قالوا عن الإمام سيف الدين الآمدي :

قال عنه تلميذه : الإمام عز الدين بن عبد السلام : «لو ورد على الإسلام متزندق ، أو مشكّك ، لتعين الإمام سيف الدّين لمناظرته ؛ لاجتماع أهلية ذلك فيه».

[الوافى بالوفيات للصفدى ٢١ / ٣٤١]

وقال تلميذه أبو المظفر سبط ابن الجوزى : «لم يكن في زمانه من يحاذيه في علم الكلام ، والأصول ، وكان سريع الدمعة ، رقيق القلب».

[مرآة الزمان ٤ / ٧٣]

وقال عنه الإمام الذهبى : «كان من أذكياء العالم ... ولم يكن له نظير في الأصول ، والكلام ، والمنطق».

[العبر في خبر من غبر للذهبى ٥ / ١٢٤]

وقال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية : «لم يكن أحد في وقته أكثر تبحرا في العلوم الكلامية ، والفلسفية منه ، وكان من أحسنهم إسلاما ، وأمثلهم اعتقادا»

[نقض المنطق لابن تيمية ص ١٥٦]



شكر وتقدير

الحمد لله حمد الشاكرين ، والصلاة والسلام على سيد المرسلين ، وخاتم النبيين ورحمة الله للعالمين القائل : «من لم يشكر الناس لم يشكر الله».

وانطلاقا من هذا التوجيه النبوى الكريم. أتوجه بالشكر وعظيم الثناء للسادة الأساتذة العلماء الأفاضل أعضاء المجلس العلمى بمركز تحقيق التراث بدار الكتب ، ولرئيسه أستاذنا الفاضل الأستاذ الدكتور / حسين نصار.

وللزميل الفاضل الأستاذ الدكتور عبد الستار الحلوجى عضو المجلس العلمى لمركز تحقيق التراث بدار الكتب ، ومقرر لجنة إحياء التراث الإسلامى بالمجلس الأعلى للشئون الإسلامية.

وللعالم الفاضل الأستاذ الدكتور / صلاح فضل رئيس مجلس إدارة هيئة دار الكتب والوثائق القومية.

والأستاذ الدكتور / رفعت هلال (رئيس الادارة المركزية للمراكز العلمية)

والأستاذة / نجوى مصطفى كامل (مدير عام مركز تحقيق التراث)

والأستاذة / خديجة محمد كامل لقيامها بتصحيح التجارب الأولى للطباعة.

كما أتقدم بالشكر وعظيم الثناء للإخوة العاملين بمطبعة دار الكتب ولمديرهم العام الأخ الفاضل المهندس / فتحى عبد رب النبي مدير عام المطابع على حسن إخراج هذا الكتاب ؛ فقد قاموا بجهود مشكورة أثناء النسخ والمراجعة والطباعة.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ،

أ. د. أحمد محمد المهدى



بسم الله الرحمن الرحيم

مقدّمة

أ. د. أحمد محمد المهدى

الحمد لله الّذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدى لو لا أن هدانا الله. سبحانه يؤتى الحكمة من يشاء ، ومن يؤت الحكمة ، فقد أوتى خيرا كثيرا. وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ سيّدنا محمدا عبده ورسوله ، أمره سبحانه بقوله ـ تعالى ـ (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)

اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمد ، وعلى آله ، وأصحابه ، ومن تمسّك بدعوته ، واهتدى بهداه إلى يوم الدّين.

وارض اللهم عن علمائنا العاملين ، الذين نصروا الحقّ ، ودافعوا عنه ، وأزالوا شبه الباطل عن ثقة ويقين ، ووهبوا حياتهم لنصرة الدين ، وخدمة علومه ؛ فكانوا أئمة أعلاما ، وهداة مرشدين.

وبعد :

فإن علم الكلام من أشرف العلوم الإسلامية التى نشأت وترعرعت في كنف الإسلام ؛ لأنه يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلّة العقلية ، والردّ على شبه المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن ثقة ويقين.

وهذا هو المطلب الأكبر ، والغاية العظمى لكل عالم مؤمن.

ومن المعلوم أنّ علم الكلام قد أدّى مهمة عظيمة في الدّفاع عن الدين ضدّ خصومه القدامى. وهو جدير أيضا ؛ بل هو الوسيلة المثلى في الردّ على أعداء الإسلام من المعاصرين ؛ لأن رجاله في وضع ثقافى يسمح لهم أكثر من غيرهم بالقيام بهذه المهمة العظيمة.

لذا فقد كان من المهام العلمية المرغوب فيها. القيام بتحقيق بعض هذه الكتب تحقيقا علميا ، يجليها للقارىء ، ويبرز ما بها من محاسن ، ويوضح ما بها من أفكار خصبة ؛ حتى تكون أبحاثنا المعاصرة مبنية على أساس سليم ؛ لأنّه لا يعقل أن نبدأ من


فراغ ، وأسلافنا الأماجد قد تركوا لنا ، وفي حوزتنا هذا التراث العظيم الأصيل ، والخصب. والّذي يمثل أزهى عصور التفكير الإسلامى ؛ بل الإنسانى على الإطلاق.

كما لا يعقل أن نكتفى ببعض المؤلفات الكلامية التى بين أيدينا ، والتى هى في حقيقة أمرها مجرد مختصرات لكتب عظيمة اتسمت بالدقّة ، والوضوح ، والأصالة. وهذه المختصرات التى ألّفت في عصر اتّسم بالجمود ، والتّقليد ؛ قد قامت عليها فيما بعد شروح ، وحواشى. وهى بوضعها الراهن ، وصورتها الحالية شكلا ، وتبويبا تضيّع جهد الباحث ؛ بل إنّها تنفّره في أغلب الأحيان.

بينما تتّسم الكتب السّابقة عليها بالدقّة ، والأصالة ، والوضوح. وهى كفيلة بالإجابة على أغلب التّساؤلات ، وفيها الحلّ لمعظم المشكلات والردّ على كلّ الفرى ، والأكاذيب. التى يروّج لها أعداء الإسلام وخصومه والجهلة من أبنائه.

وأرى أنّ إخراج هذه الكتب من خزائنها ، ونشرها بطريقة علمية عصرية مشوّقة ؛ فرض كفاية على المتخصّصين ؛ فلا يعقل أن نضيّع جهودنا في الردّ على مشاكل فيما بيننا ، أو بيننا وبين خصوم ديننا ـ مع أنها قد بحثت وحسمت ، وأجيب عليها من أكثر من ثمانمائة عام ، ونترك المشاكل المعاصرة التى يثيرها أعداء ديننا.

كما أنّ أىّ موضوع يبحث سيكون ناقصا ، وغير مطابق للواقع ؛ بل سيؤدى إلى مفاهيم خاطئة ما لم يعتمد على أمّهات الكتب التى ألّفت في أزهى عصور التّفكير الإسلامى ، والتى ما زال معظمها مخطوطا ؛ فتاريخ الفكر الإسلامى ؛ لن يستقر استقراره الكامل حتى تنشر المخطوطات المهمة.

لكل ما سبق آمنت بأهميّة التّحقيق العلمىّ ، وضرورته ، واقتنعت به وعزمت بعون الله أن أكرّس له جهدى ووقتى ، وبدأت بتحقيق هذا الكتاب (أبكار الأفكار في أصول الدّين ـ للإمام سيف الدين الآمدي) بعد أن درست التحقيق العلمى ومارسته بمركز تحقيق التراث بدار الكتب المصريّة سنة ١٩٦٨ على يد أساتذته المتخصصين.

وكان تحقيق هذا الكتاب ـ الّذي يسعدنى أن يصدر عن مركز تحقيق التراث بدار الكتب المصرية في عهده الجديد ـ كان الجزء الأول منه يمثل القسم الثانى من رسالتى لنيل درجة الدكتوراه في العقيدة والفلسفة ، والتى حصلت عليها من كلية أصول الدين جامعة الأزهر سنة ١٩٧٤ بمرتبة الشرف الأولى والتوصية بطبع الرسالة وتبادلها مع جامعات العالم.


أما القسم الأول من الرسالة ـ والّذي يقع في مجلد من الحجم الكبير ـ فكان دراسة عن مؤلفه الإمام سيف الدين الآمدي ـ رحمه‌الله ـ وعصره ، وحياته وثقافته ، وإنتاجه ، ومنهجه ، وآرائه ، ومكانته العلمية ، وآراء العلماء فيه. ثم عن كتاب أبكار الأفكار ، وقيمته العلمية ، ونسخه ، وأماكن وجودها ، وأخيرا منهجى في تحقيقه.

وفي نفس العام سنة ١٩٧٤ قدّمت نسخة محقّقة من الكتاب إلى المجلس الأعلى للشئون الإسلامية ، وأسعدنى موافقة لجنة إحياء التراث الإسلامى على نشره بعد اجتماعات كثيرة ودراسات وأبحاث عميقة.

وقد حال دون نشره في ذلك الوقت ـ إمكانات المجلس ـ وسفرى إلى مكة المكرمة معارا إلى كلية الشريعة بها سنة ١٩٧٦.

أما مؤلفه : فهو الإمام سيف الدين الآمدي الّذي أجمع أصحاب التراجم على أنّه كان شيخا للمتكلمين ، والمشتغلين بالعلوم العقلية في عصره.

وقد أوصله إلى هذه المكانة جدّ لا يعرف الكلل ، وانصراف إلى العلم والدراسة ، شغله عن كل شيء حتى عن نفسه أحيانا ، وذكاء دفع بعض معاصريه إلى أن يعده أذكى أذكياء أهل زمانه ؛ بل إن الجميع قد اتّفقوا على أنه كان أحد أذكياء العالم ؛ فقد كان فقيها ، أصوليا ، متكلما ، فيلسوفا ، طبيبا. ومؤلفاته في هذه الفنون المتعددة تصل إلى خمسة وعشرين مؤلفا معظمها ما زال مخطوطا ، ولم ينشر منها سوى أربعة كتب ، ولم يحقق منها سوى كتابين.

وقد قضى الآمدي معظم حياته المديدة مع كلّ هذه الفنون طالبا ، ومدرسا ومؤلفا. وامتدت رحلاته العلمية لمدة ستة وستين عاما. قضاها في رحلات علمية مستمرة زار خلالها عواصم الثقافة ، والعلم في عصره.

ومع هذه الشهرة العريضة التى كان الآمدي يتمتع بها في عصره والعصور التالية ؛ فقد ظل مجهولا إلى حدّ كبير في عصرنا كمتكلم إلّا من إشارات إلى بعض آرائه ترد أحيانا في الكتب الكلامية : كالمواقف ، والمقاصد وغيرها.

أما كتاب : أبكار الأفكار في أصول الدين : فهو بحق أهمّ كتب الآمدي الكلامية ؛ بل أهمّها على الإطلاق ؛ فقد اتفق أصحاب التراجم على وصف الآمدي بصاحب الأبكار.


وقد اتضح لى بعد الدراسة والمقارنة أنه من أهمّ الكتب المؤلفة في علم الكلام. فهو حاو لمسائل الأصول محيط بها ، بدون إطالة مملة ، وبغير اختصار مخلّ. وهو بحقّ اسم على مسمّى ؛ فقد جمع فيه مؤلفه كما قال : «أبكار أفكار أرباب العقول».

وقد ألفه الآمدي بعد أن بلغ درجة علمية يدلّ بها قائلا «ولما كنّا مع ذلك قد حقّقنا أصوله ، ونقّحنا فصوله. وأحطنا بمعانيه ، وأوضحنا مبانيه وأظهرنا أغواره ، وكشفنا أسراره ، وفزنا فيه بقصب سبق الأوّلين ، وحزنا غايات أفكار المتقدّمين والمتأخّرين ، واستترعنا منه خلاصة الألباب ، وفصلنا القشر عن اللّباب».

وهذا الكتاب كما يفهم من عنوانه ، وكما اتّضح لى ؛ قد اشتمل على معظم الأفكار المهمّة في الفكر الإسلامى العقدى حتّى عصره ؛ بل على الفكر العقدى الإنسانىّ على الإطلاق ، وناقشها ، وردّ على ما يتنافى مع الدّين منها وأبطله بحججه الدامغة ، وبراهينه السّاطعة ؛ فهو بحقّ يغنى عن مطالعة الكثير من كتب المتقدّمين ؛ لأنّه قد اشتمل على معظم الأفكار المهمّة فيها.

وقد تأكّد لى أنّ كتاب المواقف لعضد الدّين الإيجى ـ الّذي أعاننى الله على نشره محققا سنة ١٩٧٦ م ـ مختصر لكتاب الأبكار.

وكتاب المواقف ـ كما هو معلوم ـ أهمّ الكتب المطبوعة في علم الكلام. وإذا كنت قد اخترت الطّريق الصّعب ـ طريق التحقيق العلمى ـ فلثقتى التّامة بأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا ، ولتأكّدي بأنّ العرف لا يذهب لا عند الله ، ولا عند النّاس ، وحسبى أن أساهم في إحياء تراثنا الخالد. وفي إلقاء الضّوء على إمام كانت مؤلّفاته ، وما زالت تمثّل حلقة مهمّة من حلقات التّفكير الإسلامى. فى فترة من أعظم فتراته ، فترة الانتصار على أعداء الإسلام ، وإخراجهم من بلاد الإسلام ، واستعادة مقدّساتنا.

وقد اجتهدت قدر طاقتى على أن تكون دراستى عن الإمام الآمدي لائقة به ، كما بذلت غاية جهدى لإخراج كتابه على أحسن وجه ، وأفضله.

فإذا أصبت ، وحقّقت ما أهدف إليه ؛ فبفضل الله وحده ، وإن كانت الأخرى ، فحسبى أننى قد بذلت غاية جهدى.


ومن الواجب عليّ وقد أعاننى الله تبارك وتعالى ـ على إنجاز هذا العمل أن أسجد لله شكرا ، كما أتقدم بالشكر وعظيم الثناء لكل من أسدى إلى عونا ، أو قدم لى نصحا ، أو سهل لى صعبا.

وأخص بالذكر أساتذتى بكلية أصول الدين ـ يرحمهم‌الله ـ وأصدقائى بمعهد المخطوطات ومركز تحقيق التراث بدار الكتب المصرية ، وزملائى بلجنة إحياء التراث الإسلامى بالمجلس الأعلى للشئون الإسلامية وأخص بالذكر منهم الأستاذ الدكتور عبد الستار عبد الحق الحلوجى مقرر اللجنة.

كما أتقدم بالشكر وعظيم الثناء لأشقائى ، وزوجتى ، وأبنائى الذين بذلوا معى جهودا مخلصة في المقابلة والمراجعة.

ومن الله أستمد العون وعليه أتوكل ، وما توفيقى إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.

أ. د / أحمد محمد المهدى



حياة الآمدي

نشأته ـ دراساته وشيوخه ـ رحلاته العلمية

أولا : نشأته :

١ ـ موطنه :

ولد الآمدي بمدينة (آمد) (١) ـ وإليها ينسب ـ سنة ٥٥١ ه‍ (١١٥٦ م) وكانت آمد عند مولده تحت إمرة جمال الدّولة أبى القاسم (٢) أحد رجال الدّولة الأرتقية ـ وهى من فروع السّلاجقة ـ التى ظلت تحكم آمد وما حولها ، حتى سنة ٦٢٩ ه‍ تاريخ استيلاء الملك الكامل عليها (٣).

وآمد بكسر الميم ـ وهى لفظة رومية ـ بلد قديم حصين ركين مبنى بالحجارة السّود على نشز ، ودجلة محيطة بأكثره ، مستديرة به كالهلال ، وهى تنشأ من عيون بقربه (٤). وهى أعظم مدن ديار بكر ، وأجلها قدرا ، وأشهرها ذكرا.

وهى الآن جزء من تركيا حيث يسميها الأتراك آميدة. وقره آمد. وهى تبعد عن القسطنطينية بمائتين وثلاثين فرسخا. ومعظم سكّانها من المسلمين. وإلى آمد ينسب كثير من أهل العلم ـ فى كثير من الفنون ـ قبل الآمدي وبعده (٥).

في هذه المدينة ولد صاحبنا ، وقضى فيها أعوامه الأولى يدرس مبادي القراءة والكتابة ، ويحفظ القرآن الكريم ، ويدرس التّجويد ، والقراءات ، وشيئا من علوم العربية

__________________

(١) (آمد) جد قبيلة من العرب يدعون بنى آمد ، كانت مواطنهم بين مواطن طى أجا وسلمى والعراق. وربما كان اسم مدينة آمد مأخوذا منه.

(دائرة المعارف للبستانى المجلد الأول ص ١٤٥ ط بيروت سنة ١٨٧٦).

(٢) تاريخ الفارقى ص ٢٢٦ المعروف بذيل تاريخ دمشق. لأبى يعلى القلانسى طبع في بيروت سنة ١٩٠٨ بمطبعة الآباء اليسوعيين.

(٣) مفرج الكروب في أخبار بنى أيوب ٥ / ١٢ ـ ١٣ لابن واصل تحقيق د. حسنين محمد ربيع. مراجعة د. سعيد عاشور مطبعة دار الكتب سنة ١٩٧٣.

(٤) معجم البلدان للعلامة ياقوت الحموى ج ١ ص ٥٦. ط دار صادر ببيروت سنة ١٩٥٥ م ، مراصد الاطلاع للبغدادى ج ١ ص ٦ تحقيق : على البجاوى ، وأحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم للمقدسى المعروف بالبشارى ط ٢ سنة ١٩٠٩ ص ١٤٠.

(٥) عينت منهم ستة وعشرين وتحدثت عنهم في ص ٤١ ، ٤٢ في دراستى عن الآمدي رسالة دكتوراه بكلية أصول الدين.


والفقه ـ كما هى عادة أهل عصره ـ وكانت دراسته الفقهية في آمد على مذهب الإمام أحمد ؛ حيث يذكر السبكى أنه حفظ بآمد كتابا على مذهب الإمام أحمد بن حنبل ، كما يذكر ابن حجر أنه حفظ كتاب الهداية لأبى الخطاب في الفقه الحنبلى (١).

أما عن أسرته ومكانتها الاجتماعية ؛ فلم أعثر على شيء يدل عليها ؛ والراجح عندى أنّها كانت أسرة متواضعة لا تتميّز بتفوّق خاص في الحياة العلمية ، أو السياسية ؛ بدليل أنّه لم يعد إلى بلده إطلاقا كما أنه نسب إلى بلده ، ولم ينسب إلى أسرته.

وكان طموح الصبى أكبر من إمكانات آمد ؛ لذا فقد غادرها إلى بغداد في سنّ مبكرة نسبيا ؛ إذ رحل إلى بغداد وعمره أربع عشرة سنة ، كما ذكر الصفدى في الوافى بالوفيات (٢) ، أو خمس عشرة سنة كما ذكر تلميذه ابن واصل في كتابه مفرج الكروب (٣) ، حيث يقول وذكر لى (الآمدي) أنّه دخل بغداد في خلافة المستنجد (٤) بالله ، وعمره خمس عشرة سنة.

وأيّا كان عمر الصبى أربع عشرة سنة ، أو خمس عشرة سنة ؛ فقد غادر مدينته في سنّ مبكر نسبيا ممّا يدلّ على طموحه ، وذكائه ، وحبّه للعلم ، ولم يعد إليها إطلاقا ؛ بل استمر في رحلاته العلمية المتصلة من آمد إلى بغداد ، فدمشق ، فحلب ، ثم مصر (القاهرة والإسكندرية) ثم حماه ، ثم دمشق التى انتهت فيها هذه الحياة الخصبة الحافلة بجلائل الأعمال ، والتى دفن فيها بعد رحلات علمية متصلة استمرت أكثر من ست وستين سنة قضاها طالبا للعلم وأستاذا ومؤلفا لم يثنه عن هذه الغاية النبيلة حبّ لمنصب ، أو جاه ، أو مال.

__________________

(١) وفيات الأعيان لابن خلكان ٢ / ٤٥٥ تحقيق : الشيخ محمد محيى الدين عبد الحميد مكتبة النهضة المصرية بالقاهرة سنة ١٩٤٩ م.

طبقات الشافعية للسبكى ٥ / ١٢٩ ـ ١٣٠ طبع الحسينية بمصر.

ولسان الميزان لابن حجر ٣ / ١٣٤ ط حيدرآباد سنة ١٣٣٠ ه‍.

(٢) الوافى بالوفيات للصفدى ج ٢١ ص ٣٤٠. سلسلة النشرات الإسلامية باعتناء محمد الحجيرى بيروت سنة ١٩٨٨ م.

(٣) مفرج الكروب لابن واصل ٥ / ٣٦.

(٤) هو الخليفة العباسى المستنجد بالله : أبو المظفر يوسف بن المقتفى لأمر الله ولد سنة ٥١٨ ه‍ وبويع بالخلافة سنة ٥٥٥ ه‍ وتوفى في ربيع الآخر سنة ٥٦٦ ه‍ (تاريخ الخلفاء للسيوطى ص ٤٤٢ وما بعدها تحقيق محمد محيى الدين المطبعة التجارية سنة ١٩٥٢ م).


٢ ـ مولده :

ولد الآمدي سنة ٥٥١ ه‍ كما ينص على ذلك كثير من تلاميذه ، وممّن ترجموا له (١) ، وتابعهم في ذكر هذه السنة كثير من أصحاب المراجع الحديثة (٢) التى حدّدت ميلاده بسنة ٥٥١ ه‍ ، وبعضهم يذكر أنه ولد بعد سنة ٥٥٠ ه‍ من غير تحديد : كالقفطى ، والذهبى ، وابن العماد الحنبلى (٣)

كما يميل البعض الآخر إلى التّحديد ؛ فيذكر أنه ولد بعد سنة ٥٥٠ ه‍ بقليل كالسبكى (٤).

والأرجح أنه ولد في سنة ٥٥١ ه‍ حيث تذكر تراجم تلاميذه ، والمقربين إليه ذلك ، كما أنه لا يوجد من أصحاب التراجم من حدّد غيره.

٣ ـ اسمه :

على بن أبى على بن محمد بن سالم. طبقا لما ورد بالمخطوطات التى اطلعت عليها : كدقائق الحقائق ، وغاية المرام ـ وقد نسخا في حياته ـ والأبكار الّذي نقل عن خطه ـ ولما ذكره أكثر من ترجموا له وخاصة من عاصروه ، أو تتلمذوا عليه (٥).

وقد اخطأ بعض أصحاب التراجم في اسمه : كالقفطى (٦) الّذي سماه : على بن على بن أبى على ، وابن الشحنة (٧) الّذي سماه على بن أحمد بن سالم.

والصحيح ما ذكرته للأسباب الموضحة.

__________________

(١) انظر وفيات الأعيان ٢ / ٤٥٥ والوافى بالوفيات للصفدى ٢١ / ٣٤٠ والمختصر في أخبار البشر ٣ / ١٥٥ لأبى الفداء ط ـ القسطنطينة سنة ١٨٨٩ م. حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة للسيوطى ط بمصر سنة ١٣٢١ ه

(٢) كالأعلام للزركلى ٥ / ١٥٣ ط ٢ سنة ١٩٥٩ م.

ومعجم المؤلفين لكحالة ٧ / ١٥٥ مطبعة الترقى بدمشق سنة ١٩٥٧ م.

(٣) انظر أخبار العلماء للقفطى ص ١٦١. ط الخانجى بالقاهرة سنة ١٣٢٦ ه‍.

والعبر في خبر من غبر للذهبى ٥ / ١٢٤ تحقيق : د. المنجد ـ ط الكويت ١٩٦٦ م وشذرات الذهب لابن العماد الحنبلى ط : القدسى بالقاهرة سنة ١٣٥٠ ه‍.

(٤) انظر طبقات الشافعية الكبرى للسبكى ٥ / ١٢٩.

(٥) كابن أبى أصيبعة (عيون الأنباء في طبقات الأطباء) ط ١ القاهرة سنة ١٣١١ ه‍ (٢ / ١٧٤)

وابن واصل في مفرج الكروب ٥ / ٣٦ وابن خلكان في وفيات الأعيان ٢ / ٤٥٥.

(٦) انظر أخبار العلماء بأخبار الحكماء للقفطى ص ١٦١.

(٧) تاريخ ابن الشحنة ١٢ / ١٣٢.


٤ ـ لقبه :

يلقّب بسيف الدّين ، وأحيانا بسيف الدّنيا والدّين (١) ، وبالسيف اختصارا (٢). كما يلقّب بالآمدي نسبة إلى موطنه الأصلي ، وبالحنبلى ، ثم الشافعى ، أو بالشافعى نسبة إلى مذهبه الفقهى. ويلقب أيضا بالتّغلبى ، أو بالثعلبى : نسبة إلى قبيلته. وقد اضطربت المراجع ، وانقسمت في نسبته إلى قبيلته.

فبعضها نسبه إلى قبيلة تغلب (٣) (بالتاء المثناة ثم الغين) فقال : (التّغلبى). وبعضها الآخر نسبه إلى قبيلة ثعلب (٤) (بالثاء المثلثة ثم العين) فقال : (الثّعلبى).

لذا فقد تردّدت المراجع الحديثة في أمر هذا اللقب بين هاتين اللفظتين ؛ فبعضهم نسبه إلى قبيلة ثعلب ، وبعضهم نسبه إلى قبيلة تغلب.

والرّاجح عندى نسبته إلى قبيلة تغلب لأسباب ذكرتها بالتفصيل في دراستى عن الآمدي (٥)

٥ ـ كنيته :

ويكنى (أبا الحسن) كما اتّضح لى من معظم المصادر التى اطلعت عليها (٦) غير أن سبط ابن الجوزى قال : وكنيته أبو القاسم (٧)

ثانيا : دراساته وشيوخه :

بدأ الآمدي دراسته في موطنه آمد على يد مشايخها ، غير أن المراجع لم تعين أساتذته في آمد ، وإن حدّدت بعض العلوم التى تلقاها فيها كما سبق.

__________________

(١) انظر دقائق الحقائق الّذي نسخ في حياته.

(٢) انظر العبر للذهبى ٥ / ١٢٤.

(٣) انظر طبقات الأطباء لابن أبى أصيبعة ٢ / ١٧٤ ، واللباب في تهذيب الأنساب ١ / ١٥ لابن الأثير ط ١ القاهرة سنة ١٣٥٧ ه‍.

(٤) انظر وفيات الأعيان ٢ / ٤٥٥ ، ومرآة الزمان في تاريخ الأعيان ٤ / ٧٣ لسبط ابن الجوزى ط حيدرآباد سنة ١٩٥١ م.

والبداية والنهاية لابن كثير ١٣ / ١٤٠ مطبعة السعادة بمصر سنة ١٩٣٢ م ووفيات الأعيان ٢ / ٤٥٥ ، وعيون الأنباء في طبقات الأطباء ٢ / ١٧٤ ، ١٧٥.

(٥) انظر رسالة الدكتوراه ص ٤٥ ، ٤٦ بكلية أصول الدين.

(٦) منها طبقات الشافعية للسبكى ٥ / ١٢٩ ، وشذرات الذهب في أخبار من ذهب ٥ / ١٤٤ لابن العماد الحنبلى ـ طبعة القدسى بالقاهرة سنة ١٣٥٠ ه‍ والبداية والنهاية لابن كثير ١٣ / ١٤٠ ، والعبر في خبر من غبر للذهبى ٥ / ١٧٤. ووفيات الأعيان لابن خلكان ٢ / ٤٥٥ ، وعيون الأنباء لابن أبى أصيبعة ٢ / ١٧٤ ، ١٧٥.

(٧) انظر : مرآة الزمان ٨ / ٤٥٧ لسبط ابن الجوزى.


وكان من العلوم الّتي اهتم الآمدي بدراستها في أول مقامه ببغداد علم القراءات ـ كما تذكر معظم المراجع التى ترجمت له ـ وهذا العلم بدأ الآمدي دراسته في بلده ، ثم أتقنه في بغداد (١).

ومنها الفقه ، والخلاف. وقد بدأ الآمدي دراسته الفقهية في آمد على مذهب الإمام أحمد ، ثم انتقل إلى بغداد ، وواصل دراسته له ، ثم تحول إلى المذهب الشافعى بعد اتصاله بشيخه ابن فضلان. يقول الصفدى «واشتغل على الإمام أبى الفتح نصر بن فتيان ابن المنى الحنبلى في الخلاف على مذهبه مدة ، ثم صحب الإمام العلامة أبا القاسم يحيى بن الحسن على بن الفضل هبة الله بن بركة البغدادى ابن فضلان الشافعى ، وأخذ عنه الخلاف وتميّز ، وحفظ طريقة الشريف ، والزوائد لأسعد الميهنى (٢)

كما يذكر السّبكى أنه «ولد بآمد ، وقرأ بها القرآن ، وحفظ كتابا في مذهب أحمد ابن حنبل ، ثم قدم بغداد ؛ فقرأ بها القراءات أيضا ، وتفقه على أبى الفتح بن المنى الحنبلى ، وسمع الحديث من ابن شاتيل ، ثم انتقل إلى المذهب الشافعى ، وصحب أبا القاسم بن فضلان ، وبرع عليه في الخلاف ، وأحكم طريقة الشريف ، وطريقة أسعد الميهنى ، وتفنن في علم النظر ، وأحكم الأصلين ، والفلسفة ، وسائر العقليات ، وأكثر من ذلك (٣)

ومن العلوم التى درسها ببغداد الحديث وعلومه على يد شيخه أبو الفتح بن شاتيل يقول ابن حجر «وسمع من أبى الفتح بن شاتيل ، وحدث عنه بغريب الحديث لأبى عبيد» (٤).

ومن هذه العلوم أصول الفقه الّذي تلقاه على يد شيخه ابن فضلان والّذي أصبح الآمدي أكبر شيوخه فيما بعد. ويقال إنه حفظ الوسيط ، والمستصفى (٥).

ومنها أصول الدين على يد شيخه ابن فضلان حيث كان مقدما في الأصلين (٦) ، وقد أصبح الآمدي إمام عصره في هذا الفن.

__________________

(١) انظر طبقات الشافعية للسبكى ٥ / ١٢٩.

(٢) الوافى بالوفيات للصفدى ج ٢١ ص ٣٤٠.

(٣) طبقات الشافعية للسبكى ٥ / ١٥٩.

(٤) لسان الميزان لابن حجر ٣ / ١٣٤ ط حيدرآباد سنة ١٣٣٠ ه‍.

(٥) المصدر السابق ٣ / ١٣٥.

(٦) البداية والنهاية لابن كثير ١٣ / ٢١.


ومنها الجدل : حيث يقال إنه حفظ أربعين جدلا (١).

اما الفلسفة : فتذكر المراجع أنه بدأ دراستها في بغداد ، وأتمها بالشّام ، وينفرد القفطى بأنه أخذ علوم الأوائل عن النصارى ، واليهود ؛ فيقول : «وأخذ علم الأوائل عن جماعة من نصارى الكرخ ، ويهودها ، وتظاهر بذلك ؛ فجفاه الفقهاء ، وتحاموه ، ووقعوا في عقيدته ، وخرج من العراق (٢)» ، ولا يوافقه على ذلك من أصحاب التراجم سوى صاحب مفتاح السعادة (٣) الّذي ينقل عنه كل شيء تقريبا وبدون تدبّر أحيانا.

أما علوم اللغة وآدابها ، فلم تذكر لنا المراجع شيئا عنها ، ولا عن شيوخه فيها ، والّذي أرجحه أن الآمدي كان ملما بها كما سيأتى.

وسأذكر فيما يلى أسماء أهم شيوخه ، وأبعدهم أثرا في حياته العلمية.

١ ـ ابن فضلان (٥١٧ ـ ٥٩٥ ه‍) (١١٢٣ ـ ١١٩٩ م)

يحيى بن على بن الفضل بن هبة الله بن بركة (أبو القاسم ، جمال الدين) المعروف بابن فضلان. كان شيخ الشافعية في بغداد.

٢ ـ ابن المنى (٥٠١ ـ ٥٨٣ ه‍)

أبو الفتح نصر بن فتيان بن مطر ـ الفقيه الحنبلى. المعروف بابن المنى.

٣ ـ ابن شاتيل (توفى ٥٨١ ه‍ عن تسعين سنة)

أبو الفتح عبيد الله بن عبد الله بن شاتيل الدباس البغدادى ـ مسند بغداد.

وممن تأثر بهم :

أسعد الميهنى : (أبو الفتح أسعد أبى نصر بن أبى الفضل الميهنى) الفقيه الشافعى الملقب (مجد الدين).

كان مولده سنة ٤٦١ ه‍ ووفاته سنة ٥٢٧ ه‍.

__________________

(١) الوافى بالوفيات للصفدى ٢١ / ٣٤٠.

(٢) اخبار العلماء للقفطى ص ١٩١.

(٣) مفتاح السعادة ومصباح السيادة لطاش كبرى زادة ٢ / ١٨٠ تحقيق كامل بكرى ط. دار الكتب الحديثة بالقاهرة.


ثالثا : رحلاته العلمية (١)

أ ـ رحلته إلى بغداد [٥٦٥ ه‍ ـ ٥٨٢ ه‍]

١١٦٩ م ـ ١١٨٦ م

قضى الآمدي معظم حياته رحالة في طلب العلم ؛ فقد امتدّت رحلاته العلمية إلى أكثر من ستة وستين سنة. قضاها كلّها طالبا للعلم ، وأستاذا ومؤلّفا ، وقد بدأ رحلاته في سن مبكرة ، وكانت رحلته الأولى إلى بغداد عاصمة الخلافة العباسية التى كانت تعانى من الضعف ، وتسلّط أمراء الأقاليم ، ولم يبق للخليفة فيها نفوذ أو سلطان حقيقى ؛ ولكنها مع ذلك كانت تحاول في عناد الحفاظ على ما لها من مجد علمى ، ونفوذ أدبى.

وقد هبط الفتى إلى بغداد في خلافة المستنجد بالله والوزير بها يومئذ ابن هبيرة (٢) ؛ وقد رجّحت أن ذلك كان سنة ٥٦٥ ه‍ ؛ لأنّ الخليفة توفى في ربيع الآخر سنة ٥٦٦ بينما توفى وزيره في حياته ، وقبله بأشهر.

وأيا كانت السنة التى دخل فيها بغداد ؛ فقد دخلها الفتى ، وقضى بها المرحلة الأولى من حياته ، والتقى فيها بمعظم شيوخه الذين حفظ التاريخ لنا أسماء بعضهم.

وفي هذه البيئة العلمية الخصبة ، ألمّ الآمدي بجوانب الثقافة الإسلامية المختلفة دينية ، وغير دينية ؛ حيث قضى بها ما يقرب من سبع عشرة سنة نضجت فيها شخصيته العلمية ، وتحدد اتجاهه الفكرى الّذي كان سببا في تأليب كثير من المتعصبين عليه ، مما أدى في النهاية إلى مغادرته بغداد.

ب ـ رحلته إلى الشام (الفترة الأولى) [٥٨٢ ه‍ ـ ٥٩٢ ه‍]

١١٨٦ م ـ ١١٩٦ م

ذهب الآمدي إلى الشام ليستكمل دراسته بها بعد أن ضاقت به بغداد ، وضاق بها (كما سيأتى) يقول ابن خلكان : «ثم انتقل إلى الشام ، واشتغل بفنون المعقول ، وحفظ منه الكثير ، وتميّز فيه ، وحصّل منه شيئا كثيرا ، ولم يكن في زمانه أحفظ منه لهذه

__________________

(١) تحدثت في الدراسة عن رحلاته العلمية بالتفصيل من ص ٥١ ـ ٧٩.

(٢) مفرج الكروب في أخبار بنى أيوب لابن واصل ٥ / ٣٦.


العلوم ، ثم انتقل إلى الديار المصرية ، وتولى الإعادة بالمدرسة المجاورة لضريح الإمام الشافعى (١)» ، وهذا النّص يدلّ على أن فترة مقامه بالشام كانت لاستكمال دراسته التى بدأها في بغداد ؛ بدليل توليه للإعادة بعد ذلك في مصر أول حضوره بها.

ومن البحث يتضح أن الآمدي قد أقام بالشام مدة عشر سنوات في الفترة من سنة ٥٨٢ ه‍ تاريخ دخوله دمشق إلى سنة ٥٩٢ ه‍ تاريخ خروجه من الشام إلى مصر ، قضاها بين مدنه المختلفة ، ومنها بالتحديد دمشق ، وحلب ، وأن هذه الفترة كانت لاستكمال دراسته التى بدأها بآمد ، وبغداد.

ج ـ رحلته إلى مصر [٥٩٢ ه‍ ـ ٦١٣ ه‍]

١١٩٦ م ـ ١٢١٧ م

حضر الآمدي إلى مصر في ذى القعدة من سنة ٥٩٢ ه‍ في عهد السلطان العزيز عثمان ، ونزل في المدرسة المعروفة (بمنازل العز).

وتعتبر هذه الفترة من أهم الفترات في حياة الآمدي ؛ فقد مكث في مصر أكثر من عشرين عاما ، قضاها في القاهرة ، والإسكندرية ؛ وأصدر فيها عددا كبيرا من الكتب في مجالات مختلفة من الثقافة الإسلامية : كالمنطق ، والفلسفة ، والجدل ، والخلاف ، والأصول ، والكلام.

وقد حضر الآمدي إلى مصر وعمره إحدى وأربعون سنة ، وقضى فيها الفترة الذهبية من عمره المديد ـ من الأربعين حتى الستين ـ وألّف فيها كثيرا من مؤلفاته الخاصة به مثل :

(خلاصة الإبريز تذكرة الملك العزيز) الّذي أهداه إلى الملك العزيز كما سيأتى و (رموز الكنوز) و (دقائق الحقائق) و (لباب الألباب) و (الترجيحات) و (غاية الأمل في علم الجدل) و (التعليقة الصغيرة) و (التعليقة الكبيرة) و (غاية المرام في علم الكلام) وأخيرا (أبكار الأفكار) كما سيأتى ـ بالإضافة إلى شرحه لبعض كتب السابقين : والتى أرجح أنه بدأ بها كما هى عادة المؤلفين المبتدءين يبدءون بشرح كتب الغير ، ثم بعد وصولهم إلى مرحلة النضج يبدءون في تأليف كتبهم الخاصة بهم.

__________________

(١) وفيات الأعيان ٢ / ٤٥٥ ترجمة رقم (٤٠٥).


كما شغل بمصر كثيرا من المناصب العلمية ؛ حيث بدأ برتبة المعية ، ثم وصل إلى رتبة التصدر

وقد عاش الآمدي في مصر في عهود أربعة السلاطين الأيوبيين.

١ ـ السلطان العزيز بن صلاح الدين.

٢ ـ «المنصور بن العزيز.

٣ ـ «العادل شقيق صلاح الدين.

٤ ـ «الكامل بن العادل.

وقد نال التّقدير والاحترام. ثمّ حسده جماعة من فقهاء البلاد وتعصّبوا عليه ، واستباحوا دمه.

وبعد هذه الحادثة لم تطب الحياة في مصر لسيف الدين بعد أن تألّب خصومه عليه ؛ فخرج منها خائفا يترقب حتى نزل حماة بالشام.

د ـ اقامته في الشام : (الفترة الثانية)

في حماة : [٦١٣ ه‍ ـ ٦١٧ ه‍]

[١٢١٧ م ـ ١٢٢١ م]

بعد خروج الآمدي من مصر توجه إلى مدينة حماة بالشام ـ كما ورد في معظم المراجع التى ترجمت له ـ وكانت حماة تحت حكم الملك المنصور ناصر الدين محمد ابن الملك المظفر تقى الدين عمر بن أيوب.

«ولما قدم الآمدي إلى حماة ؛ بنى له السلطان الملك المنصور مدرسته المعروفة به ، التى بقرب الباب الشمالى ، المعروف بباب الجسر الشمالى. وأجرى له الجامكية (١) الكثيرة ، والجراية ، وواظب حضور مجلسه ، والاشتغال عليه بجميع فنونه» (٢).

وقد كان الآمدي يبادل أمير حماة المودة والتقدير ، كما تدل على ذلك مقدمة كتابيه (كشف التمويهات) و (المبين في شرح ألفاظ الحكماء والمتكلمين) اللذين أهداهما إليه.

__________________

(١) كلمة فارسية تعنى الخلع والهبات.

(٢) مفرج الكروب ٤ / ٧٧ ـ ٧٨.


وقد بقى الآمدي بحماة أربع سنوات كانت من أعظم أيام حياته إنتاجا وتأليفا ، نعم فيها بالأمن والسلام والحب والتقدير.

فى دمشق :

أولا : عهد السلطان المعظم عيسى [٦١٧ ه‍ ـ ٦٢٤ ه‍] ١٢٢١

م ـ ١٢٢٧ م

ذهب الآمدي إلى دمشق سنة ٦١٧ ه‍ بعد أن طلبه أميرها ـ كما سلف ـ فولّاه تدريس المدرسة العزيزية (١) المجاورة لتربة الملك الناصر صلاح الدين الأيوبى ـ وأعطاه دارا وأحسن إليه (٢).

وفي هذه الفترة كان الرجل قد بلغ أوج كفايته علما وفضلا ، وكان قد قارب السبعين من عمره ؛ فأقبل على الاشتغال والتصنيف ، وعقد له مجلس المناظرة ليلة الجمعة ، وليلة الثلاثاء من كل أسبوع بالحائط الشمالى من جامع دمشق ، وكان يحضر مجلسه الأكابر من كل مذهب ، ورحل إليه الطلبة من جميع الآفاق من سائر الطوائف ؛ لطلب العلم (٣).

وقد كانت الفترة التى قضاها الآمدي في عصر الملك المعظم ، ومقدارها سبع سنوات من سنة ٦١٧ ه‍ تاريخ وصول الآمدي لدمشق إلى سنة ٦٢٤ ه‍ تاريخ وفاة المعظم ؛ فترة نال فيها الآمدي التقدير والحب أحيانا ، ثم التقدير مع الكراهية أحيانا أخرى.

ثانيا : عهد الملك الناصر داود [٦٢٤ ه‍ ـ ٦٢٦ ه‍]

١٢٢٧ م ـ ١٢٢٩ م

لما ولى الملك الناصر داود بعد موت أبيه الملك المعظّم عيسى ؛ عرف للآمدى فضله ، وقرّبه إليه ، وعوضه عن فترة الجفوة التى كانت من أبيه ؛ لأنه كان من المعجبين به أشد الإعجاب.

__________________

(١) عن هذه المدرسة : انظر الحياة العقلية في عصر الحروب الصليبية في مصر والشام. د. أحمد بدوى ط ١ مطبعة نهضة مصر بالقاهرة.

(٢) مفرج الكروب لابن واصل ٥ / ٣٧ ، ٣٨.

(٣) الوافى بالوفيات للصفدى ٢١ / ٣٤١.


وقد ترجم الملك الناصر عن هذا الإعجاب بطريقة عملية ؛ فعند ما تولى الملك «تقدّم سيف الدين عنده التّقدم العظيم ، ومال بكليته إليه ، وأعطاه ثمانية آلاف درهم اشترى بها جوسقا (١) ، وبستانا». وقد بادله الآمدي الإعجاب ، والتقدير ؛ فصنّف له ـ بناء على طلبه ـ كتابا سماه (فرائد القلائد) على حسب اقتراحه.

ثالثا : عهد الملك الأشرف [٦٢٦ ه‍ ـ ٦٣١ ه‍] ١٢٢٩

م ـ ١٢٣٣ م

تولّى الملك الأشرف حكم دمشق بعد أن سلمها له أخوه الملك الكامل بعد أخذها من ابن أخيه الملك الناصر ، وتعويضه عنها بالكرك ، وما معها من البلاد (٢) ؛ وذلك بعد صراع طويل بين الإخوة : المعظم عيسى من جانب ، وبين الملك الكامل ، والأشرف من جانب آخر. ثم استطاع الكامل ، والأشرف التغلّب على ابن أخيهما الملك الناصر بعد موت والده الملك المعظم بعامين كما سيأتى.

وكان عهد الأشرف من أسوأ العهود التى عاشها الآمدي بدمشق ؛ لأنّ الأشرف قد تعقب رجال المعظم عيسى ، وابنه الناصر ، واضطهدهم ، وحاول إلصاق التهم بهم ؛ لكى يغطى على فعلته الشنيعة من تسليمه بيت المقدس للصليبيين سنة ٦٢٦ ه‍ حتى يتفرغ للاستيلاء على دمشق من ابن أخيه ـ والتى نجح في الاستيلاء عليها سنة ٦٢٦ ه‍ ، وكان الملك الكامل قد اتفق مع الصليبيين على تسليمهم بيت المقدس إن هم عاونوه ضد أخيه الملك المعظم صاحب دمشق ، وبالفعل حضر الامبراطور (فردريك) لمعاونة الكامل حسب اتفاقهما.

ولكن بعد موت المعظم ـ الرجل القوى ـ أراد الكامل أن ينقض اتفاقه مع (فردريك) ؛ لأنّه لم يجد مبررا له ، خاصة والنّاصر صاحب دمشق لا يستطيع الصمود أمامه ؛ ولكن (فردريك) أصرّ على تسلم بيت المقدس ؛ وتمّ له ما أراد بعد أن سلمها له الكامل ، والأشرف سنة ٦٢٦ ه‍ ؛ ليتفرغا لحصار دمشق ، والاستيلاء عليها من ابن اخيهما الملك الناصر داود (٣) ؛ وبالطبع استغل الملك الناصر ورجاله هذه الحادثة في التشنيع على الملك الكامل ، والملك الأشرف.

__________________

(١) الجوسق لفظ فارسى معناه القصر.

(٢) مفرج الكروب ٤ / ٢٥٦ وما بعدها.

(٣) عن تسليم القدس للصليبيين انظر مفرج الكروب ٤ / ٢٤١ ـ ٢٤٦.


وكان للآمدى وتلاميذه دور بارز في شجب هذا الصنيع ، يقول ابن واصل «ولمّا ورد الخبر إلى دمشق بتسليم القدس إلى الفرنج ؛ أخذ الملك الناصر في التشنيع على عمه الملك الكامل ، وتقدّم إلى الشيخ شمس الدين يوسف سبط ابن الجوزى الواعظ (تلميذ الآمدي) ـ وكان له قبول عند الناس ـ فى الوعظ في أن يجلس بجامع دمشق للوعظ ، ويذكر فضائل القدس ، وما ورد فيه من الأخبار ، والآثار ، وأن يحزّن الناس ، ويذكر ما في تسليمه إلى الكفّار من الصّغار للمسلمين والعار ، وقصد بذلك تنفير الناس من عمه ؛ ليناصحوه في قتاله ؛ فجلس شمس الدين للوعظ كما أمره ، وحضر الناس لاستماع وعظه ، وكان يوما مشهودا ، وعلا يومئذ ضجيج الناس وبكاؤهم ، وعويلهم ... فلم ير في ذلك اليوم إلا باك ، أو باكية» (١).

ويؤكد سبط ابن الجوزى ما أورده ابن واصل فيقول في كتابه مرآة الزمان «وأشار الملك الناصر داود بأن أجلس بجامع دمشق ، وأذكر ما جرى على بيت المقدس ؛ فما أمكننى مخالفته ؛ فرأيت من جملة الدّيانة الحميّة للإسلام وموافقته ؛ فجلست بجامع دمشق ، وحضر الناصر داود على باب مشهد على ، وكان يوما مشهودا ، لم يتخلف من أهل دمشق احد» (٢).

وبعد أن تم للأشرف ما أراد ، واستقرّ بدمشق أعلنها حربا شعواء على رجال دولة الناصر حتى هرب معظمهم ، واستغل التعصب المذهبى لدى بعض أصحاب المذاهب أسوأ استغلال ؛ فاستقطب جماعة من الفقهاء ، والظاهريين ، والصوفية معه ، وأراد إرضاءهم ، وإرضاء العامة ، وبالتالى يغطى على جريمته الشنعاء.

وقد كان المعظم عيسى ، وابنه الناصر داود يتميزان بسعة الأفق ، وبمحبة العلم وأهله ، واشتهر عن الناصر بأنه يقرب الفلاسفة إليه ؛ بل إنه طلب من الآمدي أن يؤلف له (فرائد الفوائد) ؛ فألّفه بناء على اقتراحه كما مر ؛ فانتهز الأشرف هذه الفرصة في التشنيع على عهد الناصر ، وأبيه المعظم ، وأعلنها حربا شعواء على من بقى بدمشق من رجال عهده ـ وعلى رأسهم الآمدي ـ ؛ فانتهز حسّاد الآمدي وهم كثر ـ ومخالفوه هذه الفرصة ، والتفّوا حول السلطان ؛ لكى يصلوا إلى أهدافهم ، وأصدروا الفتاوى التى تبرّر للأشرف

__________________

(١) مفرج الكروب ٤ / ٢٤٥ ، ٢٤٦.

(٢) مرآة الزمان ٨ / ٤٣٢.


عزله وحبسه ، خاصة بعد فتح آمد على ما سيأتى بعد ؛ فأصدر الأشرف قرارا بعزله ، وحبسه في منزله سنة ٦٢٩ ه‍. (١٢٢٩ م) (١).

وهكذا وبعد كفاح طويل في خدمة العلم ، وأهله استمرّ إلى الثّمانين من عمره ، جاءته هذه المحنة القاسية التى انتهت حياته بعدها بقليل.

وفي هذا الجو القاسى. وبعد فترة قليلة من العزل ، والحبس انتهت الحياة الجسدية لذلك الإمام العظيم ؛ ولكنه بقى وسيبقى خالدا بعلمه إلى يوم الدين.

وفاته : (٢ صفر سنة ٦٣١ ه‍ ـ نوفمبر سنة ١٢٣٣ م)

في هذه الظروف الصعبة ، وذلك الوضع المؤلم ، أمضى شيخنا أيامه الأخيرة في دمشق معزولا في بيته ؛ ولكنه ـ مع هذا ـ بقى يشتغل حتى وافاه أجله في ليلة الاثنين وقت صلاة المغرب ثانى صفر سنة ٦٣١ ه‍ ودفن يوم الاثنين بسفح قاسيون بعد أن جاوز الثمانين من عمره ـ رحمه‌الله ـ قضاها في كفاح علمى متصل لم يفتر يوما ، رغم قسوة الظروف ، وتوالى الأزمات.

يقول الذهبى ـ أحد خصومه ـ «ثم عزل لأمر اتهم فيه ، ولزم بيته يشتغل ، ولم يكن له نظير في الأصول ، والكلام ، والمنطق ، توفى في ثالث صفر» (٢) ويقول القفطى «مات وتصانيفه في الآفاق مرغوب فيها» (٣).

وقد استمر حقد الأشرف عليه حتى بعد موته. يقول الصفدى نقلا عن تلميذه ابن خلكان «ولما مات توقف الأكابر والعلماء بدمشق عن حضور جنازته ؛ خوفا من الملك الأشرف ؛ إذ كان متغيرا عليه ؛ فخرج الإمام عز الدين في جنازته ، وجلس تحت قبة النسر حتى صلى عليه. فلما رأى الناس ذلك بادروا إليه ، وصلوا عليه» (٤).

وقد بكاه محبوه ، وتلاميذه ، وعارفوا فضله ، وقال في رثائه ـ تلميذه ـ الأديب الصوفى نجم الدين بن إسرائيل ـ وكانت السماء قد جادت عند دفنه بمطر عظيم ـ

__________________

(١) دائرة المعارف الإسلامية ١ / ١٠٢.

(٢) العبر في خبر من غبر للذهبى ٥ / ١٢٤.

(٣) اخبار العلماء بأخبار الحكماء للقفطى ص ١٦١.

(٤) الوافى بالوفيات للصفدى ٢١ / ٣٤٥.


بكت السماء عليه عند وفاته

بمدامع كاللؤلؤ المنثور

وأظنّها فرحت بمصعد روحه

لمّا سمت وتعلّقت بالنّور

أو ليس دمع الغيث يهمى باردا

وكذا تكون مدامع المسرور (١)

__________________

(١) المصدر السابق.


ثقافته وإنتاجه ثقافته

ـ مؤلفاته ـ أشهر تلاميذه

أولا : ثقافته :

كان الآمدي ملما بجميع فروع الثقافة الإسلامية ـ فى عصره ـ مع ميل إلى التخصص في الدّراسات العقلية ؛ لأنها تتفق مع اتجاهه الفكرى ، والروح النقدية التى تميز بها ؛ حتى جاءت كل مؤلفاته في هذا الفرع من الدراسات العقلية (كلاما ، وأصولا ، وفلسفة ، وجدلا ، وخلافا) ، إلى غير ذلك مع دراية تامة بالعلوم الأخرى كما يتضح ذلك من مؤلفاته ـ التى اطلعت عليها ـ والتى تؤكد أنه كان ملما بعلوم عصره من نحو ، وصرف ، وبلاغة ، وأدب ، وفقه وقراءات ، وحديث ، وتفسير ، وطب ، بالإضافة إلى نظمه للشعر الجيد ، كما كان مقدما في الخلاف ، والجدل ، والأصول ، والكلام ، والفلسفة.

وهى تلك العلوم التى تخصص فيها الآمدي ، وانفق حياته في دراستها ، وتدريسها ، والتصنيف فيها ، وهى في مجموعها تتسم بالطابع العقلى ، وقد قسمتها إلى أربعة أفرع :

أولا : الخلاف والجدل : وقد عينت من الكتب إلى صنفها فيهما سبعة مؤلفات.

ثانيا : الفلسفة والمنطق : وقد عينت من الكتب التى صنفها فيهما ثمانية مؤلفات.

ثالثا : أصول الدين : وقد عينت من الكتب التى صنفها فيه خمسة مؤلفات.

رابعا : أصول الفقه : وقد عينت من الكتب التى صنفها فيه أربعة مؤلفات.

وسأتحدث بالتفصيل عن هذه العلوم التى تخصص فيها ، والمصنفات التى ألفها في كل منها.

ثانيا : مؤلفاته :

بلغت مؤلفات الإمام سيف الدين الآمدي الغاية في كثير من الفنون وقد استطعت بعد البحث ، والمقارنة أن استخلص خمسة وعشرين مؤلفا من هذا الحشد الكبير من المراجع التى تحدثت عن الآمدي ، والتى يبلغ عددها أكثر من سبعين مرجعا. كما عينت منها أربعة وعشرين كتابا ، وبقى كتاب واحد لم أهتد إلى معرفة موضوعه. من هذه المؤلفات الأربعة والعشرين : سبعة في الجدل والخلاف ، وثمانية في الفلسفة والمنطق ، وخمسة في علم الكلام ، وأربعة في أصول الفقه.


وسأذكر فيما يلى مصنفاته التى أمكننى تعيينها في كل علم على حدة. مقدما بكلمة عن مكانة الآمدي في كل علم منها :

أولا : الخلاف والجدل

كان الآمدي مقدما في الخلاف والجدل ، وقد بلغت مؤلفاته الغاية فيهما ، وقد تلقاهما عن شيخه ابن فضلان كما سلف ، وقد كان الخلاف والجدل موضع عناية العلماء في هذا العصر ، حتى ألف بعضهم (١) كتابا في (استخراج الجدل من القرآن الكريم). وكان أكثر العلماء اهتماما بهما هو شيخنا الآمدي. يقول الدكتور أحمد بدوى «وكان أغزر علمائها إنتاجا في تلك المادة ، هو سيف الدين الآمدي ... وقد وضع كتبا عدة ، وشرح بعض كتب سواه ومن ذلك كتابه الّذي سماه : (غاية الأمل في علم الجدل) و (المؤاخذات في الخلاف) ، و (الترجيحات في الخلاف) أيضا.

وشرح كتابا لشهاب الدين المعروف بالشريف المراغى (٢)

وقد تخرج به في الجدل والخلاف جماعة من العلماء من أشهرهم العز بن عبد السلام كما سيأتى.

وقد استطعت أن أعين من كتبه في الخلاف والجدل سبعة كتب بيانها كما يلى :

١ ـ شرح كتاب الجدل.

وهو عبارة عن شرح لكتاب الشيد شهاب الدين المعروف بالشريف المراغى.

٢ ـ غاية الأمل في علم الجدل. وتوجد منه نسخة في المكتبة الأهلية بباريس تحت رقم ٥٣١٨.

٣ ـ المآخذ الجلية في المأخذات الجدلية.

٤ ـ دليل متحد الائتلاف وجار في جميع مسائل الخلاف.

٥ ، ٦ ـ التعليقة الكبيرة ، والتعليقة الصغيرة.

٧ ـ الترجيحات في الخلاف.

__________________

(١) هو ناصح الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن الحنبلى المتوفى سنة ٦٣٤ ه‍ والكتاب طبع في القاهرة سنة ١٣٤٣ ه‍.

(٢) الحياة العقلية للدكتور أحمد بدوى ص ١٨٦.


ثانيا : الفلسفة والمنطق :

كان الآمدي مقدما في الفلسفة والمنطق ؛ بل كان أكثر أهل زمانه معرفة بالعلوم الحكمية ؛ كما يصرح بذلك تلميذه ابن أبى أصيبعة. هذه حقيقة اتفق عليها معظم مؤرخيه. وكان الآمدي قد بدأ دراسته الفلسفية ببغداد. ثم أتمها بالشام ، وقد سبب له الاشتغال بالفلسفة كثيرا من المتاعب ؛ لأن الدولة الأيوبية كانت عنيفة في معاملة الفلاسفة.

وقد بدأت متاعب الآمدي في بغداد بسبب تعلمه للفلسفة ، كما كان اشتغاله بالفلسفة مبررا لتعصب فقهاء مصر ضده ، كما أن بعض خصومه في دمشق قد أصدر ضده فتوى ، كانت مبررا لعزله ؛ وحبسه في منزله.

وقد بلغت مؤلفات الآمدي الغاية في العلوم الفلسفية ؛ فلم يكن أحد في وقته أكثر تبحرا في العلوم الفلسفية منه كما يشهد بذلك ابن تيمية.

وقد استطعت أن أعين من مؤلفاته في الفلسفة والمنطق ثمانية مؤلفات بيانها كما يلى (١) :

١ ـ رموز الكنوز.

٢ ـ دقائق الحقائق ، وهو من الكتب التى تيسر لى الحصول على مجلد منها.

٣ ـ لباب الألباب.

٤ ـ الغرائب وكشف العجائب في الاقترانات الشرطية.

٥ ـ النور الباهر في الحكم الزواهر.

وهو موجود في دار الكتب العمومية باستامبول. ويقع في خمسة مجلدات.

٦ ـ كشف التمويهات على الإشارات والتنبيهات.

توجد منه نسخة بالمتحف البريطانى رقم ٢٥٣ شرقى. صورت منها نسخة لمعهد المخطوطات بجامعة الدول العربية.

__________________

(١) تحدثت عن هذه المؤلفات بالتفصيل في الدراسة (الموجودة بكلية أصول الدين) ص ٩٢ ـ ١٠٤.


٧ ـ المبين في شرح ألفاظ الحكماء والمتكلمين.

وقد حققه الدكتور حسن عبد اللطيف. ونشر بمكتبة وهبة سنة ١٩٩٣ م.

٨ ـ فرائد القلائد.

ثالثا : الكلام

كان الآمدي شيخا للمتكلمين في عصره ، هذه حقيقة اتفق عليها أصدقاؤه وخصومه ، يقول عنه ابن تيمية «لم يكن أحد في وقته أكثر تبحرا في العلوم الكلامية ، والفلسفية منه». ويقول عنه الذهبى أحد خصومه «لم يكن له نظير في الأصول ، والكلام» وقد بلغ الآمدي في علم الكلام درجة عالية يدلّ بها في مقدمته لأبكار الأفكار فيقول «ولمّا كنّا مع ذلك قد حققنا أصوله ، ونقّحنا فصوله ، وأحطنا بمعانيه ، وأوضحنا مبانيه ، وأظهرنا أغواره ، وكشفنا أسراره ، وفزنا فيه بقصب سبق الأولين ، وحزنا غايات أفكار المتقدمين والمتأخرين واستترعنا منه خلاصة الألباب ، وفصلنا القشر عن اللّباب».

كما بلغت مؤلفاته الكلامية درجة عالية من الإتقان والإحكام ؛ بل إن منهجه الكلامى قد اعتبر أساسا لما سمى فيما بعد بعلم كلام المتأخرين.

وقد استطعت أن أعين من مؤلفاته الكلامية خمسة كتب بيانها كما يلى :

١ ـ خلاصة الإبريز تذكرة الملك العزيز.

٢ ـ غاية المرام في علم الكلام. وقد حققه الأستاذ الدكتور حسن عبد اللطيف ونشره المجلس الأعلى للشئون الإسلامية.

٣ ـ أبكار الأفكار. وهو موضوع دراستنا.

٤ ـ منائح القرائح. وهو ملخص لأبكار الأفكار.

٥ ـ المآخذ على المطالب العالية للرازى. وتوجد منه نسخة بمكتبة فيض الله باستامبول رقم ١١٠١. وقد صورت منها نسخة لمعهد المخطوطات بجامعة الدول العربية تحت رقم ٣ توحيد (١).

__________________

(١) انظر عنها ص ١٠٤ ـ ١١٠ من الدراسة.


رابعا : أصول الفقه :

كان الآمدي إمام عصره في أصول الفقه ، وقد أوصله إلى تلك المكانة جدّ لا يعرف الكلل ، وانصراف إلى العلم شغله عما عداه. يقول في مقدمة الإحكام «ولذلك كثر تدآبى ، وطال اغترابى ، في جمع فوائدها ، وتحقيق فرائدها ، من مباحثات الفضلاء ، ومطارحات النبلاء ، حتى لان من معركها ما استصعب على المتدربين ، وظهر منها ما خفى على حذاق المتبحرين ، وأحطت منها بلباب الألباب ، واحتويت من معانيها على العجب العجاب» (١).

وأهم كتب الآمدي في أصول الفقه هو (الإحكام في أصول الأحكام) الّذي ألفه في دمشق في الفترة من سنة ٦١٧ ه‍ ، وأهداه للملك المعظم الّذي توفى سنة ٦٢٤ ه‍ ، وقد اختصره في كتابه الآخر (منتهى السئول في علم الأصول) كما سيأتى.

ويعتبر أصول الفقه آخر الميادين التى صنف فيها الآمدي ، وقد ظهرت آثار ثقافته المتعدّدة الجوانب بوضوح في مؤلفاته الأصولية ، التى ألفها على طريقة المتكلمين.

وقد استطعت بعد البحث والدراسة أن أعين منها أربعة كتب (٢) بيانها كما يلى :

١ ـ منتهى السّالك في رتب الممالك.

٢ ـ المآخذ على المحصول.

٣ ـ الإحكام في أصول الأحكام ، وقد طبع عدة طبعات أولها سنة ١٩١٤ في أربع مجلدات. بدون تحقيق علمى.

٤ ـ منتهى السئول في علم الأصول. وقد طبع في مصر بدون تحقيق علمى.

مما سبق يتضح أن كتب الآمدي التى استطعت تحديد موضوعاتها أربعة وعشرون كتابا منها : سبعة في الجدل والخلاف ، وثمانية في الفلسفة والمنطق ، وخمسة في علم الكلام ، وأربعة في أصول الفقه ، وقد بقى كتاب واحد لم أهتد إلى معرفة موضوعه وهو :

__________________

(١) الإحكام في أصول الأحكام للآمدى ط. مطبعة محمد على صبيح بالقاهرة سنة ١٩٦٨.

(٢) تحدثت عنها بالتفصيل في الدراسة من ص ١١١ ـ ١١٦.


١ ـ الفريدة الشمسية :

وهذا الكتاب قد ذكره بروكلمان في الملحق نقلا عن مجلة المستشرقين الألمان العدد ٩٠ ص ١١٦ ، وبين أنه يوجد بمكتبة المدينة المنورة تحت رقم ٤٤ ولم يحدّد موضوعه.

كما انفرد بروكلمان أيضا بنسبة كتب أخرى لشيخنا الآمدي (١) ، وقد اتضح لى بعد البحث أنها ليست له ، وإنّما هى لآمدى آخر.

ثالثا : تلاميذه :

كان للآمدى تلاميذ تخرّجوا على يديه ، وصاروا من أعلام الأئمة ، ومن نوابغ العلماء في كثير من العلوم ؛ ففيهم المتكلم ، والأصولى ، والطبيب ، والفقيه ، والقاضى ، والشّاعر ، والأديب ؛ بل والقائد ، والوزير ، والملك ، ولا عجب في ذلك ؛ فقد كانت مجالسه العلمية يحضرها أكابر العلماء من كل فن ، والفقهاء من جميع المذاهب ، مما لم يتيسر لأحد من معاصريه ، وقد اشتغل الآمدي بالتدريس مدة طويلة تبلغ أكثر من أربعين عاما ـ كما سلف ـ تخرج فيها على يديه مئات العلماء في مصر ، والشام ؛ كانوا بحق أئمة عصرهم ، والعصور التالية ، وما زال أثره وأثرهم ، وتأثيره وتأثيرهم باقيا إلى اليوم. غير أنى سأذكر هنا من أمكن تعيينهم من تلاميذه المباشرين ، وقد بلغ عددهم تسعة عشر تلميذا. سأذكر فيما يلى أسماءهم فقط (٢).

١ ـ عز الدين بن عبد السلام (٥٧٧ ـ ٦٦٠ ه‍).

٢ ـ ابن الحاجب المالكى (٥٧٠ ـ ٦٤٦ ه‍).

٣ ـ سبط ابن الجوزى (٥٨١ ـ ٦٥٤ ه‍).

٤ ـ ابن أبى أصيبعة (٥٩٦ ـ ٦٦٨ ه‍).

٥ ـ أبو شامة المقدسى (٥٩٩ ـ ٦٦٥ ه‍).

٦ ـ ابن واصل (٦٠٤ ـ ٦٩٧ ه‍).

__________________

(١) منها : تفسير سورة يس (الملحق ١ / ٣٩٣).

ومنها : رسالة في علم الله. وقد ذكرها في الملحق نقلا عن مجلة المستشرقين الألمان (العدد ٩٠ ص ١١٦).

(٢) وقد تحدثت عنهم بالتفصيل في دراستى عن الآمدي من ص ١١٧ ـ ١٣٠.


٧ ـ ابن خلكان (٦٠٨ ـ ٦٨١ ه‍).

٨ ـ ابن بصاقة (٥٧٧ ـ ٦٥٠ ه‍).

٩ ـ محيى الدين بن الزّكىّ المتوفى سنة ٦٦٨ ه‍.

١٠ ـ صدر الدين بن سنى الدولة المتوفى سنة ٦٥٨ ه‍.

١١ ـ شهاب الدين بن القطب.

١٢ ـ القاضى أبو الروح عيسى بن الفاخر. المعروف بابن قاضى تدباس.

١٣ ـ الأديب نجم الدين بن إسرائيل (٦٠٣ ـ ٦٧٧ ه‍).

١٤ ـ زين الدين الأنصارى المقدسى.

١٥ ـ العماد بن السلماس.

١٦ ـ الفخر البعلبكى المفتى (٦١١ ـ ٦٨٨ ه‍).

١٧ ـ الملك المنصور (٥٨٧ ـ ٦١٧ ه‍).

١٨ ـ محمود السنجارى (٥٩٢ ـ ٦٥٥ ه‍).

١٩ ـ ابن جماعة (٥٩٦ ـ ٦٧٥ ه‍).

منهجه في كتابه أبكار الأفكار :

نهج الآمدي في كتابه أبكار الأفكار نهجا اعتبر أساسا لما سمى فيما بعد بعلم كلام المتأخرين ، واقتدى به في طريقته معظم من أتى بعده من المتكلمين (١) ؛ فقد قسمه إلى ثمانى قواعد ؛ خصص الثلاثة الأول منها للمنهج ، واعتبرها من علم الكلام ؛ لأنه يحتاج إليها في إثبات العقائد ؛ فجعل بهذا جميع ما يتوقف عليه إثبات العقائد قواعد في علمه ؛ كيلا يحتاج فيه إلى علم آخر يقول الآمدي «... وسميته أبكار الأفكار ، وجعلته مشتملا على ثمانى قواعد متضمنة لجميع مسائل الأصول :

الأولى : فى العلم وأقسامه ، والثانية : فى النظر وأقسامه ، وما يتعلق به ، والثالثة : في الطرق الموصلة إلى المطلوبات النظرية» (٢).

__________________

(١) تحدثت بالتفصيل عن منهج الآمدي الكلامى في كتابه أبكار الأفكار في الدراسة من ص ١٣١ ـ ١٥٣.

(٢) انظر الأبكار ل ٢ / ب.


وقد سار على نهجه صاحب المواقف ، ومعظم من أتى بعده من المتكلمين (١). والآمدي قد تحدث عن منهجه بالتفصيل في هذه القواعد الثلاثة ، كما التزم به ، وطبقه في القواعد الخمسة الباقية كما سيأتى. وبذلك أغنانا عن كثير من الجهود التى كنا سنبذلها في استخلاصه من كتابه.

فقد خصص القاعدة الأولى : للعلم وأقسامه. وتحدث فيها بالتفصيل عن حقيقته ، وأقسامه ، وأحكامه. وتعتبر هذه القاعدة مقدمة ضرورية للقاعدة الثانية : التى تحدث فيها : عن النظر ، وأقسامه ، وما يتعلق به بالتفصيل ، والتى يتضح منها أنّ الآمدي قد وثق في النّظر العقلى ، واعتبره الأساس الّذي تعتمد عليه أدلة معظم المسائل الكلامية.

أما القاعدة الثالثة : فقد تحدّث فيها بالتفصيل عن الطرق الموصلة إلى المطلوبات النظرية ـ ويتضح لنا من هذه القاعدة أن الآمدي قد ارتضى المنطق الصورى منهجا ، وطريقا للوصول إلى اليقين كما سيأتى.

وفي الفصل الأخير من هذه القاعدة ، حدد موقفه من بعض الأدلة التى استدل بها المتقدمون ، وحكم عليها بأنها غير مفيدة لليقين.

مما سبق يتضح لنا منهج الآمدي الّذي خصّص له القواعد الثلاث الأول من كتابه ، وأستطيع أن أقرر أن منهجه ، كان انعكاسا لثقافته المتعددة الجوانب. وأنه لهذا كانت له خصائصه ، ومميزاته التى أهلته لأن يكون منهجا لمن أتى بعده من المتكلمين. فما هى خصائص منهج الآمدي ، ومميزاته؟

خصائص منهج الآمدي ، ومميزاته :

١ ـ اعتمد الآمدي على النظر العقلى ، والدّليل الشرعى ، وحدّد لكل منهما مجاله ، واعتبرهما معا موصلين لليقين ، في كل المسائل الكلامية.

٢ ـ استخدم المنطق الصورى ، ووثق به ؛ غير أن ذلك لم يمنعه من مناقشة الفلاسفة ؛ والوقوف منهم موقف الخصومة في المسائل التى تتعارض مع الدين ؛ لأن المنطق عنده مجرد آلة.

__________________

(١) انظر شرح المواقف للجرجانى ١ / ٢٥ ط دار الطباعة العامرة باستانبول سنة ١٢٩٢ ه‍.


٣ ـ نقد معظم مناهج المتكلمين السابقين ، واعتبرها غير مفيدة لليقين ، وإن ظن فيها ذلك ، واحتفظ بموقفه منها حتى وهو يناقش شيوخ المذهب الأشعرى مع أنه أحد اتباعه.

٤ ـ وقف من الصوفية الذين يعتدون بمنهج الرياضة الروحية طريقا إلى المعرفة الحقة ، موقفا متسامحا.

٥ ـ رفض المنهج الباطنى ، ووقف من الباطنية موقف الخصومة.

٦ ـ رفض منهج الحشوية ، ووقف منهم موقف الخصومة أحيانا.

٧ ـ لاحظت تسامحه مع المعتزلة على غير عادة شيوخه الأشاعرة ؛ بل إنه في كثير من المسائل يتطوع للدفاع عنهم فيقول مثلا : «وقد أخطا أصحابنا في ذلك ، والحق ما ذهب إليه المعتزلة». كما أنه يصفهم بأوصاف تدل على تقديره لهم فيقول مثلا : حذّاق المعتزلة ، الفضلاء من المعتزلة.

٨ ـ لاحظت تأثره بالمنهج الجدلى بالرغم من تشكيكه فيه ، ولا عجب في ذلك ، فقد كان الآمدي أكبر علماء الجدل في عصره.

٩ ـ ومن مميزات منهج الآمدي في الأبكار دقته في حكاية مذاهب السابقين ، وعنايته البالغة بتحقيقها ؛ فهو يعرضها في الغالب عرضا تاريخيا بحسب التسلسل التاريخى ، أو حسب قيمتها العلمية ؛ فيقول مثلا : أجمع العقلاء على كذا. والمقصود بهم جميع العقلاء سواء أكانوا من المليين ، أم من غيرهم. ثم يقول : ويرى المليون كذا. والمقصود بهم أصحاب الكتب السماوية. ثم يقول : ويرى الإسلاميون كذا. والمقصود بهم جميع الفرق الإسلامية. ثم يقول : ويرى الخوارج كذا ، ثم يذكر آراء المعتزلة ، ويعدّد آراء شيوخهم بحسب التسلسل التاريخى ، ثم يذكر آراء الأشاعرة : فيبدأ بالأشعرى ، ثم بالباقلانى ، وابن فورك ، وإمام الحرمين ، وهكذا.

وهذا المنهج قد ارتضاه الآمدي في معظم كتابه (أبكار الأفكار). وبعد أن يستعرض آراء السابقين ، يحرر محل النزاع ، ويرجح منها ما يختاره ، أو يدلى في المسألة برأى جديد ، أو يترك الباب مفتوحا لمن يأتى بعده. كما أنه في أحيان كثيرة يستعرض شبه الخصوم ، ثم يرد عليها. ويرتفع الآمدي إلى القمة ، عند ما تتجلى فيه صفة التواضع


العلمى بأجلى معانيها ؛ فيقول أحيانا : هذا ما عندى ، ولعل غيرى يستطيع أن يصل إلى ما لم أصل إليه.

١٠ ـ التزم الآمدي بهذا المنهج ، وطبقه على جميع المسائل الكلامية التى خصص لها القواعد الخمس الباقية من الكتاب.

هذا منهج الآمدي في كتابه (أبكار الأفكار). الّذي اعتمد فيه على النظر العقلى ، والدليل الشرعى ، وأستطيع أن أقرر أنه كان انعكاسا لثقافته المتعددة ؛ فهو بالإضافة إلى ما مر ملتقى مؤثرات عدة من المنهج النقدى التاريخى ، والمنهج الجدلى ، والمنطق الصورى ؛ الّذي وثق فيه الآمدي ، وتأثر به إلى حد بعيد.


مكانته العلمية ، وآراء العلماء فيه

تتحدّد مكانة الإنسان في أمته ومجتمعه ، بمقدار ما يقدمه من أعمال ، وبمدى الأثر الّذي يتركه سواء في حياته ، أو بعد مماته. وفي الناحية العلمية على وجه الخصوص تقاس مكانته بالآثار العلمية : سواء أكانت مؤلفات ، أم تلاميذ.

والآمدي من هذه الناحية قد بلغ الغاية ؛ فقد ترك خمسة وعشرين مؤلفا في فنون مختلفة (١) ، وقد بلغ بعضها الغاية في كثير من الفنون ؛ كالكلام ، والأصول ، والفلسفة ، والمنطق ، والجدل. وقد قامت حول بعضها عشرات المختصرات ، والشروح في حياته ، وبعد مماته ، وما زالت لكتبه نفس المكانة التى حظيت بها في حياته.

أما تلاميذه : فقد كانوا بحق أئمة عصرهم في كثير من الفنون ، كما تخرج على أيديهم عشرات الأعلام ممن أصبحوا أئمة لعصورهم في كثير من الفنون كما سبق.

وقد اعترف بإمامته لعلماء عصره أصدقاؤه وخصومه على حد سواء ؛ فيتّفق معظمهم على أن الآمدي كان شيخا للمتكلمين في عصره ، ولم يوجد له نظير في العلوم العقلية. وقد أوصله إلى هذه المكانة جدّ لا يعرف الكلل ، وانصراف إلى العلم والدراسة ، شغله عن كل شيء حتى عن نفسه أحيانا ، وذكاء دفع بعض مؤرخيه إلى أن يعدّه أذكى أذكياء أهل زمانه.

يقول عنه تلميذه شمس الدين بن خلكان : «ما عسى أن يقال في أعجوبة الدهر ، وإمام العصر ، وقد ملأت تصانيفه الأسماع ، ووقع على تقدّمه وفضله الإجماع ، إمام علم الكلام ، ومن أقر له فيه الخاص ، والعام. صاحب المصنفات المشهورة ، والتعاليق المذكورة. من أكبر جهابذة الإسلام ، ومن يرجع لأقواله في الحل والإبرام ، والحلال والحرام» ، ثم يصفه فيقول : «كان خير الطباع ، سليم القلب ، حسن الاعتقاد ، قليل التعصب».

ويقول تلميذه أبو المظفر سبط ابن الجوزى : «لم يكن في زمانه من يحاذيه في علم الكلام ، والأصول ، وكان سريع الدمعة ، رقيق القلب (٢)».

__________________

(١) الوافى بالوفيات للصفدى ٢١ / ٣٤٠.

(٢) مرآة الزمان لسبط ابن الجوزى ٤ / ٧٣.


ويقول عنه تلميذه : الإمام عز الدين بن عبد السّلام. فيما يرويه عنه ابن خلكان قال : «سألت شيخنا الإمام العلامة عز الدين بن عبد السلام عن درس الإمام سيف الدين فقال : «ما سمعت أحدا يلقى الدرس أحسن منه».

ثم يعلق ابن خلكان قائلا : «وكفاك به جلالا ، ونبلا ، أن الإمام عز الدين من أصحابه ، ومن كبار طلابه ، ملازما لدرسه ، راضيا طريقته ، مع خبره علانيته ، وسريرته. ولقد سمعته يوما يقول : ما عرفنا قواعد البحث إلا من الشيخ سيف الدين ... وكان يعظّمه ، ويجلّه ، ويبجّله ، وسمعت عنه أنه قال : «لو ورد على الإسلام متزندق ، أو مشكّك ، لتعين الإمام سيف الدّين لمناظرته ؛ لاجتماع أهلية ذلك فيه» (١)

ويقول عنه تلميذه الإمام ابن الحاجب فيما يرويه عنه ابن خلكان «سمعت الإمام جمال الدين ... المعروف بابن الحاجب يقول : ما صنف في أصول الفقه مثل كتاب الإمام سيف الدين الآمدي (الإحكام في أصول الأحكام) ثم يقول ابن خلكان : ومن محبته له اختصره رحمه‌الله تعالى» (٢).

وحسبنا دليلا على فضله ، وإمامته. تنافس الملوك على تقريبه ، والانتفاع به ؛ فقد تنافس في طلبه ملوك دمشق ، وحماه وأمد كما مر.

وقد كانت مجالس الإمام الآمدي العلميّة يحضرها الطلبة من جميع الآفاق ، ومن كل المذاهب. كذلك كانت مناظراته التى كان يعقدها في دمشق. يقول الصفدى «وعقد له مجلس المناظرة ليلة الجمعة ، وليلة الثلاثاء من كل أسبوع بالحائط الشمالى من جامع دمشق ، وكان يحضره الأكابر من كل مذهب ، ورحل إليه الطلبة من جميع الآفاق من سائر الطوائف لطلب العلم» (٣).

أما خصومه ـ ومعظمهم من الحنابلة ، والمحدثين ؛ فقد اتفقوا أيضا على إمامته لعلماء عصره ؛ لأنهم لم يستطيعوا انكارها ، وجحدها ؛ فالشّمس لا تنكر. يقول الذهبى ـ أحد خصومه ـ : «كان من أذكياء العالم ... ولم يكن له نظير في الأصول ، والكلام ، والمنطق» (٤).

__________________

(١) الوافى بالوفيات للصفدى ٢١ / ٣٤١.

(٢) المصدر السابق ٢١ / ٣٤١.

(٣) المصدر السابق ٢١ / ٣٤٠.

(٤) العبر في خبر من غبر للذهبى ٥ / ١٢٤.


ويقول عنه شيخ الإسلام ابن تيمية «لم يكن أحد في وقته أكثر تبحرا في العلوم الكلامية ، والفلسفية منه ، وكان من أحسنهم إسلاما ، وأمثلهم اعتقادا» (١)

ولكنهم مع ذلك حاولوا النيل منه من جانب آخر ؛ ووجهوا إليه الكثير من التهم.

مما سبق يتضح لنا المكانة العلمية المرموقة التى بلغها الإمام الآمدي. والتى اعترف بها معاصروه من أصدقائه ، وخصومه على حد سواء.

وأقول : لقد كان الإمام الآمدي ـ رحمه‌الله ـ فقيها ، محدثا ، وقد بلغ مكانة مرموقة في كلا الفنين ؛ فقد كان مدرسا للفقه في أكبر مدرسة في العالم الإسلامى ، كما كان محدثا ؛ ولكنه لم يترك مؤلفات فيهما كما سبق. ثم اشتغل بالخلاف والجدل ، وصنف فيهما سبعة كتب ، ثم بأصول الفقه الّذي صنف فيه أربعة كتب ، ثم ألف في المنطق ، والفلسفة ثمانية كتب ، ثم كانت مؤلفاته الكلامية التى بلغت الغاية.

فهو اذن قد بدأ بالتقليد ، والحفظ شيمة الفقهاء والمحدثين في هذا العصر ، ثم عند ما ارتقى تفكيره بحث في المسائل الخلافية ، واجتهد في بعض الأمور الجزئية. ثم عند ما تثبتت أقدامه ، وأصبح أهلا لمرتبة أعلا اشتغل بالأصلين أصول الفقه الّذي يبحث في أصول المسائل الفرعية ، وقبل أن يتهجم على أصول العقيدة أعد نفسه بالتعمق في العلوم العقلية. وبعد أن تسلّح بكل هذه الأسلحة ، وتدرّع بكل تلك الدروع ؛ أصبح أهلا للبحث في المسائل الاعتقادية التى بلغت مؤلفاته فيها الغاية ؛ بل إن منها ما اعتبر بحق أهم مؤلف في أصول الدين : وهو كتاب (أبكار الأفكار).

فهو اذن لم يقف عند المرحلة الأولى كما وقف خصومه ؛ وإنما تعداها إلى مراحل أعلا تحتاج إلى مؤهلات خاصة كانت متوفرة لديه ، وأوصلته إلى المكانة المرموقة التى بلغها ، فقد وصفه معاصروه ، وتلاميذه ، والمنصفون من المؤرخين بصفات يتضح منها ذكاؤه المفرط ، وفصاحته ، وتواضعه الجم ، وحسن خلقه ، ورقة شمائله ، وحسن اعتقاده ، وسماحته حتى مع خصومه ، وقد أهله كل ذلك لإمامة عصره ، والعصور التالية.

__________________

(١) نقض المنطق لابن تيمية تحقيق ـ محمد عبد الرزاق وآخرين. طبع السنة المحمدية بالقاهرة ـ الطبعة الأولى سنة ١٩٥١ م.


كتاب أبكار الأفكار

«قيمته ـ نسخه ـ منهج التحقيق»

أولا : قيمته العلمية :

يعتبر كتاب الأبكار أهم كتب الآمدي الكلامية ؛ بل من أهم كتب علم الكلام على الإطلاق. حوى آراء السابقين ، واعتمد عليه معظم من أتى بعده من المتكلمين ؛ فقد لخصه الإيجى في كتابه (المواقف) ، وتابعه صاحب المقاصد الّذي تأثر به إلى حد بعيد.

يقول السيد الشريف شارح (المواقف) عنه : «كتاب المواقف الّذي احتوى من أصوله وقواعده ، على أهمها وأولاها ، ومن شعبه وفوائده ، على ألطفها وأسناها ، ومن دلائله العقلية على أعمدها ، وأجلاها ، ومن شواهده النقلية على أفيدها ، وأجداها ، وكيف لا وقد احتوى على خلاصة أبكار الأفكار» (١)

ويقول حسن جلبى صاحب الحاشية عن شرح المواقف «كتاب اعترف بسمو منزلته الحاسدون ، وأذعن لعلو مرتبته المعاندون ، وكيف لا وقد انطوى على زبدة نتائج الأنظار ، واحتوى على خلاصة أبكار الأفكار» (٢)

ويقول عبد الحكيم السيالكوتى صاحب الحاشية شارحا لكلام السيد الشريف : «على خلاصة أبكار الأفكار ـ أشار إلى أسماء الكتب المصنفة في هذا الفن» (٣).

كما ورد في دائرة المعارف الإسلامية (المجلد الخامس ص ٢٧٨ ، ٢٧٩) عن الإيجى ما يلي : «وليس في كتب الإيجى ما يجعلها تستحق أن توصف بالأصالة ؛ فقد قصد من وراء تأليفها إلى أن تكون رسائل منهجية للتدريس في المدارس ، وتتبين شهرتها من العدد الكبير من الشروح التى كتبت عليها ... وقد قامت شهرة الإيجى حتى في حياته ، على كتاب المواقف في علم الكلام ، وهو لا يزال يستعمل إلى اليوم أساسا لتدريس الكلام في الأزهر ... ويبسط كتاب المواقف بالاسلوب الكلامى الجامع في

__________________

(١) شرح المواقف ج ١ ص ٤ ، طبع دار الطباعة العامرة سنة ١٢٩٢ ه‍.

(٢) المصدر السابق ج ١ ص ٣.

(٣) المصدر السابق ج ١ ص ٤.


لغة محكمة الآراء السّلفيّة للقرن السادس الهجرى (الثانى عشر الميلادى) فى علم الكلام عند المسلمين. وهو يعتمد في جوهره على (المحصل) لفخر الدين الرازى المتوفى سنة ٦٠٦ ه‍ (١٢٠٩) وعلى (أبكار الأفكار) لسيف الدين الآمدي المتوفى سنة ٦٣١ ه‍ (١٢٣٣ م)» (١).

كما اعتبر (أبكار الأفكار) أساسا لما سمى فيما بعد بعلم كلام المتأخرين ، وتابعه في منهجه معظم من أتى بعده من المتكلمين (٢) ؛ فقد قسمه الآمدي إلى ثمانية قواعد : الأولى : فى العلم ، والثانية : فى النظر ، والثالثة : فيما يتوصل به إلى المطلوبات النظرية.

وهذه القواعد الثلاثة لخصها الإيجى في كتابه المواقف وسماها : الموقف الأول : وقسم هذا الموقف إلى ستة مراصد. المرصد الأول : فيما يجب تقديمه في كل علم. وقد استحدث الإيجى هذا المرصد في كتابه المواقف ؛ لأنه ـ كما بينا ـ كتاب مدرسى.

ثم تحدث في المراصد الثانى ، والثالث ، والرابع : عن العلم. وهذه المراصد الثلاثة تساوى عند الآمدي. القاعدة الأولى : فى العلم.

كما خصص المرصد الخامس للنظر. وهو يساوى عند الآمدي : القاعدة الثانية في النظر.

وتحدث في المرصد السادس : (فى الطريق) ، وهو يساوى عند الآمدي القاعدة الثالثة : فيما يتوصل به إلى المطلوبات النظرية.

وسار على منهج الآمدي في الأبكار ، واعتبر النظر في هذه المسائل من علم الكلام. يقول شارح المواقف في مقدمته لشرح المرصد الثانى : فى تعريف مطلق العلم : «من هاهنا شرع في مقاصد علم الكلام ، وما تقدم في المرصد الأول ؛ كان مقدمة للشروع فيه. ولا بد للمتكلم من تحقيق ماهية العلم أولا ، ومن بيان انقسامه إلى ضرورى ، ومكتسب ثانيا ، ومن الإشارة إلى ثبوت العلوم الضرورية التى إليها المنتهى ثالثا ، ومن بيان أحوال النظر وإفادته للعلم رابعا ، ومن بيان الطريق الّذي يقع فيه النظر

__________________

(١) دائرة المعارف الإسلامية. المجلد الخامس. العدد ٣٦. ص ٢٧٨ ، ٢٧٩ مطابع الشعب. إعداد إبراهيم زكى خورشيد وآخرين.

(٢) انظر منهجه ص ١٣١ ـ ١٥٣ من بحثنا للدكتوراه.


ويوصل إلى المطلوب خامسا ؛ إذ بهذه المباحث يتوصل إلى إثبات العقائد ، وإثبات مباحث أخرى تتوقف عليها العقائد. وقد عرفت أنه قد جعل جميع ما يتوقف عليه إثبات العقائد من القضايا المكتسبة ، مقاصد في علمه ؛ كيلا يحتاج فيه إلى علم آخر ؛ فالمباحث المذكورة في هذه المراصد الخمسة مسائل كلامية ، وفي (أبكار الأفكار) تصريح بذلك ؛ حيث جعله مشتملا على ثمانى قواعد متضمنة لجميع مسائل الأصول : الأولى : فى العلم وأقسامه ، الثانية في النظر وما يتعلق به ، الثالثة : فى الطرق الموصلة إلى المطلوبات النظرية».

وقد سار على هذا النهج أيضا صاحب المقاصد ، وسماها المقصد الأول في المقدمات.

ومن المعلوم أن كتاب المواقف أهم كتب الكلام المطبوعة ، وقد اعتمد عليه معظم من أتى بعده من المتكلمين ، كما اهتم بشرحه ، والتعليق عليه كثير من العلماء حتى بلغت جملة الشروح ، والحواشى التى استطعت تعيينها أكثر من أربعين شرحا وحاشية (١). وهذا بدون شك يوضح لنا مدى أهمية كتاب (أبكار الأفكار) الّذي اختصره الإيجى في كتاب (المواقف).

ولأهمية هذا الكتاب نرى معظم المترجمين للآمدى يعرفونه به فيقولون : صاحب الأبكار.

كما يركز نقاد علم الكلام : كابن تيمية على نقد الآمدي في كتابه (أبكار الأفكار) فقد ألف كتاب (موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول) لنقد مناهج المتكلمين بعامة وخاصة منهج الأشاعرة بالصورة التى انتهى إليها على يد الآمدي ، والرازى ، ويركز بصفة أخص على (أبكار الأفكار) ، باعتباره أهم الكتب في علم الكلام ؛ فينقل في بعض المسائل صفحات كاملة من كتاب الأبكار ، ثم يحاول الرد عليها.

فمثلا في مسألة : إثبات الواجب. نقل ان تيمية أربع لوحات من كتاب الأبكار من ل ٤١ / ب ـ ٤٤ / أفي كتابه درء تعارض العقل والنقل ، كما نقل مئات النقول في بقية

__________________

(١) انظر مقدمة أبكار الأفكار ـ رسالة دكتوراه بكلية أصول الدين ص ١٦٦ ، ومقدمة شرح المواقف تحقيقنا ص ٦ ـ ٨.

نشر مكتبة الأزهر.


مسائل العقيدة ، وناقشها من وجهة نظره ، كما أنه كان يعتمد ردود الآمدي على الفلاسفة والمتكلمين (١)

من كل ما سبق يتأكد أن كتاب الأبكار من أهم كتب علم الكلام.

ثانيا : نسخه

أما عن نسخة ، فهى كثيرة جدا. وقد تمكنت بعد الاطلاع على فهارس المخطوطات من تعيين اثنتين وعشرين نسخة ، يقع معظمها في تركيا ، حيث يبلغ عدد ما أمكن تعيينه من النسخ بها خمس عشرة نسخة ، كما يوجد ثلاث نسخ في دار الكتب المصرية ، واثنتين في طهران ، وواحدة في برلين ، وأخرى في بيروت.

وقد اعتمدت في تحقيقى للكتاب على أربع نسخ :

أما النسخة الأولى :

فهى نسخة مكتبة جامع أيا صوفيا باستانبول ، وتقع في جزءين :

الجزء الأول : رقم (٢١٦٥) بقلم نسخ معتاد ، بهامشه بعض التصويبات وبأوله وقف ، وحبس. مؤرخ في سنة ٧٩٧ ه‍ ، وبآخره : نقل ، وقوبل على الأصل الّذي بخط المؤلف.

ومسطرته ٢٣ سطرا ، في ٣٠١ ورقة ، وحجمه ٢٧* ٢٠ سم.

والجزء الثانى : رقم (٢١٦٦) وهو كالأول تماما.

وجاء بآخره كان الفراغ من تأليفه في منتصف شهر ذى الحجة من شهور سنة اثنتى عشرة وستّمائة ه.

ومسطرته ٢٣ سطرا ، في ٣١١ ورقة ، وحجمه ٢٧* ٢٠ سم.

وقد صورت هذه النسخة لمعهد المخطوطات بجامعة الدول العربية ، وأرقامها في فهارس المعهد ١ ، ٢ توحيد.

__________________

(١) وسوف أذكر ـ إن شاء الله ـ مواطن النقول التى نقلها ابن تيمية في كتابه درء تعارض العقل والنقل عند ورودها في متن كتاب الأبكار.


وهى نسخة بالغة الأهمية ، بل أهم النسخ على الإطلاق ؛ فقد نقلت من نسخة المؤلف ، وأرجح أنه قد بدئ في نسخها في حياته ، أو بعد وفاته بقليل ، وقد نسخت لابن جماعة ؛ وهو أحد تلاميذ الآمدي ، وتوارثها أبناؤه ، وأحفاده من بعده ، وكانوا جميعا من العلماء كما سيأتى ، كما وثقها اثنان من أئمة الأشاعرة ، وهما خليل بن كيكلدى العلائى ، وعبد الوهاب السبكى ، وقد كانا من تلاميذ بدر الدين بن جماعة الابن ؛ وهو أحد أئمة الأشاعرة في عصره.

وقد روجعت هذه النسخة بعناية بالغة ، ولا تخلو صحيفة من صفحاتها من تصويبات بالحذف ، أو الإضافة ، أو التغيير ، وقد ورد في آخر صفحات الجزء الأول ما يلى : «تم النصف الأول من أبكار الأفكار في أصول الدين للإمام العلامة سيف الدين الآمدي رحمه‌الله ـ تعالى ـ وهو من الأصل الّذي بخط مصنفه ـ رحمه‌الله ـ أربعون كراسا ونصف كراس ، ويتلوه في النصف الثانى إن شاء الله ـ تعالى ـ الأصل الأول في الجواهر وأحكامها ويشتمل على ثلاثة أنواع.

الحمد لله رب العالمين وصلواته على سيّد المرسلين وخاتم النّبيين محمد وعلى آل محمد ، وأزواجه ، وذريّته ، وسائر النّبيين ، والمرسلين ، والملائكة أجمعين من سكان السماوات ، والأرضين ، والصّحابة ، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين ، وسلامه عليهم أجمعين ، وحسبنا الله ونعم الوكيل ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم» (١).

كما ورد في هامش الصفحة الأخيرة هذه العبارة : «بلغ مقابلة ولله الحمد والمنة» (٢).

وهذه العبارة تدل على أن هذه النسخة قد روجعت ، وقوبلت بعناية بالغة على نسخة المصنف بعد نسخها ، كما أن الخط الّذي كتبت به هذه العبارة ، وكذا التصويبات التى وردت في كل الصفحات ؛ يخالف خط الناسخ ، مما يدل على أن ابن جماعة قد راجعها بنفسه.

كما ورد في الصفحة الأولى (صفحة العنوان) ـ فى كلا الجزءين ـ

__________________

(١) انظر أبكار الأفكار ١ / ل ٣٠١ / أ.

(٢) المصدر السابق.


وقفية الكتاب على المدرسة المحمودية نصها

«وقف ، وحبس ، وسبل ، المقر (١) الأشرف العالى الجمالى ، محمود أستاذدار (٢) العالية المالكى ، الظاهرى أعز الله ـ تعالى ـ أنصاره ، وختم بالصالحات أعماله جميع هذا المجلد ، والمجلد الّذي بعده كلاهما (أبكار الأفكار) للآمدى في أصول الدين ، وقفا شرعيا ، على طلبة العلم الشريف ، ينتفعون به على الوجه الشّرعى ، وجعل مقر ذلك بالخزانة السعيدة ، المرصدة لذلك بمدرسته التى أنشأها بخط الموازين ، بالشارع الأعظم بالقاهرة المحروسة ، وشرط المواقف المشار إليه أن لا يخرج ذلك ، ولا شيء منه من المدرسة المذكورة برهن ، ولا بغيره ، وجعل النظر في ذلك لنفسه أيام حياته ، ثم من بعده لمن يؤول إليه النظر على المدرسة المذكورة ، على ما شرح في وقفها ، وجعل لنفسه أن يزيد في شرط ذلك ، وينقص ما يراه دون غيره من النظار ، كما جعل ذلك لنفسه في وقف المدرسة المذكورة (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) بتاريخ خامس عشر من شعبان سنة سبع وتسعين وسبع مائة.

شهد بذلك

شهد بذلك

عبد الله بن علاء الدين محمود

عمر عبد الرحمن البرماوى (٣)

ثم وقفية السلطان الغازى محمود للكتاب ونصها

«قد وقف هذه النسخة الجليلة سلطاننا الأعظم ، والخاقان (٤) المعظم ، مالك البرين ، والبحرين ، خادم الحرمين الشريفين : السلطان بن السلطان. السلطان الغازى محمود خان،

__________________

(١) (المقر) أصله في اللغة موضع الاستقرار. وقد استعير للإشارة إلى صاحب المكان تعظيما له عن التفوه باسمه.

وقد صار من الألقاب الأصول في عصر المماليك ، وكان يلى في المرتبة تنازليا لقب المقام ، الخاص بالسلطان.

(انظر الألقاب الإسلامية ص ٤٨٩ ـ ٤٩٤ للدكتور حسن الباشا. نشر مكتبة النهضة المصرية سنة ١٩٥٧ م).

(الأشرف) أفعل تفضيل من (شريف) بمعنى عال. وهو من الألقاب التوابع المتفرعة على الألقاب الأصول (المصدر السابق ١٦٠ ـ ١٦٢).

(العالى) من الألقاب الفروع في عصر المماليك (المصدر السابق ٣٩٠ ـ ٣٩٢).

(الجمالى) لأنه كان يلقب بجمال الدين (المصدر السابق ٢٣٩ ـ ٢٤١).

(٢) (أستاذ دار) هو الّذي تولى شئون مسكن السلطان ، وله الإشراف على ميزانيتها ، والعاملين فيها ، وفي عصر سلاطين المماليك أصبح الاستادار من كبار موظفى الدولة ، وأصبحت وظيفته من وظائف أرباب السيوف. (انظر صبح الأعشى للقلقشندى ٤ / ٢٠ ، ٥ / ٤٥٧. طبع القاهرة ١٩١٩ م).

(٣) انظر صورة صفحة العنوان فيما يلى ص ٥٣.

(٤) (الخاقان) تعريب لقب (قاغان) التركى. ويطلق على رؤساء الترك من المسلمين (انظر الألقاب الإسلامية في التاريخ والوثائق والآثار ص ٢٧١ ـ ٢٧٣ د. حسن الباشا ـ مكتبة النهضة المصرية بالقاهرة سنة ١٩٥٧ م.


وقفا صحيحا ، شرعيا لمن طالع وأفاد ، وتعلم واستفاد ، أعظم الله ـ تعالى ـ أجره يوم التناد.

حرره العصر أحمد سبح راج المفتش بأوقاف الحرمين الشريفين غفر لهما» (١).

كما يوجد توقيعان لمن راجعا النسخة في كلا الجزءين : الأول في أعلا صفحة العنوان ونصه (خليل بن كيكلدى العلائى الشافعى غفر الله له) (٢).

أما التوقيع الثانى : فهو في الهامش الداخلي من صفحة العنوان هكذا (عبد الوهاب السبكى ٧٦٣) (٣).

مما سبق يتضح أن الموقعين على هذه النسخة كانا من أئمة الأشاعرة في عصرهما ، وأنهما كانا من سكان دمشق ، مما يدل على أن هذه النسخة كانت بدمشق ، وربما نسخت بها ، ونسخها بالتأكيد كان قبل سنة ٧٦١ ه‍ تاريخ وفاة العلائى ، ثم انتقلت إلى القاهرة حيث استقرت بالمدرسة المحمودية.

وهذه المدرسة تقع خارج باب زويلة بالقاهرة. وهى اليوم في شارع السروجية. أنشأها محمود بن على الاستادار المتوفى سنة ٧٩٩ ه‍. ذكر المقريزى أنه كان فيها خزانة للكتب لا يوجد بديار مصر ، ولا الشام يومئذ مثلها ، وبها كتب الإسلام من كل فن.

__________________

(١) انظر صورة صفحة العنوان فيما يلى ص ٥٣.

(٢) هو : خليل بن كيكلدى بن عبد الله العلائى ، الدمشقى ، الشافعى (صلاح الدين ، أبو سعيد) محدث ، فقيه ، متكلم ، أصولى. ولد بدمشق في ربيع الأول سنة ٦٩٤ ه‍ وسمع بالشام ، ومصر ، والحجاز. بلغ عدد شيوخه بالسماع سبعمائة ، وجمع فهرست مسموعاته في كتاب سماه (الفوائد المجموعة في الفرائد المسموعة) ، كان من تلاميذ بدر الدين بن جماعة ، ولعله قرأ هذه النسخة بمكتبة أستاذه قبل أن يوقع عليها. قال عنه السبكى : «كان أشعريا ، صحيح العقيدة سنيا ... وأما بقية علومه من فقه ، ونحو ، وتفسير ، وكلام ؛ فكان في كل منها حسن المشاركة». توفى بالقدس سنة ٧٦١ ه‍ (طبقات الشافعية للسبكى ٦ / ١٠٤ ، معجم المؤلفين ٤ / ١٢٦).

(٣) هو : عبد الوهاب بن على بن عبد الكافى بن تمام بن يوسف بن موسى الأنصارى الشافعى ، السبكى (أبو نصر ، تاج الدين) قاضى القضاة ، المؤرخ ، الأصولى.

ولد بالقاهرة سنة ٧٢٧ ه‍ وانتقل إلى دمشق مع والده سنة ٧٣٩ ه‍ ، وأكمل تعليمه بها ، وتتلمذ على الذهبى ، وبدر الدين بن جماعة ، ولعله قرأ نسخة الأبكار في مكتبته قبل أن يوقع عليها.

تولى خطابة الجامع الأموى بدمشق ، ودرس في معظم مدارسها ، وكان احد أئمة الأشاعرة في عصره ، من تصانيفه : طبقات الشافعية ، معيد النعم ومبيد النقم ، شرح منتهى السئول والأمل في علمى الأصول والجدل ، وسماه رفع الحاجب عن شرح مختصر ابن الحاجب ، وغيرها كثير ، توفى بدمشق سنة ٧٧١ ه‍ (الدرر الكامنة ٣ / ٣٩ ، معجم المؤلفين ٦ / ٢٢٥).


أما صاحبها فهو : (محمود بن على بن أصغر عينه السودونى (جمال الدين الاستادار) في أيام الملك الظاهر برقوق جاء إلى حلب قبل أن يلى الاستادارية ، ثم سافر إلى مصر ، وبنى بالقاهرة المدرسة المذكورة ، ووقف عليها الكتب التى اشتراها من ورثة ابن جماعة بعد موته ، وهى كثيرة جدا (١).

مما سبق يترجح أن نسختنا هذه كانت بمكتبة ابن جماعة ، ويهمنى هنا أن أوضح هذه الحقيقة ؛ لأنها ستعطينا بعدا جديدا عن تاريخ هذه النسخة ، وقيمتها العلمية.

فابن جماعة المذكور ، وأبناؤه ، وأحفاده ؛ كانوا من علماء عصورهم ، وتولى معظمهم منصب قاضى القضاة بمصر ، والشام ، ولقبوا جميعا بهذا اللقب (ابن جماعة).

أما ابن جماعة : فهو (إبراهيم بن سعد الله بن جماعة بن على. (أبو إسحاق) الحموى ، الكنانى. المعروف بابن جماعة.

ولد بحماة سنة ٥٩٦ ه‍ وتوفى سنة ٦٧٥ ه‍ وقد رجحت أنه كان من تلاميذ الآمدي (٢) ؛ لأن نسخة المؤلف التى بخط يده ، لا يحصل عليها إلا تلاميذه ، والمقربون منهم على وجه الخصوص.

وأما ابن جماعة الثانى (الابن). فهو قاضى القضاة بدر الدين (محمد بن إبراهيم بن سعد الله ابن جماعة الحموى الشافعى. كان إماما ، عالما ، مصنفا ، تولى قضاء القدس ، والخطابة بها ، ثم نقل إلى مصر فولى قضاءها سنة ٦٩٠ ه‍. من تلاميذه عبد الوهاب السبكى ، والعلائى ، ولعلهما قرءا النسخة التى بمكتبته عليه قبل أن يوقعا عليها ، ولد بحماه سنة ٦٣٩ ، وتوفى سنة ٧٣٣ ه‍ (٣). من مؤلفاته الكلامية (إيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل) (٤).

وأما ابن جماعة الثالث (الحفيد) فهو قاضى القضاة بالديار المصرية عز الدين (عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم بن سعد الله) ابن جماعة ، الحموى الشافعى المتوفى سنة ٧٦٧ ه‍ (٥)

__________________

(١) عن هذه المدرسة وصاحبها. انظر خطط المقريزى ١ / ٣٩٥ ـ ٣٩٦ ، الدرر الكامنة لابن حجر ٥ / ٩٧ ترجمة رقم (٤٧٥٥).

(٢) انظر ما سبق ص ٣٠.

(٣) طبقات الشافعية للسبكى ٥ / ٢٣٠.

(٤) مخطوط بدار الكتب رقم ٦٠٦ علم الكلام.

(٥) طبقات الشافعية للسبكى ٦ / ١٢٣.


ولعلها انتقلت بعد ذلك إلى حفيد آخر هو : برهان الدين بن جماعة (إبراهيم بن عبد الرحمن بن محمد بن إبراهيم بن سعد الله) ابن جماعة قاضى القضاة بمصر ، ثم بالشام. وبرع في كثير من الفنون كان مولده سنة ٧٢٥ ه‍ وتوفى سنة ٧٩٠ ه‍ (١).

وأرجح أنها انتقلت ضمن المكتبة الكبيرة إلى أحفاد لم يقدروا قيمة هذه الكتب ، أو أنهم كانوا في حاجة إلى ثمنها ؛ فباعوها لمحمود الاستادار كما سبق.

مما سبق يتضح لنا أن ابن جماعة قد عاش في الفترة من سنة ٥٩٦ ه‍ وحتى سنة ٦٧٥ ه‍ والأرجح عندى أن هذه النسخة قد تم نسخها له عن نسخة أستاذه المؤلف ، وقد بدئ في نسخها في حياة الإمام الآمدي ، أو بعد وفاته بقليل ، وبالتحديد قبل سنة ٦٥٠ ه‍ (٢) كما أن النسخة المذكورة ، قد انتقلت إلى ابنه ، ثم إلى أحفاده ، حتى اشتراها محمود الاستادار صاحب المكتبة المحمودية كما مر.

وهكذا استقرت هذه النسخة بالمدرسة المحمودية بالقاهرة حتى انتقلت إلى استانبول في عهد السلطان الغازى محمود كما اتضح من الوقفية الثانية الواردة بصفحة العنوان ، وما زالت بها حتى الآن في مسجد أيا صوفيا تحت رقم ٢١٦٥ ، ٢١٦٦.

ولأهمية هذه النسخة ، وقيمتها العلمية ، اعتبرتها أصلا للتحقيق ورمزت لها بالحرف (أ) كما رمزت في الهامش الجانبى لأوائل اللوحات ب ل / أللقسم الأول من اللوحة ول / ب للقسم الثانى منها.

أما النسخة الثانية : فهى نسخة دار الكتب المصرية ، وتقع في مجلد واحد يحمل رقم ١٦٠٣ علم الكلام ، عدد ورقاته ٣٢٨ ورقة ، في أوله فهرس يقع في ٩ ورقات وحجمه ٥ ، ٢٤ () ١٤ ، ومسطرته ٣١ سطرا. وهذه النسخة مكتوبة بخط صغير جدا ، وتنقسم إلى قسمين :

القسم الأول ويقع في ١٤٧ ورقة.

القسم الثانى ويقع في ١٧٢ ورقة.

__________________

(١) المنهل الصافى ص ٧٨ ترجمة (٤٢).

(٢) لأن ناسخ هذه النسخة هو الّذي قام بنسخ كتاب دقائق الحقائق للآمدى على الأرجح. وكتاب دقائق الحقائق قد تم نسخه بالتأكيد في حياة الآمدي كما مر. وقد وجد في مكتبة ابن جماعة أيضا.


وبها بعض التصويبات في صفحات قليلة. وقد ورد في نهايتها ما يلى :

«تم الكتاب ، والله المسئول ، وهو المأمول أن يجعله نافعا في الدنيا ، وذخرة صالحة في الأخرى ، وأن يصلى على محمد سيد الأوّلين ، والآخرين ، وعلى آله وأصحابه أعلام الدين. وكان الفراغ من كتابة هذه النسخة الشريفة المسمى (بأبكار الأفكار) في خمسة وعشرين من شهر صفر الخير لسنة أربع وخمسين بعد المائتين والألف على يد أفقر العباد ، وأحوجهم إلى الله تعالى عبد الله الشهير بزاده جى زاده ٢٥ صفر سنة ١٢٥٣ ه‍.

الخط باق والعبد فان.

الخط يبقى زمانا بعد كاتبه

وكاتب الخط تحت الأرض مدفونا (١)

والّذي أرجحه أن هذه النسخة قد نقلت عن النسخة ٥٣٤ ه‍ بمكتبة طلعت بدار الكتب المصرية ؛ فهى تتفق معها في بداية الجزء الثانى ونهايته (٢) ، وقد اعتمدت على النسخة ٥٣٤ في تحقيق الجزء الثانى من كتاب الأبكار ، غير أن الجزء الأول قد فقد ، ولعل البحث في دار الكتب يكشف عنه. وقد رمزت لهذه النسخة بالحرف (ب).

أما النسخة الثالثة : فتحمل رقم ١٩٥٤ علم الكلام بدار الكتب المصرية ، وتقع في مجلدين كبيرين جدا. الأول : يقع في ألف صفحة ، والثانى : يقع في ١٣١٤ صفحة ، ومسطرة كل منهما ٢١ سطر ، والحجم ٢٦ () ١٩ سم.

أما الجزء الأول : ففى أوله فهرس للجزءين معا يقع في ٢٤ صفحة ويبدأ من ص ١ إلى ص ٢٤.

ويشتمل على القاعدة الأولى : في العلم وأقسامه ، وتقع في ٤٢ صفحة ، والقاعدة الثانية : في النظر وأقسامه ، وما يتعلق به ، وتقع في ٤٤ صفحة ، والقاعدة الثالثة : في الطرق الموصلة إلى المطلوبات النظرية ، وتقع في ٢٩ صفحة ، والقسم الأول من الباب الأول من القاعدة الرابعة : ويشتمل على مباحث الإلهيات ، ويقع في ٨٥٨ صفحة.

__________________

(١) انظر أبكار الأفكار في أصول الدين للآمدى. المخطوطة رقم ١٦٠٣ علم الكلام. بدار الكتب المصرية.

(٢) انظر أبكار الأفكار في أصول الدين للآمدى. المخطوطة رقم ٥٣٤ علم الكلام. بمكتبة طلعت بدار الكتب المصرية.

وهذه المخطوطة تحتوى على الجزء الثانى فقط ، وتقع في ١٨٢ ورقة ، ويوجد على هوامشها بعض التعليقات ، وهى قديمة جدا. وقد اعتمدت عليها في تحقيق الجزء الثانى.


وفي نهاية الجزء الأول ص ١٠٠٠ ورد الآتى :

«وقع الفراغ من نسخه في شهر ذى الحجة سنة ١٣٥٢ ه‍ نقلا عن النسخة الخطية المحفوظة بدار الكتب المصرية برقم ١٦٠٣ علم الكلام» (١).

وأما الجزء الثانى : فيقع في ١٣١٤ صفحة.

وقد ورد في ص ١٣٠٠ «قد وقع الفراغ من كتابة هذا الجزء في اليوم السادس والعشرين من شهر رمضان المعظم من سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة بعد الألف هجرية. نقلا عن النّسخة المخطوطة المحفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم ١٦٠٣ علم الكلام» (٢).

ثم فهرس للجزء الثانى يقع في ١٤ صفحة.

ولأن هذه النسخة منقولة عن النسخة السابقة ١٦٠٣ ؛ فلم أثبت ما بها من اختلاف ؛ لأنه ليس بها جديد سوى زيادة في الأخطاء ؛ لذا فقد اعتمدت على ما بها من صواب ، واستغنيت عن أخطائها. ولم أشر إليها في التحقيق.

أما النسخة الرابعة : فهى نسخة مكتبة طلعت بدار الكتب المصرية رقم (٥٣٤) توحيد

وتحتوى على الجزء الثانى فقط. ونص في ختامها على الفراغ من تأليف الكتاب سنة ٦١٢ ه‍. وبداية هذا الجزء تتفق مع بداية الجزء الثانى من النسخة رقم ١٩٥٤ ، والقسم الثانى من النسخة ١٦٠٣. مما يدل على أنها كانت الأصل لهما. وتقع في ١٨٢ ورقة. كما يوجد على هوامشها بعض التعليقات.

أما ناسخها ، وتاريخ نسخها ، فلا توجد إشارة إليهما ، ولكن يبدو من الخط أنه قديم جدا. وقد يرجع إلى القرن السابع الهجرى.

ولعل البحث في دار الكتب يسفر عن وجود الجزء الأول.

__________________

(١) انظر أبكار الأفكار للآمدى. المخطوطة رقم ١٩٥٤ علم الكلام بدار الكتب المصرية الجزء الأول.

(٢) المصدر السابق. الجزء الثانى.


ثالثا : منهج التحقيق :

اتبعت في تحقيق الكتاب المنهج التالى :

١ ـ اعتمدت على نسخة أيا صوفيا ، وأثبتها في الأصل بنصها بعد المراجعة على النسخ الأخرى ، ولم أبدل إلا ما ظهر لى فيه التصحيف ، أو التحريف ، أو الخطأ ؛ بدلته من نسخة دار الكتب المصرية رقم ١٦٠٣ ، ووضعته في الأصل بين قوسين أحيانا ، وأشرت إليه في الهامش.

كما أشرت إلى الاختلافات الموجودة بين النسخ في الهامش رامزا إلى نسخة مسجد أيا صوفيا بالحرف «أ» ولنسخة دار الكتب المصرية رقم ١٦٠٣ بالحرف «ب».

كما أشرت لأوائل اللوحات في النسخة «أ» في الأصل بشرطة مائلة هكذا (/) وفي الهامش الجانبى : (ل ١ / أللقسم الأول من اللوحة ، ل ١ / ب للقسم الثانى منها) مثلا.

٢ ـ وضعت على الكلمة المخالفة رقما في الأصل ، وأثبت ما يقابلها في الهامش فإذا زاد مقدار الاختلاف إلى كلمتين ، أو أكثر ؛ وضعت الرقم في أول الكلمة الأولى ، وكررته على آخر حرف من الكلمة الأخيرة ، كما لم أضع أقواسا في الأصل إلا في حالة ما إذا كانت الكلمة ، أو العبارة خطأ في النسخة المعتمدة كما سبق. حتى لا تؤدى كثرة الأقواس إلى إرباك القارئ ، وصرفه عن متابعة النص.

٣ ـ التزمت بقواعد الاملاء المعاصرة بصرف النظر عما ورد في الأصل ، وأحب أن أشير إلى أن النسخة (أ) قديمة جدا ، وغير منقوطة في كثير من المواضع كما أن النسخة (ب) [رقم ١٦٠٣ من الجزء الأول] قد وقعت فيها أخطاء كثيرة في الإعجام ؛ لذا فقد اجتهدت في تصحيح ما ورد في هذه النسخة بدون إشارة إلى هذا التصحيح.

ومما تجدر الإشارة إليه أن الناسخ في نسخة (أ) وفي مواضع من النسخة (ب) ؛ قد استعمل حرف الألف بدلا من الياء ، والواو في مقابل الهمزة ، والياء المهملة بدلا من الياء المهموزة ، كما أدمج كلمتين في كلمتين واحدة ؛ وقد صححت كل ذلك بدون إشارة مكتفيا بما أوردته هنا.


ومن أمثلة ذلك :

٤ ـ اعتنيت بعلامات الترقيم ، وتقسيم الفقرات ؛ حتى يسهل على القارئ فهم مراد المصنف.

٥ ـ صححت الأخطاء النحوية التى ترجح عندى أنها من الناسخ بدون إشارة إليها في الهامش.

٦ ـ من عادة الناسخ في النسخة (ب) أن يرمز للأعداد بالحروف الأبجدية (أب ج ... الخ). أما في النسخة (أ) فترد هكذا (أولا ، ثانيا ... الخ).

وقد اعتمدت ما ورد في نسخة (أ) بدون إشارة في الهامش.

٧ ـ صححت كثيرا من الأخطاء الطفيفة التى أخطأ فيها الناسخ في آيات القرآن الكريم بدون إشارة إليها في الهامش.

أما الأخطاء الجسمية ، فقد أشرت إليها في الهامش ، وكتبت الآية صحيحة في صلب النص.

٨ ـ حققت النصوص المختلفة التى يضمها الكتاب ؛ فمن ذلك (الآيات القرآنية) وقد حرصت دائما على النص على اسم السورة ، ورقمها ، ورقم الآية فيها ، وإذا كان النص القرآنى الكريم جزءا من آيات ؛ أشرت إلى معظمها بقدر الطاقة.


ومنها : الأحاديث النبوية الشريفة ؛ وذلك بالرجوع إلى كتب السنة. ومنها : أقوال السابقين التى استشهد بها المصنف سواء أكانت شعرا ، أم نثرا ؛ وقد رجعت في ذلك إلى كتب السابقين ، ودواوينهم بقدر الطاقة.

٩ ـ ذكرت ألفاظ التعظيم الخاصة بالحق تبارك وتعالى ، وبرسله عليهم الصلاة والسلام في الأصل سواء وردت في النسخة الأصلية ، أو النسخة الأخرى ، وذلك بدون إشارة في الهامش.

١٠ ـ ترجمت للأعلام الواردة بالكتاب سواء أكانت أعلام أشخاص ، أو فرق كلامية ، أو فلسفية ، أو أماكن.

١١ ـ قارنت بين أبكار الأفكار ، وبين الكتب السابقة عليه ، واللاحقة له ؛ وذلك بالإحالة إلى المراجع المختلفة التى تدرس نفس المسألة ، سواء من مؤلفات الآمدي نفسه ، أو من مصنفات السابقين عليه ممن يناقش أفكارهم. وقد حرصت على المقارنة بين ما أورده الآمدي عنهم ، وبين ما ورد في مؤلفاتهم ـ التى حصلت على معظم المطبوع منها ـ وقد أشرت إلى مواضع ذلك في كتبهم في أول كل مسألة من كتاب الأبكار. ومما تجدر الإشارة إليه أن الآمدي كثيرا ما يحيل على بعض الفصول السّابقة ، أو اللاحقة من كتاب الأبكار ، وقد عينت مواضع هذه الحالات التى اشتمل الكتاب على الكثير منها.

كما أشرت إلى كتب بعض المتأخرين المتأثرين بالآمدي ، وبينت مواضع ذلك في كتبهم ؛ وذلك حتى تتضح قيمة هذا الكتاب الّذي حوى آراء السابقين ، واعتمد عليه معظم من أتى بعده من المتأخرين.

١٢ ـ استحدثت العناوين التى تعين على فهم النص ، ووضعتها في الأصل بين معقوفتين وأشرت إليها في الهامش.

١٣ ـ عينت كثيرا من المجهولين الذين يعنيهم الآمدي بقوله : قال بعض المتأخرين ، أو بعضهم ، أو بعض الأصحاب ، أو الخصوم.

وقد ترجح عندى أنه يقصد بقوله : بعض المتأخرين : الإمام الغزالى ، أو الإمام الرازى ، وفي أحيان قليلة إمام الحرمين الجوينى.

أما بعض الأصحاب : فالمقصود به غالبا : الإمام الشهرستانى.


أما قوله : الخصوم ، أو بعض الخصوم ؛ فالمقصود بهم غالبا المعتزلة. ولم أكتف بنسبة الرأى لصاحبه ؛ بل أشرت إلى موضعه في مؤلفاته التى تيسر لى الحصول عليها.

١٤ ـ قارنت ما بقوله عن المعتزلة بما في كتب المعتزلة أنفسهم ، وقد اعتمدت في ذلك على كتب القاضى عبد الجبار التى تيسّر لى اقتناؤها ، وهى (المغنى في أبواب التوحيد والعدل) و (شرح الأصول الخمسة) ، (المحيط بالتكليف).

١٥ ـ راعيت بصورة عامة الإيجاز في التعليق ، واكتفيت بالإشارة عن العبارة في معظم الأحوال ؛ إيمانا منى بأن المقصود من التحقيق ليس شرح النص ، واثقاله بحواش كثيفة منقولة من كتب مطبوعة ، أو مخطوطة ، وإنما غاية تحقيق النصوص تقديم النص صحيحا ـ ما أمكن ـ كما كتبه مصنفه.

١٦ ـ أما عن تقسيم الكتاب : فقد قسمته إلى خمسة أجزاء : (غير فهارسه التى أحسب أنها ستقع في مجلد من الحجم الكبير إن شاء الله تعالى).

الجزء الأول : يحتوى على القواعد التالية :

القاعدة الأولى : في حقيقة العلم وأقسامه.

والقاعدة الثانية : في النظر وما يتعلق به.

والقاعدة الثالثة : في الطرق الموصلة إلى المطلوبات النظرية وجزء من القاعدة الرابعة : من أولها إلى آخر النوع الثالث : فيما يجوز على الله تعالى.

الجزء الثانى : جزء من القاعدة الرابعة : إلى نهاية النوع السابع : في أسماء الله الحسنى.

الجزء الثالث : باقى القاعدة الرابعة : من أول القسم الثانى : في الموجود الممكن الوجود إلى آخر القاعدة الرابعة.

الجزء الرابع : القاعدة الخامسة : في النبوات.

والقاعدة السادسة : في المعاد والسمعيات ، وأحكام الثواب والعقاب.

الجزء الخامس : القاعدة السابعة : في الأسماء والأحكام.

والقاعدة الثامنة : في الإمامة. ومن له الأمر بالمعروف ، والنهى عن المنكر.












مقدمة المؤلف

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه التّوفيق والإعانة ولا حول ولا قوّة إلا بالله (١).

الحمد لله الّذي لا يبلغ مدى عظمته الواصفون ، ولا يدرك كنه حقيقته العارفون ، ولا يحيط بجلال صمديته العالمون ، تعالى عن أن تحيط به الأوهام والظّنون ، وجل [عن (٢)] أن تخلقه الأعوام والسّنون ، الخالق لكلّ موجود سواه ؛ فهو كائن بعد ما لم يكن ، وفاسد بعد أن يكون.

والصّلاة على محمد رسوله القائم بشرعه ، والمظهر لدينه بعد أن كان مكنونا ، وعلى آله وأصحابه أعلام الهدى ، ومعادن السّرّ المصون. وبعد :

فإنه لما كان كمال كلّ شيء وتماميّته بحصول كمالاته الممكنة له ؛ كان كمال الأنفس الإنسانية بحصول ما لها من الكمالات : وهى الإحاطة بالمعقولات ، والعلم بالمجهولات.

ولمّا كانت العلوم متكثّرة ، والمعارف متعدّدة ، وكان الزمان لا يتّسع لتحصيل جملتها ، والعمر يقصر عن الإحاطة بكليّتها ، مع تقاصر الهمم وقصورها ، وضعف الدّواعى وفتورها ، وكثرة القواطع واستيلاء الموانع ، كان (٣) الواجب السّعى في تحصيل أكملها ، والإحاطة بأفضلها ؛ تقديما لما هو الأهمّ فالمهم (٤) وما الفائدة في معرفته (٥) أتم.

ولا يخفى أن أولى ما تترامى إليه بالنّظر أبصار البصائر ، وتمتدّ نحوه أعناق الهمم والخواطر ؛ ما كان موضوعه أجلّ الموضوعات ، وغايته أشرف الغايات ، والحاجة إليه في تحصيل السّعادة الأبديّة من الأبديات ، وإليه مرجع العلوم الدّينيّة ، ومستند النواميس الشرعية ، وبه صلاح العالم (٦) ونظامه ، وحلّه وإبرامه ، والطّرق الموصلة (٧) إليه يقينيّات ،

__________________

(١) من أول (وبه التوفيق ...) ساقط من (ب).

(٢) ساقط من أ.

(٣) فى أ (وكان).

(٤) فى أ (فالأهم).

(٥) (فى معرفته) ساقط من (ب).

(٦) فى ب (العلم).

(٧) فى ب (الواصلة).


والمسالك المرشدة نحوه قطعيّات ، وذلك هو العلم الملقّب بعلم الكلام ، الباحث في ذات واجب الوجود ، وصفاته ، وأفعاله ، ومتعلّقاته ؛ فكان أولى بالاهتمام بتعجيله ، والنّظر في تحقيقه وتحصيله.

ولمّا كنّا مع ذلك قد حقّقنا أصوله ، ونقّحنا فصوله ، وأحطنا بمعانيه ، وأوضحنا مبانيه ، وأظهرنا أغواره ، وكشفنا أسراره ، وفزنا فيه بقصب سبق الأولين ، وحزنا غايات أفكار المتقدّمين والمتأخّرين ، واستترعنا منه خلاصة الألباب ، وفصلنا القشر عن اللّباب. سألنى بعض الأصحاب (١) ، والفضلاء من الطّلاب ؛ جمع كتاب حاو لمسائل الأصول ، جامع (٢) لأبكار أفكار أرباب العقول. مقتصد لا يخرجه التّطويل إلى الملل ، ولا فرط (٣) الاختصار إلى النّقص والخلل ؛ فأجبته إلى دعوته ، والحقته (٤) بأمنيته / رجاء للفوز يوم المعاد ، والغبطة عند قيام الأشهاد ، وهو المسئول أن يلهمنا الرّشد فيما رمناه ، ويسدّدنا لما قصدناه ، وأن يقيلنا من العثار ، وسوء الإكثار ، إنّه قريب ممّن دعاه ، مجيب لمن قصده واستجداه ، وسمّيته :

أبكار الأفكار

وجعلته مشتملا على ثمانى قواعد ؛ متضمّنة لجميع مسائل الأصول :

الأولى (٥) : في العلم وأقسامه.

الثانية : في النّظر وأقسامه وما يتعلّق به.

الثالثة : في الطّرق الموصلة إلى المطلوبات النظرية (٦).

الرابعة : في انقسام المعلوم إلى الموجود والمعدوم ، وما ليس بموجود ولا معدوم.

__________________

(١) فى ب (أصحابى)

(٢) كلمة (جامع) ساقطة من (ب).

(٣) فى ب (وافراط)

(٤) فى ب (واتحفته)

(٥) الأعداد في (أ) وردت مخالفة للقاعدة وقد صححتها ، وأما في (ب) فوردت مرقمة بالحروف الأبجدية أ ، ب ... الخ.

(٦) ساقط من (ب)


الخامسة : في النبوّات.

السادسة : في المعاد وما يتعلّق به من السّمعيّات ، وأحكام الثّواب والعقاب.

السابعة : في الأسماء والأحكام.

الثامنة : في الإمامة ومن له الأمر بالمعروف ، والنهى عن المنكر.



القاعدة الأولى

في حقيقة العلم وأقسامه

وتشتمل على أربعة أقسام :

الأول (١) : في حدّ العلم وحقيقته.

الثّاني : في العلم الضرورى ، واختلاف العلماء فيه.

الثّالث : في العلم الكسبى.

الرّابع : في أحكام العلم.

__________________

(١) ورد الترقيم خطأ في (ب) حيث ذكر الأول : في العلم الضرورى ، واختلاف العلماء فيه. ونسى ترقيم الأول : في حد العلم وحقيقته ـ وبالتالى فقد ذكرها ثلاثة أقسام فقط.



القسم الأول

في حدّ العلم وحقيقته (١)

أمّا حقيقة العلم : فقد اختلف العلماء في العبارات الدّالّة عليها.

فقال بعض المعتزلة (٢) : العلم اعتقاد الشيء على ما هو عليه.

وهو باطل بالمعتقد عن تقليد وجود الرّبّ تعالى ؛ فإنّه معتقد للشىء على ما هو عليه ، وليس اعتقاده علما. (٣) وهذا ممّا لا يندفع وإن زيد في الحدّ : مع سكون النّفس إليه (٣). ثم إنّه يخرج منه العلم بالمعدوم المستحيل الوجود ؛ فإنّه علم ، وما تعلّق به ليس بشيء بالاتفاق.

ومنهم (٤) من زاد في الحدّ : إذا وقع عن ضرورة أو دليل. وهذه الزّيادة ، وإن اندفع بها الإشكال الأول فلا يندفع بها الإشكال الثّاني.

ومن زعم أن العلم لا يتعلّق بالمعدوم المستحيل الوجود ؛ فحكمه بذلك علم تصديقى ، والعلم التّصديقى يستدعى علمين تصوريين ، وأحد التّصورين المعدوم المستحيل الوجود ؛ فيكون مناقضا لقوله : والعلم التّصديقى. مع كونه مكابرا للبديهة ، وما يجده كلّ عاقل من نفسه من العلم باستحالة الجمع بين النفى والإثبات ، وهو غير متصوّر مع كون النفى غير معلوم.

__________________

(١) عن حقيقة العلم وآراء العلماء فيه : انظر المغنى للقاضى عبد الجبار ج ١٢. ص ١٣ ـ ٢٢. ط أولى نشر المؤسسة المصرية حيث يعرض آراء متقدمى المعتزلة ، ثم يرد عليها. كما يعرض آراء متقدمى الأشاعرة ـ الواردة هنا ـ كالأشعرى ، والباقلانى ، وابن فورك. عرضا واضحا يدل على معرفته التامة بمذهبهم ؛ فقد عاش شبابه بينهم قبل تحوله إلى الاعتزال. ثم يرد عليهم.

وانظر الإنصاف للباقلانى. طبع الخانجى ص ١٣. والتمهيد له أيضا طبع دار الفكر العربى ص ٣٤ وأصول الدين للبغدادى. طبع مطبعة الدولة باستانبول ص ٥ ، ٦ والإرشاد لإمام الحرمين. نشر الخانجى ص ١٢ ، ١٣ والمحصل للرازى. طبع الحسنية ص ٦٩ ومعالم أصول الدين له أيضا ص ٥ على هامش المحصل.

وانظر شرح المواقف للجرجانى. ط دار الطباعة العامرة ص ٢٩ ـ ٣٦ حيث يختصر صاحب المواقف ما أورده الآمدي مفصلا هنا. وأيضا شرح المقاصد للتفتازانى. ط دار الطباعة العامرة باستانبول ص ١٣ ـ ١٥.

(٢) القائل : هو الكعبى ، انظر أصول الدين للبغدادى ص ٥.

(٣) من أول (وهذا مما لا يندفع ...) ساقط من ب. أما صاحب الزيادة : فهو أبو هاشم. انظر أصول الدين للبغدادى ص ٥.

(٤) هو الجبائى ، انظر أصول الدين للبغدادى ص ٥.


وقال القاضى أبو بكر (١) : العلم (٢) معرفة المعلوم على ما هو به (٣)

وهو باطل من وجهين :

الأول (٤) : أنّ لله تعالى علما عنده بعلم ، ولا يقال لعلمه معرفة بالإجماع ؛ فلا يكون الحدّ جامعا.

الثانى : أنّه عرّف العلم بالمعلوم. والمعلوم مشتقّ من العلم ، والمشتق من الشيء يكون أخفى من ذلك الشّيء ، وتعريف / الأظهر (٥) بالأخفى ممتنع. كيف وفيه زيادة لا حاجة إليها وهى قوله : على ما هو به ؛ فإنّ المعرفة بالمعلوم لا تكون إلا على ما هو به.

وقال الشيخ الأشعرىّ (٦) : فيه عبارات :

الأولى : العلم هو الّذي يوجب كون من قام به يكون عالما.

الثانية : هو الّذي يوجب لمن قام به اسم العالم.

الثالثة : العلم إدراك المعلوم على ما هو به.

والعبارتان الأوليان مدخولتان ؛ من حيث أنه أخذ العالم في حدّ العلم ؛ وهو أخفى من العلم. والثالثة [مدخولة أيضا (٧)] من جهة أنه أخذ المعلوم في تعريف العلم ؛ وهو أخفى منه (٨).

__________________

(١) القاضى الباقلاني : محمد بن الطّيّب بن محمد بن جعفر بن القاسم. البصرى ، ثم البغدادى ، المعروف بالباقلانى (أبو بكر) متكلم أشعرى ولد بالبصرة سنة ٣٣٨ ه‍. وسكن بغداد ، له مؤلفات كثيرة في الرد على المعتزلة ، والشيعة ، والخوارج ، والجهمية وغيرهم وتوفى سنة ٤٠٣ ه‍. يقول عنه ابن تيمية : إنه أفضل المتكلمين المنتسبين إلى الأشعرى ، وليس فيهم مثله لا قبله ولا بعده. (انظر وفيات الأعيان ٣ / ٤٠٠ ، وشذرات الذهب ٣ / ١٦٩).

(٢) ساقط من (ب).

(٣) انظر التمهيد ص ٣٤ والإنصاف ص ١٣.

(٤) ورد الترقيم في (ب) بالحروف الأبجدية في كل الكتاب وسأكتفى بذكر ما ورد في (أ) بدون تنبيه ، اكتفاء بما أوردته هنا.

(٥) فى ب (الشيء).

(٦) أبو الحسن على بن إسماعيل بن إسحاق بن سالم. من نسل الصحابى الجليل أبو موسى الأشعرى. مؤسس مذهب الأشاعرة ولد في البصرة سنة ٢٦٠ ه‍ وتوفى في بغداد سنة ٣٢٤ ه‍ (انظر وفيات الأعيان ٢ / ٤٤٦ وطبقات الشافعية ٢ / ٢٤٥).

(٧) فى أ (أيضا فمدخولة).

(٨) فى ب (من العلم).


وأيضا : فإنه أخذ الإدراك في حدّ العلم ، والإدراك ـ على أصله ـ نوع من العلم ؛ وتعريف الجنس بنوعه ممتنع. ثم لا حاجة إلى الزيادة وهى : على ما هو به ؛ كما تقدّم.

قال الأستاذ أبو بكر بن فورك (١) : العلم ما صحّ بوجوده من الّذي قام به إتقان الفعل وإحكامه.

وهو باطل ؛ فإنّه إن أراد به ما يصحّ به إحكام الفعل وإتقانه بطريق الاستقلال ؛ فهو محال ، فإنّ إتقان الفعل كما يتوقّف على العلم ، يتوقّف على القدرة. وإن أراد به أنّه يتوقّف عليه الإتقان ولا يستقلّ به ؛ فيلزم عليه القدرة ؛ فإنّها أيضا كذلك ؛ وليست علما.

وأيضا : فإنّ الواحد منّا له علم ، وهو غير مؤثّر في إتقان فعل من الأفعال القائمة به ، ولا الخارجة عنه ؛ إذ هو غير موجد لهما على أصلنا.

وقد قيل في إبطاله أيضا : إنّ العلم قد يكون بما لا يصحّ به إتقانه [كعلم (٢)] الواحد منا بنفسه وبالله تعالى ، وبالمستحيلات ؛ فإن ما تعلق به ليس فعلا ، ولا ممّا يصح إتقانه [به (٣)] وإنما يلزم هذا الإبطال أن لو قيل : العلم هو ما يصحّ به إتقان كلّ ما يتعلق به. وأما إذا أريد به ما يصحّ به في الجملة إتقان الفعل ، فلا.

وقال الشيخ أبو القاسم الأسفرايينى (٤) : العلم ما يعلم به.

وفيه أيضا : تعريف العلم بما هو أخفى منه.

__________________

(١) فى ب (وقال الأستاذ وابن فورك).

الأستاذ أبو بكر بن فورك : محمد بن الحسن بن فورك : المتكلم ، الأصولى ، الأديب ، النحوى ، الواعظ. من متكلمى الأشاعرة ، له تصانيف كثيرة في أصول الدين ، وأصول الفقه توفى سنة ٤٠٦ ه‍.

(انظر وفيات الأعيان ٣ / ٤٠٢ والأعلام ٦ / ٣١٣ ومعجم المؤلفين ٩ / ٢٠٨).

(٢) فى أ (لعلم).

(٣) كلمة (به) ساقطة من (أ).

(٤) أبو القاسم الأسفرايينى :

هو أبو القاسم عبد الجبار بن على بن محمد بن حسكان الأسفرايينى الإسكافى ، المتوفى سنة ٤٥٢ ه‍ ، كان تلميذا لأبى إسحاق الأسفرايينى ، وكان من كبار المتكلمين الآخذين بمذهب الأشعرى ، وكان يشتغل بالمناظرة والتدريس والفتوى.

من أهم تلاميذه إمام الحرمين الجوينى.

(انظر طبقات الشافعية الكبرى للسبكى ٣ / ٢٢).


وقال بعض الأصحاب : العلم إثبات المعلوم على ما هو به.

وهو فاسد من ثلاثة أوجه (١) :

الأول : أنّ فيه تعريف العلم بالمعلوم ؛ وهو فاسد ؛ على ما تقدم.

الثانى : أنّه إذا كان العلم إثبات المعلوم ؛ فالعالم بالمعلوم يكون مثبتا للمعلوم ؛ ويلزم من ذلك أن يكون علمنا بوجود الرّب تعالى : إثباتا له ؛ وهو محال.

الثالث : أنّ الإثبات قد يطلق ويراد به إيجاد الشّيء ، وقد يطلق ويراد به تسكين الشيء عن الحركة ، وقد يطلق تجوّزا على العلم.

ولا يخفى أنّ إرادة الإثبات بالاعتبار الأول والثّاني فيما نحن فيه ؛ ممتنع. والثالث / فيه تعريف العلم بالعلم ؛ وهو ممتنع.

وقال غيره من الأصحاب : العلم تبيين المعلوم على ما هو به.

ولا يخفى ما فيه من الزّيادة ، وتعريف العلم بما هو أخفى منه. والّذي يخصه أن التبيين مشعر بالظّهور بعد الخفاء ، والوضوح بعد الإبهام ؛ وذلك ممّا يوجب خروج علم الرّبّ تعالى عن الحدّ.

وقال غيره : العلم هو الثّقة (٢) بأن المعلوم على ما هو عليه.

ولا يخفى ما فيه من الزّيادة ، وتعريف العلم بما هو أخفى منه.

كيف وأنّه يلزم من كون العلم هو الثقة (٢) بالمعلوم ؛ أن يكون من قام [به] (٣) العلم واثقا ؛ وذلك يوجب كون البارى تعالى واثقا بما هو عالم به ، وإطلاق ذلك على الله ـ تعالى ـ ممتنع شرعا.

وقالت الفلاسفة : العلم عبارة عن انطباع صورة المعلوم في النّفس.

ويلزم عليه أنّ من علم الحرارة والبرودة : أن تكون صورة الحرارة ، والبرودة ؛ منطبعة في نفسه ؛ ويلزم من ذلك أن يكون العالم بهما حارا ، أو باردا ؛ وهو محال.

__________________

(١) قارن بما ورد في شرح المواقف ١ / ٨١ فمن الواضح أنه نقل هذا عن الآمدي.

(٢) من أول (بأن المعلوم على ما هو ...) ساقط من (ب).

(٣) كلمة (به) ساقطة من (أ).


فإن قيل : المنطبع إنّما هو مثال الحرارة ، والبرودة ، لا نفس الحرارة والبرودة.

قيل : فالمثال إن كان مساويا في الحقيقة للمثل ؛ فالإشكال لازم ، وإلا فليس مثلا له ، ولا العلم متعلّقا به (١).

ولعسر تحديد العلم ؛ اختلف العلماء المتأخرون.

(٢) فقال بعضهم (٢) : إنّه لا طريق إلى تعريفه بالحدّ ؛ بل تعريفه إنّما هو بالقسمة ، والمثال.

وقال بعضهم (٣) : العلم بالعلم بديهى ؛ لأن ما عدا العلم لا يعرف إلا بالعلم ، فلو كان غيره معرّفا له ؛ لكان دورا ؛ ولأن الإنسان يعلم بالضرورة وجود نفسه ، والعلم أحد تصورى هذا التصديق البديهى ، وما يتوقّف عليه البديهى يكون بديهيا ؛ فتصوّر العلم بديهى ؛ وهما باطلان :

أما القول الأول : فلأن الطريق المذكور في التعريف إن حصلت به معرفة العلم وتمييزه عن غيره ؛ فلا معنى للحدّ إلا هذا. وإن لم يحصل به تمييز العلم عن غيره ، فلا يكون معرفا للعلم.

وأما القول الثانى : فغير لازم ، فإنّ الدّور يوجب أن لا يكون التّحديد بأمر خارج عن العلم ، فلا يلزم من ذلك امتناع التّحديد مطلقا ؛ إذ الحدّ أعمّ من الحدّ بأمر خارج عن المحدود على ما لا يخفى إلا أن يكون العلم بسيطا ، وليس كذلك (٤) ؛ إذ هو نوع من مقولة الكيف ؛ على رأى. ومن مقولة المضاف ، على رأى ؛ فيكون مركبا.

كيف وأنه لا دور ؛ (٥) إذ الدّور إنمّا يكون (٥) مع اتحاد جهة التّوقّف ، وتوقّف غير العلم على العلم لا من جهة (٦) كون العلم (٦) صفة مميّزة له ؛ بل من جهة كونه مدركا به ، وتوقف / العلم على الغير بالضّد ؛ فلا دور أصلا.

__________________

(١) زائد في ب (قال شيخنا أبو الحسن الآمدي). وهى زيادة من الناسخ ، وهذه العبارة ترد كثيرا في النسخة (ب) عند ما يصرح الآمدي برأيه ، وأرجح أن بعض من اقتنوا النسخة ذكر ذلك للتوضيح ، فلما نقلت عنها هذه النسخة ظنه الناسخ ـ خطأ ـ من كلام الآمدي.

(٢) فى ب (فمنهم من قال). انظر الإحكام للآمدى ١ / ٩ ، ومنتهى السئول له أيضا ١ / ٤ ، حيث يحدد هذا البعض بأنهما : إمام الحرمين ، والغزالى. ثم انظر شرح المواقف للجرجانى ص ٢٨ حيث يوضح أنهما : إمام الحرمين والغزالى أيضا. قالا : وطريق معرفته بالقسمة والمثال. ثم يرد عليهما مختصرا ما أورده الآمدي هنا.

(٣) انظر الإحكام للآمدى ١ / ٩ ، ومنتهى السئول له أيضا ١ / ٤ ، وانظر شرح المواقف للجرجانى ص ٢٦ حيث يحدده بالإمام الرازى ثم يرد عليه موضحا ما أورده الآمدي هنا. ثم انظر ص ٦٩ من المحصل للرازى.

(٤) ساقط من (ب).

(٥) فى ب (فالدور إنما يلزم).

(٦) فى ب (كونه).


وعلم الإنسان بوجود نفسه وإن كان بديهيا ، فلا يلزم أن تكون العلوم التصورية بديهية لوقوع النسبة البديهية بينهما ؛ فإنه لا معنى للقضية البديهية إلا إذا ما حصل العلم بمفرداتها بادر العقل إلى النّسبة الواجبة لها من غير توقّف على نظر ولا استدلال. وسواء كانت المفردات معلومة بالبديهية ، أو النظر. ولهذا فإن النفس أحد التصورات في المثال المذكور ؛ والعلم بمعنى النّفس غير بديهى (١).

والأشبه في تحديده أن يقال :

العلم عبارة عن (٢) صفة يحصل بها لنفس المتّصف تمييز حقيقة ما ، غير محسوسة في النفس ـ احترازا من المحسوسات ـ حصل عليه حصولا لا يتطرق إليه احتمال كونه على غير الوجه الّذي حصل عليه (٢) ، ويدخل فيه العلم بالإثبات ، والنفى ، والمفرد ، والمركب (٣). وتخرج عنه الاعتقادات والظّنون حيث (٤) أنّه لا يبعد (٤) فى النّفس احتمال كون المعتقد والمظنون على غير الوجه الّذي حصل عليه في النفس ، وهو وجودى لا سلبى ؛ لأنّه لو كان سلبيا ؛ فسلبه يكون إثباتا ؛ لأنّ سلب السّلب إثبات. ولو كان كذلك ؛ لما صحّ سلب العلم عن المعدوم المستحيل الوجود ؛ لما فيه من اتّصاف العدم المحض بالصّفة الثبوتيّة ؛ وهو محال.

فإن قيل : هذا وإن دلّ على أنّ العلم ثبوتى ؛ فهو معارض بما يدل على كونه سلبيّا ؛ وذلك لأن الجهل البسيط نقيض العلم. والجهل البسيط ليس أمرا سلبيا وإلا كان سلبه إثباتا كما ذكرتموه. ولو كان إثباتا ؛ لما صحّ سلب الجهل عن المعدوم المستحيل الوجود ؛ لما فيه من إثبات الصّفة الثبوتيّة للعدم المحض ؛ وهو محال.

وإذا كان الجهل البسيط ثبوتيّا ؛ فالعلم المناقض له يكون سلبيا.

__________________

(١) زائد في ب (قال شيخنا أبو الحسن الآمدي).

(٢) فى ب (حصول صورة معنى في النفس لا يتطرق إليه في النفس احتمال كونه على غير الوجه الّذي حصل عليه ، ونعنى بحصول المعنى في النفس تميزه في النفس عما سواه).

(٣) انظر الإحكام ١ / ١٠ حيث يعرف العلم بأنه عبارة عن (صفة يحصل بها لنفس المتصف بها التمييز بين حقائق المعانى الكلية حصولا لا يتطرق إليه احتمال نقيضه).

وانظر أيضا : تعريفه في منتهى السئول ١ / ٥. حيث يعرفه بأنه عبارة عن (صفة يحصل بها لنفس المتصف بها الميز بين حقائق الأمور الكلية ميزا لا يتطرق إليه احتمال مقابله).

(٤) فى ب (حيث لا يبعد له).


قلنا : هذا إنما يلزم أن لو كان الجهل البسيط نقيضا للعلم ؛ وليس كذلك ؛ [بل (١) هو مقابل له ؛ والمتقابلان (١)] أعم من المتناقضين. ولا يلزم من كون أحد المتقابلين ثبوتيا أن يكون الأخر سلبيا ؛ (٢) ولهذا فإنّهما يجتمعان في الكذب بالنسبة إلى ما هو غير قابل للعلم ، ولو كانا متناقضين لما اجتمعا في الكذب (٢). وقد قيل : إنّ العلم صفة إضافيّة بين العالم والمعلوم ؛ وفيه نظر.

