة الغيظ عنه.

الثالث : / / قوله (فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ) (٢). والأخذ بالرأس ، واللحية على جهة الاشفاق ، وتسكين الحزن والغيظ ، لا يتحقق به شماتة الأعداء ؛ فدل على أن ذلك إنما كان على طريق الغيظ وقصد الإيذاء.

وبهذه الوجوه الثلاثة يبطل ما ذكروه من الاحتمال الثانى أيضا. ويخصه وجه آخر وهو أن ما ذكروه على خلاف العادة ؛ إذ العادة عند استيلاء الفكر ، والحزن على الإنسان أن يفعل ما ذكروه بنفسه ، لا بغيره ولا سيما جذب رأس الغير ، ولحيته.

وبما ذكرناه أيضا يبطل ما ذكروه من الاحتمال الثالث.

__________________

(١) سورة طه ٢٠ / ٥٤.

/ / أول ل ٩٩ / أ.

(٢) سورة الأعراف ٧ / ١٥٠.

الحجة الخامسة عشرة :

قوله ـ تعالى ـ فى قصة داود (١) ـ عليه‌السلام ـ :

(وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) إلى قوله (وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ) (٢).

ووجه الاحتجاج من ذلك : أن المفسرين بأجمعهم رووا أن داود كان يوما فى محرابه ؛ فرأى قرينيه ، فراعه ذلك ، فقال : من أنتما ، فقالا له : نحن قريناك اللذان يحفظانك من أن تعصى ، أو تخطىء ، فقال لهما فخليانى : وجربا ؛ ففعلا.

فقال أما اليوم فلا يدخل على أحد ، ولا أخرج إلى أحد ، ولا أبرح أصلي ، وأقرأ إلى الليل. فبينما هو كذلك إذ نظر إلى كوة ؛ فرأى طائرا أحسن شيء يكون بعضه ذهبا ، وبعضه من ياقوت ؛ فأعجبه ، ثم أعرض عنه ؛ فوقع الطائر فى البيت. فقال داود فى

__________________

(١) داود عليه‌السلام : هو نبى الله (داود بن ايشا بن عويد ... من نسل يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم‌السلام ، وقد ذكر نسبه فى التوراة والإنجيل مفصلا. وهو عليه‌السلام ـ أحد الرسل الذين نزلت عليهم الكتب السماوية بعد موسى عليه‌السلام ، وأعطاه الله الزبور كما قال تعالى : (وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً).

وقد ورد اسم داود عليه‌السلام ـ فى القرآن الكريم فى ستة عشر موضعا فى [البقرة ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والإسراء ، والأنبياء ، والنمل ، وسبأ ، وسورة ص] وقد جمع الله ـ تعالى ـ له بين النبوة والملك ؛ فكان نبيا ملكا كما كان ولده سليمان عليه‌السلام.

وخصه بمزايا منها تسخير الجبال للتسبيح (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ)

ومنها : إلانة الحديد له : (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) ومنها : صناعة الدروع لدرء خطر الحرب (وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ). ومنها : تقوية ملكه (وَشَدَدْنا مُلْكَهُ).

ومنها : آتاه الله الحكمة وفصل الخطاب (وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ).

ومع كل هذا المزايا الفريدة والصفات الجليلة نرى اليهود فى كتبهم المصنوعة المحرفة يصورونه عليه‌السلام بصورة غير لائقة بالبشر العادى فضلا عن الرسول الكريم فهو يأخذ امرأة أوريا لنفسه من غير حياء ويرسل زوجها إلى الصف الأول فى ميدان القتال ليتخلص منه. أحداث موغلة فى القسوة وبعيدة عن العفة (انظر الكتاب المقدس صموئيل الثانى : الاصحاح الحادى عشر ، والاصحاح الثالث عشر).

بينما يصور القرآن الكريم هذه المسألة بصورة تبعد الأنبياء عن الكبائر ، ولم يرها إلا هفوة استحقت نوعا من العتاب والتعليم من الله لنبيه ومصطفاه. كما ورد فى الآية التالية من سورة (ص).

ومن الغريب أن بعض علماء المسلمين وقعوا فى خطأ عظيم بذكر هذه الإسرائيليات فى مصنفاتهم على أنها من قصص القرآن الكريم.

وقد عاش داود عليه‌السلام سبعا وسبعين سنة ثم توفاه الله وأوصى بالملك من بعده لابنه سليمان عليه‌السلام.

[قصص الأنبياء لابن كثير ص ٤٨٠ ـ ٤٩٤. والنبوة والأنبياء للصابونى ص ٢٧٣ ـ ٢٨١. واليهودية للدكتور أحمد شلبى ص ١٤٥ ، ١٤٦ ، ص ١٧٢ ـ ١٧٥].

(٢) سورة ص ٣٨ / ٢١ ـ ٢٤. ولمزيد من البحث والدراسة بالإضافة لما أورده الآمدي. انظر : تفسير الكشاف للزمخشرى ٣ / ٣٦٥ ـ ٣٧١.

وتفسير الرازى ٢٦ / ١٨٨ ـ ١٩٨. وتفسير القرطبى ٨ / ٥٦٠٨ ـ ٥٦٣١.

ومختصر تفسير ابن كثير ٣ / ٢٠٠ ، ٢٠١.

وشرح المواقف للجرجانى ـ الموقف السادس ص ١٤٦ ـ ١٤٨.

وشرح المقاصد للتفتازانى ٣ / ٣١٣ ، ٣١٤.

نفسه ، لو قمت وأخذت هذا الطائر ، فأريته للناس كان آية ، فقام إليه ؛ فجعل يطير إلى أن وقع فى الكوة ؛ فأهوى إليه فى الكوة. فإذا بامرأة تغتسل ؛ فلما رآها نسى صلاته ، وقراءته. وجعل يطيل النظر إليها. فلما رأته تورات منه بشعرها ؛ فزاده ذلك إعجابا بها. ونظره إليها مع الإطالة معصية لا محالة.

ثم إنه عرض لها فى نفسه. فقالت له : زوجى غائب ، وأنت الملك ، والنبي ، وما أدرى ما أقول لك. وكانت امرأة أوريا (١) بن حنان فاستدعاه من غيبته. ثم إنه قدمه على بعض الجيوش ؛ لمنازلة بعض الحصون ؛ بقصد قتله ، فرمى من الحصن بحجر ؛ فقتله فتزوج بامرأته. ولا يخفى أن قصده لذلك معصية. فأرسل الله ـ تعالى له ملكين فى صورة خصمين ؛ ليبكتاه على خطيئته ، وذلك قوله ـ تعالى ـ :

(وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) إلى قوله لقد (ظَلَمَكَ بِسُؤالِ / نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ).

وقد قيل : إنه أخطأ أيضا فى المبادرة إلى قوله (لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ) ، قبل سماع كلام الخصم الآخر.

ثم إنه لما قضى بينهما ، نظر أحدهما إلى الآخر وضحك ، ثم صعدا إلى السماء ، وهو يراهما ؛ فعلم داود ذنبه ، وما صنع ؛ فخر ساجدا يبكى ، ويتضرع إلى أن نبت الشجر حول رأسه من دموعه ، ولم يرفع رأسه حتى جاءه ملك ، فأمره برفع رأسه ، وقال له : إن الله ـ تعالى ـ قد غفر لك ذنبك ، وذلك قوله ـ تعالى ـ (وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) (٢).

__________________

(١) امرأة أوريا بن حنان اسمها سابغ ، وسنرى فيما يلى أن بنى إسرائيل يصورون اتصال داود عليه‌السلام ـ بسابغ فى صورة الزنا. ولكن الإسلام الّذي يسمو بالأنبياء صور المسألة فى صورة تبعدها عن الكبائر ، ولم يرها إلا هفوة استحقت العتاب من الله لنبيه ومصطفاه ، وبعد الاستغفار والركوع غفر الله له وقال سبحانه وتعالى : (فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ).

أما ما ورد فى كتاب اليهود المقدس فيصورها فى صورة موغلة فى القسوة ، وبعيدة عن العفة (انظر : صموئيل الثانى : الاصحاح الحادى عشر ص ٤٩٨ ، ٤٩٩. الكتاب المقدس ج ١ ـ دار الكتاب المقدس فى الشرق الأوسط ـ وانظر شرح المواقف السادس د. أحمد المهدى ص ١٤٦ ـ ١٤٨. ففيه رد على ما قاله اليهود ومن تأثر بآرائهم من المفسرين.

(٢) سورة ص ٣٨ / ٢٤ ، ٢٥.

وروى أن الله ـ تعالى ـ لما غفر له ، أوحى إليه «أما الذنب فقد غفرته لك ، ولكن ذهبت المودة التى كانت بينى وبينك».

وروى أنه لما أصاب داود الخطيئة نفرت الوحوش من حوله فقال : «إلهى رد على الوحوش لآنس بها» فردها عليه ؛ فرفع صوته يقرأ ، فأصغين باستماعهن إليه ، ثم نادينه «هيهات يا داود ذهبت الخطيئة بحلاوة صوتك».

فإن قيل : ما ذكرتموه عن امرأة أوريا بن حتان من قصد النظر إليها ، وقصد قتل أوريا ؛ [لم يثبت ولم يصح] (١).

وقوله ـ تعالى ـ (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) (٢). فقد قيل فى تأويله : إن المتسور على داود ، إنما كانوا من البشر ، وأن لفظ النعاج محمول على حقيقته ، لا على الكناية عن النساء. وفزعه منهم : إنما كان لأنهم دخلوا عليه فى غير وقت الدخول ، [بغير إذنه] (٣) ، وذلك لا يدل على معصية ، والحمل على هذا التأويل ، أولى من تقدير صدور المعصية من النبي ، وتقدير تبكيته من الله ـ بالملائكة ، وبقولهم (خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ) إلى قوله (وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ) (٤). حيث أنه يلزم منه كذب الملائكة فى قولهم (خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ) ولم يكن كذلك أو للاضمار فى كلامهم ، وتقديره : أرأيت لو كنا كذلك ، وكل واحد من الأمرين بعيد ، ويلزم منه أيضا الكذب فى قولهم (إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها) (٥) ، إن حمل على إطلاقه حيث لم يكن له نعجة ، ولا لأخيه نعاج ، ولا قال له ذلك ، وأن يقدر فى الكلام ما ذكرناه. ولا يخفى امتناع الكذب على الملائكة وبعد الإضمار والتقدير فى الكلام.

وإن سلمنا أن / / المتسور عليه كانوا ملائكة ، لقصد عتابه ؛ فليس فى ذلك ما يدل على كونه مذنبا ، فإنه روى أن أوريا بن حنان خطب امرأة وكان من عادة أهل ذلك

__________________

(١) ساقط من (أ).

(٢) سورة ص ٣٨ / ٢١.

(٣) ساقط من (أ).

(٤) سورة ص ٣٨ / ٢٢.

(٥) سورة ص ٣٨ / ٢٣.

/ / أول ل ٩٩ / ب.

الزمان ، أنه إذا خطب واحد امرأة لا تزوج من الخاطب الثانى ، إلا بعد تزويجها من الخاطب الأول ، فخطبها داود بعد أوريا ؛ فزوجها أهلها منه ؛ لميلهم إليه.

وروى أيضا أنه وقعت عينه على امرأة أوريا ؛ فأعجبته ؛ فسأله أن ينزل / عنها ؛ ليتزوجها ؛ لأن ذلك كان معتادا لهم ؛ فنزل الملكان لعتابه على ذلك مع كثرة نسائه ، ومزاحمته لأوريا ، وإن كان ذلك مباحا ، وليس بمعصية.

وقولكم : إنه أخطأ بالمبادرة إلى الجواب ، قبل سماع كلام الآخر ليس كذلك ؛ فإنه إنما حكم بذلك بتقدير أن يكون الأمر على ما ذكر.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ) فلم يكن عن سابقة ذنب صدر منه ؛ بل إنما كان كذلك على سبيل الانقطاع إلى الله ـ تعالى ـ والخضوع له والتذلل بين يديه ؛ تعظيما له وشكرا.

وقوله ـ تعالى ـ (فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ) معناه : أنا قبلنا منه ذلك وكتبنا له ثوابه ؛ لأنه لما كان المقصود من الاستغفار : إنما هو الثواب قيل فى جوابه غفرنا : أى فعلنا ما هو المقصود من الاستغفار.

والّذي يدل على صحة جميع ما ذكرناه ، وأن داود ـ عليه‌السلام ـ لم يذنب ، قوله ـ تعالى ـ مرتبا على القصة المذكورة وهى قوله (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) ، (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) (١). وقوله ـ تعالى ـ (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) (٢) ، ولو كان فى القصة المذكورة عاصيا مذنبا ؛ لما كان ترتيب الإكرام والتعظيم له ملائما للقصة ؛ بل كان من قبيل الترتيب على العلة من ضد ما تقتضيه.

والجواب :

أما إنكار صحة ما ذكرناه من [القصة] (٣) ؛ فهو خلاف المشهور بين جماعة المفسرين بمجرد التشهى ، وإتباع الهوى من غير دليل ؛ فلا يقبل.

__________________

(١) سورة ص ٣٨ / ٢٦.

(٢) سورة ص ٣٨ / ٢٥.

(٣) ساقط من (أ).

قولهم : إن المتسورين عليه كانوا من البشر ؛ فهو أيضا من مخرجات الخصوم ، واحتمالاتهم البعيدة ؛ وهو على خلاف اتفاق الرواة المشهورين الثقات العارفين من المفسرين.

وما ذكروه : من الترجيح بين ما ذكرناه من القصة ، وبين ما ذكروه من الاحتمال ؛ فهو فرع كون ما ذكروه منقولا ، وليس كذلك ؛ بل ما ذكروه إنما هو مجرد احتمال ، والمنقول ما ذكرناه ؛ فلا ترجيح لغير المنقول على المنقول.

قولهم : سلمنا أن الداخلين عليه كانوا ملائكة ، ولكن ليس فى ذلك ما يدل على كونه مذنبا.

قلنا : دليله ما أسلفناه بالروايات عن الثقات من كثرة بكائه وتضرّعه ، وتفرّق الوحوش من حوله ، وقوله ـ تعالى ـ (فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ).

وقد بينا فيما تقدم أن المغفرة تستدعى سابقة الذنب.

وعلى هذا فما ذكروه من الروايات. إما أن تكون مشتملة على الذنب : أو غير مشتملة عليه.

فإن كان الأول : فهو المطلوب.

وإن كان الثانى : كان الترجيح لما ذكرناه من الرواية ؛ لما فيها من موافقة الظواهر الدالة على كونه مذنبا.

قولهم : إنه رتب على القصة / ما يلائمها بتقدير كونه مذنبا.

قلنا : ما ذكروه إنما كان مرتبا على استغفاره ، وسجوده ، وخضوعه وبكائه ، وندمه على ذنبه لا على نفس الذنب ؛ فيكون ملائما ؛ والله ـ تعالى ـ أعلم وأحكم.

الحجة السادسة عشرة :

قوله ـ تعالى ـ :

(وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ* إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ* فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ* رُدُّوها عَلَيَ

فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) (١).

ووجه الاحتجاج بالآتية : ما روى المفسرون أن سليمان (٢) ـ عليه‌السلام ـ صلى الأولى ، ثم جلس على كرسيه ، ليعرض عليه خيلا كان قد ورثها من أبيه ، ولم يزل على ذلك حتى غابت الشمس ، وفاتته صلاة العصر وذلك قوله : (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِ) : أى بعد زوال الشمس (الصَّافِناتُ الْجِيادُ) الخيل ، وقوله : (إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) فمعنى قوله : أحببت : أى أنى قعدت مأخوذا من إحباب البعير : إذا برك ولصق بالأرض ومنه يقال أحب البعير وأحببت الناقة إذا بركت ، وكل من ترك شيئا يجب أن يفعله فلم يفعله يقال قعد عنه ، ومعنى قوله : (حُبَّ الْخَيْرِ) : أى من أجل

__________________

(١) سورة ص ٣٨ / ٣٠ ـ ٣٣ ولمزيد من البحث والدراسة انظر المراجع التالية تفسير الكشاف للزمخشرى ٣ / ٣٧٢ ـ ٣٧٤ ، وتفسير الفخر الرازى ٢٦ / ٢٠٣ ـ ٢٠٧.

وتفسير القرطبى ٨ / ٥٦٣٦ ـ ٥٦٤٢ ، ومختصر تفسير ابن كثير ٣ / ٢٠٢ ، ٢٠٣.

وشرح المواقف للجرجانى ـ الموقف السادس ص ١٤٨ ـ ١٥٠.

وشرح المقاصد للتفتازانى ٣ / ٣١٤.

(٢) سليمان عليه‌السلام : هو سليمان بن داود بن ايشا بن عويد ... من سبط (يهوذا بن يعقوب) وينتهى نسبه إلى إبراهيم الخليل عليه‌السلام.

وقد ذكر فى القرآن الكريم فى ست عشرة آية فى (البقرة ، والنساء ، والأنعام ، والأنبياء ، والنمل ، وفى سورة (ص).

وقد رزقه الله النبوة والملك وجمع له بينهما ؛ كما جمعها لوالده داود عليهما‌السلام وقد استجاب الله دعاءه وأعطاه ملكا عظيما لم يعط لأحد بعده قال تعالى : (قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ* فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ* وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ* وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ* هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ* وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) سورة ص.

أما الآيات الكريمة التى أوردها المصنف فى الحجة السادسة عشرة فبالإضافة إلى ما أورده المصنف ، وما أحلت عليه من كتب المفسرين فى الهامش السابق يتضح لنا أن سليمان عليه‌السلام لم يعص كما قال من استشهد بهذه الآيات فقد بدأت بمدح سليمان عليه‌السلام (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ). ولا يحسن عرفا الثناء على شخص ، ثم ذمه باضافة فعل المعصية والقبيح إليه.

وقد تحدث القرآن الكريم عن سليمان عليه‌السلام ووصفه بأكرم الصفات وأعظم السجايا بينما صورته كتب اليهود المحرفة بأقبح الصفات. وبين أيدينا مجموعة كبيرة من المعلومات عن هذا العصر وردت فى الكتاب المقدس وفى كتابات المؤرخين. يذكرون :

أنه لما آل الملك إلى سليمان قتل جميع منافسيه ، ويذكر سفر الملوك أنه قتل أخاه أدونيا وقائد جيشه يؤاب كما قتل شمعى أحد كبار الرجال فى مملكة أبيه داود.

ويصفه غوستاف لوبون بقوله : وقد عاش سليمان حاكما شرقيا حقيقيا بكثرة آلهته وبدائرة حريمه المشتملة على مئات النساء وبثيابه الزاهية وبقصوره وحرسه الأجنبى.

كما ينسب الكتاب المقدس انحرافات دينية لسليمان (انظر الاصحاح الحادى عشر من سفر الملوك الأول) وقد عاش سليمان عليه‌السلام ٥٢ سنة. ثم توفى عليه‌السلام وكان أمر وفاته حديثا غريبا لم تعلم به الإنس ولا الجبن قال تعالى : (فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ).

[قصص الأنبياء لابن كثير ص ٤٩٤ ـ ٥١٦ والنبوة والأنبياء ص ٢٨٢ ـ ٢٩٦ واليهودية ص ١٤٧ ، ١٤٨ ، ١٧٥ ـ ١٧٩].

حب الخير ، ولذلك نصب حب والمراد من «الخير» «الخيل» ، وقرأ ابن مسعود حب الخيل ، والمراد من قوله : (عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) : أى «الصلاة» وتقديره : أى قعدت عن الصلاة حبا للخيل ، وقوله (حَتَّى تَوارَتْ) / / بِالْحِجابِ أى الشمس على ما قاله المفسرون ، ولا يخفى أن ترك الصلاة معصية.

فإن قيل : لا نسلم إمكان عود الضمير فى قوله : (تَوارَتْ بِالْحِجابِ) إلى الشمس ؛ إذ هى غير مذكورة ؛ بل هو عائد إلى الخيل على ما قاله أبو مسلم (١) محمد بن بحر.

وإن سلمنا إمكان عوده إلى الشمس غير أن عوده إلى الخيل أولى. إذ هى مصرح بذكرها ، والشمس غير مصرح بذكرها ، وعود الضمير إلى المصرح به أولى ، ولأنها أقرب مذكور إلى الضمير من الشمس ، وعلى هذا لم يصح ما ذكرتموه.

سلمنا عود الضمير إلى الشمس ، ولكن لا يمتنع أن يكون قوله : (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) غاية لعرض الخيل ، لا لفوات الصلاة.

وإن سلمنا أنه عائد لفوات الصلاة ، غير أنه قد ذكر أبو على الجبائى ، وغيره أن ذلك كان غاية لفوات عبادة نافلة كان قد تعبد بها سليمان بالعشى ، فنسيها ؛ لاشتغاله بالخيل ؛ فقال ما قال على سبيل الاغتمام بما فاته من الطاعة ، ولا يخفى أن ترك النافلة ليس بمعصية.

والّذي يدل على أنه لم يعص أمران : ـ

الأول : هو أن الله ـ تعالى ـ ابتدأ الآية بمدح سليمان ، والثناء عليه بقوله ـ تعالى ـ (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) : أى راجع بالطاعة إلى الله تعالى ، ولا يحسن عرفا الثناء على شخص ، ثم يعقبه من غير فاصلة بإضافة / فعل المعصية ، والقبيح إليه.

__________________

/ / أول ل ١٠٠ / أ.

(١) أبو مسلم محمد بن بحر الأصفهانى ، من أهل أصفهان ، كان من الولاة ، معتزلى من كبار الكتاب كان عالما بالتفسير وله كتاب (جامع التأويل فى التفسير ، أربعة عشر مجلدا ؛ جمع سعيد الأنصارى الهندى نصوصا منه وردت فى (مفاتيح الغيب) المعروف بتفسير الفخر الرازى وسماها «ملتقط جامع التأويل لمحكم التنزيل» ط فى مجلد صغير. ومن كتبه (الناسخ والمنسوخ).

ولد سنة ٢٥٤ وولى أصفهان وبلاد فارس للمقتدر العباسى ، واستمر إلى أن دخل ابن بويه أصفهان سنة ٣٢١ ه‍ فعزل ثم توفى سنة ٣٢٢ ه‍. [إرشاد الأريب لياقوت الحموى ٦ / ٤٢٠ الأعلام للزركلى ٦ / ٥٠].

الثانى : أن قوله : (رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ). إما أن يحمل المسح على أنه مسح أعرافها ، وأطرافها بيده محبة لها كما ذهب إليه مجاهد ، وإما أن يحمل على أنه عرفها ومسح أعناقها ، وسوقها بالسيف كما قاله قوم آخرون.

فإن كان الأول : دل على أن عرضها لم يكن سببا لمعصية أصلا ، وإلا كان مسحه لها ورأفته بها وأمره بعودها لذلك غير ملائم ؛ لكونها سببا للمعصية.

وإن كان الثانى : فهو ممتنع لوجهين :

الأول : ما قاله أبو مسلم من أنه لم يجر للسيف ذكر حتى يمكن إضافة المسح إليه ولأن العرب لا تسمى الضرب بالسيف مسحا.

الثانى : أنه يمتنع على نبى من أنبياء الله ـ تعالى ـ أن يعاقب الخيل ؛ لأنها شغلته عن الطاعة.

والجواب :

قولهم : لا نسلم إمكان عود الضمير فى قوله ـ تعالى ـ (تَوارَتْ بِالْحِجابِ) إلى الشمس ؛ إذ هى غير مذكورة.

قلنا : وإن لم يكن مصرحا بذكرها ، ففى الكلام ما يدل عليها ، وهو قوله (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِ) : أى بعد زوال الشمس ، والضمير كما يمكن عوده إلى المذكور ؛ فيمكن عوده إلى ما فى الكلام دلالة عليه ، كيف وإن ما ذكرناه مما اتفق عليه جميع الرواة الثقات من أهل التفسير ؛ فلا يكون معارضا بقول واحد لا يؤبه له.

قولهم : عود الضمير إلى الخيل أولى ؛ لما ذكروه من الوجهين.

قلنا : الترجيح بما يعود إلى الدلالات اللفظية ، لا يقع فى مقابلة النقل.

ولهذا فإنه لو كان اللفظ حقيقة فى معنى ، ومجازا فى معنى ، ونقل الناقل عن المتكلم بذلك اللفظ إرادة جهة المجاز ، فإنه يقدم على ما يقتضيه اللفظ من الحقيقة.

وقد بينا أن نقل الرواة المعتبرين من المفسرين مساعدا لما ذكرناه ، دون ما تفرد به أبو مسلم ؛ فكان أولى.

قولهم : سلمنا عود الضمير فى قوله (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) إلى الشمس ، ولكن لا يمتنع أن يكون غاية لعرض الخيل.

قلنا : ولا منافاة بين كونه غاية لعرض الخيل ، وبين كون العرض إلى غروب الشمس سببا لفوات الصلاة على ما ذكرناه. وما ذكره الجبائى.

فقول مبتدع غير موثوق به ؛ فلا يقع فى مقابلة رواته الثقات المعتبرين من المفسرين.

قولهم : إنه ـ تعالى ـ ابتدأ الآية بمدح سليمان ، والثناء عليه.

لا نسلم ذلك : فإنه قد قال ثعلب وهو زعيم أهل الأدب أن قوله (نِعْمَ الْعَبْدُ) يحتمل أن يكون لسليمان ، ويحتمل أن يكون لداود.

وعند ذلك فلا يخلو : إما أن يتعذر / الجمع بين هذا الثناء ، وما نسب إليه من ترك الصلاة ، أو لا يتعذر.

فإن تعذر : وجب صرفه إلى داود ؛ ضرورة صحة ما ذكرناه من النقل.

وإن لم يتعذر : فقد بطل ما ذكروه.

قولهم : إما أن يحمل رده لها ، ومسحه لها بالسوق ، والأعناق : على المسح باليد ، أو العرفية بالسيف.

قلنا : وما المانع من حمله على العرفية.

قولهم : لم يجر للسيف ذكر.

قلنا : أكثر أهل التفسير ، وهم أرباب اللغة ، ذهبوا إلى أن المسح هاهنا بمعنى القطع / / وسواء كان ذلك بالسيف ، أو بغيره ، ولهذا يقول العرب مسحته بالسيف ، إذا قطعته.

قولهم : العرب لا تسمى الضرب بالسيف مسحا.

لا نسلم ذلك : فإن العرب تقول مسح علاوته بالسيف إذا ضربها.

قولهم : يمتنع على النبي أن يعاقب الخيل ؛ لكونها شغلته عن العبادة.

__________________

/ / أول ل ١٠٠ / ب من النسخة ب.

قلنا : ليس ذلك بطريق العقوبة لها ؛ بل ليتصدق بلحمها على الفقراء ، والمساكين ؛ لتكون كفارة عن تفريطه ، ويكون تخصيصه لها بذلك ؛ لكونها سبب شغله عن العبادة ، ولكونها كانت أحب ما له إليه مبالغة فى القربة إلى الله ـ تعالى ـ على ما قال ـ تعالى : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) (١).

الحجة السابعة عشرة :

قوله ـ تعالى ـ حكاية عن يونس (٢) ـ عليه‌السلام ـ :

(وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (٣).

ووجه الاحتجاج به : أنه وصف نفسه بأنه كان من الظالمين ، فلا يخلو : إما أن يكون صادقا فيه ، أو كاذبا.

__________________

(١) سورة آل عمران ٣ / ٩٢.

(٢) يونس عليه‌السلام : يونس بن متى ويسمى عند أهل الكتاب (يونان بن أمتاى) وهو عليه‌السلام من بنى إسرائيل ويتصل نسبه ببنيامين أحد أولاد يعقوب عليه‌السلام وهو شقيق يوسف عليه‌السلام.

أرسله الله تعالى ـ إلى أهل (نينوى) بالعراق ، وكانوا يعبدون الأصنام ولهم صنم يسمونه (عشتار) فتراك الشام وذهب إليهم فى نينوى يدعوهم إلى عبادة الله وحده ؛ فكذبوه واستمروا على غيهم فلما يئس منهم خرج من بينهم قال تعالى : (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) الآية فخرج من بينهم قبل أن يأمره الله ـ تعالى بالخروج ـ وهذا الخروج معصية تتنافى مع العصمة ، فهو بخروجه واستعجاله قد فعل ما يستحق عليه اللوم والتأديب الربانى. قال تعالى : (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ* فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ* فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ* فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ* لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ* فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ* وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ* وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ* فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ). سورة الصافات ٣٧ / ١٣٩ ـ ١٤٨.

وقد ذكر يونس عليه‌السلام فى القرآن أربع مرات باسمه فى سورة يونس ـ التى سميت باسمه ـ وسورة النساء ، والأنعام ، والصافات.

وذكر بالوصف فى موضعين حيث لقبه الله (بذى النون) : أى الحوت فى سورة الأنبياء فى قوله ـ تعالى ـ : (وَذَا النُّونِ). وبلفظ صاحب الحوت فى سورة القلم فى قوله تعالى : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ).

وكان عدد من آمن بيونس مائة وعشرون ألفا على رواية ابن عباس رضى الله عنه.

[قصص الأنبياء لابن كثير ص ٢٨٦ ـ ٢٩٦ ، والنبوة والأنبياء ص ٣٠٢ ـ ٣٠٥].

(٣) سورة الأنبياء ٢١ / ٨٧ ولمزيد من البحث والدراسة بالإضافة لما أورده الآمدي هاهنا : انظر تفسير الكشاف للزمخشرى ٢ / ٥٨١ ، ٥٨٢. وتفسير الرازى ٢٢ / ٢١٢ ـ ٢١٧ ، وتفسير القرطبى ٦ / ٤٣٦٩ ـ ٤٣٧٥.

ومختصر تفسير ابن كثير ٢ / ٥١٨ ، ٥١٩.

وشرح المواقف للجرجانى ص ١٥٢ ، وشرح المقاصد للتفتازانى ٣ / ٣١٥.

فإن كان صادقا : فالظلم ذنب ، ولهذا قال ـ تعالى ـ (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ) (١). رتب العقاب على الظلم ؛ فدل على كونه معصية.

وإن كان كاذبا : فالكذب أيضا ذنب ، ومعصية بالإجماع ، وعلى كل تقدير ؛ فيكون مذنبا.

فإن قيل : لا يلزم من صدقه فى ذلك أن يكون مذنبا. وذلك لأنه يحتمل أنه أراد به إنى كنت من الجنس الّذي يقع منهم الظلم وهو جنس البشر. ويكون القصد من ذلك الخضوع لله ـ تعالى ـ ونفى ، التكبر والتجبر عنه باضافة نفسه إلى جنس يتصور منهم الظلم ؛ لكونه بين يدى الله ـ تعالى ـ فى مقام السؤال ، والطلب ، والانكسار كما هو الجارى من عادة السؤال بين أيدى الملوك ، وذلك لا يدل على صدور الذنب منه.

وبتقدير أن يكون قد أضاف الظلم إلى نفسه ؛ فلا يبعد تسميته ظالما لتركه بعض المندوبات ، وتفويت نفسه ثوابه كما سبق تحقيقه فى الحجة الأولى من قصة آدم عليه‌السلام ، وترك المندوب ليس بمعصية كما سبق تحقيقه (٢).

/ والجواب :

أن ما ذكروه من الاحتمال الأول ، وإن كان محتملا ، إلا أنه على خلاف الظاهر ، وما يتبادر إلى الفهم من قول القائل لغيره «إنك من الظالمين» فإنه لا يفهم منه أنه من جنس يقع منهم الظلم ؛ بل الّذي يفهم منه «أنك متصف بصفات الظالمين». ونحن إنما نتمسك فى هذا الباب بالظاهر ؛ إذ المسألة غير قطعية على ما حققناه ، ولا يجوز ترك الظاهر من غير دليل. وما ذكروه من الاحتمال الثانى : فقد سبق جوابه فى الحجة الأولى (٣).

__________________

(١) سورة النحل ١٦ / ٦١.

(٢) انظر ما سبق ل ١٧١ / أوما بعدها.

(٣) انظر ما سبق ل ١٧١ / أوما بعدها.

الحجة الثامنة عشرة :

ما روى الثقات من أهل التفسير كابن (١) عباس ، والحسن (٢) ، وغيرهما أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان يصلى يوما بمكة بقوله ـ تعالى : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى* وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) (٣). فتمنى فى نفسه شيئا كما يتمنى الناس ؛ فألقى الشيطان على لسانه «فإنهن عند الله من الغرانيق العلى وإن شفاعتهم لترتجى» وإن قريشا لما سمعت بذلك سرت به.

__________________

(١) راجع ترجمته فى هامش ل ١٤٩ / ب.

(٢) الحسن : هو الإمام الحسن بن يسار البصرى أبو سعيد : تابعى كان إمام أهل البصرة ، وحبر الأمة فى زمنه. وهو أحد العلماء الفقهاء الفصحاء الشجعان النساك. ولد بالمدينة المنورة سنة ٢١ ه‍ وشب فى كنف الإمام على بن أبى طالب ـ رضي الله عنه ـ ثم سكن البصرة وعظمت هيبته فى القلوب ؛ فكان يدخل على الولاة ؛ فيأمرهم وينهاهم.

وكان أبوه من أهل ميسان ، مولى لبعض الأنصار ولما ولى عمر بن عبد العزيز الخلافة كتب إليه : إنى قد ابتليت بهذا الأمر فانظر لى أعوانا يعينوننى عليه. فأجابه الحسن : أما أبناء الدنيا فلا تريدهم وأما أبناء الآخرة فلا يريدونك ، فاستعن بالله. توفى ـ رحمه‌الله ـ بالبصرة سنة ١١٠ ه‍. [ميزان الاعتدال للذهبى ١ / ٢٥٤ وحلية الأولياء لأبى نعيم ٢ / ١٣١ والأعلام للزركلى ٢ / ٢٢٦].

(٣) ورد فى تفسير ابن عباس (رضي الله عنه) الّذي جمعه من كتب السنة الدكتور عبد العزيز الحميدى ـ نشر مركز البحث العلمى وإحياء التراث الإسلامى ـ بجامعة أم القرى بمكة المكرمة ٢ / ٨٤٢ وما بعدها ـ ٢ ـ ما جاء فى قوله تعالى ـ : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى* وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) نقلا عن صحيح الإمام البخارى ٨ / ٤٧٨ كتاب التفسير ـ باب (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى).

(اللَّاتَ وَالْعُزَّى) : كان اللات رجلا يلت سويق الحاج. وعن مجاهد قال : كانت اللات رجلا فى الجاهلية على صخرة بالطائف ، وكان له غنم ؛ فكان يأخذ من لبنها ويأخذ من زبيب الطائف والأقط ؛ فيجعل منه حبا ويطعم من يمر من الناس. فلما مات [صنعوا لها تمثالا] وعبدوه. وقالوا : هو اللات ـ وكان يقرأ (اللات) مشددة. وهذا التفسير ظاهر على قراءة تشديد التاء ، وهى قراءة ابن عباس.

أما على قراءة تخفيف التاء. وهى قراءة الجمهور فقال بعض المفسرين إن هذا الاسم مأخوذ من اسم الله ـ تعالى ـ كما أن (العزى) من اسم الله (العزيز).

وقد أرسل رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ المغيرة بن شعبه وأبا سفيان بن حرب بعد ما أسلم أهل الطائف ؛ فهدمها المغيرة بن شعبة (سيرة ابن هشام ٤ / ٢٤٤).

أما العزّى : فإنها بيت مبنى على ثلاث شجرات من السمر فى وادى نخلة وكانت قريش تعبدها ويفتخرون بها.

كما جاء فى قول أبى سفيان يوم أحد : لنا العزى ولا عزى لكم (.

وقد أرسل إليها رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ خالد بن الوليد عام الفتح فهدمها كما أخرج النسائى وابن مردويه عن ابن الطفيل قال : لما فتح رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مكة بعث خالد بن الوليد إلى نخلة وكان بها العزى فأتاها خالد وكانت على ثلاث سمرات فقطع السمرات وهدم البيت الّذي كان عليها. ثم أتى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فأخبره ؛ فقال ارجع فإنك لم تصنع شيئا ؛ فرجع خالد ؛ فلما أبصرته السدنة وهم حجبتها أمعنوا فى الجبل وهم يقولون : يا عزى يا عزى ؛ فأتاها خالد ؛ فإذا امرأة عريانة ناشرة شعرها تحفن التراب على رأسها ؛ فعممها بالسيف حتى قتلها ثم رجع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره فقال : تلك العزى [الدر المنثور ٦ / ١٢٦].

أما مناة : فهو صنم فى (قديد) موضع قرب مكة (معجم البلدان ـ مادة قدد).

أخرج الطبرانى وابن مردويه عن ابن عباس رضى الله عنهما : «أن العزى كانت ببطن نخلة وأن اللات كانت بالطائف وأن مناة كانت بقديد» [مجمع الزوائد ٧ / ١١٥].

وقالوا : إنا نسمعه يذكر آلهتنا بخير ، فنزل جبريل عليه‌السلام معاتبا له وقال : «تلوت على الناس ما لم آتك به» فحزن لذلك حزنا شديدا فنزل قوله ـ تعالى ـ مسليا له بقوله : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) (١).

ولا يخفى أن الإخبار عن اللات والعزى بأنهن من الغرانيق العلى أى الملائكة ، وأن شفاعتهن لترتجى كذب ، والكذب عند الخصوم غير جائز على الأنبياء عمدا ، وسهوا.

فإن قيل : التمنى قد يطلق ويراد به التلاوة قال الله ـ تعالى ـ : (لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَ) (٢) : أى لا يعرفونه إلا تلاوة ، وقال حسان بن ثابت :

تمنّى كتاب الله أول ليلة

وآخرها لاقى حمام المقادر (٣).

«أراد تلى كتاب الله أول ليلة» ، وقد يطلق على التفكر بلغة قريش ، فإن كان المراد منه التلاوة ؛ فلا نسلم أن ذلك مما جرى على لسانه ؛ لأنه إما أن يكون عمدا ، أو سهوا.

لا جائز أن يكون عمدا : لأن الثناء على الأصنام ، والإخبار عنها بعلو الرتبة ، وعظم الشأن عند من يكون متألها لها مما يزيده / / بها إغراء ، واعتقادا ؛ وهو من الكبائر. والأنبياء منزهون عن الكبائر بالإجماع منا ومنكم ، وإن اختلفنا فى الصغائر ، ولا جائز أن يكون ساهيا : لقوله ـ تعالى ـ (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) (٤) ولأن العادة تحيل أن تقع من الساهى مثل هذه الألفاظ المطابقة لوزن السورة ، وما تقدم من معناها.

__________________

(١) سورة الحج ٢٢ / ٥٢ ـ لمزيد من البحث والدراسة عن هذه الشبهة بالإضافة إلى ما ذكره الآمدي مفصلا موضحا انظر :

تفسير الكشاف للزمخشرى ٣ / ١٨ ، ١٩ ، وتفسير فخر الدين الرازى ٢٤ / ٤٩ ـ ٥٧.

وتفسير القرطبى ٧ / ٤٤٧١ ـ ٤٤٧٩ ، ومختصر تفسير بن كثير ٢ / ٥٥٠ ، ٥٥١.

وشرح المواقف للجرجانى ـ الموقف السادس ص ١٥٣ ، ١٥٤.

وشرح المقاصد للتفتازانى ٣ / ٣١٦.

(٢) سورة البقرة ٢ / ٧٨.

(٣) قاله حسان بن ثابت رضي الله عنه ـ فى رثاء عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه. وهو حسان بن ثابت بن المنذر الخزرجى الأنصارى ، أبو الوليد. الصحابى ، شاعر النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وأحد المخضرمين الذين أدركوا الجاهلية والإسلام قال أبو عبيدة : فضل حسان الشعراء بثلاثة : كان شاعر الأنصار فى الجاهلية وشاعر النبي فى النبوة وشاعر اليمانيين فى الإسلام ، توفى سنة ٥٤ ه‍.

[تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلانى ٢ / ٢٤٧ وخزانة الأدب للبغدادى ١ / ١١١ الأعلام للزركلى ٢ / ١٧٦].

/ / أول ١٠١ / أ.

(٤) سورة الأعلى ٨٧ / ٦.

كما أنه يمتنع على أحد ممن ينشد قصيدة أن يجرى على لسانه فى أثنائها بيت مطابق لوزن القصيدة ، ولمعنى ما تقدم منها وهو ساه فيه.

وعند ذلك : فيحتمل أن يكون النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قد قرأ تلك السورة وإن كان فى الصلاة / والمشركون حوله من قريش فلما انتهى إلى قوله ـ تعالى ـ (وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) (١) وعلم من قرب منه منهم أنه سيورد بعد ذلك ما يسؤهم فى آلهتهم ، فقال كالمعارض له «فإنهن عند الله من الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهن لترتجى» وظن السامعون لذلك ، أنه جرى على لسان النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لأنهم كانوا يلغطون عند قراءته ـ عليه الصلاة والسلام ـ طلبا لتغليطه ، وهو المراد من قوله ـ تعالى ـ (إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) (٢) أى ألقى فى قلوب الناس التخويف لتلاوته ، وإضافة ما ليس منها إليها.

وإن سلمنا أن ذلك مما جرى على لسانه ، إلا أن المراد من قوله : «تلك الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهن لترتجى : الملائكة. وقد كان ذلك قرآنا ، غير أنه لما توهم المشركون أن المراد به آلهتهم ؛ نسخت تلاوته.

وإن سلمنا أن المراد به اللات والعزى ، وأنه لم يكن قرآنا غير أنه قد قيل أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان إذا قرأ القرآن على قريش توقف فى فصول الآيات وآتى بكلام آخر على سبيل الاحتجاج عليهم ، فلما تلى (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى* وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) قال عليه الصلاة والسلام ـ «تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى» مستفهما على سبيل الإنكار عليهم مع حذف الاستفهام ؛ فإنه جائز على ما سبق ، ولا يمتنع أن يكون ذلك فى الصلاة ؛ لأن الكلام ، فى الصلاة كان جائزا ، ونسخ بعد ذلك. هذا كله إن كان المراد من قوله تمنى التلاوة.

وإن كان المراد به الفكرة ، وتمنى القلب ، كان معنى قوله (أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) : أنه يوسوس إليه عند تمنيه بالباطل ويحدثه بالمعاصي ، وقوله ـ تعالى ـ (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) أى أنه يبطل ذلك ، ويذهبه عن قلبه بما يرشده إليه من مخالفة الشيطان ، وذلك لا يدل على تحقق المعصية من النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

__________________

(١) سورة النجم ٥٣ / ٢٠.

(٢) سورة الحج ٢٢ / ٥٢.

والجواب : أن المراد بالتمنى هاهنا التلاوة لثلاثة أوجه :

الأول : ما وردت عليه الآية من السبب ، وهو ما سمع من قوله «تلك عند الله من الغرانيق العلى» وذلك إنما وقع فى التلاوة ، لا فى تمنى القلب.

الثانى : قوله ـ تعالى ـ : (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) ولفظ النسخ فى الشرع معهود فى نسخ التلاوة ، أو حكمها دون ما عداهما ؛ فكان حمله عليه متعينا.

الثالث : قوله ـ تعالى ـ : (ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ) ، قال ابن عباس معناه بإخراج ما ليس منها. والمراد بالآيات : آيات القرآن وهى نفس التلاوة ، لا تمنى القلب.

قولهم : لا نسلم أن ذلك جرى على لسانه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قلنا : هذا خلاف المنقول على لسان الرواة الثقات / ، ونزول جبريل معاتبا للنبى بقوله : «تلوت على الناس ما لم آتك به».

قولهم : إما أن يكون عمدا ، أو سهوا.

قلنا : ما المانع أن يكون سهوا ، وقوله ـ تعالى ـ : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) (١). فهو مشروط بعدم المشيئة على ما قال ـ تعالى ـ : (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) (٢). فلم قلتم إنه لم يشأ ذلك.

قولهم : إن العادة تحيل النسيان فى مثل ذلك.

قلنا : إن أردتم بذلك أنه محال عادة : كاستحالة انقلاب الجبال ، ذهبا ، والبحار دما فى وقتنا هذا ؛ فغير مسلم.

وإن أردتم به أنه مما يندر السهو فى مثل ذلك ؛ فهو مسلم. ولا جرم قلما وقع ذلك أو يقع.

قولهم : يحتمل أن يكون ذلك من كلام من قرب من المشركين منه ، وقت قراءته.

قلنا : هذا مجرد احتمال ؛ فلا يقع فى مقابلة المنقول الظاهر بأى طريق كان.

__________________

(١) سورة الأعلى ٨٧ / ٦.

(٢) سورة الأعلى ٨٧ / ٧.

قولهم : المراد من قوله «تلك الغرانيق العلى» الملائكة وإن كان ذلك قرآنا فنسخ ليس كذلك لوجوه ثلاثة : ـ

الأول : أن الرواية ما ذكرناه وهو قوله «فإنهن من الغرانيق العلى» والضمير عائد إلى اللات ، والعزى ، ومناة الثالثة الأخرى ، إذ ليس / / ثم ما يمكن عود الضمير إليه غير ذلك ، وذلك لا يتصور أن يكون قرآنا لكذبه.

الثانى : أنه لو كان ذلك من القرآن ؛ لكان الظاهر اشتهاره وشيوعه كسائر الآيات المنسوخة ؛ وهو غير مشتهر.

الثالث : أن الله ـ تعالى ـ وصف ذلك بأنه من إلقاء الشيطان ؛ والقرآن لا يكون كذلك.

قولهم : إن ذلك كان منه لا قرآنا ؛ بل على سبيل الاحتجاج على المشركين ليس كذلك لوجهين :

الأول : أن الرواية كما ذكرناه ، وذلك لا يتصور فيه الاحتجاج.

الثانى : وصفه بأنه من إلقاء الشيطان ، وما يكون حجة على المشركين ؛ لا يكون من إلقاء الشيطان ، وأثر وسوسته. كيف وأن المنقول أن ذلك كان فى الصلاة ، وعند ذلك فلا يخلو : إما أن يقال كان الكلام فى الصلاة فى ذلك الوقت محرما ، أو لم يكن محرما.

فإن كان الأول : فقد صدر منه الذنب ، والمعصية : إما عامدا أو ساهيا ؛ وهو خلاف أصول الخصوم.

وإن كان الثانى : فقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «المصلى يناجى ربه» والظاهر من حاله أنه لا يشتغل حالة مناجاته للرب ـ تعالى [بغيرها ، ولا يخفى أن الاحتجاج على المشركين فى حالة الصلاة ، اشتغال بغير مناجاة الرب تعالى] (١) ؛ فكان بعيدا.

__________________

/ / أول ل ١٠١ / ب.

(١) ساقط من (أ).

الحجة التاسعة عشرة :

قوله ـ تعالى ـ مخاطبا لمحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً* لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) (١) ، وهو صريح فى أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ له ذنوب.

فإن قيل : المراد من ذلك ما تقدم ، وتأخر من ذنوب أمتك فى الزمان. وإنما حسنت إضافة ذنوب أمته إليه ؛ لأنه كبير أمته ، وزعيمها ، ويصح أن يقال لمن رأس على قومه ، وكان مقدما عليهم إذا جنى بعض أتباعه : أنت فعلت ذلك الفعل ، وإن لم يكن هو الفاعل له حقيقة.

ويمكن أن يقال معناه : «ليغفر لأجلك ما تقدم ، وما تأخر من ذنوب أمتك إليك» فأضيفت ذنوبهم إليه ؛ لأن الذنب مصدر والمصدر يصح إضافته إلى الفاعل كما يقال «أعجبنى ضرب زيد عمرا» ، إذا أضافوه إلى الفاعل ، ويصح إضافته إلى المفعول : كما فى قولهم : أعجبنى ضرب زيد عمرو «بالرفع ، وبتقدير الأول» «أعجبنى أن ضرب زيد عمرا» وبتقدير الثانى «أعجبنى أن ضرب عمرو زيدا».

وإن سلمنا صدور تلك الذنوب عنه ؛ لكن بمعنى ترك الأولى لا بمعنى ارتكاب ما هو فى نفسه محظورا.

ولهذا كان من فوت على نفسه ما له فيه مصلحة وإن لم يكن تركه محرما. يصح أن يقال له إنك مسىء ، ومذنب بالنظر إلى حق نفسك ، وليس ذلك من القبائح التى يمتنع على الأنبياء فعلها.

والجواب :

قولهم : المراد به ما تقدم ، وتأخر من ذنوب أمتك.

__________________

(١) سورة الفتح ٤٨ / ١ ، ٢ لمزيد من البحث والدراسة بالإضافة لما ذكره الآمدي هاهنا انظر :

تفسير الكشاف للزمخشرى ٣ / ٥٤٠ ، ٥٤١ وتفسير الرازى ٢٨ / ٧٧ ـ ٨٠.

وتفسير القرطبى ٩ / ٦٠٨٠ ـ ٦٠٨٣. ومختصر تفسير ابن كثير ٣ / ٣٣٩ ، ٣٤٠.

وشرح المواقف للجرجانى ـ الموقف السادس ص ١٥٨.

وشرح المقاصد للتفتازانى ٣ / ٣١٥.

قلنا : المنقول عن أكثر المفسرين : كالنقاش (١) ، وغيره. أنهم قالوا : المراد منه ما تقدم من ذنبه عليه ـ الصلاة والسلام ـ فى الجاهلية وما تأخر : أى بعد النبوة.

وما ذكروه فغير مروى عن موثوق به ؛ كيف وأنه يمتنع الحمل على ما ذكروه.

أما الاحتمال الأول الّذي ذكروه : فلأنه إنما يحسن إضافة فعل الأتباع إلى مقدمهم ، إذا كان فعلهم مرتبطا به ، وهو منه بسبب ، وذلك بأن يكون سببا فى تمكنهم من الفعل ، وإقدامهم عليه ، وعدم خوفهم من المعترض عليهم ؛ لأجل رئيسهم ، وأما إذا لم يكن كذلك فلا. ولا يخفى أن ما نحن فيه ليس كذلك.

وما ذكروه من الاحتمال الثانى : وهو إضافة الذنب إليه ؛ لكونه مصدرا ؛ فإنما يصح فيما كان من المصادر متعديا : كالضرب ونحوه. وأما ما لا يكون متعديا : كالذنب فلا نسلم صحة إضافته إلى المفعول ، ولا أن ذلك واقع فى العربية.

ثم وإن سلمنا صحة هذه الإضافة ، غير أنها على خلاف الظاهر من إضافة الذنب إلى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولهذا كان حمله على صدور الذنب منه متبادرا إلى الفهم ، بخلاف ما ذكروه من الاحتمالات فإنها لا تفهم من اللفظ إلا بعد تكلف ، ومشقة فى النظر ، ولا يخفى أن ترك الظاهر من غير دليل ممتنع.

قولهم : ذلك محمول على ترك الأفضل ، والأولى.

ليس كذلك : فإنه لا مناسبة بين الغفران والذنب بهذا المعنى ، / / كيف وأنه على خلاف الظاهر من اللفظ ؛ فيمتنع المصير إليه إلا بدليل.

__________________

(١) النقاش : محمد بن الحسن بن محمد بن زياد ، أبو بكر النقاش. عالم بالقرآن وتفسيره أصله من الموصل ، ومنشأه ببغداد رحل رحلات طويلة وكان فى مبدأ أمره يتعاطى نقش السقوف والحيطان فعرف بالنقاش.

ولد سنة ٢٦٦ ه‍ وتوفى سنة ٣٥١ ه‍ قال الذهبى : «وقد اعتمد الدانى فى التيسير على رواياته للقرآن ، والله أعلم ، فإن قلبى لا يسكن إليه وهو عندى متهم عفا الله عنه» وقال عنه أبو القاسم اللالكائى : «تفسير النقاش شقاء للصدور وليس بشفاء الصدور».

[ميزان الاعتدال للذهبى ٣ / ٤٥ ووفيات الأعيان ١ / ٤٨٩].

/ / أول ل ١٠٢ / أ.

الحجة العشرون :

قوله ـ تعالى ـ مخاطبا لنبيه عليه ـ الصلاة والسلام ـ :

(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ* وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ* الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ) (١).

ووجه الاحتجاج به : أنه ـ تعالى ـ صرح بوضع الوزر عنه ، فإن قوله تعالى : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ / وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ) ، وإن كان لفظه لفظ استفهام ، إلا أنه للوجوب ، ولفظ الوزر ظاهر فى الذنب ؛ إذ هو المتبادر من لفظ الوزر إلى الفهم ، وذلك يدل على سابقة الذنب. ولهذا قال المفسرون المراد منه ما كان قبل الرسالة من الذنوب.

فإن قيل : لا نسلم أن الوزر هو الذنب ؛ بل الوزر فى اللغة هو الثقل ، فكل شيء احتمله الرجل على ظهره ؛ فأثقله ؛ فهو وزر. ومنه سمى الوزير وزيرا ؛ لأنه يتحمل أثقال صاحبه. ومنه قوله تعالى : (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) (٢) : أى أثقال أهلها. والذنب إنما سمى وزرا ؛ لأنه يثقل صاحبه ، وعلى هذا فكل شيء أثقل الإنسان ، وغمه جاز أن يسمى وزرا تشبها بالوزر الّذي هو الثقل الحقيقى.

وعند ذلك : فلا يمتنع أن يكون المراد بلفظ الوزر فى الآية ما كان يثقله من الهم ، والغم بسبب شرك قومه ، وما كان عليه من كونه مقهورا مستضعفا بين المشركين. وحيث أعلى الله ـ تعالى كلمته ، ونشر أعلامه ، وأزال عنه ما كان يثقله من الهم والغم خاطبه بقوله ـ تعالى ـ : (وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ) تذكيرا له بما أنعم به عليه ؛ ليقابله بالشكر. وليس فى ذلك ما يدل على سابقة الذنب.

والجواب :

إن الوزر وإن كان فى اللغة حقيقة فى الثقل الحقيقى ، فهو مجاز فيما عداه ، ولا يخفى أن حمل الوزر على الذنب مجاز مشهور فى العرف ؛ لتبادره إلى الفهم عند

__________________

(١) سورة الشرح ٩٤ / ١ ـ ٣. لمزيد من البحث والدراسة بالإضافة لما أورده الآمدي هاهنا راجع ما يلى :

تفسير الكشاف للزمخشرى ٤ / ٢٦٦ ، ٢٦٧ ، وتفسير الرازى ٣٢ / ٢ ـ ٥.

وتفسير القرطبى ١٠ / ٧١٩٤ ـ ٧١٩٦ ، ومختصر تفسير ابن كثير ٣ / ٦٥٢.

وشرح المواقف للجرجانى ـ الموقف السادس ص ١٥٧.

وشرح المقاصد للتفتازانى ٣ / ٣١٥.

(٢) سورة محمد ٤٧ / ٤.

الإطلاق ، بخلاف ما عداه ؛ فكان حمله عليه أولى ، ولا يصرف عنه إلا بدليل. كيف وأن هذه السورة مكية وأنها نزلت على النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو فى غاية الضعف ، والخمول ، وشدة الخوف من الأعداء ، وقبل إعلاء كلمته ، ونشر أعلامه ؛ فامتنع الحمل على ما ذكروه من الاحتمال.

فإن قيل : فمن المحتمل أن يكون المراد من قوله ـ تعالى ـ (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ* وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ). المستقبل وإن كان ظاهرا فى الماضى ، كما فى قوله ـ تعالى ـ : (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ) (١). وقوله : (وَنادَوْا يا مالِكُ) (٢).

وإن سلمنا أن المراد به الماضى غير أنه ـ تعالى ـ لما بشره بأنه يعلى دينه ، ويظهر كلمته ، ويشفيه من أعدائه ، وهو واثق بصدق الله ـ تعالى ـ فيما وعده به ، كان بذلك قد وضع عنه ثقل غمه بسبب قومه.

قلنا : أما الأول : وإن كان محتملا ، إلا أنه خلاف الظاهر ؛ فلا يصار إليه إلا بدليل.

وأما الثانى : فبعيد أيضا. فإن مقتضى قوله ـ تعالى ـ : (وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ) ، رفع الوزر مطلقا ، والوعد بما ذكروه لا يرفع الوزر مطلقا ، فإن الغم الحاصل بعناد المشركين له ، وخوفه منهم فى الحال ، حاصل وإن قل بسبب وثوقه بوعد الله ـ تعالى ـ بإزالته ؛ فكان الحمل على ما ذكرناه أولى.

وعند هذا : فلا بد من الإشارة إلى شبه الخصوم ، والتنبيه / على وجه الانفصال عنها.

الشبهة الأولى :

وهى العمدة الكبرى للخصوم. وهى أن المعجزة لما دلت على صدق الرسول فى دعوى الرسالة من حيث أن ظهورها على يده ينزل من الله ـ تعالى ـ منزلة التصديق له بالقول ؛ فقد دلت على وجوب اتباعه بواسطة دلالتها على صدقه ؛ لأن الغرض من إرساله ، وتصديقه ؛ إنما هو وجوب اتباعه فيما يخبر به ، ويؤديه إلينا. فكل ما يقدح فى القبول ووجوب الامتثال ؛ فالمعجزة تدل على امتناعه.

__________________

(١) سورة الأعراف ٧ / ٥٠.

(٢) سورة الزخرف ٤٣ / ٧٧

وعند هذا لا يخفى أن من يجوز عليه المعاصى ، ولا يأمن منه الإقدام عليها أن النفس لا تكون ساكنة إلى قبول قوله ، واستماعه : كسكونها إلى من لا يجوز عليه شيء من ذلك. والعادة والعرف شاهدان بذلك.

فإذن القول بصدور المعصية من النبي مما يؤثر فى تقليل قبول قول الرسول / / واتباعه فكان ممتنعا.

وعلى هذا أيضا يمتنع صدورها عنه قبل النبوة ؛ لأن السكون إلى من صدرت عنه المعصية ، وإن تاب ، وأقلع عنها ؛ يكون أقل من السكون إلى من لم يصدر عنه أصلا ، وعلى هذا يكون الكلام فى امتناع المعصية عنه على سبيل الخطأ ، والنسيان.

والجواب :

وإن سلمنا وجوب إتباع الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما يخبر به عن الله سبحانه ، ويؤديه إلينا عنه ، ولكن لا نسلم دلالة ذلك على امتناع صدور المعصية عنه.

قولهم : لأن الغرض من الإرسال إنما هو الامتثال ، والقبول ؛ فهو مبنى على فاسد أصولهم فى وجوب رعاية الحكمة فى أفعال الله تعالى ـ وأحكامه [وهو باطل على ما سبق فى التعديل ، والتجويز (١). وإن سلمنا وجوب رعاية الحكمة فى أفعال الله ـ تعالى ـ وأحكامه] (٢) ، فلا نسلم أن المقصود من وجوب الاتباع ، والامتثال ؛ بل أمكن أن تكون لحكمة أخرى : إما ظاهرة ، أو غير ظاهرة لنا.

ولهذا فإنا قد اتفقنا على وجوب العبادات ، وتحريم المحظورات ، وإن لم تكن الحكمة فيها هى الامتثال لتحقق المخالفة مع الوجوب ، والتحريم ، ولو كان المقصود من إيجاب الله ـ تعالى ـ للعبادات هو الامتثال ؛ لما تصور أن لا يحصل مقصوده منه.

وإن سلمنا أن المقصود من الوجوب إنما هو الامتثال ؛ لكن الامتثال الّذي لا نفرة معه ، أو الامتثال مع نفرة ما.

الأول : ممنوع ؛ إذ هى دعوى محل النزاع. والثانى : مسلم.

__________________

/ / أول ل ١٠٢ / ب.

(١) انظر الجزء الأول ل ١٨٦ / أ. وما بعدها.

(٢) ساقط من (أ).

ولهذا فإن العقلاء ، وأهل العرف مجمعون على أن يكون الشخص ضعيفا ، خاملا ، محتقرا ، فى الأعين مهتضما فى النفوس ، قليل الأتباع ، والأنصار مما يقلل الانقياد له ، والدخول تحت حكمه ، والطاعة له. ومع ذلك فإنا أجمعنا على أنه لا يمتنع على النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ؛ مع ظهور المعجزة على يده ، أن يكون متصفا بمثل هذه الصفات ؛ فكذلك فى المعاصى ، ولا سيما إن كان صدورها عنه عن سهو ، أو خطأ فى التأويل ، وأبلغ من ذلك أن تكون قد صدرت عنه قبل الرسالة.

الشبهة الثانية :

أنه يلزم من صدور المعصية عن الرسول أمر ممتنع ؛ فيمتنع. وبيان الملازمة من ستة أوجه:

الأول : أنه يلزم أن يكون استحقاقه / للعقاب ، أشد من استحقاق غيره ؛ لأن زيادة العقوبة على حسب تفاحش المعصية على ما قال ـ تعالى ـ : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) (١). وقوله ـ تعالى ـ : (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) (٢). وقوله ـ تعالى ـ : (يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ) (٣). ولأجل ذلك وجب الرجم على المحصن دون غيره ، وكمل الحد فى حق الحر دون العبد.

ولا يخفى أن صدور المعصية عمن عظمت نعمة الله عليه ، أفحش من صدورها عن غيره ، ولا نعمة أتم من نعمة النبوة ، فكان صدور المعصية عن النبي أفحش من غيره ، والقول بأن حال النبي ـ عليه‌السلام ـ فى استحقاق العقاب فوق حال غيره من العصاة من أمته مخالف للإجماع.

الثانى : أنه يلزم من صدور المعصية عنه أن يكون فاسقا ، ويلزم من ذلك أن لا يكون مقبول الشهادة لقوله ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) (٤). ومن لا يكون مقبول الشهادة ، يمتنع أن يكون مقبول القول فى الأديان ؛ وذلك محال.

__________________

(١) سورة الشورى ٤٢ / ٤٠.

(٢) سورة غافر ٤٠ / ٤٠.

(٣) سورة الأحزاب ٣٣ / ٣٠.

(٤) سورة الحجرات ٤٩ / ٦.

الثالث : أنه يلزم من صدور المعصية عن الرسول إيذاؤه بزجره ، والإنكار عليه ؛ لأن إنكار المنكر واجب ، وإيذاء الرسول ممتنع لقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) (١).

الرابع : أنه لو صدرت المعصية من الرسول.

فإما أن نكون مأمورين باتباعه ، أو لا نكون مأمورين باتباعه.

والأول : محال لقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) (٢).

والثانى : محال لقوله ـ تعالى ـ : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) (٣) ، ولقوله ـ تعالى ـ : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (٤).

الخامس : لو صدرت عنه المعصية ؛ لكان من أهل جهنم لقوله ـ تعالى ـ : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ) (٥). وذلك أيضا خلاف الإجماع.

السادس : أنه يلزم من صدور المعصية عن الرسول ، أن يكون ظالما لنفسه ، ويلزم من ذلك أن يكون ملعونا ؛ لقوله ـ / / تعالى ـ : (أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) (٦) ، وأن لا ينال عهد الله ؛ لقوله ـ تعالى ـ : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (٧). قال ابن عباس : المراد بالعهد هاهنا الإمامة ، ومعناه أن الظالمين لا يأتم ، بهم ويلزم من ذلك أن لا يكون الرسول مؤتما به ؛ وهو محال.

والجواب :

لا نسلم أنه يلزم من صدور المعصية عن النبىّ أمر ممتنع.

__________________

(١) سورة الأحزاب ٣٣ / ٥٧.

(٢) سورة الأعراف ٧ / ٢٨.

(٣) سورة آل عمران ٣ / ٣١.

(٤) سورة الأحزاب ٣٣ / ٢١.

(٥) سورة الجن ٧٢ / ٢٣.

/ / أول ل ١٠٣ / أ.

(٦) سورة هود ١١ / ١٨.

(٧) سورة البقرة ٢ / ١٢٤.

قولهم : إنه يلزم أن يكون استحقاقه للعقاب على معصية يزيد على استحقاق غيره.

فنقول : إن أردتم باستحقاقه للعقاب أنه يجب على الله تعالى ـ أن يعاقبه ؛ فهو باطل بما أسلفناه من امتناع ذلك على الله تعالى ـ.

وإن أردتم / به ملازمة العقاب له سمعا ؛ فهو أيضا ممنوع فلئن قلتم دليله قوله ـ تعالى ـ : (وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (١) ، وقوله ـ تعالى ـ : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا) (٢) ، وقوله ـ تعالى ـ : (وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) (٣) ، إلى غير ذلك من الآيات.

قلنا : أولا لا نسلم وجود صيغة العموم فى الأشخاص [فى هذه الآيات على ما عرف من أصلنا.

وإن سلمنا العموم فى الأشخاص] (٤) ؛ فلا نسلم العموم فى قوله ـ تعالى ـ : (مِثْقالَ ذَرَّةٍ) (٥) ، وكذلك فى الاساءة ؛ بل (٦) هو مطلق (٦) ، وقد عمل به فى الكفر ، والكبائر ، والمطلق إذا عمل به فى صورة ، خرج عن أن يكون حجة فى غيرها.

