



تصدير بقلم المحاضر
تطوير
علم الكلام أو رصد الحركات الإلحادية
الحمد لله الذي هو الأول لا شيء قبله
، والآخر لا غاية له ، لا تقع الأوهام له على صفة ، ولا تقعد القلوب منه على كيفيّة ، ولا تناله التجزئة والتبعيض ، ولا تحيط به الأبصار والقلوب . والصلاة والسلام على من أرسله على حين فترة من الرسل ، وطول هَجْعةٍ من الأُمم ، واعتزام من الفتن ، وانتشار من الأُمور ، والدنيا كاسفة النور ، ظاهرة الغرور ، محمد الخاتم لما سبق ، والفاتح لمن غلق ، والمعلن الحق بالحق . وعلى أهل بيته مصابيح الظلم ، وعصم الأُمم ومنار الدين الواضحة ، ومثاقيل الفضل الراجحة ، صلاة تكون إزاءً لفضلهم ، ومكافئة لعملهم ، وكفاءً لطيب فرعهم وأصلهم ، ما أنار فجر ساطع ، وأضاء نجم طالع .
أما بعد :
فقد أُسس علم الكلام في القرون الإِسلامية
الأُولى ولم يكن تأسيسه وتدوينه إلا ضرورة دعت إليها حاجة المسلمين إلى صيانة دينهم وعقيدتهم وشريعتهم . وأول مسألة طرحت على بساط البحث بين المسلمين هي حكم مرتكب الكبيرة التي اختلف فيها المسلمون إلى أقوال ، فمن قائل بأنه كافر ،
__________________
إلى قائل بانه ليس بمؤمن ولا كافر ،
بل في منزلة بين المنزلتين ، ويعاقب أقل من عقاب الكافر ، إلى ثالث بأنه مؤمن فاسق . وتلت هذه المسألة مسألة حدوث كلامه سبحانه أو قدمه فأحدثت بين المسلمين ضجة كُبرى ، وصارت مبدءً لمحنة أو محن . وفي عرض هذه المسألة إرتفع النقاش حول الصفات الخبرية الواردة في الكتاب والسنة ، كاليد ، والعين والإِستواء على العرش إلى غير ذلك من الصفات .
ثم إنه كلما ازداد الاحتكاك الثقافي
بين المسلمين والأجانب ، وشاعت ترجمة الكتب الفلسفية والعقيدية للفرس واليونان وغيرهما ، زاد النقاش والبحث حولها ، لاصطكاك بين تلك الآراء وما جاء به القرآن والسنة ، فلم يجد المسلمون في تلك الاجيال إلا التدرع بالبراهين العقلية حتى يصونوا بذلك حوزة الإِسلام من السهام المرقوشة التي ما زالت تطلق إلى قلب الإِسلام والمسلمين ، ونواميس الدين والشريعة . فشكر الله مساعي الجميع من سنة وشيعة في حفظ الدين وصيانته .
هذا ما قام به القدماء في أداء
وظيفتهم الرساليّة ، لكن التاريخ يشهد بأن قسماً كبيراً من مسائل علم الكلام ، حول المبدأ والمعاد ، وحول التوحيد والعدل ، متخذة من خطَب الإِمام امير المؤمنين عليه السلام ، وانه هو البطل المقدام في دعم هذه الأُصول وإحكامها . ولو اعترفت المعتزلة بأن منهجهم الكلامي يرجع إلى عليٍّ عليه السلام فقد صدقوا في انتمائهم وانتسابهم إلى ذاك المنهل العذب الفياض . وليس عليٌّ وحده من بين أئمة أهل البيت ، أقام دعائم هذا العلم وأشاد بنيانه ، بل تلاه الائمة الأُخر منهم ، كعليّ بن الحسين زين العابدين عليه السلام ( ت ٣٨ ـ م ٩٤ ) ، فقد صقل العقول والأَذهان الصافية بأدعيته المعروفة التي هي لباب التوحيد وصفوة المعارف الإِلهية ، وفيها من العرفان الصافي ما لا يوجد في غيرها . كما أن صادق الأُمة وامامها جعفر بن محمد عليه السلام ( ت ٨٣ ـ م ١٤٨ ) رفع صرح المدرسة الكلامية الموروثة من آبائه وأجداده ، يقف عليه من سبر أحاديثه وكلماته وأماليه ، حتى جاء عصر الإِمام الثامن علي بن موسى الرضا ( ت ١٤٨ ـ م ٢٠٣ ) ، فأضفى على المسائل
الكلامية ثوباً جديداً ، وأبان عن
المعارف في مناظراته مع أهل الكتاب والزنادقة ، وأسكت خصماءه ، ودحض شبهاتهم ، وردّ أيديهم إلى أفواههم .
ولو لم يكن لأئمة أهل البيت ميراثٌ
كلاميٌ سوى كتاب توحيد الصدوق ( ت ٣٠٦ ـ م ٣٨١ ) ، واحتجاج الطبرسي ( المتوفى حوالي ٥٥٠ ) لكفى فخراً في الدفاع عن حياض الإِسلام ومعارفه وعقائده .
وقد استخدم ائمة أهل البيت في بحوثهم
ومناظراتهم ، الوسائل التي كان الخصم يستخدمها ويعتمد عليها . كان أن لفيفاً من علماء الكلام قد دقوا هذا الباب ووردوا هذه الشريعة ، فتدرعوا بأحسن ما كان خصماؤهم متدرعين به ، كما انهم لم يزالوا بالمرصاد للحركات الإِلحادية القادمة من جانب الروم واليونان ومستسلمة أهل الكتاب ، فأوجب هذا الرّصد والتدرّع بسلاح اليوم ، أن يكون علمُ الكلام علماً يباري الخصماء ، ويصرعهم في ميادين البحث ، والمناظرة ، فجاء يماشي حاجات العصر جنباً إلى جنب ، وكتفاً إلى كتف . ولم يكن علماً جامداً محصوراً في إطار خاص ، بل كان مادةً حيوية تتحرك وتتكامل حسب تكامل العقول ، والأفهام ، وحسب توارد الشبهات والاسئلة التي بها ينمو كلُّ علم ، وبها يتكامل .
فإذا كانت هذه هي وظيفتهم الرسالية
أمام الأُمة الاسلامية والمسلمين في سبيل صيانة دينهم وشريعتهم ، فهذه الرسالة بعدُ باقية في أجيالنا وأعصارنا ، فيجب على علماء العقائد والأخصائيين في علم الكلام ، إقتفاء أثرهم ، ورصد الحركات الإِلحادية الهدامة المتوجهة إلى الإِسلام من معسكرات الغرب والشرق ، بصورها الخداعة ، وباسم العلوم الطبيعية والإِجتماعية والإِنسانية والإِقتصادية ، بل باسم التاريخ وتحليل الأديان الكبرى . ففيها من السموم القتّالة ما يهدم عقيدة المسلمين ، ويزعزع كيانهم ، وهم جعلوها في متناول عقولهم وأفكارهم بشتى الطرق والوسائل ، فطفقوا يديفون السم بالعسل ، حتى يذوقه غير الواعين من المسلمين ، وينهموه باشتهاء .
إن الحركات الإِلحادية الهدامة إبتدأت
دورها منذ ظهرت طلائع الحضارة
المادية في الغرب ، وتَدَيَّن
مفكروها بالمادية في عطاء المسيحية وواجهة اليهودية ، ووقفوا على أنَّ التغلب على الشرق يتوقف على تضعيف عقائد الشرقيين وإبعادهم عن ديانتهم ، فصار ذلك مبدءً لتأسيس علم باسم الإِستشراق ، له واجهة الإِستطلاع والتحقيق والتنقيب ، وواقعيةٌ هي الإِضلال والتحريف ، وإضعاف عقائد الشبان . وليس هذا شيئاً مكتوماً على مَنْ سَبَر كتب هؤلاء حتى من اشتهر بالوعي والموضوعية .
هذا ، ولو أردنا أن نسلك خُطى من
تقدم من علمائنا الكلاميين في الدفاع عن الدين والشريعة ، فلا مناص لنا إلا رصد الحركات الإِلحادية التي تظهر في كل زمن وجيل باسمٍ وصورةٍ وواجهةٍ ، وهذا يقتضي تطويرَ علم الكلام الموروث وإكماله حتى يفي بحاجات العصر ، ويقف موقف المعلم الرؤوف بالنسبة إلى المستعلم الواعي فيجيب عن الشبهات المستحدثة في كل عصر وجيل باسم العلم والتاريخ . ولأجل ذلك لا مناص في تطوير علم الكلام من البحث في أُمور يقتضي الزمان ضرورة طرحها وتحليلها :
الاول : فصل الدين عن العلم
إن فصل الدين عن السياسة من الخطط
الإِلحادية التي لم تزل تروّج في الغرب منذ كُسِرت شوكة الكنائس ، فاتخذوها سنداً وثيقاً لإِبعاد الدين عن السياسة ، فطفق السياسيون يلعبون بكل شيءٍ سواءٌ أوافق الدين أم لا ، قائلين بأن للدين مجالاً ، وللسياسة مجالاً آخر ، ولكلٍّ رجاله : ( وللحرب والقصعة والثريد رجالها ) .
وقد لعب السياسيون بهذا الحبل أدواراً
، فخصوا الدين بالكنائس والبيع ، وخارجهما بالسياسة التي لا تفارق الخدعة والدغل .
وجاء بعد هذه الفكرة أو معها فصل
الدين عن العلم ، وصار هذا أصلاً رصيناً في العلوم الجامعية ، تُدَرَّس العلوم الطبيعية والانسانية على هذا الأصل ، فإذا شاهدوا في موردٍ تناقضاً وتضاداً ، فأقصى ما عندهم أنَّ للدين
مجالاً وللعلم مجالاً آخر ، ولا يصح
لواحد منهما التدخل في حدود الآخر . وهذا من الحبائل الإِلحادية التي يصطاد بها كثير من الشبان بلا مشقة وشدة ، وهي تدعوهم إلى الاعتقاد بأمرين متضادين : أحدهما يدعو إلى شيء والآخر إلى ما يضاده ، وبما أن الطالب يمارس العلم كل يوم بالأدوات الحسية ، فلا يزال يتباعد عن الدين إلى أن يرفضه ويتركه ويصير ملحداً محضاً ، وأقصى حاله ، أن يكون مسيحياً أو مسلماً بالهوية لا بالحقيقة .
إن الدين المعتمد على الوحي النازل
من خالق الكون وصانع نواميسه لا يمكن أن يفترق عن العلم قيد شعرة . فإذا كانت العلوم البشرية كاشفة عن حقائق الكون مع أنها غير مصونة عن الخطأ ، فالوحي الذي لا يأتيه الباطل أولى بأن يكون كاشفاً عن الكون وسننه ونواميسه . ولأجل ذلك يجب في تطوير علم الكلام البحث عن الدين وتبيين مفاده وتعيين حدوده وتشريح موقفه من العلم ، وأنهما هل يمشيان في طريقين مختلفين أو في طريق واحد ، وهل الدين أمر فردي أو اجتماعي . وهل هو يتلخص في الأوراد والأذكار ، أو يعم جميع الشؤون ، وأنه هل يُحكِم ويُبرِم بلا سند قاطع ، أو يعتمد على أوثق المصادر وأقوى المدارك التي لا تقبل الخطأ .
الثاني : النسبية أو نفي الحقائق المطلقة
كان الشك والترديد في وجود الكون وما
فيه ، والعلوم التي يتبناها الإِنسان ، منهجاً رائجاً في الفلسفة الإِغريقية حتى قضى عليها أرسطو وأُستاذه أفلاطون وغيرهما . إلى أن ظهرت طلائع الحضارة الإِسلامية ، فقام فلاسفة الإِسلام بدحض شبهاتهم ومحوها عن بساط البحث ، فلا تجد بين المسلمين من ينتمي إلى السفسطة ويكون له شأن ومقام بينهم . وفي النهضة الصناعية الأخيرة ، عادت السفسطة إلى الأوساط العلمية بصورة أُخرى ، خادعة هدّامة . وهؤلاء ، مع أنهم يدّعون أنهم من أصحاب الجزم اليقين ، ويكافحون الشك والترديد ، يعتقدون بأن ما يدركه الإِنسان من القضايا بالأدوات المعروفة صادقٌ صدقاً نسبياً لا صدقاً مطلقاً ، صدقاً مؤقتاً لا صدقاً دائماً ، وذلك لأن للظروف
الزمانية والمكانية والأجهزة
الدماغية تأثير في الإدراكات الإنسانية ، فليس في وسع الإنسان أن ينال الواقع على ما هو عليه ، وأن ترد على ذهنه صورة مطابقة له ، مطابَقَةَ الفرعِ للأصل ، بل كل ما يحكيه الإنسان بتصوراته وتصديقاته عن واقع الكون ونفس الأمر ، فإنّما يحكيه بمفاهيم ذهنية تأثرت بأمور شتى خارجية وداخلية ، فالإنسان في مبصراته ومسموعاته أشبه بمن نظر إلى الأشياء بمنظار ملوّن ، فكما أنّه يرى ألوان الأشياء على غير ما هي عليه ، فهذه الظروف الزمانية والمكانية ، وما في داخل المدرك وخارجه من الخصوصيات كهذا المنظار ، تُري الأشياء على غير ما هي عليه ، ولكن لا تباينها ، بل تطابقها مطابقة نسبية فالإنسان عند هؤلاء أشبه بمن ابتلي بمرض اليرقان ، فكما أنّه يرى الأبيض والأسود صفراوين ، لأجل خصوصية في جهازه الإبصاري ، فهكذا الإنسان في كل ما يدرك ويقضي ، فإنّما يتوصل إلى الواقع بأجهزته التي يتأثر العلم الوارد إليها من الخارج بها ، ومع ذلك كله فليس ما يدركه خطأً محضاً ، ولا صدقاً محضاً ، بل هو صحيح في ظروف خاصة .
هذا إجمال ما يذهب إليه النسبيون من
الفلاسفة ، غير أنه أصبح أساساً للمناهج الفلسفية الغربية منذ عصر ديكارت إلى زماننا هذا ، والإنسان المتتبع في كلماتهم ونظرياتهم يقف على أنهم لا يعتقدون بالقضايا الصادقة المطلقة الدائمة الكلية ، خصوصاً في فلسفة « جان لاك » ( ت ١٦٣٢ ـ م ١٧٠٤ ) وفلسفة « كانت » ( ت ١٧٢٤ ـ م ١٨٠٤ ) فهؤلاء ـ بإضفاء النسبية على القضايا ، وتأثر الإدراكات الإنسانية في جميع الموارد بالخصوصيات الداخلية والخارجية ـ أعادوا حديث السفسطة ولكن بثوب جديد ، وغطاء علمي خادع . ومن سبر دلائل السوفسطائيين في الفلسفة الإغريقية ، يقف على أن ما ذكره الغربيون وجهاً لنسبية العلوم ، هو نفس ما ذكر رئيس الشكاكين اليونانيين « بيرهون » في إثبات السفسطة وأن ما يدركه الإنسان من الخارج لا ينطبق عليه لأنّ الأجهزة الإدراكية تتأثر بالظروف الزمانية والمكانية والحالات النفسانية ، وبذلك لا يمكن أن نعتبر العلوم علماً حقيقياً كاشفاً عن الواقع .
ولو صدق حديث النسبية وأن الاجهزة
الادراكية لم تزل خاضعة لشرائط
خاصة ، فعلى العلم وكشفه السلام ،
وعلى ذلك يصبح الدين ومعارفه وشرائعه علوماً صادقة نسبياً ، ولو تغيرت الظروف لتغيرت مفاهيم الدين ومعارفه وتشريعاته ، الى غيرها . فاي قيمة لدين هذا اساسه ، وأي وزن لمعارف إلهية لا تزال متزلزلة متغيرة بتغير الظروف .
إن نظرية النسبية من أخطر الحبائل
التي طرحت أمام المتدينين والواقعيين ونحن لا نأتى عليها ـ هنا ـ بكلمة غير أنا نسأل أصحاب هذه الفكرة ـ ويا للاسف تحملها فلاسفة الغرب وأصحاب المناهج منهم ، لا سيما الحسيين ـ هل أن القول بامتناع اجتماع النقيضين وارتفاعهما ، واجتماع الضدين ، ومسألة العلية والمعلولية ، وانقسام المفاهيم إلى الممكن والواجب والممتنع ، من العلوم النسبية ؟ أفهل يحتمل هؤلاء أن للظروف الزمانية والمكانية ، والخصوصيات العالقة بذهن الإنسان ، تأثيراً في هذه القضايا بحيث لو خرج الإنسان عن هذه القيود لتصوّر هذه القضايا بشكل آخر ، فيجوِّز اجتماع النقيضين أو ارتفاعهما ، أو يجوز وجود المعلول بلا علّة ؟ .
والعجب أن هؤلاء عندما يضفون على
عامة الإِدراكات لون النسبية وينكرون كل قضية صادقة على وجه الكلية والإِطلاق والدوام ـ إن هؤلاء أنفسهم بذلك يثبتون قضية كلية دائمة الصدق غير متلونة بلون ولا محدودة بخصوصية خارجية أو ذهنية حيث يقولون ليس لنا قضية صادقة مطلقة كلية ، فإن هذا القول منهم قضية مطلقة لا نسبية ، ولو كان هذا النفي ، نفياً نسبياً لاصبحت سائر القضايا مطلقة لا نسبية .
إن التركيز على أن للانسان علوماً
مطلقة ، مضافاً إلى أن له علوماً نسبية يقتضي التركيز على نظرية المعرفة قبل كل شيء في علم الكلام ، فإن لتلك النظرية تأثيراً هاماً في جميع الأبحاث الكلامية ، وقد كان القدماء من المتكلمين يبحثون عنها في مقدمات كتبهم فهذا هو الإِمام الأشعري ، كتب بحثاً مطولاً عن السوفسطائيين في مقدمة مقالات الإِسلاميين ، وتبعه البغدادي في كتاب أُصول الدين ، وغيرهما من المتكلمين ، حتى أن الامام البزدوي رئيس الماتريدية في عصره ، خصّ فصلاً خاصا من كتابه في هذه النظرية .
إن علماء الغرب قد بلغوا القمة في
البحث عن هذه النظرية ، فبحثوا عن أدوات المعرفة ، حسيّها وعقليّها ، كما بحثوا عن قيمة العلوم الإِنسانية مضافاً إلى تحديد مجاري العلم والمعرفة ، فإن لهذه المباحث أثراً خاصا في الأبحاث الكلامية ورصد الحركات الإِلحادية ، ولم يزل الإلحاد يدب بين السذج من الشباب من هذه الطرق ، فمن قائل باختصاص أدوات المعرفة بالحس ، إلى قائل بلزوم الإِيمان بما تثبته التجربة ورفض غيرها ، إلى ثالث يحدّد معرفة العلوم الإنسانية بشؤون المادة وأعراضها ، ويركز على أن ما وراء المادة خارج عن مجال الإدراك الإنساني وأنّه ليس للإنسان فيها القضاء والإبرام نفياً وإثباتاً .
وهذه الأفكار الفلسفية ، أخطر على
حياة الدين من الحملات العسكرية على كيان المسلمين .
الثالث : إنكار الفطريات
إن التعلّل بمعرفة النفس أصبح في هذه
الأزمان أداة طيّعة في يد الإلحاد ، خصوصاً الجامعيين المؤمنين بفروض « فرويد » ومنهجه فجعلوا علم النفس أساساً لإنكار الفطريات ، التي يقوم عليها دين التوحيد ، يقول سبحانه : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّـهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا
تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّـهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ) .
وقد عادت علاقة الدين بالانسان عندهم
وليد الميول الجنسية للإِنسان ، بل أصبحت المعنويات عند أصحاب هذا المنهج ظاهرة طفولية ، واستبقاء لعلاقة الطفل في يوم عجزه ، بأُمه وأبيه ، فإذا كبر الانسان وأحس بعجز الأب والأُم تجاه الاخطار الكبرى مضى يبحث عن قوة أكبر وأقدر على حمايته تجاه الحوادث حتى يُحلَّها محل أبيه ، وهكذا نشأت عندهم فكرة الإِله .
فالعالم الكلامي الذي يريد الدفاع عن
حياض الإِسلام والمسلمين لا
__________________
مناص له إلا التركيز على معرفة الإِنسان
، معرفة تامة ، بنفس الطرق التي يستعملها علماء النفس في معرفته .
الرابع : الغرور بالعلم
إن الإِنغرار بالعلم الحديث ـ مع
الاحترام التام للعلم وأهله ـ صار سببا لإِنكار المعاجز ، وخوارق العادات ، وتسرب الشك إلى الوحي والإِدراك الخارج عن إطار الحس والعقل ، كما تسرب الشك الى العصمة في الأنبياء ، وبكلمة قصيرة ، في أكثر ما يرجع إلى عالم الغيب والخارج عن الشهادة ، وصار هذا مبدء لنزوع كثيرة من الباحثين عن القرآن والسنة الى تأويل ما لا يلائم قوانين الشهادة . ولأجل أن يكون القارىء الكريم على بصيرة من اغترار هؤلاء بالعلم ، نذكر نماذج من أفكارهم .
فهذا هو شيخ الأزهر محمد عبده ( ت
١٣٢٣ ) ـ وقد خدم الازهر بفكره وقلمه وورث عن أستاذه السيد جمال الدين الأسد آبادي ، أفكاره وآراءه ـ يؤول الآيات الدالة على إحياء الموتى في هذه النشأة ، تأويلاً يناسب روح العصر الإلحادي .
كما أنه بطبيعته العلمية يحاول أن
يفسر الملائكة بالقوى الطبيعية ، ومن المعلوم أنّ الحافز إلى هذا التوجه ليس إلّا الإغترار بالأساليب العلمية التجريبية
والخوف من المتدرعين بالعلم الحديث ، والإنهزام أمامهم . وإلّا فقد كان اللائق بشيخ الأزهر الصمود أمام التيارات الإلحادية وأن يقول ـ رافعاً عقيرته ـ إنّ أقصى ما للعلم من الحق هو الإثبات لا النفي ، فالعلوم التجريبية مهما بلغت من القمة ، ليس لها شأن إلّا تحليل الموجودات المادية فقط ، وأما نفي ما وراء الطبيعة وإنّه ليس هناك ملك ولا جن ولا وحي ولا لوح ولا قلم ، فلا شأن له فيه ، ولو تدخّل فيه فقد تطلع إلى ما هو أقصر منه .
وهذا هو الأُستاذ الأكبر الشيخ
المراغي ، يرى أن التشريع الإِسلامي غير
__________________
صالح للتطبيق على هذه الظروف ، وإنه
يختص بالعصور الغابرة يقول : إن من ينظر في كتب الشريعة الأصلية بعين البصيرة والحذق ، يجد أنه من غير المعقول أن تضع قانوناً أو كتاباً أو مبدء في القرن الثاني من الهجرة ثم يجيء بعد ذلك ، فتطبق هذا القانون في ١٣٥٤ هجرية .
وهذا فريد وجدي ـ كاتب دائرة معارف
القرن الرابع عشر ـ تجده يرقص لافلات الحكومات من سلطان رجال الدين ويمدح ثمرات العلوم مغمزاً بثمرات الدين ، يقول : « تقدم الزمان وأفلتت الحكومات من سلطان رجال الدين واقتصر سلاح الدين على ما كان لديه من قوة الإِقناع ، ففي هذه الأثناء كان العلم يؤتي ثمرات من استكشاف المجهولات ، وتخفيف الويلات ، وترقية الصناعات ، وابتكار الأدوات والآلات ، ويعمل على تجديد الحياة البشرية تجديداً ، رفعها عن المستوى ، فشعر الناس بفارق جسيم ، بين ما انتهوا إليه في عهد الحياة الحرة وتحت سلطان العلوم المادية ، وبين ما كانوا عليه ايام خضوعهم لحفظة العقائد .
وليس هذا الداء مخصوصاً بهؤلاء ، بل
هناك رجالات آخرون تأثروا بالفلسفة المادية الغربية فأخذوا ينظرون إلى منطق الدين باستصغار .
فهذا أحمد أمين المصري الطائر الصيت
، يقول في كتابه : « إن قانون التناقض الذي يقول به المنطق الشكلي القديم والذي يقرر أن الشيء يستحيل أن يكون وأن لا يكون في آن واحد ، يجب عليه الآن أنْ يزول من أجل حقيقة « هيجل » العليا التي تنسجم فيها المتناقضات والتي تذهب إلى أن كل شيء يكون موجوداً وغير موجود » .
__________________
وقد عزب عن المسكين أن ما يدّعيه « هيجل
» من الجمع بين النقيضين لا يمت إلى النقيضين المبحوث عنهما في المنطق الشكلي ، بصلة . وإنّما هو عبارة عن العناصر المتضادة في الطبيعة التي يحصل من تفاعلها شيء ثالث ، ولو أردنا أن نعبر عنه باصطلاح صحيح ، فيجب أن نقول : يريد المتضادين في مصطلح الفلسفة ، لا النقيضين ، ولا الضدين في مصطلح المنطق .
ثم نسأل الأُستاذ ، إذا كانت أَبده
القضايا ، أعني امتناع اجتماع النقيضين ، واقعة في إطار الشك والترديد ، بل الردّ والإنكار ، فأنّى له أن يثبت قضية يقينية طاردة للشك واليقين ، إذ المفروض عنده أنّ النقيضين يجتمعان ، وأنّه لا مانع من أن تهدف قضية « قرأ أرسطو على أفلاطون » ونقيضها « لم يقرأ أرسطو على أفلاطون » .
وأسوأ من ذلك قوله الآخر ، مندداً
بعلم الكلام الذي نرى جذوره في القرآن والسنة ، ثم العقل : « أما علم التوحيد فبرهان لمن يعتقد ، لا لمن لا يعتقد ، برهان لصاحب الدين ، لا لمخالفه ، ولهذا لم نر في التاريخ أن علم الكلام كان سببا في إيمان من لم يؤمن ، أو إسلام من لم يسلم إلا نادرا ، وإنّما كان سبباً في ايمان الكثير وإسلام الجم الغفير ، الدعوة من طريق القلب لا من طريق المنطق » .
نقول : إذا لم يكن علم الكلام سببا
لايمان من لم يؤمن ، فما معنى هذه البراهين التي يسوقها القرآن حول دحض الشرك ودعم التوحيد ، واذا كان العقل غير مفيد في الهداية ، بل المفيد هو الكشف والشهود ، الذي يعبر عنه بطريق القلب ، فما معنى دعوة الوحي الى التعقل والتدبر .
والعجب أن كل ما يقوله هو ، هو برهنة
واستدلال بالعقل ، وهو يريد أن يرد العقل بالعقل ، فما هذا التناقض ؟ اللهم إلّا أن يلتجىء الأستاذ إلى فرضية « هيجل » وأنّه يصح الجمع بين النقيضين !! .
__________________
وفي مؤخر القوم ، كاتب « حياة محمد »
، محمد حسين هيكل ، فإنّه يبث سمومه في مقدمة كتابه وثناياه ، ويرفع عقيرته بأن المسائل الدينية لا تخضع للمنطق ، يقول :
« إنصرف هؤلاء الشبان عن التفكير في
الأديان وفي الرسالة الإِسلامية ، وصاحبها . وزادهم انصرافاً ما رأوا العلم الواقعي والفلسفة الواقعية ( الوضعية ) يقررانه من أن المسائل الدينية لا تخضع للمنطق ولا تدخل في حيز التفكير العلمي ، وأن ما يتصل بها من صور التفكير التجريدي ، الميتافيزِقي ، ليس هو أيضاً من الطريقة العلمية في شيء » .
ماذا يريد من قوله : إن المسائل
الدينية لا تخضع للمنطق . فهل يريد من المنطق ، الإستدلال عليها ، كما يستدل عليها بالبرهنة العقلية التي تقوم على أساس إرجاع النظريات إلى البديهيات ، فهذا عدوان وظلم ، فان أُصول المسائل الدينية إنما تثبت بالبرهان العقلي ، ومن سَبَرَ كتب الإِلهيات للمعتزلة والأشاعرة والإِمامية يجد مقدرتهم العلمية على إثبات ما يتبنونه .
وإنْ أراد أنّه لا يخضع للأساليب
التجريبية التي هي من شؤون العلوم المادية ، فهو مسلم ، لكن ذلك الترقب ، ترقب في غير محله ، لخروجه عن نطاق التجربة .
والعجب أن ما ذكره الأستاذ ليس أمراً
تجريبيا بل هو برهنة عقلية استنتجها من المشاهدات ، حسب زعمه .
هذه نماذج من الاغترار بالعلم وتسرب
المادية إلى الاوساط الدينية ، فإذا كان هذا حال هؤلاء الذين يعدون في الجبهة والسنام من الشخصيات الدينية في مصر العزيزة ، فما حال البسطاء الذين ينهلون من مشارعهم ومشارع من يتظاهر بالمادية ويرفع عقيرته بأنّه قد مضى سلطان الدين وبدأ سلطان العلم .
__________________
هذه وتلك وغيرها مما لم نذكر يفرض
علينا رسالة جديدة في علم الكلام وهي التركيز على الموضوعات التي يتخذها الإِلحاد منصة لإِذاعة الإِلحاد وإطلاقه . ولا نكتفي بعلم الكلام السابق ، والموضوعات المحدودة ، بل نماشي حاجات العصر بتطوير خاص لنجابه بذلك ضوضاء الإِلحاد ، بالمنطق الرصين والعظات البالغة النافذة .
دواءُ يزيدُ داءً .
وهناك رسالة أُخرى لعامة المسلمين
وهي ادلاء النصح للوهابية الذين يدعون أنهم يتبنون عقيدة السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان فقابلوا هذا السبيل الالحادي الجارف بنشر ما أُلف بيد المحدّثين في العصور السابقة ، ثم نشر ما ألفه ابن تيمية وتلميذه إبن قيم ومقلده في العصور الأخيرة « محمد بن عبد الوهاب » . زاعمين بأنّهم يوصدون بذلك الباب أمام تطرق الإلحاد إلى قلوب الشباب المسلم .
ولكنه اشبه بمداواة العجوز ، ينفع
مرة ويضر مرات ، فان ما كتب بيد السلف يحتوي على كل رطب ويابس وصحيح وسقيم ورصين وزائف ، وإن دَلّ على كونه سبحانه جسماً ذا اعضاء بشرية وأنه يجلس فوق العرش ويستوي عليه وينزل كل ليلة الى السماء الدنيا ، وغيره مما نستعيذ بالله منه ، ونجلّه تعالى عنه ، وقد اتخذها بعض السلف عن اليهود ومستسلمة أهل الكتاب فأودعوها كتبهم الحديثية إلى أن جاء الخلف ونظر إليها بتقدير واحترام وحسبها حقائق راهنة سمعها المسلمون من النبي الاكرم .
يشهد الله ـ وإنّه لقسم لو تعلمون
عظيم ـ أنّ في بث هذه الكتب آثاراً سيئة في أفكار الشبان وفيها حط لمقام نبي العظمة بل إنها حلقات بلاء تجر الويل على الإِسلام ، والدمار للمسلمين ، فيجب أن يكون هناك نظارة على نشر هذه الكتب حتى يميز الصحيح من غيره ، ويعلق على غير الصحيح .
هذه نصيحتي للسلفيين أساتذتهم
وأبنائهم ، « أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ
رَبِّي
وَنَصَحْتُ لَكُمْ
» ولعل بينكم من لايجب الناصحين ، غير أن ذلك لا يؤثر في عزمي ، ودعوتي في الله سبحانه .
إذا رضيت عني كرام عشيرتي
|
|
فلا زال غضباناً علي لئامها
|
الآن حصحص الحق ، وأسفر الصبح لذي
عينين ، وأقدم شكري الجزيل ، وثنائي العاطر لولدنا العلامة المحقق فضيلة الشيخ حسن مكي العاملي ، دامت إفاضاته ، فقد بلغ النهاية ، وبذل مبلغ جهده في تدوين هذه المحاضرات وضبطها وتنسيقها وتنظيمها ، والرجوع إلى مصادرها ، فجاء هذا الجزء كالجزء السابق ، كسبيكة واحدة ، تعلو عليه جودة البيان ، وإحكام السبك ، وروعة التنظيم ، فحياه الله سبحانه ووفقه لما يحبه ويرضاه في مستقبل أيامه ، وإنّه ـ دام
فضله ـ ممن عقدت عليه آمال الخير والسعادة وأن يكون أحد أعلام المحققين والخبراء في علم العقائد والكلام ، ومن المدافعين المتحمسين عن حياض العقيدة ومناهل الشريعة ، وأشكر الله سبحانه على هذه النعمة الجزيلة ، وهو خير مسؤول وخير معين .
|
حرّره صبيحة يوم الأربعاء الثامن عشر من شهر شوال المكرم من شهور عام ١٤٠٩ هـ ق في قم المشرفة
جعفر السبحاني عفي عنه
|
__________________

النبوة
العامة
مقدمة
النبوة سفارة بين الله وبين ذوي
العقول من عباده ، لازاحة علّتهم في أمر معادهم ومعاشهم .
والنبي هو الإِنسان المُخْبِر عن
الله تعالى بإحدى الطرق المعروفة .
والبحث في النبوة يقع على صورتين :
الأُولى ـ البحث عن مطلق
النبوة ، من دون تخصيص بنبيٍّ دون نبي .
الثانية ـ البحث عن نبوة
نبي خاص ، كنبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
والأبحاث التي طرحها المتكلمون في
النبوة العامة تتمحور في أربعة أُمور ، هي :
١ ـ البحث عن حسن بعث رجال الغيب
والوحي لهداية الناس وإرشادهم إلى الغاية المتوخاة من خلقهم ، أو لزومه .
٢ ـ إذا ثبت حسن البعثة ، فما هي
الطرق التي يُعْرف بها النبي الصادق من المتنبيء الكاذب ؟ وهل هي منحصرة بالإِعجاز ، أو هناك طرق أُخرى ؟
٣ ـ إذا كان النبي هو الإِنسان
المتصل بالله سبحانه ، فما هو ذاك الطريق الذي يتصل به عَبْرَه ، ويتلقى من خلاله تعاليم الخالق سبحانه ؟
٤ ـ ما هي الصفات المميزة للنبي عن
غيره ؟
ويرجع البحث في الأول إلى تحليل أدلة
مثبتي لزوم البعثة ومنكريه ، كما يرجع البحث في الثاني إلى الطرق التي تثبت بها نبوة الأنبياء . ويرجع البحث في الثالث إلى الوسيلة التي يتلقى بها النبي تعاليمه من الغيب ، أعني الوحي والإلهام . ويرجع البحث في الرابع إلى التعرف على صفات الأنبياء ، كعصمتهم من الخطأ والزلل وتنزههم عن الصفات المنفِّرة .
وبإشباع البحث في هذه المجالات
الأربعة ، يكتمل البحث في النبوة العامة ، ويقع الكلام بعده في النبوة الخاصة ، بإذنه تعالى .
******
مباحث النبوة العامة
( البحث الأول )
|
|
لزوم
بعثة الأنبياء
إتفق أهل الملل قاطبة على لزوم بعثة
الأنبياء إلى الناس ، بمعنى أن حكمة الخالق البالغة تقتضي إرسال الرسل لهداية الناس وإرشادهم إلى سبل السعادة .
وخالفهم في ذلك البراهمة ، فقالوا
بأن المجتمع الانساني بفطرته وعقليته ، يصل إلى تلك الغاية ، من دون حاجة إلى معلم غيبي .
والتعرف على الحق في ذلك يتوقف على
تحليل أدلة الطائفتين ، ونقدم أولاً أدلة المثبتين ، مختارين القليل من الكثير منها ، ثم نتبعها بأدلة
النافين فنذكرها ونحلّلها .
* * *
__________________
حاجة
المجتمع إلى القانون الكامل
وبيان هذا الدليل يستدعي رسم أمور :
الأمر الأول : نزعة الإِنسان إلى الحياة المدنية .
لا يشك احد من الفلاسفة والباحثين في
الحياة الإِنسانية ، في أن للإِنسان ميلاً إلى الإِجتماع والتمدن ، فهو يفر من حياة الإِنفراد في الغابات والصحاري وكهوف الجبال ، ويتجه إلى التشكّل مع أبناء نوعه في اطار المجتمعات الكبرى ، وكلّما تكاملت الحضارة الإِنسانية ، إنحسرت تلك الحياة الفردية وازدادت التشكّلات المدنية والإجتماعية .
وهناك نظريتان في تفسير هذه النزعة
الانسانية :
الاولى : أن الإِنسان « مدني
بالطبع » فهو بدافع فطري محض يفر من الحياة الفردية إلى الحياة الاجتماعية .
والثانية : أن الإِنسان « مستخدِم
بالطبع » ، يميل إلى استخدام كلِّ شيء في الطبيعة لصالح غرائزه ومتطلِّبات فطرته ، ولا يمكنه تحقيق هذا الدافع إلى الإِستخدام إلا بالتشكل في إطار الحياة الإِجتماعية . ولولا وفاء التعاون مع أبناء
نوعه ـ المستلزم للحياة الإِجتماعية ـ بإشباع ميله للاستخدام ، لظلّ حليف الغابات والكهوف .
وعلى كل تقدير ، لا مفر للإِنسان عن
الحياة الإِجتماعية سواء لكونه مدنياً بالطبع أو مستخدماً بالطبع .
الأمر الثاني : الحياة الإِجتماعية رهن القانون
إن حاجة المجتمع إلى القانون مما لا
يُرتاب فيه ، وذلك لأن الانسان مجبول على حب الذات ، وهذا يجرّه إلى تخصيص كل شيء بنفسه من دون أن يراعي لغيره حقاً . ومن المعلوم أن الحياة الإِجتماعية بهذا الوصف تنتهي إلى التنافس والتشاجر بين أبناء المجتمع ، وتؤدي بالتالي إلى عقم الحياة وتلاشي أركان المجتمع .
فلأجل ذلك لا يقوم للحياة الإِجتماعية
أساس إلا بوضع قانون دقيق ومحكم ومتكامل ، يقوم بتحديد وظائف كلِّ فرد وحقوقه ، ويشرِّع الحدود والقيود التي يجب تحرك الجميع من خلالها .
الأمر الثالث : شرائط المقَنِّن
إن وضع قانون ولو للقضايا والمشاكل
الجزئية ، يعدّ من أصعب الأُمور في مقام التحقيق ، ولا يقوم به إلا أماثل رجال المجتمع الذين تجتمع فيهم مؤهلات عالية من العلم والخبرة . ولكي تقف على حقيقة ما ذكرنا نضرب مثالا لبعض القضايا :
إنّ مشكلة أزمة السير من أعسر
المشكلات التي تعاني منها المجتمعات المدنية الحديثة ، ويُعَدّ حلُّها من الأُمنيات الكبرى لسكانها والقائمين عليها . فلو قامت مدينة تعاني من هذه الأزمة بتشكيل لجنة مهمتها وضع قانون وضوابط كفيلة بحلّها ، فلا بد أن تتوفر لدى أعضاء هذه اللجنة ، المعرفة والخبرة اللازمين لتحقيق هذه الغاية ، فلا بد أن تكون مطلعة على عدد شوارع المدينة ومقدار سعتها ، وكيفية ارتباطها ، وعدد الوسائط النقلية التي تجوبها ، وكذلك المراكز الاقتصادية والحيوية في المدينة ، ومراكز الكثافة السكانية ، ومراكز
المواقف العامة للسيارات ، ومقدار
سعتها وضيقها ، وكذلك الوعي الثقافي لدى الناس الداعي إلى رعاية النظم والتخطيطات ، والتعرف ايضاً على خبرات السابقين والمخططات التي طبّقت في المدن الاخرى . . . . . . . الى غير ذلك من الشروط اللازمة لوضع قانون وخطة وافية بحل الإِزمة . والجهل بواحد منها فضلا عن جميعها ، موجب للفشل وعدم نجاح القانون .
فإذا كان هذا الموضوع الجزئي بحاجة
إلى علم وخبروية بهذا الحد حتى يُجْعَلَ له قانون كافل لحل أزمته ، فكيف يجعل القانون للمجتمعات البشرية المنتشرة في أصقاع الأرض ، والتي تتباين من حيث الظروف الجغرافية والعادات والتقاليد ، يكون متناوِلاً لجميع جوانب الحياة ؟!
لا ريب أن جعل قانون كهذا يحتاج إلى
توفّر شروط وشروط ، تخرج قطعاً عن طاقة الإِنسان مهما ترقّى في درجات العلم . واليك ثلاثة من أُمهات تلك الشروط .
الشرط الأول : أن يكون المقنّن عارفاً بالإِنسان .
إنّ أول وأهم خطوة في وضع القانون ،
معرفة المقنِّن بالمورد الذي يضع له القانون ، كما أشرنا إليه في المثال المتقدم . وعلى ضوء هذا ، لا بد أن يكون المقنّن عارفا بالإنسان : جسمِهِ وروحِهِ ، غرائزه وفطرياته ، وما يصلح لهذه الامور أو يضُر بها ، وكلما تكاملت هذه المعرفة بالإِنسان ، كلما كان القانون ناجحاً وناجعاً في علاج مشاكله وإبلاغه إلى السعادة المتوخاة من خلقه ووجوده في هذا الكون .
ومَثَلُ المقنِّن في هذا المقام ، مَثَلُ
الطبيب ، كلما كانت معلوماتهُ حول المريض ، جسمِهِ وروحِهِ وظروفِهِ المحيطةِ به ، كاملةً ، كلما كانت الوصفة مفيدةً وناجعة في قَلْعِ المرض .
وهناك وجهة أُخرى لاقتضاء طبيعة
التقنين ، المعرفة الكاملة بالانسان ، وهي أن الانسان خُلِقَ مع غرائز جامحة لا تعرف لإِرضائها قاعدة ولا حدّاً . ومن
المعلوم أن تعطيل هذه الغرائز
بالكلية ينتهي إلى الفناء ، كما أن اطلاق عنانها يؤدي نفس النتيجة . فالطريق الأوسط ، كبح جماحها على حد يتم لصالح الإِنسان الفرد أولاً ، وصالح المجتمع ككلّ ثانيا .
ومن هذا يتبين أن من يريد أن يقنِّن لصالح
المجتمع ، يجب أن يكون عارفا بالإِنسان عرفاناً كاملاً ، واقفاً على زوايا روحه وأعماق ضميره وخصوصيات بدنه وطاقاته ، وما يرجع إليه بالصلاح أو الفساد .
الشرط الثاني : أن لا يكون المقنِّن منتفعاً بالقانون .
وهذا الشرط بديهي ، فإن المقنن إذا
كان منتفعاً من القانون الذي يضعه ، سواء كان النفع عائداً إليه أو إلى من يمت إليه بصلة خاصة ، فإنّ هذا القانون سيتم لصالح المقنِّن لا لصالح المجتمع ، ومثل هذا القانون ناكب عن الحق ، متردّ في مهاوي التفرقة والتمييز ، ونتيجته الحتمية الظلم والإجحاف .
فالقانون الكامل لا يتحقق إلا إذا
كان واضعُهُ مجرّداً عن حب الذات وهوى الإِنتفاع الشخصي .
الشرط الثالث : إصلاح الباطن
إن للعقيدة دورها وأثرها في اختيار
الفعل وانتخابه ، وكلُّ ما يصدر من الإنسان من فعلٍ أو تركٍ فهو وليد عقيدته وتفكيره ، فالمؤمن بالله وشرائعه يسعى للإتيان بأعمال يرضي بها ربَّه ، كما أنّ الملحد والكافر به وبشرائعه يسعى إلى الأعمال التي فيها رضى غرائزه ومتطلبات نفسه .
والقانون مهما بلغ في درجات التكامل
، لا يكون ناجحاً ومفيداً إلا إذا كان في جوهره وصميم ذاته ، ضمانات لأجرائه وتجسيده في الحياة .
وبضم هاتين المقدمتين إلى بعضهما
يتضح أن الضمان الكامل لإجراء القانون لا يتحقق إلا بتوجه المقنِّن إلى إصلاح الباطن مع إصلاح الظاهر ، ولا يكون نظره محصوراً بوضع الضوابط الماديَّة الجافّة .
فالقانون الكامل يبتني على إيجاد
عقيدة وإيمان بالغيب ، وبقوةٍ قاهرةٍ كبرى ، تراقب الإِنسان في ليله ونهاره وفي حياته الشخصية وعلاقاته الإِجتماعية ، بالإِضافة إلى ايجاد التنظيمات المادية لمراقبة أعمال الفرد الظاهرية .
واجتماع هذين الأمرين يصنع من الفرد
إِنساناً إِجتماعياً يعيش في ظل القانون مراعياً له ولا ينقضه إلا شاذاً ونادراً .
ولو كان المقنِّن ناظراً إلى الجهات
الظاهرية فقط ومكتفياً في ضمانات الإِجراء بالتنظيمات الرائجة ، لكان خاسراً في تقنينه ، ولن يَرى له تجسّداً إلا في وضح النهار وأمام أعين القوى البشرية المُجْرِية .
هذه أبرز الجهات الوافية بكمال
القانون فهلمّ نرى أين تتحقق هذه الشرائط ، وعند مَنْ ؟ .
أما الشرط الأول ، فإنا لن
نجد في صفحة الوجود موجوداً أعرف بالإنسان من خالقه ، فإن صانع المصنوع أعرف به من غيره . يقول سبحانه : ( أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) .
واما الشرط الثاني ، فلن
نجد أيضا موجوداً مجرداً عن أي فقر وحاجة وانتفاع سواه سبحانه ، ووجه ذلك أن الإِنسان مجبول على حب الذات ، فهو مهما جرّد نفسه من تبعات غرائزه ، لن يستطيع التخلص من هذه النزعة ، وإِلا لزم أن ينسى نفسه ، ويَخْرُجَ بالتالي من عداد البشر .
وأما الشرط الثالث ، أي
تشريع القانون على صرح الإِيمان والإِعتقاد بصحة التشريع ، فلن نجده أيضاً في غيره سبحانه ، لأنه يدعو إلى ربوبية نفسه وعبوديّة غيره ، ويبين للناس أن صلاحهم في إطاعته وشقاءهم في مخالفته وبهذا يسرى قانونُه وتشريعُه في الحياة والمجتمعات البشرية سريان الماء في الشجر والنبات ، ويكون مضمون الإِجراء والتطبيق .
__________________
أضف إلى ما ذكرنا ، أن التبدل الدائم
في القوانين ، والنقض المستمر الذي يورد عليها ، بحيث تحتاج في كل يوم إلى استثناء بعض التشريعات وزيادة اخرى ، إضافة الى تناقض القوانين المطروحة في العالم من قبل البشر ، كل ذلك دالّ على قصورها عن الوفاء بحاجة المجتمعات إليها ، وما ذلك إلا لقصورهم عن معرفة الانسان حقيقة المعرفة ، وانتفاء سائر الشروط في واضعيها .
فتلخص من هذا الدليل أُمور
:
الأول : أَنَّ الأنسان
يميل إلى الحياة المدنية ، إما لكونه « مدنياً بالطبع » ، أو لكونه « مستخدماً بالطبع » .
الثاني : أَنَّ الحياة
الإِجتماعية لا تستقر إلا بتعرف أعضاء المجتمع على وظائفهم وحقوقهم ، وهذا لا يتسنى الّا بالتقنين .
الثالث : أَنَّ مهمة
التقنين الشاقة لا يقوم بها إلا من اجتمعت فيه عدّة شروط أهمها : معرفته الكاملة بالأنسان ، وعدم انتفاعه من القانون الذي يجعله ، وأن يبني قانونه على صَرْح الإِيمان .
الرابع : أنّ تلك الشروط
لا توجد على وجه الكمال إلّا في الله سبحانه خالق البشر .
فإذا كان استقرار الحياة الاجتماعية
للبشر متوقفاً على التقنين الإلهي ، فالواجب في حكمته تعالى إبلاغ تلك القوانين إليهم عبر واحد منهم يرسله إليهم ، ليوقفهم على ما فيه سعادتهم . والحامل لرسالة الله سبحانه هو النبي المنبىء عنه والرسول المبلغ إلى الناس ، ويَثْبُتُ بذلك أنّ بعث الأنبياء واجب في حكمته تعالى حفظاً للنظام المتوقف على التقنين الكامل .
إشارة الى هذا الدليل في الذكر الحكيم .
إنّ في الكتاب الحكيم ما يشير إلى
هذا الدليل ، وهو قوله تعالى :
( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا
مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ . . . ) .
فجعل القيام بالقسط الذي هو عبارةٌ
أخرى عن ضبط المجتمعات بالنظم والقوانين ليحصل التآزر والتآلف المطلوبين لتأمين الأرضية الصالحة لسلوك الإِنسان إِلى معين السعادة ، جعله علةً وغايةً لإِرسال الرسل ، فالقسط لا يتحقق إِلا بالتسنين الصحيح والتقنين الكامل الذي لا يقوم به إلا خالق الانسان وبارئه .
__________________

حاجة
المجتمع الى المعرفة
كل انسان عاقل إذا جال ببصره فيما
يحيطه من أرض وسماءٍ ، يقف على أن الكون لم يخلق عبثاً ، بل له غاية وهدف تتفاعل كل أجزائه في سبيله .
وليس معنى كونه ذا غاية أن الفاعل
قام بإيجاده لسد حاجته كما هو المتعارف في أفعال غيره سبحانه ، بل المراد أن الفعل ليس فعلاً عبثيّاً فاقداً للغاية ، التي ترجع إلى غيره ، فكون الفاعل ذا غرض يفارق كون الفعل ذا غاية ، والمنفي عن ساحته سبحانه هو الأول دون الثاني ـ وقد أوضحنا حاله في الجزء الأول فلاحظ .
إن النظام السائد على العالم ، والإِنسجام
الموجود بين أجزائه يعرب عن أن الهدف من إيجاده هو استقرار الحياة في كوكبنا هذا . وهذه الغاية إن لم تكن هي الوحيدة فهي على الأقل ـ إحدى الغايات فكأن سير النجوم والكواكب والشمس والقمر ، ونزول الأمطار والثلوج ، وحركة الرياح والسحب ، وجزر البحار ومدّها ، واخضرار المزارع وتفتح الازهار وو . . . مما لا يعدّ ولا يحصى من الآثار الطبيعية ، كلها لاجل تكوّن الحياة واستقرارها وتهيئة الأرضية الصالحة لتكامل الموجودات الحية .
__________________
وتتضح حاجة الانسان إلى المعرفة
بالوقوف على أُمور :
الأمر الأول ـ الهداية التكوينية .
إن الموجودات الحية تصل إلى الغايات
التي خلقت لها ، في ظلّ الهداية التكوينية والغرائز المودعة في ذواتها ، ولا تحتاج في بلوغها ذلك الكمال إلى عامل خارج عن ذواتها ، سوى الإِنسان .
إن الإِنسان ، وإن كان مجهّزا بغرائز
ذاتية ، إلا أنها غير وافية في إبلاغه الغاية التي خلق لها ، ولا تعالج إلا القليل من حاجاته الضرورية . ولاجل ذلك ضمّ خالق الإنسان إلى تلك الغرائز ، مصباحاً يضيء له السبيل في مسيرة الحياة ، ويفي بحاجاته التي تقصر الغرائز عن إيفائها ، وهو العقل .
ومع ذلك كله فإن العقل والغرائز غير
كافيين أيضا في إبلاغ الانسان إلى السعادة المتوخاة ، بل يحتاج معهما إلى عامل ثالث يعنيه في بلوغ تلك الغاية .
ووجه ذلك أن العقل الإِنساني غير
مصون عن الخطأ والزلل والإِشتباه ، وذلك لأن عمل العقل إختياري ، فإنه يرى أمامه طرقاً متعددة وخطوطاً متفاوته ، عليه أن يسلك إحداها ويتجنب بقيّتها ، وكثيراً ما يركب الخاطيء منها ويحيد عن الصائب .
الأمر الثاني ـ قصور العلم الإنساني في مجال المعارف الإلهية
إذا كان العقل والغرائز غير وافيين
بحلّ عامة مشاكل الإِنسان ، فالعلم الإِنساني أيضاً غير كاف فيه ، وذلك أن الإِنسان رغم التقدم الذي أحرزه في العلوم الطبيعية ، لا يزال في بدايات سلّم هذا العلم ، وما أحرزه ضئيل جداً أمام أسرار الكون العظيم . ورغم أن الإِنسان تمكّن من معرفة قسم من المعادلات والقوانين التي تسير عليها الظواهر الطبيعية والقوى الكونية ، إلّا أنّه
لا يعلم أي شيء هي ، وما حقيقتها وماهيتها .
__________________
ومما يوضح قصور العلم البشري في
العلوم الالهية ، أن هناك الملايين من البشر يقطنون بلدان جنوب شرق آسيا على مستوى راق في الصناعات والعلوم الطبيعية ، إلى حد أوقعوا العالم في اسارة استهلاك مصنوعاتهم ، ومع ذلك فهم في الدرجة السفلى في المعارف الالهية . فجلّهم ـ إن لم يكن كلّهم ـ عبّاد الأصنام والأوثان ، وأُسراء الأحجار والاخشاب .
وقد بلغ الحد في بلاد اليابان أن
جعلوا لكل حادثة ربّاً ، حتى أن هناك رباً باسم « رب الزواج » ، يتوسل إليه البنات الذين تأخروا في الزواج ، ليؤمن لهم الأزواج المناسبين .
وببابك بلاد الهند الشاسعة ، وما
يعتقده مئات الملايين من أهلها من قداسةٍ وتألهٍ في « البقر » . وليست بعيدة عنّا أيام أصاب الجوع تلك البلاد ، وأصدر المجلس العام إجازة بذبح قسم من الأبقار لسدّ الجوع ورفع الموت عن أبناء الشعب ، فقد ثارت ثائرة الجماهير إلى الحدّ الذي أجبر الحكومة على إلغاء القانون . فرضوا أن يموت الإنسان بجوعه ، ويعيش البقر بأطيب عيشه ، يأكل محاصيلهم ويتلف ممتلكاتهم .
فإذا كان هذا هو حال المعارف الإلهية
في عصر الفضاء والذرة ، وبعد ما جاءت الرسل تترى لهداية البشر ، فما هو حالها في غابر القرون والأزمان ؟ ! . بل بأي صورة يا ترى كان وضعنا الآن لولا الهداية الإلهية عن طريق الرسل ؟ ! .
نعم ، هناك نوابغ في التاريخ عرفوا
الحق وتعرفوا عليه عن طريق التفكير والتعقل ، كسقراط وأفلاطون وأرسطو . ولكنهم أُناس استثنائيون ، لا يعدون معياراً في البحث ، ولا ميزاناً في نفي لزوم البعثة . وكونهم عارفين بالتوحيد ، لا يكون دليلاً على مقدرة الآخرين عليه . على أنه من المحتمل جدا أن يكون
__________________
وقوفهم على هذه المعارف في ظل ما
وصل اليهم من التعاليم السماوية عن طريق رسله سبحانه وأنبيائه .
الأمر الثالث ـ ضالة العلم الأنساني في التعرف على المصالح والمفاسد .
ربما يتصور أن الهدف الوحيد من بعثة
الأنبياء ، هو هداية الناس إلى المبدأ والمعاد ، وما في المبدأ من صفات جمال وجلال ، ولكن هذه الفكرة نصرانية بحتة ، فإن هدف الأنبياء أوسع من ذلك ، فإنهم قد بعثوا ـ مضافاً إلى ما مرّ ـ لهداية الناس إلى وسائل السعادة والشقاء ، فلأجل ذلك حثّوا على الأخلاق والمثل العليا في الحياة ، كما بيّنوا مصالح العباد ومفاسدهم الفردية والإِجتماعية ، ولذا كانت برامجهم تتسع وتتكامل بتكامل المجتمعات البشرية ، حتى ختم التشريع بخاتم الأنبياء ، وتبيّنت معالم الهداية في كافة الجوانب .
والذي يحتم ضرورة هذا الهدف قصور
العلم الأنساني عن تشخيص منافع البشر والمجتمعات ومضارّها ، ويدل على ذلك :
أولاً ـ إن المجتمع الأنساني
ـ مع ما بلغه من الغرور العلمي ـ لم يقف بعد على ألفباء الأقتصاد . فقد انقسم العالم الحديث إلى طائفتين : واحدة تزعم أن سعادة البشرية في نظام الرأسمالية والإِقتصاد الحر المطلق ، وانه هو العامل الوحيد لرفاه المجتمعات وتفجّر الطاقات . والأُخرى تدّعي أنّ سعادة البشر في النظام الاشتراكي بدءً والشيوعي غايةً ، فالسعادة كلها في سلب الملكية عن أدوات الإنتاج وتفويضها إلى الدولة الحاكمة .
فلو كان الأنسان قادراً بحق على
تشخيص المصالح والمفاسد ، وما ينفعه وما يضره ، لما حصل هذا الإِختلاف ، الذي انجر إلى انقسام خطير بين دول العالم .
ثانياً ـ وكما أن الإنسان
لم يصل إلى النظام الإقتصادي النافع له ، فهو كذلك
لم يصل إلى وفاق في مجال الأخلاق
وقد تعددت المناهج الأخلاقية في العصر الأخير إلى حد التضاد فيما بينها .
ونضرب مثالا بأحدها : الشيوعية .
إنها تدعى لنفسها منهجا أخلاقياً من أُصوله أن الإِنسان لا يكون شيوعياً إلا بالتضحية بكل شيء لبناء صرح حكومة العمال في العالم ، وكل ما كان يصبّ في هذا المنحى فهو من الأخلاق الفاضلة ، وإن كان ذلك إعداماً ، وتدميراً وسرقة واختلاساً . ولأجل تبرير هذه الآراء الشاذة اعتنقوا الأصل المعروف : « الغايات تبرر الوسائل » .
يقول لينين ـ أحد زعماء الشيوعية بعد
ماركس وانجلز ـ : « إن الشيوعي هو من يتحمل كل التضحيات ويلجأ إلى انواع الحيل والأفعال غير المشروعة ، ليجد لنفسه موضعاً ، وموطيء قدم في الإِتحاديات التجارية » .
فإذا كان هذا حال الإِنسان في معرفة
المسائل الإبتدائية في الاقتصاد والأخلاق ، فما ظنك بحاله في المسائل المبنية على أُسس تلك العلوم . أفبعد هذا الجهل المطبق يصح لنا أن نقول إن الأنسان غني عن الوحي في سلوك طريق الحياة .
ثالثاً ـ إنّ التعرف على
عوامل السعادة والشقاء له صلة وطيدة بسلوك الإنسان في الحياة ، ومع الأسف إنّ الإنسان ـ مع ما يدّعيه من العلم والمعرفة ـ لم
يدرك بعد تلك العوامل ، بشهادة أنه يشرب المسكرات ، ويستعمل المخدرات ، ويتناول اللحوم الضارة . كما يقيم إقتصاده على الربا ، الذي لا يشك إنسان عطوف على المجتمع بأنه عامل إيجاد التفاوت الطبقي بين أبناء المجتمع .
هذه الوجوه وأمثالها ترشدنا إلى أن
الإِنسان ليس ـ ولم يكن ـ غنياً عن تعاليم الأنبياء ، وتدعم بوضوح لزوم بعثتهم لنشر المعرفة بين الأمم الإِنسانية .
قال القاضي عبد الجبار : « إنه قد
تقرر في عقل كل عاقل ، وجوب دفع
__________________
الضرر عن النفس ، وثبت أيضاً أن ما
يدعو الى الواجب ويصرف عن القبيح فإنه واجب لا محالة . إذا صحّ هذا ، وكنا نجوّز أن يكون في الافعال ما إذا فعلناه كنا عند ذلك أقرب إلى أداء الواجبات وأجتناب المقبّحات ، وفيها ما اذا فعلناه كنا بالعكس من ذلك ، ولم يكن في قوة العقل ما يعرف به ذلك ويفصل بين ما هو مصلحة ولطف ، وبين ما لا يكون كذلك ، فلا بد من أن يعرّفنا الله حال هذه الأفعال كي لا يكون عائداً بالنقص على غرضه بالتكليف . وإذا كان لا يمكن تعريفنا ذلك إلّا بأن يبعث إلينا رسولاً مؤيّداً بالمعجز الدالّ على صدقه ،
فلا بُدّ من أن يفعل ذلك ، ولا يجوز له الإخلال به .
إشارة إلى هذا الدليل في الكتاب .
قد جاء في الكتاب العزيز والسنة
الشريفة إشارة الى هذا الدليل نذكر منها :
قوله سبحانه : ( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً
فَبَعَثَ اللَّـهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ . . . ) .
فإن الاختلاف ـ إن كان عن نوايا
صادقة ـ آية عجز البشر عن الوصول إلى الحقيقة .
وقول رسول الله صلى الله
عليه وآله : « ولا بعث الله نبيّاً ولا رسولاً حتى يستكمل العقل . . . » .
وقول أمير المؤمنين عليه السلام
: « فبعث الله محمدا صلى الله عليه وآله
__________________
ليخرج عباده من عبادة الأوثان إلى
عبادته ، ومن طاعة الشيطان إلى طاعته » .
وقوله عليه السلام : « . .
. إلى أن بعث الله محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله لانجاز عدته ، وتمام نبوته . . . وأهل الأرض يومئذ ملل متفرقة ، وأهواء منتشرة ، وطوائف متشتتة ، بين مشبه لله بخَلْقه ، أو ملحدٍ في أسمائه ، أو مشير به إلى غيره ، فهداهم به من الضلالة . . . » .
وفي هذا الحديث اشار إلى قصور
الانسان في التعرف على المبدأ والمعاد .
وقول الإمام الكاظم عليه السلام
لتلميذه هشام : « يا هشام ، ما بعث الله أنبيائه ورسله إلى عباده إلا ليعقلوا عن الله ، فأحسنهم استجابة أحسنهم معرفة . وأعلمهم بأمر الله ، أحسنهم عقلاً . وأكملهم عقلاً ، أرفعهم درجة في الدنيا والآخرة .
وقول الامام الرضا عليه السلام
: « لم يكن بدّ من رسول الله بينه وبينهم ، يؤدي إليهم امره ونهيه وأدبه ، ويقفهم على ما يكون به مِنْ إحراز منافعهم ودفع مضارهم إذ لم يكن في خلقهم ما يعرفون به ما يحتاجون إليه . .
* * *
__________________

هداية
الفطريات وتعديل الغرائز
وتقرير هذا الدليل يحتاج إلى تقديم
أمرين :
الأمر الأول ـ الانسان مجبول على فطرياته وغرائزه .
لا تكتمل وتتوازن حياة الإِنسان إلا
إذا عاش على مقتضى متطلبات الفطرة ومتوخيات الغرائز ، بل العيش على خلاف هذه المقتضيات يؤدي بالحياة البشرية إِلى الهلاك ، وما مثل هذا إِلا كالسابح في عكس تيار الماء ، لن تكون عاقبته إِلا الإِرهاق وانهيار القوى فيتوقف عن السباحة ويبتلعه الماء .
فحاجة الخلايا إلى الغذاء ، والبدن
إلى الراحة والنوم ، حاجة ضرورية لا بد من تلبيتها . كما أن الحاجة إلى اطفاء الشهوة بالزواج حاجة فطرية لا يمكن إهمالها ، وإلا صار الإِنسان موجوداً عصبياً ، وكانت الحياة كالعلقم في فمه .
ومن جملة الفطريات المودعة في وجود
الإِنسان ، والمكتوبة على جبينه بقلم القضاء والخلقة ، والتي تتفجر في أوائل بلوغ الإِنسان عمر الشباب ، معرفةُ الله سبحانه ، والميل إلى الأمور الحسنة ، والإِنزجار عن الأمور السيئة ، ولأجل ذلك لا ترى إنساناً ـ لم يقع تحت تأثير الأهواء وعوامل الانحراف ـ يَعُدُّ
ردّ الامانة قبيحاً ، والخيانة بها كرامة ، كما لا يعد العمل بالعهد أمراً سيئاً ،
ونقضه أمراً حسناً ، وهكذا الكثير من الأمور كالميل إِلى العفة والعدالة والإِنزجار عن
الدناسة والخيانة . وكل ذلك مما
يلمسه الإِنسان في حياته ويعايشه في وجدانه ، وقد كشف عنه العلم الحديث وأيّده .
الأمر الثاني ـ حاجة الفطريات إِلى الهداية والغرائز إلى
التعديل
إن إعمال الغرائز والفطريات ـ وإِن
كان به قوام الحياة ـ إِلا أنَّه لا يصح في المقابل تركها وحالها وإفساح المجال لها ، وإِلا أَدّى ذلك بالحياة البشرية إِلى الفناء والهلاك . وإنما تتحق سعادة الإِنسان بهداية فطرياته هداية صحيحة وتعديل غرائزه على وجه يفي بحاجاته ولا يخرجه عن طور إِنسانيته .
بيان ما ذكرنا : إن الثلوج
المتراكمة على قمم الجبال إنما يمكن الأنتفاع بها إذا كان هناك جداول وقنوات تمتد من رأس كلّ جبل إلى السهول المحيطة به ، فتسيل فيها مياه الثلوج الذائبة بالتدريج . وفي غير تلك الصورة يسيل الماء كيف كان ، جارفاً في طريقه الاحجار والصخور ، وربما أنقلب إلى سيل جارف يدمّر كلَّ شيء أمامه .
وكذلك الفِصَل المغروسة ، أو البذور
المنثورة على الأرض ، تحمل في ذواتها قوى واستعدادات ، إلا أنَّ تفجُّر تلك الطاقات يحتاج إلى من يتعهدها حراسةً وسقايةً وعنايةً على النحو المأنوس ، وعندها تصير الفِصَل أشجاراً مثمرة ، والبذور سنابل ذهبية .
ثم نقول : إذا كانت الإِستفادة
من الثلوج المتراكمة على الجبال ، والفصل المغروسة والبذور المنثورة على الأرض ، متوقفاً على هداية خاصّة ، حتى تصب في مجراها الصحيح ، وتَرْشُدَ على نهجها الطبيعي ، فكذلك الأمر في السجايا الإِنسانية والغرائز البشرية الكامنة في وجود الانسان ، فإنها لن تعود عليه بالنفع والصلاح إلا في ظل هداية تمنعها من الإفراط والتفريط ، وتسيّرها في ما هو صالح البدن والروح .
__________________
وخذ على ذلك مثالاً ، معرفة الله
والميل إلى عوالم الغيبية ، فان لها جذوراً في عمق وجود الانسان ، ولم يزل كل انسان من صباه إلى كهولته ميّالا إلى تلك العوالم ، شغوفاً بحب الاطلاع عليها ، والخضوع لها .
ولكن هذا الميل إذا لم يقع في إطار
الهداية والتوجيه الإلهي ، يسفّ بالإنسان إلى الحضيض ، ويصنع منه عابداً للحجر والخشب والعجماوات ، خاضعاً للشمس والقمر والنار . ألا ترى صانعي الآلات ومخترعي العقول الالكترونية كيف طفقوا يخضعون للأصنام والأبقار ؟ !
ولكنها إِذا كانت تحت ظل هداية إلهية
، تتجلى بمظهر التوحيد ، وأَنّ للعالم بأسره إلها واحداً أحداً عالماً ، قادراً ، محيطاً بكل شيء ، جامعاً لكل صفات الكمال والجمال .
إن الميول الطبيعية ، كالميل إلى
الزواج والتسلط على المناصب والتكاثر في الأموال ، مما خُمّر عليه الإِنسان ، ولا بقاء لحياته إلا به ، ولو سلبت عنه لصار موجوداً مهملا خاملاً طالباً للموت وجانحاً إلى الفناء .
ولكن لو تركت هذه الغرائز ومجالها ،
لآل الإنسان إلى حيوان ضار ، مدمر لكل شيء بغية تحصيل المال والإستبداد بالمناصب .
وأما لو كبح جماحها ، وعدّلت ميولها
بهداية تحدد مجاريها وتُرشد صاحبها الى كيفية الإِستفادة منها ، لصار موجوداً عاقلاً متكاملاً سعيداً في حياته ، متآلفاً ومتآزراً مع سائر بني نوعه ، لبناء المجتمع الصالح .
وهكذا ، فقد عُلِم من هاتين
المقدمتين أن وجود الفطريات والغرائز في الإنسان ، وحاجتها إلى الهداية والتعديل أمر لا ينكر ، وإنّما الكلام كلّه في
تعيين من يقوم بهذه المهمة :
فهل المحاسبات العقلية
كافية في حمل الإِنسان على هداية فطرياته وكبح جماح غرائزه عن الإِفراط والتفريط ؟
أم هل الشخصيات الممتازة
في عالم الإِجتماع ، الموصوفة بالعقل
والدراية والتجربة قادرة على القيام
بهذه المهمة ؟
أم أنّ المَرْجِعَيْن
المتقدمين ـ مع تقدير عملهما والإعتراف بانتفاع الإنسان من هدايتهما في مسير حياته ـ قاصران عن القيام بهذه المهمة ، ولا بدّ من مرجع ثالث له الإحاطة الكاملة بالفطريات والغرائز البشرية وما يصلحها ويقوّمها ، وهم الأنبياء والرسل الإلهيون المعصومون من الخطأ والزلل ، والمؤيدة هدايتُهم بضمانات إجرائية قاهرة ؟ .
نحن نعتقد أن الأمر الثالث هو
المتعين ، وأن المرجعين الأوَّلَيْن غيُر وافيين بمعالجة المشكلة .
أما العقل ، فمع الإِعتراف
بأنه يضيء الطريق أمام الإِنسان ، ويأخذ بيده في المزلّات والمزالق ، إلا أنه قاصر عن مصارعة الغرائز المتفجرة وكبح ثورانها . فإن كلَّ إِنسان يعلم من نفسه أن غرائزه وميوله الشهوية إذا تفجرت ، لم تترك للعقل ضياء ولا للفكر نوراً ، بل كان مثل العقل حينذاك مثل الإِنسان المبصر إِذا وقع في مهب الرياح والزوابع الرملية ، فإنها تَكُفُّ بَصَرَه عن
الرؤية وتُعَرْقِل مَسيرَهُ .
وفي تلك الحالات ، لا ينفك العقل عن
خداع صاحبه وإراءة المحاسبات الكاذبة لتبرير عمله ، وإيجاد الذرائع لارتكابه ، بحيث لو كان هذا الإنسان في موقف عادي خالٍ عن ذلك الثوران في العواطف والغرائز لما اعتنى بشيء من تلك التسويلات ، ولذلك لا تجد مجرماً يقوم بجناية إلّا وهو يلقي لنفسه الأعذار والتبريرات حين إقدامه عليها .
وكثيراً ما يستسهل الإنسان في تلك
الحالات ـ على فرض إلتفاته إلى خطورة وقبح ما يقوم به ـ يستسهل ما يترتب عليه من الذم واللوم والعقاب ، قضاءً لوَطره منه ، وإشباعاً لشهوته مما يناله من اللذائذ المادية .
وأما رجالات الأخلاق والإِجتماع ، فمع أنّ لهم دوراً في تهذيب النفوس ، ودفعها إلى الكمال ، وكبح جماح غرائزها على الإجمال ، إلا أَنّ عملهم لا يخلو عن نقائص ربما تَذْهَبُ بأعمالهم أدراج الرياح .
أما أولاً ، فلأنَّ شرط
التربية ، الوقوف على رموز الخلقة ، والتعرف على خصوصيات من ترجى تربيته . وليس لهذه الشخصيات ، العلم المحيط بخصوصيات الإِنسان ، لا لقلة عملهم وضيق أَفكارهم ، بل لعظمة الانسان في روحه ومعنوياته ، وغرائزه وفطرياته ، وهو أشبه ببحر كبير لا يرى ساحله ، ولا يضاء محيطه . وقد خفيت كثير من جوانب حياته ورموز وجوده ، حتى لُقّب بـ « الموجود المجهول » .
ويُصدَّق ضالة هذه المعرفة ، تزايدُ
الفساد وارتفاع نسبته في أقطار العالم عبر نفس المناهج التربوية التي تصوّبها تلك الشخصيات المرموقة في عالم التربية .
وأما ثانياً ، فلأَن الحجر
الأَساس لتأثير التربية ، أنْ يكون المربي إنساناً كاملاً وموجوداً مثالياً ، يتمتع بسمو الأخلاق والملكات ، فيجذب بها القلوب ، ويشد إليها النفوس .
ومن المعلوم أن واضعي المناهج
التربوية في العالم ، وإن كانوا خبراء في مجال تخصُّصِّهم ، إلا أنّهم فاقدون لهذا الشرط الأساس . ألا ترى أَنَّهم يوصون ببسط العدل ، وحماية المستضعف ، وترك الخمر والقمار وو . . . ومع ذلك فهم مرتكبون لها ، واقعون فيها .
ولا يشذ عنهم إلا من كان مراعياً
للدين متمسكاً بأهدابه ، ولكن الفضل حينئذ لا يعود إليه بل إِلى صاحب الشريعة الذي سَنَّ تلك البرامج والمناهج .
وأما ثالثاً ، فلأن
المناهج التربوية لا تؤتي ثمارها إلا إذا كانت منتسبة إلى الخالق سبحانه ، فإنّ هذا يمنحها ضمان الإِجراء والتجسّد في المجتمع لارتباطها بعوامل التشويق إلى الثواب والتحذير من العقاب ، وإلا فلن تعدو مجموعة نصائح شخصية أو مدرسية ، ما أسرع ما تتهاوى أمام ضربات معاول الشهوة الثائرة .
__________________
ومجموع ما ذكرناه يدلنا على أن مهمة
هداية الغرائز والفطريات ، التي تصنع من الإِنسان موجوداً عارفاً بالنُّظُم ، مؤمناً بالمناهج ، مجرياً لها في
ليلة ونهاره ، وسرّه وإعلانه ، لا تتم إِلا بيد رسل مبعوثين من جانب خالق البشر ، بمناهج كاملة أنزلها إليهم ، وحفّها بدوافع الطاعة من المغريات بالثواب والمحذّرات من العقاب .
قال الشيخ الرئيس في بيان ما يلزم أن
تشتمل عليه الأفعال التي يسنها النبي للبشر ، أفراده ومجتمعاته حتى تأخذ لنفسها طريقاً إلى التطبيق ومسلكاً إلى البقاء :
« ويجب أن تكون هذه الأفعال مقرونة
بما يذكّر الله تعالى والمعاد لا محالة ، وإلا فلا فائدة فيها .
والتذكير لا يكون إلا بالفاظ تقال أو
نيات تنوى في الخيال ، وأَنْ يقال لهم : إن هذه الأفعال يتقرب بها إلى الله ويستوجب بها الخير الكريم » . . . . إلى ان قال : « وبالجملة يجب أَنْ يكون فيها منبّهات » .
الأنبياء والفطرة في الحديث
إنّ الإمام أمير المؤمنين علياً عليه
السلام يصوّر الإنسان موجوداً يجمع في ذاته دفائن العقول وأنوار العرفان .
غير أنّ إثارة تلك المعارف الكامنة ،
وإبراز تلك الأسرار الدفينة ، يحتاج إلى إنسان كامل يقوم بتلك المهمة وهو النبي .
فدور الأنبياء دور التذكير والتنبيه
، لا دور التعليم والتأسيس ، لأن كل ما يلقيه الأنبياء من أُصول ومعارف مختمر في وجود الإِنسان بعلم فطري وقضاءٍ خلقي ، لكنه لا يلتفت إليها إلا بفضل من يوجّهه .
__________________
يقول عليه السلام : « فبعث فيهم رُسُلَه
، وواتر إليهم أَنبيائه ، ليستأدوهم ميثاق فطرته ، ويذكروهم مَنْسِيَّ نعمته ، ويحتجوا عليهم بالتبليغ ، ويثيروا لهم دفائن العقول . . . » .
فمثل الانبياء على هذا التقدير ، مثل
المهندس الزراعي ، فكما أنه ليس له دور في خلق الثمار على الأشجار وإِظهارها على الأغصان ، وانما ينحصر دوره في إخصاب الأرض وتهيئتها لتُظهِر الشجرة ثمارها وفواكها ، فهكذا الأنبياء بتعاليمهم السماوية ، فإن دورهم تهيئة الإِنسان ليُبرز ما تعلّمه في مدرسة الفطرة من الأصول والمعارف التي تدعو إلى العدل والقسط ، ونبذ الظلم والتعدي وغيرها .
نعم ، للأنبياء ـ على تقدير آخر ـ دور
التعليم ، وذلك في الوظائف الفرعية في مجال العبادات والمعاملات إذ لولاهم لما وقف الإِنسان على طرق عبادة الله تعالى ، وكيفية سلوكه مع بني نوعه في مقام المعاملة .
* * *
__________________

بعثة
الأنبياء أولى من الكماليات
يعتمد هذا الدليل بنحو رئيسي على
مشاهدة النعم التي أودعها الخالق في وجود الإِنسان وما يحيط به ليُسهِّل عليه معيشتَه وتكاملَه في الحياة . وليست كلّ هذه النعم دخيلة في ضروريات حياته ، بحيث ينعدم وجوده بدونها ، بل إن كثيراً منها مما يدخل في الكماليات ، وتسهيل مجاري الحياة . وكثير من هذه الكماليات أُمور جزئية بسيطة لا يلتفت إليها الإِنسان إلا بالتأمل والتدبّر . ولأَجل
زيادة التوضيح نمثِّل ببعض الأَجهزة في بدن الإِنسان .
إن الصانع الحكيم جهّز العين بأجهزة
مختلفة ، منها ما هو دخيل في أصل تحقق الرؤية ، ومنها ما هو دخيل في سهولتها وتيسرها .
١ ـ فجعل العين في أعلى أجزاء بدن
الإنسان حتى يتسلط بنحو كامل على ما أمامه .
٢ ـ وجعل العين بمختلف طبقاتها في
إطار جسم شحمي صلب أبيض اللون ، حفظاً لها مما قد يصيبها .
٣ ـ وجعل العين بإطارها وجميع
طبقاتها في حفرة عظيمة ، زيادة في صيانتها من الصدمات الطارئة .
٤ ـ وجعل فوق العين حاجباً يمنع من
نزول العرق إليها ، وأوجد في
ناصية الإِنسان خطوطاً ليسهل إنحراف
العرق يميناً ويساراً .
٥ ـ وجعل لكل عين جفنين حافظين لها ،
وخلق فيهما أشفاراً وأهداباً ، صيانة لها عن الدخان والأغبرة . وهما ، مع أنهما يمنعان بضمهما دخولَ ما يؤذي العين ، لكنهما لا يمنعان من الرؤية . فهما في هذا المجال أشبه بالستائر الحديديّة تسمح للنور بالدخول من دون دخول أشعة الشمس .
٦ ـ وجعل في باطن كل جفن غدداً يترشح
منها سائل لزج يصون أنسجة العين من الإِحتكاك بما يحيطها ، ويسهل دوران كرة العين في جميع الجهات .
٧ ـ وأحاط عدسية العين بمجموعة من
الأنسجة العضلية ، تجعلها تنقبض أمام الأَنوار القوية وتنبسط أمام الضعيفة منها ، صيانة للعين عن دخول أزيد مما تتحمله أو أقل مما تحتاج إليه من النور .
هذا بعض يسير مما يرجع الى العين ،
وفي الأجهزة الأُخرى بدائع وفوائد لا تحصى نذكر نذراً منها :
إنّ يد الخلقة جعلت تحت قدم الإنسان
، أخمصاً حتى يَسْهُل عليه الوقوف والسير .
وجعلت في اليد أصابع ، ثم فاوتت
بينهما في الطول ، ليسهل على الإِنسان القيام بأعماله ، وليكون بذلك صانعاً فناناً مبدعاً .
وجعلت في بواطن الأَنامل خطوطاً
وتعاريج ليسهل عليه الإِمساك بالأجسام .
وهكذا إذا درسنا خلقة الإِنسان وجدنا
أنها مشتملة على أجهزة مختلفة بين دخيلة في أصل الحياة ودخيلة في كمالها وسهولتها . وكل ذلك يدفعنا إلى التساؤل : هل يمكن لخالق الإِنسان أن يسهّل له كل طرق التكامل الظاهرية ، ثم يترك ما هو دخيل في تكامله الروحي والمعنوي ؟ .
وهل يمكن لأحد أن ينكر دور الأنبياء
في تكامل الإنسان ، ولو على وزان دور الخطوط في بواطن الأنامل على الأقل ؟ .
أو يصح من الخالق الحكيم أن يهب له
تلك الأجهزة المُؤَثِّرة في كمالاته المادية ، ويترك ما هو مؤثر في تكامل روحه وفكره ؟ .
ولقد أُلهمنا هذا البرهان مما ذكره
الشيخ الرئيس في إلهيات الشفاء حيث قال :
« الحاجة إلى هذا ( بعث النبي ) في
أن يبقى نوع الإِنسان ويتحصَّل وجوده ، أشدّ من الحاجة إلى نبات الشعر على الأشفار وعلى الحاجبين ، وتقصير الأخمص من القدمين ، وأشياء أُخرى من المنافع التي لا ضرورة إليها في البقاء . . . . فلا يجوز أن تكون العناية الأُولى تقضي تلك المنافع ، ولا تقضي هذه التي هي أُسُّها » .
وإلى هذا يشير صدر المتألهين بقوله :
« إن ذاته سبحانه منبع الخيرات ومنشأ الكمالات ، فيصدر منه كل ما يصدر على أقصى ما يتصور في حقه من الخير والكمال ، والزينة والجمال ، سواء أكان ضرورياً له ، كوجود العقل للإِنسان والنبي للأُمة . وغير ضروري ، كإنبات الشعر على الأشفار والحاجبين ، وتقصير الأخمص من القدمين » .
* * *
__________________

اللُّطف
الإِلهي
استدلوا على لزوم بعث الرسل بقاعدة
اللطف . وبما أن هذه القاعدة تطرح دليلاً في مواضع مختلفة من المسائل الكلامية ، فلا بد لنا من بسط الكلام فيها بشكل عام ، حتى يتبين حالها في كل مقام يستدل بها ، سواء فيما له صلة ببعث الرسل أو غيره ، فنقول :
إن اللطف ، في اصطلاح المتكلمين ،
يوصف بوصفين :
١ ـ اللطف المُحَصِّل .
٢ ـ اللطف المُقَرِّب .
وهناك مسائل تترتب على اللطف بالمعنى
الأول ، ومسائل أُخرى تترتب على اللطف بالمعنى الثاني ، وربما يؤدي عدم التمييز بين المعنيين إلى خلط ما يترتب على الأول بما يترتب على الثاني . ولأجل الإِحتراز عن ذلك نبحث عن كل منهما ، بنحو مستقل .
أ ـ اللُّطف المحصِّل .
اللُّطف المحصِّل عبارة عن القيام
بالمباديء والمقدمات التي يتوقف عليها تحقق غرض الخلقة ، وصونها عن العبث واللغو ، بحيث لولا القيام بهذه
المباديء والمقدّمات من جانبه سبحانه
، لصار فعله فارغاً عن الغاية ، وناقَضَ حكمته التي تستلزم التحرز عن العبث . وذلك كبيان تكاليف الإنسان ، وإعطائه القدرة على امتثالها .
ومن هذا الباب بعث الرسل لتبيين طريق
السعادة ، وتيسير سلوكها . وقد عرفت في الأدلّة السابقة ، أن الإنسان أقصر من أن ينال المعارف الحقّة ، أو يهتدي إلى طريق السعادة في الحياة ، بالإعتماد على عقله ، والإستغناء عن التعليم السماوي . ووجوب اللطف بهذا المعنى ، ليس موضع مناقشة لدى القائلين بحكمته سبحانه ، وتنزيهه عن الفعل العبثي الذي اتّفق عليه العقل والنقل .
اللطف المحصِل في مصطلح المتكلمين
ما ذكرناه من المعنى للطف المحصل ،
مصطلح خاص لنا وليس معروفاً بين المتكلّمين والمعنى المعروف لديهم هو : قيامه سبحانه بعمل تترتب عليه الطاعة . قال القاضي عبد الجبار : انّ اللطف هو كلّ ما يختار عنده المرء الواجبَ ،
ويتجنب عن القبيح .
ب : اللطف المقرب
المراد منه ما يكون موجباً لقرب
المكلف إلى فعل الطاعة والبعد عن فعل المعصية ، من دون أن يكون له حظ في التمكين ولا يبلغ الإلجاء وذلك كالوعد والوعيد والترغيب والترهيب التي تستتبع رغبة العبد إلى العمل وبعده عن المعصية .
قولهم : « ولاحظ في التمكين » يخرج
بعث الرسل وبيان التكليف ، واعطاء
__________________
القدرة فانّها ممكِّنة للعبد من
الطاعة لا مقربة منها وقد عرفت انّ هذا القسم من اللطف داخل في المحصل بالمعنى الأوّل المختار وقوله : « ولا يبلغ الالجاء » يخرج ما إذا لم يكن للعبد معه محيص من اختيار الطاعة ، فهذا أيضاً الجاء وليس لطفاً .
استدلوا على وجوب اللطف مطلقاً انّه
تعالى أراد من المكلّف الطاعة فإذا علم أنّه لا يختار الطاعة ( اللطف المحصل ) أو لا يكون أقرب إليها إلّا عند فعل يفعله به ، وجب في الحكمة أن يفعل ، إذا لو أخل به لكشف ذلك عن عدم إرادته أو جرى ذلك مجرى من أراد من غيره حضور طعامه وعلم أو ظنّ انّه لا يحضر بدون رسول ، فمن لم يرسل عدّ مناقضاً لغرضه .
والحقّ هو القول بوجوب اللطف إذا كان
مؤثر في قرب الأغلبية الساحقة من المكلّفين إلى الطاعة أي ما هو دخيل في نفس الرغبة إلى الطاعة ، والابتعاد عن المعصية في نفوس الأكثرية ، فيجب على الله القيام به .
وفي الكتاب والسنّة إشارات إلى هذا
النوع من اللُّطف . يقول سبحانه : ( وَ بَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) .
والمراد من الحسنات والسيئات ، نعماء
الدنيا وضرّاؤها وكأنّ الهدف من ابتلائهم بهما هو رجوعهم إلى الحقّ والطاعة .
ويقول سبحانه : ( وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن
نَّبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَ الضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ) .
ومفاد الآية أنّ الله تعالى أرسل
رسله لإبلاغ تكاليفه تعالى إلى العباد وإرشادهم إلى طريق الكمال ، غير أن الرَّفاه والرَّخاء والتوغل في النعم المادية ، ربما يسبب الطغيان وغفلة الإنسان عن
__________________
وإجابة دعوة الأنبياء ، فاقتضت
حكمته تعالى أخذهم بالبأساء والضراء ، لعلهم يضرعون ويبتهلون إلى الله تعالى .
ولاجل ذلك نشهد أن الأنبياء لم
يكتفوا بإقامة الحجة والبرهان ، والإِتيان بالمعاجز ، بل كانوا ـ مضافاً إلى ذلك ـ مبشرين ومنذرين . وكان الترغيب والترهيب من شؤون رسالتهم ، قال تعالى : ( رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ) . والإنذار والتبشير دخيلان في رغبة الناس بالطاعة وابتعادهم عن المعصية .
وفي كلام الإِمام علي عليه السلام
إشارة إلى هذا ، قال عليه السلام :
« أيها الناس ، إن الله تبارك وتعالى
لما خلق خلقه أراد أن يكونوا على آداب رفيعة وأخلاق شريفة ، فعلم أنهم لم يكونوا كذلك إلا بأَن يعرّفهم ما لهم وما عليهم ، والتعريف لا يكون إلا بالأمر والنهي . والأمر والنهي لا
يجتمعان إلا بالوعد الوعيد ، والوعد لا يكون إلا بالترغيب ، والوعيد لا يكون إلا بالترهيب ، والترغيب لا يكون إلا بما تشتهيه أنفسهم وتلذه أعينهم ، والترهيب لا يكون إلا بضد ذلك . . . الخ » .
وقوله عليه السلام : « والأمر والنهي
لا يجتمعان إلّا بالوعد والوعيد » ، إشارة إلى أنّ امتثال الأمر والنهي ونفوذهما في نفوس الناس يتوقف على الثواب والعقاب ، فلولاهما لما كان هناك حركة إيجابية نحو التكليف إلّا من العارفين الذين
يعبدون الله تعالى لا رغبة ولا رهبة ، بل لكونه مستحقاً للعبادة .
فتحصّل من ذلك أنّ ما هو دخيل في
تحقق الرغبة بالطاعة ، والإبتعاد عن المعصية ، في نفوس الأكثرية الساحقة من البشر ، يجب على الله سبحانه القيام به صوناً للتكليف عن اللغو ، وبالتالي صوناً للخلقة عن العبث .
__________________
نعم إذا كانت هذه المباديء كافية في
تحريك الأكثرية ، نحو الطاعة ، ولكن القليل منهم لا يمتثلون إلّا في ظروف خاصة ، كاليسر في الرزق ، أو كثرة الرفاه ، فهل هو واجب على الله سبحانه ؟ .
الظاهر لا ، إلا من باب الجود
والتفضل .
وبذلك يعلم أن اللطف المقرب إذا كان
مؤثراً في رغبة الأكثرية بالطاعة وترك المعصية يجب من باب الحكمة .
وأما اذا كان مؤثراً في آحادهم
المعدودين ، فالقيام به من باب الفضل والكرم .
وبذلك تقف على مدى صحة ما استدل به
بعضهم على اللطف في المقام ، أو سقمه .
استدل القاضي عبد الجبار على وجوب
اللطف بقوله : « إنه تعالى كلّف المكلّف ، وكان غرضه بذلك تعريضه إلى درجة الثواب ، وعلم أن في مقدوره ما لو فعل به لاختار عنده الواجب ، واجتنب القبيح ، فلا بد من أن يفعل به ذلك الفعل وإلا عاد بالنقض على غرضه ، وصار الحال فيه كالحال في أحدنا إذا أراد من بعض أصدقائه أن يجيبه إلى طعام قد اتخذه ، وعلم من حاله أنه لا يجيبه ، إلا اذا بعث إليه بعض أعزته من ولد أو غيره ، فإنه يجب عليه أن يبعث ، حتى إذا لم يفعل عاد بالنقض على غرضه . وكذلك ها هنا » .
وقال العلامة الحلي : « إن المكلِّف (
بالكسر ) إذا علم أن المكلَّف لا يطيع إلا باللطف ، فلو كلفه من دونه كان ناقضاً لغرضه ، كمن دعا غيره إلى طعام ، وهو يعلم أنه لا يجيبه إلا أن يستعمل معه نوعاً من التأدّب ، فإن لم يفعل الداعي ذلك النوع من التأدب كان ناقضاً لغرضه ، فوجوب اللطف يستلزم تحصيل الغرض » .
__________________
وقال الفاضل المقداد : « إنا بيَّنّا
أنه تعالى مريد للطاعة وكاره للمعصية ، فإذا علم أن المكلف لا يختار الطاعة ، أو لا يترك المعصية ، أو لا يكون أقرب الى ذلك إلا عند فعل يفعله به ، وذلك الفعل ليس فيه مشقة ولا غضاضة ، فإنه يجب في حكمته أن يفعله ، إذا لو لم يفعله لكشف ذلك : إما عن عدم إرادته لذلك الفعل ، وهو باطل لما تقدم ، أو عن نقض غرضه ، إذا كان مريداً له ، لكن ثبت كونه مريداً له فيكون ناقضاً لغرضه .
ويجري ذلك في الشاهد مجرى من أراد
حضور شخص إلى وليمة ، وعرف أو غلب على ظنه أن ذلك الشخص لا يحضر إلا مع فعل يفعله ، من إرسال رسول أو نوع أدب أو بشاشة أو غير ذلك من الأفعال ، ولا غضاضة عليه في فعل ذلك فمتى لم يفعل عُدّ ناقضاً لغرضه .
ونقض الغرض باطل ، لأنه نقض ، والنقص
عليه تعالى محال ، ولأن العقلاء يعدونه سَفَهاً وهو ينافي الحكمة » .
وهذه البيانات تدل على أن اللطف واجب
من باب الحكمة .
هذا كلام القائلين بوجوب اللطف ، وهو
على اطلاقه غير تام ، بل الحق هو التفصيل بين ما يكون مؤثراً في تحقق التكليف بشكل عام بين المكلفين ، فيجب من باب الحكمة ، والا فيرجع إلى جوده وتفضله من دون إيجاب عليه .
واستدل القائل بعدم وجوبه بقوله : « لو
وجب اللطف على الله تعالى لكان لا يوجد في العالم عاصٍ ، لأنه ما من مكلف إلا وفي مقدور الله تعالى من الألطاف ما لو فعله به لاختار عنده الواجب واجتنب القبيح ، فلما وجدنا في المكلفين من أطاع وفيهم من عصى ، تبين أن الألطاف غير واجبة على الله تعالى » .
يلاحظ عليه : أنَّ كون
العاصي دليلاً على عدم وجوبه ، يعرب عن أنّ
__________________
المستدل لم يقف على حقيقة اللطف ،
ولذلك استدل بوجود العصاة على عدم وجوبه ، فهو تصور أن اللطف عبارة عما لا يتخلف معه المكلف عن الإتيان بالطاعة وترك المعصية ، فنتيجته كون وجود العصيان دليلاً على عدم وجوده ، وعدم وجوده دليلاً على عدم وجوبه ، مع أنك قد عرفت في أدلة القائلين به بأنه ما يكون مقرباً إلى الطاعة ومبعّداً عن المعصية من دون أن يبلغ حد الإلجاء .
يقول القاضي عبد الجبار بأن العباد
على قسمين ، فإن فيهم من يعلم الله تعالى من حاله أنه إن فعل به بعض الأفعال كان عند ذلك يختار الواجب ويتجنب القبيح ، أو يكون اقرب الى ذلك . وفيهم من هو خلافه حتى إنْ فَعَلَ به كُلَّ ما فعل لم يختر عنده واجباً ولا اجتنب قبيحاً .
ويؤيده ما ورد في الذكر الحكيم من أن
هناك اُناساً لا يؤمنون ابداً ولو جاءهم نبيهم بكل أنواع الآيات والمعاجز .
قال سبحانه : ( وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ
عَن قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ ) .
وقال سبحانه : ( وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ ) .
وفي الختام ، نقول : إن اللطف سواء أكان
المراد منه اللطف المحصِّل أو اللطف المقرّب ، من شؤون الحكمة ، فمن وصفه سبحانه بالحكمة والتنزّه عن اللغو العبث ، لا مناص له عن الإعتقاد بهذه القاعدة ، غير أنّ القول بوجوب اللطف في المحصّل أوضح من القول به في المقرّب .
ولكن يظهر من الشيخ المفيد أن وجوب
اللطف من باب الجود والكرم ، قال : « ان ما اوجبه أصحاب اللطف من اللطف ، إنما وجب من جهة الجود
__________________
والكرم ، لا من حيث ظنوا أن العدل
أوجبه ، وأنه لو لم يفعل لكان ظالماً »
يلاحظ عليه : إن إيجابه من باب الجود
والكرم يختص باللطف الراجع إلى آحاد المكلفين ، لا ما يرجع إلى تجسيد غرض الخلقة أو غرض التكليف عند الأكثرية الساحقة من المكلفين ، كما عرفت .
ثم إن المراد من وجوب اللطف على الله
سبحانه ، ليس ما يتبادر إلى اذهان السطحيين من الناس ، من حاكمية العباد على الله ، مع أن له الحكم والفصل ، بل المراد إستكشاف الوجوب من أوصافه تعالى ، فإن أفعاله مظاهر لأوصافه تعالى ، كما أن أوصافه مظاهر لذاته تبارك وتعالى .
فإذا علمنا ـ بدليل عقلي قاطع ـ أنه
تعالى حكيم ، استتبع ذلك واستلزم العلم بأنه لطيف بعباده ، حيثما يبطل غرض الخلقة أو غرض التكليف ، لو لا اللطف .
* * *
__________________
أدلة
منكري بعثة الأنبياء
الدليل الأول .
إن الرسول إما أن يأتي بما يوافق
العقول أو بما يخالفها . فإن جاء بما يوافق العقول ، لم يكن إليه حاجة ، ولا فائدة فيه . وإن جاء بما يخالف العقول ، وجب ردّ قوله .
وبعبارة أخرى : إنّ الذي يأتي به
الرسول لا يخلو من أحد أمرين : إمّا أن يكون معقولاً ، وإمّا أن لا يكون معقولاً .
فإن كان معقولاً ، فقد كفانا العقل
التام بإدراكه والوصول إليه ، فأي حاجة لنا إلى الرسول . وإن لم يكن معقولاً ، فلا يكون مقبولاً . إذ قبول ما ليس بمعقولٍ ، خروجٌ عن حدّ الإِنسانية ودخولٌ في حريم البهيمية .
والجواب :
إن حصر ما يأتي به الرسول بموافق
العقول ومخالفها ، حصر غير حاصر . فإن ها هنا شقّا ثالثاً وهو إتيانهم بما لا يصل إليه العقل بالطاقات الميسورة له . فإنك قد عرفت فيما أقمنا من الأدلة على لزوم البعثة ، أن عقل الإِنسان وتفكّره قاصر عن نيل الكثير من المسائل ، فلاحظ .
الدليل الثاني :
قد دلّ العقل على أن الله تعالى حكيم
، والحكيم لا يتعبّد الخلق الّا بما تدل عليه عقولهم ، وقد دلّت الدلائل العقلية على أن للعالم صانعاً عالماً قادراً حكيماً ، وأنه أنعم على عباده نعماً توجب الشكر . فننظر في آيات خلقه بعقولنا ، ونشكره بآلائه علينا . وإذا عرفناه وشكرنا له ، إستوجبنا ثوابه . وإذا أنكرناه وكفرنا به ، إستوجبنا عقابه . فما بالنا نتّبع بشراً مثلنا ؟ ! . .
والجواب :
إن قسماً من هذا الدليل تكرار للدليل
الأول . وأما ما اُفيد في ذيله من وقوف الأنسان على حسن الشكر وقبح الكفر ، فهو وإن كان صحيحاً ، غير أنه يلاحظ عليه أمران :
الاول : إن كثيراً من
الناس لا يعرفون كيفية الشكر . فربما يتصورون أن عبادة المقرَّبين نوع شكر لله سبحانه . فلأجل ذلك ترى عبدة الاصنام والاوثان يعتقدون أن عبادتهم للمخلوق شيئاً موجباً للتقرّب .
الثاني ـ إنَّ تخصيص برامج
الأنبياء بالأمر بالشكر والنهي عن كفران النعمة ، غفلة عن اهدافهم السامية . فإنهم جاؤوا لإسعاد البشر في حياتهم الفردية والاجتماعية ، ولا تختص رسالتهم بالأوراد والأذكار الجافة ، كتلك التي يرددها أصحاب بعض الديانات أيام السبت والأحد في البيع والكنائس . وإنك لتقف على عظيم أهداف رسالة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله إذا وقفت على كلمته المأثورة :
« إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة
»
.
__________________
الدليل الثالث :
قد دلّ العقل على أن للعالم صانعاً
حكيماً ، والحكيم لا يتعبّد الخلق بما يَقْبُح في عقولهم . وقد وردت أصحاب الشرائع بمستقبحات من حيث العقول ، كالتوجه إلى بيت مخصوص في العبادة ، والطواف حوله ، والسعي ، ورمي الجمار ، والإِحرام ، والتلبية ، وتقبيل الحجر الأصمّ . وكذلك ذبح الحيوان ، وتحريم ما يكون غذاءً للإنسان ، وتحليل ما يُنقص من بنيته .
والجواب :
ان هذا الدليل مبني على الجهل بمصالح
الأحكام ومفاسدها . ولذلك زعم هذا المنكر أن ما جاء في شريعة الإسلام من حج بيت الله الحرام بآدابه الكثيرة ، أمر على خلاف العقل . ولكن الدارس لفلسفة الحج ، يقف على عظيم المصالح والمنافع التي يتضمنها ، والمجال لا يسمح باستقصائها ، إلّا انا نشير بايجاز إلى بعضها .
فالتوجه الى البيت ، رمز الوحدة بين
المسلمين في جميع أقطار المعمورة ، ولو تعددت وجهاتهم في أداء مراسمهم العبادية ، لسادت الفوضى فيهم ووقع الإِنشقاق بينهم في القطر الواحد فضلاً عن سائر الأقطار .
والسعي بين الصفا والمروة تجسيد لعمل
تلك المرأة البارّة التي سعت بين الجبلين سبع مرات طلباً للماء لطفلها الظمآن ، حتى حصّلته . فجعل الباري سبحانه مواطيء أقدامها محلاً للعبادة .
ورمي الجمار تجسيد لرمي الشيطان ،
فبما أن الشيطان لا يقع في أُفق الحسّ حتى نرجمه ، فنجسد وجوده في نقاط خاصة تمثّل فيها لإبراهيم عليه السلام ، فنرجمها ظاهراً ، ولكن الهدف رمي الشيطان باطناً وإبعاده عن حريم النفس والروح .
واستلام الحجر الأسود ، تعاهدٌ مع
إبراهيم عليه السلام في السعي على خطاه لإقامة التوحيد وهدم أركان الوثنية . فبما أن إبراهيم قد لبّى دعوة ربّهُ ،
وليس بين ظهرانينا حتى نبايعه على
ذلك مباشرة ، نبايعه بآثاره . وهذا أشبه ما يكون بتقبيل الجيوش راية بلادها ـ مع أنه ليس إلّا كسائر الأقمشة ـ وما هو الّا إبرازٌ للتعهد على حفظ البلاد ، وضمان أمنها واستقلالها .
وهكذا الحال في بقية المراسم
العبادية ، والواجبات والمنهيات الشرعية . وقد كشف العلم الحديث عن الفوائد العظيمة التي تشتمل عليها بعض الواجبات الشرعية كالصوم . والمضار الكبيرة التي تشتمل عليها بعض المنهيات الشرعية كأكل لحم الخنزير وشرب الخمر وغيرهما .
قال القاضي عبد الجبار في ردّ هذا
الدليل : « إن مجرد الفعل لا يمكن أن يُحكم عليه بالقبح والحسن ، حتى لو سألنا سائلٌ عن القيام هل يقبح أم لا ، فإنه مما لا يمكننا إطلاق القول في الجواب عن ذلك ، والجواب أن نقيّد ، فنقول : إنْ حصل فيه غرض وتعرّى عن سائر وجوه القبح ، حَسُنَ ، وإلّا كان قبيحاً ، هذا .
وإذا كان هكذا ، وكنا قد علمنا بقول
الرسول المصدَّق بالمعجز أنّ لنا في هذه الأفعال مصالح وألطافاً ، فكيف يجوز أن يحكم فيها بالقبح ؟ .
ويبين ذلك ويوضحه أنا نستحسن القيام
في كثير من الحالات ، نحو أن يكون تعظيماً لصديقٍ أو يتضمن غرضاً من الأغراض ، وكذلك القعود إذا تضمّن انتظار الرفيق ، وكذلك الركوع ، والسجود ، والمشي ، والكلام ، والطواف ، وغير ذلك ، فما من شيء من هذه الأفاعيل إلّا ولها وجه في الحسن إذا تعلّق به أدنى غرض » .
الدليل الرابع :
إن أكبر الكبائر في الرسالة ، اتباع
رجل هو مثلك في الصورة والنفس
__________________
والعقل ، يأكل مما تأكل ، ويشرب مما
تشرب . . . . فأي تميّز له عليك ؟ وأي فضيلة أوجبت استخدامك ؟ وما دليله على صدق دعواه ؟
والجواب :
ليس هذا المذكور في الدليل بشيء
مستحدث ، بل هذا ما كان المشركون يكررونه على ألسنتهم معترضين على رسلهم ، كما ذكره تعالى في الكتاب الكريم .
قال تعالى : ( . . . وَأَسَرُّوا النَّجْوَى
الَّذِينَ ظَلَمُوا : هَلْ هَـٰذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ . . . ) .
وقال تعالى : ( وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ
الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا : مَا هَـٰذَا إِلَّا بَشَرٌ
مِّثْلُكُمْ ، يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ ، وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ *
وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَرًا مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ ) .
ولكن الرسل قابلتهم بالجواب ،
وصدّقتهم بأنّهم مثلهم في الجسم والصورة ، لكنهم غيرهم في المعرفة والكمال الروحي ، لصلتهم بالله سبحانه دونهم ، واطلاعهم على العيب بإذنه سبحانه .
قال عزّ من قائل :
( قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلَّا بَشَرٌ
مِّثْلُكُمْ ، وَلَـٰكِنَّ اللَّـهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ، وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ
اللَّـهِ ، وَعَلَى اللَّـهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) .
__________________
وقد أمر الله تعالى رسوله أنْ يواجه
هذا المنطق بقوله : ( قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ ) .
فالجملة الأولى ، وهي الإتحاد في
البشرية ، إشارة إلى أحد ركني الرسالة ، وهو لزوم المسانخة التامة بين المُرْسَل ـ بالفتح ـ والمُرْسَل إليه .
وقوله : ( يُوحَىٰ إِلَيَّ ) ، إشارة إلى وجه الفرق بينهما ، وأنّه لأجل نزول الوحي عليه يجب اتباعه وإطاعته .
وبذلك يظهر تميّز الأنبياء وفضيلتهم
وتقدمهم على غيرهم .
وأمّا دليلهم على صدق ادعاءاتهم ،
فسيوافيك في البحث الثاني أنّ هناك طرقاً ثلاثة لتمييز النبي الصادق عن المتنبيء الكاذب .
وإلى هنا يتمّ الكلام في البحث الأول
وهو تحليل حسن بعثة الأنبياء ولزومها ، ونقض ما يثار حولها من الشبهات . وقد حان وقت الشروع بالبحث الثاني ، وهو بيان الطرق التي يعرف بها صدق مدّعي النبوة .
* * *
__________________
مباحث النبوة العامة
( البحث الثاني )
|
|
ما
تثبت به دعوى النبوة
لا تجد إنساناً سالماً في نفسه وفكره
، يقبل ادعاءات الآخرين بلا دليل يثبتها . وهذا أمر بديهي فطري جبل الإنسان عليه . وفي هذا الصدد يقول الشيخ الرئيس في كلمته المشهورة :
« من قبل دعوى المدعي بلا بيّنة
وبرهان ، فقد خرج عن الفطرة الإنسانية » .
وعلى هذا ، يجب أن تقترن دعوى النبوة
بدليل يثبت صحتها ، وإلّا كانت دعوى فارغة ، غير قابلة للإذعان والقبول .
طرق التعرّف على صدق الدعوى
إنّ هنا طرقاً ثلاثة للوقوف بنحو
قاطع على صدق مدّعي النبوّة في دعواه ، وهي :
أ ـ الإعجاز .
ب ـ تصديق النبي السابق نبوة النبي
اللاحق .
ج ـ جمع القرائن والشواهد من حالات المدّعي
، وتلامذته ، ومنهجه ، بحيث تفيد العلم بصدق دعواه ـ وهذا الطريق من أحسن الطرق في عصرنا هذا .
ولنبدأ باستعراض هذه الطرق الواحدة
تلو الأخرى .

الإعجاز
إتفق المتكلمون قاطبة على أنّ
الإعجاز دليل قطعي على صدق مدّعي النبوة ، وصلته بالخالق تعالى . ولما كان الإعجاز من المسائل المهمة في باب النبوة
، استدعى ذلك بسطاً في الكلام ، فيقع البحث عن الجهات التالية :
الجهة الأولى ـ ما هي
حقيقة الإعجاز وكيف نعرّفه ؟ .
الجهة الثانية ـ هل
الإعجاز يخالف القوانين العقلية ؟ .
الجهة الثالثة ـ ما هي
العلة المحدثة للمعجزة ؟ .
الجهة الرابعة ـ هل
الإعجاز يضعضع أصول التوحيد ؟ .
الجهة الخامسة ـ كيف يفسّر
المتجدّدون من المسلمين معجزات الأنبياء ؟ .
الجهة السادسة ـ كيف يعدّ
الإعجاز دليلاً على صدق دعوى النبوة ؟ .
الجهة السابعة ـ هل حرم
الإنسان المعاصر من المعاجز والكرامات ؟ .
الجهة الثامنة ـ بماذا
تميّز المعجزة عن سائر خوارق العادات كالسحر والكهانة ؟ .
هذه رؤوس المطالب المهمة في هذا
البحث ، وإذا وقف الباحث على أجوبتها ، تتجلى عنده المعجزة بصورة دليل قاطع على صدق مدعي النبوة ، كما
يتبيّن له أنّ القول بالإعجاز ممّا
يؤيده العلم والفلسفة ، وليس وليد الوهم والجهل . وإليك فيما يلي البحث عنها ، الواحدة تلو الأخرى .
* * *
الجهة الأولى
تعريف
المعجزة
المشهور في تعريف المعجزة أنّها : « أمر خارق للعادة
، مقرون بالتحدي ، مع عدم المعارضة » .
وبما أنّ الإعجاز يفارق الكرامة في
أنّ الأول يكون مقروناً بدعوى النبوة بخلاف الكرامة ، فيجب أن يضاف قيد : « مع دعوى النبوة » إلى التعريف ، ولعلهم استغنوا عنه بقيد « التحدي » . وإليك توضيح هذا التعريف .
١ ـ الإعجاز خارق للعادة وليس خارقاً للعقل
إنّ هناك من الأمور ما تعدّ خارقة
للعقل ، أي مضادة لحكم العقل الباتّ ، كاجتماع النقيضين وارتفاعهما ، ووجود المعلول بلا علّة ، وانقسام الثلاثة إلى عددين صحيحين . . . فإنّ هذه أمور يحكم العقل باستحالتها وامتناع تحققها .
__________________
وهناك أمور تخالف القواعد العادية ،
بمعنى أنّها تعدّ محالاً حسب الأدوات والأجهزة العادية ، والمجاري الطبيعية ، ولكنها ليست أمراً محالاً عقلاً لو كان هناك أدوات أخرى خارجة عن نطاق العادة ، وهي المسماة بالمعاجز . ولأجل تقريب ما ذكرنا تمثّل ببعض الأمثلة :
مثال أوّل : جرت العادة
على أنّ حركة جسم من مكان إلى مكان آخر تتحقق في إطار عوامل وأسباب طبيعية بدائية أو وسائل صناعية متحضرة . ولكن لم تعرف العادة أبداً حركة جسم كبير من مكان إلى مكان آخر بعيد عنه ، في فترة زمانية لا تزيد على طرفة العين ، بلا تلك الوسائط العادية . ولكن هذا غير ممتنع عقلاً ، إذ لا يمتنع أن تكون هناك أسباب أخرى لتحريك هذا الجسم الكبير ، لم يقف عليها العلم بعد .
ومن هذا القبيل قيام من أُوتي علماً
من الكتاب بإحضار عرش بلقيس ، ملكة سبأ ، من بلاد اليمن إلى بلاد الشام ، في طرفة عين ، بلا توسط شيء من الأجهزة المادية المتعارفة ، بل بأسباب غيبية كان مطّلعاً عليها . فعمله هذا
الخارق للعادة ، غير خارق للعقل لما ذكرنا ، وهو معجزة .
مثال ثان : إنّ معالجة
الأمراض الصعبة كالسِّل والعَمَى ، أمر ممكن لذاته عقلاً ، ولكنه كان أمراً محالاً عادة في القرون السالفة ، لقصور علم البشر عن الوقوف على الأجهزة والأدوية التي تعيد الصحة إلى المسلول ، والبصر إلى الأعمى . ومع تقدم العلم تذلّلت الصعاب أمام معالجة هذه الأمراض ، فصار بإمكان الطبيب الماهر القيام بالمعالجة عن طريق الأدوية والعمليات الجراحية .
وفي المقابل هناك طريقة أخرى للعلاج
، وهي الدعاء والتوسّل إلى الخالق تعالى .
والعلاج ـ بكلا الطريقتين ـ يشترك في
كونه أمراً ممكناً عقلاً ، غير أنّه يختلف في الطريقة الأولى عن الثانية ، بالطريق والسبب ، فالطبيب الماهر يصل إلى غايته بالأجهزة العادية ، فلا يعد عمله معجزة ولا كرامة ، والنبي ـ كالمسيح وغيره ـ يصل إلى نفس تلك الغاية عن طريق غير عادي ، فيسمى معجزة .
فالعمل في كلتا الصورتين غير خارق
لأحكام العقل ، إلّا أنّه موافق للعادة في الأولى دون الثانية .
وقس على ما ذكرنا كثيراً من الأمثلة
يتميز فيها خارق العادة عن خارق العقل .
٢ ـ الإِعجاز يجب أن يكون مقترناً بالدعوى
هذا هو القيد الثاني لتحديد حقيقة
الإعجاز ، ويهدف إلى أنّ خَرْق العادة لا يسمى إعجازاً إلّا بالإتيان به لأجل إثبات دعوى السفارة والنبوة ، فإذا تجرّد عنها
يسمى كرامة .
وقد نقل سبحانه في الذكر الحكيم
كرامة لمريم عليها السلام ، في قوله عزّ من قائل : ( كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا
الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا ، قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا ، قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّـهِ ، إِنَّ
اللَّـهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) .
وهذا الأمر ( حضور الرزق بلا سعي
طبيعي ) لم يكن مقترناً بدعوى المقام والمنصب الرسالي ، فلا يوصف بالإعجاز بل بالكرامة . وهكذا الحال فيما يقوم به الأولياء والصلحاء من عظام الأمور الخارقة للعادة ، فإنّها توصف بالكرامة .
٣ ـ عجز الناس عن مقابلته
هذا هو القيد الثالث في تحديد حقيقة
الإعجاز ، وهو ينحلّ إلى أمرين :
الأول ـ دعوة الناس إلى المقابلة
والمعارضة ، وطلب القيام بمثله .
الثاني ـ عجز الناس كلهم
عن الإتيان بمثله .
وإلى كلا الأمرين أشير في التعريف
بلفظ « التحدي » . ويترتب على هذا أنّ
__________________
ما يقومُ به كبارُ الأطباء
والمخترعين من الأمور المعجبة ، خارجٌ عن إطار الإعجاز ، لانتفاء الأمرين فيهما . كما أنّ ما يقومُ به السحرة والمرتاضون من الأعمال
المدهشة ، لا يُعَدّ معجزاً لانتفائهما أيضاً ، خصوصاً الأمر الثاني ، لقيام المرتاض الثاني
بمثل ما قام به المرتاض الأول ، بل بأعظم منه .
٤ ـ أن يكون عمله مطابقاً لدعواه
لا بدّ من هذا القيد في صدق الإعجاز
على فعل المدعي . فلو خالف ما ادّعاه لما سمّي معجزة ، وإن كان أمراً خارقاً للعادة . وذلك كما حصل مع مسيلمة الكذّاب عندما ادّعى أنّه نبي ، وآية نبوته أنّه إذا تفل في بئر قليلة الماء ،
يكثر ماؤها : فتفل فغار جميع مائها .
وقد كان من أفاعيله ـ الدالّة على
كذب دعواه ـ أنّه أمَرٍّ يده على رؤوس صبيان بني حنيفة ، وحنّكهم ، فأصاب القرع كلّ صبيٍّ مَسَحَ على رأسه ، ولَثَغَ كُلُّ صبيٍّ حَنَّكَهُ .
* * *
__________________
الجهة الثانية
هل
الإعجاز يخالف أصل العليّة ؟
إنّ بديهة العقل تحكم بأنّ كلّ ظاهرة
إمكانية ، تحتاج في تحقُّقِها إلى علّة ، وهذا أمر لم يختلف فيه إثنان ، وعليه أساسُ التجربة والبحث العلمي ، فإنّ العلماء ـ في المختبرات وغيرها ـ يبحثون عن علل تكوّن الظواهر ، وموجداتها ، فشأنهم كشفُ الروابط بين العلل المادية ومعاليلها ، هذا من جانب .
ومن جانب آخر ، إنّ الكتب السماوية ،
والسِيَر التاريخية ، تَنْسِبُ إلى الأنبياء ، أموراً لا تتفق بظاهرها مع هذا الأصل ، فتنسب إلى موسى عليه السلام : أنّه ألقى عصاه الخشبية الصمّاء ، فانقلب حيّةً تسعى . وأنّ المسيح عليه السلام كان يمسح بيده على المرضى فيبرؤن . وأنّ الحصى سبّحت في كفّ النبي الأعظم صلى الله عليه وآله ، وغير ذلك من المعاجز . والإعتقاد بهذه لا يجتمع مع قبول الأصل العقلي المذكور ، لأنّ الثعبان يتولد من البيضة بعد مرورها بمراحل عديدة من الإنفعالات الداخلية . وإزالة المرض وعود الصحة ، رهن استعمال الأدوية وإجراء العمليات الجراحية ، والتسبيح نوع تكلم يحتاج إلى حنجرة وفم ولهوات ، يقوم به العاقل . وهكذا .
وعلى الجملة ، فظهور المعاجز على
مسرح الوجود ، مع عدم علل مادية تُظْهِرُها ، يُعَدُّ خرقاً لقانون العلية ، وقول بتحقق المعلول بلا علّة .
الجواب
إنّ المعترض خَلَطَ بين عدم وجود
العلّة المادية التي اعتاد عليها الإنسان في حياته ، وعدم العلّة على الإطلاق . فالذي يناقض قانون العلّية هو القول بأنّ المعجزة ظاهرة إتفاقية لا تستند إلى علّة أبداً . وهذا مما لا يقول به أحد من الإلهيين .
وأمّا القول بعدم وجود علّة مادية
متعارفة للمعجزة ، فليس هو بإنكار لقانون العلية على الإطلاق ونفياً للعلّة من الأساس ، وإنّما هو نفي دور وتأثير
قسم خاص من العلل ، ونفي الخاص لا يكون دليلاً على نفي العام .
وهذا القسم الخاص من العلل ، المنفي
في مورد المعجزة ، هو العلل المادية المتعارفة التي أنس بها الذهن ، ووقف عليها العالِم الطبيعي ، واعتاد الإنسان على مشاهدتها في حياته . ولكن لا يمتنع أن يكون للمعجزة علّة أخرى لم يشاهدها الناس من قبل ، ولم يعرفها العلم ، ولم تقف عليه التجربة ، وبعبارة أخرى ، كون المعجزة معلولاً بلا علّة شيءٌ ، وكونها معلولةٌ لعلّة غيرِ معروفةٍ للناس
والعلمِ شيءٌ آخر . والباطل هو الأول ، والمُدّعى هو الثاني ، وسيوافيك الكلام فيه في الجهة الثالثة .
* * *
الجهة الثالثة
ما
هي العلةُ المحدثةُ للمعجزة ؟
قد وقفت في الجهة السابقة على أنّ
القولَ بالمعاجز لا يضعضع أصل العِلّية ، وأنّ عدم العلّة العادية في موردها لا يدلّ على تحقق المعاجز بلا علّة أصلاً ، بل لها علّة غير معروفة بين العلل التي يشاهدها الإنسان . والكلام في هذه الجهة يقع في تعيين تلك العلة ، وفيها أقوال واحتمالات :
القول الأول ـ إنّها الله سبحانه
ربما يحتمل أن تكون العلّة هي الله
سبحانه ، وأنّه يقوم بإيجاد المعاجز والكرامات مباشرة من دون توسط علل وأسباب . فكما هو أوجد المادة الأولى وأجرى فيها عللاً وأنظمة ، قام في فترات خاصة بخلقِ الثعبان من العصا الخشبية ، وتفجير الماء من الصخور الصَّمَّاء . . . وغير ذلك من خوارق الطبيعة والعادة .
ولكن هذا ـ وإن كان أمراً ممكناً ،
لعموم قدرته تعالى على كل شيء ممكنٍ بذاته ـ إلّا أنّه على خلاف ما عرفناه من الربّ تعالى من سنته التي أجراها في الكون ، وهي أن يكون لكل شيءٍ سبباً وعلّة . ومن البعيد أن يخالف تعالى سنته في مجال المعاجز .
__________________
القول الثاني ـ إنّها علل مادية غير متعارفة
وهنا احتمال ثان ، وهو أن تكون
العلّة المحدثة للمعجزة ، علة مادية غير متعارفة ، اطّلع عليها الأنبياء في ظلّ اتصالهم بعالم الغيب . ولا بُعْدَ في أن
يكون للشيء علتان ، إحداهما يعرفها الناس ، والثانية يعرفها جمع خاص فيهم . ويمكن تقريب ذلك بملاحظة إثمار الأشجار ، فإنّ له علة مادية يعرفها الزارع العادي ، فتثمر في ظل تلك العلة بعد عدّة أعوام . وهناك خبراء من مهندسي الزراعة واقفون على خصوصيات في التربة والأشجار والبيئة والمياه وغير ذلك ، توجب إثمار الأشجار في نصف تلك المدة مثلاً . فإذا كان هذا ملموساً لنا في الحياة ، فلا نستبعد أن يقف الأنبياء المتصلون بخالق الطبيعة . على أسرار ورموز فيها ، يقدرون بها على إيجاد المعاجز .
ولكنه قول لا يدعمه دليل .
القول الثالث ـ إنّها الملائكة والموجودات المجردة
وهنا احتمال ثالث وهو أنّ المعاجز
تتحقق بفعل الملائكة ـ التي يعرّفها القرآن بـ « المدبّرات » ، بأمر منه سبحانه ، عند إرادة النبي إثبات نبوته بها .
__________________
القول الرابع ـ إنّها نفس النبي وروحُه
وذهب إلى هذا جمع من الفلاسفة
والمحققين ، وإدراك صحته يتوقف على معرفة القدرة العظيمة التي تمتلكها النفس البشرية ، فنقول :
إنّ الإنسان كلّما ازداد توجهاً إلى
باطنه ، وانقطاعاً عن الظواهر المادية المحيطة به ، كلما تفجّرت مكامن قدرات نفسه وتأجّج أوار طاقاتها ، وبالعكس ، كلما ازداد انغماساً في دركات الملذات ، وإشباع الغرائز ، كلما خمدت طاقاتها وانطفأت قدراتها .
ويدلّنا على ذلك عياناً ، ما يقوم به
المرتاضون من خوارق الأفعال وعجائبها : فيرفعون الأجسام الثقيلة التي لا يتيسر رفعها إلّا بالرافعات الآلية ، بمجرد الإرادة . ويستلقون على المسامير الحادة ثم تكسر الصخور الموضوعة على صدورهم ، بالمطارق ، ويدفنون في الأرض أياماً ، ليقوموا بعدها أحياءً . وغير ذلك مما يراه السائح في بلاد الهند وغيرها ، وتواتر نقله في وسائل الإعلام
كالجرائد والمجلات والإذاعات . وكل ذلك دليل قاطع على أنّ في باطن الإنسان قوى عجيبة لا تظهر إلّا تحت شرائط خاصة .
وبعبارة واضحة ، إنّ نفس الإنسان كما
تسيطر على أعضاء البدن ، فتنقاد لإرادتها ، وتتحرك قياماً وجلوساً بمشيئتها ، فكذلك تسيطر ـ في ظل تلك الظروف الخاصة ـ على موجودات العالم الخارجي ، فتقودها بإرادتها ، وتخضعها لمشيئتها ، وتَقْدِرُ ، بمجرد الإرادة ، على إبطال مفعول العلل المادية في مقام التأثير ،
وغير ذلك من الأفعال .
وليس القيام بعجائب الأمور من خصائص
المرتاضين ، بل إنّ هناك أُناساً مثاليين ، أفنوا أعمارهم في سبل العبادة ومعرفة الربّ ، بلغوا إلى حدّ قدروا معه على خرق العادة والمجاري الطبيعية .
__________________
يقول الشيخ الرئيس في هذا
المجال : « إذا بلغك أنّ عارفاً أطاق بقوته فعلاً ، أو تحريكاً ، أو حركة تخرج عن وسع مثله ، فلا تتلقه بكل ذلك الإستنكار ، فلقد تجد إلى سببه سبيلاً في اعتبارك مذاهب الطبيعة . . . وإذا بلغك أنّ عارفاً حدّث عن غيب فأصاب ، متقدماً ببشرى أو نذير ، فصدّق ولا يتعسّرن عليك الإيمان به ، فإنّ لذلك في مذاهب الطبيعة أسباباً معلومة » .
ويقول صدر المتألّهين : « لا
عجب أن يكون لبعض النفوس قوة إلهية ، فيطيعها العنصر في العالم المادي ، كإطاعة بدنه إياها . فكلّما ازدادت النفس
تجرّداً وتشبّهاً بالمباديء القصوى ، إزدادت قوةً وتأثيراً فيما دونها .
فإذا صار مجرّدُ التصوّر سبباً لحدوث
هذه التغيرات ( طاعة البدن للنفس ) في هيولىٰ البدن ، لأجل علاقة طبيعية وتعلّق جبلّي لها إليه ، لكان ينبغي أن
يؤثّر في هيولىٰ العالم مثل هذا التأثير ، لأجل اهتزازٍ علويٍّ للنفس ، ومحبة إلهية
لها ، فتؤثّر نفسه في الأشياء » .
ويدلّ على أنّ خوارق العادة رهن فعل
النفس الإنسانية ، ما ينقله تعالى من أفعال السحرة الواقعة بإذنه تعالى ، وذلك في قوله عزّ من قائل : ( فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ
مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّـهِ ) .
وهناك من الآيات ما هو أصرح منها في
نسبة الخوارق إلى أصحاب النفوس القوية ، كما ورد في أحوال سليمان النبي عند ما طلب من الملأ إحضار عرش ملكة سبأ من اليمن إلى فلسطين قبل أن يأتوه مسلمين . فقال عفريت من الجن إنّه قادر على حمله والإتيان به قبل انفضاض مجلس سليمان ، ولكن مَنْ كان عنده عِلْمٌ من الكتاب قال إنّه قادر على الإتيان به قبل أن يرتد طَرْفُ سُلَيْمانَ إليه ،
وبالفعل ، بأسرع من لمح البصر ، كان العرش ماثلاً أمامه .
__________________
يقول سبحانه : ( قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ
أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ *
قَالَ عِفْرِيتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن
مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ *
قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن
يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَـٰذَا مِن فَضْلِ
رَبِّي . . . ) .
بعد هذا كلّه نقول : إذا كان هذا حال
الإنسان العادي الذي لم يطرق إلّا باب الرياضة ، أو العارف الذي قام بالفرائض واجتنب المحرمات ، فكيف بمن وقع تحت عناية الله سبحانه ورعايته الخاصة ، وتعليم ملائكته ، إلى أن بلغت نفسُه أعلى درجات القوة والمقدرة ، إلى حدّ يقدر ـ بإرادة ربّانية ـ على خلع الصور عن المواد وإلباسها صوراً أُخرى ، ويَصِيرَ عالمُ المادة مطيعاً له ، إطاعة أعضاءِ
بدن الإنسان له .
وفي الذكر الحكيم إشارات إلى هذا
المعنى حيث ينسب تعالى الإتيان بالمعجزة إلى نفس الرسول بقوله : ( مَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ
اللَّـهِ ) . فإنّ الفاعل في « يأتي » هو الرسول المتقدّم عليه .
وقد يؤيّد هذا الإحتمال بما ورد في
توصيف الأنبياء بأنّهم جند الله ، وأنّهم منصورون في مسرح التحدي ومقابلة الأعداء . قال سبحانه : ( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ *
إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ *
وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ) . وكون النبي منصوراً في جميع المواضع ، ومنها مواضع التحدي ، يَدُلّ على أنّ له دوراً ودخالة في الإتيان بخوارق العادات .
ونظير ذلك قوله سبحانه : ( كَتَبَ اللَّـهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا
وَرُسُلِي ) ، فوصف النبي صلى الله عليه وآله بكونه غالباً ، ولا معنى للغالبية إلّا لدخالته في مواضع
التحدي .
__________________
ولا دليل على اختصاص الآيتين
بالمغازي والحروب ، بل إطلاقهما يدلّ على كونهم منصورين وغالبين في جميع مواقع المقابلة ، سواء أكانت محاجة أو تحدّياً بالإعجاز ، أو حرباً وغزواً .
وهذا الفعل العظيم للنفوس ، إنّما
يقع بأمره تعالى وتأييده ، ولذا كانت تحصل لهم الغلبة في موارد المجابهة ؛ قال تعالى : ( فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَىٰ مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ ، إِنَّ اللَّـهَ سَيُبْطِلُهُ ، إِنَّ اللَّـهَ لَا يُصْلِحُ
عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ) .
فهذه الآيات العامة المتقدمة ، تدلّ
بظهورها على كون الفاعل للمعاجز والكرامات ، نفوس الأنبياء وأرواحهم ، بإذن الله سبحانه .
وهناك آيات أخرى خاصة ، تسند إلى
خصوص بعض الأنبياء خوارق العادة ، بل ائتمار الكون بأمرهم .
قال تعالى : ( وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً
تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ، وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ ) .
وأنت إذا أمعنت في قوله : ( بِأَمْرِهِ ) ، ينكشف لك الستار عن وجه الحقيقة ، ويظهر لك أنّ إرادته كانت نافذة في لطائف أجزاء الكون .
وقال تعالى في المسيح عيسى بن مريم :
( أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ
كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّـهِ ، وَأُبْرِئُ
الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ ، وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّـهِ ) .
ويقول تعالى أيضاً : ( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ
كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي ، فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي ، وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي ،
وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِي ) .
فترى أنّ الآية تنصّ على أنّ نفخ
الروح في الهيكل الطيني للطير ، رهن طاقة
__________________
المسيح البشرية ، وكذلك إبراء
الأكمه والأبرص ، وإحياء الموتى ، وكل ذلك بإذن الله تعالى ومشيئته .
وبعد هذا كله ، أيبقى شك في قدرة
الأنبياء الشخصية على خرق العادة ، وتكييف الطبيعة حسب ما يريدون ؟ .
بل ماذا يفهم الإنسان إذا قرأ هذه
الآية ـ التي تنقل مخاطبة يوسف عليه السلام إخوتَه ـ : ( اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَـٰذَا فَأَلْقُوهُ عَلَىٰ
وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا . . . ) .
والآية التالية تبين نتيجة أمره : ( فَلَمَّا أَن جَاءَ الْبَشِيرُ
أَلْقَاهُ عَلَىٰ وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا . . . ) .
فما هو العامل المؤثّر في استرجاعه بَصَرَهُ
، بعد ما ابيضت عيناه من الحزن ؟ .
هل هو قميص الملطخ بالدم ؟ أو حامل
البشارة والقميص ؟ .
ليس هذا ولا ذاك ، بل هو نفس إرادته
الزكية المؤثّرة بإذن الله ، وعندما تقتضي المصلحة الإلهية ذلك . وإنّما توسّل بالقميص ليعلم أنّه هو القائم بذلك .
فاتّضح من جميع ما ذكرناه من الآيات
والشواهد أنّ للمعجزة علّةً إلهيةً متمثلةً في نفوس الأنبياء وإرادتهم القاهرة . وليست إرادتهم هذه فوضوية ، وإنّما لظهورها ظروف وشرائط خاصة سيأتي بيانها بإذنه تعالى .
* * *
__________________