فإنّه إن قيل : إنّ الإضافة عدم ؛ فسلب الإضافة يكون ثبوتيا. ويلزم منه أن يكون سلب الإضافة عن الأعدام المحضة ؛ موجبا لاتصاف العدم المحض بالصّفة الثّبوتيّة ؛ وهو محال.

وإن قيل : إن الإضافة وجود ـ فيلزم [أن تكون الإضافة بين] (٣) المتقدم والمتأخر ؛ صفة ثبوتية لهما. مع أنّ أحدهما معدوم. وأن تكون الإضافة / بالتقابل بين السّلب والإيجاب صفة ثبوتية لهما ؛ والسلب عدم محض.

وإذا كان كلّ واحد من الأمرين محالا ؛ فالعلم لا يكون صفة إضافية.

وإذا عرف معنى العلم ؛ فهو حاصل متحقّق باتفاق العقلاء. ولم يخالف في ذلك غير السّوفسطائية (٤) ، وسيأتى (٥) الكلام معهم فيما بعد إن شاء الله تعالى (٥).

وهو ينقسم إلى : قديم ، وإلى حادث.

أما العلم القديم : فهو علم الله ـ تعالى ـ وسيأتي الكلام فيه فيما بعد (٦).

وأمّا العلم الحادث : فينقسم إلى ضرورى ، وإلى كسبى ؛ فلا بدّ من الإشارة إليهما (٧).

__________________

(١) فى أ ـ (بل مقابل له فالمتقابلان).

(٢) من أول (ولهذا فإنهما ...) ساقط من (ب).

(٣) فى أ ـ (أن للإضافة من).

(٤) السّوفسطائيّة : هم الذين شكوا في وجود الحقائق ، وقالوا : إن حقائق الأشياء تابعة للاعتقاد ، وصححوا جميع الاعتقادات مع تضادها وتنافيها ، وكانوا يستخدمون مقدمات خاطئة ليتوصلوا بها إلى نتائج الغرض منها إسكات الخصم. ومن أشهر رجالهم بروتاجوراس المتوفى ق. م ، ومعاصره جورجياس المتوفى عام ٣٨٠ ق. م. ولمزيد من البحث والدراسة انظر الفصل لابن حزم ١ / ٤٣ ـ ٤٥ القسم الأول : السوفسطائية.

(٥) فى ب (وبيان الكلام معهم ما يأتى فيما بعد).

(٦) انظر ل ٧٢ / ب وما بعدها.

(٧) فى ب (إليه).


القسم الثانى

في العلم الضّرورى (١)

واختلف النّاس فيه.

وقد قال القاضى أبو بكر : (٢)

العلم الضّرورى : هو الّذي يلزم نفس المخلوق لزوما لا يجد عن الانفكاك عنه سبيلا.

وهذه العبارة وإن وقع (٣) الاحتراز فيها (٣) عن علم الله ـ تعالى ـ إلا أنّه لا مانع من زوال العلم الضّرورى ، وثبوت أضداده كما يأتى ؛ فلا يكون جامعا.

وإن قيل : المراد به منع الانفكاك مقدورا للعبد ، أو عادة (٤) ، فيدخل العلم النظرى (٤) بعد حصوله ، فإنّه كذلك وليس ضروريّا عنده ؛ فلا يكون الحدّ مانعا ، وإنّما يصح أن لو أريد به منع الانفكاك قبل النّظر مقدورا للمكلّف ، أو عادة (٥).

والحقّ أن الضّرورى قد يطلق على ما أكره عليه ، وعلى ما تدعو الحاجة إليه دعوا قويّا : كالحاجة إلى الأكل في المخمصة ، وعلى (٦) ما سلب فيه الاقتدار على الفعل والترك : كحركة المرتعش. إلا أنّ إطلاق العلم الضّرورى على العلم الحادث ؛ إنّما هو بهذا الاعتبار الأخير.

وعلى هذا : فالعلم الضّرورى : هو العلم الحادث الّذي لا قدرة للمخلوق على تحصيله بالنّظر والاستدلال. (٧)

وذلك كالعلم بالمحسوسات (٨) الظّاهرة (٨) : كالعلم بالمسموعات ، والمبصرات ، والمشمومات ، والمذاقات ، والملموسات.

__________________

(١) انظر أصول الدين للبغدادى ص ٨ ، ٩ ، ٣١ ، ٣٢ والمغنى للقاضى عبد الجبار ١٢ / ٥٩ ، وشرح الأصول الخمسة له أيضا ص ٤٨ والإرشاد للجوينى ص ١٣ ـ ١٥ والشامل له أيضا ص ١١١ ـ ١١٤ وشرح المواقف للجرجانى ص ٣٨ وشرح المقاصد للتفتازانى ص ١٥.

(٢) انظر التمهيد ص ٣٥ والإنصاف ص ١٤.

(٣) فى ب (فيها الاحتراز).

(٤) فى ب (فيدخل فيه العلم النظرى وثبوت أضداده).

(٥) زائد في ب (قال شيخنا أبو الحسن الآمدي).

(٦) فى ب (وإلى).

(٧) انظر الإحكام للآمدى ١ / ١٠ ومنتهى السئول ١ / ٥ له أيضا.

(٨) فى ب (بالحس الظاهر).


أو بالحواسّ الباطنة : كعلم الإنسان بلذّته وألمه ، والعلم بالأمور العاديّة : كعلمنا بأن الجبال المعهودة لنا ثابتة ، والبحار غير غائرة ، وكالعلم بالأمور التى لا سبب لها ولا يجد الإنسان نفسه خالية عنها : كالعلم بأنّه لا واسطة بين النّفى والإثبات ، وأن الضّدين لا يجتمعان ، وأن الكلّ أكثر من الجزء ونحوه. وربما خصّت هذه بالبديهيات.

وإذا عرف معنى العلم الضّرورى ؛ فقد اختلف فيه :

فقال قوم من المعتزلة : إنّ جميع العلوم الواقعة ضروريّة غير مقدورة للعباد.

لكن من هؤلاء من قال : إن الجميع غير مقدور للعباد ، ولا يتوقف على نظر واستدلال.

ومنهم من قال : العلوم كلّها ـ وإن كانت غير مقدورة ـ فمنها : ما حصوله لا عن نظر ، ومنها : ما حصوله عن نظر ، لكن بعد تمام النّظر يقع العلم ضروريّا غير مقدور عليه.

وقال قوم : العلوم المتعلقة بذات الله ـ تعالى ـ وصفاته والاعتقادات الصحيحة ضرورية غير نظريّة. وما عدا ذلك ؛ فلا يمتنع أن يكون نظريّا. (١)

وقال بعض الجهميّة (٢) : جميع العلوم نظريّة لا ضرورة فيها.

وقال بعض المتأخرين (٣) : ما كان من العلوم التّصورية ؛ فهى ضروريّة. وما كان من العلوم التّصديقيّة ؛ فمنقسمة إلى ضرورى ، ونظرى.

والّذي عليه المحصّلون : أنه ليس كلّ علم ضروريّا ؛ إذ هو خلاف ما يجده كل عاقل من نفسه في المسائل المختلف فيها. كحدوث العالم ، ووجود الصّانع ، والجوهر الفرد وبقاء الأعراض. إلى غير ذلك.

__________________

(١) انظر شرح الأصول الخمسة ص ٤٨ وما بعدها ؛ حيث يوضح القاضى عبد الجبار : العلم الضرورى وآراء المعتزلة فيه.

(٢) الجهمية : أصحاب جهم بن صفوان. وهو من الجبريّة الخالصة ظهرت بدعته بترمذ وقتل في آخر عهد بنى أمية سنة ١٢٨ ه‍. وهو تلميذ الجعد بن درهم أول من ابتدع القول بخلق القرآن ، وتعطيل الله عن صفاته. والّذي توفى سنة ١١٨ ه‍. (الملل والنحل ١ / ٨٦ ، الفرق بين الفرق ٢١١).

(٣) المقصود به الإمام الرازى.

انظر المحصل ص ٧١ ، وشرح المواقف ص ٤٣.


ثم لو كانت العلوم كلها ضرورية ؛ لما ساغ الخلاف فيها من الجمع الكثير من العقلاء ممّن تقوم الحجة بقولهم ، ولما وجد واحد من نفسه الخلوّ عنها.

وعلى هذا أيضا : يبطل قول من فصل بين العلوم المتعلقة بالإله ـ تعالى ـ وصفاته ، والاعتقادات الصّحيحة ، وبين غيرها.

ومن قال بكون العلم ضروريّا ـ مع حصوله عن النّظر ـ فلا نزاع معه في غير التّسمية ، فإنا لا نعنى بكونه مقدورا وغير ضرورى ؛ غير كون الطريق المفضى إليه مقدورا للعبد. لا بمعنى أن العلم الحاصل عنه مقدور.

كيف وأنّ معرفة الله ـ تعالى ـ واجبة بالإجماع : إما بالعقل ، أو بالشّرع.

فإن كان بالعقل : فالعقل لا يوجب فعل ما ليس بمقدوره.

وإن كان ذلك بالشرع : فالشّارع أيضا لا يوجب فعل ما ليس بمقدور على ما يأتى ، وكما أنه ليس كل علم ضروريّا ؛ فليس كل علم نظريا. وإلا لزم التسلسل الممتنع ؛ بل البعض ضرورى ، والبعض نظرى ؛ وسيأتى الردّ على شبه منكرى الضّروريّات فيما بعد. (١)

ومن قال بالفرق بين التصور ، والتصديق ؛ فقد احتجّ عليه بحجج (٢) أبطلناها في كتاب دقائق الحقائق (٢).

__________________

(١) انظر ل ١٧ / ب.

(٢) فى ب (بحجج وقد أبطلناها في دقائق الحقائق).

والقائل بالفرق بين التصور ، والتصديق : هو الإمام الرازى. انظر المحصل ص ٣ ـ ٥ وقد نقل الآمدي رأى الرازى المذكور في المحصل بالتفصيل في كتابه دقائق الحقائق في ل ٥ / أ ، ل ٥ / ب. وقد قابلته على ما ورد بالمحصل وتأكد لى صحة نقل الآمدي. الّذي بدأه بقوله : قال بعض المتأخرين : ثم بدأ في نقده ، والرد عليه فقال بعد نقله رأى الرازى بالتفصيل ـ وهذا منه تساهل في التحقيق ، ثم نقده نقدا تفصيليا في ل ٥ / ب ـ ل ٧ / ب.


القسم الثالث

في العلم الكسبى (١)

والعلم المكتسب : هو العلم المقدور بالقدرة الحادثة.

وقد اختلف أصحابنا في جواز وقوع العلم المكتسب من غير نظر ، واستدلال. فجوّزه قوم ـ وإن كانت العادة على خلافه ـ كالأستاذ أبى إسحاق (٢) ومنع منه آخرون.

وعلى هذا فمن لم يجوّز انفكاك العلم المكتسب عن النّظر ؛ فحدّ المكتسب عنده مطّرد في العلم النظرى ؛ فكل علم مكتسب عنده نظرى ؛ وكل نظرى مكتسب.

ومن جوّز الانفكاك : لم يطرّد / حدّ المكتسب عنده في النّظرى ؛ فإن اطّرد حدّ النظرى في المكتسب ؛ فكلّ نظرى مكتسب ، وليس كل مكتسب نظريا.

وعلى هذا فقد اختلف أرباب هذا (٣) المذهب في العبارات (٣) الدّالة على العلم النّظرى.

فمنهم من قال : هو العلم الواقع عقيب النّظر الصّحيح.

ومنهم من قال : ما يوجبه النّظر الصحيح.

ومنهم من قال : هو الواقع عن النظر الصّحيح.

ومنهم من قال : هو المقدور المنظور فيه نظرا صحيحا.

ومنهم من قال : ما يتضمنه النّظر الصّحيح (٤).

والعبارة الأولى : مدخولة بما يقع من العلوم الضّرورية عقيب النّظر الصّحيح : كالعلم بما يحدث من الألم ، واللّذة ، والفرح ، والغم ونحوه ؛ فإنه ليس نظريا مع وجود الحدّ.

__________________

(١) انظر أصول الدين للبغدادى ص ٨ ، ٩ والمغنى للقاضى عبد الجبار ج ١٢ ص ٥٩ ـ ٦٨ ، وشرح الأصول الخمسة ص ٥٢ وما بعدها ، والإرشاد لإمام الحرمين ص ١٣ ـ ١٥ والشامل له أيضا ص ١١١ ـ ١١٤ وشرح المواقف للجرجانى ص ٣٨ وشرح المقاصد للتفتازانى ص ١٥.

(٢) الأستاذ أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مهران الأسفرايينى الفقيه الشافعى ، المتكلم ، الأصولى ، الملقب بركن الدين ، من أئمة المذهب الأشعرى. نشأ في أسفراين ، وانتقل إلى نيسابور ، وتوفى بها سنة ٤١٨ ه‍. (وفيات الأعيان ١ / ٨ ، طبقات السبكى ٣ / ١١ ، معجم المؤلفين ١ / ٨٣).

(٣) فى ب (هذه المذاهب والعبارات).

(٤) القائل هو القاضى الباقلانى : انظر التمهيد ص ٣٦ والإنصاف ص ١٤ وانظر الإحكام للآمدى ١ / ١٠ ومنتهى السئول له أيضا ١ / ٥.


والعبارة الثّانية ، والثالثة فغير مرضية على رأى أصحابنا ؛ لإشعارهما بوجود العلم ووجوبه بالنّظر ؛ وليس كذلك على ما سيأتى في النّظر (١).

والعبارة الرّابعة : فغير مطّردة على رأى من يرى من أصحابنا أنّ العلم الحاصل بالنّظر غير مقدور للعبد.

وأما العبارة الخامسة : فهى عبارة القاضى أبى بكر. وهى موافقة لأصول أهل الحقّ من أصحابنا ، وإن كان فيها نوع غموض بسبب غموض معنى التضمّن.

وكشفه أن يقال : معنى تضمّن النّظر الصّحيح للعلم : أنهما بحال لو قدّرنا انتفاء الآفات ، وأضداد العلم ؛ لا ينفكّ أحدهما عن الآخر (٢) من غير إيجاب ولا تولّد : كالعرض مع الجوهر ، وتذكّر النظر وإن لم يكن هو نفس النّظر ؛ فالعلم الحاصل عنده لا يخرج عن أن يكون النّظر متضمّنا له ؛ فعبارة القاضى تكون مطّردة في هذه الصّورة أيضا.

__________________

(١) انظر ل ١٨ / ب.

(٢) فى ب (آخر عن آخر).


القسم الرابع : في أحكام العلم

ويشتمل على تسعة فصول :

الأول : في تجويز وقوع العلم (١) الضّرورى نظريّا ، وبالعكس

الثانى : في مراتب العلوم.

الثالث : في العلم الواحد الحادث. هل يتعلّق بمعلومين ، أم لا؟

الرابع : في جواز تعلق علم بمعلوم ، (٢) أو معلومات على الجملة (٢).

الخامس : في اختلاف العلوم وتماثلها.

السادس : في تعلّق العلم بالشّيء من وجه دون وجه.

السابع : في امتناع وجود علم لا معلوم له.

الثامن : في محلّ العلم الحادث ، وأنه لا بقاء له.

التاسع : في أضداد العلم الحادث ، وأحكامها.

__________________

(١) ساقط من (ب).

(٢) فى ب (أو بمعلومات في الجملة).



الفصل الأول

في تجويز وقوع العلم الضّرورى نظريّا وبالعكس

أما أن العلم الضّرورى هل يجوز وقوعه نظريّا (١)؟

فقد قال به القاضى أبو بكر ـ فى بعض أقاويله ـ وجماعة من المتكلّمين. ونفاه آخرون.

ومنهم من لم يجوز ذلك فيما كان من العلوم الضّرورية شرطا في كمال العقل. وجوّزه فيما عداه.

وقد ذهب القاضى أبو بكر إلى هذا التفصيل في قول أخر. وإليه ميل (٢) أبى المعالى (٣) من أصحابنا.

وأحتج من قال بتجويز ذلك في العلوم الضّروريّة مطلقا : بأنّ العلوم من جنس واحد ؛ فما جاز في البعض جاز على الكل ، وقد جاز في بعض العلوم أن تكون نظريّة ؛ فكذلك في الباقى (٤).

ولقائل أن يقول :

وإن كانت من جنس واحد ؛ فلا يمنع ذلك من اختلافها ، وتميز كلّ واحد بتعيّن غير تعيّن الآخر.

ومع ذلك فلا يلزم أن ما جاز على أحدهما يجوز على الآخر ؛ لجواز أن يكون ما جاز على أحدهما بسبب تعيّنه ، أو أن تعيّن الآخر يكون مانعا منه ، واشتراك العلوم كلّها في عارض واحد وهو الإدراك والإحاطة ، أو غير ذلك. غير دالّ على الاتحاد ؛ إذ لا مانع من اشتراك المختلفات في لازم واحد عام لها.

__________________

(١) انظر المواقف للإيجي ص ١٤٦ وشرح المقاصد للتفتازانى ١ / ١٧٢.

(٢) فى ب (ذهب).

(٣) عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن عبد الله بن يوسف الجوينى النّيسابورى الشافعى الأشعرى المعروف بإمام الحرمين (ضياء الدين ، أبو المعالى) فقيه ، أصولى ، متكلم ، مفسر ، أديب. من أهم تلاميذه حجة الإسلام الغزالى. ولد في جوين سنة ٤١٩ ه‍ ، وتوفى سنة ٤٧٨ ه‍. (وفيات الأعيان ٢ / ٣٤١ وطبقات الشافعية ٣ / ٢٤٩).

(٤) زائد في ب (قال شيخنا أبو الحسن الآمدي).


وأيضا : فإنّه لو جاز وقوع جميع العلوم الضّرورية نظريّة ؛ فكل ما هو جائز أن يكون ؛ لا يلزم من فرض وقوعه المحال. فلنفرض وقوع جميع العلوم الضّروريّة نظريّة. ولو كان كذلك ؛ لاستحال وقوع شيء من العلوم النّظرية ؛ لأنّ العلم النّظرى لا بدّ وأن ينتهى إلى العلم الضّرورى وإلا لتسلسل الأمر إلى غير النّهاية ؛ وهو ممتنع.

وأيضا : فإنه إذا جاز وقوع جميع العلوم الضّرورية نظريّة ، لجاز وقوع العلوم الضّرورية التى هى شرط كمال العقل في النّظر نظرية. (١) وإذا كانت نظريّة (١) ؛ فتكون متوقفة على النّظر ، والنّظر متوقّف على كمال العقل ، الّذي لا يتمّ النّظر إلا به. وكمال العقل الّذي لا يتمّ النّظر إلّا به ، متوقّف على تلك العلوم الضرورية ؛ فيكون دورا.

وأيضا : فإنّه لو جاز وقوع جميع العلوم الضّروريّة نظريّة ؛ (٢) فالنّظر ـ على ما يأتى ـ مضادّ (٢) وقوع المنظور فيه. ففى حالة النّظر لا يكون عالما بها. وذلك يجرّ إلى تجويز أن يكون العاقل حالة النّظر [غير] (٣) عالم باستحالة اجتماع الضّدين ، وأن لا واسطة بين النّفى والإثبات ، وأنّ الواحد أقلّ من الاثنين ، وأنّ الجسم في آن واحد لا يكون في مكانين.

ولا يخفى ما في ذلك من الإحالة ، واتّجاه قول منكرى البديهيّات.

فإن قيل : هذا وإن دل على امتناع وقوع الضّروريات نظرية ؛ فما المانع من وقوعها كسبية مقدورة للعبد ، وإن لم تفتقر إلى نظر واستدلال؟ كما قال الأستاذ أبو إسحاق في بعض مذاهبه.

فنقول : لو وقعت كسبية مقدورة للعبد ، لصحّ الإضراب عنها ؛ لكونها مقدورة ؛ فإنّه لا معنى للمقدور إلا ما يصحّ فعله / وتركه وإلا كان (٤) مضطرا إليه وملجأ ؛ فلا يكون مقدورا. ولا يخفى أن إضراب العاقل عن العلوم البديهية محال.

كيف وأنّ هذا ممّا لا يطّرد في العقل عنده ؛ إذ هو من العلوم الضروريّة. فلو جاز وقوعه مقدورا ؛ لصحّ الإضراب عنه. وإضراب العاقل عن عقله محال. ثم إنّ حصول العلم مقدورا ؛ يستدعى حصول العقل. وحصول العقل إذا كان من العلوم المقدورة ، فحصوله مقدورا ؛ يتوقّف على حصوله في نفسه. وحصوله في نفسه ؛ يتوقّف على كونه مقدورا ؛ وهو دور ممتنع.

__________________

(١) ساقط من ب.

(٢) في. ب (والنظر على ما يأتى يضاد) انظر ل ١٨ / ب.

(٣) في أ (غيره).

(٤) في ب (ولما كان).


وربما قيل في إبطاله : لو جاز حصول العلم الضّرورى مقدورا من غير نظر ؛ لجاز حصول العلم النّظري من غير نظر واستدلال. ولو جاز ذلك لا يتحتّم علينا الدعاء إلى النّظر والاستدلال المفضى إلى معرفة الله ـ تعالى ـ مع وجوبه ـ ؛ لجواز أن يقول المدعوّ : ذلك حاصل لى من غير نظر ولا استدلال.

وهو إنّما يلزم أن لو لزم من جواز وقوع الضّرورى مقدورا من غير نظر ، جواز ذلك في النّظرى ، ولا بدّ من دليل جامع ؛ ولا دليل عليه.

وأيضا : فإنّ حصول ذلك ـ مع تجويزه ـ خارق للعادة ، والمخبر عن نفسه مما يخرق العادة غير مصدّق فيه.

وأما من منع من جواز ذلك مطلقا. فحجّته ما أشرنا إليه (١) في الاعتراض (١).

وربما احتجّ : بأنه لو جاز وقوع العلم الضرورى نظريّا ؛ لجاز وقوع الآلام والأوجاع ، وغير ذلك مما وقوعه غير مكتسب مكتسبا.

وهو تمثيل من غير دليل جامع ؛ فلا يكون صحيحا كما تقدّم.

ومن قال بالتفصيل (٢) بين العلوم الضروريّة التى بها كمال العقل وغيرها فمستنده : أما فيما قضى فيه بالجواز ؛ فمستند (٣) القائلين بتعميم الجواز ، وقد عرف ما فيه (٤) وفيما قضى فيه بنفي الجواز ؛ فما أسلفناه من الدّور في الاعتراض على القائلين بالجواز مطلقا (٥).

وأما أنّ العلوم النظريّة هل يجوز أن تقع ضروريّة غير مقدورة للعبد؟ (٦) فهذا ممّا اتّفق عليه أهل الحقّ من أصحابنا.

__________________

(١) في ب (من الأعراض). انظر الإشكالات الواردة على من قال بالجواز فهى حجة النفاة.

(٢) من القائلين بالتفصيل القاضى أبو بكر وإمام الحرمين الجوينى.

(٣) في ب (فمستنده).

(٤) انظر ل ٦ / أ.

(٥) انظر الإشكال الثالث ل ٦ / أ.

(٦) انظر المواقف للإيجي ص ١٤٧.


وأما المعتزلة : فموافقون على الجواز في الكل. غير أنهم يمنعون من الوقوع في البعض : كالعلم بالله تعالى ـ وصفاته. من حيث أنّ العلم بالله ـ تعالى ـ وصفاته واجب على العبد فلو لم يكن ذلك مقدورا له ؛ لكان الإيجاب قبيحا.

ومستندهم في الجواز : أنّ العلوم من جنس واحد ؛ فما يثبت للبعض ، جاز أن يكون ثابتا للكلّ. والله ـ تعالى ـ قادر على خلق العلوم الضّروريّة للعبد غير (١) مقدورة له ؛ فكذلك في الباقى.

ويرد عليه من الإشكال ما ورد على / حجّة القائلين بجواز وقوع العلوم الضّروريّة نظريّة على ما سبق (٢).

__________________

(١) ساقط من (ب).

(٢) انظر ل ٦ / أ.


الفصل الثانى

في مراتب العلوم

لا نعرف خلافا في جواز كون العلم النّظرى مستندا إلى علم ضرورى ، أو إلى علم نظرى يستند في الآخرة إلى علم ضرورى.

وإنّما الخلاف في جواز استناد العلم الضّرورى إلى النّظري ، أو إلى ضرورى آخر. أما استناد العلم الضّرورى إلى النظرى (١) ؛ فقد اختلف أصحابنا فيه :

فمنهم من جوّزه اعتمادا منه على أنّ العلم باستحالة اجتماع الضّدين ضرورى ، والتّضاد لا يكون إلا بين الأعراض. والعلم بوجود الأعراض نظرى لا ضرورى ؛ فالعلم باستحالة اجتماع الأضداد (٢) ضرورى ؛ وهو مستند إلى العلم بوجود الأضداد ؛ وهو نظرى ؛ ولهذا فإن (٣) من لا يعلم وجود الأضداد ، لا يحكم باستحالة اجتماعها.

وأنكره الباقون : من حيث أن العلم الضّرورى لا خلوّ للنفس عنه. بخلاف العلم النظرى فإنه لا يمتنع الخلوّ عنه بتقدير عدم النظر. فلو كان العلم الضرورى مستندا إلى العلم النّظرى ؛ لأفضى إلى جواز خلو النفس عن الأصل مع امتناع خلوها عن التابع ؛ وهو محال.

ثمّ اختلف هذا الفريق في الجواب عن مستند الفريق الأول :

فمنهم من قال بأنّ العلم باستحالة اجتماع الضّدين نظرى ، وليس بضرورى ، ولهذا يحسن إقامة الدّليل عليه على من قال : بجواز اجتماع الحركة ، والسّكون. والسّواد ، والبياض في محلّ واحد من أرباب الكمون والظّهور (٤).

__________________

(١) انظر المواقف للإيجي ص ١٤٧ وشرح المقاصد للتفتازانى ١ / ١٧٢.

(٢) في ب (الدين).

(٣) في ب (قال).

(٤) والذين اشتهروا بهذا الاسم هم النظامية أتباع النّظّام ؛ إذ أن الخلق عند النّظّام فعل واحد ؛ فالله خلق الدنيا جملة ، والموجودات خلقت كلها دفعة واحدة ؛ ولكن بعضها يكون كامنا في بعض ، وبمرور الزمن تخرج أنواع المعادن ، والنبات ، والإنسان من مكامنها.

(انظر الملل والنحل ١ / ٥٦ وتاريخ الفلسفة في الإسلام لديبور ص ٤٧).


ومنهم من قال : العلم باستحالة اجتماع الضّدين وإن كان ضروريّا ؛ إلا أنّه مستند إلى علم ضرورى ؛ فإنّ من نفي الأعراض لا ينكر طروّ الألم واللذة عليه ، ولا يستريب في ذلك. وإنّما هو مستريب في كون هذه الصّفات مغايرة للذّوات. والعلم باستحالة اجتماع هذه الأضداد لا يتوقف على كونها مغايرة للذوات. فإذا ما توقف عليه الضرورى ، ضرورى. وما ليس بضرورى ؛ فالضّرورى غير متوقف عليه. (١)

والحقّ عندى في ذلك متوقّف على تلخيص محلّ النّزاع ؛ ليكون التّوارد بالنفي (٢) والإثبات على محزّ (٣) واحد.

فنقول : العلم بالنسبة الواقعة بين مفردات القضيّة ـ بعد تصور مفرداتها ـ ؛ قد يقال له ضرورى. بمعنى أن العلم بها (٤) غير مكتسب ولا مقدور ، وإن كان نظريا كما أسلفناه في القسم الثانى (٥).

وقد يقال : العلم بالنسبة ضرورى ، بمعنى أنه لا يتوقّف بعد العلم بالمفردات على النظر / والاستدلال.

فإن كان الأول : فالقضية نظرية (٦). ولا منافاة بين كونها نظريّة ، وبين كون العلم بها غير مقدور.

وعلى هذا فلا يمتنع استناد مثل هذا الضّرورى الّذي هو نظرى إلى العلم النّظرى. وإن كان الثانى : فالقول باستناد مثل هذا الضّرورى إلى العلم النظرى : إما بمعنى أنه يستند إلى علم نظرى خارج عن العلم بالمفردات ، أو نظرى متعلق بالمفردات.

فإن كان الأول : فهو تناقض ؛ إذ الكلام (٧) فيما لا يفتقر بعد تصور مفرداته إلى النظر ، فإذا قيل بافتقاره إلى النّظر ؛ فقد خرج (٨) عن أن يكون ضروريا بهذا الاعتبار.

__________________

(١) زائد في ب (قال شيخنا أبو الحسن الآمدي).

(٢) في ب (بين النفي).

(٣) في ب (مجرى).

(٤) ساقط من (ب).

(٥) انظر ل ٥ / أ.

(٦) في ب (ضرورية).

(٧) ساقط من (ب).

(٨) في ب (يخرج).


وإن كان الثانى : فلا خفاء بجوازه. ولا تخرج القضية بذلك عن أن تكون ضروريّة ؛ إذ القضية الضّرورية بهذا الاعتبار : هى التى يبادر العقل بالنسبة الواجبة لها بعد تصوّر مفرداتها من غير توقف على (١) نظر واستدلال ، وسواء كان العلم بالمفردات : ضروريا بهذا الاعتبار ، أو نظريا على ما أسلفنا تحقيقه.

وعلى هذا. فلا يمتنع خلوّ النفس عن العلم بهذه النسبة ، مع فرض عدم التصوّر للمفردات.

(٢) فمن سلم بأن مثل هذا (٢) العلم الضّرورى لا تخلو النفس عنه مطلقا. وإنما لا تخلو (٣) عنه مع فرض تصور المفردات (٤) ، والقول بأن العلم باستحالة (٥) الجمع بين (٥) الضّدين نظرى ؛ فلا يخفى ما فيه من إنكار البديهة ، وإمكان (٦) قول ذلك (٦) في كل بديهى.

والقول بأنه يحسن الاستدلال على القائلين بالكمون ، والظهور ؛ فإنما يلزم أن لو كان استدلالا على استحالة الجمع بين الضّدين ؛ وليس كذلك ، بل على استحالة ما يعتقدونه من الكمون والظهور. بما يفضى إليه من الجمع بين الضّدين ، وفرق بين المقامين.

ومن قال من أصحابنا : إنّ العلم بكل واحد من الضّدين ضرورى : إما أن يريد به الحقيقة ، أو الوجود.

فإن أراد به الحقيقة : فلا يخفى أن العلم بحقيقة السواد والبياض ـ مثلا ـ ؛ غير ضرورى. فإنه كم من عاقل انقضى عليه الدّهر ، ولم يعلم حقيقتهما دون نظر واستدلال.

وإن أريد به العلم بوجود السّواد والبياض عينا : بمعنى الوجود الخارجى ؛ فالوجود على أصل أصحابنا لا يزيد على الحقيقة. فإذا كانت الحقيقة غير معلومة ضرورة ، فكذلك الوجود.

__________________

(١) في ب (إلى).

(٢) في ب (لمن سلم بأن هذا مثل).

(٣) في ب (لم تخل).

(٤) في ب (عدم التصورات).

(٥) في ب (اجتماع).

(٦) في ب (قول مثل ذلك).


وأما أنه هل يجوز استناد العلم الضّرورى إلى الضّرورى :؟ فقد (١) اختلف فيه أصحابنا أيضا :

فجوّزه القاضى أبو بكر محتجا عليه بأنّ العلم الضّرورى / بأمر من الأمور الخارجة عن نفس العالم به ؛ متوقّف على العلم بنفس العالم ؛ وعلم المرء بنفسه ضرورى.

وأنكره آخرون : اعتمادا منهم على أن الضّرورى لو افتقر إلى أمر آخر في حصوله ؛ لخرج عن كونه ضروريا. (٢)

والحقّ : أنه إن قيل : إنّ الضرورى يكون بعد معرفة مفردات القضيّة ؛ متوقفا على أمر يتضمنه ؛ فهو غير ضرورى ؛ فالحقّ ما قاله النفاة.

وإن أريد به ما يلازمه لا على وجه يكون متضمنا له ؛ فالحقّ ما قاله القاضى.

هذا ما عندى فيه ، وعسى [أن (٣)] يكون عند غيرى غيره.

__________________

(١) في ب (فقال).

(٢) زائد في ب (قال شيخنا أبو الحسن الآمدي).

(٣) ساقط من (أ).


الفصل الثالث

في تعلق العلم الواحد الحادث بمعلومين (١)

وقد أختلف في ذلك :

فمذهب الشيخ أبى الحسن الأشعرى ، وكثير من المعتزلة : أنّ العلم الواحد الحادث لا يتعلق بمعلومين على التفصيل.

وذهب بعض أصحابنا : إلى جواز ذلك مطلقا (٢).

ومن أصحابنا : من فصل بين العلم الضّرورى ، والنّظرى : فجوّز ذلك في العلم الضّرورى دون النّظرى : كالشّيخ أبى الحسن الباهلى (٣).

والّذي ارتضاه القاضى أبو بكر ، وأبو المعالى (٤) : أنّ كل معلومين يتصوّر العلم بأحدهما مع إمكان عدم العلم بالآخر : كالسّواد ، والبياض ، والقديم ، والحادث ، ونحوه ؛ فلا يتصوّر تعلق العلم الواحد الحادث بهما.

وكل معلومين لا يتصوّر فرض العلم بأحدهما (٥) ؛ مع إمكان عدم العلم بالآخر : كالعلم بالعلم بالشيء ، والعلم بذلك الشيء ، فإنّه لا يتصوّر العلم بالشيء مع إمكان عدم العلم بالعلم بذلك الشيء وكذلك بالعكس ، وكالعلم بمماثلة أحد الشيئين للآخر ، مع العلم بمماثلة الآخر له ؛ فإنّه لا يتصوّر انفكاك العلم بأحدهما عن العلم بالآخر ، وكذلك في طرق المضادة والمخالفة ؛ بل وكالعلم بالنسبة الواقعة بين المفردات إيجابا وسلبا ؛ فإنه لا يمكن انفكاكه عن العلم بالمفردات : كالعلم بأن الإنسان حيوان ، وأنه ليس بحجر ؛ فلا بد وأن يكون العلم بهما واحدا.

__________________

(١) انظر المحصل للرازى ص ٧٠ والمواقف للإيجي ص ١٤١ ، ١٤٢ ، وشرح المقاصد للتفتازانى ١ / ١٧٢ ، ١٧٣.

(٢) منهم عبد القاهر البغدادى انظر أصول الدين ص ٣٠ ، ٣١.

(٣) الشيخ أبو الحسن الباهلى : من أشاعرة الطبقة الأولى. تلميذ إمام أهل السّنة أبى الحسن الأشعرى ، وأستاذ أبى إسحاق الأسفرايينى ، والقاضى الباقلانى.

(٤) وهذا الرأى هو الّذي ارتضاه الآمدي أيضا.

(٥) في ب (بآخر).


أما المذهب الأول :

فحجته أنه لو جاز أن يتعلق العلم الواحد الحادث (١) بمعلومين ، لجاز أن يتعلق بثالث ، ورابع إلى ما لا يتناهى. ويلزم من ذلك أن يكون الواحد (٢) منا عالما ـ بعلم واحد ـ بمعلومات لا تتناهى ؛ وهو ممتنع.

أما المذهب الثانى :

فحجته أنه لا مانع من تعلّق العلم الواحد (٢) إذا كان قديما بمعلومات متعدّدة ؛ فكذلك العلم الحادث ؛ فإن أحكام العلل مما لا تختلف شاهدا ، وغائبا.

وأما المذهب الثالث :

القائل بالتفصيل بين الضّرورى ، والنّظري ؛ فحجّته في جواز تعلق العلم الضّرورى ، بمعلومين ما هو حجّة من قبله.

وحجّته في امتناع تعلّق العلم النّظرى بمعلومين ؛ أنّ كل واحد من المعلومين ؛ فالعلم به نظرى على ما وقع فيه (٣) الفرض. والعلم النّظرى متوقّف على النّظر ، ويلزم من ذلك اجتماع النّظرين المفضيين إلى العلم بالمعلومين. وكل نظرين (٤) صحيحين ؛ فهما متماثلان ، وكل متماثلين (٤). متضادان ـ على ما يأتى في قاعدة النّظر (٥) فصل المتماثلات ـ واجتماع الضّدين محال.

وأما المذهب الرابع :

وهو مذهب القاضى أبى بكر. فحجّته في الطرف الأول من وجهين :

الأول : أنه لو جاز تعلّق علم واحد حادث بمعلومين ، يتصوّر العلم بأحدهما مع إمكان عدم العلم بالآخر ؛ لانقلب الجائز مستحيلا ؛ وذلك محال.

__________________

(١) في ب (منا عالما بعلم واحد).

(٢) من أول (منا عالما ـ بعلم واحد ...) ساقط من (ب).

(٣) في ب (به).

(٤) من أول (صحيحين فهما ...) ساقط من (ب).

(٥) الأصح قاعدة العلم وهذا سهو من الناسخ.

انظر الفصل الخامس في اختلاف العلوم وتماثلها ل ١٠ / ب.


وبيانه : أنّ العلم بالسّواد مثلا ، مما يجوز انفكاكه عن العلم بالبياض ؛ فلو كان العلم المتعلق بهما واحدا ؛ لما تصوّر انفكاك العلم بأحدهما عن العلم بالآخر ؛ وذلك محال ؛ لما فيه من انقلاب الجائز ممتنعا.

الثانى : أنه لو جاز أن يكون العلم الموجب لكون العالم عالما بالسواد ، وعالما بالبياض واحدا ـ مع الاتفاق على تجويز أن يكون مختلفا ـ ؛ لكانت الصّفة الواحدة موجبة لما توجبه الصفات المختلفة من الأحكام. ولو جاز ذلك ؛ لجاز وجود صفة واحدة توجب ما يوجبه العلم والقدرة ، من كون العالم عالما ، والقادر قادرا ؛ وذلك (١) محال.

وحجته في الطرف الثانى من وجهين أيضا :

الوجه الأول : أنه إذا علم الواحد منا شيئا (٢) : فإما أن يكون عالما بعلمه بذلك الشيء أولا. لا جائز أن يكون غير عالم به ؛ وإلا لساغ أن يقال : إنّ الواحد منا عالم بجميع المعلومات ؛ ولكنه لا يشعر بكونه عالما : ولا يخفى أنّ حصول علم (٣) الإنسان (٣) وهو لا يشعر به ، محال.

وإن كان عالما بعلمه بذلك الشيء : فإما أن يكون علمه بعلمه بذلك الشيء ، هو علمه بذلك الشيء ، أو غيره.

لا جائز أن يقال بالمغايرة : وإلا كان (٤) العلم بالعلم بذلك الشيء ، غير العلم بالعلم بذلك الشيء ؛ فيلزم منه التّسلسل الممتنع.

وإن كان هو هو ؛ فهو المطلوب ؛ فإن العلم واحد ، والمعلوم مختلف ؛ وهو الشيء (٥) والعلم به (٥).

الوجه الثانى : أنه لما (٦) امتنع الانفكاك بين كون العالم عالما بالشيء ، وبين كون ذلك الشيء معلوما ، ولزم من ذلك امتناع إضافة هذين الحكمين إلى علمين يكون أحدهما / موجبا لحكم العالمية ، والآخر موجبا لحكم المعلومية ، فكذلك ـ إذا كانت

__________________

(١) في ب (وهو).

(٢) زائد في ب (فهو عالم).

(٣) في ب (العلم للإنسان).

(٤) في ب (لكان).

(٥) في ب (أو العلم بذلك الشيء).

(٦) في ب (إنما).


معلومية كل واحد من الشيئين لا تنفك عن الأخرى ـ ؛ امتنع استنادها إلى علمين ، ووجب أن يكون الموجب لهما علما واحدا.

وفي حجج هذه المذاهب نظر :

أما حجة المذهب الأول : فلقائل أن يقول : لا نسلم أنه يلزم من جواز تعلق العلم الواحد بمعلومين (١) فصاعدا على وجه يكون متناهيا ؛ جواز تعلقه بمعلومات غير متناهية (١) وإن كان المحتج بها معتزليا ؛ فيلزم عليه القدرة الحادثة ؛ (٢) فإنه يجوز عنده تعلقها بمقدورين (٢) فصاعدا مع اتحادها ، وما لزم من ذلك جواز تعلقها بمقدورات غير متناهية ـ وإن كان ذلك غير ممتنع في القدرة ـ ؛ فمثله في العلم من غير فرق.

وأما حجة المذهب الثانى : فلا يخفى أنها قياس تمثيلى ، وإلحاق شاهد بغائب من غير دليل جامع ؛ فتكون باطلة. (٣)

ثم تلزم ـ على من احتج بذلك من أصحابنا ـ القدرة الحادثة ، فإنها لا تتعلق بأكثر من مقدور واحد على أصلنا ـ كما يأتى ـ وما لزم من جواز تعلق قدرة الرب ـ تعالى ـ بمقدورين فصاعدا ؛ جواز ذلك في القدرة الحادثة ؛ ولا يخفى تعذر الفرق بين العلم والقدرة.

وأما حجة المذهب الثالث : على جواز تعلّق العلم الضّرورى بمعلومين مع اتحاده ؛ فهى حجة المذهب الثانى ، وقد عرف ما فيها.

وأما حجّته على امتناع تعلّق العلم النّظرى بمعلومين : فإنما يلزم أن لو امتنع تعلق العلم الواحد بمعلومين بناء على نظر واحد ؛ وهو غير مسلم.

وأما الحجة الأولى على الطّرف الأول من المذهب الرابع : وهو مذهب القاضى أبو بكر ، فإنما تلزم أن لو قيل بجواز انفكاك العلم بالسّواد عن العلم بالبياض مطلقا ؛ وليس كذلك ؛ بل لقائل أن يقول : إنّما يجوز الانفكاك أن لو علمنا بعلمين ، وأما إذا علمنا بعلم واحد فلا.

__________________

(١) فى ب (كتعلقه بثالث وهلم جرا. كما لا يلزم من جواز تعلقه بمعلوم واحد جواز تعلقه بمعلومين ، بل جاز أن يكون واجب التعلق بمعلومين على وجه لا يتعدى إلى الثالث. ولا يمكن الاقتصار على التعلق بأحدهما).

(٢) فى ب (وأنه يجوز تعلقهما عنده بمقدورين).

(٣) انظر ما يأتى ل ٣٩ / ب.


فإذا حالة جواز الانفكاك ، لا تجامع حالة عدم الانفكاك ؛ فلا يلزم منه انقلاب الجائز مستحيلا.

فإن قيل : إذا جاز أن يكون السّواد والبياض [معلومين (١)] بعلمين. فلو جاز أن يكونا معلومين بعلم واحد ، فكل واحد من المعلومين يجوز أن يتعلق به علم لا يجوز تعلقه بالآخر ، (٢) وعلم يجوز تعلقه بالآخر (٢) ، والعلمان : إما متماثلين ، أو غير متماثلين : فإن كان الأوّل فيلزم من تماثلهما اشتراكهما في أخصّ صفات النفس ، وأخصّ صفات نفس أحدهما : أنه لا يجوز تعلّقه بالمعلوم / الآخر. وأخصّ صفات نفس العلم الآخر (٣) جواز تعلقه بالمعلوم الآخر ؛ وذلك يجرّ إلى أن يكون كل واحد من العلمين يجوز تعلقه بالمعلوم الآخر ، ولا يجوز ؛ وهو محال.

وإن كانا غير متماثلين : فإمّا أن يكونا من قبيل ما يجوز اجتماعهما أولا :

فإن كان الأول : فيلزم منه جواز تعلّق علمين بمعلوم واحد ؛ وهو ممتنع. وإلا كان العالم بالشيء عالما به مرتين ، وعاقل ما لا يجد ذلك من نفسه. كيف وأن أحد العلمين لا يكون مفيدا ؛ ضرورة كون ما يتعلّق به معلوما.

وإن كان الثانى : فيلزم من عدم اجتماعهما ؛ استحالة اجتماع حكمهما. وإلا كان الحكم ثابتا دون موجبه ؛ وهو محال. والاجتماع بين حكمهما غير ممتنع (٤)

فلقائل أن يقول :

المختار إنّما هو القسم الثالث : وهو استحالة الجمع بين العلمين.

والقول بأنه لو استحال الجمع بين العلمين ؛ لاستحال الجمع بين حكميهما ؛ مسلم.

ولكن لا نسلّم جواز الجمع بين الحكمين ، فإنّ حكم (٥) كل واحد من العلمين : كون من قام به عالما.

وكما يمتنع الجمع بين الموجبين ، يمتنع الجمع بين الحكمين ، وإلا كان الحكم ثابتا دون موجبه ؛ وهو محال.

__________________

(١) فى أ (معلوما).

(٢) من أول (وعلم يجوز ...) ساقط من ب.

(٣) فى ب (أنه يجوز).

(٤) زائد في ب (قال شيخنا أبو الحسن الآمدي).

(٥) فى ب (علم).


والحكمان المجتمعان ، فأحكام العلوم المجتمعة لا غير. كيف وأنا لا نسلم أنّ كون العالم عالما ؛ يزيد على قيام العلم به ، حتى يقال بالموجب والحكم.

وأما الحجة الثانية على الطّرف الأول : فإنما (١) تلزم أن لو امتنع على الصّفة الواحدة أن توجب ما توجبه الصّفات المختلفة ، ولا يلزم من امتناع ذلك في بعض الأحكام كالعالميّة ، والقادريّة ـ مع الاختلاف ـ امتناع ذلك مطلقا ، إلا أن يبين الاشتراك في دليل المنع ؛ ولا سبيل إليه.

كيف وأنه قد (٢) لا نسلم أن ثمّ موجبا وحكما ، على ما تقرر (٣) قبل هذا ، فلا يصحّ الاشتراك (٤).

وأما الحجّة الأولى على الطّرف الثانى : ففى غاية الحسن والقوّة ؛ لكن لقائل أن يقول : الكلام إنّما هو في جواز تعلق العلم الواحد بمعلومين ، وتعلّق العلم بنفسه نسبة وإضافة ، بين العلم ونفسه ، وذلك يستدعى التغاير بين العلم ونفسه ؛ وهو محال ؛ (٥) فلا تعلّق للعلم بنفسه.

وقول القائل : نفسه وذاته ـ وإن كان صحيحا ـ ؛ فنسبة في اللفظ دون المعنى (٥).

وأما الحجّة الثانية : فحاصلها أيضا يرجع إلى قياس تمثيلى ، من غير دليل عقلى موجب للاشتراك في الحكم ؛ فلا يصح (٦).

كيف ولقائل أن يقول في الفرق : إنّ العلم يستدعى وجود المعلوميّة ، والعالميّة ولا يستدعى وجود معلومتين / ؛ فلا يلزم من امتناع إسناد المعلومية والعالمية إلى علمين ؛ امتناع استناد المعلومين إلى علمين. وإن اشترك كل واحد من القائلين في عدم الانفكاك.

وبالجملة : فأقرب هذه المذاهب. إنّما هو مذهب القاضى ؛ فعليك بالاجتهاد في تحقيقه.

__________________

(١) فى ب (فإنه).

(٢) فى ب (قال).

(٣) فى ب (ما يعرف).

(٤) فى ب (الاستدلال).

(٥) فى ب (فلا يتعلق العلم بنفسه ومعنى كون الواحد عالما بعلمه لا يزيد على قيام علمه بنفسه وقوة القائل بنفسه وإن كان ظاهره نسبة الشيء إلى نفسه إلا أنه مجاز لا حقيقة له).

(٦) انظر ما يأتى ل ٣٩ / أ.


الفصل الرابع

في جواز تعلق علم بمعلوم ، أو معلومات على الجملة (١)

وقد اختلف في ذلك :

فذهبت المعتزلة ، والقاضى أبو بكر : إلى تجويزه.

وذهب كثير من أصحابنا ، وابن الجبائى ـ فى بعض أقواله ـ إلى المنع من ذلك.

وصورة المسألة : العلم بأن رجلا في الدار ؛ مع قطع النظر عن تمييزه ، وأن معلومات الله ـ تعالى ـ لا تتناهى ؛ مع قطع النّظر عن تفاصيلها. (٢) وقبل الخوض في التصحيح والإبطال ؛ لا بدّ من تلخيص محل النزاع.

فنقول : لا خفاء بأن المفهوم من العلم بأنّ معلومات الله ـ تعالى ـ غير متناهية ، وأن في الدّار رجلا ؛ غير المفهوم من العلم بتفاصيل المعلومات ، وتمييز الرجل عن غيره.

فعلى هذا : العلم بالجملة : إما أن يراد به : العلم بعدم النهاية في معلومات الرّب ـ تعالى ـ ويكون الرّجل في الدّار ، غير (٣) مشروط بملازمة الجهل (٣) بتفاصيل المعلومات ، وتمييز الرّجل [عن غيره (٤)] ؛ او العلم بذلك مشروط بملازمة الجهل بالتفاصيل والتمييز.

فإن كان الأول : فالعلم بالجملة غير مناف للعلم بالتفصيل والتمييز ؛ وهو غير ممتنع ، لا في حق القديم ، ولا في حق الحادث ، على ما لا يخفى. وسواء انفرد في حق الحادث العلم بالجملة عن العلم بالتفصيل ، أو لم ينفرد.

وإن كان الثانى : فالعلم بالجملة غير متصوّر في حق الله ـ تعالى ـ ؛ لما فيه من لزوم الجهل في حقّه ومتصوّر في حقّ المخلوق ؛ فإنّه لا يبعد علمنا بأنّ معلومات الله ـ تعالى ـ غير متناهية ، مع جهلنا بتفاصيلها.

__________________

(١) انظر المحصل للرازى ص ٧٠ ، ٧١ والمواقف للإيجي ص ١٤٤.

(٢) زائد في ب (قال شيخنا أبو الحسن الآمدي).

(٣) فى ب (مشروطة بملازمة الجملة).

(٤) ساقط من (أ).


فإن قيل : إذا جوّزتم تعلّق العلم الحادث بالمعلوم بهذا الاعتبار : فإما أن تجوزوا على الله ـ تعالى ـ العلم بما علمه العبد ـ على ما علمه (١) ـ أولا : فإن جوّزتم ذلك ، لزم الجهل في حقّ الله ـ تعالى ـ بالتّفاصيل (٢) ؛ وهو محال ، وإن لم تجوّزوا ذلك : فقد (٣) أوجبتم على الله ـ تعالى ـ الجهل بما علمه العبد ؛ وهو أيضا محال.

وأيضا : فإنّ العلم بالجملة بهذا الاعتبار لا يجامع العلم بالتّفصيل. وعند ذلك : فإما أن يكونا متضادّين ، أو غير متضادّين :

لا جائز أن يقال بالأول : إذ هو خلاف مذهبكم في العلوم المختلفة.

ولا جائز أن يقال بالثانى : وإلا لما تعذّر الاجتماع ؛ وهو خلاف الفرض.

وأيضا : فإن العلم بالمعلوم على الجملة / بهذا الاعتبار ؛ إذا كان لا ينفكّ عن الجهل بالتفصيل : فإمّا أن يكون العلم بالجملة هو الجهل بالتّفصيل ، أو غيره.

فإن كان الأول : فيلزم أن يكون العلم جهلا ؛ وهو محال.

وإن كان الثّاني : فلا ـ يمتنع أن يكون الأمر بالشيء ، غير النهى عن أضداده.

وإن كان لا ينفك الأمر بالشيء عن النهى عن أضداده ؛ ولم يقولوا به.

وهذه المحالات ، إنّما لزمت من القول بتعلق العلم الحادث بالمعلوم على الجملة بالاعتبار المذكور ؛ فيكون محالا.

والجواب عن الإشكال الأول : أنه لا يمتنع سلب العلم عن الله ـ تعالى ـ بما علمه العبد ؛ إذا كان إثبات ذلك العلم يجرّ إلى الجهل في حقّ الله ـ تعالى ـ ؛ بل سلبه واجب ، نفيا للجهل عنه. والعلم بالجملة بهذا الاعتبار يلازمه الجهل ؛ فكان ممتنعا في حقّ الله ـ تعالى ـ.

__________________

(١) فى ب (ما).

(٢) فى ب (فى التفاصيل).

(٣) فى ب (فإن).


وعن الثانى : أن العلم على الجملة غير مضاد للعلم بالتّفصيل ؛ بل يلازمه الجهل بالتّفصيل ، والجهل بالتّفصيل مضادّ للعلم بالتّفصيل ؛ فكان امتناع الجمع بين العلم بالجملة ، والعلم بالتفصيل لا لتضادهما ؛ بل لملازمة ضدّ العلم بالتفصيل ؛ للعلم بالجملة.

وعن الثالث : أنّه إنما (١) يلزم أن يكون العلم بالجملة (٢) جهلا بالتّفصيل ، وأن لو تلازما لزوما متعاكسا كما في الأمر بالشّيء ، والنّهى عن اضداده ؛ وليس كذلك ؛ فإنّ العلم على الجملة ، وإن لازمه الجهل بالتّفصيل ؛ فالجهل بالتفصيل ، لا يلازمه العلم (٣) بالجملة (٣) ، فافترق البابان.

__________________

(١) ساقط من (ب).

(٢) فى ب (على الجملة).

(٣) فى ب (على الجملة).


الفصل الخامس

في اختلاف العلوم وتماثلها (١)

وكل علمين تعلقا بمعلومين فهما مختلفان. وسواء تماثل (٢) المعلومان كبياضين ، أو اختلفا ؛ كسواد ، وبياض (٢).

واحتج بعض الأصحاب (٣) عليه بأن (٣) العلم بأحد المعلومين ، لا يقوم (٤) مقام الآخر ، ولا يسدّ مسدّه (٤) ؛ وإلا كان العلم بأحد البياضين علما بالآخر ، والعلم بالبياض علما بالسّواد ؛ وهو محال.

ويلزم عليه البياضان ، والسوادان ، فإنهما متماثلان. وما لزم من تماثلهما أن يكون أحدهما هو الآخر ، فكذا لا يلزم من تماثل العلمين ، أن يكون العلم بأحد المعلومين ، هو العلم بالمعلوم الآخر. (٥)

والأقرب في ذلك أن يقال :

لو لم يختلفا ؛ لتماثلا ؛ ولو تماثلا ؛ لما اجتمعا. إذ المثلان على ما يأتى متضادان. ولهذا فإنه يمتنع اجتماع بياضين [أو (٦)] سوادين في محل واحد ، وكل علمين تعلقا بمعلوم واحد فإن (٧) اتحد المعلوم ووقته ومحل العلمين واحد ؛ فالعلمان متماثلان (٧) ؛ لقيام كل واحد منهما مقام الآخر ، فإن كل واحد منهما ـ وهو علم ـ يعين ما هو معلوم الآخر.

وأمّا إن اتحد محلّ العلمين واختلف وقت المعلوم بالعلمين : بأن كان أحد العلمين متعلّقا به في وقت ، والآخر في وقت آخر.

__________________

(١) انظر المحصل للرازى ص ٧١ والمواقف للإيجي ص ١٤٦ وشرح المقاصد للتفتازانى ١ / ١٧٣.

(٢) فى ب (المعلومين كالبياضين أو اختلفا كالسواد والبياض).

(٣) فى ب (لذلك فان).

(٤) فى ب (على الآخر ولا سد مسده).

(٥) زائد في ب (قال شيخنا أبو الحسن الآمدي).

(٦) فى أ (و).

(٧) فى ب (فهما على رأى الأصحاب متماثلان وسواء اتحد وقت المعلوم أو اختلف ، أو اتحد محل العلمين أو اختلف. ولهم فيما إذا اختلف محل العلمين خلاف. قال شيخنا أبو الحسن الآمدي والحق إن اتحد المعلوم ووقته فالعلمان متماثلان).


فقد قيل : اختلاف الوقت لا يؤثّر في اختلاف العلمين ، كما لا يؤثّر اختلاف الوقت وتقدمه وتأخره في اختلاف الجوهرين ؛ وليس كذلك ؛ فإن المعلوم فيما نحن فيه ليس من حيث هو جوهر ، أو عرض من الأعراض فقط ؛ بل مقيدا بوقت معين ؛ فإنّ المفهوم من كون الجوهر معلوما في وقت كذا ؛ غير المفهوم من كونه معلوما في وقت غير ذلك الوقت.

وإذ اختلف المعلومان : فقد بان أنه يلزم منه إختلاف العلمين. اللهم إلا أن ينظر إليه من حيث هو جوهر ما ، أو عرض ما ، ويقطع / النظر عما وقع فيه (١) الاختلاف من الوقت ؛ فالمعلوم (٢) يكون واحدا ، والعلمان المتعلقان به متماثلان.

وأما إذا اختلف محل العلم ، واتّحد وقت المعلوم : كالعلم القائم بزيد ، والعلم القائم بعمرو.

قال الأصحاب :

فإن قلنا : إنّ كلّ واحد من العلمين ، اقتضى لذاته أن يكون مختصّا بذلك المحل دون غيره ، فهما مختلفان ، وإلا فهما متماثلان.

وهو (٣) غير سديد ، فإنّهما لو تماثلا ؛ لتضادا على أصول أصحابنا ، ولو تضادا ؛ لما اجتمعا ، ولا مانع من اجتماعهما (٣).

وعلى هذا فما كان من العلوم متماثلا ؛ فهى متضادة.

وما كان منهما مختلفا ؛ فقد اختلف أصحابنا في تضادها.

والّذي عليه المحصّلون (٤) : أنها غير متضادة ؛ فإنه ما من علمين مختلفين إلا ويتصور الجمع بينهما نظرا إلى الاستقراء. وما يمتنع فيه الجمع بين المختلفات فليس (٥) لذواتها ؛ بل بالنظر إلى جرى العادة (٥).

وبالجملة : فالقول بنفى التّضاد بين العلوم المختلفة حتى لا يوجد منها ضدان ، أو إثباته غير يقينى ، إذ لا يساعد عليه دليل قطعى ، غير النظر إلى السبر ، والاستقراء الناقص (٦) ؛ وليس بقطعى (٧).

__________________

(١) فى ب (به).

(٢) فى ب (فالمعنى).

(٣) فى ب (وسيأتى تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى).

(٤) فى ب (المحققون).

(٥) فى ب (لذواتهما بل بجرى العادة).

(٦) انظر ل ٣٨ / أ ، ٣٩ / أ ، ب.

(٧) فى ب (بدليل قطعى).


الفصل السادس

في العلم بالشيء من وجه والجهل به من وجه (١)

وقد اختلف في ذلك :

فقال بعض أصحابنا : بجوازه ؛ فإنّه من علم وجود الجوهر ، وجهل تحيّزه ؛ فقد علم الشيء من وجه وجهله من وجه.

وقال القاضى أبو بكر : المعلوم من حيث هو معلوم يمتنع أن يكون مجهولا من وجه. ومن علم وجود الجوهر ؛ فمعلومه من حيث هو ذات ما ليس مجهولا من وجه ، والمجهول من التحيّز فأمر (٢) زائد على معلومه ؛ والمعلوم (٢) غير المجهول. أما أن يكون الشيء الواحد معلوما من وجه ومجهولا من وجه فلا (٣).

ومن أراد أن يكون الشّيء مجهولا من وجه ، ومعلوما من وجه ما ذكرناه ، فهو متجوّز ، ولا منازعة معه في غير الإطلاق والعبارة. والحقّ ما ذكره القاضى.

ثم اتفق المتكلمون على امتناع العلم بوجود شيء ، والجهل بوجود ذلك الشيء وأن يكون الشّيء مجهولا من جهة ما كان معلوما. وهذا إنّما يتم تحقيقه أن لو اتحدت جهة العلم والجهل من القوة والفعل ؛ بأن يكون معلوما مجهولا بالفعل ، أو بالقوة.

وأما إن اختلفت الجهتان : فلا يمتنع أن يكون الشّيء معلوما بالقوة ، مجهولا بالفعل مع اتحاده : وذلك كما إذا علمنا علما كلّيا عاما : أنّ كل اثنين فهو زوج ، واتفق أن كان ما في يد زيد اثنان فقد علمنا كونه زوجا بالقوة ؛ لدخوله تحت عموم القضية الكلية.

وإذا جهلنا اثنيته : فقد جهلنا كونه زوجا بالفعل ؛ فالعلم به بالقوة ؛ للعلم بالقضية الكلية. والجهل به بالفعل ؛ للجهل بالقضية الجزئية.

__________________

(١) انظر المحصل للرازى ص ٧٠ ـ ٧١ والمواقف للإيجي ص ١٤٥.

(٢) فى ب (بأمر زائد على معلومه فالمعلوم).

(٣) فى ب (فلذا قال شيخنا أبو الحسن الآمدي).


الفصل السابع

في امتناع وجود علم لا معلوم له (١)

وقد اتفق العقلاء على امتناع وجود علم لا معلوم / له

وخالفهم أبو هاشم (٢) : فى العلم المتعلّق بالمستحيلات ؛ طردا لتحديد الشيء بأنه المعلوم ، فقال : العلم بامتناع اجتماع الضّدين ، (٣) وانتفاء شريك الإله (٣) ـ تعالى ـ ، وامتناع كون الجزء مساويا للكل ، ونحو ذلك ؛ علم لا معلوم له. مع موافقته على تعلق العلم بالمستحيلات ، وكوننا عالمين بها. فقد وافق في المعنى ، وخالف في اللفظ ؛ فإنّه لا معنى لكونها معلومة غير تعلّق العلم بها. وإلا فكيف يتصوّر وجود علم لا معلوم له؟ مع أن العلم والمعلوم من قبيل المتضايفين اللذين لا تعقّل لكل واحد منهما إلا مع تعقّل الآخر.

ولو ساغ ذلك ؛ لساغ القول بوجود معلوم بلا علم ولا عالم ، ووجود علم ولا عالم ، وذكر ولا مذكور ، وقدرة ولا مقدور ، إلى غير ذلك ؛ ولم يقل به قائل. وكل ما يتخيل في منع الانفكاك في هذه الصور ؛ فهو لازم فيما نحن فيه.

وقد قيل في إبطاله أيضا : أنّ العلم باستحالة اجتماع الضدين ؛ علم بالضدين ؛ وهما معلومان. والعلم باستحالة وجود شريك البارى ـ تعالى ـ علم بوجود البارى ؛ وهو معلوم. وكذا العلم بكل استحالة لا بدّ وأن يكون العلم فيها متعلقا بمعلوم ؛ فإطلاق القول بأنّ علما لا معلوم له محال ؛ لكنه (٤) مبنى على القول بأن كلّ أمرين لا يتصور (٥) العلم بأحدهما (٦) ، مع الجهل بالآخر ؛ فالعلم بهما واحد ؛ وقد عرف (٧) ما فيه.

ثم لو قال أبو هاشم : المراد بهذا الإطلاق : أنّه ليس كل ما تعلق به العلم يكون معلوما ، كالاستحالة لا غيرها ؛ لاندفعت هذه المؤاخذة اللفظية.

__________________

(١) انظر المحصل للرازى ص ٧١ ـ ٧٢. والمواقف للإيجي ص ١٤٧ ، ١٤٨.

(٢) عبد السّلام بن محمد بن عبد الوهّاب الجبائى (أبو هاشم) من شيوخ المعتزلة وإليه تنسب الطائفة (البهشمية) ، له آراء انفرد بها ، وله مصنفات في الاعتزال ، وكان أبوه شيخا للجبائية التى نسبت إليه. ولد ببغداد سنة ٢٤٧ ه‍ وتوفى بها سنة ٣٢١ ه‍. (وفيات الأعيان ٢ : ٥٣ ، الأعلام ٤ : ١٣٠).

(٣) فى ب (والشريك لله).

(٤) فى ب (ولكنه).

(٥) فى ب (يتصور).

(٦) فى ب (بآخر).

(٧) فى ب (عرفت). انظر ل ١٠ / ب.


الفصل الثامن

في محل العلم الحادث وأنه لا بقاء له (١)

أما محل العلم :

فاعلم أن العلم ينقسم : إلى ما يتعلق بالكليات : وهى المعانى المشتركة بين الجزئيات المجرّدة عن المخصصات (٢) الموجبة للتشخيص : كالعلم بحقيقة الجسم من حيث هو جسم ، وهو ما يصلح لاشتراك الأجسام المشخّصة فيه. وإلى العلم بالجزئيات التى لا يصلح معناها لاشتراك كثيرين فيها : كالعلم بهذا الجسم وهذا الجسم ، ونحوه. فما كان من القسم الأول :

فقد قالت الفلاسفة إنّ محله النفس (٣). وسيأتى تحقيق معنى النفس فيما بعد. وما كان من القسم الثانى :

فمحله قوى جسمانية قائمة بأجزاء خاصة بالبدن ، وتلك القوى منقسمة إلى ظاهرة ، وإلى (٤) باطنة :

فأما القوى الظاهرة : فهى الحواس الخمس الظاهرة وهى : السمع ، والبصر ، والشمّ ، والذّوق ، واللّمس (٥).

فالسمع : عبارة عن [قوّة (٦)] مرتبة في عصبة سطح الدّماغ (٧) بصماخ (٧) الباطن من الأذن (٧). من شأنها إدراك ما يتأدّى / إليها من الأصوات الحادثة بواسطة تموّج الهواء.

والبصر : فعبارة عن قوة مرتّبة في العصبة المجوفة من العين من شأنها إدراك ما ينطبع في الرّطوبة الجليديّة من أشباح الأجسام ذوات الألوان المضيئة ، والمستنيرة بواسطة الأجسام المشفة.

__________________

(١) انظر التمهيد للباقلانى ص ٣٦ ـ ٣٨ وأصول الدين للبغدادى ص ٩ ، ١٠ والمواقف للإيجي ص ١٤٨ وشرح المقاصد للتفتازانى ١ / ١٧٣.

(٢) فى ب (المشخصات).

(٣) انظر الإشارات والتنبيهات لابن سينا القسم الثانى ـ النمط الثالث ص ٣٠٥ وما بعدها.

(٤) (إلى) ناقصة من ب

(٥) انظر المواقف ص ١٤٣.

(٦) فى أ (قوى).

(٧) فى ب (من الآذان).


والشمّ : فعبارة عن قوة مرتبة في زائدتي مقدّم الدّماغ ، من شأنها إدراك ما يتأدى إليها من (١) الرائحة بواسطة الهواء المستنشق.

والذوق : فعبارة عن قوة منبثة في العصبة المنبسطة على السطح الظاهر من اللسان ، من شأنها أن (٢) تدرك ما يرد عليه من الطعوم ، بتوسط ما فيه من الرطوبة الغذائية.

واللّمس : فعبارة عن قوة منبثة في كل البدن من شأنها (٢) إدراك ما ينفعل عنه (٣) البدن من الكيفيات الملموسة.

وأما القوى الباطنة (٤) : فهى خمس أيضا : وهى المعبر عنها بالحس المشترك والمصورة ، والمتخيلة ، والوهمية ، والحافظة.

أما الحسّ المشترك : فعبارة عن قوة مرتبة في مقدم التجويف الأول من الدماغ ، من شأنها إدراك ما يتأدى إليها من الصور المنطبعة في الحواس الظاهرة.

وأما المصوّرة : فعبارة عن قوة مرتبة في مؤخر التجويف الأول من الدماغ ، من شأنها حفظ ما يتأدى إلى الحس المشترك من الصور.

وأما المتخيّلة : فعبارة عن قوة مرتبة في مقدم التجويف الأوسط من الدماغ ، من شأنها (٥) الحكم على ما في المصورة بالاتفاق والافتراق.

وأما الوهميّة : فعبارة عن قوة مرتبة في مؤخر التجويف الأوسط من الدماغ ، من شأنها (٥) إدراك المعانى الغير (٦) محسوسة من المعنى المحسوس (٦) : كالمعنى الّذي تدركه الشاة من الذئب موجبا لنفرتها منه.

وأما الحافظة : فعبارة عن قوة مرتبة في التجويف الأخير من الدّماغ من شأنها حفظ ما أدركته الوهمية ،

وزعم بعض متفلسفة المتأخّرين أن المدرك للكليات والجزئيات : إنّما هو النفس والقوى الظاهرة والباطنة غير مدركة ؛ بل آلة في إدراك النّفس لهذه المدركات.

__________________

(١) ساقط من ب.

(٢) من أول (أن تدرك ما يرد عليه من الطعوم ....) ساقط من ب.

(٣) فى ب (منه).

(٤) انظر الإشارات لابن سينا ج ٢ ص ٣٤٦ ـ ٣٥٨.

(٥) من أول (الحكم على ما في المصورة ...) ساقط من ب.

(٦) فى ب (المحسوسة من المعانى المحسوس).


وأما أصحابنا : فالبنية المخصوصة عندهم غير متوسطة كما يأتى ؛ بل كل جزء من أجزاء بدن الإنسان إذا قام به إدراك أو علم ؛ فهو مدرك عالم به ، وهل ذلك مما يقوم بالقلب أو غيره؟ فمما لا يجب عقلا ، ولا يمتنع. لو لا دلّ الشّرع عليه بقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) (١). وقوله : (فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ / آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها) (٢). وقوله : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) (٣).

وأما الكلام على وجود النّفس وكونها مدركة للكليات دون الجزئيات : فسيأتى فيما بعد.

وأما أنّ العلم غير باق :

فمما اختلف فيه أيضا :

والّذي عليه إجماع المعتزلة : بقاء العلوم الضّرورية والمكتسبة التى لا يتعلق بها التكليف. وأما العلوم المكتسبة المكلف بها : فقد قال الجبّائى (٤) : إنها غير باقية. وإلا كان المكلف بها حال بقائها غير مطيع ، ولا عاص ، ولا مثاب ، ولا معاقب ؛ مع تحقق التكليف ؛ وهو خلاف أصلهم في لزوم (٥) الثواب والعقاب عل ما كلف به بتقدير الفعل أو الترك ، حتى إنه طرد ذلك في كل عرض مقدور يتعلق به التكليف.

وخالفه أبو هاشم في ذلك. وأوجب بقاء العلوم مطلقا.

وأما أصحابنا : فإنهم قضوا باستحالة بقائها لكونها أعراضا. وسيأتى تحقيق ذلك في استحالة بقاء الأعراض إن شاء الله تعالى (٦).

__________________

(١) سورة ق ٥٠ / ٣٧.

(٢) سورة الحج ٢٢ / ٤٦.

(٣) سورة محمد ٤٧ / ٢٤.

(٤) محمد بن عبد الوهّاب بن سلام بن خالد الجبّائى ، البصرى ، المعتزلى (أبو على) متكلم ، مفسر ولد بجبّى بخوزستان سنة ٢٣٥ ه‍ وإليه تنسب الطائفة الجبائية. كان أستاذا للأشعرى قبل تحوله عن مذهب المعتزلة. توفى بالبصرة سنة ٣٠٣ ه‍. (وفيات الأعيان ٣ / ٣٩٨ ، البداية والنهاية ١١ / ١٢٥ ، الاعلام ٧ / ١٣٦).

(٥) فى ب (ان).

(٦) انظر الجزء الثانى من الأبكار ل ٤٤ / ب.


الفصل التاسع

في أضداد العلم الحادث وأحكامها (١)

وأضداد العلم الحادث : الجهل ، والشّك ، والظّن ، والغفلة ، والذهول ، والنّوم ، والنّظر ، والموت.

أما الجهل : فقد يطلق على بسيط ومركب : (٢)

أما البسيط : فهو عدم العلم فيما من شأنه أن يكون عالما (٣) ، لا عدم العلم مطلقا ، وإلا لوصفت الجمادات بكونها جاهلة ؛ إذ هى غير عالمة. وعلى هذا : فالجهل بهذا الاعتبار إثبات عدم ، لا أنه صفة إثبات.

والفرق بين الأمرين ظاهر.

وعلى هذا ، فلا يخفى أنّ التقابل وامتناع (٤) الجمع بين العلم والجهل بهذا الاعتبار ؛ لذاتيهما ، لا لأمر خارج عنهما. وبه يظهر إحالة قول من أخرج الجهل بهذا الاعتبار عن أضداد العلوم. إلا أن يشترط في الضد أن يكون ذاتا.

وأما الجهل المركّب : فقد قيل فيه : إنّه عبارة عن اعتقاد المجهول على خلاف ما هو عليه. لا على خلاف كونه مجهولا. وإلا لخرج عن كونه مجهولا ؛ بل على خلاف ما اعتقد به ؛ وهو غير سديد ؛ لما فيه من تعريف الجهل بالمجهول ، وهو أخفى من الجهل ؛ لكونه مشتقا منه.

فالأولى فيه أن يقال : الجهل : هو اعتقاد المعتقد على خلاف ما المعتقد عليه في نفسه. ولا يخفى أنّ لفظ المعتقد يعمّ الموجود والمعدوم الّذي ليس بشيء ؛ فكان أولى من لفظ الشيء.

وهذا مما لا خلاف في كونه ضدا للعلم.

__________________

(١) انظر شرح المقاصد للتفتازانى ١ / ١٦٩ ، ١٧٠.

(٢) انظر المواقف للإيجي ١٤٢ ، ١٤٣.

(٣) فى ب (له العدم).

(٤) فى ب (بامتناع).


وأما أحكام الجهل :

فمنها : أنه غير مقدور التحصيل للعبد بنظر واستدلال ، وسواء كان بسيطا ، أو / مركّبا ؛ فإنّ النظر إن كان صحيحا ، فهو يتضمّن العلم لا الجهل. وإن لم يكن صحيحا فلا (١) يتضمن الجهل كما يأتى ؛ بل المقدور بالنظر والاستدلال [رفعه (٢)] بأن يحاول الناظر (٣) نظرا صحيحا يفضى به إلى العلم الّذي هو ضده ؛ فيرتفع.

فإذن جهل العبد حاصل له بخلق الله ـ تعالى ـ له ذلك من غير نظر واستدلال. وزعم بعض الناس : أنّه لا قدرة لله ـ تعالى ـ على خلق الجهل ؛ لأنه عالم بجميع مقدوراته ، فلو كان قادرا على فعل الجهل لغيره ؛ لكان عالما [به (٤)] ، وخرج الجهل عن كونه جهلا ، أو كان عالما بما هو جاهل به ؛ وهو ممتنع.

وهو غير سديد ؛ فإن من فعل الجهل لغيره لا يلزم أن يعود إليه حكمه حتى يكون جاهلا به. فإنّما يعود حكمه إلى من هو قائم به ؛ بل الفاعل له يكون عالما به على ما هو عليه من كونه جهلا. ومن علم الجهل على ما هو عليه ؛ لا يكون جاهلا. ثم لو عاد إلى الله ـ تعالى ـ حكم الجهل بسبب خلقه الجهل في العبد حتى يوصف بكونه جاهلا ؛ لعاد إليه حكم الغفلة ، والسّهو ، والعجز ؛ بسبب خلقه لذلك في العبد باتفاق المسلمين. ووصف بكونه غافلا ، وساهيا ، وعاجزا ؛ وهو ممتنع.

وأما حكم الجهل في جواز تعلّق الواحد منه بمجهولين ، وجواز الجهل بشيء واحد من وجه دون وجه ، واختلاف الجهالات ، وتماثلها وامتناع وجود جهل لا مجهول له ، وامتناع بقائه وتعيّن محله ؛ فعلى ما سبق في العلم (٥) الحادث. والاختلاف في كلّ مقام كالاختلاف في العلم ، والاحتجاج كالاحتجاج في المزيّف والمختار. ومن أحكامه أنّ الجهل هل هو مثل العلم أم لا؟

أما الجهل البسيط : فلا خلاف في كونه ليس مثلا للعلم ؛ فإنّ عدم الشيء لا يكون مثلا لذلك الشيء.

__________________

(١) فى ب (فإنه).

(٢) فى أ (يرفعه).

(٣) فى ب (النظر).

(٤) ساقط من أ.

(٥) انظر ل ٨ / أوما بعدها.


وأما الجهل المركّب : فذهب كثير من المعتزلة ـ إلى كونه مثلا للعلم ؛ فإن من اعتقد كون زيد في الدّار مثلا ، ولم يكن زيد فيها ، وبقى على ذلك الاعتقاد حتى وجد زيد في الدّار ؛ فإن اعتقاده الأول الموصوف (١) بكونه جهلا (١). من جنس اعتقاده الثانى مع كونه علما. وما به الافتراق من كون زيد في الدّار في إحدى الحالتين ، وعدمه في الأخرى ؛ فأمر خارج غير موجب للاختلاف بين الاعتقادين ، وقد أجمعوا على أنّ اعتقاد المقلّد للشىء على وفق ما هو عليه مثل للعلم (٢).

وذهب أصحابنا : إلى امتناع المماثلة بين العلم والجهل بهذا الاعتبار ، محتجّين على ذلك بأن الجهل لو كان مماثلا للعلم ؛ (٣) لجاز على كل واحد منهما ما جاز على الآخر (٣). ومن صفات العلم جواز حصوله بالنظر الصّحيح ، وذلك غير متصوّر في الجهل بالاتفاق / ؛ فلا يكون مثلا للعلم ؛ فإن (٤) من حكم المثلين : أنّ ما جاز على أحدهما يكون جائزا على الآخر. وعلى هذا فقد بطل أن يكون اعتقاد كون زيد في الدّار ـ وهو فيها ـ [مماثلا (٥)] لاعتقاد كونه فيها قبل ذلك.

وأما الشّك :

فقد اختلف في كونه معنى ، وفي كونه مفردا.

فقال أبو هاشم : فى قول : إنه عبارة عن عدم العلم.

وهو باطل بانتفاء العلم عن الجمادات ؛ فإنه ليس بشك. وإن أضيف إليه عدم العلم فيما من شأنه أن يكون (٦) له (٦) العلم ؛ فيبطل بالظّان إثبات أمر ، أو نفيه ، فإنه غير عالم بالنفى ولا بالإثبات ؛ وليس شاكا. وينتقض أيضا بالنائم والغافل ؛ فإنه غير عالم مع كونه قابلا للعلم ؛ وليس شاكا.

وقال في قول آخر : إن الشكّ عبارة عن اعتقادين متعاقبين لا يتصور الجمع بينهما؛

__________________

(١) فى ب (بالجهل).

(٢) فى ب (العلم).

(٣) فى ب (فالمثلان ما اشتركا في أخص صفات النفس ، ويلزم من ذلك الاشتراك في أعم الصفات).

(٤) فى ب (لأن).

(٥) فى أ (مثلا).

(٦) فى ب (يقوم به).


وهو باطل. بما إذا اعتقد أمرا ؛ فإنه حالة اعتقاده جازم بمعتقده ، غير شاك فيه. وإذا زال ذلك الاعتقاد باعتقاد نقيضه. فحالة اعتقاده الثانى ، هو أيضا غير شاك ؛ لكونه جازما بمعتقده ؛ فكل واحد من الاعتقادين هو جازم به وليس بشاك ، وليس بين الاعتقادين حالة فاصلة يمكن أن يكون شاكا فيها. وإن (١) كان (١) بينهما حالة يمكن أن يكون الشك فيها ؛ فليس الشكّ هو ما ذكر من الاعتقادين ؛ بل أمر أخر غيرهما.

وقال أصحابنا : الشك معنى مفرد.

وعبر عنه القاضى أبو بكر (٢) بقوله : إنه (٢) عبارة عن استواء معتقدين في نفس المستريب ، مع قطعه أنهما لا يجتمعان.

وهذه العبارة غير سديدة ؛ فإنه وصف كل واحد من الأمرين المتقابلين بكونه معتقدا. ومن ضرورة كونه معتقدا ، تعلق الاعتقاد الجازم به (٣) ؛ وذلك مع الاسترابة محال.

وأيضا : فإن استواء المعتقدين في نفس المستريب : إما في نفس الاعتقاد ، أو في الشك ، أو غيره.

فإن كان في نفس الاعتقاد : فإما أن يكونا معا ، أو على التعاقب.

الأول : محال ؛ إذ هما لا يجتمعان.

والثانى : ففيه عود إلى قول أبى هاشم ؛ وقد عرف ما فيه.

وإن كان في الشكّ : ففيه تعريف الشّكّ بالشّكّ ؛ وهو ممتنع.

وإن كان في غير الشّكّ : فاستواء المعتقدين في غير الشّكّ لا يلزم أن يكون شكا ؛ كاستواء المعتقدين في الإمكان ، أو غيره من الصّفات.

وقال أبو المعالى (٤) : الشّك هو الاسترابة في معتقدين نفيا وإثباتا ، وهو من النمط الأول : حيث إنه جمع بين الاعتقاد والاسترابة ، بالنسبة إلى شيء واحد ؛ وهو محال.

ثم إنّ الاسترابة في المعتقدين : إما أن تكون هى نفس / الشكّ ، أو غيره.

فإن كان الأول : ففيه تعريف الشّكّ بالشّكّ.

__________________

(١) فى ب (وإذا كانت).

(٢) فى ب (بأنه).

(٣) ساقط من ب.

(٤) انظر الإرشاد ص ٥.


وإن كان الثانى : فلا بد من تمييز الشّكّ عن الاسترابة ؛ ولا سبيل إليه.

فالأقرب في ذلك أن يقال : الشّكّ هو القضاء بإمكان أمرين متقابلين ، لا ترجح لوقوع أحدهما على الآخر في النفس.

وهو مضاد للعلم ؛ لاستحالة كون الشخص عالما بشيء ، وشاكا فيه من جهة واحدة.

وأما أحكام الشّكّ :

فمنها (١) أنه لا بدّ وأن يتعلق بأمرين ؛ إذ هو تجويز أمرين لا مزيّة لأحدهما على الآخر ، ولو قدّر أمران يمتنع وقوع الشك (١) في أحدهما دون الآخر ، أو يتصوّر وقوع الشّكّ في أحدهما دون الآخر ، فالخلاف في جواز تعلق الشّكّ الواحد فيه (٢) بالأمرين (٢) ، كالخلاف في العلم ، والاحتجاج كالاحتجاج.

ومنها : (٣) أنه قد يقع (٣) ضروريا ، غير مكتسب للعبد وقد (٤) يقع مكتسبا ، والخلاف في كونه مخلوقا له (٥) ، كالخلاف في الجهل.

ومنها : أنه لا يبعد أن يكون مأمورا به في الفروع الاجتهادية.

وأما الشّك في الله ـ تعالى ـ فقد قال الأستاذ أبو بكر ، وأبو هاشم (٦) لا يمتنع (٧) أن يكون مأمورا به ، بناء على أن النظر في معرفة الله ـ تعالى ـ واجب. وذلك لا يتم في العادة دون سابقة الشك ، وما لا يتم الواجب إلا به ؛ فهو واجب.

ومنهم من خالف في ذلك ؛ لجواز وقوع النظر عقلا من غير سابقة شك ، وبتقدير امتناع خلو النظر عن سابقة الشك ، فليس كل ما يتوقف عليه المأمور يكون مأمورا ، لجواز أن لا يكون مقدورا (٨) : كالحياة.

وبتقدير أن يكون مقدورا ، فلا يكون مأمورا ؛ لجواز أن لا يكون (٨) حسنا. والشك في الله ـ تعالى ـ ليس بمقدور ولا حسن عنده ؛ فلا يكون مأمورا.

والواجب أن يقال : إن أريد بالشّك ابتداء حصوله ؛ فهو غير مأمور ؛ لكونه غير مقدور.

__________________

(١) من أول (فمنها أنه لا بدّ وأن يتعلق بأمرين ...) ساقط من ب.

(٢) في ب (في الأمرين).

(٣) في ب (قد يكون).

(٤) في ب (وقد).

(٥) في ب (للرب تعالى).

(٦) انظر الشامل ص ١٢١.

(٧) في ب (أنه لا يمتنع).

(٨) من أول (مقدورا كالحياة ...) ساقط من ب.


وإن أريد به دوام الشّك : فلا يمتنع أن يكون مأمورا ؛ إذ هو مقدور الإزالة بالنظر ، والإبقاء بترك النظر ، ووقوع النظر ، وإن أمكن عقلا من غير سابقة دوام الشك ، فالعادة على خلافه (١). والحسن والقبح فليس من الصفات الذاتية على ما سيأتى (٢) ؛ فلا يكون ذلك مانعا من الأمر.

والقول بملازمة كون الشك في الله ـ تعالى ـ مأمورا به ، للأمر بمعرفته بناء على أن ما لا يتم الواجب إلا به ؛ فهو واجب ؛ فهو حق على (٣) ما سيأتى (٣).

وأما الظّن :

فعبارة عن ترجيح أحد ممكنين متقابلين في النفس على الآخر. وهو أيضا : ضد العلم ؛ لاستحالة اجتماع العلم والظن ، من جهة واحدة بالنسبة إلى شيء واحد.

وهو لا محالة متعلق بأمرين مع اتحاده ، كما في الشّك وإن كان أحدهما (٤) راجحا / وهو (٥) منقسم إلى : مقدور ، وغير مقدور للعبد كما في العلم ، والحكم في جواز تعلقه مع اتحاده بأمرين يمكن تقدير الظّنّ بأحدهما ، مع عدم الظّن بالآخر ، أو يمتنع ، والخلاف في ذلك ، فكما (٦) سبق في العلم (٧) :

فإن منه ما لا يمتنع أن يكون مأمورا به : كالظّنون في المجتهدات.

ومنه ما لا يكون مأمورا به : كالظّن بنقيض الحق.

وقد قال أصحابنا : إنّ الظّنون أجناس مختلفة.

فمنها : ما هو (٨) أجلى بحيث يكون قريبا من القطع.

__________________

(١) في ب (قال شيخنا أبو الحسن الآمدي : والحق ما ذهب إليه الأستاذ أبو بكر فإنه وإن أمكن عقلا وقوع النظر من غير سابقة الشك ، فالعادة على خلافه والشك مقدور ، ولهذا يمكن زواله بالنظر الصحيح المفضى إلى العلم وابقاؤه بتقدير ترك النظر.

وعلى هذا : فلا يمتنع أن يكون مأمورا به. هذا إن عنى به دوام الشك ، وأما ابتداؤه فغير مقدور ، فلا يكون مأمورا به على ما يأتى).

(٢) انظر ل ١٧٥ / أوما بعدها.

(٣) في ب (على ما يأتى بعد إن شاء الله ـ تعالى ـ) انظر ل ٣٠ / أ.

(٤) في ب (الآخر).

(٥) في ب (أو هو).

(٦) في ب (كما).

(٧) انظر ل ٥ / أ.

(٨) في ب (ما يكون).


ومنها : ما هو أخفى بحيث يكون قريبا من الشّك.

ومنها : ما هو متوسط بين الرتبتين.

ويمكن أن يقال : إنها من جنس واحد نظرا إلى اشتراكها فيما ذكرناه في حد الظن وما به الاختلاف ، فراجع إلى أمور عرضية لا توجب الاختلاف في الحقيقة. ولا يمكن أن يقال باتحاد الحقيقة. وعود الاختلاف إلى كثرة أعداد الظّن في الجلى ، واتحاده في الخفى ـ وإلا كان الظان بمظنون واحد ، ظانا له بظنون متعددة معا ؛ وذلك محال ؛ لأنّ الظّنون إن كانت متماثلة : فالمتماثلة أضداد على ما يأتى. والأضداد لا تجتمع ، وقد قيل بالاجتماع.

وإن لم تكن متماثلة : فهى مختلفة. والمختلفات : إما أضداد ، أو لا.

فإن كانت أضدادا : فلا تجتمع (١) أيضا ، وقد اجتمعت.

وإن لم تكن أضدادا : فقد قيل إنها مختلفة ، ولا اختلاف مع اتحاد الحقيقة.

وأما الغفلة ، والذّهول ، والنّسيان :

وإن اختلفت عباراتها ، فيقرب أن يكون المعنى متحدا ، ومعناها ضد العلم ؛ لاستحالة الجمع.

وحكم هذه الأضداد في جواز تعلقها بمتعلقين ، أو بمتعلق واحد ؛ كالحكم في العلم ، والخلاف كالخلاف.

لكن اتفق المحققون على امتناع كون الغفلة مقدورة للبشر ، فإنّ شرط وقوع المقدور بالقدرة : أن يكون مرادا مقصودا. والقصد إلى الشيء ينافي الذهول ، والغفلة عنه.

وإذا ثبت أنّ الغفلة غير مقدور عليها للعبد ، وهى ضدّ للعلم المكتسب المقدور ـ ، فقد بطل قول المعتزلة : بأن القدرة على أحد الضّدين ، تكون قدرة على الضد الآخر. اللهم إلا أن يفسروا الضد بمعنى ثبوتى ، ويمنعوا كون الغفلة والذّهول معنى كما ذهب

__________________

(١) في ب (فإن كان أضداد لا تجتمع).


إليه بعض البصريّين من المعتزلة (١) فيلزمهم أن لا ينتفى العلم بطريان الغفلة ، لأنها ليست ضدا للعلم ، والعلم وجميع الأعراض فلا تنتفى عندهم إلا بطريان الضّد عليها.

وأما النّوم :

فهو أيضا ضد للعلم ؛ لاستحالة الجمع بينهما.

__________________

(١) ينقسم المعتزلة الى فرعين رئيسيين : (أ) فرع البصرة (ب) فرع بغداد ، وهم جميعا يتفقون في الأصول ، وإن اختلفوا في تفاصيل المذهب.

(أ) ومن أشهر رجال فرع البصرة :

١ ـ واصل بن عطاء ، رأس المعتزلة ومؤسس المذهب ت ١٣١ ه‍.

٢ ـ عمرو بن عبيد ، شريك واصل في تأسيس فرقة الاعتزال ت ١٤٣ ه‍.

٣ ـ أبو الهذيل العلّاف ت ٢٣٥ ه‍.

٤ ـ إبراهيم بن سيار النّظام ت ٢٣١ ه‍.

٥ ـ معمر بن عبّاد السلمى ت ٢٢٠ ه‍.

٦ ـ هشام الفوطى ت ٢٢٨ ه‍.

٧ ـ عبّاد بن سليمان ت ٢٥٠ ه‍.

٨ ـ أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ ت ٢٥٦ ه‍.

٩ ـ أبو يعقوب الشّحام ت ٢٣٠ ه‍.

١٠ ـ أبو على الجبّائى ت ٣٠٣ ه‍.

١١ ـ أبو هاشم الجبّائى ت ٣٢٣ ه‍.

١٢ ـ أبو عبد الله البصرى ٣٦٩ ه‍.

١٣ ـ عبد الله بن عيّاش.

١٤ ـ القاضى عبد الجبّار الهمزانى ت ٤١٥ ه‍.

١٥ ـ أبو الحسين البصرى ت ٤٣٦ ه‍.

ب ـ ومن أشهر رجال فرع بغداد

١ ـ بشر بن المعتمر ـ مؤسس فرع بغداد ت ٢١٠ ه‍.

٢ ـ ثمامة بن الأشرس ت ٢١٣ ه‍.

٣ ـ أحمد بن أبى دؤاد ، وزير المأمون.

٤ ـ أبو موسى المردار الملقب براهب المعتزلة ت ٢٢٦ ه‍.

٥ ـ جعفر بن حرب ت ٢٢٦ ه‍.

٦ ـ جعفر بن مبشر ت ٢٣٤ ه‍.

٧ ـ محمد بن عبد الله الإسكافي ت ٢٤٠ ه‍.

٨ ـ أبو الحسين الخيّاط ت ٢٩٠ ه‍.

٩ ـ أبو القاسم البلخى الكعبى ت ٣١٩ ه‍.


وأما النّظر :

فهو مضاد للعلم بالمنظور فيه ؛ لأنّ النظر لتحصيل / العلم بالمنظور فيه (١) ، وذلك يستدعى عدم العلم بالمنظور فيه ؛ فإن طلب تحصيل الحاصل محال. ومن حصل له العلم بالمنظور فيه بعد تمام نظره ، وأخذ في ضرب أخر من النظر مع علمه بالمنظور فيه ، فليس مطلوبه (٢) العلم بالمنظور فيه ؛ إذ هو حاصل (٣) ، وتحصيل الحاصل محال ؛ بل مطلوبه كون المنظور فيه دليلا ، وذلك لا يجامع النّظر فيه.

وإن كان ذلك لتحصيل ما حصل بالنّظر الأول ؛ فلا يتصوّر ذلك إلا مع الذّهول عنه.

وأما الموت (٤) :

فقد اختلف فيه قول أبى هاشم :

فقال تارة : إنه عبارة عن انتقاض البنية المشروطة في الحياة.

وعلى هذا : فلا يكون الموت عنده (٥) ضد للحياة (٥) ، وإن زالت به الحياة.

وقال تارة : إنه معنى مضاد للحياة.

وتردّد بينهما في قول آخر.

وعلى كل تقدير ، فلا يكون الموت ضدا (٦) للعلم (٦) ؛ بل مزيلا لشرطه على القول الأول ، ومضادا لشرطه على القول الثانى.

وقال أصحابنا : الموت معنى (٧) مضاد للعلم (٧).

أما أنه معنى : فيدل عليه ما يدل على باقى الأعراض ، كما سنبينه بعد (٨).

وأما أنه ضدّ للعلم : فلاستحالة الجمع بينهما ، ولا معنى لكونه ضدا إلا هذا ، وسواء كان استحالة الجمع بواسطة انتفاء الحياة ، أو لم يكن. ولا معنى للنزاع في العبارة.

__________________

(١) ساقط من ب.

(٢) في ب (يطلب).

(٣) في ب (تحصيل).

(٤) انظر المواقف ص ١٤٠.

(٥) في ب (ضد الحياة عنده).

(٦) في ب (ضد العلم).

(٧) في ب (مضاف للعلم).

(٨) انظر ل ٣٩ / ب من الجزء الثانى وما بعدها.


وهو غير مقدور للعبد ؛ لأنّ المقدور بالقدرة يستدعى وجود القدرة مع وجوده ، والموت والقدرة مما لا يجتمعان. خلافا للجبّائى : فإنه قال : هو مقدور للعبد. وخالف أصله : في أنّ القدرة على أحد المتضادين ، تكون قدرة على الضّد الآخر ، حيث أنه جعل الموت مقدورا ، والحياة المضادة له غير مقدورة. (١)

وإذا عرفت أضداد العلم ، فاعلم أن الجهل البسيط منها لا يضاد الجهل المركب ، ولا الشّك ، ولا الظّن ، ولا النّظر ، ولا النّوم والغفلة ؛ فإنه لا يمتنع الجمع بينه وبينها ؛ ولكن يضاد الموت (٢) ، فإنّ الجهل البسيط على ما علم : عدم العلم فيما من شأنه أن يقوم به العلم ، وذلك غير متصوّر في حالة الموت (٣).

وأما الجهل المركّب : فلا يضاد الجهل البسيط ، ويضاد باقى أضداد العلم ، فهو أعمّ مضادة من الجهل البسيط.

أما مضادته للنوم ، والغفلة ، والموت ؛ فظاهر.

وأما مضادته للشّك : فمن جهة أنه اعتقاد جازم لأحد المتقابلين.

والشّك : تردد بين أمرين من غير جزم ، ولا ترجيح.

وأما مضادته للنّظر : فمن جهة أنّ الناظر طالب ، والمعتقد مصمم جازم ، ولا طلب مع التصميم والاعتقاد الجازم بالمنظور فيه.

ويمكن أن يقال : إنّ الاعتقاد الجازم إذا كان جهلا ، فحرام ، لا يمتنع التشكّك معه / بتقدير التّشكيك ، بخلاف العلم ، فلا يبعد معه النّظر لطلب العلم الّذي لا يلحقه التّشكك.

وأما الشّك : فلا يضاد الجهل البسيط ، ولا النظر ؛ ولكن يضاد الجهل المركّب على ما عرف وباقى أضداد العلم.

أما مضادته للنّوم ، والغفلة ، والموت ؛ فظاهر.

__________________

(١) زائد في ب (قال شيخنا أبو الحسن الآمدي).

(٢) في ب (الغفلة والنوم والموت).

(٣) في ب (النوم والغفلة والموت).


وأما مضادته للظّن : لأن الظّن ترجيح أحد المتقابلين على الآخر في النفس ، ولا ترجيح مع الشّك.

وأمّا الظّن : فلا يضاد النّظر لتحصيل العلم الجازم ، ولا الجهل البسيط ، ويضاد باقى أضداد العلم.

أما الجهل المركب : فلتفاوتهما في الجزم.

وأما الشّك : فلتفاوتهما في الترجيح.

وأما النّوم ، والغفلة ، والموت ؛ فظاهر.

وأما النّظر : فلا يضاد الجهل البسيط ، ولا الشّك ، ولا الظّن ، ويضاد ما عدا ذلك من أضداد العلم.

وأما النّوم والغفلة : فمضادان لجميع أضداد العلم ، ولغيرها من القدرة والإرادة (١) سوى الجهل البسيط (١) ؛ فهما أعم في المضادة مما تقدّم ذكره.

وأما الموت : فمضاد لجميع أضداد العلم أيضا ، ومضاد لكلّ صفة من شرطها الحياة ، فمضادته أعم من كل الأضداد.

__________________

(١) ساقط من ب.



«القاعدة الثانية»

في النّظر وما يتعلق به

وتشتمل على ثمانية فصول :

الأول : في حقيقة النّظر.

الثانى : في شرائط النّظر.

الثالث : في أن النّظر الصحيح يفضى إلى العلم ، وإثباته على منكريه.

الرابع : في كيفية لزوم العلم بالمنظور فيه عن النّظر الصّحيح.

الخامس : في أن النّظر الفاسد لا يتضمّن الجهل.

السادس : فيما قيل من أن النّظر ينقسم إلى الجلىّ ، والخفيّ.

السابع : في أن النّظر الصّحيح المؤدى إلى معرفة الله ـ تعالى ـ واجب.

الثامن : في أول واجب على المكلف.



الفصل الأول

في حقيقة النّظر (١)

والنظر في وضع اللغة : قد يطلق بمعنى الانتظار ، والرؤية ، والرأفة ، والمقابلة ، والتفكر ، والاعتبار. كما يأتى تحقيقه في مسألة الرّوية إن شاء الله ـ تعالى (٢).

وأما في اصطلاح المتكلّمين : فالنّظر موضوع لبعض مسمّياته في اللغة : وهو التفكر والاعتبار ؛ فالمعنى واحد. وإن كان اللفظ مختلفا.

وأقرب ما قيل فيه من العبارات : ما قاله القاضى أبو بكر : من أن النظر : هو الفكر الّذي يطلب به من قام به علما ، أو غلبة ظن.

وقوله : هو الّذي يطلب به من قام به علما ، أو غلبة ظن. شرح لمعنى الفكر ؛ فإنه لما قال : النظر هو الفكر. كأنّ سائلا سأل وقال : فما الفكر؟

فقال : هو الّذي يطلب به من قام به علما ، / أو غلبة ظن. وقد قصد بقوله : يطلب به : الاحتراز عن سائر الصّفات المشروطة بالحياة ، وعن الحياة ؛ فإنه لو قال : هو الّذي يطلب من قام به علما ، أو غلبة ظنّ. ولم يقل به ؛ لانتقض بسائر هذه الصفات ؛ فإنّها قائمة بطالب العلم ، أو الظّن ، وليست فكرا.

وبقوله : علما ، أو غلبة ظنّ ، تعميم القاطع ، والظّنى.

ويرد عليه إشكالات أربعة :

الأول : أنه إذا كان النّظر ، هو الفكر. وذلك الفكر : هو ما يطلب به العلم ، أو الظّن ؛ فالنّظر : يطلب به العلم ، أو الظّن.

والظّن المطلوب بالنّظر ، ينقسم إلى : ما المظنون فيه على وفق الظّن ؛ فيكون حقا. وإلى ما هو على خلافه ؛ فيكون جهلا ؛ ويلزم من ذلك أن يكون الجهل مطلوبا بالنظر ؛ وهو ممتنع.

__________________

(١) قارن بالمغنى للقاضى عبد الجبار ج ١٢ ص ٤ وما بعدها وشرح الأصول الخمسة له أيضا ص ٤٤ وما بعدها ، وانظر الإرشاد للجوينى ص ٦ والمحصل للرازى ص ٢٣ والإحكام للآمدى ١ / ٨ ، ٩ ومنتهى السئول له أيضا ١ / ٤ وشرح المواقف ص ٨٢ ـ ٩٠ للجرجانى وشرح المقاصد ص ٢٣ ـ ٢٥ للتفتازانى.

(٢) انظر ل ١٢٣ / أ.


الثانى : أن المطلوب إنّما هو تحديد النّظر مطلقا. ومن المعلوم أن ما يطلب به العلم غير ما يطلب به الظّن ؛ (١) لاستحالة الجمع بين (١) كون الشيء الواحد موصلا إلى العلم ، والظّن معا ؛ وهما داخلان تحت جنس النظر. وتحديد الشيء بذكر أقسامه ، وعد أنواعه ممتنع.

الثالث : أنه إذا كان الظن (٢) مطلوبا بالنّظر ؛ فلا يخفى أنّ المفهوم من غلبة الظّن يزيد على المفهوم من أصل الظّن.

وعند ذلك : فيخرج عن الحدّ. النظر الّذي يطلب به أصل الظّن دون العلم ، وغلبة الظن ؛ فلا يكون الحدّ جامعا.

الرابع : أنّ في الحدّ زيادة لا حاجة إليها. فإنه لو قال : النظر هو الّذي يطلب به من قام به علما ، أو غلبة ظنّ. (٣) لقد كان كافيا عن (٣) إدراج الفكر فيه. (٤)

ويمكن أن يجاب عن الأول : بأن النظر (٥) من حيث هو ظن. أعم من كونه (٦) مخالفا للمظنون ، أو موافقا (٦) له. وهو إنما يطلب بالنظر ، من جهة كونه ظنا. وليس بجهل ، إلا من جهة كونه مخالفا للمظنون.

وعن الثانى : أن الحدّ المذكور إنّما هو رسمى. والمذكور فيه إذا كان من الخواص المميزة له عما سواه ؛ كان صحيحا. والمحدود وإن كان هو النظر من جهة كونه نظرا ، وأنه مما يستحيل أن يطلب به العلم ، والظن معا ؛ فلا يخفى أن من خواصه انقسامه إلى : ما يطلب به العلم. وإلى ما يطلب به الظن ؛ فيكون صحيحا.

وعن الثالث : أن طلب العلم بالنظر ، وطلب الظن به ، وغلبة الظن من خواص النظر ، ولا يخفى أنّ الاقتصار على ذكر بعض الخواص ، دون البعض ؛ غير موجب لفساد الرسم.

__________________

(١) في ب (والاستحالة).

(٢) في ب (النظر).

(٣) في ب (لكان كافيا في).

(٤) زائد في ب (قال شيخنا رحمه‌الله).

(٥) في ب (الظن).

(٦) في ب (موافقا للمظنون ، أو مخالفا له).


وعن الرابع : أنّ ذكر الفكر في الحدّ. لم يكن لدخوله في الحد ؛ بل لبيان اتحاد مدلول النظر والفكر. والحد (١) هو قوله : ما يطلب به من قام به (٢) علما ، أو غلبة / ظن (٣).

وأما نحن فالذى نختاره أن نقول :

النظر عبارة عن تصرف العقل في الأمور السابقة المناسبة للمطلوبات (٤) بتأليف وترتيب ؛ لتحصيل (٥) ما ليس حاصلا في العقل (٦).

وهو منقسم : إلى ما علم فيه وجه دلالة الدليل على المطلوب ؛ فيكون صحيحا. وإلى ما ليس كذلك ؛ فيكون فاسدا.

وما ذكرناه من الحد فيعم القسمين ، ويعم الموصل إلى التّصور والتصديق ، والقاطع والظّنى على اختلاف أقسامه.

__________________

(١) في ب (فالحد).

(٢) ساقط من ب.

(٣) زائد في ب (قال شيخنا أبو الحسن الآمدي).

(٤) في ب (للمطلوب).

(٥) في ب (بتحصيل).

(٦) انظر الإحكام ١ / ٩ حيث يعرف النظر قائلا (النّظر عبارة عن التصرّف بالعقل في الأمور السّابقة بالعلم والظن ، للمناسبة للمطلوب بتأليف خاص ؛ قصدا لتحصيل ما ليس حاصلا في العقل) ، وانظر أيضا منتهى السئول ١ / ٤.


الفصل الثانى

في شرائط النّظر (١)

وشرائط النّظر :

منها ما يعم النظر الصّحيح ، والفاسد.

ومنها ما يخصّ الصّحيح دون الفاسد.

فأما الشّروط العامة : فالعقل ، وانتفاء أضداد النظر (٢).

أما اشتراط العقل : فلتعذر النظر دونه. وتحقيق ذلك يتوقف على بيان معنى العقل ، وحقيقته ؛ فنقول : اعلم أنّ اسم العقل : قد يطلق باعتبارات متعددة في الاصطلاحات :

فأما في اصطلاح الفلاسفة (٣) :

فقد يطلق بإزاء الماهية المجرّدة عن المادة وعلائقها. ولم يتحاشوا من إطلاق اسم العقل ـ بهذا الاعتبار ـ على البارى ـ تعالى ـ وعلى المعلول الصادر عنه ، والمبادئ المجرّدة عن المواد ، وعلائقها الصّادرة عنه ، وبتوسطه. على ما يأتى شرحه وإبطاله (٤). وقد يطلق على القوة التى بها التّوصل من المعلومات الكلّية إلى المجهولات المناسبة لها ؛ ويسمى : العقل النظرى.

وعلى القوة التى يتصرف بها بالفكرة (٥) والرّوية فيما يجب أن يفعل من الأمور الجزئية ؛ ويسمى : العقل العملى.

وعلى القوة التى بها استعداد الطّفل لإدراك الكتابة : فإن لم يكن قد حصل له العلم بمفردات الكتابة ؛ قيل لها العقل الهيولانى. وإن حصل له العلم بذلك : فإن كان يفتقر عند التركيب إلى الفكرة والرّوية ؛ قيل لها العقل بالملكة. وإن لم يفتقر إلى الفكرة والرّوية ، قيل (٦) : العقل بالفعل.

وعلى القوة التى بها إدراك المعلوم من غير تعلّم. ويقال لها العقل القدسى (٧).

__________________

(١) انظر شرح المواقف للجرجانى ص ١١٠ ـ ١١١ ، ١٢٨ ـ ١٣٠ وشرح المقاصد للتفتازانى ص ٢٣ ـ ٢٥.

(٢) في ب (العلم).

(٣) انظر الإشارات لابن سينا ٢ / ٣٥٩ ـ ٣٧٧.

(٤) انظر الفرع الثانى في الرد على الفلاسفة الإلهيين ل ٢١٨ وما بعدها.

(٥) في ب (بالفكر).

(٦) في ب (قيل لها).

(٧) انظر المواقف للإيجي ص ١٤٥ ـ المقصد العاشر : في مراتب العقل.


وأما في اصطلاح أهل العرف :

فقد يطلق العقل على صحة الفطرة ، وعلى كثرة التجربة ، وعلى الهيئة المستحسنة للإنسان في حركاته وسكناته ؛ لكن المقصود هاهنا : إنما هو تعريف العقل الّذي هو مناط التكليف.

وقد اختلفت عبارات المتكلمين فيه :

فقال بعض المعتزلة : العقل ما يعرف به قبح القبيح ، وحسن الحسن. بناء على فاسد أصولهم ، إن الحسن ، والقبح وصف ذاتى (١) يمكن تعقله لا من جهة / الشارع ؛ وسيأتى إبطاله (٢).

ومنهم من قال بناء على هذا الأصل أيضا : العقل هو ما يميز بين خير الخيرين ، وشر الشرين.

وفيه احتراز عن البهائم ؛ فإنها وإن ميزت بين الخير والشر ؛ فلا تميز بين خير الخيرين ، وشر الشرين.

وقالت الخوارج (٣) : العقل ما عقل به عن الله أمره ، ونهيه.

وفيه تعريف العقل بالتعقل ؛ وهو أخفى من العقل. كيف ويخرج عنه العاقل الّذي لم تبلغه دعوة الشارع بأمر ، ولا نهى ، أو بلغه. غير أنه ما يعقل أمره ، ولا نهيه ؛ فإنه عاقل ، وله عقل ؛ مع أنه ما عقل أمر الله ، ولا نهيه.

__________________

(١) ساقط من ب.

(٢) في ب (بطلانه) انظر المسألة الأولى : في التحسين والتقبيح ل ١٧٥ / أوما بعدها.

(٣) الخوارج : هم الذين خرجوا على الإمام على رضى الله عنه حين رضى التحكيم في خلافه مع معاوية ، وهم عشرون فرقة يجمعها القول بتكفير على ، وعثمان ، وأصحاب الجمل ، والحكمين ، وكل من رضى بما صنع الحكمان. كما يجمعون على وجوب الخروج على الإمام الجائر ، وقد قاموا بحروب كثيرة بسبب هذا المبدأ ، كما أن معظمهم يقول بتكفير مرتكب الكبيرة. أما عن فرقهم وآرائهم بالتفصيل فانظر (مقالات الإسلاميين ١ / ١٦٧ ـ ٢١٢ والفرق بين الفرق ص ٢٤ ، ٧٢ ـ ١١٣ والملل والنحل ١ / ١١٤ ـ ١٣٨).


وأما أصحابنا :

فمنهم من قال : العقل هو العلم ـ ولهذا يقال لمن (١) علم شيئا : عقله ، ومن عقل شيئا : علمه (١). وهو اختيار أبى إسحاق الأسفرايينى.

وهو غير سديد ؛ فإنه إن أراد به : كل علم ؛ فيلزم منه : أن لا يكون عاقلا من [فاته (٢)] بعض العلوم ، مع كونه محصلا لما عداه. وإن أراد بعض العلوم ؛ فالتعريف غير حاصل ؛ لعدم التمييز. وما ذكر (٣) من الاستدلال ؛ فغير صحيح ؛ لجواز أن يكون العلم مغايرا للعقل ؛ وهما متلازمان.

ومنهم من قال : إنّه غريزة يتوصل بها إلى المعرفة. وهو إن أراد بالغريزة العلم : فيلزمه ما لزم الأول. وإن أراد [بها] (٤) غير العلم : فقد لا نسلم وجود أمر وراء العلم يتوصل به إلى المعرفة ؛ وهو مما تعسر الدلالة عليه.

والّذي اختاره القاضى : (٥) أنّ العقل بعض العلوم الضّرورية : كالعلم باستحالة اجتماع الضّدين ، وأنه لا واسطة بين النفي والإثبات ، وأن الموجود لا يخرج عن أن يكون قديما ، أو حادثا ، (٦) وأن الجبال المعهودة لنا ثابتة ، والبحار غير غائرة (٦) ، ونحوه.

وقد احتج إمام الحرمين (٧) على صحة اختيار القاضى ، وإبطال ما عداه ، بطريقة جامعة مانعة ـ في زعمه ـ فقال : العقل موجود ؛ فإنه لو كان نفيا محضا ؛ لما اختص به ذات دون ذات. وإن كان موجودا : فإما أن يكون قديما ، أو حادثا.

__________________

(١) في ب (لمن عقل شيئا علمه ، ومن علم شيئا عقله).

(٢) في أ (قام به).

(٣) في ب (وما ذكره).

(٤) في أ (به).

(٥) انظر الإرشاد للجوينى ص ١٥.

(٦) من أول (وأن الجبال ...) ساقط من ب.

(٧) انظر الإرشاد للجوينى ص ١٥ ، ١٦.


لا جائز أن يكون قديما : إذ لا قديم غير الله ـ تعالى ـ وصفاته ، كما هو معلوم في مسألة حدوث العالم (١). ولا وجود للإله ولا لشيء من صفاته في شيء من المحدثات ؛ فلا يوجب كون شيء منها عاقلا ؛ فإن حكم الذات لا يكون ثابتا للذات من غير ما قام بها ، كما يأتى أيضا.

وعلى هذا فقد بطل قول الحشوية (٢) بكون العقل قديما.

وإن كان حادثا : فهو إما جوهر ، وإما عرض.

لا جائز أن يكون جوهرا : إذ الجواهر متجانسة كما يأتى أيضا (٣). فلو كان بعض الجواهر عقلا ؛ لكان كل جوهر عقلا ؛ لأن ما ثبت لأحد المثلين يكون ثابتا للآخر.

وأيضا : فإنه لو كان العقل جوهرا ؛ لما عاد بسببه إلى العاقل به حكم ؛ وهو كونه عاقلا ؛ إذ الأحكام إنما تثبت للجواهر / لا بها.

وإن كان عرضا : فلا يمكن أن يكون عبارة عن مجموع الأعراض ؛ فإنه قد يتصف بالعقل من لم يكن متصفا بجميع الأعراض.

فإذا كان هو بعض الأعراض : فإما أن يكون من العلوم ، أو من غيرها.

لا جائز أن يكون من غير العلوم : وإلا لصح أن يتصف بالعقل من لم يعلم شيئا. كيف وأنه ما من شيء من أجناس الأعراض إلا ويمكن تقدير وجود العقل مع عدمه ما عدا العلوم وما يصححها. وإذا كان من العلوم : فلا جائز أن يكون عبارة عن كل العلوم ؛ لاتصاف الإنسان بالعقل مع تعريه عن معظمها.

وإذا كان بعض العلوم : فإما أن يكون ضروريا. أو نظريا. لا جائز أن يكون نظريا : إذ العقل شرط في العلم النّظرى ، فلو كان العقل نظريا ؛ لكان دورا.

وأيضا : فإنه قد يتّصف بالعقل من لم ينظر ، ولم يستدل أصلا.

__________________

(١) انظر ل ٨٢ / ب وما بعدها من الجزء الثانى.

(٢) الحشوية : هم طائفة من المحدثين بالغوا في إجراء الآيات والأحاديث التى يفهم منها التشبيه على ظاهرها ، فوقعوا في التجسيم حتى أثبتوا لله ـ تعالى ـ جسما ، وأبعاضا. وقالوا إن طريق معرفة الله ـ تعالى ـ هو السمع لا العقل. (مناهج الأدلة ص ٣١ ، ٣٢ الملل والنحل ١ / ١٠٣ ـ ١١٣).

(٣) انظر ل ٥ / ب من الجزء الثانى.


وإذا كان ضروريا : فلا يمكن أن يكون (١) هو مجموع العلوم الضّرورية (١) ؛ فإن العلم بالمحسوسات من جملتها ، وقد يتّصف بالعقل (٢) من لم يكن مدركا لشيء منها (٢).

فإذن هو بعض العلوم الضّرورية : وهى كل علم ضرورى يمتنع خلوّ الموصوف بالعقل منها (٣) ، ولا يشاركه فيها من ليس بعاقل : كالعلم بأن النفي والإثبات لا يجتمعان ، وأن الموجود لا يخرج عن كونه قديما ، أو حادثا ، ونحوه.

وعلى هذا ما أمكن الاتصاف بالعقل دونه ، ولو في حالة ما ؛ فلا مدخل له في مسمى العقل : كالعلوم العادية ، ونحوها ؛ لجواز تغيرها (٤).

وقد يتجه على هذه الحجّة تشكيكات :

الأول : ما المانع من أن يكون مسمى العقل عدما.

قوله : لأنّ النفي المحض لا اختصاص له بذات دون ذات. إنما يصحّ في النّفي المطلق ، وما المانع من كونه عدما مضافا؟ لكن يمكن أن يستدل على كونه وجوديا بحجة أخرى. وهى أنه لو كان العقل عدما ، فسلبه يكون ثبوتيا ؛ لأنّ سلب السّلب إثبات. ولو كان كذلك ؛ لما صحّ سلب العقل عن الأعدام المحضة ؛ لما فيه من اتّصاف العدم بالثبوت ؛ وهو محال.

الثانى : وإن سلم كونه وجوديا ، فما المانع من قدمه ، كما ذهب إليه الحشوية؟ قوله : لأنه لا قديم إلا الله ـ تعالى ـ وصفاته ، ولا وجود لشيء من ذلك في شيء من الحوادث ؛ مسلم ؛ ولكن لم قال : إنه (٥) لا يكون عاقلا به؟

قوله : لأن كون العاقل عاقلا ؛ حكم للذّات ، وحكم الذّات ، لا يكون ثابتا (٦) لها من غير ما قام بها ؛ يلزم عليه العلم ؛ فإنه لا يوجب (٧) حكما لما تعلق به ، وهو كونه معلوما ، وإن لم يكن ذلك العلم قائما به ؛ بل بالعالم كما في / الجمادات (٨).

__________________

(١) في ب (مجموع العلوم ضرورية)

(٢) في ب (من لم يدرك شيئا منها).

(٣) ساقط من ب.

(٤) زائد في ب (قال شيخنا أبو الحسن الآمدي).

(٥) ساقط من ب.

(٦) ساقط من ب.

(٧) في ب (يوجب).

(٨) في ب (الكمالات).


ويمكن أن يجاب عنه : بأن المعلومية ليست حكما ثابتا للمعلوم وإلا قامت الصفة الإثباتية بالمستحيل ، ضرورة كونه معلوما ؛ وهو (١) محال (١).

الثالث : وإن كان حادثا ، فما المانع من كونه جوهرا؟

قوله : لأنّ الجواهر متجانسة ؛ غير مسلم. وما يذكره في تحقيق التجانس ؛ فسيأتى إبطاله أيضا في موضعه (٢).

الرابع : وإن قدر أنه عرض ؛ فما المانع من كونه من غير العلوم؟

قوله : لو كان من غير العلوم ؛ لصحّ أن يتصف بالعقل من لم يحصل له العلم بشيء ؛ مسلم ؛ ولكن لا نسلم : أنه لا يصحّ اتصافه بالعقل ، وإنما لا يصحّ اتصافه بالعقل أن لو كان العقل هو العلم ؛ فعدم اتصافه بالعقل ، يتوقف على كون العقل هو العلم ، وكون العقل هو العلم يتوقف على عدم اتصافه بالعقل ؛ فيكون دورا.

قوله : إنه ما من شيء من أجناس الأعراض إلا ويمكن تقدير وجود العقل مع عدمه ما عدا العلوم ، وما يصححها ، ممنوع ؛ فإنه من الجائز أن يكون مسمى العقل عرضا من الأعراض ـ وهو ملازم للعلم الّذي يوصف الإنسان بكونه عاقلا عنده ، ولا يكون هو نفس العلم ، ولا سبيل إلى تقدير انتفاء ذلك اللازم مع بقاء العقل.

الخامس : هو أن كون العاقل عاقلا حكم واحد : مثل كون القادر قادرا ، وكون العالم عالما ؛ فلو كان العقل عبارة عن بعض العلوم الضرورية ـ وهى ما ذكرتموه من العلوم ـ ؛ فيلزم (٣) أن يكون الحكم الواحد معللا بعلل متعددة ؛ وهو محال كما يأتى.

فإن قيل : العقل (٤) ليس مجموع ما ذكرناه (٤) من العلوم الضّرورية ؛ بل العلم بكونه عالما بها ، والعلم بكونه عالما بها (٥) ؛ علم ضرورى وهو واحد ؛ فلا يكون فيه تعليل الحكم الواحد بعلل متعدّدة.

__________________

(١) ساقط من ب.

(٢) انظر ما سيأتى ل ٥ / ب من الجزء الثانى وما بعدها.

(٣) في ب (للزم).

(٤) في ب (العلم يسمى بجميع ما ذكرنا).

(٥) ساقط من ب.


قلنا : فالعلم بكونه عالما بكل واحد من تلك العلوم إن كان غير كل واحد منها ؛ فيفضى إلى التسلسل الممتنع ؛ وهو أن يكون العلم بالعلم بتلك الأمور : زائدا عليه ، وهلم جرا ؛ وهو محال. وإن كان العلم بالعلم بتلك العلوم الضرورية : هو (١) نفس العلم بها ؛ فيلزم من تعددها تعدده ؛ ويعود الإشكال.

السادس : أنه إذا كان العقل بعض العلوم الضرورية كما ذكرتموه ؛ فلا يخلو : إما أن يمكن تحديده ، أو لا يمكن تحديده.

فإن أمكن تحديده : فقولكم هو بعض العلوم الضّرورية ليس (٢) بحد ؛ لعدم التعين والحصر. وما لا يكون حدّا ؛ لا يكون معرفا لما كان من قبيل التصوّرات.

وإن لم يمكن تحديده : فالعلم (٣) به غير بديهى ؛ فلا يكون معلوما. وبهذا يندفع قول من قال : ليس من شرط كل معلوم أن يحد ؛ فإن ذلك إنما يكون فيما سلّم كونه / معلوما ، وأما ما ليس بمعلوم ؛ فلا بد في معرفته من التّحديد.

السابع : أنه إذا كان العقل عبارة عن العلوم الضّرورية التى لا خلو للنفس عنها ؛ فيلزم منه أن لا يقع التفاوت بين العقلاء في مراتب العقل. وأن لا يفرق بين العامى الأبله ، ومن هو في غاية الجودة من الذكاء ، وشدة القريحة ؛ لعدم اختلاف الناس فيما ذكرتموه من الضّروريات ؛ ولا يخفى ما فيه من المكابرة ، والعناد.

ويمكن أن يجاب عنه : بأن القضاء بالتفاوت في العقل بين النّاس ليس باعتبار العقل الّذي هو مناط التكليف : وهو ما نحن بصدد تعريفه. وإنّما ذلك باعتبارات ، وهى ما (٤) قدمنا ذكرها (٤) من صحّة الفطرة ، أو التجربة ، أو حسن الحالة (٥) ، أو العلم.

وعند ذلك : فقد يمكن تحديده بما لا بأس به ،

وهو أن العقل عبارة عن : العلوم الضّرورية التى لا خلوّ لنفس الإنسان عنها بعد كمال آلة (٦) الإدراك ، ولا يشاركه فيها شيء من الحيوانات.

__________________

(١) ساقط من ب.

(٢) في ب (هو ليس).

(٣) في ب (مما لا يمكن تحديده والعلم).

(٤) في ب (ما قدمناه).

(٥) في ب (الإحالة).

(٦) في ب (ذلك).


ولا يخفى أنّ العقل بهذا الاعتبار موجود ، وأنه لا بدّ للنّظر منه ؛ قطعا للتسلسل الممتنع.

وأما اشتراط انتفاء أضداد النّظر : فلأنّ وجود كلّ واحد من الضدين ، متوقف على انتفاء الضّد الآخر ؛ لاستحالة الجمع بينهما.

وأضداد النظر : العلم بالمنظور فيه ، واعتقاده على خلاف (١) ما هو عليه ، والنّوم ، والغفلة ، والموت ، على ما سبق تحقيقه في قاعدة العلم (٢).

وأما الشروط الخاصة بالنّظر الصّحيح :

فأن يكون النّظر في الدليل دون الشبهة ، وفي الوجه الّذي منه يدل الدليل دون غيره.

وإن اختلّ شيء من ذلك ؛ فالنّظر يكون فاسدا.

__________________

(١) ساقط من ب.

(٢) انظر ل ١٥ / أ.


الفصل الثالث

في أن النّظر الصّحيح يفضى إلى العلم بالمنظور فيه ،

وإثباته على منكريه (١)

وإذا كان النّظر الصّحيح في دلالة قطعيّة ، ولم يعقبه ضدّ من أضداد العلم ؛ أفضى إلى العلم بالمنظور فيه. خلافا لبعضهم في قوله : إنّ النّظر لا يفضى إلى العلم (٢) ، وما يفضى إلى العلم الّذي ليس بديهيا ، غير خارج عن الحواس وأخبار التّواتر. وربما خالف بعضهم في الخبر المتواتر أيضا.

والحجة لنا من ثلاثة أوجه :

الحجة الأولى : [وهى] (٣) أنّ النّظر على ما حققناه : عبارة عن تصرّف العقل في المعلومات ؛ أو المظنونات السابقة المناسبة للمطلوب بترتيب بعضها إلى بعض ، توسّلا بذلك إلى تحصيل ما ليس حاصلا في العقل.

وعند ذلك : فلا يخفى أنّ من حصل عنده العلم بالمواد الصادقة ، والعلم بما اقترن بها من الصّورة الصّحيحة ، والتأليف الخاص الّذي يتولى بيانه / المنطقى ؛ علم بالضرورة لزوم المطلوب عنها ، وكونه صحيحا : وذلك كعلمنا بأن الأربعة زوج ، عند علمنا بأنّ الأربعة منقسمة بمتساويين ؛ وأنّ كل منقسم بمتساويين زوج.

الحجة الثانية : أنّا نجد من أنفسنا العلم بأمور كليّة حصلت لنا بعد ما لم تكن ، ولو خلينا على أصل الفطرة من غير طلب لها لم نعلمها ؛ وذلك كالعلم بمعنى النفس ، والعقل ، وغيره. ولا بدّ لها من مدرك يوصل إليها ؛ فإنها غير بديهية ، وليس المدرك لها الحواس ؛ إذ هى غير محسوسة. ولا الخبر المتواتر ؛ فإنه لا يفيد العلم فيما ليس بمحسوس ، والّذي يفيد العلم بها غير هذين المذكورين (٤) هو المعنى بالنظر.

__________________

(١) انظر المغنى ١٢ / ١٢٧ ـ ١٨١ وشرح الأصول الخمسة ص ٦٠ ـ ٧٥ للقاضى عبد الجبار ، والإرشاد ص ٦ ، ٧ ، والشامل ص ١١٠ وبحر الكلام ص ٤ ـ ١٤ للنسفى والمحصل ص ٢٨ وغاية المرام ص ١٨ ـ ٢٠ وشرح الطوالع ص ٢٨ ـ ٣٣ للأصفهانى ، وشرح المواقف ص ٩٠ ـ ١٠٧ وشرح المقاصد ص ٢٥ ـ ٣١ للتفتازانى.

(٢) في ب (العلم بالمنظور فيه).

(٣) في أ (هو).

(٤) في ب (المدركين).


وأيضا : فإنّا (١) نجد من أنفسنا العلم بوجود الإله ـ تعالى ـ وما يجوز عليه ، وما لا يجوز بعد ما لم يكن حاصلا لنا ، وليس ذلك من الأمور البديهية ، ولا من الأمور التى تعلم بالحس ، ولا التواتر ؛ إذ هى غير محسوسة ؛ فلم يبق إلا النظر.

الحجة الثالثة : وهى مختصة بإبطال مذهب الخصم هو أنا نقول : القول بنفي إفضاء النظر (٢) إلى العلم : إمّا أن يكون معلوما ، أو غير معلوم.

فإن كان معلوما : فإما أن يكون بديهيا ، أو غير بديهى.

لا جائز أن يكون بديهيا : فإنه لو خلى الإنسان ودواعى نفسه من مبدأ نشوّه مع قطع النّظر عن النّظر ؛ لم يجد من نفسه الجزم بذلك أصلا ، وليس البديهى كذلك. ولأن البديهى لا يخالف فيه أكثر العقلاء ، وأكثر (٣) العقلاء (٣) ـ وهم القائلون : بإفضاء النظر إلى العلم ـ مخالفون فيه.

وإن كان غير بديهى : فلا بد له من مدرك. وليس مدركه الحواس ؛ إذ هو غير محسوس ، ولا الخبر المتواتر ؛ لذلك أيضا ؛ فلم يبق إلا النظر.

وإن كان غير معلوم : فالجزم بنفيه متعذر.

وللخصوم على ذلك شبه :

الشبهة الأولى : هو أن المعلومات السابقة المناسبة التى يتصرف العقل فيها بالترتيب المفضى إلى المطلوب ؛ لا بدّ وأن تكون بديهية ، أو مستندة إلى البديهى ؛ قطعا للتسلسل ، والدور الممتنع ، والبديهيات لا حاصل لها. وبيانه من خمسة أوجه :

الأول : أنه لا يخلو : إما أن تكون الفطرة الإنسانية كافية في حصولها من غير احتياج إلى أمر آخر ، أو لا بد لها من أمر آخر. لا جائز أن يقال بالأول : وإلا لكانت البديهيات حاصلة لنا في مبدأ النشو ، وحصول علم للإنسان (٤) وهو لا يشعر به محال.

__________________

(١) في ب (لا نجد).

(٢) في ب (العلم).

(٣) ساقط من ب.

(٤) في ب (الإنسان).


وإن كان الثانى : فهى غير بديهية ؛ إذ لا معنى للبديهى ؛ إلا ما لا يتوقف (١) العقل في تعقله على (١) أمر خارج عنه.

الثانى : أنّ البديهيات من المعقولات ، والمعقولات فرع المحسوسات ، ومنتزعة منها ؛ ولهذا قيل : إنّ من فقد / حسا ؛ فقد فقد علما. وقد ذهب جمع من العقلاء : إلى أن المحسوسات غير يقينية ، فما هو متفرع عليها ؛ أولى أن لا يكون يقينيا.

وبيان أنها غير يقينيّة : ما نشاهده من القطرة النازلة ؛ (٢) خطا مستقيما (٢) ، والنّار في رأس العود الدائر بسرعة ؛ دائرة متصلة ، والصغير كبيرا : كالنار البعيدة في الظّلمة ، والكبير صغيرا : كالمرئيّات من بعد ، والمتحرك ساكنا : كالكواكب ، والساكن متحركا : كالأشياء التى يراها راكب السفينة على الشطوط ، والمتحرك إلى جهة ، وهو متحرك إلى خلافها : كحركة القمر في الغيم ، والمعدوم موجودا : كالمرئى في المرايا من الصّور ، والألوان المختلفة : كقوس قزح ، وما يشاهده النّائم في منامه ، وصاحب الرسّام من الصّور التى لا وجود لها. إلى غير ذلك.

وهذا كله مما يدل على غلط المحس ، فما هو متفرع عليه ، كيف يكون يقينيا؟

الثالث : هو أن أجلى البديهيّات : الحكم بأن لا واسطة بين النفي والإثبات ، وهو غير يقينى ؛ فما دونه أولى أن لا يكون يقينيا. وبيانه : أن التصديق بهذه القضية ؛ متوقّف على تصوّر مفرداتها ، وهما النفي والإثبات ، والنّفي غير بديهى التّصور ؛ ولذلك وقع الاختلاف بين العقلاء في تصوّره ؛ فما هو متفرّع عليه ؛ أولى أن لا يكون بديهيا.

الرابع : هو أنا قد نجد أنفسنا جازمة بقضايا على نحو جزمنا بالبديهيات ، والجزم بها غير جائز : كجزمنا بأنّ ما شاهدناه من ماء البحر باق بحاله مع جواز إعدامه ، أو قلبه دما عبيطا (٣) ، أو غير ذلك ، وكجزمنا بأن ما شاهدناه مرة بعد مرة : أنّه عين المرئى أولا. مع جواز إعدام الأول وخلق مثله ، وكالذى يجزم قضيته بناء على دليلها جزما لا يرتاب

__________________

(١) في ب (الأمر في تعقله إلى).

(٢) في ب (مستشما).

(٣) (دم عبيط) طرىّ خالص لا خلط فيه (المصباح المنير : باب العين فصل الباء).


فيه ، وقد يظهر له الغلط في ذلك حتى أنّه ينتقل عن اعتقاد شيء إلى ضدّه ، ويجزم به ، مع استحالة الجمع (١) بين الجزمين.

وإذا جاز ذلك في غير البديهيات ـ مع كونها جازمة ـ كالجزم في البديهيّات ؛ فكذلك في البديهيّات.

الخامس : (٢) هو أنّ كلّ صاحب مذهب قد يدّعى البديهة بأمور يكذبه المخالفون له فيها ؛ وذلك قادح في البديهيّات : كمن يدعى العلم البديهى بحسن الشكر ، وقبح الكفران ، وكون العبد خالقا لأفعال / نفسه ، وأنّ كل (٣) ما لا يكون متحيزا ولا حالا (٣) في المتحيز فليس بموجود. وأن الأجسام باقية ، وأن إعادة المعدوم ممتنعة ، إلى غير ذلك.

الشبهة الثانية : أنّ المطلوب بالنّظر : إمّا أن يكون معلوما من كل وجه ، أو مجهولا من كل وجه ، أو معلوما من وجه ، ومجهولا من وجه.

فإن كان معلوما من كل وجه : فلا حاجة إلى طلبه ؛ فإنّ تحصيل الحاصل محال.

وإن كان مجهولا من كل وجه : فلا يقع في النفس طلبه. وبتقدير الطلب ، قد لا يعلم أنّ ما ظفر به هو مطلوبه ، أم لا؟

وإن كان الثالث : فإما أن يكون مطلوبا من جهة ما علم ؛ أو من جهة ما جهل ، وكل واحد من الأمرين ممتنع ؛ لما سبق.

الشبهة الثالثة : هو أنّ القول بصحة النظر : إما أن يكون معلوما ، أو مجهولا (٤).

فإن كان معلوما : فإما أن يكون بديهيا ، أو نظريا ؛ لاستحالة كونه محسوسا.

لا جائز أن يكون بديهيا : وإلا لما خالف فيه جمع كثير من العقلاء. وإن كان نظريا : فيلزم منه توقف صحة النّظر على صحّة النّظر ؛ لأنّ العلم بصحة الطريق المفضى إلى المطلوب ؛ متقدّم على العلم بصحة المطلوب ؛ وفيه توقف (٥) العلم بصحّة النّظر على العلم بصحّة النّظر ، وتقدّم الشّيء على نفسه ؛ وهو محال.

__________________

(١) في ب (مع).

(٢) ساقط من ب.

(٣) في ب (ما يكون متحيزا أو حالا).

(٤) في ب (أو غير معلوم).

(٥) في ب (تقدم).


وإن كان مجهولا : فلا سبيل إلى (١) الجزم به (١).

الشبهة الرابعة : أنّ العلم بلزوم المطلوب عن النظر : إما بديهى ، أو (٢) نظرى.

وليس بديهيا ؛ لوقوع الخلاف فيه.

وإن كان نظريا : فيفتقر إلى نظر آخر ، والكلام فيه ؛ كالكلام في الأول ؛ ويلزم منه التسلسل ، أو الدور ؛ وهو ممتنع.

الشبهة الخامسة : هو أنّ كل واحد من أرباب الأديان ، والمقالات المختلفة جازم بما أدّى إليه نظره ، معتقد له اعتقادا لا يتمارى فيه ، ولا يشككه فيه مشكّك. مع استحالة الجمع في الصحة ، وليس بعضه أولى بالصحة من البعض ، مع أنّ كل واحد جازم بما ذهب إليه معتقد له.

الشبهة السادسة : أنّا نرى النّاظر قد يؤديه نظره إلى اعتقاد أمر لا يشككه فيه مشكّك برهة من الزّمان ، ثمّ ينتقل عنه بالنّظر إلى اعتقاد مقابله وإبطال معتقده الأوّل ، وتبين فساد النّظر المؤدّى إليه وعند ذلك : فلا نأمن في كلّ نظر يفرض من تبين فساده / ، وظهور إبطاله ؛ وما هذا شأنه ؛ فلا يمكن الجزم بصحته.

الشبهة السابعة : أن ملازمة المطلوب للنّظر : إما واجبة لا يتصور الانفكاك فيها ، أو غير واجبة.

فإن كانت واجبة : فهى اضطرارية ، غير داخلة تحت اختيار النّاظر ، ويلزم من ذلك قبح التكليف بحصول مثل هذه المطلوبات ، وامتناع المدح ، والذّم عليها إيجادا وعدما ؛ واللازم ممتنع باتفاق الأمة.

وإن كانت غير (٣) واجبة : فكل ما ليس واجبا أن يكون فهو : إما ممكن ، أو ممتنع. وعلى كلا التقديرين ؛ فلا يمتنع القول بعدم ملازمة المطلوب للنظر.

__________________

(١) في ب (العلم).

(٢) في ب (وإما نظرى).

(٣) ساقط من ب


الشبهة الثامنة : أنّ ملازمة المنظور فيه للنّظر متوقف على انتفاء الدليل المعارض في نظر النّاظر ، وإلا لما امتنع الجزم بالمطلوب مع ظهور المعارض في نظر الناظر ؛ وهو ممتنع.

وإذا توقف على انتفاء [الدليل] (١) المعارض ؛ فالعلم بانتفاء المعارض غير ضرورى ؛ فلا بد [له] (٢) من دليل. والكلام في دليل انتفاء المعارض كالكلام في الأول ؛ وهو تسلسل ممتنع.

الشبهة التاسعة : أنّ العلم بالمنظور فيه : إما أن يقع مع النظر ، أو بعد انقضائه. لا سبيل إلى الأول : فإنّ النّظر يضاد العلم بالمنظور فيه ، كما بينتموه في قاعدة العلم (٣). وإن كان بعده : فغير ممتنع أن يتعقب عدم النظر ما يضاد العلم ؛ فإنّ انقضاء النّظر غير مقتض لنفي أضداد العلم بالمنظور فيه ، والعلم بالمنظور فيه مع وجود ضده محال. فإذن انقضاء النظر لا يلازمه العلم بالمنظور فيه.

الشبهة العاشرة : أنّ العلم بالمنظور فيه ، إذا كان مرتبطا بالنّظر ؛ فلا يتصور حصوله مع الذّهول عن النظر ، وأركانه.

والنّظر إذا كان مشتملا على أركان ومقدمات ؛ فلا يتصور للناظر العلم بها معا ، على ما يجده كل عاقل من نفسه : أنّه متى حاول علما بشيء ، تعذّر عليه محاولة العلم بغيره حالة محاولته له. وإذا كان العلم بالجميع غير متصور معا. والعلم بالبعض غير مفض إلى العلم (٤) بالمنظور فيه (٤) ؛ فالنظر لا يكون مفضيا إلى العلم بالمنظور فيه.

الشبهة الحادية عشرة : أنّ إفادة (٥) النظر للعلم (٥) بالمنظور فيه ؛ إما أن يكون معلوما ، أو غير معلوم.

__________________

(١) ساقط من أ

(٢) ساقط من أ

(٣) انظر ل ١٥ / أ.

(٤) في ب (بالجميع).

(٥) في ب (العلم).


فإن لم يكن معلوما : امتنع القول بأن النظر مفيد للعلم بالمنظور فيه (١)

وإن كان معلوما : فالعلم بإفادة النّظر للعلم بالمنظور فيه / وإن كان معلوما ـ فالعلم بإفادة النظر للعلم بالمنظور فيه ـ علم بإضافة بين النّظر ، والعلم بالمنظور فيه. والعلم بالإضافة يتوقف على العلم بالمضافين ، وأحد المضافين العلم بالمنظور فيه ؛ وفيه توقّف العلم بالمنظور فيه على العلم بإفادة النّظر له ، وتوقف العلم بإفادة النّظر له على العلم به ؛ وهو دور ممتنع.

الشبهة الثانية عشرة : أنّ العلم بالمنظور فيه : إما أن يتوقّف على العلم بدلالة الدليل عليه ، أو لا يتوقف.

فإن كان الأول : فدلالة الدليل على العلم بالمنظور فيه ، علم بأمر إضافي بين الدليل ، والعلم بالمدلول. والإضافة متوقفة على المضاف إليه ؛ فإذا توقف العلم بالمضاف إليه على العلم بالإضافة ؛ كان دورا. ولأنّ العلم بدلالة الدليل : إما أن يبقى مع العلم بالمدلول ، أو لا يبقى.

فإن بقى : فاجتماع علمين مختلفين محال ، كما تقدم في قاعدة العلم (٢).

وإن لم يبق : فالعلم بالمدلول ـ مع عدم العلم بدلالة الدليل عليه ـ ممتنع ؛ لعدم تمييز ذلك الدليل ، عما ليس بدليل.

ولهذا المعنى يمتنع القسم الثانى وهو : أن لا يتوقف العلم بالمدلول ، على العلم بدلالة الدليل عليه.

الشبهة الثالثة عشرة : أن النظر الصحيح : إما أن يكون شرطا في حصول العلم بالمنظور فيه ، أو لا يكون شرطا.

فإن كان شرطا : فالشرط لا بد وأن يكون متحققا مع المشروط ؛ لاستحالة وجود المشروط دون شرطه ؛ وهو محال ؛ لما حققتموه من مضادة النظر للعلم بالمنظور فيه (٣).

__________________

(١) من أول (إما أن يكون معلوما ...) ساقط من ب.

(٢) راجع ما سبق ل ٨ / أوما بعدها.

(٣) انظر ل ١٥ / أ.


وأيضا : فإن الشرط لا يتضمن المشروط : كالحياة ؛ فإنها لا تتضمن العلم لما كانت شرطا له ، ولا توجبه ، ولا تولده. والنظر على اختلاف القائلين به لا يخرج عن ذلك.

وإن لم يكن شرطا فيه : فلا ارتباط بينه وبينه ، وإذا لم يكن النظر مرتبطا بالعلم بالمنظور فيه ؛ فلا يكون مؤديا إليه كغيره من الأمور الأجنبية عنه.

الشبهة الرابعة عشرة : أن الناظر إذا نصب دليلا على وجود الصانع مثلا ، فالمدلول : إما وجود الصانع ، أو العلم بوجود الصانع.

لا جائز أن يقال بالأول ؛ لأن افضاء النّظر إلى المطلوب لا يخرج عند القائلين به عن جهة التضمّن ، أو التولّد ، أو الوجوب على اختلاف المذاهب (١) ، والنّظر غير متضمّن لوجود الرب ـ تعالى ـ / ولا موجب له ، ولا مولّد له.

ولا جائز أن يقال بالثانى ؛ لأن الأدلة الدالة على العلم بوجود الصانع ، دالّة لذواتها ، وصفات أنفسها. فلو لم يوجد الرب ـ تعالى من يستدل بها على العلم بوجوده ، ولا (٢) خلق من يعلم وجود الرب (٢) ـ تعالى ـ فإن خرجت تلك الأدلّة عن كونها أدلّة ، فلم تكن أدلّة لذواتها ؛ بل لنظر النّاظر فيها.

وإن (٣) بقيت أدلّة بحالها : فالدّليل مضايف للمدلول. فلو كان ـ مدلولها هو العلم بالوجود ؛ لاستحال العلم بالوجود مع عدم العالم المستدل ؛ فكان الدليل بلا مدلول ؛ وكل ذلك محال.

الشبهة الخامسة عشرة : أن النّظر الصحيح : إما أن يوجب حالا للناظر ، أو لا يوجب. والأول : محال ؛ إذ النّظر الصّحيح مجموع أفكار مختلفة الأجناس ، مفضية إلى العلم بالمنظور فيه ، والموجب للحال (٤) لا يكون مختلف الجنس.

وإن كان الثانى : فهو خلاف ما يجده العاقل من نفسه من الأحوال المختلفة باختلاف النّظر الصحيح ، والفاسد. وإذا بطل القسمان ؛ فالنظر الصّحيح ممتنع.

__________________

(١) القائلون بالتضمن هم الأشاعرة ،

أما القائلون بالتولّد فهم المعتزلة ،

والقائلون بالوجوب هم الفلاسفة. انظر ما يأتى ل ٢٣ / ب.

(٢) في ب (ولا يخلق من يعلم وجوده).

(٣) في ب (فإن).

(٤) في ب (بالحال).


الشبهة السادسة عشرة : أنه وإن جاز إفضاء النظر إلى العلم بالمنظور فيه ، فما الّذي يؤمن أن يكون ما أفضى إليه النّظر جهلا ، أو شيئا آخر من الأمور العرضية؟ ولا سيما عند من يرى أنّ الجهل مماثل للعلم ، ومشارك له في أخصّ أوصافه ، كما سبق في قاعدة العلم (١).

والجواب عما ذكروه من الشبه من وجهين :

أحدهما عام ،

والآخر خاص بكل واحد واحد منها.

أما الجواب العام :

فهو أنّا نقول : ما ذكرتموه من الشّبه : إما أن تكون مفيدة (٢) لإبطال النظر (٢) ، أو غير مفيدة له.

فإن كان الأول : فقد أبطلتم النّظر بالنّظر ؛ وفيه ما يوجب صحّة بعض ضروب النظر. وإن كان الثانى : فقد استغنينا عن الجواب ؛ لعدم الفرق بين وجوده وعدمه.

فإن قيل : ما ذكرناه وإن كان فاسدا ، غير أن المقصود منه : معارضة ما ذكرتموه ، ومقابلة الفاسد بالفاسد.

قلنا : فهذه المعارضة إن أفادت شيئا ؛ فهى من جملة ضروب النظر ، وإن لم تفد شيئا ، فلا حاجة إلى جوابها.

الجواب الثانى : أنا نخصّ كل شبهة بجواب :

أما الشّبهة الأولى : فجوابها بلزوم كون المقدمات بديهيات ، أو مستندة إليها ، وما ذكروه فتشكيك على البديهيات ؛ / فلا يقبل.

__________________

(١) انظر ل ١٣ / أ.

(٢) في ب (مفيد الإبطال).


كيف وأنا نجيب عن التّشكيك الأوّل : بأنّ القضية البديهيّة ما يصدق العقل بها من غير توقّف على أمر خارج عن مفرداتها ؛ بل مهما (١) علمت المفردات بأىّ طريق كان ، بادر العقل [بالنسبة] (٢) الواجبة لها من غير توقف على أمر آخر ، فتعقل القضية البديهية بعد أن لم تكن معقولة في مبدأ النشو ، إنما كان لتوقّفها على كمال آلة الإدراك للمفردات ، وهى غير كاملة في مبدأ النشو فإذا كملت ، وحصل بها إدراك المفردات ؛ بادر العقل بالنسبة الواجبة لها ؛ وذلك لا يوجب خروجها عن كونها بديهية.

وعن التشكيك الثّاني : بمنع وقوع الغلط ، والتّشكيك في المحسوسات التى هى أصول البديهيات. فإنّ المحسوسات التى هى أصول البديهيات ما لا يكذبها (٣) العقل ، وما أورده من المحسوسات ؛ فالعقل مكذب لها.

وعن الثالث : بمنع كون (٤) النّفي غير بديهى ، وإن اختلف فيه. وإن لم يكن بديهيا ؛ فلا يمنع ذلك عند تعقّله من مبادرة العقل بالنسبة بينه وبين الإثبات من غير توقف على أمر خارج ؛ فلا تخرج القضية بذلك عن كونها (٥) بديهيّة.

وعن الرابع : بمنع التساوى في الجزم بين البديهيّات ، وما ذكر ؛ فإن الجزم في البديهيات مع الجزم باستحالة مخالفة المجزوم (٦) به عقلا ، وفي غيرها عادة.

وعن الخامس : أنه ليس من شرط البديهى أن لا يخالف أصلا ؛ بل شرطه أن لا يخالفه أكثر العقلاء ، وكل ما خالفه أكثر العقلاء ؛ فلا يكون بديهيا.

والجواب عن الشبهة الثانية : أنّ الطلب لما هو معلوم من وجه ، ومجهولا من وجه : أعنى معلوما بالقوة ، ومجهولا بالفعل. وذلك قد يكون عند كون الإنسان عالما بقضية كلية ، وهو جاهل بما هو داخل تحتها بالجزئية ، أو هو عالم به ؛ لكنه غافل عن الارتباط الواقع بينهما.

__________________

(١) في ب (متى).

(٢) في أ (بالشبهة).

(٣) في ب (يكذبه).

(٤) في ب (أن يكون).

(٥) في ب (أن تكون).

(٦) في ب (البديهيات باستحالة المجزوم).


مثال الأول : علمنا بأنّ كل اثنين زوج ، وجهلنا بزوجية ما في يد زيد مثلا ؛ لجهلنا باثنينيته ؛ لكن جهلنا به إنّما هو جهل بالفعل ، وإن كان معلوما بالقوة من جهة دخوله تحت عموم علمنا ، بأن كل اثنين زوج.