وإن أردتم به جواز عقابه عقلا ؛ فهو كذلك عندنا ، وإن كان ممتنعا سمعا.

وإن أردتم به غير ذلك : فبينوه.

وإن سلمنا لزوم العقاب على المعصية. ولكن لا نسلم لزوم المساواة ، ولفظ السيئة فى الآيتين مطلق ، وقد عمل به فى صورة فلا يكون حجة.

كيف وأن ما ذكروه وإن دل على امتناع صدور المعصية منه فى حالة النبوة ؛ فليس فيه ما يدل على امتناعها قبل النبوة.

وقولهم : يلزم منه أن يكون فاسقا غير مقبول الشهادة ، ممنوع ، إذ الكلام إنما هو فى جواز ارتكاب الصغيرة من غير مداومة عليها ، وذلك عندنا غير موجب للفسق ، ورد الشهادة.

__________________

(١) سورة الزلزلة ٩٩ / ٨.

(٢) سورة النجم ٥٣ / ٣١.

(٣) سورة فصلت ٤١ / ٤٦.

(٤) ساقط من (أ).

(٥) سورة الزلزلة ٩٩ / ٨.

(٦) (بل هو مطلق) ساقط من (ب).

قولهم : يلزم من ذلك إيذاء النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بالإنكار عليه ؛ وهو غير جائز.

قلنا : الإنكار عليه بتقدير صدور المعصية منه : إما أن يكون مشروعا ، أو غير مشروع.

فإن كان الأول : فاللعن بفعل ما هو مشروع ممتنع بالإجماع.

وإن كان الثانى : فقد امتنع لزوم إيذاء النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قولهم : إما أن نكون مأمورين باتباعه ، أو غير مأمورين.

قلنا : غير مأمورين باتباعه فى المعصية ، وما ذكروه من آيات الاتباع فعامة. وقوله : ـ تعالى ـ : (إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) (١). خاص ، والخاص مقدم على العام.

قولهم : يلزم أن يكون من أهل جهنم.

لا نسلم به ، وقوله ـ تعالى ـ : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ) (٢). لا نسلم صيغة العموم فى كل الأشخاص.

وإن سلمنا صيغة العموم فى الأشخاص ؛ فلا نسلم أنه يلزم من العموم فى الأشخاص العموم فى الأحوال ولهذا فإنه لو قال لزوجاته : من دخلت منكن الدار ؛ فهى طالق. فإنه وإن كان عاما فى الزوجات ؛ فلا يكون عاما لكل دخول ، ولهذا فإنه لا يتكرر الطلاق بتكرار الدخول ؛ فكذلك لا يلزم من العموم فى الأشخاص فيما نحن فيه. العموم فى المعصية.

وإن سلمنا العموم فى كل معصية لكنه مخصوص بالإجماع ، وبقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (٣). والعام بعد التخصيص لا نسلم أنه يبقى حجة وإن علمنا أنه حجة غير أنا قد بينا جواز صدور الصغائر عن الأنبياء ، والإجماع منعقد على نجاتهم من النار ؛ فيجب إخراجهم من العموم جمعا بين الأدلة بأقصى الإمكان.

__________________

(١) سورة الأعراف ٧ / ٢٨.

(٢) سورة الجن ٧٢ / ٢٣.

(٣) سورة النساء ٤ / ٤٨.

قولهم : يلزم من ذلك أن يكون ظالما لنفسه ، وأن يكون ملعونا.

لا نسلم ذلك : وقوله ـ تعالى ـ : (أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) (١) ، لا يعم كل ظالم ؛ بل هو خاص فى الظالمين (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ) (٢) على ما نطقت به الآية ، وذلك / غير مقصور فى حق من اقتصر على فعل الصغيرة ؛ فلا تكون الآية متناولة له.

قولهم : ويلزم منه أن لا ينال عهد الله ، وأن العهد هو الإمامة.

قلنا : فقد قال غير ابن عباس من أهل التفسير : معناه ليس فى عهدى أن ينال الظالمون جزائى ، وثوابى يوم القيامة. وليس فى ذلك ما يدل على أنه لا يثبت ، وإن كان ليس فى عهده ، وليس أحد التفسيرين أولى / / من الآخر.

وإن سلمنا أن المراد بالعهد ما ذكروه ، غير أن العاصى كان ظالما فى نفس الأمر لنفسه.

ولكن لا نسلم العموم فى لفظ الظالمين.

وإن سلمنا صيغة العموم فيه ؛ فيجب تخصيصه بالظالمين أصحاب الكبائر ، جمعا بينه ، وبين ما ذكرناه من الأدلة ؛ فإن الجمع أولى من التعطيل.

الشبهة الثالثة :

لو وجدت المعاصى من الأنبياء ؛ لكانت الملائكة أفضل منهم ؛ لأن الملائكة معصومون على ما يأتى تحقيقه. والأنبياء غير معصومين ، فقد قال الله ـ تعالى ـ : (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ) (٣). وقال ـ تعالى ـ : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) (٤). واللازم ممتنع بالإجماع من الأشاعرة والشيعة.

__________________

(١) سورة هود ١١ / ١٨.

(٢) سورة الأعراف ٧ / ٤٥.

/ / أول ل ١٠٣ / ب.

(٣) سورة ص ٣٨ / ٢٨.

(٤) سورة الحجرات ٤٩ / ١٣.

والجواب :

لا نسلم الملازمة.

قولهم : الملائكة معصومون. ممنوع على ما يأتى.

وإن سلمنا أن الملائكة معصومون ؛ ولكن لا نسلم أن الأنبياء أفضل على ما هو مذهب القاضى أبى بكر ، وجماعة من أصحابنا.

الشبهة الرابعة :

هو أن الله ـ تعالى ـ قد وصف بعض الأنبياء بالإخلاص. وذلك كقوله تعالى ـ فى حق إبراهيم ، وإسحاق ، ويعقوب (إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) (١). وقوله ـ تعالى ـ فى حق يوسف ـ عليه‌السلام ـ (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) (٢) وقد قال ـ تعالى ـ حكاية عن إبليس (رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (٣) وذلك يدل على امتناع صدور المعصية منهم. وإلا لما كان الاستثناء صحيحا.

والجواب :

أن ما ذكروه فهو حكاية عن مقال إبليس ؛ ولا حجة فيه.

وإن سلمنا أن قوله حجة غير أنه يجب حمل الإغواء على الاضلال ، والإشراك بالله ـ تعالى ـ جمعا بينه ، وبين ما ذكرناه من الأدلة. والشرك ممتنع فى حق الأنبياء. بالإجماع منا ، ومن الخصوم.

__________________

(١) سورة ص ٣٨ / ٤٦.

(٢) سورة يوسف ١٢ / ٢٤.

(٣) سورة الحجر ١٥ / ٣٩ ، ٤٠.

الشبهة الخامسة.

قوله ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (١).

ولا جائز أن يكون المستثنى غير الأنبياء ، وإلا كان غير النبي أفضل من النبي ؛ لما تقدم ؛ وهو خلاف الإجماع.

وإن كان المستثنى هم الأنبياء لزم امتناع صدور المعصية عنهم وإلا كانوا متبعين لإبليس ؛ وهو خلاف النص.

والجواب :

أنه يجب أن يحمل قوله ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) فى اتباعه فى كبائر الذنوب فاتبعون فيما صدق عليه ظنه من كبائر الذنوب جمعا بينه ، وبين ما ذكرناه من الأدلة ، والكبائر ؛ فغير واقعة من الأنبياء بإجماع المسلمين قبل الأزارقة (٢).

__________________

(١) سورة سبأ ٣٤ / ٢٠.

(٢) الأزارقة : أصحاب نافع بن الأزرق. انظر عنهم وعن آرائهم بالتفصيل ما سيأتى فى القاعدة السابعة ـ الفصل الرابع : فى أن مخالف الحق من أهل القبلة هل هو كافر أم لا؟ ل ٢٥٢ / ب. وما بعدها.

الأصل السادس

فيما قيل / من عصمة الملائكة ، والتفضيل بينهم ، وبين

الأنبياء عليهم‌السلام

ويشتمل على فصلين :

الفصل الأول : فيما قيل من عصمة الملائكة عليهم‌السلام.

الفصل الثانى : فيما قيل فى التفضيل بين الملائكة ، والأنبياء عليهم‌السلام.

الفصل الأول

فيما قيل من عصمة الملائكة عليهم‌السلام

وقد اختلف المتكلمون فى ذلك نفيا ، وإثباتا محتجين فى كل واحد من الطرفين بحجج ، وها نحن نذكر الأشبه منها ، وننبه على ما فيها (١).

أما القائلون بنفى العصمة : فقد احتجوا بحجتين :

الحجة الأولى :

هى أن إبليس كان من الملائكة ، وقد عصى بمخالفة أمر الله ـ تعالى ـ له بالسجود لآدم. ودليل أنه كان من الملائكة وقد عصى بمخالفة أمر الله ـ تعالى ـ أمران :

الأول : أنه استثناه من الملائكة ، وذلك يدل على أنه من جنسهم.

الثانى : أن الأمر بالسجود لآدم إنما كان للملائكة. بدليل قوله ـ تعالى ـ : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) (٢) ، ولو لم يكن إبليس من الملائكة ؛ لما كان عاصيا ، ولا مخالفا للأمر ؛ لأن أمر الملائكة لا يكون أمرا له ، ودليل عصيانه قوله ـ تعالى ـ : (إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ).

الحجة الثانية :

قوله ـ تعالى ـ : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) (٣). وفى الآية احتجاجات كثيرة غير أنا نقتصر على ما هو الأشبه منها وذلك من أربعة أوجه : ـ

__________________

(١) لمزيد من البحث والدراسة انظر من الكتب المتقدمة على الأبكار.

الفصل فى الملل والأهواء والنحل لابن حزم ج ٣ / ٣٠٣ وما بعدها ، ج ٤ / ٦١. وما بعدها.

وأصول الدين للبغدادى ص ٢٩٥.

ومن كتب المتأخرين المتأثرين بالآمدي :

شرح المواقف فى علم الكلام للجرجانى : الموقف السادس ص ١٦٢. وما بعدها.

وشرح المقاصد للتفتازانى ٢ / ١٤٦. وما بعدها.

(٢) سورة البقرة ٢ / ٣٤.

(٣) سورة البقرة ٢ / ٣٠.

الوجه الأول :

أنهم ذكروا ذلك بطريق الاعتراض على الله ـ عزوجل ـ والإنكار لفعله ؛ وذلك من أعظم الذنوب.

الوجه الثاني :

أنهم اغتابوا بنى آدم ، ونسبوهم إلى الفساد ، وسفك الدماء ، والغيبة ذنب لقوله ـ تعالى ـ : (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) (١). نهى عن الغيبة ، والنهى ظاهر فى التحريم ، ثم شبه ذلك بأكل لحم الميت ، والمشبه به حرام ، فكذلك ما شبه به. ولو لا أن الغيبة معصية ؛ لما كان كذلك.

الوجه الثالث :

أنهم كذبوا فيما نسبوا بنى آدم / / إليه ، إذ ليس كان بنى آدم كذلك ، والكذب معصية أيضا.

الوجه الرابع :

أنهم نسبوا أنفسهم إلى التسبيح ، والتقديس بعد الطعن فى بنى آدم على طريق الترفع ، والتعلى ؛ وذلك عجب منهم بأنفسهم ؛ والعجب من الذنوب المهلكة.

فان قيل : لا نسلم أن إبليس كان من الملائكة ؛ بل كان من الجنّ وهو أبو الجنّ كما قاله ابن مسعود (٢) ، والزّهرى (٣) ، والحسن (٤) ، وغيرهم ، ويدل عليه قوله ـ تعالى ـ : (إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِ) (٥) والجنّ ليسوا من الملائكة لوجوه ثلاثة :

__________________

(١) سورة الحجرات ٤٩ / ١٢.

/ / أول ل ١٠٤ / أ.

(٢) انظر عنه ما سبق فى هامش ل ١٥٣ / أ.

(٣) الزّهرى : محمد بن مسلم بن شهاب الزهرى ، من بنى زهرة بن كلاب ، من قريش أول من دون الحديث ، وأحد أكابر الحفاظ والفقهاء ، تابعى من أهل المدينة. كان يحفظ ألفين ومائتى حديث نصفها مسند. نزل الشام واستقر بها ، وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله : «عليكم بابن شهاب ؛ فانكم لا تجدون أحدا أعلم بالسنة الماضية منه» ولد سنة ٥٨ ه‍ وتوفى ١٢٤ ه‍ [تذكرة الحفاظ ١ / ١٠٢ ووفيات الأعيان ١ / ٤٥١ والأعلام للزركلى ٧ / ٩٧].

(٤) راجع ما سبق فى هامش ل ١٨٢ / ب.

(٥) سورة الكهف ١٨ / ٥٠.

الأول : قوله ـ تعالى ـ : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ* قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَ) (١). وذلك يدل على أن الجنّ من غير جنس الملائكة.

الثانى : هو أن إبليس له ذرّية على ما قال ـ تعالى ـ : (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي) (٢). والملائكة لا ذريّة لهم ، لأن الذّريّة لا تكون إلا من ذكر ، وأنثى. والملائكة لا إناث فيهم بدليل قوله ـ تعالى ـ : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ / إِناثاً) (٣) بطريق الإنكار ، والتهديد لقائله ؛ لقوله ـ تعالى ـ : (سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ).

الثالث : أن إبليس مخلوق من النار ؛ لقوله ـ تعالى ـ حكاية عن قول إبليس : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) (٤) ، والملائكة مخلوقون من النور.

وعلى هذا فلا يمتنع استثناؤه من الملائكة وإن لم يكن من جنسهم كما فى قوله ـ تعالى ـ : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً* إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً) (٥) ، وقوله تعالى «لا إله إلا الله» استثناء من غير الجنس الّذي نفاه. وأما عصيانه بمخالفة الأمر ؛ فليس لدخوله فى أمر الملائكة ؛ بل لأنه كان قد أمر بالسجود على الانفراد ، بدليل قوله ـ تعالى ـ : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) (٦) ؛ وذلك يدل على تخصيصه بالأمر.

وأما الآية الأخرى ؛ فلا نسلم دلالتها على عصيان الملائكة.

وقولهم فى الوجه الأول من الحجة الثانية : أنهم ذكروا ذلك على طريق الاعتراض على الله ـ تعالى ـ والإنكار عليه فى قوله ـ تعالى ـ غير مسلم ؛ بل إنما سألوا ؛ ليعلموا ذلك كما قال الأخفش (٧) ، وثعلب (٨) وقال آخرون من أهل التفسير. لم يذكروا

__________________

(١) سورة سبأ ٣٤ / ٤٠ ، ٤١.

(٢) سورة الكهف ١٨ / ٥٠.

(٣) سورة الزخرف ٤٣ / ١٩.

(٤) سورة الأعراف ٧ / ١٢.

(٥) سورة الواقعة ٥٦ / ٢٥ ، ٢٦.

(٦) سورة الأعراف ٧ / ١٢.

(٧) الأخفش : سعيد بن مسعدة المجاشعى بالولاء ، البلخى ، المعروف بالأخفش الأوسط (أبو الحسن) أخذ عن سيبويه والخليل بن أحمد من تصانيفه : معانى القرآن ، والمقاييس فى النحو توفى سنة ٢١٥ ه‍.

[وفيات الأعيان لابن خلكان ١ / ٢٦١ ، ومعجم المؤلفين لكحالة ٤ / ٢٣١].

(٨) ثعلب : أحمد بن يحيى الشيبانى مولاهم الكوفى ، المعروف بثعلب (أبو العباس) نحوى ، لغوى ولد سنة ٢٠٠ ه‍ بالكوفة ، وتوفى ببغداد سنة ٢٩١ ه‍ من كتبه : اختلاف النحويين ومعانى القرآن. [وفيات الأعيان لابن خلكان ١ / ٣٦ ، ٣٧ ، وطبقات القراء لابن الجزرى ١ / ١٤٨ ، ١٤٩].

ذلك على طريق الاستعلام ، والاستفهام كقوله ـ تعالى ـ : (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) (١) ؛ بل إنما ذكروا ذلك ـ وإن كانت صورته صورة استفهام ـ على طريق الإثبات ؛ تصديقا لله ـ تعالى ـ فيما أخبرهم به. وذلك أن الله ـ تعالى ـ أخبرهم بأنه يجعل فى الأرض من يفسد فيها ، ويسفك الدماء ، فقالوا تصديقا له ـ تعالى ـ (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) (٢) ، والمراد به تجعل ، ويجوز فى لغة العرب أن يطلق ما لفظه لفظ الاستفهام ، والمراد به الإثبات. قال جرير :

ألستم خير من ركب المطايا

وأندى العالمين بطون راح

أى أنتم خير من ركب المطايا. وقد قال بعض أهل التفسير : إنما ذكروا ذلك على طريق التعجب عند أنفسهم من ذلك. وعلى كل تقدير فلا يكون ذلك منهم بطريق الإنكار.

وعلى هذا : فقد اندفع ما ذكرتموه من الوجه الثانى ، والثالث أيضا.

وقولكم فى الوجه الرابع : إنهم ذكروا ذلك على طريق الترفع ، والتعجب ؛ ليس كذلك.

بل إنما ذكروه على طريق الإخبار بالانقياد لله ـ تعالى والطاعة ، والتعظيم لشأنه ، والتذلل بين يديه ، كما فى قول الواحد منا لغيره إذ أراد التذلل بين يديه ، أنا عبدك وخديمك وقائم بخدمتك.

وإن سلمنا دلالة ما ذكرتموه على وقوع الذنوب من الملائكة ؛ فهو معارض بما يدل على عدمه ، وبيانه من وجهين :

الأول : قوله ـ تعالى ـ فى صفة الملائكة (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) (٣). ومن هذا صفته ؛ لا يتصور صدور الذنب منه ؛ لأنه فى حالة صدور الذنب منه ؛ يستدعى الفتور فى التسبيح ؛ وهو خلاف مدلول الآية.

__________________

(١) سورة الأنبياء ٢١ / ٢٧.

(٢) سورة البقرة ٢ / ٣٠.

(٣) سورة الأنبياء ٢١ / ٢٠.

/ الثانى : قوله ـ تعالى ـ فى صفتهم (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (١). وقوله ـ تعالى ـ : (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) (٢). وذلك يدل على عدم المعصية فى حقهم ؛ لأن المعصية : إما بمخالفة الأمر ، أو النهى.

لا جائز أن يقال إنها فى حقهم بمخالفة الأمر ؛ إذ هو خلاف النص.

ولا جائز أن يقال إنها بمخالفة النهى ؛ لأن النهى عن الشيء أمر بأحد أضداده ، ومخالفة النهى : إنما تكون بارتكاب المنهى عنه ، وارتكاب المنهى عنه يلزم منه أن لا يكون قد تلبس بضد من أضداد المنهى ؛ وفيه مخالفة الأمر ؛ وهو خلاف مدلول الآية.

والجواب :

قولهم : لا نسلم أن إبليس كان من الملائكة.

قلنا : / / دليله ما ذكرناه.

قولهم : إنه كان من الجن.

قلنا : ولا منافاة بين الأمرين. فإنه قد قال ابن عباس ، وهو ترجمان القرآن ، وغيره من المفسرين : أن إبليس كان من الملائكة من قبيل يقال لهم الجنة ؛ لأنهم كانوا خزان الجنان. ولا يخفى أن التوفيق بين النقلين ، وموافقة ما ذكرناه من الدلالة السمعية ؛ أولى مما ذكروه. وقوله ـ تعالى ـ : (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) (٣). الآية عنه جوابان : ـ

الأول : لا نسلم صيغة العموم فى الملائكة.

والثانى : سلمنا العموم ، غير أنه قد ذكر أهل التفسير أن الجن ولد الجان ، وكان ساكنا فى الأرض قبل خلق الله ـ تعالى ـ لآدم ، وهم طائفة من سكان الأرض يعبر عنهم بالجن ، لاستتارهم ، وليس من قبيل الملائكة الذين هم خزان الجنان. وعلى هذا : فيجب حمل الآية على الجن الذين ليسوا من جنس الملائكة جمعا بين الأدلة.

__________________

(١) سورة النحل ١٦ / ٥٠.

(٢) سورة الأنبياء ٢١ / ٢٧.

/ / أول ل ١٠٤ / ب.

(٣) سورة الأنعام ٦ / ٢٢.

قولهم : إن إبليس له ذرية.

قلنا : ليس فى ذلك ما ينافى كونه من الملائكة.

قولهم : إن الذرية لا تكون إلا من ذكر ، وأنثى ؛ مسلم.

قولهم : الملائكة لا إناث فيهم.

قلنا : إنما يلزم أن يكون فى الملائكة إناثا ، أن لو امتنع حصول الذرية من جنسين ، وما المانع أن تكون ذرية إبليس منه ، مع كونه من جنس الملائكة ، ومن غير جنسه.

قولهم : إن إبليس مخلوق من النار. والملائكة من النور.

قلنا : فلا منافاة أيضا بين كون إبليس من جنس الملائكة وإن كان أصل خلقه ، خلاف أصل خلق باقى الملائكة.

قولهم : إنه يجوز الاستثناء من غير الجنس كما ذكروه.

قلنا : مسلم ، غير أن الأصل : إنما هو الاستثناء من الجنس ، ولذلك كان هو الغالب ، والمتبادر إلى الفهم من الاستثناء.

قولهم : إن إبليس لم يكن داخلا فى عموم أمر الملائكة ؛ بل كان مأمورا على انفراده.

قلنا : لا نسلم ذلك ، فإنه لم يرد غير قوله ـ تعالى ـ : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ) (١). وقوله ـ تعالى ـ : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) (٢). ليس فيه ما يدل على تخصيصه بالأمر. فإن ذلك يصح وإن كان داخلا فى عموم أمر الملائكة.

قولهم : فى الآية الأخرى.

لا نسلم دلالتها على عصيان الملائكة.

قلنا : دليله ما سبق.

__________________

(١) سورة البقرة ٢ / ٣٤.

(٢) سورة الأعراف ٧ / ١٢.

قولهم : إنهم إنما سألوا ليعلموا / لا أنهم ذكروا ذلك على طريق الاعتراض.

فهو ممتنع لوجهين :

الأول : أنه أجابهم بقوله ـ تعالى ـ : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) (١) ، ولو كان ذلك منهم على طريق الاستعلام ؛ لما حسن الجواب بمثل هذا الجواب ؛ بل كان الواجب أن يجاب بنعم ، أو لا.

الثانى : قال مقاتل (٢) : المراد من قوله ـ تعالى ـ : (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٣) : أى فى قولكم : إنى جاعل فى الأرض من يفسد فيها ؛ فدل ذلك على أن قولهم : إنما كان ذلك بطريق الإخبار ، لا أنه كان بطريق الاستعلام.

وبهذين الوجهين يبطل أيضا ما ذكروه من الوجه الثانى : أنهم ذكروا ذلك على طريق الإثبات تصديقا لله ـ تعالى ـ فيما أخبرهم به ، ويزيد وجه آخر وهو أنه لم ينقل من قوله ـ تعالى ـ غير قوله : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) (٤). الآية فتقدير كلام آخر غير منقول ، ولا دليل يدل عليه ؛ ممتنع.

وبما ذكرناه من الوجهين الأولين يندفع قولهم : إنما ذكروا ذلك على طريق التعجب عند أنفسهم.

قولهم : إنما قالوا : (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) (٥). على سبيل التذلل ، والخضوع.

قلنا : العادة جارية بأن من قال فلان فاسق ، ومرتكب الذنوب وأنا أعبد الله ولا أعصيه ، أنه إنما يذكر ذلك على طريق التعظيم والترفع ، ولذلك نستقبح منه ذلك فى العرف والعادة ، ولو كان كما ذكروه ؛ لما كان ذكره مستقبحا ، وإذا كان ذلك هو الظاهر من كلامهم ؛ فالعدول عن الظاهر إلى غيره من غير دليل ممتنع كما ذكروه من المعارضة فى الوجه الأول.

__________________

(١) سورة البقرة ٢ / ٣٠.

(٢) مقاتل بن سليمان : هو ابن بشير الأزدى الخراسانى ، أبو الحسن البلخى صاحب التفسير. ولد مقاتل ببلخ ومات فى خراسان سنة ١٥٠ ه‍ من أعلام المفسرين (وفيات الأعيان ٢ / ١١٢ وتاريخ بغداد ١٣ / ١٦٠).

(٣) سورة البقرة ٢ / ٣١.

(٤) سورة البقرة ٢ / ٣٠.

(٥) سورة البقرة ٢ / ٣٠.

فلا نسلم صيغة العموم فى أشخاص الملائكة ، وإن سلمنا ولكن لا نسلم العموم بالنسبة إلى كان زمان.

وإن سلمنا صيغة العموم بالنسبة إلى زمان ، غير أنه مخصوص بقوله ـ تعالى ـ : حكاية عنهم (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) (١). فإن ما مثل هذا القول ، ليس تسبيحا ، وفى حالة ذكره لا يكونون مسبحين ، والتخصيص من أسباب الضعف ، والهواء. وما ذكرناه من الدلائل غير مخصصة ؛ فكانت أولى.

وإن سلمنا امتناع خلوهم من التسبيح ، ولكن ليس فى ذلك ما يدل على امتناع صدور كل معصية منهم ؛ بل إنما يدل على امتناع صدور كل معصية تكون مضادة للتسبيح ، ولا يلزم من امتناع بعض المعاصى ؛ امتناع / / كل معصية.

وما ذكروه فى الوجه الثانى من المعارضة.

لا نسلم أيضا العموم فى أشخاصهم ، ولا فى حالتهم.

وإن سلمنا ذلك ، ولكن لا نسلم أنه يلزم من امتناع المعصية بجهة مخالفة الأمر ، امتناع المعصية بجهة مخالفة النهى.

قولهم : إن النهى عن الشيء أمر بأحد أضداده.

ممنوع ، ولا مانع عندنا من النهى عن الشيء مع عدم الأمر بجميع الأضداد ؛ بل ولا مانع أن يكون الأمر بالشيء / وضده على ما حققناه فى مسألة تكليف ما لا يطاق (٢).

وبالجملة : فهذه المسألة ظنية ، سمعية ، والترجيح فيها لكل أحد على حسب ما يتفضل الله ـ تعالى ـ عليه من المنة ، وجودة القريحة كما فى غيرها من المسائل الاجتهادية.

__________________

(١) سورة البقرة ٢ / ٣٠.

/ / أول ل ١٠٥ / أ.

(٢) انظر ما مر فى الجزء الأول ل ١٩٤ / ب. وما بعدها ص ١٧٥ وما بعدها من الجزء الثانى.

الفصل الثانى

فيما قيل فى التفضيل بين الملائكة والأنبياء

عليهم‌السلام (١)

مذهب أكثر أئمتنا ، والشيعة ، وأكثر الناس أن الأنبياء عليهم‌السلام أفضل من الملائكة.

وذهبت الفلاسفة ، والمعتزلة ، والقاضى أبو بكر من أصحابنا : إلى أن الملائكة أفضل من الأنبياء.

احتج أصحابنا بأن آدم أفضل من الملائكة ، وبيان كونه أفضل من الملائكة أن الملائكة أمروا بالسجود لآدم لقوله ـ تعالى ـ : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) (٢).

وقوله ـ تعالى ـ للملائكة : (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ* فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) (٣) ، وأمرهم بالسجود له مع أن السجود من أعظم أنواع الخدمة ، والتذلل بين يدى المسجود له ؛ فدل على أن آدم ـ عليه‌السلام ـ أفضل عند الله ـ تعالى ـ من الملائكة ، على ما هو المعتاد المتعارف.

وذلك لا يخلو : إما أن يكون فى حالة كونه نبيا ، أو قبل النبوة. فإن كان الأول : فهو المطلوب.

وإن كان الثانى : فلا يخفى أنه إذا كان قبل نبوته أفضل من الملائكة ؛ فبعد نبوته ؛ أولى أن يكون أفضل.

فإن قيل : ما ذكرتموه : إنما يصح أن لو تصور السجود الحقيقى وهو وضع الجبهة على محل السجود فى حق الملائكة.

__________________

(١) لمزيد من البحث والدراسة بالإضافة لما ورد هاهنا :

انظر أصول الدين للبغدادى ص ٢٩٥ وما بعدها ، وشرح المواقف المقصد الثامن فى تفضيل الأنبياء على الملائكة ص ١٦٦ وما بعدها.

وشرح المقاصد ٢ / ١٤٧ وما بعدها ، وشرح العقيدة الطحاوية لابن أبى العز الحنفى ص ٣١٨ وما بعدها.

(٢) سورة البقرة ٢ / ٣٤.

(٣) سورة ص ٣٨ / ٧١ ، ٧٢.

وهو غير مسلم ؛ فإن ذلك : إنما يتصور بالنسبة إلى الأجسام المتحيزة المتنقلة ، والملائكة ؛ فلا نسلم أنها أجسام ، ولا جواهر متحيزة حتى نتصور عليها الحركة ، والانتقال ؛ بل هى جواهر بسيطة معقولة مبرأة عن الحلول فى المواد ، وهى مع ذلك : إما غير متعلقة بعلائق المادة : كالعقول. وإما متعلقة بعلائق المادة : كالنفوس الفلكية.

سلمنا تصور السجود الحقيقى فى حقها ؛ ولكن ما المانع أن يكون المراد بأمرها بالسجود ، التواضع الملازم للسجود تعبرة باسم الشيء عما يلازمه ، ومن تواضع لغيره ، لا يدل ذلك على أنه أنقص مرتبة من ذلك الغير ، ودليل هذا التأويل ما سيأتى.

سلمنا أن المراد به حقيقة السجود ، ولكن لا نسلم أن السجود كان لآدم ؛ بل كان لله ـ تعالى ـ وآدم قبلة له ، وقبلة السجود لا تكون أفضل من الساجد إليها.

سلمنا أن السجود كان لآدم ، ولكن لا نسلم دلالة ذلك على كون آدم أفضل من الملائكة ، إلا أن يكون عرف الملائكة فى السجود للغير كعرفنا ؛ وهو غير مسلم.

وما المانع أن يكون عرفهم فى السجود كونه قائما مقام السلام فى عرفنا ، ورتبة المسلم ، لا يلزم أن تكون أنقص من رتبة / المسلم عليه.

سلمنا أن عرفهم فى السجود للغير كعرفنا ؛ لكن ما المانع أن يكون أمرهم بالسجود له ، لا لفضله بالنسبة إليهم ، بل بطريق الابتلاء والامتحان ؛ ليتبين المطيع من المعاصى منهم.

سلمنا دلالة ما ذكرتموه على أن آدم أفضل من الملائكة ، لكن ليس فيه ما يدل على تفضيل جملة الأنبياء على الملائكة.

سلمنا دلالته على تفضيل جملة الأنبياء على الملائكة ، غير أنه معارض بما يدل على تفضيل الملائكة على الأنبياء ، وبيانه من جهة المعقول ، والمنقول : ـ

أما من جهة المعقول :

فهو أن أشخاص الملائكة جواهر روحانية ، نورانية ، علوية فى جوار رب العالمين دائمة غير كائنة ، ولا فاسدة ، وهى مبادئ جميع الموجودات الكائنة الفاسدة ، مختصة بالهياكل العلوية الشريفة ، والكواكب السيارة المدبرة لها فى عالم الكون والفساد ، غير

محجوبة عن تجلى الأنوار. القدسية لها ، ولا ممنوعة من الالتذاذ بها فى وقت من الأوقات ، ولا فى حالة من الحالات ، لنوم ولا غفلة ، ولا شهوة ، ولا غضب ، ولا غيره ؛ بل هى / / فى الالتذاذ ، والنعيم بما تشاهده ، وتطالعه من العالم القدسى ، والنور الربانى دائما أبدا سرمدا ، بخلاف أشخاص الأنبياء عليهم‌السلام ؛ فإنها أجسام كثيفة ، مظلمة كائنة فانية فاسدة ، معلولة للملائكة ، محبوبة فى أكثر الأوقات بما يستولى عليها من الغفلة ، والذهول ، والغضب ، والمرض ، والهم ، والشهوة ، والنوم ، وغير ذلك من الأسباب المانعة من هذه الكمالات ، وحصول هذه الالتذاذات ؛ فكانت أنقص رتبة من الملائكة.

وأما من جهة المنقول :

فمن خمسة عشر وجها : ـ

الأول : قوله ـ تعالى ـ فى وصف الملائكة : (وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) (١) ، وصفهم بأنهم «عنده» وليس المراد به الجهة ، إذ لا جهة له ؛ فيتعين أن تكون العندية بمعنى الفضيلة ، والمزية فى الرتبة ، واستدل بعدم استكبارهم عن عبادته ، على امتناع استكبار البشر عن عبادته بطريق الأولى ، وذلك دليل مزيتهم ، وعلو مرتبتهم بالنسبة إلى البشر ؛ فإنهم لو كانوا مساوين لهم ، أو أنقص منهم ؛ لما حسن هذا الاستدلال.

الثانى : أن عبادات الملائكة أشق من عبادات البشر ؛ فكان ثوابها أكثر ، ولا معنى لكونهم أفضل ، غير أن ثوابهم أكثر. وبيان أن عباداتهم أشق ؛ لأنها مستمرة ، منفصلة ، لا يلحقها انقطاع ولا فتور بغفلة ، ونوم ، وغيره لقوله ـ تعالى ـ : (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) (٢) ، وأنها / أكثر ؛ لطول أعمار الملائكة بالنسبة إلى أعمار البشر ، وما كان كذلك ؛ فهو لا محالة أشق.

وأما أن ثوابهم أكثر : فدليله النص ، والمعنى :

__________________

/ / أول ل ١٠٥ / ب.

(١) سورة الأنبياء ٢١ / ١٩.

(٢) سورة الأنبياء ٢١ / ٢٠.

أما النص : فقوله عليه ـ الصلاة والسلام ـ لعائشة ـ رضى الله عنها ـ : «ثوابك على قدر نصبك» (١).

وأما المعنى : فهو أن زيادة المشقة ، لو لم تقتض زيادة الثواب ؛ لكان التكليف بها ، وتحملها خليا عن المقصود ، متجردا عن الحكمة ؛ وهو ممتنع.

الثالث : أن عبادات الملائكة أسبق لا محالة من عبادات البشر ، والسابق إلى العبادة أفضل من المسبوق لقوله ـ تعالى ـ : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ* أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) (٢).

الرابع : أن اشتغال الملائكة بالعبادة دائم ، غير منقطع على ما سبق ، وذلك لا يقع معه الإقدام على المعصية ، والأنبياء وإن كانوا معصومين من الكبائر ؛ فغير معصومين من الصغائر ، كما سبق ، وقوله عليه ـ الصلاة والسلام ـ «ما منا إلا من عصى ، أو هم بالمعصية إلا يحيى بن زكريا» (٣). فكانت الملائكة لذلك أتقى والأتقى أفضل ؛ لقوله

__________________

(١) أخرجه الإمام البخارى فى صحيحه ـ كتاب العمرة ـ باب أجر العمرة على قدر النصب. فتح البارى ٣ / ٧٧٩ عن عائشة وضى الله عنها.

كما أخرجه مسلم ـ كتاب الحج ـ باب بيان وجوه الإحرام ، وأنه يجوز أفراد الحج ... الخ. ٢ / ٨٧٧ ط عيسى الحلبى ـ ت محمد فؤاد عبد الباقى.

(٢) سورة الواقعة ٥٦ / ١٠ ، ١١.

(٣) يحيى بن زكريا عليه‌السلام : هو يحيى بن زكريا بن مسلم بن صدوق ... ويصل نسبه إلى نبى الله سليمان بن داود عليهم‌السلام. وهم من سبط يهوذ بن يعقوب عليه‌السلام.

وقد ذكر اسم يحيى فى القرآن الكريم فى السور التالية (آل عمران والأنعام ومريم والأنبياء).

وقد ورد الثناء عليه فى قوله ـ تعالى ـ : (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا* وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا* وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا) سورة مريم ١٩ / ١٢ ـ ١٤.

وأعطى النبوة وهو ابن ثلاثين سنة (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) سورة مريم ١٩ / ١٢.

كما وصفه الله بأعظم الصفات (وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) سورة آل عمران ٣ / ٣٩.

وكان عليه‌السلام ابن خالة عيسى بن مريم عليهما‌السلام. ويسميه النصارى (يوحنا) ويلقبونه (المعمدان) وقد عمد يحيى المسيح فى نهر الأردن وقد قتله حاكم فلسطين (هيرودس) لما عارضه فى الزواج من ابنة أخيه وهو زواج محرم عندهم. كما قتل معه عددا كبيرا من العلماء الذين أنكروا قتل يحيى ، ومنهم (زكريا) عليه‌السلام والده.

وهذا الحديث الّذي ذكره المصنف أورده الإمام أحمد عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : (ما من أحد من ولد آدم إلا وقد أخطأ أو هم بخطيئته ليس يحيى بن زكريا ، وما ينبغى لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى). كما ورد فى فضله. قال ابن وهب : حدثنى ابن لهيعة .... عن ابن شهاب ، قال : خرج رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ على أصحابه يوما وهم يتذاكرون فضل الأنبياء فقال قائل : موسى كليم الله. وقال قائل : عيسى روح الله وكلمته. وقال قائل : إبراهيم خليل الله. وهم يذكرون ذلك فقال : «ابن الشهيد ابن الشهيد يلبس الوبر ويأكل الشجر مخالفة الذنب» قال ابن وهب : يريد يحيى بن زكريا عليه‌السلام ـ [قصص الأنبياء ص ٥٣٧ ـ ٥٥١ والنبوة والأنبياء ص ٣١١ ـ ٣١٦].

تعالى : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) (١).

الخامس : قوله ـ تعالى ـ : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ) (٢). وقوله ـ تعالى ـ : (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ) (٣).

ووجه الاحتجاج به : أنه إنما ذكر للتنبيه على عظمة الله تعالى ـ وجلاله ، وعلو شأنه ، ولو كان ثم من هو أفضل ؛ لكان ذكره من هذا المقام أولى.

السادس : قوله ـ تعالى ـ خطابا لجملة البشر : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ* كِراماً كاتِبِينَ) (٤).

ووجه الاحتجاج به : أنه جعل الملائكة حفظة للبشر عن المعاصى ، والحافظ عن المعصية ، لا بد وأن يكون أبعد عنها من المحفوظ ؛ فيكون أفضل من المحفوظ. وأنه جعل كتابتهم حجة للبشر ، وعليهم. ولو كان البشر أفضل منهم ؛ لكان الأمر بالعكس.

السابع : قوله ـ تعالى ـ : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) (٥).

ووجه الاحتجاج به : أنه ابتدأ بنفسه عزوجل ، ثم بملائكته ، ثم بكتبه ، ثم برسله ، والتقديم فى الذكر دليل التقدم بالشرف ، والفضيلة عرفا ، وعادة. ولهذا وقع التنازع على عهد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لما كتب كتاب الصلح بينه وبين المشركين فى تقديم اسمه (٦) ، وقال عمر للشاعر القائل : كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا (٧).

__________________

(١) سورة الحجرات ٤٩ / ١٣.

(٢) سورة النبأ ٧٨ / ٣٨.

(٣) سورة الزمر ٣٩ / ٧٥.

(٤) سورة الانفطار ٨٢ / ١٠ ، ١١.

(٥) سورة البقرة ٢ / ٢٨٥.

(٦) وذلك فى صلح الحديبية.

/ / أول ل ١٠٦ / أ.

(٧) قائله سحيم وهو فى ديوانه ص ١٦ ، وصدر البيت

عميرة ودّع إن تجهزت غاديا

كفى الشّيب والإسلام للمرء ناهيا

وسحيم الشاعر ، كان عبدا نوبيا ، اشتراه بنو الحسحاس (وهم بطن من بنى أسد) فنشأ فيهم ، وكان رقيق الشعر ، رآه النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وكان يعجبه شعره ، وعاش إلى أواخر عهد عثمان وقتله بنو الحسحاس لتشبيبه بنسائهم. له (ديوان شعر ط) صغير. [الإصابة فى تمييز الصحابة الترجمة رقم ٣٦٥٩ والأعلام للزركلى ٣ / ٧٩].

لو قدمت الإسلام لأعطيتك. وذلك يدل على أفضلية المتقدم ، والأصل فى العرف الشرعى / / أن يكون على وفق العرف العادى ، ولقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ «ما رآه المسلمون حسنا ؛ فهو عند الله حسن» وفى معنى هذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ) (١).

الثامن : أن الملائكة أعلم من الأنبياء ؛ فكانوا / أفضل منهم لقوله ـ تعالى ـ : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (٢) ، وبيان أن الملائكة أعلم : أما بالنسبة إلى ذات الله ـ تعالى ـ وصفاته ، ومخلوقاته العلوية ، والسفلية ؛ فلأنهم أطول أعمارا وأكثر مشاهدة لها من الأنبياء.

وأما بالنسبة إلى الأمور النقلية ، والقضايا الشرعية : فلأنهم عالمون بجملتها ، وأن ما يحصل للأنبياء من العلم بها إنما هو بواسطة الوحى ، وتبليغ الملائكة لهم ذلك.

ولهذا قال الله ـ تعالى ـ فى حق محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) (٣) : أى جبريل ، والمعلم لا بد وأن يكون أعلم من المتعلم.

التاسع : قوله ـ تعالى ـ فى حق جنس الإنس : (وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) (٤). وذلك يدل بمفهومه على أنهم ليسوا أفضل من جميع المخلوقات. ومن المعلوم أنهم أفضل من جميع الجمادات ، والحيوانات العجماوات ، والجن ، والشياطين فلو كانوا أفضل من الملائكة ؛ لكانوا أفضل من جميع المخلوقات ؛ وهو خلاف مفهوم الآية.

العاشر : قوله ـ تعالى ـ : (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) (٥). وقوله ـ تعالى ـ : (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) (٦). ووجه الاحتجاج به : أنه قضى بكون الملائكة رسلا ، وإنما يكونون رسلا إلى الأنبياء ، والنبي إنما يكون رسولا

__________________

/ / أول ل ١٠٦ / أ.

(١) سورة الحج ٢٢ / ٧٥.

(٢) سورة الزمر ٣٩ / ٩.

(٣) سورة النجم ٥٣ / ٥.

(٤) سورة الإسراء ١٧ / ٧٠.

(٥) سورة النحل ١٦ / ٢.

(٦) سورة فاطر ٣٥ / ١.

إلى من ليس بنبي. ولا يخفى أن الرسول إلى أمة من الرسل ، يكون أفضل من الرسول إلى أمة ليسوا برسل ، ولا فيهم رسول.

الحادى عشر : قوله ـ تعالى ـ فى حق يوسف عليه‌السلام : (ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) (١). والمشبه بالشيء ، يكون دون ذلك الشيء.

الثانى عشر : قوله ـ تعالى ـ لمحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) (٢). ذكر ذلك فى معرض سلب التعظيم ، ونفى الترفع والنزول عن هذه الدرجات ؛ وذلك يدل على أن حال الملك أفضل وأشرف من حال النبي.

الثالث عشر : قوله ـ تعالى ـ : (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ) (٣). وذلك يدل على أن حال الملك أفضل من جنس البشر.

الرابع عشر : قوله ـ تعالى ـ : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) (٤). ووجه الاحتجاج به ، أنه ابتدأ بالمسيح ، وثنى بالملائكة المقربين ؛ وذلك يدل على أن الملائكة أفضل من المسيح ، كما يقال إن فلانا لا يستنكف الوزير عن خدمته له ولا السلطان. ولا يقال ذلك بالعكس ؛ إذ هو مستقبح عرفا وعادة.

الخامس عشر : قوله ـ تعالى ـ فى وصف / جبريل باتفاق المفسرين : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ* ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ* مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) (٥). ثم قال ـ تعالى ـ فى وصف محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بعد ذلك (وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) (٦) ، ولو كان محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ مساويا لجبريل فى صفات الكمال ، أو أفضل منه ؛ لكان الاقتصار فى وصفه على ذلك بعد وصف جبريل بما وصف به ؛ غضا من منصبه ، وتنقيصا من أمره ، وتحقيرا لشأنه ؛ وهو ممتنع.

__________________

(١) سورة يوسف ١٢ / ٣١.

(٢) سورة الأنعام ٦ / ٥٠.

(٣) سورة الأعراف ٧ / ٢٠.

(٤) سورة النساء ٤ / ١٧٢.

(٥) سورة التكوير ٨١ / ١٩ ـ ٢١.

(٦) سورة التكوير ٨١ / ٢٢.

والجواب :

قولهم : لا نسلم تصور السجود الحقيقى فى حق الملائكة.

قلنا : دليل تصوره أنه لا يلزم المحال من فرض وجوده لذاته عقلا ، ولا معنى للممكن غير هذا.

قولهم : الملائكة ليست أجساما متحيزة ، ولا قابلة للانتقال والحركة.

قلنا : دليل كونها أجساما قابلة للحركة ، والانتقال ، قوله ـ تعالى ـ : (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) (١) ، وصفهم بالنزول ، والنزول حقيقة فى الحركة ، والانتقال ، والأصل فى الاطلاق الحقيقة.

قولهم : ما المانع أن يكون المراد بالسجود ما هو لازم له من التواضع.

قلنا : لأنه تجوز ، والأصل إطلاق اللفظ على حقيقته ، وما يذكرونه من دليل التجوز ؛ فسيأتى إبطاله.

قولهم : لا نسلم أن السجود كان لآدم.

عنه جوابان :

الأول : هو أن إضافة السجود لآدم فى قوله ـ تعالى ـ : (اسْجُدُوا لِآدَمَ) (٢) كإضافته إلى الله ـ تعالى ـ فى قوله : (وَاسْجُدُوا لِلَّهِ) / / الَّذِي خَلَقَهُنَ (٣) ، ويلزم من اتحاد اللفظ الدال على اتحاد المدلول المفهوم منه نفيا للاشتراك والتجوز عن اللفظ ؛ إذ هو خلاف الأصل ، وليس المراد منه فى حق الله ـ تعالى ـ أن يكون الله ـ تعالى ـ قبلة للسجود ؛ بل المراد منه المبالغة فى الخدمة ، والتذلل ؛ فكذلك فى حق آدم.

الثانى : هو أن قول إبليس (أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَ) (٤). يدل على أن الأمر

__________________

(١) سورة النحل ١٦ / ٢.

(٢) جزء من آيات من السور الآتية : سورة البقرة ٢ / ٣٤ ، سورة الأعراف ٧ / ١١ ، سورة الإسراء ١٧ / ٦١ ، سورة الكهف ١٨ / ٥٠ ، سورة طه ٢٠ / ١١٦.

/ / أول ل ١٠٦ / ب.

(٣) سورة فصلت ٤١ / ٣٧.

(٤) سورة الإسراء ١٧ / ٦٢.

بالسجود لآدم : إنما كان بطريق التفضيل له على الملائكة ، ولو كان قبلة للسجود كما ذكروه ؛ لما كان كذلك ، وبهذا يندفع ما ذكروه من السؤالين الآخرين بعده.

قولهم : ليس فى ذلك ما يدل على تفضيل جملة الأنبياء على الملائكة.

عنه جوابان :

الأول : أن القائل قائلان : قائل يقول بتفضيل جملة الأنبياء على جملة الملائكة. وقائل يقول بتفضيل جملة الملائكة على جملة الأنبياء. والإجماع من الفريقين منعقد على امتناع التفضيل ، فمهما سلم تفضيل بعض الأنبياء على الملائكة ؛ لزم تفضيل كل نبى عليهم عملا بموافقة الدليل فى البعض ، ولضرورة امتناع خرق الإجماع فى التفضيل.

الثانى : أنه إذا ثبت فضل آدم ـ عليه‌السلام ـ على الملائكة فمن كان مساويا له من الأنبياء فى الفضيلة ، أو كان أفضل منه ؛ لزم أن يكون أفضل من الملائكة ضرورة ، وذلك كاف فى إثبات فضيلة البعض ، وإبطال قول الخصم بتفضيل الملائكة على جملة الأنبياء.

قولهم : ما ذكرتموه معارض بما يدل على فضل الملائكة على الأنبياء.

قلنا : لا نسلم وجود المعارض.

قولهم : أشخاص الملائكة جواهر روحانية.

قلنا : فضيلة أشخاص الملائكة على أشخاص الأنبياء : إما من جهة كونها جواهر ، وإما من جهة اتصافها بما ذكروه من الصفات.

فإن كان الأول : فإنما يصح أن لو اختلفت أنواع الجواهر ؛ وهو غير مسلم على ما سبق من أصلنا.

وإن كان الثانى : فلا بد من النظر فى كل واحد مما ذكروه من الصفات.

أما قولهم : إنها روحانية : إن أرادوا به أنها أرواح لغيرها ؛ فغير مسلم ؛ بل هى أجسام ذوات أرواح حية ، عالمة ، قادرة ، مريدة كغيرها من الأحياء.

وإن أرادوا بذلك اتصافها بالروح ، والراحة ؛ فمسلم ؛ ولكن لا نسلم دلالة ذلك على فضيلتها بالنسبة إلى الأنبياء ، وإلا كان من اتصف بالروح ، والراحة أكمل ، وأفضل ممن

يواظب على العبادات الشاقة ، ويلزم من ذلك أن يكون بعض أمة النبي بالنظر إلى هذا المعنى ، أفضل من النبي ؛ وهو ممتنع. وإن أرادوا غير ذلك ؛ فلا بد من تصوره ، والدلالة عليه.

وقولهم : إنها نورانية :

قلنا : إما أن يريدوا بها أنها نيرة ، وذات نور ، أو غير ذلك.

فإن كان الأول : فلا يدل على كونها أفضل من الأنبياء ، وإلا كانت النار أفضل منهم ؛ وهو محال. وإن كان الثانى : فهو غير معقول ، فلا بد من تصويره.

وقولهم : إنها علوية :

قلنا : والمفهوم من ذلك غير خارج عن كونها فى حيز الملأ الأعلى ، وذلك أيضا لا يوجب فضيلتها بالنسبة إلى الأنبياء ، وإلا كانت أجرام السماوات أفضل من الأنبياء ، وهو خلاف الإجماع من المسلمين.

وقولهم : إنها دائمة غير كائنة ، ولا فاسدة.

قلنا : فهو ممنوع على ما سلف بيانه فى حدوث كل موجود سوى الله ـ تعالى.

قولهم : إنها مبادئ سائر المخلوقات.

قلنا : ممنوع على ما تقدم من بيان أنه لا خالق ، ولا موجد إلا الله تعالى.

قولهم : إنها غير محجوبة عن تجلى الأنوار القدسية لها أبدا سرمدا من غير انقطاع.

قلنا : إنما يصح أن لو امتنع فى / حقهم المعاصى ؛ وهو غير مسلم على ما سبق.

قولهم : إنه ـ تعالى ـ وصف الملائكة بأنهم «عنده» (١).

قلنا : غايته الدلالة على الفضيلة ، وليس فيه ما يدل على الأفضلية ، ثم هو

__________________

(١) سورة القمر ٥٤ / ٥٥.

معارض بقوله فى حق البشر (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) (١). وقوله ـ عليه‌السلام ـ حكاية عن ربه ـ تعالى ـ «أنا عند المنكسرة قلوبهم» (٢) ؛ بل أولى «حيث أنه دل على أن الرب ـ تعالى ـ عند المنكسرة قلوبهم ، وما ذكروه دليل على أن الملائكة عند الله ، ولا يخفى أن من الرب ـ تعالى ـ عنده ، يكون أفضل من الكائن عند الرب.

وما ذكروه : من الاستدلال بعدم استكبار الملائكة عن عبادة الله ـ تعالى ـ على عدم استكبار البشر عن عبادته ، فليس فى ذلك ما يدل على أن الملائكة عند الله أفضل ؛ بل وأمكن أن يكون ذلك ، لأنهم أشد ، وأقدر ، وأقوى من البشر ، ويكون معناه أنه إذا لم يكن مستكبرا عن عبادة الله تعالى. الملائكة مع شدتهم ، وقوة ممانعتهم / / فالبشر مع عجزهم وضعفهم أولى. وزيادة القوة ، أو القدرة للملائكة لا توجب لهم الفضيلة على الأنبياء ، وإلا كان الأيد القوى من أمة النبي الضعيف المدنف أفضل من ذلك النبي ؛ وهو محال.

قولهم : إن عبادات الملائكة أشق من عبادات البشر.

قلنا : لا نسلم ذلك.

قولهم : إنها مستمرة لا يلحقها انقطاع ، ولا فتور.

فقد سبق جوابه فى الفصل الّذي قبله.

قولهم : إن عبادتهم أطول مدة.

قلنا : هذا إنما يلزم أن تكون مشقتها أزيد أن لو بينوا التساوى بين عبادة الأنبياء ، والملائكة فى كيفية المشقة مع زيادة كميتها ، وإلا فلا.

ثم بيان أن عبادة البشر أشق من عبادة الملائكة : أنهم مكلفون بالعبادات ، مع استيلاء الموانع عليهم ، وذلك : كالشهوة والغضب ، والحرص ، والهوى ، ووسوسة

__________________

(١) سورة القمر ٥٤ / ٥٥.

(٢) أخرجه أبو نعيم فى حلية الأولياء فى ترجمة عمران القصير ٦ / ١٧٧ ، عن عمران القصير قال : قال موسى عليه‌السلام يا رب أين أبغيك قال أبغنى عند المنكسرة قلوبهم فإنى أدنو منهم كل يوم باعا لو لا ذلك لانعدموا» ط.

دار الفكر. وعزاه الزبيدى فى أتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين ٦ / ٢٩٠ إلى أبى نعيم فى الحلية ـ وقال الزبيدى كأنه من الإسرائيليات.

/ / أول ل ١٠٧ / أ.

الشيطان ، وكثرة اعتراض الشبه لهم مع أن أكثر عبادتهم مستنبطة لهم بالاجتهاد ، والنظر لبعدهم عن مشاهدة العالم العلوى ، ومطالعة ما فى اللوح المحفوظ إلى غير ذلك من الأمور. وذلك كله مما لا تحقق له فى حق الملائكة. ولا يخفى أن التكليف بالعبادات مع هذه الأمور أشق منها مع عدمها.

قولهم : عبادات الملائكة أسبق.

قلنا : ليس فى ذلك ما يدل على كونهم أفضل ، وقوله ـ تعالى ـ : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) (١) ، قال بعض أهل التفسير المراد به السابقون فى الدنيا إلى الخيرات.

وقيل : المراد به أول الناس رواحا إلى المسجد ، وأولهم خروجا فى سبيل الله.

وقيل : المراد به السابقون إلى التصديق بالأنبياء من أممهم ، وعلى كل تقدير ؛ فلا مدخل للملائكة فيه.

قولهم : إن الملائكة أتقى على ما قرروه.

فقد سبق جوابه فى الفصل / الّذي قبله. وقوله ـ تعالى ـ : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ) (٢).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ) (٣).

غايته الدلالة على عظمة الله ـ تعالى ـ بخدمة العظماء الجبابرة الشداد له ، وذلك يدل على أن الملائكة أقدر ، وأقوى ، وأجبر من البشر ، وليس فى ذلك ما يدل على كثرة ثوابهم بالنسبة للبشر ولأنهم أفضل منهم عند الله ـ تعالى ـ وقوله ـ تعالى ـ : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ* كِراماً كاتِبِينَ) (٤) غايته الدلالة على أن الملائكة حفظة لأفعال العباد خيرها ، وشرها ، وأنهم كاتبون لها ، وشاهدون بها ، وليس فى ذلك ما يدل على أن حال الشاهد ، أفضل من حال المشهود عليه.

وقولهم : إنهم حافظون للبشر عن المعاصى.

__________________

(١) سورة الواقعة ٥٦ / ١٠.

(٢) سورة النبأ ٧٨ / ٣٨.

(٣) سورة الزمر ٣٩ / ٧٥.

(٤) سورة الانفطار ٨٢ / ١٠ ، ١١.

ليس كذلك : بل الحافظ لهم عنها ، والمقدر لهم عليها : إنما هو الله ـ تعالى ـ وليس لأحد من المخلوقين تأثير فى إيجاد فعل ، أو عدمه كما سبق.

كيف وأن ما ذكروه مما لم يذهب إليه أحد من أهل التفسير.

وقوله ـ تعالى ـ : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) (١).

فليس فيه ما يدل على تفضيل الملائكة على الأنبياء ، والتقديم فى الذكر ؛ لم يقصد به بيان فضيلة المتقدم فى الآية على المتأخر فيها بدليل أنه ـ تعالى ـ ذكر الكتب بعد الملائكة ، وقبل الرسل ولا يخلوا : إما أن يكون المراد بالكتب : الكلام النفسانى القديم ، أو العبارات الحادثة الدالة عليه.

فإن كان الأول : فلا يخفى أن الكتب تكون أفضل من الملائكة ، وقد أخرها فى الذكر عن الملائكة.

وإن كان الثانى : فلا يخفى أن الأنبياء أفضل من العبارات الدالة على الكلام القديم ، وقد قدمها على الأنبياء فى الذكر ؛ بل أمكن أن يقال إن الآية إنما وردت فى معرض الثناء على المؤمنين بالإيمان ، ولا يخفى أن الإيمان بما هو أخفى يكون أفضل. ووجود الملائكة أخفى من وجود الرسل ؛ فكان الإيمان بهم أدل على طواعية المؤمن ، وانقياده ؛ فكان تقديم الملائكة لفضيلة الإيمان بهم ، لا لفضيلتهم. والله ـ تعالى ـ أعلم.

وقوله ـ تعالى ـ : (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ) (٢) ، فليس فيه ما يدل على أن الملائكة أفضل ؛ بل إنما وقع الترتيب فى الذكر على وفق الترتيب فى الوقوع ، ولا يخفى أن اتخاذ الملائكة رسلا مقدم على اتخاذ البشر رسلا ؛ فكان تقديمهم فى الذكر لذلك.

وقولهم : إن الملائكة أعلم من الأنبياء.

__________________

(١) سورة البقرة ٢ / ٢٨٥.

(٢) سورة الحج ٢٢ / ٧٥.

لا نسلم ذلك ، فإن آدم ـ عليه‌السلام ـ كان أعلم من الملائكة بدليل قوله ـ تعالى ـ : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) والملائكة لم يكونوا عالمين بها بدليل قوله ـ تعالى ـ : (ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (١) //.

فإن قيل : وإن كان آدم / أعلم بالأسماء. فالملائكة أعلم بالمسميات ، ولا يخفى أن العلم بالحقائق ؛ أفضل من العلم بأسمائها.

قلنا : لا نسلم أن الملائكة أعلم من آدم بالمسميات ؛ فإنه قد قال أهل التفسير إن الله ـ تعالى ـ (عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) والمسميات التى يضع الأسماء عليها ؛ لأنه لا فائدة فى الأسماء دون المسميات ، ويدل على ذلك قوله ـ تعالى ـ : (ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ). والمراد به أصحاب الأسماء ، ولذلك قال ـ تعالى ـ : (ثُمَّ عَرَضَهُمْ) بالميم. ولو أراد به الأسماء لقال ـ تعالى ـ : (ثُمَّ عَرَضَهُمْ) بالنون ، أو ثم عرضها ، وهكذا قال ثعلب (٢) ، وهو من أكبر أئمة اللغة.

ثم وإن سلمنا أن الملائكة أعلم ، فغايته أن لهم فضيلة ، ولا يدل ذلك على أنهم أفضل.

وعلى هذا خرج الجواب عن قوله ـ تعالى ـ : (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) (٣). وقوله ـ تعالى ـ : (وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) (٤) غايته الدلالة بمفهومه على أن البشر ليسوا أفضل من جميع المخلوقات ، ولا نسلم كون المفهوم حجة.

وإن سلمنا كونه حجة ؛ فلا نسلم أنه لم يعمل به فى مفهومه ، بتقدير تفضيل البشر على من عداهم من المخلوقات ، فإنهم من جملة المخلوقات وليسوا أفضل من أنفسهم ؛ فليس هم أفضل من جميع المخلوقات.

__________________

(١) سورة البقرة ٢ / ٣١ ، ٣٢.

/ / أول ل ١٠٧ / ب.

(٢) ثعلب : راجع ما سبق فى ترجمته فى هامش ل ١٨٧ / ب.

(٣) سورة النجم ٥٣ / ٥.

(٤) سورة الإسراء ١٧ / ٧٠.

وإن سلمنا أن العمل بمفهوم الآية يتوقف على عدم تفضيل جنس البشر على جملة المخلوقات فمن عداهم.

فلا نسلم أن ذلك يتوقف على عدم تفضيلهم على الملائكة. إذ المراد بالتفضيل فى الدار الآخرة ولا فى كثرة الثواب ؛ إذ هو المتنازع فيه ؛ بل المراد به : إنما هو التفضيل بإكرامهم فى الدنيا بأكلهم بأيديهم ، وباقى الحيوانات بأفواههم ، وحملهم فى البر على أظهر الحيوانات ، وفى البحر على السفن. ورزقهم من الطيبات : أى الحلال على ما قال ـ تعالى ـ فى أول الآية : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) : أى وفضلناهم بهذه الأمور على كثير ممن خلقنا من الحيوانات تفضيلا.

وإن سلمنا أن المراد به الفضيلة فى الأخرى ، ولكن لا يلزم من كون جملة البشر ليسوا أفضل من الملائكة ، أن لا يكون الأنبياء ، أفضل من الملائكة ؛ فإنه لا يلزم من انتفاء حكم عن الجملة انتفاؤه عن بعض آحاد الجملة.

قولهم : إن الملائكة رسل إلى الأنبياء. والأنبياء رسل إلى من ليس بنبي ؛ فتكون الملائكة أفضل.

قلنا : لا نسلم أن الأنبياء لم يكونوا رسلا إلى الأنبياء فإن إبراهيم عليه‌السلام ، كان رسولا إلى لوط (١) ، وكان نبيا ، وموسى عليه‌السلام كان رسولا إلى أنبياء بنى إسرائيل.

وإن سلمنا ما ذكروه ، ولكن إنما يلزم ما ذكروه ، أن لو كانت فضيلة الرسول مستفادة من شرف المرسل إليهم ؛ وهو غير مسلم. بل فضيلة الرسول لذاته ، ولكونه / رسول الله ـ تعالى ـ أو نقول فضيلة الرسول من لوازم كونه رسولا حاكما على المرسل إليهم ، متصرفا فى أحوالهم ، على حسب ما يشاء ، ويختار ؛ وهذا غير متحقق فى حق الملائكة بالنسبة

__________________

(١) لوط عليه‌السلام : هو لوط بن هاران بن تارح (آزر) وقد بعثه الله زمن الخليل عليه‌السلام ، ولوط عليه‌السلام هو ابن هاران شقيق سيدنا إبراهيم ، وقد آمن لوط بعمه إبراهيم ، واهتدى بهداه كما قال ـ تعالى ـ : (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ) ثم هاجر معه من العراق. وقد ذكره الله فى كثير من سور القرآن الكريم فى سور (الأعراف ، وهود ، والحجر ، والشعراء ، والنمل) وغيرها وذكرت قصته مع قومه وأهله مفصلة فى بعض السور ، ومجملة فى البعض الآخر والقرآن الكريم صور الأنبياء بصورة كريمة بينما صورتهم كتب وأسفار بنى إسرائيل بطريقة غير لائقة ونسبوا إليهم من الأفعال ما لا يليق بالبشر العاديين. فقد تقولوا على لوط عليه‌السلام وابنتيه بما لا يليق وهو النبي الكريم والرسول الأمين. [قصص الأنبياء لابن كثير ص ١٩٢ ـ ٢٠٥ والنبوة والأنبياء ص ٢٣٥ ـ ٢٤٠].

إلى الأنبياء ؛ إذ ليس لهم غير التبليغ والإعلام ، والعادة ، والعرف جاريان بأنه لا يولى على قوم ، ليحكم عليهم ، ويتصرف فى أحوالهم ، ويكون أولى بهم من أنفسهم على ما قال ـ تعالى ـ : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) (١) إلا من هو أفضل ، وذلك بخلاف الرسول المبلغ لا غير ، فإن العادة لا توجب فضيلته على من أرسل إليه ، وإلا كان آحاد العبيد عند إرساله إلى ملك من بعض الملوك ؛ لإعلامه بأمر من الأمور ، أن يكون أفضل من الملك المرسل إليه ؛ وهو ممتنع.

وقوله ـ تعالى ـ فى حق يوسف ـ عليه‌السلام ـ (ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) (٢).

ليس فيه أيضا ما يدل على كون الملك أفضل ؛ لأن التشبيه بالملك إنما وقع من جهة حسنه ، وجماله ، لا من جهة فضيلته ، وذلك يدل على أن الملك أجمل ، وأحسن لا أنه أفضل.