الجهة الرابعة
هل
الإعجاز يضعضع برهان النظم ؟
إنّ برهان النَّظم من أوضح الأدلة
على أنّ العالم مخلوق لصانع عالم قادر . حيث إنّ النظام الدقيق السائد على كل ظاهرة وجزء من ظواهر الكون وأجزائه كاشف عن دخالة قدرة كبرى وعلم عظيم في تحققه وتكوّنه . هذا من جانب .
ومن جانب آخر ، إنّ
المعجزات ـ كما تقدّم ـ خارقة للعادة والسنن السائدة في هذا النظام ، فهي تعدّ استثناء فيه ونوع مخالفة له . فالوليد الإنساني ـ مثلاً
ـ يتكوّن بعد التقاء نطفة الرجل وبويضة المرأة ، فتتشكل منهما الخلية الإنسانية ، ثم
تمرّ بعد ذلك بمراحل التفاعل والتكامل ، ليخرج بعدها من بطن الأم موجوداً سويّاً متكاملاً .
والقول بأنّ المسيح ـ عليه السلام ـ ولد
بلا سيادة هذا النظام ، بل بمجرد نفخ المَلَك في رحم مريم ـ عليها السلام ـ خرق لذاك النظام ، وهو كاشف عن عدم كليته واطراده . أفبعد ذلك يمكن أن يستدلّ ببرهان النظم على وجود الصانع ؟ .
وبعبارة ثانية : إنّ النظم
السائد على العالم كاشف عن دخالة المحاسبة والتقدير في تكوّن كل شيء إنساناً كان أو حيواناً ، أرضياً كان أو أثيرياً . ولكن خلق الثعبان فجأة من الخشب اليابس ، وخروج الناقة من الجبل الصخري الأصم ، وما شابه ذلك ، ينفي وجود المحاسبة في تكوّن تلك الظواهر .
والجواب
إنّ المعترض لم يقف على أساس برهان
النظم أولاً ، كما لم يقف على حقيقة الإعجاز وماهيته ثانياً . ولذلك اعترض بأنّ القول بالإعجاز يخالف برهان النظم .
أمّا الأول ، فلأنّ
المعترض تصوّر أنّ برهان النظم يبتني على وجود نظم واحد بالعدد سائد على الجميع ، وقائم بمجموع الأشياء في العالم ، بحيث لو شوهد خلاف النظم في جزء من أجزائه لبطل البرهان ، بحكم كونه واحداً بالعدد غير قابل للانقسام .
ولكن الحقيقة خلاف ذلك ، فإنّ برهان
النظم واحد بالنوع كثير بالعدد . فهو يتمثّل ويتجسد في كل ذرة خاضعة في ذاتها للنظام . فتكون كل ذرة باستقلالها حاملةً لبرهان النظم والدلالةِ على وجود الصانع القادر العليم ، من دون توقف في دلالتها على سيادة النظم في الذرّات الأخرى .
وفي الحقيقة ، إنّ برهان النظم يتكثر
عدداً بتكثر الذرات والأجزاء والظواهر الخاضعة للنظام ، ولو فرض فقدان النظم في جزء وظاهرة ، أو أجزاء وظواهر ـ كما يدعيه المعترض في مجال الإعجاز ـ لكفى وجود النظم في سائر الأجزاء والظواهر ، في إثبات الصانع ، وإلى هذا يهدف القائل :
وفي كل شيء له آية
|
|
تدل على أنّه واحد
|
ففي كل خلية وعضو من الإنسان الواحد
يتجسد برهان النظم ، ويتكثر بتكثرها . فكيف إذا لاحظنا مجموع البشر والمخلوقات والكواكب والمجرّات . وكما أنّ طغيان غُدَّة من النظام السائد على سائر الغدد في بدن الإنسان ، كما هو الحال في السرطان ، لا يضرّ ببرهان النظم القائم بهذا الإنسان ، فكذلك الخروج عن النظام في مجال الإعجاز ، لأغراض تربوية ، ولهداية الناس إلى اتصال النبي بعالم الغيب ، فإنّه لا يؤثّر شيئاً في برهان النظم من باب أولى .
وأمّا الثاني ، فلأنّ
الإعجاز ليس من الأمور المتوفرة في حياة الأنبياء ، بحيث يكون النبي مصدراً له في كل لحظة وساعة ويوم ، ويكون خرق العادة وهدم
النظام شغله الشاغل . وإنّما يقوم
به الأنبياء في فترات خاصة وحساسة لغايات تربوية .
ثم إنّ النبي إذا أراد الإتيان
بالمعجزة ، أطْلَعَ الناس مُسْبَقاً على أنّه سيقوم بخرق العادة في وقت خاص . وهذا دالّ على وجود قوة قاهرة مسيطرة على العالم ، تقوم كلما شاءت واقتضت الحكمة والمصلحة القدسية ، بخرق بعض النظم والتخلّف عنها . فالعالم ، قَبْضُه وبَسْطُه ، وسنّ أنظمته وخرقها ، بيد خالقه ، يفعل ما يشاء حسب المصالح .
وخلاصة البحث أنّ الإعجاز
ليس خرقاً لجميع النظم السائدة على العالم ، وإنّما هو خرق في جزء من أجزائه غير المتناهية الخاضعة للنظام والدالّة ببرهان
النظم على وجود الصانع . وأيضاً ، إنّ قيام الأنبياء بالإعجاز إنّما يحصل بعد اقترانه بالإعلام المسبق ، حتى يقف الناظرون على أنّ خرق العادة وقع بإرادة ومشيئة القوة القاهرة المسيطرة على الكون والمجرية للسنن والأنظمة فيه .
هذا كلّه ، مع أنّ الإعجاز ، وإن كان
خرقاً للسنن العادية ، إلّا أنّه ربما يقع تحت سنن أخرى مجهولة لنا معلومة عند أصحابها ، فهي تخرق النظام العادي ، وتجري نظاماً آخر غير عادي ، لا يقلّ في نظمه عنه .
* * *

الجهة الخامسة
الإعجاز
والمتجددون من المسلمين
الإيمان بالغيب عنصرٌ أساسيٌ في جميع
الشرائع السماوية ، ولو انتزع هذا العنصر عن الدين الإلهي ، لأصبح دستوره دستوراً عادياً شبيهاً بالدساتير والأيديولوجيات المادية البشرية التي لا تمت إلى الخالق والمدبّر لهذا الكون بصلة
. ولأجل ذلك نرى أنّه سبحانه يَعُدّ الإيمان بالغيب في طليعة الصفات التي يتّصف بها المتّقون إذ يقول ـ عزّ من قائل ـ : ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ، وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ
، وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ) .
وقد كان أصحاب الشرائع وأنصارها ،
وفي مُقدِّمتهم علماء الإسلام ، محتفظين بهذا الأصل ، معتصمين به أشدّ الإعتصام ، مؤكّدين عليه غاية التأكيد ، باعتبار أنّه الفارق الجوهري بينها ، وبين الأنظمة البشرية .
ولكن ، من جانب آخر ، إنّ الحضارة
المادية الحديثة ، اعتمدت على الحسّ والتجربة ، وأعطت كل القيمة والوزن لما أيّدته أدوات المعرفة المادية .
وقد أدهشت هذه الحضارة ، جماعة من
المفكرين المسلمين ، فوجدوا أنفسهم في صراع عنيف بين الإيمان بالغيب ، باعتباره عنصرا أساسياً في الدين ، ومبادىء الحضارة المادية التي لا تَعْتَبِر إلّا ما كان قائماً على الحسّ والتجربة
، فمن
__________________
الجهة الأولى لم يجرؤا على إنكار ما
هو خارج عن إطار أدوات المعرفة المادية ـ كالمعاجز ـ لأنّهم مسلمون ، ومن الجهة الثانية لم يتجرؤا على التصريح بوجود الملائكة والجن ، وبخرق المعاجز للسنن الطبيعية والأسباب المادية ، تحرزاً من رمي الماديين إيّاهم بالخرافة ، والإيمان بما لا تؤيّده التجربة ولا يثبته الحسّ .
ولأجل ذلك سلكوا طريقاً وسطاً ، وهو
تأويل بعض ما جاء في مجال الغيب ، خصوصاً المعاجز والكرامات ، حتى يستريحوا بذلك من هجمة الماديين ، ويرضوا به طائفة المتدينين .
وممّن سلك هذا الطريق الشيخ محمد
عبده
في مناره ، والطنطاوي في جواهره ، وتلامذة منهجهما . فمن وقف على كلا التفسيرين في المواضع التي يُحدّث القرآن فيها عن معاجز الأنبياء وخوارق العادات ، يقف على أنّ الرجلين يسعيان بكل حول وقوة إلى تصوير الحوادث الإعجازية ، وكأنّها جارية على المجاري الطبيعية ، غيرُ مخالفةٍ أصول الحسّ والتجربة .
بل ربما نرى أنّ بعض مُقْتَفي
منهجهما ينكرون أنْ يكون للنبي الأعظم صلى الله عليه وآله معجزة غير القرآن الكريم ، وقد تبعوا في نفي معاجزه ، قساوسة النصارى الذين يحاولون إنكار معاجز النبي الكريم ليتسنى لهم بذلك تفضيل سيدنا المسيح عليه السلام عليه أولاً ، وإنكار نبوته لكونه فاقداً للمعاجز ، ثانياً .
__________________
وهم يتمسكون في هذا المجال بعدّة
آيات
خفي عليهم المراد منها ، ونحن نكتفي في المقام بتفسير واحدة منها ، لم يزل يتمسك بها كل برّ وفاجر منهم ، وهي :
قوله سبحانه : ( وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي
هَـٰذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ ، فَأَبَىٰ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا *
وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ
يَنبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ
خِلَالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ
تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا ، أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّـهِ
وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ
يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَىٰ فِي السَّمَاءِ ، وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ
حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ ، قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي . هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا ) .
وقد استدلّ بها بعض القساوسة قائلاً
: إنّ نبيَّ الإسلام لما طُولِبَ بالمعجزة ، أظهر العجز بقوله إنّه ليس إلّا بشراً رسولاً .
إنّ تحليل هذا الإستدلال ونَقْدِهِ ،
يَتَوَقَّفُ على دراسةِ كلِّ واحدةٍ من المقترحات المذكورةِ في الآيات المتقدمة ، وهي :
١ ـ أنْ يَفْجُرَ لهم من الأرض يَنْبوعاً
.
٢ ـ أن يكون للنبي جنّة من نخيل وعنب
، وتجري الأنهار خلالها بتفجير منه .
٣ ـ أن يُسقط السماء عليهم كسفاً .
٤ ـ أن يأتي بالله والملائكة قبيلاً
.
٥ ـ أن يكون للنبي بيت من زخرف .
٦ ـ أن يرقى النبي في السماء ، ولا
يكفي ذلك في إثبات نبوته حتى يُنَزِّل عليهم كتاباً من السماء يقرؤوه .
__________________
هذه هي مقترحات القوم ، ونحن نجيب
عليها بجوابين : إجماليٍّ وتفصيليٍّ :
إجمال الجواب عن هذه
المقترحات ، أنّ النبي صلى الله عليه وآله إنّما لم يأت بها لعدم استجماعها لشرائط الإعجاز ، إذ ليس القيام بالمعجزة من الأمور الفوضوية التي لا تخضع لشرط عقلي أو شرعي . وهذه المقترحات فاقدة لها .
تفصيل الجواب
أمّا الأول ، فإنّ سنة الله
الحكيمة في الحياة البشرية إستقرت على أن يصل الناس إلى معايشهم ومآكلهم ومشاربهم عن طريق السعي والجد ، تكميلاً لنفوسهم وتربية لعزائمهم .
فإذا كان مطلوب القوم أن يُفَجِّر
لهم النبي ينبوعاً وعيناً لا ينضب ماؤها ، ليستريحوا بذلك من عناء تحصيل الماء ، فهو على خلاف تلك السنة الحكيمة .
نعم ، ربما تقتضي بعض الظروف ـ كإبقاء
حياة القوم ـ قيام النبي بذلك ، كما فعل موسى عندما شكى إليه قومه الظمأَ ، فاستسقى الله تعالى لهم ، فأوحى إليه أنْ يضرب بعصاه الحجر ، فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً ، ولكن مثل هذا لا يعد نقضاً للسنة العامة ، كما أنّ الظروف في مكة لم تكن ظروفاً اضطراريةً .
وأمّا الثاني ، وهو كون
النبي مالكاً لجنة من نخيل وعنب يفجّر الأنهار خلالها ، فليس هو طلباً للإعجاز ، وإنّما كانوا يستدلّون بوجود الثروة على عظمة الرجل ، وبالفقر وفقدان المال والإملاق على حقارته ، ولذا قالوا ، كما يحكيه عنهم تعالى : ( لَوْلَا نُزِّلَ هَـٰذَا
الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) .
وعلى هذا ، فإجابة هذا الطلب يكون نوع
اعتراف بهذه المزعمة ، إذ ليس هناك رابطة ، عقلية بين كون الرجل صاحب ثروة ، وكونه متصلاً بالغيب . وإلّا
__________________
لوجب أن يكون أصحاب الثروات ،
أنبياء إذا ادّعوا النبوة .
وأمّا الثالث ، وهو إسقاط
السماء عليهم ، فإنّه يضاد هدف الإعجاز ، لأنّ الغاية من خرق الطبيعة هداية الناس لا إبادتهم وإهلاكهم .
وأمّا الرابع ، وهو الإتيان
بالله والملائكة ، فقد حكاه عنهم سبحانه في آية أخرى ، بقوله : ( وَقَالَ
الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ
أَوْ نَرَىٰ رَبَّنَا ) .
ومن المعلوم أنّ هذا المقترح ، أمر
محال عقلاً ، وممتنع بالذات ، فكيف يقوم به النبي ؟! .
وأمّا الخامس ، وهو كونه
صاحب بيت من زخرف ، فيُرَدُّ بما رُدَّ به الإقتراح الثاني .
وأمّا السادس ، وهو طلب رُقِيِّهِ
إلى السماء وإنزال كتاب ملموس يقرؤونه ، فإنّ لحن هذا السؤال يدلّ على عنادهم وتعنتهم إذ لو كان الهدف هو الإهتداء ، لكفى طلبهم الأول ـ أعني رُقيّه إلى السماء ـ ولم تكن حاجة إلى الثاني ، ومن
المعلوم أنّ النبيّ إنّما يقوم بالإعجاز لأجل الهداية والإرشاد إلى نبوته واتّصاله بعالم
الغيب .
ومجموع هذه الأجوبة يوقفنا على أنّ
النبيّ لَمْ يجب مطالبهم إمّا لأجل فقدان المقتضي أو لوجود المانع . وعلى ذلك أجاب بما أمره سبحانه أن يجيبهم به ، قائلاً :
( سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا
بَشَرًا رَّسُولًا ) .
وهو في هذا الجواب يعتمد على لفظين :
« بَشراً » و« رسولاً » . والمراد أنّ هذه الطلبات التي طلبتموها مني إمّا لكوني بشراً ، أو لكوني رسولاً . وعلى الأول فقدرة البشر قاصرة عن القيام بهذه الأمور ، وعلى الثاني ، فهو موقوف على إذنه سبحانه ، لأنّ الرسول لا يقوم بشيء إلّا بإذن مُرْسِلِه ، وليس ها هنا إذن ، لعدم استجماع هذه الطلبات شرائط الإجابة .
__________________
وبالإجابة التي ذكرناها عن هذه
الآيات ، تقدر على الإجابة عن كثير من الآيات التي اتّخذها نفاة المعجزة ذريعة لنظريتهم .
أضف إلى ذلك أنّه كيف يمكن لأحد أن
ينكر معاجز النبي الأكرم صلى الله عليه وآله ، مع أنّ القرآن الكريم يخبر عن بعضها أولاً ، والسنّة متواترة
بها ، ثانياً .
وليس إنكار المعاجز وغيرها ممّا
يرتبط بالغيب ـ كالملائكة والجن ـ إلّا لفقدان الهوية الإسلامية ، واتّخاذ موقف الهزيمة في مقابل الهجمات المادية ، التي أصبحت بحمد الله تعالى ، وبفضل بحوث العلماء الغيارى ، سراباً في صحراء .
* * *
__________________
سورة آل عمران : الآيتان ٦١ و ٨٦ ، سورة الأنعام : الآية ١٢٤ ، سورة الإسراء : الآية ١ . سورة الروم : الآيات ١ ـ ٣ ، سورة الصافات : الآيتان ١٤ ـ ١٥ ، سورة القمر : الآيات ١ ـ ٤ ، ولاحظ في تفصيل هذه الآيات ، مفاهيم القرآن ج ٤ ص ٧٥ .
الجهة السادسة
دلالةُ
الإعجاز على صدق دعوى النبوّة
صفحات التاريخ تشهد على وجود أُناس
ادّعوا السفارة من الله والإنباء عنه ، عن كذب وافتراء ، ولم يكن لهم متاع غير التزوير ، ولا هدف سوى السلطة والرئاسة .
ومن هنا كان لا بدّ من معايير وضوابط
لتمييز النبي عن المتنبيء ، ومن جملتها تَجَهّز المدّعي بالإعجاز ، وإتيانه بخوارق العادة ، متحدياً بها غيره على
وجه لا يقدر أحد على مقاومته ، حتى نوابغ البشر .
ويظهر من الآيات الواردة في القرآن
الكريم أن طلب الإعجاز دليلاً على صدق المدّعي ، كان أمراً فطرياً ، يطلبه الناس من الأنبياء عند دعواهم النبوّة والسفارة الإلهية ، ولأجل ذلك لمّا ادّعى « صالح » عليه السلام ، النبوّة ، قوبل بجواب قومه : ( مَا أَنتَ
إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا ، فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) .
وقد يخبر الأنبياء الناس بتجهزهم
بالمعاجز عند طرحهم دعوى النبوة ، قبل أن يطلبها الناس منهم ، كما قال موسى مخاطباً الفراعنة : ( حَقِيقٌ عَلَىٰ أَن لَّا
أَقُولَ عَلَى اللَّـهِ إِلَّا الْحَقَّ ، قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ
فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ *
قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) .
__________________
وكما جاء في عيسى المسيح عليه السلام
، من قوله تعالى : ( وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ) .
ولكن الكلام في وجه دلالة الإعجاز
على صدق قولِ المدعي ، فهل هو دليل برهاني بحيثُ يكون بين المعجزة وصدق المدّعي رابطةٌ منطقيةٌ ، تستلزم الأولى معها ، وجود الثانية ؟ أو هو دليل إقناعي ، يرضي عامة الناس وسوادهم ويجلب اعتقادهم بصدق دعوى المدّعي ؟ .
هناك من يتخيل أنّ دلالة المعجزة على
صدق دعوى النبي ، دلالة إقناعية لا برهانية ، ويستدلّ هؤلاء المتوهمون ، على مقالتهم ، بأنّ الدليل البرهاني يتوقف على وجود رابطة منطقية بين المُدَّعَى والدليل ، وتلك الرابطة غير موجودة في المقام . إذ كيف يكون خرق العادة وعجز الناس عن المقابلة ، دليلاً على صدق المدّعي في كونه نبيّاً وحاملاً لشريعة إلهية . إذ لو صحّ ذلك لصحّ أن يقال : إنّ قيام الطبيب بعمليةٍ جراحيةٍ بديعةٍ ، دليلٌ على صدق مقاله في المسائل النجومية والفلكية . أو صدق تخطيطاته السياسية والاجتماعية . ومن المعلوم ، انتفاء الرابطة المنطقية بينها .
ولأجل ذلك ـ يضيف المتوهم ـ لا يدلّ
قيام المسيح بإحياء الموتى وإبراء المرضى ، على صدق ما يدّعيه ، بدلالة برهانية . وإنّما يُكتفى به ، لأنّ مشاهدة هذه الأعمال العظيمة تجعل للقائم بها في نفوس الناس مكانةً عالية ، بحيث يأخذ مجامع قلوبهم ويستولي على ألبابهم ، فيقنعهم ، ويجلب يقينهم بصدق دعواه .
هذا ، ولكن الحق وجود الرابطة
المنطقية بين الإعجاز ودعوى النبوة ، ويمكن إثبات ذلك ببيانين :
* البيان الأول لوجود
الرابطة المنطقية
ويتّضح بملاحظة الأمور التالية ،
التي يسلمها الخصم أيضاً :
__________________
الأول : أنّ الخالق عادلٌ
لا يجور ، وحكيمٌ لا يفعل ما يناقض الحكمة .
الثاني : أنّه سبحانه يريد
هداية الناس ، ولا يرضى بضلالتهم وكفرهم .
الثالث : أنّ المعجزة
إنّما تعدّ سنداً لصدق دعوى النبوة إذ كان حاملها واجداً لشرطين :
١ ـ أن تكون سيرته نقية الثوب ،
وبيضاء الصحيفة ، لم يُسَوِّدها شيء من الأعمال المشينة .
٢ ـ أن تكون شريعته مطابقة للعقل ،
وموافقة للفطرة . أو على الأقل ، لا يرى فيها ما يخالف العقل والفطرة .
فلو أنتفى الشرط الأول ، بأن كانت
سوابقه سيئة ، لكفى ذلك في تنفر الناس عنه .
وكذا لو انتفى الشرط الثاني ، بأن
كانت شريعته مخالفة للعقل والفطرة ، لما تَقَبَّلها أصحاب العقول السليمة .
وأمّا لو توفّر الشرطان فيه ،
فتتطاول إليه الأعناق ، وتنقاد له القلوب ، ولشرعه العقول ، فيسلّمون ما يقول ، ويطيعون ما أمر .
وهنا نقول : لو كانت دعوة
هذا المدّعي ، صادقة ، فإعطاؤه القدرة على الإتيان بالعجائب والخوارق ، مطابق للحكمة الإلهية .
وأمّا لو كانت دعواه كاذبة ، فإعطاؤه
تلك القدرة ، وتسخير عالم التكوين له ، في تلك الظروف ، على خلاف الحكمة ، وعلى خلاف الأصل الثاني المتقدم أعني أنّه تعالى يريد هداية الناس ، ولا يرضى بإضلالهم ، وذلك لأنّه تعالى يعلم أنّ الظروف تُوجِدُ في الناس خضوعاً لهذا الشخص ، فيكون إقداره على الإعجاز ، مع كونه كاذباً ، إغراءً بالضلالة ، وصدّاً عن الهداية ، والله تعالى حكيم لا يفعل ما يناقض غرضه وينافي إرادته ، فأي دلالة منطقية أوضح من ذلك ؟ .
ولك أن تصب هذا الإستدلال في قالب
القياس المنطقي ، فتقول :
إنّه سبحانه حكيم ، والحكيمُ لا يجعل
الكون ولا بعضَه مُسَخَّراً للكاذب ، فالله سبحانه لا يجعل الكون ولا بعضه مسخراً للكاذب . ولكن المفروض أنّ هذا المدّعي مُسَخِّر للكون ، فينتج أنّه ليس بكاذب بل صادق .
ولا بُدّ من الإشارة هنا إلى أنّ
دلالة المعجزة على صدق دعوى النبوّة يتوقف على القول بالحسن والقبح العقليين ، وأمّا الذين أعدموا العقل ومنعوا حكمه بهما ، فيلزم عليهم سدّ باب التصديق بالنبوّة من طريق الإعجاز ، لأنّ الإعجاز
إنّما يكون دليلاً على صدق النبوّة ، إذا قَبُح في العقل إظهار المعجزة على يد الكاذب ، فإذا توقف العقل عن إدراك قبحه ، واحتمل صحة إمكان ظهوره على يد الكاذب ، لا يَقْدِرُ على التمييز بين الصادق والكاذب .
وفي بعض كلمات المتكلمين إشارة إلى
ما ذكرنا . يقول القوشجي : « إنّما كان ظهور المعجزة طريقاً لمعرفة صدقه لأنّ الله تعالى يخلق عقيبها العلم الضروري بالصدق ، كما إذا قام رجل في مجلس مَلِكٍ بحضور جماعة ، وادّعى أنّه رسول هذا الملك إليهم ، فطالبوه بالحجة ، فقال : هي ( الحجة ) أن يخالف هذا الملك عادته ، ويقوم على سريره ، ثلاث مرّات ويقعد ، ففعل . فإنّه يكون تصديقاً له ، ومفيداً للعلم الضروري بصدقه من غير ارتياب » .
وقال المحقق الخوئي : « إنّما يكون
الإعجاز دليلاً على صدق المدّعي ، لأنّ المعجز فيه خرقٌ للنواميس الطبيعية ، فلا يمكن أن يقع من أحد إلّا بعناية من الله تعالى وإقدار منه . فلو كان مدّعي النبوّة كاذباً في دعواه ، كان إقداره على
المعجز
__________________
من قِبَل الله تعالى إغراءً بالجهل
وإشادةً بالباطل ، وذلك محال على الحكيم تعالى ، فإذا ظهرت المعجزة على يده كانت دالّة على صدقه وكاشفة عن رضا الحق سبحانه بنبوّته .
وهذه قاعدة مطردة يجري عليها العقلاء
من الناس فيما يشبه هذه الأمور ، ولا يشكون فيها أبداً . فإذا ادّعى أحد من الناس سفارة عن ملك من الملوك في أمور تختصّ برعيته ، كان من الواجب عليه أولاً أن يقيم على دعواه دليلاً يعضدها ، حين تشكّ الرعية بصدقه ، ولا بدّ من أن يكون ذلك الدليل في غاية الوضوح ، فإذا قال لهم ذلك السفير : الشاهد على صدقي أن الملك غداً سيحييني بتحيته الخاصة التي يحيي بها سفراءه الآخرين ، فإذا علم الملك ما جرى بين السفير وبين الرعية ثم حيّاه في الوقت المعيّن بتلك التحية ، كان فِعْلُ الملك
هذا تصديقاً للمدعي في السفارة .
ولا يرتاب العقلاء في ذلك ، لأنّ
الملك القادر المحافظ على مصالح رعيته يقبح عليه أن يصدّق هذا المدعي إذا كان كاذباً ، لأنّه يريد إفساد الرَّعيَة » .
القرآن والدّعوى الكاذبة
يخبر القرآن الكريم عن أنّه سبحانه
فرض على نفسه معاقبة النبي وإهلاكه إذا كذب على الله تعالى ، قال عزّ وجل : ( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ *
ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ *
فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ) .
قال المحقق الخوئي : « المراد من
الآية الكريمة أنّ محمداً الذي أثبتنا نبوّته ، وأظهرنا المعجزة لتصديقه ، لا يمكن أن يَتَقَوَّل علينا بعض الأقاويل ولو صنع ذلك ، لأخذنا منه باليمين ، ولقطعنا منه الوتين ، فإنّ سكوتنا عن هذه الأقاويل ،
__________________
إمضاءٌ منّا لها ، وإدخال للباطل في
شريعة الهدى ، فيجب علينا حفظ الشريعة في مرحلة البقاء ، كما وجب علينا في مرحلة الحدوث » .
إنّ هذه الآيات تحكي عن سنّة إلهية
جارية في خصوص من ثبتت نبوّتهم بالأدلّة القطعية ودلّت معاجزهم على أنّهم تحت رعايته سبحانه ، الذي أقدرهم بها على التصرّف في الكون . فالإنسان الذي يصل إلى هذا المقام ، يستولي على مجامع القلوب ، ويسخّر الناس بذلك لمتابعته ، فكل ما يلقيه ، ويشرّعه ، يأخذ طريقه إلى التنفيذ في حياة الناس والمجتمع . فلو افتعل هذا الإنسان ـ في مثل هذه الظروف ـ كذباً على الله تعالى ، اقتضت حكمته سبحانه إهلاكه وإبادته ، لِما في إبقائِه وإدامة حياته ، من إضلال الناس ، وإبعادهم عن طرق الهداية ، الأمر الذي يناقض مقتضى الحكمة الإلهية التي شاءت هداية الناس وإبعادهم عن وسائل الضلالة .
والتدبّر في مفاد هذه الآيات يرشدنا
إلى وجود الرابطة المنطقية بين كون النبي محقّاً في دعواه ، وإتيانه بالمعجزة وأنّه يتصرف في الكون برضى مبدعه . وبقاؤه على
وصف التصرّف كاشف عن رضاه تعالى ، وصدق النبي فيما يأتي به .
وبما ذكرنا يعلم أنّ الآيات لا تهدف
إلى أنّ دعوى النبوّة كافية في صدق المدّعي ، وأنّ المدّعي لو كان كاذباً في دعواه لشملته نقمة الله سبحانه وإماتته ،
بحجة أنّه لو تقوّل عليه بعض الأقاويل لقطع منه الوتين ، فاستمرار المدّعي للنبوّة
على الحياة ـ وإن لم يأت بأية معجزة ولم يُقم برهاناً على صدق دعواه ـ هو ، بحدّ نفسه ، كاشفٌ عن صدق دعواه .
إذ لا ريب أنّ هذه الدعوى أوهن من
بيت العنكبوت ، ولو صحّت ، للزم تصديق كل متنبيء في العالم ـ وإن ثبت كذبه ـ لمجرّد عدم إهلاك الله تعالى له .
إلى هنا وقفت على البيان الأول الذي
يُثبت أنّ بين دعوى النبوّة والإتيان بالمعجزة ، رابطة منطقية .
__________________
* البيان الثاني لوجود
الرابطة المنطقية
إنّ نَفْي الرابطة المنطقية بين
الإتيان بالمعجزة وصدق الدعوى ، أمر يحتاج إلى التحليل ، فهو باطل على وجه وصحيح على وجه آخر ، وذلك بالبيان التالي :
إن كان المراد من قلب
العصا ثعباناً ـ مثلاً ـ أنّه كالأوسط في القياس ، دليلٌ على صدق ما يدّعيه النبي من أنّه سبحانه واحدٌ ، عالمٌ قادرٌ ، ليس كمثله شيء . . فلا ريب في عدم صحته . إذ لا يمكن الإستدلال على صحّة هذه الأصول بالتصرف في الكون .
ولأجل ذلك لم يطرح القرآن أصول
الإسلام مجردةً عن البرهنة ، بل قَرَنَها بلطائف الدلائل والإشارات ، يقف عليها كلُّ متدبّر في الذكر الحكيم .
فَيَسْتَدِلُّ في البرهنة على وجوده
سبحانه بقول : ( أَفِي
اللَّـهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) ؟
.
وفي البرهنة على وحدة المدبّر ،
بقوله : ( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا
اللَّـهُ لَفَسَدَتَا ) .
وفي البرهنة على إبطال أُلوهيةِ
الأصنام ، بقوله : ( وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ، وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا
وَلَا نَفْعًا ، وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا ) .
وفي إبطال أُلوهية المسيح ، بقوله : ( مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ
إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ، وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ
الطَّعَامَ ، انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ) .
إلى غير ذلك من عشرات الآيات التي تَطْرَحُ
الأُصول والعقائد ، بالبراهين
__________________
الدقيقة . فالمعجزة غير دالّة
بالدلالة المطابقية على صحّة المعارف والأصول التي يأتي بها صاحبها ، بمعنى أنّها ليست الحدّ الأوسط في صحّة المدّعى ، كالتغيير في قولنا
: العالَم مُتَغَيّر ، وكلُّ مُتَغِّير حادث ، فالعالَمُ حادث .
وإنْ كان المُرادُ أنّ خرق
العادة الملموسة ـ أعني قلب العصا حيّة ـ دليلٌ على أنّهم قادرون على خرق عادة أخرى غير ملموسة ـ وهي الإتصال بعالم الوحي وكون إدراكات النبي خارجة عن إطار الإدراكات العادية المتعارفة ـ فهو صحيح ، وإليك بيانه :
إنّ الأنبياء عليهم السلام ، كانوا
يواجهون في تبليغ رسالاتهم إشكالين عظيمين في أعين الناس :
الإشكال الأول ـ إنّهم كانوا
يتخيّلون أنّ النبي المرسل من عالم الغيب ، يجب أن يكون من جنس الملائكة ، ولا يصحّ أن يكون إنساناً مثلهم .
والقرآن الكريم يحكي عنهم هذا
الاعتراض ، بقوله : ( قَالُوا إِنْ أَنتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ) .
وكان الأنبياء يجيبون سؤالهم بأنّ
المماثلة أساس التبليغ ، والوحدة النوعية غير مانعة منه ، لإمكان أن يتفضل فرد من نوع على فرد من ذاك النوع ، فيكون الفاضل مُرْسلاً ، والمفضول مُرْسَلاً إليه .
والقرآن الكريم يحكي هذا الجواب ،
بقوله : ( قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن
نَّحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ ، وَلَـٰكِنَّ اللَّـهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَن
يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) .
الإشكال الثاني ـ إنّ الأنبياء
عليهم السلام كانوا يَدَّعون أنّهم يتلقون الأصول والمعارف والأحكام والفروع من الله سبحانه عن طريق الوحي ، وهو إدراك خاص يوجَد فيهم ولا يوجد في غيرهم ، وليس من قبيل الإدراكات العادية
__________________
التي يجدها كل إنسان في صميم ذاته
من طريق الإبصار بالعين ، والسمع بالأُذن ، والتفكّر والإستدلال بالعقل .
وهذه الدعوى كانت تثير السؤال التالي
:
إنّ ادّعاء الإدراك عن طريق الوحي ،
إدعاءُ أمرٍ خارقٍ للعادة ، فإنّ الإدراكات الإنسانية لا تخرج عن إطار الحسيّات والخياليات والعقليات . فنحن لا نؤمن بقولكم هذا إلّا إذا شاهدنا خرقاً للعادة يماثل ما تدّعون ، حتى نستدلّ بخرق عادة مرئية ، على وجود نظيرها في باطن وجودكم ، وصميم حقيقتكم .
ومن منطلق إجابة هذا السؤال ، كان
الأنبياء يفعلون الخوارق ، ويأتون بالمعاجز ، حتى يدللوا بذلك على تمكنهم من خرق العادة مطلقاً ، سواء أكانت مرئية ـ كقلب العصا إلى الثعبان ، وتسبيح الحصى ـ أو غير مرئية ـ كالإدراك غير المشابه للإدراكات العادية ، الذي هو الوحي .
وإن شئت قلت : كانوا يستدلون بخرق
العادة الملموسة ، على غير الملموسة منها .
وإلى ما ذكرنا يشير العلامة
الطباطبائي رحمه الله بقوله : « إنّ دعوى النبوّة والرسالة من كل نبي ورسول ـ على ما يقصه القرآن ـ إنّما كانت بدعوى الوحي والتكليم الإلهي بلا واسطة ، أو بواسطة نزول ملك ، وهذا أمر لا يساعده الحسّ ولا تؤيّده التجربة ، فيتوجه عليه الإشكال من جهتين : إحداهما من جهة عدم الدليل عليه ، والثانية من جهة الدليل على عدمه . فإنّ الوحي والتكليم الإلهي وما يتلوه من التشريع والتربية الدينية ممّا لا يشاهده البشر في أنفسهم ، والعادة الجارية في الأسباب والمسبَّبات تنكره ، وقانون العليّة العامة لا يجوزه ، فهو أمر
خارق للعادة .
فلو كان النبي صادقاً في دعواه
النبوّة والوحي ، لكان لازمه أنّه متصل بما وراء الطبيعة ، مؤيّد بقوة إلهية تقدر على خرق العادة ، وأنّ الله سبحانه يريد
بنبوّته والوحي إليه ، خرق العادة . فلو كان هذا حقاً ، ولا فرق بين خارق وخارق ، كان من الممكن أن يصدر من النبي خارق آخر للعادة من غير مانع ، وأن يخرق
الله العادة بأمر آخر يصدّق النبوة
والوحي من غير مانع عنه ، فإنّ حكم الأمثال واحد ، فلئن أراد الله هداية الناس بطريق خارق للعادة وهو طريق النبوة والوحي ، فليؤيدها وليصدقها بخارق آخر وهو المعجزة .
وهذا هو الذي بعث الأمم إلى سؤال
المعجزة على صدق دعوى النبوة ، كلما جاءهم رسول من أنفسهم .
* * *
__________________
الجهة السابعة
هل
حرم الإنسان المعاصر من المعاجز والكرامات ؟
لا شكّ أنّ للإعجاز أثراً بالغاً في
إيجاد الإيمان بدعوى المدّعي ، وربما يكون أثر الإعجاز في نفوس عامة الناس أبلغ من تأثير البراهين العقلية .
فإذا كان للإعجاز هذا الأثر البالغ ،
فلماذا حرم منه إنسان ما بعد عصر الرسالة ؟ ولماذا لا تظهر يد من الغيب تقلب العصا ثعباناً وتبرىء الكُمْه والبُرْص
والمصابين بالسرطان ؟ مع أنّ إنسانَ ﭐلقرنِ المعاصر أشدُّ حاجةً إلى مشاهدة
المعجزة ، لذيوع بذور الشكّ والترديد بين الناس عامة والشباب خاصة ، أفليس هذا حرماناً من الفيض المعنوي ؟ .
الجواب : إنّ الإنسان
المعاصر ، بل من قَبْله ممن جاؤوا بعد عصر الرسالة ، ليس ولم يكونوا محرومين من المعجزة ، بل إنّ هناك معجزتين ساطعتين ، خالدتين على مرّ الدهور .
الأولى ـ القرآن الكريم
إنّ القرآن الكريم ، معجزةُ النبي
الأكرم الخالدة ، المشرقة على جبين الدهر ، تتحدّى المعاندين ، وتواجه المشككين ، بقولها : ( وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا
شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّـهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ )
__________________
وهذا النداء القرآني يكرّره المسلمون
في تلاواتهم وإذاعاتهم وأنديتهم الدينية ، فلم يُجِب إلى الآن أحد من العرب والعجم ، بل كلّهم انحنوا ـ مذهولين ـ أمام عظمة القرآن في فصاحته وبلاغته ونظمه وأسلوبه ، كما سيأتي الكلام فيه مفصلاً .
على أنّ القرآن الكريم أخبر بأنّ هذه
المعجزة خالدة إلى يوم القيامة ، ولن يقدر أحد من البشر على مقابلتها ، بقوله : ( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَـٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ، وَلَوْ
كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) .
الثانية ـ المباهلة
روى أهل السِيَر والتاريخ أنّه قَدِم
وفد نصارى نَجران على رسول الله صلى الله عليه وآله ، فدارت بينه وبينهم أسئلة وأجوبة حول نبوته عليه الصلاة والسلام . فدعاهم الرسول إلى قبول الإسلام ، فامتنعوا ، فدعاهم إلى المباهلة فاستنظروه إلى صبيحة اليوم التالي :
فلما رجعوا إلى رجالهم ، قال لهم الأُسقف
: « أُنظروا محمداً ، فإن خرج بِوُلده وأَهْلِهِ ، فاحذروا مباهَلَته ، وإِن خَرَجَ بأصحابه فباهلوه » .
فلما كان الغد ، خرج النبي الأكرم
ويده في يد علي بن أبي طالب ، والحسن والحسين يمشيان أمامه ، وفاطمة ابنته تمشي خلفه .
وخرج النصارى يتقدّمهم أُسْقُفُهم ،
فلما رأى النبيَّ قد أقبل بمن معه ، سأل عنهم فقيل له : هذا ابن عمه ، وهذان ابنا بنته ، وهذه الجارية بنته فاطمة ، أعزّ الناس عليه .
وتقدم رسول الله صلى الله عليه وآله
فجثا على ركبتيه ، فقال أبو حارثة الأسقف : « جثا والله كما جثا الأنبياء للمباهلة » ، فرجع ولم يُقدم على المباهلة
.
__________________
وقال : « أنا أخاف أن يكون صادقاً ،
ولئن كان صادقاً ، لم يَحُلْ والله علينا الحول ، وفي الدنيا نصراني » .
فصالَحوا رسول الله صلى الله عليه وآله
على ألف حُلّة من حلل الأواقي ، وقال النبي : « والذي نفسي بيده ، لو لاعنوني ، لمُسخوا قردة وخنازير ، ولاضطرم الوادي عليهم ناراً ، ولما حال الحول على النصارى حتى يهلكوا » .
وفي هذا المجال ورد قوله سبحانه : ( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا
جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا
وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّـهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) .
والمباهلة معجزة إسلامية خالدة ،
يقوم بها الأمثل فالأمثل من الأُمة في مقام محاجة المخالفين من اليهود والنصارى وغيرهم ، ولا تختص بالنبي الأكرم .
إنّ بإمكان أصحاب النفوس الكاملة ،
في مراتب التقوى والورع واليقين ، أن يباهلوا أعداء الدين ، ويدعوا عليهم بالدمار والهلاك ، ولن يمضي زمن إلّا وقد شملهم العذاب الإلهي .
وقد كان سيدنا العلامة الطباطبائي رحمه
الله يرى هذا الرأي ويقول : « إنّ المباهلة معجزةٌ خالدةٌ للمسلمين يحتجون بها على صحّة عقائدهم وأُصولهم فمن يريد المباهلة فيما جاء به النبي الأعظم صلى الله عليه وآله ، فأنّا على أتمّ الأُهبة
والإستعداد لمباهلته ، فليُقْدم المخالف إذا شاء » .
ولعلّ الأستاذ الراحل أخذه من كلام
الإمام الصادق عليه السلام ، حينما قال له أحد أصحابه : « إنّا نكلّم الناس فنحتجّ عليهم يقول الله عزّ وجل : ( أَطِيعُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ) فيقولون : نزلت في
أمراء السرايا . فنحتج عليهم بقوله عزّ وجل : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّـهُ وَرَسُولُهُ ـ إلى آخر
__________________
الآية ) فيقولون نزلت في
المؤمنين . ونحتج عليهم بقول الله عزّ وجل : ( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ) فيقولون نزلت في قُربى المسلمين . قال فلم أَدَعْ ممّا حضرني ذِكْرُهُ من هذه وشبهها إلّا ذكرته .
فقال عليه السلام : إذا كان ذلك
فادعهم إلى المباهلة . . . إلى آخر الحديث » .
* * *
__________________
الجهة الثامنة
بماذا
تُمَيَّزُ المعجزةُ عن السحر ؟
لا ريب في أن هناك جماعة من الناس
لهم القدرة على القيام بأعمال مدهشة وعجيبة لا يمكن تفسيرها عن طريق العلوم المتعارفة وهؤلاء كالمرتاضين الهنود وغيرهم ، الذين تقدم نقل شطر من أعمالهم . وكالسحرة والمشعوذين .
وكأساتذة التنويم المغناطيسي ، الذي
كشفه « مسمر » الألماني في القرن الثامن عشر ، وبه يتمكن الأستاذ من السيطرة على الوسيط الذي فيه استعداد خاص للتأثّر ، وكيفية ذلك أنّ الأستاذ ينظر في عين الوسيط نظرات عميقة ويجري عليه حركات يسمونها « سحبات » ، فما تمضي لحظة إلّا ويغطّ الوسيط غطيط النوم ، على وجه لو قام أحد يَخِزُهُ بالإبرة وَخَزاتٍ عديدة ، لا يبدي الوسيط حراكاً ، ولا يُظهر أَيّ شيء يدلّ على شعوره وإحساسه . فعند ذلك يقوم الأستاذ بسؤاله أسئلة ربما يقتدر معها على كشف المغيبات ، ويستطيع أن يتصرف فيه بنحو يقنعه معه بتغيير اسمه ، وغير ذلك .
وهنا يُطرح السؤال التالي : مع وجود
هذه الأمور المدهشة والعجيبة والخارقة للقوانين المتعارفة ، التي تحصل بالرياضة وسحر السحرة ، وألاعيب المشعوذين ، فكيف نتمكن من تمييزها عن المعجزة والآية الإلهية ؟ .
__________________
وهذا من المباحث الحساسة في النبوّة
العامة ، إذ به تتبين حدود المعجزة التي تميّزها وتفصلها عن سائر خوارق العادة .
والجواب : إنّ هناك مجموعة
من الضوابط والحدود التي تمتاز بها المعجزة عن سائر خوارق العادة وهي :
الأول : إنّ السِّحر ونحوه رهن التعليم دون الإعجاز
إنّ ما تنتجه الرياضة والسحر
والشعوذة من آثارٍ خارقة للعادة ، جميعها خاضعة لمناهج تعليمية ، لها أساتذتها وتلامذتها ، وتحتاج إلى الممارسة المتواصلة والدؤوبة حتى يصل طالبها إلى النتائج المطلوبة ، فينام على مسامير مُحَدَّدَة ،
وتكسر الصخور بالمطارق على صدره ، من دون أن يصاب بجراح في صدره أو ظهره ، أو يقوم بحركات توجب تأثيراً نفسياً على إنسان آخر ، فيُذهب وَعْيَه ويتصرف فيه ، أو يقوم بألاعيب خفيّة يبهر بها العيون ، ويستولي بها على القلوب ، فيصوّر غير الواقع واقعاً متحققاً . وكل هذا أثر التعليم والتعلّم وكثرة الممارسة والمجاهدة .
وأمّا الإعجاز الذي يقوم به الأنبياء
فإنّه منزّه عن هذه الوصمة ، فإنّ ما يأتونه من الأعمال المدهشة الخارقة للعادة ، لم يدرسوه في منهاج ، ولا تلقوه على
يد أُستاذ ، ولا قضوا أعمارهم في التدرّب والتمرّن عليه .
ولأجل ذلك نرى أنّ الكليم عليه السلام
عندما رجع من مَدْيَن إلى مصر :
( نُودِيَ مِن شَاطِئِ
الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا
مُوسَىٰ إِنِّي أَنَا اللَّـهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ *
وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ ، فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ
وَلَّىٰ مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ ، يَا مُوسَىٰ أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ *
اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ، وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ ،
فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ . . ) .
فكان هذا عملاً إبداعياً غير مسبوق
بتعلّم ولا تمرّن ، ولذلك استولى عليه
__________________
الخوف في بداية الأمر ، فوافاه
الخطاب من جانبه تعالى : ( يَا مُوسَىٰ لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ) .
قال القاضي عبد الجبار : « إنّ
الحيلة مِمّا يمكن أن تتعلم وتُعَلَّم ، وهذا غير ثابت في المعجزة » .
الثاني ـ إنّ السِّحر ونحوه قابل للمعارضة دون المعجزة
إنّ عمل المرتاضين والسَّحَرَة بما
أنّه نتاج التعليم والتعلّم ، يكثر وقوعه ويسهل الإتيان بمثله على كل من تلقّى تلك الأُصول وتدرّب عليها ، ولذا قال القاضي عبد الجبار : « إنّ الحيل مما يقع فيها الإشتراك وليس كذلك المعجزة » .
الثالث ـ إنّ السحر ونحوه لا يقترن بالتحدي بخلاف الإعجاز
إنّ السَّحَرة والمرتاضين ، وإن
كانوا يأتون بالعجائب ويفعلون الغرائب ، إلّا أنّ واحداً منهم لا يجرؤ على تحدّي الناس ، ودعوتهم إلى مقابلته ، لعلمهم
بأنّ الدعوة إلى التحدّي لن تتم لصالحهم ، إذ ما أكثر السحرة وأهل الرياضة من أمثالهم .
وهذا بخلاف أهل الإعجاز ، فإنّهم لا
يأتون بمعجزة إلّا ويقرنوها بالتحدّي ، ولذلك أُمر النبي بأن يقول :
( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن
يَأْتُوا بِمِثْلِ هَـٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) .
__________________
الرابع ـ إنّ السحر ونحوه محدود من حيث التنوع دون المعاجز
إنّ عمل أَهل الرياضة والسحر ، لما
كان رهن التعليم والتعلّم ، متشابه في نوعه ، متّحد في جنسه ، يدور في فلك واحد ، ولا يخرج عن نطاق ما تعلمه أهله ومارسوه ، ولذا لا يأتون بما يريده الناس والمتفرجون ، بل بما تدرّبوا عليه ، وافق
طلب الناس أو لا .
بخلاف إعجاز الأنبياء ، فإنّه على
جانب عظيم من التنوع في الكيفية إلى حدٍّ قد لا يجد الإنسان بين المعجزات قدراً مشتركاً وجنساً قريباً . فشتّان ما بين
قلب العصا إلى الثعبان الحي ، وضربها على الأحجار ليتفجر منها الماء ، وضربها على البحر لينفلق شطرين ، كل فرق كالطَّوْد العظيم ، وإخراج اليد من الجيب بيضاء تتلألأ ، وغير ذلك من معاجز موسى عليه السلام .
وكذلك الحال في آيات المسيح البيّنات
، المُبْهرة للعقول والمدهشة للقلوب ، فتارة ينفخ في هيئة الطير المجسّمة من الطين فتدبّ الحياة فيها ، وتنبض بالدماء عروقها ، فتكون طيراً بإذن الله . وأخرى يبرىء الأكمه والأبرص ، وثالثة يحيي الموتى ، ورابعة ينبىء الناس بما يأكلون في بيوتهم ويدّخرون فيها ، ولذلك يصفها تعالى بالجلال والتقدير بقوله : ( إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) .
وهذا التنوع في الكيفية ، نتيجة كون
قدرتهم مستندة إلى القدرة الإلهية .
نعم إنّ الحكمة الإلهية اقتضت أن
تكون معاجز الأنبياء مناسبة للفنون
__________________
الرائجة في عصورهم ، حتى يتسنى
لخبراء كل فنّ تشخيص المعاجز وإدراك استنادها إلى القدرة الغيبيّة ، وتمييزها عن الأعمال الباهرة المستندة إلى العلوم والفنون الرائجة . وتتّضح حقيقة ما ذكرناه ، في السحرة الذين بارزوا موسى عليه السلام ، فإنّهم ـ لكونهم من أهل الخبرة والمعرفة بحقيقة السحر وفنونه ـ أدركوا فوراً ، بعدما ألقى موسى عصاه وانقلبت ثعباناً حيّاً التقف حبالهم وعصيّهم أدركوا أنّه ليس من جنس السحر ، وأنّه معجزة خارقة متصلة بالقدرة الإلهية ، ولذلك سرعان ما خضعوا للحق كما يحكيه عنهم تعالى بقوله : ( وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) .
قال القاضي عبد الجبار : « إنّ المُشَعْوِذ
والمحتال إنّما يَنفذ حيلته على من لم يكن من أهل صناعته ، ولا يكون له دراية ومعرفة ، وليس هذا حال المعجزة ، فقد جعل الله سبحانه وتعالى معجزة كل نبي مما يتعاطاه أهل زمانه ، حتى جعل معجزةَ موسى عليه السلام قَلْبَ العصا حيّةً ، لما كان الغالب على أهل ذلك الزمان ، السحر . وجعل معجزة عيسى عليه السلام إبراءَ الأَكْمَهِ والأَبْرَصَ ،
لما كان الغالب على أهل زمانه الطب . وجعل معجزة نبينا محمد صلى الله عليه وآله « القرآن » ، وجعله في أعلى طبقات الفصاحة ، لما كانت الغلبة للفصاحة والفصحاء في ذلك الزمان ، وبها كان يفاخر أهله ويتباهى » .
الخامس ـ الإختلاف من حيث الأهداف والغايات
إنّ أصحاب المعاجز يتبنون أهدافاً
عالية ، ويتوسلون بمعاجزهم لإثبات أحقية تلك الأهداف ، ونشرها . وهي تتمثل في الدعوة إلى عبادة الله تعالى وحده ، وتخليص الإنسان من عبودية الأصنام والحجارة والحيوانات ، والدعوة إلى الفضائل ونبذ الرذائل ، واستقرار النظام الاجتماعي للبشر ، وغير ذلك .
وهذا بخلاف المرتاضين والسحرة ،
فغايتهم إمّا كسب الشهرة والسمعة بين
__________________
الناس ، أو جمع المال والثروة ،
وغير ذلك ممّا يناسب متطلبات القوى البهيمية ، وإنّك لا ترى مرتاضاً أو ساحراً يقوم بنشر منهج أخلاقي أو اجتماعي فيه إنقاذ البشر من الظلم والإضطهاد ، ويدعو إلى التقوى والعفة وما شابه .
والسبب في ذلك واضح ، فإنّ الأنبياء
خريجوا مدرسة إلهية تزخر بالدعوة إلى الفضائل والإجتناب عن الرذائل ، فلا يقومون بالإعجاز إلّا لنشر أهداف مدرستهم . وأما غيرهم ، فهم خريجوا المدرسة المادية التي لا هَمَّ لها إلّا إرضاء ميولها الحيوانية ، وإشباع لذّاتها وشهواتها .
السادس ـ الإختلاف في النفسانيات
إنّ أصحاب المعاجز ـ باعتبار كونهم
خريجي المدرسة الإلهية ـ متحلّون بأكمل الفضائل والأخلاق الإنسانية والمتصفح لسيرتهم لا يجد فيها أيّ عملٍ مشينٍ ومنافٍ للعفة ومكارم الأخلاق .
وأمّا أصحاب الرياضة والسحر ، فهم
دونهم في ذلك ، بل تراهم غالباً متحللين عن المثل والفضائل والقيم .
* * *
فبهذه الضوابط الستّ يتمكن الإنسان
من تمييز المعجزة عن غيرها من الخوارق ، والنبيِّ عن المرتاض والساحر ، والحق عن الباطل . وهذه المميزات ، وإن كانت تهدف إلى أمر واحد ، إلّا أنّها تختلف في الحيثيات :
فالأول منها يهدف إلى الفرق بين
المعجزة وغيرها من حيث المبادىء .
والثاني إلى الفرق من حيث تحديد
القدرة ، فقدرة السَحَرة في حدّ القدرة البشرية ، وقابلة للمعارضة ، بخلاف إعجاز الأنبياء .
والثالث إلى الفرق في كيفية الإتيان
بالعمل ، فالمعجزة تقترن بالتحدّي دون غيرها .
والرابع إلى قلّة التنوع في عمل
السحرة ، وكثرته في عمل الأنبياء .
والخامس إلى الفرق من حيث الغاية .
والسادس إلى الفرق من حيث صفات
وروحيات أصحاب المعاجز ، وغيرهم .
وإلى هنا يتم البحث في الطريق الأول
من الطرق الثلاثة التي يُعرف بها النبي من المتنبيء ، بجهاته الثمان . ويقع البحث فيما يلي في الطريق الثاني وهو تصديق النبي السابق نبوّة النبي اللاحق .
* * *

تنصيص
النبي السابق على نبوة اللاحق
إذا ثبتت نبوة نبي بدلائل مفيدة
للعلم بنبوته ، ثم نصّ هذا النبي على نبوة نبي لاحق يأتي من بعده ، كان ذلك حجة قطعية على نبوة اللاحق ، لا تقل في دلالتها عن المعجزة .
وذلك لأنّ النبي الأول ، إذا ثبتت
نبوته ، يثبت كونه معصوماً عن الخطأ والزلل ، لا يكذب ولا يسهو ، فإذا قال ـ والحال هذه ـ : سيأتي بعدي نبي اسمه كذا ، وأوصافه كذا وكذا ، ثم ادّعى النبوّة بعده شخص يحمل عين تلك الأوصاف والسمات ، يحصل القطع بنبوته .
ولا بدّ أن يكون الإستدلال بعد كون
التنصيص واصلاً من طريق قطعي ، وكون الأمارات والسمات واضحة ، منطبقة تمام الإنطباق على النبي اللاحق ، وإلا يكون الدليل عقيماً غير منتج .
ومن هذا الباب تنصيص المسيح على نبوة
النبي الخاتم صلى الله عليه وآله ، كما يحكيه سبحانه بقوله : ( وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ
إِنِّي رَسُولُ اللَّـهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ
وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ) .
__________________
ويظهر من الذكر الحكيم أنّ السلف من
الأنبياء وصفوا النبي الأكرم بشكل واضح ، وأنّ أهل الكتاب كانوا يعرفون النبي كمعرفتهم لأبنائهم . قال سبحانه : ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ
يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ، وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) .
بناءً على رجوع الضمير إلى النبي ،
المعلوم من القرائن ، لا إلى الكتاب .
وقال سبحانه : ( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ
النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ ، يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ ) .
وقد آمن كثير من اليهود والنصارى
بنبوة النبي الخاتم في حياته وبعد مماته ، لصراحة التباشير الواردة في العهدين .
هذا ، وإنّ الإعتماد على هذا الطريق
في مجال نبوة النبي الخاتم ، في عصرنا هذا ، يتوقف على جمع البشائر الواردة في العهدين وضمّها إلى بعضها ، حتى يخرج الإنسان بنتيجة قطعية على أنّ المراد من النبي المُبَشِّر به فيهما هو النبي
الخاتم : وقد قام بهذا المجهود لفيف من العلماء وأَلَّفوا فيه كتباً ، وسيوافيك بحثه في
النبوّة الخاصّة ، بإذنه تعالى .
* * *
__________________
جمع
القرائن والشواهد
هذا هو الطريق الثالث لتمييز النبي
الصادق عن المتنبيء الكاذب وهذا الطريق ضابطة مطردة في المحاكم القانونية ، معتَمَدٌ عليه في حَلّ الدعاوى والنزاعات ، يسلكه القضاة في إصدار أحكامهم ، ويستند إليه المحامون في إبراء موكليهم خاصة في المحاكم الغربية ، التي تفتقد إلى القضاء على الأيْمان والبَيّنات
، وتقضي هذه الطريقة بجمع كلّ القرائن والشواهد التي يمكن أن تؤيّد دعوى المدّعي ، أو إنكار المنكر ، وضمّها إلى بعضها حتى يحصل القطع بصحة دعواه أو إنكاره .
ويمكن تطبيق هذه الطريقة بعينها في
مورد دعوى النبوة ، فنتحرى جملة القرائن التي يمكن أن نقطع معها بصدق الدعوى ، ومن هذه القرائن :
١ ـ نفسيات النبي
ممّا يدلّ على كون مدّعي النبوة
صادقاً في دعواه ، تحلّيه بروحيات كمالية عالية ، وأخلاق إنسانية فاضلة ، غير منكب على الدنيا وزخرفها ، ولا طالب للرئاسة والزعامة ، لم ير له في حياته منقصة ، ودناسة ، بل عرف بكل خلق كريم ، واشتهر بالنزاهة والطهارة .
فجميع هذه الصفات تدلّ على صفائه في
روحه وباطنه ، وبالتالي صدقه في دعواه .
٢ ـ سمات بيئته
إنّ ظهور مدّعي النبوّة في مجتمع أُمِّيٍّ
، لا يعرف الكتابة ، بعيد عن مظاهر الحضارة والتمدّن ، ومجيئَه بشريعة تحمل سمات مناقضة بالكليّة لهذا الظرف السائد ، قرينة على نبوّة هذا المدّعي .
فإنّ مجيء إنسان بشريعة تَحْمِلُ
الدعوةَ إلى التعلّم ونبذ الأميّة ، وتشرّع القوانين الإجتماعية ، والإقتصادية بل تحمل في تعاليمها نظام الدولة والتقنين والقضاء والروابط السياسية ، أقول : إنّ إتيانه بهذه المظاهر الحضارية في مجتمع قبلي لم يسمع بشيء من تلك النظم ، لدليل على ارتباط هذا الإنسان بمبدءٍ أعلى ، غير خاضع لمقتضيات تلك البيئة . بل إنّ ظاهرة كهذه هي بحدّ نفسها نوع من الإعجاز وخروج عن المألوف .
٣ ـ مضمون الدعوة
من جملة القرائن التي ترشد إلى صدق
المدّعي أو كذبه في دعواه ، مضمون العقيدة التي يحملها ، والدعوة التي يدعو إليها ، ومقدار التوافق بينهما .
فإذا كانت العقيدة التي يحملها ،
والمعارف التي يدعو إلى اعتناقها ، معارف إلهية تبحث في خالق الكون وصفاته وأفعاله ، وكانت دعوته العملية مرشدةً إلى التحلّي بالمُثُل الأخلاقية ، والفضائل الإنسانية ، وناهيةً عن الرذائل النفسية وركوبِ الشهوات المنحرفة والفسقِ والمجونِ ، كانت هذه قرائن على اتصال دعوته بخالق الكون ، ومبدء الخير والجمال .
٤ ـ ثباته في طريق دعوته
إنّ آية كون الدعوى إلهية ، لا يبتغي
صاحبها شيئاً من الأعراض المادية ، والمناصب الدنيوية ، ثباتُه في طريق دعوته ، وتضحيته بنفسه وأعزّ أقربائه في ذاك السبيل .
وفي المقابل ، إنّ انهزامه أمام
المصاعب ، وتعلّقه بحفظ حياته ، دليل عدم إيمانه بما يدعو إليه ، وبالتالي عدم ارتباط دعوته بمبدءٍ إلهي .
٥ ـ الأدوات التي يستفيد منها في دعوته
من القرائن التي تدلّ على صدق
المدّعي في دعوى النُبوّة والسفارة الإلهية ، اعتماده في دعوته على أساليب إنسانية ، موافقة للفطرة والطهارة ، فإنّ لذلك دلالات على إلهية دعواه .
وأمّا لو اعتمد في نشر وتبليغ ما
يدّعيه على وسائل إجرامية ، وأساليب وحشية غير إنسانية ، متمسكاً بقول ماكيافللي : « الغاية تبرر الوسائل » ، كان هذا دليلاً على كون دعواه شخصية محضة ، لا صلة لها بالعالم الربوبي .
٦ ـ المؤمنون به
إنّ لنفسيات المؤمنين بمدّعي النبوة
وحواريه ، دلالة خاصة على صدقه فيما يدّعيه ، وذلك أنّ أقرباء المدّعي وبطانته إذا آمنوا به ، واتّبعوا دعوته ، وبلغوا
فيها مراتب عالية من التقوى والورع ، كان هذا دالّاً على صدق المدعي في ظاهره وباطنه ، وعدم التوائه وكذبه ، لأنّ الباطن لا يمكن أن يخفى عن الأقرباء والبطانة .
هذه القرائن وما يشابهها إذا اجتمعت
في مدّعي النبوة ، ودعواه التي
__________________
يدّعيها ، كانت دليلاً قاطعاً على
صدقه ، فإنّ كلّ واحدة من القرائن ، وإن كانت قاصرة عن إفادة اليقين ، إلّا أنّها بمجموعها تفيده .
أول من طرق هذا الباب
إنّ أوّل من طرق هذا الباب ، وجعل
القرائن المفيدة للقطع بصدق المدّعي ، دليلاً على صحة الدعوى ، هو قيصر الروم ، فإنّه عندما كتب إليه الرسول محمد صلى الله عليه وآله ، رسالة يدعوه فيها إلى اعتناق دينه الذي أتى به ، أخذ ـ بعد استلامه الرسالة ـ يتأمّل في عبارات الرسول ، وكيفية الكتابة ، حتى وقع في نفسه احتمال صدق الدعوى ، فأمر جماعة من حاشيته بالتجول في الشام والبحث عمّن يعرف الرسول عن قرب ، ومطّلع على أخلاقه وروحياته ، فانتهى البحث إلى العثور على أبي سفيان وعدّة كانوا معه في تجارة إلى الشام ، فأحضروا إلى مجلس قيصر ، فطرح عليهم الأسئلة التالية :
* قيصر : كيف نسبه فيكم ؟ .
ـ أبو سفيان : محضٌ ، أوسطنا نسباً .
* قيصر : أخبِرني ، هل كان
أحد من أهل بيته يقول مثل ما يقول ، فهو يتشبّه به ؟ .
ـ أبو سفيان : لا ، لم يكن في آبائه
من يدّعي ما يقول .
* قيصر : هل كان له فيكم ملك
فاستلبتموه إيّاه ، فجاء بهذا الحديث لتردّوا عليه ملكه ؟ .
ـ أبو سفيان : لا .
* قيصر : أخبرني عن أتباعه
منكم ، من هم ؟ .
ـ أبو سفيان : الضعفاء والمساكين
والأحداث من الغلمان والنساء . وأمّا ذوو الأسنان والشرف من قومه فلم يتبعه منهم أحد .
* قيصر : أخبرني عمّن تبعه ،
أيحبه ويلزمه ؟ أم يقليه ويفارقه ؟ .
__________________
ـ أبو سفيان : ما تبعه رجل ففارقه .
* قيصر : أخبرني كيف الحرب
بينكم وبينه ؟ .
ـ أبو سفيان : سجال ، يدال علينا
وندال عليه .
* قيصر : أخبرني هل يغدر ؟ .
ـ أبو سفيان : ( لم أجد شيئاً ممّا
سألني عنه أغمزه فيه غيرها فقلت ) : لا ، ونحن منه في هدنة . ولا نأمن غدره . ( وأضاف أبو سفيان بأن قيصر ما التفت إلى الجملة الأخيرة منه ) .
ثم إنّ قيصر أبان وجه السؤال عن
الأمور السابقة وأنّه كيف استنتج من الأجوبة التي سمعها من أبي سفيان أنّه نبي صادق ، بقوله :
« سألتك كيف نسبه فيكم ، فزعمت أنّه
محض من أوسطكم نسباً ، وكذلك يأخذ الله النبي إذا أخذه ، لا يأخذه إلّا من أوسط قومه نسباً .
وسألتك هل كان أحد من أهل بيته يقول
بقوله ، فهو يتشبه به ، فزعمت أن لا .
وسألتك هل كان له فيكم ملك
فاستلبتموه إيّاه ، فجاء بهذا الحديث يطلب به ملكه ، فزعمت أن لا .
وسألتك عن أتباعه فزعمت أنّهم
الضعفاء والمساكين والأحداث والنساء ، وكذلك اتباع الأنبياء في كل زمان .
وسألتك عمّن يتبعه ، أيحبّه ويلزمه ،
أم يقليه ويفارقه . فزعمت أنْ لا يتبعه أحد فيفارقه ، وكذلك حلاوة الإيمان لا تدخل قلباً فتخرج منه .
وسألتك هل يغدر ، فزعمت أن لا . فلئن
صدقتني عنه ليغلّبني على ما تحت قدمي هاتين ، ولوددت أنّي عنده فأغسل قدميه . إنطلق لشأنك » .
قال أبو سفيان : فقمت من عنده وأنا
أضرب إحدى يديّ بالأخرى وأقول : إي عباد الله ، لقد أَمِرَ أَمْرُ ابن أبي كبشة . أصبح ملوك بني الأصفر يهابونه في
سلطانهم بالشام .
ومن المأسوف عليه أنّ هذا الطريق
الذي سلكه قيصر ، ووجده وسيلة كافية لكشف الحقيقة بذكائه ، قد ترك بين المسلمين قرون عديدة .
وسلوك هذا الطريق ، وجمع القرائن
والشواهد الدالّة على صدق دعوى المدّعي ، أكثر ملائمة لروح أبناء هذا العصر من التركيز على المعاجز المدوّنة في كتب الحديث ، التي مضت عليها قرون . نعم ، المعاجز أشدّ تأثيراً ، وأسرع في جلب القلوب لمن شاهدها بأُم عينيه . ولأجل ذلك كان عامة الأنبياء مجهزين بها بالنسبة إلى أبناء زمانهم .
وممن طرق هذا الباب في القرن الثالث
عشر أحد مشايخ الشيعة في مدينة إسطنبول ، فقد ألف كتابه « ميزان الموازين » ، وأوعز إلى هذا الطريق عند البحث عن نبوّة خاتم الأنبياء . وبعده الكاتب السيد محمد رشيد رضا ، مؤلّف المنار ، في كتابه « الوحي المحمدي » ، فقد بلغ الغاية في جمع الشواهد والقرائن . وسنسلك نحن هذا الطريق عند البحث في النبوّة الخاصة .
وفي الختام نركّز على نكتة ، وهي أنّ
الإعتماد على الطريقين الأخيرين ، لا يعني الإكتفاء بهما ورفض ما ثبت بالتواتر من المعجزات والبيّنات ، بل لكل موقعه الخاص يعرفه الكاتب القدير ، والخطيب البارع ، ويستفيد من كلٍّ حسب ما يناسبه الحال .
* * *
__________________
مباحث النبوّة العامة
( البحث الثالث )
|
|
الوحي
وأقسامه
إنّ تحديد حقيقة الوحي ، وتبيين
ماهيته والفرق بينه وبين سائر الإدراكات البشرية ، من المواضيع الحساسة في أبحاث النبوة العامة التي لم يستوف حقها في الكتب الكلامية ، فأُهمل في الكثير منها ، وبحث في الأخرى على وجه الإجمال . هذا مع أنّه أساس النبوات والتكاليف والشرائع ، لأنّ الأنبياء يتلقون التعاليم السماوية من هذا الطريق ، ولولاه لانقطعت أخبار السماء ، وصلة الأنبياء
بالله سبحانه .
ولكن لأجل اختصاص الوحي بالأنبياء ،
وحرمان غيرهم من الناس منه ، يصعب تحديده وبيان كيفيته ، ويُعَدُّ كشف الستر عن حقيقته ، تطلّعا إلى شيء ليس في اختيار الباحث ، ومع ذلك كلّه ، فإلقاء الضوء عليه بوجه إجمالي ، ممكنٌ ببيان الأُمور التالية :
الأمر الأول ـ الوحي في اللغة
قال ابن فارس في المقاييس : « الوحي
أصلٌ يدلّ على إلقاء علمٍ في إخفاء
__________________
( أو غيره ) ، إلى غيرك . فالوحي
: الإشارة ، والوحي : الكتابة والرسالة وكل ما القيته إلى غيرك حتى عَلِمَهُ ، فهو وحي كيف كان » . . . إلى أن قال : « والوحي : السريع . والوَحَى : الصوت » .
وقال الراغب : « أصل الوحي الإشارة
السريعة ، وَلِتَضَمُّنِ السُرعةِ قيل « أمر وَحْي » . وقد يكون بالكلام على سبيل الرمز والتعريض ، وقد يكون بصوت مجرد عن التركيب وبإشارة ببعض الجوارح ، وبالكتابة ، وقد حُمل على ذلك قوله تعالى عن زكريا : ( فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ
فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ) »
وقال ابن منظور : « الوحي : الإشارة
، والكتابة ، والرسالة ، والإلهام ، والكلام الخفي ، وكل ما ألقيته إلى غيرك . ويقال : وحيت إليه الكلام ، وأوحيت ، ووحى وَحْياً ، وأوحى أيضاً ، أي كتب » .
والمستنبط من هذه النصوص وغيرها ممّا
أورده أهل اللغة في معاجمهم ، أنّ الوحي هو الإعلام بخفاء ، بطريق من الطرق .
الأمر الثاني ـ الوحي في القرآن الكريم
جاء استعمال « الوحي » في القرآن
الكريم في موارد متعددة ، ومختلفة ، يجمعها المعنى اللغوي الكلي وهو الإعلام بخفاء ، وهذا المعنى الجامع موجود في بعضها حقيقة ، وفي البعض الآخر مجازاً وادعاءً ، كما لو كان الموحى إليه جماداً أو
حيواناً لا يعقل . ويظهر ذلك بالتدبر في الموارد التالية :
__________________
١ ـ تقدير الخلقة بالسنن والقوانين
قال سبحانه : ( ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى
السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ ، فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ
سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ ، وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا ، وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ
وَحِفْظًا ، ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) .
القضاء : فَصْلُ الأمر . وضمير : « هُنّ
» ، يرجع إلى السماء . وبما أنّ السماء كانت دُخاناً ، كان أمرها مبهماً غير مشخص من حيث الغاية والفعلية . ففصّل تعالى أمرها ، فجعلها سبع سماوات في يومين ، وأَخرجها بذلك عن الإبهام .
وأمّا قوله : ( وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ سَمَاءٍ
أَمْرَهَا ) ، فالمراد
أنّه سبحانه أودع في كل سماء السنن والأنظمة الكونية ، وقدّر عليها دوامها .
فإذا كان إيجاد السنن والنُّظُم في
بواطن السموات ومكامنها ، على وجه لا يقف عليه إلّا المتدبر في عالم الخلقة ، أشبه ذلك الإلقاءَ والإعلامَ بخفاء بنحو
لا يقف عليه إلّا الملقى إليه ، وهو الوحي . فكان هذا كافياً في استعارة لفظ الوحي إلى مثل هذا التقدير والتكوين للسُنن ، فقال : ( وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا ) .
ومن هذا القسم ، قوله تعالى : ( إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ
زِلْزَالَهَا *
وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا *
وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا *
يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا *
بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا ) .
٢ ـ الإدراك بالغريزة
قال سبحانه : ( وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى
النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا ، وَمِنَ الشَّجَرِ ، وَمِمَّا يَعْرِشُونَ *
ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ ، فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ
__________________
ذُلُلًا . .
. ) .
فكُلُّ الأعمال العجيبة والمدهشة
التي يقوم بها النحل ، في صنع بيوته بتلك الأشكال الهندسية المتقنة ، وإدارتها وتدبيرها وحراستها ، ثم الحركة الدؤوبة في التنقل بين البساتين والحقول ، ومصِّ رحيق الأزهار ، وتحويلها إلى عسل ، ثم إيداعها في صفائح الشهد ، وغير ذلك ، فإنّما يقوم به عن غريزة إلهية مودعة في مكامن خلقته ، وصميم وجوده ، لا يتوانى معها عن عمله ولا يختار معه عملاً آخر .
وحيث إنّ هذا الإيداع للغرائز في
مكامن الخلقة أشبه بالإلقاء الخفي ، وتلقّي النحل له بلا شعور وإدراك ، أطلق عليه سبحانه الوحي فقال : ( وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ) .
٣ ـ الإلهام والإلقاء في القلب
قال سبحانه : ( وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ
مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ، فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ
وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) .
وحيث إنّ تفهيمَ أُمِّ موسى مصيرَ
ولدها كانَ بإلهام وإعلام خَفي ، عبّر عنه بالوحي .
ومثله قوله تعالى : ( وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى
الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي . . . ) .
وأيضاً ، قوله تعالى في شأن يوسف عليه
السلام : ( وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ
لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَـٰذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ) .
__________________
وأيضاً قوله تعالى : ( إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى
الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا . . . ) .
٤ ـ الإشارة
قال سبحانه حكاية عن زكريا : ( قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً ، قَالَ
آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا *
فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ
أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ) .
والمعنى : أشار إليهم من دون أن
يتكلم ، لأَمْرِهِ سبحانه إِيّاه أن لا يكلّم الناس ثلاث ليالٍ سوياً ، فأشبه فعلُه ، إلقاء الكلام بخفاء ، لِكَوْن الإشارة
أمراً مُبْهماً .
٥ ـ الإلقاءات الشيطانية
قال سبحانه : ( وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ
نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ) .
وقال تعالى : ( وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ
إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ . . ) .
ويعلم وجه استعمال الوحي هنا ممّا
ذكرناه فيما سبقه .
٦ ـ كلام الله تعالى المُنْزَل على نبي من أنبيائه
قال سبحانه : ( كَذَٰلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ
وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّـهُ الْعَزِيزُ
__________________
الْحَكِيمُ ) .
وقد غلب استعمال الوحي في هذا القسم
، فكلما أُطلق الوحي وجُرِّد عن القرينة يراد منه ما يُلقى إلى الأنبياء من قِبَل الله تعالى .
الأمر الثالث ـ حقيقة الوحي في النُبوّة
إنّ الإدراكات العادية التي يحصّلها
الإنسان عن طريق الحسّ أو عن طريق التفكر والإستدلال ، هي نتاج أدوات المعرفة الحسيّة والعقلية ، فإدراك المبصرات والمسموعات وغيرها ، رَهْنُ إعمال الحواس . كما أنّ الوقوف على الأُصول الفلسفية والعلمية ، نتاج إعمال الفكر والعقل ، فإنّ قولنا : « كلُّ ممكن ، فهو زوج تركيبي له ماهية ووجود » ، أو : « إنّ كلَّ معلولٍ يحتاج إلى علة » ، لم نقف عليه إلّا بالرياضات الفكرية ، وهكذا الحال في القوانين العلمية .
كما أنّ هناك إدراكات تنبع من صميم
الذات ويطلق عليها الوجدانيات ، أو الفطريات . كإدراك حسن الأشياء وقبحها ، وإدراك الإنسان جوعه وعطشه ، فإنّ الجميع من ومضات الفطرة والغريزة ، ونظير ذلك ما يبدعه الذوق من الفنون والآداب والرسوم والأعمال اليدويَّة الظريفة ، فإنّها كلّها من وحي الذوق والغريزة
إذا وقعت في إطار التربية والتوجيه .
وبالجملة ، فإنّ كلَّ ما يدركه
الإنسان ، نتاجُ أدوات المعرفة بأشكالها المختلفة ، حسيّة كانت أو عقلية أو وُجدانية .
وأمّا الوحي الذي يختص به الأنبياء ،
فإنّه إدراك خاص متميز عن سائر الإدراكات ، فإنّه ليس نتاج الحسّ ولا العقل ولا الغريزة ، وإنّما هو شعور خاص ، لا نعرف حقيقته ، يوجده الله سبحانه في الأنبياء . وهو شعور يغاير الشعور الفكري المشترك بين أفراد الإنسان عامة ، لا يغلط معه النبي في إدراكه ، ولا يشتبه ، ولا يختلجه شك ولا يعترضه ريب في أنّ الذي يوحي إليه هو الله
__________________
سبحانه ، من غير أن يحتاج إلى إعمال
نظر ، أو التماس دليل ، أو إقامة حجة ، ولو افتقر إلى شيء من ذلك ، لكان اكتساباً عن طريق القوة النظرية ، لا تلقياً من الغيب ، من غير توسيط القوة الفكرية .
قال سبحانه : ( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ *
عَلَىٰ قَلْبِكَ ) .
فهذه الآية تشير إلى أنّ الذي يتلقى
الوحي من الروح الأمين هو نفس النبي الشريفة ( قلبك ) ، من غير مشاركة الحواس الظاهرة ، التي هي الأدوات المستعملة في إدراك الأمور الجزئية . فالنبي يرى ويسمع حينما يُوحى إليه ، من غير أن يستعمل حاسَّتَيِ البصر والسمع .
قال سبحانه : ( وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ
آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا : ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـٰذَا أَوْ بَدِّلْهُ . قُلْ : مَا
يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي ، إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ ، إِنِّي أَخَافُ إِنْ
عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُل
: لَّوْ شَاءَ اللَّـهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ
لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ) .
فالأنبياء كلّهم يُسندون تعاليمهم
وتنبؤاتهم إلى هذا النوع من الإدراك ، الذي لا مصدر له إلّا عالم الغيب ، وخالق الكون ، ومثل هذا لا يمكن أن يُدْرَكَ كُنْهُه ، بل يجب الإيمان به كما هو شأن كلِّ أمرٍ غيبي لا يحيط الإنسان المادي بحقيقته ، وإنّما يذعن به عن طريق المُخْبِر الصادق . قال سبحانه : ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ ) .
وعلى هذا ، فالوحي حصيلة الإتصال
بعالم الغيب ، ولا يصحّ تحليله بأدوات المعرفة ولا بالأُصول التي تَجَهَّزَ بها العلمُ الحديث . ولما كان العالِمُ
الماديُّ غيَر مذعنٍ بعالَم الغيب ، ويرى أنّ الوجود مساوقٌ للمادة والطاقة ، فيشكل عليه الإذعان بهذا الإدراك الذي لا صلة له بعالم المادة وأُصوله .
__________________
قال الشيخ محمد عبده ، معرضاً بأولئك
المنكرين للوحي :
« إنّ انكشاف ما غاب من مصالح البشر
عن عامتهم ، لمن يختصه الله بذلك ، لا أراه مما يصعب إدراكه ، إلّا على من يريد أن لا يدرك ، ويحبّ أن يرغم نفسه الفهّامة على أن لا تفهم . نعم ، يوجد في كلّ أُمة وفي كل زمان أُناس يقذف بهم الطيش ، والنقص في العِلْم ، إلى ما وراء سواحل اليقين ، فيسقطون في غمرات من الشك في كل ما لم يقع تحت حواسهم الخَمْس ، بل يدركهم الريب فيما هو من متناولها ، فكأنّهم بسقطتهم هذه انحطوا إلى ما هو أدنى من مراتب أنواع أخرى من الحيوان ، فينسون النقل وشؤونه ، ويجدون في ذلك لذّة الإطلاق عن قيود الأوامر والنواهي . فإذا عرض عليهم شيء من الكلام في النبوات والأديان ، وهم من أنفسهم هامّ بالإصغاء ، دافعوه بما أُوتوا من الإختيار في النظر ، وانصرفوا
عنه ، وجعلوا أصابعهم في آذانهم ، حذر أن يخالط الدليل أذهانهم ، فيلزمهم العقيدة ، وتتبعها الشريعة ، فيحرموا لذّة ما ذاقوا ، أو ما يحبون أن يتذوقوا ،
وهو مرض في الأنفس والقلوب يستشفى منه بالعلم إنشاء الله » .
ثم أضاف : « قلت : أي استحالة في
الوحي ، وأن ينكشف لفلان ما لا ينكشف لغيره ، من غير فكر ولا ترتيب مقدمات ، مع العلم أنّ ذلك من قبل واهب الفكر ومانح النظر ، حتى حَفَّت العنايةُ من ميَّزَتْهُ هذه النعمة .
فما شهدت به البديهة ، أن درجات
العقول متفاوتة ، يعلو بعضها بعضاً ، وأنّ الأدنى منها لا يدرك ما عليه الأعلى إلّا على وجه من الإجمال ، وأنّ ذلك ليس لتفاوت المراتب في التعليم ، بل لا بدّ معه من التفاوت في الفطر التي لا تدخل فيها ، لاختيار الإنسان وكسبه .
فمِنْ ضَعْف العقول ، والنكول عن
النتيجة اللازمة لمقدماتها عند الوصول إليها ، أن لا يسلم بأنّ من النفوس البشرية ما يكون لها من نقاء الجوهر بأصل الفطرة ما تستعد به من محض الفيض الإلهي لأن تتصل بالأُفق الأعلى وتنتهي من الإنسانية إلى الذروة العليا ، وتشهد من أمر الله شهود العيان ، ما لم يصل غيرها
إلى تعقّله أو تحسسه بعصا الدليل والبرهان ، وتتلقى عن العليم الحكيم ما يعلو وضوحاً
على ما يتلقاه أحدنا عن أساتذة
التعليم . ثمّ تصدر عن ذلك العلم إلى تعليم ما علمت ، ودعوة الناس إلى ما حُملت على إبلاغه إليهم ، وأن يكون ذلك سنّة الله في كلّ أُمّة وفي كل زمان حسب الحاجة ، يظهر برحمته من يختصه بعنايته ، ليفي للإجتماع بما يضطرّ إليه من مصلحته ، إلى أن يبلغ النوع الإنساني أشُدّه وتكون الأعلام التي نصبها لهدايته إلى سعادته ، كافية في إرشاده ، فتختم الرسالة ، ويغلق باب النبوة » .
ثم إنّ هؤلاء الذين اتّخذوا لأنفسهم
موقفاً مسبقاً في سعة الوجود وضيقه ، وسعة أدوات المعرفة وضيقها ، فعجزوا عن إدراك الوحي كنوع متميز عن الإدراكات البشرية ، حاولوا تحليله بأُصول مادية حتى يسهل عليهم تصديق الأنبياء وعدم اتّهامهم بتعمد الكذب . فمالوا يميناً وشمالاً في بيان حقيقته :
فتارة يرون الوحي نوعاً من النبوغ الخاص بالأنبياء ، وأخرى نتيجة ظهور الشخصية الباطنية للرسول ، فتلهمه بما ينفعه وينفع قومه . ونحن فيما يلي نتعرض إلى هاتين النظريتين ونحللهما الواحدة بعد الأخرى ، ثم نعرّج على بيان نظرية الفلاسفة في حقيقة الوحي :
النظرية الأولى ـ الوحي نتيجة النّبوغ
إنّ هناك أُناساً يفسرون النبوات
والرسالات ونزول الوحي على العباد الصالحين بنحو يجمع بين تصديق الأنبياء من جانب ، والأُصول العلمية الحديثة المادية من جانب آخر . ومن هذا الباب تفسير بعضهم النبوة بالنبوغ ، والوحي ـ الذي هو المصدر الوحيد للتسنين والتشريع ـ بلمعات ذاك النبوغ .
وحاصل مذهبهم أنّه يتميز بين أفراد
الإنسان المتحضر ، أشخاص يملكون فطرة سليمة ، وعقولاً مشرقة ، تهديهم إلى ما فيه صلاح الإجتماع وسعادة الإنسان ، فيضعون قوانين فيها مصلحة المجتمع ، وعمران الدنيا . والإنسان
__________________
الصالح الذي يتميز بهذا النوع من
النبوغ ، هو النبي . والفكر الصالح المترشح من مكامن عقله وومضات نبوغه هو الوحي . والقوانين التي يسنّها لصلاح الاجتماع هي الدين . والروح الأمين ( جبرائيل ) ، هو نفسه الطاهرة التي تفيض هذه الأفكار إلى مراكز إدراكه . والكتاب السماوي ، هو كتابه الذي يتضمن سننه وقوانينه . والملائكة التي تؤيّده في حلّه وترحاله ، هي القوى الطبيعية . والشيطان
الذي يقاومه ويقاوم أتباعه هو النفس الأمّارة بالسّوء ، أو سائر القوى الحيوانية الداعية إلى الشرّ والفساد . ومع ذلك كلّه ، فالله سبحانه من وراء الجميع .
تحليل نظرية النُبوغ
إنّ تفسير النبوة بالنبوغ ليس تفسيراً
جديداً ، وإن صيغ في قالب علمي جديد ، فإنّ جذوره تمتد إلى عصر ظهور الإسلام حيث كان العرب الجاهليون يحسّون بجذبات القرآن وبلاغته الخلابة ، فينسبونه إلى الشعر الذي كان الحرفة الرائجة عندهم ، ويتبارز فيه النوابغ منهم ، فكانوا يقولون : ( بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ ) .
ويرد عليهم القرآن الكريم بقوله : ( وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا
مَّا تُؤْمِنُونَ ) .
وبقوله : ( وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا
يَنبَغِي لَهُ ، إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ ) .
ومع ذلك يلاحظ عليه :
أولاً : إنّ العودة إلى
هذه النظرية ينبع من الإحساس بالصَّغار أمام الحضارة المادية المُدهشة ، المقترنة بأنواع الإكتشافات والإختراعات في مجال
__________________
الطبيعة ، والقائلون بها جماعة من
متجددي المسلمين ، انسحبوا أمام هذه الحضارة ناسين شخصيتهم الإسلامية ، فلجأوا إلى تفسير عالم الغيب والنبوة والدين والوحي بتفسيرات ملائمة للأُصول المادية ، حتى يَجْبُروا مركّب النقص في أنفسهم من هذه الزاوية ، ويصيحوا على رؤوس الأشهاد بأنّ أُصول الدين لا تخالف الأُصول العلمية الحديثة .
ولو صحّت هذه النظرية ، لم يَبْقَ من
الإعتقاد بالغيب إلّا شيء واحد ، وهو الإعتقاد بوجود الخالق الباريء ، وأمّا ما سوى ذلك ، فكلُّه بأجمعه نتاج الفكر الإنساني الخاطيء وبالنتيجة ، لا يبقى إذعان بشيء مما أتى به الأنبياء من الأصول والمعارف في الدنيا والآخرة . وهذا في الواقع نوع إنكار للدين ، لكن بصورة لا تخدش العواطف الدينية .
وثانياً : إنّ قسماً مما
يقع به الوحي ويخبر به النبي ، الإنباء عن الحوادث المستقبلية ، إنباءً لا يخطيء تحققه أبداً .
أفترى هل يجرؤ نابغة من نوابغ
المجتمع على الإنباء بنزول العذاب قطعاً بعد أيام ثلاثة ، ويقول : ( تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، ذَٰلِكَ
وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ) .
أو يخبر بهزيمة جيوش دولة عظمى في
مدة لا تزيد على تسع سنين ويقول : (الم *
غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي
أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي
بِضْعِ سِنِينَ . . . ) .
إنّ النوابغ وإن سَمَوْا في الذكاء
والفطنة ، لا يخبرون عن الحوادث المستقبلية إلّا مع الإحتياط والترديد ، لا بالقطع واليقين وأمّا رجالات السياسة ، اللاعبين بحبلها لمصالحهم الشخصية ، سواء صدقت تنبؤاتُهم أم كذبت ، فإنّ حسابَهم غيُر حساب النوابغ .
__________________
وثالثاً : لو كان لهذه
النظرية مسحة من الحق أو لمسة من الصدق ، فما لنا لا نرى حملة الوحي ومدعي النبوة ينبثون بشيء من ذلك ، بل نراهم على العكس ، ينسبون تعاليمهم وسننهم إلى الله سبحانه ، ولا يدّعون لأنفسهم شيئاً .
هذا هو القرآن الكريم ـ الذي جاء به
النبي الخاتم ـ يصرّح بأنّ ما حوى من الحقائق والقوانين ، ممّا أوحى به الله سبحانه ، وليس هو من تلقاء نفسه :
( إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ )
( إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ ) .
ولا يشك أحد في أنّ الأنبياء عبادٌ
صالحون ، صادقون لا يكذبون ولا يفترون ، فلو كانت السنن التي أتوا بها من وحي أفكارهم ، فلماذا يغرون المجتمع بنسبتها إلى الله تعالى . فهذه النسبة ، إن دلّت على شيء ، فإنّما تدلّ على أنّهم كانوا يجدون في أنفسهم أنّ إدراكَ هذه السنن والمعارف ، إداركٌ وراءَ الشعور الفكري المشترك بين جميع أفراد الإنسان ، وأنّ الطريق الذي يصلون به إليها ، غيرُ طرق الإدراك المألوفة
وبكلمة جامعة ، إنّا نرى
في المجتمع الإنساني طائفتين من رجال الإصلاح والصلاح ، كلٌّ يدّعي سَوْقَ المجتمع إلى السعادة :
طائفة ـ ولهم جذور عريقة في التاريخ
ـ ينسبون تعاليمهم وسننهم إلى عالم الغيب ، ويثبتون لأنفسهم مقام الرسالة والسفارة وأنّهم ليس لهم شأن سوى كونهم وسائط لإبلاغ أمر الله ونهيه .
وطائفة أخرى ـ مع اتّصافهم بالصلاح
والسداد والسعي وراء الصالح العام ـ ينسبون تعاليمهم إلى قرائحهم وبدائع أفكارهم ، ويعلّلون مبادءهم ببراهين اجتماعية أو تاريخيّة أو عقلية ، ولا يتجاوزون هذا الحدّ قدر شعرة .
__________________
فلو كانت الطائفتان صادرتين عن أصل
واحد ، وتستقيان من عين واحدة ، فلماذا لم تَدّع ثانيتهما ما ادعته الأولى ؟ .
ثم إنّ علماء النفس الذين بحثوا عن
النبوغ ، ذكروا لبُروزه وتفجّره في الإنسان عواملَ ، هي :
١ ـ العشق .
٢ ـ انهضام الحُقوق .
٣ ـ العزلة .
٤ ـ كثرة السكوت .
٥ ـ التربية والتوجيه الأوّلي الذي
يتلقّاه الإنسان في صغره .
فإنّ هذه العوامل توجد في الإنسان
استغراقاً في نفسه ، وتوقّداً في أفكاره ، وتَمَيُّزاً في فطنته وذكائه . ولكن تفسير النبوات والرسالات ، والقوانين والشرائع
التي جاء بها الأنبياء بهذا الطريق ، أشبه بتفسير علّة تفجر البركان وثورانه ، بسقوط طائر على فوهته .
هذا ، ولو كانت شريعة النبي الخاتم صلى
الله عليه وآله ، والكتاب المجيد الذي جاء به ، وليديْ النبوغ والعبقرية ، فلماذا عجز عن مقابلته ومقارعته ، النوابغ والعباقرة طرّاً في جميع القرون إلى عصرنا هذا ، كما سيوافيك تفصيله في النبوة الخاصة ؟ .
* * *
النظرية الثانية ـ الوحي النفسي
إنّ تفسير الوحي بصورة الوحي النفسي
، منشؤه قساوسة المسيحيين الذين لا هدف لهم إلّا تفنيد رسالة النبي الخاتم ، وتخطئتها ، فتشبث هؤلاء بكل وجه خادع ، يوهم في ظاهره الملائمة لروح العصر وآخرِ ما توصلت إليه الحضارة من النظريات الفكرية ، والإبداعات العلمية ، ثم طبقوه بعبارات وقوالب متجددة على حياة النبي الأكرم ، والوحي المنزل عليه .
وإرجاع الوحي الإلهي إلى الوحي
النفسي هو الجامع بين النظريتين المتقاربتين التاليتين اللتين طرحتا في زماننا هذا . .
الأولى ـ الوحي نتيجة تجلّي الأحوال الروحية
هذه النظرية مأثورة عن المستشرق « مونتييه
» وفصّلها « إميل درمنغام » ، وحاصلها أنّ الوحي إلهام يفيض من نفس النبي الموحى إليه لا من الخارج . وذاك أنّ منازع نفسه العالية ، وسريرته الطاهرة ، وقوة إيمانه بالله وبوجوب عبادته ، وترك ما سواها من عبادة وثنية ، وتقاليد وراثية رديئة ، يكون لها في جملتها من التأثير
ما يتجلى في ذهنه ، ويُحدث في عقله الباطن ، الرؤى والأحوال الروحية فيتصور ما يعتقد وجوبه ، إرشاداً إلهياً نازلاً عليه من السماء بدون وساطة . أو يتمثل له رجل
يلقنه ذلك ، يعتقد أنّه ملك من عالم الغيب ، وقد يسمعه يقول ذلك ولكنه إنّما يرى ويسمع ما يعتقده في اليقظة ، كما يرى ويسمع مثل ذلك في المنام الذي هو مظهر من مظاهر الوحي ، عند جميع الأنبياء . فكلَّ ما يُخْبر به النبي أنّه كلام
القي في روعه ، أو ملك ألقاه على سمعه ، فهو خبر صادق عنده .
ويقول أصحاب هذه النظرية : لا نشك في
صدق الأنبياء في إخبارهم عمّا رأَوْا وسمعوا ، وإنّما نقول إنّ منبع ذلك من نفسه وليس فيه شيء جاء من عالم الغيب الذي يقال إنّه وراء عالم المادة والطبيعة .
ويقولون في نفس النبي الأكرم إنَّه
توصّل إلى الوحي بالإنقطاع إلى عبادة الله تعالى والتوجه إليه في خلوته بغارِ حِراء ، وقَوِيَ هنالك إيمانُه ، وسَما وُجدانُه
، فاتّسع محيطُ تفكُّرِهِ ، وتضاعف نور بصيرتِه ، فاهتدى عقله الكبير إلى الآيات البيّنات في ملكوت السموات والأرض ، الدالّة على وحدانية مبدع الوجود ، وسرّ النظام الساري في كل موجود ، بما صار به أهلاً لهداية الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور ، وما زال يفكّر ويتأمل ، وينفعل ويتململ ، ويتقلّب بين الآلام والآمال ، حتى أيقن أنّه النبي المنتظر الذي يبعثه الله لهداية البشر .
فتجلّى
__________________
له هذا الإعتقاد في الرؤى المنامية
، ثم قوي حتى صار يتمثّل له الملك ، يلقّنه الوحي في اليقظة .
وأمّا المعلومات التي جاءته في هذا
الوحي فهي مستمدة الأصل من تلك الينابيع التي ذكرناها ، ومما هداه إليه عقله وتفكّره في التمييز بين ما يصحّ منها
وما لا يصحّ ، ولكنها كانت تتجلّى له نازلة من السماء ، وأنّها خطاب الخالق عزّ وجلّ ، بواسطة الناموس الأكبر وملك الوحي ، جبرئيل روح القُدس .
وبكلمة أدقّ : إنّ معلوماته وأفكاره
وآماله ، ولّدت له إلهاماً ، فاض من عقله الباطن أو نفسه الخفية الروحانية العالية ، على مخيّلته السامية ؛ وانعكس اعتقاده على بصره : فرأى الملك ماثلاً له ، وعلى سمعه : فوعى ما حدّثه الملك به
.
تحليل هذه النظرية
أ ـ نُبُوّةٌ أو أضغاث أحلام
هذه النظرية التي جاء بها بعض
الغربيين ، وإن كانت تنطلي على السذج من الناس وتأخذ بينهم رونقاً ، إلّا أنّ رجال التحقيق يدركون تماماً أنّها ليست بشيء جديد قابل للذكر ، وإن هي إلّا تكرار لمقالات العرب الجاهليين في النبوة والوحي ، غير أنّ الغربي أخذ يديف السم في الدسم ، ويعرض ما أكل الدهر عليه وشرب ، بصورة نظرية حديثة برّاقة تتمحور في أنّ رجال الوحي أُناس مُخَبّطون ، استغرقوا في التفكير في أُمنياتهم عقوداً من الدهر حتى رأوها ماثلة في خيالهم
وأمام حسّهم .
إنّ الذكر الحكيم ينقل لنا أنّ من
جملة مقالات العرب وافتراءاتهم على النبي الأكرم ، وَصْم شريعته بأنّها نتاج الأحلام العذبة التي كانت تراود خاطره ، ثم تتجلى على لسانه وبصره .
__________________
قال تعالى : ( بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ ) أي قالوا : إنّ النبي ليس مختاراً فيما جاءَ به من الكتاب ، وشَرَّعه من الأحكام ، وإنّما هو وحيُ الأحلام ،
وطوارق الرؤى تجري على لسانه .
وقد ردّ تعالى مزعمتهم هذه في موضع
آخر من كتابه ـ من دون أن يذكر تُهمتهم ـ بقوله : ( وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ * مَا
ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ *
وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ
هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ *
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ * ذُو
مِرَّةٍ فَاسْتَوَىٰ *
وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَىٰ *
ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ *
فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ * فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ * مَا
كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ *
أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ *
عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَىٰ *
عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَىٰ * إِذْ
يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ * مَا
زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ *
لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ ) .
فهذه الآيات تركّز على صدق الوحي ،
وكونه أمراً واقعياً مُفاضاً من الله سبحانه . وأنْتَ إذا لاحظت منها الآيتين التاليتين ، يتجلى لك بوضوح حقيقةُ ذلك .
أ ـ قوله : ( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا
رَأَىٰ ) .
والمعنى لم يكذّب فؤاد محمد ما أدركه
بصره ، أي كانت رؤيته صحيحة غير كاذبة ، وإدراكاً على الحقيقة .
وهذا ، سواءٌ قُرِءَ « كذب »
بالتشديد ، فالموصول مفعولُه ، أو قُرِءَ بالتخفيف ، كما هو القراءة المعروفة ، فهو يتعدى إلى مفعول ، قال الشاعر :
__________________
كذَبتك عينك أم رأَيْتَ بواسط
|
|
غَلَس الظَّلام من الرباب خيالاً
|
وعلى كل تقدير ، فالآية بصدد بيان
أنّه لم يكن هناك اختلاف بين تصديق القلب ورؤية العين ، فإذا صدّق القلب ، تكون الرؤية حقيقةً .
ب ـ قوله : ( مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا
طَغَىٰ ) .
أي ما زاغ بصر محمد وما طغى . وهو
كناية عن صحة رؤيته وأنّه لم يُبصر ما أبصره على غير صفته الحقيقية ، ولا أبصر ما لا حقيقة له . بل أبصر غيرَ خاطىء في إبصاره .
والآيتان بصدد بيان مصونية قلبه
وبصره عن الخطأ ، في مقام الأخذ والتلقّي ، ولا تتم الصيانة إلّا بمصونية كل جوارحه إذا كانت في خدمة الوحي . فهو صلى الله عليه وآله يُبْصر بعينه ، ويسمع بأُذنه ، ويدرك بقلبه الأشياء
والحقائق على ما هي عليه من دون خطأ .
ب ـ نُبُوَّةٌ أَو جنونٌ
ولك أن تقول ، إنّ مقالة هؤلاء
المتجددين ، ليست بعيدة ولا غريبة عن اتّهام الأنبياء بالجنون الذي هو في حقيقته مرتبة عالية وشديدة من تجلّي النزعات الخيالية . هذه التهمة التي افتراها العرب على النبي الخاتم ، كما في قوله تعالى :
( وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ
عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ) . وأشار إليها
القرآن في موارد عديدة أخرى ، وافتراها أعداء الأنبياء المتقدمين عليهم ، كما يقول تعالى : ( كَذَٰلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ
مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ ، بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ) ، ثم افتراها هؤلاء القساوسة والمستشرقون
__________________
بصياغة أدبية وقوالب علمية ، تحت إسم
« تجلّي الأحوال الروحية » . والمغزى والجوهر واحد .
سبحانك يا رب ، ما أعظم جناية الإنسان
على أوليائك والصالحين من عبادك ، البالغين القمة في العقل والدراية والفكر والحكمة ، حتى وسمهم هؤلاء المفترون تارة بالخبط وأخرى بالجنون .
الثانية ـ الوحي نتيجة ظهور الشخصية الباطنة
وقد أسهب الأُستاذ فريد وجدي الكلامَ
فيها في موسوعته ، نأتي منه بما يكفي في بيان المراد منها :
كان الغربيون إلى القرن السادس عشر ـ
كجميع الأُمم المتدينة ـ يقولون بالوحي ، لأنّ كتبهم مشحونة بأخبار الأنبياء . فلما جاء العلم الجديد بشكوكه ومادياته ، ذهبت الفلسفة الغربية إلى أنّ مسألة الوحي من بقايا الخرافات القديمة ،
وغالت حتى أنكرت الخالق والروح معاً . وعلّلت ما ورد عن الوحي في الكتب القديمة بأنّه إمّا اختلاق من المتنبئة أنفسهم لجذب الناس إليهم وتسخيرهم لمشيئتهم ، وإمّا هَذَيانٌ مَرَضيٌ يعتري بعض العصبيين ، فيخيل إليهم أنّهم يرون أشباحاً تكلّمهم ، وهم لا يرون في الواقع شيئاً .
وقد راج هذا التعليل في العالم
الغربي حتى صار مذهب العلم الرسمي . وظلّ الأمر على هذا المنوال حتى العام ١٨٤٦ عندما ظهرت في أمريكا آية الأرواح وسرت منها إلى أوروبا كلها ، وأثبت الناس بدليل محسوس وجود عالم روحانى آهل بالعقول الكبيرة والأفكار الثاقبة ، فتغير وجه النظر في المسائل الروحانية ، وأُحييت
مسألة الوحي بعد أن كانت في عداد الأضاليل القديمة ، وأعاد العلماء البحث فيها على قاعدة العلم التجريبي المقرر ، لا على أُسلوب التقليد الديني ، ولا من طريق الضرب في مهامه الخيالات .
فقد تألّفت في لندرة سنة ١٨٨٢ جمعية
دعيت باسم « جمعية المباحث النفسية » ، برئاسة السير « جويك » المدرس في جامعة كمبريدج ، وهو من أكبر
العقول في انكلترا ، وعضوية السير «
أوليڤرلودج » الملقب بـ « داروين علم الطبيعة » ـ أي أنّه لعالم الطبيعة ، كداروين للتاريخ الطبيعي ـ مع عدّة من الأساتذة المتخصصين في صنوف العلوم الطبيعية والرياضية والفلكية . وكان الغرض من هذه الجمعية البت في المسألة الروحية ، وتحقيق حوادثها بأُسلوب النقد الصارم ، والحكم بقبولها نهائياً في العلم إن كانت حقيقةً ، أو تقرير إبعادها عن العلم والفلسفة إن كانت من الأمور الوهمية .
وفي خلال مدّة تربو على خمس وأربعين
سنة ، حققت هذه الجمعية أُلوفاً من الحوادث الروحية ، وعملت من التجارب في النفس وقواها ما لا يكاد يدرك ، لولا أنّه مُدوَّن في محاضر تلك الجمعية في نحو خمسين مجلداً ضخماً ، فكان من ثمرات جهادها :
١ ـ إثبات شخصية ثانية للإنسان أي
إنّنا أحياء مدركون في حياتنا الحاضرة ، لا بكل قوى الروح التي فينا ، بل بجزء من تلك القوى ، سمحت لنا بها حواسنا الخمس القاصرة . ولكن لنا فوق ما تعطيه لنا حواسنا هذه ، حياة أرقى من هذه الحياة ، لا تظهر بشيء من جلالها إلّا إذا تعطّلت فينا هذه الشخصية العادية بالنوم العادي ، أو بالنوم المغناطيسي .
وقد جرّبوا ذلك على المنوَّمين
تنويماً مغناطيسياً ، فوجدوا أنّ النائم يظهر بمظهر من الحياة الروحية والعلم ، لا يكون له وهو يقظان ، فيعلم الغيب ، ويخبر عن البعيدين ، يبصر ويسمع ويحسّ بغير حواسه الجسمية ويكون ـ وهو على تلك الحالة ـ على جانب كبير من التعقّل والإدراك .
قالوا : وتكون هذه حالة الإنسان في
نومه العادي . والدليل على ذلك ، ما يأتيه المصابون بمرض الإنتقال النومي من الأفعال المعجزة ، والمدارك السامية .
٢ ـ ثبت لديهم وجود شخصية راقية
للإنسان وراء شخصيته العادية . وعلموا أنّها هي التي كوّنت جسمه في الرحم . وهي التي تحرّك جميع أعضائه التي ليست تحت حكم إرادته ، كالكبد ، والقلب ، والمعدة ، وغيرها . . . فهو إنسان بها ، لا بهذه الشخصية العادية المكتسبة من الحواس القاصرة .
قالوا : وهي التي تهديه بالخواطر
الجيّدة من خلال حُجُبِهِ الجسمية الكثيفة ، وهي التي تعطيه الإلهامات الطيبة الفجائية في الظروف الحرجة . وهي التي تنفث في روع الأنبياء ما يعتبرونه وحياً من الله ، وقد تظهر لهم متجسدة فيحسبونها من ملائكة الله هبطت عليهم من السماء .
قالوا : وهذه الشخصية الباطنة أصبحت
مُدْرَكَةً بالحسِّ ، فإنَّ ظهور النائم نوماً مغناطيسياً ، بهذا المظهر من العقل الراجح ، والفكر الثاقب ، والنظر البعيد ، واكتشافه لخفايا الأُمور ، وجولانه في الأقطار البعيدة ، بينما يكون هو جاهلاً غبياً في حالاته العادية ، أدلّ دليل على أنّ للإنسان شخصية تحجبها هذه الحياة الجسدية ، ولا تظهر إلّا إذا وقع جسمه في نوم طبيعي أو صناعي .
وهناك أمور أخرى تدلّ بالحس على وجود
تلك الشخصية ، درستها الجمعية وحققت تجارب الذين درسوها :
فقد كتب الأُستاذ الدكتور « ميرس » ،
فصولاً ضافية في التنويم المغناطيسي ، والعبقرية ، والوحي ، والشخصية الباطنة ، فذكر الحاسبين على البديهية ، وهم طائفة من الناس ، تلقى عليهم أعوص المسائل الرياضية التي تحتاج إلى زمن طويل في الحساب والعمل ، فيجيبون عليها على الفور ، وهم لا يدرون كيف وجد هذا الحلّ في نفوسهم . وهذا الأمر يثبت وجود الشخصية الباطنة بدليل محسوس ، لأنّ الجواب الصحيح عن المسائل الرياضية العويصة ، إن لم تأت به هذه الشخصية العادية ، فلا بدّ أن تكون ثمرة قوى باطنة أخرى لا تنكشف للإنسان إلّا بآثارها هذه .
وحكى العلامة « ميرس » قول العالم
الفرنسي « ترودم » : « حدث لي في بعض الأحايين أنّي كنت أجد فجأة برهان نظرية هندسية القيت إليّ منذ سنة ، وذلك من دون أن أعيرها أقل التفات . لعلّه يقال في تعليل ذلك إنّ المعلومات المختَزَنَة في عقلي من مطالعاتي قد نضجت من نفسها ، وولّدت في عقلي البراهين عليها ، من نفسها أيضاً » .
وقال « ميرس » : لقد كتب الشاعر
المشهور « موسيه » عن نفسه يقول :
« أنا لا أعمل شيئاً ، بل أسمع ،
فأنقل ، فكأنّ إنساناً مجهولاً يناجيني في أذني » !! .
هذه خلاصة هذه النظرية وتاريخ نشأتها
ويمكن تحريرها بكلمتين :
الأولى : إنّ الشخصية
الظاهرية العادية للإنسان ، أسيرة قواه الظاهرية ( الحواس الخمس ) .
الثانية : إنّ الشخصية
الباطنة للإنسان إنّما تتجلى ، وتظهر آثارها ، إذا تعطّلت القوى الظاهرية ، وتخدّرت فعاليتها ، كما في حالات النوم العادي أو المغناطيسي .
ثم بلحاظ هاتين النكتتين ، يفسّر
الوحي في الأنبياء ، فإنّ كل ما يحدثون به من التعاليم والإخبارات ليس إلّا إفاضات شخصياتهم الباطنة وإيحاءاتها عند تعطّل قواهم الظاهرية .
تحليل نظرية الشخصية الباطنة
إنّ هذا التفسير للوحي ـ الناتج عن
الغرور العلمي وحصر جميع ما في الكون ضمن إطار الأُصول التجريبية ـ فاشل من جهات شتّى :
الجهة الأولى : إنّ
الفرضية التي جاءت بها هذه النظرية ـ لو سلّمت ـ ليست دليلاً ولا برهاناً على كون خصوص الوحي عند الأنبياء من سنخ إفاضة الشخصية الباطنة وتجلّيها عند تعطّل القوى الظاهرية . بل قد تكون هذه الفرضية صحيحة ، ومع ذلك يكون للوحي في الأنبياء عاملاً إلهياً ، يفيض تلك المعارف والأُصول والإنباءات الغيبية إلى عقول الأنبياء وقلوبهم فيعرّفونها للبشر .
الجهة الثانية : إنّ الذي
تفيده هذه النظرية ، هو أنّ الشخصية الباطنة للإنسان إنّما تتجلّى وتجد مجالاً للظهور بآثارها المختلفة ، عند تعطّل القُوى
__________________
الظاهرية ، فلذا يقوى ظهورها في
المرضى والسكارى والنائمين والمُرْهَقين وتبقى مندثرة ومغمورة في طوايا النفس عندما تكون القُوى الظاهرية والحواس البشرية في حالة الفعالية والجدّ والسعي .
هذا ، وإنّ المعلوم من حالات
الأنبياء عليهم السلام أنّ الوحي الإلهي كان ينزل عليهم في أقصى حالات تنَبُّههم واشتغالهم بالأُمور السياسية والدفاعية والتبليغية ، فكيف يكون ما تجلّى للنبي وهو يخوض غمار الحرب ، تجلياً للشخصية الباطنة ، والضمير المخفي ، أو ما شئت فعبّر ، ممّا لا يرى النور ، إلّا في حالات الغفلة والغيبوبة وما شابه ذلك ، كما يصرّح به هؤلاء ؟ .
وأين الأنبياء من الخمول والإنعزال
عن المجتمع ، وهم أولو الجهاد ، والصبر والثبات في مواجهة الأعداء وتبليغ رسالاتهم السماوية ؟ .
فما ذكرناه دليل قاطع على بطلان
تفسير الوحي بما ذكروه .
الجهة الثالثة : لا شكّ
أنّ الشخصية الباطنة للإنسان لا تملك تلك المعلومات التي تفيضها في حالات تعطّل الحواس ، من ذاتها وصميمها من دون أن تتلقى شيئاً من خارجها . وإن دعوى ذلك ، باطلٌ ، لا قيمة له في سوق العلوم النفسية . فإنّ الذي توصّل إليه علماء النفس قبل « فرويد » وبعده ، هو أنّ الشخصية الباطنة للإنسان تُحفظ فيها المعارف التي تردّها عبر القوى والشخصية الظاهرية ، وذلك عندما لا ترغب الشخصية الظاهرية في إبقائها في مجال نشاطها وتفكرها ، فتنسحب تلك الأفكار والمعارف إلى أعماق ضميره وشخصيته الباطنة ، فتكمن في زواياها ، وتختبيء بين طواياها ، مُتَحيِّنة فرصة تعطيل الشخصية الظاهرية ، حتى تنبعث من مكامنها ، وتجري على لسان صاحبها من دون إرادة منه ولا ميل ، كما عرفت في حالات التنويم المغناطيسي ، وكما يقع غالباً في حالات السهو والغفلة ، من تلفُّظ الإنسان بما لا يرغب ، أو يتحاشى إظهاره ممّا أضمره في نفسه ، ولا يُظهره قطعاً عند التفاته وانتباهه . وفي هذا المجال يقول علي عليه السلام : « ما أَضَمَرَ أَحَدٌ شيئاً إلَّا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه » .
__________________
وعلى ما ذكرنا يمتنع أن تكون تلك
المعارف العليا ، والشرائع والقوانين الاجتماعية التي جاء بها الأنبياء ، نتاج الشخصية الباطنة ، والضمير المخفي وكيف يكون ذلك ، والمصدر الوحيد للمعارف الموجودة في الضمير المخفي هو الشخصية الظاهرية وما تأخذه الحواس من خارج الذهن والمحيط والبيئة . والمحيط الذي عاش فيه الأنبياء ، وترعرعوا في أحضانه ، في واد آخر من هذه المعارف والشرائع ، لم يسمع ولم يخبر بها .
فلا يبقى بالنتيجة إلّا أن يكون لها
مصدر ومنبعٌ آخر ، غير ما يدعون .
إنّ هذه المعلومات التي يعطيها هؤلاء
المحلّلون لمسألة الوحي ، قليلة المواد ، ضيقة النطاق عن أن تكون مصدراً لوحي مثل القرآن الكريم . فإنّ ما جاء في هذا الكتاب من الأحكام والمعارف العليا لا يمكن أن تكون مستمدة من الوحي بهذا المعنى .
وأنّى يكون ليتيم فقير ، نشأ بين الأُميين
، ليس عنده كتاب يرشده ، ولا أُستاذ ينبّهه ، ولا عضد إذا عزم يؤيده ، أن يأتي ولو بمعشار ما في هذا الكتاب من السنن والنظم والمعارف والعقائد . فلا يبقى إلّا القول بأنّه فائض من نور الله الأعظم على رسوله وخاتم أنبيائه محمد صلى الله عليه وآله ، كما يقول البوصيري :
الله أكبرُ إِنَّ دينَ محمد
|
|
وكتابَه أَقوى وأَقْومُ قيلا
|
لا تذكروا الكُتُبَ السوالفَ عنده
|
|
طَلَعَ الصباحُ فاطفَأَ القِنديلا
|
__________________
الثالثة ـ نظرية الفلاسفة المشائين في الوحي
سلك المشائيون من فلاسفة الإسلام ،
في تحليل الوحي ، مسلكاً خاصّاً لا يمت إلى ما سبق من التحليلات بصلة ، وتبتني نظريتهم على أُصول لا مجال لذكرها هنا ، وإنّما نأتي بمجمل معتقدهم ونبيّنه في أُمور :
الأول : قد أثبتوا بفضل
قاعدة الواحد لا يصدر منه إلّا الواحد ، إنّ الصادر الأول من الواجب سبحانه شيء واحد وهو العقل الأول ، ثم أفاض الوجود ، فأوجد العقل الثاني ، ثم أوجد الثاني الثالث إلى أنِ انتهى الفيض بإيجاد العقل العاشر ، وهو المسمى عندهم بالعقل الفعّال . وليست العقول عندهم منحصرة على وجه القطع بالعشرة ، بل لم يجدوا دليلاً على أزيد منها .
__________________
الثاني : إنّ ما يقوم به
العقل العاشر من الفعل والإفاضة ، هو تكميل النفوس الإنسانية أوّلاً ، وإفاضة الصور الجوهرية على عالم المادة ثانياً .
فالمخرج للنفوس الإنسانية من القوة
إلى الكمال ، ومفيضُ المعارف على قلوب الأولياء ، والصور الحيوانية والشجرية والمعدنية على المادة الأولى ، هو
العقل الفعّال ، بإذنه سبحانه .
الثالث : إنّ الإنسان مجهز
بالحواس الظاهرية الخمس المعروفة ، كما هو مجهز بحواس باطنية خمس ، هي :
١ ـ الحس المشترك : وهو القوة
المدركة لما يرد العقل عبر الحواس الخمس الظاهرية .
٢ ـ الخيال : وهو مخزن
الصور المحسوسة المأخوذة من الحسّ المشترك .
٣ ـ الواهمة : وهي القُوّة
المدركة للمعاني الجزئية ، كالعداوة والصداقة .
٤ ـ الحافظة : وهي مخزن
المعاني الجزئية المرسلة من الواهمة .
٥ ـ العاقلة : وهي القوّة
المدركة للمفاهيم الكلية والحقائق المطلقة عن المادة وآثارها ، ولها شؤون أخرى ، كتركيب الأقيسة والأدلة وغير ذلك .
الرابع : إنّ النفوس
الضعيفة غير الكاملة ، أسيرة القوى الباطنة في مدارجها المختلفة ، من القوّة العاقلة إلى الحسّ المشترك ، ومنه إليها .
وأمّا النفوس القوية الصافية ، فإنّ
بإمكانها الخروج عن هذا الإطار والإتصال بالعقل الفعّال ، إتصالاً روحانياً معنوياً ، وتلقّي الحقائق والمعارف من
ذلك الموجود النوراني .
وهكذا ، فإنّ المعارف العليا المفاضة
من العقل الفعّال ، تنعكس على القوّة العاقلة ، ثم تفاض منها إلى القوة الخيالية ، ومنها إلى الحسّ المشترك ، وتأخذ كل قوة ما هو المناسب لحالها وذاتها : فالحقائق المفاضة من العقل الفعّال إلى النفوس الكاملة الإنسانية في مرحلة القوة العاقلة ، علومٌ ومعارف . وفي مرتبة القوة الخيالية ، صور وتمثّلات . وفي مرحلة الحسّ المشترك ، كلام فصيح ومنظوم .
فالنبي إذا تمّ استعداده ، وصَفَت
نفسه ، يجد في نفسه استعداداً للإتصال بذلك العالم الأعلى ، فتفاض عليه الحقائق والدقائق ، من معارف المبدأ والمعاد ، والكون والحياة ، والإنسان والمجتمع ، كلّها بصورة معارف كليّة .
ولكن هذه المعارف إذا تنزّلت إلى
الدرجة التالية ، أعني القوة الخيالية ، تتمثل في خياله ملكاً نورانياً يكلمه ويخاطبه بتلك المعارف والأحكام والسنن .
كما أنّها إذا تنزّلت إلى الدرجة
الثالثة ، أعني الحسّ المشترك ، قرع أسماعه صوت وكلام تلتذ به نفسه ، وتحفظه مصوناً عن كل تغيّر وتبدّل .
فليس للوحي حقيقة إلّا انعكاس ما في
العقل الفعّال من المعارف والعلوم على عقل النبي ، ثم تنزله منه إلى خياله ، ومنه إلى حسّه . وليس هذا الإتصال والتنزل وتلقّي المعارف الكلية ، وتمثل الملك ومشاهدته ، وسماع الصوت والكلام المنظوم ، أشياء وهمية لا واقعية لها ، بل لكلٍّ منها درجة واقعية أحقّ من
الواقعية الظاهرية المادية .
يقول صدر المتألهين : « إنّ سبب
إنزال الكلام وتنزيل الكتاب ، هو أنّ الروح الإنسانية إذا تجرّدت عن البدن ، مهاجرةً إلى ربّها لمشاهدة آياته الكبرى ، وتطهّرت عن المعاصي والشهوات والتعلّقات ، لاح لها نور المعرفة والإيمان بالله وملكوته الأعلى . وهذا النور إذا تأكّد وتَجَوْهَر ، كان جوهراً قدسياً يسمى عند الحكماء في لسان الحكمة النظرية بالعقل الفعّال ، وفي لسان الشريعة النبوية بالروح القدسي .
وبهذا النور الشديد العقلي ، يتلألأ
فيها ( أي الروح الإنسانية ) أسرار ما في الأرض والسماء ، ويتراءى منها حقائق الأشياء ، كما يتراءى بالنور الحسيّ البصري ، الأشباح المثالية في قوّة البصر إذا لم يمنعها حجاب ، والحجاب ها هنا هو آثار الطبيعة وشواغل هذا الأدنى . وذلك لأنّ القلوب والأرواح ـ بحسب أصل فطرتها ـ صالحةٌ لقبول نور الحكمة والإيمان إذا لم يطرء عليها ظلمة تفسدها كالكفر ، أو حجاب يحجبها كالمعصية وما يجري مجراها .
وبعبارة أخرى : إذا أعرضت النفس عن
دواعي الطبيعة وظلمات الهوى
والإشتغال بما تحتها من الشهوة
والغضب والحسّ والخيال وولّت بوجهها شطر الحق ، وتلقاء عالم الملكوت ، اتّصلت بالسعادة القصوى ، فلاح لها سرّ الملكوت وانعكس عليها قدس اللاهوت ، ورأت عجائب آيات الله الكبرى .
ثم إنّ هذه الروح ، إذا كانت قدسية
شديدة القوى ، قوية الإنارة لما تحتها ، لقوة اتّصالها بما فوقها ، فلا يشغلها شأن عن شأن ، ولا يمنعها جهة فوقها عن جهة تحتها ، فتضبط للطرفين ، وتسع قوتها الجانبين ( الملك والملكوت ) ، لشدّة تمكّنها في الحدّ المشترك بين الملك والملكوت . لا كالأرواح الضعيفة ، التي
إذا مالت إلى جانب غاب عنها الجانب الآخر ، وإذا ركنت إلى مشعر من المشاعر ، ذهلت عن المشعر الآخر .
فإذا توجهت هذه الروح القدسية التي
لا يشغلها شأن عن شأن ، ولا يصرفها نشأة عن نشأة ، وتلقت المعارف الإلهية بلا تعلّم بشري ، بل من الله ، يتعدى تأثيرها إلى قواها ، ويتمثل لروحه البشرى ، صورة ما شاهده بروحه القدسي وتبرز منها إلى ظاهر الكون ، فيتمثل للحواس الظاهرة ، لا سيما السمع والبصر ، لكونهما أشرف الحواس الظاهرة ، فيرى ببصره شخصاً محسوساً في غاية الحُسْن والصباحة ، ويسمع بسمعه كلاماً منظوماً في غاية الجودة والفصاحة ، فالشخص هو الملك النازل بإذن الله ، الحامل للوحي الإلهي ، والكلام هو كلام الله تعالى ، وبيده لوح فيه كتاب .
وهذا الأمر المتمثل بما معه أو فيه ،
ليس مجرد صورة خيالية لا وجود لها في خارج الذهن والتخيّل ، كما يقوله من لاحظ له من الباطن ، ولا قَدَم له في أسرار الوحي والكتاب ، كبعض أتباع المشائين ، معاذ الله عن هذه العقيدة الناشئة من الجهل بكيفية الإنزال والتنزيل » .
__________________
تحليل نظرية الفلاسفة
أُعتُرض على هذه النظرية باعتراضات
عديدة ، غير واردة عند من أمعن النظر وتدبّر فيها ، نذكر بعضاً منها :
الإعتراض الأول : إنّ نتيجة
هذه النظرية أنّه لا واقعية للملك ولا للصوت في مرتبة الحسّ ، لأنّ القوّة التخيّلية في ذهن النبي هي التي توجد الصوت وصورة الملك في تلك المرتبة ، ثم ينعكس من الخيال إلى مرتبة الحسّ .
الجواب : إنّ ما ذكر من
الإعتراض يَرِد على عقيدة بعض المشائيين في الوحي ، كما صرّح به صدر المتألهين نفسه في كلامه المتقدم . وأمّا عند غيرهم ، فللوحي درجات واقعية حسب مراتب وجوده . فله وجود عقلي وخيالي وحسّي ، وليس أيٌّ منها مصنوعَ ذهن النبي ونفسه ، تلك النفس الصافية الصقيلة التي ينعكس فيها كل ما في عالم العقل الفعّال . وما ذكرناه من عبارات صدر المتألهين أوضح شاهد على ذلك .
الإعتراض الثاني : إنّ هذا
التصوير للوحي ، مقلوب ما نأنسه من الإدراكات في هذه الحياة ، فإنّ الترتيب الطبيعي للإدراك هو الحسيّ ثم الخيالي فالعقلي . ولكن على هذه النظرية ، ينقلب الأمر ويشرع الإدراك من العقل وينتهي بالحسّ .
الجواب : إنّ ما ذكره
المعترض حقّ في الإدراكات المعاديّة ، وأمّا الإدراكات المتجاوزة حدّ العادة ، فهي على عكس المأنوس . والوحي النازل على الأنبياء إدراك خارق للعادة بدليل عظمة المعارف والقوانين التي يأتي بها الوحي إليه .
وغير ذلك من الإعتراضات القابلة
للجواب .
والملاحظة الصحيحة على هذه النظرية ،
هي أنّ ما ذكروه من أنّ حقيقةً واحدةً تتجلى في نفس النبيِّ بصورٍ ثلاث ، وإن كان غير ممتنع ، إلّا أنّه لا دليل على أنّ الوحي هو خصوص ذاك . إذ ربّ وليّ من الأولياء الذين صفت ضمائرهم ، وطهرت قلوبهم ، نالوا المعارف والحقائق المفاضة من ذاك العالم
بالإشراق ومع ذلك لا يصحّ تفسيره
بالوحي المصطلح وإلّا كان كل إنسان يدرك في عقله حقيقة عليا ثم تتجلى في خياله ثم في حسّه ، نبياً أو رسولاً .
وقد بلغ الحواريون درجةً راقيةً من
المعرفة والإدراك حتى خاطبهم الباري عزّ وجلّ ، كما يشير إلى ذلك بقوله : ( وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ ) . ومع ذلك لم يُسَمِّهِمُ القرآن رسلاً ، ولا أنبياء ، ولا الكلام المنزل عليهم وحياً نبوياً ، رسالياً ، وإنّما
كان إلهاماً قوياً .
فحق المقال في الوحي ما ذكرناه في
صدر البحث ، من أنّه مجهول الكنه ، معلوم الآثار ، يجب الإيمان به كالإيمان بالغيب على الإطلاق .
* * *
__________________

مباحث النبوّة العامة
( البحث الرابع )
|
|
سِمات
الأنبياء
إنّ أخطر المناصب وأكبرها مسؤولية ،
قيادة المجتمع البشري وهدايته إلى السعادة ، فإنّها تتطلب في المتصدي لها مؤهّلات وامتيازات خاصة يتفرد بها عن سائر الناس .
ولتقريب عظمة تلك المؤهلات المطلوبة
في هكذا إنسان ، نلاحظ جانباً واحداً من الجوانب الحيوية ، كإدارة الشؤون الإقتصادية ، أو السياسية ، أو العسكرية أو التربوية ، فإنّ القيادة في واحد منها تتطلب درجة عالية من الخبرة والمعرفة والتدبير ، فكيف إذا كانت دائرة القيادة واسعة النطاق ، تدير دفة كافة جوانب الحياة ، كما هي وظيفة رسل السماء لا سيما خاتمهم الذي به سُدَّ باب الوحي والنبوة ؟ فلا بد ، والحال هذه ، أن يتصفوا بفضائل روحية ، ومُثُل خُلُقية ، تُميِّزُهم عن غيرهم من البشر ، وتجعَلُهم في قمَّة الأخلاق والتزكية
وحسن السيرة ، ثم في الإدارة والقيادة ، وتجتمع هذه الصفات في الأُمور التالية :
١ ـ العِصْمَة ، ولها مراتب ثلاث :
المرتبة الأُولى ـ المصونية عن الذنب
ومخالفة الأوامر المولوية .
المرتبة الثانية ـ المصونية في تلقي
الوحي ، ووَعْيه ، وإبلاغه إلى الناس .
المرتبة الثالثة ـ المصونية من الخطأ
والإشتباه في تطبيق الشريعة والأمور الفردية والاجتماعية .
٢ ـ التنزّه عن كل ما يوجب نفرة
الناس عنه وعُقم التبليغ .
٣ ـ الإطلاع على أُصول الدين وفروعه
وكلِّ ما أُلقي إبلاغه على عاتقه .
٤ ـ التحلّي بكفاءة خاصة في القيادة
والإدارة مقترنة بحسن التدبير .
وإليك البحث فيما يلي عن هذه السمات
الواحدة تلو الأُخرى .
* * *
__________________
العِصْمَة
قد عرفت أنّ للعصمة مراتب ثلاث :
العصمة عن المعصية ، والعصمة في تبليغ الرسالة ، والعصمة عن الخطأ في تطبيق الشريعة والأُمور الفردية والإجتماعية .
ونحن نقدم البحث في عصمة الأنبياء عن
المعصية ، على عصمتهم في مقام تبليغ الرسالة ، مع أنّ أكثر المتكلمين يقدمون الثاني على الأول باعتبار كونه أمراً
متفقاً عليه بين المسلمين إلّا من شذّ . وإنّما خالفنا الترتيب ، لأنّ العصمة عن المعصية تؤول إلى العصمة في مقام العمد ، بينما العصمة في تبليغ الرسالة ترجع إلى العصمة عن السهو والخطأ ، فطبيعة البحث تقتضي ما نقوم به .
* * *