ومثال الثانى : ظنّ كون البغلة المنتفخة البطن حبلى ، مع العلم بأنّها بغلة ، وأنّ كل بغلة عقيم ؛ فالعلم بكونها عقيما واقع بالقوّة ، والجهل بذلك بالفعل.

فمستند الجهل في المثال الأول : إنما هو عدم العلم بالمقدمة (١) الجزئية.

وفي الثانى : الغفلة عن / الارتباط بين المقدمتين ؛ فالطلب إذن إنما (٢) هو لمثل هذا المجهول ؛ فإذا بحث عن الشيء الفلانى أنه كذلك ، أم لا. فإذا ظفر به وعرفه على الصّفات التى كانت معلومة له بالقوة ، عرف لا محالة أنه مطلوبه.

أما أن يكون الطلب لما علم ، أو جهل مطلقا ؛ فلا.

وعن الشبهة الثالثة : أنّ العلم بصحّة النّظر ضرورى ، ومخالفة بعض العقلاء فيه ؛ لا تقدح فيه ، كما سبق. وبه اندفاع الشبهة الرابعة.

ثم وإن سلمنا أنه نظرى ؛ لكن إثبات صحة النظر بالنّظر غير متناقض كما يعلم العلم بالعلم.

وأما نفي صحّة النّظر بالنّظر ؛ فاعتراف بإفضاء النّظر ؛ إلى إبطال النظر ؛ وهو تناقض ، وليس إثبات صحة النظر بالنظر ، هو إثبات صحة النظر بصحة النظر ، (٣) ولا إثبات النظر بالنظر ، حتى يكون الشيء الواحد مثبتا لنفسه ، ويكون من حيث هو مطلوب غير حاصل ، ومن حيث هو آلة في طلب نفسه حاصلا ؛ فيكون تناقضا.

وعن الشبهة الخامسة والسادسة : أنّ النظر الصحيح ، لا يتصور معه التشكّك والريبة في (٤) المنظور فيه ، بخلاف الفاسد (٤).

__________________

(١) في ب (في المقدمة).

(٢) ساقط من ب.

(٣) في ب (ولا هو).

(٤) في ب (في المنظور له بخلاف النظر الفاسد).


فأىّ هذه الأنظار كان بهذه المثابة (١) ؛ فهو النظر الصحيح ، وما عداه فاسد ، والاشتراك في الصحة غير متصور بين الأنظار المتقابلة.

وعن الشبهة السابعة : أنّ ملازمة المطلوب للنظر الصّحيح واجبة ، والتكليف ليس بملازمة المطلوب للنظر الصحيح ؛ بل بالنّظر الّذي يلازمه المطلوب ، وهو مقدور ؛ فلا يلزم ما قيل.

وعن الشبهة الثامنة : أنّ الكلام إنّما هو في النّظر الصّحيح ، وهو ما كانت مقدماته ضروريّة مقترنة بالصّورة الحقّة.

وعند ذلك : فالعلم بانتفاء المعارض يكون ضروريا ؛ لاستحالة تعارض القواطع ؛ فلا تسلسل.

وعن الشبهة التاسعة : أنّ معنى كون النظر الصّحيح مفضيا إلى العلم بالمنظور فيه : أن العلم بالمنظور فيه ، يتعقب النظر الصحيح ، إذا (٢) لم يتعقّبه ضدّ من أضداد العلم.

وعن الشبهة العاشرة : أنا لا نعنى بارتباط العلم بالمنظور فيه بالنظر ، إلا أنه يتعقب النّظر الصحيح (٢) ، ولا يتصور حصوله دون سابقة النظر.

والقول بأنه لا يتصور حصول العلم بأركان النظر معا ممنوع (٣) على ما سبق بيانه (٣) في قاعدة العلم (٤).

وعن الشبهة الحادية عشرة : أنّ ذلك إنّما يصحّ أن لو كان النظر / مفيدا للعلم بالمنظور فيه ؛ وليس كذلك. فإن المفيد ، لا بدّ وأن يوجد مع ما أفاده ، والنّظر مضاد للعلم بالمنظور فيه ؛ فلا يكون معه. نعم غايته أنّ وجود العلم بالمنظور فيه متعقب للنظر ، كما سبق بيانه.

وعن الشبهة الثانية عشرة : أنّ العلم بالمدلول لا يتوقّف على العلم بدلالة الدليل عليه ؛ بل على العلم بالوجه الّذي صار به الدليل دالا على المدلول ، وهما غيران ، والوجه الّذي صار به الدّليل دالا ، غير إضافي.

__________________

(١) في ب (المناسبة).

(٢) من أول (إذا لم يتعقبه ...) ساقط من ب.

(٣) ب (على ما بيناه).

(٤) انظر ل ٨ / أ.


وإن كانت دلالة الدليل إضافية : فإذن العلم بدلالة الدّليل ، والعلم بالمدلول تابعان للعلم بوجه دلالة الدّليل ، وأحدهما ليس تابعا للآخر ؛ بل يقعان معا تبعا للعلم بوجه دلالة الدليل. وهل العلم بالمدلول متأخر عن العلم بوجه دلالة الدليل ، أو معه؟ فقال قوم بالتأخير ؛ لأنّ العلم بوجه دلالة الدّليل من أركان النظر ، والنّظر مضاد للعلم بالمدلول ؛ فلو جاز أن يكون مع ركن من أركان النظر ؛ لجاز أن يكون مع النظر.

والحق ما ارتضاه القاضى : وهو أنّ النّظر بحث عن وجه دلالة الدّليل وبعد العثور عليه ؛ فالنظر يكون مقتضيا ، وليس ركنا منه ؛ فلا يمتنع أن يكون العلم بالمنظور فيه ، مع العلم بوجه دلالة الدليل ، متعقبان للنظر ، ولا يمتنع اجتماع العلوم المختلفة ، كما سبق في قاعدة العلم (١)

وعن الشبهة الثالثة عشرة : أنا إن قلنا : إنّ النظر شرط للعلم بالمنظور فيه ؛ فلا نعنى به غير أن العلم بالمنظور فيه ؛ متوقّف عليه.

وإن قلنا : إنه ليس بشرط ؛ فلا يلزم أن يكون غير متوقف عليه ؛ فإنّ ما يتوقّف عليه الشيء أعمّ من كونه شرطا.

وعن الشبهة الرابعة عشرة : فالمختار (٢) أنّ مدلول الدّليل ، وجود الصانع ، ومع ذلك فلا نسلم أنّ الدليل يوجب المدلول ، ولا يولده ، ولا يتضمنه ؛ بل هو متعلق به ؛ والتعلق (٣) أعم مما ذكر (٣).

والّذي يقول بكونه متضمّنا : إنما هو العلم بوجه الدليل ، للعلم بالمدلول ، فالنسبة بين الدليل والمدلول بالتعلّق ، وبين العلم بوجه الدليل ، والعلم بالمدلول بالتّضمين.

وعن الشبهة الخامسة عشرة : بمنع وجود أمر للناظر وراء علمه بالمقدمات المترتبة الترتيب المفضى إلى المطلوب ، والعلم بوجه دلالة الدليل ، والعلم بالمنظور فيه : وهو القدر الّذي يجده كل عاقل من نفسه ؛ وليس ذلك حالا.

وإن سلمنا وجود حال / له زائدة على ذلك ؛ فلازمة من علمه بوجه دلالة الدليل ؛ والعلم بوجه دلالة الدليل واحد لا تعدّد فيه.

__________________

(١) انظر ل ٨ / أ.

(٢) في ب (المختار).

(٣) في ب (والتعلم أعم مما ذكرنا).


وأما الشبهة السادسة عشرة : فلازمة على من قال من المعتزلة بأن الجهل مماثل للعلم ، ولا يحصل له الانفصال عنها بتمييز العلم عن الجهل بركون النفس إلى المعتقد في العلم ، بخلاف الجهل ؛ فإن ذلك مع القول بالتماثل ممتنع.

كيف ويلزم عليه اعتقاد الكفرة المصممين على معتقداتهم ، الداعين إليها مع موافقته أنه (١) ليس بعلم (٢).

وأما نحن فنقول :

إذا تمّ النّظر الصحيح ، وحصل عند الناظر العلم بالمقدمات الصادقة ، وترتيبها المفضى إلى لزوم المطلوب ؛ فإنّا نعلم بالضّرورة أن اللازم عنه علم ، وليس بجهل ولا غيره ، وإذا كان النظر غير صحيح ؛ فلا نجد ذلك أصلا.

__________________

(١) في ب (له أنه).

(٢) زائد في ب (قال شيخنا أبو الحسن الآمدي).


الفصل الرابع

في كيفية لزوم العلم بالمنظور فيه عن النظر الصحيح

ولا خلاف عند القائلين بالنظر في لزوم العلم بالمنظور فيه عن النّظر الصحيح (١) غير أن منهم من قال : النّظر الصّحيح (٢) موجب للعلم (٢) بالمنظور فيه

وهو خطأ ؛ فإن الموجب لا بدّ وأن يكون متحققا مع الموجب. والنّظر مضاد للعلم بالمنظور فيه ، (٣) كما عرف في قاعدة العلم (٣) ، فلا يكون معه ؛ فلا يكون موجبا له.

وإن فسّر معنى الإيجاب : بما لا يفتقر فيه إلى الوجود مع الوجود ؛ فحاصل النزاع معه في العبارة.

وقالت المعتزلة : (٤) النظر مولّد للعلم بالمنظور فيه. ومنعوا أن يكون تذكّر النظر مولدا له ؛ إذ التذكّر قد يقع بطريق الضّرورة من غير كسب بفعل الله ـ تعالى ـ ، فلو كان التذكّر مولدا للعلم بالمنظور فيه ؛ لكان العلم به من فعل فاعل السبب وهو التذكر.

ويلزم من ذلك ارتفاع التكليف بالمعارف النظرية ؛ إذ هو تكليف بفعل الغير ، وهو قبيح على أصولهم. بخلاف النظر ؛ فإنّه مقدور للناظر.

وطريق (٥) الرد عليهم يأتى في إبطال التولد إن شاء الله ـ تعالى ـ (٦)

ثم ما ذكروه في امتناع تولد العلم بالمنظور فيه عن تذكّر النّظر ؛ يوجب امتناع حصول العلم بالمنظور فيه عن تذكر النظر ؛ لأنه لو حصل العلم به : فإما أن يكون متولدا عنه ، أو لا يكون متولدا عنه. والتولد لا يقولون به.

وإن لم يكن متولدا : فإما أن يكون واقعا ضروريا ، أو مكتسبا :

فإن كان الأول : فالتكليف به يكون ممتنعا ؛ وهو ممتنع على أصولهم.

__________________

(١) انظر الإرشاد ص ٦ ، ٧ وشرح الطوالع ص ٣١ ، ٣٢ وشرح المواقف ص ١٠٧ ـ ١١٠ وشرح المقاصد ص ٢٧ ـ ٣١.

(٢) في ب (يوجب العلم) والقائلون بالإيجاب هم الفلاسفة.

(٣) ساقط من ب انظر ل ١٥ / أ.

(٤) انظر المغنى ١٢ / ٧٧ للقاضى عبد الجبار.

(٥) في ب (بطريق).

(٦) انظر ل ٢٧٣ / أو ما بعدها.


وإن كان مكتسبا : فيلزمهم جواز وقوع العلم / المكتسب من غير سابقة نظر ولا تذكر نظر ، إذ لا نظر وتذكر النظر عديم الأثر ؛ ولم يقولوا به.

فالحق ما اختاره أصحابنا : من أن النظر الصحيح يتضمن العلم بالمنظور فيه على ما سبق تفسيره في قاعدة العلم (١).

__________________

(١) راجع ما سبق ل ١٥ / ب وما بعدها.


الفصل الخامس

في أن النّظر الفاسد لا يتضمّن الجهل (١)

والنظر الفاسد : وهو ما لم يعلم (٢) فيه وجه (٢) دلالة الدليل على المدلول ـ على ما حققناه (٣) ـ لا يتضمّن الجهل : وهو اعتقاد (٤) الشيء على خلاف ما هو عليه.

وقال بعض الفقهاء (٥) : النّظر في الشبهة مع عدم العلم بوجه دلالة الدليل يتضمن الجهل.

وربما أحتج على ذلك بأنّ من اعتقد أن العالم قديم ، وأنّ كل قديم واجب الوجود لذاته. فإن هذا النظر ـ مع فساده ـ يتضمن اعتقاد أن العالم واجب الوجود لذاته : أى يلازمه عند نفي الآفات ، وأضداد الاعتقاد : كما في النظر الصحيح. وإن كان جهلا ـ وهو غلط ـ فإنّ النظر الفاسد ، وإن لازمه الجهل على ما قيل ، فلا يلزم أن يكون النظر الفاسد يتضمنه ؛ إذ المراد بتضمن النظر للمطلوب : أن يكون الدليل المنظور فيه مع المطلوب على صفتين في ذاتيهما ، لا يتصوّر معهما الانفكاك بينهما ، مع انتفاء أضداد المطلوب ـ كما حققناه ـ وهذا هو الّذي نفيناه عن النظر الفاسد ، لا مطلق اللزوم وهو كذلك.

وبيانه : أن الشبهة المنظور فيها ، ليس لها لذاتها صفة ولا وجه يلازمه المطلوب ، بل الملازمة بينها وبين المطلوب ترجع إلى اعتقاد الناظر وجود صفة في الشبهة يلازمها المطلوب ، وهو مخطئ فيه. بخلاف الدليل ، فإنه لصفة ذاته على وجه يلازم النظر فيه العلم بالمطلوب.

__________________

(١) انظر الإرشاد ص ٦ ، ٧ والشامل للجوينى ص ٩٩ والمغنى ١٢ / ١٠٤ للقاضى عبد الجبار والمحصل ص ٢٩ للرازى وشرح المواقف ص ١٢٦ ـ ١٢٨ للجرجانى وشرح الطوالع للأصفهانى ص ٣١ ، ٣٢ وشرح المقاصد ص ٣١ للتفتازانى.

(٢) في ب (منه وجود).

(٣) انظر ل ١٦ / أ.

(٤) في ب (المعتقد).

(٥) انظر الشامل ص ٩٩ للجوينى.


وبيانه أن الشبهة ليس لها صفة ، ولا وجه يكون مناطا للملازمة عند النظر. ولهذا فإنه على تقدير ظهور الغلط في كنه وجه الدّلالة لا ينفى الدّلالة ، ولو كانت الدّلالة لوصف ذاتى في الشبهة ، لما انتفت الدلالة ، ولكان إحاطة المعصومين عن الخطأ ـ كالأنبياء عليهم‌السلام ـ بها عند النظر فيها ، أولى.

وحيث لم يحصل لهم الجهل بالنظر في الشبهة : دلّ على عدم وجه الدلالة فيها ؛ بل (١) ولكان البارى ـ تعالى ـ عالما (١) بها ، وما دلت عليه من الجهل حاصلا له ؛ فيكون جاهلا ، تعالى الله عن ذلك.

والّذي يدل على ذلك أيضا : هو أنّ الشّبهة الواحدة ، قد يختلف اعتقاد الناظرين / فيها بالجهل ، والظّن ، والشّك. ولو كانت جهة الدلالة لوجه ذاتى في الشبهة ؛ لما وقع الاختلاف ، كما في الدّليل.

__________________

(١) في ب (ولكان البارى).


الفصل السادس

فيما قيل (١) من أنّ النّظر ينقسم إلى خفي ، وجلى (١)

وقد ذهب بعضهم (٢) إلى أنّ : مراتب النّظر الصّحيح متفاوتة ، ومنقسمة إلى (٣) الخفي والجلى ، محتجا على ذلك (٣) بما تجده من سرعة بعض النظار إلى إدراك مقصده ، وبعد غيره ، وافتقار البعض إلى بحث (٤) أشدّ من بحث الآخر ، وذلك مختلف باختلاف المطلوب في قرب الإدراك وبعده. حتى إن النّظر في مسألة افتقار الممكن إلى محدث (٥) أقرب وأجلى من النظر في مسألة حدوث العالم ، وغيرها من المسائل الغامضة الدقيقة. وإطلاق العقلاء ، وأهل التحقيق ، شائع ذائع بقولهم : هذا نظر جلى ، وهذا خفي ؛ وهو بعيد عن التحقيق ، فإنّ النظر بحث يطلب به البيان ، وهو مضاد للبيان ، على ما تقدم في القاعدة الأولى (٦) ، وما يضاد البيان ؛ لا يكون موصوفا به ، وما لا يكون موصوفا بالبيان لا يقال : منه ما هو جلى ، وخفي ؛ إذ الجلاء ، والخفاء من صفات البيان. وسرعة بعض النظار في إدراك مقصده ، وبعد الآخر ؛ ليس بسبب تفاوت النظر في الجلاء والخفاء ؛ بل إنّما ذلك بسبب استناد النظر إلى الضّروريات وقلّة الوسائط المستندة إليها وكثرتها ، وطول الزمان وقصره ، أو بسبب التفاوت في كلال القريحة ، والقوى الدراكة في البحث عن وجه دلالة الدليل.

وبالنظر إلى الاحتمال الأول : كان قرب حصول بعض المطلوبات دون البعض. وعليه يجب حمل الإطلاق بانقسام النظر إلى الجلى ، والخفي.

أما أن يكون أحد النظرين أبين في نفسه من النّظر الآخر ؛ فلا.

وإن أطلق الجلاء والخفاء باعتبار ما حققناه ؛ فالمنازعة في اللفظ دون المعنى.

__________________

(١) في ب (إن النظر ينقسم إلى جلى ، وخفي). انظر طوالع الأنوار ص ٣١ ، ٣٢.

(٢) وقد وضح إمام الحرمين هذا البعض بأنهم بعض المنتمين إلى الأصوليين ، وأسهب في الرد عليهم في الشامل ص ١٠١ ـ ١٠٥ وما هنا قد يكون مختصرا لما أورده إمام الحرمين في الشامل.

(٣) في ب (الجلى والخفي محتجا إلى ذلك).

(٤) في ب (أبحاث).

(٥) في ب (المحدث).

(٦) انظر ل ١٥ / أ.


الفصل السابع

في وجوب النظر (١)

أجمع أكثر أصحابنا ، والمعتزلة ، وكثير من أهل الحق من المسلمين ، (٢) على أن النظر (٢) المؤدى إلى معرفة الله ـ تعالى ـ واجب.

غير أن مدرك وجوبه عندنا : الشرع. خلافا للمعتزلة في قولهم : إن مدرك وجوبه : العقل ، دون الشرع.

وقد احتج أصحابنا على وجوبه من جهة الشرع بمسلكين :

المسلك الأول : التمسك / بظواهر النّصوص الدّالة على وجوب النظر.

منها قوله ـ تعالى ـ : (قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (٣).

ومنها قوله ـ تعالى ـ : (فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) (٤).

أمر بالنظر ، والأمر ظاهر في الوجوب.

وأيضا : لما نزل قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) (٥) ، قال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «ويل لمن لاكها بين لحييه ولم يتفكّر (٦) فيها» تواعد بترك الفكر والنظر فيها ؛ وهو دليل الوجوب. إلى غير ذلك من الأدلّة. وموضع معرفته : أن صيغة افعل : للأمر ، وأنّ الأمر للوجوب ؛ فلا يفي بأصول الفقه. وعلى كل تقدير ؛ فهى غير خارجة عن الحجج الظاهرية ، والأدلة الظنية.

__________________

(١) انظر المغنى ج ١٢ ص ٣٤٧ ـ ٥٣٣ وشرح الأصول الخمسة ص ٦٦ ـ ٧٠ والمحيط بالتكليف ص ٢٦ ـ ٣٢ للقاضى عبد الجبار. وانظر أصول الدين ص ٣١ ـ ٣٢ للبغدادى. والشامل ص ١١٥ ، ١٢٠ والإرشاد ص ٨ ـ ١١ للجوينى والمحصّل ص ٢٨ للرازى. وشرح الطوالع للأصفهانى ص ٣٣ ـ ٣٥ ثم قارن بشرح المواقف ص ١١١ ـ ١٢٣ للجرجانى وشرح المقاصد ص ٣٣ للتفتازانى.

(٢) في ب (ان اللفظ).

(٣) سورة يونس ١٠ / ١٠١.

(٤) سورة الروم ٣٠ / ٥٠.

(٥) سورة آل عمران ٣ / ١٩٠.

(٦) روى عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت : لما نزلت هذه الآية على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قام يصلى ، فآتاه بلال يؤذنه بالصلاة فرآه يبكى. فقال : يا رسول الله : أتبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. فقال : يا بلال : أفلا أكون عبدا شكورا. ولقد أنزل الله عليّ الليلة آية : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ.) ثم قال : «ويل لمن قرأها ، ولم يتفكر فيها» [تفسير القرطبى ٤ / ٣١٠].


المسلك الثانى : هو أنهم قالوا : أجمعت الأمة (١) من المسلمين على وجوب معرفة الله ـ تعالى ـ ؛ ووجوب معرفة الله ـ تعالى ـ لا يتم إلا بالنظر ـ إذ هو غير بديهى ـ وكل ما لا يتم الواجب إلا به ؛ فهو واجب ؛ فالنظر واجب (٢).

وهذا هو المعتمد (٣) عند جمهور الأصحاب ، وترد عليه إشكالات :

الأول : أن وجوب المعرفة متوقف على إمكان المعرفة ؛ وهى غير ممكنة ؛ لأنها لو كانت ممكنة : فإما (٤) أن تكون ضرورية ، أو نظرية.

والأول : محال. فإنه لو خلى الإنسان ، ودواعى نفسه من مبدأ نشوه (٥) من غير نظر ؛ لم يجد من نفسه [العلم (٦) بذلك أصلا] (٦) ؛ وليس الضرورى كذلك.

والثانى : فمتوقف على إمكان إفضاء النظر إلى العلم ؛ وهو ممتنع كما (٧) سبق في إنكار (٧) النظر.

سلمنا إمكان المعرفة ؛ ولكن لا نسلم إمكان وجوبها شرعا ؛ فإن الإيجاب الشرعى ؛ إنما يكون بإيجاب الله ـ تعالى ـ وإيجابه بأمره.

وهو : إما أن يكون أمرا للعارف بالله ـ تعالى ـ ، أو لغيره.

الأول : محال ؛ لما فيه من الأمر بتحصيل الحاصل.

والثانى : محال ؛ لأن معرفة أمره متوقّفة على معرفته في نفسه ؛ فإن من لا يعرف الآمر ؛ لا يعرف أمره.

فإذن إيجابه يتوقف على معرفته ، ومعرفته تتوقف على معرفة إيجابه ؛ فيكون دورا.

سلمنا إمكان وجوب المعرفة شرعا ؛ ولكن لا نسلم الوقوع.

__________________

(١) عن مستند الإجماع وبيان حقيقته ، وما يتعلق به من المسائل. انظر الإحكام للآمدى ص ١٤٧ ـ ٢٠٩ ومنتهى السئول في علم الأصول ـ له أيضا ص ٤٩ ـ ٦٧. وما ورد في غاية المرام ص ٣٦٤ ـ ٣٩٠.

(٢) زائد في ب (قال شيخنا أبو الحسن الآمدي).

(٣) في ب (المعنى المعتمد عليه).

(٤) في ب (لم يخل إما).

(٥) في ب (النشو).

(٦) في أ (بذلك العلم أصلا).

(٧) في ب (لما سبق في إمكان). انظر ل ١٩ / أ.


قولكم : الأمة مجمعة على ذلك. لا نسلم تصور انعقاد الإجماع ؛ فإن الأمة مع كثرتها ، واختلاف دواعيها ، مما يمتنع عادة اتفاقهم على شيء واحد. كما يمتنع اتفاقهم على أكل طعام واحد في يوم واحد.

سلمنا (١) تصور انعقاد الإجماع ؛ ولكن لا نسلم كونه حجة (١) ، وبيانه من / وجهين:

الأول : أن كل واحد من آحاد الإجماع يتصور عليه الخطأ بتقدير انفراده ، فإذا (٢) انضم قول المخطئ إلى المخطئ الآخر ؛ لا يصير بذلك صوابا ، ولا حجة.

[الثانى] (٣) : سلمنا الإصابة في إجماعهم ؛ ولكن متى يجب على المجتهد اتباع الإجماع؟

إذا كان مصيبا في اجتهاده ، أو إذا لم يكن.

الأول : ممنوع ؛ فإنه ليس ترك أحد الصوابين (٤) ، واتباع الآخر أولى من العكس. والثانى : فيوجب إمكان تطرق الخطأ إلى كل واحد من آحاد الإجماع ، ويخرج عن كونه حجة كما سلف.

سلمنا أن الإجماع حجة ؛ ولكن لا نسلم وقوعه فيما نحن فيه. وبيانه من جهة الإجمال ، والتفصيل.

أما الإجمال : فهو أن الإجماع لا يتم إلا باتفاق جميع أهل الحل والعقد في عصر من الأعصار. ويحتمل أنّ واحدا منهم كان في بلاد الكفار ، وفي موضع لا يبلغه حكم هذه الواقعة ، ولا هو مجتهد فيها. ومع تطرق هذا الاحتمال ؛ فلا إجماع.

وأما التفصيل : فمن وجهين :

الأول : هو أن كثيرا من المسلمين ، وأهل الحق. قد ذهبوا إلى أن جميع العلوم تقع ضرورية غير مقدورة للعباد ، ولا مكتسبة لهم. وما يكون وقوعه ضروريا ، لا يكون واجبا ـ وكل من اعتقدها ضرورية ، اعتقد أنها غير واجبة ؛ ومع هذه المخالفة ؛ فلا إجماع.

__________________

(١) من أول (سلمنا تصور ...) ساقط من ب.

(٢) في ب (فإن).

(٣) ساقط من أ.

(٤) في ب (القولين).


الوجه الثانى : هو أنّا نعلم أنه ما من عصر من الأعصار من زمن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ والصحابة (١) إلى زمننا هذا. إلا وفيه العوام ، ومن لا علم له بالله ـ تعالى ـ وذاته وصفاته على ما يليق [به] (٢) عن بديهة ، ولا نظر ؛ لعدم أهلية النظر والاستدلال في حقهم وهم أكثر الخلق في كل عصر ؛ بل غاية الموجود في حقهم مجرد الإقرار باللسان ، والتقليد المحض الّذي لا يقين فيه. ومع ذلك فالنبى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ والصحابة والأئمة من كل عصر حاكمون بإسلامهم قاضون بإيمانهم ، مقرون لهم على ذلك ؛ بل وقد كانوا يقرون من يعلم بالضرورة عدم اعتقاد المسائل الغامضة في حقه ؛ كدقائق مسائل الصفات ، وغيرها [مما لا خطور لها] (٣) بذهنه. فضلا عن كونه معتقدا لها.

ولو كانت المعرفة بالله ـ تعالى ـ واجبة شرعا ؛ لما جاز من النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ والصحابة والأئمة ، الإقرار على تركها ، وإهمال التوصّل إلى تحصيلها ، وإن (٤) سمى مسم الاعتقاد (٤) التقليدى علما ؛ فلا منازعة معه / في غير التسمية.

سلمنا وقوع الإجماع على وجوب معرفة الله ـ تعالى ـ ولكن لا نسلم صحة إفضاء النظر إلى وجوبه ؛ فضلا عن كونه متوقفا عليه. وبيانه ما سبق من إنكار النظر (٥).

سلمنا صحة إفضاء النظر إليه ، ولكن (٦) لا نسلم أنه لا طريق إلى معرفة الله ـ تعالى ـ إلا النظر ، والاستدلال ؛ بل امكن حصولها بطريق آخر :

إما بأن يخلق الله ـ تعالى ـ للمكلف العلم بذلك من غير واسطة. وإما بأن يخبره به من لا يشك في صدقه : كالمؤيد بالمعجزات القاطعة.

__________________

(١) في ب (وأصحابه).

(٢) ساقط من أ.

(٣) الموجود في أ (ما لا خطور لها) ، ب (مما لا خطور له).

(٤) في ب (فان سمى مسم للاعتقاد).

(٥) انظر ل ١٩ / أوما بعدها.

(٦) نقل ابن تيمية ما ذكره الآمدي ـ في مسألة وجوب النظر ـ لما ذكر حجة الخصم «إنا لا نسلم أنه لا طريق» إلى قوله «ولا تعلم ولا تعليم» في كتابه (درء تعارض العقل والنقل ٧ / ٣٥٦) ثم ذكر جواب الآمدي على الخصوم ، وأيده واستشهد به في ص ٣٥٧. راجع ما سيأتى في هامش ل ٢٨ / أ.


وإما بطريق السلوك والرياضة ، وتصفية النفس وتكميل جوهرها ، حتى تصير متصلة بالعوالم العلوية عالمة بها ، مطلعة على ما ظهر وبطن من غير احتياج إلى دليل ، ولا تعلم ، ولا تعليم. على ما سيأتى تحقيقه في النبوات (١).

سلمنا أنه لا طريق إلى معرفة الله ـ تعالى ـ إلا بالنظر ؛ ولكن لا نسلم أن ما لا يتم الواجب إلا به ؛ فهو واجب.

ويدل عليه أنه لا تحقق للمعرفة دون وجود الدليل المنصوب عليها ، وانتفاء الأضداد المانعة منها ، وأن يكون العارف بها موجودا ، حيا ، عاقلا. وليس شيء من ذلك واجبا ، لعدم القدرة عليه.

سلمنا دلالة ما ذكرتموه على وجوب النّظر ؛ لكن معنا ما يدل على أنه ليس واجبا.

وبيانه من أربعة أوجه.

الأول : أنه لم ينقل عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولا عن الصحابة. الخوض في النظر والاستدلال في مسائل الكلام ، وتفاصيلها. ولو خاضوا في ذلك ؛ لنقل عنهم : كما نقل عنهم الخوض والبحث في المسائل الفقهية على اختلاف أصنافها ، ولو كان النظر المؤدى إلى ذلك واجبا ؛ كان الصحابة والتابعون ، أولى بالمحافظة عليه ؛ فحيث لم ينقل عنهم ذلك ؛ دلّ على أنه غير واجب.

الثانى : إنكار النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ على البحث في هذه المسائل والنظر فيها ؛ حيث أنكر على الصحابة وقد رآهم يتكلمون في القدر وقال : «إنّما هلك من كان قبلكم ؛ لخوضهم في هذا (٢)» وقال أيضا : «عليكم بدين العجائز (٣)». وهو الكف عن النظر. إلى غير ذلك ، وتابعه على ذلك : الصحابة ، والتابعون ، والأئمة المجتهدون. والأخبار المأثورة عنهم في ذلك أكثر من أن تحصى.

__________________

(١) انظر الجزء الثانى من الأبكار ١٢٨ / أوما بعدها.

(٢) الموجود بهذا اللفظ. «إنما هلك من كان قبلكم لسؤالهم أنبياءهم واختلافهم عليهم ، ولن يؤمن أحد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره» عن عمرو رضى الله عنه. المعجم الكبير للطبرانى.

(٣) «عليكم بدين العجائز» قال السخاوى : لا أصل له بهذا اللفظ. وورد بمعناه أحاديث لا تخلو عن ضعف. [انظر الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة. المعروف بالموضوعات الكبرى للملا على القارى. ط المكتب الإسلامى ط ٢ سنة ١٩٨٦ ص ٢٤٨] وانظر ما ذكره الآمدي عنه في ل ٢٩ / أ.


الثالث : هو أن الأمر بالنظر وإيجابه إيجاب لما لا يتم النظر إلا به ، ولا يتم / النظر في معرفة الله ـ تعالى ـ إلا مع عدم المعرفة ؛ لأن النظر مضاد للعلم بالمنظور فيه ؛ فلا يجامعه. فإيجاب النظر المؤدى إلى معرفة الله ـ تعالى ـ ؛ يكون إيجابا لما لا يتم إلا به : وهو عدم المعرفة ؛ وذلك محال.

الرابع : هو أن وجوب النّظر : إما أن يكون معلوما بالضرورة ، أو بالنظر.

لا جائز أن يقال بالأول ؛ لما سلف في العلم بالمعرفة.

وإن قيل بالثانى ؛ فلا معنى لايجاب النّظر ؛ إذ للموجب عليه أن يقول : لا أعرف وجوب النظر ، حتى أنظر ، ولا أنظر حتى أعرف وجوب النظر ؛ وهو دور [ممتنع (١)].

سلمنا أن النّظر واجب ؛ ولكن لا نسلم صحّة انحصار مدرك الوجوب في الشّرع ؛ فإن ذلك مما يفضى إلى إفحام الرسل ، وسقوط حجج الأنبياء عليهم‌السلام ؛ وذلك لأن الرسول ، إذا ادّعى النبوة ، وأظهر المعجزة ، ودعا إلى النّظر فيها لقصد الاستدلال على صدقه ؛ فللمدعو أن يقول : لا أنظر حتى يجب على النظر ، ووجوب النظر متوقف على استقرار الشرع ، واستقرار الشرع موقوف على النظر في المعجزة ؛ وهو ممتنع من ثلاثة أوجه :

الأول : أنه يلزم منه الدّور ؛ حيث توقف النظر على استقرار الشرع ، [وتوقف استقرار الشرع (٢)] على النظر.

الثانى : أنّ النّظر إذا توقف على استقرار الشّرع ، واستقرار الشرع متوقف على النظر ؛ فيكون النظر متوقفا على نفسه.

الثالث : أنه إذا توقف النظر على استقرار الشّرع ، فهو متوقف على ما لو (٣) عرف ؛ لاستغنى به عن النظر ؛ وهو دافع للنظر. (٤)

__________________

(١) ساقط من أ.

(٢) ساقط من أ.

(٣) ساقط من ب.

(٤) زائد في ب (قال شيخنا أبو الحسن الآمدي).


فالجواب عن الإشكال الأول : بانعقاد الإجماع على الوجوب ؛ وهو دليل الإمكان. وما ذكروه في إبطال النظر ؛ فقد سبق جوابه في (١) موضعه.

وعن الثانى : منع توقف الوجوب ، على معرفة الآمر والأمر ؛ بل الوجوب يتحقق ، والشرع يستقر ، بإمكان المعرفة [بالعقل (٢)] الهادى ، والأدلة المنصوبة على ذلك.

وعن الثالث : بوقوع الإجماع ، على وجوب الصلوات الخمس ، وصوم رمضان ، واتفاق الأمة على أنهم مكلفون ، متعبدون باتباع أوامر الله ـ تعالى ـ ونواهيه ؛ ولو كان غير متصور ؛ لما وقع.

وعدم اتفاقهم على أكل طعام واحد ، في يوم واحد ؛ إنما امتنع عادة ؛ لعدم الصارف لهم إليه بخلاف الأحكام الشرعية / ؛ فإن الصّارف لهم إليها اتّباع الحقّ ، والنّصوص المضبوطة الواردة عن النّبي عليه الصلاة والسلام في ذلك.

وعن الرابع : ببيان كونه حجة ؛ وذلك بما ورد عن النبي عليه‌السلام من الألفاظ المختلفة ، المتفقة المعنى ، في الدلالة على شرف هذه الأمة ، وعصمتهم عن الخطأ ؛ بحيث أوجب مجموعها العلم الضرورى بذلك ؛ لنزولها منزلة التواتر ، وإن كانت آحادها غير متواترة ؛ كالأخبار الموجبة علمنا بسخاء حاتم ، وشجاعة عنترة ، وإن كانت آحادها غير متواترة ؛ وذلك ما نقل عنه عليه الصلاة والسلام ، أنه قال : «لا تجتمع أمّتى على الخطأ» ، «لا تجتمع أمّتى على الضّلالة» و «لم يكن الله بالذى يجمع أمتى على الضلالة». و «سألت الله ألّا يجمع أمتى على الضّلالة فأعطانيه» (٣) ، و «من سرّه بحبوحة الجنّة فليلزم الجماعة» وقوله : «يد الله على الجماعة (٤)».

__________________

(١) انظر ل ١٩ / أوما بعدها.

(٢) في أ (والعقل).

(٣) ما ورد هاهنا جزء من حديث عن أبى نضرة الغفارى رضى الله عنه ونصه : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سألت ربى أربعا ، فأعطانى ثلاثا ومنعنى واحدة. سألته أن لا يجمع أمتى على ضلالة ؛ فأعطانيها. وسألته أن لا يهلكهم بالسنين كما أهلك الأمم قبلهم فأعطانيها ، وسألته أن لا يظهر عليهم عدوا من غيرهم فأعطانيها ، وسألته أن لا يلبسهم شيعا ، ولا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها. [مسند الإمام أحمد ١٠ / ٢٧٢٩٣].

(٤) ما أورده الآمدي جزء من حديث ورد عن عرفجة بن جريج الأشجعى في سنن النسائى ٢ / ١٦٦ (كتاب التحريم ـ باب قتل من فارق الجماعة) ونصه فيه «عن عرفجة بن جريج الأشجعى قال : رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على المنبر يخطب الناس فقال : إنه سيكون بعدى هنات وهنات : فمن رأيتموه فارق الجماعة ، أو يريد يفرق أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كائنا من كان فاقتلوه ؛ فإن يد الله على الجماعة ، فإن الشيطان مع من فارق الجماعة يركض».


و «من خرج عن الجماعة ، وفارق الجماعة قيد شبر ؛ فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه» ، و «من فارق الجماعة ومات ، فميتته جاهلية (١)» إلى غير ذلك من الأخبار. وهذه أخبار مرويّة في الكتب الصحاح ، منقولة على لسان الثقات لم يوجد لها نكير (٢).

فإن قيل : يحتمل أنه أراد بذلك العصمة عن الكفر ، أو عن بعض أنواع الخطأ ، وبتقدير أن يريد به العصمة عن الكل ؛ فظاهر لفظ الأمة لكل من آمن به إلى يوم القيامة. ونحن نقول بأن إجماع هؤلاء يكون حجة.

قلنا : أما الأول : فهو تأويل ، وتخصيص بغير دليل ، مع أن في الأخبار ما يدرأ هذه التأويلات ، حيث أنه أوردها في معرض تخصيص هذه الأمة بالتعظيم ، والتمييز ، وفي الحمل على بعض أنواع الخطأ ، ما يبطل فائدة هذا التخصيص ، لمشاركة بعض آحاد الناس لهم في ذلك.

وأما الثانى : فنعلم أنه ما أراد به كل الأمة على ما ذكروه ، ـ ولهذا ندب إلى موافقة الجماعة ، وذمّ على المخالفة ، وتواعد عليه. ولو كان المراد بالجماعة كل الأمة ؛ لما تحقق ذلك إلى يوم القيامة ؛ بل إنما أراد من يتصور منه الموافقة والمخالفة : وهم أهل الحل والعقد دون الصبيان ، والمجانين ، ومن ليس له أهلية الموافقة ، ولا المخالفة.

قولهم : إن الخطأ متصور على كل واحد منهم حالة الانفراد.

قلنا : الحكم الثابت للأفراد ، لا يلزم أن يكون ثابتا للجملة. /

__________________

(١) ورد في ب (من فارق الجماعة قامت قيامته جاهلية).

(٢) وقد أورد السيوطى بعضها في الجامع الصغير بلفظ (إن الله تعالى قد أجار أمتى أن تجتمع على ضلالة) عن أنس ورمز له بالضعف ، ولم يذكر من خرجه. انظر الجامع الصغير ج ١ حديث رقم ١٧٦٠. وبلفظ (إن الله تعالى لا يجمع أمتى على ضلالة ويد الله على الجماعة من شذ شذ في النار) أخرجه الترمذي عن ابن عمر ، ورمز له السيوطى بالحسن. الجامع الصغير ج ١ رقم ١٨١٨. تحقيق محمد محى الدين ـ المكتبة التجارية.

وقد أورد الآمدي هذه الأحاديث في كتابه الإحكام ص ١٦٢ ، ١٦٣ مقدما لها بقوله : «وأما السنة وهى أقرب الطرق في إثبات كون الإجماع حجة قاطعة ، فمن ذلك ما روى أجلاء الصحابة ، كعمر ، وابن مسعود ، وأبى سعيد الخدرى ، وأنس بن مالك ، وابن عمر ، وأبى هريرة ، وحذيفة بن اليمان ، وغيرهم. بروايات مختلفة الألفاظ متفقة المعنى في الدلالة على عصمة هذه الأمة عن الخطأ ، والضلالة.


قولهم : متى يجب على المجتهد اتباع الإجماع ، إذا كان مصيبا ، أو مخطئا؟

قلنا : إذا ثبت الإصابة فيما أجمع عليه الأمة ؛ فقد أجمعوا على أنه يجب اتباع الإجماع مطلقا ، ويلزم أن يكون اتباع الإجماع صوابا ؛ فإذا كان صوابا ، كان خلافه خطأ. ويدل على وجوب اتباع الإجماع مطلقا ، ذم النبي (١) عليه‌السلام (١) لمخالف الجماعة على ما سبق ، والاستقصاء فى هذا الباب لائق بأصول الأحكام.

قولهم : يحتمل أن واحدا من أهل الحل ، والعقد ، كان منقطعا فى بعض البلاد النائية.

قلنا : الغالب من حال من هو من أهل الحل والعقد ؛ أن يكون مشهورا معروفا ، ولا سيما فى العصر الأول ، لقلة المجتهدين فيه. وعند ذلك ؛ فالغالب معرفة مذهبه ، ومراجعته فى ذلك. كيف وأنه يحتمل غيبة المجتهد ، كما ذكروه ، ويحتمل عدم الغيبة والأصل عدم الغيبة ؛ فمن ادعاه يحتاج إلى الدليل (٢).

وما ذكروه فى الوجه الأول من التفصيل ـ وإن كان حقا ـ إلا أن القائل به مسبوق بالإجماع ، فكان حجة عليه.

وما ذكروه فى الوجه الثانى من التفصيل ؛ فغير مسلم ؛ وذلك لأن المعرفة الواجبة تنقسم إلى : ما حصولها عن معرفة الدليل من جهة الجملة ، لا من جهة التفصيل بأن لم يكن مقدورا على تحريره وتقريره ، والانفصال عن الشبهة الواردة عليه. وإلى ما حصولها عن الدليل المعلوم بجهة التفصيل المقدور على تحريره ، وتقريره ، ودفع الشبهة الواردة عليه ، وعلى المناظرة ؛ فلا جرم اختلف الأصحاب فيه.

فمنهم من قال : المعرفة بالاعتبار الأول : واجبة على الأعيان ، والمعرفة بالاعتبار الثانى : واجبة وجوب كفاية : إذا أضرب عنها الجميع أثموا ، وإن قام بها البعض ، سقطت عن الباقين.

ومنهم من قال : إن المعرفة بالاعتبار الثانى : واجبة على الأعيان ، لكن إن كان الاعتقاد موافقا للمعتقد. من غير دليل ، ولا شبهة ؛ فصاحبه مؤمن عاص بترك النظر الواجب.

__________________

(١) فى ب (صلى‌الله‌عليه‌وسلم).

(٢) فى ب (دليل).


ومنهم من اكتفى فى المعرفة بمجرد الاعتقاد ، الموافق للمعتقد ؛ وإن لم يكن عن دليل ، وسماه علما.

وصار أبو هاشم ـ من المعتزلة ـ : إلى أن من لا يعرف الله ـ تعالى ـ بالدليل ؛ فهو كافر ؛ لأنّ ضد المعرفة النكرة (١). والنكرة كفر ؛ وأصحابنا مجمعون على خلافه.

وعلى هذا / إن قلنا : إن الواجب هو الاعتقاد الموافق للمعتقد ـ وإن لم يكن عن دليل ـ فلا يلزم من وجوب المعرفة بهذا التفسير ، وجوب النظر.

وإن قلنا : الواجب (٢) هو المعرفة المستندة إلى الدليل المفصل ؛ لزم عليه تقرير العوام على تركه ؛ فلم يبق إلا المعرفة بالدليل ، من جهة الجملة ، لا من جهة التفصيل ؛ وذلك مما لا يسلم انتفاؤه فى حق العوام حتى يقال بعدم وجوبه فى حقهم مع التقرير لهم عليه ؛ بل التقرير إنما هو على عدم المعرفة بالدليل المفصل ؛ وهو غير واجب على الأعيان عندنا ، وإليه ميل أبى المعالى ، وبه دفع الإشكال.

وأما إنكار إفضاء النظر إلى العلم ؛ فقد سبق جوابه (٣).

قولهم (٤) : لا نسلم توقف المعرفة على النظر.

قلنا : نحن إنما نقول بوجوب النظر فى حق من لم يحصل له العلم بالله تعالى بغير النظر ، وإلا فمن حصلت له المعرفة بالله تعالى بغير النظر ؛ فالنظر فى حقه غير واجب.

قولهم : لا نسلم أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ؛ فقد أجاب عنه بعضهم ؛ بأنه لو لم يجب ما لا يتم الواجب إلا به ؛ فإيجاب ذلك الواجب يكون تكليفا بما لا يطاق (٥).

__________________

(١) ساقط من ب

(٢) فى ب (إن الواجب).

(٣) انظر ل ٢١ / ب وما بعدها.

(٤) نقل ابن تيمية ما ذكره الآمدي من أول قوله : «قولهم : لا نسلم توقف المعرفة إلى قوله فالنظر فى حقه غير واجب» وعلق عليه مؤيدا له ومستشهدا به (درء تعارض العقل والنقل ٧ / ٣٥٦).

(٥) زائد فى ب (قال شيخنا أبو الحسن الآمدي).


وهو غير سديد ، فإنه إنما يكون تكليفا بما لا يطاق ؛ أن لو كان ما توقف الواجب (١) على فعله غير ممكن ، وعدم إيجابه لا يخرجه عن الإمكان ؛ فالأقرب (٢) فى ذلك أن يقال:

إذا ثبت وجوب المعرفة ؛ فالمعرفة من جهة حقيقتها وماهيتها ، لا توصف بالوجوب الثابت بخطاب التكليف ؛ فإن خطاب التكليف بالوجوب ، والتحريم : إنما يتعلق بأفعال المكلفين ، والمعرفة ليست من صفات الأفعال ؛ ولهذا لا يقال لمن عرف شيئا من جهة كونه عارفا أنه فعل شيئا. فإذا قيل بوجوب المعرفة ؛ فمعناه وجوب تحصيلها ، والتحصيل إنما يكون بسلوك ما به تحصل المعرفة.

فإذا قلنا : يجب التحصيل بما ليس واجبا ؛ كان متناقضا لفظا ، ومعنى ، وهو ممتنع.

وأما ما يتوقف عليه الواجب مما ليس فعلا للمكلف ، ولا مقدورا له ؛ فلا يمكن إيجابه إلا على رأى من لا يمنع التكليف بما لا يطاق ، بخلاف ما كان مقدورا للمكلف : كالنظر ، ونحوه.

قولهم : لم ينقل عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولا عن أحد من الصحابة الخوض فى النظر ، فى مثل هذه المسائل.

قلنا : لأنهم كانوا مشاهدين الوحى ، والتنزيل ، وعقائدهم صافية ، وأدلّتهم من الكتاب والسنة ظاهرة ، ولم يكن فى زمانهم / من يحوج إلى النظر ، والمناظرة.

أما أن يكونوا جاهلين بأدلة هذه المسائل ، ومعرفة الله ـ تعالى ـ وصفاته ، مع صفاء أذهانهم ، وشدّة قرائحهم ، وصلابتهم فى (٣) التنقير عن قواعد الدين ، وتحقيق مراسمه ـ والكتاب والسنة مشحونان بأدلتها ـ مع معرفة الآحاد منا لذلك ؛ فهو بعيد ، لا يعتقده من له أدنى تحصيل ، كما لم ينقل عنهم أنهم وضعوا كتبا فى التفسير ، والحديث ، والجرح والتعديل ، والناسخ والمنسوخ ، والأحكام الفقهية ، على الترتيب الخاص ، والمراسم

__________________

(١) فى ب (الإيجاب).

(٢) فى ب (والأقرب).

(٣) فى ب (مع).


المعهودة فى زمننا هذا ، مع أنهم أعلم الناس بأصولها ، وفروعها ، وإليهم مرجعها ، وهم ينبوعها.

قولهم : إن النبي عليه‌السلام ، والصحابة أنكروا (١) النظر.

لا نسلم ذلك ؛ فإنا بينا أن النّظر واجب بالطريقين السابقين ، وما يكون واجبا ؛ لا يكون منكرا ، ثم كيف يكون النّظر منكرا ؛ وقد أثنى الله ـ تعالى (١) ـ على الناظرين ، والمتفكرين بقوله ـ تعالى ـ (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) (٢) والمنكر لا يثنى على فعله ؛ بل الإنكار إنما كان على المجادلة والمناظرة ، ولا كل مناظرة ومجادلة ، بل المناظرة بالأهواء ، والمجادلة لقصد التّشكيك فى الحق ، والإغواء ؛ وذلك بتقرير الشبه الفاسدة ، والآراء الباطلة ، ودفع الحجج الحقة ، والمكابرة فيها ، والتدليس ، والتلبيس ؛ بإظهار الباطل فى صورة الحق ، كما قال ـ تعالى ـ (وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ) (٣) وقال ـ تعالى ـ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) (٤)

وأما المناظرة والمجادلة بالحق ، ولقصد إظهار الحق ؛ فمأمور بها ، ومأذون فيها بقوله ـ تعالى ـ (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (٥) وقوله تعالى : (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (٦).

وقد ناظر النبي (٧) عليه الصلاة والسلام (٧) لعبد الله بن الزبعرى : حيث اعترض على النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عند نزول قوله ـ تعالى ـ (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) (٨) فقال عبد الله بن الزبعرى : فقد عبدت الملائكة ، والمسيح (٩). أفتراهم يعذبون؟

__________________

(١) من أول (أنكروا النظر ...) ناقص من (ب).

(٢) سورة آل عمران ٣ / ١٩١.

(٣) سورة غافر ٤٠ / ٥.

(٤) سورة الحج ٢٢ / ٨.

(٥) سورة النحل ١٦ / ١٢٥.

(٦) سورة العنكبوت ٢٩ / ٤٦.

(٧) فى ب (صلى‌الله‌عليه‌وسلم).

(٨) سورة الأنبياء ٢١ / ٩٨.

(٩) ساقط من (ب).


فقال له النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما أجهلك بلغة قومك ، إذا علمت أنّ ما لما لا يعقل» وكان أهل مكة : يحاجون / النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) ويوردون عليه الشّبه ، والتّشكيكات ، ويطالبونه بالحجج على التوحيد والنبوة على ما قال ـ تعالى ـ : (بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) (٢) وكان النبي عليه الصلاة والسلام : يحاجهم ، ويناظرهم : بإيراد الآيات ، والدلائل الواضحات. وقد كان الصحابة رضى الله عنهم يناظرون فى ذلك : كما روى عن على كرم الله وجهه أنه قال لمن قال : «إنّي أملك حركاتى ، وسكناتى ، وطلاق زوجتى وعتق أمتى» : أتملكها دون الله ، أو تملكها مع الله؟

فإن قلت : أملك دون الله ، فقد أثبت مع الله مالكا.

وإن قلت أملكها مع الله ؛ فقد أثبت مع الله ـ تعالى ـ شريكا.

إلى غير ذلك من الوقائع الجارية بين الصحابة ، ولو كان ذلك منكرا ؛ لما وقع منهم.

وقوله : «عليكم بدين العجائز». ذكر أئمة الحديث ، أنه لم يثبت ، ولم يصح ، وإن كان صحيحا ؛ فيجب حمله على الورع والتفويض إلى الله تعالى ، فيما قضاه ، وأمضاه ؛ جمعا بين الأدلة.

قولهم : إن الأمر بالنظر ، يكون أمرا بعدم المعرفة ؛ ليس كذلك ؛ فإن عدم المعرفة ، وإن كان شرطا فى الأمر بالنظر ؛ فليس كل ما يكون شرطا فى الواجب ؛ يكون واجبا ، إلا أن يكون مقدورا ، وعدم العلم بالله (٣) غير مقدور (٣) ؛ فلا يكون واجبا.

قولهم : العلم بوجوب النظر ضرورى ، أو نظرى.

قلنا : نظرى.

قولهم : إن ذلك يفضى إلى (٤) الدور ؛ ممنوع (٤) على ما سبق من أن الوجوب الشرعى ، غير متوقف على النظر ؛ بل على إمكان النظر.

قولهم : لا نسلم انحصار مدارك الوجوب فى الشرع.

__________________

(١) فى ب (عليه‌السلام).

(٢) سورة الزخرف ٤٣ / ٥٨.

(٣) فى ب (تعالى ليس بمقدور).

(٤) فى ب (الدور قلنا ممتنع).


قلنا : دليله أن القائل بالوجوب قائلان : قائل بالحصر ، وقائل بعدم الحصر. وقد أجمع الكل على أن مدرك الوجوب ، لا يخرج عن العقل والشرع ؛ فإذا بطل أن يكون العقل مدركا ، تعين الشرع.

وبيان امتناع كون العقل موجبا : أنه لو كان موجبا ؛ لم يخل : إما أن يوجب لفائدة ، أو لا لفائدة ، وإن (١) كان لا لفائدة (١) ؛ فهو عبث ؛ والعقل لا يوجب عبثا.

وإن كان لفائدة : فإما أن ترجع إليه ، أو إلى المعبود. لا جائز أن ترجع إلى المعبود ؛ فإنه يتعالى ، ويتقدس عن الأغراض.

وإن رجعت إليه : فإما فى الدنيا ، أو فى الأخرى.

لا جائز أن ترجع إليه فى الدنيا ؛ إذ لا حظ له فى ذلك ، غير التعب ، والنّصب ، والكلفة بما يوجبه العقل ؛ وهو غير مطلوب للعقلاء.

/ ولا جائز أن يكون الغرض منه ، معرفة الشيء على ما هو عليه ؛ وإلا لوجب النظر فى معرفة موجودات الأعيان ، على ما هو عليه ، مما (٢) يؤبه به ، وما يؤبه به (٢) ؛ وهو ممتنع. ولا لكونه (٣) حسنا فى نفسه ؛ إذ هو مبنى على التحسين والتقبيح ؛ وسيأتى إبطاله (٤).

ولا جائز أن يرجع إليه في الأخرى ؛ فإن العقل مما لا يستقل بمعرفتها دون إخبار الشرع عنها.

فإن قيل : احتمال (٥) العقاب (٥) بترك المعرفة ، والشكر ، والأمن منه بالمعرفة ، والشكر قائم ، والعاقل لا يخلو عن خطور هذه الاحتمالات له ، والعقل يدعو إلى سلوك طريق الأمن فيوجبه.

فنقول : لا نسلم امتناع خلو العاقل عن خطور هذه الاحتمالات له ، ودليله الشاهد فى الأكثر ، وإن امتنع ذلك ؛ لكنه معارض باحتمال نقيضه ؛ وهو احتمال العقاب على

__________________

(١) ساقط من (ب).

(٢) فى ب (مما يؤبه وما لا يؤبه).

(٣) فى ب (ولا يكون).

(٤) انظر ل ١٧٥ / أوما بعدها.

(٥) فى ب (فإن احتمال العقاب).


النظر ، والشكر بإتعابه لنفسه ، وتصرفه فى ملك الله تعالى بغير إذنه من غير منفعة ترجع إليه ، ولا إلى الله ـ تعالى ـ والأمن فى ترك النظر والشكر.

وعند ذلك ؛ فليس القول بالوجوب ، أولى من القول بعدمه.

وإذا بطل جميع الأقسام الممكنة ، التى لا خلو لإيجاب العقل عنها ؛ فقد بطل القول بالإيجاب العقلى ، وتعين الإيجاب الشرعى ، كيف وأنه لا معنى للإيجاب ، إلا ترجيح أحد طرفى الفعل على الآخر ؛ والعقل يعرف الترجيح ، لا أنه مرجح ؛ فلا يكون موجبا.

قولهم : إن (١) ذلك يفضى إلى إفحام الرسل ، عنه جوابان.

الأول : منع توقف استقرار الشرع على النظر ؛ كما تقدم (٢).

الثانى : أنه أيضا لازم على من قال : مدرك الوجوب هو العقل ؛ وذلك لأن العقل غير موجب لذاته دون نظر وتأمل ، وإلا لما انفك عاقل ما عن معرفة الوجوب ؛ بل لا بدّ من النظر والتأمل. وعند ذلك فللمدعو أيضا أن يقول : لا أنظر فى معجزتك ، حتى أعرف وجوب النظر بالعقل ، ولا أعرف ذلك ما لم أنظر ؛ فيكون أيضا دورا ، والجواب عن الإشكال يكون متحدا.

وإن رجعوا فى ذلك إلى امتناع خلو العاقل عن الخاطر ، كما ذكروه قبل ؛ فالجواب ما تقدم.

وعلى الجملة ؛ فمسألة وجوب النظر : ظنّية ، لا قطعية.

__________________

(١) ساقط من (ب).

(٢) انظر ل ٢٦ / ب.


الفصل الثامن

فى أول واجب على المكلف (١)

وقد اختلف فى ذلك :

فقال بعض أصحابنا : أول واجب على المكلف معرفة الله ـ تعالى ـ إذ هى أصل المعارف الدينية ، والواجبات / الشرعية.

وقال غيره : النظر فى معرفة الله ـ تعالى ـ واجب بالاتفاق ؛ وبه تحصل المعرفة ؛ وهو متقدم عليها ؛ فهو أول واجب على المكلف.

وقال غيره (٢) : بل أول واجب ، أول جزء من النظر ؛ إذ النظر متقدم على المعرفة ، وأول جزء من النظر ، متقدم على النظر ؛ وهو اختيار القاضى.

وقال غيره : بل أول واجب : إنما هو القصد إلى النظر ؛ إذ النظر يستدعى القصد إليه ، والقصد إليه ، متقدم عليه ؛ وهو اختيار الأستاذ أبى بكر (٣).

وقال (٤) أبو هاشم (٤) : وجوب النظر ، والقصد إليه ، يستدعى سابقة الشك فى الله ـ تعالى ـ ، وإلا كان النظر فى تحصيل الحاصل ؛ وهو محال. والشّكّ سابق على إرادة النظر ؛ فكان هو الواجب الأول. وزعم أن الشك فى الله ـ تعالى ـ حسن.

وقد قيل فى إبطاله (٥) : إن كل واجب مأمور به ، فلو كان الشّك فى الله واجبا ؛ لكان مأمورا به ، والأمر بالشّك فى الله ـ تعالى ـ يستدعى معرفة أمر الله ـ تعالى ـ ، ومعرفة أمر الله ـ تعالى ـ مع الشك فيه ؛ تناقض.

وهو غير سديد ؛ فإنه : إما أن يكون مدرك الوجوب (٦) الشرع ، أو العقل (٦).

فإن كان مدرك الوجوب العقل ؛ كما هو مذهبه ؛ فقد اندفع التناقض.

__________________

(١) قارن بالشامل لإمام الحرمين ص ١٢٠ ـ ١٢٣ والمغنى للقاضى عبد الجبار ١٢ / ٤٨٧ وشرح الأصول الخمسة له أيضا ص ٣٩ ، ٦٤ ، والمحيط بالتكليف له أيضا ص ٢٦ ـ ٣٤ ثم انظر المحصل للرازى ص ٢٨ ، وشرح طوالع الأنوار للبيضاوى ص ٣٣ ـ ٣٥ وشرح المواقف للجرجانى ١ / ١٢٣ ـ ١٢٦ وشرح المقاصد ١ / ٣٦ للتفتازانى.

(٢) انظر الإنصاف ص ١٣ للباقلانى والشامل للجوينى ص ١٢١.

(٣) وقد قال به إمام الحرمين أيضا انظر الإرشاد ص ٣ والشامل ص ١٢١.

(٤) ساقط من (ب) ـ قارن ما ورد هنا عن أبى هاشم بما ورد بالأصول الخمسة ص ٧١ ـ ٧٥.

(٥) القائل إمام الحرمين انظر الشامل ص ١٢١ ، ١٢٢.

(٦) فى ب (العقل أو الشرع).


وإن كان مدرك الوجوب الشرع : كما هو مذهبنا ؛ فالإشكال كما هو (١) وارد عليه فى إيجاب الشّك ، هو وارد علينا فى إيجاب النظر ، أو المعرفة ؛ فإن الأمر (٢) بالنظر والمعرفة (٢) يستدعى عدم المعرفة بالله تعالى ، ومعرفة أمر الله ـ تعالى ـ مع عدم معرفته ممتنع ؛ فما هو جواب لنا ؛ يكون جوابا له.

بل (٣) الحق أن يقال : ابتداء حصول الشك (٣) فى الله ـ ليس مقدورا للمكلف ؛ بل هو واقع من غير اختياره ، والوجوب إنّما يتعلق بالمقدور ، لا بغيره ، بخلاف دوام الشّك على ما سبق (٤).

والمختار أنه : إن كان المقصود : بيان أول واجب مما هو مقصود فى نفسه ؛ فهو المعرفة.

وإن كان المقصود : بيان أول واجب ، وإن لم يكن مقصودا لنفسه ؛ فهو إرادة النظر ، أو دوام الشك فى الله تعالى.

وعلى هذا : فلو قلنا : إن أول واجب هو النظر ، أو ما هو متقدم ، فإن مضى عليه زمان يتسع للنظر ، والتوصل إلى المعرفة فى مثله من غير عذر ؛ فهو كافر.

وإن شرع فيما كلف به (٥) من غير تأخير ؛ لكن اخترمته المنية قبل انقضاء الزمان الّذي يتسع للنظر المؤدى إلى المعرفة ؛ فحكمه حكم من مات صبيا ؛ كما يأتى.

وإن أخّر الشروع فيما كلف به (٥) عن أول زمان التكليف من غير عذر ، ثم / اخترمته المنية ، قبل أن ينقضى زمان يتسع للنظر ؛ بل لبعضه ؛ فالأظهر الحكم بكفره ، إذا مات غير عالم ، مع ظهور التقصير منه ، وتبين عدم اتساع الزمان للنظر (٦) من ابتداء (٦) التكليف إلى حالة الاخترام ، مما (٧) لا يمنع (٧) من تكفيره بعد دخول وقت التكليف وتقصيره ، كما

__________________

(١) فى ب (وما أورد).

(٢) فى ب (بالمعرفة والنظر).

(٣) فى ب (بل الحق فى ذلك أن يقال ابتداء الشك).

(٤) فى ب (ما سلف).

(٥) من أول (من غير تأخير ...) ساقط من (ب).

(٦) فى ب (من مبدأ).

(٧) فى ب (مما يمنع).


لو أصبحت المرأة مفطرة ؛ فإنها تأثم وإن طرت الحيضة عليها ، وتبينا أنّ زمان طهرها لم يكن متسعا لصوم اليوم ؛ حيث قصرت فى البعض.

وبالجملة ؛ فاحتمال عدم التكفير منقدح.


القاعدة الثالثة

فى الطرق الموصلة إلى المطلوبات النظرية

وتشتمل على مقدمة ، وبابين



أما المقدمة (١) :

فهو أن كل شيء : إما أن ينظر إليه من جهة ذاته ونفسه ، أو من جهة نسبته إلى غيره ؛ نفيا ، أو إثباتا.

فإن كان الأول : فالعلم به يسمى تصوريا : كعلمنا بمعنى الجوهر ، والعرض ، ونحوه.

وإن كان الثانى : سمى العلم به تصديقيا : كعلمنا بأن العالم حادث ، وأن الصانع موجود ، وأنه ليس محدثا.

والعلم بكل واحد من هذين القسمين (٢) : إما أن يكون ضروريا مطلقا ، أو نظريا مطلقا ، أو البعض ضرورى ، والبعض نظرى.

الأول ، والثانى : باطلان ؛ لما تقدم فى قاعدة العلم (٣).

فلم يبق إلا الثالث : وهو أن يكون البعض من كل واحد منهما ضروريا ، والبعض نظريا ، وكل واحد من النظريين منهما ، لا بد له من طريق يتوصل بصحيح النظر فيه إليه ، وإلا لما كان العلم به نظريا ؛ وهو خلاف الفرض.

لكن ما كان من هذه الطرق موصلا إلى التصور يسمى حدا ، وما كان موصلا إلى التصديق يسمى دليلا ، ولا يوصل أحدهما إلى ما يوصل إليه الآخر البتة ؛ فلا جرم دعت الحاجة إلى تحقيق كل واحد منهما ، ولنرسم فى ذلك بابين :

__________________

(١) قارن بشرح المواقف ١ / ١٣١ ـ ١٣٢ للجرجانى ، وشرح المقاصد ١ / ٣٧ للتفتازانى.

(٢) ساقط من (ب).

(٣) انظر ل ٤ / ب.



الباب الأول

فى الحد

ويشتمل على أربعة فصول :

الأول : فى أن الحد يرجع إلى قول الحاد ، أو إلى صفة المحدود.

الثانى : فى حد الحد ، وأقسامه.

الثالث : فى [شرائط (١)] الحد ، وما يجتمع جملة أقسام الحدود فيه ، وما لا يجتمع.

الرابع : فى التنبيه على ما يجب التحرز عنه فى الحدود.

__________________

(١) فى أ : شرط.



الفصل الأول

فى أن الحدّ يرجع إلى قول الحادّ ، أو إلى صفة المحدود.

وقد (١) اختلف أئمتنا فى ذلك :

فذهب أكثرهم : إلى أن الحد راجع إلى نفس المحدود ، وصفته فى نفسه ، فالحدّ والحقيقة عندهم بمعنى واحد ؛ ولهذا قالوا : / الحد هو حقيقة الشيء ، ومعناه.

وذهب القاضى : إلى أنّ الحد راجع إلى قول الحاد المنبئ عن حقيقة المحدود وصفته. معتمدا فى ذلك على أنه (٢) : لو كان الحدّ هو الحقيقة ؛ لصدق إطلاق الحد ، على كل ما يصدق عليه إطلاق الحقيقة.

وهو غير مطرد فى حق الله ـ تعالى ـ ؛ حيث يقال له حقيقة ، ولا يقال له حد (٣). والحق فى ذلك : أن الحدّ فى اللغة ، عبارة عن المنع ، ومنه يقال للبوّاب حدّاد ؛ لمنعه بعض الناس عن الدخول ، وللحديد حديد ؛ لامتناع تفككه بسهولة. وللعقوبات حدود ؛ لافضائها إلى المنع من الإقدام على الجنايات.

وعند ذلك فلا يخفى صحة إطلاق الحد لغة : على حقيقة الشيء ، من حيث إنها حاصرة له مانعة من دخول غيره فيه ، والقول المعبر عن الحقيقة أيضا ، مطابق لها ؛ فيكون مشاركا لها فى المنع من دخول ما خرج عن الحقيقة فيها ؛ فلا يمتنع أيضا إطلاق اسم الحد عليه لغة ، ولا معنى لتصويب أحد القولين ، وإبطال الآخر من جهة اللغة ، وامتناع إطلاق اسم الحد على الله ـ تعالى ـ وجواز إطلاق الحقيقة عليه ، مما لا يدل على امتناع كون الحقيقة حدّا بالمعنى اللغوى ، وإن امتنع إطلاق ذلك شرعا ؛ لعدم ورود الشرع به ، أو لوروده بالمنع منه ؛ لكن مع هذا كله ، ليس المقصود البحث (٤) عن معنى الحد لغة ؛ بل البحث عن الحد الّذي هو طريق تعريف الحقيقة ، بالكشف (٥) عنها ؛ وذلك لا يكون بنفس الحقيقة ؛ بل بما هو خارج عنها وهو دليل عليها ؛ وذلك هو القول ؛ فليكن البيان مختصا به.

__________________

(١) فى ب (فقد).

(٢) فى ب (إن).

(٣) زائد فى ب (قال شيخنا أبو الحسن الآمدي).

(٤) ساقط من (ب).

(٥) فى ب (والكشف).


الفصل الثانى

فى حدّ الحدّ المعرّف للمحدود (١)

وقد اختلف فى ذلك :

فقال (٢) قوم : هو الجامع المانع.

وهو باطل. بما لو سئل عن حد (٣) الإنسان ؛ فقيل هو إنسان ؛ فإنه جامع مانع ، ومع ذلك لا يكون حدا صحيحا ؛ لما فيه من تعريف الشيء بنفسه ؛ وهو محال ؛ إذ المعرف للشىء يجب أن يكون أعرف من ذلك الشيء ، وأسبق منه فى المعرفة ؛ وتعريف الشيء بنفسه يوجب كون الشيء أسبق فى المعرفة ، من معرفة نفسه ؛ وهو ممتنع (٤).

والحق فى ذلك أن يقال : هو ما يعرّف المطلوب ، ويميزه عما سواه (٥) ، هذا هو حدّ الحدّ مطلقا ، ويدخل فيه حدّ حدّ الحدّ ؛ فلا يفضى إلى التسلسل ؛ كما ظن.

وهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام :

لأنه إما أن يطلب به شرح الحقيقة ، أو شرح اسمها.

فإن طلب به شرح الحقيقة وتميزها. فلا يخلو : إما أن يكون / مميزا لها تمييزا ذاتيا ، أو عرضيا.

فإن كان الأول : فيسمى حدا حقيقيا.

وإن كان الثانى : فيسمى حدا رسميا.

وإن كان شارحا للاسم : فيسمى حدا لفظيا.

أما الحد الحقيقى : فهو ما يميز المطلوب عن غيره ، بأمر ذاتى. وهو منقسم إلى : تام ، وناقص.

__________________

(١) انظر شرح الطوالع ص ١٧ ، ١٨ ثم قارن بشرح المواقف ص ١٣٢ ـ ١٣٦.

(٢) ساقط من (ب).

(٣) ساقط من (ب).

(٤) زائد في ب (قال شيخنا أبو الحسن الآمدي).

(٥) فى ب (عداه).


فالتّام : هو ما يميز المطلوب عن غيره تمييزا ذاتيا ، مع دلالته على كمال الماهية المشتركة من غير خروج عن دلالة المطابقة والتضمن ، كقولنا فى حد الإنسان مثلا (١) : إنه حيوان ناطق ؛ فإنه مشتمل على جميع الذاتيات العامة والخاصة.

والنّاقص : هو ما يميز المطلوب عن غيره تمييزا ذاتيا ، من غير دلالة على كمال ما له من الذاتيات العامة : كقولنا فى حد الإنسان : إنه جوهر ناطق ، أو (٢) أن يقتصر (٢) على قولنا : ناطق (٣) ؛ فإن الناطق ، لا دلالة له على الذاتيات العامة (٤) بغير الالتزام ؛ إذ (٥) الناطق : شيء ذو نطق ، اتفق أن كان حيوانا ؛ ولا اعتبار بهذه الدلالة فى الحدود الحقيقية ، والجوهر لا يطابق ما بقى تحته من الذاتيات العامة : كالجسم والحيوان ، ولا يتضمنها ؛ إذ ليست جزء معناه. ولا يلتزمها ؛ إذ الأعم لا يلزم منه الأخص.

وأما الرّسمى : فهو ما يميز المطلوب عن غيره ، تمييزا عرضيا.

وهو أيضا : إما تام ، أو ناقص.

فإن كان تاما : فهو ما يميز المطلوب عن غيره تمييزا عرضيا ، وله دلالة على كمال الماهية المشتركة. دلالة لا تخرج عن المطابقة والتضمن ، كقولنا فى رسم الإنسان : إنه حيوان ضاحك.

والنّاقص : ما يميز المطلوب عن غيره تمييزا عرضيا ، من غير دلالة على كمال الماهية المشتركة بإحدى الدلالتين ، وهى المطابقة والتضمن ، كقولنا فى رسم الإنسان : إنه ضاحك ، أو جوهر ضاحك ؛ فإنّ الضّاحك شيء ذو ضحك ، اتفق أن كان حيوانا ؛ فلا يطابق الذاتى المشترك ، ولا يتضمّنه.

والجوهر أيضا : لا دلالة له على ما تحته من الذّاتيات بإحدى الطرق ، كما سبق.

وأما الحدّ اللّفظى : فهو ما يطلب به شرح دلالة الاسم على مسماه لغة.

__________________

(١) ساقط من (ب).

(٢) ب (ويقتصر).

(٣) ساقط من (ب).

(٤) فى ب (العامة أيضا).

(٥) فى ب (وإنما).


وذلك إنما يكون في حق العالم بحقيقة المسمى ، الجاهل بدلالة الاسم عليه ، كما إذا سأل من يعرف حقيقة الخمر ، عن شرح لفظ العقار ، عند جهله بدلالته.

فجوابه : إما بلفظ مرادف يكون (١) أشهر عند السائل : كالخمر ، أو بحده ، أو رسمه ، وهو أن يقال : هو المائع المعتصر من العنب المشتد. معناه دلالة لفظ العقار على هذا. وهذه الأقسام متفاوتة / الرتب ، فأعلاها : الحدّ الحقيقى ، ثم (٢) الرّسمى (٢) ، ثم اللّفظى.

وقد أورد على هذه الحدود تشكيكات أبطلناها فى كتاب دقائق الحقائق (٣).

وأما التعريف بالمثال : كتعريف النّفس فى البدن : بالربان فى السفينة ، ونحوه ، فغير مستقلّ بالتعريف ؛ فإنه كما أنّ الرّبان فى السفينة مشابه للنفس فى البدن ، فمشابه لرب البيت فى البيت ، والملك فى مدينته ؛ فلا يتم التمييز به ، وإن كان مقربا إلى الفهم ، فلا يكون التعريف به داخلا فى الحدود ؛ كما ظن.

__________________

(١) فى ب (ويكون).

(٢) فى ب (ثم الحد الرسمى).

(٣) انظر كتاب دقائق الحقائق ل ٣٧ / أ ـ ٤٨ / ب (المقالة الثانية) (خ).


الفصل الثالث

فى شرط الحدّ ، وما يجتمع جملة أقسام

الحدود فيه ، وما لا يجتمع.

وشرط الحدّ على اختلاف أقسامه :

أن يكون جامعا : لا يخرج عنه شيء من المحدود.

مانعا : لا يدخل فيه ما هو خارج عن المحدود.

فإنه إذا لم يكن جامعا ؛ كان المحدود أعمّ من الحدّ ، ولو (١) لم يكن مانعا ؛ كان الحدّ أعمّ من المحدود.

وعلى كلا التّقديرين ؛ لا يكون الحدّ مميّزا للمحدود (٢) ، ولا معرّفا له.

ويلزم من هذا الشّرط أيضا : أن يكون الحدّ مطّردا ، مع المحدود : أى يلزم من وجوده ، وجود المحدود.

ومنعكسا : أى يلزم من انتفائه ، انتفاء المحدود.

لأنه لو لم يكن مطّردا ، لما كان الحدّ مانعا.

ولم لم يكن منعكسا ؛ لما كان الحدّ جامعا.

ثم الشيء المحدود : إما أن يكون مركّبا ، أو بسيطا ، لا تركيب فيه.

فإن كان مركّبا : فيمكن تحديده بالحدّ الحقيقى ، لتركبه ، وبالرّسمى ؛ لأنه لا يخلو شيء من خاصية تخصّه دون غيره ، وباللّفظى : إن كان للفظ مرادف ، أو بحده ، أو رسمه كما سبق.

وإن كان بسيطا لا تركيب فيه : فليس له الحدّ الحقيقى ، وله الرّسمى الناقص ، دون التّام ، واللّفظى.

__________________

(١) فى ب (وإذا).

(٢) فى ب (المحدود).


الفصل الرابع

فى التنبيه على ما يجب التحرّز عنه فى الحدود

ويجب أن تصان الحدود عن :

الألفاظ المهملة : التى لا مدلول لها.

والغريبة : التى لا يعرفها المخاطب.

والمشتركة : كتعريف الكون بأنه يصير إلى الجوهر ؛ لدخول الحركة المكانية إلى الجوهر فيه.

والمجازية (١) الغير منقولة (١) : كتعريف الشمس : بأنها عين النهار ، لأن ذلك مما يخلّ بالتفاهم ، والوقوف على غرض الحاد ، إلا أن ذلك مما لا يفسد الحدّ مع التفسير ، وإن كان استعماله مكروها ، لبعده عن المقصود.

وأن لا يعرف الشيء بنفسه : كتعريف الإنسان ، بأنه إنسان ؛ إذ المعرف يجب أن يكون سابقا بالمعرفة على المعرف ؛ وفيه تقدم الشيء على نفسه فى المعرفة ؛ وهو محال.

ولا بما هو أخفى منه فى المعرفة : وسواء / كانت معرفة الأخفى متوقفة على معرفة المحدود ، كتعريف الشمس بأنها كوكب يطلع نهارا ؛ إذ النهار لا يعرف إلا بزمان طلوع الشمس ؛ وهو دور.

أو غير متوقفة عليه : كتعريف النار : بمشابهتها بالنّفس ، والأولى أن يكون بالعكس.

ولا بما هو مساو فى المعرفة والخفاء : كتعريف أحد المتضايفين بالآخر : كتعريف الأب : بالابن ؛ إذ لا أولوية.

وأن لا يترك الجنس فى الحدّ التام ، والرّسم التام ، وأن لا يبدل بالعرض العام : كحد (٢) الإنسان بأنه متحرك ناطق.

ولا الفصل بالخاصة فى الحقيقى ،

__________________

(١) فى ب (والمجازية الى الغير منقولة).

(٢) فى ب (كتعريف).


ولا أن يذكر الجنس مكان الفصل ، والفصل مكان الجنس : كقولهم العشق إفراط المحبة. والأولى أن يقال : المحبة المفرطة ، إذ المحبة جنس ، والإفراط فصل.

ولا الجنس بالنوع كقولهم : الشر ظلم الناس ، وظلم الناس نوع من الشر (١).

ولا المادة الكائنة بدل الجنس : كقولهم : السرير خشب يجلس عليه.

ولا المادة الفاسدة : كقولهم : الرماد خشب محترق.

وعليك (٢) بالنّظر فى كتبنا (٢) الخصيصة بهذا الفن ، تجد الكلام فى هذه الفصول مستقصى فيها (٣).

__________________

(١) فى ب (المشقة).

(٢) فى ب (وعليك بكتبنا).

(٣) انظر كتاب دقائق الحقائق ل ٤٤ / أ ـ ٤٨ / ب.



الباب الثانى

فى الدّليل

ويشتمل على سبعة فصول :

الأول : فى حدّ الدليل ، وانقسامه إلى : عقلى ، وغير عقلى.

الثانى : فى أنّ الدّليل العقلى متركب من مقدمتين ، فلا يزيد عليهما.

الثالث : فى أقسام صور مقدمات الدليل.

الرابع : فى انقسام مقدمات الدليل إلى : قطعى ، وغير قطعى.

الخامس : فى أقسام صور الدليل.

السادس : فى شرط الدّليل العقلى.

السابع : فيما ظنّ أنه من الأدلّة المفيدة لليقين ؛ وليس منها.



الفصل الأول

فى حدّ الدليل ، وانقسامه إلى : عقلى ، وغير عقلى (١)

والدّليل فى وضع اللغة : قد يطلق باعتبارين :

الأول : الدّال ، والدّال قد يطلق بمعنى الذاكر للدليل ، وقد يطلق بمعنى الناصب للدليل.

الثانى : ما فيه دلالة وإرشاد ؛ وهذا هو المسمى دليلا فى عرف المتكلمين.

وهو عبارة عما يمكن أن يتوصل بصحيح النظر فيه ، إلى مطلوب تصديقى.

وإنما قلنا : يمكن أن يتوصّل به ، ولم نقل هو الّذي يتوصل به ؛ لأنّ الدّليل يكون دليلا فى نفسه ؛ وإمكان التوصل به ملازم له دون التوصل بالفعل.

وإنما قلنا : بصحيح النظر ؛ حتى يخرج منه النظر الّذي ليس بصحيح : إما لقصور الناظر ، أو لتقاصره ؛ فإن النظر الّذي / ليس بصحيح لا يمكن أن يتوصل به إلى المطلوب. ولا يخرج الدليل بذلك عن أن يكون دليلا.

وإنما قلنا : إلى مطلوب تصديقى. حتى يخرج عنه الحد الموصل إلى التصور.

وهو ينقسم : إلى ما يدل لذاته ، وإلى ما لا يدل لذاته ؛ بل بالوضع والاصطلاح ، سواء كان من وضع الشارع ، أو غيره.

فالأول : هو الدّليل العقلى.

والثانى : هو الدّليل السّمعى.

__________________

(١) أنظر الإحكام للآمدى ١ / ٨ ، ومنتهى السئول ، له أيضا ، ١ / ٤ ، وشرح الطوالع ٢٥ ، ٢٦ ، وشرح المواقف ١ / ١٥٣ ، وشرح المقاصد ١ / ٣٩.


الفصل الثانى

فى أن الدليل العقلى مركب من مقدمتين ، ولا يزيد عليهما.

واعلم أن المطلوب التصديقى : لا بدّ فيه من نسبة بين أمرين. إيجابا ، أو سلبا ؛ فالمنسوب ، والمنسوب إليه ، هما جزءا المطلوب.

وعند ذلك : فالدليل العقلى الموصل إليه ، لا بدّ وأن يكون سابقا فى المعرفة عليه. فإنه لو كان العلم به ، مع العلم بالمطلوب ؛ لم يكن تعريف أحدهما بالآخر ، أولى من العكس.

ولو كان متأخرا فى المعرفة ؛ كان فيه تعرف المعلوم بالمجهول ؛ وهو (١) محال (١). ولا يكفى أى معلوم سابق اتفق ، وإلا كان كل معلوم سابق ، يوصل إلى كل مجهول ؛ وهو محال ،

بل لا بدّ ، وأن يكون مناسبا للمطلوب.

ولا يكفى أن يكون معلوما واحدا ؛ فإن المعلوم الواحد المناسب : إما أن يكون مناسبا لكل المطلوب ، وإما لنقضه ، وإما لجزء المطلوب.

فإن كان مناسبا لكل المطلوب : كما لو كان مطلوبنا أنّ النهار موجود ، فقلنا : إن كانت الشمس طالعة ؛ فالنهار موجود ؛ فالمناسب للمطلوب طلوع الشمس.

ولا (٢) يكفى ذلك فى المطلوب ، دون استثناء عين ملزومه ؛ وهو أن يقول : لكن الشمس طالعة ؛ فيلزم أن يكون النهار موجودا ؛ وهما مقدمتان ، لا يتم المطلوب دونهما ؛ ولا يفتقر إلى غيرهما.

وإن كان مناسبا لنقيض المطلوب : كما لو كان مطلوبنا : أن الشمس ليست طالعة. فقلنا : إن كانت الشمس طالعة ؛ فالنهار موجود ؛ فالمذكور إنما هو نقيض المطلوب : وهو طلوع الشمس. والمناسب له وجود النهار. ولا يكفى ذلك فى المطلوب دون استثناء نقيض لازم نقيض المطلوب : وهو أن النهار ، ليس بموجود ؛ فيلزم منه انتفاء ملزومه ؛ وهو طلوع الشمس ؛ وهو عين المطلوب ، من غير حاجة إلى مقدمة أخرى.

__________________

(١) ساقط من (ب).

(٢) فى ب (ولا يكون).


وإن كان مناسبا لجزء المطلوب : كما لو كان مطلوبنا : أن العالم حادث فقلنا : العالم مؤلف ؛ فالمؤلف مناسب للعالم ؛ وهو موضوع المطلوب ؛ فلا بد وأن يكون المؤلف مناسبا / لمحمول المطلوب وهو الحادث.

وهو أن يقول : وكل مؤلف حادث ، حتى يلزم العالم حادث ، ولا يتم المطلوب دون هذين العلمين التصديقيين من غير حاجة إلى ثالث.

فقد بان أنه لا بدّ من علمين تصديقيين سابقين ؛ هما مقدمتا المطلوب. ولا يكفى ذلك ؛ بل لا بدّ من ترتيب خاص ، وهيئة معينة بين العلمين التصديقيين كما يأتى ، وإلا كان كل ترتيب يلزم عنه المطلوب ؛ وهو محال.

فالمعانى السابقة ، المناسبة للمطلوب ؛ كالمادة للدليل ، والتأليف الخاص كالصورة ؛ وهو مركب منهما ، ولا يصح إلا بصحتهما. وفساده قد يكون بفسادهما ، أو بفساد أحدهما.


الفصل الثالث

فى أقسام مقدّمات الدليل (١)

ولما بان أن الدليل العقلى ، لا يتم إلا من (٢) مقدمتين (٢) تصديقيتين. فالمقدمة لا تخلو : إما أن لا يوجد فى أحد جزئيها عند التحليل نسبة خبرية ، أو يوجد.

فإن كان الأول :

فتسمى (٣) حملية : [وهى ما يحكم (٤) فيها] بشيء على غيره ، أنه هو ، أو ليس هو.

والمحكوم عليه : يسمى موضوعا.

والمحكوم به : يسمى محمولا.

والموضوع فيهما : إما أن يكون شخصيا ، أو كليا.

فإن كان شخصيا : فتسمى مخصوصة وشخصية : وهى إما موجبة ، وإما سالبة : فالموجبة : قولنا : زيد إنسان ،

والسالبة : قولنا : زيد ليس هو حجرا.

وإن كان الموضوع كليا : فإما أن يدخل عليه سور يبين كمية نسبة المحمول إليه ، [أو لا (٥)].

فإن كان الأول : فإما أن يكون السور كليا ، أو جزئيا.

فإن كان كليا : فتسمى محصورة كلية

وهى : إما موجبة ، أو سالبة.

فالموجبة : كقولنا : كل إنسان حيوان.

والسالبة : كقولنا : لا شيء من الإنسان حجرا.

__________________

(١) انظر شرح الطوالع ص ١٩ ـ ٢١.

(٢) فى ب (بمقدمتين).

(٣) فى ب (تسمى).

(٤) فى أ (وهو ما يحكم).

(٥) فى أ (أو ليس).


وإن كان السور جزئيا : فتسمى محصورة جزئية :

وهى : إما موجبة ، أو سالبة.

فالموجبة : كقولنا : بعض الحيوان إنسان.

والسالبة : كقولنا : ليس كل حيوان إنسانا.

وإن لم يدخل على الموضوع سور : فتسمى مهملة : كقولنا : الإنسان حيوان.

ولما احتمل أن يصدق كلية ، وجزئية. وصدق الجزئية لازم من صدق الكلية ، ولا عكس ؛ كان حكمها حكم جزئية محصورة ؛ لتيقنها.

هذا إن قلنا : إن الألف واللام ليست للعموم فى لغة العرب ، وإلا فلا مهمل فى لغتهم ؛ بل هى محصورة كلية.

وإن كان الثانى :

وهو أن يوجد لأجزاء المقدمة عند التحليل نسبة خبرية : فتسمى شرطية. وهى إما أن تكون النسبة بين جزئيها فى حالة الإيجاب باللزوم / والاتصال ، وإما بالعناد والانفصال.

فالأولى تسمى : متصلة.

والثانية تسمى. منفصلة.

أما المتّصلة : فمنها كلية موجبة. كقولنا : كلّما كانت الشمس طالعة ؛ فالنهار موجود. ومنها كلية سالبة. كقولنا : ليس البتة إذا كانت الشمس طالعة فالليل (١) موجود.

ومنها جزئية موجبة. كقولنا : قد يكون إذا كانت الشمس طالعة ؛ فالنهار موجود.

ومنها جزئية سالبة. كقولنا : ليس كلما كانت الشمس طالعة ؛ فالليل موجود.

وأما المنفصلة :

فمنها : ما هى حقيقية ، ومنها ما هى غير حقيقية.

__________________

(١) فى ب (فالنهار) وهو خطأ.


أما الحقيقية : فهى [ما لفظها (١)] إما ، وإما فيها مانعة الجمع بين الجزءين ، والخلو منهما.

وهى إما كلية موجبة : كقولنا : دائما إما أن يكون العدد زوجا ، وإما فردا.

وإما كلية سالبة : كقولنا : دائما ليس إما أن يكون العدد زوجا ، وإما منقسما بمتساويين.

وإما جزئية موجبة : كقولنا : قد يكون إما أن يكون العدد زوجا ، وإما فردا.

وإما جزئية سالبة : كقولنا : ليس دائما إما أن يكون العدد زوجا ، وإما منقسما بمتساويين.

وأما غير الحقيقيّة : فإما مانعة الجمع دون الخلو ، أو مانعة الخلو دون الجمع.

فإن كانت مانعة الجمع دون الخلو :

فإما كلية موجبة. كقولنا : دائما إما أن يكون المتحرك جمادا ، وإما نباتا.

وإما كلية سالبة. كقولنا : دائما ليس إما أن يكون المتحرك إنسانا ، وإما ناطقا.

ولا يخفى مثال الجزءين [منهما (٢)].

وأما إن كانت مانعة الخلو دون الجمع :

فإما كلية موجبة : كقولنا : دائما إما أن يكون الجسم لا أسود ، وإما لا أبيض.

وإما كلية سالبة : كقولنا : دائما ليس إما أن يكون الجسم أبيض ، وإما أسود.

ولا يخفى مثال الجزءين منهما.

فهذه هى جملة أصناف المقدمات (٣).

__________________

(١) فى أ (ما لفظه).

(٢) ساقط من (أ).

(٣) انظر دقائق الحقائق ل ٤٨ / ب ـ ٩٣ / ب المقالة الثالثة (خ).


الفصل الرابع

فى انقسام مقدمات الدليل إلى قطعية ، وغير قطعية (١)

والمقدمات منها قطعية ، وغير قطعية :

أما القطعية : فأنواع سبعة :

النوع (٢) الأول : الأوليات :

وهى التى يصدق العقل بها عند تصور مفرداتها ، من غير توقف على نظر واستدلال ، ولا يجد الإنسان من نفسه بعد تصور المفردات الخلو عنها : كالعلم بأن النفى والإثبات لا يجتمعان ، وأن الواحد أقل من الاثنين ، ونحوه.

الثانى : المقدمات النظريّة القياس :

وهى كل قضية أوجب التصديق / بها ، التصديق الضرورى بمقدماتها (٣) : كالعلم بأن الأربعة زوج ؛ لعلمنا بأن الأربعة منقسمة بمتساويين ؛ وكل منقسم بمتساويين زوج.

الثالث : المشاهدات :

وهى كل قضية صدق العقل بها ، بواسطة الحس : كعلمنا بحرارة النار ، وبرودة الثلج ، ونحوه.

الرابع : المجرّبات :

وهى كل قضية يصدق العقل بها بواسطة الحس مع التكرار ، ونوع من النظر : كالعلم بأن السقمونيا يسهل الصفراء.

الخامس : الحدسيّات :

وهى كل قضية يصدق العقل بها بواسطة الحدس : كالعلم بحكمة صانع العالم ، عند رؤية العالم على غاية الحكمة ، والإتقان.

__________________

(١) انظر شرح الطوالع ص ٢٦ ـ ٢٨ ثم قارن بشرح المواقف ١ / ١٤٧ ـ ١٥٣ حيث ينقل صاحب المواقف ما أورده الآمدي هنا.

(٢) ساقط من (ب).

(٣) فى ب (بمقدماته).


السادس : المتواترات :

وهى كل قضية صدق (١) العقل بها بواسطة إخبار جماعة. يؤمن من مثلهم التواطؤ على الكذب : كالعلم بوجود مكة ، وبغداد ، ونحوه.

السابع : الوهميات فى المحسوسات :

كالعلم (٢) بأن كل جسم يجب أن يكون مشارا إليه ، وإلى جهته. فهذه هى المقدمات اليقينية ، التى يجب انتهاء الدليل إليها ، قطعا للتسلسل.

والدليل المنتهى إليها يكون ـ إن كانت صورته صحيحة كما يأتى (٣) ـ قطعيا. إلا أن ما حصل لبعض الناس من تجربة ، أو تواتر ، أو حدس ، وإن كان حجة عليه مع نفسه ، فلا يكون حجة على غيره إلا أن يشاركه فيما حصل له.

وأما المقدمات التى ليست قطعيّة : فمنها ظنية ، ومنها غير ظنية :

أما الظنية :

وهى ما يصدق العقل بها مع تجويز نقيضها ، تجويزا بعيدا ؛ فأنواع أربعة :

الأول : المسلّمات :

وهى كل قضية يصدق العقل بها على أنها مبرهنة فى علم آخر.

الثانى : المشهورات :

وهى القضايا التى أوجب التصديق بها ، اتفاق الجم الغفير ، والعدد الكثير عليها : كالحكم بأن العدل حسن لذاته ، والجور قبيح لذاته.

الثالث : المقبولات :

وهى القضايا التى يصدق العقل بها ؛ لحسن الظن بمن أخذت عنه : كاعتقاد ما يأخذه التلميذ عن أستاذه ، ونحوه.

__________________

(١) فى ب (يصدق).

(٢) فى ب (كالحكم).

(٣) انظر ل ٣٥ / أوما بعدها.


الرابع : ما أوجب التصديق بها قرائن الأحوال الظاهرة :

كالتصديق بنزول المطر ، عند طلوع السحاب ، ونحوه.

فهذه هى مقدمات الدليل الظنى.

وأما الغير ظنية (١) :

فإما أن تؤثر فى النفس تأثيرا ، من ترغيب ونفرة من غير تصديق بها ، أو لا تؤثر شيئا أصلا. /

والأولى (٢) : تسمى المخيلات (٢) : وهى ما تقال لأجل الترغيب فيما يقصد الترغيب فيه ، أو التنفير عما يقصد التنفير عنه : كتشبيه العسل بالمرة الصفراء ، ونحوه.

فهذه هى مقدمات الدليل التخييلى.

وإن لم تكن مؤثرة تأثيرا ما ، أو كانت مؤثرة ، لكنها كاذبة فى نفسى الأمر ؛ فالدليل المركب منها يكون فاسدا.

__________________

(١) فى ب (الظنى).

(٢) فى ب (فالأولى المخيلات).


الفصل الخامس

فى أصناف صور الدّليل ، وتنوع تأليفه (١).

فإذا (٢) بان أن الدليل لا بدّ وأن يكون مناسبا للمطلوب : فإما أن يكون مناسبا لجزء المطلوب ، أو (٣) لجملة المطلوب (٣).

فإن كان الأول : فيسمى اقترانيا.

وإن كان الثانى : فيسمى استثنائيا.

أما الاقتراني (٤) : فلا بد فيه من مقدمتين ، كل مقدمة تشتمل على مفردين ، أحدهما : يسمى موضوعا ؛ وهو المحكوم عليه ، بأنه الآخر ، أو ليس ، والآخر : يسمى محمولا : وهو المحكوم به على الآخر أنه هو ، أو ليس هو ، إلا أن أحد المفردات لا بدّ وأن تكون متكررة فى المقدمتين ويسمى حدا أوسط. والجزءان المختلفان فى المقدمتين ؛ هما جزءا المطلوب.

إلا أن ما كان منهما محمولا فى المطلوب ؛ يسمى حدا أكبر.

وما كان منهما موضوعا فى المطلوب يسمى حدا أصغر.

والمقدمة التى فيها الأصغر ؛ تسمى صغرى.

والتى فيها الأكبر ؛ تسمى كبرى.

وهو أربعة أنواع :

لأنه : إما أن يكون الحد الأوسط محمولا فى الصغرى ، موضوعا فى الكبرى ، وإما محمولا فيهما ، وإما موضوعا فيهما ، وإما موضوعا فى الصغرى ، ومحمولا فى الكبرى.

أما النوع الأول :

فشرط لزوم المطلوب عنه ، إيجاب صغراه ، وأن تكون فى حكم الموجبة ، وهى أن تكون ممكنة سالبة ، وإلا فلا يلزم من الحكم على أحد المتباينين بأمر ، الحكم به على

__________________

(١) انظر شرح الطوالع من ٢١ ـ ٢٥.

(٢) فى ب (وإذ)

(٣) ساقط من (ب)

(٤) انظر دقائق الحقائق من ل ٩٣ / ب وما بعدها. (خ)


الآخر ، لا إيجابا ، ولا سلبا ، وأن تكون كبراه كلية ، وإلا فالحد الأوسط مختلف (١).

وهو أربعة أضرب : الضّرب الأول : من كليتين موجبتين : كقولنا : كل إنسان حيوان ، وكل حيوان جسم ؛ فاللازم (٢) كل إنسان جسم.

الضّرب الثانى : من كليتين ، والكبرى سالبة :

كقولنا : كل إنسان حيوان ، ولا شيء من الحيوان حجر ؛ فاللازم (٣) لا شيء من الإنسان حجرا.

الضّرب الثالث : من موجبتين ، والصغرى جزئية :

[كقولنا (٤) : بعض الحيوان إنسان (٤)] ، وكل إنسان ناطق ؛ فاللازم بعض الحيوان ناطق.

الضّرب الرابع : من جزئية / صغرى موجبة ، وكلية كبرى سالبة.

كقولنا : بعض الحيوان إنسان ، ولا شيء من الإنسان حجرا ؛ فاللازم : بعض الحيوان ليس حجرا.

واللزوم فى هذه الضروب بين ؛ لأن الحكم على العام يكون حكما على الخاص.

وأما النوع الثانى (٥) :

وهو ما الحدّ الأوسط فيه محمول فى المقدمتين.

فشرط لزوم المطلوب عنه :

اختلاف مقدمتيه فى الإيجاب والسلب ، وإلا فلا يلزم من إيجاب شيء لشيئين ، أو سلبه عنهما ، إيجاب أحد الشيئين للآخر (٦) ، ولا سلبه عنه (٦).

__________________

(١) فى ب (يكون مختلفا)

(٢) فى ب (واللازم)

(٣) فى ب (واللازم)

(٤) فى أ (كقوله : بعض الإنسان حيوان)

(٥) انظر دقائق الحقائق ل ١٠٧ / ب وما بعدها. (خ)

(٦) فى ب (عن الآخر ولا سلبه عنهما)


وأن تكون كبراه كلية ، وإلا فالجزء الخارج عن المحمول فى الكبرى من الموضوع أمكن أن يكون مسلوبا عن الحد الأصغر ، وأمكن أن يكون ثابتا له ؛ فلا انتاج ، لا سلبا ، ولا إيجابا ؛ فلا ينتج غير السالب.

وهو أيضا أربعة أضرب :

الضّرب الأول : من كليتين ، والكبرى سالبة.

كقولنا : كل إنسان حيوان ، ولا شيء من الحجر حيوان ؛ فاللازم : لا شيء من الإنسان حجرا.

الضّرب الثانى : من كليتين ، والصغرى سالبة :

كقولنا : لا شيء من الإنسان فرسا ، وكل صاهل فرس ؛ فاللازم : لا شيء من الإنسان صاهل.

الضّرب الثالث : من جزئية صغرى موجبة ، وكلية كبرى سالبة : كقولنا : بعض الحيوان إنسان ، ولا شيء من الحجر إنسان ؛ فبعض الحيوان ليس حجرا.

الضّرب الرابع : من جزئية صغرى سالبة ، وكلية كبرى موجبة :

كقولنا : بعض الحيوان ليس إنسانا ، وكل ناطق إنسان ، فبعض الحيوان ليس ناطقا. واللزوم فى هذه الضروب غير بين إلا ببيان ؛ وهو أن يقول :

إن لم يصدق المطلوب فى كل واحد من هذه الضروب ، صدق نقيضه ، ثم يجعل نقيض المطلوب صغرى للكبرى فى الكل ؛ فإنه ينتج نقيض (١) المقدمة الصغرى الصادقة من أحد ضروب النوع الأول البين ؛ وهو محال.

وليس المحال لازما عن نفس الصورة ؛ لأنها حقه.

ولا عن نفس المقدمة الكبرى ؛ لأنها صادقة.

فلم يبق لزومه (٢) إلا عن نقيض المطلوب ؛ فيكون كاذبا ، ويلزم من كذبه صدق المطلوب.

__________________

(١) فى ب (بعض)

(٢) فى ب (اللزوم)


وإن شئت بينت بالعكس :

وهو أن تعكس الكبرى فى (١) الأولى (١) ، وتبقيها بحالها ؛ فتعود إلى الضرب الثانى من النوع الأول ؛ ناتجا عين المطلوب.

وتعكس الصغرى من الثانى ، وتجعلها كبرى ، فتعود إلى الضرب الثانى من النوع الأول أيضا ، / ناتجا كلية سالبة عكسها عين المطلوب.

وتعكس الكبرى من الثالث ، وتبقيها بحالها ؛ فتعود إلى الضرب الرابع من الأول ؛ ناتجا عين المطلوب.

والرابع فلا يتبين بالعكس ؛ لأن الصغرى جزئية سالبة ، ولا تنعكس ، والكبرى لو عكست ؛ عادت جزئية ؛ ولا إنتاج عن جزءين.

النوع الثالث (٢) : وهو ما الحد الأوسط فيه موضوع فى المقدمتين.

وشرط لزوم المطلوب عنه. إيجاب صغراه ـ لما ذكرنا فى النوع الأول ـ وكلية إحدى مقدمتيه ، أيهما كانت. وإلا كان الحد الأوسط مختلفا ، ولا ينتج غير الجزئى.

وضروبه المنتجة ستة :

الضّرب الأول : من كليتين موجبتين :

كقولنا : كل إنسان حيوان ، وكل إنسان ناطق ؛ فبعض الحيوان ناطق.

الضّرب الثانى : من جزئية صغرى موجبة ، وكلية كبرى موجبة :

كقولنا : بعض الحيوان جسم ، وكل حيوان حساس ؛ فبعض الحيوان حساس.

الضّرب الثالث : من كلية موجبة صغرى ، وجزئية موجبة كبرى :

كقولنا : كل إنسان حيوان ، وبعض الإنسان ناطق ؛ فبعض الحيوان ناطق.

الضّرب الرابع : من كلية صغرى موجبة ، وكلية كبرى سالبة :

كقولنا : كل إنسان حيوان ، ولا شيء من الإنسان حجرا ؛ فبعض الحيوان ليس حجرا.

__________________

(١) فى ب (عن الأول)

(٢) انظر دقائق الحقائق ل ١١٦ / أوما بعدها.


الضّرب الخامس : من كلية صغرى موجبة ، وجزئية كبرى سالبة :

كقولنا : كل إنسان حيوان ، وبعض الإنسان (١) ليس حجرا ؛ فبعض الحيوان ليس حجرا.

الضّرب السادس : من جزئية صغرى موجبة ، وكلية كبرى سالبة :

كقولنا : بعض الحيوان إنسان ، ولا شيء من الحيوان حجر ؛ فبعض الإنسان ليس حجرا.

واللزوم (٢) فى هذه الضروب أيضا (٢) : غير بين دون بيان. وهو أن نأخذ نقيض النتيجة فى الكل ، ونجعله كبرى للصغرى ؛ فينتج نقيض المقدمة الكبرى الصادقة ؛ فيكون نقيض المطلوب باطلا ؛ لما حققناه فى النوع الثانى.

وان شئت بينت بالعكس ، والرد إلى النوع الأول البين ؛ فتعكس الصغرى من الأول ، والثانى ، والرابع ، والسادس ، وتبقيها بحالها.

فإن الأول والثانى ، يعودان إلى الضرب الثالث من النوع الأول ، ناتجا عين المطلوب.

والرابع والسادس يعودان إلى الضرب الرابع من النوع الأول ، ناتجا عين المطلوب.

وأما الثّالث : فتعكس منه الكبرى / وتجعلها صغرى ؛ فيعود إلى الضرب الثالث من (٣) النوع الأول ، ناتجا جزئية موجبة ، عكسها عين المطلوب.

وأما الخامس : فلا يتبين بالعكس ؛ لأن الجزئية السالبة منه لا تنعكس ، وعكس الكلية الموجبة ، جزئية موجبة ؛ ولا إنتاج عن جزئيتين.

النوع الرّابع :

وهو (٤) ما الحد (٤) الأوسط فيه موضوع فى الصغرى ، ومحمول فى الكبرى.

__________________

(١) فى ب (الحيوان) وهو خطأ.

(٢) فى ب (فاللزوم أيضا فى هذه الضروب).

(٣) فى ب (إلى).

(٤) فى ب (أن يكون الحد).


وشرط انتاجه :

إيجاب إحدى مقدمتيه ؛ فإنه لو كان الحدّ الأوسط مباينا للطرفين لما لزم بين الطرفين إيجاب ، ولا سلب ؛ كما بيناه فى النوع الثانى.

وكلية إحدى مقدمتيه ، وإلا لاختلف الحدّ الأوسط.

وكلية السالبة من مقدمتيه ؛ فإنها لو كانت جزئية ؛ فإن كانت صغرى ؛ فالحد (١) الأوسط ؛ لا يكون متحدا.

وإن كانت كبرى : فلجواز أن يكون البعض الخارج عن المحمول فى الكبرى ثابتا للأصغر تارة ، ومسلوبا عنه أخرى.

فلا إنتاج لا بإيجاب ، ولا سلب.

وأن تكون صغراه كلية موجبة ، إن كانت كبراه جزئية موجبة ، حتى يدخل كل الأوسط تحت الأصغر ؛ فإذا حكم بإيجاب الأوسط على بعض الأكبر ؛ كان الأكبر محكوما (٢) به على (٢) بعض الأوسط ، والأوسط على (٣) بعض الأصغر ؛ فيكون الأكبر محكوما به على بعض الأصغر.

وأن تكون كبراه كلية سالبة ، إن كانت صغراه جزئية موجبة ؛ لأنه إذا كان الأكبر مباينا للأوسط ، والأوسط هو بعض الأصغر ؛ فالأكبر يكون مباينا لبعض الأصغر.

وضروبه المنتجة خمسة :

الضّرب الأول : من كلية سالبة صغرى ، وكلية موجبة كبرى.

كقولنا : لا شيء من الإنسان حجرا ، وكل ناطق إنسان ؛ فلا شيء من الحجر ناطق.

الضّرب الثانى : من كليتين موجبتين :

كقولنا : كل إنسان حيوان ، وكل ناطق إنسان ؛ فبعض الحيوان ناطق.

الضّرب الثالث : من كلية صغرى موجبة ، وجزئية كبرى موجبة

كقولنا : كل إنسان حيوان ، وبعض الناطق إنسان ؛ فبعض الحيوان ناطق.

__________________

(١) فى ب (فى الحد).

(٢) فى ب (محمولا فإنه).

(٣) ساقط من (ب).


الضّرب الرابع : من كلية صغرى موجبة ، وكلية كبرى سالبة.

كقولنا : كل إنسان حيوان ، ولا شيء من الحجر إنسان ؛ فبعض الحيوان ليس حجرا.

الضّرب الخامس : من جزئية صغرى موجبة ، وكلية كبرى سالبة.

كقولنا : بعض الحيوان / إنسان ، ولا شيء من الحجر حيوان ؛ فبعض الإنسان ليس حجرا.

واللزوم في هذه الضروب أيضا بعيد عن الطباع ؛ غير بين إلا ببيان. وهو أن تأخذ نقيض النتيجة في الكل ، وتجعله في الأول صغرى للكبرى ؛ فيعود إلى الضرب الثالث من النوع الأول ؛ ناتجا جزئية موجبة ، عكسها نقيض المقدمة الصغرى الصادقة ، وكبرى للصغرى في الثانى ، والثالث ؛ فإنه يعود إلى الضرب الثانى ، من النوع الأول ، ناتجا كلية سالبة ، عكسها نقيض المقدمة الكبرى الصادقة. وتجعله صغرى (١) للكبرى في الرابع والخامس ؛ فإنه يعود إلى الضرب الثانى من النوع الأول ، ناتجا كلية سالبة ، عكسها نقيض المقدمة الصغرى الصادقة ؛ فيكون النقيض محالا ؛ لما سبق.

وإن شئت بينت بالعكس. وهو أن تجعل الصغرى في الأول كبرى للكبرى ؛ فيعود (٢) إلى الضرب الثانى (٢) ، من النوع الأول ، ناتجا كلية سالبة (٣) ، عكسها عين المطلوب.

وأن تجعل الصغرى كبرى ، للكبرى في الثانى ؛ فيعود إلى الضرب الأول ، من النوع الأول ، ناتجا كلية موجبة ، عكسها عين المطلوب. وكذلك في الثالث.

وأن تعكس الصغرى والكبرى في الرابع والخامس ، وتبقيها بحالها. فإنه يعود إلى الضرب الرابع من النوع الأول ؛ ناتجا عين المطلوب.

وأما الاستثنائى :

فإما أن يكون المناسب للمطلوب فيه ، مناسبته مناسبة لزوم ، أو مقابلة.

فإن كان من الأول : فيسمى استثنائيا متصلا.

وإن كان الثانى : فيسمى استثنائيا منفصلا.

__________________

(١) فى ب (الصغرى)

(٢) فى ب (فى الثانى فيعود إلى الضرب الأول).

(٣) فى ب (موجبة).


أما المتصل :

فالمناسب للمطلوب فيه : إما أن يكون لازما ، أو ملزوما له.

فإن كان لازما له : فيلزم من انتفائه ؛ انتفاء الملزوم ؛ وذلك كما لو كان مطلوبنا : أن الشمس ليست طالعة فقلنا :

إن كانت الشمس طالعة ؛ فالنهار موجود.

فإذا قلنا : والنهار ليس (١) موجودا ،

لزم أن (١) الشمس ليست طالعة.

وإن كان ملزوما للمطلوب : كما لو كان مطلوبنا أن النهار موجود. فقلنا : إن كانت الشمس طالعة ؛ فالنهار موجود.

فإذا قلنا : والشمس طالعة ؛ لزم : النهار موجود.

ولا يلزم من انتفاء الملزوم ؛ انتفاء اللازم ؛ ولا من وجود اللازم ؛ وجود الملزوم ، لجواز أن يكون اللازم أعم من الملزوم.

وإن (٢) اتفقت المساوات بين اللازم والملزوم في العموم والخصوص / ، فيلزم من وجود كل واحد منهما ؛ وجود الآخر ، ومن انتفائه ؛ انتفاؤه ؛ ولكن لا لنفس الصورة ؛ بل (٣) لخصوص المادة.

وأما المنفصل :

فإما أن يكون المناسب للمطلوب ، مقابلته له ، مقابلة حقيقية ، أو غير حقيقية.

فإن كانت حقيقية : كما سبق تعريفه ؛ فيصح الاستدلال بوجود المقابل له على انتفائه ؛ وبانتفائه على وجوده ؛ ضرورة استحالة الجمع بينهما والخلو منهما : كما في قولنا : العدد إما زوج ، وإما فرد ؛ فإنه يلزم من وجود الفرد ؛ انتفاء الزوج ، ومن انتفاء الفرد ؛ وجود الزوج وكذا بالعكس.

__________________

(١) فى ب (بموجود لزم)

(٢) فى ب (وإذا)

(٣) فى ب (ولكن)


هذا إذا كانت أجزاء المنفصلة لا تزيد على جزءين.

وإن كانت أكثر من ذلك ؛ لزم من وجود الواحد ؛ انتفاء الباقى ، ومن انتفائه منفصلة موجبة من الباقى.

وأما إن كانت المقابلة غير حقيقية : فإما أن تكون من مانعة الجمع ، دون الخلو ، أو من مانعة الخلو دون الجمع.

فإن كان الأول : لزم من وجود الواحد ؛ انتفاء الآخر ؛ لاستحالة الجمع ، ولا يلزم من انتفائه وجود الآخر ؛ لجواز الخلو.

وإن كان الثانى : لزم من انتفاء الواحد ؛ وجود الآخر ؛ لاستحالة الخلو منهما ، ولا يلزم من وجوده ؛ انتفاء الآخر ؛ لجواز الجمع. فهذه هى جملة صور الأدلة المنتجة ، أوردناها على غاية الإيجاز والاختصار. ومن لم يقنع باليسير (١) ؛ فعليه بمراجعة كتبنا (١) المخصوصة بهذا الفن (٢).

__________________

(١) فى ب (بالقليل فعليه بكتبنا)

(٢) انظر دقائق الحقائق ل ٩٣ / ب المقالة الرابعة في تعريف صور الحجج ومبنى تأليفات الطرق.


الفصل السادس

في شرط الدّليل العقلى

وشرط الدليل العقلى : أن يكون مطردا بالاتفاق.

وليس من شرطه أن يكون منعكسا : أى يلزم من انتفائه ، انتفاء المدلول خلافا لبعض الفقهاء ؛ فإن حدوث الحوادث دليل وجود الصانع في نفسه ، ولو قدرنا عدم حدوث الحوادث ؛ لما لزم منه انتفاء الصانع في نفسه ، وإن لم يعلم وجوده ؛ لعدم الدليل الدال عليه ، ولأنه لا مانع من قيام أدلة على مدلول واحد. فلو لزم انتفاء المدلول عند انتفاء واحد منها ؛ لما لزم من باقى الأدلة وجود المدلول ، وخرجت عن كونها أدلة ؛ لعدم اطرادها ؛ وهو خلاف الفرض.

وعلى هذا. فقد أخطأ من سلم من المعتزلة : أن الدليل الدال على كون العالم منا عالما بعلم معلل بالعلم ؛ جواز ثبوت هذا الحكم في حقنا ؛ إذ نفى ذلك في عالميّة الله ـ تعالى ـ لا ينفى جواز ثبوت حكم العالميّة في حقه ، حيث أنه نفى المدلول لانتفاء دليله. /

ومهما قيل : بامتناع انتفاء المدلول ، لانتفاء الدليل (١) ؛ فلا يتصور اجتماع دليلين متقابلين على شيء واحد بالنفى والإثبات : أحدهما مطرد منعكس ، والآخر مطرد غير منعكس ، حتى يقال بترجيح المنعكس على غير المنعكس ، كما قد يظن ؛ بل ولا يتصور أن يكونا دليلين في نفس الأمر ؛ بل هما شبهتان ، أو أحدهما شبهة ، والآخر دليل.

ولا نعرف خلافا في أنه لا يشترط في وجه دلالة الدليل على المدلول نصب ناصب ، ولا وضع واضع ؛ بل ذلك للدليل ـ من حيث هو هو ـ لا لأمر خارج ؛ فلا (٢) يخرج (٢) عن كونه دليلا على المدلول ، وإن قدرنا عدم الناصب له والواضع.

ولا يشترط [فى] (٣) دلالة الدليل على المدلول ، أن يثبت للدليل وصف وجودى ، ولا حال زائدة وراء لزوم المدلول عنه ؛ وإلا لثبت (٤) ذلك للعدم ، عند كونه دليلا ؛ وهو ممتنع ؛ لما فيه من قيام الثبوت بالعدم.

__________________

(١) فى ب (دليله).

(٢) فى ب (عنه ولا يخرج)

(٣) فى أ ، ب (من)

(٤) فى ب (ثبت)


الفصل السابع

فيما ظن أنه من الأدلة المفيدة لليقين ، وليس منها

وهى ستة :

الدليل الأول : الاستقراء (١)

وهو عبارة عن الحكم بنسبة كلى ، إلى كلى آخر ، بإيجاب ، أو سلب ؛ لتحقق نسبته بتلك الكيفية ، إلى ما تحت الكلى المحكوم عليه ، من الجزئيات :

كالحكم بالتحيز على الجوهر الكلى ؛ لوجود التحيّز في الجواهر ؛ وهو غير يقينى ؛ فإنه (٢) لا يخلو :

إما أن يكون الاستقراء ناقصا : بأن لا يكون قد استقرى جميع الجزئيات ، أو تاما : قد استقرى فيه جميع الجزئيات.

فإن كان من الأول : فلا يخفى أنه من الجائز أن يكون الحكم فيما لم يستقر ، على خلافه ، فيما استقرى.

وعند ذلك ؛ فلا يلزم أن يكون الحكم الثابت لبعض الجزئيات ؛ ثابتا للكلى المشترك بينها ؛ وإلا لما خلا عن ذلك الحكم شيء من جزئياته. وذلك كالحكم على الحيوان ، بأنه إذا أكل تحرك فكه الأسفل ، أخذا من استقراء أكثر جزئيات الحيوان ، والحكم في التمساح على خلافه.

وإن كان تاما : فإنما يلزم أن يكون الحكم الثابت لكل واحد من الجزئيات ؛ ثابتا للأمر الكلى المشترك ، أن لو ثبت امتناع ثبوته لكل واحد من الجزئيات ؛ لخصوصه ، وتعينه ؛ وهو عسير جدا ، وعدم العلم بدليله ؛ لا يدل على عدمه في نفسه كما يأتى بعد.

الدليل الثانى : الحكم بانتفاء المدلول لانتفاء / دليله (٣).

وهذه الطريقة ، إنما تتم ببيان انتفاء الأدلة ، وبيان لزوم انتفاء المدلول من انتفائها.

ولا طريق إلى الأول إلا بالبحث ، والسبر مع عدم الاطلاع عليها.

__________________

(١) قارن بشرح المواقف ١ / ١٣٦.

(٢) فى ب (لأنه)

(٣) قارن بشرح المواقف ص ١٣٩.


وأما الثانى : فطريقه أن يقال : لو لم يلزم من انتفاء الدليل انتفاء المدلول ؛ لما ثبت المدلول عند وجود دليله ؛ لاحتمال أن يكون الغلط واقعا فيه ؛ مع عدم الدليل عليه ، ولجاز أن يكون بين أيدينا جبال شامخة ، وأمور هائلة ، وإن كنا لا نحس بها ، ولا قام الدليل على وجودها ؛ وهو ممتنع.

وهو أيضا : غير يقينى ؛ فإنه لا يلزم من البحث والسبر العلم بعدم الدليل ؛ بل غايته عدم العلم بالدليل ، ولا يلزم من عدم العلم بالدليل ؛ عدم الدليل في نفسه.

سلمنا : أنه يلزم منه عدم الدليل في نفسه ؛ غير أنه يلزم من انتفاء دليل النفى ؛ انتفاء النفى ؛ لما قررتموه ، ونفى النفى ثبوت ؛ فانتفاء أدلة النفى من جملة أدلة الإثبات.

وعند ذلك : فإن ادعى نفى بعض [أدلة] (١) الإثبات ؛ فلا يلزم منه عدم الإثبات ؛ لجواز ثبوته بدليل آخر.

وإن ادعى انتفاء جميع أدلة الإثبات ؛ حتى يدخل فيها انتفاء أدلة النفى ؛ فقد سلّم أن دليل النّفى ؛ غير منتف ؛ فيكون ثابتا. وعند ذلك فيكون النفى محالا على دليله ، لا على عدم دليل الإثبات.

سلمنا : انتفاء جميع أدلة الإثبات ؛ ولكن لا نسلم أنه يلزم منه عدم المدلول ، فإنا لو قدرنا أنه لا دليل على وجود الإله غير حدوث الحوادث ، وقدرنا عدم حدوث الحوادث ؛ لم يلزم منه عدم الإله تعالى.

وأما العلم بانتفاء الغلط ، عند العلم بلزوم المدلول عن النظر الصحيح ؛ فمستند إلى دليل انتفاء الغلط ؛ وهو العلم بالمقدمات البديهية ، أو المستندة إلى البديهيات ، لا إلى عدم دليل الغلط ، والعلم بعدم الجبال الشامخة بين أيدينا إذا لم تكن محسوسة ؛ فبديهى. لا أنه مستند إلى العلم بانتفاء دليل الوجود وإلا كان نظريا.

سلمنا : دلالة ما ذكرتموه على عدم المدلول ؛ ولكنه معارض بما يدل على أنه غير معدوم : وهو انتفاء دليل العدم على ما قررتموه ، ولا سبيل إلى الجمع بين الوجود والعدم ، ولا سبيل إلى الترجيح ؛ لعدم الأولية.

__________________

(١) فى أ (الأدلة)


كيف : وأنه يلزم منه الاعتراف بأن انتفاء / دليل أحد المتقابلين ، لا يدل على عدمه. وإن (١) قيل بإبطالهما ؛ ففيه (١) تسليم المطلوب.

لكن هذا السؤال فيه نظر ؛

فإنه إذا سلم الخصم انتفاء دليل الثبوت ، وأنه دليل النفى ؛ فانتفاء (٢) دليل الثبوت ؛ من جملة أدلة النفى.

وعند ذلك : إن ادعى نفى جميع أدلة النفى في المعارضة على وجه يدخل فيها انتفاء أدلة الإثبات ؛ فقد منع ما سلم.

وإن ادعى انتفاء بعض أدلة النفى ؛ فلا يلزم من انتفاء بعض الأدلة ؛ انتفاء المدلول ؛ لاحتمال وجود دليل آخر.

الدليل الثالث : قياس التّمثيل.

وهو الحكم باشتراك معلومين في حكم أحدهما (٣) ، بناء على جامع بينهما : كالحكم بأنّ البارى ـ تعالى ـ مشار إليه ، وإلى جهته ؛ لكونه موجودا ؛ كما في الشاهد.

وقد تسمى الصورة المتنازع فيها فرعا ، والمتفق على حكمها أصلا ، والوصف الجامع (٤) علة ، والمعلل حكما ؛

وهو غير يقينى ،

فإنه ليس من ضرورة اشتراك أمرين ، في صفة عامة لهما ؛ اشتراكهما في حكم أحدهما إلا أن يكون ما به الاشتراك ، علة للحكم المتنازع فيه ، وليس ما يدل على كونه علة عند القائلين به غير طريقين : أحدهما الطّرد والعكس ، والآخر السّبر والتّقسيم ؛

وهما غير مفيدين لليقين.

أما الطّرد والعكس : فلأنه لا معنى له غير ملازمة وجود الحكم للعلة ، وانتفاؤه عند انتفائها. ولا بد فيه من الاستقراء لجميع الجزئيات ، وفي سائر الأحوال ؛ ولا سبيل إليه ؛ لخروج الفرع عنه (٥) ؛ فيكون ناقصا.

__________________

(١) فى ب (فإن قال بإبطالهما معا فقيه)

(٢) فى ب (وانتفاء دليل النفى وانتفاء)

(٣) فى ب (واحد)

(٤) فى ب (لا يجامع)

(٥) فى ب (عليه).


وإن سلمنا كون الاستقراء تاما ؛ ولكن لا يلزم منه أن يكون الوصف المشترك علة ؛ لجواز أن تكون العلة مركبة من أوصاف ؛ وهو بعضها ، وحيث وجد (١) الحكم عند وجوده ، يحتمل أن باقى أوصاف العلة كانت موجودة ؛ وبه كمال العلة. وحيث انتفى الحكم عند انتفائه ؛ كان لأنه بعض العلة.

وعند ذلك فلا يلزم من وجوده في الفرع ؛ وجود الحكم ؛ لجواز تخلف باقى أوصاف العلة ، أو بعضها.

وإن تعرض مع ذلك إلى بيان نفى وصف آخر غير المدار المذكور ؛ فسيأتى إبطاله في السبر والتقسيم.

كيف وأن الدوران وجودا وعدما ، متحقق في الطرفين ؛ فليس جعل أحد الدائرين علة للآخر باعتبار الدوران ، أولى من العكس ، وإن بين كون الوصف صالحا لإثبات الحكم ، والحكم / غير صالح لإثبات الوصف بطريق آخر ؛ فلا حاجة إلى الدّوران ، ولا إلى القياس على الأصل المذكور.

وأما السّبر والتّقسيم : فهو أن تحصر أوصاف محلّ الحكم المجمع عليه ، ويبطل التعليل بما عدا المستبقى ؛ وهو إنما يفيد كون الوصف علة ، بعد الحصر ؛ ولا دليل عليه غير البحث والسبر ، مع عدم الدليل على غير المستبقى ؛ وقد بينا أن ذلك لا يدل على عدمه في نفسه.

وإن سلم الحصر ؛ فلا بد من إبطال التعليل بكل واحد واحد (٢) من الأوصاف المحذوفة ، وإبطال كل رتبة تحصل من اجتماعهما ؛ ولا يكفى في إبطال المحذوف ، وتصحيح المستبقى ؛ ثبوت الحكم مع المستبقى في صورة ، وانتفاء المحذوف ؛ لجواز أن يكون الحكم معللا في صورتين بعلتين ، والوصف المستبقى مشترك بينهما.

هذا كله إن ذكر في التمثيل جامعا ، وإلا [فالحكم] (٣) تحكم محض ، ودعوى لا دليل عليها ، ويلزم القائل بذلك أن يعترف بصحة حكم من حكم بأن جميع الآدميين

__________________

(١) فى ب (حكم)

(٢) ساقط من (ب)

(٣) فى أ (فالجمع)


سودان ؛ إذا لم يشاهد غير الزنوج ، وأن جميعهم لا يموتون ؛ إذا لم يشاهد ميتا ، ولا سمع به ؛ ولا يخفى [ما فيه] (١) من الجهالة.

الدليل الرابع : قياس الفراسة.

ويسمى أيضا قياس الدّلالة. وهو نوع من التمثيل ، إلا أن الوصف المشترك بين الأصل والفرع ، دليل على العلة ، وليس علة في نفسه : وذلك كالاستدلال بعرض أعالى الإنسان على شجاعته ؛ بناء على أنهما تابعان لمزاج واحد في بدن الأسد (٢) ، ومعلولان له ، ويلزم من أحد الموجبين في (٣) الإنسان (٣) ؛ وهو عرض الأعالى ؛ وجود موجبه ، ومن وجود موجبه ؛ وجود الموجب الآخر ؛ وهو الشجاعة ؛ ولا يساعد في ذلك غير الطرد والعكس ، والسبر والتقسيم ؛ وقد عرف ما فيهما.

وإن سلمنا إتباع الحكمين في الأسد ؛ لمزاج واحد ؛ فوجود أحدهما في الإنسان غير واجب أن يكون معللا بما كان معللا به في الأسد ؛ بل جاز أن يكون بغيره ؛ فإنه لا مانع من تعليل الحكم بعلتين ، بالنسبة إلى محلين مختلفين.

ومع ذلك فلا يلزم الموجب الآخر. لجواز أن لا يكون علة عرض الأعالى (٤) فى الإنسان علة للشجاعة.

الخامس : اتّفاق (٥) الأصحاب على إلحاق الغائب بالشاهد ، بجامع الحدّ ، والعلّة ، والشّرط ، والدّلالة.

أما الحدّ : فقالوا : إذا ثبت أنّ حدّ العالم في الشاهد من قام / به العلم ؛ فيجب أن يكون حده في الغائب كذلك ؛ لأنّ الحد يجب اطراده ، ولا يختلف شاهدا ، ولا غائبا.

وأما العلّة : فقالوا : إذا ثبت كون العالم معللا بالعلم في الشّاهد وجب أن يكون معللا به في الغائب ؛ لأن ما ثبت لأحد المثلين ؛ وجب أن يثبت للآخر.

وأما الشّرط : فقالوا : إذا كان شرط كون العالم عالما في الشاهد ، قيام العلم به ؛ وجب أن يكون العالم في الغائب كذلك ؛ لما تحقق في العلة.

__________________

(١) فى أ (فيه)

(٢) فى ب (الإنسان)

(٣) فى ب (للإنسان)

(٤) فى ب (العالى)

(٥) منهم الباقلانى انظر التمهيد ص ٣٨.


وأما الدّلالة : فقالوا : إذا دلّ قبول الحوادث شاهدا ، على استحالة تعرى القابل لها عنها ؛ لزم مثله في الغائب ؛ لأن شرط الدلالة الاطراد.

وزاد الأستاذ أبو إسحاق طريقا آخر فقال : كل أمرين ثبت تلازمهما في الشاهد ؛ لزم أن يتلازما غائبا. ولم يعتبر في ذلك جامعا.

وعند هذا فنقول :

أما الجمع بالحدّ ؛ فإن ثبت أنّ حدّ العالم : من قام به العلم ، وثبت أن مسمى العالم ، متحد في الغائب والشاهد ، فلا حاجة إلى القياس على الشاهد ، والاعتبار به ؛ لأنّ نسبة الحد إلى جميع مجارى المحدود واحدة ؛ فليس إلحاق البعض بالبعض أولى من العكس.

وإن لم يثبت الحدّ ، أو ثبت ؛ ولكن لم يثبت اتحاد مسمى العالم ؛ فالإلحاق متعذر.

وعلى هذا يكون الكلام في العلة والشرط ، ويزيد في العلة والشرط إشكال آخر : وهو احتمال كون العالم في الشاهد معللا بالعلم ، أو مشروطا به ؛ لكونه جائزا.

وهذا المعنى : غير موجود في الغائب ؛ فلا يلزم التعدية.

أو بمعنى آخر لم نطلع عليه ، ولا يلزم من عدم العلم به وبدليله ؛ العلم بعدمه كما سبق.

وبمثل هذا الاحتمال يمكن القدح في الطريقة الرابعة : وهو أن يقال : الدال على امتناع تعرى القابل للحوادث في الشاهد ، ليس مطلق قبول الحوادث ؛ بل قبول الجائز لها ، أو لمعنى آخر يخصه من حيث هو شاهد ، وبتقدير أن يكون ذلك لكونه قابلا للحوادث ؛ فلا حاجة إلى إلحاق الغائب بالشاهد. ولا بالعكس ؛ لتساوى الدلالة بالنسبة إليهما.

وأما طريقة الأستاذ أبى إسحاق : فيلزمه عليها : أن يكون البارى تعالى جوهرا ؛ ضرورة كونه قائما بنفسه ؛ لضرورة التلازم بينهما في الشاهد ؛ فإن كل قائم بنفسه في الشاهد جوهر ، وكل جوهر قائم / بنفسه ، ولا (١) محيص عنه (١).

__________________

(١) ساقط من (ب)


السادس : الاستدلال بما يتوقف كونه دليلا ، على معرفة مدلوله (١).

وذلك كالاستدلال بكلام (٢) الله تعالى ، على صدق رسوله ، ووجود البارى تعالى ونحوه ؛ وهو دور ممتنع ؛ حيث أنا لا نعرف المذكور من كلامه ، إلا بعد معرفة وجوده ، وصدق رسوله فإذا توقف معرفة وجوده ، وصدق رسوله على معرفة كلامه ؛ كان دورا.

فهذه الطرق غير يقينية ، وإن كان بعضها مفيدا للظن (٣).

__________________

(١) قارن بشرح المواقف ص ١٥٤ ـ ١٥٧.

(٢) فى ب (لكلام)

(٣) انظر التمهيد للباقلانى ص ٣٨ ، ٣٩.


«القاعدة الرابعة»

فى انقسام المعلوم

إلى الموجود ، والمعدوم ، وما ليس بموجود ، ولا معدوم

وتشتمل على ثلاثة أبواب :

الباب الأول : في الموجود.

الباب الثانى : في المعدوم.

الباب الثالث : فيما ليس بموجود ، ولا معدوم.



الباب الأول

في الموجود

ويشتمل على : مقدمة ، وقسمين



أما المقدمة :

فهو أن العلم بالوجود ـ من حيث هو وجود ـ هل هو فطرى ، أم لا؟

وقد ذهبت الفلاسفة إلى : أن العلم به فطرى. محتجين على ذلك بوجوه :

الأول : أنه لو كان العلم به نظريا ؛ فما به تعريفه : إما أن يكون وجودا ، أو لا يكون وجودا.

فإن كان الأول : ففيه تعريف الشيء بنفسه ؛ وهو تعريف الوجود بالوجود ؛ وهو ممتنع.

وإن كان الثانى : ففيه تعريف الوجود ، بعدم الوجود ؛ وهو ممتنع أيضا.

الثانى : هو أنّ العلم باستحالة اجتماع الوجود والعدم في شيء واحد ، من جهة واحدة ؛ بديهى. ولا يجد عاقل من نفسه عند عدم أضداد العلم : من النوم ، والغفلة ، والذهول ، وغيره ؛ الخلو (١) عنه (١) ، ولو كان العلم بمفرديه : وهما الوجود والعدم ، نظريا ؛ لتوقف العلم بالنسبة بينهما على تحصيل العلم بهما بالنظر ؛ وهو خلاف ما يجده كل عاقل من نفسه.

الثالث : هو أنّ كلّ عاقل ، يجد من نفسه العلم البديهى بوجود ذاته ، ومفهوم الوجود في الكلّ واحد ؛ على ما سيأتى (٢) ؛ فكان العلم بالوجود المطلق فطريا (٣).

وهو (٣) بناء منهم على أن المفهوم من الوجود واحد في كل موجود ، وأنه زائد على ذات الموجود.

__________________

(١) فى ب (لا يخلو عنه).

(٢) انظر ل ٥٠ / ب وما بعدها.

(٣) فى ب (نظريا وهذا).


وهو غير صحيح على أصول أصحابنا ، حيث اعتقدوا أن لفظ الوجود مشترك ، وأن المفهوم منه (١) مختلف ؛ لأن وجود كل شيء هو ذاته ، وذاته وجوده على أصولهم ، والذوات مختلفة ؛ فكان (٢) مفهوم الوجود مختلفا ـ على ما سيأتى / تحقيقه (٣) ـ وليس معنى عاما متحدا في كل موجود.

وعلى هذا : فمنه ما هو نظرى : كالعلم بمعنى النفس ، والعقل (٤) ، وغيره (٤). ومنه [ما هو] (٥) فطرى : وهو ما كان من الذوات ، والوجودات مبدأ للنظريات ؛ على ما سلف (٦).

وعلى هذا الأصل ، يمكن تخريج ما أورده من الحجج.

أما الحجّة الأولى : فلأن مفهوم الوجود ، ليس معنى عاما مشتركا بين الذوات ، حتى إذا قيل بتعريفه بما هو موجود ، كان تعريفا للشىء بنفسه ؛ بل لفظ الوجود مشترك بين وجودات مختلفة : بعضها فطرى ، والبعض نظرى ، وتعريف البعض بالبعض ؛ لا يكون تعريفا للشىء بنفسه.

وأما الحجّة الثّانية : فلأنه أمكن أن يقال : إذا كان العلم ببعض الموجودات بديهيّا ؛ كما سلف (٧) ؛ فالعلم باستحالة الجمع بينه ، وبين عدمه ، هو البديهى الّذي لا يتصور خلو نفس العاقل عنه بتقدير عدم الأضداد ، دون ما عداه. أما أن يكون هو الوجود المطلق العام فلا ؛ لعدم تحققه في نفسه ، كما يأتى.

وأما الحجة الثالثة : فمبنية على أنّ المفهوم (٨) من (٨) الوجود في الكل واحد ؛ وهو ممتنع ؛ كما يأتى (٩).

وإذا عرف ذلك فنقول :

مسمى الوجود : إما أن يكون بحيث يلزم المحال من فرض عدمه لذاته ، أو لا يلزم المحال من فرض عدمه لذاته.

__________________

(١) فى ب (فيه)

(٢) فى ب (وكان)

(٣) انظر ل ٥٠ / ب وما بعدها.

(٤) فى ب (فى العقل وغيرهما).

(٥) ساقط من أ.

(٦) انظر ل ٤ / ب وما بعدها.

(٧) انظر ل ٤ / ب وما بعدها.

(٨) ساقط من (ب).

(٩) انظر ل ٥١ / أوما بعدها.


فإن كان الأول : فهو واجب الوجود لذاته.

وإن كان الثانى : فهو الجائز الوجود.

ولا بدّ من بيان كل واحد منهما ، وما يتعلق به.



القسم الأول

في واجب الوجود

والنظر فيه في سبعة أنواع :

الأول : في إثبات واجب الوجود [لذاته] (١) ، وبيان حقيقته ، ووجوده.

الثانى : في الصفات النفسانية لواجب الوجود.

الثالث : فيما يجوز عليه تعالى.

الرابع : فيما لا يجوز (٢) عليه.

الخامس : في وحدانية الله تعالى.

السادس : في أفعال الله تعالى.

السابع : في أسماء الله تعالى.

__________________

(١) ساقط من أ.

(٢) فى ب (لا يجب)



النوع الأول

في إثبات واجب الوجود بذاته ، وبيان حقيقته ، ووجوده

ويشتمل على أربعة مسائل :



المسألة الأولى

في إثبات واجب الوجود لذاته

مذهب أهل الحقّ (١) من المتشرعين ، وطوائف الإلهيّين : القول بوجوب وجود موجود ، وجوده لذاته ، لا لغيره ، وكل ما سواه ؛ فمتوقف في وجوده عليه. خلافا لطائفة شاذة من الباطنية (٢)

ومنشأ الاحتجاج على ذلك ما نشاهده من الموجودات / العينية ، ونحققه من الأمور الحسّيّة ؛ فإنه إما أن يكون : واجبا لذاته ، أو لا يكون واجبا لذاته :

__________________

(١) منهم : (من الأشاعرة)

الأشعرى في كتاب اللمع ص ١٧. نشر الخانجى تحقيق د. حموده غرابه. والباقلانى في كتابيه : التمهيد ص ٤٤ ط : دار الفكر العربى ، والإنصاف ص ٢٢ ط ٢ بمؤسسة الخانجى.

وعبد القاهر البغدادى في كتابه أصول الدين ص ٦٨. طبع مطبعة الدولة باستنبول.

وإمام الحرمين الجوينى في كتبه : الشامل ص ٢٦٢ طبع منشأة المعارف ، والإرشاد ص ٢٨ طبعة الخانجى ، ولمع الأدلة ص ٧٦ ط. الدار القومية

والإمام الغزالى : في كتابه الاقتصاد في الاعتقاد ص ١٣ طبع مطبعة حجازى.

والشهرستانى : في نهاية الاقدام ص ٥٤ وما بعدها طبع المثنى ببغداد.

والرازى : في كتابيه المحصل ص ١٠٦ طبع الحسينية ، ومعالم أصول الدين ص ٢١ على هامش المحصل.

(ومن المعتزلة) : القاضى عبد الجبار في كتبه الأصول الخمسة ص ١١٨ نشر : وهبه ، والمحيط بالتكليف ص ٣٦. نشر : الدار المصرية.

(ومن الفلاسفة) :

الكندى : في كتابه. (فى الفلسفة الأولى) ص ٩٢. ط : الحلبى.

وابن سينا في الإشارات ٣ / ٣٦ ط : الحلبى ، والنجاة ص ١٩٨ وما بعدها ط الكردى.

(ومن كتب الآمدي والمتأخرين).

انظر غاية المرام للآمدى ص ٩ : نشر المجلس الأعلى للشئون الإسلامية ، وانظر شرح مطالع الأنظار على مطالع الأنوار للبيضاوى ص ١٥١. ط : المطبعة الخيرية ، والمواقف للإيجي ص ٢٦٦. ط : مطبعة العلوم ، وشرح المقاصد للتفتازانى ٢ / ٤٢ طبع استانبول.

وانظر درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية ٣ / ٨٨ ـ ٩٠ فقد نقل ما أورده الآمدي من أول قوله «مذهب أهل الحق من المتشرعين ... إلى قوله : وإن كان الثانى فهو ممتنع».

(٢) الباطنيّة : جماعة ترى أن لكل ظاهر باطنا ، ولكل شرع تأويلا ، ويزعمون مع هذا أنهم أصحاب التعاليم ، والمخصوصون بالاقتباس من الإمام المعصوم.

ومن فرقها الإسماعيلية ، والدروز ، والناصرية ، والصباحية. وهى من الطوائف التى انتسبت إلى الإسلام وهى أبعد ما تكون عنه ؛ بل إنها خطر على كل الأديان السماوية.

أما عن رأيهم في إثبات الواجب ، فقد قالوا انا لا نقول : هو موجود ، ولا لا موجود ، ولا عالم ، ولا جاهل ولا قادر ، ولا عاجز ... الخ (الفرق بين الفرق ص ٢٨١ ـ ٣١٢ ، الملل والنحل ص ١٩٢ ، ١٩٣ ، التبصير في الدين ص ٨٣ ، اعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص ٧٦ ـ ٨١).


فإن كان الأول : فهو المطلوب.

وإن كان الثانى : فكل موجود لا يكون واجبا لذاته ؛ فهو ممكن لذاته ؛ لأنه لو كان ممتنعا لذاته ؛ لما كان موجودا. وإذا كان ممكنا ؛ فالوجود والعدم عليه جائزان.

وعند ذلك : فإما أن يكون في وجوده مفتقرا إلى مرجح ، أو غير مفتقر إلى المرجح. فإن لم يكن مفتقرا إلى المرجح ؛ فقد ترجح أحد الجائزين من غير مرجح ؛ وهو ممتنع.

وإن افتقر إلى المرجح : فذلك المرجح : إما واجب لذاته ، أو لغيره.

فإن كان الأول ؛ فهو المطلوب.

وإن كان الثانى : فذلك الغير إما أن يكون معلولا لمعلوله ، أو لغيره.

فإن كان الأول : فيلزم أن يكون كلّ واحد منهما مقوّما للآخر ؛ ويلزم من ذلك أن يكون كل واحد منهما مقوّما لمقوّم نفسه ؛ فيكون كل واحد منهما مقوّما لنفسه ؛ لأن مقوّم المقوّم مقوّم. وذلك يوجب جعل كل واحد من الممكنين متقوّما بنفسه ، والمتقوم بنفسه لا يكون ممكنا ؛ وهو خلاف الفرض ، ولأنّ التقويم إضافة بين المقوّم والمقوم ؛ فيستدعى المغايرة بينهما ، ولا مغايرة بين الشّيء ونفسه.

وإن كان الثانى : وهو أن يكون ذلك الغير معلولا للغير : فالكلام في ذلك الغير ، كالكلام في الأول.

وعند ذلك [فإما] (١) أن يقف الأمر على موجود هو مبدأ الموجودات غير مفتقر في وجوده إلى غيره ، أو يتسلسل الأمر إلى غير النهاية.

فإن كان الأول ؛ فهو المطلوب.

وإن كان الثانى ؛ فهو ممتنع (٢).

__________________

(١) فى أ (فلنا)

(٢) إلى هنا انتهى ما نقله ابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل ٣ / ٨٨ ـ ٩٠.


أما على رأى الفلسفى : فلأنهم قالوا : لو فرضنا عللا ، ومعلولات لا نهاية لها. قلنا أن نفرض الوقوف على الواحد منها ؛ فلو كان ما قبله لا نهاية له (١) ، فلو فرضنا زيادة متناهية على الجملة المفروضة ، ولتكن الزيادة عشرة مثلا.

فالجملة الأولى : إما أن تكون مساوية لنفسها ـ مع فرض الزيادة المتناهية عليها ـ أو أزيد ، أو أنقص.

القول بالمساواة ، والزيادة محال ؛ إذ الشيء لا يكون مع غيره ، كهو لا مع غيره ، ولا أزيد : فإن كانت الجملة الأولى ناقصة بالنظر إلى الجملة الثانية : فمن المعلوم أن التفاوت بينهما ؛ إنما هو بأمر متناه.

وعند ذلك : / فالزيادة لا بدّ وأن تكون لها نسبة إلى الباقى بجهة من جهات النسب على نحو زيادة المتناهى ، على المتناهى ، ومحال أن يحصل بين ما ليسا بمتناهيين النسبة الواقعة بين المتناهيين.

وأيضا (٢) : فإنه إذا (٢) كانت إحدى الجملتين أزيد من الأخرى بأمر متناه ؛ فلنطبق بين الطرفين الأخيرين بأن نأخذ من الطرف الأخير من إحدى الجملتين عددا مفروضا ، ومن الأخرى مثله ، وهلم جرا.

فإما أن يتسلسل الأمر إلى غير النهاية ؛ فيلزم منه مساواة الأنقص للأزيد في كلا طرفيه ؛ وهو محال.

وإن قصرت الجملة الناقصة في الطرف الّذي لا نهاية له ؛ فقد تناهت. والزائدة إنما زادت على الناقصة بأمر متناه ، وكل ما زاد على المتناهى بأمر متناه ؛ فهو متناه :

__________________

(١) نقل ابن تيمية في كتابه درء تعارض العقل والنقل ٣ / ٤٠ ـ ٥٦ طبع ونشر جامعة الإمام محمد بن سعود. ما أورده الآمدي هنا بنصه من أول قوله (لو فرضنا عللا ومعلولات لا نهاية لها ... الى قوله في ل ٤٤ / أغير متوقف على ما سبق غيره عليه ؛ وهو المطلوب).

وقد مهد ابن تيمية للنقل بقوله في ص ٤٠ : قال الآمدي : وباقى الوجوه في الدلالة على ما ذكرناه في امتناع حوادث غير متناهية في إثبات واجب الوجود ، وقد ذكرت ، فلا حاجة إلى إعادتها. وهو قد ذكر قبل ذلك في امتناع ما لا يتناهى أربعة طرق ، فزيفها واختار طريقا خامسا.

الأول : التطبيق ، وهو أن يقدر جملة فلو كان ما قبلها لا نهاية له ... ثم ينقل ما أورده الآمدي هنا بالتفصيل في كتابه من ص ٤٠ ـ ٥٦ من المجلد الثالث. وما نقله ابن تيمية يتفق تماما مع ما أورده الآمدي هنا في اللوحات من ل ٤١ / ب ـ ٤٤ / أ.

(٢) فى ب (فاذا)


إلا أن هذا مما لا يستقيم على موجب (١) عقائدهم ، وتحقيق قواعدهم. حيث أنهم قضوا بأن كل ما له الترتيب الوضعى : كالأبعاد ، والامتدادات ، أو الترتيب الطبيعى ، وآحاده موجودة معا : كالعلل ، والمعلولات ؛ فالقول بعدم النهاية فيه ؛ مستحيل.

وأما ما سوى ذلك ؛ فالقول بعدم النهاية فيه ؛ غير مستحيل. وسواء كانت آحاده موجودة معا : كالنفوس بعد مفارقة الأبدان ، أو هى على التعاقب والتجدد : كالأزمنة ، والحركات الدورية ؛ فإن ما ذكروه وإن استمر لهم فيما قضوا عليه بالنهاية ؛ فهو لازم لهم فيما قضوا عليه بعدم النهاية.

وعند ذلك : فلا بد من بطلان أحد الأمرين : إما الدليل : إن كان اعتقاد عدم النهاية حقا.

وإما اعتقاد (٢) عدم النهاية : إن كان الدليل حقا ؛ لاستحالة الجمع.

وليس لما (٣) ذكره الفيلسوف المتأخر (٤) من جهة الفرق بين العلل والمعلولات ، والأزمنة والحركات ، قدح في الجمع. وهو قوله : إن ما لا ترتب له وضعا ، ولا آحاده موجودة معا ـ وإن كان ترتبه طبيعيا ـ فلا يمكن فرض جواز قبوله للانطباق (٥) ، وفرض الزيادة والنقصان فيه بخلاف مقابله ؛ لأن المحصل يعلم : أن الاعتماد على هذا الخيال في تناهى ذوات الأوضاع ، وفيما له الترتيب الطبيعى ، وآحاده موجودة معا ليس إلا من جهة / إفضائه إلي وقوع الزيادة والنقصان ، بين ما ليسا بمتناهيين ؛ وذلك إنما يمكن بفرض زيادة على ما فرض الوقوف عنده من نقطة ما من البعد المفروض ، أو وحدة ما من العدد المفروض.

وعند ذلك : فلا يخفى إمكان فرض الوقوف على جملة من أعداد الحركات ، والنفوس الإنسانية المفارقة لأبدانها ، وجواز فرض الزيادة عليها بالتوهم مما هو من نوعها. وإذ ذاك فالحدود المستعملة في القياس المذكور في محل الاستدلال بعينها ، مستعملة في صورة الإلزام ، مع اتحاد الصورة القياسية من غير فرق.