فإن قيل : إنما وقع من جهة الفضيلة ، والسيرة الجميلة ، وغض الطرف ، وكف دواعى الشهوة ، وغير ذلك من الصفات الموجبة للتفضيل لا من جهة الحسن ، والجمال ، ولذلك قالوا : (إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) (٢) والكريم إنما يكون كريما بحسن السيرة ، لا بجمال الصورة.

قلنا : من لوازم الملك الكريم : حسن الصورة ، والسيرة والتشبيه بالملك الكريم فى كل واحد من الأمرين ممكن ، غير أن قضية التشبيه به فى حسن الصورة أظهر ، وبيانه / / من ثلاثة وجوه :

الأول : أن سبب قول النسوة لذلك خروج عليهن وتقطيعهن أيديهن بالسكاكين لدهشتهن بحسنه ، وجماله على ما قال ـ تعالى ـ : (وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ).

__________________

(١) سورة الأحزاب ٣٣ / ٦.

(٢) سورة يوسف ١٢ / ٣١.

/ / أول ل ١٠٨ / أ.

الثانى : أنهن فى حالة خروجه عليهن : إنما عرفن منه حسنه وجماله ؛ فإن ذلك يحصل بأول نظرة ، بخلاف حسن السيرة ، والعفاف ، وصفات الفضيلة ؛ فإنها لا تعرف إلا بعد خبرة وطول مدة ، والظاهر كذلك أنهم إنما قصدوا التشبيه فى الصورة ، لا فى السيرة.

الثالث : قول امرأة العزيز (فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) (١) أى فى جماله ، وميلها إليه ؛ لما ظهر لهن عذروها ؛ لحسنه وجماله.

ولا يخفى أن ما كان فيه من حسن السيرة ، وصفات الفضيلة غير موجب لذلك.

قوله ـ تعالى ـ : (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) (٢) .... الآية.

لا يدل على تفضيل الملك عليه ، وذلك لأن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لما خوف كفار قريش بالعذاب فى قوله ـ تعالى ـ قبل هذه الآية (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) ـ يعنى كفار قريش ، وتكذيبهم بالقرآن ـ (يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) (٣). فسأله كفار قريش تعجيل العذاب ؛ استهزاء به ، وتكذيبا له ؛ فأنزل الله تعالى ـ : (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) ـ : أى مفاتيح نزول العذاب بكم ـ (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) ـ : أى متى ينزل عليكم العذاب ـ (وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) (٤) : أى ممن يقدر على إحاطة العذاب بكم ، ونزوله عليكم من الملائكة كما فعل بالأمم السالفة من قبلكم ، على ما روى أن جبريل ـ عليه‌السلام ـ قلب بإحدى جناحيه بلاد لوط ، وذلك يدل على أن الملك أقدر ، ولا يدل على كونه أفضل.

وقوله ـ تعالى ـ : (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) (٥) الآية ، ليس فيه ما يدل على أن الملائكة أفضل من الأنبياء ، وذلك لأنه قد ذكر أهل التفسير أن آدم ، وحواء رأيا الملائكة على صور أحسن من صورتهما ، وخلق أعظم من خلقهما ؛ فقال لهما إبليس (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ

__________________

(١) سورة يوسف ١٢ / ٣٢.

(٢) سورة الأنعام ٦ / ٥٠.

(٣) سورة الأنعام ٦ / ٤٩.

(٤) سورة الأنعام ٦ / ٥٠.

(٥) سورة الأعراف ٧ / ٢٠.

تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) ومعناه ألا تكون على صورة الملائكة وأن لا تكونا من الخالدين ، وقاسمهما إنى لكما لمن الناصحين ؛ أى خلف لهما على ذلك ، وذلك يدل على أن صور الملائكة أحسن ، وأعظم من صور البشر ، لا على الفضيلة.

وقوله ـ تعالى ـ : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) (١).

لا يدل على تفضيل الملائكة على المسيح ، وتأخير الملائكة فى الذكر لا نسلم دلالته على ذلك ، وما ذكروه من المثال فى قول القائل «إن فلانا لا يستنكف عن خدمته الوزير ، ولا السلطان» لم يعرف فيه زيادة شرف السلطان على الوزير من التقديم ، والتأخير ؛ بل كان ذلك معلوما لنا قبله. ولهذا لو قال القائل «ما فعل هذا الأمر زيد ، ولا عمرو» فإنه لا يدل على شرف عمرو ، على زيد ؛ بل ربما كان الأمر بالعكس فى نفس الأمر.

وإن سلمنا أن ذلك يدل على أفضلية هذا المتأخر فى الذكر ، ولكن غايته الدلالة على أن جملة الملائكة ، أفضل من المسيح وليس فيه ما يدل على أن آحاد الملائكة أفضل من المسيح. والنزاع إنما هو واقع فى أن آحاد الأنبياء ، أفضل من آحاد الملائكة. لا فى أن آحاد الأنبياء ؛ أفضل من جملة الملائكة.

وإن سلمنا دلالة ذلك على أن آحاد الملائكة أفضل من المسيح ، ولكن ليس فيه ما يدل على أنه أفضل منه فى الثواب ، ورفع الدرجة فى الدار الآخرة عند الله ـ تعالى ـ ؛ بل يحتمل أن التفاضل بينهما فى القوة / والقدرة ، أو من جهة كون المسيح مخلوقا من أنثى لا من ذكر ، وكون الملك مخلوقا من غير ذكر ، ولا أنثى ، وذلك لأن النصارى لما اعتقدوا إلاهية المسيح إما لقدرته على إحياء الميت ، وإما لكونه مخلوقا من غير ذكر ، قال ـ تعالى ـ محتجا عليهم بقوله (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ) ـ مع قدرته على إحياء الميت ومع كونه مخلوقا من غير ذكر ـ (أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) (٢) الذين هم أقوى ، وأقدر منه ، وكونهم مخلوقين من غير ذكر ، ولا أنثى ، والتفاوت بين المسيح ، والملائكة فى كل واحد من الأمرين المذكورين لا يدل على فضيلة الملك بالنسبة إلى المسيح فيما هو محل النزاع على ما قررناه.

__________________

(١) سورة النساء ٤ / ١٧٢.

(٢) سورة النساء ٤ / ١٧٢.

وقوله / / تعالى ـ : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ....) (١) الآية.

لا دلالة فيه على أن جبريل أفضل من محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فإن غايته ذكر صفات لجبريل موجبة لفضيلته ، ولا يلزم من ذلك الأفضلية إلا أن يكون كل ما وصف به محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قد وصف به جبريل ، وزيادة ؛ وليس كذلك.

وما ذكروه فى تقريره فلا حجة فيه ؛ لأنه لم يذكر وصف جبريل بما ذكر به ، لقصد تفضيله على محمد ، أو لأنه أفضل منه ؛ بل إنما ذكر ذلك للرد على كفار مكة حيث أنهم كانوا يقولون إن محمدا مجنون ، وأن ما يذكره من القرآن : إنما هو كلام الشيطان يلقيه على لسانه. فقال ـ تعالى ـ : (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ* الْجَوارِ الْكُنَّسِ) ـ أى الكواكب ـ (وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ) ـ أى أظلم ـ (وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) ـ أى أضاء ـ (إِنَّهُ) ـ أى القرآن ـ (لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ* ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ* مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) ، مبالغة فى أنه ليس بقول شيطان رجيم ، (وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) (٢) كما زعمتم ، وإنما وقعت المبالغة فى ذكر صفات جبريل دون صفات محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لوجهين :

الأول : أنها لم تكن معلومة لهم بخلاف صفات محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إذ أنها كانت معلومة لهم ؛ لكونه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بين أظهرهم ، وهو بمرأى منهم.

الثانى : للمبالغة فى الميز بينه ، وبين من نسب إليه إلقاء القرآن على لسان الرسول عليه ـ الصلاة والسلام ـ من الشياطين ، لا لأجل أن جبريل عليه‌السلام أفضل.

وهذه المسألة : ظنية لا حظ للقطع فيها نفيا ، ولا إثباتا ، ومدارها على الأدلة السمعية ، دون الأدلة العقلية ، وقد أتينا فيها بمبلغ الجهد ، ونهاية الوسع ، مما لم يأت به غيرنا على وفق مذهب أصحابنا.

ولله الحمد والمنة

__________________

/ / أول ل ١٠٨ / ب.

(١) سورة التكوير ٨١ / ١٩.

(٢) سورة التكوير ٨١ / ١٥ ـ ٢٢.

القاعدة السادسة

فى المعاد ، والسمعيات ، وأحكام الثواب والعقاب

وتشتمل على ثلاثة أصول :

الأصل الأول : فى المعاد.

الأصل الثانى : فى السمعيات.

الأصل الثالث : فى أحكام الثواب والعقاب.

الأصل الأول : فى المعاد.

ويشتمل على ثلاثة فصول :

الفصل الأول : فى جواز إعادة ما عدم عقلا.

الفصل الثانى : فى وجوب وقوع المعاد / الجسمانى.

الفصل الثالث : فى المعاد النفسانى.

الفصل الأول

فى جواز إعادة ما عدم عقلا

وقد اختلف فيه :

فذهبت الفلاسفة (١) ، والتناسخية (٢) ، وأبو الحسين البصرى (٣) ، وبعض الكرامية (٤) إلى المنع من ذلك.

وذهب أكثر المتكلمين إلى جوازه (٥).

ثم اختلف القائلون بالجواز :

فذهبت الأشاعرة ومن تابعهم إلى جواز إعادة ما عدم ذاتا ، ووجودا (٦).

واختلفوا فى إعادة الأعراض :

فمنهم من منع منها. لأن المعاد عنده معاد لمعنى ، فلو عادت الأعراض ، لعادت لمعنى ، ويلزم منه قيام العرض بالعرض ؛ وهو محال (٧).

وذهب أكثرهم. وإليه ميل شيخنا إلى جواز إعادتها مطلقا (٨).

ثم أختلف أصحابنا القائلون بجواز إعادة الأعراض. فى أنه هل يجوز إعادتها فى غير محالها. أو أنها لا تعاد إلا فى محالها.

__________________

(١) انظر رأيهم بالتفصيل فى رسالة أضحوية فى أمر المعاد لابن سينا ص ٨٢ وما بعدها ت د. سليمان دنيا ط دار الفكر العربى ، والنجاة له أيضا ص ٤٧٧ ط : مطبعة السعادة سنة ١٣٣١ ه‍.

أما نقد رأيهم : فانظر : تهافت الفلاسفة للإمام الغزالى ص ٣٨٢ ت : د. سليمان دنيا ، دار المعارف.

(٢) انظر عنهم ما مر فى هامش ل ١٧٥ / أمن الجزء الأول.

(٣) انظر عنه ما مر فى هامش ل ٥٣ / أمن الجزء الأول.

(٤) انظر عنهم ما مر فى الجزء الأول هامش ل ٦٥ / أوما سيأتى فى الجزء الثانى ل ٢٥٦ / ب وما بعدها.

(٥) منهم على سبيل التمثيل لا الحصر : إمام الحرمين الجوينى فى الإرشاد ص ٣٧١.

والشهرستانى فى نهاية الأقدام ص ٤٦٧ وما بعدها ، والبغدادى فى أصول الدين ص ٢٢٧.

والإيجى فى شرح المواقف السادس ص ١١٧ وما بعدها ، والتفتازانى فى شرح المقاصد ٢ / ١٥٣.

ومن المعتزلة القاضى عبد الجبار فى المغنى ١١ / ٤٥١.

(٦) لتوضيح رأى الأشاعرة انظر ما مر فى المصدر السابق.

(٧) راجع ما مر فى الأصل الثانى : فى الأعراض وأحكامها ـ الفرع الثالث : فى استحالة قيام العرض بالعرض ل ٤٢ / ب وما بعدها.

(٨) انظر الإبانة للإمام الأشعرى ص ٨٩ وما بعدها.

والّذي عليه المحققون منهم : إنما هو جواز إعادتها فى غير محالها مع اتفاقهم على أن ما كان مقدورا للعبد ؛ يجوز أن يعيده الله ـ تعالى ـ مقدورا.

إما بأن يعيد القدرة الأولى عليه ، أو بقدرة أخرى (١).

وأما المعتزلة القائلون بكون المعدوم الممكن ذاتا ، وأن وجوده زائد على ذاته ؛ فإنهم جوزوا إعادة ما عدم وجودا لا ذاتا ، ومنعوا من إعادة المعدوم ذاتا (٢).

وأما الأعراض (٣) : فقد اتفقوا على جواز إعادة ما كان منها على أصولهم باقيا غير متولد (٤) واختلفوا فى جواز إعادة المتولد منها ، واختلفوا أيضا فى جواز إعادة ما لا بقاء له :

كالحركات ، والأصوات ، والإرادات.

فذهب الأكثرون منهم إلى المنع من إعادتها (٥). وجوزه الأقلون كالبلخى (٦) ، وغيره ، واتفقوا على أن الفاعل المختار من المخلوقين وإن كان عندهم قادرا على إنشاء الفعل ، وأن قدرته باقية أنه لا يقدر على إعادة ما عدم من أفعال العبد. اختلفوا فيه ، واختلفوا أيضا فى أن ما كان من مقدورات الرب ـ تعالى ـ مجانسا لمقدور العبد. هل يصح من الله ـ تعالى ـ إعادته بعد عدمه؟.

فذهب الجبائى (٧) : إلى منعه ، وخالفه الباقون منهم فيما كان من أفعاله باقيا.

__________________

(١) لتوضيح الآراء فى إعادة الأعراض راجع ما مر فى الجزء الأول : القول فى خلق الأفعال ل ٢٥٧ / ب وما بعدها.

(٢) راجع رأيهم فى المغنى للقاضى عبد الجبار ١١ / ١٤٥ وما بعدها.

(٣) راجع رأيهم فى المغنى للقاضى عبد الجبار ١١ / ٤٥١ وما بعدها.

(٤) لمزيد من البحث والدراسة عن التولد راجع ما مر فى الجزء الأول ـ الفرع الثامن فى الرد على القائلين بالتولد من ل ٢٧٢ / ب ـ ٢٨١ / ب. ففيه معلومات مهمة ومفيدة.

(٥) لتوضيح رأى المعتزلة انظر المغنى للقاضى عبد الجبار ١١ / ٤٥١ وما بعدها. وقارن بما ورد فى الإرشاد للجوينى ص ٣٧١ ، ٣٧٢.

(٦) راجع ترجمته فى الجزء الأول فى هامش ل ٦٤ / ب من القاعدة الرابعة ـ وانظر ما سيأتى فى القاعدة السابعة ـ فى الجزء الثانى فى ل ٢٤٦ / ب وهامشها.

أما عن رأيه : فانظر المغنى ١١ / ٤٥١ ، ٤٥٢ وقارن بالفرق بين الفرق ص ١٨١.

(٧) راجع ترجمة الجبائى فى الجزء الأول فى هامش ل ١٢ / ب أما مذهبه فانظر عنه ما سيأتى فى القاعدة السابعة ل ٢٤٦ / ب.

احتج أصحابنا على جواز إعادة ما عدم مطلقا (١) بحجتين :

الأولى : أنّا قد بيّنا أن كل موجود ممكن ، فهو جائز العدم / / على ما سبق فى مسألة الفناء.

وكل ما هو جائز العدم ؛ ففرض عدمه لا يلزم عنه المحال لذاته ، وإلا لما كان جائز العدم. وكل ما يمكن فرض عدمه بعد وجوده ؛ فوجوده بعد عدمه ممكن ، وهو المعنى بإعادة ما عدم.

وبيان أن وجوده بعد عدمه ممكن :

أنه لا يخلو : إما أن يكون ممكن الوجود لذاته ، أو ممتنع الوجود / لذاته ، أو واجب الوجود لذاته.

لا جائز أن يكون واجب الوجود لذاته ؛ وإلا لما عدم.

ولا جائز أن يكون ممتنع الوجود لذاته ؛ وإلا لما كان موجودا.

فلم يبقى إلا أن يكون ممكن الوجود لذاته ؛ وهو المطلوب.

الحجة الثانية : هو أن الإعادة إحداث (٢) ، واختراع (٣) كما أن النشأة الأولى إحداث ، واختراع ؛ فهما من هذا الوجه متماثلان ، والتفاوت بينهما : إنّما هو من جهة أن النشأة الأولى غير مسبوقة بوجود قبل عدم ، والإعادة مسبوقة بوجود قبل عدم. وهذه السبقية غير مؤثرة فى اختلاف ذات الحدوث ، والاختراع من حيث هو كذلك ؛ إذ الاختلاف بين الذوات : إنما يكون بالصفات النفسية الذاتية ، لا بالنسب والإضافات الخارجة.

__________________

(١) انظر استدلال الأشاعرة على جواز إعادة ما عدم مطلقا بالإضافة إلى ما ورد هاهنا فى المواقف ص ٣٧١ وشرحها ـ الموقف السادس ص ١٧٧ وما بعدها. وشرح المقاصد ٢ / ١٥٣.

/ / أول ل ١٠٩ / أمن النسخة ب.

(٢) الإحداث : إيجاد شيء مسبوق بالزمان. (التعريفات ص ٢٢). والحادث : ما يكون مسبوقا بالعدم ، ويسمى حدوثا زمانيا ، وقد يعبر عن الحدوث بالحاجة إلى الغير ، ويسمى حدوثا ذاتيا. (التعريفات ص ٩٣).

(٣) الاختراع : إحداث شيء على غير مثال سابق. وفى اصطلاح الحكماء إيجاد شيء غير مسبوق بالعدم. (شرح الطوسى على الإشارات ص ٢١٦ ، ٢٣٧).

والإجماع من العقلاء منعقد على أن الحدوث فى النشأة الأولى جائز ، وما يثبت لأحد المثلين ، أمكن إثباته للمثل الآخر.

فإن قيل : ما ذكرتموه استدلال على إبطال ما هو معلوم بالضرورة ، وذلك أنه إذا أعدم الشيء فما أبدع ثانيا ، فإنّا نعلم بالضرورى أنه غير الأول ، والمتغايران لا يكون أحدهما هو الأخر.

وإن سلمنا أنه غير ضرورى ولكن قولكم فى الحجة الأولى : أنّ ما عدم بعد وجوده : إما أن يكون واجب الوجود ، أو جائز الوجود ، أو ممتنع الوجود. مسلم ؛ ولكن لم قلتم إنه لا يكون ممتنع الوجود؟

قولكم : لو كان ممتنع الوجود ، لما وجد أولا.

قلنا : ما المانع أن يكون لذاته جائز الوجود فى النشأة الأولى لذاته ، وممتنع الوجود فى طرف الإعادة؟

ولا يلزم من امتناع أحدهما عليه لذاته ، امتناع الآخر ، وصار كما قلتم فى جواز وجود العرض لذاته ، وامتناع وجوده فى الزمن الثانى من حدوثه لذاته (١).

وقولكم فى الحجة الثانية : أن الإعادة مماثلة للنشأة الأولى. ممنوع ، ولا يلزم من التماثل فى الحدوث بينهما التماثل مطلقا ، وذلك لأنّ أخص صفة الإعادة أنّها إحداث بعد نشأة لعين ما أنشأ ، وأخص وصف النشأة أنها إحداث لما لم ينشأ أولا.

وعلى هذا : فلا يلزم من جواز أحدهما ، جواز الآخر.

ثم وإن سلمنا دلالة ما ذكرتموه على جواز الإعادة ، غير أنه معارض بما يدل على امتناعها ، وبيانه من أربعة أوجه : ـ

الأول : هو أن الحكم على ما عدم بكونه جائز الإعادة ؛ حكم بإثبات صفة للمعدوم.

وعند ذلك فلا يخلو : إما أن يكون المعدوم فى حال عدمه ثابتا ، أو لا يكون ثابتا.

__________________

(١) قارن بما ورد فى شرح المقاصد ٢ / ١٥٣.

فإن كان الأول : لزمكم الحكم على المعدوم بكونه شيئا ، وذاتا ثابتة ، ولم تقولوا به (١).

وإن كان الثانى : فإثبات صفة إثباتية لما ليس / بثابت محال (٢).

الثانى : هو أن ما قضى بجواز إعادته : إما أن يكون هو عين ما عدم بعد النشأة ، أو غيره.

فإن كان الأول : فيلزم أن يكون متعينا فى نفسه حالة العدم ، وتعيين المعدوم المحض محال ؛ فإنّ ذلك يستدعى التمييز بين الإعدام ، ولا تمايز بينها. وإن كان غيره ؛ فلا إعادة له.

الثالث : أنه لو كانت إعادة ما عدم جائزة ؛ لكانت إعادة الوقت الّذي فيه النشأة جائزة. ولو جاز ذلك ؛ لجاز إعادة ما حدث فيه أولا ، ثانيا.

ويلزم من اتحاد الوقت ، والشيء الحادث فيه أن لا يكون معادا وقد قيل إنه معاد ، وهو تناقض (٣).

الرابع : أنه لو جاز إعادة ما عدم ؛ لجاز أن يخلق الله ـ تعالى ـ مثله ابتداء فى وقت إعادته.

وعند ذلك : فنسبتهما إلى ما أنشئ أولا نسبة واحدة لتماثلها.

وعند ذلك : فإما أن تكون عين الأول ، أو أحدهما دون الثانى أو أنه لا واحد منهما عين الأول.

الأول محال ؛ لما فيه من تعدد المتّحد.

والثانى محال ؛ لعدم الأولوية.

والثالث : هو المطلوب.

__________________

(١) قارن بما ورد فى نهاية الأقدام ص ١٥٠ ، ١٥١ القاعدة السابعة : فى المعدوم هل هو شيء أم لا؟

(٢) انظر : رسالة أضحوية فى أمر المعاد لابن سينا ٥٠ ، ٥١ ـ وشرح المقاصد للتفتازانى ٢ / ١٥٣ وما بعدها.

(٣) راجع شرح المقاصد للتفتازانى ٢ / ١٥٤ فقد استفاد من الآمدي ووضح هذه المسألة. ثم قارن بما أورده ابن سينا فى رسالة أضحوية فى أمر المعاد ص ٥٠ ، ٥١.

وإن سلمنا سلامة ما ذكرتموه عن المعارض فى جواز إعادة الجواهر ؛ غير أنه معارض فى الأعراض بما يدل على امتناع إعادتها ؛ وذلك لأن العرض لو أعيد ؛ فلا بد وأن يكون له تخصيص بزمان إعادته فيه. وذلك يستدعى / / قيام معنى به يوجب تخصصه بزمان ؛ وإلا لما كان اختصاصه بزمان عوده أولى من غيره ، وذلك يجر إلى قيام المعنى بالمعنى ؛ وهو محال كما سبق (١).

وإن سلمنا جواز إعادة الباقى من الأعراض ، غير أنه يمتنع إعادة غير الباقى منها ؛ وذلك لأنه لو جاز وجود العرض الّذي لا بقاء له فى زمنين يفصلهما عدم ؛ لجاز وجوده فى زمنين ، لا يفصلهما عدم ؛ وذلك لأنّ الزمان الّذي يلى زمان الحدوث ، مماثل للزمان الّذي لا يلى زمان الحدوث ، وما ثبت لأحد المثلين ، جاز ثبوته للآخر ، واللازم ممتنع ؛ لما سبق (٢).

وأيضا فإن ما لا يبقى من الأعراض واجبة التخصيص فى علم الله ـ تعالى ـ بأوقات لا يجوز تقدّمها عليها ، ولا تأخّرها عنها على ما عرف من أصلنا ، فلو قيل بجواز إعادتها لبطل هذا التخصيص ، وهو ممتنع.

وإن سلمنا جواز إعادة الأعراض ، ولكن ما كان منها مخلوقا لله ـ تعالى ـ أو للعبد. الأول : مسلم. والثانى : ممنوع ، وذلك لأن ما كان مخلوقا للعبد ، لو أمكن إعادته لكانت بقدرة الرب ، أو بقدرة العبد. فإن كان ذلك بقدرة الرب ـ تعالى ـ فيلزم منه وجود مخلوق بين خالقين ؛ ضرورة اتحاد الموجود ، وأن النشأة الأولى بفعل العبد / والثانية بفعل الرب ـ تعالى ـ وهو محال كما تقدم (٣).

وإن كان ذلك بقدرة العبد ؛ فإما أن يكون ذلك بقدرة أخرى غير القدرة على النشأة الأولى ، أو بعينها.

__________________

/ / أول ل ١٠٩ / ب من النسخة ب.

(١) راجع المواقف للإيجي ص ٣٧٢ وشرحها : الموقف السادس ص ١٧٨ وما بعدها ثم راجع ما مر فى ل ٤٢ / ب وما بعدها من الجزء الثانى.

(٢) راجع ما مر فى الأصل الثانى فى الأعراض وأحكامها ـ الفرع الرابع ل ٤٤ / ب وما بعدها.

(٣) راجع ما مر فى الجزء الأول ـ القاعدة الرابعة ـ الباب الأول ـ القسم الأول ـ النوع السادس ـ الأصل الثانى ـ الفرع الأول : فى امتناع مخلوق بين خالقين ل ٢١٧ / ب وما بعدها.

فإن كان الأول : لزم تعلق مقدور واحد بقدرتين ، وكما يمتنع وجود مقدور بقادرين ، يمتنع وجود مقدور بقدرتين.

وإن كان الثانى : فهو ممتنع ؛ لأنّه لو صلحت القدرة الواحدة لإحداث العرض ، وإعادته ؛ لكانت صالحة لإنشاء مثله فى وقت إعادته فى محله وذلك ممتنع ؛ لأنه لو جاز أن يصدر عن القدرة الواحدة أمور متماثلة فى محل واحد ؛ لجاز على الذرة حمل الجبال الراسيات ، وذلك بأن يفعل فى كل جزء من الجبال بعدد أجزائها ، أجزاء من الاعتمادات العلوية الموجبة لرفع الجبل ؛ وذلك محال خارق للعوائد.

وعلى هذا : فيمتنع على الله ـ تعالى ـ إعادة ما كان من أفعاله مجانسا لفعل العبد كما قاله الجبائى (١) ؛ لأنه إذا امتنع عليه إعادة مثله ؛ امتنع عليه إعادته.

والجواب

أما ما ذكروه من دعوى الضرورة فى المغايرة ، فإن ادعوا العلم الضرورى بالمغايرة بين الإعادة ، والنشأة الأولى ؛ فهو مسلم ، وإن ادعوا المغايرة بين المعاد والمنشأ أولا فقد ادعوا الضرورة فى محل النزاع ، وليس ذلك أولى من دعوى ضرورة الاتحاد (٢).

قولهم : ما المانع أن يكون جائز الوجود لذاته فى النشأة الأولى ، ممتنع الوجود فى زمن الإعادة؟.

قلنا : لأن الإعادة لا معنى لها غير الإحداث ، والاختراع لما كان قد عدم بعد اختراعه ، والإحداث ، والاختراع الثانى غير مخالف للأول من حيث هو كذلك ، وما وقع به التفاوت بينهما فى التقدم والتأخر ، فغير موجب للاختلاف بين ذاتيهما ؛ إذ هو مجرد نسبة وإضافة ، والنسب والإضافات غير مانعة من التماثل. فلو كان الشيء لذاته مما يمتنع عليه الحدوث والاختراع فى حالة من الأحوال بعد عدمه ، لامتنع عليه ذلك مطلقا ؛ لأنّ حكم الذات لا يختلف. وخرج عن ما ذكرناه ، الأعراض ؛ فإن ما قضى بجوازه عليها [لذاتها إنما هو الحدوث والاختراع. وما قضى بامتناعه عليها] (٣). لذاتها إنما هو البقاء ، والبقاء مخالف للحدوث ، والاختراع.

__________________

(١) راجع مقالته فيما مر ل ١٩٥ / أ.

(٢) قارن هذا الرد بما ذكره فى غاية المرام فى علم الكلام ص ٢٨١ وما بعدها.

(٣) ساقط من (أ).

فما لزم من جواز أحدهما ، جواز الآخر ، ولا من امتناع أحدهما ، امتناع الآخر ، وبما حققناه يبطل ما ذكروه على الحجة الثانية أيضا.

قولهم : الحكم بجواز الإعادة على ما عدم ، حكم بصفة إثباتية ؛ فهو مبنى على أن الجواز صفة إثباتية ؛ وهو باطل بما سبق.

قولهم : يلزم من الحكم بجواز إعادة عين ما عدم ، أن يكون المعدوم متعينا / ومتميزا فى حالة عدمه عن غيره.

عنه جوابان :

الأول : أنهم إن أرادوا بذلك أن يكون متميزا فى علم الله ـ تعالى ـ فهو مسلم ، وما المانع منه؟ ، وإن أرادوا بذلك أن يكون شيئا متخصصا ، وذاتا ثابتة متعينة فى حالة عدمها ؛ فهو ممنوع على ما تقدم.

الثانى : أنّ ما ذكروه لازم عليهم فى الحكم عليه بامتناع الإعادة.

والجواب : أن ذاك يكون متحدا.

فلئن قالوا : نحن / / لا نحكم عليه بجواز ، ولا امتناع.

قلنا : فتخصيصه بهذا الحكم دون غيره من المعدومات الجائزة الوجود يستدعى تعيينه ، تمييزه عنها ؛ وإلا لما اختلف الحكم.

قولهم : لو جاز إعادة المعدوم ؛ لجاز إعادة الوقت ؛ فهو مبنى على أن الوقت والزمان أمر وجودى ، وليس كذلك ؛ بل هو عبارة عن مقارنة موجود لموجود ؛ فيكون نسبة وإضافة ، والنسب والإضافات ليست وجوديات على ما سبق.

وإن سلمنا أن الوقت أمر وجودى ، وسلمنا إمكان إعادته ، وإعادة الحادث فيه أولا ، وثانيا ؛ فلا يمنع ذلك من كونه معادا ؛ إذ المعاد هو الحادث المسبوق بحدوث نفسه والمنشأ هو الحادث الّذي لم يسبق بحدوث نفسه.

قولهم : لو جاز إعادة ما عدم ؛ لجاز أن يخلق الله ـ تعالى ـ مثله فى وقت إعادته.

مسلم ، وما ذكروه من الأقسام ، فالمختار منها : إنّما هو القسم الثانى منها.

__________________

/ / أول ل ١١٠ / أمن النسخة ب.

قولهم : لا أولوية.

قلنا : إنّما يصحّ ذلك ، أن لو لم يتمايزا من وجه. ولا يلزم من تماثلهما عدم تمايزهما ، وإلا لما وقع التعدد ، والتّغاير ؛ وهو محال.

ولهذا قضوا بامتناع المعاد ، دون المبتدأ ، والحدوث ، ولو لم يتمايزا ؛ لما كان كذلك.

قولهم : بأن إعادة الأعراض ، تفضى إلى قيام المعنى بالمعنى.

ممنوع. وما المانع أن يكون عود العرض ، واختصاصه بزمان عوده بفعل فاعل مختار كما سبق تحقيقه (١).

قولهم : لو جاز وجود العرض فى زمانين يفصلهما عدم ؛ [لجاز وجوده فى زمانين ، لا يفصلهما عدم] (٢).

دعوى مجردة ، وتمثيل من غير دليل.

قولهم : إنّ الزّمان الّذي يلى زمان الحدوث ، مماثل لزمان الإعادة بعد العدم مسلم ؛ غير أنه يلزم من استمرار الوجود فى الزمن الثانى من الحدوث ، بقاء العرض ، ولا كذلك فى زمن الإعادة ، وبقاء ما لا يبقى من الأعراض ممتنع ، ولا يلزم من جواز الوجود فى زمان لا يلزم منه المحال ، جوازه فى زمان يلزم منه المحال وما المانع أن يكون وجود العرض وحدوثه مشروطا بسبق العدم على زمان حدوثه ؛ وهو غير متحقق فى جانب البقاء ؛ بخلاف الإعادة.

والّذي يحقق ما قلناه أن الجوهر الحادث فى أول زمان حدوثه يمتنع / عليه الحركة سواء قدر ذلك فى النشأة الأولى ، أو النشأة الثانية ، ولا يمنع عليه الحركة فى الحالة الثانية من حدوثه ، ولو كان تقدير الوجود فى الإعادة بعد العدم كتقدير الوجود فى الحالة الثانية من حالة الحدوث ؛ لاشتركا فى جواز الحركة على الجوهر منهما ؛ وهو محال.

__________________

(١) راجع ما مر فى الجزء الأول ـ الأصل الثانى ل ٢١٨ / ب وما بعدها.

(٢) ساقط من (أ).

قولهم : العرض الّذي لا يبقى ، واجب التخصيص بوقت لا يتقدم عليه ، ولا يتأخر عنه.

دعوى مجردة من غير دليل ، مع أنهم متنازعون فيها كمنازعتهم فى جواز الإعادة.

كيف وأن ما ذكروه باطل من ثلاثة أوجه : ـ

الأول : أنه لو كان اختصاص العرض بزمان حدوثه واجبا كما ذكروه ؛ لخرج عن كونه مقدورا على أصولهم ، حيث قضوا بأن التحيز للجوهر وقيام الأعراض به عند وجوده لما كان واجبا ، امتنع أن يكون مقدورا ؛ فكذلك هاهنا ، ولا فرق بين الأمرين.

الثانى : هو أن الأصوات عندهم غير باقية (١) ، وهى متماثلة ، ومع ذلك جوزوا وجود كل صوت منها ، فى زمان غير زمان الصوت الآخر ، ولو كان كل واحد منهما ، واجب التخصيص بزمانه الّذي وجد فيه ، ولا يجوز تقدمه عليه ، ولا تأخره عنه مع تماثل الأصوات ؛ لم يكن اختصاص بعض الأصوات ، لبعض الأزمنة ، أولى من غيره ؛ ضرورة التماثل ، وأن ما ثبت لأحد المثلين ، لا يمنع ثبوته للآخر.

الثالث : أنه وإن سلم اختصاص العرض ـ الّذي لا بقاء له ـ بزمان دون زمان فى وقت حدوثه ، فما المانع أن يكون حدوث العرض فى النشأة الأولى ، مختصا بزمان حدوثه فى النشأة الثانية مختصا بزمان آخر؟.

قولهم : سلمنا جواز إعادة الأعراض ، ولكن ما كان منها مخلوقا لله ـ تعالى ـ أو للعبد على ما ذكروه ؛ فهو مبنى على فاسد أصول المعتزلة فى أن القدرة الحادثة مخترعة ؛ ومؤثرة ، وهو باطل على ما سبق (٢).

وإن سلمنا كون القدرة الحادثة مؤثرة ، فما المانع أن تكون إعادة ما اخترعه العبد فى النشأة الأولى بقدرة الرب ـ تعالى ـ.

قولهم : يفضى ذلك إلى وقوع مخلوق بين خالقين.

__________________

(١) قارن بما ورد فى غاية المرام ص ٢٨٠. وانظر المغنى ١١ / ٤٥١ وما بعدها.

(٢) انظر ما سبق فى الجزء الأول ل ٢٦٣ / ب وما بعدها ثم قارن بما ورد فى الإرشاد لإمام الحرمين ص ١٩٦ وما بعدها.

قلنا : المسلم ، إحالة / / ذلك فى وقت واحد.

وإما أن تكون كل واحدة من النشأتين الأولى والثانية ، مستندة إلى قدرة غير القدرة على الأخرى ؛ فهو غير مسلم.

وإن سلمنا أن ذلك بقدرة العبد ، فما المانع أن تكون الإعادة بقدرة غير القدرة على النشأة الأولى؟

قولهم : ذلك ممتنع.

قلنا : المسلم امتناعه إنما هو تعلق القدرتين بالتأثير بمقدور واحد / فى وقت واحد ، وأما فى وقتين ؛ فهو غير مسلم.

وإن سلمنا امتناع ذلك بقدرة غير القدرة على النشأة الأولى ، فما المانع منه بالقدرة الأولى؟

قولهم : لو كانت صالحة لذلك ؛ لكانت صالحة لإنشاء مثله فى وقت إعادته فى محله.

قلنا : معا ، أو على طريق البدل.

الأول : ممنوع ، والثانى مسلم ، وذلك لا يلزم منه اجتماع المثلين فى المحل الواحد.

وإن سلمنا صلاحيتهما لذلك معا ؛ لكن للمثلين ، أو ما زاد عليه.

الأول : مسلم. والثانى : ممنوع.

وعلى هذا : فلا يلزم ما ذكروه من المحال.

سلمنا صلاحية القدرة الواحدة للمتماثلات إلى غير النهاية ، غير أن ما ذكروه من لزوم المحال من حمل الذرة للجبل ؛ فمبنى على تأثير القدرة الواحدة فى الاعتمادات المولدة لحركة الجبل إلى جهة العلو ، وهو فرع القول بالتولد ، وقد أبطلناه (١).

__________________

/ / أول ل ١١٠ / ب من النسخة ب.

(١) انظر ما مر فى الجزء الأول ل ٢٧٣ / أوما بعدها.

وعلى هذا : فمذهب الجبائى أظهر بطلانا مما تقدم.

[واعلم أن ما قررناه من تجويز إعادة ما عدم غير متصور على أصول المعتزلة ، فإن إعادة ما عدم ، فرع جواز عدمه ، وقد بينا فيما تقدم] (١) امتناع ذلك على أصولهم (٢) ، وبتقدير جواز العدم على أصولهم ، فما ذكرناه من الحجتين مما لا يمكنهم التمسك بها ؛ لانخرامها على أصولهم ؛ لجواز حدوث الأعراض التى لا بقاء لها على أصولهم ، وقضائهم بامتناع إعادتها (٣).

__________________

(١) ساقط من (أ).

(٢) راجع ما مر ل ١٩٥ / أوما بعدها.

(٣) لمزيد من البحث والدراسة راجع قضية إعادة ما عدم فى الإرشاد لإمام الحرمين الجوينى ص ٢٧٤ ، وغاية المرام ص ٢٧٩ وما بعدها وشرح المواقف ـ الموقف السادس ص ١٧٧ وما بعدها. ومن كتب المعتزلة : المغنى للقاضى عبد الجبار ١١ / ٤٣٢ ـ ٤٥٦.

الفصل الثانى

فى وجوب وقوع المعاد الجسمانى

وقد اختلف فيه أيضا :

فذهبت الفلاسفة (١) ، والتناسخية (٢) ، وكثير من العقلاء إلى المنع من ذلك.

وذهب أهل الحق من الإسلاميين ، والمتشرعين إلى وجوب ذلك فى بعض الأجسام (٣).

ثم اختلف القائلون بذلك :

فمنهم من أوجب إعادة المكلّفين عقلا : كالمعتزلة بناء على أصولهم فى وجوب الثواب على الطاعة ، والعقاب على المعصية (٤).

ومنهم من أنكر الوجوب العقلى ، ولو يوجب ما أوجب إعادته بغير السمع : كالأشاعرة ومن تابعهم ؛ وهو الحق (٥).

وأما إنكار الوجوب عقلا : فمن جهة أنه مبنى على القول بإيجاب ثواب الطائع ، وعقاب العاصى على الله ـ تعالى ـ ؛ وهو باطل بما سبق فى التعديل والتجويز (٦).

وأما الوجوب السمعى ؛ فلأنه قد ثبت جواز الإعادة عقلا ، فإذا أخبر الشارع عن وقوعها ، وورد السمع بها ؛ لزم القول بوجوبها. ودليل ورود السمع بذلك ، ما نعلمه بالضرورة ، والنقل المتواتر من أخبار جميع الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ بالمعاد.

__________________

(١) من كتبهم التى وضحت آراءهم : رسائل الكندى ١ / ٢٧١ ، ٢٧٢ وفصوص الحكم ص ٧٣ ورسالة أضحوية ص ٨٩.

(٢) انظر عنهم ما مر فى الجزء الأول هامش ل ١٧٥ / أ.

(٣) اختلف جمهور أهل الحق فيما يعاد. هل كل الأجسام ، أم الأجزاء الأصلية. وهل يعاد المعدوم بعينه ؛ بمعنى أنه عدم. ويعيده ـ الله ـ بعد عدمه أم تكون الإعادة بجمع الأجزاء المتفرقة : أى أنها تفرقت ، ولم تعدم. أم تكون الإعادة بانشاء جديد ، مراعا فيه الانشاء السابق. راجع كل هذه الآراء بالتفصيل ـ بالإضافة لما ذكره الآمدي ـ فى المراجع التالية :

شرح المواقف ـ الموقف السادس ص ١٧٧ وما بعدها. شرح المقاصد ٢ / ١٥٣ وما بعدها ، وشرح العقيدة الطحاوية ص ٤٦٣ وما بعدها.

(٤) راجع رأى المعتزلة فى شرح الأصول الخمسة للقاضى عبد الجبار ص ١٣٤ وما بعدها.

(٥) وانظر رأى الأشاعرة فى شرح المواقف ـ الموقف السادس ص ١٧٨ وما بعدها. وشرح المقاصد للتفتازانى ٢ / ١٥٦ وما بعدها وقارن بما أورده الآمدي فى غاية المرام ص ٢٨١.

(٦) راجع ما مر فى الجزء الأول ـ القاعدة الرابعة ـ الباب الأول ـ القسم الأول ـ النوع السادس ـ الأصل الأول ـ المسألة الثانية : فى أنه لا حكم قبل : ورود السمع ل ١٨٤ / ب وما بعدها.

الجسمانى (١) ، والشريعة طافحة بما ورد على لسان الرسول المؤيد بالمعجزات الدالة على صدقه من الآيات ، والأخبار الدالة على وقوع حشر الأجساد ونشرها.

أما الآيات : فقوله تعالى : ـ (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٢)

وقوله تعالى : ـ (فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ) (٣)

وقوله تعالى : ـ (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (٤)

وقوله تعالى : ـ (رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) (٥)

وقوله تعالى : ـ (فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) (٦)

وقوله تعالى : ـ (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) (٧)

وقوله تعالى : ـ (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) (٨)

__________________

(١) الإيمان بالمعاد مما دل عليه الكتاب والسنة ، والعقل والفطرة السليمة فأخبر الله عنه فى كتابه العزيز ، وأقام الدليل عليه ، وردّ على منكر به فى غالب سور القرآن. وذلك : أن الأنبياء عليهم‌السلام كلهم متفقون على الايمان بالأخرة ، فإن الإقرار بالرب عام فى بنى آدم ، وهو فطرى ، كلهم يقر بالرب إلا من عاند كفرعون ، بخلاف الإيمان باليوم الأخر ؛ فإن منكريه كثيرون. ومحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لما كان خاتم الأنبياء ، وكان قد بعث هو والساعة كهاتين وكان هو الحاشر المقفى ـ بين تفصيل الآخرة بيانا لا يوجد فى شيء من كتب الأنبياء. ولهذا ظن طائفة من المتفلسفة ونحوهم ، أنه لم يفصح بمعاد الأبدان إلا محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وجعلوا هذه حجة لهم فى أنه من باب التخييل والخطاب الجمهورى [شرح الطحاوية ص ٤٦٣ ، ٤٦٤].

(٢) سورة البقرة ٢ / ٢٨.

(٣) سورة البقرة ٢ / ٨٥.

(٤) سورة البقرة ٢ / ٢٨١.

(٥) سورة آل عمران ٣ / ٩.

(٦) سورة آل عمران ٣ / ٢٥.

(٧) سورة آل عمران ٣ / ١٦١.

(٨) سورة آل عمران ٣ / ١٨٥.

وقوله تعالى : ـ (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (١)

وقوله تعالى : ـ (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) (٢)

وقوله تعالى : ـ (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (٣)

وقوله تعالى : ـ (حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (٤)

وقوله تعالى : ـ (وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٥) وقوله تعالى : ـ (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ) / / (أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ) (٦)

وقوله تعالى : ـ (إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ ٤٢ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ) (٧)

وقوله تعالى : ـ (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) (٨)

وقوله تعالى : ـ (قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ٣٦ قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ٣٧ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) (٩)

وقوله تعالى : ـ (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ) (١٠)

__________________

(١) سورة الأنعام ٦ / ٢٧.

(٢) سورة الأنعام ٦ / ٩٤.

(٣) سورة الأنعام ٦ / ١٦٤.

(٤) سورة الأعراف ٧ / ٥٧.

(٥) سورة التوبة ٩ / ١٠٥.

(٦) سورة يونس ١٠ / ٢٨.

/ / أول ل ١٢١ / أ.

(٧) سورة إبراهيم ١٤ / ٤٢ ، ٤٣.

(٨) سورة ابراهيم ١٤ / ٤٨.

(٩) سورة الحجر ١٥ / ٣٦ ، ٣٧ ، ٣٨.

(١٠) سورة النحل ١٦ / ٢٧.

وقوله تعالى : ـ (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا) (١)

وقوله تعالى : ـ (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً) (٢)

وقوله تعالى : ـ (وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً) (٣)

وقوله تعالى : ـ (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٤)

وقوله تعالى : ـ (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ ١٥ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ) (٥)

وقوله تعالى : ـ (وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (٦)

وقوله تعالى : ـ (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ) (٧)

وقوله تعالى : ـ (وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) (٨)

وقوله تعالى : ـ (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ) (٩)

وقوله تعالى : ـ (اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ / يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (١٠)

وقوله تعالى : ـ (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ) (١١)

__________________

(١) سورة الإسراء ١٧ / ٩٧.

(٢) سورة الكهف ١٨ / ٤٧.

(٣) سورة الكهف ١٨ / ٩٩.

(٤) سورة الحج ٢٢ / ٦.

(٥) سورة المؤمنون ٢٣ / ١٥ ، ١٦.

(٦) سورة المؤمنون ٢٣ / ٧٩.

(٧) سورة النمل ٢٧ / ٨٣.

(٨) سورة العنكبوت ٢٩ / ٨.

(٩) سورة العنكبوت ٢٩ / ٥٧.

(١٠) سورة الروم ٣٠ / ١١.

(١١) سورة الروم ٣٠ / ١٩.

وقوله تعالى : ـ (ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) (١)

وقوله تعالى : ـ (فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢)

وقوله تعالى : ـ (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ) (٣)؟

وقوله تعالى : ـ (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ) (٤) الآية.

وقوله تعالى : ـ (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ٧٨ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) (٥) الآية.

وقوله تعالى : ـ (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ١٦ أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ ١٧ قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ) (٦)

وقوله تعالى : ـ (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) (٧)

وقوله تعالى : ـ (يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) (٨)

وقوله تعالى : ـ (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) (٩)

وقوله تعالى : ـ (قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) (١٠)

وقوله تعالى : ـ (وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ) (١١)

__________________

(١) سورة الروم ٣٠ / ٢٥.

(٢) سورة الروم ٣٠ / ٥٠.

(٣) سورة سبأ ٣٤ / ٤٠.

(٤) سورة يس ٣٦ / ١٢.

(٥) سورة يس ٣٦ / ٧٨ ، ٧٩.

(٦) سورة الصافات ٣٧ / ١٦ ، ١٧ ، ١٨.

(٧) سورة الزمر ٣٩ / ٦٨.

(٨) سورة غافر ٤٠ / ١٦.

(٩) سورة الشورى ٤٢ / ٧.

(١٠) سورة الجاثية ٤٥ / ٢٦.

(١١) سورة الأحقاف ٤٦ / ٦.

وقوله تعالى : ـ (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) (١)

وقوله تعالى : ـ (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ ٢٠ وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) (٢)

وقوله تعالى : ـ (يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ) (٣)

وقوله تعالى : ـ (هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (٤)

وقوله تعالى : ـ (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ) (٥)

وقوله تعالى : ـ (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ) (٦)

وقوله تعالى : ـ (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ ٣ بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) (٧)

وقوله تعالى : ـ (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ ٦ خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) (٨)

وقوله تعالى : ـ (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ ٤٩ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) (٩)

وقوله تعالى : ـ (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً) (١٠) إلى غير ذلك من الآيات.

وأما الأخبار : فما روى مسلم فى صحيحه عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه قال : «يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء» (١١) وأيضا قوله ـ صلى الله عليه

__________________

(١) سورة الأحقاف ٤٦ / ٣٣.

(٢) سورة ق ٥٠ / ٢٠ ، ٢١.

(٣) سورة ق ٥٠ / ٤٢.

(٤) سورة الملك ٦٧ / ٢٤.

(٥) سورة الحاقة ٦٩ / ١٨.

(٦) سورة المعارج ٧٠ / ٤٣.

(٧) سورة القيامة ٧٥ / ٣ ، ٤.

(٨) سورة القمر ٥٤ / ٦ ، ٧.

(٩) سورة الواقعة ٥٦ / ٤٩ ، ٥٠.

(١٠) سورة النبأ ٧٨ / ١٨.

(١١) صحيح مسلم ٤ / ٢١٥٠ كتاب : صفة القيامة والجنة والنار ـ باب : فى البعث والنشور وصفة الأرض يوم القيامة.

وسلم ـ «يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة» (١) وأيضا قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «يا أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) (٢)

وأيضا قوله عليه الصلاة والسلام «يقوم يوم القيامة الناس لرب العالمين حتى يقوم أحدهم فى رشحه إلى أنصاف أذنيه» (٣).

وروى أيضا فى صحيحه عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ / أنه قال «يجئ يوم القيامة ناس بذنوب أمثال الجبال ؛ فيغفرها الله لهم» (٤).

وروى أيضا فى صحيحه عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه قال «يدنى المؤمن من ربه يوم القيامة حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه. فيقول هل تعرف؟

فيقول رب أعرف ـ قال : فإنى قد سترتها عليك فى الدنيا ، وإنى أغفرها لك اليوم ، وأما الكفار والمنافقون ، فينادى / / بهم على رءوس الخلائق هؤلاء الذين كذبوا على ربهم» (٥).

والأدلة السمعية فى ذلك متسع لا يحويها كتاب ولا يحصرها خطاب ، وكلها ظاهرة فى الدلالة على حشر الأجساد ونشرها ، مع إمكان ذلك فى نفسه ؛ فلا يجوز تركها من غير دليل.

لكن هل الإعادة للأجسام بإيجادها بعد عدمها ، أو بتأليف أجزائها بعد تفرقها؟ فقد اختلف فيه.

والحق إمكان كل واحد من الأمرين ، والسمع موجب لأحدهما من غير تعيين ، وبتقدير أن تكون الإعادة للأجسام بتأليف أجزائها بعد تفرقها ، فهل تجب إعادة عين ما انقضى ومضى ، من التأليفات فى الدنيا ، أو أن الله ـ تعالى ـ يجوز أن يؤلفها بتأليف آخر؟ (٦).

__________________

(١) رواه مسلم فى صحيحه كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها ـ باب فناء الدنيا ، وبيان الحشر يوم القيامة ٤ / ٢١٩٤.

(٢) رواه مسلم فى صحيحه ٤ / ٢١٩٤ ، ٢١٩٥ ـ جزء من الآية رقم ١٠٤ من سورة الأنبياء.

(٣) رواه مسلم فى صحيحه ٤ / ٢١٩٥.

(٤) رواه مسلم فى صحيحه كتاب التوبة ـ باب قبول توبة القاتل وإن كثر قتله ٤ / ٢١٢٠.

/ / أول ل ١١١ / ب.

(٥) صحيح مسلم كتاب التوبة ـ باب قبول توبة القاتل وإن كثر قتله ٤ / ٢١٢٠.

(٦) قارن بما ورد فى شرح المواقف ـ الموقف السادس ص ١٨٤ وما بعدها. وشرح المقاصد ٢ / ١٦٠ ، ١٦١.

فذهب أبو هاشم (١) : إلى المنع من إعادتها بتأليف آخر ؛ مصيرا منه إلى أن جواهر الأشخاص متماثلة ، وإنما يتميز كل واحد عن الآخر بتعينه ، وتأليفه الخاص ، فإذا لم يعد ذلك التأليف الخاص به ؛ فذلك الشخص لا يكون هو العائد ؛ بل غيره ؛ وهو مخالف لما ورد به السمع من حشر الناس على صورهم. ومذهب من عداه من أهل الحق : أن كل واحد من الأمرين جائز عقلا ، ولا دليل على التعيين من سمع ، وغيره.

وما قيل من أن تعيين كل شخص إنما هو بخصوص تأليفه.

لا نسلم ذلك ؛ بل جاز أن يكون بلونه ، أو بعرض أخر مع التأليف.

ومن مذهب أبى هاشم أنه لا يجب إعادة غير التأليف من الأعارض. فما هو جوابه من غير التأليف : فهو جواب لنا فى التأليف.

وإن سلمنا أن خصوص تعيينه تأليفه الخاص به ؛ لكن عين ذلك التأليف ، أو أمثاله. الأول : ممنوع ، والثانى : مسلم ؛ وذلك لأنّا قد بينا أن الأعراض غير باقية (٢) ، والتأليف عرض ؛ فيكون غير باق.

ومع ذلك فإن عين كل شخص فى زمان ، لا يقال إنها غيره فى الزمان المتقدم ، وإن كان التأليف متجددا ، وما ورد به السمع من حشر الناس على هيئاتهم ، ليس فيه ما يدل على إعادة عين ما انقضى من التأليف.

ولا مانع أن تكون الإعادة بمثل ذلك التأليف لا بعينه.

وهل يجوز أن يخلق الله فى الأجسام المعادة جواهر أخر زائدة عليها؟.

فذلك مما أنكره المعتزلة ، وهو مبنى على فاسد أصولهم من وجوب رعاية الحكمة وإيجاب الثواب على / الطاعة ، والعقاب على المعصية ، وامتناع عقاب من لم يعص وثواب من لم يطع ؛ وهو باطل بما أسلفناه فى التعديل والتجويز (٣). والّذي عليه أهل الحق

__________________

(١) راجع ترجمته فى الجزء الأول فى هامش ل ١١ / ب. أما مذهبه : فانظر عنه ما سيأتى ل ٢٤٦ / ب.

(٢) راجع ما سبق فى الأصل الثانى : فى الأعراض وأحكامها. الفصل الرابع : فى تجدد الأعراض ، واستحالة بقائها ل ٤٤ / ب.

(٣) راجع ما سبق فى الجزء الأول ـ القاعدة الرابعة ـ الباب الأول ـ القسم الأول ـ النوع السادس ـ الأصل الأول ـ المسألة الثالثة ل ١٨٦ / أوما بعدها.

من الأشاعرة : أن ذلك جائز عقلا ، وواقع سمعا. بدليل قوله عليه‌السلام «إن سن الكافر تصير فى النار مثل أحد (١). وقوله عليه‌السلام «يصير جلد الكافر فى النار أربعين ذراعا بذراع الجبار (٢). هو ضرب من الدرعان. وما ورد فى ذلك مما صحت الروايات به عند أهل النقل فكثير غير قليل.

فإن قيل : ما ذكرتموه من السمعيات وإن كانت ظاهرة فى الدلالة على حشر الأجساد ونشرها ، غير أنه يتعذر العمل بها فيما هى ظاهرة فيه لوجوه ثمانية :

الأول : أنه لو اغتذى إنسان بلحم إنسان بحيث استحال ، وصار لحم الأول ، أو بعضه جزءا من أجزاء المغتذى. فعند إعادتهما يستحيل أن تعود تلك الأجزاء إلى كل واحد منهما بحيث يكون جزء ، من هذا ، وجزءا من هذا ، فلم يبقى إلا أن تعود إلى أحدهما ، أو لا تعود إلى واحد منهما.

فإن كان الأول : فالشخص الآخر غير معاد بجملة أجزائه ، وليس أحدهما أولى من الآخر.

وإن كان الثانى : فكل واحد منهما غير معاد ؛ بل بعضه ، وليس إعادة بعض الأجزاء دون البعض أولى من العكس.

الثانى : أنه لا يخلو : إما أن تعاد جميع أجزاء البدن التى حصلت فى حالة الحياة وتحللت. أو الأجزاء التى كانت حاصلة له حالة الموت.

فإن كان الأول : فهو ممتنع لوجهين : ـ

الأول : أنه من المحتمل أن تكون تلك الأجزاء المنفصلة عنه فى حالة الحياة قد صارت جزءا من جسم غذائى اغتذى به إنسان آخر ، وصارت جزء منه.

وعند ذلك : فإما أن يقال بإعادتها فى كل واحد من الشخصين ، أو فى أحدهما ، أو لا فى واحد منهما ، ويلزم المحالات السابق ذكرها.

__________________

(١) رواه مسلم فى صحيحه عن أبى هريرة رضى الله عنه قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «ضرس الكافر أو ناب الكافر مثل أحد ، وغلظ جلده مسيرة ثلاث» (صحيح مسلم : كتاب الجنة وصفة نعيمها ـ باب النار يدخلها الجبارون ، والجنة يدخلها الضعفاء ٤ / ٢١٨٩).

(٢) رواه الترمذي عن أبى هريرة رضى الله عنه بلفظ : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «إن غلظ جلد الكافر اثنان وأربعون ذراعا وان ضرسه مثل أحد ، وأن مجلسه من جهنم كما بين مكة ، والمدينة» وقال هذا حديث حسن صحيح غريب ـ الترمذي ـ كتاب صفة جهنم ، باب فى عظم أهل النار ٤ / ٧٠٣.

وعلى هذا أيضا : يلزم المحالات بتقدير أن يكون ذلك الشخص بعينه قد اغتذى بها ، وصارت جزء من / / عضو آخر منه (١).

الثانى : يلزم من إعادة جميع الأجزاء إليه ، أن تعاقب الأجزاء التى انفصلت عنه حالة الإيمان ، بتقدير كفره بعد ذلك ، أو أن تثاب الأجزاء التى انفصلت عنه حالة الكفر ، بتقدير توبته وعوده إلى الإيمان بعد ذلك ، وثواب العاصى ، وعقاب المطيع ممتنع على ما سبق (٢).

وإن كان الثانى : وهو ألا تعاد جميع الأجزاء ؛ فهو ممتنع لثلاثة أوجه :

الأول : أنه يلزم منه أن من مات متقطع الأطراف أن يعاد على هيئته ، ولم يقولوا به.

الثانى : أنه يلزم منه أن لا تثاب تلك الأجزاء المنفصلة حالة الطاعة ، ولا تعاقب بتقدير انفصالها حالة الكفر ـ وهو ممتنع كما تقدم.

الثالث : أنه ليس إعادة البعض أولى من / البعض (٣).

الوجه الثالث : هو أن ما مضى من الأبدان غير متناهية العدد ؛ لما سبق فى تحقيق قدم العالم.

فلو أعيدت للزم وجود أجسام لا نهاية لأعدادها معا ؛ وهو محال ؛ لما تقدم أيضا.

الرابع : هو أن إعادة الأجسام : إما أن تكون بإيجاد ما عدم من أجزائها ، أو بتأليف ما تفرق منها.

الأول محال ؛ لما سبق فى امتناع إعادة ما عدم (٤).

والثانى ممتنع ؛ لأنه إما أن يعاد ذلك التأليف بعينه ، أو غيره. فإن كان عينه ؛ فهو ممتنع لوجهين :

__________________

/ / أول ل ١١٢ / أ. من النسخة ب.

(١) قارن ما أورده الآمدي هنا بما أورده ابن سينا : فى رسالة أضحوية فى أمر المعاد ص ٥٦ وما بعدها. وبما ذكره الإمام الغزالى فى تهافت الفلاسفة ص ٢٩٦ وما بعدها.

(٢) راجع ما سبق ل ١٦٥ / ب وما بعدها.

(٣) قارن بما ورد فى رسالة أضحوية فى أمر المعاد لابن سينا ص ٥٦ ، ٥٧ ، وبما ورد فى تهافت الفلاسفة للغزالى ص ٢٩٧ ، ٢٩٨ ، وبما ورد فى شرح المقاصد للتفتازانى ٢ / ١٥٧.

(٤) راجع ما سبق فى الأبكار ١٩٥ / ب وما بعدها.

الأول : لما فيه من إعادة المعدوم ، والثانى : أن التأليف عرض ، والعرض ممتنع الإعادة ؛ لما سبق (١).

وإن كان المعاد غيره فهو أيضا ممتنع ؛ لما سبق.

الخامس : أنه لو أعيدت أبدان الناس لم يخل : إما أن يقال بأنها تبقى دائمة من غير فناء ، أو أنها تفنى.

فإن كان الأول : فهو ممتنع ؛ لأنها مركبة من أجزاء متقابلة بالحرارة ، والبرودة ، والرطوبة ، واليبوسة ، ولا بد بينها من فعل وانفعال بحيث يحصل منه كيفية مزاجية يتميز بها بدن الإنسان عمن سواه ، وذلك الفعل والانفعال ، بين تلك الأجزاء مما يفضى إلى تنقيص الرطوبة بفعل الحرارة فيها إلى حد الفناء ، وكذلك بالعكس ، والموت من لوازم ذلك لا محالة.

وإن كان الثانى : فلم يقولوا به.

السادس : هو أن إعادة أبدان الحيوانات مما يفضى إلى جواز وجودها من غير توالد ، وهو مخالف للعقل ، والعادة.

السابع : هو أنه لو أعيدت الأجسام : فإما أن يقال بأنها تغتذى ، أو لا تغتذى.

فإن كان الأول : فإما أن يلازم اغتذاها الأعراض الملازمة له فى الدنيا : كالجوع ، والاحتقان ، والاستفراغ ، والمرض ، وغير ذلك ، أو لا يلزمه.

الأول : لم يقولوا به ، والثانى : غير معقول.

وإن قيل إنها غير مغتذية : فلم يقولوا به ، ثم إن بقائها مع عدم اغتذائها بها أيضا غير معقول (٢).

الثامن : أن إعادة الأجسام عند القائل بها : إما إلى جنة ، أو نار. والجنة عنده فوق السموات ، والنار تحت الأرض ، والأرض تحت كل شيء ، ولا تحت لها ، والسماء فوق كل شيء ولا فوق لها ، كما هو مبين فى الحكميات.

__________________

(١) راجع ما سبق ل ٤٤ / ب وما بعدها.

(٢) راجع تهافت الفلاسفة للإمام الغزالى ص ٢٩٧ وما بعدها.

فكيف تكون النار تحت ما لا تحت له ، والجنة فوق ما لا فوق له. ثم يلزم من كون الجنة فوق السموات ، ومن دخول الأبدان الإنسانية إليها محالان :

الأول : انخراق السموات ؛ لصعود أبدان الناس إلى الجنة.

الثانى : أن تكون الأجسام الكائنة ، الفاسدة ، فى حيز الأجسام الأبداعية ، أو فوق حيزها ؛ وهو محال لما سبق (١).

وعلى هذا : فيجب تأويل كل ما / ورد من السمعيات فى ذلك على المعاد النفسانى جمعا بين أدلة العقل ، ومخاطبة الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ للعوام بما يفهمونه ، وما لا تنفر طباعهم عن قبوله ، مع دعو الحاجة إلى ترغيبهم بالنعيم ، وترهيبهم بالعذاب المقيم فيما يقصد منهم فعله وتركه ؛ ولهذا قال عليه‌السلام ـ «أمرت أن أخاطب الناس على قدر عقولهم (٢)»

والجواب :

قولهم : يتعذر العمل بظواهر ما ذكرتموه من السمعيات.

قلنا : قد بينا إمكان إعادة الأجسام عقلا (٣) ؛ فيمتنع مخالفة الظاهر الدّال على وقوعها ، من غير دليل.

وما ذكروه فى الوجه الأول : فإنما يلزم أن لو كان ما لكل واحد من أشخاص الناس من الأجزاء ما يتصور عليها التبدل ، والتغيير ، وأن تصير جزء من شخص تارة ، وجزء من آخر تارة ؛ وهو ممنوع.

بل كل شخص يشتمل على أجزاء أصلية بها قوامه ، ولا يتصور عليها التبدّل والتغيير فيه. وأجزاء / / فاضلة وهى ما يتصور عليها التبدل والتغير فيه ، وما يكون فيه من الأجزاء الأصلية هى المثابة ، والمعاقبة ، وهى فلا يتصور أن تصير أجزاء أصلية من غيره ؛ بل إن صارت جزءا من الغير ؛ فلا تكون فيه إلا فاضلة ، وكذلك بالعكس (٤).

__________________

(١) راجع رأى الفلاسفة فى رسالة اضحوية لابن سينا ص ٥٦ ، ٥٧ والرد عليه فى تهافت الفلاسفة للإمام الغزالى ص ٢٩٦ ـ ٣٠٠. وقارن بما ورد فى شرح المقاصد للتفتازانى ٢ / ١٥٧. وما سبق فى ل ٣١ / أو ما بعدها.

(٢) رواه الديلمى عن ابن عباس مرفوعا ، فى سنده ضعف.

(٣) راجع أدلة الأشاعرة القائلين بامكان إعادة المعدوم عقلا فيما مر ل ١٩٥ / أ.

/ / أول ل ١١٢ / ب من النسخة ب.

(٤) قارن هذا النقد بما ورد فى تهافت الفلاسفة للغزالى ص ٣٠٠ ـ ٣٠٣ وبما ورد فى شرح المقاصد للتفتازانى ٢ / ١٥٧.