المرتبة الأولى للعصمة
العصمة
عن الذُنُوب
ويقع البحث في مقامات ثلاثة :
الأول ـ بيان حقيقة العصمة
عن المعاصي والذنوب .
الثاني ـ بيان مبدأ ظهور
فكرة العصمة .
الثالث ـ بيان الدليل على
لزوم اتّصاف الأنبياء بها .
ثم نختم البحث بالإجابة عن سؤالين
هامَّين .
* * *
المقام الأول ـ حقيقة العصمة عن المعاصي
قال ابن فارس : « عَصَمَ : أصلٌ واحدٌ
صحيح يدلّ على إمساكٍ ومنعٍ وملازمةٍ ، والمعنى في ذلك كلِّه واحدٌ . من ذلك « العصمة » : أنْ يعصم الله عبدَه
من سوءٍ يقع فيه . واعتصم العبد بالله تعالى : إذا تَمَنَّعَ . واستعصم : التجأ ، وتقول العرب : أَعصَمْت فلاناً ، أي هيّأَتُ له شيئاً يعتصم بما نالته يده ، أي يلتجيء ويتمسك به » .
__________________
هذا في اصطلاح أهل اللُّغة .
وفي اصطلاح المتكلِّمين : « العصمة
قوة تمنع الإنسان عن اقتراف المعصية ، والوقوع في الخطأ » .
وربما تُعَرّف أيضاً بأنّها : « لطف
يفعله الله في المكلف بحيث لا يكون له مع ذلك داعٍ إلى ترك الطاعة ، ولا إلى فعل المعصية ، مع قدرته على ذلك » .
ومن العجب تفسير الأشاعرة العصمة
بأنّها عبارة عن أنّه سبحانه لا يخلق في المعصومين ذنباً . فإنّه تعريف واهٍ سخيف على الأُصول التي سلكناها من أنّ فاعل الذنب وموجده هو العبد مباشرة ، بقوة منه سبحانه . نعم هو صحيح على أصولهم القائمة على إنكار السببية والعلّية بين الأشياء .
وفيما ذكرناه من التعاريف كفاية في
المقام ، وإنّما المهم بيان حقيقة العصمة بنحو يرفع الغموض عنها ، وهو يحصل ببيان الوجوه التالية :
الوجه الأول : العصمة غصن من دوحة التقوى
إنّ التقوى في العاديين من الناس ،
كيفية نفسانية تعصم صاحبها عن اقتراف كثير من القبائح والمعاصي ، ولأجل ذلك نرى البون الشاسع بينهم وبين المجرمين ، المليئة حياتهم بالجرائم وقبائح الأعمال ، بينما حياة المتقين خلو منها
إلّا ما شذّ .
فإذا كان هذا أثر التقوى العمومية ،
فما بالك بالتقوى ، إذا ترقت في مدارجها وعَلَت في مراتبها ، إنّها حينذاك تبلغ بصاحبها درجة العصمة الكاملة ، والإمتناع المطلق عن ارتكاب أي قبيح من الأعمال ، أو ذميم من الأفعال ، بل يمتنع معها حتى عن التفكير في خلاف أو معصية .
__________________
وعلى هذا ، فالعصمة ملكة نفسانية
راسخة في النفس ، لها آثار خاصة كسائر الملكات النفسانية مثل الشجاعة والعفة والسخاء : فإنّ الإنسان إذا كان شجاعاً وصبوراً ، سخياً وباذلاً ، عفيفاً ونزيهاً ، تراه يتطلب في حياته معالي الأمور ، ويتجنب سفاسفها ، فيطرد عن نفسه الخوف والجُبْنَ والبُخْلَ والإمساكَ ، والقبائح والمساويء ، ولا ترى لها أثراً في حياته .
وهكذا نقول في العصمة ، فإنّ الإنسان
إذا بلغ درجة قصوى من التقوى ، يصل إلى حدّ من الطهارة لا يُرى معه في حياته أثر من آثار المعصية والتمرّد على أوامر الله تعالى . وأما كيف تحصل فيه هذه الكيفية النفسانية ، فهو ما نبحثه في الوجه الثاني .
وعلى ما ذكرنا ، تنقسم العصمة إلى
عصمة مطلقة وعصمة نسبية ، والأُولى تختص بطبقة خاصة من الناس ، والثانية تعمّ كثيراً منهم . فكم من الناس يتورعون عن السرقة والقتل ونحو ذينك ، وإن عُرضت عليهم المكافاۤت المادية الكبيرة ، وما ذلك إلّا لانتفاء الحوافز إلى هذه الأفاعيل ، في قرارة أنفسهم ،
إمّا نتيجة للتقوى أو غيرها من العوامل . وتصديق العصمة النسبية الملموسة لنا ، يُقَرِّب تصوُّرَ العصمة المطلقة إلى الأذهان ، والتي هي كون الإنسان في مرتبة شديدة من التقوى تمنعه عن اقتراف جميع أنواع القبائح ، طُرّاً .
الوجه الثاني : العصمة نتيجة العلم القطعي بعواقب
المعاصي
إنّ العلم القطعي بعواقب الأعمال
الخطيرة ، يخلق في نفس الإنسان وازعاً قوياً يصدُّه عن ارتكابها ، وأمثاله في الحياة كثيرة . فلو وقف أحدنا على أنّ في الأسلاك الكهربائية طاقة من شأنها أن تقتل من يمسّها عارية من دون عائق ، فإنّه يحجم من تلقاء نفسه عن مسّ تلك الأسلاك والإقتراب منها . ونظير ذلك ، الطبيب العارف بعواقب الأمراض وآثار الجراثيم ، فإنّه إذا صادف ماءً اغتسل فيه مصاب بالجُذام أو البَرَص ، أو إناءً شرب منه مصابٌ بالسِّلِّ ، لا يقدم على الإغتسال فيه أو شربه ، مهما اشتدت حاجته إليه ، لعلمه بما يَجُرّ عليه الشرب والإغتسال بذاك الماء الموبوء ، من الأمراض ، وقس على ذلك سائر العواقب
الخطيرة ، وإن كانت من قبيل السقوط
في أعين الناس ، وفقدان الكرامة وإراقة ماء الوجه بحيث لا ترغد الحياة معه .
فإذا كان العلم القطعي بالعواقب
الدنيوية لبعض الأفعال يوجد تلك المصونية عن الإرتكاب ، في نفس العالم ، فكيف بالعلم القطعي بالعواقبِ والأُخرويةِ للمعاصي ورذائلِ الأفعال ، علماً لا يداخله ريبٌ ولا يعتريه شكٌ ، علماً تسقط دونه الحُجُب فيرى صاحبُه رَأْيَ العينِ ، ويَلْمِسُ لَمْسَ الحِسِّ ،
تَبِعاتِ المعاصي ولوازِمَها وآثارَها في النشأة الأخرى . ذاك العلم الذي قال تعالى فيه : ( كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ
الْيَقِينِ *
لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ) ، فمِثْلُ هذا العِلم
يخلُق من صاحبه إنساناً مثالياً ، لا يخالف قول ربّه قيد أنملة ، ولا يتعدى الحدود التي
رسمها له في حياته قدر شعرة ، ولن تنتفي المعصية من حياته فحسب ، بل إنّ مجرّد التفكير فيها ، لن يجد سبيله إليه . وكأنَّ الإمامَ علياً يصف هؤلاء في قوله : « هم
والجنّة كمن قد رآها ، فهم فيها مُنعمون » .
إنّ الإنسان إذا وصل إلى المقام الذي
يرى فيه بالعيون البرزخية تبدُّلَ الكنوز المكتنزة من الذهب والفضة ، إلى جمرات ملتهبة تُكوى بها جباه الكانزين وجنوبهم وظهورهم ، يمتنع ـ شهد الله ـ عن كنزها . يقول سبحانه : ( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ فَبَشِّرْهُم
بِعَذَابٍ أَلِيمٍ *
يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ
وَظُهُورُهُمْ ، هَـٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ ) .
إنّ قوله سبحانه : ( هذا ما كُنْتُم ) ، يعرب عن أَنَّ النار التي تكوى بها جباه الكانزين وجنوبهم وظهورهم ليست شيئاً غير الذهب والفضة ، وإنّما هي تلك البيضاء والصفراء التي تتجلى بوجودها الأُخروي في تلك النشأة ، فإنّ لها صورتان ، صورةٌ دنيوية معروفة ، وصورةٌ أُخروية هي النيران المحماة .
__________________
فالإنسان العادي اللامس لهذه المعادن
المكتنزة ، لا يحسّ فيها بالحرارة ، ولا يرى فيها الناس واللهيب ، لأنّه يفقد حين المسّ ، الحِسَّ المناسبَ لدرك نيران النشأة الآخرة . وأمّا الإنسان الكامل ، المالك لهذا الحسّ إلى جانب بقية حواسه العادية ، فإنّه يدرك الوجه الآخر لهذه الفلزات ، ويحسّ أيما إحساس بنارها ولهيبها ، فلذلك هو يجتنبها كاجتنابه النيران الدنيوية ، ولن يقدم أبداً على جمعها
وتكديسها .
وهذا البيان الثاني الذي ذكرناه ،
يفيد أنّ للعلم مرحلة قوية ، راسخة ، تُغَلِّب الإنسان على الشهوات وتَصُدُّه عن فعل المعاصي والآثام . ونجد هذا البيان
في كلمات جمال الدين الفاضل مقداد بن عبد الله السُيوري الحلِّي في كتابه القيّم « اللّوامع الإلهية » ، يقول : « العصمة ملكة نفسانية تمنع المتصف بها من الفجور مع قدرته عليه . وتتوقف هذه الملكة على العلم بمثالب المعاصي ومناقب الطاعات . لأنّ العفة متى حصلت في جوهر النفس وانضاف إليها العلم التام بما في المعصية من الشقاء وفي الطاعة من السعادة ، صار ذلك العلم موجباً لرسوخها في النفس ، فتصير ملكة » .
وليس المُدَّعى أنّ كل علم بعواقب
الأفعال يصد الإنسان عن ارتكابها ، وأنّ العلم بمجرده يقوم مقام التكليف الإلهي ، فإنّ ذلك باطل بلا ريب ، لأنّا نرى الكثيرين من ذوي العلوم بمَضَراتِ المُخَدِّرات والمُسْكرات والأعمال الشنيعة لا يتورعون عن ارتكابها ، استسهالاً للذم في مقابل قضاء وَطَرهم منها . فلو كان العلم بعواقب المعاصي من قبيل ما نتعارفه من أقسام الشعور والإدراك ، لتسرب إليه التخلّف ، لكنّ سنخ العلم الذي يصيِّر الإنسان معصوماً ، ليس من سنخ هذه العلوم والإدراكات المتعارفة ، بل علمٌ خاصٌ فوقها ، ربما يعبر عنه بشهود العواقب وانكشافها كشفاً تاماً لا يبقى معه ريب .
وإن شئت تقريب ذلك أكثر ، فلنفترض
أنّ إنساناً يرى أمام ناظريه بركاناً عظيماً يقذف بكتل هائلة من الحميم الملتهب ، ووقف على أنّ اقتراف عمل ما
__________________
يوجب رميه في جوف هذا البركان
الهائل ليبقى محبوساً في أحشائه مدة من الزمن يناله عذاب الحريق الرهيب ولا يموت . فهل يقدم إنسان يمتلك شيئاً من العقل على اقتراف هذا العمل ؟ .
يقول سبحانه : ( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ *
انطَلِقُوا إِلَىٰ مَا كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ *
انطَلِقُوا إِلَىٰ ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ * لَّا
ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّـهَبِ * إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ *
كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ ) .
وعلى ضوء هذا البيان ، فشهود نتائج
المعاصي وعواقبها ، شهوداً لا يُبقي في النفس أيَّ ريب وشك ، يصدُّ الإنسان عن اختيار ارتكابها ، صدّاً قاطعاً ، ومع ذلك لا يتنافى مع اختياره ولا يسلب حريته ، كما سيوافيك .
الوجه الثالث : الإستشعار بعظمة الربّ وكماله وجماله
وإنّ هنا بياناً ثالثاً للعصمة لا
يخالف البيانين السالفين ولبّ هذا البيان يرجع إلى أنّ استشعار عظمة الخالق والتفاني في معرفته ، وحُبِّه وعشقِه ، صادُّ عن سلوك
ما يخالف رضاه ، وهذه الدرجة من الحبِّ والعشق ، أحد عوامل حصول تلك المرتبة من التقوى المتقدمة ، وهي لا تحصل إلّا للكاملين في المعرفة الإلهية .
إنّ الإنسان إذا عرف خالقه كمال
المعرفة الميسورة ، واستغرق في شهود كماله وجماله وجلاله ، وجد في نفسه انجذاباً نحوه ، وتعلّقاً خاصاً به ، على نحو لا يستبدل برضاه شيئاً . ويدفعه شوق المحبة إلى أن لا يبتغي سواه ، ويصبح كل ما يخالف أمره ورضاه منفوراً لديه ، مقبوحاً في نظره أشدَّ القبح ، وتلك هي درجة العصمة الكاملة ، ولا ينالها إلّا الأَوْحَدِيُّ من الناس .
وإلى هذا يشير الإمام عليٍّ عليه السلام
بقوله : « ما عبدتُك خوفاً من نارك ، ولا طمعاً في جنتك ، إنّما وجدتكَ أهلاً للعبادة فعبدتك » .
* * *
__________________
هذه التحليلات والبيانات الثلاثة التي
ذكرناها في حقيقة العصمة ، نظريةٌ واحدةٌ ، تُعْرِبُ بمجموعها عن أَنَّ العصمةَ قُوّةٌ في النفس تعصم الإنسان عن
مخالفة الرّب سبحانه وتعالى ، وهي معجونةٌ في ذات الإنسان الكامل وهُوِيَّتَهُ الخارجية .
نعم ، كل ما ذكرناه يرجع إلى العصمة
بأحد معانيها ، وهو المصونية عن المعصية والتمرّد على أوامر المولى ، وأمّا العصمة في مقام تلقّي الوحي أوّلاً ، والتَّحَفُّظ عليه ثانياً ، وإِبلاغه إلى الناس ثالثاً ، والعصمة عن الخطأ في الأُمور
الفردية والإجتماعية ، فلا بدّ لها من عامل آخر ، نتعرض له في الأبحاث الآتية ، بإذنه تعالى .
* * *
المقام الثاني ـ مبدأ ظهور فكرة العصمة
إنّ الكتب الكلامية ، قديمها وحديثها
مشحونة بالبحث عن العصمة ، فيقع السؤال في مبدأ ظهور هذه الفكرة بين المسلمين ، ومن يقف وراء طرحها في الأوساط الكلامية .
لا ريب في أنّ علماء اليهود ليسوا هم
المبدعين لهذه الفكرة ، لأنّهم يصفون أنبياءهم بأقبح الذنوب وأفظع المعاصي وهذا العهد القديم يسجّل لداود وسليمان وقبلهما يعقوب ، ما يندى له الجبين ويخجل القلم عن نقله ، فكيف يمكن بعد هذا أن يكون أحبار اليهود المظهرين للإسلام ، هم المبدعون لهذه الفكرة .
ولا شك أيضاً في أنّ علماء النصارى
ليسوا هم كذلك ، فإنّهم وإن كانوا ينزهون المسيح عن كلِّ عيب وشين ، إلّا أنّ ذلك ليس بملاك أنّه بشريٌّ أُرْسل لتعليم الإنسان وإرشاده ، بل بما هو « إلهٌ متجسِّد » ، أو « ثالثُ ثلاثةٍ » .
وبعد هذا فاعلم ، أنّ بعض المستشرقين
من رماة القول على عواهنه ، لَمّا
__________________
حار في تحديد زمن ومصدر نشوء فكرة
عصمة الأنبياء في الإسلام ، ذهب إلى أنّ هذه الفكرة مرجعها إلى تطور علم الكلام عند الشيعة ، وأنّهم أوّلُ من تطرق إلى بحثها في العقائد . ومردّ ذلك ـ يضيف هذا المستشرق ـ إلى أنّ الشيعة لكي يثبتوا أحقيّة إمامة أئمَّتهم وصحة دعوتهم في مقابل الخلفاء السنيين ، أظهروا عصمة الرسل بوصفهم أئمة أو هداة .
هذا ، والحقّ أنّ العصمة بمفهومها
العام قد وردت أوساط المسلمين من خلال الإمعان في الآية القرآنية التي يصف فيها الله تعالى ملائكته بقوله : ( عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّـهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ
مَا يُؤْمَرُونَ ) . ولن يجد الإنسان كلمة أوضح في العصمة من قوله : ( لَّا يَعْصُونَ اللَّـهَ مَا أَمَرَهُمْ ) .
كما أنّ الله سبحانه يصف الذكر
الحكيم بقوله : ( لَّا
يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) ، فإن هذا الوصف للقرآن عبارة أخرى عن المصونية من كل خطأ وتحريف .
بل إنّ الله سبحانه يصف منطق نبيه
بالعصمة إذ يقول عزّ من قائل : ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ
هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ ) .
ويقول : ( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا
رَأَىٰ ) . ويقول : ( مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ ) .
فالعصمة بمفهومها الوسيع ـ مع قطع
النظر عن موصوفها ـ مسألة أَلفتَ القرآن الكريم نظر الناس إليها ، فلا يحتاج معه علماء المسلمين إلى الأحبار والرهبان أو إلى نضاجة علم الكلام في عصر الإمام الصادق عليه السلام ، لينتقلوا إلى هذا الوصف .
__________________
وأي عتب بعد هذا على الشيعة إذا
اقتفوا في كلامهم أثر كتاب الله ، فوصفوا رُسُل الله وأنبياءه بما وصفهم به ربُّ الجلال والعزّة في كتابه .
ولا يمكن لأحد إنكار عناية الشيعة
بتنزيهه سبحانه عن وصمة الحدوث والجسمية ، وأنبياءه عن وصمة الذَّنْب والخلاف . بل إنّك لن تجد في الأُمة الإسلامية طائفةً تهتم بالتنزيه والتقديس مثلَ الشيعة ، سواء فيما يرجع إلى الخالق
عزّ وجل ، أو أنبيائه عليهم الصلاة والسلام .
* * *
المقام الثالث : دليل لزوم عصمة الأنبياء عن الذُّنوب
اختلف المتكلمون في حدود عصمة
الأنبياء على أقوال :
١ ـ قالت الأزارقة من الخوارج : يجوز
على الأنبياء الكفر ، أخذاً بمبدئهم من أنّ كلّ ذنب كُفْرٌ .
٢ ـ قالت الحشوية : « يجوز ارتكاب
الكبائر على الأنبياء قبل البعثة وبعدها » . وتمسكوا في ذلك بأباطيل لا أصل لها .
٣ ـ والمعتزلة ، منهم من قال : « يجوز
على الأنبياء الكبيرة قبل البعثة ولا يجوز بعدها » ، وهو أبو علي الجُبّائي . ومنهم من قال : « إنّ الأنبياء لا يجوز عليهم الكبيرة ، لا قبل البعثة ولا بعدها ، وتجوز عليهم الصغيرة إذا لم تكن
__________________
مُنَفِّرة ، لأنّ قلّة الثواب ممّا لا يقدح في صدق
الرسل ولا في القبول منهم » ، وهو القاضي عبد الجبار .
٤ ـ وأمّا الأشاعرة ، فقد قال
القوشجي : « المذهب عند محققي الأشاعرة منع الكبائر والصغائر الخسيسة بعد البعثة مطلقاً ، والصغائر غير الخسيسة عمداً لا سهواً » .
وأما قبلها ، فقد نقل القاضي الإيجي
ـ وهو من الأشاعرة ـ أنّ الجمهور قال : « لا يمتنع أن يصدر عنهم كبيرة » .
٥ ـ وقالت الإمامية : « لا يجوز على
الأنبياء صغيرة ولا كبيرة ، لا قبل البعثة ولا بعدها » .
هذه هي عمدة الأقوال المطروحة في
المسألة ، وهناك أقوال أخر ضربنا عن نقلها صفحاً . والأولى لنا أن نتبع الدليل ، ونميل معه كيفما يميل ، والأدلة
العقلية تثبت القول الأخير ، وإليك فيما يلي بيان أهمها .
__________________
الدليل الأول ـ الوثوق فرع العصمة
إنّ ثقة الناس بالأنبياء ، وبالتالي
حصول الغرض من بعثتهم ، إنّما هو رهن الإعتقاد بصحة مقالهم وسلامة أفعالهم ، وهذا بدوره فرع كونهم معصومين عن الخلاف والعصيان في السرّ والعلن من غير فرق بين معصية وأخرى ، ولا بين فترة من فترات حياتهم وأخرى .
وذلك لأنّ المبعوث إليه إذا جوّز
الكذب على النبي ، أو جوّز المعصية على وجه الإطلاق ، جوّز ذلك أيضاً في أمره ونهيه وأفعاله التي أمره باتباعه فيها . ومع
هذا الإحتمال لا ينقاد إلى امتثال أوامره ، فلا يحصل الغرض من البعثة ، لأنّه ـ بحكم عدم عصمته ـ يحتمل أن يكون كاذباً في أوامره ونواهيه ، وأن يتقول على الله ما لم يأمر به . ومع هذا الإحتمال ، لا يجد المبعوث إليه في قرارة نفسه حافزاً
إلى الإمتثال .
ومثلُ قولِه فعلُه ، فإنّ الأُمة
مأمورة باتباع أفعاله ، قال سبحانه : ( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّـهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّـهُ ﴾ . فإذا احتملنا كون عمله على خلاف رضاه سبحانه ، فكيف نجد في أنفسنا الباعث على اتّباعه .
وبالجملة ، بما أنّ النبيّ ، قولَه
وفعلَه ، حجّتان ، فيجب اتّباعه فيهما ، وهذا لا يحصل إلّا عند الوثوق بصحتهما ، ومع عدم حصول هذا الوثوق تنتفي بواعث الاتّباع ، فلا يحصل الغرض .
قال المحقق الطوسي في التجريد : « ويجب
في النبي العصمة ليحصل الوثوق ، فيحصل الغرض » .
ثم إنّ هنا أسئلة حول هذا
الدليل نطرحها ، واحداً بعد الآخر :
* السؤال الأول ـ يمكن أنْ يقال
: يكفي في الإعتماد على قول النبي ، مصونيته عن معصية واحدة ، هي الكذب ، دون سائر المعاصي .
__________________
والجواب : إنّ التفكيك بين
المعاصي فرضية محضة لا تصحّ أن تقع أساساً للتربية العامة ، لما فيها من الاشكالات .
أمّا أولاً ـ فلأنّ المصونية
عن المعاصي نتيجة إحدى العوامل التي أوعزنا إليها عند البحث عن حقيقة العصمة ، فإنّ تَمَّ وجودها أو وجود بعضها ، حصلت المصونية عن المعاصي برمتها ، ولا يعقل معها التفكيك بين الكذب وسائر المعاصي ، بأن يجتنب الكذب طيلة حياته ، بينما هو في الحين ذاته يسرح في سائر المعاصي ويمرح ، فإنّ العوامل التي تسوق الإنسان إلى اقترافها ، تسوقه أيضاً إلى اقتراف الكذب .
وأمّا ثانياً ـ فلأنّ التفكيك
بينهما لو صحّ في عالم الثبوت ، فلا يمكن إثباته في حقّ مدّعي النبوة بأن يثبت أنّه لا يكذب أبداً مع ركوبه سائر المعاصي ، فمن أين يحصل للأُمة العلم بأنّ مدّعي النبوة مع اقترافه لأنواع الفجور والمآثم لا يكذب أبداً ، بل حتى لو صرّح الداعي إلى الإصلاح بنفس هذا التفكيك ، لم يذعن له أحد ، لسريان الريب إلى نفس هذا التصريح .
* السؤال الثاني ـ إنّ أقصى ما يثبته
هذا الدليل ، هو لزوم نزاهة النبي عن اقتراف المعاصي في الظاهر وبين الناس ، وهذا لا يخالف عصيانه في الخلوات ، فإنّ ذاك القدر من النزاهة كافٍ في جلب الثقة .
والجواب : إنّ نسبة هذا
الأمر ( ركوب المعاصي في السرّ دون العلن ) إلى مدّعي النبوّة ، يهدم الثقة به من أساسها إذ ـ حينذاك ـ ما الذي يمنعه من أن يكذب ولا يُعلم كذبه ، فإذا تطرّق هذا الإحتمال إلى جميع أقواله ، انتفت الثقة فيه
بالكليّة .
أضف إلى ذلك ، أنّ من كانت
هذه حاله ، وإنْ أمكنه خداع الناس بتزيين الظاهر مدّة من الزمن ، إلّا أنّه لن يتمكن من البقاء على ذلك أبداً ، بل لن ينقضي
زمان إلّا وترتفع الأستار وتكشف البواطن ، فتظهر سوأته ويبدو عيبه .
* السؤال الثالث ـ إنّ هذا
الدليل لا يثبت أزيد من عصمة الأنبياء بعد البعثة لحصول الوثوق في تلك الفترة ، ولا يثبت لزوم عصمتهم قبلها .
والجواب من وجهين :
الأول : إنّ العصمة كما
عرفت غصن من دوحة التقوى ، ونتيجة العلم القطعي بعواقب المعاصي ، واستشعار عظمة الربّ . وهذه ليست وليدة ساعتها ، فينقلب غير المعصوم معصوماً بنزول جبرائيل عليه وإكسائه ثوب الرسالة ، بل هي ملكة نفسانية لا تحصل إلّا بعد رياضات ومجاهدات . فلا معنى حينئذٍ لجعل البعثة حداً في حياة النبي ، لأنّا إذا قلنا بعصمته ـ وهي ملكة نفسانية ـ وجب أن تمتد جذورها إلى ما قبل البعثة بزمن مديد .
الثاني : لو كانت سيرة
الداعي إلى الله ، قبل بعثته مخالفة لما هو عليه بعدها ، بأن يكون قبلها إنساناً سافلاً مرتكباً لقبائح الأعمال ، لا يحصل الوثوق بقوله وإن صار إنساناً مثالياً ، بل يتسرب الريب إلى كل ما يتفوّه به من أمرٍ ونهي
وإرشاد ، بحجة أنّه كان في طرف من حياته متهتكاً ، ملقياً جلباب الحياء ، فكيف انقلب إلى رجل مثالي معصوم ؟! .
لا شك أنّ لكل صفحة من صفحات عمر
الإنسان الداعي تأثيراً في جلب ثقة الناس وانقيادهم إليه ، ولو كانت ملطخة بالسواد في بعضها ، لما سكنت إليه النفوس . فَتَحَقُّقُ الغرض الكامل من البعثة رهن عصمته في جميع فترات عمره . يقول السيد المرتضى ـ رحمه الله ـ في الإجابة عن هذا السؤال :
« إنّا نعلم أنّ من نجوِّز عليه
الكفر والكبائر في حال من الأحوال ، وإن تاب منهما ، وخرج من استحقاق العقاب به ، لا نسكن إلى قبول قوله مثل سكوننا إلى من لا يجوز عليه ذلك في حال من الأحوال ، ولا على وجه من الوجوه . ولهذا لا يكون حال الواعظ لنا ، الداعي إلى الله تعالى ، ونحن نعرفه ، مقارناً للكبائر ، مرتكباً لعظيم الذنوب ، وإن كان قد فارق جميع ذلك وتاب منه عندنا وفي نفوسنا ، كحال من لم نعهد منه إلّا النزاهة والطهارة . ومعلوم ضرورةً الفرق بين هذين الرجلين فيما يقتضي السكون النفور ، ولهذا كثيراً ما يعيّر الناس من يعهدون منه القبائح المتقدمة ، بها ، وإن وقعت التوبة منها ، ويجعلون ذلك عيباً ونقصاً وقادحاً . وليس إذاً تجويز الكبائر قبل النبوة منخفضاً عن تجويزها في حال النبوة
وناقصاً عن رتبته في باب التنفير
ولأجل ذلك وجب أن لا يكون فيه شيء من التنفير ، لأنّ الشيئين قد يشتركان في التنفير ، وإن كان أحدهما أقوى من الآخر » .
* * *
الدليل الثاني ـ التربية رهن عمل المربي
إنّ الهدف العام الذي بعث لأجله
الأنبياء ، هو تزكية الناس وتربيتهم ، يقول سبحانه حاكياً عن لسان إبراهيم عليه السلام : ( رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ .
وإنّ التربية عن طريق الوعظ والإرشاد
وإن كانت مؤثرةً ، إلّا أن تأثير التربية بالعمل أشدّ وأعمق وآكد . وذلك أنّ التطابق بين مرحلتي القول والفعل هو العامل الرئيسي في إذعان الآخرين بأحقيَّة تعاليم المُصلح والمربّي . ولو كان هناك
انفكاك بينهما لانفض الناس من حوله ، وفقدت دعوته أي أثر في القلوب .
ولأجل ذلك يقول سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ
تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ، كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّـهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾ .
ولذاك أيضاً ، نرى في الحِكَم أنّ
العالِمَ إذا لم يعمل بعِلْمِه ، زَلَّت موعظتُه عن القلوب ، كما يَزِلُّ المطرُ عن الصفا .
وهذا الأصل التربوي يجرنا إلى القول
بأنّ التربية الكاملة المتوخاة من بعثة الأنبياء ، وترسخها في نفوس المتربين ، لا تحصل إلّا بمطابقة أعمالهم لأقوالهم .
__________________
قال القاضي عبد الجبار : « إنّ
النفوس لا تسكن إلى القبول ممن يخالف فعله قوله ، سكونَها إلى من كان منزهاً عن ذلك . فيجب أن لا يجوز في الأنبياء عليهم السلام ، إلّا ما نقوله من أنّهم منزهون عمّا يوجب العقاب والإستخفاف والخروج من ولاية الله تعالى إلى عداوته .
يبيّن ذلك أنّهم لو بعثوا للمنع من
الكبائر والمعاصي ، بالمنع والردع والتخويف ، فلا يجوز أن يكونوا مقدمين على مثل ذلك ، لأنّ المعلوم أنّ المُقْدِمَ على شيء ، لا يقبل منه منع الغير منه بالنهي والزجر والنكير ، وأنّ هذه الأحوال منه لا تؤثّر . . . ولو أنّ واعظاً انتصب يخوف من المعاصي مَنْ يشاهده مقدماً على مثلها ، لاستخفّ به وبوعظه » .
وقال في موضع آخر : « إنّ الواعظ
والمُذَكّر ، وإنّ غلب على ظننا من حاله أنّه مقلع تائب لما أظهره من أمارات التوبة والندامة ، حتى عرفنا من حاله الإنهماك
في الشرب والفجور من قبل ، لم يؤثّر وعظه عندنا ، كتأثير المستمر على النظافة والنزاهة في سائر أحواله » .
وهذا كما يوجب العصمة بعد البعثة ،
يقتضيها قبلها أيضاً ، لأنّ لسوابق الأشخاص ، وصحائف أعمالهم الماضية تأثيراً في قبول الناس كلامهم وإرشاداتهم وهداياتهم .
ثم إنّ هنا سؤالان مهمّان يطرحان حول
العصمة ، نفردهما بالذكر ، ونجيب عليهما قبل أن ننتقل إلى بيان العصمة عن المعصية والمخالفة المولوية ، في الذكر الحكيم .
* * *
__________________
سؤالان هامّان
السؤال الأول : هل العصمة تسلب الإختيار ؟
ربما يتوهّم أنّ العصمة تسلب من المعصوم
الحرية والإختيار ، وتقهره على ترك المعصية ، لتكون النتيجة انتفاء كلّ مكرمة ومحمدة ربما تنسب إليه لاجتنابه المعاصي والمآثم . وقد أُشير في أمالي السيد المرتضى إلى ما ذكرنا ، عند إيراد
السؤال التالي :
« ما حقيقة العصمة التي يعتقد وجوبها
للأنبياء والأئمة ، وهل هي معنى يضطرّ معه إلى الطاعة ، ويمنع عن المعصية ، فكيف يجوز الحمد لتارك المعصية ، والذمّ لفاعلها . وإن كان معنى يضاهي الإختيار ، فاذكروه ودلّوا على صحّة مطابقته له » .
جوابه
إنّ العصمة لا تسلب الإختيار عن
المعصوم بأيٍّ من التحاليل التي مضت ، ويتّضح ذلك بالنظر في العصمة النسبية المتحققة في العاديين من الناس ، فقد تقدم أنّ العالِم بوجود الطاقِة الكهربائية في الأسلاك العارية ، لا يمسّها ، والطبيب
لا يشرب سؤر المجذومين والمسلولين ، لعلمهما بعواقب فعلهما . ومع ذلك ، فكل منهما ـ في حال اجتنابه عن الفعل ـ قادر على الفعل لو غضّ طرفه عن حياته وخاطر بها ، ولكنهما لا يقومان به لحبِّ كلٍّ منهما صحتَه وسلامته .
إنّ كلّ واحد من العملين المزبورين
ممكن الصدور بالذات منهما ، غير أنّه ممتنع الصدور بالعرض والعادة ، لا ذاتاً وعقلاً ، وكم فرق بين المحالين . ففي المحال العادي يكون الصدور من الفاعل ممكناً بالذات ، غير أنّه يرجّح أحد الطرفين على الآخر بالدواعي الموجودة في ذهنه ، بخلاف الثاني ، فإنّ أصل الفعل ممتنع بذاته ، فلا يصدر لذلك ، لا لعدم الدواعي . وهذا نظير صدور القبيح من
__________________
الله سبحانه ، فإنّه ممكن بالذات ،
فيقع تحت إطار قدرته ، فبإمكانه تعالى إخلاد المطيع في نار جهنم ، لكنه لا يصدر منه ، لكونه مخالفاً للحكمة ، ومبائناً لما وعد
به .
وعلى ذلك فامتناع صدور الفعل من الإنسان
، حفظاً للأغراض والغايات ، لا يكون دليلاً على سلب الإختيار والقدرة .
وهكذا ، فالنبي المعصوم قادر على
اقتراف المعاصي ، بمقتضى ما أُعطي من القدرة والحرية ، غير أنّ تقواه العالية وعلمه بآثار المعاصي ، واستشعاره عظمة الخالق ، يصدّه عن ذلك ، فهو كالوالد العطوف الذي لا يُقدم على ذبح ولده ولو أُعطي ملء الأرض ذهباً ، وإن كان مع ذلك قادراً على قطع وتينه ، كما يقطع وتين عدوه .
يقول العلامة الطباطبائي : إنّ ملكة
العصمة لا تغيّر الطبيعة الإنسانية المختارة في أفعالها الإرادية ، ولا تُخرجها إلى ساحة الإجبار والإضطرار . كيف ، والعلم من مباديء الإختيار ، ومجرّد قوة العلم لا يوجب إلّا قوة الإرادة . كطالب السلامة إذا أيقن بكون مائع ما سمّاً قاتلاً من حينه ، فإنّه يمتنع باختياره من شربه ، ويشهد على ذلك قوله سبحانه : ( وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ *
ذَٰلِكَ هُدَى اللَّـهِ ، يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ، وَلَوْ
أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ ، والضمير في ( وَاجْتَبَيْنَاهُمْ ﴾ يرجع إلى الأنبياء . وفي الوقت نفسه تفيد الآية أنّ في إمكانهم أن يشركوا بالله ، غير أنّ الإجتباء
والهداية الإلهية ، يمنعان من ذلك .
ومثله قوله سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ
إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ، وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ،
إِنَّ اللَّـهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾ .
__________________
إلى غير ذلك من الآيات الصريحة في
قدرة الأنبياء على المخالفة » .
* * *
السؤال الثاني ـ العصمة موهبة فلا تكون مفخرة
الظاهر من كلمات المتكلمين أنّ
العصمة موهبة إلهية يتفضل بها سبحانه على من يشاء من عباده بعد وجود أرضيات صالحة في نفس المعصوم وقابليات مصححة لإفاضتها عليهم .
قال الشيخ المفيد : « العصمة تَفَضُّلٌ
من الله على من علم أنّه يتمسّك بعصمته » .
وقال السيد المرتضى : « العصمة لطف
الله الذي يفعله تعالى ، فيختار العبد عنده الإمتناع عن فعل القبيح » .
وفي الآيات القرآنية تلميحات وإشارات
إلى ذلك ، مثل :
قوله سبحانه : ( وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ *
إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ *
وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ *
وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِّنَ الْأَخْيَارِ ﴾ .
وقوله سبحانه : ( وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَىٰ
عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ، وَآتَيْنَاهُم مِّنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُّبِينٌ ﴾ والضمير يرجع إلى أنبياء بني إسرائيل .
فإنّ قولَه : ( إِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ
الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ ﴾ ، وقوله : ( وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَىٰ عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ ، يدلّان على أنّ النبوة والعصمة وإعطاء الآيات
__________________
لأصحابها ، من مواهب الله سبحانه
للأنبياء ومَنْ يقوم مقامهم من الأوصياء . وإذا كانت موهبة منه ، فلا تُعَدّ كمالاً ومفخرة للمعصوم ، فتعود كصفاء اللؤلؤ ، لا يستحق اللؤلؤ عليه حمداً وتحسيناً ، لأنّ الحمد والثناء إنما يصحّان للفعل الإختياري ، لا لما هو خارج عن الإختيار ، والفرض أنّ المعصوم وغيره في هذا المجال سواء ، لأنّ ذاك الكمال لو أُفيض على فرد آخر غيره لكان مثله .
جوابه
إنّ العصمة الإلهية لا تفاض على
المعصوم إلّا بعد وجود أرضيات صالحة في نفسه ، تقتضي إفاضة تلك الموهبة إليه ، وأمّا ما هي تلك الأرضيات ، والقابليات ، فخارج عن موضوع البحث ، غير أنّا نشير إليها إجمالاً .
إنّ القابليات التي تسوغ نزول
الموهبة الإلهية على قسمين :
قسم خارج عن اختيار المعصوم ، وقسم
واقع في إطار إرادته واختياره .
أمّا الأول ـ فهو عبارة
عمّا ينتقل إلى النبي من آبائه وأجداده عن طريق الوراثة ، فإنّ في ناموس الطبيعة والخلقة أنّ الأبناء يرثون ما في الآباء من
الصفات الظاهرية والباطنية ، فالشجاع يلد شجاعاً ، والجبان جباناً .
وإضافة إلى ذلك ، فإنّ هناك عاملاً
آخر لتكوُّن تلك القابليات في النفوس هو عامل التربية ، والأنبياء يتلقون الكمالات الموجودة في بيوتاتهم في ظل هذين العاملين ، فيكوّن ذلك في أنفسهم الأرضية الصالحة لإفاضة المواهب عليهم ، ومنها العصمة والنبوة .
وأمّا الثاني ـ فهو عبارة
عن المجاهدات الفردية والإجتماعية التي يقوم بها رجالات الوحي من أوائل شبابهم إلى أواخر كهولتهم ، من العبادة والرياضات النفسية إلى مقارعة الطغاة والظالمين .
__________________
فهذه العوامل الداخل بعضها في الإختيار
، والخارج بعضها الآخر عنه ، أوجدت مجتمعة في الأنبياء القابلية لإفاضة وصف العصمة عليهم ، فتكون العصمة عند ذاك مفخرة للمعصوم ، يستحق عليها التحسين والتبجيل .
يقول العلامة الطباطبائي : « إنّ
الله سبحانه خَلَقَ بعضَ عباده على استقامة الفطرة واعتدال الخلقة ، فنشؤا من باديء الأمر بأذهان وقّادة ، وإدراكات صحيحة ، ونفوس طاهرة ، وقلوب سليمة ، فنالوا بمجرّد صفاء الفطرة وسلامة النفس ، من نعمة الإخلاص ، ما ناله غيرهم بالإجتهاد والكسب ، بل أعلى وأرقى ، لطهارة داخلهم من التلوّث بأوساخ الموانع والمزاحمات . والظاهر أنّ هؤلاء هم المُخْلَصون ( بالفتح ) لله في مصطلح القرآن .
وقد نصّ القرآن على أنّ الله اجتباهم
أي خلقهم ، قال تعالى :
( وَاجْتَبَيْنَاهُمْ
وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ ، وقال : ( هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) » .
وما جاء في كلامه يشير إلى القابليات
الخارجة عن الإختيار ، ولكنك عرفت أنّ هناك مقدمات واقعة في اختيارهم فإذا انضمت تلك إلى هذه ، تتحقق الصلاحية المقتضية لإفاضة الموهبة الإلهية .
إجابة أخرى عن السؤال
وهناك إجابة أخرى وهي أنّ الله
سبحانه وقف على ضمائرهم ونيّاتهم ، ومستقبل أمرهم ، ومصير حالهم ، وعلم أنّهم ذوات مقدسة لو أُفيضت إليهم تلك الموهبة لاستعانوا بها في طريق الطاعة وترك المعصية بحرية واختيار . وهذا العلم كافٍ في تصحيح إفاضة تلك الموهبة عليهم من نعومة أظفارهم إلى أن أدْرجوا في أكفانهم ، بخلاف مَنْ يعلم مَنْ حاله خلاف ذلك .
__________________
وهذا الجواب يستفاد من كلمات الشيخ
المفيد والسيد المرتضى .
قال الشيخ المفيد : « العصمة تفضُّلٌ
من الله تعالى على من علم أنّه يتمسّك بعصمته » .
وقال السيد المرتضى : « كلُّ من علم
الله تعالى أنّ له لطفاً يختارُ عنده الامتناع من القبائح ، فإنّه لا بدّ أن يفعل به ، وإن لم يكن نبياً ولا إماماً ،
لأنّ التكليف يقتضي فعل اللُّطف على ما دُلّ عليه في مواضع كثيرة ، غير أنّه لا يمتنع
أن يكون في المكلفين من ليس في المعلوم أنّ شيئاً متى فُعِلَ اختار عنده الإمتناع من القبيح ، فيكون هذا المكلَّف لا عصمة له في المعلوم ولا لطف . وتكليف من لا لطف له يَحْسُنُ ولا يَقْبُحُ ، وإنّما القبيح منع اللطف فيمن له لطف ، مع ثبوت التكليف » .
وحاصل ما أفاد هو أنّ الملاك في
إفاضة هذا الفيض هو علمه سبحانه بحال الأفراد في المستقبل ، فكل من علم سبحانه أنّه لو أفيض عليه وصف العصمة لاختار عنده الإمتناع من القبائح ، فعندئذٍ تفاض عليه العصمة وإن لم يكن نبياً ولا إماماً وأمّا من علم أنّه متى أُفيضت إليه تلك الموهبة لما اختار عندها الإمتناع
عن القبيح ، فلا يفيضها عليه لعدم استحقاقه لها .
وعلى ضوء ذلك فوصفُ العصمة موهبةٌ
إلهية تفاض على من يعلم من حاله أنّه باختياره ينتفع منها في ترك القبائح ، فيعدّ مفخرة قابلة للتحسين والتكريم ، وقد شبّه الشيخ المفيد العصمة بالحبل الذي يعطى للغريق ليتشبث به فيسلم ، فالغريق مختار في التقاط الحبل والنجاة ، أو عدمه والغرق .
ويترتب على ما ذكره السيد عدم انحصار
العصمة بالنبي والوحي المنصوص عليه ، بل تشمل كلَّ مَنْ علم الله سبحانه أنّه ينتفع منها في طريق كسب رضاه .
* * *
__________________
العصمة في الكتاب العزيز
يصف الذكر الحكيم الأنبياء بالعصمة
بلطائف البيان ودقائقه ، مما يحتاج في الوقوف عليه إلى التدبّر بإمعان ، ولأجل إيقاف الباحث على نماذج من هذه التوصيفات مع مراعاة ما يقتضيه المقام ، نكتفي بالبحث عن آيتين منها .
الآية الأولى : قال عزّ وجل
: ( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ
وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ
وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَارُونَ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ *
وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ
الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى
الْعَالَمِينَ *
وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ
مُّسْتَقِيمٍ *
ذَٰلِكَ هُدَى اللَّـهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ . . . أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّـهُ
فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْعَالَمِينَ ﴾ .
وجه الدلالة
إنّ الآية الأخيرة تصف الأنبياء
بأنّهم مهديّون بهداية الله سبحانه ، على وجه يجعلهم القُدوة والأُسوة ، هذا من جانب .
ومن جانب آخر ، نرى أنّه سبحانه يُصرّح
بأنّ من شملته الهداية الإلهية لا مُضِلَّ له ، يقول تعالى : ( وَمَن يُضْلِلِ اللَّـهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ، وَمَن يَهْدِ
اللَّـهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ . . . . ) .
وفي آية أخرى يُصرِّح بأنّ حقيقة
العصيان ، الضلالة والإنحراف عن الجادة الوسطى ، يقول عزّ مِنْ قائل : ( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا
تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ *
وَأَنِ اعْبُدُونِي هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ *
وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلًّا
__________________
كَثِيرًا
أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ ﴾ .
وبملاحظة هذه الطوائف الثلاث من
الآيات ، تُستَنْتَجُ العصمةُ بوضوح ، وذلك كما يلي :
إنّ اللّفيف الأول من الآيات يصف
الأنبياء بأنّهم القُدوة والأُسوة ، والمهديّون من الأُمة .
واللَّفيف الثاني يصرّح بأنّ من
شملته العناية الإلهية لا ضلالة ولا مُضِلّ له .
واللَّفيف الثالث يصرّح بأنّ العصيان
نفسُ الضلالة ، حيث قال : ( وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ ﴾ . وما كانت ضلالتُهم إلّا لأجل عصيانِهم ومخالفتهم لأوامره تعالى ، ونواهيه .
فإذا كان الأنبياء مهديون بهداية
الله ، وَمَنْ هداه الله لا تَتَطَرَّقُ إليه الضلالة ، وكانت المعصية نفس الضلالة ، فينتج أنّ المعصية لا سبيل لها إلى الأنبياء .
وإن أردت أن تفرغ ما تفيده هذه
الآيات في قالب الشكل المنطقي فقل :
* النبي قد شملته الهداية
الإلهية .
* ومن شملته الهداية الإلهية
، لا تتطرق إليه الضلالة .
* فينتج : النبي لا تتطرق
إليه الضلالة .
وبما أنّ الضلالة والمعصية متساويان
، فيصحّ أن يقال في النتيجة : إنّ النبي لا تتطرق إليه المعصية .
الآية الثانية ـ قال عزّ وجل
: ( وَمَن يُطِعِ اللَّـهَ وَالرَّسُولَ
فَأُولَـٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّـهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ
وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـٰئِكَ
__________________
رَفِيقًا ) .
ففي هذه الآية المباركة يَعُدّ الله
تعالى الأنبياءَ من الذين أنعم عليهم ، هذا من جانب .
ومن جانب آخر يصف سبحانه من أنعم
عليهم بأنّهم غير مغضوب عليهم ولا ضالّين ، في قوله : ( صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ
عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ﴾ .
فيستنتج من ضمّ هاتين الآيتين إلى
بعضهما ، عصمة الأنبياء بوضوح ، لأنّ العاصي يشمله غضب الربّ ، ويكون ضالّاً بقدر عصيانه . فإذا كان الأنبياء ممن أنعم الله عليهم ، والذين أنعم الله عليهم لا يشملهم غضب الربّ ( غير المغضوب عليهم الخ ) ، فيكونُ الأنبياءُ منزّهين عن المعصية ، وبريئين عن المخالفة .
وإنْ شئت إفراغ الإستدلال في قالب
الشكل المنطقي ، فقل :
* إنّ الأنبياء ، قد أنعم
الله عليهم .
* وكل من أنعم الله عليه ،
فهو غير مغضوب عليه ولا ضالّ .
* فينتج : إنّ الأنبياءَ غيرُ
مغضوب عليهم ولا ضالين .
ولما كان العصيان يلازم الغضب
والضلال بمقداره ، فمن كان بعيداً عن جلب غضب الربّ إليه ، والضلالة ، يكون بريئاً عن المعصية .
وستعرف فيما يأتي أنّ جميع الأُمة
ليسوا شهداء ، وإنّما عبّر بالجمع وأريد منه لفيف من الأُمة قد دلّ الدليل على عصمتهم .
وأمّا استلزام هذا الإستدلال ، عصمة
غير الأنبياء والشهداء من الصديقين والصالحين ، فلا إشكال فيه كما عرفت عند نقل كلام السيد المرتضى فيما تقدم .
__________________
ونظن أنّ الآيتين كافيتين في إذعان
الباحث بعصمة الأنبياء من جهة النقل أيضاً
.
نعم ، إنّ هناك لفيفاً من الآيات
ربما يُستظهر منه عدم عصمة الأنبياء على الإطلاق أولاً ، وعدم عصمة عدّة منهم كـ « آدم » و « يونس » ثانياً . غير أنّ دراسة هذه الأصناف من الآيات خروج عن طور البحث ، فإنّها أبحاث قرآنية تطلب من مظانّها .
وإلى هنا يتمّ البحث في المرحلة الأُولى
من مراحل العصمة ، أَعني العصمة عن المعصية والمخالفة المولوية ، ويقع الكلام بعدها في المرحلة الثانية ، وهي العصمة في مقام تبليغ الرسالة .
* * *
__________________

المرتبة الثانية للعصمة
عصمة
النبي في تبليغ الرسالة
ذهب جمهور المتكلمين من السنّة
والشيعة إلى عصمة الأنبياء في هذه المرحلة ، ونُسب إلى أبي بكر الباقلاني ( المتوفى سنة ٤٠٣ ) تجويز الخطأ في إبلاغ الرسالة سهواً ونسياناً ، لا عمداً وقصداً .
قال صاحب المواقف : « أجمع أهل الملل
والشرائع على عصمتهم عن تعمُّد الكذب فيما دلّت المعجزة على صدقهم فيه ، كدعوى الرسالة وما يبلغونه عن الله . وفي جواز صدوره عنهم على سبيل السهو والنسيان خلاف ، فمنعه الأُستاذ وكثير من الأئمة ، لدلالة المعجزة على صدقهم ، وجوّزه القاضي مصيراً منه إلى عدم دخوله في التصديق المقصود بالمعجزة » .
هذا رأي الأشاعرة ، وأمّا المعتزلة
فإليك رأيهم بلسان القاضي عبد الجبّار ، قال :
« إنّا لا نجوز عليه ( النبي ) السهو
والغلط فيما يؤدّيه عن الله تعالى ، وإنّما نجوّز عليه أن يسهو في فعل قد بيّنه من قبل ، وأدّى ما يلزم فيه حتى لم يغاير منه شيئاً . فإذا فعله مرة لمصالحه ، لم يمتنع أن يقع فيه السهو والغلط . ولذلك لم
يشتبه على أحد الحال في أنّ الذي وقع منه من القيام في الثانية هو سهو ، وكذلك ما وقع
__________________
منه في خبر ذي اليدين إلى غير ذلك »
.
أقول : نظر القاضي في الإستثناء
هو أنّ النبي لا يسهو في التبليغ ، ولكن يعرض له السهو في عالم التطبيق . وقد نسبوا إليه السهو في الصلاة حيث سلّم في الركعة الثانية ، فاعترض عليه ذو اليدين : « أَقَصَرْتَ الصلاة أم نسيت » ، وسيوافيك الحال في هذا الإستثناء عند البحث في المرحلة الثالثة .
ثم إنّا نقول : إنّ العصمة في مرحلة
تبليغ الرسالة على وجهين :
أ ـ العصمة عن الكذب ، وهو
داخل في العصمة عن المعصية ، التي تقدم البرهان عليها .
ب ـ العصمة عن الخطأ سهواً
في تلقّي الوحي وتحمّله ( وعيه ) وأدائه ، وهذا هو الذي نركز البحث عليه .
إنّ الدليل الأول ، أعني كون حصول
الوثوق مرهوناً بالعصمة ، كما يُثبت عصمة الأنبياء عن المعصية ، فكذلك يُثبت عصمتهم في هذا المجال . ولأجل ذلك اكتفى به المحقق الطوسي في إثبات العصمة على الإطلاق ، إِنْ في مقام الفعل والعمل ، أو في مقام التبليغ والرسالة .
توضيح ذلك : إنّ الهدف الأسمى
من بعث الأنبياء ، هو هداية الناس إلى التعاليم الإلهية التي ترشدهم إلى طريق السعادة ، ولا تحصل هذه الغاية إلّا بإيمان
الناس بصدق المبعوثين وإذعانهم بكونهم مرسلين من جانبه سبحانه وأَنّ كلامهم وأقوالهم ، كلامه وقوله سبحانه . وهذا الإذعان لا يحصل إلّا بعد إذعان آخر ، وهو اعتقاد مصونيتهم عن الخطأ في المراحل الثلاث من مراحل تبليغ الرسالة ، أعني : التلقّي ، والتحمّل ، والأداء .
القرآن وعصمة الأنبياء في تبليغ الرسالة
إنّ في الذكر الحكيم آياتٍ تدلّ على
مصونية النبي الأعظم في مجال تبليغ
__________________
الرسالة بجوانبها المختلفة ، من
تلقي الوحي فوعيه وحفظه ، إلى إبلاغه .
* الآية الأولى : قوله تعالى : ( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً
فَبَعَثَ اللَّـهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ، وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ
بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ، وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ
الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ، وَاللَّـهُ
يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ .
إنّ هذه الآية تصرّح بأنّ من أهداف
بعثة الأنبياء ، القضاء بين الناس فيما اختلفوا فيه . وليس المراد من القضاء إلّا القضاء بالحق ، وهو فرع وصول الحق إلى القاضي بلا تغيير ولا تحريف .
ثم إنّ نتيجة القضاء هي هداية من آمَنَ
مِنَ الناس إلى الحق بإذنه ، كما هو صريح قوله : ( فَهَدَى
اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ﴾ . والهادي وإن كان هو الله سبحانه في الحقيقة ، لكن الهداية تتحقق عن طريق النبي بوساطته . وتحقق الهداية منه ، فرع كونه واقفاً على الحق بكماله وتمامه . من دون تحريف ولا زيادة أو نقصان . وكل ذلك يستلزم عصمة النبي في تلقّي الوحي وتحمله وإبلاغه إلى الناس .
والحاصل أنّ الآية تدلّ
على أنّ النبي يقضي بالحق أوّلاً ، ويهدي المؤمنين إليه ثانياً . وهذا يستلزم كونه واقفاً على الحق على ما هو عليه ، ومبلّغاً له على
نحو ما تلقّاه ووعاه .
* الآية الثانية : قوله تعالى :
( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ
هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ ) .
فالآية تصرِّح بأنّ النبي
لا يتكلم بداعي الهوى ، والمراد منه إمّا جميع ما يصدر عنه من القول في مجالات الحياة على اختلافها ، كما هو مقتضى إطلاقها ، أو
__________________
خصوص ما يحكيه عن الله سبحانه .
وعلى كلا التقديرين فهي تدلّ على صيانته وعصمته في مجال تبليغ الرسالة : تلقّي الوحي ووعيه وإبلاغه .
* الآية الثالثة ـ قال تعالى : ( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ
عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا *
إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ ، فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ
وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا *
لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ
وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا ) .
وموضع الدلالة من الآية :
أ ـ قوله : ( مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ﴾ .
ب ـ قوله : ( مِنْ خَلْفِهِ ﴾ .
ج ـ قوله : ( أَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ ﴾ .
فبالإمعان في هذه النقاط الثلاث ،
يظهر أنّ مشيئة الله تعالى الحكيمة ، تعلّقت على حفظ الوحي من لدن أخذه إلى زمن تبليغه ، وإليك توضيح الدلالة بتوضيح مفردات الآية .
١ ـ قوله : ( فَلَا يُظْهِرُ ﴾ . الإظهار من باب الإفعال بمعنى الإعلان ، كما في قوله سبحانه : ( وَأَظْهَرَهُ
اللَّـهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ . . . ) .
٢ ـ لفظ « مِنْ » في قوله : ( مِن رَّسُولٍ ﴾ ، بيانية . تبيّن المَرْضيَّ عند الله . فالرسول هو الذي ارتضاه الله تعالى واختاره ليُعَرِّفه على الغيب .
٣ ـ الضمير في قوله : ( فَإِنَّهُ يَسْلُكُ ﴾ ، يرجع إلى الله تعالى . كما أنّ الضمير المستتر في قوله : ( يَسْلُكُ ﴾ ، يرجع إليه سبحانه أيضاً . و « يسلك » بمعنى يجعل .
__________________
٤ ـ الضمير في قوله : ( بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ ﴾ ، يرجع إلى الرسول ، والمراد من الأول ما بَيْنه وبين الناس ، وهم المُرْسَلُ إليهم ، فإنّ النبي يواجه الناس ،
وهم في مواجهته وبين يديه ، كما أنّ المراد من الثاني ، ما بين الرسول ومصدر الوحي الذي هو الله سبحانه . وإنّما عبّر بالخَلْفِ ، لأنّ النبي بُعث من الله إلى
الناس ، فالله خَلْفَه والناس أمامه بهذا الإعتبار .
٥ ـ قوله : ( رَصَدًا ) الرصد هو الحارس الحافظ ، يطلق على الجمع والمفرد .
والتدبّر في مفاد الآية يثبت بأنّ
الوحي مصون ومحفوظ من لدن إفاضته من الله سبحانه ، إلى وصوله إلى الناس ، فإنّها تَعْتَبر الوحي فيضاً متصلاً من المرسِل
( بالكسر ) إلى المرسَل إليهم .
إنّ الآية تصف طريق بلوغ الوحي إلى
الرسل ، ومنهم إلى الناس ، بأنّه محروس بالحَفَظَة يمنعون تطرق أي خلل وانحراف فيه ، حتى يبلغ الناس كما أُنزل من الله تعالى . ويعلم هذا بوضوح مما تذكره الآية من أنّ الله سبحانه يجعل بين الرسول ومن أُرسل إليهم ( من بين يده ) وبَيْنَهُ ومصدرِ الوحي ( ومن خلفه ) ، رصداً مراقبين ، هم الملائكة . وليس الهدف من جعلهم في هذه المواضع إلّا الحفاظ على الوحي من كل تخليط وتشويش ، بالزيادة والنقصان ، التي ربما يقع النبي فيها من ناحية الشياطين بلا واسطة ، أو معها . فإذا كان الوحي بهذه المثابة من الحراسة والمصونية في كلا المرحلتين ، أعني المتقدمة ـ وهي من حين الإفاضة من المرسِل إلى حين البلوغ إلى النبي ـ والمتأخرة ـ وهي إبلاغه إلى الناس ـ كان كذلك فيما بينهما ، أعني مرحلة الحفظ والوعي ، فالنبي فيها مصون عن النسيان أو تدخل الواهمة لتغييره وتبديله . ولولا ذاك لما كان لحفظ الوحي بين يديه أيّ معنى .
ثم إنّه سبحانه يؤكّد ذلك بجملتين أُخريين
:
الأُولى ، قوله : ( لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا
رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ ﴾ ، فإِنَّها
علّة لجعل الرصد بين يدي الرسول وخلفه . والمراد من العلم ، التحقق الخارجي ، على حدّ قوله سبحانه : ( . . . فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّـهُ الَّذِينَ صَدَقُوا
وَلَيَعْلَمَنَّ
الْكَاذِبِينَ
﴾ ، أي ليتحقق إبلاغ
رسالات الله على ما هي عليه من غير تبديل ولا تغيير ، وهو ـ أي تحقق الإبلاغ على ما هو عليه ـ يتوقف على جعل الرصد والحفظة عليه في المراحل الثلاث جميعها : الأخذ والوعي والإبلاغ .
والثانية ، قوله : ( وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ ﴾ . فإنّها أيضاً جملة مؤكدة لجعل الحراسة ، ومعناها أنّه سبحانه يحيط بما لدى الأنبياء من الوحي ، فيكون في أمانٍ من تطرّق التحريف .
وأمّا قوله : ( وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ
عَدَدًا ) ، فَمَسوقٌ
لإفادة عموم علمه بكلِّ شيء ، من غير فرق بَيْنَ الوحي المُلْقى إلى الرسول وغيره .
وخلاصة الكلام : إنّ الوحي
كالماء الصافي الزلال ، المنحدر من معينه ، ينزل من مصدره وهو خزائن علم الله تعالى ، إلى النبي ، ومنه إلى الناس ، من دون أن يتطرق إليه التحريف والتبديل من جانب الشياطين أو القوى النفسانية في النبي ، بل يصل كما صدر بلا أدنى تغيير .
قال العلامة الطباطبائي ، بعد بحثه
في مفردات الآية على غرار ما ذكرناه : « إنّ الرسول مؤيَّدٌ بالعصمة في أخذ الوحي من ربّه ، وفي حفظه ، وفي تبليغه إلى الناس ، مصونٌ من الخطأ في الجهات الثلاث جميعاً . لما مرّ من دلالة الآية على أنّ
ما نزّل الله من دينه على الناس من طريق الوحي ، مصون في جميع مراحله إلى أن ينتهي إلى الناس . ومن مراحله ، مرحلة أخذ الوحي وحفظه وتبليغه ، والتبليغ يعمّ القول والفعل ، فإنّ في الفعل تبليغاً ، كما في القول . فالرسول معصوم عن المعصية باقتراف المحرمات وترك الواجبات الدينية ، لأنّ في ذلك تبليغاً لما يناقض الدين . فهو معصوم من فعل المعصية ، كما أنّه معصوم من الخطأ في أخذ الوحي وحفظه وتبليغه قولاً » .
وفي ضوء هذه الآية الكريمة يمكن
القول بأنّ مصونية الأنبياء عن الخطأ
__________________
والإشتباه فيما يرجع إلى الرسالة
والوحي ، لا يرجع إلى ذواتهم وكيانات وجودهم ، بل إلى عامل أو عوامل ، خارجة عن ذواتهم ، كالملائكة الرَّصّد ، الحافظين لهم من كل خطأ وزَلَّة ، والآخذين بأيديهم في مظانّ مزالقِ الألسن والأيدي والأقدام وسائر الجوارح .
* * *

المرتبة الثالثة للعصمة
العصمة
عن الخطأ في تطبيق الشريعة والأمور العادية
إنّ صيانة النبي عن الخطأ والإشتباه
في مجال تطبيق الشريعة والأمور العادية الفردية المرتبطة بحياته الشخصية ، ممّا طرح في علم الكلام ، وطال البحث فيه بين المتكلمين . والخطأ في تطبيق الشريعة ، مثل أنْ يسهو في صلاته ، أو يغلط في إجراء الحدود . والخطأ في الأمور العادية مثل خطئه في مقدار دَيْنه للناس ، كما لو
اقترض ديناراً وظنّ أنّه ديناران أو نصفُ دينار .
والحقُّ في هذه المسألة واضح غايتَه
، ذلك أنّ الدليل العقلي الدالّ على لزوم عصمة النبي في مجال تلقّي الوحي وتحمّله وأدائه إلى الناس ، دالٌّ ـ بعينه ـ على عصمته عن الخطأ في تطبيق الشريعة وأُموره الفردية ، حرفاً بحرف . ولكن زيادة في البيان ، نقول :
إنّ الغاية المتوخاة من بعث الأنبياء
هي هداية الناس إلى السعادة . ولا تحصل هذه الغاية إلّا بكسب اعتمادهم وثقتهم المطلقة بصحة ما يقوله الأنبياء ويحكونه عن الله تعالى . ولكن ما قولك فيما لو شاهد الناس نبيَّهم يسهو في تطبيق الشريعة التي أمرهم بها ، أو يغلط في أُموره الفردية والاجتماعية ؟ . هل من رَيْبٍ
في أنّ الشّكّ سيجد طريقاً رحبة للتسرب إلى أذهان الناس في ما يدخل في مجال الوحي والرسالة ؟ بل لن يبقى شيء ممّا جاء به هذا النبي إلّا وتَطْرُقُهُ علامات الإستفهام ، ولسان حال الناس يقول : « هل ما يحكيه عن الله تعالى من
الوظائف ، هي وظائف إلهية حقّاً ؟
أمّ أنّها مزيج من الأخطاء والإشتباهات ؟ وبأي دليل هو لا يخطيء في مجال الوحي ، إن كان يخطيء ويسهو في المجالَيْن الآخرَيْن ؟ » . وهذا الحديث النفسي والشعور الداخلي ، إذا تعمّق في أذهان الناس ، سوف يَسْلُب اعتمادهم على النبي ، وتنتفي بالتالي النتيجة المطلوبة من بعثه .
نعم إنّ التفكيك بين صيانة النبي في
مجال الوحي ، وصيانته في سائر المجالات ، وإن كان أمراً ممكناً عقلاً ، لكنه كذلك بالنسبة إلى عقول الناضحين في الأبحاث الكلامية ، وأمّا عامة الناس ورعاعُهُم الذين يُشكِّلون أغلبية المجتمع ، فإنّهم غير قادرين على التفكيك بين تَيْنِك المرحلتين ، بل يجعلون السهو
في إحداهما دليلاً على إمكان تسرُّب السهو إلى المرحلة الأُخرى .
فلا بدّ ـ لسدّ هذا الباب الذي ينافي
الغاية المطلوبة من إرسال الرسل ـ من أن يكون النبي مصوناً عن الخطأ في عامة المراحل ، سواء في حقل الوحي أم تطبيق الشريعة أم في الأُمور الفردية والاجتماعية . وهذا الذي ذكرناه مقتضى الدليل العقلي القائم في المقام . والقرآن الكريم يدعم ذلك ببيان خاص ، نورده فيما يلي .
القرآن وعصمة النبي عن الخطأ
تستفاد عصمة الأنبياء عن الخطأ في مجال
تطبيق الشريعة والأُمور الفردية من عدة من الآيات نكتفي في المقام بالبحث في آيتين منها . ولأجل توضيح دلالتهما ، نذكر كلا منها ، مع ما يرتبط بها من الآيات .
الآية الأولى ـ قال سبحانه
: ( إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ
الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّـهُ وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ) .
وقال سبحانه أيضاً : ( وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّـهِ عَلَيْكَ
وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن
__________________
يُضِلُّوكَ ،
وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ ، وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ ، وَأَنزَلَ
اللَّـهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ، وَكَانَ فَضْلُ
اللَّـهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ) .
الإستدلال بهاتين الآيتين وإن كان لا
يتوقف على معرفة أسباب نزولهما ، إلّا أنّ الإحاطة بأسباب النزول توجب ظهورَهُما في مفادهما .
إنّ مجموع ما ورد حول هاتين الآيتين
وغيرهما ، من أسباب النزول ، متفق على أنّها نزلت في شكوى رُفعت إلى النبيّ صلى الله عليه وآله ، وكان كلٌّ من المتخاصمين يسعى ليبرء نفسه ويلقي التهمة على الآخر . لكن كان إلى جانب أحدهما رجل طليق اللِّسان حاول أن يخدع النبي الأكرم بإثارة عواطفه على المتهم البريء ، ليقضي على خلاف الحق ، فعند ذلك نزلت الآيات ورَفَعَتِ النِّقاب عن وجه الحقيقة ، وعُرِفَ المُحِقُّ من المُبْطِل .
والدقة في فقرات الآية الثانية ،
يوقفنا على مدى صيانة النبي الأكرم وعصمته عن السهو والخطأ ، فإنّها مؤلفة من فقرات أربع كلٌّ منها يشير إلى أمر خاص .
١ ـ ( وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّـهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت
طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ ) .
٢ ـ ( وَأَنزَلَ اللَّـهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ) .
٣ ـ ( وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ) .
٤ ـ ( وَكَانَ فَضْلُ اللَّـهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ) .
وإليك فيما يلي بيان ما تهدف إليه
هذه الآيات وكيفية استنتاج العصمة منها .
الفقرة الأُولى تدلّ على أنّ نفس
النبي بمجرّدها لا تصونه من الضلال ، أي من القضاء على خلاف الحق ، وإنّما الصائن له هو الله سبحانه ، فلَوْلا فضلُ الله
__________________
ورحمته لهمّت طائفة أن يرضوه
بالدفاع عن الخائن ، غير أنّ فضله العظيم على النبي هو الذي صدّه عن فعل ذلك ، وأبطل أمرهم الذي كان سيؤدّي إلى إضلاله .
وبما أنّ رعاية الله سبحانه وفضله
الجسيم على النبي ليسا مقصورين على حال دون حال ، أو وقت دون آخر ، بل هو مشمول لهما ومحاطٌ بهما في جميع لحظات حياته ، فلن يصيبَه من إضلالهم شيء ، وإنّما يضرّون بذلك أنْفُسَهم ، كما قال عزّ وجلّ : ( وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا
يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ ) .
والفقرة الثانية تشير إلى مصادر حكمه
ومدارك قضائه ، وأنّه لا يصدر في هذا المجال إلّا عن التعليم الإلهي .
ولما كان هذا النوع من العلم الكلّي
أحد ركني القضاء ، وهو لوحده لا يفي بالقضاء بالحق ، وإنّما يتمّ القضاء بالحق بتمييز الصغريات ، وهو تشخيص المُحقّ من المُبْطل ، والخائن من الأمين ، والزاني من العفيف ، أتى بالفقرة الثالثة ، فقال : ( وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ) . ومقتضى العطف ، مغايرة المعطوف ( وعَلَّمَكَ . . ) للمعطوف عليه ( وأَنْزَل . . ) فإذا كان المعطوفُ عليه ناظراً
إلى تمكّنه من الركن الأول ـ وهو العلم بالاحكام الكليّة الواردة في الكتاب والسنّة ـ يكون المعطوفُ ناظراً إلى الركن الثاني للقضاء الصحيح وهو العلم بالموضوعات والجزئيات .
فالعلم بالحكم الشرعي أولاً ، وتشخيص
الصغريات وتمييز الموضوعات ثانياً ، جناحان للقاضي يحلّق بهما في سماء القضاء بالحق ، من دون أن يجنح إلى جانب الباطل أو يسقط في هوّة الضلال . والفقرة الأولى تشير إلى الجانب الأول ، والثانية إلى الثاني .
ومجمل ما تقدم أنّ الآية الأُولى
تدلّ على أنّ الهدف من إنزال الكتاب ، القضاء بين الناس بما أراه الله سبحانه ، ولا يمكن أن يكون ما أراه سبحانه أمراً خاطئاً ، بل هو صواب على الإطلاق ، هذا من جانب .
ومن جانب آخر إنّ القضاء بالحق ـ الذي
هو الغاية المتوخاة من إنزال
الكتاب ـ تتوقف على العلم بالكبريات
والصغريات ، وهو ما أشارت إلى تحققه في النبي ، الفَقرتان الثانية والثالثة من الآية الثانية .
قال العلامة الطباطبائي : « المراد
من قوله سبحانه : ( وَعَلَّمَكَ
مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ) ، ليس علمه
بالكتاب والحكمة ، فإنّ مورد الآية قضاء النبي في الحوادث الواقعة ، والدعاوى المرفوعة إليه ، برأيه الخاص ، وليس ذلك من الكتاب والحكمة بشيء ، وإن كان متوقفاً عليهما ، بل المراد رأيه ونظره الخاص » .
فَيْنْتِجُ كلُّ ذلك أنّ النبي ـ لأجل
عميم فضله سبحانه ـ مصون في مقام القضاء عن الخطأ والسهو .
ولما كان هنا موضع توهّم وهو أنّ
رعاية الله لنبيّه تختصّ بموردٍ دون مورد ، دفع ذلك التوهّم بالفقرة الرابعة وقال : ( وكَانَ فَضْلُ اللَّـهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ) حتى لا يتوهم اختصاص فضله عليه بواقعة دون أخرى ، بل مقتضى عظمة الفضل سعة شموله لكل الوقائع والحوادث ، سواء أكانت من باب المرافعات أم من الأمور العادية الشخصية .
ولا كلام أعلى وأغزر عاطفة من قوله
سبحانه في حق حبيبه : ( وكَانَ فَضْلُ اللَّـهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ) .
الآية الثانية ـ قال
سبحانه : ( وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ
أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا . . ) .
إنّ الشهادة الواردة في الآية ، من
الحقائق القُرآنية التي تكرر ورودها في الذكر الحكيم .
قال تعالى : ( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ
أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَـٰؤُلَاءِ شَهِيدًا ) .
__________________
وقال تعالى : ( وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ
شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ) .
وقال تعالى : ( وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ
بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ . . . ) .
وهذه الشهادة يتحملها الشهداء في
الدنيا ويُؤدُّونها في الآخرة ، ويدلّ على ذلك :
قوله سبحانه : ( وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا
دُمْتُ فِيهِمْ ، فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) .
وقوله سبحانه : ( وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ
عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ) .
فمجموع هذه الآيات يدلّ على أنّ في
كلّ أُمَّةٍ شهداء على أعمالها ، وأنّ الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله على رأسهم ، هذا من جانب .
ومن جانب آخر ، إنّ الشهادة هنا ليست
على صور الأعمال والأفعال ، فإنّها غير كافية في القضاء الأُخروي ، بل المشهود عليه هو حقائق أعمال الأُمة : الإيمان والكفر والنفاق ، والرياء والإخلاص . . . ومن المعلوم أنّ هذه المشهودات لا يمكن تشخيصها والشهادة عليها عن طريق الحواس الخمس ، لأنّها لا يمكنها أن تستكشف حقائق الأعمال ، وما يستبطه الإنسان . فيجب أن يكون الأنبياء مجهزين بحسّ خاص يقدرون معه على الشهادة على ما لا يُدْرَك بالبصر ولا بسائر الحواس ، وهذا هو الذي نسميه بحبل العصمة ، وكلُّ ذلك بأمر من الله سبحانه وإِذْنِه ، والمُجَهَّز بهذا الحسّ لا يخطىء ولا يسهو .
وإن شئت قلت : إنّ الشهادة هنا ، لو
كانت خاطئة ، للزم عقاب المطيع أو إثابة المجرم ، وهو قبيح عقلاً ، لا سيما الأول ، فيجب أن تكون شهادة الشاهد
__________________
مصونة عن الخطأ والإشتباه حتى تكون
منزهة عمّا يترتب عليهما من القبيح .
وهذه الآيات ، وإن كانت لا تثبت إلّا
مصونيّته فيما يرتبط بالشهادة ، ولكن التفصيل غير موجود في كلمات القوم .
تبيّن إلى هنا أنّ الأنبياء ـ بحكم
العقل والكتاب ـ مصونون عن الخطأ ، والزلل في تطبيق الشريعة أوّلاً ، وجميع أُمورهم الفردية والإجتماعية ثانياً .
* * *
أدلة المجوزين للخطأ على الأنبياء
جوّز جماعة من المتكلمين الخطأ والإشتباه
على الأنبياء ، واستندوا في ذلك إلى آيات ، غفلوا عن أهدافها . ونحن نذكرها على وجه نميط الستر عنها .
١ ـ قال سبحانه : ( وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ
يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ، وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ
الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَىٰ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) .
فقد استدلّ بها المخطئة بأنّ الخطاب
للنبي صلى الله عليه وآله ، فالنتيجة أنّ النبي ربما يطرأ عليه النسيان ، وهو لا يجتمع مع المصونية من الخطأ .
إلّا أنّهم غفلوا عن أنّ وزان الآية
وزان كثير من الآيات الأُخر التي يخاطب فيها النبي ولكن يكون المقصود من الخطاب أبناء الأُمة .
ومن هذا القبيل ، قوله سبحانه : ( وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى
الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ
الْخَاسِرِينَ ) . فإنّ هذه الآية ـ ونظائرها ـ تركّز على الجانب التربوي من الشريعة ، والغاية منها تعريف الناس بوظيفتهم وتكليفهم تجاه الباري سبحانه ، ببيان أنّ نبي الأُمة إذا كان محكوماً
بهذه
__________________
التكاليف ومخاطَباً بها ، فغيره
أولى بأن يكون محكوماً بها . وهذه الآيات تجري مجرى قول القائل : « إيّاك أَعني واسْمَعي يا جارة » .
فالمراد من الآية المستدلّ بها هو
حثّ المؤمنين على اجتناب الحضور في المجالس التي يخاض فيها في آيات الله سبحانه . فالنهي عن الخوض تكليفٌ عام يشترك فيه النبي وغيره ، وكون الخطاب للنبي لا ينافي كون المقصود هو الأُمة . ويدلّ على ذلك قوله سبحانه في سورة النساء : ( وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّـهِ يُكْفَرُ بِهَا ، وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا
تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ، إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ ، إِنَّ اللَّـهَ جَامِعُ
الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ) .
فإنّ هذه الآية مدنية ، والآية المستدلّ
بها مكية ، وإذا قورنت إحداهما بالأُخرى يستنتج منه أنّ الحكم النازل سابقاً متوجه إلى المؤمنين ، وأنّ الخطاب
فيه وإن كان للنبي ، إلّا أنّ المقصود إنشاءُ حُكْمٍ كلّيٍّ شاملٍ لجميع المكلَّفين من
غير فرق بين النبي وغيره . ومع ما ذكرناه ، لا يكون في الآية دلالة على تحقق النسيان من النبي ، لأنّها إنّما تدلّ لو كان الخطاب مختصاً بالنبي لا يتعداه .
٢ ـ قال سبحانه : ( وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي
فَاعِلٌ ذَٰلِكَ غَدًا *
إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّـهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي
لِأَقْرَبَ مِنْ هَـٰذَا رَشَدًا ) .
المراد من النسيان الإستثناء ، وهو
قول « إلّا أن يشاء الله » . والآية استدلالاً وجواباً ـ كسابقتها .
٣ ـ قال سبحانه : ( سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَىٰ *
إِلَّا مَا شَاءَ اللَّـهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَىٰ ) .
ومعنى الآية : إنّا سنجعلك قارئاً
بإلهامِكَ القِراءة ، فلا تنسى ما تَقْرؤه .
__________________
استدلّت المخطئة بالإستثناء الوارد
بعدها على إمكان النسيان ، غير أنّهم غفلوا عن نكتة الإستثناء ، وهي عين النكتة في الإستثناء الوارد في قوله تعالى : ( وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي
الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) .
إنّ قوله سبحانه : ( عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) ، يَدُلُّ على أنّ الخلود في الجنة لا يقطع ولا يُجَزّ ، بل هو عطاءٌ موصول من الربّ ، ما دامت الجنة باقية ، ومع ذلك استثنى سبحانه الخلود بقوله : ( إِلَّا مَا شَاءَ ) .
وليس ذلك لأنّ الخلود يُقطع ، بل للإشارة إلى أنّ قدرة الله سبحانه بعد إدخالهم الجنة باقية بعدُ ، فالله سبحانه
ـ مع كونهم مخلَّدين في الجنة ـ قادر على إخراجهم منها .
وعلى ما ذكرنا يعلم وجه الإستثناء في
الآية التي وقعت مورد الإستدلال ، فإنّه يفيد بقاء القدرة الإلهية على إطلاقها ، وأنّ عطية الله ( جَعْل النبي قارئاً
لا ينسى ) لا تسلب القدرة عن الله سبحانه على إنسائه ، بل هو عليه قادر متى شاء ، وإن كان لا يشاء ذلك .
وبدراسة هذه الآيات التي قدمناها ،
تقف على تحليل كثير من الآيات التي نُسب فيها النسيان إلى غير النبي الأعظم من الأنبياء ، مثل قوله سبحانه :
أ ـ ( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ
وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ) .
ب ـ ( فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا . .
) الوارد في موسى
وفتاه .
ج ـ ( . . . لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ . . . ) وهو قول موسى للخضر .
وغير ذلك من الآيات .
__________________
الرأي السائد بين المتكلمين حول سهو النبي
الظاهر من المتكلمين الأشاعرة
والمعتزلة ، تجويزهم السهو على الأنبياء إجمالاً ، إمّا في مقام إبلاغ الدين ، كالباقلاني ، وإمّا في غيره كما
عليه غيره . قال الإيجي في المواقف .
« أمّا الكبائر عمداً ، فمنعه الجمهور ، والأكثر على امتناعه سمعاً . وقالت المعتزلة ـ بناء على أُصولهم ـ يمتنع ذلك عقلاً . وأمّا سهواً فجوزه الأكثرون .
وأمّا الصغائر عمداً ، فجوّزه
الجمهور إلّا الجُبّائي . وأمّا سهواً فهو جائز اتّفاقاً ، إلّا الصغائر الخسية ، كسرقة حبة أو لقمة » .
وجوّز القاضي عبد الجبار صدور
الصغائر منهم عمداً ، قال في شرح الأُصول الخمسة : « وأمّا الصغائر التي لا حَظَّ لها إلّا في تقليل الثواب دون التنفير ، فإنّها مجوّزة على الأنبياء ولا مانع يمنع منها » .
فإذا كانت الكبائر من الذنوب جائزة
عليهم سهواً عند الأكثر ، أو كان صدور الصغائر منها جائزاً عليهم سهواً بالإتفاق ، بل عمداً عند القاضي عبد الجبار كما تقدم في كلامه ، فمن الأولى أن يجوزوا عليهم السهو في غير الذنوب ، أعني في مجال تطبيق الشريعة أو أعمالهم الفردية والاجتماعية ، كيف لا وقد روى الجمهور في الصحاح والمسانيد وقوع السهو من النبي ، كما يجيء بيانه ونقاشه .
وأمّا الإمامية ، فالمحققون منهم
متفقون على نفي السهو عن الأنبياء مطلقاً حتى في تطبيق الشريعة كالصلاة ، وإليك فيما يلي نقل نصوصهم في هذا الشأن .
__________________
قال الشيخ المفيد في رسالته التي يرد
فيها على مَنْ ذَهَبَ إلى تجويز السهو على النبي والأئمة في العبادة ما هذا لفظه :
« الحديث الذي روته الناصبة والمقلّدة
من الشيعة أنّ النبي سهى في صلاته فسلّم ركعتين ناسياً ، فلما نُبِّه على سهوه أضاف إليهما ركعتين ثم سجد سجدتي السهو ، من أخبار الآحاد التي لا تثمر علماً ولا توجب عملاً » .
وقال الشيخ الطوسي بعدما روى حديث أنّ
رسول الله صلى الله عليه وآله ما سجد سجدتي السهو قطّ ، قال بأنّ الذي يفتي به هو ما تضمنه هذا الخبر ، لا الأخبار التي قَدَّم ذكرَها وفيها أنّ النبي سها فسجد .
وقال المحقق في المختصر النافع :
« والحقُّ رفع منصب الإمامة عن السهو في العبادة » ورفع منصب الإمامة عنه السهو يقتضي رفع منصب النبوة عنه .
وقال المحقق الطوسي في التجريد : « ويجب
في النبي العصمة ليحصل الوثوق فيحصل الغرض . . و ( يجب ) كمال العقل ، والذكاء والفطنة ، وقوّة لرأي ، وعدم السهو » .
وقال العلامة في التذكرة ما هذا
لفظه : « وَخَبَرُ ذي اليدَيْن عندنا باطل ، لأنّ النبي المعصوم لا يجوز عليه السهو » .
__________________
وقال أيضاً في الرسالة السَّعْدِيَّة
: « لو جاز عليه السهو والخطأ ، لجاز ذلك في جميع أقواله وأفعاله ، فلم يبق وثوق بإخباراته عن الله تعالى ، ولا بالشرائع والأديان ، لجواز أن يزيد فيها وينقص ، فتنتفي فائدة البعثة ، ومِنَ المعلوم بالضرورة أنّ وصف النبي بالعصمة أكمل وأحسن من وصفه بضدها ، فيجب المصير إليه ، لما فيه من دفع الضرر المظنون بل المعلوم » .
وقال الشهيد الأول في الذكرى ، بعد
ذكره خبر ذي اليدين : « وهو متروكٌ بين الإمامية لقيام الدليل العقلي على عصمة النبي عن السهو » .
وقال الفاضل المقداد : « لا يجوز على
النبي صلى الله عليه وآله السهو مطلقاً ، أي في الشرع وغيره . أمّا في الشرع ، فلجواز أنّ لا يؤدّي جميع ما أُمر به ، فلا يحصل المقصود من البعثة . وأمّا في غيره ، فإنّه يُنَفِّر » .
وقال الشيخ بهاء الدين العاملي ـ عندما سأله سائل
عن قول ابن بابويه إنّ النبي قد سهى ـ : « بل ابن بابويه قد سها ، فإنّه أولى بالسهو من النبي » .
وقد ألّف غير واحد من الأصحاب كتباً
ورسائل في نفي السهو عن النبي منها : رسالة الشيخ المفيد ، ورسالة إسحاق بن الحسن الأقْرائي ، ورسالة الحر العاملي المُسمّاة بـ « التنبيه بالمعلوم من البرهان على تنزيه المعصوم عن
السهو والنسيان » . وقد فصل العلامة المجلسي ( م ١١١١ ) في البحار ، الكلام في
__________________
المسألة ، واطنب في بيان شُذوذ تلك
الأخبار التي استند إليها القائلون بالسهو وناقشها بأدلّة متعددة السيد عبد الله شبّر ( ت ١١٨٨ ـ م ١٢٤٢ ) في كتابيه : حقّ اليقين ومصابيح الأنوار .
نعم هناك من الإمامية من جوّز السهو
على النبي ، وإليك نصوصهم :
١ ـ قال محمد بن الحسن بن الوليد : « أوّل درجة في
الغلو ، نفي السهو عن النبي صلى الله عليه وآله ، فلو جاز أن تُرَدَّ الأخبار الواردة في هذا المعنى
، لجاز أن تردّ جميع الأخبار ، وفي ردّها إبطال الدين والشريعة ، وأنّا أحتسب الأجر في تأليف كتاب منفرد في إثبات سهو النبي والرَّدِّ على منكريه إن شاء الله تعالى » .
٢ ـ قال الصدوق : « إنّ الغُلاة
والمفوضة ـ لعنهم الله ـ ينكرون سهو النبي ، ويقولون : لو جاز أن يسهو في الصلاة ، لجاز أن يسهو في التبليغ ، لأنّ الصلاة عليه ، فريضة ، كما أنّ التبليغ عليه فريضة » .
ثم ردّ عليه بأنّ سهو النبي ليس
كسهونا ، لأنّ سهوه من الله عزّ وجل ، وإنّما أسهاه ليعلم أنّه بشر مخلوق ، فلا يتّخذ ربّاً معبوداً دونه . وليعلم الناسُ
بسهوِه حُكْمَ السهو متى سهوا . وسَهْوُنا من الشيطان ، وليس للشيطان على النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام سلطان ، ( إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ ﴾ و .
٣ ـ وقال الطبرسي في تفسير قوله
سبحانه : ( وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ
__________________
الشَّيْطَانُ
. . ) : « نُقل عن الجبّائي أنّه قال :
في هذه الآية دلالة على بطلان قول الإمامية في أنّ النسيان لا يجوز على الأنبياء » .
ثم أجاب عليه بقوله : « وهذا القول
غير صحيح ، لأنّ الإمامية لا يجوزون السهو عليهم فيما يؤدّونه عن الله ، فأمّا ما سواه ، فقد جوّزوا عليهم أن ينسوه أو
يسهوا عنه ، ما لم يؤدّ ذلك إلى إخلال بالعقل » .
إلى هنا وقفت على أنّ المشهور بين
علماء الإمامية هو القول الأول دون الثاني الذي هجر بعد الطبرسي ، ولم ينبث به أحد ، إلّا بعض المشايخ المعاصرين ، فعمد إلى جمع الروايات الدالّة على طروء السهو والنسيان على النبي والأئمة . ولعلّه جامع غير معتقد به .
والقضاء بين القولين يتوقف على نقل
بعض ما أثر من الروايات الدالّة على سهو النبي ومناقشتها :
١ ـ روى الشيخان ( البخاري ومسلم )
وأبو داود ـ واللفظ للأخير ـ عن عمران بن حصين (رض) : « إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله كان في مسير له ، فناموا عن صلاة الفجر ، فاستيقظوا بِحَرِّ الشمس ، فقال عليه الصلاة والسلام : تنحو عن هذا المكان ثم أمر بلالاً فأذّن ثم توضأوا وصلّوا ركعتي الفجر . ثم أمر بلالاً فأقام الصلاة ، فصلّى بهم صلاة الصبح » .
وروى الشيخ الصدوق نَحْوَهُ .
__________________
٢ ـ روى الشيخان وغيرهما عن أبي
هريرة قال : « صلّى لنا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) صلاة الفجر ، فسلّم في ركعتين . فقام ذو اليدين فقال : أقصرت الصلاة يا رسول الله أم نسيت ؟ .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله
) : كلُّ ذلك لم يكن .
فقال : قد كان بعض ذلك يا رسول الله !
.
فأقبل رسول الله صلى الله عليه وآله
على الناس فقال : أصدق ذو اليدين ؟ .
فقالوا : نعم ، يا رسول الله .
فأتمّ رسول الله ما بقي من الصلاة ،
ثم سجد سجدتين وهو جالس بعد التسليم » .
وروى نحوه الكليني بسند معتبر .
وبعد تقديم هذين النموذجين من
الروايات نقول : إنّ الحق هو نفي السهو عن النبي ، وعدم الإعتداد بهذه الروايات لوجوه :
الوجه الأول ـ إنّ هذه
الروايات معارضة لظاهر القرآن الدالّ على أنّ النبي مصونٌ عن السهو ، على ما عرفت .
الوجه الثاني ـ إنّ هذه
الروايات معارضة لأحاديث كثيرة تدلّ على صيانة النبي عن السهو . وقد جمعها المحدث الحرّ العاملي في كتابه .
الوجه الثالث ـ إنّ ما
روته الإمامية من أخبار السهو ، أكثر أسانيده ضعيفة ، وأمّا النقي منها فهو خبر واحد لا يصحّ الإعتماد عليه في باب
__________________
الأُصول
الوجه الرابع ـ إنّها معارِضة
للأدلّة العقلية التي تقدم ذكرها .
وأمّا ما رواه أصحاب الصحاح ، فمع
غضّ النظر عن أسناده ، فإنّه مضطرب جداً في متونه ، وذلك :
١ ـ فقد روى البخاري : صلّى رسول
الله ( صلى الله عليه وآله ) الظهر ركعتين فقيل صلّيت ركعتين . فصلّى ركعتين . . . الخ .
٢ ـ وفي رواية أخرى له : صلّى بنا
رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الظهر والعصر ركعتين ، فسلّم . فقال له ذو اليدين : الصلاة يا رسول الله ، أنقصت ؟ . . . الخ .
٣ ـ وروى مسلم عن أبي هُريرة ، يقول
: صلّى لنا النبي ( صلى الله عليه وآله ) صلاة العصر ، فسلّم في ركعتين ، فقام ذو اليدين فقال : أقصرت الصلاة يا رسول الله أم نسيت ؟ . فقال : كل ذلك لم يكن . . . الخ .
٤ ـ وفي رواية أُخرى له : إنّ رسول
الله ( صلى الله عليه وآله ) صلّى ركعتين من صلاة الظهر ثم سلّم ، فأتاه رجل من بني سُلَيْم ، فقال : يا رسول الله أقصرت الصلاة أم نسيت . . . الخ .
٥ ـ وروى البخاري وأبو داود ومسلم عن
عمران بن حصين أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) صلّى العصر وسلّم في ثلاث ركعات ودخل منزله فقام له رجل يقال له الخرباق وكان في يده طول . . . الخ .
٦ ـ أخرج أبو داود ، قال : صلّى بنا
رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أحد صلاتي العشاء ـ الظهر أو العصر ـ قال فصلّى بنا ركعتين ثم سلّم ، فقام إلى خشبة في مقدم المسجد فوضع يده عليها ، إحداهما على الأُخرى ، يعرف في وجهه
__________________
الغضب ، ثم خرج سرعان الناس وهم
يقولون : قصرت الصلاة ، قصرت الصلاة . وفي الناس أبو بكر وعمر ، فهابا أن يكلماه . وقام رجل كان رسول الله يسمّيه ذا اليدين ، فقال : يا رسول الله ، أنسيت أم قصرت الصلاة ؟ فقال : لم أنس ولم تقصر الصلاة . قال : بل نسيت يا رسول الله ! فأقبل رسول الله على القوم فقال : أصدق ذو اليدين . فأومأوا : أي نعم . فرجع رسول الله إلى مقامه ، فصلّى الركعتين الباقيتين ثم سلّم . . الخ .
٧ ـ وأخرج البخاري ومسلم عن ابن
مسعود قال : « صلّى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فزاد أو نقص ـ شكّ بعض الرواة ـ والصحيح أنّه زاد ، فلما سلّم قيل له يا رسول الله ، أَحَدَثَ في الصلاة شيء ؟ قال : وما ذاك ؟ قالوا : فإنّك صلّيت خمساً . فانفتل ثم سجد سجدتين ثم سلّم » .
وفي أُخرى لمسلم قال : « صلّى بنا
رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) خمساً ، فقلنا يا رسول الله ، أزيد في الصلاة ؟ قال : وما ذاك ؟ قالوا : صلّيت خمساً ، فقال : إنّما أنا بشر مثلكم ، أذكر كما تذكرون وأنسى كما تنسون . . الخ .
وروى الترمذي نحوها مع قوله : « صلى
الظهر خمساً » . وأخرجه أبو داود والترمذي .
فيلاحظ فيما ذكرناه ما يلي :
أولاً ـ اضطراب الروايات
في تعيين الصلاة التي سهى فيها رسول الله ، فهي بين معيّنة للظهر ( الرواية الأولى والرابعة ) أو معينة للعصر ( الثالثة والخامسة ) ، أو مُرَدّدة بينهما ( الثانية والسادسة ) .
وثانياً ـ إنّ الرواية
الخامسة تدلّ على نسيانه ركعة واحدة ، بخلاف السابعة فتدلّ على زيادته ركعة ، وبخلاف بقية الروايات فتدلّ على نسيانه ركعتين .
وثالثاً ـ قوله : « لم أَنْس
ولَمْ تَقْصُر الصلاة » ، في الرواية الخامسة . أو قوله في الثالثة : « كل ذلك لم يكن » ، غير لائق بالرسول ، لأنّه لو كان يجوز على نفسه السهو لما نفاه عن نفسه بنحو القطع ، بل لقال : أظنّ أنّه لم يكن كذلك .
ورابعاً ـ إنّ إنكاره قول
ذي اليدين مستلزم لتجويز سهوين عليه ، مكان تجويز سهو واحد ، وهو أيضاً عجيب في موردٍ واحدٍ .
وخامساً ـ الظاهر أنّ سهو
الرسول في الصلاة ، واقعةٌ واحدةٌ ، فاختلاف السهو بين الزيادة والنقصية ، واختلاف الإعتراض بين قولهم : « أَقَصَرْتَ الصلاة أم نسيت ؟ » ، وقولهم « أَزِيدَ في الصلاة ؟ » ، كما في رواية الترمذي من القسم السابع من الروايات ، تناقض واضح .
وسادساً ـ اضطراب الروايات
في بيان زمن التذكير ، فإنّ في بعضها أنّه كان بعد الصلاة بلا فصل ، وفي أُخرى بعد قيامه من الصلاة واستناده إلى خشبة في المسجد ، وفي ثالثة بعد دخوله حجرته . فما هذا التناقض مع كون الواقعة واحدة كما يظهر من مجموع ما تهدف إليه الروايات .
وسابعاً ـ في ذيل الرواية
الخامسة ، أنّه بعدما ذكر ذو اليدين صنيع رسول الله من السهو : فخرج غضبان يجرّ رِدائه حتى انتهى إلى الناس فقال : أصدق هذا ، قالوا : نعم . فصلّى ركعة ثم سجد سجدتين .
ففي هذه الرواية ذكر الغضب بعد تنبيه
ذي اليدين ، بينما في الرواية التي أخرجها أبو داود أنّ الغضب كان متقدِّماً على تنبيهه .
وثامناً ـ ما منشأ غضب
رسول الله ؟ هل هو تنبيه ذي اليدين ؟! لا وجه له . مع أنّ الغضب لهذا الشأن لا يناسب قوله سبحانه في حقّ نبيه : ( وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ ) .
وَمُجْمل المقال إنّ هذه الروايات مع ما فيها ممّا
ذكرناه ولم نذكره ، لا يصحّ أن تقع سناداً للعقيدة .
* * *
__________________
التنزّه
عن المُنَفِّرات
قد وقفت فيما تقدم على أنّ قيادة
الناس وهدايتهم ، من الأُمور الصعبة التي تتطلب في المدير والقائد أن يتمتع بصفات عالية تسهّل توفيقه للغرض الذي بعث له ، أو نَهَضَ لتحقيقه . وقد عرفت أنّ مسؤولية هداية البشر في جميع النواحي ملقاةٌ على عاتق الأنبياء ، وأنّ العصمة ـ بمراتبها ـ إحدى الصفات اللازمة فيهم . وهناك صفات أخرى يجب اتّصاف الأنبياء بها تحصيلاً لغرضهم ، التي لولاها لما وصلوا إليه . ويجمعها التنزّه عن كل ما يوجب تنفر الناس ، والتحلّي بكلّ ما يوجب انجذابهم إليهم . ونحن نشير إلى بعض عناوين هذه الصفات مع تفسيرها إجمالاً .
١ ـ التنزّه عن دناءة الآباء وعهر الأُمهات
لا شكّ أنّ القائد إذا كان وليد بيت
طيب طاهر ، معروفٍ بالعفاف والتُّقى ، فإنّ ذلك يكون له تأثيره الخاص في انسياق الناس وميلهم إليه . بخلاف ما إذا كان وليد بيت صِفر من القيم الأخلاقية سواء في جانب الآباء أو الأُمهات ، فإنّ أفئدة الناس تنفضُّ من وليده بحجة أنّ الأبناء يرثون صفات الآباء والأُمهات .
٢ ـ سلامة الخِلْقة
ومن العوامل الباعثة على اجتماع
الناس حول القائد ، سلامته في بدنه من التشوّه ، ومن الأمراض التي يستوحش الناس معها من التعاطي مع المصاب بها ، كالجذام والبرص .
٣ ـ كمال الخُلُق
إنّ لحسن الخُلُق وكماله تأثيراً
خاصاً في جذب الناس ، كما أنّ لِقَسْوَة القلب وفظاظة المعاملة تَأثيراً في تنفير الناس ، فلهذا يلزم أن يكون الأنبياء في القمة
من صفاء النفس ولين الطباع ، والتواضع والنزاهة عن الحسد والتجبّر وما شاكل ذلك .
قال سبحانه : ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّـهِ
لِنتَ لَهُمْ ، وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ، فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ
فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّـهِ إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ) .
٤ ـ كمال العقل
كما أنّ للعقل سهماً وافراً في حقل
القيادة ، فيجب أن يكون الأنبياء على درجة عالية من الذكاء والفطنة والرأي القاطع لا يتردَّدون في أُمورهم بعد تبيُّنها
.
وقد ذكرنا سابقاً قوله عليه السلام .
« ولا بعث الله نبياً ولا رسولاً حتى يستكمل العقل ، ويكون عقله أفضل من عقُول أُمته » .
٥ ـ حُسْنُ السِيرة
إنّ البسطاء من الناس ـ وما أكثر
وجودهم في الأُمم ـ ينظرون إلى البواطن
__________________
من خلال الظواهر ، فيستكشفون سرائر
الأنبياء من ظواهر أفعالهم . ولذلك يجب أن يكون الأنبياء في معاشراتهم مجانبين للأراذل والسفلة وأرباب الهزل ، مبرَّئين عن المشاحنات والمشاجرات التافهة وغير ذلك ممّا يسقط شأن القائد في أعين الناس .
وما عددناه من الصفات هنا ، نماذج من
الأصل الكلِّي الذي صدَّرنا به البحث وهو اتّصاف الأنبياء بكل ما يوجب توفيقهم في هداية الناس ، الذي هو الغرض من بعثتهم . ولعلّ هناك مصاديق أُخرى لها دخالة في هذا المضمار ، لم نذكرها فيما ذكرناه .
* * *

علم
النبي بالمعارف والأحكام
إنّ الهدف الأسمى من بعث الأنبياء ،
هداية الناس إلى المعارف العليا الراجعة إلى المبدأ والمعاد ، وما يضمن سعادتهم في حياتهم الدنيوية والأُخروية بالعمل بالأحكام الشرعية . ولأجل تحقق تلك الغاية يشترط أن يكون النبي على كمال المعرفة بتلك المعارف والأحكام ، مُسْتَقِياً لها من معينها ومصدرها ، معرفةً
لا جهلَ فيها ، ولا شك ولا شُبْهَة .
وعلى ذلك ليس الأنبياء مجتهدين في
استنباط المعارف والأحكام والوظائف العملية ، فإنّه أمر لا يخلو عن الجهل والإشتباه والخطأ . فما أوهن ما ذكره القوشجي في تصحيح تحريم المتعتين من جانب الخليفة عمر تجاه تحليل النبي لها ، بقوله : « إنّ ذلك ليس ممّا يوجب قَدْحاً فيه ( الخليفة ) ، فإنّ مخالفة المجتهد
لغيره في المسائل الإجتهادية ليس ببدع !! » .
فيلاحظ عليه
أولاً ـ إنّ النصوص القُرآنية
تضافرت على أنّ ما يحكم به النبي ، عن وحي إلهي لا يتطرق إليه السهو والخطأ ، كما قال عزّ من قائل : ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ
__________________
الْهَوَىٰ
* إِنْ
هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ ﴾ .
وقال تعالى : ( قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ
مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ ﴾ .
وقال تعالى : ( قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ
الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ ، إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ ﴾ .
وقد حظر الله تعالى على نبيّه العجل
ولو بحركة لسان ، فقال عزّ وجل : ( لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ
لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ
عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ *
فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ *
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ﴾ .
فحينئذٍ لا يسوغ لأحد مخالفته ولا
الإجتهاد في مقابل قضائه وحكمه أصلاً . كيف يكون ذلك ، وقد قال سبحانه : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّـهُ
وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ، وَمَن
يَعْصِ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا ) .
وقال سبحانه : ( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ
يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) .
إلى غير ذلك من الآيات التي تبعث على
طاعة النبي والأخذ بما أتى به ، والإنتهاء عمّا نهى عنه ، قال تعالى : ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) .
فإنّ كل ذلك يكشف عن أنّ كل ما
يؤدّيه النبي لا يُؤدّيه من تلقاء نفسه ،
__________________
ولا دخالة لفكره وشعوره فيه ،
وإنّما هو إفاضة من ربّ العالمين إلى ذهنه ولوح عقله ليؤدّيه إلى الأُمة بلا تصرف ولا تدخّل .
وثانياً ـ إنّ الإجتهاد
عبارة عن استفراغ الوسع في فهم حكم الله تعالى من الحجج الأربع ومنها السنّة ، وهي قول النبي وفعله وتقريره . فإذا كان هذا معنى الإجتهاد ، فما معنى مخالفة الحجة باسم الاجتهاد . إن هو إلّا اجتهاد في مقابل الوحي ، وهو ساقط قطعاً .
* * *

الكَفاءة
في القيادة
إنّ القيادة والحكم يقتضيان اعتبار
سلسلة من الشروط في القائد والحاكم ، وبدونها تنحرف القيادة عن طريق الحق وتنتهي بالأمة إلى أسوء مصير .
وقد كانت قيادة الأنبياء على نوعين :
الأول ـ القيادة المعنوية
المحضة ، وهي هداية الأُمّة إلى عبادة الله سبحانه وإبعادهم عن عبادة الأصنام والأوثان ، وإرشادهم إلى وظائفهم أمام الله سبحانه . وهذا القسم لا يشترط فيه من المؤهّلات أزيد ممّا أسلفنا سوى الإستقامة في طريق الدعوة والصبر على النائبات ومعاداة المخالفين وأذاهم .
الثاني ـ القيادة بجميع شؤونها
، وهي هداية الأُمّة في حياتها الفردية والاجتماعية ، الدنيوية والأُخروية ، كما كان الحال في نبوة الكليم وداود وسليمان
، فلم تقتصر دعوتهم على الجهات المعنوية بل قاموا بتشكيل الممالك والدول ونشر دعوتهم بالجهاد بالنفس والنفيس ، ويكفي في ذلك مراجعة ما جاء حولهم في القُرآن الكريم .
قال سبحانه : ( فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّـهِ
وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّـهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ) .
__________________
ومن المعلوم أن القيادة في هذا
الإطار الواسع لا تتسنى إلّا لمن كان ذا مواهب كثيرة في الإدارة والتدبير وحسن الولاية ، يقدر معها على القيام بتلك المسؤولية . ويجمعها ما يسميه السياسيون في مصطلح اليوم بالنضج العقلي والرُشد السياسي ، وبدونه لن يقوم للحكومة عمود ، ولن يَخْضَرّ لها عود . ولأجل ذلك أثر عن النبي الأكرم أنّه قال : « لا تَصْلُح الإمامة إلّا لرجل فيه ثلاث خصال :
١ ـ ورع يحجزه عن معاصي الله .
٢ ـ وحِلْمٌ يملك به غضبه .
٣ ـ وَحُسْنُ الولاية على من يلي حتى
يكون كالأب الرحيم » .
وقال الإمام علي عليه السلام : « أَيُّها
الناس إنّ أحقَّ الناس بهذا الأمر أقْوَمُهم ( وفي رواية أقواهم ) وأعلمهم بأمر الله ، فإن شَغَب شاغِبٌ أُستُعْتِب
، وإِنْ أبى قُوتِل » .
* * *
ثم إنّ جمعاً من المتكلمين التزموا
بوجود سمات أخرى في الأنبياء وراء ما ذكرنا ، ككونهم أشجع الناس وأعلمهم بالعلوم كافة ، وأزهدهم وأعبدهم ونحو ذلك .
ولعلّ هذه الأوصاف من سمات من بعث
لكافة الناس وهم على المشهور خمسة : نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، والنبي الأعظم عليهم السلام . وعلى التحقيق هو نبي الإسلام صلى الله عليه وآله .
إلى هنا تمّ البحث عن النُبوّة
العامة التي تختص أبحاثها بنبُوّة نبي معين ، وحان وقت البحث عن النبوة الخاصة ، المختصة مباحثها بنبوة نبي الإسلام ، محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله .
* * *
__________________


الدعوة
الإسلامية
١ ـ ظروفها :
في الوقت الذي عمّت سيادة الشرك
وعبادة الأصنام أكثر ربوع المعمورة ، وكانت الشعوب المتحضرة في بلاد الفُرس والروم تعاني ألوان المظالم والتمييزات الطَّبقِيَّة ، وكان العُمّال والفلاحون يرزخون تحت ثقل الضرائب المجحفة ، وكان اليأس ملقياً بظلاله السوداء على عامة الشعوب والمِلَل ، وعاد رجال الإصلاح يعيشون مرارة اليأس من كل ثورة منجية .
في هذه الظروف ، قام رجل بين أُمّة
متقهقرة ، تقطن أراض جدباء قاحلة ، ومعشر ليس لهم من الحضارة أي سهم يذكر ، يسفكون دماءهم ويقطعون أرحامهم ، فادّعى النبوة والسفارة من الله الخالق ، على أساس نشر التوحيد ، ورفض الوثنية وعبادة الأصنام ، وإقامة العدل وبسط القِسط ، ورفض التمييز وحماية المضطهدين والمظلومين .
٢ ـ اسم الداعي ونسبه
هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب
بن هاشم بن عبد مناف بن قصي ، من قبيلة قريش ، وُلِدَ بِمكَّة عام ( ٥٧٠ م ) في بيت عريق في العربية ، مشهور بالكرم
والسخاء والستر والعفاف ، أعني به أُسرة بني هاشم .
٣ ـ تاريخ الدعوة
وقد قام بالدعوة في أوائل القرن
السابع الميلادي (٦١٠) . وأول ما بدأ به ، دعوة أقربائه وعشيرته ، وقال في دعوتهم : « إنّ الرائد لا يكذب أهله ، والله الذي لا إله إلّا هو إنّي رسول الله إليكم خاصة وإلى الناس عامّة ، والله لَتَموتُنَّ
كما تنامون ، وَلَتُبْعَثُنَّ كما تستيقظون ، وَلَتُحاسَبُنَّ بما تعملون ، وإنّها
الجنة أبداً ، والنار أبداً » . ثم قال : « يا بني عبد المطلب ، إنّي والله ما أعلم شابّاً في
العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به ، إنّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، وقد أمرني الله عز وجل ، أن أدعُوَكُم إليه » .
وبعد سنوات من بدء دعوته ـ استطاع في
أثنائها هداية جمع من عشيرته ـ وجه دعوته إلى عموم الناس من غير خصوصية بين قبيلته وغيرها ، ووقف على صخرة عند جبل الصفا ، ونادى بصوت عال : « وا صباحاه » ، وهي كلمة كانت العرب تطلقها كلما أحسّت بخطر أو بَلَغها نبأ مرعب ، فكانت هذه الكلمة بمثابة جرس الإنذار بتعميم الدعوة ، فالتفت عندها حوله جموع الناس من أبناء القبائل المختلفة وقالوا له : « ما لك ؟ » .
فقال : « أرأيتكم ، إن أخْبَرْتُكُمْ
أَنَّ العدو مصبحكم أو ممسيكم ، ما كنتم تصدقونني ؟ » .
قالوا : « بلى » .
قال : « فإنّي نذير لكم بين يدي عذاب
شديد » .
ثم قال : « إنّما مَثَلي ومَثَلُكُم
كَمَثَل رجل رأى العدو انطلق يريد أهله ، فخشي أن يسبقوه إلى أهله ، فجعل يهتف ، وا صباحاه » .
ثم استمر في رسالته ، يدعو قومه إلى
التوحيد ورفض الأصنام ، وأنّ وراء هذه الحياة ، حياة دائمة غير داثرة ، والناس بين مؤمن به مفاد بنفسه ونفيسه ،
__________________
عدو ينابذه ويتحين الفرص للفتك به
وقتله ، فلما أحسّ بالخطر ، غادر موطنه مكة إلى مدينة يثرب ، فأقام هناك سنين عشرة ، لقي فيها من أهل يثرب عطفاً ومودة والتفافاً حوله ، وإيماناً به وتفانياً دون دعوته بأموالهم وأنفسهم ، فصار
ذلك سبباً لنشر دعوته في شبه الجزيرة العربية وخارجها عبر بعث رسله وموفديه ، فكان النجاح حليفه ، إلى أن أجاب داعي الموت تاركاً أُمّة كبيرة مؤمنة ، موحِّدةً ، وشريعة ذات نظم وسنن وطقوس ، وذلك في العام ٦٣٣ ميلادية .
ولم تنكمش دعوته بعد وفاته ، بل
سرعان ما انتشرت في أكثر ربوع المعمورة ، بفضل اتقان دينه ، وجهاد معتنقي دعوته .
٤ ـ سمات الدعوة
يمكن تقسيم سمات وعلامات هذه الدعوة
إلى قسمين :
أ ـ قِسمٍ جاء في كتابه الذي جعله
دليلاً على رسالته وبرهاناً ساطعاً على صدق نبوّته .
ب ـ وقسمٍ يقف عليه المتتبع في حاله
وحال دعوته وما تركته من آثار في المجتمعات الإنسانية .
أ ـ سمات دعوته في كتابه المعجز
يعرّفه كتابه بصفات ، ويصف دعوته
بسمات عديدة ، منها :
(١) ـ أنّه رسول أُرسل إلى العالمين
جميعاً ، من دون فرق بين قوم وآخرين ، وإقليم دون إقليم ، وجيل دون جيل ، بل رسالته موجهة إلى كل من يصدق عليه « يا أيها الناس » ، ويقول :
( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّـهِ
إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ) .
__________________
( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾ .
( وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَـٰذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُم بِهِ
وَمَن بَلَغَ ) .
(٢) ـ وأنّ رسالته خاتمة الرسالات ،
وأنّ كتابه خاتم الكتب ، وأنّه خاتم الأنبياء ويقول :
( مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ
وَلَـٰكِن رَّسُولَ اللَّـهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ، وَكَانَ اللَّـهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ) .
(٣) ـ وأنّه نبي قد بشّر بنبوته في
الكتب السماوية الماضية ، ويقول :
( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي
يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ ﴾ .
ويقول : ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ
يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ، وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ .
والضمير في « يعرفونه » يرجع إلى
النبي بقرينة قوله : ( كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ﴾ .
ويقول بأنّ المسيح قد بَشَّر بنبوته
في إنجيله :
( وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ
إِنِّي رَسُولُ اللَّـهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي
اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَـٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾ .
__________________
(٤) ـ ويعرّفه رابعاً بأنّ دعوته
دعوة مكملة للشرائع السابقة ، وأنّ كتابه وشريعته مصدّقة لها ، لا مبائنة ولا مخالفة ويقول :
( وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّـهِ مُصَدِّقٌ
لِّمَا مَعَهُمْ ، وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا
كَفَرُوا بِهِ ، فَلَعْنَةُ اللَّـهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ .
(٥) ـ ويعرّفه بأنّه جاء بمعجزات
وآيات ، وأنّ معجزته الخالدة على جبين الدهر هي كتابه ، لا يمكن لأحد من الخلق مقابلته ولا الإتيان بمثله ، ويقول :
( وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ
عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّـهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ .
ويقول : ( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ
وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَـٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) .
(٦) ـ وأنّ كتابه كتاب فاصل بين الحق
والباطل ومهيمن على الكتب السالفة ، ويقول : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا
لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ . . . ) . وأنّ كتابه يفصل
ما اختلف فيه بنو إسرائيل ويقول :
( إِنَّ هَـٰذَا
الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ
يَخْتَلِفُونَ ) .
(٧) ـ وأنّ أصوله واضحة ، وتعاليمه
سهلة ، فإذا سئل عن أصول عقيدته في الله سبحانه ، يقول : ( قُلْ هُوَ اللَّـهُ أَحَدٌ *
اللَّـهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ *
وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) .
__________________
كما يقول : في تعاليمه وتكاليفه : ( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ
مِنْ حَرَجٍ ) .
ويقول : ( يُرِيدُ اللَّـهُ بِكُمُ الْيُسْرَ
وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ .
(٨) ـ أنّ شريعته كافلة للسعادة
الدنيوية والأُخروية ، ويقول : ( يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ
وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ ﴾ .
(٩) ـ أنّ دينه وتعاليمه تكافح
الأساطير والخرافات وكلّ عقلية متخلفة ويقول : ( وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ
وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ﴾ .
والمراد من الأغلال ، الأوهام التي
كانت تسود أفكار الشعوب آنذاك .
(١٠) ـ أنّ هذا الداعي أمِّيٌّ لم
يقرأ ولم يكتب ، ومع ذلك جاء بأُصول ومعارف وقوانين لإدارة المجتمع ، ويقول : ( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ ﴾ .
ويقول : ( وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن
كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ﴾ .
ب ـ سمات دعوته من خلال التدبر في آثارها
إنّ الإمعان في الآثار التي تركتها
هذه الدعوة بين الأمم البشرية ، يدفع
__________________
الإنسان إلى الإنتقال إلى سمات أُخرى
لدعوته ، منها :
١ ـ سرعة انتشارها في أقطار العالم
جميعاً لا سيما بين الأُمم المتحضرة ، سرعة لم ير التاريخ لها مثيلاً . فطفق المعتنقون به ، المجهزون بسلاح الإيمان والإخلاص ، يغلبون الأُمم القوية المتحضرة المجهزة بأرهب أنواع السلاح المادي وأفتكه . ولم يمض قرن ونصف من رحيل صاحب الدعوة ، إلّا وقد ملأ الإسلام مشارق الأرض ومغاربها ، وانتشر انتشاراً حيّر النُّهى والعقول .
٢ ـ إنّ الأُمَّةَ المؤمنة ، وإن
غلبت أصحاب الحضارات ، وأزالت عروشهم ، لكنها ما عَفَت على حضاراتهم العلمية والصناعية ، بل حفظت الصالح منها ، وقامت بتأسيس حضارة جديدة تشتمل على الأصلح من السابقة ، وما أبدعته هي . وبذلك افترقت عن سائر الثورات البشرية التي كثيراً ما تنجر إلى تخريب البلدان وتدمير الحضارات . فأصبح التمدن الإسلامي ، حضارة إنسانية مكتملة الأبعاد ، بلغت في العظمة إلى حدّ شكّلت معه الأساس الذي بنيت عليه الحضارة الغربية الحديثة ، بحيث لولا الحضارة الإسلامية لزالت الحضارات السابقة عليها ، ولما لحقها أيّ تمدن ، لأنّها صانت السالف من الحضارات عن الإندثار والضياع ، وطورته وأبدعت فيه . فالحضارة الإسلامية ـ بلا تحفظ ـ جسر بين الحضارات اليونانية والرومانية والفارسية ، والتمدّن الصناعي الحديث .
٣ ـ تضحية المعتنقين لدينه ،
وتفانيهم في سبيله بالنفس والنفيس ، وذلك في ظل تحقق شعور ديني عميق وإيمان قوي به وبشريعته ، حتى قدّموا كلّ دقيق وجليل مما يملكون في سبيل نصرته وإعزازه ، وهذا لو دلّ على شيء لدلّ على إيمانهم بفضائله وكمالاته ، وإيقانهم بأنّه رجل إلهي سماوي ، بعث لإنقاذ البشر ، وأنّ اجتماعهم والتفافهم حوله لم يكن طلباً لشيء من الزخارف الدنيوية . وهذا وإن كان لا يصدق على جميع أصحابه وحوارييه ، لكنه صادق على الكثيرين ممن تربوا في أحضانه ، واستنارت ألبابهم واستقامت فطرهم في ظل تعاليم شريعته .
وبعد جميع ما ذكرناه ، فاللازم على
المنصف المتحري للحقيقة ، أن يبحث عن حقيقة هذه الدعوة ، وصحة دلائلها ، حتى يجيب الداعي النفساني للمعرفة
أولاً ، ويقوم بوظيفته ـ إذا وجدها
صالحة للاعتناق ـ ثانياً .
الطرق الثلاثة للتعرف على صدق المُدّعى
قد وقفت عند البحث عن النُبُوّة
العامة على أنّ للتعرف على صدق مدّعي النبوة طُرقاً ثلاثة :
١ ـ إتيانه بالمعجز ، بشروطه
المذكورة .
٢ ـ تصديق النبي السابق عليه ،
وتنصيصه على نبوته .
٣ ـ جمع القرائن والشواهد القاضية
بالضرورة بصدق دعواه .
ونحن نسلك في التعرف على صدق ادعاء
نبي الإسلام النبوة ، هذه الطرق ، الواحدة بعد الأخرى .
* * *
__________________
الطريق الأول
لإثبات نبوة نبي الإسلام
الإستدلال
بمعجزاته
قد عرّفنا المعجز عند البحث في
النبوة العامة بالنحو التالي :
المعجز أمر خارق للعادة ، مقرون
بالدعوى ، والتحدّي ، مع عدم المعارضة ، ومطابقته للدعوى .
فعلينا أن نبحث عن انطباق هذا
التعريف على دلائله التي أقامها مدّعي النبوة إثباتاً لصحة دعواه .
إنّ التعريف المذكور ينطوي على أُمور
:
١ ـ دعوى النبوة .
٢ ـ الإتيان بأمر خارق للعادة .
٣ ـ التحدّي على الإتيان بمثله .
٤ ـ العجز عن مقابلته .
٥ ـ مطابقة المعجزة للدعوى .
وهذه القيود التي ذكرناها للمعجز
تنطبق على ما جاء به نبي الإسلام ، وإليك بيانها إجمالاً :
١ ـ دعوى النبوة
لا شك أنّه ادعى النبوة ، بضرورة
التاريخ ، ونصّ كتابه :
( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّـهِ
إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ) .
٢ ـ خرق العادة
قد ضبط التاريخ أنّه كانت لنبيّ
الإسلام معاجز كثيرة في مواقف حاسمة ، غير أنّه كان يركّز على معجزته الخالدة وهي القرآن الكريم . ونحن نقدم البحث في هذه المعجزة الخالدة ، ثم نتبعه بالبحث في سائر معجزاته .
٣ ـ التحدّي
ولا شك أنّه تحدى ـ بما ادّعى أنّه
أمر معجز ـ الإنسَ والجنَّ ، وقال بنصّ كتابه : ( وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا
نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ ، وَادْعُوا
شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّـهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ .
٤ ـ العجز عن مقابلته
إنّ من ألمَّ بتاريخ تحدّي النبي
الأكرم : من زمن نزول القرآن إلى عصرنا هذا ، يقف على أنّه لم يتمكن فرد ، ولا لجنة علمية من الإتيان بمثل معجزته . ويعرف تفصيل ذلك عند البحث عن إعجاز القرآن ، فانتظر .
٥ ـ مطابقة المعجزة للدعوى
إنّ هذا القيد ، يبحث عنه في سائر
معاجزه التي له فيها مورد ، كما في إناطة
__________________
قريش إيمانها بنبوته ، بشقه القمر ،
وتسبيح الحصى ، وغير ذلك ، فقام بما اقترحوا عليه ، بإذن الله سبحانه ، وكانت المعجزة مطابقة لدعواه ، كما سيوافيك في الفصل الخاص ببيان سائر معجزاته .
إذا وقفت على تعريف الإعجاز وانطباقه
على ما أتى به ، إجمالاً ، فيقع الكلام في مقامين :
المقام الأول ـ في معجزته
الكبرى الخالدة على جبين الدهر وهي القرآن الكريم ، وإثبات أنّه كتاب خارق للعادة وخارج عن طور الطاقة البشرية .
المقام الثاني ـ في سائر
معاجزه التي ضبطها التاريخ والحديث .