__________________

(١) حيث أجازوا التسلسل في بعض الأمور. انظر غاية المرام ص ١٠

والنجاة ص ١٢٤ ـ ١٢٧ ، ٢٥٢ ـ ٢٥٥.

(٢) ساقط من (ب)

(٣) فى ب (ما)

(٤) ساقط من (ب)

والمقصود بالفيلسوف المتأخر هنا ابن سينا. انظر النجاة ١٢٤ ـ ١٢٧ ، ٢٥٢ ـ ٢٥٥ وانظر الشفاء الفن الثالث من الطبيعيات ص ٧٠.

(٥) فى ب (الانطباق)


وأيضا : فإنه ليس كل جملتين تفاوتتا بأمر متناه ، تكونا متناهيتين ؛ فإن عقود الحساب مثلا ، لا نهاية لأعدادها. وإن كانت الأوائل أكثر من الثوانى ، بأمر متناه ، وهذه الأمور ، وإن كانت تقديرية ذهنية ، فلا خفاء أن وضع القياس المذكور فيها على نحو وضعه في الأمور الموجودة بالفعل ؛ فلا يتوهمن الفرق واقعا من مجرد هذا الاختلاف.

والقول بأن ما زادت به إحدى الجملتين على الأخرى ، لا بدّ وأن يكون له نسبة إلى الباقى (١) ؛ غير مسلم. ولا يلزم من قبول المتناهى لنسبة المتناهى إليه ، قبول غير المتناهى لنسبة المتناهى إليه.

وأما المتكلم : فله في إبطال القول بعدم النهاية طرق :

الأول (٢) :

ما أسلفناه من الطريقة المذكورة ، ويلزم عليه ما ذكرناه ، ما عدا التناقض اللازم للفيلسوف ، من (٣) ضرورة اعتقاد (٣) عدم النهاية فيما ذكرناه من الصور ، وعدم اعتقاد المتكلم لذلك ، غير أن المناقضة لازمة للمتكلم من جهة اعتقاده عدم النهاية في معلومات الله تعالى ، ومقدوراته ، مع وجود ما ذكرناه من الدليل الدّال على وجوب النهاية فيها.

وما يقال من أن المعنى بكون المعلومات ، والمقدورات غير متناهية ؛ صلاحية العلم ؛ لتعلقه بكل ما يصح أن يعلم ، وصلاحية القدرة لتعلقها بكل ما يصح أن يوجد ، وما يصح أن يعلم ويوجد غير متناه ؛ لكنه من قبيل التقديرات الوهمية ، والتجويزات الإمكانية ؛ وذلك مما لا يمتنع كونه غير متناه عندنا ؛ بخلاف الأمور الوجودية ، والحقائق العينية ؛ فلا أثر لها في القدح أيضا ؛ فإن هذه الأمور وإن لم تكن من موجودات الأعيان ؛ غير أنها متحققة في الأذهان. ولا يخفى أن نسبة ما فرض استعماله فيما له وجود ذهنى ، على نحو استعماله فيما له وجود عينى.

الطريق الثانى (٤) :

قوله : لو وجد أعداد لا نهاية لها. لم تخل : إما أن تكون شفعا ، أو وترا ، أو شفعا ووترا معا ، أو لا شفع ، ولا وتر.

__________________

(١) فى ب (الثانى)

(٢) انظر الاقتصاد في الاعتقاد ص ١٧ ـ ١٩ ، غاية المرام ص ١١ ، والمآخذ ل ٨٠ أ. وانظر درء التعارض لابن تيمية ٣ / ٤٤ حيث ينقل ما أورده الآمدي هنا بنصه.

(٣) فى ب (ضرورة اعتقاده)

(٤) قارن الاقتصاد في الاعتقاد للغزالى ص ١٧ ، ١٨

وانظر غاية المرام للآمدى ص ١١ وانظر درء التعارض لابن تيمية ٣ / ٤٧ ، ٤٨ حيث ينقل ما أورده الآمدي هنا بنصه ـ ثم يرد عليه في ٣ / ٤٨ وما بعدها.


فإن كانت شفعا : فهى تصير وترا بزيادة واحد ، وإن كانت وترا : فهى تصير شفعا بزيادة واحد. واعواز (١) الواحد لما لا يتناهى محال.

وإن كانت شفعا ووترا ، فهى محال ؛ لأن الشفع ما يقبل الانقسام بمتساويين ، والوتر غير قابل لذلك ، والعدد الواحد لا يكون قابلا لذلك ، وغير قابل له.

وإن لم يكن شفعا ، ولا وترا : فيلزم منه وجود واسطة بين النفى والإثبات ؛ وهو محال.

وهذه المحالات ؛ إنما لزمت من القول بعدد لا نهاية له : فالقول به محال.

وهو من النمط الأول في الفساد ؛ لوجهين :

الأول : أنه قد لا يسلم استحالة الشفعية ، أو الوترية فيما لا نهاية له ، والقول بأن ما لا يتناهى ، لا يعوزه الواحد الّذي به يصير شفعا : إن كان وترا ، أو وترا : إن كان شفعا ؛ فدعوى مجردة ، ومحض استبعاد لا دليل عليه.

الوجه الثانى : أنه يلزم عليه عقود الحساب ، ومعلومات الله تعالى ومقدوراته ؛ فإنها غير متناهية إمكانا ، مع إمكان إجراء الدليل المذكور فيها.

الطريق (٢) الثالث :

أنه لو وجد اعداد لا نهاية لها : فكل واحد منها محصور بالوجود ؛ فالجملة محصورة بالوجود ، وما لا يتناهى ؛ لا ينحصر بحاصر أصلا.

وهو أيضا فاسد لثلاثة أوجه :

الأول : أنا لا نسلم أن الوجود زائد على الموجود. حتى يقال بكون الوجود حاصرا له ؛ بل الوجود هو ذات الموجود ، وعينه على ما يأتى (٣).

الثانى : وإن كان زائدا على كل واحد من آحاد الجملة ؛ فلا نسلم كونه حاصرا ؛ بل عارض مقارن لكل واحد من الآحاد ، والمعارض المقارن للشىء لا يكون حاصرا له.

__________________

(١) فى ب (واعزال)

(٢) انظر الفصل لابن حزم ١ / ١٥ وما بعدها ، وغاية المرام ص ١٢

ودرء التعارض ٣ / ٤٩ ، ٥٠ حيث ينقل ابن تيمية ما ورد هنا بنصه ، ويعتمد رده على الفلاسفة والمعتزلة ثم يرد عليه أخيرا من وجهة نظره.

(٣) انظر ل ٥١ / ب وما بعدها.


الثالث : سلمنا أن الوجود حاصر لكل واحد من آحاد الجملة ؛ ولكن لا نسلم أن الحكم على الآحاد يكون حكما على الجملة ؛ ولهذا يصدق أن يقال لكل واحد من آحاد الجملة ، أنه جزء الجملة ، ولا يصدق / على الجملة أنها جزء الجملة.

الطريق الرابع (١) :

أنه لو وجد علل ، ومعلولات لا نهاية لها ، فما من وقت يقدر إلا والعلل والمعلولات منتهية إليه ؛ وانتهاء ما لا يتناهى محال.

وهو غير سديد أيضا ؛ فإن الانتهاء من أحد الطرفين ـ وهو الأخير ـ وإن سلمه الخصم ، فلا يوجب النهاية في الطرف الآخر ، ثم يلزم عليه عقود الحساب ، ونعيم أهل الجنة ، وعذاب أهل النار ؛ فإنه وإن كان متناهيا من طرف الابتداء ؛ فغير متناه إمكانا في طرف الاستقبال.

والأقرب في ذلك أن يقال :

لو كانت العلل ، والمعلولات غير متناهية ، وكل واحد منها ممكنا على ما وقع به الفرق (٢) فهى : إما متعاقبة ، أو معا (٣).

فإن كانت متعاقبة : فقد قيل إن ذلك محال لوجوه (٤) ثلاثة (٤) :

الأول : هو أن كل واحد منها يكون مسبوقا بالعدم ، والجملة مجموع الآحاد ؛ فالجملة تكون مسبوقة بالعدم ، وكل جملة مسبوقة بالعدم ؛ فلوجودها أول تنتهى إليه ، وكل ما لوجوده أول ينتهى إليه ؛ فالقول بكونه غير متناه محال.

الثانى : هو أن كل واحد منها يكون مشروطا في وجوده بوجود علته قبله ؛ فلا يوجد حتى توجد علته ، وكذلك الكلام في علته بالنسبة إلى علتها ، وهلم جرا.

فإذا قيل بعدم النهاية ؛ فقد تعذر الوقوف على شرط الوجود ، فلا وجود لواحد منها. وهذا كما إذا قيل : لا أعطيك درهما إلا وقبله درهم ؛ فإنه لما كان إعطاء الدرهم مشروطا

__________________

(١) قارن بالإرشاد ص ٢٦ ، والاقتصاد ص ١٨ ، وغاية المرام ص ١٢

ودرء التعارض لابن تيمية ٣ / ٥٢ حيث ينقل ما أورده الآمدي هنا بنصه.

(٢) فى ب (الفرض)

(٣) فى ب (أولا)

(٤) فى ب (لثلاثة أوجه)


باعطاء درهم قبله ، وكذلك في إعطاء كل درهم يفرض ، إلى غير النهاية ؛ كان الإعطاء محالا.

الثالث : هو أن القول بتعاقب العلل والمعلولات ، يجر إلى تأثير العلة في معلولها بعد عدمها ، وتأثير المعدوم في الموجود محال.

وهذه الحجج مما لا ثبت لها :

أما الأولى : فلأنه لا يلزم من سبق العدم على كل واحد من الآحاد ، سبقه على الجملة ؛ فإن الحكم على الآحاد ، لا يلزم أن يكون حكما على الجملة ؛ كما سبق تحقيقه.

وأما الثانية : فإنما تلزم أن لو كان ما توقف عليه الوجود ـ وهو شرط في الوجود ـ غير موجود ؛ كما في المثال المذكور.

وأما إن كان موجودا : فلا يلزم امتناع وجود المشروط ، والقول بأن الشرط غير موجود ، محل النزاع ؛ فلا تقبل الدعوى به من غير دليل ..

وأما الثالثة : فإنما تلزم أيضا : أن لو كان معنى التعاقب ، وجود المعلول ، بعد عدم علته ؛ وليس كذلك ؛ بل معناه وجود المعلول متراخيا عن وجود علته ، مع بقاء علته موجودة / إلى حال وجوده وبقائه موجودا بعد عدم علته ، وكذلك في كل علة مع معلولها ؛ وذلك لا يلزم منه تأثير المعدوم في الموجود ، ولا أن تكون العلل والمعلولات موجودة معا. وذلك متصور في العلل الفاعلة بالاختيار.

والأقرب في ذلك أن يقال :

لو كانت العلل والمعلولات متعاقبة ، فكل واحد منها حادث ، لا محالة. وعند ذلك فلا يخلو : إما أن يقال بوجود شيء منها في الأزل ، أو لا بوجود شيء منها في الأزل.

فإن كان الأول : فهو ممتنع ؛ لأن الأزلى ، لا يكون مسبوقا بالعدم ، والحادث مسبوق بالعدم ، فلو كان شيء منها في الأزل ؛ لكان مسبوقا بالعدم ؛ ضرورة كونه حادثا ، وهو غير مسبوق بالعدم ؛ ضرورة كونه أزليا.


وإن كان الثانى : فجملة العلل ، والمعلولات مسبوقة بالعدم ؛ ضرورة أن لا شيء منها في الأزل ، ويلزم من ذلك أن يكون لها ابتداء ونهاية ، غير متوقف على سبق غيره عليه ؛ وهو المطلوب (١).

وأما إن كانت العلل ، والمعلولات المفروضة موجودة معا : ولا يخفى أن النظر إلى الجملة غير النظر إلى كل واحد من آحادها ؛ فإن حقيقة الجملة ، غير حقيقة كل واحد من الآحاد.

وعند ذلك : فالجملة موجودة : وهى إما أن تكون واجبة لذاتها ، أو ممكنة.

لا جائز أن تكون واجبة : وإلا لما كانت آحادها ممكنة ـ وقد قيل إنها ممكنة كما سبق ـ ثم وإن كانت واجبة ؛ فهو مع الاستحالة ، عين المطلوب.

وإن كانت ممكنة : فلا بد لها من مرجح ، والمرجح : إما أن يكون داخلا فيها ، أو خارجا عنها.

لا جائز أن يقال بالأول : فإن المرجح للجملة مرجح لآحادها. ويلزم أن يكون مرجحا لنفسه ؛ ضرورة كونه من الآحاد ، ويخرج بذلك عن أن يكون ممكنا ؛ وهو خلاف الفرض ، وأن يكون مرجحا لعلته ؛ لكونها من الآحاد. وفيه جعل العلة معلولا ، والمعلول علة ؛ وهو دور ممتنع.

وإن كان المرجح خارجا عنها : فهو إما ممكن ، أو واجب.

فإن كان ممكنا : فهو من الجملة ؛ وهو خلاف الفرض ؛ فلم يبق إلا أن يكون واجبا لذاته ؛ وهو المطلوب.

فإن قيل : سلمنا أن الموجود المفروض ممكن ، وأن الوجود والعدم عليه جائزان ؛ ولكن لا نسلم احتياجه إلى المرجح في وجوده.

وبيانه من أحد عشر وجها :

[الوجه] (٢) الأول : أنه لو احتاج إلى / المؤثر في وجوده ؛ فتأثير المؤثر في الوجود : إما في حال وجوده ، أو في حال عدمه.

__________________

(١) إلى هنا انتهى ما نقله ابن تيمية في : درء التعارض بين العقل والنقل ٣ / ٤٠ ـ ٥٦.

(٢) ساقط من (أ)


فإن كان الأول : فهو (٣) تحصيل الحاصل ، وإيجاد الموجود ؛ وهو محال.

وإن كان الثانى : فيلزم منه اجتماع الوجود ، والعدم في حالة واحدة ؛ وهو محال.

[الوجه] الثانى : أنه لو احتاج إلى المؤثر في وجوده ـ لكونه ممكنا ـ ؛ لا احتاج إلى المؤثر في عدمه ـ لكونه ممكنا ـ ؛ وهو ممتنع لوجهين :

الأول : أن المؤثر يستدعى أثرا ، والعدم نفى محض ؛ فلا يكون أثرا. وسواء كان أصليا ، أو طارئا. ويختص العدم الأصلي بامتناع التأثير فيه ؛ لما فيه من تحصيل الحاصل ؛ وهو ممتنع.

الثانى : هو أن المرجح للعدم : إما أن يكون هو المرجح للوجود ، أو غيره.

فإن كان الأول : فيلزم منه أن يكون ما اقتضى الشيء مقتضيا لنقيضه ؛ وهو محال. ولأنه يلزم منه أن لا يتحقق أحدهما ؛ ضرورة استواء النسبة إلى المرجح.

وإن كان الثانى : فيلزم منه امتناع الوجود والعدم ؛ فإنه ليس العمل بأحد المرجحين ، أولى من الآخر.

الوجه الثالث : أنه لو افتقر في وجوده إلى مرجح ، وعلة ؛ فذلك المرجح : إما أن يكون دائما علة ، أو حدث كونه علة.

فإن كان دائما (١) علة (١) : وجب أن لا يتأخر وجود معلوله عن وجوده ؛ ويلزم من ذلك امتناع حدوث الممكن ، وأن لا يكون في العالم ممكنا حادثا ؛ وهو محال.

وإن كان الثانى : فالكلام في حدوث ذلك الحادث ؛ كالكلام في الأول ؛ وذلك يؤدى إلى علل ومعلولات لا نهاية لها ؛ ولم يقولوا به (٢).

الوجه الرابع : هو أن الممكن لو كان محتاجا إلى المؤثر في وجوده ؛ فالحاجة إلى المؤثر صفة زائدة على نفس الممكن ، وهى : إما أن تكون واجبة ، أو ممكنة.

لا جائز أن تكون واجبة ؛ فإنها صفة الممكن ، والصفة مفتقرة إلى الموصوف ؛ والمفتقر إلى غيره ؛ لا يكون واجبا لذاته.

وإن كانت ممكنة : فإما أن تكون محتاجة إلى المرجح ، أو غير محتاجة إليه.

__________________

(٣) فى ب (ففيه)

(١) فى ب (دائما كونه علة)

(٢) انظر غاية المرام ص ١٦.


فإن كان الأول : فقد لزم التسلسل (١).

وإن كان الثانى : ففيه تسليم المطلوب.

الوجه الخامس : [أنه] (٢) لو احتاج الممكن إلى المرجح : فالحاجة صفة ثبوتية ؛ لأن نقيضها لا حاجة ، ولا حاجة (٣) أمر عدمى ، ولهذا يتصف بها المستحيل (٤) / الوجود. ولو كانت صفة ثبوتية ؛ لما اتصف بها النفى المحض. وإذا كان لا حاجة أمرا عدميا : فالحاجة تكون ثبوتية ؛ وهو ممتنع لأمرين :

الأول : أن الحاجة إلى التأثير متقدمة على التأثير ، المتقدم على الوجود ، الّذي هو أثر ، والصفة الثبوتية للشىء ؛ لا تكون متقدمة علي ثبوت ذلك الشيء.

الثانى : أن الحاجة إلى التأثير معللة بالإمكان ، ولهذا يقال : إنما احتاج لكونه ممكنا. ولهذا إن ما ليس بممكن ، لا يكون محتاجا ، والإمكان صفة عدمية ؛ فلا يكون علة للأمر الثبوتى.

وبيان كون الإمكان عدميا أمران :

الأول : أن ما وجد بعد العدم ، يصح اتصافه بالإمكان قبل وجوده. فلو كان الإمكان وصفا وجوديا ؛ لكانت الصفة الوجودية قائمة لما ليس بموجود ؛ وهو محال.

الثانى : أنه لو كانت صفة الإمكان وجودية : فإما واجبة ، أو ممكنة. لا جائز أن تكون واجبة : وإلا لما كانت صفة لغيرها على ما تقدم.

وإن كانت ممكنة : فيجب أن تكون ممكنة بإمكان آخر. والكلام في ذلك الإمكان ، كالكلام في الأول ؛ وهو تسلسل ممتنع.

الوجه السادس : أنه لو احتاج الممكن إلى المرجح في ابتداء وجوده لكونه ممكنا في حال بقائه ؛ لاحتاج في حال بقائه لكونه ممكنا ، فإنه لو لم يكن ممكنا في حال بقائه ؛ لكان واجبا. ولو كان واجبا ؛ لاستحال فرض عدمه. واحتياج الممكن حال بقائه إلى المؤثر ممتنع ؛ لما فيه من تحصيل الحاصل.

__________________

(١) فى ب (التسلسل الممتنع)

(٢) ساقط من (أ).

(٣) فى ب (فالحاجة)

(٤) فى ب (مستحيل)


الوجه السابع : أنه لو احتاج الممكن إلى المؤثر ، فالمؤثر : إما أن يؤثر في ماهية (١) الممكن (١) ، أو في وجوده ، أو في موصوفية الماهية بالوجود.

وعلى كل تقدير فيلزم منه (٢) خروج الماهية ، أو الوجود ، أو موصوفية الماهية بالوجود (٣) عن حقيقته عند فرض عدم ذلك المؤثر ؛ وهو محال.

الوجه الثامن : أنه لو افتقر الممكن إلى مؤثر ؛ فتأثير المؤثر فيه صفة زائدة على ذات المؤثر والأثر ؛ إذ التأثير نسبة وإضافة بين الأثر والمؤثر ؛ فالنسبة بين الشيئين صفة لهما ، والصفة زائدة على الموصوف.

ولهذا فإنه يمكننا تعقل ذات كل واحد منهما مع الشك في كون هذا أثرا ، وكون هذا مؤثرا ، والمعقول غير المجهول. وإذا كان التأثير صفة زائدة على ذات المؤثر والأثر فالتأثير نقيض لا تأثير ، ولا / تأثير عدم ؛ فالتأثير ثبوت.

وهو إما أن يكون واجبا ، أو ممكنا.

لا جائز أن يكون واجبا : وإلا لما كان مفتقرا إلى غيره ، والصفة مفتقرة إلى الموصوف ، فلا بد وأن يكون ممكنا ، ولا بدّ له من مؤثر ، والكلام في تأثير المؤثر فيه : كالكلام في الأول ؛ وهو تسلسل ممتنع. وهذا المحال : إنما لزم من القول بافتقار الممكن إلى المؤثر ؛ فيكون محالا.

الوجه التاسع : أنه لو افتقر الممكن إلى تأثير المؤثر في وجوده ؛ لكان التأثير متقدما على الأثر ؛ لافتقار الأثر إليه (٤) ، ويمتنع أن يكون تأثير المؤثر متقدما على الأثر ؛ إذ التأثير نسبة (٥) ، وإضافة بين الأثر والمؤثر ؛ كما سبق ؛ فيكون التأثير (٥) صفة للأثر والمؤثر ، والصفة متأخرة عن الموصوف ؛ لافتقارها إليه ، وفي ذلك ما يوجب جعل المتقدم متأخرا ، والمتأخر متقدما ؛ وهو محال.

الوجه العاشر : أنه لو افتقر الممكن إلى المؤثر (٦) ؛ لكان ما وجد من الحوادث مفتقرا إلى المؤثر ؛ لكونه ممكنا ، والمؤثر فيه : إن كان حادثا ؛ لزم التسلسل ، أو الدور.

__________________

(١) فى ب (ماهيته)

(٢) ساقط من (ب)

(٣) فى ب (الممكن)

(٤) فى ب (فيه)

(٥) من أول (نسبة وإضافة ...) ساقط من (ب)

(٦) فى ب (المرجح)


وإن كان قديما : فقد تجدد له صفة التأثير بعد أن لم يكن مؤثرا.

والكلام في تجدد صفة التأثير ، كالكلام في الأول ؛ ويلزم منه التسلسل ، أو الدور.

الوجه الحادى عشر : أنه لو افتقر الممكن إلى المرجح ؛ لما ترجح ممكن إلا بمرجح ، وليس كذلك : فإنّ العطشان ، إذا خيّر بين قدحين متساويين من كل وجه ؛ فإنه يختار أحدهما ، من غير سبب مرجح ؛ ضرورة فرض المساواة من كل وجه.

وكذلك القاصد إلى مكان معين ، إذا عرض له طريقان متساويان من كل وجه ؛ فإنه يسلك أحدهما من غير سبب مرجح ، مع تساويهما في الإمكان.

سلمنا أنه لا بدّ للوجود من مرجح ؛ ولكن ما المانع من كون المرجح لوجود الممكن ذاته ، لا على وجه ينتهى إلى حد الوجوب المانع من العدم ؛ بل بمعنى أن ذاته أولى بالوجود من العدم ، مع جواز فرض العدم؟

سلمنا أنه لا بدّ من مرجح خارج ؛ ولكن لا نسلم أنه لا بدّ وأن يكون وجوديا ؛ فإن وجود الممكن ، مقابل لعدمه ، فكما جاز أن يكون عدم علة الوجود مرجحا للعدم ، وعدم شرط الوجود مرجحا للعدم ؛ فما المانع أن يكون عدم علة العدم ، أو عدم شرط / العدم ؛ مرجحا للوجود؟

سلمنا (١) أنه يمتنع أن يكون مرجح الوجود عدميا ؛ ولكن ما المانع (١) من كونه غير موجود ، ولا معدوم : كما ذهب إليه الملاحدة؟

وبيان جواز ذلك : هو أن صفة الإمكان تابعة للماهية الممكنة ، ومعلولة بها من حيث هى : لا موجودة ، ولا معدومة ، فإن الماهية من حيث هى موجودة : يستحيل أن تكون ممكنة العدم ، ومن حيث هى معدومة : يستحيل أن تكون ممكنة الوجود ، وصفة الإمكان ثابتة للماهية بالنسبة إلى الطرفين ؛ فإذن علة صفة الإمكان للماهية من حيث هى ؛ لا موجودة ، ولا معدومة.

سلمنا أنه لا بدّ وأن يكون المرجح موجودا ؛ ولكن ما المانع من كونه ممكنا؟ ولم قلتم بامتناع التسلسل؟

__________________

(١) فى ب (سلمنا أنه لا بدّ من مرجح خارج ، وأنه يمتنع أن يكون عدميا ؛ ولكن لا نسلم أنه لا بدّ وأن يكون وجوديا وما المانع).


قولكم : إما أن تكون العلل والمعلولات متعاقبة ، أو معا ؛ فلم قلتم بامتناع التعاقب؟

قولكم (١) : إن لم يوجد منها شيء في الأزل ، فلها أول وبداية.

فنقول : لا يلزم من كون كل واحد من العلل والمعلولات غير موجود في الأزل ؛ أن تكون الجملة غير أزلية ؛ فإنه لا يلزم من الحكم على الآحاد ، أن يكون حكما على الجملة؛

بل جاز أن يكون كل واحد من آحاد الجملة غير أزلى ، والجملة أزلية. بمعنى تعاقب آحادها إلى غير النهاية.

سلمنا أنها غير متعاقبة ؛ لكن لم قلتم بوجود واجب الوجود؟

قولكم : النظر إلى الجملة غير النظر إلى الآحاد.

فنقول : (٢) لا نسلم وجود ما يسمى جملة في غير المتناهى ؛ ليصح ما ذكرتموه ، ولا يلزم من صحة ذلك في المتناهى مع إشعاره بالحصر ، صحته في غير المتناهى.

سلمنا أن مفهوم (٣) الجملة حاصل فيما لا يتناهى ، وأنه ممكن ؛ ولكن لا نسلم أنه زائد على الآحاد المتعاقبة إلى غير النهاية.

وعند ذلك : فلا يلزم أن يكون معللا بغير علة الآحاد.

سلمنا أنه زائد على الآحاد ؛ ولكن ما المانع من أن يكون مترجحا بآحاده الداخلة فيه؟ لا بمعنى أنه مترجح بواحد منها ؛ ليلزم ما ذكرتموه ؛ بل طريق ترجحه بالآحاد الداخلة فيه ، ترجح كل واحد من آحاده بالآخر إلى غير النهاية.

وعلى هذا : فلا يلزم افتقاره إلى مرجح خارج عن الجملة ، ولا أن يكون المرجح للجملة ، مرجحا لنفسه ، ولا لعلته.

سلمنا أنه لا بدّ من وجود واجب الوجود ؛ ولكن لا نسلم أنه غير / قابل للعدم ، كما ذكرتموه ، وإنما يمتنع كونه قابلا للعدم : أن لو امتنع انقلاب الواجب ، إلى الممكن ، أو الممتنع ، وكذلك بالعكس ؛ وهو غير مسلم. ولهذا قلتم بأن العالم ممتنع الوجود في

__________________

(١) من أول «قولكم : إن لم يوجد منها شيء ... الى قوله : الى غير النهاية» نقله ابن تيمية في كتابه (درء تعارض العقل والنقل ٣ / ٥٩) ثم علق عليه وناقشه.

(٢) نقل ابن تيمية في كتابه درء تعارض العقل والنقل ٣ / ٢٧٨ ـ ٢٨٠ هذا النص من قول الآمدي «لا نسلم وجود ما يسمى جملة ... إلى قوله : وفيه ترجيح الشيء بنفسه ، وهو محال» ثم علق عليه وناقشه.

(٣) فى ب (معنى)


الأزل ، وجائز الحدوث. فإذا جاز انقلاب الممتنع جائزا ، مع أنه أحد قسمى الضرورى ؛ فلا مانع من انقلاب الواجب جائزا ، وانقلاب الجائز واجبا.

وعلى هذا : فلا يمتنع على واجب الوجود العدم السابق ، ولا العدم اللاحق ؛ فلا يلزم أن يكون أزليا ، ولا أبديا.

سلمنا دلالة ما ذكرتموه على إثبات واجب الوجود بالاعتبار الّذي أردتموه ، ولكنه معارض بما يدل على أنه غير ثابت.

وبيانه : أنه لا يخلو : إما أن يكون ممكنا ، أو ليس بممكن؟

فإن كان ممكنا : فالممكن لا (١) يكون واجبا (١) بالاعتبار المذكور.

وإن لم يكن ممكنا : فما ليس ممكنا أن يكون ؛ لا يكون موجودا ، وما لا يكون موجودا ؛ فلا (٢) يكون (٢) واجب الوجود.

والجواب :

أما منع احتياج (٣) الممكن إلى المرجح في وجوده : فغير صحيح ؛ لأن الممكن قابل للوجود والعدم ؛ وهما بالنسبة إلى ذات الممكن سيان.

وعند هذا قال بعض الأصوليين : والشيء الّذي يكون (٤) كذلك يمتنع أن يدخل في الوجود ؛ إلا بعد أن يصير وجوده راجحا على عدمه ؛ فكذلك الرجحان سابق على وجوده ، ويمتنع أن يكون محل ذلك الرجحان ؛ هو وجوده ؛ لأن ذلك الرجحان : لو كان صفة لوجوده ؛ لكان متأخرا عن وجوده ؛ لكنا بينا أنه متقدم على وجوده ؛ وهو دور. فذلك الرجحان ؛ يجب أن يكون صفة لشيء آخر يلزم من وجوده وجوده ، وذلك هو المؤثر ؛ فثبت أن كل ممكن ؛ فهو مفتقر إلى المؤثر.

وقال بعضهم : إذا كانت ماهية الممكن مقتضية للتساوى ، والتساوى مقابل للرجحان ، فلو حصل الرجحان ؛ فيلزم اجتماع المتقابلين في شيء واحد ؛ وهو محال.

والحجتان (٥) باطلتان (٥)

__________________

(١) فى ب (ليس بواجب)

(٢) فى ب (لا يكون)

(٣) فى ب (احتياج)

(٤) فى ب (لا يكون)

(٥) فى ب (والبحثان باطلان)


أما الأولى : فلأن الخصم قد يمنع توقف الدخول في الوجود على سابقة الترجيح (١) ، وأنه لا معنى للترجيح إلا الدخول في الوجود دون العدم ، وكذلك بالعكس.

وعند هذا : فلا يكون الترجيح (٢) سابقا على الوجود ؛ ليلزم ما (٣) قيل من الدور (٣).

كيف وأنه لو كان الترجيح سابقا على الوجود / ؛ لكان صفة لغير الوجود حتى لا يفضى إلى الدور كما قرر. ولو كان كذلك ؛ لكان الموصوف به هو الراجح ، لا نفس الوجود ؛ وهو محال.

وأما الثانية : فإنما يلزم أن لو كان حصول الرجحان مستندا إلى ذات الممكن ، وأما إذا لم يكن مستندا إليها ، ولا إلى غيرها ؛ فلا.

والحق في ذلك أن يقال : إذا ثبت أن الوجود والعدم بالنسبة إلى ذات الممكن متساويان ؛ فاحتياج وقوع أحد المتساويين إلى المرجح معلوم بالضرورة ؛ ولهذا فإن العاقل إذا رأى موضعا خليا عن العمارة والأبنية المرتفعة ، ثم رآه مشغولا بها بعد ذلك ، أو رأى صنعة محكمة ؛ فإن عقله يضطره إلى العلم بوجود سبب موجب لذلك. ولو جاز في العقل وجود أحد الجائزين دون الآخر من غير مرجح ؛ لما كان كذلك. وهذا مما لا يجد أحد من العقلاء في نفسه مخالفته ، ولا مناكرته.

وعلى هذا : فما أوردوه من الشبه ؛ فحاصله يرجع إلى التشكيك في البديهيات ؛ وهو غير مقبول.

وعلى تقدير القبول ؛ فنجيب عن كل ما ذكروه.

قولهم : تأثير المؤثر فيه : إما في حال وجوده ، أو في حال عدمه.

قلنا : بل في حال وجوده ، لا بمعنى أنه أوجده (٤) بعد وجوده. حتى يقال بتحصيل الحاصل ؛ بل بمعنى أنه لو لا المؤثر ؛ لما كان موجودا في الحال (٥) التى فرض كونه موجودا فيها.

قولهم : لو احتاج إلى المؤثر في وجوده ؛ لاحتاج إلى المؤثر في عدمه.

__________________

(١) فى ب (الترجح فإنه لا معنى للترجيح)

(٢) فى ب (الترجح)

(٣) فى ب (من الدور ما قيل)

(٤) فى ب (أوجد)

(٥) فى ب (الحالة)


قلنا : وهو كذلك ؛ فإنه مهما كان الشيء ممكنا ؛ فلا بد له (١) من مرجح في وجوده ، وعدمه ؛ وإلا فهو واجب ، أو ممتنع. فكما أنه في حال وجوده يفتقر (٢) إلى المرجح ؛ فكذلك في حال عدمه.

قولهم : العدم نفى محض ؛ فلا يكون أثرا.

قلنا : معنى كونه أثرا ، لا بمعنى أنه شيء ؛ بل بمعنى أنه لو لا المؤثر ؛ لما كان معدوما. وسواء كان العدم طارئا ، أو أصليا.

قولهم : المرجح للعدم : إما أن يكون هو المرجح للوجود ، أو غيره.

قلنا : المرجح (٣) للعدم هو المرجح للوجود (٣) ؛ لكن إن كان مرجحا بذاته عند القائلين بذلك ؛ فعدمه هو المرجح للعدم ، لا نفس وجوده. وإن كان مرجحا بالقدرة والإرادة : عند القائلين به ؛ فيصح أن يقال : إن عدم المعدوم في حال عدمه مستند إلى عدم تعلق القدرة بإيجاده ، والإرادة بتخصيصه في ذلك الوقت. ويصح أن يقال / بكونه مستندا إلى قدرة قديمة ، اقتضت عدمه ، وإرادة قديمة اقتضت تخصيصه بذلك الوقت ، كما اقتضت تخصيص وجوده بوقت آخر ، كما ذهب إليه القاضى أبو بكر في أحد قوليه.

قولهم : لو افتقر إلى مرجح في وجوده ؛ فذلك المرجح : إما قديم ، أو حادث. على ما قرروه. فإنما يلزم ، أن لو كان مستند الحوادث موجبا بذاته وطبعه حتى يلزم من حدوثه التسلسل ، ومن قدمه ؛ قدم معلوله ، وليس كذلك ؛ بل هو فاعل قديم مختار اقتضى بقدرة قديمة ، وخصص بإرادة أزلية ، وجود الحادث حال حدوثه من غير تقدم ، ولا تأخر. ولا يلزم من قدم القدرة والإرادة ؛ قدم المقدور والمراد ؛ إذ القدرة عبارة عن : معنى من شأنه تخصيص الحادث بالوجود (٤) ، دون العدم ؛ لا ما يلازمه الوجود.

والإرادة : عبارة عن معنى من شأنه تخصيص الحادث (٤) ، بوقت دون وقت.

فإذا قيل : لم كانت الإرادة مقتضية للتخصيص بوقت دون وقت ، مع قدمها ، واستواء نسبتها إلى جميع الأوقات؟ فكأنه قيل : لم كانت الإرادة إرادة؟

__________________

(١) ساقط من (ب)

(٢) فى ب (لا يفتقر)

(٣) فى ب (المرجح للوجود هو المرجح للعدم)

(٤) من أول (بالوجود دون العدم ...) ساقط من (ب)


وهو غير مسموع ، كما لو قيل : لم كان الإنسان إنسانا؟ والفرس فرسا؟ ونحوه.

وهذا (١) مما وافق (١) عليه الفلاسفة الإلهيون حيث قالوا : إن الأفلاك متحركة على الدوام ؛ لتحصيل ما لها من الأوضاع الممكنة لها ، على جهة التعاقب ، والتجدد ؛ طلبا للتشبه بمعشوقها ، مقتضية للحركات الدورية ، بإرادة قديمة للنفس الفلكية ، وبتوسط الحركات الدورية ، والاتصالات الكوكبية ؛ وجد في عالم الكون والفساد ، امتزاجات ، واعتدالات ، وحوادث عرضيات ، وبتوسط هذه الامتزاجات ، وتجدد قبول القابليات ؛ وجدت الأنفس الإنسانية ، والصور الجوهرية للعناصر والمركبات. لا بمعنى أنها الفاعلة لها ؛ بل الفاعل لها إنما هو العقل الفعال. الموجود مع جرم فلك القمر. وما لم يوجد منها. فليس لعدم الفاعل ؛ بل لعدم القابل. فإذا تحقق القابل والفاعل موجود ؛ لزم القول بوجودها.

قولهم : إن حاجة الممكن إلى المؤثر : إما واجبة ، أو ممكنة؟

قلنا : كونه محتاجا ؛ لا معنى له ؛ إلا أنه لا يتم وجوده دون المؤثّر ؛ وذلك لا يستدعى الاحتياج إلى مؤثر آخر ؛ ليلزم / التسلسل كما قيل.

فإن قيل : الحاجة نقيض لا حاجة ؛ ولا حاجة يجوز اتصاف المعدوم المستحيل [الوجود] (٢) بها ؛ فلا حاجة عدم ، وإلا كان الإثبات صفة للنفى المحض ؛ وهو محال.

وإذا كان لا حاجة عدما ؛ فالحاجة ثبوت.

ولا جائز أن تكون واجبة : وإلا لما كانت صفة مفتقرة إلى الموصوف ؛ فلم يبق إلا أن تكون ممكنة.

وعند ذلك : فإن افتقرت إلى المرجح (٣) ؛ لزم التسلسل ، وإن لم تفتقر ؛ فهو المطلوب.

وربما (٤) قيل في دفعه : لو دل ما ذكرتموه على كون لا حاجة (٥) عدما ؛ فلا يخفى أن نقيض امتناع ، لا امتناع ، والعدم الممكن يصح وصفه بأنه غير ممتنع ؛ فلا امتناع يجب

__________________

(١) فى ب (فما وافق)

(٢) ساقط من (أ)

(٣) فى ب (مرجح)

(٤) فى ب (فربما)

(٥) فى ب (الحاجة)


أن يكون عدما حتى لا يكون العدم موصوفا بالثبوت ، وما لزم من ذلك أن يكون امتناع المناقض له ثبوتيا ؛ فإن الامتناع صفة للممتنع ، الّذي ليس بثبوتى ، فلو كان الامتناع صفة ثبوتية ؛ لكان الثبوت صفة لما لا ثبوت له ؛ وهو ممتنع.

وهو قدح في البديهيات ؛ فلا يقبل.

والواجب أن يقال :

قد بينا أن معنى حاجة الممكن إلى المؤثر ، أنه لا يتم وجوده دون المؤثر. فنقيض الحاجة بهذا التفسير ، أنه يتم وجوده دون المؤثر.

وعلى هذا : فنقيض الحاجة ، لا يتصور أن يكون صفة للممتنع (١) ، وإلا كان مما (١) يتم وجوده ، دون المؤثر ، والممتنع غير موجود.

وعلى هذا : فقد اندفعت الشبهة الخامسة أيضا.

قولهم : لو احتاج الممكن في ابتداء وجوده إلى المرجح (٢) ؛ لاحتاج في حال بقائه. عنه جوابان.

الأول : منع اللزوم ؛ فإنه لا يلزم من احتياج الممكن حال حدوثه إلى المرجح ؛ احتياجه حال بقائه ؛ إذ الباقى (٣) هو عين المترجح حالة الحدوث (٣).

الثانى : أنه وإن احتاج حال بقائه إلى المرجح ؛ فلا (٤) يلزم (٤) منه تحصيل الحاصل ؛ فلأنه (٥) لا معنى لاحتياجه إلى المرجح حال بقائه ، إلا أنه لو لا المرجح ؛ لما كان باقيا.

قولهم : يلزم من ذلك خروج الأثر عن حقيقته عند فرض عدم المؤثر مسلم.

ولكن لا نسلم كون ذلك محالا. كيف. وأنه لو امتنع خروج الأثر عن حقيقته عند عدم علته ؛ لامتنع انقلاب ما ليس موجودا موجودا ؛ وهو خلاف شاهد الحوادث.

__________________

(١) فى ب (الممتنع وإلا كان لا يتم)

(٢) فى ب (مرجح)

(٣) فى ب (هو غير المترجح أولا)

(٤) فى ب (فإنه يلزم)

(٥) فى ب (فإنه)


قولهم : تأثير المؤثر في الأثر صفة زائدة على ذات المؤثر ، والأثر مسلم ؛ ولكن لا نسلم أن التأثير صفة ثبوتية. وما ذكروه في بيانه ؛ فقد سبق إبطاله في جواب / الشبهة الرابعة.

وربما أجيب عن هذه الشبهة بأنها جارية في امتناع حدوث حادث ما في وقت معين ؛ وهو غير ممتنع. وذلك أنه لو حدث حادث في وقت معين ؛ فحدوثه في ذلك الوقت صفة زائدة على ذات الحادث ؛ لأن الحدوث في ذلك الوقت نسبة بين الذات الحادثة ، وذلك الوقت.

والنسبة بين الشيئين صفة زائدة عليها ، ولأنا نعقل ذات الحادث ، ونجهل كونه حادثا في ذلك الوقت ، والمعلوم مغاير للمجهول. وإذا كان صفة زائدة ؛ فيجب أن تكون صفة ثبوتية ؛ لأن نقيض الحدوث ، لا حدوث. ولا حدوث : صفة للمستحيل ؛ فيكون عدما ؛ فالحدوث ثبوت. ولا بدّ وأن يكون حادثا في ذلك الوقت بحدوث آخر ؛ فالكلام (١) في ذلك الحدوث الثانى كالكلام في [الحدوث] (٢) الأول ؛ وهو تسلسل ممتنع.

وهو غير سديد ؛ إذ لقائل أن يقول : الحدوث وإن كان صفة ثبوتية زائدة ، وهو حادث ؛ لكن بحدوث هو نفسه ، لا بحدوث زائد (٣) عليه ؛ فلا تسلسل.

قولهم : التأثير صفة للأثر ؛ فلا يكون التأثير متقدما عليه.

لا نسلم أن التأثير صفة للأثر ؛ بل صفة للمؤثر ؛ فلا يمتنع أن يكون متقدما عليه ، والتأثير وإن كان مضايفا [للأثر] (٤) ، فلا يمتنع أن يكون متقدما عليه ، كما في التقدم والتأخر ، وأنهما وإن تضايفا ؛ فالتقدم سابق على التأخر.

وإن سلمنا أن التأثير صفة للأثر ؛ فلا يلزم أن يكون التأثير متقدما على الأثر ؛ لضرورة افتقاره إليه ؛ إذ المفتقر إليه ، أعم من المتقدم.

قولهم : المؤثر في الحادث : إما قديم ، أو حادث.

قلنا : بل هو قديم.

__________________

(١) فى ب (والكلام)

(٢) ساقط من (أ)

(٣) فى ب (آخر هو زائد)

(٤) فى أ (التأثير)


قولهم : إن تأثيره في الأثر صفة متجددة ، بعد أن لم تكن ، ويلزم من ذلك التسلسل ، أو الدور ؛ وليس كذلك ؛ فإنه وإن كان التأثير صفة متجددة ؛ فلا معنى له غير وجود الحادث بقدرة المؤثّر في وقت حدوث الأثر ، وتجدد الإيجاد بالقدرة ، من مقتضيات القدرة القديمة ؛ فإن القدرة عبارة : عما من شأنه تخصيص الحادث بالوجود ، دون العدم. لا ما يلازمه التخصيص ؛ فلا يلزم من ذلك وجود سبب آخر ، ومؤثر آخر ؛ فلا دور ، ولا تسلسل.

قولهم : إن المخير بين قدحين ، أو طريقين متساويين. قد يختار أحدهما من غير سبب مرجح.

قلنا : التساوى : إنما وقع في الفرض والمقصود ، وهو عندنا غير مفيد في / الترجيح كما يأتى. والمرجح إنما هو القدرة المتعلقة بالإيجاد ، والإرادة المخصصة ؛ وهو موجود لا محالة. حتى أنه لو لم يكن قادرا على أخذ أحد القدحين ، أو سلوك أحد الطريقين ، ولا تعلقت إرادته بأحدهما ؛ فإن الترجيح يكون ممتنعا.

قولهم : ما المانع أن تكون ذات الممكن أولى بالوجود من العدم ، لا على وجه ينتهى إلى حد الوجوب بالذات؟

قلنا : لو كانت ذاته أولى بالوجود ، فإن لم تجوز مع ذلك عدمه ؛ فهو واجب لذاته ، وليس ممكنا ؛ وهو خلاف الفرض.

وإن (١) جوز مع ذلك عدمه ؛ ففرض عدمه ؛ غير محال.

وعند فرض عدمه ، فإن كان العدم أولى بذاته : فالأوقات (٢) متشابهة ويلزم (٣) من ذلك أن يكون الوجود والعدم أولى بالممكن معا : وفيه جمع بين متقابلين ؛ وهو محال.

وإن لم يكن العدم أولى به : فلا بد له من علة خارجة ، وإلا كان الممكن قد ترجح من غير مرجح أصلا ؛ وهو محال.

__________________

(١) فى ب (وقد)

(٢) فى ب (والأوقات)

(٣) فى ب (فيلزم)


فالمرجح للعدم عند ذلك : إما أن يكون مساويا في اقتضائه للعدم لما اقتضى الوجود ، أو راجحا ، أو مرجوحا.

لا جائز أن يقال بالأول : وإلا لامتنع [عليه] (١) الوجود والعدم ؛ إذ لا أولوية لأحدهما (٢).

وإن كان الثانى ، أو الثالث : فيلزم منه تعيين أثر الراجح ، وامتناع أثر المرجوح. وقد قيل بجواز كل واحد منهما.

وهذه المحالات : إنما لزمت ؛ من فرض أن الممكن أولى بالوجود من عدمه ؛ فهو (٣) ممتنع (٣).

قولهم : لا نسلم أن المرجح للوجود وجودى ،

فقد قيل في جوابه : إنه لا فرق بين عدم المؤثر ، وبين المؤثر العدمى.

وقد (٤) قيل (٤) أيضا : إن العدمى لا تميز له في نفسه ؛ لأنه لو كان متميزا ؛ لكان ذاتا. وما ليس بمتميز ؛ فلا يمكن إسناد الأثر إليه ؛ وهما باطلان.

أما الأول : فلأن الخصم قد لا يسلم عدم الفرق بين عدم المؤثر ، والمؤثر العدمى ؛ ولهذا ؛ فإن عدم الشرط مؤثر في عدم المشروط. ولو عدم هذا المؤثر ؛ بأن عدم عدم الشرط ؛ لما لزم منه انتفاء المشروط.

وأما الثانى : فإنما يلزم في العدم المطلق دون العدم المضاف.

والأقرب في ذلك أن يقال :

لو كان المؤثر في حدوث الممكنات (٥) عدما : فهو إما قديم ، أو حادث.

فإن كان حادثا : فالكلام فيه : كالكلام في الأول ؛ ويلزم منه التسلسل ، أو الدور / ؛ وهما ممتنعان ؛ كما سبق (٦).

__________________

(١) ساقط من (أ)

(٢) ساقط من (ب)

(٣) فى ب (فيكون محالا)

(٤) فى ب (وقيل)

(٥) فى ب (الممكن)

(٦) انظر ل ٤١ / ب.


وإن كان قديما : فإما أن يتوقف تأثيره في الوجود الحادث على تجدد أمر لم يكن ، أو لا يتوقف.

فإن كان الأول : فالتسلسل ، أو الدور لازم.

وإن كان الثانى : فيلزم من قدم المؤثر ؛ قدم الأثر ، ومن حدوث الأثر ؛ حدوث المؤثر ، وهو خلاف الفرض ، ولا (١) يلزم على هذا إذا كان (١) المؤثر وجوديا ؛ لإمكان اتصافه بالقدرة ، والإرادة القديمة المؤثرة في تخصيص الحادث كما سبق ؛ بخلاف المؤثر (٢) العدمى.

قولهم : ما المانع من كون المؤثر غير الموصوف بالوجود ، ولا بالعدم؟

قلنا : بطلان (٣) أمر لا موجود ، ولا معدوم ، سيأتى في مسألة الأحوال (٤).

قولهم : إن الإمكان معلل بالماهية ، من حيث هى لا موجودة ، ولا معدومة ، إنما يلزم أن لو كان الإمكان صفة ثبوتية ، وليس كذلك ؛ فإنه لا معنى للإمكان غير سلب المحال من فرض الوجود والعدم ، وبتقدير أن يكون صفة ثبوتية ؛ فلا نسلم أن الماهية علة مؤثرة فيه ؛ بل قابلة ، والقابل غير المؤثر.

وإن سلمنا أنها مؤثرة فيه ؛ فما ذكروه إنما يلزم أن لو كان الوجود زائدا على الماهية ، وليس كذلك ؛ بل الوجود هو نفس الماهية ، والماهية نفس الوجود ؛ كما يأتى في مسألة المعدوم (٥) ، وهل هو شيء أم لا؟

قولهم : الماهية من حيث هى موجودة يمتنع أن تكون ممكنة العدم ، وكذلك بالعكس.

قلنا : إذا فرضنا الماهية موجودة ، فمعنى كونها ممكنة العدم بأنه لو فرض العدم بدل الوجود ؛ لما كان ممتنعا. وكذلك بالعكس ، والإمكان بهذا الاعتبار لا ينافيه الوجود ، ولا العدم.

__________________

(١) فى ب (ولا يلزم هذا على تقدير أن يكون)

(٢) ساقط من ب.

(٣) فى ب (إبطال)

(٤) انظر الجزء الثانى ل ١١٤ / أوما بعدها.

(٥) انظر ما سيأتى في الجزء الثانى ـ الباب الثانى ـ الفصل الرابع ل ١٠٨ / ب وما بعدها.


قولهم : لا يلزم من كون كل واحد من العلل والمعلولات غير موجود في الأزل ، صحة الحكم بذلك على الجملة.

قلنا (١) : إذا كان كل واحد من الآحاد لا وجود له في الأزل ـ وهو بعض الجملة ـ فليس بعض من أبعاض الجملة يكون موجودا في الأزل ، وإذا لم يكن شيء من الأبعاض موجودا في الأزل ؛ فالجملة غير موجودة في الأزل ؛ فإنه لا وجود للجملة دون وجود أبعاضها.

قولهم : لا نسلم وجود ما يسمى جملة في غير المتناهى.

قلنا : مسمى الجملة : هو ما وصفتموه بكونه غير متناه ، ولا شك أنه غير كل واحد من الآحاد ؛ إذ كل / واحد من الآحاد متناه ، والموصوف بما لا يتناهى : هو الأعداد المفروضة ؛ بحيث لا يخرج منها واحد.

قولهم : لا نسلم أن مفهوم الجملة زائد على الآحاد المتعاقبة إلى غير النهاية.

قلنا : إن أردتم أن مفهوم الجملة هو نفس المفهوم من كل واحد من الآحاد ؛ فهو ظاهر الإحالة. وإن أردتم به الهيئة الاجتماعية من آحاد الأعداد ؛ فلا خفاء بكونها (٢) زائدة على كل واحد من الآحاد (٢) ؛ وهو المطلوب.

قولهم : ما المانع من أن تكون الجملة مترجحة بآحادها الداخلة فيها كما قرروه؟

قلنا : إما أن يقال بترجح الجملة بمجموع (٣) الآحاد الداخلة فيها ، أو بواحد منها.

فإن (٤) كان بواحد منها (٤) ، فالمحال الّذي ألزمناه حاصل.

وإن كان بمجموع الآحاد ؛ فهو نفس الجملة المفروضة.

وفيه ترجح الشيء بنفسه ؛ وهو محال.

قولهم : لا نسلم أن واجب الوجود لذاته غير قابل للعدم.

__________________

(١) فى ب (فلذا)

(٢) فى ب (لكونه زائدا على كل واحد من الأعداد).

(٣) فى ب (مجموع)

(٤) ساقط من (ب)


قلنا : لو كان قابلا للعدم : فإما مع بقاء كونه واجب الوجود ، أو لا مع بقاء كونه واجبا.

فإن كان الأول : فهو محال ؛ إذ الواجب هو ما لو فرض معدوما ، عرض عنه المحال لذاته.

وإن كان الثانى : فيلزم منه انقلاب حقيقة الواجب لذاته جائزا ، أو ممتنعا ؛ وقلب الحقائق محال.

ولو جاز ذلك ؛ لما بقى الوثوق بالقضايا البديهية ؛ لجواز انقلاب حقائقها ، وعاقل ما لا يتردد في صحة القضايا البديهية ، ولا يتشكك.

قولهم : لا يخلو : إما أن يكون الواجب بذاته ممكنا ، أو غير ممكن.

قلنا : ممكن بالمعنى العام : أى أنه غير ممتنع الوجود ، وكونه ممكنا بالمعنى العام لا ينافى الوجوب بالذات. كما لا ينافى الإمكان الخاص. وليس ممكنا بالمعنى الخاص ، وسلب الإمكان بالمعنى الخاص لا ينافى الوجوب بالذات أيضا (١) ، كما لا ينافى الامتناع. وإنما يمتنع كونه واجبا لذاته ، أن لو كان ممكنا بالمعنى الخاص ، أو غير ممكن بالمعنى العام.

وعلى هذا : فقد بان أنه لا بدّ من موجود ، هو (٢) واجب الوجود لذاته ، وأنه يجب أن يكون أزليا أبديا ، لا يتصور عليه العدم ، متقدما عليه ؛ ولا متأخرا عنه.

__________________

(١) ساقط من (ب)

(٢) فى ب (وهو)


المسألة الثانية

في حقيقة واجب الوجود ، وأنها مشاركة لباقى الحقائق

في مسمى الحقيقة ، أو / مخالفة لها

وقد اختلف في ذلك :

فذهب بعض المتكلمين (١) : إلى أن مسمى الحقيقة والذات ، مشترك بين ذات واجب الوجود ، وغيره من الذوات. وإنما تتميز ذات واجب الوجود ، وحقيقته عن باقى الذوات ؛ بوصف يكون أخص وصف الإلهية ، ولا بدّ وأن يكون ثبوتيا ؛ فإن التمييز بين الذوات لا يحصل بالصفات السلبية : ككونه (٢) لا حد له ، ولا نهاية ، ولا جسم ، ولا عرض ، ونحوه.

لكن هل (٣) يجوز (٣) أن يكون ذلك الوصف مما يدرك ، أم لا؟ اختلفوا فيه : وقد احتج صاحب هذا المذهب : على أن مسمى الحقيقة والذات مشترك بين جميع الذوات بحجتين :

الأولى : أنه يصح أن يقال الذوات : إما واجبة ، وإما (٤) ممكنة ، والذات (٤) هى مورد التقسيم (٥) ، ومورد التقسيم (٥) يجب أن يكون واحدا ؛ فمسمى الذات واحد.

الثانية : هو أن المفهوم من مسمى الذات ، لا يختلف باختلاف اعتقاد كون الذات واجبة ، أو ممكنة ، ولو كان مسمى الذات في الواجب والممكن مختلفا ؛ لاختلف باختلاف هذه الاعتقادات.

قال : وإذا ثبت أن مسمى الذات واحد ، وأنه لا امتياز به بين الذوات ؛ فلا خفاء بأن المفهوم من واجب الوجود متميز عن المفهوم من ممكن الوجود ، وليس التمايز في مسمى الذات ؛ فتعين أن يكون بصفة زائدة على مسمى الذات ؛ لأن ما به الافتراق غير ما به الاتفاق.

__________________

(١) انظر المواقف ص ٢٦٩ ، ٢٧٠.

(٢) فى ب (لكونه)

(٣) فى ب (لا يجوز)

(٤) فى ب (أو ممكنة والذوات)

(٥) فى ب (القسمة ومورد القسمة)


قال : وإذا ثبت أنه لا بدّ من وصف زائد يكون به التمايز بين ذات واجب الوجود ، وذوات الممكنات ؛ فلا جائز أن يكون التمايز بصفات سلبية مختصة بكل واحدة من الذوات ، أو ببعض الذوات دون البعض.

أما الأول : فلأن ما سلب عن إحدى الذاتين ، إن كان مسلوبا عن الذات الأخرى ؛ فلا تمايز. وإن لم يكن مسلوبا عن الذات الأخرى ؛ فالذات الأخرى مختصة بوصف ثبوتى ، لا سلبى.

وأما الثانى : فلأن الذوات متعددة متكثرة فإذا (١) اختص بعضها بالوصف الوجودى ، والبعض بسلبه. فإما أن يختص الواحد من الذوات (٢) بالثبوت ، والباقى بالسلب ، أو الواحد بالسلب ، والباقى بالثبوت.

وعلى كلا التقديرين ؛ فالتمايز : وإن حصل بين ما اختص بالثبوت والسلب ؛ فالتمايز بين الذوات المشتركة / فى الثبوت ، أو السلب ؛ ممتنع.

وأيضا : فإنه لو استغنت الذات ، من حيث إنها ذات عن الصفة مع اتحادها ؛ لما وقع الفرق بين ذات السواد ، وبين (٣) ذات البياض ، والجوهر ، والعرض ، ونحوه.

فإذن ما به التمايز وجودى.

ومن المتكلمين من قال : التمايز بالوصف الخاص ، إنما يكون عند الاشتراك بين (٤) الذوات في مسمى الذات والحقيقة (٤) ؛ وليس كذلك ؛ بل واجب الوجود مخالف بذاته وحقيقته لباقى الذوات ، ولا مشاركة بينه وبينها في غير التسمية. محتجا على ذلك بأنه : لو كان مسمى الذات متحدا ؛ لوجب الاشتراك بين واجب الوجود ، وممكن الوجود فيما هو ثابت بالذات لكل واحد منهما ؛ لأنه متى ثبت اقتضاء الذات لحكم لذاتها كان ذلك ثابتا لها مهما كانت ثابتة ، ويلزم من ذلك أن تكون ذات الممكن واجبة لذاتها ؛ ضرورة ثبوت ذلك لها في واجب الوجود ، وأن تكون ذات واجب الوجود ممكنة لذاتها ؛ ضرورة ثبوت ذلك في ممكن الوجود ؛ وكل ذلك محال.

__________________

(١) فى ب (فإن)

(٢) ساقط من (ب)

(٣) ساقط من ب.

(٤) فى ب (فى مسمى الذات بين الذوات)


فإن قيل : اختصاص واجب الوجود ، وممكن الوجود بما اختص به من الوجوب والإمكان ليس لمسمى الذات المشتركة ؛ بل لما به تعين كل واحد منهما ، وما به التعين مختلف.

[قلنا] (١) : فالكلام في اختصاص كل واحدة من الذاتين بتعينها مع اتحاد مسمى الذات : كالكلام في الأول ؛ وهو تسلسل ممتنع.

قال : وعلى هذا : فمورد القسمة إلى الواجب ، والممكن ؛ ليس مسمى الذات ؛ بل اسم الذات. والقول بأن مسمى الذات ، لا يختلف باختلاف الاعتقادات من معنى الجوهر ، والعرض ، والواجب ، والممكن ؛ غير مسلم ؛ بل الّذي لا يختلف ؛ إنما هو الاسم ، دون المسمى.

وإن سلمنا أن مسمى الذات واحد ؛ ولكن لا نسلم أن التمايز لا بدّ وأن يكون بوصف ثبوتى ؛ بل جاز أن تكون ذات واجب الوجود متميزة عن غيرها من الذوات بسلب ما وجب لغيرها عنها ، وتمايز باقى الذوات بصفات وجودية كل واحد منها مختص بصفة وجودية لا وجود لها في باقى الذوات الأخرى.

والقول بأنه لو استغنت الذات عن الصفة مع اتحادها ؛ لما وقع الفرق بين الذوات المختلفة.

قلنا : عدم استغناء الذات عن الصفة المميزة ، لا يوجب كون الصفة المميزة وجودية ؛ / فإن ما يقع به التمييز (٢) بين الذوات من الصفات (٢) أعم من كونها وجودية ؛ فلا يلزم من عدم الفرق عند فرض عدم الاختلاف بالصفة ؛ عدم الفرق مع فرض الاختلاف بالسلب ، والإيجاب.

__________________

(١) ساقط من (أ)

(٢) فى ب (التمييز من الذوات ومن الصفات)


المسألة الثالثة

في أن وجود واجب الوجود ، هل هو نفس ذاته

أو (١) هو زائد على ذاته (١)؟

ذهبت الأشاعرة ، والفلاسفة ، وبعض المعتزلة : الى أن وجود واجب الوجود لا يزيد على ذاته ؛ بل ذاته وجوده ، ووجوده ذاته.

وخالفهم في ذلك طائفة من المتكلمين.

أما (٢) حجة من قال بأن وجوده لا يزيد على ذاته : أنه لو كان وجوده زائدا على ذاته لم يخل : إما أن يكون واجبا ، أو ممكنا. لا جائز أن يكون واجبا ؛ لأنه مفتقر إلى الذات ضرورة كونه صفة لها ، ولا شيء من المفتقر إلى غيره يكون واجبا ؛ فإذن وجوده لو كان زائدا على ذاته ؛ لما كان واجبا ؛ فلم يبق إلا أن يكون ممكنا.

وإذا كان ممكنا : فلا بد له من مؤثر كما سبق (٣).

والمؤثر فيه : إما الذات ، أو خارج عنها.

فإن كان الأول : فهو ممتنع لوجهين :

الأول : أن الذات بسيطة لا تركيب فيها ، وهى قابلة للوجود ؛ فلو كانت مؤثرة ؛ لكانت قابلة ، وفاعلة ، فلها قوتان : قوة القبول ، وقوة الفعل. والبسيط الواحد ليس له قوتان مختلفتان ؛ فإن الكلام في قبوله للقوتين المختلفتين : كالكلام في الأول ؛ وهو تسلسل ممتنع.

الثانى : أنها لو كانت مؤثرة في الوجود ؛ فالمؤثر في الوجود ، لا بدّ وأن يكون موجودا على ما تقدم ؛ فإذن تأثير الماهية في وجودها مفتقر إلى وجودها ؛ فالوجود مفتقر إلى نفسه ؛ وهو محال ؛ كما سبق.

__________________

(١) فى ب (أو زائد عليها)

(٢) نقل ابن تيمية قول الآمدي مختصرا من أول قوله : «أما حجة من قال ... إلى قوله : وقد تحقق ذلك بالافتقار إلى الذات القابلة» فى كتابه (درء تعارض العقل والنقل ٤ / ٢٣٧ ـ ٢٣٩) ثم علق عليه وناقشه.

(٣) انظر ل ٤١ / ب.


وإن كان الثانى : وهو أن يكون المؤثر في الوجود غير ماهية واجب الوجود ، فوجود واجب الوجود ، مستفاد له من غيره ، وكل ما استفاد وجوده من غيره ؛ فليس واجبا لذاته.

وهذه المحالات : إنما لزمت من كون وجوده زائدا على ذاته ؛ فلا يكون زائدا.

وهذه الحجة ضعيفة ؛ إذ لقائل أن يقول : ما المانع من كون الوجود الزائد على الماهية واجبا لنفسه؟

قولكم : لأنه مفتقر إلى الماهية ، والمفتقر إلى غيره ، لا يكون واجبا لنفسه (١). لا نسلم أن الواجب لنفسه ؛ لا يكون مفتقرا إلى غيره ؛ بل الواجب لنفسه : هو الّذي لا يكون مفتقرا إلى مؤثر فاعل ، ولا يمتنع أن يكون موجبا لنفسه.

وإن كان مفتقرا إلى القابل / ؛ فإن الفاعل الموجب بالذات ؛ لا يمتنع توقف تأثيره على القابل. وسواء كان اقتضاؤه بالذات لنفسه ، أو لما هو خارج عنه. وهذا كما يقوله الفيلسوف في العقل الفعال ؛ فإنه موجب بذاته للصور الجوهرية ، والأنفس الإنسانية ، وإن كان ما اقتضاه لذاته متوقفا على وجود الهيولى القابلة.

وإن سلمنا أنه لا بدّ وأن يكون ممكنا ؛ ولكن لا نسلم أن حقيقة الممكن هو المفتقر إلى المؤثر ؛ بل الممكن هو المفتقر إلى الغير. والافتقار إلى الغير ؛ أعم من الافتقار إلى المؤثر. وقد تحقق ذلك بالافتقار إلى الذات القابلة (٢).

سلمنا أنه لا بدّ من مؤثر ؛ فلم قلتم بامتناع كون الذات هى المؤثرة؟

قولكم : إنها قابلة ، وفاعلة ؛ مسلم ؛ ولكن لم قلتم بامتناع ذلك في البسيط الواحد؟ فإن القبول ، والفعل غير (٣) خارج عن (٣) النسب والإضافات ، ولا مانع من اتصاف البسيط الواحد بنسب مختلفة : كاتصاف الوحدة التى هى مبدأ العدد : بأنها نصف الاثنين ، وثلث الثلاثة (٤) [وربع الأربعة] (٤) ، وهلم جرا.

__________________

(١) فى ب (لذاته)

(٢) إلى هنا انتهى ما نقله ابن تيمية في كتابه (درء تعارض العقل والنقل ٤ / ٢٣٧ ـ ٢٣٩) ثم علق عليه وناقشه.

(٣) فى ب (عن خارج غير)

(٤) ساقط من (أ)


والّذي يخص الفيلسوف أن يقال :

ما المانع من أن تكون القابلية والفاعلية باعتبار صفات لا توجب التعدد والتكثر في ذات البسيط الواحد ، ولا توجب التسلسل؟ كما قلتم في صدور الكثرة عن المعلول الأول لذات واجب الوجود. فإنكم قلتم : الصادر عنه : عقل ، ونفس ، وجرم : هو جرم الفلك الأقصى ؛ وذلك باعتبارات متعددة ؛ لضرورة أن الواحد ـ عندكم ـ لا يصدر عنه إلا واحد (١).

فإن كانت هذه الاعتبارات صفات وجودية ، وأمورا حقيقية ؛ فقد ناقضتم مذهبكم في قولكم : الواحد (٢) لا يصدر عنه إلا واحد (٢).

وإن لم تكن هذه الاعتبارات صفات وجودية ، ولا موجبة للتكثر ، ولا (٣) للتسلسل (٣) ؛ فما المانع من كون الذات الواحدة قابلة ، وفاعلة بمثل هذه الاعتبارات؟

وأما الوجه الثانى : في بيان امتناع كون الذات مؤثرة ؛ فلا (٤) مخرج (٤) عنه ، وإلا لجاز إسناد الأمور الحادثة إلى ما ليس بموجود ، ولا معدوم ، وبطل القول بوجوب واجب الوجود.

وإنما الطريق في الرد على هذه الحجة بالاقتصار على هذه الإشكالات السابقة.

فإن قيل : فكما يمتنع تأثير الذات في الوجود ؛ لما فيه من افتقار الوجود إلى الوجود ، فيمتنع أن تكون / الذات قابلة للوجود ؛ لأن القابل للوجود ، لا بدّ وأن يكون موجودا ؛ وفيه افتقار الوجود إلى الوجود.

قلنا : لا نسلم أنه يلزم من ضرورة كون الفاعل للوجود موجودا ، أن يكون القابل للوجود موجودا ؛ بل شرطه أن يكون ثابتا ، والثابت أعم من الموجود.

وأما القائلون بأن الوجود زائد على ذاته ؛ فقد احتجوا بحجج :

الأولى : قالوا : لا خفاء بصحة قول القائل : ذات واجب الوجود موجودة.

__________________

(١) فى ب (الواحد)

(٢) فى ب (إن الواحد لا يصدر منه إلا الواحد)

(٣) فى ب (والتسلسل)

(٤) فى ب (فلا محيص)


وهو حكم تصديقى يستدعى محكوما عليه ، ومحكوما به ، فلو كانت ذاته وجوده ؛ كان حاصل القضية ذاته ، ذاته ، أو (١) وجوده ، وجوده ؛ وهو هذر من الكلام.

الثانية : أنه قد يعقل وجود واجب الوجود ، من يجهل حقيقته ، والمعلوم يجب أن يكون مغايرا للمجهول (٢).

الثالثة : أن مفهوم الوجود واحد مشترك بين جميع الموجودات على السوية ، كما سيأتى في المسألة الرابعة (٣). والمفهوم من الذات مختلف كما سبق (٤). وعند ذلك : فيجب أن يكون زائدا على الذات لثلاثة أوجه :

الأول : أن ما به الاختلاف يجب أن يكون غير ما به الاتفاق.

الثانى : أنه إذا كان الوجود هو نفس الماهية ، والوجود مشترك ؛ فليس القول بأن [وجود] (٥) واجب الوجود علة لوجود (٦) غيره ، أولى من العكس.

الثالث : أنه إذا كان مسمى الوجود واحدا ، فلو كان هو نفس الذات ؛ لكان مسمى الذات واحدا ، ويلزم من ذلك أن كل ما كان ثابتا لبعض الموجودات بمقتضى ذاته أن يكون ثابتا للآخر ضرورة الاتحاد في المقتضى ، ويلزم من ذلك أن يكون واجب الوجود ممكنا لذاته ضرورة الاتحاد في المقتضى ، ويلزم من ذلك أن يكون واجب الوجود ممكنا لذاته ضرورة أن غيره من الموجودات ممكنا لذاته ، وأن يكون غيره واجبا لذاته ضرورة مشاركته لواجب الوجود في المقتضى لوجوب الوجود ؛ وفيه ما يوجب جعل الواجب ممكنا ، والممكن واجبا ؛ وهو قلب للحقيقة ؛ فيمتنع.

وهذه الحجج أيضا بعيدة عن التحصيل ؛ بل أبعد مما تقدم.

أما الحجة الأولى : فلقائل أن يقول : الحمل ، والوضع ، والمحكوم به ، والمحكوم عليه ؛ ليس في المعنى ؛ بل في اللفظ. وعند اختلاف اللفظ لا يكون هذرا ؛ بل هو كقول

__________________

(١) فى ب (و)

(٢) فى ب (لما ليس بمعلوم)

(٣) انظر ل ٥٣ / أ.

(٤) انظر ل ٥١ / أ.

(٥) ساقط من (أ)

(٦) فى ب (وجود)


القائل : الإنسان بشر ، وكذا في جميع الألفاظ المترادفة ؛ فإنه قد يقصد به بيان أن مدلول أحد اللفظين : هو مدلول / الآخر بخلاف ما إذا اتحد اللفظ.

وأما الحجة الثانية : فمبنية على أن الوجود زائد على الحقيقة ، وإلا فمع القول بأن الوجود هو نفس الحقيقة يمتنع تسليم العلم بالوجود مع الجهل بالحقيقة.

وأما الحجة الثالثة : فمبنية على أن المفهوم (١) من (١) الوجود واحد مشترك بين واجب الوجود ، وممكن الوجود ، وسيأتى إبطاله في المسألة التى (٢) بعدها إن شاء الله (٢).

فهذه هى عمدة الفريقين. وإن كانت حجة المذهب الأول أشبه. وعسى أن يكون عند غيرى تحقيق أحد الطرفين.

__________________

(١) ساقط من (ب)

(٢) فى ب (الرابعة)


المسألة الرابعة (١)

في أن وجود واجب الوجود مشارك لوجود [سائر] (٢)

الممكنات في المعنى ، أم لا؟

وقد اختلف في ذلك :

فمذهب (٣) الأشعرى ، وأبى الحسين البصرى (٤) : أنه غير مشارك لباقى الوجودات في معناه ، وإنما هو مشارك لها في الاسم.

وذهب الحذاق من الفلاسفة ، وبعض المتكلمين : إلى أن مفهوم الوجود في الكل واحد.

وقد احتج من قال بالاختلاف : بأن وجود واجب الوجود نفس ذاته ، وذاته مخالفة لباقى الذوات على ما تقدم (٥) من برهان كل واحدة من المقدمتين ؛ فمسمى الوجود يكون مختلفا ؛ وقد عرف ما فيه.

وأما حجة القائلين باتحاد مسمى واجب الوجود ، بين واجب الوجود وغيره ؛ فمن أربعة أوجه :

الأول : هو أنه يصح تقسيم الوجود : إلى الواجب ، والممكن ، والقديم ، والحادث ؛ فالوجود مورد القسمة ، وكل ما يكون مورد القسمة ، يجب أن يكون واحدا ؛ فالوجود واحد.

الثانى : هو أنا إذا اعتقدنا شيئا موجودا ؛ فاعتقاد كونه موجودا ، لا يختلف باختلاف الاعتقادات بكونه واجبا ، أو ممكنا ، أو لا ، أو بكونه جوهرا ، أو عرضا ، أو سوادا ، أو

__________________

(١) انظر المواقف ص ٤٨.

(٢) ساقط من (أ)

(٣) فى ب (فذهب)

(٤) أبو الحسين البصرى : محمد بن على الطيب ، البصرى ، المعتزلى (أبو الحسين) متكلم ، أصولى كان من أئمة المعتزلة المشهورين ، ولد في البصرة ، وسكن بغداد وتوفى بها سنة ٤٣٦ ه‍. من أهم مؤلفاته : المعتمد في أصول الفقه. الّذي اعتمد عليه معظم من أتى بعده ، وكان من أشهر تلاميذ القاضى عبد الجبار صاحب المغنى (وفيات الأعيان ترجمة رقم ٥٨١ ، وتاريخ بغداد ٣ / ١٠٠ ، ومعجم المؤلفين ١١ / ٢٠)

(٥) انظر ل ٥١ / أوما بعدها.


بياضا ، إلى غير ذلك. ولو لم يكن المفهوم من الوجود في الكل واحدا ؛ لاختلف باختلاف الحقائق.

الثالث : أنا إذا قلنا : هذا الوجود خاص ، كان هذا الحكم تصديقيا حقا. والتصديق يستدعى سابقة التصور ، وأحد التصورين الوجود مطلقا. والآخر الخاص ؛ فالتصور للوجود المطلق ، سابق على التصور للوجود الخاص ، ولا معنى للوجود المطلق ؛ إلا ما كان صالحا لاشتراك كثير من الموجودات فيه ؛ فيكون مسمى الوجود من حيث هو وجود متحدا.

الرابع : هو أن قول القائل : مسمى الوجود غير مشترك فيه من (١) الماهيات / إما أن يكون المراد به : الوجود المطلق ، أو الخاص. فإن أراد به الوجود الخاص : فلا نزاع فيه ، ولا (٢) حاجة إلى نفى ما وقع الاتفاق عليه. وإن أراد به الوجود المطلق : فالحكم على الوجود المطلق بأنه لا يقع الاشتراك فيه ؛ اعتراف بالوجود المطلق ؛ لأن التصديق مسبوق بالتصور ؛ فيكون القول متناقضا ؛ إذ الوجود المطلق هو الصالح للاشتراك فيه ؛ فالقول بأنه لا (٣) اشتراك (٣) فيه يكون تناقضا.

وفي هذه الحجج نظر (٤) أيضا (٤).

أما الحجة الأولى ، والثانية : فقد سبق الكلام عليهما في مسألة أن مسمى الذات واحد ، أم لا؟ (٥).

وأما الحجة الثالثة : فمندفعة ؛ إذ لقائل أن يقول : الحاصل من قولنا : هذا الوجود خاص : أنه مخالف بذاته لباقى الوجودات ؛ وذلك لا يستدعى كونه مطلقا.

وأما الحجة الرابعة : فالمراد من قولنا مسمى الوجود ليس مشتركا فيه بين الذوات : أى أنه ليس لاسم الوجود مسمى مشتركا (٦) فيه من الذوات (٦) ، وليس حكما بعدم الاشتراك على مسمى متحقق ، لا مطلقا ، ولا خاصا ؛ ولا يخفى الفرق بين الاعتبارين.

__________________

(١) فى ب (بين)

(٢) فى ب (ولا حاجة فيه)

(٣) فى ب (الاشتراك)

(٤) فى ب (أيضا نظر)

(٥) انظر ل ٥١ / ب وما بعدها.

(٦) فى ب (مشترك بين الذوات)


وغاية ما يلزم من ذلك التأويل بحمل اللفظ على ما ليس ظاهرا فيه ؛ وهو غير بعيد.

والأقرب من المذهبين إنما هو الأول ؛ لما تقدم (١).

__________________

(١) هو مذهب الأشعرى ، وأبى الحسين البصرى انظر ل ٥٣ / أ.


النوع الثانى

في الصفات النفسانية لذات واجب الوجود

ويشتمل على إحدى عشرة مسألة :

الأولى (١) : في إثبات الصفات النفسانية على وجه عام.

الثانية : في إثبات صفة القدرة.

الثالثة : في إثبات صفة الإرادة.

الرابعة : في إثبات صفة العلم.

الخامسة : في إثبات صفة الكلام.

السادسة : في إثبات الإدراكات.

السابعة : في إثبات صفة الحياة.

الثامنة : في أنه هل له صفة زائدة على هذه الصفات؟

التاسعة : في أن الصفة هل هى نفس (٢) الوصف ، أو غيره؟

العاشرة : في أن الصفة هل هى نفس الموصوف ، أو غيره؟ أو لا هى هو ، ولا هى غيره؟ [(٣) وأن الصفة هل توصف ، أم لا (٣)

الحادية عشرة : في تعلق هذه الصفات بمتعلقاتها ، وأنه وجودى ، أو لا؟

__________________

(١) الترقيم في (ب) بالحروف الأبجدية. وفي (أ) وردت مخالفة للقاعدة : الأول ، والثانى الخ.

(٢) فى ب (عين).

(٣) من أول (وأن الصفة ..) ساقط من (أ).



المسألة الأولى

في إثبات الصفات النفسانية على وجه عام

مذهب أهل الحق من الأشاعرة : أن الواجب بذاته قادر بقدرة ، مريد بإرادة ، عالم بعلم ، متكلم بكلام ، سميع بسمع ، بصير ببصر ، حي بحياة ، وهذه كلها صفات وجودية ، أزلية ، زائدة على / ذات واجب الوجود.

وذهبت الفلاسفة ، والشيعة (١) : إلى نفيها.

ثم اختلفت الشيعة :

فمنهم (٢) : من لم يطلق عليها شيئا من الأسماء الحسنى.

ومنهم (٣) : من لم يجوز خلوه عنها.

وأما المعتزلة (٤) : فلهم تفصيل مذهب في الصفات يأتى شرحه في كل مسألة على التفصيل.

ونحن الآن نبتدئ بمعتمد المعطلة (٥) ، والتنبيه علي وجه فساده ، ثم نذكر ما هو معتمد أهل الحق في ذلك فنقول :

__________________

(١) الشّيعة : من الفرق الإسلامية ، وهم الذين شايعوا عليا ـ رضى الله عنه على الخصوص. وقالوا بإمامته وخلافته نصا ، ووصية ، إما جليا ، وإما خفيا. واعتقدوا أن الإمامة لا تخرج من أولاده ، وأن خرجت فبظلم يكون من غيره ، أو بتقية من عنده (الملل والنحل ١٤٦).

ويلاحظ أن المقصود بالشيعة هنا الغلاة منهم : كالباطنية ، والمتأخرين الذين خلطوا التشيع بالاعتزال. أما القدماء فأكثرهم مثبتة ؛ بل منهم من غلا ونزع إلى التجسيم. كما صرح بذلك في الجزء الثانى ل ٢٥٦ / ب ، وانظر في ذلك مقالات الإسلاميين ١ / ١٠٥.

(٢) هم الإسماعيلية من الباطنية.

(٣) المقصود بهم متأخرو الشيعة ممن خلطوا الاعتزال بالتشيع.

(٤) انظر شرح الأصول الخمسة ١٨٢ ـ ١٨٤ والمغنى ٤ / ٣٤١ ـ ٣٤٦ والمحيط بالتكليف ص ١٠٤. كلها للقاضى عبد الجبار.

(٥) الذين بالغوا في نفى الصفات حتى عطلوا الله عن القدرة. ولمزيد من البحث والدراسة عن مصطلح التعطيل والمعطلة انظر : نهاية الأقدام للشهرستانى. القاعدة الخامسة في إبطال مذهب التعطيل وبيان وجوه التعطيل ص ١٢٣ ـ ١٣٠.


قالت النفاة (١) : لو قدر له صفات وجودية ، زائدة على ذاته : فإما أن تكون كلها واجبة ، أو ممكنه ، أو البعض واجبا ، والبعض ممكنا.

لا جائز أن يقال بالأول : إذ هى مفتقرة إلى الذات ، ضرورة كونها صفات الذات ، والمفتقر إلى غيره ، لا يكون واجبا لذاته.

ولا جائز أن يقال بالثانى : وإلا لافتقرت إلى علة موجبة لها ، والعلة الموجبة لها : إما الذات ، أو غيرها. لا يمكن أن يكون الموجب لها الذات ؛ إذ الذات قابلة لها ، والقابل لا يكون هو الفاعل من جهة كونه قابلا ، وإن كان من جهتين ، فالجهات لا بدّ وأن تكون وجودية ؛ فإن نقيض الجهة ، لا جهة ، ولا جهة عدم ؛ فالجهة وجود ، والكلام في تلك الجهات : كالكلام في الأول ؛ ويلزم منه التسلسل ، أو الدور الممتنع ؛ وهما ممتنعان.

وإن كان الموجب لها غير الذات : فواجب الوجود مفتقر إلى غيره في إفادة كمالاته له ، ويلزم أن يكون مشروطا بالنظر إلى ذلك الغير ؛ وهو ممتنع.

ثم ذلك الغير : إما أن يكون قديما ، أم محدثا.

لا جائز أن يكون قديما ؛ إذ لا قديم عندكم سوى (٢) واجب الوجود ، وصفاته.

وإن كان حادثا : فصفات واجب الوجود تكون حادثة ، ضرورة حدوث المحدث لها ؛ وهو غير قابل لحلول الحوادث في ذاته ؛ كما يأتى بعد (٣).

وإن كان الثالث : وهو أن يكون البعض منها واجبا ، والبعض ممكنا : فبطلان كل واحد منهما ؛ بما به بطلان القسمين الأولين ؛ فإذن واجب الوجود ؛ واجب من جميع جهاته ، وليس له صفات وجودية زائدة على ذاته ، ولا ما يوجب فيه تعداد ، ولا كثرة. وما يوصف به واجب الوجود فلا يخرج عن أن يكون من أسماء الذات : كقولنا : إنه ذات ، ووجود (٤) ، وماهية ، وشيء ، ومعنى ، ونحوه (٤).

__________________

(١) يقصد بهم جميع النفاة من فلاسفة ، وشيعة ، ومعتزلة. ثم ذكر في الصفحة التالية ما يخص المعتزلة ، والشيعة.

(٢) فى ب (غير).

(٣) ساقط من ب. انظر ل ١٤١ / أ.

(٤) فى ب (وموجود وماهية وشيء ومعنى).


أو من الصفات السلبية : كقولنا : إنه واجب : أى لا يفتقر إلى غيره في (١) وجوده ، ونحوه.

أو الإضافية (١) : كقولنا : [إنه] (٢) جواد ، وعلة ، ومبدأ ، وخالق ، ومبدع / ونحوه.

وأما ما (٣) يخص المعتزلة (٣) ، والشيعة : فإنهم قالوا :

لو كان له صفات وجودية زائدة على ذاته ؛ لم يخل : إما أن تكون هى هو ، أو هى (٤) غيره.

فإن كانت هى هو ؛ فلا صفة له زائدة عليه.

وإن كانت غيره ، فإما قديمة ، أو حادثة.

فإن كانت قديمة : فالقدم أخص وصف الإلهية ؛ وذلك يفضى إلى القول بتعدد الآلهة ؛ وهو ممتنع ؛ كما (٥) يأتى :

وإن كانت حادثة : فيلزم أن يكون واجب الوجود محلا للحوادث ؛ وهو ممتنع ؛ كما (٦) يأتى.

وأيضا : فإنه لو قام به صفات وجودية ؛ لكانت مفتقرة إلى الذات في وجودها. وذلك يؤدى إلى إثبات خصائص الأعراض لصفات واجب الوجود ؛ وهو محال.

وأيضا : فإن الله ـ تعالى ـ كفر النصارى بإثباتهم الأقانيم الثلاثة ، وهى : الذات ، والعلم ، والحياة. فمن أثبت له ذلك ، وزيادة ؛ كان أولى بالتكفير.

والجواب :

أما الشبهة الأولى : فقد سبق الجواب عنها ، في مسألة أن وجود واجب الوجود ، هل هو زائد على ذاته ، أم لا (٧)؟

__________________

(١) فى (فى وجوده أو إضافته).

(٢) فى أ (لأنه).

(٣) فى ب (ما يختص بالمعتزلة).

(٤) فى ب (من).

(٥) انظر ما سيأتى ل ١٦٧ / ب وما بعدها.

(٦) انظر ما سيأتى ل ١٤٦ / أوما بعدها.

(٧) انظر ل ٥١ / ب وما بعدها.


وما قيل من أن القدم أخص وصف الإله تعالى ، فإن أريد به أنه خاص بالله (١) تعالى (١) على وجه لا يشاركه فيه غيره من الموجودات الخارجة عن مسماه ؛ فمسلم ؛ ولكن ليس في ذلك ما (٢) يدل على (٢) نفى القدم عن صفاته.

وإن أريد به أنه غير متصور أن يعم شيئين علي وجه يدخل فيه ذات واجب الوجود ، وصفاته ؛ فهو المصادرة على المطلوب.

ثم هو لازم للخصم (٣) ، إن كان ممن يعتقد كون المعدوم شيئا ، وذاتا ثابتة في القدم في حالة العدم ؛ على ما لا يخفى.

وقد أجاب بعض الأصحاب (٤) عن هذه الشبهة : بأن قال :

لو كان القدم أخص وصف الإلهية ؛ فمفهومه لا محالة يزيد على مفهوم كونه موجودا.

وعند ذلك فالوجود : إما أن يكون أعم من القدم ، أو أخص منه.

فإن كان أعم : فقد تركبت ذات الإله تعالى من وصفين ؛ أعم ، وأخص

وإن كان أخص : فيلزم أن يكون كل موجود إلها ؛ وينقلب الإلزام.

وهو غير صواب ؛ لجواز أن لا يكون أعم ولا أخص ، بناء على أن مسمى الوجود مختلف ؛ وإن اتحد اسم (٥) الوجود (٥) ؛ كما سبق.

ولا يلزم من تعدد مفهوم اسم الوجود والقدم ، التكثر في اسم مدلول اسم الإله ـ تعالى ـ إلا أن يكون المفهوم من القدم معنى وجوديا ، وأمرا حقيقيا ؛ وليس كذلك ؛ بل حاصله يرجع (٦) إلى سلب الأولية لا غير. وهذا / بخلاف الصفات الوجودية التى سلبت عنها الأولية.

وأما القول بأن قيام الصفات (٧) بذاته ؛ يفضى إلى ثبوت خصائص الأعراض لها ؛ فإنما يستقيم ، أن لو ثبت أن خاصية العرض قيامه بالمحل مطلقا ؛ وليس كذلك ؛

__________________

(١) فى ب (به).

(٢) فى ب (ما يوجب).

(٣) فى ب (على الخصم).

(٤) لعله الشهرستانى انظر نهاية الأقدام ص ١٠٨ ، ١٠٩ ، ٢١٢ ـ ٢١٤.

(٥) فى ب (الاسم).

(٦) فى ب (راجع).

(٧) فى ب (الصفة).


بل خاصية العرض ، وجوده في الحيز تبعا لمحله فيه ؛ وهو غير متصور في صفات الإله ـ تعالى ـ أو نقول : إن خاصية العرض : قيامه بالمحل مع حدوثه ، وتجدده ؛ وهو أيضا غير متصور في صفات الله ـ تعالى ـ.

وأما تكفير النصارى : فلم يكن بإثباتهم العلم ، والحياة ؛ بل بإثباتهم آلهه ثلاثة على ما قال الله تعالى : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) (١).

هذا ما اعتمد عليه النفاة.

وأما أهل الإثبات (٢) :

فقد سلك بعضهم في الإثبات مسلكا ضعيفا : وهو أنهم تعرضوا لإثبات أحكام الصفات أولا. ثم توصلوا منها إلى إثبات العلم بالصفات ثانيا.

فقالوا : العالم ـ لا محالة ـ على غاية من الحكمة ، والإتقان ، وهو ـ مع ذلك ـ جائز وجوده ، وجائز عدمه ؛ كما سيأتى.

وهو مستند في التخصيص ، والإيجاد إلى واجب الوجود ؛ كما (٣) سيأتى أيضا (٣).

فيجب أن يكون قادرا عليه ، مريدا له ، عالما به ، كما وقع به الاستقراء في الشاهد ؛ فإن من لم يكن قادرا ؛ لا يصح صدور شيء عنه. ومن لم يكن مريدا ؛ لم يكن تخصيص بعض الجائزات عنه دون البعض أولى من العكس ؛ إذ نسبتها إليه نسبة واحدة. ومن لم يكن عالما بالشيء ، لا يتصور منه القصد إلى إيجاده ، ولا الإتقان ، والإحكام في صنعه.

قالوا : وإذا ثبت كونه قادرا ، مريدا ، عالما ؛ وجب أن يكون حيا ؛ إذ الحياة شرط هذه الصفات ؛ على ما عرف في (٤) الشاهد (٤) ، وما كان له في وجوده أو عدمه شرط ، لا

__________________

(١) سورة المائدة ٥ / ٧٣.

(٢) المقصود بهم الأصحاب من الأشاعرة.

منهم الباقلانى في التمهيد ١٥٢ ـ ١٥٣ ، وإمام الحرمين في الإرشاد ٦١ ـ ٦٣ ، والشهرستانى في نهاية الأقدام ١٧٠ وقد نقل ابن تيمية في كتابه (درء تعارض العقل والنقل ٤ / ٣٢ ـ ٣٤ ما ذكره الآمدي هنا من أول قوله «وأما أهل الإثبات ... إلى قوله والشرط لا يختلف شاهدا ولا غائبا» ـ ثم علق عليه وناقشه. [درء تعارض العقل والنقل ٤ / ٣٢ ـ ٣٤].

(٣) انظر ل ٥٨ / ب وما بعدها.

(٤) فى ب (شاهدا).


يختلف شاهدا ، ولا غائبا ؛ ويلزم من كونه حيا ؛ أن يكون سميعا ، بصيرا ، متكلما ، فإن من لم يثبت له هذه الصفات من الأحياء ، فهو متصف بأضدادها ، كالعمى ، والطرش ، والخرس ؛ على ما عرف في الشاهد أيضا ، والإله تعالى يتقدس عن الاتصاف بهذه الصفات.

قالوا : وإذا ثبتت هذه الأحكام ؛ فهى في الشاهد معللة بالصفات ، فالعلم في الشاهد ؛ علة كون العالم عالما ، والقدرة ؛ علة كون القادر قادرا ، وعلى هذا النحو في باقى الصفات ، والعلة لا تختلف شاهدا ، ولا غائبا.

وأيضا : فإن حدّ العالم في الشاهد ؛ من قام به العلم ، والقادر / من قامت به القدرة ، وعلى هذا النحو ، والحد أيضا لا يختلف لا شاهدا ، ولا غائبا.

وأيضا : فإن شرط العالم في الشاهد ؛ قيام العلم به ، وكذلك في القدرة وغيرها ، والشرط لا يختلف شاهدا ، ولا غائبا (١).

وأعلم أن هذه الحجة : مما يضعف التمسك بها جدا ؛ فإن حاصلها يرجع إلى الاستقراء في الشاهد ، وإلحاق الغائب بالشاهد بقياس التمثيل ، وقد سبق إبطاله في الفصل السابع (٢) من الباب الثانى في الدليل (٢).

والّذي نريده هاهنا ، أن نقول :

القياس هاهنا يعترف بالتفاوت بين صفات الغائب ، والشاهد ، حتى أن القدرة في الشاهد لا يتصور بها عنده الإيجاد بخلاف القدرة في الغائب ، وكذلك الإرادة في الشاهد ، لا يتصور بها التخصيص ، بخلاف الإرادة في الغائب. وعلى هذا النحو في باقى الصفات. فإذن ما وجد في الشاهد غير موجود في الغائب ، وما وجد في الغائب غير موجود في الشاهد ؛ فلا يصح القياس.

__________________

(١) إلى هنا انتهى ما نقله ابن تيمية عن الآمدي ٤ / ٣٤ ثم علق عليه بقوله : «قلت : وهذه الطريقة مع إمكان تقريرها على هذا الوجه الخ» [درء تعارض العقل والنقل ٤ / ٣٤].

(٢) من أول (من الباب الثانى ..) ساقط من ب. انظر ل ٣٨ / أوما بعدها.


وأيضا : فإن التوصل من الصفات الإحكامية (١) فى حق الغائب ، إلى الصفات النفسانية يوجب أن تكون الصفات الإحكامية ، أعرف من الصفات النفسانية ، وإلا لما أمكن التوصل بها إلى معرفتها. وإذا كانت الصفات النفسانية ، أخفى فكيف [توجد (٢) في حد الصفات الإحكامية (٢)] وشرط المعرف ؛ أن يكون أعرف مما يعرف به.

ولما تخيل بعض الأصحاب (٣) ضعف هذه الطريقة ؛ لم يستند في إثبات أحكام الصفات عند ظهور الإتقان في الكائنات ، وكذا في إثبات الصفات عند ثبوت أحكامها ، إلى غير الضرورة ، ودعوى البديهية ، دون إلحاق الغائب الشاهد.

وهو بعيد أيضا ؛ فإن العلم الضرورى بذلك ، وإن كان واقعا في الشاهد جريا على العادة ، فإن من رأى بناء مرتفعا ، وصناعة محكمة في الشاهد ؛ اضطره عقله إلى العلم بعلم صانعه ، وقدرته ، وإرادته ، إلى غير ذلك من الصفات ، ولا يلزم مثله في الغائب ؛ وإلا لاطرد ذلك فيما نعلمه بالضرورة في الشاهد : من كون صانع البناء المحكم حيوانا ، متحركا بالإرادة ، مغتذيا ، ناميا ، مولدا ؛ وليس كذلك.

وأيضا : فإنه لو خلى الإنسان ، ودواعى نفسه من مبدأ نشوه ، إلى آخر عمره من غير التفات إلى نظر ، أو تقليد ؛ لم يجد من نفسه / العلم بذلك في حق الغائب أصلا. ولو كان بديهيا ؛ لما كان كذلك ، ولما خالف فيه أكثر العقلاء. وإن اكتفى في ذلك بمجرد الدعوى ؛ فقد تؤمن المقابلة بمثله في طرف النقيض. هذا كله بعد تسليم ثبوت أحكام لهذه الصفات ، وراء قيام الصفات بالذات ؛ وإلا فالاستدلال باطل.

والقول (٤) بأنه لو لم يكن متصفا بهذه الصفات مع كونه حيا ؛ لكان متصفا بما يقابلها ؛ فالتحقيق فيه يتوقف على بيان حقيقة المتقابلين ، وبيان أقسامهما ؛ فنقول :

أما المتقابلان : فما لا يجتمعان في شيء واحد من جهة واحدة.

وهو إما أن لا يصح اجتماعهما في الصدق ، ولا في الكذب ، أو يصح ذلك في أحد الطرفين.

__________________

(١) عن الصفات الإحكامية انظر المبين ل ١٦ / أ ، ب حيث يقول (وأما الصفة الحكمية ويعبر عنها بالصفة المعللة ، فما كانت في الحكم بها على الذات تفتقر إلى قيام صفة أخرى بالذات ككون العالم عالما ، والقادر قادرا). ومن هذا البيان يتضح أن الصفات الحكمية ليست إلا نتائج ، أو أحكاما للصفات النفسية.

(٢) فى ب (يؤخذ في حد الصفات النفسانية) ، وفي (أ) (توجد في الصفات الإحكامية).

(٣) المقصود به الباقلانى. انظر نهاية الأقدام للشهرستانى ص ١٧٣ وانظر أيضا الإرشاد لإمام الحرمين ص ٦٢.

(٤) يرفض الآمدي أيضا هذا القول : وهو إثبات الصفات عن طريق نفى أضدادها. وقد قال به الأشعرى عند إثباته بعض الصفات. انظر اللمع ص ٢٥ ، ٢٦.


فالأول : هما المتقابلان بالسلب ، والإيجاب ؛ وهو تقابل التناقض. والتناقض هو اختلاف القضيتين بالإيجاب ، والسلب على وجه لا يجتمعان في الصدق ولا الكذب لذاتيهما كقولنا : زيد حيوان. وزيد ليس حيوانا. ومن خاصيته استحالة اجتماع طرفيه في الصدق ، أو الكذب ، وأنه لا واسطة بين الطرفين ، ولا استحالة لأحد الطرفين إلى الآخر.

والثانى : فلا يخلو : إما أن يتحافظا ، أو لا يتحافظا.

فإن تحافظا : فهما المتقابلان بالتضايف : وهما اللذان لا تعقل لكل واحد منهما إلا مع تعقل الآخر كقولنا : زيد أب ، زيد ابن. وخاصيته توقف كل واحد من طرفيه على الآخر في الفهم.

وإن لم يتحافظا : فإما أن يسد كل واحد منهما الآخر ، أو لا يسد.

فإن كان الأول : فهما المتقابلان بالتضاد. والمتضادان كل أمرين يتصور اجتماعهما في الكذب دون الصدق ، وسدّ كل واحد منهما الآخر. وسواء كانا وجودين : كالسواد ، والبياض. أو وجود ، وعدم : كالزوجية ، والفردية.

ومن خواصه جواز استحالة كل واحد من طرفيه إلى الآخر في بعض صوره ، وجواز وجود واسطة بين الطرفين تمر عليه الاستحالة من أحد الطرفين إلى الآخر : كالصفرة ، والحمرة بين السواد ، والبياض.

وإن كان لا يسد كل واحد منهما الآخر : فهو تقابل العدم والملكة.

أما (١) الملكة بالمعنى الخاص : فهو معنى وجودى أمكن أن يكون ثابتا للشىء. إما بحق جنسه : كالبصر للإنسان ، أو بحق نوعه : ككتابة زيد ، أو بحق شخصه : كاللحية / للرجل.

وأما العدم المقابل لها : فهو ارتفاع هذه الملكة. وسواء كان ذلك في وقت الإمكان : كالأمية بعد البلوغ ، أو قبله : كعدم الكتابة في حال الصغر. وسواء كان مما يزول : كالمرودة (٢) ، أو لا يزول : كالعمى.

__________________

(١) من أول هاهنا نقل ابن تيمية ما ذكره الآمدي في كتابه (درء تعارض العقل والنقل ٤ / ٣٥ ـ ٣٦).

(٢) فى ب (كالمكروه).

الأمرد : الشاب طر شاربه ولم تنبت لحيته. مرد كفرح مردا ومردودة ، وتمرد : بقى زمانا ثم التحى. (القاموس المحيط ، فصل الميم. باب الدال).


ولما لم تكن ملكة البصر بالتفسير المذكور ثابتة للحجر ، لا يقال له أعمى ولا بصير. ومن خواص هذا التقابل : جواز انقلاب الملكة إلى العدم ، ولا عكس.

وعلى [هذا] (١) إن أريد بالتقابل هاهنا تقابل التناقض بالسلب والإيجاب : وهو أنه لا يخلو من كونه سميعا ، وبصيرا ، ومتكلما ، أو ليس ؛ فهو ما يقوله الخصم ، ولا يقبل نفيه من غير دليل.

وان أريد بالتقابل تقابل المتضايفين : فهو غير متحقق بين البصر ، والعمى ، والسمع ، والطرش ، ونحوه.

ثم وإن كان من قبيل تقابل التضايف ؛ فلا يلزم من نفى أحد المتضايفين ؛ ثبوت الآخر ؛ بل ربما انتفيا معا.

وإن أريد بالتقابل تقابل الضدين : فإنما يلزم أن لو كان واجب الوجود قابلا لتوارد الأضداد عليه ؛ وهو غير مسلم. وإن كان قابلا فلا يلزم من نفى أحد الضدين وجود الآخر ؛ لجواز اجتماعهما في العدم ، ووجود واسطة بينهما. ولهذا يصح أن يقال : البارى تعالى ليس بأسود ، ولا أبيض.

وإن أريد بالتقابل تقابل العدم ، والملكة : فلا يلزم أيضا من نفى الملكة تحقق العدم ، ولا بالعكس ؛ إلا في محل يكون قابلا لهما ؛ ولهذا يصح أن يقال : الحجر لا أعمى ، ولا بصير. والقول بكون البارى تعالى قابلا للبصر والعمى ؛ دعوى محل النزاع ، والمصادرة على المطلوب.

وعلى هذا : فقد امتنع لزوم العمى ، والخرس ، والطرش في حق الله تعالى ، من ضرورة نفى البصر ، والسمع ، والكلام عنه (٢).

وأما المعتزلة (٣) :

فإنهم قالوا في إبطال إلحاق الغائب بالشاهد في هذه الصفات : أن هذه الأحكام ؛ وهى العالمية ، والقادرية ، والمريدية ، ونحوها ؛ واجبة لله ـ تعالى ـ ، والواجب لا يفتقر

__________________

(١) ساقط من (أ).

(٢) انتهى ما نقله ابن تيمية عن الآمدي في كتابه (درء تعارض العقل والنقل ٤ / ٣٥ ، ٣٦). ثم علق عليه وناقشه.

(٣) انظر شرح الأصول الخمسة ص ١٧٢ ، ١٩٩ ـ ٢٠١ للقاضى عبد الجبار.


إلى ما يعلل به كما في الشاهد ؛ فإن التحيز للجوهر ، وقبول الجوهر للعرض ، لما كان واجبا ؛ لم يفتقر إلى علة. وإنما المفتقر إلى العلة ؛ ما كان في نفسه جائزا غير واجب ، وذلك ككون العالم عالما في الشاهد ، وكالموجود (١) الحادث ونحوه.

قال بعض / الأصحاب (٢) :

قولكم : بأن الواجب (٣) لا يعلل ، والجائز هو المعلل ؛ منتقض في كلا الطرفين.

أما انتقاض طرف الجواز : فهو أن الوجود الحادث جائز ، وليس معللا.

وأما انتقاض طرف الوجوب : فهو أن كون العالم عالما في الشاهد ، بعد أن ثبت ، واجب ، وهو معلل ؛ ورده غير صحيح (٤).

أما قوله : الوجود الحادث جائز ، وليس معللا. إنما يلزم أن لو قيل : إن كل جائز معلل بالصفة ، وليس كذلك ؛ بل إنما قالوا : لا يعلل إلا الجائز ، ولا يلزم من كون التعليل لا يكون إلا للجائز ؛ أن يكون كل جائز معللا.

وأما قوله : بأن العالم في الشاهد ـ بعد أن ثبت كونه عالما ـ واجب وهو معلل ؛ فغير صحيح ؛ وذلك لأن الواجب ينقسم : إلى ما وجوبه بنفسه (٥) ، وإلى ما وجوبه مشروط بغيره.

فإن أريد به أنه واجب بالمعنى الأول : فقد ناقض ؛ حيث جعله معللا ، فإن الواجب بنفسه ما لا يفتقر في وجوده إلى غيره.

وإن أراد به الواجب (٦) بالمعنى الثانى : فلا يخرج عن كونه جائزا ؛ فإن كل ما وجوبه بغيره ؛ فهو جائز بنفسه ، على ما سبق (٧). وإذا (٨) كان جائزا ؛ فتعليله غير ممتنع.

__________________

(١) فى ب (وكوجود).

(٢) لعله إمام الحرمين الجوينى انظر الإرشاد ص ٨٤ وما بعدها.

(٣) فى ب (الواحد).

(٤) يرى الآمدي عدم صحة رد الجوينى ؛ بل إنه ينقضه ، ويتطوع في الرد عليهم نيابة عن المعتزلة. وذلك لإحساسه بضعفه ، وقصوره عن الإقناع ، ثم يرد عليهم شبههم مبطلا إياها.

(٥) فى ب (سلبه).

(٦) فى ب (أنه واجب).

(٧) انظر ل ٤١ / أ.

(٨) فى ب (وإن).


وما يمتنع تعليله ؛ ليس إلا ما كان واجبا بنفسه ، أو ممتنعا.

وهذا وإن كان واجبا ؛ فليس وجوبه بنفسه ؛ فلا يتجه به النقض.

وأيضا : فإن الخصم قد يسلم ثبوت هذه الأحكام للبارى تعالى ؛ ولكن على وجه تكون النسبة بينها ، وبين أحكام ذواتنا على نحو النسبة بين ذاته ، وذواتنا.

وعند ذلك ؛ فلا يلزم من تعليل أحد المختلفين تعليل الآخر ؛ وإن وقع الاشتراك بينهما في التسمية على ما لا يخفى. ولا يلزم عليه أن يقال. فما تذكرونه في العلة مع المعلول ، لازم لكم في الشرط مع المشروط ؛ حيث أنكم قلتم : إن البارى حىّ ؛ ضرورة كونه شرطا لكونه عالما ، وقادرا ، ومريدا في الشاهد. فما هو اعتذاركم في الشرط ؛ هو اعتذارنا في العلة. فإن الخصم قد لا يسلم أن طريق إثبات كونه حيا ، جهة الاشتراط ؛ بل غيره من الطرق.

كيف وأن البنية المخصوصة عنده شرط في الشاهد ، ومع ذلك لم نلتزم اطراد ذلك في الغائب ، فكيف يلتزم الاطراد في غيره؟

وإنما الطريق في الرد على المعتزلة فيما أوردوه أن يقال :

إن أردتم بكونها واجبة للبارى تعالى ، أنها لا تفتقر / إلى علة ؛ فهو المصادرة على المطلوب.

وإن أردتم أنه لا بدّ منها لواجب الوجود ؛ فذلك لا ينافى التعليل بالصفة.

والقول بأن التحيز للجوهر ، وقبوله للعرض في الشاهد لما كان واجبا ؛ لم يفتقر إلى علة : فمبنى على فاسد أصولهم في قولهم : إن هذه توابع الحدوث ، وتوابع الحدوث مما لا يدخل تحت القدرة ، ولا ينسب إلى فعل فاعل.

وهو غير صحيح عند أهل الحق ؛ بل كلما تخيل في الأذهان فما له وجود عينى [أصليا كان ، أو تابعا (١)] ؛ فهو مقدور لله تعالى ، ومخلوق له ، وليس شيئا مما يفرض في الشاهد واجبا لنفسه. اللهم إلا أن يعنى بكونه واجبا ، أنه لازم لما هو ثابت له على وجه لا تقع المفارقة بينهما أصلا ؛ لكن الواجب بهذا التفسير غير مانع من تعليله ؛ كما سبق.

__________________

(١) فى أ (كان أصليا أو تابعا).


فإن قيل : هذه الأمور اللازمة وإن كانت مفتقرة إلى فاعل مرجح ؛ لكنها لا تفتقر إلى صفة قائمة بمحلها ـ تكون علة لها ـ كما في افتقار العالمية في الشاهد إلى صفة العلم ـ وهو المقصود بلفظ العلة ـ ، وإذا لم يفتقر إلى علة ، لكونها لازمة ؛ فكذلك فيما نحن فيه.

قلنا : تفسير عدم افتقارها إلى العلة بالمعنى المذكور ـ وإن كان صحيحا ـ فقولهم : إنها لا تفتقر إلى العلة لكونها لازمة ، ممنوع ؛ بل لا مانع من أن تكون معللة ـ وإن كانت لازمة ـ ، وتكون علتها ملازمة أيضا.

والقول بأنه لا يعلل إلا ما كان جائزا ، فإنما ينفع أن لو كانت هذه الأحكام غير جائزة ، ولا يمتنع القول بجوازها من حيث إنه لا يمكن القول بعدمها إلا وقد لزم المحال عنه ؛ لأن المحال قد يلزم عند فرض عدم الشيء لنفسه ؛ فيكون واجبا لذاته.

وقد يكون فرض المحال لازما عن أمر خارج ـ وإن كان الشيء في نفسه جائزا ـ وذلك كما في فرض عدم المعلول مع وجود علته : كالكسر مع الانكسار ، ونحوه ؛ فلما لم يبينوا أن المحال اللازم عند فرض عدم هذه الأحكام ، لازم لنفسها ، لا لوجود عللها ؛ لا يلزم أن تكون واجبة لنفسها ؛ فهذا خلاصة ما ذكره الأصحاب في هذا الباب.

واعلم أن هاهنا طريقة رشيقة (١) ، سهلة المعرك ، قريبة المدرك ، يعسر على المنصف المتبحر ، الخروج عنها ، والقدح فيدلالتها / يمكن طردها في إثبات جميع الصفات النفسانية ، وهى مما ألهمنى الله تعالى إياه ، ولم أجدها على صورتها ، وتحريرها لأحد غيرى (٢) ، وذلك أن يقال :

المفهوم من كل واحد من الصفات المذكورة : إما أن يكون في نفسه وذاته ـ مع قطع النظر عما تتصف به ـ صفة كمال ، أو لا صفة كمال. لا جائز أن تكون لا صفة كمال ؛

__________________

(١) فى ب (وثيقة).

(٢) هذه الطريقة من مبتكرات الآمدي. وقد تأثر به فيها ابن تيمية انظر ابن تيمية السلفى ص ١١١ ، ١١٦ ، وتلاميذه من بعده. انظر مدارج السالكين لابن القيم ١ / ص ٣١ ، وشرح الطحاوية ص ٣٩ ـ ٤٠ لابن أبى العز الحنفى.

والشيخ محمد عبده في شرحه على العقائد العضدية ص ٢٧٦ وما بعدها. وقد نقل ابن تيمية في كتابه (درء تعارض العقل والنقل ٤ / ٣٧ ، ٣٨) من أول قول الآمدي «واعلم أن هاهنا طريقة رشيقة ... إلى قوله ومحال أن يكون الخالق أنقص من المخلوق» وعلق عليه بقوله : «قلت : هذه الحجة مادتها صحيحة ، وقد استدل بها ما شاء الله من السلف والخلف الخ».


وإلا كان حال من اتصف بها في الشاهد أنقص من حال من لم يتصف بها ؛ إن كان عدمها في نفس الأمر كمالا ، أو مساويا لحال من لم يتصف بها ؛ إن لم يكن عدمها في نفس الأمر كمالا. وهو خلاف ما نعلمه بالضرورة في الشاهد ؛ فلم يبق إلا القسم الأول ـ وهو أنها في نفسها ، وذاتها كمال ـ وعند ذلك فلو قدر عدم اتصاف البارى تعالى بها ؛ لكان ناقصا بالنسبة إلى من اتصف بها من مخلوقاته تعالى ؛ ومحال أن يكون الخالق أنقص من المخلوق.

فإن قيل : لا نقول بأنها صفة كمال على الإطلاق ، ولا أنها غير كمال على الإطلاق ؛ بل صفة كمال بالنظر إلى الشاهد ، ولا كمال بالنظر إلى الغائب.

وعند ذلك فلا يلزم منه أن يكون حال من اتصف بها في الشاهد مساويا لحال من لم يتصف بها ، أو (١) أنقص ، ولا أن يكون (١) الخالق أنقص من (٢) مخلوقه (٢).

سلمنا دلالة ما ذكرتموه على وجوب اتصاف واجب الوجود بهذه الصفات ؛ لكنه منقوض بالشم ، والذوق ، واللمس ، وغير ذلك من كمالات الموجودات في الشاهد.

فإن ما ذكرتموه جار فيها مع أنها غير ثابتة لله تعالى.

سلمنا عدم الانتقاض ؛ ولكنه معارض بما يدل على أن هذه الصفات غير موجودة للرب تعالى ؛ وذلك لأن ما تثبتونه للرب من هذه الصفات : إما أن يكون من جنس ما في الشاهد ، أو لا من جنسه.

فإن كان الأول : فهو محال. وإلا لزم أن تكون صفاته مشاركة لصفات موجودات الشاهد في العرضية ، والإمكان ، وأن يكون البارى تعالى محلا للأعراض ؛ وهو ممتنع.

وإن كان الثانى : فهو غير معقول. وما ليس بمعقول لا يحكم عليه بكونه صفة فضلا [عن] (٣) كونه كمالا لغيره ، أو ليس كمالا له ، ولا أن يحكم على ما هو معقول بما حكم عليه ، ولا بالعكس.

__________________

(١) فى ب (وانقص ولا يكون).

(٢) فى ب (منه من المخلوق).

(٣) فى أ (من).


قلنا : أما (١) الإشكال (١) الأول ؛ فمندفع. فإن كل واحد من الصفات مع قطع النظر عما يتصف به / لا يخرج عن كونه كمالا ، أو لا. ضرورة أنه لا واسطة بين النفى ، والإثبات.

والقول بأن كل واحد من آحاد الصفات مع قطع النظر عما يتصف به لا يكون كمالا. ولا لا (٢) كمال (٢) ، إثبات واسطة بين النفى والإثبات ، وهو ممتنع.

وأما النقض بما ذكروه من الكمالات : فالوجه في دفعه أن كل ما ثبت كونه كمالا في الشاهد ؛ فإن لزم من إثباته نقص في حق الغائب ؛ فلا سبيل إلى إثباته ، وإلا فلا مانع من إثباته للغائب على أصول أصحابنا. وإن تعذر إطلاقه لفظا لعدم ورود الشرع به. وعند ذلك فمن ادعى أن إثبات ما ذكرناه من الصفات في حق الغائب مما يلزم منها نقص في حقه ؛ فعليه البيان.

قولهم : إما أن يكون من جنس ما في الشاهد ، أو لا؟

قلنا : من جنس ما في الشاهد.

قولهم : يلزم منه أن تكون صفاته مشاركة لما في الشاهد في الإمكان ، والعرضية.

قلنا : إن عنوا بكونها ممكنة ؛ أنها غير واجبة بذاتها ، وبكونها عرضا ؛ افتقارها إلى المحل ؛ فذلك غير ممتنع عندنا.

وإن عنوا به معنى آخر ؛ فهو غير مسلم ؛ فلا بد من تصويره.

وقد يتجه على هذه الطريقة إشكالات أخر خاصة بكل صفة ، صفة يأتى تفصيلها ، والجواب عنها في كل مسألة من مسائل الصفات على التفصيل إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) فى ب (إن).

(٢) فى ب (ولا كمال).


المسألة الثانية

في إثبات صفة القدرة لله تعالى

وقبل الخوض في ذلك بالنفى ، والإثبات ، لا بدّ من تحقيق معنى القدرة فنقول :

القدرة : عبارة عن صفة وجودية ، من شأنها تأتى (١) الإيجاد ، والإحداث بها على وجه يتصور ممن قامت به الفعل ، بدلا عن الترك ، والترك بدلا عن الفعل.

وهى منقسمة : إلى قديم ، وحادث.

أما القدرة الحادثة : فسيأتى الكلام فيها وفيما يتعلق بها فيما بعد (٢).

وأما القدرة القديمة : فقد احتج الأصحاب (٣) على ثبوتها لله تعالى بالنص ، والمعقول.

أما النص : فقوله ـ تعالى ـ (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً) (٤) وقوله ـ تعالى ـ واصفا لنفسه (ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) (٥) وقوله ـ تعالى ـ : (الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) (٦)

فإن قيل : الاستدلال بالنصوص على وصفه بالقدرة ؛ فرع إثبات صفة الكلام ، وهو غير ثابت بعد ؛ فلا يصح الاحتجاج / بها. وإن صحّ الاحتجاج بها ؛ إلّا أنّها متروكة الظّاهر ؛ فإنّ القوّة في الحقيقة : عبارة عن الصلابة المناقضة للخور ، والله ـ تعالى ـ يتقدس عن الاتصاف بذلك.

__________________

(١) فى ب (الإحداث والإيجاد).

(٢) انظر ل ٢٢٩ / أ.

(٣) لمعرفة آراء الأشاعرة في هذه المسألة بالتفصيل : انظر اللمع للأشعرى ص ٢٥ والتمهيد للباقلانى ص ٤٧ ، ٤٨ ، ١٥٢ ، ١٥٣ والإنصاف ص ٣٥ له أيضا وأصول الدين للبغدادى ص ٩٣ ، ٩٤ والشامل لإمام الحرمين ص ٦٢١ ، ٦٢٥ ولمع الأدلة ص ٨٢ له أيضا. والاقتصاد في الاعتقاد للغزالى ص ٣٨ ـ ٤٧ ، والمحصل للرازى ص ١١٦ ـ ١١٨ ومعالم أصول الدين ص ٤٢ ـ ٤٤ له أيضا ومن كتب الآمدي غاية المرام ص ٨٥ ـ ٨٧ ، ومن كتب المتأخرين المتأثرين بالآمدي انظر : شرح الطوالع للأصفهانى ص ١٦٦ ـ ١٧٢ والمواقف للإيجي ص ٢٨١ ـ ٢٨٥ وشرح المقاصد ٢ / ٥٩ ـ ٦٤ للتفتازانى.

(٤) سورة فصلت ٤١ / ١٥.

(٥) سورة الذاريات ٥١ / ٥٨.

(٦) سورة هود ١١ / ٦٦.


وإذا آل الأمر إلى التجوز ؛ فليس حمل القوة على القدرة ، بأولى من حملها على كونه بحال يصدر عنه جميع الموجودات.

والجواب :

أما السؤال الأول : فمندفع ؛ وذلك أنه لا يخلو : إما أن تكون صفة الكلام ثابتة ، أو غير ثابتة.

فإن كان الأول : فقد صح الاستدلال.

وإن كان الثانى : فليس من شرط الدليل أن يكون مسلما ؛ بل شرطه أن يكون بحال يمكن تسليمه بالدلالة عليه وتقريره ، وإثبات صفة الكلام بهذه الحالة ؛ فإنا سنبين كونها ثابتة فيما بعد (١).

وما ذكروه من مخالفة الظاهر ؛ ممنوع ؛ فإن القوة وإن كانت في أصل الموضوع عبارة عن الصلابة كما ذكروه ؛ إلا أن استعمالها بإزاء (القدرة) (٢) مجاز مشهور.

ولهذا إذا قيل فلان قوى على كذا. تبادر إلى الفهم منه عند الإطلاق ؛ أن له عليه قدرة ، ولا كذلك ما ذكروه من التأويل والّذي يدل على امتناع الحمل على ما ذكروه من المجاز قوله ـ تعالى ـ (هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً) فقد أثبت لهم أصل القوة ، وهى غير مفسرة في حقهم بالإيجاد ، فإنا سنبين أنه لا موجد (٣) غير الله ـ تعالى ـ فتعين تفسير القوة بما ذكرناه.

وبالجملة فطريق الاستدلال في هذا الباب بالنصوص المذكورة لا يخرج عن الظن ، والتخمين ؛ وهو غير مكتفى به في اليقينيات.

وأما من جهة المعقول : فهو أنهم قالوا : إذا ثبت حدوث العالم وهو كل موجود سوى الله ـ تعالى ـ فإما أن يكون وجوده بنفسه ، أو بخارج عنه.

__________________

(١) انظر ل ٨٢ / ب وما بعدها.

(٢) فى أ (القوة).

(٣) فى ب (لا موجود).


لا جائز أن يكون وجوده بنفسه : لما سبق في إثبات واجب (١) الوجود (١). وإن كان بغيره : فذلك الغير إن كان غير الله ـ تعالى ـ فهو من العالم ؛ فيكون حادثا ، ولا بدّ له من محدث ، والكلام فيه ، كالكلام في الأول ؛ فلا بد من الاستناد إلى الله ـ تعالى ـ قطعا للتسلسل ، والدور الممتنع.

وعند ذلك. فإما أن يكون البارى ـ تعالى ـ موجدا له بذاته ، أو بصفة زائدة على (٢) ذاته.

فإن كان موجدا له بذاته : فإما أن يتوقف إيجاده له على أمر ، أو لا يتوقف.

فإن توقف على أمر. فإما قديم ، أو حادث.

فإن كان قديما : لزم من قدم / الذات ، وقدم الشرط ؛ قدم الحادث عنه ؛ وهو محال.

وإن كان الشرط حادثا : فالكلام فيه ؛ كالكلام في الأول ؛ وهو تسلسل ممتنع.

وإن لم يتوقف على شرط : لزم من قدمه ، قدم ما صدر عنه ، أو من حدوث ما صدر عنه حدوثه ؛ وكل واحد من الأمرين محال.

وإن كان البارى تعالى موجدا له بصفة زائدة على ذاته : فإما أن تكون قديمة ، أو حادثة.

لا جائز أن تكون حادثة : إذ الكلام في حدوثها ؛ كالكلام فيما حدث بها ؛ وهو تسلسل ممتنع. كيف ويلزم منه أن يكون الرب ـ تعالى ـ محلا للحوادث ؛ وهو ممتنع ؛ كما سيأتى (٣).

وإن كانت الصفة قديمة : فلا تخلو : إما أن تكون صفة وجودية ، أو عدمية ، أو لا وجودية ، ولا عدمية.

__________________

(١) فى ب (الواجب). انظر ل ٤١ / ب وما بعدها.

(٢) فى ب (له على).

(٣) انظر ما سيأتى في النوع الرابع ـ المسألة الرابعة : في بيان امتناع حلول الحوادث بذات الرب ـ تعالى ـ ل ١٤٦ / أوما بعدها.


لا جائز أن يقال بكونها عدمية ، ولا بكونها غير موجودة ، ولا معدومة كما سبق في إثبات واجب الوجود (١). فلم يبق إلا أن [تكون (٢) وجودية (٢)] وهى إما أن تكون بحيث يلازمها الإيجاد ، ولا يتصور معها الترك بدلا عن الفعل ، أو لا.

فإن كان الأول : فيلزم من قدمها ، قدم معلولها ، أو من حدوث معلولها ؛ حدوثها ؛ وهو محال.

وإن كانت بحيث يتصور معها الترك بدلا عن الفعل ؛ فهو المعنى بالقدرة.

فإن قيل : لا نسلم حدوث كل موجود سوى الله ـ تعالى ـ وإن (٣) سلمنا حدوث كل موجود سوى الله ـ تعالى (٣) ـ ؛ فما المانع من أن يكون البارى ـ تعالى ـ موجدا له بذاته؟

قولكم : لو كان موجدا له (٤) بذاته : إما أن يتوقف إيجاده له على تجدد أمر ، أو لا يتوقف.

قلنا : ما المانع من أن تكون الأزلية مانعة من وجوده ، وزوالها شرطا في عدمه ، ويكون البارى ـ تعالى ـ متوقفا في إيجاده له بذاته على زوال المانع ، وتحقق الشرط؟

سلمنا أن الأزلية ليست مانعة ، ولا زوالها شرطا ؛ ولكنا أجمعنا على أن شرط إيجاد العلة لمعلولها ـ وسواء كانت موجبة له بالطبع ، أو الاختيار ـ أن يكون المعلول ممكنا في نفسه ؛ فإن ما ليس ممكنا [فى (٥) نفسه (٥)] ؛ فلا يكون معلولا لغيره.

وعند هذا. فلا يخلو : إما أن يكون وجود العالم في الأزل ممكنا ، أو غير ممكن. فإن كان ممكنا : فقد تعذر عليكم القول بامتناع قدمه ، فإن الممكن لا يكون ممتنعا ؛ وهو خلاف مذهبكم ، ثم إنه لا يمتنع / أن يكون وجوده واجبا في الأزل بالواجب (٦) بذاته ، ويكونا (٦) معا بالوجود ، وإن تفاوتا في التقدم ، والتأخر بالذات ؛ كتقدم حركة اليد على حركة الخاتم. وإن كانا معا بالوجود.

__________________

(١) انظر ل ٤١ / أ.

(٢) فى أ (يكون وجوده).

(٣) من أول (وإن سلمنا حدوث ...) ساقط من ب.

(٤) ساقط من ب.

(٥) ساقط من أ.

(٦) فى ب (بالواجب ويكون) :


وعند ذلك : فيمتنع القول بإثبات القدرة لله ـ تعالى ـ إذ هو مبنى على حدوث العالم. وإن لم يكن العالم في الأزل ممكنا : فقد فات شرط إيجاب (١) العلة لمعلولها في الأزل ؛ فلذلك امتنع أن يكون العالم موجودا مع البارى في الأزل ، بخلاف الحكم في حالة الحدوث.

ثم إن الإمكان المتجدد : إما أن يكون وجودا ، أو عدما.

فإن كان وجودا : فقد تجدد أمر لم يكن ، والكلام فيه كالكلام في الأول ؛ ويلزم منه التسلسل الممتنع.

وإن كان عدما : فعدمه في الأزل وجود ؛ لأن عدم العدم وجود ، وليس ممكنا ، وإلا كان الموجود الممكن ثابتا في الأزل ؛ وهو خلاف الفرض ؛ فهو واجب لذاته. فإذا قيل بعدمه ؛ فقد قيل بجواز عدم الواجب (٢) لذاته (٢) ؛ وهو ممتنع.

سلمنا أنه لا يتوقف إيجاده له على شرط ؛ ولكن ما المانع من أن يكون البارى ـ تعالى ـ مقتضيا بذاته لإيجاد العالم حادثا ، لا أزليا؟

وعند ذلك لا يلزم من قدم العلة ؛ قدم المعلول ، ولا من حدوث المعلول ؛ حدوث العلة.

سلمنا دلالة ما ذكرتموه على وجود القدرة القديمة ؛ ولكن معنا ما يدل على أنها غير موجودة.

وبيانه من عشرة أوجه :

الأول : أنه لو كان موجدا بالقدرة القديمة : فإما أن يتوقف الإيجاد بالقدرة على تجدد أمر ، أو لا يتوقف ،

فإن توقف ؛ لزم التسلسل.

وإن لم يتوقف : فيلزم قدم المقدور ؛ لقدم القدرة ، أو حدوث القدرة ؛ لحدوث المقدور ؛ وكل واحد من الأمرين محال.

__________________

(١) فى ب (ايجاد).

(٢) فى ب (الفعل لذاته).


الثانى : هو أن وجود المقدور بالقدرة : إما أن لا يكون متوقفا على تعلق القدرة به ، أو يكون متوقفا على تعلق القدرة به.

فإن كان الأول : فلا يكون (١) وجوده أولى من عدمه ، ولا وجوده أولى من وجود غيره بها ؛ لعدم تعلق القدرة به.

وإن كان الثانى : فلا يخفى أن تعلق القدرة بالمقدور نسبة وإضافة بين القدرة ، والمقدور ، والنسبة بين الشيئين ، متوقفة عليهما ، وأحد المتعلقين هو المقدور ؛ فتعلق القدرة / متوقف عليه ؛ فإذا (٢) كان وجود المقدور متوقفا على تعلق القدرة به ؛ كان دورا ممتنعا.

الثالث : أن وجود المقدور : إما أن يتوقف على تأثير القدرة فيه أو لا. فإن كان الأول : فالتأثير أيضا نسبة وإضافة (٣) بين الأثر ، والمؤثر ؛ وذلك يفضى إلى الدور ؛ كما سبق في تحقيق التعلق.

وإن كان الثانى : فيلزم منه وجود الأثر بدون تأثير المؤثر فيه ؛ وهو ممتنع.

الرابع : هو أن تأثير القدرة في وجود الحادث يتوقف على تميزه في نفسه ؛ وإلا لما كان تأثيرها فيه أولى من غيره ؛ فإذن تميزه في نفسه ، مقدم على تأثير القدرة فيه ، وتميز المقدور في نفسه صفة له ، وصفة الشيء متأخرة عنه ، والمقدور متأخر عن تأثير القدرة فيه (٤) ؛ فالتمييز الّذي هو متأخر عن المقدور ، المتأخر عن تأثير القدرة فيه ؛ يكون متأخرا عن تأثير القدرة ، وقد كان متقدما عليها ؛ وهو محال.

الخامس : أن تأثير القدرة في الوجود ، بدلا عن العدم ، أو العدم بدلا عن الوجود : إما أن يكون متوقفا على مرجح لأحد الطرفين على الآخر ، أو لا.

لا جائز أن يقال بعدم المرجح : وإلا لزم منه ترجيح أحد الجائزين على الآخر من غير مرجح ؛ وهو محال ؛ لما سبق (٥).

__________________

(١) ساقط من ب.

(٢) فى ب (فإن).

(٣) ساقط من ب.

(٤) فى ب (عليه)

(٥) انظر ل ٤١ / ب.


وإن كان متوقفا علي مرجح : فعند وجود المرجحات ، وانتفاء الموانع : إما أن يكون الترك ممكنا ، أو لا.

فإن كان الأول : فلا يلزم من فرض عدمه المحال.

فإذن الفعل والترك [ممكنان (١)] والتقسيم في تحقيق الوجود دون العدم يكون عائدا ؛ ويلزم منه التسلسل الممتنع.

وإن كان الثانى : فقد صار وجوده واجبا ، وحتما لازما ، وخرج عن أن يكون موجودا (٢) بالقدرة ؛ إذ القدرة ما يتأتى بها الإيجاد ، ولا يمتنع معها الترك ، بدلا عن الفعل.

السادس : هو أن وجود الحادث في وقت حدوثه : إما أن يكون معلوما لله تعالى ، أو لا.

فإن لم يكن معلوما لله (٣) : كان جاهلا بعواقب الأمور : وهو على الله ـ تعالى ـ محال.

وإن كان معلوما : فلا بد من وقوعه ؛ حتى لا يكون علمه جهلا.

وعند ذلك ؛ فلا حاجة إلى القدرة.

وإن كان لا بدّ من القدرة : فالإيجاد (٤) بها مما (٤) لا يتهيأ معه الترك حتى لا يكون العلم جهلا ؛ فلا يكون قدرة.

السابع : هو / أن وجود الحادث في وقت حدوثه : إما أن يكون مرادا لله ـ تعالى ـ أولا يكون مرادا له

فإن كان مرادا له ؛ فيمتنع أن لا يقع.

وعند ذلك : فلا حاجة إلى القدرة ، أو أن تكون القدرة مما لا يتهيأ معها الترك ؛ وهو ممتنع ؛ على ما سبق (٥).

__________________

(١) فى أ (ممكن).

(٢) فى ب (ممكنا موجودا).

(٣) فى ب (له).

(٤) فى ب (فلا لايجادها ما).

(٥) انظر ل ٥٨ / ب وما بعدها.


وإن لم يكن مرادا له ؛ فهو غير مختار في إيجاده.

الثامن : أنه لو كان موجدا بالقدرة : فإما أن يكون مريدا لما يوجده ، أو لا يكون مريدا لما يوجده.

فإن كان مريدا لما يوجده : فهو ممتنع ؛ لوجهين :

الأول : هو أن إرادته له : إما أن تكون سابقة على الحادث ، أو معه.

فإن كانت سابقة : فهى عزيمة ، والعزم إنما يتصور في حق من أجمع على شيء بعد تردده فيه ، وذلك في حق الله ـ تعالى ـ محال.

وإن كان وجودها مع وجود الحادث بها : فهى حادثة ؛ وهو محال.

الوجه الثانى : هو أنه لو كان مريدا لمقدوره : فإما أن تكون إرادته له (١) أولى (١) من [لا إرادة (٢)] أو لا تكون أولى له.

فإن لم تكن إرادته له أولى له : فليس إرادة الفعل أولى من الترك.

وإن كانت إرادته أولى به : فهو لا محالة يستفيد بإرادته له كمالا ، وبعدم الإرادة يفوت عليه ذلك الكمال ، ويلزم من ذلك أن يكون كمال الرب ـ تعالى مستفادا له من مخلوقه ؛ وهو محال.

وإن لم يكن مريدا لما يوجده ؛ فهو غير موجد بالاختيار.

التاسع : هو أن الإيجاد بالقدرة ، إما أن يكون العدم معه مقدورا ، أو لا.

لا جائز أن يقال بالأول : إذ القدرة صفة مؤثرة فتستدعى أثرا ، والعدم نفى محض ؛ فلا يكون أثرا للقدرة.

وإن قيل بالثانى : فهو غير موجود بالاختيار ؛ فإن الموجد بالاختيار : من صح منه الفعل بدلا عن الترك ، والترك بدلا عن الفعل.

__________________

(١) فى ب (الأولى).

(٢) فى أ (الإرادة).


العاشر : لو كان موجدا بالقدرة ، والقدرة قديمة ؛ لوجب تعلقها بجميع المتعلقات ؛ فإنه ليس تخصيص القديم ببعض الجائزات دون البعض بأولى من العكس ، ولو كانت متعلقة بجميع الجائزات ؛ فهو ممتنع لوجهين :

الأول : هو أن العالم مشتمل على خيرات ، وشرور ، فلو كان موجدا للجميع ؛ لوجب (١) أن يكون خيرا ، شريرا على ما تقرر في العقول من خيرية موجد الخير ، وشرية موجد الشر ؛ وذلك على الله ـ تعالى ـ محال.

الثانى : هو أن من جملة الجائزات : أفعال العباد ؛ فإنها مقدورة / لهم ؛ كما سيأتى (٢) تعريفه. فلو تعلقت بها قدرة الرب تعالى ؛ للزم منه وجود مقدور بين قادرين ؛ وهو ممتنع كما سيأتى بيانه (٣).

وأيضا : فإن كثيرا من الموجودات الجائزة متولد (٤) بعضها من بعض كالذى نشاهده من تولد حركة الخاتم من (٥) حركة اليد ، وكذا (٥) فى حركة كل متحرك بحركة ما هو قائم به ، وملازم له ، ولا يمكن أن يقال بأن حركة الخاتم مخلوقة لله تعالي ؛ فإنها غير متولدة من حركة اليد ، وإلا لجاز أن يخلق إحدى الحركتين دون الأخرى ؛ وهو ممتنع.

سلمنا أنه موجد بالقدرة ؛ ولكن هل القدرة القديمة واحدة ، أو متعددة؟

فإن كانت واحدة : فهل هى متناهية في ذاتها وبالنظر إلى متعلقاتها ، أم لا؟

وإن كانت غير متناهية : فما علمه الله ـ تعالى ـ أنه لا يكون هل يكون مقدورا للرب ، أم لا؟

__________________

(١) فى ب (للزم).

(٢) انظر ل ٢٥٧ / ب وما بعدها.

(٣) انظر ل ٢٤١ / أوما بعدها.

(٤) فى ب (متألف).

(٥) فى ب (عن حركة الاصبع فكذا).


والجواب :

قولهم (١) : لا نسلم حدوث كل موجود سوى الله ـ تعالى ـ قلنا (٢) : سنبين ذلك فيما بعد (٣).

قولهم : ما المانع من أن تكون الأزلية مانعة من الوجود ، وعدمها شرطا؟

قلنا : ما من وقت يفرض وجود العالم فيه حادثا ، إلا ويمكن فرض وجوده قبل ذلك ، مع انتفاء الأزلية المانعة ، فلو كان البارى تعالى موجدا بذاته ؛ لوجب أن يكون موجدا له في كل وقت يفرض فيه انتفاء الأزلية ، ويلزم من ذلك أن لا يكون العالم موجودا وقت وجوده ؛ بل قبله ؛ وهو محال ؛ فدل على أنه موجب بالقدرة ، والاختيار.

قولهم : العالم في الأزل : إما أن يكون ممكنا ، أو غير ممكن.

قلنا : عنه جوابان :

الأول : أنه ممكن غير ممتنع لذاته ، وإنما هو ممتنع باعتبار أمر خارج ؛ فلا منافاة بين كونه ممكنا باعتبار ذاته ؛ ممتنعا باعتبار غيره.

الثانى : أنه وإن لم يكن ممكنا في الأزل : فما من وقت يفرض حدوثه فيه ، إلا وهو ممكن قبل ذلك الوقت. فلو كان البارى ـ تعالى ـ موجبا له بذاته ؛ لكان موجبا له في كل حالة يفرض كونه ممكنا فيها ، ويلزم من ذلك أن يكون العالم حادثا ، قبل وقت حدوثه ؛ وهو ممتنع.

قولهم : الإمكان المتجدد : إما وجود ، أو عدم؟

قلنا : بل عدم ؛ كما سيأتى تعريفه.

قولهم : فسلب الإمكان في الأزل يكون وجودا : يلزم عليه الامتناع ؛ فإنه عدم ؛ إذ هو صفة للمنع ، والممتنع نفى محض ؛ فلو كان الامتناع صفة وجودية ؛ لكان الوجود صفة للنفى المحض ؛ وهو محال. وسلب الامتناع مع كونه عدما ، ليس أمرا وجوديا ؛ فإن

__________________

(١) فى ب (قولكم).

(٢) ساقط من ب.

(٣) انظر ل ٨٢ / ب من الجزء الثانى وما بعدها.


سلب الامتناع صفة للعدم الممكن ، والعدم نفى محض ؛ فما يكون صفة له ؛ لا يكون وجودا (١).

قولهم : ما المانع من أن يكون البارى تعالي مقتضيا بذاته لوجود العالم حادثا ؛ لا أزليا.

قلنا : فكان يجب أن يكون مقتضيا لوجوده في كل وقت يمكن أن يفرض العالم فيه حادثا ، ويلزم من ذلك وجوب حدوثه قبل وقت حدوثه ؛ وهو محال.

قولهم : لو كان موجدا / للعالم بالقدرة : فإما أن يتوقف الإيجاد بالقدرة على تجدد أمر ، أو لا.

قلنا : لا يتوقف على تجدد أمر ، ولا يلزم من ذلك قدم المقدور ؛ إذ ليس معنى القدرة ما يلازمه (٢) المقدور ؛ بل ما من شأنه تحقق المقدور به ، وتخصيص الإيجاد بوقت الوجود دون ما تقدم ، أو تأخر ، فمستند إلى الإرادة كما سيأتى (٣).

قولهم (٤) : لو كان موجدا بالقدرة القديمة ؛ فإيجاد المقدور : إما أن يتوقف على تعلق القدرة به ، أو لا. عنه جوابان :

الأول : أنه لا معني لتعلق (٥) القدرة به غير حصوله عنها ، وهو نفس المعلول. وعند ذلك ؛ فلا دور.

الثانى : أن هذا لازم على من زعم أن الرب تعالى موجب بذاته.

والجواب إذ ذاك يكون متحدا ، وبهذين الجوابين يكون اندفاع الشبهة الثالثة ، وبالثانى منهما ، اندفاع الشبهة الرابعة.

__________________

(١) من أول (الثانى : أنه وإن لم يكن ... لا يكون وجودا) ليس في (ب) والموجود بدله ما يأتى :

(قولهم : إذا كان ممكنا أن لا يمنع وجوب وجوبه بالواجب لذاته إنما يلزم أن لو كان الإيجاد بالذات ممكنا وهو غير مسلم. ولا نسلم أن تولد وجود حركة الخاتم من حركة اليد ، بل هما معلولان لأمر خارج وإن كان أحدهما لازما للآخر كما سنبينه).

(٢) فى ب (ما يلازمها).

(٣) انظر ل ٦٥ / أوما بعدها

(٤) فى ب (قولكم).

(٥) فى ب (لتحقق).


قولهم : تأثير القدرة في الوجود بدلا عن العدم ، وبالعكس ، إما أن يتوقف على مرجح ، أم لا.

قلنا : هو متوقف على مرجح : هو القدرة ، ومخصص : هو الإرادة. لا على أمر خارج عنهما ، وليس في ذلك ما يوجب وجود الممكن من غير مرجح.

قولهم : إما أن يجوز مع ذلك الترك ، أو لا.

قلنا : أما بعد التعلق فلا ، ولكن لو قدرنا عدم التعلق بالإيجاد بدلا عن التعلق بالإيجاد ، لما (١) كان (١) ممتنعا. وبهذا تميز الموجب بالقدرة عن الموجب بالذات ؛ فإن الموجب بالذات لا يتصور أن لا يكون موجبا.

قولهم : وجود الحادث في وقت حدوثه : إما أن يكون معلوما لله ـ تعالى ـ ، أو لا.

قلنا : حدوثه معلوم له مقدورا ، لا غير. مقدور.

وعند ذلك فلو فرضنا حدوثه لا بجهة القدرة ؛ كان علمه جهلا

قولهم : وجود الحادث في وقت حدوثه : إما مرادا لله ـ تعالى ـ ، أو غير مراد.

قلنا : مراد الجهة بجهة القدرة ، لا مطلقا ؛ وذلك لا ينافى القدرة.

قولهم : الإرادة إن كانت سابقة ، فهى عزيمة.

لا نسلم ذلك ؛ فإن العزيمة إنما تتصور في حق من إرادته السابقة مسبوقة بالتردد والفكر ؛ وهو غير مسلم في حق الرب تعالى بخلاف الشاهد.

قولهم : إما أن تكون إرادة العالم أولى ، أو لا.

قلنا : الأولى إنما يطلب في فعل من يطلب في فعله رعاية الصلاح ، أو الأصلح ؛ وليس البارى ـ تعالى ـ كذلك على ما يأتى (٢).

وعلى / هذا فلا يصح القول بأنه لا أولوية لتخصيص أحد الأمرين دون الآخر ؛ فإن هذا هو شأن الإرادة ، وهو تخصيص أحد الجائزين دون الأخر.

__________________

(١) فى ب (لكان).

(٢) انظر ل ١٨٦ / أوما بعدها.


فإذا قيل : لم كان كذلك؟ كان هذا السؤال يتضمن إبطال حقيقة الإرادة ، وكأنه قيل : لم كانت الإرادة ؛ إرادة؟ وهو غير مسموع.

ثم وإن قدرنا الأولى في فعله ؛ فإنما يلزم بسببه الكمال والنقصان ، في حق واجب الوجود أن لو كانت حكمة الأولوية عائدة إليه ، وليس كذلك ؛ بل هى عائدة إلى المراد دون المريد ، ثم هذا الإشكال مما لا يصح إيراده ممن يعترف بكون الله تعالى مريدا. من المعتزلة. ولا من الفلاسفة الإلهيين حيث قضوا : بأن النفوس الفلكية ، مخصصة للحركات الدورية ، بإرادة نفسية على ما سيأتى تحقيقه (١). وإن كانت النفوس الفلكية أشرف من الحركات المخصصة بها.

ثم هو لازم على القائل بالإيجاب بالذات ، إذ يمكن أن يقال : الإيجاب بالذات : إما أن يكون أولى من عدم الإيجاب بالذات ، أو لا يكون أولى ، وهلم جرا ، إلى آخر الإشكال.

وعند ذلك : فما هو جواب له في الإيجاب بالذات ؛ فهو جواب له في الإيجاب بالقدرة ، والاختيار.

قولهم : الإيجاد بالقدرة : إما أن يكون العدم معه مقدورا ، أو لا.

قلنا : بل مقدور. وما (٢) أوردوه (٢) من الإشكال ؛ فقد سبق جوابه.

قولهم : العالم مشتمل على خيرات وشرور.

فقد أجاب عنه بعض الأصحاب بأن قال : أفعال المكلفين وإن انقسمت إلى خيرات ، وشرور ، لكن القدرة (٣) إنما تتعلق (٣) بها من جهة وجودها ، وهى من هذا الوجه ليست شرورا ، وإنما يلحقها الشر بالنسبة إلي صفات هى منتسبة (٤) إلى فعل العبد ، وقدرته ، كما يأتى تحقيقه في مسألة خلق الأعمال ، وهى من تلك الجهة غير مقدورة لله ـ تعالى ـ ولا مرادة له. فإذن ما هو الخير مستند إلى فعل الله ـ تعالى ـ وما هو الشر

__________________

(١) انظر الجزء الثانى ـ النوع الثالث : في الجسم وأحكامه ـ

الفصل السابع : في إبطال قول الفلاسفة إن الأفلاك ذوات أنفس وأنها متحركة بالإرادة النفسية ل ٣٢ / أوما بعدها.

(٢) فى ب (ما ذكروه).

(٣) فى ب (الحادثة تتعلق).

(٤) فى ب (منشئه).


مستند إلى فعل العبد. وسنبين إبطاله في مسألة خلق الأعمال (١) ، ونبين أنه ما من حادث ، إلا وهو حادث بإحداث الله ـ تعالى ـ

بل الحق في ذلك أن يقال :

القدرة إنما تتعلق به من جهة حدوثه ، ووجوده ، وليس من هذه الجهة شر ؛ إذ الشر ليس وصفا ذاتيا ، ولا أمرا حقيقيا ؛ بل حاصله / يرجع إلى مخالفة الفرض ؛ وهو غير خارج عن الأمور النسبية ، والأحوال الإضافية ؛ كما يأتى تحقيقه في مسألة التحسين ، والتقبيح (٢).

ثم وإن قدر استناد الشر إلى الله ـ تعالى ـ فى الخلق ، والإيجاد ؛ فلا يلزم أن يقال له باعتبار ذلك شريرا إلا بالقياس على الشاهد ؛ وهو غير صحيح كما سبق (٣).

وإن كان المورد له معتزليا ؛ فيلزمه تسمية الرب (٤) ـ تعالى ـ مطيعا ؛ لكونه خالقا للطاعة ؛ كما قيل في الشر ؛ وليس كذلك.

فإن قيل : تسمية الواحد منا مطيعا : إنما كان بالنسبة إلى ما أوجده فيما هو مأمور به ، وملجأ إليه ، والبارى ـ تعالى ـ منزه عن ذلك.

قلنا : فما المانع من أن تكون تسمية الواحد منا شريرا بالنسبة إلى ما أوجده عما نهى عنه؟ والرب يتعالى ، عن ذلك.

قولهم : من جملة الجائزات أفعال العباد ، والمتولدات.

قلنا : أما أفعال العباد : فسنبين أنها مخلوقة لله ـ تعالى ـ دون العبيد ، فيما (٥) بعد (٥).

وأما المتولدات : فسيأتى (٦) أيضا إبطالها ، وبيان أنه ما من حادث إلا وهو حادث بإحداث الله ـ تعالى ـ وملازمة حركة الخاتم لحركة اليد : غير مانع من حدوثهما

__________________

(١) انظر ل ٢٥٧ / ب وما بعدها.

(٢) انظر ل ١٧٤ / ب وما بعدها.

(٣) انظر ل ٤٠ / أ.

(٤) فى ب (الله).

(٥) ساقط من ب. انظر ل ٢٥٧ / ب وما بعدها.

(٦) انظر ل ٢٧٣ / أوما بعدها.


بإحداث الله ـ تعالى ـ لهما ؛ فإنه لا مانع من وجود أمرين. أحدهما يلزم الآخر : إما عادة : كملازمة التسخين للنار. وإما اشتراطا : كملازمة العلم للإرادة ، والحياة للعلم ، وليس أحدهما مستفادا من الآخر ؛ بل كلاهما مخلوقان لله ـ تعالى ـ.

قولهم : القدرة القديمة واحدة ، أو متعددة.

قلنا : بل واحدة ، لا تعدد فيهما ، ودليله مسلكان :

المسلك الأول : أنها لو كانت قابله للتعدد : فإما أن تكون أعدادها ، متناهية ، أو غير متناهية.

فإن كانت متناهية : فما من عدد يفرض إلا وفرض الزيادة عليه لا يلزم منه الحال.

فكل عدد معرض قائله له ؛ فهو جائز عليها.

وعند ذلك فتخصيصها ببعض الأعداد دون البعض : إما لمخصص ، أو لا لمخصص.

فإن كان الأول : فالمخصص لها بذلك العدد : إما موجب بالذات ، أو بالاختيار.

فإن كان الأول : فهو محال ، فإن نسبة الموجب بالذات إلى كل ما يفرض من الأعداد نسبته واحدة ، فليس تخصيصه للبعض دون البعض ؛ أولى من العكس.