وبهذا يندفع ما ذكروه من الشبهة الثانية أيضا.

قولهم : إن ما مضى من الأبدان لا نهاية لأعدادها ، باطل ؛ بما سبق فى مسألة حدوث العالم (١). وما ذكروه فى الوجه الرابع ؛ فقد سبق جوابه أيضا.

قولهم : لو أعيدت الأجسام فإما أن تبقى ، أو لا تبقى.

قلنا : كل واحد من الأمرين ممكن ، والسمع قد دل على الدوام.

وما ذكروه فى امتناع دوامها ؛ فمبنى على القول بالمزاج ، وتأثير الطبيعة ، وقد أبطلناه فيما تقدم (٢) ؛ بل الكائنات كلها إنّما هى مستندة إلى فعل فاعل مختار تام القدرة ؛ فلا يكون الدوام ممتنعا.

قولهم : إن القول بإعادة الأبدان من غير توالد محال.

ليس كذلك ؛ إذ يلزم من القول بأنه لا إنسان إلا عن إنسان تسلسل الحوادث إلى غير النهاية ؛ وقد أبطلناه أيضا فيما تقدم.

قولهم : لو أعيدت الأجسام إما أن تغتذى ، أو لا تغتذى.

قلنا : كل واحد من الأمرين عندنا ممكن ؛ غير أن السمع قد دل على التغذية فى الدار الآخرة ، ولا يلزم عليه من الأعراض ما كانت لازمة له فى الدنيا ؛ إذ كل واحد من الأمرين مستند إلى فعل فاعل مختار ، لا إلى مقتضى الطبيعة كما سبق تقريره (٣).

والسمع قد ورد بامتناع تلك الأعراض فى الدار الآخرة ؛ فوجب اتباعه.

وما ذكروه من الشبهة الأخيرة ؛ فمبنى / على فاسد أصولهم من امتناع ملأ فوق السماوات ، وتحت الأرض ، وامتناع انخراق أجسام السماوات ؛ وهو غير مسلم (٤).

__________________

(١) انظر ما مر ل ٨٢ / ب : الأصل الرابع : فى حدوث العالم.

(٢) راجع ما مر فى الجزء الأول ـ القاعدة الرابعة ـ الفرع الثالث : فى الرد على الطبيعيين ل ٢٢٠ / ب.

(٣) راجع ما سبق فى الجزء الأول ـ القاعدة الرابعة ـ الباب الأول ـ القسم الأول ـ النوع السادس ـ الأصل الثانى ـ الفرع الثالث : فى الرد على الطبيعيين ل ٢٢٠ / ب وما بعدها.

(٤) قارن بما ورد عند الإمام الغزالى فى تهافت الفلاسفة ص ٣٠٠ وما بعدها وشرح المواقف ـ الموقف السادس ص ١٩٢ وما بعدها ، وشرح المقاصد للتفتازانى ٢ / ١٥٧.

الفصل الثالث

فى المعاد النفسانى

والنظر فى تحقيقه يتوقف على تحقيق النفس الإنسانية ، ومعناها. وقد اختلف الناس فى معنى النفس الإنسانية.

فمنهم من قال إنها عرض ، ومنهم من قال : إنها جوهر.

ومن قال إنها عرض ـ اختلفوا ـ فمنهم من قال إنها عرض خاص من الأعراض ولم يعينه ، وهذا هو مذهب جماعة من المتكلمين (١) وقد نصره الإمام الهراسى (٢) من أصحابنا وغيره ، وزعم أن كل مخلوق لا يخلو عن أن يكون جسما ، أو عرضا ، والنفس الإنسانية ليست جسما ؛ وإلا كان كل جسم نفسا ؛ ضرورة تماثل الأجسام كما سبق ، فلم يبق إلا أن يكون عرضا.

ومن قدماء الفلاسفة (٣) من قال : إنها المزاج الخاص بأبدان نوع الإنسان ، وهى كيفية حادثة من تفاعل الكيفيات الملموسة فيها ، وهى الحرارة ، والبرودة ، والرطوبة ، واليبوسة ، ولهذا تفوت النفس باختلاف ذلك المزاج.

ومنهم من قال : إنها من جملة القوى الفعّالة فى الأجسام وهى ما يصح إسناد الأفعال الاختيارية من الذهاب ، والإياب إليها ، وحفظ النوع ، وبقائه فى تولده حتى لا يكون من الإنسان ، إلا إنسان إلى غير ذلك من الأفعال ، وليس ذلك مستندا إلى كيفية المزاج ؛ بل ما يستند إلى المزاج ، ليس غير الاستعداد لهذه الأمور ، فكانت هذه القوى هى النفس ، ولهذا تفوت النفس بفواتها (٤).

ومنهم من قال : النفس صفة الحياة ، وهى ما لا تتم هذه الأفعال إلا بها ، ولذلك تفوت النفس بفواتها (٥).

__________________

(١) راجع مقالات الإسلاميين للإمام الأشعرى ٢ / ٢٥ ـ ٢٨ قولهم : فى الإنسان ما هو؟ ٢ / ٢٨ ـ ٣٠ قولهم : فى الروح والنفس والحياة. وانظر الدراسات النفسية عند المسلمين ص ١٠٨ وما بعدها.

(٢) على الكيا الهرّاسى (٤٥٠ ـ ٥٠٤ ه‍) (١٠٥٨ ـ ١١١٠ م) عماد الدين أبو الحسن : على بن محمد بن على الكياالهراسي ، الطبرستانى ، الشافعى فقيه ، أصولى ، متكلم. ولد سنة ٤٥٠ ه‍. قدم بغداد ، وتفقه على إمام الحرمين ، وتوفى ببغداد سنة ٥٠٤ ه‍ من مصنفاته : أحكام القرآن والتعليق فى أصول الفقه. [شذرات الذهب لابن العماد ٤ / ٨ ، معجم المؤلفين ٧ / ٢٢٠].

(٣) كجالينوس : راجع الفصل لابن حزم ٥ / ٤٧. وانظر ترجمة جالينوس فيما مر فى الجزء الأول فى هامش ل ١٠٤ / أ.

(٤) راجع الفصل لابن حزم ٥ / ٧٤ وشرح الطحاوية ص ٤٦٤ وما بعدها.

(٥) المصدر السابق.

ومنهم من قال ـ إنها عبارة عن الشكل الخاص ، والتخطيط.

وأما من قال إنها جوهر : فمنهم من قال : إنها جوهر مركب ؛ فيكون جسما.

ومنهم من قال : إنها جوهر بسيط ، لا تركيب فيه.

فأما من قال : إنها جسم فقد اختلفوا : ـ

فمنهم من قال : إنها عبارة عن هذه الجثة الخاصة المركبة من الجواهر ، والأعراض القائمة بها ، وهى ما يشير كل أحد إليها بقوله نفس ، ولا إشارة إلى غير الجثة الخاصة ، وهذا هو مذهب جماعة من المتكلمين (١).

وأما قدماء الفلاسفة : فمنهم من قال : إنها جسم فى داخل هذه الجثة. ثم اختلف هؤلاء.

فمنهم من قال : إنها جسم مركب من العناصر ، مصيرا منه إلى أن النفس مدركة للمركبات ، وإنما يدرك الشيء بشيء يشبهه (٢).

ومنهم من قال : إنها عبارة عن مجموع الأخلاط الأربعة مع تناسب مخصوص بينها فى كمياتها ، وكيفياتها ؛ ولذلك فإنه لا بقاء للنفس / مع اختلال هذه الأمور ، أو بعضها.

ومنهم من قال : إنّها الدم ؛ اذ هو أشرف أخلاط البدن // ؛ ولأن الإنسان يموت عند خروجه ، ولا يوجد منه شيء فى أبدان الأموات (٣).

ومنهم من قال : إنها عنصر من العناصر (٤) ، مصيرا منه إلى أن من يدرك غيره فإنما يدركه ؛ لأنه من جوهره ، والنفس مدركة للأشياء العنصرية ؛ فيجب أن تكون من جوهرها. ثم اختلف هؤلاء.

فقال «فلوطرخس (٥)» إنها النار السارية فى هذا الهيكل ؛ لأن خاصية النار الحركة والإشراق ؛ وذلك متحقق فى النفس.

__________________

(١) انظر المغنى للقاضى عبد الجبار ١٢ / ٣١١ فقد نصر هذا الرأى.

(٢) انظر : فى الفلسفة الإسلامية للدكتور مدكور ١ / ١٥٥ فقد نسب هذا القول لأنبياذوقليس صاحب العناصر الأربعة.

/ / أول ل ١١٣ / أ.

(٣) يعرف هذا الرأى للفيلسوف كرتيساس انظر كتاب النفس لأرسطو ص ١٥ وتاريخ الفلسفة اليونانية ليوسف كرم.

(٤) كأنكمانس وتاليس وغيرهم : انظر الفلسفة الاغريقية د. محمد غلاب ١ / ٣٣ وما بعدها ، ص ٤٧ وما بعدها.

(٥) انظر عنه كتاب إخبار العلماء بأخبار الحكماء للقفطى ص ٢٥٧ فقد قال عنه إنه فيلسوف مذكور فى عصره له تصانيف مهمة منها كتاب الآراء الطبيعية وكتاب النفس وغيرهما.

وقال ديوناس : إنها الهواء المستنشق المتردد فى مخارق البدن ؛ ولذلك تزول الحياة بزواله.

وقال تاليس (١) : إنها الماء ؛ إذ هو سبب النشوء ، والنمو ، والنفس كذلك ؛ فكانت هى الماء.

وذهب الأطباء : إلى أن النفس هى الروح ، وهى جسم لطيف بخارى ، ناشئ من التجويف الأيسر من القلب ، مثبت فى جميع البدن ؛ هو منبع الحياة ، والنفس والنبض.

وقد أشار القاضى (٢) إلى ما هو قريب من هذا القول ، وهو أن قال : النفس عبارة عن أجسام لطيفة ، ومشتبكة بالأجسام الكثيفة أجرى الله العادة بالحياة مع بقائها.

ومنهم من قال : إنّ النفس عبارة عن الروح الكائنة فى الدماغ (٣) الحاملة للقوى الحساسة الباطنة ، وهى الحس المشترك ، والصورة ، والمخيلة ، والوهمية والحافظة.

ومن المتكلمين من قال : النفس هى الأجسام الأصلية فى كل بدن من الأبدان دون الأجزاء الفاضلة. كما حققنا فى الفصل الّذي قبله (٤).

وأما من قال : إنها جوهر بسيط فقد اختلفوا :

فمنهم من قال : إنها جوهر فرد متحيز ، وهذا هو مذهب طائفة من الشيعة ، ومعمر من المعتزلة (٥) ، والإمام الغزالى من أصحابنا (٦).

ومنهم من قال : إنها جوهر بسيط معقول غير متحيز مجرد عن المادة دون علائقها ، وهذا مذهب الفحول من الفلاسفة اليونانيين (٧) ومن تابعهم من فلاسفة الإسلاميين (٨) ، وأرباب التناسخ.

__________________

(١) تاليس : انظر ترجمته فيما مر فى هامش ل ٨٥ / أ.

(٢) هو القاضى أبو بكر الباقلانى ، راجع ترجمته فى هامش ل ٢ / ب من الجزء الأول.

(٣) كجالينوس الطبيب انظر الأربعين فى أصول الدين للإمام الرازى ٢٦٩.

(٤) راجع ما مر فى الفصل الثانى ل ١٩٨ / أوما بعدها.

(٥) راجع ترجمته فى الجزء الأول فى هامش ل ١٨٢ / ب. وراجع مذهبه فيما سيأتى فى القاعدة السابعة ل ٢٤٥ / ب وما بعدها. وانظر المغنى ١١ / ٣١١ لتوضيح رأيه.

(٦) راجع ترجمته فى الجزء الأول فى هامش ل ١٢٢ / أ. وراجع رأيه فى كتابه معارج القدس ص ٧١.

(٧) كأفلاطون وأرسطو. انظر النفس لأرسطو الكتاب الثانى ص ٣٤.

(٨) كابن مسكويه وابن سينا وابن رشد. انظر فى الفلسفة الإسلامية منهج وتطبيقه ١ / ١٢٩.

وقد احتجوا على ذلك بحجج.

الأولى : أنّهم قالوا : إنه من البيّن الّذي لا شكّ فيه على ما يجده كل عاقل من نفسه أن فيه ، وفى ذاته شيئا به إدراك المعقولات البسيطة التى لا تركيب فيها كالإله : تعالى ، ومبادى المركبات.

قالوا : يجب ألا يكون المدرك لها جسما ، ولا قائما بالجسم قيام الأعراض بموضوعاتها والصور الجوهرية بموادها ، وإلا كان متجزئ ، لأن كل جسم متجزئ على ما سبق ، وما قام بالمتجزئ يكون متجزئا ، ولو كان متجزئا لما كان محلا / لانطباع المعقولات التى لا تجزئ لها فيه ، وإلا فانطباعه فى جزء واحد منه دون باقى أجزائه [أو فى كل واحد من أجزائه] (١).

لا جائز أن يكون الانطباع فى جزء واحد منه فإن فرض جزء من الجسم ، أو ما قام به غير متجزئ ، محال ؛ لما سبق (٢).

والتقسيم بعينه يكون لازما إلى ما لا يتناهى ، ولا جائز أن يكون الانطباع فى كل واحد من الأجزاء ، وإلا فالمنطبع فى كل واحد من الأجزاء إما أن يكون هو نفس المنطبع فى الجزء الآخر ، أو غيره.

فإن كان الأول : فيكون الشيء الواحد فى حالة واحدة ، معلومات كرات غير متناهية ؛ وهو محال.

كيف وإن ما من جزء يفرض إلا هو متجزئ إلى غير النهاية ، والتقسيم بعينه وارد لا محالة.

وإن كان الثانى : فيلزم أن يكون المعقول المفروض متجزئا. وقد فرض غير متجزئ ؛ وهو محال.

فإذن ما هو محل انطباع المعقولات الغير المتجزئة متجزئ ، وإلا كان ما لا يتجزأ منطبعا فى ما هو متجزئ ، وهو محال ، ويلزم أن لا يكون جرما ، ولا قائما بالجرم ؛ وذلك هو المطلوب.

__________________

(١) ساقط من أ

(٢) راجع ما مر فى الفصل الثالث فى تجانس الأجسام ل ٢٥ / ب وما بعدها.

الثانية : أنا قد نتعقل صورا مجردة عن الأوضاع والمقادير : كصورة الإنسان الكلى ونحوه.

وعند ذلك فلا يخلوا : إما أن يكون تجردها عن ذلك لذاتها ، أو لما أخذت عنه ، أو لنفس الآخذ ، وهو المحل القابل لها.

لا جائز أن يقال بالأول : وإلا لما عقلت إلا وهى مجردة عنه ، وليس كذلك كما فى الأشخاص.

ولا الثانى : إذ ليس كل صورة معقولة مجردة عن الوضع مأخوذة عن شيء ، وذلك كالذى يتصوره الإنسان من الصور التى لا وجود لها فى الخارج ؛ ولأن ما أخذت عنه قد لا يكون مجردا عن الوضع : كأشخاص الإنسان ، وإن كان الثالث : فما به التعقل ليس جسما ، ولا جسمانيا ، وإلا لما خلا عن ذلك.

الثالثة : أنه لو كانت النفس مدركة بآلة جرمانيّة : لما أدركت نفسها كما فى الحواس الخمس ؛ إذ ليس بينها ، وبين نفسها ، ولا بين آلتها آلة. وإلا فإدراكه لآلتها : إما بآلة ، أو لا بآلة.

فإن كان الأول : فإما أن يكون إدراكها بآلتها بعين تلك الآلة ، أو بغيرها.

فإن كان بعين تلك الآلة : فإما أن يكون ذلك لوجود / / صورة آلتها تلك فى آلتها ، أو لوجود صورة أخرى غير صورة آلتها.

فإن كان الأول : فيلزم أن تكون عاقلة لآلتها دائما ؛ إذا كانت تعقل بوجود صورة المعقول فى الآلة ، وصورة آلتها فى آلتها دائمة الوجود ؛ وهو محال خلاف المعقول.

وإن كان الثانى : فباطل أيضا ، فإن الصورة إذا دخلت الجوهر العاقل إنما تجعله عاقلا ؛ لما تلك الصورة صورته ، لا لصورة غيره ، إلا أن يكون مضايفا له ، وليس الأمر فيما نحن فيه كذلك.

وإن كان أدركها لآلتها بغير تلك الآلة : / فالكلام فى تلك الآلة كالكلام فى الأولى ؛ ويلزم من ذلك التسلسل ، أو الدور الممتنع.

__________________

/ / أول ل ١١٣ / ب.

وإن كان إدراكها لآلتها لا بآلة : فليكن مثله فى غيرها ؛ إذا القول بالفرق تحكم غير معقول.

الرابعة : أنها لو كانت مدركة بآلة جرمانيّة ؛ للزم كلالها عند المواظبة على الإدراك كالحواس ، فإن من واظب على إبصار شيء ، أو سماع صوت كلت آلته ، والتالى باطل فإن إدراك النفس يقوى بكثرة ما تدركه من المعقولات ، ويستمر عليه (١).

الخامسة : أنها لو كانت مدركة بآلة جرمانيّة : لما أدركت الأخفى بعد إدراك ، الأظهر ؛ أو لقلّ إدراكها له كما فى الحواس ، فإن من أدرك الأصوات الهائلة : كأصوات البوقات ، ونقر الطبول ؛ فإنه قد لا يدرك الهمس من الأصوات كإدراكه له قبل ذلك ، وكذلك من أدرك ضوء الشمس قد لا يدرك بعده الأشياء الصغيرة كالذرة ، ونحوها. وكمن أدرك الحرارة أو البرودة الشديدة فإنه لا يدرك ما هو أضعف منها بخلاف إدراك النفس.

السادسة : أنها لو كانت داركه بآلة جرمانيّة ؛ لوقفت ، وعجزت عند بلوغ الأربعين ؛ إذ هى كحال النشوء كسائر أجزاء البدن بالحواس الظاهرة ، وليس كذلك.

السابعة : أنها لو كانت داركة بآلة جرمانيّة ؛ لضعفت بضعف البدن واستضرت بضرر موضوعها بالآلام ، والأمراض ، وليس كذلك ، فإن النظر ، والفكر مؤلم للدماغ ، ومضر به ، ومكمل للنفس.

الثامنة : أنّها لو كانت دراكة بآلة جرمانيّة ؛ لأمكن أن يكون البعض من تلك الآلة مدركا للشيء ، والبعض غير مدرك له ؛ فيكون الشخص الواحد عالما بالشيء الواحد وجاهلا به فى حالة واحدة ؛ وأنه محال.

التاسعة : أنه لو كانت دراكة بآلة جرمانيّة ؛ لما كانت مدركة للمتضادات معا ؛ لتوقف إدراكها على انطباع صورة الشيء المدرك فى آلتها ، وانطباع صورتى المتضادين معا فى جزء واحد محال ، كما فى الحواس الظاهرة والباطنة ؛ ولهذا فإنا لا نجد فى حواسنا إمكان إدراك كون الشيء الواحد أسود ، أبيض ، حارا ، باردا معا ، ولا كذلك عند كونها مدركة للمتضادات بغير آلة جرمانيّة ؛ لأنّ إدراكها لا يكون على سبيل صورتى المتضادين

__________________

(١) قارن ما ورد هنا بما أورده الإمام الغزالى فى تهافت الفلاسفة الدليل السابع على تجرد النفس الناطقة ص ٢٢٦.

فى آلتها ؛ بل على سبيل التصور لحقيقتيهما ؛ ولا يلزم من استحالة انطباع الصورتين المتضادتين فى الجسم الواحد ، استحالة تصور الحقيقتين لا التصديق بالجمع بينهما.

العاشرة : أنّ النفس الإنسانية تقوى على إدراك ما لا يتناهى / من الصّور المعقولة ، فقوتها غير متناهية ، فلو كانت مدركة بآلة جرمانيّة ؛ لكانت متناهية قابلة للتنصيف ؛ ضرورة تناهى محالها ، وقبوله للتنصيف.

الحادية عشرة : أنّ الأجسام وقواها تعقل بما يتصور فيها من الصّور العقلية : فهى فاعلة منفعلة ، والنفس الإنسانية تفعل ذلك ، حيث تستخرج النتائج من المقدمات ، وتعقل حكم التصديق بها من ذاتها. فهى بذلك فاعلة لا منفعلة ، فالنفس ليست جسما ، ولا قوة فى جسم.

الثانية عشرة : أن الأجسام وقواها إنّما تتخلص ممّا يؤذيها بالحركة المكانيّة هربا عنه ، وليست القوة العاقلة فى هربها عما يؤذيها لذلك ؛ بل بالرأى ، والرؤية ، فالنّفس ليست جرما ، ولا قوة فى جرم.

الثالثة عشرة : إنّ بدن الإنسان مؤلّف من أضداد ، تأليفا لا يقع به ممانعة بين أجزائه فى أفعالها الصّادرة عنها من الحركات إلى الجهات.

والنفس العاقلة إنّما تقوى على أفعالها بمغالبة ما يمانعها من القوى : كالغضب والشّهوة ، ونحو ذلك ؛ فالنّفس ليست جسما.

الرابعة عشرة : أنّ كل واحد يعلم من نفسه علما ضروريّا أنّه الّذي كان / / من حين ولادته ، ويعلم أنّ ما كان من أجزائه الجسمانية قد تبدلت ، وتغيرت بالتحليل ، والتبدّل بالحرارة الغريزية المحللة ، والقوة الغاذية الموردة بدل ما يتحلل ، وذلك الباقى المستمر وهو الّذي لا يتغير ، ولا يتبدل هو النفس ؛ فلا يكون هو الجسم ، ولا ما هو حال فيه.

الخامسة عشرة : أن القوى التى هى مصدر الأفعال المختلفة : كالغضب والشهوة وغيرهما لا ينفصل بعضها عن بعض ، ولا يشغل بعضها بعضا ؛ لعدم الاشتراك بينها فى الآلة ، وهى غير متحركة ، بذاتها ، ولا معطلة بذواتها ، وقد يشاهد مع ذلك البعض معطلا ، والبعض غير معطل.

__________________

/ / أول ل ١١٤ / أمن النسخة ب.

فلا بد لها من جامع يجمعها ، ويكون هو المتصرف فيها ، وليس ذلك شيء من أجزاء البدن ، ولا ما هو قائم به.

فإذن هو ما يشير كل واحد إليه أنه هو ذاته ، مع قطع النظر عن جميع الأجزاء البدنية الظاهرة ، والباطنة ، وذلك هو النفس الإنسانية (١).

ثم اختلف هؤلاء فى أربعة مواضع :

الأول : فى قدم النفس الإنسانية ، وحدوثها.

الثانى : فى وحدتها ، وتكثّرها.

الثالث : فى أنها هل تفوت بفوات البدن ، أم لا؟

الرابع : فى أنها هل تنتقل إلى بدن آخر ، أم لا؟

الموضع الأول : اختلفوا فى قدمها ، وحدوثها.

فقال أفلاطون ، (٢) ومن تابعه : إنها قديمة.

وقال أرسطاطاليس (٣) ، ومن تابعه : إنها حادثة بحدوث / بدنها.

وقد احتج القائلون بقدمها بحجتين :

الحجة الأولى : أنهم قالوا لو كانت حادثة بعد أن لم تكن ؛ لكان لها فاعل يحدثها ، وذلك الفاعل : إما أن يكون قديما ، أو حادثا.

لا جائز أن يكون حادثا ؛ وإلا فالكلام فيه كالكلام فيما عند حدوثه ، ويلزم منه التسلسل ، أو الدور ؛ وهما ممتنعان.

فلم يبق إلا أن يكون قديما ، أو مستندا إلى القديم ، ويلزم من قدم العلة قدم معلولها ؛ لاستحالة انفكاكه عنها.

__________________

(١) انظر ما استدل به الفلاسفة على تجرد النفس الإنسانية فى تهافت الفلاسفة للامام الغزالى ص ٢٥٠ ، وتهافت التهافت لابن رشد القسم الثانى : ٨٢ ـ ٨٥.

(٢) راجع ترجمته فى هامش ل ٥٠ / ب من الجزء الثانى.

وانظر رأيه فى محاورات أفلاطون ـ فيدون ـ ترجمة د. زكى نجيب محمود ص ٢٠٩.

(٣) راجع ترجمته فى هامش ل ٨٥ / أمن الجزء الثانى. وراجع رأيه فى الفلسفة الإغريقية للدكتور محمد غلاب ٢ / ٨٠.

فإذن النّفس قديمة ؛ لقدم ما وجبت عنه ، غير قابلة للكون.

اللهم إلا أن يقال بتوقف أعمال العلة القديمة فى معلولها على شيء معين من قابل ، أو فاعل ، أو أن فعل الفاعل ليس بالذات ، والطبع ؛ بل بالإرادة والاختيار.

لا جائز أن يقال بالمعين من القوابل الهيولانية ؛ إذ النفس غير هيولانية كما سبق.

ولا فاعل آخر فإن مثل هذا إنما يكون فى مفعول متجزئ يكون لكل واحد من الفاعلين منه جزء ، وإن لم تتميز الأجزاء. والنفس ذات واحدة لا تتجزأ كما سبق.

ولا جائز أن يكون وجود النفس غير الإرادة ؛ [إذ ليست الإرادة] (١) جوهرا ، وما ليس بجوهر لا يكون مؤثرا فى إيجاد الجوهر ، ولا الجوهر يكون متوقفا فى حدوثه عليه ؛ إذ الجوهر أشرف مما ليس بجوهر ؛ فلا يكون الأشرف مفتقرا إلى الأخس.

الحجة الثانية : أنهم قالوا : النفس جوهر قائم بنفسه غير قائم بالأجسام ، وهو متصل بها وهى مخالفة بذلك لسائر القوى ، والصور العرضية التى تبطل عند مفارقة موضوعاتها ؛ فلا تكون قابلة للكون ، والفساد ؛ إذ القابل لذلك ليس إلا ما كان من الموجودات قائما بالأجسام ، وما يرجع حدوثه إلى الحركات المتحددة المنصرمة ، وما يحدث فيه بذلك من القرب والبعد ، والتجزؤ ، والانفصال ، والاتصال ، والاستحالة بالأضداد التى يفسر بعضها بعضا. أما ما هو برئ عن ذلك كله فلا.

وأما القائلون بحدوث النفس فقد احتجوا بثلاث حجج.

الحجة الأولى : أنهم قالوا النفس الإنسانية من نوع واحد كما سيأتى (٢).

فلو كانت قديمة سابقة الوجود على حلولها فى البدن ، لم يخل إما أن تكون متحدة ، أو متكثرة [لا جائز أن تكون متحدة ، وإلا فعند تكثر الأبدان لا يخلوا : إما أن تبقى متحدة ، أو متكثرة] (٣).

لا جائز أن يقال ببقائها متحدة ؛ وإلا فنسبتها إلى بدن واحد ، أو إلى كل الأبدان.

/ فإن كان الأول : فيلزم خلو باقى الأبدان عن الأنفس ؛ وهو محال.

__________________

(١) ساقط من (أ).

(٢) انظر ما سيأتى فى الموضع الثانى : اختلفوا فى وحدة النفس وتكثرها ، ل ٢٠٤ / ب وما بعدها.

(٣) ساقط من (أ).

وإن كان الثانى : فيلزم أنها إذا علمت شيئا ، أو جهلته أن يشترك الناس كلهم فيه ؛ لاتحاد النفس ، والشيء المدرك ؛ وهو محال.

هذا كله إن قيل باتحادها قبل مقارنة الأبدان.

ولا جائز أن يقال بأنها متكثرة / / قبل الأبدان «إذ التكثر ، والتغاير فيما اتحد نوعه دون مميز محال.

وما به التمايز والتغاير ، إما أن يكون ثابتا لها لذاتها ، أو أن ذلك لها بالنسبة إلى غيرها.

لا جائز أن يقال بالأول : إذ هى من نوع واحد. فما ثبت لواحد منها لذاته ليس أولى من ثبوته لغيره.

وإن كان الثانى : فكل تكثر يفرض مما به تكثير أشخاص الماهية المتحدة الغير مقتضية للتكثر بذاتها فليس إلا بالنسبة إلى المواد وعلائقها ؛ فلا تكثر فيه.

وهذه المحالات : إنما لزمت من فرض وجود الأنفس سابقة على الأبدان ؛ فلا سبق (١).

الحجة الثانية : أنه لو كانت الأنفس الإنسانية موجودة قبل وجود الأبدان ؛ لكانت إما فاعلة متصرفة ، أو معطلة عن الفعل ، والانفعال.

لا جائز أن تكون معطلة ؛ إذ لا شيء من فعل الطبيعة معطلا. ، وإن كانت متصرفة بالفعل ، والانفعال. فتصرفها لا يعدو أحد الأمرين :

إما إدراك عقلى ، وإما تحريك جسمانى مقرونا بإدراك حسى ، وكل واحد من الأمرين ـ فلن يتم لها قبل وجود الأبدان التى هى حاكمة فيها ، والآلات التى بها يتوصل إلى إدراك مدركاتها.

فإذن لا وجود للأنفس قبل وجود الأبدان.

__________________

/ / أول ل ١١٤ / ب من النسخة ب.

(١) راجع ما ورد فى معارج القدس للإمام الغزالى ص ٨٦.

الحجة الثالثة : أنها لو كانت قديمة موجودة قبل وجود البدن ، لقد كانت توجد فيه ، وهى من القوة والكمال على حد واحد من غير زيادة ، ولا نقصان ؛ والتالى باطل بما نشاهده من ضعفها فى ابتداء حدوث البدن ، وانتقالها معه من ضعف إلى قوة ، ومن عجز إلى قدرة ، وعلى حسب انتقال البدن من ضعف إلى قوة ، ومن صغر إلى عظم ، ومن نقص إلى كمال (١).

الموضع الثانى : اختلفوا فى وحدة النفس الإنسانية وتكثرها.

فقال بعضهم : إنها فى جميع الأشخاص واحدة بالشخص ، وأن نفس زيد هى نفس عمرو ، وأن نسبتها فى أفعالها المختلفة مع اتحاد جوهرها إلى الموضوعات المختلفة من أشخاص الأبدان الإنسانية كنسبة الشمس مع اتحادها فى اختلاف تأثيراتها عند إشراقها على زجاجات مختلفة الألوان فى الألوان الحادثة / عنها محتجين على ذلك بأن قالوا : قد ثبت أن النفس قديمة بما سبق (٢).

وعند ذلك : فإما أن تكون متحدة لذاتها ، أو متكثرة. والقول بالتكثر محال ؛ لما سبق (٣).

وإن كانت متحدة لذاتها ، فالمتحد بذاته يمتنع تكثره ؛ وذلك هو المطلوب.

ومنهم من قال : بأن النفوس الإنسانية متعددة متكثرة (٤) بتكثير أبدانها رادين على من تقدم ، بأنه لو كانت النفس واحدة بالشخص مع تعدد أبدانها ؛ لكان كل ما يوجد من الفعل ، والانفعال ، وينتج من العلوم والأحوال منسوبا إلى نفس شخص واحد معين ، منسوبا إلى غيره من الأشخاص حتى لا يعلم وهم يجهلون ، ولا يجهل وهم يعلمون ، ولا يكون مريدا ، وهم كارهون ، ولا كارها ، وهم مريدون ، وبالجملة لا يكون متميزا عنهم بحال من الأحوال ، ولا فعل من الأفعال ؛ ضرورة أن ما فرض من الأفعال ، والأحوال ؛ فإنما هى

__________________

(١) قارن ما ورد هنا بما ورد فى الإشارات لابن سينا ص ١٢٠ والنجاة له أيضا ص ١٨٣ ، ١٨٤ والروح لابن القيم ص ٢١١.

(٢) راجع ما مر فى ل ٢٠٤ / أوقد احتج القائلون بقدمها بحجتين :

(٣) راجع ما مر فى ل ٢٠٤ / أ ، ب.

(٤) يعرف هذا القول لأفلاطون (فقد كان يقول بوجود ثلاثة نفوس : النفس العاقلة ، والنفس الغضبية ، والنفس الشهوانية). [تاريخ الفلسفة اليونانية د. يوسف كرم].

للنفس وللبدن من جهة النفس ، وأن اختلاف التابع لا يؤثر فى اختلاف المتبوع ، وهذا كله فخارج عن الإمكان ، ومخالف للحس والعيان ؛ فإذن النفس متعددة لا متحدة.

ثم اختلف هؤلاء : فمنهم من زعم أن الاختلاف بين النفوس الإنسانية بالنوع والحقيقة.

ومنهم من زعم : أنها متحدة بالنوع مختلفة بالشخصى ، والعرض.

وقد احتج الأولون بأنا قد نجد فى الناس العالم والجاهل ، والقوى والضعيف ، والخسيس والنفيس والخير ، والشرير ، والغضوب والحمول ، والصبور والملول. إلى غير ذلك من الاختلافات فى القوى ، والهمم ، والأخلاق. وذلك : إما أن يرجع إلى غرائز نفوسهم الأصلية وفطرتها الأولية ، وإما أن يكون ذلك كله اكتسابيا ، عرضيا ، مأخوذا من اختلاف أمزجة الأبدان.

لا جائز أن يقال بالثانى : فإنا إذا اعتبرناه أدّانا الاعتبار أن بدن الإنسان قد يتغير مزاجه من جهة أخلاق النفس حيث يغضب ؛ فيسخن مزاجه ويغتم فينحف ، ويهزل ، ويفرح فيطرب ويخصب ، ولم تكن الحرارة فى مزاج بدنه أوجبت فى نفسه الغضب ؛ بل حالة الغضب الطارئة على نفسه ، أوجبت حر مزاجه ؛ فكانت بعض أحوال البدن لازمة عن أحوال النفس.

ولهذا كان تغير أحوال النفس بالعادات ، مغيرا لأحوال الأبدان ، وناقلة / / لها من شأن إلى شأن ، حتى أنها تتبدل مع تبدل الأمزجة والأشكال ؛ فتنقل خلقة الشرير إذا صار خيرا إلى خلقة الأخيار ، وكذلك بالعكس وهذا كله يشهد بأن هذا الاختلاف ليس إلا لاختلاف جواهر الأنفس ، لا لاختلاف أمزجة الأبدان.

وأيضا : فإنا قد نشاهد اختلاف النفوس / بأمور لا تعلق لها بالأبدان ، وأمزجتها ، والأجسام ، وأشكالها : كمحبة الصنائع ، والعلوم ، والميل إلى فنون منها ، دون فنون.

وأيضا : فانه لو كان ذلك الاختلاف لاختلاف المزاج ؛ لما بقى الإنسان على خلق واحد نفسانى عند تبدل مزاجه ، وانتقاله من ضدّ إلى ضدّ من حار إلى بارد ، ومن بارد :

__________________

/ / أول ل ١١٥ / أ.

إلى حار ، ومن رطب إلى يابس ، ومن يابس إلى رطب ؛ بل كان يتبدل ، وينتقل من خلق : إلى ضده على حسب ما يقع الانتقال فى المزاج من ضد إلى ضد.

وأيضا فإن من سلف من الحكماء ـ قد حكموا فى الأنواع المختلفة من ذوات النفوس بأن اختلاف أمزجتها ، وأشكالها ، لاختلاف نفوسها فى طبائعها وخواصها حتى كانت حرارة مزاج الأسد مقصودة ، لموافقة نفسه فى الشجاعة والحرارة ، وبرودة مزاج الأرنب : لموافقة نفسه فى الضعف والجبن.

فما بال الاختلاف بين الأنفس الإنسانية لا لذواتها ؛ بل لا لاختلاف أمزجة أبدانها.

وربما احتجوا [على ذلك أيضا] (١) بحجج خطابية (٢) مأثورة عن الأسلاف منهم وذلك ما نقل عن أرسطاطاليس (٣) أنه قال : «الحرية ملكة نفسانية حارسة للنفس حراسة جوهرية لا صناعية» وكقوله : «إن الحرية طباع أول جوهرى ، لا طباعا ثانيا اكتسابيا.

فلو كانت جواهر النفوس الإنسانية ، وطبائعها متفقة ؛ لزم أن يكون الناس كلهم أحرارا ، وهو خلاف المشاهد.

وأما أرباب المذهب الثانى : فقد احتجوا بأن قالوا : النفوس الإنسانية وإن كانت متعددة فهى مشتركة فى خاصية ، هى القوة النظرية ، والعملية ، كما قد بين ذلك فى الحكميات ، وهو دليل اتحادها فى النوعية.

الموضع الثالث : اختلفوا فى أن النفس الإنسانية هل تفوت بفوات بدنها ، أم لا؟ فذهب كثير من الأقدمين (٤) إلى أنها لا تبقى بعد مفارقة بدنها.

محتجين على ذلك بحجتين :

الأولى : أنه قد ثبت أنه لا وجود للنفس قبل وجود بدنها ؛ بما سبق ذكره (٥) وهو بعينه مساعد فى امتناع وجودها بعد مفارقة البدن.

__________________

(١) ساقط من (أ).

(٢) راجع المبين للآمدى ص ٩١ فقد قال : وأما القياس الخطابى : فما كانت مادته من المقبولات ، والمظنونات.

(٣) راجع ترجمته فيما سبق فى هامش ل ٥٠ / ب من الجزء الثانى.

(٤) انظر كتاب النفس لأرسطو ٦ ، ٤٤ ، ٤٥ ترجمة الدكتور الأهوانى.

(٥) راجع ما سبق ل ٢٠٤ / أو ما بعدها.

الحجة الثانية : أنها بعد مفارقة بدنها لا تفعل ، ولا تنفعل ، وكل ما لا يفعل ، ولا ينفعل فوجوده معطل ، ولا معطل فى الوجود الطبيعى (١).

وذهب فريق آخر إلى التفصيل. وهو أن قال : أفعال النفس منها ما يكون بالبدن والآلة. كالإدراكات الجزئية بالحواس الخارجية ، ومنها ما يكون لها لذاتها : كالتعقلات الكلية ، والتصورات العقلية.

فما كان لها من الأفعال الأولى ؛ فلا يبقى بعد مفارقة البدن. بخلاف ما كان لها من الأفعال الثانية ، وعلى هذا إن / كانت مفارقتها للبدن قبل تصور المعقولات ، وتجريد الكليات من الجزئيات ؛ فإنها لا تعاد ؛ إذ ليس لها فعل يقتضي لها البقاء ، والانفعال. وإن كان تكملت بما حصل له أمن التصورات الكلية ، والتصديقات العقلية فى حالة اتصالها بالبدن ؛ فإنها تبقى ، وإن فارقت البدن.

وذهب أرسطاطاليس ومن تابعه من فحول (٢) الحكماء : إلى لزوم بقائها بعد مفارقة البدن ، وسواء أكانت التعقلات التى هى كمالها الممكن لها قد حصلت حالة المفارقة ، أو لم تكن حاصلة ، محتجين على ذلك بحجج ثلاث :

الحجة الأولى : أن ما يعدم بعد وجوده ، لا يجوز أن يكون انعدامه لذاته ؛ وإلا لما وجد ؛ فانعدامه : إما أن يكون لعدم علته الفاعلة المقتضية لبقائه واستمراره ، كما فى انعدام ضوء المصباح عند انطفائه.

وإما لوجود مزاحم يبطله ، ومضاد يعدمه : كانعدام برودة الماء بالحرارة الطارئة عليه ، الغالبة له ، فلو انعدمت النفس ، لكان انعدامها لأحد هذين الأمرين ، وكل واحد منهما باطل.

أما أنه لا يجوز أن يكون انعدامها لانعدام علتها ؛ إذ العلة الفاعلية للنفس الناطقة إنما هو العقل الفعال ؛ وهو غير قابل للكون ، والفساد / / على ما قرر فى الحكميات.

__________________

(١) قارن بما قاله أرسطو فى النفس ص ٤٤ ، ٤٥ د. الأهوانى ط : الحلبى.

(٢) تابع أرسطو من فلاسفة الاسلام. الكندى : فى رسائله الفلسفية ص ٢٨٠ ، وابن سينا : فى النجاة ص ١٨٥ والإشارات والتنبيهات ٢ / ٤٢٩ ، ٤٣٠ تحقيق د. دنيا.

والإمام الغزالى : تهافت الفلاسفة ص ٣٠٧ ـ ٣٠٩ ومعارج القدس ص ١٣١ ـ ١٣٤.

/ / أول ل ١١٥ / ب من النسخة ب.

وأما أنه لا يجوز أن يكون انعدامها لوجود مضاد يعدمها ؛ لأن ذلك لا يتصور إلا مع قيام الضدين بموضوع واحد [فى محل واحد] (١) مع استحالة الجمع بينهما فيه ، وإلا فلا تمانع ، ولا مزاحمة. وليس وجود النفس فى البدن على نحو وجود الشيء فى محله ، أو فى موضوعه ؛ إذ لا موضوع لها ؛ لكونها جوهرا ، ولا هى حالة فى محل كما سبق ؛ بل إنما وجودها فيه على سبيل التعلق به بالتصرف فى أحواله كما سبق.

الحجة الثانية : أنه لو لزم فوات النفس من فوات بدنها ؛ لكانت متعلقة به تعلق المتقدم ، أو المتأخر ، أو المكافئ ، وإلا لما كان هذا اللزوم.

لا جائز أن يقال بالأول : وإلا فالنفس متقدمة على البدن ، تقدما بالذات ؛ ضرورة أن غير هذا النوع من التقدم ، لا يوجب الفوات من الفوات. ولو كان كذلك ؛ لكان فوات البدن لازما عن فوات النفس ، لا أن فوات النفس ، لازم عن فوات البدن ؛ إذا العلة لا تبطل لبطلان معلولها ، وإنما المعلول هو الّذي يبطل ببطلان علته.

ولا جائز أن يقال بالثانى : وإلا فالبدن للنفس إما علة فاعلية ، أو مادية ، أو صورية ، أو غائية ؛ ضرورة أن ما يفوت بفوات ما هو متقدم عليه ، لا يخرج عن هذه الأقسام.

وليس هو فاعلية : وإلا كان الأشرف مستفادا / من الأخس.

وليس علة مادية لها ؛ لما سبق من أن النفس غير قائمة بمحل. وليست علة صورية ولا غائية ، إذ الأولى أن يكون فيها بالعكس ، ولا جائز أن يقال بالثالث ؛ وهو تعلق التكافؤ ؛ وإلا فهما حقيقتان ، أو غير حقيقتين ، لا جائز أن يقال بالأول : وإلا كانت النفس والبدن عرضا لا جوهرا.

وإن قيل بالثانى : فغاية ما يلزم من فوات أحدهما فوات العارض للذات لا نفس الذات المعروضة.

الحجة الثالثة : لو كانت النفس قابلة للفساد ؛ لكان فيها قوة قابلة للفساد ، وكل ما له قوة أن يفسد ، فقبل الفساد ، له قوة أن يبقى بالفعل ، وليس بقاؤه بالفعل هو نفس قوة أن يبقى بالفعل.

__________________

(١) ساقط من أ.

فالنفس قبل الفساد لها قوة أن تبقى ، فالنفس مركبة من صورة ؛ وهى ما بها تكون النفس موجودة وباقية بالفعل ، ومن مادة : وهى الذات التى لها هذه القوة أعنى قوة أن يبقى.

والنفس بسيطة غير مركبة على ما سبق ؛ فهى غير قابلة للفساد.

الموضع الرابع : اختلف القائلون ببقاء النفس بعد مفارقة بدنها فى تناسخ الأبدان لها ، وانتقالها من بدن إلى بدن.

فمنهم : من أثبت ذلك ، ومنهم من نفاه.

فأما المثبتون : فمنهم من أوجب ذلك ، وأحال بقاء النفس غير متعلقة ببدن آخر غير بدنها الّذي فارقته.

محتجين على امتناع عزوها عن البدن بعد المفارقة بمثل احتجاجهم على امتناع وجودها قبل البدن كما سبق (١).

ومنهم من جوز عليها الأمرين حتى أنها تكون مفارقة للبدن تارة ، ومقارنة له تارة ، ومقارنة بعد المفارقة ، ومفارقة بعد المقارنة ، ولم يلتزم فى ذلك قانونا معينا ، ولا نظاما مخصوصا.

ثم من أوجب المقارنة بعد المفارقة : فمنهم من يرى أنها لا بد وأن تكون حافظة للصورة النوعية فى الأشخاص ، حتى انها لا تنتقل من شخص الإنسان إلا إلى شخص إنسانى ، وسمى هذا الانتقال نسخا (٢) ، ومنهم من يرى أنها غير حافظة للنوع فى الأشخاص ، بل قد تستبدل صورة الانسان بصورة أخرى.

ثم أختلف هؤلاء :

فمنهم من جوز الانتقال إلى غيره من أبدان الحيوان ، وسمى ذلك مسخا (٣) ومنهم من جوزه إلى النبات ، وسمى ذلك فسخا (٤). ومنهم من جوزه إلى الجمادات ، وسماه :

__________________

(١) راجع ما مر ل ٢٠٤ / أ ، ب من الجزء الثانى.

(٢) النسخ : هو الانتقال من شخص الإنسان إلى شخص انسانى.

(٣) المسخ : هو الانتقال من شخص الإنسان إلى أبدان الحيوان.

(٤) الفسخ : هو الانتقال من بدن إنسان إلى النبات.

رسخا (١). ، ومنهم من يرى أن النفس عند ابتدائها تبتدئ من أضعف الصور وأخسها ، كصورة الدود ، والذباب ، وتتردد إلى الأقوى والأفضل / حتى تنتهى إلى صورة الإنسان ، وحينئذ إن سعدت بفعل ما يسعد ، ارتقت فى كل دور إلى مزاج أفضل ، وقوة أكمل ، حتى تبلغ أقصى الكمال ، وإن شقيت بفعل ما يشقى ويردى عادت إلى العكس والقهقرى وكذا لا تزال تتردد فى كل دور إلى ما فارقته ، أو أفضل ، أو أنقص.

ثم منهم من يرى / / أن ذلك يدوم ، ويتكرر دورا بعد دور ، لا انقضاء لأمده ، ولا انتهاء لعدده. ومنهم من يرى انتهاء ذلك ، وأن النفس قد يتفق لها سعادة ناقلة لها فى مرة أو مرات إلى أجلّ حالاتها ، وأكمل كمالاتها ؛ فينقطع تعلقها بالأبدان ، ويلتحق بالمبادئ الأولى صائرة عالما عقليا ، مجردة عن المواد ، وعلائقها ؛ فلا تعود إلى التعلق بالأبدان أبدا.

وأما الّذي عليه المحققون من الفلاسفة (٢) : امتناع القول بالتناسخ ، واستحالة انتقال النفس بعد مفارقة بدنها المقارن وجودها لوجوده ، إلى بدن آخر ، محتجين على ذلك بحجتين :

الأولى : أن وجود النفس مع وجود البدن إنما كان لشوق جبلى ، وميل طبيعى من الأنفس إلى الأبدان [للاهتمام به ، والتصرف فى أحواله كما سبق.

وعلى هذا : فكل بدن فإنه يستحق لذاته نفسا تدبره ، وتتصرف فيه ، وليس ذلك لبعض الأبدان] (٣) دون البعض ؛ إذ كلها من نوع واحد ، فلو قيل بتناسخ بدنين لنفس واحدة ؛ لأدى ذلك إلى اجتماع نفسين فى بدن واحد ، وهى النفس المستحقة له لذاته ، والنفس المنتقلة إليه من غيره ، وهى محال.

الحجة الثانية : أنه لو انتقلت النفس فى بدن إلى بدن آخر ؛ لتذكرت ما كان لها من الأحوال حالة كونها فى البدن الآخر ؛ ضرورة اتحاد النفس فيها ، والأمر بخلافه كما تقدم (٤).

__________________

(١) الرسخ : هو الانتقال من شخص الانسان إلى جسم جماد.

/ / أول ل ١١٦ / أ.

(٢) انظر الإشارات لابن سينا ٣ / ٧٧٩ وما بعدها وشرح الطوسى لها وانظر النجاة أيضا ص ١٨٩. ثم قارنها بما ذكر الآمدي هاهنا وفى غاية المرام ص ٢٧٨.

(٣) ساقط من (أ).

(٤) راجع ما مر ل ٢٠٤ / ب و ٢٠٥ / أ.

ثم قالوا : لا شك أن سعادة كل شيء ، ولذته إنما هو بحصول ما له من الكمالات الممكنة له ، وذلك كحصول الإبصار للقوة الباصرة ، والسمع للقوة السامعة ، وكذلك فى كل قوة بحسبها ، وكذلك شقاوة كل شيء وتألمه ؛ إنما هو بعدم ما له من الكمالات الممكنة له.

فعلى هذا سعادة النفس الناطقة إنما هو فيما يحصل لها [الكمالات الممكنة لها] (١) ، وكمالها الخاص بها ، وهو مصيرها ، عالما عقليا منطبعا فيها صورة المعقولات ، وكذلك شقاوتها ، وتألبها : إنما هو بانتفاء كمالاتها عنها وعندئذ فالنفس الناطقة بعد مفارقة بدنها إما أن تكون قد استعدت لقبول كمالها أو لم تستعد. فإن كانت قد استعدت لكمالها وتنبهت له ومالت إليه باشراف العقل الفعال عليها ؛ فلها أحوال أربعة.

الحالة الأولى : أن تكون قد حصلت شيئا من كمالاتها بالبحث عنه والتفكر فيه (٢) وانسلخت عن عالم الضلال ، وتركت الاشتغال بالرزائل ، والاهتمام بالبدن وعلائقه ؛ فقد سعدت وحصلت لها اللذة ، والنعيم / الدائم.

وعلى حسب زيادة حصول الكمال يكون زيادة الالتذاذ. وليس ما يحصل للنفس من اللذة بحصول كمالها ، كالتذاذ البهائم ، والحيوانات بمطاعمها ومشاربها (٣). فإن كان الالتذاذ بالشيء ، وزيادته على حسب كمال الملتذ به وبهائه ، وقوة الإدراك له ، ودوامه.

ولا يخفى أن كمال النفس ، بالنسبة إلى سائر كمالات باقى القوى أشرف وأجلّ ، وأن إدراك النفس لما تدركه أعظم وأشدّ من إدراك غيرها لكماله من حيث إن إدراك ، النفس للماهية بخلاف إدراك غيرها من القوى.

فإذن التذاذها أشد ، وسعادتها أكمل. ولا خفاء بأن ما يحصل لها من الالتذاذ بكمالها قبل مفارقة البدن بالنسبة إلى ما يحصل لها بعد مفارقته كنسبة الالتذاذ برائحة المطعوم إلى لذة آكله ، وذلك قدر يسير وإنما كان كذلك من حيث إن النفس قبل المفارقة مشغولة بالبدن وعلائقه ، والانغماس فى الشهوات والرذائل.

__________________

(١) ساقط من أ.

(٢) (والتفكر فيه) ساقط من ب.

(٣) قارن بما ذكره ابن سينا فى الإشارات ٣ / ٧٤٩ وما بعدها وبما ذكره الإمام الغزالى فى تهافت الفلاسفة ص ٢٨٣ وما بعدها وفى معارج القدس ص ١٢٧.

وكل ذلك فمضاد ومانع يمنعها من تمام الالتذاذ بحصول كمالها. فإذا زال ذلك المانع ، حصلت اللذة التامة ، والسعادة الدائمة التى لا يشاكلها شيء من أنواع الملاذ فيكون حالها بالنسبة إلى اللذتين كنسبة اللذة الحاصلة بأكل الشيء الحلو للمريض بالنسبة إلى لذة أكله بعد الصحة ، وزوال المانع.

وهذه اللذة العظيمة وإن لم يدركها فى حالة مقارنة البدن على ما هى عليه ولا يتشوقها غاية التشويق ؛ لكونها مشغولة بعوائق البدن ؛ لكنا نقطع بوجودها فحالنا بالنسبة إليها كحال الأكمه (١) بالنسبة إلى الالتذاذ برؤية الصور الجملية ، فإنه يقطع بها وإن لم يكن حاله فى التشوّق إليها كحال من عرفها بالنظر إليها وكحال عنين بالنسبة إلى لذة الجماع ؛ لكن هذه اللذة العظيمة إنما هى لمن استكملت نفسه بالعلوم ، وحصلت لها كمالاتها فى الدنيا (٢) ، وكانت متجردة عن الأمور الدنيوية.

الحالة الثانية : أن تكون قد حصلت ما لها من الكمالات فى الدنيا ؛ لكنها مع ذلك ظالمة ، فاجرة ، مشتغلة بالرزائل ، والشهوات البهيمية ، فبعد المفارقة / / وإن حصلت لها اللذة بما لها من كمالها ، فما استقر فيها من صور تلك الأمور الدنيوية ، يجذبها إلى الملأ الأسفل ، وما حصل فى جوهرها من الكمالات ، يجذبها إلى الملأ الأعلى ، فيحصل لها بسبب هذا التجاذب والتضاد ، ألم عظيم ؛ لكنه لا يدوم ؛ لكون النفس كاملة فى جوهرها وأن تلك الأمور الأخر عارضة ، والعارض قد يزول / على طول الزمان ، وعلى حسب رسوخ تلك الهيئات العارضة فى النفس يكون بعد زوال هذا العذاب والألم ، وما مثل هذه النفس تسمى المؤمنة الفاسقة (٣).

الحالة الثالثة : أن لا تكون النفس قد حصل لها شيء من الكمالات ؛ لكنها مع ذلك زكية طاهرة مشتغلة عن الرذائل ، والشهوات ، بالنسك والعبادات : كأنفس الزهاد والصلحاء من العامة ؛ فغير بعيد أن تنتقل نفوسهم بعد المفارقة إلى جرم فلكى يتخيل به صور ما كانت تسمعه فى دار الدنيا من أنواع الملاذ من المأكولات ، والمشروبات ، والمنكوحات على نحو ما كانت تتخيل بالحواس الباطنة حالة المقارنة.

__________________

(١) قارن ما ذكره الآمدي عن الأكمه ، والعنين بما ذكره ابن سينا فى الإشارات ٣ / ٧٦٢ ، والنجاة ص ٢٩٢. وبما ذكره الغزالى فى معارج القدس ص ١٢٦ وما بعدها والمقصد الأسنى ص ٢٦.

(٢) قارن بما ورد فى غاية المرام ص ٢٦٩ ، وبما ورد فى تهافت الفلاسفة للإمام الغزالى ص ٢٨٣.

/ / أول ل ١١٦ / ب.

(٣) راجع ما ورد فى تهافت الفلاسفة ص ٢٨٦ ، ومعارج القدس للإمام الغزالى ص ١٣٢ ، وقارن بما ورد فى غاية المرام ص ٢٧٠.

وعند ذلك : فتجد من اللذة والنعيم ما لا كانت تجده حالة المقارنة للبدن. وهذا الالتذاذ لا يتقاصر عما يجده النائم من اللذة حالة منامه فإنه قد يتضاعف على ما يجده فى حالة يقظته لقلة الشواغل (١).

الحالة الرابعة : أن لا يكون قد حصل لها شيء من كمالها وهى مع ذلك منغمسة فى الرذائل ، منهمكة فى الشهوات البهيمية ، بحيث ترسخت فيها صورها ، واشتدت القوة النزوعية إليها ، فعند مقارنة البدن ، وزوال العائق تحس بما فاتها من كمالها ، وتتألم بمفارقته فيحصل لها بسبب ذلك ، وبسبب ما استقر من هيئات الرذائل الحادثة لها ، عذاب وألم عظيم على نحو ما يحصل للنفس الكاملة الذكية من اللذة والنعيم ؛ بل أشد عذابا من هذا العذاب من كانت نفسه مع ذلك قد أكبت على اعتقادات فاسدة ، وركنت إلى نقيض الحق وجحدت الرأى الصدق ، فحالها كحال من يرجح لفساد مزاجه الأشياء الكريهة ، على الأشياء المستلذة.

فإذا زال عنه العائق والمانع حصل له التألم بالمستكره ، ومفارقة المستلذ ؛ بل أسوأ حالا من هذه الحال ، حال من كان مع اشتغاله بالرذائل ، قد طالع شيئا من المبادئ الموصلة إلى المعلومات النظرية ، واشتد شوقه إليها ، ثم تركها ، واشتغل بما سواها من الرذائل ؛ فإن تألمه بعد المفارقة يكون أشد ؛ لأن الشوق إلى المعشوق فى حق من عرف مباديه ، وتنبه له يكون أشد ممن لم يحصل له ذلك ، وحسرته على فواته تكون أعظم. كمن حصلت له مبادئ شهوة الجماع أو الأكل ، ثم منع منه ؛ فإن تألمه يكون أشد من تألمه قبل ذلك.

ولا يبعد أن تكون أيضا هذه الأنفس الجاهلة ، الفاجرة ، بعد المفارقة تتصل ببعض الأجرام الفلكية ؛ فتتخيل به صور ما كانت تسمعه من النار والأغلال ، وغير ذلك مما كانت تتواعد به على الأفعال القبيحة ؛ فيحصل لها بسببه من الألم ، والعذاب ما لا يقاس به / غيره من أنواع العذاب.

هذا كله إن كانت النفس الناطقة قد استعدت لقبول كمالها ، وتهيأت له.

__________________

(١) انظر : تهافت الفلاسفة للإمام الغزالى ثم قارن بما ورد فى غاية المرام للآمدى ص ٢٧١.

وأما إن لم يكن قد حصل لها ذلك : كانفس الصبيان ، والمجانين ، وغيرهما من الأنفس الساذجة ؛ فهى لا تتألم ولا تلتذ ؛ لعدم اشتياقها إلى كمالها ، ولعدم استعدادها لقبوله (١).

وإذ أتينا إلى شرح المذاهب فى النفس الناطقة بالبيان الموجز ، الشّامل لمعانيها ، فلا بد من التنبيه على ما فيها ، وما هو المختار منها إن شاء الله ـ تعالى ـ.

فنقول : أما من قال من أصحابنا : إنها عرض (٢) فهو مطالب بالدّلالة على ذلك.

قوله : كل مخلوق لا يخرج عن كونه جسما ، أو عرضا.

فلقائل أن يقول : أولا لا نسلم الحصر ، وما المانع أن يكون جوهرا فردا كما قاله الغزالى وغيره (٣)؟ أو أن يكون جوهرا غير متحيّز مجردا عن المادّة دون علائق المادة كما قاله الفلاسفة (٤)؟ وقد بينا أن إبطال ذلك صعب جدا.

وإن سلمنا الحصر فيما ذكر ؛ ولكن ما المانع أن تكون النفس جسما كما قاله الغير؟

قوله : لأن الأجسام متجانسة.

فقد بينا ضعف هذه المقالة فى تجانس الأجسام (٥) وأن ذلك مما لا سبيل إلى الدلالة عليه.

وإن سلمنا تجانس الأجسام ، ولكن ما المانع أن تكون النفس جسما مع / / عرض خاص ، يخلقه الله فيه ، كما قاله بعض المخالفين كما تقدم (٦)؟

فلا يكون جسما فقط ، ولا عرضا مجردا.

وإن سلمنا دلالة ما ذكر على أن النفس عرض ، غير أنا قد بينا فيما تقدم امتناع بقاء الأعراض ، وأنها متجددة (٧) فلو كانت النفس عرضا ؛ لكانت متجددة غير باقية.

__________________

(١) لمزيد من الايضاح ارجع إلى : الإشارات والتنبيهات لابن سينا ٣ / ٧٣٧ وما بعدها ، ٣ / ٧٧٧ وما بعدها ، وتهافت الفلاسفة للإمام الغزالى ص ٢٨٢ وما بعدها فمنها يتضح أن الآمدي قد اعتمد عليهما فى العرض ، والنقد.

(٢) كالإمام الهراسى. انظر عنه ما مر فى هامش ل ٢٠١ / ب.

(٣) راجع مقالتهم ل ٢٠١ / ب.

(٤) راجع ما مر ل ٢٠١ / ب.

(٥) راجع ما سبق فى تجانس الأجسام ل ٢٥ / أوما بعدها.

/ / أول ل ١١٧ / أمن النسخة ب.

(٦) راجع ما سبق ل ٢٠١ / ب

(٧) راجع ما تقدم ل ٤٤ / ب وما بعدها.

وعند ذلك : فالأعراض المتجددة من أول حياة الإنسان ، إلى مماته : إما أن يكون كل واحد منها نفسا ، أو أن النفس واحد منها دون الباقى ، أو أن النفس جملتها ، أو أنها جملة من جمل تلك الأعداد.

فإن كان الأول : فهو ممتنع لوجهين :

الأول : أنه يلزم من ذلك أن من علم شيئا بالاكتساب والنظر فى حالة أن لا يكون عالما به فى الحالة التى تلى تلك الحالة ؛ لفوات ذلك المدرك منه إلا بنظر ثان ، وكذلك فى كل حالة متجددة ؛ وهو محال خلاف المعقول من أنفسنا.

الثانى : أنه يلزم من ذلك أن من كان كافرا فى بعض الأحوال ، ومؤمنا فى بعض الأحوال : أن تكون نفسه المؤمنة غير الكافرة ؛ ضرورة التجدد ، وأن تخلد نفسه الكافرة فى النار ، والمؤمنة فى الجنة ، ويكون الشخص الواحد معذبا ، منعما باعتبار ما له من النفسين ، ولم يقل به قائل.

وإن كان الثانى : فهو ممتنع لوجهين :

الأول : أنه ليس البعض بأن يكون هو النفس منها دون / الباقى ، أولى من العكس ؛ ضرورة التماثل.

والثانى : أنه يلزم من ذلك خلو الإنسان عن النفس قبل ذلك الجزء وبعده ، وهو المحال.

وإن كان الثالث : فيلزم من ذلك أن لا تكون له نفس قبل بلوغ تلك الجملة ؛ وهو أيضا محال ، وبمثل هذا يبطل القسم الرابع أيضا.

وأما القول بأن النفس هى المزاج : فهو مبنى على القول بوجود المزاج ؛ وقد أبطلناه بالوجوه الكثيرة المتعددة عند الرد على الفلاسفة فيه.

وبتقرير تسليم المزاج جدلا ؛ فهو عرض متجدد كما سبق (١).

فلو كان هو النفس : فنحن نعلم أن من لمس شيئا متكيّفا ببعض الكيفيّات الملموسة ، أنه يكون مدركا له ، والمدرك منه : إما المزاج المتقدم ، أو المتجدد بعد اللمس الأول محال ؛ لعدم المدرك.

__________________

(١) راجع ما مر ل ٣٧ / أوما بعدها.

والثانى محال ؛ لتجدده بعد اللمس.

وربما قيل فى إبطاله وجوه أخرى ضعيفة أبطلناها فى كتاب دقائق الحقائق (١).

والقول بفوات النفس عند فوات ذلك المزاج ، لا يدل على كونه هو النفس ؛ لجواز أن يكون غيرها وهو ملازم لها ثم إنه كما أن النفس تفوت بفوات المزاج ؛ فقد تفوت بفوات واحد من الأخلاط ، والأخلاط عند هذا القائل ليست نفسا. ثم لو كان كل ما تفوت النفس بفواته يكون نفسا ؛ لكان للشخص الواحد نفوس كثيرة ، وهى ما تفوت بها النفس من الأخلاط وصفة الحياة.

وما قيل من أن النفس من جملة القوى الفعالة (٢) ، فليس أولى من قول القائل أنها المزاج ، ثم إن القوى عرض ، والنّفس لا تكون عرضا ؛ لما تقدّم فى المزاج ، وبه يبطل القول بأنّ النّفس هى الحياة.

والقول بأنّها الشّكل الخاص ، والتخّطيط باطل بما بعد الموت ، فإنّ النّفس مفارقة للبدن بالإجماع مع بقاء الشكل الخاص ، والتخطيط.

والقول بأن النّفس هى الجثّة الخاصة المركبة من الجواهر والأعراض ، القائمة بها ؛ فيلزم به أن تكون الأعراض القائمة بها مأخوذة فى حقيقة النفس ووجودها والأعراض متجددة ؛ فتكون النفس متجددة ؛ ويلزم عليه المحالات السّابقة (٣).

والقول بأن النفس جسم مركب من العناصر فى داخل هذه الجثة الخاصة ؛ فليس أولى من غيره من الأقوال (٤).

قولهم : بأن النفس مدركة للمركبات ، وإنما يدرك الشيء بشيء يشبهه ، فيلزم أن لا تكون النفس مدركة لما تركب من العناصر ، وطبيعته مخالفة لطبيعتها فى التركيب وأن لا تكون نفس الإنسان مدركة للفرس ، والحمار ، ونحوه من أنواع المركبات فإنها وإن شابهتها فى كونها مركبة من العناصر عند هذا القائل ، فغير شبيهة لها فى نفس التأليف والمزاج.

__________________

(١) راجع مؤلفات الإمام الآمدي فى قسم الدراسة ص ٩٤ ـ ٩٨ ففيه معلومات وافية عن كتاب دقائق الحقائق.