المقام الأول
المعجزة
الخالدة
ويقع البحث فيها عن أمور :
* الأمر الأول : ما هو سبب
التحدّي بالكلام ؟ . فيه وجهان ، نذكرهما ، ثم نُلحقه ببيان بعض مزايا القرآن من حيث هو معجز .
* الأمر الثاني : وجه كون
القرآن خارقاً للعادة . وللوقوف عليه مسلكان :
المسلك الأول : إقرار بلغاء
العرب بإعجازه .
المسلك الثاني : تحليل إعجازه
مباشرة . وإعجاز القرآن يقوم على دعائم أربع :
ـ الدعامة الأُولى : الفصاحة . ويراد
منها جمال اللفظ وأناقة الظاهر .
ـ الدعامة الثانية : البلاغة . ويراد
منها جمال العرض وسمو المعنى .
ـ الدعامة الثالثة : النَّظْم .
ويراد منه رصانة البيان واستحكام التأليف .
ـ الدعامة الرابعة : الأسلوب . ويراد
منه بداعة المنهج وغرابة السبك .
ويلحق بهذا الأمر تنبيهات ثلاثة :
التنبيه الأول ، نطرح فيه آيتين على
منضدة التشريح .
التنبيه الثاني ، نشير فيه إلى بعض
مزايا القرآن البيانية .
التنبيه الثالث ، نتطرق فيه إلى بيان
مذهب الصرفة ، من مذاهب إعجاز القرآن .
* الأمر الثالث : عجز البشر عن
معارضته والإتيان بمثله .
* الأمر الرابع : الشواهد الدالّة
على كون القرآن كتاباً سماوياً ، وهي :
١ ـ أمية حامل الرسالة .
٢ ـ عدم اختلافه في الأسلوب .
٣ ـ عدم اختلافه في المضمون .
٤ ـ هيمنته على الكتب السماوية .
٥ ـ إتقانه في التشريع والتقنين .
٦ ـ إخباره عن الغيب .
٧ ـ إخباره عن الظواهر والقوانين
الكونية .
٨ ـ الأخلاق .
الأمر الأول
سبب
التحدّي بالكلام
لا شك أنّ الكليم موسى ، تحدّى
بمعجزات خاصة ، يعبر عنها القرآن الكريم بتسع آيات بينات ، في قوله : ( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ .
وقوله : ( وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ
تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ ﴾ .
كما أنّ المسيح تحدّى بمعجزات خاصة ،
تباين من حيث الماهية معجزات الكليم ، ويحكي ذلك القرآن بقوله : ( وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ
جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ، أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ
الطَّيْرِ ، فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّـهِ ، وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ ، وَأُحْيِي
الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّـهِ ، وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً
لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ .
فعند ذلك يطرح السؤال نفسه : لماذا ﭐختُص
الكليم بهذه المعاجز ، والمسيح بتلك الخوارق ، وجاء نبي الإسلام بمعجزة الكلام ؟ .
__________________
والإجابة عن ذلك بوجهين :
الوجه الأول ـ أَصْدَقُ المعجزات ما شابه أرقى فنون العصر
إذا كان المعجز عبارة عما يخرق
نواميس الطبيعة ، فلا شك أنّ معرفة ذلك يختصّ بعلماء الصنعة التي يشابهها ذلك المعجز ، فإنّ علماء أيّ صنعة أعرف بخصوصياتها ، فهم يميّزون بين ما يعجز البشر عن الإتيان بمثله ، وبين ما يمكنهم . ولذلك فالعلماء أسرع تصديقاً بالمعجز من غيرهم ، وأمّا الجاهل فباب الشكّ عنده مفتوح على مصراعيه ما دام جاهلاً بمباديء الصنعة ، وما دام يحتمل أنّ المدّعي قد اعتمد على مباديء معلومة عند الخاصة من أهل تلك الصنعة .
ولذلك اقتضت الحكمة الإلهية أن يُخَصَّ
كلُّ نبي بمعجزة تشابه الصنعة المعروفة في زمانه ، والتي يكثر العلماء بها من أهل عصره ، فإنّه أسرع للتصديق ، وأقوم للحجة . فكان من الحكمة أن يُخَصَّ موسى عليه السلام بالعصا ، واليد البيضاء ، لما شاع السحر في زمانه وكثر الساحرون . ولذلك كانت السحرة أسرع الناس إلى تصديق برهانه لعلمهم بأنّ ما أتى به موسى ، خارج عن حدود السحر ، فتيقّنوا من كونه معجزة إلهية .
وشاع الطب اليوناني في عصر المسيح
وأتى الأطباء في زمانه بالعجب العجاب ، وكان للطب رواج باهر في سوريا وفلسطين ، إذ كانتا مستعمرتين للرومان ، فشاءَت الحكمة الإلهية ، أن تجعل برهان المسيح شيئاً يشبه الطب ، فقام بإحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، ليُعْلِم أهل زمانه أنّ ما أتى به
خارج عن قُدرة البشر .
وأمّا نبيّ الإسلام ، فقد ادّعى
النبوة بين العرب ، وكان الفن الرائج بينهم هو الشعر والخطابة ، فقد برعوا في البلاغة ، وامتازوا بالفصاحة ، وبلغوا الذَّروة في فنون الأدب . وكانوا يعقدون النوادي ويقيمون الأسواق لإلقاء الخطابة والشعر ، وكان المرء يُقَدَّر على حسب ما يحسنه من إلقاء الخطب الرنّانة ،
والأشعار البليغة .
وقد بلغ تقديرهم للأدب والشعر إلى
حدّ عمدوا إلى قصائد سبع ، من خيرة
أشعارهم ، فعلّقوها على جدار الكعبة
، بعد ما كتبوها بماء الذهب ، فكان يقال هذه مُذَهّبة امريء القيس إذا كانت أجود شعر .
كما بلغ اهتمام رجال العرب ونسائهم
بالخطابة والشعر إلى أنّهم كانوا يحتفلون كل عام في موسم الحج إحتفالات كبيرة لإلقاء الخطب والأشعار . وكان النابغة الذبياني هو الحَكَم في تمييز الراجح من المرجوح ، فيأتي سوق عكاظ وتضرب له فيه قُبّة حمراء من الأَدم ، فيأتيه الشعراء ، فيعرض كلّ أبياته التي صاغها طيلة السنة
المتقدمة .
وفي هذا الأجواء ، كانت المناسبة
تقتضي أن تكون معجزة المدّعي مشابهة للفن الرائج في ذلك الظرف ، فلذلك جاء بمعجزة البيان وبلاغة الكلام ، حتى يعرف كلُّ عربي أو الأخصائي منهم ، أن قُرآنه بعذوبته وحلاوته ، وسمو معانيه وعمقها ، وروعة نظمه وبداعة أُسلوبه ، خارج عن إطار الكلام الرائج بين فصحاء العرب ، وبُلغائهم أولاً ، وخارج عن طاقتهم ومقدرتهم ثانياً . وسيوافيك تصديق أكابرهم وفحولهم المعاصرين للنبي الأعظم ، بكون كلامه خارجاً عن طوق البشر ومقدرته ، كما سيوافيك تحليله بوجه علمي ملموس .
وهناك كلام لأحد أئمة الشيعة ـ قيِّمٌ
جِدّاً ـ نأتي به :
روى الكليني عن أبي يعقوب البغدادي
قال : قال ابن السَكّيت ، لأبي الحسن
: « لماذا بعث الله موسى بن عمران عليه السلام بالعصا ، ويده
__________________
البيضاء ، وآلة السحر ؟ وبعث عيسى
بآلة الطب ؟ وبعث محمداً ( صلى الله عليه وآله وعلى جميع الأنبياء ) بالكلام والخطب ؟ » .
فقال أبو الحسن ( عليه السلام ) : « إنّ
الله لما بعث موسى ( عليه السلام ) كان الغالب على أهل عصره السحر ، فأتاهم من عند الله بما لم يكن في وسعهم مثله ، وما أبطل به سحرهم ، وأثبت به الحجة عليهم .
وإنّ الله بعث عيسى ( عليه السلام ) في
وقت قد ظهرت فيه الزِّمانات ، واحتاج الناس إلى الطب ، فأتاهم من عند الله بما لم يكن عندهم مثله ، وبما أحيى لهم الموتى ، وأبرأ الأكمه والأبرص بإذن الله وأثبت به الحجة عليهم .
وإنّ الله بعث محمداً ( صلى الله
عليه وآله ) في وقت كان الغالب على أهل عصره الخطب والكلام ـ وأظنه قال : الشعر ـ فأتاهم من عند الله من مواعظه وحكمه ما أبطل به قولهم ، وأثبت به الحجة عليهم .
قال : فقال إبن السكِّيت : « تالله
ما رأيْتُ مثلك قَطّ » .
الوجه الثاني ـ الدين الخالد رهن المعجز الخالد
وهناك وجه ثان لاختصاص النبي بهذه المعجزة
وهو الفرق الواضح بين دعوته ، ودعوة سائر الأنبياء ، فإنّ دعوتهم وشريعتهم كانت محدودة زماناً ومكاناً ،
أو من حيث الزمان فقط . ولأجل ذلك كانوا يبشرون بمجيء نبي آخر ينسخ بشريعته شرائع مَنْ قَبْلَه . ومِثْل تلك الدَّعَوات يكفي في إثباتها وجود معاجز
تنقلها الأجيال المعاصرة للأنبياء إلى الأجيال التالية لهم بصورة الأمر المتواتر ، ومثل
هذه المعاجز لا تكفي للدعوة الخالدة ، لأنّ الإيمان بالمعاجز والإذعان بصحتها من خلال نقلها بالتواتر يزول بمضي الزمان ، إلى حدّ تصبح معه أموراً ظنية ، غير قابلة لاتمام الحجّة ، للأجيال المتلاحقة .
__________________
فلأجل ذلك اقتضت الحكمة الإلهية أن
يكون الدين الخالد مقروناً بالمعجزة الخالدة ، حتى تتم الحجة على جميع الأجيال والقرون إلى أن تقوم الساعة ، وهذا لا يمكن إلّا بأن يكون للإعجاز وجودٌ خالدٌ وثابتٌ عبر القرون ، وليس ذلك إلّا أن يكون مثل القرآن .
وهذا لا يعني أنّه لم يكن للنبي الأكرم
معجزة سوى القرآن ، فإنّ ذلك باطل كما سنفصل البحث عنه في المقام الثاني ، بل يعني أنّه صلى الله عليه وآله اختُص بهذه المعجزة دون غيره ، وأنّه كان يركز عليها دون غيرها من سائر معاجزه .
وبعبارة أخرى : إنّ لدعوته سمة
الشمول وسمة الخاتمية ، أمّا الشمول ، فَبَعْثُه إلى البشر كلِّهم ، وأمّا الخاتمية فادعاؤه بأنّه خاتم النبيين وأنّ
كتابه خاتم الكتب وشريعته خاتمة الشرائع ، فمثل هذه الدعوة التي تَعُمُّ جميع الأجيال والأمكنة ، لا تتم إلّا باقترانها بمعجزة ساطعة على مرّ الدهور وتعاقب الأجيال أوّلاً ، وفي جميع الأمكنة ثانياً ، حتى يتمّ الإحتجاج على المتحرّي ، في جميع الأمكنة والأزمنة . وقد عرفت أنّ مرور الزمان يضفي على سائر المعاجز ، ثوب الظنّ والشك ، إلى أن تصبح في أعين الناس ، خصوصاً الذين هم في منأى عن الأجواء الدينية ، كالأساطير التي تقرء في الكتب . فعند ذلك لا يتمكن المسلم المحتج من إقامة الحجة على مخالفه ومعانده ، بل لا تتم الحجة في حدّ نفسها على المخالف . فاقتضت مشيئته سبحانه أن يبرهن دعوة نبيّه الخاتم بمعجزة ناطقة بالحق ، في جميع الأمكنة والأزمنة تكون كفيلة بإتمام الحجة على البشر إلى قيام الساعة : ( لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى
اللَّـهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ﴾ ، بل تكون ( فَلِلَّـهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ ﴾ على الناس في كل مكان وزمان .
* * *
__________________
مزايا أخرى لهذه المعجزة
١ ـ القُرآن كتاب الهداية والتربية
إنّ الكتاب الذي جاء به نبي الإسلام
سنداً لنبوته ، يؤدّي مهمّتين :
١ ـ يثبت أنّه مبعوث من جانبه سبحانه
، وفي هذا يتساوى مع معاجز المتقدمين عليه من الأنبياء .
٢ ـ يهدي الناس إلى أُصول المعارف
والعقائد ، يتكفّل بتربية البشر وسوقهم إلى الفضائل الأخلاقية ، وهذه مزية تختص بمعجزته الخالدة ، ولا توجد في معجزة أخرى . فإن ما جاء به الكليم والمسيح من المعاجز كانقلاب العصا إلى الثعبان ، وإحياء الموتى ، لا يؤدّي سوى مهمة واحدة وهي إثبات أنّ الجائي بها مبعوث من جانب الله سبحانه . وأمّا المعجزة الخالدة ، فهي تهدى ـ مضافاً إلى ذلك ـ إلى المعارف العليا ، وكرائم الأخلاق ، والفرائض والمنهيات . فهي بمفردها : برهان نبوته ، وهادي أُمّته إلى ما يجب عليهم الإعتقاد به أو العمل به .
وبعبارة أخرى : إنّ معاجز الكليم
والمسيح معاجز جسمانية ، لا تثبت إلّا صلتهما بالله سبحانه ، وأمّا القرآن الكريم فهو معجزة معنوية ، تصقل العقول والأرواح ، وتُرْشد إلى طريق الخير والصلاح . والنبي الأكرم قام ـ بفضل هذه المعجزة ـ بصنع أُمة ، بلغت من الفضل والكمال كل مَبْلغ بعدما كانت غارقة في الجهل والأُمّية .
٢ ـ استقلالها في إثبات الرسالة
إنّ لهذا الكتاب مزية ثانية تفتقدها
سائر المعاجز ، حتى المعجزات الأخرى للنبي الأكرم ، وهي أنّ سائر المعاجز لا تثبت شيئاً إلّا أن يكون معها مدّعي النبوة ، فيدّعي ويُسأل البينة ، فيأتي بالمعجز ، ويتحدّى به ، إلى آخر ما ذكرنا
من شروط المعجز .
وأمّا القرآن الكريم ، فإنّه بنفسه
يقوم بكل هذه الأُمور ، فيطرح بنفسه
الدعوى ، ويتساءل ـ هو ـ عن برهانها
، ثم يثبتها بنفسه ، ويتحدّى الناس على الإتيان بمثله ، ويعجزهم ويدينهم . وهذه خصيصة لهذه المعجزة لا توجد في سائر المعاجز .
٣ ـ التحدّي بأبسط الأشياء وأوفرها
قد تعرفت في مباحث الإعجاز ـ من
النبوة العامة ـ على الفروق الواضحة بين المعجزة وغيرها ، وقلنا إنّه ربما يصل العلم والصنعة إلى الغاية التي وصلت إليها معاجز الأنبياء ، ومع ذلك كلّه لا تتجاوز الصنعة عن كونها صنعة بشرية ولا تدخل في إطار الإعجاز .
مثلاً : إنّ سليمان بن
داود ، أول من فتح أبواب الفضاء على عُيون المجتمع الإنساني ، فهو كان رائد الفضاء الأول بفضل الريح المسخرة له ، يقول سبحانه :
( فَسَخَّرْنَا لَهُ
الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ ﴾ .
ولم تتوفق الحضارة البشرية إلى إرسال
الإنسان إلى الفضاء إلّا بعد آلاف السنين ، حتى تمكنت أخيراً من إنزاله على سطح القمر ، والركب بعد مستمر ، ومع ذلك كلّه فما أنجزته هذه الحضارة لا يخرج عن إطار الصنعة ، لوجود الميز الجوهري بين العَمَلين ، وإن اتحدا في النتيجة . وذلك أنّ سليمان بَدَأَ عمله
بأبسط الأشياء ، وأكثرها شياعاً ، وهو الجلوس على بساط ، يحركه الريح ، تجري بأمره حيث شاء ، كما قال تعالى : ( وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ﴾ .
وأمّا ما قامت به الحضارة الصناعية
من إرسال الرّواد إلى الفضاء ، فهو صنعة بحتة ، لأنّها قامت بهذا الفعل بأعقد الصناعات وأخفاها . فالسفينة الفضائية الحاملة لعدّة من الرواد ، والتي هبطت على سطح القمر ، اشترك في
__________________
صنعها مجموعة هائلة من الصناعيين
وخبراء العلوم الطبيعية من علماء الفيزياء والكيمياء والفلك والرياضيات والطب ، حتى علماء النفس وغيرهم ممن خدموا هذه السفينة والصواريخ الحاملة لها . فلأجل ذلك كلما ازدادت الصناعة عمقاً وتعقيداً ، اتّضح كونها نتيجة حضارة بشرية بحتة ، لا صلة لها بأمر سماوي .
ونفس هذه القاعدة تنطبق على معجزة
النبي الأكرم بوضوح ، فإنّه تحدّى بشيء مؤلف من مواد يعرفها كل الناس وفي متناولهم ، حيث إنّه لا يتجاوز عن كونه حروفاً وألفاظاً تشكل لغة العرب ومفردات كلامهم وجملهم . فلو كان هذا القرآن مصنوعَ نفسِ مَنْ جاء به ، فهو وسائر الناس في هذه الحلبة سواء ، لأنّ موادّه في متناول الناس واختيارهم ، فليقم خُبَراؤُهم وعلماؤهم وبُلَغاؤهم وفصحاؤهم بصنع كتاب ، أو عشر سُوَر ، أو سورة واحدة مثله . .
ومع أنّ كل المعاجز تشترك في هذا
المضمار ، غير أنّ القرآن يمتاز عنها بمزية ثالثة وهي أنّ الإذعان بكون ما جاء به الكليم والمسيح من المعاجز ، يحتاج إلى معلومات خاصة حتى يتميز في ظلّها السّحر والطب من الإعجاز ، ولكن الإذعان بكون القرآن معجزة إلهية لا يحتاج إلى شرائط في السامع أزيد من كونه عربياً صميماً عارفاً بأساليب الكلام ، فإنّ ذلك كافٍ في تمييز ما هو داخل في حدود الطاقة البشرية عمّا هو خارج عنها ، ولأجل ذلك كان النبي يتحدّى بالقرآن ويدعو كلَّ الناس إلى المقابلة والمنازلة ، وقلّما يتّفق أن يسمع إنسان كلامه ولا يتأثر
منه ، وإن كان أغلبهم يعارض ما يجده حقّاً في فطرته وعمق ضميره ، بأساليب شيطانية ، كما سيوافيك في قصة الوليد بن المُغيرة ، وعتبة بن ربيعة ومجمل سيرة رؤساء قريش .
هذه المزايا الثلاث تختص بمعجزته
الخالدة . ولها مزايا أخرى ستقف عليها خلال المباحث الآتية .
* * *
الأمر الثاني
وجه
إعجاز القرآن وكونه كتاباً خارقاً للعادة
إنّ إعجاز القرآن في عصر الرسالة ،
كان يتمثّل في فصاحة ألفاظه ، وبلاغة معانيه ، وروعة نظمه ، وبداعة أسلوبه الخاص . فَعَرَبُ عَصْرِ الرسالة وبُلَغاؤهم وحذّاقُهم في الخطابة والشعر ، لمسوا أنّ القرآن في ظل عُذوبة ألفاظه وسحر معانيه وجمال تأليفه ونظمه ، وبداعة سبكه ، لا يشبه الشعر ولا النثر ، وأنّه كتاب جاء في قالب ، لم يسبق له نظير فله جذابية خاصة ، وهيبة رائعة تهتز بها النفوس تارة ، وتقشعر منها الجلود أُخرى . فأحسّوا بضعف الفطرة عن معارضته ، ولمسوا أنّه جنس من الكلام غير ما هم فيه ، ووجدوا منه ما يغمر القوة ، ويخاذل النفس ، مصادمةً ، لا حيلةً ولا خدعة ، مع أنّه مؤلف من نفس الحروف التي هي المادة الأولى لكلماتهم وكلمهم .
إنّ المحققين في علوم القرآن ،
ومبيّني وجوه إعجازه ، وإن ذكروا وجوهاً كثيرة لكون هذا الكتاب معجزاً ، وسنمر على تلك الوجوه ، غير أنّ جهة إعجازه في عصر الرسالة كان متمركزاً في جانبه البياني الذي يتمثل في لفظه الجميل ، ومعناه البليغ ، ونظمه المعجب ، وأُسلوبه الرائق . ولذلك أدهش عُقول الفصحاء والبُلَغاء في عصر النبي ، ولم يزل يدهش كلَّ عربي مُلِمّ بلغته ، أو غير عربي
عارف باللغة العربية ، من غير فرق بين جيل وجيل .
إنّ للقرآن في مجالي اللفظ والمعنى
كيفية خاصة يمتاز بها عن كل كلام سواه ،
سواء أصدر من أعظم الفُصَحاء والبُلَغاء
أو من غيرهم ، وهذا هو الذي لمسه العرب المعاصرون لعصر الرسالة . ونحن نعيش في بدايات القرن الخامس من هجرة النبي ، ونَدّعي أنّ القرآن لم يزل معجزاً إلى الآن ، وأنّه أرقى من أن يعارض أو يبارى ويؤتى بمثله أبداً . غير أنّ لإثبات تلك الدعوى مسلكين .
الأول : المراجعة إلى أهل
الخبرة ممّن يعدّون من صميم أهل اللغة العربية ، وفي الجبهة والسنام منهم .
الثاني : التعرّف عليه
بالمباشرة والتحليل .
ونحن نسلك كلا الطريقين في هذا البحث
وإن طال بنا الموقف والكلام ، وإليك البيان :
المسلك الأول
في إثبات إعجاز القرآن
إعتراف
بُلغاء العرب بإعجاز القرآن البياني
إنّ السيرة النبوية قديمها وحديثها ،
ضبطت إعتراف مجموعة كبيرة من فُصحاء العرب بهذا الأمر ، ونحن نأتي ببعض ما ظهرنا عليه .
١ ـ إعتراف الوليد بن المُغيرة ريحانة العرب
كان رسول الله لا يكف عن الحطّ من
آلهة المشركين ، وكان الوليد بن المغيرة شيخاً كبيراً ومن حُكّام العرب ، يتحاكمون إليه في أُمورهم ، وينشدونه الأشعار ، فما اختاره من الشعر كان مقدَّماً ومختاراً . وقد كان من المستهزئين بالرسول ( صلى الله عليه وآله ) .
ويروي التاريخ أنّ الوليد ـ الذي
يصفه العرب بريحانتهم وحكيمهم ـ سمع الآيات التالية من النبيٍ الأكرم : ( حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّـهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ
* غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ ، شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا
إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ * مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّـهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ
تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ *
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ
بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ ، لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ
*
وَكَذَٰلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ
__________________
رَبِّكَ
عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ﴾ . فلما سمع ذلك قام حتى أتى مجلس قومه بني مخزوم فقال : « والله لقد سمعت من محمد آنفاً كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن ، وإنّ له لحلاوة ، وإنّ عليه لطلاوة ، وإنّ أعلاه لمُثْمِر ، وإِنّ أَسْفَلَهُ لَمُغْدِقْ ، وإِنّه لَيْعلو وما يُعْلى عليه » .
ثم انصرف إلى منزله
ولعلّ الوليد أوّل من تنبّه إلى عظمة
القُرآن وآي الذكر الحكيم ، وهو من بُلغاء عصر الوحي وزمن نزوله ، ومن شيوخ قُريش وعوارف العرب في الأدب الجاهلي ، والخبراء بصناعة الإنشاء ، ومن هذه المنطلقات جاءت كلمته المأثورة تلك ، سبيكة مرصعة ، تعدّ أول تقريظ ناله القرآن من خبراء عصره ومصره ، وإِنْ حمله المحدثون إلينا عارياً عن التفسير . ولعمري إنّها شهادة من الخبير العدو ، الذي التجأ إلى الإعتراف بدافعٍ من ضميره ، وإن أثر عنه تفسير آخر للقرآن الكريم دفعه إليه تعلقه بدين آبائه وسنن قومه ، سيوافيك نقله . ولأجل كونِ هذه الكلمة من أُستاذ البلاغة ، كلمةً شارحةً لوجهة إعجاز القرآن في عصر الرسالة ، نشرح بعض جملها .
١ ـ قوله : « ما هو من كلام الإنس
ولا من كلام الجنّ » . معناه أنّ المعروف من كلام الإنس المنثور ، سبك العبارات غير مقيدة بالأسجاع والقوافي ، فإذا أتوا بهما على عفو الخاطر ، لم يلتزموا بها متقاربة قصيرة الخطوات ، بخلاف كلمات الجن التي سمعوها على أَلسنة الكهنة كعبارات مجملة صغيرة الحجم ، كثيرة المقاطع مقرونة بأسجاع وقوافي ، وعليها مسحة من غرابة الألفاظ ومجانسة الحروف وغموض المعاني .
فَلَوَّح الوليد إلى أنّ هذا القرآن
ليس من هذا القبيل ؛ لا هو على أساليب
__________________
كلام الناس ، ولا على أساليب كلام
الكهنة المترجمة للغة الجن والشياطين ، ولا مزيجاً من هذا وذاك .
٢ ـ قوله : « إنّ له لحلاوة » : يريد
أنّه شهي جذّاب للنفوس ، جلّاب للميول ، خلّاب للعقول ، ترتاح إليه الأرواح .
٣ ـ قوله : « وإنّ عليه لطلاوة » ،
أي إنّه محلّى بألفاظ جميلة وأنغام مقبولة .
٤ ـ قوله : « إنّ أعلاه لمثمر وأسفله
لمغدق » ، يريد أنّ القرآن كشجرة كبيرة ، غصونها زاخرة بالثمار وجذورها مستحكمة واسعة الإنتشار في أعماق الأرض
٢ ـ إعتراف عُتبة بن ربيعة
حين أسلم حمزة بن عبد المطلب ، ورأت
قريش أصحاب رسول الله يزيدون ويكثرون ، قام عُتبة بن ربيعة يوماً في نادي قريش ، ورسول الله حينها جالس في المسجد وحده ، وقال : « يا معشر قريش ، ألا أقوم إلى محمد فأُكلّمه ، وأعرض عليه أُموراً ، لعلّه يقبل بعضها ، فنعطيه أيها شاء ، ويكفّ عنّا ؟ » .
فقالوا : « بلى يا أبا الوليد ، قم
إليه فكلّمه » .
فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول
الله ، فقال : « يابن أخي ، إنّك منّا حيث علمت ، من السّطّة في العشيرة ، والمكان في النسب ، وإنّك قد أتيت قومك بأمر عظيم ، فَرَّقْتَ به جماعتهم ، وسَفَّهْتَ به أَحلامهم ، وعِبْتَ به
آلهتهم ودينهم ، وكفّرت به من مضى من آبائهم ، فاسمع مني أعرض عليك أُموراً تنظر فيها لعلّك تقبل منها بعضها » .
فقال له رسول الله : « قل يا أبا
الوليد ، أَسْمَعْ » . فاقترح عليه أُموراً
__________________
فلما فرغ عتبة من كلامه ، قال رسول
الله : « أقد فرغت يا أبا الوليد ؟ » .
قال : « نعم » .
قال : « فاسمع مني » .
قال : « أَفعل » .
فقال : ( بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ * حم *
تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ *
بَشِيرًا وَنَذِيرًا ، فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ *
وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ ، وَفِي
آذَانِنَا وَقْرٌ ، وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ ، فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ * . .
. ) .
ثم مضى رسولُ الله فيها يقرأُها عليه
، و« عتبة » منصت لها ، ملقياً يديه خلف ظهره ، معتمداً عليهما ، مذهولاً ، إلى أن انتهى رسول الله إلى آية السجدة منها
فسجد . .
ثم قال : « قد سمعت يا أبا الوليد ما
سمعت ، فأنت وذاك » .
فقام عُتبة إلى أصحابه ، فقال بعضهم
لبعض : « نحلف بالله ، لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به » .
فلما جلس إليهم ، قالوا : « ما وراءك
يا أبا الوليد » ؟ .
قال : « ورائي أنّي قد سمعت قولاً
والله ما سمعت مثله قط . والله ما هو بالشعر ، ولا بالسحر ، ولا بالكهانة ، يا معشر قريش أَطيعوني واجعلوها بي ، وخلّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه ، فاعتزلوه ، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأٌ عظيم . فإنْ تصبه العرب فقد كُفِيتموه بغيركم . وإن يظهر على العرب ، فملكه ملككم ، وعزّه عزّكم ، وكنتم أَسْعَدَ الناس به » . .
قالوا : « سَحَرَكَ والله يا أَبا
الوليد بلسانه » .
__________________
قال : « هذا رأيي فيه ، فاصنعوا ما
بدا لكم » .
٣ ـ تأثير آيتين
إنّ حلاوة القرآن كانت بمكانة ربما
يؤثّر سماع آيتين أو أكثر في نفس السامع ، بحيث يخضع له وللجائي به غبّ سماعه منه ، ويرفض الوثنية ، وينخرط في صفوف الموحدين ، وينتظم في عدادهم ، وما ذاك إلّا لأنّه يجد من صميم ذاته أنّه كلام سماوي لا غير . ويدلّ على ذلك ما نسرده عليك من تاريخ دخول الخزرجيين في الإسلام .
كان بين الأوس والخزرج حروب طاحنة ،
وكانوا لا يضعون السلاح لا بالليل ولا بالنهار ، وكانت آخر حرب سجلت بينهم يوم « بعاث » ، وكان النصر حليف الأوس على الخزرج ، ولأجل ذلك خرج أسعد بن زرارة وزكوان الخزرجيَّينْ ، إلى مكة في عمرة رجب ، يسألون الحلف على الأوس ، وكان أسعد بن زُرارة صديقاً لعتبة بن ربيعة ، فنزل عليه ، فقال له :
« إنّه كان بيننا وبين قومنا حرب ،
وقد جئناكم نطلب الحلف عليهم » .
فقال عتبة : « بعدت دارنا عن داركم ،
ولنا شغل لا نتفرغ لشيء » .
قال : « وما شغلكم وأنتم في قومكم
وأمنكم » .
قال له عتبة : « خرج فينا رجل يدّعي
أنّه رسول الله ، سَفّه أحلامنا ، وسَبّ آلهتنا ، وأفسد شبابنا ، وفرّق جماعتنا » .
فقال له أسعد : « من هو منكم » ؟ .
قال : « ابن عبد الله بن عبد المطلب
، من أوسطنا شرفاً ، وأعظمنا بيتاً » .
فلما سمع ذلك أَسعد ، قال : « فأين
هو » ؟ .
__________________
قال : « جالس في الحجر ، وإنّهم لا
يخرجون من شِعْبِهِمْ إلّا في الموسم ، فلا تسمع منه ولا تكلّمه ، فإنّه ساحر يسحرك بكلامه » .
وكان هذا في وقت محاصرة بني هاشم في
الشعب .
فقال له أسعد : « فكيف أصنع وأنا
معتمر ، لا بُدَّ لي أَن أطوف بالبيت » .
فقال : « ضع في أُذُنَيْكَ القُطُن »
.
فدخل أسعد المسجد ، وقد حشا أُذنيه
من القُطن ، وطاف بالبيت ، ورسول الله جالس في الحجر ، مع قوم من بني هاشم . فنظر إليه نظرة ، فجازه . فلما كان في الشوط الثاني ، قال في نفسه : « ما أَجد أَجْهَلَ مني . أيكون مثل هذا
الحديث بمكة فلا أعرفه ، حتى أرجع إلى قومي فأُخبرهم » ، ثم أخذ القُطُن من أُذنيه ورمى به . فلما وصل إلى رسول الله ، قال له : « أَنْعِمْ صباحاً » .
فرفع رسول الله رأسه إليه ، وقال : «
قد أَبْدَلَنا الله به ما هو أحسن من هذا ، تحية أهل الجنة : السلام عليكم » . .
فقال له أسعد : « إنّ عهدك بهذا
القريب . إلى مَ تدعو يا محمد » ؟ .
قال : « إلى شهادة أنّ لا إله إلّا
الله ، وأَنّي رسول الله » .
ثم قرأ هاتين الآيتين :
( قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ، أَلَّا
تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ، وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِّنْ إِمْلَاقٍ ، نَّحْنُ
نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ، وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ، وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ
الَّتِي حَرَّمَ اللَّـهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ، ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ، وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ
بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ، وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ ، وَبِعَهْدِ
اللَّـهِ أَوْفُوا ، ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ .
__________________
فلما سمع أسعد ، قال : « أشهد أن لا
إله إلّا الله ، وحده لا شريك له ، وأَنَّكَ رسولُ الله . بأبي أنت وأُمّي ، أنا من أَهل يثرب ومن الخزرج ، وبَيْنَنا
وبَيْنَ إخواننا من الأَوس حبال مقطوعة ، فإنْ وصلها الله بك ، فلا أجد أعزّ منك ، ومعي رجل من قومي ، فإنْ دخل في هذا الأمر ، رجوت أن يُتِمَّ الله لنا أمرنا فيك . . . فالحمد لله الذي ساقنا إليك ، والله ما جئت إلّا لنطلب الحلف على قومنا ، وقد آتانا الله بأفضل ما أتيت له » .
ثم أقبل زكوان ، فقال له أسعد : « هذا
رسول الله الذي كانت اليهود تبشرنا به ، وتخبرنا بصفته ، فَهَلُمّ فأَسلم » .
فأَسلم زكوان . ثم قالا : « يا رسول
الله ، إبعث معنا رجلاً يعلمنا القُرآن ، ويدعو الناس إلى أَمرك » .
فأمر رسول الله مصعب بن عُمير ـ وكان
فتى حدثاً مُتْرَفاً بين أَبويه ، يكرمانه ويفضلانه على أولادهم ، ولم يخرج من مكة ، فلما أسلم جفاه أبواه ، وكان مع رسول الله في الشعب حتى تغير وأصابه الجهد ، وقد كان يعلم من القرآن كثيراً ـ أمره بالخروج مع أسعد وزكوان ، فخرج معهما إلى المدينة ، وقدما على قومهما وأخبراهم بأمر رسول الله وخَبَره ، فأجاب من كلّ بطنٍ ، الرجل والرجلان .
ترى أنّ سماع الآيتين يصنع من الكافر
الوثني مسلماً موحّداً ، شهماً هماماً ، يفدي بنفسه وماله في طريق دينه ، وما ذاك إلّا لتيقّنه من أنّ القرآن
كلام سماوي خارج عن طوق قدرة البشر . وقد كان النصر حليف بعيث رسول الله ، وما كان ذاك ، إلّا لأنّه كان يقرأ ما نزل من القرآن وَحَفِظَهُ ، حتى أنّ أُسيد
بن الحضير رئيس الخزرجين ـ لما سمع منه قوله سبحانه : ( حم *
تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ *
كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ . . ) ، ظهرت أَمارات الإيمان في وجهه ، فبعث إلى منزله من يأتيه بثوبين طاهرين ، واغتسل ،
__________________
وشهد الشهادتين ، ثم قام وأخذ بيد مُصعب
وقال : « أَظْهِر أَمرَكَ ولا تهابَنَّ أَحداً » .
* * *
ولما كان للقرآن تأثيره العجيب في
نفوس الشباب ، إحتالت قريش في اللَّبس على الناس باللجوء إلى جملة من الأعمال الوقائية ، لِتَصُدَّ تأثير القرآن في
النفوس المتهيئة لقبول الحق ، تعرّض لها التاريخ والسير النبوية ، أهمها :
١ ـ منع الناس ، وخاصةً الشخصيات
والوجهاء ، من سماع القرآن ومقابلة الرسول .
٢ ـ عزو القرآن إلى السحر .
٣ ـ دعوة القصاصين لسرد أخبار الأُمم
.
وكلُّ ذلك يدلّ على أنّ القرآن كان
كلاماً ممتازاً فائقاً كلام البشر ، له تأثير فريد في النفوس بحيث يجذب إليه الناس بمجرّد سماعهم ، بلا اختيار . وفيما يلي بيان هذه الأعمال :
١ ـ منع سماع القرآن
يحكي لنا القرآن أنّ المشركين تواصوا
بترك سماع القرآن والإلغاء عند قراءته في قوله : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا
تَسْمَعُوا لِهَـٰذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ﴾ . أي عارضوه باللّغو
بما لا يُعْتَدُّ به من الكلام ، حتى لا يصل كلامه إلى أسماع الآخرين .
ومع ذلك كله فأولئك الذين كانوا
مبدءاً لردع الشباب عن سماع القرآن ، قد نقضوا عهدهم ، لشدّة التذاذهم من سماعه .
__________________
فهؤلاء ثلاثةٌ من بُلغاء قريش وأَشرافهم
وهم أبو سفيان بن حرب ، وأبو جهل بن هشام ، والأخنس بن شريق ، خرجوا ليلة ليستمعوا كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وهو يصلّي من الليل في بيته ، فأخذ كلُّ رجل منهم مجلساً يستمع فيه ، وكلٌّ لا يعلم بمكان صاحبه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر ، تفرّقوا ، فجمعهم الطريق فتلاقوا وقال بعضهم لبعض : « لا تعودوا ، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئاً » ، ثم انصرفوا .
حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كلُّ
رجل منهم إلى مجلسه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرّقوا ، فجمعهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض مثلما قالوا أول مرة ، ثم انصرفوا .
حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كلّ
رجل منهم مجلسه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرّقوا فجمعهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض : « لا نبرح حتى نتعاهد ألا نعود » ، فتعاهدوا على ذلك ، ثم تفرّقوا .
فلو كان القرآن كلاماً ، يشبه كلام
الإنس ويوازنه ويعادله ، لم يكن هناك أي وازع لهؤلاء الصناديد الذين يعدّون في الطليعة والقمة من أعداء النبي ، أن يهجروا فرشهم ، ويُقلوا دفء دُثُرهم ، ويبيتوا في الظلام الحالك على التراب ، حتى يستمعوا إلى كلامه ومناجاته في أحشاء الليل في صلاته ونسكه ، وما هذا إلّا لأنّ القرآن كان كلاماً خلّاباً ، لعذوبة ألفاظه وبلاغة معانيه ، رائعاً في نظمه وأُسلوبه ، ولم يكن له نظير في أوساطهم ، ولا في كلمات بُلَغائهم وفُصَحائهم ، وهم الفُصحَاء والبُلغاء ومن يشار إليهم في تلك العُصور .
ومن الحبائل التي سلكوها لصدّ تأثير
القرآن ، منع متشخصي المشركين من لقاء الرسول ، خصوصاً من كان لإسلامه تأثير خاص في إيمان قومه بدين الرسول .
ومن تلك الشخصيات الطفيل بن عمر
الدوسي ، فقد قدم مكة ورسول الله
__________________
بها ، فمشى إليه رجال من قريش وكان
الطفيل رجلاً شريفاً شاعراً لبيباً ، فقالوا له : « يا طُفيل إنّك قدمت بلادنا ، وهذا الرجل الذي بين أَظهرنا قد أعضل بنا ، وقد فرّق جماعتنا وشتت أمرنا ، وإنّما قوله كالسحر ، يفرّق بين الرجل وأبيه ، وبينه وأخيه وزوجته ، وإنّا نخشى عليك وعلى قومك ما دخل علينا ، فلا تكلّمِنَّه ، ولا تَسْمَعَنَّ منه شيئاً » .
يقول الطفيل : فو الله ما زالوا بي
حتى أَجْمَعْتُ أن لا أسمع منه شيئاً ولا أُكلَّمه ، حتى حشوت في أذني حين غدوت إلى المسجد كُرْسُفاً ، فَرَقاً من أَنْ يَبْلُغني
شيء من قوله ، وأنا لا أُريد أَنْ أَسمعه .
قال : فغدوت إلى المسجد ، فإذا رسول
الله قائم يصلي عند الكعبة .
قال : فقمت منه قريباً فأبى الله
إلّا أن يُسْمِعني بعض قوله فسمعت كلاماً حسناً ، فقلت في نفسي : « واثكل أُمّي ، والله إنّي لرجل لبيب ، شاعر ، ما يخفى عَلَيّ الحَسَن من القبيح ، فما يمنعني أن أَسمع من هذا الرجل . فإن كان الذي يأتي به حسناً قَبِلته وإن كان قبيحاً تَرَكْتُه . فمكثت حتى انصرف رسول الله
إلى بيته ، فاتبعته ، حتى إذا دخل بيته ، دخلت عليه ، فقلت :
« يا محمد إنّ قومك قد قالوا لي كذا
وكذا ، فوالله ما برحوا يخوّفونني أمرك حتى سددت أُذُنَيَّ بكُرسف ، لئلا أسمع قولك ، ثم أبى الله إلّا أن يسمعني قولك ، فسمعته قولاً حسناً ، فاعرض عَلَيَّ أمرك » .
قال : فعرض عَلَيَّ رسول الله صلى
الله عليه وآله الإسلام وتلا عَلَيَّ القرآن . فلا والله ما سمعت قولاً قطّ أحسن منه ، ولا أمراً أعدل منه .
قال : فأسلمت وشهدت شهادة الحق .
وممّا نقل في هذا المجال أنّ الأعشى
، أحد شعراء العرب ، الطائر الصيت ، بلغ إليه الإسلام ، فخرج يريده ، فمدح النبي بقصيدة أدرج فيها كثيراً من تعاليم الإسلام ، مستهلها .
__________________
ألم تَغْتَمِض عيناك ليلة أرمدا
|
|
وبت كما بات السليمُ مُسَهِّداً
|
إلى أن قال :
نبياً يرى ما لا ترون ، وذكره
|
|
أغار لعمري في البلاد وأنجدا
|
فإياك والميتات لا تقربنها
|
|
ولا تأْخُذَن سهماً حديدا لتفصدا
|
وذا النُّصب المنصوبَ لا تنسكنَّه
|
|
ولا تعبد الأوثان ، والله فاعبدا
|
ولا تقربن حرّة كان سرُّها
|
|
عليك حراما ، فانكحن أو تأبّدا
|
وذار الرحم القربى فلا تقطعنّه
|
|
لعاقبة ولا الأسير المقيّدا
|
وسبّح على حين العشيات والضُحى
|
|
ولا تحمد الشيطان والله فاحمدا
|
فلما ورد الأعشى مكة ، اعترضه بعض
المشركين من قريش فسأله عن أمره ، فأخبره أنّه جاء يريد رسول الله ليسلم فقال له : يا أبا بصير ، إنّه يحرّم الزنا .
فقال الأعشى : والله إن ذلك لأمر ما
لي فيه أرب .
فقال له : يا أبا بصير ، فإنّه يحرّم
الخمر .
فقال الأعشى : أمّا هذه فوالله إنّ
في النفس منها لعلالات ، ولكني منصرف فأتروى منها عامي هذا ثم آتيه فأُسلم ، فانصرف . فمات في عامه ذلك ، ولم يعد إلى رسول الله .
٢ ـ عزو القُرآن إلى السّحر
أدرك فُصحاء قريش وبُلَغاؤهم أنّ
القرآن لا يشبه كلام الإنس ، وهو فوق كلامهم ، ولما كان مقتضى العجز ، اعتناق الدين الذي كان النبي يدعو إليه ، خدعوا عقولهم وعقول قومهم بتفسيره بالسحر ، بحجة أنّ السحر يفرّق ، والقرآن
__________________
أيضاً فرّق بينهم . وهذا هو ريحانة
قريش ، الوليد بن المغيرة ، وقد اجتمع مع رؤساء قريش في دار الندوة ، فقال لهم : « إنّكم ذوو أحساب وذوو أحلام ، وإنّ العرب يأتونكم ، فينطلقون من عندكم على أمر مختلف ، فأجمعوا أمركم على شيء واحد . ما تقولون في هذا الرجل ؟ » .
قالوا : « نقول :
١ ـ إنّه شاعر » .
فعبس عندها ، وقال : « قد سمعنا
الشعر ، فما يشبه قوله الشعر » . فقالوا :
٢ ـ « إنّه كاهن » .
قال : « إذاً تأتونه فلا تجدونه يحدث
بما تحدث به الكَهَنة » . قالوا :
٣ ـ « إنّه لمجنون » .
فقال : « إذاً تأتونه ، فلا تجدونه
مجنوناً » . قالوا :
٤ ـ « إنّه ساحر » .
قال : « وما الساحر » ؟ .
قالوا : « بشر يحببون بين المتباغضين
، ويبغِّضون بين المتحابين » .
قال : « فهو ساحر » .
فخرجوا لا يلقى أحد منهم النبي إلّا
قال :
يا ساحر ، يا ساحر » .
واشتدّ على النبي ذلك ، فأنزل الله
تعالى قوله :
( ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا *
وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا *
وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا *
ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ *
كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا *
سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ *
فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ *
ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ *
ثُمَّ نَظَرَ *
ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ *
ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ *
فَقَالَ إِنْ هَـٰذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ
هَـٰذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ ) .
__________________
وفي روايةٍ ، بعدما وصف الوليد ما
سمع من كلام محمد ، بقوله : « ما هو من كلام الإنس الخ . . » ، ذهب إليه أبو جهل ، فقعد إلى جنبه حزيناً ، فقال له الوليد : « ما لي أراك حزيناً يابن أخي » .
قال : « هذه قريش يعيبونك على كبر
سنك ، ويزعمون أنَّك زيّنت كلام محمد » .
فقام مع أبي جهل حتى أتى مجلس قومه ،
فقال : « أتزعمون أنّ محمداً مجنون ، فهل رأيتموه يخنق » ؟ .
فقالوا : « اللهم لا » .
قال : « أتزعمون أنّه كاهن ، فهل
رأيتم عليه شيئاً من ذلك » ؟ .
قالوا : « اللهم لا » .
قال : « أتزعمون أنّه شاعر ، فهل
رأيتموه أنّه ينطق بشعر قطّ » ؟ .
قالوا : « اللهم لا » .
قال : « أتزعمون أنّه كذّاب ، فهل جَرّبتم
عليه شيئاً من الكذب » ؟ .
قالوا : « اللهم لا » .
فقالت قريش للوليد : « ما هو ؟ » .
فتفكّر في نفسه ، ثم نظر وعبس ، فقال
: « ما هو إلّا ساحر . ما رأيتموه يفرّق بين الرجل وأهله ، وولده ومواليه ؟ . فهو ساحر ، وما يقوله سحر يُؤْثَر » .
إنّ تفسير القرآن بالسحر ، وتوصيف
الداعي بالساحر ـ كما نقله القرآن في غير واحد من آياته ـ أدلّ دليل على أنّ فُصَحاء العرب وجدوا العجز في أنفسهم
__________________
ورأوا أنّ الهزيمة في حلبة السباق
معقودة بنواصيهم ، فما وجدوا مخلصاً لتعمية من يفد على مكة في أيام الحج من عرب الجزيرة إلّا بتفسيره بشيء ينطلي على طباع السُّفهاء وأذهان السذج من الناس ، وهو أنّه سحر والجائي به ساحر ، بحجة الإشتراك في الأثر .
وعلى ضوء ذلك تعود كلُّ الشرائع
السماوية سحراً والأنبياء سحرة ، بحجة أنّهم كانوا يفرّقون بشرائعهم بين أفراد الأُمة الواحدة .
وكيف يكون القرآن سحراً ، والسحر لا
يبقى بعد موت الساحر ، ولا يؤثّر في أقوياء النفوس ، وها هو القرآن قد مَرَّ عليه حتى اليوم أربعة عشر قرناً ، ولما
يزل غضّاً طرياً كما كان ، لم يتضاءل نوره وأثره بمرور الزمان ، وتوالي الأعقاب في
الأحقاب ، كما خضع له أعاظم أهل الفكر والتعقل من البشر .
٣ ـ دعوة القصاص لسرد الأساطير
وقد عمد رؤساء قريش ، لإحباط تأثير
القرآن الكريم ـ بعد أن رأوا أنّ الناس يدركون بفراستهم وفطنتهم أنّ للقرآن جاذبية غريبة لم يسبقه كلام في الحلاوة ، ولا حديث في العذوبة ، ولا عبارات في العمق ، يتقبّله كل قلب واع ، وتسكن إليه كل نفس مستعدة ـ عمدوا إلى تخطيط تدبير آخر ، ظنّا منهم بأنّ تنفيذه سيصرف الناس عنه ، ألا وهو معارضة القرآن الكريم ، بدعوة النضر بن الحارث ليسرد للناس أخبار ملوك الفرس وقصصهم وحكايتهم وأساطيرهم ، وما طلبوا منه القيام بهذا العمل إلّا ليلهي به الناس عن الإصغاء إلى القرآن الكريم .
فقام بهذا العمل ولكن كانت خطتهم ،
خطة حمقاء إلى درجة أنّها لم تدم إلّا عدّة أيام ، لأنّ قريشاً سئمت من أحاديث النضر ، وتفرّقت عنه .
* * *
__________________
المسلك الثاني
في إثبات إعجاز القرآن
تحليل
إعجاز القرآن الكريم
المتسالم عليه بين العلماء أنّ
القرآن كتاب سماوي معجز ، لا يقدر الإنسان ـ مهما عظمت طاقاته ـ على الإتيان بمثله . ولكن عندما يُتَساءل عن سرّ إعجازه ، يتوقف الكثير منهم في ذلك ولا يأتون بكلمة شافية تغني السائل .
فمنهم من ذهب إلى أنّ شأن الإعجاز
عجيب ، يُدْرَك ولا يمكن وصفه ، كاستقامة الوزن ، تُدرك ولا يمكن وصفها ، وكالملاحة . وأضافوا : « إنّ مدرك الإعجاز هو الذوق ليس إلّا ، وطريق اكتساب الذوق ، طول خدمة علمَيْ المعاني والبيان . نعم ، للبلاغة وجوه متلثمة ، وربما تيسرت إماطة اللثام عنها لتتجلى عليك . أمّا نفس الإعجاز ، فلا » .
ومنهم من يحيل سبب الإعجاز إلى فرط
الفصاحة والبلاغة ، من دون أن يشرح السبب ، ويطرحَ آيات من القرآن على منضدة التشريح ، ويقارنها بكلام من كلم فصحاء العرب وبلغائهم وأقصى ما عندهم هو التصديق بكونه معجزاً بحجة أنّ أساطين البلاغة وأساتذتها عجزوا عن الإتيان بمثله في عصر نزول القرآن . ولكن هذا دليل إقناعي ، ورجوع إلى أهل الخبرة .
إلّا أنّ هناك جماعة من المحققين لم
يقنعوا بهذا القدر دون البحث عن حقيقة
__________________
إعجازه ، فبحثوا ونقبوا حتى رفعوا
اللثام عن وجه إعجازه ، وبيّنوا الدعائم والأركان التي يقوم عليها تفوقه على كلام البشر ، قائلين :
هل يمكن أن يُعَرِّف سبحانه كتابَه
النازلَ على نبيّه ، معجزاً وخارقاً ، ويباري الناس ويدعوهم إلى مقابلته والإتيان بمثله ، ثم لا يوجد فيه حتى إشارات إلى ملاك إعجازه ووجه تفوّقه ؟! إنّ مثل هذا لا يصدر عن الحكيم تعالى .
فعلى ضوء ذلك ، لا بُدّ لنا من
الإمعان في آيات القرآن الكريم حتى نلمس ونستكشف ملاك إعجازه وخرقه للعادة ، وهذا هو ما نتعاطاه في هذا التحليل والذي تَبَيَّن لنا بعد دراسة ما كتبه المحققون حول إعجاز القرآن ، وبعد الإمعان
في نفس آيات الذكر الحكيم ، أن ملاك تفوّقه هو الأمور الأربعة ـ الآتي ذكرها ـ مجتمعةً .
أجل ، إنّ ما نركّز البحث عليه في
المقام راجع إلى الإعجاز البياني للقرآن ، الذي كان هو محور الإعجاز في عصر النزول وعند فصحاء الجزيرة ، وبُلغائهم ، وبه وقع التحدي . وأمّا إعجازه من جهات أُخرى ، ككون حامله أمياً ، وكونه مبيِّناً للعلوم الكونية التي وصل إليها البشر بعد أحقاب من الزمن ، أو إخباره عن المُغَيَّبات ، أو كونه مصدراً لتشريع مُتْقَن ومتكامل ، أو غير ذلك من الجهات ،
فلا يمكن أن نعدّها أركاناً للإعجاز ، ووجه ذلك أنّ القرآن سَحَرَ العرب من اللحظة الأولى لنزوله ، سواء منهم في ذلك من شرح الله صدره للإسلام ومن جعل على بصره غشاوة . وكان القرآن هو العامل الحاسم في أوائل أيام الدعوة ، يوم لم يكن للنبي حول ولا طول ، ولم يكن للإسلام قوة ولا منعة .
فلا بُدّ أن نبحث عن منبع السحر في
القرآن ، قبل التشريع المُحكَم ، وقبل النبوءة الغيبيَّة ، وقبل العلوم الكونية ، وقبل أن يصبح القرآن وحدة مكتملة تشتمل على هذه المزايا . فقليل القرآن الذي كان في أيام الدعوة الأولى ، كان مجرّداً عن هذه الأشياء التي جاءت فيما بعد ، وكان مع ذلك محتوياً على هذا النبع الأصيل الذي تذوقه العرب ، فقالوا إنْ هذا إلّا سحر يُؤْثَر .
إنّنا نقرأ الآيات الكثير في هذه
السور فلا نجد فيها تشريعاً محكماً ، ولا
علوماً كونية ، ولا نجد إخباراً
بالغيب يقع بعد سنين ، ومع ذلك سحر عقول العرب وتحدث عنه ابن المغيرة بعد التفكير والتقدير ، بما تحدّث .
لا بدّ إذن أنّ السحر الذي عناه ،
كان كامناً في مظهر آخر غير التشريع والغيبيات والعلوم الكونية ، لا بدّ أنّه كامن في صميم النسق القرآني ذاته ، وكان هذا يتجلى من خلال التعبير الجميل المؤثّر المعمّر المصوّر .
وعلى ذلك فالجمال الفنّي الخالص ،
عنصر مستقل في إثبات إعجاز القرآن ، ويتجلى ذلك في أمور أربعة تضفى على القرآن ـ مجتمعة ـ إعجازه وتفوّقه ، وهي :
١ ـ فصاحةُ ألفاظه وجمالُ عباراته .
٢ ـ بلاغةُ معانيه وسموُّها .
٣ ـ روعة نظمه
وتأليفه . ويراد منه : ترابط كلماته وجُمَله ،
وتناسق آياته ، وتآخي مضامينه ، حتى كأنّها بناء واحد ، متلاصق الأجزاء ، متناسب الأشكال ، لا تجد فيه صَدْعاً ولا انشقاقاً .
٤ ـ بداعة أُسلوبه الذي
ليس له مثيل في كلام العرب ، فإنّ لكل من الشعر والنثر بأقسامه ، أسلوباً وسبكاً خاصاً ، والقرآن على أُسلوب لا يماثل واحداً من الأساليب الكلامية والمناهج الشعرية .
وهذه الدعائم الأربع إذا اجتمعت ،
تخلق كلاماً له صنع في القلوب ، وتأثير في النفوس . فإذا قرع السمع ، ووصل إلى القلب ، يحسّ الإنسان فيه لذّة وحلاوة في حال ، وروعةً ومهابةً في أخرى ، تقشعر منه الجلود ، وتلين به القلوب ، وتنشرح به الصدور ، وتغشى النفوس خشية ورهبة ووجد وانبساط ، ويحسّ البليغ بعجزه عن المباراة والمقابلة . ولأجل ذلك ، كم من عدو للرسول من
__________________
رجال العرب وفُتّاكها أقبلوا يريدون
اغتياله وقتله ، فسمعوا آيات من القرآن ، فلم يلبثوا حين وقعت في مسامعهم ، أن تَحَوّلوا عن رأيهم الأول ، وركنوا إلى مسالمته ، ودخلوا في دينه ، وانقلبت عداوتهم موالاةً ، وكفرهم إيماناً .
يقول سبحانه : ( لَوْ أَنزَلْنَا هَـٰذَا
الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّـهِ )
ويقول سبحانه : ( اللَّـهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ
كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ
إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّـهِ ) .
ويقول سبحانه : ( وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى
الرَّسُولِ تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ ) .
هذا ما يثبته التحليل الآتي لكلٍّ من
هذه الدعائم . فليس المُدَّعى كون كل واحدة منها ، وجهاً مستقلاً للإعجاز ، وإنّما المراد أنّ كلّ واحدةٍ منها توجِد أَرْضِيَّةً
خاصةً ، ليتشكل باجتماعها كلامٌ معجزٌ خارق ، مُبهر للعقول ، ومدهش للنفوس . فيجد الإنسان في نفسه العجز عن المباراة . والضعف عن التحدّي .
هذا ، وقد نقل السيوطي عن عدّة من
المحققين في مسألة إعجاز القرآن أقوالاً كثيرةً ، غير أنّ بعضها خارج عن الإطار البياني ، الذي نحن بصدد تشريحه ، مثل انطواء القرآن على الإخبار بالمُغَيّبات ، الذي سنذكره في عِداد الشواهد الدالة على أنّ القرآن كتاب إلهي لا بشري ، ولكن لُبّ هذه الأقوال ـ التي ترجع إلى الإعجاز البياني ـ يتلخص في الدعائم الأربع التي اخترناها أساساً للإعجاز .
ولأجل توضيح هذه الدعائم الأربع نأتي
بمقدمة نبيّن فيها معنى الفصاحة والبلاغة ، حتى يتبيّن نسبة كل واحدة من هذه الدعائم إلى الأُخرى .
__________________
تعريف الفصاحة
الفصاحة يوصف بها المفرد كما يوصف
بها الكلام .
والفصاحة في المفرد عبارة عن خلوصه
من تنافر الحروف ، والغرابة ، ومخالفة القياس اللغوي المستنبط من استقراء اللغة العربية .
وقد ذكر القوم للتنافر وجهاً أو
وجوهاً ، والحق أنّه أمْر ذوقي ، وليس رهن قرب المخارج ، ولا بعدها دائماً .
وأمّا الفصاحة في الكلام ، فهي خلوصه
من ضعف التأليف وتنافر الكلمات والتعقيد ، مع فصاحتها ، أي يشترط مضافاً إلى الشرائط المعتبرة في فصاحة المفرد ، الأُمور الثلاثة الواردة في صدر التعريف .
ثم إنّ التعقيد تارة يحصل بسبب خلل
في نظم الكلام ، بمعنى تقديم ما حقّه التأخير وبالعكس ، وأُخرى بسبب بُعْد المناسبة بين المعنى اللغوي والمعنى الكنائي المقصود .
والمتكفل لبيان الخلل في النظم هو
النحو . والمتكفل لبيان الخلل في الإنتقال هو علم البيان ، فبما أنّه علم يبحث فيه عن إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدلالة عليه وخفائه ، يشرح لنا التعقيد المعنوي ومراتبه ، فإنّ لكل معنى لوازم ، بعضها بلا واسطة ، وبعضها بواسطة ، فيمكن إيراده بعبارات مختلفة في الوضوح والخفاء .
__________________
تعريف البلاغة
البلاغة في الكلام عبارة عن مطابقته
لمقتضى الحال ، أي مطابقته للغرض الداعي إلى التكلم على وجه مخصوص . مثلاً : كون المخاطب منكراً للحكم ، حال يقتضي تأكيده ، والتأكيد مقتضى الحال . كما أنّ كون المخاطب مستعداً لقبول الحكم ، يقتضي كون الكلام عارياً عن التأكيد ، والإطلاق مقتضاها ، وهكذا في سائر الأبواب .
هذا كلّه مع لزوم اعتبار فصاحة
الكلام في تحقق البلاغة ، فالبلاغة لها عمادان . أحدهما مطابقة الكلام لمقتضى الحال ، والثاني فصاحة الكلام .
وها هنا نكتة وهي أنّ القوم حصروا
معنى البلاغة في هذا المعنى ، وحاصله كون عرض المعنى موافقاً للغرض الداعي إلى التكلم ( مع فصاحة الكلام ) ، وجعلوا للبلاغة بهذا المعنى طرفين :
أحدهما : أعلى ، وهو حدّ الإعجاز
، وهو أن يرتقي الكلام في بلاغته إلى أن يخرج عن طوق البشر ويعجزهم عن معارضته .
والثاني : ما لا يبلغ إلى
هذا الحدّ .
ولكل واحد درجات ومراتب .
ولا يخفى أنّ جعل البلاغة بهذا
المعنى ( أي العرض الصحيح المطابق للغرض ) لا يكون ركن الإعجاز وإن بلغ الكلام إلى نهاية الإتقان في العرض ، ما لم يضمّ إليه شيء آخر ، وهو إتقان المعاني وسمو المضامين . وإلّا فالمعاني
المبتذلة ، والمضامين المتوفرة بين الناس إذا عرضت بشكل مطابق للغرض الداعي إلى التكلم ، لا يصير الكلام معها معجزاً خارقاً للعادة .
__________________
ولأجل ذلك كان على القوم الذين جعلوا
الفصاحة والبلاغة ركنين للإعجاز ، وملاكين له ، إضافة قيد آخر ، وهو كون المعاني والمضامين عالية وسامية ، تسرح فيها النفوس ، وتغوص فيها العقول .
ومن هنا نرى أنّ بعض أساتذة هذا الفن
المعاصرين ، عرفوا البلاغة بشكل آخر ، قالوا : هي تأدية المعنى الجليل واضحاً بعبارة صحيحة فصيحة ، مع ملائمة كل كلام للموطن الذي يقال فيه ، والأشخاص الذين يخاطبون .
فترى أنّه أضيف في التعريف وراء
ملائمة كل كلام للموطن ( مطابقة الكلام لمقتضى الحال ) ، كون المعنى جليلاً .
وسيوافيك أنّ هذا المقدار من التعريف
أيضاً غير واف للرقي بالكلام إلى حدّ الإعجاز ، بل يحتاج إلى دعامة أخرى وهي بداعة الأسلوب ورقيّه ، كما سيوافيك .
نكتة مُهمّة
إنّ ها هنا نكتة تلقي الضوء على سبب
حصر فصاحة القُرآن ـ كما سيأتي ـ في خلوه عن تنافر الحروف والكلمات ، وتَرْكنا البحث عن كل ما ذكروه في فصاحة المفرد والكلام من الشرائط المتعددة ، فهل هذا يعني إنكار دخالة غيره في الفصاحة ، أوْ له معنى آخر ؟ .
والجواب : إنّ كونَ الكلمةِ
متلائمةَ الحروف في فصاحة المفرد ، وكونَ الكلامِ متلائمَ الكلمات في فصاحة الجملة ، له القسط الأوفر في تحقق الفصاحة ، لأنّ الفصاحة تعتمد على مقاطع الحروف والكلمات أكثر من كل شيء . وأمّا غير ذلك ممّا ذكروه في تعريفهما ، فكأنّها معدّات لخروج الكلام عذباً حسناً ، بهيّاً نَضِراً ، له وقع في القلوب . ولأجل ذلك ركزنا على حديث تلاؤم الحروف والكلمات ، وخلوهما عن التنافر ، هذا .
__________________
على أنّ البحث عن اشتمال القرآن على
مخالفة القياس في فصاحة المفرد ، وضعف التأليف في فصاحة الكلام ، بحث زائد ، لأنّ القواعد تُعْرَض على القرآن ، ولا يعرض القرآن عليها ، لأنّه إمّا هو كلام إلهي فهو فوق القواعد ، وإمّا كلام بشري ، فهو صَدَرَ من عربي صميم في أعرق بيت من العرب ، ترحل إليه المواكب وتحطّ رحالها عنده . والمؤمن والملحد يعترفان بكون القرآن في درجة عالية من الكلام الذي ينبغي أن يُحتذى ويُقْتدى .
* * *
الفَصَاحَةُ
: جمال اللفظ وأناقَة الظاهر
اعتمد علماء المعاني والبيان في
تعريف فن الفصاحة على أمور ، وقد عرفت في المقدمة السابقة ـ نصوصهم على تلك الأمور .
لكن المهم في الفصاحة ، كون الكلمة
عذبة مألوفة الإستعمال ، جامعة لنعوت الجودة وصفات الجمال ، كما أنّ المهم في فصاحة الكلام تلاؤم الكلمات في الجمل ، فإنّ التلاؤم يوجب حسن الكلام في السمع ، وسهولته في اللفظ ، وتقبل النفس معناه بوجه مطبوع ، لما يرد عليها المعنى بصورة حسنة ودلالة واضحة .
وأمّا غير العذوبة والتلاؤم من
الشرائط فهو في الدرجة الثانية من تحقيق معنى الفصاحة ، وقد عرفت عدم اعتبار البعض ـ كمخالفة القياس في فصاحة المفرد ، وضعف التأليف بمعنى كونه على خلاف القانون النحوي المشتهر ـ في الفصاحة القرآنية ، لأنّ القرآن هو المقياس لهما .
والذوق السليم هو العُمْدَة في معرفة
حسن الكلمات وسلاستها وتمييز ما فيها من وجوه البشاعة ومظاهر الإستكراه . لأنّ الألفاظ أصوات ، فالذي يطرب لصوت البلبل ، وينفر من أصوات البوم والغربان ، ينبو سمعه عن الكلمة إذا كانت غريبة متنافرة الحروف . ألا ترى أنّ كلمتي « المُزنة » ، و « الديمة »
للسحابة الممطرة ، كلتاهما سهلة عذبة ، يسكن إليهما السمع بخلاف كلمة « البعاق » التي في معناهما ، فإنّها قبيحة ، تصكّ الآذان . وأمثال ذلك كثير في مفردات اللغة ،
تستطيع أن تدركه بذوقك . وهذا نظير
الخط الحسن ، فإنّه يوجب إقبال الناس على قراءته ، وإمعان النظر في معناه ، بخلاف ما إذا كتب نفس ذلك الكتاب بخط رديء غير واضح .
يقول الإمام يحيى بن حمزة العلوي : «
إنّ الفصاحة راجعة إلى الألفاظ ، والبلاغة راجعة إلى المعاني » . ويشرحه في مكان آخر بقوله : « إنّ المزايا الراجعة
إلى الألفاظ ، تارة ترجع إلى مفردات الحروف ، وأُخرى إلى تأليفها من تلك الحروف ، وثالثة إلى مفردات الألفاظ ، ومرة إلى مركباتها . فهذه أوجه أربعة لا بدّ
من اعتبارها في كون اللفظ فصيحاً » .
ولأجل أنّ لتلاؤم الحروف والكلمات
دوراً عظيماً في الفصاحة ، نركّز في هذا البحث ، على الخلو من تنافر الكلمة والكلمات ، بأن لا تكون نفس الكلمة ثقيلة على السمع ، كما لا يكون اتّصال بعضها ببعض مما يسبب ثقلها على السمع وصعوبة أدائها باللسان . وبما أنّ مخارج الحروف مختلفة ، فمنها ما هو من أقصى الحلق ، ومنها ما هو من أدنى الفم ، ومنها ما هو بين ذلك ، فلا بدّ في حصول التلاؤم من مراعاة تلك الصفات ، بأن لا يكون بين الحروف بُعْدٌ شديد ، أو قُرْبٌ شديد ، فعندها تظهر الكلمة أو الكلام سهلاً على اللسان ، وحسناً في الأسماع ، ومقبولاً في الطباع . وهذا إن لم يكن ملاكاً كليّاً لتمييز المتلائم عن المتنافر ،
إلّا أنّه ميزان غالبي ، فلاحظ البيتين التاليين ترى الكلام في أحدهما في نهاية التنافر ، وفي الآخر في كمال التلاؤم .
قال الشاعر :
وَقَبْرُ حَرْب بِمكانِ قَفْرُ
|
|
وَلَيْسَ قُرْبَ قَبْرِ حَرْبٍ قَبْرُ
|
فقيل ، إنّ هذا البيت يعسر لأحد أن
ينشده ثلاث مرات متواليات دون أن يتتعتع ، لأنّ اجتماع كلماته ، وقرب مخارج حروفها يحدثان ثقلاً ظاهراً ، وإن كانت كلُّ واحدة منها غير مستكرهة ولا ثقيلة .
وقال شاعر آخر :
__________________
رَمَتْني وسِتْرُ الله بيني وبينَها
|
|
عشيةَ آرامِ الكِناس رَميمُ .
|
ولأجل دخالة عذوبة الكلمة وتلاؤم
الكلمات في تحقق الفصاحة ، أدرك صيارفة الكلام ، ومشاهير الفصحاء في عصر النبي ما عَبّر عنه الوليد بن المُغيرة بقوله : « إنّ له لحلاوة وإنّ عليه لطلاوة » .
يقول الإمام يحيى بن حمزة في شأن
تركيب مفردات الألفاظ العربية ، الذي له دور كبير في فصاحة الكلام : « ولا بُدَّ فيه من مراعاة أمرين :
أمّا أولاً : فأن تكون كلّ
كلمة منظومة مع ما يشاكلها ويماثلها ، كما يكون في نظام العقد ، فإنّه إنّما يحسن إذا كان كل خرزة مؤتلفة مع ما يكون مشاكلاً لها
. لأنّه إذا حصل على هذه الهيئة كان له وقع في النفوس وحسنُ منظر في رأي العين .
وأمّا ثانياً : فإذا كانت
مؤتلفة ، فلا بدّ أن يقصد ما وضع لها بعد إحراز تركيبها .
والمثال الكاشف عمّا ذكرناه ، العقد
المنظوم من اللئالي ونفائس الأحجار ، فإنّه لا يحسن إلّا إذا أُلّف تأليفاً بديعاً ، بحيث يجعل كل شيء من تلك الأحجار مع ما يلائمه . ثم إذا حصل ذلك التركيب على الوجه الذي ذكرناه ، فلا بدّ من مطابقته لما وضع له ، بأن يجعل الإكليل على الرأس ، والطَوْق في العنق ، والشنف في الأُذن ، ولو ألّف غير ذلك التأليف ، فلم يجعل كل شيء في موضعه ، بَطَلَ ذلك الحُسن . وزال ذلك الرونق » .
مثلاً : قوله سبحانه : ( وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي
الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ ) .
إنّ لهذه الآية تميّزاً ذاتياً عن
كلام البشر ، لا يتمارى فيه منصف ، ولا يشتبه على من له ذوق في معرفة فصاحة الكلام . وذلك التميز رهن فصاحة أبنيتها ،
__________________
وعذوبة تركيب أحرفها ، وكونها
مجانبة للوحشي الغريب ، وبعدها عن الركيك المسترذل ، مضافاً إلى سلاسة صيغها .
فإنّه سبحانه قال : ( الْجَوَارِ ) ، ولم يقل : « الفُلْك » ، لما في الجَرْي من الإشارة إلى باهر القُدرة حيث أجراها بالريح ، وهي أرق الأشياء وألطفها ، فحرّك ما هو أثقل الأمور ، وأعظمها في الجرم . ( والفُلْك ، وإن كان مثل الجوار في العذوبة ، لكنه يفقد النكتة التي يشملها الآخر ) .
وقال سبحانه : ( فِي الْبَحْرِ ) ، ولم يقل : « في الطمطام » . ولا : « في العُباب » . والكل من أسماء البحر ، لأنّ البحر أسهل وأسلس ، وبالتالي أعذب وأجمل .
وقال سبحانه : ( كَالْأَعْلَامِ ) ، ولم يقل : « كالروابي » ، ولا : « كالآكام » ، إيثاراً للأخف الملتذ به ، وعدولاً عن الوحشي المشترك .
من عجائب القرآن أنّه يعمد
إلى ألفاظ ذات تركيب يغلب عليه الثقل والخشونة ، فيجمعها في معرض واحد ، ثم ينظم منها آياته ، فإذا هي وضيئة مشرقة ، متعانقة متناسقة . ومن نماذج ذلك ، قوله سبحانه :
( قَالُوا تَاللَّـهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّىٰ
تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ ) .
إسمعها ، هل تجد نَبْرَةً تخدش أذنك
؟ . واقرأها ، فهل تجد لفظاً يتعسر على شفتيك ، أو يضطرب في لسانك ، فيا لها من سلاسة وعذوبة واتّساق ، مع أنّ فيها كلمات ثقيلة بمفردها ثقلاً واضحاً في الأذن وعلى اللسان ، أعني قوله : « تالله . . . تفتؤا . . . حَرَضاً » . ولكنها حين اجتمعت في نظم قرآني ، خفّ ثقيلها ، ولان يابسها . وسلس جامحها ، وانقاد وذلّ نافرها ، فإذا هي عرائس مجلوة ، تختال في روض نضير . فهذه ثلاث كلمات من أثقل الكلام ، قد انتظمت
__________________
مع خمس كلمات أخرى ، فكان من
ثمانيتها عقد نظيم يقطر ملاحة وحسناً .
وأيضاً ، من
بدائع القرآن وغرائبه أنّه يكرر الحرف الثقيل
في آية واحدة ، ولكنه يلطفه بحروف خفيفة بنحو يعلو مجموعه العذوبة والخفة ، مكان الثقل والخشونة ، ومن هذا النوع قوله سبحانه : ( قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِّنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ
سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ) .
فقد جمعت هذه الآية ثمانية عشر ميماً
، منثورة بين كلماتها ، حتى كأنّ الآية مشكلة كلّها من ميمات ، كما ترى في « أمم ممن معك . . . وأمم سنمتعهم » ، ومع هذا فإنّك إذ ترتل الآية الكريمة على الوجه الذي يُرَتَّل به القرآن ، لا تحسّ
أنّ هنا حرفاً ثقيلاً قد تكرر تكراراً غير مألوف ، بل تجد الآية قد توازنت كلماتها وتناغمت مقاطعها في أعدل صورة وأكملها فلا تنافر بين حرف وحرف ، ولا تباغض بين كلمة وكلمة .
ونظير هذا قوله سبحانه : ( قُلِ اللَّـهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ
تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ ، وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ ، وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ ،
وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ ، بِيَدِكَ الْخَيْرُ ، إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .
ففي الآية عشر ميمات ، قد جاءت في
مطلعها ، ولكنها مع ذلك كأنّها ميم واحدة ، ولو أنّ حرفاً آخر دخل في نظم الآية لما انبعث منها هذا الصوت القوي المجلجل ، الذي يقتضيه المقام هنا ، ولتفككت أوصال النظم وتخاذلت قواه .
وهكذا ، إنّ القاف من أثقل
الحروف نطقاً ، تستنفر طاقة الحلق واللسان ليشتركا في حملها وإخراجها مخرج الأصوات . ومع هذا الثقل ، فقد جاءت في بعض الآيات مكررة بصورة مأنوسة لا يلتفت قارئها إلى التكرار ، ولا يجد فيها الجهد والعناء .
__________________
قال سبحانه : ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ
آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ ، قَالَ : لَأَقْتُلَنَّكَ . قَالَ : إِنَّمَا
يَتَقَبَّلُ اللَّـهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ) .
فقد جاء فيها أحد عشر قافاً ، لو
نثرت هذه القافات في كلام أبسط من هذا ، لظهر عليه الثقل ، ولكنها جاءت في هذه الآية من غير أن تحدث قلقاً واضطراباً . وإنّما حصل هذا ، لكثرة الباءات واللامات في الآية ، فإنّ الباء مخرجها الشفة ، فهي أخفّ الحروف ، وتليها اللام في الخفة ، فإنّ مخرجها اللسان . وقد بلغت عدّة الباء أحد عشر ، واللام خمس عشر ، فأوجب كثرة دوران هذين الحرفين ، تلطيفاً في الثقل الذي توجبه القاف في كيان الآية .
ومثل ذلك ، قوله سبحانه : ( لَّقَدْ سَمِعَ اللَّـهُ قَوْلَ
الَّذِينَ قَالُوا : إِنَّ اللَّـهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ . سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا ، وَقَتْلَهُمُ الْأَنبِيَاءَ
بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ) .
فقد اجتمعت فيها عشر قافات ، وتكررت
فيها اللام أحد عشر مرة ، فكسرت حدّة الثقل في القاف ، فترى ماءَ الحُسْن يترقرق على محياها ، والملاحة تقطر من جبينها .
هذه هي الدعامة الأولى للإعجاز ،
وليست هي سبباً تامّاً له . ولأجل ذلك ربما يوجد في كلام البشر ما هو مشتمل على هذه الدعامة بصورة رفيعة ، مع أنّه ليس بكلام معجز ، لإمكان مقابلته والإتيان بمثله ، لمن تبحّر في تلك الصنعة ، ولأجل ذلك تعلو عليه سيماء الصنع البشري ، وما ذلك إلّا لأنّ الإعجاز البياني يبتني على الدعائم الأربع مجتمعة ، وليس ذاك الكلام مستجمعاً لها ليكون معجزاً فإنّه يفقد الأسلوب القرآني ، أعني الأسلوب الذي لا يشبه أُسلوب المحاورة ولا أسلوب الخطابة ولا الشعر ، كما سيوافيك شرحه . وإليك من ذلك نموذجاً :
إنّ من أفصح كلام الإمام علي بن أبي
طالب عليه السلام ـ الذي أصفقت
__________________
جهابذة الأدب على أنّه فارس ميدان البيان
، وبطل حلبته ـ قوله في وصف الإنسان :
« أمْ هذا الذي أنشأه في ظُلُماتِ
الأَرحام ، وشُغُف الأَستار ، نُطْفَةَ دهاقاً ، وعَلَقَةً مِحاقاً ، وجنيناً ، وراضعاً ، ووليداً ، ويافعاً . ثم منحه
قلباً حافظاً ، ولساناً لافظاً ، وبصراً لاحظاً ، لِيَفْهَمَ مُعْتَبِراً ، ويُقَصِّرَ مُزدجراً
. حتى إذا قام اعتدالُه ، واستوى مثالُه ، نَفَرَ مُسْتكبراً ، وخَبَطَ سادِراً ، ماتحاً
في غَرْبِ هواه ، كادحاً سعياً لدُنياه ، في لذات طَرَبِه ، وبَدَواتِ أَرَبِه » .
فإنّ هذه القطعة من خطبه عليه السلام
سبيكة مرصّعة بيواقيت الكلم ، ومعالي معاني الحكم ، معدودة من مدهشات كلامه ، وقد توفرت فيها جوامع وجوه الحسن . ومع ذلك ، فأين هي من الكلام الإلهي المعجز ، الذي إذا جعلته إلى جنب هذا الكلام ، ظهر بكل وضوح أنّه ليس من كلام البشر .
لاحظ قوله تعالى : ( وَاللَّـهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ
أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا ، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ ) .
أو قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ
فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ
مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ، ثُمَّ
نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ، ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ، وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ ، وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ
إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا ، وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا
الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّـهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي
الْمَوْتَىٰ وَأَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .
هذا فيما يرجع إلى الدعامة الأولى
لإعجاز القرآن . ويشير النبي الأعظم في كلمة له في تعريف القرآن إلى هذه الدعامة والدعامة التالية :
__________________
قال صلى الله عليه وآله : « إذا
التبست عليكُمُ الفِتَن َكَقِطَعِ الليلِ المظلم ، فعليكم بالقرآن » . . . إلى أن يصفه بقوله : « ظاهِرُهُ أَنيق ، وباطِنُه
عميق » .
* * *
__________________
البلاغة
: جمال العرض وسمو المعنى
قد وقفت ، في التعريف الفنّي للبلاغة
على أنّها عبارة عن خروج الكلام مطابقاً لمقتضى الحال . فلو كان المقام مقتضياً للتأكيد أو الإطلاق ، وذكر المسند والمسند إليه أو حذفهما ، والإيجاز أو الإطناب ، وغير ذلك ، جاء الكلام مطابقاً له . وقد أسهب علماء المعاني في تبيين مقتضيات الأحوال ، على وجه لم يدعوا لقائلٍ مقالاً .
وقد اهتمّ بعض من كتب في الإعجاز ،
بأمر البلاغة أزيد من غيرها . حتى أنّ الخطابي قال : « وذهب الأكثرون من علماء النظر إلى أنّ وجه الإعجاز فيه من جهة البلاغة ، ولكن صعب عليهم تفصيلها » .
غير أنّا ركّزنا على أنّ البلاغة
بهذا المعنى ، ترجع إلى عرض المقصود بشكل مطلوب ، ومفيد في تحقق غرض المتكلم ، ولكنه لا يكفي في توصيف الكلام بالبلاغة ما لم يضم إليه قيد آخر ، وهو كون المعنى سامياً ورفيعاً ، وقابلاً للذكر
والإفادة ، وإلّا فالمعاني المبتذلة ، وإن أُلبست أجمل الحُلي ، وعرضت بشكل يقتضيه الداعي إلى التكلم ، لا توصف بالبلاغة ، وعلى فرض صحة التوصيف ، لا يكون مثل ذلك الكلام أساساً للإعجاز ، ولا دعامة له . ولأجل ذلك قلنا إنّ
__________________
التعريف الصحيح للبلاغة هو عبارة عن
تأدية المعنى الجليل بعبارة صحيحة فصيحة ، مع ملائمة كل كلام للموطن الذي يقال فيه .
وعلى ضوء ذلك ، فالكلام الساقط عن
الإعتبار من حيث المضمون ، لا يتّصف بالبلاغة ، مثل ما حكي عن مسيلمة الكذّاب حيث أقسم بالطاحنات ، وقال « والطاحنات طحناً ، والعاجنات عجناً ، والخابزات خبزاً » . فأين هذه المفاهيم الساقطة السوقية الركيكة الفاقدة لأيّةِ قيمة ، من المعاني العالية
السامية الواردة في قوله سبحانه : ( وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا *
فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا *
فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا ) .
فاللازم في البحث عن فصاحة القرآن ،
التركيز على أمرين :
١ ـ مطابقة الكلام لمقتضى الحال .
٢ ـ سمو المعاني وعلو المضامين .
* * *
الأمر الأول ـ مطابقة الكلام المقتضى الحال
إنّ استقصاء جميع الأحوال التي يقع
الكلام مطابقاً لها ، راجع إلى علم المعاني ، من علمي الفصاحة والبلاغة فذكروا مقتضيات الأحوال في أبواب الإسناد الخبري ، والمسند إليه ، والمسند ، ومتعلقات الفعل ، والإنشاء ، والفصل والوصل ، والإيجاز ، والإطناب والمساواة ، فذكروا الأحوال الطارئة على الكلام ومقتضياتها ، من ذكر المسند إليه وحذفه ، وتنكيره ، وتقديمه وتأخيره ، وتوصيفه وتأكيده ، إلى غير ذلك من الأحوال الطارئة على المسند إليه ، وبشكلٍ على المسند ، ولكل مقام . كما أنّ لكل من الإيجاز والإطناب والمساواة مقام .
ثم إنّ دراسة القرآن من حيث كونه
مطابقاً للأحوال المقتضية ، يحتاج إلى
__________________
تفسير حافل ، يفسّر القرآن من هذا
الجانب ، ولعلّ « الكشاف » أحسن ما كتب في هذا الموضوع ، فقد ذكر الزمخشري فيه ، النكات البلاغية ، في تفسير الآيات ، وبذلك أثبت للقرآن إعجاز بيانياً خاصاً ، وأنّ كل آية بل كلّ كلمة واردة موردها .
ولما كانت الإحالة على مثل هذا
الكتاب وغيره ، عن المحذور غير خالية ، نأتي بنماذج تثبت بلاغة القرآن ، وورود آياته وفق مقتضى الحال ، ونختار لذلك سورتين قصيرتين ، من السور المكية ، النازلة في أوائل البعثة .
١ ـ بلاغة سورة الكوثر
روى المفسرون أنّ العاص بن وائل
السهمي رأى رسول الله صلى الله عليه وآله يخرج من المسجد ، فالتقيا عند باب بني سهم ، وتحدّثا ، وأُناس من صناديد قريش جلوس في المسجد ، فقالوا : من الذي كنت تتحدث معه . قال : ذلك الأبتر ، وكان قد توفي قبل ذلك عبد الله بن رسول الله وهو من خديجة ، وكانوا يسمون من ليس له ابن أبتر ، فسمته قريش عند موت ابنه أبتر ، ومبتوراً ، فأنزل الله سبحانه هذه الآيات :
( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ *
فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ *
إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ) .
قال الزمخشري ، في رسالته حول إعجاز
سورة الكوثر : « أُنظر ، كيف نُظمت النظم الأَنيق ، ورُتِّبت الترتيب الرشيق ، حيث قدّم منها ما يدفع الدعوى ويرفعها ، وما يقطع الشبهة ويقلعها ( إنّا أعطيناك الكوثر ) ، ثم لِما يَجِبُ أَنْ
يكون عنه مسبَّباً وعليه مترتباً ( فصل لربك وانحر ) ، ثم ما هو تتمة الغرض من وقوع
__________________
العدو في مُغَوّاتِه التي حفر ، وصَلْيه
بحر ناره التي سَعَر ( إنّ شانئك هو الأبتر ) » .
وإليك بيان نكات آياته الثلاث :
( إِنَّا ) .
تأَمَّل كيف من أُسند إليه إسداء هذه
العطية والموهبة السنية ( الكوثر ) ، هو ملك السموات والأرض ، ومالك البسط والقبض . فدلّ بذلك على عظمة المعطي والمُعْطَى ، من المعلوم أنّه إذا كان المعطي كبيراً ، كان العطاء كثيراً .
وجمع ضمير المتكلم ، فأعلم بذلك عظم
الربوبية .
( أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ) .
استعمل لفظ الماضي مكان المستقبل ،
مع أنّ الكوثر كما يتناول عطاء العاجلة ، يتناول عطاء الآجلة ، وذلك لأنّ المُتوقَّع من سيب الكريم ، تحققه على وجه القطع والبت .
وجاء بالكوثر محذوف الموصوف ، لأنّ
المثبت ليس فيه ما في المحذوف من فرط الإبهام والشياع .
واختار الصفة المؤذنة بإفراط الكثرة
، المُبِينة عن المعطيات الوافرة ، وصدّرها باللام لتكون كاملة في إعطاء معنى الكثرة .
والمراد من الكوثر ، أولاده حسماً
للشبهة ، وقطعاً لدعوى الخصم .
( فَصَلِّ ) .
عَقَّب إبهامه الكوثر ، بالفاء ،
ليكون دليلاً لمعنى التسبيب ، فالعطاء الأكثر ، يستلزم الشكر الأوفر .
__________________
( لِرَبِّكَ ) .
وقصد بذلك ، التعريفَ بدين « العاصي
» وأشباهه ، ممّن كانت عبادته ونحره لغير إلهه ، وبالتالي لتثبيت قدمي رسول الله على صراطه المستقيم ، وإخلاصه العبادة لوجهه الكريم .
وقال : « لربك » ولم يقل « لنا » ،
فصرف الكلام عن لفظ المضمر إلى لفظ المظهر ، إظهاراً لكبرياء شأنه ، وإنافةً لعزّ سلطانه . ومنه أخذ الخلفاء قولهم : يأمرك أمير المؤمنين بالسمع والطاعة ، وينهاك أمير المؤمنين عن مخالفة الجماعة .
وعلّم ، بالأمر بالصلاة للرب ، أنّ مِنْ
حَقِّ العبادة أن يَخُصَّ بها العبادُ ربَّهم ومالكهم ، ومن يتولى معايشهم ومهالكهم . وعرّض بخطأ من سفّه نفسه ، ونقض لبّه ، وعبد مربوباً ، وترك عبادة ربّه .
( وَانْحَرْ ) .
أشار بالأمر بالنحر ، بعد الأمر
بالصلاة ، إلى قسمين من العبادات ، فالقسم الأول عمل بدني ، والصلاة إمامها . والثاني عمل مالي ، ونحر البدن سنامُها .
ونبّه على ما لرسول الله من الإختصاص
بالصلاة التي جعلت لعينه قُرّة ، وبنحر البدن التي كانت همته متطاولة إليها .
قال : « وانحر » ، ولم يقل « وانحر
له » ، رعايةً لفواصل الآيات ، وهو أمر مطلوب إذا سيق المتكلم ، إليه ، بلا تكلّف .
( إِنَّ شَانِئَكَ ) .
عنى بالشانيء : « السهمي » . وإنّما
ذكره بوصفه لا باسمه ، ليتناول كلّ من كان مثل حاله . وأعرب بذلك عن أنّ عدوه لم يقصد بوصفه بالأبتر ، الإفصاح بالحق ، ولم ينطق إلّا عن الشنآن الذي هو توأم البغي والحسد ، وعن البغضاء التي هي نتيجة الغيظ ، فبذلك وسمه بما ينبيء عن المقت الأشدّ ، ويدلّ على حنق الخصم الألدّ .
( هُوَ ) .
أقحم الفصل لبيان أنّه المُعَيَّن
لهذه النقيصة ( الأبتر ) ، وأنّه المُشَخَّص لهذه الغميصة .
( الْأَبْتَرُ ) .
عرّف الخبر ، ليتمّ له البتر .
فسبحان من أعجز فصحاء العرب والعجم ،
عن الإتيان بمثل هذه السورة على وجازة ألفاظها ، مع تحدّيه إيّاهم بذلك ، وحرصهم على بطلان أمره ، منذ بعث النبي إلى أمرنا هذا .
وسبحان من لو أَنزل هذه الواحدة
وحدها ، ولم ينزل ما قبلها وما بعدها ، لكفى بها آية تغمر الأذهان . ومعجزة توجب الإذعان ، فكيف بما أنزل من السبع الطوال .
٢ ـ بلاغة سورة « والضحى »
جرت حكمته سبحانه على نزول الوحي
تدريجياً ، لحكمة صرّح بها سبحانه في قوله : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا
نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ، كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ، وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا ) .
ولأجل وقوع الفترة بين نزول الوحي ،
عابه المشركون على النبي الأكرم ، فقالوا : إنّ محمداً قد ودعه ربُّه وَقَلاه ، ولو كان أمره من الله لتتابع عليه ،
فنزلت السورة التالية :
( وَالضُّحَىٰ *
وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ * مَا
وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ *
وَلَلْآخِرَةُ
__________________
خَيْرٌ لَّكَ
مِنَ الْأُولَىٰ *
وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ *
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ *
وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَىٰ *
فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ *
وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ *
وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ) .
إنّ في هذه السورة من أنواع البلاغة
ما يَبْهَرُ العقول ، وفي الدراسة التالية نشير إلى بعض منها .
( وَالضُّحَىٰ *
وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ ) .
الواو في الموضعين للقسم . والضحى ،
والليل حال السجي ، هو المقسم به . وقوله سبحانه فيما يأتي : ( مَا وَدَّعَكَ )
هو المقسم له ، بمعنى جواب القسم .
وقد ورد في القرآن الكريم ، ثمان
وثلاثون قَسَماً ، أفردها إبن القيم بالتصنيف في كتاب أسماه « التبيان في أسماء القرآن » . وقد وقع القَسَم فيها على أشياء مختلفة كالملائكة والنبي الأكرم والقرآن والقيامة ، والنفس الإنسانية ، والقلم ، والكتاب والشمس ، وضوئها ، والليل وغير ذلك . واهتمّ المفسّرون ببيان سرّ القسم بهذه الأُمور ، ولكنهم غفلوا عن مهمة أُخرى في هذه الأقسام ، وهي المناسبة بين المُقْسَم به والمُقْسَم له ، أي بيان الصلة بين الشيء الذي وقع
الحلف عليه ، كالنَّهار والليل ، وما رتب عليه من الجواب . وهذا من الأُمور المهمة التي إذا كشفها المُفَسِّر ، لأدرك أنّ تخصيص شيء معين بالقَسَم في هذا المجال دون غيره ، ليس إلّا لرابطة بينه وبين جوابه ، وليس هو أمراً إعتباطياً فاقداً
للمناسبة . وإليك البيان في المقام .
إنّ المُقْسَم به في آيتي « والضحى »
، صورة مادية ، وواقع حسّي يشهد به الناس تألّق الضوء في صحوة النهار ، ثم يشهدون من بعده فتور الليل إذا سجى وَسَكَن ، يشهدون الحالين معاً في اليوم الواحد دون أن يختل نظام الكون أو يكون في توارد الحالين عليه ما يبعث على إنكار . بل دون أن يخطر على بال أحد ، أنّ
__________________
السماء قد تخلّت عن الأرض ،
وأسلمتها إلى الظلمة ، والوحشة بعد تألّق الضوء في ضحى النهار .
فإذا كان هذا حال الفيض المحسوس ،
الذي به حياة البشر ، فهكذا حال الفيض المعنوي ، فينزل الوحي ويغرق المجتمع في بهاء نوره ، ثم يسكن ، فلا عجب في أن يجيء ـ بعد أُنس الوحي ، وتَجَلّي نوره على النبي الأكرم ـ فترة سكون يفتر فيها الوحي على نحو ما نشهد من الليل الساجي ، يوافي بعد الضحى المتألّق .
فإِذن ، القَسَم بالضحى ، وبالليل
إذا سجى ، بيان لصورة حسيّة ، وواقع مشهود ، يمهّد لموقف مماثل لكن غير حسيّ ولا مشهود ، وهو فتور الوحي بعد إشراقه وتجلّيه .
فعند ذلك ، يتجلّى تخصيصهما بالقسم
دون غيرهما ممّا ورد في القرآن من الأُمور المقسم بها . كما يتّضح أنّ نزول الوحي تدريجاً ، ليس دليلاً على أنّه
سبحانه ترك نَبِيَّه أو قَلاه . وذلك لأنّ فتور الوحي ، كنزول الليل بعد الضحى ، فكما هو ليس دليلاً على تخلّي السماء عن الأرض ، وتسليمها إلى الظلمة ، فهكذا نزول الوحي نجوماً ، ليس دليلاً على أنّه سبحانه تخلّى عن رسوله ، وتركه بين أعدائه أو قلاه .
وبذلك يظهر إتّقان جواب القسم أعني
قوله سبحانه :
( مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ ) .
ومن لطائف ما ورد في الجواب هو أنّه
حذف المفعول من قوله : ( وَمَا قَلَىٰ ) ، ولم يقل : «
قَلَاكَ » . وليس ذلك رعاية للفاصلة ، لأنّه عَدَلَ عن رعايتها في آخر سورة الضحى ، حيث قال : ( فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ *
وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ *
وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ )
إذ ليس في السورة ، حرف الثاء على الإطلاق ، وكان بوسعه أن يقول مكان حَدِّث ، فَخَبِّر ، لتتفق الفواصل على مذهب أصحاب الصنعة . فهذا دليل على أنّ الحذف لوجه آخر ، كما أنّ العناية بذكر بلفظة « حدّث » ، مكان « خَبّر » ، لنكتة موجودة في الأولى دون الثانية .
والظاهر أنّ حذف المفعول هو لتحاشي
خطابه تعالى حبيبه المصطفى في مقام الإيناس ، بقوله : « ما قلاك » ، لما في القلي من الطرد ، والإبعاد وشدّة البغض . وهو في الوقت نفسه أَظهر المفعول في « وَدّعك » ، إذ ليس فيه شيء يُكْرَه ، بل هو يؤذن بالفراق على كُرْه ، مع رجاء العود .
( وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَىٰ ) .
إنّ الآخرة إذا قرنت بالأُولى ، يراد
منها اليوم الآخر ، كما في قوله سبحانه : ( فَلِلَّـهِ الْآخِرَةُ
وَالْأُولَىٰ ) . وقوله سبحانه : ( فَأَخَذَهُ اللَّـهُ نَكَالَ
الْآخِرَةِ وَالْأُولَىٰ ) .
ولكن يرجح أن يكون المراد من الآخرة
في الآية ، هو الغد المرجو من أيام بعثته ، لتخصيص كونها خيراً في الآية بالنبي الأكرم ، حيث قال : ( خَيْرٌ لَّكَ ) فالآية تبشّر بالمستقبل الزاهر للنبي الأكرم ، وبهذا يتمّ تأكيد نفي التوديع
والقلي ، ليذهب عن الأذهان أثر فتور الوحي .
والصلة بين هذه الآية وبين ما تقدمها
، واضح على هذا البيان ، والكلّ كسبيكة واحدة .
( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ ) .
اللام لتأكيد لزوم العطاء ، وأنّه
أمر محقَّق . ( وَلَسَوْفَ ) للتراضي . والجمع بين التوكيد مع التسويف الصريح ، لبيان أنّه موضع عناية ربّه في أمسه وغده ، وأُولاه ، وأُخراه .
وأمّا العطاء الذي يحصل به رضا النبي
، فغير محدّد بشيء . وليس وراء الرضا مطمح ، ولا بعده غاية ، ولا حاجة لتحديد هذا الذي يُرضي الرسول ، حتى تقلّل من روعة ذاك البيان المعجز الذي يتجلى سرّه في إطلاقه العام وانتهائه
إلى الرضا .
__________________
( أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ *
وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ *
وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَىٰ ) .
هذه الآيات تبث في نفس الرسول
الطمأنينة ، وتثبت قلبه ، بإلفاته إلى ما أسبغه الله عليه في أُولاه ، من نِعَم : كان يتيماً ، فآواه ، ووقاه مسكنة اليُتْم
، وكان ضالّاً ، فهداه تعالى إلى دين الحق وكان عائلاً فأغناه الله بفضله وكرمه . أفما يكفي هذا ليطمئن كلُّ أحد إلى أنّ الله غير تاركه ولا قاليه ؟ وهل تَرَكَه
حين كان صبياً يتيماً متعرضاً لما يتعرض له اليتامى من قهر وضياع ؟ وهل قلاه حين كان ذا عيلة ؟ كلا ، لا .
واليتيم مظنة الضياع والقهر ، قال
سبحانه : ( وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا
مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ ) . وقد وجه الله محمداً يتيماً عائلاً ، فأعفاه سبحانه من تلك الآثار البغيضة ، وحفظ جوهره من الآفات التي كان معرَّضاً لها بحكم يتمه وعيلته ، وبذلك تمّ فيه الإستعداد النفسي لتلقّي الرسالة الكبرى ، التي بعث بها ليقي الناس من المذلَّة والضلال .
( فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ *
وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ *
وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ) .
أتى بكلمة : « فلا تقهر » ، مع أنّ
في وسعه أن يستخدم كلمة أُخرى ، نحو : « فلا تظلم » ، « فلا تمنع حقه » وغيرهما ، وذلك لأنّ في عبارة : « فلا تقهر » ، معنى أعمق وأدق ممّا يفيده ذانك اللفظان ومشابههما ، إذ يجوز أن يقع
__________________
القهر مع إنصاف اليتيم وإعطائه ماله
، وعدم التسلّط عليه بالأذى ، لأنّ حساسية اليتيم إلى حدّ أنّه يتأثّر بالكلمة العابرة ، واللفتة الجارحة من غير قصد .
والنبرة المؤلمة بلا تنبه ، وإن لم يصحبها تسلّط بالأذى ، أو غلبة على مالِه وحقِّه .
ويحتمل أن يكون المراد من النعمة هو
الرسالة التي أكرمه الله تعالى بها ، وتفضل بها عليه ، وعند ذلك يكون المراد من التحدّث بها هو إبلاغ رسالة ربّه .
ثم في الآيات الثلاث الأخيرة نكتة
بديعة ، فإنّا نرى أنّه سبحانه قَدّم النهي عن قهر اليتيم ونهر السائل ، على التحدّث بنعمته تعالى ، فأخَّر حَقَّ نفسه وهو التحدث بالنعمة ، وقدّم حقّ اليتيم والسائل . وما هذا إلّا لأنّه غنيّ وهما محتاجان ، وتقديم حَقِّ المحتاج أَولى .
وهناك نكتة أُخرى ، وهي أنّه تعالى
لم يرض في حقهما إلّا بالفعل ، ورضى في نفسه بالقول .
* * *
فهاتان السورتان المتقدمتان أوقفتانا
على نموذج من بلاغة القرآن ـ بمعنى المطابقة لمقتضى الحال ـ وزيادة في بيان هذا الجانب البلاغي ، نأتي بنماذج أخرى من
آياته ، حصل فيها تقديم وتأخير وعكس في العبارات ، ممّا قد يتخيل معه أنّه تنويع وتفنن في الكلام ، ولكن بالتأمّل فيها يتّضح أنّه ليس كذلك ، وإنّما اختلاف التعبير نشأ من اختلاف المقتضيات .
١ ـ يقول سبحانه في سورة الأنعام : ( وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِّنْ
إِمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ) .
ويقول سبحانه في سورة الإسراء : ( وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ
خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَّحْنُ
__________________
نَرْزُقُهُمْ
وَإِيَّاكُمْ ) .
والنهي في كلتا الآيتين متوجه إلى
الوالدين . ووجه الإختلاف بينهما أنّ الداعي إلى القتل في الآية الأُولى هو الفَقْرُ المُحَقَّق ، السائد في حياة
الوالدين ، بدلالة قوله : ( مِّنْ
إِمْلَاقٍ ) . وفي
الثانية هو الفَقْر المتوقع ، بدلالة قوله : ( خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ ) . فاختلفت حال الوالدين .
ففي الآية الأُولى ، الخطاب متوجه
إلى الوالدين الفقيرين ، حال الخطاب ، فناسب أن يبدأ وعده بالرزق بهما ثم بأولادهما .
وهذا بخلاف الآية الثانية ، فإنّ
الخطاب فيها متوجه إلى الوالدين الميسورين المرزوقين بالفعل ، ويخافان العيلة والعجز عن رزق أولادهم ولأجل ذلك كانوا يرتكبون ذلك العمل الأسود الوبيل ( قتل أولادهم ) ، فناسب أن يبدأ وعده بالرزق ، بالأولاد أوّلاً ، وبالوالدين ثانياً .
٢ ـ يقول سبحانه في عرض مشهد من
مشاهد يوم القيامة وما يكون الناس عليه من فزع وكرب : ( يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ *
وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ *
وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ *
لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ) .
وفي سورة أُخرى ، في عرض مشهد من هذا
اليوم ، يقول : ( يَوَدُّ
الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ *
وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ *
وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ *
وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ ) .
ففي الآيتين ألفاظ مشتركة ، مثل « بنيه
» و « صاحبته » و « أخيه » . لكن قَدّم في الأولى الأخ ، فالأُم ، فالأَب ، فالصاحبة ، فالبَنين ، مبتدءً بالعزيز فالأَعزّ .
وفي الثانية عَكَس فقَدَّم البنين ،
فالصاحب ، فالأَخ ، فالفصيلة ، فسائر
__________________
الناس ، مقدّماً الأعزّ فالعزيز .
فما هو الوجه في هذا التقديم والتأخير ؟ .
الجواب : إنّ الآية الأُولى
تُصَوّر مشهد الفرار من العذاب والبلاء ، والآية الثانية تمثّل مشهد دفع العذاب عن النفس .
ففي المقام الأول يتخلّى الإنسان عن
العزيز فالأَعزّ ، حتى لا يبقى معه شيء يمكنه أن ينخلع عنه لينجو بنفسه . فلأجل ذلك بدأ في الآية الأُولى بالأخ ، فالأُم ، فالأَب ، فالصاحبة ، فالبنين .
وأمّا في المقام الثاني ، فالإنسان
فيه في حالة الإفتداء من العذاب الشديد الرهيب ، ففي هذا الحال يفدي بعض جوارحه ببعض ليدفع عنه لهيب جهنم . فإن لم ينجع ، يتناول للوقاية أقرب شيء وأحبّه إليه لعلّه ينجو ، وهم البنون ، فالصاحبة ، فالأخ .
فصار الموقفان مختلفين متباينين ،
فالحالة الأُولى تمثّل حركة فرار ، والثانية تمثّل حركة دفاع من خطر داهم . وهذه النكتة ، أوجبت اختلاف النظم بين الآيتين ، وعليها جرى قول الشاعر :
ألقى الصحيفةَ كي يُخَفِّفَ رَحْلَهُ
|
|
والزادَ حتى نَعْلَهُ أَلقاها
|
فإنّ النعل للمسافر الراجل في
الصحراء ، أعزّ الأشياء . وبما أنّ الموقف موقف حركة فرار ، إبتدأَ بالقاء العزيز فالأعز حتى وصل إلى النعلين .
٣ ـ يقول سبحانه : ( لَّا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ ، وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ
اللَّـهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً ، وَكُلًّا وَعَدَ اللَّـهُ الْحُسْنَىٰ
وَفَضَّلَ اللَّـهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ) . فَقَدَّمَ الجِهادَ
بالأَمْوالِ على الجِهادِ بالأنفس في مَوْردين من هذه الآية .
ويقول سبحانه في آية أخرى : ( إِنَّ اللَّـهَ اشْتَرَىٰ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ
__________________
وَأَمْوَالَهُم
بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ، يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ فَيَقْتُلُونَ
وَيُقْتَلُونَ ، وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ) . فقدم هنا الأنْفَس على الأموال ، مع أنّها واردة أيضاً في مجال الجهاد .
فهل هذا للتفنن في العبارة ؟ أو أنّ
الحال يقتضي في الآية الأُولى ونظائرها ، تقديم الجهاد بالأموال على الأنفس ، وفي الآية الثانية العكس .
التحقيق هو الثاني ، بل هو المتعين ،
لأنّ الآية الأُولى بصدد بيان جهاد المؤمنين بالأموال والأنفس ، ومن المعلوم أنّ الإنسان يبتديء في الجهاد بالعزيز فالأعز ، فيجاهد بماله أولاً ثم بنفسه . وأمّا الآية الثانية فهي بصدد بيان شراء
الله سبحانه من المؤمنين ، ومن المعلوم أنّ المشتري يبتغي الأعزّ فالعزيز ، ويختار
لنفسه الأغلى فالغالي . والنفوس أغلى من الأموال .
والعجب أنّ القرآن راعى هذه النكتة
في جميع الموارد التي ذكر فيها الجهاد بهما
.
٤ ـ يقول سبحانه حاكياً عن لسان
إبراهيم عليه السلام : ( رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ
الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ، إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) فقدم فيها التعليم
على التزكية .
ولكن في موضع آخر عكس وقدم التزكية
على التعليم ، فقال : ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ
وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ) . فعكس في هذه الآية وقَدّم فيها التزكية على التعليم .
__________________
ونحن نترك للباحث الكريم استكشاف وجه
الإختلاف بين الآيتين ، ليستنبطه على ضوء ما ذكرنا . وكم لهذا من نظير في كتاب الله المجيد .
* * *
الأمر الثاني ـ سمو المعاني
إنّ التالي لآيات الذكر الحكيم ـ إذا
كان ممعناً في تلاوته ـ يرى في كل سورة وآية عظة وتنبيهاً ، وإعلاماً وتذكيراً ، وترغيباً وترهيباً ، وتشريعاً وتقنيناً ،
وقصصاً ، وعبراً ، وبراهين وحُجج ، ترقى بروح الإنسان وتحلّق بها في سماء المعنويات . فهذه المعاني العالية السامية الدقيقة ، إذا حَمَلَتْها ألفاظ فصيحة ،
وصِيغَتْ في نُظُم رصينة ، وَرُصِّعَتْ بأُسلوب بديع ، وأُلقيت على مقتضى الحال ، بهرت العقول ، وخَلَبَتْ النفوس ، وسَلَّمَتْ بعجزها عن معارضته والإتيان بمثله .
وقد ركّز النبي الأعظم في حديثه عن
القرآن ، على هذا الأمر ، حيث قال : « وباطنه عميق » . كما اعترف به عدوّه اللدود ، الوليد بن المغيرة ، حيث قال : « إنّ أعلاه لمثمر ، وإنّ أسفله لَمُغْدق » .
إنّ النظرة الفاحصة ، في آثار الكُتّاب
والمؤلفين ، تدفعنا إلى القول بأنّهم لا يخرجون عن طائفتين : طائفة تهتم بتزيين الألفاظ دون العناية بسمو المعنى .
وطائفة أُخرى تهتم بإبداع المعاني من
دون عناية بتحسين اللفظ .
وقلما يتّفق من يراعي كلا الأمرين ،
والجمع بينهما مشكل . لأنّ الألفاظ والجمَل الخلّابة لا تطابق الموضوعية والواقعية . فالذين يرغبون في إفهام المعاني
لا يفتشون عن الألفاظ والعبارات الخلّابة . فالجمع بين الجمالين ، رهن عبقرية ونُبوغ قادرين على تحمّل عبئهما .
والقرآن الكريم أَبْرَزُ نَموذَجٍ
للقسم الثالث . فألفاظه في منتهى العُذوبة ، ومقاطع الآيات وفواصلها في غاية الأناقة ، والأُسلوب في منتهى البداعة ، وقد ضمّ إلى هذا الجمال الظاهر ، عمقاً في المعنى ، لا تجد له مثيلاً في زبر الأولين
وكتب الآخرين .
إن التصوير الدقيق لسمو معاني القرآن
لا يتأتى إلّا بذكر نماذج من الآيات في مجالات مختلفة .
١ ـ المعارف العُلْيا
يتجلى سمو معاني القرآن في مجال
المعارف بشكل واضح . فقد جاء هذا الكتاب بأسمى المطالب ، وأغزر المضامين ، في الدعوة إلى التوحيد ورفض الأصنام ، ونفي الشرك والإثنينيّة ، بل في باب إثبات الصانع ، وصفاته . مضافاً إلى ما جاء من المضامين الدقيقة الفلسفية في الدعوة إلى عالم الغيب ، وبقاء الروح بعد فناء البدن ، وحشر الإنسان وعوده إلى الحياة ، إلى غير ذلك ممّا ذكرنا بعضاً منه في الجزء الأول ، ونذكر بعضاً آخر فيما يأتي من المباحث . ولكن لأجل عرض نموذج منه نأتي في هذا المقام بآيات :
أ ـ يقول سبحانه : ( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ
أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ
خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ * أَمْ
عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ ) .
أُنظر إلى هذا البيان الجزل ، كيف
يشير إلى برهان الإمكان بصورة موجزة مستحكمة لم يكن العرب ولا حكماؤهم عارفين به . وتتّضح حقيقة سمو المعنى إذا أمعنت النظر في كل شقّ من هذه الشقوق الأربعة .
ب ـ يقول سبحانه : ( مَا اتَّخَذَ اللَّـهُ مِن وَلَدٍ ، وَمَا
كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَـٰهٍ ، إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـٰهٍ بِمَا خَلَقَ ، وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَىٰ
بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّـهِ عَمَّا يَصِفُونَ ) .
ويقول سبحانه : ( أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ
الْأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ * لَوْ
كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّـهُ لَفَسَدَتَا ، فَسُبْحَانَ اللَّـهِ رَبِّ الْعَرْشِ
عَمَّا يَصِفُونَ ) .
__________________
فترى أنّه يستدلّ في هذه الآيات على
التوحيد في التدبير ، وأنّ النظام الجُمَلي يدار بمدبّر واحد لا غير .
ج ـ إنّ القرآن يستدلّ على إمكان
المعاد وعود الإنسان إلى الحياة ثانياً بطرق مختلفة ، بشكل يقنع المتحري للحقيقة ، المتجرّد عن العناد . وإليك نظرة عابرة عليها .
فتارة يستدلّ عن طريق عموم القدرة
على كل شيء ، على إمكان المعاد ، ويقول : ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّـهَ
الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَىٰ بَلَىٰ إِنَّهُ
عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .
وأخرى عن طريق قياس الإعادة على
الحياة الأولى ، ويقول : ( كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ ) .
وثالثة عن طريق قياس إمكان إحياء
الموتى بإحياء الأرض ـ بعد موتها ـ بالمطر والنبات ، ويقول : ( وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَٰلِكَ
تُخْرَجُونَ ) .
ورابعة عن طريق قياس قدرة الإعادة ،
على القدرة على إخراج النار من الشجر الأخضر ، ويقول : ( قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ
بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا
أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ ) .
وخامسة عن طريق الإستدلال بالوقوع
على إمكان العود . فإن أدلّ دليل على إمكان الشيء وقوعه ، ولأجل ذلك نقل سبحانه قصة بقرة بني إسرائيل وحديث عُزَيْر
__________________
وسادسة عن طريق الإستدلال بالنَّوْمات
الطويلة التي امتدت أكثر من ثلاثمائة سنة ، فإنّ النوم أخو الموت ، ولا سيما الطويل منه ، والإستيقاظ منه يشبه
تطور الحياة وتجددها .
فهذا النوع من البرهنة على عقيدة هي
كالعمود الفقري في باب العقائد ، ممّا لا ترى له مثيلاً في كتب الأقدمين ، فإنّ هذه المعاني البديعة إذا انضمّ إليها الإستحكام في البيان ، تبهر العقول وتدهش النفوس .
وهذا النوع من العمق وافر في الآيات
الواردة حول المعارف والعقائد ، وقد اكتفينا بما ذكرناه .
* * *
٢ ـ سطوع براهينه
إنّ القرآن الكريم كتاب الهداية ،
نزل للناس أجمعين ، ليبقى خالداً على جبين الدهر ، يرجع إليه كل من تحرّى الحقيقة ، وارتاد الواقع ، ولأجل ذلك اعتمد على البراهين اللامعة ، لا على الأساليب المعقّدة التي كانت ولم تزل ، رائجة
بين الفلاسفة . فأخذ من المسلّمات برهاناً على النظريات ، ومن المشاهدات دليلاً على الحقائق غير المحسوسة ، كل ذلك ببيان واضح ، لا يقبل الخدش والشك . ويستلذّ به الذوق ، وتستسلم له العقول . وإليك نماذج من هذه البراهين :
١ ـ قال تعالى : ( قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ
وَلَدٌ ، فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ) .
فلاحظ ما أحلى استدلاله على نَفْي
الولد ، بأنّه لو كان له وَلَدٌ كما يقول هؤلاء ، فاللائق للاتخاذ ولداً ، هم الأنبياء والمرسلون ، الذين عبدوه ، وخضعوا له ، وائتمروا بأمره .
__________________
٢ ـ وقال تعالى : ( وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ
ثُمَّ يُعِيدُهُ ، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ) . إذا كان الخصم
معترفاً بأنّ الله هو الذي بدأ الخلق . . . إذن فالإعادة أهون من البدأة ، لأنّها من شيء ، وتلك لا من شيء .
٣ ـ وقال تعالى : ( وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ
حَتَّىٰ يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ ) . فقد رتّب دخولهم
الجنة على ولوج الجمل في خرم الأبرة . ولما كان ذلك أمراً ممتنعاً ، كان ذاك أيضاً مثله . فقد أبدى امتناع دخولهم الجنة بهذا الشكل القياسي بكناية بديعة .
٤ ـ وقال تعالى : ( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ *
فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ) . فقد رتّب النتيجة على صغرى القياس مع حذف الكبرى لظهورها ، وهي : أنّ من أعطاه الله الكوثر ـ وهي مجموعة المكرّمات ـ فينبغي له أن يؤدّي شكره الواجب ، بالإبتهال إلى الله والمثول لديه بكل الوجود .
٥ ـ وقال تعالى : ( وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا
وَلَـٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ ) . قياس استثنائي مركّب من قضيّة شرطية مضمونها : ( وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَـٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا ) . وأُخرى حملية استثنائية مضمونها : ( وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ
لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ *
قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنسَىٰ ) .
__________________
٦ ـ وقال تعالى : ( فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ
الْآفِلِينَ ) . الكبرى مطوية ، أي وَكُلُّ آفلٍ غير مستحق للعبادة .
* * *
٣ ـ بداعة التصوير والتعبير
إنّ للقرآن طريقة موحدة في التعبير
يتّخذها في أداء جميع الأغراض على السواء ، حتى أغراض البرهنة والجدل ، وتلك طريقة صوغ المعاني العالية في قالب التجسيم والتمثيل . ونحبّ أن نزيد المسألة إيضاحاً بالنماذج ، وأنّه كيف يصوّر المعاني السامية والحالات النفسية ويبرزها في صور حسيّة ، من غير فَرْقٍ بين المشاهد الطبيعية ، والحوادث الماضية والقصص المروية ، ومشاهد القيامة ، وصور النعيم والعذاب ، فيعبّر عن الكلّ كأنّها حاضرة شاخصة ، ولا شكّ أنّ هذه الطريقة تتفوق على نقل المعاني والحالات النفسية في صورها الذهنية التجريدية ، ونقل الحوادث والقصص أخباراً مروية ، والتعبير عن المشاهد والمناظر تعبيراً لفظياً
لا تصويراً خيالياً . وإليك الأمثلة .
١ ـ معنى النفور الشديد من دعوة
الإيمان ، يعبّر عنه بوجهين : أحدهما تجريدي ، والآخر تصويري .
فيقال في الأول : « إِنَّهُمْ لَيَنْفِرونْ
أَشَدَّ النِّفْرَةِ مِنْ دَعْوَةِ الإِيمان » . فيتملَّى الذهن وحده معنى النفور في برود وسكون .
ويقال في الثاني : ( فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ
مُعْرِضِينَ *
كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ * فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ ) فتشترك مع الذهن
حاسة النظر ، وملكة الخيال ، وانفعال السخرية من هؤلاء الذين يفرون ، كما تَفر حُمُر الوحش من الأسد ، لا لشيء إلّا
__________________
لأنّهم يدعون إلى الإيمان . فتأخذ
النفس روعة الجمال الذي يرتسم فيه صورة شرود هذه الحمر يتبعها قسورة المرهوب .
٢ ـ معنى عجز الآلهة التي يعبدها
المشركون من دون الله يُعَبَّر عنه بوجهين : أحدهما ذهني مجرّد ، والآخر تصويري .
ففي الأول يقال : « إنَّ ما تَعْبُدونَ
مِنْ دُونِ الله لأَعْجَزُ عَنْ خَلْقِ أَحْقَرِ الأَشْياء » . فَيَصِلُ المعنى إلى الذهن مجرّداً باهتاً .
وفي الثاني يقال : ( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ
اللَّـهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ، وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ
مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ) .
ففي الثاني أُبرز هذا المعنى بِصُوَرٍ
متحركةٍ متعاقبةٍ .
« لن يَخْلُقُوا ذُباباً » ، هذه
درجة .
« وَلَوْ اجْتَمعوا له » ، هذه أُخرى
.
« وإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً
لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ » ، وهذه الثالثة .
ففيها تصوير للضعف المُزري ،
والتدرّج في تصويره بما يثير في النفس السخرية اللاذعة والإحتقار المهيب .
٣ ـ يُعَبَّر عن حالة تخلي الأولياء
عن تابعيهم أمامَ هول القيامة بصورتين ، كالسابقتين . في إحداهما ، يقال : لا لَقَدْ تَناكَرَ الأَصفْياءُ وتَخَلّى المَتْبوعونَ
عن التابِعينَ حينما شاهدوا الهَوْل يَوْمَ الدِّينِ » .
وفي ثانيتهما ، يقال : ( وَبَرَزُوا لِلَّـهِ جَمِيعًا ، فَقَالَ
الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا : إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا ، فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا
مِنْ عَذَابِ اللَّـهِ مِن شَيْءٍ قَالُوا : لَوْ هَدَانَا اللَّـهُ لَهَدَيْنَاكُمْ ، سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا
أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن
__________________
مَّحِيصٍ ) .
ففي هذا الإستعراض يتجسم للخيال
مشهدان :
الضعفاء الذين كانوا ذيولاً للأقوياء
، وهم ما يزالون في ضعفهم يلجأون إلى الذين استكبروا في الدنيا ، يسألونهم الخلاص من هذا الموقف ، ويعتبون عليهم إغواءهم في الحياة ، متمشين في هذا مع طبيعتهم الهزيلة ، وضعفهم المعروف .
والذين استكبروا ، وقد ذلّت كبرياؤهم
وواجهوا مصيرهم ، وهم لا يملكون لذات أنفسهم خلاصاً ، فضلاً عن تابعيهم ، فما يزيدون على أن يقولوا لهم : « لَوْ هدانا الله لَهَدَيْناكُمْ » .
٤ ـ يُعَبَّر عن بطلان أعمال
الكافرين بأنّها : « لا وَزْنَ لَها ولا تَنْفَعْ » . كما يعبر عن ضلالتهم الدائمة ، بأنّهم : « لا مَخْرَجَ لهم منها ولا هاديَ لهم فيها »
. ولكن في هذا التعبير ركود وسكون لا تَنْتَعش النفس به أبداً .
وأين هو من التعبير القرآني في كلا
الموردين ( بطلان أعمالهم ، وإحاطة الضلالة بهم ) الذي تحيا فيه النفس وتتحرك ، وينتعش فيه الحسّ والخيال : ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ
كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ
لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّـهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّـهُ سَرِيعُ
الْحِسَابِ ) .
ويقول : ( أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ
لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ ، مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ ، مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ، ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ ، إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ
لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ، وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّـهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ ) .
ففي التعبير الثاني ـ في كلا
الموردين ـ صور متينة ساحرة فيها روح القصة ، والخيال العميق .
__________________
وأين للريشة في ترسيم هذه الصور لو أُريد
تصويرها بالألوان ، وإلى أين للعدسة لو أُريد تصويرها بالحركات .
بل أين هي الريشة ، وأين هي العدسة ،
التي تستطيع أن تبرز هذه الظلمات : ( فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ
مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ، ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ) ؟ . أو تصوّر الظمآن يسير وراء السراب : ( حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ
يَجِدْهُ شَيْئًا ) ، ووجد
مفاجأة عجيبةً لم تكد تخطر له على بال ، وجد الله عنده ، وفي سرعة خاطفة تناوله ، فوفّاه حسابه .
٥ ـ وَمِنْ هذا الوادي تصوير معنى
الضلال بعد الهدى . وضياع الجهد معه سدى ، تلك الصور المتتابعة التي يجيش بها الحسّ والخيال ، وتحيىٰ بها النفس
، يقول سبحانه :
( أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ
بِالْهُدَىٰ ، فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ * مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ
مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّـهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَّا يُبْصِرُونَ *
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ * أَوْ
كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ
فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّـهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ *
يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ ، كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم مَّشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا ، وَلَوْ شَاءَ اللَّـهُ لَذَهَبَ
بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّـهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .
إنّ هنا مشهداً من الصور المتتابعة
في شرائط متحركة ؛ هؤلاء هم قد أوقدوا النار فأضاءت ، وفَجأة يذهب الله بنورهم ويُخَيِّمُ حولهم الظلام . أو ها هي ذي العاصفة صَيّبٌ من السماءِ فيه ظلمات ورعد وبرق ، وهؤلاء هم مذعورون يتوقعون الصاعقة ، ويخافون الموت ، فيجعلون أصابعهم في آذانهم ، وما تغني الأصابع في الآذان ، ولكنها حركة الغريزة في هذا الأَوان . وها هو ذا البرق يخطف الأبصار ولكنه ينير الطريق لحظة ، فهم يخطون على ضوئه خطوة ، وها هوذا ينقطع فيظلّون واقفين لا يدرون كيف يَخْطون .
__________________
لون آخر من التصوير الفني
هذه نماذج من التصوير الفني في
القرآن الكريم وهناك لون آخر من التصوير يضفي على المعاني الذهنية والحالات المعنوية صوراً حسيّة . مثلاً :
١ ـ الصبح مشهدٌ مألوف متكرر ، ولكنه
في تعبير القرآن حيٌّ لم تشهده من قبل عينان ، وأنه ( وَالصُّبْحِ
إِذَا تَنَفَّسَ ) .
٢ ـ والليل آن من الزمان معهود ،
ولكنه في تعبير القرآن ، حي جديد ، ( وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ) ، وهو يطلب النهار في سباق جبّار ( يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا ) .
٣ ـ والظلّ ظاهرة تُشهد وتُعرف ،
ولكنه في تعبير القرآن نَفْسٌ تَحُسُّ وتَتَصرّف ، ( وَظِلٍّ
مِّن يَحْمُومٍ * لَّا
بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ ) .
٤ ـ والجدار بُنْيَةٌ جامدة كالجلمود
، ولكنه في تعبير القرآن يحسّ ويريد : ( فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ
أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ ) .
٥ ـ والطَّير أبنية حية ، ولكنها
مألوفة لا تلفت الإنسان ، أمّا في تعبير القرآن فمشهد رائعٌ ، يثير الجَنان : ( أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ
وَيَقْبِضْنَ ، مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَـٰنُ ) .
٦ ـ والأرضُ والسماءُ ، والشَّمْسُ
والقَمَرُ ، والجبال والوديان ، والدُور العامرة ، والآثار الداثرة ، والنبات والأشجار والأفنان ، أمواتٌ عند الناس ، لكنها في القرآن أحياء ، أو مشاهد تخاطب الأحياء ، فليس هناك جامد ولا ميت بين الجوامد والأشياء .
__________________
٤ ـ الأمثال
يشتمل القرآن الكريم على أكثر من
خمسين مثلاً في مجال هِداية الناس . وهذه الأمثال مع بساطتها غزيرة المعاني ، عالية المضامين . ونحن نذكر في المقام نموذجاً منها يتبلور فيه عمق المعنى بشكل آخر .
الصراع بين الحق والباطل
يصوّر القرآن الكريم الصراع القائم
بين الحق والباطل بصورة مثل بديع ، يشتمل على نكات بعيدة الأغوار ، عميقة الإشارات ، في ألفاظ قليلة ، وعبارات متناسقة ، ويقول :
( أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ، فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ
بِقَدَرِهَا ، فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا ، وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ
مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ ، كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّـهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ ، فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ،
وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ، كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّـهُ الْأَمْثَالَ ) .
إنّ هذه الآية من أعمق الآيات
القرآنية ، فهي ـ بلباس المثل ـ تطرح معاني سامية تبين فيها مكانة الباطل من الحق . ففي هذا المثال ، تشبّه الآية كلا من الحق
والباطل بأمرين :
الأول : إنّ الحق كالماء
النازل من السماء ، المتجمع في أعماق الأرض ، أو الجاري جداول وأنهاراً ، بعد انحداره من سفوح الجبال إلى الأودية والسهول .
والباطل كالزبد والرغوة التي تعلو
وجه الماء حال سيلانه واندفاعه ، التي لا تلبث أن تتلاشى كأنّ لم تكن شيئاً مذكوراً .
الثاني : إنّ الحق كرواسب
الأتربة المعدنية المذابة في الأفران ، فإنّها خالص المعادن والفلزات .
__________________
والباطل كالزبد والفقاعات التي تعلو
هذه الأتربة حال غليانها ، التي سرعان ما تنفجر وتتبخر .
فالصورة العامة التي يعطيها هذا
المثل ، ترسيم ثبات الحق ودوامه بتشبيهه ، بالماء النازل من السماء ، الجاري في الأودية والوهاد ، الغائر في أعماق الأرض ،
ثم الظاهر ، بصورة العيون والينابيع ، التي تستفيد المخلوقات منها في دوام حياتها . وبالمعادن المذابة ، الراسبِ خالصها في أعماق الأفران ، التي يستفيد منها الناس في
زينتهم وأمتعتهم .
وكذلك ترسيم سرعة أُفول الباطل بعد
نجومه بتشبيهه بالزبد الذي يرغو فوق الماء ، والمعادن المنصهرة ، الذي يتصوره الجاهل شيئاً ثابتاً قائماً ، ولكن
ما أسرع اختفاءه وزواله ، فلا يرى منه عين ولا أثر .
وعلى ذلك فللحق ثبات ودوام ، وللباطل
جولة وزوال .
ومع هذا ، ففي هذا المثل معانٍ عميقة
، وإشارات دقيقة إلى مكانة كل من الحق والباطل ، نشير إلى بعضها . .
١ ـ إنّ الحق والباطل يتمثّلان في
مجال العقيدة ، في الإيمان والكُفْر ، والعَدْل والظُلم .
فبالإيمان بالله تبارك وتعالى تحيا
القيم الإخلاقية ، كما أنّ بالكفر موت المثل والفضائل وانعدام الكمالات الإنسانية .
ومثل ذلك العدل والظلم ، ففي ظِلّ
العدل تتفجّر الطاقات وتترقى المجتمعات ، وينال كل إنسان الغاية التي يليق بها ، كما أنّ في الظُلم كبت الإستعدادات ، وتقديم المفضول وتأخير الفاضل ، ولن يزال المجتمع الظالم يتدهور إلى أن لا يرى له أثر .
فأشبه الإيمان والعدل ، الماء الذي
به حياة كل شيء ، وخالص المعادن المترسب في قعر أفران الصَّهْر ، إذ عليها تعتمد حياة الإنسان الدنيوية ، وتترتب المنافع الكثيرة ، قال سبحانه : ( وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ
لِلنَّاسِ ) . فالحديد وأضرابه ، هو الذي يدير عجلة الحضارة ، وبفقدانه شللها التام .
وأشبه الكفر والظلم ، الزبد الذي
يرغو على وجه الماء والمعادن المنصهرة ، لا يستفاد منه ولا يعتمد عليه في شيء .
٢ ـ إنّ الباطل ربما يصير حجاباً عن
الحق ، فيكون مانعاً بينه وبين طالبه ولكن هذا الحجاب سرعان ما يزول ويتجلى وجه الحقيقة بصورته الواقعية ، تماماً كما أنّ الزبد يعلو وجه الماء ويوجب برغوته حدوث غشاوة ساترة لما تحته ، والإنسان الجاهل يحسب أن لا شيء تحته سوى العفن والطين والتراب ، ولكن سرعان ما تخمد رغوته ، وتنقشع غشاوته ، ويتجلى الماء صافياً زلالاً ، أو الأتربة المنصهرة ، معادن وفلزات نفيسة ونافعة .
فالأفكار الإلحادية ربما تستر وجه
الحق ، وتحول بينه وبين طالبه ، لكن تعلقت مشيئته سبحانه على إحقاق الحق ومحو الباطل .
قال سبحانه : ( وَيَمْحُ اللَّـهُ الْبَاطِلَ ، وَيُحِقُّ
الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ ) .
وقال سبحانه : ( وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ
الْبَاطِلُ ، إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ) .
٣ ـ إنّ الوجود النازل من عنده تعالى
على الموجودات ، خال في نفسه عن الصور والأقدار ، وإنّما يَتَقَدَّر من ناحية الأشياء ، أنفسها ، كماء المطر
النازل من السحاب على ساحة الأرض ، خال في نفسه عن الصور والأقدار ، وإنّما يحتمل من القدر والصورة ما يطرء عليه من ناحية قوالب الأودية ، ومجاري الأنهار ، والسواقي ، والأحواض والبرك والمستنقعات ، المختلفة في الأقدار والصور .
فالحق فيض إلهي ، يأخذ منه كل إنسان
بحسب لياقته وسعة ذهنه . فمن
__________________
الناس من يكون واسع الصدر ، كامل
الإستعداد فيأخذ منه القسط الأكبر ، ومنهم من لا يزيدون عن معشار ذلك .
ويُلَوّح إلى ما ذكرنا آيات كثيرة ،
منها قوله سبحانه : ( وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ) .
وقال أمير المؤمنين عليه السلام : « إنّ
هذه القلوب أوعيةٌ ، فخيرها أوعاها » .
٤ ـ إنّ الباطل في ثورانه وجولانه في
أمده القصير ، فرع اعتماده على الحق ، واتّخاذه واجهة لأعماله . فلو تجرّد عن الحق بالكلية ، لما كان له حتى هذا السهم القصير ، كالزبد لا يتجلى إلّا بركوبه الماء ، كما أشار إليه سبحانه بقوله : ( فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا ) .
٥ ـ إنّ الباطل لا يظهر إلّا في الأجواء
الصاخبة والمجتمعات المتضاربة . كالزبد الذي لا يظهر إلّا عند تدفق المياه واجتياحها القنوات الضيقة ، فإذا انتهت إلى السهول الفسيحة ، زال الزبد شيئاً فشيئاً ، ولا يبقى بعده إلّا الماء الزلال .
وكذلك الزبد الناجم عند عملية الصهر ، فطالما أنّ المعادن في حالة الغلي والفَوَران
يكون الزبد على وجهها ، فإذا هدأت النار وتوقف الغليان لم يبق إلّا المعادن الخالصة .
فهذه بعض التصويرات للمفاهيم القيمة
العميقة التي جاءت بها هذه الآية المباركة على وجازتها ، وكلما تعمّق الإنسان فيها انفتحت له أبواب من المعارف
__________________
العُلْيا ، والحقائق السامية ، وأقَرَّ
بأنّ هذا القرآن : « باطنه عميق » ، وأنّ « أعلاه لمثمر ، وأسفله لمُغْدق » .
* * *
٥ ـ آية تحتمل مليوناً وماءتين وستين ألف احتمال
هناك نمط آخر من عمق المعنى ، يغاير
النمط السابق منه ، وهو أنّه يوجد في القرآن آيات يتردد المقصود منها بين احتمالات تدهش العقول وتحيّر الألباب ، وهي بَعْدُ معتمدة على أريكة حسنها ، متجملة في أجمل جمالها ، متحلية بحليِّ بلاغتها وفصاحتها . ونذكر من هذا النمط نموذجاً واحداً ، ونشير في آخر الكلام إلى نموذج آخر :
قال سبحانه : ( وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ
عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَـٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا ، يُعَلِّمُونَ النَّاسَ
السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ ، هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ
يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ ، فَلَا تَكْفُرْ ، فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ
وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّـهِ ، وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ ،
وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا
يَعْلَمُونَ *
وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّـهِ خَيْرٌ لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) .
إنّ هذه الآية تحتمل من المعاني
الكثيرة ما يدهش الإنسان ويثير إعجابه ، وهي ناشئة من كيفية تبيين مفرداتها وجملها . وهذه الإحتمالات يراها المتتبع في كتب التفاسير ، وهي :
١ ـ ما هو المراد من الضمير في قوله
: « اتّبعوا » ، أهم اليهود الذين كانوا في عهد سليمان ، أو الذين في عهد رسول الله ، أو الجميع ؟ .
__________________
٢ ـ ما هو المراد من قوله : ( تَتْلُو ) ، فهل هو بمعنى تتبع ، أو بمعنى تقرأ ، أو بمعنى تكذب ؟ .
٣ ـ ما هو المراد من الشياطين : فهل
هم شياطين الجن أو شياطين الإنس أو كلاهما ؟ .
٤ ـ ماذا يراد من قوله : ( عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ ) ، فهل هو بمعنى : « في ملك سليمان » ، أو : « في عهد ملك سليمان » ، أو : « على ملك سليمان » ، بحفظ ظاهر الإستعلاء الموجود في معنى على ، أو بمعنى : « على عهد ملك سليمان » ، كذلك ؟ .
٥ ـ ما هو المراد من قوله : ( وَلَـٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ
كَفَرُوا ) . أهو بمعنى
: « كفروا بما أخرجوه من السحر إلى الناس » ، أو بمعنى : « إنّهم كفروا بما نسبوه
إلى سليمان من السحر » ، أو بمعنى : « إنّهم سحروا » ، فعبر عن السحر بالكفر ؟ .
٦ ـ ماذا يراد من قوله : ( يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ) ، فهل هو بمعنى : « ألقوا السحر إليهم فتعلموه » ، أو بمعنى : « إنّهم دلّوا الناس على استخراج السحر » ، وكان مدفوناً تحت كرسي سليمان فاستخرجوه وتعلّموه ؟ .
٧ ـ ما هو المراد من « ما » في قوله
: ( مَا تَتْلُو ) . فهل هي موصولة عطفت على قوله : « السحر » ، أي « يعلمونهم ما أنزل على الملكين » . أو نافية ، والواو استئنافية ، أي « ولم ينزل على الملكين سحرٌ كما يدّعيه اليهود » ؟ .
٨ ـ ماذا يراد من قوله : ( أُنزِلَ ) . فهل المراد « إنزال من السماء » ، أو : « من نجود الأرض وأعاليها » ؟ .
٩ ـ ماذا يراد من قوله : ( الْمَلَكَيْنِ ) . فهل كانا من ملائكة السماء ، أو كانا إنسانين مِلكَين ( بكسر اللام ) ، كما في بعض القراءات ، أو مَلَكَيْنِ ( بفتح اللام ) أي صالحين ، أو متظاهِرَيْن بالصلاح ؟ .
١٠ ـ ما هو المراد من قوله : ( بِبَابِلَ ) ، فهل هي بابل العراق ، أو بابل دماوند ، أو من نصيبين إلى رأس العين ؟ .
١١ ـ ماذا يراد من قوله : ( وَمَا يُعَلِّمَانِ ) . فهل « علم » بمعناه الظاهر ، أو بمعنى « أعلم » ؟ .
١٢ ـ ماذا يراد من قوله : ( فَلَا تَكْفُرْ ) . فهل المراد : « لا تكفر بالعمل والسحر » ، أو المراد : « لا تكفر بتعلمه » ، أو كلاهما ؟ .
١٣ ـ ماذا يراد من قوله : ( فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا ) ، فهل المراد : « يتعلمون من هاروت وماروت » ، أو المراد : « يتعلمون من السحر والكفر » ، أو المراد النهي إلى فعله ؟ .
١٤ ـ ما هو المراد من قوله : ( يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ
وَزَوْجِهِ ) فهل أُريد منه أنّهم يوجِدون به حبّاً وبُغضاً بينهما ، أو أنّهم يغرون أحد الزوجين ويحملونه
على الكفر والشرك فَيفَرِّق بينهما اختلاف الملة والنحلة . أو أنّهم يسعون بينهما
بالنميمة والوشاية فيؤول إلى الفرقة ؟ .
فهذه احتمالات تحتملها الآية . وأنت
إذا ضربت عدد الإحتمالات التي ذكرناها في بعضها ارتقى عدد الإحتمالات إلى كمية عجيبة تقرب من مليون وماءتين وستين ألف احتمال .
وليست هذه الآية وحيدة في بابها ،
وإن كانت قليلة النظير ، بل لها نظائر منها قوله سبحانه :
( أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ
وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ ، وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ إِمَامًا وَرَحْمَةً ، أُولَـٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ، وَمَن يَكْفُرْ بِهِ
مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ ، فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَـٰكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ) .
__________________
فإنّك لو تفحصت الإحتمالات التي
ذكرها المفسّرون لمفرداتها وجملها ، لوقفت على أنّ الآية تحتمل من المعاني ما يدهش العقول .
قال العلّامة الطباطبائي : « وأَمْرُ
الآية فيما يحتمله مفردات ألفاظها وضمائرها عجيب ، فلو ضرب بعضها في بعض يرقى عدد الإحتمالات إلى أُلوف منها ، بعضُها صحيح وبعضها غير صحيح » .
وقد ذكر هو قدس سرّه أُصول الإحتمالات
في تفسيره ، فمن أراده فليرجع إليه .
* * *
__________________
النظم
: رصانة البيان واستحكام التأليف .
تعريف النظم
١ ـ النظم هو لجام الألفاظ ، وزمام
المعاني ، وبه تنتظم أجزاء الكلام ويلتئم بعضها ببعض ، فتقوم له صورة في النفس ، يتشكل بها البيان .
٢ ـ النَّظْمُ هو وضع كلِّ لفظ في
موضعه اللائق به ، بحيث لو أُبدل مكانه غيره ، ترتب عليه إمّا تبدل المعنى ، أو ذهاب رونقه وسقوط البلاغة معه .
٣ ـ النظم هو رعاية قوانين اللغة
وقواعدها ، على وجه لا يكون الكلام خارجاً عمّا هو المرسوم بين أهل اللغة .
هذه تعاريف ثلاثة للنظم ، غير أنّ
المقصود منه هنا هو تماسك الكلمات والجمل ، ووضع كل كلمة مكانها . وأمّا رعاية القوانين ، فهي وإن كانت دخيلة في تحقق النظم ـ فإنّ الكلام الخارج عن إطارها متخلخل ـ غير أنّ القرآن أرفع شأناً من أن يعرض على القواعد ، بل هي تعرض عليه ، كما تقدم . ولأجل ذلك نركّز في النظم على الأمرين الأولين ، الإنسجام أولاً ، ووضع كل كلمة مكانها ، ثانياً .
وقد أعطى الشيخ عبد القاهر الجرجاني
للنظم القسط الأوفر من إعجاز القرآن ، بل جعله السبب الوحيد فيه ، وقال ـ بعد ردّ كل ما يمكن أن يكون وجهاً
للإعجاز ـ : « فلم يَبْقَ إلّا
النظم ، وليس هو شيئاً غير توخي معاني النحو ، وأحكامه . وإنّا إن بقينا الدهر نُجهد أفكارنا حتى نعلم للكلم المفردة سلكاً ينظمها ، وجامعاً يجمع شملها ، ويؤلفها ، ويجعل بعضها بسبب من بعض ، غير توفّي معاني النحو وأحكامه فيها ، طلبنا ما كلُّ محال دونه » .
وكلامه هذا لا ينافي ما ذكرناه ،
لأنّه يرمي إلى أنّ الإنسجام التام بين جمل الآية حصل في ظل تحقيق هذه القواعد ورعايتها فيها .
وقال الزملكاني : « إنّ وجه الإعجاز
يرجع إلى التأليف الخاص به ، بأن اعتدلت مفرداته تركيباً وزِنَةً ، وعلت مركباته معنىً ، بأن يوقع كل فن في مرتبته العليا في اللفظ والمعنى » .
ثم ليعلم أنّ الكلام يقوم على ثلاثة
أشياء :
١ ـ لفظ حامل .
٢ ـ معنى قائم باللفظ .
٣ ـ ورباط لهما .
وهذه الأمور الثلاثة توجد في القرآن
على الوجه الأحسن ، فالألفاظ عذبة ( الدعامة الأولى ) ، والمعاني سامية وراقية ( الدعامة الثانية ) ، والكلمات
والجمل مترابطة ومتلاحمة أشدّ التلاحم والتشاكل ، وهذه هي الدعامة الثالثة التي نبحث فيها .
ونحن نبحث في تبيين النظم القرآني في
مقامين :
الأول : إنسجام الجمل
والكلمات ، وتعانقها .
الثاني : وضع كل كلمة
موضعها .
* * *
__________________
١ ـ تجاذب الكلمات وتعانق الجمل
إنّ القرآن بلغ من ترابط أجزائه ،
وتماسك كلماته وجمله وآياته ، مبلغاً لا يدانيه فيه أي كلام آخر ، مع طول نَفَسه ، وتنوع مقاصده ، وافتنانه وتلوينه في الموضوع الواحد . وآية ذلك أنّك إذا تأمّلت في القرآن الكريم ، وجدت منه جسماً كاملاً ، تربط الأعصاب والأغشية بين أجزائه ، ولمحت فيه روحاً عاماً يبعث الحياة ، والحسن ، على تشابك وتساند بين أعضائه .
فبين كلمات الجملة الواحدة من التآخي
والتناسق ما جعلها رائعة التجانس والتجاذب . وبين جمل السورة الواحدة من التشابك والترابط ما جعلها وحدة متآخذة الأجزاء ، متعانقة الآيات . ولأجل ذلك يقول سبحانه : ( قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ ) .
والآيات القرآنية ، وإن كانت كلّها
مظاهر لهذا الإنسجام ، كما يلاحظه التالي لها ، غير أنا نختار من بينها آية تشع نوراً بين الآيات في حسن الإنسجام وروعة النظم ، كأنّها سبيكة واحد ، مع طولها ، وكثرة جملها ، وغزارة معانيها .
يقول سبحانه : ( اللَّـهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا
هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ، لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ، لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ، مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ
عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ، يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ، وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ
إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ
الْعَظِيمُ ) .
وبما أنّ مسألة الترابط والتآخي في
الآيات القرآنية واضحة لمن أمعن فيها ، فلذلك نطوي الكلام عن الإكثار فيها ، ونعطف نظر الباحث إلى نمط خاص من النظم :
__________________
نمط خاص من النظم في بعض الآيات
إنّ الأهرام التي أقامها فراعنة مصر
، فكانت إحدى عجائب الدنيا ، قد بنيت حجراً على حجر دون أن تتماسك أحجارها بأيّة مادة غريبة دخلت بينها ، وإنّما كان تماسكها تماسكاً ذاتياً ، وتجاذباً أحكمته هندسة البناء ، فاستدعى
الحجر صاحبه إليه ، واعتنقه في تآلف وترابط . وإنّه بقدر ما كان بين هذه الأحجار من روابط ذاتية ، بقدر ما يكون لها من ثبات وروعة على الزمن ، ولكنها ـ مع هذا ـ صنعة إنسان ، مقدور عليه الفناء ، وإذن فلا خلود لها ، لأنّ الفاني لا يخلق إلّا فانياً .
فكان من إعجاز القرآن أن أقام أبنية
من النظم الكلامي غير مستندة إلّا على ما بينها من تناسق هندسي ، وتجاذب روحي ، وترابط الكلمات ، وتعانق الآيات ، أحكمه الحكيم العليم ، وقدَّره اللطيف الخبير .
وإليك نماذج من هذا النوع من النظم :
١ ـ يقول سبحانه : ( الم *
ذَٰلِكَ الْكِتَابُ ، لَا رَيْبَ فِيهِ ، هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ) .
هذه جمل أربع لم يتوسط فيها حروف
العطف ، حتى تعطف بعضها على بعض وتجعل منها كياناً واحداً . ومع ذلك نرى فيها من التلاحم والتناسق ما يجعلها تبدو جملة واحدة ، بل كلمة واحدة .
٢ ـ يقول سبحانه : ( الرَّحْمَـٰنُ *
عَلَّمَ الْقُرْآنَ *
خَلَقَ الْإِنسَانَ *
عَلَّمَهُ الْبَيَانَ * الشَّمْسُ
وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ) .
فهذه الآيات تراها كأنّها جملة واحدة
في اتّساقها وتجاذبها ، وتعانقها لفظاً ومعنى . فإنّها تساوقت ألفاظها ، وتناغمت حروفها في هذا النغم العُلْوي ، كما
__________________
تآخت معانيها وتناسبت فكانت نبعاً
سماوياً يتدفق في تسلسل وترابط ، لا ترى العين منه إلّا كياناً واحداً من منبعه إلى مصبّه .
٣ ـ يقول سبحانه : ( سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ *
لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ *
مِّنَ اللَّـهِ ذِي الْمَعَارِجِ ) .
فليس في هذه الآيات حرف عطف يجمع
كلمة إلى كلمة ، أو آية إلى آية . وهي مع هذا يسودها التلاحم والتآخي والتساند ، يجذب بعضها بعضاً . فهناك سائل يسأل ، وموضوعُ سؤالِهِ عذابٌ واقع ، والذين وقع بهم العذاب هم الكافرون ، وهو عذاب لا يدفع ، لأنّه عذابٌ من الله ذي المعارج .
* * *
٢ ـ وضع كلّ كلمة في موضعها
إنّ لكل نوع من المعنى ، نوعاً من
اللفظ هو به أولى وأصلح ، وضروباً من العبارة ، هي بتأديته أقوم ، ومأخذاً إذا أُخذ منه كان إلى الفهم أقرب وبالقبول أَلْيَقْ ، وكان السمع له أوعى ، والنفس إليه أميل .
إنّ في لغة العرب ألفاظاً متقاربة في
المعاني ، ربما يحسب غير المطّلع ترادفها ، وتساويها في إفادة المقصود ، كالعلم والمعرفة ، والحمد والشكر ، والبخل والشُّح ، والقعود والجلوس ، حتى بين الحروف كـ « بلى » و « نعم » ، وغير ذلك من الأسماء والأفعال . فإنّ لكل لفظة منها خاصية تتميز بها عن صاحبتها في بعض معانيها ، وإن كانا يشتركان في بعضها .
وقد اهتمّ القرآن ، باستعمال كل كلمة
في موضعها بحيث لو أُزيلت الكلمة وأُقيمت مكانها ما يظن كونه مرادفاً لها ، لفسد المعنى ، وزال الرونق .
ولأجل إيقاف الباحث على هذا النوع من
النظم ، نأتي بنماذج :
__________________
١ ـ نرى أنّه سبحانه يأمر عبده بحمده
، ويقول : ( وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّـهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ ) .
وفي موضع آخر يأمر بالشُكر ويقول : ( اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ) .
وما هذا إلّا لأنّ الحمد هو الثناء
على الجميل ، والشكر هو الثناء في مقابل المعروف ، فالحمد ضد الذم ، والشكر ضد الكفران . وبما أنّه سبحانه يصف نفسه في الآية الأولى ، بقوله : « الذي لم يتخذ ولداً » ، فناسب الأمر بالحمد . وبما أنّه يذكر معروفه وإحسانه على آل داود في الآية الثانية ، ناسب الأمر بالشكر على المعروف .
٢ ـ نرى أنّه سبحانه يستعمل كلمة
السهو تارة بلفظة « في » ، ويقول :
( قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ *
الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ ) .
وأخرى بلفظة « عن » ويقول : ( فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ *
الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ ) .
وما هذا إلّا لأنّ المراد من الآية
الأولى أنّ الغفلة تعلوهم وتغمرهم ، وأنّهم في ضلالتهم متمادون ، فناسب لفظة « في » الدالّة على الظرفية . ولكن المراد من الآية الثانية هو السهو عن نفس الصلاة وعدم الإتيان بها في مواقيتها فناسب لفظة « عن » ، ولو كان المراد السهو في نفس الصلاة ، كأن لا يدري المصلي أنّه في شفع أو وتر ، لقال « في صلاتهم » .
٣ ـ يقول سبحانه عن لسان إخوة يوسف :
( فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ) . مع أنّ الرائج في فعل السباع هو الإفتراس لا
__________________
الأكل ، وما هذا إلّا لإفادة أنّ
الذئب أتى على جميع أجزاء يوسف وأعضائه ، فلم يترك منه شيئاً ، حتى لا يطالبهم والدهم بالإتيان ببقية أجزاء بدنه .
٤ ـ يقول سبحانه عن لسان عبدة
الأصنام : ( وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ
امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَىٰ آلِهَتِكُمْ ، إِنَّ هَـٰذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ ) . ولم يقل : « ان امضوا وانطلقوا » ، وذلك لإفادة أنّ الدفاع عن الآلهة أمر يطابق سجيتهم ، كالمشي وراء الحوائج .
٥ ـ يقول سبحانه : ( وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) ، مع أنّ لله سبحانه
ما سكن فيهما وما تحرك . وما ذلك إلّا لأنّه ليس المراد من السكون ما يضاد الحركة ، وإنّما المراد من السكون هو الإستقرار في نظام العالم ، سواء كان متنقلاً عن موضعه أو ساكناً فيه .
فالسكون في الآية ، نظيره في قوله
سبحانه : ( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم
مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا ) . فليس المراد من السكون فيها الإستقرار بلا حراك ، بل الطُمَأْنينة الروحية .
ولأجل ذلك لو وضعت مكان « سَكَنَ »
أية كلمة أخرى ترادفها ، مثل « خَمَدَ » ، « استَقَرّ » ، « وَقَفَ » ، تخرج الآية من روعتها ، وربما يفسد
المعنى .
وبذلك ينفتح بابٌ واسعٌ للدِّقةِ في
نَظْمِ القرآن ، فنأتي بنموذجين مع إحالة الإجابة عنهما إلى الباحث الكريم ، ليقف على جوابهما بالإمعان .
٦ ـ يقول سبحانه : ( وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ ) ولم يقل « قريب » ، « حاضر » أو « عتيد » ، لماذا ؟ .
٧ ـ يقول سبحانه ـ حاكياً عن زكريا ـ
: ( إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي )
__________________
ولم يقل « فتر » ، « ضعف » أو « تخاذل
» ، لماذا ؟
وبعد هذا ، تقف على سبب ما اشتهر بين
أئمة البلاغة من أنّ الكلمة في نظم القرآن ، تأخذ أعْدَلَ مكانٍ في بناء هذا البُنْيان ، ولا يصلح للحلول مكانها أي كلمة أُخرى ، لاستلزامه إما فساد المعنى ، أو عدم إفادة المقصود ، وإنِ اشْتَهَر
في وضع اللغة قيام المترادفات مقام بعضها .
* * *
هل في القرآن سَجع ؟
من الملاحظ ، أنّ كثيراً من آيات
القرآن الكريم ، تختم بفواصل فيها حروف متشاكلة في المقاطع ، فهل هو من السجع أوْ لا ؟ .
ربما يرى بعض الأساتذة عدم اشتمال
القرآن على السجع ، بحجة أنّ الفواصل غير الأسجاع ، لأنّ شأنَ القرآن أرفع من أن يُسجع فيه ، فإنّ السجع مأخوذ من سجع الحمامة ، وليس فيه إلّا الأصوات المتشاكلة
يلاحظ عليه : إنّ إنكار السجع في بعض
السور القصار ، خلاف الإنصاف ، غير أنّ السجع على قسمين ، ونربأ بالقرآن عن اشتماله على السجع الذي يكون المعنى فيه تابعاً له ، دون السجع الذي يكون تابعاً للمعنى .
فالأول مردود ، وهو السائد في الخطب
الرائجة أيام الأُمويين والعباسيين .
وأمّا الثاني فهو يوجب حسناً في
الكلام ، لأنّه على عفو الخاطر ، يأتي به المتكلم مرتجلاً بلا تكلّف ، كما هو الملموس في خطب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام .
وقد نبّه ابن سنان الخفاجي على هذه
النكتة حيث قال ، ردّاً على الرماني : « إنّه إنْ أراد بالسجع ، ما يكون تابعاً للمعنى ، ـ وكأنّه غير مقصود ـ فذلك
__________________
بلاغة ، وفواصل الآيات مثله ، وإن
كان يريد بالسجع ما تقع المعاني تابعة له ، فذلك عيب ، وأظن أنّ الذي دعا أصحابنا إلى تسمية كل ما في القرآن فواصل ، ولم يسموا ما تماثلت حروفه سجعاً ، هو رغبتهم في تنزيه القرآن عن الوصف اللاحق بغيره من الكلام المروي عند الكهنة وغيرهم » .
* * *
__________________