وإن كان موجبا بالاختيار ، والقدرة : فإما / أن تكون تلك القدرة قديمة ، أو حادثة.

فإن كانت قديمة : فهى من الجملة المفروضة ، وليس جعل البعض منها مخصصا للباقى ، أولى من العكس.

وإن كانت حادثة : فالحادث لا يكون مخصصا للقديم.

وإن كان ذلك لا لمخصص : ففيه فرض وقوع الجائز لا لمخصص ؛ وهو محال كما سبق (١).

وأما إن كانت أعدادها غير متناهية ؛ فهو ممتنع لما سبق أيضا (٢) ، ويلزم من إبطال كل واحد من القسمين ؛ إبطال التعدد.

__________________

(١) راجع ما سبق ل ٥٩ / أوما بعدها.

(٢) انظر ل ٤١ / ب.


المسلك الثانى : أن يقول : لو كانت متعددة متكثرة ؛ فلا يخلو : إما أن تكون متفقة من كل وجه ، أو مختلفة من كل وجه ، أو متفقة من وجه دون وجه.

فإن كان الأول : فلا تعدد ، ولا كثرة ؛ فإن التكثر في أشخاص الحقيقة الواحدة من غير مميز محال.

وإن كان الثانى : فالقدرة ليست إلا واحدة منها ، والباقى ليس بقدرة.

وإن كان الثالث : فما به تميز كل واحد من أعداد القدر (١) عن الآخر إما أن يكون اختصاصه به لذاته ، أو لمخصص من خارج.

لا جائز أن يقال بالأول : وإلا لما وقع الاختلاف فيه بين أعداد القدر (٢) ؛ لاشتراك الكل في حقيقة القدرة الموجبة لتخصيصه.

ولا جائز أن يقال بالثانى : وإلا فالمخصص لكل واحد منها بما تخصص به إما أن يكون موجبا لذلك بالذات ، أو بالقدرة.

فإن كان بالذات : فهو أيضا محال ؛ لأن نسبة الموجب بالذات إلى الكل نسبة واحدة ؛ ضرورة التماثل ، وليس تخصيصه [بما] (٣) تخصص به البعض دون البعض ؛ أولى من العكس.

وإن كان مخصصا بالقدرة : فالقدرة المخصصة : إما قديمة ، أو حادثة.

لا جائز أن تكون حادثة ؛ فإن الحادث لا يكون مخصصا للقديم.

وإن كانت قديمة : فهى من الجملة ، والكلام فيما تخصصت به : كالكلام في الأول. وذلك يجر إلى التسلسل ، أو الدور ؛ وهو ممتنع.

وإذا بطل كل واحد من الأقسام اللازمة من التعدد ؛ فلا تعدد.

كيف وأن الطريق إلى ثبوت صفة القدرة إنما هو كون الكائنات ؛ وذلك إنما يدل على أنه لا بدّ من قدرة يحصل بها الإيجاد ، ولا مانع من أن تكون القدرة واحدة ،

__________________

(١) فى ب (القدرة).

(٢) فى ب (القدرة).

(٣) فى أ (لما).


والمتعلقات متعددة ؛ وذلك على نحو تعلق الشمس بما قابلها ، واستضاء بها ؛ فإنه وإن كان متعددا غير موجب للتعدد في الشمس المتعلقة به ؛ فالقول بالزيادة / على ذلك قول لا دليل عليه.

وأيضا : فإن القول بالتكثر يوجب التمايز بصفات خارجة عن الصفات النفسانية من غير دليل عقلى ، ولا (١) نقل سمعى ؛ وهو ممتنع.

غير أن هذه استبصارات ؛ والبرهان ما ذكرناه من المسلكين :

فإن قيل : ما ذكرتموه إنما يلزم أن لو كان ما وقع به التمايز بين أعداد القدرة من الصفات الوجودية ، والأمور الحقيقية. وما المانع من أن يكون التمايز باعتبار سلوب ، وإضافات ، ومتعلقات خارجة ليست من الصفات الوجودية؟

وذلك على نحو ما يقوله الفيلسوف : في تعدد الأنفس الإنسانية ، بعد مفارقة الأبدان : بناء على ما حصل لها في حال مقارنة الأبدان من النسب ، والإضافات.

قلنا : أما التعدد بالسلوب المحضة ؛ فبعيد ؛ وذلك لأن ما سلب عن أحد الأعداد ؛ إن وقعت المشاركة فيه : بأن يكون مسلوبا أيضا عن الكل ؛ فلا (٢) تمايز به. وإن لم يكن مسلوبا عن الكل فما سلب عن بعضها ؛ فهو ثابت للبعض الآخر ، ويلزم من ذلك إثبات صفة وجودية زائدة يكون التمييز حاصلا بها ، لا بمحض السلب.

وأما التغاير باعتبار الإضافات ، والتعلقات فلا يخلو : إما أن تكون موجبة لقيام صفات وجودية بالمتعلق ، أو لا.

فإن كان الأول : ففيه إثبات صفة وجودية على ما سلف.

وإن لم يوجب قيام صفة وجودية به (٣) ؛ فهى غير موجبة للتعدد في المتعلق كما ذكرناه من تعلق الشمس بما قابلها واستضاء بها ؛ فإذن صفة القدرة القديمة واحدة لا تعدد فيها.

__________________

(١) فى ب (ولا نقلى).

(٢) فى ب (ولا).

(٣) ساقط من ب.


قولهم : [أهى] (١) غير متناهية في ذاتها ، ومتعلقاتها ، أم لا؟

قلنا : بل هى غير متناهية في ذاتها ، ولا بالنظر إلى متعلقاتها.

أما بالنظر إلى ذاتها : فبمعنى أنها حقيقة واحدة ، لا انقسام فيها" لا (٢) بأجزاء حد (٢) ، ولا بأجزاء كمية ، وهذا هو المعنى من سلب النهاية عن ذات واجب الوجود ، وباقى صفاته.

وأما سلب النهاية عنها باعتبار متعلقاتها : فمعناه أن ما يصح (٣) أن تتعلق به القدرة من الجائزات لا نهاية له بالقوة ، وإن كان متناهيا بالفعل. وهذا هو المعنى بسلب النهاية في متعلقات باقى الصفات.

قولهم : فما علم الله ـ تعالى ـ أنه لا يكون ، هل (٤) يكون مقدورا منه ما هو ممتنع الكون له؟

قلنا : ما علمه الله ـ تعالى ـ أنه لا يكون : منه / ما هو ممتنع الكون في نفسه : كاجتماع الضدين ، وكون الجسم الواحد في آن واحد في مكانين ، ونحوه ، ومنه ما هو جائز في نفسه : مع قطع النظر عن تعلق العلم بأنه لا يكون.

فما كان من القسم الأول : فغير مقدور من غير خلاف. سواء تعلق العلم بأنه لا يكون ، أو لم يتعلق.

وأما القسم الثانى : فقد اختلف فيه ، فذهب أئمتنا ، وأكثر المعتزلة : إلى أنه مقدور خلافا لعبّاد (٥) ؛ فإنه قال : هو غير مقدور لله ـ تعالى ـ.

وحاصل النزاع في هذه المسألة آئل إلى العبارة ؛ فإن من قال بكونه مقدورا لا يعنى به غير أنه بالنظر إلى ذاته ممكن ، والممكن ـ من حيث هو ممكن ـ غير مستحيل

__________________

(١) فى أ (انها).

(٢) فى ب (بأجزاء حدود).

(٣) فى ب (ما يصلح).

(٤) فى ب (فهل).

(٥) عبّاد بن سليمان الصّيمرى : أحد رجال الطبقة السابعة من المعتزلة من أصحاب هشام الفوطى ، له مؤلفات كثيرة في الاعتزال ، ودارت بينه وبين ، ابن كلاب مناظرات ، توفى سنة ٢٥٠ ه‍ (انظر طبقات المعتزلة ص ٧٧ ومقالات الإسلاميين ١ / ٢٣٧ و٢٣٩ و٢٥٠ و٢٥٢).


الوجود ، والقدرة ـ من حيث هى قدرة ـ لا يستحيل تعلقها بما هو في ذاته ممكن إذا قطع النظر عن تعلق العلم بأنه لا يكون ، إذ الممكن ـ من حيث هو ممكن ـ لا ينبوا عن تعلق القدرة القديمة به ، والقدرة ـ من حيث هى قدرة ـ لا تتقاصر عن التعلق به لقصور فيها ، ولا ضعف.

ولا معنى لكونه مقدورا إلا هذا. وإن كان مستحيل الوجود بالنظر إلى تعلق العلم بأنه لا يكون حتى لا يفضى إلى وقوع خلاف المعلوم.

ومن قال بكونه غير مقدور ؛ فهو لا ينازع في كونه مقدورا بالتفسير المذكور.

وإنما قال بكونه غير مقدور : بمعنى أنه يلزم المحال من فرض وقوعه ، وتخصيصه بالقدرة من حيث تعلق العلم بأنه لا يكون ؛ وهو غير ممنوع عند القائل بكونه مقدورا بالتفسير المذكور ؛ والله أعلم.


المسألة الثالثة

في إثبات صفة الإرادة.

مذهب أهل الحق (١) : أنّ البارى ـ تعالى ـ مريد بإرادة قائمة بذاته. قديمة ، أزليّة ، وجوديّة ، واحدة ، لا تعدّد فيها ، متعلّقة بجميع الجائزات ، غير متناهية بالنّظر إلى ذاتها ، ولا بالنّظر إلى متعلّقاتها.

وذهب الفلاسفة (٢) ، والشّيعة (٣) ، والمعتزلة (٣) : إلى إنكار ذلك.

وإذا قيل له مريد : فمعناه عند الفلاسفة : راجع إلى سلب الكراهة عنه.

ووافقهم على ذلك النّجّار (٤) من المعتزلة : حيث أنه فسّر كونه مريدا ؛ بسلب الكراهة ، والغلبة عنه.

__________________

(١) لتوضيح مذهب أهل الحق بالإضافة إلى ما ورد هنا :

انظر اللمع للأشعرى ص ٤٧ ـ ٥٩ ، والتمهيد للباقلانى ص ٤٧ ـ ٤٩ ، ١٥٢ والإنصاف ص ٣٦ له أيضا ، وأصول الدين للبغدادى ص ١٠٢ ـ ١٠٥ ، والإرشاد لإمام الحرمين ص ٦٣ ـ ٧١ ، ٢٣٧ ـ ٢٥٤ ولمع الأدلة له أيضا ص ٨٣ ـ ٨٥ والاقتصاد في الاعتقاد للغزالى ص ٤٧ ـ ٥١ ونهاية الأقدام للشهرستانى ص ٢٣٨ ـ ٢٦٨ ، والمحصل للرازى ص ١٢١ ـ ١٢٣ ومعالم أصول الدين ص ٤٤ ـ ٤٥ على هامش المحصل.

ومن كتب الآمدي غاية المرام ص ٥٢ ـ ٧٥.

ومن الكتب التى تأثر أصحابها بالآمدي :

انظر شرح الطوالع ص ١٧٩ ـ ١٨٢ والمواقف للإيجي ص ٢٩٠ ـ ٢٩٢

وشرح المقاصد للتفتازانى ٢ / ٦٩ ـ ٧٢.

(٢) انظر عيون المسائل للفارابى ص ٥ والإشارات لابن سينا ٣ / ٥٦١ طبع دار المعارف.

(٣) فى ب (والمعتزلة ، والشيعة).

(٤) النّجّار : أبو عبد الله الحسين بن محمد بن عبد الله البغدادى ، المعروف بالنّجّار شيخ النّجّاريّة من المعتزلة ، وإليه نسبتها ، كان حائكا ، وهو من متكلمى (المجبرة) وله مع النظّام مناظرات ـ وهو وأتباعه يوافقون أهل السنة في بعض أصولهم : مثل خلق الأفعال ، والمعتزلة في بعض أصولهم أيضا : مثل نفى الرؤية. وقد توفى النجار حوالى سنة ٢٣٠ ه‍.

(الملل والنحل ١ / ٨٨ ، والفرق بين الفرق ص ٢٠٧ ، ومقالات الإسلاميين ١ / ٢١٦). أما عن رأيه في الإرادة فانظر شرح الأصول الخمسة ص ٤٤٠ والملل والنحل ١ / ٨٩ والفرق بين الفرق ص ٢٠٨.


وأما النّظام (١) ، والكعبى (٢) فإنهما قالا : إن وصف بالإرادة شرعا ؛ فليس معناه إن أضيف ذلك إلى أفعاله إلا أنه خالقها.

وإن أضيف إلى أفعال العبد ؛ فالمراد أنه أمر بها.

وزاد الجاحظ (٣) على هؤلاء بإنكار الإرادة شاهدا ، وقال : مهما كان الإنسان / غير غافل ، ولا ساه عما يفعله ؛ بل إن كان عالما به ؛ فهو معنى كونه مريدا.

وذهب البصريون من المعتزلة : إلى أنه مريد بإرادة قائمة لا في محل.

وذهبت الكرامية (٤) : إلى أنّه مريد بإرادة حادثة في ذاته ، تعالى الله عن قول الزائغين.

__________________

(١) النّظّام : ابراهيم بن سيار بن هانئ البصرى ، أبو إسحاق النّظّام ، تلميذ أبو الهذيل العلاف ، وابن اخته. من أئمة المعتزلة ، وهو شيخ النّظّاميّة التى نسبت إليه. من أذكياء المعتزلة ، وذوى النباهة فيهم. من أشهر تلاميذه الجاحظ ـ وتوفى سنة ٢٣١ ه‍ (راجع ما سيأتى في القاعدة السابعة في الجزء الثانى ل ٢٤٤ / ب ،

وطبقات المعتزلة ص ٤٩ والملل والنحل ١ / ٥٣ والفرق بين الفرق ١٣١ ـ ١٥٠ والنظام تأليف أبو ريدة).

أما عن رأيه في الإرادة : فانظر شرح الأصول الخمسة ص ٤٣٤ والملل والنحل ١ / ٥٥.

(٢) الكعبى : أبو القاسم عبد الله بن محمود الكعبى ، من بنى كعب ، البلخى الخراسانى ـ أحد أئمة المعتزلة ، وشيخ الكعبية منهم ـ له آراء ومقالات في الكلام انفرد بها. وقد أقام ببغداد مدة طويلة ، وتوفى ببلخ سنة ٣١٩ ه‍.

(وفيات الأعيان ٢ / ٢٤٨ والعبر ٢ / ١٧٦ والفرق بين الفرق ص ١٨١).

أما عن رأيه في الإرادة : فانظر شرح الأصول الخمسة ص ٤٣٤ والملل ١ / ٧٨. ولمزيد من البحث والدراسة راجع ما سيأتى في الجزء الثانى ـ القاعدة السابعة : ل ٢٤٦ / ب.

(٣) الجاحظ : عمرو بن بحر بن محبوب الكنانى ، البصرى ، المعتزلى (أبو عثمان) عالم ، أديب ، مشارك في أنواع العلوم ، شيخ الجاحظيّة من المعتزلة. ولد بالبصرة سنة ١٦٣ ه‍ وتوفى بها سنة ٢٥٥ ه‍.

(وفيات الأعيان ٣ / ١٤٠ ولسان الميزان ٤ / ٣٥٥ وتاريخ بغداد ٢ / ٢١٢)

أما عن رأيه في الإرادة فانظر : الملل والنحل ١ / ٧٥ والفرق بين الفرق ١٧٦ ، ١٧٧. ولمزيد من البحث والدراسة راجع ما سيأتى في الجزء الثانى ـ القاعدة السابعة ل ٢٤٦ / ب.

(٤) الكرامية : هم أتباع أبو عبد الله محمد بن كرام السجستانى المتوفى سنة ٢٥٥ ه‍ كان من عبّاد المرجئة ، قال بالتجسيم ، وتبعه على بدعته خلق كثيرون.

والكرامية ثلاثة أصناف : حقائقية ، وطرائقية ، وإسحاقية.

(الملل والنحل ١ / ١٠٨ والفرق بين الفرق ٢١٥).

أما عن رأيهم في الإرادة : فانظر الملل والنحل ١ / ١١٠ والفرق بين الفرق ص ٢٢٠.

ولمزيد من البحث والدارسة عن هذه الفرقة راجع ما سيأتى في الجزء الثانى ـ القاعدة السابعة ل ٢٥٦ / ب فقد تحدث الآمدي عن آراء الكرامية بالتفصيل.


وقبل الخوض في الحجاج (١) نفيا ، وإثباتا ؛ لا بدّ من تحقيق معنى الإرادة على مذهب أهل الحق من أئمتنا ؛ ليكون التوارد بالنفى ، والإثبات على معنى واحد.

وقد اختلفت عباراتهم فيها :

فقال بعضهم : هى القصد إلى المراد.

وقال بعضهم : هى إيثار المراد.

وقال بعضهم : هى اختيار الحادثات (٢).

وقال القاضى أبو بكر : هى المشيئة المجردة.

وفي هذه العبارات نظر.

أما العبارة الأولى والثانية : ففيهما تعريف الإرادة بالمراد ، والمراد مشتق من الإرادة ؛ فيكون أخفى في المعرفة من معرفة الإرادة ؛ فلا يصلح للأخذ في التعريف.

والّذي يخص العبارة (٣) الأولى : أن الإرادة أعم من القصد ، وتعريف الأعم بما هو أخص منه ممتنع ؛ ولهذا فإن الإرادة على رأى الأصحاب يجوز تعلقها بفعل الغير ، والقصد إلي فعل الغير ؛ ممتنع.

وقول القائل في العرف : قصدى لفعلك لأجل مصلحتك ؛ فمن أجل مصلحتك ، فمن باب التجوز ، والتوسع ؛ والكلام إنما هو في الحقيقة.

وأما العبارة الثانية : وهى الإيثار. فقد قيل فيها : الإيثار مشعر بسابقة التردد بين أمرين.

أحدهما أثر عن الآخر ، والإرادة أعم من ذلك ؛ فإنّها قد تكون حيث لا تردد : كالمكره على فعل شيء ؛ فإنه لا يخطر له غير الفعل الّذي به نجاته ؛ وهو مريد له.

ويمكن دفعه : بأنه مؤثر لجانب فعله علي عدمه ، ولا خلو له عنه. وما مثل هذا التشكيك فوارد على العبارة الثالثة : وهى الاختيار.

__________________

(١) فى ب (الحجج).

(٢) فى ب (الجاريات).

(٣) فى ب (الإرادة).


وبالجملة : فجملة هذه العبارات ؛ وإن سلم تساويها في المعنى عموما ، وخصوصا ؛ فحاصلها راجع إلى التّعريف بالحدّ اللفظى : وهو تبديل لفظ بلفظ مرادف له.

وهذا (١) إنما يفيد عند الجاهل بدلالة اللّفظ ، العالم بمعناه. وأما بالنسبة إلى الجاهل بنفس المعنى ؛ فلا.

والأقرب في ذلك أن يقال :

الإرادة عبارة عن معنى من شأنه تخصيص أحد (٢) الجائزين ، دون الآخر ؛ لا ما يلازمه التخصيص.

ولا يخفى مفارقتها للعلم ، والقدرة ، والكلام ، والسمع ، والبصر ، والحياة ؛ إذ ليس من / شأن (٣) العلم التخصيص بل الكشف والإحاطة بالشيء على ما هو عليه ، فيكون تابعا للتخصيص ، فلا يكون هو الموجب للتخصيص. ولا من شأن القدرة ذلك ؛ بل (٤) الإيجاد (٤). وأما باقى الصفات فظاهر.

وليست هى الشّهوة ، ولا التّمنى ، ولا العزيمة ، ولا المحبّة ، ولا الرضى.

وقد اختلف في ذلك كله :

أما الشهوة : فهى توقان النّفس إلى إدراك بعض المدركات ، ولا تتعلق بجميع الجائزات الواقعة ، بل ببعضها ، وهى ما فيه لذة ، واستطابة بخلاف الإرادة ، وقد تتعلق الشّهوة بما فيه لذة ، وإن لم يكن مرادا ؛ وذلك عند ما إذا علم الشخص أن هلاكه فيه ، وحيث يطلق لفظ الشّهوة بإزاء الإرادة ؛ فليس إلا بجهة التجوز (٥) ، والتوسع (٥).

وأما التّمنّى : فقد قال بعض أصحابنا : إنه نوع من الإرادة ، حتى قال في حده :

هو إرادة ما علم أنه لا يقع ، أو شكّ في وقوعه.

واتفق المحققون من أصحابنا ، ومن المعتزلة : على أنه ليس بإرادة ؛ لكن اختلف قول أبى هاشم فيه.

__________________

(١) فى ب (وهو).

(٢) فى ب (كل واحد من).

(٣) فى ب (بيان).

(٤) فى ب (بالايجاد).

(٥) فى ب (التوسع والتجوز).


فقال تارة : هو قول القائل : ليت ما لم يكن كان ، وما كان لم يكن.

وتارة : أنه ضرب من الاعتقادات ، والظنون.

وتارة : أنه التلهف ، والتأسف.

والحق أن الإرادة مغايرة للتمنى ، وبيانه من ثلاثة أوجه :

الأول : أن التمنى قد يتعلق بما فات. وهو ما يدل عليه بقول القائل : ليت ما كان لم يكن ، وما لم يكن كان ؛ والإرادة لا تتعلق بما فات.

والثانى : هو أن الإرادة قد تتعلق بما يعلم وقوعه ؛ بخلاف التمنى.

والثالث : هو أن الإرادة قد تتعلق بقتال (١) العدو القاصد للهلاك ؛ بخلاف التمنى ؛ فإنه لا يتعلق بقتاله (٢).

وإذا عرف الفرق بين التمنى ، والإرادة بما ذكرناه ؛ فقد امتنع جعل التمنى نوعا من الإرادة. وإلا لزم من وجود التمنى ؛ وجود الإرادة ؛ ضرورة لزوم وجود الأعم ؛ من وجود الأخص ؛ وهو باطل بما ذكرناه من الفرق الأول ، وامتنع أيضا تفسيره بالقول ؛ فإن التمنى قد يوجد في حق من لا قول له.

وامتنع تفسيره بالتأسف ، والتلهف : إذ هو مخصوص بما فات ، والتمنى قد يتعلق بما هو آت.

وامتنع تفسيره بأنه ضرب من الاعتقادات والظنون : إذ هو غير مميز للتمنى ؛ فإن ما عداه من ضروب الاعتقادات والظنون ، يصدق عليه أنه ضرب من الاعتقادات والظنون ؛ وليس تمنيا.

والمقصود : إنما هو بيان الفرق / بين الإرادة ، والتمنى ، وقد حصل ذلك بما حققناه ؛ فلا حاجة إلى تحديد التمنى ، وشرح معناه.

وأما العزيمة : فعبارة عن توطين النفس على أحد أمرين بعد سابقة التردد فيهما (٣).

إلا أنها (٣) نفس الإرادة المتقدمة على المراد بأزمنة ، كما ذهبت إليه المعتزلة حتى أنهم منعوا بذلك من إثبات الإرادة (٤) القديمة لله ـ تعالى ـ ومن أراد بلفظ العزيمة ذلك ؛

__________________

(١) فى ب (بقتل).

(٢) فى ب (بقتله).

(٣) فى ب (فيها لأنها).

(٤) فى ب (الأدلة).


فلا مانع من إثباته في حق الله ـ تعالى ـ وإن كان إطلاق لفظ العزيمة عليه ممتنعا ؛ لعدم وورود الشرع به.

وأما المحبة والرّضى : فقد اختلف أصحابنا فيه.

فذهب المعظم منهم : إلي أن الإرادة هى نفس المحبة والرضى ، وذهب الباقون : إلى المغايرة بينهما.

أما القائلون بالاتحاد : فقد احتجوا بمسلكين :

الأول : بأن قالوا : لو كانت الإرادة مغايرة للمحبة ، والرضى. فلا يخلو : إما أن تكون المحبة والرضى مخالفين للإرادة ، أو مماثلين لها.

فإن كان الأول : فإما أن يكونا مضادين ، أو غير مضادين لها. فإن كانا متضادين لها ؛ فيلزم منه استحالة الجمع بين إرادة الشيء ومحبته ، والرضى به ؛ وهو ممتنع. وإن لم يكونا مضادين ؛ فكل مختلفين غير متضادين لا يمتنع وجود أحدهما مع ضد الآخر ، ويلزم من ذلك جواز وجود المحبة والرضى ، مع وجود ضد الإرادة ، وهو الكراهة ؛ وهو ممتنع. فلم يبق إلا التماثل ؛ ويلزم الاشتراك في معنى الإرادة.

ولقائل أن يقول : وإن سلمنا أنهما لا يتضادان مع الاختلاف ، فمن الجائز أن يكونا من قبيل المتلازمين اللذين لا انفكاك لأحدهما عن الآخر.

وعند ذلك فلا يلزم جواز وجود أحدهما مع ضد الآخر ، وإن جاز ذلك فيما عداهما من المختلفات الغير متلازمة.

المسلك الثانى : أن مريد الشيء يستحيل أن لا يكون محبا له ، وكذلك بالعكس. ولو تغايرا ؛ لتصور الانفكاك بينهما ؛ وهو ضعيف أيضا ؛ فإن الانفكاك بين المحبة والإرادة ؛ غير ممتنع ؛ ولهذا فإن شرب الدواء المستكره مراد ، وليس بمحبوب.

ولو قال القائل هو (١) مراد لى ، وليس بمحبوب (١) ، لم يكن مستبعدا. وبتقدير عدم الانفكاك ؛ فلا (٢) يدل ذلك على الاتحاد في المعنى ؛ لما سبق في المسلك الّذي قبله (٢).

__________________

(١) فى ب (هو محبوب وليس بمراد).

(٢) فى ب (فلا يدل على الإيجاد في المعنى على ما سبق في المسلك الثانى قبله).


وأما القائلون بالمغايرة : فقد احتجوا بمسلكين / أيضا :

الأول : قوله ـ تعالى ـ (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) (١) وقوله ـ تعالى ـ (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) (٢). أثبت المحبة المتعلقة بالله. فلو كانت المحبة ؛ هى الإرادة ؛ لما تعلقت بالله تعالى ؛ لكونه قديما ، وكون الإرادة لا تتعلق بغير الحادث.

وهو أيضا ضعيف ؛ إذا أمكن أن يكون المراد من قوله ـ تعالى ـ (يُحِبُّونَهُ) ومن قوله : (أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) إرادة طاعته. هكذا ذكره ابن عباس ؛ وعلى هذا فلا منافاة بين الإرادة ، والمحبة.

المسلك الثانى : وهو الأقوى ، وعليه الاعتماد ، أنهم قالوا : سنبين أن الله ـ تعالى ـ مريد لجميع الجائزات ، والكفر والفساد من جملتها ؛ فيكون مريدا له. فلو كانت الإرادة هى المحبة والرضى ؛ لكان البارى ـ تعالى ـ محبا للفساد ، وراضيا بالكفر ؛ وهو محال لقوله ـ تعالى ـ (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) (٣). وقوله ـ تعالى ـ : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) (٤).

فإن قيل : إن الله ـ تعالى ـ يحب الفساد من حيث هو معاقب عليه.

قلنا : فلا منافاة بينه ، وبين كون الفساد في ذاته غير محبوب على ما دل عليه النص.

[وإذ] (٥) أتينا على ما أردنا تحقيقه من معنى الإرادة ؛ فهى تنقسم إلى قديم ، وحادث. والمقصود هاهنا ، إنما هو بيان إثبات الإرادة القديمة لله ـ تعالى ـ.

وأما الإرادة الحادثة : فسيأتى الكلام عليها فيما بعد إن شاء الله ـ تعالى. (٦) والمعتمد في ذلك أن يقال :

__________________

(١) سورة المائدة ٥ / ٥٤.

(٢) سورة البقرة ٢ / ١٦٥.

(٣) سورة البقرة ٢ / ٢٠٥.

(٤) سورة الزمر ٣٩ / ٧.

(٥) فى أ (فإذا).

(٦) انظر ل ٢٨١ / ب وما بعدها.


إذا ثبت [أن] (١) العالم حادث ، وأنه من أفعال واجب الوجود ؛ فلا يخفى أن تقدير وجوده قبل أن وجد ، وبعد أن وجد ، ـ على شكل ومقدار أكبر مما هو عليه (٢) أو أصغر ـ من الجائزات. ووقوع بعض الجائزات ، دون البعض ؛ ليس له لذاته ؛ لما سبق ؛ فلا بد له من مخصص.

والمخصص : إما ذات واجب الوجود ، أو أمر خارج عنها.

لا جائز أن يكون هو ذات واجب الوجود ؛ فإن نسبة ذاته إلى جميع الجائزات نسبة واحدة ؛ فليس تخصيصها للبعض دون البعض ، أولى من العكس.

فلم يبق إلا أن يكون خارجا عنها ، وليس ذلك هو القدرة ، والعلم ، وباقى الصفات المذكورة من قبل ؛ لما سبق ؛ فيكون زائدا عليها ، وذلك هو المعنى بالإرادة (٣).

فإن قيل : لا نسلم صحة اتصاف الرب ـ تعالى ـ بالإرادة.

قولكم : لأن اختصاص العالم بما هو عليه من الصفات دون باقى الصفات الجائزة يستدعى مخصصا. / إنما يصح ، أن لو ثبت لكم أن ما عدا الصفات التى خلق العالم عليها جائزة عليه. ولم قلتم بأن ما وجد عليه من الصفات لم تكن متعينة له ، وأن ما عداها ليس بممتنع عليه ؛ لخصوص ذاته؟

سلمنا أن ذلك جائز على العالم ؛ ولكن ما المانع من أن يكون الرب (٤) ـ تعالى ـ موجبا للعالم بما هو عليه ، باعتبار ذاته ، لا بصفة زائدة؟

قولكم (٥) : لأن نسبة جميع الجائزات إلى ذاته نسبة واحدة ، غير مسلم.

وما المانع من أن يكون باعتبار ذاته لا يقتضي من جملة الصفات الجائزة إلا ما وجد ، وذلك لأن (٦) الصفات الجائزة مختلفة في ذواتها وإن اتحدت في صفة الجواز.

__________________

(١) ساقط من أ.

(٢) ساقط من ب.

(٣) انظر المآخذ للآمدى ل ٣٩ / أوقارن بالإرشاد لإمام الحرمين ص ١٣١ والاقتصاد للغزالى ص ٤٧.

(٤) فى ب (البارى).

(٥) فى ب (قولهم).

(٦) ساقط من ب.


والموجب بذاته لا بدّ وأن يكون بينه وبين ما أوجبه مناسبة طبيعية : باعتبارها يتحقق جعل الموجب علة والموجب معلولا ، وإلا فليس جعل أحدهما علة للآخر ، أولى من العكس ؛ بل وليس جعله علة لما (١) فرض معلولا ؛ أولى من غيره (٢).

وعند ذلك فمن الجائز : أن تكون ذاته مناسبة لبعض الجائزات ، دون البعض.

وعلى هذا التقدير ؛ فلا يستدعى مخصصا [زائدا] (٣).

سلمنا أن الكل جائز بالنسبة إلى ذاته ، وأن تخصيص كل واحد بالنسبة إلى ذاته جائزة ؛ ولكن لا نسلم أنه يلزم من ذلك الافتقار إلى مخصص زائد على الذات.

والّذي يدل على ذلك : أن الأمر الزائد : إما أن يكون قديما ، أو حادثا.

فإن كان قديما : فإما أن يكون مخصصا باعتبار ذاته ، أو بصفة زائدة.

فإن كان الأول : فقد وقعتم فيما فررتم منه.

وإن كان الثانى : فالكلام فيه كالكلام في الأول ؛ وهو تسلسل ممتنع.

وإن (٤) كان حادثا : افتقر إلى مخصص آخر ، والكلام في ذلك المخصص : كالكلام في الأول ؛ وهو تسلسل ممتنع (٤).

سلمنا أنه لا بدّ من مخصص خارج عن ذاته ـ تعالى ـ ولكن ما المانع من كونه عدميا؟

وإن امتنع كونه عدميا : فما المانع من كونه ليس بموجود ، ولا معدوم؟ كما قاله النجار من المعتزلة : إن المخصص كونه مريدا لذاته في الأزل ، للجائزات فيما لا يزال من غير احتياج إلى صفة الإرادة ، وكونه مريدا حالة لا موجودة ، ولا معدومة.

سلمنا أنه لا بدّ وأن يكون وجوديا ؛ ولكن لم قلتم إنه لا بدّ وأن يكون قائما بذات الله ـ تعالى ـ؟

__________________

(١) فى ب (لغير ما).

(٢) فى ب (المعلول).

(٣) ساقط من أ.

(٤) من أول (وإن كان حادثا ...) ساقط من ب.


وما المانع من كونه مخصصا بإرادة لا في ذاته ، كما هو مذهب البصريين / من المعتزلة.

سلمنا أنه لا بدّ وأن يكون المخصص قائما بذاته ؛ ولكن ما المانع من كونه حادثا ، كما هو مذهب الكرامية؟

سلمنا أنه لا بدّ وأن يكون قديما ؛ ولكن لا نسلم أن ذلك المخصص هو الإرادة ؛ بل جاز أن يكون المخصص كونه عالما بما اشتمل عليه الجائز من المصلحة المرجحة له على غيره ، كما يقوله أبو الحسين البصرى ، ومع ذلك ؛ فلا حاجة إلى الإرادة.

سلمنا أن العلم بالمصلحة غير مرجح ؛ ولكن لم قلتم بامتناع كون المرجح قوله : (كُنْ)؟ كما ذهب إليه بعض الكرامية.

ويدل على كونه مرجحا قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (١).

سلمنا دلالة ما ذكرتموه على أنه لا بدّ من إرادة قديمة قائمة بذات واجب الوجود ؛ ولكن معنا ما يدل على امتناع ذلك ؛ وبيانه بحجج أربع.

الأولى : أن حدوث الحادث : إما أن يكون متوقفا على تعلق الإرادة به ، أو لا يكون متوقفا عليها (٢).

فإن كان الأول : فهو ممتنع لثلاثة أوجه :

الأول : أن تعلق الإرادة به لا يخلو : إما أن يكون أولى من عدم التعلق ، وإما عدم التعلق أولى ، أو أن التعلق وعدمه سيان.

فإن كان الأول : فالرب ـ تعالى ـ يستفيد بإرادته له (٣) كمالا ، وبعدم إرادته نقصانا ؛ وهو محال على الرب ـ تعالى ـ

وإن كان الثانى : كان التخصيص [بالوجود] (٤) ممتنعا.

وإن كان الثالث : لم يكن التخصيص أولى من عدمه ؛ لعدم الأولوية.

__________________

(١) سورة النحل ١٦ / ٤٠ وقد صححت الآية حيث كانت (إنما أمرنا ..

(٢) فى ب (عليه).

(٣) ساقط من ب.

(٤) ساقط من أ.


الثانى : أنه يلزم منه الدور من جهة أن التخصيص متوقف على تعلق الإرادة به ، وتعلق الإرادة به وصف إضافى بين الإرادة وتخصيص الحادث ؛ فيكون متوقفا على التخصيص ؛ لأن النسبة متوقفة على المنسوب ، والمنسوب إليه ؛ وذلك يوجب توقف تعلق الإرادة على التخصيص ، وتوقف التخصيص علي تعلق الإرادة ؛ وهو دور.

الثالث : هو أن تعلق الإرادة بالتخصيص : إما أن يكون قديما ، أو حادثا.

فإن كان قديما : لزم من قدمه قدم التخصيص ؛ وهو محال.

وإن كان حادثا : فإما أن يتوقف على مخصص آخر ، أو لا يتوقف.

فإن كان الأول : لزم التسلسل ، أو الدور ؛ وهو ممتنع.

وإن كان الثانى : لزم تخصيص الجائز لا بمخصص ؛ وهو محال ، ولو جاز ذلك ؛ لجاز في كل حادث.

هذا كله إن توقف التخصيص على تعلق الإرادة / به.

وإن لم يكن متوقفا عليها : لم يكن تخصيص بعض الجائزات بالإرادة دون البعض أولى من الآخر ؛ ضرورة التساوى في عدم تعلق الإرادة بكل واحد منها.

الحجة الثانية : أنه لا يخلو : إما أن يكون البارى ـ تعالى ـ عالما بحدوث الحادث في وقت حدوثه على الوجه الّذي حدث عليه ، أو لا يكون عالما به.

لا (١) جائز أن يكون غير عالم به (١) : وإلا لكان جاهلا بعواقب الأمور ؛ وهو على الله ـ تعالى ـ محال.

وإن كان عالما به : فيلزم من ذلك وقوع الحادث على وفق ما تعلق به العلم ؛ وإلا كان علمه جهلا ؛ وهو محال.

وعند ذلك : فلا حاجة إلى الإرادة.

الحجة الثالثة : إن قدرة الرب ـ تعالى ـ إما أن تكون متعلقة بإيجاد (٢) الحادث (٢) ، أو لا تكون متعلقة بإيجاده.

__________________

(١) فى ب (لا جائز أن لا يكون عالما به).

(٢) فى ب (بإيجاده).


فإن كان الأول : فمن ضرورة تعلق القدرة بإيجاده ، وجوده على وفق ما تعلقت به القدرة. وإلا كان البارى ـ تعالى ـ عاجزا عنه ، وإذا لزم وجوده من ضرورة تعلق القدرة به ؛ فلا حاجة إلى الإرادة.

وإن كان الثانى : فهو ممتنع التحقق ، ولا فائدة في الإرادة.

وعند ذلك فالواجب (١) تفسير المخصص بالعلم ، والقدرة ، كما ذهب إليه النّظام ، والكعبى من المعتزلة.

الحجة الرابعة : هو أن الإرادة : إما أن تكون حادثة ، أو قديمة.

فإن كانت حادثة : فهو محال ؛ لما سبق.

وإن كانت قديمة : فهو ممتنع لوجهين :

الأول : أنه إذا كانت الإرادة قديمة ؛ فهى سابقة على الحادث ، والإرادة السابقة على الحادث عزم ، والعزم لا يتصور إلا في حق من أجمع على شيء بعد تردده ، وفكره فيه ؛ وهو محال في حق الله ـ تعالى ـ.

الثانى : أنها لو كانت قديمة نفسانية ؛ لوجب تعلقها بجميع الجائزات من أفعاله ، وأفعال العباد ؛ فإن نسبة القديم إلى سائر الجائزات نسبة واحدة.

/ وعند ذلك : فليس تعلقه بالبعض ، أولى من البعض الآخر ؛ ضرورة التساوى في النسبة ، ويلزم من تعلقه بجميع الجائزات ، محالات ثلاثة :

المحال الأول : أنه يلزم منه تعلقها بوجود كل شيء جائز (٢) ، أو بعدمه ، وبسكون كل جوهر ، وبحركته (٢) ؛ ضرورة جواز الكل ، ويلزم من ذلك اجتماع الوجود ، والعدم ، والحركة ، والسكون في شيء واحد معا ؛ وهو (٣) محال.

المحال الثانى : أن العالم مشتمل على خيرات وشرور فلو تعلقت إرادته بالجميع ؛ لكونه جائزا ؛ فيلزم منه أن يكون خيرا ، شريرا ؛ لما تقرر في العقول : أن مريد الخير ؛

__________________

(١) فى ب (فالجواب).

(٢) فى ب (جائز وبعدمه وسكون كل جوهر وحركته).

(٣) فى ب (وذلك).


خيّر ، ومريد الشّرّ ؛ شرّير ، والاتصاف بكونه شرّيرا ؛ من صفات القبح ؛ فلا يكون البارى ـ تعالى ـ متصفا به.

المحال الثالث : أن الله تعالى أمر بالطاعة ، ونهى عن المعصية ، ولعل ما أمر به لا يقع ، وما نهى عنه واقع. فلو كان مريدا لما وقع من المنهيات ، ولما لم يقع من الطاعات ؛ للزم أن يكون قد نهى عما أراد ، وأمر بما لم (١) يرد (١).

ولا يخفى ما في ذلك من التناقض ، وتكليف المحال ؛ فيجب تنزيه الرب ـ تعالى ـ عنه. كيف وقد ورد الكتاب العزيز بما يدرأ ذلك. وهو قوله ـ تعالى ـ (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) (٢) ، وقوله ـ تعالى ـ (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) (٣) ، وقوله ـ تعالى ـ (وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً) (٤)

وقوله ـ تعالى ـ : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (٥) وقوله ـ تعالى ـ (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ) (٦) وقوله ـ تعالى ـ : (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) (٧) وقوله ـ تعالى ـ : (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) (٨) وقوله ـ تعالى ـ : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (٩) وقوله ـ تعالى ـ : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا) إلى قوله تعالى ـ (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) (١٠) حيث كذبهم في قولهم ، إلى غير ذلك من الظواهر التى يستقصى ذكرها في مسألة خلق الأعمال (١١).

سلمنا أنه مريد بإرادة وجودية قديمة قائمة بذاته ، وأنها متعلقة بجميع المتعلقات الجائزة ، ولكن لا نسلم أنها واحدة.

وإن سلمنا أنها واحدة ؛ فلا نسلم أنها غير متناهية في ذاتها ، ولا بالنظر إلى متعلقاتها.

__________________

(١) فى ب (لا يراد).

(٢) سورة البقرة ٢ / ٢٠٥.

(٣) سورة الزمر ٣٩ / ٧.

(٤) سورة النساء ٤ / ٣٧.

(٥) سورة البقرة ٢ / ١٨٥.

(٦) سورة النساء ٤ / ١٤٨.

(٧) سورة غافر ٤٠ / ٣١.

(٨) سورة الأنفال ٨ / ٦٧.

(٩) سورة الذاريات ٥١ / ٥٦.

(١٠) صححت الآية حيث كان أولها في أ ، ب (وقال الذين أشركوا ... الخ) وهى الآية رقم ١٤٨ من سورة الأنعام.

(١١) انظر ل ٢٥٧ / ب وما بعدها.


والجواب :

أما منع (١) وجود العالم قبل أن وجد ؛ فمندفع ؛ فإنا لو قدرنا وجود / العالم قبل وقت وجوده بألف سنة ، لم يلزم عنه لذاته المحال (٢). ولا معنى لكونه جائز الوجود قبل [وقت] (٣) وجوده إلا هذا.

كيف وأنه لو لم يكن جائز الحدوث قبل وقت حدوثه ؛ لكان إما واجبا لذاته قبل ذلك ، أو ممتنعا. ولو كان واجبا ؛ لما كان معدوما ، ولو كان ممتنعا لذاته لما وجد ؛ فلم يبق إلا أن يكون جائزا. ولا يلزم على هذا جواز وجوده بعد امتناع أزليته ، فإن (٤) ما هو الممتنع (٤) ؛ إنما هو الأزلية ؛ وهو غير زائل ، وما هو الممكن : إنما هو الحدوث ؛ وإمكان الحدوث غير متجدد ؛ وذلك غير ممتنع ؛ بخلاف القول بتجدد إمكان الحدوث بعد أن لم يكن.

قولهم : ما المانع من أن يكون لذاته مقتضيا لبعض الجائزات دون البعض؟

فقد قيل في جوابه : إن المصحح للتخصيص بالمخصص : إنما هو الإمكان. وإذا كان الإمكان عاما لجملة الجائزات ؛ كان تخصيص الكل بالنسبة إلى المخصص بالذات جائزا.

وهو ضعيف ؛ فإنه إن قيل : إن المستقل بصحة التخصيص ؛ هو (٥) الإمكان لا غير ؛ فهو غير مسلم ؛ وذلك مما يعسر مساعدة الدليل عليه.

وإن قيل : إنه لا بدّ منه في التصحيح ؛ فمسلم ؛ ولكن لا يلزم من وجود ما لا بدّ منه فى التخصيص ؛ تحقق التخصيص ؛ لجواز فوات غيره مما لا بدّ منه أيضا.

والحق أن يقال :

المخصص للعالم بوقت حدوثه ، مع جواز حدوثه ، قبل وقت حدوثه ، إذا كان تخصيصه له بذاته : فإما أن يتوقف على شرط لا بدّ منه ، أو لا يتوقف.

__________________

(١) فى ب (منع جواز).

(٢) فى ب (محال).

(٣) ساقط من أ.

(٤) فى ب (فإنما الممتنع).

(٥) فى ب (وصحة التخصيص هو).


فإن توقف : فذلك الشرط إما قديم ، أو حادث.

فإن كان قديما : لزم من قدم العلة والشرط ؛ قدم المشروط.

وإن كان حادثا : فالكلام في تخصيصه ، كالكلام في الأول ؛ وهو تسلسل ممتنع.

وإن لم يتوقف على شرط : وجب (١) من قدم الذات المقتضية للتخصيص ؛ وقوع التخصيص قبل كل وقت يفرض التخصيص فيه ؛ ضرورة قدم المخصص ، وعدم توقفه فى التخصيص على أمر خارج عنه.

قولهم : المخصص إذا كان زائدا : فإما أن يكون قديما ، أو حادثا.

قلنا : بل (٢) قديم (٢) ؛ وهو مخصص بذاته.

قولهم (٣) : فيلزمكم فيه ما فررتم منه (٣) فى الموجب بالذات.

قلنا : متى إذا كان للعالم مخصص هو الإرادة ، أو غيرها؟

الأول ممنوع. والثانى : مسلم ؛ وذلك لأنه لا معنى للإرادة : إلا معنى من شأنه / تخصيص بعض الجائزات دون البعض. ولا يقال : لم كان تخصيصها للبعض ، دون البعض ؛ مع قدمها ، وتساوى نسبتها؟ فإن حاصله يرجع إلى أنه : لم كانت الإرادة ، ، إرادة؟ فإنه لا معنى لها إلا هذا ؛ وهو غير مسموع.

قولهم : ما المانع من كون المخصص عدميا ، أو أن يكون لا موجودا ، ولا معدوما؟ فقد سبق إبطاله في إثبات واجب الوجود (٤).

وقول النجار : إنه مخصص بكونه مريدا ، وكونه مريدا : معناه أنه غير مغلوب ، ولا مستكره ؛ فهو باطل من أربعة أوجه :

الأول : أنه يلزم من ذلك أن يكون مريدا لنفسه ، وللمستحيلات ؛ إذ هو غير مغلوب عليها ، ولا مستكره.

__________________

(١) فى ب (لزم).

(٢) فى ب (بل هو قديم).

(٣) فى ب (قولكم فيلزمكم منه ما الزمتمونا).

(٤) انظر ما سبق ل ٤٩ / ب وما بعدها.


الثانى : يلزم منه أن يكون الجماد ، وجميع الأعراض مريدة ؛ إذ هى غير مستكرهة ، ولا مغلوبة.

الثالث : أنه إذا كان معنى كونه مريدا : سلب الكراهية ، والغلبة عنه ؛ فسلب السلب ؛ إثبات ، ويلزم من ذلك أن يكون الرب تعالى موصوفا بكراهية ما لا يكون مريدا له ؛ وهو محال.

الرابع : أنه وإن كان معنى كونه مريدا : ما ذكر ؛ غير أنه نفى محض ، وعدم صرف ؛ وذلك غير صالح للتخصيص ؛ فلا بد من مخصص وجودى.

قولهم : لم قلتم إنه (١) لا بدّ وأن يكون المخصص قائما بذات الله ـ تعالى ـ؟

قلنا : لأنه لو لم يكن قائما بذاته ؛ لم يخل : إما أن يكون قائما في محل ، أو لا في محل.

فإن كان قائما في محل : فذلك المحل : إما قديم ، أو حادث. فإن كان حادثا : فهو مفتقر في وجوده إلى مخصص. والمخصص له. إما نفس ما قام به ، أو غيره.

لا جائز أن يكون هو نفس ما قام به : وإلا لأفضى (٢) إلى الدور من جهة توقف كل واحد منهما على الآخر ؛ فإن المخصص صفة قائمة بالمحل ؛ فيكون متوقفا على المحل. فإذا كان ذلك المحل متوقفا في تخصصه على ما قام به من المخصص ؛ فهو (٣) دور ممتنع (٣).

وإن كان المخصص لذلك المحل غير ما قام به من المخصص : فالكلام في ذلك المخصص الثانى : كالكلام في الأول ؛ ويلزم منه التسلسل ، أو الدور الممتنع.

ثم ليس القول بكون البارى ـ تعالى ـ مخصصا للعالم بوقت حدوثه بذلك المخصص أولى من كون ما قام به ذلك المخصص ، هو المخصص للعالم ؛ بل وهو الأولى.

__________________

(١) فى ب (بأنه).

(٢) فى ب (أفضى).

(٣) فى ب (كان دورا).


وأما (١) إن (١) كان المحل قديما : فسنبين أنه لا قديم غير الله ـ تعالى ـ وصفاته.

ثم إن إضافة التخصيص إلى المحل القديم الّذي قام به / المخصص وهو غير الله ـ تعالى ـ ؛ أولى من إضافته إلي الله ـ تعالى ـ.

وأما إن كان المخصص قائما لا في محل : فقد قال بعض الأصحاب في إبطاله : [إنه] (٢) يلزم أن يكون كل مخصص في الشاهد هكذا ؛ فإن ما ثبت لبعض أشخاص الحقيقة ، جاز ثبوته للباقى. والمخصص ـ من حيث هو مخصص ـ لا يختلف شاهدا ، ولا غائبا. فإن كان مستغنيا عن المحل غائبا ؛ فيلزم مثله في الشاهد ؛ وهو محال.

قالوا : ولا (٣) يمكن (٣) إنكار المخصص في (٤) الشاهد (٤)؟. فإن كل عاقل يجد من نفسه معنى مخصصا للجائزات المقدورة له : كما يجد من نفسه أن له علما ، وقدرة ، وغير ذلك. ولا يمكن إسناد ذلك إلى العلم بما في الجائز من المصلحة ؛ فإنه قد يجد العاقل من نفسه المعنى المخصص مع علمه بتساوى الجائزين في المصلحة والمفسدة. كما في صورة تخصيص العطشان أخذ أحد القدحين المتساويين في مقصوده ، وكذلك في سلوك أحد الطريقين المتساويين في الإيصال إلى مطلوبه ؛ وهو إنما يفيد ـ مع تسليم وجود المخصص ـ فى الشاهد : أن لو سلم اتحاد حقيقة المعنى المخصص شاهدا ، وغائبا. ولعل الخصم قد يقول باختلاف الحقيقة ؛ وإن وقع الاشتراك في اسم المخصص.

وعند ذلك : فلا يلزم أن يكون ما حكم به على أحدهما ، حكما على الآخر. نعم إنما يلزم ذلك : البصريين المعترفين بالتماثل بين الإرادة في الشاهد ، والغائب.

والأولى في ذلك أن يقال :

لو كان المخصص قائما لا في محل ؛ لم يخل : إما أن يكون حادثا ، أو قديما.

__________________

(١) فى ب (وان).

(٢) ساقط من أ.

(٣) فى ب (لا يمكن).

(٤) فى ب (شاهدا).


فإن كان حادثا : فلا بد له من مخصص آخر ؛ ويلزم (١) منه التسلسل (١) ، أو الدور.

فإن قيل : المخصص لا يستدعى مخصصا آخر ـ وإن كان حادثا كما في الشاهد ـ ولهذا فإن من [وجدت] (٢) له إرادة لشيء لا تستدعى تلك الإرادة ، إرادة أخرى. وإلا أفضى إلى التسلسل وأن لا يتم لأحد إرادة إلا مع وجود إرادات غير متناهية ؛ وهو مما يحسن (٣) من (٣) النفس بطلانه.

وربما عضدوا هذا بأمثلة أخرى : كالتمنى ، والشهوة ، ونحو ذلك.

قلنا : أما قولهم : بأن المخصص لا يستدعى مخصصا ، وإن كان حادثا : ليس كذلك ؛ فإن ما تخصص بالمخصص : إنما كان مفتقرا إليه من جهة كونه ممكنا ، وحادثا لا من جهة كونه ذاتا ، أو حقيقة ما. وهذا المعنى المحوج إلى المخصص متحقق في المخصص إذا قيل بكونه ممكنا ، أو حادثا.

قولهم : الإرادة في الشاهد لا تستدعى مخصصا / آخر : ليس كذلك ؛ بل لا بدّ لها من جهة كونها ممكنة وحادثة ، من مخصص. نعم غايته أنه لا يجب أن يكون المخصص لها إرادة أخرى لمن له الإرادة في الشاهد ؛ بل المخصص لها : إنما هو الإرادة القديمة القائمة بنفسه ؛ وعلى هذا : فلا تسلسل. وعلى هذا : يكون الكلام فيما كثروا به من [أمثلة] (٤) التمنى ، والشهوة أيضا.

وأيضا (٥) ؛ فإنه لو كان بمعنى (٥) المخصص حادثا لا في محل. لم تكن نسبته إلى البارى ـ تعالى ـ بكونه مخصصا به أولى من نسبته إلى غيره من الحوادث.

وإن قيل : بوجوب نسبته إلي الله ـ تعالى ـ لما بينهما من الاشتراك في عدم الافتقار إلى المحل. فمع عدم جهة الملازمة من ذلك أمكن أن يقال بوجوب النسبة إلى باقى الحوادث ؛ لما بينهما من الاشتراك في الحدوث ؛ بل أولى من حيث إنما (٦) يتحقق من الاشتراك بين الحادثين أكثر مما به الاشتراك بين القديم ، والحادث. ثم لو لزم نسبته إلى الله ـ تعالى ـ لما بينهما من الاشتراك في نفى المحلية ؛ لوجب نسبته إلى سائر

__________________

(١) من أول (ويلزم ...) ساقط من ب.

(٢) فى أ (وجد).

(٣) فى ب (تحقق في).

(٤) فى أ (الأمثلة).

(٥) فى ب (فإنه لو كان المعنى).

(٦) فى ب (ما).


الجواهر والأجسام ؛ إذ هي مشاركة له في هذا المعنى ، فإنها غير مفتقرة إلى المحل ، وإلا لزم التسلسل ، وكون الإرادة مشاركة للبارى ـ تعالى ـ فى عدم التحيز ، ومفارقته (١) للجواهر (١) فى ذلك مما لا يوجب إعادة حكمها إلى الله ـ تعالى ـ دون الجواهر بدليل أنفسنا ، وسائر الأعراض الغير (٢) متحيزة (٢).

وأيضا : فإنه لو جاز أن يكون مخصصا بمخصص موجود لا في ذاته ؛ لجاز أن يكون موجدا بقدرة ، قائمة لا في ذاته. وأن يكون عالما بعلم ، قائم لا في ذاته. كما صار إليه جهم (٣) ومتبعوه ، إلى غير ذلك من الصفات ، ولجاز أن يكون الواحد منا عالما. وقادرا ، بعلم قائم لا في ذاته ، وقدرة قائمة ، لا في ذاته ؛ ولم يقل به هذا القائل.

وبما ذكرناه هاهنا : يبطل القول بكون المخصص القائم لا في ذاته قديما أيضا. كيف وأنه مما لا قائل به؟

وإذا ثبت أنه لا بدّ وأن يكون مخصصا بصفة زائدة على ذاته ، وبطل كونها قائمة لا في ذاته ؛ تعين أن تكون صفة قائمة بذاته.

قولهم : ما المانع من كون المخصص القائم بذاته حادثا؟

قلنا : لما بيناه من لزوم التسلسل (٤). كيف : وإنا سنبين امتناع حلول الحوادث بذات الرب ـ تعالى ـ فيما بعد (٥)؟

قولهم : ما المانع من أن يكون المخصص كونه عالما بما اشتمل عليه الجائز من المصلحة؟

قلنا : لأنا سنبين في مسألة التجويز ، والتعديل (٦). أن رعاية الحكمة في فعله غير لازم ؛ فلا / يكون المخصص ما ذكروه من الداعى.

قولهم : ما المانع من كون المرجح قوله (كُنْ)؟

__________________

(١) فى ب (ومفارقة الجواهر).

(٢) فى ب (غير المتحيزة).

(٣) عن رأى جهم انظر الملل ص ٨٧ للشهرستانى.

(٤) انظر ل ٤١ / ب وما بعدها.

(٥) انظر ل ١٤٦ / أوما بعدها.

(٦) انظر ل ١٨٦ / أوما بعدها.


قلنا : لو كان قوله : (كُنْ) مخصصا ؛ لكان صدور ذلك عنا مخصصا ؛ ضرورة اتحاد الحقيقة. وأن ما ثبت للذات لا ينفك عنها. والآية فغايتها الدلالة على أن أمره بالكون عند الإرادة قوله (كُنْ) ؛ وليس في ذلك ما يدل على كونه مخصصا.

وما ذكروه من الوجه الأول والثانى في الحجة الأولى : فقد سبق الجواب عنه في مسألة القدرة (١).

قولهم في الوجه الثالث : تعلق الإرادة بالحادث : إما قديم ، أو حادث.

قلنا : هذا إنما يلزم أن لو كان تعلق الإرادة بالحادث أمرا يزيد على تخصصه بالإرادة ؛ وليس كذلك ؛ فإنه لا معنى لتعلق الإرادة بالحادث غير تخصصه بها.

وعلى هذا فالإشكال يكون مندفعا ، وبتقدير أن يكون التعلق زائدا على التخصيص ؛ وهو قديم. فلا نسلم أنه يلزم من ذلك قدم التخصيص ؛ إذ (٢) لا مانع (٢) من أن تكون الإرادة في القدم مقتضية لتخصيص الحادث في وقت حدوثه ؛ وهو المعنى بقدم التعلق.

كيف وأن هذا الإشكال بعينه لازم على القائل بكون المخصص ، مخصصا بذاته ، لا بصفة زائدة على ذاته ، أو بصفة زائدة غير الإرادة ، فما هو جوابه ؛ هو جواب لنا.

قولهم في الحجة الثانية : إذا كان البارى ـ تعالى ـ عالما بحدوث الحادث في وقت حدوثه ؛ فلا حاجة إلى الإرادة كما قرروه.

فقد سبق جوابه في مسألة القدرة (٣).

قولهم في الحجة الثالثة : إما أن تكون قدرته متعلقة بإيجاد الحادث ، أو لا؟

قلنا : متعلقة بإيجاده مرادا ، لا غير مراد.

وعلى هذا : فلا يستغنى عن الإرادة.

قولهم في الحجة الرابعة : أنه لو كانت الإرادة متقدمة (٤) على الحادث كانت عزما.

فقد سبق جوابه أيضا في مسألة القدرة (٥).

__________________

(١) انظر ل ٦٢ / أ.

(٢) فى ب (إذ المانع).

(٣) انظر ل ٦٢ / أ.

(٤) فى ب (متعلقة).

(٥) انظر ل ٦٢ / أ.


قولهم : لو كانت قديمة ؛ لتعلقت بجميع الجائزات.

قلنا : إن أرادوا بذلك : أنها يجب أن تكون مخصصة لكل جائز ؛ فليس كذلك ؛ إذ ليست حقيقة الإرادة التخصيص لكل جائز ؛ بل ما من شأنها أن تخصص بعض الجائزات دون البعض.

ولو لا ذلك للزم وقوع كل جائز ؛ وليس كذلك.

وإن أرادوا بذلك أنها يجب أن تكون مخصصة لكل جائز كائن / ، أو كان ، أو سيكون ؛ فهو حق على ما سيأتى تحقيقه في مسألة (١) خلق الأعمال (١).

وعلى هذا : فقد اندفع ما ذكروه من المحال الأول. كيف وأن اجتماع الوجود ، والعدم في شيء واحد ، والحركة والسكون ، وكذا كل متقابلين ؛ غير جائز ؛ بل مستحيل ؛ فلا يكون متعلق القدرة والإرادة.

قولهم : العالم مشتمل على خيرات ، وشرور.

قلنا : مراد الله ـ تعالى ـ من حيث هو مراد له ـ ليس بشر ؛ فإن تعلق الإرادة به إنما هو من جهة تخصيصه بالوجود دون العدم ، أو العدم ، دون الوجود ، أو ببعض الأحوال الجائزة دون البعض ؛ وذلك مما لا يوصف بكونه شرا ، من حيث هو كذلك ؛ فإن الشر ليس وصفا ذاتيا ؛ لما وصف بكونه شرا ، ولا له وجود في نفسه ؛ بل هو أمر نسبى ، ومعنى إضافى ؛ كما يأتى تحقيقه في مسألة التحسين ، والتقبيح (٢). وذلك لا يمنع من تعلق الإرادة القديمة بالمراد الموصوف به ، ولو كان ذلك مانعا من كونه مرادا ؛ لما كان ما يجرى في العالم من الخسف ، والزلازل ، والأمراض المؤلمة ؛ والآفات العامة ؛ مرادا لله ـ تعالى ـ ؛ لكونه موصوفا بالشر ؛ ولم يقولوا به.

كيف وأن مستندهم في إطلاق اسم الشرير على مريد الشر في حق الغائب ، ليس غير الشاهد.

وهو فاسد على ما حققناه في مسألة القدرة (٣).

__________________

(١) فى ب (أن لا مخصص لجميع الجائزات إلا الله ـ تعالى ـ).

انظر ل ٢٨١ / ب وما بعدها.

(٢) انظر ل ١٧٤ / ب وما بعدها.

(٣) انظر ل ٦٢ / ب وما بعدها.


وما ذكروه من لزوم المحال الثالث : فإنما يلزم أن لو كان المأمور والمنهى مرادا ؛ وليس كذلك ؛ بل المأمور الّذي علم وقوعه ، والمنهى الّذي علم الانتهاء عنه ؛ هو المراد.

وأما ما علم أنه لا يوجد ؛ فهو غير مراد الوجود وإن كان مأمورا به.

وما علم وجوده ؛ فليس بمراد الانتفاء ، وإن كان منهيا عنه ، وسنبين في مسألة الكلام أنه لا ملازمة بين الأمر ، وإرادة الامتثال ، ولا بين النهى ، وإرادة الانتهاء.

وعلى هذا فلا يلزم من الأمر بالوجود ، وإرادة العدم ما ذكروه من التناقض ، وليس ثمرة الأمر الامتثال ؛ بل من الجائز أن يكون له ثمرة أخرى ؛ فلا يكون عبثا ، ولا متناقضا.

ولهذا قال بعض الأصحاب : أنه لو علم الله ـ تعالى ـ من أحد من الأمة : أنه لو كلف بخصلة من خصال الخير ؛ لم يأت بها ، ولو ضوعفت عليه لأتى (١) بها ؛ فإن (١) أمره بالضعف يكون مفيدا. وإن لم يكن ذلك مرادا. وذلك على نحو أمر النبي ـ عليه‌السلام ـ ليلة المعراج بالصلوات. هذا كله إن قيل / برعاية الحكمة والمصلحة في أفعال الله ـ تعالى ـ ، وإلا فلا حاجة إلى هذا التكليف.

قولهم : إنه يفضى إلى التكليف (٢) بما لا يطاق (٢) ؛ مسلم. وسيأتى تحقيقه فيما بعد (٣).

وأما ما ذكروه من الظواهر ، فمما لا نسوغ التمسك بها في مسائل الأصول ؛ إذ هى مع ما يقابلها من ظواهر أخر ممكنة التأويل جائزة التخصيص ؛ والمقطوع لا يستفاد من المظنون.

كيف : وأن القول بموجب أكثرها متجه هاهنا. فإنا لا نقول إن إرادته ، ورضاه ، ومحبته ، مما يتعلق بالمعاصي على اختلاف أصنافها من حيث هى شرور ، ومعاصى ، وفساد ؛ فإنها من هذه الجهات أمور إضافية لأدوات حقيقية ، والإرادة : إنما تتعلق بالمعاصي من حيث هى أفعال حادثة ؛ لا من تلك الجهات.

__________________

(١) فى ب (لا يأتى بها فإذا).

(٢) فى ب (تكليف ما لا يطاق).

(٣) انظر ل ١٩٤ / أوما بعدها.


على أننا نقرر قاعدة في معنى المحبة ، والرضا ، والإرادة ؛ يمكن التوصل منها إلى تأويل كل ما يرد من هذا القبيل فنقول : أما المحبوب ، والمرضى في حق الله ـ تعالى ـ فمعناه : أنه ممدوح عليه في العاجل ، ومثاب في الآجل. والمسخوط في مقابلته.

فعلى هذا معنى قوله ـ تعالى ـ (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ) (١) وقوله : (لا يُحِبُّ الْفَسادَ) (٢) ، وقوله (لا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) (٣) أنه غير ممدوح عليه في العاجل ، ولا مثاب عليه في الآجل.

وهكذا تأويل كل ما يرد من هذا القبيل.

وقد يمكن حمل قوله ـ تعالى ـ : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) على المؤمنين من عباده ، ويكون اختصاصهم بلفظ العباد تشريفا ، وتكريما (٤) لهم (٤) كما في قوله ـ تعالى : (عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ) (٥) والمراد به المؤمنون.

وأما الإرادة : فإنها قد تتعلق بالتكليف من الأمر ، والنهى ، وقد تتعلق بالمكلف به ؛ أى بإيجاده ، أو إعدامه ، فإذا قيل : إن الشيء مراد : قد يراد به : أن التكليف به ؛ هو المراد ، لا عينه وذاته. وقد يراد به : أنه في نفسه مراد ؛ أى إيجاده ، أو إعدامه. فعلى هذا ما وصف بكونه مرادا ، ولا وقوع له ؛ فليس المراد به إلا إرادة التكليف به فقط.

وما قيل إنه غير مراد ؛ وهو واقع ؛ فليس المراد به ؛ إلا أنه لم يرد التكليف به فقط.

ومن حقق هذه القاعدة أمكنه التقصى عن قوله ـ تعالى ـ (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) (٦) بأن يقول : المراد به : إنما هو نفى الإرادة بالتكليف به ، [لا نفى] (٧) إرادة حدوثه. وكذا قوله : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (٨) معناه : الأمر باليسر ، ونفيه عن العسر.

__________________

(١) سورة النساء ٤ / ١٤٨.

(٢) سورة البقرة ٢ / ٢٠٥.

(٣) سورة الزمر ٣٩ / ٧.

(٤) فى ب (لهم وتكريما).

(٥) سورة الإنسان ٧٦ / ٦.

(٦) سورة غافر ٤٠ / ٣١.

(٧) فى (أ) (لأنه نفى).

(٨) سورة البقرة ٢ / ١٨٥.


وعلى هذا / يخرج قوله ـ تعالى ـ (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (١) ؛ فإنه ليس المراد به وقوع العبادة ؛ بل الأمر بها ؛ وأمكن أن يكون المراد به : أنهم عبيد له.

وأما قوله ـ تعالى ـ : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) (٢) تكذيبا للمشركين في قولهم : (لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا) ؛ فهو تكذيب لهم في دعواهم : اعتقاد ذلك قصد اللحد عن الحق ، والميل إلى المراغمة. ولهذا قال ـ تعالى (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) هكذا قاله أهل التفسير.

وأما أن إرادة الرّب واحدة غير متناهية في ذاتها ، ولا بالنظر إلى متعلقاتها ؛ فبيانه على ما حققناه في مسألة القدرة (٣).

__________________

(١) سورة الذاريات ٥١ / ٥٦.

(٢) سورة الأنعام ٦ / ١١٦. وجزء من الآية رقم ٦٦ من سورة يونس.

(٣) راجع ما سبق ل ٦٣ / أوما بعدها.


المسألة الرابعة

في إثبات صفة العلم لله تعالى

مذهب أهل الحق (١) : أن البارى ـ تعالى ـ عالم بعلم واحد قائم بذاته ، قديم أزلى ، متعلق بجميع المتعلقات ، غير متناه بالنظر إلى ذاته ، ولا بالنظر إلى متعلقاته.

وأما الفلاسفة (٢) : فمختلفون.

فمنهم من نفى كونه عالما مطلقا ، لا بذاته ، ولا بغيره (٣).

ومنهم من أثبت كونه عالما بذاته ، دون غيره (٤).

ومنهم من أثبت كونه عالما بذاته وبغيره ، إن كان معنى كليا ، ولم يجوز كونه عالما بالجزئيات : من حيث هى جزئيات ؛ بل على نحو كلى.

__________________

(١) لتوضيح مذهب أهل الحق من الأشاعرة وردهم على خصومهم ـ بالإضافة إلى ما ورد هنا ـ ينظر ما يأتى من كتب أئمة المذهب ؛ فمنها يتضح أن الأبكار قد اشتمل ـ بحق ـ على معظم الآراء المهمة ، وناقشها ، وأضاف إليها ؛ فهو يغنى عن كل الكتب قبله ، ولا تغنى عنه كلها.

ومن الكتب التى تيسر لى الاطلاع عليها ما يأتى :

اللمع للأشعرى ص ٢٤ ، ٢٥ ، والتمهيد للباقلانى ص ٤٧ ، والإنصاف له أيضا ص ٣٥ ، ٣٦ ، وأصول الدين للبغدادى ص ٩٥ ، والإرشاد لإمام الحرمين ص ٨٤ ـ ٩٤ والشامل ص ٦٢١ ـ ٦٢٥ ولمع الأدلة ص ٨٢ ، ٨٣ له أيضا ، والاقتصاد في الاعتقاد للغزالى ص ٤٧ ، ونهاية الأقدام للشهرستانى ص ٢١٥ ـ ٢٣٧ ، والمحصل للرازى ص ١١٨ ـ ١٢٠ ، ومعالم أصول الدين ص ٤٠ ـ ٤٢ له أيضا.

ومن كتب الآمدي غاية المرام في علم الكلام ص ٧٦ ـ ٨٤.

ومن الكتب المتأخرة عن الأبكار والتى رددت معظم الآراء الواردة به وتأثر أصحابها به إلى حد بعيد ـ خاصة صاحب المواقف ـ ما يأتى :

شرح الطوالع ص ١٧٦ ـ ١٧٩ ، والمواقف للإيجي ص ٢٨٥ ـ ٢٩٠ ، وشرح المقاصد للتفتازانى ص ٦٤ ـ ٦٩ وشرح العقائد العضدية للدوانى (الشيخ محمد عبده بين الفلاسفة والمتكلمين) طبع الحلبى. تحقيق د. سليمان دنيا ص ٣٣٩ ـ ٤٥٤.

(٢) انظر نهاية الأقدام للشهرستانى ص ٢٢١ ـ ٢٣٢ حيث يعرض آراء الفلاسفة عرضا واضحا ، ثم يرد عليها ردا قاطعا. وانظر أيضا مقاصد الفلاسفة للغزالى ط. دار المعارف سنة ١٩٦١ ص ٢٢٤ ـ ٢٣٤ حيث يعرض آراءهم ، ومقاصدهم عرضا واضحا ، ثم يثبت تهافتهم في كتابه الآخر تهافت الفلاسفة الطبعة الرابعة لدار المعارف ص ١٩٨ ـ ٢١٧ ثم يحكم بكفر المسلمين منهم ؛ لإنكارهم علم الله بالجزئيات في رأيه.

(٣) لعلهم فلاسفة الأفلاطونية المحدثة انظر ص ٢٩٠ من تاريخ الفلسفة اليونانية ليوسف كرم الطبعة الرابعة ، وأيضا فلاسفة الإسماعيلية. انظر ما سبق ل ٥٤ / أ.

(٤) ينسب هذا الرأى لأرسطو وأتباعه. انظر الكندى وفلسفته ص ٨٣.


وهذا هو الّذي ينصره أبو على بن سينا (١).

وأما المتكلمون :

فمنهم من قال : لا يوصف البارى ـ تعالى ـ بما يوصف به خلقه ؛ فلا يوصف بكونه عالما ، ولا حيا ؛ ولكن يوصف بكونه قادرا ، خالقا ؛ لأنه لا يوصف شيء من مخلوقاته بذلك على الحقيقة ، وأثبت لله علوما حادثة لا في محل ؛ وهذا هو مذهب جهم بن صفوان (٢).

ومنهم من قال : هو عالم : بمعنى أنه ليس بجاهل ؛ وهو مذهب ضرار بن عمرو (٣).

وذهب الجبّائى ، وابنه أبو هاشم : إلى أنه عالم لذاته ؛ لكن اختلفا.

فقال الجبّائى : هو عالم لذاته : أى لا يقتضي كونه عالما ، صفة زائدة من علم ، أو حال.

وقال أبو هاشم : هو عالم لذاته : بمعنى أنه ذو حالة زائدة لا توصف بالوجود ، ولا بالعدم ، ولا بكونها معلومة ، ولا مجهولة (٤).

__________________

(١) ابن سينا :

الحسين بن عبد الله بن سينا ، أبو على ، شرف الملك ، الفيلسوف الرئيس صاحب التصانيف المشهورة في الطب ، والمنطق ، والطبيعيات ، والإلهيات صنف نحو مائة كتاب بين مطول ، ومختصر ، وقد شرح الآمدي كتاب الإشارات له في كتابه : كشف التمويهات. مما يدل على اهتمامه به وبطريقته ، كما أنه يقدم لآرائه غالبا بقوله : قال أفضل المتأخرين ـ ولد ببلخ سنة ٣٧٠ ه‍ ، وتوفى بهمذان سنة ٤٢٨ ه‍ (وفيات الأعيان) ١ / ٤١٩ ومعجم المؤلفين ٤ / ٢٠). أما عن رأيه في العلم فانظر النجاة ص ٢٤٣ ـ ٢٥١ ، والإشارات ٣ / ٢٠١ ـ ٢٠٦.

(٢) انظر الفرق بين الفرق ص ٢١١ والملل والنحل ١ / ٨٦ ومقالات الإسلاميين ١ / ٢١٤ ـ وقد سبقت ترجمة الجهم عند الكلام على الجهمية.

(٣) ضرار بن عمرو : شيخ الضّراريّة التى نسبت إليه ، وقد ظهر ضرار بن عمرو في أيام واصل بن عطاء ثم صار مجبرا ، وعنه نشأ هذا المذهب وقد وضع بشر بن المعتمر كتابا في الرد على ضرار.

(ميزان الاعتدال ترجمة رقم ٣٩٥٣ والفرق بين الفرق ص ٢١٣ ولسان الميزان ٣ / ٢٠٣ والملل والنحل ١ / ٩٠) أما عن رأيه في العلم : فانظر الملل والنحل ١ / ٩٠ ـ ٩١.

(٤) عن رأى الجبائى وابنه أبى هاشم في حالتى اتفاقهما ، واختلافهما.

انظر الأصول الخمسة ص ١٨٢.


وذهب أبو الهذيل العلاف (١) : إلى أن البارى ـ تعالى ـ عالم بعلم ؛ هو ذاته.

وذهب أبو الحسين البصرى ، وهشام (٢) بن الحكم : إلى أن اتصافه بكونه عالما بالجزئيات متجدد ، وبالكليات أزلى.

وذهب آخرون : إلى أنه لا يعلم ما لا نهاية له من المعلومات ؛ بل إنما يعلم ما كان متناهيا.

/ ثم إن من اعترف من الفلاسفة (٣). بكونه عالما بنفسه وبغيره ، انتهج في الاستدلال على ذلك منهجين :

المنهج الأول : أنه بيّن كون الرب تعالى عالما بذاته أولا ، ثم بين استلزام علمه بذاته ؛ لعلمه بغيره ثانيا.

فقال : واجب الوجود يعلم ذاته ، ويلزم من علمه بذاته علمه بغيره. أما أنه يعلم ذاته : فهو أن وجود واجب الوجود مجرد عن المادة ، وعلائقها : أى أنه ليس بجسم ، ولا جسمانى ؛ على ما يأتى تحقيقه. وكل ماهية مجردة عن المادة ، وعلائقها ؛ فهى عقل : إذ لا نعنى بالعقل إلا هذا. فواجب الوجود بما هو هوية مجردة : عقل. وبما يعتبر له أن ذاته له هوية مجردة : هو عاقل ذاته ؛ إذ لا معنى لتعقل الشيء لذاته إلا حصول ذاته المجردة لذاته ، وبما يعتبر له أن هويته المجردة لذاته : هو معقول. وإذا ثبت أنه عاقل

__________________

(١) أبو الهذيل العلّاف : محمد بن الهذيل بن عبد الله بن مكحول العبدى المعروف بالعلاف (أبو الهذيل) يعتبر المؤسس الثانى لمذهب المعتزلة بعد واصل بن عطاء ، وهو شيخ الهذيلية التى نسبت إليه. ولد بالبصرة سنة ١٣١ ه‍ وتوفى سنة ٢٣٥ ه‍. (وفيات الأعيان ٣ / ٣٩٦ والفرق بين الفرق ص ١٢١ والملل والنحل ١ / ٤٩) أما عن رأيه في العلم : فانظر الأصول الخمسة ص ١٨٣ ولمزيد من البحث والدراسة انظر ما سيأتى في الجزء الثانى ـ القاعدة السابعة ل ٢٤٤ / ب.

(٢) هشام بن الحكم الشيبانى بالولاء ، الكوفى ، أبو محمد : متكلم ، مناظر كان شيخ الإمامية في وقته. ولد بالكوفة ، وسكن بغداد في أيام الرشيد. حدثت بينه وبين أبى الهذيل مناظرات ، وتوفى حوالى سنة ١٩٠ ه‍.

(مقالات الإسلاميين ١ / ١٠٦ والفرق بين الفرق ص ٦٥ والملل والنحل ١ / ١٨٤) ولمزيد من البحث والدراسة انظر ما سيأتى في الجزء الثانى ـ القاعدة السابعة ل ٢٤٨ / أ.

أما عن رأيه في العلم : فانظر الأصول الخمسة ص ١٨٣.

(٣) من هؤلاء الفلاسفة : ابن سينا. انظر النجاة. طبعة الكردى ص ٢٤٣ ـ ٢٥١ والإشارات ٣ / ٢٠١ ـ ٢٠٦ طبع الحلبى.


لذاته ، وعالم بها ؛ فيجب أن يكون عاقلا لما وجوده من وجوده ؛ لأنه إذا علم ذاته ، وذاته مبدأ ، لما وجوده بوجوده بالذات ؛ فيجب أن يكون عالما ، بأن ذاته مبدأ لغيره. ومتى علم أن ذاته مبدأ لغيره ؛ فلا بد وأن يكون عالما بذلك الغير ؛ لأن العلم بكونه مبدأ لذلك الغير ، علم بمعنى إضافى بين ذاته ، وما وجب عنه. ولا تحقق لذلك دون العلم بالمضافين ، ويلزم من علمه بذلك الغير ؛ علمه بما صدر عن ذلك الغير ، وهكذا على الترتيب النازل من عنده طولا ، وعرضا ، إلى (١) ما لا يتناهى (١).

المنهج الثانى : أنه بيّن كون الرب ـ تعالى ـ عالما بغيره ، ثم بيّن أن علمه بغيره يستلزم كونه عالما بذاته.

فقال : إن علم غيره ؛ علم (٢) ذاته ، وقد علم غيره ؛ فيلزم أن يكون عالما بذاته (٢).

وبيان أنه يلزم من علمه بغيره ، علمه بذاته : أن من علم شيئا ؛ فلا بد وأن يعلم أنه عالم بذلك الشيء ، وعلمه بأنه عالم بذلك الشيء : علم بصفة له ؛ وهو كونه عالما.

والعلم بالصفة ، يستدعى العلم بالموصوف ؛ ضرورة.

وإذا ثبت أنه يلزم من علمه بغيره ؛ علمه بذاته : فبيان أنه عالم بغيره هو أن واجب الوجود مجرد (٣) عن المادة (٣) ، وعلائقها. وطبيعة الوجود من حيث هو طبيعة الوجود ؛ غير ممتنع عليه أن يعلم ، ويعقل.

وإنما يفرض له أن لا يعلم ؛ بسبب كونه فى المادة ، ومتعلقا (٤) بعلائق المادة ، وواجب الوجود ليس في المادة ، ولا له تعلق بعلائق المادة كما يأتى ؛ فلا يمتنع عليه أن يعلم ، ويعقل. وكل ما لا يمتنع عليه أن يكون معلوما ، بانفراده لا يمتنع عليه أن يكون / معلوما مع غيره من المجردات ؛ فواجب الوجود لا يمتنع عليه أن يكون معلوما مع غيره ، وكل ما لا يمتنع تعقله مع غيره ؛ فلا تمتنع مقارنة ماهيته لماهية ذلك الغير في العقل.

__________________

(١) ساقط من ب.

(٢) فى ب (فقد علم ذاته ؛ فيكون عالما بذاته).

(٣) فى ب (موجود مجرد عن المساواة).

(٤) فى ب (ومتعلقاتها).


وإذا لم يكن ذلك ممتنعا ؛ فلا معنى لكونه عالما بغيره إلا أن ماهيته المجردة مقارنة لغيره من الماهيات المجردة ، فكونه عالما بغيره ؛ غير ممتنع.

وإذا لم يكن ممتنعا : فإما واجب ، أو ممكن.

لا جائز أن يكون ممكنا : لعدم افتقار واجب الوجود إلى غيره مطلقا ؛ فلم يبق إلا أن يكون علمه بغيره واجبا ؛ ويلزم منه أن يكون عالما بذاته لما مضى.

وهذان المسلكان ضعيفان :

أما المسلك الأول : فمن أربعة أوجه :

الأول : أنه قد لا يسلم أن ذات واجب الوجود عقل.

قولهم : إن العقل هو الماهية المجردة عن المادة ، وعلائق (١) المادة (١) ، ليس كذلك ؛ بل العقل ضرب من العلوم الضرورية كما سبق (٢).

وذلك هو الّذي يحصل به العلم ؛ كما تقدم. والبارى ـ تعالى ـ ليست ذاته علما ؛ وإلا كان العلم قائما بنفسه ، وكان كل علم هكذا ؛ وهو محال.

وإن سمى مسم ما تجرد عن المادة وعلائقها عاقلا ؛ فلا منازعة في غير التسمية.

الثانى : أنه وإن كانت ذات واجب الوجود عقلا ؛ فلا نسلم أنه عالم بذاته.

قولهم : لأن ذاته حاصلة لذاته التى هى عقل ؛ فتكون ذاته معقولة لذاته. إنما يستقيم إطلاق القول بحصول ذاته ، لذاته مع المغايرة ؛ فإن حصول الشيء للشىء بنسبة ، وإضافة بين الشيئين. ومع عدم التعدد ؛ فالقضاء (٣) بالحصول محال.

الثالث : أنه وإن صح إطلاق القول بحصول الذات للذات ؛ فلا نسلم أن مطلق الحصول ؛ يوجب كون ذاته عالمة بذاته ؛ لأن حصول الذات ، للذات المسماة ؛ لا يوجب كونها معقولة له ؛ فإن حصول الذات للعقل أمر أعم من تعقل العقل لها ؛ فإن ذلك قد

__________________

(١) فى ب (وعلائقها.

(٢) انظر ل ١٧ / أ).

(٣) فى ب (فافضاء).


يصح إطلاقه مع التعقل (١) ومع الملازمة من غير تعقل ؛ فلا (٢) يلزم التعقل (٢).

الرابع : وإن (٣) سلمنا أنه عالم بذاته ؛ ولكن لا يلزم من كونه عالما بذاته : أن يكون عالما بما ذاته مبدأ له. اللهم إلا أن يعلم ذاته من حيث هى مبدأ لغيره ، وعلمه بأنها مبدأ يزيد (٤) على العلم بذاته ، ولهذا يصح العلم بالذات ، والجهل بكونها مبدأ ، وتوصف الذات بكونها مبدأ ؛ والمعلوم غير المجهول ، والصفة غير الموصوف. /

وعند ذلك : فلا يلزم من كونه عالما بذاته ، أن يكون عالما بما لها من الصفات ، وإلا كان كل من علم شيئا : علم ما هو ملازم له ، ويلزم من ذلك أن يكون العلم لنا بالله ـ تعالى ـ ، علما بكل ما صدر عنه ولزمه ، وكذا يلزم أن يكون علمنا ببعض المخلوقات ، علما بجميع صفاته ومباديه ؛ وهو محال.

وأما المسلك الثانى : فمن سبعة أوجه :

الأول : هو أنا لا نسلم أنه يعلم غيره.

قولهم : إن واجب الوجود موجود مجرد عن المادة وعلائقها ؛ مسلم. ولكن لم قالوا بأنه يكون عالما بغيره؟

قولهم : لأن طبيعة الوجود من حيث هو كذلك : غير ممتنع عليه أن يعلم. لا نسلم ذلك ، ولا يلزم من جواز علمنا ببعض الموجودات ، جواز العلم بكل موجود ، إلا أن يثبت أن طبيعة الوجود مشتركة بين الموجودات ؛ وهو غير مسلم على ما سبق (٥).

الثانى : وإن سلم (٦) أن طبيعة الوجود غير ممتنع عليها أن يعلم ويعقل ؛ ولكن مع وجود المانع أو مع عدمه ـ الأول : ممنوع. والثانى : مسلم ؛ فلم قالوا بانتفاء المانع؟

قولهم : المانع المادة ، وعلائقها. لا نسلم الحصر ؛ ولا طريق إلى بيان ذلك إلا بالبحث ، وعدم الاطلاع على غيره ؛ وهو غير يقينى.

__________________

(١) فى ب (وهو).

(٢) فى ب (فلا للتعقل).

(٣) فى ب (قد).

(٤) فى ب (لا يزيد).

(٥) انظر ل ٥٠ / ب.

(٦) فى ب (سلمنا).


الثالث : وإن سلم (١) ذلك ؛ ولكن لا نسلم أن ما جاز أن يكون معلوما بانفراده ؛ جاز (٢) أن يكون معلوما مع غيره ؛ لجواز أن يكون الانفراد شرطا ، أو الاجتماع مانعا ؛ وإبطاله غير يقينى.

الرابع : وإن سلم جواز ذلك ؛ ولكن لا نسلم جواز مقارنة ماهية واجب الوجود لغيره من الماهيات : إلا أن يكون التعقل لهما عبارة عن وجود ماهيتهما في العقل ؛ وهو غير مسلم على ما سيأتى.

الخامس : وإن سلم جواز المقارنة في العقل ؛ ولكن لا نسلم أنه يلزم من جواز اجتماعهما بجهة الحلول في العقل ، جواز اجتماعهما لا بجهة الحلول فيه ؛ لجواز أن يكون ذلك شرطا في الاجتماع ، والمقارنة ، أو أن الوجود الخارجى مانع.

السادس : وإن سلم ذلك ؛ ولكن لا نسلم أنه يلزم من هذه المقارنة علم أحد المقترنين بالآخر ، إلا أن يثبت أن العلم هو نفس المقارنة ؛ وهو غير مسلم.

السابع : وإن سلم ذلك ؛ ولكن لا نسلم أنه يلزم من عدم الامتناع ، الوجوب ؛ لجواز أن يكون جائزا ؛ وهو غير ممتنع على الله ـ تعالى ـ من غير / وجوب ؛ ولهذا يصح الذاتين (٣) ؛ والنسب والإضافات جائزة على الله ـ تعالى ـ من غير / وجوب ؛ ولهذا يصح أن يقال لوجود الحادث عند وجوده : أن وجوده مع وجود الرب ـ تعالى ـ وإن لم يكن قبل ذلك موجودا معه ، وهو نسبة وإضافة. ولو كان ذلك واجبا ؛ لكان لازما غير مفارق ؛ وهو محال.

وأما أصحابنا : فقد استدل بعضهم على إثبات علم الله ـ تعالى ـ بنصوص الكتاب. وذلك مثل قوله ـ تعالى ـ (وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) (٤). وقوله ـ تعالى ـ (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) (٥) وهو صريح في إثبات العلم لله ـ تعالى ـ

__________________

(١) فى ب (سلمنا).

(٢) فى ب (يجوز).

(٣) فى ب (الذات).

(٤) سورة فاطر ٣٥ / ١١.

(٥) سورة النساء ٤ / ١٦٦.


فإن قيل : ظاهر الآيتين : يدل على أن الوضع ، والحمل ، والإنزال بالعلم ، وليس كذلك ، فتكون الدلالة (١) متروكة الظاهر.

سلمنا أنها غير متروكة الظاهر ؛ ولكن ما المانع من أن يكون العلم مفسرا : بعدم الجهل؟ كما ذهب إليه ضرار بن عمرو ، أو بعلم حادث لا في محل : كما ذهب إليه جهم ابن صفوان؟

سلمنا دلالة ذلك على ثبوت صفة العلم لذاته ؛ ولكنه معارض بقوله ـ تعالى ـ (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) (٢) ـ فلو كان للرب ـ تعالى ـ علما ؛ لكان فوقه عليم ؛ وهو محال.

والجواب عن السؤال الأول : بمنع ترك الظهور ؛ فإن الدلالة المذكورة ظاهرة في جريان ذلك معلوما بعلمه ؛ لا واقعا ، وواجبا بعلمه ، وهو المتبادر إلى الفهم من إطلاق ذلك في قولهم : جرى الأمر الفلانى بعلمى ، وبعلم فلان. وبتقدير أن تكون الدلالة ظاهرة فيما ذكروه ؛ فلا يخرج عن أن يكون مجازا فيما ذكرناه ، وإذا تعذر العمل باللفظ في حقيقته ؛ تعين العمل به في مجازه حذرا من التعطل.

وعن السؤال الثانى : بما سيأتى عن قرب.

وعن السؤال الثالث : بأن ما ذكرناه : خاص ، وما ذكروه : فأعلى درجاته أن يكون عاما ، وتخصيص العام بالخاص ، أولى من إبطال دلالة الخاص ، والعمل بعموم العام ؛ فإن الجمع بين الأدلة مهما أمكن ؛ أولى من تعطيل الواحد منها ، والعمل بالباقى.

غير أن التمسك بمثل (٣) هذا (٣) المسلك مع افتقاره إلى إثبات صفة الكلام ؛ قابل إلى التمسك بالظنون في مسائل القطع ؛ وهو بعيد.

وأما من جهة المعقول : فقد استدلوا بالمسلك المشهور (٤). وهو أن فعل الله ـ

__________________

(١) فى ب (الآية).

(٢) سورة يوسف ١٢ / ٧٦.

(٣) فى ب (بهذا).

(٤) هذا المسلك استند عليه كثير من المتكلمين وغيرهم في إثبات العلم لله ـ تعالى ـ ويعرف بدليل الإتقان والإحكام. ومع ذلك فإن الآمدي ينتقده من وجوه كما سيتضح لنا فيما بعد. فممن استند عليه من الأشاعرة :

الأشعرى في اللمع ص ٢٤ ، ٢٥ والباقلانى في التمهيد ص ٤٧. ومن المعتزلة القاضى عبد الجبار في شرح الأصول الخمسة ص ١٥٦.

ومن الفلاسفة ابن رشد في مناهج الأدلة طبع محمد على صبيح ص ٥٣.


تعالى ـ وصنعه ، هو العالم على ما سيأتى (١). والعالم بما هو عليه من الأفلاك الدائرة ، والكواكب السائرة (٢) / ، وما يلازمها من الحر ، والبرد ، والاعتدال فيهما في الفصول المختلفة ، والآثار العجيبة في عالم الكون ، والفساد ، من أنواع المعدنيات ، واختلاف النباتات في الضرر والمنافع ، والكيفيات ، واختلاف الأوقات في ظهورها ، وعدم ظهورها ، على حسب دعوى الحاجة إليها ، وما يشتمل عليه أنواع الحيوانات من التركيب العجيب من الأعضاء المختلفة ، والآلات الحسية : الظاهرة ، والباطنة ، وتولد بعضها من بعض تولدا حافظا لنوع كل واحد منها على مر الدهور ، والأزمان ، من غير اختلاف ، ولا اختلال ؛ بل وكذلك ما فيه من الآثار العلوية : كالسحب ، والرعود ، والبروق ، وغيرها في الأوقات المختلفة. على غاية من الحكمة ، والإتقان ، وعلى (٣) وجه لا يظهر فيه القصور ، والنقصان في عقل عاقل ما ؛ فإذن فعل الله ـ تعالى ـ وصنعه في غاية الحكمة ، والإتقان (٣). وكل من فعله في غاية الحكمة والإتقان ؛ فبالاضطرار العقلى (٤) ؛ يعلم كونه عالما به.

ولهذا فإن من رأى قصرا مشيدا ، وبناء مرتفعا ، وصنعة محكمة ؛ اضطره عقله إلى علم صانعه.

وفيه نظر ؛ فإن لقائل أن يقول :

وإن سلمنا أن العالم صنعه ، مع إمكان النزاع فيه على ما يأتى (٥) ؛ ولكن لم قلتم إنه يجب أن يكون عالما به؟

قولكم : إن العالم على غاية من الحكمة والإتقان : إما أن تريدون به أنه على حالة لو قدر وجوده على خلافها ؛ كان ناقصا ، أو أنه موافق للحكمة المطلوبة منه أو أنه نافع ، أو معنى آخر.

فإن كان الأول : فهو ممنوع ؛ إذ لا دليل يدل عليه ، ولا العلم به ضرورى.

__________________

(١) انظر ل ٢١٢ / ب وما بعدها.

(٢) فى ب (السيارة).

(٣) من أول (وعلى وجه لا يظهر ...) ساقط من ب.

(٤) فى ب (القطعى) ..

(٥) انظر ل ٢١٥ / أوما بعدها.


وإن كان الثانى : فإنما يلزم أن لو كان فعل الله ـ تعالى ـ مما يجب فيه رعاية الحكمة ؛ وليس كذلك على أصل هذا الدّال ، وبتقدير رعاية الحكمة في أفعاله ؛ فقد لا يسلم توافق كونه موافقا للحكمة المطلوبة منه. فإن (١) ذلك يستدعى معرفة الحكم المطلوبة منه (١). ومعرفة مطابقة خلق العالم لها ، والعلم به غير (٢) ضرورى ، والدلالة عليه عسيرة.

وإن كان الثالث : إما (٣) أن يراد به أنه نافع (٣) من كل وجه ، أو من وجه دون وجه ـ لا سبيل إلى الأول : فإنه ما من شيء يقدر ، وإن كان نافعا بالنسبة إلى جهة ؛ فمضر بالنظر (٤) إلى جهة أخرى.

وإن كان الثانى : فلا نسلم دلالته على علم من صدر عنه ، ولا مانع من أن يكون كالإحراق الصادر عن النار ؛ فإنه وإن كان نافعا بالنسبة إلى بعض / الجهات ؛ فقد يكون مضرا بالنسبة إلى جهة أخرى ، ولا يدل ذلك على كون النار عالمة به.

وإن كان الرابع : فلا بد من تصويره ، والدلالة عليه.

ثم وإن سلمنا أن العالم على غاية الحكمة ، والإتقان ؛ ولكن لا نسلم دلالة ذلك على علم البارى ـ تعالى ـ به ، ولا أن العلم به ضرورى.

ولو تردد الناظر بين كون الفاعل له مع العلم ، وعدم العلم ؛ لم يجد إلى الحكم الجزم بكونه عالما سبيلا. دون نظر ، واستدلال ؛ بل وكان ما يقوله الطبيعيون منقدحا في عقله ، وما وقع به الاستشهاد من البناء المحكم في الشاهد ؛ فمبنى على العادة من أن ذلك لا يكون صادرا من غير المختار ؛ والمختار لما يفعله من غير علم محال ؛

فإن النظر فيما نحن فيه إلى كون البارى ـ تعالى ـ مختارا ؛ فهو انتقال إلى مسلك آخر ، وترك لما وقع الشروع فيه ؛ وذلك هو المختار.

__________________

(١) من أول (فان ذلك يستدعى ...) ساقط من ب.

(٢) ساقط من ب.

(٣) فى ب (فإما أن يراد أنه نافع).

(٤) فى ب (بالنسبة).


وهو أن يقال : إذا ثبت أن البارى ـ تعالى ـ خالق (١) العالم بالقدرة ، والاختيار ؛ فالخلق بالقدرة (٢) ، والإرادة (٢) يستدعى القصد إلى الإيجاد والتخصيص ، والقصد إلى الشيء يستدعى العلم بذلك الشيء ضرورة ، وإلا فلا يكون القصد إلى إيجاد ذلك الشيء أولى من القصد إلى غيره ؛ ولهذا فإن من رأى صنعة محكمة ، وقصرا مشيدا ؛ اضطره عقله إلى العلم بعلم صانعه ، وشعوره به.

وإذا ثبت كون الرب ـ تعالى ـ عالما : فإما أن يكون المفهوم من كونه عالما ؛ هو المفهوم من ذاته ، أو غيره.

لا جائز أن يقال بالأول : لوجهين :

الأول : أنه قد يعقل الذات من يجهل كونها عالمة ؛ والمعلوم غير المجهول.

الثانى : أنه يصح اتصاف الذات بكونها عالمة ، والصفة غير الموصوف ؛ فلم يبق إلا أن يكون المفهوم من كونه عالما ، يزيد على المفهوم من الذات.

وإذا كان زائدا : فإما أن يكون عدميا ، أو وجوديا ، أو لا وجوديا ولا عدميا.

لا جائز أن يكون عدميا : وإلا لكان سلبه وجودا ، ولو كان سلبه وجودا ؛ لما صح اتصاف النفى المحض به ؛ وليس كذلك ؛

فإنه يصح أن يقال : المستحيل ليس بعالم. وتفسيره بسلب الجهل باطل ؛ لأن الجهل على ما سبق في قاعدة العلم (٣) :

إما بسيط : وهو عدم العلم لا مطلقا ، وإلا كان عدم العلم في الحجر جهلا ، وليس كذلك ؛ بل عدم العلم فيما من شأنه أن يكون عالما.

وإما مركب / : وهو اعتقاد الشيء على خلاف ما هو عليه.

فإن كان معنى كونه عالما : أنه ليس بجاهل : الجهل البسيط ؛ فهو سلب.

__________________

(١) فى ب (خلق).

(٢) فى ب (بالقدرة والاختيار والإرادة).

(٣) انظر ل ١٣ / أ.


والجهل البسيط : هو عدم العلم فيما من شأنه أن يكون عالما ، والحكم بسلب عدم الشيء ؛ يكون إثباتا لذلك الشيء ؛ فإذن سلب الجهل البسيط ، يكون إثباتا للعلم الوجودى.

وإن كان معنى كونه عالما : أنه ليس جاهلا : الجهل المركب ، فلا يخفى أن سلب الجهل المركب ؛ لا يوجب اتصاف من سلب عنه بكونه عالما : كالحجر.

وإن أخذ في ذلك. عما من شأنه أن يكون جاهلا ، فيوجب كون الرب ـ تعالى ـ قابلا للجهل المركب ؛ وهو محال ـ عليه (١) تعالى (١) ـ

ولا جائز أن يكون لا وجوديا ، ولا عدميا ؛ لما يأتى في إبطال القول بالأحوال ؛ فلم يبق إلا أن يكون وجوديا.

وعند ذلك فلا يخلو : إما أن يكون قائما بذات الله ـ تعالى ـ أو لا بذاته.

لا جائز أن يكون قائما لا بذات الله ـ تعالى ـ ؛ لما سبق في القدرة ، والإرادة.

وإن كان قائما بذات تعالى : فإما قديم ، أو حادث.

لا جائز أن يكون حادثا : لما سبق أيضا في القدرة والإرادة. فلم يبق إلا أن يكون معنى كونه عالما : أنه قام بذاته صفة وجودية أزلية.

وليست تلك الصفة هى نفس القدرة ، ولا الإرادة ، ولا الكلام ، ولا السمع ، ولا البصر ، ولا الحياة ؛ فهو خارج عنها ، وهو المعبر عنه بالعلم.

ويجب مع ذلك أن يكون واحدا لا نهاية له في ذاته ، ولا بالنظر إلى متعلقاته ؛ لما تحقق في القدرة أيضا (٢).

ويجب مع ذلك أن يكون عالما بجميع المعلومات [المقدورة (٣)] له ، وغير المقدورة له.

أما المقدورة ؛ فلما سبق.

__________________

(١) ساقط من (ب).

(٢) انظر ل ٥٨ / ب وما بعدها.

(٣) فى أ (المقدورات).


وأما غير المقدورة ؛ فلأنه لو لم يكن عالما ببعضها مع كونه قابلا للاتصاف بالعلم ؛ فيكون جاهلا ؛ إذ الجهل البسيط : هو عدم العلم فيما من شأنه أن يكون عالما ؛ وذلك على الله ـ تعالى ـ محال.

فإن قيل : لا نسلم العلم الاضطراري بكون الفاعل ـ إذا كان مختارا له عالما ـ يدل على ذلك : ما نجده من الصنائع المحكمة لبعض الحيوانات المختارة ، من غير علم : كنسج العناكيب ، وبناء النحل ، وغيره.

سلمنا أن العلم بذلك ضرورى : ولكن شاهدا ، أو غائبا.

الأول : مسلم. والثانى : ممنوع.

ولا يلزم من الحكم بذلك شاهدا ؛ الحكم به غائبا ؛ وإلا للزم أن يكون أيضا متحركا بالإرادة ، وحساسا ، وجسما ، إلى غير ذلك من الأمور التى نعلمها بالضرورة لباقى ما شاهدناه من البناء المحكم ، والصناعة / المتقنة في الشاهد ؛ وليس كذلك.

سلمنا لزوم ذلك غائبا ؛ ولكن لا نسلم أن المفهوم من كونه عالما ؛ يزيد على المفهوم من ذاته.

قولكم : إنه يتصور العلم بالذات مع الجهل بكون مفهومها ، كونها عالمة ؛ غير مسلم ؛ بل الّذي يعلم إنما هو دلالة لفظ الذات على مسماه ، والّذي يجهل ، إنما هو دلالة قولنا عالم على مسماه : وأنه هل هو نفس الذات ، أو غيرها؟ وذلك لا يدل على اختلاف المعنى.

قولكم : يصح اتصاف الذات بكونها عالمة. مسلم ؛ ولكن لا نسلم دلالة ذلك على اختلاف المعنى ؛ بل جاز أن يكون المعنى واحدا. وإن كان اللفظ مختلفا كما نقول : الإنسان بشر ، والخمر عقار ، إلى غير ذلك من الألفاظ المترادفة.

سلمنا دلالة ما ذكرتموه على اختلاف المفهومين ؛ ولكن لا نسلم أنه أمر وجودى ؛ بل جاز أن يكون عدميا : كما ذهب إليه ضرار بن عمرو ، وبعض الفلاسفة (١). وما ذكرتموه وإن دل على كونه وجوديا ؛ لكنه معارض بما يدل على كونه عدميا ، وذلك أن

__________________

(١) انظر ل ٧٢ / ب.


المفهوم من الجاهل مناقض للمفهوم من كونه عالما ، والمفهوم من الجاهل وجود ؛ فكان المفهوم من كونه عالما ؛ عدميا.

وبيان أن المفهوم من الجاهل وجود : أنه لو كان عدما ؛ لكان سلب الجاهل وجودا. ولو كان سلب الجاهل وجودا. لما صح اتصاف المعدوم المحض به ، وهو متصف به ؛ فكان سلب الجهل عدما ؛ فيكون المفهوم من الجاهل وجودا.

سلمنا أنه يمتنع أن يكون عدميا ؛ ولكن ما المانع من كونه ليس بموجود ، ولا معدوم؟ كما ذهب إليه أبو هاشم ، على ما سيأتى في تحقيق الأحوال (١).

كيف وأن الوجود صفة إثبات ، ولا يوصف بالوجود ؛ وإلا قام الوجود بالوجود ؛ وهو محال.

ولا بالعدم : وإلا كان الوجود معدوما ؛ وهو محال.

وكذلك الحادث في حال خروجه من العدم إلى الوجود ليس بمعدوم ؛ فإن حالة الخروج من العدم ؛ لا تجامع العدم. وليس بموجود ؛ فإن حالة الوجود ، لا تجامع حالة الخروج إلى الوجود.

سلمنا دلالة ما ذكرتموه (٢) على اتصافه بالعالمية ، وأنها صفة وجودية ؛ ولكن معنا ما يدل على امتناع ذلك. وبيانه بأمرين.

الأول : ما أسلفناه من الحجج العامة في نفى / الصفات الوجودية الزائدة على ذات واجب الوجود (٣).

الثانى : أنه لو كان عالما بشيء ؛ لكان عالما بأنه عالم بذلك الشيء ؛ واللازم ممتنع لوجهين :

الأول : أنه يلزم منه أن يكون عالما بذاته ؛ لما سبق ، ولا معنى للعلم بالشيء غير انطباع صورة المعلوم في نفس العالم ، أو إضافة بين العالم ، والمعلوم ؛ وعلى كلا التقديرين : فيستدعى المغايرة ، ولا تغاير في ذات الله ـ تعالى ـ ولا تعدد.

__________________

(١) انظر ل ١١٥ / أمن الجزء الثانى.

(٢) فى ب (ما ذكروه).

(٣) انظر ل ٥٤ / أوما بعدها.


الثانى : أنه يلزم أن يكون عالما بكونه عالما ، بكونه عالما ، وهلم جرا ، إلى غير النهاية ؛ وهو ممتنع ؛ لما فيه من التسلسل ، وإثبات عالميات لله ـ تعالى ـ غير متناهية ؛ وهو محال كما سبق (١).

سلمنا اتصافه بكونه عالما ؛ ولكن لا نسلم أنه يلزم من ذلك أن يكون عالما بعلم كما قاله الجبائى ، وابنه أبو هاشم (٢).

ويدل عليه أن اتصاف البارى بكونه عالما. إما أن يكون جائزا ، أو واجبا.

لا جائز أن يكون جائزا : وإلا لما لزم من فرض عدمه المحال. ولو جوزنا فرض عدم كونه عالما مع أنه من شأنه أن يكون عالما ؛ فيكون (٣) جاهلا (٣). والجهل على الله ـ تعالى ـ محال ؛ فلم يبق إلا أن يكون ذلك له واجبا.

وإذا كان اتصافه بالعالمية واجبا : امتنع أن يكون في اتصافه بذلك محتاجا إلى العلم. وإلا فعند فرض عدم العلم. إن اتصف بكونه عالما ؛ فهو غير محتاج إلى العلم. وإن لم يتصف به ؛ لم يكن ذلك واجبا. وقد قيل بوجوبه.

سلمنا أنه لا بدّ وأن يكون عالما بعلم ؛ ولكن بعلم قائم بذاته ، أو لا بذاته. الأول :

ممنوع. والثانى : مسلم.

وبيان امتناع قيام العلم بذاته (٤) من عشرة أوجه :

الوجه الأول : أن العلم القائم بذاته : إما أن يكون ضروريا ، أو نظريا. لا جائز أن يكون ضروريا ؛ وإلا كان الرب ـ تعالى ـ موصوفا بالاضطرار ؛ وهو محال.

ولا جائز أن يكون نظريا لوجهين :

الأول : أن النظر يستدعى سابقة الجهل ، كما تقدم في قاعدة العلم ، والجهل على الله ـ تعالى ـ محال.

__________________

(١) انظر ل ٤١ / ب وما بعدها.

(٢) انظر ل ٧٢ / ب.

(٣) فى ب (لكان جهلا).

(٤) فى ب (به).


الثانى : أن النظر لا بدّ من إسناده إلى العلوم الضرورية على ما تقدم في قاعدة النظر. والعلم الضرورى في حق الله ـ تعالى ـ ممتنع ؛ لما تقدم.

الوجه الثانى : أن العلم القائم بذاته ـ تعالى ـ : إما أن يكون هو نفس الذات ، أو زائدا عليها.

فإن كان الأول : فلا صفة. كيف : وأنه يلزم أن تكون الذات صفة قائمة بمحل ؛ ضرورة / أن العلم صفة.

وإن كان زائدا على الذات : فإما قديم ، أو حادث.

فإن كان حادثا : لزم قيام الحوادث بذات الرب ـ تعالى ؛ وهو محال. كما يأتى (١). ثم الكلام في افتقار ذلك العلم الحادث في افتقاره إلى علم آخر ، كالكلام في الأول (٢) ؛ وهو تسلسل ممتنع.

وإن كان قديما : فالقدم أخص وصف الإله ـ تعالى ـ ويلزم من ذلك تعدد الآلهة ؛ وهو محال.

الوجه الثالث : هو أن العلم : إما عبارة عن انطباع صورة المعلوم في النفس ، أو عن نسبة ، وإضافة بين العالم ، والمعلوم.

فإن كان الأول : فهو ممتنع لأمرين :

الأول : أنه يلزم منه أن تكون ذاته الرب ـ تعالى ـ مركبة ؛ لانطباع (٣) صور المركبات فيها. إذا علمها ؛ لأن المطابق للمركب ؛ مركب.

الثانى : أنه يلزم منه أن تكون ذاته عند العلم بالحوادث ، محلا لحلول صور الحوادث فيها ؛ وهو محال. كما يأتى (٤).

وإن كان نسبة وإضافة : فالنسبة بين الشيئين تتوقف على تحقق ذينك الشيئين ؛ ضرورة كونها صفة لهما ، والصفة متوقفة على الموصوف. فلو توقف إيجاد الرب ـ تعالى ـ للحوادث على تعلق علمه بها ؛ للزم الدور ؛ وهو ممتنع.

__________________

(١) انظر ل ١٤٥ / ب وما بعدها.

(٢) فى ب (العلم الأول).

(٣) فى ب (ضرورة انطباع).

(٤) انظر ل ١٤٦ / أوما بعدها.


ويلزم منه أيضا : أن يكون علم البارى ـ تعالى ـ متوقفا على غيره ؛ وهو محال.

الوجه الرابع : هو أنه لو كان علمه قائما بذاته ؛ فلا (١) معنى لقيام الشيء بالمحل إلا افتقاره (١) إليه في الوجود. وإلا كان المعلول أبدا قائما بالعلة ؛ وهو محال ؛ بل لا معنى لقيامه به إلا أنه موجود في الحيز تبعا له ، ويلزم من ذلك كون الرب ـ تعالى ـ متحيزا ؛ وهو محال.

الوجه الخامس : هو أن العلم القائم به إما أن يكون صفة كمال ، أو نقصان ، أو لا صفة كمال ، ولا نقصان.

فإن كان الأول : فذات الرب تعالى محتاجة في كمالها إلى غيرها ؛ وهو محال.

وإن كان الثانى : فاتصاف الرب ـ تعالى ـ به محال.

وكذا إن لم يكن كمالا ، ولا نقصانا.

الوجه السادس : هو أنه لو كان عالما بعلم قائم (٢) بذاته ؛ لكان مماثلا للعلم الحادث : فإن حقيقة العلم لا تختلف شاهدا ، ولا غائبا.

ويلزم من ذلك : أن يكون مشاركا لها في العرضية ، والإمكان ؛ وذلك في صفات الله ـ تعالى ـ محال.

الوجه السابع : أنه لو كان عالما بعلم قائم بذاته : فإما أن يكون واحدا ، أو متكثرا.

/ فإن كان واحدا : فإما أن يتعلق بجميع المعلومات ، أو لا يتعلق بجميعها.

فإن كان الأول : فيلزم منه جواز تعلق العلم الواحد بالمعلومات المختلفة ؛ وهو محال. على ما تقدم في قاعدة العلم (٣).

وإن كان الثانى : فيلزم منه أن يكون الرب ـ تعالى ـ جاهلا بباقى الموجودات التى لم يتعلق علمه بها ؛ وهو محال.

__________________

(١) فى ب (فليس معنى قيام الشيء بالمحل افتقاره).

(٢) فى ب (قديم).

(٣) انظر ل ٨ / أوما بعدها.


وإن كان متكثرا : فإما أن يكون غير متناه ، أو متناهيا.

فإن كان غير متناه ؛ فهو محال على ما تقدم في إبطال عدد لا يتناهى في إثبات واجب (١) الوجود.

وإن كان متناهيا : فما من عدد يفرض إلا ويجوز فرض الزيادة عليه والنقصان. فاختصاص الرب ـ تعالى ـ ببعض الأعداد [دون (٢) البعض (٢)] إن لم يكن بمخصص ؛ فقد وجد الجائز لا بمخصص ؛ وهو محال.

وإن كان بمخصص : فالمخصص : إما ذات واجب الوجود ، أو خارج عنه. لا جائز أن يقال بالأول : فإن نسبة الذات إلى جميع الجائزات نسبة واحدة ؛ فلا أولوية.

وإن كان بخارج (٣) عنه (٣) : فالبارى تعالى [محتاج (٤)] فيما قام به من الصفات إلى مخصص خارج ؛ وهو محال.

الوجه الثامن : أنه لو كان عالما بعلم قائم بذاته. فإما أن يعلم علمه ، أو لا يعلمه.

لا جائز أن يقال بأنه لا يعلمه ؛ فإن الشعور بالشيء مع عدم الشعور بالشعور محال.

وإن علمه : فإما أن يعلمه بذاته ، أو بنفس ذلك العلم ، أو بعلم آخر ..

فإن كان الأول : فقد ثبت أنه عالم بعلمه لذاته ، لا بعلم ؛ ويلزم مثله في كل معلوم.

وإن كان الثانى : فتعلق العلم بالعلم يستدعى المغايرة بين التعلق والمتعلق. والعلم الواحد ؛ لا تغاير فيه.

وإن كان الثالث : فالكلام في ذلك العلم الثانى ؛ كالكلام في الأول ؛ وهو تسلسل ممتنع.

الوجه التاسع : أنه لو كان عالما بعلم قائم بذاته ؛ لكان فوقه عليم ؛ لقوله ـ تعالى ـ (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) (٥) واللازم ممتنع ؛ فالملزوم ممتنع.

__________________

(١) انظر ل ٤١ / ب وما بعدها.

(٢) ساقط من (أ).

(٣) فى ب (خارجا).

(٤) فى أ (محال).

(٥) سورة يوسف ١٢ / ٧٦.


[الوجه (١)] العاشر : أن علمه القائم بذاته : إما أن يكون حادثا ، أو قديما.

لا جائز أن يكون حادثا : وإلا كان الرب ـ تعالى ـ محلا للحوادث ؛ وهو ممتنع.

وإن كان قديما : فيجب أن يكون متعلقا بكل ما يصح أن يعلم ؛ لأن نسبة العلم القديم [إلى (٢) ذاته (٢)] نسبة واحدة ؛ فليس تعلقه بالبعض أولى من البعض ؛ وذلك محال.

وبيان ذلك : هو أن علمه القديم إذا تعلق بوجود بعض / الحوادث : فعند عدم ذلك الحادث : إما أن يبقى علم البارى ـ تعالى ـ متعلقا بوجوده كما كان ، أو لا يبقى.

فإن كان الأول : لزم أن يكون علم البارى ـ تعالى ـ جهلا.

وإن كان الثانى : فيلزم (٣) منه التغير في علم الله ـ تعالى ـ ؛ وهو محال.

فلم يبق إلا أن يكون علمه قائما لا في محل كما ذهب إليه الجهمية (٤).

سلمنا أنه عالم بعلم غير خارج عن ذاته ؛ ولكن ما المانع من أن يكون ذلك العلم هو نفس ذاته؟ كما ذهب إليه أبو الهذيل بن العلاف (٥). ويدل عليه ما دل على نفى الصفات الزائدة كما تقدم (٦).

سلمنا أنه عالم بعلم قائم بذاته. وهو زائد عليها ؛ ولكن لا نسلم أنه قديم.

ودليله ما سبق في الوجه (٧) العاشر.

سلمنا أنه قديم ؛ ولكن لا نسلم أنه واحد.

ودليله ما سبق في الوجه (٧) السابع.

سلمنا أنه واحد ؛ ولكن لا نسلم صحة تعلقه بمعلومين فصاعدا.

وبيانه من وجهين :

الأول : ما أسلفناه في قاعدة العلم (٨).

__________________

(١) ساقط من أ.

(٢) ساقط من أ.

(٣) فى ب (لزم).

(٤) انظر ل ٧٢ / ب.

(٥) انظر ل ٧٢ / ب.

(٦) انظر ل ٥٤ / ب.

(٧) من أول (العاشر سلمنا أنه قديم ...) ساقط من ب.

(٨) انظر ل ٨ / أوما بعدها.


الثانى : هو أن العلم بأحد المعلومين مغاير للعلم بالمعلوم الآخر. وبيانه من أربعة أوجه :

الأول : هو أنه يتصور العلم بأحد المعلومين مع الشك في الآخر. ولو كان العلم بهما واحدا ؛ لما كان كذلك.

الثانى : هو أنه لا يقوم العلم بأحد المعلومين مقام العلم بالآخر ؛ ولهذا فإن العلم بالسواد ، لا يكون علما بالبياض ، وكذلك بالعكس.

الثالث : هو أن العلم بأن الشيء الفلانى واقع : مشروط بالوقوع ، والعلم بأنه سيقع : غير مشروط بالوقوع ؛ والمشروط غير ما ليس بمشروط.

الرابع : هو أن العلم بالشيء : عبارة عن انطباع صورة مطابقة له في النفس. فإذا كانت صور المعلومات ، وحقائقها مختلفة ومتغايرة ؛ كانت العلوم مختلفة ، ومتغايرة.

سلمنا صحة تعلقه بمعلومين فصاعدا ؛ ولكن لا نسلم صحة تعلقه بكل ما يصح أن يعلم. وإن سلم ذلك ؛ فلا نسلم صحة تعلقه بهما معا ؛ بل على سبيل البدل.

وإن سلمنا صحة ذلك معا ؛ ولكن لا نسلم الوقوع.

وبيانه من ثلاثة أوجه :

الأول : أنه لو كان عالما بكل ما يصح أن يعلم. فما يصح أن يعلم غير متناه ؛ فمعلوماته لا نهاية لها ؛ ووجود ما لا نهاية له محال كما (١) سبق (١) فى إثبات واجب الوجود.

الثانى : أنه يلزم من ذلك أن (٢) يكون عالما بكونه / عالما ، وعالما بكونه عالما بكونه عالما ، وهلم جرا (٢) ، إلى ما لا نهاية له.

ويلزم من ذلك قيام علوم بذاته لا نهاية لها ؛ وهو محال.

الثالث : هو أنه لو كان عالما بجميع الأشياء ؛ فيلزم أن ما تعلق علمه بوقوعه ؛ وجوب وقوعه ، وما علم عدم وقوعه ؛ امتناع وقوعه ؛ حتى لا يكون العلم جهلا.

__________________

(١) فى ب (على ما ثبت تحقيقه). انظر ل ٤١ / ب وما بعدها.

(٢) فى ب (أن يكون عالما ، وعالما بكونه عالما).


وعند ذلك : فلا يبقى بين الفاعل بالاختيار ، وغير الفاعل بالاختيار فرق ؛ وهو محال ، وما أفضى إلى المحال ؛ فهو محال.

والجواب :

أما النقض بأفعال الحيوانات : فمندفع ؛ وذلك أن من سلم كونها هى الفاعلة ؛ لم يمنع من كونها عالمة. ومن قال أفعال الحيوانات غير مخلوقة لها ؛ بل لله ـ تعالى ـ ؛ فيجب أن تكون معلومة لله ـ تعالى ـ ؛ وإن لم تكن معلومة للحيوانات ؛ إذ ليس الإحكام ، والإتقان مستندا إليها.

قولهم : لا نسلم العلم الاضطرارى بذلك غائبا.

قلنا : العاقل لا يجد من نفسه تفرقة في العلم بعلم المختار بما يفعله شاهدا ، ولا غائبا. فإذا كان الرب ـ تعالى ـ فاعلا بالاختيار ؛ لزم العلم الاضطرارى بكونه عالما به ؛ وذلك لأن ملزوم العلم الاضطرارى بعلم الفاعل المختار بما يفعله : إنما هو كونه مختارا له ؛ ولهذا يجد العاقل من نفسه العلم (١) بذلك (١) ، وإن قطع النظر عن كل وصف خارج عن وصف الاختيار ، والعلم الاضطرارى بكون الفاعل في الشاهد حيوانا ، وجسما ، ومتحركا بالإرادة إلى غير ذلك من الصفات المختصة بالشاهد ، فمن لوازم كونه فاعلا بالحركة والانتقال. لا من لوازم كونه مختارا. والحركة والانتقال في حق الله ـ تعالى ـ محال ؛ فلذلك لم يلزم كونه حيوانا ، ولا جسما ، ولا غير ذلك من صفات (٢) المحدثات في حقه.

قولهم : لا نسلم أن المفهوم من كونه عالما ، يزيد على المفهوم من ذاته ؛ فدليله ما سبق من الوجهين (٢).

قولهم فى الوجه الأول : المعلوم ، والمجهول : إنما هو دلالة اللفظ على مسماه ؛ ليس كذلك ؛ فإنه لو اتحد المسمى ؛ لكانت (٣) كل ذات عالمة ؛ وهو محال.

وبه يبطل ما ذكروه على الوجه الثانى أيضا.

__________________

(١) فى ب (ذلك).

(٢) فى ب (الصفات التى اتصفت بها الحوادث).

(٣) فى ب (كانت).


قولهم : لا نسلم أن المفهوم من كونه عالما ، أمر وجودى.

قلنا : دليله ما سبق.

قولهم : المفهوم من الجاهل مناقض للعالم. لا نسلم ذلك ؛ بل هو مقابل ، والمقابل أعم من المناقض.

غير أن / الجاهل إن كان جاهلا بالجهل المركب : وهو المعتقد لأمر ما على خلاف ما هو عليه ؛ فيكون ضدا للعالم ، ولا يمتنع اشتراكهما في الوجود : كالتقابل الواقع بين السواد ، والبياض.

وإن كان جاهلا (١) بالجهل البسيط (١) : وهو عدم العلم فيما من شأنه أن يكون له العلم ؛ فيكون مقابلا للعالم : مقابلة العدم ، والملكة : كالتقابل الواقع بين البصر ، والعمى.

وعند ذلك : فلا يلزم من رفع هذا العدم المقابل للملكة ، وسلبه ؛ تحقق الوجود ؛ فلا يمتنع سلبه عن العدم المحض ؛ وذلك لأن المسلوب إنما هو خصوص عدم : لا مطلق العدم ؛ ولهذا إن من وصف شيئا ما بكونه ليس (٢) أعمى ، لا يكون واصفا له بصفة وجودية.

قولهم : ما المانع من أن يكون لا موجودا ، ولا معدوما؟

قلنا : لما يأتى في مسألة الأحوال (٣).

وأما الوجود : فهو عندنا نفس الموجود : على ما يأتى في مسألة المعدوم هل هو شيء أم لا (٤)؟ فلا يمتنع اتصافه بكونه موجودا ؛ إذ ليس الموجود هو ما اتصف به (٥) الوجود. والوجود زائد عليه ؛ ليلزم ما ذكروه.

__________________

(١) فى ب (جهلا بسيطا).

(٢) ساقط من ب.

(٣) انظر ما سيأتى في الأحوال ل ١١٤ / أوما بعدها من الجزء الثانى.

(٤) انظر ما سيأتى في الباب الثانى ل ١٠٨ / ب وما بعدها من الجزء الثانى.

(٥) فى ب (بصفة).


وأما حالة الحدوث : فهى أول زمان الوجود عندنا ، لا أنها حالة متوسطة بين زمان الوجود ، والعدم ؛ ليلزم ما ذكروه ، والحادث في أول زمان وجوده ؛ موجود ، فيمن سلم أنه ليس بموجود ، ولا بمعدوم.

قولهم : معنا ما يعارض ذلك ، لا نسلم.

وأما ما أشاروا إليه من الحجج العامة ؛ فقد سبق جوابها (١).

قولهم : لو كان عالما بشيء ؛ لكان عالما بأنه عالم بذلك الشيء ، مسلم ؛ ولكن لم قالوا بالامتناع (٢)؟

قولهم (٣) : يلزم منه (٣) أن يكون عالما بذاته ؛ مسلم.

قولهم : لا معنى للعلم بالشيء غير انطباع صورته في نفس العالم (٤) ، أو إضافة (٤) بين العالم والمعلوم. عنه جوابان :

الأول : منع الحصر ؛ بل العلم صفة وجودية زائدة على الذات. وليست هى نفس الانطباع ، ولا نفس الإضافة الحاصلة بين ذات العالم والمعلوم ؛ بل (٥) النسبة ، والإضافة : إنما هى بين صفة العلم ، والمعلوم (٥). وعلى هذا : فلا يمتنع أن تكون ذاته عالمة بذاته ، بمعنى أن ذاته قامت بها صفة العلم ، وتلك الصفة متعلقة بنفس الذات على نحو تعلقها بسائر المعلومات.

كيف وأنه يمتنع تفسير العلم ، بالانطباع ، والإضافة.

أما الانطباع / : فلخمسة أوجه :

الأول : أنه لو كان العلم عبارة عن الانطباع كما ذكروه ؛ لكان كل شيء قام بذاته صفة (٦) من الصفات العرضية (٦) من كمية ، وكيفية ، وغير ذلك ، أن يكون عالما بها ؛

__________________

(١) انظر ل ٥٤ / ب وما بعدها.

(٢) فى ب (بامتناعه).

(٣) ب (قولكم يلزم).

(٤) فى ب (العالم بها وإضافة).

(٥) من أول (بل النسبة والإضافة ...) ساقط من ب.

(٦) فى ب (صفة عرضية).


ضرورة انطباع صورتها في ذاته ؛ وليس كذلك. وسواء كان حيا مدركا ، أو لم يكن. وإن قالوا : ليس العلم هو الانطباع في الذات ؛ بل في القوة المدركة.

قلنا : فالقوة المدركة هى العلم : وهى وراء الانطباع.

الثانى : أنه لو كان العلم هو نفس انطباع صورة المعلوم في النفس ؛ لما تصور العلم باستحالة اجتماع السواد ، والبياض ؛ فإن ذلك يلازمه العلم بمعنى السواد ، والبياض ؛ فإن تصور المفردات سابق على التصديق بما لها من النسب الواجبة لها. فلو كان العلم بمعنى السواد والبياض عبارة عن انطباع صورة السواد والبياض في النفس ؛ لزم اجتماع الضدين في محل واحد ؛ وهو محال.

وإن (١) قيل : بأن (١) استحالة الاجتماع بين الضدين مشروطة بالوجود العينى ، فإنما يلزم : أن لو كان الوجود زائدا على نفس الذات ؛ وهو غير صحيح ؛ على ما سيأتى في مسألة المعدوم (٢).

الثالث : هو (٣) أنه لو كان الأمر على (٤) ما ذكر (٤) : للزم أن من علم السواد والبياض ، أو الحرارة والبرودة : أن يوصف بكونه أسود ، وأبيض ، وحارا ، وباردا ؛ ضرورة انطباع حقيقة البياض ، والسواد ، والبرودة ، والحرارة في ذاته ، ونفسه ؛ وليس كذلك.

الرابع : أنه يلزم من ذلك أن يكون المحل المنطبع فيه صورة المعلوم لا ينقص في الكمية عن كمية الصورة المنطبعة فيه ضرورة مطابقتها له ؛ وهو محال.

الخامس : أنه لو كان كذلك : فالمعلوم إذا كان جسما ؛ فالمحل المنطبع فيه شاهدا : إما أن يكون جوهرا ، أو عرضا.

لا جائز أن يكون جوهرا : وإلا لزم قيام الجسم بالجوهر ؛ وهو محال.

وإن كان عرضا : لزم قيام الجسم بالعرض ؛ وهو أيضا محال.

وأما تفسيره بالإضافة : فالوجه في إبطاله أن يقال :

__________________

(١) فى ب (فإن قيل إن)

(٢) انظر ص ٣٩٥ من الجزء الثانى.

(٣) ساقط من ب.

(٤) فى ب (كما ذكروه).


إذا كان العلم صفة إضافية : فهى إما وجودية ، أو عدمية ، أو لا وجودية ولا عدمية.

لا جائز أن يقال بالثانى والثالث ؛ لما تقدم (١) ؛ فلم يبق إلا أن تكون وجودية.

وعند / ذلك : فإما أن تكون قديمة ، أو حادثة.

لا جائز أن تكون قديمة : وإلا لما تبدلت وتغيرت ؛ لأن العدم على الموجود القديم محال. ولا يخفى جواز تبدل النسب والإضافات بسبب اختلاف المعلوم في نفسه ؛ فإن النسبة المتعلقة بالمعدوم من حيث هو معدوم ، لا تبقى بعد الوجود ، وكذلك بالعكس ، وإلا كان العلم جهلا ؛ وهو محال.

ولا جائز أن تكون حادثة لوجهين :

الأول : أنه يلزم منه أن يكون الرب تعالى محلا للحوادث ؛ وهو محال على ما سيأتى (٢).

الثانى : أن الكلام في حدوث تلك الصفة ، وافتقارها إلى علم آخر ، كالكلام في الأول ؛ ويلزم منه التسلسل الممتنع.

الوجه الثانى ـ فى الجواب عن أصل السؤال : أنه منتقض بكون الواحد منا عالما ؛ فإنه متحقق مع لزوم ما ذكروه من المحالات ، وبه يندفع ما ذكروه في الوجه الثانى من لزوم التسلسل.

قولهم : سلمنا أنه عالم ؛ ولكن لا نسلم أنه عالم بعلم.

قلنا : إذا سلم أن المفهوم من كونه عالما : صفة وجودية زائدة على الذات ؛ فهو المعنى بقيام العلم بذاته.

وبهذا يندفع قولهم : إن كونه عالما واجب ؛ فلا يكون معللا بالعلم. كيف وأن اتصافه بالعلم : إن قيل : إنه واجب بمعنى أنه لا انفكاك له عن ذاته ـ تعالى ـ ؛ فهو مسلم ؛ ولكن ذلك لا ينافى قيام العلم [بذاته (٣)].

__________________

(١) انظر ل ٧٦ / أ.

(٢) انظر ل ١٤٥ / ب وما بعدها.

(٣) فى أ (بذلك).


وإن قيل : إنه واجب بمعنى أنه لا يفتقر المفهوم من كونه عالما إلى قيام العلم بذاته ؛ فهو غير المصادرة نحو المطلوب ؛ وهو غير مقبول.

قولهم : إنه عالم بعلم قائم لا في ذاته ؛ فقد سبق جوابه في (١) إبطال القول بكونه مريدا بإرادة لا في ذاته (١).

قولهم : لو كان متصفا بالعلم ؛ فعلمه : إما ضرورى ، أو نظرى. إنما يلزم أن لو بيّن قبول علم الرب تعالى لهذا الانقسام ، وإلا فلا. ومجرد القياس على الشاهد في ذلك غير صحيح ؛ كما مضى. ثم إن الضرورى لا معنى له إلا ما لا يفتقر في حصوله إلى نظر واستدلال ، ولا تصح مفارقته للنفس مع انتفاء أضداده ، وعلم البارى ـ تعالى ـ كذلك ، غير أنه لا يصح إطلاق اسم الضرورى عليه ؛ لعدم ورود الشرع به ، فالمنازعة في ذلك ليست إلا في اللفظ ، دون المعنى.

قولهم : إن كان علمه قديما ؛ فالقدم أخص / وصف الإله ، ويلزم من ذلك تعدد الآلهة ؛ فقد سبق جوابه فيما مضى.

[قولهم (٢) : علمه إما أن يكون عبارة عن الانطباع ، أو الإضافة ؛ فقد سبق جوابه (٢)].

قولهم : لا معنى لقيام الصفة بالمحل : إلا أنها موجودة في الحيز تبعا لمحلها فيه.

لا نسلم ذلك. ولا يلزم من عدم تفسير القيام بالمحل بالافتقار إليه في الوجود ، أن يتعين ما ذكروه ؛ بل جاز أن يكون معنى أخص من الافتقار إلى الشيء في الوجود ، ومباينا لما ذكروه وهو أن يقال : إذا وجد شيئان ، واتحدت الإشارة الفعلية إليهما ، بحيث لا يمكن أن يشار إلى ذات كل واحد منهما بغير الإشارة إلى الآخر. فما كان منهما محتاجا إلى الآخر في الوجود ؛ فهو الصفة. وما لم يكن محتاجا ؛ فهو المحل.

وعلى هذا : فلا يلزم التحيز للمحل من ضرورة قيام الصفة به.

__________________

(١) من أول (فى ابطال ...) ساقط من ب. انظر ل ٦٩ / ب.

(٢) ساقط من أ.


كيف وأن ما ذكروه لازم على من وصف الرب ـ تعالى ـ بكونه عالما ، وقادرا ، ومريدا ، إلى غير ذلك من صفات الأحكام ؛ فإنها قائمة بذات الرب ـ تعالى ـ وإن لم يكن متحيزا ؛ فما هو جواب له ، هو (١) جواب لنا.

قولهم : العلم : إما صفة كمال ، أو نقصان ، أو لا صفة كمال ، ولا نقصان. عنه جوابان :

الأول : ما المانع من أن يكون لا صفة كمال ، ولا نقصان؟ وليس نفى ذلك من البديهيات ؛ فلا بد من الدليل.

الثانى : ما المانع من كونه صفة كمال؟

قولهم : يلزم منه أن تكون ذات الرب تعالى مفتقرة في كمالها إلى غيرها.

قلنا : إن أردتم به أن نفس الذات تكون ناقصة دون هذه الصفة (٢) فممنوع.

وإن أردتم به أنها لا تكون متصفة بالصفات الكمالية الزائدة عليها دون هذه الصفة ؛ فهو (٣) مسلم (٣) ، ودعوى إحالته عين المصادرة على المطلوب.

قولهم : لو كان عالما بعلم ؛ لكان علمه مماثلا للعلم الحادث إنما يلزم أن لو اشتركا في أخص صفة لكل واحد منهما ، أو لأحدهما ؛ وليس كذلك ؛ فإن أخص صفة العلم الربانى ؛ وجوب تعلقه بالمعلومات بأجمعها على جهة التفصيل. وأخص وصف العلم الحادث ؛ جواز تعلقه بالمعلومات ، لا نفس وقوع التعلق ؛ فلا اشتراك.

قولهم : إما أن يكون واحدا ، أو متكثرا.

قلنا : بل واحد.

قولهم : إما أن يتعلق بجميع المتعلقات ، أو ببعضها.

__________________

(١) فى ب (عنها فهو)

(٢) فى ب (الصفات).

(٣) فى ب (فسلم).


قلنا : بل بالجميع. وما ذكروه في جهة / الإحالة ؛ فهو ممنوع على ما سبق في قاعدة العلم أيضا (١).

قولهم : إما أن يعلم علمه ، أو لا يعلم علمه ، إلى آخر الشبهة ؛ فيلزم عليه علم الواحد منا ؛ فإن الواحد منا عالم بعلم بالاتفاق ، مع لزوم ما ذكروه من المحالات.

قولهم : لو كان عالما بعلم ؛ لكان فوقه عليم ؛ فقد سبق جوابه. فى أول (٢) المسألة (٢).

قولهم : إما أن يكون علمه قديما ، أو حادثا.

قلنا : بل قديم.

قولهم : فيجب أن يكون متعلقا بكل ما يصح أن يعلم.

قلنا : مسلم.

قولهم : فإذا تعلق علمه بوجود بعض الحوادث : إما أن يبقى مع عدمه ، أو لا يبقى.

قلنا : علم الله ـ تعالى ـ باق غير متغير ؛ بل المتغير إنما هو المتعلق : وهو الوجود ، والعدم ، والتعلق به ، فتعلق العلم بأن الشيء موجود ، غير تعلقه بأنه معدوم. من غير تغيير في نفس العلم ، ولا لزوم جهل في حق الله ـ تعالى ـ

قولهم : ما المانع أن يكون علمه هو نفس ذاته؟

قلنا : لو كان علمه هو ذاته ؛ فذاته قائمة بنفسها ، وليست صفة لغيرها ؛ فيلزم أن يكون علمه قائما بنفسه ، ولا يكون صفة لغيره. ولو كان كذلك ؛ لكان كل علم هكذا ؛ لأن حقيقة العلم ـ من حيث هو علم ـ لا تختلف شاهدا ، ولا غائبا ، وإن اختلفا في القدم ، والحدوث ، وغير ذلك من الصفات الخارجة عن مفهوم العلم ـ من حيث هو علم.

قولهم : وإن كان زائدا على ذاته. فما المانع من كونه حادثا؟

__________________

(١) انظر ل ١٠ / أوما بعدها.

(٢) ساقط من ب ـ انظر ل ٧٤ / ب.


قلنا : لما بيناه من لزوم التسلسل (١) ، ولما سنبينه من امتناع قيام الحوادث بذاته تعالى (٢).

وما ذكروه في الوجه العاشر ؛ فقد سبق جوابه (٣).

قولهم : سلمنا أنه قديم ؛ ولكن لا نسلم أنه واحد.

قلنا : دليل وحدته ما ذكرناه في وحدة القدرة ، والإرادة. وما ذكروه في إحالته في الوجه السابع ؛ فقد سبق جوابه (٤).

قولهم : سلمنا أنه واحد ؛ ولكن لا نسلم صحة تعلقه بمعلومين فصاعدا.

قلنا : دليل صحة ذلك ما سبق في قاعدة العلم (٥). من أن العلم الواحد لا يمتنع أن يتعلق بمعلومين. كيف وأن الدليل الدال على كون علمه متعلقا ببعض الأشياء ؛ إنما هو حدوثه مقدورا مرادا له. وسنبين استناد جميع الحوادث إلى قدرته [وإرادته (٦)] واختياره ؛ فيجب أن يكون علمه متعلقا بجميعها.

وما ذكروه في قاعدة العلم / فقد سبق جوابه ثم أيضا (٧).

قولهم : العلم بأحد المعلومين مغاير للعلم بالمعلوم الآخر.

لا نسلم ذلك ؛ بل العلم في نفسه واحد ، والمتغاير إنما هو التعلق والمتعلق ، ولا يمتنع أن يكون الشيء مع وحدته متكثر التعلق والمتعلق ، كما نقول : وحدة الشمس ، وتكثر تعلقها. وما تتعلق به مما تشرق عليه ، ويستضيء بها ، وكذلك (٨) الوحدة (٨) التى هى مبدأ العدد [فإنها (٩)] واحدة ، وإن تعددت نسبتها بتعدد ما لها نسبة إليه : من كونها نصف الاثنين ، وثلث الثلاثة ، وربع الأربعة ، وهلم جرا إلى غير النهاية.

وعلى هذا : فقد خرج الجواب (١٠) عما ذكروه من التشكيكات.

__________________

(١) انظر ل ٤١ / ب وما بعدها.

(٢) انظر ل ١٤٥ / ب وما بعدها.

(٣) انظر ل ٨١ / أ.

(٤) انظر ل ٨٠ / ب وما بعدها.

(٥) انظر ل ١٠ / أ.

(٦) ساقط من أ.

(٧) انظر ل ١٠ / أ.

(٨) فى ب (وكالوحدة).

(٩) ساقط من أ.

(١٠) ساقط من ب.


أما قولهم : إنه يتصور العلم بأحد المعلومين مع الشك في الآخر ؛ فذلك إنما يرجع إلى تعلق العلم بأحد المعلومين دون الآخر ، لا إلى نفس العلم.

وقولهم : إن العلم بأحد المعلومين لا يقوم مقام العلم بالآخر.

قلنا : العلم بأحدهما هو العلم بالآخر ، وإنما الّذي لا يقوم فيه أحد الأمرين مقام الآخر ، إنما هو التعلق ؛ فإن تعلق العلم بالسواد ، لا يقوم مقام تعلق العلم بالبياض ، ولا نزاع في تعدده.

وقولهم : إن العلم بأحد الشيئين قد يكون مشروطا بخلاف الآخر.

قلنا : المشروط إنما هو التعلق أيضا دون العلم المتعلق ، وما ذكروه في تفسير العلم بالانطباع ؛ فقد سبق جوابه.

قولهم : لا نسلم صحة تعلقه بكل ما يصح أن يعلم.

قلنا : لو قدرنا عدم تعلقه بشيء من الأشياء التى يصح أن تكون معلومة ؛ لكان جاهلا ؛ لما تقدم تقريره ، والجهل على الله ـ تعالى ـ محال. وبه الدلالة على تعلقه بالفعل بجميع المتعلقات معا ، لا على سبيل البدل ؛ فإنا لو قدرنا عدم تعلقه بالفعل بها ، أو ببعضها ؛ لكان جاهلا بما لم يتعلق علمه به حالة عدم تعلق (١) علمه به (١) ؛ وهو محال كما سبق (٢).

قولهم : ما يصح أن يعلم ؛ غير متناه.

قلنا : هو غير متناه إمكانا ، لا أنه غير متناه بالفعل. ونحن وإن منعنا القول بعدم النهاية في الموجودات العينية ؛ فلا نمنعه في الأمور الإمكانية ؛ بل ذلك موضع الإجماع.

قولهم : يلزم من ذلك أن يكون عالما بكونه عالما ، وهلم جرا.

قلنا : لا يوجب ذلك تعدد العلم في نفسه ؛ بل تعدد التعلق ، والمتعلق ، وذلك وإن أفضى إلى غير النهاية إلا / أنه في طرف الاستقبال ، وما لا نهاية له في طرف الاستقبال ؛

__________________

(١) فى ب (تعلقه به).

(٢) انظر ل ٧٦ / أ.


فلا نمنع كونه غير متناه ، كنعيم أهل الجنة ، وعذاب أهل النار ؛ وإنما نمنع من ذلك في الماضى.

كيف وأن التعلقات من باب النسب والإضافات ، وليس لها وجود حقيقى ، وما ليس له وجود حقيقى ؛ فلا نمنع من عدم النهاية فيه ؛ كما تقدم في الوجه الأول.

وما ذكروه في الوجه الثالث ؛ فقد سبق جوابه في مسألة القدرة والله أعلم.


المسألة الخامسة

في إثبات صفة الكلام لله تعالى

وقد أجمع المسلمون قاطبة على اتصاف الرب ـ تعالى ـ بكونه متكلما ـ وأنه تكلم ، ويتكلم ، غير الإسكافى (١) من المعتزلة ؛ فإنه نازع في كونه يتكلم. متحكما في الفرق بين تكلم ، ويتكلم.

لكن معنى كونه متكلما عند أصحابنا (٢) : أنه قام بذاته كلام ، قديم ، أزلى نفسانى ، أحدى الذات ، ليس بحروف ، ولا أصوات ، وهو مع ذلك متعلق بجميع متعلقات الكلام.

لكن اختلفوا في وصف كلام الله ـ تعالى ـ فى الأزل بكونه أمرا ونهيا ، مخاطبة تكلما.

فأثبت ذلك الشيخ أبو الحسن الأشعرى (٣).

__________________

(١) الإسكافى :

محمد بن عبد الله ، أبو جعفر الإسكافى : من متكلمى المعتزلة المتشيعين وأحد أئمتهم ، تنسب إليه الطائفة (الإسكافية) منهم ، وهو بغدادى أصله من سمرقند. توفى سنة ٢٤٠ ه‍.

(لسان الميزان ٥ / ٢٢١ ومقالات الإسلاميين ١ / ٢٦٩ والفرق بين الفرق ص ١٦٩ والملل والنحل ١ / ٥٨ وانظر ما سيأتى في الجزء الثانى ـ القاعدة السابعة ل ٢٤٥ / أ.

(٢) عن رأى الأصحاب في هذه المسألة انظر ما يأتى :

اللمع للأشعرى ص ٣٣ ـ ٤٦ والإبانة عن أصول الديانة له أيضا ص ١٩ ـ ٣١ والتمهيد للباقلانى ص ٤٧ ـ ٤٩ والإنصاف ص ٣٧ له أيضا

وأصول الدين للبغدادى ص ١٠٦ ـ ١٠٨.

والإرشاد لإمام الحرمين ص ٩٩ ـ ١٣٧ ولمع الأدلة ص ٨٥ له أيضا

والاقتصاد في الاعتقاد للغزالى ص ٥٣ ـ ٦٠.

ونهاية الأقدام للشهرستانى ص ٢٦٨ ـ ٣٤٠.

والمحصل للرازى ص ١٢٤ ـ ١٢٦ ومعالم أصول الدين ص ٤٧ له أيضا.

ومن كتب الآمدي : غاية المرام للآمدى ص ٨٨ ـ ١٢٠.

ومن الكتب المتأخرة عن الأبكار والتى رددت معظم الآراء الواردة به وتأثر أصحابها بصاحبه إلى حد بعيد. شرح الطوالع ص ١٨٣ والمواقف للإيجي ص ٢٩٣ ـ ٢٩٦ وشرح المقاصد للتفتازانى ٢ / ٧٣ ـ ٧٩.

(٣) انظر اللمع ص ٣٣ ـ ٤٦.


ونفاه (١) عبد الله بن سعيد ، وطائفة كثيرة من المتقدمين (١) : مع اتفاقهم على وصفه ـ تعالى ـ بذلك فيما لا يزال.

وأما المعتزلة (٢) : فقد اتفقوا كافة على معنى أن كونه متكلما. أنه خالق للكلام على وجه لا يعود إليه منه صفة حقيقية كما لا يعود إليه من خلق الأجسام وغيرها صفة حقيقية.

واتفقوا أيضا على أن كلام الرب ـ تعالى ـ مركب من الحروف ، والأصوات ، وأنه محدث مخلوق.

ثم اختلفوا :

فذهب الجبائى ، وابنه أبو هاشم (٣) : (إلى) (٤) أنه حادث في محل. ثم زعم الجبائى أن الله ـ تعالى ـ يحدث عند قراءة كل قارئ كلاما لنفسه في محل القراءة ، وخالفه الباقون.

وذهب أبو الهذيل بن العلاف ، وأصحابه (٥) : إلى أن بعضه في محل ؛ وهو قوله (كن) وبعضه لا في محل ؛ كالأمر ، والنهى ، والخبر ، والاستخبار.

وذهب الحسين بن محمد النّجار : إلى أن كلام البارى ـ تعالى ـ إذا قرئ ؛ فهو عرض ، وإذا كتب ، فهو جسم (٦).

__________________

(١) فى ب (ونفاه طائفة كثيرة من المتقدمين وعبد الله بن سعيد).

عبد الله بن سعيد :

أبو محمد ، عبد الله بن سعيد بن محمد بن كلاب (بضم الكاف وتشديد اللام) القطان المتوفى بعد سنة ٢٤٠ ه‍ بقليل. شيخ الكلابية وإمام أهل السنة في عصره جاراه الأشعرى في أكثر آرائه. (طبقات السبكى ٢ / ٥١).

(٢) عن رأى المعتزلة في هذه المسألة بالتفصيل انظر الأصول الخمسة للقاضى عبد الجبار ص ٥٢٧ ـ ٥٤٨ والمحيط بالتكليف ، له نشر المؤسسة المصرية تحقيق عمر عزمى ص ٣٠٦ ـ ٣٣٩ والمغنى في أبواب التوحيد والعدل له أيضا ٧ / ص ٦ ، ١٥ ، ٢٠ ، ٨٤ ، ٢٠٨.

(٣) انظر الأصول الخمسة للقاضى عبد الجبار ص ٥٤٠ والمحيط بالتكليف له أيضا ص ٣١٢ ، ٣١٣ ، ٣١٥.

(٤) فى أ (على).

(٥) انظر الأصول الخمسة ص ٥٤٤.

والمحيط بالتكليف ص ٣١٢.

(٦) عن رأى النجار انظر الملل والنحل ١ / ٨٩.


وذهبت الإمامية (١) ، والخوارج ، والحشوية أيضا : الى أن كلام الرب ـ تعالى ـ مركب من الحروف ، والأصوات.