(مكتبة كلية أصول الدين).

(٢) راجع ما مر ل ٢٠١ / ب.

(٣) راجع ما مر ل ٤٤ / ب.

(٤) راجع ما مر ل ٢٠١ / ب.

وإلا كان / فى تأليف النفس الإنسانية جميع أمزجة هذه الأنواع ، وهو محال ، ويلزم منه أيضا أن يكون كل جسم من الأجسام المدركة ، مدركا لما هو من نوعه غير مدركة لما هو مخالف له فى نوعه ، وأن لا تكون قوة واحدة تدرك الأضداد ؛ بل كان يجب أن البصر إذا أدرك البياض / / مثلا أن يدركه بجزء من البصر أبيضا ، وكذلك فى السواد ونحوه تحقيقا للمشابهة ، وكان يجب أن يكون البصر مستعدا بأجزاء غير متناهية الألوان ، والأشكال ؛ لإدراك الألوان ، والأشكال المختلفة ؛ وهو محال.

والقول بأن النفس هى الأخلاط الأربعة ، مع التناسب المخصوص فيما بينها على ما ذكر ، فليس هو أيضا أولى من غيره من الأقوال.

وما قيل بأنه لا بقاء للنفس مع اختلال هذه الأمور فقد سبق إبطاله (١).

والقول بأن النفس هى الدم (٢) ممنوع.

قولهم : إن الدم أشرف أخلاط البدن.

لا يدل على أنه النفس ؛ بل جاز أن تكون النفس غير الدم ، وأشرف من الدم.

قولهم : إن النفس تبطل عند سفح الدم.

قلنا : وكذلك عند زوال غيره من الأخلاط ، وليست أنفسا عند هذا القائل.

والقول بأن النفس عنصر من العناصر ، ممنوع (٣).

وما قيل من أن المدرك للشيء ، يجب أن يكون من عنصر ، والنفس مدركة للعناصر ؛ فيلزم أن لا تكون النفس إذا كانت عنصرا أن تدرك ما ليس بعنصرى ـ كإدراكنا أنه. لا واسطة بين النفى ، والإثبات ، أو أن الأشياء المساوية لشيء واحد متساوية ؛ وهو محال ، ثم إنه ليس القول بأنها بعض العناصر المعينة أولى من غيره ، والقول بأنها عنصر النار ، غير مسلم (٤).

__________________

/ / أول ل ١١٣ ب

(١) راجع ما مر ل ٢٠٨ / أ.

(٢) راجع ما مر ل ٢٠٢ / أ.

(٣) راجع ما مر ل ٢٠٢ / أ.

(٤) راجع ما مر ل ٢٠٢ / أ.

قولهم : لأن خاصية النار الحركة ، والإشراق ، وذلك متحقق فى النفس فغايته الاشتراك فى هذه الصفات ولا يمتنع اشتراك المختلفات فى عارض واحد ، وبما ذكرنا هاهنا تبطل الدلالة على ما قيل : إن النفس هى الهواء المستنشق ، أو الماء.

والقول بأن النفس هى الروح (١) على ما ذكره الأطباء ؛ فليس أولى من غيره من الأقوال.

قولهم : إنها منبع الحياة ، والنفس ، والنبض [إن أرادوا به أنها سبب للحياة والنفس والنبض] (٢) ؛ فممنوع وغايته الملازمة بينهما ، وليس فى ذلك ما يدل على أن الروح هى النفس الانسانية.

وبتقدير تسليم كونها سببا لما ذكر ، فليس فيه أيضا دلالة على أن الروح هى النفس ؛ بل أمكن أن تكون النفس غير الروح كما قاله الغير.

وبهذا يبطل القول بأنها الروح الكائنة فى الدماغ أيضا.

[والقول بأن النفس هى الأجسام الأصلية فى كل بدن ، فليس أولى من غيره من الأقوال ولا يخفى أن الدلالة على ذلك صعب جدا] (٣).

والقول بأن النفس جوهر فرد (٤) ، كما ذهب إليه / الإمام الغزالى ، وغيره فلا يخفى أن الجواهر على أصله متماثلة.

فلو جاز أن يكون بعض الجواهر الفردة نفسا إنسانية ؛ لجاز ذلك فى غيره من الجواهر ، ثم ليس اختصاص بعض الجواهر بأنه النفس ، أولى من غيره ؛ ضرورة التماثل.

وأما مذهب الفلاسفة : فمبنى على وجود جوهر غير متحيز ، وهو ممنوع على ما تقدم فى الجواهر (٥).

قولهم : كل واحد من أشخاص الناس فيه شيء به إدراك المعقولات البسيطة (٦). مسلم.

__________________

(١) راجع ما مر ل ٢٠٢ / أ.

(٢) ساقط من أ.

(٣) ساقط من أ.

(٤) راجع عن هذا القول ما سبق ل ٢٠١ / ب.

(٥) راجع ما تقدم ل ٢ / أوما بعدها.

(٦) الرد على الشبهة الأولى للفلاسفة ومن وافقهم ـ الواردة فى ل ٢٠٢ / أ.

قولهم : يمتنع أن يكون المدرك لذلك جسما ، أو ما هو قائم بالجسم. ممنوع.

قولهم : لأنه يلزم أن يكون متجزئا.

لا نسلم ذلك. وما ذكروه فمبنى على أن المعلوم لا بد وأن يكون منطبعا فى المدرك وحالا فيه ، وهو غير مسلم على ما سبق فى الصفات (١).

وإن سلمنا أن العلم لا يكون إلا بانطباع صورة المعلوم فى المدرك ؛ ولكن لا نسلم أن انطباع ما لا يتجزأ فيما يتجزأ يكون موجبا لتجزؤ المنطبع (٢).

وما ذكروه فى تقريره ، فهو منتقض على أصلهم ؛ بالإضافة فإنها عرض موجود قائم بالجسم : كقيام الأبوة بذات الأب ، والبنوة بذات الابن. وذات الأب ، وذات الابن متجزئة ؛ لكونها جسما ، ونفس الإضافة وهى الأبوة غير متجزئة ؛ لتجزأ محلها ؛ فإنه لا يصح أن يقال إن الأبوة ذات أبعاض وكل بعض منها قائم ببعض من ذات الأب ، وكذلك فى البنوة بالنسبة إلى ذات الابن.

وكذلك فإن القوة الوهمية عندهم من القوى الجسمانية ، وهى مدركة من الصورة المحسوسة للذئب المعنى الموجب لنفرتها (٣) عن الذئب ؛ وهو غير محسوس ، ولا متجزئ وانطباعه عندهم فيما هو متجزئ.

وإن سلمنا امتناع انطباع ما لا يتجزأ فيما يتجزأ. فما المانع أن يكون الانطباع فى جزء من / / الجسم؟.

قولهم : كل جزء من الجسم متجزئ ، إلى غير النهاية فقد أبطلناه فيما تقدم.

قولهم : إنا نتعقل صورا مجردة عن الأوضاع ، والمقادير إلى آخر الحجة (٤) ؛ فهو مبنى على أن المدرك محل للشيء المدرك ، وليس كذلك كما تقدم تحقيقه (٥).

وإن سلمنا أنه محل له فما ذكروه إنما يستقيم بعد صحة الحصر فى الأقسام الثلاثة وما المانع من وجود قسم رابع وهو مما لا سبيل إلى الدلالة على نفيه؟

__________________

(١) راجع ما تقدم ل ٣ / ب من الجزء الأول.

(٢) راجع ما سبق ل ٣ / ب من الجزء الأول.

(٣) قارن بما ورد فى النجاة لابن سينا ص ١٥٩ وما بعدها ، ورسالة ابن سينا فى القوة الإنسانية ضمن تسع رسائل ص ٦ وما بعدها.

/ / أول ل ١١٨ / أمن النسخة ب.

(٤) راجع ما تقدم ل ٢٠٢ / ب.

(٥) راجع ما تقدم ل ٢٠٢ / ب. وفيه الرد على الشبهة الثانية للفلاسفة. [الحجة الثانية].

وإن سلمنا الحصر فيما ذكروه ؛ ولكن ما المانع أن يكون تجرد ذلك المعنى المعقول عن الوضع والمقدار ، لا لذاته ولا لذات ما أخذ عنه ، بل لذات الأخذ / ، ولا يلزم من كون الأخذ هو الموجب لتجريد الصورة المعقولة عن الوضع والمقدار ، أن يكون هو متجردا فى نفسه عن ذلك.

قولهم : لو كانت النفس مدركة بآلة جرمانيّة لما أدركت نفسها ، ولا آلتها كما فى الحواس الخمس ؛ فهو تمثيل من غير دليل جامع (١).

قولهم : إنّ إدراكها لآلتها : إمّا بآلة ، أو لا بآلة.

ما المانع أن يكون ذلك بآلة؟

قولهم ؛ إما أن يكون بعين تلك الآلة ، أو بغيرها.

ما المانع أن تكون بعين تلك الآلة؟

قولهم : إما أن يكون ذلك لوجود صورة آلتها تلك فى آلتها ، أو لوجود صورة أخرى غير صورة آلتها.

فهو مبنى على القول بأن الإدراك لا يكون إلا بجهة حلول المدرك فى المدرك ؛ وهو باطل بما سبق (٢).

قولهم : لو كانت مدركة بآلة جرمانيّة ؛ للزم كلالها عند المواظبة على الإدراك كما فى الحواس ؛ فهو تمثيل من غير دليل جامع (٣).

ثم ما المانع أن تكون القوّة المدركة النّفسانية مع كونها مدركة بآلة جرمانيّة أقوى ، وأثبت من القوى المدركة الحساسة ؛ فلذلك لا تكل ، وإن كلت الحواس.

وبه يبطل ما ذكروه من الشبهة الخامسة ، والسادسة ، والسابعة أيضا (٤).

__________________

(١) راجع ما مر فى الجزء الأول ل ٣٩ / أوما بعدها (وفيه الرد على الشبهة الثالثة).

(٢) راجع ما تقدم فى الجزء الأول ل ٩٩ / أوما بعدها.

(٣) راجع ما مر في الجزء الأول ـ القاعدة الثالثة : الدليل الثالث ل ٣٩ / أوما بعدها. وفيه الرد على الشبهة الرابعة للفلاسفة الواردة فى ل ٢٠٣ / أ.

(٤) راجع ما مر ل ٢٠٣ / أ.

قولهم : لو كانت داركة بآلة جرمانيّة ؛ لأمكن أن يكون البعض من تلك الآلة مدركا لشيء ، والبعض الآخر غير مدرك له (١) ، فيكون الشخص الواحد عالما بشيء ، وجاهلا به عنه جوابان :

الأول : أن مثل هذا على أصولنا غير ممتنع.

الثانى : أن ما ألزموه فى التعقل لازم عليهم فى القوى الجسمانية : كالشهوة والغضب ، وكل ما هو جواب لهم فيها ؛ فهو جواب لنا فى محل النزاع.

قولهم : لو كانت مدركة بآلة جرمانيّة ؛ لما كانت مدركة للمتضادات (٢).

عنه جوابان :

الأول : أن ما ذكروه مبنى على أنّ التّعقل إنّما يكون بالحلول ، والانطباع ، وهو ممتنع ؛ لما سبق.

الثانى : أنّ ما ذكروه لازم عليهم عند كون النفس ليست جسما ، وما ذكروه فى الجواب عنه ؛ فهو الجواب فيما نحن فيه.

قولهم : إن قوى النفس الإنسانية غير متناهية ، ولو كانت مدركة بآلة جرمانيّة ؛ لكانت متناهية (٣).

فمندفع ؛ إذ لا معنى لكون قوة النفس الإنسانيّة غير متناهية غير صلاحيتها لإدراك ما لا يتناهى من الصّور المعقولة صورة بعد صورة ومعقول بعد معقول ، ومثل ذلك متحقق فى القوة الخالية (٤) والقوى الحساسة الجسمانية ، وما لزم من ذلك فى القوى الخيالية (٤) والحواس الظاهرة أن لا تكون مدركة / بآلة جرمانيّة ، فكذلك فى النفس.

قولهم : إن الأجسام وقواها فاعلة منفعلة ، والنفس فاعلة غير منفعلة كما قرروه (٥) غير صحيح ؛ إذ أمكن أن يقال إن القوى الجسمانية فاعلة بإدراكها غير منفعلة فى نفسها ؛ بل المنفعل : إنما هو هيولاها ، وكذلك فى القوى النفسية.

__________________

(١) الرد على الشبهة الثامنة [الحجة الثامنة للفلاسفة الواردة فى ل ٢٠٣ / أ]

(٢) الرد على الشبهة التاسعة [الحجة التاسعة للفلاسفة الواردة فى ل ٢٠٣ / أ].

(٣) الرد على الشبهة العاشرة للفلاسفة [الحجة العاشرة الواردة فى ل ٢٠٣ / أ].

(٤) من أول : (والقوى الحساسة الجسمانية وما لزم من ذلك فى القوى الخيالية) ساقط من ب.

(٥) راجع الحجة الحادية عشرة ل ٢٠٣ / ب [الرد على الشبهة الحادية عشر].

قولهم : إن الأجسام وقواها إنما تتخلص عما يؤذيها بالهرب عنه ، والحركة المكانية بخلاف القوى العاقلة (١) ؛ فهو باطل ؛ فإنه إن ادعى ذلك فى كل قوة جسمانية ؛ فهو عين المصادرة على المطلوب ، وإن ادعى ذلك فى بعض الأجسام وقواها ؛ فهو غير مفيد للمطلوب ، وبهذا يبطل ما ذكروه من الشبهة الثالثة عشرة (٢).

قولهم : إن كل واحد يعلم من نفسه علما ضروريا أنه الّذي كان من حين ولادته مع علمه بتبدل أجزائه الجسمية (٣).

قلنا : أما الأول : فمسلم.

وأما الثانى : فممنوع. وما المانع أن يقال بأن كل إنسان مشتمل على أجزاء أصلية لا يتصور عليها التبدل والتغير ، من أول الحياة إلى آخرها كما سبق (٤)؟

وتلك الأجزاء جسم لطيف مشابك للبدن كما ذكره الأطباء ، والقاضى أبو بكر (٥).

قولهم : القوى الجسمانية التى هى مصدر الأفعال المختلفة لا بد لها من جامع يجمعها ، ويتصرف / / فيها ، وذلك هو النفس. مسلم.

ولكن لا نسلم أن ذلك الجامع الحاكم لا يكون جسما ، وما المانع أن يكون جسما لطيفا فى داخل هذه الجثة ، وإن لم يكن شيئا من أجزاء الجثة؟. ولا دليل لهم على إبطال ذلك (٦).

وعلى هذا فلا سبيل إلى القطع (٧) فى شيء مما قيل من المذاهب فى حقيقة النفس الإنسانية المدركة العاقلة ، وإن كان الحق غير خارج عنها فعليك بالاجتهاد فى تعيينه ، وإظهاره.

هذا ما عندى فى ذلك. لعل عند غيرى غيره.

__________________

(١) راجع الحجة الثانية عشرة ل ٢٠٣ / ب [الرد على الشبهة الثانية عشر].

(٢) راجع ما مر ل ٢٠٣ / ب.

(٣) راجع الحجة الرابعة عشرة ل ٢٠٣ / ب [الرد على الشبهة الرابعة عشر].

(٤) راجع ما مر ل ٢٠٢ / أ.

(٥) راجع رأى الأطباء والقاضى أبى بكر ل ٢٠٢ / أ.

/ / أول ل ١١٨ / ب.

(٦) راجع ما مر ل ٢٠٣ / ب الحجة الخامسة عشرة للفلاسفة. [الرد على الشبهة الخامسة عشرة].

(٧) بعد هذه المناقشة العميقة للآراء المختلفة فى حقيقة النفس الإنسانية المدركة العاقلة. قرر الآمدي بأنه لا سبيل إلى القطع فى شيء منها. ثم قرر أن الحقّ غير خارج عنها ، وطلب من طلاب العلم الاجتهاد فى تعيينه واظهاره والاستدلال عليه بالحجج القاطعة. والبراهين الساطعة. ولأنه من طلاب الحق ؛ فلا يقلقه أن يظهر الحق على يد غيره فيقول «هذا ما عندى فى ذلك ، ولعل عند غيرى غيره» رحمه‌الله. آمين.

وإذ أتينا على ما أردناه من إيراد المذاهب فى حقيقة النفس وتتبعها ؛ فلا بد من الإشارة إلى إبطال ما قيل من التفريعات على كون النفس جوهرا بسيطا ، وتتبعها كالجارى من عادتنا.

أما التفريع الأول (١) : فى القدم ، والحدوث.

فنقول : أما من قال بقدم النفس (٢) ؛ فلا بد له من دليل.

قولهم فى الحجة الأولى (٣) : لو كانت حادثة فالفاعل لها إما قديم ، أو حادث. ما المانع أن يكون قديما.

قولهم : يلزم أن تكون قديمة لقدمه ؛ فهو مبنى على القول بأن الموجب ، موجب بالذات ؛ وهو باطل بما سبق.

وبتقدير أن يكون الموجب موجبا بالذات جدلا ؛ فلا نسلم أنه يلزم من قدمه قدم معلوله.

وما المانع على أصلهم من توقف فعل الفاعل بذاته ، وتأثيره فى معلوله على تهيئ القابل / للمعلول : استعداده له ، كما قالوه فى الصّور الجوهرية العنصرية فإنها وإن كانت معلولة لجوهر قديم هو العقل الفعّال ، وأنه فاعل لها بذاته ، فليست قديمة بقدمه ؛ لتوقّف تأثيره فيها على تهيئ القابل لها على أصولهم.

فلئن قالوا : ذلك إنّما يتصوّر فيما يكون وجوده وجودا ماديا ، والنفس ليست كذلك ؛ فهو مبنى على اعتقادهم كون النفس غير ماديّة ، وكل ما يذكرونه فى الدّلالة على ذلك فقد أبطلناه (٤).

وإن سلمنا أن النفس ليست مادّية ، ولكن بمعنى أنّها ليست موجودة فى المادة ، أو بمعنى أنّها غير متعلقة الوجود بوجود المادة.

الأول مسلم ، والثانى ممنوع.

__________________

(١) راجع ما مر ل ٢٠٣ / ب.

(٢) الرد على أفلاطون ومن تابعه.

(٣) الرد على الشبهة الأولى من شبه أفلاطون ومتابعيه. (راجع ل ٢٠٤ / أالحجة الأولى).

(٤) راجع ما مر ل ٢٠٨ / ب.

وعلى هذا : فما لم تكن المادة موجودة ؛ فلا وجود للنفس وإن كان الفاعل لها بذاته موجودا.

وعلى هذا : فما ذكروه من لزوم قدم النفس ، لقدم علتها : إنما يصح أن لو لم تكن النفس متعلقة بالمادة ، وإنما لا تكون متعلقة بالمادة ؛ أن لو لزم قدمها ، لقدم علتها ؛ وهو دور ممتنع وعلى ما حققناه هاهنا ؛ فلا يخفى الوجه فى إبطال الحجة الثانية على قدم النفس أيضا (١).

وأما القول بحدوث النفس (٢) ، وإن كان قولا حقا ، غير أنه لا بد من تتبع حجج قائليه.

أما الحجة الأولى : فهى باطلة (٣) ؛ أما أولا فلا نسلم أن النفوس الإنسانية من نوع واحد ، وما المانع أن تكون مختلفة بالنوعية؟ وسيأتى إبطال كل ما يذكرونه على ذلك (٤). وإن سلمنا اتحاد نوعيتها ، فما المانع من قدمها على قولهم : بجواز قدم الممكنات؟.

قولهم : لأنها إما أن تكون متحدة ، أو متكثرة. مسلم.

ولكن ما المانع من اتحادها.

قولهم : لأنه يلزم منه اشتراك جميع الأشخاص فيما علمه الواحد ، أو جهله إنما يلزم أن لو لم تكن نسبة النفس إلى بدن كل شخص شرطا فى شعوره فلم قالوا بعدم هذا الاشتراط؟

وإن سلمنا امتناع اتحادها ، فما المانع من تكثرها؟

قولهم : لأن تكثير المتحد بالنوع يستدعى ما به يقع التمايز : مسلم ؛ ولكن لم قالوا بامتناعه؟

قولهم : لأن التمايز إما أن يكون [بين الأنفس لذواتها] (٥) ، أو لأمر خارج.

__________________

(١) الرد على الشبهة الثانية لأفلاطون ومتابعيه. (راجع ل ٢٠٤ / أالحجة الثانية).

(٢) الرد على شبه أرسطو ومن تبعه :

(٣) الرد على الشبهة الأولى لأرسطو ومن تبعه. (راجع ل ٢٠٤ / أالحجة الأولى).

(٤) انظر ما سيأتى ل ٢١٢ / أو ما بعدها.

(٥) ساقط من (أ).

قلنا : ما المانع أن يكون لازما لها لأمر خارج؟

قولهم : لأن ذلك إنما يكون بسبب المادة ، ولا مادة قبل وجود الأبدان إنما يصح ذلك ؛ إذا لم يكن الموجب لتخصيص كل نفس بعارضها فاعلا مختارا.

وما المانع منه على ما سبق تحقيقه (١)؟

وإن سلمنا أن ذلك لا يكون إلا سبب المادة ولكن ما المانع من ذلك؟

قولهم : لأنه لا مادة قبل وجود الأبدان [إنما يصح أن لو تصور خلو النفس عن البدن] (٢) ، وما المانع على أصولهم أن تكون النفس قديمة ، والأبدان لم تزل تتناسخها من الأزل / إلى الأبد ، وما يذكرونه فى إبطال التناسخ على أصولهم فسيأتى إبطاله (٣).

/ / وإن سلمنا امتناع التناسخ ، وأن الأبدان حادثة لها أول ؛ ولكن يلزم على ما ذكروه امتناع التعدد فى أشخاص العنصر الواحد ؛ وهو محال مخالف للحسّ ، والعيان.

وبيان اللزوم أن يقال : لو تعددت أشخاص العنصر الواحد ؛ فلا بد من تمايزها.

وما به التمايز : إما أن يكون لازما لذات العنصر ، أو لعارض خارج ، الأول محال ؛ لما ذكروه (٤).

والثانى يلزم منه أن يكون ذلك بسبب المادة ، والمادة إما مادة العنصر أو غيرها ، الأول محال ؛ ضرورة اتحاد نوعها ، والثانى يلزم منه أن تكون المادة مادة ؛ وهو تسلسل محال.

وأما الحجة الثانية (٥) : فمبنية على القول بأن الطبيعة لها فعل ، وهو ممتنع على ما سبق (٦) ، وبتقدير التسليم لذلك جدلا ، فلا نسلم أنه لا شيء من فعل الطبيعة معطلا.

وإن سلمنا أنه لا شيء من فعل الطبيعة معطلا ؛ ولكن دائما ، أو فى بعض الأوقات ، الأول ممنوع ، والثانى مسلم.

__________________

(١) راجع ما مر ل ٢١٨ / أوما بعدها.

(٢) ساقط من (أ).

(٣) انظر ما سيأتى ل ٢١٤ / ب.

/ / أول ل ١١٩ / أ.

(٤) راجع ما مر ل ٢٠٤ / ب وما بعدها.

(٥) الرد على الشبهة الثانية لأرسطو ومتابعيه. (راجع ل ٢٠٤ / ب الحجة الثانية).

(٦) راجع ما مر فى الجزء الأول ل ٢٢٠ / ب وما بعدها فى الرد على الطبيعيين.

وعلى هذا تفعل الطبيعة للنفس قبل وجود البدن ، وإن كان معطلا ؛ فلا يكون معطلا بتقدير المقارنة للبدن ،

وإن سلمنا امتناع تعطيل فعل الطبيعة دائما ؛ ولكن إنما يلزم ذلك أن لو خلت النفس عن البدن ، وذلك مبنى على امتناع التناسخ على أصولهم ؛ وسيأتى إبطاله.

ثم يلزم على من قال منهم ببقاء أنفس الأطفال بعد المفارقة أن لا يبقى ؛ لأنها تكون معطلة عن الإدراك والتحريك الجسمانى كما ذكروه.

وأما الحجة الثالثة : فباطلة أيضا (١) ؛ إذ ليس يمتنع أن يقال إن ما وجدنا النفس عليه من الحال عند ابتداء وجود البدن هو حالها ، وكمالها فى العدم قبل حدوث البدن ، وما يتجدد لها من الأحوال ، والانتقالات وأنواع التغيرات : فإنما هو لها بسبب البدن.

وأما التفريع الثانى : فى وحدة النفس الإنسانية وتكثرها.

فنقول ـ [أما] (٢) حجة من قال بوحدتها : فمبنية على القول بقدمها ، وامتناع تكثرها قبل وجود الأبدان ، وقد أبطلناه (٣).

وأما القول بتكثرها وإن كان هو الحق : غير أن بناء ذلك على ما قيل من الحجة وهو فاسد بما أسلفناه (٤) من جواز أن يكون ما اختص به كل واحد من أشخاص الناس من العلم ، والجهل ، وغيره مما قيل مشروطا باتصال تلك النفس المتحدة ببدنه.

وعلى هذا : فقد بطل التفريع على ذلك بأنها متكثرة بالنوع والشخص ، وبتقدير التسليم لأصل التكثر ؛ فلا بد من تتبع حجج المذهبين.

أما الحجة على القول بتكثرها بالنوع ففاسدة ؛ / فإنه لا مانع من أن يكون اختلاف النفوس فيما فرض من الأحوال المذكورة لتخصيصها بها مستندا ذلك إلى فعل فاعل مختار كما سبق تحقيقه (٥).

وبتقدير أن لا يكون المخصص لها بذلك فاعلا مختارا ، فلا مانع أن يكون ذلك ، بسبب اختلاف أمزجة أبدانها ، لا لاختلافها فى جوهرها.

__________________

(١) الرد على الشبهة الثالثة لأرسطو ومتابعيه. (راجع ل ٢٠٤ / ب الحجة الثالثة).

(٢) ساقط من (أ).

(٣) راجع ما مر فى ل ٢١١ / أ.

(٤) راجع ما مر فى ل ٢٠٥ / أ.

(٥) راجع ما مر فى الجزء الأول ل ٢١١ / ب وما بعدها.

وليس ذلك إلا كما قيل من نسبة اختلاف أحوال النار فى لهبها فى الكمية والكيفية وطول الزمان ، وقصره إلى المواد التى فيها الاشتعال من الحطب ، والقصب واللطيف والكثيف مع اتحاد جوهر النار وصورتها النوعية ، وكذلك اختلاف الألوان الحادثة بسبب مطرح شعاع الشمس على ما قبلها من الزجاجات المختلفة الألوان ، بسبب اختلاف الزجاجات المقابلة ، وإن كان الشعاع المتصل بها واحدا فى نوعه.

وهذه الأحوال وإن كان منها ما قد يعرض للبدن بآليته للنفس ، وبسبب عوارض النفس كما قيل ، إلا أنها غير مستعينة فى عروض ذلك العارض لها عن البدن ومزاجه ويكون البدن معينا فى عروض ذلك العارض لها ، أولا بالفعل ، ويكون على حسب مزاج ذلك البدن ، وحاله ، حتى أنه لو كان على مزاج غير ذلك المزاج ، لم يعرض لها إلا ما عرض ، وتكون هى بعد ذلك متعينة ، وسببا لعروض ما يعرض للبدن ثانيا.

كيف لا يكون كذلك ، واختلاف ما قيل من أحوال الأنفس للأشخاص المتعددة لا يزيد على اختلاف حال النفس الواحدة لبدن واحد ، حتى أنها تكون تارة عالمة ، وتارة جاهلة ، وتارة قوية ، وتارة ضعيفة إلى غير ذلك من الاختلافات الكائنة من الأنفس المتعددة ، فلو كان ذلك يدل / / على اختلاف الأنفس فى جوهريتها ، ونوعيتها عند تعددها بتعدد الأشخاص ؛ لدل على اختلافها بالجوهرية مع اتحاد الشخص ؛ وللزم من ذلك إما اجتماع نفسين فى بدن واحد ؛ وهو محال على ما تقدم (١).

أو أن يكون ما كان العارض الأول لها قد فسدت ، ولم يقولوا بذلك. وإذا لم يلزم من اختلاف هذه الأحوال اختلاف جوهرية النفس مع اتحاد الشخص ، لم يلزم مع تعدد الاشخاص.

وعلى هذا : إذا كانت على خلق عند كون بدنها على مزاج مخصوص ، ثم انتقل عنه إلى مزاج آخر يضاد الأول : كالانتقال من الصحة إلى المرض ، والحرارة إلى البرودة ، والرطوبة إلى اليبوسة ، وبالعكس ، فقد لا يبقى خلق النفس على حالة واحدة ، بل ينتقل إلى خلق / آخر مضاد للأول ، وهذا كما نشاهده من تبدل الخلق السيئ بالحسن ، والبخل بالكرم ، والعلم بالجهل ، وبالعكس فى الكل عند اختلاف أمزجة الأبدان ، وانتقالها من

__________________

/ / أول ل ١١٩ / ب.

(١) راجع ما مر ل ٢٠٥ / أ.

المرض إلى الصحة ، وبالعكس إلا أنه ربما لا يؤثر على أى انتقال قدر ، وأى اختلاف اتفق ، حتى يكون اختلاف خلق النفس تابعا لاختلاف مزاج البدن مهما كان ووقع ؛ بل يكون ذلك متوقعا على حد محدود ، واختلاف معين فى المزاج البدنى عند الطبيعة على نحو ما قالوه فى كون الصور العنصرية ، وفسادها عند استحالة عوارض موادها ، وانتقالها من حالة إلى حالة ، نعم لا يبعد أن تكون الطبيعة قد اقتضت وضع البدن ، أو بعضه على مزاج مخصوص قابل للنفس من حيث هى نفس إنسانية ، أو غيرها ، ويكون اقتضى ذلك مع اقتضاء كون النفس ، أو قبله حتى لو فسد ، أو تغير عن ذلك الحد المحدود الّذي يتوقف عليه اتصال النفس بالبدن ؛ لفارقت النفس البدن ، وما مثل هذا المزاج لا يتصور أن يخالف فيه بدن بدنا من الأبدان الإنسانية.

وأما ما وراء ذلك من الامتزاجات التى تتوقف عليها العوارض النفسية الخارجة عن جوهرية النفس فمما لا يبعد تبدلها ، والقول بانتقالها من حال إلى حال ، ومن شأن إلى شأن.

وعلى هذا فما احتجوا به من أقوال أسلافهم من أن الأنواع المختلفة ذوات النفوس إنما اختلفت أمزجتها ، وأشكالها ؛ لاختلاف طبائعها فى أنفسها ؛ فقول غير موثوق به ، ولا هو حجة فى نفسه.

وبتقدير أن يكون حجة ؛ فيجب حمله على الأمزجة التى بها قبول البدن للنفس من حيث هى نفس مخصوصة ، إما نفس إنسان ، أو فرس لا على غيرها من الأمزجة.

وأما قول أرسطو فى الحرية فليس بحجة.

وإن كان حجة ؛ فلا يمتنع أن يكون المراد من قوله الحرية ملكة نفسانية ، ومن قوله إن الحرية طباع أول جوهرى ـ أن ذلك من توابع النفس مشروطا بمزاج البدن ؛ وذلك لا يلزم منه عموم الحرية لكل إنسان ، وإن اتحدت طبيعة أنفسهم.

وأما الحجة على القول باتحاد نوع الأنفس الإنسانية ، فمبنية على اشتراك الأنفس فى أصل القوة العملية والنظرية ، وإنما يلزم ؛ أن لو كان اشتراكها فى هذه القوى لذاتها.

وما المانع أن يكون ذلك لها من فاعل مختار؟

وبتقدير أن تكون تلك القوى من لوازم ذاتها ؛ فلا مانع من اشتراك المختلفات فى لازم عام لها.

وأما حجج التفريع الثالث : وهو أن النفس هل تفوت بفوات البدن أم لا؟ فمدخولة.

أما الحجة الأولى : على امتناع / بقائها : فمبنية على امتناع وجود النفس قبل وجود بدنها ، وقد سبق إبطال حججهم على ذلك (١) ، وبتقدير امتناع سبق النفس على البدن فى الوجود ، فالقول بامتناع وجودها بعد مفارقتها لبدنها ؛ لامتناع وجودها [قبله تمثيل من غير دليل وما هو المساعد فى امتناع وجودها] (٢) قبل وجود البدن غير متحقق بعد المفارقة وذلك لأن امتناع وجودها قبل البدن إنما كان عندهم ؛ لاستحالة وجودها متحدة ومتكثرة على ما قرروه (٣) ؛ وهو غير مساعد بعد المفارقة إذ أمكن القول بتكثرها ، بسبب نسبتها إلى ما كان لها من أبدانها ؛ وذلك غير متحقق قبل وجود الأبدان ؛ فافترقا.

/ / وأما الحجة الثانية : فمبنية على أن النفس من فعل الطبيعة ، وأن وجود النفس قبل البدن يكون معطلا ، وقد سبق إبطاله (٤).

وأما حجة القول بالتفصيل ؛ وهو القول ببقاء الأنفس الكاملة دون غيرها ؛ ففاسدة أيضا.

قولهم : لأن أفعال النفس منها ما يكون بالبدن والآلة ، ومنها ما يكون للنفس لذاتها ؛ فهو باطل.

أما القسم الأول ؛ فلأنه مبنى على أن النفس فى بعض أفعالها تفتقر إلى آلة وبنية مخصوصة ، وأما الثانى فمبنى على أن النفس قد تعقل بذاتها ، وقد أبطلناهما ، وبينا أن كل الأفعال للأنفس وغيرها ليس إلا عن فاعل قديم مختار كما سبق (٥).

وبتقدير التسليم لما ذكروه من القسمين ، غير أنه يمتنع القول بوجوب عدم النفس إذا لم يكن قد تكملت بالعلوم ولا بقيت فاعلة بالآلة ؛ إذ هو مبنى على امتناع وجود النفس معطلة عن الأفعال ، وقد أبطلناه فيما تقدم.

وأما حجج القول بوجوب بقاء النفس بعد المفارقة مطلقا ، فمدخولة أيضا.

__________________

(١) انظر ما مر ل ٢٠٤ / أ.

(٢) ساقط من أ.

(٣) قارن بما ورد فى غاية المرام للآمدى ص ٢٧٣.

/ / أول ل ١٢٠ / أ.

(٤) قارن بما ورد فى غاية المرام ص ٢٤٣.

(٥) راجع ما مر ل ٢١٠ / أ.

أما الحجة الأولى القائلة بأن ما انعدم بعد وجوده إما أن يكون انعدامه لعدم علته ، الفاعلة له ؛ أو لوجود مضاد يعدمه ـ فباطلة.

أما أولا : فلا نسلم الحصر ، وما المانع أن يكون انعدامه فى الحال الثانى من وجوده لذاته كما تقرر فى الأعراض؟ ، وبتقدير تسليم امتناع عدم ما وجد لذاته ، فما المانع أن يكون انعدامه لفاعل مختار أعدمه ، أو لفوات شرط بقائه ، وانقطاع وجود ما لا بد لوجوده منه بأن لا يخلقه الله ـ تعالى ـ كما سبق فى الفناء (١).

وإن سلمنا الحصر فى القسمين ، ولكن ما المانع من عدم النفس على أصولهم لعدم علتها؟

قولهم : لأن علتها العقل الفعال ، وهو غير قابل للفساد.

قلنا : لا نسلم وجود العقل الفعال فضلا عن كونه علة كما سبق تحقيقه.

وإن سلمنا وجوده ؛ فلا نسلم أنه العلة للنفوس الإنسانية.

وإن سلمنا أنه / علة النفوس الإنسانية ؛ فلا نسلم أنه غير قابل للفساد ، بل النزاع فيه كالنزاع فى النفس.

وإن سلمنا امتناع انعدامها لانعدام علتها ؛ فما المانع أن يكون ذلك بسبب وجود مضاد لها؟

وأما قولهم : لأن ذلك إنما يتصور مع قيام الضدين (٢) بموضوع واحد ، أو محل واحد لا نسلم ذلك وما المانع أن يكون ضدا لها ، بمعنى أنه يمتنع وجودها مع وجوده وإن لم يجتمعا فى موضوع ولا محل ، وهو أعم من كونه ضدا مانعا فى المحل.

وإن سلمنا أن ذلك لا يكون إلا كما ذكروه ، ولكن لا نسلم أن النفس ليست موجودة فى موضوع ، وإنما لا يكون فى موضوع أن لو كانت جوهرا ، ودليله غير يقينى.

وإن سلمنا امتناع وجودها فى موضوع ؛ فلا نسلم امتناع وجودها فى محل. وما المانع من قيامها بالمحل على نحو قيام الصور الجوهرية بموادها؟ وما ذكروه فى إحالة ذلك فقد أبطلناه.

__________________

(١) انظر ما مر فى الأصل الخامس : فى فناء الجواهر والأعراض ل ١٠٣ / أو ما بعدها.

(٢) الضدان : صفتان وجوديتان تتعاقبان فى موضع واحد ، يستحيل اجتماعهما : كالسواد ، والبياض. والفرق بين الضدين ، والنقيضين : أن النقيضين لا يجتمعان ، ولا يرتفعان : كالعدم ، والوجود. والضدين : لا يجتمعان ، ولكن يرتفعان : كالسواد ، والبياض ، [التعريفات للجرجانى ص ١٥٥].

وأما الحجة الثانية القائلة بأنه لو لزم فوات النفس من فوات بدنها ؛ لكانت متعلقة به تعلق المتقدم ، أو المتأخر ، أو المكان ؛ فباطلة أيضا (١).

فإنه ما المانع أن يكون انعدامها عند انعدام البدن ، ومفارقتها له بإعدام فاعل مختار لهما ؛ لا لما بينهما من التعلق؟

وإن سلمنا الحصر فيما ذكر من الأقسام ؛ فما المانع أن تكون النفس متقدمة؟

قولهم : لأنه يلزم أن تكون متقدمة بالذات.

لا نسلم ؛ وما المانع من تقدمها عليه بغير هذه الجهة؟

قولهم : لأن غير هذا النوع من التقدم ، لا يوجب الفوات من الفوات ، لا نسلم ، فإن التقدم بالطبع غير التقدم بالذات كما سبق تحقيقه (٢) كما فى تقدم الواحد على الاثنين ، ومع ذلك فإنه يلزم من فوات الواحد ، فوات الاثنين.

قولهم : لو كان كذلك للزم فوات البدن من فوات النفس ، لا فوات النفس من فوات البدن ؛ إذ المعلول لا يوجب فواته فوات علته.

[قلنا : المعلول] (٣) من حيث هو معلول ، وإن لم يوجب فواته فوات علته ، فلم قلتم إنه لا يوجب فوات علته من جهة أخرى؟ ولا سبيل إلى نفى ذلك.

وإن سلمنا امتناع كونها متقدمة على البدن ، فما المانع من تقدم / / البدن عليها؟

قولهم : يلزم من ذلك أن يكون البدن علة للنفس. ممنوع.

وما المانع من تقديمه عليها بالذات ؛ لكونه شرطا فى وجودها لا علة؟

وإن سلمنا أنه لا بد وأن يكون علة لها ، فما المانع من ذلك؟

قولهم : إما أن تكون علة فاعلية ، أو مادية ، أو صورية ، أو غائية ؛ مسلم ؛ ولكن ما المانع أن تكون علة فاعلية؟

قولهم : يلزم / منه استفادة الأشرف من الأخس.

__________________

(١) قارن بما ذكره فى غاية المرام ص ٢٧٥.

(٢) راجع ما مر فى الأصل الثالث ـ الفصل الثامن : فى معنى المتقدم والمتأخر ومعا ل ٨١ / أوما بعدها.

(٣) ساقط من (أ).

/ / أول ل ١٢٠ / ب.

فهو مبنى على أن النفس جوهر بسيط عقلى ، كما هو مذهبهم ؛ وهو غير مسلم كما سبق إبطاله (١).

وعند ذلك فإما أن يكون جسما ، أو جوهرا فردا ، أو عرضا.

فإن كان الأول : فلا نسلم التفاوت بين الأجسام فى الشرف ، والخسة ؛ إذ هى متجانسة على ما عرف من أصلنا ، وإن كانت جوهرا فردا فالبدن أيضا [مؤلف] (٢) من جواهر فردة ، وإنما يلزم التفاوت فى البدن أن لو لم تكن الجواهر متجانسة ؛ وهو غير مسلم.

وإن سلمنا امتناع كونه فاعلا لها ؛ فما المانع أن يكون قابلا؟ [وما ذكروه فى إبطاله فقد عرف ما فيه.

وإن سلمنا امتناع التقدم والتأخر فما المانع من التكافؤ] (٣).

وما ذكروه فى تقرير امتناعه ، فإنما يلزم أن لو كان كل متكافئين متضايفين بحيث يتوقف تعقل كل منهما على تعقل الآخر ، وليس كذلك ، بل التكافؤ أعم من ذلك ، وذلك بأن يكون كل واحد من الأمرين بحيث يلزم من وجوده ، وجود الآخر ومن عدمه عدمه ، فى نفس الأمر لا فى التعقل.

وأما الحجة الثالثة : القائلة بأن النفس لو كانت قابلة للفساد ؛ لكان فيها قوة قابلة للفساد ؛ فأظهر فى الفساد (٤).

وذلك أنهم [إن] (٥) أرادوا بقوة قبول البقاء ، وقوة قبول الفساد ، إمكان بقائها وفسادها ؛ فمسلم. وقد بينا أن الإمكان صفة عدمية لا وجودية. وعلى هذا ؛ فلا يلزم التركيب فى النفس كما ذكروه.

وإن أرادوا بالقوة غير ذلك ؛ فهو غير مسلم ، ولا دليل عليه.

وإن سلمنا أن قوة قبول البقاء والفساد ، أمر وراء الإمكان ، فإنما يلزم التركيب فى النفس أن لو كانت هذه القوى داخلة فى حقيقة النفس ، وهو غير مسلم.

وما المانع أن تكون من الصفات العرضية للنفس مع بساطتها ، والنفس قابلة لها؟

__________________

(١) راجع ما مر ل ٢١٠ / أ.

(٢) ساقط من أ.

(٣) ساقط من أ.

(٤) قارن بما ذكره فى غاية المرام ص ٢٧٥.

(٥) ساقط من (أ).

ولا تكون هذه القوى من قبل الصورة المقومة للنفس ، ثم يلزم على ما ذكروه ؛ امتناع قبول الصور الجوهرية العنصرية للفساد ؛ ضرورة بساطتها ، وعدم التركيب فيها ، ولم يقولوا به (١) وكل ما هو جواب لهم فى الصور العنصرية ؛ فهو جواب فى النفوس الإنسانية.

وإن سلمنا أن ذلك يفضى إلى التركيب فى النفس ، ولكن لا نسلم امتناعه ، وما ذكروه فى تقرير امتناعه ؛ فقد أبطلناه ، فيما تقدم (٢).

وأما التفريع الرابع : المتعلق بالتناسخ :

أما حجة القائلين بوجوب التناسخ : فمبنية على أن النفس باقية بعد فوات البدن ، وقد بينا إبطال أدلتهم على ذلك (٣).

وبتقدير بقائها بعد مفارقة بدنها ؛ فلا نسلم امتناع قيامها بنفسها مجردة عن الأبدان ، وما ذكروه من دليل امتناع وجود النفس قبل وجود بدنها ؛ فقد سبق (٤) إبطاله.

وإن سلمنا امتناع / وجودها سابقة على وجود بدنها ؛ ولكن لا نسلم مساعدة دليل ذلك بعد مفارقة البدن على ما سبق تحقيقه (٥) ، ثم لو وجب التناسخ ؛ امتنع بقاء النفس دون بدن تتصل به ؛ فلا يخلوا : إما أن يكون كل بدن اتصلت به قد اتصلت قبله ببدن آخر إلى غير النهاية ، أو يقف الأمر على بدن لم تتصل قبله ببدن آخر.

فإن كان الأول : لزم منه وجود أبدان كائنة متعاقبة غير متناهية ؛ وهو محال كما سبق فى إثبات واجب الوجود (٦).

وإن كان الثانى : فذلك البدن لا يخرج عن أن يكون نفيسا ، أو خسيسا. وأى الأمرين قدر ؛ فهى لم تستحقه ؛ بناء على فعل لها سابق عليه ؛ وهو خلاف أصل هذا القائل.

وأما حجج القائلين بامتناع التناسخ : فضعيفة أيضا.

__________________

(١) قارن بما فى غاية المرام ص ٢٧٥.

(٢) راجع ما مر ل ٢٠٥ / أ.

(٣) انظر ما مر ل ٢١٣ / ب.

(٤) راجع ما مر ل ٢١١ / أوما بعدها.

(٥) راجع ما مر ل ٢١١ / ب.

(٦) راجع ما مر فى الجزء الأول ـ القاعدة الرابعة ـ الباب الأول ـ القسم الأول ـ النوع الأول ـ المسألة الأولى : فى إثبات واجب الوجود لذاته ل ٤١ / أوما بعدها.

أما الحجة الأولى : فهى مبنية على أن كل بدن ، فإنه يستحق لذاته نفسا تدبره وهو غير مسلم ، وما المانع أن يكون وجود النفس للبدن بفعل فاعل مختار ، لا أنه يكون مستحقا لها لذاته ؛ لما بيناه من إبطال الاقتضاء الطبيعى ، ووجوب إسناد جميع الكائنات إلى الله (١) ـ تعالى ـ؟

وإن سلمنا جدلا أن كل / / بدن فانه يستحق لذاته نفسا تدبره ؛ ولكن ما المانع أن تكون هى ما انتقلت إليه من البدن الآخر؟

وعلى هذا : فلا يفضى إلى اجتماع نفسين فى بدن واحد كما ذكروه.

أما الحجة الثانية : فإنما يلزم أن لو لم يكن اتصالها بالبدن الأول شرطا فى تذكر تلك الأحوال الموجودة معه [وبا عانته] (٢) ولعله شرط وقد انتفى ، ويمتنع وجود المشروط مع انتفاء شرطه.

فإن قيل : فما ذكرتموه وإن دل على إبطال مآخذ الفريقين ؛ فما مذهبكم فى التناسخ؟

قلنا : إما أن تكون النفس فى نفس الأمر عرضا ، أو جوهرا.

فإن كانت عرضا فلا يمتنع إعادتها عقلا فى بدنها ، أو غيره.

وإن كانت جوهرا ، فلا يمتنع عقلا أن ينقله الله ـ تعالى إلى جسم آخر ، أو يعدمه ، ويعيده فى غير ذلك البدن الأول ؛ وقد ورد السمع بذلك حيث قال عليه‌السلام «إن أرواح المؤمنين فى حواصل طيور خضر فى الجنة» (٣) وروى عنه أيضا أنه قال «أرواح المؤمنين فى قناديل معلقة تحت العرش» (٤).

غير أن الأمة من المسلمين متفقة على امتناع التناسخ ؛ فوجب اتباعه.

__________________

(١) راجع ما مر فى الجزء الأول ـ القاعدة الرابعة ـ الباب الأول ـ القسم الأول ـ النوع السادس ـ الأصل الثانى ـ فى أنه لا خالق إلا الله تعالى ـ ولا مؤثر فى حدوث الحوادث سواه. الفرع الثالث : فى الرد على الطبيعيين ل ٢٢٠ / ب.

/ / أول ل ١٢١ / أ.

(٢) ساقط من (أ).

(٣) رواه مسلم فى كتاب الإمارة : بلفظ : أرواح الشهداء ، ورواه أحمد : نسمة المؤمن فى طائر تعلق فى شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم القيامة. راجع التذكرة للقرطبى ١٧٥ ـ ١٨٥.

(٤) رواه أحمد عن ابن عباس رضى الله عنهما ـ وراجع معارج القدس للغزالى ص ٩٥.

وأما ما ذكره الفلاسفة الإلهيون من أحوال النفس ، ونعيمها ، وعذابها بعد مفارقة البدن على ما وصفوه (١).

فلقائل أن يقول : وإن سلمنا وجود الأنفس الإنسانية على وفق ما يعتقدونه وأنها لا تفوت بفوات الأبدان ، وأن الأبدان لا يتناسخها / مع ما فى كل واحد من الأشكال على أصولهم كما تقدم (٢) ، غير أن القول بسعادة النفس وشقاوتها بعد مفارقة بدنها على ما ذكروه فمتوقف على كون النفس عالمة بمعنى انطباع صور المعقولات فيها ؛ وهو غير مسلم على ما سبق.

وإن سلمنا أن العلم عبارة عن انطباع صورة المعلوم فى النفس ؛ ولكن ما ذكروه إنما يستقيم أن لو أمكن انطباع صور المعقولات فيها بعد المفارقة.

وما المانع أن يكون اتصالها بالبدن شرطا فى دوام الانطباع وحصول العلم لها كما كان شرطا فى الابتداء ، أو أن تكون المفارقة مانعة من ذلك؟.

وقولهم : غير بعيد أن تتصل النفس بعد مفارقة بدنها ببعض الأجرام الفلكية يتخيل به صورا يلتذ بها ، أو يشقى ؛ فهو اعتراف بعين التناسخ الّذي أبطلوه ، ولم يقولوا به.

كيف وأن ما يتخيل بالقوى الجسمانية عندهم غير خارج عن الأمور الجزئية ، والنفس الناطقة غير مدركة للأمور الجزئية عندهم.

هذا ما يتعلق بالمعاد النفسانى (٣).

__________________

(١) راجع ما مر ل ٢٠٧ / أوما بعدها.

(٢) انظر ما مر ل ٢٠٧ / أ.

(٣) لمزيد من البحث والدراسة انظر ما ذكره ابن سينا فى النجاة ١٨٩ وقارن بما ذكره عبد الجبار فى المغنى ١٣ / ٤٠٥ ـ ٤٣٠ وأصول الدين للبغدادى ص ٢٣٥ وما بعدها وغاية المرام للآمدى ص ٢٧٨.

الأصل الثانى : فى السمعيات.

ويشتمل على أربعة فصول :

الفصل الأول : فى الدليل السمعى وأقسامه وأنه هل يفيد اليقين أم لا؟

الفصل الثانى : فى خلق الجنة والنار.

الفصل الثالث : فى عذاب القبر ، ومساءلة منكر ونكير.

الفصل الرابع : فى الصراط ، والميزان ، والحساب ، وقراءة الكتب ، والحوض المورود ، وشهادة الأعضاء.

الفصل الأول

فى الدليل السمعى ، وأقسامه ، وأنه هل يفيد اليقين ، أم لا؟

وقد كنا بينا فى مبدأ الكتاب انقسام الدليل : إلى عقلى ، وسمعى. وبينا الدليل العقلى ، وأقسامه (١).

وهذا أوان بيان الدليل السمعى ، وأقسامه.

والدليل السمعى فى العرف هو الدليل اللفظى المسموع.

وفى عرف الفقهاء : الدليل السمعى ، هو الدليل الشرعى.

وهو عندهم منقسم إلى : الكتاب (٢) ، والسنة (٣) ، وإجماع (٤) الأمة والقياس (٥) والاستدلال (٦).

وذلك لأن الدليل الشرعى : إما أن يكون وروده وظهوره ، من جهة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أو من جهة غيره.

فإن كان الأول : فإما أن يكون من قبيل المتلو ، أو غيره.

فإن كان من قبيل المتلو : فهو الكتاب.

__________________

(١) انظر ما سبق فى القاعدة الثالثة : فى الطرق الموصلة إلى المطلوبات النظرية ـ الباب الثانى : فى الدليل ـ الفصل الأول : فى حد الدليل وانقسامه إلى : عقلى ، وغير عقلى. (ل ٣٢ / ب وما بعدها). ولمزيد من البحث والدراسة:

انظر الإحكام للآمدى ١ / ٨ ، منتهى السئول ١ / ٤ له أيضا. وشرح الطوالع ص ٢٥ ، ٢٦ ، وشرح المواقف ١ / ١٥٣ ، وشرح المقاصد ١ / ٣٩.

(٢) الكتاب : هو القرآن المنزل. [انظر الإحكام فى أصول الأحكام للآمدى ١ / ١٣٧].

(٣) السّنة : «وهى فى اللغة عبارة عن الطريقة». «وأما فى الشرع : فقد تطلق على ما كان من العبادات نافلة منقولة عن النبي ـ عليه‌السلام ـ. وقد تطلق على ما صدر عن الرسول من الأدلة الشرعية مما ليس بمتلو ، ولا هو معجز ، ولا داخل فى المعجز. وهذا النوع هو المقصود بالبيان هاهنا. ويدخل فى ذلك أقوال النبي ـ عليه‌السلام ـ وأفعاله وتقاريره» [أنظر الإحكام للآمدى ١ / ١٤٥].

(٤) الإجماع : «عبارة عن اتفاق جملة أهل الحل والعقد من أمة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فى عصر من الأعصار على حكم واقعة من الوقائع» [المصدر السابق ١ / ١٦٨].

(٥) القياس : قال الآمدي : «والمختار فى حد القياس أن يقال : إنه عبارة عن الاستواء بين الفرع والأصل فى العلة المستنبطة من حكم الأصل». [المصدر السابق ٣ / ١٧٠ ، ١٧١].

(٦) الاستدلال : قال الآمدي : «أما معناه فى اللغة : فهو استفعال من طلب الدليل والطريق المرشد إلى المطلوب».

وأما فى اصطلاح الفقهاء : «فإنه يطلق تارة بمعنى ذكر الدليل ، وسواء كان الدليل نصا أو اجماعا ، أو قياسا أو غيره. ويطلق تارة على نوع خاص من أنواع الأدلة وهذا هو المطلوب بيانه. وهو عبارة عن دليل لا يكون نصا ولا إجماعا ولا قياسا.» [المصدر السابق ٤ / ٣٦١].

وإن كان من قبيل غير المتلوّ : فهو السّنة. ويدخل فيه أقوال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وأفعاله وأقاريره.

وإن كان الثانى : فإما أن يشترط فيه عصمة من صدر عنه ، أو لا يشترط.

فإن كان الأول : فهو الإجماع.

وإن كان الثانى : فإما أن تكون صورته ونظمه يحمل على معلوم مجمع عليه من / الأمة ، أو منصوص عليه من الشارع ، أو لا يكون كذلك.

فإن كان الأول : فهو القياس.

وإن كان الثانى : فهو الاستدلال. وقد عرفنا حقيقة كل واحد فى غير هذا من كتبنا (١).

/ / وأما فى عرف المتكلمين : فإنهم إذا أطلقوا الدليل السمعى : فلا يريدون به غير الكتاب ، والسنة ، وإجماع الأمة (٢).

ولا بد من النظر فى متنه وسنده ، أما النظر فى متنه : أى فى دلالته (٣) : فهو ينقسم إلى ما يدل بمنظومه : أى بصريح دلالته اللفظية. وإلى ما يدل لا بجهة المنظوم.

فإن كان الأول : فلا يخلو إما أن يتحد مدلوله بحيث لا يحتمل اللفظ غيره. أو لا يتحد ، بل هو متكثر.

فإن كان الأول : فهو الدلالة النصية القاطعة من جهة اللفظ : وذلك كدلالة لفظ العشرة على معناها مع الاقتصار عليه ، فإنه لا يحتمل لغة عند الاقتصار عليه أن يحمل على ما هو أزيد ، أو أنقص من ذلك.

__________________

(١) راجع الإحكام فى أصول الأحكام للآمدى (أربعة أجزاء) طبع دار الكتب العلمية بيروت ـ لبنان. ومنتهى السئول فى علم الأصول (مختصر الإحكام) طبع محمد على صبيح بمصر.

/ / أول ل ١٢١ / ب.

(٢) ذكر الآمدي فى الجزء الثانى من كتابه الإحكام فى أصول الأحكام : الأصل الرابع : فيما يشترك فيه الكتاب والسنة والإجماع : وهو نوعان : يتعلق أحدهما بالنظر فى السند ، والآخر بالنظر فى المتن.

النوع الأول : النظر فى السند. وهو الأخبار عن المتن. ويشتمل على ثلاثة أبواب.

الباب الأول : النظر فى السند. وهو الأخبار عن المتن. ويشتمل على ثلاثة أبواب.

الباب الأول فى حقيقة الخبر وأقسامه. من ص ٢٤٧ ـ ٢٥٧.

الباب الثانى فى المتواتر. من ص ٢٥٨ ـ ٢٧٢.

الباب الثالث : فى أخبار الآحاد. من ص ٢٧٣ ـ ٣٥٥.

النوع الثانى : فيما يتعلق بالنظر فى المتن وفيه بابان :

أولهما : فيما يشترك فيه الكتاب والسنة والإجماع.

وثانيهما : فيما يشترك فيه الكتاب والسنة دون ما عداهما من الأدلة.

(٣) الدلالة : هى كون الشيء بحالة يلزم من العلم به العلم بشيء آخر. والشيء الأول : هو الدال والثانى : هو المدلول. [كتاب التعريفات للجرجانى ص ١١٦].

وهو إما مطلق كقولك : عشرة. وإما مقيد : كقولك هذه العشرة ، أو عشرة رجال.

وإن كان الثانى : فلا يخلوا : إما أن يكون حقيقة فى كل واحد من مدلولاته ، أو هو حقيقة فى البعض دون البعض.

فإن كان الأول : فإما أن تتحد جهة دلالته ، أو تختلف.

فإن اتحدت فهو العام. وهو سبعة أقسام :

الأول : ما كان من أدوات الشرط والجزاء كقوله عليه‌السلام «من أحيا أرضا ميته فهى له» (١)

الثانى : النكرة المنفية كقولهم : لا رجل فى الدار.

الثالث : أسماء الجموع المعرفة : كالرجال.

الرابع : اسم الجنس إذا دخله الألف واللام : كالرجل.

الخامس : الألفاظ المؤكدة مثل : كل ، وجميع ، وأجمعون.

السادس : من : فيمن يعقل كقوله ـ تعالى ـ : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (٢).

السابع : ما : فيما لا يعقل كقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) (٣) الآية

وإن كان الثانى : فهو المشترك : وذلك كدلالة : لفظ العين ، والقرء ، والجوف ، ونحوه.

وإن كان الثانى : فهو المجازى : وذلك كدلالة الأسد عن السبع ، وعلى الإنسان الشجاع ونحوه.

وإن كان الثانى : وهو الدال لا بجهة المنظوم [فلا يخلوا : إما أن تكون جهة دلالته مقصودة للمتكلم ، أو لا تكون مقصودة له.

__________________

(١) أخرجه أبو داود فى سننه ٣ / ١٧٨ (كتاب الخراج والإمارة والفيء ـ باب إحياء الموات).

(٢) سورة الرعد ١٣ / ١٥.

(٣) سورة الأنبياء ٢١ / ٩٨.

فإن كانت مقصودة له فلا يخلو] (١) : إما أن يكون ما فهم من دلالته فى محل النطق ، أو فى غيره.

فإن كان مفهوما منها فى محل النطق : فهو ينقسم إلى : ما يسمى دليل الاقتضاء ، وإلى ما يسمى دليل التنبيه والإيماء.

أما دليل الاقتضاء (٢) : فينقسم إلى ثلاثة أقسام :

الأول : ما يفهم من اللفظ ضرورة صدق المتكلم ، كفهم نفى الصحة ، أو الكمال من قوله عليه / السلام «لا صيام لمن يبيت الصيام من الليل (٣)».

الثانى : ما يفهم من اللفظ ضرورة وقوع الملفوظ به شرعا : كفهم حصول الملك لمن قال لغيره اعتق عبدك عنى على ألف قبيل العتق (٤).

الثالث : ما يفهم من اللفظ ضرورة وقوع الملفوظ به عقلا : كفهم الوطء من قوله ـ تعالى ـ : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) (٥).

وأما دليل التنبيه والإيماء (٦) : وذلك كفهم كون الوصف علة للحكم المرتّب عليه بفاء التعقيب كما فى فهم كون السرقة علة للقطع من قوله ـ تعالى ـ : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) (٧). أو من ذكره مع حكم لو لم يقدر التعليل به ؛ لكان ذكره عبثا : كفهم كون الطوف فى الهرة علة طهارتها من قوله عليه‌السلام : «إنها من الطوافين عليكم أو الطوافات» (٨). والأقسام كثيرة ذكرناها فى كتبنا المخصوصة بهذا الفن (٩).

وأما إن كان المفهوم من دلالة اللفظ فى غير محل النطق فلا يخلوا : إما أن يكون المفهوم منه فى غير محل النطق مماثلا للمفهوم منه فى محل النطق ، أو مخالفا له.

__________________

(١) ساقط من (أ).

(٢) دلالة الاقتضاء : ما كان المدلول فيه مضمرا : إما لضرورة صدق المتكلم وإما لصحة وقوع الملفوظ به (الإحكام فى أصول الأحكام للآمدى ٣ / ٦١).

(٣) رواه أبو داود عن حفصة أم المؤمنين ـ رضى الله عنها (كتاب الصيام ـ باب النية فى الصيام ٢ / ٣٢٩). وراجع الإحكام للآمدى ٣ / ٥٦ المسألة الرابعة.

(٤) قال الآمدي فى الإحكام ٣ / ٦ : «فإنه يستدعى تقدير سابقة انتقال الملك إليه ضرورة توقف العتق شرعا عليه».

(٥) سورة النساء ٤ / ٢٣.

(٦) دلالة التنبيه والإيماء : ما كان التعليل لازما من مدلول اللفظ وصفا لا أن يكون اللفظ دالا بوضعه على التعليل ، وهو ستة أقسام (الإحكام ٣ / ٢٢٤ وما بعدها).

(٧) سورة المائدة ٥ / ٣٨.

(٨) رواه ابن ماجة (١ / ١٣١) كتاب الطهارة ـ باب الوضوء بسؤر الهرة : والرخصة فى ذلك. وأخرجه الدارمى (١ / ١٥٣) كتاب الصلاة والطهارة ـ باب الهرة إذا ولغت فى الإناء.

(٩) انظر : الإحكام فى أصول الأحكام للآمدى ٣ / ٢٢٤ وما بعدها.

فإن كان مماثلا له : فيسمى مفهوم الموافقة وفحوى الخطاب (١) : وذلك كفهم تحريم شتم الوالدين ، والضرب العنيف من تحريم التأفيف لهما من قوله ـ تعالى ـ : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) (٢)

وإن كان المفهوم من اللفظ فى غير محل النطق مخالفا له فى محل النطق فيسمى مفهوم المخالفة ودليل الخطاب (٣). وهذا النوع على أقسام ثمانية متفاوته فى الرتبة.

الأول : الاستثناء من النفى ، والإثبات كقوله : لا عالم فى البلد إلا زيد.

الثانى : ما ورد بلفظ إنّما كقوله عليه‌السلام «إنما الولاء / / لمن أعتق» (٤).

الثالث : ذكر الاسم العام [مقترنا] (٥) بالصفة الخاصة كقوله ـ عليه‌السلام ـ «فى الغنم السائمة زكاة» (٦).

الرابع : ذكر الحكم مقترنا بشرط كقوله ـ تعالى ـ : (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَ) (٧) الآية.

الخامس : مد الحكم إلى غاية كقوله ـ تعالى ـ : (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ) (٨).

السادس : تخصيص الحكم بالوصف الطارئ كقوله عليه‌السلام «السائمة فيها الزكاة».

السابع : ذكر الاسم المشتق الدّال على الجنس كقوله عليه‌السلام «لا تبيعوا الطعام بالطّعام» (٩).

__________________

(١) مفهوم الموافقة : ما يكون مدلول اللفظ فى محل السكوت ، موافقا لمدلوله فى محل النطق. ويسمى أيضا : فحوى الخطاب ، ولحن الخطاب (الإحكام للآمدى ٣ / ٦٣ وما بعدها).

(٢) سورة الاسراء ١٧ / ٢٣.

(٣) مفهوم المخالفة : هو ما يكون مدلول اللفظ فى محل السكوت مخالفا لمدلوله فى محل النطق. ويسمى دليل الخطاب أيضا (الإحكام للآمدى ٣ / ٦٧ وما بعدها).

(٤) رواه مسلم (٢ / ١١٤١) كتاب العتق ـ باب إنما الولاء لمن أعتق.

/ / أول ل ١٢٢ / أ.

(٥) ساقط من أ.

(٦) رواه أبو داود (٢ / ٩٦) كتاب الزكاة ـ باب زكاة الغنم.

(٧) سورة الطلاق ٦٥ / ٦.

(٨) سورة التوبة ٩ / ٢٩.

(٩) رواه مسلم : كتاب البيوع ـ باب ما يذكر فى بيع الطعام.

الثامن : مفهوم اللّقب : وهو تخصيص المذكور باسمه ولقبه ، كما فى قوله عليه‌السلام «لا تبيعوا البر بالبر ، ولا الشّعير بالشّعير» إلى آخر الحديث (١).