الأسلوب
: بِداعة المنهج وغرابة السبك
الأساليب السائدة في كلام العرب عصر
نزول القرآن ، كانت تتردد بين أسلوب المحاورة ، وأسلوب الخطابة ، وأسلوب الشعر ، وأسلوب السجع المتكلف الموجود في كلام العرّافين والكُهّان .
فالأسلوب المحاوري ، هو
الأسلوب المتداول في المكالمات اليومية في رفع الحوائج ، وتيسير الأمور المعيشية . وهذا الأسلوب دارج في كل لغة ، ولم يكن في العرب بدعاً منهم ، فلم يكن كلامهم عند البيع والشراء ، والمعاشرة مثل كلامهم في مقام الخطابة ، وإظهار المناقب والفضائل .
والأسلوب الخطابي ، هو
الأسلوب الرائج بين خطَباء العرب وبُلغائهم . ويكفينا مؤنة بيانه ، التأمل في النموذجين التاليين لأشهر خطباء الجاهلية .
١ ـ وقف قس بن ساعدة في سوق عُكاظ ،
وخطب : « أيّها الناس اسمعوا وعوا ، من عاش مات ، ومن مات فات ، وكل ما هو آت آت . ليل داج ، ونهار ساج ، وسماء ذات أبراج ، ونجوم تزهر ، وبحار تَزْخر ، وجبال مُرْساة ، وأرض مُدْحاة ، وأنهار مُجراة ، إنّ في السماء لخبرا ، وإنّ في الأرض لعبرا ، ما بال
الناس يذهبون ولا يرجعون ، أَرَضوا فأَقاموا ، أم تُرِكوا فناموا ؟ .
__________________
٢ ـ وخطب المأمون الحارثي في قومه ،
فقال : « أرعوني أسماعكم ، وأصغوا إليَّ قلوبكم ، يبلغ الوعظ منكم حيث أريد ؛ طمح بالأهواء الأشر ، وران على القلوب الكدر ، وطخطخ الجهل النظر ، إنّ فيما ترى لَمُعْتَبَراً لمن اعتبر ، ارض موضوعه وسماء مرفوعة ، وشمس تَطْلُعُ وَتَغْرُب ، ونجوم تسرى فَتَعْزُب ، وقمر تطلعه النور ، وتَمْحَقُه أدبار الشهور .
ويرى هذا الأسلوب في خطب النبي وعليّ
عليهما السلام في مواقف مختلفة .
والأسلوب الشعري ، هو
الأسلوب المعروف المبني على البحور المعروفة في العَروض .
وأمّا أسلوب السجع المتكلف ، فقد كان
يتداوله الكهنة والعرّافون ، كما تراه في قول ربيع الذئبي الشهير بسطيح لابن اخته عبد المسيح حول علامات ظهور النبي العربي : « يسيح عبد المسيح ، على جمل مشيح ، أقبل إلى سطيح ، وقد أوفى على الضريح ، بعثك ملك بني ساسان ، لارتجاج الإيوان ، وخمود النيران ، ورؤيا المؤبذان ، رأى إبلا صعابا ، تقود خيلا عراباً ، حتى اقتحمت الواد ، وانتشرت في البلاد » .
ولكن القرآن جاء بصورة من صور الكلام
على وجه لم تعرفه العرب ، وخالف بأسلوبه العجيب وسبكه الغريب ، جميع الأساليب الدارجة بينهم ، ومناهج نظمهم ونثرهم .
ولأجل ذلك لم تتعامل معه العرب
معاملة شعر أو نثر ، بل أنصف المنصفون منهم بأنّه وحيد نسجه في أسلوبه وسبكه .
__________________
كان العرب يعرفون الأساليب الأربعة
السالفة ، ولكنهم لم يعرفوا الأسلوب القرآني الذي يأخذ فيه الكلام صورة خاصة ، تأتي فيها الآيات ، وتختم كل واحدة منها بفاصلة ذات نظم ورنين ، فيجد الصدر لذلك راحة عند الوقوف على الفاصلة .
إنّ الأسلوب القرآني الذي تفرّد به ،
كان أبين وجه من وجوه الإعجاز ، في نظر الباحثين عن إعجازه ، وإن جعلناه أحد الأسس الأربعة التي يبنى عليها صرح الإعجاز القرآني .
ولأجل أهمية الأسلوب في رفع القرآن
إلى درجة الإعجاز ركّز القاضي الباقلاني عليه وحصر وجه إعجازه فيه ، وقال : « وجه إعجازه ما فيه من النظم والتأليف والترصيف وأنّه خارج عن وجوه جميع النظم المعتاد في كلام العرب ومبائن لأساليب خطاباتهم ، ولهذا لم يمكنهم معارضته » .
وأضاف : « ولا سبيل إلى معرفة إعجاز
القرآن من أصناف البديع التي أودعوها في الشعر ، لأنّه ليس ممّا يخرق العادة ، بل يمكن استدراكه بالعلم والتدريب والتصنع به ، كقول الشعر ، ورصف الخطب ، وصناعة الرسالة ، والحذق في البلاغة ، وله طريق تسلك . فأمّا شأو نظم القرآن ، فليس له مثال يحتذى ، ولا إمام يقتدى به ، ولا يصحّ وقوع مثله اتّفاقاً » .
وممّن حصر وجه إعجاز القرآن بأُسلوبه
الراقي هو الأصفهاني ـ على ما حكاه السيوطي ـ فإنّه بعدما أشار إلى أقسام الكلام من المحاورة ، والنثر المسجع ، والشعر ، قال : « ولكل من ذلك نظم مخصوص ، والقرآن جامع لمحاسن الجميع ، على نظم غير نظم شيء منها ، يدلّ على ذلك أنّه لا يصح أن يقال له : « رسالة » ، أو « خطابة » ، أو « شعر » ، أو « سجع » . كما يصح أن يقال هو كلام . والبليغ إذا قرع القرآن سمعه ، فصل بينه وبين ما عداه من النظم ، ولهذا
__________________
قال تعالى : ( وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَّا
يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ) ، تنبيهاً على أن
تأليفه ليس على هيئة نظم يتعاطاه البشر ، فيمكن أن يغير بالزيادة والنقصان كحال الكتب الأخرى » .
وممّا يدلّ على أنّ القرآن ليس كلام
النبي الأعظم هو وجود البون الشاسع بين أسلوب القرآن وأسلوب الحديث النبوي . فمن قارن آية من القرآن الكريم مع الأحاديث القطعية الصادرة منه صلى الله عليه وآله ، أحس مدى التفاوت البعيد بين الأسلوبين ، وآمن بأنّ أسلوب التنزيل يغاير أسلوب الحديث . وهذا يدلّ على أنّ القرآن ينزل من عالم آخر على ضمير النبي ، بينما الحديث يتكلم به النبي من إنشاء نفسه .
وعلى الجملة ، جاء القرآن في ثوب غير
الأثواب المعروفة للكلام عند العرب ، وفي صورة غير الصور المألوفة ، جاء نسيج وحده ، وصورة ذاته ، لا يشبه غيره ، ولا يشبهه غيره . فلا هو شعر ، ولا هو نثر ، ولا هو من قبيل سجع الحكماء أو العرّافين والكُهّان .
والذي يمكن أن يقال إنّه قرآن فصّلت
آياته ، وكل آية لها مقطع تنتهي به ، وهو الفاصلة ، وهذه هي الظاهرة المحسوسة فيه ، يقف عليها من يتصل بالقرآن الكريم ، قارئاً كان أو مستمعاً ، مؤمناً كان أو غير مؤمن .
وأنت إذا أردت أن تلمس الأسلوب
القرآني عن كثب ، وتقف عليه وقوف لامس للحقيقة ، ومستكشف لها عن قرب . فلاحظ موضوعاً واحداً ورد في القرآن المجيد ، وفي كلام النبي الأعظم أو الوصي . فكلاهما يهدفان إلى أمر واحد ، ولكن لكل أُسلوبه الخاص لا يختلط أحدهما بالآخر .
يقول الرسول صلى الله عليه وآله في
وصف الغفلة عن الآخرة : « وكأنّ
__________________
الموت فيها على غيرنا كُتِب ، وكأنّ
الحق فيها على غيرنا وَجَب ، وكأنّ الذي نُشَيّع من الأموات سَفَر ، عمّا قليل إلينا يرجعون » .
وأنت إذا قارنته بما ورد في الذكر
الحكيم في هذا المضمار ترى التفاوت بينهما بينا .
يقول سبحانه : ( وَمَا هَـٰذِهِ الْحَيَاةُ
الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ، وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) .
فهما قد اتّفقا على وصف معنى واحد ،
وهو الموت والعود إلى الآخرة ، وتصرّم الدنيا وانقضاء أحوالها ، وطيّها ، والورود إلى الآخرة ، ولكن القرآن متميز في تحصيل هذا المعنى وتأديته بأسلوب خاص ، تمييزاً لا يدرك بقياس ، ولا يعتوره التباس .
وهكذا ، لاحظ قول علي عليه السلام : «
أَمْ هذا الذي أنشأه في ظُلُمات الأرحام ، وشُغُف الأستار ، نُطفة دهاقا ، وعلقة محاقا ، وجنينا ، ووليدا ، ويافعا » .
ثم قارنه إلى قوله تعالى : ( فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ،
ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ، ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ، ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ، لِّنُبَيِّنَ
لَكُمْ ، وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ، ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ، ثُمَّ لِتَبْلُغُوا
أَشُدَّكُمْ ) .
فإنك ترى الأسلوبين يتغايران جوهراً
، ولا يجتمعان في شيء .
نوع آخر من المقارنة
وهناك نوع آخر من المقارنة يتجلى
فيها التفاوت بوضوح بين الأسلوبين ، وهو ملاحظة خطَب الرسول الأعظم وأمير المؤمنين عليهما السلام ، عندما يخطبان
__________________
ويعظان الناس بأفصح العبارات
وأبلغها ، ثم يستشهدان في ثنايا كلامهما بآي من الذكر الحكيم ، فعندها يُلمس البون الشاسع بين الأسلوبين ، من دون مداخلة شك وريب .
خطَب النبي الأكرم يوم فتح مكة في
المسجد الحرام ، فقال : يا معشر قريش إنّ الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية ، وتعظمها بالآباء . الناس من آدم وآدم خلق من تراب ؛ ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ
وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّـهِ أَتْقَاكُمْ
) » .
وقال أمير المؤمنين عليه السلام ، في
خطبته المعروفة بالشقشقية : « فما راعني إلّا والناس كعُرْف الضبع إليَّ ، ينثالون عليّ من كل جانب ، حتى لقد وُطىء الحسنان ، وشُقّ عِطفاي ، مجتمعين حولي كربيضة الغنم . فلما نهضت بالأمر ، نكثت طائفة ، ومرقت أخرى ، وقسط آخرون ، كأنّهم لم يسمعوا كلام الله حيث يقول : ( تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ
نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) »
.
وقال عليه السلام في كلام له لأصحابه
في بعض أيام صفين : « وطيبوا عن أنفسكم نفساً ، وامشوا إلى الموت مشيا سُجحاً ، وعليكم بهذا السواد الأعظم ، والرِّواق المُطَنَّب ، فاضربوا ثَبَجَه ، فإنّ الشيطان كامن في كِسْرِه ، قد قدّم
للوثبة يداً ، وأخر للنكوص رِجلاً ، فصَمْداً صمدا ، حتى ينجلي لكم عمود الحق ؛ ( وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ ، وَاللَّـهُ
مَعَكُمْ ، وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ) .
وقال عليه السلام في خطبة له عند ذكر
المشبهة : « لم يعقد غَيْبَ ضَميرِهِ على معرفَتِك ، ولم يُباشِر قَلْبَهُ اليقينُ بأنّه لا نِدَّ لك ، وكأنّه لم يسمع تَبَرُّؤَ
التابعين من المتبوعين ، إذ يقولون : ( تَاللَّـهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ، إِذْ
نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) .
__________________
وقال عليه السلام في خطبة له عند ذكر
أهل القبور : « وكأن صرتم إلى ما صاروا إليه ، وارتهنكم ذلك المضجع ، وضمّكم ذلك المستودع ، فكيف بكم لو تناهت بكم الأمور ، وبعثرت القبور : ( هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ ، وَرُدُّوا إِلَى اللَّـهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ ، وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا
يَفْتَرُونَ ) » .
وأخيراً ، يجب التنبيه على أنّ
الأسلوب وحده لا يكفي لجعل الكلام فوق كلام البشر ، ما لم ينضم إليه الدعائم الثلاث الأخر ، خصوصاً سمو المعاني وعلو المضامين ، فإن له القسط الأكبر في جعل الأسلوب ممتازاً ، تمتدّ إليه الأعناق ،
وإلّا فمحاكاة الأسلوبَ القرآني ملموس في كلام المدّعين للمعارضة مثل مسيلمة وغيره ، كما سيوافيك ، ولكنه يفقد المضمون الصحيح ، والمعنى المتزن ، وقد عرفت أن إعجاز القرآن بمعنى كونه خلاباً للعقول ، ومبهراً للنفوس رهن أمور أربعة توجب حصول تلك الحالات للإنسان فلا يجد في نفسه أمام القرآن إلّا السكوت والسكون .
وهناك من خفي عليه دور الأسلوب في
رفع شأن القرآن ، وزَعَم أنّ إعجاز القرآن ينحصر في الدعائم الثلاثة الأُول قال : « إنّ الأُسلوب لا يمنع من الإتيان بأسلوب مثله ، لأنّ الإتيان بأسلوب يماثله ، سهل ويسير على كل واحد ، بشهادة أن ما يحكى عن مسيلمة الكذاب من قوله : « إنّا أعطيناك الجواهر ، فصلّ لربِّك وجاهر » ، يشبه أسلوب القرآن » .
ولكنه غفل عن أنّ الأسلوب أحد
الدعائم لا الدعامة المنحصرة ، حتى أنّ ما ادعاه من أن إعجاز القرآن لأجل الفصاحة ، والبلاغة ، وجودة النظم وحسن السياق ، ليست دعائم كافية لإثبات الإعجاز ، إذ في وسع البشر صياغة كلام في غاية الفصاحة والبلاغة مع حسن السياق وجودته ، ومع ذلك لا يكون معجزاً لإمكان منافحته ومقابلته والإتيان بمثله ، فيلزم على ذلك عدم كون القرآن من تلك الجهة معجزاً . والذي يقلع الإشكال أنّ الإعجاز رهن هذه القيود الأربعة ، وأنّ
__________________
الإتيان بكلام فصيح غايتها ، وبليغ
نهايتها ، منضماً إلى روعة النظم ، في هذا الأسلوب الخاص المعهود من القرآن ، أمر معجز . ولذلك لم تجد طيلة هذه القرون حتى يومنا هذا كلام يناضل القرآن في آياته وسوره .
ونضيف ، أنّه ليس هنا مقياس ملموس
كالأوزان الشعرية لتبيين حقيقة أسلوب القرآن ، وإنّما هو أمر وجداني يدركه كل من له إلمام بالعربية .
ولأجل تقريب المطلب نذكر آية ، ثم
نذكر مضمونها بعبارة أخرى ، فترى أنّ العبارة الثانية بشرية ، والأولى قرآنية .
قال سبحانه : ( وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي
الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ * إِن
يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَىٰ ظَهْرِهِ ، إِنَّ فِي ذَٰلِكَ
لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ * أَوْ
يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ ) .
هذا هو الكلام الإلهي .
فلو أراد إنسان أن يصب هذا المعنى
بصورة أُخرى ، يتغير الأُسلوب ، مهما بلغ في الفصاحة والبلاغة من العظمة ، فيقال مثلاً :
« ومن أعظم علاماته الباهرة ، جري
السُفُن على الماء ، كالأبنية العظيمة ، إن يرد هبوب الريح تجري بها ، وإن يرد سكون الريح فتركد على ظهره ، أو يرد إهلاكها بالإغراق بالماء فيهلكهم بسيئات أعمالهم . وفي ذلك آيات للمؤمنين » .
فانظر الفرق بين الأُسلوبين ، والإختلاف
في السبكين ، مضافاً إلى افتقاد الثانية بعض النكات الموجودة في الآية .
* * *
إلى هنا تمّ الكلام حول الدعائم
الأربع التي بني عليها صرح الإعجاز ، وشيدت أركانه . غير أنّه بقي هنا أمور لا غنى عن الإشارة إليها والتنبيه عليها ، لأنّها تقع في طريق تكميل مباحث إعجاز القرآن البياني ، وفيما يلي بيانها .
* * *
__________________
التنبيه الأول
آيتان
على منضدة التشريح
بعد أن وقفت على الدعائم الأربع التي
يتحقق معها إعجاز القرآن ، فهلمّ إلى تحليل آيتين من آياته ، نستجلي فيهما حقيقة الإعجاز ، ونقف على المزايا الفريدة الموجودة فيهما ـ مضافاً إلى اشتمالهما على الدعائم الأربع ـ فسترى أنّ كل
واحدة منهما كافية في إثبات أنّها أعلى من أن تكون مصنوعة للبشر ، وإن بلغوا في الفصاحة والبلاغة كلّ مبلغ .
١ ـ آية ( يَا أَرْضُ ابْلَعِي )
قال ـ عَزَّ مِنْ قائل ـ : ( وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ
، وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي ، وَغِيضَ الْمَاءُ ، وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ، وَقِيلَ
بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) .
هذه الآية الكريمة من بدائع آيات
القرآن الكريم ، وهي التي أُنْزِلَتْ ، فأَنْزَلَتْ قُريشُ معلقاتها السبع عن جدران الكعبة ، وهي التي شغلت بال باقعة الأُدباء ، عبد الله بن المقفع ، وهي التي شغلت بال أساتذة البديع ، لأنّها
__________________
اشتملت على عشرات الأنواع من
المحسنات البديعية ، بينما هي لا تتجاوز سبعة عشر لفظاً . وإليك الإشارة إلى بعضها :
١ ـ المناسبة التامة بين « إِبْلَعي
وأَقْلِعي » .
٢ ـ الإستعارة فيهما .
٣ ـ الطِّباق بين الأرض والسماء .
٤ ـ المجاز في قوله : « يا سماء » .
فإنّ الحقيقة يا مطرَ السَّماء .
__________________
٥ ـ الإشارة في : ( وَغِيضَ الْمَاءُ ) ، فإنّه عَبَّرَ به عن معان كثيرة ، لأنّ الماءَ لا يغيض حتى يُقْلِع مَطَرُ السماء وتبلع الأرض ما يخرج منها من عيون الماء .
٦ ـ الإرداف في قوله : ( وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ) فإِنَّه عَبّر عن استقرارها في المكان بلفظ قريب من لفظه الحقيقي .
٧ ـ التمثيل في قوله : ( وَقُضِيَ الْأَمْرُ ) . فإنّه عبّر عن هلاك الهالكين ونجاة الناجين بلفظ بعيد عن المعنى الموضوع .
٨ ـ التعليل ، فإنّ : ( وَغِيضَ الْمَاءُ ) ، علّة الإستواء .
٩ ـ صحّة التقسيم ، فإنّه استوعب
أقسام الماء حالة نقصه ، إذ ليس إلّا احتباس ماء السماء ، والماء النابع من الأرض ، وغَيْض الماء الذي على ظهرها .
١٠ ـ الإحتراس في قوله : ( وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ ) ، إذ الدعاء
يشعر بأنّهم مستحقوا الهلاك احتراساً من ضعيفٍ يتوهم أنّ الهلاك لعمومه ، ربما يشمل غير مستحقه .
١١ ـ المساواة ، لأنّ لفظ الآية لا
يزيد على معناها .
١٢ ـ حسن النسق ، فإنّه تعالى قصّ
القِصّة وعطف بعضها على بعض بحسن الترتيب .
١٣ ـ ائتلاف اللفظ مع المعنى ، لأنّ
كل لفظة لا يصلح معها غيرها .
١٤ ـ الإيجاز ، فإنّه تعالى أمر فيها
ونهى ، وأخبر ونادى ، ونعت وسمى وأهلك وأبقى ، وأسعد وأشقى ، وقصّ من الأنباء ما لو شرح لاستغرق كتاباً مفرداً .
١٥ ـ التفهيم ، لأنّ أوّل الآية يدلّ
على آخرها .
١٦ ـ التهذيب ، لأنّ مفرداتها موصوفة
بصفات الحُسن ، إذ كل لفظة عليها رونق الفصاحة ، سليمة عن التنافر ، بعيدة عن البشاعة وتعقيد التركيب .
١٧ ـ حُسْن البيان ، لأنّ السامع لا
يتوقف في فهم معنى الكلام ولا يشكل عليه شيء منه .
١٨ ـ الإعتراض ، وهو قوله : ( وَغِيضَ الْمَاءُ وَاسْتَوَتْ عَلَى
الْجُودِيِّ ) .
١٩ ـ الكناية ، فإنّه لم يُصَرِّح
بمن أَغاض الماء ، ولا بمن قُضيَ الأمر ، ولا بمن سوى السفينة وأقرّها في مكانها ، ولا بمن قال : ( وَقِيلَ بُعْدًا ) .
كما لم يصرّح بقائل : ( يَا أَرْضُ
ابْلَعِي ) ، و( يَا سَمَاءُ أَقْلِعِي ) في صدر الآية ، سالكاً في كل واحد من ذلك سبيل الكناية ، لأنّ تلك الأمور العظام لا تتأتى إلّا من ذي قدرة قهّارة لا يغالب . فلا مجال لذهاب الوهم إلى أن يكون غيره سبحانه قائل : ( يَا أَرْضُ ابْلَعِي ) ، ( وَيَا
سَمَاءُ أَقْلِعِي ) ، ولا أن
يكون غائض ما غاض ، ولا قاضي مثل ذلك أمر الهائل ، غيره .
٢٠ ـ التعرّض ، فإنّه تعالى عرّض بكل
من سلك مسلكهم في تكذيب الرُّسل ظلماً ، وأنّ الطوفان وتلك الأُمور الهائلة ما كانت إلّا لأجل ظلمهم .
٢١ ـ التمكين ، لأنّ الفاصلة مستقرة
في محلّها ، مطمئنة في مكانها غير قلقة ولا مستدعاة .
٢٢ ـ الإنسجام ، لأنّ الآية بجملتها
منسجمة ، كالماء الجاري في السلاسة .
٢٣ ـ اشتمالها على بعض البحور
الشعرية ، إذ قوله : ( وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ ) ، على وزن « مستفعلن
مستفعلن فاعل » . و( يَا سَمَاءُ أَقْلِعِي ) على وزن « مفاعلن مفاعل » .
٢٤ ـ تنزيل من لا يعقل منزلة من يعقل
في النداء والمخاطبة .
٢٥ ـ الإبهام في قوله : ( وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ) وهو إسم الجبل الصغير ، والزق المنفوخ الذي تستقر عليه السُفُن المائية .
٢٦ ـ المحافظة على فواصل الآيات فإنّ
الرويّ في قوله : ( بُعْدًا
لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) مطابق للآيات
المتقدمة والمتأخرة .
٢٧ ـ التكرار ، كما في « الماء » ،
معرَّفاً باللام تارة وبالإضافة أُخرى .
٢٨ ـ تخيّل مالكية الأرض ، بحيث لها
سلطة في إرجاع الماء .
إلى غير ذلك من المحاسن البديعية
التي يدركها الممعن في الآية .
فهذه بعض الميزات الواردة في الآية
الكريمة ، وليس كل واحد منها ولا جميعها أمراً معجزاً ، ولكن المجموع أعطى للآية نظماً خاصاً ، وأُسلوباً بديعاً ، يعرف الذوق العربي أنّه يغاير سائر الأساليب والنظم الكلامية . وهذا الجمال الطبيعي ، يخلق في النفس جذبة روحية خاصة ، كأنّها كهرباء القلوب ومغناطيس الأرواح ، ولأجل ذلك يقول الكرماني في كتاب « العجائب » :
« أجَمع المعاندون على أنّ طَوْقَ
البشر قاصرٌ عن الإتيان بمثل هذه الآية ، بعد أن فَتّشوا جميعَ كلام العرب والعجم ، ولم يجدوا مثلها في فخامة ألفاظها ، وحسن نظمها ، في تصوير الحال مع الإيجاز من غير إخلال » .
ويقول العلامة الشهرستاني بأنّه أفرد
بلاغة هذه الآية بالتأليف .
٢ ـ آية ( وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ )
قال تبارك وتعالى : ( وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ
مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ ، وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ
إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) .
وهذه الآية الكريمة من بدائع آيات
القرآن ، وهي على وجازتها ، قد جمعت فعلين من الماضي ( أوحينا ، وخِفْتِ ) ، وفعلين من الأمر ( أرضعيه ، وأَلقيه ) ، وفعلين من النهي ( لا تخافي ولا تحزني ) ، ووزنين من اسم الفاعل ( رادّوه ،
__________________
جاعلوه ) ، ووزنين من إسم المفعول (
موسى ، مرسل ) ، وإسمين خاصين ( موسى ، وأُمّه ) .
ثم قد تكررت فيها « فاء الجواب »
مرتين ( فإذا ، فأَلقيه ) ، وحرف « إلى » مرتين ( إلى أُم موسى ، إليك ) . ثم قد كرر الخوف مرتين ، وعبّر عن أُمّ موسى باسم مزدوج بدل أن يسميها باسمها .
وفيها نبأ غيبي وهو الإخبار بردّ
موسى إلى أُمّه ، وفيها وعدان : الردّ ، والنبوّة .
فاجتماع هذه الأمور في الآية يوجد في
الإنسان عند سماعها ، لذّة وانجذاباً واستغراقاً ، وتطرأ عليه الحالة التي طرأت على عتبة بن ربيعة عندما سمع من رسول الله آيات من سورة فصلت ، فألقى يديه خلف ظهره ، معتمداً عليهما مذهولاً مبهوتاً ، كما تقدّم .
* * *
التنبيه الثاني
مزايا
القُرآن البيانية
قد تعرفت على الدعائم الأربع المحقِّقة
لإعجاز القرآن ، وكفى بذلك عظمة لهذا الكتاب . غير أنّ لهذه المعجزة الخالدة مزايا أخرى يناسب ذكرها هنا ، وترجع جميعها إلى المزية البيانية التي نحن بصدد بيانها . وحيث إنّه لا يسع المقام
الإتيان بجميع ما ذكره المحققون ، فنأتي ببعضه ، الذي يتجلى معه هذا الكتاب السماوي بمزاياه البيانية المنفردة .
١ ـ الصراحة في بيان الحقائق
إنّ الصراحة إحدى الميزات التي يتصف
بها القرآن الكريم ، وتظهر بوضوح في آياته . فمن ذلك صراحته في التنديد بالوثنية ، والطعن في الأصنام المعبودة يومذاك ، ودعوته إلى تحطيمها .
يقول سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ
اللَّـهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ، وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ
مِنْهُ ، ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ) .
إنّ الصراحة وليدة الشجاعة المختمرة
بالإيمان ، في حين أنّ السكوت عن
__________________
الحق ، أو التلوّن والتحفظ في
الحديث ، دليلٌ على جُبْن القائل وعدم اعتقاده بالقول الذي يلقيه على الناس ، وتخوّفه من المستمعين .
غير أنّ هذا الكتاب المعجز ، منزّه
عن هذه الوصمات . فهذا هتافه في أُذن الكافرين ، يقول : ( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا
أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ *
وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ *
وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ *
وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ *
لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ) .
هذه هي سيرة الأنبياء العظام ، فهم
يمتلكون الصراحة في البيان ، ويمتازون بها عن غيرهم ، فيعلنون الحقائق ، بلا تتعتع ولا تحفّظ . هذا هو إبراهيم الخليل ـ بطل التوحيد ـ يندد بعمل عبدة الأصنام بقوله : ( أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ *
أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ) .
قل لي بربِّك ، هل تجدُ كلاماً أصرح
وأمتن وأبلغ في التنديد بمن يتخذ ولياً غير الله من قوله سبحانه : ( مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّـهِ أَوْلِيَاءَ
كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا ، وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ
الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) .
وليست الصراحة ميزة القرآن في مجال
المعارف والعقائد فحسب ، بل هي سارية أيضاً في مجال العلاقات السياسية فها هو يقول : ( بَرَاءَةٌ مِّنَ اللَّـهِ وَرَسُولِهِ
إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ) .
هذه إلمامَةٌ عابرة في تبيين هذه
الميزة ، تُعْرِب عن إيمان القائل وإذعانه بما يقول ويطرح في مختلف المجالات والأصعدة .
__________________
٢ ـ علو الجهة المنزل منها القرآن
ومن مزايا بيان القرآن ، تَكَلُّمُه
من موقع الإستعلاء وتحدّثه بلسان من يملك الأمر كلّه ، ومن بيده ملكوت السموات والأرض ، وفي قبضته كلُّ شيء . فهو في مخاطباته ومجادلاته وأوامره ونواهيه ، وفي وعده ووعيده ، وفي أمثاله وقصصه ، وفي مواعظه ونُذُره ، يتَّسم بالعلو الشامخ ، ويتصدر المقام الرفيع الذي لا يُنال ، ويتحدث إلى الناس حديث من يملك كل شيء ، ومن يقوم على كل شيء ، ومن يدبّر ويُقَدّر ، دون أن يقف أحد أمام سلطانه ، فاستمع لقوله سبحانه :
( تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ *
الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ
الْغَفُورُ *
الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا ، مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَـٰنِ مِن تَفَاوُتٍ ،
فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ *
ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا
وَهُوَ حَسِيرٌ ) .
وقوله سبحانه : ( وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ
اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ *
أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) .
وقوله سبحانه : ( قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ
السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ، أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ
الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ، فَسَيَقُولُونَ اللَّـهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ *
فَذَٰلِكُمُ اللَّـهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ ) .
٣ ـ العفة والإحتشام
إِمتاز القرآن المجيد في تعابيره بالنزاهة
والعفة ، مع أنّه ظهر في بيئة لا تعرف للعفَّة مفهوماً ، فلا تجد فيه تعبيراً سيئاً ، ومَنْهجاً ركيكاً ، يخالف الأدب
حتى في
__________________
سرده لقصة غرامية ، هي قصة يوسف وزُلَيْخاء
، قِصَّةُ عشق امرأة حسنة فاتنة ، لفتى طاهرٍ جميلٍ ، يُخْجِل وجهُهُ القَمرَ .
إنّ الكاتب في حقل القصص عندما يسرد
أمثال هذه القصة الغرامية ، لا يملك زمام قلمه ، ويخرج عن النزاهة والعفة ، ولكن القرآن قد شرح تلك القصة وصوّرها ووضع خطوطها الغرامية بدقة فائقة في البيان ، مع وافر الإحتشام والإتزان .
فعندما يعرض اجتماع هذه المرأة
الجميلة ، مع ذاك الشاب الطاهر ، واختلاءهما في بيتها ، وتعلّقها به ، يشرح تلك الواقعة من غير أن يثير الغريزة الجنسية الحيوانية ، لئلا يناقض هدفه الذي لأجله جاء بها ويقول :
( وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ ، وَغَلَّقَتِ
الْأَبْوَابَ ، وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ، قَالَ مَعَاذَ اللَّـهِ ، إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ، إِنَّهُ لَا
يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) .
ففي هذه الآية تتجلى عفة القرآن
واحتشامه من جهات :
أولاً : استعمل كلمة « راود
» ، وهي تستعمل في الإصرار على الطلب مع اللّين والعطف ، فكأنّ زليخا طلبت من يوسف ما طلبت بإصرار وحنان .
وثانياً : لم يصرّح باسم
المرأة ، حفظاً لكرامتها ، وإنّما عبّر عنها بقوله : « التي هو في بيتها » ، مشيراً ـ إضافة إلى ذلك ـ إلى قوة الضغط وشدّة سيطرتها على
يوسف ، فزمام أمره بيدها ، ولا مجال للهروب والتخلّص منها ، لأنّه في بيتها .
وثالثاً : قالت الآية : ( وغَلَّقَتِ الْأَبْواب ) ، إعراباً عن أَنّ يوسف لم يجد باباً للفرار ، وكانت مقدمات الإستسلام مهيئة .
ورابعاً : وقالت الآية : ( هَيْتَ لَكَ ) ، وهذه كناية عن دعوتها إيّاه إلى التلذذ الجنسي ، لكن بكناية فائقة ، فإنّ هَيْتَ لك ، اسم فعل بمعنى هَلمّ .
__________________
خامساً : أجاب يوسف طلبها
بقوله : ( مَعَاذَ اللَّـهِ إِنَّهُ رَبِّي
أَحْسَنَ مَثْوَايَ ) ، أي أعوذ بالله معاذاً . فيعرب عن أنّ يوسف لم يعرف خيانة ، ولم يَدُرْ بخلده أنْ يخون صاحبه ( العزيز ) ومُنْعِمَه ومربّيه ، في امرأته . والضمير في « إنّه » ،
يرجع إلى « العزيز » . ولأجل ذلك بعدما اتّضحت الحقيقة ، وبانت خيانة الإمرأة ، أرسل يوسف من أعماق زنزانته إلى الملك ، ووزيره « العزيز » ، بقوله : ( ذَٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّـهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ
الْخَائِنِينَ ) .
وفي القصة مسرحية غرامية أُخرى هي
دعوة إمرأة العزيز ، نِسْوَةَ أَشرافِ المدينة ، إلى مأدُبة ليقفن على بهاء جمال هذا الفتى ، وأَنّ التعلق به ليس أَمْراً
اختيارياً ، بل كل من رآه يتعلق فؤاده به في أول لقاء . ويحكيه القرآن بقوله :
( وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ
تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا ، إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ * فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ
لَهُنَّ مُتَّكَأً ، وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا ، وَقَالَتِ اخْرُجْ
عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّـهِ مَا هَـٰذَا بَشَرًا
إِنْ هَـٰذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ ) .
أنظر إلى العفة والإحتشام في التعبير
عن جمال يوسف حيث قال : ( أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّـهِ مَا هَـٰذَا بَشَرًا
إِنْ هَـٰذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ ) .
كل ذلك يعرب عن أنّ القصة سُردت على
أساس الدعوة إلى العفة والعبرة ، والإنصراف عن الإنهماك في الشهوات . فهل يستطيع إنسان أُمِّي ، غير متعلم ، ترعرع بين شعب متوحش ، أن يعرض تلك المسرحية الغرامية ، ولا يخرج عن حدود العفة ونطاق النزاهة ؟ كلا ، لا .
__________________
هذه بعض الميزات الموجودة في بيان
القرآن الكريم ، والممعن في الذكر الحكيم يجد له ميزات كثيرة سامية يستنتج من مجموعها أنّ هذا الكتاب ليس نتاج وإبداع إنسان أُمّي ولد ونشأَ في أُمّة متقهقرة ، بل هو كتاب إلهي نزل على ضميره وقلبه ؛ ﴿ لِتَكُونَ مِنَ
الْمُنْذِرِين ) .
__________________
التنبيه الثالث
مذهب
الصَّرْفة
اهتمّ المسلمون من الصدر الأول
بالبحث عن وجه إعجاز القرآن ، وكان الرأي السائد بينهم في إعجازه هو كونه في الطبقة العليا من الفصاحة ، والدرجة القُصْوى من البلاغة ، مع ما له من النَّظم الفريد ، والأسلوب البديع . وهذه الأُمور الأربعة أضْفَتْ على القرآن وصف الإعجاز حتى صار معجزة القرون والأعصار .
نعم نَجَم في القرن الثالث مذهب
اشتهر بمذهب الصَّرْفة ، وإليه ذهب جماعة من المتكلمين ، وهو يقوم على أساس أنّ العرب لم يقدروا على الإتيان بمثل القرآن ، لا لإعجازه بحدّ ذاته ، وأنّ القرآن بلغ في فرط الفصاحة والبلاغة ، وروعة النظم وبداعة الأُسلوب شأواً لا تبلغه الطاقة البشرية ، بل لأجل أنّه سبحانه صرَفَ بُلَغَاء العرب وفصحاءَهم عن المعارضة بطريق من الطُرق الآتي ذكرها .
وقد حُكي هذا المذهب عن أبي إسحاق
النَّظام ، وهو أقدم من نسب إليه هذا القول . وتبعه أبو إسحاق النصيبي ، وعبّاد بن سليمان الصَّيمري ، وهشام بن عمرو الفوطي ، وغيرهم .
__________________
واختاره من الإمامية الشيخ المفيد (
ت ٣٣٨ ـ م ٤١٣ ) في أوائل المقالات ، وإن حُكي عنه غيره . والسيد المرتضى ( ت ٣٥٥ ـ م ٤٣٦ ) في رسالته الخاصة بهذا الموضوع التي أسماها بـ « الموضح عن جهة إعجاز القرآن » . والشيخ الطوسي ( ت ٣٨٥ ـ م ٤٦٠ ) في شرحه لجمل السيد ، وإن رجع عنه في كتابه « الإقتصاد » . وابن سنان الخفاجي ( م ٤٦٤ ) في كتابه « سِرّ الفصاحة » .
ولما كان هذا المذهب قد أحاط به
الإبهام ، واضطربت في تفسيره الأذهان ، فأقرب ما يمكن اعتماده في الوَقوف على حقيقته ، الرجوع إلى نفس عبارات المتمسكين به .
حقيقة الصَّرْفَة
إنّ القائلين بأنّ القرآن معجز من
حيث الفصاحة ، والبلاغة ، وروعة النظم وجماله ، وبداعة الأُسلوب والسَّبك ، يقولون بأنّ القرآن وصل من فرط كمالِهِ فيها إلى حدّ تقصر القدرة البشرية عن الإتيان بمثله ، من غير فرق بين السابِقين على البِعثة واللاحقين عليها .
وأمّا القائلون بمذهب الصَّرْفة ،
فإنهم يعترفون بفصاحة القرآن وبلاغته ، وروعة نظمه وبداعة أُسلوبه ، لكنهم لا يرونه على حدّ الإعجاز ، بل يقولون : ليس الإتيان بمثله خارجاً عن طوق القدرة البشرية ، فهي كافية في مقام المعارضة ، وإنّما العجز والهزيمة في حلبة المبارزة لأمر آخر ، وهو حيلولته سبحانه
بينهم وبين الإتيان بمثله .
وبعبارة أخرى : إنّ القائلين بكون
إعجاز القرآن من جهة فصاحته وبلاغته ونظمه وأُسلوبه ، يقولون إنّ الإعجاز إنّما يتعلق بأمر ممكن بالذات ، لأنّه لو كان
محالاً بالذات ـ كاجتماع النقيضين وارتفاعهما ـ فلا تتعلق به القدرة مطلقاً ، سواء
أكانت قدرة إلهية أو قدرة بشرية . وعلى ضوء ذلك ، فالإتيان بكتاب مثل القرآن ، أمر ممكن بالذات ، وليس أمراً محالاً بالذات ، غير أنّه لا تكفي لذلك القدرة البشرية العادية . فالإتيان بمثله محال عادي ، لا تزول استحالته إلّا أن يتجهّز الآتي بمثله بقدرة فوق القدرة العادية .
وأمّا القائلون بالصرفة ، فيقولون
إنّ معارضة القرآن والإتيان بمثله ليس محالاً عادياً حتى يحتاج فيه وراء القدرة العادية إلى قدرة خارقة . ولأجل ذلك كان يوجد في كلام السابقين على البعثة من فُصَحاء العرب وبُلَغائهم ، ما يضاهي القرآن في تأليفه ، غير أنّه سبحانه لأجل إثبات التحدّي ، حال بين فصحاء العرب وبلغائهم ، وبين الإتيان بمثله بأحد الأمور الثلاثة التالية :
١ ـ صَرْف دواعيهم وهممهم عن القيام
بالمعارضة ، فكلّما هموا بها وجدوا في أنفسهم صارفاً ودافعاً يصرفهم عن منازلته في حلبة المعارضة . ولم يكن ذلك لعدم قدرتهم على الإنصداع لهذا الأمر ، بل إنّ المقتضي فيهم كان تامّاً غير أنّ الدواعي
والهمم صارت مصروفة عن الإلتفات إلى هذا الأمر ، بصرف الله سبحانه قلوبهم عنه ، ولولا ذلك لأتوا بمثله .
٢ ـ سَلْبُهُمْ سبحانه العلومَ التي
كانت العرب مالكة لها ، ومتجهزة بها ، وكانت كافية في مقابلة القرآن . ولولا هذا السلب ـ وكان وضع العرب حال البعثة كوضعهم بعدها ـ لأتوا بمثله .
٣ ـ أَنَّهم كانوا قادرين على
المعارضة ، ومجهزين بالعلوم الوافية بها ، مع توفّر دواعي المعارضة وعدم صرف هِمَهِم عنها ، ولم يمنعهم عنها إلَّا إلجاؤه تعالى
، فتقهقروا في حلبة المعارضة لغلبة القوة الإلهية على قواهم . وهذا نظير من يريد أن يتحرّك نحو المطلوب ، فيحال بينه وبين مقصده بقاهر يصدُّه عن التقدم .
وفي خلال عبارات أصحاب هذا القول ،
إيماءات إلى هذه الوجوه المختلفة ، التي يجمعها قدرة العرب على معارضة القرآن .
١ ـ قال النظام : « الآية والأُعجوبة
في القرآن ما فيه من الإخبار عن الغيوب ، فأمّا التأليف والنَّظم ، فقد كان يجوز أن يقدر عليه العباد لولا أنّ
الله
__________________
منعهم بمنعٍ وعجزٍ أَحدثهما فيهم » .
وقال أيضاً في إعجاز القرآن : « وإِنَّه
من حيث الإخبار عن الأُمور الماضية ومنع العرب عن الإهتمام به جبراً وتعجيزاً ، حتى لو خلّاهم لكانوا قادرين على أن يأتوا بسورة من مثله ، بلاغةً وفصاحةً ونظماً » .
٢ ـ وقال أبو الحسن علي بن عيسى
الرماني ( ت ٢٩٦ ـ م ٣٨٦ ) : « أمّا الصَّرْفة فهي صرف الهمم عن المعارضة ، وعلى ذلك كان يعتمد بعض أَهل العلم في أنّ القرآن معجز من جهة صرف الهمم عن المعارضة ، وذلك خارج عن العادة ، كخروج سائر المعجزات التي دلّت على النبوة ، وهذا عندنا أحد وجوه الإعجاز التي يظهر منها للعقول » .
٣ ـ وقال أبو سليمان حمد بن محمد
إبراهيم الخطابي ( ت ٣١٩ ـ م ٣٨٨ ) : « وذهب قوم إلى أنّ العلّة في إعجازه الصَّرفة أي صرف الهِمَم عن المعارضة ، وإن كانت مقدوراً عليها ، غير معجوز عنها ، إلّا أنّ العائق من حيث كان أمراً خارجاً عن مجاري العادات ، صار كسائر المعجزات فقالوا : ولو كان الله عز وجل بعث نبياً في زمان النبوات ، وجعل معجزته في تحريك يده أو مَدّ رجله في وقت قعوده بين ظهراني قومه ، ثم قيل له ما آيتك فقال آيتي أن أُخرج يدي أو أَمُدّ رجلي ولا يمكن أحداً منكم أن يفعل مثل فعلي ، والقوم أصحاء الأبدان ، لا آفة بشيء من جوارحهم ، فحرّك يده أو مدّ رجله فراموا أن يفعلوا مثل فعله ، فلم يقدروا عليه ، كان ذلك آيةً دالّة على صدقه . وليس ينظر في المعجزة إلى عظم حجم ما يأتي به النبي ، ولا إلى فخامة منظره ، وإنّما تعتبر صحتها خارجاً عن مجرى العادات ناقضاً لها ، فمهما كانت بهذا الوصف ، كانت آية دالّة على صدق من جاء بها . وهذا أيضاً وجه قريب » .
__________________
٤ ـ وقال الشيخ المفيد في جهة إعجاز
القرآن : « إنّ جهة ذلك هو الصرف من الله تعالى لأهل الفصاحة واللسان عن معارضة النبي صلى الله عليه وآله بمثله في النظام عند تحدّيه لهم ، وجعل انصرافهم عن الإتيان بمثله ـ وإن كان في مقدورهم ـ دليلاً على نبوته . واللُّطف من الله تعالى مستمر في الصرف عنه إلى آخر الزمان . وهذا أوضح برهان في الإعجاز ، وأعجب بيان . وهو مذهب النظّام ، وخالف فيه جمهور أهل الإعتزال » . هذا .
وقد نقل القُطب الراوندي ( م ٥٧٣ )
في كتاب « الخرائج » ، قولاً آخر للشيخ المفيد ، ولا نعلم أَيّاً من الرأيين هو المتقدم . قال في بيان وجوه إعجاز القرآن : « ما ذهب إليه الشيخ المفيد ، وهو أنّه إنّما كان معجزاً من حيث اختصّ برتبة في الفصاحة خارقة للعادة ، قال : لأنّ مراتب الفصاحة إنّما تتفاوت بحسب العلوم التي يفعلها الله في العباد ، فلا يمتنع أن يجري الله العادة بقدر من
المعلوم ، فيقع التمكين بها من مراتب في الفصاحة محصورة متناهية ، ويكون ما زاد على ذلك غير معتادة ، معجزاً خارقاً للعادة » .
٥ ـ وقال السيد المرتضى : « إنّ الله
تعالى سلب العرب العلوم التي كانت تتأتّى منهم بها الفصاحة التي هي مثل القرآن متى راموا المعارضة ، ولو لم يسلبهم ذلك لكان يتأتى منهم » .
٦ ـ قال الشيخ تقي الدين أبي الصلاح
الحلبي ( ت ٣٧٤ ـ م ٤٤٧ ) بعد استعراضه الوجوه المحتملة لإعجاز القرآن : « وإذا بطلت سائر الوجوه ، ثبت أنّ جهة الإعجاز كونهم مصروفين » . ثم قال : « معنى الصرف هو نفي العلوم بأضدادها أو قطع إيجادها في حال تعاطي المعارضة التي لولا انتفاؤها لصحّت المعارضة ، وهذا الضرب مختصّ بالفصاحة والنّظم معاً ، لأنّ التحدي واقع بهما ، وعن الجمع بينهما كان الصَّرف » .
__________________
٧ ـ وقال الشيخ الطوسي : « القرآن
معجز سواء كان معجزاً خارقاً للعادة بفصاحته فلذلك لم يعارضوه ، أو لأنّ الله تعالى صرفهم عن معارضته ، ولولا الصرف لعارضوه » .
وقال : « إنّ التحدّي إنّما وقع
لعجزهم عن معارضته في المستقبل ، لا لأنّه ليس في كلامهم مثله ، ولو كان في كلامهم مثله لكان ترك المعارضة أبلغ وأعظم في باب العجز » .
وقال : « إنّ القائلين بالصَّرفة
يقولون إنّ مثل ذلك كان في كلامهم وخطبهم ، وإنّما صُرفوا عن معارضته في المستقبل ، فلا معنى لكونه أفْصح » .
وقال : « وأما قولُهم إنّه كان في
كلامهم ما هو مثل القرآن ، فلا يتوجه على أصحاب الصرفة لأنّهم يسلمون ذلك ، لكنهم يقولون إنّهم منعوا من مثله في المستقبل فلا ينفع بأن ذلك فيما مضى منهم موجود ، بل ذلك يؤكّد الحجة عليهم » .
وقال : « إنّ من قال بالصرفة لا ينكر
مزية القرآن على غيره بالفصاحة والبلاغة ، وإنّما يقول هذه المزية ليست ممّا تخرق العادة ويبلغ حدّ الإعجاز .
فليس في طرب الفصحاء وشهادتهم بفصاحة القرآن وفرط براعته ، ما يوجب بطلان القول بالصرفة » .
__________________
وقد كان الشيخ الطوسي قائلاً بالصرفة
، ولكنه عدل عنه بعد ذلك ، كما يعترف به هو نفسه في كتابه « الإقتصاد » ، قال : « وأقوى الأقوال عندي قول من قال إنّما كان معجزاً خارقاً للعادة لاختصاصه بالفصاحة المفرطة في هذا النظم المخصوص ، دون الفصاحة بإنفرادها ، ودون النظم بانفراده ، ودون الصرفة . وإن كُنْتُ نصرتُ في شرح الجمل القولَ بالصَّرْفة على ما كان يذهب إليه المرتضى رحمه الله ، من حيث شرحت كتابه فلم يحسن خلاف مذهبه » .
٨ ـ وقال ابن سنان الخفاجي : « إذا
عدنا إلى التحقيق وجدنا إعجاز القرآن ، صرف العرب عن معارضته ، بأن سلبوا العلوم التي بها كانوا يتمكنون من المعارضة في وقت مرامهم ذلك » .
ثم قال : « إنّ الصحيح أنّ إعجاز
القرآن هو صرف العرب عن معارضته ، وأنّ فصاحته كانت في مقدورهم لولا الصرف » .
وقال في موضع آخر : « متى رجع
الإنسان إلى نفسه ، وكان معه أدنى معرفة بالتأليف المختار ، وجد في كلام العرب ما يضاهي القرآن في تأليفه » .
٩ ـ وبسط ابن حزم ( م ٥٤٨ ) الكلام
في إعجاز القرآن ، وذكر لإعجازه خمسة وجوه وردّها ، وممّا قاله :
« والنحو الرابع : ما قالت طائفة :
وجهُ إعجازه ، كونه في أعلى مراتب البلاغة . وقالت طوائف إنّما وجه إعجازه أنّ الله منع الخلق من القدرة على معارضته .
فأمّا الطائفة التي قالت إنّما
إعجازه لأنّه في أعلى دَرْج البلاغة ، فإنّهم شغبوا في ذلك بأن ذكروا آيات منه مثل قوله تعالى : ( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ) .
وَمَوّهَ بعضهم بأن قال : « لو كان
كما تقولون من أنّ الله تعالى منع من
__________________
معارضته فقط ، لوجب أن يكون أغثّ ما
يمكن أن يكون من الكلام ، فكانت تكون الحجة بذلك أبلغ » .
ثم ردّ على هذين الدليلين بوجه تافه
غير قابل للنقل ، وقال في آخر كلامه : « فإنّها معجزة لا يقدر على المجيء بمثلها أبداً ، لأنّ الله تعالى حال بين الناس وذلك » .
١٠ ـ قال المحقق الطوسي : « وإعجاز
القرآن قيل : الفصاحة ، وقيل : الأُسلوب وفصاحته معاً ، وقيل : للصرفة ، والكلُّ محتمل » .
هذه حقيقة نظرية الصرفة ، ذكرناها
على وجه رفعنا عن وجهها الغشاوة والإبهام .
* * *
مناقشة نظرية الصَّرفة
إنّ نظرية الصرفة ، نظرية قاصرة
وسقيمة من جهات :
أما أوّلاً : فلأنّه لو
كان القرآن من حيث الفصاحة والبلاغة وروعة النظم وبداعة الأسلوب ، غير بالغ حدّ الإعجاز ، وكان العرب قبل البعثة متمكنين من إلقاء الخطب والأشعار على هذا النمط من الكلام ، فيجب أن ينتشر ما يضاهي القرآن في البلاغة ، والفصاحة بين أوساطهم وأندية شعرهم وأدبهم ، ويكون مثله متوفراً بينهم ، فعندئذٍ نسأل : أين هذه الخطَب والجمَل المضاهية للقرآن الكريم ، الرائجة بينهم ؟ وهل يمكن لأصحاب مذهب الصرفة إراءة نماذج منها ؟! ونحن مع ما بذلنا من الفحص والتتبع عنها في مظانها من مجاميع الكتب الأدبية ، لم نجد حتى النزر اليسير منها .
وثانياً : فإنّ مذهب
الصرفة يبتني على حصول الحيلولة بين العرب
__________________
والمقابلة ، بعد البعثة ، بما تقدم
، لا قبلها ، فعندئذٍ كان في وسع العرب القاء كلم وجمل وخطب مضاهية للقرآن الكريم من دون أن يتحملوا عبء المقابلة بإنشاء مثله ، حتى يقال بأنّهم صرفوا عن المقابلة بسلب الهمم والعلوم والقدرة ، لأنّ الإتيان بما هو دارج بين العرب لا يتوقف على مؤنة . إلّا أن يقال إنّهم صرفت هممهم حتى عن هذا المقدار ، وهو كما ترى .
وثالثاً : فلو كان العرب
قبل البعثة قادرين على الإتيان بكلام يشبه القرآن ويضاهيه ، فلماذا اندهش الوليد بن المغيرة عندما سمع آيات من سورة فصلت وقال : « لقد سمعت من محمد كلاماً لا يشبه كلام الإنس والجن » . ولماذا ارتمى عتبة بن ربيعة مدهوشاً مبهوتاً ملقياً يديه وراء ظهره متكياً عليهما ، مشدقاً
بفيه مصعوقاً عندما سمع بعض آيات القرآن من النبي الصادع بالحق . فلو كانت فصاحة القرآن وبلاغته أو نظمه وأُسلوبه من حيث العذوبة والأناقة على نمط كلام الآخرين من فصحاء العرب وبلغائهم ، فلم اهتزوا وتأثّروا بسماع آية أو آيات منه ، ولم تكن لهم هذه الحالة في سماع شعر امرىء القيس ، ولا عنترة ، ولا غيرهما من أصحاب المعلقات ، ولا من سماع خطب قس بن ساعدة وسحبان بن وائل وغيرهما من أصحاب الخطب والكلام .
وإلى هذا الوجه يشير الإمام يحيى بن
حمزة العلوي في نقد هذا المذهب ، ويقول : « لو كان الوجه في إعجازه هو الصرفة كما زعموا ، لما كانوا مستعظمين لفصاحة القرآن ، فلمّا ظهر منهم التعجّب لبلاغته وحسن فصاحته ، كما أثر عن الوليد بن المغيرة حيث قال : « إنّ أعلاه لمورق ، وإنّ أسفله لَمُعْذِق ، وإنّ له لطلاوة ، وإنّ عليه لحلاوة » ، فإنّ المعلوم من حال كل بليغ وفصيح سمع القرآن يتلى عليه فإنّه يدهش عقله ويحيّر لبّه ، وما ذاك إلّا لما قرع مسامعهم من لطيف التأليف وحسن موانع التصريف في كل موعظة ، وحكاية كل قصة ، فلو كان كما زعموه من الصرفة ، لكان العُجب من غير ذلك ، ولهذا فإنّ نبيّاً لو قال : إنّ معجزتي أن أضع هذه الرمانة في كفي . وأنتم لا تقدرون على ذلك ، لم يكن
__________________
تعجّب القوم من وضع الرمانة في كفه
، بل كان من أجل تعذّره عليهم ، مع أنّه كان مألوفاً لهم ، ومقدوراً عليه من جهتهم . فلو كان كما زعمه أهل الصرفة ، لم يكن للتعجّب من فصاحته وجه . فلمّا علمنا بالضرورة إعجابهم بالبلاغة ، دلّ على فساد هذه المقالة » .
وما أجاب به الشيخ الطوسي عن هذا
الدليل بأنّ من قال بالصرفة لا ينكر مزية القرآن على غيره بالفصاحة والبلاغة ، وإنّما يقول هذه المزية ليست مما تخرق العادة ويبلغ حدّ الإعجاز ، فليس في طرب الفصحاء وشهادتهم بفصاحة القرآن وفرط براعته ما يوجب بطلان القول بالصرفة ، غير تام ، إذ لو كان مثل القرآن متوفراً في الأوساط الأدبية قبل البعثة ، لما كان لهذا الطرب والإهتزاز والإنبهار والتضعضع ، وجه وجيه ، لأنّ المفروض أنّ القرائح العربية لم تكن قاصرة قبل البعثة عن إبداع أمثاله ، وسمعت آذانهم كثيراً من هذا النمط من الكلام وإن قصرت من بعد . ولو كانت قرائحهم قادرة قبل البعثة على إنشاء كلام مثل القرآن ، فلماذا جمع الوليد صناديد قريش وقال لهم : « إنّ العرب يأتونكم فينطلقون من عندكم على أمر مختلف ، فأجمعوا أمركم على شيء واحد ، ما تقولون في هذا الرجل ؟ الخ » . فلو كانت قرائحهم كافية قبل صرف هِمَمِهِم ، أو سلب علومهم ، أو الجائهم على الإنقباض في مقام معارضته ـ لكان الجواب عن قرآن الرجل واضحاً ، وهو أنّه كلام عادي ما أكثره بيننا ، وأكثر مثله في كلام خطباء العرب وشعرائهم .
ورابعاً : فإنّ القول
بالصرفة نجم من الإغترار بما روي من رشيق الكلمات ، وبليغ العبارات ، عن العرب ، فزعم هؤلاء أنّ كل من قدر على تلك الأساليب البلاغية ، يقدر على المعارضة ، إلّا أنّه سبحانه عرقلهم عنها وثبّطهم فيها .
ولكن أين الثرى من الثريا ، وأين
المدر من الدُرَر ، وليس إعجاز القرآن
__________________
رهن العذوبة والأناقة فقط ، وإنّما
هو رهن حلاوة ألفاظه وسمو معانيه ، ورصانة نظمه ـ على وجه لو غُيِّرت كلمة أو جملة منه ، لم يمكن أن يؤتى بدلها بلفظة هي
أوفق من تلك اللفظة ـ وبداعة أسلوبه ، مجتمعة . فهذه الأُمور بجملتها ، أضفت على الكلام جمالاً رائعاً لا يجد الإنسان له مثيلاً في كلام مَنْ غَبَر وسَبَق ، أو تَبِعَ
وَلَحَق . فهو بنظمه العجيب ، وأُسلوبه الغريب ، وملاحته وفصاحته الخاصة ، ومعانيه العميقة ، تحدّى الإنس والجن ، ولأجل ذلك لم يجد العرب لإغراء البسطاء ، إلّا تفسيره بالسحر ، لأنّه يأخذ بمجامع القلوب ، كما يأخذ السحر بها .
وخامساً : فإنّ المتبادر
من آيات التحدّي أنّها تعرف القرآن بأنّه فوق قدرة الإنس والجن ، وأنّه مصنوع لا تصل إليه يد المخلوق ، وهذا لا يجتمع مع مذهب الصرفة الذي لا يضفي على القرآن ذاك الجمال الرائع الذي يجعله متفوّقاً على القدرة البشرية ، وإنّما يضعه في عداد كلام عامة الفصحاء والبلغاء ، غاية الأمر أنّه سبحانه ـ كلما همّت العرب بمباراته ـ صرف عنهم الهمة والقوة ومنعهم من الإتيان بما اقترحه عليهم .
وبعبارة أخرى : إنّ المتبادر من
ظواهر الآيات ، أنّ القرآن في ذاته متعال ، حائز أرقى الميزات ، وكمال المعجزات ، حتى يصحّ أن يقال في حقّه بأنّه لو اجتمع الجن والإنس الخ . .
يقول الخطابي بأنّ قوله سبحانه : ( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ
وَالْجِنُّ ) الآية ، يشهد بخلاف هذه النظرية ، لأنّها تشير إلى أمْرٍ ، طريقُهُ التكلّف والإجتهاد ، وسبيله التأهّب والإحتشاد ، وما فُسِّرت به الصرفة لا يلائم هذه الصفة
.
وسادساً : فلو كان وجه
الإعجاز في نكتة الصرفة ، لكفى في ذلك أن يكون القرآن كلاماً مبذولاً ومرذولاً للغاية ، وركيكاً حدّ النهاية ، لكن كلّما أراد
سفلة الناس وأوباشهم ، الذين يقدرون على صنع مثل تلك الكلم ، الإتيان بمثله ، حال سبحانه بينهم وبين مباراته . وهو كما ترى ، لا يتفوّه به من له إلمام بهذه المباحث
.
__________________
وسابعاً : فلو كان عجز
العرب عن المقابلة ، لِطاريءٍ مباغتٍ أبطل قواهم البيانية ، لأُثر عنهم أَنَّهم حاولوا المعارضة ففوجئوا بما ليس في حسبانهم ، وَلَكان
ذلك مثار عجب لهم ، ولأعلنوا ذلك في الناس ، ليلتمسوا العُذْر لأنفسهم وليقللوا من شأن القرآن في ذاته .
وقد أشار إلى هذا الوجه علي بن عيسى
الرماني في نكت الإعجاز ، كما أشار إليه الإمام يحيى بن حمزة العلوي ، قال : « إنّهم لو صُرفوا عن المعارضة مع تمكنهم منها ، لوجب أن يَعْلَموا ذلك من أنفسهم بالضرورة ، وأنْ يُمَيِّزوا بين أوقات المنع والتخلية . ولو علموا ذلك ، لوجب أن يتذاكروا في حال هذا المعجز على جهة التعجّب . ولو تذاكروه ، لظهر وانتشر على حدّ التواتر . فلمّا لم يكن ذلك ، دَلّ على بطلان مذهبهم في الصرفة » .
وثامناً : فإنّ القول
بالصرفة ، يستلزم القول بأن العرب قد تراجعت حالها في الفصاحة والبلاغة ، وفي جودة النظم وشرف الأسلوب وأن يكونوا قد نقصوا في قرائحهم وأذهانهم ، وعدموا الكثير ممّا كانوا يستطيعون ، وأن تكون أشعارهم التي قالوها ، والخطب التي قاموا بها من بعد أن أوحى الله إلى النبي ، قاصرةً عمّا سمع منهم من قبل ذلك ، القصور الشديد ، وأن يكون قد ضاق عليهم في الجملة مجال كان يتسع لهم ، ونضبت عنهم موارد قد كانت تغزر ، وخذلتهم قوى كانوا يصولون بها ، وأن تكون أشعار شعراء النبي التي قالوها ، في مدحه عليه السلام ، وفي الردّ على المشركين ، ناقصة متقاصرة عن شعرهم في الجاهلية ، وأن يكون شعر حسان بعد الإسلام دون شعره قبله ، والكل كما ترى .
وتاسعاً : فإنّ الظاهر من
مذهب الصرفة أنّ النقصان حدث فيهم من غير أن يشعروا به ، ولازمه أن لا تتم الحُجَّة عليهم ، لأنّهم وإن عدموا فضلهم في مجال الفصاحة والبلاغة ، لكنهم غير شاعرين بهذا النقصان . وإذا كانوا لا يعلمون أنّ كلامهم الذي يتكلمون به بعد التحدّي ، قاصرٌ عن الذي تكلموا به أمس ،
__________________
إستحال أن يعلموا أنّ لنظم القرآن
فضلاً على كلامهم الذي يسمع منهم . وإذا لم يتصوروا للقرآن تلك المزية ، كان كلامُهم بعد التحدّي عندهم مساوياً للقرآن . فلازم ذلك أن يعتقدوا أنّ في جمله ما يقولونه في الوقت ويقدرون عليه ، ما يشبه القرآن ويوازيه ، فعندئذٍ لا تتم الحُجَّة عليهم ، إذْ لهم أن يقولوا بأنّ أشعارنا
وخطبنا لا تقصر عن قرآنك ، لأنّ المفروض أنّهم غير واقفين على نزول كلامهم عن الذروة والقمة السالفة ، ومتصورين أنّه بعد التحدي كما كان قبله . ومن كانت له هذه الحالة ، لا يتصور للقرآن مزية .
وعاشراً : فإنّ القائل
بدخول النقصان على قرائح العرب ، إمّا أن يستثني النبي من ذلك ، أوْ لا . فعلى الأَوّل يجب أن يقول بأنّ النبيّ عندما كان يتلو عليهم قوله تعالى : ( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ ، عَلَىٰ
أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَـٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) كان يستطيع أن يأتي بمثل القرآن ، ويقَدَر عليه .
وعلى الثاني يلزم أنّ النبوة صارت
وسيلة لنقصان مرتبة النبي في حلبة الفصاحة والبلاغة ، اللهم إلّا أن يقولوا بأنّ النبي كان دونهم في الفصاحة
والبلاغة قبل التحدي ، مع أنّ الأخبار تحكي عن أنّه كان أفصح العرب .
ولأجل وَهْن هذه النظرية ، صار
السائد بين المسلمين عامّة ، وأكابر الشيعة خاصة ، كون القرآن معجزاً من حيث الفصاحة المفرطة والبلاغة السامية ، والنَّظم المخصوص ، والأسلوب البديع ، الذي جعله ـ مجتمعاً ـ كلاماً خارقاً للعادة . وزيادة في إيضاح الحال نورد ما ذكره الشيخ الطبرسي ( ت ٤٧١ ـ م ٥٤٨ ) في تفسير قوله سبحانه : ( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن
يَأْتُوا بِمِثْلِ هَـٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ
بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) ، قال :
__________________
« المراد أنّه لئِن اجتمعت الجن
والإنس متعاونين متعاضدين ، على أن يأتوا بمثل هذا القرآن في فصاحته وبلاغته ونظمه على الوجوه التي هو عليها من كونه في الطبقة العُليا من البلاغة ، والدرجة القُصوى من حسن النظم ، وجودة المعاني وتهذيب العبارة ، والخلو من التناقض ، واللفظ المسخوط ، والمعنى المدخول على حدّ يشكل على السامعين ما بينهما من التفاوت ، لعجزوا عن ذلك ، ولم يأتوا بمثله ، ( وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ
ظَهِيرًا ) ، أي معيناً
على ذلك مثلما يتعاون الشعراء على بيت شعر » .
وقال العلامة الحلّي في كشف المراد :
« أمّا إعجاز القرآن ، فقد تحدّى به فصحاء العرب بقوله تعالى : ( فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ ) ، ( فَأْتُوا
بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ ) ،
( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ
وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَـٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) . والتحدي مع امتناعهم عن الإتيان بمثله ، مع توفّر الدواعي عليه ، إظهاراً لفضلهم ، وإبطالاً لدعواه ، وسلامة من القتل ، يدلّ على عجزهم وعدم قدرتهم على المعارضة » .
وعلى أيّ حال ، فإنّ القائلين
بالصرفة ، وإن كانوا من أعلام العلماء ، لكن الحق لا يعرف بالرجال ، وإنّما يعرف بسلامة الإستدلال ، وقد خَفَّت هذه النظرية في ميزان النَّصَفة والبرهنة ، والحق أنّها ليست بنظرية قيّمة قابلة للإعتماد ،
وخلافاً صالحاً للإحتجاج .
وليس كلُّ خلاف جاءَ معتبراً
|
|
إلّا خلافٌ له حظٌّ من النَّظَر
|
* * *
__________________
الأمر الثالث
عجز
البشر عن الإتيان بمثله
قد عرفت أنّ الرسول الأكرم تحدّى
العالمين أجمع على الإتيان بكتاب مثل القرآن ، وتَنَزّل حتى تحدّاهم على الإتيان بعشر سُوَر ، بل سورةٍ من مثله .
وإنّ تحليل التاريخ المسطور يكشف لنا
عجز العرب أمام هذا التحدّي ، وذلك أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه وآله ، قد بقي يطالب العرب بالإتيان بمثل هذا القرآن مدّة عشرين سنة ، مظهراً لهم النكير ، زارياً على أديانهم ، مسفّهاً آراءهم وأحلامَهم ، وهم أهل البلاغة والفصاحة ، وفيهم أساطينها وأركانها ، ولكنهم مع ذلك لم ينبثوا ببنت شفة ، ولم يجرء أحد منهم على إبداع كلام يعارض فيه القرآن ، وإنّما سلكوا مسلكاً آخر ، فنابذوه وناصبوه الحرب ، حتى هلكت فيه النفوس ، وأُريقت المُهَج ، وقطعت الأرحام ، وذهبت الأموال .
ولو كان ذلك في وسعهم وتحت إقدارهم ،
لم يتكلّفوا هذه الأُمور الخطيرة ، ولم يتركوا السهل الدمث من القول إلى الحزِن الوعر من الفعل . هذا ما لا يفعله عاقل ، ولا يختاره ذو لبّ . وقد كانت قريش موصوفين برزانة الأحلام ووفرة العقول والألباب . وقد كان فيهم الخطباء المصاقع ، والشعراء المُفْلقون .
__________________
قال الشيخ عبد القاهر : « إنّ
المتعارف من عادات الناس التي لا تختلف وطبائعهم التي لا تتبدل ، أن لا يسلِّموا لخصومهم الفضيلة ، وهم يجدون سبيلاً إلى دفعها ، ولا ينتحلون العجز وهم يستطيعون قهرهم والظهور عليهم . كيف ، وإنّ الشاعر أو الخطيب أو الكاتب ، إذا بلغه أنّ بأقصى الإقليم من يباهي بشعره ، أو بخطبته أو برسالته التي يعملها ، يَدْخُلُه من الأَنفَة والحميَّة ما يدعوه إلى
معارضته ، وإلى أن يُظهر ما عنده من الفضل . هذا فيما لم ير ذلك الإنسان قطّ ، ولم يكن منه إليه ما يهزّ ويحرّك ، فكيف إذا كان المدعي بمرأى ومسمع منه ، فإنّ ذلك أدعى له إلى مباراته ، وأن يُعَرِّف الناس أنّه لا يقصر عنه ، أو أنّه منه أفضل ، فإن انضاف إلى ذلك أن يدعوه الرجل إلى مباراته ، فذلك الذي يُسْهِر ليله ويسلبه القرار ، حتى يتفرّغ مجهوده في جوابه ، ويبلغ أقصى الحدّ في مناقضته .
هذا ، فكيف إذا ظهر في صميم العرب
وفي مثل قريش ، ذوي الأنفس الأبية ، والهمم العليّة ، من يَدّعي النبوة ويخبر أنّه مبعوث من الله تعالى إلى الخلق ، ثم يقول وحجتي أنّ الله تعالى قد أنزل عليّ كتاباً عربياً مبيناً ، تعرفون
ألفاظه ، وتفهمون معانيه ، إلّا أنّكم لا تقدرون على أن تأتوا بمثله ، ولا بعشر سُوَر منه ، ولا بسورة واحدة ولو جمعتم جهدكم واجتمع معكم الجن والإنس . فلا يتصور منهم السكوت والسكون في مقابل هذا الإدعاء ، إلّا إذا كانوا عاجزين » .
دَفْعُ تَوَهّم
ربما يتصور الغافل أنّ البلغاء
المعاصرين لداعي الحق ، قد عارضوه بكتاب أو سور مثل كتابه وسوره ، ولكنه اختفى أثره في شعاع ضوء قدرة الإسلام والمسلمين وسلطانهم على الجزيرة وخارجها .
والجواب : إنّه رجمٌ
بالغيب وتصوّر باطل لا تصدقه الموازين التاريخية والعلمية ، إذ لو كانت ثمة معارضة ومقابلة ، لما اختفى على العرب المعاصرين ولا
__________________
على غيرهم . كيف ، وإن الإتيان بمثل
معجزته ، يسجل للمعارض خلود الذكر وسموّ الشرف ، بل لَسَعى أعداء الإسلام في نشره بين المعتنقين لدينه وغيرهم ، لأنّهم يجدون فيه بغيتهم .
قال المحقق الخوئي ـ دام ظلّه ـ : « إنّ
هذه المعارضة لو كانت حاصلة لأعلنتها العرب في أنديتها ، وشَهَرتها في مواسمها وأسواقها ، وَلأَخذ منه أعداء الإسلام نشيداً يوقعونه في كل مجلس ، وذكراً يرددونه في كل مناسبة ، وعَلَّمَه السلف للخلف ، وتحفّظوا عليه تحفّظ المدعى على حجّته ، وكان ذلك أقرّ لعيونهم من الإحتفاظ بتاريخ السلف . كيف ، وأشعار الجاهلية ملأت كتب التاريخ وجوامع الأدب ، مع أنا لا نرى أثراً لهذه المعارضة » .
يقول الخطابي : « إنّ هذا السؤال
ساقط ، والأمر فيه خارج عمّا جرت به عادات الناس من التحدّث بالأُمور التي لها شأن ، وللنفوس بها تعلّق ، وكيف يجوز ذلك عليهم في مثل هذا الأمر الذي قد انزعجت له القلوب ، وسار ذكره بين الخافقين . ولو جاز ذلك في مثل هذا الشأن مع عِظَمِ خطره ، وجلالة قدره ، لجاز أن يقال إنّه خرج في ذلك العصر نبي آخر وأنبياء ذوو عدد ، وتنزّلت عليهم كتب من السماء ، وجاءوا بشرائع مخالفة لهذه الشريعة ، وكتم الخبر فيها فلم يظهر ، وهذا ممّا لا يحتمله عقل » .
أقول : وممّا يدلّ على عدم وجود هذه
المعارضة اللائقة بالذكر ، ما ضبطه التاريخ من كلام مسيلمة الكذاب وغيره ممّن ادّعوا النبوة وأرادوا أن يخدعوا بسطاء العقول ، فجاءوا بجمل تافهة ساقطة ، لا يقام لها وزن ولا قيمة ، ما سيأتي عرضه وتحليله بعد هذا البحث .
على أنّ القرآن ما خصّ العرب
الجاهليين بالتحدّي ، بل تحدّى جميع الناس سالفهم وحاضرهم ، وهناك مجموعة كثيرة من العرب لا يعتنقون دين الإسلام ويتبعون ثقافات حديثة ، وتؤيدهم القُوَى الكبرى الكافرة . فلو كانت المكافحة
__________________
أمراً ممكناً لقام هؤلاء بهذه
المهمة وأراحوا أنفسهم من بذل الأموال الطائلة في طريق الحطّ من كرامة هذا الدين ، والنيل من نبيّه الأعظم وكتابه المقدّس ، ولاحتفلوا بذلك في أنديتهم ومؤتمراتهم العالمية ، وزعزعوا بذلك إيمان المسلمين ، الذي هو أُمنيتهم الكبرى . ومع ذلك ، لا ترى من هذا الأمر عيناً ولا أثراً .
* * *
ثم إنّه قد نقل في مواضع متفرقة من
كتب التاريخ ، عبارات وجمل منثورة ، يشبه ـ بحسب الظاهر ـ أُسلوبها أُسلوب القرآن ، زُعم أنّها لأناس ادّعوا النبوّة ،
وعارضوا بها القرآن الكريم ، وهذا ما نطرحه على بساط البحث فيما يلي .
* * *
هل عورض القُرآن الكريم ؟
إنّ المؤرخين ذكروا أسماء قوم زعموا
أنّهم عارضوا القرآن الكريم ، وأنّ بعضهم ادّعى النبوة ، وجعل ما يلقيه معجزة لكي لا تكون دعواه بلا أداة وبيّنة . ونحن نذكر بعض من ذكرهم التاريخ ، وننقل بعض ما نسب إليهم ، حتى يُعلم أنّ ما سمّوه مُعارضاً للقرآن الكريم ، ليس إلّا كلاماً ساقطاً ، لا يقام له وزن ،
بل لا يداني بلاغة كلام الأُدباء المعروفين .
١ ـ مسيلمة الكذاب
ذكر ابن هشام أنّ مسيلمة بن حبيب قد
كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله : « مِنْ مُسَيْلمة رسول الله إلى محمد رسول الله ، سلام عليك . أمّا بعد ، فإنّي قد أُشركت في الأمر معك ، وإن لنا نصف الأرض ، ولقريش نصف الأرض ، ولكن قريشاً قوم يعتدون » .
فلما جاء الكتاب ، كتب رسول الله إلى
مسيلمة : « بسم الله الرحمن الرحيم . من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذّاب ، السلام على من اتّبع الهُدى . أمّا بعد ، فإنّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمُتَّقين
» .
وذلك في آخر سنة عشر .
وذكر الطبري أنّ وفد بني حنيفة أتوا
رسول الله مع مسيلمة ، فلما رجعوا وانتهوا إلى اليمامة ، ارتدّ مسيلمة وتنبّأ وتكذّب له ، وقال : « إنّي قد أُشركت
في الأمر معه » . ثم جعل يسجع السجاعات ويقول لهم فيما يقول ، مضاهاةً للقرآن . وذكر من كلامه هذا :
« لقد أَنْعَمَ الله على الحُبْلى ،
أَخْرَج مِنْها نَسَمَةً تَسْعى ، بين صِفاقٍ وحَشَى » .
إنّ هذين الكلامين ، يكفيان شاهداً
على ما لم نذكره . أمّا كتابه ، فهو دليل على أنّه جعل دعوى النبوّة ، أداة للحكومة ، فلأجل ذلك قسّم الأرض بينه وبين رسول الله . فانظر إلى جواب رسول الله ، المُقْتَبس من القرآن الكريم : ( إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّـهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ
لِلْمُتَّقِينَ ) .
وأما قرآنه المنحول ، المفترى على
الله سبحانه ، فما هو إلّا جُمَل وفصول توازن سجع الكهان ، حاول أن يعارض بها أوزان القرآن في تراكيبه . وممّا اصطنعه في هذا المجال :
« الفيل ، ما الفيل ، وما أدراك ما
الفيل ، له ذنب وبيل ، وخرطوم طويل » .
« يا ضفدع بنت ضفدعين ، نقي ما تنقين
، نصفك في الماء ونصفك في الطين ، لا الماء تكدِّرين ، ولا الشارب تمنعين » .
وعلى هذا الغرار سائر كلمه المنسوبة
إليه . وكلها تعرب عن جهل وحماقة فيه . ولذلك ، لما ذهب الأحنف بن قيس مع عمّه إلى مسيلمة ، وخرجا من
__________________
عنده ، وقال الأحنف لعمّه . « كيف
رأيته ؟ » ، قال : « ليس بمتنبيء صادق ، ولا بكذّاب حاذق » .
ما هي حقيقة المعارضة ؟
معنى المعارضة أنّ الرجل إذا أنشأ
خطبة أو قال شعراً ، يجيء الآخر فيجاريه في لفظه ويباريه في معناه ليوازن بين الكلامين ، فيحكم بالفلج على أحد الطرفين . وليس معنى المعارضة أن يأخذ من أطراف كلام خصمه ، ثم يبدل كلمة مكان كلمة ، فيصل بعضه ببعض وصل ترقيع وتلفيق ، كما وقع في ذاك الكلام المنسوب إلى مسيلمة . وها نحن نأتي ببعض المعارضات التي وقعت في العصر الجاهلي بين شاعرين كبيرين ، فهذا النابغة الذبياني يصف لَيْلَهُ في أشعاره
المعروفة التي يعتذر فيها للنعمان ، ويقول :
كليني لهمّ يا أميمة ناصبِ
|
|
وليلٍ أقاسيه بطيء الكواكبِ
|
تَطاوَلَ حتى قُلت ليس بِمُنْقَضٍ
|
|
وليس الذي يرعى النجوم بآيبِ
|
بصدرٍ أراح الليْل عازِب همِّه
|
|
تضاعف فيه الحزن من كل جانبِ
|
ونرى أنّ امرىء القيس يقول في نفس
الموضوع :
وليلٍ كموج البحر أرخى سدوله
|
|
عليّ بأنواع الهُموم ليبتلي
|
فقلت له لمّا تمطّى بصُلْبه
|
|
وأردف أعجاز وناء بكلكلِ
|
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي
|
|
بصبح وما الإصباح منك بأمثلِ
|
فيا لكَ من ليلٍ كأن نجومه
|
|
بكل مغار الفتل شدّت بِيَذْبُلِ
|
هذه هي حقيقة المعارضة ؛ فقول
النابغة متناه في الحسن ، بليغ في وصف ما شكاه من همّه وطول ليله ، ويقال إنّه لم يتبديء شاعر قصيدة بأحسن من هذا الكلام ، خصوصاً قوله : « بصدر أراح الليلُ عازب همِّه » . وهو كلام مطبوع سهل يجمع البلاغة والعذوبة . إلّا أنّ في أبيات امرىء القيس من ثقافة الصنعة ،
__________________
وحسن التشبيه ، وإبداع المعاني ، ما
ليس في أبيات النابغة ، إذ جعل لليل صلباً وأعجازاً وكلكلاً ، وشبّه تراكم ظلمة الليل بموج البحر في تلاطمه عند ركوب بعضه بعضاً ، وجعل النجوم كأنّها مشدودة بحبال وثيقة ، فهي راكدة لا تزول ولا تبرح ، وجعل يتمنى تَصَرُّم الليل بعود الصبح لما يرجو فيه من الرَّوْح ، ثم ارتجع
ما أعطى واستدرك ما كان قدّمه وأمضاه ، فزعم أنّ البلوى أعظم من أن يكون لها في شيء من الأوقات كشف وانجلاء . . . إلى آخر ما في شعره من النكات .
فبمثل هذه الأمور تعتبر المعارضة ،
فيقع بها الفضل بين الكلامين ، من تقديم لأحدهما ، أو تأخير ، أو تسوية بينهما . لا بمثل ما أتى به هؤلاء المهزّلون
، من الإكتفاء بالوزن والفواصل ، من دون نظر إلى المعاني . وهذا هو السائد في كل المعارضات التي نسبت إلى المعارضين .
وللمعارضة صور أُخرى ذكرها الخطابي
في بيان إعجاز القرآن .
مثال آخر
نرى أنّ جريراً يمدح بني تميم
ويعرفهم بأنّهم كل الناس ، في قوله :
إذا غَضِبَتْ عليك بنو تميمٍ
|
|
حسبت الناسَ كلُّهم غِضاباً
|
ويقول أبو نواس في هذا الصدد :
ليس على الله بمستنكَرٍ
|
|
أن يجمعَ العالَمَ في واحدٍ
|
وقد زاد عليه أبو نواس زيادة رشيقة ،
وذلك أنّ جريراً جعل الناس كلّهم بني تميم ، ولكنّ أبا نواس جعل العالم كلّهم في واحد . فكان ما قاله أبلغ وأدخل في المدح والإعظام .
إذا ظهرت لك حقيقة المعارضة ، فانظر
إلى قوله سبحانه : ( الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ *
وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ ) . وقوله سبحانه : ( الْقَارِعَةُ * مَا
الْقَارِعَةُ *
وَمَا
__________________
أَدْرَاكَ
مَا الْقَارِعَةُ ) ، ثم ما أتَبَعٍ
قوله هذا بذكر يوم القيامة وبيان أوصافها وعظيم أهوالها بقوله : ( يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ *
وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ ) .
فأين هو من قول القائل : « الفيل ،
ما الفيل ، وما أدراك ما الفيل ، له ذنب وبيل ، وخرطوم طويل » . فإنّ مثل هذه الفاتحة تجعل مُقَدِّمَةً لأمر عظيم الشأن متناه الغاية ، فإذا بالمعارض يجعله مقدمة لذكر الذَّنَب والمشفر ، ويتصور أنّه تحققت المعارضة ، ويا ليته أتبع تلك المقدمة ، بما أعطيت هذه البهيمة العجماء
من الذهن والفطنة التي به تُفْهِمُ سائسها ما تريده ، فلعلّه كان أقرب إلى مقصوده !! .
الشك في صحة نسبة هذه المعارضات
وهناك احتمال بأن لا تكون هذه
الكلمات قد وضعت ليعارض بها القرآن ، وإنّما وضعها أعداء مسيلمة للتفكُّه والسَّمَر ، أو وضعت لغاية دينية وهي تأكيد إعجاز القرآن عندما تُقارَن هذه المفتريات إلى الآيات الباهرة في الكتاب العزيز . مع أنّ إعجاز القرآن ليس في حاجة إلى مثل هذا بعدما سكت فحول البلاغة عن معارضته .
وممّا يثير الشكّ في كون مسيلمة قائل
هذه الجمل التافهة ، ما أثر عنه من بعض الكلمات التي هي في البلاغة بمكان عال ، كقوله عندما اجتمع مع سجاح التميمية : « هل لَكِ أن أَتَزَوَّجُكِ فآكلَ بقومي وقومك العرب ؟ » . فإن هذه الكلمة تدلّ على مكانة الرجل في الفصاحة وجميل التأتي لما يريد . فخيّل لسجاح أنّه سيأكل بقومه وقومها العرب ، وهل كانت تقصد سجاح غير هذا ؟ وهل كان يقصد من اتبعوها إلّا أكل العرب والإستيلاء عليهم ؟ فإذا قارنّا بين كلمته هذه ،
__________________
وما عزي إليه من المعارضات ، وجدنا
فارقاً كبيراً بينهما في الأُسلوب والروح . فهذه الكلمة صادرة عن نفس جادة حازمة تتطلب أمراً عظيماً ، وأمّا ما نسب إليه فصادر عن نفس ماجنة عابثة ، لا تدرك ما وراء هذه المغامرة من المخاطر .
وهناك كلمة أُخرى نسبت إليه حين
استحرّ القتل في قومه ، وأخذتهم سيوف المسلمين من كل مكان ، وقد سأله قومه ما وعد به ، فقال : « أمّا الدين فلا دين ، قاتلوا عن أحسابكم » . فأي إيجاز ، وأيّ قوة ، وأيّ إيحاء وتحميس أقوى من هذا : قاتلوا عن أحسابكم ؟ والمنصف لا يشك في أنّ صاحب هذه الكلمات الموجزة ليس صاحب هذه المعارضات الركيكة المسهبة .
٢ ـ طليحة بن خويلد الأسدي
قدم على النبي في وفد أسد بن خزيمة
سنة تسع ، فأسلموا . ثم لما رجعوا ، تنبّأ طليحة ، وعظم أمره بعد أن توفي رسول الله صلى الله عليه وآله . وكان يزعم أنّ ذا النون يأتيه بالوحي .
ومن كلماته : « إنّ الله لا يصنع
بتعفير وجوهكم ، وقبح أدباركم شيئاً . فاذكروا الله قياماً ، فإنّ الرغوة فوق الصريح » . فهو يريد بكلامه
هيئة الصلاة من الركوع والسجود ، فكانت الصلاة في شرعه قياماً .
ومنها : « والحمام واليَمام ،
والصّرد الصوام ، ليبلغ ملكنا العراق والشام » .
ولو كان الرجل ذا لبّ وعقل ، لما
عارض القرآن الكريم بهذه الكلمات الساقطة . فانظر كيف حلف على أمر عظيم وهو بلوغ ملك العراق والشام بهذه الطيور !! .
وممّا يثير الشك في صحة عزو هذه
الجمل الجوفاء إلى طليحة ، ما نقله
__________________
الطبري عنه ، حيث قال : إنّ طليحة وفد على عمر ـ وكان طليحة قد أسلم ـ فقال له عمر : أنت قاتل عكاشة وثابت ـ يريد عكاشة بن محصن وثابت بن أكرم وهما سيدان من سادات المسلمين ، وفارسان من فرسانهم ـ فقال طليحة في جواب عمر : « ما تَهُمُّ من رجلين كرَّمهما الله بيدي ، ولم يُهِني بأيديهما » .
فهناك فرق واضح بين ما عزي إليه من
المعارضات ، وعبارته أمام عمر ، فإن كلمته الأخيرة فيها روح أمكن بها الرجل أن يؤثر على عمر ، حيث قال له إن الرجلين ذهبا إلى الجنة ، فأكرمهما الله على يدي طليحة . وأي شيء أحبّ إلى عمر من أن تكون الجنة نصيب عكاشة وثابت ! .
٣ ـ سجاح بنت الحارث بن سويد التميمية
إنّ قبيلة بني تغلب كانت راسخة في
النصرانية ، فادعت سجاح المذكورة ، بعد وفاة رسول الله ، النبوة ، فاستجاب لها بعضهم ، وترك التنصّر ، وكان أمر مسيلمة الكذاب قد غلظ واشتدّت شوكة أهل اليمامة ، فنهدت له بجمعها فمن قولها المزعوم : « إنّه الوحي ، أعدّوا الركاب ، واستعدوا للنّهاب ، ثم أغيروا على
الرباب ، فليس دونهم حجاب » . فلما توجهت لحرب مسيلمة قالت : « عليكم باليمامة ، ودفّوا دفيف الحمامة ، فإنّها غزوة صرامة ، لا يلحقكم بعدها ملامة » .
وخافها مسيلمة ، ثم اجتمعا وعرض
عليها أن يتزوجها ، وقال : « هل لك أن أتزوجك ، فآكل بقومي وقومك العرب » ؟ فأجابت ، وانصرفت إلى قومها . فقالوا : « ما عندك » ؟ . قالت : « كان على الحق فاتبعته فتزوجته » . ولم تَدّع قرآناً ، وإنّما كانت تزعم أنّه يوحى إليها بما تأمر ، وتسجع في ذلك سجعاً ، كالنَّموذجين المتقدمين .
والتاريخ يحكي أنّها أسلمت بعدُ وحَسُن
إسلامها . وفي الحقيقة لم تكن نبوتها إلّا زفافاً على مسيلمة ، وما كانت هي إلّا إمرأة ! .
__________________
٤ ـ الأسود العنسي
كان رجلاً فصيحاً معروفاً بالكهانة ،
والسجع ، والخطابة ، والشعر ، والنسب . وقد تنبّأ على عهد النبي وخرج باليمن وهو ممن أراد أن يحذو حذو نبينا الأمين ، لكن بتسجيع الكلم وحده . فأراد أن يباري سورة الأعلى فقال :
« سبّح اسم ربّك الأعلى ، الذي يسّر
على الحبلى ، فأخرج منها نسمة تسعى ، من بين أضلاع وحشى ، فمنهم من يموت ويدسّ في الثرى ، ومنهم من يعيش ويبقى » . وهي ـ كما ترى ـ صفر من الحكمة العالية ، إلّا الجملة الأولى .
فقد جاء هؤلاء إلى حلبة المعارضة
لأنّهم كانوا بمكان من الإنحطاط الفكري والأخلاقي ، وأمّا المحنكون ذوو الضمائر الحرّة من العرب فلم ينزلوا إلى ميدان المعارضة لوقوفهم على أنها تبوء بالفشل ، وحفظوا كرامتهم من التسرع إلى حركات صبيانية .
وأمّا هؤلاء فهمّوا أن يعارضوا
القرآن ، فكان ما أتوا به باسم المعارضة لا يخرج عن أن يكون مجادلات مضحكة مخجلة ، أخجلتها أمام الجماهير وأضحكت الجماهير منهم ، فباءوا بغضب من الله وسخطٍ من الناس ، فكان مصرعهم هذا ، كسباً جديداً للحقّ ، ورهاناً آخر على أنّ القرآن كلام الله القادر وحده ، لا يستطيع معارضته إنس ولا جان ، ومن ارتاب فأمامه الميدان .
هؤلاء هم الذين حاولوا معارضة القرآن
من القدماء ، الذين عاصروا النبي أو عاشوا بعده بُرهة من الزمن ، ولم يكن ما أتوا به إلّا سقطات من الكلم أو الفاظًا
جوفاء ، أو أسجاعاً سخيفة . وهناك رجالات آخرون رُموا بأنّهم عارضوا القرآن الكريم ، وهم في الثقافة والأدب بمكان عالٍ ، غير أنا نشك في صحة نسبة المعارضة إليهم ، وإنّما رموا بها إمّا لكونهم من الملاحدة المعروفين كعبد الله بن
المقفع ، أو من الشخصيات البارزة التي يحسدها أعداؤها فأوقعوها بافتراءات الزندقة ، ثم معارضة القرآن الكريم ، فمنهم :
١ ـ عبد الله بن المُقَفّع ( م ١٤٥ هـ )
عبد الله بن المقفع أحد الأدباء في
القرن الثاني ، كان مجوسياً وأسلم ، وتضلّع في اللغتين العربية والفارسية ، وقام بترجمة بعضها إلى اللغة العربية ، مثل
كتاب « كليلة ودمنة » . والرجل مع أنّه رمي بالإلحاد ، قد صرّح بإسلامه في مقدمة ترجمته ، وقد قتل حرقاً في التنور عام ١٤٥ هـ لإفساده عقائد الناس . وعلى كل تقدير ، فقد نسب إليه أنّه عارض القرآن بتأليف كتاب الدّرة اليتيمية ، ولكن لم يعلم إلى الآن أنّ الرجل قام بتأليف ذلك الكتاب لأجل هذه الغاية ، وليس فيه ما يصدّق ذلك ، والكتاب مطبوع منشور في عدّة طبعات .
٢ ـ أحمد بن الحسين المتنبي ( ت ٣٠٣ ـ م ٣٥٤ )
من الشعراء البارزين الذين ربما
يحتجّ أو يستشهد بكلامهم ، وله ديوان كبير إعتنى به الأُدباء بالشرح والتعليق ، والده كوفي ، ولد في بيت الإسلام ، ولكن قيل إنّه تنبّأ عام ٣٢٠ وله من العمر سبعة عشر عاماً .
ونسب إليه أنّه تلا على أهل البادية
كلاماً زعم أنّه قرآن أُنزل عليه ، يحكون منه سوراً . قال علي بن حامد : نسخت واحدة منها ، فضاعت مني ، وبقي في حفظي من أولها : « والنجم السيّار ، والفلك الدّوّار ، والليل والنّهار ، إنّ
الكافر لفي أخطار ، إمضِ على سُنَّتِك ، واقْفُ أَثَرَ مَنْ قبلك من المرسلين ، فإنّ الله
قامعٌ بك زيغ من أَلْحَدَ في دينه وضلّ عن سبيله » ، هذا .
ولو كان للرجل سور كثيرة يحاول بها
المعارضة ، لحفظها التاريخ ولو ازدراءً عليه ، مع أنّه لم ينقل عنه إلّا هذه الجمل .
وما بقي من أشعاره تعرب عن أنانية
الرجل وأنّه يرى نفسه مقدّماً في كل شيء ، كما يظهر من قوله :
الخيلُ والليلُ والبيداءُ تعرفني
|
|
والسيفُ والرّمحُ والقرطاسُ والقلمُ
|
__________________
وقد اكتسب شهرة في الأدب والشعر ،
كما نال بذلك أعداءً حاقدين ، ومن المحتمل أنّه عزي إليه التنبوء ومعارضة القرآن الكريم من جانب أعدائه .
وقد قتل عام ( ٣٥٤ ) ، ولم يكن قتله
إلّا لهجوه رجلاً يسمّى ضبّة .
٣ ـ أبو العلاء المعرّي ( ت ٣٦٣ ـ م ٤٤٩ )
أحمد بن عبد الله من معرّة النعمان ،
أحد الأدباء الفحول ، والشعراء البارزين ، وبما أنّه كان أعمى ، وكان حليف بيته في أُخريات عمره ، كان يسمّي نفسه رهين المحبِسين ، وقد كان معاصراً للسيد المرتضى ، وكان بينهما مساجلات ومناظرات .
ومع ذلك لما سئل عن فضل السيد وكماله
، أجاب بالبيتين التاليين :
يا سائلي عنه لما جِئْتُ تسألُهُ
|
|
أَلا هُوَ الرجلُ العاري من العارِ
|
لو جئته لرأيت الناس في رجل
|
|
والدَّهْرَ في ساعةٍ والأَرْضَ في
دارِ
|
ومات ولم يتزوج ولم يعقّب ، وأوصى أن
يُكتب على صخرة قبره :
هذا جناة أبي عـ
|
|
ـليَّ وما جنيت على أحد
|
وقد اختلف المؤرخون في إيمانه وكفره
، فهناك من الناس من يرمونه بالكفر كياقوت الحَمَوي ، والذَّهبي ، وسعد الدين التفتازاني ، ومعاصره الخطيب البغدادي . والأشعار التي عزيت إليه تدلّ على انحرافه عن الإسلام .
وهناك من ذهب إلى خلاف ذلك منهم كمال
الدين عمر بن أحمد بن عديم الحلّي ، المتوفى عام ٦٦٠ ، ألّف كتاباً باسم « الإنصاف والتحري في دفع الظلم والتجرّي عن أبي العلاء المعرّي » . وقد طبعت خلاصته في تاريخ حلب ، فطرح دلائل المتخاصمين في المعري ، ثم قضى بينهم على نهج أدى به إلى الحكم بكونه رجلاً غير منحرف عن الإسلام . وممّا قال فيه : « إنّ سائر ما في ديوانه من الأشعار
الموهمة ، فهي إمّا مكذوبة عليه أو هي مؤولة » .
__________________
وممّا يؤيّد قول ابن عديم ، ما ذكره
ياقوت من أنّ المعرّي كان يُرمى من أهل الحسد له ، بالتعطيل ، وتعلّم تلامذته وغيرهم على لسانه الأشعار . يضمنونها أقاويل الملاحدة .
والذي يمكن أن يقال إنّ بعض شعره
يدلّ على سوء عقيدته ، غير أنّ قيام الرجل بمعارضة القرآن ، موضع شكّ وترديد ، فقد نسب إليه أنّه عارض القرآن بكتاب أسماه : « الفصول والغايات في مجاراة السور والآيات » ، وقد نشرت بعض فصوله .
وممّا يورث الشكّ في كون الهدف من
تأليف هذا الكتاب هو المعارضة ، ما ذكره هو نفسه في مقدمته ، قال : « علم ربّنا ما علم ، أنّي ألّفت الكلم ، آمل رضاه المسلّم ، واتّقي سخطه المؤلم ، فهب لي ما أبلغ رضاك من الكلم ، والمعاني الغِراب » .
على أنّ الشيخ عبد القاهر الجرجاني
قد شكّ في صحّة نسبة هذا الكتاب إليه ، في قوله : « وقد خيّل إلى بعضهم ـ إنْ كانت الحكاية صحيحة ـ شيء من هذا ( وهو كون التحدّي إلى فصول الكلام بأن يكون لها أواخر أشباه القوافي ) ، حتى وضع على ما زعموا « فصول الكلام » ، أواخرها كأواخر الآي ، مثل : « يعملون » ، و « يؤمنون » ، وأشباه ذلك » .
كما نسبت إليه الجمل التالية :
« أقسم بخالق الخيل ، والريح الهابّة
بِلَيْل ، بين الشرط مطلع سُهَيْل ، إِنّ الكافر لطويل الويل ، وإن العمر لمكفوف الذيل ، تعدّى مدارج السيل ، وطالِع التوبةَ من قُبيل ، تَنْجُ وما أخالك بناج » .
والذي يعرب عن كون هذه الجمل مفتريات
على الرجل ما نقل عنه في كتابه « الغُفران » ، قال ـ رداً على ابن الراوندي ـ : « وأَجْمَعَ مُلْحَدٌ ومهتدي ،
وناكب
__________________
عن المحجة ومُقتدي ، أنّ هذا الكتاب
الذي جاء به محمد كتاب بهر بالإعجاز ، ولقي عدوه بالأرجاز ، ما هذا على مثال ، ولا أشبه غريب الأمثال ، ما هو من القصيد الموزون ، ولا في الرجز من سهل وحزون ، ولا شاكل خطابة العرب ، ولا سجع الكهنة ذوي الإرب . . . وإنّ الآية منه أو بعض الآية لتعترض في أفصح كلم يقدر عليه المخلوقون ، فتكون فيه كالشهاب المتلأليء في جنح غسق ، والزهرة البادية في جدوب ذات نسق ، فتبارك الله أحسن الخالقين » .
هذا ، وإن أكثر من ينسب المعارضات
إلى أبي العلاء ، يستند إلى ما كَتَبَهُ ياقوت عنه . ويبدو للإنسان من مطالعة ما كَتَبَه ، أنّه متحامل على أبي العلاء ، ويكفي في ذلك قوله : « كان المعرّى حماراً لا يفقه شيئاً » ! . وهذه عبارة لا
يقولها إلّا أشدّ الخصوم والمتعصبين على الرجل .
* * *
__________________