ثم اختلف هؤلاء :

فذهبت الحشوية (٢) : إلى أنه قديم أزلى ، قائم / بذات الرب ـ تعالى ـ لكن منهم : من زعم أنه من جنس كلام البشر. ومنهم من قال : ليس من جنس كلام البشر ؛ بل الحرف حرفان ، والصوت صوتان قديم ، وحادث ، والقديم منهما ليس من جنس الحادث.

وأما الكرامية (٣) : فقالوا : إن الكلام قد يطلق على القدرة على التكلم. وقد يطلق على الأقوال ، والعبارات. وعلى كلا الاعتبارين (٤) ؛ فهو قائم بذات الرب ـ تعالى ـ لكن إن كان بالاعتبار الأول : فهو قديم متحد ، لا كثرة فيه. وإن كان بالاعتبار الثانى ؛ فهو حادث متكثر.

وأما الواقفية (٥) : فقد أجمعوا على أن كلام الله ـ تعالى ـ كائن بعد ما لم يكن ؛ لكن منهم من توقف في إطلاق اسم المخلوق ، وأطلق اسم الحادث عليه.

ومن القائلين بالحدوث : من قال : ليس هو جوهرا ، ولا عرضا. وذهب بعض المعترفين بالصانع ـ تعالى : إلى أنه لا يوصف بكونه متكلما ، لا بكلام ولا بغير كلام.

__________________

(١) الإمامية : هم القائلون بإمامة على رضى الله عنه بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نصا ظاهرا ، وتعيينا صادقا (الملل ص ١٦٢) وهم أربع وعشرون فرقة (مقالات الإسلاميين ١ / ٨٨) ، وأرجعهم البغدادى إلى خمس عشرة فرقة (الفرق بين الفرق ص ٥٣). ولمزيد من البحث والدراسة عن الإمامية راجع ما سيأتى في الجزء الثانى ـ القاعدة السابعة ل ٢٤٧ / أوما بعدها.

(٢) عن رأى الحشوية انظر الملل والنحل ١ / ١٠٦ وما بعدها.

ولمزيد من البحث والدراسة عن الحشوية راجع ما سيأتى في الجزء الثانى القاعدة السابعة ل ٢٥٦ / ب وما بعدها فقد تحدث الآمدي عن الحشوية وآرائهم بالتفصيل.

(٣) انظر الملل والنحل ١ / ١٠٩ ، ١١٠.

(٤) فى ب (التقديرين).

(٥) الواقفية (الممطورة) سموا بذلك لأنهم وقفوا على (موسى بن جعفر) ولم يجاوزوه إلى غيره ، ويقولون إنه لم يمت ؛ بل هو غائب. وإنما سموا بذلك لقول البعض فيهم : والله ما أنتم إلا كلاب ممطورة. يعنى أنهم كالكلاب المبتلة ؛ من ركاكة مقالتهم (اعتقادات فرق المسلمين ص ٥٤ والملل ١ / ١٦٧).


وإذا أتينا على ما هو المنقول عن أرباب هذه المذاهب في هذه المسألة ؛ فلا بد من الإشارة إلى طرق عول عليها بعض الأصحاب في المسألة ، والتنبيه على ضعفها ، ثم نبين بعد ذلك ما هو المعتمد إن شاء الله ـ تعالى.

فمنها : التمسك بقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (١) ووجه الاحتجاج به أنه أخبر بأن مصدر جميع المخلوقات أمره ، وهو قوله : (كن).

ويلزم من ذلك أن يكون أمره قديما ، وإلا لاستدعى أمرا آخر ، والكلام في ذلك الأمر كالكلام في الأول ؛ وهو تسلسل ممتنع.

فإن قيل : ليس المراد من الآية تحقيق الأمر القولى ، وخطاب ما أريد خلقه به ؛ بل المراد به إنما هو تعريف بعود الإرادة ، والمشيئة في المخلوقات ، والتسخير على وفق الإرادة والاختيار ؛ إذ هى حالة تنزل منزلة القول بالأمر ، والنهى. وقد يرد القول بمعنى الحالة ، لا بمعنى الكلام حقيقة ، وإليه الإشارة بقوله ـ تعالى ـ (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) (٢).

وليس المراد من قوله ـ تعالى ـ (فَقالَ لَها) غير التعبرة عن نفوذ الإرادة في السماء ، والأرض ، وكمال التسخير ؛ فإن خطاب الجماد متعذر باتفاق العقلاء.

وليس المراد من قوله : (قالَتا أَتَيْنا / طائِعِينَ) غير التعبرة عن تمام الطواعية ، والانقياد لإرادة الله ـ تعالى ـ ، لا نفس الكلام الحقيقى ؛ إذ هو متعذر في الجمادات قطعا.

ومن ذلك أيضا قال الشاعر :

امتلأ الحوض وقال قطنى

مهلا رويدا قد ملأت بطنى (٣)

أضاف القول إلى الحوض ؛ وليس المراد به غير التعبرة عن الحالة ؛ لاستحالة القول في حقه. وأمثال ذلك في النظم ، والنثر كثير.

__________________

(١) سورة النحل ١٦ / ٤٠ صححت الآية حيث كانت في أ ، ب (إنما أمرنا ... الخ).

(٢) سورة فصلت ٤١ / ١١.

(٣) ورد في لسان العرب مادة قطن بالنص الآتى :

امتلأ الحوض وقال قطنى

سلا رويدا قد ملأت بطنى

كما ورد في شواهد العينى على خزانة الأدب ١ / ٣٦١.


ودليل هذا التأويل من ثلاثة أوجه : الأول :

أنه لو حمل على الأمر حقيقة ؛ لكان أمرا للمعدوم ؛ وهو محال.

الثانى : أنه يكون أمرا للمخاطب بالكون ؛ وهو غير مقدور له ، والتكليف بالمحال ؛ محال.

الثالث : أنه لو كان الكون بالأمر لاستغنى عن القدرة ، أو كان هو القدرة ؛ وهو محال.

سلمنا أنه أراد به الأمر حقيقة ، ولكن ما المانع من كونه حادثا؟ والتسلسل إنما يلزم أن لو كانت الآية عامة في كل شيء حادث ، وليس كذلك ؛ فإن لفظ الشيء في الآية نكرة في سياق الإثبات ، والأصل فيها الخصوص.

ولهذا لو قال رأيت رجلا ؛ فإنه لا يعم كل رجل. بخلاف النكرة المنفية ، أو ما هى في سياق النفى. كما إذا قال : ما رأيت رجلا ؛ فإنه يعم.

سلمنا أنها ظاهرة في العموم ، وأنها تدل على القدح من الوجه المذكور. غير أنها تدل على حدوث الأمر من جهة اللغة ، والمعنى.

أما من جهة اللغة : فمن ثلاثة أوجه : الأول :

أنه قال إذا أردناه. ، وإذا ظرف زمان خاص بالمستقبل. ولهذا لو قال القائل : إذا جاء زيد فأكرمه ، فإنه يختص بالاستقبال ؛ فالأمر المقترن به يكون مستقبلا ، والواقع في الاستقبال ؛ لا يكون إلا حادثا.

الثانى : أنه قال : (أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) وأن الخفيفة الناصبة للفعل المضارع ؛ إذا اتصلت به ، خلصته للاستقبال.

ولهذا لو قال القائل لغيره : أريد أن تفعل كذا ، يمحص للاستقبال ؛ والمستقبل لا يكون إلا حادثا.

الثالث : هو أنه رتب التكوين عقيب قوله : (كُنْ) بفاء التعقيب ؛ وهى مقتضية للترتيب من غير مهلة ، وكل ما لا يتقدم عل الحادث ، ولا بينه وبينه مهلة ؛ فهو حادث.


وأما من جهة المعنى : فهو أنه فسر أمره بقوله : (كُنْ) ، وكن مركب من حرفين مترتبين ؛ وذلك في غير الحادث محال.

سلمنا دلالة / ما ذكرتموه على قدم الأمر ؛ ولكنه استدلال بالكلام على الكلام ، وإثبات الشيء بنفسه ممتنع.

سلمنا صحة الاستدلال به ؛ ولكنه معارض بما يدل على كون القرآن محدثا ، وبيانه من جهة النص ، والإجماع ، والمعنى.

أما من جهة النص : فقوله ـ تعالى ـ : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) (١). والذكر هو القرآن بدليل قوله ـ تعالى ـ (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (٢).

وأيضا قوله ـ تعالى ـ (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) (٣). وقوله ـ تعالى ـ (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) (٤). وقوله ـ تعالى ـ (وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) (٥) والجعل ، والفعل ؛ دليل الحدوث.

وأيضا (٦) ما روى عنه عليه‌السلام. أنه قال : «كان الله ولا شيء ثم خلق الذّكر». وأيضا ما روى عنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنه قال : «ما خلق الله شيئا أعظم من آية الكرسى (٦)». وما روى عنه عليه‌السلام أنه كان يقول : «يا ربّ طه ، ويس ، وربّ القرآن العظيم» (٧).

وأما من جهة الإجماع : فهو أن الأمة من السلف مجمعة على أن القرآن مؤلف من الحروف ، والأصوات ، ومجموع من سور ، وآيات ، ومن ذلك سمى قرآنا ، أخذا من

__________________

(١) سورة الأنبياء ٢١ / ٢.

(٢) سورة الحجر ١٥ / ٩.

(٣) سورة الزمر ٣٩ / ٢٣.

(٤) سورة الزخرف ٤٣ / ٣.

(٥) سورة الأحزاب ٣٣ / ٣٧.

(٦) حدث تقديم وتأخير في ب (وأيضا ما روى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : «ما خلق الله أعظم من آية الكرسى». وما روى عنه عليه‌السلام أنه قال : «كان الله ولا شيء ثم خلق الذكر».

(٧) أورده السيوطى في تخريجه لأحاديث شرح المواقف بالترتيب الآتى : (يا رب القرآن العظيم ، ويا رب طه ويس) وقال : لم أقف عليه.

انظر المخطوطة رقم ١٣٠ مجاميع ورقة ٢١٤ بمكتبة الأزهر.


قول العرب قرأت الناقة لبنها في ضرعها ؛ أى جمعته. ومنه قوله ـ تعالى ـ (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) (١).

ولو لا ذلك لما تصور أن يسمعه موسى ـ عليه‌السلام ـ ؛ وقد سمعه.

وأيضا فإنهم أجمعوا على أن القرآن. منزل مقرؤ بألسنتنا ، محفوظ في صدورنا ، مسطور في مصاحفنا ، ملموس بأيدينا ، مسموع بآذاننا ، منظور بأعيننا ؛ ولذلك وجب احترام المصحف ، وتبجيله حتى أنه لا يجوز للمحدث حمله ، ولمسه ، والتقرب إليه ، ولا للجنب تلاوته ، وقد وردت أيضا الظواهر من الكتاب ، والسنة بما يدل على كونه (٢) مسموعا ، وملموسا (٢) ، وأنه بحرف وصوت ؛ فمن ذلك قوله ـ تعالى ـ (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) (٣) وقوله ـ تعالى ـ (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) (٤). وقول النبي ـ عليه‌السلام ـ «لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدوّ فتناله أيديهم» (٥). وقوله ـ عليه‌السلام «إذا تكلّم الله بالوحى سمع صوته كجرّ السّلسلة على الصّفا» (٦) ، وقوله ـ عليه‌السلام ـ «من قرأ القرآن وأعربه فله بكلّ حرف منه عشر حسنات (٧)» إلى غير ذلك من الظواهر ، وذلك كله دليل الحدوث.

وأيضا : فإن الإجماع منعقد / على أن القرآن معجزة الرسول ، والبرهان الدال على صدقه. ومعجزة الرسول يجب أن تكون من الأفعال الخارقة للعادة ، المقارنة لتحديه بالرسالة ؛ فإنه لو كان المعجز قديما أزليا ؛ لم يكن ذلك مختصا ببعض المخلوقين ، دون البعض ؛ إذ القديم لا اختصاص له بواحد دون واحد.

__________________

(١) سورة القيامة) ٧٥ / ١٧.

(٢) فى ب (ملموسا ومسموعا).

(٣) سورة التوبة ٩ / ٦.

(٤) سورة الواقعة ٥٦ / ٧٩.

(٥) روى النووى في (رياض الصالحين ـ ط صبيح ص ٢٦٢ باب (النهى عن المسافرة بالمصحف إلى بلاد الكفار إذا خيف وقوعه بأيدى العدو)

عن ابن عمر رضى الله عنهما قال : نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو) متفق عليه. هكذا أورده النووى ، ولعل الزيادة التى ذكرها الآمدي في رواية أخرى.

(٦) روى البخارى في صحيحه عن مسروق عن ابن مسعود (إذا تكلم الله بالوحى سمع أهل السموات شيئا ، فإذا نزع عن قلوبهم ، وسكن الصوت ، عرفوا أنه الحق ، ونادوا ما ذا قال ربكم قالوا الحق). (صحيح البخارى ٩ / ١٧٢ ، ١٧٣).

(٧) وردت عدة أحاديث بهذا المعنى في رياض الصالحين للنووى (باب فضل قراءة القرآن) ص ١٦٥ وما بعدها.

وبعض هذه الأحاديث صحيح.


ثم ولو جاز أن يجعل بعض الصفات القديمة معجزا ؛ لجاز ذلك على باقى الصفات : كالعلم ، والقدرة ، والإرادة ؛ إذ الفرق تحكم لا حاصل له.

وأما من جهة المعنى : فمن وجوه يأتى ذكرها عن قرب.

والجواب :

قولهم : إن المراد من الآية تعريف حالة نفوذ الإرادة ، والمشيئة في المخلوقات ؛ فهو خلاف الظاهر ، ولا يجوز المصير إليه إلا بدليل. وحيث حمل لفظ القول على التعبرة عن الحالة ؛ كما ذكروه في النصوص ، والإطلاق ، فإنما كان لدليل دل عليه ؛ ضرورة استحالة مخالفة الظاهر من غير دليل ، ولا دليل هاهنا ؛ فيمتنع تأويله.

قولهم : إنه يكون أمرا للمعدوم. ليس كذلك ؛ بل للحادث في حال حدوثه ، وليس بمعدوم.

قولهم : إنه تكليف بما لا يطاق. إنما يلزم أن لو كان أمر تكليف ؛ وليس كذلك ؛ بل أمر تكوين.

قولهم : يلزم منه الاستغناء عن القدرة إنما يلزم أن لو كان التكوين بالقول ؛ وليس في الآية ما يدل عليه ؛ بل على وقوعه عنده كما سبق في مسألة الإرادة.

قولهم : لشيء نكرة في سياق الإثبات ؛ فيخص ، ولا يلزم منه التسلسل.

قلنا : عنه جوابان :

الأول : أجمع المسلمون على أن المراد بهذه الآية كل شيء يراد بدء إحداثه من الحوادث ، ويدل على ذلك أيضا أن البارى ـ تعالى ـ أورد ذلك في معرض التمدح ، والاستعلاء ، ولو كان المراد به واحدا ؛ لما حصل به التمدح ؛ لأن الواحد من المخلوقين قد يريد شيئا ؛ فيكون على حسب ما أراد.

الثانى : أن النكرة في سياق الإثبات. وإن كانت لا تعم الجميع معا ؛ لكنها عامة الصلاحية : أى أنها صالحة أن تتناول كل واحد من آحاد الجنس بجهة الشيوع ، وإخراج قوله : «كن» عند حدوثه عن ذلك يكون تقييدا للمطلق من غير دليل ؛ (١) فلا يجوز (١).

__________________

(١) ساقط من ب.


قولهم : إذا ظرف زمان مختص بالاستقبال. عنه جوابان :

الأول : أن الاستقبال مختص بإرادة الكائنات : / أى بتعلق الإرادة بها ، لا أنه عائد إلى القول.

الثانى : أنه وإن كان الاستقبال مختصا بالقول ؛ لكن بتعلقه بالأمور ، لا بنفس القول.

قولهم : أن الخفيفة إذا اتصلت بالفعل المضارع خلصته للاستقبال.

عنه جوابان أيضا :

الأول : المنع. ويدل عليه قول أفاضل النحاة : إن الفعل المضارع مع أن الخفيفة في حكم المصدر. فإذا قال القائل : أريد أن أقوم. فهو كما لو قال : أريد القيام. والمصدر لا تخصص له بحال ، ولا استقبال ؛ فما هو في معناه كذلك ، ويدل عليه قوله ـ تعالى ـ (وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (١) وليس المراد به إيمانا متوقعا في الاستقبال ؛ فإنهم لم ينقموا منهم ما سيكون ؛ بل ما هو كائن منهم.

الثانى : أن ذلك وإن أوجب التخصيص بالاستقبال ؛ لكنه عائد إلى تعلق القول لا إلى نفس القول ؛ وهذا كما إذا قال القائل : أريد أن يعلم الله نصحى لفلان ؛ فليس المراد به غير تجدد تعلق العلم به ، لا تجدد علم الله ـ تعالى ـ به.

قولهم : إنه رتب التكوين عليه بفاء التعقيب ؛ فيكون حادثا.

قلنا : المرتب عليه التكوين بفاء التعقيب إنما هو تعلق القول لا نفس القول ؛ فلا يلزم منه حدوث القول ، وإن لزم منه حدوث التعلق.

قولهم : إنه فسر أمره بقوله : (كُنْ) وهو مركب من حرفين مترتبين ؛ فيكون حادثا.

قلنا : الحروف ، والأصوات ليست هى كلام الله ـ تعالى ـ ، ولا هى نفس الأمر ؛ بل [هى (٢)] عبارة عنه على ما سيأتى : فقوله (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ

__________________

(١) سورة البروج ٨٥ / ٨.

(٢) ساقط من أ.


فَيَكُونُ) (١) أى مدلول قولنا (٢) : (كُنْ). ولا يلزم من حدوث الدّال حدوث المدلول ، وإلا فلو كان (كُنْ) تفسيرا للأمر ، للزم التسلسل على (٣) ما سبق (٣).

قولهم : هذا استدلال بالكلام على الكلام.

قلنا : اتفق المسلمون على أن هذا من كلام الله ـ تعالى وأنه حق صدق ؛ فيكون دليلا على القدم بالنسبة إلى المنازع منهم في الحدوث ، ولا دور ، ومن أنكر كونه من كلام الله ـ تعالى استدل عليه بأخبار من دلت المعجزة على صدقه عنه أنه كلام الله ـ تعالى ـ على ما يأتى في النبوات (٤) ، وما ذكروه من المعارضة بالنصوص.

أما قوله ـ تعالى ـ (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) (٥) ؛ فهو دليل اللعب عند ورود الذكر الحادث من الرب تعالى ، وليس في ذلك ما يدل على حدوث كل ذكر يأتى منه ؛ فلا يلزم منه حدوث القرآن. ولهذا أخبر / باللعب عند استماعه ، والقرآن لم يحدث عندهم لعبا وضحكا ؛ بل إفحاما ، واضطرابا.

وعند هذا قال كثير من أهل التفسير ـ المراد به : إنما هو التذاكير ، والمواعظ الواردة على لسان الرسول الخارجة عن القرآن.

ومنهم من قال : المراد به الرسول (٦) المبلغ ؛ فإنه يسمى ذكرا : ومنه قوله ـ تعالى ـ (ذِكْراً* رَسُولاً) (٧).

ويحتمل أن يكون المراد منه الذكر الحادث ، المركب من الحروف ، والأصوات الدالة على الكلام القديم دون المدلولات.

وعلى هذا يجب حمل قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (٨) ،

__________________

(١) وردت الآية هنا أيضا خطأ وقد صححتها. سورة النحل ١٦ / ٤٠.

(٢) فى ب (قوله).

(٣) فى ب (كما سبق).

(٤) انظر ل ١٢٨ / أمن الجزء الثانى وما بعدها ـ القاعدة الخامسة : فى النبوات.

(٥) سورة الأنبياء ٢١ / ٢.

(٦) فى ب (إنما هو الرسول).

(٧) سورة الطلاق ٦٥ / ١٠ ، ١١.

(٨) سورة الحجر ١٥ / ٩.


وقوله ـ تعالى ـ : (نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) (١). وأما قوله ـ تعالى ـ : (وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) (٢). فيحتمل أنه أراد به فعله من الثواب ، والعقاب ، ونحوه ؛ فإن الأمر قد يطلق بإزاء الفعل. كما قال ـ تعالى ـ : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ) (٣) : أى فعلنا ، وقوله ـ تعالى ـ : (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) (٤) : أى فعله. ويحتمل أنه أراد به الأمر القولى المركب من الحروف ، والأصوات دون مدلوله. وقوله ـ تعالى ـ (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) (٥) ؛ فالمراد بالجعل التسمية : أى سميناه بذلك ؛ فإن الجعل قد يطلق بمعنى التسمية ، ومنه قوله ـ تعالى ـ (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) (٦) : أى يسمونه كذبا. وقوله ـ تعالى ـ (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) (٧) : أى سموهم بذلك.

ويحتمل أنه أراد به القرآن : بمعنى القراءة دون مدلولها ؛ فإن القرآن قد يطلق بمعنى القراءة. ومنه قول النبي عليه الصلاة والسلام : «ما أذن الله لشيء (٨) إذنه لنبىّ حسن التّرنّم بالقرآن» (٩) : أى القراءة.

ومنه قول الشاعر :

ضحّوا بأشمط عنوان السّجود به

يقطّع اللّيل تسبيحا وقرآنا (١٠)

أى قراءة.

وأما الأخبار : فيجب حملها على الدلائل دون المدلولات ، وهى الحروف والأصوات ؛ لما فيه من الجمع بين الدليلين.

قولهم : إن الأمة مجمعة على أن القرآن مؤلف من الحروف والأصوات.

__________________

(١) سورة الزمر ٣٩ / ٢٣.

(٢) سورة الأحزاب ٣٣ / ٣٧.

(٣) سورة القمر ٥٤ / ٥٠.

(٤) سورة هود ١١ / ٩٧.

(٥) سورة الزخرف ٤٣ / ٣.

(٦) سورة الحجر ١٥ / ٩١.

(٧) سورة الزخرف ٤٣ / ١٩.

(٨) فى أ (لبنى).

(٩) هذا الحديث أورده البيهقى في الأسماء والصفات (ص ٢٦٢) وقال :

(رواه البخارى ومسلم في الصحيح عن ابراهيم بن حمزة وأخرجه مسلم من وجه آخر).

(١٠) هذا البيت من شعر حسان بن ثابت ـ شاعر الرسول عليه الصلاة والسلام ـ قاله في رثاء عثمان بن عفان.

انظر (ديوان حسان بن ثابت) نشر دار صادر. بيروت سنة ١٩٦١ ص ٢٤٨.


قلنا : الإجماع إنما انعقد على ذلك بمعنى القراءة لا بمعنى المقروء ، وإليه الإشارة بقوله ـ تعالى (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) (١).

قولهم : ولو لا ذلك لما تصور أن يسمعه موسى عليه‌السلام.

قلنا : السماع قد يطلق على الإدراك بحاسة الأذن ، وقد يطلق بمعنى الانقياد ، والطاعة ، وقد يطلق بمعنى الفهم ، والإحاطة ؛ ومنه يقال : سمعت كلام فلان ، أى فهمته.

وعند ذلك فمن الجائز / أن يكون سماع موسى ـ عليه‌السلام ـ لكلام الله ـ تعالى ـ القديم القائم بنفسه ؛ بمعنى : أنه خلق له فهمه ، والعلم به : إما بواسطة ، أو بغير واسطة ؛ وذلك المسموع لا يستدعى أن يكون حرفا ، ولا صوتا.

قولهم : إن الأمة مجمعة على أن القرآن منزل مقرؤ بألسنتنا محفوظ في صدورنا ، إلى آخر ما قالوه (٢).

قلنا : ما أجمعوا على كونه منزلا ، إنما هو العبارات الدالة على المعنى القديم ، لا نفس المعنى القديم.

وأما كونه مقروءا بألسنتنا : فمعناه أنه مدلول للقراءة القائمة بألسنتنا ، والقراءة مخلوقة قائمة بألسنتنا. ولا يلزم من حدوث القراءة ، وقيامها [بنا (٣)] أن يكون المقروء كذلك ؛ فإن القراءة ، والمقروء بمنزلة الذكر ، والمذكور.

ومن ذكر الله ـ تعالى ـ بلسانه ؛ فذكره حادث قائم به دون الله ـ تعالى ـ ، وكما لا يلزم ذلك (٤) فى الذكر ، والمذكور ؛ فكذلك في القراءة والمقروء.

وعلى هذا التحقيق يكون الكلام في الحفظ ، والمحفوظ ، والكتابة ، والمكتوب. ثم كيف يكون المكتوب حالا فيما فيه الكتابة؟ والله ـ تعالى ـ مكتوب في المصاحف ؛

__________________

(١) سورة القيامة ٧٥ / ١٧.

(٢) فى ب (ما قرروه).

(٣) فى أ (بيان).

(٤) ساقط من ب.


وهو غير حال فيها ؛ وقد قال الله ـ تعالى ـ فى حق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) (١) وصفه بكونه مكتوبا في التوراة ، والإنجيل ، وإن لم يكن ـ عليه‌السلام ـ حالا فيهما.

وعلى هذا : فقد اختلف أصحابنا :

فمنهم : من لم يجوز الإطلاق بكون القرآن في المصحف ، حتى يقرن به أنه مكتوب فيه ؛ دفعا لوهم الحلول.

ومنهم : من لم يتحاش عن ذلك مع عنايته أنه مكتوب فيه ، متمسكا في جواز الإطلاق بقوله ـ تعالى ـ (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) (٢) ولم يخالف في أن القراءة غير المقروء ، والكتابة غير المكتوب ، أحد من المعتزلة. غير النّجّار ـ وهو مذهب الحشوية ـ مع زيادة القول بالقدم ، ومن وافق منهم على أن القراءة ، غير المقروء.

واتفقوا على أن المقروء لا قيام له بالقارئ ، غير الجبّائى ، وأبو الهذيل ؛ فإنهما قالا : بوجود كلام الله ـ تعالى ـ فى القارئ مع القراءة ، وطردا ذلك في الكتابة ، والحفظ أيضا ـ مع موافقتهما على أن كلام الله غير الكتابة ، والقراءة. ثم التزما ـ على ذلك قيام كلام الله ـ تعالى ـ مع وحدته بكل قارئ في ساعة واحدة ـ وأنه يكون مسموعا عند قراءة كل قارئ ، وإن لم يكن صوتا. / واختلفا. فقال الجبّائى : إذا قرأ القارئ آية : فيقوم به كلام الله ـ تعالى ـ وكلام له مثل كلام الله تعالى ـ متولد من قراءته.

وطريق الرد على النّجّار من وجهين :

الأول : أن القراءة تختلف برفع الصوت ، وحفظه ، والإعراب ، واللحن وغير ذلك ؛ والمقروء غير مختلف.

الثانى : أنه لا يحسن أن يقول القائل : قرأت القراءة. كما يحسن ذلك في القرآن ، ولو اتحدا لما اختلفا.

__________________

(١) سورة الأعراف ٧ / ١٥٧.

(٢) سورة الواقعة ٥٦ / ٧٧ ، ٧٨.


وأما قول الجبّائى : بقيام كلام الله ـ تعالى ـ بالقارئ ، والمصحف ، والحافظ مع مغايرته للقراءة ، والكتابة ، والحفظ ، فمع أنه مجاحد العقل ؛ مناقض لأصوله من ثلاثة أوجه :

الأول : أن البنية المخصوصة ـ وهى مخارج الحروف ـ شرط في وجود الكلام ، والشرط غير متحقق في أوراق المصحف.

الثانى : يلزمه قيام الكلام بنفس الحافظ لكلام الله ـ تعالى ـ ، مع إنكاره قيام الكلام بالنفس.

الثالث : أن من أصله : أن الكلام المفيد لا يكون إلا من حروف مترتبة متوالية بعضها بعد بعض ، وقبل بعض.

وعند هذا : فالكتابة الحادثة دفعة واحدة في قطعة شمع من طابع عليه كتابة منقوشة.

إن قيل : بتوالى حروفها مرتبة في أزمنة ؛ فهو خلاف الفرض.

وإن قيل : بوقوعها معا. فقد اختل شرط الإفادة ؛ فلا يكون الكلام المفيد قائما بالسمع ؛ وهو خلاف مذهبه.

والقول بقيام الكلام مع وحدته بجميع القراء في ساعة واحدة : ممتنع. وإلا لزم منه تعدد المتحد ، أو اتحاد المتعدد ؛ والكل محال.

ثم لو جاز قيام كلام واحد بمحلين ؛ لجاز قيام لون واحد بمحلين ؛ ولم يقل به قائل.

والقول بأن الكلام مسموع ، وليس بصوت ، يوجب كون الكلام هو الحروف ؛ اذ الكلام هو الحروف المرتبة عند هذا القائل. فإذا كان الكلام ليس بصوت ؛ فالحروف ليست أصواتا ؛ وليس كذلك. فإنا لا نشعر عند كلام المتكلم بمعنى خارج عن صوته ، ومقاطع صوته ، ومقاطع الأصوات [أصوات] (١) ، وتلك هى الحروف ؛ فمن ادعى الشعور ،

__________________

(١) ساقط من أ.


والسماع لمعنى خارج عن ذلك ؛ فهو مباهت. كمن ادعى أنه يرى مع الجواهر ، والأعراض القائمة بها ما يخالفها.

فإن قيل : لو كانت الحروف أصواتا ؛ لكانت موصوفة بالارتفاع والانخفاض ، والحسن وضده ، وغير ذلك من صفات الأصوات / ؛ وليس كذلك.

فنقول : لا بدّ في اتصاف الحرف بذلك من حيث هو صوت ، وإن لم يكن متصفا به من حيث أنه مقطع الصوت.

وقوله : إنه إذا قرأ القارئ آية قام كلام الله ـ تعالى ـ بنفسه. وكلام (١) له مثل كلام الله بنفسه أيضا متولد من قراءته ؛ فبطلانه ببطلان القول بالتولد كما سيأتى (٢) إن شاء الله ـ تعالى ـ

وأما كون القرآن مسموعا بحاسة الأذن ؛ فقد اختلف (٣) أصحابنا فيه (٣).

فأصل شيخنا رحمه‌الله : أنه يجوز تعلق كل إدراك بكل موجود. وعلى هذا فلا يمتنع سماع كلام الله القديم بحاسة الأذن.

وذهب عبد الله بن سعيد : إلى أن إدراك السمع لا يتعلق بغير الأصوات.

وعلى هذا فالمجمع على كونه مسموعا ، إنما هو القرآن بمعنى القراءة على ما تقدم ، وهو المراد من سماع موسى لكلام الله تعالى.

ومن أصحابنا : من زعم أن المسموع هو المتكلم ، دون الكلام. وهو مردود بما تدركه ضرورة من صوت المتكلم عند كلامه.

وأما الملموس المنظور إليه بالأعين ؛ فليس هو المقروء ، والأصوات ، والحروف المنتظمة منها بالإجماع. وإنما هو الكتابة الدالة على القرآن القديم.

ولا يلزم من حدوثها ، حدوث مدلولها. وما أجمع عليه أنه مركب من الحروف والأصوات ؛ فإنما هو القرآن بمعنى القراءة. لا نفس المقروء على ما تقدم.

__________________

(١) مكررة في أواحداهما زائدة. أما في ب فقد وردت صحيحة.

(٢) انظر ل ٢٧٣ / أوما بعدها.

(٣) فى ب (فيه أصحابنا).


وعلى هذا فقد اندفع ما ذكروه من الظواهر الخبرية.

قولهم : الإجماع منعقد على أن القرآن معجزة الرسول.

قلنا : المراد به القراءة. وإلا فالإجماع منعقد على أن القرآن الحقيقى الّذي (١) كلام الرسول (١) حكاية عنه ليس معجزة للرسول ، وإنما الاختلاف فيما وراءه ، وهو أن ذلك القرآن ما هو؟

فنحن نقول : إنه المعنى القائم بالنفس. والخصم يقول : إنه حروف وأصوات أوجدها الله ـ تعالى ـ وعند وجودها انعدمت ، وانقضت ، وأن ما أتى به الرسول من العبارات ، وكذلك قراءتنا نحن ؛ ليس هو ذلك القرآن. وإنما هو دليل عليه. وهل يقال هو حكاية عنه إطلاقا؟ فذلك مما جوزه عبد الله بن سعيد ، وامتنع عنه الباقون من أصحابنا ؛ لأن الحكاية مشعرة بالمماثلة ، وما هذا شأنه ؛ فيتوقف إطلاقه على ورود الشرع به.

وعلى هذا منعوا من إطلاق القول : بأن لفظ القارئ بالقرآن مخلوق ؛ لأن اللفظ منبئ عن الطرح ، والإلقاء ، ولم يرد به الشرع / ؛ ولم يمنعوا من ذلك في قول القائل : لفظ القارئ بقراءته مخلوق.

وأما ما يذكرونه من المعنى ؛ فسيأتى الكلام عليه في موضعه إن شاء الله تعالى.

وأعلم أن التمسك بمثل هذا المسلك غير خارج عن الظنون ؛ فلا يكون مفيدا لليقين فيما المطلوب منه اليقين.

المسلك الثانى : قوله ـ تعالى ـ : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) (٢) ووجه الدلالة منه : أنه أثبت له الخلق ، والأمر ، وفصل بينهما. ولو كان الأمر مخلوقا ؛ لما حسن الفصل بينهما ، ولكان معنى الكلام ألا له الخلق ، والخلق ؛ وهو ممتنع.

وهو من النمط الأول في عدم إفادة اليقين أيضا ؛ وذلك لأن الأمر المذكور مع الخلق ، وإن (٣) كان من الخلق (٣) ؛ إلا أن المفهوم من خصوص كونه أمرا يزيد على المفهوم من عموم كونه خلقا.

__________________

(١) فى ب (الّذي هو كلام الله ـ تعالى ـ وكلام الرسول).

(٢) سورة الأعراف ٧ / ٥٤.

(٣) من أول (وإن كان ...) ساقط من ب.


وإذا اختلف المفهومان ؛ فقد تحقق الفصل بين (١) الخلق ، والأمر (١) ، وامتنع أن يكون الحاصل من الآية ألا له الخلق ، والخلق. وإن قدر اتحاد المفهومين ؛ فالعطف غير ممتنع نظرا إلى الاختلاف في اللفظ ، ومنه قول العبسى :

حيّيت من طلل تقادم عهده

أقوى وأقفر بعد أمّ الهيثم (٢)

وأقوى وأقفر بمعنى واحد

المسلك الثالث : (٣)

قولهم : العقل الصريح يقضى بتجويز تردد الخلق بين الأمر ، والنهى ، ووقوعهم تحت التكليف ، فما وقع به التكليف من الأمر ، والنهى : إما قديم ، أو حادث.

فإن كان قديما : فهو المطلوب.

وإن كان حادثا : فكل صفة حادثة لا بد وأن تستند إلى صفة قديمة للرب ـ تعالى ـ قطعا للتسلسل.

وإذ كان كذلك ؛ وجب أن يستند تكليفهم إلى أمر ، ونهى ، هو صفة قديمة للرب ـ تعالى ـ وهذا أيضا مما يمتنع التمسك به ؛ فإن الخصم وإن سلم إمكان تردد الخلق بين الأمر ، والنهى ؛ فما المانع من أن يكون ذلك الأمر ، والنهى حادثا قائما لا في ذات الله ـ صفة قديمة : هى أمر ، ونهى. حتى لا يكون أمرا حادثا ، إلا عن أمر قديم ، ولا نهيا حادثا ، إلا عن نهى قديم ؛ فإن افتقار الجائز في الوجود لا يدل إلا على شيء قديم يجب الانتهاء إليه ، والوقوف عليه ؛ وهو أهم من كون ذلك الشيء القديم أمرا ، أو نهيا.

كيف : وأنه لو لزم / ذلك ؛ لكان البارى ـ تعالى ـ متصفا بمثل كل ما يوجد في عالم الكون ، والفساد من الكائنات المخلوقة لله ـ تعالى ؛ وهو ممتنع.

__________________

(١) فى ب (بينهما).

(٢) انظر ديوان عنتر بن شداد ص ١٤٣ البيت الثامن من المعلقة تحقيق عبد المنع شلبى نشر المكتبة التجارية الكبرى.

(٣) هذا المسلك ذكره الآمدي في غاية المرام ص ٨٩ ، ٩٠ وناقشه بمثل ما ذكر هنا وقد أورده الغزالى في الاقتصاد والشهرستانى في نهاية الأقدام ص ٢٦٨ ، ٢٦٩.


المسلك الرابع (١) :

قالوا : قد ثبت أن البارى ـ تعالى ـ عالم بالأشياء. ومن علم شيئا يستحيل أن لا يخبر عنه ؛ فالعلم بالشيء ، والخبر عنه متلازمان ؛ فلا علم إلا بخبر ، ولا خبر إلا بعلم.

وهو بعيد عن التحقيق أيضا ؛ فإن الخصم قد لا يسلم ملازمة الإخبار عن الشيء للعلم به ؛ فإن الإخبار عن الشيء يلازمه العلم به ضرورة. فلو لزم من كون الإخبار عن الشيء معلوما ، أن يخبر عنه ؛ لزم الإخبار عن الخبر الأول ، وهلم جرا ، إلى ما لا يتناهى ؛ وذلك مما يحسن من النفس بطلانه. ثم وإن قدر ملازمة الإخبار عن الشيء ، للعلم به ، ولكن الخبر الّذي هو عبارة عن العبارة ، أو عبارة عن معنى قائم بالنفس ، غير العلم بالشيء ، والإرادة له. الأول : مسلم ، ولكن لا يلزم أن يكون قائما بنفس البارى ـ تعالى ـ على مذهب هذا الدال ، والثانى : ممنوع.

ثم وإن سلم أن الخبر النفسانى يكون ملازما للعلم بالشيء ، ولكن مطلقا ، أو في حق الخالق دون المخلوق. الأول : ممتنع ؛ لما فيه من المصادرة على المطلوب ، والثانى : مسلم ؛ ولكن لا يلزم مثله في حق الرب (٢) ـ تعالى ؛ لجواز أن يكون الحدوث شرطا في الملازمة ، أو القدم مانعا منها.

المسلك الخامس (٣)

قالوا : البارى ـ تعالى ـ يجب أن يكون حيا ؛ لما سنبينه (٤) ، والحى قابل للكلام ، وكل ما قبل شيئا ، فإن خلا عنه ؛ فلا يتصور خلوه عن ضد من أضداده ، وأضداد الكلام من صفات النقص ، وذلك كالغفلة ، والبهيمية ، والخرس ، ونحوه ؛ فلا يكون البارى ـ تعالى ـ متصفا بها.

__________________

(١) نسب الشهرستانى هذا المسلك إلى الأسفرايينى انظر نهاية الأقدام ص ٢٦٩.

(٢) فى ب (البارى).

(٣) انظر اللمع للأشعرى ص ٣٦ ؛ حيث يورد الأشعرى هذا الدليل. ثم انظر نهاية الأقدام للشهرستانى ص ٢٦٨ ؛ حيث يذكر هذا المسلك ويسميه طريق الأشعرية.

ثم انظر الفصل لابن حزم ٣ / ٩.

(٤) فى ب (سيأتى). انظر ل ١١١ / أوما بعدها.


وهذا المحال : إنما لزم من عدم اتصاف الرب ـ تعالى ـ بالكلام النفسانى ؛ فيكون محالا وهذا المسلك أيضا ضعيف ؛ لما سلف.

والّذي يخصه هاهنا أن يقال :

وإن سلمنا أن البارى ـ تعالى ـ حىّ مع إمكان النّزاع فيه ؛ كما يأتى ؛ فلا نسلم أن كل حي قابل لاتصافه بصفة الكلام ؛ فإن الحيوانات العجماوات حية مع عدم قبولها لذلك.

سلمنا أن كل حي قابل لاتصافه بصفة الكلام ، ولكن بشرط الحدوث ، أو لا بشرط الحدوث. الأول : مسلم ، والثانى : ممنوع.

ولا يلزم من قبول الحادث لذلك قبول القديم ـ تعالى ـ لذلك ؛ لجواز أن يكون الحدوث شرطا ، أو القدم مانعا /.

وربما أورد عليه أسئلة يمكن التقصى عنها منها :

قولهم : سلمنا أن كل حي قابل لصفة الكلام ؛ ولكن ما الّذي عنيتم بالضد؟

إن عنيتم به عدم الكلام ؛ فهو حق ؛ ولكن دعوى إحالته عين محل (١) النزاع (١).

وإن عنيتم به أمرا وجوديا : يكون منافيا للكلام ؛ فلا نسلم أن الكلام له ضد. حتى يصح اتصاف الحىّ به.

وبيانه : هو أن الكلام من صفات الأفعال ؛ فإن المتكلم من فعل الكلام ، لا من قام به الكلام ، على ما سيأتى. والفعل لا ضد له.

وبيانه : أنه لو كان للفعل من حيث هو فعل ضد ؛ لم يخل : إما أن يكون ذلك الضد فعلا ، أو لا (٢) يكون فعلا (٢).

لا جائز أن يكون فعلا لوجهين :

الأول : أنه لو كان الفعل ضدا للفعل من حيث هو فعل ؛ لكان (٣) مضادا (٣) لنفسه وهو محال.

__________________

(١) فى ب (المصادرة عن المطلوب).

(٢) فى ب (أولا فعلا).

(٣) فى ب (لكان الفعل مضادا).


الثانى : أنه لو كان الفعل ضدا للفعل ، لما اجتمع في المحل الواحد عرضان مختلفان من حيث هما فعلان ؛ وهو محال.

ولا جائز أن لا يكون فعلا ، فإن ما ليس بفعل من الموجودات ليس إلا القديم وصفاته ـ تعالى ـ ؛ وهو قد يكون مضادا للأفعال لوجهين :

الأول : أنه كان يلزم امتناع وجودها معه ؛ وهو محال.

الثانى : أن التضاد بين القديم ، والأفعال الحادثة : إنما يكون باجتماعهما في محل واحد ؛ وهو غير متصور في حق القديم تعالى.

سلمنا أن الكلام ليس من صفات الأفعال ؛ ولكن مع ذلك يمتنع أن يكون له ضد ، وبيانه من وجهين :

الأول (١) : أنه لو كان للكلام ضد ؛ لكان مدركا بالإدراك الّذي يدرك به الكلام ، كما أن السواد لما كان ضدا للبياض ؛ كان مدركا بما به إدراك البياض ؛ وهو البصر ، وليس كذلك ؛ فإن الكلام مدرك بالسمع بخلاف أضداده.

الثانى : أنه لو كان للكلام ضد ، لتصور أن يتكلم المتكلم بضرب من الكلام. وإن قام به ضد ، بالنسبة إلى ضرب آخر حتى يقال : إنه متكلم أخرس معا. بالنسبة إلى ضربين : كالعلم ، والجهل ؛ فإنهما لما كانا متضادين صح أن يكون الواحد عالما ، جاهلا بالنظر إلى شيئين مختلفين ؛ وليس كذلك.

سلمنا أن للكلام ضدا ؛ لكن للكلام القائم بالمتكلم ، أو للكلام الّذي لم يقم به.

الأول : مسلم. والثانى : ممنوع.

وعلى هذا فالخرس وغيره ، من أضداد الكلام ؛ إنما هو ضد لكلام المخلوقين / لقيامه به دون كلام الخالق ؛ لعدم قيامه به كما يأتى. وهذا هو مذهب النجار من المعتزلة. والّذي يدل على أن كلام الله ـ تعالى ـ لا ضد له على أصل الأشعرى أمران :

__________________

(١) فى ب (أحدهما).


الأول : أن الكلام عنده قديم ، وتقدير ضد للقديم محال ؛ لأنه إنما يجوز تقدير الضد فيما يجوز تقدير انتفائه ؛ وانتفاء القديم محال.

الثانى : أن الرب ـ تعالى ـ على أصله آمر بأشياء ، وغير آمر بأشياء يمكن أن يكون آمرا بها ، ولم يكن متصفا بضد الأمر فيما لم يأمر به عنده. وإذا جاز أن لا يكون متصفا بضد الأمر فيما لم يأمر به ، جاز أن لا يكون متصفا بضد الكلام مع إمكان تكلمه.

سلمنا أن الكلام له ضد مطلقا ، ولكن لم قلتم بامتناع الخلو عن جميع الأضداد؟ وبم الرد على (١) الصّالحى من المعتزلة في قوله بذلك؟

سلمنا استحالة الخلو ؛ ولكن متى يكون الخرس ، أو غيره (٢) صفة نقص (٢)؟ إذا كان الكلام صفة كمال ، أو إذا لم يكن؟ الأول : مسلم. والثانى : ممنوع.

وذلك لأنه مهما لم يكن الكلام صفة كمال ؛ فلا يلزم أن يكون ضده صفة نقص ، ولم (٣) يثبتوا (٣) أن الكلام صفة كمال بالنسبة إلى الرب ـ تعالى ـ ؛ فلا يثبت أن أضداد الكلام من صفات النقص.

والجواب :

أما السؤال الأول : فمندفع ؛ فإنه إذا سلم جواز اتصاف كل حي بصفة الكلام ، فالكلام الّذي هو صفته :

إما العبارات المؤلفة من الحروف والأصوات ، كما يقوله الخصوم ، أو المعنى القائم بالنفس كما نقوله نحن.

وعلى كلا التقديرين : فله ضد ؛ فإن كل ما ينافى كلام النفس : كالغفلة ، والسهو ، والطفولية ، والبهيمية ، فهو ضد له ، إذ لا معنى للضد إلا هذا. وكل معنى يمنع من خطور الكلام في النفس مطلقا على وجه لا يوجد معه الكلام أبدا ؛ فهو المعنى بالخرس ، وليس

__________________

(١) الصّالحى :

صالح بن عمرو الصّالحى. شيخ الصّالحية التى نسبت إليه وهو من مرجئة القدرية.

(الملل والنحل ١ / ١٤٥).

(٢) فى ب (ونحوه صفة كمال).

(٣) فى ب (ومتى لم يثبتوا).


الخرس المضاد للكلام بهذا المعنى : هو جفاف اللسان ، واختلاف مخارج حروفه بحيث لا يتمكن معه من التعبير ؛ فإنه لا مانع من الجمع بين ذلك ، وبين خطور الحديث في النفس ؛ فيكون الكلام في النفس ، فإن وجد الخرس في اللسان ؛ فالخرس في اللسان مضاد للكلام اللسانى دون النفسانى ، وكذلك كل ما ينافيه ؛ فهو ضد له : كالسكون ، وغيره.

قولهم : إن الكلام صفة فعلية ؛ لأن المتكلم من فعل الكلام لا من قام به الكلام ؛ فسيأتى إبطاله عن قرب (١).

ثم وإن سلمنا أن الكلام صفة / فعلية ؛ فلا نسلم أنه ضد (٢) له (٢).

قولهم : إما أن يكون ذلك الضد فعلا ، أو لا يكون؟

قلنا : ما المانع أن يكون [فعلا (٣)].

قولهم : فى الوجه الأول : فيلزم من ذلك أن يكون الفعل ضدا لنفسه ، إنما يلزم أن لو كان التضاد بينهما باعتبار ما به الاشتراك ، وليس كذلك ؛ بل جاز أن يكون التضاد بينهما مع اشتراكهما في صفة الفعلية باعتبار ما به التعين ، والتمايز.

وعلى هذا فلا يخفى الجواب عن الوجه الثانى أيضا.

قولهم : لا نسلم أن الخرس ضد للكلام ، دليله ما سبق.

قولهم : إنه لو كان ضدا للكلام ؛ لكان مدركا بما به إدراك الكلام.

قلنا : هذه دعوى عريّة عن البرهان ، وهى غير مسلمة. ولا يلزم من إدراك بعض الأضداد بما به إدراك ضده طرد ذلك في جميع الأضداد.

ثم يلزمهم على ذلك فناء الجواهر ، فإنه مضاد لها ، وهى مدركة بحاسة البصر ، واللمس ، بخلاف الفناء.

__________________

(١) فى ب (قريب).

(٢) فى ب (لا ضد له).

(٣) ساقط من أ.


ثم وإن سلمنا ذلك ؛ ولكن لا نسلم امتناع إدراك أضداد الكلام بما به إدراك الكلام ؛ فإن كل موجود يصح أن يسمع على أصلنا.

قولهم : لو كان الخرس ، أو غيره ضدا للكلام ؛ لتصور أن يكون الواحد متكلما ، أخرس بالنسبة إلى ضربين من الكلام.

قلنا : أما الكلام النفسانى : إن قلنا إنه معنى (١) واحد لا تعدد فيه ـ كما هو مذهب الشيخ أبى الحسن الأشعرى ـ ، فلا يتصور أن يكون المتكلم متكلما ببعضه دون بعض ؛ لعدم التبعيض فيه ـ وإن قلنا إنه متعدد : فلا مانع من ثبوت ضرب من الكلام ، وانتفاء بعض آخر لمانع يمتنع وجوده معه ، ويكون في حكم الخرس ؛ ولكن ربما لا يسمى ذلك المانع من البعض خرسا ؛ فيكون النزاع واقعا في التسمية لا في المعنى.

وعلى هذا يكون الكلام في الكلام اللسانى أيضا.

قولهم : الخرس وغيره ضد لكلام المخلوق ؛ لقيامه به ، وليس ضدا لكلام الخالق ؛ لعدم قيامه به.

قلنا : إذا سلم أن كل حىّ قابل للكلام ، وأن الرب ـ تعالى ـ حىّ ؛ فيكون قابلا للكلام ؛ فالمعنى الموجب لمنع الكلام في حقه يكون خرسا على ما سبق.

قولهم : كلام الله ـ تعالى ـ عندكم قديم لا يجوز تقدير انتفائه ، وما ليس كذلك ؛ فلا يكون له ضد.

قلنا : وإن امتنع العدم في كلام الله ـ تعالى ـ فبتقدير وجود الضدين تقدير عدمه لا يكون مجوزا لعدمه في نفسه. ولهذا قال ـ تعالى ـ : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) (٢).

وما / لزم من تقديره الفساد ، من تقدير اجتماع الآلهة ، جواز اجتماع الآلهة.

قولهم : إن الله ـ تعالى ـ عندكم آمر بأشياء ، وغير آمر بأشياء يمكن أن يكون آمرا بها على ما قرروه.

__________________

(١) ساقط من ب.

(٢) سورة الأنبياء ٢١ / ٢٢.


قلنا : إن قلنا بما ذهب إليه عبد الله بن سعيد ـ من أصحابنا ـ أن الأمر ، والنهى ، وسائر أقسام الكلام ؛ ليس مما يتصف به الكلام القديم في الأزل ؛ بل فيما لا يزال ، وأنه من الصفات الفعلية ؛ فالأمر ليس من الصفات القديمة ، حتى يلزم من عدم اتصاف الرب ـ تعالى ـ به أن يكون متصفا بضده.

وإن قلنا : بما ذهب إليه الشيخ أبو الحسن الأشعرى : من أنه موصوف به في الأزل.

فنقول : كلام الله ـ تعالى ـ صفة واحدة. وحاصله يرجع إلى الإخبار عن كل ما يصح الإخبار عنه على ما هو عليه ؛ فما أمر الله ـ تعالى ـ به ؛ فهو مخبر عن كونه (١) مأمورا. وما لم يأمر به (١) ؛ فهو مخبر عن كونه غير مأمور به ؛ فكلامه مع وحدته يتعلق بجميع المتعلقات على اختلاف أوصافها.

فعلى هذا : لو قدرنا وجود الأمر فيما أخبر (٢) به الله ـ تعالى ـ أنه غير مأمور (٢) ؛ لكان ذلك كذبا ، وتناقضا محالا ؛ فوجود الأمر فيما لم يأمر به لا يكون متصورا ، وعدم اتصاف الرب ـ تعالى ـ بالأمر فيما لا يكون الأمر به متصورا ، لا يوجب اتصافه بالضد ، كما لا يلزم الجهل في حق الحجر من عدم العلم فيه لما لم يكن العلم في حقه متصورا ، بخلاف الكلام ؛ فإنه قد سلم تصور اتصاف الرب ـ تعالى ـ به على ما سبق.

كيف وأن ما لم يأمر به فالمنتفى فيه إنما هو تعلق الأمر به ، لا نفس الأمر ؛ فلا يلزم أن يكون الرب ـ تعالى ـ متصفا بضد الأمر.

قولهم : لم قلتم بامتناع الخلو عن جميع الأضداد؟

قلنا : إذا ثبت أن كل حي قابل للكلام ، فامتناع قيام الكلام به لا بدّ وأن يكون لمانع. وإلا لما كان ممتنعا ؛ وذلك هو المعنى بالضد.

وعلى هذا : فقد اندفع مذهب الصّالحى من المعتزلة في قوله : بجواز خلو المحل عن جميع الأضداد ، التى هو قابل لها.

__________________

(١) فى ب (مأمورا به وما لم يخبر به).

(٢) فى ب (أخبر الله ـ تعالى ـ أنه غير مأمور به).


قولهم : إنما يكون الخرس صفة نقص أن لو بينتم (١) أن الكلام صفة كمال.

قلنا : إذا ثبت أن الرب تعالى حىّ ، ونسلم أن كل حىّ قابل لصفة الكلام ، فالرب ـ تعالى ـ قابل له ، والعقل الاضطرارى يشهد بأن الكلام في حق من هو قابل للكلام صفة كمال ، وعدمه صفة نقص.

/ ولهذا فإن من لم يتصف بالكلام من الأحياء كان حاله أنقص من حال من (٢) اتصف به (٢) ، وحال من اتصف به أكمل من حال من لم يتصف به على ما لا يخفى.

المسلك السادس :

وهو مسلك الأستاذ أبى إسحاق الأسفرايينى ، وهو أن قال : أجمع المسلمون على أننا مأمورون ، منهيون في وقتنا هذا بأمر الله ـ تعالى ـ ونهيه. وهو إما أن يكون قديما ، أو حادثا.

لا جائز أن يكون حادثا : فإنه لا قائل بأن الله ـ تعالى ـ يخلق (٣) لنفسه في وقتنا هذا (٣) أوامر ، ونواهى فإنها لا تبلغنا ، ولا نحن في زمن تبليغ ؛ فلم يبق إلا أن يكون أمره ونهيه قديما ، ولا قديم من الموجودات غير [ذات (٤)] الله ـ تعالى ـ وصفاته على ما يأتى : فكان أمره ، ونهيه صفة قديمة قائمة به.

وهو ضعيف أيضا ؛ إذ للخصم أن يقول : إنما وافق على أمرنا ونهينا ؛ بالأمر والنهى الحادث في زمن الوحى. ولا يلزم من عدم ذلك في وقتنا هذا ؛ امتناع التكليف به في وقتنا هذا بواسطة حكاية النبي له ـ ومن بعده العلماء القائمين بأمر الشريعة.

ولهذا فإن السيد لو أمر عبده بفعل شيء في الغد ؛ فإنه يعد مأمورا بأمر سيده ، وإن كان أمر (٥) سيده (٥) قد عدم في الغد. وكذلك لو وصى (٦) أولاده بصدقة بعد موته ؛ فإنهم

__________________

(١) فى ب (ثبت).

(٢) فى ب (من لم يتصف به).

(٣) فى ب (يخلق في وقتنا هذا لنفسه).

(٤) ساقط من أ.

(٥) فى ب (أمره).

(٦) فى ب (قد أوصى).


يعدون مأمورين بأمر والدهم بعد موته ، وإن كان أمره معدوما بعد موته ، ولهذا يوصفون بالطاعة (١) بعد الموت لأمره (١) : بتقدير الامتثال ، وبالعصيان له : بتقدير المخالفة.

وبالجملة فهذا المسلك غير خارج عن رتب الظنون.

المسلك السابع :

قالوا : أجمع المسلمون. على أن الله ـ تعالى ـ متكلم بكلام ، وأجمعوا على أنه لا بدّ من تقدير ضرب من الاختصاص بالكلام ؛ فذلك الاختصاص : إما بمعنى قيامه به ، أو بمعنى أنه فعله ، أو بمعنى مشاركته (٢) له في كونه لا في محل ، كما قيل في الإرادة.

فجهات اختصاص الكلام بالله ـ تعالى ـ لا تزيد على هذه باتفاق الخصوم.

لا سبيل إلى تفسير الاختصاص بكونه فاعلا له ؛ لسبعة أوجه :

الأول : أن الواحد منا لو تكلم بكلام مفيد ؛ فهو كلامه لا محالة ، ولذلك يقال تكلم ، وهو متكلم. ولا جائز أن تكون جهة نسبته إليه هو كونه فاعلا له. وإلا لما كان متكلما من خلق الكلام فيه اضطرارا : كالمبرسم (٣) / والنائم.

الثانى : أنه يلزم على سياق ذلك لمن اعترف من المعتزلة بأن أفعال العباد مخلوقة لله ـ تعالى ـ كالنّجّارية (٤) ـ أن يكون الرب ـ تعالى ـ هو (٥) المتكلم (٥) بكلامنا لا نحن ؛ وهو جحد للضرورة.

الثالث : أنه لو كان المتكلم من فعل الكلام ؛ لوجب أن يكون البارى ـ تعالى ـ عندهم مصوتا ؛ لكونه فاعلا للصوت ؛ إذ الكلام عندهم مركب من الحروف ، والأصوات ، والصوت أعم من الكلام.

__________________

(١) فى ب (لأمره بعد الموت).

(٢) فى ب (أنه مشارك).

(٣) المبرسم : هو المريض بالبرسام. وفي القاموس المحيط باب الميم فصل الباء البرسام بالكسر : علة يهذى فيها ، برسم بالضمّ فهو مبرسم.

(٤) يقول النّجار : الله خالق أعمال العباد خيرها وشرها ، حسنها وقبيحها والعبد مكتسب لها. وأثبت تأثيرا للقدرة الحادثة ؛ وسمى ذلك كسبا على حسب ما يثبته الأشعرى. (الملل والنحل ١ / ٨٩).

(٥) فى ب (متكلما).


ولهذا يصح عندهم أن يقال : كل كلام صوت ، وليس كل صوت كلاما. ومن ضرورة فعل الأخص. فعل ما يندرج في معناه من الأعم.

ويلزم أيضا أن يكون متحركا بما يفعله من الحركات ، ومسمى بكل ما (١) ينسب إليه (١) من التكوينات ؛ وهو محال.

الرابع : أن الصفة الحادثة لها نسبة إلى الفاعل ، ونسبة إلى المحل ؛ فنسبتها إلى الفاعل : بأنه محدثها ، ونسبتها إلى المحل ؛ بأنها فيه ؛ وهما معنيان مختلفان ، وما نسب إلى الشيء بأنه فيه. يقال بأنه موصوف به لا محالة حتى أن من قامت به حركة (٢) ، يقال إنه متحرك. وإن لم يخطر بالذهن كونه فاعلا ؛ بل ويحكم عليه بذلك مع القطع بكونه غير فاعل لما قام به : كالمرتعش ، والمتحرك قصرا.

وعند ذلك فلو وصف الفاعل به ؛ لأثرت النسبتان المختلفتان في حكم واحد ؛ وهو ممتنع على ما سيأتى.

الخامس : هو أن اتصاف من قام به الكلام إذا لم يكن هو الفاعل للكلام ـ بكونه متكلما على ما حققناه ـ يبطل رسم المتكلم على أصلهم بأنه الفاعل للكلام ؛ إذ هو غير جامع.

السادس : أنه لو كان المتكلم من فعل الكلام ؛ لوجب أن يكون المريد (٣) ، والقادر ، والعالم (٣) ، من فعل الإرادة (٤) ، والقدرة ، والعلم (٤) ؛ وليس كذلك بالإجماع. ولا فرق بين هذه الصور على ما لا يخفى.

السابع : أنهم إذا قالوا بأن معنى كون البارى ـ تعالى ـ متكلما بمعنى أنه فاعل للكلام.

فيقال (٥) لهم : فما طريقكم (٥) فى إثبات هذه الصفة الفعلية؟.

__________________

(١) فى ب (ما ينشئه).

(٢) فى ب (الحركة).

(٣) فى ب (المريد والعالم والقادر).

(٤) فى ب (الإرادة والعلم والقدرة).

(٥) فى ب (فإن يقال لهم طريقكم).


فإن قالوا : دليل وقوعها كونها مقدورة لله ـ تعالى ـ ؛ فيلزم أن يكون كل مقدور واقع ؛ وهو محال.

وإن قالوا : طريقنا ليس إلا قول الأنبياء الذين دلت المعجزة (١) على صدقهم ، وقد قالوا. إن الله ـ تعالى ـ متكلم بأمر ، ونهى ، وغيرهما.

قلنا : فلو لم يبعث الله ـ تعالى ـ رسولا ، فعندكم أنه يجب على العاقل معرفة الله ـ تعالى ـ معرفة تتعلق بذاته وصفاته.

/ فكيف يعرف كونه متكلما ؛ وذلك لا يعرف إلا بالرسول ، ولا رسول ؛ فلا بد لهم من المناقضة في أحد أمرين : إما في القول بإيجاب المعرفة بالعقل. وإما في القول بأن المعرفة منوطة بالرسول.

وهذه المحالات : إنما لزمت من القول بأن المتكلم من فعل الكلام ؛ فالقول به ممتنع.

ولا سبيل إلى القول بالثالث ؛ لما سبق في الإرادة.

فلم يبق إلا الاختصاص. بمعنى القيام به.

وعند ذلك. فإما أن يكون قديما ، أو حادثا.

لا جائز أن يكون حادثا : وإلا كان الرب ـ تعالى ـ محلا للحوادث ؛ وهو محال ، كما سيأتى (٢) ؛ فلم يبق إلا أن يكون قديما.

وهو ضعيف أيضا : فإنه وإن سلم اتفاق المسلمين على كونه متكلما بكلام ؛ لكن للخصم أن يقول : إنما وافقت على كونه متكلما بكلام ، بمعنى أنه خالق للكلام.

وعند هذا فمنازعته. إما في تحقيق هذا المعنى وجوازه ، أو في إطلاق اسم المتكلم بهذا الاعتبار.

__________________

(١) فى ب (المعجزات).

(٢) انظر ل ١٤٦ / أوما بعدها.


لا سبيل إلى الأول : إذ هو خلاف إجماع المسلمين على كون الرب ـ تعالى ـ قادرا على خلق الحروف ، والأصوات ، وغيرها. وإن تورع في جواز إطلاق الاسم ؛ فهو بحث لغوى لا حظ له بالمعنى (١) [(٢) ومثل هذا لا تدار (٢)] عليه مسائل الأصول.

المسلك الثامن :

قالوا : أجمع المسلمون على أن البارى ـ تعالى ـ متكلم بكلام ، فذلك الكلام لا يخلو : إما أن يكون قائما بذاته (٣) ـ تعالى ـ ، أو لا يكون قائما بذاته.

فإن كان قائما لا في ذاته : فإما أن يكون قائما في محل ، أو لا في محل.

لا جائز أن يكون قائما لا في محل ؛ فإنه إن ادعى أنه جسم لطيف كما قاله النظام ؛ فقد كابر العقل.

وإن سلم أنه عرض ؛ فالعرض لا يقوم بنفسه [على ما يأتى (٤)].

ولا جائز أن يكون قائما بمحل. وإلا لاشتق له من عمومه ، أو خصوصه اسم : إما له ، أو للجملة التى هو منها. وإن تعذر الاشتقاق ؛ فلا بد من تقدير إضافة إليه ؛ والكل متعذر فيما نحن فيه.

وتحقيق القول فيه : أن الصفة القائمة بالمحل لها صفة عموم ، وخصوص. والاشتقاق قد يكون من جهة عمومها : كاشتقاق العالم من العلم القائم به.

وقد يكون من جهة الخصوص (٥) : كاشتقاق اسم الفقيه مما قام به من خصوص العلم بالفقه.

وقد يكون ذلك لنفس المحل الّذي قامت به / الصفة : كاشتقاق اسم الأسود للمحل الّذي قام به السواد.

__________________

(١) فى ب (فى المعنى).

(٢) فى أ (وما مثل هذا ألا تدار).

(٣) فى ب (بذات الله).

(٤) ساقط من أراجع الجزء الثانى ـ الأصل الثانى ـ الفرع الثانى :

في استحالة قيام العرض بنفسه ل ٤١ / ب وما بعدها.

(٥) فى ب (خصوصها).


وقد يكون ذلك للجملة التى محل الصفة من جملتها : كاشتقاق اسم العالم للإنسان ، من العلم القائم بنفسه.

وإن تعذر الاشتقاق ؛ فلا بد من تقدير إضافة ، وذلك كما في رائحة المسك القائم بالمسك ؛ فإنه وإن تعذر الاشتقاق منها ؛ فلا بد من إضافتها.

وهو أن يقال : رائحة المسك. فلو كان الكلام قائما في محل ، لسمى (١) متكلما ، أو قيل (١) كلام المحل ؛ وليس كذلك.

فلم يبق إلا أن يكون قائما بذاته تعالى ؛

وهو إما قديم ، أو حادث.

لا جائز أن يكون حادثا : وإلا كان الرب ـ تعالى ـ محلا للحوادث ، وهو ممتنع [كما (٢) يأتى] ؛ فلم يبق إلا أن يكون قديما ؛ وهو المطلوب.

وعلى هذا التقدير : فقد اندفع بما تشكك به المعتزلة من قولهم :

إنه لو خلق الله ـ تعالى ـ الرزق في محل مخصوص ؛ فإنه يرجع منه الوصف إلى الرب ـ تعالى ـ حتى يقال له رازق. لا إلى المحل إذ لا يقال له رازق.

وكذلك لو خلق الله ـ تعالى ـ الكتابة في محل فإنه ـ تعالى ـ يقال له كاتب ، ولا يقال للمحل كاتب.

وكذا إذا خلق الحياة في محل ؛ قيل له حي. ولا يرجع إلى المحل منه وصف ؛ فكذلك إذا خلق الكلام في محل ؛ وجب أن يسمى متكلما ، ولا يسمى المحل الّذي فيه الكلام متكلما.

أما الإشكال الأول : فلأنه وإن لم يعد إلى المحل من عموم الرزق حكم ؛ فقد عاد إليه من أخص (٣) وصفه (٣) وهو كونه نفعا ، ولذة ، فيقال : المحل ملتذ ، ومنتفع [به (٤)] ولا كذلك الكلام ؛ فإنه لا يرجع منه إلى المحل حكم لا عموما ، ولا خصوصا.

__________________

(١) فى ب (يسمى متكلما وقيل).

(٢) ساقط من أانظر ل ١٤٦ / أوما بعدها.

(٣) فى ب (اختص حكمه).

(٤) ساقط من أ.


وأما الإشكال الثانى : فلأن اشتقاق الكاتب إنما هو من الكتابة ، وهى تحريك الأدوات والجوارح ، التى بعضها وضع الرقوم ، والحروف المتألفة الدالة. لا أنها نفس الرقوم الحادثة.

وعلى هذا فيمتنع تسمية الرب ـ تعالى ـ كاتبا ؛ لعدم صدور الكتابة عنه.

[وأما (١) قوله (١)] ـ تعالى ـ (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) (٢) : أى وعد (٣) بها ، وأوجبها (٣) على نفسه. وقوله ـ تعالى ـ : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ) (٤) معناه (٥) أوحينا ، وألزمنا (٥) ، وقوله : (وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ) (٦) : أى موجبون ، وملزمون. وقوله ـ عليه‌السلام ـ : «كتب الله التوراة بيده» : أى ألزم حكمها بقدرته ، ومشيئته.

وأما / الإشكال الثالث : فمندفع أيضا ؛ فإنه يسمى المحل الّذي خلقت فيه الحياة حيا ، وذلك عين الاشتقاق من خصوص وصف الحياة.

وهذا المسلك أيضا من النمط المتقدم ؛ وذلك أنه لو قيل : لم قلتم إنه يلزم من قيام الكلام بالمحل أن يعود إليه منه وصف ، أو إضافة؟ لم يجدوا إلى ذلك سبيلا غير مجرد الدعوى ، أو القياس على بعض الصفات ؛ وهو غير لازم ؛ لجواز أن يكون ذلك لخصوص تلك الصفة ، أو أن خصوص ما نحن فيه مانع.

والمعتمد (٧) فى ذلك أن يقال (٨) :

أجمع أهل الملل قاطبة على وقوع البعثة ، وتبليغ الرسل إلى الكافة أنواع التكاليف : بالأوامر ، والنواهى ، والإعلام بما أخبر الله ـ تعالى ـ به مما كان ، وما سيكون ، وأنهم حاكمون مبلغون عن الله ـ تعالى ـ ذلك. ولو لم يكن لله ـ تعالى ـ كلام ولا أمر ، ولا

__________________

(١) فى أ (وقوله).

(٢) سورة الانعام ٦ / ٥٤.

(٣) فى ب (أى أوجبها ووعدها).

(٤) سورة المائدة ٥ / ٤٥.

(٥) فى ب (أى أوحينا وألزمنا).

(٦) سورة الأنبياء ٢١ / ٩٤.

(٧) فى ب (والأقرب).

(٨) قارن بما ورد في نهاية الأقدام ص ٢٧٤ ـ ٢٧٩.


نهى ؛ لما تحقق معنى التبليغ والرسالة ؛ فإنه لا معنى للرسول إلا المبلغ لكلام المرسل ، فلو لم يكن لله تعالى كلام وراء كلام الرسول المخلوق فيه أصالة عندهم ، أو لله ـ تعالى ـ عندنا ؛ لكان هو الآمر بأمره ، والناهي بنهيه ؛ فلا يكون رسولا ، ولا مبلغا ؛ بل كان كاذبا في دعواه : إنى رسول الله إليكم فيما أمرت به ، أو نهيت : كالواحد منا إذا أمر غيره ، أو نهاه ، ولم يكن مبلغا عن الغير ؛ فإنه لا يكون رسولا ؛ بل ولما تحقق أيضا معنى الطاعة ، والعبودية لله ـ تعالى ـ ؛ فإن من لا أمر له ، ولا نهى ؛ لا يوصف بكونه مطاعا ، ولا حاكما. ومن أنكر ذلك من غير أهل الملل ؛ كان محجوجا بما دلت عليه المعجزات القاطعة ، الدالة على صدق من ظهرت على يده من الرسل المتقدمين ، الذين شاهد ذلك منهم من حضرهم ، وتواترت أخبارهم إلى من غاب عنهم.

وعند ذلك : فالإجماع أيضا من العقلاء منعقد : على أن كلام المتكلم لا يخرج عن الحروف ، والأصوات المنتظمة ، الدالة بالوضع ، وعما هى دليل عليه في نفسه.

فإن كان الأول : فلا يخلو : إما أن يكون لكلام الله تعالى معنى في نفسه ، أو لا معنى له في نفسه.

فإن لم يكن له معنى في نفسه ؛ فلا يكون آمرا ، ولا ناهيا ؛ ولهذا إن من قال لغيره ؛ افعل كذا ، أو لا تفعل كذا ، ولم يكن لعبارته معنى في نفسه ؛ لا يكون آمرا ؛ ولا ناهيا ؛ بل عابثا.

وإن كان لها / معنى في نفسه ؛ فذلك هو الّذي نروم إثباته ، ونعبر عنه بكلام النفس.

وإن كان الثانى : وهو أن معنى الكلام هو المعنى القائم بالنفس ؛ فهو (١) المطلوب. ولو لا ذلك لما تحقق كونه متكلما. وهو فلا يخلو (١) : إما أن يكون قديما ، أو حادثا.

لا جائز أن يكون حادثا : وإلا كان الرب ـ تعالى ـ محلا للحوادث ؛ وهو محال.

فلم يبق إلا أن يكون قديما.

__________________

(١) فى ب (فذلك هو المطلوب ولا يخلو).


فإن قيل : الاستدلال بالإجماع فرع تصوره ، وكونه حجة ؛ وهما ممنوعان على ما سبق في قاعدة النظر (١).

سلمنا أن الإجماع حجة ؛ لكن في القطعيات ، أو الظنيات.

الأول : ممنوع. والثانى : مسلم.

وذلك لأن مستند كونه حجة لا يخرج عن الظواهر الخبرية والأمور الظنية ، وما نحن فيه من القطعيات ؛ فلا يكون حجة فيه.

سلمنا أنه حجة في القطعيات ؛ ولكن فيما يتوقف عليه كون الإجماع حجة ، أو في غيره. الأول : ممنوع ، والثانى : مسلم.

وذلك لأن الاحتجاج بالإجماع على ما لا يثبت كون الإجماع حجة إلا به. يكون دورا ممتنعا ؛ أو ما هو مدلول الإجماع. إنما هو كلام الله ، والإجماع ؛ فلا يتم كونه حجة إلا به ؛ لأن كون الإجماع حجة إنما هو بالسمع ، والسمع مستند إلى قول الرسول ، وصدق الرسول في دعواه أنه رسول متوقف على إثبات كلام الله ـ تعالى ـ على ما ذكرتموه ؛ فيكون دورا.

سلمنا صحة الاحتجاج بالإجماع مطلقا ؛ ولكن لا نسلم وجود الإجماع فيما نحن فيه.

قولكم : أجمعت الملل على أن الله ـ تعالى ـ متكلم بكلام.

فنقول : أجمعوا على إطلاق ذلك لفظا ، أو معنى ـ الأول : مسلم. والثانى : ممنوع.

ولهذا قال بعضهم : كلام الله ـ تعالى ـ حروف ، وأصوات.

وقال بعضهم : هو مدلول الحروف ، والأصوات القائم بالنفس.

فإذن ما اتفقوا عليه من الإطلاق لفظا ، لا يدل على الكلام النفسانى ، وما لم يتفقوا عليه ؛ لا يكون ثابتا بالإجماع.

__________________

(١) انظر ل ٢٥ / أوما بعدها.


سلمنا الاتفاق على المدلول ؛ ولكن لا نسلم أنه يلزم من ذلك ثبوت كلام هو صفة نفسانية للرب ـ تعالى ـ وبيانه من وجهين :

الأول : أن تلك الصفة النفسانية : إما أن تكون من جنس كلام البشر ، أو لا (١) تكون من جنس كلام البشر.

فإن لم تكن من جنس كلام البشر ؛ فلا يكون (١) معقولا. وما ليس بمعقول لا سبيل إلى إثباته فضلا عن / اتفاق العقلاء عليه. وإن كان من جنس كلام البشر ؛ فهو ممتنع لوجهين :

الأول : أنه يلزم أن يكون مشاركا لكلام البشر في العرضية ، والإمكان ، وأن يكون الرب ـ تعالى ـ محلا للأعراض ؛ وهو ممتنع.

الثانى : أنه لو كان من جنس كلام البشر : فإما أن يكون من جنس الكلام اللسانى ، أو لا من جنسه.

فإن كان من (٢) جنس الكلام اللسانى (٢) : فإما أن يكون بحروف ، وأصوات ، أو لا بحروف ، وأصوات ، أو هو صوت بلا حرف ، أو حرف بلا صوت.

لا جائز أن يقال بالأول : إذ الأصوات لا تكون إلا عن اصطكاك أجرام صلبة من قرع ، أو قلع. والحروف عبارة عن مقاطع تلك الأصوات ، ولا تكون إلا مترتبة ، ومتعاقبة ، لا وجود للمتقدم منها مع المتأخر ، وكذلك بالعكس ؛ فتكون حادثة ، والحادث لا يكون صفة للرب ـ تعالى ـ كما يأتى (٣) :

ولا جائز أن يقال بالثانى : وإلا فهو خارج عن جنس كلام اللسان ؛ فإن كلام اللسان ؛ عبارة عن أصوات مقطعة دالة بالوضع على عرض مطلوب.

وعلى هذا يمتنع تفسيره ، بالثالث ، والرابع أيضا.

__________________

(١) فى ب (أولا. فإن لم تكن من جنس كلام لا يكون).

(٢) فى ب (من جنسه).

(٣) انظر ل ١٤٦ / أوما بعدها.


كيف وأنه يتعذر أن يكون الكلام حرفا بلا صوت ؛ فإنا لا نعقل للحرف معنى غير مقاطع الصوت ، ويتعذر أن يكون الكلام صوتا بلا حروف ؛ إذ لا تمييز له عن صوت دوى الرعود ، ونقر الطبول ، ونحوه.

وإن لم يكن من جنس الكلام اللسانى ؛ فليس بمعقول. وما ليس بمعقول ؛ لا سبيل إلى إثباته.

الثانى : أنه لو كان متصفا بصفة الكلام : فإما أن يكون ذلك الكلام قديما ، أو حادثا.

لا جائز أن يكون حادثا : وإلا كان الرب ـ تعالى ـ محلا للحوادث ؛ وهو محال.

وإن كان قديما : فهو ممتنع لوجوه (١) ثلاثة (١).

الأول : أن الكلام منقسم إلى : أمر ، ونهى ، وخبر ، واستخبار ، ووعد ووعيد ، ونداء ؛ وذلك يجر إلى إثبات قديمين فصاعدا ؛ وهو ممتنع ؛ لما فيه من تعدد الآلهة كما سبق.

الثانى : أنه يفضى إلى الكذب في الخبر في قوله ـ تعالى ـ (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً) (٢). وقوله ـ تعالى ـ (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) (٣). (كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ) (٤) ، ونحو ذلك من حيث إن الخبر قديم ، والمخبر عنه حادث.

الثالث : أنه يلزم منه أن يكون أمرا (٥) ، ونهيا ، وخبرا ، واستخبارا ، أو وعدا ، ووعيدا ، ونداء (٥) ، ولا مأمور ، ولا منهى ، ولا مخبر ، ولا مستخبر عنه ، / ولا موعود ، ولا متواعد ، ولا منادى ؛ وذلك كله محال ؛ لما فيه من منافاة الحكمة ، ولزوم السفه.

قولكم : ولو لا ذلك لما تحقق معنى الطاعة ، والعبودية لله ـ تعالى ـ ولا (٦) معنى الرسالة ، والتبليغ ؛ ليس كذلك ؛ إذ أمكن أن يقال : بأن صحة الطاعة ، والعبودية لله ـ تعالى (٦) ـ يستند إلى التسخير ، والوقوع على وفق الإرادة والاختيار على ما سبق في

__________________

(١) فى ب (لثلاثة أوجه).

(٢) سورة نوح ٧١ / ١.

(٣) سورة البقرة ٢ / ٥٤.

(٤) سورة الصف ٦١ / ١٤.

(٥) فى ب (له أمر ونهى وخبر واستخبار ووعد ووعيد).

(٦) من أول (ولا معنى الرسالة ...) ساقط من ب.


المسلك الأول (١). وكذلك قد يشتد صفا نفس بعض الناس بحيث يقرب اتصالها بالعقول والنفوس العلوية ، بحيث يطلع على الأشياء الغيبية من غير واسطة ، ولا بعلم ؛ فيسمع من الأصوات ويرى من الصور ما لا يسمعه ، ولا يراه من ليس من أهل منزلته من البشر على نحو ما يسمعه ويراه النائم في منامه ؛ فيكون حاله إذ ذاك نازلة منزلة ما لو أوحى الله : بأن الأمر الفلانى كذا ، وكذا ؛ ولا منازعة في الإطلاقات بعد فهم المعنى.

سلمنا أنه لا بدّ من ثبوت صفة نفسانية ؛ ولكن ذلك لا يسمى كلاما ؛ إذ الكلام في اللغة : عبارة عن الأصوات ، المقطعة ، المنتظمة ، الدالة بالوضع دلالة مفيدة ـ وبتقدير أن يسمى ذلك كلاما ؛ فالمعقول من الصفات النفسانية غير خارج عن القدرة ، والإرادة ، والتميز الحاصل للنفس الحيوانية بالحواس الباطنة ؛ وذلك كما تتصوره القوة الخيالية من شكل الفرس عن شكل الحمار ، ونحوه. وما تتصوره القوة الوهمية من المعنى الّذي يوجب للشاة نفرتها من الذئب ، ونحوه. والتميز الحاصل للنفس الناطقة الإنسانية بالقوة النظرية التى بها إدراك الأمور الكلية بالفكرة ، والروية : وذلك كتصورنا معنى الإنسان من حيث هو إنسان ، وحكمنا عليه بأنه حيوان ونحوه (٢) ـ فإن أريد به القدرة ، أو الإرادة ؛ فذلك غير خارج عما سبق إثباته من الصفات.

وإن أريد به التمييز ، والتصور الحاصل للنفس الحيوانية (٣) ، والإنسانية (٣) ؛ فذلك أيضا غير خارج عن قبيل العلوم.

كيف : وأنه بتقدير أن يراد به التميز الحاصل بالحواس الباطنة ؛ فإن إدراكها لذلك لا يكون إلا بانطباع الصور المحسوسة أولا ، في إحدى الحواس الظاهرة الخمس ، ثم بتوسطها في الحس المشترك : وهى القوة المترتبة في مقدم التجويف الأول من الدماغ على نحو انطباع الصور في الأجرام الثقيلة المتقابلة ، ثم بتوسطها / فى المفكرة ، ثم في الوهمية ، ثم في الحافظة (٤). وبعض هذه القوى وإن لم يفتقر في الانطباع إلى حضور المادة : كالحس المشترك ، والمفكرة ، والوهمية ، والحافظة ؛ فهى لا تنفك في الانطباع

__________________

(١) انظر ل ٨٣ / أ.

(٢) فى ب (ناطق).

(٣) فى ب (الإنسانية والحيوانية).

(٤) قارن ما أورده هنا بما أورده في غاية المرام ص ٩٢ ، ٩٣ والمبين ل ١٢ / ب.


عن علائق المادة ، وأن إدراكها لا يكون إلا بانطباع الأشكال والصور الجزئية القابلة للتجزى ، وانطباع ما يقبل التجزى لا يكون إلا فيما هو قابل للتجزى ، والبارى ـ تعالى ـ يستحيل أن يكون متجزئا.

سلمنا أنه وراء العلم ، والقدرة ، والإرادة ؛ ولكن ما المانع أن يكون هو حديث النفس؟ وهو تقديرات العبارات اللسانية ، وهو تحدث النفس بالعبارات المختلفة بالعربية ، والعجمية ، ونحوهما ؛ وذلك خارج عن العبارة وما جعلتموه مدلولا لها.

سلمنا أنه خارج عن حديث النفس بالمعنى المذكور ؛ ولكن لم قلتم بأنه ليس بحرف وصوت كما ذهبت إليه الحشوية؟

سلمنا دلالة ما ذكرتموه على ثبوت كلام النفس القديم (١) ؛ ولكنه معارض بالنصوص ، والإجماعات كما سبق في المسلك الأول.

والجواب :

قولهم : هذا تمسك بالإجماع ؛ وهو فرع تصوره ، وفرع (٢) كونه حجة (٢). عنه جوابان :

الأول : أن الاحتجاج : إنما وقع بمساعدة الخصوم على ذلك ، وإجماعهم (٣) على ما ادعيناه (٣) ؛ فلا يفتقر في إثبات ما ادعيناه من أن الله ـ تعالى ـ له كلام إلى دليل مع مساعدة الخصم (٤) عليه ..

ومن أنكر ذلك من أرباب الملل ؛ فلم يحتج عليه بالإجماع ؛ بل بما ورد من التواتر القاطع بإخبار من وجب تصديقه بذلك على ما سلف.

الثانى : وإن سلمنا أن الاحتجاج بالإجماع ، فقد بينا الدلالة على تصوره ، وعلى كونه حجة في قاعدة النظر (٥).

__________________

(١) ساقط من ب.

(٢) فى ب (ولكنه حجة).

(٣) فى ب (واجماعهم على ذلك واجماعهم على ما ذكرناه).

(٤) فى ب (الخصوم).

(٥) انظر ل ٢٥ / أوما بعدها.


وعلى هذا : فقد اندفع ما ذكروه من السؤال الثانى.

قولهم : هذا تمسك بالإجماع فيما يفضى إلى الدور ؛ ليس كذلك ؛ فإنا لا نسلم أن صدق الرسول يتوقف على ثبوت كلام الله ـ تعالى ـ ، ولا على وجوده من حيث أن دلالة المعجزة على صدقه معلوم بالضرورة على ما سنبينه. وبعد أن ثبت صدقه بالمعجزة ، فإذا أخبر عن وجود الله ـ تعالى ـ وصفاته ، وكلامه ؛ ثبت بإخباره من غير دور.

قولهم : الإجماع / منعقد على اللفظ ، أو المعنى؟

قلنا : على اللفظ ، والمعنى.

أما اللفظ : فمن غير خلاف.

وأما المعنى : فلا شك في إجماعهم على أن قول القائل : إن البارى ـ تعالى ـ متكلم بكلام له معنى. غير أن الاختلاف واقع في نفس ذلك المعنى والاختلاف في نفس المعنى غير مانع من الاتفاق على أن اللفظ له معنى.

وإذا ثبت أن له معنى ؛ فذلك المعنى إن كان هو العبارة ؛ فلا بد لها من معنى في نفسه على ما تقدم تقريره.

قولهم : لو كان من جنس كلام البشر ؛ لكان مشاركا له في العرضية ، والإمكان ؛ فقد سبق جوابه فيما تقدم.

قولهم : إذا لم يكن من جنس كلام اللسان ، لا يكون معقولا ؛ ليس كذلك ؛ فإنا إنما نريد به. ما يجده الإنسان من نفسه عند قوله لعبده : أفعل كذا ، أو لا تفعل كذا. وكذلك في سائر أقسام الكلام.

وهذه المعانى هى التى يدل عليها بالإشارات. وهى مغايرة للعبارات ؛ إذ هى مدلولها ، والدال غير المدلول. وأنها لا تتبدل ، وإن تبدلت العبارات الدالة عليها ، وأنها غير وضعية ، ودلائلها وضعية.

قولهم : إما أن يكون قديما ، أو حادثا؟

قلنا : قديم.


قولهم : إنه يفضى إلى تعديد الآلهة. فجوابه أيضا ما سبق.

قولهم : يفضى إلى الكذب في الخبر منه وأن يكون أمرا ، ونهيا ، وخبرا ، ولا مأمور ، ولا منهى ، ولا مخبر.

فنقول : إن قلنا بمذهب عبد الله بن سعيد من أصحابنا : من أن الكلام قضية واحدة ، ولا يتصف بكونه أمرا ، ونهيا ، وخبرا ، إلى غير ذلك من الأقسام في الأزل ؛ بل فيما لا يزال ؛ فقد اندفع الإشكال. وإن سلكنا مذهب الشيخ أبى الحسن الأشعرى ـ رحمه‌الله ـ من أنه متصف في الأزل بكونه أمرا ، ونهيا ، وغيره من أقسام الكلام ؛ فغير بعيد أن يكون في نفسه صفة واحدة ، وإن اختلفت العبارات عنه بسبب اختلاف النسب ، والإضافات إلى المتعلقات ، وذلك أن يقال :

الأمر : هو الإخبار باستحقاق الثّواب على الفعل. واستحقاق العذاب على الترك ، وفي النهى بعكسه.

والوعد والوعيد : الخبر بإيصال نفع ، أو ضرر في طرف الاستقبال من المخبر.

والاستخبار : الإخبار بإرادة الاستعلام.

والنداء : الإخبار بإرادة الحضور ، وعلى هذا النحو.

وعند / هذا ؛ فغير بعيد أن يقوم بذات الله ـ تعالى ـ خبر عن إرسال نوح مثلا ، وتكون التعبرة عنه قبل الإرسال : إنّا نرسله. وبعد الإرسال : إنا أرسلنا نوحا ؛ فالمعبر عنه يكون واحدا.

وإن اختلفت التعبيرات عنه بسبب اختلاف الأحوال ؛ التى هى متعلق الخبر القديم ، وذلك لا يفضى إلى الكذب في المعنى القائم بالنّفس المعبر عنه ، ولا بالنسبة إلى المعبر به أيضا.

وكذلك أيضا يجوز أن يقوم بذات الله ـ تعالى ـ طلب خلع النعل من موسى على جبل الطور ، واقتضاه منه على تقدير وجوده. وتكون التعبرة عنه قبل الوجود : بصيغة إنّا سنأمر ، وعند الوجود بصيغة اخلع الدّالة على الطّلب ، والاقتضاء القديم الأزلى.


ولهذا لو قدرنا الواحد منا في نفسه ، اقتضى فعلا من شخص معدوم ، واستمر ذلك الاقتضاء إلى حين وجود المقتضى منه ؛ فإنّه إذا علم به إما بواسطة ، أو بغير واسطة ، وكان الطالب ممن يجب الانقياد له ؛ كان ذلك الاقتضاء بعينه أمرا له ، وموجبا لانقياده ، وطاعته من غير استئناف طلب آخر.

فعلى هذا النحو هو أمر الله ـ تعالى ـ للمعدوم ، وتعلقه به. واشتراط فهم [المأمور (١)] ، إنما يكون عند تعلق الخطاب به في حال وجوده لا غير. ومن فهم معنى كلام النفس (٢) ، ودفع عن وهمه الأزمان المتعاقبة ، والأحوال المختلفة لم يخف عليه ما قررناه.

وربما استروح بعض (٣) الأصحاب في (٤) هذا الباب إلى المناقضة ، والإلزام فقال :

كيف يصح استبعاد تعلق الأمر بمأمور معدوم (٤)؟ وعندكم أنه لا يتناول المأمور به إلا قبل حدوثه. ومهما وجد. خرج عن أن يكون مأمورا به ، وهو أحد متعلقى الأمر. فإذا لم يبعد تعلق الأمر بالفعل المعدوم ؛ لم يبعد تعلقه بالفاعل المعدوم.

وأيضا : فإن الأمة مجمعة على أننا في وقتنا هذا مأمورون (٥). وعندكم أن الأمر قد تقضى ، ومضى ، فإذا لم يبعد وجود مأمور ولا أمر ، لم يبعد وجود أمر بلا مأمور. ولو لزم من وجود الأمر وجود المأمور ؛ للزم من وجود القدرة ، وجود المقدور ؛ وذلك يجر إلى قدم المقدور ، لقدم القدرة ؛ وهو محال على كلا المذهبين.

وفيه نظر ؛ وذلك أن الأمر ، والنّهي من خطاب / التكليف ، والتكليف يستدعى مكلفا به ، والمكلف به يجب أن يكون معلوما مفهوما ؛ ليصح قصده لغرض الإتيان به ، والانتهاء عنه ؛ إذ هو مقصود التكليف.

فإذن الفهم شرط في التكليف. ولهذا خرج من لا فهم له عن أن يكون داخلا في التكليف : كالجمادات ، وأنواع الحيوانات العجماوات ، ونحو ذلك ؛ لعدم شرط التكليف في حقهم.

__________________

(١) فى أ (المأموم).

(٢) فى ب (الله النفسى).

(٣) لعله الغزالى انظر الاقتصاد في الاعتقاد ص ٩١ ـ ٩٢.

(٤) فى ب (فى الباب للمناقصة والإلزام فيقال كيف يستبعد تعلق الأمر بالمعدوم).

(٥) فى ب (مأمورون منهيون).


وعند ذلك فلا يلزم من تعلق الأمر بالمأمور به ، مع عدمه تعلقه بالمأمور ، مع عدم الفهم ؛ فإن تعلقه بالمأمور به ليس تعلق تكليف ؛ بخلاف تعلقه بالمأمور.

والقول بأنه إذا جاز وجود مأمور ، ولا أمر ؛ جاز وجود أمر ، بلا (١) مأمور (١) ؛ فدعوى مجردة عن الدليل.

كيف : وأنه لا يلزم من كون الشخص مكلفا بما كان من الأمر مع وجود شرط التكليف ، وهو الفهم ، تحقق أمر التكليف مع انتفاء شرطه ، وهو فهم المأمور.

وعلى هذا : فقد خرج الإلزام بالقدرة ؛ إذ القدرة معنى من شأنه تحقق الوجود (٢) الممكن به (٢) ، لا ما يلازمه الوجود ؛ وذلك متحقق بدون وجود المقدور بخلاف الأمر ؛ فإنه تكليف ، والتكليف بدون شرط ممتنع ؛ فإذن معنى كون المعدوم مأمورا. ليس معناه غير تعلق الأمر به بشرط الوجود والفهم ، على ما أسلفناه.

وما ذكروه في تحقق معنى الطاعة ، والعبودية ، والبعثة ؛ فغير صحيح ؛ وإلا لزم أن يكون كل تسخير بفعل شيء أمرا ، وبتركه نهيا ؛ وأن لا يكون الانقياد على وفق التسخير طاعة ، كان ذلك في نفسه عبادة ، أو معصية ؛ وهو محال ؛ فإنه ليس كل ما سخر به مأمورا ، ولا كل ما انقاد العبد إلى فعله ـ وإن كان على وفق التسخير ـ طاعة.

وعلى هذا فلا بد من تفسير الأمر والنهى بما وراء ذلك. وهو ما يعد في نظر أهل العرف تكليفا ، ولو لا ذلك لما تحقق معنى التبليغ ، والرسالة على ما أسلفناه.

قولهم : إن المعنى النفسانى لا يسمى كلاما. لا نسلم ذلك ؛ إذ (٣) لا مانع منه من جهة الإطلاق ؛ فإنه يصح أن يقال : فى نفسى كلام ، وفي نفس فلان كلام. ومنه قوله ـ تعالى ـ (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ) (٤). ومنه قول الشاعر (٥) :

إنه الكلام لفى الفؤاد وإنّما

جعل اللّسان على الفؤاد دليلا

__________________

(١) فى ب (ولا مأمور).

(٢) فى ب (وجود الممكن).

(٣) فى ب (فإنه).

(٤) سورة المجادلة ٥٨ / ٨.

(٥) فى ب (الأخطل). انظر ديوان الأخطل ط ٢ ـ دار الشرق ببيروت ـ ص ٨٠٥.


وهذا الاستشهاد ، والإطلاق دليل صحة إطلاق الكلام على ما في النفس / ولا نظر إلى كونه أصليا فيه ، أو فيما يدل عليه. أو فيهما.

كيف وأن حاصل النزاع هاهنا إنما هو فى قضية لغوية ، وإطلاقات لفظية ، ولا حرج فيها بعد فهم المعنى.

قولهم : المعقول من الصفات النفسانية ، غير خارج عن القدرة ، والإرادة ، والتمييز. ليس كذلك.

وبيانه : هو أنه إذا قال القائل لعبده : افعل كذا ؛ فالذى يجده من نفسه مدلولا لصيغته ليس هو الإرادة ، ولا القدرة ، ولا التمييز ؛ بل معنى آخر.

أما أنه ليس هو الإرادة ؛ فلأن الإرادة التى هى مدلول صيغة الأمر : إما أن تكون هى إرادة الفعل ، والامتثال ، أو إرادة إحداث الصفة ، أو إرادة جعل الصيغة دالة (١) على الأمر على ما هو مذهبهم.

لا جائز أن يكون هو إرادة الفعل ، والامتثال ؛ فإن الأمر قد يوجد بدون إرادة الفعل ، وبيانه من وجهين :

الأول : هو أن الإجماع منعقد على أن من علم الله ـ تعالى أنه لا يؤمن : كأبي جهل ، وغيره أنه مأمور بالإيمان ، ولم يرد منه وقوع الإيمان ، والامتثال ؛ فإن تعلق إرادة البارى ـ تعالى ـ بفعل ما علم أنه لا يقع محال.

الثانى : هو أن من الأفعال ما هو مأمور [به] (٢) بالإجماع : كالصلاة ، والزكاة ، والحج ، ونحو ذلك من العبادات الخمس. وقد لا يكون مرادا ؛ لكونه غير واقع. ولو تعلقت به الإرادة ؛ لاستحال أن لا يتخصص ؛ فإنه لا معنى لتعلق الإرادة بالفعل ، غير تخصيصه بزمان حدوثه ، فلا يعقل التعلق من غير تخصيص.

وقد احتج الأصحاب في ذلك بوجهين آخرين.

__________________

(١) فى ب (دلالة).

(٢) ساقط من أ.


الأول : أن السيد المعاتب من جهة السلطان على ضرب عبده. إذا اعتذر بأنه يخالف أمره. وأمره بين يدى السلطان ؛ لتحقيق عذره. فإنا نعلم أنه لا يريد منه الامتثال ؛ لما فيه من ظهور كذبه ، وتحقق عتاب السلطان له. ومع ذلك ؛ فإن أهل العرف يعدونه آمرا ، ويعدون العبد مطيعا ، بتقدير الفعل. وعاصيا ، بتقدير الترك. ولو لم يكن أمرا ، لما تمهد عذره. ولما عدّ العبد مطيعا ، وعاصيا. بتقدير المخالفة ، والفعل.

وبه يندفع قول القائل : إنه موهم بالأمر ، وليس بآمر ؛ وهو مع أنه تمسك في أمر عقلى ، بأمر عرفى ، وإطلاق لغوى ؛ فهو لازم على أصحابنا في اعتقادهم أن الأمر هو / الطلب ، واقتضاء الفعل. فإنا كما نعلم أن العاقل لا يريد ما يظهر به كذبه ، ويتحقق به عقابه ؛ فكذلك نعلم أن العاقل لا يطلب ما فيه ذلك ، ومع ذلك ، فهو أمر بدون الطلب ؛ فكما هو لازم على اعتقاد الخصم كون الأمر هو إرادة الفعل ؛ فهو لازم على أصحابنا في اعتقادهم : أن الأمر طلب الفعل.

الوجه الثانى : ما اشتهر من قصة إبراهيم الخليل ـ عليه الصلاة والسلام ـ من أمره بذبح ولده مع عدم تعلق الإرادة بوقوع الذبح ، لعدم وقوعه ؛ على ما سلف بيانه.

وما يقال من أن ذلك كان (١) مناما ، لا أمرا. وأن (٢) تعلق الأمر لا يكون (٢) إلا بالعزم على الذبح ، أو الانكاء ، وإمرار السكين ، أو أن الذبح مما وقع ، واندمل الجرح.

ولهذا قال ـ تعالى ـ : (قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) (٣) فمندفع ؛ فإن أكثر الوحى إلى الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ. إنما كان بجهة المنام ، ولو لم يكن ذلك بطريق الوحى ، وإلا كان إقدام النبي على فعل محرم بما لا أصل له ؛ وذلك محال.

وحمل الأمر على غير الذبح. من العزم ، أو الإنكاء ، وإمرار السكين ؛ باطل. وإلا لما صح تسميته بالبلاء ؛ إذ لا بلاء فيه ، ولا تسمية الذبح فداء مع وقوع المأمور به.

وبه يندفع القول بتحقيق وقوع الذبح ، واندمال الجرح ، وهو وإن كان من الظواهر المغلبة على الظن ؛ فبعيد عن اليقين.

__________________

(١) ساقط من ب.

(٢) فى ب (أو أن تعلق الأمر لم يكن).

(٣) سورة الصافات ٣٧ / ١٠٥.


هذا إن قيل : هو إرادة للفعل ، ولا جائز أن يكون عبارة عن إرادة إحداث الصيغة ؛ فإنه ليس مدلولا لها ؛ فإن مدلولات أقسام الكلام مختلفة ، ولا اختلاف في إرادة إحداث الصيغة.

ولا جائز أن يكون عبارة عن إرادة جعل الصيغة دالة على الأمر لثلاثة أوجه :

الأول : أنه تصريح بأن الإرادة وراء الأمر الّذي هو مدلول قوله : افعل ، وأمرتك ، وأنت مأمور.

الثانى : أن كل عاقل يقضى بأن قول القائل : افعل. ليس ترجمة عن إرادة جعله دالا على شيء مخصوص.

الثالث : أنّ كل عاقل يجد من نفسه بقاء ما دل عليه قوله : افعل ، وأن عدم لفظه ، وإرادة جعله دالا على شيء ما.

وأما أنه يمتنع أن يكون هو القدرة : فلأن القدرة على ما سبق عبارة عن معنى يتأتى به الإيجاد بالنسبة إلى كل ممكن. والأمر ، والنهى لا يتعلق بكل ممكن ؛ فإن الطاعات ممكنة ، ولا يتعلق بها النهى. والمعاصى / ممكنة ، ولا يتعلق بها الأمر.

فإذن القدرة أعم من الأمر من هذا الوجه. والأمر عند القائلين بجواز التكليف (١) بما لا يطاق (١) أعم من القدرة من جهة أخرى. وهو تعلقه بالممكن ، وغير الممكن.

وإن قيل : إنه عبارة عن القدرة على التكلم ؛ فكل عاقل يجد من نفسه وجدانا ضروريا أن مدلول قوله : افعل ، ولا تفعل. وكذا في سائر أقسام الكلام ؛ ليس هو القدرة على التكلم ؛ بل (٢) غيره (٢).

وأما أنه لا يمكن تفسيره بالعلم ، أو بضرب منه. من حيث أن العلم أعم من الأمر ؛ إذ هو قد يتعلق بما لم يتعلق به الأمر : كالمعاصى ، وبما (٣) لا يتعلق (٣) به الأمر : كالطاعات ؛ فلا يكون الأمر هو نفس العلم.

__________________

(١) فى ب (تكليف ما لا يطاق).

(٢) فى ب (بل هو غيرها).

(٣) فى ب (ولا يتعلق).


كيف : وإن كل عاقل يجد من نفسه : أن مدلول قوله : افعل ولا تفعل ، وراء كل ما يقدر من أنواع العلوم ؛ فقد بأن أن مدلول الصيغ الدالة خارج عن المعلوم ، والقدرة ، والإرادة ، وذلك هو المطلوب.

قولهم : إنه حديث النفس ؛ ليس كذلك لوجهين :

الأول : هو أن تحدث النفس بالعبارات التى تصور الحروف والكلمات الدالة ، لا تتصور مع عدم العبارات اللسانية. حتى إنا لو قدرنا إنسانا ما عرف لغة ، ولا خطرت له العبارات اللسانية ببال ؛ فإنه لا يتصور في نفسه شيئا من ذلك. وما يلزم من ذلك اختلال المعانى التى يمكن التعبرة عنها بالعبارات اللسانية من الطلب ، والاقتضاء ، وغيره من المعانى ؛ فلا يكون لديه حاضرا عندنا.

الثانى : هو أن ما نتصوره من الحروف ، والكلمات. غير حقيقية ؛ بل اصطلاحية مختلفة باختلاف الاصطلاحات في الأعصار ، والأمم ؛ ولهذا يجوز أن يحدث نفسه بعبارات مختلفة : كالعربية ، والعجمية ، ونحوهما ، وما يجده في (١) نفسه من مدلولات (١) هذه العبارات متحد لا يختلف ، ولا يتبدل.

قولهم : ما المانع أن يكون ذلك الكلام النفسانى بحروف وأصوات؟

قلنا : إن قيل إنه بحرف ، وصوت : كحروفنا ، وأصواتنا ؛ فلا شك في كونه حادثا ؛ ضرورة أن الحروف مقاطع الصوت ، وكل واحد فله أول وآخر ، ولا يتصور اجتماع حرفين منهما معا ؛ بل على التعاقب والتجدد.

فعند وجود الحرف الأخير ، ينعدم الأول. وعند وجود الأول ؛ فالأخير لا يكون موجودا ، وذلك ظاهر مستغن عن / الإطناب فيه.

فلو قيل : ثبوت مثل ذلك لله ـ تعالى ـ يلزم منه أن يكون محلا للحوادث ؛ وهو محال ؛ كما يأتى (٢).

__________________

(١) فى ب (من نفسه من مدلول).

(٢) انظر ل ١٤٦ / أ.


وإن قيل : إنه بحروف ، وأصوات. لا كحروفنا ، وأصواتنا ؛ فحاصله يرجع إلى المنازعة في الإطلاق اللفظى.

ولا يخفى أن جواز إطلاق ذلك ؛ موقوف على ورود الشرع به ، والشرع وإن ورد بإطلاق الحروف والأصوات ، كما سبق ؛ فلا نسلم أنه ورد بذلك في الكلام النفسانى ، حتى يقال بجوازه.

وأما ما ذكروه من النصوص ، والإجماع ؛ فقد سبق جوابه في المسلك الأول.

وإذا ثبت (١) أنه متصف بصفة الكلام ، وأن كلامه قديم ـ على ما سبق ـ وأنه ليس بحرف ، ولا صوت ؛ فهو متحد ، لا كثرة فيه في نفسه ؛ بل التكثر إنما هو في تعلقاته ، ومتعلقاته ؛ كما سلف.

فإن قيل : عاقل ما لا يمارى نفسه في انقسام الكلام إلى أمر ، ونهى ، وغيره ، من أقسام الكلام. وأن ما انقسم إليه حقائق مختلفة ، وأمور متمايزة ، وأنها من أخص أوصاف الكلام. لا أن الاختلاف عائد إلى نفس العبارات ، والتعلقات ، والمتعلقات ودفعناها وهما لم يخرج الكلام عن كونه منقسما.

وأيضا : فإن ما أخبر عنه من القصص الماضية ، والأمور السالفة مختلفة متمايزة. وكذلك المأمورات ، والمنهيات ؛ مختلفة أيضا ؛ فلا يتصور أن يكون الخبر عما جرى لموسى (٢) ـ عليه‌السلام ؛ هو نفس الخبر عما جرى لعيسى عليه‌السلام (٢) ، ولا الأمر بالصلاة ؛ هو نفس الأمر بالزكاة ، وغيرها ، ولا أن ما تعلق بزيد ، هو نفس ما تعلق بعمرو ، ولا ما سمى خبرا هو نفس ما سمى أمرا ؛ إذ الأمر طلب ، والخبر لا طلب فيه ؛ بل حكم بنسبة مفرد إلى مفرد إيجابا ، أو سلبا ؛ فثبت أن الكلام أنواع مختلفة ، والكلام عام للكل ؛ فيكون كالجنس لها.

قلنا : قد بينا فيما تقدم أن الكلام قضية واحدة ، ومعلوم واحد ، قائم بالنفس. وأن اختلاف العبارات عنه بسبب اختلاف التعلقات والمتعلقات ، وهذا النوع من الاختلاف ليس راجعا إلى أخص صفة الكلام ، بل إلى أمر خارج عنه.

__________________

(١) من أول قول الآمدي «وإذا ثبت أنه يتصف بصفة الكلام ... الخ نقله ابن تيمية في كتابه (درء تعارض العقل والنقل ٤ / ١١٥ ـ ١١٩) ثم علق عليه وناقشه من وجهة نظره.

(٢) وردت في (ب) مقدما عيسى على موسى وفي (أ) بدون ألفاظ التعظيم وقد ذكرتها تأدبا مع مقام النبوة.


وعلى هذا نقول : إنه لو قطع النظر عن التعلقات ، والمتعلقات الخارجة ؛ فلا سبيل إلى توهم اختلاف في الكلام النفسانى أصلا ، ولا يلزم منه دفع الكلام في نفسه ، وزوال حقيقته.

وعلى هذا : / فلا يخفى اندفاع ما استبعدوه من اتحاد الخبر ، واختلاف المخبر ، واتحاد الأمر ، واختلاف المأمور. وكذلك اختلاف الأمر ، والخبر مع اتحاد صفة الكلام.

فإن قيل : إذا قلتم بأن الكلام قضية واحدة ، وأن اختلاف العبارات عنها بسبب المتعلقات الخارجة ، فلم لا جوزتم أن تكون الإرادة (١) ، والعلم والقدرة (١) ، وباقى الصفات راجعة إلى معنى واحد. ويكون اختلاف التعبيرات عنه بسبب المتعلقات ، لا بسبب اختلافه في ذاته ، وذلك بأن يسمى إرادة : عند تعلقه بالتخصيص ، وقدرة : عند تعلقه بالإيجاد ، وهكذا سائر الصفات.

وإن جاز ذلك ؛ فلم لا يجوز أن يعود ذلك كله إلى نفس الذات من غير احتياج إلى الصفات.

أجاب الأصحاب عن ذلك :

بأنه يمتنع أن يكون الاختلاف بين القدرة ، والإرادة بسبب التعلقات ، والمتعلقات ، إذ القدرة : معنى من شأنه تأتى الإيجادية ، والإرادة : معنى من شأنه تأتى تخصيص الحادث بحالة دون حالة.

وعند اختلاف التأثيرات لا بدّ من الاختلاف في نفس المؤثر. وهذا بخلاف الكلام ؛ فإن تعلقاته بمتعلقاته لا توجب أثرا ، فضلا عن كونه مختلفا ؛

وفيه نظر ؛ وذلك أنه وإن سلم امتناع صدور الآثار المختلفة عن المؤثر الواحد ؛ مع إمكان النزاع فيه ؛ فهو موجب للاختلاف في نفس القدرة ؛ وذلك لأن القدرة مؤثرة في الوجود ، والوجود عند أصحابنا نفس الذات ، لا أنه زائد عليها. وإلا كانت الذوات (٢) ثابتة في العدم ؛ وذلك مما لا نقول (٣) به.

__________________

(١) فى ب (الإرادة والقدرة والعلم).

(٢) فى ب (الذات).

(٣) فى ب (يقولون).


وإذا كان الوجود هو نفس الذات ؛ فالذات مختلفة ؛ فتأثير القدرة في آثار مختلفة ؛ فيلزم أن تكون مختلفة كما قرروه ، وليس كذلك.

وأيضا : فإن ما ذكروه من الفرق ، وإن استمر في القدرة والإرادة ، فغير مستمر في باقى الصفات : كالعلم ، والحياة ، والسمع ، والبصر ؛ لعدم كونها مؤثرة في أثر ما.

والحق أن ما أوردوه من الإشكال على القول باتحاد الكلام ، وعود الاختلاف إلى التعلقات ، والمتعلقات ؛ فمشكل. وعسى أن يكون عند غيرى حله.

ولعسر جوابه فر بعض أصحابنا إلى القول بأن كلام الله ـ تعالى ـ القائم بذاته خمس صفات مختلفة. وهى : الأمر ، والنهى ، والخبر ، / والاستخبار ، والنداء (١).

__________________

(١) إلى هنا انتهى ما نقله ابن تيمية من كتاب أبكار الأفكار في كتابه (درء تعارض العقل والنقل ٤ / ١١٥ ـ ١١٩) ثم علق عليه وناقشه في ص ١١٩ وما بعدها فقال : «هذا كلامه. فيقال : قول القائل : إن الكلام خمس صفات ، أو سبع أو تسع ، أو غير ذلك من العدد ، لا يزيل ما تقدم من الأمور الموجبة تعدد الكلام الخ».

[انظر : درء تعارض العقل والنقل ٤ / ١١٩ وما بعدها].


«المسألة السادسة»

«فى إثبات الإدراك لله تعالى»

والإدراك وإن أطلق بمعنى العلم بالشيء ؛ فإنه يصح أن يقال : أدرك فلان الشيء إذا علمه. وبمعنى اللحوق ؛ إذ يقال : أدرك فلان العصر الفلانى. إذا لحقه. وبمعنى البلوغ لحالة من أحوال الكمال. ومنه يقال : أدرك الغلام. إذا بلغ سن كمال العقل ، وأدركت الثمار. إذا زهت ، واستوت. إلا أن المقصود فيما نحن فيه ؛ إنما هو الإدراك بمعنى السمع ، والبصر.

وقد أجمع العقلاء ، على أن الواحد منا مدرك. ثم اختلفوا :

فمن قال بنفى الأعراض : قال : هو مدرك ، لا بإدراك.

ومن أثبت الأعراض : قال هو مدرك ، بإدراك ، وإن الإدراك معنى ، غير أن الإدراك عرض قائم بجزء من المدرك عند المعتزلة ، وقائم بنفس المدرك عند من لا يرى تعدى حكم الصفة عن محلها.

وعند هذا اختلف المتكلمون في الرب تعالى :

فذهب أصحابنا (١) : إلى أنه سميع بسمع ، بصير ببصر.

وذهبت المعتزلة : إلى أنه سميع بلا سمع ، بصير بلا بصر.

وذهب ابن الجبائى (٢) : إلى أن معنى كونه سميعا ، بصيرا : أنه حي لا آفة به.

__________________

(١) من كتب الأشاعرة المتقدمين على الآمدي :

انظر اللمع للأشعرى ص ٢٥ ، ٢٦ والإبانة له أيضا ص ٣٥ ، والتمهيد للباقلانى ص ٤٧ والإنصاف له أيضا ص ٣٧ وأصول الدين للبغدادى ص ٩٦ ، ٩٧.

والإرشاد لإمام الحرمين ص ٧٢ ـ ٧٦ ولمع الأدلة له أيضا ص ٥٨.

والاقتصاد للغزالى ص ٥١ ونهاية الأقدام للشهرستانى ص ٣٤١ ـ ٣٥٥.

والمحصل للرازى ص ١٢٣ ، ١٢٤ ومعالم أصول الدين له أيضا ص ٤٥ ـ ٤٧.

ومن كتب الآمدي : انظر غاية المرام ص ١٢١ ـ ١٣٣.

ومن كتب المتأخرين المتأثرين بالآمدي :

انظر شرح الطوالع ص ١٨٢ ـ ١٨٣ ، والمواقف للإيجي ص ٢٩٢ ـ ٢٩٣ ، وشرح المقاصد للتفتازانى ، ٢ / ٧٢ ـ ٧٣.

(٢) لتوضيح رأى الجبائى انظر الفرق بين الفرق ص ١٨٣ ، ١٨٤ والملل ١ / ٨٣.


وذهب الكعبى (١) : إلى أن معناه : أنه عالم بالمسموعات ، والمبصرات.

وقد اعتمد أصحابنا (٢) فى المسألة. على (٣) المسلك المشهور. وهو أنهم قالوا : البارى تعالى حي ، والحى إذا قبل حكما لا يخلو عنه ، أو عن ضده. وهو كونه حيا موجب لقبول السمع ، والبصر ، فلو لم يتصف البارى ـ تعالى ـ بالسمع (٤) ، والبصر (٤). لكان متصفا (بضدهما (٥)) وضد البصر (٦) ، والسمع (٦) ، صفة نقص ؛ فيمتنع اتصاف البارى ـ تعالى ـ به.

وبيان أن الموجب لقبوله (٧) للسمع (٧) ، والبصر كونه حيا : ما نراه في الشاهد ؛ فإن الموجب لقبول الإنسان ، وغيره من الحيوان لذلك : إنما هو كونه حيا ؛ فإنه لو قدر أن الموجب لذلك غير الحياة من الأوصاف ؛ لكان منتقضا.

وإذا كان الموجب لقبول ذلك : إنما هو كونه حيا : فالبارى ـ تعالى ـ حي كما يأتى ؛ فيجب أن يكون متصفا بهما وإلا كان متصفا بأضدادهما : وهو ممتنع.

واعلم أن هذا المسلك : مما لا يقوى نظرا إلى ما حققناه في مسألة (٨) الكلام (٨).

والّذي نعده هاهنا أن نقول :

حاصل الطريقة آئل إلى قياس التمثيل ؛ وهو الحكم على الغائب / بمثل ما حكم به على الشاهد بجامع الحياة. وهو إنما يصح أن لو ثبت أن الحكم في الأصل الممثل به

__________________

(١) لتوضيح رأى الكعبى انظر الفرق بين الفرق ص ١٨١ والملل ١ / ٧٨.

(٢) منهم : الأشعرى في اللمع ص ٢٥ ، ٢٦ ، ٤٠ والإبانة ص ٣٥ ، وتابعه الباقلانى في التمهيد ص ٤٧ ، والشهرستانى في نهاية الأقدام ص ٣٤١ ـ ٣٤٣.

(٣) ساقط من ب.

(٤) فى ب (بهما).

(٥) فى أ (بضده).

(٦) فى ب (السمع والبصر).

(٧) فى ب (لقبول السمع).

(٨) فى ب (الصفات بجهة العموم).

انظر ل ٨٨ / ب وما بعدها : المسلك الخامس ـ من المسألة الخامسة في إثبات صفة الكلام لله تعالى ، وهذا المسلك قد نقده القاضى عبد الجبار في المغنى ٤ / ٣٩ ، ٥١ وشرح الأصول الخمسة ص ٢٥٧.


لمعنى ، لا أنه ثابت لنفسه ، أو بخلق علم (١) الله ـ تعالى ـ له في ذلك من غير افتقار إلى أمر خارج ، يكون مصححا له ، وموجبا.

وإن سلم (٢) أنه ثبت لمعنى ؛ لكن لا بدّ من حصر أوصاف المحل ؛ وذلك لا يتم إلا (٣) بالبحث ، والسبر ؛ وهو غير مفيد لليقين (٣) كما سلف (٤).

ثم وإن أفاد علما للباحث ؛ فلا يكون حجة على غيره ؛ فإن بحث زيد لا يفيد العلم في حق عمرو.

ثم وإن سلم (٥) الحصر ؛ فلا بد (٥) من التعرض لإبطال التأثير في كل رتبة تحصل له مع إضافته إلى غيره ؛ وذلك مما يعسر ويشق.

وإن سلم التعرض لإبطال غير المستبقى ، غير أن ما به إبطال غير المستبقى ؛ فهو لازم على إبطال المستبقى ؛ فإنه منتقض بباقى أعضاء الإنسان ، وأعضاء غيره من الحيوان ؛ فإنها حية مع انتفاء السمع ، والبصر ، وأضدادهما عنها.

وإن سلم أن الحكم لغير ما عين ؛ لكن من الجائز أن يكون ذلك له باعتبار الشيء الموصوف به. ومهما لم يتبين أن الموصوف به في محل النزاع هو الموصوف به في محل الوفاق ، لم يلزم الحكم.

وإن سلم أن المصحح كونه حيا لا غير ؛ فإنما يلزم ذلك في حق الله تعالى أن لو كان إطلاق اسم الحى على الله ـ تعالى ـ وعلى الواحد منا بمعنى واحد ؛ وهو غير مسلم.

ولا يلزم من كون الحياة في حق الله ـ تعالى ـ شرطا لصحة الاتصاف بالعالمية ، والقادرية ، كما في الحياة في الشاهد ، التماثل بين الحياتين ؛ لجواز اشتراك المختلفات في لازم واحد.

__________________

(١) ساقط من ب.

(٢) فى ب (سلمنا).

(٣) فى ب (إلا بالبحث وهو غير يقينى).

(٤) انظر ل ٣٩ / ب.

(٥) فى ب (سلمنا الحصر ولكن لا بدّ).


سلمنا اتحاد مسمى الحى بين الشاهد والغائب ، ولكن لم قلتم إنه يلزم من وجود المصحح ؛ وجود الصحة ، وما المانع من أن تكون ذات البارى ـ تعالى ـ مانعة؟ إذ لا يلزم من (وجود (١)) المصحح انتفاء المانع. ولهذا : فإن كونه حيا كما أنه مصحح لهذه الإدراكات ؛ فهو مصحح في الشاهد لأضدادها. وما لزم من وجوده في حق الله ـ تعالى ـ صحة اتصافه بأضداد الإدراكات.

وقد ترد عليه أسئلة أخرى يمكن الانفصال عنها وهى أن يقال :

سلمنا أنه يلزم من وجود المصحح ؛ صحة اتصافه بالإدراكات ؛ ولكن ما الّذي تعنون بأضداد الإدراكات؟

إن أردتم بها عدم الاتصاف بالإدراكات فهو حق ؛ ولكن لا نسلم أن الاتصاف بعدم / الإدراك ممتنع ؛ والقول بأنه صفة نقص ؛ عين محل النزاع.

وإن أردتم به معنى ثبوتيا : فهو غير مسلم.

وبيانه : أنه لو كان معنى ؛ لوجب أن يدركه الحى من نفسه :

كإدراكه جميع صفاته التى شرطها الحياة ؛ وذلك كما إذا قدر أو علم ، فإنه يدرك كونه عالما ، أو قادرا ، والعلم الاضطرارى يشهد بأنا لا ندرك معنى عند عدم إدراكنا للأمور الغائبة عنا.

سلمنا وجود أضداد الإدراكات ، ولكن لا نسلم امتناع خلو الحى عنهما كما ذهب إليه أبو الهذيل.

سلمنا امتناع الخلو ؛ ولكن لا نسلم أن أضداد الإدراكات من صفات النقص كما تقدم في مسألة الكلام.

سلمنا أنها نقص ؛ ولكن لم قلتم بامتناع اتصاف الرب ـ تعالى ـ بها؟ فلئن رجعتم إلى الإجماع ؛ فمدرك كون الإجماع حجة. إنما هو النصوص من الكتاب ، والسنة ، فلنرجع في إثبات السمع ، والبصر إليهما ؛ إذ هو أولى من هذا التطويل مع ضعفه.

__________________

(١) ساقط من أ.


سلمنا دلالة ما ذكرتموه على اتصاف الرب ـ تعالى ـ بالسمع ، والبصر ، لكنه ينتقض بباقى الإدراكات من الشم ، والذوق ، واللمس ؛ فإن ما ذكرتموه يوجب كونه ـ تعالى ـ متصفا بها ؛ ولم يقل به قائل.

والجواب :

أما السؤال الأول : فمندفع ؛ وذلك لأنه إذا ثبت كون الرب ـ تعالى ـ حيّا ، وأن كونه حيا : مصحح لاتصافه بالسمع ، والبصر ؛ فالسمع ، والبصر صفة كمال للحى على ما تقدم تقريره. فإذا لم يكن متصفا بهما ، فهو ناقص ، وسواء كان (ضدهما (١)) هو عدم السمع ، والبصر ، أو معنى ثابتا.

كيف وإن الأدلة (الدالة (٢)) على ثبوت الأعراض بعينها دالة على كون أضداد السمع ، والبصر معنى ، وسنبين ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى.

قولهم : لو كان صفة ثبوتية لكان مدركا ، ليس كذلك لوجوه ثلاثة :

الأول : هو أن السهو من أضداد العلم ، وهو معنى ، وما لزم أن يكون مدركا ؛ فإنه لو كان مدركا لكونه ساهيا ؛ لما كان ساهيا ، فإذن ليس كل معنى يكون مدركا.

الثانى : هو أنا لا نسلم أن كل معنى يجب أن يكون مدركا ؛ ولكن فيما كان من صفات الحى ، أو فيما لا يكون من صفات الحى.

الأول : مسلم. والثانى : ممنوع ؛ ولكن لم قلتم بأن المانع من صفات / الحى ـ إذ المانع من الإدراك بالسمع ، والبصر ، في اليد ، والرجل عندنا ؛ مجانس للمانع في الجماد.

الثالث : سلمنا أن كل معنى يجب أن يكون مدركا ؛ ولكن متى؟ إذا لزم منه التسلسل ، أو إذا لم يلزم ، الأول : ممنوع ، والثانى : مسلم.

والموانع لو لزم أن تكون مدركة ؛ للزم من عدم إدراكها ، إدراك مانعها ، وهلم جرا ، إلى غير النهاية ؛ وهو محال.

__________________

(١) فى أ (ضده).

(٢) ساقط من أ.


وأما منع إحالة الخلو من الأضداد ؛ فقد سبق جوابه في مسألة الكلام (١).

وأما الأصحاب (٢) : فقد استدلوا على موقع المنع من أربعة أوجه :

الأول : أن الاتفاق واقع على أن المحل بعد اتصافه ببعض الصفات لا يخلو عنها إلا بضدها. فإما أن يكون ذلك لازما ، أو لا يكون لازما.

فإن لم يكن لازما : جاز أن لا يقع ؛ وهو خلاف الإجماع ،

وإن كان لازما : فاللزوم إما لنفس الذات ، أو للازم الذات.

وعلى كلا التقديرين يلزم استمرار هذا الحكم بدوام الذات.

الثانى : أنه لو جاز خلو المحل عن جميع الأضداد : فإما أن يكون التعاقب بينهما واجبا ، أو لا يكون واجبا.

فإن كان غير واجب : فلا يمتنع وجودهما معا ؛ وهو محال. وإن كان التعاقب واجبا ؛ فهو المطلوب.

الثالث : هو أن المحل لو جاز خلوه عن الأضداد : فإما أن يكون ذلك لذاته ، أو لمعنى.

فإن كان الأول فيلزم منه امتناع اتصافه بواحد منها ؛ وهو محال.

وإن كان الثانى : فيلزم أن يكون متصفا ببعض الأضداد حالة خلوه عنها ؛ وهو محال.

الرابع : أنه لو جاز خلو المحل عن جميع الأضداد ؛ لامتنعت الدلالة على استحالة حلول الحوادث بذات الرب تعالى ؛ إذ لا طريق إلى ذلك غير قولنا : لو جاز أن يكون محلا للحوادث ، لما خلا عنها ، أو عن أضدادها في الأزل ؛ وهو ممتنع ؛ لما فيه من وجود حوادث متعاقبة إلى غير النهاية.

ويمكن أن يجاب عن الأول : بأنه لا مانع أن يكون ذلك من لوازم اتصاف المحل بالصفة ، لا أنه من لوازم الذات ، ولا لازم الذات.

__________________

(١) انظر ل ٩٠ / أالجواب عن السؤال الرابع.

(٢) ذكر الآمدي استدلال الأصحاب على موقع المنع ثم رد عليهم.


وعن الثانى : بنفى وجوب التعاقب ، ولا يلزم من انتفاء وجوب التعاقب ، جواز الاجتماع.

وعن الثالث : أن خلو المحل عن الأضداد لا لذاته ، ولا لمعنى.

وعن الرابع : بما فيه من تصحيح الأصل ؛ ضرورة صحة ما لا يصح إلا به.

وأما / السؤال الثالث ، والرابع : فمندفع بما حققناه في جواب السؤال الأول.

وأما السؤال الخامس : فقد سبق جوابه في مسألة إثبات الصفات بجهة العموم (١).

المسلك الثانى :

وهو مناسب لأصول المعتزلة (٢). وهو أن الله ـ تعالى ـ حي لذاته ، وكل حي لذاته ؛ فإنه يدرك المدرك عند وجوده ؛ فالبارى ـ تعالى ـ يدرك المدرك عند وجوده.

أما (٣) أنه حي : فمجمع عليه مع قيام الدليل عليه فيما يأتى (٤).

وأما أن كل حي لذاته (فهو (٥)) يدرك المدرك عند وجوده ؛ فهو : أن الحى في الشاهد مدرك ومدركيته معللة بكونه حيا ، ومفهوم الحياة متحد في الغائب والشاهد ؛ فيلزم من كونها علة المدركية في الشاهد ؛ أن تكون علة في الغائب.

أما بيان كون الحياة في الشاهد علة المدركية : فمن ثلاثة أوجه :

الأول : أن بعض الحى إذا كان حيا ؛ كان مدركا. وإذا خرج عن كونه حيا بالقطع ، وغيره خرج عن كونه مدركا. ودوران المدركية معه وجودا وعدما ؛ دليل كونه علة لها.

الثانى : أن الحى ـ السليم الحاسة ـ إذا حضر المدرك ، وانتفت الموانع ، ووجدت الشرائط ؛ كان إدراكه له واجبا.

__________________

(١) راجع ما سبق ل ٥٨ / ب.

(٢) قارن بالأصول الخمسة للقاضى عبد الجبار ص ١٦٧ وما بعدها ، والمغنى في أبواب التوحيد والعدل : ٥ / ٢٤١ وما بعدها ، والمحيط بالتكليف له أيضا ص ١٣٥ وما بعدها.

(٣) فى ب (وأما).

(٤) انظر ل ١١١ / أوما بعدها.

(٥) ساقط من أ.


وإدراكه : إما أن يكون معللا بكونه حيا ، أو بانتفاء الموانع ، أو بصحة الحاسة ، أو لوجود المدرك ، أو لأمر آخر.

لا جائز أن يكون معللا بانتفاء الموانع لثلاثة أوجه :

الأول : هو أن انتفاء الموانع يعم الحى ، والميت ؛ وذلك يوجب كون الميت مدركا ؛ وهو محال.

الثانى : هو أن العدم لا يكون علة لأمر ثبوتى.

الثالث : هو أن الموانع المنتفية كثيرة : فإما أن تعلل المدركية بواحد منها ، وإما (١) بالكل ، أو لا بشيء منها.

والأول (١) ممتنع ؛ إذ لا أولوية لبعضها دون البعض.

والثانى : ممتنع ؛ لأنها عند الاجتماع : إما أن يكون كل واحد مؤثرا في جملة الحكم ، أو في بعضه ، أو أنه لا تأثير لكل واحد منها في شيء ما.

لا سبيل إلى الأول : وإلا كان كل واحد منها مستقلا بالحكم. ومعنى استقلاله ، أنه (٢) ثبت (٢) به لا غير ، وفي ذلك إبطال استقلال كل واحد منها.

ولا سبيل إلى الثانى ؛ لعدم التبعيض في الحكم.

وإن كان الثالث ؛ فهو المطلوب.

ولا جائز أن يكون معللا بصحة الحاسة ؛ لأنه لا معنى لصحة الحاسة غير انتفاء الآفات / عنها ، وهو عود إلى القسم الّذي تقدم.

ولا جائز أن يكون معللا بوجود المدرك : فإن المدركية تكون (٣) موجودة في غير المدرك (٣) ، والعلة لا توجب حكما في غير محلها. كما يأتى في العلل والمعلولات (٤).

ولا جائز أن تكون المدركية معللة بأمر خارج عن هذه الأقسام : وإلا لزم من فرض عدمه امتناع الإدراك مع فرض الحياة ، ووجود المدرك ، وصحة الحاسة ، وامتناع الموانع ؛ وهو محال.

__________________

(١) فى ب (أو بالكل أو بشيء منها الأول).

(٢) فى ب (به أنه أثبت).

(٣) فى ب (تكون في غير المدرك موجودة).

(٤) انظر الجزء الثانى ل ١١٧ / ب وما بعدها.


الوجه الثالث : هو أنه إذا كان المحل حيا مع صحة الحاسة ، وانتفاء الموانع ، والمدرك موجود ؛ فإنا نعلم حصول المدركية ، ولا شك أنها موقوفة على وجود المدرك.

وعند ذلك ، إما أن تتوقف المدركية على شرط آخر ، أو لا.

فإن توقفت على شرط آخر : فإما أن يكون من الشرائط (١) المذكورة من صحة الحاسة ، وانتفاء الموانع ، من القرب المفرط ، والبعد المفرط ، وارتفاع الحجب ، أو خارجا عنها.

لا جائز أن يقال بالأول : لأن هذه الشروط إنما يعقل ثبوتها في حق الأجسام ، والله ـ تعالى ـ ليس بجسم ؛ فلا يتصور ثبوتها في حقه. وما استحال ثبوته لشيء (٢) ، استحال كونه شرطا في ثبوت غيره لذلك الشيء ؛ لأن كونه شرطا : صفة ثبوتية. والصفة الثبوتية : لا تكون صفة للعدم الصرف.

ولا جائز أن يقال بالثانى : وإلا لزم عدم الإدراك عند فرض عدمه مع وجود ما قيل من الشرائط ؛ وهو ممتنع ، مخالف لما هو معلوم لنا بالضرورة.

وإن كان الثانى ؛ فهو المطلوب.

وهو ضعيف أيضا ؛ إذ لقائل أن يقول :

لا نسلم أن علة المدركية في الشاهد ، كون المدرك حيا.

وأما ما ذكروه من الدوران ؛ فباطل بما سبق في قاعدة الدليل (٣) كيف وقد أمكن أن يكون حلول الحياة في العضو مع اتصاله بالجملة الحية من جملة المصحح.

وأما الوجه الثانى : فباطل ؛ إذ لا مانع من كون العلة صحة الحاسة.

قولهم : معنى صحة الحاسة ، انتفاء الآفات ، لا نسلم [ذلك (٤)] ؛ بل هو عبارة عن اعتدال المزاج ، وهو أمر وجودى لا عدمى.

__________________

(١) فى ب (الشروط).

(٢) فى ب (للشىء).

(٣) انظر ل ٤٠ / أ.

(٤) ساقط من أ.


فلئن قالوا : المزاج المعتدل كيفية حادثة عن تفاعل الكيفيات الملموسة للعناصر. ولا يكون ذلك إلا من اجتماع أمور ؛ وهو باطل بما سبق في تقرير امتناع التعليل بانتفاء الموانع / ؛ فهو باطل على أصلهم (١) ؛ حيث قضوا باستحالة قيام الحياة بالجوهر الفرد ، وجواز قيامها بالجسم المركب من الجواهر المجتمعة ؛ وفيه توقف الحياة علي كل واحد من أفراد (٢) الجسم لا محالة.

وأما الوجه الثالث : لأن إلحاق الغائب بالشاهد ؛ إنما هو بواسطة الاشتراك في العلة المصححة للمدركية في الشاهد. فإذا (٣) أمكن أن يكون المصحح هو الحياة ، وحصول المدرك ، وصحة الحاسة ، وانتفاء الموانع ؛ فإن استحال تحقق هذه الشرائط ، أو بعضها في حق الله ـ تعالى ـ فلم يوجد في حقه ، ما كان هو المصحح في الشاهد ؛ فكان الإلحاق ممتنعا.

كيف ، وأن (٤) كل (٤) ما أوردناه على المسلك المتقدم (٥) ؛ فهو وارد هاهنا (٦).

وربما استروح بعض الأصحاب (٧) في إثبات السمع ، والبصر لله (٨) ـ تعالى ـ (٨) إلى ظواهر واردة في الكتاب ، والسنة.

منها ما يدل على كونه سميعا بصيرا ، كقوله ـ تعالى ـ (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (٩).

ومنها ما يدل على نفس السمع ، والبصر ، كقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) (١٠). إلى غير ذلك من الظواهر ؛ وهى غير مفيدة لليقين ، ولا خروج لها عن الظن ، والتخمين ، والتمسك بما هذا شأنه في إثبات الصفات النفسية ، وما يطلب فيه اليقين ، ممتنع.

__________________

(١) فى ب (أصولهم).

(٢) فى ب (أجزاء).

(٣) فى ب (فإن).

(٤) فى ب (وكل).

(٥) فى ب (الأول).

(٦) فى ب (هنا).

(٧) منهم : الغزالى في كتابه الاقتصاد في الاعتقاد ص ٥١ ، والرازى في كتابيه المحصل ص ١٢٤ ومعالم أصول الدين ص ٤٦.

(٨) فى ب (به).

(٩) سورة الحج ٢٢ / ٧٥.

(١٠) سورة طه ٢٠ / ٤٦.


والمعتمد في ذلك : ما ذكرناه من الطريقة العامة في إثبات الصفات ؛ فعليك بنقلها إلى هاهنا (١).

غير أنه قد يرد عليه (٢) هاهنا شبه وتشكيكات خاصة بهذه المسألة غير ما ورد فيما تقدم ، لا بدّ من إيرادها ، والإشارة إلى وجه الانفصال عنها.

الأول منها : لا نسلم أن كون السميع سميعا ، والبصير بصيرا معنى إثباتيا ، لا شاهدا ، ولا غائبا ؛ بل المفهوم منه إنما هو عدمى ؛ إذ هو عبارة عن كونه حيا لا آفة به كما هو مذهب ابن الجبائى (٣).

سلمنا أنه أمر ثبوتى ؛ ولكن لا نسلم خروجه عن كونه عالما بالمسموعات ، والمبصرات كما هو مذهب الكعبى (٤) ؛ فلا يكون زائدا على ما سبق من الصفات.

سلمنا أن معنى كون السميع سميعا. معنى ثبوتيا ، وأنه زائد على كونه عالما بالمسموعات ، والمبصرات ؛ ولكن لا نسلم أن المدرك في الشاهد ، والغائب ، مدرك بإدراك زائد على المدركية. وبيانه من أربعة أوجه.

الأول : أنه لو كان مدركا بإدراك / ؛ لجاز أن يدرك الواحد منا أخفى ما يكون بحضرته ، وأن لا يدرك ما هو أعظم منه ؛ لجواز أن يخلق له الإدراك بالأخفى دون الأظهر ، وذلك بأن يرى ابره ولا يرى ما بين يديه من الجبال الراسية ، والجمال السائرة ، وأن يسمع الهمس الخفى من الأصوات ، دون ما بحضرته من أصوات الدبادب ، والبوقات.

الثانى : هو أنه إذا صحت الحاسة ، وكان المرئى في مقابلة الرائى ولم يكن في غاية الصغر ، واللطف ، ولا في غاية القرب المفرط ، والبعد المفرط ، وانتفت الحجب ؛ فالمدركية واجبة الحصول ، وممتنعة الحصول عند فوات هذه الشروط ، أو بعضها على ما تشهد به الفطر ، وتقضى به العقول.

__________________

(١) راجع ما سبق ل ٥٨ / أ.

(٢) فى ب (عليها).

(٣) انظر ما سبق ل ٩٩ / أ.

(٤) انظر ما سبق في أول المسألة ل ٩٩ / أ.


وعند ذلك : فلو كانت المدركية معللة بمعنى ، فذلك المعنى : إما أن يكون ملازما لهذه الشروط وجودا وعدما ، أو (١) هو منفك عنها بأن (٢) يوجد مع عدمها ، ويعدم مع وجودها.

لا جائز أن يقال بالانفكاك : وإلا لزم وجود المدركية عند وجود ذلك المعنى ، وإن انتفت تلك الشروط ، أو انتفاء المدركية عند انتفائه ، وإن وجدت تلك الشروط ؛ وهو محال.

ولا جائز أن يقال بالملازمة (٣) : لوجوه ثلاثة :

الأول : أنه يلزم (منه (٤)) أن تكون تلك الشروط علة له ضرورة دورانه معها ، وعدم تعلقه بغيرها ، وشهادة العقل بأن المدار على هذا الوجه ، يكون علة للدائر لا شرطا.

الثانى : هو أن العقل جازم بوجوب وجود المدركية ، عند تحقق هذه الشروط ، وإن قطع النظر عما سواها ، وبانتفاء المدركية عند انتفائها ، أو انتفاء بعضها ، وإن وجد غيرها ، فلو كانت المدركية معللة بمعنى ؛ للزم انتفاؤها عند وجود هذه الشروط وتقدير عدم ذلك المعنى ، أو وجودها عند وجوده ، وتقدير عدم هذه الشروط ؛ وهو خلاف ما يشهد به العقل.

الثالث : هو أنه يلزم من ملازمة المعنى لهذه الشروط ، أن يكون بينهما تعلق ، وإلا لما كانت الملازمة أولى من عدم الملازمة وذلك إما تعلق اشتراط ، أو علية.

وعند ذلك : فإما أن يكون التعلق من الجانبين ، أو من أحد الجانبين.

لا جائز أن يقال بالأول : لما فيه من الدور الممتنع.

ولا جائز أن يقال بالتعلق من أحد الجانبين : لأنه لا يخلو من أن يكون ذلك المعنى / مشروطا بتلك الشروط ، أو هى مشروطة به ، أو هى معلولة (٥) له ، أو هو معلول لها (٥).

__________________

(١) فى ب (وهو).

(٢) فى ب (وهو أن).

(٣) فى ب (بالتلازم).

(٤) ساقط من أ.

(٥) فى ب (معلولة به أو معلول بها).


لا جائز أن يقال بالأول : فإنه يمتنع (١) حصول الشرط دون المشروط.

وعند ذلك : فلو قدر وجود هذه الشرائط دون ذلك المعنى ؛ فيلزم (٢) منه (٢) انتفاء المدركية ؛ لانتفاء ذلك المعنى ، مع (٣) وجود تلك الشروط ، وهو محال.

ولا جائز أن يقال بالثانى : لوجهين :

الأول : أنه لا مانع من وجود ذلك المعنى دون تلك الشرائط (٤) ؛ لكونه شرطا لها.

وعند ذلك : فيلزم وجود المدركية ، لوجود علتها دون تلك الشروط ؛ وهو ممتنع.

الثانى : أن كل واحد من تلك الشروط غير متوقف على ذلك المعنى المعبر عنه بالإدراك ، وكذا كل اثنين منها ؛ فالجملة لا تكون متوقفة عليه ؛ فإن الآحاد من الجملة.

ولا جائز أن يقال بالثالث : وهو أن يكون المعنى علة لتلك الشروط لوجوه خمسة.

الأول : أن كل واحد من تلك الشروط متحقق ، دون الإدراك فلا يكون منها ما هو معلول له.

الثانى : هو أنه إذا كان الإدراك علة للمدركية : فإما أن يتوقف على تلك الشروط ، أو لا يتوقف عليها.

فإن قيل بالتوقف : فهو ممتنع على أصلكم في امتناع توقف العلة في اقتضائها على معلولها.

__________________

(١) فى ب (لا يمتنع).

(٢) فى ب (للزم).

(٣) فى ب (جواز).

(٤) فى ب (الشروط) وقد وردت هاتان اللفظتان كثيرا في أ ، ب فمرة تأتى شروط في أوفي ب شرائط وأخرى بالعكس وبالبحث في المصباح المنير والقاموس المحيط اتضح الآتى :

الشرط جمعه شروط والشريطة في معنى الشرط وجمعها (شرائط).

(المصباح المنير كتاب الشين مع الراء وما يثلثهما).

الشرط إلزام الشيء والتزامه في البيع ونحوه كالشريطة ج شروط.

(القاموس المحيط باء الطاء فصل الشين).

وبناء عليه فسأكتفى بما ورد في نسخة أدون الإشارة إلى ما ورد مخالفا لها في نسخة ب نظرا لاتحاد المعنى.


وإن لم يتوقف : فيلزم عند وجود ذلك المعنى وجود المدركية مع تقدير انتفاء تلك الشروط ؛ وهو محال. كما سبق.

الثالث : هو أن الإدراك متوقف على كل واحد من تلك الشروط ؛ فلا يكون علة له نفيا للدور.

الرابع : هو أن الإدراك إذا كان علة للمدركية ، وهو علة لتلك الشروط ؛ فيلزم أن تكون العلة الواحدة لمعلولين مختلفين ؛ وهو محال.

الخامس : هو أن عندكم إدراك كل شيء مخالف لإدراك غيره.

وعند ذلك : فصحة كل واحد من تلك الشروط : إما أن تكون معللة بواحد من تلك الإدراكات ، أو بكل واحد منها على سبيل الاستقلال ، أو أنه غير معلل بشيء منها.

لا سبيل إلى الأول والثانى : لما تقدم قبل.

وإن كان الثالث : فهو المطلوب.

ولا جائز أن يقال بالرابع : وهو كون الشروط علة للإدراك ؛ لأنه إما أن تكون العلة هو الواحد منها ، أو كل واحد علة ، أو أنه لا شيء منها علة.

لا جائز أن يقال بالأول ، والثالث : إذ هو خلاف الفرض.

والثانى : باطل بما سبق.

الوجه الثالث : أنه / لو كان المدرك مدركا بإدراك ؛ لجاز على القادر خلق إدراك المعدوم في العين. كما جاز تعلقه باللون ، والطعم ، وغيره ؛ وإدراك المعدوم محال.

الرابع : أنه لو كان الإدراك معنى ؛ لصح إدراكه بإدراك آخر ؛ لأن كل موجود يصح أن يكون مدركا عندكم.

وعند ذلك : فلا يتصور الخلو عن إدراكه (١) ، أو عن ضده. وضده أيضا يكون معنى ؛ فيصح إدراكه.

__________________

(١) فى ب (إدراك).


وعند ذلك : فيجب أن لا تخلو عن إدراكه ، أو (١) عن ضده (١) والكلام في ذلك الثانى ؛ كالكلام في الأول ، وهو تسلسل ممتنع.

سلمنا أن المدرك في الشاهد ، مدرك بإدراك ؛ ولكن لا نسلم لزوم ذلك في حق الله ـ تعالى ـ وبيانه بخمسة (٢) أوجه :

الأول : أنه لا يخلو : إما أن يكون قديما ، أو حادثا.

لا جائز أن يقال بكونه حادثا : وإلا كان الرب ـ تعالى ـ محلا للحوادث ؛ وهو محال.

ولا جائز أن يكون قديما : وإلا للزم أن يكون له مسموعات ، ومبصرات في القدم ؛ إذ السمع ، والبصر من غير مسموع ؛ ولا مبصر محال ؛ وذلك يجر إلى القول (٣) بقدم (٣) العالم ، أو أن يكون المعدوم مدركا ؛ وهو محال.

الثانى : هو أن الإدراك في الشاهد : إما أن يكون مشروطا بالبنية المخصوصة ، أو لا يكون مشروطا بها.

لا جائز أن لا يكون مشروطا : وإلا للزم الالتباس بين الإدراكات ، وأن تكون حاسة واحدة مدركة بإدراكات مختلفة ؛ وهو ممتنع.

وإن كان مشروطا بالبنية المخصوصة : كما ذكرناه فيما تقدم في تحقيق كل واحدة من الحواس ؛ فهو في حق الله ـ تعالى ـ محال.

الثالث : أنه لا مانع من تفسير الإدراك بانطباع صور المحسوسات في حاسة المدرك كما هو مذهب ابن سينا (٤) ، أو أن يكون الانطباع شرطا فيه كما هو مذهب الطبيعيين ، ويدل على ذلك ما سيأتى عن قرب ؛ وذلك في حق الله ـ تعالى ـ محال.

الرابع : أنه لا مانع من أن يكون الإدراك مشروطا بخروج شعاع من العين متصل بالمدرك كما هو مذهب الرياضيين ، ولهذا فإنا لا ندرك الهبا في غير شعاع الشمس النازل

__________________

(١) فى ب (أو ضده).

(٢) فى ب (من خمسة).

(٣) فى ب (قدم).

(٤) انظر النجاة ص ١٦٠ ـ ١٦٢.


من الكوى ، وأن الناظر إذا وقف بين مرآتين متقابلتين ؛ فإنه يرى ظهره في المرآة التى في قبالة ناظره ، وليس ذلك إلا / بسبب تردد الأشعة بين المرآتين.

وكذلك يرى وجهه مستطيلا ، أو معرضا (١) عند نظره في السيف طولا ، وعرضا ؛ وذلك بسبب ما ينعكس عند ذلك الشكل من الشعاع ، ولتعدد الشعاع ، واجتماعه بسبب البعد ، والقرب ، ومخالطة الأبخرة (٢) له ، يرى الشيء على البعد صغيرا ، أو على القرب كبيرا على ما سلف ؛ وهو أيضا محال في حق الله تعالى.

الخامس : أنه لا مانع من كونه مشروطا باستحالة الهواء المشف المتوسط بين الناظر ، والمنظور آلة إدراكه ، كما هو مذهب جالينوس (٣) ؛ وذلك كله غير متصور في حق الله تعالى.

سلمنا دلالة ما ذكرتموه على كون الرب ـ تعالى ـ مدركا بإدراك ؛ ولكنه ينتقض بباقى الإدراكات ، وغيرها من الكمالات المفروضة في الشاهد.

سلمنا أنه مدرك بإدراك ؛ ولكن لا نسلم خروج الإدراك عن جنس العلوم (٤) ، وبيانه من وجهين :

الأول : أنه لا يتصور أن يدرك المدرك شيئا ولا يعلمه ؛ وذلك دليل على (٥) الاتحاد.

الثانى : هو أن أحكام العلوم ثابتة للإدراكات بدليل أن العلم لا يؤثر في متعلقه لا شاهدا ، ولا غائبا. وكذلك الإدراك ؛ فدل على الاتحاد.

__________________

(١) فى ب (عريضا).

(٢) بياض في ب.