وأما إن لم تكن جهة دلالة اللفظ مقصورة للمتكلم ؛ بل هى واقعة بطريق اللزوم ، والاستتباع فيسمى دليل الإشارة ، وذلك كفهم كون أكثر الحيض / وأقل الطهر خمسة عشر يوما من قوله عليه‌السلام «النساء ناقصات عقل ودين» (٢) حيث إنه فسر نقصان الدين بكون المرأة تمكث شطر دهرها لا تصلى. فإنه وإن كان المقصود إنما هو بيان نقصان الدين ، غير أن فهم كون أقل الطهر وأكثر الحيض خمسة عشر يوما وقع لازما من ذلك تابعا.

وأما السّند : فينقسم إلى مقطوع ، ومظنون.

أما المقطوع [فهو] (٣) : مما أفاد اليقين بمخبره : وذلك كخبر النبي الصادق ، أو الواحد إذا احتفت به القرائن ، أو التواتر.

وأما المظنون : فهو ما أفاد الظن ، ويسمى خبر الآحاد.

وهو منقسم إلى : مستفيض ، وغير مستفيض ، وأما أن الدليل السمعى هل يفيد اليقين أم لا؟ فقد اختلف فيه.

فذهبت الحشوية (٤) : إلى أنه يفيد اليقين حتى بالغوا وقالوا : لا يعلم شيء بغير الكتاب والسنة.

وذهب آخرون إلى أنه غير مفيد لليقين ؛ لأنه موقوف على أمور ظنية ، وما يتوقف على الأمر الظنى ؛ فظنى.

أما المقدمة الثانية فظاهرة ، وأما المقدمة الأولى فبيانها :

أن التمسك بالدليل السمعى موقوف على معرفة مفهوم اللفظ لغة ، وذلك غير معلوم قطعا ؛ بل غايته أنه معلوم بطريق الآحاد ، والآحاد ؛ فلا يفيد غير الظن.

__________________

(١) رواه البخارى ـ كتاب البيوع ـ باب ما يذكر فى بيع الطعام والحكرة فتح البارى ٤ / ٤٠٨ عن عمر رضي الله عنه.

(٢) رواه مسلم (١ / ٨٦) ـ كتاب الإيمان ـ بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات.

(٣) ساقط من (أ).

(٤) الحشوية : هم المشبهة ، والمجسمة ، وأهل الظاهر الذين لا يسلكون سبيل التأويل للمتشابه من القرآن (الملل والنحل للشهرستانى ١ / ١١٠) قيل إن الّذي سماهم بالحشوية الحسن البصرى عند ما قال عن جماعة من الرواة حضروا مجلسه يوما ، ولما تكلموا عنده قال : ردوا هؤلاء إلى حشا الحلقة فسموا بالحشوية.

وبتقدير معرفة أصل الوضع قطعا ، فيحتمل أن يكون اللفظ مشتركا ، وتعيين أحد محامله لا يكون مقطوعا به.

وبتقدير أن لا يكون مشتركا ؛ فيحتمل أن يكون مطلقا بإزاء معنيين ، هو فى أحدهما حقيقة وفى الآخر مجاز ، وحمله على جهة الحقيقة ، وإن كان هو الأصل ؛ لكنه ليس بقطعى ؛ بل ظنى ؛ لاحتمال إرادة جهة المجاز.

والحمل على جهة المجاز فغير قطعى ، وما يساعد عليه إما قرينة لفظية : والكلام فيها ، كالكلام فى الأولى ، وإما قرينة حالية ؛ وهى غير يقينية ؛ لاضطرابها وتعارض القرائن. وبتقدير أن لا يكون مجازا أصلا غير أن دلالة اللفظ على المعنى قد تختلف بالحذف ، والإضمار ، والتقديم ، والتأخير ، وكل ذلك فالطرق الموصلة إليه ظنية غير يقينية.

وبتقدير أن لا يتوقف على ذلك غير أنه متوقف على معرفة نقله من جهة الشارع وأكثر سنده الآحاد.

وبتقدير أن يكون منقولا عن الشارع تواترا ، إلا أنه يتوقف العمل به على نفى المعارض ، ولا سبيل إلى معرفة ذلك بغير البحث والسبر. مع عدم الاطلاع ؛ وهو غير يقينى كما سبق (١).

وبتقدير عدم المعارض فالعمل به يتوقف على عدم نسخ ما يدل عليه ؛ فطريقه أيضا ظنى.

والحق فى ذلك أن يقال : أما قول الحشوية (٢) : أنه لا طريق / إلى العلم واستدراك مطلوب من المطلوبات إلا بالكتاب والسنة. ففى غاية البطلان ؛ فإنا لو قدرنا عدم ورود السمع والأدلة السمعية ؛ لقد كنا نعلم وجود الرب ـ تعالى ـ وحدوث العالم وما يتعلق بأحكام الجواهر ، والأعراض ، وغير ذلك من المسائل العقلية ، وليس مدرك ذلك كله غير الأدلة العقلية.

__________________

(١) انظر ما سبق ل ٣٩ / ب وما بعدها الجزء الأول ـ القاعدة الثالثة ـ الباب الثانى : فى الدليل. الفصل السابع : فيما ظن أنه من الأدلة المفيدة لليقين وليس منها. الدليل الثالث : قياس التمثيل ـ السبر والتقسيم.

(٢) قارن بما أورده الآمدي فى الإحكام فى أصول الأحكام ٣ / ٦٣.

وأيضا فيقال لهم : فبما ذا عرفتم أن هذا كتاب الله وسنة رسوله؟.

فإن قالوا عرفناه به ؛ كان / / دورا. وإن قالوا عرفناه بغيره ؛ فهو المطلوب.

وأما ما قيل فى بيان أن الدليل السمعى ظنى ؛ فإنما يصح أن لو لم تقترن به قرائن مفيدة للقطع وإلا فبتقدير أن تقترن به قرائن مفيدة للقطع فلا. ولا يخفى أن ذلك ممكن فى كل نقلى غير ممتنع.

وإذا عرفت ذلك : فاعلم أن الدليل : إما أن يكون عقليا محضا : كأدلة حدوث العالم ووجود الصانع ونحوه ، وإما سمعيا محضا : كأدلة وجوب الصلاة ، والزكاة ، وغير ذلك.

وإما مركب من الأمرين : بأن تكون بعض مقدماته عقلية ، والبعض سمعية : وعلى هذا :

فالمطلوب منه ما لا يعرف بغير الدليل العقلى : كحدوث العالم ، ووجود الصانع قبل ورود السمع.

ومنه ما لا يعرف بغير الدليل السمعى : كالأحكام الشرعية : من وجوب الصلاة ، وتحريم الخمر ونحوه.

ومنه ما يمكن معرفته بكل واحد من الطريقين : كخلق الأفعال ، وروية الله ـ تعالى ـ على ما سبق تحقيقه (١).

__________________

/ / أول ل ١٢٢ / ب.

(١) راجع الجزء الأول ل ٣٢ / ب وما بعدها.

الفصل الثانى

فى خلق الجنة والنار (١)

[مذهب الأشاعرة ، وأكثر المتكلمين : أن الجنة ، والنار] (٢) اللتان هما دار الثواب والعقاب ، مخلوقتان فى وقتنا هذا. ووافقهم على ذلك من المعتزلة الجبائى ، وبشر بن المعتمر ، وأبو الحسين البصرى (٣). ثم اختلف هؤلاء :

فمنهم من قال : إنهما تفنيان. ومنهم من قال : بأنهما لا تفنيان.

وذهب عباد الصيمرى ، وضرار بن عمرو ، وأبو هاشم ، وعبد الجبار (٤) : إلى أنهما غير مخلوقتين فى وقتنا هذا ، غير أن عباد : زعم أنه يستحيل فى العقل ذلك قبل حلول المكلفين فيها.

وخالفه أبو هاشم فى ذلك : وزعم أن خلقهما فى وقتنا ، غير ممتنع عقلا ، وإنما هو ممتنع سمعا (٥) :

والمعتمد فى المسألة : الكتاب ، والسنة ، وإجماع الأمة.

أما الكتاب : فقوله ـ تعالى ـ : (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (٦) وقوله ـ تعالى ـ : (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) (٧) ووجه الاحتجاج من الآيتين : وصفه ـ تعالى للجنة ، والنار بالإعداد ،

__________________

(١) لمزيد من البحث والدراسة بالإضافة إلى ما أورده الآمدي هاهنا : راجع كتاب الإرشاد لإمام الحرمين الجوينى ص ٣٧٧ وما بعدها. وأصول الدين للبغدادى ص ٢٣٧ وما بعدها. وشرح المواقف للجرجانى ـ الموقف السادس تحقيق الدكتور أحمد المهدى ـ المقصد الرابع : ص ١٩٥ وما بعدها. وشرح المقاصد للتفتازانى ٢ / ١٦١ وما بعدها. وشرح العقيدة الطحاوية لابن أبى العز الحنفى ص ٤٨٤ وما بعدها.

(٢) ساقط من (أ).

(٣) لتوضيح مذهب الجبائى ومن وافقه : انظر شرح المواقف ـ الموقف السادس ص ١٩٥. وشرح المقاصد للتفتازانى ٢ / ١٦١.

(٤) قارن بما ورد فى شرح المواقف ـ الموقف الساد ص ١٩٥ حيث قال : «وأنكره أكثر المعتزلة كعباد الصيمرى ، وضرار بن عمرو ، وأبى هاشم وعبد الجبار. وقالوا : إنهما يخلقان يوم الجزاء».

(٥) قال شارح المواقف ص ١٩٦ من الموقف السادس : «وأما المنكرون فتمسك عباد فى استحالة كونهما مخلوقتين فى وقتنا هذا بدليل العقل. وأبو هاشم بدليل السمع ؛ إذ ليس عنده للعقل دلالة على ذلك». قال عباد : لو وجدنا : فاما فى عالم الأفلاك ، أو العناصر ، أو فى عالم آخر ، والثلاثة باطلة. واحتج أبو هاشم بوجهين : الأول :

قوله تعالى : ـ (أُكُلُها دائِمٌ) مع قوله (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) فلو كانت مخلوقة ؛ وجب هلاك أكلها. (شرح المواقف ٦ / ١٩٦ ، ١٩٧. بتصرف.

(٦) سورة آل عمران ٣ / ١٣٣.

(٧) سورة البقرة ٢ / ٢٤.

واعدادهما يدل / ظاهرا ، على وجودهما ؛ لاتفاق أهل اللغة على أن إعداد الشيء ، ينبئ عن وجوده ، وثبوته ، والفراغ منه.

[ولهذا لو قال القائل لغيره : لقد أعددت لك طعاما ؛ فإنه يتبادر إلى الفهم وجود الطعام ، والفراغ منه] (١).

وأيضا. ما ورد فى حق آدم وحواء من إسكانهما الجنة وإهباطهما منه بقوله ـ : (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) (٢) وقوله ـ تعالى ـ : (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً) (٣) وهذا يدل على كون الجنة مخلوقة.

وأيضا. قوله ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى ١٣ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى ١٤ عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) (٤) أخبر ـ تعالى ـ عن وجود جنة المأوى ، وعن موضعها ؛ فدل على كونها مخلوقة.

وأما السنة : فأخبار صحاح رواها مسلم فى صحيحه. منها ما يخص الجنة. ومنها ما يخص النار ، ومنها ما يعم الأمرين :

أما ما يخص الجنة : فمنها ما روى عنى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه قال : «سيحان ، وجيحان ، والفرات ، والنيل كل من أنهار الجنة» (٥) ، وذلك يدل عن وجودها.

وأيضا ما روى عنه ـ عليه‌السلام ـ أنه قال حكاية عن ربه «أعددت لعبادى الصّالحين : ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر» (٦).

والإعداد يدل على الوجود على ما سبق ؛ وذلك لا يكون إلا فى الجنة.

وأيضا ما روى عنه : عليه‌السلام ـ أنه قال «إنّ فى الجنّة شجرة يسير الرّاكب تحتها مائة عام» (٧) ولو لم تكن الجنة موجودة لما قال فيها ؛ بل سيكون : وقد أجمع المفسرون على أن المراد بلفظ الجنة فى هذه الأحاديث الجنة التى كان آدم فيها وأهبط منها ـ وأنّها هى دار الثّواب؟

__________________

(١) ساقط من (أ).

(٢) سورة البقرة ٢ / ٣٥.

(٣) سورة البقرة ٢ / ٣٨.

(٤) سورة النجم ٥٣ / ١٣ ، ١٤ ، ١٥.

(٥) رواه مسلم ـ كتاب الجنة ـ باب ما فى الدنيا من أنهار الجنة ٤٠ / ٢١٨٣.

(٦) رواه مسلم ـ كتاب الجنة ـ ٤ / ٢١٧٤ ، ٢١٧٥.

(٧) رواه مسلم ٤ / ٢١٧٥. كتاب الجنة.

وأما ما يخص النار فمنها : ما روى أبو هريرة أنه قال : كنّا مع رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إذ سمع وجبة فقال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «أتدرون ما هذا؟ / / قلنا : الله ورسوله أعلم. قال : هذا حجر رمى فى النار منذ سبعين خريفا ؛ فهو يهوى فى النار إلى حين انتهى إلى قعرها (١) ، وهذا من أدلّ الدّلائل على وجود النّار.

وأيضا قوله ـ عليه‌السلام ـ [«رأيت عمرو بن عامر (٢) الخزاعى فى النار (٣).

وأما ما يعم الجنة والنار] (٤) فقوله ـ عليه‌السلام ـ «احتجت الجنة والنار فقالت هذه يدخلنى الجبارون ، والمتكبرون ، وقالت هذه يدخلنى الضعفاء ، والمساكين. فقال الله عزوجل : لهذه : أنت عذابى أعذب بك من أشاء ، وقال لهذه : أنت رحمتى أرحم بك من أشاء ، ولكل واحدة منكما ملؤها (٥) وذلك أيضا دليل على وجود الجنّة والنّار حيث إنه أضاف المحاجة إليهما بصيغة الماضى.

وأما الإجماع : فهو أن الأمة قاطبة ، كانت مجمعة قبل ظهور المخالفين : على وجود الجنة ، والنار التى هى دار الثواب ، والعقاب ، ولم يسمع من أحد نكير ، إلى حين ظهور المخالفين ؛ فكان حجة عليهم (٦).

فإن قيل : إنما يمكن العمل / بظاهر ما ذكرتموه : أن لو أمكن ذلك عقلا ، وليس كذلك.

وبيانه : هو أن أفعال الرب ـ تعالى ـ لا تخلو عن فائدة ، وحكمة كما سبق (٧).

__________________

/ / أول ل ١٢٣ / أ.

(١) رواه مسلم ـ كتاب الجنة ـ باب فى شدة حر نار جهنم ، وبعد قعرها ٤ / ٢١٨٤ ، ٢١٨٥.

(٢) عمرو بن عامر بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن عدنان جد جاهلى من أشراف الجاهلية ـ من أحفاده : خالد ، وحرملة الصحابيان (الأعلام ٥ / ٨٠).

(٣) رواه مسلم. كتاب الجنة ـ والنار ٤ / ٢١٩١.

(٤) ساقط من (أ).

(٥) رواه مسلم ـ كتاب الجنة ـ باب والنار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء ٤ / ٢١٨٦.

(٦) لمزيد من البحث والدراسة راجع رأى أهل السنة والقائلين بوجود الجنة والنار فى مقالات الإسلاميين للأشعرى ٢ / ٥٤٩ والإرشاد للجوينى ص ٣١٩ ، والفصل لابن حزم ٤ / ٧٠ ، وأصول الدين للبغدادى ص ٢٣٧ ، وشرح المواقف ـ الموقف السادس ص ١٩٧ ، ١٩٨ وشرح الطحاوية ص ٤٨٤ ـ ٤٩٩.

(٧) راجع ما سبق فى الجزء الأول ـ القاعدة الرابعة ـ الباب الأول ـ القسم الأول ـ النوع السادس ـ الأصل الأول ـ المسألة الثالثة ل ١٨٦ / ب وما بعدها.

والفائدة فى خلق الجنة والنار : إنما هو المجازاة بالثواب ، والعقاب ، وذلك غير متحقق قبل يوم القيامة بإجماع المسلمين ؛ فلا يكون خلق الجنة ، والنار فى وقتنا هذا مفيدا ؛ فكان ممتنعا عقلا.

وإن سلمنا الإمكان العقلى : غير أن ما ذكرتموه معارض بما يدل على نقيض مقتضاه ، وبيانه من وجهين :

الأول : أن الجنة لو كانت موجودة ؛ لكانت دائمة ؛ لقوله ـ تعالى ـ : (أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها) (١) ودوام أكلها وظلها ، مع عدم دوامها ؛ محال. وليست دائمة بدليل قوله ـ تعالى ـ : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) (٢) الآية دالة على فناء كل مخلوق ؛ فيدخل فيه الجنة ، ويلزم من انتفاء اللازم انتفاء الملزوم ؛ فدل على أنها غير مخلوقة الآن ، وإنما تخلق بعد فناء كل مخلوق.

الثانى : قوله ـ تعالى ـ : (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) (٣) ووجه الاحتجاج أن الآية دلت على أن أقطار السموات والأرض ، لا تسع الجنة الموعودة لمستحقى الثواب ، وهو دليل ظاهر على عدمها ، فى وقتنا هذا. وعند تعارض الأدلة ، فليس العمل بالبعض ، أولى من البعض ؛ فيحتاجون إلى الترجيح.

والجواب :

قولهم : إنّ ذلك غير ممكن عقلا :

قلنا : دليل الإمكان العقلى : أنّا لو فرضنا أنّ الله ـ تعالى ـ خلقهما فى الآن لم يعرض عنه المحال لذاته ، ولا معنى للممكن العقلى إلا هذا :

وما ذكروه فى تقريره : فمبنى على فاسد أصولهم فى رعاية الغرض ، والحكمة فى أفعال الله ـ تعالى ـ وقد أبطلناه (٤) ، وبتقدير التسليم لوجوب رعاية الحكمة فى أفعاله لا يبعد أن يكون له فى ذلك حكمة قد أستأثر بعلمها وحده ، ولا يخفى أنّ نفى ذلك مما لا سبيل إليه بطريق قطعى.

__________________

(١) سورة الرعد ١٣ / ٣٥.

(٢) سورة القصص ٢٨ / ٨٨.

(٣) سورة آل عمران ٣ / ١٣٣.

(٤) انظر فى الجزء الأول من أبكار الأفكار ل ١٨٦ / وما بعدها.

قولهم : لو كانت الجنّة مخلوقة : لكانت دائمة. لا نسلم ذلك ، وقوله ـ تعالى ـ : (أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها) (١) فالمراد بالأكل : إنّما هو المأكول : وهو ثمر الجنة باتفاق المفسرين ، وذلك غير دائم ضرورة فنائه عند أكل أهل الجنة له.

فإذن ما هو الظاهر من دوام الأكل غير معمول به ، فتعين حمل دوام الأكل على تجدده ، من غير انقطاع ؛ وذلك لا ينافى عدم الجنة.

وان سلمنا أنّها لو كانت موجودة ؛ لكانت دائمة ، ولكن لا نسلم أنها غير دائمة. وقوله ـ تعالى ـ / : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) (٢) لا نسلّم العموم على ما عرف من أصلنا.

وإن سلّمنا العموم لغة ، غير أن المراد بقوله (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) كلّ حي ميّت : على ما قاله ترجمان القرآن : وهو ابن عباس كما سبق تحقيقه / / فيما سلف (٣) ، وقوله ـ تعالى ـ : (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) (٤) إنما يدل على عرضهما ؛ أن لو وجب كون الجنة فى حيز السموات والأرض ، وليس كذلك ، بل أمكن أن تكون خارجة عن حيزهما ، ويكون المراد من قوله ـ تعالى ـ : (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) مثل السموات والأرض ، لا أنها عينها ، ويدل عليه ما روى «أن الدرجة السفلى من الجنة فوق السماء السابعة وإليه الإشارة بقوله ـ تعالى ـ : (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى * عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) (٥) / / وسدرة المنتهى فوق السماء السابعة ، ولذلك سميت سدرة المنتهى ؛ لانتهاء أوهام الناس إليها ، وأنّها لا تتعداها.

__________________

(١) سورة الرعد ١٣ / ٣٥.

(٢) سورة القصص ٢٨ / ٨٨.

(٣) راجع ما سبق ل ٢١٨ / أوما بعدها.

(٤) سورة آل عمران ٣ / ١٣٣.

(٥) سورة النجم ٥٣ / ١٤ ، ١٥.

/ / أول ل ١٢٣ / ب من النسخة ب.

الفصل الثالث

فى عذاب القبر ومساءلة منكر ونكير

وقد اتفق سلف الأمة قبل ظهور الخلاف ، وأكثرهم بعد ظهوره : على إثبات إحياء الموتى فى قبورهم ، ومسألة الملكين لهم ، وتسمية أحدهما منكرا ، والآخر نكيرا ، وعلى إثبات عذاب القبر للمجرمين ، والكافرين (١).

وذهب أبو الهذيل ، وبشر بن المعتمر : إلى أن من ليس بمؤمن. فإنه يسأل ، ويعذب فيما بين النفختين أيضا (٢).

وذهب الصالحى (٣) من المعتزلة : وابن جرير الطبرى (٤) ، وطائفة من الكرامية إلى تجويز ذلك على الموتى فى قبورهم من غير إحياء لهم (٥).

وذهب بعض المتكلمين (٦) إلى أن الآلام تجتمع فى أجساد الموتى ، وتتضاعف من غير حس بها فإذا حشروا أحسوا بها دفعة واحدة.

وذهب ضرار بن عمرو ، وبشر المريسى ، وأكثر المتأخرين من المعتزلة إلى إنكار ذلك كله (٧).

__________________

(١) لمزيد من البحث والدراسة : انظر مقالات الإسلاميين للأشعرى ٢ / ١٤٧. وانظر كتاب الإرشاد للجوينى ص ٣٧٥ وما بعدها ، وأصول الدين للبغدادى ص ٢٣٧ وما بعدها ، وشرح المواقف للجرجانى ـ الموقف السادس ص ٢٢٤ وما بعدها. وشرح المقاصد للتفتازانى ٢ / ١٦٢ وما بعدها ومطالع الأنظار ص ٢٢٧ وما بعدها ، والروح لابن القيم ص ٧٢ وما بعدها وشرح العقيدة الطحاوية ص ٤٥١ وبعدها.

ومن كتب المعتزلة : انظر شرح الأصول الخمسة ص ٧٣٠ وما بعدها.

(٢) انظر رأيهم فى أصول الدين للبغدادى ص ٢٤٦. والروح لابن القيم ص ٨٠ حيث نسب هذا القول للعلاف ، والمريسى.

(٣) راجع ترجمته فى الجزء الأول هامش ل ٨٩ / أ.

(٤) ابن جرير الطبرى محمد بن جرير بن يزيد الطبرى (أبو جعفر) : المفسر المؤرخ ، المحدث ، الفقيه ، الأصولى. ولد فى آمل طبرستان سنة ٢٢٥ ه‍ وطوف الأقاليم ، واستوطن بغداد وتوفى بها فى شوال سنة ٣١٠ ه‍ من تصانيفه :

جامع البيان فى تأويل القرآن ، وتاريخ الأمم والملوك وتهذيب الآثار واختلاف الفقهاء.

وفيات الأعيان لابن خلكان ١ / ٥٧٧ ، ٥٧٨ ، وتاريخ بغداد للخطيب البغدادى ٢ / ١٦٢ ـ ١٦٩).

(٥) راجع شرح المواقف ـ الموقف السادس ص ٢٢٥ ، فقد حكم على رأى الصالحى ، وابن جرير الطبرى ، وطائفة من الكرامية بأنه خروج على المعقول.

(٦) قارن بالروح لابن القيم ص ٨١. فقد نقل هذا القول. ووضح أنه لبعض المعتزلة وقارن بشرح المواقف ص ٢٢٥.

(٧) وقد رفض القاضى عبد الجبار هذه التهمة. فقال «وجملة ذلك أنه لا خلاف فيه بين الأمة ، إلا شيء يحكى عن ضرار بن عمرو ، وكان من أصحاب المعتزلة ، ثم التحق بالمجبرة. ولهذا ترى ابن الراوندى يشنع علينا ؛ ويقول :

إن المعتزلة ينكرون عذاب القبر ، ولا يقرون به» شرح الأصول الخمسة ص ٧٣٠ وما بعدها.

وأنكر الجبائى ، وابنه ، والبلخى تسمية الملكين : منكرا ، ونكيرا ؛ مع الاعتراف بهما وإنما المنكر : ما يصدر من الكافر عند تلجلجه إذا سئل ، والنكير : تقريع الملكين له.

والدليل على إحياء الموتى فى قبورهم قبل الإحياء للحشر قوله ـ تعالى ـ : (قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) (١) والمراد بالإماتتين : الموتة التى قبل مزار القبور ، والموتة التى بعد مساءلة منكر ونكير ، والمراد بالحياتين : الحياة الأولى ، والحياة لأجل المساءلة على ما قاله المفسرون (٢).

فإن قيل : لا نسلم أن المراد بالإماتتين ، والحياتين ما ذكرتموه ، وما ذكرتموه عن المفسرين : فهو معارض بما يناقضه من قول غيرهم من المفسرين أيضا : فإنه قد قيل إن المراد بالإماتتين : الموتة الأولى : فى أطوار النطفة قبل نفخ الروح فيها ، والثانية : التى قبل مزار القبور ، والمراد بالحياتين : التى قبل / مزار القبور ، والحياة لأجل الحشر.

وليس أحد القولين أولى من الآخر ؛ بل هذا القول أولى ؛ لأنه لو كان كذلك فيكون على وفق المفهوم من قوله ـ تعالى ـ (وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) حيث إنه يدل بمفهومه على نفى حياة ثالثة ، وما ذكرتموه يلزم منه أن يكون الإحياء ثلاث مرات : الإحياء الأول : الّذي قبل مزار القبور. والإحياء للمسائلة ، والإحياء للحشر : وهو خلاف المفهوم من الآية (٣).

قلنا : ما ذكرناه أولى لوجهين :

الأول : أنه الشائع المستفيض بين أرباب التفسير ، وما ذكرتموه فقول شذوذ لا يؤبه لهم.

الثانى : أن حمل الإماتة على حالة أطوار النطفة مخالف للظاهر. فإن الإماتة لا تطلق إلا بعد سابقة الحياة وما ذكرناه ، فعلى وفق الظاهر ؛ فكان أولى.

قولهم : يلزم مما ذكرتموه مخالفة مفهوم الآية. لا نسلم أن المفهوم حجة.

__________________

(١) سورة غافر ٤٠ / ١١.

(٢) راجع تفسير القرطبى ، وشرح المقاصد ٢ / ١٦٢. وقارن بتفسير الطبرى ٢٤ / ٣٢ ، وتفسير الرازى ٢٧ / ٣٨ وما بعدها.

(٣) انظر الفصل فى الملل والأهواء والنحل لابن حزم ٤ / ٥٥ وما بعدها والروح لابن القيم ص ٦٠.

وإن سلمنا أنه حجة ؛ ولكن لا نسلم مخالفة المفهوم فيما نحن فيه. وبيانه من ثلاثة أوجه:

الأول : أنهم إنما ذكروا الحياة بعد الموت ، والحياة بعد الموت لا تزيد على اثنتين ولهذا قالوا (قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ).

[الثانى : أنهم إنما ذكروا الإحياء الماضى بدليل قوله ـ تعالى ـ : (وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) بصيغة الماضى ، والإحياء الماضى لا يزيد على اثنتين] (١).

[الثالث] (٢) : أنهم إنما ذكروا الإحياء الّذي عرفوا الله ـ تعالى ـ به ، وذلك لا يزيد أيضا على اثنتين ، وهو الإحياء للمسائلة ، والإحياء للحشر بخلاف الإحياء الأول ؛ فإنهم لم يعرفوا الله ـ تعالى ـ به.

وإن سلمنا مخالفة المفهوم : غير أن ما ذكروه يلزم منه مخالفة ما ذكرناه من الظواهر ؛ وهو ظاهر متفق على العمل به بخلاف المفهوم ؛ إذ هو مختلف فى صحته والعمل بالمتفق عليه أولى.

كيف وأن ما ذكرناه على وفق ما روى مسلم فى صحيحه عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه ترك قتلى بدر ثلاثا : ثم أتاهم فقام عليهم فناداهم فقال : يا أبا جهل بن هشام (٣) ، يا أمية بن خلف (٤) ، يا عتبة بن ربيعة (٥) : أليس قد وجدتم ما وعد ربكم حقا فإنى قد وجدت ما وعدنى ربى حقا؟ «فسمع عمر قول النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال عمر : يا رسول الله : كيف / /

__________________

(١) ساقط من (أ).

(٢) فى (أ) الثانى. والصحيح الثالث كما ورد فى ب.

(٣) أبو جهل بن هشام : عمرو بن هشام بن المغيرة المخزومى القرشى أشد الناس عداوة للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فى صدر الإسلام قال صاحب عيون الأخبار : سوّدت قريش أبا جهل ولم يطر شاربه فأدخلته دار الندوة مع الكهول. كان يقال له (أبو الحكم) ؛ فدعاه المسلمون أبا جهل كان فرعون هذه الأمة. يؤذى المسلمين ويكيد لهم حتى هلك فى غزوة بدر الكبرى ، وأراح الله المسلمين من شره.

[عيون الأخبار ١ / ٢٣٠ والأعلام للزركلى ٥ / ٨٧].

(٤) أمية بن خلف بن وهب ، من بنى لؤى : أحد جبابرة قريش فى الجاهلية ، أدرك الإسلام ولم يسلم ، وهو الّذي عذب بلالا رضي الله عنه فى بداية الإسلام. أسره عبد الرحمن بن عوف يوم بدر ؛ فرآه بلال ؛ فصاح بالناس يحرضهم عليه ؛ فقتلوه. [الكامل لابن الأثير ٢ / ٤٨ والأعلام للزركلى ٢ / ٢٢].

(٥) عتبة بن ربيعة بن عبد شمس : أبو الوليد. كبير قريش وأحد ساداتها فى الجاهلية. أدرك الإسلام ، وطغى وشهد بدرا مع المشركين ، وخرج للمبارزة ؛ فقتل : قتله حمزة رضي الله عنه وقصة ابنته هند بنت عتبة فى انتقامها من سيد الشهداء بعد استشهاده مشهورة. [نسب قريش ١٥٢ ، ١٥٣ والأعلام للزركلى ٤ / ٢٠٠].

/ / أول ل ١٢٤ / أ.

يسمعون ، وأنى يجيبون وقد جيفوا؟ فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : والّذي نفسى بيده : ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ، ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا» (١).

وأيضا ما روى عنه عليه‌السلام أنه قال «إن العبد إذا وضع فى قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم (٢)» وذلك بدون الحياة غير متصور.

والدليل على إثبات عذاب القبر. الكتاب ، والسنة.

أما الكتاب فآيات :

الآية الأولى : قوله ـ تعالى : ـ (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ / السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) (٣) ووجه الاحتجاج بها من ثلاثة أوجه :

الأول : أنها صريحة فى العذاب قبل يوم القيامة ، وذلك لا يكون إلا قبل الانتشار من القبور.

الثانى : أن عذاب يوم القيامة يكون أبدا [سرمدا] (٤) ، غير مفتّر ، وما أثبته من العذاب فليس دائما ؛ بل بكرة وعشيا على ما قاله ـ تعالى ـ (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) وإذا لم يكن هو عذاب يوم القيامة ، تعين أن يكون هو عذاب القبر ، إذ الآية إنما وردت فى حق الموتى.

الثالث : هو أن الآية قد فرقت بين العذابين ، ووصفت عذاب يوم القيامة بأنه أشدّ العذاب على ما قال ـ تعالى ـ : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) والعرض على النار غدوا ، وعشيّا ؛ ليس هو أشدّ العذاب ؛ فلا يكون هو عذاب يوم القيامة فتعيّن أن يكون هو عذاب القبر.

الآية الثانية : قوله ـ تعالى : ـ فى حق قوم نوح (أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً) (٥) والفاء فى اللغة للتعقيب من غير مهلة ، وذلك ظاهر فى عذاب القبر.

__________________

(١) رواه مسلم ٤ / ٢٢٠٣ كتاب الجنة.

(٢) رواه البخارى ٣ / ١٨٨ ـ ١٨٩ فى الجنائز : باب ما جاء فى عذاب القبر ، وباب الميت يسمع خفق النعال.

(٣) سورة غافر ٤٠ / ٤٦.

(٤) ساقط من (أ).

(٥) سورة نوح ٧١ / ٢٥.

الآية الثالثة : قوله ـ تعالى : ـ (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) (١) وقد اختلف أهل التفسير فى ذلك :

فمنهم من حمل المعيشة الضّنك على عذاب القبور ، ومنهم من حملها على سوء الحال ، ونكد العيش حالة الحياة ؛ غير أن الأول أولى ، وأقرب إلى الظاهر ، وذلك لأن من أعرض عن ذكر الله ـ تعالى ـ قد يكون فى الدنيا فى أنعم عيش وأرغده ، والمؤمن على الضد منه على ما هو المشاهد المحسوس ، ولهذا قال عليه‌السلام «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر» (٢).

فلو كان المراد بالمعيشة الضنك : المعيشة فى حالة الحياة ؛ لكانت هذه الأمور على خلاف ظاهر الآية.

وأما السنة : فأخبار صحيحة فى صحيح مسلم منها ما روى عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه مر بقبرين فقال : إنهما ليعذّبان وما يعذّبان فى كبير أمّا أحدهما فكان لا يستنزه من البول ، وأما الثانى فكان يمشى بالنّميمة» (٣).

وأيضا ما روى عنه عليه‌السلام أنه قال «استنزهوا [من البول] (٤) فإن عامة عذاب القبر من البول» (٥).

وأيضا قوله عليه‌السلام فى سعد بن معاذ «لقد ضغطته الأرض ضغطة اختلفت لها ضلوعه (٦)».

وأيضا ما روى عنه عليه‌السلام «إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه» (٧) وقد حمله المؤولون على ما إذا وصى بذلك.

__________________

(١) سورة طه ٢٠ / ١٢٤.

(٢) رواه الترمذي عن أبى هريرة ، وقال : حديث حسن صحيح.

(٣) متفق على صحته : رواه البخارى ١ / ٢٧٣ فى الوضوء باب من الكبائر.

ورواه مسلم ٣ / ٢٠٠ وما بعدها ـ كتاب الطهارة ـ باب الدليل على نجاسة البول ، ووجوب الاستبراء منه ـ عن ابن عباس رضي الله عنه.

(٤) ساقط من (أ).

(٥) رواه مالك فى الموطأ ـ كتاب الطهارة ١ / ١٨.

(٦) رواه مسلم ـ كتاب فضائل الصّحابة ـ باب فضائل سعد بن معاذ رضي الله عنه ٤ / ١٩٢٥.

(٧) رواه مسلم ـ كتاب الجنائز ـ ٦ / ٢٢٨ «حدثنا نافع عن عبد الله أنّ حفصة بكت على عمر فقال مهلا يا بنيّة ألم تعلمى أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ الميت يعذّب ببكاء أهله عليه».

[وأيضا ما روى عنه ـ عليه‌السلام ـ أنه كان يكثر من قوله «اللهم إنى أعوذ بك من عذاب جهنم ، ومن عذاب القبر ، ومن فتنه المسيخ (١) الدجال] (٢).

وأيضا ما روى عنه ـ عليه‌السلام ـ أنه خرج بعد غروب الشمس فسمع صوتا فقال يهود تعذب فى / قبورها (٣) ، والأخبار المأثورة ، والآثار المشهورة فى ذلك أكثر من أن تحصى.

والدليل على مساءلة الملكين ما روى مسلم فى صحيحه عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فى أثناء حديث مطول «إن ملكين يدخلان القبر ويجلسان الميت ويقولان : أنت فى البرزخ؟ فمن ربك ومن نبيك؟ فإن كان كافرا قال : لا أدرى فيقولان لا دريت ولا اهتديت. وإن كان مؤمنا قال : آمنت بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد نبيا ، فيفسح له فى قبره ويرى موضعه من الجنة ، ويقال له أرقد رقدة العروس» (٤).

وتسمية أحد الملكين منكرا ، والآخر نكير ؛ فمأخوذ من إجماع السلف من الأمة وأخبار مروية عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ.

فإن قيل : ما ذكرتموه من الظواهر فى عذاب / / القبر ، ومسائلة منكر ونكير ، إنما يمكن العمل بها أن لو لم تكن مخالفة للمعقول ، وليس كذلك ، ودليل مخالفتها للمعقول [هو : أنا قد نرى شخصا يقتل ويصلب ويبقى على صلبه إلى أن تذهب (٥)] أجزاؤه ، ولا نشاهد منه حياة ، ولا مسائلة ، والقول بذلك مع عدم مشاهدته منه مخالف للمعقول.

وأيضا : فإنّ من افترسته السّباع الضّوارى ، وتفرقت أجزاؤه فى بطون السّباع وحواصل الطّيور ؛ بل أبلغ من ذلك من أحرق بحيث تفتت أجزاؤه ، وصارت هباء ، وذريت فى

__________________

(١) رواه مسلم ٥ / ٨٧ وما بعدها ـ كتاب المساجد ـ باب استحباب التعوذ من عذاب القبر وعذاب جهنم عن أبى هريرة رضي الله عنه.

(٢) ساقط من (أ).

(٣) متفق عليه ـ صحيح مسلم ١٧ / ٢٠٣ وما بعدها ـ كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها ـ باب عرض مقعد الميت عليه وإثبات عذاب القبر ، والتعوذ منه. عن أبى أيوب رضي الله عنه.

(٤) رواه مسلم : صحيح مسلم ـ كتاب الجنة ـ باب عرض مقعد الميت من الجنة والنار عليه ، وإثبات عذاب القبر ، والتعوذ منه ٤ / ٢٢٠٠.

/ / أول ل ١٢٤ / ب من النسخة ب.

(٥) ساقط من (أ).

الرياح العواصف ؛ فإنا نعلم استحالة عذابه ، ومسائلته فى تلك الحالة ؛ لأنه إن كان ذلك من غير حياة ؛ فهو محال ؛ وان كان مع الحياة. [فالحياة] (١) ، لا تقوم بالأجزاء الفردة دون تأليف خاص ؛ وإلا لجاز أن يقال بأن ما من جوهر [يوجد (٢)] إلا وهو حي ، عالم ، قادر ، مريد ، مكلف ، والقول بذلك مما لا يرتضيه لنفسه محصل.

وإن سلمنا الإمكان العقلى غير أن ما ذكرتموه من الظواهر معارض بمثلها

الأول : منها قوله حكاية عن الكفار إذا حشروا (يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا) (٣) وهو دليل ظاهر على أنهم لم يكونوا [معذبين] (٤) قبل ذلك.

الثانى : قوله ـ تعالى ـ : (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) (٥) وهو خلاف قول من يقول بأن الميت يحيى للمسألة ثم يموت.

الثالث : قوله ـ تعالى ـ : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) (٦) فإنه يدل على الإحياء ابتداء ثم الإماتة ، ثم الإحياء للحشر من غير مزيد ، ومن قال بالإحياء للمسألة وبالموت بعدها ، فقد زاد على مدلول الآية.

الرابع : قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) (٧) وقوله ـ تعالى ـ : (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) (٨) وهو خلاف القول بالمساءلة / لاستدعائها ، السمع ، والإسماع.

والجواب :

أما ما ذكروه من الشبهة الأولى ؛ فقد اختلف المتكلمون فى جوابها.

فمنهم من قال : بالتزام الثّواب والعقاب ، فى حق الموتى ، من غير حياة ، كما حكيناه عن الصالحى ، وابن جرير الطبرى ، وبعض الكرامية (٩) ، وهو مكابرة للمعقول.

__________________

(١) ساقط من (أ).

(٢) ساقط من (أ).

(٣) سورة يس ٣٦ / ٥٢.

(٤) ساقط من (أ).

(٥) سورة الدخان ٤٤ / ٥٦.

(٦) سورة البقرة ٢ / ٢٨.

(٧) سورة النمل ٢٧ / ٨٠.

(٨) سورة فاطر ٣٥ / ٢٢.

(٩) انظر رأيهم فيما سبق ل ٢١٩ / أ.

وأما أصحابنا : فقد اختلفوا فى صورة المصلوب ، وكذا كل ما نشاهده من الميت بعد موته ، وهو على هيئته مددا متطاولة.

فمنهم من قال : ترد الحياة إلى بعض أجزاء البدن ، واختصاصها بذلك والمساءلة ، والعذاب ، وإن لم يكن ذلك مشاهدا لنا.

وأما القاضى أبو بكر (١) : فقد قال : لا يبعد أن ترد الحياة إلى المصلوب وإن كنا نحن لا نشعر بها : كما فى صاحب السكتة ، ويسأل ، ويعذب ، ويكون ذلك خفيا عنا مستورا منا ، ولا بعد فيه ، كما لا بعد فى رؤية النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ جبريل ؛ وهو بين أظهر أصحابه ، مع ستره عنهم.

وأما الصورة الأخرى : فجوابها : بمنع اشتراط البنية المخصوصة فى الحياة ، وعند ذلك : فلا مانع أن يرد الله ـ تعالى ـ الحياة إلى كل جزء من البدن ، أو إلى أجزاء مخصوصة منه كما سبق ويسأل ، ويعذب ، وإن كان ذلك مستورا عنا ، وغايته أنه من الخوارق للعادة وهى غير ممتنعة فى مقدور الله ـ تعالى ـ كما سبق تحقيقه.

وأما قوله ـ تعالى ـ : (يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا) (٢)؟ فهو دليل على حياتهم ؛ لأن المفهوم من المرقد : هو موضع الاضطجاع للرقاد ، والرقاد من صفات الأحياء. فإثبات المرقد لهم يدلّ على كونهم أحياء فى قبورهم ، وليس فيه ما يدل على عدم العذاب ؛ لجواز أن يكونوا فى مراقدهم معذبين.

ولهذا فإنه يصح أن يقول المريض المدنف (٣) الّذي استولت عليه الآلام : تعذبت فى مرقدى ، وأنا على غاية الألم والقلق ؛ فدل أن المرقد يكون مع الراحة تارة ، ومع مقابلها أخرى. ويحتمل أن يقال : بأن ما يلقونه من عذاب القبر بالنسبة إلى ما يلقونه من عذاب يوم القيامة يكون كالروح والراحة (٤) ، حالة كون الانسان راقدا فى مرقده ، فلذلك قالوا : يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا : أى ما كنا فيه من الروح والراحة بالنسبة إلى هذا العذاب.

__________________

(١) انظر شرح المواقف ـ الموقف السادس ص ٢٢٨ فقد وضح قول القاضى أبو بكر.

(٢) سورة يس ٣٦ / ٥٢.

(٣) المدنف : الدنف بفتحتين : المرض الملازم. وقد دنف المريض من باب طرب : أى ثقل ... وأدنفه المرض يتعدى ولا يلزم فهد مدنف ومدنف. (مختار الصحاح للرازى).

(٤) الروح : الاستراحة وكذا الراحة ـ مختار الصحاح للرازى.

وإن سلمنا منافاة المرقد للعذاب / / مطلقا ؛ غير أن بعثهم من مرقدهم لا يدل على انتفاء عذاب القبر مطلقا لوجهين :

الأول : أن عذاب القبر غير دائم فى بعض الأوقات دون البعض على ما قال ـ تعالى ـ : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) (١) وفيما بين ذلك فالعذاب / يكون مفتّرا ، وقيام الساعة إنما يكون عند ارتفاع النهار على ما وردت به الأحاديث ولعل ذلك يقع مصادفا لوقت الفترة فى مرقدهم.

الثانى : أنه قد ورد فى الروايات الصحاح عن النبي عليه‌السلام «أن عذاب القبر يرتفع فيما بين النفختين : نفخة الصعقة ، ونفخة الحشر (٢) ؛ فلا تقوم الساعة إلا وهم فى مرقدهم غير معذبين. وبه الرد على الصالحى وموافقيه (٣).

وأما قوله ـ تعالى ـ : (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) (٤) فهو وارد فى حق أهل الجنة ، وعند ذلك فيحتمل أن يكون المراد من قوله (إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) جنس الموت ، وإن كانت الصيغة صيغة الواحدان كما فى قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) (٥).

والمراد به جنس الناس ، وليس فى ذلك ما يدل على انتفاء كثرة الموت فى نفسه.

وإن سلمنا ظهور اللفظ فى الموتة عن الحياة الأولى ؛ غير أنه يحتمل أنه أراد بذلك تعريف أنهم لا يذوقون فيها ألم الموت كما لقوه فى الموتة الأولى ، [وليس فى ذلك ما يدل على انتفاء موتة أخرى ؛ لجواز أن لا يذوقون فيها ألم الموت ، وشدته كما لقوه فى شدة الموتة الأولى] (٦) ولا يلزم من انتفاء وصف الموتة الأولى عن غيرها ، انتفاء أصل الموت.

ويحتمل أنه أراد بذلك بيان دوام نعيمهم ، وعدم انقطاعه فقال (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ) : أى لا ينقطع نعيمهم بالموت : كانقطاع نعيم أهل الدنيا بالموت ، وليس فى

__________________

/ / أول ل ١٢٥ / أ.

(١) سورة غافر ٤٠ / ٤٦.

(٢) وقد أورده ابن القيم بمعناه فى كتابه الروح ص ١٢٣.

(٣) راجع قول الصالحى ، وابن جرير الطبرى ، وبعض الكرّاميّة ل ٢١٩ / أ.

(٤) سورة الدخان ٤٤ / ٥٦.

(٥) سورة العصر ١٠٣ / ٢.

(٦) ساقط من (أ).

ذلك أيضا : ما يدل على انتقاء موتة أخرى بعد المسألة ؛ إذ لم ينقطع بها نعيمهم ويجب الحمل على ما ذكرناه جمعا بينه ، وبين ما ذكرناه من الأدلة.

وأما الآية الثالثة : فالمراد من قوله ـ تعالى ـ : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) الحياة الأولى : وقوله (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) الموتة الأولى وقوله (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) إحياء المساءلة ، وأما إحياء النشر ، والموت قبله ؛ فهو مستفاد من قوله ـ تعالى ـ : (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (١).

فالآية دالة على ما منعوه من الزيادة ، لا أنها نافية له.

وإن سلمنا دلالة الآية على الإحياء الأول والموت منه ، والإحياء للنشر ؛ فليس فيه ما يدل على نفى الزيادة على ذلك إلا بطريق المفهوم ، وليس بحجة ، وبتقدير أن يكون حجة غير أن العمل بما ذكرناه أولى ؛ لأنه منطوق.

وأما قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) (٢) تشبيه للكفار بالموتى ، ونحن لا ننكر أن الميت لا يسمع ، وليس فى ذلك ما يدل على أن الميت لا يحيى فى قبره ولا يسمع بتقدير إحيائه.

وقوله تعالى (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) (٣) معناه : بتقدير أن يكونوا موتى ، ونحن نقول به. وإلا فبتقدير أن يكونوا أحياء ؛ فلا امتناع فى إسماعهم إجماعا.

__________________

(١) سورة البقرة ٢ / ٢٨.

(٢) سورة النمل ٢٧ / ٨٠.

(٣) سورة فاطر ٣٥ / ٢٢.

الفصل الرابع

فى الصراط / والميزان ، والحساب ، وقراءة الكتب

والحوض المورود ، وشهادة الأعضاء (١)

أما الصراط (٢) :

فمذهب أكثر المتكلمين إثبات الصراط على متن جهنم. وهو كالجسر الممدود عليها.

وعليه يعبر جميع الخلائق المؤمنين ، وغير المؤمنين.

وأما المعتزلة :

فقد اختلفوا :

فذهب أبو الهذيل ، وبشر بن المعتمر إلى جوازه دون الحكم بوقوعه ، وتردد الجبائى فى نفيه ، وإثباته ، فأثبته مرة ، ونفاه أخرى.

وذهب أكثر المعتزلة إلى نفى الصراط بهذا المعنى (٣).

واحتج أهل الحق : بأن إثبات الصّراط بهذا الاعتبار ممكن ؛ إذ لو فرض لم يلزم عنه لذاته محال ، ونصوص الكتاب والسنة ، وإجماع الأمة دالة عليه ؛ فوجب إثباته.

أما الكتاب : فقوله ـ تعالى ـ : (فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ* وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) (٤).

__________________

(١) لمزيد من البحث والدراسة بالإضافة إلى ما ورد هاهنا :

انظر : الإرشاد للجوينى ص ٣٧٩ وما بعدها وأصول الدين للبغدادى ص ٢٤٥ وما بعدها ، وشرح المواقف ـ الموقف السادس ص ٢٣١ وما بعدها ، وشرح المقاصد للتفتازانى ٢ / ١٦٣ ، وشرح العقيدة الطحاوية ص ٤٧٣ وما بعدها ومن كتب المعتزلة شرح الأصول الخمسة ص ٧٣٤ وما بعدها.

(٢) الصراط : هو جسر على جهنم إذا انتهى الناس بعد مفارقتهم مكان الموقف إلى الظلمة التى دون الصراط كما قالت عائشة ـ رضى الله عنها : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ سئل أين الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات؟ «هم فى الظلمة دون الجسر». [شرح العقيدة الطحاوية ص ٤٧٧].

(٣) يقول القاضى عبد الجبار فى شرح الأصول الخمسة ص ٧٣٧ ، ٧٣٨ : «ومن جملة ما يجب الإقرار به واعتقاده:

الصّراط وهو طريق بين الجنة والنار. يتسع على أهل الجنة ، ويضيق على أهل النار إذا راموا المرور عليه. وقد دل عليه القرآن ، قال الله تعالى : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ٦ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) سورة الفاتحة ١ / ٦ ، ٧ فلسنا نقول فى الصراط ما يقوله الحشوية».

(٤) سورة الصافات ٣٧ / ٢٣ ، ٢٤.

وأما السنة : فإنه قد روى أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أخبر عنه ووصفه بأنه «أدق من الشعرة وأحد من غرار السيف» وعلى جنبتيه خطاطيف وكلاليب ، وأن الكلّوب منها يحتوى على عدد ربيعة ومضر ، ويهوى بهم إلى قعر جهنم (١).

وروى عنه عليه‌السلام : «أنه قيل له إذا طويت السموات ، وبدلت الأرض أين يكون الخلق يومئذ؟ فقال / / إنهم على جسر جهنم (٢).

وروى عنه عليه‌السلام أنه سأله بعض أصحابه أين نطلبك فى عرصات القيامة؟

فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «عند الصراط ، أو عند الحوض ، أو الميزان (٣).

وروى عنه عليه‌السلام أنه وصف العابرين على الصراط فقال : من الجائزين عليه من هو كالبرق الخاطف ، ومنهم من هو كالريح الهابة ، ومنهم من هو كالجواد ، ومنهم من تجور رجلاه ، وتعلق يداه ، ومنهم من يخر على وجهه. إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة المأثورة الخارجة عن العد فى ذكر الصراط ، وصفته (٤).

__________________

(١) أخرجه البيهقى فى شعب الإيمان من حديث أنس. وروى عن زياد والنميرى عن أنس مرفوعا «الصراط كحد الشعرة ـ أو كحد السيف» وقال : وهى رواية صحيحة.

/ / أول ل ١٢٥ / ب.

(٢) رواه مسلم. كتاب صفه المنافقين وأحكامهم ـ باب فى البعث والنشور وصفة يوم القيامة ٤ / ٢١٥٠

(٣) رواه مسلم.

(٤) وأرى من المفيد ذكر هذا الحديث فهو يصف حال العابرين على الصراط وصفا دقيقا :

روى البيهقى بسنده عن مسروق ، عن عبد الله قال : «يجمع الله الناس يوم القيامة» إلى أن قال : «فيعطون نورهم على قدر أعمالهم».

فمنهم من يعطى نوره مثل الجبل بين يديه.

ومنهم من يعطى نوره فوق ذلك.

ومنهم من يعطى نوره مثل النخلة بيمينه.

ومنهم من يعطى دون ذلك. حتى يكون آخر ذلك من يعطى نوره على إبهام قدمه ، يضئ مرة ويطفأ مرة. فإذا أضاء ؛ قدم قدمه. وإذا طفئ قام.

قال : ويمرون على الصراط ، والصراط كحد السيف ، دحض مزلة.

فيقال لهم : امضوا على قدر نوركم.

فمنهم من يمر كانقضاض الكوكب. ومنهم من يمر كالريح. ومنهم من يمر كالطرف ومنهم من يمر كشد الرجل يرمل رملا. فيمرون على قدر أعمالهم.

حتى يمر الّذي نوره على إبهام قدمه ، تخر يد ، وتعلق يد ، وتخر رجل ، وتعلق رجل وتصيب جوانبه النار. قال : فيخلصون ، فإذا خلصوا قالوا : الحمد لله الّذي نجانا منك بعد الّذي أراناك ، لقد أعطانا الله ما لم يعط أحدا» الحديث. [رواه الحاكم فى «المستدرك» ٢ / ٣٧٦ ـ ٣٧٧ قال : صحيح على شرط الشيخين ، ووافقه الذهبى] انظر شرح العقيدة الطحاوية ص ٤٧٧ ـ ٤٧٨.

وأما الإجماع : فهو أنّ الأمة من السلف قبل ظهور المخالفين على إثبات الصراط بهذا المعنى ؛ فكان حجة على المخالف.

فإن قيل : خلق الصراط على ما وصفتموه من كونه أدق من الشعرة وأحد من غرار السيف مما يستحيل العبور عليه عقلا ، وقد قلتم بأن عليه عبور الخلائق كلهم ، فيمتنع ، وبتقدير إمكان العبور عليه غير أنه يلزم من ذلك. إتعاب المؤمنين ، ولا تعب عليهم يوم القيامة ولا نصب ؛ إذ هو نوع من العذاب ، والمؤمن غير معذب.

وعند ذلك : فنقول : لفظ الصراط وإن كان قد يرد بمعنى الإسلام ، وبمعنى كتاب الله ، وبمعنى طريق الجنة (١) ، وبمعنى الدين القويم إلا أنه قد يطلق ويراد به / الطريق إلى الشيء ، وعند ذلك : فيجب حمل قوله تعالى (فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) على الطريق إليها ؛ لتعذر حمله على ما سواه من الاعتبارات الأخرى.

وعلى ذلك يجب تأويل الأخبار من السنة أيضا :

والجواب :

قولهم : بأن ذلك مما يستحيل العبور عليه ، ليس كذلك ؛ فإنه غير بعيد أن يقدر الله ـ تعالى بعض عباده على ذلك كما أقدر بعض مخلوقاته على الطيران فى الهواء ، وبعضهم على السباحة فى الماء. وغايته : أن ذلك من خوارق العادات ، وغير مستبعد أن يخصص الله ـ تعالى ـ به بعض عباده ، كما حققناه فى المعجزات (٢).

قولهم : فيه إتعاب المؤمنين ـ ممنوع. وما المانع من إقدار الله ـ تعالى ـ لهم على ذلك من غير تعب ، ولا نصب؟

وبتقدير إتعابهم فهو غير ممتنع على أصول أهل الحق ، فإن ذلك مما لا يزيد فى الحرج والمشقة على ما ينال الأنبياء ، والأولياء من زفرة جهنم على ما روى فى صحيح الحديث «إن جهنم تزفر زفرة لا يبقى عندها ملك مقرب ، ولا نبى مرسل إلا جثا على ركبتيه (٣) ، وإليه الإشارة بقوله ـ تعالى ـ : (وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً) (٤) ولا على ما ينالهم

__________________

(١) من أول هنا نهاية ل ٢٢٢ / أ ـ ل ٢٢٤ / أمن النسخة (أ) محذوف من النسخة ب. [وبمعنى طريق الجنة / / بمقتضى العقل] هكذا فى نسخة ب منتصف ل ١٢٥ / ب.

(٢) راجع ما مر ل ١٣٠ / أوما بعدها من القاعدة الخامسة.

(٣) أورده القرطى فى التذكرة ص ٤٤١ : باب ما جاء أن النار لما خلقت فزعت الملائكة حتى طارت أفئدتها. عن ميمون بن مهران قال : لما خلق الله جهنم أمرها فزفرت زفرة ، فلم يبق فى السموات السبع ملك إلا خرّ على وجهه. التذكرة ص ٤٤١.

(٤) سورة الجاثية ٢٥ / ٢٨.

من الورود على جهنم على ما قال ـ تعالى ـ : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) (١). وإذا جاز ذلك ، جاز ما هو مثله فى المشقة أو أدنى ، وما ذكروه فى تأويل الصراط فهو مدفوع بإجماع الأمة السالفة قبل ظهور المخالفين على تفسيره بما ذكرناه : من أنه جسر على متن جهنم ، وأن عبور الخلائق كلهم عليه (٢).

كيف وفى الأخبار ما يدل على امتناع حمله على الطريق إلى جهنم ، حيث أنه وصف المؤمنين بسرعة العبور ، دون غيرهم.

ولو كان الصراط طريقا إلى جهنم ، لا أنه جسر على جهنم ؛ لكان الأمر بالعكس.

وأما الميزان (٣) : فقد أثبته الأشاعرة ، والسلف ، وأكثر المسلمين ؛ وأنكره المعتزلة. لكن منهم من أحاله عقلا ، ومنهم من جوزه عقلا ، وإن لم يقض بثبوته كالعلاف ، وبشر ابن المعتمر.

وقد أحتج أهل الحق فى ذلك ـ بأن نصب الميزان ممكن ، والنصوص دالة عليه ؛ فوجب إثباته.

أما الجواز العقلى : فإثباته بما تقدم.

وأما النصوص الدالة عليه : فمنها قوله ـ تعالى ـ : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) (٤) وقوله ـ تعالى ـ : (وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ* أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ) (٥) وقوله ـ تعالى ـ : (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُ) (٦) وقوله ـ تعالى ـ : (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ* وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) (٧) الآية

__________________

(١) سورة مريم ١٩ / ٧١.

(٢) راجع مقالات الإسلاميين ٢ / ١٤٦ وأصول الدين للبغدادى ص ٢٤٦ وشرح المواقف ـ الموقف السادس ص ٢٣١ ، وشرح المقاصد ٢ / ١٦٤.

(٣) لمزيد من البحث والدراسة بالإضافة لما ورد هاهنا انظر : الإرشاد لإمام الحرمين الجوينى ص ٣٨٠ ، والاقتصاد للغزالى ص ١٢٥. نهاية الأقدام للشهرستانى ص ٤٦٩ ، ٤٧٠. وأصول الدين للبغدادى ص ٢٤٦ وغاية المرام للآمدى ص ٣٠٥ ، ٣٠٦ ومن كتب المعتزلة : انظر شرح الأصول الخمسة للقاضى عبد الجبار ص ٧٣٥ ، ٧٣٦.

وانظر شرح المواقف ـ الموقف السادس ص ٢٢٩ وشرح المقاصد ٢ / ١٦٤ وشرح الطحاوية ص ٤٧٩ ـ ٤٨٣.

(٤) سورة الأنبياء ٢١ / ٤٧.

(٥) سورة الرحمن ٥٥ / ٧ ، ٨.

(٦) سورة الأعراف ٧ / ٨ والآية ساقطة من (أ).

(٧) سورة المؤمنون ٢٣ / ١٠٢ ، ١٠٣.

فإن قيل : حمل لفظ الميزان ، والموازين / / على ما يوزن به أعمال / العباد ، ممتنع ؛ إذ الأعمال أعراض ، والأعراض مما لا بقاء لها كما تقدم ، ولا هى مما يمكن إعادتها على ما سلف (١) وبتقدير بقائها ، أو إمكان إعادتها ؛ فهى أعراض ، والأعراض ممتنع وزنها ؛ فإنها لا توصف بثقل ، ولا خفة ؛ بل إنّما ذلك من صفات الجواهر.

وبتقدير إمكان وزنها : فلا فائدة فى الوزن ؛ إذ المقصود إنما هو العلم بتفاوت الأعمال ، والله ـ تعالى ـ عالم بذلك ، فلا فائدة فى نصب الميزان ، وما لا فائدة فيه ففعله يكون قبيحا ، والرب ـ تعالى ـ منزه عن فعل القبيح.

وعند هذا : فيجب حمل لفظ الميزان على العدل ، والإنصاف ، وبتقدير الحمل على ما يوزن به ، فالنص قد دلّ على موازين وهو قوله ـ تعالى ـ : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ) (٢) وقوله ـ تعالى ـ : (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) (٣) وأنتم لا تقولون إلا بميزان واحد.

والجواب : أما ما ذكروه فى بيان تعذر وزن الأعمال ، فمندفع ، بقول النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لما سئل عن وزن الأعمال «إنما توزن الصحف»

قولهم : لا فائدة فى وزن الأعمال ؛ فهو مبنى على أصولهم فى وجوب رعاية الحكمة وقد أبطلناه (٤) وبتقدير تسليم ذلك لهم فلا مانع أن يكون له فى ذلك حكمة قد استأثر بعلمها وحده.

وعلى هذا : فيتعذر حمل الميزان على العدل ، والإنصاف ، [لما فيه من مخالفة الظاهر من غير دليل. كيف : وأنه يمتنع حمل الميزان على العدل ، والإنصاف] (٥) إذ الموازين موصوفة بالخفة ، والثقل في قوله ـ تعالى ـ : (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) وقوله ـ تعالى ـ : (وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) والعدل ، والإنصاف لا يوصف بثقل ، ولا خفة.

__________________

/ / أول ل ١٢٧ / أمن النسخة ب.

(١) راجع ما مر فى الجزء الثانى ـ الفرع الرابع ، فى تجدد الأعراض ، واستحالة بقائها ل ٤٤ / ب.

(٢) سورة الأنبياء ٢١ / ٤٧.

(٣) سورة المؤمنون ٢٣ / ١٠٢.

(٤) راجع ما مر فى الجزء الأول ل ١٨٦ / أوما بعدها.

(٥) ساقط من (أ).

وقوله : النص قد دل على إثبات موازين.

قلنا : نحن لا ننكر ذلك ، غير أنه قد ثبت فى الأخبار أن الميزان ليس إلا واحدا فيجب حمل الجمع عليه ؛ إذ لا تعذر فيه ، كما في قوله ـ تعالى ـ : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) (١). وأراد بقوله الذين قال لهم الناس واحدة.

وأما الحساب ، وأخذ الكتب ، وقراءتها ، ونصب الحوض ، وشهادة الأعضاء ؛ فهو ممكن عقلا على ما تقدم ، والنصوص دالة على ذلك ؛ فوجب اتباعها.

أما الحساب : فيدل عليه قوله تعالى فى وصف يوم القيامة بيوم الحساب وقوله تعالى ـ : (فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) (٢).

وأما أخذ الكتب : فيدل عليه قوله ـ تعالى ـ : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) (٣).

وأما قراءة الكتب : فيدل عليه قوله ـ تعالى ـ : (اقْرَأْ كِتابَكَ) (٤).

وأما شهادة الأعضاء : فيدل عليه قوله ـ تعالى ـ : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٥).

وأما نصب الحوض : فيدل عليه ما روى عنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ لما سأله بعض أصحابه : أين نطلبك فى / عرصات القيامة أنه قال : «عند الصراط ، أو الحوض ، أو الميزان» (٦) وللظواهر من الآيات ، والأخبار فى ذلك متسع.

__________________

(١) سورة آل عمران ٣ / ١٧٣.

(٢) سورة الانشقاق ٨٤ / ٨.

(٣) سورة الانشقاق ٨٤ / ٧.

(٤) سورة الإسراء ١٧ / ١٤.

(٥) سورة النور ٢٤ / ٢٤.

(٦) رواه مسلم ٤ / ٢١٥٠.

الأصل الثالث

فى أحكام الثواب والعقاب.

ويشتمل على خمسة فصول :

الفصل الأول (١) : فى استحقاق الثواب والعقاب.

الفصل الثانى : فى أن ثواب أهل الجنة ، وعقاب الكفار غير واجب الدوام عقلا ؛ بل سمعا.

الفصل الثالث : فى استحقاق عصاة المؤمنين العقاب على زلاتهم ، وجواز الغفران عنها عقلا.

الفصل الرابع : فى أن عقاب العصاة من المؤمنين غير مخلد.

الفصل الخامس : فى الإحباط والتكفير.

__________________

(١) فى النسخة ب استخدمت الحروف الأبجدية أب ج للدلالة على ترتيب الفصول.

الفصل الأول

فى استحقاق الثواب والعقاب

قد بينا فى التعديل والتجوير أنه من مذهب أهل الحق أنه لا يجب على الله ـ تعالى ـ شيء (١).

وأنه إن أنعم فبفضله ، وإن انتقم فبعدله.