الأمر الرابع
الشواهد
الدّالة على كونه كتاباً سماوياً
قد تعرفت على الإعجاز البياني للقرآن
الكريم وأنّه بفصاحته وبلاغته ونظمه وأُسلوبه ، تحدّى البشر ، وأعجز أرباب النُّهى ، وقادة الكلام والبيان . فمن كان عربياً صميماً ، عارفاً بأساليب الكلام ، واقفاً على خصوصيات اللغة ، لا يتردد في كونه معجزاً . ومن لم يبلغ تلك المرتبة ، أو لم يكن له إلمام بخصوصيات هذه اللغة ، فعليه الرجوع إلى أهل الخبرة والمعرفة ، حتى يقف على كونه معجزاً .
غير أنّ حكمته سبحانه اقتضت أنْ يُتم
الحُجَّة على البَشَر أجمعين ، عربيِّهم وعجميِّهم ، وذلك من طريق آخر غير الإعجاز البلاغي ، فحضْهُ سبحانه بقرائن وفيرة موجودة في نفس هذا الكتاب ، وفيمن جاء به . ولو تدارس محايد هذا الكتاب ، مجتنباً كل رأي مسبق ، لوقف على أنّه من الممتنع أن يقوم بتأليف هذا الكتاب إنسان عادي ، ليس له صلة بعالم الغيب ، وهذا ما نبتغيه في هذا المقام ، ذاكرين كلّ شاهد تحت عنوان خاص .
* * *
أُمِّيَّةُ
حامِل الرسالة
لم يختلف اثنان من الأُمّة الإسلامية
في أنّ النبيَّ كان أُمِّيّاً لا يحسن القراءة والكتابة قبل بزوغ فجر دعوته ، وصحائف حياته أوضح دليل على ذلك ، فلم يدخل مدرسة ، ولم يحضر على أحد للدراسة وتعلُّم الكتابة ، بل كان ربيب البادية ، بعيداً عن حضائر الفنون ، نائياً أيَّ نأي عن محاضر الحكماء ، ومجالس العلماء . بل ليس شيء في تاريخ النبي أوضح من أُمِّيَّته .
ولم يكن هو فقط مختصاً بهذا الوصف ،
بل كان علية القوم والسواد الأعظم في أمّ القُرى وحولها ، محرومين من هذا الكمال ، ولأجل ذلك يصفهم القرآن بالأُميين ، في قوله سبحانه :
( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ
يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ ، وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ، وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي
ضَلَالٍ مُّبِينٍ ) .
كما يصف حال النبي بالنسبة إلى
القراءة ، والكتابة بقوله : ( وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ
الْمُبْطِلُونَ ) .
وبالرغم من مغالطة قساوسة الغرب
والمستغربة ، وتشبثاتهم بمراسيل عن
__________________
مجاهيل ، وانتحالات الملاحدة في هذا
الأمر ، فإنّ أميّة النبي وقومه تموج بالشواهد الواضحة من الكتاب والتاريخ والحديث .
لقد جاء قومه بهذا القرآن وبلاده
آنذاك جرداء بلا مِراء ، كبعض القُرى الوحشية ، ببطنان بوادي أفريقيا ، وخُلْوٌ من وسائل العلم والعمران ، وأهلوها البسطاء صفر الأكف من وسائل الرقي والحضارة .
وكان الحجازيون من العرب ترتكز دائرة
معارفهم ، في أسواق عُكاظ ومواسم الحجيج والنوادي ، على الأُمور التالية :
١ ـ أنساب القبائل والخيل .
٢ ـ القصائد والأشعار في التهاني
والمراثي ، والحماسة والإغارة .
٣ ـ علم القِيافة .
٤ ـ علم العِيافة .
٥ ـ علم الفِراسة .
٦ ـ علم الزجر .
٧ ـ علم الرّيافة .
٨ ـ تأويل الأطياف .
٩ ـ أنواء النجوم وأسماء الكواكب ،
والظواهر الجوية .
١٠ ـ الطب ، وكان لا يتجاوز الكي
والميسم وعقاقير الحشائش .
__________________
١١ ـ الموسيقى ، وكانت لا تتجاوز
حدّي الإبل .
١٢ ـ سحر النفّاثات .
١٣ ـ الكهانة والعرافة .
١٤ ـ الصنائع البدائية ، ولا تتجاوز
صنع السهام والأقواس والرماح والجِنان .
فهذا مبلغهم من العلم والكمال . وأين
هو ممّا جاء في القرآن الكريم في مجال العقائد والمعارف والتشريع العادل ، ونظام المدنية والأخلاق الفاضلة ، والأخبار الغيبية ، إلى غير ذلك ممّا سيمرّ عليك من فنون المعارف .
فمن لاحظ هذا المعهد البسيط ، يذعن
بأنّ من الممتنع أن يخرج من هذا الحقل القاحل ، شخصية فذَّة كشخصية النبي ، وكتاب مثل كتابه ، إلّا أن يكون له صلة بقدرة عظيمة مهيمنة على الكون .
وهذا أحد الشواهد الدالّة على أنّ
الكتاب ليس من صنع النبي ، بل هو كتاب سماوي ، وإذا ضمَّت إليه الشواهد الأخر الآتية تتجلى هذه الحقيقة بأوضح تجلّياتها .
* * *
__________________
عدم
الإختلاف في الأُسلوب
إنّ القرآن الكريم نزل نجوماً في
مدّة تقرب من ثلاث وعشرين سنة ، في فترات مختلفة وأحوال متفاوتة من ليل ونهار ، وحضر وسفر ، وحرب وسِلْم ، وضرّاء وسرّاء ، وشدّة ورخاء ، ومن المعلوم أنّ هذه الأحوال تؤثّر في الفكر والتعقّل وفي قرائح قادة الكلام ، وأصحاب البلاغة ، فربما يقدر البليغ على إلقاء خطابة بليغة في حالة ، ولا يقدر عليها في أُخرى . أو الشاعر المُفْلِق يجود بقريض معجِب في ظروف روحيّة خاصة ، يعجز عنه في أُخرى . وذلك أمر ملموس لمن مارس إلقاء الخُطب ونظم القريض .
ولكن القرآن جاء على خلاف هذه
القاعدة ، فلم يختلف حاله في بلاغته الخارقة المعجزة . كما أنّ الأُسلوب في جميع السور النازلة في هذه المدة المديدة ،
واحد . « فسورة العلق » التي هي أوّل سورة نزلت على النبي ، نظير سورة « النصر » التي نزلت عليه في أُخريات أَيامه ، في الأُسلوب والبيان ، من دون أن يكون هناك اختلاف بينهما .
__________________
إنّ السور المكية التي تتراوح بين
ثلاث وثمانين ، وخمس وثمانين سورة ، نزلت كلّها في ظروف قاسية كانت الرهبة فيها حليف صاحب الرسالة ، وكان الاستضعاف مسيطراً على المؤمنين به ، ومع ذلك فهي لا تتفاوت في بداعة الأُسلوب ، وروعة النظم ، وكمال الفصاحة والبلاغة ، مع السور المدنية التي نزلت في ظروف هادئة كان الأمن والهدوء مستتبين فيها . فلم يكن لتلك الأحوال القاسية ، ولا لهذه الظروف الهادئة ، تأثير في فصاحة القرآن وبلاغته ، وروعة نظمه ، وبداعة أُسلوبه ، فجاء الكلّ على نمط معجز لا يُدْرَك شأوه ، ولا يُشَقُّ غُبارُه .
فهذا يدلّ على أنّ هذا الكتاب ، ليس
وليد قريحة النبي ونتاج ذهنه وتفكّره ، وإلّا لكثر فيه الإختلاف وتفاوت في نظمه وبلاغته ، فكان بعضه بالغاً حدّ الإعجاز ، وبعضه قاصراً عنه .
* * *
عدم
الإختلاف في المضمون
قد عرفت في القرينة السابقة أنّ
المعجزة الخالدة نزلت على النبي الأكرم صلى الله عليه وآله ، طيلة أعوام مختلفة من حيث الشدّة والرخاء ، والرغبة والرهبة ، هذا من جانب .
ومن جانب آخر ، إنّ الإنسان جُبل على
التكامل ، فهو يرى نفسه في كل يوم أعقل من سابقه ، وأنّ ما أتى به من عمل ، أو اخترعه من صنعه ، أو دَبّره من رأي ، أو أَبْدَعَهُ من نَظَر ، يراه ناقصاً مفتقراً إلى الإصلاح والتجديد . وهناك
كلمة قيمة للكاتب الكبير عماد الدين أبو عبد الله محمد بن حامد الأصبهاني ( ت ٥٩٧ ) ، يقول فيها : « إنّي رأيت أنّه لا يكتب إنسانٌ كتاباً في يومه ، إلّا قال في غده لو غُيِّر هذا لكان أحسن ، ولو زيد كذا لكان يستحسن ، ولو قُدّم هذا لكان أفضل ، ولو تُرك هذا لكان أَجمل . وهذا من أعظم العِبَر ، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر » .
وهذا في الكاتب الصادق ، وأمّا
الكاتب الذي يبني أمره على الكذب والإفتراء في أنظاره وآرائه وأحكامه وإخباراته ، فلا يمكن أن يتخلص عن التناقض والإختلاف ، ولا سيما إذا تعرّض لكثير من الأُمور المهمة في مجال العقائد والتشريعات والنُّظم الإجتماعية والأخلاقية التي تتطلب لنفسها تبنّي أدقّ القواعد وأحكم الأُسس ، ولا سيما إذا طالت على ذلك المفترى أيام ، ومرّت عليه عقود ،
فإنّه سيرتبك ويقع في التناقض
والتهافت من حيث لا يريد ، وقد قيل قديماً : « لا ذاكرة لكذوب » .
وإنّا نرى العالِم النابغ في علمٍ
معينٍ ، يؤلّف الكتاب ويستعين عليه بالباحثين ، ثم يطيل التأمّل فيه وينقّحه ويطبعه ، فلا تمرّ سنوات قليلة إلّا
ويظهر له الخطأ والإختلاف ، فلا يعيد طبعه إلّا بعد أن يغيّر منه ويصحح ما شاء .
وإنّ هذا القرآن قد تعرّض لمختلف الشؤون
، وتوسّع فيها أحسن التوسّع ، فبحث في الإلهيات والنبوات وسياسة المُدْن ونظم المجتمع ، وقواعد الأخلاق ، وقوانين السلم والحرب ، كما وصف الموجودات السماوية والأرضية ، من شمس وقمر وكواكب ورياح ، وبحار ونبات ، وحيوان وإنسان ، ووصف أهوال القيامة ومشاهدها . ومع ذلك لا تجد فيه تناقضاً واختلافاً ، أو شيئاً متباعداً عند العقل والعقلاء .
والعجب أنّه ربما يستعرض حادثة واحدة
، فيطرحها مرتين أو مرّات ، كقصة الكليم ، والمسيح ، ومع ذلك لا تجد فيها اختلافاً في الجوهر .
والحاصل أنّ الكتاب الذي يستعرض جميع
الشؤون المرتبطة بالإنسانية ، كمعرفة المبدأ والمعاد والفضائل الأخلاقية والقوانين الإجتماعية والفردية ، والقصص والعبر ، والمواعظ والأمثال ، وينزل في مدّة تعدل ثلاثاً وعشرين سنة ، على اختلاف الأحوال والظروف ومع ذلك لا تجد في معارفه العالية ، وحكمه السامية ، وقوانينه الإجتماعية والفردية ، تناقضاً ولا اختلافاً ، بل ينعطف آخره على أوله ، وترجع تفاصيله وفروعه إلى أصوله وعروقه .
إنّ مثل هذا الكتاب ، يقضي الشعور
الحي في حقّه أنّ المتكلم به ليس ممّن يحكم فيه مرور الأيام ويتأثّر بالظروف والأحوال ، بل هو الله الواحد القهار .
ولعلّ قوله سبحانه : ( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ،
وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّـهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ) ، ناظر إلى كلتا
القرينتين ، ويبين أنّ مقتضى الطَبع
__________________
الإنساني الناقص إذا خلا من التسديد
، العجزُ عن الإتيان بكتاب على سبك واحد ، ومضمون يؤكّد بعضه بعضاً ، فكيف إذا كان يعتمد في ادّعائه على الكذب والإفتراء ، فإنّ هذا سيكون وجهاً آخر لوقوعه في التهافت والتناقض . والعرب أحسُّوا بالإستقامة في أُسلوب القرآن ، ومرور الزمن قد أثبت عدم التناقض والتهافت في ما يدعو إليه .
وأمّا « كثيراً » في قوله سبحانه : ( اخْتِلَافًا كَثِيرًا ) ، فهو وصف توضيحي لا احترازي ، والمعنى : لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً ، وكان ذلك الإختلاف كثيراً على حدّ الإختلاف الكثير الذي يوجد في كل ما هو من عند غير الله . ولا تهدف الآية إلى أنّ المرتفع عن القرآن هو الإختلاف الكثير دون اليسير .
* * *
__________________
هَيْمَنَةُ
القرآن على الكتب السماوية
بُعث النبي الأكرم وتحدّى بالقرآن
المجيد ، ولما أعْجَزَ فُصحاء العرب وبُلَغاءهم في المعارضة ، وجّهوا إليه سهام التهم . فكان ممّا ألصقوه بكرامة كتابه
أنّه ليس سوى أساطير الأوّلين تُملى عليه بكرة وأصيلا .
وربما يتهمون النبي بأنّه يأخذه من بَشَر
، كما يحكيه سبحانه بقوله : ( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ) .
قال في الكشاف : « أراد بالبشر غلاماً
كان لحُوَيْطب بن عبد العزى قد أسلم وحسن إسلامه ، اسمه عائش أو يعيش ، وكان صاحب كتب . وقيل هو « جبر » غلام رومي كان لعامر بن الحضرمي ، وقيل عبدان « جبر » و « يسار » ، كانا يصنعان السيوف بمكة ويقرآن التوراة والإنجيل ، وقيل هو سلمان الفارسي » .
__________________
وعلى كل تقدير ، كان العدو يتهم
النبي بأنّه أخذ ما جاء به ، من الكتب السماوية الماضية .
فعلى ذلك ، من الجدير أن نقارن بين
القرآن ، وسائر الكتب السماوية المتقدمة عليه ، حتى يتّضح مدى الإختلاف بينهما . وهذه المقارنة من أحدث المناهج التطبيقية التي تفيد علماً بأنّ النبي الأكرم لم يعتمد فيما جاء به على
هذه الكتب . ولنركز على ما جاء به العهدان في مجال الأنبياء ، فنذكر ما جاء به القرآن أوّلاً ، ثم نتبعه بما جاء فيهما .
وقبل الخوض في المقصود نذكر بأمرين :
الأول ـ إنّ الذكر الحكيم
يعترف بعظمة التوراة وحجيتها ، وأنّها كتاب سماوي مثل القرآن ، وأنّه يجب على كل مسلم أن لا يُفَرِّق بين نبيٍّ وآخر ، ولا يفرق بين كتبهم ، يقول سبحانه : ( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ ، وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّـهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ
لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ) .
إنّ القرآن يصف التوراة في آياته ،
بقوله :
( إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ) .
( وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّـهِ ) .
كما يصف الإنجيل بقول : ( وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ ، فِيهِ
هُدًى وَنُورٌ ) .
ويصفهما معاً ، بقوله : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا
التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ ، وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ ، لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ) .
__________________
وعلى ضوء ذلك ، فهذه الكتب السماوية
كلّها نور وهداية ، غير أنّه في مواضع أخرى يندد بعلماء اليهود والنصارى متهماً إيّاهم بأنّهم حرّفوا كتبهم ودسُّوا
فيها ما ليس من الله ، وكتموا آيات الله تبارك وتعالى .
يقول سبحانه : ( مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ
الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ) .
ويقول : ( وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ
يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّـهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ ) .
ويقول : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا
أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ ، أُولَـٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّـهُ
وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ) .
وفي ضوء هذه الآيات يقف الباحث على
أنّ سهم الإعتراض في هذا المجال ليس متوجهاً إلى الكتب الصحيحة السماوية ، بل إلى المحرَّف منها ، الذي هو نتيجة تكالب الأحبار والرهبان على الدنيا ، وتغيير حكم الله طلباً لمرضاة الحُكّام
، وأصحاب الأموال .
وبما أنّ الموجود في زمن النبي ،
والدارج عند نزول القرآن ، هو الكتب المحرَّفة لا الأصلية ، فالبحث المقارن يثبت ، أنّ النبي لم يعتمد على شيء من هذه الكتب ، فيما يسرد من القصص والأحكام ، أو ما يبيّن من المعارف والعقائد ، وإلّا يجب أن تظهر فيه سمات الأخذ والتقليد . ولا يصحّ لأحد أن يحتمل أنّ النبي اطّلع على الصحيح من هذه الكتب ، وذلك لأنّ الأُمة العربية كانت أُميّة ، غير واقفة على هذه الكتب ، ولا متدارسة لها ، وكانت إنّما توجد هذه الكتب عند الأحبار والرهبان ، وأولئك لم يكن في أيديهم إلّا ما تطرّق إليه التحريف والدسّ طيلة قرون .
الثاني : قد اخترنا في
مجال المقارنة ، موضوع الأنبياء ، وذلك لأنّ هذا
__________________
المجال من أبرز ما يفترق فيه القرآن
عن العهدين . والأنبياء هم رجال الوحي والهداية ، ورجال الإصلاح والتربية ، قاموا بخدمة النوع الإنساني ، ولاقوا من المصائب والمتاعب الكثير في سبيل دعوتهم ، فيصفهم سبحانه في القرآن بقوله : ( وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ
الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ ) .
وبقوله : ( إِنَّ اللَّـهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ
وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ) .
إذا عرفت ذلك فلنبدأ بالمقارنة ،
ونكتفي بالأنبياء العظام : آدم ، ونوح ، وإبراهيم ، ولوط ، ويعقوب ، وداود ، وسليمان ، والمسيح ، عليهم السلام .
وبعد المقارنة يتجلى أنّ القرآن لم
يتأثر في تقييمهم وتوصيفهم بفضائل الأخلاق ، بالعهدين الذَّيْن يصفان رجال الوحى برذائل الأوصاف وسيئات الأعمال ، كما سترى . نعوذ بالله من سوء الظن برجالات الوحي والهداية .
* * *
١ ـ آدم في القرآن والتوراة
يقول سبحانه في خلق الإنسان : ( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ
كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَـٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ
صَادِقِينَ *
قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ *
قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ ، فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ *
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ
أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ *
وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا ، وَلَا تَقْرَبَا هَـٰذِهِ الشَّجَرَةَ
فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ *
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ، وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ
لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ، وَلَكُمْ فِي
__________________
الْأَرْضِ
مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ *
فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ، إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) .
هذه هي قصة أول الخليقة ، وتلك
مكانته عند الله سبحانه ، وذلك سجود الملائكة إجلالاً لمقامه ، وتكريماً له ، وهذا عِلْمُ آدم بالأسماء وحقائق الأشياء
، وأنّ الشيطان وسوس إليه ، فأزَلَّه ، فأكل من الشجرة الممنوعة ، فكانت النتيجة هبوطه إلى الأرض .
أمّا التوراة ، فتذكر في الأصحاحين
الثاني والثالث من سِفر التكوين قصة آدم وحواء فتقول في الأصحاح الثاني :
« وأَخَذَ الرَّبُ الإِلٰه ،
آدَمَ ، وَوَضَعَهُ في جنّة عدن ليعملها ويحفظها * وأوصى الرَّب الإِلٰه آدَمَ قائلاً : من جميع شجر الجنة تأكل أكلاً * وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكُلْ منها ، لأنَّك يوم تأكل منها تموت موتاً » . ثم بعد أن
تروي خلقة حَوّاء من ضلع آدم ، تقول :
« وكانا كلاهما عريانين ـ آدمُ
وامرأتُه ـ وهما لا يخجلان » .
ثم جاء في الأصحاح الثالث : « وكانت
الحية أحْيَلَ جميع حيوانات البريّة التي عملها الرب الإله . فقالت للمرأة : أحقاً قال الله لا تأكُلا من كُلِّ شجر الجنة * فقالت المرأة للحيّة : من
ثمر الجنة نأكل * وأمّا ثمر الشجرة التي في
وسط الجنة ، فقال الله لا تأكلا منه ولا تمسّاه لئلا تموتا * فقالت الحيّة للمرأة : لن تموتا * بل الله عالم أنّه يوم
تأكلان منه تنفتح أعْيُنُكُما ، وتكونان كالله عارِفَين الخَيْرَ والشَّرَّ * فرأت المرأة أنّ الشجرة
جيدة للأكل ، وأنّها بَهِجة للعيون ، وأنّ الشجرة شهيّة للنظر ، فأخذت من ثمرها ، وأكلت ، وأعطت رَجُلَها أيضاً معها فأكل * فانفتحت أعينهما وعلما أنّهما عريانان ، فخاطا أوراق تين وصنعا لأنفسهما مآزر » .
« وسمعا صوت الرَّب الإِله ماشياً في
الجنة عند هبوب ريح النهار ، فاختبأ
__________________
آدم وامرأته من وجه الرَّبِّ الإله
في وسط شجر الجنة * فنادى الرَّبُّ الإله آدم
وقال له : أين أنت ؟ * فقال سمعت صوتك في الجنة ،
فخشيت ، لأَنِّي عريان فاختبأت * فقال من أعلمك أنّك عريان
؟ هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك أن لا تأكل منها ؟ * فقال آدم : المرأة التي
جعلتَها معي هي أعطتني من الشجرة فأَكلت » .
إلى أن تقول : « وقال الرَّبُّ الإِله
: هو ذا الإنسان قَدْ صار كواحد منّا عارفاً الخير والشر ، والآن لعلّه يمدّ يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضاً ويأكل ويحيا إلى الأبد * فأخرجه الرّب الإله من جنة
ليعمل الأرض التي أخذ منها * وأقام شرقي جنّة عدن ، الكَرُوبيمَ ، ولهيب سيف متقلِّب ، لحراسة طريق شجرة الحياة » .
إنّ في هذه الأسطورة ، قضايا غريبة
تمسّ الله جلّ جلاله وتحطّ من كرامة نبيّه ، وكلّ واحدة منها إساءة في حدّ ذاتها ، وخِزْيٌ وعارٌ .
أولاً ـ تنسب الكذب إلى
الله سبحانه كما في قوله : « وأمّا شجرة معرفة الخير والشرّ ، فلا تأكل منها ، لأنّك يوم تأكل منها تموت موتاً » . والحال أنّها شجرة المعرفة .
ثانياً ـ تنسب إلى الله
تعالى أنّه خشي من معارضة آدم إياه ، وأن يكون مثله في معرفة الخير والشر ، والخلود ، ولكن آدم نال المقام الأول ( المعرفة ) ، وخشي سبحانه من نيله المقام الثاني ( الخلود ) فأخرجه .
ثالثاً ـ تصفه سبحانه
بالجسمية ، إذ تقول : « وسمعا صوت الربّ الإِله ماشياً في الجنة عند هبوب ريح النهار » .
رابعاً ـ تنسب الجهل إلى
الله سبحانه ، وأنّه غير عالم بما يحدث قريباً منه ، إذ تقول : « فاختبأ آدم وامرأته من وجه الربّ الإِله في وسط شجر الجنة ، فنادى الربّ الإِله آدم ، وقال له : أَين أَنت ؟ الخ » .
__________________
خامساً ـ الحيّة ( الشيطان
) أعطف من الله على آدم ، كما تقول : « بل الله عالم أنّه يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما وتكونان كالله عارفَيْن الخير والشر » .
سادساً ـ أنّه سبحانه عاقب
الشيطان ( الحيّة ) من غير ذنب ، وأقصى ما ارتكبه هو أنّه علّم آدم وثَقَّفَه ، ونصحه ، وأَخرجه من ظلمة الجهل إلى نور المعرفة .
سابعاً ـ إنّما أُخرج آدم
من الجنة لكونه أصبح إنساناً عالماً بالخير والشر ، فصار عِلْمُهُ وَبالاً عليه .
إلى غير ذلك من المخزيات الواردة في
هذه القصة .
* * *
٢ ـ نوح في القرآن والتوراة
إنّ الذكر الحكيم يعظّم شيخ الأنبياء
نوحاً ويصفه بأنّه « محسن » ، و « مؤمن » ، و « صالح » ، و « شكور » ، ومطّلع على المعارف الغيبية .
يقول سبحانه : ( سَلَامٌ عَلَىٰ نُوحٍ فِي
الْعَالَمِينَ * إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ *
إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ) .
ويقول سبحانه : ( إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ) .
ويقول سبحانه : ( ضَرَبَ اللَّـهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ
كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ ، كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ ) .
ومن أسمى المعارف التي أُثرت عن شيخ
الأنبياء أنّه كان يعتقد برابطة وثيقة بين عمل المجتمع ، الحسن أو القبيح ، والظواهر الطبيعية . وأنّ عمل الإنسان ،
__________________
يؤثّر في انفتاح أبواب الخير من
نزول المطر ، وكثرة الأموال والأولاد ، وجريان الأنهار ، وخصب الأرض .
وفي هذا المجال يحكي عنه سبحانه قوله
: ( فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ
إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا *
وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ ، وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا ) .
وإنّ القرآن يصفه بالصمود والثبات
أمام أعداء دعوته ، صموداً قليل النظير ، ويقول حاكياً عنه : ( قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا *
فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا *
وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي
آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا *
ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا *
ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا ) .
وإِنَّك لترى صحيفةً نَضِرةً من
صحائف ثباته في دعوته فيما يحكيه سبحانه من صنع سفينته ، بقوله : ( وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِّن
قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ ، قَالَ : إِن تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا
تَسْخَرُونَ ) .
وَظَلَّ شيخُ الأنبياء يعيش مع قومه
الأَلداء أَلف سنة إلّا خمسين عاماً ، حتى جاء أمر الله ، ففار التنور وغرق من غرق ، ونجا من نجا ، يقول سبحانه : ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا
إِلَىٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا
فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ * فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً
لِّلْعَالَمِينَ ) .
هذه صحائف حياته المشرقة الوضّاءة ،
وفي مقابل ذلك نقف على التصوير القاتم الذي تُصَوِّرُهُ التوراةُ لهذا الرجل العظيم ، تقول :
« وابتدأ نوح يكون فلاحاً وغرس كرماً
* وشرب من الخمر فسكر وتعرّى
__________________
داخل خبائه * فأبصر حام أبو كنعان عورة أبيه وأخبر أخويه
خارجاً * فأخذ سام ويافث الرِّداء ووضعاه على أكتافهما ومشيا إلى الوراء وسترا عورة أبيهما ووجهاهما
إلى الوراء ، فلم يُبصرا عورة أبيهما * فلمّا استيقظ نوحٌ من خمره علم ما فعل به ابنُهُ
الصغير * فقال ملعون كنعان ، عبد
العبيد يكون لإخوته » .
ولا نعلّق على هذا النصّ شيئاً ،
ونحمّل القضاء فيه إلى الباحثين الكرام .
* * *
٣ ـ إبراهيم في القرآن والتوراة
إنّ قصة إبراهيم في الذكر الحكيم
تعرب عن مكانته السامية عند الله سبحانه ، مكانة لا يصل إليها إلّا الأمثل من الأنبياء ، حيث إنّه سبحانه ذكر له ما
يقرب من خمسة عشر وصفاً ، كل منها يدلّ على عظمته وسمو مكانته عند الله فهو : « إمام » ، « صالح » ، « حنيف » ، « مسلم » ، « موقن » ، « أَوّاه » ، ـ « حليم » ، « منيب » ، « قانت » ، « شاكر » ، « مؤمن » ، « أُمّة » بنفسه ، « خَيِّر » ، « مصطفى » ، و« صاحب قلب سليم » . .
وهذه السمات بكثرتها وفخامتها ، لم
ترد في حق نبي آخر .
وأمّا بطولته وثباته في مقابل
الوثنيين ، فحدّث عنها ولا حرج ، ويكفي في ذلك أنّه دخل معبدهم ، ( فَرَاغَ إِلَىٰ آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ * مَا
لَكُمْ لَا تَنطِقُونَ *
فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ *
فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ . . . ) .
__________________
وأي مقام أكرم وأعظم من إراءته ملكوت
السموات والأرض ، كما يقول تعالى : ( وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ
مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ) .
وأي تفانٍ في جنب الله ، وطلب مرضاته
سبحانه ، أقوى من تفانيه بإستعداده لتضحية ولده وذبحه إمتثالاً لأمره سبحانه .
هذا هو إبراهيم ، بطل التوحيد ، في
الذكر الحكيم ، فهلم نقرأ صحيفة حياته التي صوّرتها التوراة المحرّفة ، بما يندى له الجبين من قراءته وسماعه ، تقول :
« وحدث جوع في الأرض فانحدر أَبرام
إلى مصر ليتغرّب هناك ، لأن الجوع في الأرض كان شديداً * وحدث لما قرب أنْ يدخل مصر
أنّه قال لساراي إمرأته : إني قد علمت أنّك إِمرأَة حسنة المنظر * فيكون إذا رآك المصريون أنّهم يقولون هذه إِمرأَته ، فيقتلونني ويستبقونك * قولي إِنَّك أُختي ، ليكون لي خير بسببك ، وتحيا
نفسي من أجلك * فحدث لما دخل أبرام إلى
مصر أنّ المصريين رأوا المرأة أنّها حسنة جداً * ورآها رؤساء فرعون ومدحوها
لدى فرعون ، فأخذت المرأة إلى بيت فرعون ، فصنع إلى إبراهيم خيراً بسببها ، وصار له غنم وبقر وحمير وعبيد وإِماء وأُتن وجمال * فضرب الربّ فرعون وبيته
ضربات عظيمة بسبب ساراي إِمرأَة أَبرام * فدعا فرعون أَبرام وقال :
ما هذا الذي صنعت بي ، لماذا لم تخبرني أنّها إِمرأَتك ؟ * لماذا قلت هي أُختي حتى أَخذتُها
إليَّ لتكون زوجتي . والآن هو ذا إِمرأَتك ، خذها واذهب * فأَوصى عليه فرعون رجالاً فشيّعوه وامرأَته وكل
ما كان له »
.
فمغزى هذه الأُسطورة أَنّ إِبراهيم
صار سبباً لأخذ فرعون سارة ، زوجة
__________________
إبراهيم ، زوجةً له . وحاشا إِبراهيم
، وهو من أكرم أنبياء الله ، أن يرتكب ما لا يرتكبه أدنى الناس . وهو وإِنْ فَعَلَ ذلك طلباً لنجاة نفسه ، لكن أصحاب الغيرة والشهامة من الرجال يضحّون بأنفسهم دون أعراضهم .
ثم من أين علم إِبراهيم أنّه لو
عرفها المصريون إِمرأَته يقتلونه ، مع أنّ المستقبل لم يصدِّق ذلك ، وأظْهَرَ فرعون رجلاً موضوعياً ، لا يتجاوز أعراض الناس .
* * *
٤ ـ لوط في القرآن والتوراة
إنّ لوطاً ، أحد الأنبياء المعاصرين
لإبراهيم المقتفين لشريعته ، وكان رجلاً صموداً في مجال النهي عن المنكر ، يقول سبحانه ( إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ *
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ *
فَاتَّقُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُونِ *
وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَتَأْتُونَ
الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ *
وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ *
قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ *
قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُم مِّنَ الْقَالِينَ * رَبِّ
نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ *
فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ *
إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ ) .
والقرآن يذكر لوطاً في عِداد
الأنبياء العظام ويقول : ( وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا ، وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ) .
وفي آية أخرى يقول : ( وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا
وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ ، إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ
فَاسِقِينَ ) .
فَهَلمّ نرى ما تذكره التوراة في
حقّه تقول :
« وصعد لوط من صُوغر وسكن في الجبل
وابنتاه معه ، لأنّه خاف أن يسكن
__________________
في صوغر ، فسكن في المغارة هو
وابنتاه * وقالت البكر للصغيرة أبونا
قد شاخ وليس في الأرض رجل ليدخل علينا كعادة كلِّ الأرض * هَلُمّ نسقي أبانا خمراً ونضطجع معه ، فنحيي من أبينا نسلاً * فسقتا أباهما خمراً في تلك الليلة ، ودخلت البكر واضطجعت مع أبيها ، ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها * وحدث في الغد أَنَّ البكر قالت للصغيرة إِنِّي قد اضطجعت البارحة مع أبي ، نسقيه خمراً الليلة أيضاً فادخلي إِضطجعي معه ، فنحيي من أبينا نسلاً * فسقتا أباهما خمراً في تلك الليلة أيضاً ، وقامت الصغيرة واضطجعت معه ، ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها * فحبلت إبنتا لوط من أبيهما
* فولدت البكر إبناً ودعت إسمه
مُوآب ، وهو أبو الموآبيين إلى اليوم * والصغيرة أيضاً ولدت إبناً ودعت إسمه بَنْ عَمّي
، وهو أَبو بني عَمّون إلى اليوم » .
عجباً والله ، أي منطق هذا ! وما
قيمة نبيّ لا يفرّق بين الخمر والماء ، ويسكر إلى حدّ يفعل ما ذكرته مع بنتيه . ولو صحت هذه القصة ، فالموآبيين ، وبني عمّون ، ينتهي نسبهم إلى الفسق والفجور ، أعاذنا الله من الوقيعة في الأنبياء .
وكفى في هذا النصّ دلالة على أنّ
القرآن لم يُتّخذ من التوراة ، لأنّه لم يذكر في حقّ بنات نوح سوءاً ، وإنّما ندّد بزوجته ، كما عرفت .
* * *
٥ ـ يعقوب في القرآن والتوراة
إنّ يعقوب أحد الأنبياء العظام ،
يصفه سبحانه بأنّه كان محسناً ، وصالحاً ، ومصطفى ، وخيِّراً ، وبصيراً ، وقد جعل النبوة في نسله .
يقول سبحانه : ( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ
وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن
__________________
قَبْلُ وَمِن
ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ
وَهَارُونَ ، وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) .
ويقول سبحانه : ( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ
وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ ) .
ويقول سبحانه : ( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ
وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ . . . ) .
ويقول سبحانه : ( وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ *
إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ *
وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ ) .
ولم يزل يعقوب يكافح الوثنية ، وقد
أوصى بالتوحيد أولاده في آخريات حياته ، كما يقول سبحانه :
( إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي ، قَالُوا
نَعْبُدُ إِلَـٰهَكَ وَإِلَـٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَـٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) .
فَهَلُمَّ معنا نقف على نصّ التوراة
في حقّ هذا النبي العظيم ، فهي تُعرِّفه بأنّه كاذب مخادع ، كما تصف أباه بأنّه شارب للخمر .
إنّ إسحاق أراد أن يعطي إبنه « عيسو
» بركة النبوة ، فخادعه يعقوب وأوهمه أنّه « عيسو » ، وقد كان أمر يعقوب « عيسو » أن يصنع طعاماً كما يجب ، ويأتي به ليأكل حتى يباركه قبل أن يموت . وقد علم بذلك يعقوب ، تقول التوراة :
__________________
« فَدَخل إلى أبيه وقال : يا أبي .
فقال : ها أنذا ، من أنت يا ابني * فقال يعقوب لأبيه : أنا عيسو بكرك ، قد فعلت كما كلّمتني ، قم اجلس وكُلْ من صيدي لكي تباركني نفسك * فقال إسحاق لابنه : ما هذا الذي أسرعت لتجديا إبني ؟! فقال إِنّ الربّ إلهك قد يَسّر لي * فقال إسحاق ليعقوب : تقدّم لأجُسَّكَ يا ابني ، أأنت هو إِبني عيسو أم لا ؟ * فتقدّم يعقوب إلى إسحاق أبيه ، فجسَّه ، وقال : الصوتُ صوت يعقوب ، ولكن اليدين يدا عيسو * ولم يعرفه ، لأنّ يديه كانتا مشعرتين كيدي عيسو أخيه ، فباركه * وقال هل أنت هو ابني عيسو ، فقال : أنا هو * فقال : قدّم لي لآكل من
صيد إبني حتى تباركك نفسي ، فقدّم له ، فأكل وأحضر له خمراً فشرب !! . . . » إلى أن تقول :
« وحدث عندما فرغ إسحاق من بركة
يعقوب ، ويعقوب قد خرج من لدن إسحاق أبيه ، أنّ عيسو أخاه أتى من صيده ، فصنع هو أُطْعِمةً ، ودخل بها إلى أبيه ، وقال لأبيه : ليقم أبي ويأكل من صيد إِبنه حتى تباركني نفسك * فقال له إسحق : أبوه : من أنت ؟ فقال : أنا إِبنك بكرك عيسو * فارتعد إسحاق إِرتعاداً عظيماً » . . . « فقال : قد جاء أخوك بمكرٍ وأخذ بركتك » .
٦ ـ داود وسليمان في القرآن والعهدين
يحدّث القرآن عن داود ويصفه بالشجاعة
، وأنّه أحد من أُعطي الكتاب ، وجُعل خليفة في الأرض ليحكم بين الناس بالحق ، وأنّه أُوتي العلم والحكمة وفَصْلَ الخطاب . وقد بلغت عظمته الروحية إلى حدّ أنّه كان عندما يسبّح ، تسبِّح الجبال والطير معه .
كما أنّه يصف إبنه سليمان بالعلم
والسيطرة على الفضاء ، وإليك بعض الآيات الواردة في هذا المجال .
__________________
يقول سبحانه : ( وَآتَاهُ اللَّـهُ الْمُلْكَ
وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ) .
ويقول سبحانه : ( وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ) .
ويقول سبحانه : ( اصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ
وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ *
إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ *
وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ *
وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ ) .
ويقول سبحانه : ( يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ
خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ) .
هذا بعض ما ذكره القرآن في داود ،
كما يذكر ولده البارّ بقوله : ( وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّـهِ الَّذِي
فَضَّلَنَا عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ *
وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ
الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ) .
وإليك ما ينسبه العهد القديم إليهما
، ممّا يندى له الجبين :
« وأمّا داودُ فأقام في أُورشَليم * وكان في وقت المساء أنّ
داود قام عن سريره ، وتمشّى على سطح بيت الملك ، فرأى من على السطح إمرأة تستحم ، وكانت المرأة جميلة المنظر جداً * فأرسل داود وسأل عن المرأة فقال واحد : أليست هذه بَتْشَبَع بِنْتَ أَليعام ، إمرأة أوريّا الحِثيّ * فأرسل داود رسلاً وأخذها ،
فدخلت إليه ، فاضطجع معها وهي مطهرة من طمثها ، ثم رجعت إلى بيتها * وحبلت المرأة فأرسلت وأخبرت داود وقالت : إنّي حبلى » .
ثم يستمر في سرد هذه الخرافة ، وأنّ
داود استدعى زوجها وسأله عن مسار
__________________
الحرب ووضع الجيوش ، وأمره أن يرجع
إلى بيته ، لكن الزوج لم يرجع بل نام على باب بيت الملك ، ولما علم داود بالأمر اعتذر الزوج بأنّه كيف يذهب إلى بيته ليأكل ويشرب ويضطجع مع امرأته والجيوش نازلة في الصحراء ويهوذا ساكنون في الخيام ، وفي اليوم التالي أرسل داود رسالة إلى قائد جيشه يأمره فيها أنْ يجعل هذا
الزوج في مقدم الجيوش ليقتل ، ففعل ذلك ، فقتل .
« فلما سمعت امرأة أُوريّا أنّه قد
مات أُوريا رجلُها ، ندبت بعلها * ولما مضت المناحة أرسل داود وضمّها إلى بيته وصارت إمرأة له وولدت له إبناً ، وأمّا الأمر الذي فعله داود فَقَبُحَ في عيني الرَّبّ » .
هذا ما يذكره في حقّ الوالد ، وأمّا
الولد فيعرفه العهد القديم والإنجيل أيضاً بأنّه ابن داودَ من أُوريّا هذه .
والعجب أنّ الولد اقتفى أثر الوالد
في المعاشقة ومغازلة النساء ، فانظر إلى ما جاء في « الملوك الأَول » :
« وأحب سليمان نساء غريبة كثيرة مع
بنت فرعون ، موآبيات ، وعَمُّونيات ، وأدوميات ، وصيدونيات ، وحثيات * من الأمم الذين قال عنهم الرب لبني إسرائيل لا تدخلون إليهم وهم لا يدخلون إليكم لأنّهم يُميلون قلوبكم وراء آلهتهم ، فالتصق سليمان بهؤلاء بالمحبة * وكان له سبع مئة من النساء السيدات ، وثلاث مئة من السراري ، فأمالت النساء قلبه * وكان في زمان شيخوخة سليمان أنّ نساءه أملن قلبه وراء آلهة أخرى ، ولم يكن قلبه كاملاً مع الربّ إلهِهِ كقلب داود أبيه * فذهب سليمان وراء عشتروت إلاهة الصيدونيين ، وملكوم رجس العمونيين * وعمل سليمان الشرّ في عيني الرب ولم يتبع الرب
تماماً كداود أبيه * حينئذٍ بنى سليمان مرتفعة
لكموش رجس الموآبيين على الجبل الذي
__________________
تجاه أُورشليم ولمولك رجس بني عمّون
* وهكذا فعل لجميع نسائه
الغريبات اللواتي يوقدن ويذبحن لآلهتهن * فغضب الربّ على سليمان . . . » . وهكذا يتابع نقل غضب الرب عليه ثم تهديده إيّاه بتمزيق مملكته .
هَبْ أَنَّ النبي لا يلزم أَنْ يكون
معصوماً ـ مع أنّ الأدلّة العقلية قائمة على لزوم عصمته ـ فهل يجوز في حكم العقل أن يعبد الأصنام ويبني لها المرتفعات ، ثم يكون داعية للناس إلى التوحيد وعبادة الله ؟! .
٧ ـ المسيح في القرآن والإنجيل
إنّ المسيح المبشِّر بالنبي الأعظم ،
من الأنبياء العظام ، وصفه سبحانه بقوله :
( إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّـهِ
وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ ) .
وبقوله : ( وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ
الْبَيِّنَاتِ ، وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ) .
وقد بلغت عناية الله تعالى به أنْ
أقدره على التكلّم وهو في المهد صبياً ، يقول سبحانه : ( تُكَلِّمُ
النَّاسَ فِي الْمَهْدِ ) .
وممّا نلفت النظر إليه أنّه سبحانه
ينقل عنه قوله : ( وَجَعَلَنِي
مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا *
وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا ) .
__________________
فاتل هذه الآية وتأمّل فيما أوصاه
الله سبحانه من البرّ بوالدته ، ثم قارن ذلك بما ينقله عنه الإنجيل من ترك إكرامه لوالدته ، يقول الإنجيل :
« فَجاءت حينئذٍ إخوته وأُمُّه وَوَقفوا
خارجاً وأرسلوا إليه يدعونه * وكان الجَمْع جالساً حوله فقالوا له هوذا أُمَّكَ وإِخْوَتُك خارجاً يطلبونك * فأجابهم قائلاً : مَنْ أُمِّي وإِخوتي ؟ * ثم نظر حوله إلى الجالسين وقال : ها أُمي وإِخْوتي
، لأَنَّ من يَصْنَعْ مشيئة الله هو أَخي وأُختي وأُمّي » .
فأين المسيح الذي ينكر أُمَّه
القديسة البارّة ، ويحرمها رؤيته ، ويُعَرِّضُ بِقَداسَتِها ، ويُفَضِّل تلاميذه عليها ، مِنَ المسيح الذي عرّفه القرآن بقوله : ( وبَرًّا بِوالِدَتِي ) ، مع أنّ هؤلاء التلاميذ هم الذين تركوه ، ووصفهم المسيح بقوله : « ما بالكم خائفين هكذا ، كيف إيمان لكم » .
المسيح يحول الماء خمراً ليشرب الناس
إنّ الخمر إحدى الخبائث التي حرّمها
الله سبحانه في الشرائع السماوية ، من غير فرق بين شريعة وأُخرى ، وها هو سِفْر اللاويين ، من العهد القديم يقول :
« وَكَلّم الله هارون قائلاً ، خمراً
ومسكراً لا تشرب أنت وبنوك معك عند دخولكم إلى خيمة الإجتماع ، لكيلا تموتوا ، فرضاً دهرياً في أَجيالكم ، وللتمييز بين المقدَّس والمحلِّل ، وبين النجس والطاهر » .
ومع ذلك فالمسيح يصنع للمحتفلين بالعُرس
خمراً ليشربوا كما يقول الإنجيل :
« وفي اليوم الثالث كان عرس في قانا
الجليل وكانت أمّ يسوع هناك * ودعي أيضاً يسوع وتلاميذه إلى العرس . ولما فرغت الخمر قالت أمُّ يسوع له ليس لهم
__________________
خمر * قال لها يسوع : ما لي ولك يا إمرأة ، لم تأت
ساعتي بعد !! * قالت أُمُّه للخدّام : مهما قال لكم فافعلوه * وكانت ستة أجرانٍ من حجارة موضوعة هناك حسب تطهير اليهود ، يَسَع كل واحد مِطْرَيْنِ أو ثلاثة * قال لهم يسوع : إِملأوا الأجران ماءً ، فملأوها إلى فوق * ثم قال لهم : إستقوا الآن ، وقدِّموا إلى رئيس المتكأ ، فقدَّموا * فلما ذاق رئيس المتكأ
الماء المتحول خمراً ـ ولم يكن يعلم من أين هي لكن الخدّام الذين كانوا قد استقوا الماء علموا ـ دعا رئيس المتكأ العريس * وقال له : كل إنسان إنّما يضع الخمر الجيدة أولاً ومتى سكروا فحينئذٍ الدون . أما أنت فقد أبقيت الخمر الجيدة إلى الآن * هذه بداية الآيات التي فعلها يسوع في قانا الجليل ، وأظهر مجده ، فآمن به تلاميذه » .
* * *
هذه نماذج ممّا في العهدين من
الأضاليل والأباطيل التي لا تتفق مع البرهان ، ولا يصدّقه المنطق ، وهي تثبت أمرين :
الأول : أنّ هذه الكتب
السخيفة ليست من وحي السماء ، وإنّما هي من منشآت الأحبار والرهبان ، خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً ، فموّهوا الكتب السماوية بخرافاتهم .
الثاني : أنّ النبي الأكرم
لم يقتبس معارفه وقصصه وأحكامه من هذه الكتب ، وإنّما هي مأخوذة من وحي السماء على قلبه ، ليكون من المنذرين .
وبهذا تقف على مدى صدق قوله سبحانه :
( إِنَّ هَـٰذَا الْقُرْآنَ
يَقُصُّ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) .
__________________
وقوله سبحانه : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ
بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ) .
ولنكتف بهذا المقدار ، ونترفع عن نقل
العار ، وأشنع القبائح ، التي يرمي بها العهدان أنبياءَ الله تعالى ، ممّا تشمئز النفوس من سماعه ، والأقلام عن
الجريان به .
* * *
__________________
إعجازه
من ناحية إتقان التشريع والتقنين
جاء الإسلام برسالة عالمية ، وبعقيدة
وطقوس لا تنفرد بشعب أو مجتمع بعينه ، ولا تَخْتص بصَقْع أو أقطار معينة ، بل ظهر ديناً متكامل الجوانب في العقيدة والتشريع ، يسري على الأفراد على إختلافهم في اللون ، والوطن ، واللسان ، ولا يفترض لنفوذه حاجزاً بين بني الإنسان ، ولا يعترف بأيّة فواصل أو تحديدات عرقية أو إقليمية .
ويظهر هذا من تاريخ دعوة الرسول
وسيرته في نشر دينه ، وقبل كل شيء ، نداءات القرآن وهتافاته الموجهة إلى الناس كلهم . وهذا ما يراد من كون الإسلام ديناً عالمياً .
ولم تكن هذه سمته الوحيدة بل له سمة
أخرى هي سمة الخاتمية فهو خاتم الشرائع ، كما أنّ نبيّه خاتم الأنبياء وعلى هذا كلمات الرسول وأوصيائه ، وقبلها النصوص القرآنية .
كما أنّ له سمة ثالثة ، وهو كونه
ديناً متكامل الجوانب ، وشاملاً لجميع النواحي الحيوية في حياة البشر ، فلم يقتصر في تربية الإنسان وتنمية طاقاته على تشريع الأدعية والطقوس فحسب ، بل قَرَن إليها تشريعات وتقنينات رفع بها
__________________
حاجة الإنسان إلى كل تشريع وتقنين ،
سواء في مجال الأخلاق أو الإجتماع أو السياسة والإدارة ، أو الإقتصاد .
وإنّ نفس وجود تلك القوانين في جميع
تلك الجوانب ، معجزة كبرى لا تقوم بها الطاقة البشرية ، واللجان الحقوقية ، خصوصاً مع اتّصافها بمرونة خاصة ، تجامع كل الحضارات والمجتمعات البدائية ، والصناعية المتطورة .
ثم إنّه تظهر عظمة ذلك التقنين إذا
وقفنا على أنّ دعوة الإسلام بزغت بين أقوام متأخرين في المجالات الخلقية والثقافية ، ولم يكن لهم منها نصيب سوى الإغارة والنهب والقتل والتفاخر . ويشهد لذلك صفحات تاريخ الجزيرة العربية ، ولنكتف من ذلك بشاهد واحد يكشف لنا واقعية الحياة في ذلك العصر .
روى أهل السير والتاريخ أنّ رجلاً من
« زبيد » قدم مكة ببضاعة ، فاشتراها منه العاص بن وائل ، فحبس عنه حقّه ، فاستعدى عليه الزبيدي الأحلاف : عبد الدار ، ومخزوماً ، وجمحاً ، وسهماً ، وعدي بن كعب ، فأبوا أن يعينوا على العاص بن وائل وانتهروه ، فلما رأى الزبيدي الشرّ ، أوفى على أبي قبيس عند طلوع الشمس ـ وقريش في أنديتهم حول الكعبة ـ فنادى بأعلى صوته :
يا آل فهر لمظلوم بضاعته
|
|
ببطن مكة نائي الدار والنَّفَرِ
|
ومُحْرم أشعث لم يَقْضِ عُمْرته
|
|
يا للرجال وبين الحِجْر والحَجَرِ
|
إنَّ الحرامَ لمن تَمَّتْ كرامتُه
|
|
ولا حرام لثوبِ الفاجر الغَدِرِ
|
فقام في ذلك الزبير بن عبد المطلب ،
وقال : ما لهذا مترك .
فاجتمعت « هاشم » و « زهرة » و « تميم
بن مرة » ، في دار « عبد الله بن جدعان » فصنع لهم طعاماً ، وتحالفوا في ذي القعدة الحرام ، فتعاقدوا وتعاهدوا بالله ليكوننّ يداً واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يؤدَّى إليه حقُّه ، أبداً .
فسمَّت قريش ذلك الحلف ، حلف الفُضول
، وقالوا : « لقد دخل هؤلاء في فضل من الأمر » .
ثم مشوا إلى العاص بن وائل ،
فانتزعوا منه سلعة الزبيدي ، ودفعوها
إليه
فهذه الحادثة تكشف عن أنّ المجتمع في
الجزيرة العربية أو في قسم الحجاز ، كان خلواً من أي محكمة وقضاء ، ولم يكن سائداً فيها إلّا قوة الزور وشريعة الغاب ، فلما اتّحد هؤلاء للدفاع عن المظلوم ، اشتهر اسم ذلك الحلف ، وصار نجماً لامعاً بينهم ، وكأنّ شيئاً عجيباً قد حصل .
ففي مثل هذا المجتمع ظهر رجل ، وفي
يده كتاب ، يدعو إلى الأخوّة الدينية أوّلاً ، وصيانة حقوق الإنسان في ظل العدالة في جميع المجالات ثانياً ،
وأتى بتشريعات بعث بها النور والحياة في المجتمع . وهذا أوضح دليل على أنّ هذه الثمرة ليست ثمرة طبيعية للبيئة .
إذا عرفت ذلك فلنعد إلى تبيين سمات
التشريع الإسلامي ، وذكر نزر يسير منها في بعض المجالات ، والمهم هو الوقوف على تلك السمات ، وهي :
١ ـ مرونة التشريعات الإسلامية ،
وملاءمتها لجميع الحضارات الماضية والسائدة ، والآتية .
٢ ـ إنّ التشريعات القرآنية تعتمد
قبل كل شيء على الفطرة الإنسانية التي لا تتغير في خضم التحوّلات والتبدّلات . فلا تجد تشريعاً قرآنياً يضاد الفطرة .
٣ ـ التشريع القرآني ينظر إلى
الإنسان ، بما هو موجود مركب من جسم وروح ومادة ومعنى ، ولكل حاجته ورغبته ، فأباح اللذائذ الجسمانية في إطارٍ لا يمسّ كرامة الإنسان ، كما دعا إلى المثل الأخلاقية العليا ، فصار بذلك ديناً وسطاً ، لا يجنح إلى جانب خاص فينسى الجانب الآخر .
٤ ـ الملاك في التشريع القرآني هو
السعادة الإنسانية ومصالح المجتمع ومفاسده ، فأرسى قوانينه على ذلك الأساس من دون جنوح إلى إرضاء عموم الناس وإشباع ميولهم ، لأنّ إرضاءهم ربما يكون مخالفاً لسعادتهم .
__________________
٥ ـ إنّ التشريعات القرآنية ليست
تقنينات جافة ، خالية من الضمانات الإجرائية ، بل لم تغفل عنها ، فجعلت لتنفيذها ضمانات إجرائية داخلية وخارجية ، فإيمان الرجل بدينه وقرآنه وما يترتب عليه من مثوبات وعقوبات أُخروية ، أقوى وازع داخلي وعاطفي في الإنسان يدفعه إلى التطبيق ، ويردعه عن المخالفة . إضافة إلى العقوبات البدنية والغرامات المالية التي حددها .
٦ ـ إنّ التشريع القرآني ذو مادة
حيوية ، خلاقة للتفاصيل ، بحيث يقدر معها علماء الأُمة والإخصائيون منهم على استنباط ما يحتاج إليه المجتمع في كل عصر . فإذا انضمت إليها الأحاديث النبوية ، وما وصل إلى الأُمة ، من أوصياء النبي ، نجد التشريع الإسلامي وافياً باستنباط آلاف الفروع التي يحتاج إليها المجتمع على امتداد القرون والأجيال .
هذا ما نتبناه في هذا البحث ، ولا
تظهر حقيقته إلّا بشرح كل واحدة من هذه السمات شرحاً إجمالياً ، يوقفنا على قوة التشريع القرآني وإتقانه .
* * *
السمة الأولى : مرونة التشريع القرآني
من الأسباب ، الدافعة إلى صلاح
الإسلام للبقاء والخلود ، مرونة أحكامه التي تُمَكِّنه من أن يماشي جميع الأزمنة ، والحضارات .
وقد تمثلت هذه المرونة بأُمور نذكر
منها اثنين :
أ ـ النظر إلى المعاني لا المظاهر
إنّ التشريعات القرآنية تنظر إلى
المعاني والحقائق لا إلى المظاهر والقشور ، ولذلك لا تجد في الإسلام مظهراً خاصاً من مظاهر الحياة له من القداسة ما يمنع من تغييره ، ويوجب حفظه إلى الأبد بشكله الخاص ، ولأجل ذلك لا يقع التصادم بين تعاليمه والتقدم العلمي الهائل في مظاهره وأشكاله الخارجية ، وإليك بعض الأمثلة :
١ ـ إنّ الإسلام دعا إلى بثّ العلم
والتربية ، ولكن الذي يهم الإسلام ، في جميع الأزمنة هو الحقيقة والجوهر من ذينك الأمرين ، وأمّا الكيفية والشكل ، فلا يهمّانه ، بل الهدف إشاعة العلم بأي وسيلة كانت ، وإرساخ التربية في نفوس الناس بأي سبب تحقق .
وإنّ أجهزة نشر العلم ، وأسباب
التربية ، قد ترقت من أبسط الأساليب إلى أعقدها ، فمن الكتابة بالقصب على أوراق الشجر وعظام الحيوانات وجلودها ، إلى نشر العلم عن طريق الأجهزة الإذاعية والدوائر الإلكترونية .
فلو كانت هناك قداسة لأسباب معينة ،
كالكتابة بالحبر أو بالجصّ ، لما كتب للإسلام البقاء .
٢ ـ إنّ القرآن يدعو الأُمّة
الإسلامية إلى التأهُّب في مقابل الأعداء ، وإعداد ما استطاعوا من قوة ، يقول تعالى : ( وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ ) . فما هو المطلوب ، هو كسب القوة والإقتدار على كفاح المخالفين .
والمراد من القوة هو الآلات الحربية
وأدوات النضال ، سواء أكانت أسهماً ورماحاً وسيوفاً ، أو دبابات ومدافع وطائرات وصواريخ . فالكلُّ أشكال ، واللُّب واحد ، وهو دوام الإستعداد في مقابل الأعداء .
فلو كانت الفروسية والرمي بالسهام هي
مظاهر الكفاح العسكري الذي يدعو إليه الإسلام ، فقد حلّ مكانها أدوات مهيبة مدمّرة قويّة ، والإقتصار على الأولى كان سينجر حتماً إلى إبادة المسلمين . غير أنّ الجهاد بالسهم والرمح ، أو الجهاد بالصواريخ والدبابات ، أشكال وألبسة للحكم الإسلامي بالجهاد ، فاللِّباس يتغير ويحتفظ باللُّب .
٣ ـ القرآن يدعو المسلمين إلى العزّة
والعظمة والإستقلال ، ورفض التبعية
__________________
للأعداء . يقول سبحانه : ( وَلِلَّـهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ
وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَـٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ ) .
ولكن نيل هذا الهدف السامي لم يكن
يتطلب في السابق ما يتطلبه اليوم من وجود الأخصائيين من المسلمين في المسائل السياسية والإقتصادية والإجتماعية . فالقرآن يوجب على المسلمين دراسة هذه العلوم دراسة وافية ، حتى تتحقق لهم العزّة . فليست هذه العلوم مطلوبة بالذات ، بل المطلوب هو حفظ العزّة والعظمة والإستقلال . والتدرع بهذه العلوم ، ليس إلّا سبب وأداة لنيل المطلوب .
٤ ـ الإسلام يدعو المرأة إلى العفة
والستر والحجاب خارج بيتها وفي محيط عملها . ولكنه لم يقيّده بشكل خاص من اللباس ، بل يكفي في ذلك كل لباس يكون مؤمِّناً لهذا الغرض . فلو كان التشريع الإسلامي في هذا المجال على أساس إلزام المرأة باتّخاذ شكل خاص من الحجاب لربما تصادم مع حاجات الزمان المتطورة ، أو استلزم تهديم التقاليد العرفية المحترمة عند الأُمم . فلأجل ذلك ترك
الكيفية والشكل إلى المجتمع نفسه وطلب منه اللُّب وهو الستر ، وعدم الإغراء .
قال سبحانه : ( وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا
مَا ظَهَرَ مِنْهَا ، وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ ) .
وقال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل
لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ
فَلَا يُؤْذَيْنَ ) .
٥ ـ في مجال العلاقات الدولية
الدبلوماسية الأصل الثابت هو رعاية مصالح الإسلام والمسلمين ، وأمّا كيفية تلك الرعاية فتختلف باختلاف الظروف الزمانية والمكانية . فتارة تقتضي المصلحة ، السلام والمهادنة ، ومصالحة العدو . وأُخرى تقتضي ضدّ ذلك .
__________________
يقول سبحانه : ( وَلَن يَجْعَلَ اللَّـهُ
لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ) .
ويقول سبحانه : ( لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّـهُ عَنِ
الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ ، وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ ، أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ، إِنَّ
اللَّـهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ *
إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّـهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم
مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ ، أَن تَوَلَّوْهُمْ ، وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَـٰئِكَ
هُمُ الظَّالِمُونَ ) .
فالإسلام لا يفرض الحرب دائماً مع
الكفار ، كما لا يفرض السلم والصلح كذلك ، وإنّما الحرب والسلم يتبعان مصالح الإسلام والمسلمين .
٦ ـ العلاقات الدولية التجارية ،
وإنشاء مؤسسات صناعية مشتركة بين المسلمين وغيرهم ، يتبع ذلك الأصل الثابت ، وهو تَبَنِّي صلاح الإسلام والمسلمين . ولأجل ذلك ربما يكون عقد إتفاقية تجارية حراماً في ظرف وحلالاً في ظرف آخر . فلو كان التحريم هو الحكم الثابت لما أَمكن تطبيقه في الظروف التي توجب عقد الإتفاقية ، وهكذا العكس . وهذا ما نرومه في هذا المقام من أنّ المعنى ثابت والتعابير مختلفة ، وكل الإتفاقيات تُسْتَمَدُّ من الأصول الثابتة في الإسلام
، كقوله سبحانه : ( وَلَن
يَجْعَلَ اللَّـهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا ) . وقوله سبحانه : ( فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا
تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ) .
وقس على ذلك سائر التشريعات ؛
فللإسلام خاصيّة الإهتمام باللُّب والجوهر ، وهذا أحد العناصر التي تجعله يساير ويماشي عامة الحضارات الإنسانية إلى قيام يوم الدين .
ب ـ الأحكام التي لها دور التحديد
من الأسباب الموجبة لانطباق التشريع
القرآني على جميع الحضارات ،
__________________
تشريعه لقوانين خاصة ، لها دور
التحديد والرقابة بالنسبة إلى عامة تشريعاته . فهذه القوانين الحاكمة ، تعطي لهذا الدين مرونة يماشي بها كل الأجيال والقرون .
يقول سبحانه : ( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ
مِنْ حَرَجٍ ) .
ويقول سبحانه : ( يُرِيدُ اللَّـهُ بِكُمُ الْيُسْرَ ، وَلَا
يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) .
ويقول سبحانه : ( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا
عَادٍ ، فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ) .
ويقول سبحانه : ( وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ
عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ) .
ويقول سبحانه : ( إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ
مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ )
وما ورد حول النهي عن الضرر من
الآيات ، كلها تحدّد التشريعات القرآنية بحدود الحرج والعسر والضرر . فإذا صارت الأحكام مبدأ لواحدٍ منها ، تكون مرتفعة غير لازمة الإمتثال . فلولا هذه التحديدات الحاكمة ، لما كانت الشريعة الإسلامية مماشية لجميع الحضارات البشرية .
* * *
السمة الثانية : تشريعاته معتمدة على الفطرة
إنّ الحياة البشريّة في تغيُّر دائم
، وتبدُّل مطَّرد ، ورسوم وتقاليد تزول ، وأُصول وحاجات جديدة تطرأ ، تحتاج إلى تلبيتها ورفعها ، هذا من جانب .
ومن جانب آخر إنّ الهدف من التقنين
هو رفع حاجات المجتمع في المجالين الفردي والاجتماعي .
__________________
وبملاحظة هذين الجانبين ، يتّضح أنّ
أيَّ تقنين لن تكتب له الحياة ، ولن يكتسي ثوب البقاء إلَّا إذا كان متكئاً ومعتمداً في تقنينه على مبدءٍ ومَرْتكَز
ثابت لا يتبدل ولا يتغير ، وليس هو إلّا الفطرة الإنسانية التي لا تتبدل مع الأجيال ، وعبر
القرون ، وفي خضم التحوّلات الطارئة على الحضارات الإنسانية .
وقد تنبّه التقنين القرآني إلى هذا
الأساس فبنى مُثُلَه العليا وتشريعاته ، على وفق ما تقتضيه الفطرة الإنسانية ويتماشى معها .
يقول سبحانه : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا
فِطْرَتَ اللَّـهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ، لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّـهِ ، ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ
وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ) .
فجعل الملاك في ثبات تشريعه وبقائه ،
خلقة الإنسان وطبعه ، الثابتين في جميع ألوان الحياة ومتغيراتها ، فعلى الرغم من أنّ الحضارة الصناعية غيّرت لون الحياة ، ورفعت الحواجز بين الإنسان وأمانيه ، وقدّمت إليه حياة ناعمة كانت ممتنعة في عصر الحجر والسيف والسهم والحضارات البدائية ـ فمع ذلك كلّه ـ لم تصل يد التغيّر إلى طبع الإنسان وفطرته ، بل هي ثابتة كما كانت مُذْ داس الإنسان هذه الكرة ، ولأجل ذلك ترى أُموراً مشتركة بين الإنسان الذي عاش في الحضارات البدائية ، والذي يعاصر الحضارات الصناعية ، وهكذا بين الإنسان القطبي والإستوائي . وفي ضوء ذلك جاء القرآن بقوانين ثابتة في عالمٍ ، التحوّلُ والتبدّلُ حليفة وأليفه . وإليك نماذج من هذه القوانين :
١ ـ إنّ التفاوت بين الرجل والمرأة
أمر طبيعي محسوس . فهما موجودان مختلفان اختلافاً عضوياً وروحياً ، على رغم كل الدعايات السخيفة الكاذبة التي تريد إزالة كل تفاوت بينهما . ولأجل ذلك اختلفت أحكام كلٍّ منهما في التشريع الإسلامي إختلافاً يقتضيه طبعُ كلٍّ منهما . فإذا كان التشريع مطابقاً لفطرتهما ، ومسايراً لطبعهما ، ظلّ ثابتاً لا يتغير بمرور الزمان ، لثبات الموضوع ، المُقْتضي
لثبات محموله .
__________________
ومن جملة تلك الأحكام قوله سبحانه : ( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى
النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّـهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ، وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ
أَمْوَالِهِمْ ) . فهو تشريع مطابق للفطرة .
٢ ـ التشريع القرآني حريص جداً على
صيانة الأخلاق وحفظها من الضياع والإنحلال ، وممّا لا يشك فيه أن شرب الخمر واللعب بالميسر ، والإباحة الجنسية ، ضربات تقصم ظهر القِيَم والأخلاق . ولأجل ذلك حرّمها الإسلام وجعل الحدود على مقترفيها . فالأحكام المتعلقة بها ، من الأحكام الثابتة ، لأنّ ضررها ثابت لا يتغير بتغير الزمان ، فالخمر يزيل العقل ، والميسِر ينبت العداوة في
المجتمع ، والإباحة الجنسية تفسد النَّسل .
يقول سبحانه : ( إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن
يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّـهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ
فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ) .
إنّ الميل الجنسي من الميول الطبيعية
التي لا تنفك عن الإنسان من زمان مراهقته إلى فترات متقدمة من عمره ، فلأجل ذلك دعا إلى النكاح وحذّر من الرهبانية .
قال سبحانه : ( وَأَنكِحُوا الْأَيَامَىٰ
مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ ، إِن يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّـهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّـهُ وَاسِعٌ
عَلِيمٌ ) .
وقد ورد في السُّنة : « من سنتي
التزويج ، فمن رغب عن سنتي فليس مني »
.
٣ ـ إنّ الجهاد ـ بمعنى السعي في
طريق الحياة ـ من الأُمور الطبيعية المشتركة
__________________
بين الإنسان والحيوان ، وحتى النبات
. فجذور الشجرة المشتملة على الشعيرات الدقيقة ، تَشُقُّ طريقها في أعماق التراب لتنمو الشجرة وتبقى حية . وهكذا الكريات الحمراء في الدم ، تلاحق باستمرار الجراثيم والميكروبات الطارئة على البدن وتقتلها لتصون البدن عن الأمراض .
فالإنسان المثالي الذي يتبنّى أيْديولوجية
إلهية ، لا مناص له في نشر دعوته وبثّ أفكاره عن السعي وراء هدفه . وهذا ما يعبر عنه القرآن بالجهاد في سبيل الله ، وقد جاءت الكلمة ( الجهاد ) ثمانية وعشرين مرة مع مشتقاتها في الكتاب العزيز ، وهذا يعرب عن أنّ مسألة الجهاد ليس مجرّد مسألة قتل وقتال وسفك دماء وتدمير بيوت ، وإنّما هو سعي في نشر الإيديولوجية الإلهية بأنواع الوسائل الممكنة
، فإذا واجه الداعي ، في طريق نشر دعوته ، مقاومةً من العدو ومنعاً من الطواغيت ، فلا مناص له عندئذٍ من رفع المانع بالجهاد والقتال .
يقول سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اسْتَجِيبُوا لِلَّـهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّـهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ
وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) .
٤ ـ إِنّ الميل إلى النظافة والطهارة
من الأُمور الفطرية ، وكل إِنسان يَشْمَئِزُّ من القذارة والوساخة . والتشريع القرآني دعا إلى مقتضى الفطرة في هذا المجال فقال سبحانه : ( وَإِن
كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا . . . مَا يُرِيدُ اللَّـهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم
مِّنْ حَرَجٍ وَلَـٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ ) .
* * *
السمة الثالثة : التقنين الوسط بين المادية والروحية
إنّ الناس قبل ظهور الإسلام كانوا
على قسمين :
قسم لا يهمهم إلّا الحظوظ المادية ،
كاليهود والمشركين .
__________________
وقسم تحكم عليه تقاليده بالروحانية
الخالصة وترك الدنيا وما فيها من اللذات الجسمانية ، كالنصارى والصابئين وطوائف من وثنيي الهند أصحاب الرياضات .
فجاء التقنين القرآني وجمع بين
الحقّين : حقِّ الروح وحقِّ الجسد ، ولعلّه إلى ذلك يشير قوله سبحانه : ( وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا
شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ) . فعدّل الغرائز والميول تعديلاً يضمن سعادة الإنسان .
فدعا إلى الإلتذاذ بملاذ الحياة وقال
: ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّـهِ
الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ) .
وفي الوقت نفسه ، دعا إلى النكاح
وحسن معاشرة النساء وقال : ( وَأَنكِحُوا الْأَيَامَىٰ
مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ ) وقال : ( وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) .
ودعا إلى الضرب في الأرض سعياً لطلب
الرزق ، فقال : ( هُوَ
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن
رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ) .
ومع ذلك كلّه فلم يفسح له المجال للإلتذاذ
المطلق بل حدده في مجال إعمال الغريزة الجنسية وجمع الثروة وغير ذلك من ملاذ الحياة ، بحدود وقيود . فمنع الفجور والزِّنا ، وأَكْلَ المالِ بالباطل ، وأَخْذَ الربا ، وغصب الأموال ،
والسرقة فالقرآن دعا إلى طلب الدنيا في نفس الوقت الذي دعا فيه إلى طلب الآخرة ، فقال : ( وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّـهُ
الدَّارَ الْآخِرَةَ ، وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ) .
__________________
السمة الرابعة : رعاية الموضوعية في التقنين
التقنين القرآني يتبنّى الموضوعية في
تشريعه ولا يتبنّى ترضية المجتمع وأهواء بني البشر ، وبما أنّ الإنسان موجود مركّب من جسم وروح ، فالتقنين القرآني يتبنّى سلامة الجسم والروح معاً ، فما كان مُضِرّاً بواحد منهما ، يُحَرِّمُهُ ، وإنْ
كانت تلبية رغبات المجتمع على خلافه .
فَحَرّم الإسلام أكل الخنزير وشرب
الخمر ، والدم ، وكل خبيث ، لأنّ كل ذلك ينافي صحة الإنسان في بدنه وعقله . كما حَرّم الكذب ، والتهمة ، والنمامية ، والغِيبة ، وغير ذلك من رذائل الأخلاق ، لأنّ في ذلك ضرر بالإنسان بجسمه وروحه ، وفرده ومجتمعه . يقول سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا
يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ) .
* * *
السمة الخامسة : ضمان الإجراء
إنّ العصر الحديث يواجه في سبيل
تطبيق قوانينه الوضعية ، مشكلة كبرى ، ناتجة عن فقدان قوانينه للضمانات الكفيلة بتطبيقها بنحو كامل ، وليس لديه غير عقوبات جزائية ، من المعلوم أنّها لا تكفي في تطبيقها ، ما لم يكن هناك وازع داخلي يمنع من التخلّف عنها ولأجل ذلك يواجه المجتمع البشري مشكلة انعدام الأمن الإجتماعي بألوانه وصوره .
وأمّا قوانين الإسلام التي نادى بها
القرآن ، ففيها الدوافع والحوافز المفقودة في غيرها من القوانين ، وذلك لأسباب :
الأول ـ المجتمع الإسلامي
يرى القانون مظهراً لإرادة الله سبحانه ، وأنّ مخالفته ، مخالفة لدعوة قدرة كبرى لا يمكن الفرار منها ، وأنّ العقوبة لفي المرصاد
__________________
للمجرم ، لا مَفَرَّ له منها ،
وستناله يد العدالة الإِلهية ، وإن كان غائباً عن أبصار الناس ، مختلياً بجرمه في أعماق مغارات الأرض .
إنّ الكون كلَّه في نظر المؤمن
المسلم عيون تراقب أفعاله ، وأسماع تسمع كلامه ، وتسجل كل ما يفعل ويقترف :
يقول سبحانه : ( هَـٰذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ
عَلَيْكُم بِالْحَقِّ ، إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) .
ويقول سبحانه : ( مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا
لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ) .
وإنّما تتجلى تلك الحقيقة إذا كان
المجتمع معتقداً بأنّ العقاب الأُخروي ، وجودٌ أُخروي لعمل المرء الدنيوي ، وأنَّ لكل عمل ـ خيراً كان أو شراً ـ وجودين متناسبين لظروفهما ، فاكتناز الذهب والفضة ، وعدم إنفاقهما في سبيل الله ، يَتَمَثَّلُ
في الآخرة ، ناراً تَكوي جباه الكانزين وظهورَهم وجنوبهم ، ويقال لهم : هذا الذي يَكْوي أعضاءكم هو نفس الذهب والفضة التي كنزتموها .
الثاني ـ إنّ التشريع
القرآني ليس دين الرهبة فقط ، بل هو دين الرَّغبة أيضاً ، حيث وعد المطيعين ، ثواباً عظيماً قال سبحانه : ( مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ) .
وقال سبحانه : ( وَمَن يُطِعِ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ
يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا . . .) .
الثالث ـ قَرَن هذا الوازع
الداخلي بوازع خارجي ، فأوعد المتمردين عقوبات دنيوية من حدود وتعزيرات ، فأكمل بذلك حوافز التطبيق .
__________________
بل إنّه ضَمَّ إلى تلك الحوافز أمراً
رابعاً وهو أنّه فَرَضَ الأَمر بالمعروف والنهي عن المنكر على المجتمع الإسلامي ، فرأى سكوت المسلم والمجتمع أمام المخطيء والمجرم خطأً وجُرماً ، قال سبحانه : ( وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ) .
وبذلك أصبح التشريع القرآني متكامل
الجوانب في مجالي التسنين والتطبيق .
* * *
السمة السادسة : سعة القوانين
إنّ التشريع الإسلامي ، في مختلف
الأبواب ، مشتمل على أُصول وقواعد عامة تفي باستنباط الآلاف من الفروع التي يحتاج إليها المجتمع البشري ، على امتداد القرون والأجيال ، وهذه الثروة العلمية التي اختصّت بها الأُمّة الإسلامية من بين سائر الأمم ، أَغنت الشريعة الإسلامية عن التمسّك بكل تشريع سواها .
قال الإمام أبو
جعفر الباقر عليه السلام ـ في هذا المجال ـ : «
إنّ الله تعالى لم يَدَعْ شيئاً تحتاج إليه الأُمّة إِلّا أنزله في كتابه وبَيَّنه لرسوله ، وجعل
لكل شيء حَدّاً ، وجعل عليه دليلاً يَدُلُّ عليه » .
والدليل الواضح على ذلك ، أنّ
المسلمين عندما بسطوا ظلال دولتهم على أكثر من نصف المعمورة ، وأمم الأرض المختلفة العادات والتقاليد والوقائع والأحداث ، رفعوا ـ رغم ذلك ـ صرح الحضارة الإسلامية ، وأداروا المجتمع الإسلامي طيلة قرون ، في ظل الكتاب والسنّة ، من غير أن يستعينوا بتشريعات أجنبية . وهذا العلامة الحلّي أحد عظماء فقهاء الإمامية في القرن الثامن ، ألّف كتاباً باسم « تحرير الأحكام الشرعية » ، أودع فيه من الأحكام والقوانين ما يربو
__________________
على أربعين ألف مسألة ، استنبطها من
الكتاب والسنة .
وهذا صاحب الجواهر جاء في مشروعه
الوحيد « جواهر الكلام » ، بأضعاف ما جاء به العلّامة الحلي .
وقد استعارت منّا الأُمم الغريبة
كثيراً من قوانيننا ، وليس ذلك إلّا لكون التقنين الإسلامي ذا قواعد متموجة تستطيع أن تجيب على كل ما يطرأُ .
* * *
وهنا نكتة نلفت نظر الباحث إليها ،
وهي أنّ العدالة هي الركيزة الأولى للقوانين الإسلامية في مجالي التشريع والتطبيق ، فما سنّ الإسلام قانوناً إلّا على
أساس العدالة ، وما أمر بتطبيقه وإجرائه إلّا بشكل عادل .
يقول سبحانه في القضاء ـ الذي يرجع
إلى مجال تطبيق القانون : ( وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ) .
ويقول سبحانه : ( وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ
كَانَ ذَا قُرْبَ ) .
ويقول سبحانه : ( فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ
أَن تَعْدِلُوا ) .
كما أنّه أمَرَ بالعدالة في التبادل
الإقتصادي وقال : ( وَأَوْفُوا
الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ) .
كما أمر بها في إِدارة أموال اليتامى
، فقال : ( وَأَن تَقُومُوا لِلْيَتَامَىٰ بِالْقِسْطِ ) .
وبالجملة يجب أن يكون التشريع
والتطبيق على هذا الأساس . قال
__________________
سبحانه : ( إِنَّ اللَّـهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ
وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ ، وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ، يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) .
وقد استعان القرآن في تطبيق تشريعه ،
ببسط روح الأُخوة في المجتمع الإنساني ، فأعلن الوحدة والترابط بين المُسْلِمَيْنِ ، حتى كأنّهما غصنان من دوحة
مثمرة . وليست الأُخوة الإسلامية أُخُوّة شعارية كالتي يحملها أبناء الماركسية ، باسم الرفيق والزميل ، فإنّها شعارات فارغة عن كل حقيقة تربطهم إليها ، فلأجل ذلك ترى أجسامهم متقاربة ولكن قلوبهم متشتتة ، بل هي أُخُوّة عميقة راسخة على أساس الإيمان بالله واليوم الآخر ، وعلى أساس أنّهما يرجعان إلى أصل واحد في الخلقة والولادة ، وأنّ الميزات القومية والقَبَلِيَّة والطَبَقِيَّة
كلّها سدود اجتماعية لا قيمة لها عند الله ، إِلّا أن تكون سبباً للتعارف ورفعاً للتناكُر ؛
قال سبحانه : ( إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ
وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ) .
وعند ذلك لا يفقد المجتمع الإسلامي
حافز التطبيق والإجراء ، بل يجد من داخله ما يبعثه إلى الأمانة ، دون الخيانة ، والأُخُوّة دون العداوة ، وغير ذلك
ممّا يدعو إلى وحدة المجتمع وترابطه وتراصّه .
* * *
__________________
الإخبار
عن الغيب
الغيب في اللغة العربية يقابل الحضور
، ويضاد الشهود . قال سبحانه : ( عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ) .
وفي الحديث النبوي : « لِيُبلّغ
الشاهدُ الغائبَ » .
وفي كلام علي عليه السلام : « وَنَصحتُ
لكم فلم تقبلوا ، أَشُهودٌ كغُيّاب ، وعَبيدٌ كأَرباب » .
وأصول المُغَيَّبات في القرآن ترجع
إلى ثلاثة :
الأول : الإخبار عن الله
سبحانه ، وأسمائه وصفاته ، والإخبار عن الملائكة والجن وعالم البرزخ والمعاد وما فيه من نعيم أو جحيم ، والقرآن يموج بهذه المعاني الغيبية ، التي لا يتعرّف عليها الحسّ ، ولا تقع في أُفقه في هذا الظرف .
الثاني : الإخبار عن بعض
النواميس السائدة على الكون ، وقد كانت مغيّبة ، عند نزول الوحي ، عن إدراك الحواس المجرّدة عن الأدوات المخترعة في
__________________
هذا الزمان ، وهذا ما نبحث عنه في
المقام التالي ، وهو إعجاز القرآن من جهة المعارف الكونية المستكشفة حديثاً .
الثالث : الإخبار عن أُمم
قد خلت من قبل وطويت صفحات حياتها ، فأصبحوا ممّا لا يرى حتى آثار مساكنهم ومواطنهم ، من دون مراجعة إلى كتب السير والتاريخ ، أو سؤال الكهنة والمؤرخين ، وهي القَصص الواردة في القرآن الكريم ، التي تشكّل قسماً وافراً من الآيات القرآنية .
وهناك قسم آخر من هذا ،
وهو الإخبار عن شؤون البشر في مستقبل أدواره وأطواره ، والإخبار بملاحم وفتن وأحداث ستقع في مستقبل الزمن ، وهذا ما نتبناه في هذا المقام .
إنّ الإخبار عن المغيبات وعن شؤون
البشر في مستقبل أدواره وأطواره ، وما يلم به من ملاحم وفتن ، إن دَلَّ على شيء فإنّما يدلّ على كون القرآن كتاباً
سماوياً أوحاه سبحانه إلى أحد سفرائه الذين ارتضاهم من البشر ، لأنّه أخبر عن حوادث كان التَكَهُّن والفراسة يقتضيان خلافها ، وصَدَق هو في جميع ما أخبر به ، ولم يخالف الواقع في شيء منها . ونحن نأتي هنا بقسم من تلك الإخبارات ، ولا يمكن حملها على ما يحدث بالمصادفة ، أو على كونها على غرار إخبار الكهنة والعرّافين والمنجمين . فإنّ كذب هؤلاء أكثر من صدقهم . على أنّ دَأْبَهُم هو التعبير عن أحداث المستقبل برموز وكنايات وإشارات ، حتى لا يظهر كذبهم عند التخلّف ويَقْبَلَ كلامُهم التأويل ، وهذا بخلاف إخبار القرآن ، فإنّه ينطق عن الأحداث بحماس ومنطق قاطع ، وإليك الأمثلة :
١ ـ التنبؤ بعجز البشر عن معارضة القرآن
قال سبحانه : ( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ
وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَـٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) .
__________________
ترى في هذه الآية ونظائرها التنبؤ
الواثق ، بعجز الجن والإنس عن معارضة القرآن عجزاً أبدياً ، ولكن المستقبل ـ كما يقال ـ غَيْبٌ ، لا يملكه النبيُّ ولا
الوصيُّ ولا شخص آخر غيرهما . غير أنّ النبي صار صادقاً في تنبؤه هذا ، ولا يزال صادقاً إلى الحال . فعلى أيّ مصدر اعتمد هو في هذا التحدّي غير الإيحاء إليه ، الذي صَدَرَ عنه أيضاً في جميع تشريعاته ؟ .
٢ ـ التنبؤ بانتصار الروم على الفرس
قال سبحانه : ( الم *
غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي
أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي
بِضْعِ سِنِينَ ، لِلَّـهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ
يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ *
بِنَصْرِ اللَّـهِ ، يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّـهِ ، لَا يُخْلِفُ اللَّـهُ وَعْدَهُ ، وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ) .
ينقل التاريخ أنّ دولة الروم ـ وكانت
دولة مسيحية ـ إنهزمت أمام دولة الفرس وهي وَثَنيّة ، بعد حروب طاحنة بينهما سنة ٦١٤ م ، فاغتمّ المسلمون لكونها هزيمة لدولة إلهية أمام دولة وثنية ، وفرح المشركون ، وقالوا للمسلمين بشماتة : إنّ الروم يشهدون أنّهم أهل كتاب وقد غَلَبهم المجوس ، وأنْتُم تزعمون أنّكم ستغلبوننا بالكتاب الذي أُنزل عليكم ، فسنغلبكم كما غلبت الفرس الروم .
فعند ذاك نزلت هذه الآيات الكريمات
تنبيء بأنّ هزيمة الروم هذه سيعقبها إنتصار لهم في بضع سنين ، وهي مدّة تتراوح بين ثلاث سنوات وتسع . تنبّأً بذلك ، وكانت المقدمات والأسباب على خلافه ، لأنّ الحروب الطاحنة أنهكت الدولة الرومانية حتى غزيت في عقر دارها ، كما يدلّ عليه قوله : ( فِي أَدْنَى الْأَرْضِ ) . ولأنّ دولة
الفرس كانت دولة قوية ، منيعة ، وزادها الإنتصار الأخير قوة ومنعة . ولكن الله تعالى أنجز وعده ، وحقّق تنبؤ القرآن ، في بضع سنين ، فانتصر الروم سنة ٦٢٤ م ، الموافقة للسنة الثانية للهجرة .
__________________
وفي الآية تنبؤ آخر ، وهو البشارة
بأنّ المسلمين سيفرحون في الوقت الذي ينتصر الروم فيه ، وقد صدق الله وعده حيث وقع في ذلك الظرف ظفر المسلمين في غزوة بدر الكبرى ، فتحققت النبوءتان في وقت واحد .
٣ ـ التنبؤ بصيانة النبي عن أذى الناس
قال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ ، بَلِّغْ
مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ، وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ، إِنَّ
اللَّـهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) .
روى الفريقان أنّ الآية نزلت يوم
الغدير حينما أُمر النبي بنصب علي عليه السلام إماماً للناس ، وكان على حَذَر منهم في تنصيب إبن عمه وصهره للخلافة ، فأخبر الله سبحانه بأنّه سيعصمه من أذى الناس وشرّهم ، ولا يتمكنون من اغتياله ، وتحقّق نبأ القرآن ، وصدّق الخُبْرُ الخَبَر .
٤ ـ التنبؤ بالقضاء على العدو قبل لقائه
قال سبحانه : ( وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّـهُ إِحْدَى
الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ ، وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ ، وَيُرِيدُ اللَّـهُ أَن يُحِقَّ
الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ *
لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ) .
نزلت الآيتان قبل لقاء المسلمين
العدو في ساحة المعركة ، فأخبر سبحانه عن هزيمة المشركين واستئصال شأفتهم ، ومحق قوتهم ، كما يدلّ عليه قوله : ( وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ . . ) .
وليس تنبؤ القرآن بالقضاء على مشركي
قريش في معركة بدر منحصراً بهذه الآية ، بل تنبَّأَ به في آية أخرى ، وهي قوله سبحانه : ( أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ
__________________
مُّنتَصِرٌ *
سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ) .
فأخبر عن انهزام الكفار وفرارهم عن
ساحة الحرب ، وقد تحقق التنبؤ يوم بدر ، وكانت المقدمات والأسباب الطبيعية على خلاف النتيجة ، حيث إنّ المشركين كانوا تامِّي العِدّة ووافري العَدَد ، ولم يكن عدد المسلمين يتجاوز ثلثَ
عدد المشركين ، لكنّه سبحانه حقّق كلمته وصَدَّق نَبَأَ نبيِّه .
٥ ـ التنبؤ بكثرة ذرّية النبي ( صلى الله عليه وآله )
قال سبحانه : ( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ *
فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ *
إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ) .
الكوثر هو الخير الكثير ، والمراد
هنا ، بقرينة قوله : ( إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ) ، كثرة ذُرِّيتِه
، ويؤيّده أنّ السورة إنّما نزلت ردّاً على من عابه بعدم الأولاد ، فالمعنى أنّه يعطيه نسلاً يَبْقون على مرّ الزمان .
قال الرازي : « فانظر كم قُتل من أهل
البيت ، ثم العالَم ممتلىء منهم ، ولم يبق من بني أُمَيَّة أَحد يعبأُ به ، ثم انظر كم كان فيهم من الأكابر من العلماء ،
كالباقر ، والصادق ، والكاظم ، والرضا ، والنفس الزكية ، وأمثالهم » .
هذه نماذج من تنبؤات الذكر الحكيم ،
أتينا بها ليقف الباحث على معشار ما ورد فيه من التنبؤات الغيبية .
هذا وقد عرفت أنّ بعض العلماء ، خصُّوا
إعجاز القرآن بإخباره عن الغيب ، غير أنّه غير ظاهر بخصوصه ، لأنّ القرآن يتحدّى حتى بسورة واحدة من سوره الكثيرة ، ومن المعلوم أنّه ليست كلُّ سورة مشتملة على الأخبار الغيبية .
__________________
إخباره
عن الظواهر والقوانين الكونية
لا يصحّ لعارف أنْ يتجاهل أنّ القرآن
كتاب الهداية والتزكية وليس كتاب العلوم الطبيعية ، يقول سبحانه : ( الم *
ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ) .
فالقرآن نزل لهداية الناس وسوقهم إلى
الحياة السعيدة ، ولم ينزل لتبيين القضايا الطبيعية ، والقواعد الرياضية وما يتعلق بعلم التشريح ، ولا لتبيين خواصّ الأدوية والعقاقير .
ومع ذلك كلّه ، ربما يتوقف غرض
الهداية ـ خصوصاً في الدراسات التوحيدية ـ على إظهار عظمة العالَم ودقّة نظمه ، والقوانين السائدة عليه ، فعند ذلك يصحّ لهذا الكتاب الهادي ، إلفات النظر إلى تلك المظاهر والقوانين الكونية .
ومن هذا المنطلق ، نرى أنّ القرآن
أشار إلى رموز سائدة في الكون ، وسنن جارية فيه ، تتطابق مع القضايا العلمية الثابتة ـ حديثاً ـ بالحسِّ واليقين . وقد كانت تلك السنن مجهولة على الأخصائيين في هذه العلوم ، وأصحاب الحضارات في بلاد الفرس والروم ، وإنّما اهتدى إليها العلماء بعد قرون متطاولة من نزول القرآن وذكره لها .
__________________
روي عن ابن عباس أنّه قال : « القرآنُ
يُفَسِّرُهُ الزَّمان » .
وهذه الكلمة سواء أصحّت نسبتها إلى
تلميذ الإمام عليّ (عليه السلام ) أوْ لا ، كلمةٌ قيمة ، فإنّ مرور الزمان وتكامل الحضارات ، يزيد من قدرة الإنسان على استجلاء حقائق القرآن ومعارفه في شتى المجالات .
وما هذا إلّا لأنّ القرآن ، كلام
الموجود اللا متناهي ، فيجب أن يكون في كلامه أثر من ذاته ، فيكون ذا آفاق وأبعاد لا متناهية ، ويجد الإنسان في كل جيل وعصر ، الشيء الجديد فيه ، الذي غفل عنه الأقدمون ولم يصلوا إليه . وعلى ذلك فلا غرو في أنْ نجتني نحن من هذه الدوحة المثمرة ، ثماراً لم يجتنها الأَوّلون ،
فما أعذب قول الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام ، في جواب من سأله عن سبب غضاضة القرآن وطراوته في كل عصر ، وأنّ النَشْر والدراسة لا يزيده إلّا طراوة : « إنّ الله تعالى ، لم يجعله لزمانٍ دون زمان ولا لناسٍ دون ناس ، فهو في كل زمان جديد ، وعند كل قوم غضٌّ إلى يوم القيامة » .
نعم ، لسنا من المكثرين في تطبيق
الآيات القرآنية على فروض متزلزلة ، فإنّه دخول في المزالق الوعرة ، فسوف تتبدل تلك الفروض بفروض أُخرى ، كما لسنا من المتحجرين الجامدين الذين يسدّون باب التعمّق والإمعان في الآية . وإنّما نسلك في هذا طريقاً وسطا ، وهو أنّه إذا تمّت دلالة الآية على نظرية علمية ، على ضوء القواعد الأدبية من دون تجشّم التأويل والتقدير ، وثبتت القضية العلمية ثبوتاً
واضحاً حتى عُدَّت من القواعد الموضوعية ، ودخلت في نطاق القوانين العلمية ، كحركة الأرض ودورانها حول الشمس ، والزوجية في النباتات ، وغير ذلك من الأُصول العلمية التي أصبحت في عِداد البديهيات ، ففي هذه الظروف يصحّ لنا استنطاق الآية والقضاء بأنّها تشير إلى ذلك القانون العلمي الثابت .
ولأجل ذلك نأتي في المقام بنماذج في
هذا المجال .
__________________
١ ـ القرآن والجاذبية العامة
اكتشف العالم الإنكليزي نيوتن ( ت
١٦٤٢ ـ م ١٧٢٧ ) ناموس الجاذبية العامة ، وأثبت به وجود جاذبية بين الكواكب والسيارات ، وحتى في باطن الذرّة . وقد كان لاكتشاف هذا القانون في القرن السابع عشر أهمية عظمى ، حتى سمّي ذلك القرن باسم كاشفه .
وحاصل ما كشفه أنّ الأجرام السماوية
كلّها متجاذبة فيما بينها ولا يشذّ جرم منها عن هذا الأثر العام ، وأنّه كلما قربت الأجسام من بعضها ، زادت الجاذبية بينها ، وكلما تباعدت قلَّت الجاذبية بينها . وعلى ضوء ذلك ، فلو كان القانون السائد هو قانون الجاذبية فحسب ، للزم صيرورة الكون كله كتلة واحدة ، ولكن هناك قوّة أُخرى مقابلة تحفظ النظام الكوني ، هي قوة طاردة ناتجة عن الفرار من المركز . فالكواكب التي تدور حول الشمس ، تتنازعها قوّتان ، قوة جاذبة إلى الشمس ، وقوة طاردة عنها ، ناتجة من دورانها حولها . وفي ظل تعادل هاتين القوتين ، يأخذ النظام الكوني حالة الإستقرار ، وتقع الأجرام الكبيرة في الفراغ من دون ماسك لها .
هذه خلاصة النظرية ، بلفظها البسيط
الواضح . وهي نظرية علمية محقّقة ، هذا .
وبالرجوع إلى آيات الذكر الحكيم
والتأمّل فيها ، يظهر أنّ القرآن الكريم ، قد أشار إلى هذا القانون الكوني ، حيث يرى أنّ السموات مرفوعة في الفضاء بلا عمد مرئية ، يقول تعالى : ( اللَّـهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ
تَرَوْنَهَا ، ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ، كُلٌّ يَجْرِي
لِأَجَلٍ مُّسَمًّى ، يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ) .
إنّ الضمير في قوله : ( تَرَوْنَهَا ) ، يرجع إلى ( عَمَدٍ )
لا إلى ( السَّمَاوَاتِ ) ، لقرب الأول وبُعْد الثاني ، والمعنى « الله الذي رفع السموات
__________________
بعمد غير مرئية الخ » . بمعنى : إنّ
للسموات عمداً ، ولكن لا ترونها . فما هذه الأعمدة التي يثبتها القرآن للسموات ، ولا نراها ؟ . فإذا كانت الجاذبية العامة ، والقوة المركزية الطاردة ، عمد تمسك السموات ، فتكون الآية ناظرة إلى تلكما القوتين المتعاندتين ، وإنّما جاء القرآن بتعبير عام حتى يفهمه الإنسان في القرون الغابرة والحاضرة ، ولو أتى بما اكتشفه العلم الحديث ، لَرُمِيَ القرآن قبل الإكتشاف ، بالخطأ والزلل .
أضف إلى ذلك ما رواه الصدوق ، عن
أبيه ، عن الحسين بن خالد ، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام ، قال : قلت له : « أخبرني عن قول الله تعالى : ( . . . رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ
عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ) » . فقال : «
سبحان الله ، أليس يقول : ( بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ) ؟ » فقلت :
« بلى » . فقال : « ثَمَّ عَمَد ،
ولكن لا تُرى » .
وروي عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام
أنّه قال : « هذه النجوم التي في السماء مدائن ، مثل المدائن التي في الأرض ، مربوطة كل مدينة إلى عمود من نور » . وفي بعض النسخ : « عمودين من نور » .
وعلى كل تقدير فقد اختار القرآن في
إفهام هذا الناموس تعبيراً صادقاً في جميع الأدوار ، مفهماً أنّ هذه المُعَلَّقات في الفضاء ، تحملها أعمدة غير مرئية ،
ممسكة لها .
* * *
٢ ـ القرآن وكروية الأرض
إنّ في القرآن الكريم آيات صريحة
ناطقة بكروية الأرض ، يعرفها من أمعن
__________________
فيها . يقول سبحانه : ( وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ
كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ ، مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا )
ويقول سبحانه : ( رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ ) .
ويقول : ( فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ
وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ ) .
ومن المعلوم أنّ الأرض على فرض
انبساطها لا تخلو من مشرق واحد ومغرب كذلك ، وإنّما تتعدد مشارقها ومغاربها إذا كانت كروية ، فتكون النقاط الشرقية ، غربية لسكنة النقاط الشرقية ، والنقاط الغربية ، شرقيةً لسكنة النقاط الغربية .
روى زرارة عن الإمام الصادق عليه السلام
قال : سمعته يقول : صحبني رجل كان يمسي بالمغرب ويغلس بالفجر . وكنت أنا أُصلي المغرب إذا غربت الشمس ، وأُصلي الفجر إذا استبان الفجر . فقال لي الرجل : ما يمنعك أن تصنع مثل ما أصنع ؟ فإنّ الشمس تطلع على قوم قبلنا وتغرب عنا ، وهي طالعة على قوم آخرين بعد . قال : فقلت : إنّما علينا أنْ نُصلي إذا وجبت الشمس عنّا ، وإذا طلع الفجر عندنا ، ليس علينا إلّا ذلك ، وعلى أولئك أن يصلّوا إذا غربت الشمس ، عنهم » .
والظاهر من الرواية أنّ الإمام ،
ومصاحبَه ، كانا يتفقان على كروية الأرض ، وأنّ الشمس تطلع على قوم قبل أن تطلع على قوم آخرين ، وأنّها تغرب عن قوم قبل أن تغرب عن قوم آخرين ، ولو كانت منبسطة لطلعت على الجميع مرة واحدة ، وغربت عن الجميع كذلك غير أنّ الإمام عليه السلام يعتقد بأنّ على كل مكلّف رعاية مَشْرِقه ومغربه ، وطلوع الشمس عليه وغروبها عنه ، وليس
__________________
طلوعها على قوم وغروبها عنهم ميزاناً
له ، ولأجل ذلك جاء في بعض الأحاديث : « إنّما عليك مشرقك ومغربك » .
نعم ، كان للفلاسفة الأقدمين نظريات
شتى حول شكل الأرض وكرويتها ، وكان الإعتقاد بكرويتها منتشراً عند ظهور نظرية بطلميوس ، غير أنها لم تكن معروفة في الحجاز ، وإنّما كان تفكير الأُميين من العرب حول الأرض ، تفكير إنسان بدوي يعيش في الصحراء القاحلة . فالإجهار بهذه الحقيقة في تلك البيئة البعيدة عن الحضارة ، لا يصحّ إلّا إذا اعتمد المخبر ، على منطق الوحي .
* * *
٣ ـ القرآن والعالم الجديد
من الأسرار التي كشف عنها القرآن قبل
أربعة عشر قرناً ، وجود العالم الذي اكتشفه البَحّار كريستوف كولمبوس .
قال سبحانه : ( رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ
الْمَغْرِبَيْنِ ) .
وقد شغلت الآية بال المفسّرين ،
ففسّروها تارة بمشرقي الشمس والقمر ، ومغربيهما ، وأُخرى بمشرقي الصيف والشتاء ، ومغربيهما . ولكن الظاهر هو الإشارة إلى وجود قارة أُخرى ، على الوجه الآخر من الكرة الأرضية ، يلازم شروق الشمس عليها ، غروبها عنّا ، وذلك لقوله سبحانه ـ حاكياً عن المجرمين يوم القيامة ـ : ( حَتَّىٰ
إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ
فَبِئْسَ الْقَرِينُ ) . فالظاهر أنّ
المشرقين في الآيتين متحدّان أوّلاً ، وأَنَّ البُعْد بينهما أطول مسافة محسوسة للمتمني ثانياً . وليست المسافة بين مشرقي الشمس والقمر أو مشرقي الصيف والشتاء أطول مسافة محسوسة ، فلا بدّ من أن يكون المراد منها
__________________
المسافة التي ما بين المشرق والمغرب
. ومعنى ذلك أن يكون المغرب مشرقاً لجزء آخر من الكرة الأرضية ، ليصحّ هذا التعبير . فالآية تدلّ على وجود هذا الجزء الذي لم يكتشف إلّا بعد مئات السنين من نزول القرآن ، كما أنّ إِفراد المشرق والمغرب في قوله سبحانه : ( وَلِلَّـهِ
الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ ) ، لأجل الإشارة إلى المشرق والمغرب المحسوسين لمن يعيش على هذا الوجه من الأرض .
وبالجملة ، إنّ تفسير المشرقين
بالمعنى الأول والثاني ، بعيد عن الأفهام العرفية ، وإنّما يختصّ التفسير بهما بالفلكيين الأخصائين في هذا الفن ، والقرآن ينقله عن المجرم المتمني يوم القيامة .
* * *
٤ ـ القرآن وحركة الأجرام السماوية
إنّ القرآن المجيد يخبر عن حركة
الأجرام السماوية المحدودة ، يقول سبحانه : ( لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن
تُدْرِكَ الْقَمَرَ ، وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ، وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) .
والفَلَكَ في اللغة العربية ـ كما
صرّح به الراغب في مفرداته ـ مجرى الكواكب ، وتسميته بذلك لكونه كالفُلْك .
وعلى ذلك فالفَلَك ليس بجسم وإنّما
هو مدار النجوم .
وقد شبَّه سبحانه حركة الشمس والقمر
، بحركة الأسماك في البِحار حيث يقول : ( يَسْبَحُونَ ) والسَّبْح : المَرُّ السريع في الماء ، واستعير لمرّ النجوم في الفلك
.
__________________
ولعلّ قوله سبحانه : ( وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا ) ، إشارة إلى سباحة النجوم في الفضاء .
يقول سبحانه : ( وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ
كُلٌّ يَجْرِي إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ) . والتحديد بقوله : ( لِأَجَلٍ
مُّسَمًّى ) سَبَبُهُ أَنّ
حركتيهما محدودتان إلى أَمد معين ، فإذا جاء أمر الله ، ينطوي النظام الكوني ويتبدل . وذلك عندما يخطو العالَم خطوته نحو الكهولة ، وتستوي فيه الحرارة والبرودة . ففي ذلك الظرف تنتهي صفحة الحياة ، ويُطوى كتابها .
وما ذكرنا لا يخالف ما ثبت من أنّ
الشمس مركز للكواكب ، فإنّ استقرارها إستقرار نسبي بالنسبة إلى سائر المجموعة الشمسية ، ولكن هذه المنظومة بعامَّتها متحركة ، في حركة داخل مَجَرَّتها .
* * *
٥ ـ القرآن وحركة الأرض
إنّ الهيئة اليونانية كانت تصرّ على
سكون الأرض ، ومركزيّتها بمعنىٰ أنّ الشمس وجميع الكواكب والنجوم تدور حولها . وأوّل من خالف هذه النظرية ـ في الغرب ـ وكشف حركة الأرض حول نفسها وحول الشمس ، العالم الپولوني « كوپرنيك » ( ١٤٧٣ ـ ١٥٣٤ م ) . وقد أيّده العالم الايطالي « جاليلو » ( ١٥٥٤ ـ ١٦٢٤ م ) بعد أن صنع لنفسه منظاراً فلكيّاً صغيراً ليشهد به حركة الأرض بالدقّة والحسّ . ولكنّه لقي
بسبب تأييده هذا معارضة الكنيسة وملاحقتها حتى حكم عليه بالاعدام بعدما سجن طويلاً . ولأجل ذلك كان العلماء يكتمون اكتشافاتهم خوفاً من الكنيسة الرومية .
__________________
ولكن القرآن أشار إلى حركة الأرض
بعبارات لم تتضح إلّا بعد قرون من الزمن ، وقد جاء ذلك في ضمن آيتين :
الأولى ـ قوله تعالى : ( الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ
مَهْدًا ) فقد استعار للأرض لفظ المهد الذي يعمل للرضيع ويُهَزّ بهدوء لينام فيه مستريحاً هادئاً . وكذلك الأرض ، مهدٌ للبشر ، وملائمة لهم من جهة حركتها الوضعية والإنتقالية . فكما أنّ الغاية من حركة المهد رعاية الطفل وطمأنينته ، فكذلك الأرض ، فإنّ الغاية من حركتها اليومية والسنوية ، تربية الإنسان ، بل وجميع ما عليها من الحيوان والنبات والجماد . وإنّما أشار إلى الحركة ولم يصرّح بها ،
لأنّها نزلت في زمان أجمعت عقول البشر فيه على سكونها ، حتى أنّه كان يُعَدُّ مِنَ الضروريات التي لا تقبل التشكيك .
الثانية ـ قولُه تعالى : ( وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا
جَامِدَةً ، وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّـهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا
تَفْعَلُونَ ) .
إنّ بعض المفسّرين يخصّ الآية بيوم
القيامة ، لأنّها وردت في سياق آياتها ، فقد ورد قبلَها : ( وَيَوْمَ
يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّـهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ ) .
ويلاحظ عليه أنّ الآية المتقدمة على
هذه الآية ، تبحث عن الحياة الدنيوية ، يقول سبحانه : ( أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ
وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) . فَتَوَسُّطُ الآيةِ الراجعةِ إلى يوم القيامة ، لا يمنع صلة الآية بالحياة الدنيوية ، إذا كان هناك صلة وتناسب بين الآيات ، هذا .
مع أنّ القرائن الموجودة في نفس
الآية تؤيّد خلافه ، أَمّا أَوّلاً : فإنّه سبحانه يقول : ( تَحْسَبُهَا جَامِدَةً ) ، مع أنّ يوم القيامة ، يومُ ظهور الحقائق وكشف
__________________
البواطن ، وليس هناك ظَنٍّ وحسبان ،
بل كلُّ ما هنالك إذعان ويقين ، يقول سبحانه : ( لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ
هَـٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) .
وثانياً : فإنّ الآية تبحث
عن الجبال الموجودة ، مع أنّ يوم القيامة يوم تبدّل النظام وتغيّره ، يقول سبحانه : ( يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ ) .
ويقول سبحانه : ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ ، فَقُلْ
يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا ) .
ويقول سبحانه : ( وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ ) .
ويقول سبحانه : ( وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ
الْمَنفُوشِ ) .
فالكل يدلّ على زوال النظام بما فيه
الجبال ، فكيف تكون الآية ناظرة إلى يوم القيامة ؟ .
وثالثاً : إنّ قوله سبحانه
في ذيل الآية : ( صُنْعَ
اللَّـهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ) ، دليل على
أنّه لا صلة للآية بالقيامة ، إذ الصنع يناسب حياتنا الدنيوية ، وأمّا يوم القيامة ، فهو يوم إبادة نظام الحياة ، فالجبال تتلاشى وتتمزق ، فلا
يناسبه التركيز على إتقان الصنع .
ورابعاً : فإنّ قوله في
ذيل الآية : ( إِنَّهُ
خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ) ،
صريح في أنّ الآية راجعةٌ إلى الحياة الدنيوية ، ولو كانت ناظرة إلى يوم القيامة ، لكان
المناسب أن يقول : « خبير بما فعلتم » .
__________________
فهذه القرائن تؤيّد كون الآية راجعة
إلى حياتنا الدنيوية .
وأمّا دلالتها على حركة الأرض ، فلا
شكّ أنّ حركة الجبال متّصلة بحركة الأرض وتابعة لها ، لرسوخها فيها ، وتَشَعُّب أُصولها في بواطنها ، فحركتها تلازم حركة الأرض . ومعنى الآية : إنّ الأرض والجبال وما عليها وما فيها ، في حركة مستمرة كحركة السحاب . وأمّا تخصيص الجبال بالذكر ، فلأجل ما فيها من الوزن والثقل والإرتفاع ، وقدرة الله تسيرها كالسحاب . والقرآن ذكر الجبال لعظمتها وثقلها ، ليبرهن بها على أنّ قدرة الله نافذة في كل موجود ، ووسعت كل شيء .
وأمّا تشبيه حركتها بحركة السَّحاب ،
فلإفهام أمرين :
١ ـ كما أنّ حركة السَّحاب تكون
بسكون وهدوء ، بدون صخب واضطّراب ، فكذلك حركة الجبال تتحقق بسكون وطمأنينة .
٢ ـ سرعة الحركة ، حيث تتحرك كتحرك
السحاب حين تهب الريح . فإنّ حركة السُّحب عند هبوب الرياح والعواصف حركة سريعة ، ولأجل ذلك يشبهون مرور الفُرَص بمرّ السحاب ، كما يقولون : « الفرصة تَمُرُّ مَرّ السحاب » .
* * *
٦ ـ القرآن وزوجية الموجودات
إنّ القرآن يدعو المسلمين عامة إلى
التدبّر في الآيات الكونية ، ويجعل ذلك علامة للإيمان ، ويقول :
( وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ
يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا ) .
ويقول سبحانه : ( وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ، رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَـٰذَا بَاطِلًا ، سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ) .
__________________
فالتدبُّر في الآيات الكونية ، وكشف
السنن السائدة عليها ، آية الإيمان ، ورمزُ العبودية .
وعلى ذلك ، فَهَلُمَّ نتدبر في آي
الذّكر الحكيم التي تصف النباتات بالزوجية .
يقول سبحانه : ( أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ
كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ) .
وفي آية أُخرى يُعمّم وصف الزوجية
إلى جميع الموجودات ، ويقول : ( وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) .
وقد شغلت الآيتان ، وما ورد في
مضمونهما ، بال المفسّرين . ففسّروا الزوجية في النباتات بالأنواع والأصناف المتشابهة . قال الراغب : « قوله : ( أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ
شَتَّىٰ ) أي أنواعاً
متشابهة » .
كما فسّروا الزوجية في الموجودات
بتركّبها من جوهر وعرض ، أو مادة وصورة ، قال الراغب : « قوله : ( مِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ ) تنبيهٌ على أنّ الأشياء كلَّها مركبة من جوهر وعرض ، ومادة وصورة ، وأنْ لا شيء يتعرى من تركيب يقتضي كونه مصنوعاً ، وأنّه لا بدّ له من صانع ، تنبيهاً على أنّه تعالى هو الفرد ، فبيّن أنّ كلَّ ما في العالم زوج ، حيث إِنّ له ضداً ، أو مثلاً ما ، أو
تركيباً ما ، بل لا ينفك بوجه من تركيب وإنّما ذكر هاهنا زوجين ، تنبيهاً على أنّ الشيء وإن لم يكن له ضِدّ ولا مِثْل ، فإنّه لا ينفك من تركيبِ جوهرٍ وعرض ، وذلك زوجان » .
وما ذكره الراغب هو عصارة ما في
التفسير ، فترى أنّ تفسيرهم لا يخرج عن
__________________
كونِ ملاك الزوجية ، هو وجود
الأصناف المتشابهة ، أو التركب من جوهر وعرض ، أو مادة وصورة ، أو كون الشيء ذا ضد .
وكان في وسع هؤلاء المفسّرين ، مكان
التفكر فيما ورثوا من العلوم الطبيعية من الأُمم السالفة ، سلوك طريق التجربة والإختبار في المختبرات . ولو سلكوا هذا الطريق لربما كشفوا عن الزوجية الحقيقية في عالم النبات .
لقد توصل أحد علماء النبات ، وهو « لينه
» ، إلى تلك الحقيقة ، فأعلن أنّ في كل فصل ونوع من أنواع النباتات ذكراً وأُنثى ، وأنّ إنتاج الأثمار رهن هذه الزوجية ، وقد يستقلّ الزوجان عن بعضهما فيحصل اللقاح بينهما بواسطة الريح أو الحشرات كالنحل ، وقد يجتمعان في نبتة واحدة ، وزهرة واحدة ، كما هو مفصَّل في الكتب العلمية . وكان لإظهار هذه النظرية ردّ فعل من أصحاب الكنائس ، فأصدروا بياناً حكموا فيه بضلالة كُتُبه .
نعم ، كان سكنة المناطق الحارة
ملمّين بوجود الزوجية في النخيل ، فأدركوا أنّه إذا لم يُلَقَّح ويُطَعَّم بمادة الذُّكورية ، لا يثمر ، ولكن الحالة العامة
لم تتجاوز هذه المعرفة ، حتى اكتشف ذاك الناموس العام .
وأمّا في جانب الزوجية في عامة
الموجودات ، فقد توصّل العلم إلى أنّ المادة وجود متكاثف من الذرّات ، وكل ذرّة تشتمل على نواة مكوّنة من جُسَيْمات تحمل شحنات كهربية موجبة تسمى البروتونات ، وجُسَيْمات محايدة لا تحمل شحنات كهربية باسم النيوترونات ، ويدور حولها جُسَيْمات تحمل شحنات كَهْرَبية سالبة تعرب بالإلكترونات وعددها يساوي عدد البروتونات لتتعادل الذرّة كهربياً . فذرّة الأوكسجين ، مثلاً ، في نواتها ثمانية بروتونات يدور حولها ثمانية الكترونات .
وقد عبّر القرآن عن هذين الجزئين
الحاملين للشحنتين المختلفتين ، بالزوجية ، حتى لا يقع موقع التكذيب والردّ ، إلى أن يكشف الزمان مغزى الآية ومفادها .
وبذلك يتجلّى إعجاز القرآن ، حيث كشف
عن هاتين الزوجيتين ، قبل
قرون من الزمن ، في عصر متخلّف ،
منحط ، تنعدم فيه كل وسائل التجربة والإختبار .
والعجب أنّ تلميذ النبي الأعظم ،
وربيبه ، ووصيَّه ، علي بن أبي طالب عليه السلام ، يفسّر الآية بقوله : « مُؤَلِّفٌ بين متعادياتها ، مفرقٌ بين
متدانياتها ، دالّةٌ بتفريقها على مُفَرِّقِها ، وبتأليفها على مُؤَلِّفها ، وذلك قوله : ( وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) » .
* * *
٧ ـ القرآن والحياة في الأجرام السماوية
لا يزل التحقيق والبحث مستمراً
للتيقن من وجود حياة حيوانية في غير الكرة الأرضية ، بعد أن كشف العلم عن وجود مظاهر للحياة النباتية على بعض الكرات ، هذا . مع أنّ القرآن الكريم قد أخبر عن وجود الدوابّ في السموات والأرض بقوله : ( وَمِنْ
آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ ، وَهُوَ عَلَىٰ جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ ) .
والدَّابَّة ، عبارة عن كل ما يدبّ
ويتحرك ، وبحكم عود ضمير التثنية ( فيهما ) إلى السموات والأرض ، نستكشف أنّ الحياة ليست مقصورة على الكرة الأرضية ، وأنّها توجد أيضاً في السموات والأجرام العُلْوية .
وإلى ذلك يشير الإمام علي بن أبي
طالب عليه السلام بقوله : « هٰذِهِ النُّجُومُ التي في السماء مدائن ، مثل المدائن التي في الأرض » .
* * *
__________________
٨ ـ القرآن ودور الجبال في إثبات القشرة الأرضية
القرآن الكريم يبحث عن أسرار الجبال
، والآثار المترتبة عليها في آياتٍ شتّى ، تكشف لنا دورها في ثبات القشرة الأرضية ، وتأثيرها في جريان الأنهار الكبيرة .
قال سبحانه : ( وَأَلْقَىٰ فِي الْأَرْضِ
رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) .
وقال سبحانه : ( وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ
شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّاءً فُرَاتًا ) .
وقال سبحانه : ( أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا *
وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ) .
ويستفاد من هذه الآيات أنّ للجبال
دوراً عظيماً في الأُمور التالية :
١ ـ الجبال هي الحافظة لقطعات القشرة
الأرضية ، تقيها من التفرق والتبعثر ، كما أنّ الأوتاد والمسامير تمنع القطعات الخشبية عن الإنفصال .
٢ ـ الجبال تمنع المواد السائلة الملتهبة
الواقعة تحت الأرض ، من الإنفجار والإندلاع ، حسب طاقات المواد ، ولولاها لكانت الأرض على غير هذه الصورة ، ولوجدتها إِثْر الضغط المستمر الناتج بسبب المواد الكامنة في جوفها ، في مَيَدان دائم واضطراب ، وإذا كنا نجد في بعض المواضع جبالاً تتدفق منها الحِمَم فما ذلك إلّا لبلوغ الضغط مبلغاً عظيماً في الشدّة ، يفوق قدرة الجبال ، وتنوء عن تحمّله .
٣ ـ وجود علاقة بين الجبال وتوفير
الماء ، حيث عطف قوله : ( وَأَسْقَيْنَاكُم مَّاءً فُرَاتًا ) ، على قوله :
( وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ
شَامِخَاتٍ ) .
وذلك لأنّ ارتفاع الجبال يوجب انخفاض
الحرارة فيها ، وقلّة تأثير الشمس
__________________
عليها . فعندئذٍ تجتمع عليها الثلوج
ثم تذوب في الفصول الحارّة ، وتجري المياه الذائبة على وجه الأرض بهدوء وسكون ، لتتشكل بعدها الأنهار والجداول ، ويرتوي منها الإنسان ، ويروي دوابَّه ومزارعه ، ولولا الجبال لانجذبت المياه إلى باطن الأرض ، ولما استفاد منها الإنسان إلّا بالمكائن والأدوات الصناعية المعقّدة
، وربما لا تكون الآبار مفيدة ولا تسدُّ حاجة المزارع وعموم الناس من الماء .
هذا بعض ما يرجع إلى فوائد الجبال
التي يذكرها القرآن الكريم ، ألمعنا إليها بصورة مبسطة . وأساتذة الفيزياء ، والتضاريس الأرضية ، يفسّرون كون الجبال أوتاداً للأرض بشكل علمي خاص ، لا يقف عليه إلّا المتخصص في تلك العلوم ، والمطّلع على قواعدها ، ولأجل ذلك اكتفينا بما ذكرنا .
* * *
وفي الختام نؤكّد ما سبق في صدر
البحث من أنّ القرآن ليس كتاباً يعالج قضايا العلوم الطبيعية والرياضية والهندسية ، وإنّما يتعرض لبعض القوانين السائدة على الكون لأجل الإهتداء بها إلى المعارف والأُصول العقلية ، كالتعرف على الله وصفاته وأفعاله ، وعلى ذلك فلا يصحّ لنا الإكثار من هذا النوع من الإعجاز ، وتطبيق الآيات على القوانين الكونية ، حتى وإن لم يكن ظاهراً فيها . فما يُرى من الإسراف في بعض التفاسير في هذا المجال ، ليس بِمَرْضيٍّ عند من يقف في تفسير القرآن الكريم على باب النصّ من نفس الكتاب ، على اختلاف وجوهه وأقسامه ، أو الأثر المأثور من صاحب الشريعة وآله ، صلوات الله عليه وعليهم أجمعين .
* * *
__________________
الأخلاق
نزل القرآن الكريم على قلب سيد
المرسلين صلى الله عليه وآله ، في عصر الظلمة والجهل ، حيث لم يكن من فضائل الأخلاق ومكارِمِها ، ذِكْرٌ ولا أثر إلّا النذر اليسير . ففي ذاك الظرف جاء القرآن مستقصياً للأخلاق الفاضلة ، ومبيّناً للأخلاق الرذيلة ، فدعا إلى التزيُّن بالأُولى ، والإنتهاء عن الثانية ، وأقام
بذلك أشرف مدرسة أخلاقية زاهرة ، بِجُمَلِ كَلِمِهِ وجوامِعِها ، ويكفي في ذلك قوله سبحانه :
( إِنَّ اللَّـهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ
وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ ، وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ، يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ *
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّـهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ ، وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا ، وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّـهَ
عَلَيْكُمْ كَفِيلًا ، إِنَّ اللَّـهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ) .
وفي الآيات التالية اجتمعت أُصول
أخلاقية عشرة فيها حياة المجتمع ، قال سبحانه : ( قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ
رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ، وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِّنْ إِمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ
وَإِيَّاهُمْ ، وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ، وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ
الَّتِي حَرَّمَ اللَّـهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ،
__________________
ذَٰلِكُمْ
وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ، وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ، لَا نُكَلِّفُ
نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ، وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ ، وَبِعَهْدِ اللَّـهِ
أَوْفُوا ، ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ *
وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ، وَلَا تَتَّبِعُوا
السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ، ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) .
هذه نماذج من الأُصول الأخلاقية
الواردة في القرآن الكريم ، وللتوسع مجال ليس هنا موضعه .
نعم ، نرى أنّ التوراة أَمَرَتْ بني
إسرائيل بالحكم بالعدل لأقربائهم ، ونَهَتْهُم عن الحقد على أبناء شعبهم ، وعن السعي بالوشاية وشهادة الزور على أقربائهم وأن يَغْدُرَ أحدُهم بصاحبه ، ولكنها شَوَّهت جمال هذه الأُصول الأخلاقية ، بتخصيص تعاليمها ببني إسرائيل ، وبتخصيصها بالقريب والشعب والصاحب . وهذا بخلاف القرآن ، فإنّه يوجّه خطاباته الأخلاقية إلى الناس أجمعين ، من دون فرق بين قوم وقوم ، وعنصر وآخر .
وأمّا الأناجيل الرائجة ، فقد أفرطت
في الدعوة إلى التصوّف البارد ، حتى نهت عن ردع الظالمين بالإنتصاف من الظالم ، وقطع مادة الفساد ، بل قالت : « لاتقاوموا الشر ، بل من لطمك على خدّك الأيْمَن ، فحوّل له الآخر أيضاً * ومن اراد أن يُخاصِمَك ويأخُذَ ثَوْبَكَ ، فاترك له الرداء أيضاً !! » .
إنّ للأخلاق القرآنية صبغة خاصة
وميزة فريدة ، فلا هي أخلاق يونانية تجعل الغاية من التزين بالأخلاق هي النفع المادي العائد من الإنسان ، كالدعوة إلى إكرام الجار ، حتى لا يسرق متاعاً عند غيابك ، أو يردع الطاغية الظالم عنها . ولا هو أخلاق روحانية بحتة ، لا ترى إلّا ترقية الروح وإسعادَها ، وتنسى أنّ البشر مخلوق ممزوج من مادة ومعنى ، وجسم وروح ، ولا تتحقق السعادة إلّا
__________________
بإعطاء كلٍّ حقَّه . بل هي مُثُل
أخلاقية وسطى ، تضمن سعادة الإنسان في كلا الجانبين .
* * *
هذه ثمانية من الشواهد الدالّة بوضوح
على أنّ القرآن ليس تَقَوُّلاً على الوحي ، ولا نتاج فكر إنسان عادي منقطع عن التعليم الإلهي ، وأنّ هذا الكتاب بهذه المزايا والسمات ، يمتنع أن يقومَ به إنسان مهما بلغ في العقل والذكاء ، أو
فاق أقرانه وأماثله من بني البشر ، إلّا أن يكون متصلاً بالوحي السماوي ، مستمداً تعاليمه من خالق البشر .
* * *
المقام الثاني
الإستدلال
على نبوته بمعاجزه الأخَر
إنّ أوّل ما كان الأنبياء يُطالَبون
به ـ كوثيقة تثبت صحّة مدعاهم ، وصحة إنتسابهم إلى الله تعالى ـ هو الإتيان بالبيّنات والمعجزات . وهذا هو القرآن
يحدّثنا أنّ صالحاً عليه السلام عندما حَذّر قومه من سخط الله ، وأخبرهم بأنّه رسولُهُ إِليهم ، طالبوه بالمعجزة قائلين : ( مَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا ، فَأْتِ بِآيَةٍ إِن
كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) .
وقد جرت سيرة الناس مع النبي الأكرم
على ذلك ، حيث طالبوه بالإتيان بالمعاجز في بدء دعوته ، وكان الرسول العظيم يلبّي طلباتهم . وبالرغم من كثرة هذه المعاجز التي حفظها الحديث والتاريخ ، أبى بعض من ناوىء الإسلام ، إلّا إنكارها ، والإصرار على أنّ نبيَّ الإسلام لم يأت بمعجزة سوى القرآن .
إنّ هذه الشبهة حول معاجز الرسول
الأكرم ، نجمت من الكُتَّاب المسيحيين ، تقليلاً من أهمية الدعوة المُحَمَّدية ، وحطّاً من شأن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم .
فهذا هو « فندر » ـ القسيس الألماني
ـ يقول في كتابه « ميزان الحق » : إنّ
__________________
محمداً لم يأت بأية معجزة قط » . وتبعه سائر
القساوسة ، ولاكوه بين أشداقهم ، وما زالوا إلى يومنا هذا . وإليك فيما يأتي تفنيد هذه المزعمة بأدلة ثلاثة .
١ ـ المحاسبة العقلية .
٢ ـ الرجوع إلى نفس القرآن .
٣ ـ معاجز الرسل في الحديث والتاريخ
.
* * *
الدليل الأول ـ المحاسبة العقلية
إنّ القرآن الكريم وصف الرسول الأعظم
بأنّه خاتم الأنبياء ، وأنّ رسالته خاتمة الرسالات ، وكتابه خاتم الكتب .
وأخبر عن وقوع معاجز على أيدي الرسل
والأنبياء ، فنقل في شأن موسى قوله : ( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ
تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ) .
كما تحدّث عن المسيح ودعوته ،
وبيّناته فقال : ( وَرَسُولًا إِلَىٰ
بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ، أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ
الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ، فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّـهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ
وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّـهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً
لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) .
وفي ضوء هذا ، هل يصحّ للقرآن الكريم
أن يخبر بهذه المعاجز للأنبياء ، ويصف محمداً بأنّه خاتمهم وآخرهم ، وأفضلهم ، ثم لا يكون له معجزة ؟ وإذا طلبوا منه إظهار الإعجاز ، يتهرب أو يسكت ، أو يقول ليس لي معجزة ؟ .
__________________
ولو فرضنا أنّ النبي الأعظم لم يكن
إلّا نابغة من النوابغ الذين نهضوا لإصلاح أُمّتهم ، متستراً برداء النبوة ، لَما صحّ لَهُ أَنْ يُخْبر عن معاجز
الأنبياء السالفين ، ثم يصف نفسه بالخاتمية ، ودينه بالأكملية ، وينكص عن الإتيان بمثل معاجزهم عند الطلب منه .
فالمحاسبة العقلية تحكم ببطلان مزعمة
القساوسة ، بل تثبت أنّ النبي الأعظم قد أظهر معاجز عديدة لقومه عندما طلبوا منه ذلك ، كيف والقرآن يصفه بما لا يصف به أحداً من أنبيائه ، وهو يقتضي عقلاً أن يكون له أفضل ما أُوتي سائر الأنبياء .
* * *
الدليل الثاني ـ القرآن يثبت للنبي معاجز غير القرآن
إنّ القرآن يخبر بصراحة عن وقوع
معاجز على يَدَي الرسول الأمين ، وفيما يلي نذكر الآيات القرآنية الواردة في هذا المجال .
١ ـ انشقاق القمر
قال سبحانه : ( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ
الْقَمَرُ *
وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ *
وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ ، مُّسْتَقِرٌّ *
وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّنَ الْأَنبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ ) .
أطبق أكثر المفسّرين على أنّ
المشركين اجتمعوا إلى رسول الله ، فقالوا : إنْ كُنْتَ صادِقاً فَشُقَّ لَنا القَمَرَ فَلْقَتَيْن فقال لهم رسول الله : إِن فَعَلْتُ
تُؤْمنونَ ؟ . قالوا : نَعَمْ . وكان ليلة بدر ، فسأَل رسول الله رَبّه أن يعطيه ما قالوا ،
فانشق القمر فَلْقَتَيْن ، ورسول الله ينادي : « يا فلان ، يا فلان ، إشهدوا » .
__________________
ومعنى قوله : ( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ ) ، أنّ القيامة قد قربت ، وقرب موعد وقوعها ، والكفار يتصورونها بعيدة ، قال سبحانه : ( إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا *
وَنَرَاهُ قَرِيبًا ) .
وقوله : ( وَانشَقَّ الْقَمَرُ ) ، يدلّ على وقوع انشقاق القمر ، لأنّه فعل ماض . وحمله على المستقبل ، لانشقاق القمر يوم القيامة ، تأويل بلا جهة .
وأمّا وجه الربط بين الجملتين ( اقتراب
الساعة وانشقاق القمر ) ، فهو أنّ انشقاقه من علامة نبوّة نبينا ، ونبوّته وزمانه من أشراط الساعة ، وقد أخبر القرآن
عن تحقق هذين الشرطين ( ظهور نبي الإسلام ، وانشقاق القمر ) وقال : ( فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ ، أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ
أَشْرَاطُهَا ) .
وفي الآية قرينتان على أنّ المراد ،
انشقاق القمر بوصف الإعجاز ، لا انشقاقه يوم القيامة .
الأولى : قوله : ( وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا ) ، فالمراد من الآية ، الآية المعجزة ، غير الآيات القرآنية ، وذلك لأنّه لو كان المراد هو الآيات القرآنية ، لكان المناسب أن يقول : وإِنْ سمعوا آية ، أو نزلت عليهم آية . وعلى هذا تكون الآية المرئية هي انشقاق القمر الذي تقدم ذكره في الآية .
الثانية : أنّ قوله : ( وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ ) ، يُعَيِّن ظرف هذا الحَدَث ، وأنّه هو هذا العالم المنتظم لا يوم القيامة . إذ لو كان راجعاً إليها ،
لما كان لأحد أن يتفوّه بغير الحق ، أو يصف فعل الحق بالسحر ، لأنّ ذلك الظرف ظرف الخَتْم على الأفواه ، واستنطاق الأيدي والأرجل ، قال سبحانه :
( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا
أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) .
__________________
فهذا المقطع من الآية يدلّ على أنّ
ظرف الإنشقاق كان في زمن الرسول ، ولأجل ذلك اتَّخذ منه المشركون موقفاً متعنتاً مجادلاً ، وقال قائلهم : « سَحَرَكُمْ
إِبن أبي كبشة » . وقد كان المشركون يدعون الرسول الأعظم به ، وأبو كبشة من أجداد النبي من ناحية أُمه .
٢ ـ إسراء ومعراج النبي صلى الله عليه وآله
إنّ إسراء النبي ليلاً من المسجد
الحرام إلى المسجد الأقصى ، أحد المعاجز العظيمة التي أنعم الله سبحانه بها على نبيه ، وأخبر عنها القرآن حيث قال : ( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ
بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى
الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ
الْبَصِيرُ ) .
وقد تحقق عبور تلك المسافة الطويلة
في زمن قصير ، في ظرف لم يكن يتوفّر فيه شيء ممّا يتوفر الآن من وسائل النقل السريعة ، وهذا هو الوجه في إعجازها .
إنّ القرآن الكريم يثبت هذا الإعجاز
، في سورة أُخرى أيضاً ، ويدعمها بقوة لا تُبقي في النفس شكاً بها ، ويخبر أنّ رحلة النبي تجاوزت المسجد الأقصى ( الوارد في الآية السابقة ) إلى سدرة المنتهى .
٣ ـ مباهلة النبي لأهل الكتاب
تعرّض القرآن لقضية المباهلة ، في
قوله تعالى : ( فَمَنْ
حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ، فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا
وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ، ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّـهِ
عَلَى الْكَاذِبِينَ ) .
إنّ قصة المباهلة مذكورة في التفاسير
، ومعجزة النبي ـ وهي حلول
__________________
العذاب على نصارى نجران ـ وإن لم
تتحقق بسبب انصرافهم عن المباهلة ، إلّا أنّ ذهاب الرسول إلى المباهلة واستعداده لذلك من جانب ، وانسحاب نصارى نجران من خوض معركة التباهل من جانب آخر ، يكشفان عن أنّ حلول العذاب ـ بدعاء الرسول ـ كان حتمياً لو تباهلوا ، فقد أدركوا الخطر وأحسُّوا بعواقب الموقف ، فتنازلوا وتصالحوا .
٤ ـ طلب المعاجز من النبي (ص) الواحدة تلو الأُخرى
إنّ القرآن الكريم يصرّح بأنّ النبي
كان كلما أتى قومه بآية ، طالبوه بآية أخرى ، وكانوا يصرّون على أن تكون مثل معاجز السابقين ، وهذا يدلّ على أنّ الرسول أظهر معاجز غير القرآن حتى جاء الطلب منهم بعد الطلب .
قال سبحانه : ( وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا
لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّـهِ ) وليس المراد من ( آيَةٌ ) نفس القرآن ، ولا الآية القرآنية ، لوجهين :
١ ـ أنّها جاءت بصورة النكرة ، وهذا
يكشف عن نوع خاص من الآيات .
٢ ـ لو كان المقصود هو القرآن أو
الآية القرآنية ، كان المناسب إلقاء الكلام بنحو آخر بأن يقول بدل المجيء ، « النزول » ، فيقول : « إذا نَزَلت عليهم آية » . وعلى هذا فلفظ « آية » ، فيها ، نظيرها في قوله سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ *
وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ) .
وفي قوله سبحانه حاكياً عن المسيح عليه
السلام : ( أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ، أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ
فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّـهِ . . . ) الآية .
__________________
وأمّا علّة اختلاف الأنبياء في أصناف
المعاجز ، فقد قدمنا ذكره في صدر هذا الفصل .
٥ ـ وصف معاجز النبي بالسحر
إنّ هناك آيات تصرّح بأنّ المشركين
كلما رأوا من الرسول آية ، وصفوها بالسحر . قال سبحانه : ( وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ *
وَقَالُوا إِنْ هَـٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ ) .
إنّ تنكير ( آيَةً ) ، واستعمال ( رَأَوْا ) ،
دليلٌ على أنّ المقصود من الآية ، غير القرآن من المعاجز ، وإلّا لكان المناسب تعريف الآية ، ووصفها بالسماع أو النزول .
وهذه الآية نظير قوله سبحانه : ( وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَّا
يُؤْمِنُوا بِهَا . . ) .
٦ ـ النبيُّ الأعظم وبيِّناته
يشير القرآن الكريم إلى أنّ النبيَّ
الأعظم بُعث مع البينات ، والمراد منها المعاجز ، كما تشهد به الآيات الأُخر .
قال سبحانه : ( كَيْفَ يَهْدِي اللَّـهُ قَوْمًا
كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ، وَاللَّـهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ ) .
و « البيِّنات » جمع « البيِّنة » ،
وهي الدليل على الشيء ، وربما يحتمل أنّ المراد هو القرآن ، أو البشائر الواردة في الكتب النازلة قبله حول النبي ، ولكن
__________________
ملاحظة الآيات الأُخر التي استعملت
فيها هذه الكلمة ، تؤيّد أنّ المراد المعاجز والأَعمال الخارقة للعادة .
قال سبحانه : ( وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ
الْبَيِّنَاتِ ) .
وقال سبحانه : ( ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِن
بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ ) .
وقال سبحانه : ( وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ
عَنكَ إِذْ جِئْتَهُم بِالْبَيِّنَاتِ ) .
وقال سبحانه : ( وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا
بِالْبَيِّنَاتِ ) .
إلى غير ذلك ممّا ورد فيه لفظ
البينات ، وأُريد منه الأفعال الخارقِة للعادة . والظاهر أنّ المراد منه في الآية السابقة هو نظائر تلك المعاجز .
٧ ـ إخبار النبي عن الغيب ، كالمسيح
إنّ القرآن المجيد يَعُدُّ إِخبار
المسيح عليه السلام ، عن المغيبات ، من معاجزه ، في قوله ـ حاكياً عنه ـ : ( وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ، إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) .
فإذا كان الإخبار عن الغيب ، آية
معجزة للمسيح ، فقد أخبر النبي عن المغيِّبات بكتابه الذي جاء به ، كما تقدم في الشواهد على إعجاز الكتاب .
* * *
الدليل الثالث ـ معاجز النبيِّ في الحديث والتاريخ
إنّ كُتُبَ الحديث والتاريخ ، زاخرةٌ
بمعاجز النبي ، التي لا يمكن نقل
__________________
معشارها في هذا الكتاب . وقد قام
بعض المحدِّثين ، بتآليف مفردة في هذا المجال ، أجْمَعُها فيه ما أَلَّفه الشيخ الحرّ العاملي ( م ١١٠٤ ) ، وأسماه بـ « إثبات
الهُداة بالنصوص والمعجزات » ، وطبع في ثلاث مجلدات كبار . وقد جمع فيها معاجز النبي من كتب الشيعة والسنّة ، جزاه الله عن الإسلام . خير الجزاء .
* * *
مقارنة بين معاجز النبي وغيره من الأنبياء
إنّ أحاديث المسلمين حول معاجز النبي
، تمتاز على روايات اليهود والنصارى حول معاجز أنبيائهم من ناحيتين :
الأولى : قلّة الفترة
الزمنية بيننا وبين حوادث العهد النبوي ، وكثرتها بيننا وبين حوادث عهود النبيَّيْن موسى وعيسى عليهما السلام ، وغيرهما ، وهذا يوجب الإطمئنان إلى روايات المسلمين أكثر من روايات غيرهم .
الثانية : تواتر الروايات
الإسلامية حول معاجز النبي الأكرم وعدمه في الجانب الآخر ، فإنّها تنتهي إلى أفراد قلائل .
ومن أراد الوقوف على معاجز النبي
فعليه المراجعة إلى الكتاب الذي أشرنا إليه حتى تتضح مصادر ما ذكره ، ويتبين تواترها إجمالاً ، وإن لم يكن بعضها متواتراً لفظاً .
* * *
__________________
خاتمة المطاف
لقد حصحص الحق ، وثبت لك وقوع
المعاجز على يد النبي الأكرم ، سواء معجزته الخالدة أم غيرها من المعاجز الواردة في القرآن ، وكتب الحديث ، والتاريخ . وما ذكرناه كاف في إثبات نبوته ، على وجه لا يَدَعُ لقائلٍ مقالاً ،
ولا لمرتاب شكّاً وريبةً .
وقد عرفت في صدر الفصل أنّ للتعرف
على صدق مدّعي النبوة طرقاً ثلاثة :
الأول : التحدّي بالمعاجز
.
الثاني : تنصيص النبي
السابق على نبوّة النبي اللاحق .
الثالث : جَمْعُ القرائن
والشواهد القاضية بصدق المُدَّعي .
وقد فرغنا من سلوك الطريق الأول ،
وفيما يلي نسلك الطريق الثاني .
* * *
الطريق الثاني
لإثبات نبوة نبي الإسلام
بشائر
خاتم الرسل في العهدين
إنّ النبيَّ الأكرم صلى الله عليه وآله
وسلّم ، كان يحتجّ على اليهود والنصارى ، بأنّه قد بُشِّر به في العهدين ، وأنّ الكليم والمسيح بشَّرا برسالته ،
وأنّ أهل الكتاب لو رجعوا إلى كتبهم ـ حتى بعد التحريف ـ لوجدوا بشائره فيها ، وتعرّفوا عليه ، كتعرّفهم على أبنائهم . كان يحتجّ بهذه الكلمات ، ولم يكن هناك أيّ ردّ من الأحبار والرهبان في مقابله ، بل غاية جوابهم كان السكوت وإخفاء الكتب ، وعدم نشرها بين أتباعهم .
ولو كان النبي الأكرم غير صادق ـ والعياذ
بالله ـ في هذا الإدّعاء ، لثارت ثورتهم عليه ، ولملأوا الأجواء والطوامير بنقده وردّه ، غير أنّ صراحة النبي وصموده أمام علمائهم بشدّة ، يكشف عن انهزام العدو أمام ذلك الإدّعاء .
يقول القرآن الكريم : ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ ، يَعْرِفُونَهُ
كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ، وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
) .
ويقول : ( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ
النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ
الْمُنكَرِ ) .
__________________
ويقول : ( وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّـهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ ، وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ
يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ) .
ثم إنّ علماء المسلمين في الأعصار
السابقة نقبوا في العهدين ، وجمعوا البشارات الواردة فيهما . وَنْقلُ هذه البشائر ، يوجب الإسهاب في الكلام والخروج عن وضع الكتاب ، ونكتفي في ذلك بهذه البشارة التي تكشف عنها الآية الأخيرة ، فإنّ فيها تنصيص على الإسم مكان التنصيص على الصفات ، وهذه الإشارة وردت في إنجيل يوحنا في الأصحاحات : الرابع عشر ، والخامس عشر ، والسادس عشر . وإليك نصوصها من الإنجيل الحالي المترجم إلى اللغة العربية :
١ ـ ( إِنْ
كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي ، وأنا أطلب من الأب فيعطيكم مُعَزِّياً آخر ليمكث معكم إلى الأبد ) .
٢ ـ ( وأَمّا
المُعَزِّي ، الروح القدس الذي سيرسله الأب باسمي ، فهو يعلّمكم كل شيء ، ويذكّركم بكل ما قُلتُه لكم ) .
٣ ـ ( وَمتى
جاءَ المُعَزِّي الذي سأرسله أنا إليكم من الأب روح الحق الذي من عند الأب ينبثق ، فهو يشهد لي وتشهدون أنتم أيضاً لأنّكم معي من الإبتداء ) .
٤ ـ ( لكني
أقول لكم الحق ، إنّه خير لكم أن أنطلق لأنّه إن لم أنطلق لا يأتيكم المُعَزِّي ، ولكن إن ذهبتُ أُرسله إليكم * ومتى جاء ذاك يُبَكِّتُ العالم على خَطِيَّةٍ وعلى بِرٍّ وعلى دينونة ) .
٥ ـ ( وأمّا
متى جاء ذاك ، روح الحق ، فهو يرشدكم إلى جميع الحق ، لأنّه
__________________
لا يتكلم من نفسه ، بل كل ما يَسْمَع
، يتكلّم به ، ويخبركم بامور آتية ) .
وجه الإستدلال يتوقف على بيان نكتة ،
وهي أنّ المسيح عليه السلام ، كان يتكلم بالعبرية ، وكان يعظ تلاميذه بهذا اللسان ، لأنّه وُلِدَ وشَبّ بين ظهرانيهم
، وأُمُّه أيضاً كانت عبرانية ، هذا من جانب .
ومن جانب آخر ، إنّ المُؤَرِّخين أَجْمعوا
على أنّ الأناجيل الثلاثة غير متى ، كتبت من أوّل يومها باللغة اليونانية ، وأمّا إنجيل متى فكان عبرياً من أوّل إنشائه .
وعلى هذا ، فالمسيحُ بَشَّر بما بَشَّر
باللغة العبرية أولاً ، وإنّما نقله إلى اليونانية ، كاتب الإنجيل الرابع « يوحنا » وكان عليه التحفّظ على لفظ المسيح في مورد المُبَشَّرِ به ، لأنّ القاعدة الصحيحة ، عدم تغيير الأعلام ، والإتيان بنصِّها
الأَصلي ، لا ترجمة معناها . ولكن « يوحنا » لم يراع هذا الأصل ، وترجمه إلى اليونانية ، فضاع لفظه الأصلي الذي تكلّم به المسيح ، وفي غِبّ ذلك حصل الإختلاف في المراد منه .
وأمّا اللفظ اليوناني الذي وضعه
الكاتب « يوحنا » مكان اللفظ العبري ، فهو مردد بين كونه « پاراقْلِيطوس » الذي هو بمعنى المُعَزِّي والمُسَلِّي والمُعين والوكيل ، أو « پِرِيقْلِيطوس » الذي هو بمعنى المحمود ، الذي يرادف أحمد . ولأجل تقارب الكلمتين في الكتابة والتلفظ والسماع ، حصل التردد في المُبَشِّر به .
ومُفَسِّروا ومترجموا إنجيل يوحنا ، يصرّون على الأول ، ولأجل ذلك ترجموه إلى العربية بـ « المعزّي » ، وإلى اللغات الأُخرى بما يعادله ويرادفه ، وادّعوا أنّ
المراد منه هو روح القدس ، وأنّه نزل على الحواريين في اليوم الخمسين بعد فقدان المسيح ، كما ذُكر تفصيله في كتاب أعمال الرسل . وزعموا أنّهم بذلك خلعوا
__________________
المسلمين عن السلاح الذي كانوا
يحتجون به عليهم .
ومع ذلك ، فهناك قرائن تلقي الضوء
على أنّ المُبَشَّر به هو الرسول الأعظم ، لا روح القدس ، وإليك تلك القرائن :
١ ـ إنّ المسيح بدء خطابه إلى
تلاميذه بقوله : ( إِن كنتم تحبونني ، فاحفظوا وصاياي ، وأنا أطلب من الأب فيعطيكم « معزياً » آخر ، ليمكث معكم إلى الأبد ) .
وهذا الخطاب يناسب أن يكون المُبَشِّر
به نبياً ، لأنّ المسيح يحتمل ـ في هذا الكلام ـ أن يتخلّف عدّة منهم عن اقتفاء أثره ودينه ، ولذلك أثار عواطفهم في هذا المجال لئلا يتخلّفوا . ولو كان المراد منه روح القدس لما احتاج إلى تلك المقدمة ،
لأنّ تأثيره في القلوب تأثير تكويني لا يمكن لأحد التخلّف عنه ، ولا يبقى في القلوب معه شكٌّ ، وهذا بخلاف تأثير النبي فإنّه يؤثر ببيانه وكلامه في القلوب والأرواح ، وهو يختلف حسب اختلاف طبائع المخاطبين واستعدادهم .
ولأجل ذلك أصرّ على إيمانهم به في
بعض خطاباته وقال : ( وقلت لكم الآن قبل أن يكون ، حتى متى كان تؤمنون ) .
٢ ـ إنّه وصف المُبَشَّر به بلفظ « آخر
» ، وهذا لا يناسب كون المبشر به نظير روح القدس لعدم تعدده ، وانحصاره في واحد ، بخلاف الأنبياء فإنّهم يجيئون واحداً بعد الآخر ، في فترة بعد فترة .
٣ ـ إنّه ينعت ذلك المبشر به بقوله :
( لِيَمْكُثَ معكم إلى الأبد )
وهذا يناسب نبوة النبي الخاتم التي لا تُنْسخ .
__________________
٤ ـ إنّه يقول : ( وأَمّا « المعزّي الروح القدس »
الذي سيرسله الأب باسمي ، فهو يعلمكم كل شيء ، ويذكركم بكل ما قلته لكم ) وهذه الجملة تناسب أن يكون المبشر به نبيّاً يأتي بعد فترة من رسالة النبي السابق بعد أن تصير الشريعة السابقة على وشك الإضمحلال والإندثار . فيأتي النبي اللاحق ، يذكر بالمنسيّ ، ويزيل الصدأ عن الدين .
وأمّا لو كان المراد هو روح القدس
فقد نزل على الحواريين بعد خمسين يوماً من فَقْد المسيح ، حسب ما ينصّ عليه كتاب أعمال الرسل . أفيظن أنّ الحواريين نسوا في هذه المدة اليسيرة معالم المسيح وتعاليمه حتى يكون النازل هو الموعود به ؟! .
٥ ـ ويصف المسيح المبشر به ، بقوله :
( فهو يشهد لي ) . وهذه
العبارة تناسب أن يكون المبشر به هو النبي الخاتم حيث بُعِثَ مصدِّقاً للشرائع السابقة والكتب السالفة ، وقد أمره سبحانه أن يخاطب أهل الكتاب بقوله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم
) ، وغير ذلك . ومن المعلوم أنّ الرسول الأكرم شهد برسالة المسيح ، ونَزَّه أُمَّه وابنها ، عن كل عيب
وشين ، وردّ كلَّ ما أُلصق بهما من جهلة اليهود من التهم التافهة . وهذا بخلاف ما إذا فسِّر بروح القدس ، إذ لم يكن للمسيح يومذاك أي حاجة لشهادته ، ودينُه وشريعتُه بَعْدُ غضّانِ طريّان .
٦ ـ إنّه يقول : ( لأنّه إن لم انطلق ، لا يأتيكم « المعزي » ، ولكن إن ذهبت أرسله إليكم ) . وهذا يناسب أن يكون المُبَشّر
به نبياً ، حيث علّق مجيئه بذهابه ، لأنّه جاء بشريعة عالمية ، ولا تصحّ سيادة شريعتين مختلفتين على أُمةٍ واحدةٍ .
ولو كان المُبَشَّر به هو روح القدس
، لما كان لهذا التعليق معنى ، لأنّ روح
__________________
القدس حسب تصريح إنجيلَيْ متى ولوقا
، نزل على الحواريين عندما بعثهم المسيح للتبشير والتبليغ .
٧ ـ ويقول : ( ومتى جاء ذاك يُبكّت العالم على خَطِيَّةٍ ، وعلى بِرّ ، وعلى دينونة . . . ) . وهذا يؤيّد أن يكون المُبَشَّر
به نبيّاً ، إذ لو كان المراد هو روح القدس ، فهو نزل في يوم الدار على الحواريين حسب زعمهم ، فما وَبَّخ اليهود الذين لم يؤمنوا به أصلاً ، لعدم رؤيتهم إيّاه . ولم يوبخ الحواريين ، لأنّهم
كانوا مؤمنين به .
٨ ـ ويقول : ( ومتى جاء ذاك ، روح الحق ، فهو يرشدكم إلى جميع الحق ، لأنّه لا يتكلم من نفسه ، بل كل ما يسمع يتكلم به ، ويخبركم بأمور آتية ) .
وهذا يتناسب مع كون المُبَشَّر به
نبيّاً خاتماً ، صاحب شريعة متكاملة ، لا يتكلم إلّا بما يوحى إليه ، وهذه كلّها صفات الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
فجميع هذه القرائن تشهد بوضوح على
أنّ المراد من «
المعزي » المُبَشّر به ، هو النبي الأكرم لا روح القدس ، ولو أمعنت النظر في سائر القرائن التي ذكرها المحققون من المسلمين في تفسير هذا اللفظ ، لعالت القرائن .
غير أنّ البشارات لا تنحصر بذلك بل
هي موجودة في العهدين ، واستقصاء البحث وجَمْعها ، يستدعي تأليف كتاب منفرد حافل ، إلّا أنّا نلفت إلى نكتة وهي :
إنّ الكتاب الذي جاء به المسيح كان
كتاباً واحداً ، وهو عبارة عن هَدْيِهِ
__________________
وبشارته بمن يجيء بعده ، ليتم دين
الله الذي شرعه على لسانه وألسنة الأنبياء من قبله ، فكان كل منهم يبين للناس منه ما يقتضيه استعدادهم ، وإنّما كثرت الأناجيل لأنّ كلَّ من كتب سيرته سماه إنجيلاً ، لاشتماله على ما بَشَّر وهدى به الناس ، ومن تلك الأناجيل إنجيل « برنابا » . و « برنابا » حوريٌّ من أنصار المسيح الذي يلقّبهم رجال الكنيسة بالرُّسل ، صحبه « بولص » زمناً ، بل كان هو الذي عرّف التلاميذ ببولص ، بعدما اهتدى بولص ورجع إلى أُورشليم ، ولم يكن من هذا الإنجيل أثر في المجتمع المسيحي حتى عثروا في أُوروبا على نسخة منذ قرابة ثلاثة قرون ، وهذا هو الإنجيل الذي حرم قراءته « جلاسيوس الأول » في أواخر القرن الخامس للميلاد .
وهذا الإنجيل يباين الأناجيل الأربعة
في عدّة أُمور :
١ ـ ينكر ألوهية المسيح وكونه ابن
الله .
٢ ـ يعرّف الذبيح بأنّه اسماعيل لا
إسحاق .
٣ ـ أنّ المسيح المنتظر هو « محمد »
، وقد ذكر « محمد » باللفظ الصريح المتكرر في فصول ضافية الذيول .
٤ ـ أنّ المسيح لم يصلب بل حُمل إلى
السماء ، وأنّ الذي صلب إنّما كان يهوذا الخائن . فجاء مطابقاً للقرآن .
ومن أراد الوقوف على بشائر هذا
الإنجيل بوضوح ، فعليه بالرجوع إليه
.
* * *
__________________