(٣) جالينوس :

الفيلسوف الطبيب كانت له شهرة طبية في العالم الإسلامى : إذ أنه نقل إلى الإسلاميين خلال كتاباته ـ المذاهب اليونانية التى تعارض المذهب المشائى الأرسطى. ولد سنة ١٣٠ م. وكانت له مجالس علمية في مدينة روما ، وله مؤلفات كثيرة في الطب والحكمة.

انظر عنه (طبقات الأطباء ص ٤١ ـ ٥١ وتاريخ الحكماء ص ١٢٣ ـ ١٣٢ ، ونشأة الفكر الفلسفى ١ / ٢٠٥ ، ٢٠٦).

(٤) فى ب (العلم).

(٥) ساقط من ب.


والجواب :

قولهم : لا نسلم أن مفهوم المدرك ثبوتى ؛ بل المدرك هو الحى الّذي لا آفة به.

قلنا : دليل كون المدرك مدركا أمرا ثبوتيا ؛ ما يجده كل عاقل من نفسه عند سماعه الأصوات ، وإبصاره المبصرات. من أمور تجددت بعد أن لم تكن. كما يجد من نفسه : أنه عالم ، وقادر ونحو ذلك ؛ وذلك مما لا مراء فيه ، ولا سبيل إلى جحده ، ومكابرته. ثم ذلك الّذي يجده كل عاقل من نفسه : إما أن يكون ثبوتيا أو نفييا.

لا جائز أن يكون نفييا : فإن نقيض كون السميع سميعا ، والبصير بصيرا ؛ لا سميع ، ولا بصير ، ولا سميع ، عدم محض ؛ إذ يصح وصف العدم المحض به ، ولو كان ثبوتيا ؛ لكان العدم المحض متصفا بالصفة الثبوتية ؛ وهو محال ، فثبت أن مفهوم السميع ، والبصير ثبوتيا.

قولهم : المدرك هو الحى الّذي لا آفة به باطل ، لوجوه سبعة :

الأول : هو أن الحياة ، ونفى الآفة ، غير مختلف ، وكل عاقل يجد من نفسه اختلاف أحواله عند كونه سميعا ، وبصيرا ، وشاما ، وذائقا ، ولامسا ؛ والمختلف غير ما ليس بمختلف.

الثانى : هو أن المدرك : إما أن يكون / هو الحى الّذي انتفت عنه جميع الآفات ، أو (١) بعض الآفات (١) :

فإن كان الأول : فهو ممتنع ؛ فإنا قد نجد من حلت به بعض الآفات : كالسقيم المدنف (٢) مدركا ، والأعمى سامعا ، والأطرش مبصرا إلى غير ذلك. ولو كانت الحياة مع انتفاء جميع الآفات. هى معنى كون المدرك مدركا ؛ لما كان كذلك.

وإن كان الثانى : فيلزم أن يكون مدركا من انتفت عنه بعض الآفات ، وإن حلت به الآفة المانعة له من كونه مدركا ؛ وهو محال.

__________________

(١) فى ب (أو بعضها).

(٢) (السّقيم المدنف). الدّنف المرض الملازم ـ والمدنف هو الّذي لازمه المرض ، انظر القاموس المحيط (باب الفاء فصل الدال).


وإن قيل : المدرك هو الحى الّذي انتفت عنه الآفة المانعة له من كونه مدركا ؛ فهو اعتراف بأن المدركية ثبوتية ، وأن لها ضدا مانعا ، وهو خلاف مذهب ابن الجبائى القائل بهذا المذهب.

الوجه الثالث : أنه يلزم من كون المدرك هو الحى الّذي لا آفة به.

أن يكون الحى عند انتفاء الآفات ، مدركا للطيف ، والبعيد المفرط ، والقريب المفرط ، ولما هو محجوب بالحجب الكثيفة ؛ ضرورة تحقق مفهوم المدرك ، وتساوى نسبته إلى كل شيء.

فإن قيل : بأن انتفاء هذه الأمور شرط للمدركية.

فنقول : إذا كان حد المدرك : هو الحى الّذي لا آفة به. فمن كان حيا ، ولا آفة به ؛ فقد وجد فيه حد المدرك ؛ ويلزم من وجود الحد ؛ وجود المحدود ، فلو كانت هذه الأمور شروطا لكونه مدركا ؛ فيلزم من تقدير انتفائها ، انتفاء المدركية مع وجود حدها ؛ وهو ممتنع.

كيف وأنه لو قيل لابن الجبائى : ما المانع من (١) أن يكون المدرك : هو الحى الّذي انتفت عنه هذه الأمور ، وانتفاء الآفات شرط؟ لم يجد إلى الفرق سبيلا.

الوجه (٢) الرابع : هو (٢) أن العين مدركة للمبصرات ، والأذن مدركة للمسموعات ، ويلزم من ذلك : كون كل واحد من العضوين حيا ، لا آفة به ؛ ضرورة أنه يلزم من وجود المحدود وجود الحد ؛ ويلزم من ذلك : أن يكون كل واحد من العضوين مدركا لما يدركه الآخر ؛ ضرورة تساوى نسبة الحياة ، ونفى الآفات إلى جميع المدركات.

وإن قيل : باشتراط البنية المخصوصة في كل عضو ، بالنسبة إلى ما يدركه ، وبنية كل واحد من العضوين فانية في العضو الآخر ؛ فهو فاسد ؛ على ما سيأتى عن قرب. ثم جوابه ما سبق في الوجه الثالث.

__________________

(١) ساقط من ب.

(٢) فى ب (الرابع).


الوجه الخامس : أنا نجد من أنفسنا اشتهاء / كوننا مدركين لبعض المدركات : كسماع الأصوات اللذيذة ، وشم الرائحة الطيبة ، إلى غير ذلك ، ولو كانت المدركية : هى انتفاء الآفات عن الحى ، فإذا كان المشتهى حيا لا آفة به ؛ فذلك مما لا تتعلق به الشهوة لحصوله ؛ فإن الشهوة إنما تتعلق بحصول ما ليس بحاصل.

السادس : أنا قد نجد من أنفسنا كراهية الرؤية ، لبعض الأشياء وسماع بعض الأصوات.

وبالجملة : نكره كوننا مدركين لكثير من الأشياء ، والحياة ، ونفى الآفات لا تكره ؛ والمكروه غير ما ليس بمكروه.

السابع : أنه لو قيل لابن الجبائى على قياس مذهبه : ما المانع من أن يكون العالم : هو الحى الّذي لا آفة به؟ ، وكذلك في القادر ، والمريد ، ونحوه ؛ لم يجد إلى الفرق سبيلا.

قولهم : لا نسلم خروجه عن كونه عالما بالمسموعات ، والمبصرات.

قلنا : دليل خروجه عن ذلك من خمسة أوجه :

الأول : هو أنا إذا علمنا الشيء بطريق من الطرق ، ثم رأيناه فإنا نجد تفرقة ضرورية بين الحالتين ، وليس ما نجده من الحالة الثانية ـ وهو الرؤية ـ عائدا إلى كوننا قادرين ، ولا مريدين ، ولا متكلمين ؛ ضرورة ، ولا إلى الحياة ، ونفى الآفات. كما تقدم ؛ فبقى أن يكون قسما آخر ؛ وهو المعنى بالمدركية.

فإن قيل : ما المانع أن تكون التفرقة عائدة إلى الجملة ، والتفصيل ، والإطلاق ، والتقييد في الشيء المعلوم؟ ، بأن نكون عالمين بالشيء جملة ، أو على وجه مطلق ؛ فإذا رأيناه علمناه مفصلا ، أو مقيدا ؛ وذلك لا يوجب خروجه عن العالمية.

سلمنا خروجه عن العالمية ؛ ولكن ما المانع من عود التفرقة إلى تأثير الحاسة من الشيء المحسوس؟ ؛ فإن الحواس قابلة للانفصال عن المحسوس ؛ وذلك كما نجده من تأثير العين الباصرة عند التحدق إلى جرم الشمس ، والصدمة الداخلة في الأذن عند


الأصوات الشديدة كالبوقات ، وغيرها ، والانقباض والانبساط من بعض (١) المشمومات والمطعومات (١) ، والملموسات.

قلنا : أما الأول : فمندفع ، وذلك أنا لو رأينا جرما صغيرا ، ثم غمزنا العين عنه ؛ فإنا نبقى عالمين به على ما رأيناه.

ثم إذا فتحنا العين نحوه مرة ثانية ؛ فإنا نجد من أنفسنا حصول أمر زائد على ما كان معلوما لنا منه حالة غمز العين عنه ، ونجد تفرقة ضرورية بين الحالتين. فما نجده من الحالة الثانية : هو / المعنى بالمدركية ؛ فإن سميت تلك الحالة عالمية ؛ فهو نزاع في اللفظ ، لا في المعنى.

وقولهم : ما المانع من عود التفرقة إلى تأثير الحاسة؟

قلنا : ليس كذلك ؛ فإن الحاسة وإن كانت قابلة للتأثير كما ذكروه. إلا أن ما نجده من أنفسنا عند الإحساس بالشيء بعد العلم به ، إنما هو عائد إلى زيادة كشف ، وإحاطة بالشيء (٢) المحسوس (٢) ، بالنسبة إلى حالة كونه معلوما ؛ وذلك وجدان لا مراء فيه.

الوجه الثانى : هو أنا نجد من أنفسنا ، الكراهة لرؤية بعض الصور دون العلم بها ؛ وذلك دليل على الاختلاف بين المدركية ، والعالمية. (ومع (٣)) هذا الاختلاف ، فلا مبالاة بالمنازعة ، في تسمية المدركية نوعا من العالمية.

الوجه الثالث : هو (٤) أن العالمية باتفاق العقلاء يجوز تعلقها بكل موجود (٤) ، والمدركية الحاصلة بكل واحدة من الحواس عند الخصوم ، وعند بعض أصحابنا ؛ لا تتعلق بكل موجود ؛ وهو دليل الاختلاف.

الرابع : أنه قد يعلم ما لا يدرك : كالعلم بالمعدومات. وقد يدرك ما لا يعلم : كمن يرى شيئا وهو منغمس في سهوه ، ووسواسه ؛ فإنه مع رؤيته للشىء ؛ لا يكون عالما به ؛ وهو دليل الاختلاف.

__________________

(١) فى ب (المطعومات والمشمومات).

(٢) فى ب (شيء).

(٣) فى أ (مع).

(٤) فى ب (أن العالمية يجوز تعقلها بكل معلوم).


الخامس : أنه لا يتصور حصول العلم إلا ويعلم حصوله ؛ بخلاف الإدراك ؛ كما حققناه من مثال المدرك الساهى.

قولهم : لا نسلم أن المدرك مدرك بإدراك.

قلنا : لأن حد المدرك : من قام به الإدراك ؛ فلا يعقل مفهوم المدرك ، دون تعقل الإدراك ، كما لا يعقل مفهوم الأسود والأبيض ، دون فهم السواد ، والبياض ، ولو جاز تعلق مدرك بلا إدراك ؛ لجاز تعلق أبيض ، وأسود بلا سواد ، ولا بياض ؛ وهو من أمحل المحالات.

قولهم : لو كان مدركا بإدراك ؛ لجاز أن يدرك الأخفى دون الأظهر على ما قرروه.

قلنا : إحالة ذلك : إما أن ينظر فيها إلى العقل (أو إلى العادة) (١).

فإن كان الأول : فممنوع ، وإن كان الثانى : فمسلم.

ولكن كما أنه يستحيل بالنظر إلى العادة ؛ انتفاء الإدراك للأظهر مع إدراك الأخفى ؛ فيستحيل بالنظر إلى العادة أن لا يخلق لنا الإدراك للأظهر مع خلق الإدراك للأخفى.

ثم ما هو لازم علينا في الإدراك ، فهو لازم على الخصم في المدركية ، وما هو جواب له / ثم ؛ هو جواب لنا هاهنا.

قولهم : إن المدركية واجبة الحصول ، عند حصول هذه الشروط غير مسلم ، وبيان ذلك من وجهين.

الأول : هو أنا قد نرى الكبير صغيرا من البعد ، مع وجود ما ذكروه من الشرائط.

وعند ذلك : فالرؤية ، إما أن تكون متعلقة بكل أجزائه ، أو أنه (٢) لا تعلق لها بشيء منها ، أو أنها متعلقة بالبعض ، دون البعض.

فإن كان الأول : فكان يلزم إدراكه على ما هو عليه ؛ وهو محال.

وإن كان الثانى : فهو محال ، وإلا لما رئى أصلا.

__________________

(١) فى أ (أو العادة).

(٢) فى ب (أنها).


وإن كان الثالث : فكما أن الشرائط متحققة بالنسبة إلى ذلك الجزء [المرئى (١)] ؛ فهى متحققة بالنسبة إلى الباقى ، ومع ذلك فما لزم الإدراك مع وجود الشرائط ؛ وهو المطلوب.

الثانى : هو أنا إذا رأينا شيئا سحيقا ناعما مجتمع الأجزاء ؛ فلا بد وأن نكون رائين لكل واحد من تلك الأجزاء ، إلا أن ذلك المرئى هو مجموع تلك الأجزاء.

وعند ذلك : فإما أن تتوقف رؤية كل جزء من الأجزاء المفردة منه على (٢) رؤية الجزء الآخر ، أو لا تتوقف رؤية كل واحد على رؤية غيره ، أو أن البعض متوقف على رؤية البعض ، دون البعض.

لا سبيل إلى الأول لما فيه من الدور.

والثانى ، والثالث : يلزم (منهما (٣)) جواز رؤية الجوهر الفرد الّذي لا يتجزأ بالفعل عند (٤) وجود الشرائط حالة الاجتماع ، فلو وجب رؤية ذلك عند وجود الشرائط حالة الاجتماع ؛ لوجب حالة الانفراد ، وليس كذلك ؛ فلا وجوب.

فإن قيل على الحجة الأولى : لا نسلم وجود الشرائط في الأجزاء التى على (٥) أطراف المرئى البعيد ؛ إذ هى أبعد من الوسط ، بالنسبة إلي الناظر فلذلك (٦) رأى الوسط ، دون الأطراف.

وبيان ذلك : أنا إذا قدرنا خروج خط من الناظر متصل بالجزء الوسط المرئى ، حدث من قيامه على بعد المرئى ؛ زاويتان قائمتان ، فإذا افترضنا خطين ، خرجا من الناظر ، متصلين بأطراف بعد المرئى ؛ كانا وترين للزاويتين القائمتين (٧) ، ووتر الزاوية القائمة : أطول من كل واحد من ضلعيهما ؛ فالبعدان المتصلان بجوانب المرئى ؛ أبعد من البعد المتصل بالوسط.

__________________

(١) ساقط من أ.

(٢) فى ب (إلى).

(٣) فى أ ، ب (منه).

(٤) فى ب (دون).

(٥) فى ب (هى).

(٦) فى ب (فكذلك).

(٧) فى ب (القائمتين به).


سلمنا التساوى بين الأطراف ، والوسط ؛ ولكن شرط المدركية : عند القائلين بالانطباع : إنما هو بانطباع صورة المرئى ، في الرطوبة الجليدية / وأن يكون بين الناظر ، والمرئى مخروط متوهم ، زاويته من جهة الناظر ، وقاعدته من جهة المرئى ، ولا يخفى أنه كلما إزدادت أبعاد المخروط طولا بسبب بعد المرئى ؛ إزدادت زاويته ضيقا ، وكلما قصر ؛ إزدادت زاويته سعة ، ومحل الانطباع إنما هو الزاوية المفروضة ؛ فيجب اتساعها ، وضيقها ؛ وبسبب القرب والبعد ؛ يكون كبر المنطبع ، وصغره.

وعند القائلين بخروج شعاع من العين متصل بالمرئى يكون مدركا له : إنما اختلف المرئى بالصغر والكبر ، بالبعد ، والقرب ، بسبب ضعف الشعاع المتصل به ؛ بسبب تبدده ، أو بسبب مخالطته الأبخرة الكثيفة به.

وعند القائلين بأن الهواء المشف ما بين الرائى ، والمرئى يستحيل آلة دراكة بإحالة قوة الناظر له : إنما اختلف الصغر ، والكبر ، بالبعد ، والقرب ؛ بسبب ضعف تأثير القوة في الإحالة وقوتها.

وعلى الحجة الثانية : إنما يلزم الدور أن لو توقف صحة رؤية كل واحد من الأجزاء على صحة رؤية الآخر. توقف متأخر ، على متقدم ؛ وذلك بأن يقال : صحة رؤية كل واحد ، علة صحة رؤية الآخر ، وليس كذلك ، بل توقف معية ؛ أى أنه لا يصح رؤية كل واحد ، إلا مع رؤية الآخر ؛ وذلك غير موجب للدور كالمضافات.

والجواب :

أما دعوى زيادة البعد المتصل بالطرف ، على البعد المتصل بالوسط ؛ فمندفع. فإنا لو قدرنا أن ضلع الزاوية القائمة : وهو الآخذ من وسط المرئى إلى الطرف ذراعا ؛ فيعلم أن بعد الطرف الّذي هو وتر تلك الزاوية لا يزيد على بعد الوسط بذراع ، بل أقل ؛ لأن ضلعى الزاوية القائمة يزيدان على وترها لا محالة ، ومع ذلك : فإنا لو قدرنا تباعد الوسط ذراعا آخر بحيث يساوى وتر الزاوية ، ويزيد عليه ؛ لما غاب من الحس.

وأما الرد على مذهب أرباب الانطباع وغيرهم ، فسيأتى عن قرب (١).

__________________

(١) انظر ما سيأتى ل ١٠٨ / ب وما بعدها.


وأما الإشكال على الحجة الثانية ، فضعيف جدا.

سلمنا وجوب حصول المدركية ؛ ولكن لا نسلم امتناع تعليلها بالإدراك.

قولهم : إما أن يكون الإدراك ملازما لهذه الشروط ، أو لا؟.

قلنا : غير لازم (١) ، وإن كان لازما (١) / ؛ فما المانع منه؟

قولهم : يلزم منه أن تكون تلك الشروط علة للإدراك نظرا إلى الدوران ؛ فهو (٢) باطل (٢) بما سبق في قاعدة الدليل (٣).

قولهم : لو كانت المدركية معللة بمعنى ؛ لجاز تحقق المدركية عند وجود ذلك المعنى ، وإن عدمت الشروط ، فأن (٤) لا توجد مع وجود هذه الشروط مع انتفاء ذلك المعنى ؛ وهو محال. إنما يصح أن لو تصور الانفكاك بين المعنى ، واجتماع تلك الشروط ؛ وهو غير مسلم.

قولهم : إنه يلزم من ملازمة المعنى لهذه الشروط ، أن يكون بينهما تعلق ؛ مسلم.

قولهم : التعلق إما بجهة العلية ، أو الاشتراط ، لا نسلم الحصر ؛ بل التعلق أمر أعم من القسمين ، ولهذا يتصور التلازم بين المضافين ، وإن لم يكن التعلق بينهما لا بجهة العلية ، ولا الاشتراط ، وكذلك التلازم بين المعلولات لعلة واحدة ؛ فإنه خارج عن تعلق العلة ، والشرط.

سلمنا الحصر ؛ ولكن لا نسلم الامتناع من ذلك.

قولهم : إن كان المعنى مشروطا بتلك الشروط ؛ فلا يمتنع وجود الشرط دون المشروط.

قلنا : لا نسلم أن ذلك غير ممتنع على الإطلاق في كل شرط ومشروط ، ولهذا وقع الاتفاق على أن يكون الباري ـ تعالى ـ حيا شرط لكونه عالما ، وقادرا ، ولا انفكاك لأحدهما عن الآخر.

__________________

(١) فى ب (ملازما وإن كان ملازما).

(٢) فى ب (فباطل).

(٣) انظر ل ٣٧ / ب وما بعدها.

(٤) فى ب (وأن).


سلمنا تصور وجود هذه الشروط ، دون ذلك المعنى ؛ ولكن لا نسلم امتناع حصول هذه الشروط بدون (١) المعنى للإدراك (١) ، ولا امتناع حصول المعنى ، بدون الشروط ؛ كما سبق ، وبه يندفع ما ذكروه من القسم الثانى أيضا.

قولهم : فى القسم الثالث : أنه يمتنع أن يكون المعنى علة لتلك الشروط ؛ ممنوع.

قولهم : فى الوجه الأول منه : يلزم أن يكون كل واحد منها متحققا دونه ؛ لا يلزم (٢) أن تكون الهيئة الاجتماعية متحققة دونه (٣).

قولهم في الوجه الثانى منه : إذا كان الإدراك علة للمدركية ؛ فيلزم من وجوده ، وجود المدركية ، وإن لم تتوقف على تلك الشروط ؛ مسلم ؛ ولكن لا نسلم إحالة ذلك كما سبق.

قولهم فى الوجه الثالث منه : إن الإدراك متوقف على كل واحد من تلك الشروط ؛ فلا يكون علة لها ؛ لا نسلم التوقف على ما سبق.

قولهم في الوجه الرابع : إنه يلزم منه أن تكون العلة الواحدة علة لمعلولين ؛ وهو ممتنع / لا نسلم امتناع ذلك ؛ كما سيأتى في العلل والمعلولات (٤).

والوجه الخامس منه : إن نزلنا الكلام على أن الإدراك علية للشروط ؛ فجوابه صعب جدا.

قولهم : لو كان المدرك مدركا بإدراك ؛ لجاز على القادر خلق إدراك المعدوم في العين ؛ وهو ممتنع.

قلنا : إن كان إدراك المعدوم بالعين ممتنعا ؛ فقد امتنع القول بجواز خلقه في العين. وإن لم يكن ممتنعا ؛ فقد امتنع القول : بأن إدراك المعدوم بالعين ممتنع.

__________________

(١) فى ب (بدون الإدراك).

(٢) فى ب (ويلزم).

(٣) فى ب (دونه ممتنع).

(٤) انظر ما سيأتى في الجزء الثانى ـ الباب الثالث ـ الأصل الثانى ل ١١٧ / ب وما بعدها.


قولهم : لو كان الإدراك (معنى (١)) ؛ لصح إدراكه بإدراك آخر ، ولما تصور الخلو منه (٢) ، أو (٢) من ضده ؛ وهو تسلسل ممتنع ؛ على ما قرروه.

فنقول : التسلسل وإن كان ممتنعا ، فلا يدل على امتناع الإدراك ؛ لجواز أن يكون ذلك لازما من القول بجواز إدراك الإدراك ، أو من القول بأن الإدراك له ضد ، أو من القول بأن الذات القابلة للضدين لا تخلو عنهما.

قولهم : سلمنا لزوم ذلك في الشاهد ؛ ولكن لا نسلم لزوم ذلك في الغائب.

قلنا : إذا ثبت أن حد المدرك (٣) من قام به الإدراك ؛ فالحد لا يختلف شاهدا ، ولا غائبا.

قولهم : لا يخلو : إما أن يكون قديما ، أو حادثا؟

قلنا : بل قديم.

قولهم : يفضى إلى قدم المسموعات ، والمبصرات ؛ ليس (٤) كذلك ، فإن تعلق الإدراك بالمدركات ، على نحو تعلق العلم بالمعلومات ، وما لزم من قدم العلم (٥) قدم المعلوم ؛ فكذلك في الإدراك.

قولهم : إن البنية المخصوصة شرط في الإدراك ؛ ليس كذلك ؛ فإن القائل به معترف (بأن (٦)) الإدراك قائم بجزء واحد من جملة المدرك ، ولا أثر لاتصال محله بما جاوره ؛ إذ الجواهر لا يؤثر بعضها فيما يرجع إلى ما يقوم بها من الأعراض كما يأتى (٧) ؛ بل الجوهر يكون على صفته عند المجاورة لغيره في حالة انفراده ، فإذا جاز قيام الإدراك بجزء واحد في حال انفراده واتصاله ؛ لزم أن لا تكون البنية المخصوصة شرطا ، ولا يلزم على هذا الاجتماع ؛ حيث أنه يقوم بالجوهر عند إضافته ، وضمه إلى غيره ، ولا يقوم به / عند انفراده ؛ لأنا نقول : الكون القائم بكل جزء في حالة الاجتماع ، هو بعينه قائم في

__________________

(١) فى أ (معين).

(٢) فى ب (عنه أى).

(٣) فى ب (الإدراك).

(٤) فى ب (وليس).

(٥) فى ب (العالم).

(٦) فى أ (ان).

(٧) انظر الجزء الثانى ـ الأصل الأول ـ النوع الأول ل ٤ / أ.


حالة الافتراق مطلقا. والمختلف إنما هو الأسماء ، وهو أن ذلك الكون القائم بالجوهر عند ضميمة غيره إليه ، يسمى اجتماعا ، وعند انفراده ، لا يسمى بذلك.

ثم (١) وإن سلم أنه لا ينفى (١) حالة الانفراد ، لكنه غير لازم ، وذلك لأن الصفات العرضية : منها ما يقتضي لذاته الضم ، والاجتماع بين المحال : كالصفات الإضافية مثل : الاجتماع ، ونحوه.

ومنها ما لا يقتضي ذلك : كالسواد والبياض ، وغيره (٢) مما ليس بصفة (٢) إضافية ، ولا يلزم من كون الصفات الإضافية كذلك ، طرد ذلك فيما ليس بإضافى ، ولا يخفى أن الإدراك ليس من ذلك القبيل الموجب للجمع ، والضم بين الأجسام.

ومما يدل على أن الإدراك غير مفتقر إلى البنية المخصوصة ، ويخص البصريين القائلين بكون البارى ـ تعالى مدركا أن يقال : لو كانت البنية المخصوصة شرطا في الشاهد ؛ لوجب طردها غائبا ، على ما هو قاعدة الاشتراط عندهم ؛ فإنهم أوجبوا طرد الشرط دون العلة ؛ ويلزم من ذلك وجود البنية المخصوصة في حق الله ـ تعالى ـ لكونه مدركا.

فإن قيل : اشتراط البنية إنما هو في حق المدرك بإدراك ، والبارى ـ تعالى ـ ليس مدركا بإدراك ؛ فلا يشترط البنية في حقه.

[قلنا (٣)] : فقد ناقضوا قاعدتهم في العالمية ، حيث شرطوا كون العالم حيا في الشاهد ، وإن كان عالما بعلم ، وطردوا ذلك في الغائب ، وإن لم يكن عالما بعلم. ولو سئلوا عن الفرق ؛ لم يجدوا إلى ذلك سبيلا.

قولهم : إن ذلك يفضى إلى الالتباس بين الإدراكات ليس كذلك ؛ فإن الالتباس بين الإدراكات لا يكون (٤) بسبب اتحاد محلها ، وإلا لما تصور قيام عرضين بمحل واحد ، إلا وهما متشابهان. ولا يخفى جواز قيام الأعراض المختلفة بالمحل الواحد ، مع عدم التشابه : وذلك : كالسواد ، والحلاوة ، ونحوهما ، وإنما الالتباس ، والاشتباه بين

__________________

(١) فى ب (وإن سلمنا أنه لا يبقى).

(٢) فى ب (ونحوهما مما ليس صفة).

(٣) ساقط من أ.

(٤) فى ب (إنما يكون).


الأعراض لأمور عائدة إلى أنفسها. ولا يخفى أنه لا تشابه بين أنواع الإدراكات في أنفسها ؛ (لاختلافها (١)) فى ذواتها على ما يجده كل عاقل من نفسه ؛ ولهذا لا يقوم أحدهما مقام (٢) الآخر ؛ فإن إدراك الشيء بالبصر لا يقوم مقام إدراكه بالسمع ، والشم / والذوق ، واللمس ، وكذلك بالعكس.

وعلى هذا : فتبين أن ما ذكروه من حدود الإدراكات لا حاصل له.

قولهم : الإدراك هو الانطباع ، أو أن الانطباع شرط في الإدراك ؛ فباطل من وجهين :

الأول : هو أن ما ذكروه مبنى على اشتراط البنية المخصوصة في الإدراك ؛ وقد سبق إبطاله.

الثانى : هو أن الصورة المنطبعة في العين : إما أن تكون منتقلة من صورة المرئى ، أو غير منتقلة.

فإن كان الأول : فالمنتقل : إما جوهر ، أو عرض.

لا جائز أن يكون جوهرا : وإلا فهو مع انطباعه في العين : إما أن يكون متصلا بالمرئى ، أو منفصلا عنه.

فإن كان متصلا به : فيبعد (٣) أن يكون منطبعا في العين ؛ بل المنطبع في العين طرفه ؛ ويلزم من ذلك أن لا يكون منه (٤) مدركا (٤) غير المنطبع دون غيره. وأن يزاحم الهواء الراكد بين الرائى والمرئى ، ويحركه ، وأن يكون نافذا في الأشياء الصلبة الشفافة : كالبلور إذا كان متوسطا بين الرائى والمرئى ، وأن يكون قد خرج من الخردلة المرئية (٥) جرم مخروط ملأ (٦) ما بين (٦) الرائى ، والمرئى مع بعده ، وأن لا يرى المرئى على شكله : بل على الشكل المنطبع في العين على صغره ، وأن لا ترى السماء في أول جزء من أجزاء زمان فتح العين ؛ بل بعد أزمنة وهى ما يمكن فيها قطع المنتقل من المرئى إلى

__________________

(١) فى أ (واختلافها).

(٢) فى ب (عن).

(٣) فى ب (فيتعذر).

(٤) فى ب (مدركا منه).

(٥) فى ب (المرئية في).

(٦) فى ب (قد ملأ بين).


الرائى في المسافة التى بينهما ، وأن تتصف العين بما انطبع فيها من صور الألوان حتى يقال لها سوداء ، وبيضاء ، وأن تحترق بانطباع صورة النار فيها ، وتبرد بانطباع صورة النار فيها ؛ والكل محال.

وإن كان منفصلا عنه : فكان يلزم أن يحس به المنفصل عنه إذا كان مدركا ، وأن لا يدرك ذلك المرئى الخارج ؛ لعدم انطباعه ؛ وهو محال.

وإن كان عرضا : فالعرض لا تحرك له بنفسه ، وإن تحرك بمحله أوجب المحالات السابقة ، هذا إن قيل بانتقال الصورة المنطبعة من المرئى ، وإن لم تكن منتقلة : فالقول بانطباعها في العين مع عدم انتقالها من المرئى ؛ محال.

قولهم : إنه لا مانع من خروج شعاع من العين متصل بالمرئى ؛ فباطل أيضا من سبعة أوجه :

الأول : أنه مبنى على البنية ؛ وقد أبطلناه.

الثانى : هو أن الشعاع الخارج من العين / إما جوهر ، أو عرض.

فإن كان جوهرا : فهو مع اتصاله بالمرئى : إما أن يكون متصلا بالعين ، أو منفصلا عنها.

فإن كان متصلا بالعين : فهو ممتنع لثلاثة أوجه :

الأول : أنه يلزم منه أن يكون قد خرج من العين مع صغرها جرم مخروط ملأ نصف كرة العالم متصلا بالثوابت ؛ وهو محال.

الثانى : أنه يلزم منه أن يحرك الهواء الراكد ، وأن ينفذ في الأجرام الصلبة الشفافة ، إذا كانت متوسطة بين الرائى (١) ، والمرئى (١) كما سبق ؛ والكل محال.

الثالث : أنه يلزم أن لا يختلف المرئى على القرب ، والبعد بسبب اتصال المدرك به.

وإن كان منفصلا عن العين : فكان يلزم أن لا يختلف المرئى في القرب ، والبعد ؛ لاتصال المدرك به ، وأن يحرك ما يلاقيه من الأجرام المزاحمة له ، وأن لا يدرك الرائى ، المرئى ؛ لانفصال الشعاع عنه إذا أغمض العين قبل زمان عود الشعاع ؛ والكل محال.

__________________

(١) فى ب (المرئى والرائى).


وإن كان عرضا : فهو أيضا محال ؛ لما سبق في الانطباع.

الثالث : وهو خصيص بمذهب المعتزلة القائلين بالشعاع ، أن يقال : الشعاع عندكم جسم ، والأجسام غير داخلة تحت مقدور البشر بالاتفاق منا ، ومنكم (١).

وعند ذلك : فلا يخلو : إما أن يقولوا بأن الله ـ تعالى ـ يخلقه عند فتح العين أو أنه يتولد ، أو أنه كان مستكنا في العين ، ثم انبعث عند فتح الأجفان.

فإن كان الأول : فيلزم منه جواز فتح العين مع سلامتها ، وتحقيق الشروط التي اعتبروها ، وأن لا تحصل الرؤية ؛ لجواز أن لا يخلق الله ـ تعالى ـ ذلك الشعاع ؛ وذلك عندهم (٢) محال.

وإن كان الثانى : فهو محال ؛ كما يأتى بعد.

وإن كان الثالث : فإما أن يكون انبعاث الشعاع بطبعه ، أو بخلق الله ـ تعالى ـ ذلك له.

فإن كان بطبعه : وجب أن لا يتحرك كيف كان ؛ بل إلى جهة معينة.

وإن كان ذلك بخلق الله ـ تعالى ـ ؛ فيلزم جواز فتح العين مع سلامتها. وانتفاء الموانع بدون الرؤية ؛ لجواز أن لا يخلق الله ـ تعالى ـ ذلك الانبعاث ؛ وهو محال على أصولهم.

الرابع : هو أنه لو كان الجوهر الفرد من الناظر على الوجه المشروط من القرب ، والبعد ؛ فإنه لا يرى عندهم ، ولو كان إدراكه باتصال الشعاع به ؛ لرئي ضرورة اتصال الشعاع به عندهم.

ويمكن أن يجاب عنه : بأنه وإن وجد هذا / الشرط : وهو البعد المشروط ، واتصال الشعاع به ؛ لكنه أمكن أن يكون (ثم (٣)) شرط آخر ؛ وهو أن لا يكون في غاية الصغر ؛ وقد فات ذلك.

__________________

(١) فى ب (ومنهم).

(٢) فى ب (عندكم).

(٣) ساقط من أ.


الخامس : أنه لو كان الإدراك باتصال الشعاع بالمرئى ؛ لما رؤيت الأعراض ؛ لعدم اتصال الشعاع بها عندهم.

فإن (١) قالوا : الشرط (١) اتصال الشعاع بالمرئى ، أو بمحله ، والعرض وإن لم يتصل به الشعاع ؛ فهو متصل بمحله ، فيلزمهم رؤية لون الجسم مهما رؤى الجسم ؛ لاتصال الشعاع بمحله ؛ وليس كذلك ؛ فإن عندهم قد يرى الجسم من البعد ، من لا يرى لونه إلى أن يقرب منه.

ثم يلزمهم رؤية الطعم ، والرائحة ؛ ضرورة اتصال الشعاع بمحله ، ولم يقولوا به ؛ لكن لهم أن يقولوا الطعم وإن اتصل الشعاع بمحله ؛ فليس مما يصح أن يرى عندنا ؛ وهو شرط في الرؤية.

السادس : أنه لو أوقدت نار في ليل مظلم ؛ فإن من هو واقف في ضوئها لا يرى من هو واقف في الظلمة عند مقطع الضوء ، ومن هو في الظلمة يراه مع استوائهما في انبعاث الأشعة.

فإن قالوا : شعاع النار (٢) لقوته يبهر (٢) الشعاع المنبعث من عينى من هو في ضوئها ، ويمنعه من النفوذ ، بخلاف الواقف في الظلمة.

قلنا : فإذا كان شعاع النار مانعا من نفوذ الشعاع المنبعث من العين ؛ فالظلمة أولى من أن تكون مانعة للشعاع المنبعث من عين الواقف فيها.

ولهذا إنه قد يرى الشيء في وقت طلوع (٣) شعاع الشمس (٣) فى مسافة لا يرى في مثلها في الظلمة ، وكذلك فإن الهبا يرى في شعاع الشمس النازل من الكوى ، ولا يرى في الظلمة.

ثم يلزم منه أن لا يرى أحد الواقفين في الضوء للآخر ، لكون الشعاع المنبعث في العين مبهرا بشعاع النير المفروض ؛ فكان (٤) امتناع رؤية النار لقوة شعاعها أولى.

__________________

(١) فى ب (وإن قالوا).

(٢) فى ب (لقوته متميز).

(٣) فى ب (شعاع طلوع الشمس).

(٤) فى ب (بل وكان).


السابع : أنه لو كان اتصال الشعاع المنبعث من العين بالمرئى شرطا في الرؤية في الشاهد ؛ لكان شرطا في كون الغائب مدركا ؛ لأن الشرط عندهم مما يجب اطراده ؛ كما سلف ، وليس كذلك ؛ / حيث قضوا بأن الرب ـ تعالى ـ مدرك.

وعلى هذا فقد اندفع ما ذكروه من الشبه.

كيف : وأن ما ذكروه من الشعاع النازل من الكوى ؛ ليس هو الشعاع المنبعث من العين الّذي هو شرط الإدراك ؛ بل غيره ؛ فلا يكون توقف إدراك الهبا عليه دليلا على ما قصدوه ، وكذلك الشعاع المنعكس من إحدى المرآتين المتقابلتين على الأخرى ، الّذي به إدراك الناظر لظهره ؛ ليس هو الشعاع المنبعث من العين : فلا يكون ذلك دليلا على اشتراط انبعاث شعاع العين.

ثم لو قيل لهم : ما المانع أن يكون ذلك كله بحكم جرى العادة؟ ، لم يجدوا إلى دفعه سبيلا.

قولهم : ما المانع أن يكون الإدراك باستحالة الهواء المتوسط بين الرائى ، والمرئى آلة دراكه؟

قلنا : لوجوه ثلاثة :

الأول : أنه لو كان كذلك ؛ لكانت استحالته عند اجتماع المبصرين أشد.

وعند ذلك : يجب أن يكون إدراك الواحد للشىء عند الاجتماع أشد من حالة الانفراد ؛ لقوة الاستحالة.

الثانى : أنه كان يلزم أن يضطرب المرئى عند تشوش الجو (١) ، واضطراب الرياح بسبب تجدد الآلة الدراكة ؛ وهو ممتنع.

الثالث : أنه يلزم منه أن لا يكون الناظر هو المدرك ؛ إذ المدرك خارج عنه.

وعلى هذا. فالإدراك : معنى يخلقه الله ـ تعالى ـ للمدرك مع قطع النظر عن البنية المخصوصة ، والانتقال ، والانطباع ، والآلات (٢) ، والأدوات (٢) ، والأشعة ، والأهوية

__________________

(١) فى ب (الهوى).

(٢) فى ب (والأدوات والآلات).


المشفة ، وكل ما قيل وما وقع من ذلك ملازما للإدراك ؛ فليس إلا بحكم جرى العادة : كالرى عند شرب الماء ، والشبع عند أكل الخبز ، ونحوه ، وحيث لم يكن العقب (١) ، أو اليد ، أو غيرهما (١) من الأعضاء مبصرة ، ولا سامعة ، ولا شامة ، ولا ذائقة ، فليس لعدم صلاحيتها لذلك ؛ بل لأنه الله ـ تعالى ـ لم يخلق له آلة الإدراك ؛ وهذا أصل مطرد عند أهل الحق من أصحابنا في سائر الإدراكات.

وربما قيل في إبطال ما ذكروه من نقل الصوت بالهواء إلى صماخ الأذن : أنه لو كان كذلك ؛ لما أدركنا جهته ، كما لا ندرك جهة الملموس لما كان إدراكه بالوصول إلى الحاسة اللامسة ؛ وهو بعيد ؛ إذ المدرك بالسمع : إنما هو الصوت ، لا نفس حصوله (٢) من تلك (٢) / الجهة ؛ بل (٣) ذلك (٣) إنما يكون بغير السمع.

وأما النقض بباقى الإدراكات ؛ فقد سبق جوابه في مسألة إثبات الصفات بجهة العموم (٤).

كيف : وأنا لا نمنع اتصاف الرب تعالى بباقى الإدراكات على ما ذهب إليه القاضى أبو بكر من أصحابنا ؛ فإنه قال : الرب ـ تعالى ـ موصوف بالإدراكات الخمس ، ودليله ما هو دليل السمع ، والبصر.

قولهم : لا نسلم خروج الإدراك عن أجناس العلوم.

قلنا : قد اختلف أصحابنا في ذلك.

فمنهم من قال : إنه من أجناس العلوم.

ومنهم من قال : إنه خارج عن أجناس العلوم ، وهو اختيار القاضى رحمه‌الله.

وأما نحن فنقول :

قد بينا فيما تقدم الاختلاف بين العالم ، والمدرك ؛ فإذا كان العالم : من قام به العلم ، والمدرك : من قام به الإدراك ؛ فيجب أن يكون العلم ، والإدراك مختلفين ضرورة ؛ وهو المطلوب.

__________________

(١) فى ب (العقب والرجل واليد أو غيرها).

(٢) (صوته من تلك).

(٣) فى ب (بل إدراكه لذلك).

(٤) راجع ما سبق ل ٥٨ / ب.


وأما الاختلاف : هل اختلاف نوع ، أو جنس؟ فمما لم يظهر لى بعد.

قولهم : إنه لا يتصور أن يدرك المدرك شيئا ، ولا يعلمه ؛ غير مسلم. وإن سلم ؛ فالتلازم لا يدل على الاتحاد.

قولهم : الإدراك والعلم قد اشتركا في أنهما لا يؤثران في متعلقهما.

قلنا : والاشتراك (١) في هذا الأمر ، أو فى غيره لا يدل على الاتحاد أيضا ؛ لجواز اشتراك المختلفات في لازم واحد. ويدل على ذلك أن الكلام لا يؤثر في متعلقه : كالعلم ؛ وهما مختلفان.

فإن قيل : قد بينتم اختلاف الإدراكات ، وأنها مخالفة لأنواع العلوم ، وما يجوز على الله ـ تعالى ـ منها ، وما لا يجوز ، فهل الإدراكات منحصرة في الإدراكات الخمسة أم لا؟

قلنا : ذهبت الفلاسفة : إلى أن الإدراكات عشرة على ما حققناه في قاعدة العلم (٢).

وأما أصحابنا ، فمتفقون على الإدراكات الحاصلة بالحواس الخمسة الظاهرة. واختلفوا في الإحساس بالألم ، واللذة ، والفرح ، والغم ، ونحوه ، هل هو من قبيل الإدراكات ، أو العلوم؟

فذهب كثير من الأصحاب : إلى أنه من قبيل العلوم.

والّذي ارتضاه القاضى : أنه إدراك سادس. محتجا على ذلك بأن العلم يتعلق بما مضى من الآلام ، والإحساس بالألم غير متعلق بما مضى ؛ وذلك لا / يدل على خروجه عن أنواع العلوم ؛ لجواز أن يكون متعلق البعض منها مما لا يتعلق به البعض الآخر ، كما قيل في الإدراكات المختلفة النوع.

والحق في ذلك : أن الإحساس بالألم ، واللذة ؛ مخالف لباقى الإدراكات ، ومخالف لباقى أنواع العلوم من حيث أن الإحساس بالألم واللذة ، ونحوه ، لا يتعلق بما يتعلق به غيره من العلوم : كالعلم بما مضى من الآلام ، وغيرها من الموجودات.

__________________

(١) فى ب (فالاشتراك).

(٢) انظر ل ١٢ / أ.


وأما كونه من أنواع (١) الإدراكات ، أو العلوم ؛ فمما لم يظهر لى بعد.

فإن قيل : فهل يجوز أن يخلق الله ـ تعالى ـ إدراكا خارجا عما ذكرتموه من الإدراكات ، أم لا؟.

(٢) قلنا : قد (٢) اختلف أئمتنا أيضا في ذلك.

فمنهم : من منع.

ومنهم : من جوز ؛ وهو مذهب ضرار بن عمرو.

والحق : أنه لا دليل قاطع على النفى ، والإثبات فلا سبيل إلى الجزم بأحدهما.

فإن قيل : فهل الإدراكات الحادثة مقدورة للبشر ، (أم لا) (٣)؟

قلنا : اتفق القائلون بها على أنها غير مباشرة القدرة (٤) الحادثة ، غير أن مذهب أصحابنا أنها مخلوقة لله ـ تعالى ـ على ما سيأتى (٥).

ومذهب بعض البصريين من المعتزلة أن الرؤية منها حادثة بطريق التولد عند فتح العين ؛ وهو باطل على ما يأتى أيضا في إبطال التولد (٦) ؛ والله أعلم.

__________________

(١) فى ب (نوع).

(٢) فى ب (فقد).

(٣) ساقط من أ.

(٤) فى ب (بالقدرة).

(٥) انظر ل ٢١٧ / ب وما بعدها.

(٦) انظر ل ٢٧٣ / أوما بعدها.


المسألة السابعة

في أن الله ـ تعالى ـ حىّ بحياة (١)

مذهب أصحابنا (٢) : أن الله ـ تعالى ـ حىّ بحياة ، وأن الحياة صفة وجودية زائدة على ذات الرب (٣) ـ تعالى ـ وما له من الصفات الوجودية السابق ذكرها. واتفقت المعتزلة (٤) : على كونه حيا لا بحياة.

لكن منهم من قال : معنى كونه حيا : أنه لا يمتنع عليه أن يعلم ويقدر ، كأبي الحسين البصرى.

وذهبت الفلاسفة (٥) : إلى [أن (٦)] معنى كونه حيا ، أنه ليس بميت.

احتج أصحابنا بثلاثة مسالك.

المسلك الأول :

قالوا : قد (٧) ثبت أن البارى ـ تعالى ـ عالم ، قادر ، مريد. وشرط هذه الصفات في الشاهد كون المتصف بها حيا ؛ فيجب أن يكون البارى تعالى ـ حيا ؛ لأن الشرط لا يختلف شاهدا ، ولا غائبا.

__________________

(١) فى ب (فى إثبات صفة الحياة لله ـ تعالى ـ).

(٢) من كتب الأشاعرة المتقدمين على الآمدي :

انظر اللمع للأشعرى ص ٢٥.

والتمهيد للباقلانى ص ٤٧ والانصاف له أيضا ص ٣٥ وأصول الدين للبغدادى ص ١٠٥ والإرشاد لإمام الحرمين ص ٦٣ ولمع الأدلة ص ٨٢ والشامل ص ٦٢١ له أيضا.

والاقتصاد للغزالى ص ٤٧.

والمحصل للرازى ص ١٢١ ومعالم أصول الدين له أيضا ص ٤٤.

ومن كتب الآمدي انظر غاية المرام ص ١٣٣.

ومن كتب المتأخرين المتأثرين بالآمدي :

انظر شرح الطوالع ص ١٧٩ والمواقف للإيجي ص ٢٩٠ وشرح المقاصد للتفتازانى ٢ / ٧٢ ، ٧٣.

(٣) فى ب (الله).

(٤) انظر الأصول الخمسة للقاضى عبد الجبار ص ١٦١ ـ ١٦٧ والمغنى له ٥ / ٢٢٩ ـ ٢٣١ والمحيط بالتكليف له أيضا ص ١٢٧ ـ ١٣٥.

(٥) انظر كتاب الكندى في الفلسفة الأولى ص ٨٦ تحقيق د / الأهوانى ـ طبع الحلبى سنة ١٩٤٨ وعيون المسائل للفارابى ص ٥٠ والنجاة لابن سينا ص ٢٤٩.

(٦) ساقط من أ.

(٧) فى ب (لو).


وإذا كان حيا ؛ فالحىّ عبارة عمن قامت (١) به الحياة ؛ والحد لا يختلف شاهدا ، ولا غائبا ؛ فيجب أن يكون البارى ـ تعالى ـ حيا بحياة.

وهو ضعيف ؛ لما سبق من إبطال الحاق الغائب / بالشاهد (٢).

المسلك الثانى :

قالوا : الذوات منقسمة : إلى ما يصح عليها أن يعلم ويقدر ، وإلى ما لا يصح عليها ذلك. وهذه التفرقة تستدعى مميزا ؛ وذلك المميز الّذي به صح على بعض الذوات أن تكون عالمة قادرة ؛ هو المعنى بصفة الحياة ، والرب ـ تعالى ـ يصح عليه أن يكون عالما ، قادرا ؛ فكان حيا بحياة.

وهو باطل أيضا ؛ فإن الذوات مختلفة عندنا ، وعند أكثر العقلاء.

وعند ذلك : فلا يمتنع أن تكون صحة قبول القادرية ، والعالمية مستندة إلى نفس الذات ؛ لا إلى أمر خارج عنها.

المسلك الثالث :

قال بعض المتأخرين (٣) : أجمعنا على كون الرب ـ تعالى ـ حيا. فقولكم : الحى هو الّذي لا يمتنع عليه أن يعلم ويقدر ، إشارة إلى سلب الامتناع ، والامتناع سلب للسلب ؛ فيكون أمرا ثبوتيا.

وهذا الأمر الثبوتى ، ليس هو نفس الذات ؛ فإنا نعلم ذات واجب الوجود ، وقد نجهل كونه لا يمتنع عليه أن يعلم (٤) ويقدر. والمعلوم غير ما ليس بمعلوم ؛ فثبت أن كونه ـ تعالى ـ حيا ، صفة حقيقية قائمة بذاته. لا أنها سلب محض ؛ وهو ضعيف أيضا ؛ فإن امتناع كونه عالما ، قادرا ، وإن كان سلبا ؛ وسلبه ثبوت ؛ فذلك الثبوت هو صحة كونه عالما قادرا.

__________________

(١) فى ب (قام).

(٢) انظر ل ٤٠ / أ.

(٣) لعل المقصود به الإمام الرازى. انظر معالم أصول الدين للرازى ص ٤٤ (المسألة السابعة) صانع العالم حي. فما هناك يرجح ما ذهبت إليه.

وانظر أيضا المحصل له أيضا. ص ١٢١.

(٤) فى ب (لا يعلم).


وهو وإن كان أمرا زائدا على ذات واجب الوجود ؛ فليس فيه ما يدل على أن كونه حيا يزيد على كونه عالما ، وقادرا.

والمعتمد أنا (١) نقول :

قد ثبت أن الرب ـ تعالى ـ موصوف بالعلم ، والقدرة والإرادة.

وعند ذلك : فإما أن يكون قابلا للاتصاف بهذه الصفات ، أو لا يكون قابلا لها.

لا جائز أن يكون غير قابل لها : وإلا لما صح اتصافه بها وقد قيل : هو موصوف بها.

وإن كان قابلا لها : فالقبولية لهذه الصفات زائدة على نفس ذات البارى ـ تعالى ـ ونفس العلم ، والقدرة ، والإرادة. ولهذا فإنا نعقل ذات البارى ـ تعالى ـ ونفس العلم ، والقدرة [والإرادة (٢)] ، ونجهل قبول الذات لها ؛ والمعلوم غير ما ليس بمعلوم.

وإذا كان زائدا : فإما أن يكون وجوديا ، أو عدميا ، أو لا وجوديا ولا عدميا.

لا جائز أن يكون لا معدوما ، ولا موجودا ، على ما سنبينه في إبطال الأحوال (٣).

ولا جائز أن يكون عدميا : فإن (٤) نقيض القبول لا قبول. ولا قبول عدم ؛ لصحة اتصاف الممتنع به. ولو كان ثبوتيا ؛ لما كان صفة له ؛ فتعين أن يكون القبول وجوديا ؛ وذلك هو المعنى / بصفة الحياة.

__________________

(١) فى ب (أن).

(٢) ساقط من أ.

(٣) انظر الجزء الثانى ـ الباب الثالث ـ الأصل الأول : فى الأحوال ل ١١٤ / أوما بعدها.

(٤) فى ب (لأن).


المسألة الثامنة

في أنه هل للبارى ـ تعالى ـ صفة زائدة

على ما أسلفناه من الصفات أم لا (١)؟

وقد اختلف في ذلك :

فذهب بعض أصحابنا : إلى أنه لا يجوز اتصافه بصفة زائدة على ما أثبتناه. محتجا على ذلك. بأن الدليل الّذي دل عليها ؛ لم يدل على غيرها ، وما لم (٢) يدل عليه الدليل ؛ فلا سبيل إلى تجويزه.

وهو باطل من (٣) جهة أنه (٣) لا يلزم من انتفاء الدليل ؛ انتفاء المدلول في نفسه ، وإن (٤) انتفى العلم بوجوده (٥).

ومنهم من قال : لو جاز أن يكون له صفة أخرى ، لم يخل : إما أن تكون صفة كمال ، أو نقصان.

فإن كانت صفة كمال ؛ فعدمها في الحال نقص.

وإن كانت صفة نقص ؛ فثبوتها له ممتنع.

وهو أيضا ضعيف ؛ إذ أمكن أن يقال : إنها ليست صفة كمال ، ولا نقص ، ولا دليل يدل على نفى ذلك ، ولا هو بديهى.

وإن سلمنا الحصر ؛ ولكن ما المانع أن تكون صفة كمال؟

__________________

(١) انظر الإبانة للأشعرى ص ٣٥ والمحصل للرازى ص ١٢٦.

ومن كتب الآمدي : غاية المرام ص ١٣٥.

ومن كتب المتأخرين :

شرح طوالع الأنوار ص ١٨٤ والمواقف للإيجي ص ٢٩٦ وشرح المقاصد للتفتازانى ٢ / ٧٩.

(٢) فى ب (ومالا).

(٣) فى ب (فإنه).

(٤) فى ب (وإذا).

(٥) لاحظ تطبيقه للقاعدة التى ارتضاها ووضحها في ل ٣٨ / ب من أنه لا يلزم من انتفاء الدليل انتفاء المدلول.


قولهم : لأن [عدمها] (١) فى الحال نقص. إنما يصح أن لو قيل [بعدمها] (٢) ؛ وليس يلزم من (كونها (٣) جائزة (٣)) أن (تكون (٤) معدومة (٤)) ، حتى يقال : إن (عدمها) (٥) فى الحال نقص ؛ بل غايته أن لا نحكم (بثبوتها) (٦) لعدم قيام الدليل (عليها) (٧) ، وورود الشرع به.

والحق في ذلك : ما ذهب إليه بعض الأصحاب (٨) : وهو أن ذلك جائز عقلا وإن لم نقض بثبوته ؛ لعدم الدليل عليه (٩) ، وورود الشرع به ؛ وذلك مما لا يوجب لواجب الوجود في ذاته نقصا. إلا أن يكون ما هو جائز عليه غير ثابت له.

ومن أئمتنا (١٠) من زاد على هذا ، وأثبت له صفات زائدة على ذلك وجزم بها كالبقاء ، والقدم ، والوجه ، والعينين ، واليدين.

ومن الحشوية من زاد على ذلك ، وأثبت له نورا ، وجنبا ، وساقا ، وقدما ، واستواء علي العرش ، ونزولا إلى سماء الدنيا ، وصورة علي صورة آدم ، وكفا ، وإصبعين ، وضحكا ، وكرما ، إلى غير ذلك.

وتمسكوا في ذلك بظواهر من الكتاب ، والسنة. وأدلة لا يتمسك بها في هذا الباب. ولا بدّ من الإشارة إلى تحقيق ما في كل صفة من هذه الصفات.

الصفة الأولى : البقاء (١١)

وقد اتفق المتكلمون : على جواز اطلاق الباقى علي الخالق ، والمخلوق المستمر الوجود حقيقة خلافا لأبى هاشم ، فإنه قال : الباقى على الحقيقة / إنما هو الله ـ تعالى ـ وتسمية المخلوق باقيا ؛ مجاز.

__________________

(١) فى أ (عدمه) (٢) فى أ (بعدمه).

(٣) فى أ (كونه جائزا). (٤) فى أ (يكون معدوما).

(٥) فى أ (عدمه). (٦) فى أ (بثبوته).

(٧) فى أ (عليه). (٨) منهم الغزالى (الاقتصاد ٦٧) ، والرازى (المحصل ١٢٦).

(٩) فى ب (ولا). (١٠) منهم الأشعرى (الإبانة ٨ ، ٣٥).

ومن قبله ابن كلاب (مقالات ١ / ٢٢٩ ، ٢٣٠).

(١١) انظر الإنصاف للباقلانى ص ٣٧ ، والتمهيد له أيضا ص ١٤

وأصول الدين للبغدادى ص ٩٠ ، ١٠٨ والإرشاد لإمام الحرمين ص ٧٨ ، ١٣٨ ـ ١٤٠ ولمع الأدلة له أيضا ص ٨٥ والاقتصاد في الاعتقاد للغزالى ص ١٩ ، والمقصد الأسنى له أيضا ص ٩٦ والمحصل للرازى ص ١٢٦. ومن كتب الآمدي : غاية المرام في علم الكلام ص ١٣٦ والمآخذ ل ٢٤ / ب

ومن كتب المتأخرين المتأثرين بالآمدي : انظر شرح طوالع الأنوار ص ١٨٣ ، والمواقف للإيجي ص ٢٩٦. وشرح المقاصد للتفتازانى ٢ / ٧٩ وحاشية الدسوقى على أم البراهين ص ٧٩. طبع بمطبعة دار إحياء الكتب العربية عيسى الحلبى.

ومن كتب المعتزلة : انظر المغنى للقاضى عبد الجبار ٥ / ٢٣٦ ، ٢٣٧ والمحيط بالتكليف له أيضا ص ١٤٦.


واتفقوا على أن الحادث في أول زمان حدوثه لا يوصف بكونه باقيا ـ ما عدا الكرامية (١) ، فإنهم وصفوه بكونه باقيا.

وأما كون الباقى باقيا ببقاء زائد عليه.

فقد أثبته الشيخ أبو الحسن الأشعرى رحمه‌الله ، ومعظم أئمتنا.

وقال القاضى أبو بكر : الباقى باق بنفسه ، لا ببقاء زائد عليه ؛ وهو مذهب المعتزلة.

واختلف قول الشيخ أبى الحسن الأشعرى : فى بقاء الله ـ تعالى ـ وصفاته.

فقال تارة : الله ـ تعالى ـ وصفاته باقية ببقاء واحد. وذلك البقاء باق ببقاء آخر.

وقال تارة : الله ـ تعالى ـ باق ببقاء قائم به ، وكل صفة من صفاته باقية ببقاء هو نفسها

وعند هذا فنقول :

أما الخلاف في كون المخلوق باقيا حقيقة ، أو مجازا ؛ فحاصل النزاع فيه يرجع إلى الإطلاق اللفظى ؛ فإن من قال بكونه باقيا حقيقة ؛ لم يرد به غير أنه مستمر الوجود زمنين فصاعدا.

ومن قال إنه مجاز : فمعناه أنه غير مستمر علي الدوام ، ولا حرج في الاصطلاحات بعد (٢) فهم المعنى.

وكذلك الخلاف في تسمية الحادث في أول زمان حدوثه باقيا ، فإن من نفى ذلك : لم يرد به إلا أنه غير موصوف في وقت حدوثه بكونه مستمر الوجود.

ومن أثبت (٣) : لم يرد به غير أنه مما يصح استمرار وجوده.

وإنما الإشكال : فى كون الباقى باقيا ببقاء زائد عليه.

__________________

(١) فى ب (الكرمية منهم).

(٢) فى ب (بغير).

(٣) فى ب (اثبته).


وقد اعتمد مثبتوا البقاء على مسالك (١).

المسلك (١) الأول :

وهو مما تمسك (٢) به الشيخ أبو الحسن الأشعرى ، رضى الله عنه ـ وهو أن قال : الجوهر في أول زمان حدوثه غير موصوف بكونه باقيا. وقد اتصف بذلك في الزمن الثانى ؛ فقد تجدد له وصف لم يكن ؛ وذلك يوجب أن يكون لزيادة معنى ، وهو البقاء. كالذى وصف بالمتحركية بعد أن لم يكن متحركا ؛ فإن ذلك يتضمن إثبات حركة قائمة به زائدة على كونه متحركا ؛ فلو جاز أن يكون باقيا بلا بقاء ؛ لجاز أن يكون متحركا بلا حركة ؛ وهو محال.

وهذا المسلك ضعيف ؛ إذ لقائل أن يقول :

القول بكون تجدد هذا اللقب : وهو البقاء معنى ثبوتيا فرع كون المفهوم من كونه باقيا أمرا ثبوتيا ؛ وليس كذلك ويدل عليه وجوه أربعة :

الأول : أنه أمكن أن يقال : معنى كونه باقيا في الزمن الثانى ، أن الموجود في الزمن الأول / لم يبطل في الزمن الثانى ؛ وهو سلب محض.

الثانى : أنه أمكن أن يقال : معنى كونه باقيا في الزمن الثانى. أن ما حصل في الزمن الأول هو بعينه حاصل في الزمن الثانى ، والحصول في الزمان ليس أمرا ثبوتيا ، وإلا كان ذلك الحصول الثابت حاصلا أيضا في ذلك الزمان ؛ والكلام أيضا في حصول ذلك الحصول ، كالكلام في الأول ؛ وهو تسلسل ممتنع.

وإن قيل : إن الحصول مع كونه ثبوتيا حاصل في الزمان الثانى بنفسه لا بحصول زائد عليه ؛ فليقل مثله في حصول الجوهر فيه.

الثالث : أنه ينتقض بوجود الجوهر في أول زمان حدوثه ؛ فإنه يوصف بكونه حادثا فيه ، ولا يوصف بذلك في الزمن الثانى. مع بقاء ذاته. فكونه حادثا ؛ زائد على ذاته ، وليس كونه حادثا ، أمرا ثبوتيا ، وإلا كان حادثا ؛ ولزم التسلسل. وإذا لم يكن كون الجوهر حادثا ، أمرا ثبوتيا ، مع كونه زائدا على ذاته ؛ فكذلك كونه باقيا.

__________________

(١) فى ب (مسلكين).

(٢) فى ب (يتمسك).


الرابع : ما قاله (١) الأصحاب (١) : إن المفهوم من كونه باقيا ، أنه مستمر في الزمن الثانى. ومفهوم الاستمرار واحد في الوجود والعدم ، بدليل صحة قسمة المستمر : إلى المستمر بالوجود ، والمستمر بالعدم ، ومورد القسمة يجب أن يكون واحدا. وإذا كان مفهوم الاستمرار واحدا في الوجود ، والعدم ، فلو كان صفة ثبوتية ؛ لكان العدم المحض متصفا بها ؛ وهو محال.

ويمكن أن يقال :

لا نسلم اتحاد المفهوم من الاستمرار. ومورد القسمة : إنما هو اللفظ دون المعنى. ثم هو مقابل بما يدل علي أن مفهوم الاستمرار ثبوتيا ؛ وذلك لأن نقيض الاستمرار ، لا استمرار ، ولا استمرار عدم ، بدليل صحة اتصاف العدم به في أول زمان تحققه ؛ فيكون الاستمرار ثبوتيا.

سلمنا أن المفهوم من كونه باقيا أمرا ثبوتيا ؛ ولكن لا نسلم أنه معلل بالبقاء ، ودليله (٢) من ثلاثة أوجه :

الأول : أنه لو افتقر (٣) فى كونه باقيا إلى قيام البقاء به ؛ فقيام البقاء بالباقى : إما أن يتوقف على كونه باقيا ، أو لا يتوقف. فإن توقف فقد لزم الدور الممتنع.

وإن لم يتوقف ؛ لزم صحة حصوله البقاء في الجوهر لا حالة كونه باقيا ؛ وهو محال.

الثانى : هو أنه لو كان الباقى معللا بالبقاء ؛ فالبقاء : إما أن يكون صفة ثبوتية ، أو لا يكون صفة ثبوتية.

فإن / كان الأول : فإما أن يكون باقيا ، أو لا يكون باقيا.

فإن كان باقيا ؛ لزم أن يكون باقيا ببقاء آخر ؛ وهو تسلسل. ثم ليس قيام أحد البقاءين بالآخر أولى من العكس.

وإن لم يكن باقيا ؛ فما لا يكون باقيا لا يكون صفة لله ـ تعالى ـ

وإن لم يكن ثبوتيا : استحال أن يكون علة للأمر الثبوتى

__________________

(١) فى ب (ما قاله بعض الأصحاب).

(٢) فى ب (وبيانه).

(٣) فى ب (افتقر الثانى).


الثالث : هو أنه لو كان الباقى معللا بالبقاء ؛ لكان العلم القديم معللا بالبقاء لكونه باقيا.

والبقاء : إما أن يكون صفة ، أو لا يكون.

لا جائز أن لا يكون صفة له : وإلا لجاز أن يقال : إن العالم يعلم بعلم لا يقوم به ، والمتحرك يتحرك بحركة لا تقوم به ؛ وهو ممتنع ، وخلاف قاعدة الشيخ أبى الحسن.

وإن كان البقاء صفة للعلم (١) ؛ أفضى ذلك إلى قيام المعنى بالمعنى ؛ وهو أيضا محال.

فإن قيل : لا نسلم اتصاف العلم بكونه باقيا ، وإن كان مستمرا ، وهذا المنع لعبد الله بن سعيد.

وإن سلمنا ذلك ؛ ولكنه غير لازم ، وبيانه من ثلاثة أوجه :

الأول : هو أن يقال : العلم قائم بذات الله ـ تعالى ـ ، وذات الله تعالى ـ ليست مغايرة لعلمه ، فقد قام به بقاء العلم لا بغيره ؛ فهو كما لو قام به.

الثانى : هو أن ذات البارى ـ تعالى ـ باقية ببقاء زائد عليها ، وصفاته باقيه ببقاء هو أنفسها (٢) ، ولا يلزم على هذا أن يقال : فجوزوا أن يكون الجوهر باقيا ببقاء هو نفسه ، أو أن تكون ذات البارى (٣) ـ تعالى ـ باقية ببقاء هو نفسها.

أما الأول : فلأنه كان يلزم أن يكون الجوهر في الحالة الأولى باقيا ؛ لوجود نفسه فيها.

وأما الثانى : فلأنه يلزم أن تكون الذات معنى ، واستحال أن تكون قائمة بنفسها ، بخلاف الصفة.

الثالث : هو أن ما ذكرتموه إنما يلزم أن لو قيل بأن البقاء علة لكون الباقى باقيا. وليس كذلك ؛ بل هو شرط لكون الباقى باقيا. ولا يلزم قيام الشرط بالمشروط ، بدليل

__________________

(١) فى ب (له).

(٢) فى ب (نفسها).

(٣) فى ب (الرب).


الحياة مع العلم ، ولا يلزم على هذا أن يقال بجواز كون الله ـ تعالى ـ باقيا ببقاء غير قائم به ، أو أن يقال ببقاء جوهر فرد غير قائم به.

أما الأول : فلأنه لو جاز أن يكون بقاء الله ـ تعالى ـ غير قائم به. فإما أن يقوم بنفسه ، أو بغيره.

لا جائز أن يقوم بنفسه ؛ إذ المعانى لا تقوم بأنفسها (١).

وإن قام بغيره : لزم أن يكون ذلك الغير قديما ، ولا قديم غير الله تعالى.

وأما الثانى : فلأن الإجماع / منعقد على أن الله ـ تعالى ـ قادر على خلق جوهر فرد لا موجود (٢) معه ، وقادر على تبقيته ما شاء (٣).

فبقاء ذلك الجوهر ، لا جائز أن يقوم بنفسه ؛ لما تقدم.

وإن قام بغيره : لزم منه امتناع خلق ذلك الجوهر الباقى على الله تعالى. إلا مع غيره ؛ وذلك محال.

قلنا : أما منع كون العلم باقيا مع استمراره ؛ فمكابرة للمعقول ، ونزاع في عبارة.

وأما الوجه الأول : فمندفع ؛ فإن شرط العلة أن تكون قائمة بما له الحكم على ما تقرر ، وذات البارى ـ تعالى ـ وإن لم يقل إنها غير الصفة ولا الصفة غيرها ؛ فليس بمعنى اتحاد حقيقتيهما ؛ إذ هو محال ؛ بل بمعنى امتناع الانفكاك بينهما ، فإذا كان بقاء الصفة قائما بالذات ؛ فلم يكن قائما بالصفة لا محالة.

وأما الثانى : فلأن معنى البقاء ، مخالف لمعنى العلم. فإذا جاز أن تكون الصفة الواحدة علما بقاء ؛ فلا مانع من أن يكون الشيء ذاتا بقاء. ويكون من جهة كونه ذاتا قائما بنفسه ، ومن جهة كونه بقاء غير قائم بنفسه ؛ بل ولجاز أن يكون السواد أسود بسواد هو نفسه ، والعالم عالما بعلم هو نفسه ؛ وذلك قلب لقاعدة العلل والمعلولات.

__________________

(١) فى ب (بنفسها).

(٢) فى ب (لا وجود).

(٣) فى ب (ما شاء الله).


وأما الثالث : فمن وجهين :

الأول : أنه لو كان البقاء شرطا لكون الباقى باقيا فمن قضية الشرط أنه لا يمتنع وجوده دون المشروط : كالحياة مع العلم.

وعند ذلك : فلا يمتنع تقدير وجود البقاء بدون كون ما قام به باقيا ؛ وهو محال.

الثانى : أنه لو كان البقاء شرطا لكون الباقى باقيا ، وأن يكون البقاء (١) قائما بغير الباقى ؛ لجاز أن يقال ببقاء الأعراض ، ببقاء قائم بالجواهر لا بها ؛ وهو محال على أصل الشيخ أبى الحسن الأشعرى.

الوجه (الثانى) (٢) على أصل المسلك : أن ما ذكره الشيخ منتقض على أصله بالقديم ؛ فان القديم قد يطلق على المتقدم بالوجود ، إذا تطاول عليه الأمد ، ومنه قوله ـ تعالى ـ (كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) (٣)

والجوهر لا يوصف في أول زمان حدوثه بكونه قديما بهذا الاعتبار. وقد يوصف به بعد ذلك ؛ فقد تجدد له حكم لم يكن ، كما تجدد في الباقى.

فإن جعله معللا بالقدم ؛ فهو خلاف مذهبه.

وإن لم يعلله بالقديم ؛ فقد انتقض دليله.

المسلك الثانى :

للشيخ أبى الحسن الأشعرى.

وحاصله : أنه لو بقى الباقى بنفسه من غير بقاء ؛ لما تصور / عدم الجوهر ، واللازم ممتنع ؛ فالملزوم مثله.

وبيان الملازمة : هو أن الجوهر إذا كان باقيا لا ببقاء ؛ فهو لا ينعدم بنفسه ، وإلا لما كان باقيا.

__________________

(١) فى ب (الباقى).

(٢) فى أ (الخامس).

(٣) سورة يس ٣٦ / ٣٩.


والقدرة لا تتعلق بوجوده في حالة (١) بقائه حتى يقال بعدمه بسبب (٢) عدم (٢) تعلق القدرة بإيجاده حال (٣) كونه باقيا ؛ لما فيه من إيجاد الموجود ، وتحصيل الحاصل. ولا يتعلق بعدمه ؛ إذ القدرة المؤثرة ، لا بدّ لها من أثر ، والعدم لا يكون أثرا ؛ إذ هو نفى محض.

وهو ضعيف أيضا ؛ إذ لقائل أن يقول :

ما المانع من إعدامه بالقدرة ، كما (٤) قاله (٤) القاضى؟

والقول بأن العدم نفى محض ؛ فلا يكون أثرا للقدرة ؛ فمندفع. فإنه إن قيل : بأن أثر القدرة لا بدّ وأن يكون أمرا ثبوتيا ؛ فممنوع.

وإن قيل : إن أثر القدرة ما لو لا القدرة لما كان ؛ فالعدم بهذا الاعتبار أثر ؛ فإنه لو لا القدرة لما كان.

ولا يلزم على هذا أن يقال : فيلزم أن يكون العدم السابق على العالم مقدورا ؛ وهو خلاف إجماع العقلاء ؛ لأن العدم السابق قديم ، والقديم لا تتعلق القدرة به ؛ لما فيه من تحصيل الحاصل ؛ وهو محال ، بخلاف العدم المتجدد الكائن بعد ما لم يكن.

سلمنا أنه يمتنع أن يكون عدم الجوهر مقدورا ؛ ولكن ما المانع من أن يكون طريق عدمه بأن لا يخلق الله ـ تعالى ـ الأعراض التى لا يتصور خلو الجوهر عنها ، أو بعضها ، ويكون انقطاعه بسبب انقطاعها ، ولا يلزم على هذا أن يقال بكون الأعراض مؤثرة في وجود الجوهر ؛ لضرورة عدمه بانقطاعها ، وإلا كانت الحياة مؤثرة في العلم ؛ لضرورة أنه يلزم من عدمها عدمه ؛ وهو محال.

فإن قيل : إذا جوزتم كون الباقى باقيا بلا بقاء ؛ فما المانع من الحكم على الأكوان بكونها باقية؟ ولو كانت باقية ؛ فما طريقكم في عدمها ، وعدم الكون لا يكون عند المعتزلة إلا بضده ، وذلك (٥) يجر إلى امتناع عدم الأكوان جملة ؛ وهو محال.

__________________

(١) فى ب (حال).

(٢) فى ب (لعدم).

(٣) فى ب (حالة).

(٤) فى ب (لما قال).

(٥) فى ب (وذلك محال لأنه).


فنقول (١) : هذا إنما يلزم أن لو قيل : بامتناع كون الأعراض باقية ؛ بسبب امتناع قيام البقاء بها ، وليس كذلك ؛ بل استحالة بقائها بما (٢) سننبه عليه (٢) فى موضعه إن شاء الله تعالى.

وأما المعتزلة (٣) : فقد اعترضوا على هذا المسلك ، بأن الله ـ تعالى ـ يخلق فناء هو عرض لا في محل مضاد للجوهر ، فيفنى به الجوهر ؛ وهو باطل ـ على ما سنبينه في موضعه ـ واستدلوا على نفى البقاء بثلاث / مسالك :

المسلك الأول :

أنه لو كان البقاء معنى ، لم يخل : إما أن يكون له ضد ، أو لا ضد له.

فإن كان الأول : وجب قيام ضد البقاء بالجوهر ؛ فإن جملة المتضادات ، لا تقوم بغير الجواهر. ولو قام ضد البقاء بالجوهر حالة كونه باقيا ؛ لكان باقيا ، وغير باق ؛ وهو محال.

وإن لم يكن له ضد : فعدمه متعذر.

المسلك الثانى :

هو أنهم قالوا : لا معنى لكون الجوهر باقيا ، إلا أنه مستمر الوجود والبقاء عند القائلين به متجدد غير مستمر. فلو كان استمرار الوجود مفتقرا إلى البقاء المتجدد ؛ لكان استمرار الوجود متجددا ؛ وهو محال.

[المسلك] (٤) الثالث :

أنهم قالوا لو كان الجوهر باقيا ببقاء ؛ فبقاؤه زائد على وجوده. وعند هذا فلا يخلو : إما أن يقال بجواز خلق الجوهر في وقتين فصاعدا دون البقاء ، أو (٥) أنه يمتنع خلقه دون البقاء (٥).

__________________

(١) فى ب (قلنا).

(٢) فى ب (بما سنبينه).

(٣) عن رأى المعتزلة في هذه المسألة : انظر المغنى ٥ / ٢٣٦ وما بعدها

والمحيط بالتكليف ص ١٤٦ وما بعدها.

(٤) ساقط من أ

(٥) فى ب (وأنه يمتنع خلقه دون الباقى).


لا جائز أن يقال بالثانى : وإلا كان البارى ـ تعالى ـ ملجأ إلى خلق البقاء ، عند خلق الجوهر ؛ وهو ممتنع.

فلم يبق إلا الثانى ؛ وهو المطلوب.

وهذه المسالك أيضا باطلة :

أما الأول : فلأنه وإن لم يكن للبقاء ضد كما يقوله الشيخ أبو الحسن [الأشعرى رضى الله عنه] (١) ؛ فإنما ينعدم ؛ لاستحالة بقائه في نفسه ، وما كان كذلك ؛ فلا يكون مفتقرا في فنائه إلى ضد.

وأما الثانى : فلأنه دعوى مجردة ؛ فإنه لا يمتنع أن يكون المقصود من الشرط مقارنته للمشروط ؛ وذلك حاصل به حالة استمرار الوجود بتعاقب الشرط ، وباستمرار الشرط.

وأما الثالث : فباطل بالحياة مع العلم ، وبكل شرط مع مشروطه.

__________________

(١) ساقط من أ.


الصفة الثانية : «القدم» (١)

وقد اتفق الجمهور على أن الله ـ تعالى ـ قديم لنفسه لا بقدم زائد عليه.

وقال عبد الله بن سعيد من أصحابنا : إنه قديم بقدم ، وأثبت القدم معنى زائدا عليه.

واحتج على ذلك بما سبق الاحتجاج به على البقاء ـ وقد سبق إبطاله.

والّذي يخصه هاهنا أن يقال : لا يخلو : إما أن يريد بالقديم : أنه الّذي لا أول له ؛ فيكون أمرا سلبيا ، ومعنى عدميا ؛ فلا يستدعى أن يكون معللا بمعنى.

أو يريد به ما فسر كلامه به الأستاذ أبو إسحاق الأسفرايينى ، وهو أن قال : المراد من قول ابن سعيد : إن الله ـ تعالى ـ قديم بقدم : أنه مختص في قيامه بنفسه بمعنى لأجله ثبت وجوده لا في مكان ، كما اختص المتحيز بمعنى لأجله كان مختصا / بالحيز ؛ فهو مع بعده عن دلالة لفظ القديم ؛ فالقدم يرجع حاصله إلى صفة نفى : وهى وجوده لا في مكان ، والصفات السلبية لا تعلل ، بخلاف الصفات الثبوتية.

وإن أراد به غير ذلك ؛ فلا بد من تصوره ، وإقامة الدليل عليه.

__________________

(١) انظر أصول الدين للبغدادى ص ٨٨ ، ٨٩ والاقتصاد للغزالى ص ١٩ والمحصل للرازى ص ٥٧ والمواقف للإيجي ص ٢٩٧ ، وشرح المقاصد للتفتازانى ٢ / ٨١ وحاشية الدسوقى على أم البراهين ص ٧٥.

ومن كتب المعتزلة انظر المحيط بالتكليف للقاضى عبد الجبار ص ١٤٥ وشرح الأصول الخمسة ص ١٨١.


الصفة الثالثة : «الوجه» (١)

ذهب الشيخ أبو الحسن الأشعرى في أحد قوليه ، والأستاذ (٢) أبو إسحاق الأسفرايينى ، والسلف إلى أن الرب تعالى ـ متصف بالوجه ، وأن الوجه صفة ثبوتية زائدة على ما له من الصفات. متمسكين في ذلك بقوله ـ تعالى ـ : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) (٣). لا أنه بمعنى الجارحة.

ومن المشبهة من أثبت الوجه بمعنى الجارحة.

ومذهب (٤) القاضى والأشعرى ـ فى قول آخر ـ وباقى (٥) الأئمة (٥) : أن وجه الله ـ تعالى ـ وجوده.

والحق في ذلك أن يقال :

لا سبيل إلى إثبات الوجه بمعنى الجارحة ؛ لما سنبينه في إبطال التشبيه وما لا يجوز على الله ـ تعالى ـ

وكونه زائدا على ذاته ، وما له من الصفات لا بمعنى الجارحة ، وأنه وجه لا كوجوهنا كما أن ذاته لا كذواتنا ، كما هو مذهب الشيخ في أحد قوليه. ومذهب السلف ؛ وإن كان ممكنا إلا أن الجزم بذلك يستدعى دليلا قاطعا ؛ ضرورة كونه صفة للرب ـ تعالى ـ ولا وجود للقاطع هاهنا.

وإن جاز أن يكون الدليل ظاهرا ؛ فلفظ الوجه في الآية لا دلالة له على الوجه بهذا المعنى لغة لا حقيقة ، ولا مجازا ؛ فإنه لم يكن مفهوما لأهل اللغة حتى يقال : إنهم وضعوا لفظ الوجه بإزائه ، وما لا يكون مفهوما لهم ، لا يكون موضوعا لألفاظهم ؛ فلم يبق إلا أن يكون محمولا على مقتضاه لغة.

__________________

(١) انظر الإبانة للأشعرى ص ٣٥ وأصول الدين للبغدادى ص ١٠٩ وأساس التقديس للرازى ص ١١٤ ومن كتب الآمدي غاية المرام ص ١٣٧ ، ١٤٠.

ومن كتب المتأخرين المتأثرين بالآمدي : انظر شرح طوالع الأنوار ص ١٨٤ والمواقف للإيجي ص ٢٩٨ وشرح المقاصد ٢ / ٨١.

(٢) فى ب (والشيخ).

(٣) سورة الرحمن ٥٥ / ٢٧.

(٤) فى ب (وذهب).

(٥) فى ب (إلى).


وقد (١) تعذر (١) حمله على الحقيقة ـ على ما تقدم ـ وهو الوجه بمعنى الجارحة ، إذ هو المتبادر من لفظ الوجه عند إطلاقه إلى الفهم. والأصل في ذلك إنما هو الحقيقة.

فلم يبق إلا جهة التجوز. وهو التعبرة بالوجه عن الذات ، ومجموع الصفات.

ثم وإن صح التجوز به عن صفة أخرى على (٢) ما قيل (٢). غير أن التجوز به عن الذات ، ومجموع الصفات أولى ، وذلك من جهة أنه خصصه بالبقاء. والبقاء لا يتخصص بصفة دون صفة ؛ بل البارى ـ تعالى ـ باق بذاته ، ومجموع صفاته.

__________________

(١) فى ب (وتعذر).

(٢) فى ب (كما قيل).


الصفة الرابعة : «اليدان» (١)

/ وقد اختلف المتكلمون في مقتضى قوله ـ تعالى ـ لإبليس : (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) (٢) ؛ إذ هو صريح في إثبات اليدين لغة.

فذهبت المشبهة (٣) : إلى أنهما بمعنى الجارحتين.

وذهب الشيخ أبو الحسن الأشعرى : إلى أنهما صفتان ثبوتيتان ، زائدتان على ذاته ، وباقى صفاته ، لا أنهما بمعنى الجارحتين ؛ وهو مذهب السلف. وإليه ميل القاضى في بعض كتبه.

وذهب أكثر أئمتنا : إلى تفسير اليدين بالقدرة ، وكثير من المعتزلة إلى التفسير بكونه قادرا.

وذهب بعض المعتزلة : إلى التفسير بمعنى النعمة.

وذهب قوم : إلى أن اليدين في الآية ، صفة زائدة.

والحق عندنا في ذلك أن يقال :

أما إثبات اليدين بمعنى (٤) الجارحتين (٤) : فباطل ؛ لما (٥) سيأتى في نفى التشبيه (٥).

__________________

(١) انظر الإبانة للأشعرى ص ٣٥ ـ ٣٩ وأصول الدين للبغدادى ص ١١٠

وإلجام العوام للغزالى ص ٦٣ وأساس التقديس للرازى ص ١٢٣ ، ١٣٢.

ومن كتب الآمدي : غاية المرام ص ١٣٧ ، ١٣٩.

ومن كتب المتأخرين : شرح طوالع الأنوار ص ١٨٤ والمواقف للإيجي ص ٢٩٨ وشرح المقاصد ٢ / ٨١.

(٢) سورة ص ٣٨ / ٧٥.

(٣) المشبهة : هم من شبه ذات البارى ـ تعالى ـ بذات غيره من المخلوقين ، ومنهم من شبه صفاته بصفات غيره.

والمشبهة أصناف : فمنهم جماعة من الشيعة الغالية كالهشاميين ، ومنهم جماعة من حشوية المحدثين مثل : مضر ، وكهمس ، وأحمد الهجيمى ، وغيرهم. أما عن أصنافهم ، وآرائهم بالتفصيل ، والرد عليهم فانظر ما يأتى في النوع الرابع من ل ١٤٢ / أ ـ ل ١٦٦ / أوالملل والنحل ١ / ١٠٣ ـ ١٠٨ ونشأة الفكر الفلسفى ١ / ٣٨٥ ـ ٤٢٩.

ولمزيد من البحث والدراسة راجع ما سيأتى في الجزء الثانى القاعدة السابعة ل ٢٥٦ / ب.

(٤) فى ب (بالمعنى الأول).

(٥) فى ب (بما سيأتى في إبطال التشبيه).


وأما إثبات اليدين بالمعنى الّذي أراده الشيخ أبو الحسن الأشعرى : فيستدعى دليلا قاطعا ؛ لما سبق في الوجه ، ولا قاطع.

وإن سلمنا الاكتفاء في ذلك بالدليل الظاهر ، إلا أنه غير موجود فيما نحن فيه ؛ لما حققناه في صفة الوجه.

وإن سلمنا وجود الظاهر ، غير أنه يمتنع الحمل على ما قيل ؛ لأنه أضاف الخلق إلى اليدين ؛ فإن كانت اليدان مما يتأتى بهما الخلق ؛ فهى القدرة. وإلا فإضافة الخلق إليهما يكون كذبا.

وأما تفسير اليدين بالنعمة ؛ فباطل لوجهين :

الأول : أنه أضاف الخلق إليهما ، والخلق لا يتعلق بالنعمة.

الثانى : أنهما مذكوران بلفظ التثنية ، ونعم الله ـ تعالى ـ على آدم غير منحصرة في أمرين على ما قال ـ تعالى ـ : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها) (١).

فإن قيل : النعمة تنقسم : إلى ظاهرة ، وباطنة ، وإلى عاجلة ، وآجلة ؛ فيحتمل أنه أراد بيدى : أى بنعمتى العاجلة (٢) ، والآجلة (٢) ، أو الظاهرة ، والباطنة ، ويحتمل أنه أراد به سجود الملائكة له ، وتعليمه الأسماء كلها.

قلنا : إلا (٣) أن ما ذكروه قد كان (٣) مجتمعا في حق آدم ؛ فإن حمل على الكل خرج عن التثنية ، وإن حمل على خصوص اثنين منهما ؛ فلا يكون أولى من غيره ؛ فلا يكون التخصيص مفيدا.

ولا سبيل إلى القول بكون اليدين صفة زائدة ؛ لما فيه من تعطيل الدلالة.

وإذا بطلت جميع هذه الأقسام. فالأشبه أنهما بمعنى القدرة ؛ فإن إطلاق اليدين بمعنى القدرة ، سائغ عرفا ولغة / ؛ ولهذا يقال : فلان في يدى فلان. إذا كان متعلق قدرته ، وتحت حكمه ومشيئته ؛ وإن لم يكن في يديه اللتين بمعنى الجارحتين.

__________________

(١) سورة ابراهيم ١٤ / ٣٤.

(٢) فى ب (الآجلة والعاجلة).

(٣) فى ب (الا أن كل ما ذكروه كان).


فإن قيل : يمتنع حمل اليدين على القدرة لوجهين :

الأول : أنه يلزم من ذلك إبطال فائدة التخصيص ، بذكر خلق آدم باليدين ، من حيث أن سائر المخلوقات ، إنما هى مخلوقة بالقدرة القديمة.

الثانى : هو أن اليدين [مذكورتان] (١) بصيغة التثنية ، وقدرة الرب تعالى واحدة.

قلنا : أما الأول : فمندفع ، فإنه جاز أن تكون فائدة التخصيص التشريف ، كما خصص المؤمنين بلفظ العباد ، وأضافهم بالعبودية (٢) إلى نفسه (٢) ، وخصص روح عيسى ، والكعبة بالإضافة إلى نفسه.

وأما الثانى : فلأنه قد يعبر باليدين عن القدرة كما ذكرناه ، وكذلك بلفظ اليد ، ولا امتناع في اللغة عن التعبرة بالتثنية ، أو الجمع عن الواحد.

__________________

(١) فى أ (مذكورة).

(٢) فى ب (إليه بالعبودية).


الصفة الخامسة : العينان (١).

قال الله ـ تعالى ـ (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) (٢) وقال ـ تعالى : (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) (٣).

وقد اختلف المتكلمون في معناهما :

فقالت المشبهة : هما عينان بمعنى الجارحتين.

وقال الشيخ أبو الحسن الأشعرى : ـ فى أحد قوليه ـ وجماعة من السلف :

هما صفتان نفسيتان كما قال في اليدين.

وفي قول آخر له : إنهما بمعنى البصر.

والحق في ذلك : أن (٤) إثبات العينين بمعنى الجارحتين ممتنع ؛ لما سيأتى في نفى التشبيه (٥).

وأما القول : بأنها صفة نفسانية زائدة على ما له من الصفات ؛ فيستدعى دليلا قاطعا ـ كما سبق ـ ولا قطع هاهنا.

وإن سلمنا الاكتفاء في ذلك بالدليل الظاهر ؛ فالآية غير متناولة له بطريق من طرق الدلالات اللفظية ؛ لما سبق.

وإن سلمنا أنها محتملة له لغة. غير أنها أيضا محتملة لغيره (٦). وبيان الاحتمال من أربعة أوجه :

__________________

(١) انظر الإنابة للأشعرى ص ٣٥ وأصول الدين للبغدادى ص ١٠٩ والشامل لإمام الحرمين ص ٥٥٦ وأساس التقديس للرازى ص ١٢٠.

ومن كتب الآمدي : غاية المرام ص ١٣٧ ، ١٤٠.

ومن كتب المتأخرين المتأثرين بالآمدي :

انظر شرح طوالع الأنوار ص ١٨٤ والمواقف للإيجي ص ٢٩٨ وشرح المقاصد للتفتازانى ٢ / ٨١.

(٢) سورة القمر ٥٤ / ١٤.

(٣) سورة طه ٢٠ / ٣٩.

(٤) فى ب (أن يقال إن).

(٥) انظر ل ١٤٢ / أوما بعدها.

(٦) فى ب (كما سبق غير أنها محتملة لغيره أيضا).


الأول : أنه يحتمل أنه أراد بقوله (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) : أى بحفظنا وكلاءتنا ؛ ولهذا تقول العرب : فلان بعين فلان : أى في (١) حفظه (١) وكلاءته.

الثانى : أنه يحتمل أنه أراد به ببصرنا ، وهو بصير كما سبق في الإدراكات (٢). وصيغة الجمع للتعظيم كما في قوله ـ تعالى ـ (نَحْنُ قَسَمْنا) (٣). وقوله ـ تعالى ـ : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً) (٤) إلى غير ذلك.

الثالث : أنه يحتمل أنه أراد به ما انفجر من عيون الأرض وأضافها / إليه إضافة تمليك.

الرابع : أنه يحتمل أنه أراد به عيون المتعينين من عباده للنجاة من الغرق ، واختصاصهم بالإضافة إليه للتشريف والإكرام ، كما سبق.

__________________

(١) فى ب (يحفظه).

(٢) انظر ل ٩٩ / أوما بعدها.

(٣) سورة الزخرف ٤٣ / ٣٢.

(٤) سورة المؤمنين ٢٣ / ١٨.


الصفة السادسة : «الجنب» (١).

وقد أثبت المشبهة للبارى (٢) ـ تعالى ـ صفة الجنب بمعنى الجارحة تمسكا بقوله ـ تعالى ـ : (يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) (٣).

ومن السلف : من حمل لفظ الجنب في الآية على صفة زائدة على ما له من الصفات النفسانية لا بمعنى الجارحة. ولا يخفى أن حمله على الجارحة ممتنع كما سيأتى (٤). وحمله على المعنى الثانى أيضا ممتنع ؛ لما سبق (٥).

كيف وأن الاحتمالات (٦) فى الآية متعارضة ؛ فيحتمل أنه أراد بجنب الله أمره ؛ فإن الجنب قد يطلق بمعنى الأمر. ويكون حاصل قوله : (فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) : أى في أمر الله. ومنه قول الشاعر :

أما تتّقين الله في جنب عاشق

له كبد حرّى عليك تقطّع (٧)

معناه : فى أمر عاشق. ويحتمل أنه أراد به الجناب. ومنه يقال : فلان لائذ بجنب فلان : أى بجنابه ، وحرمه.

__________________

(١) انظر الشامل لإمام الحرمين ص ٥٤٩ وأساس التقديس للرازى ص ١٣٩.

ومن كتب الآمدي : غاية المرام ص ١٣٧ ، ١٤٠.

ومن كتب المتأخرين المتأثرين بالآمدي :

انظر المواقف للإيجي ص ٢٩٨.

(٢) فى ب (لله).

(٣) سورة الزمر ٣٩ / ٥٦.

(٤) انظر ل ١٤٢ / أوما بعدها.

(٥) انظر ل ١١٢ / أوما بعدها.

(٦) فى ب (الاحتمال في الآية معارض).

(٧) القائل : كثير عزة انظر الشامل ص ٥٤٩.


الصفة السابعة : «صفة النور» (١)

قالت المشبهة : الله نور. تمسكا بقوله ـ تعالى ـ : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (٢) ويمتنع حمله على ما هو المتبادر منه إلى الفهم ، وهو النور الكائن من أشعة النيرات وإلا كان البارى ـ تعالى ـ عرضا ؛ وهو محال كما يأتى (٣) ـ

فإن قيل : المراد به أنه (٤) نور لا كأنوارنا (٤) ، فلا بد له من دليل قاطع ، ولا قاطع.

وإن سلمنا الاكتفاء بالظاهر ، غير أن اللفظ لا يحتمله لغة ، على ما سبق.

وإن سلمنا احتمال اللفظ في (٥) الآية له (٥). غير أنه يحتمل غيره ، وبيانه من وجهين:

الأول : أنه يحتمل أنه أراد به أنه منور السموات ، والأرض بخلق أنوارها.

ويحتمل أن يكون المراد به أنه هادى أهل السموات والأرض بطريق حذف المضاف ، وإقامة المضاف إليه مقامه. كقوله (٦) ـ تعالى (٦) ـ : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) (٧) : أى أهل القرية.

__________________

(١) انظر الإبانة للأشعرى ص ٣٤ والشامل لإمام الحرمين ص ٥٤٤ وأساس التقديس للرازى ص ٩٦. ومن كتب الآمدي : غاية المرام ص ١٣٧ ، ١٤٠.

(٢) سورة النور ٢٤ / ٣٥.

(٣) انظر ل ١٤٥ / ب وما بعدها.

(٤) فى ب (نور لا كالأنوار).

(٥) فى ب (له في الآية).

(٦) فى ب (كما في قوله ـ تعالى ـ).

(٧) سورة يوسف ١٢ / ٨٢.


الصفة الثامنة : «السّاق» (١)

قال الله ـ تعالى ـ (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) (٢).

وقد اختلف في مفهومه :

فمنهم : من حمله على ظاهره ، وهو الساق بمعنى الجارحة كالمشبهة.

ومن السلف من قال : هو ساق لا كالسوق.

/ والقول الأول باطل ؛ لما يأتى.

والثانى : أيضا ممتنع ؛ لما سبق في باقى الصفات الخبرية.

ثم (إنه) (٣) كما أمكن حمله على ذلك ؛ فقد أمكن حمله على الكشف عما في يوم القيامة من الأهوال ؛ ولهذا يقال : قامت الحرب على ساق. عند التحامها ، واشتداد أهوالها.

__________________

(١) انظر أساس التقديس للرازى ص ١٤٠ وغاية المرام للآمدى ص ١٣٧ ، ١٤١.

(٢) سورة القلم ٦٨ / ٤٢.

(٣) ساقط من أ.


الصفة التاسعة : «الاستواء على العرش» (١)

قال الله ـ تعالى ـ : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (٢).

وقد اختلف أهل الملة في ذلك.

فمنهم : من حمله على الاستقرار والمماسة للعرش : كالمشبهة ؛ وهو باطل ؛ لأنه لو كان مستقرا على العرش. والعرش جسم من الأجسام ؛ فإما أن يكون مساويا له ، أو أكبر (٣) ، أو أصغر (٣) ؛ والكل محال ؛ لما سيأتى في (٤) إبطال ما لا (٤) يجوز على الله تعالى.

وعلى هذا فما نقل عن بعض الأئمة المشهورين (٥) من قوله : «الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، والسؤال عنه بدعة ، والإيمان به واجب».

إن أراد بالاستواء المعلوم : الاستقرار والمماسة ؛ فهو محال.

وإن أراد به استواء لا كاستوائنا ، كما ذهب إليه السلف ، والشيخ أبى الحسن الأشعرى في أحد قوليه ؛ فغير معلوم ؛ لعدم دلالة القاطع عليه ، وعدم دلالة اللفظ عليه لغة ـ كما سبق ـ

وما عداه فالاحتمالات فيه متعارضة ، على ما يأتى.

ومنهم من توقف. والتوقف إن كان للتردد بين الاستواء بمعنى الاستقرار ، وغيره من الاحتمالات ؛ فخطأ ؛ ضرورة انتفاء الاستواء بمعنى الاستقرار قطعا ، وإن كان للتردد بين ما عدا ذلك من الاحتمالات ؛ لعدم القطع بواحد منها على سبيل التعيين ؛ فلا بأس به.

__________________

(١) انظر الإبانة عن أصول الديانة للأشعرى ص ٣١ وأصول الدين للبغدادى ص ١١٢ والشامل لإمام الحرمين ص ٥٥٠.

ومن كتب الآمدي : غاية المرام ص ١٣٧ ، ١٤١.

ومن كتب المتأخرين : انظر شرح طوالع الأنوار ص ١٨٤ والمواقف للإيجي ص ٢٩٧ وشرح المقاصد ٢ / ٨١.

(٢) سورة طه ٢٠ / ٥.

(٣) فى ب (أو أصغر أو أكبر).

(٤) فى ب (فيما).

(٥) هو الإمام مالك بن أنس بن مالك الأصبحى الحميرى ، أبو عبد الله : إمام دار الهجرة ، أحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة ، وإليه تنسب المالكية ، ولد بالمدينة سنة ٩٣ ه‍. وتوفى بها سنة ١٧٩ (انظر الشامل لإمام الحرمين ص ٥٥١ ، الأعلام للزّركلي ٦ / ١٢٨).


ومنهم : من صار إلى التأويل. والقائلون بالتأويل فقد اختلفوا :

فمنهم من حمل الاستواء في الآية على الاستيلاء ، والقهر. ومنه قول العرب : استوى الأمير على مملكته ، عند دخول العباد في طاعته. ومنه قول الشاعر :

قد استوى بشر على العراق

من غير سيف ودم مهراق (١)

أى استولى.

وقال الآخر :

ولمّا علونا واستوينا عليهم

تركناهم صرعى لنسر وطائر (٢)

أى استولينا عليهم ؛ وهو من أحسن التأويلات وأقربها (٣).

فإن قيل : حمل الاستواء على الاستيلاء ، يشعر بسبق المغالبة وتقدم المقاومة ؛ وهو ممتنع على الله ـ تعالى ـ.

/ سلمنا عدم إشعاره بذلك ، غير أنه لا فائدة في تخصيص العرش بذلك ، مع تحقيقه بالنسبة إلى كل الحوادث.

قلنا : أما الأول ، فإنه (٤) وإن جاز أن يكون الاستيلاء مسبوقا بالمقاومة ، ولكن لا يلزم أن يكون مسبوقا بها ، ولا لفظ الاستيلاء مشعر به ، وإلا لكان لفظ الغالب مشعر به ؛ وليس كذلك. بدليل قوله ـ تعالى ـ : (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ) (٥).

وأما الثانى : فمندفع أيضا ؛ فإنه جاز أن تكون فائدة تخصيص العرش بالذكر للتشريف ، كما سبق. وجاز أن يكون ذلك للتنبيه بالأعلى على الأدنى من حيث أن العرش في اعتقاد الخلائق أعظم المخلوقات ، وأجل الكائنات.

__________________

(١) القائل الأخطل :

وقد قاله في بشر بن مروان ـ انظر ديوان الأخطل الطبعة الثانية ص ٣٩٠ ط. دار المشرق ببيروت.

(٢) ورد هذا البيت في الشامل لإمام الحرمين ص ٥٥٠.

(٣) فى ب (وأقواها).

(٤) فى ب (فلأنه).

(٥) سورة يوسف ١٢ / ٢١.


ومنهم : من حمل الاستواء في الآية على الاستعلاء والرفعة ، وينقدح فيه الإشكالان السابقان ، وجوابهما ما سبق.

ومنهم : من حمله على القصد والإرادة لخلق العرش ؛ فإن الاستواء قد يطلق بمعنى القصد (١). ومنه قوله ـ تعالى ـ (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ) (٢) : أى قصد إلى السماء.

وفيه نظر ؛ فإن الاستواء وإن أطلق بمعنى القصد عند صلته بإلى ؛ فلا يلزم مثله ، عند صلته بعلى ؛ ولهذا يحسن أن يقال : فلان قاصد إليك ، ولا يقال : قاصد عليك.

__________________

(١) فى ب (القصد عند صلته بإلى).

(٢) سورة فصلت ٤١ / ١١.


الصفة العاشرة : «النزول» (١)

وقد ورد في الصحاح المنقولة عن الثقات عن النبي عليه‌السلام أنه قال : «إن الله ـ تعالى ـ ينزل إلى السماء الدّنيا في كلّ ليلة ، وفي رواية : فى كلّ ليلة جمعة ، فيقول : هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟» (٢) وظاهر لفظ النزول ، للانتقال ، والحركة من جهة العلوّ ، إلى جهة السفل.

فمن حمله على ذلك في حق الله ـ تعالى ـ من المشبهة ؛ فقد أوجب كون البارى ـ تعالى ـ متحيزا ؛ لانتقاله في الأحياز ، وتبدّلها عليه ؛ وهو محال ، كما يأتى.

ولما تعذر حمله على ما هو ظاهر فيه ، اختلف الأئمة.

فذهب بعض السلف : إلى حمل النزول في حق الله ـ تعالى ـ على نزول لا كنزولنا من غير حركة وانتقال. وهو وإن كان ممكنا في نفس الأمر ، غير أنه لا يدل عليه قاطع ، ولا لفظ النزول في الخبر يحتمله على ما سبق ؛ فتعين التأويل بما يحتمله لفظ النزول ؛ وهو حمل النزول على معنى اللطف والرحمة ، وترك ما يليق بعلو الرتبة وعظم الشأن ، والاستغناء الكامل / المطلق.

ولهذا يقال : نزل الملك مع فلان إلى أدنى الدرجات ؛ عند لطفه به ، وانبساطه في حضرة مملكته. وفائدة ذلك الانبساط الخلق على التقرب بالعبادات ، وإلا فلو نظر إلى ما يليق بمملكته ، وعلو (٣) شأنه ، وعظمته ؛ لما وقع التجاسر من العبيد على (٤) خدمته (٤) ، والوقوف بين يديه في طاعته ؛ فإن العباد (و) (٥) عباداتهم من صومهم ، وصلاتهم بالنسبة

__________________

(١) انظر الشامل لإمام الحرمين ص ٥٥٧ وإلجام العوام عن علم الكلام ص ٦٥ ضمن مجموعة القصور العوالى وأساس التقديس للرازى ص ١٠١ ، ومن كتب الآمدي : غاية المرام ص ١٣٧ ، ١٤٢.

(٢) هذا الحديث أورده الآمدي أيضا في غاية المرام ص ١٣٧ ، كما ذكره كثير من أئمة المذهب في كتبهم ، وأولوه تأويلات عدة ، وقد ذكره ابن تيمية في العقيدة الواسطية ص ١٥ وقال : انه متفق عليه.

وقد ورد هذا الحديث مع اختلاف في الألفاظ في كثير من الصحاح فقد ورد في صحيح البخارى عن أبى هريرة ـ رضى الله عنه ـ (كتاب التهجد ، باب الدعاء والصلاة من آخر الليل) ٢ / ٦٣ ، وصحيح مسلم ١ / ٥٢١ ـ ٥٢٢ (كتاب المستغفرين ، باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل والإجابة فيه).

كما ورد هذا الحديث أيضا في سنن أبى داود وسنن الترمذي ومسند الإمام أحمد.

(٣) فى ب (وعظم).

(٤) فى ب (لخدمته).

(٥) ساقط من أ.


إلى عظمة الله ـ تعالى ـ وجلاله ، دون تحريك أنملة لبعض العباد طاعة وخدمة لبعض ملوك العباد (١) ، ومن فعل ذلك ؛ فإنه يعد في العرب (٢) مستهينا مستهزئا بذلك الملك (٢) ، وخارجا عن دائرة التعظيم ، فما ظنك (بمن) (٣) هو دونه في الرتبة؟

وأما التخصيص بسماء الدنيا. فإنما كان لأنها أدنى الدرجات بالنسبة إلى جلال الله ـ تعالى ـ فلذلك (٤) خصصت بالنزول إليها مبالغة في التلطف. كما يقال للواحد منا : صعد إلى الثريا ، ونزل إلى الثرى ، من حيث أن ذلك أنهى الدرجات بالنسبة إليه ، ارتقاء ونزولا.

ولأجل ذلك خصص النزول بالليالى دون الأيام ؛ من حيث إنها مظنة الخلوات ، وأنواع العبادات ، لأرباب المعاملات.

ويحتمل أن يكون المراد بذلك نزول ملك من ملائكة (٥) الله (٥) بطريق حذف المضاف ، وإقامة المضاف إليه مقامه كقوله ـ تعالى ـ : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) : أى أهل القرية : ولقوله (٦) ـ تعالى (٦) ـ (الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ) (٧) : أى أولياء الله. ويقول : هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ ، ويضاف ذلك القول إلى الله ـ تعالى ـ كما يقال : نادى الملك في مدينته وقال : كذا كذا. وإن كان المنادى ، والقائل غيره.

__________________

(١) فى ب (الأرض).

(٢) فى ب (مستهينا لذلك الملك مستهزئا به).

(٣) فى أ (بما).

(٤) فى ب (ولذلك).

(٥) فى ب (الملائكة).

(٦) فى ب (وقوله).

(٧) سورة المائدة ٥ / ٣٣.


الصفة الحادية عشرة : «الصورة»

وقد روى عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال : «إنّ الله خلق آدم (١) على صورته» (٢)

فذهبت المشبهة : إلى أن هاء الضمير في الصورة عائدة إلى الله ـ تعالى ـ ، وأن الله ـ تعالى ـ مصور بصورة مثل (٣) صورة (٣) آدم ؛ وهو محال كما يأتى :

ومن عرف سبب ورود الخبر هان عليه التقصى عنه. وسببه ما روى أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ رأى شخصا يلطم صبيا على وجهه فقال : لا تلطمه إن الله خلق آدم على صورته. على (٤) صورة الصبى (٤) ولو قطع النظر عن سبب الورود ؛ فيمكن (٥) / تأويله بعود الضمير في الخبر إلى آدم ، وبيانه من وجهين :

الأول : أنه أمكن أن يقال : المراد به أنه خلق آدم علي صورته التى رؤى عليها ابتداء من غير أب ، وأم ، وتقلب في أطوار الخلقة.

الثانى : أنه خلق آدم في ابتداء خلقه على الصورة التى هبط بها من الجنة ، لا أنه غير عنها ، ويكون المراد من ذلك بيان تخصيص آدم بذلك تشريفا له ، وتكريما.

فإن قيل : وإن استمر لكم مثل هذا التأويل في قوله : إن الله خلق آدم على صورته. فما وجه التأويل في قوله عليه‌السلام : «إنّ الله خلق آدم على صورة الرّحمن» ؛ فإنه من الأحاديث المشهورة بالصحة.

__________________

(١) من أول (المنادى والقائل غيره ... إلى خلق آدم) ساقط من ب.

(٢) هذا الحديث ذكره إمام الحرمين في الشامل ص ٥٦٠ وقال إنه غير صحيح ، ولم يدون في المشاهير من الصحاح ، ثم تأويله قريب المأخذ. كما ذكر الإمام الرازى خمسة أخبار عن الرسول فيها ذكر الصورة في أساس التقديس ص ٨٣ ـ ٩١ وأوّلها كلها.

أما عن صفة الصورة بالتفصيل :

فانظر الشامل لإمام الحرمين ص ٥٦٠ ، ٥٦١ وإلجام العوام للغزالى ص ٦٤. وأساس التقديس للرازى ص ٨٣ ـ ٩١.

فقد أوّلوا الأحاديث الواردة في هذا المبحث. وما ذكره الآمدي هنا لا يخرج عن قولهم. وقد ورد هذا الحديث في صحيح البخارى في كتاب الأنبياء ج ٤ ص ١١٦ ، وفي كتاب الاستئذان ج ٨ ص ٦٢ (ط) الشعب.

كما ورد في صحيح مسلم ٤ / ٢٠١٧ (كتاب البر ، باب النهى عن ضرب الوجه).

(٣) فى ب (كصورة).

(٤) ساقط من ب.

(٥) فى ب (لأمكن).


قلنا : إذا ثبت استحالة اتصاف الرب (١) ـ تعالى ـ بصورة مشابهة لصورة آدم ؛ فالتأويل واجب ، والحمل على الاحتمال البعيد لازم. وإن كان في غاية البعد ، وهو أن يقال : يحتمل أنه أراد بقوله : «على صورة الرّحمن» : أى صفة (٢) الرحمن ؛ فإن الصورة قد تطلق ويراد بها الصفة.

ولهذا يقول القائل لغيره أراد استعلام أمر ؛ اذكر لى صورة الحال : أى صفة (٣) الحال (٣). وحيث خلق آدم مخصصا بعلوم لم توجد لغيره (٤) من المخلوقين على (٥) ما قال ـ تعالى ـ : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) الآية وكان الرب ـ تعالى ـ أيضا منفردا بعلوم لا يشاركه فيها أحد من المخلوقين (٥) فصح القول : بأنه خلق آدم على صورة الرحمن : أى على صفة الرحمن. ويحتمل أن يقال : إن الله خلق آدم على صورة الرحمن : أى على صورة معظمة في علم الله ـ تعالى ـ وأضافها إلى الرحمن تشريفا (له) (٦) ، وتكريما على ما سبق.

وعلى هذا المعنى حمل بعض المفسرين قوله ـ تعالى ـ (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (٧).

__________________

(١) فى ب (البارى).

(٢) فى ب (على صفة).

(٣) فى ب (صفته).

(٤) فى ب (من غيره).

(٥) من أول (على ما قال تعالى ..) ساقط من ب. والآية من سورة البقرة ٢ / ٣١.

(٦) ساقط من أ.

(٧) سورة التين ٩٥ / ٤.


الصفة الثانية عشرة : «الكف» (١)

وقد روى عن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنه قال إخبارا عن ليلة المعراج : «فوضع كفّه بين كتفى فوجدت بردها في كبدى» فلذلك ذهبت المشبهة إلى كون الرب ـ تعالى ـ متصفا بكف بمعنى الجارحة.

ومن السلف من قال : هو (٢) موصوف بكف لا كالكفوف (٢).

ومن الأئمة من سلك طريق التأويل.

أما القول الأول : فباطل ؛ لما سيأتى (٣).

وأما الثانى : فهو أيضا ممتنع لما سبق في المسائل المتقدمة.

والمتأول قال : إذا تعذر حمل اللفظ على حقيقته تعين حمله / على مجازه.

ووجه التجوز فيه ؛ أن الكف قد تطلق ويراد بها الاحتواء على التقدير والتدبير بالخير والشر ، ومنه يقال : فلان في كف فلان : أى في تدبيره.

وعلى هذا فمعنى قوله عليه الصلاة والسلام ـ «فوضع كفّه بين كتفى» أراد به بيان ألطافه به وإشفاقه عليه في تدبيره له.

ومعنى قوله «فوجدت بردها بين كتفى» : أى روح ألطافه بى فإن البرد قد يعبر به في اللغة عن كل روح وراحة. ومنه قولهم : ابترد فلان إذا استراح.

__________________

(١) انظر الشامل لإمام الحرمين ص ٥٦٢ وأساس التقديس للرازى ص ١٣٤.

ومن كتب المتأخرين المتأثرين بالآمدي :

انظر : شرح طوالع الأنوار ص ١٨٤ والمواقف ص ٢٩٨ وشرح المقاصد ٢ / ٨١.

(٢) فى ب (هو تعالى متصف بالكف لا بالكفوف).

(٣) انظر ل ١٤٢ / أوما بعدها.


الصفة الثالثة عشر : «الأصبعان» (١)

قال عليه الصلاة والسلام «إنّ قلوب الملوك بين إصبعين من أصابع الرّحمن يقلّبها كيف شاء» (٢). ولا يمكن أن يكون متصفا بإصبعين بمعنى الجارحتين ، ولا بإصبعين لا كأصابعنا ؛ لما (٣) مر فى باقى الصفات الخبرية.

وأما وجه التأويل ؛ فكما سبق في اليدين.

__________________

(١) انظر الشامل لإمام الحرمين ص ٥٦٤ وأساس التقديس للرازى ص ١٣٥ ،

والمواقف للإيجي ص ٢٩٨ وإلجام العوام عن علم الكلام ص ٦٣.

(٢) رواه مسلم والإمام أحمد في مسنده عن ابن عمر بلفظ «إن قلوب بنى آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء» ورمز له السيوطى بالصحة. (الجامع الصغير ج ١ حديث رقم ٢٣٤٤).

(٣) فى ب (لما سبق في الصفات).


الصفة الرابعة عشرة : «القدم» (١)

قال عليه الصلاة والسلام في أثناء حديث مطول «فيضع الجبّار قدمه في النّار فتقول قط قط» (٢) : أى حسبى حسبى ـ ويتعذر حمله على القدم بمعنى الجارحة ، وعلى صفة زائدة بكونه قدما لا كأقدامنا ؛ لما تقدم في اليدين.

واذا تعذر حمل اللفظ على ظاهره ، تعين حمله على ما هو بعيد فيه ؛ وهو أنه يحتمل أنه أراد بالقدم أقدام الجبارين المرتفعين عن التكاليف ؛ فإن كل من طغى ، وبغى ، وخرج عن ربقة التكليف يقال له : جبار. وعبر عن المجموع بلفظ الواحد كما في قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) (٣)

ويحتمل أنه أراد به قدم بعض الجبارين عينا ، ويكون الله ـ تعالى ـ قد ألهم النار طلب المزيد إلى حين وضع قدم ذلك الجبار المعين فيها.

ويحتمل أنه أراد به مالكا خازن النار.

__________________

(١) انظر الشامل لإمام الحرمين ص ٥٦٢ وأساس التقديس للرازى ص ١٤١ وغاية المرام للآمدى ص ١٣٧ ـ ١٤١ والمواقف للإيجي ص ٢٩٨.

(٢) هذا الحديث أورده ابن تيمية في العقيدة الواسطية ص ١٣ وقال : إنه متفق عليه ـ كما أورده الآمدي بتمامه في غاية المرام ص ١٣٧ ونصه كما يلى :

«إذا كان يوم القيامة واستقر أهل الجنان في نعيمهم وأهل النيران في حميمهم ، قالت النار : هل من مزيد؟ فيضع الجبار قدمه فيها فتقول قط قط».

وما ورد هنا جزء من حديث ورد في صحيح البخارى ٦ / ١٧٣ (كتاب التفسير تفسير سورة ق) عن أبى هريرة ـ رضى الله عنه ـ كما ورد في مواضع أخرى في صحيح البخارى. وانظر أيضا صحيح مسلم ٤ / ٢١٨٦

(كتاب الجنة ، باب النار يدخلها الجبارون ..).

(٣) سورة العصر ١٠٣ / ٢.


الصفة الخامسة عشرة : «الضحك» (١)

وقد أثبت المشبهة صفة الضحك للبارى (٢) ـ تعالى ـ تمسكا بما روى عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه قال. فى أثناء حديث «فضحك حتّى بدت نواجزه» (٣) ويمتنع حمله على التبسّم ، والقهقهة بالآلات ، والأدوات الجسمانية ؛ لما سيأتى (٤) إبطاله في إبطال التشبيه. وعلى ضحك لا كضحكنا ؛ لما تقدم ؛ فلا بد من التأويل.

وتأويله أن يقال : الضحك قد يطلق على ظهور تباشير النجح في كل أمر.

ومنه يقال : / الضحك الرياض إذا بدت أزهارها ، وعلى هذا فقوله فضحك ؛ أى بدت تباشير الخير ، والنجح منه.

وقوله : «حتى بدت نواجزه» : أى ظهر كنه ما كان متوقعا منه ؛ فإن بدو النواجز قد يطلق على هذا المعنى.

ومنه قول الشاعر :

قوم إذا الشّر أبدى ناجزيه لهم

طاروا إليه زرافات ووحدانا (٥)

أما أن يكون المراد به الأسنان ؛ فهو محال.

__________________

(١) انظر الشامل لإمام الحرمين ص ٥٦٥ وأساس التقديس للرازى ص ١٤٤ ـ ١٤٦.

(٢) فى ب (لله).

(٣) انظر المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوى ٣ / ٤٨٣ ، فقد ورد بالنص التالى : (فضحك النبي ، رسول الله «ص». حتى بدت نواجزه) ويحيل على مواضع متعددة في الكتب الستة للبخارى ، ومسلم ، والترمذي ، وابن ماجه ، وأبى داود ، وأحمد بن حنبل مما يؤكد أن المقصود به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وما ورد جزء من حديث عن عبد الله بن مسعود في البخارى ٦ / ١٥٧ ـ ١٥٨

(كتاب التفسير ، تفسير سورة الزمر) وانظر صحيح مسلم ٤ / ٢١٤٧

(كتاب صفات المنافقين ، باب صفة القيامة والجنة والنار) كما ورد هذا الحديث من مواضع أخرى من الصحاح وفي سنن أبى داود وسنن الترمذي وسنن ابن ماجة ومسند الإمام أحمد.

(٤) انظر ل ١٤٣ / ب وما بعدها.

(٥) ورد هذا البيت في الشامل لإمام الحرمين ص ٥٦٥.


الصفة السادسة عشرة : «الكرم» (١)

الظواهر واردة ، والإجماع منعقد على اتصاف الرب ـ تعالى ـ بالكرم.

وقد ذهب عبد الله بن سعيد : إلى أن كرمه صفة نفسانية زائدة على ما له من الصفات. وهو وإن كان ممكنا. إلا أنه لا دليل عليه قطعا ، ولا ظاهرا ؛ فيمتنع الجزم به.

وعلى هذا : فما معنى اتصافه بالكرم؟ ؛ فسيأتى في شرح أسماء الله الحسنى (٢). وليس تأويل هذه الظواهر وحملها على ما أشير إليه من (المحامل) (٣) بمستبعد كما حمل قوله ـ تعالى ـ (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) (٤) وقوله ـ تعالى ـ : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ) (٥) على معنى الحفظ ، والرعاية.

وكما حمل قوله ـ تعالى ـ على ما أخبر به نبيه ـ عليه‌السلام ـ عنه أنه قال :

«من أتانى ماشيا أتيت إليه مهرولا» (٦). على معنى التطويل ، والإنعام. إلى غير ذلك من الظواهر.

__________________

(١) عن الكرم انظر شرح المقاصد للتفتازانى ٢ / ٨١.

(٢) انظر ل ٢٩٦ / ب.

(٣) فى أ (المحال).

(٤) سورة الحديد ٥٧ / ٤.

(٥) سورة المجادلة ٥٨ / ٧.

(٦) جزء من حديث قدسى عن أبى هريرة ـ رضى الله عنه ـ ورد في البخارى ٩ / ١٤٧ ـ ١٤٨ (كتاب التوحيد ، باب ما يذكر في الذات والنعوت)

كما ورد في صحيح مسلم ٤ / ٢١٠٢ (كتاب التوبة ، باب في الحض على التوبة والفرح بها).

كما ورد في مواطن عدة من الصحاح وفي سنن الترمذي وابن ماجة ومسند الإمام أحمد.


المسألة التاسعة

في أن الصفة هل هى نفس الوصف ، أو غيره (١)؟

وقد اختلف في ذلك :

فذهبت المعتزلة : إلى أن الصفة هى نفس الوصف. والوصف خبر المخبر عمن أخبر عنه بأمر ما كقوله : إنه عالم ، أو قادر ، أو أبيض ، أو أسود ، ونحوه ، وأنه لا مدلول للصفة ، والوصف إلا هذا.

واحتجوا على ذلك : بأنه لو خلق الله ـ تعالى ـ العلم ، والقدرة ، أو غير ذلك لبعض المخلوقين ؛ لم يصح تسميته باعتبار ذلك واصفا. ولو كان العلم والقدرة صفة ؛ لصح تسمية خالقه واصفا. كما يصح تسمية خالق الحركة محركا. ولو أخبر عنه أنه عالم ، أو قادر ، أو غير ذلك ؛ صح تسميته واصفا. والصفة يجب أن يكون ما يكون بها الواصف واصفا ، وليس على هذا النحو غير القول ، والإخبار.

وإذا ثبت أن الوصف هو القول ، والإخبار ؛ فالعرب تقول : الوصف والصفة بمعنى واحد : كالوجه والجهة ، والوعد والعدة ، والوزن والزنة.

وإذا كان الوصف / هو القول ؛ فالصفة هى القول ؛ لكونها في معناه.

وأما معتقد أهل الحق من الأشاعرة ، وغيرهم : فهو أن الوصف هو القول الدال على الصفة ، والصفة هى المعنى القائم بشيء ما : كالعلم ، والقدرة ، والإرادة ، ونحو ذلك.

وبيانه من أربعة أوجه :

الأول : ما اشتهر في لسان العرب أن الصفة النفسية منقسمة إلى : خلقية لازمة ، وغير خلقية ، وفسروا الخلقية بالسواد والبياض ؛ ونحوه. والغير خلقية : ما كان مكتسبا من العلوم وغيرها ؛ وهو دليل صحة إطلاق الصفة على المعنى.

الثانى : هو أن العقلاء متفقون على صحة إطلاق القول بأن العلم صفة فلان ، والجهل صفة فلان. وأن العدل ، والأفضال ، والإحسان (صفات) (٢) لله تعالى.

__________________

(١) انظر المقصد الأسنى للغزالى ص ١٢ وغاية المرام للآمدى ص ١٤٤.

(٢) فى أ (صفة).


الثالث : إجماع العقلاء على أن من اتصف بصفة. لا تزايله تلك الصفة بإخبار المخبرين ، وعدم إخبارهم. ولو كانت الصفة هى الإخبار ؛ لما كان كذلك.

الرابع : هو أنه لو لم تكن الصفة هى المعنى ؛ بل القول والإخبار ، لما كان الرب تعالى متصفا في الأزل بصفات الإلهية ، والجلال ؛ لعدم المخبرين ، والواصفين ؛ وهو خرق لإجماع المسلمين.

والقول بأنه لو كانت الصفة هى المعنى القائم بالشيء ، لسمى خالقه واصفا ؛ ليس كذلك ؛ إذ ليس اشتقاق اسم الواصف من الصفة ؛ بل من الوصف ؛ وهو الإخبار عن الصفة. ولو كان اشتقاق اسم الواصف من خلق الصفة ؛ لسمى الرب تعالى عالما ؛ بخلقه للعلم الحادث ، ومستطيعا ؛ بخلقه (١) للاستطاعة الحادثة ؛ وهو محال.

وعلى هذا : فلا نسلم أن اسم المحرك مشتق من الحركة ؛ بل من التحريك.

وقول العرب : الوصف ، والصفة بمنزلة واحدة إن صح ؛ فجوابه من وجهين :

الأول : أنه أمكن أن يقال : معناه تنزيل الصفة منزلة الوصف في المصدرية ، وإن كانت الصفة خارجة عن قياس المصادر ؛ ولهذا يقال : وصفته صفة ، ووصفته وصفا. ومثل ذلك (٢) سائغ (٢) فى اللسان. ومنه قوله ـ تعالى ـ : (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) (٣). وإن كان المصدر المنقاس فيه الإنبات ، ومن ذلك قولهم : كتب كتابا.

والمصدر المنقاس كتابة.

الثانى : أنه أمكن أن يقال معنى قولهم : الوصف ، والصفة بمنزلة واحدة : [أى] (٤) أن الوصف صفة للواصف المخبر لقيامه به.

وبالجملة فالبحث / فى هذه المسألة لغوى ، لا معنوى.

__________________

(١) فى ب (لخلقه).

(٢) فى ب (هذا شائع).

(٣) سورة نوح ٧١ / ١٧.

(٤) فى أ (من).


المسألة العاشرة

في أن الصفة هل هى نفس الموصوف ، أو غيره؟

وأن الصفة هل توصف ، أم لا (١)؟

أما أن الصفة هل هى نفس الموصوف ، أو غيره؟

فالذى ذهب [إليه] (٢) الشيخ أبى الحسن الأشعرى ، وعامة الأصحاب أن من الصفات ما هى عين الموصوف : كالوجود.

ومنها ما هى غيره : وهى كل صفة أمكن مفارقتها للموصوف : كصفات الأفعال : من كونه خالقا ، ورازقا ، ونحوه (٣). ومنها ما لا يقال : إنها عين الموصوف ، ولا غيره : وهى كل صفة امتنع القول بمفارقتها للموصوف بوجه ما : كالعلم ، والقدرة ، والإرادة ، وغير ذلك من الصفات النفسانية لله تعالى ـ بناء على أن معنى المتغايرين كل موجودين صحت مفارقة أحدهما للآخر بجهة ما.

وعلى هذا : فكما أن الصفة التى لا تفارق ليست هى عين الموصوف ، ولا غيره ؛ فكذلك الصفات النفسانية بعضها مع بعض لما لم يصح انفكاك بعضها عن بعض ؛ فلا يقال : إن بعضها عين الصفة الأخرى ، ولا غيرها.

أما أنها ليست هى هى ؛ فلأن المفهوم منها غير متحد قطعا.

وأما أنها ليست غيرها ؛ فلعدم الانفكاك ، وحاصل النزاع في هذا لا يرجع إلا إلى اصطلاح لفظى لاحظ له في المعنى.

وأما أن الصفة. هل توصف؟

فالذى عليه اتفاق العقلاء : أن الصفات لا يمتنع وصفها بصفات أنفسها ؛ لكونها موجودة ، وثابتة ، وغير ذلك.

وإنما الخلاف بينهم في وصف الصفات بصفات معللة بمعنى زائد عليها.

__________________

(١) انظر غاية المرام للآمدى ص ١٤٥.

(٢) ساقط من أ.

(٣) فى ب (ونحوها).


فذهب عبد الله بن سعيد : إلى أن الصفات لا توصف بمثل هذه الصفات ، فلا توصف صفات الرب ـ تعالى ـ بكونها باقية ، ولا قديمة ـ وإلا كانت باقية ببقاء ، وقديمة بقدم.

ويلزم منه قيام المعنى بالمعنى ؛ وهذا مما لا سبيل إليه. مع استمرار صفات الله تعالى فيما لا يزال ، وكونها لا أول لها ؛ بل الحق إنما هو وصفها بكونها قديمة ، وباقية.

وأما كونها موصوفة بالبقاء ، والقدم. أو غير موصوفة به ؛ فقد سبق تحقيقه بما فيه مقنع ، وكفاية.


المسألة الحادية عشرة

في تعلق الصفات بمتعلقاتها ، وأنه ثبوتى ، أو عدمى

والمناسب لأصول أصحابنا أن مفهوم تعلق العلم بالمعلوم لا يزيد على كونه معلوما به ، وأن تعلق القدرة / بالمقدور ، لا يزيد على حصول المقدور بالقدرة.

وعلى هذا (١) فى كل مضافين ، ومن نازع زعم أن تعلق القدرة بالمقدور أمر ثبوتى زائد على حصول المقدور بالقدرة. وأن تعلق العلم بالمعلوم أمر ثبوتى زائد على كون المعلوم معلوما بالعلم.

احتج الأصحاب بأنه لو كان تعلق القدرة بالمقدور أمرا ثبوتيا ، وله وجود في الأعيان لم يخل : إما أن يكون واجبا لذاته ، أو ممكنا لذاته.

لا جائز أن يكون واجبا : وإلا لما افتقر إلى غيره في وجوده والتعلق إذا كان صفة وجودية ؛ فهو مفتقر إلى الموصوف به ؛ فلا يكون واجبا لذاته ؛ فلم يبق إلا أن يكون ممكنا : وعند ذلك فلا بد له من مؤثر ، والكلام في تعلق ذلك المؤثر به كالكلام في الأول ؛ ويلزم منه التسلسل ، أو الدور.

وهذه المحالات إنما لزمت من كون التعلق ثبوتيا في الأعيان ؛ فالقول به ممتنع.

فإن قيل : لا نزاع بين العقلاء في المغايرة بين ذات القدرة ، والمقدور ، والعلم ، والمعلوم ، وأن القدرة متعلقة بالمقدور ، والعلم بالمعلوم. ولو لا ذلك لما تحقق وجود المقدور ، ولما كان المعلوم معلوما.

وهذا التعلق (٢) ليس هو نفس القدرة ، ولا نفس المقدور ، ولا نفس العلم ، ولا نفس المعلوم ؛ بدليل صحة العلم بكل واحد من هذين المتعلقين (٣) مع الجهل بما بينهما من التعلق ؛ والمعلوم غير ما ليس بمعلوم.

وإذا كان التعلق زائدا على المتعلقين فلا يخلو ؛ إما أن يكون ثبوتيا ، أو نفييا.

__________________

(١) فى ب (هذا الكلام).

(٢) فى ب (التعليق).

(٣) فى ب (التعليقين).


لا جائز أن يكون نفييا ؛ فإن (١) نقيض التعلق لا تعلق. ولا تعلق نفى بدليل صحة اتصاف العدم المحض به ، فالتعلق ثبوتى.

وهو إما أن يكون كذلك في نفس الأمر ، أو لا يكون كذلك في نفس الأمر.

لا جائز أن لا يكون كذلك في نفس الأمر ؛ إذ هو خلاف ما الكلام فيه ؛ إذ الكلام إنما هو مفروض فيما إذا تعلقت القدرة بالمقدور ، والعلم بالمعلوم حقيقة في نفس الأمر ، لا في فرض الفارض ، وتقدير المقدر. وسواء كان ذلك معلوما لنا ، أو مجهولا.

وإذا كان كذلك فى نفس الأمر ؛ فلا معنى لكونه موجودا في الأعيان إلا هذا.

قلنا : أما التغاير بين ذات القدرة ، والمقدور ، والعلم ، والمعلوم كذا في كل مضافين ؛ فمسلم. غير أنا لا نسلم أن الإضافة ، والتعلق بين العلم ، والمعلوم ، والقدرة ، والمقدور / يزيد على حصول المقدور بالقدرة ، وكون المعلوم معلوما بالعلم. وعلى هذا النحو في كل مضافين. وإذا كان تعلق القدرة بالمقدور لا معنى له إلا حصول المقدور بالقدرة ، وتعلق العلم بالمعلوم لا معنى له ، غير كون المعلوم معلوما بالعلم ، وذلك لا يفضى إلى التسلسل على ما حققناه عند كون التعلق زائدا عليه.

وعلى هذا فلا مانع من تعلق الصفة بمتعلقها في حالة دون حالة من غير تسلسل ، ولا تغير في ذات الصفة ، وإن تغير التعلق والمتعلق.

__________________

(١) فى ب (لأن).


«النوع الثالث»

فيما يجوز على الله تعالى

وفيه مسألتان :



المسألة الأولى

في أن حقيقة واجب الوجود ، هل هى الآن معلومة ، أم لا (١)؟

وقد اختلف فيه (٢) :

فقال بعض المتكلمين من أصحابنا ، ومن المعتزلة : العلم بحقيقته في الآن حاصل.

ومنهم من منع من ذلك

ثم اختلف القائلون بالمنع في أنه : هل يجوز أن تصير حقيقته معلومة؟ فمنهم من منع أيضا : كالفلاسفة ، وبعض أصحابنا : كالغزالى (٣) ، وإمام الحرمين.

ومنهم من توقف : كالقاضى أبى بكر ، وضرار بن عمرو.

واحتج القائلون بالمنع مطلقا بحجج أربع :

الحجة الأولى : أن حقيقته غير متناهية ، والعقل متناه ، وإدراك غير المتناهى بالمتناهى ؛ محال.

الحجة الثانية : هو أن ذاته وحقيقته مخالفة بذاتها لسائر الحقائق ، والذوات ، وكل ما نعلمه منه : ككونه موجودا ، وعالما ، وقادرا ، ومريدا إلى غير ذلك من الصفات ؛ فغير مانع من وقوع الاشتراك فيها ؛ ولهذا يفتقر بعد معرفة ما له من الصفات إلى بيان وحدانيته ، وإذا كانت ذاته مانعة من وقوع الاشتراك فيها ، وكل ما نعلمه منه غير مانع من وقوع الاشتراك فيه ؛ فذاته غير معلومة.

__________________

(١) انظر المواقف للإيجي ص ٣١٠ ، ٣١١ ، وشرح المقاصد للتفتازانى ٢ / ٩١ ، ٩٢.

(٢) فى ب (فى ذلك).

(٣) الغزالى (٤٥٠ ه‍ ـ ٥٠٥ ه‍)

حجة الإسلام أبو حامد محمد بن محمد بن أحمد الغزالى. متكلم ، فقيه ، أصولى ، صوفى ، مشارك في أنواع من العلوم. كان الآمدي معنيا بنقده ، والرد عليه ، وإذا ذكر رأيه يقول : قال بعض المتأخرين ، ولم يصرح باسمه إلا في هذا الموضع. وقد تتبعت هذه الآراء ، ووضحت نسبتها إلى الغزالى في مواضعها ، (وفيات الأعيان ٣ / ٣٥٣ ومعجم المؤلفين ١١ / ٢٦٦ والأعلام ٧ / ٢٤٧).


الحجة الثالثة : أن طريق معرفة واجب الوجود ، إنما هو وجود الممكنات ، ووجوب إسنادها إلى موجود واجب ؛ قطعا للتسلسل ، والدور ، وليس في ذلك ما يدل على كنه حقيقته ، ومعرفة ماهيته ، وكل ما ندركه منه بعد ذلك ؛ فلا يخرج عن الصفات الخارجة عن الذات : كصفات النفس من العلم ، والقدرة ، ونحوه.

أو الصفات الإضافية : ككونه خالقا ، ومبدأ ، ونحوه. أو الصفات السلبية ، ككونه ليس بجوهر ، ولا جسم ، ولا عرض ، ونحوه. وكل ذلك لا يدل على كنه الحقيقة ؛ فكانت غير / معلومة.

الحجة الرابعة : قوله ـ تعالى ـ : (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) (١).

وأما القائلون بكونها معلومة ؛ فقد احتجوا بأن قالوا :

لا خفاء بجواز الحكم على ذاته بإثبات صفات الكمال ، وسلب صفات النقص ؛ وهذا الحكم فرع تصور المحكوم عليه ؛ فإن ما لا يكون متصورا في العقل لا يكون مصدقا بإثبات حكم له ، أو سلبه عنه.

وعلى هذا : فمن قال إن ذاته غير معلومة ؛ يلزمه من هذا الحكم التصديقى أن تكون ذاته معلومة.

ثم اعترضوا على حجج المذهب الأول :

أما الحجة الأولى : فإنها منقوضة بتعلق العلم بوجوده ؛ فإنه غير متناه. وسواء قلنا هو نفس الذات ، أو زائد عليها. ومع ذلك لم يمنع من تعلق العلم به ، وكذلك سائر صفاته النفسانية ؛ عند المعترف بها.

وأما الحجة الثانية : فقالوا : لا نسلم أن كل ما نعلمه منه غير مانع من وقوع الاشتراك فيه ؛ فإن وجوده معلوم بموافقة الخصم هاهنا ، وبالدليل على ما سبق ؛ وهو مانع من وقوع الاشتراك فيه ، كما سلف في النوع الأول.

وأما الحجة الثالثة : فحاصلها يرجع إلى إبطال مدرك من المدارك.

وليس في ذلك ما يدل على إبطال كل مدرك ، ونفى باقى المدارك بعدم الاطلاع عليها مع البحث عنها ؛ غير يقينى ، كما سبق.

__________________

(١) سورة طه ٢٠ / ١١٠.


كيف : وأنه إذا اعترف بأن الطريق المذكور موصل إلى العلم بوجود واجب الوجود ؛ فقد بينا في النوع الأول : أن ذاته وجوده ، ووجوده ذاته ؛ فإذا كان وجوده معلوما ؛ كانت ذاته معلومة.

وأما الآية : فلا حجة فيها ؛ فإن قوله ـ تعالى ـ : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) (١) : أى من الأمور الغيبية ، والضمير في قوله ـ تعالى ـ : (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) (٢) عائد إلى معلوم الله ـ تعالى ـ مما بين أيديهم ، وما خلفهم من الأمور الغيبية ، لا إلى الله تعالى.

وأما نحن فنقول :

لا شك أنه معلوم الوجود ؛ فإن كان الوجود هو نفس الذات ؛ فالذات معلومة. وإن كان زائدا على الذات ؛ فالحكم بأن وجوده زائد على ذاته ، حكم تصديقى يستدعى تصور المحكوم عليه.

وعلى كلا التقديرين ؛ فيجب أن تكون ذاته متصورة.

ثم تصور الشيء تارة يكون بتصور ذاتياته ، ومقوماته (٣) ، إن كان مركبا.

وتارة بتصور خواصه ، ولوازمه. وسواء كان مركبا ، أو بسيطا ، لكن ذات واجب الوجود بسيطة غير مركبة كما يأتى (٤) ؛ فتصورها لا يكون بالطريق الأول ؛ بل بالثانى.

/ وعلى هذا : فمن قال إنها متصورة بالطريق الثانى ؛ فقد قال حقا. ومن قال إنها غير متصورة بالطريق الأول ؛ فقد قال حقا.

وأما إن وقع النزاع بالنفى ، والإثبات على أحد الطرفين ؛ فالنافى في الطريق الأول : مصيب ، وفي الثانى : مخطئ ، والمثبت بعكسه.

__________________

(١) سورة البقرة ٢ / ٢٥٥.

(٢) سورة طه ٢٠ / ١١٠.

(٣) فى ب (ومعلوماته).

(٤) انظر ل ١٤٢ / أوما بعدها.


المسألة الثانية

في رؤية الله ـ تعالى ـ

وتشتمل على مقدمة وفصلين :

أما المقدمة : فنقول : قد بينا الإدراكات ، ومعناها في مسألة (١) : السمع والبصر لله ـ تعالى ـ فلا بد من الإشارة إلى متعلقاتها من المدركات ، واختلاف المتكلمين فيها ، وما هو المختار.

أما الرؤية : فيصح تعلقها بكل موجود عند أئمتنا ، وأن (٢) المصحح للرؤية الوجود ، على ما يأتى. إلا عبد الله بن سعيد ؛ فإنه نقل عنه أنه قال : لا تتعلق الرؤية بغير القائم بنفسه.

وأما الصفات : فلا تتعلق بها حتى قال : من رأى جسما أسود. فما رأى سواده ؛ بل المرئى : كونه أسود ، وكذلك المسموع ؛ هو المتكلم دون الكلام.

وذهب أكثر المعتزلة : إلى أن المدرك إنما هو الأجسام ، والألوان ، لا غير.

وذهب بعضهم ، وكثير من الكرامية : إلى أن المدرك ليس غير الألوان.

واتفقت المعتزلة : على استحالة رؤية العلوم ، والقدر ، والإرادات ، والروائح ، والطعوم شاهدا ، وغائبا.

واتفق العقلاء : عل استحالة رؤية المعدوم ، غير السّالميّة (٣) ؛ فإنهم جوزوا رؤيته.

__________________

(١) انظر ما سبق ل ٩٩ / أوما بعدها.

(٢) فى ب (فإن).

(٣) السّالميّة :

تنسب هذه الطائفة إلى رجل وابنه ـ أما الرجل : فهو : محمد بن أحمد بن سالم البصرى المتوفى عام ٢٩٧ ه‍.

وأما الابن فهو : أحمد بن محمد بن أحمد بن سالم المتوفى عام ٣٦٠ ه‍ ـ وكانوا يجمعون بين كلام أهل السنة ، وكلام المعتزلة مع ميل إلى التشبيه ، ونزعة صوفية. ومن أشهر المنتسبين إلى هذه الطائفة : أبو طالب المكى صاحب قوت القلوب المتوفى سنة ٣٨٦ ه‍ وتأثر بها كثير من أعلام التصوف في العالم الإسلامى.

أما عن رأيهم في جواز رؤية المعدوم ، فانظر الشامل لإمام الحرمين ص ٥٣٧.

ونشأة الفكر الفلسفى ١ / ٤٠٠ ـ ٤٠٤.


وأما الهواء : فقد اختلفوا في رؤيته.

فمنهم من قال : هو مرئى الآن ليلا ، ونهارا ، كأكثر أصحابنا.

ومنهم من منع ذلك مطلقا : كالمعتزلة.

ومنهم : من جوز ذلك ليلا ، لا نهارا : وكل ما صح أن يرى ؛ فهو مرئى لكل راء ؛ خلافا للقاضى أبى بكر ، وبعض المعتزلة.

أما القاضى : فإنه قال : الرؤية المخلوقة لزيد لا يراها ، ويجوز أن يراها غيره.

وأما بعض المعتزلة : فإنهم قالوا : ذات الله ـ تعالى ـ مرئية له غير مرئية لمن سواه ، وكذلك فناء الجواهر (١) مرئى لله ـ تعالى ـ دون المخلوقين.

ومنهم : من طرد المنع من الرؤية في هاتين الصورتين مطلقا

أما صحة تعلق الرؤية بكل موجود على أصل أصحابنا : فمبنى على أن مصحح (٢) الرؤية (٢) هو الوجود ؛ فإن صح ذلك ـ على ما سيستقصى الكلام فيه في رؤية الله (٣) ـ تعالى ـ فهو الحجة على مذهبهم. وإبطال مذاهب المخالفين في امتناع رؤية بعض الموجودات ، والقائلين برؤية [بعض (٤)] المعدومات.

وعلى هذا فمن قال بالأحوال / من أصحابنا ؛ فلا سبيل إلى كونها مرئية عنده ـ وإن كانت ثابتة ـ ضرورة عدم المصحح لرؤيتها ، وهو الوجود ؛ إذ هى غير موجودة ، ولا معدومة.

والّذي يخص المنكرين رؤية (٥) الألوان ، والصفات : كعبد الله بن سعيد : ما يجده كل عاقل من نفسه من إدراك السواد ، والبياض ، وغير ذلك من الألوان. ولو ساغ إنكار ذلك ؛ لساغ إنكار كل مشاهد مرئى ؛ ولا يخفى ما فيه من المحال.

__________________

(١) فى ب (الجوهر).

(٢) فى ب (المصحح للرؤية).

(٣) انظر ل ١٢٤ / ب وما بعدها.

(٤) ساقط من أ.

(٥) فى ب (من رؤية).


ولعله لم يرد ما هو الظاهر من كلامه ؛ بل لعله أراد به أن الصفات لا تدرك على حيالها عند فرض قيامها بالمحل ؛ بل المحل يدرك على (١) سواده ، وبياضه.

والّذي يخص إبطال مذهب من يرى أن المرئى ليس غير الألوان (٢) أمور ثلاثة :

الأول : أن كل عاقل يعلم من نفسه رؤية أشكال الأجسام ، ومقاديرها. كما يعلم من نفسه رؤية ألوانها. ولو ساغ إنكار ذلك ؛ لساغ إنكار رؤية الألوان ؛ لعدم الفرق.

الثانى : أنا ندرك بالضرورة كون الأجسام في بعض الجهات دون البعض ؛ وليس ذلك من الألوان في شيء.

الثالث : هو أنا ندرك وجود الأجسام المقبلة على بعد ، ولا ندرك ألوانها إلا على قرب ؛ والمدرك غير ما ليس بمدرك.

وأما أن الهواء مرئى : فلا يخفى جوازه إن صح أن المصحح للرؤية هو الوجود ؛ إذ هو موجود.

وأما أنه مرئى في وقتنا هذا : فقد استدل عليه بما نراه من اختلاف الأحوال عند طلوع الشمس ، وغروبها ، وانبساط شعاع الشمس على الأرض ، وتقلص الظل إلى ما قبل (٣) الزوال ، وازدياد الفيء فيما بعد الزوال ؛ مع بقاء الأرض على لونها في جميع الأحوال.

وإذا ثبت اختلاف الألوان في هذه الأحوال ، وتعذر عوده إلى لون الأرض ؛ لبقائها مع اختلاف الأحوال على ما هى عليه من اللون المرئى لنا ؛ تعين عوده إلى الهواء. وعلى حسب شروق النير على الهواء وغروبه. يرى الهواء تارة مضيئا ، وتارة مظلما. وهذا دليل على أن لون الهواء لذاته (٤) أسود مظلم ، وما له من الإضاءة ؛ إنما هو بسبب شروق الشمس عليه ، أو غيرها من النيرات.

__________________

(١) ساقط من ب.

(٢) هم الكرامية وبعض المعتزلة.

(٣) فى ب (وقت).

(٤) فى ب (بذاته).


ولقائل أن يقول :

لا مانع أن يقال : بأن ما نراه من الألوان عند انبساط الشمس على وجه الأرض ، ونقصان الظل ، وتقلص الشمس ، وازدياد الفيء ؛ إنما هو لون تكتسبه الأرض بسبب انبساط الشمس ، وتقلصها غير ما لها من اللون (١) فى نفسها ، لا (٢) أنه لون الهواء.

ثم وإن سلم أنه لون / الهواء ؛ ولكن لا نسلم أنه يلزم من رؤية لون الشيء ؛ رؤية ذلك الشيء على ما ذهب إليه بعض أصحابنا. وإن خالف فيه أكثر المعتزلة ، وكثير من أصحابنا. ولعله الأظهر على أصول أصحابنا. نظرا إلى أن المصحح للرؤية إنما هو الوجود ؛ واللون موجود ؛ فلا يتوقف في رؤيته على رؤية محله.

وربما عضد من نفى رؤية الهواء : بأنه لو كان مرئيا ؛ لميز الرائى بين الراكد منه والجارى : كالماء ؛ واللازم ممتنع.

وأيضا : فإنه لو كان مرئيا ، لما خالف فيه قوم لا يتصور على مثلهم التواطؤ على الكذب ، والخطأ.

وقد خالف في ذلك أكثر المعتزلة و (أكثر (٣)) أهل الحق من المتكلمين ؛ وهم قوم لا يحصرهم عدد ، ولا يتصور من (٤) مثلهم (٤) التواطؤ على الخطأ عادة ؛ بخلاف السوفسطائية.

وأما حجة من احتج على رؤية الهواء ليلا ؛ فما نراه عليه من السواد ، والظلمة ؛ وإليه ميل القاضى أبى بكر.

ولقائل أن يقول :

إنا (٥) لا نسلم رؤية الشيء في الليل المدلهم. ولهذا فإن الإنسان لا يجد تفرقة في الليل المدلهم بين حالة كونه مغمض العين ، وبين حالة فتحها ؛ وهو غير راء حالة

__________________

(١) فى ب (الألوان).

(٢) فى ب (إلا أنها).

(٣) ساقط من أ.

(٤) فى ب (منهم).

(٥) ساقط من ب.


تغميض العين ؛ فكذلك حالة فتحها. ولو (١) كان رائيا في إحدى الحالتين دون الأخرى ؛ لأحس بالفرق ضرورة ؛ هذا ما يتعلق بالرؤية.

وأما باقى الإدراكات : فعلى أصل الشيخ (٢) أبى الحسن أن المصحح للإدراك هو الوجود. فكما أن الرؤية عامة لكل موجود ؛ فكذلك كل إدراك يعم كل موجود.