ووافقهم على ذلك البلخى من المعتزلة.

وذهب الباقون من المعتزلة إلى أنه يجب على الله ـ تعالى ـ عقلا أن يثيب المطيع على طاعته ، إذا لم يقارنها محبط.

وأن يعاقب العاصى على معصيته إن مات من غير توبة (٢).

محتجين على ذلك بقولهم : إنّا نعلم بقضية العقل أنّ المطيع المحسن مستوجب للتعظيم ، ورفع الدرجة ، وأن العاصى مستوجب لضد ذلك.

وأيضا : فإن الرب ـ تعالى قد أوجب الطاعات على المكلفين ، فإما أن يكون ذلك لفائدة ، أو لا لفائدة.

لا جائز أن تكون لا لفائدة ؛ إذ هو عبث ، وسفه.

وإن كان لفائدة : فإما أن تعود إلى الخالق ، أو إلى العبد.

لا جائز أن تعود إلى الخالق // ؛ إذ هو يتعالى ويتقدس عن الأغراض والضرر ، والانتفاع ، وإن عادت إلى العبد : فإما أن تعود إليه فى الدنيا ، أو فى الأخرى.

لا جائز أن يقال بالأول ؛ لأنّ العبادة محض عناء ، وتعب ، وكلفة ، ونصب ، وقطع النفس عن الشّهوات ، وأنواع الملاذ ؛ ولا نفع فيها فى الدّنيا ولا فائدة.

وإن كان الثانى : فهو المطلوب.

وأيضا فإنّ الله ـ تعالى ـ قد خلق فى المكلّف شهوة المعاصى ، والقبائح.

__________________

(١) راجع ما سبق فى الجزء الأول ل ١٨٦ / أ.

(٢) لمزيد من البحث والدراسة بالإضافة إلى ما ورد هاهنا : ارجع إلى الإرشاد للجوينى ص ٣٣١ وما بعدها ، وشرح الأصول الخمسة للقاضى عبد الجبار ص ٦١١ وما بعدها. وشرح المواقف للجرجانى ـ الموقف الخامس ص ٣٢٤ ، والموقف السادس ص ١٩٩ وما بعدها وشرح المقاصد للتفتازانى ٢ / ١٦٥ وما بعدها.

/ / أول ل ١٢٧ / ب.

فلو لم يعلم المكلف استحقاقه للعقاب على تقدير فعلها ؛ لكان ذلك من الله ـ تعالى ـ إغراء للمكلف بفعل القبيح ؛ فيكون قبيحا ، وهو على الله ـ تعالى ـ محال.

وبالجملة ؛ فحاصل إيجابهم للثّواب ، والعقاب على الله ـ تعالى ـ مبنى على التّحسين والتّقبيح العقلى ، ووجوب رعاية الحكمة فى أفعال الله ـ تعالى.

ومن حقّق ما أسلفناه فى التّعديل والتجوير (١) ؛ لم يخف عليه بطلان مثل هذه الحجج هاهنا غير أنه لا بدّ من تتبعها ، وزيادة الكشف فى إبطالها.

فنقول : أما إيجاب الثواب على فعل الطاعة بناء على كونه / مقتضى العقل فمبنى على التحسين والتقبيح العقلى ، وقد أبطلناه (٢).

وبتقدير التسليم لذلك جدلا.

ولكن لا نسلم أن ذلك من مستحسنات العقول ، وبيانه من أربعة أوجه : ـ

الأول : أنّ ما يأتى به العبد من الطّاعات فهى عندهم واجبة عليه ، شكرا لما أنعم الله عليه من النّعم الدنيوية ، ومن أدى واجبا ؛ فإنه لا يستوجب به بمقتضى العقل ثوابا ، ولا جزاء ؛ ولهذا فإنّ السيّد منّا إذا أحسن إلى عبده ومن هو فى رقه وملكه ، وأفاض عليه النعم ، وأزاح عنه النّقم ، فإنه يستحقّ بمقتضى العقل خدمة العبد له ، وطاعته إياه ، وما يفعله العبد من ذلك بطريق الاستحقاق ، والشكر لإحسان سيده إليه ، لا يكون بمقتضى العقل موجبا لمجازاة السيد إياه على ذلك الفعل (٣).

الثانى : أنه لو استوجب العبد بمقتضى العقل الثّواب الأبدى على فعل الواجب ؛ لاستوجب الرب ـ تعالى ـ الشكر الأبدى على العبد بالنعم السابقة ؛ بل أولى ، واللازم ممتنع.

وبيان الملازمة : أن عبادة العباد مع الآباد. لا توازى نعم الله ـ تعالى عليهم فى دار التكليف ساعة من نهار فإذا جاز بمقتضى العقل إيجاب الثّواب الأبدى على الله ـ تعالى ـ بطاعة العبد ، مع كونها واجبة شكرا لما أنعم الله به عليه ابتداءً ؛ فالقول بإيجاب الشّكر الأبدى لله ـ تعالى ـ على العبد بما أنعم الله تعالى ـ عليه به أولى ، واللازم ممتنع ؛ لما فيه فى لزوم التكليف فى دار الخلود ؛ وهو محال.

__________________

(١) انظر ما سبق ل ١٨٦ / أوما بعدها.

(٢) راجع ما سبق فى الجزء الأول ل ١٧٤ ، ب وما بعدها.

(٣) قارن بما ورد فى الإرشاد للجوينى ص ٣٢١ ، وشرح المقاصد للتفتازانى ٢ / ١٦٦.

الثالث : أنه لو استوجب العبد بطاعته الواجبة عليه الثواب على الله ـ تعالى (١) بمقتضى العقل ؛ لاستوجب الرب ـ تعالى ـ بمقتضى العقل شكرا آخر بإثابته للعبد وإن كانت الإثابة واجبة ، بل أولى ؛ لأنّ الرب ـ تعالى ـ أولى بالاستحقاق ؛ لابتدائه بالنعم ؛ وذلك يجرّ إلى التّسلسل الممتنع.

الرابع : أنه لو وجب الثّواب على الله ـ تعالى ـ لما وجد عنه محيدا ؛ وذلك يوجب كون الرب ـ تعالى ـ مضطرا فى فعله غير مختار ؛ وهو محال.

قولهم : إيجاب الطاعة لا بدّ وأن يكون لفائدة ، فمبنى على وجوب رعاية الحكمة فى أفعال الله تعالى وقد أبطلناه (٢).

ثم وإن سلّمنا وجوب رعاية الحكمة جدلا ، فما المانع أن يكون ذلك لحكمة غير الثواب.

قولهم : إما أن يعود إلى العبد فى الدنيا ، أو فى الآخرة ، ما المانع من كونها دنيوية؟

قولهم : لا فائدة له فيها دنيويا.

دعوى من غير دليل ، وعدم الوجدان لذلك مع البحث ، والسبر غير يقينى (٣) ، لما علم.

وأما استحقاق العقاب ، وايجابه على الله ـ تعالى فهو أيضا / ممتنع ؛ لأنّه إمّا أن يكون ذلك لفائدة ، أو لا لفائدة.

لا جائز أن يكون لا لفائدة ؛ إذ هو عندهم قبيح.

وإن كان لفائدة ، فإما أن تعود إلى الرّبّ ـ تعالى ، أو العبد.

الأول محال ؛ لما سبق (٤).

وإن عادت إلى العبد ؛ فلا يخفى أنه لا فائدة للعبد فى تحتم عقابه ، ولزوم عذابه على ما أسلفناه فى التعديل والتّجوير (٥).

__________________

(١) الى هنا انتهى المحذوف من النسخة ب (وبمعنى طريق الجنة / / بمقتضى العقل).

(٢) راجع ما سبق ل ١٨٦ / أ.

(٣) راجع ما سبق ل ٢٩ / ب.

(٤) راجع ما سبق ل ١٨٦ / ب.

(٥) انظر ما سبق ل ١٧٤ / ب وما بعدها.

قولهم : إنّ الله تعالى ـ قد خلق فى العبد شهوات المعاصى ، فلو لم يعلم العبد استحقاقه للعقاب بالمعصية ؛ لكان ذلك إغراء للعبد بالمعصية.

ليس كذلك ؛ بل لو قيل : إنّ خلق الشّهوة مع المنع باستحقاق العقاب يكون إغراء. كان أولى ، على ما قيل المرء حريص على ما منع.

وإن سلّمنا أنّ المنع ليس بإغراء ، لكن إن اعتبر فى المنع من الإغراء بالمعصية منع المكلف بأبلغ الطرق فكان من الواجب أن لا يقدر العبد على المعصية ؛ إذ هو أبلغ من التمكين مع استحقاق العقاب بالفعل ، وإلّا كان ذلك إغراء بالمعصية ، وإن لم يعتبر فى ذلك أبلغ الطرق فقد أمكن دفع الإغراء بعلم العبد ؛ بجواز عقابه ، وإسقاط ثوابه من غير إيجاب.

كيف وأنه يلزم على ما ذكروه أن يكون الرب ـ تعالى ـ مغريا بالمعصية للعبد حالة جهل العبد بالله ـ تعالى ـ وباستحقاقه للعقاب بمعصية حيث لم يخلق الله ـ تعالى له العلم الضرورى بذلك ، ولم يقل به قائل (١).

__________________

(١) لمزيد من البحث والدراسة فى قضية الثواب والعقاب.

انظر شرح الأصول الخمسة للقاضى عبد الجبار ص ٧٠٠ وشرح المواقف الموقف الخامس ص ٣٢٣ وما بعدها ، والموقف السادس ص ١٩٩ وما بعدها ، وشرح المقاصد للتفتازانى ٢ / ١٦٥ وما بعدها.

الفصل الثانى

فى أن ثواب أهل الجنة ، وعقاب الكفّار

غير واجب الدّوام عقلا ، بل سمعا

قد بيّنا أن مذهب أهل الحق : أن أصل الثواب والعقاب على الطاعة والمعاصى غير واجب عقلا على ما تقدم فى الفصل الّذي قبله (١). وكذلك الحكم فى دوامه ؛ إذ يستحيل أن يكون دوامه واجبا عقلا ، وأصله غير واجب ؛ بل وجوب دوامه إنما وقع مستفادا من السمع ؛ إذ القرآن / / والسنة مشحونان بخلود نعيم أهل الجنّة ، وعذاب الكفّار.

وأما المعتزلة : فإنهم قالوا بوجوب دوام نعيم المؤمنين ، وعذاب الكفار عقلا ، ونقل عن الصاحب بن عباد (٢) أنه قال : إنّما يجب خلود نعيم من علم الله ـ تعالى ـ منه أنه لو أبقاه فى دار الدّنيا ؛ لبقى على إيمانه ، وكذلك إنّما يجب خلود عذاب من علم الله ـ تعالى ـ منه أنّه لو أبقاه فى الدّنيا أبدا ؛ لبقى على كفره أبدا ، ولا يخلد من لم يعلم منه ذلك. وسنبين بعد الفراغ من حكاية شبه المعتزلة على مذهبهم ، وإبطالها ، ضعف مقالة ابن عباد على أصول المعتزلة ، وتناهيها فى الفساد.

وقد احتج المعتزلة على مذهبهم بحجج ، منها ما يعمّ الخلودين ، ومنها ما هو خاص بأحدهما دون الآخر.

أما الحجة العامة : فهو أنهم قالوا / الموجب لاستحقاق الثّواب ؛ هو الموجب لاستحقاق الثناء والمدح ، وكذلك الموجب لاستحقاق العقاب ؛ هو الموجب لاستحقاق الذّم والتّوبيخ.

__________________

(١) راجع ما سبق فى الفصل الأول ل ٢٢٧ / أ.

/ / أول ل ١٢٦ / أ.

(٢) هو إسماعيل بن عباد بن العباس أبو القاسم الطالقانى : ولد فى الطالقان (من أعمال قزوين) وإليها نسبته سنة ٣٢٦ ه‍ وتوفى بالرى ونقل إلى أصبهان فدفن بها سنة ٣٨٥ ه‍ استوزره مؤيد الدولة ابن بويه ، ولقب بالصاحب لصحبته مؤيد الدولة من صباه ؛ فكان يدعوه بذلك. كان من نوادر الدهر علما وفضلا وتدبيرا وجودة رأى له تصانيف جليلة ، وشعر جيد (له ديوان مطبوع) وكتبت عنه كتب وطبعت [معجم الأدباء لياقوت الحموى ٢ / ٢٧٣ ـ ٣٤٣ والأعلام للزركلى ١ / ٣١٦].

والثناء والمدح ، وكذلك اللّوم والتّوبيخ غير مقيّدين بزمان دون زمان ، بمقتضى العقل ؛ بل هو دائم ؛ فكذلك الموجب الآخر ، وهو الثواب والعقاب (١).

وأما الحجج الخاصة بخلود الثواب : فثلاث.

الأولى : هو أن الثّواب نفع محض لا يشوبه ضرر. وبيانه من وجهين :

الأول : هو أنّ التفضّل بمنافع خالية عن الضّرر حسن فى العقل ، وجائز ، فلو لم يكن الثواب مجردا عن الضرر ؛ لكان الفضل أحسن منه ؛ وذلك مما يبطل حسن التكليف.

الثانى : هو أنّ الله ـ تعالى ـ قد رغّب المكلّفين بتكليفهم ترك المنافع المشوبة بالاضرار إلى الثّواب ، فلو كان الثّواب نفعا مشوبا بالأضرار ؛ لما حسن التكليف ، والتّرغيب بترك نفع إلى مثله ؛ وإذا ثبت أن الثواب نفع محض لا يشوبه ضرر ، فلو علم المكلفون فى دار الثّواب ، تصرّم نعيمهم ، وأنّ ما هم عليه من النّعيم سينقطع ؛ لتنغّصت عليهم لذاتهم ، وخرج الثواب عن تمحّض النفع ؛ وذلك ممتنع.

الحجة الثانية : أنّه لو كان الثواب منقطعا ؛ لكان التّفضّل أحسن منه ؛ لجواز دوامه ، ويلزم من ذلك أن لا يكون التكليف حسنا ؛ وهو محال.

الحجة الثالثة : أنّه لو كان الثواب غير دائم لم يخل : إمّا أن يعتبر فيه التقدير بالأوقات ، أو لا يعتبر ذلك.

فإن كان الأول : فليس ثبوت الاستحقاق فى بعض الأوقات أولى من البعض ؛ ضرورة تشابه الأوقات.

وإن كان الثانى : أمكن حصوله فى حالة واحدة ؛ ضرورة عدم اعتبار الأوقات ثم يقطع عن المثاب ، وذلك مما لا يحسن الترغيب فيه بالتزام المشاق الدائمة ، وترك المنافع الدائمة بدوام أوقات الحياة فى الدنيا ، وذلك يمنع من حسن التكليف. وإذا بطل كل واحد من اللازمين ؛ لزم بطلان الملزوم.

وبمثل هذه الحجة يستدل على خلود العقاب أيضا.

__________________

(١) لتوضيح رأى المعتزلة بالإضافة لما ورد هاهنا انظر شرح الأصول الخمسة للقاضى عبد الجبار ص ٦١١ وما بعدها ، والمختصر فى أصول الدين له أيضا ص ٢٦ ضمن رسائل التوحيد والعدل.

وذلك بأن يقال : لو لم يكن العقاب دائما ؛ لم يخل : إمّا أن يعتبر فيه التقدير بالأوقات ، أو لا يعتبر.

فإن كان الأول : فهو محال ؛ لما تقدّم.

وإن كان الثانى : أمكن وصوله إلى المكلف دفعة واحدة كما فى أقرب زمان.

وعند ذلك : فلا يحسن أن يكون زاجرا عن الملاذ ، والمنافع المحرّمة ، المستمرة باستمرار الحياة ؛ لما فيه من التزام أضرار مستمرة ؛ خوفا من أضرار غير مستمرة ، وذلك مما يمنع من حسن التكليف بالمنع من المعاصى ؛ وهو محال.

والجواب عن الحجة الأولى : لا نسلم استحقاق الثّناء ، ولا الذّم دائما وإن سلمنا ذلك فما ذكروه تمثيل من غير دليل ؛ فلا يصح /.

وعن الحجج الخاصة :

أما الحجة الأولى : لا نسلمّ امتناع ثبوت الثّواب بالضّرر.

قولهم : إنّه يجوز التفضل بما لا يشوبه الضرر ، وذلك يمنع من حسن التّكليف ؛ فهو مبنى على التّحسين ، والتّقبيح ، ورعاية الحكمة فى أفعال الله ؛ وهو باطل كما سبق (١). ثم إن سلّم لهم هذا الأصل جدلا ؛ فما المانع على أصلهم أن يكون حسن التكليف بما فيه من تعظيم المثاب ، بكونه مكرما عالى الرتبة باستيفاء حقه ، بخلاف المتفضل عليه ؛ لكونه ممنونا عليه.

قولهم : إن الله ـ تعالى ـ قد رغّب المكلفين بتكليفهم المنافع المشوبة بالأضرار إلى آخره ، إنّما يلزم أن لو وقع التساوى فى / / أصل منفعة الثواب والمنافع المكلف بتركها ، وليس كذلك ؛ إذ جاز أن تكون منفعة الثّواب أكثر ، وبتقدير التساوى فى أصل المنفعة فإنّما يمتنع الترغيب أن لو وقع التساوى [فى ثبوت الضّرر ، وما المانع من أن يكون ثبوت الضّرر فيما كلف بتركه أكثر؟ وبتقدير التساوى] (٢).

__________________

(١) راجع ما سبق فى الجزء الأول ل ١٧٤ / ب وما بعدها.

/ / أول ل ١٢٦ / ب.

(٢) ساقط من (أ).

فلا يمتنع حسن التكليف ؛ لاختصاصه بالتّعظيم كما سبق.

كيف وأن ما ذكروه فمبنى على التحسين ، والتقبيح العقلى ؛ وهو باطل (١).

وإن سلمنا امتناع ثبوت الضرر للثّواب ، ولكن ما المانع من أن لا يخلق الله ـ تعالى ـ لأهل الجنان العلم بانقطاع النّعيم ؛ بل يلهيهم عن ذلك إلى حين انتهائه.

وعلى هذا فيكون نعيمهم خالصا عن شوب الكدر.

فلئن قالوا : النّعيم لا يتم دون كمال العقل. والعاقل لا يخلو عن خطور ذلك بعقله إذا كان جائزا.

قلنا : إذا كان خطور ذلك بعقله من مقدورات الله ـ تعالى ـ كما سبق ، جاز أن لا يخلقه له.

وعن الحجة الثانية : ما سبق فى الوجه الأول من تقرير الحجة التى قبلها.

وعن الحجة الثالثة : ما المانع أن يكون الثّواب مقدورا بالأوقات.

قولهم : ليس تقديره ببعض الأوقات ، دون البعض ، أولى من العكس ممنوع.

قولهم : الأوقات متشابهة.

قلنا : إلا أنّ مقادير الأوقات غير متشابهة ، فلا يلزم من تقدير الثّواب ببعض أعداد الأوقات تقديره بغيره.

وإن سلمنا جواز حصول الثّواب فى حالة واحدة فما المانع منه؟.

وما ذكروه فى تقريره فإنّما يلزم بتقدير التّساوى فى مقدار المنفعة.

وما المانع أن يكون مقدار منفعة الثّواب أكثر بأضعاف مضاعفة ، وبتقدير التّساوى فإنما يمتنع حسن التكليف أن لو لم يختص بالتعظيم على ما تقدم.

وبتقدير أن لا يختص بما يوجب حسنه عقلا فما ذكروه مبنى على التحسين والتقبيح العقلى ، وقد عرف إبطاله (٢).

__________________

(١) راجع ما سبق فى الجزء الأول ل ١٧٤ / ب وما بعدها.

(٢) راجع ما سبق فى الجزء الأول ل ١٧٤ / ب وما بعدها.

وعلى هذا : فقد خرج الجواب عما ذكروه فى الاحتجاج على وجوب دوام العقاب أيضا.

وأما ما ذهب إليه ابن عباد : فحاصله : يرجع إلى إيجاب الثواب الأبدى ، والعقاب الأبدى فى مقابلة ما كان يجوز أن / يقع ، وإن لم يقع ، وفيه ايجاب الثواب والعقاب ، من غير طاعة ولا معصية ، وهو خلاف أصول المعتزلة. ثم يلزم من ذلك أن من مات على كفره ، وقد علم الله أنه لو أحياه لآمن ، وأطاع طول دهره أن يثيبه على ذلك ، وكذلك من مات على إيمانه وقد علم الله أنّه لو أحياه لكفر أن يعاقبه ، ويخلده فى النار ، وكل ذلك خبط وتخليط خارج عن أصول القوم.

الفصل الثالث

فى استحقاق عصاة المؤمنين العقاب

على زلاتهم ، وجواز الغفران عنها عقلا

والّذي عليه إجماع المسلمين أنّ من مات على كفر ؛ فهو مخلد فى النار أبدا. وقد اختلفوا فى أهل الكبائر من المؤمنين إذا ماتوا عنها من غير توبة.

فالذى عليه إجماع المسلمين : أنهم ماتوا على الإيمان. خلافا للخوارج كما سيأتى تفصيل مذاهبهم ، والرّدّ عليهم فى الأسماء والأحكام (١).

ثم اختلف القائلون بإيمانهم ، فذهب بعض المرجئة (٢) : إلى أن المؤمن لا يستحق على زلته عقابا أصلا ، عاجلا ، ولا آجلا. وأنّه كما لا يستحق مع الشرك بالله ـ تعالى ـ بفعل الطّاعة ثوابا ؛ فلا يستحق مع الإيمان بالمعصية عقابا.

ومنهم من قال بأن المؤمن لا يعاقب على زلّاته فى العقبى ، وإنّما يعاقب عليها فى الدّنيا بالآلام ، والغموم ، والهموم ، والنقص فى الأموال ، والأنفس ، والثّمرات.

وذهب هؤلاء على قياس هذا القول : إلى أنّ ما يفعله الكفار من الخيرات وأنواع الطاعات ، مثابون عليها ؛ لكن فى الدنيا ، لا فى الأخرى ، فثواب الكافر ، وعقاب المؤمن معجّل.

وذهب أهل الحق : إلى جواز استحقاق المؤمن العقاب فى الأخرى على زلاته. ثم اختلفوا فى جواز غفرانه :

فذهبت الأشاعرة إلى جواز ذلك عقلا ، وسمعا (٣).

وذهب البصريون (٤) ، وبعض البغداديين (٥) من المعتزلة : إلى جواز ذلك عقلا ،

__________________

(١) انظر ما سيأتى فى القاعدة السابعة ـ الفصل الثالث ل ٢٤١ / ب وأيضا فى الفصل الرابع : فى أن مخالف الحق من أهل القبلة هل هو كافر أم لا؟ ل ٢٥٢ / أو ما بعدها.

(٢) أنظر آراء المرجئة فى الفصل الثالث من القاعدة السابعة : فى أن العاصى من أهل القبلة هل هو كافر أم لا؟ ل ٢٤١ / ب.

وأيضا فى الفصل الرابع : فى أن مخالف الحق من أهل القبلة هل هو كافر أم لا؟ ل ٢٥٤ / ب وما بعدها.

(٣) راجع الإرشاد لإمام الحرمين ٣٢٩ وشرح المواقف ـ الموقف السادس ص ٢٠٦ ـ ٢٠٩ وشرح المقاصد ٢ / ١٧٣.

(٤) البصريون هم الذين نشئوا بالبصرة ، وقد تحدثت عن أشهر رجال فرع البصرة فى هامش ل ١٤ / ب من الجزء الأول.

(٥) البغداديون هم الذين نشئوا ببغداد ، وقد تحدثت عن رجالهم فى هامش ل ١٤ / ب من الجزء الأول.

وامتناعه سمعا. وذهب بعض البغداديين من أتباع الكعبى : إلى امتناع ذلك عقلا وسمعا. هذا تفصيل المذاهب.

وأما الرد على المرجئة : فمن ثلاثة أوجه :

الأول : هو أنّ الزّلات الصّادرة عن المؤمن محرمات منعوتة بالقبح. ملام على فعلها ، مذموم عليها بالإجماع من المسلمين ومن المرجئة ، وما هذا شأنه فلا يمتنع فى العقل التواعد عليه ، واستحقاق العقاب به ؛ ولهذا كانت مقتضية لذلك قبل الإيمان بالإجماع ، ووجود الإيمان معها إن لم يكن مؤكدا لذلك ؛ فلا يكون مانعا ، فإنّ زلة العالم بالله ـ تعالى ـ المختص بكمال نعم الإيمان عليه تكون أفحش فى العرف والعقل ، من زلّة غيره ، فكانت أولى باستحقاق العقاب ، وإليه الإشارة بقوله تعالى ـ : (يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ) (١) وليس ذلك إلا لاختصاصهنّ بالمعرفة ، وكمال النّعمة بالقرب من النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ.

الوجه الثانى : ويخصّ المنكرين لاستحقاق العقوبة فى الدّنيا ، والأخرى ، وهو أن يقال : المسلم إذا زنى ، أو سرق ، أو شرب الخمر ؛ فإنّه يقام عليه الحدّ بالإجماع.

وعند ذلك : فإما أن يقال إنّ الحدّ عقوبة على ما صدر عنه ، أو لا يقال بذلك.

لا جائز أن يقال بالثانى ؛ لأنه على خلاف إجماع المسلمين ، ونصوص الكتاب ، والسنّة ؛ وذلك كما فى قوله ـ تعالى ـ : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ) (٢) وكقوله ـ تعالى فى حقّ الزّناة (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٣).

فإن كان الأول : فهو المطلوب.

الثالث : وهو أيضا يخص مذهب المنكرين لاستحقاق العقوبة مطلقا :

أنّه ملام ، مذموم على المعصية بالإجماع ، والذم ، واللوم نوع من العقوبة ؛ إذ لا معنى للعقوبة إلا ما يتضرر بها ، واللوم ، والذّمّ ممّا يتضرر به كل عاقل ؛ فكان عقوبة.

__________________

(١) سورة الأحزاب ٣٣ / ٣٠.

(٢) سورة المائدة ٥ / ٣٨.

(٣) سورة النور ٢٤ / ٢.

فإن قيل : ما ذكرتموه ، وإن دلّ على استحقاق العقوبة غير أنّه معارض من جهة السمع بما يدلّ على عدمه ، ودليله قوله ـ تعالى ـ : (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ* قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ) (١) وذلك يدل على أنّ كلّ من يدخل النار ؛ فإنه يكون مكذّبا للرّسول ، والمؤمن غير مكذب للرسول ؛ فلا يدخل النّار.

وأيضا قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) (٢) والمؤمن غير مكذب ؛ فلا يكون معذبا.

وأيضا قوله ـ تعالى ـ : (فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى* لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى* الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى) (٣) والمؤمن غير مكذّب فلا يدخل النّار.

وأيضا قوله ـ تعالى ـ : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) (٤) غير أنّه قد خص بالكافر ، فيبقى فيما عداه على العموم. وأيضا : قوله ـ تعالى ـ : (وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) (٥) دلّ على أنّ المجازاة لا تكون إلا للكفور ، وصاحب الكبيرة ، ليس بكافر (١٣) بدليل قوله ـ تعالى ـ : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي) (٦) سماهم مؤمنين حالة كونهم بغاة.

وأيضا فإنّ صاحب الكبيرة وإن لم يتب عنها مؤمن ؛ لما ذكرناه فلو دخل النار ، كان مخزيا لقوله ـ تعالى ـ : (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) (٧) والمؤمن غير مخزى لقوله ـ تعالى ـ : (يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ / وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) (٨) وقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ) (٩) ولقوله ـ تعالى ـ : حكاية عن المؤمنين (وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ) (١٠) وقوله ـ تعالى ـ : (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ) (١١).

وأيضا قوله ـ تعالى ـ : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ* ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ* وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ* تَرْهَقُها قَتَرَةٌ* أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) (١٢). حكم على أرباب الوجوه

__________________

(١) سورة الملك ٦٧ / ٨ ، ٩.

(٢) سورة طه ٢٠ / ٤٨.

(٣) سورة الليل ٩٢ / ١٤ ، ١٥ ، ١٦.

(٤) سورة الزمر ٣٩ / ٥٣.

(٥) سورة سبأ ٣٤ / ١٧.

(٦) سورة الحجرات ٤٩ / ٩.

(١٣) أول ل ١٢٨ / ب.

(٧) سورة آل عمران ٣ / ٩٢.

(٨) سورة التحريم ٦٦ / ٨.

(٩) سورة النحل ١٦ / ٢٧.

(١٠) سورة آل عمران ٣ / ١٩٤.

(١١) سورة آل عمران ٣ / ١٩٥.

(١٢) سورة عبس ٨٠ / ٣٨ ـ ٤٢.

المغبرة المقترة ؛ بأنهم أرباب العذاب بالكفر ، وصاحب الكبيرة ليس كافرا ؛ لما تقدّم (١) ؛ ولما يأتى فيما بعد (٢).

وأيضا : قوله تعالى (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) (٣) فإنّه يعمّ كلّ ظالم ، سواء تاب ، أو لم يتب ؛ غير أنه قد خصّ بالكفار ؛ فوجب العمل به فيما سواهم.

والجواب : هو أن ما ذكروه إنما يصحّ الاستدلال به ، أن لو ثبت لهم العموم فى كل واحد من النصوص المذكورة ، وهو غير مسلم ، وبتقدير التسليم لذلك ؛ فيجب اعتقاد التّخصيص فى كل واحد منهما جمعا بينه ، وبين ما ذكرناه من الدليل.

كيف : وأن ما ذكروه من النّصوص معارضة بنصوص أخرى تدلّ على مناقضة ما ذكروه من جهة الكتاب ، والسنة.

أما من جهة الكتاب : فقوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ* وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (٤).

وقوله تعالى : ـ (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) (٥) وقوله تعالى : ـ (وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) (٦) وقوله تعالى : ـ (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) (٧) وقوله تعالى : ـ (فَأَمَّا مَنْ طَغى * وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا* فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى) (٨) وقوله تعالى : ـ (وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (٩) وقوله تعالى : ـ (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً) (١٠) وقوله تعالى : ـ (وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) (١١) وقوله تعالى : ـ (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) (١٢) وذلك يدل على وقوع عقابهم فى الجملة.

__________________

(١) انظر ما سبق ل ٢٢٦ / أمن هذا الفصل

(٢) انظر ما سيأتى فى القاعدة السابعة ل ٢٤٠ / ب وما بعدها.

(٣) سورة الرعد ١٣ / ٦.

(٤) سورة الأنفال ٨ / ١٥ ، ١٦.

(٥) سورة طه ٢٠ / ٧٤.

(٦) سورة طه ٢٠ / ١١١.

(٧) سورة الأنعام ٦ / ١٦٠.

(٨) سورة النازعات ٧٩ / ٣٧ ـ ٣٩.

(٩) سورة الزلزلة ٩٩ / ٨.

(١٠) سورة مريم ١٩ / ٨٦.

(١١) سورة مريم ١٩ / ٧٢.

(١٢) سورة فاطر ٣٥ / ٤٥.

وقوله تعالى : ـ (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) (١) الآية. وقوله تعالى : ـ (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) (٢) إلى غير ذلك من الآيات.

وأما من جهة السنة : فلقوله عليه‌السلام : من غصب شبرا من أرض طوّقه من سبع أرضين يوم القيامة (٣).

وقوله عليه‌السلام «من كان ذا لسانين ، وذا وجهين كان فى النّار ذا لسانين وذا وجهين (٤)» إلى غير ذلك من الأخبار ،

وإذا تعارضت النصوص ، سلم لنا ما ذكرناه من المعقول.

وأما الردّ على المنكرين لجواز الغفران عقلا : فمن جهة السمع ، والعقل :

أما من جهة العقل : فهو أن العفو والصفح عن مستحق العقوبة محمود بين / العقلاء ، ومعدود من المكارم ، والمعالى ، وصفات الكمال ، والمدح ، ولذلك ندب الشارع إليه بقوله تعالى : ـ (وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٥) وقوله تعالى : ـ (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) (٦) ، وإذا كان ذلك من مستحسنات العقول ، والشّرع ممن ينتفع ، ويتضرّر ويحصل له التشفي ، والانتقام ، ودفع أضرار الغيظ بالعقوبة ، واستيفائها ، فاستحباب ذلك من الله ـ تعالى ـ مع تعاليه عن الضّرر ، والانتفاع ، والتّشفى ، والانتقام أولى ، وما هذا شأنه فكيف يكون ممتعا؟

وأما من جهة السمع : فلقوله تعالى : ـ (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (٧) وهو صريح فى المطلوب.

__________________

(١) سورة المطففين ٨٣ / ١.

(٢) سورة النساء ٤ / ١٠.

(٣) رواه مسلم فى صحيحه ١١ / ٤٨ وما بعدها ـ كتاب المساقاة ـ باب تحريم الظلم ، وغصب الأرض ، وغيرها.

بروايات متعددة منها : عن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل رضى الله عنه : أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : «من اقتطع شبرا من الأرض ظلما طوّقه الله إيّاه يوم القيامة من سبع أرضين».

(٤) ورد فى كتاب الترغيب والترهيب للمنذرى ٣ / ٦٠٤ باب ترهيب ذى الوجهين ، وذى اللسانين.

(٥) سورة التغابن ٦٤ / ١٤.

(٦) سورة البقرة ٢ / ٢٣٧.

(٧) سورة النساء ٤ / ٤٨.

وقوله تعالى : ـ (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) (١) وقوله تعالى : ـ (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ) (٢) وقوله تعالى : ـ (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٣) وقوله تعالى : ـ (وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (٤) وقوله تعالى : ـ (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) (٥) وقوله تعالى : ـ (غافِرِ الذَّنْبِ) (٦) وقوله تعالى : ـ (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ) (٧) (١٢) وقوله تعالى : ـ (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً) (٨) وقوله تعالى : ـ (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) (٩).

وأيضا : فإنّ الأمة مجمعة على ثبوت الشّفاعة للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والنّصوص دالّة عليه كقوله عليه‌السلام : «ادخرت شفاعتى لأهل الكبائر من أمتى» (١٠).

وقوله عليه‌السلام فى أثناء حديث مطول : «إذا كان يوم القيامة أخرّ ساجدا بين يدى ربّى فيقول لى يا محمد : ارفع رأسك ، وسل تعط ، واشفع تشفع.

فأقول يا رب أمتى أمتى : فيقول لى انطلق فمن كان فى قلبه مثقال شعيرة من إيمان فأخرجه ؛ فانطلق وأخرجه ، ثم أسجد ثانية ، وثالثة فإذا كانت الرابعة ، قلت يا رب أتأذن لى فيمن قال لا إله إلا الله :؟ فيقول الرب تعالى : «وعزتى وجلالى لأخرجن منها كل من قال لا إله إلا الله (١١)» وذلك كله دليل على جواز العفو ، والغفران من الله تعالى.

فإن قيل : ما ذكرتموه من الدليل العقلى على جواز الغفران مما يمتنع العمل به لوجهين :

__________________

(١) سورة الشورى ٤٢ / ٣٠.

(٢) سورة الشورى ٤٢ / ٢٥.

(٣) سورة البقرة ٢ / ١٧٣.

(٤) سورة يونس ١٠ / ١٠٧.

(٥) سورة الرعد ١٣ / ٦.

(٦) سورة غافر ٤٠ / ٣.

(٧) سورة الكهف ١٨ / ٥٨.

(٨) سورة نوح ٧١ / ١٠.

(١٢) أول ل ١٢٩ / أ.

(٩) سورة الزمر ٣٩ / ٥٣.

(١٠) هذا الحديث صحيح بطرقه ، وشواهده. رواه الإمام أحمد فى المسند ٣ / ٢٣٠ وأبو داود رقم (٤٧٣٩) فى السنة ـ باب فى الشفاعة ، وصححه ابن حبان فى صحيحه رقم (٢٥٩٦) ، والحاكم فى المستدرك ١ / ٦٩.

(١١) هذا الحديث متفق عليه رواه البخارى ، ومسلم فى صحيحيهما عن أبى هريرة رضى الله عنه ـ وقد ذكر الآمدي بعضه فقط للاستشهاد والحديث بتمامه فى البخارى ومسلم ، وكثير من كتب الحديث. فتح البارى بشرح صحيح البخارى ٨ / ٢٤٧ كتاب : التفسير ـ باب : ذرية من حملنا مع نوح. وصحيح مسلم ـ كتاب الإيمان ـ باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها حديث رقم ١٩٤ والترمذي رقم (٢٤٣٦) فى صفة القيامة : باب ما جاء فى الشفاعة.

ومسند أحمد بن حنبل ٢ / ٤٣٥ ، ٥٤٠ من حديث أبى هريرة رضى الله عنه.

الأول : أنّه لو جاز العفو. فما من أحد إلا ويحدث نفسه بجواز العفو عنه ، والصفح عن ذنبه ؛ وذلك مما يسهل عليه الإقدام على المعصية ، وهو إغراء من الله ـ تعالى ـ للعبد بالمعصية. والإغراء بالمعصية قبيح ؛ وهو مستحيل فى حق الله ـ تعالى.

الثانى : أنّه إذا جاز العفو. فإما : أن يدخله الجنّة ، أو لا يدخله الجنة ـ الثانى / خلاف الإجماع وإن أدخله الجنة ؛ فيلزم من ذلك أن يكون التفضل ، مساويا للثّواب ؛ وهو ممتنع لما سبق.

كيف وأن ما ذكرتموه ينتقض بوصف الذّم فإنه عقوبة ، ومع ذلك فإنه لا يسقط بإسقاط المستحق ، وينتقض بكثير من الحقوق الثابتة ؛ فإنها لا تسقط بإسقاط المستحق لها : كالثواب المستحق للعبد.

فإنه لا يسقط بإسقاطه ، وكذلك شكر المنعم ؛ فإنه حق له ، ولا يسقط بإسقاطه.

وأما قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (١). لا نسلم صيغة العموم فى قوله تعالى : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) ولهذا يصح أن يقال كل ما دون ذلك أو بعضه ، فلو كانت للعموم ؛ لما حسن هذا الاستفسار.

وإن سلمنا العموم ، غير أنه يجب حمله على حالة التوبة ، على الصغائر وهو إن كان على خلاف الظاهر ؛ غير أنه محتمل ، وقد تأيد بالدليل العقلى على ما ذكرنا (٢) ، وبما سيأتى من الأدلة السمعية عن قرب (٣).

سلمنا تناوله للكبيرة فى غير حالة التوبة ، غير أنه لا يدل على ذلك مطلقا ؛ بل مشروطا بالمشيئة لقوله تعالى (لِمَنْ يَشاءُ) وذلك يتوقف على وجود المشيئة ؛ فلم قلتم بوجودها فيما نحن فيه؟.

سلمنا وجوب وجود المشيئة غير أن المغفرة قد تطلق بمعنى إسقاط العقوبة ، وقد تطلق بمعنى تأخير العقوبة ؛ وليس الحمل على الإسقاط أولى من التأخير ، وبيان إطلاق المغفرة بمعنى : تأخير العقوبة.

__________________

(١) سورة النساء ٤ / ١١٦.

(٢) انظر ما سبق ل ٢٢٧ / أوما بعدها.

(٣) راجع ما سيأتى ل ٢٢٨ / ب.

قوله تعالى : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) (١) والمراد بالمغفرة هنا إنما : هو تأخير العقوبة لا إسقاطها ؛ لأن الآية وردت فى حق الكفار ، والعقوبة غير ساقطة عنهم إجماعا.

ويدل عليه أيضا : قوله تعالى : (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ) (٢) وهو صريح فى المغفرة بمعنى : تأخير العقوبة.

سلمنا أن المغفرة ظاهرة فى إسقاط العقوبة ، غير أنه قد اقترن بها ما يدل على إرادة الغفران بجهة تأخير العقوبة.

ودليله قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ) إلى قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (٣).

ووجه الاحتجاج به أنه خاطب الكفار ، وحذرهم من تعجيل العقوبة على ترك الإيمان بالشرك ثم قال : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) أى لا يؤخر عقوبة الشرك ؛ بل يعجلها.

وقوله : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ) مقابل لقوله / تعالى : (لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) فإذا كان معنى سلب الغفران : تعجيل العقوبة ، فالغفران المقابل له ، يكون بتأخير العقوبة.

سملنا دلالة الآية على المغفرة بمعنى : إسقاط العقوبة. غير أنه أراد به / / إسقاط كل واحد واحد من أنواع العقوبة ، أو جملة العقوبات ، أو بعض أنواعها ،

لا سبيل إلى الأول ؛ لعدم دلالة اللفظ عليه ،

وإن كان الثانى : فلا يلزم من كونه لا يعاقب بكل أنواع العقوبة أن لا يعاقب ببعضها.

وإن كان الثالث : فلا يلزم من إسقاط بعض أنواع العقوبة إسقاط البعض الآخر.

وأما باقى النصوص ؛ فلا نسلم العموم فيها.

__________________

(١) سورة الرعد ١٣ / ٦.

(٢) سورة الكهف ١٨ / ٥٨.

(٣) سورة النساء ٤ / ٤٧ ، ٤٨.

/ / أول ل ١٢٩ / ب.

وبتقدير التسليم : فيجب حملها على حالة التوبة والصغائر ؛ لما سبق فى النص الأول.

وأما ما ذكرتموه من إثبات الشفاعة ؛ فهو معارض بما يدل على عدمها ، ودليله قوله تعالى : (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) (١) وقوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ) (٢) وقوله تعالى : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) (٣) والفاسق غير مرتضى ، وقوله تعالى : (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) (٤) وقوله تعالى : (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) (٥) وقوله تعالى : (ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) (٦) وقوله عليه‌السلام : «لا ينال شفاعتى أهل الكبائر من أمتى» (٧).

سلمنا وجود الشفاعة ؛ غير أنه ليس فى ذلك ما يدل على إسقاط العقوبة ، فإن الشفيع قد يكون فى طلب الخيرات ، كما يقال شفع فلان إلى الملك فى إعطاء بلدة لفلان.

وقد تكون فى طلب دفع السوء ، وإزاحة الضرر : كما يقال : شفع فلان إلى الملك فى إطلاق فلان من الحبس ، والأصل فى الإطلاق الحقيقة. كيف وأن الشفيع مأخوذ من الشفع ، وهو الشبيه ، والشفيع فى الصورتين يصير شفيعا للمشفوع له ، فكان إطلاق اسم الشفيع فى الصورتين حقيقة ، وبتقدير كونه شفيعا فى طلب الخيرات ، وزيادة النعم لا يلزم منه إسقاط العقوبة.

__________________

(١) سورة غافر ٤٠ / ١٨.

(٢) سورة البقرة ٢ / ١٢٣.

(٣) سورة الأنبياء ٢١ / ٢٨.

(٤) سورة الزمر ٣٩ / ١٩.

(٥) سورة البقرة ٢ / ٢٧٠.

(٦) سورة يونس ١٠ / ٢٧.

(٧) راجع سنن الترمذي ـ كتاب صفة القيامة ـ باب ما جاء فى الشفاعة ٤ / ٦٢٥ وقد رد الآمدي على هذه الشبه فيما يأتى ل ٢٣١ / أ.

سلمنا أن الشفاعة لا تكون إلا لطلب دفع الضرر ، غير أنه يجب حمل ذلك على الصغائر ، وحال التوبة لما سبق (١).

سلمنا دلالة ما ذكرتموه على العفو والغفران بالنسبة إلى أهل الكبائر من غير توبة ؛ غير أنه معارض بما يدل على نقيضه وهو ما ذكرتموه من نصوص الوعيد ، فى معارضة المرجئة ، والترجيح لآيات الوعيد. من وجهين :

الأول : أن أكثرها خاص بالكبائر ، وآيات الوعيد فعامة / للصغائر ، والكبائر.

والثانى : أن أكثر طباع الناس مجبولة على الشر ، والظلم دون الخير ، فكان احتياجهم إلى شرع الزواجر أولى.

والجواب :

قولهم (٢) : ما ذكرتموه يلزم منه أمر ممتنع.

لا نسلم.

قولهم : يلزم منه الإغراء بالمعصية فهو مبنى على التحسين والتقبيح العقلى (٢). وقد أبطلناه (٣).

وإن سلمنا ذلك : لكنه يلزم منه تقبيح العفو شاهدا ؛ وهو خلاف إجماع العقلاء.

ثم هو منقوض بالتوبة ، فإنهم قالوا بوجوب قبولها ، ولا يخفى أن ذلك مما يسهل على العاصى الإقدام على المعصية أيضا ؛ ثقة منه بالتوبة حسب وثوقه بالغفران ؛ بل أبلغ من حيث إن التوبة مقدورة بخلاف الغفران ؛ فكان يجب أن لا تقبل توبته ؛ لما فيه من الإغراء ؛ وهو خلاف الإجماع.

فلئن قالوا : هو غير واثق بالإمهال إلى التوبة ؛ فهو أيضا غير واثق بالعفو.

قولهم : يلزم أن يكون التفضل مساويا للثواب ؛ فقد سبق جوابه.

قولهم : إنه منقوض بالذم ، ليس كذلك ؛ فإن الذم إما أن لا يكون مستحقا للمسقط ، أو يكون مستحقا له.

__________________

(١) راجع ما سبق ل ٢٢٨ / أ.

(٢) من أول (قولهم : إلى والتقبيح العقلى) ساقط من ب.

(٣) راجع ما سبق فى الجزء الأول ل ١٧٤ / ب وما بعدها.

فإن كان الأول : فلا نقض.

وإن كان الثانى : فإما أن يكون من قبيل ما يمكن سقوطه بالإسقاط ، أو لا يكون كذلك.

فإن كان أول : فهو خلاف الفرض.

وإن كان الثانى : فلا يرد نقضا على إسقاط العقوبة ؛ لإمكانه عقلا.

قولهم : ينتقض بالثواب المستحق للعبد على الله ـ تعالى ـ فهو مبنى على إيجاب الثواب على الله ـ تعالى ـ وقد أبطلناه (١). وبتقدير استحقاق العبد للثواب غير أن إسقاطه غير نافع عمن يسقطه عنه وهو الله ـ تعالى ـ ؛ إذ هو متعال عن الإضرار ، والانتفاع بخلاف إسقاط العقوبة عن العبد ؛ نافعة له ولا يلزم من تحسين إسقاط حق نافع للمستحق عليه ، تحسين إسقاط حق غير نافع له.

قولهم : ينتقض باستحقاق الشكر.

ليس كذلك ، فإنه إن أريد بالشكر المستحق إظهار النعمة بالتلفظ ، أو غيره.

فلا نسلم أنه لا يمكن إسقاطه ، وإن أريد به اعتقاد كون المشكور منعما متفضلا ؛ فذلك مما لا سبيل إلى إسقاطه ؛ إذ هو معلوم بالضرورة.

وإن أريد به غير ذلك فلا بد من تصويره ، والدلالة عليه.

قولهم : فى الاعتراض على الآية الأولى لا نسلم صيغة العموم.

قلنا : نحن وإن أنكرنا صيغة العموم ، فلا نمنع من فهم العموم من القرائن كما أسلفنا (٢) وقرينة التعميم هاهنا ظاهرة ؛ لأنه لو لم يكن / / قوله (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ) (٣) عام فيما عدا الكفر ، بل كان بعضه مما لا يغفر ؛ لما كان لتخصيص الشرك بقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) (٤) دون غيره مما لا يغفر فائدة.

__________________

(١) راجع ما سبق فى الجزء الأول ل ١٨٦ / أوما بعدها.

(٢) انظر ما سبق ل ٢٢٨ / أ.

/ / أول ل ١٣٠ / أ.

(٣) سورة النساء ٤ / ٤٨.

(٤) سورة النساء ٤ / ٤٨.

قولهم : يجب حمله على / حالة التوبة فهو خلاف الظاهر ، وما ذكروه من الدليل العقلى ؛ فقد أبطلناه (١) ، وما يذكرونه من الدليل السمعى ؛ فسيأتى إبطاله (٢).

كيف وأنه يمتنع حمله على حالة التوبة عن الذنب لثلاثة أوجه :

الأول : هو أن العفو ، والغفران حالة التوبة عندهم واجب ، وذلك مما يمتنع تعليقه بالمشيئة عرفا وعادة ، وإن كان واقعا بالمشيئة.

والثانى : أنه فرق فى الآية بين المعصية بالكفر ، وغيره حيث قال تعالى : (لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ) وفى حالة التوبة ، فالفرق غير متحقق لا محالة.

الثالث : هو أن المراد من قوله تعالى (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) إنما هو غفران التفضل ؛ لأن غفران التوبة واجب عندهم ، فلو كان قوله تعالى : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ) محمولا على حالة التوبة ؛ لكان الغفران واجبا ، لا تفضلا ، ولا يكون الكلام منتظما كما لو قال القائل : فلان لا يتفضل بدينار ، ولكنه يعطى ما دونه لمستحقه. وهذا بخلاف ما لو قال : فلان لا يتفضل بدينار ؛ لكنّه يتفضل بما دونه.

قولهم : إنه مشروط بالمشيئة.

قلنا : المشروط بالمشيئة نفس الغفران ، أو المغفور له.

الأول ممنوع ، والثانى مسلم.

ولهذا : فإنه لو قال القائل : إنى معط هذا الدينار لمن شئت من هؤلاء الجماعة ، فإن إعطاء الدينار ، يكون مقطوعا به ، غير معلق بالمشيئة بخلاف المعطى.

سلمنا أن المعلق بالمشيئة هو الغفران ؛ غير أن ذلك يدل على جوازه ، وإلا فلو كان ممتنعا لما كان للفرق بينه ، وبين الشرك معنى.

قولهم : المغفرة قد تطلق بمعنى تأخير العقوبة ، وقد تطلق بمعنى إسقاط العقوبة.

قلنا : الحمل على إسقاط العقوبة أولى ؛ لثلاثة أوجه :

__________________

(١) راجع ما سبق ل ٢٢٨ / أوما بعدها.

(٢) انظر ما سيأتى ل ٢٣٠ / أوما بعدها.

الأول : أن المتبادر إلى الأفهام من إطلاق لفظ العفو ، والمغفرة [إسقاط العقوبة] (١) دون تأخير العقوبة ، فإن حمله عليه أظهر ، وأولى ،

الثانى : أنه لو حمل لفظ المغفرة فى الآية على تأخير العقوبة ؛ للزم منه تخصيص قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) (٢) ؛ لأن عقوبة الشرك مؤخرة فى حق كثير من المشركين ؛ بل ربما كانوا فى أرغد عيش ، وأطيبه بالنسبة إلى عيشة المؤمن. كما سبق تقريره وألا يفرق فى مثل هذه الصور بين الشرك وما دون الشرك ؛ بخلاف الحمل على إسقاط العقوبة.

الثالث : أن الأمة من السلف قبل ظهور المخالفين ، لم يزالوا مجمعين على حمل لفظ المغفرة فى الآية على سقوط العقاب / ، وما وقع عليه إجماع الأمة ؛ فهو الصواب ، وضده لا يكون صوابا ، على ما قاله عليه‌السلام : «أمتى لا تجتمع على الخطأ». وقد قررنا ذلك فيما تقدم (٣).

وعلى هذا فقد اندفع قولهم : إن لفظ المغفرة فى الآية قد اقترن به ما يدل على إرادة المغفرة بمعنى تأخير العقوبة.

قولهم : أراد به إسقاط جملة العقوبات ، أو كل واحد ، واحد ، من أنواعها ، أو البعض دون البعض.

قلنا : بل المراد إسقاط كل واحد واحد ، وبيانه أن قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) سلب الغفران. فإذا كان المفهوم من الغفران ، إسقاط العقوبة ؛ فسلب الغفران سلب السلب ؛ فيكون إثباتا ومعناه إقامة العقوبة.

__________________

(١) ساقط من (أ).

(٢) سورة النساء ٤ / ٤٨.

(٣) عن الإجماع وحجيته ، وعصمة الأمة عن الوقوع فى الخطأ وإجماعها عليه ، تحدث الآمدي عن هذا الموضوع بالتفصيل فى الأبكار وأستدل على صحة قوله بأكثر من عشرة أحاديث وقال «وهذه أخبار مروية فى الكتب الصحاح منقولة على لسان الثقات لم يوجد لها نكير (انظر ما سبق فى الجزء الأول ل ٢٧ / أوما بعدها) كما ذكر هذه الأحاديث فى كتابة الإحكام ص ١٦٢ وما بعدها مقدما لها بقوله : «وأما السنة : وهى أقرب الطرق فى إثبات كون الإجماع حجة الخ» انظر هامش ل ٢٧ / أوما بعدها من الجزء الأول.

وعند ذلك : فإما أن يكون المفهوم [من] (١) قوله : (لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) إقامة كل أنواع العقوبات ، أو بعضها ، لا سبيل إلى الأول ، لاستحالة الجمع بين العقوبات المتضادة ، ولأن ذلك غير مشروط فى حق الكافر إجماعا ، فلم يبق إلا الثانى ، ويلزم من ذلك أن يكون الغفران فيما دون الشرك بإسقاط كل عقوبة ، وإلا لما تحقق الفرق بين الشرك ، وما دونه.

وأما ما ذكروه على باقى النصوص من منع العموم ، فمندفع فإنها : إما أن تكون عامة فى نفس الأمر ، أو لا تكون عامة.

فإن كان الأول : فهو المطلوب ، [وإن كان الثانى : فيحتمل أن يكون مدلولها هو نفس محل النزاع ، ويحتمل / / أن يكون غيره] (٢) ، وغير محل النزاع لا يخرج عن حالة التوبة ، والصغائر ، والعفو ، والغفران فى ذلك واجب عندهم ، ومحل النزاع الكبائر من [غير] (٣) توبة وهو متفضل بالغفران فيه ، واحتمال دلالتها على محل النزاع أولى من غيره ؛ لأنها إنما وردت فى معرض الامتنان ، والإنعام بالعفو والغفران ؛ وذلك أولى بحالة التفضل من حالة الوجوب على ما لا يخفى ، وبه يبطل التأويل أيضا.

وأما ما ذكروه من المعارضات لدليل الشفاعة فمندفعة ، أما قوله تعالى : (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) (٤) فلا نسلم أن صيغة الجمع للعموم فإنها قد ترد تارة للاستغراق ، وتارة للخصوص ، وليس جعلها حقيقة فى أحد الأمرين أولى من الآخر ؛ بل جعلها ظاهرة فى البعض أولى ؛ لتيقنه ، والشك فيما زاد ؛ ولأنه يحسن الاستفسار عنها ، هل المراد بها الكل ، أو البعض؟ ولو كانت للعموم ، لما حسن الاستفسار.

__________________

(١) ساقط من (أ).

/ / أول ل ٣٠ / ب.

(٢) ساقط من (أ).

(٣) ساقط من (أ).

(٤) سورة غافر ٤٠ / ١٨.

وعلى هذا : فأمكن أن يكون المراد من الظالمين الكفار ؛ فإن الكفار ظلمة على ما قال ـ تعالى : (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (١).

وإن سلمنا العموم غير أنه / يجب حمله على الكفار ؛ ضرورة الجمع بينه ، وبين ما ذكرناه من الدليل ، وربما قيل بموجب هذه الآية من حيث إنها نفت أن يكون فى الآخرة شفيع مطاع ، ولا يلزم من نفى الشفيع المطاع ؛ نفى الشفيع مطلقا ، وهو بعيد من جهة أن الطاعة فى اللغة عبارة عن فعل مراد الطالب.

وسواء كان الطالب مساويا ، أو أعلى أو أدنى ، ولذلك قال عليه‌السلام لابن عباس : «إن أطعت الله أطاعك» : أى إن فعلت ما أراد ؛ فعل ما تريد ، وقد حققنا ذلك فيما تقدم (٢) ، ولو لم يكن فى الآخرة شفيع مطاع ؛ لما كان مراده حاصلا من شفاعته ، وهو خلاف مطلوبنا ، وقوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ) (٣).

فنحن وإن سلمنا جدلا أن العموم له صيغة غير أن الضمير فى قوله تعالى : (وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ) إنما هو عائد إلى النفس المذكورة ثانيا ، وهى نكرة ، والأصل فى النكرات الخصوص ، إلا إذا كانت منفية كقولهم : لا رجل فى الدار ، أو نفى عنها شيء كقولهم : ما جاءنى أحد. والنفس المذكورة ثانيا غير منفية ، ولا نفى عنها شيء فتبقى على الخصوص.

وعلى هذا : فيمكن أن يكون المراد منها النفس الكافرة ، ويجب الحمل عليها جمعا بين الدليلين.

فإن قيل : النكرة وإن لم تكن منفية ، ولا نفى عنها شيء إلا أنها إذا كانت متعلقة بما نفى عنه شيء ، فتكون عامة كما لو قال القائل : والله لا شربت ماء من إداوة (٤) ، فإن المنفى : هو الشرب ، والماء محله ، والإداوة عمل المحل ، ومع ذلك فإنه يعم كل إداوة ، حتى أنه يحرم الشرب من أى إداوة كان.

__________________

(١) سورة البقرة ٢ / ٢٥٤.

(٢) راجع ما تقدم ل ٢٢٧ / ب.

(٣) سورة البقرة ٢ / ١٢٣.

(٤) الإدواة : إناء صغير يحمل فيه الماء (ج) أداوى. [المعجم الوسيط مجمع اللغة العربية ـ الطبعة الثالثة ـ باب الهمزة. ١ / ١٠].

قلنا : هذا يدل على كون الإداوة مطلقة لا عامة ، وإلا فلو كان اللفظ مقتضيا للعموم فى كل إداوة ، لحرم الشرب من باقى الإداوات ، بعد شربه من واحدة منها ، وليس كذلك.

وقوله تعالى : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) (١) فهو حقيقة فى ذات المشفوع له. والرضى غير متعلق بذاته ؛ ولهذا فإنه لا يقال رضيت ذات فلان ؛ فلا بد من التجوز ، فكما يمكن التجوز بذلك عمن ارتضى أفعاله ، فيمكن التجوز به عمن ارتضيت الشفاعة له ؛ وليس أحد المجازين أولى من الآخر.

وبتقدير أن يكون المراد منه ، من ارتضيت الشفاعة له ؛ لا يدل على نفى الشفاعة إلا بتقدير عدم الرضا بالشفاعة ، ولا سبيل إلى بيانه فى محل النزاع.

وإن سلمنا وجوب حمل الآية على من ارتضى فعله / فلا نسلم وجوب حمله على كل الأفعال ؛ فإن حمل اللفظ على الفعل ؛ إنما كان ضرورة العمل باللفظ ؛ فيكون حجة فى أقل ما تندفع به الضرورة ، ولا يعم.

وعلى هذا ، فيكون الفاسق المؤمن ، مرضيا بعمله من جهة إيمانه ؛ فلا يكون خارجا عن صورة الاستثناء.

وقوله تعالى (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) (٢).

دليل أن من حقت عليه كلمة العذاب أنه لا شفاعة / / فى حقه ، ونحن نقول به ؛ فإن المراد من قوله : (حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ) أنه قطع بعذابه ، وذلك عندنا غير متصور فى حق غير الكافر الّذي مات على كفره.

وقوله تعالى : (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) (٣). فجوابها ما سبق فى جواب الآية الأولى ، ويخصها جواب آخر ، وهو القول بالموجب ، فإن المفهوم من النصرة : المدافعة بجهة القهر والغلبة ، ومن الشفاعة : الطلب من جهة الخضوع ، ولا يلزم من نفى

__________________

(١) سورة الأنبياء ٢١ / ٢٨.

(٢) سورة الزمر ٣٩ / ١٩.

/ / أول ل ١٣١ / أ.

(٣) سورة البقرة ٢ / ٢٧٠.

أحدهما ، نفى الآخر ، وقوله تعالى : (ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) (١) فالمفهوم من العاصم هو المانع على طريق القهر والغلبة ، ولا يلزم من نفى ذلك ، نفى الشفيع ؛ لما عرف ، وقوله عليه‌السلام : «لا تنال شفاعتى أهل الكبائر من أمتى».

فقد قيل : إنه مرسل ؛ فلا يكون حجة ، وإن كان حجة ؛ غير أنه أمكن حمله على من كفر من أمته ، وكون تسميته من أمته بطريق المجاز باعتبار ما كان عليه ، كما فى تسمية المعتق عبدا ، ونحوه ويجب حمله عليه جمعا بينه ، وبين ما ذكرنا من الأخبار (٢).

فلئن قالوا : أليس تأويل هذا الخبر بحمله على من كفر من أمته ضرورة إجراء ما ذكرتموه على ظاهره؟.

قلنا : فهذا ممتنع ؛ فإن من تاب عن الكبيرة من المؤمنين ؛ فالعفو عنه واجب عندهم ؛ فلا يحتاج فى كبيرته إلى شفاعة ، وكذلك أن لو حملوه على الصغائر.

قولهم : سلمنا الشفاعة ولكن ليس فى ذلك ما يدل على إسقاط العقوبة.

فقد قيل فى جوابه : إن الشفيع حقيقة فى طالب دفع الضرر بالإجماع ، وليس حقيقة فى طالب جلب النفع ؛ إلا لصح تسمية الواحد من أمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شافعا للنبى عند سؤاله ـ تعالى ـ فى زيادة كرامته ورفع درجته ؛ وليس كذلك بالإجماع ؛ فوجب حمله على الحقيقة دون المجاز ؛ وليس بحق ؛ فإنه إن امتنع إطلاق اسم الشفيع على الواحد من أمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند ما إذا سأل الله ـ تعالى / الزيادة فى كرامته. فعند ما إذا سأل الله ـ تعالى ـ دفع الضرر عنه : إما أن يقال له شفيع ، أو لا يقال له ذلك.

فإن كان الأول : فالفرق تحكم غير مقبول.

وإن كان الثانى : فكما دل امتناع إطلاق الشفيع على الواحد من الأمة عند طلب الزيادة فى كرامة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أن الشفيع ليس حقيقة فى طالب النفع.

__________________

(١) سورة يونس ١٠ / ٢٧.

(٢) رد الإمام الباقلانى على من استشهد بهذا الحديث ووضح أنه من شبه الخصوم فقال : «فصل نذكر فيه شبها لهم يرومون بذلك دفع الأخبار الصحاح المجمع على صحتها فى صحة الشفاعة ... فإن قالوا : هذه الأخبار تعارض بمثلها فإنه قد روى الحسن البصرى وغيره عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه قال : «لا تنال شفاعتى أهل الكبائر من أمتى».

فالجواب من وجهين : أحدهما : أن هذا عن الحسن لم يصح ، ولم يرد فى خبر صحيح ولا سقيم ، وإنما هو اختلاق وكذب» [انظر الإنصاف للباقلانى ص ١٦٨ ـ ١٧٦ فقد وضح الموضوع ورد على المخالفين بالتفصيل].

فامتناع إطلاق الشفيع على طالب دفع الضرر عنه ـ عليه‌السلام ـ يدل على أن الشفيع ليس حقيقة فى طالب دفع الضرر ، وليس أحد الأمرين أولى من الآخر.

كيف وأنه أمكن أن يقال : بأن حق الشفيع فى العرف أن لا يكون دون المشفوع له فلذلك لم يكن الواحد من أمة النبي شافعا للنبى ، وسواء كان طالبا بجلب نفع ، أو دفع ضرر.

فالحق فى الجواب : أنه وإن كان اسم الشفيع حقيقة فى طالب جلب النفع ، وطالب دفع الضرر غير أن ما ذكرناه من النصوص الدالة على كونه شفيعا صريحة فى كونه شفيعا بمعنى كونه طالبا لإسقاط العقوبة ، ودفع الإضرار ؛ فكانت أولى.

وأما ما ذكروه من المعارضات بآيات الوعيد السابق ذكرها (١) ؛ فلا نسلم عمومها وبتقدير التسليم ، فما ذكرناه من آيات الوعد راجحة على آيات الوعيد ، وبيان الترجيح من ثمانية أوجه (٢).

الأول : أنّا قد بينا الدليل على أن آيات الوعد ، يجب أن تكون خاصة بمحل النزاع. وما ذكروه من آيات الوعيد ، فمتناولة لمحل النزاع بعمومها ، والخاص مقدم على العام على ما لا يخفى.

الثانى : أن آيات الوعد أكثر ؛ فكانت أغلب على الظن.

الثالث : هو أن آيات الوعد ، أكثرها مرتب على الحسنات ، والحسنات أرجح من السيئات ، والمرتب على الراجح راجح ، وبيان أن الحسنات أرجح من السيئات قوله تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) (٣) ، فدل [على] (٤) أنها أرجح وأقوى ، وأيضا قوله تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) (٥). وربما زاد على ذلك بدليل قوله تعالى : (وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) (٦) ولا كذلك السيئات.

__________________

(١) راجع ما سبق ل ٢٢٦ / ب وما بعدها.

(٢) قارن بما ورد فى شرح المواقف ـ الموقف السادس ص ٢١٦ ، ٢١٧ وشرح المقاصد ٢ / ١٧٣ ، ١٧٤.