الطريق الثالث
لإثبات نبوة نبي الإسلام
القرائن
الدالّة على نُبوّة الرسول الأعظم
قد ذكرنا فيما تقدّم أنّ من الطرق
التي يستكشف بها صدق دعوى المدّعي للنبوّة ، شهادة القرائن الداخلية والخارجية .
وهذا الطريق متين يستخدم في المحاكم
القضائية في هذا العصر ، لتبيين صدق المدّعي والمنكر أو كذبهما ، والتوصّل إلى كنه الحوادث . ولكنه لا يختصّ بالمحاكم ، بل يمكن تعميمه إلى مسائل مهمّة ، منها إثبات صدق دعوى المتنبِّيء .
وأُصول هذه القرائن في المقام عبارة
عن الأُمور التالية :
١ ـ سيرته النفسية والخلقية قبل
الدعوة وبعدها .
٢ ـ الظروف التي فيها نشأ وتربّى
وادّعى النبوّة .
٣ ـ المفاهيم التي تبنّاها ودعا
إليها .
٤ ـ الأساليب التي اعتمدها في نشر
دعوته .
__________________
٥ ـ شخصية أتباعه الذين آمنوا به
ولزموه وصحبوه .
٦ ـ ثباته في سبيل أهدافه ، وصموده
في دعوته .
٧ ـ أثر رسالته في تغيير البيئة التي
ظهر فيها .
ومن هذه القرائن يمكن أن يستنتج صدق
الدعوى على وجهٍ ، وكذبها على وجه آخر ، ولا ندّعي اختصاص القرائن بها ، بل يمكن للممعن في رسالته ، وحياته ، استخراج قرائن أُخر ، يستدلّ بها على صدق دعواه ، وإليك بيانها ، واحدة بعد أُخرى .
* * *
القرينة الأولى ـ سيرته النفسية والخلقية قبل الدعوة وبعدها
نشأ النبي الأكرم صلى الله عليه وآله
في أرفع بيت من بيوت قريش ، وأعلاها كعباً ، وأشرفها شأناً . فسيرة جدّه عبد المطلب ، وعمّه أبي طالب ، في الكرم والسخاء وإغاثة الملهوفين ، وحماية الضعفاء ، معروفة في التاريخ والسِيَر .
وأمّا سيرة النبي الأكرم ، فكفى في
إشراقها أنّه كان يُدعى بـ « الأمين » ، وكان محلّ ثقة واعتماد العرب في فضّ نزاعاتهم . فالتاريخ يروي أنّه لولا حنكة الرسول في حادثة وقعت بين العرب في مكّة ، وإجماعهم على قبول قضائه ، لسالت دماؤهم وهلكت نفوسهم . وذلك أنّهم لما بلغوا في بناء الكعبة ـ التي هدمها السيل
ـ موضع الركن ، اختصموا في وضع الحجر الأسود مكانه ، كل
قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأُخرى ، حتى تحالفوا واستعدّوا للقتال ، فَقَرَّبَتْ بنو
عبد الدار جُفنة مملوءة دماً ، ثم تعاقدوا هم وبنو عُدَيْ على الموت ، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة . فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمساً ، تُفَكِّر في مَخْلَص من هذه الورطة .
ثم إنّ أبا أُمية ابن المغيرة ، الذي
كان أَسن قريش كلها ، إقترح عليهم اقتراحاً ، قال : « يا معشر قريش ، إجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه ، أَوَّلَ من يدخل من باب هذا المسجد ، يقضي بينكم فيه » . ففعلوا . فكان أول داخل
عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله
، فلما رأوه قالوا : « هذا « الأمين » ، رضينا ، هذا محمد » ، فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر ، قال صلى الله عليه وآله : « هَلمّ ثوباً » ، فأتي به . فأخذ الركن ، فوضعه فيه بيده . ثم قال : « لتأخذ كلّ قبيلة بناحية من الثوب ، ثم ارفعوه جميعاً » . ففعلوا . حتى إذا بلغوا به موضعه ، وضعه هو بيده ، ثم بنوا عليه كما أرادوا .
وقد أنشد هبيرة بن وهب المخزومي هذه
الحادثة بأبياتٍ ، منها :
رضينا وقلنا : العدلُ أَوَّلُ طالع
|
|
|
يجيء من البطحاء من غير موعدِ
|
|
فقلنا : رضينا بالأمين محمدِ
|
|
وفي اليوم مع ما يحدث الله في غدِ
|
فجاء بأمر لم ير الناس مثله
|
|
|
أَعَمَّ وأَرضى في العواقب وألبدِ
|
|
يروب لها هذا الزمان ويعتدي
|
هذه لمحة موجزة عن خلقه وسيرته
المحمودة المعروفة بين الناس ، وقد احتفظ بها صاحب الرسالة بعد بعثته ، وبعد غلبته على أعدائه الألداء ، حتى في نصره النهائي حين فتح مكة ودخل صناديد قريش الكعبة ، وهم يظنون أنّ السيف لا يرفع عنهم ، فأخذ رسول الله بباب الكعبة ، وقال : « لا إله إلّا الله ، أنجز وَعْدَه ، ونَصَرَ عَبْدَهُ ، وغَلَبَ الأحزابَ وَحْدَهُ » . ثم قال : « ما تظنون
» ؟ . فأجابت قريش « نظن خيراً ، أخ كريم » . فقال : « فإنّي أقول لكم كما قال أخي يوسف : ( لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ،
يَغْفِرُ اللَّـهُ لَكُمْ ، وَهُوَ أَرْحَمُ
__________________
الرَّاحِمِينَ
) » .
والعجب أنّ الذين أحاطوا ببيته ليلة
الهجرة ، وهمُّوا باغتياله ، وإراقة دمه ، كانت أموالهم بين يديه ، وأمانةً عنده ، فلأجل ذلك لما همّ بالخروج من البيت والهجرة إلى المدينة ، أمر عليّاً أن يقيم صارخاً ، يهتف بالأبطح ، غدوة وعشياً : « من كان له قِبَلَ محمدٍ أَمانة أو وديعة ، فليأت ، فَلْنُؤَدِّ إِليه أَمانته » !
.
فأقام عليٌّ بمكة ثلاث ليال وأيامها
حتى أدّى عن رسول الله صلى الله عليه وآله الودائع التي كانت عنده للناس .
ومن ظريف أخلاقه عفوه عن العدو
الغادر ، الذي أراد قتله ، بمجرد التجائه إليه :
فقد نقل أصحاب المغازي أنّه في إحدى
الغزوات ، ذهب النبي الأكرم لحاجته ، فأصابه المطر ، فبلّ ثوبه ، فنزعه صلى الله عليه وآله ونشره ليجف ، فألقاه على شجرة ، ثم اضطجع تحتها . فرآه العدو وحيداً بعيداً عن أصحابه ، فاختار أحدهم سيفاً صارماً ، ثم أقبل حتى قام على رأس النبي بالسيف المشهور ، فقال : « يا محمد ، من يمنعك مني اليوم ؟ » .
قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله
) : « الله » .
عندئذٍ وقع السيف من يده فأخذه الرسول
الأكرم وقام به على رأسه فقال : « من يمنعك مني اليوم ؟ » .
قال : « لا أحد » . ثم قال : « فأنا
أشهد أن لا إله إلّا الله ، وأنّ محمداً رسول الله ، والله لا أُكْثِرُ عليك جمعاً أبداً » .
فأعطاه رسول الله سيفه ، ثم أدبر
الرجل ، ثم أقبل بوجهه ، فقال : « أما والله ، لأنت خير مني » .
__________________
قال رسول الله صلى الله عليه وآله : «
أنا أحقّ بذلك منك » .
هذه نبذة يسيرة من سيرته الحميدة
المعترف بها عند الصديق والعدو ، ولو أردنا الإسهاب لاحتجنا إلى تأليف رسالة حافلة ، في أدبه وخلقه وسيرته ، ولأجل ذلك إعتمد قيصر في استنطاقه أبا سفيان ، على تلك السيرة ، وجعلها جزءً من القرائن التي استفاد منها كونه صادقاً في دعوته .
* * *
القرينة الثانية ـ الظروف التي فيها نشأ وادعى النُبوّة
كان العرب الجاهليون يضمّون إلى
صفاتهم الحسنة من سخاء في الطبع وإكرام للضيف ، وصيانة للأمانة وإلتزام بالعهود ، صفات ذميمة وأخلاق رذيلة ، وعادات قبيحة ، وعقائد خرافية .
فالصورة العامة التي يمكن رسمها عنه
، أنّه كان مجتمعاً غارقاً إلى آذانه في عبادة الحجارة والأوثان ، والفساد الذريع في الأخلاق ، يظهر في شيوع القمار والزنا ، ووأَد البنات ، وأكل الميتة ، وشرب الدم ، والغارات الثأريّة ، وتغيير الأشهر الحرم ، وغير ذلك من التقاليد والأعمال السيئة التي نقلها المؤرخون ، ولا حاجة للتفصيل .
هذه هي عقائدهم وتقاليدهم ، وعاداتهم
، والنبي الأكرم وليد هذه البيئة المتدهورة ، نشأ وترعرع فيها ، وقضى أربعين عاماً بينهم ، فإذا به قد بعث بأُصول وآداب ومعارف ، تضاد ما كان سائداً في تلك البيئة . فلو كان هو في تعاليمه ، مستمداً من بيئته ، لكان قد تأثّر بها ولو في بعض هذه الصفات والتقاليد .
إنّه ليس من الغريب أن تنبت الأرض
الخصبة ، الأشجار النضرة والأزاهير
__________________
والرياحين ، وإنّما العجب أن يَنْبُت
كل أولئك من أرض مجدبة قاحلة ، يلقي عليها شبح الموت ظلاله السوداء ، وهكذا كانت شريعة محمد صلى الله عليه وآله في البيئة التي ظهرت فيها .
* * *
القرينة الثالثة ـ المفاهيم التي تبنّاها ودعا إليها
جاء الرسول الأعظم بمفاهيم راقية في
جميع شؤون الحياة البشرية وشجونها .
فدعا إلى التوحيد ، ونبذ الوثنية ،
وتنزيهه سبحانه عن كل نقص وعيب ، فَعَرّف الإله الخالق سبحانه ، بقوله : ( هُوَ اللَّـهُ الَّذِي لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ
الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَـٰنُ الرَّحِيمُ * هُوَ
اللَّـهُ الَّذِي لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ
السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ ، سُبْحَانَ
اللَّـهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ
اللَّـهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) .
وأين هذا من مفاهيم الشرك والوثنية
التي كانت سائدة في ذلك الزمن .
وجاء بمفاهيم سامية حول الحياة الأُخروية
، فَقَرَّرَ أنّ الموت ليس بمعنى ختم الحياة ، وإنّما هو نافذة للحياة الأبدية ، التي يحياها الإنسان بسعادة أو تعاسة ،
بحسب أعماله الحسنة أو السيئة ، وأين هو من قولهم : ( مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ ) .
وفي حقل الأخلاق والتعاون والتآلف
الإجتماعي ، زرع في محيط البغضاء والشحناء ، بذور المحبة والمواساة ، وجعل أبناء المجتمع الواحد أُخوة في الدين ، متعاضدين ، متعاونين ، كأنّهم جسد واحد ، فقال : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) .
__________________
وأرسى أركان الإحسان والعدالة الإجتماعية
، وكافة أُصول الشخصية الإنسانية الفاضلة ، وحذّر من الفواحش والبغي والعدوان ، فقال : ( إِنَّ اللَّـهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ
وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) .
وأين هذا من أقبح الممارسات
الأخلاقية الرائجة ، ومفاهيم الثأر والعصبية والإنتقام المحقونة في نفوسهم ، والتي خلّفت حروباً طاحنة ، بين القبائل العربية ، منها حرب الأوْس والخَزْرَج التي دامت قرابة مائة وعشرين سنة .
يقول ابن خلدون : « العرب الجاهليون
، بطبيعة التوحش الذي فيهم ، أهل انتهاب وعيث ، ينتهبون ما قدروا عليه ، وكان ذلك عندهم ملذوذاً . فطبيعتهم إنتهاب ما في أيدي الناس ، وأنّ رزقهم في ظلال رماحهم ، وليس عندهم في أخذ أموال الناس حدٌّ ينتهون إليه ، بل كلما امتدت أعينهم إلى مال أو متاع أو ماعون ، إنتهبوه » .
وفي الحقل الإقتصادي ، جاء بأُصول
ومفاهيم بنى عليها بنياناً محكماً من التشريعات الإقتصادية ، في مختلف أبواب المعاملات .
فمن ذلك أنّه نادى بحرمة الرِّبا
الذي كان الشغل الشاغل في الجزيرة العربية ، حتى أنّ ثقيف طائف لما أسلموا طلبوا من الرَّسول أنْ يكتب لهم كتاباً يحلّ لهم فيه الربا والزّنا ، فلما جاء مبعوثهم بكتابهم قال له رسول الله صلى الله
عليه وآله : « إِقرأ » . فلما انتهى إلى الربا ، قال : ضع يدي عليها في الكتاب ، فوضع يده ، فقال : ( يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا ) ثم محاها . فلما بلغ القاريء ، الزنا ، وضع يده عليها ، وقال : ( وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَىٰ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا ) ثم محاها .
__________________
ومن ذلك ، قوله تعالى : ( لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم
بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ ) .
وقوله تعالى : ( إِنَّ اللَّـهَ يَأْمُرُكُمْ أَن
تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا ) .
ولو أردنا أنْ نبين كافة التعاليم
القرآنية في حقول المعارف ، والسياسة ، والإجتماع ، والأخلاق ، والإقتصاد ، لطال بنا الكلام ، وفيما ذكرنا غنىً وكفاية ، والكلُّ يشهد على عظمة المفاهيم التي جاء بها الإسلام ، وموافقتها لمقتضى حكم العقل الصريح ، المتحرر عن قيود الشهوة والخيال ، وهو من أجلى القرائن على نبوّة من جاء بها .
* * *
القرينة الرابعة ـ الأساليب التي اعتمدها في نشر دعوته
لا شكّ أنّ النَّبي الأعظم نجح في
دعوته ، وبلغ أهدافه التي قدّرها الله له ، ولكنه لم يدرك تلك الغاية بالأساليب الملتوية ، ولم يستعن في تحقيقها بكل وسيلة سائغةً كانت أو محرمةً ، ولم يسلك سبيل الخداع والمكر والحيلة باعتماد مبدأ : « الغاية تبرر الوسيلة » ، بل إنّ منطق النبي الأكرم ومسلكه ـ وكذا جميع الأنبياء
ـ هو شقّ الطريق على نهج الصدق والعدل ، وهذه حالته التي لم تتفاوت في سَرّاء أو ضَرّاء ، أو شَدّة أو رَخاء ، . وكان في كل ذلك ممتثلاً قولَه تعالى : ( وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا ) ، وقولَه تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّـهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ،
وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ، اعْدِلُوا ، هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ، وَاتَّقُوا
اللَّـهَ إِنَّ اللَّـهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) .
وهذه التعاليم التي اقتدى بها النبي
الأكرم في نشر دعوته ، تدلّ على أنّه
__________________
( صلى الله عليه وآله ) كان يعامل
عدوَّه بالعدل والرأفة ، ولم يكن من الذين تحجب العداوة بصائرهم ، ويُعمي الإنتصار أعْيُنَهم عن رعاية الحق والعدل .
وبإمكاننا أن نلمس ذلك في توجيهاته
إلى أُمراء السرايا ، فإنّه كان إذا أراد أن يبعث سرية ، دعاهم فأجلسهم بين يديه ، وقال : « سيروا باسم الله ، وبالله ، وفي سبيل الله ، وعلى مِلَّة رسول الله ، لا تَغُلُّوا » ، ولا تُمَثِّلوا ،
ولا تغدُروا ، ولا تقتلوا شيخاً فانياً ، ولا صبياً ، ولا امرأة ، ولا تقطعوا شجرة
إلّا أن تضطروا إليها ، وأَيُّما رجل مِنْ أدنى المسلمين أو أفضلهم نظر إلى أحد من
المشركين فهو جارٌ ، حتى يسمع كلام الله ، فإن تَبِعَكُم ، فأخوكم بالدين ، وإن أبى فأبلغوه
مَأْمَنَهُ ، واستعينوا بالله » .
وفي روايةٍ أنّ النبي كان إذا بعث
أميراً له على سرية ، أمره بتقوى الله عز وجل في خاصّة نفسه ، ثم في أصحابه عامة ، ثم يقول : أُغزوا باسم الله ، وفي سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله ، لا تغدروا ، ولا تَغُلّوا ، ولا تُمَثِّلوا ،
ولا تقتلوا وليداً ولا مُتَبَتِّلاً في شاهق ، ولا تحرقوا النخل ولا تغرقوه بالماء ، ولا
تقطعوا شجرة مثمرة ، ولا تحرقوا زرعاً لأنّكم لا تدرون لعلّكم تحتاجون إليه . وإذا لقيتم عدواً
للمسلمين فادعوهم إلى إحدى ثلاث ، فإن هم أجابوكم إليها فاقبلوا منهم وكفّوا عنهم الخ . . . » .
ولقد كان النبي الأكرم
يتحرز عن التذرع بوسائل غير واقعية ، حتى لو كانت الوسيلة مفيدة ونافعة لأهدافه الشخصية ، وشخصيته الإجتماعية ، بل كان يناهضها ، ويبطلها ، ليستقيم الناس على جادة الواقع والحق .
فنحن نرى أنّ السياسيين المتصدرين
لكراسي الرئاسة ، يتجاوبون مع عقائد الناس وإن كانت مخالفة لعقيدتهم ، وذلك للتحفظ على مناصبهم وعروشهم .
__________________
فهذا « نهرو » بلغ من التجاوب مع
قومه إلى حدّ أنّه كان يشترك معهم في مراسم عبادة البقر ، والتبرّك بفضلاتها ، لكونه مطلوباً عند الشعب ، ومخالفةُ الرأي
العام مضرّة بشخصيته وأهدافه .
فالسياسيون لا يتورعون في تحقيق
أهدافهم ، عن استغلال جهل شعوبهم . وأمّا الأنبياء فقد بعثوا لمكافحة الجهل ، سواء أكان جهل الناس مفيداً لأحوالهم الشخصية أم نافعاً ، ونذكر لذلك نموذجاً من سيرة النبي الأكرم :
عندما توفي ولده إبراهيم ، غشي الشمس
كسوف ، فتلقاه الناس أمراً معجزاً ، وأنّ المصيبة تركت أثرها في الأرض والسماء ، وانكسفت الشمس لموت ولده . فلو كان النبي رجلاً مادياً ، طالباً للمنصب والمقام ، لأصفق مع شعبه في هذه العقيدة ، وتركهم عليها ، ولكنه رجل إلهي واقعي ، فصعد المنبر ، وأماط الستر عن وجه الحقيقة ، فقال :
« أَيُّها الناس ، إنّ الشمس والقمر
آيتان من آيات الله ، يجريان بأمره ، مطيعان له ، لا ينكسفان لموت أحد ، ولا لحياته ، فإذا انكسفا أو أحدهما ، صلُّوا » .
ثم نزل من المنبر ، فصلّى بالناس
الكسوف ، فلما سلّم ، قال : « يا عليُّ ، قمّ فَجَهِّز إِبني » .
ومن دلائل كون النبي رجلاً واقعياً ،
يطلب الحقائق ، ولا يستعمل في أساليب دعوته الخُدْعة ، هو أنّ نفراً من قريش طلبوا من النبي أن يعبد آلهتهم ، حتى يعبدوا إلهه ، فقام النبي في وجه المعترضين بصراحة ، وقال : ( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا
أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ *
وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ *
وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ *
وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ *
لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ) .
__________________
ولكن دعاة الإصلاح الماديين ،
يتّخذون ذلك الإقتراح مطيّة لآمالهم ، فيجيبونه ، حتى إذا تغلّبوا على أعدائهم ، خالفوهم ، وقضوا عليهم وعلى معتقداتهم .
* * *
القرينة الخامسة ـ شخصية المؤمنين به
الناموس المطّرد في الشخصيات ، هو
أنّ كل إنسان بارز ، يجذب إليه من يوافق أفكاره وعقلياته ، فالشخصيات الصالحة تجتمع حولها ، رجال الطهارة والإيمان والنزاهة ، كما أنّ الشخصيات الطالحة ، تجذب إليها الأشرار والأراذل ولأجل ذلك يقال في المثل السائد : « قُلْ لي مَنْ تعاشر ، أَقُلْ لك من أنت » ، ويقول الشاعر :
عن المرء لا تسأل وسَلْ عن قرينه
|
|
فكلُّ قرينٍ بالمقارن يُقْرَنُ
|
وهذه وإن لم تكن قاعدة كلية ، إلّا
أنّها قاعدة غالبية .
وعلى ضوء ذلك الناموس الإجتماعي ،
يمكن التعرّف على النبي عن طريق حوارييه وأصحابه . فنجد فيهم أصحاب عقل وعبقرية ، يضنّ بهم الدهر إلّا في فترات متباعدة ، كالإمام علي بن أبي طالب ، وسلمان الفارسي ، وأبى ذرٍّ المجاهد الكبير ، وخبّاب بن الأرت ، وغيرهم من الشخصيات . وهذا كتاب الرسول ، يأمره بمجالسة الذين يدعون ربّهم بالغداة والعشي وتجنّب معاشرة المُتْرَفين المُغَفَّلين .
يقول سبحانه : ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ
يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ، وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ، وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ) .
__________________
ويكفي في ذلك أنّه تَرَبّى في أحضانه
، رجال متفانون في طريق الدين وتحقيق أهدافه ، وكفى في إظهار ذلك أنّ النبيّ استشار أصحابه في محاربة قريش في معركة بدر ، وقال : أشيروا عليّ أَيُّها النَّاس .
فقام المقداد بن عمرو ، وقال : يا
رسول الله ، إمض لما أراك الله ، فنحن معك . والله لا نقولُ لكَ كما قالت بنو إسرائيلَ لموسى : « اذهب أنت وربُّك فقاتلا
إنّا ها هنا قاعدون » ، ولكن اذهب أنت وربُّك فقاتلا فإنّا معكما مقاتلون . فوالذي بعثك بالحق ، لو أمرتنا أن نخوض جَمْرَ الغضا وشوك الهَراس لَخُضناه معك
.
وقال سعد بن معاذ : « فوالذي بعثك
بالحق ، لو استعرضت بنا هذا البحر فَخُضْتَهُ ، لَخُضْناه معك ، ما تخلف منا رجل واحد . وما نكره أن تلقى بنا عدوَّنا
غداً ، وإِنّا لَصُبُر في الحرب ، صُدُق في اللقاء ، لعلّ الله يريك منا ما تقرُّ
به عينك ، فَسِرْ بنا على بركة الله ، وصِلْ مَنْ شِئت ، واقطع مَنْ شِئت ، وخُذْ من أموالنا ما شئت ، وما أخذت من أموالنا أحبّ إلينا ممّا تركت » .
هؤلاء صحابة النبي والرجال الذين
التفوا حوله ، فكانت حياتهم وكلماتهم : التفاني دون الحق ، والعيش مع الرسول كيفما أراد . ولا نرى نُظَراءَهم حول السياسيين من رجال الإصلاح ، الذين يعيشون لأجل الأماني المادية .
نعم ، وجود هذه الأنجم الزاهرة حول
الرسول ، كافٍ في كون دعوته إلهية ، ولا يستلزم أن يكون كلُّ مَنْ حوله رجلاً مثالياً . ويكفي في ذلك ملاحظة التاريخ ، والآيات الواردة حول أصحابه وحوارييه .
* * *
__________________
القرينة السادسة ـ ثباته في طريق دعوته
إنّ ثبات المدّعي في طريق دعوته ،
آية إيمانه بها ، فإذا رؤي فيه أنّه يضحّي بماله ونفسه وأقربائه ووُلده في طريق دعوته ، ويقتحم بنفسه المعارك الخطيرة ، ولا يتجنَّن بتقديم غيره ، يستكشف من ذلك كونه مؤمناً بدعوته ، صادقاً في قوله . وهذا علي بن أبي طالب يصف حال النبي في غزواته ، ويقول :
« كنّا إذا احمرّ البأس ، إتقينا
برسول الله ، صلى الله عليه وآله وسلم ، فلم يكن أحد منا أقرب إلى العدو منه » .
وقد اتّفق أهل المغازي والسِير ، على
أنّ النبي لم يتراجع في حرب من الحروب ، بل كان صَموداً في وجه العدو ، رغم ما كان يرد عليه من الجراحات ، وشيوع اليأس في جيشه .
ويكفي في ذلك السبر في تاريخ حروبه
لا سيما في أُحُدْ وغزوة حُنَيْن . ففي أُحُد عمّت الهزيمة جيشه ، ولم يثبت معه في المعركة إلّا أشخاص قلائل ، فأخذ يدعو أصحابه وهم ينسحبون من أرض المعركة ، وهو راسخ فيها كالجبل الأشمّ لا تحركه العواصف . يقول سبحانه ، في حكايته لهذه الواقعة :
( إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَىٰ أَحَدٍ
وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ ، فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِّكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ
وَلَا مَا أَصَابَكُمْ ، وَاللَّـهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) .
وأوضح من هذا ، ثباتُه في مكة ، وقد
كان وحيداً في دعوته ، لم يؤمن به حينها إلّا عدّة قليلة يعيشون حالة الخوف والمطاردة ، والطواريء الشديدة تنزل على النبي ، الواحدة منها تلو الأُخرى ، وقد سطّر من تلك الحالات الكثير ، منها : تعرُّض الأراذل له بالشتم ، وإلقاء القذورات عليه ، أو إلقاء عمامته في عنقه وجرّه
بها ، وغير ذلك ، وهو صابر محتسب . كما كان يتعرض للأذي المستمر من
__________________
جانب عمّه أبي لهب وزوجته ، وكان
رسول الله يجاورهما ، فلم يألُوَا جُهْداً في إزعاجه وإيذائه ، فكم من مرّة أَلقيا الرماد والتراب على رأسه وثيابه ، وكم من مرة
نشرت أُم جميل الشوك على طريقه ، أو جمعته خلف باب بيته لتؤذيه عند خروجه ، ولأجل هذا الإيذاء ، يخصُّ القرآن أبا لَهَبٍ باللّعن ، ويسميه وزوجته .
وكم تعرض أصحابه لألوان العذاب ،
كبلال الحبشي ، وآل ياسر وغيرهم ، الذين هم رموز الصمود والمقاومة ، وأوسمة الفخر والاستقامة . وقد قام عبد الله بن مسعود يوماً في المسجد ، ورفع عقيرته بقراءة القرآن لإسماع قريش ، فقرأ : « بسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ
الرَّحِيمِ *
الرَّحْمنُ *
عَلَّمَ الْقُرْآن » ، فلم تمهله قريش حتى قامت إليه تضربه حتى أدمي وجهه وجسمه ، وهو مع ذلك مسرور لإسماعهم كتاب الله العزيز وآياته المباركات .
* * *
القرينة السابعة ـ أثر رسالته في تغيير البيئة التي ظهر فيها
إنّ الإلمام العابر بأحوال العرب في
شبه الجزيرة العربية ، يكفي في إثبات أنّ الثورة العارمة على التقاليد والعادات السائدة هناك آنذاك ، في مدّة لا تزيد على ثلاث وعشرين سنة ، وصُنْع أُمَّةٍ متحضرة منها ، في هذه البرهة الوجيزة من الزمن ، أمْرٌ يستحيل تحققه عن طريق العلل المادية ، والأساليب الإصلاحية ، وقد شمل التحوّل جميع جوانب الثقافة والفكر ، والإقتصاد ، والنُّظُم الإجتماعية ، والطقوس الدينية .
وهذا إنْ دَلّ على شيء فإنّما يدلّ
على أنّ وراء هذه الثورة ، إمدادات غيبية ، نصرت الثائر ، في جميع مواقفه ، سواء أكانت في مجال التبليغ والتبشير ، أم في مجال الكفاح والجدال ، أم في قلب الأُمة المتوحشة المستبدة ، المتغلغلة في العداء البغضاء ، أُمَّةً مُوَحَّدَةً ، متعاطفة ومتآخية فيما بينها .
__________________
وهذا الإمام عليّ أمير المؤمنين عليه
السلام ، يصف وضع العرب الجاهليين في بعض خطبة ، ويقول :
« وأنتم معشر العرب على شَرِّ دينٍ ،
وفي شَرِّ دار ، منيخون بين حجارة خشن ، وحيّات صم ، تشربون الكدر ، وتأكلون الجشب ، وتسفكون دماءكم ، وتقطعون أرحامكم ، الأصنام فيكم منصوبة ، والآثام بكم معصوبة » .
فهذه الأُمة ، على هذه الحال وهذه
الأوصاف ، تحولت إلى أُمّة ، عالمة ، أرست قواعد الحضارة الإنسانية في مدّة قصيرة ، وأخذت تكسح العراقيل أمامها ، وتزعزع عروش الطواغيت في مشارق الأرض ومغاربها ، حتى أرست بنيان دولة عظيمة ، صارت همزة وصل بين الحضارة اليونانية القديمة والحضارة الصناعية الحديثة .
* * *
هذه دراسة إجمالية للدعوة المحمدية ،
وتبيين القرائن الموجودة فيها ، والكُلُّ يشهد على أنّ الداعي كان صادقاً في دعوته محقّاً في نبوته ، وهذا الطريق الثالث الذي سلكناه على وجه الإجمال ، قابل للبسط والإسهاب . ففي وُسع المحققين في الحياة النبوية والملمّين بكتابه وسنته ، أن يشقوا هذا الطريق يشكل مسهب ، حتى يتجلى صدق دعوته تَجَلِّيَ الشمسِ في رائعةِ النَّهار .
* * *
وبهذا البحث نختم البحث عن أصل
النبوة الخاصة ، وأمّا سمات دعوته من حيث كونها أقليمية أو عالمية ، وكونها مرحلية أو خاتمة للرسالات ، فالبحث عنه على عاتق علم التفسير . غير أنّ الإحالة ، لما كانت عن المحذور غير خالية ، نبحث فيما يلي عن تينك السِّمَتَيْن بوجه الإجمال .
* * *
__________________



السمة الأولى
عالمية
الرسالة
الإسلام عقيدة وعمل ، لا ينفرد بهما
شعب أو مجتمع خاص ، ولا يختصان ببلد معين ، بل هو دين يعمّ المجتمع الإنساني ككل ، على اختلافه في العنصر والوطن واللسان ، ولا يفترض لنفوذه حاجزاً بين أبناء الإنسان ، ولا يعترف بأية فواصل وتحديدات جنسية أو إقليمية ، وهذا ما ينصّ عليه الذكر الحكيم ، والأحاديث النبوية ، ونلمسه من سيرة الرسول الأكرم في نشر دينه ، ومن تاريخ نشوء وتطور دعوته .
أمّا الكتاب العزيز ، فإليك بعض
نصوصه :
١ ـ قال تعالى : ( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، إِنِّي
رَسُولُ اللَّـهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ) .
٢ ـ قال تعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً
لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ) .
٣ ـ قال تعالى : ( وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا ،
وَكَفَىٰ بِاللَّـهِ شَهِيدًا ) .
٤ ـ قال تعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً
لِّلْعَالَمِينَ ) .
__________________
٥ ـ قال تعالى : ( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ
الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ ، لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ) .
٦ ـ قال تعالى : ( وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَـٰذَا
الْقُرْآنُ ، لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ ) . أي كُلُّ من بَلَغَه القرآنُ ، ووصلت إليه تشريعاته في أقطار الأرض .
إلى غير ذلك من الآيات التي تنصّ على
شمول رسالته لعامة البشر .
ويمكن الإستدلال بوجه
ثان ، وهو أنّ القرآن كثيراً ما يوجّه خطاباته
إلى الناس غير مقيّدة بشيء ، ويقول : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي
خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ، لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) فلو كان الإسلام ديناً إقليمياً ، أو كانت رسالته لعصر خاص ، فما معنى هذه النداءات العامة ؟ .
ويمكن الإستدلال بوجه
ثالث ، وهو أنّه ربما يتّخذ القرآن الكريم
عنواناً عاماً لكثير من الأحكام ، من غير تقييد بلون أو عنصر ، كما في قوله تعالى : ( وَلِلَّـهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ) ، فأوْجَبَ الحَجَّ على الناس إذا استطاعوا ، عرباً كانوا أمْ غيرهم ، ولو كانت رسالته عنصرية ، لكان عليه أن يقول : « ولله على الأُمة العربية ـ مثلاً ـ حجّ بيته » .
وهناك وجه رابع لعموم دعوته ، وهو أنّه يُعَرِّفُ كتابَه نوراً وهدىً للنَّاس كلهم ، ويقول : ( شَهْرُ
رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ، هُدًى لِّلنَّاسِ ) ويقول : ( وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي
هَـٰذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ ، لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) .
هذه الوجوه الأربعة ، تهدف إلى أمر
واحد ، وإن كانت تختلف في طريقة
__________________
البرهنة ، فقد اعتمد في الوجه الأول
، على تصريح القرآن بعموم رسالته ؛ وفي الوجه الثاني ، على نداءاته العامة ؛ وفي الوجه الثالث ، على أنّ الموضوع لأحكامه وتشريعاته ، أمرٌ عام ، وفي الوجه الرابع ، على أنّ القرآن يعرّف هدايته وإنذاره ،
أمراً عاماً للناس كلّهم .
وهناك وجه خامس يتصل إتصالاً وثيقاً بطبيعة الإسلام وقوانينه وتشريعاته ، وهو أنّ القرآن في تشريعاته لا يعتمد إلّا على مقتضى الفطرة التي فطر عليها بنو البشر كلُّهم ، فإذا كان الحكم موضوعاً على طِبْق الفطرة الإنسانية ، الموجودة في جميع الأفراد ، فلا وجه لاختصاصه بإقليم دون إقليم ، أو شعب دون شعب .
هذا هو الإسلام ، وتعاليمه القيمة
ومعارفه وسننه ، فهل تجد فيها ما يشير إلى كونه ديناً إقليمياً ، أو شريعة لفئةٍ محدودةٍ ؟ فإنّ للدين الإقليمي علائم وأمارات ، أهمها أنّه يعتمد في معارفه وتشريعاته على ظروف بيئته وخصوصيات منطقته ، بحيث لو فرض فقدانها ، لأصبحت السنن والطقوس التي يعتمد عليها الدين ، سراباً يحسبه الظمآن ماءً .
ونحن في غنىً عن سرد آيات الذكر
الحكيم التي تتبنى معارف وتشريعات تقتضي بطبيعتها كونها دواءً للمجتمع الإنساني في جميع الأقطار والأزمان ، فقوله سبحانه : ( إِنَّ اللَّـهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ
وَالْإِحْسَانِ ) الآية ؛ وقوله : ( إِنَّ اللَّـهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا ، وَإِذَا
حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ) ، وقوله : ( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ
وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) ، وغير ذلك من تشريعاته في حقول الإقتصاد والإجتماع والسياسة والأخلاق ، مما تقتضي بطبيعتها ، العمومية لجميع البشر والمجتمعات .
__________________
وأمّا السنة الشريفة ، فيكفي في ذلك
قوله صلى الله عليه وآله ، في الخطاب الذي ألقاه في داره ، حينما وفد إليه أعمامه وأخواله ، ومن كانت له به صلة : « والله الذي لا إله إلّا هو ، إِنّي رسولُ الله إليكم خاصة ، وإلى الناس عامةً » .
وأمّا في سيرته في حقل الدعوة ،
فيكفي في ذلك وثائقة السياسية ، ومكاتيبه التي وجّهها إلى أصحاب العروش وملوك العالم ، كَكِسرى مَلِك الفُرس ، وقَيْصر مَلِك الروم ، والمقوقس عظيم القِبْط ، والنجاشي ملك الحبشة ، وغيرهم .
هذا ، وإنّ الإسلام حارب العصبية ،
والنعرات الطائفية ، في ظل وحدات ثمان ، أعني : وحدة الأُمة ، وحدة الجنس البشري ، وحدة الدين ، وحدة التشريع ، وحدة الأُخوة الروحية ، وحدة الجنسية الدولية ، وحدة القضاء ، ووحدة اللغة العربية ، وهو القائل :
« أيّها الناس ، إنّ الله أذهب عنكم
نَخْوَة الجاهلية وتفاخُرَها بآبائها ، ألا إنّكم من آدم ، وآدم من طين ، ألا إنّ خير عباد الله عبدٌ اتَّقاه » .
وهو القائل : « إنّ العربية ، ليست
بأبٍ والد ، ولكنها لسان ناطق ، فمن قَصرُ عملُه ، لم يَبْلُغ به حَسَبُه » .
وهو القائل : « إنّ الناس من عهد آدم
إلى يومنا هذا مِثْل أَسنان المِشْط ، لا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ على عَجَمِيٍّ ، ولا لأَحْمَرَ على أَسْوَدَ ، إِلَّا بالتقوى
» .
وهو القائل : « إنّما الناس رجلان ،
مؤمن تقي كريم على الله ، وفاجر شقي هيِّن على الله » .
أَفَيَصِحُّ بعد هذه الكَلِم الدُّرِّيَّة
، رَمْيُ رسالته ، بالطائفية ، والعنصرية ، والإقليمية ؟ .
__________________
إزالة شُبهات
شبهةٌ ـ ربما يتمسّك بعض
القساوسة لتحديد دعوته ، بما في الكتاب العزيز من قوله تعالى : ( لِتُنذِرَ
قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ ) .
غير أنّ الجواب واضح ، أمّا نقضاً ،
فإنّ في نفس هذه السورة التي ورد فيها قوله : ( لِتُنذِرَ قَوْمًا ) ، ما يدلّ بصراحة على عموم دعوته ، وهو قوله تعالى :
( لِّيُنذِرَ مَن كَانَ
حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ ) .
وأما حلاً فإنّ طبيعة
إبلاغ الدعوة ربما تقتضي توجيه الكلام إلى قسم خاص ، وإنّ كانت الدعوة عالمية ، والرسول في بدء دعوته ، كان يمارس هداية قومه أوّلاً ، ثم من يليهم في منطقة الحجاز ، ثم من يليهم ، ولأجل ذلك خصّ الخطاب بقومه :
والشاهد أنّه يقول في آية أخرى : ( قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ
، وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ ) . فيخص الإنذار بالوحي بالمخاطبين ، بينما يعمّ الإنذار به كلّ الناس في قوله : ( أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ
رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ ) .
شبهة ثانية ـ وربما يتمسك
بتخصيص الإنذار بأُمّ القُرى وَمَنْ حَوْلَها في قوله سبحانه : ( وَهَـٰذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ
مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ
وَمَنْ حَوْلَهَا ) ، وأُمُّ القُرى
إمّا عَلَمَ مِنْ أَعلام مَكَّةَ ، أَو كُلِّي أُطْلِقَ عليها ، فَتَخُصُّ الآيةُ دعوتَه بإطار أُمّ القُرى وَمَنْ حَوْلَها .
والجواب أما نقضاً : فإنّ
في نفس السورة التي وردت فيها تلك الآية ما يدلّ
__________________
على عموم رسالته ، لكل من بلغته ،
فإنّه يقول : ( وَأُوحِيَ
إِلَيَّ هَـٰذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ ) .
وأمّا حلاً ، فَعَيْنُ ما
تَقَدَّم في سابقه ، من أنّ طبيعة الدعوة ، ربما تقتضي توجيه الكلام إلى طائفة خاصة ، وإن كانت الدعوة عالميةً .
شبهة ثالثة ـ وربما يستدلّ
بقوله سبحانه : ( وَمَا
أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ، فَيُضِلُّ اللَّـهُ مَن يَشَاءُ
وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) ، على تحديد رسالته
، بتوهّم أنّ معنى الآية أنّ كل رسولٍ يوافق لسانُه لسانَ من أُرسل إليهم .
وأنت خبيرٌ بأنّه تفسير
خاطيءٌ ، فمعنى الآية هو موافقةُ لغةِ الرسول لسانَ قومه ، لا اتحاد لغته مع لسان كل من أُرسل إليهم ، فمن الممكن أن يكون المرسل إليهم أوسع من قوم الرسول ، فهذا إبراهيم دعا عرب الحجاز إلى الحج وهو ليس منهم . وهذا الكليم دعا فرعون إلى الإيمان ، وهو عبري والمُرسَل إليه قِبْطِيٌ .
شبهة رابعة ـ وربما يستدل
أيضاً ، بقوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ ، مَنْ آمَنَ بِاللَّـهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) ، على تحديد رسالته .
وحاصل الإستدلال هو أنّ المتبادر من
الآية هو نجاة أصحاب الشرائع السابقة حتى بعد بعثة الرسول الأكرم ، إذا كانوا مؤمنين بالله واليوم الآخر وعملوا
صالحاً . فهذه الآية تعطي الضوء الأخضر لنجاة اليهود والنصارى والصابئين إذا كانوا ملتزمين بهذه الشروط ، وإن لم يعتنقوا رسالة الرسول الأعظم ، أو لم يعملوا بأحكامه وتشريعاته . وهذا لا يجتمع مع القول بأنّ رسالته عالمية يجب على كلّ الناس اعتناقها .
__________________
والجواب : إنّ الإستدلال نَجَمَ
من الجمود على نفس الآية ، والغفلة عما ورد حولها من الآيات . ومثل هذه الآية لا يصح تفسيره إلّا على نمط التفسير الموضوعي ، واستنطاق الآية بأُختها ، وعرض البعض على البعض حتى يُهتدى إلى معالمها . وسيوافيك أنّ الآية ـ بقرينة الآيات التي تتلوها ـ بصدد تفنيد المزاعم الباطلة لليهود والنصارى ، وليست بصدد إمضاء الشرائع السالفة ، بعد ظهور النبي الأكرم ، وإليك البيان .
١ ـ تفنيد فكرة الشعب المختار
كان اليهود والنصارى يتبنون فكرة
الشعب المختار ، فكل من الطائفتين تَدّعي أنّها أسْمَى بني البشر . وقد نقل القرآن الكريم هذه الفكرة السخيفة عن كلتا الطائفتين بقوله : ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ
اللَّـهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ، قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم ، بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ . . ) .
فقوله : ( فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم ) ، تفنيدٌ لهذا الزَّعم ، وَيدُلُّ على أنّهم وغيرهم عند الله سواسية ، فهو سبحانه يثيب المطيع ، ويعذب العاصي .
وقد بلغت أنانية اليهود واستعلاؤهم
الزائف حداً ، تفوهوا بما يحكيه سبحانه عنهم بقوله : ( وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا
مَّعْدُودَةً ) .
والقرآن يُفَنَّد هذا الزعم ، بشكل
الإستفهام الإنكاري ، ويقول : ( قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّـهِ عَهْدًا ، فَلَن يُخْلِفَ اللَّـهُ عَهْدَهُ أَمْ
تَقُولُونَ عَلَى اللَّـهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) .
فهكذا ، نستكشف من خلال هذه المزاعم
وردودها أنّ اليهود كانوا ـ ولا يزالون ـ يَعُدُّونَ أَنْفُسَهُم صفوة البشرية ، ونخبة الشعوب . وكانوا يحاولون بِمثل
__________________
هذه المزاعم ، فَرْضَ كَيانهم على
العالَم ، كأرفع نوعٍ بشريٍّ إِنتخَبَهُ الله من بين سائر البشر ، حتى كأنّهم أبناءُ الله المُدَلَّلون .
٢ ـ النجاة رهن العمل والإلتزام
كانت الطائفتان ( اليهود والنصارى )
، تزعمان أنّ الإنتساب إسماً إلى شريعة موسى أو المسيح ، وسيلة النجاة . كما كان اليهود بالخصوص يزعمون أنّ الإنتساب إلى « إسرائيل » ، ينقذ من عذاب الله سبحانه ؛ ولأجل ذلك قالوا : ( لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن
كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ ) .
ومعنى هذا القول ، أنّ بإمكان الإنتساب
إلى « إسرائيل » ، أو كون الإنسان يهوديّاً أو نصرانياً بالإسم ، أن يجعل الإنسان سعيداً ، مالكاً لمفاتيح الجنة . ويردّ القرآن عليهم ، بأنّ الوسيلةَ الوحيدة لامتلاك الجنة ، ليس هو « الإنتساب » ، ولا التجنُّن « بالتسمية » ، بل هو الإيمان الصادق والعمل الصالح ، يقول تعالى : ( تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ ، قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن
كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّـهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ ، فَلَهُ أَجْرُهُ
عِندَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) .
فقوله : ( بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ ) ، يعني الإيمان الخالص ، والتسليم الصادق لله .
وقوله : ( وَهُوَ مُحْسِنٌ ) ، يعني العمل بالشريعة التي يؤمن الفرد بها .
وكلتا الجملتين تدلّان على أنّ
السبيل الوحيد إلى النجاة في يوم القيامة هو الإيمان والعمل ، لا إسم اليهودية أو النصرانية ، ولا الإنتساب إلى بيت النبوّة ، فليست المسألة مسألة أسماء ، ولا مسألة انتساب ، وإنّما هي مسألة إيمان صادق ، وعمل صالح .
__________________
٣ ـ الأصالة للتوحيد لا لليهودية ولا للنصرانية
لقد كان لهاتين الطائفتين ادعاء ثالث
، هو أنّ الهداية الحقيقة ، في اعتناق اليهودية أو النصرانية ، كما يحكيه عنهم القرآن بقوله : ( وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ تَهْتَدُوا ) .
والقرآن يردّ عليهم هذا الزعم الواهي
بقوله : ( بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا
وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) . مشيراً إلى أنّ
الهداية الحقيقية ، هي في الأخذ بملة إبراهيم ، واعتناق مذهبه في التوحيد الخالص من كل شائبة . فإذا عَمَّتْهما الهداية ، فإنّما هو لأخذهم بالحنيفية الإبراهيمية ، لا لاعتناق اليهودية
والمسيحية ، فلا أصالة لهما ، إلّا إذا كانتا مشتملين على جوهر التوحيد الإبراهيمي وحنيفيّته .
وقد بلغت جسارة الطائفتين إلى حدّ
أنّهم حاولوا إضفاء طابع اليهودية والمسيحية على إبراهيم ، ليحصلوا بذلك على دعم جديد لمعتقداتهما ، ويضفوا الشرعية على مسلكيهما . ولكن القرآن عاد إلى تفنيد هذه المزعمة الثالثة ، كما فند المتقدمتين ، بقوله : ( مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا ، وَلَـٰكِن
كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) .
فهذه المقدمات ، تثبت أنّ اليهود
والنّصارى كانوا يتبنون هذه الأفكار الواهية الثلاثة :
١ ـ الرفعة على البشر أجمعين .
٢ ـ كفاية مجرد الإنتساب إلى مذهبهما
في النجاة .
٣ ـ إختصاص سبيل الهداية بالطائفتين
.
فجاء القرآن يُفَنِّد كلَّ واحدة من
هذه المزاعم ، مستقلّاً ، بعد نقلها ، بالآيات التي عرفت . ثم يفندها جميعها بصورة إجمالية ، بالآية التي وقعت ذريعةً
__________________
لمنكري عالمية الرسالة ، وهدف الآية
أنّ فكرة الشعب المختار ، أو كون النجاة رهن الإنتساب والتسمية ، أو اختصاص الهداية بإحدى الطائفتين ، أمر باطلٌ لا أساس له ، فإنّ النجاة والجنة يَعُمّان جميع البشر وجميع الطوائف ، إذا كانوا
مؤمنين بالله واليوم الآخر ، وعاملين بالصالحات ، من غير فرق بين إنسان وإنسان ، وشعب وآخر ، فلا استعلاء ولا تفوق لطائفة على غيرها ، ولا الإنتساب والتسمية ينجيان أحداً في العالم ، ولا الهداية رهن اعتناق أحد المذهبين ، وإنّما النجاح والفوز والصلاح في الإيمان والعمل الصالح . وهذا الباب مفتوح في وجه كل إنسان ، يهودياً كان أو نصرانياً أو صابئياً .
فالآية بصدد تفنيد هذه المزاعم ،
وأمّا الإعتراف بإقرار الإسلام لشرعية الشرائع السابقة ، بعد ظهوره ، فليس لها دلالة على ذلك ولا إشعار ، بشرط التوقف والإمعان في الأفكار التي كانت الطائفتان تتبناهما .
وممّا يوضح المراد من هذه الآية ،
قوله : ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ
آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ، وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ
النَّعِيمِ ) . فتصرّح الآية بانفتاح أبواب الجنة في وجه البشر ، من غير انحصار بجماعة دون جماعة ، حتى أنّ أهل الكتاب لو آمنوا بما آمن به المسلمون ، لقبلنا إيمانهم ، وكفرنا عنهم سيئاتهم
.
ومثله قوله سبحانه في سورة العصر : ( وَالْعَصْرِ *
إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ *
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ، وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ
وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ) .
وأمّا كفاية الإيمان والعمل الصالح ،
فقط ، وعدم لزوم شيء آخر من المعارف والعقائد والأعمال ، فليست الآية ، بصدد بيانها نفياً أو إثباتاً ، وإنّما
يُرجع فيها إلى الآيات الأُخر .
وإذا أردت أن تصوغ الجواب في أُسلوب
منطقي ، فقل : إنّ الحصر في
__________________
الآية ، حَصْرٌ نِسبيٌ إضافيٌ ،
بمعنى أنّ المؤثر في النجاة من النار ، والفوز بالجنة ، إنّما هو الإيمان والعمل الصالح ، وأمّا عدم دخالة شيء آخر كالأصول الثلاثة التي يتبناها اليهود والنصارى أو دخالته ، فليست الآية في مقام تبيينه إثباتاً أو نفياً
، حتى يكون دليلاً على إقرار الآية بشرعية الشرائع السابقة .
وبعبارة أخرى : إنّ الآية ساكتة عن
بيان ما هو حقيقة الإيمان بالله وما هو شرطه ، وما هو المقصود من العمل الصالح ، وكيف يتقبل ، وإنّما يطلب ذلك من سائر الآيات .
وقد دلّت الآيات القرآنية على أنّ
الإيمان بالله لا ينفك عن الإيمانِ بأنبيائه ، والإيمانُ بأنبيائه ، لا ينفك عن الإيمانِ بنبيه الخاتم ، قال سبحانه : ( فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ
فِي شِقَاقٍ ) .
كيف وقد عَدّت الآيات القرآنية
الإيمانَ بالرسول مُقَوِّماً لحقيقة الإيمان ، فقالت : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ
آمَنُوا بِاللَّـهِ وَرَسُولِهِ )
* * *
إلى هنا تمّ البحث عن عالمية رسالة
الرسول الأكرم ، وتمّ ردّ الشبهات التي قد تُورد حوله ، ويقع البحث في السمة الثانية لرسالته وهي خاتميتها ، وهو من الموضوعات المهمّة التي لا يكون المُسْلِمُ مُسْلِماً إلّا بالإيمان بها .
* * *
__________________

السمة الثانية
خاتمية
الرسالة
إتفقت الأُمّة الإسلامية عن بكرة
أبيها ، على أنّ نبيّها محمداً صلى الله عليه وآله ، خاتم النبيين ، وأنّ شريعته خاتمة الشرائع ، وكتابه خاتم الكتب والصحف ، فهو آخر السفراء الإلهيين ، أُوصِدَ به بابُ الرسالة والنبوّة ، وخُتِمت به رسالة السماء إلى الأرض ، وأنّ دينَ نبيِّها ، دينُ الله الأبدي ، وأنّ كتابه ،
كتابُ الله الخالد ، وقد أنهى الله إليه كل تشريع ، فاكتملت بدينه وكتابه الشرائع السماوية التي هي رسالة السماء إلى الأرض .
ويدلّ على ذلك نصوص من الكتاب
والسنّة ، نستعرضها فيما يلي :
أ ـ الخاتمية في الكتاب العزيز
لقد نصّ القرآن الكريم على الخاتمية
تنصيصاً لا يقبل الشك ، ولا يرتاب فيه من له أدنى إلمام باللغة العربية ، وذلك في مواضع :
١ ـ التنصيص على أنّه خاتم النبيين
قال سبحانه : ( مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ
مِّن رِّجَالِكُمْ ، وَلَـٰكِن رَّسُولَ اللَّـهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ، وَكَانَ اللَّـهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ) .
__________________
وتتضح دلالة الآية بنقل سبب نزولها :
تبنّى رسول الله صلى الله عليه وآله
، زيداً ، قبل بعثته . وكان العرب يُنَزِّلونَ الأدعياء منزلةَ الأبناء في أحكام الزواج والميراث ، فأراد سبحانه أن
ينسخ تلك السنة الجاهلية ، فأمر رسوله بتزوّج زينب ، زوجة زيد ، بعد مفارقته لها . فأوجد ذلك الزواج ضجة بين المنافقين ، والمتوغلين في النزعات الجاهلية ، فأخمد الله تعالى أصواتهم بقوله : ( مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ ) ، أي من الذين لم يلدهم ، ومنهم زيد ، ( وَلَـٰكِن رَّسُولَ اللَّـهِ ) وهو لا يترك ما أَمره الله به ، ( وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ) أي آخرهم ، ختمت به النبوة ، فلا نبي بعده ، ولا شريعة سوى شريعته ، فنبوته أبدية ، وشريعته باقية إلى يوم القيامة .
الخاتم وما يراد منه
الخاتم ، بفتح التاء ، كما عليه
قراءة عاصم ، أو بكسرها كما عليه الباقون ، يدلّ على أنّ باب النبوة ختمت به . وذلك لأنّه على الكسر ، إسم فاعل من ختم يختم ، فهو خاتِم ، وعلى الفتح ، يحتمل وجوهاً ثلاثة :
أ ـ إنّه اسم بمعنى ما يختم به ، أي
المختوم به باب النبوة ، فوجوده صلى الله عليه وآله في سلسلة الأنبياء ، كالختم والإمضاء في الرسائل . فكما أنّ الرسائل تختم في نهايتها ، بالخَتْم والإمضاء ، فكذا سلسلة الأنبياء ختمت بوجوده ، فهو خاتم الأنبياء .
ب ـ إنّه فعل ، « خَاتَمَ » كـ « ضارَبَ
» ، فهو صلى الله عليه وآله خَتَم بابَ النبوة .
ج ـ إنّه اسم بمعنى « آخر » ، أي آخر
النبيين ونهايتهم .
قال أبو محمد الدميري في منظومته :
والخاتِم الفاعِل قُل بالكسرِ
|
|
وما به يُختَمُ فتحاً يجري
|
__________________
فأشار في هذا البيت إلى الوجهين ،
وأنّه بالكسر إسم فاعل ، وبالفتح إسمٌ بمعنى ما يختم به .
وقال البيضاوي : « وخاتم النبيين :
آخرهم الذي ختمهم » .
وفي هذا إشارة إلى المعنى الثالث .
ثم إنّ الختم له أصل واحد ، وهو بلوغ
آخر الشيء ، يقال : ختمت العمل ، وختم القاريء السورة . والختم ، وهو الطبع على الشيء ، فذلك من هذا الباب أيضاً ، لأنّ الطبع على الشيء لا يكون إلّا بعد بلوغ آخره .
وقد جاء هذا اللفظ في القرآن في
موارد لا يشذّ واحد منها عن هذا الأصل ، فمن ذلك .
قوله تعالى : ( يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ *
خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ) ، أي من الشراب
الخالص الذي لا غش فيه ، تختم أوانيه وتسدّ بمسك .
وقوله تعالى : ( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ
أَفْوَاهِهِمْ ، وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) . أي نطبع على
أفواههم ، فتوصد ، وتتكلم أيديهم وأرجلهم .
فاتضح مما ذكرناه ، أنّ الآية صريحة
في أنّ النبي الأكرم ، نهاية سلسلة الأنبياء ، وأنّه قد ختم بنبوته باب النبوة وأوصده إلى يوم القيامة .
__________________
تشكيك ضئيل
إنّ هنا تشكيكاً اختلقته بعض الطوائف
الخارجة عن الإسلام ، العميلة لأعدائه ، فقالت إنّ المراد من الخاتم في قوله ، عزّ من قائل : ( خَاتَمَ النَّبِيِّينَ ) ، الحِلْية التي يزيّن بها الإصبع . والمراد أنّ النبي الأكرم زينة النبيين ، كما
أنّ الخاتم زينة يد الإنسان ، فهو بين تلك العصابة ، كالخاتم في يد لابسه .
وهذه شبهة واهية للغاية ، نجمت ـ إن
لم تكن متعمدة ـ من الجهل باللغة العربية ، وذلك لوجوه :
أولاً ـ إنّه لم يعهد إستعارة
الخاتم في اللغة العربية ، للزينة ، فلا يقال إنّه خاتم القوم ، أي زينتهم وحليتهم ، فكيف يستعيره القرآن في هذا المعنى ، وهو في قمة البلاغة ؟! .
وثانياً ـ لو كان الهدف
تشبيه النبي بالخاتم في كونه حلية ، لكان المناسب أن يشبهه بالتاج والإكليل ، إذْ هما أبلغ في بيان المقصود ، أعني الزينة .
وثالثاً ـ إنّ الخاتم ليس
له إلّا أصل واحد ، وهو ما يختم به ، ولو استعمل في حلية الإصبع ، فذلك من باب إطلاق الكلّي على الفرد ، لأنّ الدارج في عهد الرسالة إنهاء الكتاب بالخاتم ، فكانت خواتمهم أختامهم ، لا أنّه وُضع لحلية الإصبع وضعاً على حدة .
ويدلّ على ذلك ما رواه ابن سعد في
طبقاته ، من أنّ رسول الله أرسل الرسل إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام وكتب إليهم كتبا ، فقيل يا رسول الله : إنّ الملوك لا يقرأون كتاباً إلّا مختوماً ، فاتّخذ رسول الله صلى الله عليه وآله
يومئذ ، خاتماً من فضة ، فَصُّهُ منه ، نقشه ثلاثة أسطر :
« محمد » ، « رسول » ، « الله » ،
وختم به الكتب .
__________________
فظهر ممّا قدمنا أنّ الخاتم بمعنى ما
يختم به ، وله مصاديق ، فتارة يختم بحلية الإصبع ، وأُخرى بشيء مثل الشمع ، وثالثة بمثل الطين ، وأشياء أُخرى درجت حديثاً .
وأضعف من ذلك إحتمال أن
يكون المراد من قوله تعالى : ( وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ) ، أنّه مصدِّقٌ
للنبيين ، فاستعارة الخاتم له ، لأجل أنّه صلى الله عليه وآله مُصَدِّقُهم كالخاتم المصدِّق لمضامين الكتب .
ويَرُدُّهُ ، أولاً : لو
كان المراد هو تصديق النبيين ، فلم عدل عن التعبير الصريح ، إلى هذا التعبير المعقد ، مع أنّه استعمل لفظ مصدّق دون الخاتم عندما أراد بيان تصديق نبيٍّ لنبيٍّ آخر ؛ فقال : ( وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّـهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ
يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ ) .
وكذلك عندما أراد بيان تصديق كتاب
لكتاب ؛ فقال : ( وَأَنزَلْنَا
إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ، مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ
وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ) .
وثانياً ـ ليس الخاتم نفسه
مصدِّقاً ، وإنّما هو آلة التصديق ، وما يُصَدَّق به ، وإنّما المصدِّق من يستعمل الختم ، وهذا بخلاف النبي فإنّه بنفسه مصدق .
وَلَعَمْري ، لولا شيوع التشكيك بين
البسطاء من غير العرب ، لكان الأولى ترك التعرض له .
نعم ، هنا تشكيك آخر قابل للطرح
والذكر ، وإليك بيانه .
تشكيك آخر
إنّ المختوم في الآية المباركة هو
منصب النبوة لا الرسالة ، حيث قال : ( خَاتَمَ النَّبِيِّينَ ) . وخَتْم باب النبوة ، لا يلازم ختم باب الرسالة ، فهو مفتوح على مصراعيه في وجه الأُمة ، ولم يوصد .
__________________
والجواب : إنّ رفع التشكيك
يتوقف على تبيين الفرق بين النبوة والرسالة ، وبالتالي يعلم الفرق بين النبي والرسول ، فنقول :
النُّبُوَّة منصب معنوي
يستدعي الإتصال بالغيب بإحدى الطرق المألوفة ، والرسالة سفارة للمرسَل ( بالفتح ) من جانبه سبحانه لإبلاغ ما أُوحي إليه ، إلى المُرْسَل إليه ، أو تنفيذ ما تحمَّله منه سبحانه ، في الخارج .
وبعبارة أخرى : النبوة ، تحمل
الأنباء ؛ والرسالةُ ، إبلاغُ ما تَحَمَّلُه من الأنباء ، بالتبشير والإنذار ، والتنفيذ .
ولأجل مناسبة الوحي لمقام النبوة ،
والتبليغ لمقام الرسالة ، يقول سبحانه : ( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا
أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ ) .
ويقول : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا
أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ) . ويقول : ( قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ
لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا ) .
وفي ضوء هذا يعلم الفرق بين النبيّ
والرّسول ، فالنبيُّ هو الإنسان الموحى إليه بإحدى الطُرق المعروفة ، والرسول هو الإنسان القائم بالسفارة من الله ، للتبشير ، أو لتنفيذ عمل في الخارج ، أيضاً .
إذا عرفت ذلك ؛ فنقول : لو فرض إيصاد
باب النبوة ، وختم نزول الوحي إلى الإنسان ، كما يفيده قوله : ( خَاتَمَ النَّبِيِّينَ ) ، فعند ذلك يختم باب الرسالة الإلهية أيضاً ، لأنّ الرسالة هي إبلاغ أو تنفيذ ما تحمله الرسول عن طريق الوحي ، فإذا انقطع الوحي والإتصال بالمبدأ الأول ، فلا يبقى للرسالة موضوع .
__________________
فإذا كان النبي الأكرم خاتم النبيين
، أي مختوماً به الوحي والاتصال بالغيب ، فهو خاتم الرُّسل أيضاً . وهذا واضح لمن أمعن النظر في الفرق بين النبوة والرسالة .
* * *
٢ ـ التنصيص على أنّ القرآن لا يأتيه الباطل
قال سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ
لَمَّا جَاءَهُمْ ، وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ، تَنزِيلٌ
مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) .
والمقصود من الذكر هو القرآن ، لقوله
سبحانه : ( ذَٰلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ
مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ) .
أضف إليه أنّ قوله : ( وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ ) ، يُفَسِّرُ الذكر ، وهو لا ينطبق إلّا على القرآن .
والضمير في قوله : ( لَّا يَأْتِيهِ ) ، يرجع إلى الذكر ، ومفاد الآية أنّ الباطلَ لا يتطرق إليه ، ولا يجد إليه سبيلاً أبداً ، بأي نحو كان ، ودونك صُوَرَهُ :
١ ـ « لا يأتيه الباطل » ، أي لا
ينقص منه شيء ولا يزيد فيه شيء .
٢ ـ « لا يأتيه الباطل » ، أي لا
يأتيه كتاب يبطله وينسخه ، فهو حق ثابت لا يُبَدَّل ولا يُغَيَّر ولا يُتْرَك .
٣ ـ « لا يأتيه الباطل » ، أي لا
يتطرق الباطل إليه في إخباره عمّا مضى ، ولا في إخباره عمّا يأتي ، ولا يتخلف الواقع عنه قيد شعرة .
وعلى ضوء هذا ، فإطلاق الآية ينفي
كلّ باطل يتصور ، وأنّ القرآن حقّ لا
__________________
يدخله الباطل إلى يوم القيامة ،
ومثل هذا لا يصح أن يكون حجة في أمد محدود ، بل يكون متَّبعاً ، بلا حدّ ، لأنّ خاصِّيَّة الحقِّ المُطلق ، والمصون عن تطرق
الباطل مطلقاً ، هو كونه حجة لا إلى حدٍّ خاص ، والله سبحانه تعهد في الذكر الحكيم بإحقاق الحق وإبطال الباطل ، كما قال : ( لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ) .
وبعبارة أخرى : إنّ
الشريعة الجديدة ، إمّا أن تكون عين الشريعة الإسلامية الحقّة ـ كما نصّت الآية ـ التي لا يقارنها ولا يدانيها الباطل ، أو
غيرها ، كلّاً أو جزءً .
فعلى الأول ، يكون إنزال الشريعة
الثانية لغواً .
وعلى الثاني ، تكون كلتا الشريعتين
حقّة ، فيلزم كون المتناقضين حقّاً ، وهو غير معقول .
فالآية صريحة في نفي أي تشريع بعد
القرآن ، وشريعة غير الإسلام ، فتدلّ بالملازمة على نفي النبوة التشريعية بعد نبوته .
نعم ، الآية لا تفي بنفي النبوة
الترويجية ، التبليغية ، لغير شريعة الإسلام ، وإنّما المتكفل له هي الآية الأُولى .
* * *
٣ ـ التنصيص على الإنذار لكل من بَلَغ
قال سبحانه : ( قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً
، قُلِ اللَّـهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَـٰذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ ) .
فالآية صريحة في أنّ النبي صار
مأموراً بالإنذار ، بقرآنه ، لكل من بلغه
__________________
إلى يوم القيامة . فمن بلغه القرآن
، فكأنّما رأى محمداً صلى الله عليه وآله ، وسمع منه ، وحيثما يأتيه القرآن ، فهو داع له ونذير .
وقوله : ( وَمَن بَلَغَ ) ، معطوف على الضمير المنصوب المتصل في قوله : ( لِأُنذِرَكُم ) ، لا على الفاعل المستتر ، أعني ضمير المتكلم . فمن بلغه القرآن ، منذَر ( بالفتح ) لا منذِر .
* * *
٤ ـ التنصيص على أنّه نذير للعالمين
قال تعالى : ( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ
الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ) .
هذه الآية كما تدلّ على عالمية
رسالته ، دالّة على خاتميته إلى يوم القيامة . واختلف أهل اللغة في مفاد العالمين ، ولكن المراد به في المقام كلّ الناس ، ونظيره قوله تعالى ـ حاكياً عن لسان لوط عليه السلام ـ : ( قَالَ إِنَّ هَـٰؤُلَاءِ
ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ *
وَاتَّقُوا اللَّـهَ وَلَا تُخْزُونِ * قَالُوا : أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ ) .
أي قالوا في جوابه : أوَ لَيْس كنا
قد نهيناك أنْ تستضيف أحداً من الناس . وبذلك يتضح عدم صحة ما يُروى في تفسير العالمين بأنّ المراد الجن والإنس ، أو الجنّ والملائكة ، إذ لا معنى لنهي قوم لوط ، نبيَّهم عن استضياف هؤلاء .
__________________
ونظيره قوله سبحانه ـ حكاية عن لوط عليه
السلام في الردّ على قومه ـ : ( أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ
الْعَالَمِينَ ) ، فالمرادُ منه هو
الناس ، بلا ريب ، لا الجن ولا الملائكة .
وما ذكرنا من المعنى هو المروي عن
الإمام الصادق عليه السلام ، قال : « عنى به الناس ، وجعل كلَّ واحدٍ عالماً » .
وعلى كل تقدير ، فسواء أكان المراد
من العالَمين في الآيات الأُخر غير هذا ، أو كان هذا ، فالمراد من قوله : ( لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ) ، عمومُ البشر ، أو مطلق من يعقل . فالآية صريحة في أنّ إنذاره لا يختص بناس دون ناس ، أو زمان دون زمان ، فهو على إطلاقه ، يعطي كونه نذيراً للأُمم البشرية ، بلا قيدٍ وحدّ .
وربما يقال إنّ « العالمين
» يطلق ويراد منه الجمّ الغفير من الناس ، كما في قوله سبحانه : ( يَا بَنِي
إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي
فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ) ويقال : « رأيت
عالماً من الناس » ، يراد به الكثرة . وعند ذاك لا تكون الآية صريحة في عموم رسالته لجميع البشر إلى يوم القيامة .
والجواب : إنّ المتبادر من
اللفظ هو عموم الخلائق ، كما في قوله سبحانه : ( قَالَ فِرْعَوْنُ : وَمَا رَبُّ
الْعَالَمِينَ *
قَالَ : رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ ) . واستعماله في غير
ذلك يحتاج إلى قرينة ، ولأجل ذلك يحمل على المعنى الحقيقي في الآيات التالية :
( وَمَا اللَّـهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِينَ ) .
( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ
مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ ) .
__________________
( أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ ) .
( أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ
مِّنَ الْعَالَمِينَ ) .
وأما ما ذُكر من الآية ، فليس ظاهراً
في كون المراد منه الجمّ الغفير ، بل كلّ الناس ، غاية الأمر أنّها خُصِّصت بأَهلِ عالمي زمانهم ، مثل قوله سبحانه : ( إِنَّ اللَّـهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ
) .
وعلى أي تقدير فسواء فُسّرت الآية ،
بالجمّ الكثير من الناس ، أو خصِّصت بأهل عالمي زمانهم ، فإنّما هو لقرينة صارفة عن ظاهرها ، حيث إنّ القرآن دلّ على أنّ الأُمّة الإسلامية أفضل الأمم ، مثل قوله سبحانه : ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ) . ودلّت الأحاديث على أنّ إبنة النبيّ الأكرم ، فاطمة عليها السلام ، مثل مريم أو أفضل منها . فهذه وتلك صارتا قرينتين على صرف الآيتين عن ظاهريهما ، وأمّا غيرهما فيُحْمل على المعنى الحقيقي ، أي الناس كلّهم إلى يوم القيامة .
* * *
__________________
٥ ـ التنصيص على كونه مرسلاً إلى الناس كافّة
قال سبحانه : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً
لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ، وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ) .
المتبادر من الآية كون « كافّة » ،
حالاً من النّاس ، قُدِّمت على ذيها ، وتقدير الآية : وما أرسلناك إلّا للناس كافّة ، بشيراً ونذيراً ، وقد استعمل « كافّة » بمعنى « عامّة » ، في القرآن الكريم كثيراً ، قال سبحانه : ( وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ) . والآية دليل على كون رسالته عالمية ، كما أنّها دليل على أنّه كان مبعوثاً إلى كافة الناس إلى يوم القيامة .
وأمّا جعل لفظ ( كَافَّةً ) حالاً من الضمير المتصل في قوله : ( أَرْسَلْنَاكَ ) ، ليعود معنى الآية : وما أرسلناك إلّا أن تَكُفَّهُم وتَرْدَعَهُم ،
فَبعيد عن الأذهان ، أضف إلى ذلك أنّ قوله في ذيل الآية : ( بَشِيرًا وَنَذِيرًا ) ،
كافٍ في هذا المعنى ، لأنّ التبشير والإنذار يتكفلان الكفّ والردع عن المحرمات ، وقد فهم الصحابة من الآية ما ذكرناه .
إشارات إلى الخاتمية في الذكر الحكيم
ما ذكرنا من الآيات كانت تصريحات بالخاتمية
، وهناك آيات تشير إليها إذا أُمعن النظر في مضامينها ، وإليك نقل بعضها .
١ ـ قال سبحانه : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ
بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ، فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّـهُ ،
وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ
__________________
مِنَ
الْحَقِّ ، لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ، وَلَوْ شَاءَ
اللَّـهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ، وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ . . ) .
المهيمن هو الرَّقيب ، فكتاب النبي
الأكرم مهيمن على جميع الكتب النازلة من قبل وهو ( مهيمناً عليه ) متمم
لقوله : ( مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ
مِنَ الْكِتَابِ ) . تتميم
إيضاح ، إذ لولاه لأمكن أن يتوهم من تصديق القرآن للتوراة والإنجيل أنّه يصدِّق ما فيهما من الشرائع والأحكام ، تصديق إبقاء ، من غير تغيير وتبديل ، لكن توصيفه بالهيمنة يبين أنّ تصديقه لهما بمعنى تصديق أنّها شرائع حقّة من عند الله ، وأنّ لله أن يتصرف فيها ما يشاء بالنسخ والإكمال ، كما يشير إليه
قوله ـ في ذيل الآية ـ : ( وَلَوْ شَاءَ اللَّـهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً
وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ) .
٢ ـ قال سبحانه : ( أَفَغَيْرَ اللَّـهِ أَبْتَغِي
حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا ، وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ
مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ ، فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ *
وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ،
وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) .
وقوله : ( وتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ . . . ) ، يدلّ على إيصاد باب الوحي ، وانقطاعه إلى يوم القيامة ، وتمامية الشرائع النازلة من الله سبحانه ، طوال قرون ،
إلى سفرائه .
والمراد من الكلمة ، الشرائع الإلهية
، كما في قوله : ( وصَدَّقَتْ
بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِه ) ، ومعنى الآية :
تمّت الشرائع السماوية بظهور الدعوة المحمدية ، ونزول الكتاب المهيمن على جميع الكتب ، وصارت مستقرة في محلها ، بعدما
__________________
كانت تسير دهراً طويلاً في مدارج
التدرج ، بِمَنْحِ نُبُوّة بعد نُبُوّة ، وإنزال شريعة بعد شريعة .
والدليل على أنّ المراد من الكلمة ،
الشرائع الإلهية ، هو قوله : ( وَلَوْ شَاءَ اللَّـهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ) ،
أي جعلكم مقتفين لشريعة واحدة ، وبما أنّ هذه الدعوة الإلهية الواردة في القرآن الكريم ، صدق لا يشوبه كذب ، وما فيه من الأحكام عدل لا يخالطه ظُلم ، تمّت الشريعة السماوية ، فلا تتبدل كلماتها وأحكامها من بعد . وهذا المعنى يظهر عند التأمل في سياق الآيات .
إلى هنا تم البحث عن الآيات الدالّة
على الخاتمية بصراحة أو بالتلويح والإشارة ، ولأهمية الإعتقاد بها تضافرت فيها النصوص عن النبي الأكرم وعترته الظاهرة ، غير أنّ سرد كل ما وقفنا عليه عنهم عليهم السلام ، يستدعي وضع رسالة مستقلة ، فنكتفي بنقل بعضها عن النبي الأكرم ، ووصيِّه الإمام عليّ عليه السلام ، ونترك الباقي إلى محله .
* * *
ب ـ الخاتمية في الأحاديث الإسلامية
لقد حصحص الحق ، بما أوردناه من
النصوص القرآنية ، وانْحَسَر الشَّكُ عن مُحيّا اليقين ، فلم تَبْقَ لمجادِلٍ شُبْهَةٌ في أنّ رسول الله ، خاتمُ
النبيين والمرسلين ، وأنّ شريعته خاتمةُ الشرائع ، وكتابَه خاتم الكتب . وإليك فيما يلي كَلِمٌ ذُرِّيَّة ، من صاحب الشريعة ووصيه في هذا المجال :
١ ـ خرج رسول الله صلى الله عليه وآله
من المدينة إلى غزوة تبوك ، وخرج الناس معه ، فقال له عليٌّ ( عليه السلام ) : « أَخْرُجُ معك ؟ » . فقال : « لا »
، فبكى عليٌّ ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله : « أما ترْضى أن تَكونَ مِنِّي
بمنزلة هارونَ من موسى ، إلَّا أَنَّه لا نَبِيَّ بَعْدي » ، أو « ليس بعدي نبي »
؟ .
وهذا الحديث هو المشهور بحديث
المنزلة ، لأنّ النبي نزّل نفسه منزلة
موسى ، ونزّل عليّاً مكان هارون ،
وهو صحيح متفق عليه بين الأُمّة ، لم يشكّ أحد في صحّة سنده ، ولا سنح في خاطر كاتب أن يناقش في صدوره ، وحسبُك أنّه أخرجه البخاري في صحيحه ، في غزوة تبوك ، ومسلم في صحيحه في باب فضائل عليّ عليه السلام ، وابن ماجه في سُنَنه في باب فضائل أصحاب النبي
، والحاكم في مستدركه ، في مناقب عليّ عليه السلام وإمام الحنابلة في مسنده بطرق كثيرة ، وأمّا الشيعة فقد أصفقوا على نقله في مجامعهم الحديثية .
ودلالة الحديث على الخاتمية واضحة ،
كدلالته على خلافة علي ( عليه السلام ) للنبي صلى الله عليه وآله بعد رحلته .
٢ ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله
: إنّ مَثَلي وَمَثَل الأنبياء من قبل ، كمثَلَ رجل بنى بيتاً ، فأحسنه وأجمله ، إلّا موضع لَبِنَةٍ من زاوية ، فجعل الناسَ يطوفون به ويعجبون له ، ويقولون : هلّا وضعت هذه اللَّبنة . قال : « فأنا اللَّبنة ، وأنا خاتم النبيين » .
٣ ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله
: لي خمسة أسماء : أنا محمد ؛ وأحمدُ ؛ أنا الماحي ، يمحو الله بي الكفر ؛ وأنا الحاشر ، يُحشر الناس على
__________________
قدمي ؛ وأنا العاقب ، الذي ليس بعده
النبي » .
٤ ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله
: « أُرسلت إلى الناس كافة ، وبي خُتم النبيون » .
٥ ـ قال رسول الله صلى الله عليه وآله
: « فُضّلت بِسِت :
أُعطِيتُ جوامِعَ الكَلِم ، ونُصِرْتُ
بالرُّعب ، وأُحلّت لي الغنائم ، وجُعِلَتْ لي الأَرضُ طَهوراً ومسجداً ، وأُرْسِلْتُ إلى الخَلْقِ كافّة ، وخُتم بي النبيون
»
.
هذه أحاديث خمسة عن خاتم النبيين ،
والمروي في هذا المجال عنه صلى الله عليه وآله أكثر من ذلك .
تنصيص الإمام عليّ على الخاتمية
٦ ـ قال علي عليه السلام : « . . إِلى
أَنْ بَعَثَ الله مُحَمداً صلى الله عليه وآله ، لإنجاز عِدَته ، وتمام نُبُوَّته ، مأخوذاً على النبيين ميثاقُه ، مشهورةً
سِماتُه ، كريماً ميلادُه » .
٧ ـ قال علي عليه السلام : « أَرْسَلَهُ
على حين فَتْرَةٍ من الرُّسل ، وتنازُع من الألسن ، فَقَفّى به الرسل ، وختم به الوحي » .
٨ ـ قال علي عليه السلام وهو يلي غسل
رسول الله صلى الله عليه وآله : « بأبي أنتَ وأُمّي ، لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك ، من النُّبوة والإنباء ، وأخبار السماء ، خصصت حتى صرت مُسَلّياً عمن سواك ، وعَمَمْتَ
__________________
حتى صار الناس فيك سواء » .
٩ ـ قال علي عليه السلام : « أمّا
رسول الله صلى الله عليه وآله فخاتم النبيين ، ليس بعده نبي ولا رسول ، وختم برسول الله الأنبياء إلى يوم القيامة » .
١٠ ـ قال علي عليه السلام في خطبة
الأشباح : « . . . بل تعاهدهم ( العباد ) بالحجج على أَلسن الخيرة من أنبيائه ، ومتحملي ودائع رسالاته ، قَرْناً
فقرناً ، حتى تمّت بنبينا محمد ( صلى الله عليه وآله ) حُجَّتُهُ ، وبلغ المَقْطَعَ
عُذْرُهُ ونُذُرُه » .
* * *
ثم إنّه قد أُورد على الخاتمية شبهاتٌ
واهية ، غنية عن الإجابة ، يقف عليها كلُّ من له إلمام بالكتاب والسُّنة والأدب العربي ، وإنّما هي صَخَب وهياج وجدال باطل ، يؤثّر في الجاهلين . ولأجل ذلك إستخدمتها القاديانية ، والبابية ، والبهائية ، ذريعة لاصطياد السذج من الناس غير العارفين باللُّغة ، ولا بالكتاب والسنّة ، ولأجل إراءة ضآلة هذه الشبهات نأتي بشبهة واحدة منها ، تُعَدُّ من أقوى شبهاتهم ، ثم نعطف عنان القلم إلى تحرير أسئلة صحيحة مطروحة حول الخاتمية ، وهي قابلة للبحث والنقاش ؛ فإليك البيان :
شبهة واهية
كيف يدّعي المُسلمون انغلاق باب
النبوة والرسالة ، مع أنّ صريح كتابهم قاضٍ ، بانفتاح بابها إلى يوم القيامة ، وقد جاء في كتابهم قوله : ( يَا بَنِي آدَمَ ،
__________________
إِمَّا
يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ ، فَمَنِ
اتَّقَىٰ وَأَصْلَحَ ، فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) .
فقوله : ( إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ ) ـ مقروناً بنون التأكيد ـ كاشفٌ عن عدم إيصاد باب النبوة ، وأنّه مفتوح .
والجواب : إنّ هذه الشبهة
حصلت من الجمود على نفس الآية ، والغفلة عن سياقها . فإنّ الآية تحكي خطاباً خاطب به سبحانه بني آدم في بدء الخلقة ، وفي الظرف الذي هبط فيه آدم إلى الأرض ، وقد شرع القرآن بنقل القصة والخطابات في سورة الأعراف من الآية الحادية عشر ، وختمها في الآية السابعة والثلاثين ، فبدأ القصة بقوله :
( وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا
لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ، فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ ، لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ ) .
وختمها بقوله :
( قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ، وَلَكُمْ فِي
الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ *
قَالَ : فِيهَا تَحْيَوْنَ ، وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ) .
وعند ذلك ، خاطب سبحانه أبناء آدم
بخطابات أربعة ، تهدف إلى لزوم الطاعة ، والتحرز عن إطاعة الشيطان ، وأنّ لهم في قصة أبيهم وأُمهم ، عبرةً واضحةً ، فقال :
١ ـ ( يَا بَنِي آدَمَ ، قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا
يُوَارِي سَوْآتِكُمْ . . ) .
٢ ـ ( يَا بَنِي آدَمَ ، لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ ، كَمَا
أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ . . ) .
٣ ـ ( يَا بَنِي آدَمَ ، خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ .
. . ) .
__________________
٤ ـ ( يَا بَنِي آدَمَ ، إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ
يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ ) .
فالخطاب الأخير ، ليس إنشاءَ خطاب في
عصر الرسالة ، حتى ينافي ختمها ، بل حكاية للخطاب الصادر بعد هبوط أبينا آدم إلى الأرض .
والذي يوضح ذلك قوله سبحانه في سورة
أُخرى :
( قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا ، بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ
عَدُوٌّ ، فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى ، فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ ) .
فقوله : ( فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي
هُدًى ) ، يتحد مع الآية السابقة ،
مضموناً .
وهذا النموذج من الشبهات يوقفك على
حالة سائر ما استدلّت به الفرق الباطلة في هذا المجال ، من القرآن ، ولذلك ضربنا عن هذه الشبهات صفحا
. ونعرّج إلى أسئلة جديرة بالبحث والنقاش ، حول الخاتمية طَرَحها مرور الزمان ، وتكامُلُ الحضارات ، وتَفَتُّح العقول ، على بساط البحث . فلأجل أهميتها ، نطرحها ، ثم نجيب عنها بما يناسب وضع الكتاب .
* * *
__________________
* أسئلة
حول الخاتمية
١ ـ لماذا حُرمت الأُمَّة من النبوة التبليغية ؟ .
٢ ـ لماذا حُرِمَتِ الأُمَّة من الإطّلاع على الغيب ؟ .
٣ ـ كيف تكونُ الشريعة ثابتة مع أنَّ التحولَ ناموس عام ؟ .
٤ ـ كيف تكون الشريعةُ ثابتة مع أنّ لكلّ عصرٍ اقتضاءً خاصاً ؟
.
٥ ـ هل القوانين المحدودة تفي بالحاجات غير المتناهية ؟ .
أسئلة حول الخاتمية
السؤال الأول
|
|
لماذا
حُرمت الأُمة من النبوة التبليغية ؟
إنّ النبي إذا بُعث بشريعة جديدة ،
وكتابٍ جديد ، تكون نبوَّته تشريعية ، وإذا بعث لغايةِ دعم أحكام شريعة سالفة ، فالنبوة ترويجية أو تبليغية . والقسم الأول من الأنبياء منحصر في خمسة ، ذكرت أسماؤهم في القرآن . وأمّا القسم الثاني ، فيشكّله أكثرية الأنبياء ، لأنّهم بُعثوا لترويج الدين النازل على أحد أُولئك ، فكانت نبوتهم تبليغية .
فعندئذٍ ، يُطرح السؤال التالي : إنّ
نبيَّ الإسلام جاء بأكمل الشرائع وأتمّها ، ولذلك أُوصد باب النبوة التشريعية ، ولكن لماذا أُوصد باب النبوة التبليغية التي منحها الله للأُمم السالفة ، فإنّ الشريعة مهما بلغت من الكمال والتمام ، لا تستغني عمن يقوم بنشرها وتجديدها ، لكي لا تندرس ، حتى يتم إبلاغها من السلف إلى الخلف بأُسلوب صحيح . فلِمَ أُوصد هذا الباب ، بعدما كان مفتوحاً في وجه الأُمم الماضية ؟ .
الجواب :
إنّ انفتاح باب النبوة التبليغية في
وجه الأُمم السالفة وإيصاده بعد
__________________
نبي الإسلام ، لا يعني أنّ الأمم
السالفة تفرّدت بها لفضيلة استحقتها دون الخلف الصالح ، أو أنّ الأمّة الإسلامية حرمت لكونها أقلّ شأناً من الأُمم الخالية ، بل الوجه هو حاجة الأُمم السالفة إليها وغناء الأُمة الإسلامية عنها ، لأنّ المجتمعات
تتفاوت إدراكاً ورشداً فربّ مجتمع يكون في أخلاقه وشعوره كالفرد القاصر ، لا يقدر على أن يحتفظ بالتراث الذي وصل إليه ، بل يضيعه ، كالطفل الذي يمزق كتابه وقرطاسه ، غير شاعر بقيمتهما .
ومجتمع آخر بلغ من القيم ، الفكرية
والأخلاقية والإجتماعية ، شأواً بعيداً ، فيحتفظ معه بتراثه الديني الواصل إليه ، بل يستثمره إستثماراً جيداً ،
وهو عند ذاك غني عن كل مروّج يروّجُ دينه ، أو مُبَلِّغ يذكِّره بمنْسيَه ، أَو مُرَبٍّ
يرشده إلى القيم الأخلاقية ، أو معلّم يعلّمه معالم دينه ، إلى غير ذلك من الشؤون .
فأفراد الأُمم السالفة كانوا كالقُصَر
، غير بالغين في العقلية الإجتماعية ، فما كانوا يعرفون قيمة التراث المعنوي الذي وصل إليهم ، بل كانوا يلعبون به لعب الصبي في الكتاتيب ، بكتابه أو قرطاسه ، فيخرقه ويمزقه ولا يبقي شيئاً ينتفع منه إلى آخر العام الدراسي . ولهذا كان على المولى سبحانه أن يبعث في كل جيل منهم
نبيّاً ليذكّرهم بدينهم ، ويجدد به شريعة من قبله ، ويزيل ما علاها من شوائب التحريف .
وأمّا المجتمع البشري بعد بعثه
الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقد بلغ من المعرفة والإدراك والتفتّح العقلي شأواً ، يتمكن معه من حفظ تراث نبيّه وصيانة كتابه عن طوارق التحريف والضياع ، حتى بلغت عنايته بكتابه الديني إلى حدّ تأسيس علوم عديدة لفهم كتابه . فازدهرت ، تحت راية القرآن ، ضروب من العلوم والفنون . فلأجل ذلك الرشد الفكري ، جعلت وظيفة التبليغ والترويج وصيانة التراث على كاهل نفس الأُمّة ، حتى تبوّأَت وظيفة الرسل في التربية والتبليغ ، واستغنت عن بعث نبي مجدد .
ولأجل ذلك يقول سبحانه : ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ
لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ) .
__________________
وقال سبحانه : ( وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ
إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ) .
وقد ظهرت طلائع هذا الإعتماد على الأُمّة
من قوله سبحانه : ( فَلَوْلَا
نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا
قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) .
قال رسول الله صلى الله عليه وآله : «
إذا ظهرت البِدَعْ ، فليُظْهر العالِمُ عِلْمَه ، فمن لم يفعل ، فعليه لعنة الله » .
وقال الإمام الباقر : « إنّ الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر سبيلُ الأنبياء ، ومنهاج الصلحاء ، وفريضة تقام بها الفرائض ، وتؤمَن المذاهب ، وتَحِلُّ المكاسب ، وتُرَدُّ المَظالم ، وتَعْمُر الأرض ، وينتصف من الأعداء ، ويستقيم الأمر » .
وما ذكرنا من الجواب يلائم أُصول أهل
السنة في دور الأُمة وعلمائها في حفظ الشريعة . ولكن هناك جواب آخر أصحّ وأجمع .
وحاصله : إنّ أئمّة الشيعة
بحكم حديث الثَّقلين ، يحملون علم النبي في المجالات المختلفة سواء في مجال المعارف والعقائد ، أو في مجال الأحكام والوظائف ، أو في مجال الإحتجاج والمناظرة ، أو في مجال الأجوبة على الأسئلة المستجدة ، كل ذلك بتعليم من الله سبحانه ، من دون أَن يكونوا أنبياء يوحى إليهم .
فلأجل ذلك ، كل إمام في عصره ، يقوم
بمهمة التبليغ والترويج ، ويجلي الصدأ عن وجه الدين ، ويردُّ شبهات المبطلين ، فاستغنت بهم الأُمّة عن كل نبوة
__________________
ترويجية ، والتاريخ يشهد بأنّ كل
إمام من أئمة الشيعة الإثني عشرية ، قام بأعباء مهمة التبليغ ، وإيصال مفاهيم الإسلام الصحيحة إلى الأمة ، ولقد عانوا في ذلك من المشاق ، ولاقوا من الأهوال ما لاقاه جدّهم النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم
.
* * *
__________________
أسئلة حول الخاتمية
السؤال الثاني
|
|
لماذا
حرمت الأمة من الإطلاع على الغيب ؟
إنّ الشريعة الإسلامية ، وإن كانت
أكمل الشرائع ، والخَلَفُ من الأُمّة ، قادر على حفظ تراثه الديني ، أو أنّ العترة الطاهرة تقوم بمهمة التبليغ ، ولأجل ذلك أُوصد باب النبوة التشريعية والتبليغية ، إلّا أنّ إيصادها على الإطلاق يستلزم
انقطاع الفتوحات الباطنية عن طريق النبي المبعوث .
وذلك ، لأنّ انقطاع النبوة بمعنى
انقطاع أخبار السماء عن أهل الأرض ، وانقطاع الإطلاع على الغُيُوب ، وهذا خسران للأُمة ، مع أنّه كان مفتوحاً في وجه الأُمم السالفة ، فهل معنى ذلك أنّ الأُمّة الإسلامية أقلُّ جدارة منها ،
واستحقاقاً لها ؟ .
وحاصل السؤال أنّ إيصاد باب النبوة ،
لأجل كمال الشريعة واستغناء الأُمّة عن نبي مبلغ ، وإن كان أمراً لازماً ، غير أنّ سدّ بابِ النبوة يستلزم سدّ باب الفيوض المعنوية ، والمكاشفات الغيبية ، والمشاهدات الروحية التي تصل إلى الأُمّة عن طريق نبيّها ؛ فرفعُ النبوة وختمها ، يستلزم ذلك الحرمان .
الجواب :
إنّ سدّ باب النبوة لا يستتبع إلّا
سدّ باب الوحي في مجال تشريع الحكم ، أو في مجال تبليغ الشريعة السابقة .
وأمّا سائر الفتوحات الباطنية فهي
مفتوحة في وجه الأُمّة إلى يوم القيامة ، من غير فرق بين الإتصال بعالم الغيب عن طريق البرهنة والإستدلال والتدبر في آياته الآفاقية ، الذي يشير إليه تعالى بقوله : ( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ
حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ، أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ
عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) . وأمّا الإتصال به
بلا توسيط برهان أو دليل ، بل بمشاهده عين القلب وبصر الروح ، وشهود الحقائق العلوية ، وانكشاف ماوراء الحسّ والطبيعة من العوالم الروحية ، ومعرفة ما يجري
عليه قلمه تعالى في قضائه وقدره ، والإتصال بجنوده سبحانه وملائكته ، واستماع كلامهم وأصواتهم ، إلى غير ذلك من الأُمور ، إلّا أنّه مقام خطير يحصل لعدّة من المتحررين
عن سلوك طريق الطبيعة ، الحابسين أنفسهم في ذات الله ، العاملين بكتابه وسنّة نبيّه ،
حسب ما لهم من المقدرة والطاقة ، لتحمل الأُمور الغيبية ، ومشاهدة جلاله وجماله ، وكبريائه وعظمته ، وما لأوليائه من مقامات ودرجات وما لأعدائه من نار ولهيب ودركات .
وليس ما ذكرنا من إمكان الإتصال ،
كلمة خطابية ، أو عرفانية غير معتمِدة على الكتاب والسنّة ، بل الكتاب الحكيم يقضي بذلك عند التأمُّل والإمعان فيه :
١ ـ قال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن
تَتَّقُوا اللَّـهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا ) ، أي يجعل في قلوبكم
نوراً تُفَرّقونَ به بين الحَقّ والباطل ، وتُمَيّزون به بين الصحيح والزائف بالبرهنة والإستدلال ، أو بالشهود والمكاشفة .
٢ ـ وقال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اتَّقُوا اللَّـهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ
لَكُمْ وَاللَّـهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) .
والمراد من النور ، هو ما يمشي
المؤمن في ضوء هدايته في دينه ودنياه ، وهذا النور الذي يغمره نتيجة إيمانه وتقاه ، يوضحه قوله سبحانه : ( أَوَمَن كَانَ مَيْتًا
__________________
فَأَحْيَيْنَاهُ
وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ) .
٣ ـ وقال سبحانه : ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا
لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ) .
٤ ـ وقال سبحانه : ( كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ
الْيَقِينِ *
لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ *
ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ *
ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ) .
والمراد رؤيتها قبل يوم القيامة ،
رؤية البصيرة ، وهي رؤية القلب التي هي من آثار اليقين ، على ما يشير إليه قوله تعالى : ( وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ، وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ) . وهذه الرؤية القلبية ، غير محققة قبل يوم القيامة لمن ألهاه التكاثر ، بل مُمْتنعة في حقّه .
كما أنّ المراد من قوله : ( ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ
الْيَقِينِ ) . هو
مشاهدتها يوم القيامة ، بقرينة قوله سبحانه بعد ذلك : ( ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ) .
فالمراد بالرؤية الأُولى رؤيتها قبل
يوم القيامة ، وبالثانية رؤيتها يوم القيامة .
٥ ـ وقال سبحانه : ( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ
هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ) . فلو أنّ الإنسان جَعَلَ نفسه في مسير الهداية ، وطلبها من الله سبحانه ، لزاده
تعالى هدىً ، وآتاه تقواه .
٦ ـ وقال سبحانه : ( إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا
بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ) . وهذه الآية تُبَيِّن حال أصحاب الكهف الذين اعتزلوا قومهم ، وواجهوا المشاق في حفظ
__________________
إيمانهم ودينهم ، فزاد الله من هداه
في حقّهم ، وَرَبط على قلوبهم ، كما في الآية التالية :
٧ ـ وقال سبحانه : ( وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ
إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَـٰهًا لَّقَدْ
قُلْنَا إِذًا شَطَطًا ) .
إلى غير ذلك من الآيات التي تعرب عن
عدم إيصاد هذا الباب .
ثم إنّ في السنّة النبوية الشريفة ،
والخطب العَلَوية ، تصريحات وإشارات إلى انفتاح هذا الباب .
فمن ذلك ما روَته الصحاح عن النبي صلى
الله عليه وآله أنّه قال :
« لَقَد كان فيمن قَبْلَكُم من بني
إسرائيل رجال يُكَلَّمونَ من غير أَنْ يكونوا أنبياء » . وهذا هو المُحَدَّث في مصطلح أهل الحديث . وقد تضافرت الروايات على أنّ مريم وفاطمة وعلياً عليهم السلام كانوا مُحَدَّثين .
ويقول الإمام علي عليه السلام في
كلام له ، يحكي فيه عن صاحب التقوى : « قد أَحيا عَقْلَهُ ، وأَمات نَفْسَهُ ، حتى دَقَّ جَليلُهُ ، وَلَطُفَ
غَليظُهُ ، وَبَرَقَ لَهُ لَامِعٌ كثيرُ البَرْقِ ، فَأَبانَ لَهُ الطَّريقَ ، وَسَلَكَ به
السَّبِيلَ ، وَتَدَافَعَتْهُ الأَبْواب إلى بابِ السلامةِ ، ودارِ الإقامةِ ، وَثَبَتَتْ رِجْلاهُ بِطُمَأْنينَةٍ
في بَدَنِهِ في قرار الأمن والراحة ، بما استعملَ قَلْبَه ، وأَرضى رَبَّه » .
ويقول عليه السلام ، في كلمة أخرى
تعرب عن رأي الإسلام في هذه المجال ، قالها عند تلاوته قوله سبحانه : ( يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّـهِ ) قال : « إنّ الله سبحانه جعل الذِّكر جلاءً للقلوب ، تَسْمع به بعد الوَقْرَة ، وتبْصِر به بعد العَشْوة ، وتنقاد به بعد
المعاندة ، وما برح لله ـ عزّت آلاؤه ـ في البُرهة بعد البُرهة ، وفي أزمان الفترات ، عباد
__________________
ناجاهم في فكرهم ، وكلّمهم في ذات
عقولهم ، فاستصبحوا بنور يَقَظَةٍ في الأبصار والأسماع والأَفئدة ، يُذَكِّرونَ بأَيّام الله ، وَيُخَوِّفونَ مَقامَهُ ، بِمَنْزِلَةِ
الأَدلّةِ في الفَلَواتِ . . . إلى أن قال : وإِنّ للذِّكْرِ لأَهلاً أَخذُوه من الدُّنيا بَدَلاً
، فَلَمْ تَشْغَلْهُمْ تجارةٌ ولا بيعٌ عنه يقطعون به أيام الحياة ، ويهتِفون بالزواجر عن محارم الله ،
في أسماع الغافلين ، ويأمرون بالقسط ، ويأتمرون به ، وينهون عن المنكر ويتناهون عنه ، فكأنما قطعوا الدنيا إلى الآخرة ، وهم فيها ، فشاهدوا ما وراء ذلك ، فكأَنّما
اطلعوا غيوب أهل البرزخ في طول الإقامة فيه ، وحققت القيامة عليهم عداتها ، فكشفوا غطاء ذلك لأهل الدنيا ، حتى كأنّهم يرون ما لا يرى الناس ، ويسمعون ما لا يسمعون . . . » .
وقد تربى في أحضان علي عليه السلام ،
صفوة من رجال الخير ، يُسْتَدَرّ بهم الغمام ويضنّ بهم الزمان ، كزيد وصعصعة ابني صوحان ، وأُوَيْس القَرَني ، والأَصْبَغ بن نُباتة ، ورشيد الهجري ، وميثم التّمار ، وكُميل بن زياد ، وأشباههم ، وكان هؤلاء مُثلاً للفضيلة وخزانة للعلم والأسرار ، منحهم أمير المؤمنين عليه السلام من سابغ علمه ، واستأمَنَهم على غامض أسراره ، ممّا لا يقوى على احتماله غير أمثالهم ، حتى زكت نفوسهم ، وكادوا أن يكونوا بعد التصفية ملائكة مجردة عن النقائص ، لا يعرفون الرذيلة ولا تعرفهم .
* * *
__________________
أسئلة حول الخاتمية
السؤال الثالث
|
|
أليس
التحول ناموساً عاماً ، فما معنى الشريعة الثابتة ؟
ليس في الكون المادي ، أمر خالد باقٍ
مدى الدهور وتعاقب الأجيال ، لأنّ التحوّل ناموس عام في الطبيعة ، وعلى ذلك ، فكيف يقرر الإسلام سنناً وقوانين ثابتة ، منذ بعثة الرسول إلى يوم القيامة ، فإنّ الإعتقاد بخاتمية الرسول وكتابه وسننه وتشريعاته ، يلازم الإعتقاد بثباتها في هذا الكون الذي كتب على جبينه عدم القرار والثبات .
الجواب :
إنّ السؤال نَجَم من الخلط بين
الموجودات المادية والنواميس الحاكمة عليها ، فالمتغيّر هو الأول دون الثاني ، فإنّ السماء والأرض وما فيهما لا
تستقرّ على حالة واحدة ، وأمّا النواميس السائدة عليها فهي ثابتة أبدية لا يصيبها التبدّل ، ولا تقع في إطار الحركة والتحوّل .
مثلاً : المعادلات الرياضية ، وقانون
الجاذبيّة ، والثقل النوعي في الموجودات ، وانكسار الضوء وأحكام العَدَسِيّات وسرعة النور وغيرها من القوانين الفيزيائية ، ثابتة غير متغيرة ، سائدة في كل الظروف والأزمنة .
ومثله : الأحكام الشرعية ، المحمولة
على الموضوعات الخارجية فالموضوعات وإن كانت تتغير ، والمجتمع يتحول من حال إلى أُخرى ، ولكن لكلّ
موضوع في حال خاص حكم لا يتغير ما
دام الموضوع موضوعاً ، وإذا تبدّل ، فالتبدّل يستلزم رفع الحكم برفع موضوعه لا استبداله بحكم آخر .
وبذلك تقف على مدى وهن ما يُعترض به
على ثبات قوانين الإسلام ، بأنّه ليس عندنا أصل ثابت وشيء مستقر ، بل الكون بأجمعه يموج بالتحولات والتغيرات .
إذ فيه مضافاً إلى ما ذكرنا من الخلط
بين القانون ومُنْطَبَقه ، أَنّ قولَهم هذا بأنّه ليس عندنا علم ثابت ، هو بحدّ ذاته ، قانون ثابت لدى المعترض ، فهو في الوقت الذي يعترض فيه على ثبات القوانين وبقائها ، يعترف بقانون ثابت في العالم ، وهو أنّه « ليس عندنا قانون ثابت » .
* * *
أسئلة حول الخاتمية
السؤال الرابع
|
|
كيف
تكون الشريعة ثابتة مع أنّ لكل عصرٍ اقتضاءً خاصّاً ؟
التطور الإجتماعي يستلزم تطوراً في
قوانين المجتمع ، والقانون الموضوع في ظرف خاص ، ربما يكون مضرّاً أو غير مفيد في ظرف آخر ، ومقتضيات الزَّمان ( القوانين ) ، تختلف باختلاف ألوان الحياة والظروف الطارئة على المجتمع ، فما صحّ بالأمس ، لا يصحّ اليوم ، وما يصحّ اليوم لا يصحّ غداً . وعلى هذا فلو كانت الحياة مستمرة على وتيرة واحدة ، لساغ للتشريع الإلهي المحمدي أن يسود في جميع الظروف والأحوال إلى يوم القيامة ، لكنها لما كانت متغيرة ومتحوّلة ، فلا يصحّ للشريعة الإلهيّة السيادة على المجتمعات دائماً ، فكيف يصحّ القول بأنّ شريعة الإسلام شريعة خالدة ، إذ لا يُعْنى من خاتمية النبوة ، إلّا خاتمية الشريعة
وبقاؤها إلى الأبد .
الجواب :
إنّ هذه الشبهة من أَهمّ الشبهات في
موضوع الخاتمية ، ومنشؤها تخيل أنّ
__________________
التحوّل يدبّ في جميع شؤون الإنسان
، وأمّا إذا قلنا بأنّ للإنسان ـ مع قطع النظر عمّا يحيط به من الظروف المختلفة ـ روحيات وغرائز لا تتغير أبداً ، ولا تَنْفَكُّ عنه ، وهي في الحقيقة مشخصات تكوينية له ، بها يتميز عن سائر الحيوانات ، فالشبهة مندفعة من رأس ، فإنّ القوانين والسنن الراجعة إليها ، تكون ثابتة خالدة ، حسب خلودها ، إذا كانت موافقة لما تقتضيه .
توضيحه : إنّ السائل قد
قصر النظر على ما يحيط بالإنسان من الظروف المختلفة المتبدلة ، التي هي نتيجة تكامل الحضارات والمجتمعات ، وذهل عن أنّ للإنسان غرائز ثابتة وروحيات خالدة ، لا تستغني عن قانون ينظّم اتجاهاتها وتشريعٌ يعدِّلها ، ويصونها عن الإفراط والتفريط ، فبما أنّ هذه الغرائز والفطريات ، لا تمسّها يد التغيّر ، فالتشريعات المطابقة لمقتضى الفطرة ، والصالحة
لهدايتها ، تخلد بخلودها وتثبت بثبوتها ، فلو كان السائل واقفاً على أنّ الإنسان مركب من مشخصات تكوينية أبدية ، ومشخصات طارئة متغيرة ، لوقف على أنّ القوانين الراجعة إلى هداية الفطرة وتعديلها ، تَثْبُت على جبين الدَّهر ، ما دام الإنسان إنساناً ، وأمّا القوانين الراجعة إلى المشخصات الطارئة المتحولة ، فلا تصلح للخلود والثبات . وإليك فيما يلي أمثلة لما ذكرناه .
١ ـ الروابط العائلية ، كرابطة الولد
بوالديه ، والأخ بأخيه ، هي روابط طبيعية ، لوجود الوحدة الروحية ، فالسنن الراجعة إلى تنظيم هذه الروابط ، من التوارث أولاً ، ولزوم التكريم والصِّلة ثانياً ، من الأحكام التي لا تتغيّر
بتغيّر الزمان ، فلا تجد مجتمعاً ينادي بقطع التوارث بين الوالد والولد ، أو قطع الحضانة بين الأُم وولدها ، أو ما شابه ذلك .
٢ ـ إنّ التفاوت بين الرجل والمرأة
أمر طبيعي محسوس ، فهما موجودان بشريان مختلفان اختلافاً عضوياً وروحياً ، على رغم كل الدعايات السخيفة التي تريد إزالة كل تفاوت بينهما . ولأجل ذلك إختلفت أحكام كل منهما عن الآخر اختلافاً يقتضيه طبع كل منهما . فإذا كان التشريع مطابقاً لفطرتهما ومسايراً لطبعهما ، ظلّ ثابتاً لا يتغير بمرور الزمان لثبات الموضوع المقتضي لثبات محموله .
٣ ـ الإنسان بما هو موجود إجتماعي ،
يحتاج لحفظ حياته وبقاء نسله ، إلى
العيش الإجتماعي ، والحياة العائلية
، وهذان الأمران من أُسس حياة الإنسان ، ما برحت تقوم عليهما ـ في جمله ما تقوم عليه ـ منذ تكون الإنسان .
ومن المعلوم أنّ الحياة الإجتماعية
والعائلية ، ليستا غنيتين عن التشريع لتنظيمهما ، فلو كان التشريع حافظاً لحقوق الأفراد ، خالياً عن الظلم والجور ، مبنياً على مِلاكات واقعية ، يدوم هذا القانون ، ما دام مرتكزاً على العدل والصلاح .
٤ ـ التشريع الإسلامي حريص جداً على
صيانة الأخلاق وحفظها من الضياع والإنحلال ، ومما لا يشك فيه أنّ الخمر والميسر ، والإباحية الجنسية ، ضربات تقصم ظَهْر الأخلاق وتقضي عليها ، فالخمر يزيل العقل ، والميسر يُنبت العداوة في المجتمع ، والإباحية الجنسية تُفْسد الحرث والنسل ، فالأحكام الراجعة إليها ثابتة دائماً .
وحصيلة البحث أنّ تطور الحياة الإجتماعية
في بعض نواحيها ، لا يوجب أن يتغير النظام السائد على مقتضى الفطرة ولا أن تتغير الأحكام الموضوعة على طبق ملاكات واقعية من مصالح ومفاسد كامنة في موضوعاتها ، فلو تغيّر لون الحياة في وسائل الركوب ، والنقل ، ومعدات التكتيك الحربي ، و . . ، فإنّ ذلك لا يقتضي أن تنسخ أحكام الفطرة أو تنسخ حرمة الظلم ، ووجوب العدل ، ولزوم أداء الأمانة ، والوفاء بالعهود والأَيْمان ، إلى غير ذلك من الأحكام الراجعة إلى التحسين والتقبيح العقليين ، التي يستقل العقل ببقاء أحكامهما ما دام الموضوع موضوعاً .
أجل ، إنّ تقلب الأحوال ، وتحوّل
الأوضاع الإجتماعية يتطلب تحولاً في السنن والأنظمة ، وتبدّلاً في الأحكام والقوانين ، غير أنّه لا يتطلب تحوّلاً فيما
يمسّ واقعية الإنسان الثابتة في جميع الظروف ، كما لا يتطلب تحوّلاً في القوانين
الكونية التي تدير الكون بأُصولها الثابتة ، فلا تتغير النسب الرياضية ، ولا القواعد الهندسية ، وإن تطورت الأوضاع وتحولت .
__________________
أسئلة حول الخاتمية
السؤال الرابع
|
|
هل
القوانين المحدودة تفي بالحاجات غير المتناهية ؟
إنّ توسع الحضارة يُلزم المجتمع
بتنظيم قوانين جديدة تفوق ما كان يحتاج إليها فيما مضى ، وبما أنّ الحضارة والحاجات في حال التزايد والتكامل ، فكيف تعالِجُ القوانينُ المحدودةُ الواردةُ في الكتاب والسنّة ، الحاجاتِ غير المحدودة
.
وبما أنّ الإسلام نظام تشريعيّ كاملٌ
، تَدَخَّل في شؤون المجتمع كافّة ، ثقافيّها ، وسياسيّها ، وإجتماعيّها ، وعسكريّها ، وعائليّها ، وأغنى المجتمع عن كل تشريع سوى تشريعه ، فعندئذٍ يطرح هذا السؤال نفسه : إنّ القوانين الواردة في الكتاب والسنّة ، محدودة مهما توسّع نطاقها ، فكيف تُغني المجتمع عن ممارسة التشريع في الحوادث والموضوعات التي لم يكن بها عهد زمن نزول القرآن وبعثة الرسول .
نعم ، المسيحية أراحت نفسها من
الإجابة عن هذا السؤال بادّعاء أنّ نظامَها لا يخرج عن الطقوس الفردية والعبادية ، وإنّما هو الإسلام ، الذي يدّعي إغناء المجتمع عن كل تشريع في جميع حقول الحياة .
الجواب :
إنّ خلود التشريع الإسلامي ، وغناه
عن كل تشريع ، مبني على وجود أمرين فيه :
١ ـ أنّه ذو مادة حيوية ، خلّاقة
للتفاصيل مهما كثُرت الحاجات ، واستجدّت الموضوعات .
٢ ـ أنّه ينظر إلى الكون والمجتمع
بسعة ورحابة ، مع مرونة خاصة تساير الحضارات الإنسانية المتعاقبة . وإليك بيان كلا الأمرين :
أما الأمر الأول : فقد
أحرزه بتنفيذ أُمور :
١ ـ الإعتراف بحجيّة العقل في مجالات خاصة
اعترف القرآن والسنّة بحجيّة العقل
في مجالات خاصة ، مما يرجع إليه القضاء فيها ، ولا يكون هو أجنبيّاً بالنسبة إليها ، وذلك كما في باب الملازمات
التي ستأتي الإشارة إلى عناوينها . وليس المراد من حجّيته ، أنّه يُطلق سراحه في مجال التعبديّات التي لا طريق إليها إلّا بالوحي ، فإنّه لا صلاحية له في ذاك المجال .
وأمّا الملازمات التي تعدّ من
الأحكام العقلية القطعية ، وهي مرادهم من قولهم بأنّ ما حكم به العقل حكم به الشرع ، فأمثلتها :
أ ـ الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب
مقدمته .
ب ـ الملازمة بين وجوب الشيء وحرمة
ضده .
ج ـ الملازمة بين عدم جواز اجتماع
الأمر والنهي ، وبطلان العبادة .
د ـ الملازمة بين النهي عن العبادة
والمعاملة ، وفسادهما .
ه ـ الملازمة بين المنطوق والمفهوم
في القضايا الشرطية ، أو الوضعية ، أو المُغَيَّاة بغاية .
ونظير ذلك ما يستقل به العقل من
أحكام عقلية تلازم أحكاماً شرعية ، كاستقلاله بقبح العقاب بلا بيان ، الملازم لعدم ثبوت الحرمة والوجوب إلّا بالبيان . واستقلاله بلزوم الإجتناب عن أطراف العلم الإجمالي في الشبهات التحريمية ، ولزوم الموافقة القطعية في الشبهات الوجوبية ، واستقلاله بإجزاء
إطاعة الأوامر الإضطرارية أو
الأوامر الظاهرية ، وغير ذلك . ولعلّ الكلّ يرجع إلى مبدءٍ واحد ، وهو استقلاله بالتحسين والتقبيح الذاتيين ، وهذا هو المنتج لهذه الملازمات والأحكام .
وقد فتح هذا الإعتراف ، للإسلام ،
باب البقاء والخلود ، وغدا التشريع الإسلامي في ضوئه ذا سعة وشمول لكثير من الموضوعات المستجدة أو غيرها مما لم يذكر حكمه في الكتاب والسنّة .
نعم ، مَنْ أعدم العقل وعزله عن
الحكم في مجالاته الخاصة به ، أَعطى للإسلام ولقوانينه سمة الجمود ، وعدم الشمول كما أنّ مَنْ فَسَح المجال للعقل ، للحكم في كل مورد ليس له طريق إليه ، جعل التشريع الإسلامي لعبة تتلاعب بها الأهواء .
وبما أنّ هذا البحث ، بحث يرجع إلى
علم أُصول الفقه ، نقتصر على هذا القدر ، ونختم الكلام بحديث عن الإمام الطاهر ، موسى بن جعفر الكاظم ، وهو يخاطب تلميذه هشام بن الحكم ، بقوله :
« إنّ لله على الناس حجتين ، حجةً
ظاهرة ، وحجةً باطنة ، فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء ، والأئمة ، وأمّا الباطنة فالعقول » .
٢ ـ الإعتراف بتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد
الأحكام الشرعية ـ حسب ما ينصّ عليه
الكتاب ـ تابعة للمصالح والمفاسد ، فلا حرام إلّا لمفسدة في اقترافه ، ولا فريضة إلّا لمصلحة في الإتيان
بها . ولا يراد من المصالح والمفاسد خصوص الدنيوية ، بل الأعمّ مما يرجع إلى سعادة البشر في دنياه ، وفي أُخراه .
يقول سبحانه : ( إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن
يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ، وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّـهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ ،
فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ) .
__________________
فإذا كانت الأحكام تابعة للمصالح
والمفاسد ، وكانت الغاية المتوخاة من تشريعها هي الوصول إلى المصالح والتحرز عن المفاسد ، وبما أنّ المصالح والمفاسد ليست على وزانٍ واحد ، بل لها درجات ومراتب ، عَقَدَ الفقهاءُ باباً لتزاحم الأحكام وتصادمها ، فيقدمون الأهمّ على المهم ، والأكثر مصلحة على الأقل منه ، والأعظم مفسدة على الأحقر منه . وقد أعان فتح هذا الباب على حلّ كثيرٍ من المشاكل الإجتماعية ، التي ربما يتوهّم الجاهل أنّها تعرقل خطى المسلمين في معترك الحياة .
ومن أمثلته : إنّ تشريح بدن الإنسان
في المختبرات ، من الأُمور الضرورية الحيوية التي يتوقف عليها نظام الطب اليوم . غير أنّ هذه المصلحة تصادمها حرمة التمثيل بالميِّت ، مسلماً كان أو كافراً ، ولكن عناية الشارع بالصحّة العامة تجعل
إحراز هذه المصلحة مقدّمة على المصلحة الأُخرى ، وهي حرمة الميت ، ولكن يقدم في هذا المجال بدن الكافر على المسلم ، والمسلم غير المعروف على المعروف ، وهكذا . وفي ضوء هذا المثال نقدر على طرح أمثلة كثيرة .
٣ ـ الكتاب والسنّة مادة خصبة للتشريع
إنّ الكتاب والسُّنّة مشتملان على
أصول وقواعد ، تفي باستنباط آلاف من الفروع التي يحتاج إليها المجتمع البشري على امتداد القرون والأجيال .
وهذه الثروة العلمية التي اختصّت بها
الأُمّة الإسلامية من بين سائر الأُمم ، أغنت المسلمين عن التمسّك بكل تشريع سواه .
وتتجلى تلك الحقيقة إذا وقفنا على
مرمى حديث الثقلين ، وأنّ العِتْرة الطاهرة ، قرناء القرآن وأعداله ، لا يفترقان أبداً ، ففي ضوء الأحاديث الواردة عن الأئمة الإثني عشر من أهل بيت الرسول الأعظم ، قَدِرَ التشريع الإسلامي ـ على مذهب الإمامية ـ على استنباط أحكام الموضوعات المستجدة الكثيرة ، بوضوح وانطلاق ، ولم يُرَ هناك قُصور فيه .
نعم ، إنّ من اقتصر في مجال السنّة
على خصوص ما روته الصحابة عن
النبي الأكرم ، لم يَرَ بدّاً من
اللجوء إلى مقاييس وقواعد ظنية ما أنزل الله بها من سلطان ، كالقول بالقياس والإستحسان والإستقراء ، وغيرها من الظَّنِّيات التي نَهَى الشارع المقدس عن التعبد بها في مجال العبودية ، بقوله : ( قُلْ آللَّـهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّـهِ تَفْتَرُونَ ) ؟
هذا ، وإنّ الأحاديث الإسلامية في
مجال الأحكام الفرعية ، الواردة عن طريق الصحابة ، المنتهية إلى النبي الأكرم ، لا تتجاوز خمسمائة حديث ، تَمُدّها أربعة آلاف .
ومن المعلوم أنّ هذا المقدار من
الأحاديث لا يفي بحاجات المجتمع البشري إلى يوم القيامة ، وهذا يعرب عن أنّ الرسول لم يترك الأُمّة سدىً ، ولم يدفعهم إلى
العمل بمقاييس ظنية لا دليل عليها ، وإنّما عالج هذه الناحية الحيوية بالأمر بالرجوع إلى عترته الطاهرة .
إنّ من المؤسف جداً ، رفض الروايات
المروية عن أئمة أهل البيت عليهم السلام ، الذين اعترف القريب والبعيد بطهارتهم ووثاقتهم وعُلُوّ شأنهم ، والأخذ بمقاييس ظنية ، وإدارة رحى التشريع بها .
« وَدَعَ عَنْكَ نَهَباً صيح في
حجراتِهِ » .
٤ ـ تشريع الإجتهاد
المراد من الإجتهاد هو بذل الوسع في
استنباط الأحكام الشرعية عن مصادرها المعيّنة ، وهو رمز خلود الدين وبقاء قوانينه ، لأنّه به تحفظ غضاضة الدين وطراوته ، ويصان عن الإندراس ، وبالتالي يستغني المسلمون عن موائد الأجانب .
أمّا لزوم فتح هذا الباب ، ولا سيما
في العصر الحاضر فليس شيئاً يحتاج إلى
__________________
البرهنة ، إذ لم تزل الأُمّة
الإسلامية ، في أعصارها الغابرة والحاضرة ، أمام موضوعات مستجدة وطارئة ، فيجب عليها عند ذلك أن تختار سلوك أحد السبل التالية :
ـ إمّا بذل الوُسْع في استنباط
أحكامها من الكتاب والسُّنّة والعقل .
ـ أو اتّباع القوانين الوضعية البشرية
من غير نظر إلى مقاصد الشريعة .
ـ أو الوقوف والسكوت من غير إفتاء .
ولا شك أن المتعين هو الأول .
وقد كان الإجتهاد مفتوحاً بصورته
البسيطة بين الصحابة فالتابعين ، كما أنّه لم يزل مفتوحاً على مصراعيه بين أصحاب الأئمة الإثني عشر ، وهم الذين قالوا لشيعتهم : « إنّما علينا إلقاء الأُصول وعليكم التفريع » .
وإنّ من مواهب الله تعالى ، العظيمة
، على الأُمّة الإسلامية ، تشريع الإجتهاد ، وفسح المجال لعلماء الأمّة لأن يناقشوا أفكارهم ، فلم تقم للإسلام دعامة ، ولا حفظ كيانه ونظامه إلّا على ضوء هذه البحوث والمناقشات العلمية وردّ صاحب فكر على ذي فكر آخر ، وقد حكى شيخنا العلامة المتضلع ، شيخ الشريعة الأصفهاني ـ رحمه الله ـ عن بعض الأعلام ، قوله : « إنّ عدم محاباة العلماء ، بعضهم لبعض ، من أعظم مزايا هذه الأُمّة ، التي أَعْظَمَ الله بها عليهم
النعمة ، حيث حفظهم عن وصمة محاباة أهل الكتابين ، المؤدية إلى تحريف ما فيهما ، واندراس تينك الملتين ، فلم يتركوا لقائل قولاً فيه أدنى دخل إلّا بيّنوه
، ولفاعل فيه اعوجاج إلّا قوّموه ، حيث اتّضحت الآراء وانعدمت الأهواء ، ودامت الشريعة البيضاء ، على مِلىء الآفاق بأضوائها ، مأمونة عن التحريف ، ومصونة عن التصحيف » .
وقد جَنَت بعض الحكومات الإسلامية ،
حيث أقفلت باب الإجتهاد ، في
__________________
أواسط القرن السابع ، وحرمت الأُمّة
الإسلامية من هذه الموهبة العظيمة ، يقول المقريزي :
« استمرت ولاية القُضاة الأربعة ، من
سنة ٦٦٥ ، حتى لم يبق في مجموع أمصار الإسلام مذهب يعرف من مذاهب الإسلام ، غير هذه الأربعة وعودي من تمذهب بغيرها ، وأُنكر عليه ، ولم يُوَلَّ قاضٍ ، ولا قُبلت شهادة أَحد ، ما لم
يكن مقلداً لأحد هذه المذاهب ، وأفتى فقهاؤهم في هذه الأمصار ، في طول هذه المدة ، بوجوب اتّباع هذه المذاهب وتحريم ما عداها ، والعمل على هذا إلى اليوم » .
ومن بوادر الخير أَنْ وَقَفَ غيرُ
واحدٍ من أهل النظر من علماءِ أهل السنة ، وقفة موضوعية ، وأحسّوا بلزوم فتح هذا الباب بعد قفله قُرُوناً .
٥ ـ حقوقُ الحاكِم الإسلامي
من الأسباب الباعثة على كون التشريع
الإسلامي ، صالحاً لحلّ المشاكل ، أنّه منح للحاكم الإسلامي كافة الصلاحيات المؤدية إلى حقّ التصرّف المطلق في كل ما يراه ذا صلاحية للأُمّة ، ويتمتع بمثل ما يتمتع به النبي والإمام من النفوذ المطلق ، إلّا ما يعد من خصائصهما .
مثلاً : إذا رأى الحاكم
أنّ المصلحة تقتضي فتح طريق أو شارع في أملاك الناس ، فَلَهُ أَنْ يُقَرِّرَ وينفِّذَ ما يحقّق هذه الغاية في ضوء العدل
والإنصاف : فله أن يُجْبِرَ أصحابَ الأراضي التي يمرّ بها الطريق ، على بيع أراضيهم أو يشتريها
بثمن مناسب .
أو إذا أراد رفع المعيشة العامة إلى
مستوى خاص ، فله وضع الضريبة على صنف خاص من أبناء الشعب ، أو كلّهم لتأمين هذه الغاية .
__________________
كما أنّ له أن يقرر ما يراه مناسباً
لتنظيم السير في الشوارع ، متوخياً في ذلك سلامة النفوس ، وسهولة الذهاب والإياب ، كلّ ذلك في إطار العدل والإنصاف والقوانين العامة الإسلامية .
قال المحقق النائيني رحمه الله : « فُوّضَ
إلى الحاكم الإسلامي وضع ما يَراهُ لازماً من المقررات ، لمصلحة الجماعة وسدّ حاجاتها في إطار القوانين الإسلامية » .
وهذه الحقوق ثابتة للنبي الأكرم ،
لقوله سبحانه : ( النَّبِيُّ
أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ) .
كما أنّها ثابتة لخلفائه المعصومين ،
وبعدهم لعلماء الأمّة وفقهاء الدين الذين أُلقيت على كواهلهم أُمور تدبير حياة الأُمّة ، وصيانة الشريعة .
وهناك كلمة قيمة للإمام الخميني ـ قدّس
سرّه ـ نأتي بنصّها :
« إنّ الحاكم الإسلامي إذا نجح في
تأسيس حكومة إسلامية في قطر من أقطار الإسلام ، أو في مناطقه كلّها ، وتوفرت فيه الشرائط والصلاحيات اللازمة ، وأخصّ بالذكر : العلم الوسيع ، والعدل ، يجب على المسلمين إطاعته ، وله من الحقوق والمناصب والولاية ، ما للنبيّ الأكرم من إعداد القوات العسكرية ، ودعمها بالتجنيد ، وتعيين الوُلاة وأخذ الضرائب ، وصرفها في محالّها ، إلى غير ذلك . . .
وليس معنى ذلك أنّ الفقهاء والحُكّام
الإسلاميين ، مثل النبي والأئمة في جميع الشؤون والمقامات ، حتى الفضائل النفسانية ، والدرجات المعنوية ، فإنّ ذلك رأي تافِهٌ لا يُركنُ إليه ، إذ إنّ البحث إنّما هو في الوظائف المحولة إلى
الحاكم الإسلامي ، والموضوعة على عاتقه ، لا في المقامات المعنوية والفضائل النفسانية ،
__________________
فإنّهم صلوات الله عليهم ، في هذا
المضمار ، في درجة لا يدرك شأوهم ، ولا يشق لهم غُبار ، حسب روائع نصوصهم وكلماتهم .
وليست السلطة مفخرة للحاكم يعلو بها
على سائر المحكومين ، بل هي من وجهة النظر الإسلامية مسؤولية إجتماعية كبرى أمام الله سبحانه أوّلاً ، وأمام المسلمين ثانياً . والجهة الجامعة ما بين الحاكم والإمام في إدارة دفة الحكم
وسياسة العباد ، ليس لها أي ارتباط بالمُثُل الخلقية والصفات النفسانية » .
ثم إنّ البحث حول حقوق الحاكم
الإسلامي ، الذي يمهّد الطريق لسيادة الأحكام الإسلامية طويل الذيل يرجع فيه إلى مفاهيم القرآن .
وأمّا الأمر الثاني ، وهو
أنّ التشريع الإسلامي ينظر إلى الكون والمجتمع بسعة ورحابة ، مع مرونة خاصة تساير الحضارات الإنسانية المتعاقبة ، فقد أحرز ذلك بتحقيق أُمور ثلاثة :
١ ـ النظر إلى المعاني دون الظواهر
الإسلام يهتم بالمعنى دون الظاهر ،
وهذه إحدى العِلَل لبقاء أحكامه وخلودها ، وقد أوضحنا حال ذلك عند البحث عن إتّقان التشريع والتقنين الإسلامي .
__________________
٢ ـ الأحكام التي لها دور التحديد
من الأسباب الموجبة لمرونة هذا الدين
وصلاحيته للبقاء ، وجود قوانين حاكمة على القوانين العامة ، مثل قاعدة ، « لا حرج » ، و « لا ضَرَرَ » ، وغير ذلك مما أوضحنا حاله عند البحث عن إتقان التشريع والتقنين الإسلامي .
٣ ـ الإسلام شريعة وُسْطى والأُمّة الإسلامية أُمّة وَسَط
من الأسباب الدافعة إلى صلوح الإسلام
للبقاء والخلود ، كونه ديناً جامعاً بين الدعوة إلى المادة ، والدعوة إلى الروح ، وديناً وسطاً بين المادية البحتة ، والروحيّة المحضة ، وبذلك جاء شريعة تامّة لم تعطّل الفطرة في تشريعاتها ، ولم تلقي حبلها على عاتقها لتخرج عن حدودها ، فأخذت من الدنيا ما هو لصالح العباد ، ومن الآخرة مثله .
فكما أنّ الإسلام ندب إلى العبادة ،
ندب إلى طلب الرزق أيضاً ، بل ندب إلى ترويح النفس ، والتخلية بينها وبين لذاتها .
قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام
: « للمؤمن ثلاثُ ساعات ، ساعةٌ يُناجي فيها ربَّه ، وساعة يَرُمّ فيها معاشه ، وساعةٌ يُخلّي بين نفسه ولذّاتها »
.
فقد قرن بين عبادة الله ، وطلب الرزق
، وترفيه النفس ، بحيث جعل الجميع في مستوى واحد .
فكما أنّ أداء الصلاة والصوم ، والحج
، وظائف دينية ، فكذلك إنّ شقَّ الطريق لطلب الرزق والمعاش ، والقيام بنزهة بين الرياض ، أو سباحة في الأحواض ، والأعمال الرياضية البدنية ، وظيفة دينية للمؤمن ، ولأجل هذا ينسجم الإسلام مع الحضارات المتواصلة .
* * *
__________________
هذه هي الخاتمية ، ودلائلها المشرقة
، وشبهاتها الضئيلة ، وأسئلتها المهمة ، وأجوبتها الرصينة ، طرحناها معرض البحث والتنقيب ، ولم يكن رائدنا إلّا تبنّي الحقيقة ، متجرّدين عن كل رأي مسبق لا دليل عليه .
|
تمّ الكلام بحمده تعالى في النُّبُوّة
الخاصة .
|
* * *
تعليق للمؤلف
أما ما يرجع إلى آدم عليه السلام من
النسيان ـ بل غيره من الصفات ، كالعصيان ـ فمفتاح حلّه وفك عقدته أن يُعلم أنّ الدار التي كان فيها آدم لم تكن
دار تكليف ، فلم تكن الأوامر التي تلقاها آدم ، مولوية يترتب على فعلها الثواب ومخالفتها العقاب ، بل كانت إرشادية إلى ما فيه المنفعة لا غير .
فإذا لم تكن تلك دار تكليف ، ولا
يترتب على نسيان آدم أي محذور عقلي من المحاذير المتقدمة ، كأدائه إلى انتفاء الغرض من بعثه بتطرق احتمال النسيان إلى
ما يحمله من شرع ويبلغه من مبادىء ، فلا مانع من تجويز السهو والنسيان عليه .
وأمّا ما وقع من موسى عليه السلام في
الموردين ، أعني قوله : « نسيا حوتهما » ، وقوله « لا تؤاخذني بما نسيت » ، فقد قيل إنّه بمعنى الترك ، وليس كذلك ، لإباء السياق عنه أولاً ، ولأنّ الترك الذي يطلق عليه النسيان منشؤه إمّا ضعف القلب ، أو الغفلة ، أو القصد حتى ينحذف من القلب ذكره ، والأوّلان خلاف المطلوب والثالث خلاف المورد والسياق .
وقال الشيخ الطوسي في التبيان ، في
قوله : ( نَسِيَا حُوتَهُمَا ) ؛ « إنّما نسيه يوشع بن نون ـ فتاه ـ وأضافه إليهما ، كما يقال نسي القوم زادهم وإنّما نسيه بعضهم » . ولكنه لا ينفع في المراد ، لأنّ يوشع بن نون نبي أيضاً . نعم ، لو
__________________
لم يكن الفتى يوشع بن نون ، لاتجه
ما ذكره .
وقال في الآية الثانية : « وقيل في
معنى نسيت ثلاثة أقوال :
أحدها : ما حكي عن أبيّ بن
كعب أنّه قال : « معناه بما غفلت ، من النسيان الذي هو ضدّ الذكر » .
والثاني : ما روي عن ابن
عباس أنّه قال : « معناه بما تركت من عهدك » .
والثالث : لا تؤاخذني بما
كأنّي نسيته ، ولم ينسه في الحقيقة ـ في رواية أخرى عن أبيّ بن كعب » .
واختار العلّامة الطباطبائي في
ميزانه وقوع النسيان من موسى في المورد الأول على حقيقته ، قال : « فمعنى نسيا حوتهما بنسبة النسيان إليهما معاً : نسيا حال حوتهما ، فموسى نسي كونه في المكتل فلم يتفقده ، والفتى نسيه إذ لم يخبر موسى بعجيب ما رأى من أمره .
ثم قال في ذيل قول فتاه : ( أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى
الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ) ، « ولا ضير في نسبة الفتى نسيانه إلى تصرف من الشيطان بناء على أنّه كان يوشع بن نون النبي ، والأنبياء في عصمة إلهية من الشيطان لأنّهم معصومون مما يرجع إلى المعصية ، وأما مطلق إيذاء الشيطان فيما لا يرجع إلى معصية فلا دليل يمنعه .
قال تعالى : ( وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ
نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ) .
وحمل النسيان في المورد الثّاني على
ضرب من الاعتذار .
والذي يمكن أن يقال جمعاً بين ما
أفاده العلمان ، أن كون الفتى هو يوشع بن نون النبي غير مسلّم ـ وإن جاء في رواية العياشي عن أبي حمزة البطائني عن أبي
__________________
جعفر عليه السلام قال : « كان وصي
موسى يوشع بن نون ، وهو فتاة الذي ذكره في كتابه » ـ ولكنها مرسلة ، فيقال هنا ـ حينئذٍ ـ إنّ الذي نسي هو الفتى وإنّما
نسب إليهما ، كما يقال : نسي القوم زادهم ، وإنّما نسيه بعضهم ، على ما ذكره الشيخ . هذا في المورد الأول .
وأمّا في المورد الثاني ، فهو ضرب من
الاعتذار .
وبذلك ينجلي الحال فيما نسب إلى موسى
من النسيان .
* * *
إنّ البحث عن الإعجاز البياني للقرآن
الكريم بحث مهم لم يستوفه علماء العقائد في كتبهم الكلامية ، ولأجل ذلك رأينا من اللازم الخوض فيه على وجه مبسوط مقنع . وقد كتبت حول هذا القسم من الإعجاز ، كتب ورسائل ، بيد أئمة البلاغة ، قديماً وحديثاً ونشير هنا إلى بعض ما اعتمدنا عليه في تنظيم هذه المباحث ، واستضأنا من أنواره :
١ ـ بيان إعجاز القرآن ، لأبي سليمان
، محمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي ( ت ٣١٩ ـ م ٣٨٨ ) .
٢ ـ النكت في إعجاز القرآن ، لأبي
الحسن ، علي بن عيسى الرماني ، ( ت ٢٩٦ ـ م ٣٨٦ ) .
٣ ـ الرسالة الشافية ، لأبي بكر عبد
القاهر عبد الرحمن الجرجاني المتوفى عام ٤٧١ .
وهذه الرسائل الثلاث طبعت في مجموعة
واحدة باسم « ثلاث رسائل في إعجاز القرآن » في مصر .
٤ ـ إعجاز القرآن : لأبي بكر محمد بن
الطيّب الباقلاني ، المتوفى عام ٤٠٣ .
٥ ـ سر الفصاحة ، لابن سنان الخفاجي
، المتوفى عام ٤٦٤ هـ .
٦ ـ الطراز المتضمن لأسرار البلاغة
وعلوم حقائق الإعجاز ، تأليف السيد
__________________
يحيى بن حمزة العلوي اليمني متوفى
عام ٧٤٩ هـ ، طبع في مصر في ثلاثة أجزاء ، طبعة المقتطف ، عام ١٣٣٣ هـ . وهو كتاب قيّم ، خصوصاً الجزء الثالث منه .
٧ ـ الإتقان في علوم القرآن ، للحافظ
جلال الدين عبد الرحمن السيوطي المتوفى عام ٩١١ ، أربع أجزاء في مجلدين .
٨ ـ إعجاز القرآن والبلاغة النبوية ،
تأليف مصطفى صادق رافعي ، الطبعة الثامنة .
٩ ـ مناهل العرفان في علوم القرآن ،
تأليف محمد عبد العظيم الزرقاني ، طبع في مصر في جزءين .
١٠ ـ إعجاز القرآن ، تأليف عبد
الكريم الخطيب ، الطبعة الثانية ، بيروت ١٣٩٥ .
١١ ـ المعجزة الخالدة ، تأليف
العلامة هِبَة الدين الشهرستاني المتوفى عام ١٣٨٦ طبعة ١٣٣٩ هـ .
١٢ ـ البيان في تفسير القرآن للعلامة
المحقق السيد أبو القاسم الخوئي دام ظله .
وغير ذلك من عشرات الكتب التي رجعنا
إليها في تدوين هذا القسم من الإعجاز .