وذهب عبد الله بن سعيد ، والقلانسى (٣) ، وكثير من أصحابنا : إلى أن باقى الإدراكات لا تعم كل موجود ؛ بل إدراك السمع يختص بالأصوات ، والشم بالروائح ، والذوق بالطعوم ، واللمس بالحرارة ، والبرودة ، والرطوبة ، واليبوسة ، وما يتركب من هذه الكيفيات الملموسة ؛ مصيرا منهم إلى أنه لا علة جامعة بين جميع المرئيات على وجه يطرد ، وينعكس غير الوجود.

وأما في إدراك السمع فقالوا : العلة المصححة له الجامعة لجميع أنواع المسموعات على وجه يطرد ، وينعكس ؛ إنما هو الصوت وفي إدراك الشّم الرائحة ، وفي إدراك الذوق الطعم. وفي إدراك اللمس ؛ الكيفية الملموسة. وهو ظاهر بين ؛ ولعله الأظهر.

وربما قيل في تحقيق الفرق بين الرؤية ، وباقى الإدراكات : أن الرؤية لا تستدعى اتصال المرئى بالمدرك بخلاف باقى الإدراكات ؛ فإنها / لا تتم دون اتصال المدرك بالمدرك ؛ فلذلك خصت ولم تعم.

وقد أجاب عنه بعض الأصحاب : بأن الاتصال في باقى الإدراكات غير معتبر.

أما الطعم : فلأن من دلّك أسفل قدميه بالحنظل مرارا ؛ أحس بالمرارة في حلقه مع عدم الاتصال.

وأما في الرائحة : فما نراه (٤) من شم المسك الأزفر على بعد من غير اتصال.

__________________

(١) فى ب (فلو).

(٢) فى ب (شيخنا).

(٣) القلانسى : ت في حدود سنة ٣٣٥ ه‍ أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن بن خالد القلانسى ، من متكلمى أهل السنة في القرن الثالث ، وزادت تصانيفه في الكلام على مائة وخمسين كتابا ، وقد تأثر بابن كلاب ، وصار على نهجه ، وهو من الأعضاء البارزين في المدرسة الكلابية التى تأثر بها الإمام الأشعرى.

(انظر الملل والنحل ١ / ٩٣ وتبيين كذب المفترى ٣٩٨ ونشأة الفكر الفلسفى ١ / ٣٧٤ ـ ٣٨٤).

(٤) فى ب (نجده).


وأما فى الملموسات : فما نجده من الحس بحرارة النار عند القرب منها ، وبرد الثلج عند القرب منه من غير اتصال.

وهو غير سديد ؛ إذ أمكن أن يقال : سبب الذوق ؛ إنما هو نفوذ طعم الحنظل في المسام البدنية إلى الحلق. وفي الشم بسبب ما يحمله الهواء من الأجزاء اللطيفة من ذى الرائحة إلى المشم ، حتى إنه لو كان المشموم في شيء لا مساس فيه ، وهو مسدود سدا مهندما ؛ لما أدركت رائحته ، أو أن ذلك بسبب خلق الله ـ تعالى ـ الرائحة في الهواء المجاور لذى الرائحة الواصل إلى المدرك ، وكذلك فإن المدرك حره ، وبرده عند القرب من النار ، والثلج ؛ إنما هو حر الهواء المسخن بالنار ، وبرد الهواء المبرد بالثلج ؛ بل الأقرب في دفع ما قيل من الفرق أنه وإن وجد الإدراك لهذه الأمور عند الاتصالات ؛ فليس إلا بحكم جرى العادة.

وأما أن يكون ذلك شرطا في الإدراك فلا. على ما بيناه في مسألة السمع والبصر [لله (١) تعالى (١)].

ثم ما ذكروه وإن كان ظاهرا في الإدراك بالذوق (٢) ، واللمس (٢) ؛ فغير ظاهر في السمع والشم.

وعلى هذا فإن قلنا بتعلق كل إدراك بكل موجود على ما هو مذهب الشيخ أبى الحسن الأشعرى ؛ فليس ذلك مما يوجب اتحاد الإدراك كما في العلم ؛ إذ ليست جهة التعلق في الكل واحدة ؛ بل مختلفة على ما يجده كل عاقل من نفسه عند إدراكه للشىء بالسمع ، والبصر ، وغير ذلك من الإدراكات. وهذا بخلاف العلم ؛ فإن جهة تعلقه بجميع المعلومات واحدة ؛ وهو معرفة المعلوم على ما هو عليه ، وذلك مما لا يختلف فيه تعلق العلم بالشيء وضده ؛ فلذلك كانت الإدراكات مختلفة دون العلم. واتحاد المتعلق ؛ مع اختلاف جهة التعلق ؛ لا يوجب اتحاد الإدراكات بدليل العلم ، والقدرة ، والإرادة ؛ فإنها لما اختلفت جهة تعلقها ؛ كانت مختلفة. وإن كان متعلقها واحدا ، ومما يتصل بهذه المقدمة إدراك الأكوان باللمس.

__________________

(١) ساقط من أ.

(٢) فى ب (باللمس والذوق).


وقد اختلف فيه أصحابنا : فأنكره بعضهم ، وأوجبه آخرون / ؛ وهو الأظهر ؛ فإن كل عاقل يجد من نفسه إدراك الجسم متحركا ، وساكنا ومجتمعا ، ومفترقا باللمس ؛ وإن كان مغمض العين.

وإذا عرفت الإدراكات ، ومتعلقاتها ؛ فالإدراك الحادث هل يتعلق بمدركين ، أو لا يتعلق إلا بمدرك واحد؟ وأن الإدراكين المتعلقين بمدركين مختلفين ، مختلفان. وأن الإدراكات المختلفة هل تقوم بمحل واحد؟ وأنه هل يتصور إدراك بلا مدرك؟ فالكلام فيه على ما سبق في العلوم.


الفصل الأول

في جواز رؤية الله ـ تعالى ـ عقلا

والّذي عليه إجماع الأئمة من أصحابنا (١) أن رؤية الله ـ تعالى ـ غير ممتنعة عقلا ؛ بل [هى (٢)] جائزة في الدنيا ، والأخرى ، وهل الرؤية في الدنيا جائزة سمعا؟. فمما اختلف فيه.

فجوزه بعض مثبتى الرؤية ؛ وأنكره آخرون.

وذهب بعض من أثبت جواز الرؤية إلى امتناعها في الدنيا. وهل يجوز إطلاق القول بأن الله ـ تعالى ـ يجوز أن يكون مدركا؟

فذهب القلانسى ، وعبد الله بن سعيد : إلى المنع من ذلك ، وجوزه باقى أصحابنا ، وهل يجوز أن يرى في المنام؟ فجوزه بعض المثبتة للرؤية ، وأنكره آخرون.

والحق أنه لا مانع من هذه الرؤية ، وإن لم تكن رؤية حقيقية. ولا خلاف بين أصحابنا أن الله ـ تعالى ـ يرى نفسه وجوبا.

وأما المعتزلة (٣) ، والخوارج ، وجماعة من الرافضة : فقد أجمعوا على امتناع رؤية البارى عقلا لذوى الحواس ، واختلفوا في رؤية الله ـ تعالى ـ لنفسه. فذهب الأكثرون إلى المنع من ذلك ، وجوزه الأقلون.

__________________

(١) من كتب الأشاعرة المتقدمين على الآمدي انظر ما يأتى :

اللمع للأشعرى ص ٦١ ـ ٦٨ والإبانة ص ١٢ ـ ١٩ له أيضا

والإنصاف للباقلانى ص ١٧٦ ـ ١٩٣

وأصول الدين للبغدادى ص ٩٧ ـ ١٠٢ والإرشاد لإمام الحرمين ص ١٦٦ ـ ١٨٦ واللمع له أيضا ص ١٠١ ـ ١٠٥ والاقتصاد للغزالى ص ٣٠ ـ ٣٦ ونهاية الأقدام للشهرستانى ص ٣٥٦ ـ ٣٦٩ والمحصل للرازى ص ١٣٦ ـ ١٣٩ ومعالم أصول الدين له أيضا ص ٥٩ ـ ٦٧.

ومن كتب الآمدي انظر : غاية المرام ص ١٥٩ ـ ١٧٨.

ومن الكتب المتأخرة التى تأثر أصحابها بالآمدي :

انظر شرح الطوالع ص ١٨٥ ـ ١٨٩ والمواقف للإيجي ص ٢٩٩ ـ ٣١٠

وشرح المقاصد ٢ / ٨٢ ـ ٩١.

(٢) ساقط من أ.

(٣) عن موقف المعتزلة من الرؤية ونفيهم لها : انظر المغنى ، الجزء الرابع ، حيث يخصص القاضى عبد الجبار معظمه للكلام عن رؤية البارى من ص ٣٣ ـ ٢٤٠ وانظر أيضا شرح الأصول الخمسة له ص ٢٣٢ ـ ٢٧٧ والمحيط بالتكليف له أيضا ص ٢٠٨ ـ ٢١٣.


وقد احتج المثبتون لجواز الرؤية بحجج عقلية ، وسمعية.

أما الحجج العقلية فأربع :

الحجة الأولى : وهى معتمد القاضى أبى بكر (١) ، وأكثر الأئمة.

وها نحن نذكرها بزيادة تحرير ، وتقرير ؛ فنقول : قد بينا في المقدمة أن الأجسام والألوان مرئية ؛ فالأجسام ، والألوان مشتركة في صحة تعلق الرؤية بها ، وصحة تعلق الرؤية بها يستدعى مصححا.

وإنما قلنا ذلك ؛ لأنه لو كانت الأجسام معدومة ؛ لاستحال أن تكون مرئية ، ومدركة بالاتفاق منا ، ومن المعتزلة ، ومن كل محصل ؛ فحيث استحال تعلق الرؤية بها حال عدمها ، وصح مع وجودها ؛ لزم أن يكون ذلك المخصص ، وإلا لعم الحكم نفيا ، أو إثباتا ؛ وذلك المخصص هو المعنى بالمصحح.

ولا يخفى أن بين الأجسام والألوان اتفاقا ، وافتراقا ؛ فالمصحح : إما أن يكون ما به الاتفاق ، / أو ما به الافتراق ، أو مجموع الأمرين.

لا جائز أن يكون المصحح [للرؤية (٢)] ما به الافتراق ، أو ما به الاتفاق والافتراق معا ؛ وإلا كان الحكم الواحد المشترك بين المختلفات ؛ معللا بعلل مختلفة ؛ وهو محال.

وذلك لأن كل واحدة من العلتين : إما أن تستقل بالتصحيح ، أو إحداهما دون الأخرى ، أو أنه لا استقلال لكل واحدة منهما.

فإن كان الأول : فلا معنى لكون العلة مستقلة بالتصحيح إلا أنها هى المصححة دون غيرها ، فإذا قيل كل واحدة مستقلة بالتصحيح ؛ لزم منه عدم استقلال كل واحدة منهما.

__________________

(١) قارن ما أورده الآمدي هنا بما أورده في غاية المرام ل ٦٥ / أوانظر ما أورده الشهرستانى في نهاية الأقدام ص ٣٥٧ ، ٣٥٨ حيث يذكر هذه الحجة مقدما لها بقوله : قالت الأشعرية : ثم يفصل القول فيها. ثم يخلص في النهاية إلى عدم الثقة بالأدلة العقلية في هذه المسألة قائلا : (واعلم أن هذه المسألة سمعية أما وجوب الرؤية ، فلا شك في كونها سمعية. وأما جواز الرؤية فالمسلك العقلى ما ذكرناه ، وقد وردت عليه تلك الإشكالات ...

فالأولى بنا أن نجعل الجواز أيضا مسألة سمعية). نهاية الأقدام ص ٣٦٩.

(٢) ساقط من أ.


وإن كان الثانى : فالمصحح أحد العلتين دون الأخرى ، ثم يلزم منه صحة الرؤية في المحل المختص بتلك العلة ، وعدم صحة (١) الرؤية (١) فى المحل الّذي لم توجد فيه تلك العلة ؛ وهو محال.

وإن كان الثالث : فيلزم منه امتناع صحة الرؤية لكل واحد من المحلين المختلفين ؛ ضرورة عدم استقلال ما اختص به بالتصحيح (٢) ؛ فلم يبق إلا أن يكون المصحح ما به الاتفاق لا غير. وما به الاتفاق : إما أن يكون عدما ، أو وجودا.

لا جائز أن يكون المصحح ما به الاتفاق من الأعدام ، والسلوب لوجهين :

الأول : أن العدم لا يصلح أن يكون علة موجبة لصحة الرؤية ؛ فإن كون العلة موجبة صفة إثبات للعلة ، والعدم المحض لا يتصف بالصفات الإثباتية ؛ فلم يبق إلا أن تكون العلة المصححة وجودية.

الثانى : [أن (٣)] العدم لا اختصاص له بمحل دون محل. ويلزم من ذلك أن يكون مصححا للرؤية بالنسبة إلى كل محل مجهول ؛ وهو محال.

وما به الاتفاق بين الأجسام والألوان من الصفات العامة الوجودية ، ليس إلا الوجود ، والحدوث.

والحدوث لا يجوز أن يكون هو المصحح لثلاثة أوجه :

الأول : أنه يصح رؤية الأجسام في حال بقائها ، ولا حدوث في حالة البقاء.

الثانى : أنه لا معنى للحدوث ، إلا سبق الوجود بالعدم. أى أنه لم يكن ؛ فكان ، أو أنه مما لا يتم وجوده بنفسه ، وهذه أعدام ، والعدم لا يكون علة على (٤) ما تقدم (٤) ، ولا جزء من العلة ؛ لأن جزء العلة لا بدّ وأن يكون مؤثرا مع الجزء الآخر. والتأثير صفة إثبات ؛ فلا يكون صفة للعدم المحض.

__________________

(١) فى ب (الصحة).

(٢) فى ب (من التصحيح).

(٣) ساقط من أ.

(٤) فى ب (على ما سبق).


الثالث : أنه لو كان المصحح هو الحدوث ؛ فيلزم على أصول المعتزلة صحة رؤية العلوم ، والقدر ، والإرادات (١). وكذلك (١) الطعوم ، والروائح ؛ / لكونها حادثة ؛ وهو خلاف أصولهم (٢) ؛ فلم يبق إلا أن يكون المصحح هو الوجود ، والوجود متحقق في حق الله ـ تعالى ـ ويلزم من ذلك صحة الرؤية عليه ؛ ضرورة وجود المصحح.

فإن قيل : لا نسلم اشتراك الأجسام والألوان في صحة الرؤية ، وما المانع من أن يقال : الألوان غير مرئية؟ كما هو مذهب عبد الله بن سعيد من أصحابكم ؛ حيث ذهب إلى أنه لا يرى غير القائم بنفسه ، أو أن الجسم غير مرئى ؛ كما هو مذهب بعض المعتزلة ، وأكثر الكرامية؟

قولكم : فى المقدمة : إنا لا نشك في رؤية أشكال الأجسام ، ومقاديرها وكونها في بعض الجهات دون البعض ؛ فغايته أنه دليل على أن المدرك عرض آخر ؛ وليس في ذلك ما يدل على كون الجسم مرئيا.

سلمنا صحة رؤية الأجسام والألوان ؛ ولكن لا نسلم أن صحة الرؤية أمر ثبوتى ؛ وما ليس بثبوتى ؛ فلا يحتاج إلى التعليل.

أما أن الصحة ليست أمرا ثبوتيا ؛ فلأنه لا معنى لصحة الرؤية إلا إمكان الرؤية. والإمكان ليس بثبوتى ؛ وبيانه من ثلاثة أوجه :

الأول : أن الإمكان نقيضه لا إمكان ، [ولا (٣) إمكان (٣)] عدم لصحة اتصاف العدم الممكن به ، ولو كان صفة ثبوتية ؛ لكان صفة للعدم المحض ، والنفى الصرف ؛ وهو محال.

الثانى : هو أن الحادث قبل حدوثه متصف بالإمكان ، فلو كان الإمكان صفة وجودية : فإما أن يكون صفة للحادث ، أو لغيره.

لا جائز أن يكون صفة للحادث ؛ وإلا كانت الصفة الوجودية لما ليس بموجود.

__________________

(١) فى ب (والإدراكات).

(٢) فى ب (أصلهم).

(٣) فى أ (والإمكان).


ولا جائز أن يكون صفة لغير الحادث ؛ وإلا لما وصف الحادث به. كما لا يوصف المحل بكونه أسود بسواد قائم بغيره.

الثالث : أنه لو كان الإمكان صفة وجودية : فإما أن يكون واجبا لذاته ، أو ممتنعا لذاته ، أو ممكنا لذاته.

لا جائز أن يكون واجبا لذاته : وإلا لما كان صفة لغيره.

ولا جائز أن يكون ممكنا ، وإلا كان ممكنا بإمكان آخر ؛ ولزم التسلسل. فلم يبق إلا أن يكون ممتنع الوجود لذاته ؛ وهو المطلوب.

وإذا ثبت أن صحة الرؤية ليس أمرا ثبوتيا ؛ فما ليس بثبوتى لا يفتقر إلى علة ؛ لأن العلة : إما وجودية ، أو عدمية.

فإن كانت وجودية : فإما قديمة ، أو حادثة.

فإن كانت قديمة ؛ فهو ممتنع ؛ لأن القديم لا تخصص له بعدم دون عدم ؛ فيجب أن يكون علة لكل معدوم ، وأن لا يزول الإعدام أبدا ؛ ضرورة أن العلة الموجبة / لها موجودة قديمة ، وأن القديم الموجود لا يزول كما يأتى تحقيقه ، وأنه يلزم من دوام العلة دوام معلولها.

وإن كانت العلة الموجودة حادثة ؛ فهو محال ؛ لأن العدم الّذي هو معلولها سابق عليها ؛ والمعلول لا يسبق العلة. وإن كانت العلة عدمية ؛ فهو ممتنع لثلاثة أوجه :

الأول ، والثانى : ما سبق في تقرير الدليل.

والثالث : أن الأعدام من حيث هى أعدام متساوية ، بخلاف الذوات الموجودة ، فلو كان العدم علة للعدم ؛ لكان أحد المتساويين علة للآخر ؛ وليس هو أولى من العكس.

سلمنا أن صحة الرؤية أمر ثبوتى ؛ ولكن لا نسلم أن كل أمر ثبوتى لشيء يجب أن يكون معللا.

قولكم : إنه (١) لو كانت الأجسام ، والألوان معدومة استحال (٢) أن تكون مرئية. لا

__________________

(١) ساقط من ب

(٢) فى ب (لاستحالة).


نسلم ذلك ، وما (١) المانع من كون المعدوم مرئيا كما ذهب إليه السالمية (١)؟ ولا سيما (٢) على أصلكم من حيث أن الإدراك نوع من العلم والمعدوم معلوم ؛ فلا يمتنع تعلق الإدراك به.

سلمنا استحالة رؤية المعدوم ؛ ولكن لم قلتم إن رؤية الأجسام ، والألوان معللة؟

قولكم : لو لم يختص بمعنى توجب صحة رؤيتها ، لما اختصت بالرؤية بل عم الحكم نفيا ، أو إثباتا.

قلنا : هذا منتقض بصور.

الصورة الأولى : أن اختصاص محل الحكم بالعلّة ، أمر زائد على المحل ، وعلى نفس العلة ، ومع ذلك فإنه لا يستدعى مخصصا آخر ، وإلا لتسلسل الأمر إلى غير النهاية ؛ وهو محال.

الصورة الثانية : أن اختصاص العلة بكونها علة للحكم أمر زائد عليها ، وعلى المعلول أيضا ، ومع ذلك فلا يستدعى مخصصا نفيا للتسلسل.

الصورة الثالثة : أن المعلومية ، والمذكورية حكم زائد على ذات المذكور والمعلوم ، وليس بمعلل ؛ لأنه يعم الوجود ، والعدم ؛ فلو كان معللا : فإما أن يعلل بصفة إثبات ، أو نفى.

فإن علل بصفة إثبات : انتقض بكون المعدوم معلوما ، ومذكورا.

وإن علل بصفة عدم : انتقض بكون الموجود معلوما ، ومذكورا.

كيف وأن العدم لا يصلح أن يكون علة على ما تقدم ، وكذلك الكلام في المقدور ، والمراد أيضا (٣).

الصورة الرابعة : أن اختصاص المحل (٤) بالسواد ، والبياض (٤) ، وغير ذلك من الأعراض صفة إثباتية زائدة / على ذات المحل ، وقد اختص به عما ليس بذى سواد ، ولا بياض ، ومع ذلك فإنه غير معلل ؛ وإلا لزم التسلسل.

__________________

(١) مكررة في أل ١٢٦ / ب س ٩.

(٢) فى ب (وسيما).

(٣) ساقط من ب.

(٤) فى ب (بالبياض والسواد).


الصورة الخامسة : هو (١) أن وقوع الفعل من الفاعل ، لا يكون معللا ، وإن كان زائدا على ذات الفاعل ؛ لأنه لو كان معللا : فإما أن يعلل بذات الفاعل ، أو بصفة لازمة لذاته ، أو بما سوى ذلك.

فإن كان الأول ، والثانى : لزم أن لا يتأخر وقوع الفعل عن ذات الفاعل ، حتى لا يتأخر الحكم على علته ، كما لا يتأخر كون الأسود ، أسود عن سواده.

وإن كان الثالث : فإما أن يكون قديما ، أو حادثا.

فإن كان قديما : فهو ممتنع ؛ لما تحقق (٢) فى القسم الّذي قبله.

وإن كان حادثا : فهو أيضا فعل ، ويفتقر في وقوعه إلى علة أخرى ، والكلام في تلك العلة ؛ كالكلام في الأولى ؛ وهو تسلسل ممتنع.

الصورة السادسة : التماثل ، والاختلاف ؛ فإنه وإن كان حالا زائدا (أبدا (٣)) ؛ فهو غير معلل على ما يأتى في العلل ، والمعلولات (٤).

فإذن قد انقسمت الأحكام ، والأحوال الزائدة : إلى ما يعلل ، وإلى ما لا يعلل ؛ فلم قلتم بأن ما نحن فيه مما يجب تعليله؟

سلمنا أن صحة الرؤية من الأحوال المعللة ؛ ولكن لم قلتم بامتناع التعليل بما به الافتراق بين الأجسام ، والألوان؟

قولكم : يلزم منه تعليل الحكم الواحد بعلل مختلفة ، إنما يلزم أن لو كانت صحة رؤية الجسم ، واللون ؛ حكمين متماثلين. ولا نسلم إمكان التماثل بين شيئين (٥) أصلا ؛ فإن كل شيئين لا بدّ من التغاير بينهما بوجه من وجوه التغاير والتمايز ، [وما به (٦) التمايز (٦)] ، لا بدّ وأن يكون مختلفا ، ولا تماثل مع الاختلاف من وجه.

سلمنا إمكان التماثل في الجملة ؛ ولكن لا نسلم مماثلة صحة رؤية الجسم ؛ لصحة رؤية اللون.

__________________

(١) ساقط من ب.

(٢) فى ب (تقدم).

(٣) ساقط من أ.

(٤) انظر الجزء الثانى ـ الباب الثالث ـ الأصل الثانى : فى تحقيق معنى العلل والمعلولات ل ١١٧ / ب وما بعدها.

(٥) فى ب (الشيئين).

(٦) ساقط من أ.


وبيانه : أن المثلين عبارة عن كل شيئين يسد أحدهما مسد الآخر فيما يجب ، ويجوز من الصفات ، أو ما يشتركان فيما لكل واحد من الواجبات ، والجائزات ، والممتنعات (١) عليه.

وصحة رؤية الجسم واللون ، ليس كذلك ؛ فإن رؤية كل واحد [منهما (٢)] لا تقوم مقام رؤية (٣) الآخر ، ولا تسد مسده (٤) ؛ فإن رؤية الجسم ليست رؤية اللون ، ولا رؤية اللون ، رؤية الجسم ؛ فلا تماثل.

سلمنا التماثل بينهما ؛ ولكن من وجه ، أو من كل وجه.

الأول : مسلم. والثانى : ممنوع. وتقريره / ما سبق قبله.

سلمنا التماثل من كل وجه ؛ ولكن لا نسلم امتناع تعليل الحكم الواحد بالعلل المختلفة ، وما به الافتراق. وما ذكرتموه من الدليل على امتناع تعليل الحكم الواحد بعلتين مختلفتين ؛ فهو منتقض من خمسة أوجه :

الأول : أن الحقائق المتفقة بالجنسية ، المختلفة بالنوعية ؛ لا تتم حقيقة كل واحد منها دون ما به الاتفاق ، والافتراق.

وعند ذلك : فإما أن يكون بين ما به الاتفاق والافتراق ، في كل واحد من الأنواع المختلفة تحت الجنس الواحد ملازمة ، أو لا ملازمة بينهما أصلا.

لا جائز أن يقال بعدم الملازمة : وإلا لجاز الانفكاك ، وخرج كل نوع عن حقيقته ؛ وخروج الشيء عن حقيقته محال.

وإن كان بينهما ملازمة ؛ فلا جائز أن يقال : بأن ما به الاتفاق مستلزم لما به الافتراق في كل واحد من الأنواع ، وإلا كان ما اختص بكل واحد من الأنواع مجتمعا في كل واحد من الأنواع ؛ ضرورة اتحاد المستلزم في الكل ؛ وذلك (٥) محال ؛ فلم يبق إلا أن يكون ما به الافتراق مستلزما لما به الاتفاق ؛ وفيه تعليل المتحد بالمختلف.

__________________

(١) فى ب (والمختلفات) ،

(٢) ساقط من أ.

(٣) فى ب (الأخرى).

(٤) فى ب (مسدها).

(٥) ساقط من ب.


الثانى : هو أن عالمية الله ـ تعالى ـ بالسواد مثلا ؛ مماثلة لعالمية الواحد منا به ، وعالمية الله ـ تعالى ـ عندكم معللة بعلمه القديم. وعالمية الواحد منا ، معللة بالعلم الحادث ، ولا مماثلة بين العلم القديم ، والحادث ؛ وفيه تعليل المتحد ، بالمختلف.

الثالث : هو أن الاختلاف مشترك بين المختلفات ؛ فإن كل واحد من المختلفين مخالف للآخر ، ومخالفته للآخر : إما لذاته ، أو للازم ذاته ؛ وفيه تعليل المتفق بالمختلف.

الرابع : هو أن الكذب ، والجهل متفقان في صفة القبح ، وقبح (١) كل واحد منهما (١) لذاته ، أو للازم ذاته ؛ وهما مختلفان مع الاقتضاء لحكم واحد.

الخامس : أن السواد ، والبياض متفقان في اللونية ، ومختلفان في السوادية والبياضية. وقد اتفقا في الافتقار إلى محل (٢) يقومان به ؛ وهو حكم واحد.

وعند ذلك : فإما أن يكون كل واحد من السواد والبياض ، مفتقرا إلى المحل من جهة ما به الاتفاق من اللونية ، أو من جهة ما به الافتراق من السوادية ، والبياضية ، أو من الجهتين.

لا جائز أن يقال بالأول فقط ، وإلا كان السواد ، والبياض من جهة سواديته ، وبياضيته / مستغنيا عن المحل ؛ وهو محال.

فلم يبق إلا الثانى ، والثالث ؛ وفيه تعليل المتفق بالمختلف.

سلمنا أنه لا بدّ من اتحاد العلة ؛ ولكن لا نسلم أن مسمى الوجود واحد مشترك فيه بين الأجسام والألوان ؛ إذ الوجود هو نفس الموجود على ما سيأتى في مسألة المعدوم (٣) ، ولا سيما على أصلكم ، والموجودات مختلفة بذواتها ؛ فلا اتحاد.

سلمنا أن مسمى الوجود واحد ؛ ولكن لم قلتم إنه هو المصحح؟

__________________

(١) فى ب (وصفة كل واحد منها).

(٢) فى ب (المحل الّذي).

(٣) انظر الجزء الثانى ـ الباب الثانى : فى المعدوم وأحكامه ل ١٠٦ / ب.


قولكم : لا مشترك غير الوجود ، والحدوث ؛ لا نسلم [ذلك (١)]. والبحث ، والسبر مع عدم الاطلاع على غيره بما لا يوجب العلم بعدمه ؛ بل غايته عدم العلم به ، أو غلبة الظن بعدمه ، ولا يلزم أن يكون الغير معدوما في نفسه ؛ كما سبق في تحقيق الدليل (٢).

سلمنا أن البحث حجة ؛ ولكن مع الاطلاع على شيء آخر ، أو لا مع الاطلاع الأول : ممنوع. والثانى : مسلم.

وبيان وجود أمر آخر من الأوصاف العامة من ثلاثة أوجه :

الأول : هو أن الاشتراك متحقق في صفة الإمكان. وهو إما أن يكون وجوديا ، أو عدميا.

فإن كان وجوديا : فأمكن أن يكون هو العلة.

وإن كان عدميا : فصحة الرؤية تكون عدمية ؛ إذ الصحة هى الإمكان كما تقدم.

وعند ذلك : فيلزم منه أن لا تكون معللة ، أو أن يصح تعليلها بأمر عدمى.

الثانى : هو أن ما يسلم الخصم كونه مرئيا ؛ إنما هو الأجسام ، والألوان ، والألوان أعراض. والجسم : فعبارة عما تألف من جوهرين فصاعدا على أصلكم ، أو من ستة جواهر ، أو ثمانية على أصل المعتزلة ؛ فالتأليف داخل في مسمى الجسم ، أو ملازم له ؛ وهو عرض مشارك للألوان في صفة العرضية ، فلا يمتنع أن يكون هو العلة. وهذان الوصفان لا تحقق لهما بالنسبة إلى الله تعالى.

الثالث : الاشتراك في المعلومية ، والمقدورية ، والمذكورية.

سلمنا أنه لا مشترك في الأوصاف غير (٣) الوجود ، والحدوث ؛ ولكن لم قلتم الحدوث ليس بعلة؟

قولكم : الحدوث عبارة عن سبق الوجود بالعدم ، والعدم الداخل في مفهوم الحدوث لا يكون علة ؛ لا نسلم أن العدم السابق داخل في مفهوم الحدوث ؛ بل هو عارض للحدوث.

__________________

(١) ساقط من أ.

(٢) انظر ل ٣٩ / ب.

(٣) فى ب (إلا).


سلمنا امتناع التعليل بالحدوث ؛ ولكن لا يلزم منه أن يكون الوجود علة مصححة للرؤية ؛ لأن الوجود المشترك عند القائل به حال ؛ والحال لا (١) يصح أن تكون (١) علة على أصلكم.

سلمنا إمكان التعليل بالوجود ، ولكن مشروطا / بالحدوث ، أو لا مشروطا بالحدوث (٢). الأول : مسلم. والثانى : ممنوع.

والحدوث وإن كان عدما ، فلا يمتنع أن يكون شرطا في الصحة ؛ فإن انتفاء أحد الضدين عن المحل شرط لصحة اتصاف المحل بالضد الآخر ، وإن لم يكن علة له.

سلمنا أنه غير مشروط بالحدوث ؛ ولكن إنما يصح التعليل بالوجود أن لو لم يدل الدليل على امتناعه.

وبيان امتناع التعليل به هو أنه لا يخلو : إما أن يكون علة لرؤية نفس الوجود ، أو للماهية التى هو صفة لها لا غير ، أو لمجموع الأمرين.

فإن كان الأول : وجب أن لا يكون المدرك من السواد ، والبياض غير الوجود المشترك بينهما ، وأن لا يدرك التفرقة بينهما ؛ وهو محال.

وإن كان الثانى : وجب أن لا يكون البارى ـ تعالى ـ مرئيا ؛ إذ لا ماهية له خارجة عن وجوده ، كما سبق.

وإن كان الثالث : فيلزم (٣) منه أنا إذا رأينا السواد مثلا : أن ندرك التفرقة بالبصر بين وجوده ، وماهيته ؛ وهو محال.

وأيضا : فإنه لو كان الوجود هو المصحح للرؤية ؛ لكانت (٤) الطعوم ، والروائح مرئية ؛ لكونها موجودة ؛ والضرورة تشهد بخلافه.

__________________

(١) فى ب (لا تكون).

(٢) فى ب (به).

(٣) ساقط من ب.

(٤) فى ب (لما كانت).


سلمنا أن الوجود هو المصحح لرؤية الألوان ، والأجسام فقط ؛ ولكن إنما يلزم منه (١) صحة رؤية (١) البارى ـ تعالى ـ أن لو كان وجوده مماثلا لوجود الممكنات ؛ وليس كذلك ، وإلا لكان ما ثبت لأحدهما ثابتا للآخر.

ويلزم من ذلك أن يكون وجود الرب تعالى ممكنا ، أو أن يكون وجود الممكنات واجبا ، أو أن يكون كل واحد منهما واجبا ، وممكنا ؛ وهو محال.

سلمنا أن مسمى وجود واجب الوجود ، مماثلا لوجود الممكنات ؛ ولكن لا نسلم أنه يلزم من وجود المصحح ، وجود الصحة في حق البارى ـ تعالى ـ ؛ لجواز أن لا يكون قابلا لها ؛ وذلك لأن الحكم كما يتوقف على وجود المصحح ، يتوقف على وجود القابل ، أو أن تكون ذات البارى ـ تعالى ـ مختصة بما يمنع من صحة الرؤية عليها.

ولهذا فإن كون الواحد في الشاهد حيا ؛ مصحح لكونه متألما ، ومشتهيا ، وجائعا ، وعطشانا ، ومريضا ، وصحيحا ، إلى غير ذلك. والبارى ـ سبحانه وتعالى ـ مساو في كونه حيا للشاهد. ومع ذلك : فيمتنع ثبوت هذه الأحكام في حقه.

سلمنا دلالة ما ذكرتموه على كون الرب ـ تعالى ـ مرئيا ؛ ولكن لنفسه ، أو لنا؟

الأول : مسلم. والثانى : ممنوع.

وبيانه ما / سبق في مسألة السمع ، والبصر من الأدلة (٢) المانعة من كون الرب ـ تعالى ـ بصيرا ؛ فإنها بعينها تدل على امتناع كونه مرئيا لنا.

سلمنا دلالة ما ذكرتموه على كونه مرئيا لنا ؛ ولكنه منتقض بأمرين :

الأول : بصفة المخلوقية ؛ فإنها ثابتة للجواهر ، والأعراض ، وذلك يستدعى مصححا مشتركا ؛ ولا مشترك غير الوجود ، والحدوث ، والحدوث ليس بعلة كما بينتم ؛ فكان الوجود هو العلة ، والبارى ـ تعالى ـ مشارك للجواهر ، والأعراض في معنى الوجود ، وما لزم صحة المخلوقية عليه.

الثانى : هو أنا كما ندرك الأجسام ، والألوان بإدراك البصر ؛ فندرك الأجسام ، والأعراض الملموسة ؛ باللمس. ولا بدّ من مصحح للإدراك باللمس. ولا مصحح غير

__________________

(١) فى ب (صحة الرؤية).

(٢) فى ب (الدلالة).


الوجود ؛ لما سبق من التقرير. والوجود متحقق في حق الله ـ تعالى ـ ؛ وهو غير مدرك باللمس.

سلمنا جواز رؤيته لنا عقلا ؛ ولكن في الدنيا ، أو في الأخرى؟ الأول : ممنوع ، والثانى : مسلم.

وذلك لأنه لا مانع من امتناع الرؤية في الدنيا دون الأخرى بسبب افتراقهما في الشواغل ، والموانع ، والانغماس في الرذائل ، والانهماك على الشهوات العاجلة ، والخلو عنها في الأخرى.

والجواب :

أما منع كون الألوان مرئية ؛ فباطل (١) ؛ لما سبق (١) فى المقدمة.

وأما منع كون الأجسام مرئية ؛ فباطل ؛ لما سبق في أول المسألة.

قولهم : إن الأشكال ، والمقادير عرض آخر ؛ ليس كذلك ؛ بل هى جملة أجزاء الجسم المؤتلفة ؛ ولذلك يزيد بزيادتها ، وينقص بنقصانها.

قولهم : لا نسلم أن صحة الرؤية أمر ثبوتى على ما قرروه.

قلنا : نحن إنما نعلل رؤية الأجسام ، والألوان ، ونعنى بصحة الرؤية ، وقوع الرؤية ؛ وهو أمر وجودى ؛ وليس ذلك (٢) هو نفس إمكان الرؤية ؛ فإنه فرق بين الرؤية ؛ وإمكان الرؤية ؛ وعلى هذا فقد اندفع جميع ما ذكروه في جهة التقرير.

فإن قيل : يلزم على هذا من وجود المصحح في حق الله ـ تعالى ـ وجود الرؤية.

قلنا : بلى بجواز.

وبيانه أنه لو لم تكن الرؤية ممكنة ؛ لكانت واجبة لذاتها ، أو ممتنعة لذاتها.

ولا جائز أن تكون ممتنعة لذاتها ؛ إذ الممتنع لذاته ، لا مصحح له ؛ فلم يبق إلا أن تكون ممكنة ؛ وهو المطلوب.

__________________

(١) فى ب (فجوابه ما سبق) انظر ل ١٢٣ / ب.

(٢) فى ب (كذلك).


قولهم : لا نسلم أن كل أمر ثبوتى يجب أن يكون معللا.

قلنا : دليله ما سبق.

قولهم : لا نسلم امتناع رؤية المعدوم.

قلنا : اتفق جميع العقلاء ؛ ما عدا السالمية (١). على امتناع رؤية المعدوم ، ولا حاجة إلى الدلالة بالنسبة إلى الموافق. ومن خالف ؛ فطريق الرد عليه أن نقول : نحن إنما نعلل رؤية ما رؤيته واقعة ، ورؤية المعدوم غير واقعة ، على ما يجده كل عاقل من نفسه ، ولو أراد مريد رؤية المعدوم ؛ لكان طالبا شططا ؛ بخلاف رؤية الأجسام ، والألوان على ما لا يخفى.

قولهم : إن الرؤية عندكم نوع من / العلوم ؛ لا نسلم ذلك. وإن سلمنا [ذلك (٢)] ؛ فلا يلزم تعلق كل علم بكل معلوم.

قولهم : لم قلتم بأن رؤية الأجسام ، والألوان معللة؟

قلنا : لما ذكرناه.

قولهم : إن اختصاص محل الحكم بالعلة أيضا زائد عليه ، ولا يستدعى مخصصا.

قلنا : ما جعلناه ، علة مصححة إنما هو نفس الوجود ، والوجود عندنا نفس الموجود لا زائد عليه ؛ على ما يأتى ؛ بخلاف الرؤية.

قولهم : إن اختصاص العلة بكونها علة أمر زائد.

قلنا : إلا (٣) إنه ثابت لذاته ؛ فلا يستدعى مخصصا أخر (٣).

قولهم : المعلومية ، والمذكورية : غير معللة.

قلنا : لأنها عامة للموجودات ، والمعدومات ؛ فلا يستدعى مخصصا بخلاف ما ذكرناه من الرؤية حيث تخصصت بالموجود دون المعدوم.

__________________

(١) انظر ما سبق ل ١٢٣ / أ.

(٢) ساقط من أ.

(٣) فى ب (لا معنى لكون العلة علة إلا أنها مؤثرة في المعلول لذاتها فلا يستدعى مخصصا آخر قطعا للتسلسل).


قولهم : اختصاص بعض المحال بالسواد أو البياض ، صفة زائدة ولا يستدعى مخصصا ؛ ليس كذلك ؛ بل لا بدّ وأن يكون ذلك لازما لذات المحل ، أو لصفة لازمة لذات المحل.

قولهم : إن وقوع الفعل من الفاعل لا يكون معللا.

قلنا : وقوع الفعل من الفاعل لا معنى له غير وجود الفعل ، ووجود الشيء في نفسه لا يكون معللا ؛ إذ ليس وجوده زائدا على ذاته ، وإسناده إلى الفاعل لا بدى ؛ ضرورة كونه ممكنا ، وإلا كان واجبا لذاته ؛ وليس الفاعل هو المصحح.

قولهم : إن التماثل ، والاختلاف حال زائد ، وليس معللا.

لا نسلم أن التماثل ، والاختلاف حال زائد ؛ فإنه لا معنى للتماثل غير الاشتراك في أخص صفات النفس ، وليس ذلك حالا زائدا.

وأما الاختلاف : فحاصله راجع إلى أن أخص أوصاف النفس لكل واحد لا تحقق له في الآخر ؛ وذلك سلب لا ثبوت ؛ فلا يكون معللا كما تقدم.

وعلى هذا أيضا : يمتنع تعليل التضاد ، والغيرية ؛ إذ لا معنى للتضاد غير امتناع الجمع. ولا معنى للغيرية : إلا أن أحد الشيئين ليس هو الآخر ، وليس حكما إثباتيا ؛ بل حاصله يرجع (٢) إلى السلب ، والعدم المحض.

قولهم : لا نسلم التماثل بين رؤية الأجسام ، والألوان.

قلنا : الرؤية من حيث هى رؤية لا اختلاف فيها ؛ ولذلك يمكن تحديدها بحد واحد ؛ وإنما الاختلاف في التعلق ، والمتعلق ؛ وذلك لا يوجب الاختلاف في نفس الرؤية كما سبق في العلوم والقدر ، والإرادات / ونحوها من الصفات.

وعلى هذا : فقد اندفع ما ذكروه من منع التماثل مطلقا ، ومن منع التماثل في رؤية الجسم ، واللون ، ومن قولهم بالتماثل من وجه دون وجه.

قولهم : لا نسلم امتناع تعليل الحكم الواحد بعلل مختلفة.

__________________

(٢) فى ب (راجع).


قلنا : دليله ما ذكرناه (١).

وأما ما ذكروه من الإشكال الأول : فمندفع فإن الملازمة بين ما به الاتفاق ، والافتراق في كل نوع إنما هى من الجانبين ، لا من أحد (٢) الجانبين (٢) دون الأخر. والملازمة من الجانبين ليست تدل على أن كل واحد علة للآخر أو أن أحدهما علة للآخر ، من غير عكس ؛ بل الملازمة بين الشيئين أعم من ذلك.

ولهذا فإن الملازمة بين المتضايفات ثابتة من الجانبين ، ولا علية ولا معلولية لأحدهما ، بالنسبة إلى الأخر.

وأما الإشكال الثانى : فإنما يصح أن لو كان العلم القديم غير مماثل للعلم الحادث من حيث هو علم ؛ وليس كذلك ؛ بل هما مثلان (٣) من هذا الوجه. وإن وقع الاختلاف بينهما ؛ فليس في ذاتيهما ؛ بل في عوارض خارجة عنهما. وعلية العالمية إنما هى القدر المشترك بينهما دون غيره. هذا إن قلنا بالأحوال. وإلا فالعالمية لا تزيد على قيام العلم بالذات.

وأما الإشكال الثالث : فإنما يلزم أن لو ثبت أن الاختلاف والتضاد أمر ثبوتى زائد على ذات المختلفين ، والمتضادين ؛ وليس كذلك على ما سبق قبل.

وأما الإشكال الرابع : فإنما يلزم أن لو كان القبح صفة ثبوتية من صفات الكذب ، والجهل ، وهو غير مسلم ، بل هو راجع إلى حكم الشارع ، أو مخالفة الأعراض على ما يأتى في مسألة التحسين ، والتقبيح (٤).

وأما الإشكال الخامس : فمندفع أيضا ؛ فإن اتفاق السواد والبياض في الافتقار إلى المحل ليس حكما ثبوتيا ؛ بل حاصله يرجع إلى صفة سلبية ؛ وهو أنه لا وجود لكل واحد منهما دون المحل ؛ فلا يكون معللا كما سبق.

قولهم : لا نسلم أن مسمى الوجود مشترك بين الأجسام ، والألوان.

قلنا : هذا المنع إن صدر ممن يعترف بأن الوجود زائد على الموجود ، وأنه مشترك بين الموجودات من المعتزلة وغيرهم ؛ فهو فاسد.

__________________

(١) فى ب (ما سبق).

(٢) فى ب (أحدهما).

(٣) فى ب (متلازمان).

(٤) انظر ما سيأتى في النوع السادس ـ الأصل الأول ـ المسألة الأولى : فى التحسين والتقبيح ل ١٧٤ / ب وما بعدها.


وإن صدر ممن لا يعترف بذلك : كأبي الحسين البصرى ، وغيره ؛ فموقفه صعب جدا ، وأقصى ما فيه أن يقال :

قد ثبت أن الأجسام ، والألوان مرئية فمحل الرؤية ـ وهو المعنى بمصحح / الرؤية ـ إما أن يكون وجودا ، أو عدما.

لا جائز أن يكون عدما : لما سبق ؛ فلم يبق إلا أن يكون وجودا. وقد ثبت أن المصحح لا يكون مختلفا بما سبق ؛ فتعين أن يكون مماثلا. فإذا سلمت هذه المقدمات ؛ فمنع التساوى في الوجود الّذي هو متعلق الرؤية يكون منعا لما سلم من المقدمات ؛ وهو ممتنع.

قولهم : إن الوجود على أصلكم غير مشترك.

قلنا : ما يذكر (١) بطريق الإلزام ؛ لا يلزم أن يكون معتقدا للملزم.

وعلى هذا فلا حاجة بنا إلى دعوى حصر الأوصاف المشتركة في الوجود والحدوث ؛ فإنه لا سبيل إلى إثبات ذلك بغير (٢) البحث (٢) والسبر ؛ وهو غير يقينى [كما (٣) سبق (٣)].

وبما ذكرناه (٤) أيضا يندفع ما عارضوا به من صفة الإمكان ، والعرضية ، والمعلومية ، والمذكورية ، وغيرها.

على أنا نجيب عن كل واحد بما يخصه :

أما الإمكان : فحاصله يرجع إلى صفة سلبية كما تقدم. كيف وأن الإمكان متحقق في المعدومات ؛ وهى غير مرئية.

وأما الاشتراك في العرضية : فلا يصلح أن يكون مصححا للرؤية على أصل الخصم ، وإلا كانت الطعوم ، والروائح مرئية على أصلهم ؛ وليس كذلك.

__________________

(١) فى ب (نذكره).

(٢) فى ب (الا بالبحث).

(٣) ساقط من أأنظر ل ٣٩ / ب.

(٤) فى ب (وبما ذكروه).


وأما المعلومية ، والمقدورية ، والمذكورية : فلا يمكن أن تكون مصححة للرؤية لوجهين :

الأول : إنها إما أن تكون صفة لما قيل إنه معلوم ، ومقدور ، ومذكور ، وإما أن لا تكون صفة له.

فإن كان الأول : فيلزم أن لا تكون صفة وجودية ؛ ضرورة صحة اتصاف المعدوم بها.

وإن لم تكن صفة له : فلا يكون علة مصححة لرؤيته ؛ إذ العلة لا تخرج عن محل حكمها كما تقدم.

الثانى : أن هذه الصفات ثابتة للمعدوم ، وليس بمرئى.

قولهم : لم قلتم إن الحدوث لا يكون علة؟

قلنا : لما ذكرناه.

قولهم : إن سبقية العدم عارض للحدوث.

قلنا : الوجود إذا سبقه العدم صدق عليه اسم الحدوث. فإن كان العدم داخلا في مفهوم الحدوث ؛ فهو المطلوب.

وإن كان عارضا : فهو عارض للوجود.

وعلى كلا التقديرين : فيمتنع (١) أخذه في المصحح ؛ فلم يبق إلا التعليل بالوجود.

قولهم : إن الوجود حال. لا نسلم أنه حال ؛ بل هو نفس الموجود. وإن كان حالا ؛ فلا نسلم أنه يمتنع التعليل به. وإن امتنع التعليل بما عداه من الأحوال التى ليست من الصفات الوجودية.

قولهم : / إن التعليل بالوجود مشروط بالحدوث.

قلنا : إذا كان الحدوث لا تحقق له دون سبق العدم ؛ فالعدم السابق ، يكون (٢) شرطا (٢) فى تصحيح الرؤية. والشرط يجب أن يكون متحققا مع المشروط ، والعدم السابق على الوجود المرئى لا يكون معه ؛ فلا يكون شرطا في رؤيته.

__________________

(١) فى ب (يمتنع).

(٢) فى ب (يجب أن يكون شرطا).


قولهم : إن الدليل قد دل على امتناع التعليل بالوجود على ما قرروه إنما يصح أن لو كان الوجود زائدا على (١) الموجود ؛ وهو غير مسلم (١).

وإن كان زائدا على الموجود ؛ فما المانع من كونه مصححا لرؤية الذات المتصفة به.

قولهم : إن وجود الرب ـ تعالى ـ لا يزيد على ذاته. ممنوع على رأى بعض الأصحاب.

قولهم : لو كان الوجود مصححا ؛ لصحت رؤية الطعوم ، والروائح ، وهى غير مرئية.

[قلنا (٢)] : لا نسلم أنها غير جائزة الرؤية.

قولهم : لا نسلم أن وجود الرب ـ تعالى ـ مماثل لوجود الممكنات. ممنوع على رأى بعض الأصحاب أيضا.

قولهم : لو كان مماثلا ؛ لاشتركا في الوجوب ، أو الإمكان.

قلنا : لا معنى لكون وجوب واجب الوجود واجبا لذاته ، غير أن ذات واجب الوجود (٣) لذاتها ، لا تفتقر في اتصافها بالوجود إلى علة خارجة (٣) ، ولا معنى لكون الممكنات ممكنات الوجود ، غير أن ذات ما قيل أنه ممكن لذاته ، لا يقتضي الوجود لذاته (٤) ، ولا العدم ؛ فالاختلاف إنما هو عائد إلى الذوات ، لا إلى صفة (٥) الوجود المشترك ؛ والذوات مختلفة.

قولهم : لا نسلم أنه يلزم من وجود المصحح ، [وجود (٦)] الصحة.

قلنا : إذا ثبت التساوى في المصحح ؛ فما ثبت لأحد المتماثلين (٧) يكون ثابتا للآخر.

قولهم : جاز أن لا تكون ذات الرب (٨) ـ تعالى ـ قابلة للرؤية.

__________________

(١) فى ب (وهو مسلم).

(٢) ساقط من أ.

(٣) فى ب (يقتضي أنفسها وذاتها الوجود).

(٤) فى ب (والعدم).

(٥) فى ب (صحة).

(٦) ساقط من أ.

(٧) فى ب (المثلين).

(٨) فى ب (الله).


قلنا : لو لم تكن قابلة للرؤية ؛ لما كان المصحح موجودا ، ولا معنى للمصحح للرؤية غير القابل لها. وإن امتنع أن يكون مرئيا ؛ فقد فات ما لا بدّ منه في صحة الرؤية.

وعند ذلك : فالمصحح لا يكون موجودا ؛ فإنه لا معنى للمصحح إلا ما يتحقق صحة الرؤية به ، وفي ذلك منع وجود المصحح بعد تسليمه ؛ وبه يندفع القول باحتمال وجود المانع أيضا.

كيف وأنه يلزم من اعتبار قبول القوابل المختلفة في صحة الرؤية ، اختلاف المصحح ؛ وهو محال على ما تقدم.

وعلى هذا : فقد اندفع ما ذكروه من احتمال وجود المانع.

قولهم : إن المصحح في الشاهد للألم ، والجوع ، وغير ذلك ؛ إنما هو الحياة ؛ لا نسلم ذلك.

قولهم : / الرب ـ تعالى ـ مرئى له ، أو لنا.

قلنا : بل لنا ؛ فإن ما بيناه من المصحح للرؤية ؛ إنما هو مصحح لها بالنسبة إلينا.

وما ذكروه في (١) مسألة الإدراكات مما يقتضي كون الرب ـ تعالى ـ غير مدرك لنا ، فقد سبق جوابه (٢).

وأما ما ذكروه من النقض بصفة المخلوقية : فمندفع ؛ فإنه لا معنى لكون الأجسام والأعراض مخلوقة. غير أنها موجودة غير مستغنية عن الفاعل لها ، ووجودها ليس زائدا عليها ؛ فلا يكون وجودها معللا ، وكونها غير مستغنية عن الفاعل ؛ فصفة (٣) سلبية ؛ فلا تكون معللة أيضا.

وأما النقض بالإدراك اللمسى ؛ فمندفع ؛ فإنا لا نمنع من كون الرب تعالى ـ مدركا بجميع (٤) الإدراكات عندنا ؛ وإنما الّذي يمتنع عليه أن يكون طريق إدراكه مماسة الأجسام ، وما يقع الإدراك عنده في الشاهد عادة.

__________________

(١) فى ب (من).

(٢) انظر ل ١٠٤ / أ.

(٣) فى ب (صفة).

(٤) فى ب (لجميع).


قولهم : لا نسلم جواز ذلك في الدنيا.

قلنا : إذا ثبت أن المصحح للرؤية في الأجسام ، والألوان هو المصحح في حق الله ـ تعالى ـ فذلك المصحح ، مصحح في الدنيا ؛ فكان (البارى (١) تعالى (١)) جائز الرؤية في الدنيا ، وسواء تحققت الرؤية في الدنيا ، أم لا.

وفي التحقيق فهذه (٢) الإشكالات مشكلة ، وما ذكرناه في جوابها ؛ فهو أقصى جهد (٣) المقل (٣).

الحجة الثانية : وهى قريبة من الأولى (٤).

قولهم : إن الرؤية تتعلق بالموجودات المختلفة : كالأجسام ، والألوان ، ومتعلق الرؤية منها (٥) ليس إلا ما هو ذات ووجود ؛ وذلك لا يختلف وإن تعددت الموجودات.

وأما ما سوى ذلك مما يتعلق (٦) به الاتفاق ، والافتراق ؛ فأحوال لا تتعلق بها الرؤية ؛ إذ ليست بذوات ، ولا وجودات.

وإذا كان متعلق الرؤية ، ليس إلا نفس الوجود ، وجب تعلقها بالبارى ـ تعالى ؛ لكونه موجودا.

ولا يخفى ما يرد عليها من الأسئلة ، الواردة على الحجة الأولى ، وأجوبتها ، وتختص بإشكال مشكل ؛ وهو أن الوجود : إما أن تتفق به الذوات ، أو لا تتفق.

فإن اتفقت به الذوات : فما تتفق به الذوات عند القائل بالأحوال حال ؛ فالوجود حال ؛ فلا يكون متعلق الرؤية. اللهم إلا أن يفرق بين حال ، وحال. [كما (٧) سبق (٧)].

وإن لم تتفق به الذوات : فمتعلق الرؤية بين واجب الوجود ، وممكن الوجود لا يكون متحدا.

__________________

(١) ساقط من أ.

(٢) فى ب (فأكثر هذه).

(٣) فى ب (جهل المقال).

(٤) أورد الآمدي هذه الحجة في غاية المرام ل ٦٤ / أتحت عنوان المسلك الأول.

(٥) فى ب (هاهنا).

(٦) فى ب (يقع).

(٧) ساقط من أ.


وعند ذلك : فلا يلزم من كون الأجسام والأعراض متعلق الرؤية أن تتعلق الرؤية بالبارى ـ تعالى ـ ؛ لعدم الاشتراك / فى المتعلق.

الحجة الثالثة :

[ولعبارات (١)] الأصحاب فيها متسع ، وأوجز ما قيل فيها. ما قاله القاضى أبو بكر : وهو أن الرؤية معنى ، لا تقتضى استحالة في ذات القديم ، ولا في صفة من صفاته ، ولا في ذات الحادث ، ولا في صفة من صفاته ، وإذا انتفت مدارك الاستحالة ؛ لزم القول بالجواز ؛ كما في العلم.

وهذه الحجة ضعيفة جدا ؛ وذلك أن للخصم أن يقول : دعواكم أن الرؤية جائزة ، وأنها لا توجب إحالة في ذات الرائى ، ولا المرئى ، ولا في صفتيهما : إما أن يكون معلوما لكم ، أو (٢) غير معلوم (٢).

فإن لم يكن معلوما. امتنع الجزم به.

وإن كان معلوما : فإما أن يكون عن ضرورة ، أو (٣) نظر (٣).

لا سبيل إلى الأول ؛ إذ هو مباهتة (٤) ، ومكابرة (٤).

كيف : وأنه لا يسلم عن مقابلته بدعوى العلم الضرورى بنقيضه ،

وإن كان نظريا ؛ فلا بد لكم من دليل.

فإن قيل : دليل الجواز انتفاء الاستحالة ، والاستحالة منتفية ؛ لبطلان دليلها فإن كل ما تشبث به الخصم في بيان الاستحالة من تعلق الرؤية بالبارى ـ تعالى ـ من جهة اشتراط مقابلة المرئى للرائى ، وانطباع صورة المرئى في عين الرائى ، وانتقال صورة المرئى إلى الرائي ، أو انتقال شيء من الرائى إلى المرئى ، أو اتصال الأشعة ، أو غير ذلك ؛ فقد أبطلناه فيما تقدم.

وإذا كانت مدارك الاستحالة باطلة ؛ فالاستحالة ممتنعة والقول بالجواز واجب. فللخصم أن يقول : وإن سلم (٥) لكم بطلان المدارك المعينة ، فلم قلتم ببطلان جميع

__________________

(١) فى أ (فعبارات).

(٢) فى ب (أولا يكون معلوما).

(٣) فى ب (أو عن نظر).

(٤) فى ب (مكابرة ومباهتة).

(٥) فى ب (سلمنا).


المدارك؟ وما المانع من أن يكون ثم مدرك من مدارك الاستحالة لم تعثروا عليه؟ وعدم الاطلاع عليه (١) مع البحث ، والسبر غير موجب لليقين [بعدمه (٢)] كما تقدم (٣).

قال القاضى أبو بكر : القائل من الملة (٤) قائلان : قائل بالجواز قطعا ، وقائل بالاستحالة قطعا. والقائلان متفقان على امتناع الوقف ، والتشكك (٥) فى أحد الأمرين ؛ فيمتنع القول به ؛ لما فيه من مخالفة الإجماع. فلم يبق إلا القول بالاستحالة أو الجواز جزما ومن قال بالاستحالة لم يقل بمدرك غير ما ظهر ؛ فقد اتفق القائلون بالجواز ، والاستحالة على نفى مدرك آخر ؛ فمن ادعاه يكون خارقا للإجماع.

وقال إمام الحرمين : قد أجمعنا على القطع بتجويز حدوث أمثال السماوات ، والأرض بقدرة الله ـ تعالى ـ مع إمكان / ورود هذا السؤال بعينه ؛ فكل ما يقوله الخصم في جوابه ؛ فهو جوابه هاهنا.

والجوابان ضعيفان :

أما الأول : فمع أن حاصله يرجع إلى التمسك بالإجماع ؛ وهو سمعى لا عقلى. فلقائل أن يقول : انقسام أهل الملة إلى القاطع بالجواز ، والقاطع بالاستحالة. وإن كان إجماعا منهم على القطع بنفى الوقف والتردد ؛ لكن لا نسلم إجماعهم على حصر مدارك الاستحالة ؛ بل للخصم أن يقول : مدرك الاستحالة عندى : انتفاء مدرك الجواز.

وعند ذلك : فإن لم تبينوا مدرك الجواز ؛ فقد صح ما قلته. وإن بينتموه ؛ فلا حاجة إلى هذه الحجة.

ثم وإن قدرنا انتفاء جميع مدارك الاستحالة ؛ فلا يلزم من انتفاء الدليل ، انتفاء المدلول في نفسه ؛ لجواز أن يكون المدلول متحققا ، وإن لم يخلق الله ـ تعالى ـ [دليلا عليه (٦)] كما تقدم.

وعند ذلك : فالجزم بنفى الاستحالة يكون ممتنعا.

فإن قيل : إذا كانت مدارك الاستحالة منتفية ؛ فالجزم بالاستحالة ممتنع. ولا سبيل إلى الوقف ؛ لما تقدم. فلم يبق إلا القطع بالجواز ، فللخصم أن يقول : والجزم أيضا بالجواز مع انتفاء دليله أيضا ممتنع. ولا سبيل إلى الوقف ، فيجب الجزم بالاستحالة.

__________________

(١) ساقط من ب.

(٢) ساقط من أ.

(٣) انظر ل ٣٩ / ب.

(٤) فى ب (المسألة).

(٥) فى ب (والتشكيك).

(٦) فى ب (عليه دليلا).


وعند ذلك : فإن بينتم دليل الجواز ؛ فلا حاجة إلى هذه الحجة ، وإن لم (١) تبينوا دليل الجواز (١) ؛ فقد تقابل الجانبان.

وأما الجواب الثانى : فللخصم أن يقول فيه : إنما يلزمنى هذا أن لو كنت قائلا بجواز (٢) خلق (٢) أمثال السموات ، والأرض بالنظر إلى نفى مدارك الاستحالة ، وليس كذلك ؛ بل إنما قلت به بالنظر إلى وجود دليل الجواز ، حتى أنه لو لم يقم عندى دليل الجواز ؛ لما قلت به.

الحجة الرابعة : وهى أشبه الحجج.

هو أن الإدراك عبارة عن كمال يحصل به مزيد كشف وإيضاح على ما حصل في النفس من العلم بأمر ما على ما حققناه في مسألة الإدراكات.

فإذن هذا الكمال الزائد على ما حصل في النفس في كل واحدة من الحواس هو المسمي إدراكا كما مضى. وقد بينا فيما مضى أن الإدراك بالرؤية ليس بخروج شيء من البصر إلى المبصر ، ولا بانطباع صورة المبصر في البصر ، وأنه لا يفتقر إلى مقابلة ، ولا اتصال أجسام ، ولا بنية مخصوصة. وإنما هو معنى يخلقه الله ـ تعالى ـ فى الحواس المخصوصة بحكم / جرى العادة ، وأنه لو خلق ذلك الإدراك في القلب ، أو غيره من الأعضاء ؛ لكان جائزا.

وإذا عرف ذلك ؛ فالعقل يجوّز أن يخلق الله ـ تعالى ـ فى الحاسة المبصرة ؛ بل وفى غيرها ؛ زيادة كشف وإيضاح بالنظر إلى ذاته ووجوده بالنسبة إلى ما حصل بالبرهان ، والخبر اليقينى من العلم به ؛ فإن ذلك في نفسه ممكن ، والقدرة لا تقصر عنه ؛ وذلك هو المسمى بالرؤية.

وعلى هذا فقد ظهر جواز تعلق الرؤية بجميع الإدراكات ، والطعوم ، والروائح وكل موجود من العلوم ، والقدر ، والإرادات ، وغير ذلك مما لا تتعلق به الرؤية في مجارى العادات.

فإن قيل : ما ذكرتموه في جواز إثبات الرؤية. إما أن تعمموا به كل إدراك ، أو تحكموا بكونه خاصا بالرؤية (٣).

__________________

(١) فى ب (نفيتم الجواز).

(٢) فى ب (يخلق).

(٣) فى ب (فى الرؤية).


فإن كان الأول : فيلزمكم على سياقه أن يكون الرب تعالى مسموعا ، ومشموما ، ومذاقا ، وملموسا ؛ وذلك مما يتحاشى عن القول به أرباب العقول.

وإن أوجبتم تخصصه بالرؤية : فالفرق تحكم غير معقول (١).

ثم وإن سلمنا دلالة ما ذكرتموه على جواز الرؤية ، غير أنه معارض بما يدل على عدم الجواز (٢) ؛ وبيانه من وجهين :

الأول : أنه لو جاز أن يكون [البارى (٣) تعالى (٣)] مرئيا ؛ لجاز أن يكون مرئيا في الدنيا ؛ لأن الموانع من القرب المفرط ، والبعد المفرط والحجب ؛ منتفية. وإلا لجاز أن يكون بين أيدينا جبل شامخ ، أو جمل واقف ؛ ونحن لا نراه ، مع سلامة الآلة ، وانتفاء الموانع ؛ وهو محال. فحيث لم ير مع انتفاء الموانع ، لم يكن ذلك إلا لكونه غير مرئى في نفسه.

الثانى : أنه لو جاز أن يكون مرئيا : فإما أن يكون في مقابلة الرائى ، أو لا في مقابلته.

فإن كان الأول : فيلزم أن يكون في جهة ، ويلزم من كونه في (٤) الجهة (٤) أن يكون جوهرا ، أو عرضا ؛ وهو على الله ـ تعالى ـ محال.

وإن لم يكن في مقابلة الرائى : فالرؤية متعذرة غير معقولة.

وربما عضدوا ذلك بالشبه التى سبق ذكرها في تحقيق الإدراكات ، وما يفضى إليه من التجسيم والأينية على تفاصيله.

والجواب :

أما الإشكال الأول : فقد اختلف في جوابه أصحابنا :

__________________

(١) هذا الاعتراض ذكره الشهرستانى في نهاية الأقدام ص ٣٦١ منسوبا إلى المعتزلة. وهو في المغنى للقاضى عبد الجبار ٤ / ١٣٤ ـ ١٣٨.

(٢) وهذا الاعتراض للمعتزلة أيضا. انظر المغنى ٤ / ٤٨ ـ ٥٥ ، ٩٥ ـ ١٠١ والأصول الخمسة ص ٢٥٤ ـ ٢٦١ ، ثم انظر الإرشاد للجوينى ص ١٧٨ ، ١٧٩.

(٣) ساقط من أ.

(٤) فى ب (لا في جهة).


فمنهم (١) : من عمم وقال : الرب ـ تعالى ـ مدرك (٢) بالإدراكات الخمسة (٢) طردا للدليل المذكور ، غير أنه لا يجوز تعلق الأسباب المقارنة لهذه الإدراكات في الشاهد عادة بالله تعالى : كتقليب الحدقة / نحوه ، والإصغاء بالاذن إلى جهته ، والتحرك إليه لقصد إدراكه ؛ لكنه لا يطلق عليه هذه الأسماء ؛ لعدم ورود الشرع بها ، وهذا هو مذهب الشيخ أبى الحسن الأشعرى.

ومنهم من قال (٣) : إن باقى الإدراكات لا تعم كل موجود ؛ بل إدراك السمع يختص بالأصوات ، والبارى ـ تعالى ـ ليس بصوت ، ولا الصوت من صفاته ؛ فلا يتعلق به السمع ، والشم يتعلق بالروائح ، والرب ـ تعالى ـ ليس برائحة ، ولا الرائحة من صفاته ؛ فلا يتعلق به إدراك الشم. والذوق يتعلق بالطعم ، والرب ـ تعالى ـ ليس بطعم ، ولا الطعم من صفاته ؛ فلا يتعلق به الذوق.

واللمس : يتعلق بالكيفيات الملموسة ، والرب ـ تعالى ـ ليس بكيفية ، ولا الكيفية الملموسة من صفاته ؛ فلا يتعلق به إدراك اللمس.

والّذي يدل على صحة هذا : ما يجده كل عاقل في نفسه من التفرقة بين هذه الإدراكات ، ولو اتحدت في الإدراك ؛ لوقع الالتباس بين الإدراكات ؛ وهو محال. وهذا هو مذهب عبد الله بن سعيد ، والقلانسى وكثير من أصحابنا.

وعلى هذا. فحصول مثل هذه الإدراكات لله ـ تعالى ـ واتصافه بها غير ممتنع عقلا. وإن لم يجز إطلاقها عليه ؛ لعدم ورود الشرع بها. وإن حصول الإدراكات المختلفة لمدرك واحد غير ممتنع.

وأما تعلق الإدراكات المختلفة بمدرك واحد من جهة واحدة ؛ فممتنع كما بيناه.

وأما انتفاء الرؤية من وقتنا هذا : فإنما يلزم منه انتفاء جواز تعلق الرؤية بالله ـ تعالى ـ أن لو لم يقدر ثم مانع يمنع من الرؤية ، ولا مستند لهم في حصر الموانع غير البحث ، والسير ؛ وهو غير يقينى كما سبق (٤).

__________________

(١) هو الإمام الأشعرى رضى الله عنه انظر اللمع ص ٦١ ـ ٦٧ ، والإبانة ص ١٨ ، ١٩.

(٢) فى ب (مدركا بجميع الإدراكات الخمس).

(٣) القائل عبد الله بن سعيد الكلابى ، والقلانسى ، وغيرهم.

انظر اللمع للأشعرى ص ٦٢ ـ ٦٣.

ثم انظر ما أورده الشهرستانى في الرد على هذا الاعتراض في نهاية الأقدام ص ٢٦٥ ـ ٣٦٦.

(٤) انظر ل ٣٩ / ب.


كيف : وأنه من المحتمل أن يكون المانع من الإدراك تكدر النفس بالشواغل البدنية ، وانغماسها في الرذائل الشهوانية ، وعند صفوها في الدار الأخرى (١) ، وزوال كدورتها بانقطاع علائقها (٢) ، وانفصال عوائقها (٣) يتحقق لها ما كانت مستعدة لقبوله ، ومتهيئة لإدراكه.

وإن سلمنا انتفاء الموانع مطلقا ، فلا نسلم وجوب تعلق الرؤية ووقوعها ؛ لجواز أن لا يخلقها الله ـ تعالى ـ كما سلف بيانه.

وما ذكروه من الاستشهاد بالصورة المذكورة ؛ فغير ممتنع عدم الرؤية فيها عقلا. وإن كان ممتنعا عادة كما سبق.

ثم كيف ينكر ذلك مع (٤) ما قد ورد من الأخبار (٤) المتواترة الصادقة عن النبي الصادق بما أوجب لنا العلم / بأنه كان عليه‌السلام يرى جبريل ، ويسمع كلامه عند نزوله عليه ، ومن هو حاضر عنده لا يدرك شيئا من ذلك : مع سلامة آلة الإدراك ، وانتفاء الموانع.

وأما الإشكال الأخير فمندفع بما حققناه من امتناع اشتراط المقابلة ، وكل ما ذكروه من الشروط ؛ فإن الإدراك مع ذلك غير ممتنع.

كيف وأن هذا بعينه لازم على من اعترف منهم بأن الله ـ تعالى ـ يرى نفسه ، ويرى غيره ؛ فما هو جوابه في رؤية الله ـ تعالى ـ للغير ؛ هو الجواب في رؤية الله ـ تعالى ـ برؤية غيره.

وأما الحجة السمعية :

فقوله (٥) ـ تعالى ـ : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) (٦). ووجه الاحتجاج به من وجهين (٧) :

__________________

(١) فى ب (الآخرة).

(٢) فى ب (العلائق).

(٣) فى ب (العوائق).

(٤) فى ب (مع ما ورد في الأخبار).

(٥) فى ب (فى قوله).

(٦) سورة الأعراف ٧ / ١٤٣.

(٧) هذه الآية الكريمة استدل بها الأشاعرة على جواز الرؤية. واستدل بها المعتزلة على نفيها. انظر المغنى ٤ / ١٦١ ـ ١٦٢. وما أورده الآمدي هنا على أنه شبه. أورده القاضى على أنه حجج. ثم انظر المغنى أيضا ٤ / ٢١٧ ـ ٢٢٠ حيث يورد هذه الحجة بأنها شبهة ويرد عليها. أما إجابته عنها : فهى الشبه التى أوردها الآمدي هنا ؛ ليرد عليها.

ثم انظر الأصول الخمسة ص ٢٦٢ ـ ٢٦٥.


الأول : أن موسى عليه الصلاة والسلام سأل ربه الرؤية بقوله : (أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) ولو كانت الرؤية مستحيلة. فإما أن يكون موسى عالما بالإحالة ، أو جاهلا بها.

فإن كان عالما بالإحالة : فالعاقل لا يسأل المحال ، ولا يطلبه ، فضلا عن كونه نبيا كريما. وإن كان جاهلا بالإحالة ؛ فيلزم أن يكون آحاد المعتزلة ومن حصل طرفا من علومهم ، أعلم بالله ـ تعالى ـ وبما يجوز عليه ، وما لا يجوز عليه من النبي الصفى ؛ والقول بذلك غاية التجاهل ، والرعونة.

وإذا بطل القول بالإحالة لما يلزم عنه من المحال ؛ تعين القول بالجواز وهو المطلوب.

الوجه الثانى : قوله ـ تعالى ـ : (فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) علق الرؤية على استقرار الجبل ، واستقرار الجبل ممكن في نفسه ، وما علق وجوده على الممكن ؛ فهو ممكن.

فإن قيل :

أما الوجه الأول : فالكلام عليه من وجوه.

الأول : لا نسلم أن موسى سأل الرؤية ، وإنما سأله أن يعلمه به علما ضروريا. وعبر بالرؤية عن العلم ؛ إذ العلم ملازم للرؤية ، والتعبير باسم أحد المتلازمين عن الآخر سائغ لغة بطريق التجوز كما في قولهم جرى النهر والميزاب. والمراد به الماء الّذي فيه. وهذا هو تأويل أبي الهذيل العلاف وتابعه عليه الجبائى ، وأكثر البصريين (١).

سلمنا أنه ما سأل العلم بربه ؛ ولكن إنما سأل أن يريه علما من أعلام الساعة بطريق حذف المضاف ، وإقامة المضاف إليه مقامه كما فى قوله ـ تعالى ـ : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) (٢) والمراد به أهل القرية.

ويكون معنى قوله (أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) : أى إلى علم من أعلامك الدالة على / الساعة. وهذا هو تأويل الكعبى ، والبغداديين من المعتزلة.

__________________

(١) انظر الأصول الخمسة ص ٢٦٢ ؛ حيث يذكر هذا الرأى لأبى الهذيل ، ثم يضعفه. وانظر أيضا المغنى ٤ / ١٦٢ ، ٢١٨.

(٢) سورة يوسف ١٢ / ٨٢.


سلمنا أنه سأل الرؤية ؛ ولكن لنفسه ، أو لأجل دفع قومه في قولهم : (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) (١) الأول ؛ ممنوع ، والثانى ؛ مسلم ؛ وذلك لأنهم لما سألوه الرؤية أضاف الرؤية إلى نفسه ؛ ليكون منعه أبلغ في دفعهم ، وردعهم عما سألوه تنبيها بالأعلى على الأدنى ، وهذا هو تأويل الجاحظ ، ومتبعيه.

سلمنا أنه سأل الرؤية لنفسه ؛ ولكن لا نسلم أن ذلك ينافى العلم بالإحالة ؛ إذ المقصود من سؤال الرؤية إنما هو أن يعلم الإحالة بطريق سمعى مضاف إلى ما عنده من الدليل العقلى ؛ لقصد التأكيد ، وذلك جائز بدليل قول إبراهيم الخليل عليه‌السلام (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) (٢) بضم دليل المشاهدة إلى دليل العقل.

سلمنا أنه سأل الرؤية مع عدم علمه باستحالتها ؛ ولكن ذلك غير قادح في نبوته مع كونه عالما بعدل الله تعالى ، ووحدانيته ، ولهذا سأل وقوع الرؤية في الدنيا ؛ وهى غير واقعة إجماعا.

سلمنا أنه كان عالما بإحالة الرؤية ؛ ولكن لم قلتم بامتناع السؤال؟ وإنما يكون ممتنعا أن لو كان ذلك محرما في شرعه. وإن كان محرما في شرعه ؛ فالصغائر غير ممتنعة على الأنبياء على ما يأتى (٣) :

وأما الوجه الثانى : فالكلام عليه أيضا من وجهين :

الأول : لا نسلم أنه علق الرؤية على أمر ممكن.

قولكم : إنه علقها على استقرار الجبل ، واستقرار الجبل ممكن.

فنقول : علقها على استقرار الجبل حال سكونه ، أو حال حركته. لا جائز أن يقال بالأول : وإلا لوجدت الرؤية ضرورة وجود الشرط ؛ فإن الجبل حال سكونه كان مستقرا ؛ فلم يبق إلا الثانى.

ولا يخفى أن استقرار الجبل حال حركته محال لذاته.

__________________

(١) سورة النساء ٤ / ١٥٣.

(٢) سورة البقرة ٢ / ٢٦٠.

(٣) انظر الجزء الثانى ـ القاعدة الخامسة ـ الأصل الخامس ل ١٦٨ / ب وما بعدها.


الثانى : وإن سلمنا أن استقرار الجبل ممكن. غير أن المقصود من تعليق الرؤية عليه ليس هو بيان جواز الرؤية ، أو عدم جوازها ؛ إذ هو غير مسئول عنه ؛ بل المقصود إنما هو بيان أن الرؤية لا تقع ؛ لعدم وقوع الشرط المعلق به ؛ ليكون ذلك مطابقا للسؤال ؛ وهو حاصل بعدم الشرط. وسواء كانت الرؤية جائزة في نفس الأمر ، أم لا.

ثم وإن سلمنا دلالة ما ذكرتموه من الوجهين على جواز الرؤية ؛ فهو معارض بما يدل على عدم الجواز وهو قوله ـ تعالى ـ : (لَنْ تَرانِي) وكلمة / لن للتأبيد ، والتخليد ، وتحقيق النفى ، وتأكيده.

وأيضا : قول موسى عليه‌السلام (تُبْتُ إِلَيْكَ) (١) دليل كونه مخطئا في سؤاله ، ولو كانت الرؤية جائزة ؛ لما كان مخطئا.

والجواب :

أما قولهم : أنه إنما سأل العلم الضرورى بربه فمندفع لوجهين :

الأول : أن النظر وإن أطلق بمعنى العلم ؛ لكنه إذا وصل بإلى فيبعد حمله عليه ، ويكون ظاهرا في الرؤية على ما يأتى (٢). ولا سبيل إلي مخالفة الظاهر من غير دليل.

الثانى : وإن أمكن حمله على العلم ؛ لكن يمتنع الحمل على العلم هاهنا ، وبيانه من ثلاثة أوجه.

الأول : أنه يلزم منه أن يكون موسى غير عالم بربه ، وإلا لما سأل حصول ما هو حاصل له. ولا يخفى أن نسبة ذلك [للمصطفى (٣) بالنبوة] المكرم بالرسالة المختص بالمخاطبة ، مع معرفة آحاد المعتزلة ، ومن شدا طرفا من العلم بالله من أعظم الجهالات ، كما تقدم (٤).

الثانى : أن قوله ـ تعالى ـ (لَنْ تَرانِي) جواب عن سؤاله. والمعتزلة مجمعون على أن قوله : (لَنْ تَرانِي) محمول على نفى الرؤية. فلو كان طلب موسى للعلم ؛ لما كان الجواب مطابقا للسؤال.

__________________

(١) سورة الأعراف ٧ / ١٤٣.

(٢) انظر ل ١٣٩ / أ.

(٣) فى أ (المصطفى للنبوة).

(٤) فى ب (سبق).


الثالث : أنه لو ساغ هذا التأويل ؛ لساغ مثله في قوله ـ تعالى ـ (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) (١) ـ وفي قوله ـ تعالى ـ (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) (٢). لتساوى الدلالة ؛ وهو ممتنع بالإجماع.

وقوله ـ تعالى ـ (جَهْرَةً). لا يزيد على كون النظر موصولا بإلى.

قولهم : إنه (٣) إنما سأل (٣) أن يريه علما من أعلام الساعة.

قلنا : لا يستقيم ذلك لوجوه ثلاثة :

الأول : أنه على خلاف الظاهر كما سبق من غير دليل.

الثانى : أنه أجاب بقوله (لَنْ تَرانِي) وقوله (لَنْ تَرانِي) (٤) إن كان محمولا على نفى ما وقع السؤال عنه من رؤية بعض الآيات ؛ فهو خلف ؛ فإنه قد أراه أعظم الآيات ، وهو تدكدك الجبل.

وإن كان قوله (لَنْ تَرانِي) محمولا على نفى الرؤية ؛ فلا يكون الجواب مطابقا للسؤال.

الثالث : أنه قال ـ تعالى ـ (فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) فإن كان ذلك محمولا على رؤية آياته ؛ فهو محال ؛ فإن الآية ليست في استقرار الجبل ؛ بل في تدكدكه.

وإن كان محمولا على الرؤية ؛ فلا يكون مرتبطا بالسؤال.

وهذه المحالات إنما لزمت من حمل الآية ، على رؤية الآية ؛ فيكون ممتنعا.

قولهم : إنما سأل الرؤية لقصد مثل هذا الجواب لدفع قومه. عنه أجوبة ثلاثة :

الأول : أن ما ذكروه على خلاف الظاهر المفهوم من سؤاله الرؤية لنفسه من غير دليل.

الثانى : أنه لو علم أن الرؤية غير جائزة ، لما سألها / من الله تعالى. وأضافها إلى نفسه لقصد دفع قومه ؛ بل كان يجب أن يبادر إلى ردعهم ، وزجرهم عن طلب ما لا يليق

__________________

(١) سورة النساء ٤ / ١٥٣.

(٢) سورة الأنعام ٦ / ١٠٣.

(٣) فى ب (إنما سأله).

(٤) فى ب (وان).


بجلال الله ـ تعالى ـ كما قال لهم : (إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) عند قولهم : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) (١).

الثالث : أنه قد وقع زجرهم ، وردعهم عن سؤالهم (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) بأخذ الصاعقة لهم ، والعذاب الأليم عقيبه على ما قال تعالى ـ (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ) (٢) وليس في أخذ الصاعقة لهم ما يدل على امتناع ما طلبوه ؛ بل إنما كان ذلك ؛ لأنهم طلبوا ذلك في معرض التشكيك في نبوة موسى ، وقصد (٣) إعجازه عن ذلك ؛ فأنكر الله ـ تعالى ـ ذلك منهم كما أنكر قولهم : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) (٤). وقولهم : (انزل علينا كتابا من السماء) (٥). وإن لم يكن ذلك مستحيلا نظرا إلى ما قصدوه من الإعجاز.

قولهم : المقصود من السؤال إنما هو ضم الدليل السمعى إلى الدليل العقلى للتأكيد ؛ فمندفع من وجهين :

الأول : أنه إذا كان عالما بإحالة الرؤية ؛ فلا يخفى أن العلم غير قابل للزيادة ، والنقصان ؛ فطلب التأكيد فيه ممتنع.

وعلى هذا قال بعض المتأولين : يجب صرف قول إبراهيم الخليل عليه‌السلام (أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) (٦) عن قصد التأكيد ؛ لعلمه بإحياء الله ـ تعالى ـ الموتى لما ذكرناه إلى مخاطبة جبريل بذلك عند نزوله إليه بالوحى ؛ ليعلم أنه من عند الله ـ تعالى ـ وهو بعيد لوجهين :

الأول : أنه خاطب به الرب ـ تعالى ـ بقوله (رَبِّ أَرِنِي) ، وجبريل ليس برب.

الثانى : أن إحياء الموتى غير مقدور لجبريل ؛ فلا يحسن السؤال له بإحياء الموتى ؛ بل الأولى صرفه إلى ما نقل عنه ـ عليه‌السلام ـ أنه كان قد أوحى الله ـ تعالى ـ

__________________

(١) سورة الأعراف ٧ / ١٣٨.

(٢) سورة النساء ٤ / ١٥٣.

(٣) فى ب (وقصدوا).

(٤) سورة الإسراء ١٧ / ٩٠.

(٥) حكى القرآن عنهم ذلك في قوله تعالى (يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء ...)

(٦) سورة البقرة ٢ / ٢٦٠.


إليه «أننى (١) أتخذ (١) إنسانا خليلا ، وعلامته أننى أحيى الموتى بسبب دعائه» ؛ فوقع في قلبه أنه ذلك الإنسان ؛ فطلب ذلك ؛ ليطمئن قلبه بأنه هو ذلك الخليل.

الثانى : وإن أمكن طلب تأكيد العلم بإحالة الرؤية بضم الدليل السمعى إلى العقلى ؛ فقد كان يمكن ذلك بطلب إظهار الدليل السمعى له من غير أن يسأل (٢) الرؤية مع إحالتها.

قولهم : أنه لو لم يكن عالما بإحالة الرؤية مع سؤاله لها فجوابه ما سبق ، وعدم معرفته بإحالة وقوع الرؤية في الدنيا إنما كان ؛ لأن الرؤية في الدنيا غير مستحيلة لذاتها ، ولا مانع منها لو لا الدليل السمعى / ؛ ولعله لم يكن قد علمه بعد ؛ ولا ظهر له إلا بعد السؤال ، وقوله ـ تعالى ـ : (لَنْ تَرانِي).

قولهم : إن ذلك لم يكن حراما في شرعه.

قلنا : وإن لم يكن حراما. غير أنه لا فائدة في طلب المحال ، وما لا فائدة فيه ؛ فمنصب النبي ينزه عنه.

قولهم : الصغائر جائزة على الأنبياء ، ممنوع على ما يأتى (٣).

قولهم : على الوجه الثانى : لا نسلم أنه علق الرؤية على شرط ممكن.

قلنا : لأنه علقها على استقرار الجبل ، واستقرار الجبل ممكن ؛ ولهذا فإنه لو فرض وجوده ، أو عدمه ؛ لا يلزم عنه لذاته محال.

قولهم : الشرط هو الاستقرار حالة الحركة على ما قرروه ؛ فمندفع فإنهم قالوا : الشرط هو الاستقرار في حالة وجود الحركة مع الحركة ؛ فهو زيادة إضمار في الشرط ، وترك لظاهر اللفظ من غير دليل ؛ فلا يصح.

وإن قالوا الشرط هو الاستقرار في الحالة التى وجدت فيها الحركة بدلا عن الحركة ؛ فلا يخفى جوازه.

__________________

(١) في ب (انى اتخذت).

(٢) فى ب (يطلب).

(٣) فى ب (على رأى بعض الأصحاب على ما يأتى). انظر الجزء الثانى ـ القاعدة الخامسة ل ١٦٨ / ب وما بعدها.


قولهم : إنه لا يلزم أن يكون المعلق على الممكن ممكنا على ما قرروه ؛ ليس كذلك ؛ فإنه لو قدر وجود الشرط فإن لم يوجد المشروط كان تعليق الوجود على الموجود ممتنعا ، وإن وجد المشروط ؛ فهو المطلوب.

وأما ما ذكروه من المعارضة بقوله ـ تعالى ـ (لَنْ تَرانِي) فمندفع لأربعة أوجه :

الأول : أنا لا نسلم أن لن للتأبيد ؛ بل للتأكيد ؛ بدليل قوله ـ تعالى ـ : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً) (١) مع أنهم يتمنونه في الآخرة.

الثانى : أنها وإن كانت للتأبيد ؛ ولكن يحتمل أنه أراد به عدم الرؤية في الدنيا ، وهو الأولى لأن يكون الجواب مطابقا لسؤال موسى عليه الصلاة والسلام ، وهو لم يسأل الرؤية في غير الدنيا.

الثالث : أنها وإن دلت على التأبيد مطلقا ، فغايته انتفاء وقوع الرؤية ، ولا يلزم منه ، انتفاء الجواز.

الرابع : وإن دل على انتفاء الجواز من الوجه الّذي ذكروه غير (٢) أنه يدل على الجواز من (٣) حيث أنه أحال (٣) انتفاء الرؤية على عجز الرائى وضعفه عن الرؤية بقوله : (لَنْ تَرانِي). ولو كانت رؤيته غير جائزة ؛ لكان الجواب لست بمرئى كما لو قال : أرنى أنظر إلى صورتك ، ومكانك ؛ فإنه لا يحسن أن يقال : لن ترى صورتى ، ولا مكانى ؛ بل لست بذى صورة ، ولا مكان.

وقول موسى عليه‌السلام (تُبْتُ إِلَيْكَ) مما لا ينهض شبهة في جواز خطابه ، وجهله بجواز الرؤية لوجهين :

الأول : هو أن التوبة قد تطلق بمعنى الرجوع ، وإن لم يتقدمها ذنب. ومنه قوله ـ تعالى ـ : (تابَ عَلَيْهِمْ) (٤) : أى رجع عليهم بالتفضل / والإنعام.

__________________

(١) سورة البقرة ٢ / ٩٥.

(٢) فى ب (على).

(٣) فى ب (من جهة أنه حال).

(٤) سورة التوبة ٩ / ١١٨.


وعلى هذا : فلا يبعد أن يكون المراد من قوله : (تُبْتُ إِلَيْكَ) : أى رجعت (١) عن طلب الرؤية عند قوله ـ تعالى ـ (لَنْ تَرانِي) وقوله ـ عليه‌السلام ـ : (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) (٢) ليس المراد به ابتداء الإيمان منه في تلك الحالة بالله ـ تعالى ؛ بل المراد إضافة الأولوية إليه لا إلى الإيمان ، ومعناه : وأنا أول المؤمنين.

الثانى : أنه وإن كانت توبته تستدعى سابقة الذنب ؛ فليس فيه ما يدل على أن الذنب في سؤاله ؛ بل جاز أن تكون التوبة عما تقدم من الذنوب قبل السؤال ؛ لما رأى من الأهوال ، والآية العظيمة من تدكدك الجبل ، على ما هو عادة المؤمنين الصلحاء من تجديد التوبة عما سلف ، إذا رأوا آية (٣) عظيمة (٣) ، وأمرا مهولا.

__________________

(١) فى ب (رجعت إليك).

(٢) سورة الأعراف ٧ / ١٤٣.

(٣) فى ب (الآية).


الفصل الثانى

في بيان وقوع الرؤية في الآخرة للمؤمنين

وقد احتج بعضهم (١) على ذلك بمسلك ضعيف ، وهو أن قال : الأمة في هذه المسألة على قولين :

فمنهم من قال : بجواز الرؤية ، ووقوعها في القيامة للمؤمنين.

ومنهم : من نفى الأمرين. وقد ثبت بالدليل جواز الرؤية ؛ فيلزم منه وقوع الرؤية ، وإلا كان القول بالجواز ، وامتناع (٢) وقوع الرؤية (٢) ، قولا ثالثا خارقا للإجماع ؛ وهو باطل.

وهو غير صحيح ؛ فإن خرق الإجماع إنما يكون بالقول بإثبات ما اتفق الإجماع على نفيه ، أو نفى ما اتفق الإجماع على إثباته ؛ وذلك غير متحقق فيما نحن فيه.

فإن القول الثالث : إنما هو التفصيل ، ولا معنى له غير القول بالجواز ، والقول بانتفاء الوقوع. والقول بالجواز ليس على خلاف قول الإجماع ؛ إذ فيه موافقة مذهب من قال به ، والقول بانتفاء الوقوع ليس خارقا للإجماع ؛ بل فيه موافقة مذهب القائل به ؛ ففى كل طرف قد وافق مذهب ذى مذهب ، لا أنه خارق للإجماع.

وهذا كما أن القائل في مسألة المسلم بالذمى ، والحر بالعبد قائلان. فقائل بجريان القصاص فيهما ، وقائل بنفيه فيهما. ومن صار إلى جواز قتل المسلم بالذمى ، لقيام دليله في نظره ، لا يلزمه أن يقول بذلك في الحر بالعبد ، من غير دليل ، ولا يكون بذلك خارقا للإجماع ، ولا ممنوعا منه بالإجماع.

والمعتمد في ذلك قوله ـ تعالى ـ : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ* إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) (٣)

__________________

(١) هو الإمام الرازى انظر المحصل ص ٤٤١ وما بعدها ، وشرح المواقف ٢ / ٣٧٣.

(٢) فى ب (مع امتناع الوقوع).

(٣) سورة القيامة ٧٥ / ٢٢ ، ٢٣. وهذه الآية الكريمة التى أوردها الآمدي هنا على أنها الدليل المعتمد على وقوع الرؤية في الآخرة للمؤمنين ؛ أوردها القاضى عبد الجبار المعتزلى في المغنى على أن الاستدلال بها من شبه الخصوم ، ووجه الآية توجيها يتفق مع مذهبه انظر المغنى ٤ / ١٩٧ ـ ٢١٧ ، وانظر الأصول الخمسة ص ٢٤٢ ـ ٢٤٨ والمحيط بالتكليف ص ٢١٢ ، ٢١٣.


ووجه الاحتجاج منه أن النظر قد يطلق / فى لغة العرب بمعنى الانتظار ومنه قوله ـ تعالى ـ (انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) (١) : أى (٢) انتظرونا (٢). وقوله تعالى ـ : (ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) (٣) : أى ينتظرون وقوله ـ تعالى ـ : (فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) (٤).

ومنه قول الشاعر :

فإن يك صدر هذا اليوم ولى

فإنّ غدا لناظره قريب (٥)

أى لمنتظره. وإذا استعمل النظر بإزاء هذا المعنى استعمل من غير صلة.

وقد يطلق ويراد به التفكر والاعتبار : واذا استعمل بإزائه وصل بفى. ومنه يقال : نظرت في المعنى الفلانى : أى فكرت فيه ، واعتبرت.

وقد يطلق بمعنى التعطف ، والرأفة. واذا استعمل بالرأفة ، وصل باللام ومنه [قولهم (٦) : نظر فلان لفلان ، أى تعطف عليه ، ورأف به (٦)]

وقد يطلق بمعنى الرؤية والإبصار : وإذا استعمل بإزائه وصل بإلى ، ومنه قول الشاعر:

نظرت إلى من حسّن الله وجهه

فيا نظرة كادت على وامق تقضى

والمراد به الرؤية. والنظر في الآية موصول بإلى ؛ فوجب حمله على الرؤية والإبصار.

فان قيل : النظر الّذي هو صفة الوجوه إنما يمكن حمله على الرؤية أن لو كانت الوجوه بمعنى الجوارح ؛ وليس كذلك ؛ بل المراد بالوجوه في الآية الأنفس (٧) ، والأشخاص (٧) الشريفة النفيسة بالإيمان دون الجوارح.

__________________

(١) سورة الحديد ٥٧ / ١٣.

(٢) ساقط من ب

(٣) سورة يس ٣٦ / ٤٩.

(٤) سورة النمل ٢٧ / ٣٥.

(٥) القائل : قراد بن أجدع ـ انظر مجمع الأمثال للميدانى ـ المطبعة البهية سنة ١٣٤٢ ه‍ ١ / ٦٣ ، ٦٤.

(٦) فى ب (قوله : نظر فلان لفلان أى تعطف به ورأف به). وفي أ (قولهم : نظر فلان أى تعطف عليه ورأف به).

(٧) فى ب (الأشخص والأنفس).


ولهذا يقال : أقبل وجوه القوم : أى رؤساؤهم ، وأشرافهم. ويدل على ذلك قوله ـ تعالى (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ) (١). والأصل اتحاد المفهوم من لفظ الوجوه هاهنا ، وليس المراد من قوله : (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ) الوجوه (٢) بمعنى الجوارح بدليل قوله ـ تعالى ـ (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ).

والظن ليس للوجوه بمعنى الجوارح ؛ [فكذلك (٣) فى الوجوه الناظرة.

سلمنا أن الوجوه بمعنى الجوارح (٣)] ؛ ولكن لا نسلم أن المراد من النظر المضاف إليها الرؤية.

قولكم : إن النظر الموصول بإلى في اللغة : للرؤية.

قلنا : لا نسلم أن إلى هاهنا (٤) حرف ، وبيانه هو أن (٤) إلى قد تكون اسما ، فإن (٥) إلى (٥) واحد الآلاء أى النعم. ومنه قول الشاعر :

أبيض لا يرهب النزال ولا

يقطّع رحما ولا يخون إلى

وقد ترد بمعنى عند. ومنه قول الشاعر :

فهل لكم فيما إلى فاننى

طبيب بما أعيى النّطاسى حذيما (٦)

أى فيما عندى.

وعلى هذا فبتقدير أن يكون بمعنى واحد الآلاء ؛ فيكون معنى قوله (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) (٧) : أى نعمة ربها منتظرة. وعلى تقدير أن يكون بمعنى عند ؛ فيكون معناه وجوه يومئذ ناظرة إلى / ربها ناظرة : أى عند ربها منتظرة نعمة ربها.

__________________

(١) سورة القيامة ٧٥ / ٢٤.

(٢) ساقط من ب.

(٣) من أول (فكذلك في الوجوه ...) ساقط من أ.

(٤) فى ب (هاهنا وبيانه أن).

(٥) فى ب (فإنها).

(٦) القائل : أوس بن حجر انظر خزانة الأدب ٤ / ٣٧٣ تحقيق عبد السلام هارون نشر الدار القومية ـ وقد استشهد به صاحب الكشاف وذكره في تفسيره ١ / ١٧١.

(٧) سورة القيامة ٧٥ / ٢٢ ، ٢٣.


سلمنا أن إلى هاهنا حرف ؛ ولكن لا نسلم أن إلى بمعنى الحرف إذا اقترنت بالنظر تكون للرؤية ، بل قد يرد ذلك بمعنى تقليب الحدقة إلى جهة المرئى. ومقابلتها له. ومنه يقال:

جبلان متناظران. إذا تقابلا.

وقد يرد بمعنى الانتظار.

وقد يرد بمعنى الرحمة.

وقد يرد بمعنى التفكر ، والاعتبار.

أما الأول : فبيانه من ستة أوجه :

الأول : أنه يصح أن يقال : نظرت إلى الهلال فلم أره. ولو كان النظر بمعنى الرؤية ؛ لكان متناقضا. ولو كان بمعنى (١) تقليب الحدقة إليه ؛ لكان حقا (١).

الثانى : أنه يصح أن يقال : ما زلت أنظر إلى الهلال حتى رأيته. ولو كان النظر بمعنى الرؤية ؛ لكان النظر غاية لنفسه ، ولا كذلك في تقليب الحدقة.

وأيضا فإنه يصح أن يقال : نظرت فرأيت. فترتب الرؤية على النظر بفاء التعقيب [يدل (٢)] على المغايرة. والّذي ترتب عليه الرؤية ؛ إنما هو تقليب الحدقة.

الثالث : أنه يصح أن يقال : أما ترى كيف ينظر فلان إلى فلان. ولو كان النظر هو الرؤية ؛ لما كان مرئيا بخلاف تقليب الحدقة.

الرابع : قوله ـ تعالى ـ : (وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) (٣) والمراد بالنظر هاهنا تقليب أحداقهم نحوه بدليل قوله ـ تعالى ـ : (وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ). ولو كان النظر بمعنى الرؤية ؛ لكان (٤) متناقضا.

__________________

(١) فى ب (المعنى توجيه الحدقة إليه كان حقا).

(٢) فى أ (فدل).

(٣) سورة الأعراف ٧ / ١٩٨.

(٤) فى ب (لما كان).


الخامس : هو أن النظر الموصول بإلى قد يوصف بما لا توصف به الرؤية من الصلابة ، والشدة ، والغضب (١) ، والازورار ، والرضا ، والتحير ، والذل ، والخشوع ، ونحو ذلك. وذلك بما تكون عليه عين الناظر من الأوضاع المختلفة ، والتقليب المخصوص ، والكيفية في تحريكها. ومن المعلوم أن الرؤية لا تختلف باختلاف هذه الأحوال ، ولا توصف بها ، فإن العرب لا تصف إلا ما تراه ؛ فدل على أن النظر بمعنى تقليب الحدقة ؛ لا بمعنى الرؤية.

السادس : أنه يصح الأمر بالنظر ، والنهى عنه فيقال : انظر إلى فلان ، ولا تنظر إلى فلان ، ومتعلق الأمر ، والنهى ما كان مقدورا للناظر ؛ والرؤية غير مقدورة له ؛ بخلاف تقليب الحدقة ؛ فكان هو المراد بالنظر.

وأما الثانى : وهو بيان أن النظر قد يرد بمعنى الانتظار وإن كان موصولا بإلى ، وذلك مما نقل عن العرب أنها تقول : نظرت إلى فلان بمعنى انتظرته ويقال : نظرى إلى الله ، ثم إلى فلان / : أى انتظارى ، ولهذا يصح هذا الإطلاق ممن لا رؤية له كالأعمى.

ومن قول الشاعر :

ويوم بذى قار رأيت وجوههم

إلى الموت من وقع السّيوف نواظرا (٢)

أى منتظرة ضرورة أن الموت لا يرى.

وأيضا قول الشاعر :

وجوه ناظرات يوم بدر

إلى الرحمن يأتى بالفلاح (٣)

أى بالفرج من عنده.

وأيضا قول الشاعر :

إنّى أليك لما وعدت لناظر

نظر الذّليل الى العزيز القاهر (٤)

أى منتظر.

__________________

(١) فى ب (والضعف).

(٢) ورد هذا البيت في أصول الدين للبغدادى ص ١٠٠ ، وقد أورده الآمدي أيضا في غاية المرام ص ١٧٥.

(٣) ورد في شرح الأصول الخمسة ص ٢٤٥ ، ٢٤٦ هكذا

وجوه يوم بدر ناظرات*

إلى الرحمن يأتى بالخلاص

ونسبه المحقق إلى حسان بن ثابت رضى الله عنه.

(٤) ورد هذا البيت في غاية المرام ص ١٧٥ بنصه المذكور هنا كما ورد في شرح الأصول لخمسة ص ٢٤٦ برواية أخرى هكذا :

إنى إليك لما وعدت لناظر*

نظر الفقير إلى الغنى الموسر


وأيضا : قول الشاعر :

كلّ الخلائق ينظرن نحاله (١)

نظر الحجيج إلى طلوع هلال (٢)

وقال آخر :

وجوه بها ليل الحجاز على النّوى

إلى مكّة نحو المعاريف ناظرة

والمراد به الانتظار ؛ لاستحالة الرؤية في مثل (٣) هذه الصورة (٣).

وقال الآخر :

وشعث ينظرون إلى بلال

كما نظر الظّماة حيا الغمام

وحيا الغمام لا يرى ، وإنما ينتظر ؛ فكذلك المشبه به.

وأما بيان الثالث : فقوله ـ تعالى ـ فى حق الكفار (وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ) (٤) وليس المراد به الرؤية ، فإنه كان يراهم.

وليس المراد ؛ نفى النظر بمعنى تقليب الحدقة ؛ وإلا كان معناه ولا يقلب حدقته إلى (٥) جهتهم (٥) ؛ وهو محال.

ولا بمعنى الانتظار والاعتبار ؛ فإنه يتعالى ، ويتقدس عن ذلك ؛ فكان محمولا على ترك الرحمة.

وأما بيان الرابع : فقوله ـ تعالى ـ : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) (٦).

ليس المراد بالنظر المحثوث عليه (٧) الرؤية ، ولا تقليب الحدقة لمشاركة (٨) الكفار (٨) فى ذلك. ولا الانتظار ؛ فلم يبق إلا التفكر ، والاعتبار.

سلمنا أن النظر الموصول بإلى للرؤية حقيقة ، ولكن للرؤية (٩) المشترطة (٩) بالشروط المذكورة من قبل في النظر ، أم لا. الأول : مسلم ، والثانى : ممنوع.

__________________

(١) فى ب (سجالة).

(٢) ورد هذا البيت في المواقف ص ٣٠٦ كما ورد هنا في أ.

(٣) فى ب (فى هذه الصور).

(٤) سورة آل عمران ٣ / ٧٧.

(٥) فى ب (إليهم).

(٦) سورة الغاشية ٨٨ / ١٧.

(٧) فى ب (المندوب إليه).

(٨) فى ب (لمشاركتهم للكفار).

(٩) فى ب (النظر المشروطة).


وبيانه : أن القرآن أنزل بلغة العرب على ما قال ـ تعالى (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) (١) وقوله تعالى : ـ (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) (٢). والعرب ما كانت تفهم من الرؤية غير ما ذكرناه ؛ فكان اسم (٣) النظر موضوعا بإزائها ؛ وذلك في حق الله ـ تعالى ـ محال.

وإذا تعذر حمل لفظ النظر على حقيقته ؛ فلا بد من التجوز حذرا من تعطيل اللفظ ؛ وذلك بحمله على الانتظار ، أو غيره مما يحتمله اللفظ.

سلمنا أنه للرؤية مطلقا ؛ ولكن يجب تأويله بحمله على رؤية ثواب الرب ـ تعالى ـ بطريق حذف المضاف ، وإقامة المضاف إليه مقامه. ودليل وجوب العمل بهذا التأويل : السمع ، والعقل.

أما السمع : فقوله ـ تعالى ـ : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) (٤) / فهذه الآية صريحة في نفى إدراك الله ـ تعالى ـ بالأبصار.

كيف وقد ورد ذلك في معرض التمدح ، والاستعلاء ، فلو أمكن أن يكون مدركا في وقت ما ؛ لزال عنه التمدح ، والاستعلاء ؛ وهو محال ؛ والجمع بين العمل بها (٥) ، وبظاهر ما ذكرتموه ؛ ممتنع.

وعند ذلك فلا بد من تأويل ما ذكرتموه حذرا من تعطيل أحد الدليلين.

وأيضا : قوله ـ تعالى ـ : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) (٦). دل على امتناع الرؤية في حق من يكلمه فمن لا يكلمه أولى أن لا يراه ، ولأنه لم يفرق أحد من الأمة بينهما.

وأيضا : قوله ـ تعالى : ـ (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً) (٧) وصف من سأل رؤيته بالعتو ، ولو كانت الرؤية غير ممتنعة ؛ إما لذاتها أو لغيرها ؛ لما كان كذلك كما لو سأل غيرها من الممكنات.

__________________

(١) سورة يوسف ١٢ / ٢.

(٢) سورة ابراهيم ١٤ / ٤.

(٣) ساقط من ب.

(٤) سورة الانعام ٦ / ١٠٣.

(٥) فى ب (بهذه الآية).

(٦) سورة الشورى ٤٢ / ٥١.

(٧) سورة الفرقان ٢٥ / ٢١.


وأيضا : فإن الله ـ تعالى ـ عاقب من سأل رؤيته بدليل قوله (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) (١)

وقوله ـ تعالى ـ : (فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ) (٢). ولو كانت الرؤية جائزة ، أو واقعة ، لما عاقبهم على سؤالهم. كما لو سألوا غيرها من الممكنات.

وأيضا : قوله ـ تعالى ـ للكليم : (لَنْ تَرانِي) ولن للتأبيد ؛ فغير موسى أولى أن لا يراه.

وأما من جهة المعقول : فمن ثلاثة أوجه :

الأول : أن المرئى لا بدّ وأن يكون مقابلا للرائى ؛ كالأجسام ، أو في حكم المقابل ، كالأعراض. ورؤية الإنسان وجهه في المرآة ؛ إذ ليس هو في مقابلة وجهه وذلك يوجب كون المرئى جوهرا ، أو عرضا ، وأن يكون في حيز وجهة ؛ وذلك على الله ـ تعالى ـ محال.

الثانى : أن المرئى لا بدّ من انطباع صورته في العين الباصرة ، وأن يكون متلونا متشكلا مقدرا ؛ على ما سلف ؛ وذلك في حق الله تعالى ـ محال.

الثالث : أنه وإن كانت هذه الشروط ، شروطا في رؤية الأجسام والبارى ـ تعالى ـ ليس بجسم ؛ فلا بد من اشتراط سلامة الحاسة وأن يكون الرب ـ تعالى ـ بحيث يصح أن يرى ، والحاسة سالمة ، فلو كان بحيث يصح أن يرى لرئي في الدنيا ؛ لأنه يلزم من وجود شروط الإدراك ، وجود الإدراك ضرورة ؛ فحيث لم ير في الدنيا ؛ علم أنه ليس بحال أن يرى.

والجواب :

قولهم : المراد بالوجوه الأشخاص ، عنه / أجوبة [ثلاثة] (٣) :

__________________

(١) سورة البقرة ٢ / ٥٥.

(٢) سورة النساء ٤ / ١٥٣.

(٣) ساقط من أ.


الأول : المنع ، وبيانه أن المتبادر من لفظ الوجوه عند الإطلاق إنما هو الجوارح ، والأصل في كل ما كان كذلك أن يكون حقيقة فيه. وحيث تطلق الوجوه على الرؤساء ، والأشراف ؛ فإنما كان بطريق المجاز تشبيها بالوجوه ؛ حيث كانت أشرف الأعضاء ، وأجلها.

قولهم : المراد بالوجوه الباسرة الأشخاص ؛ فكذلك الوجوه الناضرة. عنه جوابان :

الأول : لا نسلم أن الوجوه الباسرة هى الأشخاص ، واتصافها بالظن في يوم القيامة على خلاف العادة ؛ غير ممتنع كما في استنطاق الأيدى والأرجل بالشهادة على ما قال ـ تعالى ـ (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ) (١).

الثانى : وإن لزم (٢) التجوز في الوجوه الباسرة ؛ فلا يلزم التجوز مطلقا.

سلمنا أن لفظ الوجوه غير ظاهر بحكم الوضع في الجوارح ، غير أنه قد اقترن بها ما يدل على كونها هى المرادة.

وبيان (٣) إمكانه (٣) : أنه وصفها بالنضارة ، وهى الإشراق ، وتهلل الأسارير ، وذلك إنما (٤) توصف به الوجوه بمعنى الجوارح ، لا بمعنى الشرفاء ، والرؤساء.

سلمنا أن المراد بالوجوه الأشخاص ، والأنفس ، ولكن ليس في إضافة النظر إليها ما يمنع من حمله على الرؤية إذا كان موصولا بإلى ولو قال ـ تعالى ـ : «أشخاص يومئذ ناظرة إلى ربها ناظرة» ؛ كان ذلك محمولا على الرؤية.

قولهم : إن إلى قد تطلق بمعنى واحد الآلاء ، وبمعنى عند ، عنه جوابان.

الأول : أن ذلك وإن كان سائغا إلا أنه على خلاف الظاهر المتبادر إلى الفهم من إطلاق إلى ؛ فإنها مشهورة للحرفية دون ما ذكروه. والأصل فيما كان كذلك أن يكون هو الحقيقة.

__________________

(١) سورة النور ٢٤ / ٢٤.

(٢) فى ب (لم يقيد).

(٣) فى ب (وبيانه).

(٤) فى ب (أنه).


الثانى : وإن سلمنا عدم الظهور به ، بحكم الوضع في (١) الحرف غير أنه قد اقترن به (١) ما يدل على إرادة الحرفية ، حيث أن الآية إنما وردت تبشيرا للمؤمنين ، وتخصيصا لهم بالإنعام والإكرام ؛ وذلك لا يكون إلا بما هو نعمة ، وكرامة.

ولا يخفى تحقيق ذلك عند حمل إلى على الحرفية ؛ لأن النظر يكون بمعنى الرؤية ، ورؤية الله ـ تعالى ـ من أجل النعم ، والكرامات وهى (٢) من أعلا الدرجات (٢). ولو حمل إلى على واحد الآلاء ؛ فيكون تقدير الكلام وجوه يومئذ ناضرة نعمة ربها ناظرة.

وقوله ناظرة : إما بمعنى الرؤية ، أو بمعنى الانتظار.

فإن كان الأول : فلا يخفى أن رؤية النعمة لا تكون نعمة ، ولهذا : فإنه قد يشترك في رؤية نعمة الله ـ تعالى ـ المؤمنون ، والكفار (٣).

وإن كان الثانى : فانتظار النعمة لا يكون نعمة ، بل عذابا ، ومنه / قولهم : الانتظار الموت الأحمر ، فلا يصلح ذلك للتبشير ، وكذلك أيضا لو حمل على معنى عند ، فيكون تقدير الكلام : وجوه يومئذ ناظرة عند ربها ناضرة ، ولا بد من إضمار ثواب ربها ، أو نعمة ربها ، وسواء كان النظر بمعنى الرؤية ، أو الانتظار ، وفيه مع ما ذكرناه من المحذور زيادة الإضمار ؛ والإضمار على خلاف الأصل.

قولهم : لا نسلم أن إلى إذا اقترنت بالنظر تكون للرؤية.

قلنا : دليله ما سبق.

قولهم : يصح أن يقال : نظرت إلى الهلال ؛ فلم أره. لا نسلم صحة ذلك في وضع اللغة ؛ بل الّذي تقوله العرب نظرت إلى مطلع الهلال ؛ فلم أر الهلال. وربما حذف المطلع ، وأقيم المضاف إليه مقامه تجوزا ، واستعارة.

وعلى هذا يكون الجواب عن قولهم : ما زلت أنظر إلى الهلال حتى رأيته.

وقولهم (٤) : نظرت فرأيت من باب التأكيد ؛ وذلك جائز عند اختلاف الألفاظ ؛ وإن اتحد المعنى. ومنه قول امرئ القيس :

__________________

(١) فى ب (فى الحرفية غير انها قد اقترن بها).

(٢) من أول (وهى ...) ساقط من ب.

(٣) فى ب (والكافرون).

(٤) فى ب (وقوله).


مكر مفر مقبل مدبر معا

كجلمود صخر حطّه السّيل من عل

أضاف الجملود إلى الصخر ، وهما بمعنى واحد.

وعلى هذا فإنه يحسن أن يقال : أدركته ؛ فرأيته.

وقولهم : انظر كيف ينظر فلان إلى فلان ؛ فهو تجوز باسم الرؤية عن تقليب الحدقة ؛ لأن تقليب الحدقة سبب للرؤية في الغالب ، والتجوز باسم المسبب عن السبب ؛ جائز.

وهذا هو الجواب عن قوله ـ تعالى ـ (وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) (١).

قولهم : إن النظر قد يوصف بما لا توصف به الرؤية الحقيقية ليس كذلك. ولا مانع من [اتصافها (٢)] بما ذكروه من الصفات.

قولهم : إن العرب لا تصف إلا ما تراه ؛ ليس كذلك ؛ فإنها (٣) كما تصف المرئيات ، فقد تصف (٣) ما لا يرى في مجارى العادات : كالشجاعة ، والجبن ، والكرم ، والبخل ، والبر ، والعقوق ، والعشق ، والشوق ، ونحو ذلك وفيما نحن فيه خاصة ؛ فإنهم يصفون النظر بمعنى الرؤية ومنه قول الشاعر :

نظرت إلى من حسّن الله وجهه

فيا نظرة كادت على وامق تقضى

قولهم : إن النظر مأمور به ، ومنهى عنه.

قلنا : الأمر ، والنهى ؛ وإن كان لا يتعلق بغير المقدور ، فإذا أضيف الأمر إلى النظر الموصول بإلى ؛ فهو حقيقة في الرؤية غير أنه لما تعذر حمل الأمر عليه ، لكونه غير مقدور تجوز به عن سببه ؛ وهو تقليب الحدقة كما سبق.

قولهم : إن النظر الموصول / بإلى قد يرد بمعنى الانتظار لا نسلم ذلك ، والناقل عن العرب أنها تقول : نظرت إلى فلان بمعنى انتظرته ، إن كان غير موثوق به ؛ فلا التفات إليه.

وان كان موثوقا به ؛ فنقله مرجوح بالنسبة إلى النقل المشهور المأثور عنهم ، أنهم قالوا : النظر الموصول بإلى لا يكون إلا بمعنى الرؤية ؛ فإنه لا يقال نظرت إلى فلان بمعنى انتظرته ؛ بل إذا أريد به الانتظار قيل نظرته ، وانتظرته لا غير.

__________________

(١) سورة الأعراف ٧ / ١٩٨.

(٢) فى أ (صفاتها).

(٣) فى ب (فإنه كما يوصف المرئيات قد يصف).


وقولهم : نظرى إلى الله ، وإلى فلان. معناه (١) أننى أرتقب الخير ، والفرج (١) من الله. وفلان ينظر إلى جهة فلان ، وإلى السماء ؛ إذ هى في نظر أهل اللغة ، والعرف جهة الله ـ تعالى ـ ؛ ولهذا يرفع الناس أيديهم بالدعاء (٢) إليها.

وعلى هذا يكون الجواب عن قول الشاعر :

وجوه ناظرات يوم بدر

إلى الرحمن يأتى بالفلاح (٣)

وقول الشاعر : إلى الموت من وقع السيوف نواظرا.

فمحمول على الرؤية الحقيقية أيضا ، والمراد به رؤية الكرّ ، والفرّ ، والضّرب ، والطّعن المفضى إلى الموت ، تعبرة باسم المسبب عن السبب ويحتمل أن يكون المراد بالموت أهل الحرب الّذي يجرى الموت على أيديهم تجوزا ، واستعارة.

ومنه قول جرير :

أنا الموت الّذي خبرت عنه

فليس لهارب منه نجاء (٤)

وقول الشاعر : إنّى إليك لما وعدت لناظر.

فمحمول أيضا على الرؤية. ومعناه ناظر إلى جهتك ارتقب إنجاز الوعد.

وقوله : كل الخلائق ينظرون سجاله : أى يرون. ولا يمتنع حمل النظر المطلق على الرؤية ، وإنما الّذي يمتنع حمل النظر الموصول بإلى على غير الرؤية.

وكذلك أيضا قوله (٥) : نظر الحجيج إلى طلوع هلال. بمعنى الرؤية : ويكون تقدير الكلام : كل الخلائق يرون سجاله كما يرى الحجيج طلوع الهلال.

وقول الشاعر : إلى ملك نحو المغارب ناظرة.

__________________

(١) فى ب (معناه ارتقب الفرج والخير).

(٢) فى ب (فى الدعاء).

(٣) ذكر شارح المواقف ٢ / ٣٧٤ ـ أن أحد الرواة روى هذا البيت برواية أخرى

وجوه ناظرات يوم بكر*

إلى الرحمن يأتى بالفلاح

وأن قائله من أتباع مسيلمة الكذاب. والمراد بيوم بكر يوم القتال مع بنى حنيفة ؛ لأنهم بطن من بكر بن وائل ، وأراد بالرحمن مسيلمة ؛ وعلى هذا فالجواب ظاهر.

(٤) انظر ديوان جرير ص ١٤. ط دار صادر ببيروت.

(٥) ساقط من ب.


فقد قيل : إن هذا البيت من اخلاف (١) المتأخرين الذين لا احتجاج بأقوالهم.

وإن كان حجة ، فالمراد به الرؤية أيضا. ومعناه (٢) : أنهم ناظرون إلى جهة الملك في المغارب ؛ لارتقاب الإحسان ؛ والإنعام.

وقول الشاعر : وشعث ينظرون إلى بلال.

فالمراد أيضا به الرؤية.

وقوله كما نظر الظماء حيا الغمام فالمراد به الرؤية أيضا ؛ إذ لا يمتنع حمل النظر المطلق على الرؤية كما سبق. / والمراد بحيا الغمام الماء النازل منه الّذي هو سبب الحياة.

ثم وإن سلمنا أن النظر الموصول بإلى قد يطلق بمعنى الانتظار غير أنه مجاز بعيد ، والحقيقة ما ذكرناه ؛ فلا يترك الا بدليل.

وإن سلمنا أنه ظاهر في الانتظار ، غير أنه يمتنع حمل النظر في الآية عليه ؛ لوجوه خمسة :

الأول : هو أن الآية إنما وردت لتبشير المؤمنين ، وتخصيصهم بالإنعام عليهم ، وذلك لا يكون إلا بما هو نعمة ؛ والانتظار نقمة لا نعمة على ما سلف ؛ فيكون بعيدا عن المقصود.

الثانى : أن الانتظار لا معنى له غير (٣) التطلع ، والتوقع لما عساه أن يكون وألا يكون ، ومن يتيقن حصول ما يريده في وقته ، ولا يتخلف عنه على الاستمرار ، والدوام ؛ فلا يسمى منتظرا.

ولهذا لما كان الرب ـ تعالى ـ عالما بما (٤) يريده (٤) فى وقته من غير تخلف لم يسم منتظرا ، وأهل الجنان مستيقنون (٥) بدوام (٥) نعم الله ـ تعالى ـ عليهم ؛ فلا يصح اتصافهم بالانتظار.

__________________

(١) فى ب (اختلاق).

(٢) فى ب (والمراد).

(٣) فى ب (سوى).

(٤) فى ب (بما يقع مما يريده).

(٥) فى ب (مستفنون لدوام).


الثالث : هو أن النظر مضاف إلى الرب ـ تعالى ـ بقوله : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) فلو حمل النظر على الانتظار. فإما أن يكون المنتظر هو الرب (١) ـ تعالى ـ أو غيره.

فإن كان الأول : فهو محال ؛ إذ الرب ـ تعالى ـ لا ينتظر نفسه ؛ إذ الانتظار توقع وقوع أمر ما ، والرب ـ تعالى ـ لا يتوقع وقوعه.

وإن كان الثانى ؛ فيلزم منه الإضمار ؛ وهو خلاف الأصل.

الرابع : هو أن الموصوف بالنظر الوجوه ؛ وهى بمعنى الجوارح ؛ كما سبق ؛ والوجوه بمعنى الجوارح لا توصف بالانتظار.

الخامس : أن الوجوه الموصوفة بكونها ناظرة ، موصوفة بالنضارة بقوله : وجوه يومئذ ناضرة ، والنضارة ، والابتهاج إنما (٢) تحصل بالنظر ، لا بالانتظار (٢).

وأما قوله ـ تعالى ـ فى حق الكفار : (وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ) فمحمول أيضا على النظر الحقيقى ؛ وهو الرؤية. غير أن النظر الحقيقى ينقسم إلى نظر سخط : وهو ما يتعقبه العقوبة. وإلى نظر رحمة : وهو ما يتعقبه الإحسان ، والرأفة. وعند ذلك : فلا يلزم من كونه غير ناظر إليهم نظر رحمة ألا يكون ناظرا إليهم أصلا ؛ فإنه لا معنى لنظر الرحمة ، غير النظر الّذي يعقبه الصفح والعفو ، فإذا لم يعقب نظره إليهم العفو ، والصفح. قيل لم ينظر إليهم نظر رحمة ؛ وإن كان ناظرا إليهم (٣) حقيقة.

وأما قوله ـ تعالى ـ (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) (٤). فالمراد به النظر الحقيقى. غير أن النظر الحقيقى في حقنا ينقسم : / إلى ما يعقبه الاعتبار. وإلى ما لا يعقبه الاعتبار. والمراد من الآية إنما هو النظر الأول دون الثانى ، وذلك لا ينافى النظر الحقيقى.

قولهم : إنه حقيقة في النظر ، المشروط بالشروط المعتبرة من قبل.

قلنا : النظر حقيقة ، لا يختلف بالشروط وعدمها ؛ بل غايتها أن وجود النظر متوقف عليها ، لا نفس الحقيقة ؛ إذ شرط الوجود لا يكون داخلا في المفهوم من النظر.

__________________

(١) فى ب (الله).

(٢) فى ب (لا يحصل الا بالانتظار).

(٣) فى ب (لهم).

(٤) سورة الغاشية ٨٨ / ١٧.


وعند ذلك فيجب حمله على مطلق النظر ؛ إذ هو المفهوم منه.

وأما اعتبار الشروط ، وعدم اعتبارها ؛ فمأخوذ من الدليل العقلى ؛ وقد أبطلنا كل ما قيل فيه.

قولهم : وإن كان النظر حقيقة في مطلق الرؤية ، فيجب تأويله.

قلنا : الأصل إنما هو العمل باللفظ في حقيقته إلا أن يدل عليه دليل.

وقوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) (١). لا يدل على أن البارى ـ تعالى ـ غير مرئى إلا أن يكون الإدراك هو الرؤية.

ونحن إن سلكنا مذهب كثير من أئمتنا : كالقلانسى ، وعبد الله بن سعيد ، وغيره (٢) : وهو أن الله ـ تعالى ـ يرى ، ولا يدرك ؛ إذ الإدراك ينبئ عن اللحوق ، والإحاطة بالمدرك ، وتقديره ، وتحديده ؛ فقد اندفع الإشكال.

وإن سلكنا مسلك الشيخ أبى الحسن : من أن الإدراك بالرؤية ، هو الرؤية فنقول : إن نفى الإدراك عن الأبصار : إما أن يكون محمولا على نفيه عن الكل جملة ، أو عن البعض دون البعض ، أو عن كل واحد ، واحد. لا سبيل إلى نفيه عن كل واحد واحد ؛ لعدم دلالة اللفظ عليه.

وإن كان الأول ، والثانى ؛ فهو (٣) مسلم (٣) ؛ ولكن لا يلزم منه أن لا يكون مدركا في الجملة ؛ فإن نفى الإدراك عن الأبصار جملة ، لا يوجب النفى عن كل واحد ، واحد ، وكذلك النفى عن البعض ؛ لا يوجب النفى عن الباقى. ثم وان سلمنا أنه أراد به كل واحد ، واحد من الأبصار ؛ فنحن نقول به أيضا : فإن المدرك عندنا (٤) للبارى إنما هم المدركون دور الأبصار ، لا نفس الأبصار (٤).

فان قيل : فكما أن الأبصار لا تدركه ؛ فكذلك لا تدرك غيره (٥) ؛ فلا فائدة في التخصيص (٥).

__________________

(١) سورة الأنعام ٦ / ١٠٣.

(٢) انظر ما سبق ل ١٢٥ / أ.

(٣) فى ب (فمسلم).

(٤) فى ب (للبارى تعالى عندنا إنما هو المدركون وهم نفس ذوات الأبصار لا الأبصار).

(٥) فى ب (غيرها ولا فائدة للتخصيص).


قلنا : إنما يلزم انتفاء فائدة التخصيص ؛ أن لو انحصرت فائدة التخصيص في نفى حكم المنطوق عن المسكوت ؛ وهو غير مسلم.

ولعله كان لخصوص سؤال سائل عنه دون غيره ، أو لمعنى آخر.

وإن سلمنا أنه أراد بالأبصار المبصرين ؛ [ولكن لا نسلم] (١) أن الألف ، واللام للعموم.

وإن سلمنا أنها للعموم في الأشخاص ؛ فلا / نسلم أنها للعموم بالنظر إلى الأزمان ، ولا يلزم من العموم في الأشخاص ؛ العموم في الأحوال.

ولهذا فإنه لو قال قائل : كل من دخل إلى دارى فأعطيه درهما. فإنه وإن عم كل داخل ؛ فانه لا يعم كل زمان حتى إنه لو دخل مرة ثانية ، من دخل أولا ؛ فإنه لا يستحق شيئا.

قولهم : إنه لو جاز أن يرى في بعض الأزمان ؛ لزال عنه التمدح والاستعلاء ، عنه أجوبة ثلاثة :

الأول : أنا لا نسلم أنه أراد التمدح بكونه لا تدركه الأبصار ؛ فإنه وإن تميز بذلك عن غيره من المدركات ، فمشارك للمعدوم في ذلك بالإجماع منا ، ومن الخصوم. وللطعوم ، والروائح ، عندهم.

فإن قيل : ومشاركته لبعض الأشياء في نفى كونه مدركا ، لا يزيل حكم التمدح. ولهذا فإنه ـ تعالى ـ قد تمدح بقوله ـ تعالى ـ : (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) (٢) ولم يبطل حكم التمدح بكون بعض الأجسام ، وجمع الأعراض كذلك.

قلنا : ليس التمدح بنفى السّنة ، والنوم عنه ؛ بل بما نبه عليه بذلك من نفى الغفلة ، والذهول ، واستحالة خروجه عن كونه عالما ؛ وذلك موجود (٣) فى الأعراض ، وغيرها من الأجسام.

الثانى : وان سلمنا أنه أراد به التمدح ؛ ولكن لا نسلم أن معنى التمدح يبطل بسبب عدم استمرار ذلك في كل زمان ؛ فإنه ـ تعالى ـ كما يتمدح بالصفات النفسانية

__________________

(١) فى أ[ولا نسلم].

(٢) سورة البقرة ٢ / ٢٥٥.

(٣) فى ب (غير موجود).


اللازمة ؛ فقد يتمدح بالصفات الفعلية الغير لازمة (١) : ككونه (١) خالقا ، ورازقا ، وموجدا ، إلى غير ذلك.

ثم ولو كان التمدح لا يتم دون أن لا يكون مدركا مطلقا ؛ لما كان تخصيص الكفار بقوله ـ تعالى ـ : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) (٢). فائدة ؛ لعموم ذلك بالنسبة إلى غيرهم.

الثالث : وإن سلمنا لزوم ما به التمدح في كل زمان ؛ ولكنا نعلم أن ما أثبته لنفسه من الإدراك هو غير (٣) ما نفاه عن الأبصار.

وعند ذلك : فإما أن يكون إدراك الرب ـ تعالى ـ بمعنى الرؤية ، كما قاله البصريون من المعتزلة.

وإما بمعنى العلم لا بمعنى الرؤية ؛ كما قاله البغداديون منهم (٤).

فإن كان الأول : فهو محال على أصلهم حيث قالوا : إن الإدراكات لا تدرك (٥) والأبصار من الإدراكات ،

وإن كان الثانى : فمدلوله أن الأبصار لا تعلمه ، ولا يلزم من ذلك نفى الإدراك. كما لا يلزم من نفى الإدراك عن النفس (٦) نفى العلم.

وإن سلمنا أن الآية عامة مطلقا غير أنها عامة في كل الأشخاص ، والأزمان ، وأثبتنا خاصة في بعض الأشخاص ، وبعض الأزمان ، وإذا تعارض الخاص والعام ، كان الخاص مقدما ، على العام ؛ لقوة دلالته ، ولما فيه من الجمع بينه ، وبين العام ؛ فإنه لا يلزم من العمل بالخاص ؛ إبطال العام (٧) بالكلية ؛ لإمكان العمل (٨) به في غير محل التخصيص (٩) ؛ بخلاف العكس.

__________________

(١) فى ب (اللازمة لكونه).

(٢) سورة المطففين ٨٣ / ١٥

(٣) فى ب (عين).

(٤) انظر الأصول الخمسة للقاضى عبد الجبار ص ١٦٨.

(٥) فى ب (لا تبصر).

(٦) فى ب (الشيء).

(٧) فى ب (العمل).

(٨) فى ب (العلم).

(٩) فى ب (الخاص).


ولا يخفى أن الجمع بين الدليلين أولى من تعطيل أحدهما ، والعمل بالآخر.

سلمنا (١) ظهور ما ذكروه (١) / وترجحه ؛ ولكن إن دل على نفى الرؤية فلا يلزم (٢) منه (٢) انتفاء الجواز.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) (٣) ليس فيه ما يدل على كونه محجوبا حالة الوحى ؛ وإلا لما كان الترديد مفيدا.

وأما وصف من طلب الرؤية بالعتوّ ؛ فلم يكن لكونه غير مرئى ؛ بل لأنه طلب ذلك على طريقة (٤) التعجيز ، والتشكيك في نبوة المرسل إليه على ما سلف (٥).

وقوله ـ تعالى ـ (لَنْ تَرانِي) فقد سبق جوابه أيضا (٦).

وما ذكروه من الشبه العقلية ، فقد أبطلناها أيضا ؛ فيما تقدم (٧).

فهذا ما عندنا في هذه [المسألة (٨)] والله أعلم.

تم تحقيق الجزء الأول والحمد لله رب العالمين

ويليه إن شاء الله تعالى الجزء الثانى

وأوله النوع الرابع في إبطال التشبيه

وما لا يجوز على الله تعالى

__________________

(١) فى ب (وإن سلمنا ظهور ما ذكرتموه).

(٢) فى ب (فلا يدل على).

(٣) سورى الشورى ٤٣ / ٥١.

(٤) فى ب (سبيل).

(٥) انظر ل ١٣٨ / ب.

(٦) انظر ل ١٣٥ / أ.

(٧) انظر ل ١٢٩ / أ.

(٨) ساقط من أ.



فهرس موضوعات الجزء الأول

من كتاب

أبكار الأفكار في أصول الدين للآمدى

مقدمة المحقق............................................................... ٩ ـ ٥٦

حياة الآمدي.................................................................. ١٥

أولا : نشأته............................................................. ١٥

ثانيا : دراساته وشيوخه................................................... ١٨

ثالثا : رحلاته العلمية..................................................... ٢١

ثقافته وإنتاجه.................................................................. ٢٩

أولا : ثقافته............................................................. ٢٩

ثانيا : مؤلفاته........................................................... ٢٩

ثالثا : تلاميذه........................................................... ٣٤

منهجه في كتابه أبكار الأفكار................................................... ٣٥

مكانته العلمية ، وآراء العلماء فيه................................................. ٣٩

كتاب أبكار الأفكار........................................................... ٤٢

أولا : قيمته العلمية...................................................... ٤٢

ثانيا : نسخه............................................................ ٤٥

ثالثا : منهج التحقيق..................................................... ٥٣

صور لصفحتى العنوان ، وبعض اللوحات.......................................... ٥٧

مقدمة المؤلف............................................................. ٦٧ ـ ٦٩

القاعدة الأولى

في حقيقة العلم ، وأقسامه

وتشتمل على أربعة أقسام ٧١ ـ ١٢١

القسم الأول : فى حد العلم ، وحقيقته............................................ ٧٣

القسم الثانى : فى العلم الضرورى................................................. ٨٠

القسم الثالث : فى العلم الكسبى................................................. ٨٣

القسم الرابع : فى أحكام العلم............................................ ٨٥ ـ ١٢١

ويشتمل على تسعة فصول :


الفصل الأول : فى تجويز وقوع العلم الضرورى نظريا وبالعكس........................ ٨٧

الفصل الثانى : فى مراتب العلوم.................................................. ٩١

الفصل الثالث : فى تعلق العلم الواحد الحادث بمعلومين.............................. ٩٥

الفصل الرابع : فى جواز تعلق علم بمعلوم ، أو معلومات على الجملة................. ١٠١

الفصل الخامس : فى اختلاف العلوم وتماثلها...................................... ١٠٤

الفصل السادس : فى العلم بالشيء من وجه ، والجهل به من وجه.................... ١٠٦

الفصل السابع : فى امتناع وجود علم لا معلوم له................................. ١٠٧

الفصل الثامن : فى محل العلم الحادث ، وأنه لا بقاء له............................. ١٠٨

الفصل التاسع : فى أضداد العلم الحادث وأحكامها............................... ١١١

وأضداد العلم الحادث : الجهل ، والشك ، والظن ، والغفلة ، والذهول ، والنوم ، والنظر ، والموت.

القاعدة الثانية

في النظر ، وما يتعلق به

وتشتمل على ثمانية فصول : ١٢٣ ـ ١٧٢

الفصل الأول : فى حقيقة النظر................................................. ١٢٥

الفصل الثانى : فى شرائط النظر................................................. ١٢٨

الفصل الثالث : فى أن النظر الصحيح يفضى إلى العلم بالمنظور فيه ، وإثباته على منكريه ١٣٦

شبه الخصوم : وعددها ست عشرة شبهة.................................. ١٣٧

الجواب عنها........................................................... ١٤٤

رأى الآمدي........................................................... ١٤٩

الفصل الرابع : فى كيفية لزوم العلم بالمنظور فيه عن النظر الصحيح.................. ١٥٠

الفصل الخامس : فى أن النظر الفاسد لا يتضمن الجهل............................ ١٥٢

الفصل السادس : فيما قيل من أن النظر ينقسم إلى خفى ، وجلى.................. ١٥٤

الفصل السابع : فى وجوب النظر............................................... ١٥٥

احتج الأصحاب على وجوب النظر بمسلكين....................................

المسلك الأول.......................................................... ١٥٥

المسلك الثانى.......................................................... ١٥٦

إشكالات الخصوم. وعددها عشرة........................................ ١٥٦

الجواب عنها........................................................... ١٦١

الفصل الثامن : فى أول واجب على المكلف...................................... ١٧٠


القاعدة الثالثة

في الطرق الموصلة إلى المطلوبات النظرية

وتشتمل على مقدمة ، وبابين : ١٧٥ ـ ٢١٢

المقدمة...................................................................... ١٧٥

الباب الأول : فى الحد......................................................... ١٧٧

ويشتمل على أربعة فصول....................................................

الفصل الأول : فى أن الحد يرجع إلى قول الحاد ، أو إلى صفة المحدود................ ١٧٩

الفصل الثانى : فى حد الحد المعرف للمحدود..................................... ١٨٠

١ ـ الحد الحقيقى....................................................... ١٨٠

٢ ـ الحد الرسمى........................................................ ١٨١

٣ ـ الحد اللفظى........................................................ ١٨١

الفصل الثالث : فى شرط الحد ، وما يجتمع جملة أقسام الحدود فيه ، وما لا يجتمع..... ١٨٣

الفصل الرابع : فى التنبيه على ما يجب التحرز عنه في الحدود....................... ١٨٤

الباب الثانى : فى الدليل.

ويشتمل على سبعة فصول :...................................... ١٨٧ ـ ٢١٤

الفصل الأول : فى حد الدليل ، وانقسامه إلى : عقلى ، وغير عقلى................. ١٨٩

الفصل الثانى : فى أن الدليل العقلى مركب من مقدمتين ولا يزيد عليهما.............. ١٩٠

الفصل الثالث : فى أقسام مقدمات الدليل....................................... ١٩٢

القضية الحملية وأقسامها................................................ ١٩٢

القضية الشرطية وأقسامها............................................... ١٩٣

الفصل الرابع : فى انقسام مقدمات الدليل إلى قطعية ، وغير قطعية.................. ١٩٥

أما القطعية : فأنواع سبعة.

الفصل الخامس : فى أصناف صور الدليل ، وتنوع تأليفه........................... ١٩٨

القياس الاقتراني........................................................ ١٩٨

الشكل الأول.......................................................... ١٩٨

الشكل الثانى.......................................................... ١٩٩

الشكل الثالث......................................................... ٢٠١

الشكل الرابع.......................................................... ٢٠٢

القياس الاستثنائي : وينقسم قسمين...................................... ٢٠٤

القياس الاستثنائي الاتصالي.............................................. ٢٠٥

القياس الاستثنائي الانفصالي............................................. ٢٠٥


الفصل السادس : فى شرط الدليل العقلى........................................ ٢٠٧

الفصل السابع : فيما ظن أنه من الأدلة المفيدة لليقين وليس منها. وهى ستة......... ٢٠٨

الدليل الأول : الاستقراء................................................ ٢٠٨

الدليل الثانى : الحكم بانتفاء المدلول لانتفاء دليله........................... ٢٠٩

الدليل الثالث : قياس التمثيل............................................ ٢١٠

الدليل الرابع : قياس الفراسة............................................. ٢١٢

الدليل الخامس : إلحاق الغائب بالشاهد بجامع الحد ، والعلة ، والشرط والدلالة. ٢١٢

الدليل السادس : الاستدلال بما يتوقف كونه دليلا على معرفة مدلوله......... ٢١٤

القاعدة الرابعة

في انقسام المعلوم إلى الموجود ، والمعدوم ، وما ليس بموجود ، ولا

معدوم.

وتشتمل على ثلاثة أبواب : ٢١٥

الباب الأول : فى الموجود...........................................................

ويشتمل على مقدمة ، وقسمين.......................................... ٢١٧

المقدمة................................................................ ٢١٩

القسم الأول : فى واجب الوجود والنظر فيه في سبعة أنواع

«النوع الأول» ٢٢٥

«فى إثبات واجب الوجود بذاته ، وبيان حقيقته ، ووجوده»

ويشتمل على أربع مسائل ٢٢٥ ـ ٢٦٢

المسألة الأولى : فى إثبات واجب الوجود لذاته.................................... ٢٢٧

مذهب أهل الحق من المتشرعين ، وطوائف الإلهيين.......................... ٢٢٧

رأى الفلاسفة.......................................................... ٢٢٩

الرد عليهم............................................................. ٢٣٠

رأى المتكلمين.......................................................... ٢٣١

دليل الآمدي.......................................................... ٢٣٣

شبه الخصوم........................................................... ٢٣٥

الرد عليها............................................................. ٢٤١

المسألة الثانية : فى حقيقة واجب الوجود ، وأنها مشاركة لباقى الحقائق في مسمى الحقيقة ، أو مخالفة لها        ٢٥٢


المسألة الثالثة : فى أن وجود واجب الوجود هل هو نفس ذاته أو هو زائد على ذاته.... ٢٥٥

المسألة الرابعة : فى أن وجود واجب الوجود مشارك لوجود سائر الممكنات في المعنى ، أم لا؟ ٢٦٠

«النوع الثانى»

«فى الصفات النفسانية لذات واجب الوجود»

ويشتمل على إحدى عشرة مسألة : ٢٦٣ ـ ٤٧٨

المسألة الأولى : فى إثبات الصفات النفسانية على وجه عام.................. ٢٦٥ ـ ٢٧٨

مذهب أهل الحق....................................................... ٢٦٥

مذهب الفلاسفة والشيعة................................................ ٢٦٥

أدلة النفاة............................................................. ٢٦٦

الجواب عن شبه النفاة................................................... ٢٦٧

أهل الإثبات........................................................... ٢٦٩

الرد على شبه المعتزلة.................................................... ٢٧٥

طريقة الآمدي الجامعة لإثبات الصفات.................................... ٢٧٦

قد يرد على طريقة الآمدي إشكالات..................................... ٢٧٧

الرد عليها............................................................. ٢٧٨

المسألة الثانية : فى إثبات صفة القدرة لله ـ تعالى............................ ٢٧٩ ـ ٢٩٧

تعريفها ـ أقسامها ـ أدلة ثبوتها ـ الدليل النقلى................................ ٢٧٩

الدليل العقلى.......................................................... ٢٨٠

شبه الخصوم........................................................... ٢٨٢

الرد عليها............................................................. ٢٨٨

المسألة الثالثة : فى إثبات صفة الإرادة.................................... ٢٩٨ ـ ٣٢١

الآراء فيها............................................................. ٢٩٨

الأقرب منها........................................................... ٣٠١

تشكيكات الخصوم..................................................... ٣٠٥

الجواب عنها........................................................... ٣١١

المسألة الرابعة : فى إثبات صفة العلم لله ـ تعالى ـ............................ ٣٢٢ ـ ٣٥٢

مذهب أهل الحق....................................................... ٣٢٢

آراء الفلاسفة.......................................................... ٣٢٢

آراء المتكلمين.......................................................... ٣٢٣

رأى ابن سينا.......................................................... ٣٢٤


الرد عليه.............................................................. ٣٢٦

رأى بعض الأصحاب................................................... ٣٢٨

شبه الخصوم........................................................... ٣٣٤

الجواب عنها........................................................... ٣٤٢

المسألة الخامسة : فى إثبات صفة الكلام لله ـ تعالى ـ......................... ٣٥٣ ـ ٤٠٠

الآراء حولها............................................................ ٣٥٣

المسلك الأول للأصحاب ، والاعتراضات الواردة عليه....................... ٣٥٦

الرد على الاعتراضات................................................... ٣٦٠

المسلك الثانى.......................................................... ٣٦٨

المسلك الثالث......................................................... ٣٦٩

المسلك الرابع.......................................................... ٣٧٠

المسلك الخامس........................................................ ٣٧٠

قد يرد على هذا المسلك أسئلة........................................... ٣٧١

الجواب عنها........................................................... ٣٧٣

المسلك السادس........................................................ ٣٧٧

المسلك السابع......................................................... ٣٧٨

المسلك الثامن.......................................................... ٣٨١

رأى الآمدي فيه........................................................ ٣٨٣

المسلك المعتمد......................................................... ٣٨٣

قد يرد عليه أسئلة...................................................... ٣٨٥

الجواب عنها........................................................... ٣٨٩

المسألة السادسة : فى إثبات الادراك لله ـ تعالى ـ............................ ٤٠١ ـ ٤٣٥

الآراء فيه.............................................................. ٤٠١

اعتمد الأصحاب في المسألة على المسلك المشهور........................... ٤٠٢

رأى الآمدي في هذا المسلك............................................. ٤٠٢

قد ترد عليه أسئلة أخرى................................................ ٤٠٤

الجواب عنها........................................................... ٤٠٥

المسلك الثانى.......................................................... ٤٠٧

المسلك السمعى........................................................ ٤١٠

المسلك المعتمد......................................................... ٤١١

للخصوم شبه وتشكيكات على المسلك المعتمد............................. ٤١١


الجواب عنها........................................................... ٤١٧

المسألة السابعة : فى أن الله ـ تعالى ـ حي بحياة.............................. ٤٣٦ ـ ٤٣٨

احتج الأصحاب بثلاثة مسالك.......................................... ٤٣٦

رأى الآمدي........................................................... ٤٣٨

المسألة الثامنة : فى أنه هل للبارى ـ تعالى ـ صفة زائدة على ما أسلفناه من الصفات ، أم لا؟ ٤٣٩ ـ ٤٧٢

الصفة الأولى : البقاء................................................... ٤٤٠

الصفة الثانية : القدم................................................... ٤٥٠

الصفة الثالثة : الوجه................................................... ٤٥١

الصفة الرابعة : اليدان................................................... ٤٥٣

الصفة الخامسة : العينان................................................ ٤٥٦

الصفة السادسة : الجنب................................................ ٤٥٨

الصفة السابعة : صفة النور.............................................. ٤٥٩

الصفة الثامنة : الساق.................................................. ٤٦٠

الصفة التاسعة : الاستواء على العرش..................................... ٤٦١

الصفة العاشرة : النزول.................................................. ٤٦٤

الصفة الحادية عشرة : الصورة............................................ ٤٦٦

الصفة الثانية عشر : الكف............................................. ٤٦٨

الصفة الثالثة عشرة : الاصبعان.......................................... ٤٦٩

الصفة الرابعة عشرة : القدم.............................................. ٤٧٠

الصفة الخامسة عشرة : الضحك......................................... ٤٧١

الصفة السادسة عشرة : الكرم........................................... ٤٧٢

المسألة التاسعة : فى أن الصفة هل هى نفس الوصف ، أو غيره؟................... ٤٧٣

المسألة العاشرة : فى أن الصفة هل هى نفس الموصوف ، أو غيره؟ وأن الصفة هل توصف أم لا؟    ٤٧٥

المسألة الحادية عشرة : فى تعلق الصفات بمتعلقاتها ، وأنه ثبوتى أو عدمى............. ٤٧٧

«النوع الثالث»

«فيما يجوز على الله ـ تعالى ـ»

وفيه مسألتان : ٤٧٩ ـ ٥٤٣

المسألة الأولى : فى أن حقيقة واجب الوجود هل هى الآن معلومة أم لا؟............. ٤٨١

احتج القائلون بالمنع بحجج أربع.......................................... ٤٨١


حجج القائلين بكونها معلومة............................................. ٤٨٢

رأى الآمدي........................................................... ٤٨٣

المسألة الثانية : فى رؤية الله ـ تعالى ويشتمل على مقدمة وفصلين.............. ٤٨٤ ـ ٥٤٣

المقدمة................................................................ ٤٨٤

الفصل الأول : فى جواز رؤية الله ـ تعالى ـ عقلا.................................... ٤٩١

احتج المثبتون لجواز الرؤية بحجج عقلية ونقلية أما الحجج العقلية فأربع......... ٤٩٢

الحجة الأولى : وهى معتمد القاضى ، وأكثر الأئمة......................... ٤٩٢

شبه الخصوم........................................................... ٤٩٤

الجواب عنها........................................................... ٥٠٣

الحجة الثانية : وهى قريبة من الأولى....................................... ٥١١

الحجة الثالثة : ولعبارات الأصحاب فيها متسع............................. ٥١٢

الحجة الرابعة : وهى أشبه الحجج......................................... ٥١٤

ويرد عليها اشكالات................................................... ٥١٤

الجواب عنها........................................................... ٥١٥

وأما الحجج السمعية.................................................... ٥١٧

شبه الخصوم على الوجه الأول............................................ ٥١٨

شبه الخصوم على الوجه الثانى............................................ ٥١٩

الجواب عن الشبه الواردة على الوجه الأول................................. ٥٢٠

الجواب عن الشبه الواردة على الوجه الثانى.................................. ٥٢٣

الفصل الثانى : فى بيان وقوع الرؤية في الآخرة للمؤمنين...................... ٥٢٦ ـ ٥٤٣

المسلك النقلى......................................................... ٥٢٦

اعتراضات الخصوم...................................................... ٥٢٧

الجواب عن الشبه الواردة على الوجه الثانى.................................. ٥٣٣

الفهرس............................................................... ٥٤٥ ـ ٥٥٢

أبكار الأفكار في اصول الدين - ١

المؤلف:
الصفحات: 552