(٣) سورة هود ١١ / ١١٤.

(٤) ساقط من أ.

(٥) سورة الأنعام ٦ / ١٦٠.

(٦) سورة البقرة ٢ / ٢٦١.

الرابع : أن / / أكثر آيات الوعد مؤكدة كما فى قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً) (١) بخلاف آيات الوعيد.

الخامس : هو أن الخلف فى الوعد قبيح ، والخلف فى الوعيد كرم ، وهو من مستحسنات العقول ولهذا قال الشاعر :

وإنى إذا أوعدته أو وعدته

لمخلف إيعادى ومنجز موعدى (٢)

/ فتأويل آيات الوعيد يكون أولى ، من آيات الوعد.

السادس : أن آيات الوعد دالة على الرحمة ، وآيات الوعيد دالة على الغضب ، والرحمة أقوى وأسبق ، لقوله عليه‌السلام حكاية عن ربه تعالى : «رحمتى سبقت غضبى» (٣).

السابع : أن المقصود الأصلي من خلق الخلق ، أن يكونوا رابحين لا خاسرين ودليله قوله : «خلقتكم لتربحوا عليّ لا لأربح عليكم» وفى ترجيح آيات الوعد تقرير هذا الأصل ، وفى ترجيح آيات الوعيد مخالفته ؛ فكانت آيات الوعد أولى.

الثامن : أن ما ذكروه من الظواهر ، منهم من قيدها بفعل الكبائر دون الصغائر ، ومنهم من زادها تقييدا ، حتى اشترط فى ذلك زيادة مقدار الكبيرة على ما له من الحسنات.

وبالجملة فلا ريب فى تخصيصها بما بعد التوبة ، ولم يوجد شيء من ذلك فيما ذكرناه من آيات الوعد ؛ فكان العمل بها أولى.

__________________

/ / أول ل ١٣١ / ب

(١) سورة النساء ٤ / ١٢٢.

(٢) قائله : عامر بن الطفيل. انظر ديوان عامر بن الطفيل ص ٥٨ ط : صادر بيروت ـ لبنان. وهو : عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر العامرى ، من بنى عامر بن صعصعة فارس قومه وأحد شعراء العرب وساداتهم فى الجاهلية. ولد بنجد سنة ٧٠ ق. الهجرة وتوفى سنة ١١ ه‍ وهو ابن عم لبيد الشاعر. كان عامر يأمر مناديا فى «عكاظ» ينادى هل من راجل فنحمله؟ أو جائع فنطعمه؟ أو خائف فنؤمنه؟ [خزانة الأدب للبغدادى ١ / ٤٧١ ـ ٤٧٤ والأعلام للزركلى ٣ / ٢٥٢].

(٣) رواه مسلم : كتاب التوبة ـ باب فى سعة رحمة الله ـ تعالى ـ وأنها سبقت غضبه ٤ / ٢١٠٨.

الفصل الرابع

فى أن عقاب العصاة من المؤمنين غير مخلد

هذا هو مذهب أهل الحق (١).

وذهبت المعتزلة ، والخوارج : إلى أن من مات من أرباب الكبائر من المؤمنين من غير توبة ؛ فهو مخلد فى النار ؛ لكن منهم من أوجب ذلك عقلا ، وسمعا. ومنهم من أوجبه سمعا ، لا عقلا. كما سبق إيضاح مذهبهم فى الفصل الثالث (٢). وقد سبق تحقيق المأخذ العقلى من الجانبين نفيا وإثباتا ، فى الفصل الثانى (٣) فعليك بنقله إلى هاهنا.

وأما المسلك السمعى من جانب الخصوم فى تحقيق خلود العقاب فقوله ـ تعالى : ـ (مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٤) وأيضا قوله ـ تعالى : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها) (٥) وأيضا قوله ـ تعالى : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها) (٦) وأيضا قوله ـ تعالى : (وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ* يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ* وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) (٧) وذلك يدل على أنهم لا يخرجون منها ؛ وإلا كانوا غائبين عنها ؛ وهو بخلاف دلالة الآية.

وطريق الاعتراض أن يقال : أما قوله ـ تعالى : ـ (مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) (٨) فلا نسلم وجود صيغة العموم فى الأشخاص على ما عرف من أصلنا.

سلمنا العموم فى الأشخاص ، ولكن مشروطا بعدم العفو ، أو لا مشروطا به.

__________________

(١) أهل الكبائر من أمة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فى النار لا يخلدون ، إذا ماتوا وهم موحدون ، وإن لم يكونوا تائبين ، بعد أن لقوا الله عارفين ، وهم فى مشيئته وحكمه إن شاء غفر لهم وعفا عنهم بفضله ... وإن شاء عذبهم بعدله ، ثم يخرجهم منها برحمته وشفاعة الشافعين من أهل طاعته ، ثم يبعثهم إلى جنته» [شرح الطحاوية ص ٤١٣].

(٢) انظر ل ٢٢٦ / أوما بعدها.

(٣) انظر ل ٢٢٤ / ب وما بعدها.

(٤) سورة البقرة ٢ / ٨١.

(٥) سورة النساء ٤ / ١٤.

(٦) سورة النساء ٤ / ٩٣.

(٧) سورة الانفطار ٨٢ / ١٤ ـ ١٦.

(٨) سورة البقرة ٢ / ٨١.

الأول مسلم ، والثانى ممنوع ؛ وذلك لأنه يستحيل أن يكون العاصى معاقبا مع فرض العفو ، وعند ذلك فيتوقف العموم لمحل النزاع على عدم العفو ، وعدم العفو متوقف / على العموم ؛ وهو دور ممتنع.

سلمنا العموم فى الأشخاص ؛ ولكن لا نسلم أنه يلزم من العموم فى الأشخاص العموم فى الأحوال ، وعلى هذا : فلا يلزم من العموم فى كل من عمل سيئة العموم فى كل سيئة.

ولهذا : فإنه لو قال القائل لزوجاته : من دخلت منكن الدار ؛ فهى طالق ، فإنه وإن عم جميع الزوجات ؛ فلا يعم كل دخول ، ولهذا فإن كل واحدة تطلق بالدخول أول مرة ، ولا يتكرر الطلاق بتكرار الدخول. وإذا كان لفظ السيئة ، والخطيئة غير عام ؛ فلا يكون متناولا لكل سيئة وخطيئة ، حتى يندرج فيه محل النزاع ، وغايته أن يكون مطلقا ، والمطلق إذا عمل به فى صورة فقط ؛ بطل وجه الاحتجاج به ، وقد عمل به فى الكفر ؛ فلا يبقى حجة.

سلمنا العموم فى كل سيئة وخطيئة ؛ ولكن لا نسلم أن الخلود عبارة عن اللبث الدائم ، الّذي لا آخر له ، حتى يصح ما ذكروه ؛ بل الخلود عبارة عن طول اللبث فى اللغة ، ومنه يقال : قد خلد فلان ، إذا طال عمره ، ويقال خلد الله ملك الأمير : أى أطاله ، ومنه يقال فى الوقف وقفا مؤبدا / / مخلدا.

وعلى هذا : فنحن نقول بموجب الآية ، وهو أن أهل الكبائر مخلدون فى العذاب بهذا المعنى ، ولا نزاع فيه.

فلئن قالوا : الخلود حقيقة فى الدوام ؛ ومجازا فى غير المؤبد ، ودليله من ثلاثة أوجه :

الأول : أنه حقيقة فى الدّوام المؤبد بالإجماع ؛ فلو كان حقيقة فى غير المؤبد ؛ لكان اللفظ مشتركا ، والاشتراك على خلاف الأصل ؛ لأنّه يخلّ بالتفاهم الّذي هو مقصود أهل الوضع فى وضعهم ، والمجاز وإن كان أيضا على خلاف الأصل ، إلا أن محذور

__________________

/ / أول ل ١٣٢ / أمن النسخة ب.

الاشتراك أعظم من محذور التجوز ؛ للزومه فى جميع محامل اللفظ بخلاف المجاز ؛ ولذلك كان استعمال المشترك فى اللغة أقل من المجاز.

الثانى : أنه يصح تأكيده بالتأبيد ، بدليل قوله ـ تعالى : ـ (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) (١) ولو لا أن معنى الخلود التأبيد ؛ لما صح تأكيده به.

الثالث : قوله ـ تعالى : ـ (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ) (٢) فلو كان الخلود عبارة عن طول اللبث من غير تأبيد ؛ للزم منه الخلف فى الآية ؛ لأن من كان قبله قد خلد بهذا الاعتبار.

سلمنا أن الخلود حقيقة فى مطلق اللبث المتطاول ؛ غير أنه قد فهم الخلود بمعنى الدوام من هذه الآيات فى حق الكفار ؛ فكذلك فى غيرهم ؛ لأن الدلالة غير مختلفة.

قلنا : وإن سلمنا أن الخلود حقيقة فى اللبث الدائم فأمكن أن يكون باعتبار ما فيه من طول اللبث ، وهو أولى ، حتى لا يلزم منه الاشتراك ، ولا التجوز فيما ذكرناه من الصور ، وعلى هذا : فقد بطل ما ذكروه من الترجيح الأول.

/ قولهم : إنه يصح تأكيده بالتأبيد. لا نسلم أنه للتأبيد ؛ بل للتمييز ؛ ضرورة انقسامه إلى مؤبد ، وغير مؤبد.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ) إنما حملناه على الخلود المؤبد ؛ ضرورة وجود المخلدين قبله ؛ بالاعتبار الغير مؤبد ، لا لأن اللفظ اقتضاه دون غيره.

قولهم : إن الآيات قد دلت فى حقّ الكفار ، على الخلود بمعنى التأبيد ؛ فكذلك فى غيرهم. فإنما يصح أن لو كان مستفادا فى حق الكفار من الآيات المذكورة ، وليس كذلك ، وإنما استفدناه من دليل ، وهو الإجماع. وعلى هذا فقد خرج الجواب عن الآية الثانية ، والثالثة.

__________________

(١) جزء من آيات كثيرة منها على سبيل التمثيل لا الحصر. الآية رقم ٥٧ من سورة النساء. الآية رقم ١٣٢ من سورة النساء. الآية رقم ١٦٩ من سورة النساء الآية رقم ١١٩ من سورة المائدة.

(٢) سورة الأنبياء ٢١ / ٣٤.

وأما قوله ـ تعالى : ـ (وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) (١) لا نسلم العموم فى الألف واللام فيه.

وإن سلمنا العموم فيه ؛ ولكن لا نسلم أن قوله ـ تعالى : ـ (وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) (٢) للتأبيد.

ولهذا يصح أن يقال : فلان لا يغيب عنى ، إذا كان غالب أحواله كذلك ، وإن غاب عنه فى بعض الأوقات ، ولو كان ذلك للتأبيد حقيقة ؛ لكان هذا الإطلاق تجوزا ، ولا يخفى أن الأصل فى الإطلاق الحقيقة ، ولا يلزم منه الاشتراك ؛ لإمكان أن يكون المدلول هو الملازمة فى الغالب ، والدائم مشتمل على الغالب وزيادة.

سلمنا دلالة ما ذكروه من الآيات على الخلود بمعنى التأبيد ، غير أنه يجب حملها على الكفار جمعا بينها ، وبين ما ذكرناه من الدليل العقلى ؛ ثم إنها معارضة بما سبق من آيات الوعد ؛ وبما القرآن مشتمل عليه من آيات الوعد بالثواب كما فى قوله ـ تعالى : ـ (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) (٣) وقوله ـ تعالى : ـ (وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) (٤) وقوله ـ تعالى : ـ (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) (٥) إلى غير ذلك من الآيات الدالة على وقوع الثواب.

وعند ذلك : فإما أن يقال : بأنه لا منافاة بين استحقاق الثواب والعقاب ، أو يقال بالمنافاة.

فإن كان الأول : فهو خلاف مذهبم.

وإن كان الثانى : فليس إدراج ما نحن فيه تحت آيات الوعيد ، أولى من إدراجه تحت آيات الوعد ـ وعند تقابل السمعيات يسلم لنا ما ذكرناه من الدليل العقلى. كيف وأن الترجيح لآيات الوعد ؛ لما سبق فى الفصل الّذي قبله (٦).

__________________

(١) سورة الانفطار ٨٢ / ١٤.

(٢) سورة الانفطار ٨٢ / ١٦.

(٣) سورة الزلزلة ٩٩ / ٧.

(٤) سورة النجم ٥٣ / ٣١.

(٥) سورة الرحمن ٥٥ / ٦٠.

(٦) انظر ما سبق ل ٢٢٦ / أوما بعدها.

الفصل الخامس

فى الاحباط ، والتكفير

وقد اختلف أهل الإسلام فى المؤمن إذا اجتمع له طاعات ، وزلات ، فالذى عليه إجماع أهل الحق من الأشاعرة ، وغيرهم : أنه لا يجب على الله تعالى ثوابه ، ولا عقابه ؛ بل إن أثاب فبفضله ، وإن عاقب فبعدله ، وله إثابة العاصى ، وعقاب المطيع على ما سلف (١).

وذهبت المرجئة ؛ إلى أن الإيمان محبط للزلات ، ولا عقاب على زلة مع الإيمان كما عرف من / مذهبهم ، فيما تقدم (٢).

وذهبت الخوارج ، وجماهير المعتزلة (٣) إلى أن من اقترف كبيرة واحدة ؛ فإنها تحبط ثواب جميع طاعاته ، وإن زادت الطاعات على زلته.

وذهب الجبائى ، وابنه فى الإحباط إلى رعاية الكثرة فى المحبط ، وزعما أن من زادت طاعاته على زلاته [أحبطت عقاب زلاته ، وكفرتها ، ومن زادت زلاته على طاعاته ، أحبطت ثواب طاعاته ، ثم اختلفا :

فقال الجبائى : من زادت طاعاته على زلاته ، أحبطت عقاب زلاته] (٤) من غير أن تنقص زلاته من ثواب طاعاته شيئا ، وتنزل منزلة من أتى بتلك الطاعات من غير زلة.

وقال أبو هاشم : لا بد وأن ينقص من ثوابه بمقدار ما حبط عنه من العقاب ، وأن تنزل رتبته فى الثواب عن ثواب من أتى بتلك الطاعات من غير زلة.

وكذلك ، اختلفا فى عكس ذلك عند ما إذا زادت زلاته على طاعاته (٥) من العقاب ، وأن تنزل رتبته فى الثواب عن ثواب من أتى بتلك الطاعات (٥).

واتفقا على امتناع وقوع المساواة بين الطاعات ، والزلات. لكن اختلفا.

__________________

(١) انظر ما سبق ل ٢٢٣ / ب وما بعدها. وقارن بما ورد فى شرح المواقف ـ الموقف السادس ص ٢١٠ وما بعدها. وشرح المقاصد ٢ / ١٧٠.

(٢) راجع عنهم ما سبق ل ٢٢٦ / أ. ولمزيد من البحث والدراسة راجع : مقالات الإسلاميين للأشعرى ١ / ١٩٧ والفصل لابن حزم ٤ / ٣٧ ، ١٥٥ ، والإرشاد للجوينى ص ٣٢٤. وشرح المواقف ص ٢١٠.

(٣) لمزيد من البحث والدراسة انظر من كتب المعتزلة التى فصلت القول فى الإحباط والتكفير شرح الأصول الخمسة ص ٦٢٤ وما بعدها. ومن كتب الأشاعرة التى ناقشت المعتزلة والخوارج ـ انظر كتاب الإرشاد للجوينى ص ٣٨٥ وما بعدها وشرح المواقف ص ٢١٠ وما بعدها ، وشرح المقاصد للتفتازانى ٢ / ١٦٦ وما بعدها.

(٤) ساقط من (أ).

(٥) من أول (من العقاب إلى قوله : تلك الطاعات) ساقط من ب.

فقال الجبائى : بامتناع ذلك عقلا.

وقال أبو هاشم : بامتناع ذلك سمعا ، لا عقلا ، وهل المحابطة بين الثواب والعقاب ، عند القائلين بالمحابطة ، أو بين الطاعات ، والزلات؟. فقد اختلفوا فيه أيضا.

وإذ أتينا على إيضاح المذاهب بالتفصيل ، فلا بد من الإشارة إلى مآخذ المخالفين ، ومناقضاتهم فيها.

أما المرجئة : فقد بينا مآخذهم وإبطالها فى الفصل الثالث (١).

وأما من قال بإحباط الطاعات ، وثوابها بالكبيرة الواحدة زادت على الطاعات ، أو نقصت عنها ، فقد احتج بحجج :

الحجة الأولى : أنهم قالوا : الطاعة ، والمعصية صفتان متقابلتان ، ومرتكب الكبيرة عاص ؛ فلا يكون مطيعا ، وإذا لم يكن مطيعا ؛ فلا يستحق الثواب بالطاعة.

الثانية : أن استحقاق الثواب يستدعى تعظيم المستحق ، واستحقاق العقاب يستدعى إهانته ، وتعظيم الشخص الواحد ، فى حالة واحدة ، من شخص واحد واهانته له محال ، ومرتكب الكبيرة مستحق العقاب ؛ فلا يكون مستحقا للثواب.

الثالثة : أنهم قالوا : قد دللنا فيما تقدم ، على أن الثواب المستحق لا بد وأن يكون مؤبدا ، وأن العقاب المستحق لا بد وأن يكون مؤبدا ، فاستحقاقهما معا يكون محالا.

ومرتكب الكبيرة مستحق للعقاب ؛ فلا يكون مستحقا للثواب. ويدل على تحقيق هذه الحجج قوله ـ تعالى : ـ (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) (٢) ، وقوله ـ تعالى : ـ (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) (٣) وذلك يدل على تعذر استحقاق الثواب ، مع الموجب لاستحقاق العقاب.

وأما حجة الجبائى : على أن المعصية القاصرة عن الطاعة غير موجبة لتنقيص شيء من ثواب الطاعة. أن موجب الطاعة الثواب ، وموجب المعصية العقاب ، فإذا كثرت الطاعات على المعاصى ، وربت عليها كانت موجبة لاستحقاق الثواب الدائم ، ويمتنع مع

__________________

(١) راجع ما سبق ل ٢٢٦ / أوما بعدها.

(٢) سورة البقرة ٢ / ٢٦٤.

(٣) سورة الزمر ٣٩ / ٦٥.

ذلك أن تكون المعصية موجبة لاستحقاق العقاب ؛ وإلا لما كان ثواب الطاعات الكثيرة دائما / ، وإذا خرجت المعصية عن كونها موجبة لاستحقاق العقاب ، فينبغى أن لا يؤثر فى تنقيص الثواب ؛ لأن الشيء إذا لم يرتبط به حكمه المختص به ، فما لا يكون مختصا به أولى.

وعلى هذا يكون الحكم فى عكس هذه الصورة عند ما إذا ربت زلاته على طاعاته.

وأما حجة أبى هاشم على التنقيص أنه قال : لو لم يكن بالتنقيص ؛ لأفضى ذلك عند ما إذا ربت الطاعات على الزلات أن يكون حال من أطاع الله ـ تعالى ـ طوال دهره من غير زلة : كحال من أطاع وعصى ، وكذلك إذا ربت زلاته على طاعاته أن يكون حاله كحال من عصى الله ـ تعالى ـ أبدا من غير طاعة ؛ وذلك ظلم وخروج عن الحكمة ، والعدل.

وأما حجة الجبائى : على استحالة التساوى بين الطاعات ، والزلات عقلا ـ أن ذلك يفضى إلى المحال ؛ فيمتنع. وبيان / / إفضائه إلى المحال : أنهما لو تساويا ؛ فلا بد من تقدير ثواب ، أو عقاب ؛ لاستحالة الجمع بين النفى والإثبات ؛ وليس اعتبار أحد الأمرين ، وإحباط الآخر به مع التساوى ، أولى من العكس.

وأما حجة أبى هاشم : على جواز ذلك عقلا ، وإحالته سمعا : فهو أن قال : ليس فى العقل ما يحيل استواء الطاعات ، والزلات فى الدرجة ، فإنه ما من مرتبة تنتهى إليها الطاعة ، إلا ويجوز فى العقل انتهاء المعصية إليها ، وكذلك بالعكس غير أنه لما علمنا سمعا أن كل مكلف فهو إما من أهل الجنة ، أو النار ، وأنه لا بد من أحد الخلودين ، ووقوع أحد الخلودين ، دون الآخر مع التساوى فى الموجب ممتنع ، ولا بد من التنبيه على باقى هذه الحجج :

أما الحجة الأولى : لمن قال بكون الكبيرة محبطة للطاعات مطلقا ، فظاهرة البطلان ، فإن التقابل بين الطاعة ، والمعصية : إنما يتصور فى فعل واحد ، بالنسبة إلى جهة واحدة. بأن يكون مطيعا بعين ما هو عاص من جهة واحدة ، وإما إن يكون مطيعا

__________________

/ / أول ل ١٣٣ / أ.

فى شيء ، وعاصيا بغيره ، فلا امتناع فيه. كيف وأن هؤلاء وإن أوجبوا إحباط ثواب الطاعات بالكبيرة الواحدة ، فإنهم لا يمنعون من الحكم على ما صدر من صاحب الكبيرة من أنواع العبادات : كالصلاة ، والصوم ، والحج ، وغيره بالصحة ، ووقوعها موقع الامتثال ، والخروج عن عهدة أمر الشارع ؛ بخلاف ما يقارن الشرك منها ، وإجماع الأمة دل عليه أيضا. وعلى هذا : فلا يمتنع اجتماع الطاعة والمعصية ، وأن يكون مثابا على هذه ، ومعاقبا على هذه.

وعلى هذا : يخرج الجواب عن الحجة الثانية أيضا ، فإن التعظيم ، والإهانة إنما يمتنع اجتماعهما من شخص واحد لواحد ؛ أن لو اتحدت جهة التعظيم والإهانة ، وإلا فبتقدير أن يكون معظما من جهة ، مهانا من جهة ، معظما / من جهة طاعته ، مهانا من جهة معصيته ؛ فلا مانع فيه.

وأما الحجة الثالثة : القائلة بتأبيد الثواب ، والعقاب ؛ فمبنية على التحسين والتقبيح ، ووجوب رعاية الحكمة ، والثواب ، والعقاب للمطيع ، والعاصى على الله ـ تعالى ، وقد أبطلناه (١). وبتقدير التسليم لهذه الأصول جدلا ، فما المانع من تأبد الثواب ، والعقاب على فعل الطاعة ، والمعصية ، وذلك بأن يجمع الله ـ تعالى ـ له بين النعيم ، والعذاب أبدا سرمدا. كما يجمع للواحد منا فى الدنيا بين الغموم ، والهموم والأفراح باجتماع الأسباب الموجبة لها ، حتى أنه يكون فرحا بأمر ، ومغموما مهموما بأمر ، أو بأن يعاقبه تارة ، وينعمه أخرى إلى ما لا يتناهى.

وهذا هو الأولى فى العقل ، من تعطيل أحد السببين ، واعتبار الآخر.

فلئن قالوا : القول بذلك مما يبطل الثواب والعقاب معا ؛ إذ النعيم هو الّذي لا يشوبه كدر ، والعذاب المقيم هو الّذي لا يشوبه راحة.

قلنا : وما المانع من قسم أخر ، وهو نعيم مشوب بكدر ، وعذاب مشوب براحة ، ويكون المتمحض من النعيم ، لمن تمحضت طاعاته غير مشوبة بالزلات ، والمتمحض من العذاب ، لمن تمحضت زلاته غير مشوبة بالطاعة ، والمشوب لمن شاب الطاعات بالزلات ، والزلات بالطاعات ، إذ هو أولى وأقرب ، إلى العدل على أصولكم.

__________________

(١) راجع ما سبق فى الجزء الأول ل ١٧٤ / ب وما بعدها.

وإن سلمنا امتناع الجمع بين الثواب الدائم ، والعقاب الدائم ، فما المانع أن تكون الطاعة محبطة للمعصية كما قاله المرجئة ؛ بل وهو الأولى ؛ إذ هو أقرب إلى العفو ، والصفح المستحسن عقلا ، وشرعا.

فلئن قالوا : إنما أسقطنا الثواب بالعقوبة لوجهين :

الأول : أن استحقاق العقاب ، أقوى من استحقاق الثواب ؛ وذلك لأن استحقاق من خالف الأعلى للعقاب ، أشد من استحقاق من خالف الأدنى ، على ما لا يخفى عرفا ، وفى الطاعة بالعكس ، فإن استحقاق مطيع الأعلى ؛ لكونه أولى باستحقاق الطاعة للثواب يكون أدنى من استحقاق مطيع الأدنى للثواب.

وعلى هذا فاستحقاق مخالف الله ـ تعالى ـ للعقاب يكون أشد من استحقاقه للثواب بطاعته.

الثانى : هو أن الردة محبطة للطاعات وفاقا ، والردة من الكبائر فكان فى حكمها كل كبيرة.

قلنا : أما قولهم : إن استحقاق من خالف الأعلى للعقاب أشد من استحقاق من خالف الأدنى.

لا نسلم ، وما المانع أن يقال : بأن استحقاق / / العقاب إنما يكون أشدّ عند ما إذا كان تضرّر المخالف بالمخالفة أكثر ، والرب ـ تعالى ـ مقدّس عن الإضرار والانتفاع ، فكان استحقاقه للعقاب أدنى من استحقاق غيره ؛ فكان أولى بالعفو والصفح؟

وقولهم : إن استحقاق مطيع الأعلى للثواب أولى من استحقاق مطيع الأدنى. لا نسلم. / وما المانع أن يقال : بأن مطيع الله ـ تعالى ـ أولى باستحقاق الثّواب ، من المطيع لغيره ، نظرا إلى ما يلحقه فى طاعة الله ـ تعالى ـ من المكابد ، والمشاق فى النظر ، والاستدلال ودفع الوساوس ، والشّبهات ، ومغالبة الشّهوات ، وقهر النّفس الأمّارة بالسوء ؛ بخلاف طاعة غيره ، وقد قال عليه‌السلام «ثوابك على قدر نصبك» (١) والّذي يدل على ترجيح الطاعات على الكبيرة الواحدة أمور ثلاثة :

__________________

/ / أول ل ١٣٣ / ب

(١) حديث صحيح ـ رواه البخارى عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت : يا رسول الله يصدر الناس بنسكين ، وأصدر بنسك. فقيل لها : «انتظرى فإذا طهرت فاخرجى إلى التنعيم فأهلى ، ثم ائتينا بمكان كذا ؛ ولكنها على قدر نفقتك أو نصبك». صحيح البخارى ـ كتاب العمرة ـ باب أجر العمرة على قدر النصب ٣ / ٦٠٥

الأول : أنهم حكموا بأن الصغائر محبطة بالطاعات إذا تجردت عن فعل الكبيرة ، وذلك يدل على ترجيح جانب الطاعة على المعصية.

الثانى : أن أكثر المعتزلة جوزوا غفران الكبيرة عقلا ، إذا مات مقارفها من غير توبة ، ولم يجوز أحد منهم إحباط الطاعات إذا تجردت عن الزلات ؛ فدل على ترجيح العبادة على المعصية.

الثالث : أن السمع قد دل على الترجيح بقوله ـ تعالى : ـ (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) (١).

قولهم : إن الردة محبطة للطاعات ؛ فكذلك غيرها من الكبائر. فهو مبنى على كون الردة محبطة للطاعات عقلا ، وهو غير مسلم ، على ما عرف من أصلنا فى امتناع وجوب الثواب والعقاب على الله ـ تعالى.

وبتقدير التسليم لذلك ، فلا يلزم من كون الردة محبطة للطاعات ، أن يكون غيرها من الكبائر كذلك ؛ لجواز اختصاص ذلك بالردة دون غيرها ، ولهذا فإن المرتدّ لا يساهم المسلمين فى استحقاق الفيء (٢) ، والغنيمة (٣) ، وحضور المساجد ، ولا يدفن فى مقابر المسلمين ، ولا يصلى عليه ، بخلاف أرباب الكبائر.

سلمنا صحة إحباط الطاعة بالمعصية عقلا ؛ لكن مع المساواة ، أو مع كون الطاعة أزيد من المعصية.

الأول مسلم : والثانى ممنوع ، وبيانه من وجهين :

الأول : أن ذلك يفضى إلى المساواة بين من عبد الله ـ تعالى طول دهره ، وكان عالما بالله ـ تعالى ـ وصفاته ، وما يجوز عليه ، وما لا يجوز عليه ، وبين فرعون ، وهامان ، ومن لم يطع الله تعالى طرفة عين ، وذلك خلاف مقتضى الحكمة وتحسين العقول ، وتقبيحها.

__________________

(١) سورة الأنعام ٦ / ١٦٠.

(٢) الفيء : ما رده الله على أهل دينه من أموال من خالفهم فى الدين بلا قتال : إما بالجلاء ، أو بالمصالحة على جزية أو غيرها. [التعريفات للجرجانى ص ١٩٢].

(٣) الغنيمة : اسم لما يؤخذ من أموال الكفرة بقوة الغزاة ، وقهر الكفرة على وجه يكون فيه إعلاء كلمة الله ـ تعالى ـ وحكمه أن يخمس ، وسائره للغانمين خاصة. [المصدر السابق ص ١٨٥].

الثانى : هو أن ذلك من مستقبحات العقول ، وذلك أن من أحسن إلى غيره طول دهره ، ولم يأل جهدا فى طاعته ، وبذل مهجته فى مرضاته ، فإنه لا يحسن فى العقل بتقدير إساءته إليه مرة واحدة ، ولا سيما إن كان المساء إليه ممن لا يتضرر بتلك الإساءة أن يحبط ما مضى له من طاعته ، ويعاقبه على تلك الزلة أبد الآبدين. وقوله ـ تعالى : ـ (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) (١) فالمراد به أن يكون قاصدا بالصدقة المن ، والأذى ، والطاعة ؛ فغير متحققة مع ذلك.

أما أن يكون المراد به إبطالها بالمن بعد تحققها عبادة ؛ فلا. وإن سلمنا أن المراد بها الإبطال بعد التحقق ، فغايته الدلالة على الإحباط بالسمع ، ونحن لا ننكر ذلك سمعا ، وإنما / ننكره عقلا.

وعلى هذا يخرج الجواب عن قوله ـ تعالى : ـ (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) (٢).

وأما حجة الجبائى : على أن الطاعة لا تنقص عقاب المعصية ، وأن المعصية لا تنقص ثواب الطاعة ؛ فيلزمه منها أن يكون حال من أطاع الله ـ تعالى ـ من غير معصية ، كحال من أطاعه مع المعصية. وأن يكون حال من عصى الله ـ تعالى ـ مع الطاعة ، كحال من عصى الله ـ تعالى ـ من غير طاعة ؛ وهو خلاف الحكمة ، وما يقتضيه التعديل.

وعلى هذا : فلا يلزم من كون المعصية إذا نقصت عن الطاعة ألا تنقص [من ثواب الطاعة. وإن لم يعاقب عليها ، ولا من كون الطاعة إذا نقصت عن المعصية ألا تنقص من] (٣) عقاب المعصية ، وإن لم يثب عليها.

وأما حجة أبى هاشم : فيلزمه عليها أن ينقص ثواب التائب عن المعصية بقدر عقاب المعصية ؛ وإلا كان حال من أطاع مع المعصية : كحال من أطاع من غير معصية. وهو خلاف الإجماع. فما هو الجواب له فى صورة التائب ، هو الجواب فى غيرها.

وأما حجة الجبائى : على امتناع التساوى بين الطاعة ، والمعصية عقلا ، فهى مبنية على وجوب الثواب / / والعقاب ، وهو ممنوع على ما عرف ، وبتقدير وجوبه ، لكن مع التساوى بين الطاعة ، والمعصية ، أو مع التفاوت.

__________________

(١) سورة البقرة ٢ / ٢٦٤.

(٢) سورة الزمر ٣٩ / ٦٥.

(٣) ساقط من أ.

/ / أول ل ١٣٤ / أ.

الأول ممنوع ، والثانى : مسلم.

وعلى هذا : فما المانع أن يقال : إن حالة التساوى كحال من لم يصدر منه طاعة ، ولا معصية ؛ لضرورة التعارض ؛ والتساقط وصار حاله كحال من مات دون البلوغ من حيث إنه لا يستحق ثوابا ، ولا عقابا؟

وأما ما ذكره أبو هاشم فى إبطال الامتناع العقلى ؛ فهو حق ، غير أن ما ذكره من الامتناع السمعى باطل ؛ فإنا لا نسلم ورود السمع بأنه لا بد لكل مكلف من أن يكون من أهل الجنة ، أو النار ؛ بل من استوت طاعاته ، وزلاته ، فهو من أهل الأعراف بين الجنة ، والنار كما وردت به الأخبار الصحيحة.

وإن سلمنا ذلك ، ولكن إنما يمتنع أن يكون من أهل الجنة ، أو النار ؛ أن لو اشترط رجحان الحسنات على السيئات ، أو بالعكس ، وهو غير مسلم ؛ بل يجوز عندنا أن يثيب الله ـ تعالى ـ من غير طاعة ، ويعاقب من غير معصية كما سبق تحقيقه (١).

وأما الاختلاف فى أن التحابط بين الطاعة والمعصية ، أو بين الثواب والعقاب ، وإن كان مبنيا على القول بوجوب التحابط ، وهو باطل على ما حققناه (٢) غير أن القول بالتحابط [بين الثواب والعقاب (٣)] على مذهب القائلين به ، أولى من التحابط بين الطاعات ، والمعاصى ؛ إذ الأمة مجمعة على أن من ارتكب كبيرة ، وصام ، وصلى ، وتزكى ، أن عبادته صحيحه واقعة موقع الامتثال ؛ كما سبق (٤).

__________________

(١) راجع ما سبق ل ٢٢٣ / ب وما بعدها.

(٢) راجع ما تقدم ل ٢٢٣ / ب وما بعدها.

(٣) ساقط من (أ).

(٤) راجع ما سبق ل ٢٢٦ / أوما بعدها. ولمزيد من الدراسة ارجع إلى المراجع التالية : الفصل لابن حزم ٤ / ٤٧ ، والإرشاد للجوينى ص ٣٢٤ ، وشرح المواقف ص ٢١٠ وما بعدها من الموقف السادس ، وشرح المقاصد ٢ / ١٧٠ وما بعدها. ومن كتب المعتزلة : شرح الأصول الخمسة ص ٦٢٥ وما بعدها.

فهرس موضوعات الجزء الرابع

من كتاب أبكار الأفكار فى أصول الدين

للإمام سيف الدين الآمدي

القاعدة الخامسة

فى النبوات

وتشتمل على ستة أصول : ٥ ـ ٢٤٣

الأصل الأول

فى بيان معنى النبوة والنبي ٧ ـ ١٣

أما فى وضع اللغة................................................................ ٧

وأما فى إصلاح النظار............................................................ ٧

قول الفلاسفة................................................................... ٧

أقوال أخرى..................................................................... ٩

رد الآمدي على هذه المذاهب.................................................... ١٠

مذهب أهل الحق من الأشاعرة ، وغيرهم.......................................... ١٢

الأصل الثانى

فى تحقيق معنى المعجزة وشرائطها

ووجه دلالتها على صدق النبي

ويشتمل على ثلاثة فصول.................................................. ١٥ ـ ١٦

الفصل الأول : فى تحقيق معنى المعجزة............................................. ١٧

الفصل الثانى : فى شرائط المعجزة................................................. ١٨

شرائط المعجزة عند الأشاعرة................................................... ١٨

اختيار القاضى أبو بكر....................................................... ٢٠

رأى المعتزلة.................................................................. ٢٢

الحق فى ذلك................................................................ ٢٣

الفصل الثالث : فى وجه دلالة المعجزة على صدق الرسول........................... ٢٤

رأى الأشاعرة................................................................ ٢٥

الأصل الثالث

فى جواز البعثة عقلا ٢٧ ـ ٦٦

مذهب أهل الحق............................................................ ٢٧

مذهب الفلاسفة............................................................ ٢٧

مذهب المعتزلة............................................................... ٢٧

رأى المانعين................................................................. ٢٨

أدلة أهل الحق على الجواز العقلى.............................................. ٢٩

وأما القائلون بإحالة البعثة فقد تشبثوا بأربعين شبهة.......................... ٣٠ ـ ٤٧

وقد رد الآمدي على هذه الشبه بالتفصيل.................................. ٤٧ ـ ٦٦

الأصل الرابع

فى إثبات رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ٦٧ ـ ١٤٢

الدليل على رسالته.............................................................. ٦٨

الدعوى الأولى : أنه كان موجودا مدعيا للرسالة..................................... ٦٨

الدعوى الثانية : أنه ظهرت المعجزات على يده..................................... ٦٨

من جملتها القرآن الكريم....................................................... ٦٨

وجه إعجازه................................................................. ٦٩

من معجزاته ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ انشاق القمر............................................... ٧٤

ومنها : كلام الجمادات....................................................... ٧٥

ومنها : كلام الحيوانات العجماوات............................................. ٧٧

ومنها : حركات الجمادات إليه................................................. ٨٠

ومنها : اكتفاء الجمع الكثير من قليل الطعام..................................... ٨١

ومنها : نبع الماء من بين إصبعيه................................................ ٨٢

ومنها : إخباره بالغيب........................................................ ٨٢

الدعوى الثالثة : أنه تحدى بالقرآن ، وتعجيز الخلائق عن الإتيان بمثله................. ٨٥

الدعوى الرابعة : أنه لم يوجد لمعجزاته معارض...................................... ٨٦

واعلم أن كل ما يتجه من الشبه على جواز البعثة عقلا فهو متجه هاهنا. ويختص بما نحن فيه هاهنا شبه    ٨٦

شبه الخصوم على رسالة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم........................................ ٨٧ ـ ١١٢

الرد على هذه الشبه بالتفصيل........................................ ١١٢ ـ ١٤٢

الأصل الخامس

فى عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ١٤٣ ـ ٢١٣

أما قبل النبوة :............................................................... ١٤٣

الآراء فيها :............................................................... ١٤٣

وأما بعد النبوة :.............................................................. ١٤٤

الآراء فيها :............................................................... ١٤٤

العصمة عن الصغائر.......................................................... ١٤٧

الطرف الأول : فى جواز النسيان على الأنبياء عليهم‌السلام............................... ١٤٧

الأقوال فى قصة الغرانيق..................................................... ١٤٧

الطرف الثانى : فى بيان عصمة الأنبياء عن تعمد المعاصى التى لا يلحق فاعلها بالإخساء الأراذل ويشتمل على عشرين حجة     ١٤٩

الحجة الأولى : أن آدم عصى وارتكب الذنب.................................... ١٥٠

الحجة الثانية : قوله ـ تعالى ـ (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها). ١٥٦

الحجة الثالثة : قوله ـ تعالى ـ (وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ).................................. ١٦١

الحجة الرابعة : قوله ـ تعالى ـ حكاية عن إبراهيم عليه‌السلام (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً) ١٦٤

الحجة الخامسة : قوله ـ تعالى ـ حكاية عن إبراهيم عليه‌السلام لما قال قومه وقد كسر الأصنام (أَأَنْتَ فَعَلْتَ)       ١٦٦

الحجة السادسة : قوله ـ تعالى ـ حكاية عن إبراهيم عليه‌السلام (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ) ١٦٨

الحجة السابعة : قوله ـ تعالى ـ أيضا عن إبراهيمعليه‌السلام(رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى).. ١٦٩

الحجة الثامنة : قوله ـ تعالى ـ حكاية عنه أيضا (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ)     ١٧١

الحجة التاسعة : قوله ـ تعالى ـ حكاية عنه أيضا (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ)... ١٧١

الحجة العاشرة : قوله ـ تعالى ـ حكاية عنه أيضا (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) ١٧٢

الحجة الحادية عشرة : قوله ـ تعالى ـ حكاية عن يوسف عليه‌السلام وامرأة العزيز (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها).................................................... ١٧٢

الحجة الثانية عشرة : قوله ـ تعالى ـ حكاية عن يوسف وأبيه واخوته (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً)        ١٨٠

الحجة الثالثة عشرة : قوله ـ تعالى ـ حكاية عن موسى عليه‌السلام (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها)      ١٨١

الحجة الرابعة عشرة : قوله ـ تعالى ـ حكاية عن موسى عليه‌السلام (وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ)    ١٨٤

الحجة الخامسة عشرة : قوله ـ تعالى ـ فى قصة داودعليه‌السلام(وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ)..... ١٨٦

الحجة السادسة عشرة : قوله ـ تعالى ـ (وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ)... ١٩٠

الحجة السابعة عشرة : قوله ـ تعالى ـ حكاية عن يونس عليه‌السلام (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ)    ١٩٥

الحجة الثامنة عشرة : ما روى الثقات من أهل التفسير كابن عباس والحسن وغيرهما..... ١٩٧

الحجة التاسعة عشرة : قوله ـ تعالى ـ مخاطبا لمحمد (ص) : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ)............................................................................ ٢٠٢

الحجة العشرون : قوله ـ تعالى ـ مخاطبا لنبيه عليه‌السلام (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ)     ٢٠٤

وعند ذلك فلا بد من الإشارة إلى شبه الخصوم والتنبيه على وجه الانفصال عنها....... ٢٠٥

الشبهة الأولى : وهى العمدة الكبرى للخصوم.................................. ٢٠٥

الجواب عنها :............................................................. ٢٠٦

الشبهة الثانية :............................................................ ٢٠٧

الجواب عنها :............................................................. ٢٠٨

الشبهة الثالثة :............................................................ ٢١١

الجواب عنها :............................................................. ٢١٢

الشبهة الرابعة :............................................................ ٢١٢

الجواب عنها :............................................................. ٢١٢

الشبهة الخامسة :.......................................................... ٢١٣

الجواب عنها :............................................................. ٢١٣

الأصل السادس

فيما قيل من عصمة الملائكة ، والتفضيل بينهم

وبين الأنبياء عليهم‌السلام

ويشتمل على فصلين :................................................. ٢١٥ ـ ٢٤٣

الفصل الأول : فيما قيل من عصمة الملائكة عليهم‌السلام......................... ٢١٧ ـ ٢٢٤

حجج القائلين بنفى العصمة :............................................... ٢١٧

الحجة الأولى :............................................................. ٢١٧

الحجة الثانية : وذلك من أربعة أوجه.......................................... ٢١٧

الرد عليهم بالتفصيل........................................................ ٢١٩

الفصل الثانى : فيما قيل فى التفضيل بين الملائكة والأنبياء عليهم‌السلام............. ٢٢٥ ـ ٢٤٣

مذهب أكثر الأشاعرة ، والشيعة وأكثر الناس أن الأنبياء عليهم‌السلام أفضل من الملائكة. ٢٢٥

وذهب الفلاسفة والمعتزلة إلى أن الملائكة أفضل................................ ٢٢٥

أدلة الأشاعرة ومن وافقهم................................................... ٢٢٥

أدلة المخالفين القائلين بتفضيل الملائكة على الأنبياء............................ ٢٢٦

أما من جهة المعقول :....................................................... ٢٢٦

وأما من جهة المنقول ؛ فمن خمسة عشر وجها........................... ٢٢٧ ـ ٢٣١

الرد على المخالفين................................................... ٢٣٢ ـ ٢٤٣

وهذه المسألة ظنية لاحظ للقطع فيها لا نفيا ، ولا إثباتا

القاعدة السادسة

فى المعاد ، والسمعيات ، وأحكام الثواب والعقاب

وتشتمل على ثلاثة أصول : ٢٤٥ ـ ٣٩٠

الأصل الأول

فى المعاد

ويشتمل على ثلاثة فصول :............................................ ٢٤٧ ـ ٣١٥

الفصل الأول : فى جواز إعادة ما عدم عقلا............................... ٢٤٩ ـ ٢٦٠

رأى الفلاسفة والتناسخية. المنع من ذلك...................................... ٢٤٩

رأى أكثر المتكلمين. الجواز.................................................. ٢٤٩

احتج الأشاعرة على جواز ما عدم مطلقا بحجتين :.............................. ٢٥١

الحجة الأولى :............................................................. ٢٥١

الحجة الثانية :............................................................. ٢٥١

شبه الخصوم............................................................... ٢٥٢

الرد عليهم................................................................ ٢٥٥

الفصل الثانى : فى وجوب وقوع المعاد الجسمانى............................ ٢٦١ ـ ٢٧٣

ذهب الفلاسفة والتناسخية ومن وافقهم إلى المنع من ذلك....................... ٢٦١

وذهب أهل الحق من المتشرعين إلى وجوب ذلك................................ ٢٦١

الأدلة من الكتاب الكريم.................................................... ٢٦٢

الأدلة من السنة............................................................ ٢٦٦

شبه الخصوم :............................................................. ٢٦٩

الرد عليهم :............................................................... ٢٧٢

الفصل الثالث : فى المعاد النفسانى....................................... ٢٧٤ ـ ٣١٥

اختلاف الناس فى معنى النفس الإنسانية....................................... ٢٧٤

مذهب الفلاسفة اليونانيين ، ومن تابعهم من فلاسفة الإسلاميين ، وأرباب التناسخ. ٢٧٥

احتجوا على ما ذهبوا إليه بخمسة عشر حجة.................................. ٢٧٧

ثم اختلفوا فى أربعة مواضع................................................... ٢٨١

الموضع الأول : اختلفوا فى قدم النفس وحدوثها................................. ٢٨١

الموضع الثانى : اختلفوا فى وحدة النفس وتكثرها................................ ٢٨٤

الموضع الثالث : هل تفوت النفس بفوات البدن أم لا؟.......................... ٢٨٦

الموضع الرابع : اختلفوا فى أنها هل تنتقل إلى بدن آخر أم لا؟..................... ٢٨٩

والّذي عليه المحققون من الفلاسفة امتناع القول بالتناسخ......................... ٢٩٠

الرد على القائلين من الأشاعرة بأن النفس عرض............................... ٢٩٤

الرد على القائلين بقدم النفس................................................ ٣٠٣

الرد على القائلين بحدوث النفس ومناقشة حججهم............................. ٣٠٤

وأما التفريع الثانى : فى وحدة النفس وتكثيرها................................... ٣٠٦

وأما حجج التفريع الثالث : وهو أن النفس هل تفوت بفوات البدن أم لا؟ فمدخوله ٣٠٩

وأما التفريع الرابع : المتعلق بالتناسخ........................................... ٣١٣

الرد على الفلاسفة الإلهيين.................................................. ٣١٥

الأصل الثانى

فى السمعيات

ويشتمل على أربعة فصول :............................................. ٣١٧ ـ ٣٤٧

الفصل الأول : فى الدليل السمعى ، وأقسامه ، وأنه هل يفيد اليقين ، أم لا؟.. ٣١٩ ـ ٣٢٦

تعريف الدليل السمعى فى العرف............................................. ٣١٩

وعند الفقهاء.............................................................. ٣١٩

فى عرف المتكلمين......................................................... ٣٢٠

الفصل الثانى : فى خلق الجنة والنار....................................... ٣٢٧ ـ ٣٣١

مذهب الأشاعرة وأكثر المتكلمين............................................. ٣٢٧

المعتمد فى المسألة : الكتاب والسنة وإجماع الأمة................................ ٣٢٧

أما الكتاب................................................................ ٣٢٧

وأما السنة................................................................. ٣٢٨

وأما الإجماع............................................................... ٣٢٩

الفصل الثالث : فى عذاب القبر ومساءلة منكر ونكير...................... ٣٣٢ ـ ٣٤١

آراء الفرق المختلفة.......................................................... ٣٣٢

الدليل على إحياء الموتى فى قبورهم........................................... ٣٣٣

الدليل على إثبات عذاب القبر من الكتاب والسنة.............................. ٣٣٥

أما الكتاب :.............................................................. ٣٣٥

أما السنة :................................................................ ٣٣٦

تسمية أحد الملكين منكرا والآخر نكيرا........................................ ٣٣٧

وللمخالفين شبه ومعارضات................................................. ٣٣٧

الجواب عن شبههم ، ومعارضاتهم............................................. ٣٣٨

الفصل الرابع : فى الصراط والميزان والحساب وقراءة الكتب والحوض المورود وشهادة الأعضاء ٣٤٢ ـ ٣٤٧

أما الصراط................................................................ ٣٤٢

وأما الميزان................................................................. ٣٤٥

وأما الحساب.............................................................. ٣٤٧

وأما أخذ الكتب........................................................... ٣٤٧

وأما شهادة الأعضاء........................................................ ٣٤٧

وأما نصب الحوض......................................................... ٣٤٧

الأصل الثالث

فى أحكام الثواب والعقاب

ويشتمل على خمسة فصول :............................................ ٣٤٩ ـ ٣٩٠

الفصل الأول : فى استحقاق الثواب والعقاب..................................... ٣٥١

مذهب أهل الحق. لا يجب على الله ـ تعالى ـ شيء.............................. ٣٥١

وذهب معظم المعتزلة : أنه يجب على الله إثابة المطيع ، وعقاب العاصى........... ٣٥١

الرد على المعتزلة............................................................ ٣٥٢

الفصل الثانى : فى أن ثواب أهل الجنة،وعقاب الكفار غير واجب الدوام عقلا؛بل سمعا. ٣٥٥

مذهب أهل الحق.......................................................... ٣٥٥

مذهب المعتزلة............................................................. ٣٥٥

حجج المعتزلة.............................................................. ٣٥٥

رد أهل الحق عليهم......................................................... ٣٥٧

الفصل الثالث : فى استحقاق عصاة المؤمنين العقاب على زلاتهم ، وجواز الغفران عنها عقلا ٣٦٠ ـ ٣٧٨

أجمع المسلمون على أن من مات على كفره ؛ فهو مخلد فى النار أبدا............... ٣٦٠

وأجمع المسلمون على أن من مات مؤمنا ولو كان من أهل الكبائر ؛ فماله إلى الجنة خلافا للخوارج ٣٦٠

مذهب المرجئة............................................................. ٣٦٠

الرد على المرجئة............................................................ ٣٦١

الرد على المنكرين لجواز الغفران عقلا.......................................... ٣٦٤

أما من جهة العقل.......................................................... ٣٦٤

وأما من جهة السمع........................................................ ٣٦٤

الأمة مجمعة على ثبوت الشفاعة للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم.................................... ٣٦٥

اعتراضات للخصوم......................................................... ٣٦٦

الجواب عنها............................................................... ٣٦٩

الفصل الرابع : فى أن عقاب العصاة من المؤمنين غير مخلد.......................... ٣٧٩

مذهب المعتزلة والخوارج إلى أن من مات من أرباب الكبائر من غير توبة ؛ فهو مخلد فى النار        ٣٧٩

الرد عليهم................................................................ ٣٧٩

الفصل الخامس : فى الإحباط والتكفير.................................... ٣٨٣ ـ ٣٩٠

رأى أهل الحق............................................................. ٣٨٣

مذهب الخوارج والمعتزلة...................................................... ٣٨٣

حججهم.................................................................. ٣٨٤

الرد عليهم................................................................ ٣٨٥

فهرس موضوعات الجزء الرابع............................................ ٣٩١ ـ ٣٩٨

أبكار الأفكار في أصول الدّين - ٤

المؤلف: أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]
الصفحات: 398
ISBN: 977-18-0327-1
  • القاعدة الخامسة
  • فى النبوات
  • وتشتمل على ستة أصول : 5 ـ 243
  • الأصل الأول
  • فى بيان معنى النبوة والنبي 7 ـ 13
  • أما فى وضع اللغة 7
  • وأما فى إصلاح النظار 7
  • قول الفلاسفة 7
  • أقوال أخرى 9
  • رد الآمدي على هذه المذاهب 10
  • مذهب أهل الحق من الأشاعرة ، وغيرهم 12
  • الأصل الثانى
  • فى تحقيق معنى المعجزة وشرائطها
  • ووجه دلالتها على صدق النبي
  • ويشتمل على ثلاثة فصول 15 ـ 16
  • الفصل الأول : فى تحقيق معنى المعجزة 17
  • الفصل الثانى : فى شرائط المعجزة 18
  • شرائط المعجزة عند الأشاعرة 18
  • اختيار القاضى أبو بكر 20
  • رأى المعتزلة 22
  • الحق فى ذلك 23
  • الفصل الثالث : فى وجه دلالة المعجزة على صدق الرسول 24
  • رأى الأشاعرة 25
  • الأصل الثالث
  • فى جواز البعثة عقلا 27 ـ 66
  • مذهب أهل الحق 27
  • مذهب الفلاسفة 27
  • مذهب المعتزلة 27
  • رأى المانعين 28
  • أدلة أهل الحق على الجواز العقلى 29
  • وأما القائلون بإحالة البعثة فقد تشبثوا بأربعين شبهة 30 ـ 47
  • وقد رد الآمدي على هذه الشبه بالتفصيل 47 ـ 66
  • الأصل الرابع
  • فى إثبات رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم 67 ـ 142
  • الدليل على رسالته 68
  • الدعوى الأولى : أنه كان موجودا مدعيا للرسالة 68
  • الدعوى الثانية : أنه ظهرت المعجزات على يده 68
  • من جملتها القرآن الكريم 68
  • وجه إعجازه 69
  • من معجزاته ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ انشاق القمر 74
  • ومنها : كلام الجمادات 75
  • ومنها : كلام الحيوانات العجماوات 77
  • ومنها : حركات الجمادات إليه 80
  • ومنها : اكتفاء الجمع الكثير من قليل الطعام 81
  • ومنها : نبع الماء من بين إصبعيه 82
  • ومنها : إخباره بالغيب 82
  • الدعوى الثالثة : أنه تحدى بالقرآن ، وتعجيز الخلائق عن الإتيان بمثله 85
  • الدعوى الرابعة : أنه لم يوجد لمعجزاته معارض 86
  • واعلم أن كل ما يتجه من الشبه على جواز البعثة عقلا فهو متجه هاهنا. ويختص بما نحن فيه هاهنا شبه    86
  • شبه الخصوم على رسالة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم 87 ـ 112
  • الرد على هذه الشبه بالتفصيل 112 ـ 142
  • الأصل الخامس
  • فى عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام 143 ـ 213
  • أما قبل النبوة : 143
  • الآراء فيها : 143
  • وأما بعد النبوة : 144
  • الآراء فيها : 144
  • العصمة عن الصغائر 147
  • الطرف الأول : فى جواز النسيان على الأنبياء عليهم‌السلام 147
  • الأقوال فى قصة الغرانيق 147
  • الطرف الثانى : فى بيان عصمة الأنبياء عن تعمد المعاصى التى لا يلحق فاعلها بالإخساء الأراذل ويشتمل على عشرين حجة     149
  • الحجة الأولى : أن آدم عصى وارتكب الذنب 150
  • الحجة الثانية : قوله ـ تعالى ـ (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها). 156
  • الحجة الثالثة : قوله ـ تعالى ـ (وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ) 161
  • الحجة الرابعة : قوله ـ تعالى ـ حكاية عن إبراهيم عليه‌السلام (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً) 164
  • الحجة الخامسة : قوله ـ تعالى ـ حكاية عن إبراهيم عليه‌السلام لما قال قومه وقد كسر الأصنام (أَأَنْتَ فَعَلْتَ)       166
  • الحجة السادسة : قوله ـ تعالى ـ حكاية عن إبراهيم عليه‌السلام (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ) 168
  • الحجة السابعة : قوله ـ تعالى ـ أيضا عن إبراهيمعليه‌السلام(رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى).. 169
  • الحجة الثامنة : قوله ـ تعالى ـ حكاية عنه أيضا (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ)     171
  • الحجة التاسعة : قوله ـ تعالى ـ حكاية عنه أيضا (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ)... 171
  • الحجة العاشرة : قوله ـ تعالى ـ حكاية عنه أيضا (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) 172
  • الحجة الحادية عشرة : قوله ـ تعالى ـ حكاية عن يوسف عليه‌السلام وامرأة العزيز (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها) 172
  • الحجة الثانية عشرة : قوله ـ تعالى ـ حكاية عن يوسف وأبيه واخوته (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً)        180
  • الحجة الثالثة عشرة : قوله ـ تعالى ـ حكاية عن موسى عليه‌السلام (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها)      181
  • الحجة الرابعة عشرة : قوله ـ تعالى ـ حكاية عن موسى عليه‌السلام (وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ)    184
  • الحجة الخامسة عشرة : قوله ـ تعالى ـ فى قصة داودعليه‌السلام(وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ) 186
  • الحجة السادسة عشرة : قوله ـ تعالى ـ (وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ)... 190
  • الحجة السابعة عشرة : قوله ـ تعالى ـ حكاية عن يونس عليه‌السلام (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ)    195
  • الحجة الثامنة عشرة : ما روى الثقات من أهل التفسير كابن عباس والحسن وغيرهما 197
  • الحجة التاسعة عشرة : قوله ـ تعالى ـ مخاطبا لمحمد (ص) : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) 202
  • الحجة العشرون : قوله ـ تعالى ـ مخاطبا لنبيه عليه‌السلام (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ)     204
  • وعند ذلك فلا بد من الإشارة إلى شبه الخصوم والتنبيه على وجه الانفصال عنها 205
  • الشبهة الأولى : وهى العمدة الكبرى للخصوم 205
  • الجواب عنها : 206
  • الشبهة الثانية : 207
  • الجواب عنها : 208
  • الشبهة الثالثة : 211
  • الجواب عنها : 212
  • الشبهة الرابعة : 212
  • الجواب عنها : 212
  • الشبهة الخامسة : 213
  • الجواب عنها : 213
  • الأصل السادس
  • فيما قيل من عصمة الملائكة ، والتفضيل بينهم
  • وبين الأنبياء عليهم‌السلام
  • ويشتمل على فصلين : 215 ـ 243
  • الفصل الأول : فيما قيل من عصمة الملائكة عليهم‌السلام 217 ـ 224
  • حجج القائلين بنفى العصمة : 217
  • الحجة الأولى : 217
  • الحجة الثانية : وذلك من أربعة أوجه 217
  • الرد عليهم بالتفصيل 219
  • الفصل الثانى : فيما قيل فى التفضيل بين الملائكة والأنبياء عليهم‌السلام 225 ـ 243
  • مذهب أكثر الأشاعرة ، والشيعة وأكثر الناس أن الأنبياء عليهم‌السلام أفضل من الملائكة. 225
  • وذهب الفلاسفة والمعتزلة إلى أن الملائكة أفضل 225
  • أدلة الأشاعرة ومن وافقهم 225
  • أدلة المخالفين القائلين بتفضيل الملائكة على الأنبياء 226
  • أما من جهة المعقول : 226
  • وأما من جهة المنقول ؛ فمن خمسة عشر وجها 227 ـ 231
  • الرد على المخالفين 232 ـ 243
  • وهذه المسألة ظنية لاحظ للقطع فيها لا نفيا ، ولا إثباتا
  • القاعدة السادسة
  • فى المعاد ، والسمعيات ، وأحكام الثواب والعقاب
  • وتشتمل على ثلاثة أصول : 245 ـ 390
  • الأصل الأول
  • فى المعاد
  • ويشتمل على ثلاثة فصول : 247 ـ 315
  • الفصل الأول : فى جواز إعادة ما عدم عقلا 249 ـ 260
  • رأى الفلاسفة والتناسخية. المنع من ذلك 249
  • رأى أكثر المتكلمين. الجواز 249
  • احتج الأشاعرة على جواز ما عدم مطلقا بحجتين : 251
  • الحجة الأولى : 251
  • الحجة الثانية : 251
  • شبه الخصوم 252
  • الرد عليهم 255
  • الفصل الثانى : فى وجوب وقوع المعاد الجسمانى 261 ـ 273
  • ذهب الفلاسفة والتناسخية ومن وافقهم إلى المنع من ذلك 261
  • وذهب أهل الحق من المتشرعين إلى وجوب ذلك 261
  • الأدلة من الكتاب الكريم 262
  • الأدلة من السنة 266
  • شبه الخصوم : 269
  • الرد عليهم : 272
  • الفصل الثالث : فى المعاد النفسانى 274 ـ 315
  • اختلاف الناس فى معنى النفس الإنسانية 274
  • مذهب الفلاسفة اليونانيين ، ومن تابعهم من فلاسفة الإسلاميين ، وأرباب التناسخ. 275
  • احتجوا على ما ذهبوا إليه بخمسة عشر حجة 277
  • ثم اختلفوا فى أربعة مواضع 281
  • الموضع الأول : اختلفوا فى قدم النفس وحدوثها 281
  • الموضع الثانى : اختلفوا فى وحدة النفس وتكثرها 284
  • الموضع الثالث : هل تفوت النفس بفوات البدن أم لا؟ 286
  • الموضع الرابع : اختلفوا فى أنها هل تنتقل إلى بدن آخر أم لا؟ 289
  • والّذي عليه المحققون من الفلاسفة امتناع القول بالتناسخ 290
  • الرد على القائلين من الأشاعرة بأن النفس عرض 294
  • الرد على القائلين بقدم النفس 303
  • الرد على القائلين بحدوث النفس ومناقشة حججهم 304
  • وأما التفريع الثانى : فى وحدة النفس وتكثيرها 306
  • وأما حجج التفريع الثالث : وهو أن النفس هل تفوت بفوات البدن أم لا؟ فمدخوله 309
  • وأما التفريع الرابع : المتعلق بالتناسخ 313
  • الرد على الفلاسفة الإلهيين 315
  • الأصل الثانى
  • فى السمعيات
  • ويشتمل على أربعة فصول : 317 ـ 347
  • الفصل الأول : فى الدليل السمعى ، وأقسامه ، وأنه هل يفيد اليقين ، أم لا؟.. 319 ـ 326
  • تعريف الدليل السمعى فى العرف 319
  • وعند الفقهاء 319
  • فى عرف المتكلمين 320
  • الفصل الثانى : فى خلق الجنة والنار 327 ـ 331
  • مذهب الأشاعرة وأكثر المتكلمين 327
  • المعتمد فى المسألة : الكتاب والسنة وإجماع الأمة 327
  • أما الكتاب 327
  • وأما السنة 328
  • وأما الإجماع 329
  • الفصل الثالث : فى عذاب القبر ومساءلة منكر ونكير 332 ـ 341
  • آراء الفرق المختلفة 332
  • الدليل على إحياء الموتى فى قبورهم 333
  • الدليل على إثبات عذاب القبر من الكتاب والسنة 335
  • أما الكتاب : 335
  • أما السنة : 336
  • تسمية أحد الملكين منكرا والآخر نكيرا 337
  • وللمخالفين شبه ومعارضات 337
  • الجواب عن شبههم ، ومعارضاتهم 338
  • الفصل الرابع : فى الصراط والميزان والحساب وقراءة الكتب والحوض المورود وشهادة الأعضاء 342 ـ 347
  • أما الصراط 342
  • وأما الميزان 345
  • وأما الحساب 347
  • وأما أخذ الكتب 347
  • وأما شهادة الأعضاء 347
  • وأما نصب الحوض 347
  • الأصل الثالث
  • فى أحكام الثواب والعقاب
  • ويشتمل على خمسة فصول : 349 ـ 390
  • الفصل الأول : فى استحقاق الثواب والعقاب 351
  • مذهب أهل الحق. لا يجب على الله ـ تعالى ـ شيء 351
  • وذهب معظم المعتزلة : أنه يجب على الله إثابة المطيع ، وعقاب العاصى 351
  • الرد على المعتزلة 352
  • الفصل الثانى : فى أن ثواب أهل الجنة،وعقاب الكفار غير واجب الدوام عقلا؛بل سمعا. 355
  • مذهب أهل الحق 355
  • مذهب المعتزلة 355
  • حجج المعتزلة 355
  • رد أهل الحق عليهم 357
  • الفصل الثالث : فى استحقاق عصاة المؤمنين العقاب على زلاتهم ، وجواز الغفران عنها عقلا 360 ـ 378
  • أجمع المسلمون على أن من مات على كفره ؛ فهو مخلد فى النار أبدا 360
  • وأجمع المسلمون على أن من مات مؤمنا ولو كان من أهل الكبائر ؛ فماله إلى الجنة خلافا للخوارج 360
  • مذهب المرجئة 360
  • الرد على المرجئة 361
  • الرد على المنكرين لجواز الغفران عقلا 364
  • أما من جهة العقل 364
  • وأما من جهة السمع 364
  • الأمة مجمعة على ثبوت الشفاعة للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم 365
  • اعتراضات للخصوم 366
  • الجواب عنها 369
  • الفصل الرابع : فى أن عقاب العصاة من المؤمنين غير مخلد 379
  • مذهب المعتزلة والخوارج إلى أن من مات من أرباب الكبائر من غير توبة ؛ فهو مخلد فى النار        379
  • الرد عليهم 379
  • الفصل الخامس : فى الإحباط والتكفير 383 ـ 390
  • رأى أهل الحق 383
  • مذهب الخوارج والمعتزلة 383
  • حججهم 384
  • الرد عليهم 385
  • فهرس موضوعات الجزء الرابع 391 ـ 398