فهرس الآيات
|
|
فاتحة الكتاب
|
|
( صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ
عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ )
|
٧ / ١٨٠
|
سورة البقرة
|
|
( الم *
ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ *
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ )
|
|
( أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ
اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ *
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا
حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّـهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَّا يُبْصِرُونَ *
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ *
أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ
وَاللَّـهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ *
يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم مَّشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّـهُ لَذَهَبَ
بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّـهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )
|
١٦ ـ ٢٠ / ٢٩٧
|
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا
رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ
|
|
تَتَّقُونَ
)
|
٢١ / ٤٧٤
|
( وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا
نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّـهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ )
|
٢٣ / ١٠٣ و ٢٢٥ و ٢٣٠
|
( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ
كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَـٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ *
قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ *
قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ *
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ
وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ * وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا
رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَـٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ *
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ
عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ *
فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ )
|
٣١ ـ ٣٧ / ٣٧٩
|
( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا
نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ )
|
٤٧ / ٤٣
|
( وَإِذِ اسْتَسْقَىٰ
مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا )
|
٦٠ / ١١٠
|
( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا
وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ
بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ
وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ )
|
٦٢ / ٤٧٨
|
( وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ
اعْتَدَوْا مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ )
|
٦٥ / ٨٨
|
( فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا
كَذَٰلِكَ يُحْيِي اللَّـهُ الْمَوْتَىٰ )
|
٧٣ / ٨٨
|
()
|
٧٥ / ٣٧٨
|
( وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ
إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً )
|
٨٠ / ٤٧٩
|
( وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ
الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ )
|
|
( وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ
عِندِ اللَّـهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا
كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّـهِ عَلَى الْكَافِرِينَ )
|
٨٩ / ٢٢٥
|
( وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ
عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَـٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ
وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ
يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ
الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّـهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ
وَلَا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ
وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ *
وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّـهِ خَيْرٌ لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ )
|
٦٠ / ١١٠
|
( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا
وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ
بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ
وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ )
|
١٠٢ ـ ١٠٣ / ٨٨ و ٣٠٣
|
( تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا
بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ *
بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّـهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ )
|
١١١ ـ ١١٢ / ٤٨٠
|
( وَلِلَّـهِ الْمَشْرِقُ
وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ )
|
١١٥ / ٤٢٤
|
( رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ
رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )
|
١٢٩ / ١٧٠ و ٢٨٨
|
( إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا
تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَـٰهَكَ وَإِلَـٰهَ
آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَـٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ
لَهُ مُسْلِمُونَ )
|
١٣٣ / ٣٨٨
|
( وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ
تَهْتَدُوا )
|
١٣٥ / ٤٨١
|
()
|
١٣٧ / ٤٨٣
|
( وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا
لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا )
|
١٤٣ / ١٩٥ و ٤٠٧
|
( وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ )
|
١٤٥ / ٥٧
|
( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ
يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ )
|
١٤٦ / ١١٦ و ٢٢٤ و ٤٤٧
|
( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا
أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّـهُ
وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ )
|
١٥٩ / ٣٧٨
|
( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا
عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ )
|
١٧٣ / ٤٠٣
|
( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ
فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ . . . يُرِيدُ اللَّـهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ )
|
١٨٥ / ٢٢٦ و ٤٠٣ و ٤٧٤
|
( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً
فَبَعَثَ اللَّـهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا
اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ
الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ
الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّـهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ )
|
٢١٣ / ٣٦ و ١٨٥
|
( فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّـهِ
وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّـهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ )
|
٢٥١ / ٢١٧ و ٣٩٠
|
( اللَّـهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا
هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا
بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ
عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ
حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ )
|
٢٥٥ / ٣٠٩
|
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اتَّقُوا اللَّـهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا )
|
٢٧٨ / ٤٦١
|
( فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا
تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ )
|
٢٧٩ / ٤٠٢
|
( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ
وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّـهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا
سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ )
|
٢٨٥ / ٣٧٧
|
سورة آل عمران
|
|
()
|
٢٦ / ٢٧١
|
( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّـهَ
فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّـهُ )
|
٣١ / ١٦٧
|
( إِنَّ اللَّـهَ اصْطَفَىٰ
آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ )
|
٣٣ / ٣٧٩
|
( كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا
زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ
أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّـهِ إِنَّ اللَّـهَ يَرْزُقُ
مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ )
|
٣٧ / ٧١
|
( إِنَّ اللَّـهَ اصْطَفَاكِ
وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ )
|
٤٢ / ٤٩٢
|
( وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي
إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ
طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّـهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي
الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّـهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي
ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ )
|
٤٩ / ٨٠ و ٩٤ و ١١٠ و ٢٣٥ و ٤٣٨ و ٤٤٢ و ٤٤٤
|
( ذَٰلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ
مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ )
|
٥٨ / ٤٩١
|
( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ
مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا
وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّـهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ )
|
٦١ / ١١٥ و ٤٤١
|
( مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا
وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَـٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ )
|
٦٧ / ٤٨١
|
( كَيْفَ يَهْدِي اللَّـهُ قَوْمًا
كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ
|
|
حَقٌّ
وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّـهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ )
|
٨٦ / ٤٤٣
|
( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ
لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ )
|
٩٦ / ٤٩٤
|
( وَلِلَّـهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ
الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا )
|
٩٧ / ٤٧٤
|
( وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ
يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ )
|
١٠٤ / ٤١٠ و ٥٠٧
|
( وَمَا اللَّـهُ يُرِيدُ ظُلْمًا
لِّلْعَالَمِينَ )
|
١٠٨ / ٤٩٤
|
()
|
١١٠ / ٤٩٥
|
( إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ
عَلَىٰ أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِّكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ
وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّـهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ )
|
١٥٣ / ٤٦٧
|
( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّـهِ
لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي
الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّـهِ إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ )
|
١٥٩ / ٢١٠
|
( لَّقَدْ سَمِعَ اللَّـهُ قَوْلَ
الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّـهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا
عَذَابَ الْحَرِيقِ )
|
١٨١ / ٢٧٢
|
( وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَـٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ )
|
١٩١ / ٤٢٨
|
سورة النساء
|
|
( وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا
مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ )
|
٩ / ٢٨٤
|
( وَمَن يُطِعِ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ
يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا )
|
١٣ / ٤٠٩
|
( وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ )
|
١٩ / ٤٠٧
|
()
|
٢٩ / ٤٦٢
|
( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ
اللَّـهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ )
|
٣٤ / ٤٠٥
|
( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ
أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَـٰؤُلَاءِ شَهِيدًا )
|
٤١ / ١٩٥
|
( مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا
يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ )
|
٤٦ / ٣٧٨
|
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم )
|
٤٧ / ٤٥١
|
( إِنَّ اللَّـهَ يَأْمُرُكُمْ أَن
تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ
النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ )
|
٥٨ / ٤١١ و ٤٦٢ و ٤٧٥
|
( أَطِيعُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ )
|
٥٩ / ١٠٥
|
( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ
حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا )
|
٦٥ / ٢١٤
|
( وَمَن يُطِعِ اللَّـهَ وَالرَّسُولَ
فَأُولَـٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّـهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ
أُولَـٰئِكَ رَفِيقًا )
|
٦٩ / ١٧٩
|
( وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا
وَكَفَىٰ بِاللَّـهِ شَهِيدًا )
|
٧٩ / ٤٧٣
|
()
|
٨٢ / ٣٧٤
|
( لَّا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّـهُ
الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّـهُ
الْحُسْنَىٰ وَفَضَّلَ اللَّـهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا )
|
٩٥ / ٢٨٧
|
( إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ
الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّـهُ وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا )
|
١٠٥ / ١١٦
|
()
|
١١٣ / ١٩٣
|
( وَأَن تَقُومُوا
لِلْيَتَامَىٰ بِالْقِسْطِ )
|
١٢٧ / ٤١١
|
( فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُوا )
|
١٣٥ / ٤١١
|
( وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي
الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّـهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي
حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللَّـهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي
جَهَنَّمَ جَمِيعًا )
|
١٤٠ / ١٩٨
|
( وَلَن يَجْعَلَ اللَّـهُ
لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً )
|
١٤١ / ٤٠٢
|
( ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِن
بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ )
|
١٥٣ / ٤٤٤
|
( وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ
عَلَيْهِمْ شَهِيدًا )
|
١٥٩ / ١٩٦
|
( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا
أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا
إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ
وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا )
|
١٦٣ / ٣٩٠ و ٤٩٠
|
( رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ
وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّـهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّـهُ عَزِيزًا حَكِيمًا )
|
١٦٥ / ٥٤ و ٢٣٩
|
( إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ
مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّـهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ )
|
١٧١ / ٣٩٢
|
سورة المائدة
|
|
()
|
٢ / ٤٦٢
|
( وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا
فَاطَّهَّرُوا . . . مَا يُرِيدُ اللَّـهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ )
|
٦ / ٤٠٧
|
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّـهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ
لِلتَّقْوَىٰ وَاتَّقُوا اللَّـهَ إِنَّ اللَّـهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ )
|
٨ / ٤٦٢
|
( وَقَالَتِ الْيَهُودُ
وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّـهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ
يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ . . . )
|
١٨ / ٤٧٩
|
( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ
قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا
يَتَقَبَّلُ اللَّـهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ )
|
٢٧ / ٢٧٢
|
( وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا
بِالْبَيِّنَاتِ )
|
٣٢ / ٤٤٤
|
( وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا
حُكْمُ اللَّـهِ )
|
٤٣ / ٣٧٧
|
( إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ
فِيهَا هُدًى وَنُورٌ )
|
٤٤ / ٣٧٧
|
( وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ فِيهِ
هُدًى وَنُورٌ )
|
٤٦ / ٣٧٧
|
( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ
بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ )
|
|
( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّـهُ
وَرَسُولُهُ )
|
٥٥ / ١٠٦
|
( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ
آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ )
|
٦٥ / ٤٨٢
|
( وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا
التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لَأَكَلُوا
مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم )
|
٦٦ / ٣٧٧
|
( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ
مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ
اللَّـهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ )
|
٦٧ / ١٧٣ و ٤١٦ و ٤٩٠
|
( مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ
إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ
الْآيَاتِ )
|
٧٥ / ٩٩
|
( وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى
الرَّسُولِ تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ )
|
٨٣ / ٢٦٢
|
( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ
وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )
|
٩٠ / ٤٧٥
|
( إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن
يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّـهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ
أَنتُم مُّنتَهُونَ )
|
٩١ / ٤٠٥ و ٥٢١
|
()
|
١١٠ / ٨٠ و ٣٩٢ و ٤٤٤
|
( وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى
الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ )
|
١١١ / ١٢٦ و ١٥١
|
( وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا
دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ )
|
١١٧ / ١٩٦
|
سورة الأنعام
|
|
( وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ )
|
١٣ / ٣١٣
|
( قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ
شَهَادَةً قُلِ اللَّـهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَـٰذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ )
|
|
( وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَّا
يُؤْمِنُوا بِهَا )
|
٢٥ / ٤٤٣
|
( إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا
يُوحَىٰ إِلَيَّ )
|
٥٠ / ١٣٤
|
( وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ
يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ
الذِّكْرَىٰ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ )
|
٦٨ / ١٩٧
|
( وَكَذَٰلِكَ نُرِي
إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ )
|
٧٥ / ٣٨٥ و ٥١١
|
( فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ
الْآفِلِينَ )
|
٧٦ / ٢٩٤
|
(
|
|
()
|
٨٤ ـ ٩٠ / ١٧٣ و ١٧٧ و ١٧٨ و ٣٨٦ و ٣٨٧
|
( وَهَـٰذَا كِتَابٌ
أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ
الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا )
|
٩٢ / ٤٧٧
|
( وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا
لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا )
|
١١٢ / ١٢٧
|
( أَفَغَيْرَ اللَّـهِ أَبْتَغِي
حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن
رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ *
وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ )
|
١١٤ ـ ١١٥ / ٤٩٧
|
( وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ
عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ )
|
١١٩ / ٤٠٣
|
( وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ
إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ . . . )
|
١٢١ / ١٢٧
|
( أَوَمَن كَانَ مَيْتًا
فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ )
|
١٢٢ / ٥١٠
|
( وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا
لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّـهِ
)
|
١٢٤ / ٤٤٢
|
( قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ
رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِّنْ إِمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ
وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ
الَّتِي حَرَّمَ اللَّـهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ
وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ
كَانَ ذَا قُرْبَىٰ وَبِعَهْدِ اللَّـهِ أَوْفُوا ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ *
وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن
سَبِيلِهِ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )
|
١٥١ ـ ١٥٣ / ٢٥٠ و ٢٨٥ و ٤١١ و ٤٣٤
|
( مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا )
|
١٦٠ / ٤٠٩
|
سورة الأعراف
|
|
( وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ
صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا
إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ . . . قَالَ اهْبِطُوا
بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ *
قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ )
|
١١ ـ ٢٥ / ٥٠٢
|
( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّـهِ
الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ )
|
٣٢ / ٤٠٧
|
( يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا
يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ
اتَّقَىٰ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ )
|
٣٥ / ٥٠١
|
( وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ
حَتَّىٰ يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ )
|
٤٠ / ٢٩٣
|
( يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ
يَطْلُبُهُ حَثِيثًا )
|
٥٤ / ٢٩٨
|
( أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا
سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ )
|
٨٠ / ٤٩٥
|
( وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ
مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ
لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ )
|
٩٤ / ٥٣
|
( حَقِيقٌ عَلَىٰ أَن لَّا
أَقُولَ عَلَى اللَّـهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن
رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ *
قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ )
|
١٠٥ ـ ١٠٦ / ٩٣
|
( وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ )
|
|
( إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّـهِ يُورِثُهَا
مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ )
|
١٢٨ / ٣٥٥
|
( وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ
كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا )
|
١٣٧ / ٤٢٢
|
( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ
النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ
الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ
|
|
الطَّيِّبَاتِ
وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ )
|
|
( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي
رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا )
|
|
( وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ
وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ )
|
١٦٨ / ٥٣
|
( وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا
وَلَـٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ )
|
١٧٦ / ١٨٨
|
سورة الأنفال
|
|
()
|
٧ ـ ٨ / ٤١٦ و ٥٠٢
|
( إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى
الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا )
|
١٢ / ١٢٧
|
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ
إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ )
|
٢٤ / ٤٠٦
|
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا )
|
٢٩ / ٥١٠
|
( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا
اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ )
|
٦٠ / ٤٠٠
|
سورة التوبة
|
|
( بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ
إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ )
|
١ / ٣٣٢
|
( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ
وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ
فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ
فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ )
|
٣٤ ـ ٣٥ / ١٦٠
|
( وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ
كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً )
|
٣٦ / ٤٩٦
|
( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ
حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ )
|
١١١ / ٢٨٧
|
()
|
١٢٢ / ٥٠٧
|
سورة يونس
|
|
( أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ
أَوْحَيْنَا إِلَىٰ رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ )
|
٢ / ٤٧٧
|
( وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ
آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ
غَيْرِ هَـٰذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ
مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ
عَظِيمٍ * قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ
لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ )
|
١٥ ـ ١٦ / ١٢٩ و ٢١٤
|
( قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ
السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ
وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * فَذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ )
|
٣١ ـ ٣٢ / ٣٣٣
|
( قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ
عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ )
|
٥٩ / ٥٢٣
|
( فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ
مُوسَىٰ مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ
اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ )
|
٨١ / ٨٠
|
( إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ
كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ )
|
٩٦ ـ ٩٧ / ٤٤٢
|
( وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ
وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ )
|
١٠١ / ٥٧
|
سورة هود
|
|
( أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ
بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ
مُوسَىٰ إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ
مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ
|
|
فلَا تَكُ
فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لَا يُؤْمِنُون )
|
١٧ / ٣٠٥
|
( ويَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا
مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُون )
|
٣٨ / ٣٨٣
|
( وقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ
وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ
الظَّالِمِين )
|
٤٤ / ٣٢٥
|
( قيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ
مِّنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيم )
|
٤٨ / ٢٧١
|
( تمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ
أَيَّامٍ ذَٰلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوب )
|
٦٥ / ١٣٣
|
( وأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي
الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ )
|
١٠٨ / ١٩٩
|
سورة يوسف
|
|
( وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ
لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَـٰذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ )
|
١٥ / ١٢٦
|
( فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنتَ
بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ )
|
١٧ / ٣١٢
|
( وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي
بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا
يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ )
|
٢٣ / ٣٣٤
|
( وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ
امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ *
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا
وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ
وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَٰذَا بَشَرًا إِنْ هَٰذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ )
|
٣٠ ـ ٣١ / ٣٣٥
|
( ذَٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي
لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ )
|
٥٢ / ٣٣٥
|
()
|
٨٥ / ٢٧٠
|
( لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ
يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ )
|
٩٢ / ٤٥٧
|
( اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَٰذَا فَأَلْقُوهُ عَلَىٰ
وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا . . . )
|
٩٣ / ٨١
|
( فَلَمَّا أَن جَاءَ الْبَشِيرُ
أَلْقَاهُ عَلَىٰ وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا . . . )
|
٩٦ / ٨١
|
سورة الرعد
|
|
( اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ
السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى
الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ
الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ )
|
٢ / ٤٢٠ و ٤٢٥
|
( عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ )
|
٩ / ٤١٣
|
( أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً
فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ
زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا
مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ )
|
١٧ / ٢٩٩
|
سورة إبراهيم
|
|
( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ
إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )
|
٤ / ٤٧٨
|
()
|
١٠ / ٩٩ و ١٠٠
|
( قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ
نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَـٰكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ
عَلَىٰ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ
إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ )
|
١١ / ٦٣ و ١٠٠
|
( وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا
فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ قَالُوا لَوْ
هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن
مَّحِيصٍ )
|
٢١ / ٢٩٥
|
( يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ
وَالسَّمَاوَاتُ )
|
٤٨ / ٤٢٧
|
سورة الحجر
|
|
( وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي
نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ )
|
٦ / ١٣٩
|
( وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا
خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ )
|
٢١ / ٣٠٢
|
()
|
٦٨ ـ ٧٠ / ٤٩٣
|
سورة النحل
|
|
()
|
١٥ / ٤٣٢
|
( وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى
النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ
ذُلُلًا . . . )
|
٦٨ ـ ٦٩ / ١٢٥
|
( وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ
بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )
|
٧٨ / ٢٧٣
|
( وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ
أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ )
|
٨٤ / ١٩٦
|
( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ
وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ
الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ
عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ )
|
٩٠ ـ ٩١ / ٤١٢ و ٤٣٤ و ٤٦١ و ٤٧٥
|
( إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى
الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ )
|
١٠٠ / ٢٠٣
|
( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ
يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ )
|
١٠٣ / ٣٧٦
|
( إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ
مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ )
|
١٠٦ / ٤٠٣
|
سورة الإسراء
|
|
( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ
بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ
السَّمِيعُ الْبَصِيرُ )
|
١ / ٤٤١
|
( إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا )
|
٣ / ٣٨٢
|
( وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ
وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَـٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا )
|
١٩ / ٢٩٣
|
( وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ
خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ )
|
٣١ / ٢٨٥
|
( وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَىٰ
إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا )
|
٣٢ / ٤٦١
|
( وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ
الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا )
|
٨١ / ٣٠١
|
( قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ
وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَـٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا )
|
٨٨ / ١٠٤ و ١٠٩ و ٢٢٥ و ٣٤٩ و ٤١٤
|
()
|
٨٩ ـ ٩٣ / ٨٩
|
( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ
تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ )
|
١٠١ / ٢٣٥ و ٤٣٨
|
( وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ )
|
١١١ / ٣١٢
|
سورة الكهف
|
|
( إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا
بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى )
|
١٣ / ٥١١
|
( وَرَبَطْنَا عَلَىٰ
قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
|
|
لَن نَّدْعُوَ
مِن دُونِهِ إِلَٰهًا لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا )
|
١٤ / ٥١٢
|
()
|
٢٣ ـ ٢٤ / ١٩٨
|
( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ
يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا
تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا )
|
٢٨ / ٤٦٥
|
( فلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ
بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا . . . )
|
٦١ / ١٩٩
|
( . . . لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا
نَسِيتُ . . . )
|
٧٣ / ١٩٩
|
( فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ
أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ )
|
|
سورة مريم
|
|
( إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي )
|
٤ / ٣١٣
|
( قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً
قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا * فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَىٰ
إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا )
|
١٠ ـ ١١ / ١٢٤ و ١٢٧
|
()
|
١٧ / ٧٦
|
( قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ
رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا )
|
١٩ / ٤٩٠
|
( وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا
كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا )
|
٣١ ـ ٣٢ / ٣٩٢
|
سورة طه
|
|
( الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ
مَهْدًا )
|
٥٣ / ٤٢٦
|
( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ
فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا *
فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا )
|
١٠٥ ـ ١٠٦ / ٤٢٧
|
( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ
وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا )
|
١١٥ / ١٩٩
|
( قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا
بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ )
|
١٢٣ / ٥٠٣
|
( وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي
فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنسَىٰ )
|
١٢٤ ـ ١٢٦ / ٢٩٣
|
سورة الأنبياء
|
|
( وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ
ظَلَمُوا هَلْ هَـٰذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ )
|
٣ / ٦٣
|
( بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ .
. . بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ )
|
٥ / ١٣٢ و ١٣٨
|
()
|
٢١ ـ ٢٢ / ٩٩ و ٢٩٠
|
( قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ
بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ )
|
٤٥ / ٤٧٧
|
( أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ )
|
٦٦ ـ ٦٧ / ٣٣٢
|
( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ
وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ )
|
٧٢ / ٣٨٨
|
( وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا
وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ )
|
٧٤ / ٣٨٦
|
( وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً
تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ )
|
٨١ / ٨٠
|
( كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ
نُعِيدُهُ )
|
١٠٤ / ٢٩١
|
( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا
رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ )
|
١٠٧ / ٢٢٤ و ٤٧٣
|
سورة الحجّ
|
|
()
|
٥ ـ ٦ / ٢٧٣ و ٣٢١
|
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ
مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ
الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ )
|
٧٣/ ٢٩٥ و ٣٣١
|
( هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ
عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ )
|
|
سورة المؤمنون
|
|
( وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ
الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَـٰذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ
مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ * وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا
لَخَاسِرُونَ )
|
٣٣ ـ ٣٤ / ٦٣
|
( مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ
وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَـٰهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَـٰهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ
عَمَّا يَصِفُونَ )
|
٩١ / ٢٩٠
|
سورة النور
|
|
( وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ
إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ
جُيُوبِهِنَّ )
|
٣١ / ٤٠١
|
( وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَىٰ
مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا
|
|
فُقَرَاءَ
يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ )
|
|
()
|
٣٩ / ٢٩٦
|
()
|
٤٠ / ٢٩٦
|
( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ
آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ )
|
٦٢ / ٤٨٣
|
سورة الفرقان
|
|
( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ
الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا )
|
١ / ٤٧٤
|
( وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً
لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً
وَلَا نُشُورًا )
|
٣ / ٩٩
|
( وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ
لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَىٰ
رَبَّنَا )
|
٢١ / ٩١
|
( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا
نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ
بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا )
|
٣٢ / ٢٨٠
|
( وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا
بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا )
|
٧٣ / ٤٢٨
|
سورة الشعراء
|
|
( أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ
كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ )
|
٧ / ٤٢٩
|
()
|
٢٣ ـ ٢٤ / ٤٩٤
|
( مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا
فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ )
|
|
(
|
|
)
|
١٦١ ـ ١٧١ / ٣٨٦ و ٤٩٤ و ٤٩٥
|
( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ )
|
|
سورة النمل
|
|
( يَا مُوسَىٰ لَا تَخَفْ
إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ )
|
١٠ / ١٠٩
|
( وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ
تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ )
|
١٢ / ٢٣٥
|
()
|
١٥ ـ ١٦ / ٣٩٠
|
()
|
٣٨ ـ ٤٠ / ٧٩
|
()
|
٧٦ / ٢٢٥
|
()
|
٨٦ / ٤٢٦
|
( وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ
فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ )
|
٨٧ / ٤٢٦
|
( وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا
جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ )
|
٨٨ / ٤٢٦
|
سورة القصص
|
|
( وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ
مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي
الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ
الْمُرْسَلِينَ )
|
٧ / ١٢٦ و ٣٢٩
|
( نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ
الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَىٰ إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّىٰ مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَىٰ
أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ * اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ
وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ
إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ )
|
٣٠ ـ ٣٢ / ١٠٨
|
( وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ
الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا )
|
٧٧ / ٤٠٧
|
سورة العنكبوت
|
|
( فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ
صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ )
|
٣ / ١٨٧
|
( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا
إِلَىٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ *
فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ )
|
١٤ ـ ١٥ / ٣٨٣
|
( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ
وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ . . . )
|
٢٧ / ٣٨٨
|
( مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ
دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ )
|
٤١ / ٣٣٢
|
( وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ
مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ )
|
٤٨ / ٢٢٦ و ٣٦٨
|
( وَمَا هَـٰذِهِ الْحَيَاةُ
الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ
الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ )
|
٦٤ / ٣٢١
|
( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا
لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا )
|
٦٩ / ٥١١
|
سورة الرُّوم
|
|
()
|
١ ـ ٦ / ١٣٣ و ٤١٥
|
( وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ
مَوْتِهَا وَكَذَٰلِكَ تُخْرَجُونَ )
|
١٩ / ٢٩١
|
( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ
مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا )
|
٢١ / ٣١٣
|
( وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ
ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ )
|
٢٧ / ٢٩٣
|
( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ
حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ )
|
٣٠ / ٤٠٤
|
سورة الأحزاب
|
|
( النَّبِيُّ أَوْلَىٰ
بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ )
|
٦ / ٥٢٦
|
( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا
مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ
ضَلَالًا مُبِينًا )
|
٣٦ / ٢١٤
|
( مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ
مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَـٰكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا )
|
٤٠ / ٢٢٤ و ٤٨٥
|
( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ
لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا
يُؤْذَيْنَ )
|
٥٩ / ٤٠١
|
سورة سبأ
|
|
( وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ
غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ )
|
١٢ / ٢٤١
|
( اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا )
|
١٣ / ٣١٢
|
( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا
وَنَذِيرًا وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ )
|
٢٨ / ٤٧٣ و ٤٩٦
|
سورة يس
|
|
( لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ
آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ )
|
٦ / ٤٧٧
|
( لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ
تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ
يَسْبَحُونَ )
|
٤٠ / ٤٢٤
|
( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا
بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَـٰذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ *
وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ )
|
٦٠ ـ ٦٢ / ١٧٨
|
( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ
أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ )
|
٦٥ / ٤٤٠ و ٤٨٧
|
( وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا
يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ )
|
٦٩ / ١٣٢
|
( لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا
وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ )
|
٧٠ / ٤٧٧
|
( قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي
أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ
تُوقِدُونَ )
|
٧٩ ـ ٨٠ / ٢٩١
|
سورة الصّافات
|
|
( رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ )
|
٥ / ٤٢٢
|
( وَإِذَا رَأَوْا آيَةً
يَسْتَسْخِرُونَ *
وَقَالُوا إِنْ هَـٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ )
|
١٤ ـ ١٥ / ٤٤٣
|
( سَلَامٌ عَلَىٰ نُوحٍ فِي
الْعَالَمِينَ * إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ )
|
٧٩ ـ ٨١ / ٣٨٢
|
()
|
٩١ ـ ٩٤ / ٣٨٤
|
( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ )
|
١٧١ ـ ١٧٣ / ٧٩
|
سورة ص
|
|
()
|
٦ / ٣١٣
|
( اصْبِرْ عَلَىٰ مَا
يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ * وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ )
|
١٧ ـ ٢٠ / ٣٩٠
|
( يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ
خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ )
|
٢٦ / ٣٩٠
|
( فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي
بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ )
|
٣٦ / ٢٤١
|
()
|
٤١ / ٥٣٢
|
()
|
٤٥ ـ ٤٨ / ١٧٤ و ٣٧٩ و ٣٨٨
|
سورة الزمر
|
|
( اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ
الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ
إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ )
|
٢٣ / ٢٦٢
|
( وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي
هَـٰذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ )
|
٢٧ / ٤٧٤
|
( قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي
عِوَجٍ )
|
٢٨ / ٣٠٩
|
( وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ
مِنْ هَادٍ * وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ )
|
٣٦ ـ ٣٧ / ١٧٨
|
( وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ )
|
٦٥ / ١٩٧
|
( وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ
بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ )
|
٦٩ / ١٩٦
|
سورة فُصّلت
|
|
( بِسْمِ اللَّـهِ
الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ * حم *
تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ *
بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ *
وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا
عَامِلُونَ )
|
١ ـ ٥ / ٢٤٨ و ٢٥١
|
( قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ
مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ )
|
٦ / ٦٤
|
( ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى
السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي
يَوْمَيْنِ وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ
وَحِفْظًا ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ )
|
١١ ـ ١٢ / ١٢٥
|
( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا
تَسْمَعُوا لِهَـٰذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ
تَغْلِبُونَ )
|
٢٦ / ٢٥٢
|
()
|
٤١ ـ ٤٢ / ١٦٤ و ٣٢٠ و ٤٩١
|
( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي
الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ
الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ )
|
٥٣ / ٥١٠
|
سورة الشورى
|
|
( كَذَٰلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ
وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )
|
٣ / ١٢٧
|
( قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ
أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ )
|
٢٣ / ١٠٦
|
()
|
٢٤ / ٣٠١
|
(
|
|
)
|
٣٢ ـ ٣٤ / ٢٦٩ و ٣٢٤
|
سورة الزخرف
|
|
( لَوْلَا نُزِّلَ هَـٰذَا
الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ )
|
٣١ / ٩٠
|
()
|
٣٨ / ٤٢٣
|
( قُلْ إِنْ كَانَ
لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ )
|
٨١ / ٢٩٢
|
سورة الدخان
|
|
( وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ
عَلَىٰ عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ )
|
٣٢ ـ ٣٣ / ١٧٤
|
سورة الجاثية
|
|
( مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا
الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ )
|
٢٤ / ٤٦٠
|
( هَٰذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ
عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ )
|
٢٩ / ٤٠٩
|
سورة الأحقاف
|
|
( قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ
الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ )
|
٩ / ٢١٤
|
( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ
الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَىٰ بَلَىٰ إِنَّهُ
عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )
|
٣٣ / ٢٩١
|
سورة محمد
|
|
( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ
هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ )
|
٧ / ٥١١
|
( فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا
السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا )
|
١٨ / ٤٤٠
|
سورة الحجرات
|
|
( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ )
|
١٠ / ٤٦٠
|
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا )
|
١٢ / ٤٠٨
|
( إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ
وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا )
|
١٣ / ٤١٢
|
سورة ق
|
|
( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا
لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ )
|
١٨ / ٤٠٩
|
( لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ
هَـٰذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ )
|
٢٢ / ٤٢٧
|
سورة الذّاريات
|
|
( قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ )
|
١٠ ـ ١١ / ٣١٢
|
( وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا
زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ )
|
٤٩ / ٤٢٩
|
()
|
٥٢ ـ ٥٣ / ١٣٩
|
سورة الطّور
|
|
()
|
٣٥ ـ ٣٧ / ٢٩٠
|
سورة النجم
|
|
(
|
|
)
|
١ ـ ١٨ / ١٣٤ و ١٣٨ و ١٦٤ و ١٨٥ و ٢١٣
|
( فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ
وَالْأُولَىٰ )
|
٢٥ / ٢٨٣
|
سورة القمر
|
|
()
|
١ ـ ٤ / ٤٣٩
|
( أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ
مُنْتَصِرٌ * سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ )
|
٤٤ ـ ٤٥ / ٤١٦
|
سورة الرَّحمٰن
|
|
()
|
١ ـ ٥ / ٣١٠
|
( رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ
الْمَغْرِبَيْنِ )
|
١٧ / ٤٢٣
|
( وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ )
|
٥٤ / ٣١٣
|
سورة الواقعة
|
|
( وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ )
|
٤٣ ـ ٤٤ / ٢٩٨
|
سورة الحديد
|
|
( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا
بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ
وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ )
|
٢٥ / ٢٩ و ٣٠٠
|
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا
بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ
رَحِيمٌ )
|
٢٨ / ٥١٠
|
سورة المجادلة
|
|
( كَتَبَ اللَّـهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا
وَرُسُلِي )
|
٢١ / ٧٩
|
سورة الحشر
|
|
( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ
فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا )
|
٧ / ٢١٤
|
()
|
٢١ / ٢٦٢
|
()
|
٢٢ ـ ٢٤/ ٤٦٠
|
سورة الممتحنة
|
|
( لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ
الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ
مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ
يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ )
|
٨ ـ ٩ / ٤٠٢
|
سورة الصف
|
|
()
|
٢ ـ ٣ / ١٧٠
|
( وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا
|
|
لِّمَا
بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي
اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُبِينٌ )
|
|
سورة الجمعة
|
|
( )
|
٢ / ٢٨٨ و ٣٦٨
|
سورة المنافقون
|
|
( وَلِلَّـهِ الْعِزَّةُ
وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَـٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا
يَعْلَمُونَ )
|
٨ / ٤٠١
|
سورة التحريم
|
|
( وَأَظْهَرَهُ اللَّـهُ عَلَيْهِ
عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ )
|
٣ / ١٨٦
|
( عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ
شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ )
|
٦ / ١٦٤
|
( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ
كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ )
|
١٠ / ٣٨٢
|
( وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا
وَكُتُبِهِ )
|
١٢ / ٤٩٧
|
سورة الملك
|
|
()
|
١ ـ ٤ / ٣٣٣
|
( وأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ
اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ )
|
١٣ ـ ١٤ / ٢٧ و ٣٣٣
|
( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا
فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ )
|
١٥ / ٤٠٧
|
( أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ
فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَـٰنُ )
|
١٩ / ٢٩٨
|
سورة القلم
|
|
( وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ
عَظِيمٍ )
|
٤ / ٢٠٨
|
سورة الحاقة
|
|
( الْحَاقَّةُ *
مَا الْحَاقَّةُ *
وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ )
|
١ ـ ٣ / ٣٥٧
|
( وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ
قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ )
|
٤١ / ١٣٢
|
( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ
الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ *
فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ )
|
٤٤ ـ ٤٧ / ٩٧
|
سورة المعارج
|
|
( سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ )
|
١ ـ ٣ / ٣١١
|
( إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا )
|
٦ ـ ٧ / ٤٤٠
|
( يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي
مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ *
وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ *
وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ )
|
١١ ـ ١٤ / ٢٨٦
|
( فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ
الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ )
|
٤٠ / ٤٢٢
|
سورة نوح
|
|
(
|
|
)
|
٥ ـ ٩ / ٣٨٣
|
()
|
١٠ ـ ١٢ / ٣٨٣
|
سورة الجنّ
|
|
()
|
٢٦ ـ ٢٨ / ١٨٦
|
سورة المدثر
|
|
()
|
١١ ـ ٢٥ / ٢٥٦
|
سورة القيامة
|
|
()
|
١٦ ـ ١٩ / ٢١٤
|
سورة المرسلات
|
|
( وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ
شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّاءً فُرَاتًا )
|
٢٧ / ٤٣٢
|
()
|
٢٨ ـ ٣٣ / ١٦٢
|
سورة النبأ
|
|
( أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا
* وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا )
|
٦ ـ ٧ / ٤٣٢
|
سورة النازعات
|
|
( وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا )
|
٣ / ٤٢٥
|
( فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا )
|
٥ / ٧٦
|
سورة عبس
|
|
( يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ
أَخِيهِ *
وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ *
وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ *
لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ )
|
٣٤ ـ ٣٧ / ٢٨٦
|
سورة التكوير
|
|
( وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ )
|
٣ / ٤٢٧
|
( وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ )
|
١٨ / ٢٩٨
|
سورة الأعلى
|
|
( سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَىٰ *
إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَىٰ )
|
٦ ـ ٧ / ١٩٨
|
سورة الفجر
|
|
( وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ )
|
٤ / ٢٩٨
|
سورة الضُّحىٰ
|
|
()
|
١ ـ ١١ / ٢٨٠
|
سورة الزلزلة
|
|
( إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ
زِلْزَالَهَا *
وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا *
وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا *
يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا *
بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا )
|
١ ـ ٥ / ١٢٥
|
سورة العاديات
|
|
( وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا *
فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا *
فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا )
|
١ ـ ٣ / ٢٧٦
|
سورة القارعة
|
|
( الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَة )
|
١ ـ ٣ / ٣٥٧
|
( يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ
كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ )
|
٤ ـ ٥ / ٣٥٨ و ٤٢٧
|
سورة التكاثر
|
|
( كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ
الْيَقِينِ *
لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ *
ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ )
|
٥ ـ ٨ / ١٦٠ و ٥١١
|
سورة العصر
|
|
( وَالْعَصْرِ *
إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ *
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ )
|
١ ـ ٣ / ٤٨٢
|
سورة الماعون
|
|
( فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ *
الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ )
|
٤ ـ ٥ / ٣١٢
|
سورة الكوثر
|
|
( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْکَوْثَرَ *
فَصَلِّ لِرَبِّکَ وَانْحَرْ *
إِنَّ شَانِئَکَ هُوَ الْأَبْتَرُ )
|
١ ـ ٣/ ٢٧٧ و ٢٩٣ و ٤١٧
|
سورة الكافرون
|
|
( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ *
لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ *
وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ *
وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ *
وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ *
لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ )
|
١ ـ ٦ / ٣٣٣ و ٤٦٤
|
سورة الاخلاص
|
|
( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ *
اللَّهُ الصَّمَدُ *
لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ *
وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ )
|
١ ـ ٤ / ٢٢٥
|
فهرس الأحاديث
الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم
|
الصفحة
|
« وَلا بَعثَ اللهُ رسولاً ولا نبيّاً حتّىٰ يستكملَ
العَقْل . . . »
|
٣٦
|
« إنّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة »
|
٥٦
|
قدم وفد نصارى نجران على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فدارت بينه وبينهم أسئله وأجوبة حول نبوته عليه الصلاة والسلام ، فدعاهم الرسول إلى قبول الإسلام ، فامتنعوا ، فدعاهم إلى المباهلة فاستظهروه إلى صبيحة اليوم التالي .
فلمّا رجعو إلى رجالهم ، قال لهم الأسقف : « أنظرو
محمداً ، فإن خرج بولده وأَهله ، فاحذروا مباهلته ، وإن خرح بأصحابه فباهلوه » .
فلمّا كان الغد ، خرج النبيّ الأكرم ويده في يد علي بن
أبي طالب ، والحسن والحسين يمشيان أمامه ، وفاطمة ابنته تمشي خلفه .
وخرج النصارىٰ يتقدمهم أسقفهم ، فلمّا
رأىٰ النبيّ قد أقبل بمن معه ، سأل عنهم فقيل له : هذا ابن عمه ، وهذان ابنا بنته ، وهذه الجارية بنته فاطمة ، أعزّ الناس عليه .
|
|
وتقدم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فجثا على ركبته ، فقال أبو حارثة الأسقف : « جثا والله كما جثا الأنبياء للمباهلة » ، فرجع ولم يقدم على المباهلة ، وقال : « أنا أخاف أن يكون صادقاً ، ولئن كان صادقاً ، لم يحُل والله علينا الحول ، وفي الدنيا نصراني » .
فصالحوا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم على ألف حلّة من حلل الأواقي ، وقال النبيّ « والذي نفسي بيده ، لو لاعنوني ، لَمُسِخوا قردة وخنازير ، ولاُضطرم الوداي عليهم ناراً ، ولَما حال الحول على النصارى حتى يهلكوا »
|
١٠٤
|
عن عمران بن حصين :
انّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كان في مسير له ، فناموا عن صلاة الفجر ، فاستيقظوا بحرّ الشمس ، فقال عليه الصلاة والسلام : تنحّو عن هذا المكان ثم أمر بلالاً فأذّن ثم توضأوا وصلّوا ركعتي الفجر . ثم أمر بلالاً فأقام الصلاة فصلّىٰ بهم صلاة الصبح .
|
٢٠٤
|
« لا تصلح الإمامة إلَّا لرجل فيه ثلاث خصال : ورع يحجزه عن معاصي الله ، وحلمٌ يملك به غضبه ، وحُسن الولاية على من يلي حتى يكون كالأب الرحيم »
|
٢١٨
|
« إنّ الرائد لا يكذب أهله ، واللهُ الذي لا الٰه إلَّا هو
إنّي رسول الله إليكم خاصّة وإلى الناس عامّة ، والله لتموتُنّ كما تنامون ، ولَتُبْعثُنَّ كما تستيقظون ، ولتُحاسبُنَّ بما تعملون ، وإنّها الجنة أبداً والنار أبداً » ثم قال : « يا بني عبد المطلب : إنّي واللهُ ما أعلم شابّاً في العرب جاء قومه بأفضل ممّا جئتكم به ، إنيّ قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، وقد أمرني الله عزَّ وجلَّ ، أن أدعوكم إليه » .
|
٢٢٢
|
« إذا التبست عليكم الفتن كَقِطع الليلِ المظلم ، فعليكم بالقرآن » . . . إلى أن يصفه ـ أي القرآن ـ « ظاهرهُ أنيق ،
|
|
وباطنُهُ عميق » .
|
٢٧٤
|
« وكأنّ الموت فيها على غيرنا كتب ، وكأنّ الحقّ فيها على غيرنا وجَب ، وكأنّ الذي نُشَيِّعُ من الأموات سَفَر ، عمّا قليل إلينا يرجعون »
|
٣٢٠
|
« يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية ، وتعظمها بالاباء ، الناس من آدم ، وآدم خلق من تراب ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ
شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّـهِ أَتْقَاكُمْ ) »
|
٣٢٢
|
ذكر ابن هشام أنّ مسيلمة بن حبيب قد كتب إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : « منْ مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله ، سلام عليك . أمّا بعد ، فإنّي قد أُشركت في الأمر معك ، وإنّ لنا نصف الأرض ، ولقريش نصف الأرض ، ولكن قريشاً قوماً يعتدون » ، فلمّا جاء الكتاب ، كتب رسول الله إلى مسيلمة : « بسم الله الرحمن الرحيم من محمّد رسول الله إلى مسلمة الكذّاب ، السلام على من اتّبع الهدى ، أمّا بعد فإنّ الأرض لله يوروثها من يشاء من عباده والعافية للمتّقين » .
|
٣٥٤
|
« من سنّتي الترويج ، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي »
|
٤٠٥
|
كان إذا أراد أن يبعث سرية ، دعا أمراء السرايا
فأجلسهم بين يديه ، وقال : « سيروا باسم الله ، وبالله ، وفي سبيل الله ، وعلى ملّة رسول الله ، لا تغلّوا ، ولا تمثّلوا ، ولا تغدروا ، ولا تقتلوا شيخاً فانياً ، ولا صبيّاً ، ولا امرأة ، ولا تقطعوا
شجرة إلَّا أن تضطرّوا إليها ، وايّما رجل من أدنى المسلمين أو أفضلهم نظر إلى أحد من المشركين فهو جارٌ ، حتّى يسمع كلام الله ، فإن تَبعَكُم ، فأخوكم في الدين ، وإن أبي فأبلغوه مأمَنَهُ ، واستعينوا بالله » .
|
|
وفي رواية أن النبيّ كان إذا بعث أميراً له على سرية ،
أمره بتقوى الله عزّ وجلّ في خاصّة نفسه ، ثم في أصحابه عامّه ، ثم يقول : أُغزوا بسم الله ، وفي سبيل الله ، قاتلوا من كفر باللهِ ، ولا تغدوا ، ولا تغلّوا ، ولا تمثّلوا ، ولا تقتلوا وليداً ولا مُتَبَتِّلاً فِي
شاهق ، ولا تحرقوا النخل ولا تغرقوه بالماء ، ولا تقطعوا شجرة مثمرة ، ولا تحرقوا زرعاً لأنّكم لا تدرون لعلّكم تحتاجون إليه . وإذا لقيتم عدوّاً للمسلمين فادعوهم إلى احدى ثلاث ، فإن هم أجابوكم إليها فاقبلوا منهم وكفّوا عنهم . . . الخ » .
|
٤٦٣
|
عندما توفّي ولده إبراهيم قال :
« أَيُّها النَّاس ، إنّ الشمس والقمر آيتان من آيات
الله ، يجريان بأمره ، مطيعان له لا ينكسفان لموت أحد ، ولا لحياته ، فإذا انكسفا أو أحدهما ، صلّوا » ثم نزل من المنبر ، فصلّى بالناس الكسوف ، فلمّا سلّم ، قال : « يا عليّ ، قم فجهّز ابني »
|
٤٦٤
|
« أيها الناس إنّ ألله أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتفاخُرَها بآبائها ، ألا إنّكم من آدم ، وآدم من طين ، ألا إنّ خير عباد الله عبدٌ اتَّقاه »
|
٤٧٦
|
« إنّ العربية ، ليست بأبٍ والد ، ولكنّها لسانٌ ناطقٌ ، فمن قَصُرَ عملهُ ، لم يبلغْ بهِ حَسبهُ »
|
٤٧٦
|
« إن الناس من عهد آدم إلى يومنا هذا مثل أسنان المِشط ، لا فضَلَ لِعَرَبيٍّ على عَجَميٍّ ، ولا لِأحْمَرَ على أسود ، إلا بالتقوى »
|
٤٧٦
|
« إنّما الناس رجلان ، مؤمن تقيّ كريم على الله ، وفاجر شقيّ هيِّن على الله »
|
٤٧٦
|
« خرج رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم من المدينة إلى غزوة تبوك ، وخرج الناس معه ، فقال له عليٌّ ( عليه السلام ) : « أَخْرجُ معك » ؟ ،
|
|
فقال : « لا » ، فبكي عليٌّ ، فقال له رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : « أمّا ترضَى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى ، إلّا أنّه لا نبيّ بعدي » ، أو « ليس بعدي نبي » ؟
|
٤٩٨
|
« إنّ مثلي ومثلُ الأنبياء من قبل كمثل رجل بنىٰ بيتاً ،
فأحسنه وأجمله ، إلّا موضع لَبِنَةٍ من زاوية ، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون به ، ويقولون : هلّا وضعت هذِه اللبنة . قال « فأنا اللبنة ، وأنا خاتم النبيّين » .
|
٤٩٩
|
« لي خمسة أسماء : أنا محمد ، وأحمد ، أنا الماحي ، يمحو اللهُ بيّ الكفر ؛ وأنا الحاشر ، يحشر الناس على قدمي ؛ وأنا العاقب ، الذي ليس بعده نبيّ » .
|
٤٩٩
|
« أُرسلتُ إلى الناس كافّة وبيّ خُتم النبيّيون »
|
٥٠٠
|
« فُضِّلتُ بسِتّ : اُعطِيتُ جوامِعَ الكَلِم ، وَنُصِرْتُ
بالرُّعب ، وأُحِلَّت لي الغَنائم ، وَجُعِلَتْ ليَ الأرْض طَهُورا ومسجداً ، وأُرسلْتُ إلى الخلق كافّة ، وَخُتِمَ بيَّ النَبيّون »
|
٥٠٠
|
« إذا ظهرت البِدَع ، فليُظْهر العالمُ عِلْمَهُ ، فمن لم يفعل
فعليه لعنة الله »
|
٥٠٧
|
« لقد كان فيمن قبلكم من بني إسرائيل رجال يكَلَّمونَ من غير أن يكونوا أنبياء »
|
٥١٢
|
أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) :
|
|
« فَبَعَثَ محمداً صلىاللهعليهوآلهوسلم ليخرجَ عِباده منْ عبادةِ الأوْثانِ إلى عِبادَتِهِ ومنْ طاعةِ الشِيطانِ إلى طاعَتِهِ »
|
٣٦
|
« . . . إلى أنْ بعثَ اللهُ محمداً رسول اللهِ صلىاللهعليهوآلهوسلم لإنجاز عدته وتمام نبوّته . . وأهل الأرضِ يومَئذٍ مللٌ متفرقةٌ ، وأهواءٌ منتشرةٌ ،
|
|
وطوائفٌ متشتّتةٌ ، بين مشبه للهِ بخلقه ، أو ملحدٍ في
أسمائه ، أو مشير به إلى غيره ، فهداهم به من الضلالة . . . »
|
٣٧
|
« فَبَعثَ فيهمْ رُسُلَه ، وواتَر إليهم أنبيائه ، ليستأدوهم
ميثاق فطرته ، ويذكروهم منْسِيَّ نعمته ، ويحتجّوا عليهم بالتبليغ ، ويثيروا لهم دفائن العقول . . . »
|
٤٥
|
« أيّها النّاسُ إنّ اللهَ تبارك وتعالىٰ لمّا خَلَقَ
خَلْقَه أراد أنْ يكونوا على آداب رفيعة وأخلاق شريفة ، فعلم أنّهم لم يكونوا كذلك إلّا بأن يعرّفهم ما لَهم وما عليهم ، والتعريف لا يكون إلّا بالأمر والنهي ، والأمر والنهي لا يجتمعان إلَّا بالوعد والوعيد ، والوعد لا يكون إلَّا بالترغيب ، والوعيد لا يكون إلَّا بالترهيب ، والترغيب لا يكون إلّا بما تشتهيه أنفسهم وتلذّه أعينهم ، والترهيب لا يكون إلّا بضد ذلك . . . »
|
٥٤
|
« ما أضمر أحدٌ شيئاً إلَّا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه »
|
١٤٤
|
في قوله ـ من خطبة المتّقين ـ : « هُم والجنة كمن قد
رآها ، فهم فيها منعّمون »
|
١٦٠
|
« ما عبدتك خوفاً من نارك ، ولا طمعاً في جنّتك ، إنّما وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتُك »
|
١٦٢
|
« ولا بعثَ الله نبيّاً ولا رسولاً حتّى يستكمل العقل ، ويكون عقلهُ أفضل من عقول أُمّتهِ »
|
٢١٠
|
« أيُّها النَّاس إنّ أحقّ النّاس بهٰذا الأمر أقومهم (
وفي رواية أقواهم ) وأعلمهم بأمر الله ، فإنْ شغب شاغب أُستعتب ، وإن أبىٰ قوتِل »
|
٢١٨
|
« أم هٰذا الذي أنشأه في ظلمات الأرحام ، وشُغُف الأستار ،
|
|
نُطقةً دهاقاً ، وعَلَقةً محاقاً ، وجنيناً ، وراضعاً
، ووليداً ، ويافعاً ، ثم منحه قلباً حافظاً ، ولساناً لافظاً ، وبصراً لاحظاً ، ليفهم معتبراً ، ويُقصِّرَ مُزدجراً . حتّىٰ إذ قام أعتداله ، واستوى مثالُه ، نفرَ مستكبراً ، وخَبَطَ سَادِراً ماتحاً في غرب هواهُ ، كادحاً سعياً لدنياهُ ، في لذات طَرِبِه ، وبَدَواتِ أرَبِه »
|
٢٧٣
|
« فما راعني إلَّا الناس كعرف الضبع إليَّ ، ينثالون عليَّ من
كلّ جانب ، حتىٰ لقد وُطِىء الحسنان وَشُقّ عِطفاي ، مجتمعين حولي كربيضة الغنم . فلمّا نهضت بالأمر ، نكثت طائفة ، ومرقت أُخرىٰ ، وقسط آخرون ، كأنّهم لم يسمعوا كلام الله حيث قال : ( تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ
نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) » .
|
٣٢٢
|
« وطيبوا عن أنفسكم نفساً ، وامشوا إلى الموت مشياً سُجحاً ، وعليكم بهذا السواد الأعظم ، والرِّواق المُطَنَّب ، فاضِرِبوا ثبَجَه ، فإنّ الشيطان كامن في كِسْرهِ قد قَدّم للوثبة يداً ، وأخّر للنكوص رجلاً ، فصمداً صمداً ، حتّى ينجلى لكم عمود الحقّ ؛ ( وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّـهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ )
|
٣٢٢
|
« لم يعقد غيب ضميره على معرفتك ، ولم يباشِر قَلْبَهُ اليَقيْنُ
بأنّهُ لا ندّ لك ، وكأنّهُ لم يسمع تَبَرّؤ التابعين من المتبوعين ، إذ يقولون : ( تَاللَّـهِ إِن كُنَّا لَفِي
ضَلَالٍ مُّبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) »
|
٣٢٢
|
« وكأن صرتم إلى ما صار إليه ، وارتهنكم ذلك المضجع ، وضمّكم ذلك المستودع ، فكيف بكم لو تناهت بكم الأمور ، وبعثرت القبور : ( هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا
إِلَى اللَّـهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) »
|
٣٢٣
|
« وَنَصَحتُ لكم فلم تقبلوا ، أشهودٌ كغيّاب ، وعَبيدٌ
كأرباب »
|
٤١٣
|
« هٰذه النجوم التي في المساء مدائن ، مثل المدائن التي في
الأرض ، مربوطة كل مدينة إلى عمود من نور » وفي بعض النسخ : « عمودين من نور »
|
٤٢١
|
« مُؤلِّفٌ بين متعادياتها ، مفرقٌ بين متدانياتها ، دالَّه
بتفريقها على مُفرِّقِها ، وبتأليفها على مؤلِّفها ، وذلك قوله : ( وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) »
|
٤٣١
|
« كنّا إذا احمرّ البأس ، إتّقينا برسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فلم يكن أحدٌ منّا أقرب إلا العدو منه »
|
٤٦٧
|
« وأنتم معشر العرب على شرِّ دين ، وفي شرِّ دارٍ ، منيخون بين حجارة خشن ، وحيّاة صم ، تشربون الكدر ، تأكلون الجشب ، وتسفكون دماءكم ، وتقطعون أرحامكم ، الأصنام فيكم منصوبة ، والآثام بكم معصوبة »
|
٤٦٩
|
« . . . إلى أنْ بعثَ اللهُ محمداً رسول اللهِ صلىاللهعليهوآلهوسلم لإنجاز عدته وتمام نبوّته . . مأخوذاً على النبيّين ميثاقه ، مشهورةً سماتُه ، كريماً ميلاده »
|
٥٠٠
|
« أرسلهُ على حين فترة من الرُّسل ، وتنازعٍ من الألسنِ ، فقَفّى
به الرسل ، وختم به الوحي »
|
٥٠٠
|
قال عليّ ( عليه السلام ) وهو يلي غسل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وتجهيزه : « بأبي أنت وأُمّي لقد أنقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك ، من النبوّة والانباء وأخبار السماء . . . ، خصصت حتىٰ صرت مسَلياً عمّن سواك ، وعَمَمْتَ حتىٰ صار الناسُ فيك سواء »
|
٥٠٠
|
« أمّا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فخاتم النبيّين ، ليس بعده نبيّ ولا رسول ، وختم برسول الله الأنبياء إلى يوم القيامة »
|
٥٠١
|
في خطبة الأشباح :
« . . بل تعاهدهم ( العىاد ) بالحجج على ألسن الخيرة
من أنبيائه ، ومتحمّلي ودائع رسالته ، قرْناً فقرناً ، حتّىٰ تمّت بنبيّنا محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم حُجَّتُهُ وبلغ المَقْطَعَ عُذْرُهُ ونُذُرُهُ »
|
٥٠١
|
في كلام له يحكي فيه عن صاحب التقوىٰ :
« قد أحياء عقلهُ ، وأمات نفسهُ ، حتىٰ دَقَّ
جلبلهُ ولَطَفَ غَليظُهُ ، وَبَرَقَ لَهُ لامِعٌ كثير البرق ، فأبان له الطريق ، وسلك به السبيل ، وتدافعته الأبواب إلىٰ باب السلامة ، ودار الاقامةِ ، وَثَبَتَتْ
رِجلاهُ بِطَمَأنينةٍ في بَدَنِهِ قي قرار الأمن والراحة ، بما استعمل قلبه ، وأرضي ربَّهُ »
|
٥١٢
|
قال عند تلاوته قوله سبحانه : ( يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ
وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّـهِ ) قال : « إن الله سبحانه جعل الذِّكر جلاءً للقلوب ، تسْمع به بعد الوقْرَة ، وتبصِر به بعد العشْوة ، وتنقاد به بعد المعاندة وما برحَ الله ـ عزّت آلاؤُه ـ في البُرهة بعد البُرهة ، وفي أزمان الفترات ، عباد ناجاهم في فكرهم ، وكلّمهم في ذات عقولهم ، فاستصبحوا بنور يَقظَةٍ في الأبصار والأسماع والأفئدة ، يُذكّرون بأيام الله ، ويُخَوّفون مقامه ، بمنزلة الأدلّة في الفلواتِ . . . إلى أن قال : وإنّ للذِّكْرِ لَأهلاً أحذُوه من الدنيا بدلاً ، فلم تَشغَلهُمْ تجارةٌ ولا بيعٌ عنه يقطعون به أيام الحياة ، ويهتفون بالزواجر عن محارم الله ، في أسماع الغافلين ، ويأمرون بالقسط ، ويأتمرون به ، وينهون عن المنكر ويتناهون عنه ، فكأنّما قطعوا الدنيا إلى الآخرة ، وهم فيها ، فشاهدوا ماوراء ذلك ، فمأنّما أطلعوا غيوب أهل البرزخ في طول الإقامة ، وحققت القيامة عليهم عدالتها فكشفوا غطاء ذلك لأهل الدنيا ، حتّىٰ كأنّهم يرون ما لا يرىٰ
|
|
الناس ، ويسمعون ما لا يسمعون . . . »
|
٥١٣
|
« للمؤمن ثلاث ساعات ، ساعةٌ يناجي فيها ربّه ، وساعة يَرُمّ فيها معاشة ، وساعةٌ يُخلّي بين نفسه ولذّاتها »
|
٥٢٨
|
الإمام محمد الباقر ( عليه السلام )
|
|
« إنّ الله تعالىٰ لم يدع شيئاً تحتاج إليه الأمّة إلّا
أنزله في كتابه وبيّنه لرسوله ، وجعل لكلّ شيئاً حدّاً ، وجعل عليه دليلاً يدلّ عليه »
|
٤١٠
|
« إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، سبيل الأنبياء ومنهاج الصُلحاء ، وفريضة تقام بها الفرائض ، وتؤمن المذاهب ، وتحِلُّ المَكاسب ، وتردّ المظالم ، وتعمر الأرض ، وينتصف من الأعداء ، ويستقيم الأمر »
|
٥٠٧
|
الإمام جعفر الصادق ( عليه السلام )
|
|
قال له أحد أصحابه : إنّا نكلّم الناس فتحتج عليهم
بقول الله عزّ وجلّ : ( أَطِيعُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ) فيقولون : نزلت في أُمراء السرايا ، فتحتجّ عليهم بقوله عزّ وجلّ : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّـهُ
وَرَسُولُهُ . . إلى آخر الآية ) فيقولون نزلت في المؤمنين ، ونحتجّ عليهم بقول الله عزّ وجلّ : ( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ) فيقولون : نزلت في قربى المسلمين ، قال : فلم أَدَعْ ممّا حضرني ذكره من هذه وشبهها إلّا ذكرته .
فقال ( عليه السلام ) : « إذا كان ذلك فادعهم إلى
المباهلة . . . إلى آخر الحديث »
|
١٠٦
|
روى زرارة عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال :
سمعته يقول « صحبني رجلٌ كان يُسمي بالمغرب ويُغلس بالفجر » ، وكنت أنا
|
|
أُصلّي المغرب إذا غربت الشمس وأُصلّي الفجر أذا
استبان الفجر فقال لي الرجل : ما يمنعك أن تصنع مثل ما أصنع ؟ فإنّ الشمس تطلع على قوم قبلنا وتغرب عنّا ، وهي طالعة على قوم آخرين بعد ، قال : فقلت إنّما علينا أن نصلّي إذا وجبت الشمس عنّا ، وإذا طلع الفجر عندنا ، ليس علينا إلَّا ذلك ، وعلى أُولئكَ أن يصلّوا إذا غربت الشمس عنهم »
|
٤٢٢
|
عن معنىٰ العالمين في الآية ( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ
الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ) ، قال : « عنىٰ به الناس ، وجعل كلُّ واحدٍ عالماً »
|
٤٩٤
|
الإمام موسى الكاظم ( عليه السلام )
|
|
« يا هشام ما بعث الله أنبياءه ورسله إلى عباد إلَّا ليعقلوا عن الله ، فأحسنهم استجابة أحسنهم معرفة ، وأعلمهم بأمر الله أحسنهم عقلاً ، وأكملهم عقلاً أرفعهم درجة في الدنيا والآخرة »
|
٣٧
|
« إنّ الله على الناس حجّتين ، حجّة ظاهرة ، وحجّة باطنة ، فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء ، والأئمّة ، وأمّا الباطنة فالعقول »
|
٥٢١
|
الإمام عليّ الرضا ( عليه السلام )
|
|
« لم يكن بدّ من رسول الله بينه وبينهم ، يؤدّي إليهم أمره ونهيه
وأدبه ، ويقفهم على ما يكون به من إحراز منافعهم ودفع مضارّهم إذا لم يكن في خلقهم ما يعرفون به ما يحتاجون »
|
٣٧
|
في جواب من سأله عن سبب غضاضة القرآن وطرواته في كل عصر : « إنّ الله تعالىٰ ، لم يجعله لزمان دون زمانٍ ، ولا لناس دون ناس فهو في كل زمان جديد ، وعند كلّ قوم غضٌّ إلى يوم القيامة »
|
٤١٩
|
الصدوق ، عن أبيه ، عن الحسين بن خالد ، عن أبي الحسن الرضا ( عليه السلام ) ، قال : قلت له : أخبرني عن قول الله تعالىٰ : ( . . . رَفَعَ السَّمَاوَاتِ
بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ) فقال : «
سبحانه الله ، أليس يقول : ( بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ) ؟ »
فقلت : بلىٰ .
فقال : « ثمَّ عَمَد ، ولكن لا تُرىٰ » .
|
٤٢١
|
فهرس الأشعار
|
٣٥٦
|
|
٣٥٧
|
* * *
|
|
|
٨٤
|
|
٣٥٧
|
|
٣٦٣
|
|
٤٥٧
|
|
٥٢٧
|
* * *
|
|
|
|
|
٣٥٠
|
|
٣٦٣
|
|
٣٩٧
|
* * *
|
|
|
١٣٩
|
|
١٤٥
|
|
|
|
٣٥٦
|
* * *
|
|
|
٢٦٩
|
|
٣٦٢
|
* * *
|
|
|
٤٦٥
|
* * *
|
|
|
٢٨٧
|
* * *
|
|
|
٤٨٦
|
* * *
|
|
فهرس الأعلام والكنىٰ والألقاب
( حرف الألف )
آدم ( عليه السلام ) : ١٨١ ، ٣٧٩ ، ٣٨٠ ، ٥٠٢ ، ٥٣٠
إبراهيم ( عليه السلام ) : ٢١٨ ، ٢٨٨ ، ٣٣٢ ، ٣٧٩ ، ٣٨٤ ، ٣٨٥ ، ٣٨٦ ، ٤٧٨ ، ٤٨١
إبراهيم ( ابن الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ) : ٤٦٤
ابن حزم : ٣٤٣
ابن خلدون : ٤٦١
ابن الراوندي : ٣٦٤
ابن سعد : ٤٨٨
ابن السكيت : ٢٣٧ ، ٢٣٨
ابن سنان الخفاجي : ٣١٤ ، ٣٣٨ ، ٣٤٣
ابن عباس : ٤١٩ ، ٥٣١
ابن فارس : ١٢٣ ، ١٥٧
ابن ماجة : ٤٩٩
|
|
ابن مسعود : ٢٠٧
ابن منظور : ١٢٤
ابن هشام : ٣٥٤
أبو إسحاق النصيبي : ٣٣٧
أبو إسحاق النظام : ٣٣٧ ، ٣٣٩
أبو أمية ابن المغيرة : ٤٥٦
أبو نصير : ٢٥٥
أبو بكر ( الخليفة الأول ) : ٢٠٧
أبو جهل : ٢٥٣ ، ٢٥٧
أبو حمزة البطائني : ٥٣١
أبو داود : ٢٠٤ ، ٢٠٦ ، ٢٠٧ ، ٢٠٨
أبو ذر ( الغفاري ) : ٤٦٥
أبو سفيان بن حرب : ١٢٠ ، ١٢١ ، ٢٥٣ ، ٤٥٩
أبو طالب : ٤٥٦
أبو العلاء المعري : ٣٦٣ ، ٣٦٤ ، ٣٦٥
|
أبو لهب : ٤٦٨
أبو محمد الدميري : ٤٨٦
أبو نؤاس : ٣٥٧
أبو هريرة : ٢٠٥ ، ٢٠٦
أبو يعقوب البغدادي : ٢٣٧
أُبي بن كعب : ٥٣١
أحمد بن الحسين المتنبي : ٣٦٢
الأحنف بن قيس : ٣٥٥ ، ٣٥٦
الأخنس بن شريف : ٣٥٤
أرسطو : ٣٣
إسحٰق ( عليه السلام ) : ٣٨٨ ، ٤٥٣
إسحٰق بن الحسن الأقرائي : ٢٠٢
أسعد بن زرارة : ٢٤٩ ، ٢٥٠ ، ٢٥١
إسماعيل ( عليه السلام ) : ٤٥٣
الأسود العنسي : ٣٦١
أُسيد بن الحضير : ٢٥١
الأصبغ بن نباته : ٥١٣
الاصفهاني ( العلّامة ) : ٣١٩ ، ٥٢٤
الأعشىٰ : ٢٥٤ ، ٢٥٥
أفلاطون : ٣٣
امرؤ القيس : ٢٣٧ ، ٣٤٥ ، ٣٤٦
أم جميل ( زوجة أبو لهب ) : ٤٦٨
أم موسى ( عليها السلام ) : ١٢٦
|
|
إميل درمنغام : ١٣٦
أنجلز : ٣٥
أوليفر لودج : ١٤١
أويس القرني : ٥١٣
الايجي : ١٦٦ ، ٢٠٠
( حرف الباء )
الباقلاني : ١٨٣ ، ٢٠٠ ، ٣١٩
البخاري : ٢٠٤ ، ٢٠٦ ، ٢٠٧ ، ٤٩٩
برنابا : ٤٥٣
بطليموس : ٤٢٣
بلال الحبشي : ٢٠٤ ، ٤٦٨
بلقيس ( ملكة سبأ ) : ٧٠ ، ٧٨
البوصيري : ١٤٥
بولص : ٤٥٣
البيضاوي : ٤٨٧
( حرف التاء )
الترمذي : ٢٠٧ ، ٢٠٨
ترودم : ١٤٢
تقي الدين الحلبي : ٣٤١
|
( حرف الجيم )
جاليلو : ٤٢٣
الجبّائي : ٢٠٠ ، ٢٠٤
جبر : ٣٧٦
جبرائيل ( عليه السلام ) : ١٣٢ ، ١٣٧ ، ١٦٩
جرير : ٣٥٧
حعفر بن الحسن الحلّي ( المحقق ) : ٢٠١
جلاسيوس الأول : ٤٥٣
جويك : ١٤٠
( حرف الحاء )
الحاكم : ٤٩٩
الحرّ العاملي : ٢٠٢ ، ٢٠٥ ، ٤٤٥
الحسين بن خالد : ٤٢١
الحلّي ( العلامة ) : ٥٥ ، ٢٠١ ، ٣٥٠ ، ٤١٠ ، ٤١١
حمزة بن عبد المطلب : ٢٤٧
حواء : ٣٨٠
حويطب بن عبد العزىٰ : ٣٧٦
( حرف الخاء )
خباب بن الأرت : ٤٦٥
|
|
خديجة : ٢٧٧
الخرباق : ٢٠٦
الخضر ( عليه السلام ) : ١٩٩
الخطابي : ٢٧٥ ، ٣٤٠ ، ٣٤٧ ، ٣٥٣ ، ٣٥٧
الخطيب البغدادي : ٣٦٣
الخميني ـ قدس سره ـ : ٥٢٦
الخوئي ـ دام ظلّه ـ : ٩٦ ، ٩٧ ، ٣٥٣
( حرف الدال )
داروين : ١٤١
داود ( عليه السلام ) : ١٦٣ ، ٢١٧ ، ٣٧٩ ، ٣٨٩ ، ٣٩٠ ، ٣٩١
( حرف الذال )
ذا النون : ٣٥٩
ذو اليدين : ١٨٤ ، ٢٠٢ ، ٢٠٥ ، ٢٠٧ ، ٢٠٨
الذهبي : ٣٦٣
( حرف الراء )
الرازي : ٤١٧
الراغب : ١٢٤ ، ٤٢٩
|
ربيع الذئبي ( الشهير به « سطيح » ) : ٣١٨
رشيد الهجري : ٥١٣
الرماني : ٣١٤ ، ٣٤٠ ، ٣٤٨
( حرف الزاي )
الزبيدي : ٣٩٧
الزبير بن عبد المطلب : ٣٩٧
زرارة : ٤٢٢
زكريا ( عليه السلام ) : ١٢٧ ، ٣١٣
زكوان : ٢٤٩ ، ٢٥١
الزلمكاني : ٣٠٨
زليخا : ٣٣٤
الزمخشري : ٣٧٩
زيد ( تبنّاه الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ) : ٤٨٦
زيد بن صوحان : ٥١٣
زينب ( زوجة زيد ) : ٤٨٦
( حرف السين )
سجاح بنت الحارث التميمية : ٣٥٨ ، ٣٨١
سحبان بن وائل : ٣٤٥
سعد بن معاذ : ٤٦٦
|
|
سعد الدين التفتازاني : ٣٦٣
سقراط : ٣٣
سلمان الفارسي : ٣٧٦ ، ٤٦٥
سليمان ( عليه السلام ) : ٧٨ ، ١٦٣ ، ٢١٧ ، ٢٤١ ، ٣٧٩ ، ٣٨٩ ، ٣٩٠
السيوري ( المقداد ) : ١٦١ ، ٢٠٢
السيوطي : ٢١٩
( حرف الشين )
الشيخ الرئيس ( ابن سينا ) : ٤٤ ، ٦٥ ، ٧٨
الشهرستاني : ٣٢٩
( حرف الصاد )
صالح ( عليه السلام ) : ٩٣ ، ٣٣٧
صدر المتألّهين : ٧٨ ، ١٤٨
الصدوق : ٢٠٢ ، ٢٠٣ ، ٢٠٤ ، ٤٢١
الصدوق ( أبيه ) : ٤٢١
صعصعة بن صوحان : ٥١٣
( حرف الضاد )
ضبّة : ٣٦٢
|
( حرف الطاء )
الطباطبائيّ ( العلّامة ) : ١٠١ ، ١٠٥ ، ١٧٣ ، ١٨٨ ، ١٩٥ ، ٣٠٦ ، ٥٣١
الطبرسي : ٢٠٣ ، ٢٠٤ ، ٣٤٠
الطبري : ٣٥٥ ، ٣٦٠
الطوسي (شيخ الطائفة ) : ٢٠١ ، ٣٣٨ ، ٣٤٢ ، ٣٤٣ ، ٣٤٦ ، ٥٣٠
الطوسي ( المحقق ) : ١٦٧ ، ١٨٤ ، ٣٤٤
الطفيل بن عمر الدوسي : ٢٥٣ ، ٢٥٤
طليحة بن خويلد الأسدي : ٣٥٩ ، ٣٦٠
الطنطاوي : ٨٨
( حرف العين )
عائش ( أو يعيش ) : ٣٧٦
العاص بن وائل السهمي : ٢٧٧ ، ٣٩٧
عامر بن الحضرمي : ٢٧٦
عبَّاد بن سليمان الصيمري : ٣٣٧
عبد الله بن جدعان : ٣٩٧
عبد الله ( ابن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ) : ٢٧٧
عبد الله شبّر : ٢٠٣
عبد الله بن مسعود : ٤٦٨
عبد الله بن المقفع : ٣٢٥ ، ٣٦٢
عبد الجبار ( القاضي ) : ٣٥ ، ٥٥ ،
|
|
٥٧ ، ٦٢ ، ١٠٩ ، ١١١ ، ١٦٦ ، ١٧١ ، ٢٠٠
عبد القاهر الجرجاني : ٣٠٧ ، ٣٥٢ ، ٣٦٤
عبد المسيح : ٣١٨
عبد المطلب ( جد الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ) : ٤٥٦
عتبة بن ربيعة : ٢٤٢ ، ٢٤٧ ، ٢٤٨ ، ٢٤٩ ، ٣٤٥
العزيز : ٣٣٥
عكاشة : ٣٦٠
علي بن حامد : ٣٦٢
عماد الدين أبو عبد الله محمد بن حامد الاصفهاني : ٣٧٣
عمران بن حصين : ٢٠٤ ، ٢٠٦
عمر بن الخطاب : ٢٠٧ ، ٣٦٠
عنترة : ٣٤٥
العياشي : ٥٣١
|
٤٥٣ ، ٤٨٠
عيسو ( ابن اسحٰق ( عليه السلام ) ) : ٣٨٨ ، ٣٨٩
( حرف الفاء )
فاطمة ( عليها السلام ) : ٥١٢
فرعون : ٤٧٨
فرويد : ١٤٤
فريد وجدي : ١٤٠
فندر : ٤٣٧
( حرف القاف )
قس بن ساعدة : ٣١٧ ، ٣٤٥
القطب الراوندي : ٣٤١
القوشجي : ٩٦ ، ١٦٦ ، ٢١٣
قيصر ( ملك الروم ) : ١٢٠ ، ١٢١ ، ١٢٢ ، ٤٥٩ ، ٤٧٦
( حرف الكاف )
الكرماني : ٣٢٩
كريستوف كولمبوس : ٤٢٣
كسرىٰ : ٤٧٦
الكليني : ٢٠٥ ، ٢٣٧
|
|
كمال الدين عمر بن أحمد الحلّي : ٣٦٣ ، ٣٦٤
كميل بن زياد : ٥١٣
كوپرنيک : ٤٢٣
( حرف اللام )
لوط ( عليه السلام ) : ٣٧٩ ، ٣٨٦ ، ٤٩٣ ، ٤٩٤
لينة : ٤٦٠
لينين : ٣٥
( حرف الميم )
ماركس : ٣٥
ماروت : ٣٠٥
ماكيافللي : ١١٩
المأمون الحارثي : ٣١٨
محمد باقر المجلسي : ٢٠٢
محمد بن الحسن بن الوليد ( القمي ) : ٢٠٣
محمد بن الحسين ( بهاء الدين العاملي ) : ٢٠٢
محمد بن مكي العاملي ( الشهيد الأول ) : ٢٠٢
|
محمد رشيد رضا : ١٢٢
محمد عبده : ٨٨ ، ١٣٠
المرتضىٰ : ١٦٩ ، ١٧٢ ، ١٧٤ ، ١٧٧ ، ١٨٣ ، ١٨٤ ، ٣٣٨ ، ٣٤١ ، ٣٤٣ ، ٣٦٣
مريم ( عليها السلام ) : ٨٣ ، ٥١٢
مسلم ( مؤلف الصحيح ) : ٢٠٤ ، ٢٠٦ ، ٢٠٧ ، ٤٩٩
مسمر : ١٠٧
مسيلمة بن حبيب ( الكذّاب ) : ٣٢٣ ، ٣٥٣ ، ٣٥٤ ، ٣٥٥ ، ٣٥٦ ، ٣٥٨ ، ٣٦٠
مصعب بن عمير : ٢٥١
المفيد ( الشيخ ) : ٥٧ ، ١٧٤ ، ١٧٧ ، ٢٠١ ، ٢٠٢ ، ٣٣٨ ، ٢٤١
المقداد بن عمرو : ٤٦٦
المقريزي : ٥٢٥
المقوقس : ٤٧٦
موسى ( عليه السلام ) : ١٠٨ ، ١١٠ ، ١١١ ، ١٩٩ ، ٢١٧ ، ٢١٨ ، ٢٣٥ ، ٢٣٦ ، ٢٣٨ ، ٢٤٠ ، ٣٧٤ ، ٤٤٥ ، ٤٤٧ ، ٤٦٦ ، ٤٧٨ ، ٤٨٠ ، ٤٩٨ ، ٤٩٩
موسيه : ١٤٢
|
|
مونتين : ١٣٦
ميثم التمّار : ٥١٣
ميرس : ١٤٢
( حرف النون )
النائيني ( المحقق ) : ٥٢٦
النابغة الذبياني : ٣٥٦
النجاشي ( ملك الحبشة ) : ٤٧٦
النظر : ٢٥٨
النعمان : ٣٥٦
نوح ( عليه السلام ) : ٢١٨ ، ٣٧٩ ، ٣٨٢ ، ٣٨٣
نيوتن : ٤٢٠
( حرف الهاء )
هاروت : ٣٠٥
هارون ( أخو موسى ( عليه السلام ) : ٤٩٨ ، ٤٩٩
هبيرة بن وهب المخزومي : ٤٥٧
هشام بن الحكم ( تلميذ الكاظم ـ عليه السلام ـ ) : ٥٢١
هشام بن عمرو الفوطي : ٣٣٧
|
( حرف الواو )
الوليد بن المغيرة : ٢٤٢ ، ٢٤٥ ، ٢٤٦ ، ٢٥٦ ، ٢٥٧ ، ٢٦٩ ، ٣٤٥ ، ٣٤٦
( حرف الياء )
ياسر : ٤٦٨
ياقوت الحموي : ٣٦٣ ، ٣٦٤ ، ٣٦٥
يحيىٰ بن حمزة العلوي : ٢٦٨ ، ٢٦٩ ، ٣٤٥ ، ٣٤٨
يسار : ٣٧٦
يعقوب ( عليه السلام ) : ١٦٣ ، ٣٧٩ ، ٣٨٧ ، ٣٨٨
يوحنا : ٤٤٩
يوسف ( عليه السلام ) : ١٢٦ ، ٣١٢ ، ٢١٣ ، ٣٣٤ ، ٣٣٥
يوشع بن نون : ٥٣١ ، ٥٣٢
يونس ( عليه السلام ) : ١٨١
|
|
|
فهرس الفرق والديانات والمذاهب
الأزارقة : ١٦٥
|
|
الأشاعرة : ١٥٨ ، ١٦٦ ، ١٨٣ ، ٢٠٠
الإمامية : ١٦٦ ، ٢٠٠ ، ٢٠٣ ، ٢٠٤ ، ٢٠٥ ، ٣٣٨ ، ٥٢٢
البابية : ٥٠١
البهائية : ٥٠١
الحشوية : ١٦٥
الحنابلة : ٤٩٩
السنّة : ١٨٣ ، ٤٤٥ ، ٥٠٧ ، ٥٢٥
الشيعة : ١٦٤ ، ١٦٥ ، ١٨٣ ، ٢٠١ ، ٢٣٧ ، ٣٤٩ ، ٤٤٥ ، ٤٩٩ ، ٥٠٧ ، ٥٠٨
الشيوعيه : ٣٥
الصابئين : ٤٠٧ ، ٤٧٨
الصَّرْفة : ١٣٦ ، ٣٣٧ ، ٣٣٨ ، ٣٣٩ ، ٣٤٠ ، ٣٤٢ ، ٣٤٣ ، ٣٤٤ ، ٣٤٥ ، ٣٤٦ ، ٣٤٧ ، ٣٤٧ ، ٣٤٨ ، ٣٥٠
|
عبدة الأصنام ( والأوثان ) : ٣٣ ، ٦١ ، ٣١٣ ، ٣٤٢
الفلاسفة ( الحكماء ) : ٢٣ ، ٧٧ ، ١٣١ ، ٣٢٠ ، ٣٦٨ ، ٤٢٣
القاديانية : ٥٠١
الكفّار ( الكافرون ) : ٢٥١ ، ٢٩٥ ، ٢٩٦ ، ٣٦٤ ، ٤١٧ ، ٤٤٠ ، ٥٢٢
المجوس : ٤١٥
المرتاضون : ٧٢ ، ٧٧
المسلمون : ٦١ ، ٦٧ ، ٨٧ ، ٨٨ ، ١٠٤ ، ١٠٥ ، ١٠٦ ، ١٣٣ ، ١٦٣ ، ١٦٤ ، ٣٣٧ ، ٣٤٩ ، ٣٥٢ ، ٣٥٤ ، ٣٥٩ ، ٣٦٠ ، ٤٠٠ ، ٤٠١ ، ٤٠٢ ، ٤١٠ ، ٤١٢ ، ٤١٥ ، ٤١٦ ، ٤٢٨ ، ٤٤٥ ، ٤٤٨ ، ٤٦٣ ، ٤٨٢ ، ٥٠١ ، ٥٢٢ ، ٥٢٣ ، ٥٢٦
المسيحية : ٤١٥ ، ٤٨١ ، ٥١٩
المسيحيون : ١٣٥ ، ٤٣٧
المشّائيون : ١٤٦ ، ١٥٠
المشبّهة : ٣٢٢
المشركون : ٦٣ ، ٢٤٥ ، ٢٥٢ ، ٢٥٣ ، ٢٥٥ ، ٢٨٠ ، ٢٩٣ ، ٣٤٨ ، ٤٠٦ ، ٤١٥ ، ٤١٦ ، ٤١٧ ،
|
|
٤٣٩ ، ٤٤١ ، ٤٤٣ ، ٤٦٣
المعتزلة : ١٦٥ ، ١٨٣ ، ٢٠٠
الملاحدة : ٣٦١ ، ٣٦٩
الناصبة : ٢٠١
النصارىٰ : ١٠٤ ، ١٠٥ ، ١١٦ ، ١٦٣ ، ٣٧٩ ، ٤٠٧ ، ٤٤٢ ، ٤٤٧ ، ٤٧٨ ، ٤٧٩ ، ٤٨٠ ، ٤٨١ ، ٤٨٣
النصرانية : ٣٤ ، ٣٦٠ ، ٤٨٠ ، ٤٨١
الوثنية : ٢٢١ ، ٢٤٩ ، ٣٣١ ، ٣٨٨ ، ٤١٥ ، ٤٥٩ ، ٤٦٠
الوثنيون : ٣٨٤
اليهود : ١٠٥ ، ١١٦ ، ١٦٣ ، ٢٥١ ، ٣٧٩ ، ٤٠٦ ، ٤٤٧ ، ٤٥١ ، ٤٥٢ ، ٤٧٨ ، ٤٧٩ ، ٤٨٠ ، ٤٨١ ، ٤٨٣
اليهودية : ٤٨٠ ، ٤٨١
|
فهرس الشعوب والقبائل والأمم
أهل يثرب : ٢٢٣ ، ٢٥١
أهل اليمامة : ٣٦٠
الأوس : ٢٤٩ ، ٢٥١ ، ٤٦١
بنو إسرائيل : ١٧٤ ، ٢٢٥ ، ٢٩١ ، ٤٣٥ ، ٤٦٦ ، ٥١٢
بنو أميّة ( الأمويين ) : ٤١٦ ، ٤١٧
بنو تغلب : ٣٦٠
بنو تميم : ٣٥٧ ، ٣٩٧
بنو ساسان : ٣١٨
بنو سهم : ٢٧٧
بنو عبد الدار : ٤٥٦
بنو عبد المطلب : ٢٢٢
بنو عدي : ٤٥٦
بنو عمون : ٣٨٧
بنو مخزوم : ٢٤٦
|
|
بنو هاشم : ٢٢١ ، ٢٥٠ ، ٢٩٧
الحجازيون : ٣٦٩
الخزرج ( الخزرجيون ) : ٢٤٩ ، ٢٥١ ، ٤٦١
الرومان : ٢٣٦
زهرة : ٣٩٧
العباسيون : ٣١٤
العرب : ٢٢٢ ، ٢٣٧ ، ٢٤٤ ، ٢٤٥ ، ٢٤٦ ، ٢٤٨ ، ٢٥٤ ، ٢٥٦ ، ٢٥٧ ، ٢٥٩ ، ٢٦٠ ، ٢٦١ ، ٢٦٢ ، ٢٨٠ ، ٢٩٠ ، ٣١٧ ، ٣١٨ ، ٣١٩ ، ٣٢٩ ، ٣٣٧ ، ٣٤٠ ، ٣٤٣ ، ٣٤٤ ، ٣٤٥ ، ٣٤٦ ، ٣٤٧ ، ٣٤٨ ، ٣٤٩ ، ٣٥٠ ، ٣٥١ ، ٣٥٢ ، ٣٥٣ ، ٣٥٨ ، ٣٦١ ، ٣٦٥ ، ٣٦٩ ،
|
٣٧٦ ، ٤٢٣ ، ٤٥٦ ، ٤٦١ ، ٤٦٨ ، ٤٦٩ ، ٤٨٦ ، ٤٨٨
الفراعنة : ٣١٠
الفرس : ٢٢١ ، ٢٥٨ ، ٤١٥ ، ٤٧٦
القبط : ٤٧٦
قريش : ٢٢١ ، ٢٤٦ ، ٢٤٧ ، ٢٤٨ ، ٢٥٤ ، ٢٥٥ ، ٢٥٦ ، ٢٥٧ ، ٢٧٧ ، ٣٢٢ ، ٣٥٢ ، ٣٩٧ ، ٤١٦ ، ٤٥٦ ، ٤٥٧ ، ٤٦٤ ، ٤٦٦ ، ٤٦٨
قوم لوط : ٤٩٣
المصريون : ٣٨٦
الموابيون : ٣٨٧
|
|
|
فهرس الأمكان والوقائع
اُحد : ٤٦٧
اسطنبول : ١٢٢
أُمّ القرىٰ : ٣٦٨ ، ٤٧٧
أمريكا : ١٤٠
انكلترا : ١٤١
اُورشليم : ٣٩٠ ، ٣٩٢ ، ٤٥٣
اوروبا : ١٤٠ ، ٤٥٣
بابل : ٣٠٤
بدر : ٤١٦ ، ٤١٧ ، ٤٦٦
تبوك : ٤٩٨ ، ٤٩٩
الجزيرة العربية : ٢٥٨ ، ٢٦٠ ، ٣٩٧ ، ٣٩٨ ، ٤٦١ ، ٤٦٨
جنوب شرق آسيا : ٣٣
الحبشة : ٤٧٦
الحجاز : ٣٦٩ ، ٤٢٣ ، ٤٧٧ ، ٤٧٨
حنين : ٤٦٧
دماوند : ٣٠٤
رأس العين : ٣٠٤
سبأ : ٧٠ ، ٧٨
|
|
سوريا : ٢٣٦
الشام : ٧٠ ، ١٢٠ ، ١٢٢
صفين : ٣٢٢
فلسطين : ٧٨ ، ٢٣٦
العراق : ٣٠٤
عكاظ ( سوق ) : ٢٣٧ ، ٣١٧ ، ٣٦٩
الغدير : ٤١٦
كمبريدج : ١٤٠
لندرة : ١٤٠
المدينة ( المنّورة ) : ٢٥١ ، ٤٥٨
المسجد الأقصىٰ : ٤٤١
المسجد الحرام : ٣٢٢ ، ٤٤١
مصر : ٢٩٤ ، ٣٦٧
نجران : ٤٤٢
نصييبين : ٣٠٤
الهند : ٤٤٢
اليابان : ٣٣
يثرب : ٢٢٣
اليمن : ٧٠ ، ٧٨ ، ٣٦١
|

المحتويات
تصدير بقلم الحاضر..................................... ٥
تطوير علم الكلام أو رصد الحركات الإلحادية .............. ٥
الأول
: فصل الدين عن العلم .......................... ٨
الثاني
: النسبية أو نفي الحقائق المطلقة ................... ٩
الثالث
: إنكار الفطريات ............................. ١٢
الرابع
: الغرور بالعلم ................................ ١٣
دواء يزيد داء ....................................... ١٧
الفصل
السابع : النبوة العامة ........................... ١٩
النبوة
العامة : مقدمة .................................. ٢٠
مباحث
النبوة العامة ................................... ٢٢
البحث
الأول ـ لزوم بعثة الأنبياء ........................ ٢٢
١
ـ أدلة لزوم البعثة : حاجة المجتمع إلى القانون الكامل ............ ٢٣
الأمر
الأول : نزعة الإنسان إلى الحياة المدنية ............. ٢٣
الأمر
الثاني : الحياة الاجتماعية رهن القانون ............. ٢٤
الأمر
الثالث : شرائط المقنِّن .......................... ٢٤
الشرط الأول : أن يكون المقنن عارفاً بالإنسان ........... ٢٥
الشرط الثاني : أن لا يكون المقنن منتفعاً بالقانون ......... ٢٦
الشرط الثالث : إصلاح الباطن ........................ ٢٦
٢
ـ أدلة لزوم البعثة : حاجة المجتمع إلى المعرفة ......... ٣١
الأمر الأول : الهداية التكوينية ......................... ٣٢
الأمر الثاني : قصور العلم الإنساني في مجال المعارف الإلهية ........ ٣٢
الأمر الثالث : ضالة العلم الإنساني في التعرف على المصالح والمفاسد ........................... ٣٤
إشارة إلى هذا الدليل في الكتاب ....................... ٣٦
٣
ـ أدلة لزوم البعثة : هداية الفطريات وتعديل الغرائز ...... ٣٩
الأمر الأول ـ الإنسان مجبول على فطرياته وغرائزه .......... ٣٩
الأمر الثاني ـ حاجة الفطريات إلا الهداية والغرائز إلى التعديل ........... ٤٠
الأنبياء والفطرة في الحديث ............................ ٤٤
٤
ـ أدلة لزوم البعثة : بعثة الأنبياء أولىٰ من الكماليات .......... ٤٧
٥
ـ أدلة لزوم البعثة : اللطف الإلهي .................... ٥١
أ ـ اللطف المحصِّل .................................... ٥١
ب ـ اللطف المقرِّب .................................. ٥٢
أدلة
منكري بعثة الأنبياء ............................... ٥٩
الدليل الأول : ...................................... ٥٩
الدليل الثاني : ...................................... ٦٠
الدليل الثالث : ..................................... ٦١
الدليل الرابع : ...................................... ٦٢
مباحث
النبوة العامّة ................................... ٦٥
البحث
الثاني : ما تثبت به دعوى النبوة ................. ٦٥
طرق التعرف على صدق الدعوى ...................... ٦٥
١
ـ طرف إثبات النبوة ـ الإعجاز وهي على ثمان جهات ... ٦٧
الجهة
الأولى : تعريف المعجزة ......................... ٦٩
١ ـ الإعجاز خارق للعادة وليس خارقاً للعمل ............ ٦٩
٢ ـ الإعجاز يجب أن يكون مقترناً بالدعوى .............. ٧١
٣ ـ عجز الناس عن مقابلته ........................... ٧١
٤ ـ أن يكون عمله مطابقاً لدعواه ...................... ٧٢
الجهة
الثانية : هل الإعجاز يخالف أصل العلية ؟ ......... ٧٣
الجهة
الثالثة : ما هي العلّة المحدثة للمعجزة ؟ ........... ٧٥
القول الأول : إنّها الله سبحانه ......................... ٧٥
القول الثاني : إنّها علل مادية غير متعارفة ................ ٧٦
القول الثالث : إنّها الملائكة والموجودات المجردة ............ ٧٦
القول الرابع : إنّها نفس النبي وروحُه ..................... ٧٧
الجهة
الرابعة : هل الإعجاز يضعضع برهان النظم ؟ ....... ٨٣
الجهة
الخامسة : الإعجاز والمتجددون من المسلمين .... ٨٧
الجهة
السادسة : دلالة الإعجاز على صدق دعوى النبوة .... ٩٣
البيان الأول لوجود الرابطة المنطقية ...................... ٩٤
القرآن والدعوى الكاذبة .............................. ٩٧
البيان الثاني لوجوه الرابطة المنطقية ...................... ٩٩
الجهة
السابعة : هل حرم الإنسان المعاصر من المعاجز والكرامات ؟ ....................... ١٠٣
الأولى ـ القرآن الکريم ............................... ١٠٣
الثانية ـ المباهلة ..................................... ١٠٤
الجهة
الثامنة : بماذا تميّز المعجزة عن السحر ......... ١٠٧
الأول : إنّ السحر ونحوه رهن التعليم دون الإعجاز ...... ١٠٨
الثاني : إنّ السحر ونحوه قابل للمعارضة دون المعجزة ..... ١٠٩
الثالث : إنّ السحر ونحوه لا يقترن بالتحدي بخلاف الإعجاز ............................... ١٠٩
الرابع : إنّ السحر ونحوه محدود من حيث التنوع دون المعاجز ................................ ١١٠
الخامس : الإختلاف من حيث الأهداف والغايات ...... ١١١
السادس : الاختلاف في النفسانيات .................. ١١٢
٢
ـ طرق إثبات النبوة ـ تنصيص النبي السابق على نبوة اللاحق ............................. ١١٥
٣
ـ طرق إثبات النبوة ـ جمع القرائن والشواهد .......... ١١٧
١ ـ نفسيات النبي .................................. ١١٧
٢ ـ سمات بيئته .................................... ١١٨
٣ ـ مضمون الدعوة ................................ ١١٨
٤ ـ ثباته في طريق دعوته ............................ ١١٨
٥ ـ الأدوات التي يستفيد منها في دعوته ................ ١١٩
٦ ـ المؤمنون به ..................................... ١١٩
مباحث
النبوة العامّة ................................. ١٢٣
البحث
الثالث : الوحي وأقسامه ...................... ١٢٣
الأمر
الأول : الوحي في اللغة ........................ ١٢٣
الأمر
الثاني : الوحي في القرآن الکريم ................. ١٢٤
١ ـ تقدير الخلقة بالسنن والقوانين .................. ١٢٥
٢ ـ الإدراك بالغريزة .............................. ١٢٥
٣ ـ الإلهام والإلقاء في القلب ...................... ١٢٦
٤ ـ الإشارة ..................................... ١٢٧
٥ ـ الإلقاءات الشيطانية .......................... ١٢٧
٦ ـ كلام الله تعالى المنزل على نبي من أنبيائه ......... ١٢٧
الأمر
الثالث : حقيقة الوحي في النبوة ................. ١٢٨
النظرية
الأولى : الوحي نتيجة النّبوغ .................. ١٣١
تحليل نظرية النبوغ ............................... ١٣٢
النظرية
الثانية ـ الوحي النفسي ....................... ١٣٥
١ ـ الوحي نتيجة تجلّي الأحوال الروحية ............. ١٣٦
٢ ـ الوحي نتيجة ظهور الشخصية الباطنة ............ ١٤٠
٣ ـ نظرية الفلاسفة المشائيين في الوحي .............. ١٤٦
مباحث
النبوة العامّة : ............................... ١٥٢
البحث
الرابع : سمات الأنبياء ..................... ١٥٣
١
ـ سمات الأنبياء ـ العصمة .......................... ١٥٥
المرتبة
الاولى للعصمة : العصمة عن الذنوب .......... ١٥٧
المقام
الأول ـ حقيقة العصمة عن المعاصي ............. ١٥٧
الوجه الأول : العصمة غصن من دوحة التقوى ....... ١٥٨
الوجه الثاني : العصمة نتيجة العلم القطعي بعواقب
المعاصي .............................. ١٥٩
الوجه الثالث : الاستشعار بعظمة الرب وكماله
وجماله ..... ١٦٢
المقام
الثاني ـ مبدأ ظهور فكرة العصمة ............... ١٦٣
المقام
الثالث ـ دليل لزوم عصمة الأنبياء عن الذنوب .... ١٦٥
الدليل الأول ـ الوثوق فرع العصمة .................. ١٦٧
الدليل الثاني ـ التربية وهن عمل المربّي ................ ١٧٠
سؤالان
هامّان : ................................... ١٧٢
السؤال الأول : هل العصمة تسلب الاختيار ؟ ....... ١٧٢
السؤال الثاني : العصمة موهبة فلا تكون مفخرة ...... ١٧٤
العصمة في الكتاب العزيز ........................... ١٧٨
وجه الدلالة .................................... ١٧٨
المرتبة
الثانية للعصمة : عصمة النبي في تبليغ الرسالة ... ١٨٣
القرآن وعصمة الأنبياء في تبليغ الرسالة ................ ١٨٤
المرتبة
الثالثة للعصمة : العصمة عن الخطأ في تطبيق الشريعة والامور العادية ................. ١٩١
القرآن وعصمة النبي عن الخطأ ....................... ١٩٢
أدلة المجوّزين للخطأ على الأنبياء ...................... ١٩٧
الرأي السائد بين المتكلمين حول سهو النبي ............ ٢٠٠
٢
ـ سمات الأنبياء : التنزّه عن المُنفِّرات ............... ٢٠٩
١ ـ التنزه عن دناءة الآباة وعهر الأمهات ............... ٢٠٩
٢ ـ سلامة الخِلقة .................................. ٢١٠
٣ ـ كمال الخُلقْ .................................... ٢١٠
٤ ـ كمال العقل ................................... ٢١٠
٥ ـ حُسْنُ السيرة ................................... ٢١٠
٣
ـ سمات الأنبياء : علم النبي بالمعارف والأحكام ..... ٢١٣
٤
ـ سمات الأنبياء : الكفاءة في القيادة ............... ٢١٧
الفصل
الثامن : النبوة الخاصة ........................ ٢١٩
الدعوة
الإسلامية .................................... ٢٢١
١ ـ ظروفها ....................................... ٢٢١
٢ ـ اسم الداعي ونسبه .............................. ٢٢١
٣ ـ تاريخ الدعوة ................................... ٢٢٢
٤ ـ سماعت الدعوة ................................. ٢٢٣
الطريق
الأول لإثبات نبوة نبي الإسلام ................. ٢٢٩
الاستدلال
بمعجزاته ................................. ٢٢٩
١ ـ دعوى النبوة ................................... ٢٣٠
٢ ـ خرق العادة .................................... ٢٣٠
٣ ـ التحدي ...................................... ٢٣٠
٤ ـ العجز عن مقابلته .............................. ٢٣٠
٥ ـ مطابقة المعجزة للدعوى .......................... ٢٣٠
المقام
الأول : المعجزة الخالدة ....................... ٢٣٣
الأمر
الأول : سبب التحدي بالكلام .................. ٢٣٥
الوجه الأول : أصدق المعجزات ما شابه أرقى فنون العصر ....... ٢٣٦
الوجه الثاني : الدين الخالد رهن المعجز الخالد ........... ٢٣٨
مزايا أخرى لهذه المعجزة :
١ ـ القرآن کتاب الهداية والتربية .................... ٢٤٠
٢ ـ استقلالها في إثبات الرسالة ..................... ٢٤٠
٣ ـ التحدي بأبسط الأشياء وأوفرها ................ ٢٤١
الأمر
الثاني : وجه إعجاز القرآن وکونه کتاباً خارقاً للعادة ......... ٢٤٣
المسلك
الأول : في إثبات إعجاز القرآن .............. ٢٤٥
اعتراف
بلغاء العرب بأعجاز القرآن البياني ............. ٢٤٥
١ ـ اعتراف الوليد بن المُغيرة ريحانه العرب ............... ٢٤٥
٢ ـ اعتراف عُتبة بن ربيعة ........................... ٢٤٧
٣ ـ تأثير آيتين ..................................... ٢٤٩
١ ـ منع
سماع القرآن ............................. ٢٥٢
٢ ـ غرو القرآن إلى السحر ........................ ٢٥٥
٣ ـ دعوة القصاص لسرد الأساطير ................. ٢٥٨
المسلك
الثاني : في إثبات إعجاز القرآن .............. ٢٥٩
تحليل
إعجاز القرآن الکريم .......................... ٢٥٩
تعريف الفصاحة ................................... ٢٦٣
تعريف البلاغة ..................................... ٢٦٤
نكته مهمة ....................................... ٢٦٥
١
ـ دعائم إعجاز القرآن ............................. ٢٦٧
الفصاحة
: جمال اللّفظ وأناقة الظاهر ................. ٢٦٧
٢
ـ دعائم إعجاز القرآن : ........................... ٢٧٥
البلاغة
: جمال العرض وسمو المعنى .................. ٢٧٥
الأمر
الأول : مطابقة الكلام المقتضي الحال ......... ٢٧٦
١ ـ بلاغة سورة « الكوثر » ....................... ٢٧٧
٢ ـ بلاغة سورة « والضحى » ..................... ٢٨٠
الأمر
الثاني ـ سمو المعاني ......................... ٢٨٩
١ ـ المعارف العُليا ............................... ٢٩٠
٢ ـ سطوع براهينه ............................... ٢٩٢
٣ ـ بداية التصوير والتعبير ......................... ٢٩٤
لون آخر من التصوير الفني ........................ ٢٩٨
٤ ـ الأمثال ..................................... ٢٩٩
الصراع بين الحق والباطل .......................... ٢٩٩
٥ ـ آية تحتمل مليوناً وماءتين وستين ألف احتمال ......... ٣٠٣
٣
ـ دعائم إعجاز : النظم ............................ ٣٠٧
رصانه
البيان واستحكام التأليف ....................... ٣٠٧
تعريف النظم ...................................... ٣٠٧
١ ـ تجاذب الكلمات ............................... ٣٠٩
٢ ـ وضع كل كلمة في موضعها ....................... ٣١١
هل في القرآن سجع ؟ .............................. ٣١٤
٤
ـ دعائم إعجاز القرآن :............................. ٣١٧
الأسلوب
: بداعة المنهج وغرابة السبك ............... ٣١٧
التنبيه
الأول : آيتان على منضدة التشريح .............. ٣٢٥
١ ـ آية « يَا أَرْضُ ابْلَعِي » .......................... ٣٢٥
٢ ـ آية « وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ
أُمِّ مُوسَىٰ » ................... ٣٢٩
التنبيه
الثاني : مزايا القرآن البيانية ..................... ٣٣١
١ ـ الصراحة في بيان الحقائق ......................... ٣٣١
٢ ـ علو الجهة المنزل منها القرآن ...................... ٣٣٣
٣ ـ العفة والإحتشام ................................ ٣٣٣
التنبية
الثالث : مذهب الصّرْفة ........................ ٣٣٧
حقيقة الصرفة ..................................... ٣٣٨
مناقشة نظرية الصرفة ............................... ٤٤٤
الأمر
الثالث : عجز البشر عن الإتيان بمثله ............ ٣٥١
دَفْعُ تَوَهّمِ ........................................ ٣٥٢
هل عورض القرآن الکريم ؟ .......................... ٣٥٤
١ ـ مسيلمة الكذاب ............................. ٣٥٤
ما هي حقيقة المعارضة ؟ ............................ ٣٥٦
الشك في صحة نسبة هذه المعارضات ................. ٣٥٨
٢ ـ طليحة بن خويلد الأسدي .................... ٣٥٩
٣ ـ سجاح بنت الحارث بن سويد التميمية .......... ٣٦٠
٤ ـ الأسود العنسي .............................. ٣٦١
آخرون رُموا بأنهم عارضوا القرآن الکريم ، ومنهم : ....... ٣٦١
١ ـ عبد الله بن المقفع ............................ ٣٦٢
٢ ـ أحمد بن الحسين المتنبي ........................ ٣٦٢
٣ ـ أبو العلاء المعري ............................. ٣٦٣
الأمر
الرابع : الشواهد الدّالة على كونه كتاباً سماويا ..... ٣٦٧
١
ـ شواهد إعجاز القرآن : أمية حامل الرسالة .......... ٣٦٨
٢
ـ شواهد إعجاز القرآن : عدم الاختلاف في الاسلوب ....... ٣٧١
٣
ـ شواهد إعجاز القرآن : عدم الإختلاف في المضمون ....... ٣٧٣
٤
ـ شواهد إعجاز القرآن : هَيْمَنةُ القرآن على الكتب السماوية ............................. ٣٧٦
١ ـ آدم في القرآن والتوراة ............................ ٣٧٩
٢ ـ نوح في القرآن والتوراة ............................ ٣٨٢
٣ ـ إبراهيم في القرآن والتوراة ......................... ٣٨٤
٤ ـ لوط في القرآن والتوراة ........................... ٣٨٦
٥ ـ يعقوب في القرآن والتوراة ......................... ٣٨٧
٦ ـ داود وسليمان في القرآن والعهدين ................. ٣٨٩
٧ ـ المسيح في القرآن والإنجيل ........................ ٣٩٢
المسيح يحوّل الماء خمراً ليشرب الناس ................ ٣٩٣
٥
ـ شواهد إعجاز القرآن : إعجازه من ناحية إتقان التشريع والتقنين ........... ٣٩٦
السمة
الاولى : مرونة التشريع القرآني ................. ٣٩٩
أ ـ النظر إلى المعاني لا المظاهر ..................... ٣٩٩
ب ـ الأحكام التي لها دور التحديد ................. ٤٠٢
السمة
الثانية : تشريعاته معتمدة على الفطرة ........... ٤٠٣
السمة
الثالثة : التقنين الوسط بين المادية والروحية ....... ٤٠٦
السمة
الرابعة : رعاية الموضوعية في التقنين ............. ٤٠٨
السمة
الخامسة : ضمان الإجراء .................... ٤٠٨
المسة
السادسة : سعة القوانين ...................... ٤١٠
٦
ـ شواهد إعجاز القرآن : الإخبار عن الغيب .......... ٤١٣
١ ـ التنبؤ بعجز البشر عن معارضة القرآن .............. ٤١٤
٢ ـ التنبؤ بانتصار الروم على الفرس ................... ٤١٥
٣ ـ التنبؤ بصيانة النبي عن أذى الناس ................. ٤١٦
٤ ـ التنبؤ بالقضاء على العدو قبل لقائه ................ ٤١٦
٥ ـ التنبؤ بكثرة ذُرّية النبي (ص) ...................... ٤١٧
٧
ـ شواهد إعجاز القرآن : إخباره عن الظواهر والقوانين الكونية ............................ ٤١٨
١ ـ القرآن والجاذبية العامّة ........................... ٤٢٠
٢ ـ القرآن وكروية الأرض ............................ ٤٢٠
٣ ـ القرآن والعالم الجديد ............................ ٤٢٣
٤ ـ القرآن وحرکة الأجرام السماوية .................... ٤٢٤
٥ ـ القرآن وحرکة الأرض ............................ ٤٢٥
٦ ـ القرآن وزوجية الموجودات ........................ ٤٢٨
٧ ـ القرآن والحياة في الأجرام السماوية ................. ٤٣١
٨ ـ القرآن ودور الجبال في إثبات القشرة الأرضية ......... ٤٣٢
٨
ـ شواهد إعجاز القرآن ـ الأخلاق ................... ٤٣٤
المقام
الثاني : الاستدلال على نبوّته بمعاجزه الأُخَرْ ..... ٤٣٧
الدليل
الأول : المحاسبة العقلية ....................... ٤٣٨
الدليل
الثاني : القرآن يثبت للنبي معاجز غير القرآن ..... ٤٣٩
١ ـ انشقاق القمر ............................... ٤٣٩
٢ ـ إسراء ومعراج النبي (ص) ...................... ٤٤١
٣ ـ مباهلة النبي لأهل الكتاب ..................... ٤٤١
٤ ـ طلب المعاجز عن النبي (ص) الواحدة تلو الاخرى
..... ٤٤٢
٥ ـ وصف معاجز النبي بالسحر ................... ٤٤٣
٦ ـ النبي الأعظم وبيّناته .......................... ٤٤٣
٧ ـ إخبار النبي عن الغيب ، كالمسيح (ع) ............ ٤٤٤
الدليل
الثالث ـ معاجز النبي في الحديث والتاريخ ........ ٤٤٤
مقارنة بين معاجز النبي وغيره من الأنبياء ............ ٤٤٥
خاتمة المطاف ................................... ٤٤٦
الطريق
الثاني لإثبات نبوة نبي الإسلام ................. ٤٤٧
بشائر
خاتم الرسل في العهدين ....................... ٤٤٧
الطريق
الثالث لإثبات نبوة نبي الإسلام ................ ٤٥٥
القرائن
الدالّة على نبوة الرسول الأعظم ................ ٤٥٥
القرينة
الاولى ـ سيرته النفسية والخلقية قبل الدعوة وبعدها .......... ٤٥٦
القرينة
الثانية ـ الظروف التي فيها نشأ وادعى النبوة ...... ٤٥٩
القرينة
الثالثة ـ المفاهيم التي تبنّاها ودعا إليها ........... ٤٦٠
القرينة
الرابعة ـ الأساليب التي اعتمدها في نشر دعوته .... ٤٦٢
القرينة
الخامسة ـ شخصية المؤمنين به ................. ٤٦٥
القرينة
السادسة ـ ثباته في طريق دعوته ................ ٤٦٧
القرينة
السابعة ـ أثر رسالته في تغيير البيئة التي ظهر فيها ...... ٤٦٨
سمات
الدعوة الإسلامية ............................. ٤٧١
السمة
الأولى : عالمية الرسالة ........................ ٤٧٣
إزالة شبهات ...................................... ٤٧٧
١ ـ تفنيد فكرة الشعب المختار ....................... ٤٧٩
٢ ـ النجاة رهن العمل والالتزام ....................... ٤٨٠
٣ ـ الأصالة للتوحيد لا لليهودية ولا للنصرانية ........... ٤٨١
السمة
الثانية : خاتمية الرسالة ........................ ٤٨٥
الخاتمية في الكتاب العزيز ............................ ٤٨٥
١ ـ التنصيص على أنّه خاتم النبيين...................... ٤٨٥
الخاتم وما يراد منه ............................... ٤٨٦
تشكيك ضئيل ................................. ٤٨٨
تشكيك آخر ................................... ٤٨٩
٢ ـ التنصيص على أنّ القرآن لا يأتيه الباطل ............ ٤٩١
٣ ـ التنصيص على الإنذار لكل من بَلَغَ ............... ٤٩٢
٤ ـ التنصيص على أنّه نذير للعالمين ................... ٤٩٣
٥ ـ التنصيص على كونه مرسلاً إلى الناس كافّة .......... ٤٩٦
إشارات إلى الخاتمية في الذكر الحكيم .................. ٤٩٦
ب ـ الخاتمية في الأحاديث الإسلامية .................. ٤٩٨
تنصيص الإمام عليّ على الخاتمية ..................... ٥٠٠
أسئلة
حول الخاتمية
السؤال
الأول : لما حُرمت الأمة من النبوة التبليغية ؟ .... ٥٠٥
السؤال
الثاني : لماذا حرمت الأمة من الاطلاع على الغيب ؟ .............................. ٥٠٩
السؤال
الثالث : أليس التحوّل ناموساً عاماً ، فما ... ٥١٤
السؤال
الرابع : كيف تكون الشريعة ثابتة مع أنّ لكلّ عصرٍ اقتضاءً خاصاً ؟ .... ٥١٦
السؤال
الخامس : هل القوانين المحدودة تفي بالحاجات غير المتناهية ؟ ..... ٥١٩
١ ـ الاعتراف بحجية العقل في مجالات خاصة ........... ٥٢٠
٢ ـ الاعتراف بتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد ......... ٥٢١
٣ ـ الكتاب والسنّة مادة خصبة للتشريع ................ ٥٢٢
٤ ـ تشريع الإجتهاد ................................ ٥٢٣
٥ ـ حقوق الحاكم الإسلامي ......................... ٥٢٥
١ ـ النظر إلى المعاني دون الظواهر ..................... ٥٢٧
٢ ـ الأحكام التي لها دور التحديد ..................... ٥٢٨
٣ ـ الإسلام شريعة وسطى والاُمّة الإسلامية اُمّة وسط .... ٥٢٨
الملحق
الأوّل ...................................... ٥٣٠
الملحق
الثاني ...................................... ٥٣٣
الفهارس
........................................... ٥٣٥